المحيط البرهاني في الفقه النعماني

ابن مَازَةَ

مقدمة المؤلف

مقدمة المؤلف فِقْه الإمَامْ الأعظم أبِيْ حَنيفَة الكوفِي رَحمة اللهِ عليْه الحمد لله خالق الأشباح بقدرته، وفالق الإصباح برحمته، شارع الشرائع بفضله، ومبدع البدائع بطوله، منزِّل الكتب على الأنبياء، منشىء الشهب في السماء، مالك الرقاب....، رافع العلم ومن يليه وواضع الجهل ومن يليه، أرسل الرسل حجة على الجاحدين، وختم باب الرسالة بنبينا خاتم النبيين، صلى الله عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين. قال العبد الضعيف الراجي لفضل الله، الخائف من عدله، المعتمد على كرمه محمود بن الصدر الكبير، تاج الدين أحمد بن الصدر الشهيد، برهان الأئمة عبد العزيز بن عمر: إن معرفة أحكام الدين من أشرف المناصب وأعلاها، والتفقه في دين الله من أنفع المكاسب وأزكاها، فحوادث العباد مردودة إلى استنباط خواطر العلماء ومداركهم، مربوطة بإصابة ضمائر الفقهاء قال الله تعالى: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء: 83) ، وكفى العالم شرفاً أن يُحشر يوم النشور مغفوراً، ويُرى سعيه الجميل في العقبى مشكوراً قال عليه السلام: «يبعث الله تعالى العباد يوم القيامة، ثم يبعث العلماء، ثم يقول: يا معشر العلماء إني لم أضع علمي فيكم إلا لعلمي بكم ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم، اذهبوا فقد غفرت لكم» ، وكفى العالم شرفاً أن بين درجته ودرجة الأنبياء حرفاً واحداً، قال عليه السلام: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» ، وقال عليه السلام في صفة أمته: «هم فقهاء كأنهم من العلم أنبياء» ، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّمورضي عنهم صابرين على التعلم والتفقه في الدين، ولذلك صاروا مقتدى للعالمين، قال عليه السلام: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهديتم» فحفظوا رضوان الله عليهم ما نشر رسول الله صلى الله عليه وسلّممن درر الآثار، ونصبوا قواعد الفوائد

لمن بعدهم من الأخيار، ولما انقرض الصدر الأول من الصحابة، ومن بعدهم من التابعين قام ينصر هذا الدين الإمام الأعظم سراج الأمة ومنهاج الملة هادي الخلق وناصر الحق أبو حنيفة وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، فهم الذين حدوا ديباجة الشريعة بحدها ومهدوا قواعد الملة الزهراء تمهيداً، فصوروا المسائل تصويراً، وقرروا الدليل تقريراً، فمضوا إلى رحمة الله وموائد فوائدهم منصوبة للأنام، وساروا إلى المنازل الموعودة وآثارهم باقية إلى يوم القيامة، ثم من بعدهم من علماء الملة بالغوا في شرح المعضلات، وجَدّوا في كشف المشكلات، وصنفوا الكتب تصنيفاً، ورصفوا النوازل ترصيفاً، ولم يزل العلم مورثاً من أول ومنقولاً من كابرٍ إلى كابر حتى انتهى إلى جدود وأسلاف السبعة، تغمدهم الله بالرحمة والرضوان، فكلهم رضوان الله عليهم أجمعين شرحوا ما بقي من الفقه مجملاً وفتحوا ما ترك مقفلاً، فمصنفاتهم متداولة بين الورى يستعان بها عند القضاء والفتوى (على) ما ترك، وقد وقع على رأيي أن أتشبه بهم بتأليف أصل جلل يجمع جمل الحوادث الحكمية، والنوازل الشرعية ليكون عوناً حال حياتي وأجراً حسناً بعد وفاتي، فقد قال عليه السلام: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث» ، وذكر من جملتها علماً ينتفع به. وقد انضم إلى هذا الرأي الصائب التماس بعض الإخوان فقابلت التماسهم بالإجابة، وجمعت مسائل «المبسوط» ، «والجامعين» ، «والسير» ، «والزيادات» ، وألحقت بها مسائل «النوادر» ، والفتاوى والواقعات، وضممت إليها من الفوائد التي استفدتها من سيدي ومولاي والدي تغمده الله بالرحمة. والدقائق التي حفظتها من مشايخ زماني رضوان الله عليهم أجمعين، وفصلت الكتاب تفصيلاً، وحللت المسائل تحليلاً، وأيدت بدلائل عول عليها المتقدمون واعتمد عليها المتأخرون، وعملت فيه عمل من طب لمن خب، ووسمت الكتاب بالمحيط، وتوقعت ممن ينظر فيه وينتفع به مدة حياتي أو بعد انقراضي أن يدعو لي بأن يتقبل الله في دينه جهدي، ويجعل كتابي هذا نقلاً من ميراثي وقد لا يصرف به وجهي عنه، نستعيذ من ردة. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب هو حسيب عباده ونعم الحسيب.

كتاب الطهارات

كتاب الطهارات هذا الفصل يشتمل على تسعِ فصول: 1 * في الوضوء. 2 * في بيان ما يوجب الوضوء وما لا يوجب 3 * في تعليم الاغتسال 4 * في المياه التي يجوز التوضؤ بها، والتي لا يجوز التوضؤ بها 5 * في التيمم 6 * في المسح على الحفين 7 * في النجاسات وأحكامها 8 * في الحيض 9 * في النفاس.

الفصل الأول في الوضوء

الفصل الأول في الوضوء هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه في بيان فرائضه فنقول: فرض الوضوء غسل الوجه، واليدين مع المرفقين، ومسح الرأس، وغسل القدمين مع الكعبين. وحد الوجه: من قصاص الشعر من الرأس إلى أسفل الذقن، وإلى شحمتي الأذن، وإيصال الماء إلى داخل العين ساقط، فقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله: لا بأس بأن يغسل الرجل الوجه وهو مغمض عينه، وفي رواية الحسن أن أبا حنيفة رحمه الله سُئِل أَتُغْسل العين بالماء؟ قال: لا، وعن الفقيه أحمد بن إبراهيم أن من غسل وجهه وغمض عينه تغميضاً شديداً لا يجوز ذلك وقيل فمن رمدت عينه فرمصت فأصبح رمصها في جانب العين يجب إيصال الماء تحت مجتمع الرمص، ويجب إيصال الماء إلى المآقي.. وتكلموا قال بعضهم: الشفة تبع للفم فلا يجب إيصال الماء إليه، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: ما ظهر من الشفتين عند الانضمام، فهو من الوجه، فيجب إيصال الماء إليه، وما انكتم منه عند الانضمام فهو تبع للفم، فلا يجب إيصال الماء إليه، ومسح بللآ في بشرة الوجه من اللحية ما يذكره في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله في غسل الأصول روايتان. في رواية قال: يفرض إيصال الماء إلى اللحية أو ربعها كأنه أراد بهذا الكناية عن الذقن الجفن، وهو قول أبي يوسف، وذكر الحسن في «المجرد» عنه أنه يفرض إيصال الماء إلى ما يوازي الذقن. ولكن عند بعض مشايخنا يسن، قالوا وكذلك إمرار الماء على ظاهر الشارب على الروايتين، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله اتفقوا أن عليه أن يمس الماء شعرها

غسله بالماء، فإذا لم يصبه الماء لا يجوز، وإن لم يكن إيصال الماء إلى أصل المنبت على وجه الغسل شرطاً. قال رحمه الله: وكذلك في الشارب عليه إيصال الماء إلى شاربه، وفي «القدوري» : مسح ما يلاقي بشرة الوجه من اللحية واجبة رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة، وأشار في باب الوضوء إلى أنه يفرض إيصال الماء إلى مواضع الوضوء ما ظهر منها. وذكر الزندويستي في «نظمه» أن حاصل الجواب أن على قول أبي حنيفة رحمه الله مسح ثلثها، وعلى قول محمد والشافعي وأبو يوسف في رواية يمسح كلها وهو

أحسن الأقاويل؛ لأن الوجه ما يواجه به الناس واللحية هي التي تواجهها الناس، ولا يجب إيصال الماء إلى ما تحت شعر اللحية عندنا باتفاق الروايات، وكذلك لا يجب إيصال الماء إلى ما تحت شعر الحاجبين والشارب باتفاق الروايات، وكذلك لا يجب (إيصال) الماء إلى ما استرسل من الشعر من الذقن عندنا. وأما البياض الذي بين العذار وبين شحمة الأذن. ذكر شمس الأئمة (1أ1) الحلواني رحمه الله إن ظاهر المذهب أن عليه أن يغسل ذلك الموقع ليس عليه سواه، وذكر الطحاوي أن عليه غسل ذلك الموضع. وفي «القدوري» : أنه يجب غسله عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وزعم الطحاوي: أن ما ذكر هو الصحيح، عليه أكثر مشايخنا، لكن فيه كلفة ومشقة، فالأولى أن يقال يكفيه بلّ الماء بناءً على ما روي عن أبي يوسف رحمه الله: أن المتوضي إذا بل وجهه وأعضاء وضوئه بالماء ولم يسل الماء على عضوه جاز، ولكن قيل تأويل ما روي عن أبي يوسف: أنه إذا سال من العضو قطرة أو قطرتان ولم يتدارك. وذكر الفقيه أبو إسحاق الحافظ: روي عن أبي يوسف، ومحمد، وزفر رحمهم الله يفترض عليه غسله. قال: وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه قال: إن غسل فحسن، وإن لم يغسل أجزأه. أما فرض غسل اليد: فمن رؤوس الأصابع إلى المرفقين، ويدخل المرفقان في الغسل عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأن اسم اليد يقع على هذه الجملة، وهل يجب إيصال الماء إلى ما تحت الأظافر؟ قال الفقيه أبو بكر رحمه الله: يجب، حتى إن

الخباز إذا توضأ وفي أظفاره عجين أو الطيان إذ توضأ وفي أظفاره طين يجب إيصال الماء إلى ما تحته، وكان يفرق بين الطين والعجين وبين الدرن أن الدرن يتولد من الآدمي فيكون من أجزائه ولا كذلك الطين والعجين. وذكر الشيخ الإمام الزاهد الصفار رحمه الله في «شرحه» : أن الظفر إذا كان طويلاً بحيث يستر رأس الأنملة يجب إيصال الماء إلى ما تحته، وإن كان قصيراً لا يجب إيصال الماء إلى ما تحته، وإن كان في أصبعه خاتم إن كان واسعاً لا يجب تحريكه ولا نزعه، وإن كان ضيقاً ففي ظاهر الرواية (قال) أصحابنا رحمهم الله لا بد من نزعه أو تحريكه، وروى الحسن عن أبي حنيفة، وأبو سليمان عن أبي يوسف ومحمد أنه لم يشترط النزع أو التحريك وبين المشايخ اختلاف في هذا الفصل. وأما فرض مسح الرأس: مقدر بالناصية وذلك قدر ربع الرأس وقدره بعض العلماء رحمهم الله بثلاثة أصابع، هكذا ذكر «القدوري» ، وفي صلاة «الأصل» قدره بثلاثة أصابع وفي «المجرد» : قدره بربع الرأس، ولو أخذ الماء بثلاثة أصابع ووضعها عليه وضعاً ولم يمدها أجزأه على قول من قدره بثلاثة أصابع ولم يجزئه على قول من قدره بالربع حتى تستكمل بالإمرار، هكذا ذكره «القدوري» . وذكر الزندويستي في «نظمه» وقال: روى هشام عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، وإبراهيم بن رستم عن محمد رحمهم الله: أنه يجوز، وقال في اختلاف زفر لا يجوز على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إلا أن يمسح بقدر ثلث رأسه أو ربعه، وذكر في صلاة الأثر أنه يجوز من غير ذكر خلاف، وإن مسح بأصبع واحد بجوانب الأصبع قدر ثلاثة أصابع روى زفر عن أبي حنيفة: أنه يجوز، وهذا الجواب مستقيم على الرواية التي قدر المسح فيها بثلاثة أصابع، ولو مسح بالأصبعين لا يجوز إلا أن يمسح بالإبهام والسبابة مفتوحتين فيضعها مع ما بينهما من الكف على رأسه فحينئذ يجوز، لأنهما أصبعان وما بينهما من الكف قدر أصبع، فيصير ثلاثة أصابع فيجوز، وإن كان على رأسه شعر طويل فمسح بثلاثة أصابع إلا أن مسحه وقع على شعره، إن وقع على شعر تحته رأس يجوز عن مسح الرأس، وإن وقع على شعر تحت جبهته أو رقبته لا يجوز عن مسح الرأس

لأن المسح على الشعر عن المسح على البشرة التي تحته، ولو مسح على بشرة الجبهة أو العنق لا يجوز عن مسح الرأس، ولو مسح على بشرة الرأس أجزأه فكذا إذا مسح على الشعر، وذكر الزندويستي هذه المسألة بهذه العبارة، وفي موضع آخر ذكر بعبارة أخرى. ولو كان شعره طويلاً، فمسح ما تحت أذنيه لا يجزئه عن مسح الرأس، ولو مسح ما فوقه يجوز، وإن وضع إصبعاً واحداً على رأسه ومدها قدر ثلاثة أصابع لم يجزه، هكذا ذكر في «نوادر ابن رستم» وأشار إلى المعنى، فقال: لأنه ماء: قد توضأ به فالتحق به بمسألة لو أخذ الماء ووضعه على جبهته ومدها إلى أصل الذقن حتى استوعب جميع الوجه أجزأه، وأشار إلى المعنى فقال: لأن بملاقاة الماء الجبهة لا يصير الماء مستعملاً إلا بالسيلان؛ لأن فرض الوجه الغسل، ولا يتأتى الغسل إلا بالسيلان على العضو، والماء في عضو واحد لا يصير مستعملاً. أما في فصل الرأس الماء بملاقاة بشرة الرأس يصير مستعملاً؛ لأن فرض الرأس المسح؛ والمسح يحصل بمجرد الملاقاة فيصير الماء مستعملاً بمجرد الملاقاة. ذكر الناطفي في «الهداية» إذا اختضب ومسح برأسه عند وضعه على خضابه لا يجزئه وإن وصل الماء إلى شعره، قال: وهو كالمرأة إذا مسحت على الوشاح ووصل الماء إلى شعرها وذلك لا يجوز فههنا كذلك. ورأيت مسألة الخضاب في شرح بعض المشايخ: أنه إذا اختلط البلة بالخضاب، وخرج من حكم الماء المطلق لا يجوز المسح وهو بمنزلة ماء الزعفران. ورأيت مسألة مسح المرأة على الخمار في نسخ بعض المشايخ أيضاً أنّ الماء إن كان متقاطراً بحيث يصل إلى الشعر يجوز المسح، وإلا فلا. وذكر الزندوستي في نظمه قال بعض في العلماء: إذا وصل الماء إلى الشعر جاز وإلا فلا. وقال بعضهم إن كان الخمار غير لا يجوز؛ لأنه لا يصل الماء. وقال بعضهم إن ضربت يديها المبلولتين فوق الخمار جاز وما لا فلا لأن بالضرب يصل الماء إلى الشعر. ولو كان ذؤابتان مشدودتان حول الرأس كما يفعله النساء فوقع مسحه على رأس الذؤابة بعض مشايخنا قالوا بالجواز إذا لم يرسلهما؛ لأنه مسح على شعر تحته رأس، فصار كما لو مسح على الشعر الأصلي، وعامتهم على أنه لا يجوز أرسلهما أو لم

يرسلهما؛ لأنه مسح على شيء مستعار، فصار كما لو مسحت المرأة فوق الخمار ولم يصل الماء إلى ما تحته. وإذا نسي المتوضي مسح الرأس، فأصابه ماء المطر مقدار ثلاث أصابع فمسحه بيده أو لم يمسحه أجزأه عن مسح الرأس؛ لأن الله تعالى وصف الماء بكونه طهوراً، والطهور الطاهر بنفسه المطهر لغيره، فلا يتوقف حصول التطهير على فعل يكون منه كان كالذي هو محرق لا يتوقف حصول الإحراق على فعل يكون من الغير. وإذا نسي أن يمسح برأسه، فأخذ من لحيته ماء ومسح به رأسه لا يجوز؛ لأن هذا مسح بالمستعمل والماء يأخذ حكم الاستعمال عندنا كما زايل العضو استقر على الأرض أو لم يستقر، وههنا زايل العضو بدليل أنه يخرج عن الجنابة بالإجماع، وفي المسألة أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه. ولو كان في كفه بلل فمسح به رأسه أجزأه قال الحاكم الشهيد رحمه الله: هذا إذا لم يستعمله في عضو من أعضائه بأن أدخل يده في إناء حتى ابتلت، فأما إذا استعمله في عضو من أعضائه بأن غسل بعض أعضائه وبقي على كفه بلل لا يجوز، وأكثرهم على أن قول الحاكم خطأ. والصحيح أن محمداً رحمه الله أراد بذلك ما إذا غسل عضواً من أعضائه وبقي البلل في كفيه، بدليل أن محمداً رحمه الله، قال: وهذا بمنزلة ما لو أخذ الماء من الإناء، ولو كان المراد ما قاله الحاكم لم يكن لهذا التشبيه معنى. وفرّقوا بين بلل اللحية وبين بلل الكف، والفرق أن بلل الحلية ما سقط به فرض غسل الوجه وصار مستعملاً، فلا يقام به فرض آخر. أما بلل الكف ما لم يسقط به فرض الغسل؛ لأن فرض غسل الأعضاء أقيم بالماء الذي زايل العضو لا بالبلل الذي على الكف، فلم يصر هذا البلل مستعملاً، فجاز أن يقام به فرض مسح الرأس. ولو أمر الماء على رأسه ولحيته ثم حلقها لا يلزمه إعادة المسح عليهما هكذا روى ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله. قال الناطفي: ورأيت في كتاب الصلاة محمد بن مقاتل أن في الرأس لا يلزمه

الإعادة، وفي اللحية يلزمه الإعادة. وأشار إلى الفرق فقال: إن في الرأس قبل نبات الشعر كان فرضه المسح كما بعد نباته، فزوال الشعر لا يغير صفة الفرض. أما في الوجه صفة الفرض قد تغيرت ألا ترى أن قبل ما نبت الشعر على الوجه، فرضه الغسل وبعد نباته لا يكون فرضه الغسل. وفي «القدوري» يذكر هذه المسألة بعبارة أخرى فيقول: وليس في زوال عضو من وضوء ولا إمرار ماء على موضع المزال، يريد به إذا توضأ ثم قلم ظفره أو حلق شعره، وكان إبراهيم النخعي رحمه الله يقول: بإعادة المسح في الرأس واللحية وأشباههما، وكان يقيس هذه الصورة على المسح على الخف فإنه لو مسح على الخفين ثم نزعمهما يسقط حكم ذلك المسح ويفرض غسل القدمين. ونقل ابن سماعة عن محمد رحمه الله فرقاً بين المسح على الخف وبين هذه الصورة فقال: الجلد والشعر (2ب1) والرأس شيء واحد ذهب بعضه وبقي البعض فلم يرتفع حكم ذلك المسح بمرة فأما الخف فهو غير الرجل، فإذا نزعه فقد ارتفع حكم ذلك المسح بالمرة، قياس مسألة الخف في هذه المسألة أن لو كان الخف ذا طاقين فمسح عليه ثم نزع أحد الطاقين إذا تقشر بنفسه وهناك لا يلزمه إعادة المسح أيضاً. وأما فرض غسل الرجلين فمن رؤوس الأصابع إلى الكعبين، ويدخل الكعبان في الغسل عند علمائنا رحمهم الله. والكعب هو العظم الناتىء في الساق الذي يكون فوق القدم. والذي روى هشام عن محمد رحمه الله أن الكعب هو العظم المربع الذي يكون في وسط القدم عند معقد الشراك، فذاك وهم منه، لم يرد محمد رحمه الله في هذا تفسير الكعب في الطهارة والصلاة، وإنما أراد به في حق المحرم إذا لم يجد نعلين ومعه خفان قال يقطعهما أسفل من الكعبين، وأراد بالكعب العظم المربع الذي يكون في وسط القدم عند معقد الشراك ليصير آلة في معنى النعلين. وأما تفسير الكعب في الطهارة والصلاة العظم الناتىء الذي هو في الساق فوق القدم، ولو قطعت رجله من الكعب وبقي النصف من الكعب يفرض عليه غسل ما بقي من الكعب وموضع القطع، وكذلك هذا الحكم في المرفق في اليد إذا قطع اليد من المرفق وبقي نصف المرفق يفرض عليه غسل ما بقي من المرفق وموضع القطع. وإن كان القطع فوق الكعب وفوق المرفق لم يجب غسل موضع القطع. وتخليل الأصابع إن كانت مضمومة وتوضأ من الإناء، وإن كانت مفتوحة فترك التخليل جاز. وإن كان توضأ في الماء الجاري أو في الحياض، فأدخل رجليه الماء وترك التخليل

جاز، وإن كانت الأصابع مضمومة، هكذا ذكر الزندويستي في «نظمه» . وفي «شرح شيخ الإسلام» : أن تخليل الأصابع قبل وصول الماء إلى ما بين الأصابع فرض وبعده سنة، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن تخليل الأصابع سنة مطلقاً. قال رحمه الله: ومن الناس من قال تخليل أصابع القدم فرض قال محمد رحمه الله في «الأصل» لو توضأ مرة واحدة تامة أجزأه. وتكلموا في تفسير الشيوع، قال بعضهم: غسل العضو بالماء أولاً ثم يسيل عليه الماء، فيتيقن بوصول الماء إلى جميع العضو. وقال بعضهم: يسيل الماء على عضوه ويدلكه حتى يصل الماء إلى جميعه، والفقيه أبو جعفر رحمه الله مال إلى القول الأول في زمان الشتاء وإلى القول الثاني في زمان الصيف. وروى هشام عن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا بل الأعضاء ثلاث مرات يجزىء عن الغسل ثم إذا توضأ مرة واحدة، فإن فعل ذلك لقلة الماء أو للتبرد أو للحاجة لا يكره ولا يأثم، وإن فعل ذلك من غير عذر وحاجة يكره ويأثم هكذا قيل. وقد قيل أيضاً إن اتخذ ذلك عادة يكره. وإن فعل ذلك أحياناً لا يكره. وإذا كان ببعض أعضاء الوضوء جرح قد انقطع قشره أو نحو منه هل يجب إيصال الماء إلى ما تحته؟ كان الفقيه أبو إسحاق الحافظ يقول ننظر إن كان ما يقشر يزال من غير أن يتألم لم يجزه إلا أن يصل الماء إلى ما تحته، وإن كان لا يزال من غير أن يتألم أجزأه إن لم يصل الماء إلى ما تحته، قال: لأنه بمنزلة ما لم يقشر. وفي «مجموع النوازل» : رجل ببعض أعضائه قرحة قشر أو بأطراف وضوءه وضوء قشر القرحة موصولة بالجلد إلا الطرف الذي يخرج منه القيح، فغسل الجلد ولم يصل الماء إلى ما تحت الجلد جاز وضوءه، وجاز له أن يصلي؛ لأن ما تحت الجلد ليس بظاهر فلا يعتبر غسله. وفيه أيضاً وإن كان على بعض أعضاء وضوئه قرحة نحو الدمل وشبهه وعليه جلدة رقيقة، فتوضأ وأمرّ الماء على الجلدة ثم نزع الجلدة قيل يلزمه غسل ما تحت الجلدة، قال: إن نزع الجلدة بعد ما بدأ بحيث لم يتألم بذلك، فعليه أن يغسل ذلك الموضع، وإن نزع محل البثر وبحيث تألم بذلك إن خرج منها شيء وسال نقض الوضوء، وإن لم يخرج لا يلزمه غسل ذلك الموضع والأشبه أنه لا يلزمه الغسل في الوجهين جميعاً. وفي «فوائد القاضي الإمام» ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله: إذا كان على

بعض أعضاء وضوئه خرء ذباب أو برغوث، فتوضأ ولم يصل الماء إلى ما تحته جاز؛ لأن التحرز عنه غير ممكن. ولو كان جلد سمك وخبز ممضوغ قد جف، فتوضأ ولم يصل الماء إلى ما تحته لم يجز؛ لأن التحرز عنه ممكن. وقد قيل إذا كان على أعضاء وضوئه.f ... ولا يصل الماء إلى ما تحته فتوضأ كذلك يجوز؛ لأنه يتولد من البدن فهو بمنزلة الدرن. وفي «مجموع النوازل» إذا كان برجله شقاق، فجعل فيها الشحم وغسل الرجل ولم يصل الماء إلى ما تحته ننظر إن كان يضره إيصال الماء إلى ما تحته يجوز، وإن كان لا يضره لا يجوز والله أعلم. نوع منه فى تعليم الوضوء قال محمد رحمه الله في «الأصل» : الوضوء أن يبدأ فيغسل يديه ثلاثاً ولم يذكر كيفيته، وحكي عن الفقيه أي جعفر الهندواني رحمه الله: أنه ينظر إلى الإناء إن كان الإناء صغيراً يمكنه رفعه لا يدخل يده فيه، بل يرفعه بشماله ويصبه على كفه اليمنى ويغسلها ثلاثاً، وإن كان الإناء كبيراً لا يمكن رفعه كالحب وشبهه، وكان معه كوز صغير يرفع الماء بالكوز، ولا يدخل يده فيه ثم يغسل يديه بالكوز على نحو ما بينا. وإن لم يكن معه كوز صغير أدخل أصابع يده اليسرى مضمومة في الإناء، ولا يدخل الكف ويرفع الماء من الحب ويصب على يده اليمنى ويدلك الأصابع بعضها ببعض، فيفعل كذلك ثلاثاً ثم يدخل يده اليمنى بالغاً ما بلغ في الإناء، وقوله عليه السلام: «لا يَغْمُسَنَّ في الإناء» محمول على ما إذا كانت الآنية صغيرة أو كانت كبيرة، ولكن معه آنية صغيرة. وأما إذا كان الإناء كبيراً وليس معه آنية صغيرة، فالنهي محمول على الإدخال على سبيل المبالغة. ثم يستنجي والكلام في الاستنجاء يأتي بعد هذا في النوع الذي يلي هذا النوع. وبين المشايخ اختلاف في أنه يغسل يديه قبل الاستنجاء وبعد الاستنجاء. قال بعضهم: قبل الاستنجاء. وقال بعضهم: بعد الاستنجاء.

وأكثرهم على أنه يغسل يديه مرتين، من قبل الاستنجاء ومن بعد الاستنجاء، ثم يتمضمض، ثم يستنشق، ثم يغسل وجهه، ثم يغسل ذراعيه، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ، ولم يقل ثم يغسل يديه. من أصحابنا من قال: إنما ذكر ذراعيه؛ لأنه سبق غسل اليدين، فلا يجب الإعادة. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والأصح عندي أنه يعيد غسل اليدين؛ لأن الأول كان شبه افتتاح الوضوء، فلا ينوب عن فرض الوضوء وأنه مشكل؛ لأن المقصود هو التطهير، فإذا حصل التطهير بأي طريق حصل فقد حصل المقصود، فلا معنى لإعادة الغسل. ثم يمسح رأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما بماء واحد ثم يغسل رجليه مع الكعبين والله أعلم. نوع منه فى بيان سنن وضوئه وآدابه فنقول: السنّة سنّتان. سنّة الرسول عليه السلام. وسنّة أصحابه. فسنّة الرسول: هي الطريق التي فعلها رسول الله عليه السلام وواظب عليها كركعتي الفجر والأربع قبل الظهر وأشباهها. وسنّة أصحابه رضوان الله عليهم: هي الطريق التي فعلها الصحابة، وواظبوا عليها كالتراويح، فإن التراويح يقال: سنّة عمر رضي الله عنه؛ لأن عمر فعلها وواظب عليها. والأدب: ما فعله رسول الله عليه السلام مرة وترك مرة، فنقول: من السنّة أن يغسل يديه إلى الرسغ ثلاثاً، ويغسلها قبل الاستنجاء وبعد الاستنجاء، فيه كلام وقد ذكرناه، وهذا إذا لم يكن على بدنه نجاسة حقيقية، أما إذا كانت فإنه يفترض غسلها. قال الطحاوي رحمه الله: ويسمي، فيقول: (بسم) الله العظيم والحمد لله على الإسلام، وفي كون التسمية سنّة كلام. ففي ظاهر الرواية ما يدل على أنه أدب فإنه قال: ويستحب له أن يسمي، وذكر في «صلاة الأثر» أنها سنّة، وهكذا ذكر الطحاوي والقدوري رحمهما الله. وفي محل التسمية اختلاف المشايخ، قال بعضهم يسمي قبل الاستنجاء وقال بعضهم يسمي بعد الاستنجاء.

فصلفي الاستنجاء وكيفيته ومن السنة الاستنجاء، وإنه نوعان: أحدهما: بالماء. والثاني: بالحجر أو المدر أو ما يقوم مقامها من الخشب أو التراب. والاستنجاء (3أ1) بالماء أفضل إن أمكنه ذلك من غير كشف العورة، وإن لم يمكنه ذلك إلا بكشف العورة يستنجي بالأحجار، ولا يستنجى بالماء، وإتباع الماء الأحجار أدب وليس بسنّة؛ لأن النبي عليه السلام فعله مرة وتركه مرة. من مشايخنا من قال: هذا كان أدباً في زمن النبي عليه السلام وأصحابه، أما في زماننا فهو سنّة، واستدل هذا القائل بما روي عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه سئل عن هذا فقال: هو سنّة، فقيل له: كيف يكون سنّة وقد تركه رسول الله عليه السلام مرة وفعل مرة، وكذلك خيار الصحابة، فقال الحسن: إنهم كانوا يبعرون بعراً وأنتم تثلطون ثلطاً، ولا خلاف لأحد في الأفضلية، فإتباع الماء الأحجار أفضل بلا خلاف، والاستنجاء من البول والغائط والمذي والمني والدم الخارج من أحد السبيلين دون غيرها من الأحداث. وينبغي أن يستنجي بالأشياء الطاهرة نحو الحجر والمدر، والرماد، والتراب، والخرقة، وأشباهها، ولا يستنجي بالأشياء النجسة مثل السرقين ووضع الإنسان، وكذلك بحجر استنجى به مرة هو أو استنجى به غيره إلا إذا كان حجراً له أحرف، فيستنجى في كل مرة بحرف لم يستنج به في المرة الأولى، فيجوز من غير كراهته. وكذلك لا يستنجى بالعظم والروث، فقد قيل العظم طعام الجن والروث علف دوابهم، فلا يفسد عليهم طعامهم وعلف دوابهم، وكذلك لا يستنجى بمطعوم الآدمي وعلف دوابهم نحو الحنطة والشعير أو الحشيش وغيرها. وذكر الزندويستي أنه يستنجي بالمدر والحجر والتراب، ولا يستنجي بما سوى هذه الأشياء. وعدد الثلاثة في الاستنجاء بالأحجار أو ما يقوم مقامها ليس بأمر لازم، والمعتبر هو الإنقاء، فإن أنقاه الواحد كفاه وإن لم ينقه الثلاث زاد عليه. وقيل في كيفية الاستنجاء بالأحجار أن الرجل في زمن الصيف يدبر بالحجر الأول، ويقبل بالحجر الثاني، ويدبر بالثالث، وفي الشتاء يقبل بالحجر الأول ويدبر بالثاني ويدبر بالثالث؛ لأن في الصيف خصيتاه متدليتان، ولو أقبل بالأول تتلطخ خصيتاه، فلا يقبل ولا كذلك في الشتاء. والمرأة تفعل في الأحوال كلها مثل ما يفعل الرجل في الشتاء.

وقد قيل المقصود هو الإنقاء، فيفعل على أي وجه يحصل المقصود. قيل في كيفية الاستنجاء بالماء: أنه ينبغي أن يجلس كأفرج ما يكون ويرخي كل الإرخاء حتى يطهر ما بداخل فرجه من النجاسة، فيغسلها وإن كان صائماً لا يبالغ في الإرخاء حتى لا يصل الماء إلى باطنه، فيفسد صومه. وعن هذا قيل: لا ينبغي أن يقوم عن موضع الاستنجاء حتى ينشف ذلك الموضع بخرقة حتى لا يصل الماء إلى باطنه، وكذلك قيل: لا ينبغي أن يتنفس في الاستنجاء للمعنى الذي ذكرنا، ويستنجي بيساره سواء كان الاستنجاء بالماء أو بالحجر، ويستنجي بأصبع أو أصبعين أو ثلاث، ولا يستعمل جميع الأصابع لأن ذلك الموضع لا تتسع فيه الأصابع كلها، فلو استعمل الأصابع كلها يخرج الماء النجس من بين أصابعه، ويسيل على فخذيه فينجس به فخذاه وعسى لا يشعر به. أو نقول المقصود يحصل بالثلاث، ففي الزيادة على الثلاث استعمال النجاسة بلا ضرورة، وإن كان المستنجي رجلاً يستنجي بأوساط أصابعه، وإن كان امرأة تستنجي برؤوس الأصابع عند بعض المشايخ، وعند بعضهم تستنجي بأوساط الأصابع. بقي الكلام بعد هذا في عدد سكب الماء، وقد اختلف المشايخ فيه، منهم من لم يقدر في ذلك تقديراً وفوضه إلى رأي المستنجي، وقال: يغسل إلى أن يقع في قلبه أنه قد طهر، وبعضهم قدروا في ذلك تقديراً، واختلفوا فيما بينهم، فمنهم من قدره بالثلاث، ومنهم من قدره بالسبع، ومنهم من قدره بالتسع، ومنهم من قدره بالعشر، ومنهم من قدره في الإحليل بالثلاث، وفي المقعد بالخمس. وينبغي أن يستنجي بعد ما خطا خطوات حتى لا يحتاج إلى إعادة الطهارة، وإن كان المستنجي لابس الخفين وماء الاستنجاء يجري تحت خفه يحكم بطهارة الخف مع طهارة ذلك الموضع، إلا إذا كان على الخف خروق، ويدخل ماء الاستنجاء باطن الخف، فحينئذٍ يغسل باطن الخف، وإن كانت الخروق بحالٍ يدخل الماء فيها من جانب ويخرج من جانب آخر يحكم بطهارة الخف مع طهارة ذلك الموضع، هكذا ذكر الإمام الزاهد الصفار رحمه الله. وفي قول الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير رحمه الله: أنه سئل عن رجل شلت يده اليسرى، ولا يقدر أن يستنجي بها كيف يستنجي؟ قال: إن لم يجد من يصب الماء عليه والماء في الإناء لا يستنجي، وإن قدر على الماء الجاري يستنجي بنفسه، وإن كانت يداه كلاهما قد شلتا ولا يستطيع الوضوء والتيمم، قال: يمسح يده على الأرض يعني ذراعيه مع المرفقين ويمسح وجهه على الحائط ويجزىء ذلك عنه، ولا يدع الصلاة على كل حال.

وفيه أيضاً الرجل المريض إذا لم يكن له امرأة ولا أمة وله ابن أو أخ، وهو لا يقدر على الوضوء، قال: يوضئه ابنه أو أخوه غير الطهور، فإنه لا يمس فرجه ويسقط عنه الاستنجاء، وفرائض المرأة المريضة إذا لم يكن لها زوج ومن لا يقدر على الوضوء ولها أخت، قال: توضئها الأخت إلا الطهور وسقط عنها الاستنجاء. ثم الاستنجاء بالأحجار إنما يجوز إذا اقتصرت النجاسة على موضع الحدث، وأما إذا تعدت عن موضعها بأن جاوزت الفرج أجمعوا على أن ما جاوز موضع الفرج من النجاسة إذا كان أكثر من قدر الدرهم إنه يفرض غسلها بالماء، ولا يكفيه الإزالة بالأحجار. وإن كان ما جاوز موضع الفرج أقل من قدر الدرهم أو قدر الدرهم إلا أنه إذا ضم موضع الفرج يكون أكثر من قدر الدرهم، فأزالها بالحجر ولم يغسلها بالماء فعلى قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله: أنه يجوز ولا يكره. وعلى قول محمد رحمه الله لا يجوز إلا أن يغسله بالماء، وهكذا روي عن أبي يوسف أيضاً. وإذا كانت النجاسة على موضع الاستنجاء أكثر من قدر الدرهم واستجمر ولم يغسلها ذكر في «شرح الطحاوي» أن فيه اختلاف، بعضهم قالوا: إن مسحه بثلاثة أحجار والماء جاز، قال: وهو أصح، وبه قال الفقيه أبو الليث رحمه الله. وإذا استنجى بالأحجار ثم سبح في ماء قليل أو جلس في طست ماء، ذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله في «غريب الرواية» : إن قيل لا ينجس فله وجه، وإن قيل ينجس فلا وجه، قال: وهو الأصح، وبه كان يقول الناطفي، ذكره في «الهداية» ، وإن خرج من ذلك الموضع دم أو قيح أو أصابه نجاسة أخرى لا يجزئه الإزالة بالأحجار والله تعالى أعلم. ومن السنة: النية، وإذا تركها تجزئه صلاته عندنا، وتكلموا في أنه إذا ترك النية هل يثاب ثواب الوضوء؟ قال الأكثر من المتقدمين من أصحابنا؛ لا يثاب، وقال بعض المتأخرين: يثاب، هكذا ذكره الإمام الزاهد أبو نصر الصفار، وأشار الكرخي في «كتابه» إلى أن الوضوء الذي هو بغير النية ليس الوضوء الذي أمر به الشرع، وإذا لم ينو فقد أساء وأخطأ وخالف السنّة إلا أنه تجوز صلاته؛ لأن الحدث لا يبقى مع الوضوء ثم كيف ينوي حتى تكون متممة للسنّة، قالوا: ينوي إزالة الحدث أو إقامة الصلاة. ومن السنّة: الترتيب في الوضوء يبدأ بيديه إلى الرسغ ثم بوجهه ثم بذراعيه ثم برأسه ثم برجله. ومن السنّة أيضاً الموالاة. ومن السنّة السواك، وينبغي أن يكون السواك من أشجار مرة؛ لأنه يطيب نكهة الفم ويشد الأسنان ويقوي اللثة، وليكن رطباً في غلظ الخنصر وطول الشبر، ولا يقوم الإصبع مقام الخشب، حال وجود الخشب، فإن لم توجد الخشبة فحينئذٍ تقوم الإصبع مقامها. ومن السنّة أيضاً أن يتمضمض ثلاثاً، ويستنشق الماء، والمضمضة والاستنشاق نفلان في الوضوء عندنا، ولكنهما سنّتان والمبالغة فيهما سنّة أيضاً. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: المبالغة في المضمضة أن يخرج الماء من

جانب إلى جانب، وقال شيخ الإسلام: المبالغة (3ب1) في المضمضة الغرغرة. وقال الصدر الشهيد: المبالغة في المضمضة تكثير الماء حتى يملأ الفم فإن لم يملأ الفم يغرغر حينئذٍ، والمبالغة في الاستنشاق أن يضع الماء على منخريه ويجذبه حتى يصعد من أنفه، وبعضهم قالوا المبالغة في الاستنشاق في الاستنثار. وتكون المضمضة باليد اليمنى والاستنشاق باليد اليسرى، وفي بعض المواضع: إذا تمضمض واستنشق، فليس عليه أن يدخل أصبعه في فمه وأنفه. قال الزندويستي: والأولى أن يفعل ذلك وينبغي أن يأخذ لكل واحد منهما ماء على حدة عندنا، وإن أخذ الماء بكفه ورفع منه بفمه ثلاث مرات وتمضمض يجوز مثله، ولو رفع الماء من الكف بأنفه ثلاث مرات واستنشق لا يجوز؛ لأن في الاستنشاق يعود بعض الماء المستعمل إلى الكف، وفي المضمضة لا يعود بعض الماء المستعمل إلى الكف لأنه يرميه إلى الأرض. ومن السنّة تكرار الغسل ثلاثاً فيما يفرض غسله نحو اليدين والوجه والرجلين، لما روي أن رسول الله عليه السلام؛ «توضأ مرة مرة، فقال: هذا وضوء من لا يقبل الله الصلاة إلا به، وتوضأ مرتين مرتين، وقال: هذا وضوء من يضاعف الله تعالى له الأجر مرتين، وتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، فمن زاد على هذا أو نقص فقد تعدى وظلم» قيل: المراد زاد على أعضاء الوضوء، أو نقص على أعضاء الوضوء. وقيل زاد على الحد المحدود أو نقص عن الحد المحدود. وقيل المراد زاد على الثلاث أو نقص متعمداً؛ لأن السنّة هذا فأما إذا زادهما بنية الطب عند السواك أو بنية وضوء آخر فلا بأس به؛ لأن الوضوء على الوضوء نور على نور وقد أمر بترك ما يريبه إلى ما (لا) يريبه. وهذا فصل اختلف فيه المشايخ أن من توضأ وزاد على الثلاث هل يكره؟ كان الفقيه أبو بكر الإسكاف يقول: يكره، وكان الفقيه أبو بكر الأعمش يقول: لا يكره، إلا أن يدعي أن السنّة في الزيادة، وبعض مشايخنا قالوا: إن كان من نعته الزيادة تكره، وإن كان من نعته تجديد الوضوء لا يكره بل يستحب له ذلك. وذكر الناطفي في «الهداية» ، أن الوضوء مرة واحدة فرض ومرتين فضيلة وثلاثاً في المغسولات سنة وأربعاً بدعة، وهذا كله إذا لم يفرغ من الوضوء، فأما إذا فرغ ثم استأنف الوضوء، فلا كراهة بالاتفاق، ذكره في متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله، والأصل فيه

قوله عليه السلام: «من توضأ على وضوء يكتب له عشر حسنات» . ومن السنّة: استيعاب جميع الرأس في المسح وتكرار المسح والاستيعاب بماء واحد لا بأس به، فالتثليث في المسح بماء.... بدعة، هكذا ذكره شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله. وذكر شمس الأئمة الحلواني رواية أبي حنيفة أنه يمسح ثلاث مرات يأخذ لكل مرة ماءً جديداً، وقد روي عن معاذ بن جبل أنه قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّمتوضأ مرة مرة ورأيته توضأ مرتين مرتين ورأيته توضأ ثلاثاً ثلاثاً وما رأيته مسح برأسه إلا مرة واحدة» . وبيان كيفية الاستيعاب: أن يأخذ الماء ويبل كفه وأصابعه ثم يلصق الأصابع، ويضع على مقدم رأسه من كل يد ثلاث أصابع، ويمسك إبهاميه وسبابتيه ويجافي بين كفيه، ويمدهما إلى قفاه، ثم يرسل الأصابع ويضع كفيه ويمسح على فوديه بكفيه، ويمسح ظاهر أذنيه بباطن إبهاميه وباطن أذنيه بباطن مسبحتيه حتى يصير ماسحاً جميع الرأس ببلل لم يصر مستعملاً والرواية من مقدم الرأس قول عامة المشايخ. وروي عن أبي حنيفة، ومحمد رحمه الله أنه يبدأ من أعلى رأسه، فيمد يديه إلى مقدم جبينه، ثم إلى قفاه، وذكر الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله: يبدأ في مسح الرأس من مقدم الرأس، ويجرهما إلى مؤخر الرأس ثم يعيدهما إلى مقدم الرأس، ولا تكون الإعادة استعمال المستعمل؛ لأن اليد ما دام على العضو لا يأخذ حكم الاستعمال وإذا غسل الرأس مع الوجه أجزأه عن المسح هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله؛ لأن في الغسل مسح وزيادة ولكن يكره لأنه خلاف ما أمر به. ومن السنّة: مسح الأذنين بالماء الذي يمسح به الرأس، ولا يأخذ لهما ماءً جديداً، وقال الشافعي: يأخذ لهما ماءً جديداً؛ لأنهما عضوان منفصلان؛ ولهذا كان مسح الرأس فرضاً ومسح الأذنين سنّة، ولا يكتفى فيها بماء واحد كالمضمضة والاستنشاق مع غسل الوجه، ولنا قوله عليه السلام: «الأذنان من الرأس» والمراد بيان الحكم لا بيان الحقيقة؛ لأنه مشاهد ولا حكم لجعل الأذنان فيه من الرأس إلا ما قلنا، وأما المضمضة والاستنشاق، فيؤخذ لهما ماء جديد في ظاهر الرواية، وروى ابن شجاع أنه إذا أخذ

غرفة، فتمضمض بها وغسل وجهه جاز، فإن أخذنا بهذه الرواية نحتاج إلى الفرق، ووجه الفرق على ظاهر الجواب أن المضمضة والاستنشاق يكون مقدماً على غسل الوجه فلو أصابهما بماء واحد صار المفروض تبعاً للمسنون، وذلك لا يجوز، ولا كذلك الأذنان مع الرأس، وإدخال الإصبع في صماخ أذنيه أدب وليس بسنّة هو المشهور، وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه كان يرى ذلك. وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: أنه يدخل الخنصر في صماخ أذنيه ويحركها، ويرويان في ذلك حديثاً عن «النبي صلى الله عليه وسلّموعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يفعل ذلك» . لم يذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» مسح الرقبة، وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: إنه سنّة وبه أخذ أكثر العلماء، وقال أبو بكر بن أبي سعيد: إنه ليس بسنّة، وبه أخذ بعض العلماء، وقد روت الربيع بنت معوذ بن عفراء: «أن رسول الله عليه السلام مسح على رأسه وأذنيه ورقبته في بيتها» . وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «امسحوا رقابكم قبل أن تغل بالنار» . وأما تخليل اللحية فليس بمسنون، رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة، وهو قول محمد وقال أبو يوسف هو سنّة. ومن السنّة عند غسل الرجلين أن يأخذ الإناء بيمينه وألقاه على مقدم رجله الأيسر، ودلكه بيساره، وإنما أخبرنا اليسار والدلك؛ لأن الرجل موضع الأذى واليسار للأذى، وإنما بدأنا من مقدم الرجل؛ لأن الله تعالى جعل الكعبين غاية، وكذلك في غسل اليدين يبدأ من رؤوس الأصابع، لأن الله تعالى جعل المرفق غاية. (آداب الوضوء) جئنا إلى بيان الأدب فنقول: من الأدب أن لا نسرف ولا نقتر، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن هذا سنّة. ومن الأدب أن يقول عند غسل كل عضو: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، به ورد «الأثر عن رسول الله عليه السلام» . ومن الأدب أن لا يتكلم فيه بكلام الناس. ومن الأدب: أن يتولى أمر الوضوء بنفسه لحديث عمر رضي الله عنه، فإنه قال: «إنا لا نستعين على طهورنا» ، مع هذا لو استعان بغيره جاز بعد أن لا يكون الغاسل

الفصل الثاني: في بيان ما يوجب الوضوء وما لا يوجب

غيره، بل يغسله بنفسه، فقد صح «أن رسول الله عليه السلام استعان بغيره، وكان المغيرة يفيض الماء ورسول الله عليه السلام كان يغسل» . ومن الأدب: أن لا يترك عورته مكشوفة يعني بعد الاستنجاء، فقد قيل: الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم إذا وجدها مكشوفة. ومن الأدب أن يتأهب للصلاة قبل الوقت، لما روي عن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه أنه قال: من لم يتأهب للصلاة قبل الوقت لم يوقر لها. ومن الأدب أن يقول بعد الفراغ من الوضوء: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله عبده ورسوله. ومن الأدب أن لا يمسح سائر أعضائه بالخرقة التي يمسح بها موضع الاستنجاء. ومن الأدب: أن يستقبل القبلة عند الوضوء بعد الفراغ من الاستنجاء. ومن الأدب: أن يقول بعد الفراغ من الوضوء (4أ1) أو في خلال الوضوء: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. ومن الأدب: أن يشرب فضل وضوئه أو بعضه مستقبل القبلة إن شاء قائماً، وإن شاء قاعداً، هكذا ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زادة رحمه الله أنه يشرب ذلك قائماً قال: ولا يشرب الماء قائماً، إلا في موضعين أحدهما: هذا، والثاني: عند زمزم. ومن الأدب: أن يصلي ركعتين بعد الفراغ من الوضوء، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال لبلال: «مالك سبقتني إلى الجنة، فقال بلال: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلّم «كنت أمس البارحة في الجنة، فسمعت أمامي خَشخَشَتَك (بجزم الشين أو بفتح الشين) فنظرت، فإذا هي أنت، فقال بلال: ما توضأت قط إلا رأيت لله تعالى عليّ صلاة ركعتين، فقال عليه السلام: «هي ذاك» الخشخشة بالجزم صوت النعلين وبالفتح الحركة. ومن الأدب: أن يملأ آنيته بعد الفراغ من الوضوء لصلاة أخرى والله أعلم.x الفصل الثاني: في بيان ما يوجب الوضوء وما لا يوجب هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه الغائط يوجب الوضوء قل أو كثر، وكذلك البول، وكذلك الريح الخارج من الدبر، واختلف المشايخ أن عين الريح نجس، أو هو طاهر إلا أنه يتنجس بمروره على النجاسة، قالوا: وفائدة هذا الخلاف إنما تظهر فيما إذا

خرج منه الريح وعليه سراويل مبتلة هل تتنجس سراويله، فمن قال عينه نجس يقول تتنجس، ومن قال عينه ليس بنجس يقول لا تتنجس. وأما الريح الخارج من قبل المرأة وذكر الرجل، فقد روي عن محمد أنه يوجب الوضوء، هكذا ذكر القدوري، وبه أخذ بعض المشايخ، وقال أبو الحسن الكرخي: لا وضوء فيه إلا أن تكون المرأة مفضاة، فيستحب لها الوضوء. وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير رحمه الله يقول: إذا كانت المرأة مفضاة يجب عليها الوضوء، وما لا فلا، وهكذا ذكر هشام عن محمد في «نوادره» . ومن المشايخ من قال في المفضاة: إن كان الريح، نتناً يجب عليها الوضوء ومالا فلا، والدودة إذا خرجت من قبل المرأة، فعلى الأقاويل التي ذكرنا، هكذا ذكر الزندويستي في «نظمه» ، وفي «القدوري» : أنها توجب الوضوء. وإن خرجت من الدبر وجب الوضوء بلا خلاف، فرق بين الخارج من الدبر وبين الخارج من الجراحة. فإن الدودة الخارجة عن رأس الجراحة لا تنقض الوضوء، والفرق من وجهين: أحدهما: أن الخارج من الدبر يولد من محل النجاسة، فيكون نجساً والساقط عن رأس الجرح يولد من محل الطهارة لأنه يولد عن اللحم واللحم طاهر والمتولد منه يكون طاهراً. والثاني: أن عين الساقط حيوان ليس من جملة الأحداث إنما الحدث ما عليه من البلة وهي قليلة، غير أن القليل حدث في السبيلين، وليس بحدث في سائر الجراحات، لعدم السيلان، وعلى قياس مسألة الدودة الساقطة عن رأس الجراحة استحسن المشايخ في العرق المدني الذي يقال له بالفارسية «رشته» لو خرج من عضو إنسان لا ينقض وضوؤه، وإن خرجت الدودة من الإحليل حكي عن الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله أنه ينقض، وكان يحيله إلى «فتاوى خوارزم» . ولو خرجت الدودة من الفم قيل لا تنقض الوضوء وكذلك الخارجة من الأذن والأنف لا تنقض الوضوء. والمذي ينقض الوضوء، وهو الماء الأبيض الذي يخرج بعد البول، وكذلك الحصاة إذا خرجت من السبيلين تنقض الوضوء؛ لأنها لا تخلو عن بلة وتلك البلة بانفرادها إذا خرجت من السبيلين تنقض الوضوء. والمني إذا خرج من غير شهوة بأن حمل شيئاً، فسبقه المني أو سقط من مكان مرتفع، فخرج منه مني لم يجب عليه الغسل لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله، ويوجب الوضوء، وكذا دم الاستحاضة حدث يوجب الوضوء عندنا، والأصل فيه قوله

عليه السلام: «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة» ، ولأنه خارج نجس فيكون حدثاً كالغائط والبول. وفي هذا المقام نحتاج إلى بيان حد الاستحاضة، فنقول: الاستحاضة إنما تعرف باستمرار الدم بها وقت صلاة كامل، حتى أنه لو سال الدم في وقت صلاة، فتوضأت وصلت ثم خرج الوقت ودخل وقت صلاة أخرى وانقطع الدم ودام الانقطاع إلى آخر الوقت، توضأت وأعادت تلك الصلاة، وإن لم ينقطع الدم في وقت الصلاة الثانية حتى خرج الوقت جازت تلك الصلاة؛ لأن في الوجه الأول السيلان لم يستوعب وقت صلاة كامل، فلم يحكم باستحاضتها. وثبوت الطهارة مع السيلان أمر عرف بثبوتها في حق المستحاضة، فإذا لم يحكم باستحاضتها تبين أنها صلت بغير طهارة، فلزمها الإعادة. وفي الوجه الثاني: السيلان استوعب وقت صلاة كامل، فحكم باستحاضتها، فتبين أنها صلت بطهارة، فلا يلزمها الإعادة، وإنما شرطنا استيعاب السيلان وقت صلاة كامل اعتباراً لظرف الثبوت بظرف السقوط، فإن المستحاضة إذا انقطع دمها وقت صلاة كامل خرجت من أن تكون مستحاضة، وإن كان أقل من ذلك لا تخرج من أن تكون مستحاضة، ومتى حكم باستحاضتها في وقت صلاة إنما يحكم بذلك في وقت صلاة أخرى إذا وجد السيلان في وقت الصلاة الأخرى مقارناً للوضوء، أو طارئاً على الوضوء، ولا يكتفى بوجود السيلان في وقت الصلاة الأخرى سابقاً على الوضوء، حتى إن المرأة إذا استحيضت، فدخل وقت العصر ودمها سائل، وانقطع فتوضأت والدم كذلك منقطع، فلما صلت ركعتين من العصر غربت الشمس، فإنها تمضي على صلاتها. ولو حكم باستحاضتها لا تنقض طهارتها بخروج وقت العصر؛ لأن طهارة المستحاضة تنتقض بخروج الوقت على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، فينبغي أن لا تمضي على صلاتها، وحد صيرورة الإنسان صاحب جرح سائل بالسلس والرعاف والدمامل والجراحات واستطلاق البطن وحد المستحاضة سواء؛ لأن المعنى يجمعهما. وكان الفقيه أبو القاسم الصفار البلخي رحمه الله يقول: صاحب الجرح السائل أن يسيل جرحه في وقت الصلاة مرتين أو مراراً، فإن كان أقل من ذلك لا يكون صاحب جرح سائل. وفي «الفتاوى» : وينبغي لمن رعف أو سال من جرحه دم أن ينتظر آخر الوقت، وإن لم ينقطع الدم يتوضأ ويصلي. بعد هذا يحتاج إلى معرفة أحكام المستحاضة ومن بمعناها وبمسائلها، وإنها تنبني على أصول: أحدها: أن الثابت مع المنافي لضرورة يتقدر بقدر الضرورة؛ لأن الموجب للثبوت الضرورة، فإذا ارتفعت الضررة فقد ارتفع الموجب للثبوت، فينبغي نقضه الباقي.

قلنا وطهارة المستحاضة ثابتة مع قيام المنافي، وهو السيلان، لضرورة وهي الحاجة إلى الطهارة، ولإسقاط ما في الذمة من الصلاة المفروضة بالأداء إذ لا أداء إلا بالطهارة، فثبتت الطهارة، وكلما مست الضرورة إلى الثبوت مست الضرورة إلى البقاء إذ لا أداء إلا بالبقاء، كما لا أداء إلا بالثبوت. بعد هذا اختلف العلماء في تقدير هذه الطهارة، فالشافعي رحمه الله قدرها بالأداء حتى قال: المستحاضة تتوضأ لكل صلاة مكتوبة، وتصلي بوضوئها ما شاءت من النوافل؛ لأن ثبوت طهارتها ضرورة الحاجة إلى أداء المفروضة وإذا أدى المفروضة في وقتها فقد ارتفعت الضرورة إذ المشروع في وقت فرض واحد على ما على الأصل. ولا يجوز بقاء ما ثبت بالضرورة بعد ارتفاع الضرورة، وإليه أشار علماؤهم في قوله: المستحاضة تتوضأ لكل صلاة إلا أن النوافل تابعة للفرائض، فتثبت الطهارة في حق النوافل بطريق التبعية، أما فرض آخر فليس بتبع لهذا الفرض فثبوت الطهارة في حق فرض الوقت لا يوجب ثبوت الطهارة في حق فرض آخر (4ب1) . وعلماؤنا رحمهم الله قدروا البقاء بالوقت حتى قالوا المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة، وتصلي بوضوئها ما شاءت من النوافل والفرائض في الوقت؛ لأن الفرض معرفة مقدار البقاء، وذلك إنما يحصل بتقديره بما هو معلوم في نفسه، وفعل الأداء يتفاوت بتفاوت الناس، فقدرناه بالوقت لكونه معلوماً في نفسه بالتفاوت، فيصير مقدار بقاء الطهارة معلوماً، ولأن ثبوت الطهارة وإن كان ضرورة الحاجة إلا أن الوقت قائم مقام الحاجة؛ لأن لها حق التنفل كل الوقت بالأداء إلا أن الشرع رخص لها صرف بعض الأزمان إلى حاجة نفسها تيسراً عليها، وشرع اليسر بطريق الرخصة لا يوجب بطلان اليسر المتعلق بالعزيمة واليسر المتعلق بالعزيمة بقاء الطهارة ما بقي الوقت، وإليه أشار عليه السلام في قوله: «المستحاضة تتوضأ لوقت كل صلاة» وما روي محمول على الوقت، فإن اسم الصلاة يحتمل الوقت قال عليه السلام: «إن للصلاة أولاً وآخراً» أي لوقت الصلاة أولاً وآخراً، فوجب العمل على الوقت توفيقاً بين الروايتين، وإذا تقدر بقاء الطهارة بالوقت كان لها أن تصلي في الوقت ما شاءت. ثم إذا خرج الوقت في الصلوات التي اتصلت أوقاتها لانعدام الوقت المهمل بين أوقاتها وثبت انتقاض الطهارة تضاف بالانتقاض إلى خروج الوقت، أو إلى دخول وقت آخر، وقال عامة المشايخ: إن على قول أبي حنيفة ومحمد تضاف إلى خروج الوقت. وعند زفر تضاف إلى دخول وقت آخر. وعند أبي يوسف تضاف إلى أيهما وجد. وثمرة الخلاف لا تظهر في هذه الصلوات التي اتصلت أوقاتها؛ لأن ما من وقت يخرج إلا ويدخل وقت آخر وما من وقت يدخل إلا ويخرج وقت آخر، وإنما تظهر في

الصلوات التي لا تتصل أوقاتها، ولذلك صورتان: إحداهما: إذا توضأت بعد طلوع الفجر للفجر، وطلعت الشمس تنتقض طهارتها عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله بخروج الوقت، حتى لم يكن لها أن تصلي صلاة الضحى بتلك الطهارة، وكذلك عند أبي يوسف؛ لأنه يعتبر أي الأمرين وجد إما الخروج أو الدخول، وعند زفر لا تنتقض لانعدام دخول الوقت. والثانية: إذا توضأت بعدما طلعت الشمس لا تنتقض طهارتها إلا بخروج وقت الظهر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، حتى كان لها أن تصلي الظهر بتلك الطهارة، وعند أبي يوسف وزفر تنتقض بدخول وقت الظهر. والصحيح ما قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن طهارة المستحاضة للحاجة إلى أداء فرض الوقت، وخروج الوقت يدل على انقضاء الحاجة، وانقضاء الحاجة يدل على انتقاض الطهارة، أما دخول الوقت يدل على تحقق الحاجة، وتحقق الحاجة يدل على ثبوت الطهارة يجب أن يضاف انتقاض الطهارة إلى خروج الوقت الدال على انتفاء الحاجة التي تدل على انتقاض الطهارة، لا إلى دخول الوقت الدال على تحقق الحاجة التي تدل على ثبوت الطهارة. وأصل آخر: أن طهارة المستحاضة متى انتقضت بخروج الوقت عندهما يستند الانتقاض إلى السيلان السابق، وهذا لأن خروج الوقت ليس سبباً لانتقاض الطهارة؛ لأنه ليس بحدث، ولا يثبت حكم ما بغير سبب، فيثبت الانتقاض مستنداً إلى السيلان السابق، ليكون الانتقاض بسببه هذا كما قلنا في البيع بشرط الخيار إذا سقط الخيار بمضي المدة أو بإسقاطهما ويثبت الملك، يثبت مستنداً إلى البيع ولا يقتصر، لأن الملك حكم لا بد له من السبب، ولا سبب هنا سوى البيع ويستند الملك إليه ليكون ثبوت الملك بسببه إلا أن الاستناد إنما يظهر في حق القائم من الأحكام، ولا يظهر في حق المقتضي، ولهذا لا يظهر في حق الصلاة المؤداة حتى لا يبطل ما أدت من الصلاة. وأصل آخر: أن الطهارة متى وقعت للسيلان لا يضرها سيلان مثله في الوقت ويضرها حدث آخر، وخروج الوقت. ومتى وقعت للحدث يضرها حدث آخر والسيلان، ولا يضرها خروج الوقت، وإنما تعتبر الطهارة واقعة للسيلان إذا كان السيلان مقارناً للطهارة حقيقة أو اعتباراً، فالحقيقة ظاهرة، والاعتبار: أن يكون الدم منقطعاً وقت الطهارة حقيقة ثم سال قبل أن يستوعب الانقطاع وقت صلاة كامل، ويشترط مع ذلك أن تكون الطهارة محتاجاً إليها لأجل السيلان. وإنما تعتبر الطهارة واقعة للحدث إذا لم يكن السيلان مقارناً للطهارة حقيقة واعتباراً والحقيقة ظاهرة، والاعتبار: أن يكون الدم منقطعاً وقت الطهارة واستوعب الانقطاع وقت صلاة كامل، أما الطهارة إذا وقعت للسيلان إنما لا يضرها سيلان مثله في الوقت؛ لأن الدم يسيل مرة بعد مرة فتبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فتحرج ويضرها حدث آخر؛ لأنه لا يوجد مرة بعد مرة أخرى، فلا تبقى مشغولة بالوضوء في الوقت لا محالة.

وإن كان يوجد إلا أنه لا يوجد مرة بعد مرة، فلا تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فلا تحرج ويضرها خروج الوقت لما ذكرنا أن طهارة المستحاضة مقدرة بالوقت، فلا تبقى بعد خروج الوقت؛ وأما إذا وقعت الطهارة للحدث إنما يضرها حدث آخر لأنه لا يوجد مرة بعد مرة أخرى، فلا تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فلا تحرج ويضرها السيلان أيضاً؛ لأنه لا حرج فيه؛ لأنها لا تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت أيضاً؛ لأن السيلان إنما يوجد بعد مضي وقت صلاة كامل إذا كانت الطهارة واقعة للحدث، ولا يضرها خروج الوقت؛ لأن الطهارة عن الحدث ليست بطهارة ضرورية مع قيام المنافي، فكانت هذه الطهارة وطهارة الصحيح سواء، طهارة الصحيح لا يضرها خروج الوقت كذا ههنا. مسائل الأصل الأول ذكرناها في الأصل الأول. مسائل الأصل الثاني بعضها يأتي في فصل المسح على الخفين، وبعضها في آخر هذا النوع. مسائل الأصل الثالث إذا استحيضت المرأة، فدخل وقت الظهر ودمها سائل، فتوضأت ثم انقطع الدم بعد الوضوء، فصلت الظهر ودام الانقطاع إلى أن خرج وقت الظهر تنتقض طهارتها؛ لأن هذه الطهارة وقعت للسيلان لكون السيلان مقارناً لها، وقد ذكرنا أن الطهارة الواقعة للسيلان يضرها خروج الوقت، فإن توضأت في وقت العصر والدم منقطع وصلت العصر ثم سال الدم بعد ذلك في وقت العصر لا تنتقض طهارتها؛ لأن طهارتها في وقت العصر وقعت للسيلان، لكون السيلان مقارناً لها اعتباراً بثباته، وهو من الانقطاع الناقص، وهو الانقطاع الذي لا يستوعب وقت صلاة كامل، وإنما يوجد في بعض وقت الصلاة دون البعض ليس بفاصل بين الدمين والانقطاع التام الذي يستوعب وقت صلاة كامل فاصل، وهذا لأن الدم لا يسيل على الولاء، بل ينقطع ساعة ويسيل أخرى، فلو جعلنا الناقص فاصلاً تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فلا يمكنها إقامة الصلاة في الوقت أبداً. أما لو جعلنا الكامل فاصلاً لا تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت فعليها الأداء في الوقت. إذا ثبت هذا، فنقول في مسألتنا: الانقطاع لم يستوعب وقت صلاة كامل، فلم يصر فاصلاً بل جعل كالدم المتوالي، فكان السيلان مقارناً للطهارة في وقت العصر اعتباراً، فكانت واقعة للسيلان، فلا تنتقض بسيلان مثله ما دام الوقت باقياً. فإن كان الدم لم يسل وقت العصر، بل دام الانقطاع إلى أن دخل (5أ1) وقت المغرب، فإذا توضأت تعيد الظهر، ولا تعيد العصر. وإنما تعيد الظهر لأن الانقطاع استوعب وقت صلاة كامل، فجعل فاصلاً بين الدمين، وحكم بزوال ذلك العذر، فتبين أنها صلت الظهر بطهارة المعذورين ولا عذر بها، وإنما لا تعيد العصر؛ لأنها صلتها بطهارة كاملة، أكثر ما في الباب أن الظهر وقع فاسداً، ولكن وقوعه فاسداً ظهر للحال لا وقت أداء العصر، فوقت أداء العصر لا ظهر عليها بزعمها، فكانت في معنى الناس للظهر

وقت أداء العصر والترتيب يسقط بالنسيان، فإن كان حين ما توضأت للظهر الدم سائل، فصلت الظهر والدم كذلك سائل ثم انقطع بعد ذلك، وسال في وقت المغرب لا تعيد الظهر؛ لأنه تبين أنها صلت الظهر بطهارة المعذورين والعذر قائم من أوله إلى آخره، وإنما زال العذر بعد الفراغ منها، وزوال العذر بعد الفراغ لا يوجب الإعادة، كالمتيمم إذا وجد الماء بعد الفراغ، والعاري إذا وجد الثوب بعد الفراغ. وإذا استحيضت المرأة فدخل وقت العصر ودمها سائل، فتوضأت والدم كذلك سائل، فقامت تصلي العصر فلما صلت ركعتين من العصر غربت الشمس انتقضت طهارتها؛ لأن طهارتها وقعت للسيلان، لكون السيلان مقارناً لها، فتنتقض بخروج الوقت. فتتوضأ وتستأنف الصلاة، ولا تبني لما ذكرنا أن انتقاض الطهارة بخروج الوقت يستند إلى وقت السيلان السابق، فتبين من وجه أن الشروع في الصلاة كان مع الحدث، وجواز البناء عرف شرعاً بخلاف القياس في موضع كان الحدث طارئاً على الشروع من كل وجه فبينما عداه يبقى على أصل القياس. ولو دخل وقت العصر ودمها سائل وانقطع، وتوضأت والدم كذلك منقطع، فلما صلت ركعتين من العصر غربت الشمس، فإنها تمضي على صلاتها ولا تعيد الوضوء، وإن سال الدم بعد ذلك في وقت المغرب وهي في العصر تعيد، فإنها تتوضأ وتبني على صلاتها. طعن عيسى بن أبان رحمه الله فقال: ينبغي أن تعيد الوضوء ولا تمضي على صلاتها؛ لأن الطهارة ههنا وقعت للسيلان، لكون السيلان مقارناً لها حكماً؛ لأن الانقطاع لم يستوعب وقت صلاة كامل لما سال الدم في وقت المغرب، فلا يجعل فاصلاً بين الدمين كما قلتم في مسألة الطهر التي تقدم ذكرها، بل يجعل الدم المتوالي، فكان السيلان قائماً حكماً، فكانت الطهارة واقعة للسيلان فتنتقض بخروج الوقت، وإذا انتقضت بخروج الوقت يستند الانتقاض إلى الحدث، وتبين أن الشروع كان مع الحدث من وجه، فينبغي أن تستأنف الصلاة. والجواب: أن السيلان منقطع حقيقة وقت الوضوء، إلا أن الانقطاع الناقص لا يجعل فاصلاً، ويجعل السيلان قائماً حكماً تخفيفاً عليها، كما في مسألة الظهر التي تقدم ذكرها، فإن هناك لو جعلنا الانقطاع الناقص فاصلاً تبقى مشغولة بالوضوء في كل الوقت، فلم يجعل فاصلاً، وجعل السيلان قائماً حكماً تخفيفاً عليها. فأما ههنا لو لم يجعل الانقطاع الناقص فاصلاً، وجعلنا السيلان قائماً حكماً،

كانت طهارتها في وقت العصر واقعة للسيلان، فتنتقض بخروج الوقت، وفي ذلك تغليظ عليها، فيعود على موضوعه بالنقض، وإنه لا يجوز، وإذا لم تنتقض طهارتها بخروج وقت العصر لا يستند الانتقاض إلى وقت الحدث السابق، فلا يتبين أن الشروع كان مع الحدث والله أعلم. وإذا استحيضت المرأة، فدخل وقت الظهر ودمها سائل، فتوضأت وصلت ودمها كذلك سائل، ثم انقطع الدم وأحدثت حدثاً آخر غير الدم وتوضأت لحدثها والدم كذلك منقطع، ثم دخل وقت العصر، لا تنتقض طهارتها؛ لأن الطهارة الثانية في وقت الظهر ما وقعت للسيلان، لعدم مقارنة السيلان إياها وعدم طريانه عليها، فلا ينتقض بخروج الوقت، فإن توضأت في وقت العصر مع أن طهارتها لم تنتقض بخروج وقت الظهر والدم كذلك منقطع ثم سال الدم، فعليها أن تتوضأ. وكان ينبغي أن لا تتوضأ لأن طهارتها في وقت العصر وقعت للسيلان؛ لكون السيلان مقارناً لها اعتباراً لأن الانقطاع لو لم يستوعب وقت صلاة كامل لما سال الدم في وقت العصر، فيجعل السيلان قائماً حكماً، فكانت الطهارة في وقت العصر واقعة للسيلان، فلا تنتقض بسيلان مثله في الوقت. والجواب: أن الطهارة إنما تعتبر للسيلان إذا كانت الطهارة محتاجاً إليها، لأجل السيلان، والطهارة في وقت العصر غير محتاج إليها أصلاً؛ لأن الطهارة الثابتة في وقت الظهر لم تنتقض بخروج وقت الظهر، فلم تكن الطهارة في وقت العصر محتاجاً إليها، فصار وجودها والعدم بمنزلة، والطهارة الثابتة في وقت الظهر كانت واقعة عن الحدث حتى لم تنتقض بخروج الوقت، فجاز أن تنتقض بالسيلان، ولأن الطهارة إنما تعتبر واقعة للسيلان إذا اعتبر السيلان قائماً حكماً؛ لأن السيلان وقت الطهارة منقطعة عنها حقيقة، وإنما يعتبر السيلان قائماً حكماً فيما كان منقطعاً حقيقة تخفيفاً عليها، وههنا لو اعتبرنا السيلان قائماً حكماً كان فيه تغليظ عليها. بيانه: أنا لو اعتبرنا السيلان قائماً حكماً كان طهارتها الثابتة في وقت الظهر واقعة للسيلان، فيلزمها الوضوء بخروج وقت الظهر، فلا يعتبر السيلان قائماً حكماً فلم تكن الطهارة في وقت العصر واقعة للسيلان. فإن قيل: في اعتبار السيلان قائماً حكماً تخفيف عليها، وإن طهارتها في وقت العصر تكون واقعة عن السيلان، فلا يلزمها الوضوء متى سال الدم بعد ذلك في وقت العصر. قلنا؛ يوجه في هذه المسألة تحقيقان واعتبارهما متعذر لما فيهما من التنافي، فكان اعتبار التخفيف فيما ذكرنا أولى، لا أنا اعتبرنا التخفيف فيما هو سابق وأصل، وأنتم اعتبرتم التخفيف فيما هو متأخر وتبع، فكان ما قلناه أولى من هذا الوجه. وكذلك لو أحدثت حدثاً آخر غير الدم في وقت العصر، فتوضأت لذلك الحدث ثم سال الدم بعد الوضوء في وقت العصر كان عليها أن تتوضأ، وكان ينبغي أن لا تتوضأ؛ لأن طهارتها ههنا وقعت للسيلان لكون الطهارة محتاجاً إليها، ولمقارنة السيلان إياها، فينبغي أن لا تنتقض بسيلان مثله ما دام الوقت باقياً.

والجواب: الطهارة إنما تعتبر واقعة للسيلان إذا كانت الطهارة محتاجاً إليها؛ لأجل السيلان، والطهارة في وقت العصر غير محتاج إليها؛ لأجل السيلان؛ لأنها إنما تكون محتاجاً إليها لأجل السيلان إن لو كانت الطهارة في وقت الظهر لم تنتقض بخروج وقت الظهر، فلم تكن الطهارة في وقت العصر محتاجاً إليها؛ لأجل السيلان إليها بل كانت محتاجاً إليها لأجل الحدث، فاعتبرت واقعة عن الحدث، فجاز أن تنتقض بالسيلان وإن كانت في الوقت. وفي «الفتاوى» : وينبغي لصاحب الجرح أن يعصب الجرح، ويربط تقليلاً للنجاسة، ولو ترك التعصيب لا بأس به، وإن سال الدم بعد الوضوء حتى نفذ الرباط يصلي كذلك، وتجوز صلاته. وإن أصابت ثوبه من ذلك الدم أكثر من قدر الدرهم لزمه غسل الثوب إذا علم أنه لو غسله لا يصيبه الدم ثانياً وثالثاً، أما إذا علم أنه يصيبه ثانياً وثالثاً لا يفترض عليه غسله. وفي «واقعات الناطفي» : إذا كان له جرح سائل، وقد شد عليه خرقة، فأصابها أكثر من قدر الدرهم أو أصاب ثوبه أكثر من قدر الدرهم، إن كان بحال لو غسل يتنجس قبل الفراغ من الصلاة ثانياً جاز له أن لا يغسل ويصلي قبل أن يغسله، وإلا فلا. قال الصدر الشهيد رحمه الله هو المختار. وفي «الأجناس» : رجل يسيل من أحد منخريه دم فتوضأ والدم سائل، ثم احتبس الدم من هذا المنخر وسال من المنخر الآخر انتقض وضوءه، وإن كان به دمامل (5أ1) أو جدري منها ما هي سائلة، ومنها ما ليست بسائلة وبعضها سائلة، ثم سالت التي لم تكن سائلة انتقض وضوؤه، والجدري قروح وليست بقرحة واحدة. وفي «المنتقى» : أبو سليمان عن محمد رحمهما الله: رجل به جرحان لا يرقآن، فتوضأ ثم رقأ أحدهما قال: يصلي، وكذلك إن سكن هذا الآخر وسال الذي كان ساكناً؛ لأنهما في هذا بمنزلة جرح واحد. الحائض إذا حبست الدم عن الخروج لا تخرج من أن تكون حائضاً، وصاحب الجرح السائل إذا منع الدم عن الخروج لا يخرج من أن يكون صاحب جرح سائل، فعلى هذا المفتصد لا يكون صاحب جرح سائل، وأما المستحاضة إذا منعت الدم عن الخروج هل تخرج من أن تكون مستحاضة؟ ذكر هذه المسألة في «الفتاوى الصغرى» .... إنها تخرج من أن تكون مستحاضة حتى لا يلزمها الوضوء في وقت كل صلاة وذكر في موضع آخر إنها لا تخرج من أن تكون مستحاضة. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف أنه سئل عن المستحاضة تحتشي ثم تصلي ولا يسيل الدم؟ الاحتشاء إذا منع ظهور الدم في حق المستحاضة لم يمنع حكم الاستحاضة، وفي الدبر الاحتشاء إذا منع ظهور الحدث منع حكمه، وهو الوضوء حتى إن من به

استطلاق بطن إذا حشا دبره كيلا يخرج منه شيء، فلم يخرج فلا وضوء عليه، وليس بحدث حتى يظهر منه. وإذا حشا إحليله بقطنة خوفاً من خروج البول، ولولا القطنة يخرج منه البول، فلا بأس به، ولا ينتقض وضوءه حتى يظهر البول على القطنة، وإن ابتل الطرف الداخل من القطنة ولم ينفذ أو نفذ لكن الحشو متسفل عن رأس الإحليل لا يعطى له حكم الخروج حتى لا ينتقض وضوءه، وإن كان الحشو عالياً عن رأس الإحليل أو محاذياً لرأس الإحليل إن نفذ يعطى له حكم البروز، وينتقض وضوءه، وإن لم ينفذ لا يعطى له حكم البروز ولا ينقض وضوءه، وإن سقطت القطنة إن كانت رطبة يثبت لها حكم البروز، وإن كانت يابسة لا يثبت لها حكم البروز. وإذا احتشت المرأة فإن كان الاحتشاء في الفرج الخارج والفرج الخارج بمنزلة الألسن والقلفة، فإذا ابتل داخل الحشو ونفذ إلى خارجه أو لم ينفذ انتقض وضوءها، وإن كان الاحتشاء في الفرج الداخل فابتل داخل الحشو إن لم ينفذ إلى خارجه لا ينتقض وضوءها، وإن نفذ إلى خارجه إن كان الكرسف عالياً عن حرف الفرج الداخل، أو كان محاذياً له ينتقض وضوءها، وإن كان متسفلاً عنه لا ينتقض وضوءها، وإن سقط الحشو إن كان يابساً لا ينتقض وضوءها، وإن كان رطباً ينتقض وضوءها وفي حق هذا الحكم يستوي الفرجان جميعاً والله أعلم. (نوع آخر) مما يوجب الوضوء قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : نفطة قشرت فسال منها ماء أو غيره عن رأس الجرح، ينتقض الوضوء، وإن لم يسل لا ينتقض الوضوء، وشرط السيلان لانتقاض الوضوء في الخارج من غير السبيلين، وهذا مذهب علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وإنه استحسان. وقال زفر رحمه الله: إذا علا وظهر على رأس الجرح ينتقض وضوءه، وهو القياس. وأجمعوا على أن في الخارج من السبيلين لا يشترط السيلان، ويكتفى بمجرد الظهور، وجه الاستحسان: ما روى تميم الداري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «الوضوء من الدم السائل» ، وعن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «الوضوء من كل دم سائل» . والمعنى: أن الحدث هو الخارج النجس، وإنما يتحقق الخروج بالانتقال عن موضع النجاسة، وإنما يتحقق الانتقال في غير السبيلين بالسيلان؛ لأن بدن الآدمي موضع الدماء والرطوبات السائلة، وإذا انقطعت الجلدة كانت الدماء بادية ظاهرة لا منتقلة عن موضعها، كالبيت إذا انهدم كان الساكن فيه ظاهراً لا منتقلاً عن موضعه، بخلاف ما إذا

ظهر البول عن رأس الإحليل؛ لأن موضع البول المثانة لا رأس الإحليل، فإذا ظهر على رأس الإحليل كان منتقلاً عن ضعه بيقين أما ههنا بخلافه. يوضحه: أن ما يواري الدم من أعلى الجرح محله كان كمن سكن داراً (كان) ما يوازيه من الأعلى مكانه وحقاً له، وإذا كان ما يوازيه من الأعلى محلاً له، فبمجرد الظهور والعلو على رأس الجرح لا يتحقق الانتقال عن موضعه، فلا يتحقق الخروج، فلا يكون حدثاً كما لو لم يسل عن رأس الجرح والأعيان الخارجة من النفطة كلها مثل الدم، والقيح والصديد والماء سواء فقد تكون النفطة أولاً دماً ثم تنضج، فتصير قيحاً ثم تزداد نضجاً، فتصير صديداً ثم قد تصير دماً، وقد تكون ماءً في الأصل. وفي لفظ النفطة لغتان: أحدهما بكسر النون، والأخرى بضم النون، وإنها اسم القرحة التي امتلأت وحان قشرها مأخوذ من قولهم: انتفط فلان إذا امتلأ غيظاً، ولو نزل الدم من الرأس إلى موضع يلحقه حكم التطهير من الأنف والأذنين ينقض الوضوء، ولو نزل البول إلى قصبة الذكر لم ينقض الوضوء والفرق: أن في المسألة الأولى النجاسة خرجت بنفسها عن محلها الباطن إلى موضع له حكم الظاهر، ولا كذلك المسألة الثانية حتى أثبت في المسألة الثانية، لو خرج إلى القلفة نقض الوضوء لزواله عن ما لَه حكم الباطن. وكذلك إذا خرج عن فرج المرأة إلى..... لزواله عمَّاله حكم الباطن، والموضع الذي يلحقه حكم التطهير من الأنف ما لان منه، فإذا وصل الدم إلى ما لان منه انتقض وضوءه، وإن لم يظهر على الأرنبة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أنه أدخل أصبعه في أنفه، فأدمت فلما أخرجه رأى على أنملته دماً فمسحه ثم قام، فصلى ولم يتوضأ» وتأويله عندنا أنه بالغ في إدخاله حتى جاوز ما لان من أنفه إلى ما صلب وكان الدم فيما صلب من أنفه، وكان قليلاً بحيث لو ترك لا ينزل إلى موضع اللين، ومثل هذا ليس بناقض عندنا. وعن محمد رحمه الله: فيمن.... فسقط من أنفه كتلة دم لم تنتقض طهارته، وإن نَقَطَ من أنفه قطرة دم انتقضت طهارته. وإذا تبين الخنثى أنه رجل أو امرأة، فالفرج الآخر منه بمنزلة الجرح لا ينقض الوضوء ما يخرج منه ما لم يسل، وإذا كان بذكر الرجل جرح له رأسان أحدهما يخرج منه ما يسيل في مجرى البول، والآخر يخرج منه ما لا يسيل في مجرى البول، فالأول: إذا ظهر على رأس الإحليل ينقض الوضوء، وإن لم يسل بمنزلة البول؛ لأنه سال عن موضعه إلى مكان له حكم الظاهر، ولا كذلك الثاني. المجبوب إذا ظهر منه ما يشبه البول من الموضع الذي يخرج منه البول إن كان

قادراً على إمساكه إن شاء أمسكه، وإن شاء أرسله إذا ظهر على رأس الثقب فهو بول ينقض الوضوء، وإن كان لا يقدر على إمساكه لا ينقض ما لم يسل، هكذا حكي عن علي الرازي. المعلّى عن أبي يوسف إذا زال الدم عن رأس الجرح لا ينتقض وضوءه حتى يسيل. ولو غرز رجل إبرة في يده وخرج منه الدم وظهر أكثر من رأس الإبرة لم ينتقض وضوءه، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: كان محمد بن عبد الله يميل في هذا إلى أن ينتقض وضوءه ورآه سائلاً. وفي «مجموع النوازل» : إذا حزت في عضوه شوكة أو إبرة أو نحوهما مما جرح ذلك، وظهر منه الدم ولم يسل ظاهراً انتقض وضوءه؛ لأن الظاهر أنه سال عن رأس الجرح. وفي «فتاوى خوارزم» : الدم إذا لم ينحدر عن رأس الجرح، ولكن علا، فصار أكثر من رأس الجرح لا ينتقض وضوءه، والفتوى على أنه لا ينتقض وضوءه في جنس هذه المسائل، وإذا عصرت القرحة، فخرح منها شيء كثير، وكانت بحال لو لم يعصرها لا يخرج منها شيء ينتقض الوضوء. وفي «مجموع النوازل» وفيه أيضاً: جرح ليس فيه شيء من الدم والقيح والصديد دخل صاحبه الحمام أو الحوض، فدخل الماء الجرح، فعصر الرجل الجرح وخرج منه الماء وسال لا ينتقض الوضوء، لأن الخارج ماء، وليس بنجس وإذا مسح الرجل الدم عن رأس الجراحة ثم خرج ثانياً، فمسحه ينظر: إن كان ما خرج (6أ1) بحال لو تركه سال أعاد الوضوء، وإن كان بحيث لو تركه لا يسيل لا ينقض الوضوء، ولا فرق بين أن يمسحه بخرقة أو أصبع وكذلك إذا وضع عليه قطنة حتى ينشف ثم صعد ففعل ثانياً وثالثاً وإنه يجمع جميع ما ينشف، فإن كان بحيث لو تركه سال جعل حدثاً، وإنما يعرف هذا بالاجتهاد وغالب الظن. وكذلك إن كان ألقى عليه التراب ثم ظهر ثانياً وتربه ثم ثالثاً أو ألقى عليه دقيقاً أو نخالاً فهو كذلك يجمع كل ذلك، قالوا: وإنما يجمع إذا كان في مجلس واحد مرة بعد أخرى، أما إذا كان في مجالس مختلفة لا يجمع، وكذلك إذا وضع عليه دواءً حتى ينشف جميع ما يخرج منه، فلم يسل عن رأس الجرح، فإن كان ينشف بحيث يسيل بنفسه يجعل حدثاً، ومالا فلا. وإذا خرج من أذنه قيح أو صديد ينظر، إن خرج بدون الوجع لا ينقض وضوءه، وإن خرج من وجع ينقض وضوءه؛ لأنه إذا خرج من الوجع، فالظاهر أنه خرج من الجرح، هكذا حكى فتوى شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. وفي «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله: الشيخ إذا كان في عينيه رمد، وتسيل الدموع منها آمره بالوضوء لوقت كل صلاة: لأني أخاف أن ما يسيل قيح أو صديد، فإنه

قد يكون في الجفون جرح. وإذا جرح دبره إن عالجه بيده أو بخرقة حتى أدخله تنتقض طهارته، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن بمجرد خروج المقعد ينتقض وضوءه لخروج النجاسة من الباطن إلى الظاهر. وإذا عض شيئاً فرأى عليه أثر الدم من أصول أسنانه لا وضوء عليه، وكذلك.... لأنه ليس بسائل، هكذا ذكر في بعض الفتاوى، وذكر الشيخ الإمام علاء الدين في كتاب..... أن من أكل خبزاً أو شيئاً من الفواكه، ورأى فيه أثر الدم من أصول أسنانه ينبغي أن يضع إصبعه أو طرف كمه على ذلك الموضع، إن وجد فيه أثر الدم فيه ينتقض وضوءه، وإلا فلا. وفي «فتاوى سمرقند» : القراد إذا مص من عضو إنسان وامتلأ دماً إن كان صغيراً لا ينتقض وضوءه، لأن الدم فيه ليس بسائل، وإن كان كبيراً انتقض وضوءه؛ لأن الدم فيه سائل. العلقة إذا أخذت بعض جلد إنسان ومص حتى امتلأ من دمه بحيث لو سقط لسال انتقض الوضوء؛ لأن الدم فيه سائل، والذباب أو البعوض إذا مص عضو إنسان وامتلأ دماً لا ينتقض وضوءه، وكذلك الذباب إذا مص عضو إنسان وظهر الدم لا ينتقض وضوءه. (نوع آخر) وفي «الأجناس» : إذا احتقن الرجل بدهن ثم عاد، فعليه الوضوء؛ لأنه لا ينفك عن نجاسة، وإن أقطر في إحليله دهناً ثم عاد، فلا وضوء عليه عند أبي حنيفة خلافاً لهما. وفيه أيضاً: إذا صب دهناً في أذنه ومكث في دماغه يوماً ثم سال وخرج فلا وضوء عليه، وإن خرج من الفم نقض وضوءه، وذكر هذه المسألة في «القدوري» ، وقال: روي عن أبي يوسف أنه لو خرج من فمه، فعليه الوضوء، وأشار إلى أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإن خرج من الفم، فلا وضوء عليه، وجه رواية أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يخرج من الفم إلا بعد نزوله الجوف، فصار كالقيء. ولهما أن الرأس ليس موضع النجاسة، والوصول إلى الجوف ليس بمعلوم، فلا ينتقض وضوءه بالشك. وفي «نوادر هشام» : لو دخل الماء أذن رجل في الاغتسال ومكث ثم خرج من أنفه، فلا وضوء عليه. وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد في رجل أدخل عوداً في دبره أو قطنة في إحليله وغيبها كلها، ثم أخرجها أو خرجت بنفسها، فعليه الوضوء، علل فقال: لأنه حين غيبها صارت بمنزلة طعام أكله ثم خرج منه، ولو كان طرف العود بيده ثم أخرجه لم يجب عليه شيء، قال ثمة: ألا ترى أن الرجل لو أدخل المحقنة ثم أخرجها فلم يكن عليه الوضوء، هكذا ذكر، ولكن تأويله إذا لم يكن على العود والمحقنة بلَّة، قال ثمة: ألا ترى أن الرجل يتوضأ، فيدخل يده أي إصبعه في الاستنجاء، ولا ينقض الوضوء، وقال: من

استنجى فلم يدخل إصبعه، فليس بتنظيف. قال أبو العباس رحمه الله: مراده في المسح الظاهر فإنه متى جاوز المسح الظاهر كان تفتيتاً للنجاسة لا تطهيراً والله أعلم. (نوع آخر) منه في مسائل القيء وما يتصل بها قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل قلس أقل من ملء فمه لا ينقض وضوءه، وإن ملء قلس فمه مرة أو طعاماً أو ماء نقض الوضوء، وهذا مذهبنا وهي مسألة الخارج من غير السبيلين. والأصل فيه ما روت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «من قاء أو رعف في صلاته، فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم» والمعنى في ذلك من وجهين: أحدهما: أن النجاسة متى خرجت يتنجس شيء من ظاهر البدن وثبت احتمال النجاسة في كل البدن، لأنه يحتمل أن يده أصابت ذلك الموضع، وتنجس ثم أصاب يده موضعاً آخر وتنجس، وإذا ثبت هذا الاحتمال وجب غسل كل البدن، لتحصيل القيام إلى الصلاة ببدن طاهر بيقين، هذا وجه مناسب، والشرع ورد به في بعض الأحداث وهو الجنابة، فيمكن إيجاب غسل كل البدن عليه. والثاني: أن النجاسة إذا أصابت موضع الخروج يجب غسل ذلك الموضع؛ لإزالة النجاسة يقيناً، لأن القيام بين يدي ... وعليه شيء مما تستقذره الطباع قبيح عند الناس في الشاهد، فكذا في الغائب وهو معنى قوله عليه السلام: «ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً، فهو عند الله قبيح» . وإذا وجب غسل موضع الإصابة يجب غسل الباقي لا لإزالة، ولكن لأن غسل بعض البدن يخل بالزينة كغسل بعض الثوب من الوسخ، والزينة مطلوبة، قال الله تعالى: {خذوا زينتكم عند كل مسجد} (الأعراف:31) أي عند كل صلاة، فيجب غسل كل البدن صيانة للزينة المطلوبة عن الخلل، فهذان الوجهان يثبتان وجوب غسل كل البدن، إلا أن الشرع أقام غسل الأعضاء الأربعة مقام غسل كل البدن دفعاً للحرج، بهذا الطريق وجب غسل الأعضاء الأربعة في الخارج من السبيلين. ثم القليل منه حدث في القياس، وهو قول زفر. وفي الاستحسان: ليس بحدث لم يشترط أن يكون ملء الفم، واختلفت الأقاويل في تفسيره ملء الفم، بعضهم قالوا: إذا كان بحيث لو ضم شفتيه لم يعلم الناظر أن في فمه شيئاً، فهو أقل من ملء الفم، وإن انتفخ شفتاه وخداه حتى كان يعلم الناظر أن في فمه شيئاً، فهو ملء الفم.

وقال أبو علي الدقاق في «كتابه» : إذا كان القيء بحيث يمنعه من الكلام كان ملء الفم، وإن كان لا يمنعه لا يكون ملء الفم، وقال الحسن بن زياد: إن كان القيء بحيث لا يمكن للرجل ضبطه وإمساكه كان ملء الفم، وإن كان يمكن ضبطه وإمساكه لا يكون ملء الفم. زاد على هذا بعض المشايخ، فقال: إن كان القيء بحيث لا يمكن ضبطه وإمساكه إلا بتكلف كان ملء الفم، وإن كان بحيث يمكن ضبطه وإمساكه من غير تكلف، لا يكون ملء الفم. وإليه مال كثير من المشايخ، وهو الصحيح. وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله (يقول) الصحيح أنه مفوض إلى صاحبه إن وقع في قلبه أنه قد ملأ فاه، فقد ملأ فاه. وجهُ القياس في القليل: أن الخارج من غير السبيلين لما كان حدثاً يجب أن يستوي فيه القليل، والكثير كالخارج من السبيلين. وجه الاستحسان: أن ما روي عن علي رضي الله عنه أنه عد الأحداث، وذكر من جملتها دسعة تملأ الفم، وهكذا روي عن عمر رضي الله عنه، والدسعة: القيء، فقد قيداه بملء الفم، والمعنى أن الحدث هو الخارج النجس، والخروج هو الانتقال من الباطن إلى الظاهر، والفم ظاهر من وجه باطن من وجه، حقيقة وحكماً. أما من حيث الحقيقة: باطن (من) وجه فلأن للفم اتصالاً بالباطن بمنفذ أصلي، ألا ترى أنك متى ضممت شفتيك صار باطناً كالبطن (6ب1) وظاهر من وجه؛ لأن له اتصالاً بالوجه بمنفذ أصلي، ألا ترى أنك لو فتحت شفتيك صار الفم ظاهراً كالوجه، وأما من حيث الحكم باطن من وجه، فإنه لا يجب غسله في الوضوء كما لا يجب غسل الباطن، وإذا جمع الصائم ريقه في فمه ثم ابتلعها لم يفطره كما لو انتقل الطعام من زاوية البطن إلى زاوية، ظاهر من وجه فإنه يجب غسله في الجنابة كما يجب غسل وجهه، وإذا كان ظاهراً من وجه باطناً من وجه وفّرنا على الشبهين حظهما، فجعلناه باطناً فيما بينه وبين البطن، فالمنتقل إليه من البطن كالمنتقل من زواية البطن إلى زواية أخرى، وجعلناه ظاهراً فيما بينه وبين الوجه، فالمنتقل منه إلى الوجه كالمنتقل من الظاهر إلى الظاهر. قلنا والقيء إذا كان قليلاً، وتفسيره الصحيح: أن يمكنه الإمساك من غير تكلف لا تقع الحاجة فيه إلى فتح الفم، فتبقى النجاسة في الفم صورة، وفي البطن معنى، فلا يتحقق الخروج من الباطن إلى الظاهر فبعد ذلك إن ابتلعه فبها، وإن ألقاه قائماً وجد الخروج من الظاهر إلى الظاهر، وإنه ليس يعتبر هذا إذا كان قليلاً مرة واحدة. وإن قاء مراراً قليلاً قليلاً

وكان بحيث لو جمع يبلغ ملء الفم هل يجمع؟ وهل يحكم بانتقاض الطهارة؟ لم يذكر هذا الفصل في «ظاهر الرواية» . وذكر في «النوادر» خلافاً بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، فقال: على قول أبي يوسف رحمه الله: إن اتحد المجلس يجمع، وإن اختلف لا يجمع؛ لأن المجلس الواحد عرف جامعاً في الشرع، والمجالس المختلفة لا. وقال محمد رحمه الله: إن اتحد السبب يجمع وإن اختلف لا يجمع، وتفسير اتخاذه عند محمد أن تكون المرة الثانية والثالثة قبل سكون الغثيان الأول، وعن أبي علي الدقاق أنه كان يقول بالجمع، اتحد المجلس أو اختلف، اتحد السبب أو اختلف، هذا إذا قاء مُرة أو طعاماً أو ماءً، وإن قاء بلغماً إن كان نزل من الرأس لا ينتقض وضوءه، وإن كان ملء الفم بالاتفاق، وإن صعد من الجوف على قول أبي يوسف رحمه الله ينتقض وضوءه إذا كان ملء الفم، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا ينتقض، وإن كان ملء الفم، وأجمعوا على أنه إذا كان أقل من ملء الفم إنه لا ينتقض وضوءه. والحاصل: أن نجاسة الخارج أمر لا بد منها لكون الخارج حدثاً، والبلغم طاهر عندهما، وعند أبي يوسف نجس، وكان الطحاوي يميل إلى قول أبي يوسف حتى روي عنه أنه قال: يكره للإنسان أن يأخذ البلغم بطرف ردائه أو كمه ويصلي معه، فمن مشايخنا من أسقط الخلاف، وقال: قولهما محمول على ما إذا نزل من الرأس وذلك طاهر بالإجماع، وقول أبي يوسف محمول على ما إذا خرج من المعدة وذلك نجس بالإجماع لما نبين إن شاء الله تعالى. ومنهم من حقق الخلاف فيما إذا خرج من المعدة، وهو الصحيح، فوجه قول أبي يوسف رحمه الله أن الخارج من المعدة جاور أنجاس المعدة، فيصير نجساً بحكم المجاورة. دليله الطعام. وجه قولهما قوله عليه السلام لعمار بن ياسر رضي الله عنه: «ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك إلا سواسية» (قرن) النخامة بالماء الذي في ركوته فيدل على طهارتها، والدليل عليه: أن الناس من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا تعارفوا أخذ البلغم بأطراف أرديتهم من غير نكير منكر، ولو كان نجساً لوجد الإنكار من منكر كما في سائر الأنجاس، وما قال من المعنى بأنه جاور أنجاس المعدة فمسلم، إلا أن البلغم شيء لزج لا يحتمل النجاسة للزوجته كالسيف الصقيل، فلا يصير نفسه نجساً، وإنما تكون النجاسة على ظاهره، وإنه قليل لا يبلغ ملء الفم بخلاف الطعام والشراب، لأنهما يحملان النجاسة فينجسان بمجاورة أنجاس المعدة، وإن قاء طعاماً أو ما أشبهه مختلطاً بالبلغم ننظر إن كانت الغلبة للطعام، وكان بحال لو انفرد الطعام بنفسه كان ملء الفم نقض وضوءه، وإن كانت الغلبة للبلغم وكان بحال لو انفرد البلغم بلغ ملء الفم كانت المسألة على الاختلاف، وإنما كان كذلك، لأن العبرة في أحكام الشرع للغالب، والمغلوب ساقط الاعتبار بمقابلة الغالب.

وإن قاء دماً إن نزل من الرأس وهو سائل انتقض وضوءه، وإن كان علقاً لا ينتقض وضوءه، وإن صعد من الجوف إن كان علقاً لا ينتقض وضوءه إلا أن يملأ الفم؛ لأنه يحتمل أنه صفراء تجمد أو سوداء انعقد أو بلغم احترق، فيشترط فيه ملء الفم، وإن كان سائلاً وقد صعد من الجوف على قول أبي حنيفة رحمه الله ينتقض وضوءه، وإن لم يكن ملأ الفم، وقول أبي يوسف مضطرب، وإنما يعرف بسيلانه، وعلى قول محمد رحمه الله: لا ينتقض وضوءه إلا إذا كان ملأ الفم إذا خرج بقوة نفسه لا بقوة البزاق.p وجه قول محمد رحمه الله أنه صاعد من الجوف، والفم أعطي له حكم الباطن فيما بينه وبين الجوف إلا أن يخرج منه دماً دون ملء الفم ليس له حكم الخارج على ما مر، ولأبي حنيفة رحمه الله أن الفم في حق الدم ظاهر من كل وجه؛ لأن الفم إنما أعطي له حكم الباطن، فيما يخرج من المعدة، لأن الفم متصل بالمعدة بمنفذ أصلي، والمعدة ليست بمحل للدم، إنما محل الدم العروق، والفم لا يتصل بالعروق بمنفذ أصلي، وله اتصال بالوجه، فيكون الفم ظاهراً في حق الدم من كل وجه، فكان كالخارج من الأسنان، فيشترط فيه السيلان لا غير، بخلاف ما يخرج من المعدة؛ لأن الفم أعطي له حكم الباطن فيما يخرج من المعدة؛ لأن للفم اتصالاً بالمعدة بمنفذ أصلي، فيشترط فيه ملء الفم على ما مر، أما ههنا بخلافه، فمن مشايخنا من قال: لا خلاف في المسألة على الحقيقة؛ لأن ما قاله أبو حنيفة رحمه الله محمول على ما إذا خرج الدم من منابت الأسنان، من اللهوات وكان أقل من ملء الفم. وعند محمد رحمه الله في هذه الصورة الجواب كما قال أبو حنيفة، وما قاله محمد محمول على ما إذا خرج من المعدة، وعند أبي حنيفة الجواب في هذه الصورة كما قاله محمد، ومنهم من حقق الخلاف فيما إذا خرج من المعدة على نحو ما بينا والله تعالى أعلم. ومما يتصل بهذا النوع من المسائل: روى ابن رستم في «نوادره» عن محمد رحمه الله: إذا دخل العلق حلق إنسان ثم خرج من حلقه دم رقيق سائل لا ينتقض وضوءه ما لم يملأ الفم، وإذا بزق وخرج في بزاقه دم، إن كان الدم هو الغالب ينتقض وضوءه وإن كان أقل من ملء الفم، وهذا لأن الحدث هو الخارج النجس، وقد تحقق الخروج إذا كانت الغلبة للدم لأنه إذا كانت الغلبة للدم على أنه خرج بقوة نفسه، وما أخرجه البزاق وإن كانت الغلبة للبزاق لا ينتقض وضوءه؛ لأنه إذا كانت الغلبة للبزاق علم أن البزاق أخرجه، وما خرج بقوة نفسه، وإن كانا سواء، فالقياس أن لا تنتقض طهارته؛ لأنه يحتمل أنه خرج بقوة نفسه، ويحتمل أن البزاق أخرجه فوقع الشك في انتقاض الطهارة. وفي الاستحسان: ينتقض وضوءه؛ لأنه لما احتمل الخروج بقوة نفسه، رجحنا جانب الخروج احتياطاً لأمر العبادة؛ بخلاف ما إذا شك في الحدث؛ لأن الموجود هناك مجرد الشك ولا عبرة لمجرد الشك مع اليقين بخلافه، وههنا الحدث وجد من وجه دون وجه، فرجحنا جانب الوجود احتياطاً.

وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في هذا الفصل: وهو ما إذا كان الدم والبزاق على السواء، عامة مشايخنا على أن وضوءه بهذا ينتقض، وكان الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله يقول: آمره بإعادة الوضوء احتياطاً، وهو باقٍ على وضوئه الأول، وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: إن كان لونه يضرب إلى الصفرة، فليس بناقض، وإن كان يضرب إلى الحمرة فهو ناقض، وإذا كانت عروق الدم تجري بين البزاق كالعلقة لم يكن ناقضاً. وفي «النوادر» عن أبي حنيفة: إذا بزق أو امتخط ورأى في ذلك علقة من الدم لم ينتقض وضوءه، وإن كان الذي يرى من الدم في جميع البزاق أو النخامة، فكانت حمرته أو صفرته غالبة على البزاق (7أ1) فعليه الوضوء، وإن كان الذي فيه شبيه غسالة اللحم، وكان البياض غالباً، فلا وضوء. وذكر هشام عن أبي يوسف رحمه الله: إذا اصفر البزاق من الدم، فلا وضوء، وإن احمر فعليه الوضوء، وهذه الرواية موافقة لقول الفقيه أبي جعفر على ما تقدم ذكره، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن كان البزاق يخرج من لهاته أو لسانه فهو على التفصيل إن (كان) الدم غالباً أو مغلوباً، أو كانا على السواء، فأما إذا خرج ذلك من جوفه فالأمر فيه أسهل، والله أعلم. (نوع آخر) في النوم والإغمام والغشي والجنون والسكر إذا نام في صلاته قائماً أو راكعاً أو ساجداً، فلا وضوء عليه، ولو نام مضطجعاً أو متوركاً، فعليه الوضوء، والأصل في ذلك ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه نام في صلاته، ومضى فيها، فلما فرغ قال: «إذا نام الرجل راكعاً أو ساجداً أو قائماً، فلا وضوء عليه، إنما الوضوء على من نام مضطجعاً فإنه إذا نام مضطجعاً استرخت مفاصله» فهذا الحديث حجة لنا في الفصول كلها من حيث النص، وإنه ظاهر، وكذلك من حيث التعليل حجة؛ لأن النبي عليه السلام علل لوجوب الوضوء باسترخاء المفاصل، ولم يرد به أصل الاسترخاء؛ لأن أصل الاسترخاء موجود في حالة الركوع والسجود، لأن الاسترخاء نتيجة النوم، والنوم موجود في الأحوال كلها. ولو حمل آخر الحديث على أصل الاسترخاء صار كأن النبي عليه السلام، قال في صدر الحديث: «لا وضوء على من استرخت مفاصله» ، ثم قال في آخر الحديث: «إنما الوضوء على من استرخت مفاصله» وفيه تناقض ظاهر، فلضرورة رفع التناقض يحمل آخر الحديث على النهاية في الاسترخاء، وإذا حمل عليه صار كأن النبي عليه السلام قال: إذا وجد استرخاء المفاصل على النهاية والمبالغة، بأن زال التماسك من كل وجه وجب الوضوء، فالاسترخاء على النهاية والمبالغة، لا توجد في حال القيام والركوع والسجود، لأن بعض التماسك في هذه الأحوال باقٍ؛ إذ لو لم يكن باقياً لكان سقط، وإذا كان بعض التماسك باقياً في هذه

الأحوال لم يكن الاسترخاء في هذه الأحوال على سبيل النهاية والمبالغة، والنبي عليه السلام إنما جعل النوم حدثاً حال وجود الاسترخاء على سبيل النهاية والمبالغة. ثم لم يفصل محمد رحمه الله في «الأصل» بينما إذا غلبه النوم، وبينما إذا نام متعمداً، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: إنما لا ينتقض وضوءه إذا غلبه النوم، أما إذا نام متعمداً ينتقض وضوءه على كل حال، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرح الأصل» ، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله قول أبي يوسف رحمه الله في السجود إذا تعمد النوم. والصحيح: ما ذكر في ظاهر الرواية: إذ لا فصل في الحديث. وإن نام قاعداً وهو يتمايل في حال نومه ويضطرب، وربما يزول مقعده عن الأرض، إلا أنه لم يسقط، ظاهر المذهب أنه ليس بحدث، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه حدث، وفي النوم مضطجعاً، الحال لا يخلو إن غلبت عيناه، فنام ثم اضطجع في حال نومه، فهو بمنزلة ما لو سبقه الحدث، فيتوضأ ويبني، ولو تعمد النوم في الصلاة مضطجعاً، فإنه يتوضأ ويستقبل الصلاة، هكذا حكي عن مشايخنا رحمهم الله. وفي «الفتاوى» : في المريض لا يستطيع أداء الصلاة إلا مضطجعاً، فنام في الصلاة انتقض وضوءه، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وقد قيل: لا ينتقض، والأول أصح. وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد رحمه الله إذا قعد في الصلاة وإحدى إليتيه على قدمه فنام، فلا وضوء عليه، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: هذا خلاف ما روي عن محمد رحمه الله في «الأصل» ، هذا إذا نام في الصلاة، وأما إذا نام خارج الصلاة إن نام مضطجعاً أو متوركاً ينتقض وضوءه، وإن نام قائماً أو على هيئة الراكع أو الساجد ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» أنه لا ينتقض وضوءه. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرح المبسوط» فيما إذا نام ساجداً أن فيه اختلاف المشايخ، وذكر هو أيضاً عن علي بن موسى العمّي أنه قال: لا نص في هذه الصورة عن أصحابنا رحمهم الله، وينبغي أن لا ينتقض وضوءه إذا نام على هيئة الساجد على وجه السنّة، بأن كان رافعاً بطنه عن فخذيه جافياً عضديه عن جنبيه. وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا نام ساجد في غير الصلاة، فظاهر المذهب أن يكون حدثاً. قال رحمه الله: وقد ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في «إشاراته» ، وقد قال بعض العلماء: إن النوم في حالة السجود لا يكون حدثاً وإن كان خارج الصلاة، وذكر محمد

رحمه الله في «صلاة الأثر» أن من نام قاعداً أو واضعاً إليتيه على عقبيه وصار شبه المكب على وجهه واضعاً بطنه على فخذيه لا ينتقض وضوءه، وعن علي بن يزيد الطبري قال: سمعت محمداً رحمه الله يقول: من نام هكذا على وجهه لا ينتقض وضوءه. وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن الشرط عند محمد رحمه الله أن يضطجع على غيره، أما اضطجاعه على نفسه لا يعتبر، وقال أبو يوسف رحمه الله: اضطجاعه على نفسه كاضطجاعه على غيره في زوال الاستمساك، فيكون حدثاً ولم يذكر قول أبي حنيفة، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وقد نقل عنه فصل يدل على أنه كان يميل إلى ما قاله أبو يوسف رحمه الله، فإنه قال فيمن كان محدودباً، فسجد على فخذه أو ركبته بأن وضع أنفه على طرف ركبتيه صح سجوده، وجعل سجوده بمنزلة السجود على الوسادة أو اللبنة، فجعل سجوده على نفسه كسجوده على غيره، فجاز أن يجعل اضطجاعه على نفسه كاضطجاعه على غيره. وجه قول من يقول إنه ينتقض وضوءه أنه نام والمسكة زائلة عن مستوى جلوسه، فيكون حدثاً كما لو نام مضطجعاً على غيره، وكان القياس في حالة الصلاة كذلك لكن عرفناه بالأثر. وجه قول من قال: إنه لا يكون حدثاً أن النوم في هذه الأحوال إنما لم يجعل حدثاً في الصلاة لانعدام استرخاء المفاصل على سبيل النهاية والمبالغة، وهذا المعنى موجود في غير حالة الصلاة، وأما إذا نام قاعداً مسوياً إليتيه على الأرض لا ينتقض وضوءه، وإن نام قاعداً (على) مستوى الجلوس، ولكن مستنداً إلى جدار أو أسطوانة، ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن ظاهر المذهب أنه لا ينتقض وضوءه. وعن الطحاوي رحمه الله: أنه قال: إن كان بحيث لو أزيل السناد سقط، فهو كالمضطجع، وعلى هذا بعض المشايخ، وهذا لأنه إذا كان بهذه الصفة، فقد وجد زوال التماسك من كل وجه؛ لأنه لم يقعد لقوة نفسه إنما قعد لقوة الأسطوانة أو الحائط، فينتقض وضوءه. وفي «القدوري» : روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا ينتقض وضوءه إذا كانت إليتاه مستوية على الأرض، وذكر شيخ الإسلام رواية عن أبي حنيفة غير مقيدة بما إذا كانت إليتاه مستوية على الأرض، ومنهم من قال: إن جعل عقبه عند مقعده، واستند إلى شيء ونام، لا يكون حدثاً، وقيل: إذا كان مستقراً على الأرض غير مستوقر لا ينتقض وضوءه، وإن كان بحال لو أزيل السناد سقط، وإن كان مستوقراً غير مستقر على الأرض ينتقض وضوءه، وإن كان بحال لو أزيل السناد لا يسقط، ولو نام قاعداً مستوي الجلوس فسقط على الأرض ذكر شمس الأئمة رحمه الله: أن ظاهر الجواب عند أبي حنيفة رحمه الله أنه إن انتبه قبل أن يزايل مقعده الأرض في حال سقوطه لم تنتقض طهارته. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لو استيقظ حتى يضع جنبيه على الأرض، فلا وضوء عليه، وإن وضع جنبيه وهو نائم بطل وضوءه؛ لأنه وجد شيء من النوم مضطجعاً فينتقض وضوءه. وعلى قولهما لا تنتقض طهارته حتى يسقط على الأرض قبل أن ينتبه، ويشترط لانتقاض الطهارة عند أبي يوسف رحمه الله أن يكون الانتباه بعدما استقر نائماً على الأرض، وهكذا روى ابن رستم عن محمد، وعن محمد رحمه الله في رواية كلما اضطجع إذا انتبه فعليه أن يتوضأ، لأنه وجد شيء من النوم

مضطجعاً. وإذا نام راكباً على دابة والدابة عريانة، فإن كان في حالة الصعود والاستواء لا ينتقض وضوءه (7ب1) لأن مقعده يكون متمكناً على ظهر الدابة، فلا يخاف خروج شيء منه، كما لو كان جالساً على الأرض ومقعده متمكن من الأرض، أما حالة الهبوط يكون حدثاً؛ لأن مقعده لا يكون متمكناً على ظهر الدابة حالة الهبوط، فهو بمنزلة ما لو نام على الأرض متوركاً، هذا هو الكلام في النوم. وأما النعاس في حالة الاضطجاع، فلا يخلو إما أن يكون ثقيلاً أو خفيفاً، فإن كان ثقيلاً فهو حدث، وإن كان خفيفاً لا يكون حدثاً، والفاصل بين الخفيف (والثقيل) أنه إن كان يسمع ما قيل عنده، فهو خفيف، وإن كان يخفى عليه عامة ما قيل عنده فهو ثقيل، هكذا حكي عن الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. والنوم في سجده التلاوة لا ينقض الوضوء، كالنوم في السجدة الصلبية، هكذا ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. قال رحمه الله: وكذلك في سجدة الشكر عند محمد، وعند أبي حنيفة رحمه الله حدث؛ لأن سجدة الشكر عنده ليست بمروية، وفي «فوائد القاضي» الإمام أبي علي النسفي قوله مثل قول محمد، قال القاضي الإمام رحمه الله: وسواء سجده على وجه السنة، والنوم في سجدة السهو ليس بحدث. والإغماء ينقض الوضوء وإن قل، وكذلك الجنون والغشي؛ لأن كل واحد من هذه الأشياء سبب لخروج النجاسة بواسطة الغفلة وزوال المسكة، فيقام مقام خروج النجاسة. والسكر ينقض الوضوء أيضاً؛ لأنه سبب لخروج الحدث بواسطة استرخاء المفاصل، فيقام مقام خروج الحدث احتياطاً. بعد هذا الكلام في حده وذكر بعض المشايخ في «شرح المبسوط» أن حد السكران هنا ما هو حد السكران في باب الحد، وهكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» ، فإنه قال: إن كان لا يعرف الرجل من المرأة ينتقض وضوءه، وهذا الحد ليس بلازم إذا دخل في بعض مشيته تحرك، فهو سكر ينتقض به وضوءه، كذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وهو الصحيح، وهذا لأن السكر إنما أوجب انتقاض الوضوء لكونه سبباً لخروج الحدث بواسطة الغفلة وزوال المسكة، فلما دخل في مشيته تحرك فقد زالت المسكة والله أعلم. (نوع آخر) في القهقهة يجب أن يعلم بأن القهقهة في كل صلاة فيها ركوع وسجود تنقض الصلاة والوضوء عندنا لحديث خالد الجهني قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميصلي بأصحابه إذ أقبل أعمى، فوقع في بئر أدركته هناك، فضحك بعض القوم قهقهة، فلما فرغ النبي عليه السلام من الصلاة

قال: «ألا من ضحك منكم، فليعد الوضوء والصلاة» ، والقهقهة خارج الصلاة لا تنقض الوضوء؛ لأن انتقاض الوضوء بالقهقهة عرف بالسنّة بخلاف القياس؛ لأن انتقاض الطهارة بخارج نجس، ولم يوجد ذلك، وليست القهقهة خارج الصلاة في معنى القهقهة في الصلاة؛ لأن حالة الصلاة حالة المناجاة مع الله تعالى فتعظم الجناية بالقهقهة فيها، ولا كذلك القهقهة خارج الصلاة، فبقيت القهقهة خارج الصلاة على أصل القياس. وكذلك القهقهة في صلاة الجنازة وسجدة التلاوة لا تنقض الوضوء؛ لأن انتقاض الوضوء بالقهقهة عرف بالسنّة، والسنّة وردت في صلاة مطلقة، وهذه ليست بصلاة مطلقاً، فيعمل فيها بالقياس؛ ولكن تبطل صلاة الجنازة وسجدة التلاوة وكذلك القهقهة من النائم في الصلاة لا تنقض الوضوء، هكذا وقع في بعض الكتب. وذكر الزندوستي في «نظمه» : إذا نام في صلاته قائماً أو ساجداً ثم قهقه: لا رواية لهذا في الأصول، قال شداد بن أوس: وقال أبو حنيفة رحمه الله: تفسد صلاته، ولا يفسد وضوءه، وهكذا أفتى الفقيه عبد الواحد رحمه الله، قال الحاكم أبو محمد الكفيني: فسدت صلاته ووضوءه جميعاً، وبه أخذ عامة المتأخرين احتياطاً. ولو نسي كونه في الصلاة ثم قهقهة قال شداد: قال أبو حنيفة رحمه الله: تفسد صلاته ولا يفسد وضوءه، وقال الحاكم الكفيني والفقيه عبد الواحد: فسدا جميعاً. وجه قول من قال بفسادهما: أن هذه قهقهة حصلت في خلال الصلاة، فتنقض الوضوء كما في الذاكر المستيقظ. وجه قول من قال بعدم فساد الوضوء: أن السنّة وردت في حق اليقظان الذاكر، وليس النائم والناسي في معنى المستيقظ الذاكر؛ لأن فعل النائم والناسي لا يوصف بكونه جناية، فيعمل فيه بالقياس، وقضية القياس أن لا يفسد الوضوء. والقهقهة من الصبي في حالة الصلاة لا تنقض الوضوء؛ لأن فعل الصبي لا يوصف بالجناية، فيعمل فيه بالقياس. وإذا أحدث الرجل فذهب وتوضأ وعاد إلى مكانه وقهقه في الطريق حكي عن بعض المشايخ أنه ينقض وضوءه، وذكر الشيخ الإمام الزاهد علي البزدوي، رحمه الله أنها تنقض الصلاة، ولا تنقض الوضوء استحساناً. ولو تبسم في صلاته لا ينقض وضوءه لما روي «أن رسول الله عليه السلام كان إذا رأى جرير بن عبد الله تبسم ولو في الصلاة» ، وقال عليه السلام في قصة الأعمى الذي

وقع في الركية: «ومن تبسم فلا شيء عليه» ؛ ولأن القهقهة عرفت ههنا بالسنّة بخلاف القياس، والتبسم ليس في معناها؛ لأن في القهقهة من المأثم والحرمة ما ليس في التبسم، فلم يكن التبسم في الجناية يظهر القهقهة، فيرد التبسم إلى أصل القياس. ثم في حدّ القهقهة اختلاف المشايخ، قال بعضهم: القهقهة ما تكون مسموعاً له ولجيرانه، وقال بعضهم: ما يظهر فيه القاف والهاء، والتبسم: ما لا يكون مسموعاً له ولجيرانه، وما بينهما وهو ما يكون مسموعاً له ولا يكون مسموعاً لجيرانه، فسمي ضحكاً، وإنه ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء، وهكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرح المبسوط» . وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرح المبسوط» أن ما فوق التبسم ودون القهقهة لا ذكر له في «المبسوط» ، قال: وكان القاضي الإمام يحكي عن الشيخ الإمام أنه كان يقول: إذا ضحك حتى بدت نواجذه ومنعه عن القراءة أو عن التسبيح نقض وضوءه، قال رحمه الله: وغيره من المشايخ على أنه لا ينتقض الوضوء حتى يسمع صوته وإن قل. والقهقهة عامداً كان أو ناسياً تنقض الوضوء ويبطل التيمم كما يبطل الوضوء، ولا تبطل طهارة الاغتسال، وقد قيل: تبطل طهارة الأعضاء الأربعة، لهذا إن المغتسل في الصلاة إذا قهقه بطلت الصلاة، وجاز له أن يصلي بعده من غير وضوء جديد على القول الأول، وعلى القول الآخر: لا يجوز له أن يصلي بعده من غير وضوء جديد. ولو صلى الفريضة بالإيماء بعذر وقهقه فيها انتقض وضوءه؛ لأن هذه صلاة لها ركوع وسجود وقام الإيماء بعذر مقام الركوع والسجود، ولو صلى المكتوبة أو التطوع راكباً خارج المصر أو القرية وقهقه فيها انتقض وضوءه، وإن كان في مصر أو قرية لا ينتقض عند أبي حنيفة رحمه الله، لأنه ليس في الصلاة، وكذلك لو افتتح التطوع راكباً خارج المصر، ودخل المصر ثم قهقه، فلا وضوء عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله. ولو صلى في المصر ركعة من التطوع راكباً ثم خرج من المصر يريد السفر وقهقهة لا وضوء عليه في قول أبي حنيفة. ولو صلى راكباً وهو منهزم من العدو والدابة واقفة أو سائرة أو تعدو به وهو يومىء إيماء إلى القبلة أو إلى غيرها ثم قهقهة كان عليه الوضوء. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إمام تشهد ثم ضحك قبل أن يسلم، فضحك بعده من خلفه، فعليهم الوضوء، علل فقال: لأني كنت آمرهم أن يسلموا، أشار إلى أن القوم لا يخرجون عن حرمة الصلاة بضحك الإمام، قال الحاكم أبو الفضل: قد روي عن محمد رحمه الله أنه قال: لا آمرهم أن يسلموا أشار إلى أن ضحك الإمام يخرج القوم عن حرمة الصلاة، فلا يحتاجون إلى التسليم؛ لأن التسليم للتحليل. ذكر الحاكم في إمام قعد في آخر صلاته قدر التشهد، ولم يتشهد والقوم على مثل حاله، فضحك الإمام ثم ضحك من خلفه، قال: أما في قول أبي حنيفة رحمه الله، فعلى

الإمام الوضوء، ولا وضوء على القوم من قبل أن الإمام قد أفسد عليهم ما بقي (8أ1) من صلاتهم، وقال أبو يوسف رحمه الله: عليهم الوضوء من قبل أنهم لو لم يضحكوا كان عليهم أن يتشهدوا ويسلموا، فلم يفسد الإمام عليهم شيئاً. ولو كان الإمام والقوم تشهدوا ثم سلم الإمام ثم ضحك القوم قبل أن يسلموا، فعليهم الوضوء عندهما، لأن سلام الإمام لا يفسد عليهم ما بقي، وكذلك الكلام، فأما الحدث متعمداً أو الضحك يفسد عليهم ما بقي، وعند محمد رحمه الله: لا وضوء على القوم في هذه الصورة، وهو ما إذا ضحكوا بعدما سلم الإمام؛ لأن عند سلام الإمام يخرج المقتدي عن حرمة الصلاة، فالضحك منهم لم يصادف حرمة الصلاة، فلا يوجب الوضوء. أبو سليمان عن محمد رحمه الله فيمن سها عن التشهد خلف الإمام في الثانية حتى يسلم الإمام في آخر الصلاة ثم ضحك هذا الرجل، فلا وضوء عليه، وليس هذا كسهوه عن التشهد في الرابعة. في «الأمالي» عن أبي يوسف رحمه الله: لو أن إماماً انصرف من غير أن يسلم وخرج عن المسجد وضحك أو ضحك بعض القوم، فلا وضوء عليه ولا عليهم. وابن سماعة عن أبي يوسف في «النوادر» : إذا صلى الجمعة ركعة ثم خرج وقتها ثم قهقهة، فلا وضوء عليه، وهذه المسألة تبنى على أصل أبي يوسف رحمه الله أن خروج الوقت في صلاة الجمعة توجب الخروج عن الجمعة، فالقهقهة بعد ذلك لم تصادف حرمة صلاة مطلقة. أبو سليمان عن محمد رحمه الله: ظن القوم أن الإمام كبر ولم يكن كبر، فكبروا ثم قهقهوا، فلا وضوء عليهم. عمرو بن أبي عمرو في مسافر صلى ركعة من الظهر بغير قراءة ثم قهقه، فعليه الوضوء في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وفي قول محمد وزفر: لا وضوء عليه، وكذلك في المقيم: إذا صلى ركعة من الفجر بغير قراءة ثم قهقه، وكذلك قال أبو يوسف فيمن طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الفجر ثم قهقه، وقاس على قول أبي حنيفة، وكذلك إن ذكر صلاة عليه وهو في صلاة أخرى ثم قهقه، وكذلك إن نوى الإمام إمامة النساء، فجاءت امرأة فقامت إلى جنبه تأتم به ثم قهقه، فعليه الوضوء، وأما في قول محمد وزفر، فلا وضوء عليه في شيء من ذلك إذا فسدت الصلاة، فكأنه تكلم فيها ثم قهقه.d قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذا إذا وقفت بجنب الإمام وكبرت بعد تكبيره، فأما إذا كبرت مع الإمام لا تنعقد تحريمة الإمام، فلا تنتقض طهارته. ولو وقفت المرأة بجنب إمام يؤمها ثم ضحكت قهقهة هل تنتقض طهارتها؟ في رواية لا تنتقض، وفي رواية تنتقض، والأول أصح، لأنها ليست في صلاة. وإذا صلى فريضة عند طلوع الشمس أو عند غروبها سوى عصر يومه لم يكن داخلاً في الصلاة حتى لا تنتقض طهارته بالقهقهة. وإذا شرع في التطوع عند طلوع الشمس أو عند غروبها ثم قهقهة كان عليه الوضوء.

حكي عن بشر عن أبي يوسف: كل صلاة افتتحت صحيحة ثم دخل فيها ما يفسدها على وجه ما سمينا ثم ضحك، فعليه الوضوء. وهو إشارة إلى المسائل المتقدمة. وذكر المعلى عن أبي يوسف رحمه الله في رجل صلى ركعتين تطوعاً ولم يقرأ في إحديهما ثم قهقه، فلا وضوء عليه. وهذا الجواب يخالف جوابه في المسائل المتقدمة، وقال: في «التحري» : إذا تبين له في خلال الصلاة أنه صلى إلى غير القبلة ثم ثبت على صلاته بعد العلم به فسدت صلاته، وإن قهقه، فلا وضوء عليه، وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: إن عليه الوضوء. فالحاصل أن في جنس هذه المسائل روايتين عن أبي يوسف، وقال فيمن انقضى وقت مسحه في صلاته ثم قهقه، فلا وضوء عليه، لأن هذا صار غير طاهر، وكذلك في الجبائر: إذا برىء في صلاته، قال: ولو أن صحيحاً افتتح مكتوبة قاعداً أو مضطجعاً من غير عذر ثم قهقه أعاد الوضوء، وكذلك: لو افتتح الصلاة خلف مومىء أو خلف أخرس أو أمي ثم قهقه، فعليه الوضوء، وكذلك لو افتتح المتوضىء خلف المتيم والمتوضىء يرى الماء والمتيمم لا يراه، وكذلك من يأتم بمن يعلم أن عليه صلاة قبلها ولا يعلمها الإمام أو الإمام على غير القبلة ولا يعلمها والمؤتم يعلم، وإن كان الإمام يعلم أنه افتتح لغير القبلة، فلا وضوء على المؤتم. بشر عن أبي يوسف رحمه الله: لو سلم على تمام في نفسه ثم تذكر سجدة تلاوة عليه ثم قهقه قبل أن يسجد لها، فلا وضوء عليه. ولو اقتدى رجل بهذا الرجل بعد السلام لم يكن الرجل داخلاً في صلاته، قال الحاكم أبو الفضل: هذا الجواب خلاف جواب «الأصل» ، فقد ذكر في «الأصل» عليه الوضوء، ولو كان مسافراً ينوي الإقامة بعد السلام قبل الضحك كانت نيته قاطعة للصلاة، ولم يكن عليه أن يتمها وهو كمن سلم وعليه سجدتا السهو. بشر عن أبي يوسف رحمه الله: في رجل لا يقرأ صلى ركعة بغير قراءة ثم تعلم سورة، قال: ينصرف على شفع وهو في الصلاة، وعليه الوضوء إن قهقه. وعنه أيضاً: إذا صلى العريان ركعة ثم وجد ثوباً، فلبس في الصلاة، قال: ينصرف على شفع، ولا وضوء عليه إن قهقه. وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: عليه الوضوء، فصار في المسألة روايتان، ويجب أن تكون المسألة الأولى على الروايتين أيضاً، إذ لا تفاوت بينهما. وعنه أيضاً: أمة صلت بغير قناع ركعة ثم أعتقت، فصلت ركعة أخرى بغير قناع وهي تعلم بالعتق، قال: إنها ليست في صلاة، لا وضوء عليها إن قهقهت، وقال في

موضع آخر من هذا الكتاب: عليها الوضوء. وعنه أيضاً: لو دخل بنية العصر في صلاة رجل يصلي الظهر لزمه المضي معه وهو متطوع، وعليه الوضوء إن قهقه. إذا سلم المقتدي قبل سلام الإمام بعدما قعد قدر التشهد ثم قهقهه لا وضوء عليه؛ لأنه صح خروجه عن الصلاة قبل خروج الإمام، فلا تنتقض طهارته بالقهقهة، وإذا قهقه القوم بعد التشهد دون الإمام تمت صلاتهم، وانتقضت طهارتهم، ولا تنتقض طهارة الإمام، ولو قهقه القوم بعد التشهد معاً تمت صلاتهم وانتقضت طهارتهم. (نوع آخر) من هذا الفصل مس الرجل المرأة أو المرأة الرجل لا ينقض الوضوء، وقال مالك إن كان بشهوة نقض الوضوء، وإن كان بغير شهوة لم ينتقض؛ لأن المس عن شهوة سبب لاستطلاق وكاء المذي، فيقام مقامه في حق إيجاب الوضوء احتياطاً لأمر العبادة، كما فعله أبو حنيفة رحمه الله في المباشرة الفاحشة على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله. ولنا حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ» ولأن عين المس ليس بحدث، بدليل مس ذوات المحارم، وإنما الحدث ما يخرج عند المس، وذلك ظاهر، فلا حاجة إلى إقامة السبب مقامه. ومس الذكر لا ينقض الوضوء بحال. وقال الشافعي: ينقض إذا مسه بباطن الكف من غير حائل، لحديث بُسْرة أن النبي عليه السلام قال: «من مس ذكره فليتوضأ» ولأنه سبب لاستطلاق وكاء المذي فيقام مقامه، ولنا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمسئل عمن مس ذكره هل عليه أن يتوضأ؟ قال: «لا وهل هو إلا بضعة منك؟» ولأن إقامة السبب الظاهر مقام المعنى الخفي عند تعذر الوقوف على الخفي، وذلك غير موجود ههنا؛ لأن المذي يرى. فإذا باشر امرأته مباشرة فاحشة بتجرد وانتشار وملاقاة الفرج الفرج، ففيه الوضوء

في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف استحساناً، وقال محمد: لا وضوء عليه، وهو القياس؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «الوضوء مما خرج» وقد تيقن أنه لم يخرج منه شيء، فهو كالتقبيل. ولهما أن الغالب من حال (8ب1) من بلغ في المباشرة هذا المبلغ خروج المذي منه فيجعل كالمذي بناء للحكم على الغالب دون النادر، ألا ترى أن من نام مضطجعاً ينتقض وضوءه وهو وإن تيقن أنه لم يخرج منه شيء اعتباراً للغالب كذا ههنا. والكلام الفاحش لا ينقض الوضوء وإن كان في الصلاة؛ لأن الحدث اسم لخارج نجس، ولم يوجد هذا الحدُّ في الكلام الفاحش. ولا وضوء في أكل ما مسته النَّار أو لم تمسه، فقد صح «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّمأكل من كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ» . وليس في حمل الميت وغسله وضوء إلا أن يصيب يده أو جسده شيء من الماء، فيغسل ذلك الموضع. وإذا ذبح شاة، فلا وضوء عليه إلا أن تتلطخ يده بدمها فيغسل يده. قال القدوري رحمه الله: وليس في مزال عن بدن ولا موطوء عليه وضوء، ولا إمرار ماء على موضع المزال. يريد به: إذا توضأ، ثم قلم ظفره أو حلق شعره، وقد مرت مسألة الشعر من قبل، ومعنى الموطوء عليه: أن يطأ نجاسة لا يلصق به شيء منها، وإن لصقت فعليه غسلها والله أعلم. (نوع آخر) قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ومن شك في بعض وضوئه وهو أول ما شك غسل الموضع الذي شك فيه؛ لأن غسله لا يريبه وتركه يريبه، وقد قال عليه السلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ، ولأنه على يقين من الحدث في ذلك الموضع، وفي شك من غسله، واليقين لا يزال بالشك، فأما إذا كان يرى ذلك كثيراً لم يلتفت ومضى؛ لأنه من الوساوس، والسبيل في الوساوس قطعها، وترك الالتفات إليها؛ لأنه لو التفت إليها تقع في مثل ذلك ثانياً وثالثاً، فبقي في أكثر عمره في ذلك. قالوا: وهذا إذا كان الشك في خلال الوضوء، فأما إذا كان هذا الشك بعد الفراغ من الوضوء لا يلتفت إليه ومضى، وهو نظير ما إذا شك في صلاته أنه صلاها ثالثاً أو أربعاً إن كان هذا الشك في خلال الصلاة كان معتبراً، وإن كان بعد الفراغ من الصلاة لا يعتبر، حملاً لأمره على ما كان وهو الخروج عن الصلاة بعد التمام كذا ههنا. وتكلموا في قوله: وهو أول ما شك فيه، من المشايخ من قال: أراد به أول ما شك في عمره، ومنهم من قال: أراد به أن الشك في هذا لم تصر عادة له.

ومن شك في الحدث، فهو على وضوئه، لأنه على يقين من الطهارة، وعلى شك من الحدث واليقين لا يزال بالشك بالشك. ومن شك في الوضوء، فهو محدث؛ لأنه على يقين من الحدث، وعلى شك من الوضوء، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: لا مدخل للتحري في باب الوضوء إلا في فصل رواه ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أنه إذا كان مع الرجل آنية وهو يتذكر أنه جلس للوضوء إلا أنه شك أنه قام قبل أن يتوضأ أو بعدما توضأ يتحرى ويعمل بغالب رأيه. وإن شك أنه جلس للتوضؤ أولا والآنية هناك موضوعة، فهو محدث، ولا يجوز له التحري قال ابن سماعة في «نوادره» : وهو نظير الخلاء، فإنه إذا كان يتذكر أنه دخل الخلاء للتخلي لكنه شك أنه خرج منها قبل أن يتخلى أو بعدما تخلى جعل محدثاً، ولا يجوز له التحري. ولو شك أنه دخل الخلاء أولم يدخل جاز له التحري، والعمل بغالب رأيه وهذه رواية مستحسنة. وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد أنه سئل عن المتيقن بالوضوء إذا لم يذكر حدثاً، فقال له رجل: إنك بلت في موضع كذا فشك الرجل، وقد صلى بعد ذلك صلوات، فقال: إذا شهد عنده عدلان قضاها، وإن شهد واحد عدل لم يقض. وفي «الأصل» عن محمد رحمه الله: إذا وقع في قلب المتوضىء أنه أحدث وكان على ذلك أكثر رأيه، فأفضل ذلك أن يعيد الوضوء، وإن صلى بوضوئه الأول كان في سعة من ذلك عندنا. وإن أخبره مسلم عدل رجل أو امرأة حرة أو مملوكة أنه أحدث أو رعف أو نام مضطجعاً لم يسع له أن يصلي حتى يتوضأ؛ لأن هذا أمر من أمور الدين وخبر الواحد حجة في أمور الدين. ولو استيقن بالحدث وشك في الوضوء، فأخبره عدل أنه توضأ، ولم يعرف المخبر بكونه عدلاً، إلا أنه وقع في قلبه أنه صادق، وسعه أن يصلي، فإن كان مبتلى بهذا كثيراً ويدخل عليه فيه الشيطان، فاستيقن بالحدث، واستيقن أنه قعد للوضوء، فإن كان أكثر رأيه أنه توضأ ورأى البلل سائلاً من ذكره بعد وضوئه، فإن كان الشيطان يريه ذلك كثيراً ولا يستيقن أنه بلل ماء أو بول مضى في صلاته، ولا يلتفت إليه. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وتأويل هذا في الذي يرى البلل على طرف ذكره وقد استنجى، فيحتمل أن يكون ذلك من بلل الغسل، فأما إذا علم الرجل أنه خرج من داخل الإحليل فعليه أن يتوضأ. ومن أصحابنا من قال: وإن علم أنه خرج من ذكره لا ينتقض وضوءه ما لم يستيقن أنه بول أو مذي إذا كان قد استنجى، فقد ذكر في بعض «النوادر» أن المستنجي إذا دخل الماء في ذكره ثم خرج لا ينقض وضوءه، فيحتمل أن يكون هذا الخارج من ماء الاستنجاء، قال شيخ الإسلام رحمه الله: الحيلة في قطع هذه الوسوسة أن ينضح فرجه بالماء، فإذا أراه الشيطان ذلك أحاله على الماء.

وقد روى أنس رضي الله «أن رسول الله عليه السلام كان ينضح إزاره بالماء إذا توضأ، وقال: نزل جبريل صلوات الله عليه وأمرني بذلك» ، قالوا: هذا الاحتيال إنما ينفعه إذا كان العهد قريباً بحيث لم يجف البلل، فأما إذا مضى عليه زمان ثم رأى بللاً، فإنه يعيد الوضوء؛ لأنه لا يمكننا الإحالة على ذلك الماء والله أعلم. ومما يتصل بهذا الفصل بيان أحكام المحدث المحدث لا يمس المصحف ولا الدرهم الذي كتب عليه القرآن، لقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} (الواقعة: 79) ، ولا بأس بأن يقرأ القرآن، لما روي عن بعض الصحابة أن رسول الله عليه السلام: «كان لا يحجزُهُ شيء عن قراءة القرآن إلا الجنابة» . والمعنى في الفرق بين القراءة والمس أن الحدث حل باليد دون الفم، ولهذا يفرض على المحدث إيصال الماء إلى اليد ولا يفترض عليه إيصال الماء إلى الفم. وإن أراد أن يغسل اليد ويأخذ المصحف لا يحل له ذلك؛ لأن الحدث لا يتجزأ زوالاً وثبوتاً. وكما لا يحل له مس الكتابة لا يحل له مس البياض أيضاً، وإن لمس المصحف بغلافه فلا بأس به، والغلاف الجلد الذي عليه المتصل عند بعض المشايخ، وعن بعضهم المنفصل كالخريطة ونحوها؛ لأن المتصل بالمصحف من المصحف، ولهذا يدخل في بيع المصحف من غير ذكر. وإن مس المصحف بكمه أو ذيله لا يجوز عند بعض المشايخ؛ لأن ثيابه تبع لبدنه ألا ترى لو قام على النجاسة في الصلاة، وفي رجليه نعلان أو جوربان، لا تجوز صلاته، ولو فرش نعليه أو جوربيه وقام عليهما جازت صلاته، وألا ترى أن من حلف لا يجلس على الأرض فجلس عليها وبينه وبينها ثيابه يحنث في يمينه واعتبر ثوبه تبعاً له حتى لم يعتبر حائلاً، وأكثر المشايخ على أنه لا يكره؛ لأن المحرم هو المس، وإنه اسم للمباشرة باليد بلا حائل، ألا ترى أن المرأة إذا وقعت في طين وردغة حل للأجنبي أن يأخذ يدها بحائل ثوب، وكذا حرمة المصاهرة لا تثبت بالمس بحائل، وفي باب اليمين المعتبر هو العرف، وفي العرف يعتبر الجالس في ثيابه على الأرض جالساً على الأرض. ويكره له مس كتب التفسير، وكذلك يكره له مس كتب الفقه، وما هو من كتب الشريعة؛ لأنه لا يخلو عن آيات القرآن وإن لم يكن فيها آيات (أ1) القرآن، ففيها معنى القرآن، والمشايخ المتأخرون وسعوا في مس كتب الفقه بالكم للبلوى والضرورة. وكره بعض مشايخنا دفع المصحف واللوح الذي عليه القرآن إلى الصبيان، وعامة المشايخ لم يروا به بأساً........... التوضؤ وفي التأخير تضييع القرآن، ويكره

الفصل الثالث في تعليم الإغتسال

له أن يدخل المسجد وأن يطوف بالبيت وفي الأذان روايتان، وتكره الإقامة رواية واحدة، والله تعالى أعلم بالصواب. الفصل الثالث في تعليم الإغتسال هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضاً. نوع منه في تعليم الاغتسال قال محمد رحمه الله: ويبدأ في غسل الجنابة بيديه، فيغسلهما ثلاثاً ثم يأخذ الإناء بيمينه ويفرغه على شماله حتى يغسل فرجه ثلاثاً وينقيه، وكذلك المرأة إذا اغتسلت بدأت وغسلت فرجها، ثم يتوضأ وضوء الصلاة غير غسل القدمين، ثم يفيض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثاً، ثم يتنحى عن مغتسله فيغسل قدميه؛ فقد أمر بتأخري غسل القدمين في حق الجنب. وقد اختلفت الروايات في فعل رسول الله عليه السلام، روت عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، غسل القدمين في الوضوء» ، وروت ميمونة «أنه عليه السلام لم يغسل القدمين في الوضوء، بل أخره إلى ما بعد الاغتسال» ، وعلماؤنا رحمهم الله أخذوا برواية ميمونة، لأن غسل القدمين قبل إفاضة الماء على رأسه لا يقبل؛ لأن قدميه في مستنقع الماء المستعمل، فيتنجس ثانياً وثالثاً بوصول الماء المستعمل إليه فلا يفيد الاغتسال في الوضوء، حتى لو أفاد بأن كان قائماً على حجر أو لوح لا يؤخر غسل القدمين عن الوضوء، ثم أشار ههنا إلى مسح الرأس في الوضوء، فإنه قال: يتوضأ وضوءه للصلاة، والوضوء اسم يشمل المسح والغسل جميعاً، وهو ظاهر المذهب. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يمسح برأسه في وضوئه؛ لأنه قد لزمه غسل الرأس، وفرضية المسح لا تظهر عند وجوب الغسل، والصحيح أن يمسح برأسه، فقد روت عائشة وميمونة رضي الله عنهما في بيان كيفية اغتسال رسول الله عليه السلام أن رسول الله عليه السلام «توضأ وضوءه للصلاة ثم أفاض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثاً» . واسم الوضوء مشتمل على الغسل والمسح جميعاً، وما قال من المعنى ليس

بصحيح لأن تقديم الوضوء على الإفاضة يقع سنة لا فرضاً ليقال فرضيته لا تظهر مع فرضية الغسل، وإن أفاض الماء على رأسه مرة واحدة تجزئه، وهذا الترتيب الذي ذكرنا مذكور في «الأصل» . وفسر في «النوادر» فقال في موضع: يتوضأ وضوءه للصلاة، ولا يغسل قدميه ثم يبدأ بمنكبه الأيمن فيفيض الماء عليه ثلاثاً بمنكبه الأيسر ويفيض الماء عليه ثلاثاً، ثم يفيض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثاً، ثم يتنحى فيغسل قدميه. قال في «المعلى» : وقال أبو حنيفة رحمه الله: من اغتسل من الجنابة فليس عليه أن يضع في عينيه الماء. قال في «الأصل» : والدلك في الاغتسال ليس بشرط عندنا، خلافاً لمالك؛ لأن الواجب بالنص التطهير، فاشتراط الدلك يكون زيادة على النص. وفي «المنتقى» : وقال أبو يوسف رحمه الله في «الأمالي» : الدلك في الغسل شرط. وإذا اغتسلت المرأة من الجنابة ولم تنقض رأسها إلا أنه بلغ الماء أصول شعرها وأبلها وإنه جائز بلا خلاف أجزأها، هكذا ذكر في «الأصل» . واعلم أن ههنا فصلان: أحدهما: إذا بلغ الماء إلى (أصول الشعر) لما روي أن أم سلمة سألت رسول الله عليه السلام وقالت: «إني امرأة أشد ضفر رأسي، أفأنقضها إذا اغتسلت؟ فقال: لا» ، وفي حديث جابر أن النبي عليه السلام قال: «لا يضر الجنب والحائض أن ينقض الشعر إذا اغتسل بعد أن يصل الماء سور الشعر» ، أي: أصول الشعر. وقالت عائشة رضي الله عنها: «كنت أنا ورسول الله عليه السلام نغتسل من إناء واحد، وكان لا ينقض شعري» . وأما إذا بلغ الماء أصول شعرها ولكن لم يدخل شعب عقاصها فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يجزئها لقوله عليه السلام: «تحت كل شعرة جنابة، ألا فبلوا الشعر» ولم يوجد بلّ الشعر ههنا. وعن عبيد الله بن عمر أنه كان يأمر جواريه بنقض شعورهن عند الاغتسال من الحيض والجنابة، ويؤيد هذا القول ما روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: تبل ذوائبها ثلاثاً، مع كل بلة عصرة، وفائدة اشتراط العصر أن يصل الماء تحت قرونها. سئل الفقيه أحمد بن إبراهيم عن هذه المسألة فروى عن رسول الله عليه السلام أنه

علم أم سلمة الاغتسال، وقال لها: «احثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء مع كل حثية عصرة» قال: وفائدة اشتراط العصرة أن يبلغ الماء تحت قرونها، قاله الراوي عن الفقيه على أهل المجلس يذكر هذه المسألة. وقال بعضهم: يجزئها لظاهر ما روينا من حديث أم سلمة وجابر وعائشة، ولأنها إذا نقضت شعرها احتاجت إلى الضفر ثانياً وقال: فليحقها بذلك حرج وربما يتأثر بذلك شعرها، وفيه فساد، بخلاف اللحية لأنه لا حرج في إيصال الماء إلى أثناء اللحية، فيجب إيصال الماء إليه حتى إن المرأة إذا كانت لا تتحرج في إيصال الماء إلى أثناء الشعر بأن كانت منقوضة الشعر يفرض عليها إيصال الماء إلى أثناء الشعر، هكذا حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله. وتأويل حديث جابر على هذا القول أن المراد منه إذا لم تكن منقوضة الشعر. وأما الرجل إذا كان على رأسه شعر وقد ضفره كما يفعله العلويون والأتراك هل يجب عليه إيصال الماء إلى أثناء الشعر؟ فظاهر حديث جابر يدل على أنه لا يجب، وذكر الصدر الشهيد رحمه الله أنه يجب، والاحتياط في إيصال الماء إليه، والله أعلم. وسئل نجم الدين النسفي رحمه الله عن امرأة تغتسل من الجنابة هل تتكلف لإيصال الماء إلى ثقب القرط، قال: إن كان القرط فيه وتعلم أنه لا يصل الماء إليه من غير تحريك فلا بد من التحريك كما في الخاتم، وإن لم يكن القرط فيه إن كان لا يصل الماء إليه لا تكلف، وكذلك إن انضم ذلك بعد نزع القرط وصار بحيث لا يدخل القرط فيه إلا بتكلف لا تتكلف أيضاً، وإن كان بحيث لو أمرَّت الماء عليه دخله، ولو عدلت لم يدخله أمرت الماء عليه حتى يدخله، ولا تتكلف إدخال شيء فيه سوى الماء من خشب أو نحوه لإيصال الماء إليه. الأقلف إذا اغتسل من الجنابة ولم يدخل الماء داخل الجلدة جاز؛ لأنها خلقة، وقال في الأقلف إذا خرج بوله من طرف ذكره حتى صار في قلفته فعليه الوضوء. ذكر القاضي الإسبيجابي هاتين المسألتين على هذا الوجه في «شرحه» وكل

واحدة ترد إشكالاً على الأخرى، والجواب في هاتين المسألتين على هذا الوجه منقول عن ابن سلمة رحمه الله، وذكر في آخر «النوادر» قبيل باب التأويلات عن الفقيه أبي بكر رحمه الله أن الأقلف إذا لم يدخل الماء داخل الجلدة، ففي الغسل لا يجزئه، وفي الوضوء يجزئه، وجعله كالمضمضة والاستنشاق والله أعلم. نوع منه فى بيان فرائضه وسننه والفرض فيه أن يغسل جميع بدنه ويتمضمض ويستنشق، والمضمضة والاستنشاق فرضان في الغسل، نفلان في الوضوء، والأصل فيه قوله عليه السلام: «تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعرة والبشرة» ، وفي الأنف شعر وفي الفم بشرة. قال ابن الأعرابي: البشرة اسم لجلدة تقي اللحم من الأذى، ولأن الأنف والفم عضوان يمكن إيصال الماء إليهما من غير حرج، فيجب في الغسل عن الجنابة كما في سائر الأعضاء وهذا لأن الواجب تطهير البدن، قال الله تعالى: {وإن كنتم جنباً فاطهروا} (المائده:6) واسم البدن يتناول الكل إلا ما لا يمكن إيصال الماء إليه يسقط اعتباره لمكان الضرورة، فأما إذا أمكن إيصال الماء إلى هذين العضوين من غير حرج لا ضرورة إلى إسقاط اعتبارهما. أما في الوضوء الواجب غسل الوجه، والوجه اسم لما يواجه الناظر، والمواجهة لا تقع بباطن الفم والأنف.v وتقديم الوضوء على الاغتسال في الجنابة سنة، وليس فرضاً عند علمائنا رحمهم الله، حتى إنه لو لم يتوضأ وأفاض الماء على رأسه وسائر جسده ثلاثاً أجزأه إذا كان قد تمضمض واستنشق. رجل اغتسل من الجنابة ولم يتمضمض، إلا أنه شرب الماء، هل يقوم شرب الماء مقام المضمضة؟ كان الفقيه أحمد بن إبراهيم يقول لعمرو هكذا كان جواب الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله (9ب1) حسب ما بلغ: إذا تمضمض يجوز، وما لا فلا، وبنحوه روى الحاكم الشهيد رحمه الله في «المنتقى» عن محمد، والذي روي عنه جنب شرب الماء قال: إن كان الشرب أتى على جميع فمه يجزئه عن المضمضمة، وإن كان مص الماء مصاً، فلم يأت على جميع فمه لم تجزئه عن المضمضمة.

وفي «نوادر هشام» : جنب تمضمض وأدار الماء، قال: إن أصاب ذلك الفم كله أجزأه قال هشام: قلت لمحمد رحمه الله: إن أبا يوسف قال: لا يجزئه إلا أن يمجه، قال محمد: قال أبو يوسف: يجزئه إذا أصاب الفم كله، وعن بعض مشايخنا: إن الرجل إذا كان عالماً لا يجزئه، وإن كان جاهلاً أجزأه، فإنه إذا كان عالماً يمص الماء مصاً، وليس فيه مبالغة، فلا يصل الماء إلى جميع فمه، وإذا كان جاهلاً يغب الماء غباً والتقريب ما ذكرنا. وفي «واقعات الناطفي» : أنه لا يجزئه كيف ما شرب ما لم يمجه. وإذا اغتسل من الجنابة وبقي بين أسنانه طعام ولم يصل الماء تحته جاز؛ لأن ما بين الأسنان رطب، فلا يمنع وصول الماء إلى ما تحته، وذكر الناطفي في «واقعاته» أنه لا يجزئه ما لم يقلع ذلك الطعام ويجري الماء عليه. وإذا كان على ظاهر بدنه جلد سميك أو خبز ممضوغ قد جف واغتسل ولم يصل الماء إلى ما تحته، لا يجوز ولو كان مكانه خرء ذباب أو برغوث وباقي المسألة بحالها جاز، وقد مر هذا في فصل الوضوء. والمرأة إذا عجنت وبقي العجين في ظفرها فاغتسلت من الجنابة لم يجز، ولو بقي الدرن جاز يستوي فيه القروي والمدني عند عامة المشايخ وهو الصحيح، وقد مرت هذه المسألة في فصل الوضوء أيضاً، وذكرنا ثمة قول الإمام الزاهد الصفار رحمه الله. نوع منه فى بيان أسباب الغسل فنقول أسباب الغسل ثلاثة: الجنابة، والحيض، والنفاس، وهذا النوع لبيان الغسل عن الجنابة وأحكامها، ومسائل الحيض والنفاس تأتي في آخر الباب في فصل على حدة إن شاء الله تعالى فنقول: الجنابة تثبت بشيئين: أحدهما: انفصال المني عن شهوة، والثاني: الإيلاج في الآدمي، واختلفت عبارة أصحابنا رحمهم الله في الإيلاج الذي تثبت به الجنابة، فالمروي عن محمد رحمه الله: أنه إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة إنه يجب الغسل، والمروي عن أبي يوسف أنه إذا توارت الحشفة في قبل أو دبر من الآدمي يجب الغسل على الفاعل والمفعول به أنزل أو لم ينزل. والكرخي في «كتابه» يقول في الإيلاج في أحد السبيلين: إذا توارت الحشفة يوجب الغسل على الفاعل والمفعول به أنزل أو لم ينزل، وهذا هو المذهب لعلمائنا رحمهم الله، فوجوب الغسل عند علمائنا رحمهم الله غير مقصور على التقاء الختانين، فإن الإيلاج في الدبر يوجب الغسل عليهما بالإجماع، وإن لم يوجب التقاء الختانين والإيلاج في البهيمة لا يوجب الغسل إلا بالإنزال؛ لأنه ناقص في قضاء الشهوة، فأشبه الاستمتاع بالكف، وذلك لا يوجب الغسل بدون الإنزال كذا ههنا. الإيلاج في الميتة بمنزلة الإيلاج في البهائم لا يوجب الغسل ما لم ينزل والإيلاج في الصغيرة التي لا يجامع مثلها لا يوجب الغسل، هكذا ذكر في «الأجناس» ، وفي «شرح الشافي» في كتاب الحدود أن عليه الغسل وإن لم ينزل.

وفي «الفتاوى» : إذا أتى امرأته وهي بكر، فلا غسل عليه ما لم ينزل، لأن البكارة تمنع من التقاء الختانين وبدونه لا يجب الغسل ما لم ينزل، كذلك لا غسل عليها لانعدام السبب في حقها، وكذلك إذا كانت ثيباً ولم يوار الحشفة، فلا غسل عليه ما لم ينزل ولا غسل عليها أيضاً لما قلنا، وقال محمد رحمه الله: في البكر إذا جومعت فيما دون الفرج فدخل من مائه فرجها: فلا غسل عليها؛ لأن الغسل إنما يجب بالتقاء الختانين أو بنزول الماء ولم يوجد واحد منهم حتى لو حبلت يجب الغسل لنزول مائها. غلام ابن عشر سنين جامع امرأته البالغة، فعليها الغسل لوجود السبب في حقها وهو مواراة الحشفة بعد توجه الخطاب، ولا غسل على الغلام لعدم الخطاب إلا أنه يؤمر بالغسل تخلقاً واعتباراً كما يؤمر بالصلاة تخلقاً واعتباراً، ولو كان الرجل بالغاً والمرأة صغيرة يجامع مثلها، فعلى الرجل الغسل، ولا غسل عليها لوجود السبب في حقه وانعدام السبب في حقها، وجماع الخصي يوجب الغسل على الفاعل والمفعول به لوجود السبب هو مواراة الحشفة. والكافر إذا أجنب ثم أسلم ففي وجوب الغسل عليه اختلاف المشايخ، قال بعضهم يجب، وإليه أشار محمد رحمه الله في «السير الكبير» ، والمذكور في «السير» : وينبغي للرجل إذا أسلم أن يغتسل غسل الجنابة، وعلل فقال؛ لأن المشركين لا يغتسلون من الجنابة ولا يدرون كيف الغسل في ذلك، وإنما أراد بما قال والله أعلم: إن من المشركين من لا يدين الاغتسال من الجنابة، ومنهم من يدين كقريش وبنو هاشم عامتهم توارثوا من إسماعيل عليه السلام إلا أنهم لا يدرون كيفيته، فكانوا لا يتمضمضون ولا يستنشقون، وهما فرضان ألا ترى فرضية المضمضمة والاستنشاق في الاغتسال قد خفي على كثير من العلماء، فكيف على الكفار. على (أن) ما أشار إليه في «الكتاب» لا يخلو عن أحد شيئين: لا إما يغتسلون عن الجنابة أو يغتسلون عنها، ولكن لا يدرون كيفيتها وأي ذلك ما كان يؤمرون بالاغتسال بعد الإسلام لبقاء حكم الجنابة. ثم فيما ذكر محمد رحمه الله بيان أن صفة الجنابة تتحقق في حق الكفار عند وجود سببها، وبه تبين أن ما ذكر بعض مشايخنا أن الغسل بعد الإسلام مستحب، وذلك في حق من لم يكن قبل ذلك أجنب، وبه تبين أن ما قال بعض المشايخ بأن الجنابة في حق الكفار لا توجب الاغتسال بعد الإسلام لأن الكفار غير مخاطبين، غير سديد. وهذا فصل اختلف فيه المشايخ؛ لأن الكفار هل يخاطبون بالشرائع أو لا يخاطبون بها؟ فمن قال: يخاطبون بها، يقول: الغسل يجب عليه في حال كفره ولهذا لو أتى به يصح، وهذا ظاهر، ومن قال بأنهم لا يخاطبون بها، لا ينبغي أن يقول: بوجوب الغسل بعد الإسلام، ولذلك وجهان:

أحدهما: أن الاغتسال لا يجب بالجنابة ليقال إنه وقت وجوب الاغتسال غير مخاطب في الشرائع، إنما وجوبه بإرادة الصلاة وهو جنب كما أن الوضوء لا يجب بالحدث، وإنما يجب بإرادة الصلاة وهو محدث، قلنا: وهو عند إرادة الصلاة جنب مسلم، فلذلك يلزمه الاغتسال. والثاني: أن صفة الجنابة مستدامة، فاستدامتها بعد الإسلام كإنشائها، ولهذا قلنا: لو انقطع دم الحيض قبل أن تسلم ثم أسلمت لا يلزمها الاغتسال؛ لأنه لاستدامة للانقطاع حتى يجعل دوامه كابتدائه، فلم يوجد سبب وجوب الاغتسال في حقها بعد الإسلام لا حقيقة ولا حكماً، فلا يلزمها الاغتسال. فظهر الفرق على هذا المعنى بين الكافر إذا أجنب ثم أسلم وبين الكافرة إذا حاضت وانقطع دمها ثم أسلمت. هذا هو الكلام في طرف الإيلاج. جئنا إلى طرف انفصال المني؛ يجب أن يعلم بأن المني ماء دافق خاثر أبيض ينكسر منه الذكر هو المذكور في عامة الكتب، وزاد في «الشافي» : ويخلق منه الولد، فمتى كان حركته * يعني مفارقته عن مكانه * وخروجه عن شهوة، سواء كان بمس أو نظر أو فكرة، أو ما أشبه ذلك من الملاقاة وغيرها يجب الغسل بلا خلاف، ومتى كان مفارقته عن مكانه وخروجه لا عن شهوة لا يوجب الغسل عند علمائنا المتقدمين وعامة مشايخنا المتأخرين. وحكي عن عيسى بن أبان رحمه الله أنه قال: يجب الغسل بخروج المني على كل حال، وهو قول الشافعي: حتى إن من حمل شيئاً، فسبقه المني، فلا غسل عليه عند علمائنا المتقدمين وعامة المتأخرين، خلافاً لعيسى والشافعي. وكذلك الرجل إذا أصاب (10أ1) الضرب ظهره فسبقه المني لا غسل عليه عند عامة علمائنا المتقدمين، وعامة المتأخرين خلافاً لعيسى والشافعي. ومتى كان مفارقته عن مكانه عن شهوة وخروجه لا عن شهوة، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يجب الغسل، وعلى قول أبي يوسف لا يجب الغسل، فالعبرة عند أبي حنيفة ومحمد لانفصال المني عن مكانه على وجه الدفق والشهوة، لا لظهوره على وجه الشهوة، وعند أبي يوسف العبرة لخروجه وظهوره على وجه الشهوة. وثمرة الخلاف تظهر في مسائل: إحداها: إذا استمتع بالكف فلما انفصل المني عن مكانه عن شهوة أخذ بإحليله حتى سكنت شهوته ثم خرج المني، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد يجب الغسل، خلافاً لأبي يوسف. الثانية: إذا جامع امرأته فيما دون الفرج ثم انفصل المني عن مكانه عن شهوة أخذ بإحليله حتى سكنت شهوته ثم خرج المني، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد يجب الغسل، خلافاً لأبي يوسف. الثالثة: إذا احتلم فلما انفصل المني عن مكانه عن شهوة استيقظ وأخذ بإحليله حتى انكسرت شهوته ثم خرج المني.

الرابعة: إذا جامع امرأته واغتسل قبل أن يبول ثم سال منه بقية المني وجب الغسل عندهما، وكذلك إذا خرج مذي، وأجمعوا على أنه إذا بال ثم اغتسل أو نام ثم خرج المني أنه لا غسل عليه. وفي «الأجناس» : لو جامع واغتسل قبل أن يبول وصلى، ثم بال فإنه يعيد الغسل عندهما ولا يعيد الصلاة بلا خلاف، وإذا بال فخرج من ذكره مني، فإن كان ذكره منتشراً فعليه الغسل، وإن كان منكسراً فعليه الوضوء. وفي «مجموع النوازل» : المرأة؛ إذا اغتسلت بعدما جامعها زوجها ثم خرج منها مني الزوج، فعليها الوضوء دون الغسل؛ لأن الخارج ليس ماءها بل هو حدث. ومما يتصل بطرف خروج المني مسائل الاحتلام إذا استيقظ الرجل ووجد على فراشه بللاً وهو يذكر احتلاماً، إن تيقن أنه مني أو تيقن أنه مذي أو شك أنه مني أو مذي، فعليه الغسل، وليس في هذا إيجاب الغسل بالمذي بل فيه إيجاب الغسل بالمني؛ لأن سبب خروج المني قد وجد وهو الاحتلام، فالظاهر خروجه إلا أن طبع المني الرقة بإطالة المدة، فالظاهر أنه مني إلا أنه رق قبل أن يستيقط، وإن تيقن أنه ودي لا غسل عليه. وإن رأى بللاً إلا أنه لم يتذكر الاحتلام، فإن تيقن أنه (مذي) لا يجب الغسل؛ لأن سبب خروج المني ههنا لم يوجد، فلا يمكن أن يقال بأنه مني ثم رق لطول المدة، بل هو مذي حقيقة، والمذي لا يوجب الغسل وإن شك أنه مني أو مذي، قال أبو يوسف رحمه الله: لا يوجب الغسل حتى يتيقن بالاحتلام، وقالا يجب الغسل، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله. وإذا تذكر الاحتلام ولم ير بللاً فلا غسل عليه لظاهر قوله عليه السلام: «من احتلم ولم ير بللاً فلا شيء عليه» ، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: ذكر هشام في «نوداره» عن محمد رحمه الله: إذا استيقظ الرجل فوجد البلل في إحليله ولم يذكر حلماً إن كان ذكره منتشراً قبل النوم، فلا غسل عليه، إلا إذا تيقن أنه مني، وإن كان ذكره ساكناً قبل النوم فعليه الغسل، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذه المسألة يكثر وقوعها والناس عنها غافلون، فيجب أن تحفظ. إذا نام الرجل قاعداً أو قائماً أو ماشياً ثم استيقظ ووجد بللاً فهذا وما لو نام مضطجعاً سواء، وإذا احتلم الرجل وانفصل المني عن مكانه إلا أنه لم يظهر على رأس الإحليل، فلا غسل عليه، لأن الخروج بهذا لا يتحقق، ألا ترى أنه لا يلزمه الوضوء بنزول البول إلى هذا الموضع.

المرأة إذا احتلمت، ولم تر بللاً روي عن محمد رحمه الله في غير رواية الأصول أنها إذا تذكرت الاحتلام والإنزال والتلذذ فعليها الغسل وإن لم تر بللاً، وبه أخذ بعض المشايخ، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ولا يؤخذ بهذه الرواية؛ لأن النساء يقلن: إن مني المرأة يخرج من الداخل كمني الرجل، وفي ظاهر الرواية: أنه يشترط الخروج من الفرج الداخل إلى الفرج الظاهر لوجوب الغسل، حتى لو انفصل منها عن مكانه ولم يخرج عن الفرج الداخل إلى الفرج الخارج لا غسل عليها، وبه كان يفتي الفقيه أبو جعفر، والشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمة الله عليهما. وفي «صلاة ابن عبد الله» : امرأة قالت...... حتى يأتيني في النوم مراراً وأجد في نفسي ما أجد لو جامعني زوجي، وذكر (وجب) أنه غسل عليها. رجل وامرأة ناما واستيقظا وجدا منياً بينهما وكل واحد منهما ينكر الاحتلام وينكر أن المني منه، كان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يقول: بوجوب الغسل عليهما وهو الاحتياط، ومن المشايخ من قال: إن (كان) ذلك الماء غليظاً أبيض فهو من الرجل، وإن كان رقيقاً أصفر فهو من المرأة، ومنهم من علل إن وقع طولاً فهو من الرجل وإن وقع مدوداً فهو من المرأة. الرجل إذا صار مغشياً عليه ثم أفاق ووجد مذياً على فخذه أو ثيابه، فلا غسل عليه، وكذلك السكران إذا أفاق ووجد مذياً على فخذه أو ثوبه، فلا غسل عليه، وليس هذا كالنوم والله تعالى أعلم. نوع منه فى سبب وجوب الاغتسال اختلف المشايخ في سبب وجوب الاغتسال، قال بعضهم: سبب وجوبها الجنابة، وقال بعضهم: سبب وجوبها إرادة ما حرم عليه بسبب الجنابة، وسيأتي بيان ما حرم عليه بسبب الجنابة في النوع الذي يلي هذا النوع. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : أدنى ما يكفي في غسل الجنابة من الماء صاع لحديث جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «كان يغتسل بالصاع، فقيل له: إن لم يكف؟ فغضب قال: لقد كفى من هو خير منكم، وأكثر شعراً» والصاع ثمانية أرطال، كل رطل نصف مَنّ، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: الصاع خمسة أرطال وثلث رطل، وهو قول الشافعي، وسيأتي بيان ذلك في كتاب الصوم إن شاء الله، وهذا التقدير لماء الإفاضة فإن أراد تقديم الوضوء زاد مداً، وكل ذلك ليس بتقدير لازم بل يستعمل من الماء بقدر ما يقع عنده أنه حصل التطهير، ولا بأس بأن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أنا ورسول الله عليه السلام نغتسل من إناء واحد، وكنت أقول له: أبقِ لي

وهو يقول لي: أبقِ لي» . وإذا أجنبت المرأة ثم أدركها الحيض فهي بالخيار إن شاءت اغتسلت؛ لأن فيه زيادة تنظيف وإزالة أحد الحدثين، وإن شاءت أخرت الاغتسال حتى تطهر؛ لأن الاغتسال للتطهير حتى تتمكن من أداء الصلاة، ألا ترى أن الجنب إذا أخر الاغتسال إلى وقت الصلاة لا يأثم، دل أن المقصود من الطهارة الصلاة، ومن لا يتمكن من الصلاة، فكان لها أن لا تغتسل. وفي صلاة «فتاوى أبي الليث» : ثمن ماء الاغتسال على الزوج، وكذا ماؤها عليه غنية كانت أو فقيرة. وفي وصايا الطحاوي: روي عن محمد بن سلمة أن على الزوج الماء الذي تغسل المرأة (به) ثوبها أو بدنها من الوسخ، وليس عليه أن يشتري لها ماء الوضوء والغسل كما لا يلزمه الدواء، قال محمد: وهكذا قول أصحابنا رحمهم الله، وقد قيل: ينبغي أن يجب عليه ماء الاغتسال، ولا يجب عليه ماء الوضوء؛ لأنه سبب لوجوب الاغتسال عليها، وليس سبباً لوجوب الوضوء عليها، بل وجوب الوضوء بإيجاب الله تعالى، وينبغي للجنب أن يدخل أصبعه في سرته إلا إذا علم أنه يصل الماء إليها من غير إدخال الأصبع، فحينئذٍ لا يلزمه ذلك. المرأة إذا أجنبت ثم أدركها الحيض أو الحائض إذا أجنبت ثم طهرت حتى وجب عليها الاغتسال، فهذا الاغتسال يكون من الجنابة أو الحيض؟ حكي عن الشيخ الإمام الزاهد أبي محمد عبد الرحيم بن محمد الكرميني رحمه الله أنه كان يقول: اختلفت عبارات أصحابنا رحمهم الله: وظاهر الجواب أن الاغتسال يكون منهما جميعاً. وقال أبو عبد الله الجرجاني: يكون من الأول، ولا يكون من الثاني، وكذلك الرجل إذا رعف ثم بال، فإن الوضوء يكون من الأول لا من الثاني على قوله (10ب1) وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: إن كانا من جنسين متحدين يكون من الأول لا من الثاني، كما إذا بال ثم بال أما إذا كانا من جنسين مختلفين، فإنه يكون منها جميعاً، كما إذا رعف ثم بال. وروي عن خلف بن أيوب أنه كتب إلى محمد بن الحسن رحمه الله يسأله عمن رعف ثم بال إن الوضوء يكون من الثاني أو من الأول؟ فكتب إليه أن الوضوء يكون منهما، ولهذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية الأصول أن الوضوء يكون منهما جميعاً. وثمرة الخلاف إنما تظهر بمسألة، وصورتها: إذا قال الرجل: إن توضأت من الرعاف فامرأته طالق، فرعف ثم بال ثم توضأ، فإنه يقع الطلاق عليها على الأقوال كلها أما على أبي عبد الله الجرجاني؛ لأنه وجد الرعاف أولاً، وأما على قول الفقيه أبي جعفر وهو رواية عن أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله، فلأن الوضوء منهما، وأما إذا بال ثم

رعف ثم توضأ، فعلى قول أبي عبد الله الجرجاني لا يقع الطلاق عليها في هذه الصورة لأن شرط وقوع الطلاق عليها الوضوء من الرعاف والوضوء ههنا وقع من البول عنده، ولأنه هو الأول وعلى الأقوال الأخر يقع الطلاق؛ لأن على الأقوال الأخر الوضوء منهما. قال الشيخ الإمام الزاهد عبد الرحيم رحمه الله: كنا نقول: الوضوء يكون بأغلظها حتى إن الرجل إذا رعف ثم بال فالوضوء يكون منهما لاستوائهما، فأما إذا رعف ثم أجنب أو بال ثم أجنب فالوضوء الذي يكون في الاغتسال من الجنابة لأنها أغلظ. ثم وجدنا رواية أبي حنيفة: أن الوضوء منهما. فرجعنا عن ذلك وأخذنا بقول أبي حنيفة والله أعلم. ذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : أن الاغتسال على أحد عشر نوعاً، خمسة منها فريضة: الاغتسال من الحيض والنفاس، ومن التقاء الختانين، وغيبوبة الحشفة، ومن الاحتلام إذا أنزل، ومن إنزال المني عن شهوة دفعاً. وأربعة منها سنّة: غسل يوم الجمعة وفي العيدين، والغسل يوم عرفة عند الإحرام. وواحد منها واجب وهو غسل الميت حتى لا تجوز الصلاة عليه قبل الغسل، والآخر مستحب وهو الكافر إذا أسلم، يريد بها: إذا لم يجنب قبل الإسلام فإنه يستحب له أن يغتسل. وههنا فصل آخر، أن الكافرة إذا أسلمت بعدما انقطع دم الحيض والنفاس فإنه يستحب لها أن تغتسل، ولا يجب عليها ذلك، وإن كان انقطاع الدم بعد الإسلام فرض عليهم الغسل. والكافر إذا أجنب قبل الإسلام فقد ذكرنا أن في وجوب الغسل عليه اختلاف المشايخ، وذكرنا أن الصحيح أنه يجب وفرقنا بين الحيض وبين النفاس. وههنا فصلان آخران: أحدهما: الصبي إذا بلغ بالاحتلام. والثاني: الصبية إذا بلغت بالحيض هل يجب عليهما الغسل؟ وفي الفصلين جميعاً اختلاف المشايخ والاحتياط في القول بالوجوب والله أعلم. ومما يتصل بهذا الفصل بيان أحكام الجنابة وإنها كثيرة: منها حرمة الصلاة لقوله تعالى: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} معطوفاً على قوله: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} (النساء: 43) . ومنها دخول المسجد وإنها ثابتة بالسنّة عندنا وهو قوله عليه السلام: «إني لا أحل المسجد لجنب ولا حائض» . وعند الشافعي بالكتاب وهو قوله تعالى: {ولا جنباً إلا عابري سبيل} (النساء: 43) حتى يجوز له الدخول في المسجد عنده على سبيل العبور دون القعود. وعندنا لا يجوز له الدخول في المسجد أصلاً لا للعبور ولا للقعود لأنه لا فصل

في السنة، والمراد من قوله تعالى: {إلا عابري سبيل} عندنا: المسافرون. سمّاهم الله تعالى بهذا الاسم لعبورهم على السبيل، كما أن المسافر يشبه ابن السبيل في المرور في السبيل. ومنها حرمة الطواف بالبيت؛ لأن البيت في المسجد، ولا يحل له الدخول في المسجد فلا يحل له الطواف ضرورة. ومنها حرمة قراءة القرآن، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان نهى الجنب عن قراءة القرآن. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان لا يحجزه شيء عن قراءة القرآن إلا الجنابة، الآية وما دونها في تحريم القراءة سواء عند الكرخي؛ لأن الكل قرآن. وقيد الطحاوي حرمة القراءة بآية تامة؛ لأن المتعلق بالقراءة حكمان: أحدهما: جواز الصلاة به، والثاني: حرمة القراءة على الجنب في أَحَد حكمين وهو جواز الصلاة يفصل بين الآية وما دونها. / فكذلك في الحكم الآخر وهو حرمة القراءة على الجنب، وهذا إذا قصد القراءة، فإن لم يقصدها فلا بأس به نحو قوله: الحمد لله، على سبيل الشكر. وكذلك إذا قال بسم الله الرحمن الرحيم إن قصد القراءة يكره، وإن قصد به افتتاح الكلام لا يكره، وكذلك إذا ذكر دعاء في القرآن وهو آية تامة يريد به الدعاء لا يكره. ولا يكره له قراءة دعاء القنوت في ظاهر مذهب أصحابنا لأنه ليس بقرآن. وعن محمد رحمه الله أنه يكره لأنه قرآن عند بعض الصحابة. ولا يكره التهجي بالقرآن لأن التهجي بالقرآن ليس بقراءة القرآن. ويكره له قراءة التوراة والزبور والإنجيل. ذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «الفتاوى» : ولا يمس المصحف ولا اللوح المكتوب عليه آية تامة من القرآن ولا الدرهم المكتوب (عليه) سورة الإخلاص لقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} (الواقعة: 79) . وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلى بعض القبائل: «لا يمس القرآن حائض ولا جنب» . وكما لا يحل له مس الكتابة لا يحل له مس البياض وإن مسّ المصحف بغلافه فلا بأس به. والكلام في الغلاف في حق الجنب نظير الكلام فيه في حق المحدث. وإذا مسه بكمه أو ذيله فهو على الاختلاف الذي ذكرنا في المحدث. وإذا أراد أن يغسل الفم ويقرأ القرآن أو يغسل اليد ويمس المصحف، فإنه لا يحل له القراءة والمس لأن الجنابة لا تتجزأ زوالاً كما لا تتجزأ ثبوتاً. ويكره مسّ كتب التفسير ومس كتب الفقه وما هو من كتب الشريعة، وقد ذكر هنا الوجه في حق المحدث، والمشايخ المتأخرون توسعوا في مس كتب الفقه.

الفصل الرابع في المياه التي يجوز التوضؤ بها والتي لا يجوز التوضؤ بها

ويكره له كتابة القرآن عند محمد، وهو قول الشعبي ومجاهد وابن المبارك لأنه في حكم الماس للصحيفة. وبقوله أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله، وكذلك الفقيه أبو جعفر أفتى بقوله إلا أن يكون أقل من آية، وعن أبي يوسف أنه لا بأس به إذا كانت الصحيفة على الأرض؛ لأنه ليس بحامل للقرآن والكتابة توجد حرفاً حرفاً. وإذ أراد الجنب الأكل فينبغي له أن يغسل يديه ثم يتمضمض ثم يأكل والله أعلم. الفصل الرابع في المياه التي يجوز التوضؤ بها والتي لا يجوز التوضؤ بها هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه فى الماء الجاري ويجوز التوضؤ بالماء الجاري، ولا يحكم بتنجسه لوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير طعمه أو لونه أو ريحه، وبعدما تغير أحد هذه الأوصاف وحكم بنجاسته لا يحكم بطهارته ما لم يزل ذلك التغير بأن يزاد عليه ماء طاهر حتى نزيل ذلك التغير، وهذا لأن إزالة عين النجاسة عن الماء غير ممكن فيقام زوال ذلك التغير الذي حكم بالنجاسة لأجله مقام زوال عين النجاسة. والدليل على أن العبرة في الماء الجاري لتغير إحدى الأوصاف التي ذكرنا ما ذكر محمد رحمه الله في كتاب الأشربة: إذا صُبّ حِبٌّ من الخمر في الفرات ورجل أسفل منه يتوضأ به أجزأه إذا لم تتغير إحدى أوصاف الماء. بعد هذا الكلام في تحديد أدنى ما يكون من الجريان في حق جواز الوضوء، وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: إذا كان يذهب بالنجاسة قبل اغتراف الغرفة الثانية فهو ماء جار. وقال بعضهم: إذا كان بحال لو ألقي فيه تبن أو ورق يذهب به فهو جاري. وقال

بعضهم: إذا كان بحال لو اغترف المتوضىء في أعمق موضع من الجدول انقطع جريانه ثم امتلأ (11ب1) حتى يجري فهو ليس بجار وإن لم ينقطع فهو جار، وقال بعضهم: إن كان بحال لو وضع إنسان يده عليه عَرْضاً فقطع الجري فهو ليس بجار، وإن كان بخلافه فهو جار، وهذا القائل لا يشترط. قال بعضهم: إن كان بحال لو رفع باليد حسر ما تحته وينقطع الجريان فهو ليس بجار وإن كان بخلافه فهو جار، وهذا القائل لا يشترط الاغتراف من أعمق المواضع إذا كانت النجاسة غير مرئية فإن كانت النجاسة مرئية فلا يتوضأ من الموضع الذي فيه النجاسة وإنما يتوضأ من موضع آخر، هكذ قاله بعض المشايخ وبعض المشايخ قالوا: إن توضأ من الموضع الذي وقع فيه النجاسة بقرب النجاسة جاز إذا لم يتغير أحد أوصاف الماء. وإذا جلس الناس صفوفاً على شط نهر وتوضؤوا بمائه جاز وهو الصحيح، وفي «النوازل» : إذا كانت مياه تجري ضعيفاً فأراد إنسان أن يتوضأ منه فإن كان وجهه إلى مورد الماء يجوز، وإن كان وجهه إلى مسيل الماء لا يجوز إلا أن يمكث بين كل غرفتين مقدار ما يذهب الماء بغسالته، قالوا: ودلت المسألة على فضيلة أهل..... حيث تجوز طهارة عالمهم وباطنهم. وفي «نظم الزندويستي» إذا توضأ في الماء الجاري وهو كثير أو قليل فالأفضل أن يجعل يمينه إلى أعلى الماء، يعني إلى مورد الماء ويأخذ الماء من الأعلى، وإن لم يفعل كذلك وجعل يمينه أسفل الماء يعني إلى مسيل الماء وأخذ الماء من الأسفل ففي الماء الكثير يجوز، وفي الماء القليل ينبغي أن يتوضأ على التأني والوقار حتى يمر عنه الماء المستعمل وهذا إذا كان الماء لا يجري جرياً عاجلاً. وأما إذا كان جرياً عاجلاً يجوز كيفما فعل، ومشايخ بخارى توسعوا في ذلك وجوزوا كيفما توضأ لعموم البلوى إذا كان الماء كثيراً، أما النهر إذا انقطع من أعلاه وبقي الجريان في أسفل النهر فتوضأ رجل من أسفل النهر جاز لأنه ماء جار. هكذا ذكر في «واقعات الناطفي» وفيه أيضاً عن أبي يوسف ساقية صغيرة فيها كلب ميت قد سدّ عرضها فجرى الماء عليه لا بأس بالتوضؤ أسفل منه، وذكر الناطفي هذه المسألة بعينها في «الأجناس» وأجاب بما أجاب في «الواقعات» ثم قال: وعندي أن هذا قول أبي يوسف. وأما على قول أبي حنيفة ومحمد رحمه الله لا يجوز التوضؤ به، وفي «الطحاوي» و «النوازل» : لو كان القدر الذي يلاقي الجيفة من الماء دون الذي لا يلاقي الجيفة جاز التوضؤ أسفل منه، وإن كان مثله أو أكثر لا يجوز، قال: وإذا كانت الجيفة تُرى من تحت الماء لقلة الماء لا لصفائه كان الذي يلاقيها أكثر إذا كان سدّ عرض الساقية فيها، وإن كانت لا ترى أو لم تأخذ أقل من النصف لم يكن للذي يلاقيها أثر. ونظير ما ذكر في «الطحاوي» و «النوازل» : ماء المطر إذا جرى في ميزاب السطح

وكان على السطح عذرة فالماء طاهر لأن الماء الذي يجري على غير العذرة أكثر، وإن كانت العذرة عند الميزاب إن كان الماء كله أو أكثره أو نصفه يلاقي العذرة فهو نجس وإلا فهو طاهر. وإن كان على السطح نجاسات كثيرة إن كان أكثر الماء يجري على النجاسة أو نصفه فالماء نجس، وإن كان أقل الماء يجري على النجاسة فالماء طاهر، وقال محمد رحمه الله: إن كانت النجاسة في جانب واحد من السطح فالماء طاهر، وكذلك إذا كان في جانبين. وإن كان في ثلاث جوانب فالماء نجس. ورأيت مسألة المطر في بعض الفتاوى وكان المذكور: قال مشايخنا: ماء المطر ما دام يُمطر فله حكم الجريان حتى إذا أصاب العذرات على السطح ثم أصاب ثوباً لا يتنجس إلا أن يتغير. وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله» : المطر إذا أصاب السقف وفي السقف نجاسة فوكف وأصاب الماء ثوباً ننظر إن كانت النجاسة في جميع السقف فجميع ما وكف السقف طاهر فيكون الغالب الماء الطاهر فلا يحكم بنجاسته وعامة السقف طاهر، فما وكف من السقف لا يكون نجساً وتكون العبرة للغالب كماء جار في بعضه نجاسة والغالب هو الطاهر. وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يزيف هذا التفصيل وكان يقول: النجاسة وإن كانت في بعض السقف إلا أن الماء قدم عليها فتنجس فهذا ماء جار نجس ولكن الصحيح أنه ينظر في الذي يسيل من السقف، إن كان مطراً دائماً لم ينقطع بعد فما سال من المنقب فهو طاهر، وأما إذا انقطع المطر وسال من المنقب شيء فما سال فهو نجس. وسئل الفقيه أبو جعفر عن كلب ميت احتبس في نهر والماء يجري في جانبي الكلب قال؛ ينظر إن كان للماء الذي يجري في جانبي الكلب قوة الجريان، ومعناه: أنه لو انفرد يجري بنفسه، يجوز التوضؤ به فكذلك إذا كان الماء يجري على أعلى كلب يجوز التوضؤ به. وإن كان جميع الماء يجري في جميع الكلب وليس في جانبيه قوة الجريان فإنه نجس. وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله لا يفرق بينهما ويقول الماء نجس في الأحوال كلها. وفي «المنتقى» : إذا كان يظن النهر نجساً، وهذه المسألة نظير مسألة «الطحاوي» و «النوازل» والله أعلم. (نوع آخر) في الحياض والغدران والعيون يجب أن يعلم أن الماء الراكد إذا كان كثيراً فهو بمنزلة الماء الجاري لا يتنجس جميعه بوقوع النجاسة في طرف منه إلا أن يتغير لونه أو طعمه أو ريحه. على هذا اتفق العلماء وبه أخذ عامة المشايخ، وإذا كان قليلاً فهو بمنزلة الحباب والأواني يتنجس بوقوع النجاسة فيه وإن لم تتغير إحدى أوصافه. وقال مالك: لا يتنجس ما لم تتغير إحدى أوصافه. وقال الشافعي رحمه الله: فيما دون القلتين مثل قولنا، وإذا بلغ قلتين وزيادة مثل قول مالك. والقلتان: خمس قرب كل قربة خمسون مناً فتكون الجملة مئتان وخمسون، وقد

قيل الجملة ثلاثمئة. وحجة مالك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن بئر بضاعة وما يلقى فيها من النجاسات فقال عليه السلام: «الماء طهور لا ينجسه إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه» فالنبي عليه السلام نفى تنجس المياه إلا بتغير إحدى الأوصاف الثلاثة. حجة الشافعي: قوله عليه السلام: «إذا بلغ الماء قلتين لا يحمل خبثاً» . حجتنا على مالك قوله عليه السلام «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم اليسير ولا يغتسلن فيه عن جنابة» ، والغسل عن الجنابة لا يوجب تغير الطعم واللون والريح، فلولا أن الماء الراكد اليسير يتنجس بوقوع النجاسة فيه على كل حال وإلا لم يكن لهذا النهي معنى وفائدة. قال عليه السلام: «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في إناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده» . أمر بغسل اليد بطريق الاحتياط حال توهم النجاسة، وإدخال مثل هذه اليد في الإناء لا يوجب تغير الطعم واللون والريح، فلولا أن النجاسة إذا كانت متيقنة يتنجس الماء على كل حال وإلا لم يكن لهذا الاحتياط حالة التوهم معنى، ولأن القياس في الكثير أن يتنجس أيضاً لأن الجزء الذي لاقاه النجاسة يتنجس بملاقاة النجاسة إياه كما في غير الماء من المائعات وإذا تنجس ذلك الجزء والذي يجاوره ثم وثم حتى يصير الكل نجساً كما في غير الماء من المائعات لكن تركنا القياس في الكثير لأجل الضرورة لأن صون الكثير بالأواني غير ممكن والضرورة في القليل لأن صون القليل بالأواني ممكن فنعمل في القليل بالقياس وأما حديث بئر بضاعة فليس بثابت، ولو ثبت فهو محمول على أن ماءه كان كثيراً، أو كان جارياً فإنه روي أنه كان يُسقى منه خمسة بساتين أو سبعة بساتين. وحجتنا على الشافعي أن رسول الله عليه السلام حكم بنجاسة ماء البئر بوقوع الفأرة فيه وكذلك الصحابة أجمعوا على نجاسة ماء البئر بوقوع الفأرة وفيه، ماء البئر في العادة تكون أكثر من مئتين وخمسين منّاً. وأما ما تعلق به الشافعي رحمه الله قلنا: لا يصح التعلق به من وجوه فإن في سنده ضعفاً، روي عن علي بن المديني إسناد البخاري أنه قال: لا يصح هذا الحديث عن رسول لله عليه السلام وفي متنه اضطراب، روي «إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاثاً» وروي «إذا بلغ الماء أربعين قلة» ، والقلّة مجهولة تذكر ويراد بها قامة الرجل، وتذكر ويراد بها رأس الجمل وتذكر ويراد بها الجرة، فلا يتعين البعض إلا بدليل، وقوله «لا تحمل خبثاً» يحتمل معنيين. يحتمل ما قاله الشافعي، ويحتمل معنى

(11ب1) الضعف، يعني لا يحتمل النجاسة لضعفه فيتنجس لقلته كما يقال: فلان لا يحتمل الضرب أي يضعف عن تحمل الضرب، وهذه الدابة لا تحتمل هذا الحمل أي لا تطيق حمله، فلا يصح التعليق ... ، وعن أبي يوسف في تأويل الحديث أن تكون عيناً تنبع وهو مقدار القلتين وهو جار ولها معان فتوضأ رجل.... فلا بأس به لأنه في معنى الماء الجاري. وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» رحمه الله: وقال بعض المتأخرين: الوضوء بالماء الراكد لا يجوز وإن كان عشراً في عشر أو أكثر منه، ووجه ذلك: أنا أجمعنا على أن الحوض إذا كان أقل من عشر فإنه لا يجوز التوضؤ فيه وإنما لا يجوز لأن بالاستنجاء يصير الماء نجساً لكونه قليلاً فيحصل الوضوء بالماء النجس. وإذا كان عشراً في عشر فبالاستنجاء يتنجس من ذلك الجانب مقدار ما يتنجس إذا كان أقل من عشرة من ذلك الجانب، فيحصل التوضؤ بالماء النجس ولكن هذا ليس بشيء لأن فيه كلام أن النجاسة إذا كانت غير مرئية هل يتنجس موضع وقوع النجاسة وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.. وإن سلمنا ذلك إلا أنه لا يطهر بالتحريك في حالة الاغتراف لأن الماء النجس يطهر بالاختلاط بالماء الطاهر، ألا ترى أن الماء الراكد في النهر إذا تنجس فنزل من أعلاه ماء طاهر وأجراه وسيّله فلا يطهر، وإنما يطهر باختلاط بالماء الطاهر، وبورود الماء الطاهر عليه فكذا هنا ما بقي من الماء طاهراً وارداً على ما تنجس توسعة الأمر على الناس. ثم لابد من حد فاصل بين القليل والكثير فنقول: إذا كان الماء بحيث يخلص بعضه إلى بعض بأن تصل النجاسة من الجزء المستعمل إلى الجانب الآخر كان قليلاً، وإن كان لا يخلص كان كثيراً. وإذا اشتبه الخلوص فالجواب فيه كالجواب فيما إذا لم يخلص، ثم اتفقت الروايات عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله في الكتب المشهورة بأن الخلوص يعتبر بالتحريك إذا حرك طرف منه إن لم يتحرك الطرف الآخر فهو مما لا يخلص، وإن تحرك الطرف الآخر فهو مما يخلص، فنستدل بوصول الحركة إلى الجانب الآخر على أن النجاسة وصلت إليه، وتقدم وصول الحركة على أن النجاسة لم تصل إليه، وهذا لأنه تقدر معرفة الخلوص بوصول عين النجاسة لأن من النجاسات مما لا يرى وصوله إلى الجانب الآخر كالبول والخمر فيعتبر الوصول بشيء آخر. فأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله اعتبروا الخلوص بالتحريك،

والمتأخرون اعتبروا الخلوص بشيء آخر، فعن أبي نصر محمد بن سلام رحمه الله أنه قال: إن كان الماء بحال لو اغتسل فيه وتكدّر الجانب الذي اغتسل فيه وصلت الكدرة إلى الجانب الآخر فهو مما يخلص بعضه إلى بعض، وأبو حفص الكبير رحمه الله اعتبر الخلوص بالصبغ فقال يلقى فيه الصبغ من جانب، فإن أثر الصبغ في الجانب الآخر فهو مما يخلص بعضه إلى بعض. وأبو سليمان الجوزجاني رحمه الله كان يقول: إن كان عشراً في عشر فهو مما لا يخلص بعضه إلى بعض، وإن كان أقل من ذلك فهو مما يخلص، وعن محمد رحمه الله في «النوادر» أنه سئل عن هذه المسألة فقال: إن كان مثل مسجدي هذا فهو مما لا يخلص بعضه إلى بعض، فلما قام مسح مسجده فكان ثمان في ثمان في رواية، وعشراً في عشر في رواية، واثني عشر في اثني عشر في رواية، وأكثر مشايخ بلخ على أنه إن كان خمسة عشر في خمسة عشر لا تبقى فيه شبهة، وإن كان ثمانية يحتاط فيه، وعامة المشايخ أخذوا بقول أبي سليمان وقالوا: إذا كان عشراً في عشر فهو كبير، وبعضهم اعتمدوا على التحريك لأنه تعذر اعتبار الكدرة والصبغ لأن في النجاسة ما (لا) يرى نحو البول والخمر، فيصل إلى الجانب الآخر قبل وصول اللون والكدرة إليه لأن قدر الصبغ يتفاوت، والكدرة قد تكون وقد لا تكون وتعذر اعتبار المساحة لأن الروايات فيه اختلفت عن محمد، وقد صح أنه رجع عنه فيعتبر التحريك. بعد هذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يعتبر التحريك بالاغتسال لأن حاجة الإنسان إلى الغسل في المياه الجارية والحياض أكثر من حاجته إلى الوضوء، فإن الوضوء يكون في البيوت غالباً. وفي رواية أخرى عنه يعتبر التحريك بالوضوء لأن التحريك بالوضوء أخف، ومبنى الماء في حكم النجاسة على الخفة دفعاً للضرورة، فإن القياس أن يتنجس الكثير، ولكن سقط حكم النجاسة عن الكثير تخفيفاً فلما اعتبر التخفيف في أصل الماء كنّا نعتبر التخفيف في التحريك، وعن محمد رحمه الله أنه يعتبر التحريك بغسل اليد لأن التحريك باليد أخف. قال مشايخنا: وإنما يعتبر تحريك الجانب الآخر من ساعته لا بعد المكث، ولا يعتبر نفس التحرك وحباب الماء، فإن الماء وإن كثر يعلو الحباب ويتحرك، وإنما الشرط أن يرتفع وينخفض من الجانب الآخر من ساعته، وبنحوه روى الحسن عن أبي حنيفة. جئنا إلى بيان مقدار العمق فنقول: ذكر المعلى في «كتابه» : أنه ينبغي أن يكون عمقه قدر ذراعين، وهذا على قول من يعتبر التحريك بالاغتسال لأن على قوله: ينبغي أن يكون الماء بحال يتأتى فيه الاغتسال وذلك قدر ذراعين. وقال بعضهم قالوا: اشترط أن يكون بحال لو رفع إنسان الماء بكفيه لا ينحسر ولا يظهر ما تحته، وقال بعضهم: يشترط أن يكون بحال لو حُرك وجه الماء لا يتكدر ماء وجه الأرض. وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد أبي بكر بن حامد رحمه الله أنه قال: قدّر مشايخنا العمق بأربعة أصابع مفتوحة.

ثم الحوض إذا كان كبيراً بحيث لا يخلص بعضه إلى بعض حتى وقع فيه نجاسة حتى لا يتنجس جميعه هل يتنجس شيء منه؟ فهذا على وجهين: أما إن كانت النجاسة مرئية أو غير مرئية. فإن كانت مرئية لا يتوضأ من الجانب الذي وقعت فيه النجاسة، وإنما يتوضأ من ناحية أخرى كما في الماء الجاري. بعد هذا اختلف المشايخ قال بعضهم: يحرك الماء بيده مقدار ما يحتاج إليه عند الوضوء والاستعمال فإن تحركت النجاسة لم يستعمل الماء من ذلك الموضع. وقال بعضهم: يتنجس حول البعرة مقدار حوض صغير وما رواه ظاهر. وقال بعضهم: يتحرى في ذلك إن وقع تحريه أن النجاسة لم تخلص إلى هذا الموضع توضأ وشرب منه. ويبنى على هذا ما إذا توضأ في بعضه فوجد في النجاسة بعدما فرغ من الوضوء. وأما إذا كانت النجاسة غير مرئية بأن بال فيها إنسان واغتسل فيها جنب، حكي عن مشايخ العراق أنهم قالوا: لا فرق بين النجاسة المرئية وغيرها فإنما يجوز له التوضؤ من جانب آخر. ومشايخ بخارى ومشايخ بلخ رحمهم الله فرقوا بين المرئية وغيرها فقالوا: في غير المرئية يتوضأ من الجانب الذي وقعت فيه النجاسة كما يتوضأ من الجانب الآخر بخلاف المرئية لأن الحوض الكبير بمنزلة الماء الجاري. والجواب في الماء الجاري على هذا الوجه: إن كانت النجاسة مرئية لا يتوضأ من الموضع الذي وقعت فيه النجاسة ويتوضأ من موضع آخر، وإن كانت غير مرئية يتوضأ من أي جانب شاء، بدليل مسألة كتاب الأشربة وقد مرّ ذكرها. وينبني على هذا ما إذا غسل وجهه في حوض كبير فسقط غسالة وجهه في الماء فرفع الماء في موضع الوقوع قبل التحريك. قالوا على قول أبي يوسف لا يجوز ما لم يتحرك الماء؛ لأن الذي وقع فيه الماء مستعمل، والماء المستعمل عنده نجس. وإلى هذا القول كان يميل القاضي الإمام أبو جعفر الاستروشني رحمه الله. وغيره من مشايخ بخارى جوزوا ذلك وجعلوا كالماء الجاري الكثير لما توسعوا فيه لعموم البلوى. ومن هذا الجنس مسألة أخرى وصورتها: إذا كانت به قرحة فغسل الدماء أو القيح فيها أو غسل النجاسة عن موضع من أعضائه أو ثوبه أو استنجى ودفع ذلك في الماء، أما إذا تغير الماء لا شك أنه يتنجس موضع التغير، وإن لم يتغير يدخل فيه شبهة (في) قول أبي يوسف رحمه الله. وفي «أجناس الناطفي» أن من اغتسل من حوض فلا حرج أن يتوضأ في ذلك المكان، وليس لرجل أن يغتسل في الحوض الكبير بناحية الجيفة، وإذا كان الماء في ... أو خندق وله طول مثلاً مائة ذراع وعرضه ذراع أو ذراعان فاعلم بأن في جنس هذه المسألة أقوال ثلاثة، على قول أبي سليمان الجوزجاني يجوز التوضؤ منه. (12أ1) من غير تفصيل به ولو وقع فيه نجاسة يتنجس وطول عشرة أذرع. وقال محمد بن إبراهيم: الكبير إن كان هذا الماء مقدار ما لو جعل في حوض عرضه عشرة في عشرة ملأ الحوض

وصار عمقه قدر شبر يجوز التوضؤ فيه وإلا فلا، وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو بكر طرخان يقول: لا يجوز الوضوء فيه وإن كان من بخارى إلى سمرقند، فقيل له فما الحيلة في جواز الوضوء منه، قال يحفر حفيرة قريباً من الخندق ثم يحفر نهيرة من الخندق إلى الحفرة حتى يسيل الماء من الخندق إلى الحفيرة في النهيرة فيصير الماء في الخندق جارياً فيتوضأ إن شاء من الخندق وإن شاء من النهيرة وهذه حيلة حسنة.Y الحوض الكبير إذا تجمد فثقب إنسان ثقباً فتوضأ فهذه المسألة على أربعة أوجه: الوجه الأولى: أن يخرج الماء من الثقب وصار على وجه الجمد والجواب فيه كالجواب فيما إذا كان على وجه الأرض من اعتبار العرض والطول والعمق. الوجه الثاني: أن يكون الماء تحت الجمد منفصلاً عن الوجه وفي هذا الوجه يجوز التوضؤ منه ويكون الجمد كالسقف. الوجه الثالث: أن يكون الماء تحت الجمد إلا أنه متصل بالجمد، وفي هذا الوجه اختلف المشايخ بعضهم اعتبروا الثقب وقالوا: إن كان ماء الثقب كثيراً على التفسير الذي قلنا يجوز التوضؤ به، وما لا فلا، وبعضهم اعتبروا جملة الماء وقالوا: إذا كان جملة الماء كثيراً على التفسير الذي قلنا يجوز التوضؤ به وما لا فلا، وبه كان يفتي عبد الله بن المبارك والشيخ الإمام الزاهد أبو حفص البخاري رحمهما الله. وعلى هذا جملة التوابيت التي في المشارع، فعند بعض المشايخ يعتبر جملة الماء، وعند بعضهم: بقية ماء التوابيت إذا كان الماء متصلاً بالألواح، واتصال ماء المشرعة بالماء الخارج منها لا ينفع كحوض كبير شعب منه حوض صغير فإنه لا يجوز التوضؤ من الحوض الصغير، وإن كان ماء الحوض الصغير متصلاً بماء الحوض الكبير، وكذلك لا يعتبر اتصال المشرعة بما تحتها إذا كانت الألواح مشدودة. وإن كان الماء أسفل من الألواح المشرعة قلنا: يجوز التوضؤ. والزندويستي رحمه الله اعتمد على الجواز في مسألة الجمد في هذه الصورة ولكن شرط تحريك الماء في كل مرة برفع الماء. الوجه الرابع: أن يكون الماء في الثقب كالماء في الطست، ذكر الزندويستي في «نظمه» : أن التوضؤ منه لا يجوز عند عامة العلماء إلا إذا كان الثقب عشراً في عشر بأن يتنجس الماء الذي في الثقب ثم ذاب الجمد ذكر هذا الفصل في «فوائد شمس الأئمة الحلواني رحمه الله» ، وذكر أن الماء طاهر، وعن أبي يوسف رحمه الله في مشرعة يدخل فيها الماء ويخرج إلا أنه لا تظهر حركة الماء أنه هل يجوز التوضؤ فيها؟ وإن كان الماء لا يذهب كما وقع من يده ويدور فيها فلا خير فيه. وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» رحمه الله: لو توضأ في أعمدة القصب، فإن كان لا يخلص بعضها إلى بعض جاز، قال: واتصال القصب بالقصب لا يمنع اتصال الماء بالماء، وكذا لو توضأ من أرض فيها زرع وبعض الزرع متصل بالبعض يجوز. وإذا توضأ من غدير وعلى جميع وجه الماء ... فقد قيل: إن كان بحال لو حرك يتحرك الماء يجوز.

إذا توضأ في حوض تجمد ماؤه إلا أنه رقيق ينكسر بتحرك الماء جاز وضوءه فيه، وإن كان الجمد على وجه الماء قطعا قطعاً؛ إن كان كثيراً لا يتحرك بتحرك الماء لا يجوز الوضوء به، وإن كان قليلاً يتحرك بتحرك الماء يجوز الوضوء به، بمنزلة ما لو كان على وجه الماء عود لا يتحرك بتحرك الماء لا يجوز الوضوء فيه، وإن كان يتحرك يجوز. الحوض إذا كان أقل من عشر في عشر لكنه عميق فوقعت فيه النجاسة حتى تنجس ثم انبسط وصار عشراً في عشر فهو نجس لأن النجس لا يطهر بالانبساط والتفرق. ولو وقعت فيه النجاسة وهو عشر في عشر ثم اجتمع الماء فصار أقل من عشر في عشر فهو طاهر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله. وفيه أيضاً: حوض هو عشر في عشر قل ماؤه ووقعت فيها نجاسة حتى تنجس ثم امتلأ الحوض ولم يخرج منه شيء لا يجوز التوضؤ به، لأنه كلما دخل الماء تنجس. وفي «الجامع الصغير» : سئل أبو نصر الدبوسي عن غدير كبير لا يكون فيه ماء في الصيف وتروث فيه الدواب والناس ثم يمتلىء في الشتاء ويرفع عنه الناس الجمد ويتوضؤون منه قال: إن كان الماء الذي يدخل الغدير أولاً يدخل على مكان نجس فالماء والجمد نجس وإن كثر الماء بعد ذلك لأنه كلما دخل صار نجساً فلا يطهر بعد ذلك وإن كان كثيراً. وإن كان الماء الذي يدخل الغدير أولاً يدخل على مكان طاهر ويستقر فيه حتى يصير عشراً في عشر ثم انتهى إلى النجاسة فالماء والجمد طاهران لأن الماء صار كثيراً قبل وصوله إلى النجاسة، والماء الكثير لا يتنجس باتصال النجاسة به ما لم يظهر فيه أثر النجاسة. وكذلك الغدير إذا قلّ ماؤه وصار أربعاً في أربع ووقعت فيه نجاسة ثم دخل الماء بأن صار الداخل عشراً في عشر قبل أن يصل إلى النجاسة فهو طاهر وما لا فلا. وفي «نظم الزندويستي» الحوض الكبير الخالي إذا بال فيه صبي أو تغوط ثم جاء الماء وملأه قال أكثر أهل بلخ وأبو سهل الكبير البخاري: الماء نجس، وقال الفقيه أبو جعفر والفقيه إسماعيل بن الحسن الزاهد البخاري: الماء طاهر ويجعل كأنه بال أو تغوط بعد ما قلّ. قال الزندويستي: وبه أخذ مشايخ بخارى، وهكذا أفتى الفقيه عبد الواحد ألف مرة وقعت واقعة من هذا الجنس في زماننا ببخارى. وصورتها: ماء المطر مرّ على النجاسات واجتمع بعد ذلك ودخل حوض خان وهو حوض كبير وماء المطر كان أكثر من ماء الحوض واتفقت أجوبة المفتين أن ماء الحوض لا يتنجس؛ لأن جميع ماء المطر لا يتصل بماء الحوض بدفعة واحدة وإنما يتصل بدفعات وكل دفعة تتصل بماء الحوض، فماء الحوض غالب عليها فلا يتنجس ماء الحوض بها حتى لو صغرت يتصل بماء الحوض بدفعة واحدة أكثر من ماء الحوض يتنجس ماء الحوض إذا كان أعلاه عشرة في عشرة، وأسفله أقل من ذلك وهو ماء يجوز التوضؤ والاغتسال فيه. وإن نقص الماء حتى صار سبعاً في سبع لا يجوز التوضؤ منه وإن كان دون العشر

أن يكون حوله ثمانية وأربعون ذراعاً لأن هذا أقصى ما قالوا فيه فكان أحوط. والمعتبر عند بعض من اعتبر التقدير بالذراع في الحوض ذراع الكرباس، لا ذراع المساحة توسعة للأمر على المسلمين وعند بعضهم: المعتبر ذراع المساحة لأن هذا من الممسوحات، وذراع المساحة في الممسوحات، والأصح أن يقال: يعتبر في حق أهل كل زمان ومكان ذراعهم. فإذا كان أعلى الحوض أقل من عشر في عشر وأسفله عشر في عشر أو أكثر ووقعت نجاسة في أعلى الحوض حكم بنجاسة الأعلى ثم انتقص الماء وانتهى إلى موضع هو عشر في عشر فتوضأ فيه إنسان أو اغتسل هل يجوز؟ صارت هذه المسألة واقعة الفتوى واختلفت فيه أجوبة المفتين، والأصح أنه يجوز التوضؤ والاغتسال فيه ويجعل كأن النجاسة وقعت فيها الآن. وهو نظير الحوض المتجمد إذا كان الماء في ثقبه وبقيته أقل من عشرة في عشرة فوقع في الثقب نجاسة حكم بنجاسة ماء الثقب، ثم إذا سفل الماء كان ذلك الماء طاهراً يجوز التوضؤ، والاغتسال منه كذا هنا. حوض صغير تنجس ماؤه فدخل الماء الطاهر فيه من جانب وسال ماء الحوض من جانب آخر كان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: كما سال ماء الحوض من جانب لآخر يحكم بطهارة الحوض، وهو اختيار الصدر الشهيد رحمه الله. وكان الفقيه أبو بكر بن سعد رحمه الله يقول: لا يحكم بطهارة الحوض حتى يخرج منه ثلاث مرات مثل ما كان في الحوض من الماء النجس، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، ومن المشايخ من شرط خروج مثل ما كان في الحوض من الماء النجس مرة واحدة. حوض صغير يدخل الماء فيه من جانب ويخرج من جانب فتوضأ فيه إنسان، ذكر في «مجموع النوازل» عن الإمام أبي الحسن الرستفضني أنه قال: إن كان أربعاً في أربع فما دونه يجوز التوضؤ فيه، وإن كان أكثر من ذلك لا يجوز إلا في موضع دخول الماء وخروجه، لأن في الوجه الأول ما يقع فيه من الماء المستعمل يخرج من ساعته ولا يستقر فيه ولا كذلك الوجه الثاني. وحكي عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنه سئل عن الماء. إذا كان خمساً في خمس وكان يخرج الماء منه قال: إن كان يتحرك الماء من جوانبه ويستفيض بالحركة يجوز، وسئل القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله عن هذه المسألة وأجاب بالجواز مطلقاً. ففي الحوض الصغير (12ب1) إن كان يدخل فيه الماء من جانب ويخرج من جانب يكون هكذا لأن هذا ماء جار، والماء الجاري يجوز التوضؤ به وعليه الفتوى. وإذا كان على شط النهر أو على شط الحوض مسيل لغدير يدخل فيه الماء من الحوض أو النهر والماء الذي فيه متصل بماء الحوض والنهر، إلا أن جريان الحوض لا يظهر فيه، فتوضأ رجل في ذلك الموضع، إن كان مقدار ما فيه من الماء من حيث الطول يبلغ ذراعين ونصف لا يجوز التوضؤ فيه ولا يجعل ذلك تبعاً للحوض، وإن كان أقل من

ذلك يجوز ويجعل ذلك تبعاً للحوض والنهر هكذا قيل. وقيل: لا يجوز التوضؤ فيه ولا يجعل تبعاً للحوض والنهر على كل حال. حوض صغير كرى رجل منه نهراً وأجرى الماء فيه وتوضأ، ثم اجتمع ذلك الماء في مكان آخر فكرى منه رجل نهراً آخراً وأجرى فيه الماء وتوضأ جاز وضوء الكل إذا كان بين المكانين قليل مسافة وكذلك حفرتان يخرج الماء من إحداهما ويدخل في الأخرى فتوضأ إنسان فيما بينهما، فإن كان بين الحفرتين قليل مسافة فماء الحفرة الثانية طاهر، هكذا قال خلف بن أيوب ونصر بن يحيى، وإن لم يكن بينهما مسافة فماء الحفرة الثانية نجس. وكذلك في الحوض إذا لم يكن بين المكانين مسافة لا يجوز وضوء الثاني. والفرق: أنه إذا كان بين المكانين مسافة فالماء الذي استعمله الأول يرد عليه ماء جار قبل اجتماعه في المكان الثاني فلا يظهر فيه حكم الاستعمال، فأما إذا لم يكن بينهما مسافة فالماء الذي استعمله الأول لا يرد عليه ماء جار قبل أن يجتمع في المكان الثاني فيظهر فيه حكم الاستعمال فلا يطهر بعد. وعلى قياس مسألة الثقب ينبغي أن تشترط المسافة على قول بعض المشايخ. وصورة تلك المسألة: المسافر إذا كان معه ميزاب واسع ومعه إداوة من ماء يحتاج إليه ولا يتيقن وجود الماء لكنه على طمع من ذلك ماذا يصنع؟ قيل: ينبغي أن يأمر أحداً من رفقائه حتى يصب الماء في طرف من الميزاب وهو يتوضأ، وعند الطرف الآخر من الميزاب إناء طاهر يجتمع فيه الماء فإنه يكون الماء طاهراً وطهوراً. هذا قول بعض المشايخ، وبعض المشايخ رفضوا ذلك وقالوا: الماء بالجري إنما لا يصير مستعملاً إذا كان له مدد العين والنهر وما أشبههما أما إذا لم يكن له مدد فلا، ويجوز للرجل أن يتوضأ من الحوض الذي يخاف أن يكون فيه قذر أو لا يستيقن به قبل أن يسأل عنه وليس عليه أن يسأل. ولا يدع التوضؤ حتى يستيقن أن فيه قذر للأثر. وإذا أسِن ماء الحوض وهو كثير ولا يعلم بوقوع النجاسة فلا بأس بالتوضؤ منه لأن الماء قد يتغير بطول الزمان، وقد يتغير بوقوع الأوراق فيه فالتغير لا يدل على وقوع النجاسة فيه لا محالة، فيجوز التوضؤ منه والله أعلم. (نوع آخر) في ماء الآبار البئر عندنا بمنزلة الحوض الصغير يفسد ماؤه بما يفسد به ماء الحوض الصغير لأن عرض الآبار في الغالب يكون أقل من عشر في عشر حتى لو كان بئراً عرضه عشرة في عشرة لا يحكم بوقوع النجاسة فيه ما لم يتغير لون الماء أو طعمه أو أثره. وفي «نوادر ابن رستم» عن محمد رحمه الله أنه قال: اجتمعت أنا وأبو يوسف على أن نحكم على ماء البئر أنه لا يتنجس لأنه ماء جار ثم قلنا: وما علينا أن نأمر بنزح دلاء على ما جاءت به الأخبار حتى نتبع السلف فنكون قد حكمنا فيه بالأمرين. أشار إلى أن قضية القياس بالآبار والآبار تأتي من بعد، وإنما جاء ماء آخر جار لأنه ينبع من جانب ويستخرج من جانب.

وقيل: وأرادا بقولهما ماء جار ماء أُلْحق بالماء الجاري حكماً لأجل الضرورة لأن التحرز عن وقوع النجاسة في البئر غير ممكن. ثم ما يقع في البئر نوعان: نوع لا يفسد الماء، وهذا النوع في نفسه قسمان: قسم يستحب فيه نزح بعض الماء، وقسم لا يستحب فيه نزح شيء من الماء. أما القسم الذي لا يستحب فيه نزح بعض الماء: الآدمي الطاهر، إذا دخل في البئر لطلب الدلو أو للتبرد وليس على أعضائه نجاسة وخرج منها حياً وهذا جواب ظاهر الرواية. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه ينزح عشرون دلواً ويريد به بطريق الاستحباب لأن الماء يلاقي أعضاء الطهارة. وذلك يوجب استعمال الماء لو قصده، واعتبر هذا في إيجاب نزح أدنى ما ورد التقدير بنزحه، وذلك عشرون احتياطاً. وإن كان محدثاً ينزح أربعون لأن الحدث يزول به فصار حكمه أكثر من حكم المتطهر فضوعف في النزح فصار أربعين. وكذلك سائر الجمادات الطاهرة كالخشب الطاهر والحجر الطاهر والمدر الطاهر وأشباهها لا يفسد الماء ولا يستحب نزح شيء منه. وكذلك كل حيوان طاهر السؤر، وما ينفصل عنه نحو الحمام وما أشبهه إذا وقع فيه وأُخرج حيّاً لا ينزح منه شيء. وأما القسم الذي يستحب فيه نزح بعض الماء: إذا وقع في البئر فأرة أو عصفور أو دجاجة أو سنور أو شاة وأخرجت منها حيّة لا ينجس الماء. ولا يجب نزح شيء منه، وهذا استحسان لأن هذه الحيوانات ما دامت حيّة فهي طاهرة. والقياس أن يتنجس البئر بوقوع واحد من هذه الحيوانات فيه وإن أخرج حياً لأن سبيل هذه الحيوانات نجس فتحل النجاسة في الماء فيوجب تنجس الماء، لكن تركنا القياس لحديث رسول الله عليه السلام. وآثار الصحابة فإنهم لم يعتبروا نجاسة السبيل حتى يأمروا بنزح بعض ماء البئر بعد موت الفأرة ولو اعتبروا نجاسة السبيل لأمروا بنزح جميع الماء، ولكن مع هذا إن كان الواقع فأرة يستحب لهم أن ينزحوا عشرين دلواً. وإن كان الواقع سنوراً أو دجاجة مخلاة يستحب لهم أن ينزحوا أربعين دلواً؛ لأن سؤر هذه الحيوانات مكروه على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى. والغالب أن الماء يصيب فم الواقع حتى لو تيقنا أن الماء لم يصب فم هذه الحيوانات لا ينزح شيء من الماء، فإن كانت الدجاجة غير مخلاة لا ينزح منها شيء. هذا الذي ذكرنا كلّه ظاهر الرواية. وفي «النوادر» عن أبي يوسف رحمه الله في مسألة الشاة روايتان. في رواية قال: لا ينزح منه شيء كما هو جواب ظاهر الرواية. وفي رواية قال: ينزح ماء البئر كلّه، وعلق لهذه الرواية فقال: لأن البول الذي يجري على فخذيها ورجليها فيها، فكان المراد من الرواية الأخرى ومن ظاهر الرواية: إذا لم يكن على فخذيها ورجليها بول. وفي «القدوري» : الشاة التي تلطخ فخذها ببولها إذا وقعت في البئر قال أبو حنيفة رحمه الله: ينزح عشرون دلواً لأن نجاسة بولها خفيفة توجب إظهار الحرمة في إيجاب

نزح أدنى ما ورد التقدير به، وقال أبو يوسف: تنزح جميعها لأن أثر حرمة النجاسة يظهر في الثوب دون الماء، ألا ترى لو وقع فيه فرس فأخرج حياً فعلى قولهما لا ينزح شيء منها لأن عينه طاهر عندهما وسؤره كذلك. وعلى قول أبي حنيفة ينزح منها دلاء بطريق الاستحباب لأنه طاهر في نفسه وهو لا يلطخ فخذه ببوله إلا أن سؤره مكروه على إحدى الروايتين عنه فينزح دلاء لهذا، ثم في كل موضع كان النزح مستحباً لا ينقص من عشرين دلواً، إليه أشار محمد رحمه الله في «النوادر» برواية إبراهيم عنه. وصورة ما ذكر في «النوادر» فأرة أو هرة أو دجاجة مخلاة وقعت في بئر فأخرجت منها حيّةً قال: إن توضأ منه أجزأه وأحب إليّ أن ينزح منها عشرون دلواً، ثم قال: ولا يكون النزح في شيء من الأشياء أقل من عشرين دلواً. فقد قدّر النزح في هذه المسألة بعشرين دلواً. والنزح في هذه المسألة بطريق الاستحباب ثم عطف عليه قوله: ولا يكون النزح في شيء أقل من عشرين دلواً، فيعلم بدلالة الحال أنه أراد بقوله ولا يكون النزح أقل من عشرين النزح المستحب. وقال أبو يوسف رحمه الله: النزح الواجب لا يكون أقل من عشرين، أما النزح المستحب يكون أقل من عشرين، ولا يكون أقل من عشرة، ألا ترى أنه قال في السّنور ينزح عشر دلاء أو نحو ذلك بطريق الاستحباب (13أ1) . النوع الثاني: وهو الذي يفسد ماء البئر أقسام. قسم يفسد جميع ماء البئر لا محالة، وقسم يفسد جميع ماء البئر على أحد الاعتبارين، وقسم فيه اختلاف، وقسم يفسد بعض الماء. أما القسم الأول: فسائر النجاسات، نحو بول الآدمي ورجيعه، وبول ما لا يؤكل لحمه من الحيوانات على الاتفاق، وبول ما يؤكل لحمه على الخلاف. وسيأتي بيان النجاسات بعد هذا في فصل على حدة، وكذلك إذا وقع فيه خمر أو ما سواها من الأشربة التي لا يحل شربها وكذلك إذا وقع فيه خنزير أو سبع وجب نزح جميع الماء. وكذلك لو دخل في البئر جنب أو محدث لطلب الدلو وعلى أعضائه نجاسة بأن لم يكن مستنجياً أو كان مستنجياً بالخذف ينزح جميع الماء، وكذلك إذا وقع كافر في البئر وأخرج حيّاً نزح ماء البئر كلّه. ذكره في «كتاب الصلاة» للحسن. وكذلك السقط إذا وقع في البئر قبل الغسل أو بعده ينزح ماء البئر كله، وذكر ابن رستم في السقط كذلك وفيما استهل قبل الغسل كذلك. وذكر فيما استهل بعد الغسل أنه لا يفسد الماء. وفي «فتاوى أبي الليث» عن أبي القاسم الصفار: في الإنسان الميّت وقع في البئر يفسد الماء غسل أو لم يغسل. وكذلك إذا وقع شيء من الحيوانات في البئر ومات وانتفخت يجب نزح ماء البئر كله لأنه ينفصل منه بلّة نجسة وتلك البلّة مائعة. ومتى وقع في البئر نجس مائع وجب نزح ماء البئر كله لأن النجاسة تصير مجاورة للماء كله فيجب إخراج الكل، كما لو وقع فيه قطرة من خمر أو بول. وعن هذا قلنا: لو وقع ذنب الفأرة في البئر يجب نزح جميع الماء، لأنها لا تخلو

عن بلة وتلك البلّة بانفرادها، لو وقعت في الماء وجب نزح جميع الماء، وكذلك إذا وقع فيها آدمي طاهر ومات فيها، يجب نزح ماء البئر كلّه انتفخ أو لم ينتفخ. فقد روي أنه وقع زنجي في ماء زمزم ومات فأمر عبد الله بن عباس بأن تُسدّ منابع الماء وينزح جميع الماء. وكذلك لو كان الواقع في البئر شاة أو كلب ومات وانتفخ أو لم ينتفخ، وجب نزح الماء كله، لأن جثة الشاة والكلب تعدل جثة الآدمي وقد ورد الأثر الآدمي بنزح جميع الماء، وكذلك إذا كان الواقع بغل أو حمار أو فرس ومات وانتفخ أو لم ينتفخ ينزح جميع الماء. القسم الثاني الحمار والبغل إذا وقع في البئر وأخرج قبل أن يموت، فإن أصاب الماء فمه ينزح جميع الماء، وإن لم يصب فمه لا يجب نزح شيء لأن سؤرهما مشكل فيصير ماء البئر باتصاله بسؤرهما بمنزلة سؤرهما. القسم الثالث الكلب إذا وقع في الماء فأخرج حيّاً؛ إن أصاب فمه الماء فهو من جملة القسم الأول يجب نزح جميع الماء، وإن لم يصب فمه الماء فعلى قولهما يجب نزح جميع الماء لأن عين الكلب نجس عندهما حتى قالا: إذا وقع الكلب في ماء وخرج وانتفض فأصاب ثوباً أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة فيه. وعن أبي حنيفة رحمه الله في «الكتاب» إذا وقع في الماء ثم خرج حيّاً أنه لا بأس به، وهذه إشارة إلى أن عين الكلب ليس بنجس. وقال أيضاً: في كلب وقع في ماء وخرج حيّاً، فاعجنوا منه فلا بأس بذلك، هكذا روى ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمه الله، وفي «الجامع الأصغر» إذا وقع الكلب في البئر لم يتنجس الماء. وقال غيره: يتنجس. وفي «فتاوى أبي الليث رحمه الله» : كلب مشى على الثلج فوضع إنسان رجله على ذلك الموضع أو جعل ذلك الثلج في المثلج فإن لم يكن رطباً ويقال بالفارسية أن تاك لا بأس به، وإن كان رطباً فهو نجس لأن عينه نجس، وكذا إذا مشى على طين وردغة فوضع إنسان رجله على أثر رجله تنجس رجله لأن عينه نجس. وفيه أيضاً: الكلب إذا دخل الماء ثم خرج وانتفض فأصاب ثوب إنسان أفسده، ولو أصابه ماء مطر وباقي المسألة بحالها لم يفسده لأن في الوجه الأول الماء أصاب جلده وجلده نجس، وفي الوجه الثاني: أصاب شعره وشعره ليس بنجس. وذكر مسألة المطر في موضع آخر وفصلها تفصيلاً فقال: إن أصاب المطر جلده يمنع جواز الصلاة وإن لم يصب جلده لا يمنع جواز الصلاة. القسم الرابع إذا ماتت فأرة أو عصفور في بئر فأخرجت حين ماتت قبل أن تنتفخ فإنه ينزح منها عشرون دلواً إلى ثلاثين بعد إخراج الفأرة، والعشرون على سبيل الحتم، والزيادة على

سبيل الاحتياط. ولو توضأ بماء البئر إنسان قبل نزح العشرين لا يجوز، وكان يجب أن يجوز التوضؤ به بعد إخراج الفأرة إذا لم تكن قد انتفخت؛ لأن الماء بوقوع النجاسة فيه، إنما تنجس بمجاورة أجزاء النجاسة أجزاء الماء وإذا أخرجت الفأرة من ساعته لم يبق من أجزائها في الماء شيء، فكان يجب أن لا يحكم بنجاسة الماء متى أخرجت وهي ميتة كما لا يحكم بنجاسته متى أخرجت وهي حيّة إلا أنا تركنا القياس بالآثار.Y روى القاضي الإمام أبو جعفر والفقيه أبو علي الحافظ بإسنادهما عن رسول الله عليه السلام أنه قال في الفأرة: «إذا وقعت في البئر فماتت فيه فأخرجت من ساعته أنه ينزح منها عشرون دلواً أو ثلاثون» . وعن علي رضي الله عنه أنه قال: في الفأرة إذا وقعت في البئر فماتت فيها فأخرجت: ينزح منها سبع دلاء، وفي رواية ينزح منها دلاء ولا يفسد بئر في هذه الرواية. وفي رواية ينزح منها عشرون دلواً أو ثلاثون، وفي رواية ينزح منها ثلاثون دلواً، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الفأرة إذا وقعت في البئر وماتت فيها إنه ينزح منها أربعون دلواً فتركنا القياس بهذه الآثار. والسلف اتفقوا على هذا أيضاً فتركنا القياس اتباعاً لقولهم أيضاً. وقد روى ابن أبي مالك عن أبي يوسف أنه قال: ناظرت أبا حنيفة في الفأرة تموت في البئر فأخرجت من ساعته، فاتفق رأينا أنه لا يجب نزح شيء بعد إخراج الفأرة إلا أنا حكمنا بنجاسة الماء بالآثار، أشار إلى أنه ترك القياس بالآثار وأقوال السلف، ثم إنما قدرنا بالعشرين لأنها أوسط الأعداد التي ذكرت في الآثار، والقياس بعد ما جرى الحكم بنجاسة البئر أحد الشيئين. أمّا ما قاله بشر أنه يطم البئر طماً ويحفر في موضع آخر، ولا يحكم بطهارته بالنزح لأنه يتقاطر من الدلو في البئر وتلك القطرات نجسة فوجب تنجس الماء ولأن غاية ما في الباب أنه ينزح جميع الماء ويبقى الطين والحجارة نجساً ولا يمكن كنسه ليغسل فيطم لهذا وما نقل عن أبي يوسف رحمه الله أنه ينبغي أن يحكم بطهارة الماء إذا نزح منها دلو واحد أو اثنين أو ثلاثاً؛ لأنه كلما نزح من أعلاه يبقى في أسفله فيصير بمعنى الماء الجاري لكن تركنا كلا القياسين اتباعاً للآثار ولأقوال السلف على نحو ما بيّنا وهو معنى ما ذكر ابن رستم في «نوادره» لا يؤخذ في البئر شيء من القياس. ونوع من المعنى يدل على الفرق بين الماء الجاري والذي لا يخلص بعضه إلى بعض وبين ماء البئر: أن الشيء إذا أصابته النجاسة لا يحكم بطهارته إلا بإزالة النجاسة عن الموضع الذي أصابته كما في غير الماء، إلا أنه لا يمكن اعتبار حقيقة الإزالة في الماء فتعتبر الإزالة بقدر الإمكان، فقيل: متى كان الماء جارياً ورد الطاهر على النجس وأزالها عن موضعها، فحكم بالطهارة بطريق زوال النجاسة بقدر الإمكان، وكذلك في الماء الذي لا يخلص بعضه إلى بعض فالطاهر اعتبرو

على النجس، لأن الجانب الذي وافته النجاسة إن يتنجس بالجانب الآخر بقي طاهراً، فيرد على هذا الماء النجس ماء طاهر فيطهر بإزالة النجاسة عن موضعها، فكان هذا قولاً بإزالة النجاسة عن الماء بعد ما تنجس بقدر الإمكان. ولا يمكن اعتبار هذا المعنى في البئر لأن ماء البئر لا يرد عليه ماء طاهر لأن جوانب البئر قد تنجس بوقوع النجاسة فيه، فلا يمكن اعتبار الإزالة عن موضع الإصابة إلى موضع آخر لم يصبه، فاعتبرت الإزالة بالإخراج من الوجه الذي ورد به الأثر. ثم جعل في «الكتاب» العصفور بمنزلة الفأرة لأنه في الجثة مثل الفأرة، فالتقدير الوارد في الفأرة يكون وارداً في العصفور. وإن كان الواقع في البئر سنوراً أو دجاجة فأخرجت ساعة ما ماتت ينزح أربعون (13ب1) أو خمسون، في «ظاهر الرواية» أربعون على طريق الحتم والإيجاب، وخمسون على طريق الاستحباب لأن السنور يعدل الدجاجة في الجثة وقد ورد الأثر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في الدجاجة تموت في البئر أنه ينزح أربعون دلواً فيكون وارداً في السنور دلالةً. ففي «ظاهر الرواية» جعل جنس هذه المسائل على ثلاث مراتب: بعضهم أوجب نزح عشرين دلواً إلى ثلاثين، وذلك العصفور والفأرة وأشباههما، وفي بعضهما أوجب نزح ماء البئر كلّه وذلك في الشاة والآدمي، وفي بعضها يجب نزح أربعين دلواً أو خمسين وذلك السنّور والدجاجة ونحوهما. وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله جعل جنس هذه المسائل على مراتب ثلاث ما ذكرنا والرابعة أوجب في الفأرة التي هي صغيرة الجثة وفي.... عشر دلاء والخامسة أوجب في الحمامة نزح ثلاثين دلواً. وإذا وقع في البئر بعرة أو بعرتان من بعر الإبل أو الغنم فأخرجت قبل التفتت لم يتنجس البئر وإن أخرجت بعد التفتت تنجس البئر وهذا استحسان والقياس أن يتنجس البئر على كلّ حال لأن هذه نجاسة وقعت في ماء قليل فتنجسه كما لو وقعت في وعاء ووعاء الماء قليل. وللاستحسان وجهان: أحدهما: الضرورة والبلوى بيان ذلك أن آبار الفلوات ليس لها روشن حاجز والإبل والغنم تسقى بها فتبعر حولها فتسقط في البئر أو الرياح تلقيها في البئر، فلو حكمنا بالنجاسة لضاق الأمر على الناس. والثاني: أن البعر شيء صلب متماسك لا يمازج الماء منه شيء، والمشايخ فيما بينهم اختلفوا منهم من اعتبر الوجه الأول ومنهم من اعتبر الوجه الثاني.

وأما سائر الأوعية فعلى الوجه الأول نجسه لأنه لا ضرورة ولا بلوى في سائر الأوعية، وعلى الوجه الثاني لا تنجسه لأن كونه صلباً لا يختلف. وإذا خرج من الجب بعرة فعلى الوجه الأول يحكم بنجاسته وعلى الوجه الثاني لا يحكم بنجاسته. وأما إذا كان الواقع نصفاً فعلى الوجه الأول لا ينجسه لأن البلوى والضرورة لا تفصل بين الصحيح والنصف وعلى الوجه الثاني ينجسه لأن الماء تداخل أجزاؤه من الجانب الذي انكسر. وأما إذا كان البعر رطباً فنقول: في «ظاهر الرواية» لم يفصل بين الرطب واليابس وكأن في «ظاهر الرواية» اعتبر الوجه الأول لأن الريح الشديد يقوى على نقل الرطب وعليه كثير من المشايخ، وعن أبي يوسف رحمه الله في «الأمالي» : أن الرطب بعيد وكأنه لم يعتبر الضرورة والبلوى في اليابس على هذه الرواية إنما اعتبر الوجه الثاني وبهذه الرواية أخذ بعض المشايخ. ووجه هذه الرواية: أن الرطوبة تمزج بالماء وتلك الرطوبة نجسة وهذا القائل يقول: بأن الرطوبة التي على البيضة والسخلة نجسة إلا أنها إذا يبست طهرت، ومن اعتبر الوجه الأول في البعرة إذا كانت يابسة يقول: البلة التي على الرطبة طاهرة لأنها بلة الأمعاء وهذا القائل يقول: البلة التي على السخلة والبيضة طاهرة، وهذا كله إذا كانت البئر في المفازة. فأما إذا كانت في المصر فقد اختلف المشايخ فيه فمن اعتمد على الوجه الأول يقول: نجسة لأنه لا ضرورة ولا بلوى في الأمصار لأن الآبار في الأمصار لا تخلو عن حاجز حولها فلا يقع فيها شيء ومن اعتمد على الوجه الثاني يقول: لا تنجسه، لأن الوجه الثاني لا يوجب الفصل بين المصر والمفازة، وهذا كلّه إذا كان البعر قليلاً. وأما إذا كان كثيراً فإنه ينجس الماء لأنه لا ضرورة في الكثير. وقد اختلفت الروايات في الحد الفاصل بين القليل والكثير، والمروي عن أبي حنيفة رحمه الله أن ما استكثره الناس فهو كثير وما استقلّه الناس فهو قليل، وعن محمد رحمه الله أنه إن كان بحال يأخذ ربع وجه الماء كان كثيراً، وإن كان أقل من ذلك فهو قليل، ومن المشايخ من قال: إن كان بحال لو جمع يأخذ ثلث وجه الماء فهو كثير وما دونه قليل، ومن المشايخ من قال: إن أخذ وجه جميع الماء فهو كثير، ومنهم من قال: إن كان لا يخلو دلو عن بعرة فهو كثير، وإن كان يخلو فهو قليل. ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» روث الحمار وخثي البقر، وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: ينجسه على كل حال، يريد به قليلاً كان أو كثيراً، رطباً كان أو يابساً، وقال بعضهم: إن كان من روث الحمار شيئاً مدور مستمسكاً فهو والبعر سواء، وكذلك إن كان من خثي البقر شيئاً صلباً مستمسكاً فهو والبعر سواء. وأكثر المشايخ على أنه تعتبر فيه الضرورة والبلوى إن كان فيه ضرورة وبلوى لا يتنجس، وإن لم يكن فيه ضرورة وبلوى يتنجس.

وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف في روثة رطبة وقعت في بئر قال: ليستقى منها عشرون دلواً، وإن وقعت وهي يابسة فابتلت وتفرقت فكذلك، وإن أخرجت يابسة فلا شيء وعن الحسن بن زياد رحمهما الله في السرقين والبعر والأخثاء إذا وقع في الماء لم يتوضأ منه وهو قول أبي يوسف ما خلا البعرة اليابسة. وقال أبو حنيفة رحمه الله في اليابس من البعر يقع في الإناء أو البئر لا بأس به إذا كانت واحدة أو اثنتين، وإن كان كثيراً أفسد، وإن كان رطباً فقليله وكثيره يفسد، وهذه الرواية توافق ما ذكرنا من رواية أبي يوسف. والسرقين قليله وكثيره يفسد. وقال أبو يوسف رحمه الله: إلا أني استحسن شيئاً لا أحفظه عن أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا كان يسيراً لا يفسده. وعن ابن المبارك عن أبي حنيفة رحمه الله في الأبعار الرطبة وبول ما يؤكل لحمه: إذا وقع في البئر يفسد الماء. وإذا حلب شاة أو ضأناً فوقع بعره في المحلب حكي عن المتقدمين من المشايخ أنهم توسعوا في ذلك، إذا رمي من ساعته، وهكذا ذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» والمتأخرون اختلفوا فيه. وإذا وقع في البئر خرء الحمام أو خرء العصفور لا يفسده، وهذا مذهبنا لما روي عن ابن مسعود رضي الله أنه ذرق عليه حمامة فأخذ حصاة ومسح بها وصلى ولم يغسل، وهكذا روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ولأن هذا الحيوان يذرق من الهواء فلا يمكن التحرز عن خرئه. وهنا لو جعلناه مانعاً جواز الصلاة ضاق الأمر على الناس وبهذا الحرف يقع الفرق بين خرء هذه الحيوانات وبين خرء الدجاج لأن الدجاج لا يذرق من الهواء، فيمكن التحرز عن خرئه فلو جعلناه مانعاً جواز الصلاة لا يضيق الأمر عن الناس. وأما خرء البط فقد ذكر القاضي صدر الإسلام رحمه الله في «شرح الجامع الصغير» وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب الصلاة أن البط صنفان: صنف يعيش فيما بين الناس ولا يطير كالدجاج فيمكن التحرز عن خرئه فيكون الجواب فيه كالجواب في الدجاج. وصنف لا يعيش فيما بين الناس ويطير ويذرق من الهواء فلا يمكن التحرز عن خرئه فيكون الجواب فيه كالجواب في الحمام والعصفور.

ولو وقع في البئر أكثر من فأرة واحدة فالمروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ينزح عشرون دلواً إلى الأربع. فإذا كانت خمساً ينزح أربعون إلى التسع، فإذا كانت عشراً ينزح ماء البئر كلّه. وعن محمد رحمه الله: أن الفأرتان كفأرة والثلاث كالحمامة. وإذا توضأ رجل في بئر وصلى إماماً ثم وجد فيها فأرة ميتة أو دجاجة ميتة فإن علم وقت وقوعها يعيد الوضوء والصلاة من ذلك الوقت بالإجماع؛ لأنه علم أنه صلى بغير وضوء، والصلاة بغير وضوء لا تجوز. أما إذا لم يعلم وقت وقوعها فالقياس أن لا يجب عليه إعادة شيء من الصلاة ما لم يتيقن أنه توضأ منها وهو فيها، سواء وجدها منتفخة متفسخة أو لا. وبه أخذ أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إلا أن حنيفة رحمه الله استحسن وقال: إن وجدها منتفخة متفسخة يعيد صلاة ثلاثة أيام ولياليها، وإن وجدها غير منتفخة يعيد صلاة يوم وليلة. قال بشر قال أبو يوسف: كان قولي قول أبي حنيفة حتى رأيت يوماً في بستاني حدأة في منقارها فأرة ميتة طرحتها في بئر الماء فرجعت عن قوله. وفي «الإملاء» قال أبو يوسف: الفأرة كانت ميتة منتفخة ألقاها صبي ساعتئذٍ فلا يعيد (14أ1) الصلاة حتى يعلم أنه توضأ وهي فيها، وكذلك ما عجن من العجين بذلك الماء، القياس أن لا بأس بأكله ما لم يعلم أنه عجن به وهي فيه، وبه أخذ محمد رحمه الله، وفي الاستحسان: إن كانت منتفخة متفسخة لا يؤكل ما عجن من ذلك منذ ثلاثة أيام. وإن كانت غير منتفخة لا يؤكل ما عجن من ذلك منذ يوم، وبه أخذ أبو حنيفة. عن أبي يوسف رحمه الله روايتان: في «الأصل» قوله كقول محمد، وفي «الإملاء» كقول أبي حنيفة. وجه القياس: أنا تيقنا بطهارة الماء في الأصل وتيقنا بنجاسته في الحال وشككنا في نجاسته من قبل (أنه) إن وقعت وهي منتفخة لا تكون النجاسة ثابتة من قبل، وإن وقعت وهي حيّة ثم ماتت وانتفخت كانت النجاسة ثابتة من قبل فلا تثبت نجاسته من قبل بالشك. وجه الاستحسان: أن الماء سبب لموت الحيوان الدموي فيه فيضاف إليه، وإن احتمل الموت بغيره كمن جرح إنساناً ومات يحال بالموت على الجرح وإن احتمل الموت بغيره غير أنه كما وقع لا يموت فلا بد من التقدير بشيء، فقدرنا الوقوع والموت بلا انتفاخ بيوم وليلة لأن له حكماً في باب الصلاة من سقوط الترتيب وغيره، ولأن ما دونه ساعات لا يمكن التقدير بها، وقدرنا الوقوع والموت مع الانتفاخ بثلاثة أيام ولياليها لأن الانتفاخ لا يحصل بيوم واحد غالباً ويحصل بثلاثة أيام، ألا ترى أن الميت إذا دفن قبل الصلاة عليه يُصلى عليه في القبر إلى ثلاثة أيام، ولا يجوز بعدها لأن الصلاة شرعت على البدن لا على الأعضاء، وقبل الثلاث البدن لا يتفرق وبعد الثلاث يتفرق. وإن رأى في ثوبه نجاسة ولا يدري متى أصابته، ستأتي هذه المسألة في كتاب الصلاة مع ما فيها من اختلاف الروايات إن شاء الله تعالى.

وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد: لو ماتت فأرة في ماء في طست ثم صب ذلك الماء في بئر ينزح عشرون دلواً وهو قول أبي يوسف رحمه الله، وذكر بعد هذه المسألة: لو ماتت فأرة في حُبّ فأريق في البئر ماء الحب، قال محمد رحمه الله ينزح من البئر أكثر من عشرين دلواً وكما في الحب من الماء، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان: في رواية قال: ينزح مثل ماء الحب وثلاثون دلواً، وقال في رواية أخرى ينزح مثل ماء الحب وعشرون. ثم في كل موضع وجب نزح جميع الماء ينزح حتى يغلبهم ماؤه ولم يقدر أبو حنيفة رحمه الله في الغلبة شيء وإنما يعمل فيه بغالب الظن، وهذا أصل ممهد له في مسائل كثيرة هكذا ذكر «القدوري» ، ومعنى المسألة: أنه إذا وجب نزح جميع الماء وأخذوا في النزح فكلما نزحوا نبع من أسفله مثل ما نزحوا أو أكثر، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: عليهم أن ينزحوا مقدار ما يغلب على ظنهم أنه جميع ما كان فيه عند ابتداء النزح، وعنه في «النوادر» أنه ينزح منها مائتان، وفي رواية مائة، فإذا نزحوا هذا المقدار يحكم بطهارة البئر، وعن محمد رحمه الله في «النوادر» روايتان: في رواية قال: مائتا دلو أو ثلاثمائة. وفي رواية قال: مائتان وخمسون. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ينزح مقدار ما كان فيها من الماء، وقيل في طريق معرفة ذلك أن يرسل قصبة في البئر ويُعلّم على مبلغ الماء علامة ثم ينزح منها دلاء فينظر كم انتقص فينزح بقدر ذلك، وقيل: ينظر إلى عمق البئر وعرضه ثم يحفر حفرة مثل ذلك ثم ينزح الماء من البئر ويصبّ في تلك الحفيرة فإذا امتلأت الحفيرة علم أنهم نزحوا مقدار ما كان فيها. وعن أبي نصر محمد بن محمد بن سلام: أنه ينظر إلى ماء البئر رجلان لهما بصارة في أثر الماء، فأي مقدار قالا إنه في البئر فإنه ينزح في ذلك المقدار، وهذا القول يريب بما حكينا من قول أبي حنيفة رحمه الله في الابتداء. ثم إذا وجب نزح جميع الماء فلم ينزح حتى زاد الماء فقد اختلف المشايخ فيه: قال بعضهم: ينزح مقدار ما كان في البئر وقت وقوع النجاسة وقال بعضهم: مقدار ما فيه وقت النزح، وكذلك اختلفوا في التوالي في النزح: فبعضهم شرطوا التوالي، وبعضهم لم يشترطوا، ثم على قول من لا يشترط التوالي إذا نزح بعض الماء في اليوم وتركوا النزح ثم جاؤوا من بعد فوجدوا الماء قد ازداد فعند بعضهم ينزح كل ما فيه وعند بعضهم: مقدار ما بقي عند ترك النزح من الأمس. ثم عند بعض المشايخ يعتبر في كل بئر دلو ذلك البئر، وقال القدوري في «كتابه» : يعتبر الدلو المعتاد الوسط. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه قدره بما يسع صاعاً ليتمكن كل أحد من النزح من رجل أو امرأة أو صبي. ولو جاؤوا بدلوٍ عظيم يسع عشرين دلواً بدلوهم فاستقوا به جاز. قال القدوري: وهو أحب إليّ، وقال زفر والحسن بن زياد: لا يجوز، هما يقولان: الطهارة معلقة بعدد معلوم شرعاً بخلاف القياس فيراعى عين ما ورد به النص.

ولنا: أن النزح إنما وجب لمجاوزة بعض الماء الواقع في البئر، وفي حق هذا المعنى لا فرق بين أن يؤخذ ذلك بدلو عظيم واحد أو بعشرين دلواً بل هذا المعنى في الدلو العظيم أظهر لأن الفضل العائد إلى البئر منه أقل فلهذا قال: وهو أحبّ إليّ. وإذا نزح الماء وحكم بطهارة البئر حكم بطهارة الدلو والرشاء؛ لأن نجاستهما كانت بنجاسة البئر، فطهارتهما تكون بطهارة البئر، ألا ترى أن الخمر التي في الحب إذا صارت خلاً وحكم بطهارته يحكم بطهارة الحب تبعاً، وكذلك إذا غسل يده النجس من قمقمه وحكم بطهارة اليد يحكم بطهارة العروة بطريق التبعية. قال في «القدوري» : وإذا جفت البئر ونضب ماؤها ثم عاد لم يطهر إلا بالنزح في قول أبي يوسف لأن الطهارة معلقة بالنزح بالآبار، وقال محمد رحمه الله تطهر بالجفاف لأن النزح ما كان واجباً لعينه وإنما كان ليذهب ما جاور النجاسة من الماء، وهذا المعنى في الجفاف أبين، وإذا نزح الماء وبقي الدلو الأخير؛ إن كان في الماء ولم ينح عن رأس الماء لا يجوز التوضؤ من ماء البئر وإن خرج من البئر ونحي عن رأس الماء إلا أنه لم يصب بعد جاز التوضؤ من البئر، وإن نحي عن رأس الماء إلا أنه لم ينح عن رأس البئر لم يجز التوضؤ من البئر في قول أبي يوسف رحمه الله حتى ينحى عنها. وقال محمد رحمه الله يجوز، وذكر الحاكم قول أبي حنيفة مع قول أبي يوسف وليس بمشهور. وجه قول محمد: أن الطهارة موقوفة على إخراج هذا القدر من الماء وقد وجد ما يعود إليه من القطرات عفواً بالإجماع، فلا يتغير به الحكم، ولأبي يوسف رحمه الله أن الماء النجس متصل بالبئر حكماً بدليل أن التقاط لا تصير دلواً والاتصال لا يفسد ماء البئر لوقوع النجس في البئر فصار بقاء الاتصال حكماً كبقائه حقيقة وذلك يمنع التوضؤ في البئر فكذا الاتصال حكماً. ذكر الناطفي رحمه الله في «هدايته» : أن حكم النجاسة لا يختلف باختلاف الآبار فيما يطهر البئر الأول يطهر البئر الثاني، كماء النجاسة لو انتقلت من ثوب إلى ثوب آخر لا يختلف حكم إزالتها. هذا لفظ الناطفي. بيان هذا فيما ذكر في مسألة «الأصل» : إذا وقعت فأرة في البئر وماتت فنزح منها دلو وصب في بئر آخر نزح منها عشرون دلواً لأن ماء هذا الدلو لو كان في البئر الأول لا يطهر البئر الأول إلا بنزح عشرين دلواً كذلك في الثاني. ولو صب الدلو العاشر في البئر الثاني نزح من الثاني عشر دلاء في رواية أبي سليمان، وفي رواية أبي حفص ينزح أحد عشر دلواً، وهذا ظاهر لأن الدلو العاشر لو كان في البئر الأول لا يطهر إلا بنزح أحد عشر دلواً، كذا في البئر الثاني، وذكر في رواية أبي سليمان أنه ينزح منها عشر دلاء. ولا فرق بين الروايتين من حيث المعنى؛ لأن مراد أبي سليمان من قوله عشر دلاء ما وراء الدلو العاشر، وهو مقدار ما يطهر به البئر الأول. ولو وقعت فأرة في بئر، وفأرة أخرى في بئر أخرى، وفأرة أخرى في بئر ثالث، ثم

نزح من كل بئر منها عشرون بعد إخراج الفأرة، وصب الكل في البئر الثالث، فإنه ينزح من البئر الثالث أربعون دلواً. ينظر إلى ما وجب في البئر الثالث، وإلى قدر المصبوب فيها فينزح قدر المصبوب ويسقط حكم ما وجب فيه، كنجاسة على الثوب زيادة على قدر الدرهم أصابته نجاسة أخرى، كان حكمها وحكم ما لم يكن عليه نجاسة سواء، فكذا في البئر المصبوب فيه حكم البئرين اللتين أخرج منهما الماء فيكتفي بأربعين دلواً (14ب1) من كل واحد عشرون دلواً، وقال محمد بن الحسن رحمه الله في «صلاة الأثر» عشرة آبار إن وقع في كل بئر فأرة وماتت فينزح من كل بئر عشرون دلواً، لوصب في واحدة إنه إن اجتمع فأرات فبلغ بقدر الدجاجة تنزح أربعون دلواً من البئر التي صب فيها. وفي «القدوري» : إذا وقع عظم الميتة في البئر، فإن كان عليه لحم أو دم ينجس لأن ذلك لا يخلو عن بلّة نجسة وهي في حكم النجاسة المائعة، وإن لم يكن عليه لحم لا يتنجس؛ لأن نفس العظم عندنا طاهر على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.o وفي «مجموع النوازل» : عظم تلطخ بنجاسة ووقع في البئر ولم يمكن استخراجه فإذا نزحوا ماءها فقد طهرت. وفي «الأصل» : أدنى ما ينبغي أن يكون بين بئر الماء والبالوعة خمسة أذرع، وهذا في رواية أبي سليمان، وفي رواية أبي حفص سبعة أذرع. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ليس هذا بتقدير لازم، بل الشرط أن يكون بينهما برزخ يمنع خلوص طعم البالوعة أو ريحها إلى ماء البئر ولا يقدر عليها بالزرعان حتى إذا كان بينهما عشرة أذرع، وكان يوجد في البئر أثر البالوعة، فماء البئر نجس وإن كان بينهما ذراع واحد وكان لا يوجد أثر البالوعة في البئر فماء البئر طاهر. قال رحمه الله: إلا أن محمداً رحمه الله بنى هذا الجواب على ما علم من حال أراضيهم صلبة، والجواب يختلف باختلاف صلابة الأراضي ورخاوتها. وفي «المنتقى» : أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله أدنى ما يكون بين البالوعة وبين الماء خمسة أذرع، قال: وسبعة أذرع أحبّ إليّ. طعن بعض الناس على أبي حنيفة رحمه الله، وقال إنه استعمل الرأي في المقادير، ومشايخنا رحمهم الله قالوا: فتواه تخرج في مكان علم سؤال أهل الذكر أن قدر خمسة أذرع يمنع التعدي. وفي «النوازل» : بئر بالوعة حفروها وجعلوها بئر ماء فإن حفروها مقدار ما وصلت إليه النجاسة فالماء طاهر وجوانبها نجس، وإن حفروها أوسع من الأول فالكل طاهر والله أعلم. (نوع آخر) في الحباب والأواني قال في «الأصل» : الكوز الذي يوضع في نواحي البيت ليغترف من الحب، فإن له أن يشرب منه ويأخذ منه ما لم يعلم أنه قذر، لأن نواحي البيت طاهر أو الماء طاهر في الأصل فهو على الطهارة ما لم نتيقن بنجاستها أو نجاسة أحدهما وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير رحمه الله أنه كان يكره أن يستخلص الإنسان من نفسه إناء يتوضأ به ولا يتوضأ به غيره.

وفي «الأصل» أيضاً إذا أدخل الصبي يده في كوز ماء أو رجله فإن عُلم أن يده طاهرة بيقين يجوز التوضؤ بهذا الماء، وإن علم أن يده نجسة بيقين لا يجوز التوضؤ به، وإن كان لا يعلم أنه طاهر أو نجس فالمستحب أن يتوضأ بغيره لأن الصبي لا يتوقى النجاسات عادة، مع هذا لو توضأ به أجزأه لأن الطهارة أصل، وفي النجاسة شك. وفي كتاب «فقه الأمر» للإمام عبد الصمد القلانسي أنه إن كان مع الصبي رقيب فالماء طاهر وطهور، وإن كان مسيّباً في السكة فالماء مكروه كسؤر الدجاجة المخلاة، وهذا إذا أدخل الصبي يده في الإناء ولم ينو القربة، فأمّا إذا نوى القربة وتوضأ في الإناء سيأتي هذا الفصل بعد هذا في المياه المستعملة. الجنب إذا اغتسل وانتضح من غسالته في إنائه أو على ثوبه قطرات صفار لا يستبين أثرها في الماء ولا في الثوب لا ينجسها، وإن استبان أثرها وهي ما إذا جمعت كانت أكثر من قدر الدرهم نجسته، هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله. وسئل أبو سليمان عن ماء الجنابة إذا وقع في الإناء وقوعاً يستبين أنها ليست بشيء، ومعنى قوله يستبين: أن ينفرج وجه ماء الإناء عند وقوع القطرات أو يرى عين القطرات ظاهرة. وذكر هذه المسألة في «المبسوط» وقال: إن كان الواقع قليلاً لا يفسد الماء وإن كان كثيراً يفسده، تكلموا في حد القليل والكثير: روي عن محمد رحمه الله أنه قال: إن كان مثل رؤوس الإبر وأطراف الإبر فهو قليل، وإن زاد على ذلك فهو كثير. وذكر الكرخي في «كتابه» : أنه إن كان مواقع القطر يستبين في الإناء فهو كثير يفسد الماء وإن كان لا يستبين فهو قليل لا يفسد الماء. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل جنب نزح دلواً مرة من ماء بئر وصبه على رأسه ثم استقى دلواً آخر فتقاطر من جسده في البئر، قال: هذا ليس بشيء، وإن كان الماء المستعمل نجساً عنده فكأنه أسقط اعتبار نجاسته ضرورة أن التحرز عنه غير ممكن. حب فيه ماء أو زيت استخرج منه شيء وجعل في خابية ثم استخرج من حُب آخر فيه ماء أو زيت شيء منه، وجعل في تلك الخابية حتى امتلأت الخابية ثم وجد في الخابية فأرة ميتة ولا يدرى أن الفأرة من أي الحبين ويعلم قطعاً أنها لم تكن في الخابية قبل ذلك فما حال الحبين؟ حكي عن الشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله أنه سئل عن هذه المسألة قال: إن غاب هذا الرجل عن الخابية ساعة يتوهم وقوع الفأرة في الخابية فالنجاسة للخابية والحبّان طاهران، وإن لم يغب حتى علم أنها من أحد الحبين، فالنجاسة تصرف إلى آخر الحبين لأن الحوادث تضاف إلى أقرب الأوقات، هذا تمام جوابه. قالوا: ينبغي أن يقال: إذا كان كلا الحبين لرجل واحد وتحرّى ولم يقع تحرّيه على شيء تصرف النجاسة إلى آخر الحبين، فأما إذا وقع تحريه على شيء يعمل به، وهذا

الجواب على هذا الإطلاق ليس بصحيح، فقد ذكر في كتاب التحري أنه إذا كان مع الرجل في السفر أوان بعضها نجسة كانت الغلبة للنجس أو كانا سواء؛ إن كانت الحالة حالة الاختيار لا يتحرى للشرب ولا للوضوء، وإن كانت حالة الاضطرار يتحرّى للشرب بالإجماع ولا يتحرى للوضوء عندنا ولكنه تييمم. ولو كان كل حب لرجل على حدة وكل واحدٍ منهما يقول: حبي طاهر يجعل كلا الحبين طاهراً. وسئل الشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله أيضاً عن فأرة ميتة كانت يبست وهي في خابية جعل في الخابية الزيت فظهرت على رأس الخابية؟ فأجاب: أن الزيت نجس، وهكذا أجاب شيخ الإسلام الإسبيجابي. قال نجم الدين * هذا * رحمه الله لأن الفأرة الميتة إذا يبست وإن قالوا: إنها تطهر حتى لو صلى وفي جيبه فأرة ميتة تجوز صلاته، لكن إذا أصابها بلل حتى ابتلت تعود نجساً في أصح الروايتين عن أبي حنيفة بمنزلة الأرض النجسة إذا يبست وذهب أثرها ثم أصابها الماء. وفي «فتاوى ما وراء النهر» : كوز فيه فأرة ميتة أدخل الكوز في حُبّ الزيت قال: إن اغترف ولم يخرج منه شيء لم يفسد الحب، وإن صُبّ ماء فيه ثم أدخله ثانياً في الحب فسد الحب، لأنه فم الكوز صار ملطخاً بزيتٍ نجس. وإذا وجد في البئر بعرة فقد ذكرنا هذه المسألة في النوع المتقدم على هذا النوع، وذكرنا ثمة أيضاً مسألة بعرة الشاة إذا وقعت في الحليب عند الحلب وإذا فرت الفأرة من الهرة ومرت على قصعة ماء ذكر هذه المسألة في مسائل ندرت لشمس الأئمة الحلواني رحمه الله على التفصيل، أن الهرة إن جرحتها تتنجس القصعة وما لا فلا. وقال في «شرح الطحاوي» : إن القصعة تتنجس مطلقاً وأشار إلى المعنى فقال: إنها تبول عن خوف الهرة. حُبّ الماء إذا ترشح منه الماء، أو آنية الماء إذا ترشح منها الماء، فجاء كلب ولحسه لا يتنجس الماء الذي في الحب والآنية. سمعت عن الشيخ الإمام ظهير الدين المرغنياني رحمه الله: إذا كان للرجل ثلاث حباب في أحدها الدهن وفي أحدها الخل وفي أحدها الدبس، فأخذ من كل واحدة من الحباب شيئاً وجعل في طست ثم وجد في الطست فأرة ميتة فإنه يشقُّ بطنها فإن كان في بطنها الدهن فالنجاسة لحب الدهن، وإن كان في بطنها الدبس فالنجاسة لحب الدبس وإن كان في بطنها الخل فالنجاسة لحب الخل، وإن لم يكن في بطنها شيء تلقى بين يدي الهرة فإن أكلتها فالنجاسة لحب الدهن والدبس وإن لم تأكلها فالنجاسة لحب الخل لأن الهرة تأكل الدهن (15أ1) والدبس ولا تأكل الخل والله أعلم. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : عقرب أو نحوه مما لا دم له يموت في بئر الماء أو ضفدع أو سمكة أو سرطان أو نحوه مما يعيش في الماء يموت في الحب لم يفسد الماء عندنا خلافاً للشافعي.

يجب أن يعلم أن ما ليس له دم سائل إذا مات في الماء أو مائع آخر سوى الماء لا يوجب تنجس ما مات فيه برياً كان أو مائياً عندنا. والأصل: ما روى سليمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمسئل عن إناء فيه طعام أو شراب يموت فيه ما ليس له دم سائل فقال: «هو الحلال أكله أو شربه أو الوضوء به» وهذا نص في الباب. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وأبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فامقلوه ثم امقلوه ثم امقلوه فإن في أحد جناحيه داء والأخرى دواء وإنه ليقدم الداء على الدواء» . ومعلوم أن مقل الذباب في الطعام الحار مرتين توجب موته لو كان ذلك ينجس الماء لما أُمر به، ولأن في الأشياء التي ليس لها دم سائل هنا لا يمكن صون الأواني عنها نحو: البق والذباب والزنابير، فالقول بالنجاسة بموت هذه الأشياء يؤدي إلى أن (لا) يوجد عصير أو خل يوصف بالحل وهذا أمر قبيح، ولأن الحيوان إنما يتنجس بالموت، فيسبب اختلاط الدم المسفوح بسائر الأجزاء ألا ترى أن العظم والشعر وما أشبههما لا يتنجس بالموت لانعدام الدم فكذا لا تتنجس هذه الحيوانات. وإذا لم تتنجس هذه الحيوانات بالموت لا يتنجس ما ماتت فيه. وأما ما له دم سائل إن كان برّيّاً بحيث لا يعيش في الماء فموته يوجب نجاسة ما مات فيه، الماء وغيره من المائعات في ذلك على السواء؛ لأن بالموت يختلط الدم المسفوح بسائر أجزاء هذه الأشياء فتنجس هذه الأشياء بالموت فيتنجس ما مات فيه. وإن كان مائياً بأن كان لا يعيش إلا في الماء، إن مات في الماء لا يتنجس الماء في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله، وإن مات في غير الماء أجمعوا على أن في السمكة لا تتنجس. وفي غير السمكة نحو الضفدع المائي والكلب المائي والسرطان اختلف المشايخ فيه. حكي عن نصر بن يحيى ومحمد بن سلمة وأبي معاذ البلخي وأبي مطيع رحمهم الله: أنه يتنجس. وحكي عن أبي عبد الله ومحمد بن مقاتل أنه لا يتنجس. وعن أبي يوسف رحمه الله في «النوادر» في الكلب المائي إذا مات في الماء أنه يفسد الماء. وهذه المسائل تنشأ عن أصل أن الحيوانات التي لا تعيش إلا في الماء ليس لها دم سائل على الحقيقة، وللناس فيه كلام، بعضهم قالوا: لها دم على الحقيقة؛ لأن اللون لون الدم والرائحة رائحة الدم، وبعضهم قالوا: ليس لها دم على الحقيقة، وما يرى من لون الدم فهو ماء ملون بلون الدم، ألا ترى أن الدم إذا شُمس يَسْوَدّ وهذا إذا شمس تبيض.

إذا ثبت هذا فنقول: إذا ماتت هذه الحيوانات في الماء إنما لا ينجس الماء. أما على قياس من يقول لا دم لهذه الحيوانات دم سائل، ولأن الماء معدن هذه الحيوانات، ومصابها والشيء في معدنه ومصابه لا يعطى حكم النجاسة، ألا ترى أن الرجل إذا صلى وفي كمه بيضة حال محُّها دماً فصلاته جائزة. ولو صلى وفي كمه قارورة بول لا تجوز صلاته، إلا رواية عن محمد رحمه الله فإنه قال: إذا كان رأس القارورة أقل من الدرهم جازت صلاته وما أقرها إلا باعتبار أن النجاسة في فصل البيضة في معدنها. وفي فصل القارورة: النجاسة في غير معدنها فاعتبرت. ومعنى آخر يخص السمكة على قول هؤلاء أن الشرع أسقط اعتبار دمها حتى أباحها بغير ذكاة فالتحق دمها بالعدم، والتحقت السمكة بما ليس له دم سائل. وأما إذا ماتت هذه الحيوانات في غير الماء من المائعات أجمعوا على أن في السمكة لا تتنجس، أما على قول الفريق الأول فظاهر، وأما على القول الفريق الثاني؛ فلأن الشرع أسقط اعتبار دمها فالتحق بما ليس له دم سائل. وفي غير السمكة اختلاف المشايخ على ما مرّ. وجه قول من قال بأنه ينجس، أن لهذه الأشياء دم سائل، والشرع ما أسقط اعتبار دمها، فإنه لا يباح تناول هذه الأشياء. وجه قول من قال بأنه لا ينجس: أنه ليس لهذه الأشياء دم سائل على الحقيقة على ما مرّ، وأما الحيوان الذي يعيش في البر والماء جميعاً وله دم سائل كالطير المائي إن مات في غير الماء نجسه لأن له دماً سائلاً ولم يسقط اعتبار دمه شرعاً، فإنه لا يحل بدون الذكاة. وإن مات في الماء؛ فقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنه ينجس الماء؛ لأنا إن نظرنا إلى عيشه في الماء لا نحكم بنجاسة الماء، وإن نظرنا إلى عيشه في البر نحكم بنجاسة الماء، فحكمنا بنجاسة الماء ورجحنا عيشه في البر احتياطاً. والضفدع البري إذا مات في الماء إن كان كبيراً له دم سائل نّجس الماء، وإن كان صغيراً ليس له دم سائل لا ينجس كالذباب والزنبور وما أشبههما. والعقرب ليس له دم سائل فموته في الماء لا ينجس الماء. في «القدوري» : إذا ماتت فأرة في مائع كالسمن ونحوه، فإن كان ذائباً تنجس وجاز الانتفاع به في غير الأبدان وجاز بيعه، على البائع أن يبين ذلك للمشتري. وإن كان جامداً تلقى ويُقوّر ما حولها ويلقى وينتفع بالباقي أكلاً وغير ذلك، والأصل فيه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمسئل عن سمن وقعت فيه فأرة وماتت قال: «إن كان جامداً فألقوها وما حولها وكلوا الباقي وإن كان ذائباً فانتفعوا به ولا تأكلوه» ؛ ولأن في الجامد النجاسة جاورت موضعاً واحداً، فإذا قوِّر ذلك فالباقي طاهر، وفي الذائب النجاسة جاورت الكل فصار الكل نجساً.

وحد الجمود والذوبان: أنه إذا كان بحال لو قوِّر ذلك الموضع لا يستوي من ساعته فهو جامد، وإن كان يستوي من ساعته فهو ذائب. ثم في الذائب لا بأس بالانتفاع به سوى الأكل من حيث الاستصناع به، دبغ الجلد للحديث، ولأن النجس أجزاء الفأرة وإنها مجاورة للدهن مجاورة لازمة فحرم الأكل لأنه لا ينفك عن حلول جزء من النجاسة. فأما الانتفاع في غير الأكل يقع بالدهن لا بأجزاء الفأرة، فصار الاستعمال في حق الحرمة النجس استهلاكاً لا انتفاعاً، والبيع يرد على المذكور، والمذكور الدهن لأجزاء الفأرة بخلاف الأكل. وفي «القدوري» أيضاً: إذا وقعت النجاسة في الماء، فإن تغير وصف الماء لم يجز الانتفاع به بحال، فإن لم يتغير جاز الانتفاع به مثل بل الطين وسقي الدواب، لأن في الوجه الأول النجاسة قد غلبت عليه حتى غيرته فصار كعين النجاسة، ولا كذلك الوجه الثاني. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله: إذا وجب نزح الماء كله من البئر فعجن من ذلك لا يطعم ذلك بني آدم. ولا بأس بإطعامه وإلقائه للكلاب والسنانير، ولا بأس برش تلك المياه في الطريق. وروي عنه في غير هذه الصورة: يطعم ذلك العجين البهائم ولا يسقي ذلك الماء البهائم وأشار إلى العلة فقال: لأن ما يدخل عليه من إلقاء الطعام أشد من إطعام البهائم والماء لا بأس بصبه، وفي هذا التعليل أشار إلى أن هذا العجين لا يلقى في الطريق، والمفسدة في إلقائه في الطريق أعظم من المفسدة في إطعام الكلاب والسنانير، والماء يصب في الطريق المفسدة في الصب في الطريق دون المفسدة في سقي البهائم. (نوع آخر) في الحمَّام روى المعلّى عن أبي يوسف رحمهما الله أنه قال: الحمام بمنزلة الماء الجاري إذا أدخل يده فيه وفيه قذر لم يتنجس، واختلف المتأخرون في بيان هذا القول فمنهم من قال: مراد أبي يوسف حالة مخصوصة: وهي ما إذا كان الماء يجري إلى حوض الحمام والاغتراف منه متدارك، فهذا الماء في هذه الحالة في حكم الماء الجاري. ومنهم من قال: ماء الحمام عنده بمنزلة الماء الجاري على كل حال لأجل الضرورة، ألا ترى أن الماء الراكد وهو الحوض العظيم ألحق بالماء الجاري (15ب1) لأجل الضرورة، فكذا ماء الحمام. ويجوز التوضؤ بماء الحمام، وإن كان الماء في الحوض ساكناً لا يدخل من أنبوبه شيء ما لم يعلم بوقوع النجاسة فيه، فإن أدخل رجل يده فيه في هذه الحالة وفي يده قذر؛ فعلى قول أبي يوسف رحمه الله على ما ذهب إليه بعض المشايخ لا ينجس الحوض، وعامة المشايخ على أنه ينجس، وكذلك إذا كان الناس يغرفون بقصاعهم إلا أن الماء لا يدخل من الأنبوب، فأدخل رجل يده وفي يده قذر ينجس الحوض عند عامة المشايخ، وإن كان يدخل الماء في الحوض من الأنبوب والاغتراف منه...... عامة

المشايخ على أنه ينجس وعليه الفتوى. وإذا فسد ماء الحوض فأخذ رجل من ذلك الماء بالقصعة، وأمسك القصعة تحت الأنبوب فدخل الماء في القصعة من الأنبوب و ... ماء القصعة فتوضأ منه لا يجوز، وإذا أفاض الرجل في الماء المصبوب على وجه الحمام بعدما غسل قدميه وخرج فإن لم يعلم أن في الحمام جنب أجزأه أن لا يغسل قدميه. وإن علم أن في الحمام جنب قد اغتسل يلزمه أن يغسل قدميه إذا خرج، هكذا ذكر في «العيون» . وقال الصدر الشهيد في «واقعاته» وعلى ما أحبرنا في الماء المستعمل أنه طاهر على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، ينبغي أن يلزمه غسيل القدمين، ولكن اشتثنى الجنب في «العيون» فإنه موضوع الاستثناء وبه أخذ الفقيه أبو الليث. ومن المشايخ من قال: إنما استثنى الجنب لأن الجنب يكون على يديه قذر غالباً حتى لو لم يكن كان مستعمل الجنب والمحدث سواء؛ ويكون طاهراً على رواية محمد رحمه الله، ولا يلزمه غسل الرجلين وهو الظاهر. وذكر في «المنتقى» رواية أخرى: أنه يلزمه غسل الرجلين على كل حال سواء، علم أن في الحمام جنباً أو لم يعلم. حوض الحمام إذا تنجس ودخل فيه الماء لا يطهر ما لم يخرج منه ما كان فيه ثلاث مرات. وقال بعضهم: إذا خرج منه مثل ما كان فيه مرة واحدة وفي «المنتقى» ما يدل على هذا القول. والمذكور في «المنتقى» الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: إذا كان في حوض الحمام قذر لم يغتسلوا منه حتى ذهب قدر ما كان في الحوض ثم دخل ماء آخر في الحوض ثم اغتسلوا والله أعلم. (نوع آخر) في بيان المياه التي لا يجوز التوضؤ بها على الوفاق وعلى الخلاف وإنها أنواع منها ماء الفواكه وتفسيره: أنه يدق التفاح والسفرجل دقاً ناعماً ثم يعصر فستخرج منه الماء أو يكون تفسيره: أن يدق التفاح أو السفرجل ويطبخ بالماء ويعصر ويستخرج منه الماء. وفي الوجهين جميعاً لا يجوز التوضؤ به. وكذا لا يجوز التوضؤ بماء البطيخ والقثاء والعنب ولا بالماء الذي يسيل من الكرم في الربيع. كذا ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، ولا بماء الورد وفي «جوامع أبي يوسف» عنه: أنه يجوز التوضؤ بماء الكرم. ومنها الماء ... وذكر في «نوادر بن رشيد» عن محمد رحمه الله من الماء يطرح فيه الريحان والأشنان فإن تغير لونه بأن سوده الريحان، أو حمره الأشنان، أو كان

الغالب عليه أثر الأشنان أو أثر الريحان لا يتوضأ به، وإن كان الغالب عليه أثر الماء، فلا بأس بالتوضؤ به، وكذلك البابونج، فأما الزعفران إذا كان قليلاً والغالب الماء فلا بأس به، فمحمد رحمه الله اعتبر الغلبة في هذه المسائل، إلا أن في بعضها أشار إلى الغلبة من حيث اللون، وفي بعضها أشار إلى الغلبة من حيث الأجزاء. وفي «الأمالي» برواية بشر عن أبي يوسف رحمه الله لو توضأ بماء غلي بأشنان أو آسٍ أو لشيء يتعالج به الناس ويغتسلون به، فإن الوضوء بذلك الماء يجزىء ما لم يغلب عليه. ولو توضأ بماء به ردح العصفر أجزأه إذا كان رقيقاً يستبين الماء منه، وإن غليت المجمرة وصارت ... لا يجوز التوضؤ به، وكذلك ماء الصابون إذا كان ثخيناً قد غلب على الصابون لا يجوز التوضؤ به، وإن كان رقيقاً، لكن علاه بياض الصابون جاز التوضؤ به. قال الحاكم الشهيد رحمه الله ورأيت عن ابن سماعة عن أبي يوسف مثله، قال: وكذلك ماء الزعفران، ورأيت عنه أيضاً: لا يجوز التوضؤ بماء الحمص والباقلاء، يريد الماء الذي طبخ فيه الحمص أو الباقلاء، وكذلك ما طبخ به ليؤكل أو ليشرب أو ليتداوى به، وإذا طبخ الآس في الماء والبابونج فإن غلب على الماء حتى يقال: ماء البابونج، أو ماء الآس لا يجوز التوضؤ به، وإن طبخ في الماء السِّدْر أو الأشنان وتغيّر لونه إلا أنه لم يذهب برقته جاز التوضؤ به. والحاصل من مذهب أبي يوسف رحمه الله: أن كل ما خلط به شيء يناسب الماء فيما يقصد من استعمال الماء وهو التطهير، فالتوضؤ به جائز بشرط أن لا يغلب ذلك المخلوط على الماء، يعني من الأجزاء حتى لا يزول به الصفة الأصلية وهو الرقة، وذلك مثل الأشنان والصابون، وهذا لأن الخلط الذي يناسب الماء يتعالج به الناس ويغتسلون به مبالغة في التطهير، فجعل الحكم فيه كالحكم في الماء، لكن بشرط أن لا يغلب ذلك المخلوط على الماء، وكل ما خلط به شيء لا يناسب الماء فيما قصد من استعمال الماء وهو التطهير، ففي بعض الروايات شرط عليه ذلك الشيء الماء من حيث الأجزاء لمنع جواز التوضؤ به، وفي بعض الروايات لم يشترط الغلبة من حيث الأجزاء. ويجوز التوضؤ بالماء الذي ألقي فيه الحمص والباقلاء وتغير لونه، إلا أنه لم يُذهِب رقته، هكذا ذكر في بعض الكتب، وكذا إذا ألقي فيه الزاج حتى اسود ولكن لم تذهب رقته جاز التوضؤ به، وهذا لا يستقيم على قول محمد رحمه الله على القول الذي اعتبر الغلبة من حيث اللون. ولو بلَّ الخبز بالماء وبقيت رقته جاز الوضوء به، وإن صار ثخيناً لا يجوز، وهذا لا يستقيم على قول أبي يوسف رحمه الله على الرواية لا يشترط الغلبة في خلط ما لا يناسب الماء في التطهير، ولو وقع في الماء وصار ثخيناً لا يجوز التوضؤ به، لأنه بمنزلة الخمر، هكذا ذكر في بعض الكتب. وفي «الفتاوى» : ذكر مسألة التوضؤ بالثلج وذكر فيها تفصيلاً، فقال: إن كان الثلج يذوب ويسيل إلى أعلى أعضائه ويتقاطر يجوز، وما لا فلا، يجب أن يكون الجواب في

المسألة المتقدمة على هذا التفصيل أيضاً. وفي «أجناس الناطفي» ، وفي «صلاة الأثر» : لا بأس بالتوضؤ بماء السبيل إذا كانت رقة الماء غلبة غالبة، وإن لم تكن غالبة لا يجوز التوضؤ به؛ لأنه طين مسح على وجهه. وفي «القدوري» : إذا اختلط الطاهر بالماء ولم يزل اسم الماء، ولا رقته فهو طاهر طهور تغير لونه أو لا، ولم يذكر فيه خلافاً، وهذا لا يستقيم على قول محمد على القول الذي يعتبر الغلبة من حيث اللون. قال: وكل ما طبخ فيه شيء حتى تغير مثل الباقلاء وغيره لم يجز التوضؤ به لزوال اسم الماء عنه، ولم يذكر فيه خلافاً أيضاً، فإن أراد بهذا التغير التغير من حيث اللون فهو قول محمد رحمه الله على الفصل الذي اعتبر الغلبة من حيث اللون، وإن أراد بهذا التغير التغير من حيث الأجزاء فهو قول محمد رحمه الله أيضاً على أحد قوليه، وقول أبي يوسف رحمه الله أيضاً على أحد قوليه على ما تقدم. وفي «شرح الطحاوي» : كل ما خالط ما سواه من المائعات وغلب ذلك الشيء على الماء فحكمه حكم ذلك الشيء لا حكم الماء، حتى لا يجوز التوضؤ به، فإن كانت الغلبة للماء فحكمه حكم الماء المطلق يجوز التوضؤ به. بيانه في اللبن أو الخل أو العصير إذا اختلط بالماء، فإن كانت الغلبة للماء جاز التوضؤ، وإن كانت الغلبة للبن أو الخل أو العصير لا يجوز التوضؤ به. وسئل الفقيه أحمد بن إبراهيم عن الماء الذي تغير لكثرة الأوراق الواقعة فيه حتى يظهر لون الأوراق في الكف إذا رفع الماء منه، هل يجوز التوضؤ به؟ قال: لا، لكن يجوز شربه وغسل الأشياء به، أما جواز الشرب وغسل الأشياء به فلأنه طاهر، وأما عدم جواز التوضؤ به، لأنه لما غلب لون الأوراق عليه صار ماء مقيداً كماء الباقلاء وغيره. ومنها الماء الذي غلب على ظننا وقوع النجاسة فيه. قال القدوري في «كتابه» : كل ماء تيقنا بوقوع النجاسة فيه أو غلب على ظننا لم يجز التوضؤ به، وبعض مشايخنا قالوا: يعتبر التغير، ولا تعتبر غلبة الظن، لأن الماء طاهر بيقين، فلا ترفع عنه صفة الطهارة بمجرد الظن، والأصح ما ذكره القدوري، ألا ترى أن الواحد إذا أخبر بنجاسة الماء لا يجوز الوضوء به، وخبره يوجب (16أ1) غلبة الظن لما لا يوجب اليقين، لأن غلبة الظن تلحق باليقين خصوصاً في باب العبادات والله أعلم. ومنها الماء المستعمل في البدن: الكلام في الماء المستعمل في مواضع: أحدها: في نجاسته وطهارته، فنقول: اتفق أصحابنا أن الماء المستعمل ليس بطهور حتى لا يجوز التوضؤ به، ولا يجوز غسل شيء من النجاسات به. واختلفوا في طهارته، قال محمد رحمه الله: هو طاهر، وهو رواية أبي حنيفة رحمه الله وعليه الفتوى. وقال أبو يوسف رحمه الله: هو نجس نجاسة خفيفة، وهو رواية عن أبي حنيفة. وقال الحسن بن زياد: نجس نجاسة غليظة، كالبول والدم، وهو رواية عن

أبي حنيفة وعند زفر: هو طاهر طهور. وقال الشافعي: إن كان المستعمِل محدثاً فهو كما قال محمد طاهر غير طهور، وإن كان المستعمِل طاهراً فهو كما قال زفر طاهر وطهور. أما ما ذهب إليه زفر أنه طاهر طهور لأنه غسل به عين طاهر، فلا تتغير صفته كما لو غسل به الثياب والقصاع الطاهرة. وإنما قلنا: إنه غُسل به عين طاهر؛ لأن أعضاء المحدث والجنب والحائض طاهرة، بدليل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان يمر في بعض سكك المدينة فاستقبله حذيفة بن اليمان، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلّمأن يصافحه، فامتنع حذيفة رضي الله عنه، فسأله رسول الله عليه السلام عن ذلك، فقال: إني جنب، فقال عليه السلام: «المؤمن لا ينجس» وقال لعائشة رضي الله عنها: «ليست حيضتك في يدك» . وجه قول من قال: بأنه نجس قول عليه السلام: «من توضأ وغسل وجهه تناثر عنه خطايا وجهه مع آخر قطرة من الماء، ولو غسل يديه تناثر عنه خطايا يديه مع آخر قطرة من الماء ... » الحديث إلى آخره، فجعل الماء مطهراً من الذنوب، والذنب نجس حكماً، والنجس حكماً لا يختلف عن النجس حقيقة، ثم الماء الذي يرفع فيه النجاسة يتنجس، فكذا الذي يرفع النجاسة الحكمية. ثم على رواية الحسن: نجاسته غليظة اعتباراً بالنجاسة الحقيقية، وعلى رواية أبي يوسف خفيفة لمكان البلوى ولاختلاف الآثار فيه. وجه قول محمد: إنه طاهر طهور ما ذكر بالرقة في إثبات الطهورية، فإن ما يدل على الطهورية يدل على الطهارة من طريق الأولى، ويدل عليه ما روي أن أصحاب رسول الله عليه السلام ورضي عنهم، كانوا يتبركون بوضوء رسول الله عليه السلام، وكانوا يغسلون به وجوههم وأبدانهم ولو كان نجساً لما فعلوا ذلك، ولأن الماء إذا استعمل في محل فانقص أحواله أن يصير في مثل حال المحل، وأعضاء المحدث والجنب طاهر حتى لو صلى وهو حامل لجنب أو محدث تجوز صلاته، ولو عرق الجنب والمحدث في ثيابهم لم تتنجس ثيابهم، ولكن لا يحل أداء الصلاة ببدن محدث، فالماء المستعمل في هذا المحل تصير بهذه الصفة، فإذا أصاب الثوب يجوز الصلاة فيه، ولو توضأ به لا تجوز الصلاة. قال مشايخنا: ولنا مسائل تدل على نجاسة الماء المستعمل، منها: أجمعنا على أن المسافر إذا كان له ما يحتاج إليه لعطشه أنه يمسك الماء ويتيم، ولو كان الماء المستعمل طاهراً لتوضأ به ثم شرب. ومنها: أن الجنب إذا أراد أن يغتسل فتوضأ وضوءه للصلاة إلا رجله، وإنما أمر

بغسل رجليه كيلا تتنجس رجله ثانياً. ولو كان الماء المستعمل طاهراً لكان لا يتأخر غسل رجليه إلى ما بعد الاغتسال. ومنها: أجمعنا على أنه يباح إراقة الماء المستعمل، ولو كان طاهراً لا يباح إراقته. الموضع الثاني: أن الماء متى يأخذ حكم الاستعمال، فنقول: إنما يأخذ حكم الاستعمال إذا زايل البدن، والاجتماع في المكان ليس بشرط، هذا هو مذهب أصحابنا، وما ذكر في «شرح الطحاوي» أن الماء إنما يأخذ حكم الاستعمال إذا زايل البدن واستقر في مكان، فذاك قول سفيان الثوري وإبراهيم النخعي رحمهما الله وبعض مشايخ بلخ، وهو اختيار الطحاوي رحمه الله، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، أما مذهب أصحابنا ما ذكرنا، وعن هذا قلنا: إن من نسي مسح رأسه فأخذ ماءً من لحيته ومسح به رأسه لا يجوز، لأنه كما أخذه من لحيته فقد أخذ حكم الاستعمال؛ لأنه زايل العضو فحصل المسح بماء مستعمل. وفي نظم «الزَّنْدويستي» : إن عند مشايخ بخارى يصير الماء مستعملاً وإن كان في الهواء، حتى قالوا: إن أصاب ثوبه يتنجس بأن كان متقاطراً، وكذا الخرقة التي يمسح بها أعضاء الوضوء، فإن كان متقاطراً يتنجس، يعني على قول من يقول بنجاسة الماء المستعمل. وفي «شرح الطحاوي» : لو بقي على العضو لمعة لم يصبها الماء فصرف البلل الذي على ذلك العضو إلى تلك اللمعة جاز، ولو صرف البلل الذي في اليمنى إلى اللمعة التي في اليسرى، أو من اليسرى إل اليمنى لا يجوز. ولو كان هذا في الجنابة جاز؛ لأن الأعضاء في الجنابة كعضو واحد والله أعلم. معرفة سبب استعمال الماء فنقول: اختلف المشايخ المتأخرون، قال الشيخ أبو بكر الرازي وجماعة من مشايخ العراق: الماء على أصل أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إنما يصير مستعملاً بأحد أمرين: إما برفع الحدث بأن يتوضأ تبرداً وهو محدث، أو باستعماله على قصد إقامة القربة بأن يتوضأ وهو متوضىء ناوياً الوضوء. وعلى أصل محمد رحمه الله: الماء إنما يصير مستعملاً بشيء واحد وهو الاستعمال على قصد إقامة القربة، واستدلوا بمسألة الجنب إذا انغمس في البئر لطلب الدلو، فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: الماء بحاله طاهر، والرجل بحاله جنب لأنه لو حكم بطهارة الرجل صار الماء مستعملاً أول الملاقاة، والماء المستعمل عنده نجس فلا يطهر به الشخص، وإذا لم تجر الطهارة ينتقض الحكم بالاستعمال فيقع الدور، فقال من الابتداء: الماء بحاله والرجل بحاله احترازاً عن الدور. قال محمد رحمه الله: الماء طاهر والرجل طاهر، أما الرجل طاهر؛ لأنه وصل إلى الماء والماء مطهر بداية من غير نية، كما وقع في الماء الجاري، وأصابه المطر، والماء

طاهر بحاله؛ لأنه لا نجاسة عليه حقيقة وإنما يتغير بقصد القربة لما فيه من تطهير عن الآثام ولم يوجد، فلا يصير مستعملاً. قال القدوري: كان شيخنا أبو عبد الله الجرجاني يقول: الصحيح عندي من مذهب أصحابنا أن إزالة الحدث توجب استعمال الماء؛ لأن المقصود قد حصل بها كما لو قصد القربة ولا معنى لهذا الخلاف إذ لا نص عنهما على هذا الوجه، ولا يجوز أن يؤخذ هذا من مسألة البئر؛ لأنه أمكن تخريجها على المقولتين من غير إثبات الخلاف، محمد رحمه الله يقول في دخول الجنب في البئر ضرورة، وفي تكليف الغواص بالغسل حرج، فيحمل ذلك لضرورة، وهذا كما قلنا في المحدث أو الجنب إذا أدخل يده في الأناء، أو الحبِّ لأجل الاغتراف لا يصير الماء مستعملاً بلا خلاف، إلا إذا نوى بإدخال اليد الاغتسال، وإنما لا يصير مستعملاً لأجل الضرورة؛ لأن الإنسان عسى لا يجد إناء صغيراً ولا يمكنه صب الماء على يده من الإناء الكبير، فيضطر إلى الإدخال فيسقط اعتبار القياس، وأقام اليد مقام الإناء الصغير. وإذا نوى الاغتسال ولم يستعمل اليد استعمال الإناء، فبقي على أصل القياس. ولو أدخل رجله في البئر ولم ينو به الاستعمال، ذكر شيخ الإسلام: أنه يصير مستعملاً عند أبي يوسف، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أنه لا يصير مستعملاً وعلل: لأن الرجل تجري مجرى اليد في الإناء، فعلى قول هذا التعليل لو أدخل الرجل في الإناء يصير مستعملاً لعدم الضرورة، وكذلك لو أدخل رأسه أو عضواً آخر في البئر أو في الإناء يصير مستعملاً لعدم الضرورة، وعلى هذا إذا وقع الكوز في الحب، فأدخل يده في الحب لإخراج الكوز لا يصير الماء مستعملاً لمكان الضرورة، ويشترط إدخال عضو تام لصيرورة الماء مستعملاً في الرواية المعروفة عن أبي يوسف. وفي «الفتاوى» : لو أدخل في الإناء أصبعاً أو أكثر منه دون الكف يريد غسله لم ينجس الماء، وإن أدخل الكف يريد غسله يتنجس؛ لأن في الأول ضرورة، ولا ضرورة في الثاني. قال الصدر الشهيد رحمه الله: هذا إنما يتأتى على قول من يجعل الماء المستعمل نجساً لا على من لا يجعله نجساً. وفي «العيون» عن محمد رحمه الله: جنب أصاب يده أو ثوبه قذر أخذ الماء بفيه (16ب1) ولم يرد به المضمضة وغسل اليد أو الثوب يجوز، وكذلك لو توضأ به يجوز، ولو أراد به المضمضة لم يجز الغسل ولا الوضوء؛ لأن في الوجه الأول لم يقصد القربة، فلم يصر الماء مستعملاً، وفي الوجه الثاني قصد القربة فصار الماء مستعملاً. وروى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يجوز الوضوء ولا الغسل؛ لأنه قد ارتفع به الحدث، وإنه كافٍ لصيرورة الماء مستعملاً عنده، وعلى هذا إذا أخذ الماء بفيه وملأ به الآنية. قال الحاكم الشهيد رحمه الله في «المختصر» : ولا يجوز التوضؤ بالماء المستعمل في وضوء أو غسل شيء من البدن، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قوله: أو غسْل شيء من البدن أورده الحاكم في «المختصر» ، ولم يذكره محمد رحمه الله في

«المبسوط» وتفسير هذا الكلام: إذا غسل جنبه أو فخذه، لا لنجاسة هل يأخذ حكم الاستعمال؟ وهذا شيء تكلم فيه المشايخ، ولا نص فيه عن أصحابنا الثلاثة رحمهم الله، وإنما المنصوص عنهم أنه إذا غسل أعضاء الوضوء وهو محدث متبرداً أو غسل به أعضاء الوضوء وهو طاهر.... الوضوء. فأما الذي غسل عضو الفرض من الحدث، وهو طاهر تكلم المشايخ فيه، منهم من قال: هو مستعمل، وكثير من مشايخنا قالوا: لا يأخذ من هذا حكم الاستعمال، وذكر الطحاوي: أن من تبرّد بالماء صار مستعملاً. قال القدوري رحمه الله: وهو محمول على ما إذا كان محدثاً، وهذا لأن الماء إنما يصير مستعملاً عند أبي يوسف رحمه الله برفع الحدث أو بقصد القربة عند محمد رحمه الله وبقصد القربة على ما عليه عامة المشايخ ولم يوجد ههنا قصد القربة ولا رفع الحدث أو لم يحمله على المحدث فلا معنى للاستعمال فيحمل على المحدث ليصير مستعملاً برفع الحدث. وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «العيون» وغيره أنه لو أدخل المحدث رأسه في الإناء أو خفه يريد به المسح يجزئه المسح ولا يفسد الماء في رواية المعلى عن أبي يوسف رحمه الله؛ لأن المسح يتأدى بماء اتصل به من الماء لا بأكمله، وروى ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أنه يصير مستعملاً فلا يجزئه من المسح لإقامة القربة بهذا الماء، وكذلك لو كانت على يده جبائر فغمسها في الإناء يريد المسح، فهو على هذا الاختلاف، ولو لم يقصد المسح أجزأه المسح ولا يعد الماء مستعملاً على اختلاف المذهبين عند محمد رحمه الله لعدم قصد لقربة، وعند أبي يوسف رحمه الله لأن الفرض لا يتأدى بما بقي بل بما اتصل من الماء بقول الفرض يسقط بالإصابة لا الإسالة والاستعمال شرط بالإسالة. لرجل إذا غسل يده للطعام قبل الأكل أو بعده صار الماء مستعملاً؛ لأنه قصد إقامة السنة، فإن من سنة الطعام غسل اليدين قبله وبعده كما جاء به الحديث، بخلاف ما لو غسل يده من الوسخ أو العجين لا يعد مستعملاً به لا قربة ثمة ولا إزالة الحدث. وإذا أدخل يده الصبي في إناء على قصد إقامة (القربة) ؛ ذكر في هذه المسألة في شيء من الكتب، وقد وصل إلينا أن هذه المسألة صارت واقعة، فاختلف فيها فتوى الصدر الشهيد حسام الدين عمر، وفتوى القاضي الإمام جمال الدين ... فتوى، قال رحمهما الله: والأشبه أن يصير مستعملاً إذا كان الصبي عاقلاً؛ لأنه من أهل القربة، ولهذا صح إسلامه وصحت عباداته حتى أمر بالصلاة إذا بلغ سبعاً ويضرب عليها إذا بلغ عشراً، والله أعلم. ومما يتصل بهذا الفصل بيان حكم الأسآر يجب أن تعلم بأن الأسآر أربعة: طاهرة كراهة فيه، وطاهر مكروه، ونجس، ومشكوك.

أما الطاهر الذي لا كراهة فيه سؤر الآدمي وسؤر ما يؤكل لحمه سوى الدجاجة المخلاة، أما سؤر الآدمي فلما روي أن رسول الله عليه السلام «أُتي بعسلٍ من لبن فشرب بعض وناول الباقي أعرابياً كان على يمينه فشربه ثم ناول أبا بكر فشربه» ، ولأن عين الآدمي طاهرة لا كراهة فيه إلا أنه لا يؤكل لكرامته ولعابه متولد من عينه، فإذا كان عينه طاهر من غير كراهة كان سؤره طاهراً من غير كراهة أيضاً، ويستوي فيه المسلم والكافر عندنا. وقال الشافعي: سؤر الكافر نجس؛ لأن عين الكافر نجس، قال الله تعالى: {إنما المشركون نجس} (التوبة: 28) فإذا كان عينه نجساً كان لعابه نجساً فيكون سؤره نجساً. وإنا نقول: عين الكافر ليس بنجس، ألا ترى أن وفد بني ثقيف أنزلوا في مسجد رسول الله عليه السلام وكانوا مشركين، ولو كان عين الكافر نجساً لما أنزلوا في المسجد. والآية محمولة على نجاسة اعتقادهم، لا على نجاسة أعضائهم، ونجاسة الاعتقاد لا تؤثر في نجاسة الأعضاء وكذا يستوي فيه الطاهر والمحدث والجنب والحائض لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «إن رسول الله عليه السلام كان يشرب من الإناء الذي شربت فيه وأنا حائض، فربما كان يضع فمه على موضع فمي» ، وعن رسول الله عليه السلام أنه قال: «من شرب سؤر أخيه كتب له عشر حسنات» وفي رواية «سبعون حسنة» ، ولأنه لم يتحول إلى الماء نجاسة حقيقية لا حكمية ولا أقيم به قربة، أما لم يتحول نجاسة حقيقية لأنه لا نجاسة لشفتيَ الجنب والحائض من حيث الحقيقة، وأما لم يتحول إليه نجاسة حكمية: أما على قول محمد رحمه الله فلأن الماء عنده على ما عليه اختيار بعض المشايخ لا يتغير بسبب الاستعمال من حيث أنه يتحول إليه شيء بسبب الاستعمال، وإنما يتغير من حيث أنه يقصد به إقامة القربة على ما مرّ، ولم يوجد ههنا قصد إقامة القربة حتى لو قصد إقامة القربة يفسد الماء عنده. وأما على قول أبي يوسف رحمه الله فلأن على أصله الماء إنما يتغير بالاستعمال بقصد إقامة القربة أو برفع الحدث وهو اختيار بعض المشايخ على قول محمد على ما مر، ولم يوجد ههنا واحد منهما. أما قصد إقامة القربة فظاهر، وأما رفع الحدث فلأن الحدث عنده لا يرتفع ههنا على إحدى الروايتين لأجل الضرورة، وعلى الرواية الثانية وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، وإن ارتفع الحدث ولكن لا يحكم بتغير الماء دفعاً للحرج، إذ لو حكم بتغير الماء يحتاج كل من أجنب أو حاضت إلى إناء على حدة، وفيه من الحرج ما

لا يخفى، هذا كما يقولان في الجنب والحائض إذا أدخل يده في الحب عند انعدام الآلة الصغيرة، لا يفسد الماء إذا لم يكن على يده قذر، وإنما لا يفسد لمكان الحرج والضرورة على ما بينا. وأما سؤر ما يؤكل لحمه من الطيور سوى الدجاجة المخلاة فلما روى جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: «كنا في السفر مع رسول الله عليه السلام فلما انتهينا إلى حوض شربت ناقة رسول الله عليه السلام من ذلك الحوض فتوضأ النبي عليه السلام من ذلك الحوض وتوضأت أنا» ، وروي أن رسول الله عليه السلام «توضأ بسؤر بعير أو شاة» ، ولأن نجاسة السؤر لمكان نجاسة اللعاب واللعاب متولد من اللحم، ولحم هذه الحيوانات طاهر من غير كراهة فكذا لعابها. وأما الطاهر الذي هو مكروه فهو: سؤر الدجاجة المخلاة، لأنها تفتش الجيف والأقذار بمنقارها، ومنقارها لا يخلو عن نجاسة، مع هذا إذا توضأ به أجزأه، لأن منقارها في الأصل طاهر؛ لأن الدجاجة طاهرة بجميع أجزائها بدليل ما روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان يأكل لحم الدجاجة، وكان يقول: «رأيت رسول الله عليه السلام يأكل كل لحم الدجاجة» ، فثبت أن الدجاجة طاهرة بجميع أجزائها، وفي نجاسة منقارها شك؛ لأن تفتيشها النجاسة والأقذار ليست بقطعية بل هي محتملة، والمحتمل لا يعارض المتيقن، فلعدم التيقن بنجاسة المنقار لم يحكم بنجاسة السؤر ولإمكان الاحتمال أثبتنا الكراهة. فإن كانت الدجاجة محبوسة فسؤرها طاهر من غير كراهة؛ لأن منقارها في الأصل طاهر وقد وقع الأمن عن أن تفتش النجاسات إذا كانت محبوسة. واختلف المشايخ في صفة المحبوسة، بعضهم قالوا: المحبوسة أن تحبس في بيت وتعلف هناك، وهذا لأنها إذا كانت محبوسة في بيت لا تجد نجاسات غيرها لنفسها، وهي لا تفتش نجاسة نفسها وليس من عادتها ذلك، فوقع الأمر عن النجاسة، ومنقارها طاهر في الأصل فلهذا كان سؤرها طاهراً من غير كراهة. وقال بعضهم: صفة المحبوسة أن يحفر لها حفرة (17أ1) فيجعل رجلاها فيها، ورأسها والعلف أمامها أو يجعل لها بيتاً ويكون رأسها وعلفها وماؤها خارج البيت بحيث لا يصل منقارها إلى ما تحت قدميها، وهذا القائل يقول بأنها ربما يعتبر ما يكون منها إذا عم نجاسات غيرها، فلا يؤمن أن يصيب منقارها نجاسة، فهي والمخلاة سواء. وكذلك سؤر سباع الطير كالصقر والبازي والشاهين مكروه، وهذا استحسان، والقياس أن يكون نجساً قياساً على سؤر سباع البهائم، نحو الأسد والذئب والنمر وما

أشبه ذلك، وهذا لأن سؤر سباع الوحش لا يخلو عن لعابها، ولعابها متولد من لحمها، ولحمها نجس فيكون لعابها نجساً يوجب تنجس الماء، وهذا المعنى موجود في سباع الطير. وفي الاستحسان: فرق بين سباع البهائم وبين سباع الطيور، والفرق من وجهين: أحدهما: أن سؤر سباع الوحش إنما كان نجساً، لأن سباع الوحش تشرب بلسانها ولسانها مبتل بلعابها، ولعابها متولد من لحمها، ولحمها نجس فيصل شيء من لعابها إلى الماء، وإنه نجس فيوجب تنجس الماء، فأما سباع الطير فإنها تشرب بمنقارها، وكلما رفعت قطرة بمنقارها رفعت رأسها و (ابتلعت) تلك القطرة، فلا يسيل شيء من لعابها إلى الماء، وإنما يصل منقارها إلى الماء (وهو) عظم جاف لا يحتمل النجاسة.h والثاني: علمنا أنه يسيل شيء من لعابها إلى الماء، إلا أن في سباع الطيور ضرورة وبلوى لأنها تنزل من الهواء، فإذا وجدت آنية ماء تشرب منها، فلا يمكن الاحتراز عن سؤرها، وللضرورة أثر في إسقاط حكم النجاسة بخلاف سباع الوحش؛ لأنها تكون في المغاور والصحارى، ولا تنزل من الهواء، فيمكن الاحتراز عن سؤرها، فلم يسقط اعتبار النجاسة عن سؤرها، إلا أنه يكره التوضؤ بسؤر سباع الطير. واختلف المشايخ في معنى الكراهة، بعضهم قالوا: إسقاط النجاسة عن سؤرها إنما يكون للضرورة على ما بينا في الفرق الثاني، إلا أن هذه الضرورة ليست بضرورة ماسَّة فانتفت النجاسة لوجود أصل الضرورة، وبقيت الكراهة؛ لأن الضرورة ليست ثابتة، وبعضهم قالوا: إنها لا تتوخى عن النجاسات، بل يكون عامة مأكولاتها النجاسات، فلا يؤمن أن يكون على منقارها النجاسة، فيصل إلى الماء، غير أن الأصل لما كان طهارة منقارها واتصال النجاسة بمنقارها ليست بيقين حكمنا بالكراهة، ولم نحكم بالنجاسة كما في سؤر الدجاجة المخلاة، فهذا القائل يقول: إذا تيقن أنه لم يكن على منقارها نجاسة، كالبازي المأخوذ وغيره من الصقر والشاهين وأشباهها فإنه لا يكره التوضؤ بسؤرها كما في الدجاجة المحبوسة، وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله، فكأن أبا يوسف رحمه الله اعتبر الكراهة لتوهم إيصال النجاسة بمنقارها، لا لوصول لعابها إلى الماء. واستحسن المتأخرون من مشايخنا رواية أبي يوسف وأفتوا بها. وكذلك سؤر ما يسكن البيوت من الحشرات كالفأرة والحية والوزغة مكروه، والقياس أن يكون نجساً باعتبار أن عينها نجسة ولعابها يتولد من عينها، إلا أننا أسقطنا اعتبار القياس ضرورة الطواف علينا على ما نبين في سؤر الهرة، وأثبتنا الكراهة لأن الضرورة ليست بماسَّة. وكذلك سؤر الهرة مكروه عند أبي حنيفة ومحمد رحمها الله، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا تكره، ذكر لفظة الكراهة عندهما في «الجامع الصغير» وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» ، وذكر في صلاة «الأصل» : المستحب أن (لا) يتوضأ بسؤر الهرة، وإن توضأ به أجزأه.

وعن أبي يوسف رحمه الله قال: سألت أبا حنيفة رحمه الله وابن أبي ليلى عن سؤر الهرة فكرهاه، وأما أنا فلا أدري به بأساً، وهو قول الشافعي. حجة أبي يوسف والشافعي عليهما: أن رسول الله عليه السلام «كان يصغي الإناء للهرة ويشرب ما بقي ويتوضأ منه» ، وهو قوله عليه السلام: «الهرة ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم والطوافات عليكم» صرح أن الهرة عينها ليست بنجسة، وإذا لم تكن عينها نجسة لا يكون سؤرها نجساً. ولهما: قوله عليه السلام: «الهرة سبع» وقوله عليه السلام: «يغسل الإناء من ولوغ الهرة مرة» ، واختلف المشايخ في علة المسألة فالمحكي عن الطحاوي أنه كان يقول: الهرة تشرب بلسانها، ولسانها رطب بلعابها، ولعابها متولد من عينها، وعينها نجس، فكذا لعابها، لقضية هذا (وجب) أن يكون سؤرها نجساً لكن أسقطنا النجاسة ضرورة الطواف، وأثبتنا الكراهة لأن الضرورة ليست ماسَّة لا يمكن الاحتراز عنها. والمحكي عن الكرخي رحمه الله أنه كان يقول: عين الهرة ليست بنجسة ولعابها ليس بنجس، وكيف تكون نجسة مع أن الشرع أسقط نجاستها، إلا أن عامة مأكولاتها نجس، فإنها تأكل الفأرة والجيف، وعلى هذا التقدير يصير فمها نجساً، لكن هذا ليس بأمر متيقن حتى يحكم بنجاسة السؤر، ولكنه غالب، فأثبتنا الكراهة كما في يد الصبي، والمستيقظ من المنام. بعض مشايخنا قالوا: على قياس سؤر الهرة يجب أن يكون سؤر سواكن البيوت مكروهاً على الاختلاف، وبعضهم قالوا: سؤر سواكن البيوت مكروه بالاتفاق؛ لأن أبا يوسف رحمه الله إنما لم يقل بالكراهة في سؤر الهرة بالنص، ولا نص في سؤر سواكن البيوت، والله تعالى أعلم. ومما يتصل بفصل الهرة إذا أكلت فأرة وشربت من إناء على فورها ذلك يتنجس الماء بلا خلاف، وإن مكثت ساعة أو ساعتين ثم شربت لا يتنجس الماء عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد: يتنجس. فأبو حنيفة رحمه الله يقول: إذا مكثت ساعة أو ساعتين فقد غسلت فمها بلعابها، ولعابها طاهر، وإزالة النجاسة بما هو سوى الماء من المائعات عندي جائز، فشربت بعد ذلك وفمها طاهر. وأبو يوسف رحمه الله يقول: النجاسة وإن كانت لا تزول عندي إلا بصب الماء عليه لكن في مثل هذا الموضع يحكم بالزوال بدون الصب للضرورة.

ومحمد رحمه الله يقول: إزالة النجاسة بما سوى الماء من المائعات عندي لا يجوز، فبقي فمها نجساً كما كان. ونظير هذا ما قالوا فيمن شرب الخمر ثم تردد في فمه البزاق ما لو كانت تلك الخمر على ثوب طهرها ذلك البزاق: إنه يطهر فمه عند أبي حنيفة رحمه الله. وكذلك الرجل إذا أصابته نجاسة في بعض أعضائه أو أصاب بدنه فلحسها بلسانه أو مسحها بريقه حتى ذهب أثره طهر وكذلك الصبي إذا قاء على ثدي أمه ثم مص ذلك مراراً حكم بطهارته عند أبي حنيفة رحمه الله. وعلى قياس مسألة السؤر قالوا في الهرة: إذا لحست كف رجل يكره له أن يدعها تفعل ذلك، لأن ريقها ليس بطيب ولأجل ذلك كره التوضؤ بسؤرها. وكذلك قالوا: الهرة إذا أكلت بعض الطعام كره للرجل أن يأكل الباقي؛ لأن ما بقي لا يخلو عن ريقها، وريقها ليس بطيب على ما بينا. وأما النجس سؤر سباع البهائم، وقدَّ الكلام فيه ونجاسته غليظة في إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله، وفي رواية أخرى عنه خفيفة وهو قول أبي يوسف رحمه الله، وعلل أبو يوسف رحمه الله فقال: الناس اختلفوا في نجاسة سؤر (سباع) البهائم وطهارته فأوجب اختلافهم تخفيفاً فيه كبول ما يؤكل لحمه. وكذلك سؤر الخنزير وسؤر الكلب نجس، أما سؤر الخنزير: فلأن لعابه يتولد من عينه، وعينه نجس قال الله تعالى: {أو لحم خنزير فإنه رجس} (الأنعام: 145) والنجس والرجس واحد. وأما سؤر الكلب فنجاسته مذهبنا، وقال مالك: طاهر، فمن المشايخ من يسلم أن لحمه نجس ولعابه نجس بلا خلاف، إلا أنه يجعل هذه المسألة بناء على مسألة أخرى أن الماء القليل إذا وقعت فيه نجاسة هل يتنجس؟ عندنا يتنجس، وعنده لا يتنجس إلا إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه، وولوغ الكلب لا يغير لون الماء ولا طعمه ولا ريحه، فلا ينجسه، ومنهم من يقول: بأن لحمه طاهر، ولعابه كذلك عند مالك فيكون سؤره طاهراً. وعندنا لحمه نجس ولعابه كذلك، فيكون سؤره نجساً. حجة مالك: قوله تعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} (البقرة: 29) أي خلق لمصالحكم ومنافعكم، والانتفاع يكون بالطاهر (17ب1) لا بالنجس، والنص يفيد طهارة لحمه ولعابه، ومن ضرورته طهارة سؤره. وإنا نحتج بقوله عليه السلام: «يغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثاً» وهذا أمر بصيغة الجبر، وعن رسول الله عليه السلام «أنه أمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب ثلاثاً» والأمر بغسل الإناء لا يكون تعبداً؛ لأن غسل الظروف لا تعد قربة فيدل ذلك على تنجسه، وإنما تنجس الإناء بولوغه إذا كان لعابه نَجسَاً وإنما يكون لعابه نجساً إذا كان لحمه نجساً.

وكذلك سؤر الفيل نجس كسؤر السباع، هكذا روي عن محمد رحمه الله وإنه ظاهر؛ لأن الفيل سبع، لأنه ذوناب. وأما المشكل فهو سؤر الحمار واختلف المشايخ المتأخرون في أن الإشكال في طهارته أو في طهوريته، وعامتهم على أن الإشكال في طهوريته، وإنما وقع الإشكال في طهارته. إما لأن الصحابة اختلفوا في نجاستهِ وطهارته، روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه نجس، وعن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما أنه طاهر، وليس أحد القولين بأولى من الآخر فبقي مشكلاً، أو لأن الحمار يربط في الدور والأخبية فيشرب من الأواني كالهرة، إلا أن الضرورة في الحمار ليست نظير الضرورة في الهرة لأن الهرة تدخل مضايق البيوت والحمار لا يدخل مضايق البيوت. ولو لم تكن الضرورة ثابتة أصلاً كما في سؤر الكلب وسؤر سباع البهائم وجب الحكم بنجاسة سؤره بلا إشكال. ولو كانت الضرورة في الحمار نظير الضرورة في الهرة لوجب الحكم بإسقاط نجاسته وبقائه على الطهارة بلا إشكال. فإذا ثبتت الضرورة من وجه دون وجه عملنا بهما، ولوجود أصلها لم يحكم بنجاستهِ، ولانعدام ما يمنعها لم يحكم بالطهارة فبقي مشكوكاً فيه. والأصح ما نقل عن عامة المشايخ أن الإشكال في طهوريته لا في طهارته، فقد روي عن محمد رحمه الله نصاً في «النوادر» : أن سؤر الحمار طاهر ولكن الإشكال في طهوريته ما ذكرنا أن الحمار يربط في الأجنبية والدور فيشرب من الأواني كالهرة، إلا أن الضرورة في الحمار ماسَّة من وجه دون وجه، لوجود أصلها لم يحكم بنجاسته لانعدام تمامها. أخرجناه من أن يكون طهوراً فلا يطهر ما كان نجساً، ولا ينجس ما كان طاهراً. والحكم في سؤر البغل مثل الحكم في سؤر الحمار لأن البغل متولد من الحمار ومخلوق من مائه. وبعض مشايخنا قالوا: حكم سؤر الحمار أخف من سؤر البغل لأن البلوى في حق الحمار أكثر من البلوى في البغال لكثرة الحمر وقلة البغال فيما بين الناس. وبعض الناس فرقوا في الحمير بين الفحل والأتان فقالوا: سؤر الفحل يكون نجساً؛ لأنه يشم الأبوال فتتلطخ شفتاه وتتنجس. فإذا دخل في الماء القليل يتنجس الماء ضرورة، ولا كذلك الأتان لأنها لا تشم الأبوال. وعندنا الكل مشكل لأن غمس الشفة في البول موهوم، والأصل هو الطهارة فلا تثبت النجاسة في شفتها بالشك، كما قلنا في الدجاجة المخلاة سؤرها طاهر، فاعتبار الأصل وإن كان الظاهر من حالها الجولان في العذرات. وعن الكرخي عن أبي حنيفة رحمه الله: أن سؤر الحمار نجس؛ لأن لعابه لا يخلو عن قليل الدم لما يلحقه من التعب بحمل الأثقال، ولكن هذا المعني يشكل بسؤر الدواب التي يؤكل لحمها ويحل عليها نحو البعير والقر. وذكر البلخي في «اختلاف زفر ويعقوب» : أن سؤر الحمار نحسٌ عند زفر والحسن نجاسة حقيقية طاهر عند أبي يوسف. وفي باب السهو من «الأصل» وقال أبو

يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا سقط شيء من لعابها في وضوء رجل قليلاً كان أو كثيراً يفسد الماء ولا يجزىء من توضأ به. وذكر في باب الوضوء من «الأصل» الجواب في لعاب ما لا يؤكل لحمه ولم يضفه إلى أحد. قال بعض مشايخنا في «شرحه» : أراد بفساد الماء ههنا أن لا يعد طهوراً. وروى البغداديون عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن سؤر ما لا يؤكل لحمه بمنزلة بوله إذا كان أكثر من قدر الدرهم الكبير أفسد الصلاة. وأما سؤر الفرس فعن أبي حنيفة رحمه الله فيه أربع روايات. قال في رواية: أحبّ إليّ أن يتوضأ بغيره، وهذه رواية البلخي عنه، وفي رواية الحسن: أنه مكروه كلحمه. وفي رواية أخرى قال: هو مشكوك كسؤر الحمار، لأن لحم الفرس عنده حرام كلحم الحمار. وفي رواية كتاب «الصلاة» قال: هو طاهر وهو الصحيح من مذهبه لأن كراهية لحمه عنده ما كانت لنجاسته بل لاحترامه لأنه آلة الجهاد، وحرمة اللحم لأجل الاحترام لا توجب نجاسة السؤر كسؤر الأدمي. وعندهما: سؤره طاهر والله أعلم. (فصل في) بيان حكم عرق الحيوانات ولعابها ذكر الكرخي والطحاوي رحمهما الله في «مختصريهما» أن عرق كل شيء مثل سؤره في النجاسة والطهارة والحرمة والكراهة. وفي باب السهو من «الأصل» : أن عرق الحمار والبغل ولعابهما لا ينجس الثوب وإن فَحُشَ. وإذا وقعا في الماء القليل أفسداه وإلا فلا. قال بعض مشايخنا وهذا بتفرقةٍ بين الثوب والماء كما ظنه بعض المشايخ لأنه لم يحكم بنجاسة الثوب الطاهر بالشك ولم يحكم بزوال الحدث بذلك الماء بالشك حتى لو وقع ذلك الثوب في الماء القليل لا يجوز التوضؤ به. ولو أصاب ذلك الماء الثوب لا يمنع جواز الصلاة فيه وإن فحش. وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف: أن الماء يتنجس بوقوع عرق الحمار فيه. وفيه أيضاً: أن عرق الحمار نجس نجاسة خفيفة حتى إن الكثير الفاحش على ربع الثوب يمنع جواز الصلاة وما دونه لا يفسد الصلاة. وهكذا روى عنه «الأمالي» ، وفي «جامع البرامكة» عن أبي حنيفة رواية أبي يوسف في عرق الحمار: أنه إذا كان أكثر من قدر الدرهم أفسد الصلاة. وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمهما الله أن عرق الحمار ولعابه إذا وقع في البئر مثلاً كيف ينزح ماء البئر. يحتمل أنه إنما قال: ينزح حتى يصير طهوراً، ويحتمل أنه إنما قال ذلك حتى يصير البئر طاهراً. وعن أبي حنيفة رحمه الله في عرق الحمار ثلاث روايات، في رواية قال: هو طاهر، فقد روي أن رسول الله عليه السلام «كان يركب الحمار معرورياً» ... .... .... .....

فلا بد أن يعرق الحمار، والمعنى أن للناس في عرق الحمار ضرورة لأنهم يركبون الحمار عرياً في الصيف والشتاء في الحضر والسفر، فلا بدّ وأن يعرق الحمار، ولو لم يحكم بطهارته ضاق الأمر على الناس ووقعوا في الحرج. وفي رواية قال: هو نجس نجاسة خفيفة؛ لأن في عرق الحمار ضرورة على ما بينّا، إلا أن هذه الضرورة ليست بضرورة ماسَّة لأنه يمكن التحرز عنها، ولوجود أصل الضرورة أسقطنا الغلظ. ولما أن الضرورة ليست ماسَّة أثبتنا النجاسة عملاً بالدليلين جميعاً. وفي رواية أخرى قال: هو نجس نجاسة غليظة؛ لأن عرقه يتولد من لحمه ولحمه نجس نجاسة غليظة، وما يتولد من لحمه يكون بهذه الصفة. وفي «القدوري» : أن عرق الحمار طاهر في الروايات المشهورة، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أن عرق الحمار والبغل نجس وإنما جعل عفواً في الثوب والبدن لمكان الضرورة. ولبن الأتان نجس في ظاهر الرواية. وروي عن محمد رحمه الله: أنه طاهر ولا يؤكل. وروي عن أصحابنا في لبن المرأة الميتة أنه طاهر وكذا لبن الشاة الميتة والبقرة الميتة والله أعلم. ومما يتصل بهذا الفصل بيان ما يجوز التوضؤ من المائعات سوى الماء وما لا يجوز. ولا يجوز التوضؤ بشيء من المائعات سوى الماء نحو الخل والدهن والمرئي وما أشبه ذلك. وأما التوضؤ بالأنبذة اتفقوا على أنه لا يجوز حال وجود الماء، وأما حال عدم الماء قال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز التوضؤ بنبيذ التمر، فقد ذكر في «الجامع» عن أبي حنيفة رحمه الله في المسافر إذا لم يجد إلا نبيذ التمر: أنه يتوضأ به ولا يتيمم، وقال في كتاب الصلاة عن أبي حنيفة: لو تيمم مع ذلك أحب إليّ وإن لم يتيمم أجزأه. وروى نوح الجامع عن أبي حنيفة: أنه رجع عن ذلك، وقال: لا يتوضأ به ويتيمم، وهو قول أبي يوسف رحمه الله والشافعي (18أ1) ومالك، وقال محمد رحمه الله يجمع بينهما، وستأتي المسألة في باب التيمم إن شاء الله تعالى. وحكي عن أبي طاهر الدباس أنه يقول: إنما اختلاف أجوبة أبي حنيفة في نبيذ التمر باختلاف السيولة، كأنه سئل عن التوضؤ بنبيذ التمر إذا كان الماء غالباً على الحلاوة فأجاب وقال: يتوضأ به ولا يتيمم. وسئل مرة أخرى عن التوضؤ بنبيذ التمر إذا كانت

الفصل الخامس (في التيمم)

الحلاوة غالبة قال: يتيمم ولا يتوضأ به وسئل مرة أخرى عن التوضؤ بنبيذ التمر إذا كانا سواء قال: يتوضأ به ويتيمم، فعلى هذا يرتفع الخلاف. قال القدوري في «كتابه» وكان أصحابنا يقولون: إن التوضؤ بالنبيذ على أصولهم يجب أن لا يصح إلا بالنية كالتيمم؛ لأنه بدل عن الماء كالتيمم؛ ولهذا لا يجوز التوضؤ به حال وجود الماء إلا أنه مقدم على التيمم بالحين، لما كان بدلاً لا يجوز التوضؤ به بدون النية كالتيمم. ولا نصّ عن أبي حنيفة في الاغتسال بنبيذ التمر، واختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يجوز؛ كالوضوء، وبعضهم قالوا: لا يجوز؛ لأن جواز الوضوء عرف بخلاف القياس بالخبر، والاغتسال فوق الوضوء لا يلحق به في حق حكم ثبت بخلاف القياس، ثم لم يصف محمد رحمه الله نبيذ التمر في «الأصل» وفي «الجامع الصغير» . وإنما وصفه في «النوادر» فقال: على قول أبي حنيفة رحمه الله إنما يجوز الوضوء بنبيذ التمر إذا كان رقيقاً يسيل على العضو إذا صب عليه، وأما إذا كان مثل الزيت غليظاً بأن ألقى تمرات في الماء وطبخ ذلك الماء حتى صار غليظاً، أو عصيراً لرطب حتى سال منه الماء فذلك يسمى دبساً فلا يجوز التوضؤ به، ثم الرقيق منه ما دام حلواً وحامضاً فالتوضؤ به جائز عند أبي حنيفة رحمه الله، وكذا إذا غلا واشتد وقذف بالزبد يجوز التوضؤ به عند أبي حنيفة رحمه الله أيضاً ذكره أبو الليث رحمه الله في «كتابه» ، وذكر أبو طاهر الدباس وأبو الحسن القدوري رحمهما الله: أنه لا يجوز التوضؤ به بعدما اشتد وصار مسكراً بالإجماع، وهذا إذا كان نيئاً أما إذا كان طبخ أدنى طبخة قال الكرخي رحمه الله: يجوز التوضؤ به مراً كان أو حلواً عند أبي حنيفة رحمه الله، ومن المشايخ من قال: لا يجوز، ومنهم من قال: إن كان حلواً يجوز التوضؤ به؛ لأنه مَاءٌ طبخ مع التمر فصار كماء طبخ مع الصابون والأشنان، وإن اشتد فهو نجس على إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله فلا يجوز التوضؤ به. ولا يجوز التوضؤ بسائر الأنبذة عندنا، خلافاً لبعض الناس، فإنهم قاسوا سائر الأنبذة على نبيذ التمر، ونحن نقول: جواز التوضؤ بنبيذ التمر عرف بالسنة فلا تجوز سائر الأنبذة بالقياس والله أعلم بالصواب. الفصل الخامس (في التيمم) الأصل في جواز التيمم قول الله تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء: 43) وقوله عليه السلام: «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء» وقوله عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً أينما أدركتني الصلاة

تيممت وصليت» . وهذا الفصل يشتمل على أنواع: الأول: في كيفيتهِ وصفته. قال محمد رحمه الله في بعض روايات «الأصل» : يضع يديه على الأرض، وقال بعضهم يضرب يديه على الأرض ضربة، والآثار جاءت بلفظة الضرب أفضل لأن بالضرب يدخل التراب إلى الأصابع وبالوضع لا يدخل. ثم قال بعضهم: ويمسح بهما وجهه، والمروي عن أبي يوسف رحمه الله أن ينفضهما مرتين، والمروي عن محمد رحمه الله أن ينفضهما مرة. قالوا: ولا خلاف في الحقيقة؛ لأن ما روي عن أبي يوسف محمول على ما إذا ألصق بيديه من التراب شيء كثير، وما روي عن محمد محمول على ما إذا ألصق بيديه من التراب شيء قليل والمرة تكفي، والمرتان لا بأس بهما، وهذا لأن الواجب المسح بكف موضوع على الأرض لا استعمال التراب لأن ذلك مثله. قال: ثم يضرب يديه ضربة أخرى على الأرض ثم ينفضهما ويمسح اليمن باليسرى ويمسح اليسرى باليمن، يمسح كفيه وذراعيه إلى المرفقين، هذا هو مذهب علمائنا. وللعلماء في المسألة أقاويل كثيرة، والصحيح مذهبنا، لما روي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال: «التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين» . وعن بعض موالي رسول الله عليه السلام قال: «التيمم ضربتين: ضربة للوجه وضربة لليدين» . ولم يذكر في «الكتاب» نصاً أنه يضرب ظاهر كفيه على الأرض أو باطنهما، وإنما أشار إلى أنه يضرب باطنهما فإنه قال: فإن مسح وجهه وذراعيه ولم يمسح ظهر كفيه لا يجوز، وإنما يستقيم وضع المسألة على هذا الوجه إذا كان يضرب باطن كفيه على الأرض، قال أبو يوسف رحمه الله في «الإملاء» : سألت أبا حنيفة رحمه الله عن التيمم فقال: الوجه والذراعان إلى المرفقين، فقلت: كيف؟ قال: بيده على الصعيد فأقبل بيديه وأدبر ثم نفضهما ثم مسح وجهه ثم أعاد كفيه جميعاً على الصعيد فأقبل بهما وأدبر ثم رجعهما ونفضهما ثم مسح بكل كف ظهر ذراع الأخرى وباطنها إلى المرفقين. وفي قوله: فأقبل بهما وأدبر وجهان: أحدهما: أنه ضرب ببطن كفيه وظهرهما على الأرض. وعلى هذا الوجه يصير هنا رواية أخرى، بخلاف ما أشار إليه محمد رحمه الله. والثاني: أنه أقبل بهما وأدبر لينظر هل التصق بكفيه شيء يصير حائلاً بينه وبين الصعيد، وقال بعض مشايخنا في كيفية التيمم: أنه إذا ضرب يديه على الأرض في المرة الثانية. ونفضها ينبغي أن يضع بطن كفه اليسرى على ظهر كفّه اليمنى ويمسح بثلاثة أصابع

يده اليمنى أصغرها ظاهر اليد اليسرى إلى المرفق ثم يمسح باطنه بالإبهام، والمستحب إلى رؤوس الأصابع.H وهل يمسح الكف؟ تكلموا فيه، قال بعضهم: لا يمسح لأنه مسحه مرة حين يضرب يديه على الأرض. ثم يفعل باليد اليسرى على نحو ما ذكرنا في اليد. اليمن ولو مسح وجهه وذراعيه بضربة واحدة لا يجزئه. ولو تمعك في التراب بنية التيمم فأصاب التراب وجهه ويديه أجزأه؛ لأن المقصود قد حصل. وفي بعض المواضع ذكر المسألة من غير شرط نية التيمم، والصحيح ما قلنا؛ لأن النية في التيمم شرط لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. ولو قام فهبت الريح أو هَدَمَ حائِطَاً فأصاب الغبار وجهه وذراعيه فمسحه بنية التيمم جاز في قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن المقصود قد حصل، وبدون المسح بنية التيمم لا يجوز. وعلى هذا إذا ذرّ رجل على وجهه تراباً لم يجز، فإن مسح ينوي به التيمم والغبار على وجهه جاز على قول أبي حنيفة رحمه الله لما ذكرنا. ذكر الكرخي رحمه الله في كتابه: أن استيعاب العضوين بالتيمم واجب في ظاهر رواية أصحابنا حتى لو ترك المتيمم شيئاً قليلاً من مواضع التيمم لا يجزئه وهذا ظاهر؛ لأن التيمم قائم مقام الوضوء. ولو ترك المتوض شيئاً قليلاً من مواضع الوضوء في الوضوء لا يجزئه كذا هذا. وروي عن محمد رحمه الله في «النوادر» ما يؤكد هذا القول، فإنه روي عنه في «النوادر» أنه إذا لم يدخل الغبار من أصابعه فعليه أن يخلل ما بين أصابعه، وفي هذه الحالة يحتاج إلى ثلاث ضربات: ضربة للوجه وضربة لليدين وضربه لتخليل الأصابع، وهذا دليل على أنه إذا كان في أصبعيه خاتم أو على يدي المرأة سوار فلم ينزع في حالة التيمم أنه لا يجزئه. وروى الحسن عن أصحابنا أنه إذا ترك أقل من الربع يجزئه. وفي «المجرد» رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه إذا مسح أكثر الكف والذراعين أنه يجوز كما في مسح الرأس ومسح الخف فعلى هذه الرواية الغرض استيعاب أكثر المحلّ لأن استيعاب جميع المحل؛ في الممسوحات لا يكون شرطاً يحرج لأن لا ... وعلى هذه الرواية لا يجب تخليل الأصابع وينزع الخاتم والسوار. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وينبغي أن يحفظ هذه الرواية حداً لكثرة البلوى فيه، وروي عن محمد رحمه الله ما يخالف رواية الحسن فإنه روي عنه أنه لو ترك المسح على ظهر كفه لا يجزئه وظهر الكف أقل من الربع، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: ظاهر الرواية ما رواه الحسن أن المتروك لو كان أقل من الربع أنه يجوز وتخريج مسألة ظهر الكف: أن (18ب1) الكف عضو على حدة، فظهر الكف لا يكون أقل من الربع، فعلى رواية

الحسن يحتاج إلى الفرق بين التيمم وبين الوضوء: وجه الفرق: أن حكم الوضوء أغلظ من حكم التيمم لذا شرع التيمم في عضوين والوضوء في أربعة أعضاء، واختلف العلماء في وجوب التيمم في الذارعين، قال الشافعي في القديم لا يجب، وهو قول مالك............ وقدروا الكبير بالربع، وإذا تيمم وهو مقطوع اليدين من المرافق فعليه أن يمسح موضع القطع عندنا ولا يجزئه تركه، وعند زفر رحمه الله لا يمسح بناءً على أن المرفق عنده لا يدخل في فرض الطهارة. فإن قيل: كيف يجب مسح ذلك الموضع وإنه لم يكن واجباً قبل القطع قلنا: إنما لم يجب قبل القطع؛ لأنه كان مستوراً فلما قطع صار مكشوفاً، فإن كان القطع من فوق المرفق بأن كان من المنكب أو دون ذلك لم يكن عليه مسحه؛ لأنه لا يجب عليه غسله في الوضوء قبل القطع فلا يجب مسحه في التيمم بعد القطع والله أعلم. (نوع آخر) في بيان شرائطه فنقول من شرط صحته: النية وهذا مذهبنا، وقال زفر رحمه الله النية ليست شرطاً لصحته، حجته: أن التيمم طهارة بالنص فلا يحتاج إلى النية كالوضوء. لنا: أن التيمم ليس بطهارة حقيقية. وإنما جعل طهارة بطريق الضرورة في حق المريد لإقامة القربة ولا إرادة إلا بالنية. واسم التيمم دليل عليه، فإنه عبارة عن القصد والقصد بدون النيّة لا يكون. وتكلموا في كيفية النية روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: ينوي الطهارة لقربة لا تتأدى من غير طهارته؛ لأنها شرعت لأجلها، وذكر القدوري فقال: ينبغي أن ينوي الطهارة واستباحة الصلاة. وعن محمد رحمه الله في الجنب إذا تيمم يريد بها الضوء أجزأه من الجنابة؛ لأن التيمم طهارة فلا تعتبر نية إستباحتها كالوضوء. وعن أبي بكر الرازي رحمه الله: أنه لا بُدّ من التمييز فينوي الحدث أو الجنابة؛ لأن التيمم لهما بصفة واحدة فلا بد من التمييز بالنية كالصلاة التي تقع عن الفعل والعرض لما كانت على صفة واحدة شرط نية التعيين كذا هذا. وذكر القدوري في «شرحه» : أنه لو تيمم للنافلة جاز أداء الفرض به، وقال الشافعي: لا يجوز لأنها طهارة ضرورية فلا تظهر إلا فيما فيه ضرورة، ولنا: أن الضرورة إنما اعتبرت لضرورة التيمم طهارة. فإذا صارت طهارة بحكم الضرورة لا يفصل بين نوع ونوع، ألا ترى أنه لو تيمم للفرض جاز أداء النافلة به، ولم يعتبر ما قال كذا هذا. وعلى هذا الخلاف إذا تيمم لفرض جاز أداء فرض آخر به عندنا خلافاً للشافعي. والمعنى من الجانبين ما ذكرنا وقوله عليه السلام: «التراب كافيك ولو إلى عشر حجج» ، دليل لنا في المسائل كلها وفي «الفتاوى» : إذا تيمم الجنب لقراءة القرآن أو

لمس المصحف أو لدخول المسجد لا يجوز له أن يصلي بذلك التيمم عند عامة العلماء إلا على قول أبي بكر ابن سعيد البلخي. ولو تيمم لصلاة الجنازة أو لسجدة التلاوة أجزأه أن يصلي به المكتوبة بلا خلاف؛ لأن في الوجه الأول التيمم لم يقع في صلاة ولا لجزء من الصلاة. وفي الوجه الثاني وقع للصلاة أو لجزء من الصلاة، وقوله: لو تيمم لسجدة التلاوة دليل على أنه يجوز التيمم لسجدة التلاوة. وذكر القدوري في «شرحه» : أنه لا يجوز التيمم لسجدة (التلاوة) لأنها غير قربة فلا، يخاف فوتها لو أخّر إلى وقت الوضوء، والحاصل: أن على قول عامة العلماء: لو وقع التيمم للصلاة أو لجزء من الصلاة جاز أن يصلي به صلاة أخرى وما لا فلا. وعلى هذا: إذا تيمم يريد به تعليم غيره أو تيمم لزيارة القبر لا يجوز له أن يصلي بذلك التيمم. ولو تيمم الكافر ثم أسلم لم يجزئه أن يصلي بذلك التيمم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. ومن جملة الشرائط: طلب الماء في العمرانات حتى لو تيمم في العمرانات قبل الطلب لا يجزئه التيمم، وهذا بخلاف. وأما في الفلوات لا يشترط الطلب عندنا خلافاً للشافعي، حجته في ذلك: قوله تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء: 43) . ومعناه: بعد الطلب لأنه لا يقال لغير الطالب، لم يجد. ولنا: أن الطلب غير منصوص عليه في الآية، والوجود لا يقتضي الطلب قال الله تعالى: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} (الأعراف: 102) ، وقال عليه السلام: «من وجد لقطة فليعرفها» ويقال: يجد فلان مرضاً في نفسه. فمن شرط الطلب فقد زاد على النص. والمعنى فيه: أنه تيمم حال عدم الماء من حيث الحقيقة والظاهر وعدم الدليل عليه فيجزئه كما بعد الطلب، بيانه: أن العدم ثابت وجه الحقيقة وإنه حد الوجود وانعدم الدليل الدال على الوجود أيضاً من حيث الظاهر لأن الظاهر في الفلوات عدم الماء بخلاف العمرانات؛ لأن العدم من حيث الحقيقة إن كان ثابتاً فمن حيث الظاهر غير ثابت، فإن قيام العمارة بالماء فلم يثبت العدم من حيث قيام الدليل الدال على الماء وشرط الجواز عدمٌ مطلق. وإذا غلب على ظن المسافر أن بقربه ماء لو طلبه وجده أو أخبر به، وجب عليه الطلب بالإجماع، وإنما الخلاف فيما إذا لم يغلب على ظنه ذلك أو لم يخبر به. والترتيب في التيمم ليس بشرط للجواز عندنا، حتى لو بدأ بذراعيه في التيمم يجوز عندنا، وكذلك الموالاة ليس بشرط للجواز عندنا، حتى لو مكث بعدما يمّم وجهه ساعة ثم يمّم ذراعيه أجزأه عندنا اعتباراً للتيمم بالوضوء والله أعلم. ومن جملة الشرائط: عجزه عن استعمال الماء، وإذا تيمم المسافر والماء منه قريب

وهو لا يعلم أجزأه تيممه، لأنه عاجز عن استعماله، حين عَدِمَ آلة الوصول إليه وهو العلم به فهو كما لو كان على رأس البئر وليس معه آلة الاستقاء فله أن يتيمم فكذلك ههنا. فإن كان عالماً بالماء لم يجز التيمم؛ لأنه قادر على استعمال الماء. وإن كان الماء بعيداً عنه جاز له التيمم وإن كان عالماً به، يذكر في «الكتاب» حد القرب والبعد. وروي عن محمد رحمه الله أنه إذا كان بينه وبين الماء دون ميل لا يجزئه اليتيم ويكون قريباً وإن كان ميلاً أو أكثر أجزأه التيمم لكونه بعيداً، والميل ثلث فرسخ، وقال الحسن بن زياد رحمه الله: إنما يكون الميل بعيداً عن يمينه أو عن يساره أو خلفه حتى يصير ميلين ذهاباً ورجوعاً. فأما هنا إذا كان قدامه فإنه يكون الميل قريباً فيعتبر ميلين لجواز التيمم. كذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وشمس الأئمة السرخسي. وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في رواية أبي حنيفة مع محمد رحمهما الله وفسّر الميل بثلاثمئة ذراع وخمسمئة ذراع إلى أربعة آلاف. هكذا فسره ابن شجاع في «كتابه» . وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه حدّ لهذا بحد آخر وقال: إن كان بحال لو اشتغل به تذهب القافلة وتغيب عن بصره يكون بعيداً وإن كان على العكس فهو قريب. وذكر شيخ الإسلام هذه الرواية. وذكر زفر رحمه الله: إذا كان بحيث يصل إلى الماء قبل خروج الوقت لا يجزئه التيمم، وإن كان على العكس يجزئه لضرورة الحاجة إلى أداء الصلاة في الوقت، ولكنا نقول: التفريط جاء من قبله بتأخير الصلاة فليس له أن يتيمم إذا كان الماء قريباً منه. هذا الذي ذكرنا في حق المسافر. وأما المقيم إذا خرج من مصره لا يريد سفراً وقد بعد عن المصر وليس معه ماء، هل يجوز له التيمم؟ سيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وذكر الكرخي رحمه الله في «كتابه» : إذا كان بحيث يبلغه صوت أهل الماء يكون قريباً، لا يجوز له التيمم، فإن كان لا يبلغه صوتهم يكون بعيداً فحينئذ يجوز له التيمم. وإذا كان مع رفيقه ماء ولم يكن معه ماء فإنه يسأل، هكذا ذكر في «الأصل» رأيت في موضع آخر عن أصحابنا: إذا كان غالب ظنه أنه يعطيه لم يجز له أن يتيمم بل يسأل. وعلى قول الحسن بن زياد رحمه الله: لا يسأل فإن سأله فأبى أن يعطيه إلا بالثمن ولم يكن معه ثمنه فإنه يتيمم بالإجماع لعجزه عن استعمال الماء، وإن كان معه ثمنه فهذا على ثلاثة أوجه: أما إن أعطاه بمثل قيمته في ذلك الموضع، أو بغبنٍ يسير، أو بغبن فاحش. ففي الوجه الأول والثاني ليس له أن يتيمم بل يشتري ويتوضأ، هكذا ذكره في بعض المواضع، وفي بعض المواضع إذا باعه (19أ1) . بمثل القيمة أو بغبن يسير ومعه مال زيادة عليها يحتاج إليه في الزاد مقدار ثمن الماء لا يتيمم بل يشتري الماء، وفي الوجه الثالث يتيمم، وقال الحسن البصري رحمه الله: يلزمه الشراء بجميع ماله لأنه لا......... لأن حرمة مال المسلم كحرمة النفس قال عليه السلام: «من قتل دون

ماله فهو شهيد» . ثم لو خاف تلف عضو جاز له التيمم، فإذا خاف............ أولى أن يجوز التيمم. ولم يذكر في «الأصل» للغبن الفاحش تقديراً، وقد ذكر في «النوادر» إن كان المال الذي يكفي للوضوء يوجد في ذلك الموضع بدرهم فأبى أن يعطيه صاحب الماء إلا بدرهم ونصف يلزمه أن يشتري ولا يتيمم، وإن أبى أن يعطيه إلا بدرهمين يتيمم ولا يشتري، فجعل الغبن الفاحش في تضعيف الثمن. وإنما قلنا: إذا كان يعطيه بمثل ثمنه أو بنصف يسير فعليه أن يشتري لأن قدرته على بذل الماء كقدرته على عينه، كما أن القدرة على ثمن الرقبة كالقدرة على عينها في المنع من التكفير بالصوم، وقال بعضهم: الغبن الفاحش ما لا يدخل تحت تقويم المقومين. وفي «القدوري» : إذا زاده على ثمن المثل بما لا يتغابن الناس فيه يتيمم، ولم يلزمه الشراء، وهو والذي قبله سواء، وتعتبر قيمة الماء في أقرب المواضع من الموضع الذي يشتري فيه، وقد أشار في مسألة «النوادر» إلى أعشار قيمته في المكان الذي يشتري فيه، وذكر الشيخ الإمام الصفار: المسافر إذا كان في موضع عز الماء في ذلك الموضع فالأفضل أن يسأل، وإن لم يسأل وتيمم وصلى فإنه تجوز صلاته، لأن الظاهر أنه يجري الشح في الماء في مثل ذلك الموضع، ولو أعطاه بعد ذلك لا تجوز صلاته، وعليه أن يعيد تلك الصلاة لأنه لما أعطاه كان الظاهر أنه لم يسأل قبل ذلك العطاء. فإذا لم يسأل جاء التقصير من قبله فلا يجوز. فأما إذا كان في موضع لا يرى فيه الماء فإنه يسأل حتى أنه لو لم يسأل وصلى بالتيمم لا تجوز صلاته كما في....... الظاهر أنه لا يجري الشح والصفة في مثل هذا الموضع، فلو أنه سأل فأبى أن يعطيه فتيمم وصلى ثم أعطاه بعد ذلك فإنه تجوز صلاته، لأنه عجز عن استعمال الماء وقت أداء الصلاة، فالقدرة على استعماله بعد ذلك لا ينفع كما إذا صلى بالتيمم ثم وجد الماء. وقد ذكرنا هذا. قال شمس الأئمة: وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمهما الله يقول: إن بعض الحجاج إذا انصرفوا من حجّهم يضعون ماء زمزم في آنية الاستستقاء أو للعطية، ويجعلون رأس الآنية مرصصاً ولا يخافون على أنفسهم العطش، فربما يعزّ الماء في بعض المواضع فيتيممون وماء زمزم في رحلهم ويرون ذلك جائزاً، وهذا منهم جهل وحمق لأنهم واجدون للماء فلا يجزئهم التيمم. وذكر هذه المسألة في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله وذكر فيها حيلة فقال: الحيلة أن يهب ذلك الماء لمن يسلمه إليه ثم إن الموهوب له يستودعه منه فيجوز له التيمم، إلا أن

هذه الحيلة عندنا ليست بصحيحة؛ لأن القدرة على استعمال الماء بواسطة الرجوع في الهبة ثابتة فيمنع جواز التيمم، ألا ترى أن القدرة على استعمال الماء بالشراء منعت جواز التيمم فههنا أولى. فإن كان مع رفيقه دلو وليس معه دلو فإنه لا يجب عليه أن يسأل، وفي الماء يجب عليه أن يسأل. والفرق: وهو أن الوضوء يحصل بالماء لا بالدلو فربما يمكنه الاستقاء بالدلو وربما لا يمكنه وربما يعطيه وربما لا يعطيه، فلا حلية بالسؤال، فإن سأل الدلو، فقال له: انتظر حتى استقي الماء ثم أدفع إليك الدلو فالمستحب عند أبي حنيفة رحمه الله أن ينتظر إلى آخر الوقت فإن خاف فوات الوقت صلى، وعندهما ينتظر وإن خاف فوات الوقت. وعلى هذا الاختلاف: إذا كان عرياناً ومع رفيقه ثوب فقال: انتظر حتى أصلي ثم أدفع إليك الثوب. وأجمعوا على أنه إذا قال لغيره: أحل لك مالي لتحج فإنه لا يجب عليه الحج، وأجمعوا أن الماء ينتظر وإن خرج الوقت. وحاصل الاختلاف راجع إلى أن القدرة على ما سوى الماء هل تثبت بالإباحة، عند أبي حنيفة رحمه الله لا تثبت بالإباحة، وإنما تثبت بالملك، ولم يوجد ههنا الملك، فلم تثبت القدرة فيجزئه التيمم. وعندهما القدرة على ما سوى الماء كما تثبت بالملك تثبت بالإباحة، وقد وجدت الإباحة ههنا فثبتت القدرة وصار كما لو كان معه دلو مملوك له، ولو كان هكذا يجوز التيمم كذا ههنا. وإذا انتهى إلى بئر وليس معه دلو كان له أن يتيمم لعجزه عن استعمال الماء، وكذا إذا كان معه دلو إلا أنه ليس معه رشاء فإنه يتيمم لعجزه عن استعمال الماء قالوا: إذا لم يكن معه منديل طاهر يصلح لذلك، فإن كان ذلك لا يتيمم، فإذا أتى حيّاً من الأحياء وطلب الماء فلم يجد فصلى بالتيمم فهو على وجهين: إن رأى قوماً من أهله ولم يسألهم وصلى بالتيمم ثم سألهم وأخبروه بالماء لم تجز صلاته. وإن سألهم فلم يخبروه أو لم يَرَ قوماً من أهله جازت صلاته. فإن كان معه سؤر حمار أو بغل وليس معه غير ذلك، يتوضأ ويتيمم، يريد به الجمع والترتيب، وإنما أمره بالجمع؛ لأن سؤر الحمار مشكل على ما مر، فأمر بالجمع احتياطاً، وبأيهما بدأ جاز عندنا؛ لأن الاحتياط في الجمع لا في الترتيب، ولكن الأفضل أن يبدأ بالوضوء ليكون عارياً للماء الطاهر فيتعين، فإن لم يفعل إلا أحدهما وصلى، أعاد الصلاة لأن في أداء الصلاة بالطهارة شكاً. فإن كان في الجمع احتياطاً، من الوجه الذي قلتم ففيه ترك الاحتياط من وجه آخر، لأنه إن كان الإشكال في طهارته ونجاسته كما ذهب إليه بعض المشايخ فعلى تقدير أنه نجس تتنجس أعضاؤه ويصلي مع الأعضاء النجسة. قلنا: موضوع المسألة أنه لا ماء غير سؤر الحمار، ومن كان أعضاؤه نجسة وليس معه ماء طاهر حتى يغسلها جاز له أن تيمم ويصلي، فليس في الجمع ترك الاحتياط، فإن

توضأ بسؤر الحمار وصلى ثم تيمم وصلى تلك الصلاة في الصحيح أنه لا يلزمه الإعادة، وكذلك لو بدأ بالتيمم وصلى ثم توضأ بسؤرالحمار وصلى لا يلزمه الإعادة. ولو تيمم وصلى ثم أهراق سؤر الحمار يلزمه إعادة التيمم والصلاة لاحتمال أن سؤر الحمار كان طاهراً. فإن كان معه نبيذ التمر وليس معه غيره قال أبو حنيفة رحمه الله يتوضأ ولا يتيمم. هكذا ذكر في «الزيادات» وفي «الجامع الصغير» وذكر في كتاب الصلاة عن أبي حنيفة رحمه الله: وأن يتيمم مع ذلك أحبّ إليّ، غير أنه لو ترك التيمم أجزأه. ولو ترك التوضؤ به لا يجزئه. وروى نوح الجامع عن أبي حنيفة رحمه الله: أن التوضؤ بنبيذ التمر منسوخ فيتيمم ولا يتوضأ، وهو قول أبي يوسف ومالك والشافعي. وقال محمد رحمه الله: يجمع بينهما كما في سؤر الحمار وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله، فإن لم يجد إلا سؤر الكلب يتيمم ولا يتوضأ به عندنا. وإن مرّ المسافر بمسجد فيه عين ماء وهو جنب ولا يجد غيره فإنه يتيمم لدخول المسجد ثم يدخل المسجد ويستقي من البئر، وإن لم يكن معه ما يستقي به ولا ما يستطيع به أن يفترق منه ولكنه يستطيع أن يقع فيها؛ فإن كان ماءً جارياً، أو حوضاً كبيراً اغتسل فيه، وإن كان عيناً صغيراً لا يغتسل فيه، لأنه لو اغتسل فيه يتنجس الماء ولا يطهر فلا يشتغل به ولكنه يتيمم للصلاة. وهذا إشارة إلى أنه لا يصلي بالتيمم الأول لأن قصده من ذلك دخول المسجد لا الصلاة. وقد مرّ جنس هذه المسائل. قال في «الجامع الصغير» : رجل يصلي وفي رحله ماء قد نسيه فتيمم وصلى ثم تذكر الماء بعد فراغه من الصلاة والوقت قائم يجزئه، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يجزئه. أبو يوسف يقول: التيمم شرع حال عدم الماء بالنص وهو واجدٌ للماء فالنسيان لا يضاد الوجود إنما يضاد العلم ولأنه تيمم قبل طلب الماء في مقرب الماء فلا يجوز قياساً على ما إذا تيمم في العمرانات قبل طلب الماء......... المسافر مقرب الماء كما أن العمرانات موضع الماء. وهما قالا: إن الوجود المذكور في النص عبارة عن القدرة فكأن الله تعالى قال: فإن لم تقدروا على استعمال الماء. ألا ترى أنه لو كان (19ب1) مريضاً يضره استعمال الماء، أو كان ثمة سبع، أو ليس معه دلو فهو واجد للماء لكن لم يقدر على استعماله جاز له التيمم، وهاهنا عجز عن استعماله عند البلوى وهو النسيان، والنسيان مما لا يمكن دفعه عن نفسه كالمرض بل النسيان أبلغ من المرض، فإن المريض لو تكلّف يمكنه استعمال الماء، والناسي وإن تكلف لا يمكنه استعمال الماء. وقوله: إن على المسافر......... موضع الحاجة إلى الماء، والماء الذي في الرحل ليس له فلا يفصل عن الحاجة، فوقع التعارض فسقط فرض الطلب بخلاف القرية

العامرة، والثاني: أن......... اعتبار ظنه بمنزلة الاختيار، إنسان في العمرانات يعدم الماء ثم هناك تيمم فكذا هذا. ثم قول محمد رحمه الله في «الكتاب» : رجل في رحله ماء قد نسيه، دليل على أن الخلاف فيما إذا علم بكون الماء في رحله في الابتداء ... بأن وضعه بنفسه أو وضع غيره بأمره، ثم خفي عليه لأن النسيان إنما يكون بعد العلم، فعلى هذا لو كان الواضع غيره وهو لا يعلم به فإنه يجوز التيمم بالاتفاق. وإلى هذا ذهب بعض مشايخنا. وقال بعض مشايخنا: الخلاف في الكل واحد وإليه أشار في كتاب الصلاة، فإنه قال في كتاب الصلاة: مسافر تيمم وفي رحله ماء وهو يعلم، وهذا يتناول النسيان وغيره، وإنما إذا صلى عرياناً وفي رحله ثوب وهو لا يعلم به، فمن المشايخ من قال: هو على هذا الخلاف، ومنهم من قال: لا تجوز الصلاة ههنا بلا خلاف، قال الكرخي رحمه الله: لم تزل هذه المسألة مشكلة عليَّ حتى وجدتُ الرواية عن محمد رحمه الله أنه قال: تجزئه صلاته ولا يلزمه الإعادة.h والجواب في هذه المسائل فيما إذا تذكر في الوقت وفيما إذا تذكر بعد خروج الوقت سواء، وإن قيده في الكتاب بالوقت لأن المعنى لا يوجب الفصل. وإذا تيمم والماء قريب منه وهو لا يعلم به فصلى بتيممه جاز عندهما، خلافاً لأبي يوسف رحمة الله عليهم، وكذلك إذا ضرب خباء على رأس بئر قد علا رأسها وفيها ماء وهو لا يعلم أو كان على شط النهر ولا يعلم فتيمم وصلى به فهو على هذا الخلاف. وإذا كانت الإداوة معلقة من عنقه وفيها ماء فنسيه وصلى بالتيمم، بعض مشايخنا على أنه على هذا الخلاف أيضاً، وحكي عن الحاكم الإمام عبد الرحمن رحمه الله أنه كان يقول في فصل الإداوة أنه لا يجوز بلا خلاف لأنه نسي ما لا ينسى وجهل ما لا يجهل. ولو كان الماء معلقاً على الأكتاف فهو على وجهين: إما أن يكون سائقاً أو راكباً فلا يخلو إما إن الماء مقدم الرحل أو مؤخره، فإن كان راكباً والماء في مؤخرة الرحل يجزئه لأنه نسي ما ينسى عادة، فإن كان الماء في مقدم الرحل لا يجزئه لأنه نسي ما لا ينسى عادة، وإن كان سائقاً وكان الماء في مؤخرة الرحل لا يجزئه، وإن كان مقدمه يجزئه. ولو كفّر بالصوم وفي ملكه رقبة أو ثياب أو طعام قد نسيه فلا رواية فيه، وقد قيل يجزئه عندهما، والصحيح أنه لا يجزيه لأن الوجود في الكفارة عبارة عن الملك ولم ينعدم الملك بالنسيان، والوجود في التيمم عبارة عن القدرة وبالنسيان انعدمت القدرة والله أعلم. (نوع آخر) في بيان وقت التيمم قال محمد رحمه الله في «الأصل» : المسافر الذي لا يجد الماء ينتظر إلى آخر الوقت، فإذا خاف الفوت يتيمم، وإنما قال ذلك ليصير مؤدياً الصلاة بأكمل الطهارتين،

وذكر القدوري رحمه الله: ويؤخر المسافر الصلاة إلى آخر الوقت إذا كان على طمع من وجود الماء، فقد شرط القدوري زيادة لم تشترط في «الأصل» وهو أن يكون على طمع من وجود الماء. معناه: إذا كان يرجو وجود الماء وهو الصحيح، حتى أنه إذا كان لا يرجو وجود الماء لا يؤخر الصلاة عن الوقت المعهود إذ لا فائدة فيه. قال القدوري رحمه الله: وهذا استحباب وليس بحتم يريد به أن التأخير إلى آخر الوقت استحباب، وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه حتم لأن الطمع غلبة الظن وغلبة الظن حجة فصار هو باعتبار هذه الحجة قادراً على الاستعمال حكماً. وجه ظاهر الرواية: أن العجز الحقيقي للحال ثابت بيقين وما ثبت بيقين لا يسقط حكمه إلا بيقين مثله، وهذا إذا كان الماء بعيداً عنه، فأما إذا كان قريباً منه لا يجزئه التيمم وإن خاف فوت الوقت. واختلفت الروايات في الحد الفاصل بين القريب والبعيد، وقد ذكرنا ذلك قبل هذا. ثم إذا أخَّر لا يفرط في التأخير حتى لا تقع الصلاة في وقت مكروه فلا يؤخر العصر إلى تغير الشمس ولكن يؤخرها إلى أن يصلي قبل التغير، واختلف المشايخ في المغرب، قال بعضهم: لا يؤخر المغرب ولكنه يتيمم ويصليها في أول الوقت، فأكثرهم على أنه لا بأس بالتأخير إلى وقت غيبوبة الشفق لأن وقت المغرب يمتد إلى هذا الوقت، والدليل عليه أن المريض والمسافر إذا أخّرَا المغرب حتى جمعا بين المغرب والعشاء جاز. قال «القدوري» رحمه الله في «شرحه: ويجوز التيمم قبل الوقت، وقال الشافعي: لا يجوز لأن التيمم طهارة ضرورية فلا يعتد بها قبل تحقق الضرورة. ولنا قوله تعالى: {فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء: 43) شرط عدم الماء فقط، فمن زاد دخول الوقت يحتاج إلى الدليل. (نوع آخر) ما يجوز التيمم به وما لا يجوز فنقول على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض التراب والرمل والحصاة والزرنيخ والجص والكحل والمردا رسنح، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يجوز إلا بالتراب والرمل، وروي عنه أخيراً: أنه لا يجوز إلا بالتراب، وهو قول الشافعي. حجتهما قوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} قال ابن عباس رضي الله عنه: المراد منه تراب الحرث، ولأن الأرض الطيب هو الأرض المنبت، قال الله تعالى: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه} (الأعراف: 58) والمنبت هو التراب. وقال عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً» إلا أن أبا يوسف زاد الرمل في رواية بحديث آخر،

وهو ما روي أن قوماً من الأعراب جاؤوا إلى رسول الله عليه السلام وقالوا: «إنا قوم نسكن الرمال ولا نجد الماء شهراً وشهرين وفينا الجنب والحائض» ، فقال عليه السلام: «عليكم بأرضكم» ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أن المراد من الصعيد المذكور في الآية الأرض، قال عليه السلام: «يحشر العلماء في صعيد واحد كأنه شبكة فضة» الحديث والمراد هو الأرض. وقال عليه السلام: «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت» . وجه الاستدلال بالحديث من وجهين: أحدهما: أن رسول الله عليه السلام جعل نفس الأرض طهوراً من غير فصل بين أن تكون تراباً أو غيره. والثاني: أنه قال: أينما أدركتني الصلاة تيممت وصليت، وقد كان تدركه الصلاة في غير موضع التراب كما كان تدركه في موضع التراب. ولا حجة للخصم في اسم الطيب لأنه اسم مشترك يحتمل الطاهر من غير أن يكون منبتاً ومن المنبت ما لا يكون طاهراً والمشترك لا عموم له، وابن عباس رضي الله عنهما فسرّه بالمنبت ورسول الله عليه السلام فسرّه بالطاهر حتى جوزه بالرمال بالحديث الذي روينا. ولا يجوز التيمم بما ليس من جنس الأرض نحو الذهب والفضة والحديد والرصاص والزجاج والحنطة والشعير وسائر الحبوب والأطعمة لأن المنصوص عليه في الكتاب الصعيد. وفي الحديث الأرض وغيرها ليس بمنصوص عليه. وهذا أمر توقيفي فلا يلحق بهما غيرهما. وقد ذكر بعض المشايخ في مسألة الذهب والفضة والحديد والرصاص فقال: ما ذكر في الكتاب محمول على ما إذا كان مشتركاً، ولم يكن مختلطاً بالتراب بأن كان بعد التخليص. فأما إذا لم يكن مشتركاً وكان مختلطاً بالتراب بأن كان قبل التخليص جاز التيمم به عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإنه صحيح. وقالوا أيضاً في الحنطة والشعير وسائر الحبوب إن كان عليها غبار جاز التيمم وإنه صحيح. ثم عند أبي حنيفة رحمه الله وإحدى الرواتين عن محمد رحمه الله: الشرط مجرد المسّ. ولا يشترط استعمال جزء من الصعيد حتى أنه لو وضع يده على صخرة لا غبار عليها أجزأه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وكذا، إذا (20أ1) وضع يده على الأرض الندية ولم يعلق معه شيء جاز عند أبي حنيفة رحمه الله، وفي إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله: لا بد من استعمال جزء من الصعيد، حتى أنه لو وضع يده على صخرة لا غبار عليها، أو على أرض ندية ولم يعلق بيده شيء، لا يجوز.

حجته على هذه الرواية قوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} (المائدة: 6) يعني من الصعيد ولأنه بناء على قوله: {فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء: 43) وكلمة «من» للتبعيض، فكأنه قال: ببعض الصعيد، ولأبي حنيفة رحمه الله أن قوله: {صعيداً طيباً} (النساء: 43) يقتضي الجواز مطلقاً من غير فصل بين ما عليه غبار وما ليس عليه غبار، وكلمة «من» لتمييز الصعيد من غيره، فلا تجوز زيادة العبد به في صريح الآية، ولا يقال: بأن التمييز حصل في ابتداء الكلام لقوله: {فتيمموا صعيداً} بدون كلمة «من» لأنا نقول على هذا الاعتبار كلمة «من» لتأكيد التمييز، فتصير لتمييز الصعيد من غيره، ولا يقال بأن المسح يقتضي ممسوحاً سوى اليد، كما في مسح الرأس والخف، لأنا نقول: في هذا القياس إثبات زيادة القيد على المطلق، وأنه لا يجوز، والذي يؤيد قول أبي حنيفة رحمه الله، ما روي «أن رسول الله عليه السلام بال، فسلم عليه رجل فلم يرد عليه السلام، حتى كاد الرجل يتوارى لحيطان المدينة، فضرب يده على الحائط ورد عليه السلام» وحيطانهم كانت من الحجر فدل ذلك على جواز التيمم بالحجر على كل حال. ويجوز التيمم بالآجر مدقوقاً أو غير مدقوق في قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن محمد؛ لأن الآجر طين مستحجر، والتيمم بالحجر الأصلي جائز عند أبي حنيفة رحمه الله، فكذا بالطين المستحجر، هكذا ذكر القدوري، وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفّار: أن في التيمم بالآجر عن أبي حنيفة روايتان: والأصح أنه يجوز، وفي رواية أخرى عن محمد لا بد وأن يكون مدقوقاً، أو يكون عليه غبار، فإن على إحدى الروايتين عن محمد: استعمال جزء من الصعيد شرط، وعند أبي حنيفة ذلك ليس بشرط. ولو تيمم بغبار ثوبه أوغير ذلك، أجزأه في قول أبي حنيفة رحمه الله، وكان أبو يوسف يقول أولاً يتيمم بالغبار إذا لم يجد غيره ثم رجع وقال: الغبار عندي ليس من الصعيد، والصحيح قول أبي حنيفة لما روي: أن عمر رضي الله عنه كان مع أصحابه في سفر فمطروا..... فأمرهم بأن ينقضوا لبودهم وسروجهم ويتيمموا بغبارها، ولأن الغبار وإن قل من نفض ثوبه من التراب إلا أنه رقيق، فكما يجوز التيمم بالخشن من التراب فكذا برقيقه. وصورة التيمم بالغبار: أن يضرب بيده ثوباً أو لبداً أو وسادة أو ما أشبه ذلك من الأعيان الطاهرة التي عليها غبار، فإذا وقع الغبار على يديه يتيمم، أو ينفض ثوبه حتى يرتفع غباره ويرفع يديه في الهواء، فإذا وقع الغبار على يديه تيمم، ولو كان في مفازة فهبت الريح، وارتفع الغبار فأصاب وجهه وذراعيه فمسحه (جاز) التيمم، أو تمعك في التراب بنية التيمم فأصاب التراب وجهه ويديه فقد ذكرنا هذا في أول هذا الفصل. ولو تيمم بالملح، إن كان......... وإن كان جبلياً كالمكسة، بعض مشايخنا قالوا

يجوز لأنه بمنزلة الحجر، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: الصحيح عندي أنه لا يجوز لأنه يذوب بالنار فلا يكون من جنس الأرض والسبخة بمنزلة الملح مائية وترابية وقال محمد رحمه الله في «الأصل» : في المسافر إذا كان في طين وردغة أصابه مطر وأبل سرجه وثيابه، ولم يجد ماء يتوضأ به فإنه يلطخ ثوبه بالطين ويجففه ثم يفركه ويتيمم به، قال القدوري رحمه الله في «شرحه» : وهذا قول محمد رحمه الله لأنه يعتبر استعمال جزء من الصعيد يغني على إحدى روايتيه، فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله وإحدى الروايتين عن محمد: فلا يعتبر استعمال جزء من الصعيد، وإنما يعتبر المس، والطين من جنس الأرض، فيضع يده على الطين ويتيمم. من المشايخ من قال: ما ذكر في «الأصل» قول الكل، ولا يجوز التيمم بالطين عند الكل، لأن التراب لا يصير طيناً ما لم يصر مغلوباً بالماء، والعبرة للغالب فكان الكل لذا ماءً فلا يجوز التيمم به. ألا ترى أن الماء الذي خالطه اللبن لا يجوز التوضؤ به إذا كان اللبن غالباً، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وينبغي للإنسان أن لا يتيمم بالطين إذا تلطخ به وجهه.... ولو فعل ذلك يجوز، ويجوز التيمم بالحصى والكيزان والحباب والحيطان من المدر، ولا يجوز بالعصارة إذا كان مطلياً بالأيك بطن العصارة وظهرها على السواء، إلا إذا كان عليه تراب فحينئذ يجوز، وإن لم يكن مطلياً بالأيك جاز التيمم به سواء كان عليه غبار أولم يكن، وفي إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله: لا يجوز إلا إذا كان عليه غبار. ولو تيمم بالخزف، إن كان عليه غبار جاز، وإن لم يكن الخزف عليه غبار إن كان متخذاً من التراب الخالص، ولم يجعل فيه شيء من الأدوية جاز، وإن جعل فيه شيء من الأدوية لا يجوز، وإذا تيمم بالرماد لا يجوز، لأنه ليس من جنس الأرض. وإذا احترقت النخل التي في الأرض واختلط رمادها بتراب الأرض، إن كانت الغلبة لتراب الأرض يجوز، وإن كانت الغلبة للرماد لا يجوز، وكذلك التراب إذا اختلطه غير الرماد، ومما ليس من أجزاء الأرض يعتبر فيه الغلبة، وإذا أصابت الأرض النجاسة فجفت وذهب أثرها، لا يجوز التيمم به ويجوز الصلاة عليه، هذا جواب ظاهر الرواية، وروى ابن كاس عن أصحابنا: أنه يجوز التيمم به أيضاً، فإن أخذنا برواية ابن كاس لا نحتاج إلى الفرق بين التيمم وبين الصلاة، وإن أخذنا بظاهر الرواية نحتاج إلى الفرق، والفرق: أن قضية القياس أن يجوز التيمم كما تجوز الصلاة لأن الأرض تطهر بالجفاف، قال عليه السلام: «أيما أرض جفت فقد ذكت» أي طهرت، وقال عليه السلام: «ذكاة الأرض يبسها» أي طهارة الأرض، والمعنى في ذلك أن طبيعة الأرض استحالة النجاسة، وللاستحالة أثر في التخليل كالخمر يتخلل إلا أن مع التخلل يبقى قليل النجاسة وإنه لا يمنع الطهارة، أما لا يمنع جواز الصلاة عليه.

فإذا تيمم الرجل من موضع فجاء رجل آخر، وتيمم من ذلك الموضع أيضاً أجزأه لأن الصعيد الباقي في المكان بعد تيمم الأول نظير الماء الباقي في الإناء بعد وضوء الأول فيكون طاهراً وطهوراً في حق الباقي والله أعلم. (نوع آخر) في بيان من يجوز له التيمم ومن لا يجوز فنقول: يجوز للمسافر التيمم إذا لم يكن معه ماء، وكذلك إذا كان معه ماء وهو يخاف على نفسه من العطش أو دابته، لأنه عاجز عن استعمال الماء حكماً لكونه مستحقاً لحاجته الأصلية فيعتبر بما لو كان عاجزاً عن استعمال الماء حيقيقة. وكذلك إذا كان مقيماً خرج عن المصر لحاجة له نحو الاحتطاب والاحتشاش لا للسفر وقد صار بعيداً عن المصر فله أن يتيمم. وتكلموا في تقدير البعيد، قال بعض مشايخنا: إذا كان بينه وبين المصر ميل وذلك قدر ثلث فرسخ فهو بعيد وبعضهم قدر البعيد بالفرسخ، وبعضهم بما لو خرج مسافة قصر الصلاة عنه وبعضهم بما إذا كان لا يسمع الأذان، وبعضهم: بما إذا كان بحيث لو نودي من أقصى المصر لم يسمع، وعن محمد رحمه الله: أنه قدره بالميلين، ومن الناس من قال: لا يجوز التيمم لمن خرج من المصر، إلا إذا قصد سفراً صحيحاً، لأن الله تعالى قيده بالسفر حيث قال: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} (النساء: 43) . ويجوز التيمم للمريض إذا خاف زيادة المرض باستعمال الماء، وقال الشافعي: لا يجوز إلا إذا خاف التلف: واعلم بأن هذه المسألة على أربعة أوجه: (20ب1) إما أن يخاف على نفسه الهلاك بسبب استعمال الماء، أو خاف تلف عضو من أعضائه، وفي هذين الوجهين يجوز له التيمم، وأما أنه لا يخاف على نفسه الهلاك ولا تلف عضو من أعضائه، ولكن يخاف من زيادة المرض، أو يخاف إبطاء البرء بسبب الاستعمال، وهو الوجه على الخلاف بيننا وبين الشافعي، على ما ذكرنا، وإن كان لا يخاف على نفسه شيئاً من ذلك، وفي هذا الوجه لا يجوز له التيمم بلا خلاف لأن الآدمي لا يخلو عن نوع مرض، ولو جوزنا التيمم بكل مرض أدى إلى إباحة التيمم على كل حال سفراً كان أو حضراً.......... حجة الشافعي: أن التيمم مشروع في حال عدم الماء، وهذا واجد للماء حقيقة، وإنما يعتبر عاجزاً حكماً عند خوف التلف، ولا يجوز التيمم لمن لا يخاف التلف. ولنا: أن زيادة المرض تسبب التلف، فصار الخوف عنها خوفاً عن سبب التلف، فيصير خوفاً عن حقيقة التلف معنى. وإن كان المريض بحال لا يضره استعمال الماء أصلاً إلا أنه عجز عن استعماله بحكم المرض فهذا على وجهين:

الأول: أن لا يجد أحداً يوضئه، وفي هذا الوجه يجوز له التيمم في ظاهر مذهب أصحابنا، وعن محمد رحمه الله أنه لا يجوز له التيمم في المرض هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، والشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار: أنه يجوز له التيمم بالاتفاق، وأما إذا وجد أحداً يوضئه فهذا على وجهين: الأول: أن يكون ذلك الإنسان الذي يوضئه حراً وفي هذا الوجه قال أبو حنيفة رحمه الله: يجز ئه التيمم، وقالا: لا يجزئه وكذلك على هذا الاختلاف إذا كان مريضاً لا يستطيع استقبال القبلة أو في فراشه نجاسة، ولا يستطيع التحول ووجد من يحوله ويوجهه إلى القبلة لا يفترض عليه ذلك عنده، وعندهما يفترض، وكذلك الأعمى إذا وجد قائداً يقوده إلى الحج لا يفترض عليه الحج عنده، وعندهما يفترض. والمقعد إذا وجد من يحمله إلى الجمعة، ذكر الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: أنه لا جمعة عليه عند الكل، قال: وينبغي أن لا يكون عليه الحج، ولا حضور الجماعات بلا خلاف، وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله: أن الكل على الخلاف. الوجه الثاني: إذا كان الذي يوضئه مملوكاً له بأن كان عبداً له أو أمة له، لا شك أن على قولهما لا يجوز له التيمم، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله فقد اختلف المشايخ، والصحيح أنه لا يجوز، حجتهما: أنه تيمم وهو قادر على الوضوء، والوضوء لا يضره فلا يجزئه التيمم قياساً على عديم الماء إذا....، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: بأن وجوب الوضوء علق باستطاعة مملوكه لا باستطاعة مباحة له قال الله تعالى: {لا يكلف انفساً إلا وسعها} (البقرة: 268) معناه إلا ما وسعها فلو أوجبنا الوضوء فيما إذا كان الموضىء حراً، فقد كلفناه نظافة الغير، وأنه خلاف اليسر. يوضحه: أن الإيجاب يعتمد القدرة، والقدرة على التوضؤ في الأصل بفعله وفعله مملوك له، وفيما لم يصر فعل غيره مملوكاً له لا تثبت الاستطاعة، ومنافع العبد مملوكة له، بخلاف منافع الأجنبي وليس كالماء لأنه يوجد مباح الأصل غالباً، والحظر عارض فتعلق الوجوب بالقدرة الثابتة بالإباحة فإن الأحكام تتعلق بالأصول لا بالعوارض، أما ههنا بخلافه، والدليل على أن المعتبر لحالة مملوكه لا لحالة مباحة أن الابن إذا بذل الزاد والراحلة لأبيه والأب معدم لا يفترض عليه الحج، وكذا المكفر إذا بذل له أبوه المال لا يلزمه التكفير بالمال، والذي يؤيد ما قلنا: العاجز عن القيام تجزئه الصلاة قاعداً وإن وجد من يقيمه عبداً كان أو غيره، وهذا الفصل دليل على أنه لا فرق بين العبد والحر وهذا لأن القدرة وصف القادر، فلا يصير الإنسان قادراً بقدرة الغير. وإذا كان بدن الجنب جريحاً أو أعضاء المحدث، فإنه يتيمم ولا يستعمل الماء فيما

كان صحيحاً، وإن كان على العكس فإنه يغسل، والمسح على الجراحة إن أمكنه أو فوق الخرقة إن كان المسح يضره، ولا يتيمم، وهو قول علمائنا، وقال الشافعي: بأنه يغسل ما كان صحيحاً ثم يتيمم بعد ذلك، حجته: أن سقوط الغسل عما هو مجروح لضرورة الضرر في إصابة الماء فتتقدر بقدرها، حجتنا: ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما «أنه أباح للمحذور التيمم» ، وبعض أعضاء المحذور يكون صحيحاً، ولم يأمر بإيصال الماء إليه، وهذا حديث روي عنه ولم يرو عن أقرانه خلافه فحل محل الإجماع، والمعنى فيه: أنه اجتمع فيه ما يوجب الغسل والتيمم، ولا وجه للجمع، لأنه يؤدي إلى الجمع بين الأصل والبدل، وهذا لا أصل له لما عرف في الكفارات فيصار إلى الترجيح، ورجحنا بالكثرة، وإن استويا في الرواية في هذا الفصل من مشايخنا من قال: يتيمم ولا يستعمل الماء ومنهم من يقول: يغسل ما كان صحيحاً ويمسح على الباقي إذا كان المسح لا يضره، أما من قال يغسل حجته: أنه لما تعذر الترجيح من حيث الكثرة ترجح من وجه آخر فنقول: الغسل طهارة حقيقة وحكماً، فإيجابه أولى من إيجاب التيمم الذي ليس بطهارة حقيقة، وأما الفريق الآخر يقولون: بأن التيمم طهارة كاملة، وغسل البعض وإن كان طهارة حقيقة وحكماً، إلا أنها ناقصة في نفسها، فكان اعتبار التيمم هو طهارة كاملة أولى. ثم اختلف مشايخنا في حد الكثرة: فمنهم من اعتبر الكثرة من حيث عدد الأعضاء في الكثرة في نفس العضو، بيانه: إذا كان برأسه ووجهه وبدنه جراحة والرجل صحيح، فإنه يتيمم، سواء كان الأكثر من الأعضاء الجرحة جريحاً أو أقله، ومنهم من اعتبر الكثرة في نفس العضو فقال: إن كان الأكثر من كل عضو من أعضاء الوضوء جريحاً كان كثيراً يبيح له التيمم. المسافر أو المريض إذا أصابته جنابة، وهو يخاف الهلاك على نفسه من شدة البرد، أو تلف عضو إن اغتسل، فإنه يباح له التيمم، وأما إذا كان مقيماً صحيحاً أصابته جنابة، وهو يخاف الهلاك أو تلف عضو أو زيادة مرض إن اغتسل، قال أبو حنيفة رحمه الله: بأنه يتيمم ولا يغتسل خلافاً لهما. وكذلك المحدث على هذا الخلاف، إذا كان يخاف على نفسه الهلاك أو تلف عضو، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أن المحدث يتوضأ ولا يتيمم بالإجماع، وذكر في غير رواية الأصول قول محمد مع قول أبي حنيفة رحمهما الله، فمنهم من قال: لا خلاف في الحقيقة، فأبو حنيفة رحمه الله إنما قال هذا في بلد لا يوجد فيه ماء حار، وهما أقاما في بلد يوجد فيه ماء حار لكن بالتكليف، ومنهم من يحقق الاختلاف، حجتهما: أن عدم الماء السخين أو عدم مكان يدفأ به في المصر نادر ما ينزله عادماً (للماء) حكماً، ولهذا لا يتيمم المقيم دون عدم الماء، وأبو حنيفة رحمه الله يقول بأن عدم الماء السخين والمكان الذي يدفأ ليس بنادر لأنه قد يكون فيه غرباء وفقراء لا يجدون ماء سخناً يدفؤون به أو لا يكون في القرية حمام، أو لا يكون له أجرة الحمام، حتى قالوا في موضع فيه حمام وتوجد الأجرة عند الخروج عادة: لا

يباح له التيمم، بعض مشايخنا قالوا: هذا كله في ديارهم، فأما في ديارنا لا يباح له التيمم لأنه يمكنه أن يحتال بحيلة يتوضأ ويغتسل بأن يدخل الحمام فيتطهر، وهذا لأن في عرف ديارنا لا يطالب بالأجر عند دخول الحمام وإنما يطالب بعد الدخول فيمكنه الدخول، وبعدما خرج إذا علم أنه ليس معه شيء لا يطالب بشيء. المحبوس في السجن إذا لم يجد الماء فهو على وجهين: الأول: أن يكون محبوساً في موضع نظيف، وهو على وجهين أيضاً: إن كان خارج المصر، قال أبو حنيفة رحمه الله يصلي بالتيمم ولا يعيد، وإن كان في المصر لم يصل بتيمم، رجع أبو حنيفة وقال: يصلي ثم يعيد، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وجه قول أبي حنيفة الأول: أن عدم الماء في المصر غير معتبر شرعاً حتى لا يسقط الفرض عنه بالتيمم ويلزمه الإعادة فلم يكن التيمم طهوراً له ولا صلاة إلا بطهور، وجه قوله الآخر: أن عدم الماء في المصر إنما لا يعتبر لأن ذلك نادر، فأما في السجن عدم الماء ليس بنادر فكان معتبراً فإنه يتيمم لعجزه عن استعمال الماء، وهل يعيد؟، ففي القياس: لا، وهو رواية عن أبي يوسف كما لو كان في السفر وفي الاستحسان يعيد لأن عدم الماء كان بمنع من العباد ووجوب الصلاة عليه بالطهارة، وحق الله لا يسقط بمنع العباد (21أ1) بخلاف المسافر لأن جواز التيمم هناك لعدم الماء لا للحبس ولاصنعة للعباد. الوجه الثاني: أن يكون محبوساً في مكان نجس لا يجد ماءً ولا تراباً نظيفاً وإنه على وجهين: إن أمكنه حفر الأرض أو الحائط بشيء واستخراج التراب الطاهر فعلى ذلك يصلي بالتيمم. وإن لم يمكنه ذلك فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يصلي بل ينتظر حتى يجد الماء أو التراب الطاهر. وقال أبو يوسف رحمه الله: يصلي بالإيماء تشبهاً بالمصلين، وقول محمد رحمه الله مضطرب ذكر في «الزيادات» وفي كتاب الصلاة في رواية أبي حفص قوله مع أبي حنيفة رحمه الله، ذكر في رواية الصلاة لأبي سليمان قوله مع أبي يوسف. قال بعض المشايخ: على قول أبي يوسف إنما يصلي بالإيماء إذا لم يكن الموضع يابساً، أما إذا كان يابساً يصلي بركوع وسجود. وأما العاري إذا لم يجد ثوباً أو اللابس إذا كان له ثوب كلّه نجس ولا يجد ما يغسله، فإنه يصلي ولا يترك الصلاة ولا يعيد. وفي مسألة السجن: إذا لم يجد ماءً ولا تراباً نظيفاً على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يصلي، وعلى قول أبي يوسف: يصلي ويعيد، والفرق أن الشرع أسقط فرض ستر العورة عند العجز، وأسقط غسل النجاسة الحقيقية عند العجز عن استعمال الماء، فجاز الصلاة من غير إعادة. أما ما أسقط فرض الطهارة الحقيقية والحكمية جملة بحال فلا يصلي من غير طهارة عند أبي حنيفة رحمه الله الخطاب بالطهارة، وعند أبي يوسف رحمه الله يصلي تشبهاً ولا يعيد. قال الأسير في دار الحرب إذا منعه الكفار عن الوضوء أو الصلاة يتيمم ويصلي بالإيماء ثم يعيد إذا خرج، وكذا إذا قيل لرجل: حبستك إن توضأت، أو إن توضأت

حبسناك قتلناك، فإنه يصلي بالتيمم ويعيد. «فأما بيان ما يتيمم عنه» فنقول بجواز التيمم عن الجنابة والحيض والنفاس كما يجوز التيمم عن الحدث. وقال بعض الناس: لا يجوز التيمم عن الجنابة والحيض والنفاس، وهو قول عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ومذهبنا يروى عن علي وابن عباس رضي الله عنهم، والحديث الذي روينا أن قوماً من الأعراب سألوا رسول الله عليه السلام وقالوا: إنا قوم نسكن الرمال ولا نجد الماء شهراً أو شهرين وفينا الجنب والحائض فقال عليه السلام: «عليكم بأرضكم» دليل لنا في المسألة. «وأما بيان ما يتيمم لأجله نقول: يجوز التيمم لصلاة العيد إذا كان بحال لو توضأ تفوته الصلاة عندنا، لأن صلاة العيد إذا فاتت لا تقضى عندنا لأنها لم تشرع إلا بجماعة وسلطان، والمنفرد عاجز عن تحصيلها، فيكون قولنا من كل وجه فيجوز التيمم صيانة عن الفوات، وعن هذا قلنا: إن الإمام لا يتيمم لأنه لا يخاف الفوت لأن الناس ينتظرونه، وكذلك غير الولي يتيمم لصلاة الجنازة إذا خاف الفوت لها لأنها لا تعاد. والولي لا يتيمم لصلاة الجنازة لأنه لا يخاف الفوت لأنه ليس لغير الولي حق الصلاة على الجنازة، ولو صلى غير الولي على الجنازة فللولي حق الإعادة. ولا يتيمم للجمعة وإن خاف الفوت لأن الجمعة تفوت إلى خلف فلا يكون فواتاً مطلقاً. ويتيمم لمس المصحف ودخول المسجد. وفي سجدة التلاوة اختلاف على ما مر قبل هذا، وفي «شرح الأصل» : ويتيمم لسجدة التلاوة في السفر ولا يتيم لها في الحضر. وإذا سبق المؤتم الحدث في صلاة العيد في الجماعة فهذا على وجهين: الأول: إذا سبقه الحدث قبل الشروع في الصلاة وإنه على وجين: الأول إن كان يرجو إدراك شيء من الصلاة مع الإمام لو توضأ، لا يباح له التيمم لأنه لا يخاف الفوت لأنه يمكنه أن يصلي بقية الصلاة وحده. وإن كان لا يرجو إدراك شيء من الصلاة مع الإمام يباح له التيمم لأنه يخاف الفوت إذ لا يمكنه أن يصليها وحده لأن الإمام والجماعة شرط الأداء بها. الوجه الثاني: إذا سبقه الحدث بعد الشروع في الصلاة فهذا على وجهين أيضاً: الأول: أن يكون شروعه بالتيمم في هذا الوجه يتيمم، وهنا لا خلاف لأنا لو أمرناه بالوضوء تفسد الصلاة برؤية الماء فلا يمكنه الإدراك، وإن كان شروعه بالوضوء إن كان يخاف زوال الشمس لو اشتغل بالوضوء يباح له التيمم بالإجماع لأن بعد زوال الشمس تفوت صلاة العيد أصلاً لذهاب الوقت. وإن كان لا يخاف زوال الشمس فإن كان يرجو إدراك الإمام قبل الفراغ لا يباح له التيمم بالإجماع، وإن كان لا يرجو إدراك الإمام قبل الفراغ تيمم، وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: يتوضأ ولا يتيمم، فمن مشايخنا قال: هذا اختلاف عصر وزمان

ومكان، فكان في زمن أبي حنيفة يصلي صلاة العيد في جماعة قريبة بحيث لو انصرف الرجل إلى بيته ليتوضأ لا تزول الشمس فلم يكن خوف الفوت قائماً فأفتيا على وفق زمانهما. وكان شمس الأئمة الحلواني وشمس الأئمة السرخسي رحمهما الله يقولان: في ديارنا لا يجوز التيمم لصلاة العيد لا ابتداءً ولا بناءً لأن الماء محيط بمصلى العيد فيمكن التوضؤ، والناسي غير خوف الفوت حتى لو خيف الفوت يجوز التيمم، ومن المشايخ من قال: هذا اختلاف حجة وبرهان، واختلفوا فيما بينهم. قال الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله: هذه المسألة بناءً على أن من شرع في صلاة العيد ثم أفسدها لا قضاء عليه عند أبي حنيفة رحمه الله فكان تفوته الصلاة على أصله لا إلى بدل لو لم يجزئه التيمم فأجاز له التيمم، وعندهما يلزمه القضاء فلا تفوته الصلاة إلى بدل فلم يجوّزا له التيمم، وقبل الشروع إذا فاتته الصلاة لا يمكنه القضاء بالإجماع فكان الفوات لا إلى بدل فيجوز له التيمم بالإجماع. وغيره من المشايخ جعل هذا اختلافاً مبتدأً فبقولهما: إن المبيح خشية الفوات واللاحق أمن من ذلك فإنه يتوضأ ويتم صلاته بعد فراغ الإمام. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: البناء أسهل من الابتداء، فلما جاز افتتاح العيد بالتيمم فلأن يجوز البناء عليها بالتيمم أولى، ولأن خوف الفوت ههنا قائم لأنه ربما يصير منشغلاً بالمعالجة مع الناس لكثرة الزحام فتفسد صلاته، ولا يصل إلى الماء حتى تزول الشمس فتفوته بمضي الوقت والله أعلم. (نوع آخر) في بيان ما يبطل التيمم وما لا يبطل يجب أن يعلم بأن ما يبطل الوضوء يبطل التيمم لأن التيمم خلف عن الوضول وبدل عنه، وما لا يبطل الأصل لا يبطل الخلف والبدل ضرورة. قال ويبطل إذا رأى الماء لقوله عليه السلام: «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء» فبعد ذلك المسألة على وجوه: إن رأى الماء قبل الشروع في الصلاة توضأ به وصلى، وإن رأى الماء بعدما صلى لا يعيد الصلاة وإن كان في الوقت. والأصل فيه: ما روي «أن رجلين من الصحابة كانا في سفر فتيمما في أوّل الوقت وصليّا، فلما فرغا من الصلاة وجدا ماءً قبل خروج الوقت فتوضأ أحدهما وأعاد صلاته ولم يفعل الآخر ذلك، فلما رجعا إلى رسول الله عليه السلام أخبراه بذلك فقال عليه السلام للذي أعاد «لك أجران وقال للآخر: أجزأتك صلاتك» . والمعنى فيه أن هذه صلاة أديت بطهارة كاملة قد حكم بصحتها وجوازها فلا يرتفع هذا الحكم برؤية الماء بعد ذلك. أكثر ما في الباب أن التيمم خلف وقد قدر على

الأصل، إلا أنه إنما قدر على الأصل بعد حصول المقصود بالبدل فلا يسقط حكم البدل على ما عرف في موضعه، وبهذا الحرف يقع الفرق بين هذا الوجه وبين ما إذا رأى الماء في خلال صلاته حيث يتوضأ ويستقبل الصلاة، لأن هناك قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل، وفي مثل هذا يسقط حكم البدل. وإن رأى ماءً بعدما قعد قدر التشهد فسدت صلاته في قول أبي حنيفة رحمه الله في آخر صلاته، وقالا: لا تفسد وهي من المسائل الإثني عشرية المعروفة بين أهل الفقه، وعلى هذا الخلاف الماسح على الخف إذا انقضى وقت مسحه بعدما قعد قدر التشهد قبل أن يسلّم، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله (21ب1) : تفسد صلاته، وعلى قولهما لا تفسد، وعلى هذا الاختلاف الماسح على الخف إذا وجد في خفه نجاسة فنزعه وكان ذلك بعدما قعد قدر التشهد، والمراد بهذه النجاسة أن تكون قدر الدرهم أو أقل حتى يصح شروعه، أما إذا كانت أكثر من قدر الدرهم لا يصح شروعه فيها، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هذا الاختلاف فيما إذا كان الخف واسعاً بحيث يخرج من رجله من غير معالجة كثيرة، فأما إن كان الخف بحال يحتاج في نزعه إلى معالجة كثيرة، بحيث لو وجد في خلال الصلاة أوجب فساد الصلاة، فإن صلاته تكون باطلة بالإجماع، لأنه يكون خروجاً عن الصلاة بصنعه. وعلى هذا الخلاف: مصلي الجمعة إذا خرج وقت الجمعة بعدما قعد قدر التشهد، وعلى هذا الخلاف مصلي الفجر إذا طلعت الشمس، والعاري إذا وجد ما يستتر به بعدما قعد قدر التشهد. وعلى هذا إذا علم الأميُّ سورة بعدما قعد قدر التشهد. وعلى هذا: القارىء إذا استخلف أميّاً بعدما قعد قدر التشهد، وعلى هذا المومي إذا قدر على الركوع والسجود بعدما قعد قدر التشهد، وعلى هذا: المصلي إذا تذكر فائتة بعدما قعد قدر التشهد وفي الوقت سعة، وعلى هذا: المستحاضة أو صاحب الحدث الدائم إذا ذهب الوقت أو برىء مرضه. وعلى هذا إذا كان بثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم فوجد الماء في هذه الحالة. والشيخ الإمام شيخ الإسلام: يزيد على هذه المسائل فائتة الفجر إذا شرع في قضائها فزالت الشمس في هذه الحالة، وكذلك إذا مسح على الجبائر فسقطت الجبائر عنه عن برء وبعدما قعد قدر التشهد. من أصحابنا من قال هذه المسائل تنبني على أصل وهو: أن الخروج من الصلاة بصنع المصلي فرض عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما ليس بفرض. هما احتجا بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال: «إذا رفع المصلي رأسه من آخر السجدة وقعد قدر التشهد فقد تمت صلاته» ولأن بالاتفاق لو تكلم أو قهقه أو أحدث متعمداً أو حاذت المرأة الرجل في هذه الحالة لم تفسد صلاته ولو بقى شيء من فرائض الصلاة لفسدت صلاته بهذه الأمور كما تفسد قبل العقدة، فثبت

بهذا أن وجود هذه المعاني في هذه الحالة لوجودها خارج الصلاة. ولو وجد هذه المعاني خارج الصلاة لا تفسد صلاته، فكذا إذا وجد في هذه الحالة. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: هذه عبادة لها تحريم وتحليل، ثم التحريم لا يكون إلا بصنعه، فكذلك التحليل كما في الحج. وتقدير هذا الكلام وتحقيقه: وهو أنه إذا أحرم بالظهر يجب عليه الخروج عن الظهر ليؤدي صلاة العصر، ولا يتوصل إلى أداء العصر إلا بالخروج عن الظهر، والأصل أن ما لا يتوصل إلى شيء إلا بغيره صار غيره كعينه، وأداء العصر فرض عليه، فكذلك خروج عن الظهر يكون فرضاً عليه. وتأويل الحديث: قارب التمام. كما قال: الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجه أي قارب التمام. والكلام والحدث والقهقهة والمحاذاة صنع منه، فإن قيل: نزع الخف أيضاً بصنعه قلنا: إنما يكون صنعه إذا كان يحتاج إلى معالجة كثيرة، وعند ذلك صلاته تامة بالاتفاق أما إذا كان الخف واسعاً لا يحتاج إلى صنعه، ومن أصحابنا من قال: هذا الأصل عند أبي حنيفة رحمه الله لا يقوى لاستحالة أن يتأدى فرض الصلاة بالكلام والحدث العمد، ولكن الوجه الصحيح عند أبي حنيفة أن التحريمة باقية بعد الفراغ من التشهد، وهذه العوارض مغيرة للفرض فاعتراضها في هذه الحالة كاعتراضها في خلال الصلاة، كنية الإمامة بخلاف الكلام، فإنه قاطع وليس بمفير. والقهقهة والحدث العمد مبطل وليس بمفير، فإن قيل: طلوع الشمس في خلال الصلاة مبطل وليس بمفير، وقد جعلتموه على الخلاف قلنا: بل هو بمفير للصلاة من الفرض إلى النفل فإنه لا يصير به خارجاً من التحريمة. وجميع ما قلنا فيما إذا اعترض قبل السلام كذلك في سجود السهو أو بعدما فرغ منها قبل أن يتشهد أو بعدما تشهد قبل أن يسلّم هكذا ذكر في «الأصل» . وإن وجد هذه الأشياء بعدما سلّم قبل أن يسجد للسهو فصلاته تامة، أما عندهما فلا يشكل، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأنه بالسلام خرج عن التحريمة، ولهذا لا يتغير فرض المسافر بنية الإقامة في هذه الحالة، فكذلك إن كان سلّم إحدى التسليمتين لأن انقطاع التحريمة يحصل بتسليمة واحدة والله أعلم. متيمم افتتح الصلاة ثم وجد سؤر الحمار مضى على صلاته، فإذا فرغ توضأ به وأعاد الصلاة لأن سؤر الحمار مشكوك في طهوريته وشروعه في الصلاة قد صح فلا ينتقض بالشك فيُتم الصلاة ثم يتوضأ به ويعيد الصلاة احتياطاً لجواز أن يكون سؤر الحمار طاهراً. ولو وجد نبيذ التمر في خلال الصلاة فكذلك عند محمد رحمه الله لأن عنده نبيذ التمر كسؤر الحمار وعند أبي يوسف رحمه الله: يتم صلاته ولا يعيد لأن النبيذ عنده ليس بطهور، وعند أبي حنيفة رحمه الله يقطع صلاته لأن نبيذ التمر عنده بمنزلة الماء حال عدم الماء فتنتقض صلاته فيتوضأ ويستقبل الصلاة. وإن وجد سؤر الحمار والنبيذ جميعاً فعند أبي حنيفة رحمه الله تفسد صلاته فيتوضأ

بهما ثم يستقبل لأن سؤر الحمار إن كان طاهراً فالنبيذ معه ليس بطهور لأن التوضؤ بالنبيذ إنما يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله إذا كان عادماً الماء، فإذا كان السؤر طاهراً لا يكون عادماً للماء فلا يكون النبيذ طهوراً. وإذا لم يكن السؤر طاهراً فالنبيذ طهور فقد وقع الشك في سؤر الحمار فلهذا يتوضأ بهما. وعند أبي يوسف رحمه الله يمضي (على) صلاته، فإذا فرغ توضأ بالسؤر خاصة وأعاد الصلاة وعند محمد رحمه الله يمضى على صلاته فإذا فرغ توضأ بهما وأعاد الصلاة احتياطاً. وإذا رأى المتيمم في صلاته سراباً فظن أنه ماء فمشى إليه ساعة فإذا هو سراب فعليه أن يستأنف الصلاة سواء جاوز مكان الصلاة أو لم يجاوز. وإن شك أنه ماء أو سراب واستوى الظنان فإنه يمضي على صلاته لأنه صح شروعه في الصلاة، وإن وقع الشك في الانصراف إن كان ماء فحل له الانصراف، وإن كان سراباً لا يحل له، والحرمة كانت ثابتة بيقين فلا يثبت الحل بالشك فيمضي على صلاته، فإذا فرغ من صلاته ذهب. إن كان ماءً توضأ واستقبل القبلة لأنه متيمم وجد الماء في خلال الصلاة فتفسد صلاته. وإن كان سراباً لا يلزمه الإعادة لأنه أتم الصلاة وهو عادم للماء فلا تفسد صلاته ولا يلزمه الإعادة. قال: المسافر إذا مرّ في الفلاة بماء موضوع في حب أو نحوه لا ينتقض تيممه وليس له أن يتوضأ منه لأنه وضع للشرب لا للوضوء، والمباح في نوع لا يجوز استعماله في (نوع آخر) إلا أن يكون الماء كثيراً فيستدل بكثرته على أنه وضع للشرب والوضوء جميعاً فحينئذ يتوضأ ولا يتيمم. وذكر القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله عن أستاذه عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر بن محمد بن الفضل رحمه الله أن الماء الموضوع للشرب يجوز منه التوضؤ، والموضوع للوضوء لا يباح منه الشرب. قال: وإذا اقتدى المتوضىء بالمتيمم ثم رأى المقتدي ماء ولم ير إمامه فسدت صلاة المقتدي دون صلاة الإمام. وكذا إذا أمّ المتيمم المتوضئين فأبصر بعض القوم الماء ولم يعلم به الإمام والآخرون حتى فرغوا فسدت (صلاة) من أبصر خاصة، وهذا قول علمائنا الثلاثة. وقال زفر رحمه الله: لا تفسد صلاته، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله. وكذلك على هذا الاختلاف إذا أمَّ الرجل قوماً في صلاة الظهر ولم يصل الفجر ولا يعلم به الإمام وقد علم به القوم فصلاة القوم فاسدة استحساناً عند علمائنا الثلاثة، وفي القياس وهو قول زفر رحمه الله: لا تفسد. وجه القياس وهو أن صلاة المقتدي لو فسدت إنما تفسد بأحد الأشياء الثلاثة، إما بالحدث العمد ولم يوجد وإما برؤية الماء، وذلك لا يضره لأنه متوضىء. وإما بفساد صلاة الإمام وصلاة الإمام صحيحة، فلا معنى لإفساد صلاته، فلا تفسيد صلاته وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: إن طهارة الإمام معتبرة في حق المقتدي بدليل أنه لو تبين أن الإمام محدث لم تجز صلاة المقتدي. وطهارة الإمام هنا بتيمم، فيجعل (22أ1) في حق من

أبصر الماء كأنه هو المتيمم فلهذا فسدت صلاته ولأنه اعتقد فساد صلاة الإمام، فإن عنده أن الإمام يصلي بالتيمم مع وجود الماء، والمقتدي إذا اعتقد فساد صلاة الإمام تفسد صلاته، كما لو اشتبهت القبلة على الإمام والقوم، فتحرى الإمام إلى جهة والمقتدي إلى جهة أخرى وهو عالم أن الإمام صلى إلى غير جهته فإنه لا يصح اقتداؤه به. وكذلك في مسألة الترتيب، صلاة الإمام فاسدة في حق المقتدي لأن الترتيب من شرط الجواز، وأنه ثابت في حق المقتدي بعلمه أن على الإمام صلاة الفجر، وبعلم الإمام أنه ليس عليه شيء فكانت صلاة الإمام فاسدة في حق المقتدي، جائزة في حق الإمام فلا يصح اقتداؤه به كذا هذا. وأجمعوا أن المتيمم إذا أمّ المتيممين ثم رأى بعض من خلفه الماء أو علم بمكانه ولم يعلم الإمام تفسد صلاة من علم بالماء لما ذكرنا أن المفسد للصلاة أحد الأشياء الثلاثة. ومن جملة ذلك: رؤية الماء في حق المتيمم، وهذا متيمم فيكون رؤية الماء مفسد للصلاة في حقه لا في حق غيره، لأن صلاة الغير لا تتعلق بصلاته. قال: المتيمم إذا وجد الماء فلم يتوضأ به ثم حضرت الصلاة فلم يجد الماء أعاد التيمم، لأنه لما قدر على استعمال الماء بطل تيممه وصار محدثاً بالحدث السابق فهذا محدث لا ماء معه، فعليه التيمم للصلاة. قال: جماعة من المتيممين إذا رأوا في صلاتهم قدر ما يكفي لأحدهم إن كان الماء مباحاً فسدت صلاة الكل. وإن كان مملوكاً لرجل فقال: أبحت الماء لكل واحد منكم أو قال: من شاء فليتوضأ فسدت صلاتهم. وإن قال: أبحت لكم جميعاً لم تفسد صلاتهم. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : جماعة من المتيممين انتهوا إلى رجل في السفر معه من الماء ما يكفي لأحدهم فأباح لهم وقال: خذوه فليتوضأ به أيكم شاء، ينتقض تيممهم، لأن هذا الماء بالإباحة والتحق بالمباح الأصلي، وهناك ينتقض تيمم الكل لأن هذا الماء يمنعهم عن ابتداء التيمم لأنه يفيد القدرة على الطهارة لكل واحد منهم فيمنع البقاء فكذا ههنا. فإن توضأ به أحدهم جاز وأعاد الباقون تيممهم. ولو كان قال: هذا الماء لكم فاقبضوه فقبضوه لم ينتقص تيممهم، لأنه ما أباح الماء لهم بل ملكه منهم فلا يصيب كل واحد منهم إلا شيئاً يسيراً، وذلك القدر لا يفيد القدرة على الطهارة فلا يبطل التيمم، ألا ترى أن ذلك القدر لا يمنع ابتداء التيمم فلا يمنع بقاؤه، قال بعض مشايخنا: وهذا على قولهما لأن عندهما هبة المشاع فيما يحتمل من رجلين هبة جائزة تامة، فكان هذا تمليكاً منهم. أما على قول أبي حنيفة رحمه الله: هبة المشاع فيما يحتمل القسمة رجلين أو جماعة غير جائزة فلا يكون هذا تمليكاً منهم بل يكون مجرد إباحة، فصار نظير الوجه الأول. وبعضهم قالوا: هذا قولهم جميعاً وهو الصحيح، وإنما كان كذلك لوجهين:

أحدهما: أن عند أبي حنيفة رحمه الله: هبة المشاع فيما يحتمل القسمة رجلين فاسدة والهبة الفاسدة تفيد الملك عند اتصال القبض بها. والثاني: إن لم يثبت التمليك لا تثبت الإباحة أيضاً لأن التنصيص على الإباحة لم يوجد ههنا لو ثبتت الإباحة، إنما تثبت في ضمن التمليك، فإن أبطل التمليك بطلت الإباحة الثانية في ضمنه ضرورة. فإن أباح كل واحد منهم لأصحابه يبطل تيممهم، وكذلك لو أباحوا لواحد بعينه بطل تيممه. قال مشايخنا: وهذا على قولهما لأن هذه الهبة وقعت صحيحة عندهما فثبت الملك فيعمل إِذْنُ كل واحد وإباحته في حق أصحابه فينتقص تيممهم. أما على قول أبي حنيفة رحمه الله: إذنهم فيما بينهم لا يعمل قبل القبض لعدم الملك وبعد القبض لفساد الملك إذ الملك الفاسد لا يفيد إطلاق الاستمتاع لا بالملك ولا بغيره بإذنه فانعدمت القدرة على الماء. قال: المتيمم إذا صلى بقوم متيممين ركعة فجاء رجل معه كوز من ماء يكفي أحدهم وقال: هو لفلان لرجل من القوم فسدت صلاة ذلك الرجل، ويمضي القوم على صلاتهم. فإذا فرغوا سألوه الماء، إن أعطى الإمام توضأ الإمام واستقبل الصلاة ويستقبل القوم معه، وإن منع الإمام والقوم فصلاة الكل تامة. ولو أن الذي جاء بالكوز قال للمتيممين قبل الشروع في الصلاة: من شاء منكم فليتوضأ به انتقص تيممهم. قوم من المتيممين شرعوا في الصلاة فجاء رجل بماء يكفي أحدهم وقال: من يريد منكم الماء؟ ينتقض تيممهم. قوم من المتيممين منهم متيمم للجنابة ومنهم متيمم للحدث وإمامهم متوضىء فجاء رجل بكوز من الماء يكفي أحد المتيممين عن الحدث وقال: هذا الكوز من الماء لمن شاء منكم فسدت صلاة المتيممين عن الحدث ولم تفسد صلاة المتيممين عن الجنابة لوجود القدرة على الماء لكل واحد من الفريق الأول دون الثاني. ولو كان الإمام متيمماً عن الحدث فسدت صلاة الكل. قال: رجلان يصليان أحدهما عرياناً والآخر متيمم، فجاء رجل وقال: معي ماء فتوضأ أيها المتيمم ومعي ثوب فخذه أيها العريان فسدت صلاتهما. كذا قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله. قال: المصلي بالتيمم إذا قال له نصراني: خذ الماء فإنه يمضي على صلاته ولا يقطع لأنّ كلامه قد يكون على وجه الاستهزاء، وقد صح الشروع بيقين فلا يقطع بالشك. فإذا فرغ من الصلاة سأله، فإن أعطاه أعاد الصلاة، وما لا فلا. ذكر أبو الحسن في «جامعه» في المصلي إذا وجد مع رفيقه ماءً كثيراً لا يدري يعطيه أم لا أنه يمضي على صلاته، فإذا فرغ سأله فإن أعطاه توضأ وأعاد، لأنه لما أعطاه للحال فالظاهر أنه كان يعطيه في ذلك الوقت لو طلب، فقد صلى بالتيمم مع القدرة على

استعمال الماء فيلزمه الإعادة، فإن أبى حين سأله فقد تمت صلاته لعدم القدرة، فإن أعطاه بعدما أبى لم ينتقض ما مضى من صلاته، لأن العجز استحكم بالإباء، فلا يظهر بطلان ما مضى ولزمه الوضوء لصلاة أخرى لارتفاع حكم الإباء في المستقبل بالإعطاء. وعن محمد رحمه الله: إذا رأى في الصلاة مع غيره ماءً وفي غالب ظنه أنه يعطيه بطلت صلاته والله أعلم. ومما يتصل بهذه المسائل ما قاله محمد رحمه الله في «الزيادات» وصورته: مسافر يغتسل عن جنابة فبقي منه لمعة لم يصبها الماء وليس معه ماء فإنه يتيمم ويصلي لأن الجنابة حلت بجميع البدن. قال عليه السلام: «تحت كل شعرة جنابة» وإنها لا تتجزأ زوالاً كما لا تتجزأ ثبوتاً، فما لم يَطْهر جميع بدنه بالماء لا يخرج عن حكم الجنابة ولم يوجد، فبقي جنباً وهو عادم الماء، فيجب عليه التيمم حتى يصلي. فإن تيمم للجنابة ثم أحدث حدثاً يوجب الوضوء وليس معه ماء فإنه يتيمم أيضاً للحدث ويصلي لأن تيممه للجنابة كان متقدماً على الحدث، والتيمم المتقدم لا يجوز عن الحدث المتأخر، ألا ترى أنه لو اغتسل عن الجنابة ثم أحدث كان عليه أن يتوضأ ولم يجز الاغتسال المتقدم عن الحدث المتأخر كذا ههنا. فإن وجد ماءً قبل التيمم للحدث فهذا على وجوه خمسة: الأول: إذا وجد من الماء ما يكفي لهما: وفي هذا الوجه ينتقض تيممه للجنابة لأن وجود هذا القدر من الماء يمنع ابتداء تيممه للجنابة فيمنع البقاء، فيغسل اللمعة ويتوضأ للحدث لأنه محدث معه من الماء ما يكفيه للوضوء.

الوجه الثاني: إذا وجد من الماء ما لا يكفي لأحدهما: وفي هذا الوجه لا ينتقض تيممه للجنابة لأن وجود هذا القدر من الماء لا يمنع ابتداء تيممه للجنابة فلا يمنع البقاء، ويتيمم للحدث لأنه محدث وليس معه من الماء ما يكفيه للوضوء، ويستعمل ذلك الماء في اللمعة (22ب1) تقليلاً للجنابة. الوجه الثالث: إذا وجد من الماء ما يكفي اللمعة وما يكفي للوضوء: وفي هذا الوجه ينتقض تيممه للجنابة فيغسل اللمعة ويتيمم للحدث لأنه محدث وليس معه من الماء ما يكفيه. الوجه الرابع: إذا وجد من الماء ما يكفي للوضوء ولا يكفي غسل اللمعة، وفي هذا الوجه لا يبطل تيممه للجنابة ويتوضأ للحدث لأن بالتيمم الأول طهر من الجنابة إلى أن يجد ماءً يكفيه لما بقي ولم يجد، فلا يبطل تيممه للجنابة، ولكن يتوضأ للحدث لأنه محدث معه من الماء ما يكفيه للوضوء. الوجه الخامس: إذا وجد من الماء ما يكفي لكل واحد منهما حالة الانفراد ولا يكفي لهما على الجمع: وفي هذا الوجه يصرف الماء إلى اللمعة ثم يتيمم للحدث، لأن الجنابة أغلظ الحدثين، ألا ترى أن الجنب ممنوع عن قراءة القرآن والمحدث غير ممنوع عنه، فعلم أن الجنابة أغلظ الحدثين، والصرف إلى أغلظ الحدثين عند التعارض أولى. قال: فإن توضأ بهذا الماء جاز ويعيد التيمم للجنابة لأن الماء صار مستحق الصرف إلى اللمعة فقد وجد من الماء ما يكفيه لما بقي فانتقض تيممه للجنابة. والتيمم متى انتقض لا يعود بعد ذلك. فإذا صرف الماء إلى الوضوء بقي جنباً، وهو عادم الماء فيتيمم للصلاة. فلو أنه لم يتوضأ بهذا الماء ولكن بدأ بالتيمم للحدث ثم صرف إلى اللمعة هل يعيد التيمم للحدث؟ ذكر في «الزيادات» أنه يعيد، وعلى رواية «الأصل» لا يعيد قيل: ما ذكر في «الزيادات» قول محمد رحمه الله، وما ذكر في «الأصل» قول أبي يوسف رحمه الله، وجه قول محمد: أنه تيمم وفي يده من الماء ما يكفيه للوضوء فلا يجوز التيمم. وجه قول أبي يوسف: أن الماء مستحق الصرف إلى اللمعة فالمستحق بجهة معدوم فيما عدا تلك الجهة، ألا ترى أن الماء المستحق بحاجة العطش جعل كالمعدوم في حق جواز التيمم كذا ههنا. هذا الذي ذكرنا إذا وجد الماء قبل أن يتيمم للحدث، وأما إذا وجد الماء بعدما تيمم للحدث فهو على وجوه خمسة أيضاً: الوجه الأول: إذا وجد من الماء ما يكفي لهما، وفي هذا الوجه: يبطل تيممه للجنابة والحدث لأن وجود هذا القدر من الماء يمنع التيمم لهما ابتداءً، فيمنع البقاء لهما أيضاً فيغسل اللمعة ويتوضأ للحدث. الوجه الثاني: إذا وجد من الماء ما لا يكفي لأحدهما: وفي هذا الوجه لا يبطل تيممه للجنابة ولا للحدث لأن وجود هذا القدر من الماء لا يمنع التيمم لهما ابتداءً فلا يمنع البقاء أيضاً، ولكن يصرف الماء إلى اللمعة تقليلاً للجنابة. الوجه الثالث: إذا وجد من الماء ما يكفي اللمعة دون الوضوء: وفي هذا الوجه يبطل تيممه للجنابة فيصرف الماء إلى اللمعة ولا يبطل تيممه للحدث. الوجه الرابع: إذا وجد من الماء ما يكفي للوضوء ولا يكفي اللمعة، وفي هذا الوجه: يبطل تيممه للجنابة ويبطل تيممه للحدث فيتوضأ به ويصلي. وفي الوجه الخامس: إذا وجد من الماء ما يكفي لكلّ واحد منهما حالة الانفراد ولا يكفي لهما جميعاً: وههنا يصرف الماء إلى اللمعة، وهل ينتقض تيممه للحدث على رواية «الزيادات» وهو قول محمد رحمه الله: ينتقض، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا ينتقض، لأن وجود الماء عند محمد يمنع ابتداء التيمم فيمنع البقاء، وعند أبي يوسف لا يمنع ابتداء التيمم فلا يمنع البقاء. قال: جنب اغتسل ونسي أن يبدأ بمواضع الوضوء يعني لم يغسل مواضع الوضوء

ونسي غسل ظهره أيضاً ثم أراق الماء، فإنه يتيمم لأنه جنب بعد، فإن تيمم ثم وجد ماءً يكفي لأحدهما إما لمواضع الوضوء وإما لغسل الظهر لا ينتقض تيممه، لأن وجود هذا القدر من الماء في الابتداء لا يمنع التيمم فلا ينقضه في الانتهاء، وكان له أن يصرف إلى أيهما شاء لأن الثابت فيهما نجاسة الجنابة فاستويا فكان له خيار الصرف، ولكن الأفضل أن يستعمله في مواضع الوضوء، فإنما كان هكذا لأنه ليس في الصرف إلى أحدهما إزالة الجنابة بل فيه تقليل الجنابة والسنة أن يبدأ بمواضع الوضوء فكان إلى ما فيه إقامة السنة أولى. قال: جنب اغتسل وبقي من جسده ظهره لم يصبه الماء وليس معه ماء آخر فعليه أن يتيمم، فإن لم يتيمم حتى أحدث حدثاً يوجب الوضوء فعليه أن يتيمم تيمماً واحداً للجنابة والحدث جميعاً. وإنما كان هكذا لأن التيمم خلف عن الماء، ثم استعمال الماء مرة واحدة يكفي عن الحدثين، حتى إن الحائض إذا طهرت من حيضها وأجنبت يكفيها غسل واحد فكذا التيمم. قيل: وينبغي له عند التيمم أن ينوي عن الحدثين لأن التيمم لا يكون طهارة إلا بالنيّة، فإذا لم ينو عنهما بقي التيمم في حق أحدهما بلا نيّة فلا يكون طهارة. وإن تيمم لهما ثم وجد من الماء ما يكفي لأحدهما إما لغسيل الظهر وإما لمواضع الوضوء صرفه إلى غسيل الظهر لما ذكرنا أن الجنابة أغلظ الحدثين ويعيد التيمم للحدث على رواية «الزيادات» وهو قول محمد رحمه الله. استشهد محمد في «الكتاب» لإيضاح مذهبه بمسألة: ألا ترى أن الرجل إذا كان بثوبه أو جسده نجاسة أكثر من قدر الدرهم وأحدث ولم يجد ماءً وتيمم ثم وجد ماءً يكفي لأحدهما فإنه يصرفه إلى غسل النجاسة لأنها أغلظ من الحدث لأنه يتوهم أن يغمر البدن وليس للماء بدل في تطهيرها، والحدث لا يغمر البدن، وللماء بدل في رفعه فعلم أنها أغلظ فلهذا يصرف الماء إليها، ثم يعيد تيممه للحدث، مع أن هذا الماء استحق الصرف إلى النجاسة فكذا في مسألتنا. قال مشايخنا: لا نحفظ لهذا رواية عن أبي يوسف رحمه الله والصحيح أن يقال: لا ينتقض تيممه فلا يلزمه إعادة التيمم عند أبي يوسف. قال: جنب وجد من الماء قدر ما يكفي للوضوء دون الاغتسال فإنه يتيمم ولا يلزمه استعمال ذلك الماء عندنا لأن هذا القدر من الماء لا يفيد القدرة على الطهارة عن الجنابة فيجعل وجوده والعدم بمنزلة، فإن تيمم وتوضأ ثم أحدث فعليه أن يتيمم لأن الوضوء السابق لا يجزىء عن الحدث اللاحق، فإن تيمم ثم وجد ما يكفيه لأحدهما، إما لبقية جسده أو لمواضع وضوئه صَرَفَهُ إلى الجنابة لأنها أهم ويعيد التيمم للحدث على رواية «الزيادات» وهو قول محمد رحمه الله. وفي «نوادر» ابن سماعة: مسافر أجنب فتيمم وشرع في الصلاة ثم أحدث وقد وجد من الماء ما يكفيه للوضوء يتوضأ ويبني على صلاته في قول محمد رحمه الله الآخر،

مروي ذلك عن أبي يوسف رحمه الله أيضاً والله أعلم. (نوع آخر) ..... إذا أحدث. وفي إمامة المتيمم للمتوضئين إذا افتتح الصلاة بالتيمم ثم سبقه الحدث ولم يجد الماء تيمم وبنى، وكذلك لو افتتح الصلاة بالوضوء ثم سبقه الحدث ولم يجد الماء تيمم وبنى، وإن وجد بعدما تيمم توضأ واستقبل الصلاة سواء وجد الماء بعدما عاد إلى مكانه أو قبل أن يعود إلى مكانه، هكذا ذكره الحاكم الشهيد رحمه الله في «المختصر» . قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: كان الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد رحمه الله يقول: وجدت رواية عن أبي يوسف أنه يتوضأ ويبني، قال: وهذا أقيس على مذهبه لأن اقتداء المتوضىء بالمتيمم يجوز عنده، فكذا بناء الوضوء على التيمم، فيحتمل أن يكون ما ذكر للحاكم في المختصر قول محمد. وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أن المتوضىء إذا سبقه الحدث فذهب وتيمم ثم وجد الماء بعد ما عاد إلى مكانه استقبل الصلاة، وإن وجد الماء قبل أن يعود إلى مكانه ففي القياس يتوضأ ويستقبل الصلاة وهو قول محمد رحمه الله، وفي الاستحسان: وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يتوضأ ويبني على صلاته. وفي «البقالي» مسافر أجنب وشرع في الصلاة بالتيمم ثم سبقه الحدث فوجد ماءً قدر ما يكفي للوضوء فإنه يتوضأ ويبني قال: وهذا هو القول الآخر لمحمد رحمه الله وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله. ويجوز للمتيمم أن يؤم المتوضىء في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: لا يجوز، وهو قول علي رضي الله عنه. حجته: أن التيمم طهارة ضرورية، وطهارة الماء أصلية فلا يجوز بناء الأصلي على الضروري، ألا ترى أن صاحب الجرح السائل لا يؤم الأصحاء لهذا، ومذهبهما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروي أن رسول الله عليه السلام بعث عمرو بن العاص رضي الله عنه أميراً على سريّة فلما انصرفوا سألهم عن سيرته فقالوا: كان حسن السيرة (23أ1) ولكنه صلى بنا يوماً وهو جنب فسأله عن ذلك، فقال: احتلمت في ليلة باردة وخشيت الهلاك إن اغتسلت فتلوت قول الله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} (النساء: 29) فتيممت وصليت بهم، فضحك في وجهه وقال: «ما لك من فقه عمرو بن العاص» ولم يأمرهم بإعادة الصلاة لأن المتيمم صاحب بدل صحيح فيؤم المتوضئين كالماسح على الخفين يؤم الغاسلين. وبه فارق صاحب الجرح السائل فإنه ليس بصاحب بدل صحيح، فإذا كان الإمام

متيمماً وخلفه متوضئون فأحدث واستخلف متوضىء ثم وجد الإمام الأول الماء فسدت صلاته لأنه متيمم رأى الماء في خلال الصلاة فتفسد صلاته، ولا تفسد صلاة القوم ولا صلاة الخليفة لأن الإمامة تحولت إلى الثاني، وصار الإمام الأول مقتدياً بالخليفة كواحد من القوم. وفساد صلاة واحد من القوم لا يوجب فساد صلاة غيره، كما لو تقيأ متعمداً أو قهقه أو تكلم فسدت صلاته، ولا يوجب ذلك فساد صلاة غيره. وإن كان الأول متوضئاً والخليفة متيمماً فوجد الخليفة الماء فسدت صلاته وصلاة الإمام الأول والقوم جميعاً لأن الإمامة تحولت إلى الثاني وصار الإمام الأول مقتدياً بالثاني على ما ذكرنا وقد فسدت صلاة الإمام الثاني برؤية الماء، وفساد صلاة الإمام يوجب فساد صلاة القوم. وهذا التفريع إنما يتأتى على مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لأن عندهما اقتداء المتوضىء بالمتيمم جائز، فأما على مذهب محمد رحمه الله لا يتأتى هذا التفريع لأن من مذهبه أن اقتداء المتوضىء بالمتيمم لا يجوز والله أعلم. (نوع آخر) من هذا الفصلفي المتفرقات ويصلي الرجل بتيممه ما شاء من الصلوات من الفرائض والنوافل والفوائت ما لم يحدث، أو تزول العلة أو يجد الماء. قال الشافعي: يصلي بتيمم واحد فرضاً واحداً وما شاء من النوافل، وحاصل الخلاف يرجع إلى أن حكم التيمم عند عدم الماء مادي: قال أصحابنا رحمهم الله: حكمه زوال الحدث مطلقاً من كل وجه إلى وقت الحدث كما في الماء، إلا أن في الماء الزوال يؤقت إلى غاية الحدث. وفي التيمم يؤقت إلى غاية الحدث أو وجود ماء أو زوال العلة. وعند الشافعي: حكمه رفع الحدث مقدراً بالحاجة إلى فرض الوقت كما في طهارة المستحاضة والصحيح مذهبنا لقوله عليه السلام: «التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء» ، فإن وجد ولم يتوضأ به ثم حضرت الصلاة فلم يجد الماء أعاد التيمم لأنه لما وجد الماء بطل تيممه والباطل لا يعود. وقد مرت المسألة من قبل. قال: إذا أجنب المسافر ووجد (من) الماء قدر ما يتوضأ به لا غير فإنه يتيمم ولا يتوضأ به عندنا، وقال الشافعي رحمه الله يتوضأ بذلك الماء ثم يتيمم، وقد مرت المسألة أيضاً، وكذلك على هذا الاختلاف: المحدث إذا كان معه من الماء ما يكفيه لغسل بعض الأعضاء يتيمم عندنا، وعند الشافعي يستعمل الماء فيما يكفيه ثم يتيمم. احتج الشافعي بظاهر قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} (النساء: 43) الله تعالى ذكره منكراً، والمنكر في موضع النفي يعم، فيتناول القليل والكثير، فما دام واجداً لشيء من الماء لا يكون له أن يتيمم، والفقه فيه: وهو أن الضرورة لا تتحقق إلا بعد استعمال الماء فيما يكفيه، فهو كمن أصابته مخمصة ومعه لقمة من الحلال لا يكون له أن

يتناول الميتة ما لم يتناول تلك اللقمة، والدليل أن من وجد سؤر حمار يلزمه استعماله فكذلك ههنا، بل هذا أولى؛ لأن سؤر الحمار طهور من وجه دون وجه، وهذا الماء طهور من كل وجه، فلما لزمه استعمال سؤر الحمار فهذا أولى، ولأن الطهارة شرط جواز الصلاة، وقد عجز عن استعمال البعض، والعجز عن استعمال البعض لا يسقط الكل قياساً على الطهارة عن النجاسة الحقيقية وقياساً على ستر العورة، فإنه لو وجد من الماء قدر ما يغسل بعض النجاسة أو وجد من الثوب قدر ما يستر بعض العورة يلزمه ذلك حتى لو لم يفعل لا تجوز صلاته كذلك ههنا. وعلماؤنا احتجوا بهذه الآية أيضاً، فالله تعالى شرط جواز التيمم عدم الماء الذي يطهر، ألا ترى أن الماء النجس لا يمنعه من التيمم وقد عدم ههنا الماء الذي يطهره، فيجوز له التيمم، ولأنه معطوف على ما سبق، فقد سبق بيان حكم الوضوء والاغتسال ثم عطف عليه قوله: {فلم تجدوا ماء} (النساء: 43) فيكون المفهوم منه ذلك الماء الذي يتوضؤون به، ويغتسلون عند الجنابة، وهو غير واجد لذلك الماء، ولأنه إذا لم يطهره استعمال هذا الماء لا يكون في استعماله إلا تضييعه، والماء من أعز الأشياء في السفر، فلا فائدة في استعماله كالمكفر بالصوم إذا وجد بعض الرقبة جاز له الصوم، وكذلك إذا وجد قبل الشروع في الصوم لا يلزمه الإعتاق، ويجوز له الصوم؛ لأن ذلك القدر من الرقبة لا يقع به التكفير، فكذلك ههنا، فتكون الآية حجة لنا من الوجه الذي بينا. قوله: واجد للماء، قلنا: نعم، ولكن هذا القدر من الماء لا يكفي لإباحة الصلاة، وأما المخمصة، قلنا: لا يلزمه مراعاة الترتيب، فإن ما معه من الحلال إذا كان لا يكفيه لسد الرمق، فله أن يتناول معه الميتة. وأما سؤر الحمار قلنا ذلك لأن ... الحدث.... فيمنع لهذا ... أما ههنا لا يزول الحدث بهذا القدر من الماء بيقين، فلم يكن هذا نظير ذلك. قوله: الطاهر عن الحدث شرط من شرائط الجواز، فصار كالنجاسة الحقيقية وستر العورة، قلنا: من مشايخنا من سوى بينهما، وقال: إذا وجد من الماء قدر ما لا يزيل كل النجاسة بل يبقى على الثوب بعدما غسل مقدار ما يمنع من جواز الصلاة، فإنه لا تلزمه الإزالة، وكذلك في الثوب. ولئن سلمنا فنقول: إن غسل بعض النجاسة الحقيقية مفيد؛ لأن بعض النجاسة يزول على الحقيقة، وكذا بعض الانكشاف يزول ببعض الستر، وهو مأمور بإزالة النجاسة والستر حقيقة وحكماً فإذا قدر عليها يفرض عليه ذلك، وإذا قدر على إزالته حقيقة دون الحكم، فما عجز عنه يسقط، وما قدر عليه لزمه، أما ههنا غسل بعض الأعضاء لا يفيد له إباحة الصلاة وهي مشروعة لإباحة الصلاة، فإذا لم تُفِدْ له الإباحة، فوجوده وعدمه

بمنزلة، وكذلك لو وجد الماء هذا المتيمم، فإن كان يكفيه لما خوطب به يبطل تيممه، وإن كان لا يكفيه لا يبطل تيممه اعتباراً للانتهاء بالابتداء. فإن تيمم للجنابة وصلى ثم أحدث ومعه من الماء ما يتوضأ به توضأ به لصلاة أخرى، لأن التيمم الأول أخرجه من الجنابة إلى أن يجد ما يكفيه الاغتسال فهذا محدث معه من الماء ما يكفيه للوضوء فيتوضأ به، فإن توضأ به ولبس خفيه ثم مر بماء يكفيه للاغتسال، فلم يغتسل حتى صار عادماً للماء، ثم حضرت الصلاة ومعه من الماء مقدار ما يتوضأ به فإنه يتيمم، ولا يتوضأ به لأنه لما وجد من الماء قدر ما يغتسل عاد جنباً كما كان فصار بهذه الحالة والحالة الأولى على السواء، وفي الحالة الأولى يتيمم ولا يتوضأ كذا ههنا. ولا يلزمه نزع الخف لأنه لا تيمم في الرجل، فإن تيمم ثم حضرت الصلاة الأخرى وقد سبقه الحدث، فإنه يتوضأ به، لأن بالتيمم السابق خرج من الجنابة إلى أن يجد ما يكفيه الاغتسال ولم يجد بعد ذلك ما يكفيه الاغتسال فهذا محدث معه ما يتوضأ به فعليه أن يتوضأ وينزع خفيه، لأنه لما مر بماء يكفيه الاغتسال بعد لبس الخف وجب نزع الخف، فلا يكون له أن يمسح بعد ذلك وإن لم يكن مر بالماء قبل ذلك مسح على خفيه؛ لأن اللبس حصل على طهارة ما لم يجد ما يمكنه الاغتسال، فكان له أن يمسح. وإذا أصاب بدن المتيمم نجاسة لم ينقض تيممه، وكذلك إذا أصاب ثوبه، لأن التيمم إنما ينتقض بأحد شيئين: أما برؤية الماء أو بالحدث، ولم يوجد واحد منهما، فلا ينتقض تيممه ولكن يمسح تلك النجاسة بخرقة أو خشبة أو تراب ثم يصلي؛ لأنه بالمسح تزول العين، إن كان لا يزول الأثر فهو قادر على إزالة البعض. ولو أمكنه (23ب1) إزالة الكل يؤمر به، فإذا أمكنه إزالة البعض، يؤمر به أيضاً وصار كالعاري إذا وجد من التراب ما يستر به عورته، فإن ترك المسح فإنه يضره لا ترك الأثر، فالأثر لا يكفي لمنع جواز الصلاة. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في مسلم تيمم ثم ارتد عن الإسلام ثم أسلم فهو على تيممه، وقال زفر رحمه الله: يبطل تيممه، وأجمعوا على أنه إذا توضأ ثم ارتد عن الإسلام ثم أسلم أنه يكون على وضوئه، فوجه قول زفر: أن الكفر يمنع ابتداء التيمم لكونه عبادة فيمنع البقاء، كالصوم والصلاة، وبه فارق الوضوء؛ لأن الكفر لا يمنع ابتداء الوضوء فلا يمنع البقاء قلنا: إن التيمم قد صح، وأفاد حكمه وهو الطهارة والحال حال بقاء الطهارة والكفر لا ينافي بقاء الطهارة فيبقى بعد الردة، ألا ترى أن لو توضأ ثم ارتد يبقى طاهراً، بخلاف الصوم والصلاة لأنهما حكمهما بعدالفراغ عنهما الثواب، والكفر ينافيه، والسبب لا يبقى بدون الحكم، فأما التيمم، فله حكمان الثواب والطهارة عن الحدث، والثواب إن بطل بالردة، فالطهارة عن الحدث لم تبطل لأن الكفر لا ينافيها فينتفي التيمم، لأن السبب يبقى ببقاء أحد الحكمين، ألا ترى أنه لو توضأ بنية الصلاة ثم ارتد يبطل الثواب وتبقى الطهارة كذا ههنا.

وإنما لا يصح ابتداء التيمم لأنه جعل طهوراً بشرط إرادة العبادة التي لا صحة لها إلا بالطهارة، وإرادة العبادة من الكافر لا تصح أما في حالة البقاء لا حاجة إلى الإرادة. قال: ولو تيمم النصراني يريد به الإسلام، لا يصح تيممه، حتى لا يصلي بهذا التيمم لو أسلم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يصح تيممه، شرط في «الجامع الصغير» إرادة الإسلام على مذهب أبي يوسف رحمه الله لم يشترط إرادة الإسلام في كتاب الصلاة والصحيح ما ذكر في «الجامع الصغير» لأن بدون إرادة الإسلام حصل التيمم لا بنية القربة، والمسلم لو تيمم لا بنية القربة لا يصح تيممه بالإجماع فههنا أولى. فوجه قول أبي يوسف أنه تيمم بنية قربة تصح منه فيصح أما بنية القربة؛ لأن الإسلام أصل القرب ورأس العبادات، وإما نية قربة تصح منه فظاهر بخلاف ما لو تيمم بنية الصلاة، لأن نية الصلاة منه لا تصح، غاية ما في الباب أنه لم ينو الصلاة، إلا أن نية الصلاة ليست بشرط لازم، ألا ترى أنه لو تيمم لمس المصحف أو لقراءة القرآن صح. وجه قولهما: أنه يتيمم بنية قربة تصح بغير طهارة، لأن الإسلام صحيح بدون الطهارة، فلا يعتبر، كما لو تيمم بنية الصوم، أو بنية الزكاة، وبه فارق ما لو تيمم لمس المصحف، أو لقراءة القرآن. والفقه في ذلك أن التيمم صار طهوراً بخلاف القياس شرعاً بنية قربة لا تتأدى بدون الطهارة. ولو توضأ في حال كفره ثم أسلم وصلى بذلك الوضوء يجوز عندنا خلافاً للشافعي بناء على أن نية الصلاة عنده شرط صحة الوضوء ونية الصلاة من الكافر لا تصح، وعندنا نية الصلاة ليست بشرط لصحة الوضوء، والمسألة معروفة. وللمسافر أن يطأ جاريته، وإن علم أنه لا يجد الماء، وقال مالك: يكره ذلك، حجته: حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن ذلك فقال: أما ابن عمر فلا يفعل ذلك وأما أنت فإذا وجدت الماء فاغتسل، والمعنى فيه: وهو أن الضرورة لا تتحقق في اكتساب سبب الجنابة حال عدم الماء، والصلاة مع الجنابة عظيم فلا ينبغي له أن يتعرض لذلك من غير ضرورة، ولنا قوله تعالى: {أو لامستم النساء} (النساء: 43) فلذلك يفيد إباحة الملامسة في حال عدم الماء ثم التيمم للجنابة والحدث بصفة واحدة، فكما يجوز له اكتساب سبب الحدث في حال عدم الماء، فكذلك اكتساب سبب الجنابة لأن في منع النفس بعد الشبق بعض الحرج، وما شرع التيمم إلا لرفع الحرج. سُئل شيخ الإسلام علي السغدي رحمه الله: عن رجل ضرب يده على الأرض للتيمم فرفعها، فقبل أن يمسح بهما وجهه وذراعه أحدث بصوت أو ريح أو نحو ذلك ثم مسح بهما، هل يجوز ذلك التيمم؟ قال: وقعت هذه المسألة أيام أستاذنا فقال القاضي الإمام المنتسب إلى إسبيجاب رحمه الله: يجوز التيمم بمنزلة من ملأ كفيه ماء فأحدث ثم استعمله في بعض أعضاء الوضوء، أليس أنه يصح ذلك؟ كذا ههنا، وقال السيد الإمام الأجل أبو شجاع رحمه الله: لا يجوز؛ لأن الضربة من التيمم، قال عليه السلام: «التيمم

ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين» فقد أتى ببعض التيمم ثم أحدث فينتقض كما ينتقض الكل إذا حصل بعد الكل بمنزلة الوضوء إذا حصل الحدث في خلاله ببعض ما وجد كما إذا حصل بعد تمامه ينتقض الكل. قال: ثلاثة نفر في السفر جنب وحائض طهرت من الحيض وميت ومعهم من الماء قدر ما يكفي لأحدهم، إن كان الماء لأحدهم فهو أحق وإن كان الماء لهم لا ينبغي لأحد أن يغتسل لأن للميت نصيب وإن كان الماء مباحاً فالجنب أحق به وتتيمم المرأة، لأن غسل الجنب فريضة ويمكنه الإمامة، وغسل الميت ليس بفريضة ولأن غسل الجنب بنص الكتاب، وغسل الميت ثبت بالسنة فيوسم الميت ويصلي الرجل وتقتدي به المرأة بالتيمم، وكذا لو كان مكانَ الحائض محدث يصرف إلى الجنب بالإجماع، لأن في كون التيمم شبيهاً بالجنابة خلاف، فإن عمر وابن مسعود لا يريان التيمم للجنب، فكان الصرف إلى الجنابة أولى. وإن بدأ بذراعيه في التيمم أو مكث بعدما يمم وجهه ساعة ثم يمم ذراعيه أجزأه، وعند الشافعي لا يجوز في الترتيب بناء على مسألة الترتيب في الوضوء، وعند مالك لا يجوز في الموالاة بناء على مسألة الموالاة في الوضوء، وقد بيناهما في باب الوضوء فكذلك ههنا، والمعنى فيهما أن هذا ترك السنّة وترك السنّة لا يمنع الجواز. قال: متيمم مر على الماء وهو نائم، ذكر في بعض الروايات أن على قول أبي حنيفة رحمه الله أنه ينتقض تيممه، وقيل ينبغي أن لا ينتقض عند الكل، إنما الخلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فيما إذا تيمم وفي رحله ماء لا يعلم به. رجل يرى التيمم إلى الرسغ أو الوتر ركعة واحدة ثم رأى التيمم إلى المرفق، والوتر ثلاثاً لا يعيد ما صلى وإن فعل ذلك من غير أن يسأل أحداً ثم سأل فأمر بثلاث يعيد ما صلى لأنه في الوجه الأول مجتهد وفي الوجه الثاني لا، يعني في الوتر. قال: المسافر إذا وجد ماء قدر ما يغسل به كل عضو مرة واحدة لا يجوز له أن يتيمم إلا أن يخاف العطش على نفسه أو على دابته، ولو كان متيمماً فوجد ماءً قدر ما يكفي كل عضو مرة واحدة، فغسل بعض أعضائه ثلاثاً ثلاثاً فلم يبق الماء فإنه يعيد التيمم. قال: وإذا أحدث الإمام في صلاة الجنازة، قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: إن استخلف متوضئاً ثم تيمم وصلى خلفه أجزأه في قولهم جميعاً، فإن تيمم هذا الذي أحدث وأم الناس فأتم جازت صلاة الكل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعلى قول محمد وزفر رحمهما الله: صلاة المتوضىء فاسدة وصلاة المتيممين جائزة، وهذه المسألة دليل على أن في صلاة الجنازة يجوز البناء والاستخلاف، ويصح فيها اقتداء المتوضىء بالمتيمم كما في غيرها من الصلوات. قال: المسافر إذا لم يجد الماء ووجد الثلج، إن كان ذلك في مكان البرد وزمانه جاز له التيمم لأن التوضؤ بالثلج لا يجوز، إلا أن يسيل الماء على أعضائه ويتقاطر منها،

(الفصل السادس) في المسح على الخفين

وذلك لا يتصور في زمان الشتاء، فإذا عجز عن الوضوء جاز التيمم. قال: مسافر أحدث ومعه ثوب نجس، فوجد ماء قدر ما يكفي للوضوء أو لغسل الثوب ولا يكفيهما فإنه يغسل الثوب به ويتيمم للحدث ويصلي وإن توضأ بالماء وصلى في الثوب النجس يجزئه وكان مسيئاً فيما فعل. وإذا تيمم لصلاة الجنازة وصلى جاز له أن يصلي بذلك التيمم على جنازة أخرى قبل أن يقدر على الوضوء كما لو تيمم للمكتوبة جاز له أن يصلي بذلك التيمم مكتوبة أخرى. قال: مسافر معه ماء طاهر وسؤر حمار، ولا يعرف أحدهما من الآخر قال محمد رحمه الله: يتوضأ بهما جميعاً ولا يتيمم. قال: جنب تيمم للظهر وصلى ثم أحدث فحضرته العصر ومعه ماء يكفي للوضوء فإنه يتوضأ به لأن الجنابة زالت بالتيمم، فإذا أحدث بعد التيمم ومعه ما يكفي للوضوء يتوضأ فإن توضأ للعصر وصلى ثم مر بماء يتأتى منه الاغتسال، وعلم به ولم يغتسل حتى حضرت المغرب وقد أحدث أو لم يحدث (24أ1) ومعه ماء قدر ما يكفيه الوضوء فإنه يتيمم ولا يتوضأ به لأنه لما مر بماء يكفيه الاغتسال عاد جنباً فهذا جنبٌ معه من الماء ما لا يكفي الاغتسال فيتيمم. ومن تيمم ثم شك أنه أحدث أو لم يحدث فهو على تيممه ما لم يستقين بالحدث، كما لو شك في الحدث بعدما لو توضأ. قال: مسافر أجنب، فغسل وجهه وذراعيه، ولم يبق الماء فإنه يتيمم، فإن تيمم وشرع في الصلاة ثم قهقه ثم وجد ماءاً يكفي الاغتسال، فإنه يغسل أعضاء الوضوء، إلا رواية عن أبي يوسف رحمه الله، ويغسل ما بقي من جسده ما لم يكن غسله في المرة الأولى بلا خلاف، فالضحك في الصلاة ينقض طهارة الوضوء بالإجماع، وهل ينقض طهارة الاغتسال؟ فيه خلاف وقد مرت المسألة من قبل. (الفصل السادس) في المسح على الخفين يجب أن يعلم بأن المسح على الخفين جائز عند عامة العلماء بآثار مشهورة قريبة من التواتر، روى عمر وعلي والعبادلة الثلاثة وصفوان بن عسال المرادي وغيرهم رضي الله عنهم عن رسول الله عليه السلام، وعن مغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال «توضأ رسول الله عليه السلام في سفر وكنت أصب عليه الماء وعليه جبة شامية ضيقة الكمين فأخرج يديه من تحت ذيله ومسح على خفيه فقلت: نسيت غسل القدمين فقال: «بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي عزّ وجلّ» . وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه مسح على

خفيه وقال: «رأيت النبي عليه السلام فعل ذلك، فقالوا لجرير: أبعد نزول سورة المائدة، وعنوا به وأرجلكم على قراءة النصب الدالة على فرضية الغسل، فقال جرير: وهل كان إسلامي إلا بعد سورة المائدة» ، وعن الحسن البصري رحمه الله قال: أدركت سبعين نفراً من أصحاب رسول الله عليه السلام كلهم يرون المسح على الخفين. ولكثرة الأخبار قال أبو حنيفة رحمه الله: ما قلت بالمسح على الخفين حتى جاء في مثل ضوء النهار، وفي رواية قال: حتى رأيت له شعاعاً كشعاع الشمس. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سُئل عن السنّة والجماعة فقال: أن تحب الشيخين ولا تطعن في الحسنين وتمسح على الخفين. وقال الكرخي رحمه الله: من أنكر المسح على الخفين يخشى عليه الكفر. قالوا: وعلى قياس قول أبي يوسف رحمه الله: من أنكر المسح على الخفين يكفر لأن حديث المسح على الخفين بمنزلة التواتر عنده، ومن أنكر التواتر يكفر. وهذا الفصل يشتمل على أنواع: الأول: في صورة المسح وكيفيته ومقداره فنقول: قال أصحابنا رحمة الله عليهم: مسح الخف مرة واحدة ولا يسن فيه التكرار، ويبدأ من قبل الأصابع فيضع أصابع يده اليمنى على مقدم خفيه الأيمن، ويضع أصابع يده اليسرى على مقدم خفه الأيسر ويمدهما إلى أصل الساق، هكذا روى مغيرة بن شعبة فعل رسول الله عليه السلام، والمعنى: أن المسح قائم مقام الغسل، والسنّة في الغسل البداية من قبل الأصابع فكذلك في المسح. وعن محمد رحمه الله: أنه سئل عن المسح على الخفين فقال: أن يضع أصابع يديه على مقدم خفيه ويجافي كفيه ويمدهما إلى الساق أو يضع كفيه مع الأصابع ويمدهما جملة، قال محمد رحمه الله: كلاهما حسن قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والأحسن تحصيل المسح بجميع اليد، ولو بدأ من قبل الساق يجوز لأنه أتى بأصل المسح إلا أنه ترك السنّة، وترك السنّة لا يمنع الجواز. ألا ترى أن في الغسل لو بدأ من أصل الساق يجوز؟، وطريقه ما قلنا. ولو مسح برؤوس الأصابع وجافى أصول الأصابع والكف لا يجوز، إلا أن يبلغ ما ابتل من الخف عند الوضع مقدار الواجب وذلك ثلاثة أصابع، ولو مسح بظاهر كفيه يجوز والمستحب المسح بباطن كفيه.

ولو مسح بأصبع أو أصبعين لا يجوز؛ لأن المسح على الخفين نظير المسح على الرأس لأنه معطوف على الرأس في إحدى الروايتين على ما مر * ثم لو مسح على الرأس بأصبع أو أصبعين لا يجوز، ولو مسح بثلاثة أصابع جاز فههنا كذلك. وعلى قياس رواية الحسن في مسح الرأس انه لا يجوز * ما لم يمسح مقدار الربع، لا يجوز في مسح الخفين إلا مقدار الربع أيضاً ولو مسح بالإبهام والسبابة: إن كانا مفتوحين جاز لأن ما بينهما مقدار أصبع آخر، وقد ذكرنا هذا في مسح الرأس، ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : أن التقدير بثلاثة أصابع اليد أو بثلاثة أصابع الرجل، وكان الكرخي رحمه الله يقول: التقدير بثلاثة أصابع الرجل اعتباراً لمحل المسح. وكان الفقيه أبو بكر الرازي رحمه الله يقول: التقدير بثلاثة أصابع اليد اعتباراً لآلة المسح، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله. ولو مسح بأصبع واحد ثم بله ومسح ثانياً وثالثاً، إن مسح كل مرة غير الموضع الذي مسحه مرة (لا) يجوز كأنه مسح بثلاثة أصابع اليد، ويجوز المسح على الخف ببلل الغسل سواء كانت البلة متقاطرة أو غير متقاطرة، ولا يجوز المسح ببلل المسح، وتفسير هذا: إذا توضأ ثم مسح الخف بلة بقيت على كفه بعد الغسل يجوز، ولو مسح رأسه ثم مسح الخف ببلة بقيت لا يجوز، لأن في الفصل الأول: البلة لم تصر مستعملة لأن الغرض منها ما أقيم بها، وفي الفصل الثاني: البلة صارت مستعملة، لأن الغرض أقيم بها. ولو توضأ ونسي مسح خفيه، ثم فاض الماء، فأصاب الماء ظاهر خفيه، يجزئه عن المسح، لأن المقصود والمأمور به وصول البلة وقد وجد، وهو نظير ما لو نسي مسح الرأس فأصاب رأسه ماء المطر هل يصير الماء مستعملاً؟ قال أبو يوسف رحمه الله: لا يصير، وقال محمد رحمه الله: يصير. وإذا لم يمسح على خفيه ولكن مشى في الحشيش فابتل ظاهر خفيه ببلل الحشيش، إن كان الحشيش مبتلاً بالماء أو بالمطر يجزئه بالإجماع، وإن كان مبتلاً بالطل، اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه يجوز لأن الطل من الماء كالمطر، وفيه أن الطل سبيل في بيت المقدس كالمطر. ولو أَمَرَ إنساناً حتى مسح على خفيه جاز لحصول المقصود وهو إيصال البلة والله أعلم. (نوع آخر) في بيان محل المسح فنقول: محل المسح ظاهر الخف دون باطنه، حتى لو مسح باطن خفيه دون ظاهرهما لم يجزئه، وقال الشافعي رحمه الله: المسح على ظاهر الخف فرض وعلى باطنه سنة، والأولى عنده أن يضع يده اليمنى على ظاهر الخف، ويده اليسرى على باطن الخف فيمسح بهما كل رجل. احتج الشافعي رحمه الله بما روي عن مغيرة بن شعبة رضي الله عنه: «أن النبي عليه

السلام: مسح على خفيه أسفله وأعلاه» ، ولأن الاستيعاب في مسح الرأس سنة، فكذا في مسح الخفين. وعلماؤنا رحمهم الله احتجوا: بما روينا من حديث المغيرة، وبما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، ولكني رأيت رسول الله عليه السلام يمسح على ظاهر الخفين دون باطنهما» ، ولأن باطن الخف لا يخلو عن لوث عادة فيصب يده ذلك اللوث وفيه بعض الحرج. والمسح بالخف إنما شرع لرفع الحرج. وأما الجواب عن الحديث: فكذلك الحديث فلا يوجه به، وأما الجواب عن استيعاب الرأس قلنا: جميع الرأس محل المسح بدليل: أنه لو مسح بعض أطرافه دون البعض يجوز بالإجماع، وههنا لو اقتصر على المسح على باطن الخف، لا يجوز بالإجماع، دل أن باطن الخف ليس بمحل للمسح، وإذا لم يكن محلاً للمسح لا يسن المسح عليه وكذلك إذا مسح على العقب لا يجوز؛ لأن محل المسح المقدم دون المؤخر، ولو مسح على ما يلي الساق أو على ما يلي مقدم ظاهر الخف يجوز، ولو مسح على فوق الكعبين لا يجزئه والله أعلم. (نوع آخر) في بيان ما يجوز عليه المسح من الخفاف وما بمعناها وما لا يجوز قال: الخف الذي يجوز عليه المسح ما يُمَكّن قطع السفر، وتتابع المشي عليه، وستر الكعبين وما تحتهما. وستر ما فوق الكعبين ليس بشرط، لأن ما فوق الكعبين زيادة في إطلاق اسم الخف عليه، وإن كان يرى من الكعب قدر أصبع أو أصبعين جاز المسح عليه، وإن كان ثلاثة أصابع فصاعداً (24ب1) لا يجوز المسح نص عليه محمد رحمه الله في «الزيادات» . والمذكور في «الزيادات» : رجل عليه خفاف لا ساق عليهما جاز أن يمسح عليهما، إذا كان الكعب مستوراً، وإن كان خرج منها شيء من مواضع الوضوء نحو الكعب وغيره، وإن كان ما خرج مقدار ثلاث أصابع من أصغر أصابع الرجل لا يجوز المسح عليهما، وعن هذه المسألة قال مشايخنا: إذا لبس المكعب ولا يرى من كعبه إلا إصبع أو إصبعان جاز المسح عليه لأنه بمنزلة الخف الذي لا ساق له. قال شمس الأئمة السرخسي رحمع الله: الصحيح من المذهب جواز المسح على الخفاف المتخذة من اللبود التركية، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله روى عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يجوز المسح على الخفاف المتخذة من اللبود، قال مشايخنا: كان أبو حنيفة رحمه الله لم يعرف صلابة هذا النوع من الخف وصلاحيته لقطع السفر وتتابع المشي به أما لو عرف ذلك لأفتى به، لأن مثل هذا الخف صالح لقطع السفر وتتابع المشي به فكان كالخف المتخذ من الأديم وغيره. وأما المسح على الجوارب، فلا يخلو: إما إن كان الجوارب رقيقاً غير منعل، وفي

هذا الوجه لا يجوز المسح بلا خلاف، وأما إذا كان ثخيناً منعلاً، وفي هذا الوجه يجوز المسح بلا خلاف، لأنه يمكن قطع السفر وتتابع المشي عليه فكان بمعنى الخف، والمراد من الثخين: إن كان يستمسك على الساق من غير أن يشده بشيء، ولا يسقط، فأما إذا كان لا يستمسك ويسترخي فهذا ليس بثخين، ولا يجوز المسح عليه، وأما إذا كان ثخيناً غير منعل، وفي هذا الوجه لا يجوز المسح عند أبي حنيفة، وعندهما يجوز. ثم بين المشايخ اختلاف في مقدار النعل الذي يكفي لجواز المسح على الثخين عند أبي حنيفة رحمه الله، قال بعضهم: إذا كان في باطن الخف أديم وهو ما يكفي لكف القدم، جاز المسح عليه، وقال بعضهم: لا يجوز المسح (حتى) حتى تكون الأديم على أصابع الرجل وظاهر القدمين، وقال بعضهم: لا يجوز المسح (حتى) يكون الأديم إلى الساق ليكون ظاهر قدميه وكعباه مستوراً بالأديم فعلى قول هذا القائل: لو كان المستور بالأديم ما دون الساق، والساق مجورب لا يجوز المسح عند أبي حنيفة رحمه الله. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وسألت الشيخ الإمام الأستاذ عن تفسير الجورب المنعل عند أبي حنيفة رحمه الله، أراد به الجلد الرقيق، الذي اعتاد الناس حوزه على جواربهم، أو أراد الصرم العلنطنطر الصرم الذي يكون على جوارب أهل مرو، وقال: إن كان هذا الجورب المنعل كجوارب الصبيان يمشون عليهما في تخرجة وغلظ النعل جاز المسح عند أبي حنيفة رحمه الله. قال شمس الأئمة: هذا في شرح كتاب الصلاة الجورب أنواع: منها ما يكون من غزل وصوف، ومنها ما يكون من غزل، ومنها ما يكون من شعر. والأول: أن لا يجوز عليه المسح عندهم جميعاً. وأما الثاني: فإن كان رقيقاً: لا يجوز المسح عليه بلا خلاف، وإن كان ثخيناً مستمسكاً ويستر الكعب ستراً لا يراه الناظر كما هو جوارب أهل مرو، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يجوز المسح عليه، إلا إذا كان منعلاً أو مبطناً، وعلى قولهما: يجوز. وأما الثالث: ذكر في «النوادر» : أنه لا يجوز المسح عليه، قالوا: إذا كان صلباً مستمسكاً يمشي معه فراسخ أو فرسخاً، يجب أن يكون على الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله. وأما الرابع، فقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يجوز المسح عليه، والمتأخرون قالوا: الصحيح أن المسألة على الخلاف. وأما الخامس: فلا يجوز المسح عليه كيف ما كان، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : حكي أن أبا حنيفة رحمه الله مسح على جوربيه في مرضه الذي مات فيه، وقال لعواده: فعلت ما كنت أمنع الناس عنه، قال رحمه الله: استدلوا به على رجوعه إلى قولهما، وكان شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: هذا كلام محتمل يحتمل أنه كان رجوعاً إلى قولهما، ويحتمل أن لا يكون رجوعاً ويكون اعتذاراً إليهم، أي إنما أخذت بقول المخالف للضرورة، فلا يثبت الرجوع بالشك.

وأما المسح على الحاروق فإن كان يستر القدم والكعب، فهو بمنزلة الخف الذي لا ساق له، فكل جواب ذكرناه ثمة فهو الجواب ههنا، وإن كان لا يستر الكعب والقدم أكر بدهش حاروق يوست برد وفيه باسر جنابك عادت بعضي مرديان أست مسح روا يودوا بن بمعنى جوربي ما شدان يوست كه بليس معه النعليه وإنما مسح رواست باتفاق كذا ذكره الطحاوي رحمه الله، واكر وني حاروق توست في برد وضنة است عليه عامة مشايخ برا يندكه لا يجوز المسح عليه، وجوز بعضهم ذلك لأن عوام الناس يسافرون به خصوصاً في بلاد الشرق، وإذا كان مشقوقاً بمعنى ما يلي ظاهر القدم فكان يبدو قدمه من ذلك، أو كان جورباً ثخيناً منعلاً إلا أن ما يلي ظاهر القدم مشقوق، وقد بينا لذلك الشق أزراراً مكان حشوهما أو هيأ له خيطاً أو ستراً فكان يسدها سداً يستر قدميه فهو كغير المشوق، وإن كان يستر بعضه دون بعض ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أن ذلك بمنزلة الخرق في الخف، وسيأتي الكلام في الخرق بعد هذا إن شاء الله تعالى. وإذا لبس الجرموقين، وأراد أن يمسح عليهما فالمسألة على وجهين: إما أن يلبسهما وحدهما أو يلبسهما فوق الخفين، وكل مسألة على وجهين: إما إن كان الجرموق من كرباس أو ما يشبه الكرباس، أو من أديم، أو ما يشبه الأديم فإن لبسهما وحدهما، فإن كان من كرباس، أو ما يشبه الكرباس لا يجوز المسح عليهما، لأنه لا يمكن قطع السفر، وتتابع المشي عليه، وإن كان من أديم أو ما يشبه الأديم يجوز المسح عليهما، لأنه يمكن قطع السفر وتتابع المشي عليه، وإن لبسهما فوق الخفين، فإن كانا من كرباس أو ما يشبه الكرباس لا يجوز المسح عليهما كما لو لبسهما على الانفراد إلا أن يكونا رقيقين يصل البلل إلى ما تحتهما، وإن كانا من أديم أو ما يشبه الأديم أجمعوا أنه إذا لبسهما بعدما أحدث قبل أن يمسح على الخفين أو بعدما أحدث ومسح على الخفين أنه لا يجوز المسح عليهما، وإن لبسهما قبل أن يحدث جاز المسح عليهما عندنا، به ورد الأثر عن رسول الله عليه السلام فقد روى عنه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه «أنه مسح على الموق والموق هو الجرموق، وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عمر رضي الله عنه مسح على جرموقيه. وحاصل مذهب أصحابنا رحمهم الله: أنه متى لبس الجرموق على الخف قبل الحدث والجرموق يصير بدلاً عن الخف، فلا يؤدي إلى أن يكون للبدل بدلاً، ومتى لبس الجرموقين على الخف، فلو جاز المسح على الجرموق أدى إلى أن يكون للبدل بدلاً وأنه لا يجوز، وإن مسح على جرموقيه ثم نزعهما أعاد المسح على خفيه. فرق بين هذا وبين ما إذا مسح على خف ذي طاقين ثم نزع أحد طاقيه، فإنه لا يلزمه إعادة المسح على الطاق الثاني، وكذلك إذا مسح على خفيه فقشر جلد ظاهر الخفين ثم رفعه فإنه لا يلزمه إعادة المسح، وكذلك إذا كان الخف مشعوراً كالخف اليماني فمسح على ظاهر الشعر ثم حلق الشعر، فإنه لا يلزمه إعادة المسح. والفرق: أن الخف إذا كان ذا طاقين وكل طاق متصل بالآخر غير مزايل عنه

فيصيران بحكم الاتصال كشيء واحد كالشعر مع بشرة الرأس اعتبرا شيئاً واحداً في حكم الاتصال، حتى كان المسح على شعر الرأس كالمسح على البشرة، فكذا ههنا يجوز المسح على أحد الطاقين كالمسح على الطاق الآخر فالممسوح لم يزد من حيث الحكم والاعتبار فلم يجب إعادة المسح، فأما الجرموق غير متصل بالخف بل هو مزايل عنه فلا يجعل المسح على الجرموق كالمسح على الخفين، فالممسوح زال حقيقة وحكماً فيحل الحدث بما تحته، فيلزمه إعادة المسح، كما لو أحدث في هذه الحالة. وإذا لبس الخفين فوق الخفين، فالجواب فيه على التفصيل الذي ذكرنا: فيما إذا لبس الجرموقين فوق الخفين. وإذا لبس (25أ1) الجرموقين فوق الخفين ثم نزع أحدهما قال: عليه أن يعيد المسح على الخف الثاني والجرموق الثاني هكذا ذكر في ظاهر الرواية، ووقع في بعض كتاب الصلاة أنه يخلع الجرموق الثاني ويمسح على الخفين وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله في غير رواية، «الأصول» . ووجه ذلك: أن الحدث حل بالخف الأدنى فيحل في الخف الآخر لأنه خلف الخف فلا يتجزأ، ووجه ما ذكرنا في «ظاهر الرواية» : أن الحدث إنما حل بالخف الأدنى لزوال المانع وهو الجرموق وهذا المعنى معدوم في الخف الآخر، فلا يحل الحدث بالخف الآخر، وإنما يحل بالجرموق الذي على الخف الآخر، فلا يلزمه إعادة المسح على الخف الآخر، وإنما لزمه إعادة المسح على الجرموق الذي على الخف الآخر؛ لأن المسح انتقض في حق الخف الأدنى فينتقض المسح في حق الجرموق الآخر، لأن انتقاض المسح لا يتجزأ. فإن قيل: ما ذكرتم يشكل بما إذا نزع أحد خفيه، فإن هناك يحل الحدث بالرجل الأخرى حتى يلزمه غسل الرجل الأخرى مع أن المانع من حلول الحدث في الرجل الأخرى قائم وهو الخف. قلنا: قضية القياس فيما إذا نزع أحد خفيه ألا يحل الحدث في الرجل الأخرى لقيام المانع به لكن سقط اعتبار القياس فيه لضرورة وهي ألا يصير جامعاً بين البدل والمبدل منه، وهذه الضرورة معدومة فيما نحن فيه فيبقى المانع معتبراً، وهذه المسائل كلها دليل على أن من لبس الجرموق فوق الخف ومسح على الجرموق ثم أحدث ونزع الجرموق جاز له المسح على الخف. وإذا كان في الخف خرق فإن كان يسيراً لا يمنع وإن كان كبيراً يمنع، والقياس في الخرق الكبير أن يمنع جواز المسح أيضاً لأن الخف جعل مانعاً سراية الحدث إلى الرجل لا رافعاً حدثاً حل بالرجل، وإذا كان بعض القدم مكشوفاً، ولا مانع في حق ذلك البعض فسرى الحدث إلى ذلك البعض، ومن ضرورته سراية الحدث إلى الكل، لأن الحدث لا يتجزأ إلا أنا استحسنا في اليسير لضرورة لأن الخف قل ما يخلو عن قليل خرق، لأنه وإن كان جديداً ما بان الدروب والأسافي فيه خرق ولهذا يدخله التراب، ولا ضرورة في

الكبير فيبقى الكبير على أصل القياس. بعد هذا الكلام في معرفة الحد الفاصل بين اليسير والكبير فنقول: إذا كان الخرق قدر إصبع أو إصبعين فهو يسير، وإذا كان قدر ثلاثة أصابع فهو كبير، ثم على رواية «الزيادات» : اعتبر ثلاثة أصابع من أصغر أصابع الرجل، وعلى رواية الحسن عن أبي حنيفة: اعتبر ثلاثة أصابع اليد، ثم الخرق الكبير إنما يمنع جواز المسح إذا كان منفرجاً يرى ما تحته، فأما إذا كان لا يرى ما تحته، فإن كان الخرق جلياً إلا أنه إذا أدخل فيه الأصابع يدخل فيها ثلاثة أصابع لا يمنع جواز المسح وإن كان يبدو قدر ثلاثة أصابع حالة المشي، لأن في حال وضع القدم على الأرض يمنع جواز المسح، لأن الخف يلبس للمشي، فكان المعتبر حالة المشي، وهذا لأن جواز المسح على الخفين بطريق الرخصة لرفع الحرج عن الناس، فإذا كان الجرموق بحال لا يرى ما تحته حالة المشيء فالناس يلبسون مثل هذا الخف عادة لأنه لا يمكن قطع السفر وتتابع المشي به فلو أمروا بالنزع وغسل الرجل لوقعوا في الحرج، وإذا كان الخرق بحال يرى ما تحته حالة المشيء، فالناس لا يلبسون مثل هذا الخف عادة، لأنه لا يمكن قطع السفر وتتابع المشي به فلو أمروا بالنزع وغسل الرجل لا يقعون في الحرج. ثم اختلف المشايخ في فصل أنه إذا كان يبدو قدر ثلاثة أنامل من أصابع الرجل هل يمنع جواز المسح؟ قال بعضهم يمنع، وإليه مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وقال بعضهم: لا يمنع ويشترط أن يبدو قدر ثلاثة أصابع بكمالها، وإليه مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وهو الأصح. ولو ظهر من الخرق الإبهام، وهي مقدار ثلاثة أصابع من غيرها جاز عليه المسح ويعتبر التقدير في تقدير الأصابع الصغير والكبير على السواء، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وسواء كان الخرق في باطن الخف أو ظاهره أو في ناحية العقب فالحكم لا يختلف، يعني إذا كان الخرق مقدار ثلاثة أصابع من أي جانب كان، فذلك يمنع جواز المسح؛ لأن الخرق إذا كان مقدار ثلاثة أصابع يمنع قطع السفر وتتابع المشيء به من أي جانب كان الخرق فلا يلبس عادة مع هذا الخرق، فلو أمروا بالنزع وغسل الرجل لا يقعون في الحرج. وذكر شمس الأئمة الحلواني وشيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمهما الله: إذا كان المكشوف من قبل العقب أكثر من المستور لا يجوز المسح عليه، وإن كان المكشوف أقل من المستور يجوز المسح، والمروي عن أبي حنيفة رحمه الله في هذه الصورة أنه يمسح حتى يبدو أكثر من نصف العقب. ويجمع الخروق في خف واحد ولا يجمع في خفين. بيانه: إذا كان في أحد الخفين خرق قدر أصبع، وفي الآخر قدر إصبعين جاز المسح عليهما، ولو كان في خف واحد خرق في مقدم الخف قدر أصبع وفي العقب مثل ذلك، وفي جانب الخف مثل ذلك لايجوز المسح عليه، فرق بين الخرق وبين النجاسة،

فإن النجاسة تجمع في خفين كما تجمع في خف واحد متى كان في كل موضعين وكذلك الخرق في موضع العورة يجمع، والفرق أن في باب العورة المانع انكشاف العورة وقد وجد ذلك، وأما في باب النجاسة المانع هو النجاسة لأنها تنافي الطهارة، وإن كانت في مواضع متفرقة، فأما الخرق فما كان مانعاً لعينه، بل لكونه مانعاً تتابع المشي به، وهذا إنما يحصل إذا كان الخرق مقدار ثلاثة أصابع في خف واحد لا في خفين، وإن كان الخرق على الساق لا يمنع جواز المسح وإن كان أكثر من ثلاثة أصابع؛ لأن الخرق على الساق لا يكون أعلى حالاً من عدم الساق، ولو لم يكن للخف ساق وكان الكعب مستوراً يجوز المسح عليه فههنا أولى. (نوع آخر) في بيان شرط جواز المسح على الخف شرط جواز المسح على الخف أن يكون الحدث بعد اللبس طارئاً على طهارة كاملة، حتى إنه لو غسل رجليه أولاً ولبس الخفين ثم أحدث لم يجزه المسح، لأن الحدث ما طرأ على طهارة كاملة وسواء كملت الطهارة قبل اللبس أو بعده جاز المسح في الحالين عندنا حتى إنه لو غسل رجليه أولاً ولبس الخفين ثم أكمل وضوءه ثم أحدث جاز له المسح على الخف عندنا، وقال الشافعي: الشرط أن يدخلهما في الخف بعد إكمال الطهارة. وثمرة الخلاف مع الشافعي لا تظهر في هذه المسألة، لأن عنده الترتيب في الوضوء شرط وقد عدم الترتيب ههنا، وإنما تظهر في مسألة أخرى، وهي: ما إذا توضأ وغسل رجله اليمنى ولبس عليه الخف ثم غسل رجله اليسرى ولبس عليه الخف ثم أحدث وتوضأ وأراد المسح جاز المسح عندنا وعند الشافعي لا يجوز واعتبر بما لو أحدث بعد اللبس ثم أكمل الطهارة فإنه لا يجوز المسح هناك، ونحن فرقنا بينما إذا أكمل الطهارة قبل الحدث، وبينما إذا لم يكمل حتى أحدث، والفرق أن الخف جعل مانعاً سراية الحدث إلى الرجل لا رافعاً لحدث حل بالرجل، فإذا أكمل الطهارة قبل الحدث كان الخف مانعاً سراية الحدث من كل وجه ولم يكن رافعاً بوجه ما، لأن الحدث قد ارتفع عن الرجلين حقيقة لغسلهما، وحكماً لغسل ما بقي ولهذا جاز أداء الصلاة بتلك الطهارة فجاز المسح، فأما إذا أحدث قبل إكمال الطهارة كان الخف رافعاً الحدث من وجه لأن الحدث إن ارتفع عن القدمين حقيقة بغسلهما لم يرتفع حكماً، ولهذا لو أراد أن يصلي بتلك الطهارة لا يجوز فيكون الخف رافعاً لحدث كان قائماً فيه من وجه وإنه لا يجوز، ولهذا لا يمسح. والنية ليست بشرط لجواز المسح على الخفين حتى إن من قال لغيره: علمني الوضوء والمسح على الخفين، فتوضأ ذلك الغير ومسح على الخفين وكان قصده التعلم جاز عندنا وهذا لأن المنصوص عليه المسح دون النية فاشتراط النية يكون زيادة على النص وإنه لا يجوز، ألا ترى أنه لا تشترط (25ب1) النية لجواز مسح الرأس، وإنما لا تشترط لما قلنا.

وكذلك الترتيب ليس بشرط عندنا، بيانه: فيما ذكرنا أنه إذا غسل رجليه أولاً ولبس الخفين ثم أكمل وضوءه ثم أحدث وتوضأ، جاز له المسح على الخفين. ويمسح من كل حدث أو خبث في الوضوء بعد اللبس، فأما الجنابة فلا يجوز المسح فيها لحديث صفوان بن عسال المرادي قال: «كان رسول الله عليه السلام يأمرنا إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليها إلا من جنابة ولكن من بول أو غائط أو نوم» ولأن الجنابة ألزمته غسل جميع البدن بالنص ومع الخف لا يتأتى ذلك، ولأن جواز المسح لضرورة دفع المشقة، وذلك في الحدث أظهر لتكرير وقوعه في كل يوم عادة، وعدم تكرير وقوع الجنابة في كل يوم عادة، فامتنع الاستدلال. ذكر الناطفي رحمه الله في «هدايته» : قال أبو يوسف رحمه الله في «الإملاء» : كل طهارة تنتقض بغير حدث، فإذا انتقض مع الحدث يمنع جواز المسح على الخفين، وكل طهارة لا تنتقض إلا بالحدث، فإذا انتقض بالحدث الصغرى لا يمنع جواز المسح على الخفين. وأشار إلى الفرق فقال: ما يبطل بغير حدث كان الحدث موجوداً عند ابتداء لبسه فلم يصادف الحدث طهارة ولا كذلك طهارة لا تنتقض إلا بالحدث، لأن ابتداء اللبس صادف طهارة كاملة، فكان الحدث طارئاً على لبسه. وتفسير هذا: المسافر إذا لم يجد الماء وتيمم ولبس خفيه ثم أحدث ووجد من الماء ما يكفيه للوضوء فإن عليه أن يتوضأ ويغسل قدميه ولا يجوز المسح على خفيه، لأن تيممه قد بطل بوجود الماء، وكان الحدث موجوداً في رجليه لأن التيمم لا يرفع الحدث، وكذلك المستحاضة، ومن به جرح سائل. وكذلك لو توضأ بنبيذ التمر ولبس الخفين ومسح على الخفين بنبيد التمر ثم وجد الماء نزع خفيه وتوضأ به وغسل قدميه لأنه لا يرفع الحدث وهو كالتراب. وإذا توضأ بسؤر الحمار ولبس خفيه ولم يتيمم حتى أحدث فإنه يتوضأ بما بقي معه من سؤر الحمار ويمسح على الخفين ثم يتيمم ويصلي لأن سؤر الحمار إن كان طاهراً مطهراً فقد حصل اللبس على طهارة كاملة فجاء شرط جواز المسح على الخفين، وإن كان نجساً أو كان طاهراً غير طهور ففرضه في هذه الحالة التيمم، والرِّجْلُ لاحظ لها من التيمم، فتيقنا لسقوط غسل الرجلين فلهذا جاز المسح. ولو توضأ بنبيذ التمر، ولبس الخف ثم أحدث ومعه نبيذ التمر، فإنه يتوضأ وينزع خفيه ويغسل قدميه في قول أبي حنيفة رحمه الله، ولا يمسح على خفيه وفي سؤر الحمار قال: يمسح على وخفيه، ونبيذ التمر عنده مقدم على سؤر الحمار حتى قال في سؤر الحمار: يجمع بينه وبين التيمم، ولم يقل بالجمع في نبيذ التمر. والفرق: أن الطهارة الحاصلة بنبيذ التمر طهارة ناقصة، ولهذا تنتقض برؤية الماء،

ورؤية الماء ليست بحدث علم أنه يصير محدثاً بالحدث السابق، إلا أنه جوز أداء الصلاة بها عند انعدام الماء بالنص، إنما هي في نفسها طهارة ناقصة فكان اللبس حاصلاً على طهارة ناقصة فلا يجوز المسح، فأما سؤر الحمار، فإنما يجوز التوضؤ به على تقدير أنه طاهر مطهر، وعلى هذا التقدير هو وسائر المياه سواء كان اللبس حاصلاً على طهارة كاملة والله أعلم. (نوع آخر) في بيان مدة المسح على الخفين قال علماؤنا رحمة الله: عليهم: يمسح المقيم يوماً وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها، والأصل فيه ما روي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال: «يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام» ، وعن صفوان بن عسال المرادي أنه سأل رسول الله عليه السلام عن المسح على الخفين فقال: «المقيم يوم وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» ، والمعنى المجوز للمسح الضرورة، والضرورة في حق المسافر أكثر من الضرورة في حق المقيم، لأن المسافر لا ينزع الخف في كل مرحلة غالباً أو يلحقه الحرج بالنزع في كل مرحلة، فقدر في حقه بأقل مدة السفر، إذ لا نهاية لما وراءه، فأما المقيم ينزع الخف في كل يوم وليلة عادة، ولا يُحرج في ذلك، فقدر في حقه بيوم وليلة لهذا. وابتداء المدة يعتبر من وقت الحدث عند علمائنا، حتى إن من توضأ في وقت الفجر وهو مقيم وصلى الفجر ثم طلعت الشمس فلبس الخفين ثم زالت الشمس وصلى الظهر ثم أحدث ثم دخل وقت العصر فتوضأ ومسح على الخفين فقدرنا مدة المسح باقية إلى الغد إلى الساعة التي أحدث فيها اليوم، حتى جاز له أن يصلي الظهر في الغد بالمسح، ولا يجوز له أن يصلي العصر في الغد بالمسح، وإنما اعتبر بابتداء المدة من وقت الحدث لأن وجوب الطهارة باعتبار الحدث.... القدم بالخف مانع سراية الحدث إلى القدم، وإنما يصير مانعاً عند الحدث، وإذا كان علمه يظهر عند الحدث تعتبر المدة من وقت الحدث ضرورة. قال في «الأصل» : وإذا انقضى وقت المسح ولم يحدث في تلك الساعة فعليه نزع خفيه وغسل رجليه وليس عليه إعادة الوضوء، وأراد بقوله: ولم يحدث في تلك الساعة، أنه لم يحدث بعد الحدث الأول من وقت اللبس لا أنه لم يحدث أصلاً من وقت اللبس، فإن لابس الخفين إذا استكمل يوماً وليلة وهو على وضوء ولم يحدث أصلاً لا يجب عليه غسل القدمين بالإجماع، لأن انقضاء المدة إنما عتبر في حق ماسح الخفين لا في حق لابس الخفين، وهذا الرجل لابس الخفين وليس بماسح الخفين، فلا يعتبر انقضاء المدة

في حقه، فأما إذا أحدث بعد لبس الخفين فتوضأ ومسح على الخفين، ثم استكمل يوماً وليلة، وهو على وضوء ولم يحدث حدثاً آخر، يجب عليه نزع الخفين، وغسل القدمين، ولا يجب عليه تجديد الوضوء لأن الخف جعل مانعاً سراية الحدث إلى الرجل ما دامت مدة المسح باقية، فإذ انقضت مدة الحدث لم يبق المانع، فيسري الحدث السابق إلى الرجل، فصار كما لو توضأ وأخر غسل الرجلين، ولو توضأ وأخر غسل الرجلين، يجب عليه غسل الرجلين، ولا يجب عليه تجديد الوضوء كذا ههنا، علمنا أن المراد من المسألة ما ذكرنا، وإن كان أحدث في تلك الساعة نزع خفيه وغسل رجليه وأعاد الوضوء. وإذا استكمل المقيم مسح الإقامة، ثم سافر نزع خفيه وغسل رجليه. وإن لم يستكمل مسح الإقامة حتى سافر: إن سافر قبل أن يحدث فإنه يستكمل مدة مسح السفر بالإجماع لأن ابتداء المدة انعقد وهو مسافر، لأن ابتداء المدة من وقت الحدث، وأما إذا أحدث ومسح على الخفين أو لم يمسح وسافر فكان ذلك قبل استكمال مسح الإقامة، فإنه يستكمل مدة مسح المسافر عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله. وإذا قدم المسافر مصره، وكان ذلك بعد ما مسح يوماً وليلة أو أكثر نزع خفيه لأنه صار مقيماً، ولا يلزمه إعادة شيء من تلك الصلوات وإن كان قدومه بعدما مسح أكثر من يوم وليلة؛ لأنه حين مسح كان مسافراً. وإن قدم المصر قبل استكمال يوم وليلة يمسح مسح المقيمين بالاتفاق، وإذا انقضت مدة المسح وهو مسافر ويخاف ذهاب الرجل من البرد لو نزع خفيه، جاز له المسح لمكان الضرورة، وإن كان لا يخاف ذهاب الرجل ينزع خفيه ويغسل رجليه، وإذا أحدث الماسح في صلاته وانصرف للتوضؤ وانقضت مدة المسح قبل أن يتوضأ يغسل رجليه ويبني على صلاته، كالمصلي بالتيمم إذا أحدث وانصرف ووجد ماءً، فإنه يتوضأ ويبني على صلاته. إذا انقضت مدة مسحه وهو في الصلاة، ولم يجد ماء فإنه يمضي على صلاته؛ لأنه لا فائدة في قطع الصلاة؛ لأن حاجة الماسح بعد انقضاء مدة المسح إلى غسل الرجلين، ولو قطع الصلاة وهو عاجز عن غسل الرجلين فإنه يتيمم ولاحظ للرجلين من التيمم، ولهذا يمضي على صلاته، ومن المشايخ من قال: تفسد صلاته، والأول أصح والله أعلم. (نوع آخر) بيان ما يبطل المسح على الخفين قال رضي الله عنه: وإذا مسح على الخف (26أ1) ثم دخل الماء وابتل من رجله قدر ثلاثة أصابع أو أقل، لا يبطل مسحه، ولو ابتل جميع القدم وبلغ الماء الكعب بطل المسح، روي ذلك عن أبي حنيفة رحمه الله، ويجب غسل الرجل الأخرى، ذكره في «حيرة الفقهاء» . وعن الفقيه أبي جعفر رحمه الله: إذا أصاب الماء أكثر أحد رجليه ينتقض مسحه، ويكون بمنزلة الغسل وبه قال بعض المشايخ، وقد حكي أيضاً عن الفقيه هذا رحمه الله أنه

قال مرة على نحو ما ذكرنا في كتاب «الحيرة» ، وبعض مشايخنا قالوا لا ينتقض المسح، على كل حال لأن استتار القدم بالخف يمنع سراية الحدث إلى القدم، فلا يقع هذا غسلاً معتبراً فلا يوجب انتقاض المسح. وإذا نزع خفيه بعد المسح أو أحدهما غسل رجليه، وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم، وإذا بدا للماسح أن يخلع خفيه، فنزع القدم من الخف غير أنه في الساق بعد فقد انتقض مسحه، وهذا قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله. وجه ذلك: أن موضع المسح فارق مكانه، فكأنه ظهر رجله، وهذا لأن ساق الخف غير معتبر حتى لو لبس خفاً لا ساق له، جاز له المسح إذا كان الكعب مستوراً، فكون الرجل في الساق وظهوره في الحكم سواء هذا إذا نزع كل القدم إلى الساق. فأما إذا نزع بعض القدم عن مكانه ذكر الفقيه أبو محمد الجويني عن أبي حنيفة رحمه الله في «الإملاء» : أنه إذا زال عقب الرجل عن عقب الخف أو زال أكثر عقب الرجل عن عقب الخف انتقض المسح ووجب غسل الرجل، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله؛ لأن اللبس وقع للمشي المعتاد، وقد تعذر المشي إذا خرج أكثر عقب الرجل عن موضعه، فصار وجود هذا اللبس والعدم بمنزله، فيبطل المسح ضرورة. وعن أبي يوسف رحمه الله في رواية أخرى: إذا نزع من ظهر القدم قدر ثلاثة أصابع انتقض مسحه، وعن محمد رحمه الله: إذا بقي من ظهر القدم في موضع المسح قدر ثلاثة أصابع لا ينتقض مسحه، ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله هذه الجملة في «شرحه» ، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله هذه المسألة في «شرحه» ، وقال: ذكر في بعض الروايات أنه إذا كان بحيث يمكنه المشي بعد ما تحرك قدمه عن موضعه لا ينتقض مسحه وإن كان بحيث لا يمكنه المشي ينتقض مسحه، وذكر في بعض الروايات: إذا خرج أكثر ما يفترض غسله ينتقض مسحه، وما لا فلا، وفي بعض الروايات: إن بقي في موضع قرار القدم مقدار ثلاثة أصابع لا ينتقض مسحه، قال: وأكثر المشايخ على هذا، وهو مروي عن محمد رحمه الله على نحو ما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله. وفي كتاب «الصلاة» لأبي عبد الله الزعفراني رحمه الله: رجل أعرج يمشي على صدور قدميه وقد ارتفع عقبه عن موضع عقب الخف أو كان لا عقب للخف وصدور

قدميه في الخف، أو رجل صحيح أخرج عقبه من عقب الخف، إلا أن مقدم قدمه في الخف في موضع المسح، له أن يمسح ما لم يخرج صدر قدمه عن الخف إلى الساق، وفي بعض المواضع إذا كان صدور القدم في موضعه والعقب يخرج ويدخل لا ينتقض مسحه، ولو كان الخف واسعاً إذا رفع القدم قع (عن) القدم حتى يخرج العقب، فإذا وضع القدم عادت العقب إلى موضعها لا ينتقض مسحه. ذكر أبو علي الدقاق رحمه الله صاحب «كتاب الحيض» : رجل لبس خفين ولبس فوقهما جرموقين واسعين يفضل من الجرموق على الخف مقدار ثلاثة أصابع، فمسح على تلك الفضلة لم يجز، وإن مسح على تلك الفضلة وقد قدم رجله إلى تلك الفضلة ومسح عليه، ثم زال رجله عن ذلك الموضع، أعاد المسح والله أعلم.t (نوع آخر) المرأة في المسح على الخفين بمنزلة الرجل؛ لاستوائهما في المعنى المجوز للمسح، وإذا استحيضت المرأة ولبست خفيها بعدما توضأت، ثم أحدثت في الوقت حدثاً آخر حتى انتقضت طهارتها لما عرف، فتوضأت وأرادت أن تمسح على خفهيا، فهذه المسألة على أربعة أوجه: أما إذا كانت الدم سائلاً وقت الوضوء واللبس، أو كان منقطعاً وقت الوضوء واللبس، أو كان سائلاً وقت الوضوء منقطعاً وقت اللبس، أو كان منقطعاً وقت الوضوء سائلاً وقت اللبس، وفي الوجوه كلها لها أن تمسح على خفيها؛ لأن طهارتها ما دام الوقت باقياً طهارة معتبرة يجوز أداء الصلاة بها، فكان اللبس حاصلاً على طهارة معتبرة، فيجوز المسح. ولو لم تحدث حدثاً آخر، ولكن خرج الوقت حتى انتقضت طهارتها بخروج الوقت، فتوضأت وأرادت أن تمسح على خفيها ففيما إذا كان الدم منقطعاً وقت الوضوء واللبس لها أن تمسح، وفيما عدا ذلك من الوجوه ليس لها أن تمسح عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وعند زفر رحمه الله لها أن تمسح. وجه قول زفر: أن اللبس حصل على طهارة معتبرة، لأن طهارة المستحاضة طهارة معتبرة حتى ينبني عليها جواز الصلاة، وما وجد من السيلان أسقط الشرع اعتباره وألحقه بالعدم، فيجوز لها أن تمسح كما لو كان الدم منقطعاً وقت الوضوء واللبس جميعاً. وجه قول علمائنا الثلاثة: أن طهارة المستحاضة متى انتقضت بخروج الوقت يستند الانتقاض ويظهر الاستناد في حق القائم من الأحكام على ما عرف، وجواز المسح حكم قائم فيظهر الاستناد في حقه ويظهر أن اللبس حصل مع الحدث في حق هذا الحكم، بخلاف ما إذا كان الدم منقطعاً وقت اللبس والوضوء؛ لأن هناك وإن استند الانتقاض إلا أنه إنما يستند إلى سيلان، متأخر عن اللبس، فلا يظهر أن اللبس حصل مع الحدث. فإن قيل: لو استند الانتقاض بخروج الوقت يجب أن يقال إذا شرعت في التطوع ثم خرج الوقت أن لا يجب عليها القضاء؛ لأنه ظهر أن الشروع حصل مع الحدث، قلنا: هذا ليس بظهور من كل وجه، بل هو ظهور من وجه، اقتصار من وجه؛ لأن انتقاض

الطهارة حكم الحدث والحدث وجد في تلك الحالة، فهذا يقتضي صيرورتها محدثة من تلك الحالة، إلا أن صيرورتها محدثة معلقة بخروج الوقت وخروج الوقت وجد الآن، فهذا يقتضي صيرورتها محدثة من كل وجه فلا يجوز لها المسح، ولا يجب عليها القضاء، ولو كان اقتصاراً من كل وجه يجوز لها المسح، ويجب عليها القضاء، فإذا كان ظهوراً من وجه اقتصاراً من وجه، قلنا: لا يجوز لها المسح ويجب عليها القضاء أخذاً بالاحتياط في كل فصل. وصاحب الجرح السائل في حق هذه الأحكام بمنزلة المستحاضة؛ لأنه بمعناها والله أعلم. (نوع آخر) قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل قطعت إحدى رجليه، وبقي من موضع الوضوء مقدار ثلاثة أصابع أو أكثر أو أقل حتى بقي شيء منها من موضع الوضوء، فتوضأ وغسل ذلك الرجل، والرجل الصحيحة، ولبس الخف على الرجل الصحيحة ثم أحدث وتوضأ لا يجوز له أن يمسح على الرجل الصحيحة؛ لأنه إذا بقي من الرجل المقطوعة شيء من موضع الوضوء يجب غسله، فيجب غسل الرجل الصحيحة كي لا يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل في وظيفة واحدة. وإن لبس الخفين، فإن كان ما بقي من الرجل المقطوعة سأقل من مقدار ثلاثة أصابع لا يجوز المسح على الخفين؛ لأن محل المسح قدر ثلاثة أصابع ولم يبق من الرجل المقطوعة قدر ثلاثة أصابع، فلم يجز المسح عليه بل وجب غسله، فوجب غسل الرجل الصحيحة لما ذكرنا، وهذا بخلاف ما إذا لبس الخفين وظهر من أحدها أقل من مقدار ثلاثة أصابع من موضع الوضوء ثم أحدث، فإنه يتوضأ ويمسح على خفيه؛ لأن هناك ليس يلزمه غسل ما ظهر من إحدى الرجلين، فلا يلزمه غسل الباقي، فلا يلزمه غسل الرجل الأخرى، أما هنا لزمه غسل ما بقي من الرجل المقطوعة فيلزمه غسل الرجل الصحيحة. وإن كان الباقي من الرجل المقطوعة مقدار ثلاثة أصابع، فإن لم يكن الباقي من ظاهر القدم لا يجوز المسح، وإن كان الباقي من ظاهر القدم جاز المسح؛ لأن محل المسح ظهر القدم على ما مر، فإذا لم يكن الباقي من ظاهر القدم لم يجز المسح بل وجب غسله فيجب غسل الرجل الصحيحة، فأما إذا كان الباقي من ظاهر القدم جاز المسح عليه، فيجوز المسح على الرجل الصحيحة أيضاً هكذا ذكر المسألة في «الزيادات» . وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: إذا كان الباقي مقدار ثلاثة أصابع من جانب الأصابع، جاز المسح وإن لم يبق من جانب الأصابع شيء، وإنما بقي ما يلي العقب مقدار ثلاثة أصابع أو أقل أو أكثر لم يجز المسح، وهو الصحيح لأن محل المسح ظاهر القدم من جانب الأصابع، (26ب1) وقد مر هذا في أول هذا الفصل. رجل قطعت إحدى رجليه من الكعب، أو من نصف الكعب ولبس الخف على الرجل الصحيحة لم يجز له أن يمسح عليها، إلا على قول زفر رحمه الله؛ لأن عنده

الكعب لا يدخل في الغسل، وعندنا الكعب يدخل في الغسل فإذا بقي أحد طرفي الكعب يجب غسله، فيجب غسل الرجل الأخرى، فإن قطعت إحدى رجليه فوق الكعب جاز له المسح على الأخرى، لأنه لم يبق شيء من هذه الرجل من موضع الوضوء، فكأنها ذاهبة أصلاً. وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف رحمه الله في مقطوع الرجل من الكعب عليه أن يمسح موضع القطع وإن كان عليه خفاف جاز أن يمسح عليها والله أعلم. (نوع آخر) قال محمد في «الزيادات» : رجل بإحدى رجليه جراحة لا يستطيع غسلها، ولكن يستطيع أن يمسح على الخرق التي عليها، فإنه يتوضأ ويمسح على الخرق التي عليها ويغسل الرجل الصحيحة، فإن توضأ وغسل الرجل الصحيحة ولبس الخف عليها ومسح على الخرقة التي على الرجل الأخرى إلا أنه لم يستطع أن يلبس الخف عليها ثم أحدث وتوضأ لا يجوز له المسح على الخف الذي لبسه على الرجل الصحيحة؛ لأنه لو مسح على الخف مسح على الجبيرة، والمسح على الجبيرة بمنزلة غسل ما تحتها، فيجتمع له البدل والمبدل في وظيفة واحدة، وذلك لا يجوز، وعلى قياس ما قيل عن أبي حنيفة رحمه الله: أن من ترك المسح على الجبائر والمسح لا يضره أنه يجزئه عنده لما تبين ينبغي أن يجوز ههنا المسح على الخف؛ لأن المسح على الجبائر عنده ليس بفرض لما تبين وسقط وظيفة هذا الرجل المجروحة أصلاً، فكأنها ذهبت أصلاً، وهناك جاز المسح على الخف في

الرجل، إذ لا يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل منه في وظيفة واحدة كذا ههنا. وإن كان حين غسل الرجل الصحيحة ومسح لبس الخفين ثم أحدث جاز المسح على الخفين على الجبائر بمنزلة غسل ما تحتها، فصار كأنه لبس الخفين بعد غسل الرجلين وهناك يجوز المسح؛ لأنه لو مسح مسح على الخفين، فلا يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل في وظيفة واحدة، كذا ههنا، فقد جوز المسح على الخف الذي لبسه على الرجل المجروحة، وإن كان ما تحته ممسوحاً. وإذا مسح على الخفين ثم لبس عليهما الجرموقين لا يجزئه المسح على الجرموق، والفرق أن المسح على الجبيرة بمنزلة غسل ما تحتها، ولهذا لا يتوقت هذا المسح بمدة، ويجب الاستيعاب فيه كالغسل وإذا كان بالغسل لما تحتها صار في الحكم لابساً الخفين بعد غسل القدمين، فلو جوزنا المسح على الخفين كان المسح بدلاً عن الغسل لا عن المسح، فلا يؤدي إلى أن يكون البدل بدلاً من جنسه، فأما المسح على الخف ليس كالغسل لما تحته، بدليل عكس هذه الأحكام، بل هو بدل عن الغسل، فلو جاز المسح على الجرموق صار البدل بدلاً آخر من جنسه، وإنه لا يجوز. وإن كانت الجراحة بحال لا يقدر على المسح عليها وعلى ربط الخرق والجبائر، فغسل الرجل الصحيحة ولبس الخف عليها، ثم أحدث وتوضأ جاز المسح على الخف في الرجل الصحيحة؛ لأن الجراحة إذا كانت بهذه الصفة لا يلزمه في الرجل المجروحة لا فرض الغسل ولا فرض المسح، فجعلت كالدامية وصار كأن له رجلاً واحدة وهي الصحيحة لا غير فيمسح عليها إذ المسح لا يؤدي إلى الجمع بين البدل والمبدل. قال: وفي «نوادر الصلاة» لأبي سليمان عن محمد رحمه الله: رجل انكسرت يده وهو على وضوء وربط الجبائر عليها ولبس خفيه ثم أحدث وتوضأ، ومسح على الخفين والجبائر ثم برئت اليد، قال: يغسل موضع الجبائر ويصلي، ولو كان على غير وضوء، حين انكسرت يده وربط الجبائر عليها ثم توضأ ولبس خفيه ثم أحدث وتوضأ ومسح على الخفين والجبائر ثم برئت، قال: ينزع خفيه. قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: وجدت في بعض «الأمالي» عن أبي يوسف رحمه الله، فيمن أحدث وعلى بعض مواضع وضوءه جبائر فتوضأ ومسح عليه ثم لبس الخف ثم برىء، فعليه أن يغسل قدميه، قال: ولو أنه لم يحدث بعد لبس الخفين حتى برأ الجرح، وألقى الجبائر، وغسل مواضعه ثم أحدث، فإنه يتوضأ ويمسح على الخفين. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله: إذا مسح على جبائر إحدى رجليه وغسل الأخرى ولبس خفيه، ثم أحدث، فإنه ينزع الخف الذي على الرجل الذي عليه الجبائر، ويمسح على الجبائر، ويمسح على الخف الآخر. رجل بإحدى رجليه بثرة، فغسل رجليه ولبس الخف عليهما، ثم أحدث ومسح على الخفين وصلى صلوات، فلما نزع الخف وجد البثرة قد انشقت وسال منها الدم وبطل مسحه وهو لا يعلم أنها متى انشقت حكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أنه قال: ننظر إذا كان رأس الجرح قد يبس، وكان الرجل لبس الخف عند طلوع الفجر ونزعه بعد العشاء فإنه لا يعيد الفجر، ويعيد باقي الصلوات، وإن نزع الخف ورأس الجراحة يسيل بالدم لا يعيد شيئاً من الصلوات. وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «صلاة المستفتي» : إذا كان الرجل مقطوع الأصابع، وبعض خفيه خالٍ عن القدم، فمسح عليه؛ ننظر إن وقع المسح على المغسول مقدار ثلاثة أصابع جاز وما لا فلا، وكذلك إذا كان الخف واسعاً وبعضه خالٍ عن القدم ويؤم الماسح الغاسل؛ لأنه صاحب بدل صحيح، والبدل الصحيح حكمه عند العجز عن الأصل حكم الأصل والله أعلم. ومما يتصل بهذا الفصل المسح على الجبائروعصابة المفتصد ومسألة الشقاق قال ذكر في كتاب الصلاة، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله في «غريب الرواية» : من ترك المسح على الجبائر وذلك لا يضره أجزأه، ولم يبين القائل، قال: وسمعت أبا بكر محمد بن عبد الله يقول: ذلك قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال الحسن: قال أبو حنيفة

رحمه الله: إذا مسح على العصابة، فعليه أن يمسح على موضع الجرح، وعلى جميع العصابة، صغيراً كان الجرح أو كبيراً أو على الأكثر منها، فقد أوجب المسح، فصار عن أبي حنيفة رحمه الله روايتان. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله * والله أعلم * أيهما الأول وأيهما الآخر، قال الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص السفكردري رحمه الله في «مختصر غريب الرواية» ليس في روايتنا ما حكاه الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن كتاب الصلاة، وإنما الذي في روايتنا: وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: إذا ترك المسح على الجبائر، وذلك لا يضره لا يجزئه، فلعل ما ذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله في رواياتهم. وفي باب الوضوء والغسل من «الأصل» إذا اغتسل من الجنابة فمسح بالماء على الجبائر التي على بدنه أو لم يمسح؛ لأنه يخاف على نفسه إن مسح يجزئه، ذكره مطلقاً من غير أن يضيفه إلى أحد، ثم ذكر قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله كما حكاه الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير رحمه الله: أنه إذا ترك المسح على الجبائر ولا يضره ذلك لا يجزئه. وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «مختلف الرواية» : اختلاف المتأخرين في قول أبي حنيفة رحمه الله، قال بعضهم: لا يخالف قول أبي يوسف ومحمد؛ لأنهما قالا بعدم جواز الترك فيمن لا يضره المسح، وأبو حنيفة رحمه الله قال: يجوز إن ترك المسح فيمن يضره ذلك وبعضهم حققوا الخلاف فيما إذا ترك المسح والمسح لا يضره، فقالوا على قول أبي حنيفة رحمه الله يجزئه وعلى قولهما لا يجزئه. وفي «شرح الطحاوي» : إن المسح على الجبيرة ليس بفرض عند أبي حنيفة رحمه الله، وفي «تجريد القدوري» : إن الصحيح من مذهب أبي حنيفة رحمه الله أن المسح على الجبيرة ليس بفرض، وإن كان لا يضره المسح. وكان القاضي الإمام أبو علي الحسين بن الخضر النسفي رحمه الله يقول: المسح على الجبائر إنما يجوز إذا كان لا يقدر على القرحة كما كان لا يقدر على غسلها بأن كان يضرها الماء، أما إذا كان يقدر على القرحة على المسح لا يجوز المسح على الجبائر، كما لو كان قادراً على غسلها، فلم يغسلها وكان يقول ينبغي أن يحفظ هذا، فإن الناس عن هذا غافلون. وإذا كان بإصبعه قرحة أدخل المرارة في إصبعه والمرارة تجاور موضع القرحة، فمسح عليها جاز، وهل يكره إدخال المرارة في إصبعه لأجل الاستشفاء؟ لا شك أنه إذا لم يكن فيه شيء من بول الشاة أنه لا يكره، وإن كان فيه شيء من بول الشاة يكره، هكذا روي عن (27أ1) محمد رحمه الله. ويجب أن يكون قول أبي يوسف رحمه الله في هذا كقول محمد رحمه الله؛ لأن عندهما يجوز شرب بول الشاة للتداوي، فيجوز الاستشفاء به وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يكره؛ لأن على قوله لا يجوز شربه للتداوي، فقد كره الاستشفاء به. وكذلك إذا كان على بعض أعضائه جراحة، فجعل عليها الجبائر، والجبائر تزيد

على موضع الجراحة، فمسح عليها جاز، وكذلك في المفتصد. وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله لا يجيز المسح على عصابة المفتصد، وإنما يجيزه على خرقة المفتصد لا غير، وذكر القاضي علاء الدين محمود النسفي رحمه الله في، «مختلف الرواية» في حق المفتصد: أنه إن كان في موضع يمكنه الشد بنفسه من غير إعانة أحد لا يجوز المسح على العصابة، وإن كان في موضع يحتاج إلى العون يجوز المسح على العصابة. وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: إذا كان حل العصابة وغسل ما تحتها يضر بالجراحة يجوز المسح على العصابة وما لا فلا. قال رحمه الله: وكذلك الحكم في كل خرقة جاوزت موضع القرحة وأما القرحة التي تبقى من اليد بين العقدتين، فقد اختلف المشايخ فيها؛ بعضهم قالوا يجب غسلها؛ لأنها.... به. بعضهم قالوا: لا يجب غسلها، ويكفي المسح؛ لأنه لو أمر بالغسل ربما تبتلّ جميع العصابة وتنفذ البلّة إلى موضع الفصد، فيتضرر وإذا مسح على الجبيرة أو على عصابة المفتصد، هل: يشترط الاستيعاب؟ فقد اختلف المشايخ فيه: بعضهم شرطوا الاستيعاب، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وهكذا ذكر القاضي الإمام الكبير أبو زيد رحمه الله في «الأسرار» . وبعضهم لم يشترطوا ذلك؛ لأنه عسى يؤدي إلى إفساد الجراحة، ولكن إذا مسح على أكثر العصابة يجوز، وإن مسح على النصف فما دونه لا يجوز، وبه كان يقول شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله. وهل يشترط تكرار المسح اختلفوا فيه أيضاً؟ قال بعضهم يشترط إلى الثلاث؛ لأنه لو كان بارئاً يغسل ثلاثاً، فكذا يمسح عليه ثلاثاً، إلا أن تكون الجراحة في الرأس، فلا يشترط التكرار أيضاً، ومنهم من قال لا يشترط ويكتفي بالمسح مرة واحدة وهو الصحيح. وإذا انكسر عضو من أعضائه، وهو محدث فشد عليه العصابة ثم توضأ ومسح على العصابة جاز؛ لأن المسح على العصابة بمنزلة غسل ما تحتها. ولو غسل ما تحت العصابة ثم عصب عليها أليس إنه يجوز؟ كذا ههنا، وهذا بخلاف المسح على الخفين، فإن اللبس إذا حصل مع الحدث لا يجوز المسح على الخف، فالمسح على الجبائر يخالف المسح على الخف في حق أحكام من هذه، ومن أن المسح على الخفين ينتقض بمضي مدة المسح، والمسح على الجبائر لا ينتقض إلا بالحدث كالغسل، ومن جملتها أن ماسح الخف إذا نزع أحد خفيه يلزمه غسل الرجلين وإذا سقطت الجبائر لا عن برء لا يلزمه الغسل أصلاً، وإن سقطت عن برء يجب غسل ذلك الموضع خاصة.

الفصل السابع في النجاسات وأحكامها

وفي «المنتقى» : الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله إذا مسح على الجبائر ثم نزعها ثم أعادها كان عليه أن يعيد المسح عليها وإن لم يعد أجزأه، ورأيت في موضع آخر: إذا سقطت العصابة فبدلها بعصابة أخرى، فالأفضل والأحسن أن يعيد المسح عليها، وإن لم يعد أجزأه؛ لأن المسح على الأولى بمنزلة الغسل لما تحتها. وفيه عن أبي يوسف رحمه الله: رجل به جرح يضره إمساس الماء فعصبه بعصابتين ومسح على العليا ثم رفعها، قال: يمسح على العصابة الباقية بمنزلة الخفين والجرموقين ولا يجزئه حتى يمسح. وفي «الأصل» : إذا انكسر ظفره، فجعل عليه الدواء أو العلك، فتوضأ وقد أُمِر أن لا ينزع عنه يجزئه، وإن لم يخلص إليه الماء، ولم يشترط المسح ولا إمرار الماء على الدواء والعلك من غير ذكر خلاف، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وشرط إمرار الماء على العلك، قال: ولا يكفيه المسح، وذكر رحمه الله أيضاً: إذا ألقى علقة على بعض أعضائه، فسقطت العلقة، فجعل الجبائر في موضع العلقة، ولا يمكنه الغسل ولا إمرار الماء يلزمه المسح، فإن عجز عن المسح أيضاً سقط فرض الغسل والمسح جميعاً، فيغسل ما حول ذلك الموضع ويترك ذلك الموضع، فإن سقطت الجبائر، فإن كان السقوط عن برء يلزمه غسل ذلك الموضع وما لا فلا. وذكر رحمه الله أيضاً: إذا كان في أعضائه شقاق، وقد عجز عن غسله سقط عنه فرض الغسل ولزمه إمرار الماء، فإن عجز عن إمرار الماء يكفيه المسح، فإن عجز عن المسح أيضاً سقط عنه فرض الغسل والمسح، فيغسل ما حول ذلك الموضع ويترك ذلك الموضع. قال: وإذا كان الشقاق في يده ولا يمكنه استعمال الماء، وقد عجز عن الوضوء يستعين بغيره حتى يوضئه، فإن لم يستعن وتيمم وصلى جازت صلاته عند أبي حنيفة خلافاً لهما رحمهم الله، وإذا كان الشقاق في رجله فجعل (فيه) الدواء أو الشحم أو العلك، ولا يمكنه إيصال الماء إلى قعره يؤمر بإمرار الماء فوق الدواء، ولا يكلف إيصال الماء إلى قعره ولا يكفيه المسح، وإذا توضأ وأمرَّ الماء على الدواء ثم سقط الدواء: إن سقط عن برء يفترض غسل ذلك الموضع وما لا فلا كما في المسح على الجبائر والله أعلم. الفصل السابع في النجاسات وأحكامها هذا الفصل يشتمل على نوعين: الأول: في معرفة الأعيان النجسة وحدّها، فنقول: الأعيان النجسة نوعان: مائع وغير مائع، وكل نوع على قسمين: نجس باعتبار نفسه، ونجس باعتبار غيره وسنذكر ههنا بعضها، وبعضها في كتاب الصلاة.

قال القدوري رحمه الله في «كتابه» : كل ما يخرج من بدن الإنسان مما يوجب الوضوء أو الغسل فهو نجس، كالغائط والبول والدم والمني وغير ذلك، وقال الشافعي رحمه الله: المني طاهر لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلّموهو يصلي» ، والمراد: حال الصلاة كما يقال فلان دخل الدار وهو راكب، ولأنه أصل الآدمي يجب أن يكون طاهراً كرامة له، ولهذا اكتفي بالفرك، ولنا قوله عليه السلام في حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه: «إنما يغسل الثوب من خمسة من البول والغائط والمني والقيء والدم» ، وهو دليل على نجاسته إلا أنه اكتفى فيه بالفرك، إما لأنه شيء لزج لا يداخل أجزاء الثوب كثيراً، وإنما يصيب ظاهره، وذلك يزول بالفرك، ولا يبقى منه إلا شيء قليل، وإنه عفو، أو لمكان الحرج، فإن إصابة المني اليابس إنما تكون باعتبار أن الجماع غالباً إنما يكون في الثياب ويتعذر صيانة الثياب عنها، فلو كلف الغسل عند كل إصابة يؤدي إلى الحرج، فسقط اعتباره وأقيم الفرك مقامه. والأرواث والأخثاء كلما نجسة، وقال زفر ومالك: كلها طاهر، حجتهما أن الأرواث وقود أهل الحرمين فإنهم يطبخون ويخبزون به ولو كان نجساً لما انتفعوا (بها) ، وروي أن الشبان من الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا نزلوا في أسفارهم يترامون بالأبعار ويتلاعبون بها، فلو كان نجساً لما استعملوها، وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: «طلب مني رسول الله صلى الله عليه وسلّمأحجار الاستنجاء ليلة الجن؛ فأتيته بحجرين وروثة فأخذ الحجرين ورمى بالروثة، وقال: إنها رجس» أي نجس، وروى المعلى عن محمد رحمه الله أنه قال: الروث لا يمنع جواز الصلاة وإن كان كثيراً فاحشاً، قيل: هذا آخر قوله رجع إلى هذا القول حين طلع مع الخليفة إلى الري، ورأى أسواقهم وسككهم مملوءة من الأرواث، فرجع إلى هذا القول لدفع البلوى.r قال مشايخنا على قياس هذه الرواية لا يمنع جواز الصلاة وإن كان كثيراً فاحشاً، مع أن التراب مخلوط في العذرات دفعاً للبلوى، وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله لا يعتمد على هذه الرواية، وكان يقول البلوى إنما تكون في النعال والنعال مما يمكن خلعها، وقد اعتاد الناس خلع النعال، وليس فيه كثير ضرورة والصلاة بغير النعل أحمد، والكثير الفاحش فيه يمنع جواز الصلاة. وقد ذكرنا خرء ما يؤكل لحمه من الطيور (27ب1) كالحمامة والعصفور والبط والحدأة.

وأما خرء ما لا يؤكل لحمه نحو سباع الطير، كالصقر والبازي وغيرها من الحدأة وأشباهها، فهو طاهر في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: هو نجس، فوجه قول محمد رحمه الله، وهو الفرق له بين خرء هذه الطيور، وبين خرء العصفور والحمامة، أن هذه الطيور لا تخالط الناس فيمكن التحرز عن خرئها بخلاف الحمامة والعصفور؛ لأنهما تخالطان، فلا يمكن التحرز عن خرئهما. ولهما أن هذه الحيوانات تذرق من الهواء، وفي التمييز بينما يخالطونا وبينما لا يخالط الناس، فيحتاج إلى التأمل في كل جانب، وفيه حرج على أن ما قال من المعنى لا يتأتى في الصقر والبازي والشاهين، فإن الناس يخالطوهما أكثر مما لا يخالطون الحمام والعصفور. والأبوال كلها نجسة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: بول ما يؤكل لحمه طاهر حجته في ذلك حديث العرنيين، فإنه روى «أن قوماً من عرينة جاؤوا إلى رسول الله عليه السلام بالمدينة فاجتووها فانتفخت بطونهم واصفرت ألوانهم، فأمرهم رسول الله عليه السلام أن يخرجوا إلى إبل الصدقات، فيشربوا من أبوالها وألبانها» ، فقد أمرهم بشرب الأبوال، فلو كانت نجسة لما أمرهم بذلك مع قوله عليه السلام: «إن الله تعالى لم يجعل في نجس شفاء» وإذا ثبت أنه طاهر، فإذا أصاب الثوب لا يمنع جواز الصلوة فيه وإن فحش، وإذا وقع في الماء القليل لا يمنع التوضؤ به إلا أن يغلب على الماء، فحينئذٍ لا يجوز التوضؤ به لا لأنه نجس، ولكن لأنه صار شيئاً آخر، ألا ترى أنه لو وقع اللبن في الماء القليل واللبن غالب لا يجوز التوضؤ به، وإنما لا يجوز لأنه صار شيئاً آخر لا لنجاسة اللبن، كذا ههنا. لهما ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه» ، ولأن بول الآدمي نجس مع أنه أطهر الحيوانات فبول هذه الحيوانات أولى، وأما حديث العرنيين، فالتمسك به لا يصح؛ لأنه روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رسول الله عليه السلام أمرهم بشرب ألبانها» ، ولم يذكر الأبوال، ولو ثبت فهو محمول على أن رسول الله عليه السلام عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه، ويحل تناول النجس إذا علم حصول الشفاء، ألا ترى أن من اضطر إلى ميتة إن أصابه جوع مفرط يخاف منه الهلاك ولم يجد إلا ميتة يباح له التناول؛ لعلمه أنه يزول به الجوع والجوع داء، وكذلك إذا اضطر إلى خمر بأن أصابه عجز مفرط ولا يجد إلا

خمراً جاز له الشرب منها بقدر ما يزول به العطش، لعلمه أنه يزول به العطش والعطش داء. ويحتمل أنه كان مباحاً في الابتداء، ثم انتسخ إباحته بقوله عليه السلام: «استنزهوا (من) البول» . ثم إن أبا حنيفة وأبا يوسف رحمهما الله اختلفا فيما بينهما، قال أبو حنيفة لا يجوز شربه للتداوي ولغيره، وقال أبو يوسف يجوز شربه للتداوي، ولا يجوز شربه لغيره. فأبو يوسف قال القياس ما قاله أبو حنيفة، ولكن تركنا القياس بالأثر والأثر أباح شربه للتداوي، فبقي الشرب لغير التداوي على أصل القياس. وبول الهرة نجس لو أصاب الثوب أكثر من قدر الدرهم منع جواز الصلاة هو الظاهر من المذهب، وحكي عن محمد بن محمد بن سلام رحمه الله أنه كان يقول: لو ابتليت به لغسلت ولكن آمر غيري بإعادة الصلاة. وأما بول الفأرة إذا وقع في الماء أفسد الماء، حتى لا يجوز التوضؤ به بخلاف سؤره، والقياس أن يكون سؤره نجساً لأن لعابه نجس لنجاسة لحمه، لكن أسقطنا النجاسة في اللعاب لمكان الضرورة، فإنها تقصد الماء وتشرب، وصون الأواني عنها غير ممكن، أما الضرورة في البول (فتنتفي) لأنها لا تقصد الماء لتبول فيه، فيحكم بنجاسته. وأما بول الفأرة إذا أصاب الثوب، فقد قال بعض مشايخنا إنه ينجس الثوب وقاسه على الماء، وقال بعضهم: لا ينجسه وفرق بين الثوب والماء، والفرق أن صيانة الثوب في الغالب يكون بالثياب؛ بأن يلف البعض في البعض ومتى صين على هذا الوجه، وبال على الثوب الأعلى يصل إلى باقيه ويتنجس، فصيانة الثياب عن بول الفأرة غير ممكن، فصار البول معفواً عنه في الثياب. أما الماء يصان في الأواني، والأواني مما يُخمر وبعد التخمير تقع الصيانة للماء لا محالة، فلم يكن البول معفواً عنه في الماء، وعن محمد رحمه الله أنه قال: ولا أرى ببول الفأرة بأساً، وذهب في ذلك إلى أن البلوى في بولها ظاهر، وإن وجد رائحته في الثوب، ولا يستيقن فالتنزه أولى، وإن صلى فيه لم أقل بأنه لا يجزئه، وبعض مشايخنا قالوا: لا ينجسه، إلا أن هذا القائل يجعل أثر البلوى في التخفيف لا في صلب أصل النجاسة. وقال الحسن بن زياد رحمه الله لو أن بعرة من بعر الفأرة وقعت في وقر حنطة، وطحنت لم يجز أكلها، ولو وقعت في دهن فسد الدهن. وقال محمد بن مقاتل رحمه الله لا تفسد الحنطة والدهن ما لم يتغير طعمه، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وبه نأخذ. وفي مسائل أبي حفص رحمه الله في بعر الفأرة: إذا وقع في الزيت أو الخل إنه لا يفسده. وعن الشيخ الإمام أبي محمد عبد الله بن الفضل الخيزاخزي رحمه الله أنه قال: وقعت في هذه المسألة، فسألت أبا إسحاق الضرير، فقال: لو كان لي لشربت وأنا لم

أشرب، وليس بول الخفاش وخرؤه بشيء؛ لأنه لا يستطاع الامتناع عنه، وليس دم البق والبراغيث بشيء وإن كثر لأنه ليس بدم مسفوح، وأما دم الحلم والأقراد فنجس لأنه دم مسفوح والاحتراز عنه ممكن، وإذا أصاب الثوب أكثر من قدر الدرهم يمنع جواز الصلوة. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: الدم يخرج من الكبد إن لم يكن من غيره متمكناً فيه فهو طاهر؛ لأن الكبد دم جامد وكذلك اللحم المهزول إذا قطع، فالدم الذي فيه ليس بنجس، هكذا حكي عن الفقيه أبي بكر رحمه الله، وكان الصدر الشهيد رحمه الله يرفض هذا القول ويقول: إن لم يكن هذا دماً فقد جاور الدم، والشيء ينجس بنجاسة المجاور. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله في موضع آخر: ذكر مسألة اللحم مطلقة، ولم يقيد بالمهزول. ورأيت في موضع آخر: الطحال إذا شق وخرج منه دم فليس بشيء، وكذلك الدم الذي في القلب ليس بشيء، ذكر المسألة مطلقة من غير فصل بين دم ودم. وفي «عيون المسائل» : الدم الملتزق باللحم إن كان ملتزقاً من الدم السائل بعدما سال كان نجساً، وإن لم يكن ملتزقاً من الدم السائل لم يكن نجساً، وروى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله: أن غسالة الدم إذا أصابت الثوب لم تجز الصلاة فيه، وإن صب في بئر يفسد الماء يريد به الدم الذي بقي في اللحم ملتزقاً به، ولو طبخ اللحم. وفي «القدوري» صفرة أو حمرة، فلا بأس به، ورد الأثر في غير هذه الصورة عن عائشة رضي الله عنها، وعن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله: أنه إنما يحرم الدم المسفوح وهو السائل، فأما ما يكون في اللحم ملتزقاً به فلا بأس، وعن أبي يوسف رحمه الله يفسد برواية ابن سماعة، إنما يحرم الدم المسفوح الذي يسكن العروق، وإذا فجر سال، فهذه الروايات تبين لنا أن في الطعن في مسألة اللحم المهزول كلام. وفي «الجامع الأصغر» عن أبي جعفر الكبير: أن الطين إذا جعل فيه السرقين وطُين به شيء ويبس، لا بأس بأن يوضع عليه منديل مبلول. وسئل هو عن سرقين جاف أو التراب النجس إذا هبت به الريح وأدخلته في الثوب لا ينجسه ما لم ير أثره. التبن النجس، إذا استعمل في الطين، إن كان يرى مكانه كان نجساً، وإن لم ير مكانه لا يكون نجساً؛ لأنه مستهلك في الوجه الأول دون الثاني. ولو يبس يحكم بطهارته، ولو أصابه الماء فهو على الروايتين إذا كان الماء أو التراب نجساً، أما الطين فيها يكون طاهراً، هكذا حكي عن الفقيه أبي نصر محمد بن سلام رحمه الله. وكان الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله يقول: العبرة للماء، إن كان الماء طاهراً فالطين طاهر، وإن كان الماء نجساً، فالطين نجس، وقد قيل على العكس أيضاً وكان الفقيه أبو القاسم الصفار رحمه الله يقول: الطين نجس، وبعضهم قالوا على (28أ1) قول محمد رحمه الله: الطين يكون طاهراً، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يكون نجساً،

وجعلوه فرعاً لمسألة أخرى: إن السرقين أو العذرة إذا احترقت وصارت رماداً، فالمذهب عند محمد رحمه الله أن النجس يطهر بالتغيير والاستحالة، خلافاً لأبي يوسف رحمه الله. إذا لف الثوب النجس في ثوب طاهر، والنجس رطبة مبتلة، فظهر ندوته على الثوب الطاهر، ولكن لم يصر رطباً، بحيث لو عصر يسيل منه شيء ويتقاطر اختلف المشايخ فيه: قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والأصح أنه لا يصير نجساً، وكذلك الثوب الطاهر اليابس إذا بسط على أرض نجسة مبتلة، وظهر أثر بلة النجاسة في الثوب، إلا أنه لم يصر رطباً ولم يصر بحال لو عصر يسيل منه شيء ويتقاطر، اختلف المشايخ، قال شمس الأئمة رحمه الله: والأصح أنه لا يصير نجساً ذكر هذين الفصلين في «صلاة المستفتي» إذا وضع رجله على أرض نجسة، أو على لبد نجس، إن كانت الرجل رطبة والأرض أو اللبد يابساً، وهو لم يقف عليه بل مشى لا تتنجس رجله، ولو كانت الرجل يابسة والأرض رطبة وظهرت الرطوبة في الرجل تتنجس رجله، وفي بعض المواضع لا يشترط ظهور الرطوبة في الرجل؛ لأنه يظهر أثر الرطوبة في الرجل لا محالة. وإذا نام الرجل على فراش قد أصابه مني ويبس، فعرق الرجل وابتل الفراش من عرقه، إن لم يصب بلل الفراش جسده لا يتنجس جسده، وإن أصاب بلل الفراش جسده يتنجس جسده. وفي «مجموع النوازل» : عن أبي بكر الوراق رحمه الله سئل عمن توضأ بشط نهر ومشى حافياً إلى المسجد، قال: كاد أن ينكسر ظهري في زعم بعض الناس يتوضؤون على شطوط الأنهار، ويغسلون أقدامهم ويمشون حفاة ورجلاهم رطبة إلى مساجدهم، فينجسون الحصر والبواري وتفسد صلواتهم وصلاة أهل المسجد، ووبال ذلك عليهم، ثم ينصرفون كذلك حفاة إلى منازلهم، وينامون مع أزواجهم، فتتنجس فرشهم وأيدي أزواجهم وأرجلهم وجميع أعضائهن، فيصلين ولا يشعرن بذلك، فتفسد صلاتهن، ووبال ذلك عليهم وأكثر هذا الخوف على أرباب الدواب، وأهل الرساتيق الذين يحتاجون إلى الدخول على الدواب والمرابط كل يوم كذا مرة، وقد قيل في.....: إنه يرمى بالدم، فإن كان كذلك نجساً والثوب المصبوغ به أيضاً يكون نجساً، فيغسل ثلاث مرات ويحكم بطهارته عند أبي يوسف رحمه الله، وقد سألنا عن معارف النجار فأخبرونا أنه لا يرمى بالدم، وسمعنا أيضاً أن أهل فارس يستعملون البول في الديباج عند النسج، ويقولون: إن البول يزيد في بريقه، فإن كان كذلك لا شك أن ديباجهم يكون نجساً، ولا تجوز معه الصلاة إلا بعد الغسل ثلاث مرات عند أبي يوسف رحمه الله، وقد وقع عند بعض الناس أن الصابون نجس؛ لأنه يتخذ من دهن الكتان، ودهن الكتان نجس لأن

أوعيته تكون مفتوحة الرأس، والغالب يقصد شربها ويقع فيها غالباً، ولكنا لا نفتي بنجاسة الصابون لأنا لا نفتي بنجاسة الدهن؛ لأن الأصل الطهارة، والنجاسة يعارض أمراً نادراً وقع، إنما نفتي بنجاسة الدهن، ولا نفتي بنجاسة الصابون؛ لأن الدهن قد تغير وصار شيئاً آخر، وقد ذكرنا أن من مذهب محمد رحمه الله أن النجس يصير طاهراً بالتغيير، يفتى فيه بقول محمد رحمه الله لمكان عموم البلوى. وفي «الجامع الأصغر» : سئل خلف عمن ألقى حجراً ملطخاً بالعذرة في نهر كبير جار، فارتفعت قطرات من الماء فأصاب ثوبه، قال: إن كان ذلك من الماء المتصل بالحجر، فسد وإن كان من غير ذلك الماء، فلا بأس به، وإن لم يعلم، فأحب إليّ أن يغسله، ويسعه أن يصلي فيه من غير أن يغسله. وفي «الفتاوى» : سئل ابن شجاع عن هذه المسألة، فقال عليه أن يغسله، وبه قال نصر بن يحيى رحمه الله، وقال إبراهيم بن يوسف لا يضره ذلك، وبه قال أبو بكر إلا إن ظهر فيه لون النجاسة، قال أبو الليث رحمه الله: وبه نأخذ. وفيه عن إبراهيم: حمار يبول في الماء، فيصيب من ذلك الرش ثوب إنسان، قال: لا يضره وهو ماء حتى يستيقن أنه بول، قال الفقيه: وبه نأخذ. وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» : في الفرس إذا مشى على الماء وعليه راكب وأصاب ثوبه من ذلك الماء، عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري أنه إذا كان في رجل الفرس نجاسة نحو السرقين وغيره صار الثوب نجساً، سواء كان الماء جارياً أو راكداً، وإن لم يكن في رجله نجاسة لا يضره. سئل أبو نصر عمن يغسل الدابة، فيصيب من مائها أو من عرقها، قال لا يضره ذلك، قيل: فإن كانت تمرغت في بولها وروثها، قال: إذا جف وتناثر وذهب عينه لا يضر أيضاً. وفي «الأصل» : رجل مر بكنيف فسال عليه من ذلك الكنيف شيء، قال: إن علم بنجاسته فعليه غسله، وإن علم بطهارته لا يجب عليه غسله، وإن لم يعلم بنجاسته ولا بطهارته، ولم يجد من يسأل عنه يتحرى، ويبني الأمر على ما يستيقن عليه رأيه، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمهما الله: إنما بنى هذا الجواب على عرف ديارهم، أما في عرف ديارنا يغسله لا محالة؛ لأن الكنيف في ديارنا معد لصب النجاسة لا يصب فيه إلا النجاسة، أما في ديارهم: الكنيف كما يعد لصب النجاسة يعد لصب غسالة القدر، قال شيخ الإسلام: هذا وقياس كنيفهم بما عندنا الميازيب، فإنه يصب فيه الماء وغيره، فلا جرم لو أصابه شيء من الميزاب كان الجواب على ما ذكره في «الكتاب» .

وعن أبي عصمة سعد بن معاذ المروزي رحمه الله: أن من مر بكنيف وسال منه شيء وهبت به الريح وانتضح عليه منه شيء مثل رؤوس الإبر، قال: هذا ليس بشيء، ولا يجب عليه الغسل وإن استيقن أنه بول، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ، والمذكور في «الأصل» إذا انتضح عليه البول مثل رؤوس الإبر، فليس ذلك بشيء، لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: قوله: رؤوس الإبر دليل أن الجانب الآخر من الإبرة معتبرة، وليس عندنا هكذا، بل لا يعتبر. وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف رحمه الله: إذ انتضح من البول بشيء يرى أثره لا بد من غسله، ولو لم يغسل، وصلى كذلك، فكان إذا جمع كان أكثر من قدر الدرهم أعاد الصلاة. ذباب المستراح إذا جلس على ثوب رجل فقد قيل لا بأس به؛ لأن التحرز عنه غير ممكن، وقيل: لا بأس به إذا فحش. ذكر النوع الثاني من الفصلفي بيان مقدار النجاسة التي تمنع جواز الصلاة يجب أن يعلم بأن القليل من النجاسة عفو عندنا، لما روي أن عمر رضي الله عنه سئل عن قليل النجاسة في الثوب، فقال: «إذا كان مقدار ظفري هذا لا يمنع جواز الصلاة» ، ولأن التحرز عن قليل النجاسة غير ممكن، فإن الذباب يغفو على النجاسة ثم يغفو على ثياب المصلي، لا بد وأن يكون (في) أجنحتهن وأرجلهن نجاسة، فجعل القليل عفواً لمكان البلوى، وقد صح أن أكثر الصحابة كانوا يكتفون بالاستنجاء بالأحجار، وإنه لا يزيل أصل النجاسة لولا أن القليل من النجاسة عفو، وإلا لما اكتفوا به. ثم النجاسة نوعان: غليظة، وخفيفة، فالغليظة إذا كانت قدر الدرهم أو أقل فهي قليلة لا تمنع جواز الصلاة، وإن كانت أكثر من قدر الدرهم منعت جواز الصلاة، ويعتبر الدرهم الكبير دون الصغير، قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» الدرهم الكبير أكبر ما يكون من الدرهم ولم يبين أنه أراد بالكبير من حيث العرض والمساحة أو من حيث الوزن، وذكر في «النوادر» أن الدرهم الكبير أكبر ما يكون من الدراهم كالدراهم السود الزبرقانية، درهم كبير أسود ضربه الزبرقان، وقال في موضع آخر: الدرهم ما يكون عرض الكف كالدرهم السهيلي، فهذا اعتبار التقدير من حيث العرض. ومن المشايخ من قال: إنما يعتبر أكبر ما تكون الدراهم من نقود زمانهم أما ما كان من النقود وانقطع لا يعتبر، وذكر في «كتاب الصلاة» : واعتبر الكبير من حيث الوزن، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله يوفق بين ألفاظ محمد رحمه الله، فنقول (28ب1) أراد بالتقدير من حيث الوزن تقدير النجاسة الغليظة، وهو الصحيح من المذهب أن في الرقيقة يعتبر الدرهم من حيث العرض، وفي الغليظة يعتبر الدرهم من حيث الوزن، ثم إنما قدروا بالدرهم، لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قدره بظفره، وظفره كان يبلغ قدر الدرهم الكبير واعتباراً لموضع الحدث؛ لأن الشرع عفى عن النجاسة التي في موضع الحدث،

فإنه حكم بطهارته بالاستنجاء بالحجر، وإنه يزيل العين لا الأثر، والأثر مانع جواز الصلاة كالعين، فدل أن الشرع عفا عن النجاسة التي في موضع الحدث، وموضع الحدث يبلغ قدر الدرهم الكبير لكن استقبحوا ذكر موضع الحدث، فكنوا عنه بالدرهم، هكذا قاله إبراهيم النخعي رحمه الله. وأما النجاسة الخفيفة، فالتقدير فيها بالكثير الفاحش هكذا ذكر محمد رحمه الله في هذا «الكتاب» ، وفي «الأصل» ولم يبين لذلك حداً، وروى بشر بن غياث عن أبي يوسف رحمه الله، قال: سألت أبا حنيفة رحمه الله عن حد الكثير الفاحش فكره أن يحد فيه حداً، فقال: الكثير الفاحش ما يستفحشه الناس ويكثرونه، وكان لا يقدر ما استطاع؛ لأن المقادير لا تعرف قياساً. وروى الحسن في «المجرد» عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: الكثير الفاحش شبر في شبر في «كتاب الصلاة» للمعلى قال: هو شبر أو أكثر، وعن محمد رحمه الله أنه قال: الكثير الفاحش هو ربع الثوب، وذكر أبو علي الدقاق رحمه الله في كتاب «الحيض» : الكثير الفاحش عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله ربع الثوب، وروى هشام عن محمد رحمه الله أنه قال: الكثير الفاحش مقدار باطن الخفين معاً، وأن يستوعب القدمين، وروي عن محمد رحمه الله أن الفاحش في الخف أكثر الخف، وإنما خص الخف بالأكثر على هذه الرواية؛ لأن الضرورة فيه مستدامة خصوصاً لسايس الدواب، فقدر الفاحش فيه بالأكثر إظهاراً لتوسعه، وقد اختلفت الروايات فيه عن أبي يوسف رحمه الله، ذكر في «كتاب الصلاة» : أنه شبر في شبر، قاله الفقيه أبو الليث رحمه الله، وهكذا ذكر في «الأمالي» . وفي «صلاة الأثر» قال أبو يوسف رحمه الله في لعاب الحمار: قدر شبر فاحش يعيد منه الصلاة، وفي عرفه الفاحش أكثر من شبر، وفي الوضوء أكثر من شبر على أصله، وذكر الطحاوي في «مختصره» عن أبي يوسف ذراعاً في ذراع، وقيل على قوله على قياس مسائل كثيرة، الكثير الفاحش أكثر من النصف، في النصف روايتان. قال مشايخنا: الأصح التقدير بالربع؛ لأن الربع أقيم مقام الكل في كثير من الأحكام، المسح ربع الرأس أقيم مقام الكل، وكحلق ربع الرأس في الإحرام أقيم مقام حلق الكل، وكذا كشف ربع العورة أقيم مقام كشف الكل. ثم اختلف المشايخ في كيفية اعتبار الربع بعضهم، قالوا: يعتبر ربع جميع الثوب لأن اسم الثوب يقع على المحيط بجميع أجزائه، فيصير ربع جميع الثوب إلا أنهم اختلفوا فيما بينهم، حكي عن أبي بكر الرازي أنه يعتبر ربع السراويل احتياطاً؛ لأنه أقصر الثياب، ومنهم من قال: يعتبر ربع ثوب كامل، وقال بعض المشايخ: يعتبر ربع الطرف الذي أصابه النجاسة، يعني: ربع الكم أو الذيل أو الدخريص. بعد هذا يحتاج إلى الحد الفاصل بين الغليظة والخفيفة: قال القدوري رحمه الله في «شرحه» : النجاسة الغليظة عند أبي حنيفة رحمه الله كل عين ورد في نجاستها نص ولم

يعارضه نص آخر اختلف الناس فيها أو اتفقوا فيها، أشار إلى أنه إذا عارضه نص آخر فهي خفيفة اتفق الناس فيها أو اختلفوا، وهذا لأن النص يعارض النص، فإن لم يعمل بأحدهما بدليل فلا أقل من أن يؤثر في تخفيف حكمه، أما إذا لم يعارضه نص لا يخفف حكم النجاسة، اختلف الناس فيها أم اتفقوا؛ لأنه لم يعارض النص (إلا الاختلاف) ، والاختلاف ليس بحجة بمقابلة النص إلى النص حجة، وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: ما شاع الاجتهاد في طهارته فهو مخفف؛ لأن الاجتهاد حجة في حق وجوب العمل كالنص.d وثمرة الاختلاف تظهر في الأرواث: عند أبي حنيفة رحمه الله نجاستها غليظة؛ لأنه ورد فيه النص، وهو حديث ابن مسعود رضي الله عنه على ما روينا، ولم يعارض هذا الحديث نص آخر فيتغلظ؛ وعندهما نجاستها خفيفة لاختلاف العلماء فيه، ولمكان البلوى، فإن الطرق مملوءة فيها، وقد يحتاج الإنسان إلى سوق الدواب فيمشي عليها، فيصيبه الروث على وجه لا يمكنه الدفع عن نفسه، وللضرورة أثر في إسقاط النجاسة كما في سؤر الهرة، فلأن يكون لها أثر في التخفيف أولى وقد ذكرنا رواية «المعلى» عن محمد رحمه الله أنه قال: الروث لا يمنع جواز الصلاة وإن كان كثيراً فاحشاً. ونجاسة بول ما يؤكل لحمه على قول من يقول بنجاسته خفيفة، حتى لو أصاب الثوب لا يمنع جواز الصلاة ما لم يكن كثيراً فاحشاً، وإذا وقع قطرة في الماء أفسده؛ لأن القليل في الماء يصير كثيراً، وإنما كانت نجاسته خفيفة إما لأن بنجاسته اختلاف، فتخفف نجاسته، أو لأن فيه ضرورة وللضرورة أثر في التخفيف. قال الفقيه أحمد بن إبراهيم: إن أصحابنا جعلوا القيء في «ظاهر الرواية» كالعذرة والبول، حتى قالوا إذا أصاب يده القيء، وهو أكثر من قدر الدرهم لا تجوز الصلاة معه، وفي رواية الحسن رحمه الله ما جعله كذلك حتى كان التقدير فيه بالكثير الفاحش على رواية الحسن، ووجه ذلك أن القيء في الأصل طعام طاهر وقد تغير عن حاله، فلا هو طعام طاهر على الكمال ولا استحال غائطاً على الكمال، فلا تعطى له درجة الطاهر ولا درجة البول والغائط، بل يحكم له بحكم التخفيف؛ ليكون حكمه مأخوذاً من كل الأصل، فيتقدر فيه بالكثير الفاحش، كما في سائر النجاسات الخفيفة. ونجاسة سؤر سباع البهائم غليظة في إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله، وفي رواية أخرى عنه خفيفة، وهو قول أبي يوسف رحمه الله، وعلل أبو يوسف فقال: الناس اختلفوا في نجاسة سؤر سباع البهائم وطهارته، فأوجب ذلك تخفيفاً فيه كبول ما يؤكل لحمه. والخمر: وهي التي من ماء العنب إذا غلى وقذف بالزبد واشتد، نجاستها غليظة، وإذا طبخ أدنى طبخة وغلى واشتد وقذف بالزبد، فنجاستها غليظة، إليه أشار محمد رحمه الله في كتاب الأشربة، قالوا: هكذا روى هشام عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمة الله عليهما، وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أن على قول

أبي حنيفة، وأبي يوسف يجب أن تكون نجاستها خفيفة، والفتوى على الأول أن نجاستها غليظة والله أعلم. ومما يتصل بهذا الفصل ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في أسآره أن النجاسة إذا أخرجت من البئر ولم ينزح شيء من الماء بعد، فنجاسة الماء غليظة، ثم بقدر ما ينزح من الماء تخف النجاسة وتقل قال: وهذا كما قلنا في الكلب إذا ولغ في إناءين، فغسلت إحداهما مرة وغسلت الأخرى مرتين، إن كل واحد منهما نجس ثم غسلا مرة مرة، فإن الذي غسل في المرة الأولى مرتين طهر والآخر لا يطهر ما لم يغسل مرة باليد. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا: نجاسة الثوب إذا غسل الثوب ينبغي أن يكون على هذا القياس. بيانه: في الثوب النجس إذا غسل في ماء طاهر وعصر ثم غسل في ماء آخر على هذا القياس طاهر، وعصر ثم غسل في ماء ثالث طاهر وعصر، فإن الثوب يطهر والمياه كلها نجسة، ولو أنه أصاب هذا الماء الثالث ثوباً ينبغي أن يطهر هذا الثوب بالعصر، وإن لم يغسل؛ لأن ما دخل فيه من النجاسة لو كانت في الثوب الأول، فكان يطهر بالعصر، ولا يحتاج فيه إلى الغسل، ولو أصاب الماء الثاني كانت طهارته بالعصر والغسل مرة، ولو أصاب الماء الأول كانت طهارته بالعصر والغسل مرتين، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» أن الماء الثاني أو الثالث من غسالة الثوب النجس إذا أصاب الثوب لا يطهر الثوب إلا بالغسل ثلاثاً، وفرق (29أ1) بين مسألة البئر وبين مسألة الثوب، وفي «شرح الجامع» من تعليقي في مسألة الثوب أن نجاسة المياه على نمط واحد عند أبي يوسف رحمه الله، وعند محمد رحمه الله نجاستها مختلفة. فمن حكم الماء الأول أنه إذا أصاب ثوباً آخر لا يطهر إلا بالغسل ثلاث مرات، ومن حكم الماء الثاني أنه إذا أصاب الثوب لا يطهر إلا بالغسل مرتين، ومن حكم الماء الثالث أنه إذا أصاب الثوب يطهر بالغسل مرة؛ لأن بالغسل تحولت النجاسة من الثوب إلى الماء، فيصير الماء والذي أصابه هذا الماء على الصفة التي كان الثوب الأول، والثوب الأول حال إصابته النجاسة كان بحال لا يطهر إلا بالغسل ثلاثاً، وبعد الغسل الأول كان بحال لا يطهر إلا بالغسل مرتين، وبعد الغسل الثاني كان بحال يطهر مرة بالغسل، فكذا الذي أصابته هذه المياه على هذا الترتيب والله أعلم. في تطهير النجاسات يجب أن تعلم أن إزالة النجاسة واجبة، قال الله تعالى: {والرجز فاهجر} (المدثر: 5) وقال تعالى: {وثيابك فطهر} (المدثر: 4) وإزالتها إن كانت مرئية بإزالة عينها وأثرها إن كانت شيئاً يزول أثرها ولا يعتبر فيه العدد، وإن كان شيئاً لا يزول أثرها فإزالتها بإزالة عينها ويكون ما بقي من الأثر عفواً، وإن كان كثيراً، وإنما اعتبرنا زوال العين، والأثر فيما يزول

الأثر؛ لأن النجاسة كانت باعتبار العين والأثر، فيبقى ببقائهما ويزول بزوالهما، وإنما لم يعتبر زوال الأثر فيما لا يزول أثرها لما روي عن رسول الله عليه السلام «أنه قال لخولة حين سألته عن دم الحيض: اغسليه ولا يضرك أثره» ، والمعنى في ذلك الحرج. بيانه: أن المرأة إذا خضبت يدها أو رأسها بحناء نجسة، لو شرطنا زوال الأثر لثبوت الطهارة تقاعدت عن الصلاة أياماً كثيرة، وفيه من الحرج ما لا يخفى، وكذلك الرجل إذا صبغ ثوبه بصبغ نجس لو شرطنا زوال الأثر لثبوت الطهارة لتقاعد عن الصلاة إذا لم يكن له إلا هذا الثوب، وإنه قبيح. وحكي عن الفقيه أبي إسحاق الحافظ رحمه الله: أن المرأة إذ خضبت يدها بحناء نجسة أو الثوب إذا صبغ بصبغ نجس غسلت يدها وغسل الثوب إلى أن يصفو ويسيل معه ماء أبيض، ثم يغسل بعد ذلك ثلاثاً، ويحكم بطهارة يدها وبطهارة الثوب بالإجماع. وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يذكر مسألة الحناء والثوب المصبوغ بالصبغ النجس، ويقول على قول محمد رحمه الله لا يطهر، وكان الفقيه أبو إسحاق هذا رحمه الله يقول في الدم إذا كان عنيفاً لا يذهب أثره بالغسل، يغسل إلى أن يصفو أو يسيل الماء من الثوب على لونه ثم يغسل بعد ذلك ثلاثاً، وكذلك الصديد وغيرها من النجاسات العنيفة. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا غمس الرجل يده في سمن نجس، ثم غسل اليد في الماء الجاري بغير حرض، وأثر السمن باق على يده، طهرت به، لأن نجاسة السمن باعتبار المجاور، وقد زال المجاور عنه، فيبقى على يده سمن طاهر، وهذا لأن تطهير السمن بالماء ممكن، ألا ترى إلى ما روي عن أبي يوسف رحمه الله في الدهن إذا أصابته نجاسة أنه يجعل في إناء «ويصبّ عليه الماء ثلاثاً» ، فغسله الدهن فيرفع بشيء، هكذا نفعل ثلاث مرات ويحكم بطهارته في المرة الثالثة. وإن زال العين والأثر في المرة الأولى هل يحكم بطهارة الثوب، اختلف المشايخ فيه منهم من قال تطهر؛ لأن النجاسة كانت بسبب العين وقد انتفت بزوال العين، فيحكم بطهارة الثوب كما لو غسله ثلاثاً. في تطهير النجاسات يجب أن تعلم أن إزالة النجاسة واجبة، قال الله تعالى: {والرجز فاهجر} (المدثر: 5) وقال تعالى: {وثيابك فطهر} (المدثر: 4) وإزالتها إن كانت مرئية بإزالة عينها وأثرها إن كانت شيئاً يزول أثرها ولا يعتبر فيه العدد، وإن كان شيئاً لا يزول أثرها فإزالتها بإزالة عينها ويكون ما بقي من الأثر عفواً، وإن كان كثيراً، وإنما اعتبرنا زوال العين، والأثر فيما يزول الأثر؛ لأن النجاسة كانت باعتبار العين والأثر، فيبقى ببقائهما ويزول بزوالهما، وإنما لم يعتبر زوال الأثر فيما لا يزول أثرها لما روي عن رسول الله عليه السلام «أنه قال لخولة حين سألته عن دم الحيض: اغسليه ولا يضرك أثره» ، والمعنى في ذلك الحرج. بيانه: أن المرأة إذا خضبت يدها أو رأسها بحناء نجسة، لو شرطنا زوال الأثر لثبوت الطهارة تقاعدت عن الصلاة أياماً كثيرة، وفيه من الحرج ما لا يخفى، وكذلك الرجل إذا صبغ ثوبه بصبغ نجس لو شرطنا زوال الأثر لثبوت الطهارة لتقاعد عن الصلاة إذا لم يكن له إلا هذا الثوب، وإنه قبيح. وحكي عن الفقيه أبي إسحاق الحافظ رحمه الله: أن المرأة إذ خضبت يدها بحناء نجسة أو الثوب إذا صبغ بصبغ نجس غسلت يدها وغسل الثوب إلى أن يصفو ويسيل معه ماء أبيض، ثم يغسل بعد ذلك ثلاثاً، ويحكم بطهارة يدها وبطهارة الثوب بالإجماع. وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يذكر مسألة الحناء والثوب المصبوغ بالصبغ النجس، ويقول على قول محمد رحمه الله لا يطهر، وكان الفقيه أبو إسحاق هذا رحمه الله يقول في الدم إذا كان عنيفاً لا يذهب أثره بالغسل، يغسل إلى أن يصفو أو يسيل الماء من الثوب على لونه ثم يغسل بعد ذلك ثلاثاً، وكذلك الصديد وغيرها من النجاسات العنيفة. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا غمس الرجل يده في سمن نجس، ثم غسل اليد في الماء الجاري بغير حرض، وأثر السمن باق على يده، طهرت به، لأن نجاسة السمن باعتبار المجاور، وقد زال المجاور عنه، فيبقى على يده سمن طاهر، وهذا لأن تطهير السمن بالماء ممكن، ألا ترى إلى ما روي عن أبي يوسف رحمه الله في الدهن إذا أصابته نجاسة أنه يجعل في إناء «ويصبّ عليه الماء ثلاثاً» ، فغسله الدهن فيرفع بشيء، هكذا نفعل ثلاث مرات ويحكم بطهارته في المرة الثالثة. وإن زال العين والأثر في المرة الأولى هل يحكم بطهارة الثوب، اختلف المشايخ فيه منهم من قال تطهر؛ لأن النجاسة كانت بسبب العين وقد انتفت بزوال العين، فيحكم بطهارة الثوب كما لو غسله ثلاثاً. وقال بعضهم وإن زال العين بالمرة الأولى ما لم يغسله مرتين لا يحكم بطهارته اعتباراً بغير المرئي، وهذا لأن المرئي لا يخلو عن غير المرئي، فإن رطوبته التي اتصلت بالثوب لا تكون مرئياً، وغير المرئي لا يطهر إلا بالغسل ثلاثاً، فكذا هذا إذا كانت النجاسة مرئية. وإن كانت غير مرئية كالبول والخمر، ذكر في «الأصل» ، وقال يغسلها ثلاث مرات ويعصر في كل مرة، فقد شرط الغسل ثلاث مرات، وشرط العصر في كل مرة. وعن محمد رحمه الله في غير رواية الأصول: أنه إذا غسل ثلاث مرات وعصر في المرة الثالثة تطهر.

وفي «القدوري» ما لم تكن مرئية، فالطهارة موكولة إلى غلبة الظن، وقدرنا بالثلاث؛ لأن غلبة الظن يحصل عنده. وفي «شرح الطحاوي» إن كانت النجاسة غير مرئية كالبول وأشباه ذلك يغسله حتى يطهر ولا وقت في غسله ووقته سكون قلبه إليه. وهذا الذي ذكرنا من اشتراط الغسل ثلاث مرات مذهبنا. وقال الشافعي رحمه الله: إذا كانت النجاسة غير مرئية فإنه يطهر بالغسل مرة والعصر إلى أن يخرج الماء، وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله مثل قول الشافعي، وإنه ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في «المنتقى» عنه: أنه إذا غسل مرة واحدة ما معه طهر، فالشافعي رحمه الله اعتبر النجاسة الحقيقية بالنجاسة الحكمية، والنجاسة الحكمية تزول بالغسل مرة، وكذا الحقيقية، بل أولى لوجهين: أحدها: أن الحكمية أغلظ من الحقيقية لأن الحكمي، وإن قل يمنع جواز الصلوة، ولا يكون عفواً والحقيقي ما لم يكن كثيراً لا يمنع جواز الصلوة خصوصاً على أصلكم. والثاني: أن الحكمي لا يسقط اعتبارها عند عدم ما يزيلها، فإنه إذا لم يجد الماء وكان على بدنه نجاسة يصلي كذلك، وفي الحكمي ينتقل إلى التراب، فصح أن الحكمية أغلظ من الحقيقية والتقريب ما ذكرنا. ولنا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «إذا استيقظ من منامه، فلا يغمسن يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، إنه لا يدري أين باتت يده» فالنبي عليه السلام أمر بغسل اليد ثلاثاً من نجاسة غير مرئية إذا كانت متوهمة، فلأن يجب عن نجاسة متحققة أولى وأحرى. واعتبار النجاسة الحقيقية بالنجاسة الحكمية باطل؛ لأن الحكمية عرف ثبوتها بالحكم لا بالحقيقة، فيعرف زوالها بالحكم والحكم حكم بالزوال مرة واحدة، لما روي عن النبي عليه السلام «أنه توضأ مرة مرة، وقال «هذا وضوء من لا يقبل الله تعالى الصلاة إلا به» فقد حكم بزوالها مرة واحدة، فأما الحقيقية عرف ثبوتها بالحقيقة، فيعرف زوالها بالحقيقة، والحقيقية المرئية في الأغلب لا يزول إلا بالثلاث، فاعتبر غير المرئي بها ثم يشترط «الأصل» ثلاث مرات في ظاهر رواية الأصل، وإنه أحوط، وفي غير رواية الأصول يكتفي بالعصر مرة، وإنه أوسع وأرفق بالناس. وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «صلاة المستفتي» أن النجاسة إذا كانت بولاً أو ماءً نجساً وصب الماء عليه كفاه ذلك، ويحكم بطهارة الثوب على قياس قول أبي يوسف رحمه الله، فإنه روي عنه أن الجنب إذا اتزر في الحمام وصب الماء على جسده من جنب الظهر والبطن حتى خرج عن الجنابة ثم صب الماء على الإزار يحكم بطهارة

الإزار، وإن لم يعصره. وقال في رواية أخرى: إذا صب الماء على الإزار وأمرّ الماء يكفيه فوق الإزار فهو أحسن وأحوط، فإن لم يفعل يجزئه. وفي «المنتقى» شرط العصر على قول أبي يوسف رحمه الله، فقد روى ابن سماعة عنه في الثوب يصيبه مثل قدر الدرهم من البول، فصب عليه الماء صبة واحدة وعصره طهر، وكذلك إذا غمسه غمسة واحدة في إناء أو نهر جار وعصره، فإن ذلك يطهره وإن غمسه غمسة سابغة، فلم يطهره، قال الحاكم الشهيد رحمه الله يريد به إذا لم يعصره. وبعض مشايخنا قالوا على قول أبي يوسف إذا كانت النجاسة رطبة لا يشترط العصر، وإذا كانت يابسة يشترط. واستدلوا بما روي عنه أنه قال عقيب مسألة الجنب: إذا اتزر في الحمام وصب الماء على جسده ثم صب الماء على الإزار إنه يحكم بطهارة الإزار، ثم قال: وكذلك في الثوب، فقد عطف الثوب على الإزار ونجاسة الإزار رطبة؛ لأن نجاستها بنجاسة الماء المستعمل، فإن الماء المستعمل عند أبي يوسف نجس، ثم في كل موضع شرط العصر ينبغي أن يبالغ في العصر في المرة الثالثة، حتى يصير الثوب بحال لو عصر بعد ذلك لا يسيل منه الماء، ويعتبر في حق كل شخص قوته وطاقته ثلاثاً. و (لو) عصر في كل مرة ثم تقاطر منه قطرة، فأصاب شيئاً قال ينظر إن عصر في المرة (29ب1) الثالثة عصراً بالغ فيه حتى صار بحال لو عصر لم يسل منه، فالثوب طاهر واليد طاهرة وماتقاطر طاهر، وإن لم يبالغ في العصر في المرة الثالثة، وكان الثوب بحال لو عصر سال الماء، فالماء نجس، والثوب نجس، وما تقاطر نجس؛ لأن الأول بله والتحرز عنه غير ممكن، والثاني ماء والتحرز منه ممكن. ثم الغسل يكون بطرفين، تورد الماء على العين النجس بأن يصب الماء على العين النجس، ويغسل، ويورد الماء على العين النجس على الماء بأن يجعل الماء في طست ويلقى فيه الثوب النجس، والقياس: أن يطهر العين النجس سواء ورد الماء عليه أو ورد هو على الماء؛ لأن الماء لاقى النجاسة في الحالين، فينجس بأول الملاقاة وتحتمل الغسل بالماء النجس، ولكن ترك القياس حال ورود الماء على النجس، وحكم بالطهارة بالإجماع. وفي حال ورود النجس على الماء خلاف، والمسألة في «الجامع» ، وصورتها: إذا غسل الثوب النجس في إجانة ماء وعصر، ثم غسل في إجانة أخرى وعصر، ثم غسل في إجانة أخرى، وعصر فقد طهر الثوب والمياه كلها نجسة، هكذا ذكر المسألة في «الجامع» . وذكر بعد هذه المسألة في «الجامع» : إذا غسل العضو النجس في ثلاث إجانات فقد طهر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعند أبي يوسف رحمه الله: لا يطهر ما لم يصب عليه الماء صباً، ذكر الخلاف في فصل العضو ولم يذكره في فصل الثوب، والمشايخ المتأخرون يختلفون في ذلك، فمشايخ عراق على أن الخلاف في الفصلين

واحد عند أبي يوسف رحمه الله لا يطهر الثوب ما لم يصب عليه الماء صباً كالعضو، قيل وهكذا روى عنه في «النودار» ، ومشايخ بلخ رحمهم الله على أن الخلاف في فصل العضو لا غير، وفرقوا على قول أبي يوسف بين فصل العضو وبين فصل الثوب، قيل: وهكذا روى ابن سماعة في «نوادره» ، فإن حملنا فصل الثوب على الخلاف، فوجه قول أبي يوسف رحمه الله في الفصلين أن القياس أن لا يطهر العين النجس في الأحوال كلها؛ لأن الماء يلاقي النجس في الحالتين، فينجس بأول الملاقاة. ويحتمل بالماء النجس لكن عرفنا الطهارة حال ورود الماء عليه بالنص على ما مر، والنص الوارد حال ورود الماء عليه لا يكون وارداً حال وروده على الماء؛ لأن الماء حالة الصب على النجس بمعنى الماء الجاري؛ لأنه ينزل على الماء الذي تنجس بأول الملاقاة ماء طاهر مرة بعد أخرى، فيصير بمعنى الماء الجاري؛ لأن ما يلاقي النجس من الماء الجاري، يتنجس بأول الملاقاة ثم ينزل على ما يتنجس من الماء ماء طاهر مرة بعد أخرى فيطهره. وإذا أورد النجس على الماء لايرد على الماء الذي يتنجس ماء طاهر ليطهره، فيكون بمعنى الماء الراكد لا يرد عليه ماء طاهر مرة بعد أخرى، والماء الجاري أقدر على إزالة النجاسة، وألقى لها من الماء الراكد. ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أنا تركنا القياس حال ورود الماء على النجس ضرورة إمكان التطهير، يجب أن يترك القياس حال ورود النجس على الماء ضرورة إمكان التطهير أيضاً، أكثر ما في الباب أن الضرورة تندفع بورود الماء على النجس، إلا أنه ليس أحدهما بالتعيين بأولى من الآخر إذا كان كل واحد منهما مؤثراً أو كل واحد منهما مؤثر؛ لأن الماء تداخل أجزاء الثوب في الحالين، وبالعصر يخرج ويخرج النجاسة مع نفسه، ألا ترى أن أبا يوسف رحمه الله كما ترك القياس حال ورود الماء على النجاسة ضرورة إمكان التطهير، ترك القياس حال ورود النجاسة على الماء ضرورة إمكان التطهير، وإن كانت الضرورة تندفع بالماء ما كان الطريق إلا ما قلنا إن كل واحد منهما مؤثر، وليس أحدهما بالتعيين أولى من الأخرى كذا ههنا. وقوله بأن الماء حال وروده على النجس، يصير بمعنى الماء الجاري على ما قدر قلنا الماء الثاني والثالث يتنجس أيضاً بملاقاة النجاسة إياه إلا أن النجاسة في المرة الثالثة والثانية يكون أقل من النجاسة في المرة الأولى، لكن قليل النجاسة في تنجيس الماء القليل والكثير سواء، ثم وجب ترك القياس في أحد الموضعين ضرورة إمكان التطهير، فكذا في الباقي، وإن حملها فصل الثوب على الوفاق، فوجه الفرق لأبي يوسف بين الثوب وبين العضو أن في الثوب تركناالقياس، لتعامل الناس، فإن الناس يتعاملون بغسل الثياب في الإجانات من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا، والقياس يترك بالتعامل، والتعامل في العضو بصب الماء لا بإدخال العضو في الماء القليل، فيبقى فصل العضو على أصل القياس.

والدليل على ترك القياس في الثوب كان للتعامل، ما حكي عن الفقيه أبي إسحاق الحافظ رحمه الله: أنه لو غسل ثلاثة أثواب مختلفة في ثلاثة إجانات وعصرها في كل مرة لا تطهر؛ لأنه لا تعامل فيه، إنما التعامل في ثوب واحد، ثم إذا طهر الثوب بالغسل في الإجانات على قول من قال به طهرت الإجانة، لأن نجاسة الإجانة كانت تبعاً لنجاسة الثوب، فإذا طهر الثوب طهرت الإجانة بطريق التبعية، وهو نظير ما قلنا في طهارة الدلو والرشاء تبعاً لطهارة البئر، هذا إذا أصابت النجاسة شيئاً يتأتى فيه العصر. فأما إذا أصابت شيئاً لا يتأتى فيه العصر، فقام إجراء الماء فيه مقام العصر حتى حكي عن الفقيه أبي إسحق الحافظ رحمه الله: أنه إذا أصابت النجاسة البدن يطهر بالغسل ثلاث مرات متواليات؛ لأن العصر متعذر فقام التوالي في الغسل مقام العصر. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: خف بطانة ساقه من الكرباس، فدخل جوفه ماء نجس، فغسل الخف ودلكه باليد ثم ملأه بالماء ثلاثاً وأهراقه إلا أنه لم يتهيأ له عصر الكرباس، فقد طهر الخف وعلل ثمة فقال: لأن جريان الماء قد يقام مقام الغسل واستشهد، فقال: ألا ترى أن البساط النجس إذا جعل في نهر وترك فيه يوماً وليلة حتى جرى عليه الماء يطهر، وإذا أصابت النجاسة الأرض، فإن كانت رخوة طهرت بالصب عليها؛ لأنها صارت بمنزلة العصر في الثوب، وإن كانت صلبة فاندفع الماء عن موضع النجاسة طهر ذلك المكان، وينجس الموضع الذي انتقل الماء إليه، وإن لم ينتقل الماء عن ذلك المكان يحفر ذلك الموضع، هكذا ذكر القدوري رحمه الله، ومعنى قوله يحفر ذلك الموضع أنه يجعل أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها. وفي «الطحاوي» : إذا كانت الأرض محددة، وكانت صلبة، فإنه يحفر في أسفلها حُفيرة، فيصب الماء عليها، فيجمع الماء في تلك الحفيرة فيغسل الأرض ثم يكنس الحفيرة، وإن كانت الأرض مستوية وكانت صلبة، فلا حاجة إلى غسلها بل يجعل أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها ويطهر. وفي «الفتاوى» : البول إذا أصاب الأرض واحتيج إلى الغسل يصب الماء عليه عند ذلك وينشف ذلك ... أو خرقة، فإذا فعل ذلك ثلاثاً طهر وإن لم يفعل كذلك، ولكن صب عليه ماءً كثيراً حتى عرف أنه زالت النجاسة، ولا يوجد في ذلك لون ولا ريح ثم تركه حتى تنشفه الأرض كان طاهراً، وعن الحسن بن أبي مطيع رحمه الله قال: لو أن أرضاً أصابها نجاسة، فصب عليها الماء، فجرى عليها إلى أن أخذت قدر ذراع من الأرض طهرت الأرض، والماء طاهر ويكون ذلك بمنزلة الماء الجاري. وفي «المنتقى» : أرض أصابها بول أو عذرة ثم أصابها ماء المطر، وكان المطر غالباً قد جرى ماؤه عليه فذلك مطهر له، وإن كان المطر قليلاً لم يجر ماؤه عليها لم يطهر، ثم قال: وليغسل قدميه وخفيه؛ لأن غسل كل شيء إنما يكون على حسب ما يليق

بذلك الشيء واللائق بالأرض إجراء الماء عليه قد وجد إذا كان المطر غالباً، ولم يوجد إذا كان المطر قليلاً، فبقي نجساً، فإذا وضع عليها خفه أو قدمه فقد تنجس، فيجب الغسل، فإذا كان ذلك الموضع قد يبس قبل المطر، فلا يغسل (30أ1) قدميه يريد به إذا كان المطر قليلاً، وهذه إشارة إلى إحدى الروايتين في الأرض النجسة يبست ثم أصابها الماء. وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» عن أبي يوسف رحمهما الله أنه سئل عن غسل أرض أصابها نجاسة، قال: إذا صب عليها من الماء مقدار ما يغسل به ثوب أصابته هذه النجاسة ثلاث مرات، وعصر في كل مرة يطهر وطهرت الأرض بهذا المقدار، فبلغ هذا القول أبا عبد الله محمد بن سلمة رحمه الله، فأعجبه وقال: ما أحد أتى أبا يوسف رحمه الله إلا وجد عنده فائدة. حصير أصابه نجاسة، فإن كانت النجاسة يابسة لا بد من الدلك حتى تلين، وإن كانت رطبة إن كان الحصير من قصب أو ما أشبه ذلك، فإنه يطهر بالغسل ولا يحتاج فيه إلى شيء آخر؛ لأن النجاسة لا تدخل أجزاء القصب، بل تبقى على ظاهر، فيطهر بالغسل، وإن كان الحصير من بردي أو ما أشبه ذلك غسل ويوضع عليه شيء ثقيل أو يقوم عليه إنسان حتى يخرج الماء من أثنائه، هكذا ذكر في بعض المواضع ذكر عن الفقيه أحمد بن إبراهيم أن الحصير إذا كان من بردي يغسل ثلاثاً، ويجفف في كل مرة ويطهر عند أبي يوسف رحمه الله، خلافاً لمحمد رحمه الله.I وفي «شرح الطحاوي» أنه لا يؤقت في إزالة النجاسة إذا أصابت الحجر أو الآجر أو شيئاً من الأواني، بل يغسله مقدار ما يقع في أكبر رأيه أنه قد طهر، ويشترط مع ذلك أن لا يوجد منه طعم النجاسة ولا رائحتها ولا لونها، فأما إذا وجد هذه الأشياء لا يحكم بالطهارة قال ثمة: وسواء كانت الآنية من خزف أو غيره، وسواء كانت قديمة أو جديدة. وعن محمد رحمه الله أن الخزف الجديد إذا وقع فيه خمر أو بول أنه لا يطهر أبداً. وفي «النوازل» : إن تشربت النجاسة في النصاب بأن غمس السكين بماء نجس أو كان الخزف أو الآجر جديدين على قول محمد رحمه الله لا يطهر أبداً، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يمر الحديد بالماء الطاهر ثلاثاً ويغسل الآجر الجديد والخزف الجديد بالماء ويجفف في كل مرة ويطهر. وحدّ التجفيف أن يترك في كل مرة حتى ينقطع التقاطر وتذهب الندوة ولا يشترط اليبس. وعلى هذا الاختلاف الحنطة إذا أصابتها خمر وتشربت فيها وانتفخت من الخمر فغسلها عند أبي يوسف أن تنقع في الماء حتى تشرب الماء كما تشربت الخمر ثم تجفف، يفعل ذلك ثلاث مرات ويحكم بطهارتها عند أبي يوسف، وقيل: مثل هذا في غسل الخزف الجديد أن يوضع في الماء حتى يتشرب فيه الماء كالنجاسة، ويطهر في قول أبي يوسف. ورأيت في «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله ثوب كان فيه خمر فتطهيره أن يجعل الماء فيه ثلاث مرات كل مرة بساعة إذا كان الثوب جديداً.

إذا أصابت الحنطة الخمر إلا أنها لم تنتفخ من الخمر فغسلت ثلاثاً ولا يوجد لها طعم ولا رائحة ذكر في بعض المواضع عن أبي يوسف أنه لا بأس بأكلها، وفي «شرح الطحاوي» : أنه لا يحل أكلها، وكأن المذكور في «شرح الطحاوي» قول محمد رحمه الله. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله لو طبخت الحنطة بخمر حتى تنتفخ وتنضج فطبخت بعد ذلك ثلاث مرات وانتفخت في كل مرة وجفت بعد كل طبخة فلا بأس بأكلها وفيه أيضاً: الدقيق إذا أصابه خمر لم يؤكل وليس لهذا حيلة. وفيه أيضاً: قدر يطبخ فيه لحم وقع فيه خمر فغلى فيه لا يؤكل، وهذا قول محمد رحمه الله، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يطبخ بالماء ثلاث طبخات ويرد بعد ذلك كل طبخة ويؤكل. وفي مسائل: امرأة تطبخ بقدر فطار طير ووقع في القدر ومات لا تؤكل المرقة بالإجماع لأنه تنجس بموت الطير فيه، وأما اللحم ينظر إن كان الطير وقع في القدر حالة الغليان لا يؤكل لأن النجاسة سرت فيه، وإن كان الطير قد وقع في القدر حالة السكون يغسل ويؤكل، وهذا قول محمد رحمه الله: فأما على قول أبي يوسف رحمه الله: إذا كان الوقوع في القدر حالة الغليان يطبخ في الماء ثلاث مرات ويرد في كل مرة ويؤكل. وكذلك الجمل المشوي إذا كان في بطنها بعر فأصابت بعض اللحم في حالة الشي، فطريق غسله ما ذكرنا عند أبي يوسف رحمه الله. أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله: رجل اتخذ من سمك وملح وخمر إذا صار مرقاً فلا بأس للأثر الذي جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وأبو يوسف رحمه الله يقول كذلك إلا في مسألة واحدة أن السمك إذا كان هو الغالب والخمر قليل فأراد أن يتناول شيئاً منه ليس له ذلك وهو كالخبز عجن بالخمر وإذا كان غالباً وتحول الخمر عن طبيعتها إلى المرق فلا بأس بذلك. وفيه أيضاً عن أبي يوسف رحمه الله لو أن رجلاً اتخذ من الخمر طيباً أو ألقى فيه ... فإنه لا يحل له أن يتطيب به وأن..... به، ولا يحل له بيعها لأن ذلك لا يغيرها عن طبها. وكذلك ما خالط الخمر من الإدام فإن الخمر يحرمه ماخلاً حصيلة واحدة أن تكون الخمر غالبة فتتحول عن طباعها إلى الحل أداء المرئي. وعن أبي يوسف رحمه الله: لو أن رغيفاً من الخبز المعجون بالخمر وقع في دنّ خلّ وذهب فيه حتى لا يرى فلا بأس بأكل الخل، فأما الرغيف نفسه فلا يؤكل، وفيه أيضاً لو أن خرقة أصابها خمر ثم سقطت في دن خل فلا بأس بأكل الخل، ولو وقع رغيف طاهر في خمر ثم وقع في خل طهر الخل. ورأيت في موضع آخر الرغيف إذا وقع في الخمر ثم تخلل فههنا اختلف المشايخ فيه، إذا أصابت النجاسة خُفاً أو نعلاً لم يكن لها جرم كالبول والخمر فلا بُدّ من الغسل رطباً كان أو يابساً.

وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله إذا أصاب نعله بول أو خمر ثم مشى على التراب أو الرمل ولزق به بعض التراب وجف ومسحه بالأرض يطهر عند أبي حنيفة رحمه الله وهكذا ذكر الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة رحمه الله. وهكذا ذكر الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة رحمهما الله، وعن أبي يوسف رحمه الله مثل ذلك إلا أنه لم يشترط الجفاف. وأما التي لها جرم إذا أصابت الخف أو النعل فإن كانت رطبة لا تطهر إلا بالغسل، هكذا ذكر في «الأصل» ألا ترى أن الرطوبة التي فيها لو أصابته لا يطهر إلا بالغسل فكذا إذا أصابته مع غيرها، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا مسحه في التراب أو الرمل على سبيل المبالغة يطهر، وعليه فتوى من مشايخنا للبلوى والضرورة. وإن كانت النجاسة يابسة يطهر بالحت والحك عند أبي يوسف. وقال محمد رحمه الله لا تطهر إلا بالغسل، الصحيح قولهما لقوله عليه السلام: «إذا أتى أحدكم المسجد فليقلب نعليه وإن كان بهما أذىً فليمسحهما بالأرض فإن الأرض لهما طهور» . والمعنى فيه أن الجلد شيء صلب لا تتسرب فيه رطوبات النجاسة إلا بعد زمان وجرم النجاسة ... يبس قل أن تتشرب في الجلد الرطوبة وتجذب بأعلى النعل من الرطوبة إلى نفسه، فإذا حكّه وحتهّ يزول الجرم وتزول الرطوبة معه ولا يبقى معه إلا شيء قليل والقليل من النجاسة معفو وعن محمد رحمه الله أنه رجع عن هذا القول بالري لما رأى من كثير السرقين في طرقهم، قال القدوري رحمه الله في «شرحه» : معنى قول أبي حنيفة رحمه الله في هذه المسألة أن الخف والنعل يطهر لجواز الصلاة معه. أما لو أصابه الماء بعد ذلك يعود نجساً على إحدى الروايتين وأصل المسألة: الأرض إذا ثبت أصل النجاسة فيها ثم أصابها الماء فإنه يعود حكم النجاسة على إحدى الروايتين، وجعل القدوري رواية عود النجاسة في الأرض بإصابة الماء «ظاهر الرواية» ثم إن محمداً رحمه الله ذكر في «الجامع الصغير» في النجاسة التي لها جرم إذا أصابت الخف أو النعل وحكّه أو حتّه بعدما يبس إنه يطهر في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وذكر في «الأصل» : إذا مسحه بالتراب يطهر، قال مشايخنا لولا المذكور في «الجامع الصغير» لكنا نقول لا يطهر ما لم يمسحه بالتراب لأن المسح بالتراب له أثر في باب الطهارة، فإن محمداً رحمه الله قال: المسافر إذا أصابت (30ب1) يده نجاسة يمسحه بالتراب، وأما الحك فلا أثر له في باب الطهارة فالمذكور في «الجامع الصغير» من أن للحك أثراً كما أن للمسح بالتراب أثراً، ثم إذا وجب غسل الخف أو النعل في الموضع الذي وجب فإن كان الجلد يشف رطوبات النجاسة فقد قال بعض مشايخنا: إنه

لا يطهر أبداً على قول محمد رحمه الله إذا كان لا يمكن عصره، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله ينقع ثلاثاً في ماء طاهر ويجفف في كل مرة في رواية، وفي المرة الثالثة في رواية، وقاسوا الخف والنعل على الخزف الجديد والآجر الجديد وسائر المسائل التي مرّ ذكرها من هذا الجنس. وبعض مشايخنا قالوا هذا التفصيل خلاف ظاهر لفظ محمد رحمه الله، فإن محمداً رحمه الله قال: لا يجزئه حتى يغسل موضع النجاسة في الخفٍ وغيره من غير فصل بين خف وخف وهو الظاهر، فإن.... الذي يتخذ منه الخف والنعل أو لا ينقع في الماء ويعالج بالدهن والشحم فلا يتسرب منه رطوبات النجاسة فلايكون نظير الكوز والحب. ولأجل هذا المعنى مال بعض مشايخنا (إلى) اشتراط التجفيف في الخف، ألا ترى إلى ما حكي عن أبي القاسم الصفار رحمه الله في الرجل يستنجي ويجري ماء استنجائه بين رجليه وخفه ليس بمنخرق أن له أن يصلي مع ذلك الخف لأن الماء الآخر يطهر خفه كما يطهر موضع استنجائه ولم يشترط الجفاف، فعلى قول هذا القائل الخف أو المكعب إذا أصابته نجاسة يغسل ثلاث مرات بدفعة واحدة ويحكم بطهارته. والمختار أنه يغسل ثلاث مرات ويترك في كل مرة حتى ينقطع التقاطر وتذهب الندوة ولا يشترط اليبس وفي «مجموع النوازل» : الخف الخراساني الذي صرمه موشًّى بالغزل حتى صار ظاهر الصرم كله غزلاً فأصابه نجاسة فحته وصلى فيه، قال نجم الدين النسفي رحمه الله: لا تجوز صلاتهُ إلا إذا غسله بالماء ثلاثاً وجففه في كل مرة، وحكم هذا حكم الثوب لا حكم الخف أو السيف أو السكين إذا أصابه بول أو دم. ذكر في «الأصل» أنه لا يطهر إلا بالغسل. فإن أصابه عذرة إن كانت رطبة فكذلك الجواب، وإن كانت يابسة طهرت بالحت عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد رحمه الله لا يطهر إلا بالغسل. والكرخي رحمه الله ذكر في «مختصره» أن السيف يطهر بالمسح من غير فصل بين الرطب واليابس وبين العذرة والبول، وعلل فقال: لأن السيف متى صقل لا تتداخل النجاسة في أجزائه بل تبقى على ظاهره، فإذا مسحها لا يبقى إلا شيء قليل وذلك غير معتبر. وفي «الفتاوى» سئل أبو القاسم عمن ذَبَحَ بالسكين ثم مسح السكين على صوفها أو بما يذهب به أثر الدم عنه يطهر، وعنه أنه لحس السيف بلسانه حتى ذهب الأثر فقد طهر، وعن أبي يوسف رحمه الله أن السيف إذا أصابه دم أو عذرة فمسحت بخرقة أو تراب إنه يطهر حتى لو قطع بطيخاً بعد ذلك أو ما أشبهه كان البطيخ طاهراً ويباح أكله، وقد صح أن الصحابة كانوا يقتلون الكفار بسيوفهم ويمسحون السيوف ويصلون معها. وإذا وقع على الحديد نجاسة من غير أن يمره بها فكما يطهر بالغسل يطهر بالمسح بخرقة طاهرة أيضاً، إذا كان الحديد صقيلاً غير خشن كالسيف والسكين والمرآة ونحوها.

الحديد إذا أصابه نجاسة فأدخله في النار قبل أن يمسحه أو يغسله، ينبغي أن يطهر إذا ذهب أثر النجاسة ويكون الحرق كالغسل، ألا ترى إلى ما ذكر في «الفتاوى» : إذا أحرق رجل رأس شاة ملطخ وزال عنه الدم فإنه يحكم بطهارته كذا هنا بخلاف ما إذا مرّ الحديد بالماء النجس على قول محمد رحمه الله لأن النجاسة تسير فيه بالتمويه، أما بدون التمويه لا تتسرب فيه النجاسة بل يبقى على ظاهره فتزول بالإحراق. وإذا سعرت التنور ثم مسحه بخرقة مبتلة نجسة ثم حرقت فيه فإن كانت حرارة النار أكلت بلّة الماء قبل إلصاق الخبز بالتنور لا يتنجس الخبز لأن النجاسة لا تبقى إذا نشف التنور بالنار كما لا تبقى نجاسة الأرض إذا يبست بالشمس. قال الزنرويستي رحمه الله في «نظمه» : شيئان يطهران بالجفاف: الأرض إذا أصابها نجاسة فجفّت ولم يُرَ أثرها جازت الصلاة فوقها. والتلة والحشيش وما نبت في الأرض إذا أصابتها النجاسة فجفت طهرت لأنها من نبات الأرض والأرض تطهر بهذا فكذا نباتها. ورأيت في موضع آخر أن الكلأ أو الشجر ما دام قائماً على الأرض ففي طهارته بالجفاف اختلاف المشايخ، وحكى الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله أنه قال: الحمار إذا بال على السك فوقع عليه الظل ثلاث مرات والشمس ثلاث مرات فقد طهر ويجوز عليه الصلاة الحشيش إذا أصابه النجاسة وأصابه المطر بعد ذلك كان له بمنزلة الغسل. وفي بعض النسخ حكم الحصى حكم الأرض إذا تنجست فجفت وذهب أثرها، يريد به: إذا كان الحصى في الأرض متداخلاً، فأما إذا كان على وجه الأرض لا يطهر، وكذا الحجر على وجه الأرض إذا أصابته نجاسة. في «متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله، والآجرة إذا كانت مفروشة فحكمها حكم الأرض تطهر بالجفاف وإن كانت موضوعة تُنقل، وتجول من مكان إلى مكان لا بُدّ من الغسل، وكذلك اللبنة إذا أصابتها نجاسة وهي غير مفروشة لا تطهر بالجفاف، وإن كانت مفروشة وصلى عليها بعد الجفاف يجوز لأن في الوجه الثاني صارت من وجه الأرض بخلاف الوجه الأول، فإن خلعت بعد ذلك هل تعود نجسة؟ ففيه روايتان. الخف أو النعل أو الثوب إذا أصابه مني فإن كان رطباً فلا بُدّ من الغسل. وإن كان يابساً يجوز فيه الفرك، عرف ذلك ما روت عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال لها: «إذا وجدت المني على الثوب، فإن كان رطباً فاغسليه وإن كان يابساً فافركيه» . قال الفقيه أبو إسحاق الحافظ رحمه الله: المني اليابس إنما يطهر بالفرك إذا كان رأس الذكر طاهراً وقت خروجه بأن كان بال واستنجى، أما إذا لم يكن طاهراً لا يطهر

قالوا: وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله، قيل أيضاً: إذا كان رأس الذكر طاهراً إنما تطهر الثياب بالفرك إذا خرج المني قبل خروج المذي، فأما إذا خرج المذي على رأس الإحليل ثم خرج المني لا يطهر الثوب بالفرك. وإذا فرك المني اليابس عن الثوب وحكم بطهارة الثوب ثم أصاب الماء ذلك الثوب هل يعود نجساً فهو على الروايتين، وقد مرّ نظير هذا فيما تقدم. وإذا كانت النجاسة على بدن الآدمي ذكر في «الأصل» أنها لا تطهر إلا بالغسل رطباً كان أو يابساً لها جرم أو لا جرم لها. وفي «القدوري» : لا يطهر شيء كان فيه نجاسة من ثوب أو بدن إلا بالغسل إلا المني فإنه يجوز فيه الفرك إذا كان يابساً على الثوب، وإن كان على البدن لا يكتفى بالحتّ ويغسل في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله، لأن البدن لا يمكن أن يفرك ولأن لمس البدن وتجاذ به فلا يزول بالحت منه ما يزول بالفرك في الثوب فبقي على الأصل. وذكر الكرخي رحمه الله مسألة المني في «مختصره» وذكر أنها تطهر بالفرك من غير فصل بين العضو وغيره. ويجوز إزالة النجاسة من الثوب والبدن بكل شيء ينعصر بالعصر كالخل وبماء الريق في قولهما، وقال محمد وزفر لا يزول إلا بالماء، وروي عن أبي يوسف في البدن كذلك، وفرّق أبو يوسف رحمه الله على هذه الرواية بين الثوب والبدن ووجه الفرق: أن البدن كما يقبل النجاسة الحقيقية يقبل النجاسة الحكمية ثم النجاسة الحكمية اختص زوالها بالماء فكذا النجاسة الحقيقية ولا كذلك الثوب. وفي «المنتقى» رجل على ساقه دم أخذ كفّاً من ماء وغسل به ذلك الدم وسال الماء على يده أجزأه وطهّره، ولو غمس يده في الماء ولم يأخذ في يده شيئاً منه ثم مسح به موضع الدم حتى ذهب أثره لم يجزه، يريد به إذا مسح موضع الدم بعدما أخرجه من الماء، أما لو مسح به في الماء حتى ذهب أثره يجزئه وهذا ظاهر. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: كل ما غسل به الثوب من شيء نحو الدم وأشباهه يخرج منه الدم بعصره فانعصر حتى سال فقد أذهب النجس. قال: والأدهان لا تخرج الدم لأن لها رسوبة ولصوقاً بالمحل فلا يقدر على الاستخراج. قال: ولو غسله بلبن أو خل فانعصر موضع الدم (31أ1) . حتى خرج من الثوب فقد طهر، وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمه الله إذا غسل الدم من الثوب بدهن أو سمن أو زيت حتى يذهب أثره جاز، ولو أصاب يديه لم يجز إلا أن يغسله بالماء، وقد ذكرنا الفرق بين البدن والثوب على رواية أبي يوسف. وفي «المنتقى» وقال أبو يوسف في المحتجم لا يجزئه أن يمسح الدم عن موضع الحجامة حتى يغسله، قال الحاكم: رأيت عن أبي حفص عن محمد بن الحسن رحمهم الله أنه إذا مسحه بثلاث خرق رطاب نظاف أجزأه. وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد في حمار وقع في الملاحة ومات وترك حتى صار ملحاً أكل الملح، وقال أبو يوسف: لا يؤكل، وكذلك رماد عذرة أحرقت وصلى عليه

على هذا الاختلاف، وحكى أبو عصمة: خشبة لو أصابها بول فاحترقت ووقع رمادها في بئر قال أبو يوسف رحمه الله يفسد الماء، وقال محمد رحمه الله: لا يفسد. الطين النجس إذا جعل منه الكوزأ والقدر فطبخ يكون طاهراً. إذا قاء ملء الفم ينبغي أن يغسل فاه، فإن لم يغسل ومضى زمان ينبغي أن تجوز صلاته في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ويطهر فمه ببزاقه. وعلى هذا إذا شرب الخمر وصلى بعد زمان، وإذا شرب الخمر ونام وسال من فمه شيء على وسادته إن كان لا يرى عين الخمر ولا يوجد رائحته ينبغي أن يكون طاهراً، على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله عليهما بناء على ما قلنا. العنب إذا تنجس يغسل ثلاثاً ويؤكل، وضع المسألة في «مجموع النوازل» في العنقود إذا أكل الكلب بعضه وذكر أنه يغسل العنقود ثلاثاً ويؤكل. كذا قال ثمة وكذا يفعل بعد يبس العنقود، ولو عصر عنباً فأدمى رجله وسال في العصير والعصير يسيل ولا يظهر أثر الدم فيه قال لا ينجس العصير، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمه الله عليهما كما في الماء الجاري. الفأرة إذا وقعت في دن تشاسته ومات واين تشاسة وسيده بودشت، قال الشيخ الإمام نجم الدين رحمه ا: أقتاده باشدكه آب درخم كرد بودنه ديك رود شرخم كشاده بوداب دنكر رنجيشد دشرخم يستندوبعه أن جنه سبانروز سرخم كسادنه موش ماقنية اما سيده أماومعلوم شه كه موشرهم ان اول انذر اقتاده اشت قال الاحتياط في هذا أن يُراق لأن القلب لا يسكن إلى طهارته وزوال نجاسته، ولو بذر هذا في الأرض صار نجساً وهذا الذي ذكر قول محمد رحمه الله أما على قول أبي يوسف رحمه الله يغسل التساستح ثلاثاً ويجفف في كل مرة ويحكم بطهارته. رجل اتخذ عصيراً في خابية فغلى واشتد وقذف بالزبد وانتقص مما كان ثم صارت خلاً طهر الحب كله حتى يخرج الخل طاهراً إذا زالت رائحة الخمر، هكذا وقع في بعض الكتب، وفي بعضها: إذا تخلل وتطاول مكثه في الدن طهر الحب كله، ولو رفع من الدن كما تخلل من غير مكثه فالموضع الذي لوّث بالخمر نجس، فأما إذا عالج ذلك الموضع بالخل على أن يتطاول مكثه فعلى قول من يرى إزالة النجاسة الحقيقية بغير الماء يطهر الدن الذي فيه العصير. إذا غلى واشتد وصار خمراً وعلى رأسه ... فرفع ذلك ... بعد زمان يعني بعدما صار خلاّ وتطاول مكثه فإنه يكون طاهراً لو وضع على قدر مرقة لا تتنجس المرقة أما إذا رفع قبل أن يصير خلاً فإنه يكون نجساً فتنجس المرقة وكذلك إذا رفع بعدما صار خلاً ولكن قبل أن يتطاول مكثه. وقع كوز من خمر في دن خل أو صب فيه ولا يوجد طعمها ولا رائحتها يباح الخل

الفصل الثامن في الحيض

من ساعته. ولو وقع قطرة من خمر في دن خل لا يباح خل من ساعته، والفرق: أن الخمر الذي في الكوز كثير لو لم يتغير المصبوب ولو لم يصر خلاً توجد رائحته، فإذا لم يوجد علمنا أنه تغير وصار خلاً، فأما القطرة فشيء قليل لا يكون لها رائحة فلا يستدل بعدم الرائحة على التغيير، فلعل أنها على حالها ولم تتغير فلا يحكم بالخل في الحال. هكذا ذكر في «مجموع النوازل» وينبغي أن يقال في القطرة: إذا كان غالب ظنه أنه صار خلاً يطهر. الخمر إذا وقع في الماء، والماء إذا وقع في الخمرة صار خلاً ففيه اختلاف المشايخ، واختار الصدر الشهيد رحمه الله أنه يطهر، وكذلك في خل..... اختلف المشايخ فيه واختياره أنه يطهر. وإذا صب الخل المتنجس في الخمر حتى صار الكل خلاً تبقى النجاسة في الكل، وإذا وقعت فأرة في دن خمر وصارت الخمر خلاً فقد اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: يباح تناول الخل وقال بعضهم: لا يباح، وقال بعضهم: إن تفسخت الفأرة فيها لا يباح، وإن لم تتفسخ يباح. الكلب إذا وقع في عصير فتخمّر العصير ثم تخلل لا يحل شربه لأن لعاب الكلب فيه قائم وإنه لا يصير خلاً، وعلى قياس خل.... ينبغي أن يحلّ شربه..... الحديدة إذا أصابها نجاسة فبالغسل ثسلاثاً تطهر ظاهراً لا باطناً حتى لو وقع قطعة منها في ماء قليل يتنجس الماء. الفصل الثامن في الحيض ثوب أصابه عصير ومضى على ذلك أيام إلا أنه يوجد منه رائحة الخمر لا يحكم بنجاسته لأن العصير لا يصير خمراً في الثوب والله أعلم بالصواب. هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه في تفسيره بيان فنقول: الحيض لغة: اسم لدرور الدم من أي شخص كان، تقول العرب حاضت الأرنب إذا خرج الدم من فرجها. وشرعاً: اسم لدم دون دم، فإنها: اسم لدم خارج من رحم المرأة، فأما الخارج من فرج المرأة دون الرحم فهو استحاضة وليس بحيض شرعاً، الدليل عليه ما روي أن فاطمة بنت حبيش سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّموقالت: «إني امرأة أستحاض فلا أطهر الشهر والشهرين فقال عليه السلام: ليس تلك بالحيضة إنما هي دم عرق انقطع فإذا أجليت

الحيضة فدعي الصلاة أيام أقرائك ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة» . وفي «الفتاوى» لأبي الليث رحمه الله: أن الدم الخارج من الدبر لا يكون حيضاً، ويستحب لها أن تغتسل عند انقطاع الدم. وإن أمسكت زوجها عن الاستمتاع بها أحب إلي لجواز أنها خرجت من الرحم، ولكن من هذ السبيل. ثم الدم الخارج من الرحم نوعان: حيض ونفاس، فالنفاس: هو الدم الخارج بعقب الولادة وسيأتي الكلام فيها في نوعها وأما الحيض: فقد قال الكرخي رحمه الله في «مختصره» الحيض: الدم الخارج من الرحم تصير المرأة بالغة بالبداية بها. كان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يقول: الحيض هو الدم التي ينفضها رحم المرأة السالمة عن الداء والصغر والله أعلم. (نوع آخر) في بيان الدماء الفاسدة التي لا يتعلق بها حكم الحيض. وإنها كثيرة فمن جملة ذلك القاصر ... عن أقل مقدار الحيض لأنه مقدر شرعاً، والتقدير الشرعي يمنع أن يكون لما دون المقدر حكم المقدر، وعند ذلك يحتاج إلى بيان أقل مقدار الحيض فيقول: أقل الحيض مقدر بثلاثة أيام ولياليها في «ظاهر رواية» أصحابنا، وروى ابن سماعة في «نوادره» وأبو سليمان في «نوادر الصلاة» عن أبي يوسف رحمه الله أنه يومان والأكثر من اليوم الثالث، وجه «ظاهر الرواية» ما روى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام» وقال عليه السلام لفاطمة بنت حبيش: «دعي الصلاة أيام أقرائك» . والأيام اسم جمع وأقل الجمع ثلاثة. وعن عمر وعثمان وعلي وزيد وثابت وابن مسعود وابن عباس وابن عمر ومعاذ وأنس بن مالك وعائشة وجابر وعبد الله وعثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنهم مثل مذهبنا. ومن جملة ذلك الدم الذي جاوز أكثر مدة الحيض فإن أكثر الحيض مقدر شرعاً والتقدير الشرعي يمنع أن يكون لما فوق المقدر حكم المقدر كيلا تفوت فائدة التقدير. وفي هذا المقام يحتاج إلى بيان أكثر مقدار الحيض فنقول: أكثر الحيض عشرة أيام، وقال الشافعي: خمسة يوماً، فالحجة لعلمائنا ما روينا من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه. ومن جملة ذلك الدم المتخلل في أقل مدة الطهر ولا يمكن معرفة ذلك إلا بعد معرفة أقل الطهر وأقله خمسة عشر يوماً عندنا، وقال عطاء بن أبي رباح ويحيى بن أكثم

ومحمد بن شجاع رحمهم الله إنه تسعة عشر يوماً، هم يقولون: إن الشرع أقام الشهر في حق الآيسة والصغيرة مقام الحيض والطهر إذ هما يوجدان في الشهر عادة والشهر قد ينتقص بيوم، والحيض لا يزيد على عشرة فيبقى الطهر تسعة عشر، وعلماؤنا قالوا: إن مدة الطهر نظير مدة الإقامة من حيث إنه يجب فيها ما كان سقط من الصوم والصلاة. ثم أقل مدة الإقامة تقدر بخمسة عشر يوماً على ما عرف في موضعه فكذا أقل مدة الطهر، وقد قسنا أقل مدة الحيض بأقل مدة السفر من حيث إن كل واحد يؤثر في الصوم والصلاة، فجاز لنا أن نقيس أقل مدة الطهر بأقل مدة الإقامة من حيث إن كل واحد يؤثر في الصوم والصلاة أيضاً. وأما أكثر مدة الطهر فالمنقول من أصحابنا أنه لا غاية له. وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحواني رحمه الله يقول: قول أصحابنا لا غاية له أن كانوا عَنَوا به أن الطهر طهر وإن طال فصحيح، وإن عنوا به أن الطهر الذي يصلح لنصب العادة عند وقوع الحاجة إليه لوقوع الاستمرار غير مقدر، فهو ليس بصحيح بل هو مقدر عندهم جميعاً إلا عند أبي عصمة سعد بن معاذ المروزي رحمه الله فإنه لا يقدر طهرها بشيء إذا احتيج إلى بقية العادة لها إذا استمر بها الدم وصلت أيامها لكنها تبني على ما رأت وإن امتدت. وعامة مشايخنا قالوا بتقديره واختلفوا فيما بينهم، وبيان هذا: مبتدأة رأت عشرةً دماً وستةً طهراً واستمر بها الدم. قال أبو عصمة سعد بن معاذ: حيضها وطهرها ما رأت لأنها (رأت) دماً صحيحاً وطهراً صحيحاً والمبتدأة إذا رأت دماً صحيحاً وطهراً صحيحاً يجعل ذلك عادة لها حتى إن على قوله تنقضي عدتها إذا طلقها زوجها بثلاث سنين وثلاثين يوماً. وقال محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله: تجعل عادتها من الطهر ستة أشهر إلا ساعة اعتباراً بمدة الحبل، فإن أقل مدة هي طهر كلها ستة أشهر مدة الحبل، غير أن مدة الحبل تكون أمد من مدة الطهر عادة فينقص عنها شيء ليقع الفرق بينهما. وأقل ذلك ساعة حتى إن عدة هذه المرأة إذا طلقها زوجها على قول محمد بن إبراهيم الميداني تنقضي عدتها ثمانية عشر شهراً إلا ثلاث ساعات لجواز أن يكون وقوع الطلاق عليها في حالة الحيض فيحتاج إلى ثلاثة أطهار كل طهر ستة أشهر إلا ساعة وإلى ثلاث حيض كل حيض عشرة أيام. وقال بعضهم: تجعل عادتها من الطهر سبعة وعشرون يوماً لأن المرأة ترى الدم والطهر في كل شهر عادة. وأقل الحيض ثلاثة أيام، فيجعل الباقي وذلك سبعة وعشرون طهراً ثم تكمل الحيض عشرة أيام مع هذه الثلاثة في الثاني وهكذا دأبها ما دام بها الاستمرار عشرة حيضها وسبعة وعشرون طهرها. وقال أبو علي الدقاق: يجعل عادتها من الطهر سبعة وخمسون يوماً. وكان أبو عبد الله الزعفراني رحمه الله يجعل عادتها من الطهر ستون يوماً

وحيضها عشرة، وهكذا أثبته الحاكم الشهيد في المختصر. ومن جملة ذلك ما تراه الحامل من الدم فقد ثبت عندنا أن الحامل لا تحيض، وكذا روي عن عائشة رضي الله عنها وعرف أن المرأة إذا حبلت يُسدّ فم رحمها فلا يكون ذلك الدم خارجاً من الرحم فكان فاسداً. ومنها الدم الذي جاوز أكثر مدة النفاس فإن أكثر النفاس مقدر شرعاً، والتقدير الشرعي ينفي أن يكون لما فوق المقدر حكم المقدر حتى لا تبطل فائدة التقدير وفي هذا المقام يحتاج إلى معرفة أكثر مدة النفاس، وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى. ومن جملة ذلك ما تراه الصغيرة جداً من الدم لأن هذا دم سبق أوانه فلا يعطى له حكم الحيض، إذ لو أعطي له حكم الحيض يحكم ببلوغها، وإنه محال في الصغيرة. هذا واختلف في أدنى المدة التي يحكم ببلوغ الصغيرة فيه برؤية الدم، فكان محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله يقدرها بتسع سنين لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه تزوج عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين وبنى بها وهي بنت تسع سنين. والظاهر أنه كان يبني بها بعد البلوغ. وكان لأبي مطيع البلخي بنّية صارت جدة وهي بنت تسع عشرة سنة وكان أبو مطيع يقول فضحتنا هذه الجارية. وبعضهم قدروها بسبع سنين قال عليه السلام: «مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعاً» والأمر للوجوب، ولا وجوب إلا بعد البلوغ. ولا تصور له إلا في هذا الموضع. وقد سئل أبو نصر محمد بن محمد بن سلام البلخي عن بنت ست سنين إذا رأت الدم هل يكون حيضاً؟ قال: نعم إذا تمادى هذا مدة الحيض فلم يكن نزوله عن آفة. وأكثر مشايخ زماننا على ما قاله محمد بن مقاتل، وبعض مشايخ زماننا قدروا ذلك بثنتي عشر سنة. فإذا رأت الدم وهي صحيحة لأداء بها فهو حيض وإلا فهو من المرض، والأغلب في زماننا رؤية الدم في ثلاثة عشر سنة أو في أربع عشر سنة. وأصحابنا المتقدمون لم يجدوا في ذلك حدّاً لأن ذلك يختلف باختلاف الهواء وباختلاف البلدان والبيئة ولكن قالوا: إذا بلغت مبلغاً فرأت الدم ثلاثة أيام فهو حيض. ومن جملة ذلك ما تراه الكبيرة جدّاً هكذا وقع في بعض الكتب. وقد ذكر محمد رحمه الله في «نوادر الصلاة» أن العجوز الكبيرة إذا رأت الدم مدة الحيض فهو حيض. قال محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله رواية «النوادر» محمولة على ما إذا لم يحكم بإياسها، فأما إذا انقطع الدم وحكم بإياسها وهي بنت تسعين سنة أو نحوه فرأت الدم بعد ذلك لا يكون حيضاً كما وقع في بعض الكتب، وهو مروي عن عطاء بن أبي رباح

والشعبي وجماعة من التابعين رحمهم الله. وكان محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله يقول: ما ذكر في «النوادر» محمول على ما إذا رأت دماً سائلاً و (ذلك) حيض، وما وقع في بعض الكتب محمول على ما إذا رأت بلة مدة يسيرة وذلك ليس بحيض، وعامة المشايخ أن على رواية «النوادر» لا تقدير في حد الآيسة بالستين. وتفسير الآيسة على هذه الرواية أن تبلغ من السن ما لا يحيض مثلها، فإذا بلغت هذا المبلغ وانقطع دمها يحكم بإياسها. فإن رأت بعد ذلك دماً فلا يكون حيضاً على هذه الرواية ويظهر كونها حيضاً في حق بطلان الاعتداد بالأشهر، وفي حق فساد الأنكحة. وعلى رواية بعض الكتب لحد الآيسة تقدير واختلفت الأقاويل في التقدير: قال بعضهم: إذا بلغت المرأة مبلغاً لا تحيض نساء تلك البلدة في ذلك المبلغ. ولم يرد ما يحكم بإياسها. وقال بعضهم: يعتبر إبراؤها من قرائنها وقال: يعتبر ستركيبها وهذا لأن طبائع النساء يختلف باختلاف الهواء والبلدان والأغذية، ألا ترى أن المرأة المنعمة يبطىء إياسها والفقيرة البائسة يسرع إياسها فلا يمكن التقدير فيهن بالزمان فقدرنا ببراءتها وتركيبها وكثير من المشايخ منهم أبو علي الدقاق اعتبروا ستين سنة، وهو مروي عن محمد رحمه الله أيضاً: واعتبر بعضهم خمسين سنة وهو مذهب عائشة رضي الله عنها فقد روي عنها أنها قالت: إذا بلغت المرأة خمسين سنة لم يُرَ في بطنها قرة عين. ومشايخ مرو أفتوا بخمس وخمسين سنة، وكثير من مشايخ بخارى كذلك أفتوا بخمس وخمسين سنة وهو أعدل الأقوال، فإن رأت بعد ذلك دماً هل يكون حيضاً؟ على هذه الرواية اختلف المشايخ فيه قال بعضهم لا يكون حيضاً ولا يبطل به الاعتداد بالأشهر لأن الحكم بالإياس بعد خمسين سنة وأشباه ذلك كان بالاجتهاد. والدم حيض بالنص وإذا رأت الدم فقد وجد النص بخلاف الاجتهاد فيبطل حكم الإياس الثابت بالاجتهاد، وهذا القائل يقول: الدم المرئي بعد هذه المدة إنما يكون حيضاً إذا كان أحمر أو أسود، فإذا كان أخضر أو أصفر لا يكون لأن كون هذا المرئي حيضاً ثبت بالاجتهاد فلا يبطل حكم الإياس الثابت بالاجتهاد فعلى قول هذا القائل يبطل الاعتداد بالأشهر. ويظهر فساد الأنكحة وقال بعضهم: إن كان القاضي قضى بجواز ذلك النكاح ثم رأت الدم (32أ1) لا يقضى بفساد ذلك النكاح. وطرق القضاء أن يدعي أحد الزوجين فساد النكاح بسبب قيام العدة فيقضي القاضي بجوازه وبانقضاء العدة بالأشهر، وكان الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله يفتي بأنها لو رأت الدم بعد ذلك على أي صفة رأت يكون حيضاً ويفتي ببطلان الاعتداد بالأشهر إن كانت رأت الدم قبل تمام الاعتداد بالأشهر ولا يفتي ببطلان الاعتدال بالأشهر ولا بفساد النكاح إن كانت رأت الدم بعد تمام الاعتداد بالأشهر قضى القاضي بجواز ذلك النكاح أو لم يقض.

ومن جملة ذلك ما رأته المرأة على غير ألوان الدم، وعند ذلك يحتاج إلى معرفة ألوان الدم: ما تراه المرأة في حالة الحيض من الدماء ستة: بعضها على الوفاق وبعضها على الخلاف. أما الذين على الوفاق إنهم قالوا: السواد والحمرة والصفرة حيض، وهذا لأن الأصل بالدم الحمرة، إلا أن غلبة السواد انصرف إلى السواد، وعند غلبة الصفرة انصرف إلى الصفرة. فأما الذات واحد. وكان الشيخ الإمام الزاهد الماتريدي رحمه الله مرة يقول في الصفرة إذا رأتها ابتداء في زمان الحيض: إنها حيض، فأما إذا رأتها في زمان الطهر واتصل ذلك بزمان الحيض فإنها لا تكون حيضاً، ومرة يقول: إذا اعتادت المرأة أن ترى أيام الطهر صفرة وأيام الحيض حمرة فحكم صفرتها يكون حكم الطهر حتى لو امتدت هي بها لم يحكم لها بالحيض في شيء من هذه الصفرة لأن الحال دل على أن طهرها بهذه الصفة فقيل يحتمل أنه اعتبر ذلك في صفرة يغلب على لونها البياض وحكمها حكم الطهر على قول أكثر المشايخ. ثم إن بعض مشايخنا ... بصفرة القز، وبعضهم بصفرة التين وبعضهم بصفرة السّبر وعن محمد بن مقاتل رحمه الله: أن يعتبر فيه أدنى ما ينطلق عليه اسم الصفر، وهذا كله في المرأة إذا كانت في ذوات الأقراء، فأما إذا كانت آيسة وحكم بإياسها ثم رأت شيئاً قليلاً يباشر الصفرة لا يكون حيضاً لأن ذلك أثر البول فلا يبطل به حكم الإياس وأما الذي على الخلاف فمن جملتها الكدرة وهي كالماء الكدر فإنها حيض عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تقدمت على الدم أو تأخرت عنها، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن تقدمت على الدم لا يكون حيضاً وإن تأخرت يكون حيضاً. ثم اختلف المشايخ على قوله في الكدرة المتأخرة على الدم أنها متى تصير حيضاً، والصحيح: ما ذكره أبو علي الدقاق رحمه الله أن ما دون خمسة عشر يوماً لا يفصل بينها وبين الدم كما لا يفصل هو بين الدمين. ومن جملة ذلك: الخضرة، وقد أنكر بعض مشايخنا وجودها حتى محمد بن محمد بن سلام البلخي رحمه الله حين سئل عن الخضرة كأنها أكلت قصيلاً على سبيل الاستبعاد. وقال أبو علي الدقاق رحمه الله إنها كالكدرة. والخلاف فيهما واحد، وعنه

أيضاً أنها حيض من غير ذكر الخلاف. قال الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمة الله عليه: والذي عليه عامة المشايخ أن المرأة إذا كانت من ذوات الأقراء فالخضرة منها حيض، وإن كانت كبيرة يعني آيسة ولا ترى عندها الخضرة لا يكون حيضاً، ويحمل هذا على فساد المنبت، والأول على فساد الغذاء. ومن جملة ذلك التُرْبِيَّة وقال الشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله: من الناس من يخفق هذه اللفظة، ومنهم من يشددها، وكان الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني يقول: التُرْبِيَّة ليست بشيء. ويقول قيل لأن موضع الفرج إذا اشتدت فيه الحرارة يخرج منه ماء رقيق فهو التُرْبِيَّة، وقيل: هي بين الكدرة والصفرة وكان نجم الدين النسفي رحمه الله يقول: هي على لون التربة مشتقة منها، وقيل: هي التربة بزيادة الياء مستوية إلى التراب وهي التي على لون التراب، وعامة المشايخ على أنها حيض، فقد صح عن أم عطية رضي الله عنها وقد كانت غزت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمثنتي عشر غزوة أنها قالت كنّا نعد التربية والخضرة حيضاً. والأصل فيه قول الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} (البقرة:222) وجميع هذه الألوان هي في معنى الأذى على السواء وقد صح أن النساء كن يبعثن بالكراسف إلى عائشة رضي الله عنها فكانت تنظر إليها وتقول: لا حتى ترين القصة البيضاء. جعلت ما سوى القصة البيضاء حيضاً قيل: هي شيء كالخيط الأبيض فالقصة الحيض ومنه النهي عن تفصيص القبور، أي عن لا تجصيصها فإنما يعتبر اللون على الكرسف حتى يرفع وهو طري لا حين يجف لأنه قد يتغير بالجفاف. (نوع آخر) في بيان أنه متى يثبت حكم الحيض والنفاس والاستحاضة. يجب أن يعلم بأن حكم الحيض والنفاس والاستحاضة لا يثبت إلا بخروج الدم، وظهوره هذا هو مذهب أصحابنا وعليه عامة مشايخنا، وعن محمد رحمه الله في غير رواية الأصول أن حكم الحيض والنفاس يثبت في حقها إذا أحسّت بالنزول وإن لم يظهر ولم يخرج ولا يثبت حكم الاستحاضة في حقها إلا بالظهور. وأشار إلى الفرق فقال: للحيض والنفاس وقت معلوم، فجاز أن يثبت حكمها باعتبار وقتها إذا أحست بالنزول فأما الاستحاضة فليس لها وقت معلوم، وهي حدث كسائر الأحداث، فلا يثبت حكمه بالظهور، والفتوى على «ظاهر الرواية» فقد صح أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها بإن فلانة تدعو المصباح ليلاً لتنظر إلى نفسها، فقالت «عائشة ما كانت إحدانا تكلف لذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّمولكنها تعرف ذلك بالمسّ» ، وذلك منها إشارة إلى الظهور ولأنه ما لم يظهر فهو في معدنه والشيء ما دام في معدنه لا يعطى له حكم، وإنما يعطى الحكم له إذا ظهر ويستوي في جميع ما ذكرنا من دم الحيض والنفاس والاستحاضة أن تكون كثيراً سائلاً أو قليلاً غير سائل. ولكن لا بد من معرفة الخروج والنزول ولا بد لمعرفة ذلك من معرفة مقدمة أخرى وبيانها: أن للمرأة فرجان فرج ظاهر وفرج باطن على صورة الفم وللفم شفتان وأسنان وجوف الفم.

فالفرج الظاهر بمنزلة ما بين الشفتين والأسنان، وموضع البكارة بمنزلة اللسان، الإليتان بمنزلة الشفتين والفرج الباطن بمنزلة المأكل ما بين الأسنان وجوف الفم. وحكم الفرج الباطن حكم قصبة الذكر لا يعطى للخارج إليه حكم الخروج والفرج الظاهر بمنزلة القلفة يعطى للخارج إليه حكم الخروج. وإذا وضعت المرأة الكرسف في الفرج الخارج وابتل الجانب الداخل منه دون الجانب الخارج فإن ذلك يكون حيضاً لأنه صار ظاهراً وإن وصعته في الفرج الداخل وابتل الجانب الداخل منه دون الجانب الخارج لا يكون حيضاً، وإن نفذت البلة إلى الجانب الخارج فإن كان الكرسف غالباً عن جزء الفرج الداخل وإن كان محاذياً له فذلك حيض. وإن كان الكرسف متسفلاً متجانباً عنه فذلك ليس بحيض. وعلى هذا: الرجل إذا حشا إحليله فابتل الجانب الداخل دون الجانب الخارج لا ينتقض وضوءه وإن ابتل الجانب الخارج فكذلك إذا كانت القطنة متسفلة عن رأس الإحليل متجافية عنه، وإن كانت القطنة غالبة على رأس الإحليل أو محاذية له ينتقض وضوءه، وهذا كله إذا لم تسقط القطنة أو الكرسف، فأما إذا سقط وقد ابتلّ الجانب الداخل كان حيضاً، وينتقض وضوءه نفذت البلة إلى الجانب الخارج أو لم تنفذ. وذكر الشيخ الإمام الأجل أبو الفضل الكرماني رحمه الله في «شرح كتاب الحيض» أن الدم إذا نزل من الرحم إلى الفرج، فإن خرج فهو حيض وإلا فلا عند أبي حنيفة رحمه الله استدلالاًبقصبة الذكر إذا نزل إليها البول، فإن ظهر على رأس الإحليل ينتقض وضوءه وما لا فلا. وقال محمد رحمه الله هو حيض وإن لم يخرج استدلالاً بقصبة الأنف إذا أنزل إليها الدم فإنه ينتقض وضوءه، وإن لم يخرج ولم يفصل بين الفرج الداخل والخارج وإنه مشكل، لأنه إن أراد بقوله نزل الدم من الرحم إلى الفرج الداخل، فذلك ليس بحيض بلا خلاف إلا رواية عن محمد رحمه الله في غير «الأصول» وإن أراد به الفرج الخارج فذلك حيض بلا خلاف. ومما يتصل بهذا النوع من المسائل (32ب1) أن اتخاذ الكرسف سنّة عند الحيض، الثيّبْ يستحب لها اتخاذ الكرسف بكل حال لأنها لا تأمن خروج شيء منها فيحتاط في ذلك خصُوصاً في حالة الصلاة. وأما البكر فيستحب لها وضع الكرسف في حالة الحيض فلا يستحب لها ذلك في غير حالة الحيض. والطاهر إذا صلّت بغير كرسف وأمنت أن يخرج منها شيء جازت صلاتها، والأحسن أن تضع الكرسف. وعن محمد بن سلمة البلخي رحمه الله أنه يكره للمرأة أن تضع الكرسف في الفرج الداخل، قال: لأن ذلك يشبه النكاح بيدها. وإذا وضعت الكرسف في أول الليل وهي حائض ونامت فنظرت إلى الكرسف حتى أصبحت رأت البياض الخالص فعليها قضاء العشاء للتيقن بطهرها من حين وضعت الكرسف ولو كانت هي طاهرة حين وضعت الكرسف ونامت ثم انتبهت بعد طلوع الفجر فوجدت البلة على الكرسف فإنها تجعل كأنها رأت الدم في آخر يومها حتى لا يسقط عنها العشاء احتياطاً، وكذلك حكم النفاس وانقطاعه.

(نوع آخر) في الأحكام التي تتعلق بالحيض يجب أن يعلم بأن الأحكام فمنها: أنها لا تصوم ولا تصلي قال عليه السلام: «تقعد إحداهن شطر عمرها لا تصوم ولا تصلي» والمراد منه: زمان الحيض. ومنها أنها تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، وقالت عائشة رضي الله عنها: كنا على عهد رسول الله نقضي صيام أيام الحيض ولا نقضي الصلاة. ومنها: أن لا يأتيها زوجها. قال تعالى: {فَاعْتَزِلُواْ النّسَآء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} . (البقرة: 222) ومنها: أن لا تمس المصحف ولا الدرهم المكتوب عليه آية تامة من القرآن ولا اللوح المكتوب عليه آية تامة من القرآن لقوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} . (الواقعة: 79) وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه كتب إلى بعض القبائل: «لا يمس مصحف القرآن حائض ولا جنب» . وهل يكره لها مس المصحف بكمها أو ذيلها؟ قال بعض مشايخنا: يكره لأن الكم والذيل تبع لها. ألا ترى لو حلف لا يجلس على الأرض فجلس عليها مفترشاً ثوبه يحنث في يمينه، وجعل ثوبه تبعاً له حتى لم يعتبر حائلاً. وعامتهم على أنه لا يكره لأن المحرّم هو المس وإنه اسم للمباشرة باليد من غير حائل. ألا ترى أن المرأة إذا وقعت في ردغة حلّ للأجنبي أن يأخذ بيدها بحائل ثوب، وكذا حرمة المصاهرة لا تثبت بالمسّ بحائل بخلاف مسألة اليمين لأن مبنى الأيمان على العرف والجالس على الأرض بثوبه يعد جالساً على الأرض عرفاً وعادة.b ولا بأس لها بأن تمس المصحف بغلاف، والغلاف هو الجلد الذي عليه في أصح القولين. وقيل: هو المنفصل كالخريطة ونحوها لأن المتصل بالمصحف من المصحف. ألا ترى أنه يدخل في بيع المصحف من غير ذكر، وهو نظير الاختلاف في المس بالكم. ولا بأس لها بكتابة القرآن عند أبي يوسف رحمه الله إذا كانت الصحيفة على الأرض لأنها لا تحمل المصحف، والكتابة تقع حرفاً حرفاً وليس الحرف الواحد بقرآن، وقال محمد رحمه الله أحب إليّ أن لا تكتب لأنه في حكم المساس للحروف وهي بكليتها قرآن. ومنها أن لا تقرأ القرآن عندنا لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّمكان «نهى الحائض والجنب عن قراءة القرآن» والآية وما دونها في تحريم القراءة سواء. هكذا ذكر الكرخي رحمه الله في كتابه لأنه قرآن فتمنع الحائض من قراءة كالآية التامة، وقيد الطحاوي القراءة بآية تامة لأنه تعلق بقراءة القرآن حكمان: جواز الصلاة وحرمة

القراءة على الحائض والجنب. ثم فصّل في حق جواز الصلاة من بين الآية التامة وما دونها فكذا في حق حرمة القراءة على الحائض وهذا إذا قصدت القراءة. فإن لم تقصدها نحو أن تقرأ الحمد لله رب العالمين شكراً للنعمة فلا بأس به، وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في مختصر كتاب الحيض أن الآية إذا كانت طويلة فقرأتها حرام عليها، وإن كانت قصيرة إن كانت تجري على (اللسان عند) عن الكلام كقوله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين يحرم أيضاً، وإن كانت لا تجزىء على اللسان عند الكلام كقوله: {ثم نظر} (المدثر: 21) ، كقوله: {لم يولد} (الإخلاص: 3) فلا بأس به، وإذا حاضت المعلمة فينبغي لها أن تعلم الصبيان كلمة كلمة وتقطع بين الكلمتين على قول الكرخي رحمه الله، وعلى قول الصحاوي تعلم نصف آية وتقطع ثم تعلم نصف آية. ولا يكره لها التهجي بالقرآن وكذا لا يكره لها قراءة دعاء القنوت «اللهم إنا نستعينك» . ومنها: أن لا تدخل المسجد قال عليه السلام: «لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» . ولأن ما بها من الأذى فوق الجنابة لتمكنها من إزالة أذى الجنابة دون أذى الحيض، ثم الجنابة تمنعها عن دخول المسجد فالحيض أولى. ومنها: أنها لا تطوف بالبيت للحج والعمرة لأن البيت في المسجد وقد منعت عن الدخول في المسجد وقد صح أن رسول الله عليه السلام قال لعائشة رضي الله عنها حين حاضت بسرف «اصنعي جميع ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت» مع هذا لو طافت بالبيت تحللت. ومنها: أن يلزمها الاغتسال عند انقطاع الدم. ومنها: أن يتقدر الاستبراء قال صلى الله عليه وسلّم «لا توطأ الحبالى حتى يضعن حملهن ولا الحيالى حتى يستبرئن بحيضة» . ومنها: أن تنقضي بها العدة قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَثَةَ قُرُوء} (البقرة: 288) وهي عبارة عن الحيض. وإذا مضت مدة الحيض وهي أكثر المدة عشرة أيام يحكم بطهارتها انقطع الدم أو لا، اغتسلت أو لم تغتسل مبتدأة كانت أو معتادة. ولا تؤخر الاغتسال لوقوع التيقن بخروجها من الحيض، لأن الحيض لا يزيد على عشرة أيام، وتنقطع الرجعة ويحل لها التزوج بزوج آخر، ولكن لا يستحب لها ذلك، ويحل للزوج قربانها ولكن لا يستحب له ذلك، وهي بمنزلة الجنب ما لم تغتسل. وإن انقطع دمها فيما دون العشرة إن كانت مبتدأة ومضى عليها ثلاثة أيام فصاعداً أو كانت معتادة وانقطع الدم على عادتها أو فوق عادتها، أخرّت الغسل إلى آخر وقت

الصلاة فإذا خافت فوت الصلاة اغتسلت وصلّت، وإنما أخرت الاغتسال والصلاة احتياطاً لاحتمال أن يعاودها الدم في العشرة، وليس في هذا التأخير تفويت، شيء، وإنما تؤخر الاغتسال والصلاة إلى آخر الوقت المستحب دون الوقت المكروه، فإذا اغتسلت حكم بطهارتها في حق جميع الأحكام التي ذكرنا حتى حلّ قربانها، وكذلك لو لم تغتسل ومضى عليها أدنى وقت الصلاة. ولو كانت مسافرة فتيمّمت، أو كانت في الحضر وتيممت لمكان المرض إن صلّت أو مضى عليها أدنى وقت الصلاة فكذلك، وإن لم تصل ولم يمض عليها أدنى وقت الصلاة لا يحل للزوج قربانها، ولا يحل لها التزوج بزوج آخر عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمة الله عليهما. وإن كانت معتادة وانقطع الدم فيما دون العادة ولكن بعدما مضى ثلاثة أيام واغتسلت أو مضى عليها الوقت كره للزوج قربانها، وكره لها التزوج بزوج آخر حتى تأتي عادتها وتغتسل وتصوم وتصلي في هذه الأيام، ولو كانت أيامها دون العشرة فانقطع الدم دون عادتها أخرت الاغتسال إلى آخر الوقت أيضاً. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: تأخر الاغتسال في هذه الصورة على طريق الاستحباب دون الإيجاب، وفيما إذا انقطع الدم فيما دون عادتها وباقي المسألة بحالها فتأخر الاغتسال بطريق الإيجاب. ولو كان حيضها عشرة أيام فحاضت ثلاثة أيام وطهرت ستة لا يحل للزوج قربانها عند أبي يوسف رحمه الله لأن احتمال بأن يصير الكل حيضاً قائم بأن رأت الدم في اليوم العاشر أو تمام اليوم العاشر ساعة وعلى هذا القياس تخرج جنس هذه المسائل والله أعلم. (فرع) إذا عاودها في العشرة بطل الحكم بطهارتها مبتدأة كانت أو معتادة وكأنها لم تطهر أصلاً عند أبي يوسف رحمه الله، لأن الطهر إذا كان أقل من خمسة عشر لا يكون فاصلاً عنده ويكون كالدم المتوالي، وهذا الذي ذكرنا إذا عاودها الدم في العشرة ولم يزد على العشرة وطهرت بعد ذلك طهراً صحيحاً خمسة عشر يوماً، ويكون جميع ذلك حيضاً. أما إذا زاد على العشرة أو لم يزد لكن انتقص الطهر بعد ذلك عن خمسة عشر، ففي المبتدأة العشرة حيض، وفي المعتادة أيامها (33أ1) المعتادة حيض لأنه صار كالدم المتوالي، وفي الدم المتوالي الجواب على نحو ما ذكرنا. وإن انقطع الدم بعدما رأت يومين وهي مبتدأة أو معتادة أخرت الصلاة إلى آخر الوقت، فإذا خافت الفوت توضأت وصلّت، وليس عليها مراعاة الترتيب صلّت في أول الوقت أو في آخر الوقت، وإن انقطع الدم بعدما رأت يوماً أو أقل وتوضأت؛ فإن أرادت أن تصلي في أول الوقت فعليها مراعاة الترتيب بقضاء الفوائت أولاً. وإن كانت معتادة وعادتها في أيام حيضها أنها ترى يوماً دماً ويوماً طهراً هكذا إلى العشرة، فإن رأت الدم في اليوم الأول تترك الصوم والصلاة، وإن طهرت في اليوم الثاني تتوضأ وتصلي، فإن رأت الدم في اليوم الثالث فإنها تترك الصلاة والصوم لأنه تبين أنه حيض فإذا طهرت في اليوم الرابع تغتسل وتصلي هكذا تفعل إلى العشرة والله أعلم.

(نوع آخر) من هذا الفصل مراهقة رأت الدم تركت الصلاة كما رأته وهو اختيار الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير والفقيه محمد بن إبراهيم الميداني والفقيه محمد بن سلمة البلخي رحمهم الله، وعن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية «الأصول أنها لا تترك الصلاة ما لم يستمر بها الدم ثلاثة أيام، وبه كان يقول بشر بن غياث المريسي وجه هذا القول: أنها على يقين بالطهارة وفي شك من الحيض لجواز أن ينقطع الدم فيما دون الثلاث، ولا يُزال اليقين بالشك فلا تترك الصلاة والصوم برؤيتها الدم، فإن استمر بها الدم ثلاثة أيام فصاعداً إلى عشرة تبين أنها كانت حيضاً فلزمها قضاء الصوم ولا يلزمها قضاء الصلوات. وجه القول: أن الله تعالى وصف الحيض بكونه أذىً قال تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (البقرة 222) وقد رأته المرأة في وقته فتعلق به حكمه. وإنما يخرج المرئي من أن يكون حيضاً بالانقطاع فيما دون الثلاث، وفي ذلك شك، فإن انقطع دمها على رأس العشرة، فالعشرة كلها حيض، وإن جاوز العشرة، فالعشرة من أول ما رأت حيض، وباقي الشهر يكون طهراً، لما ذكرنا أن الحيض لا يزيد على العشرة والشهر يشتمل على الحيض والطهر عادة، فإذا جعلت العشرة من أول ما رأت حيضاً كان باقي الشهر طهراً ضرورة، وعن أبي يوسف رحمه الله أنها تأخذ بالاحتياط فتغتسل بعد ثلاثة أيام ثم تصوم وتصلي سبعة أيام بالشك ولا يقربها زوجها ثم تغتسل هي بعد تمام العشرة وتقضي صيام الأيام السبعة لكن الاحتياط في باب العبادة واجب، ومن الجائز أن حيضها كان أقل الحيض فيحتاط لهذا، ولكن هذا ضعيف لأنا عرفنا هذه المرأة حائضاً، ودليل كونها حائضاً ظاهر هو سيلان الدم فلا معنى للاحتياط، وكان إبراهيم النخعي رحمه الله يقدر حيضها بحيض نساء عشيرتها وهو ضعيف لأنها تختلف باختلاف الطبائع والأغذية. (فرع) في دائرة هذا الفصل الأصل عند أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة آخراً أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من خمسة عشر يوماً لا يفصل بين الدمين ويجعل الكل كالدم المتوالي. وإذا كان خمسة عشر أو أكثر يعتبر فاصلاً ثم ينظر إلى الدمين إن أمكن أن يجعل أحدهما بانفراده حيضاً يجعل ذلك حيضاً. ومن أصله أيضاً إذا أمكن أن يجعل كل واحد منهما حيضاً يجعل كل واحد منهما حيضاً. ومن أصله أنه يبتدأ الحيض بالطهر ويختمها بالطهر وإن كان قبل البداية وبعد الختم دم. وجه قوله في ذلك: بأن طهر ما دون خمسة عشر يوماً طهرٌ فاسدٌ فلا يتعلق به حكم الطهر الصحيح ولا يفصل بين الدمين، فمن حكم الطهر الصحيح، بيان قوله في أن طهر ما دون خمسة عشر لا يفصل بين الدمين في المبتدأة، أما إذا رأت يوماً دماً وأربعة عشر يوماً طهراً ويوماً دماً فالعشرة من أول ما رأت حيض بحكم بلوغها به، وكذلك إذا رأت يوماً دماً وتسعة طهراً أو يوماً دماً وتسعة طهراً أو يومين دماً في المعتادة فمعروفها حيض وما زاد على ذلك استحاضة.

وبيان قوله في ابتداء الحيض بالطهر وفي ختمه بالطهر يشرط بأن يكون قبل البداية وبعد الختم دم في المرأة إذا كانت عادتها في الحيض في كل شهر خمسة، فرأت قبل أيامها يوماً دماً ثم طهرت خمستها ثم رأت يوماً دماً، فعنده خمسها حيض لإحاطة الدمين بها، ويقع الختم والابتداء ههنا بالطهر، وفي المبتدأة لا يتصور الابتداء إلا بالدم، وكذلك لو رأت قبل خمستها يوماً دماً ثم طهرت أول يوم من خمستها ثم رأت ثلاثة دماً ثم طهرت آخر يوم من خمستها ثم استمر بها الدم فحيضها خمستها عنده وإن كان ابتداء الخمسة وختمها بالطهر لوجود الدم قبلها وبعدها. وبعض مشايخنا أخذوا بقول أبي يوسف رحمه الله، وبه كان يفتي القاضي الإمام صدر الإسلام أبو اليسر رحمه الله وكان يقول: قول أبي يوسف أيسر وأسهل على النساء وعلى المفتي، ولا حرج في ديننا فكان الأخذ بقوله أولى، وعليه استقر رأي الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله وبه يفتي، والأصل عند محمد رحمه الله وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله وعليه فتوى كثير من المشايخ أن الطهر المتخلل بين الدمين إذا كان أقل من ثلاثة أيام لا يصير فاصلاً بين الدمين ويجعل ذلك كله كالدم المتوالي. وإن كان ثلاثة أيام فصاعداً إن كان الطهر مثل الدمين أو أقل من الدمين لا يعتبر فاصلاً أيضاً، ويجعل ذلك كله بمنزلة الدم المتوالي لأن الثلاثة من الدم نصاب شرعي، ألا ترى أنه يصلح لنصب العادة والثلاثة من الطهر نصاب ضروري، ألا ترى أنه لا يصلح لنصب العادة، فكان اعتبار النصاب الشرعي عند الاستواء أولى من اعتبار النصاب الضروري ولأن المرأة لا تخلو في زمان الحيض عن طهر قليل غالباً، فلو اعتبر هو فاصلاً لا يتصور وجود الحيض أصلاًأما (لا) تخلو هي في زمان الحيض عن طهر كثير غالباً. فلو اعتبر هو فاصلاً يتصور معه وجود الحيض فأصبح ثلاثاً الحد الفاصل بين القليل والكثير فقدر الكثير بثلاثة أيام لأن الكثيرة ثبت بالجمع، وأقل الجمع المتيقن عليه ثلاثة إلا إذا كان أقل من الدمين لا يعتبر فاصلاً، وإن كان الطهر ثلاثة فصاعداً لأن الطهر مغلوب، والمغلوب ساقط الاعتبار شرعاً بمقابلة الغالب ولأن من عادة النساء غلبة دمهن على الطهر في زمان الحيض، فلو اعتبر الطهر فاصلاً حال غلبة الدم لا يتصور وجود الحيض أصلاً، وكذلك إذا كان الطهر مثل الدمين لا يعتبر هو فاصلاً أيضاً لأن الدم يتناول الطهر في العدد فيجعل الدم راجحاً لكونه مرئياً في وقته، وكون الطهر مرئياً في غير وقته والوقت وقت الحيض لا وقت الطهر ولأن الدم يحرم عليها أداء الصلاة والطهر يبيح لها أداء الصلاة والمبيح مع المحرم إذا اجتمعا كانت العبرة للمحرم فصار الدم في حكم الغالب، فسقط اعتبار الطهر بمقابلته فلم يصح الفصل بين الدمين. وأما الطهر إذا كان أكثر من الدمين فيصير فاصلاً لأن الطهر غالب على الدم، والعبرة للغالب، وليس من عادة النساء غلبة الطهر على الدم في زمان الحيض فلو اعتبر الطهر فاصلاً والحالة هذه لا يؤدي إلى أن لا يتصور الحيض فجعل حاصلاً، ثم ينظر إن أمكن أن يجعل أحد الدمين بانفراده حيضاً يجعل ذلك حيضاً وهذا ظاهر، وإن أمكن

اعتبارهما حيضاً يجعل المتقدم حيضاً لأنهما استويا في إمكان الاعتبار ويترجح السابق منهما بقوة السبق. وإذا اعتبر المتقدم حيضاً لا يعتبر المتأخر حيضاً معه لأنه لا بد من وجود طهر تام بين الحيضتين وأقله خمسة عشر يوماً ولم يوجد. (نوع آخر) من الجنس اختلف المشايخ فيه على قول محمد رحمه الله أنه إذا اجتمع طهران معتبران يفتى به أن كل واحد منهما يصلح للفصل بين الدمين، وصار أحدهما لإحاطة لدمين بطرفيه واستوائه، فالطهر كالدم المتوالي هل يتعدى حكمه إلى الطهر الآخر؟ قال أبو زيد الكبير وأبو علي الدقاق: بأنه يتعدى. وقال الفقيه أبو سهل الغزالي: لا يتعدى. صورة المسألة: مبتدأة رأت يومين دماً وثلاثة طهراً ويوماً دماً وثلاثة طهراً ويوماً دماً فالسنة الأولى حيض بلا خلاف لاستواء الدم والطهر فيها، والأربعة بعدها حيض عند أبي زيد الكبير (33ب1) لأن الأولى صارت كالدم المتوالي فصار كأنها رأت ستة دماً وثلاثة طهراً ويوماً دماً، وعند أبي سهل: حيضها الستة الأولى، فأما الأربعة بعدها لا تكون حيضاً. وجه قول أبي زيد وأبي علي الدقاق: وهو أن الطهر الأول صار مغلوباً بالدم لما عرف، والمغلوب في حكم المعدوم فصار من حيث الحكم كأنه لم يوجد ورأت كل الستة حيضاً ولو رأت كذلك وباقي المسألة بحالها كانت العشرة حيضاً بالإجماع، وكذا هذا. وجه قول أبي سهيل وهو أن طهر ثلاثة أيام سقط اعتباره لإحاطة الدم بطرفيه واستوائه بالدم، فيعتبر هو حيضاً في حق نفسه، ولا يصير هو حيضاً في حق غيره لأن ما صار حيضاً تبعاً لغيره لا يصير غيره حيضاً تبعاً له. قال مشايخنا رحمهم الله؛ والأول هو الأصح لأنهم أجمعوا أن المرأة إذا رأت يوماً دماً ويومين طهراً أو يوماً دماً وخمسة طهراً ويوماً دماً كانت العشرة حيضاً، ولم يقل أحد إن طهر يومين لما صيّر حيضاً تبعاً لغيره لا يصير غيره حيضاً تبعاً له، وكذلك لو رأت يوماً دماً وثلاثة طهراً ويومين دماً وثلاثة طهراً ويوماً دماً فالستة الأولى حيض بالإجماع، وفي الأربعة الأخيرة خلاف. فإن رأت يوماً دماً وثلاثة طهراً ويوماً دماً وثلاثة طهراً ثم استمر بها الدم فعلى قول أبي زيد الكبير وأبي علي الدقاق يجر يومان من أول الاستمرار إلى ما سبق، فتكون العشرة كلها حيضاً عند محمد رحمه الله، وعلى قول أبي سهيل حيضها عشرة بعد اليوم والثلاثة الأولى، فيكون ستة من أول الاستمرار حيضاً عنده. ولو رأت يومين دماً وثلاثة طهراً ويوماً دماً وثلاثة طهراً ثم استمر بها الدم، فعند أبي زيد الكبير وأبي علي الدقاق حيضها عشرة من أول ما رأت فيكون أول يوم من الاستمرار من جملة حيضها تتم به العشرة لأن الستة الأولى صارت كدم الاستمرار

لاستواء الدم والطهر فيها فيتعدى حكمها إلى الطهر الآخر، وعند أبي سهيل: حيضها ستة من أول ما رأت ولا يكون شيء من أول الاستمرار حيضاً لها فتصلي إلى موضع حيضها الثاني لأنه لا يتعدى عنده حكم الستة إلى الطهر الآخر إن صارت هي كالدم المتوالي. في الأوقات الساعات وآخر النهار. (نوع آخر) هذا النوع لا يتأتى على قول أبي يوسف رحمه الله، وإنما يتأتى على قول محمد رحمه الله فنقول: يجب أن يعلم بأن الوقت الواحد لا يتكرر وجوده في يوم واحد: كطلوع الفجر وطلوع الشمس، فإذا كان ابتداء الوقت من عند طلوع الشمس فتمام اليوم والليلة يكون قبيل طلوع الشمس من الغد لأن قبل اسم الوقت يتصل به الوقت المذكور بخلاف قبيل. وبيانه فيمن قال لامرأته وقت الضحوة: أنت طالق قبل غروب الشمس طلقت قبل غروب الشمس، طلقت في الحال. ولو قال: قبيل غروب الشمس لا تطلق حتى تغرب الشمس. فإذا عرفت هذا وسئلت عن امرأة رأت الدم عند طلوع الشمس ثم انقطع دمها ثم رأت الدم قبل طلوع الشمس من اليوم الرابع فقل: ان الثلاثة كلها حيض لأن الكل ثلاثة أيام، وقد رأت الدم فيها في جزأين فنقص الطهر عن ثلاثة أيام فلم يفصل وجعل الكل كالدم المتوالي. وكذلك لو رأت الدم في اليوم الرابع عند طلوع الشمس فالكل حيض لأن الكل ثلاثة أيام غير ساعة فيجعل كالدم المتوالي. وإن رأت الدم في اليوم الرابع عند طلوع الشمس لم يكن شيء من ذلك حيضاً لأنه ختم المدة بقبيل طلوع الشمس من اليوم الرابع، فإذا ضمت إلى ذلك وقت الطلوع وبعد الطلوع صار ثلاثة أيام وساعتين، والدم وجد في ساعتين فيبقى الطهر المتخلل ثلاثة أيام فصار فاصلاً، فلهذا لم يجعل شيء من ذلك حيضاً. فإن رأت الدم عند طلوع الشمس ثم انقطع ثم رأته من اليوم الرابع عند طلوع الشمس ثم انقطع ثم رأته من الغد من اليوم السابع بعد طلوع الشمس فالكل حيض لأن الطهر الأول لما قصر عن الثلاث صار كالدم المتوالي فصار الدم غالباً حكماً. وإن رأت الدم عند طلوع الشمس ثم انقطع ثم رأت في اليوم الرابع قبل طلوع الشمس ثم انقطع ثم رأت الدم في اليوم السابع بعد طلوع الشمس ثم رأت الدم في العاشر بعد طلوع الشمس. فعند أبي زيد الكبير وأبي علي الدقاق: الكل حيض على قول محمد رحمه الله لأن الطهر الأول لقصوره عن الثلاث فصاركالدم المتوالي، وصار الطهر الباقي مغلوباً به فيتعدى أثره إلى الطهر الثالث. وعلى قول أبي سهل: الأحوال الستة الأولى حيض وما بعدها ليس بحيض لأن الطهر الثاني ثلاثة أيام، وهو وإن صار مغلوباً بالدم إلا أنه لا يتعدى أثره إلى الطهر الثالث على ما مرّ قبل هذا. جئنا إلى بيان الساعة فنقول: الساعة اسم الوقت ممتد على ما يقوله المنجمون فيحتمل اليوم والليلة عندهم على أربعة وعشرين ساعة، فتارة ينتقص الليل حتى يكون تسع

ساعات ويزداد النهار حتى يكون خمس عشرة ساعة، وتارة ينتقص النهار حتى يكون تسع ساعات ويزداد الليل حتى يكون خمس عشرة ساعة. وهذا أمر حقيقي إلا أنها إذا أطلقت يراد بها في عرف لسان الفقهاء جزءاً من النهار. فإذا عرفت هذا وسئلت عن مبتدأة رأت ساعة دماً وثلاثة أيام غير ساعتين طهراً وساعة دماً (فقل) إن الكل حيض لأن الكل ثلاثة أيام فكان الطهر دون الثلاث فصار كالدم المتوالي. وإن رأت ساعة دماً وثلاثة أيام غير ثلاث ساعات طهراً وساعة دماً لم يكن شيء من ذلك حيضاً لأن الكل دون ثلاثة أيام إلا رواية عن أبي يوسف رحمه الله فإنه يقيم الأكثر من اليوم الثالث في رؤية الدم مقام كله، إن رأت ساعة دماً وثلاثة أيام غير ساعة طهراً وساعة دماً فالكل حيض لأن الكل ثلاثة أيام وساعة وقد رأت الدم في ساعتين فيقصر الطهر عن ثلاثة أيام فكان كالدم المتوالي. وإن رأت ساعة دماً وثلاثة أيام طهراً وساعة دماً لم يكن شيء من ذلك حيضاً عند محمد رحمه الله لأن الطهر ثلاثة أيام. تفصيل: وإن رأت ساعة دماً وثلاثة أيام غير ساعة طهراً وساعة دماً وثلاثة أيام طهراً وساعة دماً وثلاثة أيام طهراً وساعة دماً، فعلى قول أبي زيد الكبير وأبي علي الدقاق رحمهما الله: الكل حيض لأن الطهر الأول لقصوره عن الثالث صار كالدم المتوالي فصار الطهر الثاني مغلوباً بالدم فيتعدى أثره إلى الطهر الثالث وعلى قول أبي سهل: حيضها ستة أيام وساعة من أول ما رأت لأن الطهر الثاني كامل، وهو وإن صار مغلوباً إلا أنه لا يتعدى أثره إلى الطهر الثالث وأما آخر النهار فيحسب ما تذكر من ربع أو وثلث أو غيره. فإذا سئلت عن مبتدأة رأت ربع يوم دماً ثم يومين وثلث يوم طهراً ثم ربع يوم دماً فقل: لا يكون شيء منه حيضاً لأن الكل دون الثلاث فيقدر بسدس يوم وإن رأت ربع يوم دماً ثم يومين ونصف يوم طهراً ثم ربع يوم دماً فالكل حيض، لأن الكل ثلاثة أيام والطهر فيه قاصر، وإن رأت ربع يوم دماً وثلاثة أيام طهراً وربع يوم دماً لم يكن شيء من ذلك حيضاً لأن الطهر ثلاثة أيام، فيصير فاصلاً عند محمد رحمه الله.H وهذا النوع من المسائل لا يقع غالباً ولكن وضعت لتشحذ الخاطر. (فرع) هو قريب مما تقدم من المسائل مبتدأة رأت يوماً دماً ويوماً طهراً واستمر كذلك أشهر، فعلى قول أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة أخراً الجواب في جنس هذه المسائل واضح، فإنه يرى بداية الحيض بالطهر وختمه بالطهر فيكون العشرة في أول ما رأت حيضَها، وطهرُها عشرون وذلك دأبها في كل شهر وعليه الفتوى. وأما على قول محمد رحمه الله: حيضها من أول ما رأت تسعة وطهرها أحد وعشرون لأن اليوم العاشر طهر كله، وهو لا يرى ختم الحيض بالطهر. ويحتاج على قول محمد إلى معرفة ختم العشرة وإلى معرفة ختم الشهر ليتبين به حكم بداية الحيض في الشهر الثاني، ولذلك طريقان. أحدهما: (34أ1) أن الأوتار من

أيامها دم والشفوع طهر، واليوم العاشر من الشفوع فعلم أنه كان طهراً واستقبلها في الشهر الثاني مثل ما كان في الشهر الأول والثاني، وهو طريق الحساب وعليه تخرج هذه المسائل فنقول في معرفة ختم العشرة اعدد دماً وطهراً، وذلك اثنان ونضربه فيما يوافق العشرة وذلك خمسة، واثنان في خمسة فكان آخره طهراً، وفي معرفة ختم الشهر نأخذ دماً وطهراً ونضربه فيما يوافق الشهر، وذلك خمسة عشر فيكون ثلاثين، فيكون آخره طهراً وكذلك في الشهر الثاني حيضها عند محمد رحمه الله تسعة من أول ما رأت وطهرها أحد وعشرون، فإن رأت يومين دماً ويوماً طهراً واستمر كذلك فالعشرة من أولها حيض عند محمد أيضاً لأن ختم العشرة بالدم. وإذا أردت معرفة في حق العشرة فخذ دماً وطهراً وذلك ثلاثة واضربها فيما يقارب العشرة وذلك ثلاثة لأنك لا تجد ما يوافقها وثلاثة في ثلاثة يكون تسعة فآخر المضروب طهر ثم بعده يوم دم فيكون ختم العشرة بالدم. وإن أردت معرفة ختم الشهر فخذ دماً (و) طهراً وذلك ثلاثة واضربه فيما يقارب الشهر وذلك عشرة فيكون ثلاثون وآخر المضروب طهر، أو استقبلها في الشهر الثاني مثل ما كان لها في الشهر الأول، ويكون دورها في كل شهر عشرة حيضها وعشرون طهراً. وكذلك إن رأت يوماً دماً ويومين طهراً فهو على هذا التخريج وإن رأت يومين دماً ويومين طهراً واستمر كذلك فحيضها عشرة من أول ما رأت عند محمد رحمه الله لأن ختم العشرة بالدم. وطريق معرفته: أن نأخذ دماً وطهراً وذلك أربعة، ونضربه فيما يقارب العشرة، وذلك اثنان فيكون ثمانية، وأحد المضروب طهر ثم بعده يومان دم تمام العشرة، فعلم أن ختم العشرة بالدم فكانت العشرة من أول ما رأت حيضاً. وإن أردت أن تعرف ختم الشهر فخذ دماً وطهراً وذلك أربعة واضربها فيما يقارب الشهر وذلك سبعة فيكون ثمانية وعشرين، وأحد المضروب طهر ثم بعده يومان دم تمام الشهر، واستقبلها في الشهر الثاني يومان طهراً وبداية الحيض بالطهر لا يكون عند محمد رحمه الله فتصلي في هذين اليومين ثم بعدها يومان دم ويومان طهراً ويومان دم. فهذه السبعة تكون حيضاً لها في الشهر الثاني لأن ختم العشرة في الشهر الثاني بيومين طهر وهو ما يختتم الحيض بالطهر ثم ينظر إن ختم الشهر الثاني فماذا يكون فتأخذ دماً وطهراً وذلك أربعة، ونضربه فيما يوافق الشهرين وذلك خمسة عشرة فيكون ستين وآخر المضروب طهر فتصلي إلى هذا الموضع، واستقبلها في الشهر الثالث يومان دم فكان دورها في كل شهرين في الشهر الأول عشرة حيض واثنان وعشرون طهر وفي الشهر الثاني ستة حيض بعد يومين فصار اثنان وعشرون طهر، وعلى قياس ما قلنا نخرج ما يسأل عن هذا الجنس من المسائل. (نوع آخر) في نصيب عادة المبتدأة. يجب أن يعلم بأن المبتدأة على وجهين: أما إن ابتدأت وبلغت بالحيض إذا ابتدأت

فبلغت بالحبل فنبدأ بما إذا بلغت بالحيض وإنه على وجوه. أما إن رأت دماً صحيحاً وطهراً صحيحاً ثم ابتليت بالاستمرار، وفي (هذا) الوجه يعتبر المرئي عادة لها في زمان الاستمرار لأنه لو لم يعتبر ذلك عادة لها ودت هي إلى العشرة والعشرين ولم تر هي ذلك قط فكان ردها إلى ما كانت رأته مرة أولى، بخلاف صاحبة العادة إذا رأت بخلاف عادتها مرة ثم استمر بها الدم لا تنتقل عادتها إلى المخالف عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن هناك لو لم يعتبر المخالف عادة لها ردت هي إلى أول العادة الأصلية، وذكر مزية مؤكدة بالتكرار أما ههنا بخلافه، توضيحه أن الحاجة في حق صاحبة العادة إلى فسخ العادة الأولى ونصب العادة الثانية، والشيء إنما ينفسخ بما هو مثله أو فوقه لا ما هو دونه، والثانية ردت الأولى لأن الأولى تأكدت بالتكرار والثانية لم تتأكد أما في حق المبتدأة الحاجة إلى نصب العادة، فلو لم يجعل المرئي مرة واحدة عادة لها يحتاج إلى ردها إلى غير المرئي، ولا شك أن اعتبار المرئي أولى من اعتبار غير المرئي. ثم تفسير الدم الصحيح أن لا ينتقص عن ثلاثة أيام ولا يزيد على عشرة أيام، ولا يصير مغلوباً بالطهر. وتفسير الطهر الصحيح أن لا يكون أقل من خمسة عشر، ولا يصل المرأة فيه شيء من الدم من أوله أو أوسطه أو آخره، وأن يكون بين الحيضتين. فإذا رأت دماً صحيحاً وطهراً صحيحاً مرة واحدة على التفسير الذي قلنا، ثم ابتليت بالاستمرار تجمل أيام حيضها في زمان الاستمرار (ما رأت) من الدم قبل الاستمرار، وأيام طهرها ما رأت من الطهر قبل الاستمرار. بيان ذلك: مبتدأة رأت خمسة دماً وعشرين يوماً طهراً ثم استمر بها الدم أشهراً فإنها تترك الصلاة من أول الاستمرار خمسة وتصلي عشرين، وذلك دأبها في جميع زمان الاستمرار. الوجه الثاني: إذا رأت دماً فاسداً ثم ابتليت بالاستمرار، وبيان ذلك: مبتدأة رأت أربعة عشر يوماً دماً وأربعة عشر يوماً طهراً واستمر بها الدم، فههنا الدم والطهر كلاهما فاسدان، الدم للزيادة على العشرة والطهر للنقصان عن خمسة عشر، فيجعل كأنها ابتليت بالاستمرار من الابتداء، فيجعل حيضها عشرة من أول ما رأت: أربعة عشر يوماً دماً وبقية الشهر وذلك عشرون طهرها، ومعناه ثمانية عشر إلى زمان الاستمرار فيجعل من أول الاستمرار يومين من طهرها فتصلي في هذين اليومين، ثم تقعد عشرة وتصلي عشرين وذلك دأبها. وكذلك إذا كان الدم خمسة عشر والطهر أربعة عشر يجعل حيضها عشرة من أول ما رأت خمسة عشر دماً وبقية الشهر وذلك عشرون طهرها. ومعناه بتسعة عشر فيجعل من أول الاستمرار يوماً من طهرها فتصلي فيه ثم تقعد عشرة وتصلي عشرين. وكذلك إذا كان الدم ستة عشر والطهر أربعة عشر يجعل حيضها عشرة من أول ما رأت الدم ستة عشر وبقية الشهر وذلك عشرون طهرها، ومعناه عشرين فأول الاستمرار في

هذه الصورة يوافق ابتداء حيضها، فتدع الصلاة عشرة أيام من أول الاستمرار وتصلي عشرين وذلك دأبها، ثم تسوق المسألة هكذا إلى أن اتفق الدم ثلاثة وعشرون والطهر أربعة عشر ثم استمر بها الدم فإن العشرة من أول ما رأت حيض، وما بعد ذلك ابتداء طهرها سبعة أيام، فمن الأربعة العشر التي هي طهرها تسعة أيام تمام طهرها وسبعة من موضع حيضها الثاني ولم تر فيه شيئاً جاء الاستمرار وقد بقي من موضع حيضها الثاني ثلاثة أيام والثلاثة حيض كامل، فتدع الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة ثم تصلي عشرين ثم تدع الصلاة عشرة ثم تصلي عشرين وذلك دأبها. وإن (رأت) الدم أربعة وعشرون والمسألة بحالها يعني: والطهر أربعة عشر ثم استمر بها الدم فستة من طهر أربعة عشر بقية طهرها. بقي ثمانية أيام من موضع حيضها الثاني ولم تر فيها دماً ثم جاء الاستمرار وقد بقي من موضع حيضها يومان فلا يكون حيضاً، فهذه امرأة لم تر مرة فيصار إلى موضع حيضها الثاني وذلك اثنان وعشرون يوماً من أول الاستمرار ثم تدع الصلاة عشرة وتصلي عشرين، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، ومحمد رحمه الله يقول بالإبدال على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، وأبو يوسف رحمه الله يقول بنقل العادة لعدم الرؤية، حتى إن على قوله من هذه الصورة أن المرأة تستأنف الحساب من أول الاستمرار فتدع الصلاة من أول الاستمرار عشرة، وتصلي عشرين فتنتقل عادتها من حيث المكان والعدد على حاله وهذا دأب لكل امرأة لم تر (دماً) في موضع حيضها مرة ثم استمر بها الدم إنها تسأنف الحساب من أول الاستمرار، فيجعل حيضها من أول الاستمرار فينتقل المكان والعدد على حاله. الوجه الثالث: إذا رأت دماً فاسداً وطهراً صحيحاً من حيث الظاهر، وبيان ذلك: مبتدأة رأت أحد عشر يوماً دماً وخمسة عشر يوماً طهراً ثم استمر بها الدم، فالدم ههنا فاسد لكونه زائداً على العشرة، والطهر الصحيح طاهر لأنه يستكمل خمسة عشر يوماً إلا أنه فسد معنىً بفساد الحيض لأنها صلت في أول يوم منه (34ب1) بالدم، فعلى قول محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله يكون حيضها عشرة من أول ما رأت وطهرها عشرون، كما لو بلغت واستمر بها الدم تيقناً من طهرها ستة عشر اليوم الحادي عشر من الدم، خمسة عشر بعد ذلك لم تر فيها الدم، جاء الاستمرار وقد بقي من طهرها أربعة فتصلي أربعة من أول الاستمرار، ثم تدع الصلاة عشرة ثم تصلي عشرين، وعلى قول أبي علي الدقاق حيضها عشرة وطهرها ستة عشر وقد مضت ستة عشر يوماً فتدع الصلاة من أول الاستمرار عشرة، وتصلي ستة عشر وذلك دأبها. فوجه أبي علي الدقاق: أن فساد الدم في اليوم الحادي عشر لم يؤثر في الدم حتى جعلت العشرة عادة لها في الحيض في زمان الاستمرار فكذا لا يؤثر في الطهر لأن المفسد واحد، فإذا لم يؤثر في جنسه لا يؤثر في خلاف جنسه من طريق الأولى. وجه قول محمد بن إبراهيم أن اليوم الحادي عشر من الطهر لا من الحيض، ورؤية الدم العاشر مؤثر في الطهر.

الوجه الرابع: إذا رأت دماً صحيحاً وطهراً فاسداً واستمر بها الدم. بيان ذلك: مبتدأة رأت خمسة أيام دماً وأربعة عشر يوماً طهراً ثم استمر بها الدم، فحيضها خمسة وطهرها بقية الشهر خمسة وعشرون. جاء الاستمرار وقد بقي من طهرها أحد عشر يوماً فتصلي أحد عشر يوماً من أول الاستمرار، ثم تدع الصلاة خمسة وتصلي خمسة وعشرون وذلك دأبها. الوجه الخامس: إذا رأت دماً وطهراً كل واحد منهما صحيح من حيث الظاهر ولكنها يفسدان بطريق الضرورة فلا يصح لنصب العادة. وبيان ذلك: مبتدأة رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً، ثم يوماً دماً ثم يومين طهراً واستمر بها الدم فههنا وجد دم صحيح في الظاهر وهي ثلاثة أيام وطهر صحيح في الظاهر وهو خمسة عشر يوماً، ولكنها لما رأت يوماً دماً بعدها ويومين طهر لا يمكن اعتبار هذه الثلاثة حيض لأن ختمها بالطهر. ومحمد رحمه الله لا يرى ذلك ولا وجه فيه إلى الإبدال لأنه لا يبقى بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني طهر خمسة عشر يوماً. ولا يجوز الإبدال في المسألة على ما يأتي بيانه بعد هذا فتصلي في هذه الأيام ضرورة فيفسد به ذلك الطهر لأنها صلت فيه بالدم، ويخرج من أن يكون صالحاً لنصب العادة، فيكون حيضها ثلاثة أيام وطهرها بقية الشهر تسعة وعشرون، وقد مضى منه ثمانية عشر يوماً، فتصلي من أول الاستمرار تسعة أيام ثم تدع الصلاة ثلاثة وتصلي سبعة وعشرين، وهذا الذي ذكرنا قول محمد رحمه الله. فأما على قول أبي يوسف رحمه الله لما رأت بعد طهر خمسة عشر يوماً دماً ويومين طهراً، واستمر بها الدم أمكن اعتبار هذه الثلاثة حيضاً لأنه يرى ختم الحيض بالطهر إذا كان بعده دم، فجعلنا تلك الثلاثة حيضاً فلم يفسد بالطهر بل يبقى صحيحاً، فيجعل الطهر عادتها في الدم. فالطهر ما رأت، وقد وافق ابتداء الطهر ابتداء الاستمرار، فتصلي من أول الاستمرار خمسة عشر وتدع الصلاة ثلاثة وذلك دأبها. ولو رأت في الابتداء أربعة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً ثم يوماً دماً ويومين طهراً ثم استمر بها الدم، وههنا الطهر صحيح صالح لنصب العادة لأن بعده دم يوم وطهر يومين ويوم من أول الاستمرار تمام الأربعة، فابتداء الحيض الثاني وختمه بالدم. فيمكن أن يجعل ذلك حيضاً، فبقي الطهر على الصحة فيصلح لنصب العادة فتدع الصلاة من أول الاستمرار يوماً ثم تصلي خمسة عشر ثم تدع الصلاة أربعة وتصلي خمسة عشر، وذلك دأبها في زمان الاستمرار. وهذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله. فإن رأت الدم عشرة والطهر خمسة عشر ثم استمر بها الدم يوماً، ثم الطهر ثلاثة ثم الدم يوماً، ثم الطهر ثلاثة، ثم استمر بها الدم، فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: هذا بمنزلة ما لو رأت الدم عشرة والطهر خمسة عشر، ثم استمر بها الدم فيجعل حيضها من أول الاستمرار عشرة وطهرها خمسة عشر. فأما على قول محمد رحمه الله فقد اختلف أبو زيد الكبير وأبو علي الدقاق وأبو سهل الغزالي رحمهم الله.

قال أبو زيد وأبو علي يجر من أول الاستمرار يومان ويصير إلى ما رأت بعد الخمسة عشر فتصير العشرة بعد الخمسة عشر حيضاً فيصلح البناء عليه فتدع الصلاة من أول الاستمرار يومين ثم تصلي خمسة عشر ثم تقعد عشرة ثم تصلي خمسة عشر، وذلك دأبها، وعلى قول أبي سهيل تقعد من أول الاستمرار سبعة ثم تصلي خمسة عشر ثم تقعد عشرة ثم تصلي عشرين وذلك دأبها. فإن رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر طهراً ويوماً دماً وخمسة عشر طهراً ثم استمر بها الدم فهذه امرأة رأت دماً صحيحاً وطهراً فاسداً لأن الدم المتخلل بين الطهرين لا يصلح حيضاً لأنه قصر عن ثلاثة أيام فيفسد الطهر لأنه صار مستوياً بدم أمرت بالصلاة فيه فيكون أيام حيضها ما رأت ابتداء وذلك ثلاثة وأيام طهرها بقية الشهر سبعة وعشرون فنقول: موضع حيضها الثاني من ثلاثين إلى ثلاثة وثلاثين، ومن ابتداء ما رأت إلى يوم الاستمرار أربعة وثلاثين فقد مضى أيام حيضها الثاني بكماله ولو لم تر فيها شيئاً، فتنتقل عادتها من حيث المكان، والعدد على حاله عند أبي يوسف رحمه الله فتستأنف الحساب من أول الاستمرار فتقعد ثلاثة وتصلي سبعة وعشرون وذلك دأبها في زمان الاستمرار. وإن رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً ويوماً دماً وأربعة عشر يوماً طهراً، ثم استمر بها الدم فهذه امرأة رأت دماً صحيحاً وطهراً صحيحاً، لأن الطهر الثاني لما كان أقل من خمسة عشر لم يعتبر، وصار كأنها رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً ثم استمر بها الدم فيجعل ذلك عادة لها في زمان الاستمرار. ويجعل بعد طهر خمسة عشر ثلاثة أيام من حيضها، وخمسة عشر من طهرها ومن بعد طهر خمسة عشر إلى يوم الاستمرار خمسة عشر، فجاء الاستمرار وقد بقي من طهرها الثاني ثلاثة: فتصلي من أول الاستمرار ثلاثة أيام بقية طهرها الثاني وتقعد عشرة وتصلي خمسة عشر وذلك دأبها، بخلاف ما إذا رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً ويوماً دماً وخمسة عشر يوماً طهراً، فإن هناك جعلنا حيضها ثلاثة أيام وطهرها بقية الشهرين سبعة وعشرون؛ لأن هناك الطهر الثاني لم يصر كالدم المتوالي لأنه بلغ خمسة عشر وصار فاصلاً بين الدم يوم وبين دم الاستمرار، ودم يوم لا يمكن أن يجعل حيضاً فتصلي فيه، فيفسد الطهر الأول لمكان هذا اليوم لأنه شابه دم أمرت بالصلاة فيه. أما أن يصير الطهر الثاني كالدم المتوالي فلا. أما ههنا: الطهر الثاني قصر عن خمسة عشر فصار كالدم المتوالي فلهذا افترقا. والله أعلم. هذا إذا رأت دماً وطهراً، فأما إذا رأت دماً صحيحاً وأطهاراً ثم استمر بها الدم فإنه على وجوه: الأول: أن ترى دمين متفقين وطهرين متفقين. نحو أن ترى ثلاثة دماً وخمسة عشر طهراً وثلاثة دماً وخمسة عشر طهراً ثم استمر بها الدم. وفي هذا الوجه تدع الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر لأن ما رأت صارت عادة قديمة لها بالتكرار، ولو كانت رأته مرّة واحدة تعتبر عادة لها في زمان الاستمرار، وأراد به مرتين أولى.

الوجه الثاني: إذا رأت يومين دمين مختلفين وطهرين مختلفين، فإن رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً وأربعة دماً وستة عشر يوماً طهراً ثم استمر بها الدم فلا رواية في هذا الفصل. وقد اختلف المشايخ فيه، وقال الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله: تبني ما رأته في المرة الثانية على ما رأته في المرة الأولى. وتفسير ذلك أنها لما رأت أربعة دماً فثلاثة من ذلك مدة حيضها واليوم الرابع من حساب طهرها إلا أنها تترك الصلاة فيه لرؤية الدم، فلما طهرت ستة عشر فأربعة عشر منها تمام طهرها ويومان مدة حيضها، فلا تترك الصلاة فيه لأن ابتداء الحيض بالطهر لا يكون، فجاء الاستمرار وقد بقي من مدة حيضها يوم، واليوم الواحد لا يكون حيضاً فتصلي إلى موضع حيضها الثاني وذلك ستة عشر ثم تقعد ثلاثة وتصلي خمسة عشر أبداً. وجه قوله: أن المرة الواحدة في حق المبتدأة لنصب العادة كالمرتين في المعتادة، فصار ما رأته أول مرة عادة لها، وصاحبة العادة تبني عند الاستمرار ما لم يُوجد ما ينقصها، كما إذا كانت رأت ذلك مرتين ولم يوجد ما ينقصها لأنها لم تر ما يخالف عادتها مرتين، وقال الفقيه أبو عثمان سعد بن مزاحم السمرقندي رحمه الله: لا تبني ما رأته في المرة الثانية على ما رأته في المرة الأولى ولكن تستأنف الحساب وتبني في زمان الاستمرار على أول المرئي. ووجه قوله: أن ما رأته أول مرة لم يصر عادة لها لأن العادة مشتقة من العود، ولا عود في حق المرئي أولاً لترد إليه فلا ترد إليه بخلاف ما إذا رأت الأول مرتين، والثاني مرة واحدة، ثم جاء الاستمرار حيث تبني الثاني على الأول لأن هناك ما رأته أول مرة صار عادة لها بالتكرار فجاز أن تبني الثاني على الأول، أما ههنا بخلافه ولكن تستأنف الحساب من أول الاستمرار وتبني على أول المرتين لوجود الأقل في الأكثر فتقعد في أول الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر وذلك دأبها، وهذا الاختلاف إنما يتأتي على قول محمد رحمه الله. أما على قول أبي يوسف رحمه الله تبني الأمر في زمان الاستمرار على ما رأته آخر مرة لأن عنده العادة تنتقل برؤية المخالف، مرة فأكثر ما فيه أن ما رأته أول مرة صار عادة لها إلا أنها انتقلت إلى ما رأته الأمر فتبني الأمر في زمان الاستمرار على ما رأته آخراً. الوجه الثالث: أن ترى ثلاثة دماء مختلفة وثلاثة أطهار مختلفة كلها صحاح بأن رأت الدم ثلاثة والطهر خمسة عشر ثم رأت الدم أربعة والطهر ستة عشر، ثم رأت الدم خمسة والطهر سبعة عشر، وفي هذا الوجه لا تبني البعض على البعض بلا خلاف، فرّق الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني على قول محمد رحمه الله بين هذا الوجه وبين الوجه الثاني من حيث إن ههنا رأت خلاف ما رأته أولاً مرتين والعادة تنتقل برؤية المخالف مرتين بخلاف الوجه الثاني لأن هناك رأت المخالف مرة واحدة. ثم إذا لم تبني البعض على البعض في هذا الوجه. ماذا تصنع قال الفقيه محمد بن إبراهيم رحمه الله: تبني أمرها هي على أوسط الأعداد، وهو قول أبي نصر أحمد بن سهل

وأبي عثمان سعد بن معاذ المروزي وأبي بكر الأعمش رحمهم الله، وعلى قول أبي عثمان سعد بن مزاحم السمرقندي رحمه الله أمرُها على أول المرتين الآخرتين، وهو قول أبي يعقوب الغزالي وأبي سهل الغزالي وأبيه أبي نصر رحمهم الله. وثمرة الخلاف لا تظهر في هذه الصورة التي ذكرها، فإن أوسط الأعداد في هذه الصورة أربعة وستة عشر. وأقل المرتين الآخرتين أيضاً أربعة وستة عشر، وإنما تظهر ثمرة الخلاف عند قلب هذه الصورة بأن كانت رأت خمسة دماً وتسعة عشر يوماً طهراً ثم رأت أربعة دماً وستة عشر يوماً طهراً ثم رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً، فعلى قول من يقول بأوسط الأعداد تقعد من ابتداء الاستمرار أربعة وتصلي ستة عشر وذلك دأبها، وعلى قول من يقول بأقل المرتين الآخرتين تقعد من ابتداء الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر. وجه قول من قال بأوسط الأعداد: أن الوسط هو العدل لأن له حظاً من الجانبين وتأكد ذلك بالأثر قال عليه السلام: «خير الأمور أوساطها» فكان اعتباره أولى، وجه قول من قال بأقل المرتين الآخرتين تأكد التكرار لوجود الأقل من الأكثر، فكان اعتباره عادة لها من زمان الاستمرار أولى، والفتوى على هذا لأنه أيسر على النساء، وعلى المفتين، فإن على قول من يقول بأقل المرتين الآخرتين يحتاج إلى حفظ عددين ولا شك أن حفظ عددين أيسر من حفظ ثلاثة أعداد، ويجب أن يكون مبنى الحيض على السعة واليسر لأنه يتعلق بالنساء، وفي عقلهن نوع نقصان، ألا ترى أن مشايخنا أفتوا وأجازوا قول أبي يوسف رحمه الله في انتقال العادة برؤية المخالف لأنه أيسر عليهن. وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. وعلى هذا الاختلاف صاحبة العادة إذا اختلفت أيامها في الحيض والطهر ثم استمر بها الدم فعلى قول محمد بن إبراهيم ينظر إلى أوسط الأعداد الثلاثة في آخر الطهر والحيض، وعلى قول أبي عثمان ينظر إلى أقل المرتين الآخرتين، وسيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى وكان الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام على البزدوي رحمه الله يفتي بأوسط الأعداد إذا كانت المرأة تذكرها وإن لم تذكرها فبأقل المرتين الآخرتين إذا ذكرتهما، وإن لم تذكرهما فبالأخيرة أخذاً بقول أبي يوسف رحمه الله في انتقاض العادة بمرّة على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى. الوجه الرابع: إذا رأت دمين متفقين وطهرين متفقين، ثم إذا رأت بعد ذلك مخالف لهما بأن رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً ثم رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً ثم رأت أربعة دماً وستة عشر يوماً طهراً ثم استمر بها الدم، وفي هذا الوجه على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تصلي من أول الاستمرار بستة عشر لأن عندهما العادة لا تنتقل

برؤية المخالف فيجب البناء على تلك العادة فإذا رأت أربعة دماً فثلاثة من ذلك من حساب حيضها واليوم الرابع من حساب طهرها، فإذا رأت بعد ذلك ستة عشر يوماً طهراً وأربعة عشر من ذلك تمام طهرها ويومان من حساب حيضها ولم تر هي فيهما دماً فلا يمكن اعتباره حيضاً فجاء الاستمرار وقد بقي من حيضها يوم، ولا يمكن اعتبار يوم واحد حيضاً فتصلي هي إلى موضع حيضها الثاني وذلك ستة عشر يوماً ثم تقعد ثلاثة وتصلي خمسة عشر، وذلك دأبها. وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: العادة تنتقل برؤية المخالف مرة وهو المختار للفتوى فتقعد من أول الاستمرار أربعة وتصلي ستة عشر وذلك دأبها. الوجه الخامس: أن ترى دمين متفقين وطهرين متفقين وبينهما ما يخالفهما بأن رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً. ثم رأت أربعة دماً وستة عشر يوماً طهراً ثم رأت ثلاثة دماً وخمسة عشر يوماً طهراً ثم استمر بها الدم، وفي هذا الوجه تقعد من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي خمسة عشر، ويكون ذلك عادة جميلة لها، وإنما سميت هذا عادة جميلة لأنه تكرر على الاتفاق لكنها صحت لتخلل المخالف فسميت جميلة لهذا. أو قيل: إنما سميت هذا عادة جميلة لأنها لو رأت المتفقين على الولاء كان ذلك عادة أصلية لها. وإذا كان بينها ما يخالفهما يجعل ذلك عادة لها على معنى أن يعتبر ما رأته آخراً كالمضمومة إلى ما رأته أولاً لما بينهما من الموافقة فتتأكد هي بالتكرار ويصير عادة لها في زمان الاستمرار، وتغيير العادة الجعلية وأحكامها يأتي بعد هذا على سبيل الاستقصاء إن شاء الله. وهذا التكلف إنما يحتاج إليه لتخريج المسألة على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا على قول أبي يوسف رحمه الله لأن على قوله: العادة تنتقل برؤية المخالف مرة، فحين رأت أول مرة ثلاثة وخمسة عشر صار ذلك عادة أصلية لها. فإذا رأت بعد ذلك أربعة وستة عشر صار ذلك عادة أصلية لها، فإذا رأت بعد ذلك ثلاثة وخمسة عشر صار ذلك عادة أصلية يبنى عليها في زمان الاستمرار. هذا الذي ذكرنا إذا ابتدأت وبلغت بالحيض، فأما إذا ابتدأت وبلغت بالحبل وقد يكون ذلك بأن حبلت من زوجها قبل أن تحيض فيكون بلوغها بالحبل فولدت (واستمر) بها الدم فنفاسها أربعون يوماً عندنا، وعند الشافعي ساعة وهو يعتبر أقل النفاس لكونه منتفعاً به. ونحن نعتبر أكثرها للإمكان لأنها مبتدأة في حق النفاس، ألا ترى أن في المبتدأة بالحيض اعتبرنا أكثر الحيض وهي عشرة إذا استمر بها الدم لوجود الإمكان، فكذا في حق النفاس ولأن الصلاة قد تسقط عنها برؤية دم النفاس بيقين فلا يرتفع السقوط إلا بيقين مثله قبل الأربعين وبعد الأربعين يجعل عشرون يوماً طهراً لأنه لا يتوالى نفاس وحيض لا طهر بينهما كما لا يتوالى حيضان لا طهر بينهما، وإنما قدرنا الطهر بالعشرين في حقها لأن العشرة الأخيرة من النفاس استحق العشرة الأولى من الشهر الثاني. ولو صارت العشرة من الشهر مستحقة بالحيض كما (35ب1) في المبتدأة بالحيض إذا استمر بها الدم كان الباقي من الشهر وذلك عشرون طهراً فلذا إذا استحقت بالنفاس لأن النفاس نظير

الحيض ثم بعد ذلك حيضها عشرة لأنها مبتدأة في حقّ الحيض وطهرها عشرون وذلك دأبها. وكذلك لو طهرت بعد الأربعين أقل من خمسة عشر ثم استمر بها الدم كان الجواب كما قلنا لأن هذا طهر قاصر لا يصلح للفصل بين الحيض والنفاس فكان كالدم المتوالي. فإن طهرت بعد الأربعين خمسة عشر يوماً ثم استمر بها الدم فإنها تدع الصلاة من أول الاستمرار عشرة أيام لأن طهر خمسة عشر طهر صحيح فتصير عادة لها بالمرة الواحدة. ولا عادة لها في الحيض فيكون حيضها عشرة فتدع الصلاة من أول الاستمرار عشرة وتصلي خمسة عشر ويكون دورها في كل خمسة وعشرين ثم نسوق المسألة إلى أن تقول طهرت بعد الأربعين أحد وعشرين ثم استمر بها الدم ولا رواية في هذه الصورة، وقد اختلف المشايخ فيه، قال محمد بن إبراهيم رحمه الله: تدع الصلاة من أول الاستمرار تسعة وتصلّي أحد وعشرون وذلك دأبها قال: لأن طهر أحد وعشرين طهر صحيح وعادتها في الطهر والحيض على ما عليه الغالب توجد في كل شهر فإذا صار أحد وعشرون طهراً لا يبقى الحيض إلا تسعة. قال أبو عثمان سعد بن إبراهيم: تدع الصلاة من أول الاستمرار عشرة وتصلي أحد وعشرون ويكون دورها في كل أحد وثلاثين يوماً. قال: لأن أكثر الحيض وهو عشرة معلوم في نفسه فلا ضرورة إلى تقديره....... الشهر بخلاف الطهر إذ ليس لأكثر الطهر غاية معلومة فإذا تعين بعض الشهر للحيض تعين الباقي للطهر قال الصدر الشهيد رحمه الله: هذا القول أليق مذهب أبي يوسف رحمه الله ظاهراً فيفتى به. ثم يسوق المسألة إلى أن تقول: طهرت بعد الأربعين تسعة وعشرين ثم استمر بها الدم فعلى قول محمد بن إبراهيم رحمه الله حيضها من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي لأنه هو الباقي من الشهر، ويمكن أن يجعل حيضها فتدع الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة وتصلي سبعة وعشرون وذلك دأبها، وعلى قول أبي عثمان: حيضها من أول الاستمرار عشرة فتدع الصلاة من أول الاستمرار عشرة وتصلي سبعة وعشرين وذلك دأبها ويكون دورها على قول أبي عثمان في كل سبعة وثلاثين. وإن طهرت بعد الأربعين ثمانية وعشرين يوماً ثم استمر بها الدم فههنا حيضها من أول الاستمرار عشرة ودورها في كل ثمانية وثلاثين بالاتفاق لأنه لم يبق من الشهر ههنما ما يمكن أن يجعل حيضاً، فرجعنا إلى أكثر الحيض وتركنا معنى اجتماع الحيض والطهر في شهر واحد على قول من قال بذلك في الفصل المتقدم. فإن رأت بعدما ولدت أحداً وأربعين يوماً دماً ثم خمسة عشر طهراً ثم استمر بها الدم فعلى قول محمد بن إبراهيم رحمه الله: نفاسها أربعون وطهرها عشرون لأنها صلت

في اليوم الحادي والأربعين بالدم فيفسد طهر خمسة عشر ولا يصلح لنصب العادة فصار كما لو ولدت واستمر بها الدم، وهناك يجعل نفاسها أربعون، وبعد الأربعين يجعل عشرين لطهرها، وبعد ذلك عشرة لحيضها، ومن بعد الأربعين إلى وقت الاستمرارستة عشر، بقي إلى تمام طهرها أربعة، فمن ابتداء الاستمرار تصلي أربعة وتدع الصلاة عشرة ثم تصلي عشرين ثم تدع الصلاة عشرة، وذلك دأبها. على قول أبي علي الدقاق رحمه الله طهرها ستة عشر وحيضها عشرة، فمن أول الاستمرار تدع الصلاة عشرة وتصلي ستة عشر وذلك دأبها. (نوع آخر) في الانتقال يجب أن يعلم بأن الانتقال نوعان: أنتقال الحيض عن موضعه وانتقاله عن عدده، فصورة أنتقال الموضع أن يكون لها أيام حيض معروفة، فلا ترى هي في موضع حيضها مرتين على الولاء، فينتقل حيضها عن موضعه والعدد على حاله، وتستأنف الحساب من أسرع ما يمكن وذلك من أول الاستمرار فتدع الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة أيام ثم تصلي خمسة عشر، ثم تدع ثلاثة وتصلي خمسة عشر وذلك دأبها، وكما تنتقل العادة في الحيض بعدم الرؤية في موضعه مرتين تنتقل بعدم الرؤية في موضعه مرة واحدة والعدد على حاله عند أبي يوسف رحمه الله وعليه الفتوى. وعلى قوله لا تتفرع مسائل الإبدال لأن مسائل الإبدال، إنما يتفرع على قول من لا يرى الانتقال بعدم الرؤية مرة. صورة انتقال العدد أن يكون لها أيام معروفة في الحيض والطهر، فرأت خلاف عادتها مرتين متفقتين على الولاء، فإنه تنتقل عادتها في الحيض والطهر عن موضعها وعددها، وتصير عادتها ما رأت مرتين في الحيض والطهر بلا خلاف لأن العدد الأول إنما صار عادة لها لرؤيتها ذلك مرتين متفقتين على الولاء فإذا رأت خلاف ذلك مرتين فقد زال ما ثبت لها به العادة الأولى، ووجد مثل ذلك في حق الثانية عادة لها. وتبطله الأولى حتى ترد عند الاستمرار إلى ما رأته آخراً. وإن رأت خلاف عادتها الأصلية مرة ثم استمر بها الدم لم تنتقل عادتها إلى ما رأته آخراً في الروايات الظاهرة عن أصحابنا، وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله أنها تنتقل. وجه «ظاهر الرواية» : أن الأولى صارت عادة لها لتأكدها بالتكرار على الولاء ولم يوجد التكرار في الثانية فلم تكن الثانية مثل الأولى بل كانت دونها فلا تبطل بها الأولى. ووجه رواية بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمهما الله: أن القياس ما قال. إلا أني استحسنت هذا لتيسير الأمر على النسوان لأن العادة الأصلية إذا لم تنتقض برؤيتها خلافها مرة احتاجت هي إلى حفظ ثلاثة دماً وثلاثة أطهاراً إن كانت رأت دماً وأطهاراً مختلفة على قول من يقول بأوسط الأعداد وإلى حفظ دمين وطهرين على قول من يقول بأقل المرتين الأخريين.

وإذا انتقلت عادتها الأصلية برؤية المخالف مرة تحتاج هي إلى حفظ دم واحد وطهر واحد، ولا شك أن حفظ الشيء الواحد أيسر من حفظ المثنى والثلاث. وكثير من المشايخ أفتوا برواية بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمهما الله، ونحن نفتي به أيضاً والله أعلم. ومما يتصل بهذا النوع: معرفة أنواع العادة فنقول: العادة نوعان: أصلية وجعلية فالأصلية أن ترى دمين متفقين وطهرين متفقين على الولاء أو دماء متفقة وأطهاراً متفقة على الولاء. والجعلية أنواع: جعلية في حق الطهر والدم جميعاً: وذلك بأن ترى أطهاراً مختلفة ودماء مختلفة أو ترى دمين متفقين وطهرين متفقين وبينهما مخالف ثم استمر بها الدم، فيجب البناء، إما على أوسط الأعداد الثلاثة الأخيرة أو على أقل المرتين الأخريين على حسب ما اختلفوا فنسمي ذلك عادة جعلية في الدم والطهر جميعاً. وجعلية في الطهر دون الدم بأن ترى هي أطهاراً مختلفة، أو ترى طهرين متفقين وبينهما طهر يخالفهما ثم يستمر بها الدم فيجب البناء في حق الطهر على أوسط الأعداد الثلاثة (36أ1) الأخيرة أو على أعلى المرتين الأخرتين تصير عادتها في الطهر جعلية. وجعلية في حق الدم دون الطهر بأن ترى دماء مختلفة أو دمين متفقين وبينهما دم يخالفهما ثم يستمر بها الدم، فيجب البناء في حق الدم على أوسط الأعداد الثلاثة الأخيرة أو على أقل المرتين الآخرتين فتصير عادتها في الدم جعلية، وهذا لأن العادة مشتقة من العود، ومطلق العود إنما ينطلق على العود على الولاء اسماً ومعنىً. فإذا اختلفت الدماء والأطهار والعود في أوسط الأعداد أو أقل المرتين الآخرتين على حسب ما اختلفوا، وجد من حيث المعنى دون الاسم، وكذلك في حق الطهرين والدمين وبينهما مخالف، والعود في حق المعنى: أن يوجد اسماً لم يوجد التوالي، فلوجود بعْض ما اشتق منه العادة اعتبرناها عادة لها عند الضرورة، ولعدم بعض ما اشتق منه لم يسمها عادة أصلية، بل سميناها عادة جعلية. وهذه العادة الجعلية إذا اعترضت على العادة الأصلية ثم جاء الاستمرار هل تنتقض العادة الأصلية؟ قال مشايخ بلخ: لا تنتقض الأصلية، وقال مشايخ بخارى: تنتقض، وبيان ذلك: أن المرأة إذا كانت لها عادة أصلية في الحيض والطهر فرأت دماء مختلفة وأطهاراً مختلفة ونصبت بأوسط الأعداد. وأقل المرتين الآخرتين عادة لها، ثم جاء الاستمرار فإنها تبني الأمر في بيان الاستمرار على ما جعل عادة لها عند مشايخ بخارى، وعند مشايخ بلخ: تبني الأمر في زمان الاستمرار على ما كانت عادة لها في الأصل. وجه قول مشايخ بلخ أن العادة الجعلية دون العادة الأصلية على ما مرّ، فلا تنتقض العادة الأصلية ولأن الجعلية اعتبرت عادة لها بطريق الضرورة ليمكن اعتبار حكم الحيض والطهر في حقها مع وجود المنافي لكونه عادة لها، وهو كونها فرداً والثابت بالضرورة يتقدر بقدر الضرورة، ولا ضرورة إلى نقض العادة الأصلية، فلا ينتقض بها.

وجه قول مشايخ بخارى: أن العادة الجعلية لا تنفك عن تكرار المخالف للعادة الأصلية إلا أنه مختلف في نفسه ولكن مع اختلافه على مخالفة الأصل، فكان هذا بعض المكرر بالمكرر وإنه جائز، وهذه العادة الجعلية تنتقض برؤية المخالف مرة بالإجماع لأن العادة الجعلية فرد في نفسه لأنه أوسط الأعداد الثلاثة أو أقل المرتين الأخريين، والفرد ينتقض بالعدد. والحاصل: أن العادة الجعلية لا تنفك عن تكرار المخالف للعادة الأصلية لكن وجب، فيعتبر واحد من هذه الأعداد بضرب اجتهاد ضرورة نصب العادة لها، وذلك الواحد فرد في نفسه فنقض بالعدد لكونه مثلاً له، ولكن الجملة المخالفة لأصل عدد في نفسها فانتصبت بها العادة الأصلية، وهذا الكلام في غاية الظهور ونهاية الوضوح والله أعلم. ومما يتصل بهذا النوع من المسائل إذا كان للمرأة عادة أصلية في الحيض والطهر، فوقعت الحاجة إلى نصب العادة لها برؤية أطهار مختلفة ودماء مختلفة، ونصب العادة أوسط الأعداد عادة لها على قول من يقول به، فوافق ذلك العادة الأصلية، فإنه يطرح المأخوذ ثم ينظر إلى أوسط الأعداد من الباقي أو إلى أقل المرتين الآخرتين، فإن وافق ذلك العادة الأصلية علم أن العادة الأصلية باقية فتبني عليها، فإن لم توافق هذه العادة الأصلية علم أن العادة الأصلية قد بطلت فيصير المطروح عادة جعلية لها. بيان هذا: المرأة عادتها في الحيض عشرة وفي الطهر عشرون، طهرت ثلاثين يوماً ثم رأت الدم عشرة ثم طهرت أربعين يوماً، ثم رأت الدم عشرة ثم طهرت خمسة عشر يوماً ثم رأت الدم عشرة أيام، ثم طهرت عشرون ثم استمر بها الدم. فنقول: أوسط الأعداد في الطهر عشرون لأنها طهرت مرة ثلاثين ومرة أربعين ومرة خمسة عشر ومرة عشرون، فعشرون أوسط الأعداد الثلاثة الأخيرة. وإنما يعتبر أوسط الأعداد من الثلاثة التي قبل الاستمرار فإنه موافق للعادة الأصلية فيطرح ذلك، فيبقى بعده خمسة عشر وثلاثون وأربعون. وأوسط الأعداد منها ثلاثون فإنه ليس بموافق للعادة الأصلية، فعلم أن العادة الأصلية قد انتقضت لأنها رأت بخلافها مرتين فتبني على المطروح، وهو دم عشرة وطهر عشرين ويصير ذلك عادة جعلية لها. ولو رأت الدم عشرة والطهر ثلاثين والدم عشرة والطهر خمسة عشر والدم عشرة والطهر عشرين ثم استمر بها الدم، فأوسط الأعداد عشرون وإنه يوافق العادة الأصلية فيطرح ذلك، فتبني بعده خمسة عشر وثلاثون، وما كان في الأصل عادة لها وذلك عشرون فالأوسط عشرون، فعلمنا أن العادة الأصلية لم تنتقض لأنه لم ير بخلافها إلا مرة فيبنى عليها ما بعدها. فإذا طهرت ثلاثين يوماً فعشرون منها زمان طهرها وعشرة من حساب حيضها، ثم رأت الدم عشرة وهو ابتداء طهرها فإن رأت الطهر خمسة عشر فعشرة من ذلك من حساب طهرها وخمسة من حساب حيضها، ثم رأت الدم بعده عشرة فخمسة من ذلك بقية حيضها

وخمسة من حساب طهرها ثم رأت الدم بعده عشرين يوماً فخمسة عشر يوماً من ذلك بقية طهرها وخمسة من حساب حيضها ثم استمر بها الدم، وقد بقي من مدة حيضها فتدع الصلاة خمسة أيام من أول الاستمرار ثم تصلي عشرين ثم تدع الصلاة عشرة وذلك دأبها والله أعلم بالصواب. (نوع آخر) في الإبدال على قول من يرى ذلك. إذا كان للمرأة أيام حيض وأيام طهر معروفة فلم تر هي في موضع حيضها بمرة فإنها تصلي إلى موضع حيضها بمرة الثاني ولا يبدل لها في وقت طهرها وإن رأت الدم فيه عند أبي حنيفة رحمه الله لما فيه من نقل العادة بمرة وقال محمد رحمه الله: يبدل لها بقدر أيامها إذا أمكن الإبدال. وإنما يثبت الإمكان بأن كان يبقى بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني طهر خمسة عشر يوماً، فإن كان لا يبقى بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني طهر خمسة عشر إلا أنه يمكن أن يجر من موضع حيضها الثاني إلى بقية طهرها ما يتمه خمسة عشر يوماً ويبقى بعد الجر في موضع حيضها الثاني ما يكون حيضاً فإنه يجر لأن مبنى الحيض على الإمكان وإنه موجود إذا بقي بعد الإبدال مدة طهر تام أو أمكن تتميمه بالجر، وهذا لأن المرأة لا تبقى عادتها في الحيض على صفة واحدة ولكنها تتقدم تارة وتتأخر أخرى، فيعتبر المرئي فيها حيضاً ما أمكن اعتباره حيضاً من الوجه الذي بيّنا. وكان أبو زيد الكبير وأبو يعقوب الغزالي يأخذان بقول محمد رحمه الله بالبدل ما لم يحتج إلى الجر، فإذا احتيج إليه لا يأخذان بقوله، وكان الشيخ الإمام الزاهد وأبو حفص الكبير البخاري رحمه الله والفقيه محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله يقولان يبدل لها بقدر ما يفني فيه عن الجر وكثير من المشايخ المتأخرين أخذوا بقول محمد رحمه الله واختاروا قول الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص والفقيه محمد بن مقاتل رحمهما الله. حجة أبي حنيفة رحمه الله في نفي البدل أصلاً، ما ذكرنا في البدل اتهام بنقل العادة برؤية المخالف مرة واحدة. وجه قول محمد رحمه الله في إثبات أصل البدل أن هذا دم خارج من قبل المرأة في وقته لخروجه عقيب طهر صحيح فيجعل هو حيضاً كالأصل وهو الدم المرئي في وقته، وهذا لأن الغالب من عادات النساء أنها لا تدوم على وقت واحد وعلى عدد واحد، بل تتقدم مرة وتتأخر مرة وتزداد مرة وتنقص مرة أخرى، ثم يجوز أن يسقط اعتبار العدد برؤية المخالف مرة، فإن المرأة إذا كان أيام حيضها خمسة، رأت خمسها واستمر بها الدم إلى العشرة كانت العشرة كلها حيضاً بالإجماع، فكذا يجوز أن يسقط اعتبار الوقت مرة لم تر في وقتها المعروف مرة، وما قال أبو حنيفة رحمه الله من إيهام النقل برؤية المخالف مرة فكذلك من حيث الصورة لا من حيث الحكم لأن البدل يلتحق بموضع الأصل، ألا ترى أن الإمام إذا لم يقرأ في الأوليين من الظهر وقرأ في الأخريين فإنه تنتقل قراءته إلى (36ب1) الأوليين، حتى لو اقتدى به رجل في الأخريين ولم يقرأ فيما، يقضي في ركعة

واحدة أو في ركعتين تفسد صلاته؛ لحصولها بغير قراءة، لانتقال قراءة الإمام إلى الأوليين كذا ههنا، وإذا ثبت الإبدال على قول محمد رحمه الله يبدل لها ما أمكن، والإمكان بالطريق الذي قلنا. وإذا لم يبق بعد الجر في موضع حيضها الثاني ما يصلح أن يكون حيضاً لا يبدل لها؛ لأن إثبات البدل في هذه الحالة يؤدي إلى إسقاطه ثابتاً؛ لأنما يثبت البدل لها عن عادتها الأولى، فإذا لم تبق بعد الجر في موضع حيضها الثاني ما يمكن اعتباره حيضاً لم يرَ الحيض في موضعها مرتين على الولاء، فيجب الانتقال، وإبطال العادة الأولى واستئناف الحساب في موضع البدل، فيفسد البدل؛ لأنه كان بدلاً عن العادة الأولى، وقد بطلت العادة الأولى، فلم يجز القول بالبدل في هذه الحالة فتصلي إلى موضع حيضها الثاني، كما قاله أبو حنيفة رحمه الله. وجه قول أبي زيد وأبي يعقوب الغزال: أن القول بالجر يؤدي إلى محال وهو إيجاب الصلاة عليها في حالة الحيض، وإيجاب ترك الصلاة في حالة الطهر. بيانه: أن المجرور حيض حقيقة، وإذا صح الجر يصير طهراً فتصلي فيه، والبدل حيض حقيقة إن كان دماً فهو في حالة الطهر؛ إذ العادة لم تنتقل برؤيتها خلافها مرة لا من حيث الموضع، ولا من حيث العدد، فتعينت هذه الحالة طهراً حكماً، فلو صح البدل تركت من الصلاة فيه فهو معنى قولنا: إن الجر يؤدي إلى المحال وما يؤدي إلى المحال فهو محال، ومحمد رحمه الله يقول: في الجر وقوع الخلل في بعض الحيض، وهو الصلاة في المقدار الذي يُجره وفي نفي الجر وقوع الخلل في دم البدل، فإنه دم خارج عن القبل في أوانه، فكان حيضاً كالأصل، فيجب ترك الصلاة فيه. وإذا لم تجز صلّت هي في جميعه، ولا شك أن وقوع الخلل في البعض أهون من وقوع الخلل في الكل ثم يجوز أن يبدل لها أكثر من أيامها وأقل من أيامها، ولا يجوز أن يبدل لها أكثر من أيامها إلا أن يكون قبله أو بعده طهر تام؛ وهذا لأن البدل في أصول الشرع قد يكون مثل الأصل كضمان المتلفات وأروش الجنايات، وقد يكون هو دون الأصل كالتيمم الذي هو بدل عن الوضوء، فللبدل مثل أيامها وأقل من أيامها نظير في الشرع فيجوز البدل به أما لا يوجد في أصول الشرع بدل هو أكثر من المبدل، فإن البدل لا يربو حاله قط على حال المبدل، فلا يمكن اعتباره بدلاً على الإطلاق، فقيل: إذا كان قبله وجد طهر ناقص لم يكن اعتباره أصلاً، فجعل قدر أيامها بدلاً لا غير؛ لأنه دم فاسد؛ لأنه دم استحاضة، ولا يراد حيض المستحاضة على أيامها، وقيل: إنه إذا كان هو تاماً بين طهرين تاميين بأن كان حيضها ثلاثة فرأت في عشرة دماً، ولم يجاوز كان كله حيضاً؛ لأنه دم خال عن الاستحاضة، فكان هو أصلاً لا بدلاً، ثم يجوز البدل بعد أيامها كيف ما كان، ولا يجوز البدل قبل أيامها إلا أن تكون على أثر طهر تام؛ لأن الطهر الصحيح متى وجد إنما وجد بتوقع بعدها وجود دم حيض عند محمد رحمه الله، فإن من مذهبه أن المرأة إذا رأت عشرة أيام دماً خمسة قبل أيامها، وخمسة في أيامها إن كل ذلك

حيض إذا كان الطهر قبله وبعده تاماً، فإذا انقضت أيامها ولم ترَ فيه ما يكون حيضاً بتوقع منها بعده وجود دم الحيض، فإذا وجد كيف ما كان حكم بالبدل منه. وكذا الذي قبل أيامها إذا كان على إثر طهر تام، فإنه مرئي في وقت كان دم الحيض متوقعاً منها، فجعل هو حيضاً وحكم بالبدل منه تامّاً إذا لم يكن هو على إثر طهر تام، فهو غير مرئي في وقت كان دم الحيض متوقعاً منها؛ لأن المرئي بعد الطهر الناقص لا يكون حيضاً ولم تجىء عادتها بعد، فإذا رأت الدم فقد رأتْهُ في وقت لم تتوقع منها دم الحيض، فأُمرت بالصلاة فيه. ثم اختلف المشايخ في مراد محمد رحمه الله في قوله: لا يبدل لها قبل أيامها إلا أن يكون على إثر طهر تام، قال الحاكم أبو نصر أحمد بن مهروبه: أراد التصحيح الخالص الذي لا يشوبه دم تؤمر المرأة بالصلاة فيه لا التام مع الفساد، وقال بعض المشايخ: أراد بالتام أن يكون خمسة عشر يوماً، لا أن يكون صحيحاً خالصاً؛ لأن الصحة والخلوص في الطهر إنما يشرط لتنقل العادة؛ لأن الأصل صار عادة لها لرؤيتها الدم الخالص من طهرين خالصين، فلا تنتقل هي إلا برؤيتها، خلافاً على هذه الصفة، فأمّا الخلوص لغير شرط لضرورة الدم بعده حيضاً، وإذا أمكن البدل من موضعين يبدل من أسرعهما، وهو معنى قول محمد رحمه الله في «الكتاب» : إذا أمكن البدل قبل أيامها، وبعد أيامها يبدل لها قبل أيامها، وهذا لأن البدل يعتبر بالأصل وفي الأصل، وهي المبتدأة متى أمكن اعتبار الحيض في الموضعين جعل هو من أسرعهما إمكاناً، فكذا في البدل. ثم علامة مسائل البدل على قول محمد رحمه الله: أن كل امرأة وجب عليها أن تصلي إلى موضع حيضها الثاني سبعة عشر أو أقل من ذلك، فلا يبدل لها عند محمد رحمه الله، وكل امرأة وجب عليها أن تصلي إلى موضع حيضها الثاني ثمانية عشر أو أكثر من ذلك يبدل لها عنده. جئنا إلى تخريج المسائل على الأصول فنقول: المرأة إذا كانت عادتها في الدم خمسة، وفي الطهر عشرون وطهرت من اثنين وعشرين ثم استمر بها الدم يجعل حيضها من أول الاستمرار ثلاثة؛ لأنها رأت في أيامها ما يمكن أن يجعل حيضاً، ولو طهرت ثلاثة وعشرون ثم استمر بها الدم، فعند أبي حنيفة رحمه الله: أن تصلي إلى موضع حيضها الثاني، ذلك اثنان وعشرون يوماً، وعند محمد رحمه الله يبدل لها خمسة أيام من أول الاستمرار؛ لأن الباقي بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني سبعة عشر يوماً، وكذلك إن طهرت أربعة وعشرين أو خمسة وعشرين يوماً ثم استمر بها الدم، فإنه يبدل لها خمسة أيام عند محمد رحمه الله؛ لأن الباقي بعد الإبدال إلى موضع حيضها الثاني ستة عشر أو خمسة عشر، فتدع الصلاة من أول الاستمرار خمسة، ثم تصلي خمسة عشرة ثم تدع خمسة وتصلي عشرين. ولو طهرت بستة وعشرين يوماً ثم استمر بها الدم فعلى قول أبي يعقوب، وأبي زيد

الكبير لا يبدل لها، لأن الباقي بعد البدل أربعة عشر، فلا يمكن القول بالبدل إلا بطريق الجر، وهما لا يريان الجر، ولكنها تصلي إلى موضع حيضها الثاني، كما هو قول أبي حنيفة رحمه الله، فتصلي من أول الاستمرار تسعة عشر يوماً ثم تدع الصلاة خمسة، وتصلي عشرين، قول محمد رحمه الله يبدل لها خمسة أيام؛ لأن البدل بطريق الجر ممكن، فيجر من موضع حيضها الثاني يوماً إلى بقية طهرها حتى يتم خمسة عشر يوماً، وتدع الصلاة من أول الاستمرار أربعة وتصلي عشرين، ثم تدع خمسة وتصلي عشرين، وعلى قول الشيخ الإمام أبي حفص، والفقيه محمد بن مقاتل رحمهما الله: تبدل لها أربعة حتى يستغنى عن الجر فتدع الصلاة من أول الاستمرار أربعة وتصلي خمسة عشر، ثم تدع خمسة وتصلي عشرين وكذلك إن طهرت تسعة وعشرين ثم استمر بها الدم، فالتخريج على هذا. وإن طهرت في ثمانية وعشرين يوماً، فلا يبدل لها ولكنها تصلي إلى موضع حيضها الثاني؛ لأنه يبقى بعد الإبدال من طهرها اثنا عشر يوماً، فلو جررنا إليها ثلاثة من موضع حيضها الثاني ما أمكن اعتباره حيضاً، فلا يبدل لها ولكنها تصلي إلى موضع حيضها الثاني، وذلك سبعة (عشر) يوماً، ثم تدع الصلاة خمسة وتصلي عشرين إذا كان أيام حيضها خمسة وأيام طهرها عشرون، وطهرت خمسة عشر يوماً، ثم رأت خمسة دماً وطهرت أيامها فعند محمد رحمه الله يبدل لها الخمسة المتقدمة. ولو طهرت أربعة عشر يوماً ثم رأت ستة دماً طهرت أيامها فلا يبدل لها من المتقدم لفساده؛ لأنها صلّت في يوم منه، وهو اليوم الخامس عشر، وإنه يريد قول الحاكم أبي نصر، ولو كانت عادتها في الحيض ثلاثة وفي الطهر سبعة وعشرون، فطهرت خمسة عشر يوماً، ثم رأت الدم ثلاثة ثم طهرت في اثني عشر يوماً ثم رأت الدم؛ (37أ1) فإنها لم ترَ في أيامها شيئاً، فيبدل لها الثلاثة التي رأتها بعد طهر خمسة عشر؛ لأنها مرئية عقيب طهر صحيح، فيبدل لها تلك الثلاثة إلا ما رأته بعد أيامها؛ لأن تلك الثلاثة أسرعهما إمكاناً. (نوع آخر) في الزيادة والنقصان في أيام الحيض صاحبة العادة المعروفة في الحيض إذا رأت الدم زيادة على معروفها يجعل ذلك كلّه (حيضاً) ما لم يجاوز المرئي عشرة، فإن جاوز المرئي العشرة ردت إلى معروفها، والثاني يكون استحاضة؛ وهذا لأن طبعها لا يكون على صفة واحدة بل قد يقوى ويزداد حيضها وقد يضعف فيتعين حيضها ومبنى الحيض الإمكان، فإذا اقتصر على العشرة أمكن أن يجعل ما زاد على معروفها حيضاً. وإذا جاوز العشرة لا يمكن أن يجعل ما زاد على معروفها حيضاً؛ لأنه تجاذبه جانبان فاعتباره بمعروفها يجعله حيضاً واعتباره بما زاد على العشرة يجعله استحاضة، والترجيح بجانب ما زادت على العشرة؛ لأن الزيادة على معروفها لم تظهر إلا مع مدة الاستحاضة، فالظاهر أنه عن علة.

ولو كانت عادتها في الحيض خمسة فرأت الدم في اليوم السادس، فعلى قول مشايخ بلخ رحمهم الله: تؤمر هي بالاغتسال والصلاة؛ لأن الدم في اليوم السادس متردد أن يكون حيضاً بأن اقتصر على العشرة، وبين أن يكون استحاضة بأن تزيد هي على العشرة، فلا تترك هي الصلاة مع التردد؛ لأن الدم في موضع الدم في اليوم السادس لا يكون حيضاً إلا بشرط الانقطاع على رأس العشرة، وإنه موهوم، فلا تترك الصلاة باعتبار أمر موهوم. وكان الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله يقول: لا تؤمر بالصلاة ولا بالاغتسال لأنا عرفناها حائضاً بيقين لرؤيتها ما يكون حيضاً في حقها ودليل بقائها حائضاً ظاهر، وهو سيلان الدم وهذه الزيادة لا تكون استحاضة إثباتاً للاستمرار حتى تجاوز العشرة، وإنه غير ثابت للحال، فتبقى حائضاً حتى يستبين أمرها، فإن جاوز الدم العشرة حينئذٍ تؤمر بقضاء ما تركت من الصلاة بعد أيامها واعتبر هذه بالمبتدأة فإن المبتدأة لا تؤمر بالصلاة والاغتسال مع رؤية الدم ما لم تجاوز العشرة، وكان الصدر الشهيد حسام الدين يفتي في هذه الصورة: بأنها تؤمر بالاغتسال ولا تؤمر بالصلاة؛ لأن هذا أقرب إلى الاحتياط. ولو كانت عادتها في الحيض خمسة، فطهرت في اليوم الرابع، فإنها تؤمر بالاغتسال إذا خافت فوت الوقت، وتؤمر بالصلاة ههنا؛ لأن هذه طهرٌ ظاهر وفي المسألة المتقدمة: هو دم ظاهر فأخذنا في كل ذلك بالاحتياط. ولو كانت عادتها في الحيض خمسة في أول كل شهر، فرأت ثلاثة وماً في أول شهر، ثم انقطع دمها سبعة أيام أو ستة أيام ثم رأت يوماً فخمسة من أول الشهر حيض عند أبي يوسف رحمه الله؛ لأنه يجوز ختم الحيض بالطهر، وعند محمد رحمه الله الثلاثة الأول هي الحيض؛ لأنه لا يرى ختم الحيض بالطهر، هكذا ذكر محمد رحمه الله المسألة في «الأصل» والمسألة في الستة مشكلة؛ ثلاثة قبل الستة دم ويوماً بعدها دم فالجملة عشرة، فيمكن جعل الكل حيضاً عند أبي يوسف رحمه الله، وقد أجاب أن حيضها خمسة عند أبي يوسف. والصحيح أن يزاد على طهر ستة ساعة أو ما أشبهها أو على يوم الحيض بعدها، ويصير تقدير المسألة: فرأت ثلاثة دماً في أول شهر، ثم انقطع دمها سبعة أيام أو ستة وساعة ثم رأت يوماً دماً، أو يصير تقدير المسألة: رأت ثلاثة دماً في أول الشهر ثم انقطع دمها سبعة أيام أو ستة ثم رأت يوماً دماً أو أكثر أو زيد على العشرة فيردّ إلى معروفها عند أبي يوسف رحمه الله. ولو رأت يومين دماً في أول العشرة ويومين دماً في آخر العشرة، فخمستها المعروفة هي الحيض عند أبي يوسف رحمه الله: إذا كان اليومان الآخران هي اليوم العاشر واليوم الحادي عشر، فأما إذا كان اليومان الآخران هي اليوم التاسع فالعاشر، والكل حيض عند أبي يوسف، وعند محمد رحمه الله شيء من ذلك لا يكون حيضاً؛ لأن الطهر غالب على

الدمين، فصار فاصلاً بينهما، وكل واحد من الدمين بانفراده لا يصلح حيضاً فلا يجعل شيء من ذلك حيضاً. ولو رأت في العشرة يومين دماً فرأت اليوم العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر دماً فحيضها خمستها عند أبي يوسف؛ لأن الطهر فيه قاصر، فصار كالدم المتوالي، وعند محمد الثلاثة الأخيرة حيض؛ لأن الإبدال ممكن فيه؛ لأنه يبقى إلى موضع حيضها الثاني مُدّة طهر كامل. ولو رأت في أول خمستها يوماً دماً ويوماً طهراً، حتى جاوز العشرة فخمستها هي الحيض عندهم جميعاً؛ لأن ابتداء الخمسة وختمها كان بالدم والطهر قاصر، فإن طهرت يوماً من أول الشهر، ثم رأت يوماً دماً ويوماً طهراً حتى جاوز العشرة، فاليوم الأول ليس بحيض عندهم؛ لأنه لم يتقدَّمه دم وهو طهر في نفسه، وأبو يوسف رحمه الله إنما يجوز ابتداء الحيض بالطهر إذا تقدمّه دم الاستحاضة، والأربعة الباقية من أيامها حيض عند أبي يوسف؛ لأنه يختم الحيض بالطهر إذا تعقبه دم، وعند محمد رحمه الله حيضها اليوم الثاني، والثالث والرابع؛ لأن اليوم الأول والخامس كانا طهرين وإن وقف الدم على العشرة؛ لأن ما بعد اليوم الأول حيض كلّه، ولو رأت يوماً دماً قبل رأس الشهر ومن أول الشهر يوماً طهراً ثم يوماً دماً إلى العشرة، فجميع ذلك حيض عند أبي يوسف إلا اليوم العاشر؛ لأنه لم يُرَ فيه، ولا بعده وما سواه وجد فيه شرط إمكان الحيض، فيعتبر حيضاً، فإن جاوز الدم العشرة، فحيضها خمستها المعروفة عند أبي يوسف وعند محمد رحمه الله حيضها ثلاثة أيام من معروفها، وهو اليوم الثاني والثالث والرابع لطهرها في اليوم الأول والخامس، والله أعلم. (نوع منه) في تقدم الحيض وتأخره هذا النوع يشتمل على ثلاثة أقسام: قسم في المتقدم، وقسم في المتأخر، وقسم في الجمع بينهما. أما القسم الأول: فهو على وجوه: الأول: إذا رأت في أيامها ما يكون حيضاً، فرأت قبل أيامها ما لا يكون حيضاً، بأن كان المرئي في أيامها ثلاثة، والمرئي قبل أيامها أقلّ من ثلاثة، وفي هذا الوجه روايتان عن أبي حنيفة، روى محمد عنه: أن المتقدم لا يكون حيضاً، وروى الحسن عنه: أن الكل حيض. وجه رواية محمد رحمه الله: أن المتقدم لو جعل حيضاً، جعل تبعاً لأيامها، ولا وجه إليه؛ لأن السابق لا يعتبر تبعاً إلا في وجه رواية الحسن أن المتقدم إذا كان أقلّ من ثلاثة أيام إن لم يمكن أن يعتبر هو حيضاً تبعاً لأيامها من حيث اللحوق، لكونه سابقاً على أيامها أمكن أنه يعتبر حيضاً تبعاً لأيامها من حيث إنه يستقل بنفسه، والمرئي في أيامها يستقل بنفسه. وذكر بعض مشايخنا في «شرح كتاب الحيض» في الوجه: أنّ الكل حيض من غير ذكر خلاف، وذكر بعضهم: أن الكل حيض بالاتفاق.

الوجه الثاني: إذا رأت قبل أيامها ما يصلح حيضاً، ولم ترَ في أيامها شيئاً، وفي هذا الوجه حكمها موقوف عند أبي حنيفة رحمه الله فإن طهرت أيامها مرّة أخرى في الشهر الثاني صار حيضها ما رأته، وانتقلت عادتها في الحيض عن موضعها، وإلا فالمرئي استحاضة، وعند أبي يوسف رحمه الله المتقدم حيض، ويصير ذلك عادة لها؛ لأنه يرى انتقال العادة برؤية المخالف مرّة وعليه الفتوى، وهو قول محمد، وعلى قول محمد رحمه الله يكون المتقدم حيضاً بدلاً عن أيامها ولكن لا يصير عادة لها؛ لأنه لا يرى انتقال العادة برؤية المخالف مرّة. الوجه الثالث: إذا رأت في أيامها ما لا يصلح حيضاً، ورأت قبل أيامها ما يصلح حيضاً، الجواب في هذا الوجه نظير الجواب في الوجه الثاني؛ لأنها إذا رأت في أيامها ما لا يصلح حيضاً كان المرئي في أيامها في حكم العدم. الوجه الرابع: إذا رأت في أيامها ما يصلح أن يكون حيضاً ولم يجاوز الكل العشرة وفي هذا الوجه عن أبي حنيفة رحمه الله روايتان، روى محمد والحسن بن زياد عنه أن المتقدم على أيامها لا يكون حيضاً، وروى بشر بن الوليد والمعلّى وغيرهما عن أبي يوسف رحمهم الله (37ب1) عنه: أن المتقدم حيض، غير أن في بعض روايات أبي يوسف أنه على قول أبي حنيفة، وفي بعض رواياته أنه قاس قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أن المتقدم حيض إذا لم تجاوز به العشرة. وجه الرواية الأولى عن أبي حنيفة رحمه الله: أن المتقدم على أيامها لا يمكن اعتباره حيضاً تبعاً لأيامها، والسابق لا يعتبر تبعاً للاحق، فلو اعتبر حيضاً اعتبر بطريق الاتصال، ولا وجه إليه أيضاً لما فيه من نقل عادتها من حيث الموضع برؤية المخالف مرّة، وأبو حنيفة رحمه الله لا يقول به. وجه رواية الأخرى وهو قولهما: إن هذا دم رأته المرأة بين طهرين تامين ولم تجاوز العشرة فيكون حيضاً كالمتأخر؛ هذا لأن حيض المرأة قد يتقدّم وقد يتأخر، فإذا اعْتُدَّ بأحد الأمرين فكذا بالأمْر الآخر، ثم عند أبي يوسف يصير ذلك عادة لها، وعند محمد لا تصير عادة لها. الوجه الخامس: إذا رأت في أيامها ما لا يصلح حيضاً، ورأت قبل أيامها ما لا يصلح حيضاً وإذا جمعا صلحا حيضاً، وفي هذا الوجه اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: إنه نظير الوجه الثاني والثالث؛ لأنها إذا رأت في أيامها ما لا يصلح حيضاً كان المرئي في أيامها كالعدم، وقال بعضهم: الجواب فيه كالجواب في الوجه الرابع؛ لأنها إذا لم ترَ في أيامها ما يكون حيضاً بنفسه، وإنما يصير حيضاً بوجود ما قبله صار كأنها رأت في أيامها ما يكون حيضاً، ورأت قبل أيامها ما يكون حيضاً، وذكر الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله في «شرح كتاب الحيض» : أن شيئاً من ذلك لا يكون حيضاً إلا أن ترى في بعض موضعها الثاني مثل ذلك، فتنتقل العادة إليها في الابتداء والله أعلم.

ومما يتصل بهذا القسم امرأة تستفتي أنها ترى الدم قبل أيامها ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «مختصر كتاب الحيض» : أنها تؤمر بترك الصلاة إذا كان الباقي من أيام طهرها ما لو ختم إلى أيام حيضها لا يجاوز العشرة؛ لأنها رأت الدم عقيب طهر صحيح، فكان حيضاً لكن بهذا الشرط؛ لأن الظاهر أنها ترى الدم في أيامها المعروفة، وإذا عُدم هذا الشرط يكون استحاضة، وذكر الشيخ الإمام نجم الدين عمر النسفي رحمه الله في كتاب «الخصائل» : أن على قولهما تؤمر بترك الصلاة إذا كان المتقدم مع أيامها لا يجاوز العشرة، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: إذا كان المتقدم ثلاثة أيام لا تترك الصلاة، وإن كان أقل، فكذلك على قوله على ما اختاره مشايخ بخارى، وعلى ما اختاره مشايخ بلخ: تترك. وأما القسم الثاني فهو على وجوه أيضاً: الأول: إذا رأت في أيامها ما يصلح حيضاً، ورأت بعد أيامها ما يصلح حيضاً وفي هذا الوجه الكل حيض، وأيامها تستتبع ما بعدها وانتقلت العادة؛ لأن ما بعدها لا يستقل بنفسها وقد تتبعت أيامها مشاهدة فتتبعها حكماً. الوجه الثاني: إذا رأت في أيامها، ورأت في آخر أيامها ما يصلح حيضاً، ورأت بعد أيامها ما يصلح حيضاً أيضاً، وفي هذا الوجه إن لم تجاوز الكل العشرة فالكل حيض، وإن جاوز فالمعروفة حيض، وما زاد على ذلك استحاضة؛ لأن المتأخر عن أيامها يمكن اعتباره حيضاً تبعاً لأيامها؛ لأنه لاحق بأيامها واللاحق يتبع السابق. ألا ترى أنه جميع أيامها مشاهدة فتتبع أيامها حكماً، وإذا أمكن اعتباره حيضاً تبعاً لأيامها تعتبر ولم تنتقل عادته كما كانت عليه من حيث الحقيقة، إن انتقلت من حيث الصورة؛ لأن التبع حكمه حكم الأصل فصار من حيث الحكم كأنه جعل في أيامها. الوجه الثالث: إذا لم ترَ في أيامها شيئاً، ورأت بعد أيامها ما يصلح حيضاً، وفي هذا الوجه الكل حيض ذكر المسألة في «الأصل» من غير ذكر خلاف، وقد اختلف المشايخ فيه، قال أبو علي الدقاق والزعفراني في كتابيهما والقدوري في «شرحه» ، وعامة مشايخ خراسان: إن ما ذكر في «الأصل» قول الكل، وقال أبو سهل الفرائضي وجماعة من البلخيين، وعامة من البخاريين: إن هذا على الاختلاف الذي بيناه في المتقدم فالكلام فيها كالكلام في المتقدم، فإن كانت المسألة على الخلاف الذي بيّناه في المتقدم فالكلام فيها كالكلام في المتقدم؛ وإن كانت هذه المسألة على الوفاق، فوجه الفرق بين المتقدم والمتأخر ظاهر إن وجود الشيء بعد وقته لا يمنع ثبوت حكمه خصوصاً في أمر الحيض، فإن المرأة ترى الدم بعد أيامها بأشهر ولا يتغير به الحكم، ولهذا قلنا: إن العجوزة الكبيرة إذا رأت الدم كان حيضاً على رواية «النوادر» فأما وجود الشيء قبل وقته فلا يعتد به في أكثر الأحكام خصوصاً في باب الحيض، ألا ترى أن الصغيرة جداً قد ترى الدم ولا يعتدّ به أصلاً. الوجه الرابع: إذا رأت في أيامها ما لا يصلح حيضاً، ورأت بعد أيامها ما يصلح

حيضاً، والجواب في هذا الوجه كالجواب في الوجه الثالث؛ لأنها إذا رأت في أيامها ما لا يصلح أن يكون حيضاً كان المرئي في أيامها ملحقاً بالعدم. والوجه الخامس: إذا رأت في أيامها ما لا يصلح حيضاً، ورأت بعد أيامها ما لا يصلح حيضاً أيضاً، ولكن إذا جُمعا صلحا حيضاً، فالجواب في هذا الوجه نظير الجواب في الوجه الثالث والرابع؛ لأنها لها رأت في أيامها ما لا يصلح حيضا كأنها لم ترَ في أيامها شيئاً والله أعلم. ومما يتصل بهذا القسم امرأة جاءت تستفتي عما رأت بعد أيامها، ذكر نجم الدين النسفي رحمه الله في كتاب الخصائل أنّ الأصح أنها تؤمر بترك الصلاة إلا إذا جاوز العشرة فتؤمر بالقضاء. أما القسم الثالث: وهو ما إذا اجتمع المتقدم والمتأخر، وذلك كله دون العشرة كان المتأخر حيضاً، والمتقدم يكون هل حيضاً على ما فسّرنا، هو على وجوه: إما أن يكون المتقدم والمتأخر كل واحد منهما نصاباً. وصورتها: امرأة عادتها في الحيض أربعة، فرأت أيامها دماً، ورأت قبل أيامها ثلاثة دماً ورأت بعد أيامها ثلاثة دماً، فالكل حيض عندهما، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله في رواية، وفي رواية أخرى المتقدم ليس بحيض، وإذا لم يكن المتقدم حيضاً على هذه الرواية هل يجعل المتأخر استحاضة؟ فقد اختلف فالمشايخ فيه، والصحيح: أن يجعله. وإما أن لا يكون المتقدم ولا المتأخر نصاباً. وصورتها: امرأة أيام حيضها ستة فرأت أيامها دماً ورأت قبل أيامها يومين دماً وقد رأت بعد أيامها يومين دماً، فالكل حيض عندهما، وكذلك عند أبي حنيفة في رواية. وإما أن يكون المتقدم نصاباً والمتأخر لا يكون نصاباً. وصورتها: امرأة أيام حيضها خمسة رأت بأيامها دماً ورأت ثلاثة قبل أيامها دماً ورأت يومين بعدها دماً فعندما العشرة حيض، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله في رواية، وفي رواية أخرى: المتقدم ليس بحيض، فإذا لم يكن المتقدم حيضاً على هذه الرواية هل يجعل المتأخر استحاضة فقد اختلف المشايخ، والأظهر أن لا يجعله، هكذا ذكره نجم الدين النسفي رحمه الله. وإما أن لا يكون المتقدم نصاباً والمتأخر يكون نصاباً: وصورتها: امرأة أيام حيضها خمسة رأت أيامها دماً، ورأت يومين قبل أيامها دماً ورأت ثلاثة بعد أيامها دماً فالكل حيض عندهما، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله في رواية على نحو ما بينا. وإن كان عند الجمع يزيد على العشرة، فإن كان كل واحد منهما على انفراده

استحاضة بنفسه فحيضها أيامها المعروفة، والمتقدم والمتأخر يكون استحاضة ونعني بقولنا: إذا كان كل واحد منهما استحاضة بنفسه أن يكون كل واحد منهما يعني المتقدم والمتأخر بحال لو انفرد وضم إلى أيامها ازداد على العشرة. وبيان هذا في امرأة أيام حيضها تسعة ورأت قبلها يومين دماً، ورأت التسعة دماً ورأت بعدها يومين دماً فحيضها معروفها، وكذلك إذا كان أيام حيضها ستة فرأت قبلها ستة وبعدها ستة أو رأت قبلها خمسة وبعدها خمسة فحيضها معروفها.g وإن كان أحدها استحاضة: ومعناه: أن يكون أحدها بحال لو ضم إلى أيامها يزيد على العشرة، والآخر لم يكن استحاضة على هذا التفسير فأيامها حيض والتي هي استحاضة لا يلحق بأيامها وهل يتعدى إلى الآخر حتى يجعله استحاضة فعن أبي حنيفة روايتان، ذكر في «الأصل» عنه أنه لا يتعدى؛ لأن أيامها فاصل من الدمين فبطل الجمع بين المتقدم والمتأخر. بيان هذا في امرأة أيام حيضها تسعة فرأت قبلها يومين دماً وبعدها يوماً دماً فالمتقدم استحاضة؛ لأنه لو انفرد وضم إلى أيامها يزيد على العشرة، فالمتأخر ليس باستحاضة؛ لأنه لو انفرد وضم إلى أيامها لا يزيد على العشرة. ففي هذه الصورة: (38أ1) أيامها حيض والمتقدم استحاضة، وهل يصير المتأخر استحاضة؟ فعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان في رواية «الأصل» : يعتبر استحاضة، وهو قولهما وهو الصحيح، وهذا بخلاف ما تقدم وهو ما إذا كان أيامها أربعة ورأت قبلها ثلاثة دماً إن المتقدم استحاضة في إحدى الروايتين عنه، ولا يجعل المتأخر استحاضة؛ لأن ذلك الدم بنفسه ليس باستحاضة، وإنما جعل استحاضة ضرورة العجز عن القول بالتبعية، فلا يعتبر استحاضة في غير موضع الضرورة، فأما هذا فاستحاضة مطلقة فجاز أن يؤثر في غيره. وإذا كان أيامها ستة فرأت قبلها أربع وبعدها خمسة فههنا المتأخر استحاضة والمتقدم ليس باستحاضة، وهل يؤثر المتأخر في المتقدم فيجعله استحاضة فهو على ما قلنا. ومن جملة صورة هذه المسألة: إذا كان أيامها خمسة فرأت أيامها دماً، ويومين قبلها وستة بعدها فههنا المتأخر دم استحاضة والمتقدم ليس بدم استحاضة وإن رأت أيامها دماً وستة قبلها أو يومين بعدها فههنا المتقدم دم استحاضة. ومما يتصل بالمقدم من المسائل امرأة أيام حيضها خمسة من رأس كل شهر فرأت هي قبل خمسها خمسة دماً وطهرت أيامها ثم رأت بعد ذلك يوماً أو يومين أو ثلاثة دماً فمعروفها هي الحيض في قول أبي يوسف رحمه الله. وقال محمد رحمه الله: المتقدم هو الحيض، وكذلك إذا رأت يومين دماً من أول أيامها أو من آخر أيامها مع ذلك، فإن المرئي في أيامها لا يمكن اعتباره حيضاً بانفراده،

وإن رأت ثلاثة دماً في أيامها مع ذلك من أولها أو آخرها فهذه الثلاثة حيض عند محمد رحمه الله؛ لأنه يمكن جعله حيضاً ثلاثة من أول الشهر فتقدم حيضها قبل ذلك أحد عشر يوماً ثم طهرت أيامها فلم تر فيها ولا فيما بعدها دماً. ففي قياس قول أبي حنيفة رحمه الله: هو استحاضة إلا أن يعاودها الدم في مثل ذلك الحال أحد عشر، فإن عاودها كانت ثلاثة أيام من الأيام الأولى من أولها حيضاً، وثلاثة أيام من أول هذه الأحد عشر الآخرة؛ لأنه لا يرى الإبدال فيجعل ذلك موقوفاً بأن تأكد بالتكرار تنقل العادة ومالا فلا. وأما على قول محمد رحمه الله: فثلاثة أيام من أول أحد عشر الأولى حيض بطريق البدل برؤيتها ذلك عقيب طهر صحيح، وحكمة انتقال العادة موقوفة على ما يرى في الشهر الثاني كما قاله أبو حنيفة رحمه الله، وإن كان حيضها خمسة من أول كل شهر فحاضتها ثم استمر بها الدم أيام الشهر، فانقطع خمسها ثم استمر بها بعدها، فعلى قول أبي يوسف رحمه الله حيضها خمستها لإحاطة الدمين. وقال محمد رحمه الله: حيضها خمسة أيام بعد أيامها؛ لأن شرط الإبدال في المتقدم رؤيته عقيب طهر صحيح لا دم فيه، ولم يوجد ذلك، فيبدل لها بعد أيامها؛ لأنه يبقى بعدها الإبدال إلى موضع حيضها الثاني مدّة طهر تام. وإن لم ترَ كذلك، ولكن رأت خمسة دماً قبل أيامها وطهرت أيامها فتلك الخمسة هي الحيض عند محمد رحمه الله أو وجود شرط الإبدال في المتقدم، فإن رأت في المرة الثانية تلك الخمسة، وأيامها المعروفة وزيادة يوم دماً فحيضها معروفها؛ لأن عادتها لم تنتقل؛ لأنها رأت المخالف مدّة، وإن لم ترَ في الثانية كذلك، ولكنها رأت الخمسة التي قبل أيامها، وطهرت أيامها ثم رأت في المرة الثالثة تلك الخمسة وأيامها ورأت زيادة يوم، فحيضها خمسة من أول ما رأت لانتقال العادة من حيث الموضع لعدم رؤيتها الدم في معروفها الدم مرتين. وإن كانت هي طهرت أيامها مرة واحدة فحيضها من الخمسة المعروفة؛ لأن انتقال العادة لا يحصل بعدم الرؤية مرة إلا على قول أبي يوسف رحمه الله، وإن لم ترَ قبل أيامها لكن رأت بعدها خمسة ثم في المرة الثانية طهرت خمسها، وهذه الخمسة ثم استمر بها الدم فحيضها خمسة من حين استمر بها الدم؛ لأن عادتها قد انتقلت إلى موضع الرؤية بعدم الرؤية في أيامها مرتين. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وما بعدها طهر إلى تمام الشهر من حين استمر بها الدم تكون حائضاً، كثير من مشايخنا قالوا هذا الجواب غلط والصحيح: أنها بعد ما تركت الصلاة من أول الاستمرار خمسة أيام تصلي ثلاثين يوماً؛ لأن عادتها في الطهر قد انتقلت إلى ثلاثين لرؤيتها ذلك مرتين على الولاء فف الشهر الأول طهرت خمسها بعدما مضى عن طهرها خمسة وعشرون، فذلك ثلاثون ثم رأت خمسة دماً ثم طهرت عشرون مقدمة الشهر وطهرت أيامها من أول الشهر الآخر وخمسة بعدها فذلك ثلاثون أيضاً فعلم

أنها طهرت ثلاثين يوماً على الولاء وانتقلت عادتها إليه في الطهر فتبقى هي على ذلك في زمان الاستمرار، ومن المشايخ من صحح ما ذكر في «الكتاب» وقال: المكان قد انتقل أما العدد لم ينتقل فبقي اعتبار العدد الأول والله أعلم. (نوع آخر) في رسم الفتوى المرأة إذا أخبرت أنها طهرت عشرة أيام ينبغي للمفتي أن يسألها إنك طهرت اليوم العاشر أو اليوم الحادي عشر إن قالت: اليوم العاشر أخذ تسعة، وإن قالت اليوم الحادي عشر أخذ عشراً، واعلم بأن تمام العشرة الأيام في اليوم الحادي عشر قبل الساعة التي رأت الدم فيه في اليوم الأول بلا فصل، أما لو استقصينا في الساعات في مثل هذا تعسّر عليها الأمر فلا يستقصي في ذلك ولكن يسألها على نحو ما بيّنا. وكذلك في هذا الأطهار، إذا أخبرت أنها طهرت عشرين ينبغي للمفتي أن يسألها أنك رأيت الدم دم العشرين أو يوم الحادي والعشرين، فإن قالت: يوم العشرين أخذنا تسعة عشر، وإن قالت: ويوم الحادي والعشرين أخذنا عشرين يفعل هكذا في جميع الصور إلا في دم ثلاثة أيام في طهر خمسة عشر، فإنا نستقصي في دم ثلاثة أيام إذا أخبرت أنها طهرت في اليوم الرابع في الساعات فخامة أن ينتقص الدم إليه عن ثلاثة أيام ولياليها، وكذلك تستقصي في طهر خمسة عشر إذا أخبرت أنها رأت الدم يوم السادس عشر، فخامة أن يقصر الطهر عن خمسة عشر. وينبغي للمفتي أنها إذا أخبرت أنها اغتسلت من حيضها وطهرت، فلا تنقطع أن يسألها عن أيام حيضها وطهرها فإن أخبرت أن عادتها في الطهر عشرون وعادتها في الحيض عشرة أمرها بالصلاة من تمام العشرة عشرين يوماً ثم تدع الصلاة عشرة إذا رأت الدم وتصلي عشرين. وإن أخبرت أن عادتها في الطهر عشرون، وفي الحيض ستة أيام أمرها بإعادة ما تركت من الصلاة بعد تمام الستة، وذلك أربعة وهو أول الطهر ثم يأمرها أن تصلي من ذلك الوقت إلى تمام طهرها، وذلك ستة عشر يوماً حتى يتم أيام طهرها عشرون يوماً ثم تدع الصلاة ستة أيام من موضع حيضها إن رأت الدم وهذه المرأة قد كانت أصابت كما رأت أيام حيضها ستة أيام، فتركت الصلاة إلى تمام العشرة؛ لأن هذا دم على إثر طهر تام فيكون حيضاً، وهكذا الجواب في كل دم كان على إثر طهر تام، إن المرأة تؤمر بترك الصلاة فيه من غير تقدير؛ لأن ما زاد على أيام حيضها دم على إثر الحيض فيكون تبعاً للمحيض حتى يظهر أنه ليس بحيض وذلك بأن تجاوز العشرة أو إن لم تجاوز، ولكن الطهر بعده ينتقص عن خمسة عشر. ففي هذه الصورة كان حيضها معروفها، وما تأخر عن أيام حيضها يكون استحاضة، وتؤمر هي بإعادة الصلاة في ذلك، فأما إذا انقطع الدم على رأس العشرة أو فيما دون العشرة، والطهر بعده خمسة عشر يوماً لا يخالطه دم كان جميع ما رأته في أيامها وبعد أيامها حيضاً.

وإن أخبرت أن عادتها في الطهر كان عشرين يوماً، ولكن كان يختلف دمها إلا أنها تعلم أن الدماء كلها صحاح سألها عن دم واحد قبل هذا الدم الذي جاءت فيه وهي تستفتي، فيسألها: كم كان الدم الذي قبل الطهر الآخر، فإن قالت: عشرة لا يسألها عن شيء آخر عند أبي يوسف رحمه الله، وظهر له جواب مسألتها لأن العادة عنده تنتقل برؤية المخالف مرة، فإذا أخبرت أن الذي كان قبل الطهر الآخر عشرة والدماء كلها صحاح فقد عرف المفتي أن عادتها انتقلت إلى عشرة، فيأمرها أن تصلي إلى تمام عشرين يوماً ثم تترك الصلاة عشرة أيام إن رأت الدم، والفتوى على القول عشرة. وإن أخبرت أن الدم الذي قبل الطهر الآخر كان سبعة أمرها بقضاء الصلاة ثلاثة أيام من هذه العشرة؛ لأنه ظهر أن عادتها في الحيض قد انتقلت إلى سبعة أيام، وقد رأت في هذه المدة فيأمرها بقضاء، وزيادة عليها فيكون حيضها عادتها، وذلك سبعة ويكون ما زاد على ذلك استحاضة، وذلك ثلاثة أيام..... ثلاثة أيام من هذه العشرة، لهذا. فإن أخبرت أنها لا تحفظ الأطهر (38ب1) خمسة عشر ودم عشرة، فهذا لا يكفي الاستئناف؛ لأنها لو أخبرت عن ثلاثة أطهار، كأنها خمسة عشر وعن ثلاثة دماً كلها عشرة، فهذا لا يكفي الاستئناف لما نبين بعد هذا، فهذا أولى. وإذا لم يصلح ذلك الاستئناف وجب البناء، ولا تدري على ما تبني فيقول لها المفتي اذهبي، وتذكري أيامك وإلا وأنت والضالة سواء، الحكم في الضالة يذكر بعد هذا أو إن أخبرت أن ما قبل ذلك من الأطهار كان خمسة عشر، إلا أنها لا تدري هل كان بينهما استحاضة أو لو لم يكن، فهذا يكفي الاستئناف؛ لأتيقنا بخلوص طهر خمسة عشر يوماً؛ لأنه بين دمين؟ يرى، وكانت الأطهار قبل هذا أكثر من خمس عشرة، فتنقل إليها أيامها برؤية خلافها مرة وتيقنا بخلوص دم عشرة؛ لأنه بين طهرين تامين فتجددت العادة، والعادة إذا تجددت وجب الاستئناف فمن أول الاستمرار عشرة حيض وخمسة عشر طهر فيأمرها بالصلاة تمام خمسة عشر، وتترك الصلاة بعد ذلك عشرة إن رأت الدم، وإن أخبرت أن أقل ذلك من الأطهار أكثر من خمسة عشر، وإنها لم تكن مستحاضة، فهذا اعلى ثلاثة أوجه: أما إن أخبرت أن ما قبله من الأطهار المتقدمة كانت متفقة أو كانت مختلفة أو لا تدري، وفي الوجوه الثلاثة يكفيها ذلك الاستئناف؛ لأن عادتها المتقدمة أصلية كانت أو جعليه تنتقل إلى طهر خمسة عشر برؤية المخالف مرة، والعادة إذا تجددت وجب الاستئناف. وإن أخبرت عن طهرين قبل هذا الدم الذي جاءت، وهي فيه كلاهما خمسة عشر وبينهما دم عشرة لا يحفظ ما قبل ذلك، فهذا لا يكفيها الاستئناف؛ لأن ما قبلها لعله لا يكون أكثر من طهر خمسة عشر، فلا تنتقل العادة إلى طهر خمسة عشر ولم تجدد العادة،

والعادة إذا لم تتجدد بالانتقال لا يجب الاستئناف، ويجب البناء وما تدري على ماذا تبني فتكون هي والضالة سواء. وإن أخبرت أنها لم تكن مستحاضة إلا أنها لا تدري أن الأطهار المتقدمة كانت خمسة عشر أو أكثر من خمسة عشر، فهذا يكفي الاستئناف؛ لأنها إذا لم تكن مستحاضة قبل ذلك، فالأطهار المتقدمة إن كانت خمسة عشر تبقى كذلك، وإن كانت أكثر من خمسة عشر أو رأت طهراً طويلاً صار الطهر الطويل عادة لها؛ لأنها خالص ثم انتقلت العادة إلى خمسة عشر، فتترك الصلاة والصوم من أول الاستمرار عشرة وتصلي خمسة عشر بخلاف المسألة الأولى؛ لأن ثمة يحتمل أن الأطهار المتقدمة خمسة عشر ورأت طهراً طويلاً، خالطة دم لما تبين، فيجب البناء ثم لم ترَ طهراً أكثر من خمسة عشر لتنتقل العادة إليه، فلم تنتقل إلى خمسة عشر، فيجب البناء لا تدري على ماذا تبني. وإن أخبرت أن الأطهار التي كانت قبل هذين الطهرين كانت أكثر من خمسة عشر لكنها لا تدري أنها كانت مستحاضة أو لم تكن فهذا أيضاً يكفيها للاستئناف؛ لأن الطهر الآخر خالص بتيقين؛ لأن الطهر الخالص ما بين دمين..... وقد وجد، وقد علم أن ما قبلها من الأطهار وأكثر منهما فتنتقل إليها العادة والعادة إذا تجددت بالانتقال يجب الاستئناف، فتدع عشرة وتصلي خمسة عشر. وإن أخبرت عن ثلاثة أطهار كلها خمسة عشر، وعن المائة دماً كلها عشرة عشرة وليست تحفظ قبل هذا شيئاً، فهذا لا يكفي الاستئناف؛ لأنه يتوهم أن العادة كانت خمسة عشر ثم طهرت طهراً طويلاً أو هو ثلاثة وثلاثون في خلاله دم، فيجب البناء ولا تدري على ماذا تبني. وإن أخبرت أنها لم تكن مستحاضة ولكن لا تدري أن ما قبل هذه الأطهار، وهذه الدماء الأطهار كانت أكثر من خمسة عشر أو خمسة عشر والدماء كانت عشرة أو أقل، فإن هذا يكفيها الاستئناف؛ لأنها لم تكن مستحاضة من قبل، فإن كانت الأطهار المتقدمة أكثر من خمسة عشر انتقلت إلى خمسة عشر، وإن خمسة عشر تبقى خمسة عشر، أكثر ما في الباب أنه يتوهم طهر طويل خالص، فيصير ذلك عادة لها في الطهر؛ لأن العادة تنتقل برؤية المخالف مرة ثم تتقل العادة إلى خمسة عشر، فإن أخبرت أن الأطهار المتقدمة كانت أكثر من خمسة عشر، فهذا يكفي الاستئناف من طريق الأولى. والحاصل: أن شرط الاستئناف من أول الاستمرار شيئان اثنان: أحدهما: أن تخبر عن طهر صحيح، والطهر الصحيح أن يكون خمسة عشر فصاعداً بين دمي.... والثاني: أن تخبر أنها لم تكن مستحاضة من قبل أو تخبر عن طهر صحيح آخر مخالفاً لهذا الطهر والله أعلم.

وإذا كانت للمرأة أيام حيض وطهر معروفة، فاستحاضت فلم تهتم لرؤيتها حتى أتى عليها زمان ثم ندمت على ما فرطت، فجاءت تستفتي وهي موضع حيضها ولا موضع طهرها، وتعلم عادتها في الحيض والطهر أو لا تعلم، فإنها تتحرى عندنا؛ لأن هذا اشتباه وقع في أمر من أمور الدين، فاشتبه اشتباه القبلة والسهو في أعداد الركعات، فإن استقرّ أكثر رأيها وظنها على موضع حيضها، وعددها فظنت على ذلك كما في باب القبلة، فتصلي في كل زمان هي طاهر بغالب الظن، ولكن بالوضوء لوقت كل صلاة، وتدع الصلاة في كل وقت هي خالص بغالب ظنها، وكل زمان لم يستقر رأيها فيه على شيء، وترددت بين الحيض والطهر لم تمسك عن الصلاة الفرض لاحتمال أنها طاهرة في ذلك الزمان، فعليها ذلك. ويحتمل أنها خالص فليس عليها ذلك فاستوى فعل الصلاة وتركها في حق الحل والحرمة، والباب باب العبادات، فتحتاط فيها وتصلي؛ لأنها إن صلت وليس عليها ذلك خيراً لها من أن تتركها، وعليها ذلك، فعند ذلك ينظر إن كان التردد بين دخول الحيض، والطهر صلت فيه بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك، وإن كان التردد بين الطهر وبين الخروج عن الحيض صلت فيه لا تغسل لوقت كل صلاة بالشك استحساناً، والقياس أن تغتسل في كل ساعة؛ لأنه ما من ساعة إلا وتتوهم وقت خروجها من الحيض، فتغتسل احتياطاً. وجه الاستحسان: أن إيجاب الاغتسال عليها في كل ساعة حرج عظيم؛ لأنها تصير مشغولة عن إقامة الصلوات وإصلاح أمر المعيشة؛ ولأن الاغتسال لأداء الصلاة، فإنها تغتسل لتصير أهلاً لأداء الصلاة ولو وجب عليها الاغتسال في كل وقت لتقاعدت هي عن الصلاة، وإنا اكتفينا باغتسال واحد في كل صلاة؛ لأن لها حق شغل جميع الوقت بالصلاة، فهي وإن لم تفعل جعل حكماً كأنه شغلته وأقيم الوقت مقام الصلاة للضرورة. قال الشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله: والصحيح: أنها تغتسل لكل صلاة للنصوص، فإن زينب بنت جحش استحيضت سبع سنين فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلّمبالاغتسال لكل صلاة وبه أمر حبيبة رضي الله عنها أيضاً. وهكذا روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما، وعن الفقيه أبي سهيل أنها إذا اغتسلت في وقت صلاة وصلت ثم اغتسلت في وقت صلاة أخرى أعادت الصلاة الأولى ثم تصلي الوقتية، وهكذا تصنع في كل صلاة احتياطاً لاحتمال أنها كانت حائضاً في وقت الصلاة الأولى وتكون طاهرة في وقت الصلاة الثانية، فتفعل كذلك لتتيقن بأداء أحدهما بصفة الطهارة ولها أن تصلي السنن المشهورة، لكنها تبعاً للفرائض، لأنها شرعت جبراً النقصان لكن في الفرائض فيكون حكمها حكم الفرائض، وتصلي الوتر أيضاً، ولا تصلي تطوعاً سوى هذه السنن المشهورة، لترددها بين المباح والبدعة.

وإذا صلت الفريضة لا تطيل المرأة بل تقرأ الفاتحة وسورة قصيرة، وقال بعض مشايخنا: تقرأ في الأوليين عند أبي حنيفة رحمه الله آية واحدة وثلاث آيات قصار، وعندهما بقدر ما تجوز به الصلاة، وقيل: تقرأ الفاتحة في الأوليين من المكتوبات وفي كل ركعة من السنن، ولا تقرأ غيرها. وقيل: إنها تقرأ في الأوليين من المكتوبات وفي كل ركعة من السنن، الفاتحة وسورة قصيرة أو ثلاث آيات؛ لأنها واجبة وهو الصحيح ولا تقرأ في الأخريين من المكتوبات أصلاً عند بعض المشايخ، وعند بعضهم تقرأ وهو الصحيح، لأن قراءتها واجبة في إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله. قال بعض مشايخنا (39أ1) : ولا تقنت باللهم إنا نستعينك؛ لأنهما سورتان من القرآن عند عمر وأبي بن كعب رضي الله عنهما، وغيرهما من الدعوات تقوم مقامه احتياطاً، ولا تقرأه احتياطاً وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «مختصر كتاب الحيض» : أنها تقرأ اللهم إنا نستعينك. ولا تقرأ القرآن في غير الصلاة لاحتمال قيام الحيض، هكذا وقع في بعض النسخ وفي بعض النسخ نقول: ولا تقرأ آية تامة في غير الصلاة، ولا تمس المصحف، ولا تدخل المسجد، فإن سمعت سجدة وسجدت للحال سقطت عنها؛ لأنها إن كانت طاهرة فقد أدت ما لزمها وإن كانت حائضاً لم تلزمها، وإن سجدت بعد ذلك أعادتها بعد عشرة أيام، لجواز أن السماع كان في الطهر والأداء في الحيض، فإذا عادت بعد عشرة أيام، فقد تيقنت بالأداء في الطهر في إحدى المرتين. وإن كان عليها صلاة فائتة تقضيها، فعليها إعادتها بعد عشرة أيام عند مشايخ بخارى تيقناً أن إحدى العشرين أيام طهرها. وقال أبو علي الدقاق: إعادتها بعد تمام العشرة قبل أن تزيد على خمسة عشر وهو الصحيح؛ لأن بعد انقضاء خمسة عشر يجوز أن يعود حيضها. ولا تطوف للتحية؛ لأنه تردد بين البدعة وبين السنّة، وتطوف الزيارة ثم تعيد بعد عشرة أيام؛ وهذا لأن طواف الزيارة ركن فلا تتركه لاحتمال الحيض وتعيدها بعد عشرة أيام، لتتيقن بصحة أحدهما فتتحلل بيقين وتطوف للصدر ثم لا تعيدهأما تطوف؛ لأن طواف الصدر واجب، فلا تتركه لاحتمال الحيض ولا تعيده؛ لأنها إن كانت طاهرة، فقد خرجت عن العهدة، وإن كانت حائضاً فليس عليها طواف الصدر. ولا يأتيها زوجها أبداً، ومن المشايخ من قال: يأتيها زوجها بالتحري؛ لأن الطهر غالب على الحيض؛ لأنه أكثر من الحيض وعند غلبة الحلال الحرام يجوز التحري كما في المشايخ، ولكن هذا باطل فقد نص محمد رحمه الله في كتاب التحري أن التحري في باب الفروج لا يجوز. ولا تفطر في شيء من شهر رمضان لتوهم الطهر في كل يوم ثم بعدما مضى رمضان

تقضي أيام الحيض في الشهر، وأكثر ما يكون حيضها في الشهر عشرة أيام سواء كان الشهر كاملاً أو ناقصاً، لأن باقي الشهر يكون للطهر، فإن نقص الشهر ينقصو، في الطهر لا في الحيض. وهذا إذا كان يعرف أن حيضها في كل شهر مرة إلا أنها لا تعرف مقدار حيضها، فإن في هذه الصورة يجعل حيضها عشرة ثم المسألة على ثلاثة أوجه: إن علمت أن ابتداء حيضها كأن يكون بالليل فعليها قضاء عشرين يوماً؛ لأن أكثر ما فسد صومها في الشهر عشرة، فربما وافق القضاء أيام حيضها في الشهر الثاني، فعليها أن تقضي عشرة أخرى لتخرج عن العهدة بيقين، ويستوي إن كانت تقضي بعد الفطر من غير تأخر أو كانت تؤخر القضاء مدة معلومة؛ لأن ما ذكرنا من المعنى لا يوجب الفصل. وإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار فإن أكثر ما يفسد من صيامها أحد عشر؛ لأن ابتداء الحيض إذا كان في بعض النهار فتمام العشرة يكون في اليوم الحادي عشر، فعليها أن تقضي بعد الفطر اثني وعشرين يوماً قضت هي بعد الفطر من غير تأخر أو أخرت القضاء مدة طويلة، لجواز أن يوافق شروعها في القضاء حيض عشرة أيام، فيفسد صوم أحد عشر يوماً، فعليها أن تصوم أحد عشر يوماً أخرى لتخرج عن العهدة بيقين. وإن لم تعلم أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل أو بالنهار يحمل على أنه يكون بالنهار؛ لأن هذا أحوط الوجوه، وهو اختيار الفقيه أبي جعفر رحمه الله، وغيرُه من المشايخ قالوا: تقضي من صيام عشرين يوماً؛ لأن الحيض في كل شهر تسعة أيام، وطهرها بقية الشهر إلا أنها لا تعرف موضع حيضها، فإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل، فإنها تقضي بعد رمضان ثمانية عشر يوماً.h فإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار فإنها تقضي بعد رمضان ثمانية وعشرين يوماً؛ لأن أكثر ما تفسده من صيامها في الوجه الأول تسعة، وفي الوجه الثاني عشرة، فتقضي ضعف ذلك لاحتمال اعتراض الحيض في أول يوم القضاء. وإن لم تعلم ابتداء حيضها كان يكون بالليل أو بالنهار فإنها تقضي عشرين يوماً بلا خلاف، هذا إذا علمت أن دورها كان في كل شهر، وإن لم تعلم أن دورها في كل شهر، فعليها أن لا تفطر في شيء في رمضان احتياطاً، وعليها إن عرفت أن ابتداء حيضها كأن يكون بالليل قضاء خمسة عشر يوماً؛ لأنه يجعل حيضها عشرة وطهرها خمسة عشر، وفي هذه الصورة بطريق الاحتياط، فإنها يفسد صومها، أما عشرة من أول الشهر وخمسة في آخره وخمسة من أول الشهر بقيّة حيضها وعشرة من آخر الشهر. فبعد ذلك المسألة على وجهين: إما إن كانت تقضيه موصولاً لا بشهر رمضان، وفي هذا الوجه عليها قضاء خمسة وعشرين يوماً؛ لأنه إن كان فسد من صومها عشرة من أول الشهر وخمسة من آخر الشهر، فيوم الفطر هو السادس من حيضها لا تصوم فيه ثم يجزئها الصوم في أربعة عشرة، ثم لا يجزئها في عشرة ثم يجزئها في يوم فمن هذا الوجه كان عليها أن تصوم خمسة وعشرين فمن الوجه الأول عليها أن تصوم تسعة عشر فكان

الاحتياط في أن تصوم خمسة وعشرين. وإن كانت تقضيه مفصولاً فكذلك تقضي خمسة وعشرين يوماً للاحتمال أن ابتداء القضاء يوافق أول اليوم من حيضها، فلا يجزئها الصوم في عشرة ثم يجزئها في خمسة عشرة، وهذا إذا كان شهر رمضان ثلاثين يوماً، فأما إذا كان تسعة وعشرين يوماً، فعليها أن تصوم بعد الفطر؛ إذا وصلت عشرين يوماً وإذا وصلت أربعة وعشرين، هكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «مختصر كتاب الحيض» . فإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار فأكثر ما فسد من صومها في الشهر ستة عشر يوماً إلى أحد عشره من أوله وخمسة في آخره وأما خمسة من أوله بقية الحيض وأحد عشر من آخر. فبعد ذلك المسألة على وجهين: أما إن كانت تقضيه موصولاً برمضان، وفي هذا الوجه عليها أن تقضي اثنين وثلاثين يوماً؛ لأن الاحتياط في هذه الأوجه يجوز أنها فسد من صومها أحد عشر من أول رمضان وخمسة من آخر رمضان ويوم الفطر هو السادس من حيضها لا تصوم فيه، ثم لا يجزئها صومها في خمسة أيام ثم يجزىء في أربعة عشر بعدها، ثم لا يجزىء في أحد عشر يوماً ثم يجزىء في يومين فتكون الجملة اثنا وثلاثون. وإن كانت تقضيه مفصولاً عن رمضان فعليها قضاء ثمانية وثلاثون يوماً يجوز أن يوافق ابتداء القضاء أول زمان حيضها، فلا يجزئها صومها في أحد عشر يوماً ثم يجزئها في أربعة عشر يوماً لا يجزئها في أحد عشر ثم يجزئها في يومين، فجملة ذلك ثمانية وثلاثون فإذا صامت هذا العدد تيقنت بجواز صومها في ستة عشر يوماً، وذلك القدر كان واجباً عليها. هذا إذا كان شهر رمضان ثلاثين يوماً، فأما إذا كان تسعة وعشرين يوماً فعليها أن تصوم بعد الفطر إذا وصلت اثنين وثلاثين يوماً فكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «مختصر كتاب الحيض» ، وإن كانت لا تدري أن هذا الحيض كان يكون بالليل أو بالنهار، فعند الفقيه أبي جعفر رحمه الله يأخذ بأحوط الوجهين، فتقضي ثمانية وثلاثين إن قضت مفصولاً، وإن قضت موصولاً تقضي اثنين وثلاثين، وعند عامة المشايخ تقضي خمسة وعشرين والصحيح قول أبي جعفر. وإن كانت تعلم أن أيام حيضها ثلاثة ونسيت أيام طهرها يحمل طهرها على أقل الأطهار وخمسة عشر، فإذا صامت شهر رمضان كله ثم أرادت أن تقضي، فإن علمت بأن إنهاء حيضها كان يكون بالليل، وكان شهر رمضان ثلاثين يوماً صامت تسعة أيام وصلت بيوم الفطر أو فصلت. أما إذا وصلت به؛ فلأنه يحتمل أنها حاضت في أول شهر رمضان ثلثه ثم طهرت خمسة عشر ثم حاضت ثلاثة ثم طهرت خمسة عشر، فقد فسد من صومها ستة أيام، فإذا وصلت، فقد جاز صيامها بعد يوم الفطر خمسة أيام، ثم تحيض ثلاثة فيفسد صومها، فصار ثمانية بقي عليها صوم يوم، فيصير تسعة، وأما إذا فصلت؛ فلأن الواجب عليها من

القضاء ستة أيام، ويحتمل (39ب1) اعتراض الحيض في أول يوم القضاء، فيفسد صومها في ثلاثة ثم يجوز في ستة، فتصير تسعة. وإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار تصوم إثني عشر يوماً بعد يوم الفطر وصلت بيوم الفطر أو فصلت، أما إذا وصلت؛ فلأنه يحتمل أنها حاضت في شهر رمضان، فيفسد صومها في أربعة ثم يجوز في أربعة عشر، ثم يفسد في أربعة أيام، فقد فسد من صومها ثمانية، فإذا قضت موصولاً بالشهر جاز بعد الفطر صوم خمسة أيام ثم يستقبلها الحيض، فيفسد صوم أربعة أيام، وقد بقي عليها قضاء ثلاثة أيام، فجملة ذلك اثنا عشر، وأما إذا فصلت؛ فلأن الواجب عليها قضاء ثمانية ويحتمل أن بابتداء الحيض وافق أول يوم القضاء، فيفسد صومها في أربعة ثم يجوز في ثمانية فجملة ذلك اثنا عشر. هذا إذا كان شهر رمضان ثلاثين يوماً، وإن كان تسعة وعشرين يوماً فتخريجه على قياس المسائل المتقدمة يعرف عند التأمل، وعلى هذا القياس يخرج جنس هذه المسائل. وإن وجب على هذه المرأة صوم شهرين متتابعين في كفارة القتل أو في كفارة الفطر بأن كانت أفطرت قبل هذه الحالة، فإن الفطر في هذه الحالة لا توجب الكفارة لتمكن الشبهة في كل يوم لتردده بين الحيض والطهر فهذا على وجهين: إن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل، وكان دورها في كل شهر، فعليها أن تصوم تسعين يوماً؛ لأن الواجب عليها صوم ستين يوماً، فإذا كان دورها في كل شهر يجوز صومها في عشرين يوماً من كل ثلاثين يوماً، فإذا صامت تسعين، فقد تيقنت بجواز صومها في ستين يوماً. وإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار وكان دورها في كل شهر، فعليها أن تصوم مائة يوم وأربعة أيام، لجواز توافق ابتداء صومها ابتداء حيضها فلا يجوز صومها في أحد عشر يجزئها في تسعة عشر، ثم لا يجزئها في أحد عشر ثم يجزئها في تسعة عشر، فبلغ العدد تسعين يوماً، وإنما جاز صومها في سبعة وخمسين يوماً ثم لا يجزئها أحد عشر ثم يجزئها في أربعة عشر تتمة ستين، فبلغ العدد مائة وخمسة عشر، وجاز صومها في ستين يوماً بتيقن. وإن كانت لا تدري كيف ابتداء حيضها بالنهار أو بالليل فهو على الاختلاف الذي بينّا على قول الفقيه أبي جعفر رحمه الله: نأخذ بأحوط الوجهين، فتصوم مائة وأربعة أيام، وعلى قول أكثر مشايخنا تصوم تسعين يوماً. وإن كانت لا تدري أن دورها كان في كل شهر، فإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل، فعليها أن تصوم مائة يوم لأنا نجعل في هذه الصورة عشرة وطهرها خمسة عشر، فكلما صامت خمسة وعشرين نتيقن بجواز صومها في خمسة عشر، فإذا صامت مائة جاز صومها في ستين يوماً بتيقن، فتسقط عنها الكفارة. وإن كانت تعلم أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار، فعليها أن تصوم مائة وخمسة عشر يوماً؛ لأن من الجائز أن ابتداء الصوم ابتداء حيضها، فلا يجزيها في أحد عشر ثم

يجزيها في أربعة عشر ثم لا يجزيها في أحد عشر ثم يجزيها في أربعة عشر، فبلغ العدد مائة، وإنما جاز الصوم في ستة وخمسين منها ثم لا يجزيها في أحد عشر، ثم يجزيها في أربعة عشر تتمة ستين فيبلغ العدد مائة وإنما جاز صومها فيه في ستين. وإن كانت لا تدري كيف كان ابتداء حيضها، فهو على الاختلاف الذي بيّنا ولو وجب عليها صوم ثلاثة أيام في كفارة اليمين، فإن كانت تعلم أن ابتداء حيضها كان يكون بالليل، فعليها أن تصوم خمسة عشر يوماً؛ لأنه إن وافق ابتداء حيضها لم يجزها صومها في عشرة، ويجزئها في ثلاثة بعده وذلك ثلاثة عشر. وإن كان عند ابتداء صومها قد بقي من طهرها يوم أو يومان جاز صومها فيهما، ثم لم يجز صومها في عشرة، وانقطع التتابع، فإن صوم ثلاثة أيام في كفارة اليمين يجب متابعة، وعدد الحيض فيه لا يكون عفواً لأنها تمر ثلاثة أيام خالية عن الحيض بخلاف الشهرين، وقد عرف ذلك في موضعه، فعليها أن تحتاط وتصوم خمسة عشر يوماً، حتى إذا كان الباقي من طهرها يومان حين شرعت في الصوم لم يجز صومها فيها عن الكفارة لانقطاع التتابع، وفي العشرة بعدها يقدر الحيض وجاز في ثلاثة بعده فكانت الجملة خمسة عشر، وإن شاءت صلّت ثلاثة أيام هي ثم بعده عشرة أيام وتصوم ثلاثة أخرى، فيتعين أن إحدى الثلاثين واتفقت زمان طهرها، وجاز صومها فيه من الكفارة. وإن علمت أن ابتداء حيضها كان يكون بالنهار، فعليها أن تصوم ستة عشر يوماً؛ لأن الجائز أن الباقي من طهرها حين شرعت في الصوم يومان فلا يجزيها صومها فيه عن الكفارة لانقطاع التتابع، ثم لا يجزيها في أحد عشر يوماً بسبب الحيض ثم يجزيها في ثلاثة أيام، فتكون الجملة ستة عشر يوماً بسبب الحيض ثم يجزيها في ثلاثة أيام، فتكون الجملة ستة عشر يوماً ثم أفطرت أحد عشر يوماً ثم صامت ثلاثة أيام، فيتعين أن إحدى الثلاثين كان في زمان طهرها فتجزيها عن الكفارة، كذا قاله محمد رحمه الله. قال القاضي الإمام الشهيد المحسن بن أحمد المروزي رحمه الله هو خطأ فإنه يجوز أن يكون اليوم الأول من الثلاثة الأولى يوم خروجها من الحيض، واليوم الثاني من الثلاثة الأخرى يوم دخولها في الحيض، فلا يجزيها إحدى الثلاثين، قال: والصحيح ما قاله أبو علي الدقاق: إنها تصوم ثلاثة أيام، وتفطر سبعة أيام وتصوم أربعة أو تفطر على وتطهر وعلى هذا قضاء رمضان أيضاً بأن كان الواجب عليها قضاء عشرة أيام بأن كان دورها في كل شهر، فإن شاءت صامت عشرين يوماً كما بيّنا، وإن شاءت صامت عشرة أيام في شهر ثم في شهر آخر عشرة أخرى سوى العشرة الأولى، للتيقن أن إحدى العشرين حيضها كان يكون في كل شهر ثلاثة أو أربعة، فعليها بعد مُضي رمضان قضاء ضعيف عدد أيامها، وإن شاءت صامت أيامها في عشرة من شهر ثم في شهر آخر صامت مثل ذلك، لتتيقن أن إحداهما يوافق زمان طهرها، فيجزيها من القضاء إلا أنا لم نشتغل به في قضاء رمضان؛ لأنه لا يتحقق عليها لنقصان العدد، وقد بيّناه في صوم كفارة اليمين؛ لأن التحقيق متحقق فيه، ولو وجب عليها قضاء صلاة تركتها في زمان طهرها صلت تلك الصلاة بالاغتسال ثم

أعادتها بعد عشرة أيام ليخرج ما عليها بيقين، ليكون أحد الوقتين زمان طهرها. ولو أن هذه المسألة كانت أمة، فاشتراها إنسان فعلى قول محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله استبرأها بستة أشهر وعشرين يوماً إلا ساعتين، لجواز أن الشراء كان بعد ما مضى حيضها، فلا تُحتسب بهذه الحيضة من الاستبراء لأنه عشرة أيام إلا ساعة ثم بعده طهر ستة أشهر إلا ساعة ثم بعده الحيض عشرة أيام، فتكون الجملة ست أشهر وعشرون يوماً إلا ساعتين فيستبر ئها به. قال مشايخنا: هذا على قول من يجوز وطأها بالتحري، لأن المقصود من الاستبراء استباحة الوطء، أما على قول من لا يجوز وطأها أصلاً وهو الصحيح فلا حاجة له إلى هذا التكليف، ولو كانت المبتدأة حرّة وطلقها زوجها بعد الدخول بها، فعلى قول أبي عصمة سعد بن معاذ المروزي رحمه الله: لا تنقضي عدتها في حكم التزوج بزوج آخر أبداً، لما بيّنا أنها لا يقدر أكثر الطهر بشيء، وعلى قول محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله: تنقضي عدتها بمضي تسعة أشهر وعشرة أيام غير أربعة ساعات من وقت الطلاق؛ لأنه يقدر أكثر الطهر ستة أشهر غير ساعة على ما مرّ. ومن الجائز أن الطلاق كان بعد مُضي ساعة من حيضها، فلا تحتسب هذه الحيضة من العدة، وذلك عشرة أيام غير ساعة ثم بعده يحتاج إلى ثلاثة أطهار، كل طهر ستة أشهر إلا ساعة وثلاث حيض كل حيض عشرة أيام، فإذا جمعت بين هذه الجملة كانت الجملة سبعة عشر شهراً وعشرة أيام غير أربع ساعات، فيحكم بانقضاء عدتها بمضي هذه المدة من وقت الطلاق، ويجوز لها أن تتزوج بزوج آخر بعدها. وعلى قول من يقدر طهرها تسعة وعشرين على ما يأتينا تتزوج بزوج آخر بعد مضي أربعة أشهر ويوم واحد غير ساعة من وقت الطلاق؛ لأن من الجائز أن الطلاق كان بعد مضي ساعة من حيضها، (40أ1) فلا تحتسب هذه الحيضة من العدة، وذلك عشرة أيام غير ساعة على ما مر، ومن الجائز أن الطلاق كان بعد مضي ساعة من حيضها إلى الحيضة التي تنقضي بها العدة، وهي عشرة أيام بعد غير ساعة بعد ذلك يحتاج إلى ثلاثة أطهار كل طهر سبعة وعشرون إلى ثلاث حيض كل حيض عشرة، فتبلغ الجملة مائة وإحد وعشرين يوماً غير ساعة، فتتزوج بعد مضي هذه المدة وأما حكم انقطاع. الرجعة للزوج في هذه المرأة، فنقول: إذا مضى من وقت الطلاق تسعة وثلاثون يوماً يحكم بانقطاع الرجعة؛ لأن هذا أمر يُحتاط فيه. ومن الجائز أن حيضها كان ثلاثة وطهرها كان خمسة عشر، وكان وقوع الطلاق في آخر جزء من أجزاء طهرها، فتنقضي عدتها بمضي تسعة وثلاثين في هذه الصورة تنقضي عدتها بثلاثة حيض كل حيض ثلاثة وبطهرين كل طهر خمسة (عشر) ، وهذا الجواب في حق امرأة لا تعرف مقدار حيضها في كل شهر، والله أعلم. في المرأة تضل عدداً في عدد إن سئل المفتي عن امرأة أقبلت أيامها فيما دونها من العدد بأن قبل أيامها كانت عشرة وأضلت في أسبوع، فهذا السؤال محال لامتناع وجودها في أسبوع، وكذلك إذا

سئل عن امرأة أضلت أيامها في مثلها من العدد بأن قبل أيامها كانت سبعة، فأضلت ذلك في أيام خمسة، فهذا السؤال محال أيضاً؛ لأنها واجدة أيامها عالمة بها. وإن سئل عن امرأة أضلت أيامها فيما فوقها من العدد، فهذا السؤال مستقيم ثم الأصل فيه ما ذكرنا أنّ كل زمان يتيقن بالحيض فيه تترك الصلاة والصوم، ولا يأتيها زوجها فيه بيقين وكل زمان يتردد فيه بين الحيض، والطهر لا تترك المكتوبات وصوم رمضان، فبعد ذلك إن كان التردد بين الطهر والخروج عن الحيض، فتصلي فيه بالاغتسال لكل صلاة أو لوقت كل صلاة على حسب ما اختلفوا بالشك، وإن كان التردد بين الطهر والدخول في الحيض تتوضأ لكل صلاة بالشك. وأصل آخر أن المرأة متى أضلت أيامها في ضعفها من العدد أو أكثر منها، فإنها لا تتيقن بالحيض في شيء منه، ومتى أضلت أيامها فيما دون ضعفها من العدد، فإنها تتيقن بالحيض في شيء منها نحو ما إذا كانت أيامها ثلاثة، فأضلتها في خمسة، فإنها تتيقن بالحيض في اليوم الثالث منه، فإنه أول الحيض أو آخر الحيض أو الثاني منه بيقين فتترك الصلاة فيه. إذا عرفت هذا فنقول: إن علمت أن أيامها كانت ثلاثة، فأصلتها في العشرة الآخرة من الشهر، ولا تدري هي في أي موضع من العشرة ولا رأي لها في ذلك فإنها تصلي ثلاثة أيام من أول العشرة بالوضوء لوقت كل صلاة للتردد بين الحيض والطهر ثم بعده تصلي إلى آخر الشهر بالاغتسال لوقت كل صلاة أو لكل صلاة على حسب ما ذكرنا من الاختلاف بين المشايخ، للتردد بين الطهر والخروج من الحيض، إلا إذا تذكرت أن خروجها من الحيض في أي وقت من اليوم كان يكون، ففي هذه الصورة تغتسل في كل (يوم) في ذلك الوقت مرة، وإن لم تتذكر ذلك تغتسل لكل صلاة أو لوقت كل صلاة، وإن أضلت أربعة في العشرة، فإنها تصلي أربعة من أول العشرة بالوضوء لوقت كل صلاة للتردد بين الحيض والطهر، ثم تغتسل بعد ذلك إلى آخر العشرة لكل صلاة أو لوقت كل صلاة للتردد بين الطهر والخروج عن الحيض. وإن أضلت خمسة في العشرة، فإنها تصلي خمسة في أول العشرة بالوضوء لوقت كل صلاة ثم تغتسل لوقت كل صلاة أو لكل صلاة على ما ذكرنا. وإن أضلت ستة في العشرة من أول العشرة أربعة أيام أو بالوضوء لوقت كل صلاة ثم تدع يومين، ثم تصلي أربعة أيام بالاغتسال لكل صلاة أو لوقت كل صلاة؛ لأن الخامس والسادس حيض بيقين؛ لأن أيامها إن كانت من أول العشرة، فالخامس والسادس آخر حيضها، وإن كانت من آخر الشهر فالخامس والسادس من أول حيضها ثم إلى أخرها ويتم الخروج، فتغتسل فإن أضلت سبعة في عشرة صلت في ثلاثة من أولها بالوضوء لوقت كل صلاة ثم تدع أربعة لتيقننا بكونها أيام الحيض ثم تصلي ثلاثاً بالاغتسال لكل صلاة، أو لوقت كل صلاة. وإن أضلت ثامنية في عشرة فإنها تصلي في يومين من أولها بالوضوء لكل صلاة ثم

تدع الصلاة في ستة لتيقننا بكونها أيام الحيض ثم تصلي يومين بالاغتسال لتوهم الخروج عن الحيض؛ وإن أضلت تسعة في عشرة فإنها تصلي من أول العشرة يوماً بالوضوء ثم الصلاة ثمانية ثم تصلي يوماً بالاغتسال. فإن قالت أضللت عشرة في عشرة، فهي واحدة عالمة بها، وهذا السؤال منها محال وإن علمت أنه كانت تطهر في آخر الشهر، ولا تدري كم كان أيامها توضأت لوقت كل صلاة، إلى تمام سبعة وعشرين من الشهر وصلت ثم تدع الصلاة ثلاثة أيام ثم اغتسلت غسلاً واحداً في آخر الشهر، هكذا. وذكر محمد رحمه الله في «الأصل» قالوا: والجواب الذي ذكره صحيح إلا أنه مبهم لأنه لم تميز وقت تيقنها بالحيض من وقت الطهر، وإنما تمام الجواب أنها إلى العشرين تتيقن بالطهر؛ لأن الحيض لا يزيد على عشرة أيام، فتتوضأ لوقت كل صلاة بيقين، ويأتيها زوجها ثم في تسعة بعد العشرين تردد حالها فيه بين الحيض والطهر؛ لأنه إن كان حيضها ثلاثة فهي السبعة من جملة طهرها، فتصلي فيها بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك، وتترك الصلاة في ثلاثة أيام من آخر الشهر لتيقنها بالحيض فيه وقت الخروج من الحيض معلوم لها، وهو عند انسلاخ الشهر، فتغتسل في ذلك الوقت غسلاً واحداً، فإن ذكرت أنها كانت ترى الدم إذا جاوزت عشرين يوماً، لكن لا تدري كم كانت، فإنها بعد العشرين تدع الصلاة ثلاثاً بيقين؛ لأن الحيض لا يكون أقل منها ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخره لما قلنا. وإن علمت أنها كانت ترى الدم يوم الحادي والعشرين، ولا تتذكر سوى ذلك، فالجواب أنها تتيقن بالطهر إلى الحادي عشر من الشهر، فتصلي بالوضوء لوقت صلاة بيقين، ويأتيها زوجها ثم تصلي سبعة أيام بالوضوء بالشك لجواز أن اليوم الحادي والعشرين آخر حيضها وأيامها عشرة، ولا يأتيها زوجها في هذه السبعة، ثم تدع الصلاة في اليوم الحادي والعشرين؛ لأن فيه تيقن الحيض ثم تصلي إلى آخره بالاغتسال لكل صلاة، وإن علمت أنها كانت ترى الدم بعد مضي تسعة عشر من الشهر، ولا تدري كم كانت أيامها، فقد ذكر في بعض النسخ أنها تدع ثلاثة أيام بعد سبعة عشر لتيقن الحيض، ثم تصلي سبعاً بالاغتسال لكل صلاة بالشك. وتأويل هذا إذا كانت تذكرت أن ابتداء حيضها كان يكون بعد سبعة عشر وفي عامة النسخ كانت تصلي بالوضوء ثلاثة أيام ثم بالاغتسال سبعة أيام، وهو الذي ذكره الحاكم في «المختصر» . وإنما خالف بين جواب هذه المسألة وبين جواب المسألة الأولى؛ لأن موضوع هذه المسألة أنها لا تعلم أن حيضها، كان يكون متصلاً بمضي سبعة عشر من الشهر وإنما تعلم كونه في العشرة التي بعدها وإذا كان موضع المسألة هذا فهذه امرأة أضلت أيامها في العشرة، ولا تدري كم كان أيام حيضها وأقل الحيض بيقين ثلاثة، وقد بيّنا فيمن أضلت ثلاثة في عشرة أنها تتوضأ لوقت كل صلاة وثلاثة أيام من أولها، ثم الباقي بالغسل إن علمت أنها كانت تحيض في كل شهر مرّة في أوله أو آخره، ولا يدرى

كم كان حيضها، فإنها تتوضأ من أوّل الشهر لوقت كل صلاة ثلاثة أيام، ولا يأتيها زوجها لترددها بين الحيض والطهر ثم تغتسل سبعة أيام لكل صلاة لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر والخروج من الحيض، ولا يأتيها زوجها ثم تتوضأ إلى آخر الشهر. ولم يتميز في هذا الجواب بالزمان الذي فيه تيقُّن الطهر، فنقول في العشرة الأوسط تتوضأ لوقت كل صلاة؛ لأنها تتيقن بالطهر ههنا، ويأتيها زوجها فيها ثم في العشرة الأخيرة، تتوضأ لوقت كل بالشك، ولا يأتيها زوجها فيها لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر ثم تغتسل هي أيام الشهر مرة واحدة. وإن علمت أن أيامها خمسة، وأنها كانت ترى الدم (40ب1) في اليوم الحادي والعشرون، ولا تحفظ شيئاً آخر صلت بالوضوء من أول الشهر إلى خمسة عشر يتيقن الطهر ثم تصلي بالوضوء بالشك أربعة أيام، ثم تترك الصلاة في اليوم العشرين؛ لأنه من أيام الحيض بيقين ثم تغتسل بعدها أربعة أيام بالشك، لاحتمال الخروج عن الحيض. وإذا كان للمرأة أيام معلومة في كل شهر انقطع عنها الدم أشهراً ثم عاودها الدم واستمر، ونسيت أيامها تركت من أول الاستمرار ثلاثة أيام لتيقنها بالحيض فيها، فإن عادتها قد انتقلت إلى موضع الاستمرار، لعدم رؤيتها الدم في موضعها مرتين وزيادة فتتيقن بالحيض في ثلاثة أيام، فتترك الصلاة فيها ثم تغتسل لوقت كل صلاة في سبعة أيام لتردد حالها فيه بين الحيض والطهر والخروج عن الحيض ثم تتوضأ عشرين يوماً لوقت كل صلاة لتيقنها فيها بالطهر ويأتيها زوجها فيها، وذلك دأبها.Y هكذا ذكر محمد رحمه الله جواب المسألة في «الكتاب» : وتأويلها أنه يُعلم أن دورها في كل شهر، وإن لم يعرف ذلك فلا ذكر له في «الكتاب» عن محمد رحمه الله، والجواب أن هذا لا يخلو من وجوه إما إذا كانت لا تعرف مقدار حيضها ومقدار طهرها. وفي هذا الوجه تدع الصلاة من أول الاستمرار ثلاثاً بيقين ثم تصلي بالاغتسال بالشكل لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر والخروج عن الحيض، ولا يأتيها زوجها في هذه العشرة لاحتمال الحيض ثم تصلي ثمانية أيام بالوضوء لوقت كل صلاة، ويأتيها زوجها في هذه الثمانية لتيقنها بالطهر فيها، فإنه إن كان حيضها ثلاثة فهذا آخر طهرها، وإن حيضها عشرة، فهذا أول طهرها ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك، ولا يأتيها زوجها فيها، فقد بلغ الحساب أحد وعشرين، ثم تصلي بعد ذلك بالاغتسال لوقت كل صلاة بالشك؛ لأنه لم يبق بعده تيقين بالحيض أو بالطهر في شيء فما من وقت لا يتوهم أنه وقت خروجها من الحيض، أما بالزيادة في حيضها على ثلاثة أو بالزيادة في طهرها على خمسة عشر. وأما إن عرفت مقدار طهرها، ولم تعرف مقدار حيضها وفي هذا الوجه تترك الصلاة من أول الاستمرار ثلاثة أيام بيقين ثم تصلي سبعة أيام بالغسل لوقت كل صلاة بالشك؛ لأنها تتوهم في كل وقت أنه وقت خروجها من الحيض ثم تصلي ثمانية أيام بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك، فبلغ الحساب أحد وعشرين، فلو كان حيضها ثلاثة، فابتداء

طهرها الثاني بعد أحد وعشرين، فلو كان حيضها عشرة، فابتداء طهرها الثاني من خمسة وثلاثين ففي هذه الأربعة عشر أعني بعد أحد وعشرين إلى خمسة وثلاثين تصلي بالاغتسال لوقت كل صلاة بالشك، لاحتمال خروجها عن الحيض من كل وقت من ذلك ثم تصلي يوماً واحداً بالوضوء لوقت كل صلاة بيقين، وذلك بعدما تغتسل عند تمام خمسة وثلاثين؛ لأن هذا اليوم من طهرها بيقين ثم تصلي ثلاثة بالوضوء بالشك لتردد حالها فيه بين الحيض. والطهر ثم تغتسل بعد ذلك بالشك أبداً لوقت كل صلاة؛ لأنه لم يبق لها يقين الطهر بعده في شيء فما من ساعة لا يتوهم أنه وقت خروجها من الحيض، فأما إن عرفت مقدار حيضها، ولم تعرف طهرها بأن عرفت أن حيضها كان ثلاثة، ولا تدري كم كان طهرها وفي هذا الوجه تدع الصلاة ثلاثة أيام من أول الاستمرار بيقين، وتغتسل ثم تصلي خمسة عشر يوماً بالوضوء لوقت كل صلاة بيقين، ويأتيها زوجها فيها ثم تصلي ثلاثة أيام بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك لتردد حالها فيها بين الحيض والطهر، فبلغ الحساب أحد وعشرين يوماً، ولم يبق لها يقين في شيء بعد ذلك فتصلي فيها بالاغتسال لوقت كل صلاة بالشك؛ لأن ما من وقت بعدها إلا وتتوهم أنه وقت خروجها من الحيض. وأما إن عرفت أنّ مقدار طهرها خمسة عشر وتردد رأيها في الحيض بين الثلاثة والأربعة وفي هذا الوجه تركت من أول الاستمرار ثلاثة ثم اغتسلت وصلّت في اليوم الرابع بالوضوء بالشك، ثم تغتسل عند مضي اليوم الرابع مرة أخرى ثم تصلي بالوضوء أربعة عشر يوماً بيقين، فبلغ الحساب ثمانية عشر ثم تصلي اليوم التاسع عشر بالوضوء بالشك، ثم تدع اليوم الحادي والعشرين بيقين، وتغتسل لتمام الحادي والعشرين، لاحتمال أنه وقت خروجها من الحيضة الثالثة بأن كان حيضها ثلاثة وتصلي اليوم الثاني والعشرين بالوضوء بالشك، ولا تغتسل لتمام الثاني والعشرين؛ لأنه ما على الحيض في حال بأن كان حيضها أربعة وطهرها في حال بأن كان حيضها ثلاثة، فلا تغتسل فيه، ولكن تصلي فيه بالوضوء بالشك ثم تغتسل عند تمام الثلاث والعشرين، لاحتمال أوان أن خروجها من الحيضة الثانية بأن كان حيضها ثلاثة، وتصلي للثاني والعشرين بالوضوء بالشك، ولا تغتسل للثاني والعشرين في أربعة ثم تصلي بثلاثة عشر يوماً بالوضوء بيقين، فبلغ الحساب ستة وثلاثين ثم تصلي يومين بالوضوء بالشك، ثم تدع الصلاة يوماً واحداً؛ لأن هذا اليوم آخر حيضها إن كان حيضها ثلاثة وأول حيضها إن كان حيضها أربعة فتتيقن فيه بالحيض، فبلغ الحساب تسعة وثلاثين ثم تغتسل لجواز الخروج من الحيض ثم تصلي ثلاثة بالوضوء بالشك، فبلغ الحساب اثنين وأربعين، ثم تغتسل لاحتمال أن هذا أوان خروجها من الحيض بأن كان حيضها أربعة ثم تصلي اثني عشر بالوضوء بيقين، فبلغ الحساب أربعة وخمسين ثم تصلي ثلاثة بالوضوء بيقين، فبلغ الحساب أربعة وخمسين ثلاثة بالشك ثم تغتسل وتصلي أربعة بالوضوء بالشك ونسوق المسألة هكذا، ونأمرها بالاغتسال في كل وقت يتوهم خروجها من الحيض؟...........

إذا كانت المستحاضة لا تذكر أيامها غير أنها تستيقن بالطهر في اليوم العاشر والعشرين والثلاثين، فإنها تصلي ثلاثة أيام من أول الشهر بالوضوء لوقت كل صلاة، لترددها بين الحيض والطهر ثم تصلي ستة أيام بالاغتسال لوقت كل صلاة، لاحتمال خروجها من الحيض في كل ساعة، ثم تصلي اليوم العاشر بالوضوء لوقت كل صلاة بيقين الطهر ثم تصلي اليوم الحادي عشر، والثاني عشر والثالث عشر بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك لترددها فيه بين الحيض والطهر، ثم تصلي بعد ذلك لستة أيام بالاغتسال لوقت كل صلاة أو لكل صلاة، لتوهم خروجها من الحيض في كل ساعة ثم تتوضأ في اليوم العشرين، وتصلي بيقين الطهر ثم تصلي ثلاثة أيام بعدها بالوضوء بالشك، ثم تصلي ستة أيام بالاغتسال ثم تصلي اليوم الثلاثين بالوضوء بيقين الطهر. ولا يجزيها صومها في سبعة أيام من رمضان ولتصم ضعفها ثمانية عشر يوماً قال الحاكم الشهيد رحمه الله: لو قضت صوم رمضان في هذه الأيام الثلاثة اليوم العاشر واليوم العشرين واليوم الثلاثين كفاها لتيقنها بالطهر فيها، والسابع في صوم القضاء ليس بشرط وما قضت من الفوائت في غير هذه الثلاثة، فلتعدها في هذه الأيام الثلاثة، ولا يأتيها زوجها إلا في هذه الأيام لأنا لا نتيقن بالطهر إلا فيها، والله أعلم. ومما يتصل بهذا النوع إذا كان على المستحاضة صلوات فائتة قضت ما عليها في يوم إن قدرت عليها أو في يومين بالاغتسال لكل صلاة، ثم تعيدها بعد مضي عشرة أيام في اليوم الحادي عشر والثاني عشر لتتيقن بالأداء في زمان الطهر، والله تعالى أعلم. (نوع آخر) في استخراج معروفة امرأة كان حيضها عشرة وطهرها عشرين وطهرت أشهراً ثم استمرّ بها الدم فلم تستفت في ذلك حتى عليها سنون لعارض اعترض بأن جنت أو تركت الاستفتاء فسقاً أو مخافة ثم ندمت على ذلك جاءت تستفتي أنها في الحيض أو في الطهر في أوله أو آخره، وهي تعلم يوم الاستمرار أي يوم ومن أي شهر، ومن أي سنة بأن علمت أن يوم الاستمرار مثلاً يوم الأربعاء ااخامس من محرم سنة ثمان وستين وخمسمائة، ويوم الاستفتاء يوم الخميس الثامن عشر من رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، فإن على المفتي أن يجمع عدد الأيام من أول الاستمرار إلى يوم الاستفتاء، فيأخذ السنين الكوامل وهي في هذه الصورة ثلاث سنين، ويضربها في شهور السنة وهي اثنا عشر فيصير ستة وثلاثين (41أ1) ويأخذ أيضاً الشهور الكوامل بعد ثلاث سنين وذلك ههنا ستة، فتضم إلى الأول وذلك ستة وثلاثين، فيصير اثنين وأربعين ثم يضرب ما اجتمع، وذلك اثنين وأربعين في عدد أيام الشهور، وهو ثلاثون في الأصل، فيصير ألفاً ومائتين وأربعين في عدد أيام الشهور وهو ثلاثون في الأصل، فيصير ألفاً ومائتين وستين يضم إليها ما بقي من الأيام من يوم الاستمرار إلى يوم الاستفتاء بعد السنين الكاملة، والشهور الزائدة عليها وهي ثلاثة عشر، فيصير ألف ومائتين وثلاثة وسبعين إلا أن كل الشهور لا تكون كاملة

الفصل التاسع في النفاس

كلها، ولا تكون ناقصة بل يكون نصفها كاملة ونصفها ناقصة هذا هو الغالب. وبنحوه ورد الأثر عن عمر رضي الله عنه والذي أجتمع عندنا من الشهور اثنان وأربعون ينقص عما اجتمع عندنا عن الأيام أحد وعشرون، والذي اجتمع عندنا من الأيام ألف ومائتين وثلاثة وسبعين، فيطرح عنها أحد وعشرون يبقى هناك ألف ومائتان واثنان وخمسون، ثم ينظر المفتي إلى دورها، وذلك ثلاثون يوماً حيضها عشرة من أولها ثم طهرها عشرون، وهذا عدد له ثلث صحيح وعشر صحيح، فيطرح من جملة ما اجتمع عندنا ما له ثلاث صحيح وعشر صحيح، وذلك ألف ومائتان وثلاثون يبقى هناك اثنان وعشرون إلى تمام ألف ومائتين وخمسين ليس ثلث له صحيح وعشر صحيح، فعشرة منها من أولها حيض واثنا عشر مضى من طهرها، وقد بقي من طهرها ثمانية ثم بقي معنا إن المعنى يجوز أن يكون مصيباً في أخذ الطرح بأن كان عدد الكوامل من الشهور مثل عدد النواقض من الشهور يجوز أن يكون مخطئاً فيها بأن كان عدد الكوامل أو النواقص أكثر، فالوجه في معرفة الصواب والخطأ في الطرح أن بعد المفتي ما حصل معه من الأيام من يوم الاستمرار أو إلى يوم الاستفتاء بأيام الجمعة سبعة سبعة؛ إذ أيام الجمعة تزيد على السبعة ولا تنتقص، فيحط سبعة سبعة ويحفظ عدد أيام التي تنتقص من السبعة في العافية، فيعامله بعدما مضى من يوم الاستمرار أو إلى يوم الاستفتاء في أيام الجمعة، وذلك سبعة، فإن استويا ظهر أنه كان مصيباً في الطرح. وإن تفاوتا ظهر أنه كان مخطئاً في الطرح، فيرفع الخطأ بأن يزيد في الطرح أو ينتقص في الطرح. إذا ثبت هذا فنقول: أجتمع عندنا من الأيام من أول الاستمرار إلى يوم ستفتاء بعد طرح أحد وعشرين ألفاً، فيطرح منها سبعة يطرح أولاً سبعمائة، ثم يطرح نصفها ثلاثمائة وخمسون ثم؛ مائة وأربعون ثم ست وخمسون، فجملة المطروح ألف ومائتان وستة وأربعون، يبقى هناك ستة إلى تمام ألف ومائتين واثنين وخمسين، وأول الاستمرار كان يوم الأربعاء. والسؤال يوم الخميس، فذلك يومان والباقي ههنا ستة، فوقع الخطأ بأربعة، فيزيد المفتي في النواقص أربعة أيام ويلحقها بالكوامل، ويزيد هذه الأربعة على أصل الحساب، وذلك ألفاً ومائتان وخمسون، فيصير ألف ومائتين وستة وخمسين، وقد طرحنا من الابتداء ألفاً ومائتان وثلاثين بقي إلى تمام ما اجتمع عندنا في الآخرة، وذلك ألف ومائتين وستة وخمسون ستة وعشرون عشرة من أولها حيض وستة عشر يوماً مضت من طهرها بقي من طهرها أربعة، فتصلي أربعة ثم تفصل عشرة ثم تصلي عشرين. الفصل التاسع في النفاس هذا الفصل يشتمل على أقسام: الأول: يجب أن يعلم بأن النفاس هو الدم الذي يخرج عقيب الولادة. قيل: إنه مشتق من النفس التي هو عبارة عن الولد بخروج الولد لا ينفك عن بلّة دم.

وقيل: هو عبارة عن نفس الولادة يقال: نفست المرأة ولداً فهي نفساء، والولد منفوس والولد لا ينفك عن بلّة دم ولو ولدت ولم ترَ هي دماً، فهي نفساء في رواية الحسن عن أبي يوسف، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ثم رجع أبو يوسف، وقال هي طاهرة. وثمرة الخلاف تظهر في حق وجوب الغسل، فأما الوضوء فواجب بالإجماع؛ لأن الولد لا ينفك عن بلّة تخرج معه، وتلك البلّة حدث يوجب الوضوء بالإجماع، فوجه قول أبي يوسف الآخر أن النفاس عبارة عن الدم الخارج من الرحم، يقال للمرأة إذا رأت الدم عقيب الولد: نفست، فإذا لم ترَ الدم لم تكن نفساء والغسل من حكم النفاس في هذه الصورة. وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: أن النفاس مأخوذ من كل واحد مما ذكرنا وكل واحد منهما لا يخلو عن بلّة دم، وأكثر المشايخ أخذوا بقول أبي حنيفة رحمه الله وبه كان يفتي الصدر الشهيد رحمه الله، وبعضهم أخذوا بقول أبي يوسف رحمه الله. ثم الأمة أجمعت على وجوب الغسل بالنفاس، فإما أن يكون باجتماعهم بناءً على نص ورد فيه، واكتفوا بالإجماع عن نقل النص لكون الإجماع أكثر منه، أو يكونوا قاسوه على دم الحيض لعلة أنه دم خارج عن الرحم، ويجوز انعقاد الإجماع عن القياس، وليس لعله له غاية على ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله؛ لأنه لم يرد الشرع بتقديره، القليل منه كالكثير من حق كونه حدثاً فيكون هو نفاساً، بخلاف قليل الحيض حيث يقدّر وهو في نفسه لورود الشرع بتقديره، ولا تقدير ههنا فيتبع فيه القياس؛ ولأن دم الترك ما يكون من الرحم ولديه النفاس علامة يستدل بها على أنه من الرحم وهو خروج الولد بخلاف دم الحيض، فإنه له علامة عليه، فيستدل على ذلك بالامتداد ومقدار الاعتداد عرف بالشرع. وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه قال أقل مدة النفاس مقدر بأحد عشر يوماً. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه قدره بخمسة وعشرين يوماً وأكثر مدة النفاس مقدر بأربعين يوماً عندنا. وقال الشافعي: بستين يوماً، وقال مالك: بسبعين يوماً واعتمادنا على حديث أم سلمة رضي الله عنها حيث قالت: كانت النفساء تعتد على عهد رسول الله عليه السلام أربعين يوماً، وفي حديث أبي الدرداء وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: «وقّت رسول الله صلى الله عليه وسلّمللنفساء أربعين صباحاً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك» ، وفي حديث أنس رضي الله عنه قال: وقّت رسول الله عليه السلام للنفساء أربعين يوماً إلا أن ترى الطهر قبل ذلك، وإن زاد الدم على الأربعين فالزيادة على الأربعين استحاضة والأربعون نفاس في المبتدأة، وصاحبة العادة معروفها نفاس والزيادة عليها استحاضة (نوع منه)

في الطهر المتخلل بين الأربعين في النفاس قال أبو حنيفة رحمه الله: الطهر المتخلل بين الأربعين في النفاس لا يعتبر فاصلاً بين الدمين، سواء كان أقل من خمسة عشر أو كان خمسة عشر أو أكثر منها، ويجعل إحاطة الدمين بطرفه كالدم المتوالي؛ لأن الأربعين في النفاس عنده بمنزلة العشرة في الحيض، ثم الطهر بين العشرة في الحيض لا يعتبر فاصلاً بين الدمين عنده، وتجعل إحاطة الدمين بطرفيه كالدم المتوالي، وكذا في النفاس. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا كان الطهر المتخلل بين أربعين خمسة عشر فصاعداً، يصير فاصلاً بين الدمين، ويجعل الأول نفاساً والثاني حيضاً إن أمكن وإن كان أقل من خمسة عشر لا يصير فاصلاً بين الدمين، ويجعل كالدم المتوالي، فأبو يوسف رحمه الله سوّى بين النفاس وبين الحيض، فلم يجعل الطهر أقل من خمسة عشر فاصلاً بين الدمين فيها ومحمد رحمه الله (فرق) بينهما فجعل الطهر أقل من خمسة عشر في العشرة فاصلاً، ولم يجعله في الأربعين فاصلاً. ووجهه: أنه إنما جعل ما دون خمسة عشر من الطهر في العشرة فاصلاً إذا كان الطهر غالباً على الدم، ويتصور أن يكون طهرما دون خمسة عشر غالباً على الدم في العشرة، أما لا يتصور أن يكون طهر ما دون خمسة عشر، فالأربعين غالباً على الدم، في افترقا. إذا رأت بعد الولادة يوماً دماً وثمانية وثلاثين يوماً طهراً ويوماً دماً، فالأربعون كلها نفاس عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما نفاسها الدم الأول. ولو رأت مبتدأة خمسة دماً بعد الولادة، فإن بلغت بالحبل وخمسة عشر يوماً طهراً ثم رأت خمسة دماً ثم رأت خمسة عشر يوماً طهراً ثم استمرّ بها الدم، فعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله نفاسها هي الخمسة وعادتها في الطهر تكون خمسة عشر؛ لأنها رأت ذلك مرتين ولو رأت ذلك مرّة أليس أنها تصير عادتها لها، فههنا أولى ويكون حيضها هي الخمسة التي رأتها بعد العشرين، ويصير ذلك عادة لها برؤيتها إياها مرّة (41ب1) لكونها مبتدأة في الحيض. وعند أبي حنيفة رحمه الله نفاسها يكون خمسة وعشرون، الطهر الأول غير معتبرة عنده أصلاً لإحاطة الدم بطرفيه في الأربعين، والطهر الثاني صحيح معتبر؛ لأنه تم الأربعون ما أحاط الدم بطرفيه في مدة الأربعين، وتصير عادتها في الطهر خمسة عشر لرؤيتها ذلك مرة لكونها مبتدأة ولاعادة لها في الحيض، فيجعل حيضها من أول الاستمرار خمسة؛ لأنها صارت عادة لها عندهما وطهرها خمسة عشر وتصير عادة لها في النفاس عند أبي حنيفة خمسة وعشرون، وعندهما خمسة. قسم آخر في معرفة وقت النفاس وقد اختلف العلماء قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله فهو من ولادة الولد الأول، وقال محمد وزفر رحمهما الله: هو من الولد الثاني.

وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا ولدت وفي بطنها ولد آخر. قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: كما ولدت الولد الأول تصير نفساء، وقال محمد (وزفر) رحمه الله: لا تصير نفساء ما لم تلد الولد الثاني. حجة محمد وزفر رحمهما الله: أن النفاس حكم يتعلق بالولادة، كانقضاء العدة في حق انقضاء العدة يعتبر الولد الآخر، فكذا في حق النفاس وربما يقولان النفاس بمنزلة الحيض من حيث إن كل واحد منهما ينزل من الرحم ثم الحبل ينافي الحيض، فينافي النفاس أيضاً. ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: أن النفاس مأخوذ من واحد مما ذكرنا، فإنه يحصل بولادة الولد ودم الحامل إنما لا يعطى له حكم الحيض؛ لأنه ليس من الرحم؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أنّ المرأة إذا حبلت ينسد فم رحمها، وهذا المعنى لا يوجد ههنا؛ لأن فم الرحم قد انفتح بخروج الولد الأول، فكان نفاساً. اعتبار النفاس بانقضاء العدة لا يصح، لأن انقضاء العدة متعلق بفراغ الرحم، ولا فراغ مع بقاء شيء من التنفل، فأما النفاس يتعلق بخروج الولد، وقد وجد خروج الولد. وإن كان بين الولدين أربعون يوماً فصاعداً، فقد اختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة رحمه الله قال بعضهم يجب عليها النفاس من الولد الثاني أيضاً عنده؛ لأن سبب النفاس ولادة الولد، وقد تحقق ولادتان فاستقام إيجاب نفاسين بخلاف الحيض؛ لأن سبب الحيض الوقت، ولا يجتمع وقتا الحيض على التوالي، وقال بعضهم: لا يجب عليها النفاس من الولد الثاني على قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو الصحيح، وإلى هذا أشار في «الجامع الصغير» ، فإنه ذكر المسألة الأولى، وذكر بعدها، وكذلك لو كان بين الولدين أربعون يوماً. وحكي أن أبا يوسف قال لأبي حنيفة رحمهما الله: أرأيت لو كان بين الولدين أربعون يوماً، قال: هذا لا يكون، قال أبو يوسف: وإن كان قال: لا نفاس لها من الولد الثاني، وإن رغم أنف أبي يوسف ولكنها تغتسل كما تضع الولد الثاني وتصلي، وهذا صحيح لأنه لا يتوالى نفاسان ليس بينهما طهر صحيح، كما لا يتوالى حيضان ليس بينهما طهر صحيح. ومما يتصل بهذا القسم امرأة ولدت ثلاثة أولاد بين كل ولدين أقل من ستة أشهر بين الولد الأول والثالث أكثر من ستة أشهر، فالأولاد الثلاثة هل تجعل من حَبَلٍ واحد؟ اختلف المشايخ: قال بعضهم منهم أبو علي الدقاق: يجعل من حَبَل واحد؛ لأن المحتمل يحمل على المقطوع به، وكون الأول مع الثاني من حَبَل واحد مقطوع به، وكذلك كون الثاني مع الثالث من حَبَل واحد مقطوع به، بخلاف ما إذا لم يكن الثاني؛ لأنه تمة ليس بمقطوع به يحمل عليه، أما ههنا بخلافه.

ومما يتصل بهذا القسم أيضاً امرأة خرج بعض ولدها منها، فرأت الدم يسيل تصير نفساء. واختلَفت فيه الروايات روى خلف بن أيوب عن أبي يوسف رحمهما الله، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله: أنه يعتبر فيه خروج أكثر الولد كما عرف أن أكثر الشيء له حكم كماله. وروى المعلى عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: أنه إذ خرج بعض الولد صارت به نفساء، وروى هشام عن محمد رحمه الله: أنها لا تصير نفساء حتى يخرج الرأس ونصف اليدين والرجلين، وأكثر من نصف البدن. وعن محمد رحمه الله: أنها لا تصير نفساء حتى يخرج جميع ولدها، وهذا على أصله مستقيم، فإن عنده النفاس معلق بوضع الحمل كله، وعن أبي حنيفة أيضاً رحمه الله أنها تصير نفساء بخروج بعض الولد؛ لانفتاح فم الرحم بخروج بعض الولد، وهو مستقيم على أصله أن النفاس من الولد الأول، وكذلك لو انقطع الولد الثاني في بطنها، فخرج أكثره تصير نفساء في إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله وبخروج بعضه تصير نفساء على الرواية الأخرى. ومما يتصل بهذا القسم أيضاً المرأة إذا أسقطت سقطاً، فإن كان استبان شيء من خلقه فهي نفساء فيما رأت الدم، فإن لم يستبن شيء من خلقه فهي نفساء فيما رأت الدم، وإن لم يستبن شيء من خلقه فلا نفاس لها، ولكن إن أمكن جعل المرئي من الدم حيضاً بأن تقدّمه طهر تام يجعل حيضاً، وإن لم يمكن جعله حيضاً بأن لم يتقدمه طهر تام فهي استحاضة، وإن رأت دماً قبل إسقاط السقط، ورأت دماً بعد إسقاط السقط، فإن كان السقط مستبين الخلق، فما رأته قبل الإسقاط لا يكون حيضاً؛ لأنه تبيّن أنها حين رأته كانت حاملاً، وليس الحامل الحيض، وهي نفساء فيما رأت بعد إسقاط السقط، فإن لم يكن السقط مستبين الخلق، فما رأته قبل الإسقاط حيض إن أمكن جعله حيضاً بأن وافق أيام عادتها أو كان مرئياً عقيب طهر صحيح؛ لأنه تبين أنها لم تكن حاملاً.u ثم إن كان ما رأت قبل السقط مدة تامة بأن كان أيامها ثلاثة، فرأت قبل الإسقاط ثلاثة دماً استمر بها الدم بعد الإسقاط، فما رأته بعده يكون استحاضة، وإن لم تكن مدة تامة بأن رأت قبل الإسقاط يوماً أو يومين دماً تكمل مدتها، فما رأت بعد إسقاط السقط ثم هي مستحاضة بعده. وإن كان لا يدرى حال السقط بأن أسقطت في المخرج، ولا يدرى أنه كان مستبين الخلق أو لم يكن واستمر بها الدم، وهي مبتدأة في النفاس، وصاحبة عادة في الطهر، والحيض كان عادتها في الحيض عشرة، وفي الطهر عشرون، فنقول: على تقدير أن السقط مستبين الخلق هي نفساء، ونفاسها يكون أربعون يوماً لأنها مبتدأة في النفاس، وقد استمر الدم، فيجعل نفاسها أكثر النفاس كما يجعل حيض المبتدأة في الحيض إذا استمر بحما الدم أكثر الحيض، وهي عشرة أيام، وعلى تقدير أن السقط لم يكن مستبين الخلق لا تكون نفساء، وتكون عشرة الأيام عقيب الإسقاط حيضاً إذا وافق عادتها أو كان ذلك

عقيب طهر صحيح، فنرك الصلاة هي عقيب الإسقاط عشرة أيام بيقين؛ لأنها فيه إما حائض أو نفساء، ثم تغتسل هي وتصلي عشرين يوماً بالوضوء لوقت كل صلاة بالشك لتردد حالها فيه بين الطهر والنفاس، ثم تترك الصلاة عشرة أيام بيقين؛ لأنها في هذه العشرة إما حائض أو نفساء، ثم تغتسل لتمام مدة النفاس والحيض ثم بعد ذلك يكون طهرها عشرون وحيضها عشرة، وذلك دأبها. وإن كانت رأت قبل الإسقاط دماً، فإن كان ما رأت قبل الإسقاط مستقلاً بنفسه لا تترك هي الصلاة بعد الإسقاط، وإن لم يكن ما رأت قبل الإسقاط مستقلاً بنفسه، فإنها تترك بعد الإسقاط قدر ما تتم به مدة حيضها، لا تترك الصلاة فيما رأت قبل الإسقاط على كل حال، ولو تركت فعليها صلاتها. وإنما لا تترك الصلوات فيما رأت قبل الإسقاط؛ لأن على تقدير أن السقط مستبين الخلق فهي مستحاضة فيما رأت قبل الإسقاط، ثم إذا كان معروفها في الحيض عشرة، وفي الطهر عشرين يوماً بعد السقط عشرة دماً اغتسلت وصلت عشرين يوماً بعد السقط؛ لأنه تردد حالها فيه بين النفاس والطهر ثم تترك عشرة بيقين؛ لأنها فيها نفساء لأنها مبتدأة في النفاس أو حائض إن كان السقط مستبين الخلق فهي نفساء، فيكون نفاسها أربعون، وإن لم يكن السقط مستبين الخلق فهي حائض فيها ثم تغتسل هي وتصلي عشرين يوماً عشرة بالشك، لتردُّدِ حالها فيه بين الطهر والنفاس ثم تغتسل وتصلي عشرة أخرى بيقين الطهر ثم تصلي عشرة أخرى بالشك لتردد حالها فيه بين (42أ1) الطهر والحيض ثم تغتسل، وهكذا دأبها أن تغتسل في كل وقت يتوهم أنه وقت خروجها من الحيض أو النفاس، فإن رأت قبل الإسقاط خمسة دماً ثم أسقطت هكذا، فإنها تترك الصلاة خمسة أيام بعد السقط؛ لأن السقط إن لم يكن مستبين الخلق، فهذه الخمسة تتم مدة حيضها. وإن كان مستبين الخلق فهو أول نفاسها فتترك الصلاة في الخمسة بيقين؛ لأنها حيض أو نفاس ثم تغتسل وتصلي عشرين يوماً بالوضوء بالشك للتردد بين النفاس والطهر، ثم تترك عشرة بيقين؛ لأنه حيض أو نفاس، فبلغ الحساب خمسة وثلاثين ثم تغتسل وتصلي خمسة بالوضوء بالشك ثم تغتسل لتمام الأربعين، ثم تصلي خمسة عشر يوماً بالوضوء بيقين؛ لأنه طهر فبلغ الحساب خمسة وخمسين ثم تصلي خمسة بالوضوء للتردد بين أول الحيض إن لم يكن السقط مستبين الخلق وبين آخر الطهر إن كان مستبين الخلق، فبلغ الحساب ستين ثم تترك خمسة أيام؛ لأنها أول حيضها أو آخر حيضها ثم تغتسل وتصلي خمسة أيام بالوضوء بالشك ثم تغتسل مرة أخرى؛ لأنه آخر أيام حيضها إن كان مستبين الخلق ثم تصلي خمسة عشر بالوضوء بيقين. وإن كانت المرأة معتادة في الحيض والطهر والنفاس، وكانت عادتها في الحيض عشرة وفي الطهر عشرون، وفي النفاس أربعون، فأسقطت في أول أيام حيضها، ولم تدر حال السقط فإنها تترك الصلاة عشرة بيقين؛ لأنها حيض أو نفاس ثم تغتسل وتصلي عشرين بالوضوء بالشك؛ لأنه نفاس أو طهر ثم تترك الصلاة عشرة؛ لأنها حيض أو نفاس

ثم تغتسل وتصلي عشرين؛ لأنه طهر في الأحوال كلها، والله تعالى أعلم. قسم في الضلال في النفاس المرأة إذا كانت لها عادة معروفة في النفاس، فنسيت عادتها، وولدت بعد ذلك ولداً ورأت الدم، فعليها أن تقعد عن الصلاة أربعين يوماً إن كانت ترى الدم، فإن لم يجاوز دمها أربعين، وطهرت من بعد الأربعين طهراً كاملاً لم تعد هي شيئاً مما تركت من الصلاة؛ لأن الأربعين يعتبر نفاساً في حقها، كما إذا زاد دمها في الحيض على عادتها، ولم يُجاوز الدم العشرة، فإنه يعتبر ذلك كله حيضاً في حقها، فإن جاوز الدم الأربعين أو لم يجاوز ولكن طهرت بعد الأربعين أقل من خمسة عشر يوماً؛ فإنّ عليها أن تتحرى في ذلك، فإن وقع أكثر رأيها وغالب ظنها على عدد أنه كان عادة نفاسها ذلك مضت على ذلك، وأعادت ما تركت من الصلاة في أكثر أيام نفاسها المعتادة. وإن لم يكن لها رأي في ذلك احتاطت، فصلّت صلاة الأربعين كلها لجواز أن نفاسها كان ساعة، وإن كان دمها مستمراً للحال انتظرت هي عشرة أيام قضت صلاة هذه الأربعين ثانباً، لاحتمال حصول القضاء في أول مرة في حالة الحيض، والاحتياط في العبادات واجب. قسم آخر وإذا ولدت ولداً فاستمر بها الدم وشكت في حيضها أو في طهرها أو فيهما، فهي ثلاثة أوجه: فإن شكت في حيضها أنه خمسة أو عشرة وتيقنت في الطهر أنه عشرون، فإنها تعد الأربعين للنفاس، فتغتسل وتصلي عشرين يوماً بيقين ثم تدع خمسة بيقين الحيض ثم تغتسل، فبلغ الحساب خمسة وعشرين يوماً ولها حسابان الأقصر والأطول ففي الأقصر استقبلها طهر عشرين، وفي الأطول بقي من حيضها خمسة فتصلي فيها بالوضوء بالشك، ثم تغتسل وتصلي خمسة عشر بالوضوء بيقين الطهر، فبلغ خمسة وأربعين وفي الأقصر استقبلها الحيض خمسة، وفي الأطول بقي من طهرها خمسة، فتصلي خمسة بالوضوء بالشك فبلغ الحساب خمسين ثم تغتسل، وفي الأقصر استقبلها طهر عشرين، وفي الأطول استقبلها طهر عشرين فتصلي عشرة بيقين، فبلغ سبعين، وفي الأقصر استقبلها حيض خمسة، وفي الأطول بقي من حيضها عشرة، فتصلي خمسة بالوضوء بالشك فبلغ خمسة وسبعين فتغتسل ثم في الأقصر استقبلها طهر عشرين، وفي الأطول بقي من طهرها خمسة فتصلي خمسة بالوضوء بيقين فبلغ مائتين، ثم في الأقصر بقي من طهرها خمسة عشر وفي الأطول استقبلها حيض عشرة، فتصلي عشرة بالوضوء بالشك فبلغ تسعين، فتغتسل، وفي الأقصر بقي من طهرها خمسة، وفي الأطول استقبلها طهر عشرين فتصلي خمسة بالوضوء بيقين بلغ خمسة وتسعين، وفي الأقصر استقبلها حيض خمسة، وفي الأطول بقي من طهرها خمسة عشر فتصلي خمسة بالوضوء بالشك ثم تغتسل، فبلغ الحساب مائة، وفي الأقصر استقبلها حيض خمسة، وفي الأطول بقي من طهرها خمسة

عشر فتصلي خمسة بالوضوء بالشك ثم تغتسل، فبلغ الحساب مائة، وفي الأقصر استقبلها طهر عشرين، وفي الأطول بقي من طهرها عشرة، فتصلي عشرة بيقين بلغ مائة وعشرة ثم في الأقصر بقي من طهرها عشرة، وفي الأطول استقبلها حيض عشرة، فتصلي عشرة بالشك ثم تغتسل، فبلغ مائة وعشرين ثم في الأقصر استقبلها حيض خمسة، وفي الأطول استقبلها طهر عشرين، فتصلي خمسة بالوضوء بالشك، فبلغ مائة وخمسمائة وعشرين، ثم في الأقصر استقبلها طهر عشرين، وفي الأطول بقي من طهرها خمسة عشر فتصلي خمسة بالوضوء بيقين، فبلغ مائة وأربعين، وفي الأقصر بقي من طهرها خمسة، وفي الأطول استقبلها حيض عشرة فتصلي خمسة بالوضوء بالشك بلغ مائة وخمسة وأربعين، ثم في الأطول بقي من حيضها خمسة وفي الأقصر استقبلها الحيض خمسة فتترك هذه الخمسة بيقين ثم تغتسل، فبلغ الحساب مائة وخمسين، واستقام دورها. وعلى هذا: يخرج إذا شكت في الطهر أنه خمسة عشر أو عشرون واستقامة دورها يكون في مائة وخمسين. وعلى هذا يخرج إذا شكت ههنا شك في الحيض أنه خمسة أو عشرة، وشكت في الطهر أنه خمسة عشر أو عشرون، واستقامة دورها يكون في ثلاثمائة والله أعلم نوع آخر امرأة ولدت وانقطع دمها بعد يوم أو يومين، فانتظرت إلى آخر الوقت واغتسلت وصلّت أمّا الانتظار إلى آخر الوقت لتوهم أن يعاودها الدم، وأما الاغتسال في آخر الوقت والصلاة فلكونها طاهرة ظاهراً وقد بيّنا نظير ذلك في الحيض. قسم آخر في المرأة إذا طلقها الزوج فأخبرت عن انقضاء العدة في كم تُصدَّق وهذا فصل اختلف فيه العلماء، روى أبو يوسف ومحمد عن أبي حنيفة رحمه الله رضي الله عنه: أنها لا تصدق في أقل من خمسة وثمانين يوماً، وفي رواية الحسن عنه لا تُصدق في أقل من مائة يوم. وذكر أبو سهل الفرائضي في «كتاب» الحيض عن أبي حنيفة رحمه الله: أنها لا تصدق، في أقل من مائة وخمسة عشر يوماً، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا تصدق في أقل من خمسة وستين يوماً، وقال محمد رحمه الله: لا تصدق في أقل من أربعة وخمسين يوماً وساعة هذا إذا كانت حرة. فأما إذا كانت أمة وقد طلقها الزوج بعد الولادة، فعلى رواية محمد عن أبي حنيفة لا تصدق في أقل من خمسة وستين يوماً، وعلى رواية الحسن عنه لا تصدق هي في أقل من خمسة وسبعين يوماً، على رواية أبي سهل الفرائضي لا تصدق هي في أقل من تسعين يوماً، وعلى قول أبي يوسف: لا تصدق في أقل من سبعة وأربعين يوماً. وعلى قول محمد: لا تصدق في أقل من ستة وثلاثين يوماً وساعة والله أعلم.

قسم آخر في ختم النفاس بالطهر الفاسد يجب أن يعلم بأن أبا يوسف رحمه الله كان يرى ختم النفاس بالطهر الفاسد كما يرى ختم الحيض بالطهر الفاسد؛ إذ الأصل عنده أن كل طهر بين الدمين يكون هو أقل من خمسة عشر، فهو كدم مستمر وأبو حنيفة رحمه الله على ما يروي عنه أبو يوسف يرى ختم النفاس بالطهر الفاسد، وعلى ما يروي عنه محمد لا يرى ختم النفاس بالطهر الفاسد. واختلف المشايخ فيه على قول محمد، الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني، والفقيه أبو بكر الأعمش رحمهما الله أن محمداً رحمه الله لا يرى ختم النفاس به كما لا يرى ختم الحيض به، وقال جماعة منهم إن محمداً رحمه الله يرى ختم النفاس به، وفرقوا بين النفاس وبين الحيض. وبيان ذلك: امرأة بلغت بالحبل فرأت الدم ثلاثين يوماً ثم طهرت أربعة عشر يوماً، ثم استمر بها الدم (42ب1) أشهراً، فعند من يرى ختم النفاس بالطهر الفاسد يكون نفاسها أربعون يوماً عادة أصلّية لها وطهرها عشرون عادة أصلية لها وحيضها عشرة، فتصلي بعد الأربعين عشرين يوماً وتدع الصلاة عشرة أيام وتصلي عشرين، وذلك دأبها ما دامت ترى الدم وعلى قول من يرى ختم النفاس بالطهر الفاسد يكون نفاسها ثلاثون يوماً عادة أصلية لها، وطهرها عشرون عادة أصلية وحيضها عشرة عادة لها أصلية، فتصلي بعد الثلاثين عشرين وتقعد عشرة ثم عشرين، والله أعلم. قسم آخر في انتقال عادة النفاس يجب أن يُعلم بأن انتقال العادة في النفاس إنما يكون بالخالص من النفاس، وخالصه أن يكون عقيب النفاس طهر تام خمسة عشر يوماً فصاعداً، وإذا قصّر الدم بعد النفاس عن خمسة عشر يوماً، فكذلك النفاس فاسد غير خالص، ولا يفسد دم النفاس بدم يُرى قبل الولادة؛ لأنه لم يخرج من الرحم لانسداد فم الرحم بالولد، وتنتقل العادة في النفاس برؤية المخالف مرّة عند أبي يوسف رحمه الله، ويصير ذلك عادة لها، وعليه الفتوى. وبيانه: امرأة كانت أيام حيضها، نفاسها أربعون يوماً عادة أصلية لها وأيام طهرها عشرون وأيام حيضها عشرة، فولدت فرأت الدم ثلاثين ثم طهرت خمسة عشر، ثم استمر بها الدم انتقلت عادتها في النفاس إلى ثلاثين، وفي الطهر إلى خمسة عشر وبقيت عادتها في الحيض عشرة، فتترك الصلاة من أول الاستمرار عشرة ثم تصلي خمسة عشر، وعلى هذا القياس فافهم، والله تعالى أعلم.

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة هذا الكتاب يشتمل على ثلاثة وثلاثين فصلاً: 1 * في المواقيت. 2 * في بيان فضيلة الأوقال. 3 * في بيان اللوقات التي تكره فيها الصلاة. 4 * في كيفيتها. 5 * في الأذان. 6 * في بيان ما يفسد الصلاة وما لا يفسد. 7 * في بيان مقام الإمام والمأسوم. 8 * في الحث على الجماعة. 9 * في المرور بين يدي المصلي. 10 * في صلاة التطوع. 11 * في التطوع قبل الفرض.

الفصل الأول في المواقيت

الفصل الأول في المواقيت هذا الفصل يشتمل على أنواع: الأول: في بيان أول المواقيت وآخرها فنقول: أول وقت الفجر من حين يطلع الفجر الثاني، وهو الفجر المستطير المنتشر في الأفق، فإذا طلع الفجر الثاني خرج وقت العشاء، ودخل وقت الفجر هذا هو المنقول عن أصحابنا رحمهم الله، ولم ينقل عنهم أن العبرة لأول طلوع الفجر الثاني أو لاستطاره وانتشاره. وقد اختلف المشايخ فيه، وآخر وقت صلاة الفجر طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس خرج وقت الفجر، ولا يدخل وقت صلاة أخرى حتى تزول الشمس، فمن حين طلوع الشمس إلى زواله وقت مهمل، وأول وقت الظهر من حين نزول الشمس. وإذا أردت معرفة زوال الشمس، فالمنقول عن أبي حنيفة: أنه ينظر إلى القرص، فما دام في كبد السماء، فإنها لم تزل، وإذا انحطّت يسيراً فقد زالت، والمنقول عن محمد في ذلك أن يقوم الرجل مستقبل القبلة، فإذا مالت الشمس عن يساره فهو الزوال، وقد قيل: في معرفة ذلك أن يغرز خشبة مستوية في أرض مستوية قبل زوال الشمس، ويحط في ضلع ظلها علامة، فإن كان الظل يقصر عن العلامة فاعلم بأن الشمس لم تزل؛ لأن ظل الأشياء يقصر إلى زوال الشمس. وإن كان الظل يطول ويجاوز الخط، فاعلم بأن الشمس قد زالت، وإن امتنع الظل عن القصر ولم يأخذ في الطول، فهذا هو وقت الزوال وهو الظل الأصلي. واختلفوا في آخر وقت الظهر روى الحسن عن أبي حنيفة أن آخر وقت الظهر: أن يصير ظل كل شيء مثله سوى الظل الأصلي، فإذا صار ظل كل شيء مثله خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر، وهو قول أبي يوسف ومحمد. وذكر في «الأصل» : أنه لا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل قامتين ولم يتعرض لآخر وقت الظهر، وروى أسد بن عمرو عن أبي حنيفة أنه إذا صار ظل كل شيء مثله خرج وقت الظهر، ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثله، وروى أبو

الفصل الثاني في بيان فضيلة الأوقات

يوسف عن أبي حنيفة أنه إذا صار الظل أقل من قامتين خرج وقت الظهر، ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه، قال أبو الحسن: وهذه الرواية أصح، فعلى هاتين الروايتين يكون بين الوقتين وقت مهمل، لا من الظهر ولا من العصر وهو الذي يسميه الناس بين الصلاتين، وإنما يعتبر ظل كل شيء مثله أو مثليه سوى فيء الزوال. واعلم أن ما مِنْ شيء إلا وله ظل عند الزوال إلا بمكة وبمدينة في أطول أيام السنة، فإن في أطول أيام السنة بمكةوبمدينة لا يبقى للأشياء ظل عند الزوال على الأرض، أما بمكة لأنه سرّة الأرض ومنها بسطت الأرض وأما بمدينة، فلأن الشمس تأخذ الحيطان الأربعة، فأما في غيرهما من الأماكن فلا تخلو الأشياء عن الظل عند الزوال غير أنه تصغر وتكبر وتطول وتقصر بحسب قرب الأماكن إلى مكة، فلا يعتبر ذلك المقدار في تقدير ظل كل شيء مثله أو بمثليه. فأول وقت العصر عند أبي يوسف ومحمد إذا صار الظل قامة وزاد عليها. وذكر أبو سليمان عن أبي يوسف أنه لم يعتبر الزيادة. قال أبو الحسن الخلاف في آخر وقت الظهر خلاف في أول وقت العصر، وآخر وقت العصر وقت غروب الشمس. وأول وقت المغرب حتى تغيب الشمس وآخر وقت المغرب حتى يغيب الشفق. وأول وقت العشاء حتى يغيب الشفق، وآخر وقتها يمتد إلى طلوع الفجر وتفسير. الشفق في قول أبي حنيفة رحمه الله البياض، وفي رواية أسد بن عمرو أنه الحمرة، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي ورد فتوى في زمن الصدر الكبير برهان الأئمة رحمه الله، وكان فيه أنا بخير وقت العشاء في بلدن، فإن الشمس كما تغرب تطلع الفجر من الجانب الآخر، هل علينا صلاة العشاء؟ فكتب في الجواب أنه ليس عليكم صلاة العشاء، وهكذا كان يفتي ظهير الدين المرغيناني. وأما الوتر فوقته ما هو وقت العشاء إلا أنه مأمور بتقديم العشاء عليه، ووقت الجمعة ما هو وقت الظهر والله أعلم. الفصل الثاني في بيان فضيلة الأوقات قال أصحابنا رحمهم الله: الإسفار بالفجر أفضل في الأزمنة كلها إلا صبيحة يوم النحر للحاج بالمزدلفة، فإن هناك التغليس أفضل، وإنما كان الإسفار في سائر الأزمنة أفضل لقوله عليه السلام «أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر» وقال إبراهيم النخعي؛ ما اجتمع أصحاب رسول الله عليه السلام على شيء كما اجتمعوا على الإسفار بالفجر، فإنه سبب لتكثير الجماعة فكان أفضل إلا أنه لا ينبغي أن يؤخر تأخيراً يقع الشك في طلوع

الشمس؛ لأنه حينئذ يقع الشك في فساد صلاته، واختيار الطحاوي رحمه الله في الفجر الجمع بين التغليس والإسفار يبدأ بالتغليس، ويطول القرءاة ويختم بالإسفار. وأما الظهر فتأخير هما في زمان الصيف أفضل، قال عليه السلام: «أبردوا بالظهر، فإن شدة الحر من فيح جهم» وتعجيلها في زمان الشتاء أفضل لحدث إبراهيم قال: كانوا يحبون أن يعجلوا الظهر في الشتاء. وأما العصر فتأخيرها أفضل في الأزمان كلها ما لم تتغير الشمس، لحديث رافع بن خديج أن رسول الله عليه السلام «كان يأمرنا بتأخير العصر» ولكن يكره تأخيرها إلى أن تتغير الشمس، هكذا ذكر في «الأصل» ، في «القدوري» . وذكر الطحاوي إلى أن تحمرّ الشمس مع هذا لو صلى جاز؛ لأنه صلى في الوقت ثم على ما ذكره في «الأصل» يعتبر التغير في عين القرص أو في الضوء الذي يقع على الجدران والحائط، قال سفيان وإبراهيم النخعي في الضوء، وهكذا حكى الإمام الزاهد أبو بكر بن حامد عن الحاكم الشهيد، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد في «النوادر» أنه يعتبر التغير في القرص، وبه كان يقول مشايخ بلخ والشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل ببخارى. ثم تكلموا في معرفة التغير في القرص قال بعضهم إذا قامت الشمس للغروب قدر رمحين أو رمح لم تتغير، وإذا صارت أقل من ذلك فقد تغيرت. وقال بعضهم يوضع طست ماء في الصحراء وننظر فيه، فإن كان القرص يبدو للناظر، فقد تغيرت، وقال بعضهم: إذا كان بحال يمكنه إحاطة النظر إلى القرص، ولا تحار عيناه فما..... مما تغيرت. وقال بعض أصحابنا التأخير إلى هذا الوقت مكروه، فأما الفعل فغير مكروه؛ لأنه مأمور بالفعل ولا يستقيم إثبات الكراهة للشيء مع الأمر به. فأما المغرب فيكره تأخيرها إذا غربت الشمس، لقوله عليه السلام: «لا تزال هذه الأمة بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم» . وأما العشاء فتأخيرها أفضل إلى ثلث الليل في رواية وفي رواية: إلى نصف الليل هكذا ذكر في «القدوري» (43أ1) ، وذكر الطحاوي بأن تأخير العشاء إلى ثلث الليل مستحب، وبعده إلى نصف الليل مباح غير مكروه، قال الطحاوي وبعد نصف الليل إلى طلوع الفجر مكروه إذا كان التأخير بغير عذر. وأما الوتر فإن كان لا يثق من نفسه الاستيقاظ أوتر أول الليل، فإن كان يثق فالأفضل آخر الليل، وفي يوم القيم يؤخر الفجر والظهر والمغرب، ويعجل العصر والعشاء في الأزمنة كلها، وأراد بقوله تؤخر المغرب، التأخير قدر ما يستيقن بغروب

الفصل الثالث في بيان الأوقات التي تكره فيها الصلاة

الشمس، وأراد بقوله تعجل العصر التعجيل قدر ما يقع عنده أنه لا تقع في الوقت المكروه، فإن التأخير إلى آخر الوقت قبل أن تتغير الشمس مستحب وأراد بقوله تعجل العشاء التعجيل قليلاً أو على الوقت المعتاد؛ لأن التأخير إلى ثلث الليل مستحب في رواية، وفي رواية إلى نصف الليل وما بعده يقع في حد الكراهة، فتعجل قليلاً احترازاً عن الوقوع في الوقت المكروه، ولا يجمع بين صلاتين في وقت إحداهما في حضر ولا في سفر إلا عرفة ومزدلفة، فإن الحاج يجمع بين الظهر والعصر بعرفات في وقت الظهر ويجمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمزدلفة. وقيل: الجمع بين الصلاتين فعلاً لعذر المطر جائز إحرازاً لفضيلة الجماعة، وذلك بتأخير الظهر وتعجيل العصر، وتأخير المغرب وتعجيل العشاء، قال مشايخنا: المستحب للإنسان أن لا يؤخر الظهر حتى يصير ظل كل شيء مثله، ولا يصلي العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه، حتى يصير مؤدياً كل صلاة في وقتها بالإجماع. الفصل الثالث في بيان الأوقات التي تكره فيها الصلاة الأوقات التي تكره فيها الصلاة خمسة، ثلاثة يكره فيها التطوع والفرض: وذلك: عند طلوع الشمس، ووقت الزوال، وعند غروب الشمس إلا عصر يومه، فإنه لا يكره عند غروب الشمس، وعن أبي يوسف أنه جوز التطوع وقت الزوال يوم الجمعة، ولا يجوز في هذه الأوقات صلاة جنازة، ولا سجدة تلاوة ولا سجدة سهو ولا قضاء فرض. ولو قضى فرضاً من قضاء الفائتات في هذه الأوقات لا يعيدها، ولو صلى صلاة الجنازة لا يعيدها، وكذلك لو سجد لتلاوة في هذه الأوقات لا يعيدها وتسقط عنه، وإذا تلا آية السجدة في هذه الأوقات، فالأفضل أن لا يسجد في هذه الأوقات ولو سجد جاز ولا يعيدها. ووقتان آخران يكره فيهما التطوع وهو ما بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس إلا ركعتي الفجر. وما بعد صلاة العصر إلى وقت غروب الشمس ولا يكره فيها الفرائض ولا صلاة الجنازة ولا يجوز أداء المنذورة في هذين الوقتين، وإن كانت الصلاة المنذورة واجبة إلا أنها وجبت بإيجاب العبد. والواجبات على قسمين: قسم وجب بإيجاب العبد، كالمنذورة، وقسم وجب بإيجاب الله تعالى، كالوتر على إحدى الروايات عن أبي حنيفة رحمه الله وسجدة التلاوة وسجدتي السهو، فما وجب بإيجاب الله تعالى يجوز أداؤه في هذين الوقتين، وما وجب بإيجاب العبد لا يجوز أداؤه في هذين الوقتين، ولو أوجب على نفسه صلاة في هذه الأوقات، فالأفضل له أن يصلي في وقت مباح، ولو صلى في هذا الوقت سقط عنه ولا تجوز ركعتي الطواف في هذين الوقتين.

وههنا وقت آخر، وهو ما بعد غروب الشمس قبل أن يصلي المغرب والصلاة فيه مكروه، لكن لا لمعنى في الوقت، بل لتأخير المغرب. بقي الكلام في الوقت الذي تباح فيه الصلاة: إذا طلعت الشمس، والمذكور في «الأصل» : إذا طلعت حتى ارتفعت قدر رمحين أو قدر رمح تباح الصلاة، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يقول: ما دام الإنسان يقدر على النظر إلى قرص الشمس، فالشمس في الطلوع لا تباح فيه الصلاة، فإذا عجز عن النظر تباح فيه الصلاة، وقال الشيخ الإمام أبو محمد عبد الله بن الفضل ما دامت الشمس محمرة أو مصفرة على رؤوس الحيطان والجبال والأشجار فهي في الطلوع، فلا تحل الصلاة. فإذا ابيضت فقد طلعت وحلّت الصلاة وقال الفقيه أبو حفص السفكردري رحمه الله: يؤتى بطست ويوضع في أرض مستوية ما دامت الشمس تقع في حيطانه فهو على الطلوع فلا تحل له الصلاة، وإذا وقعت في وسطه فقد طلعت وحلت الصلاة. ولو شرع في النفل في الأوقات الثلاثة، فالأفضل له أن يقطعها، وإذا قطعها لزمه القضاء في المشهور من الرواية. ولو شرع في الوقتين في النافلة، ثم أفسدها لزمه القضاء، ولو افتتح الصلاة النافلة في وقت مستحب ثم أفسدها ثم أراد أن يقضيها بعد العصر قبل غروب الشمس لا يقضيها، وإن كانت واجبة؛ لأنها وجبت بشروعه فأَشْبَهَ المنذورة. وعلى هذا لو شرع في سنة الفجر ثم أفسدها ثم أراد أن يقضيها بعدما صلى الفجر قبل طلوع الشمس لا يقضيها. هكذا قيل: وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أن له أن يقضيها بعدما صلى الفجر قبل طلوع الشمس، وصورة ما حكي عن رجل جاء إلى الإمام في صلاة الفجر وخاف أنه لو اشتغل بالسنّة يفوته الفجر بالجماعة، قال: فقد جاز له أن يدخل في صلاة الإمام ويترك السنّة ويقضيها بعدما طلعت الشمس عند محمد، وإن أراد أن يقضيها قبل طلوع الشمس فالحيلة أن يشرع ثم يفسدها على نفسه ثم يشرع في صلاة الإمام من الفريضة ثم يقضيها قبل طلوع الشمس ولا يكره؛ لأنه بإفساده إياها صارت ديناً عليه، ويصير كمن شرع في التطوع ثم أفسد وما على نفسه ثم قضاها في هذا الوقت، وذلك لا يكره كذا ههنا. ومن المشايخ من قال: في هذه الحيلة نوع الخطأ؛ لأن فيها أمراً بإفساد العمل، والله تعالى يقول: {وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَلَكُمْ} (محمد: 33) والأحسن أن يقال يشرع في السنّة ويكبر لها ثم يكبّر مرة ثانية للفريضة، فيخرج بهذه التكبيرة من السنة ويصير شارعاً في الفريضة ولا يصير مفسداً للعمل بل يصير مجاوزاً من العمل إلى العمل، وهو كمن كبّر للظهر في وقت العصر على ظن أنه لم يصلِ الظهر ثم يذكر أنه صلى الظهر في وقتها فكبّر ثانياً من غير سلام ولا كلام، ينوي الدخول في العصر يصير شارعاً في العصر خارجاً عن الظهر كذا ههنا. ولو غربت الشمس في خلال العصر لا يفسد عصره ويتمها، ولو طلعت الشمس في

الفصل الرابع في فرائض الصلاة وسننها وآدابها وواجباتها

خلال الفجر يفسد فجره، والفرق: أن بالغروب يدخل وقت فرض مثله فلا يكون منافياً، وبالطلوع لا يدخل وقت الفرض، ألا ترى أنه لو خرج وقت الجمعة في خلال الجمعة تفسد الجمعة، لأنه لا يدخل وقت فرض مثله، وعن الحسن بن زياد: يفسد إن صلى عصر يومه عند غروب الشمس لم يجزه، كما إذا صلى الفجر عند طلوع الشمس، وعن أبي يوسف أن من صلى ركعة من الفجر ثم طلعت الشمس لم تفسد صلاته، ولكنه يلبث كذلك إلى أن ترتفع الشمس وتبيض ثم تتم الصلاة. ومما يتصل بهذا الفصل ويكره الكلام بعد انشقاق الفجر إلى أن يصلي الفجر إلا بخير، لأثر عمر وابن مسعود، وعن إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكرهون الكلام بعد طلوع الفجر إلا بخير، وقوله: هم كناية عن الصحابة، فإذا صلى الفجر فلا بأس بأن يتكلم في حاجته ويمشي في حاجته المعتادة ومعاشه والمراد من هذا الكلام الكلام المباح. أما الفاحش فحرام في جميع الأوقات، وقال بعض الناس يكره الكلام بعد صلاة الفجر أيضاً إلى طلوع الشمس، وقال بعضهم إلى أن ترتفع الشمس، وعن الحسن بن علي: أنه كان لا يتكلم إلى أن ترتفع الشمس، وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في كتاب «البستان» أن السمر بعد العشاء مكروه عند البعض، قال: وهو الكلام لأجل المؤانسة، وفي شرح كتاب الصلاة لبعض المشايخ ذكر الكراهة ولم ينسبه إلى البعض، وروي عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لا سمر بعد العشاء» والله أعلم. الفصل الرابع في فرائض الصلاة وسننها وآدابها وواجباتها فرائض الصلاة نوعان: أحدهما: قبل الشروع فيها على سبيل المتهيؤ لها وإنها كثيرة، فمن جملتها ستر العورة للرجل من تحت سرته حتى يجاوز ركبتيه، وقال زفر: من فوق السرة إلى تحت الركبة بناءً على أن سرة الرجل ليست بعورة عند علمائنا الثلاثة خلافاً لزفر وركبته عورة عند علمائنا جميعاً وهي مسألة كتاب الاستحسان إلا أن (43ب1) الرجل إذا ستر مقدار ما ذكرنا، وصلى كذلك كان مسيئاً؛ لأنه ترك الزينة أصلاً والمصلي مأمور بها، قال الله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31) أي عند كل صلاة. بخلاف ما إذا صلى في ثوب واحد متوشحاً وتفسير التوشح أن يفعل بالثوب مثل ما يفعله القصار في المقصرة إذا لف الكرباس على نفسه حيث لا يكون مسيئاً؛ لأن هناك أتى بأصل الزينة، أما ترك التمام.. عن أبي حنيفة رحمه الله، أن الصلاة في سراويل

واحد يشبه فعل أهل الجفاء، وفي الثوب الذي يتشح به أبعد من الجفاء وفي قميص وإزار خلاف الناس تحملهم وذكر ابن شجاع أنه إذا كان محلول الإزار، وكان إذا نظر رأى عورة نفسه من زيقه لم تجز صلاته. وهكذا ذكر هشام في «نوادره» ، والمذكور في «نوادر هشام» ، إذا صلى في قميص واحد وهو محلول الجيب فانفتح جيبه حتى لو نظر رأى عورة نفسه فصلاته فاسدة، وزاد فقال: وإن لم ينظر وإن كان مدلوق الثوب بصدره، فلم ير عورته لو نظر إليها لا تفسد صلاته، فعلى هذه الرواية جعل ستر العورة من نفسه شرطاً. حتى فرق بعض أصحابنا على هذه الرواية بين أن يكون المصلي خفيف اللحية وبين أن يكون كث اللحية فقال إذا كان المصلي كث اللحية تجوز صلاته، لأن لحيته سترت عورته، وقال بعضهم لا تجوز صلاته ولا تنفعه لحيته ذكر الزندوستي هذا القول في «نظمه» ، وعامة أصحابنا جعلا الشرط ستر العورة من غيره لا من نفسه؛ لأن العورة لا تكون عورة في حق صاحبها إنما تكون عورة في حق غيره. ألا ترى أنه يجوز لصاحب العورة مسَّها والنظر إليها، وروى ابن شجاع عن أبي حنيفة وأبي يوسف أيضاً أنه إذا كان محلول الجيب، فنظر إلى عورته لا تفسد صلاته، وإن كان عليه قميص لبس غيره، فكان إذا سجد لا يرى أحد عورته، ولكن لو نظر إنسان من تحته رأى عورته فهذا ليس بشيء. وأما المرأة يلزمها أن تستر نفسها من فرقها إلى قدميها ولا يلزمها ستر الوجه والكفين بلا خلاف، وفي القدمين اختلاف المشايخ واختلاف الروايات عن أصحابنا رحمهم الله، وكان الفقيه أبو جعفر يتردد في هذا فيقول مرة؛ إن قدميها عورة، ويقول مرة: إن قدميها ليس بعورة، فمن يجعلها عورة يقول يلزمها سترها ومن لا يجعلها عورة يقول: لا يلزمها سترها، والأصح أنه ليس بعورة، وهي مسألة كتاب الاستحسان آنفاً. وفي «الجامع الصغير» : امرأة صلت وربع ساقها أو ثلث ساقها مكشوفة لم تجز صلاتها، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: إن كان المكشوف أكثر من النصف لم تجز صلاتها، وإن كان أقل من النصف جازت صلاتها، وفي النصف عنه روايتان، يجب أن تعلم أن قليل الانكشاف عفو؛ لأن الناس فيه بلوى وضرورة؛ لأن ثيابهم لا تخلو عن قليل خرق، فيجعل عفواً بالإجماع فلا بلوى في الكثير؛ لأن الثياب تخلو عن كثير خرق، فلا يجعل عفواً بعد هذا. قال أبو حنيفة ومحمد: الربع وما فوقه كثير، وما دون الربع قليل، وقال أبو يوسف: ما فوق النصف كثير وما دونه قليل، وفي النصف عنه روايتان، والصحيح قولهما؛ لأن ربع الشيء أقيم مقام الكل في كثير من الأحكام كمسح ربع الرأس في الوضوء، وكحلق ربع الرأس في حق المحرم. قال في «الجامع الصغير» : وكذلك حكم البطن والظهر والفخذ والشعر نظير حكم الساق، قال بعض مشايخنا: لولا هذه الرواية لكنا نقول بأن حكم الظهر والبطن أغلظ، ألا ترى أنه لا يحل للرجل بأن ينظر إلى بطن أمه وظهرها، ويحل له أن ينظر إلى ساقها،

فبهذه الرواية عرفنا أن حكم الظهر والبطن والفخذ والشعر والساق سواء، ثم إن كان المراد من الشعر في «الكتاب» ما يواري المنبت ما ذكر من الجواب على الروايات كلها، وإن كان المراد منه الشعر المسترسل، فما ذكر من الجواب على إحدى الروايتين؛ لأن في كون المسترسل عورة روايتان، واختار الفقيه أبي الليث رحمه الله رواية العورة، لأن الرواية الأخرى تقتضي للرجل النظر إلى طرف وصرع الأجنبية وطرف ناصيتها كما ذهب إليه أبو عبد الله البلخي، وهذا أمر يؤدي إلى الفتنة، فكان الاحتياط فيما قلنا. وأما العورة الغليظة، فالتقدير فيها على الخلاف الذي ذكرنا، هكذا ذكر في «الزيادات» ، وذكر الكرخي في «كتابه» أنه يعتبر في السوءيتن قدر الدرهم، وفيما عدا ذلك الربع. وإنما قال ذلك؛ لأن العورة نوعان غليظة وخفيفة كما أن النجاسة نوعان: غليظة وخفيفة، ثم في النجاسة الغليظة اعتبر الدرهم، وفي الخفيفة اعتبر الربع فكذا في العورة، ولكن هذا وهم من الكرخي؛ لأنه قصد به الغليظه في العورة الغليطة، وهذا في الخفيفة تخفيف؛ لأنه اعتبر في الدبر قدْر الدرهم والدبر لا يكون أكثر من قدر الدرهم، فهذا يقتضي جواز الصلاة، وإن كان جميع الدبر مكشوفاً وهذا تناقض. والركبة تعتبر عضواً على حدة أم تعتبر مع الفخذ عضواً واحداً؟ فقد اختلف المشايخ فيه منهم من قال: الركبة عضو على حدة حتى يعتبر فيه انكشاف الربع منه ومن المشايخ من قال: يعتبر مع الفخذ عضواً واحداً حتى يعتبر الربع منهما. وأما الخصيتان مع الذكر ففيهما اختلاف المشايخ أيضاً، قال بعضهم يعتبر كل واحد منهما عضواً على حدة اعتباراً بالدية، فإن في باب الدية يعتبر كل واحد منهما عضواً على حدة، ومنهم من قال يعتبران عضواً واحداً؛ لأن الخصيتين كالتبع للذكر. وأما ثدي المرأة إن كانت مراهقة فهي تبع للصدر وإن كانت كبيرة فالثدي أصل بنفسه. ومن جملتها طهارة ما يستر به عورته إذا كان مقيماً وله ثوب آخر (وليس له ثوب آخر) ، وإذا كان مسافراً وله ثوب آخر لا تجوز صلاته مع ثوب للنجس إذا كانت النجاسة أكثر من قدر الدرهم، وإن لم يكن له ثوب آخر وعجز عن غسله لعدم الماء أو معه ماء بحال العطش جاز له الصلاة فيه، وإن كان كله مملوءاً من الدم كان هو بالخيار، إن شاء صلى عرياناً قاعداً نائماً، وإن شاء صلى قائماً بركوع وسجود، وعن محمد يلزمه أن يصلي به قائماً بركوع وسجود قال: هذا أهون الوجهين، لأن فيه ترك فرض واحد وهو طهارة الثوب، وفي الآخر ترك الفرائض من ستر العورة والقيام والركوع والسجود. ولهما: أن الوجهين قد استويا في حق حكم الصلاة، فإن الصلاة عرياناً لا تجوز حالة الاختيار، وكذلك الصلاة في الثوب المملوء من الدم لا تجوز حالة الاختيار فكان له الاختيار، وما يقول بأن في الصلاة عرياناً ترك الفرائض قلنا: ليس كذلك؛ لأن القاعد يأتي بالأركان كلها لكن بالإيمان وفيه ضرب قصور ولكن مع إحراز الطهارة، وفي الجانب الآخر يأتي بها مع استعمال بالنجاسة، وفيه ضرب قصور أيضاً فاستويا، فإن كان

ربعه طاهراً وثلاثة أرباعه نجساً لم تجز الصلاة عرياناً بالإجماع، لأن للربع حكم الكل في الجملة، فثبت للثوب شبهة الطهارة، فصار أولى من العري الذي لا شبهة فيه، وإن كان أقل من الربع طاهراً فله الخيار على الاختلاف الذي مر. ولو وجدت المرأة ثوباً تستر به جسدها ورأسها لا يزيد على ذلك فغطت به جسدها، ولم تستر به رأسها لم تجز صلاتها، لأن للربع حكم الكل، ألا ترى أنه لو انكشف ربع ساقها لم تجز صلاتها عند أبي حنيفة ومحمد، وإذا جعل انكشاف الربع كانكشاف الكل يجعل القدرة على تغطية الربع كالقدرة على تغطية الكل، ولو كانت تقدر على أن تغطي بذلك الثوب جسدها أقل من ربع رأسها فالأفضل لها أن تغطي ما قدرت عليه من رأسها تقليلاً عورة، وإن لم تغط رأسها وغطت جسدها جاز، لأن ما دون الربع ليس له حكل الكل، ألا ترى أن في حق الانكشاف فرقاً بين الربع وما دونه، فكذا في حق التغطية والله أعلم. وإذا صلى وهو لابس منديلاً أو ملاءة وأحد طرفيه فيه نجس والطرف الذي فيه النجاسة على الأرض فكان النجس يتحرك بتحرك المصلي لم تجز صلاته، وإن كان لا يتحرك تجوز صلاته؛ لأن في الوجه الأول مستعمل للنجاسة، وفي الوجه الثاني لا. وإذا صلى في ثوب وعنده أنه نجس، فلما فرغ من صلاته تبيّن له أنه طاهر تجوز صلاته. وبمثله لو صلى إلى جهة عنده أن القبلة إلى جهة أخرى فلما فرغ من صلاته تبين أنه أصاب القبلة لا تجوز صلاته. المسألة في «مجموع النوازل» . ومن جملة (44أ1) ذلك: طهارة موضع الصلاة، فإن كان موضع قدميه وركبتيه وجبهته وأنفه طاهراً جازت صلاته بلا خلاف، وكذلك إذا كان موضع قدميه طاهراً وموضع أنفه نجساً وموضع جبهته وركبتيه طاهراً تجوز صلاته بلا خلاف، وكذلك إذا كان موضع قدميه وموضع ركبتيه وموضع أنفه طاهراً وموضع جبهته نجساً سجد على أنفه، وتجوز صلاته بلا خلاف للقذر الذي في الجبهة، وإن كان موضع قدميه وركبتيه طاهراً وموضع جبهته وأنفه نجساً ذكر الزندوستي في «نظمه» قال أبو حنيفة: يسجد على أنفه دون جبهته وتجوز صلاته؛ لأن الأرنبة لا تأخذ من الأرض والنجاسة أكثر من قدر الدرهم وفرض السجود عنده يتأدى بوضع الأنف إلا إذا كان بجبهته عذر وعندهما لا تجوز صلاته؛ لأن فرض السجود، عندهما لا يتأدى بوضع الأنف إلا إذا كان بجبهته عذر، والجبهة تأخذ من الأرض، والنجاسة أكثر من قدر الدرهم. وفي «القدوري» : أن عن أبي حنيفة في هذا الفصل روايتين: روى محمد عنه لا تجوز، وروى أبو يوسف عنه أنه يجوز، فإن أعاد تلك السجدة في الصلاة في مكان طاهر تجوز ذكره في «القدوري» أيضاً. وإن كان موضع قدميه وجبهته وأنفه طاهراً، وموضع ركبتيه نجساً ذكر الزندوستي في «نظمه»

أن في ظاهر الأصول لا تجوز صلاته لعجزه عن السجدة بدون الركبتين، وقال الطحاوي تجوز، وكان الفقيه أبو الليث يقول: لا تجوز، وذكر الشيخ شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» في باب الحدث إذا كانت النجاسة في موضع الكفين والركبتين جازت صلاته عندنا خلافاً لزفر، وهكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله إلا أنه لم يذكر خلاف زفر، وهكذا ذكره القدوري. وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف في «الأمالي» : إذا سجد على دم أو وضع يديه أو ركبتيه عليه، فإنه لا يعيد الصلاة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما إن سجَدَ عليه يعيد الصلاة، وإن وضع يديه أو ركبتيه لا يعيد الصلاة، أما إذا وضع يديه أو ركبتيه؛ لأنه ليس بفرض من فرائض الصلاة فأقلّ حاله أن يجعل كالعدم، وأما إذا سجد فالكلام فيه بناءً على ما قلنا إن فرض السجود يتأدى بوضع الأنف لا غير، وعندهما بوضع الجبهة. وعن الفقيه أحمد بن إبراهيم أنه قال فيمن صلى قائماً وموضع القدمين نجس: فسدت صلاته، ولا يفترق الحال بين أن يكون جميع موضع القدمين نجساً، وبين أن يكون موضع الأصابع؛ لأن القدم وموضع الأصابع شيء واحد، فكان حكمها واحداً، وإذا كان موضع إحدى القدمين طاهراً، وموضع الأخرى نجساً؛ فوضع قدميه اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: لا تجوز صلاته؛ لأن القيام يحصل برجل واحدة فيكون وضع الآخر كلا وضع، وفي نسخة الإمام الزاهد الصفار؛ الأصح أنه لا تجوز صلاته؛ لأنه لما وضعهما صار القيام مراداً بهما، وهكذا كان يفتي الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل، فإن وضع إحدى القدمين التي موضعها طاهر ورفع القدم الأخرى التي موضعها نجس وصلى، فإن صلاته جائزة. وفي «القدوري» إذا افتتح الصلاة على مكان نجس منع ذلك انعقاد الصلاة، وإن افتتح الصلاة على مكان طاهر ثم نقل قدميه إلى مكان نجس ثم عاد إلى مكان طاهر صحت صلاته، إلا أن يتطاول حتى يصير في حكم الفعل الذي إذا زيد في الصلاة أفسدها. ولو صلى على بساط في ناحية منها نجاسة إن كانت النجاسة في موضع قيامه لا تجوز، وإن كانت في موضع سجوده فعلى ما ذكرنا فيما إذا كانت النجاسة على الأرض، وإن كانت غير هذين الموضعين فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يجوز صغيراً كان البساط (أو لبيا) وحدّه أنه إذا رُفِعَ أحد طرفيه لا يتحرك الطرف الآخر، في الوجهين جميعاً تجوز صلاته وبه أخذ الفقيه أبو جعفر رحمه الله، وقال بعضهم: إذا كان البساط صغيراً على التفسير الذي قلنا: لا يجوز، وإن كان كبيراً على التفسير الذي قلنا يجوز. ولو كان البساط مُبطّناً فأصابته النجاسة البطانة فصلى على الظهارة، وقد قام على ذلك الموضع، فعن محمد أنه يجوز، وهكذا ذكر في «نوادر» الصلاة، وعن أبي يوسف أنه لا يجوز، وقيل: جواب محمد في مخيط غير مُضَرَّب حكمه حكم ثوبين وجواب أبي

يوسف في مخيط مضرب حكمه حكم ثوب واحد، فلا خلاف بينهما في الحقيقة في «شرح الطحاوي» ؛ قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «نوادره» الضم بالخياط غير معتبر، وهو كثوبين منفصلين، الأسفل منهما نجس وأبو يوسف يقول: الضم قد جمعهما فهو كثوب واحد غليظ. وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف في جبّة مبطنة أصابها دم قدر درهم وخلص إلى البطانة وهو إن جمع كان أكثر من قدر الدرهم فصلى فيه جازت صلاته، والجسد بمنزلة ثوب واحد، وروى أبو سليمان عن محمد أنه لا يجوز؛ لأن هذا بمنزلة ثوبين عنده وصار كالبساط المبطن. وفي «النوازل» : ثوب ذو طاقين فأصابته نجاسة أقل من قدر الدرهم ونفذت النجاسة إلى الجانب الآخر، حتى صارت أكثر من قدر الدرهم لا يجوز، ولو كان الثوب ذو طاق واحد فأصابته نجاسة، ونفذت إلى الجانب الآخر وصارت أكثر من قدر الدرهم، لم يمنع ذلك جواز الصلاة؛ لأن هذا من الجانبين واحد فلا يعتبر منفرداً، فأما ذو الطاقين متعدد وما ذكر من الجواب في الثوب إذا كان ذا طاقين فذاك قول محمد، أما على قول أبي يوسف لا يمنع ذلك جواز الصلاة؛ لأنها بمنزلة ثوب واحد عنده بدليل المسائل الذي ذكرنا قبل هذا. وفي «القدوري» لو كانت على بطانة مصلاه أو في حشوها جازت الصلاة عليها، بخلاف ما إذا كانت النجاسة في حشو جبته، وإذا صلى على موضع نجس وفرش نعليه وقام عليهما جاز، ولو كان لابساً لهما لا يجوز لأنهما يكونان تبعاً له حينئذٍ. في «النوازل» : إذا قام على مكعبه وعلى نعله نجاسة جاز عند محمد خلافاً لأبي يوسف، ولو كان لم يخرج رجليه وصلى فيهما إن كان واسعاً فهو على الخلاف، وإن كان ضيقاً لم تجز بلا خلاف، فلو كانت النجاسة في خفه لا تجوز بلا خلاف، وقول أبي حنيفة لا يحفظ في باب المسح من «نوادر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله» . وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا صلى على مكان طاهر وسجد على مكان طاهر إلا أنه إذا سجد تقع ثيابه على أرض نجسة يابسة أو ثوب نجس جازت صلات؛ لأنه أدى الصلاة في مكان طاهر، وفي اختلاف زفر: إذا كانت النجاسة على باطن اللبنة أو الآجرّة وهو على ظاهرها قائم يصلى لم تفسد صلاته. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف: البول إذا كان على الأرض فبنى عليه أو فرشه بطين وجص حتى رفع به أحكام الفعل وقام عليه البول وصلى أجزأه، وإن أرق البول بباطن البناء وليس البناء في هذا كالثوب، ولو فرشه بالتراب ولم يطين بجص، والبول اتصل بباطنه، القياس أن لا تجوز، وعنه أيضاً لبنة أو آجرّة أصابها بول فجف حتى ذهب أثره ثم بنى عليها بناءً أو فرشها أجزأه أن يصلي عليها. وعنه أيضاً: آجرّة حلت بها نجاسة فقلبها رجل وسجد عليها جاز، وبمثله لو حلت نجاسة بخشبة، فقلبها وسجد عليها لم يجز، هكذا ذكر في بعض المواضع، وذكر مسألة

الخشبة في موضع آخر، وذكر أنه إذا كان غلظ الخشب بحيث يقبل القطع تجوز الصلاة وعن أبي يوسف رواية أخرى في الآجر واللبن يقلب: نظر في ذلك، فإن وضع للبناء أو للفرش جازت صلاته، وإن وضع لغير ذلك لكن يرفع لم تجز صلاته، وكذلك الأرض إذا أصابته نجاسة فألقى عليها التراب وصلى عليها، فإن كان ذلك......... غير أن يفعل إلى غيرها جازت صلاته وإلا فلا، وقال محمد في هذه الفصول كلها: إن صلاته جائزة ولو كان لبأ أصابه فقلب حلت وصلى على الوجه الثاني؛ روى عن محمد أنه يجوز، وقال أبو يوسف: لا يجوز. ومن جملة ذلك الوضوء والتييم: إذا كان مسافراً عادماً الماء، ومسائل الوضوء والتيمم مرت في كتاب الطهارة. ومن جملة ذلك الوقت حتى لو صلى قبل دخول الوقت لا يجوز، وقد ذكرنا مواقيت الصلاة في الفصل المتقدم. ومن جملة ذلك استقبال القبلة، قال الله تعالى: {فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (القرة:144) فكل من كان بحضرة الكعبة يجب عليه إصابة عينها، ومن كان نائياً عنها ففرضه جهة الكعبة لا عينها، وهذا قول الشيخ أبي الحسن (44ب1) الكرخي والشيخ أبي بكر الرازي رحمه الله؛ لأنه ليس في وسعه سوى هذا، والتكليف بحسب الوسع، وعلى قول الشيخ أبي عبد الله الجرجاني من كان غائباً عنها، ففرضه عينها، لأنه لا فصل في النص. وثمرة الخلاف تظهر في اشتراط نية عين الكعبة، فعلى قول أبي عبد الله تشترط، وعلى قول أبي الحسن وأبي بكر: لا تشترط؛ وهذا لأن عند أبي عبد الله لما كان إصابة عينها فرضاً لا يمكنه إصابة عينها حال غيبته عنها إلا من حيث النية، شرط نيّة عينها، وعند أبي الحسن وأبي بكر لما كان الشرط إصابة جهتها لمن كان غائباً، وذلك يحصل من غير نيّة العين لا حاجة إلى اشتراط العين، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري يشترط نيّة الكعبة مع استقبال القبلة، وكان الشيخ الإمام أبو بكر بن فضل لا يشترط ذلك وبعض المشايخ يقول: إن كان يصلي في المحراب فكما قال الحامدي، وإن كان في الصحراء فكما قال الفضلي وذكر الزندوستي في «نظمه» : إن الكعبة قبلة من يصلي في المسجد الحرام والمسجد الحرام قبلة أهل مكة ممن يصلي في بيته أو في البطحاء، ومكة قبلة أهل الحرم، والحرم قبلة أهل العالم، قال وقيل: مكة وسط الدنيا، فقبلة أهل المشرق إلى المغرب عندنا، وقبلة أهل المغرب إلى المشرق، وقبلة أهل المدينة إلى يمين من توجه إلى المغرب، وقبلة أهل الحجاز إلى يسار من توجه إلى المغرب، فإذا صلى بمكة صلى إلى أي جهات الكعبة شاء مستقبلاً بشيء منها، فإن كان منحرفاً عنها غير متوجه إلى شيء منها لم تجز.

قال القدوري: إن صلوا جماعة استداروا حول الكعبة، هكذا جرت العادة، ومن كان منهم أقرب إلى الكعبة من الإمام، فإن كان في الجماعة التي يصلي إليها الإمام لم يجز؛ لأنه متقدم على الإمام، فإن كان في جهة أخرى جاز. وإن صلت امرأة إلى جنب الإمام في ذلك الجهة فسدت صلاة الإمام وصلاة القوم، وإن صلت إلى غير ذلك الجهة فسدت صلاة من يحاذيها خاصة، والكلام في فساد صلاة الرجل بحسب المحاذاة يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، وسواء كانت الكعبة مبنيّة أو منهدمة يتوجه إليها، لأن الكعبة ليست للحيطان ألا ترى لو وضع الحيطان في موضع آخر وصلى إليها لا يجوز. وفي «الأصل» يقول: وإذا كانت الكعبة تبنى جاز له أن يصلي إليها، وأراد به انهدام الحيطان، لكن يكره إطلاق لفظ الهدم عليها، ولو صلى في جوف الكعبة أو على سطحها جاز إلى حيث ما توجه؛ لأنه مستقبل الجزء منها واستدبار الباقي لا يضر؛ لأن استقبال الكل متعذّر ولو صلى على جدار الكعبة فإن كان وجهه إلى سطح الكعبة يجوز وإلا فلا، ولو صلوا في جوف الكعبة بجماعة استداروا خلف الإمام وينبغي لمن يواجه الإمام أن يجعل بينه وبين الإمام سترة، ولو صلى وظهره إلى ظهر الإمام جاز، ومن كان ظهره إلى وجه الإمام لم يجز؛ لأنه متقدم. الإمام إذا صلى فنوى مقام إبراهيم، ولم ينوِ الكعبة إن كان هذا الرجل قد رأى مكة، لم يجز وإن لم يكن رأى مكة، وعنده أن المقام أو البيت واحد أجزأه؛ لأنه نوى البيت، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في الباب الأول من صلاته من نوى مقام إبراهيم لا يجزيه إلا أن ينوي الجهة، فحينئذٍ يجوز، ومن شرط نية الكعبة يقول إذا نوى الكعبة أو نوى الفرضة يجوز، ولو نوى البناء لا يجوز إلا أن يريد بالبناء الجهة، ولو صلى مستقبلاً بوجهه إلى الحطيم لا يجوز. ولو أن مريضاً صاحب فراش لا يمكن أن يحول وجهه إلى القبلة وليس يحضر به أحد يوجهه تجزيه صلاته إلى جهة ما توجه، وكذا إذا كان صحيحاً لكنه يختفي من العدو أو غيره ويخاف أنه إذا تحرك واستقبل القبلة أن يتبصر به العدو جاز له أن يصلي قاعداً أو قائماً بالإيماء أو مضجعاً حيث ما كان بوجهه، وكذلك إذا انكسرت السفينة وهي على لوح وخاف أنه لو استقبل القبلة يَسقط في الماء يتأتى له أن يصلي حيث ما كان وجهة المصلي إذا حوّل وجهه عن القبلة إن حول صدره فسدت صلاته، وإن لم يحول صدره لا تفسد صلاته إذا استقبل من ساعة القبلة؛ لأنه قل ما يمكن التحرز عن هذا، قالوا: وهذا الجواب أليق بقول أبي يوسف ومحمد أما على قول أبي حنيفة ينبغي أن لا تفسد صلاته في الوجهين بناءً على أن عندهما الاستدبار إذا لم يكن لقصد الإصلاح تفسد الصلاة، وعند أبي حنيفة إذا لم يكن لقصد ترك الصلاة لا تفسد ما دام في المسجد. أصل هذا إذا انصرف عن القبلة على ظن أنه أتم الصلاة فتبيّن أنه إن لم يتم فعند أبي حنيفة يبني ما دام في المسجد، وعندهما لا يبني، والمسألة مع أجناسها تأتي بعد هذا

الفصل الرابع في كيفيتها

إن شاء الله، ومن جملة ذلك النية، قال عليه السلام: «لا عمل لمن لا نية له» وقال عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيّات» . وفي «الأصل» يقول: إذا أراد الدخول في الصلاة فظن بعض أصحابنا أن محمداً لم يذكر النية، وليس الأمر كما ظنوا؛ لأنه ذكر إرادة الدخول في الصلاة، وإرادة الدخول في الصلاة هي النية. والكلام فيها في فصلين في كيفيتها وفي محلها. الفصل الرابع في كيفيتها نقول المصلي لا يخلو، إما أن يكون متنفلاً أو مفترضاً، فأما إن كان متنفلاً لا تكفيه نية مطلق الصلاة، لأن الصلاة أنواع في منازلها لو أدياها منزلة النفل، فانصرف مطلق النية إليه، وفي صلاة التراويح يكفيه أيضاً مطلق النية عند عامة المشايخ؛ لأنها سنّة الصحابة، وفي سائر السنن تكفيه مطلق النية على ظاهر الجواب، وبه أخذ عامة المشايخ. وإن كان المصلي مفترضاً فلا يخلو، إما إن كان منفرداً أو إماماً أو مقتدياً، فإن كان منفرداً لا يكفيه نية مطلق الفرض سواء كان يصلي في الوقت أو خارج الوقت أما إذا كان يصلي في الوقت فلأن كل وقت كما هو قابل لفرض الوقت، فهو قابل لفرض آخر بطريق القضاء، وأما إذا كان يصلي خارج الوقت، فلأن خارج الوقت قابل لجميع الفرائض الظهر أو العصر أو المغرب وغير ذلك بطريق القضاء ثم إذا عين الظهر، وكان في وقت الظهر هل يشترط نية فرض الوقت فيه اختلف المشايخ فيه. قال بعضهم: يشترط؛ لأن الظهر أنواع في منازلها ظهر الفائت وغير الفائت وليست إحديهما بأن يصرف النية إليها بأولى من الأخرى، وقال بعضهم: لا يشترط لأن فرض الوقت مشروع الوقت، والفائت غير مشروع الوقت، فإذا وقع التعارض انصرفت إلى ما هو مشروع الوقت كما في نقد البلد. وإن نوى فرض الوقت ولم يعين أجزأه إلا في فرض الجمعة فإن في فرض الوقت يوم الجمعة خلافاً على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله. وإذ نوى فرض الوقت ظهر الوقت أو عصر الوقت، ولم ينوِ أعداد الركعات جاز؛ لأنه نوى الظهر، فقد نوى عدد الركعات، هذا إذا كان يصلي في الوقت، وإن كان يصلي بعدما خرج وهو لا يعلم بخروج الوقت فنوى فرض الوقت لا يجوز؛ لأن بعد خروج

وقت الظهر فرض الوقت يكون هو العصر، فإذا نوى فرض الوقت كان ناوياً العصر وصلاة الظهر لا تجوز بنية العصر. رجل افتتح المكتوبة ثم ظن أنها تطوع، فصلى على نية تطوع العصر حتى فرغ، فالصلاة هي المكتوبة؛ لأن فوات النية بكل جزء من أجزاء العبادة متعذر فيشترط قران النية بالجزء الأول، وكذا لو شرع في التطوع ثم ظن أنها مكتوبة وأتمها على نية المكتوبة، ولو كبّر ينوي التطوع ثم كبر ينوي الفرض يصير شارعاً في الفرض، فإذا أراد أن يصلي ظهر يومه، وعنده أن وقت الظهر لم يخرج، وقد خرج الوقت، فنوى ظهر اليوم جاز، لأنه لما خرج الوقت ظهر اليوم في ذمته؛ فإذا نوى ظهر اليوم فقد نوى عليه إلا أنه قضى ما عليه بنية الأداء وقضاءها عليه بنية الأداء جاز هذا إذا كان منفرداً، فأما إذا كان إماماً فكذلك الجواب في حقه؛ لأنه بمنزلة المنفرد في حق نفسه، ولا يحتاج إلى نية الإمامة؛ لأن الأداء لا يختلف عليه إلا في حق النساء، فإنه لا يصير إماماً لهن إلا بالنية: وإن كان مقتدياً لا تكفيه نية الفرض والتعيين حتى ينوي الاقتداء؛ لأن الأداء مقتدياً يخالف الأداء منفرداً، والمخالفة من هذا الوجه أظهر من المخالفة بين الظهر والعصر، وكذلك في صلاة التراويح إذا كان مقتدياً يحتاج إلى نية الاقتداء مع نية التراويح. وإن نوى الاقتداء بالإمام ولم يعين الصلاة اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا تجزئه؛ لأن الاقتداء بالإمام متنوع إلى نفل وفرض والنفل أدنى، فانصرفت إليه النية المطلقة، وقال بعضهم: تجزئه؛ لأنه جعل نفسه تبعاً للإمام مطلقاً، وإنما يظهر تعيينه مطلقاً إذا صار شارعاً في صلاة الإمام وهو الفرض، وكذلك إذا قال: نويت أن أصلي مع الإمام، وذكر رحمه الله في باب الحديث إذا اقتدى بالإمام ينوي صلاة الإمام ولم يعلم أن الإمام في أية صلاة في الظهر أو في الجمعة (45أ1) أجزأه أَيُّها كانت؛ لأنه نوى الدخول في صلاة الإمام مقتدياً به؛ فيصير شارعاً في صلاته، وإن نوى صلاة الإمام لا تجزئه بالاتفاق؛ لأن صلاة الإمام قد يكون منفرداً وقد يكون مقتدياً إلا بالنية. وإن نوى الشروع في صلاة الإمام فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: تجزئه، وقال بعضهم: لا تجزئه؛ لأن الشروع في صلاة الإمام متنوع إلى نفل وفرض، والنفل أدنى يفيد الإطلاق، فينصرف إليه، فيصير شارعاً في صلاة الإمام ولكن متنفلاً، والأول أصح؛ لأنه جعل نفسه تبعاً من كل وجه فلا تثبت التبعية من كل وجه مع المخالفة من وجه. ولو نوى الاقتداء بالإمام ولكن لم ينوِ صلاة الإمام إنما نوى الظهر، فإذا هي الجمعة لا يجوز؛ لأن اختلاف الفرضين يمنع الاقتداء، وإذا أراد المقتدي بنية الأمر على نفسه ينبغي أن ينوي صلاة الإمام والاقتداء به أو ينوي أن يصلي مع الإمام، ولو نوى الجمعة ولم ينوِ الاقتداء بالإمام اختلفوا فيه، بعضهم قالوا لا يجوز؛ لأن الجمعة لا تكون إلا مع الإمام. ولو نوى الاقتداء بالإمام ولم يخطر بباله أنه زيد أو عمرو جاز اقتداؤه، ولو نوى

الاقتداء بالإمام وهو يرى أنه زيد فإذا هو عمرو صح اقتداؤه؛ لأن العبرة لما ينوي لا لما يرى وهو قد نوى الاقتداء بالإمام، ولو قال: اقتديت بزيد أو نوى الاقتداء بزيد، فإذا هو عمرو لا يصح اقتداؤه. ولو نوى الشروع في صلاة الإمام على قول من يرى صحة الشروع فهذه النيّة والإمام لم يشرع بعد وهو يعلم بذلك يصير شارعاً في صلاة الإمام إذا شرع الإمام؛ لأنه ما قصد الشروع في صلاة الإمام للحال إنما قصد الشروع في صلاة الإمام إذا شرع الإمام، والأفضل أن ينوي الاقتداء بعدما قال الإمام أكبّر حتى يكون مقتدياً بمصلي. ولو نوى الاقتداء حتى وقف الإمام موقف الإمامة يجوز نيته عند عامة العلماء، وبه كان يفتي الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد والحاكم عبد الرحمن الكاتب، وقال أبو سهيل الكبير والفقيه عبد الواحد والقاضي أبو جعفر، وبه أخذ أهل بخارى، لا تجوز نية الاقتداء ما لم يكبر الإمام وقال الفقيه الزاهد ينوي الاقتداء بعد قول الإمام الله قبل قوله أكبر وقول إسماعيل الزاهد والحاكم عبد الرحمن: أحوط، ولو نوى الشروع في صلاة الإمام على ظن أن الإمام قد شرع ولم يشرع الإمام بعد، اختلفوا فيه، قال بعضهم: لا يجوز وإذا كان المقتدي يرى شخص الإمام؛ فقال اقتديت بهذا الإمام الذي هو عبد الله، فإذا هو جعفر جاز، وكذا إذ كان في أحد الصفوف لا يرى شخص الإمام، فقال: اقتديت بالإمام الذي هو قائم في المحراب الذي هو عبد الله، فإذا هو جعفر. ولو شرع في صلاة ثلاثية على ظن أنها. سنية فإذا هي أحادية لا يصح شروعه، ولو شرع على ظن أنها أحادية، فإذا هي سنية يصح شروعه، فإذا جاء إلى المسجد. ولو قال إن كان الإمام زيداً فأشرع، وإن كان عمرواً فلا، قال محمد بن مقاتل: فهو على ما نوى وقال أبو جعفر الهندواني: لا يصح شروعه فعلاً، ولو نوى الصلاة ولم ينوِ الصلاة لله تعالى جاز، ويكون فعلاً لأن المسلم لا يصلي لغير الله تعالى، وإذا لم يعرف الرجل أن الصلوات الخمس فريضة ولكن يصليها في مواقيتها لا يجوز، وعليه قضاؤها؛ لأنه لم ينوِ الفرائض، وكذلك لو علم أن منها فريضة ومنها سنّة إلا أنه لم يعلم الفريضة من السنّة ولم ينوِ الفريضة في الكل لم تجز الفرائض. ولو صلى سنين ولم يعرف النافلة من المكتوبة؛ إن ظن أن الكل فريضة جاز ما يصلي، لأنّ النفل يتأدى به. وإن كان ما يعلم أن البعض فريضة والبعض سنّة فكل صلاة صلاها خلف الإمام جاز إذا نوى صلاة الإمام. وإن كان يعلم الفرائض من النوافل، ولكن لا يعلم ما في الصلاة من الفريضة والسنّة، فصلى الفرائض بنيتها فصلواته جائزة، وإذا كان لا يعلم الفرائض من النوافل، قام يوماً ونوى الفرض في الكل، فقد ذكرنا أن صلوات الأيام كلها جائزة، وأما صلاة القوم فكل صلاة قبلها مثلها من التطوع كالفجر والظهر لا تجوز صلاتهم، وكل صلاة ليس قبلها مثلها من التطوع كالعصر والمغرب والعشاء تجوز صلاتهم وهذا؛ لأنّ كل صلاة قبلها مثلها إذا نوى الإمام السنن نيّة الفرض يقع ذلك عن الفرض، فالتي يأتي بعدها

تصير نفلاً وللقوم فريضة، واقتداء المفترض بالمتنفل لا يجوز. وإذا كان الرجل شاكاً في وقت الظهر هل هو باقي ينوي ظهر الوقت، فإذ الوقت قد خرج يجوز بناءً على أن القضاء يجوز بنية الأداء، والأداء بنية القضاء وهو المختار. رجل صلى الظهر ونوى هذا من ظهر يوم الثلاثاء، فتبين أن ذلك يوم الأربعاء جاز ظهره؟ في تعيين الوقت، ثم في هذه الفصول هل يستحب أن يتكلم بلسانه؟ اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: لا؛ لأن الله تعالى مطلع على الضمائر، وبعضهم قالوا: يستحب وهو المختار، وإليه أشار محمد رحمه الله في أول كتاب المناسك حيث قال: وإذا أردت أن تحرم بالحج إن شاء لله، فقل: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني، هذا هو الكلام في كيفية النية. بقي الكلام في معرفة وقتها فنقول: لا شك أنها لو كانت مقارنة للشروع يجوز؛ لأنها شُرعت لتعيين العمل بالعبادة، وذلك إنما يحتاج إليه حالة الأداء وحالة الشروع وحالة الأداء، وصار هذا كسائر العبادات، أما إذا تقدمت النية على حالة الشروع لم يذكر محمد رحمه الله هذا في ظاهر الرواية. وذكر محمد بن شجاع في «نوادره» عن محمد أن من توضأ يريد به الصلاة يعني صلاة الوقت، فصلى وقد عديت النية أجزأه وفي الوقت فيمن خرج من منزله يريد الصلاة أي الصلاة التي كان القوم فيها، فلما انتهى إلى القوم كبّر ولم تحضره النية، فهو داخل مع القوم، وذكر في المناسك إذا خرج يريد الحج أحرم ولم تحضره النية جاز إحرامه، وذكر هشام في «نوادره» أن من جعل دراهم في صرة يتصدق بها عن زكاة ماله؟ ولم تحضره النية عند الفعل لا تجزئه الزكاة عند أبي يوسف، وقال محمد رحمه الله أرجو أن تجزئه. فالحاصل: أن الشروع في الصلاة، وفي جملة العبادات صحيح بالنية المتقدمة عند محمد إذا لم يشتغل بعدها بعمل آخر لا يليق بالصلاة، وقال أبو يوسف: لا تجزئه إلا في الصوم خاصة، هو يقول بأن النية شرط للتعيين بشرط حالة الأداء وحالة الأداء حالة الشروع فلا يسقط هذا الشرط وفي باب الصوم مسّت الضرورة؛ لأن حالة الشروع فيه حالة السهو والغفلة، فسقط، ولا كذلك في سائر العبادات، ومحمد رحمه الله يقول باقي النية قد وجدت، وبعد الوجه تبقى حكماً حتى؟ بخلاف ما إذا اشتغل بعمل آخر؛ لأن الصلاة نفسها تبطل بالعمل، فالنية تبطل به أيضاً، وذكر الطحاوي رواية أنه ينوي مقارناً للتكبير ومخالطاً له، وهو مذهب الشافعي رحمه الله هو يقول بأن الأصل أن يعتبر وجودها في كل الصلاة، وإنما لم يعتبر لما فيه الحرج، فاكتفينا بالوجود في حالة العقد على الأداء، وهي التجربة دفعاً للحرج. ونحن نقول: فيه أيضاً ضرب حرج فيما قاله الطحاوي أحوط، وما قاله محمد

رحمه الله أيسر، وأبو يوسف رحمه الله اعتبر الوجود حالة الشروع ممسكاً بما هو الأصل وما اعتبر المخالطة لما فيه من الحرج كما لم يعتبر ما في كل الصلاة، ومحمد رحمه الله يقول: إذا اكتفينا بالوجود حكماً عند فعل الصلاة أولى أن يكتفي به عند الشرط، هذه الجملة من «شرح الأصل» . وفي القدوري: تقديم النية على التحريمة جائز إذا لم يتخلل بينهما عمل يمنع الاتصال، ولم ينسب هذا القول إلى أحد، ثم قال: وروي عن أبي يوسف فيمن خرج من منزله يريد الفرض بالجماعة، فلما انتهى إلى الإمام كبّر ولم تحضره النيّة في تلك الساعة أنه يجوز؟ قال: ولا أعلم أحداً من علمائنا خالف أبا يوسف ذلك، هذه الجملة من القدوري. ومن أصحابنا رحمهم الله من قال: إذا كان عند التحريمة بحيث لو قيل له: أي صلاة هذه؟ أمكنه أن يجيب على البديهة فهو نية صحيحة، وإن كان لا يقدر على أن يجيب إلا بتباطىء فهو ليس يتأتى، ولا تجزيه الصلاة، وله إذا تأخرت النية عن الشروع بأن؟ النية وقت التكبير، ونوى بعد التكبير ففي ظاهر الرواية لا تصح، وقال أبو الحسن الكرخي: تصح ما دام في البناء، وقال بعض الناس يصح إذا تقدمت على الركوع. وجه ما ذهب إليه أبو الحسن أن التسابيح للتكبير وهو صالح للدخول به في الصلاة وإحضار النيّة عنده كإحضاره عند التكبير، وجه ما ذهب به أولئك أن النيّة وجدت في أكثر الركعة والأكثر ينوب الكل كالصوم. النوع الثاني: من فرائض الصلاة هي عند الشروع في الصلاة، وبعد الشروع فيها (45ب1) وهي منه بنيته على الوقت وهي تكبيرة الافتتاح، والقيام في حق القادر عليه والقراءة والركوع والسجود والقعدة الأخيرة، وبنيّة أن على الخلاف، وهي القومة بين الركوع والسجود والجلسة بين السجدتين والخروج عن الصلاة بفعل المصلي على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى. فرعفي تكبيرة الافتتاح أو ما يقوم مقامها مع النية فرض الدخول في الصلاة إلا بهما، قال عليه السلام: «لا يقبل الله تعالى صلاة امرىء حتى يضع الطهور مواضعه ويستقبل القبلة ويقول: الله أكبر» وقال عليه السلام: «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير» ، وإذا أراد التكبير يرفع يديه ويكبّر، واختلف الناس في أن رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح هل هو سنّة؟ والصحيح أنه

سنّة؛ لأن رسول الله عليه السلام واظب عليه، وكذلك الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وما واظب عليه رسول الله عليه السلام يكون سنّة، وهكذا روي عن أبي حنيفة أيضاً، فإن ترك رفع اليدين هل يأثم؟ تكلموا فيه بعضهم قالوا: يأثم، وبعضهم قالوا: لا يأثم، وقد روي عن أبي حنيفة ما يدل على هذا القول، فإنه قال: إن ترك رفع اليدين جاز وإن رفع فهو أفضل، وكان الشيخ الإمام الزاهد الصفار يقول: إن ترك أحياناً لا يأثم وإن اعتاد ذلك يأثم.l وكذلك اختلفوا في وقت رفع اليدين، قال بعضهم: يرفع ثم يكبّر، وقال بعضهم: يرسل يديه أولاً إرسالاً ويكبّر ثم يرفع يديه، وقال الفقيه أبو جعفر: يستقبل ببطون كفيّه القبلة وينشر أصابعه ويرفعهما، فإذا استقرتا في موضع المحاذاة يعني محاذاة الإبهامين شحمة الأذنين يكبّر، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وعليه عامة المشايخ، وعن بعض المشايخ أن الصواب أن يقبض أصابعه قبضاً ويضمهما ضماً في الابتداء ثم إذا جاء أوان التكبير ينشرهما، وعن بعضهم أنه لا يفرج أصابعه كل التفريج، ولا يضمهما كل الضم بل يتركهما على ما عليه العادة، وهو المعتمد. وذكر ابن رستم في «نوادره» لا يفرج أصابعه كل التفريج في حالة الصلاة، ولا يضم كل الضم إلا في موضعين؛ في حالة الركوع يفرج كل التفريج؛ لأنه يحتاج إلى أخذ الركبة، والتفريج أمكن للأخذ، وفي حالة السجود يضم كل الضم؛ لأنه يحتاج إلى الاعتماد على راحتيه، وعند الضم يكون أقدر على الاعتماد، وفيهما سواء فتركه على ما عليه العادة، وعن أبي يوسف أنه ينبغي أن يقول التكبير موضع اليدين، وبه أخذ شيخ الإسلام خواهر زاده والشيخ الإمام الزاهد الصفار؛ وهذا لأن رفع اليدين سنّة التكبير، وما كان سنّة الشيء يكون مقارناً لذلك الشيء، كتسبيحات الركوع والسجود، وينبغي أن يرفع يديه حذاء أذنيه ويحاذي بإبهاميه شحمة أذنيه. وأما المرأة ترفع يديها كما يرفع الرجل في رواية الحسن عن أبي حنيفة، وبهذه الرواية أخذ بعض المشايخ، وقال بعضهم: حذاء يديها، قال بعضهم: حذو منكبيها وهو الأصح؛ لأن هذا أستر في حقها، وما يكون أستر لها فهو أولى. فلا يطأطىء رأسه عند التكبير، ذكره في كتاب الصلاة للحسن بن زياد، ثم تكبيرة الافتتاح ليست من جملة أركان الصلاة، بل هي شرط الدخول في الصلاة، وقال الشافعي هي من أركان الصلاة. وفائدة الخلاف تظهر في جواز بناء التنفل على تحريمة الفرض وجاز بناء ركعتي الظهر على تحريمة الظهر، وبناء التنفل على تحريمة الفرض عندنا يجوز، وعند الشافعي لا يجوز. ووجه بناء هذه المسائل على هذا الأصل: أن عندنا التكبير لما كان شرطاً كان هو مؤدياً للنفل بشرط أتى به الفرض، ومؤدياً للفرض بشرطٍ أتى به لفرض آخر، وذلك جائز، وعند الشافعي التكبير لما كان ركناً كان مؤدياً للتنفل بركن الفرض ومؤدياً الفرض بركن آخر وكل ذلك لا يجوز.

حجته: أن هذا ذكر مفروض شرط في حالة القيام، فيكون من الصلاة كالقراءة، ولهذا شرط لصحتهما شرط لسائر أفعال الصلاة. وجه قول علمائنا: قول الله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى} (الأعلى: 15) جاء في التفسير أن المراد منه تكبيرة الافتتاح، فالاستدلال بالآية أن الله تعالى عطف الصلاة على تكبيرة الافتتاح، والشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره، فهذا بذلك على أن تكبيرة الافتتاح ليست من الصلاة، وقال عليه السلام: «لا يقبل الله صلاة امرء حتى يضع الطهور مواضعه ويستقبل القبلة ويقول الله أكبر» فالاستدال بالحديث أن النبي عليه السلام جعل الطهارة، فاستقبال القبلة والتكبير سواء ثم الطهارة واستقبال القبلة شرط، فكذا التكبير إلا أن التكبير متصل بالركن وهو القيام، فشرط هذه الشرائط لصحة ما يتصل بها من الركن لا لصحة التكبير. ولو افتتح الصلاة بالتهليل، بأن قال: لا إله إلا الله، أو بالتحميد بأن، قال: الحمد لله، وبالتسبيح، بأن قال: سبحان الله أو، قال: الله أجل الله أعظم، أو قال: لا إله غيره أو، قال: تبارك الله يصير شارعاً، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول النخعي، والحكم بن عيينة، وينوي إن كان يحسن التكبير أو لا يحسن، وكذلك يستوي إن كان يعرف أن الصلاة تفتتح بالتكبير أو لا يعرف. وقال أبو يوسف في «الجامع الصغير» : إذا كان يحسن التكبير لم يجزه إلا بقوله الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ولم يفصل بين ما إذا كان يعلم أن الصلاة تفتتح بالتكبير أو لا يعلم وذكر في كتاب الصلاة، وقال أبو يوسف: إن كان يحسن التكبير ويعلم أن الصلاة تفتتح بالتكبير لا يصير شارعاً إلا بما ذكرنا من الألفاظ، فأما إذا كان لا يعرف الافتتاح بالتكبير يجزيه، وإن كان يحسن التكبير، وقال الشافعي: إذا كان يحسن التكبير لا يصير شارعاً إلا بقوله الله أكبر الله أكبر، وقال مالك: لا يصير شرعاً إلا بقوله الله أكبر حجة مالك ظاهر قوله عليه السلام: «لا يقبل الله صلاة امرء حتى يضع الطهور مواضعه ويستقبل القبلة ويقول الله أكبر» . وجه قول الشافعي: إن في قوله الله الأكبر ما في قوله الله أكبر وزيادة، وأبو يوسف يقول: الله أكبر والله الكبير سواء؛ لأن أفعل وفعيل في صفات الله تعالى واحد؛ لأن أفعل لا نذكر إلا من مذكورين وليس ههنا إلا مذكور واحد، وأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله قول الله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى} (الأعلى: 15) علق بالصلاة بمطلق ذكر اسم الله تعالى، وعن مجاهد وعبد الرحمن أن الأنبياء كانوا يفتتحون الصلاة بلا إله إلا الله؛ ولأن المقصود هو التعظيم وبأي ذكر أتى فقد حصل معنى التعظيم، فلا حجة لهم في الحديث؛ لأن التكبير قد يجيء بمعنى التعظيم، قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} (يوسف: 31) أي عظمته، وقال الله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ

تَفْعَلُونَ} (الصف: 3) وعندنا إنما يجوز إذا ذكر اسماً آخر على وجه التعظيم، ولو قال الله أكبر؛ روي عن أبي يوسف أنه لا يصير شارعاً. ولو قال الله الكبار؛ روي عن أبي يوسف أنه يصير شارعاً؛ لأن الكبار لغة في التكبير، ثم إن محمداً رحمه الله ذكر أنه إذا افتتح الصلاة بالتهليل أو بالتسبيح أو بالتحميد أنه يصير شارعاً ولم يذكر أنه هل يكره ذلك عندهما؟ فقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يكره، وبعضهم قالوا: لا يكره والأول أصح، فقد ذكر القدوري رواية عن أبي حنيفة أيضاً أنه كره الافتتاح إلا بقوله؛ الله أكبر ولو قال أكبار لا يصير شارعاً، ولو قال هكذا في خلال الصلاة تفسد صلاته، لو قال اللهم اغفر لي أو قال اللهم ارزقني كذا لا يصير شارعاً بلا خلاف؛ لأن هذا سؤال والسؤال غير الذكر، قال عليه السلام: «فيما يرويه عن ربه «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» وعلى هذا إذا قال أستغفر الله أو قال نعوذ بالله أو قال: بالله أو قال: لا حول ولا قوة إلا بالله أو قال: ما شاء الله لا يصير شارعاً، ولو قال الله يصير شارعاً عند أبي حنيفة. فعن رواية الحسن اكتفى بذكر اسم، وفي ظاهر رواية «الأصل» اعتبر الصفة مع الاسم، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي في «شرح الجامع» والشيخ الإمام الزاهد الصفار في شرح كتاب الصلاة أن على قول أبي حنيفة: يصير شارعاً، وعلى قول محمد: لا يصير شارعاً؛ لأن تمام التعظيم بذكر الاسم والصفة، ولو قال: بالله يصير شارعاً عندهما، هكذا ذكره الشيخ الإمام الزاهد الصفار، وعلى قياس المسألة المتقدمة ينبغي أن لا يصير شارعاً عندهما، هكذا ذكره الشيخ الإمام الزاهد الصفار، وعلى قياس المسألة المتقدمة ينبغي أن لا يصير شارعاً عند محمد، ولو قال الله أكبر بالكاف يصير شارعاً، فالعرب قد تبدل الكاف بالكاف، ولو قال اللهم فقد اختلف، أهل النحو فيه على قولهما؛ قال البصريون يصير شارعاً لأن الميم بدل عن ياء النداء فكأنه قال يا ألله، وهناك يصير شارعاً؛ وقال الكوفيون: لا يصير شارعاً والأول أصح، وفي «فتاوى النسفي» إذا افتتح الصلاة بالتعوذ أو بالتسمية لا يصير شارعاً، أما قوله سبحانك اللهم وبحمدك يصير شارعاً. ولو كبر بالفارسية بأن قال خداي ندر كست خداي تررك ندنام خداي تررك جاز عند أبي حنيفة سواء كان يحسن العربية أو لا يحسن إلا أنه إذا كان يحسن العربية يكره، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: لا يجوز إذا كان يحسن العربية (46أ1) وعلى هذا الخلاف قراءة القرآن بالفارسية، وعلى هذا الخلاف لو دعا بالفارسية في الصلاة أو سبّح أو أثنى على الله تعالى أو تعوذ أو هلل أو صلى على النبي أو استغفر الله تعالى بالفارسية في الصلاة، وفي القراءة بالفارسية كلمات كبيرة، سيأتي بعد هذا في فصل القراءة إن شاء الله. وفي «نوادر ابن سماعة» : لو افتتح المؤتم الصلاة مع الإمام، ففرغ من قوله الله قبل

فراغ الإمام من قوله الله لم يجز سواء قال أكبر مع الإمام أو قبله أو بعده، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف: يجزئه إذا قال أكبر مع الإمام أو بعده؛ لأن كل لفظ التكبير فرض عند أبي يوسف حتى لا يصير داخلاً عنده بقوله الله للتفسير المتقدم والمتأخر في كل لفظ التكبير. وعندهما بقول الله: يصير شارعاً فيعتبر التقدم، والتأخر فيه، ولو قال الله مع الإمام أو بعده، وفرغ في قوله أكبر قبل فراغ الإمام من قوله أكبر على قول أبي حنيفة: يجوز؛ لأنه لو اقتصر على قول الله مع الإمام أو بعده يجوز، فههنا كذلك. وقيل: ينبغي ههنا أن لا يجوز بالاتفاق؛ لأنه إنما يصير شارعاً بقول الله عند أبي حنيفة إذا اقتصر عليه، أما إذا قال أكبر يصير شارعاً بالكل، ويصير الكل فرضاً، وإذا نوى الاقتداء وكبّر ووقع تكبيره قبل تكبير الإمام، فيصلي الرجل بصلاة الإمام لم يجز؛ لأنه لم يصر إماماً؛ لأنه حين اقتدى به لم يكن هو في الصلاة، وهل يصير شارعاً في صلاة نفسه؟ أشار في كتاب الصلاة إلى أنه يصير شارعاً، فإنه قال متى جدد تكبيراً مستأنفاً ونوى صلاة الإمام كما في تكبيره قطعاً للصلاة، الأولى شروعاً في صلاة الإمام، وذكر في «النوازل» : لأبي سليمان أنه لا يصير شارعاً، فإنه قال: إذا قهقهه لا تنتقض طهارته، ولو صار شارعاً لا تنتقض طهارته. فمن مشايخنا من قال في المسألة روايتان على رواية «النوادر» : لا يصير شارعاً، وعلى رواية «الأصل» يصير شارعاً، ومن المشايخ من قال: ليس في المسألة اختلاف الروايتين، واختلفوا فيما بينهم، قال بعضهم على رواية «النوادر» يصير شارعاً؛ لأنه نوى نيتيّن الاقتداء والصلاة، فبطلان إحدى النيتين لا يوجب بطلان النية الأخرى، وما ذكر من عدم انتقاض الطهارة بالقهقهة لا يدل على عدم الشروع؛ لأن حرمة هذه الصلاة قاصرة، فإنه شرع مقتدياً وقد ظهر فيه بخلافه، فصار كالصلاة المظنونة، ولا رواية فيها فلا تكون في معنى المنصوص، وهذا الحكم وهو انتقاض الطهارة بالقهقهة عرف بالنص، ومنهم من قال على رواية كتاب الصلاة لا يصير شارعاً؛ لأنه اقتدى بمن ليس في الصلاة، فصار كما لو اقتدى بجنب أو محدث، والروايات ثمة متفِّقَة، وإنما سمّاه قطعاً في زعم المصلي غير أن كلا القولين ضعيف، أما الأول؛ لأن القهقهة في الصلاة المظنونة توجب انتقاض الطهارة؛ لأنها لاقت حرمته صلاة مطلقة، وإن كانت لا توجب القضاء كما لو قهقه قبل السلام، وذلك روي عن أبي يوسف. وأما الثاني: فلأنه سمّاه قطعاً للصلاة مطلقاً فيجب العلم بحقيقته، ما يكون قطعاً للصلاة بزعم المصلي يكون قطعاً بصورته فلا يكون قطعاً مطلقاً أو لا يكون قطعاً حقيقة، بل يكون مجازاً. وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : أن ما ذكر في «الأصل» قول أبي يوسف، وما ذكر في «النوادر» قول محمد بناءً على أصل أن الجهة إذا فسدت قبل: تبقى أصل الصلاة على قول أبي يوسف تبقى، وعلى قول محمد: لا تبقى، وعن أبي حنيفة

روايتان، والمسألة تأتي بعد هذا، وعامة المشايخ على أنه إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع وموضع ما ذكر في «الأصل» : أنه يذكر قبل الإمام ولم يقتد به، فلمّا كبّر الإمام نوى هو بقلبه الاقتداء بالإمام فلا يصير مقتدياً، ولكن يصير شارعاً في صلاة نفسه، وموضوع ما ذكر في «النوادر» : أنه كبّر قبل تكبير الإمام مقتدياً به، ثم كبر الإمام، فلا يصير شارعاً في صلاة الإمام ولا في صلاة نفسه، وإلى هذا قال شمس الأئمة الحلواني والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، فلو أنه كبّر بعد ما كبّر الإمام، ونوى الشروع في صلاة الإمام يصير شارعاً في صلاة الإمام قاطعاً لما كان فيه، وهذه التكبيرة تعمل عملين، ومثل هذا جائز كمن كان في النافلة فكبّر ينوي الفريضة. ثم إذا شرع في صلاة الإمام في هذه الصورة وقطع ما كان فيها هل يلزمه قضاء ما قطعها؟ ينظر إن كانت تلك الصلاة نفلاً لزمه القضاء بالشروع، وإن كانت فرضاً ينظر إن كانت تلك الصلاة، والصلاة التي اقتدى بالإمام واحداً لا يلزمه شيء؛ لأنه أداها على أكمل الوجوه، وإن كانت مختلفة يلزمه القضاء، ثم الأفضل في تكبيرة الافتتاح في حق المقتدي أن تكون تكبيرة مع تكبير الإمام عند أبي حنيفة رحمه الله وهو قول زفر، وقال أبو يوسف ومحمد يكبّر مع تكبير الإمام، ذكر الاختلاف على هذا الوجه في اختلاف زفر ويعقوب لهما قوله عليه السلام: «فإذا كبّر فكبروا» والفاء للتعقيب. ولأبي حنيفة القيام ركن من أركان الصلاة، فيكون الأفضل للمؤتم المشاركة في جميع ذلك قياساً على الركوع والسجود، وإذا كبر بعد تكبير الإمام تفوته المشاركة في جزء من القيام وأما الحديث قلنا: الفاء إنما توجب التعقيب إذا دخل على الجزاء. وقوله: «فكبروا» ليس بجزاء ولكن هذا بيان الحال، كما يقال إذا دخلت على الأمير ألا ترى أنه عليه السلام عطف عليه قوله، «وإذا ركع فاركعوا» ، ثم المقتدي لا يؤخر الركوع عن ركوع الإمام كذا ههنا فرع على قولهما، فقال: لو كبر مقارناً؛ قال أبو يوسف رحمه الله في رواية: تجزيه ويكره، وقال في رواية: لا يجزيه ذكر الرواية الأولى المعلى في «نوادره» ، وقال محمد أجزأه وقد أساء ذكر في الكنايات، ودليل عدم الجواز ما ذكرنا أن الشرع علّق شروع المؤتم بتكبير يوجد منه بعد الأمام؛ ولأنه يأتي، فلا يصح قبل شروع الإمام، دليل الجواز أن المشاركة حصلت بالشروع مع الإمام فيصح الاقتداء لكن يكره لمخالفة السنّة فلا يُسلّم بأنه يأتي على سبيل التعقيب، بل على سبيل المشاركة كما في سائر الأركان وإذا لم يعلم المؤتم أنه كبّر قبل الإمام، أو بعده ذكر المسألة..... روايات وجعلها على ثلاثة أوجه: (إن) كان أكثر رأيه أنه كبّر قبل الإمام لا يجزيه، وإن كان أكثر رأيه أنه كبّر بعد الإمام يجزيه؛ لأن أكثر الرأي يقوم مقام العلم في الأحكام، وإن

استوى الظنّان عنده يجزيه لأن أمره محمول على الصواب، وقد علم أنه في الاقتداء قصد الشروع في صلاة الإمام، فهو على الصواب حتى يظهر الخطأ. وإذا نسي المصلي تكبيرة الافتتاح، وقرأ ثم تذكر ذلك فكذا للركوع ينوي أن يكون ذلك عن تكبيره لم يجزئه ذلك عن تكبيرة الافتتاح؛ لأن تكبيرة الافتتاح شرعت في حالة القيام وحالة الركوع ليست بحالة القيام مطلقاً، وكذلك هذا في التطوع إذا كبّر في حالة الركوع الافتتاح لا يجوز وإن كان التطوع يجوز قاعداً من غير عذر. والفرق: أن التكبير إنما شرع في قيام مطلق، والقيام المطلق إنما يكون باستواء الشق الأعلى والأسفل والشق الأعلى أصل؛ لأن الآدمي لا يعيش إلا به والشق الأسفل تبع؛ لأنه يعيش بدونه، فإذا كبّر في حالة الشروع، فقد كبّر في غير محلّه فلم يجزئه، فأما صلاة التطوع شرعت عند قيام النصف الأعلى، فإذا صلى قاعداً فقد صلى، قال: قيام النصف الأعلى وهو الشرط، فأجزأه مسائل هذا الفصل تأتي في فصل صلاة المريض إن شاء الله تعالى. يجب أن يعلم أن القراءة في الصلاة ركن، قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الاْرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل: 20) ، وقال الله تعالى: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً} (المزمل: 4) أَمَرَ بالقراءة والأمر على الوجوب والمراد حالة الصلاة؛ لأن القراءة لا تجب خارج الصلاة، فتعين حالة الصلاة، وقال عليه السلام: «لا صلاة إلا بقراءة» وإذا أثبت أن القراءة ركن، فنقول: لا بد من معرفة حدِّها ومحلّها وقدرها وصفتها. أما معرفة حدها، فنقول: تصحيح الحروف أمر لا بد منه، ولا تصير قراءة إلا بعد تصحيح الحروف، فإن صحح الحروف بلسانه ولم يسمع نفسه؛ حكي عن الكرخي أنه يجزيه، وبه كان يفتي الفقيه أبو بكر الأعمش؛ لأن القراءة فعل اللسان، وذلك بإقامة الحروف، لا بالسماع، فإن السماع فعل السامع، وإلى هذا أشار محمد رحمه الله في «الأصل» حيث قال: وإن كان وحده وكانت صلاة يجهر فيها بالقراءة قرأ في نفسه إن شاء، وإن جهر وأسمع نفسه داخلاً في القراءة، لكان إسماع نفسه مستفاداً من قوله قرأ في نفسه، فيكون قوله وأسمع نفسه تكراراً، وحكي عن الفقيه أبي جعفر (46ب1) الهندواني والشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري أنه لا يجزيه ما لم يسمع نفسه، وبه أخذ المشايح؛ لأن هذا الكلام ما هو مسموع مفهوم، ألا ترى أنّ ألحان الطيور لا تسمى

كلاماً مع أنها مسموعة لأنها غير مفهومة، وألا ترى أن الكتاب لا يسمى كلاماً مع أنه بشرط وجود القراءة في نفسه. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: الأصح أنه لا يجزيه ما لم يُسمع أذناه ويسمع من بقربه، قال بعض مشايخنا التسمية على الذبيحة، والاستثناء في اليمين والطلاق والعتاق والإيلاء والبيع فهو على هذا الاختلاف، وذكر القاضي الإمام علاء الدين في «شرح مختلفاته» أن الصحيح عندي أن في بعض يكتفي بسماعِهِ، وفي بعضها يشترط سماع غيره مثلاً في البيع ولو أدنى المشتري صماخه من فم البائع فسمع يكفي، ولو سمع البائع بنفسه، ولم يسمعه المشتري لا يكتفى، وفيما إذا حلف لا يكلم فلاناً، فناداه من بعيد بحيث لا يسمع لا يحنث، نصّ على هذا في كتاب الأيمان؛ لأن شرط الحنث وجود الكلام في محلها، فنقول في التطوع محل القراءة الركعات كلها. وفي الفرائض محل القراءة الركعتان، حتى تفترض القراءة في الركعتين إن كانت الصلاة من ذوات المثنى يقرأ فيهما جميعاً، وإن كانت الصلاة من ذوات الأربع يقرأ في الركعتين الأوليين، وفي الركعتين الأخريين هو بالخيار إن شاء قرأ وإن شاء سبح، وإن شاء سكت. وقال الشافعي: هي فرض في الأربع؛ لأن القراءة ركن، وكل ركعة تشتمل على أركان الصلاة ثم سائر..... كان كالركوع والسجود، والقيام فرض في كل ركعة، فكذا ركن القراءة، ولهذا كان ركناً في التطوع في كل ركعة. ولنا: أن قضية القياس الاكتفاء بالقراءة في ركعة واحدة، فإن الأمر بالفعل اقتضى التكرار لا أن الركعة الثانية مثل الأولى من كل وجه فأوجدنا القراءة فيها استدلالاً بالأولى، فأما الأخريات فهما زائدتان على الأوليين؛ لأن الصلاة في الأصل كانت ركعتين كما قالت عائشة رضي الله عنها: «كانت الصلاة في الأصل ركعتين فزيدت في الحضر وأُقِرّت في السفر» ، فلم يجز قياس الآخرين على الأوليين، ولهذا لا يقاس الأخريان على الأوليين في حق وصف القراءة وهو الجهر والإخفاء، وكذا في حق القدر وهو السورة، فكذا في أصل القراءة، وإن ترك القراءة والتسبيح لم يكن عليه حرج، ولم تكن عليه سجدتا السهو إن كان ساهياً، لكن القراءة أفضل، هذا هو الصحيح من الروايات، كذا ذكره القدوري في «شرحه» . وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لو سبح في كل ركعة ثلاث تسبيحات أجزأه، وقراءة الفاتحة أفضل، فإن لم يقرأ ولم يسبح كان مسيئاً إن كان متعمداً أو كان ناسياً فعليه سجدتا السهو؛ لأن القيام في الأخروين مقصود، فيكره إخلاؤه عن الذكر والقراءة جميعاً كما في الركوع أو السجود، وقد كره ذلك رسول الله عليه السلام لأصحابه

حيث قال:؟ أي واقعين.....h والأوّل أصح؛ إذ الأصل في القيام القراءة، فإذا سقطت القراءة في الأخراوين بقي القيام المطلق، فيكون قيامه كقيام المؤتم بخلاف الركوع والسجود، ولأن القراءة فيهما ليست بمسموعة، وإنما المشروع فيهما الذكر، فلا يجوز أصلاً؟ عن الذكر، وعن أبي يوسف أنه قال: يسبح فيهما فلا يسكت، إلا أنه إن أراد أن يقرأ الفاتحة، فليقرأ على جهة البناء لا على جهة القراءة، وبه أخذ بعض المتأخرين من أصحابنا. وفي الوتر محل القراءة الركعات كلّها حتى تفترض القراءة في الركعات كلها، وهذا على أصلهما لا يشكل؛ لأن الوتر على أصلهما سنّة، والقراءة في السنن في جميع الركعات واجبة، وإنما يشكل على أصل أبي حنيفة، فإنه يقول فرض عملاً لا اعتقاداً، ولزوم القراءة من أمارات النفل، والجواب عن هذا أن دليل الفرضية عنده قاصر؛ لأنه من؟....... بإيجاب القراءة في الكل احتياطاً، فإن القراءة في الكل في الفرائض لا يوجب الفساد، وترك القراءة في ركعة من النوافل يوجب الفساد. وأما الكلام في قدر القراءة متنفلاً فرض القراءة عند أبي حنيفة يتأدى بأية واحدة، وإن كانت قصيرة وهو مذهب ابن عباس، فإنه قال: إقرأ ما معك من القرآن فليس شيء من القرآن بقليل، وقال أبو يوسف ومحمد؛ لا يتأدى إلا بأية طويلة كآية المداينة، وكآية الكرسي أو ثلاث آيات قصار مما يقولان أن ما دون ذلك لا يقصد بالقراءة عرفاً، فلا يتناوله مطلق اسم القراءة، وكان المعنى فيه أنه لا يتم به الإعجاز. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: إن المأمور به قراءة ما تيسر عليه من القرآن والآية القصيرة من القرآن حقيقةً وحكماً، أما حقيقةً لا يشكل، وأما حكماً، فإنها تحرم قرائتها على الجنب والحائض، أما ما دون الآية ليس لها حكم القرآن، ولهذا لا يحرم على الجنب والحائض قراته، هكذا ذكر الطحاوي رحمه الله. وهما يقولان: الأمر المطلق ينصرف إلى ما يسمى قرآناً عرفاً وقوله: {مُدْهَآمَّتَانِ} (الرحمن: 64) وقوله: {لَمْ يَلِدْ} (الصمد: 3) لا يسمى قرآناً عرفاً، لا يقصد بالقراءة عرفاً للأمر المطلق لا ينصرف إليهما على قول أبي حنيفة إذا قرأ آية قصيرة هي كلمات أو كلمتين نحو قوله فقيل: كيف قدرتم..... ما أشبه ذلك يجوز بلا خلاف بين المشايخ، كذا ذكر بعض المشايخ في «شرحه» ، وسيأتي بعد هذا بخلافه. وأما إذا قرأ آية قصيرة هي كلمة واحدة نحو قوله: {مُدْهَآمَّتَانِ} (الرحمن: 64) أو آية قصيرة هي حرف واحد نحو قوله ق. س. ز، فإن هذه آيات عند بعض القُرّاء؟ اختلف المشايخ فيه، وإذا قرأ آية طويلة في ركعتين نحو آية الكرسي وآية المداينة قرأها في ركعتين والبعض في ركعة والبعض في ركعة، اختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة رحمه الله، بعضهم قالوا: لا يجوز؛ لأنه ما قرأ آية تامة في كل ركعة، وعامتهم على أنه يجوز فإن

بعض هذه الآيات تزيد على ثلاث آيات قصار أو تقدمها، فلا تكون قراءته أقل من قراءة ثلاث آيات قصار. وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف إذا كان الرجل لا يحسن إلا هذه الآية وهو قوله تعالى: {الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَلَمِينَ} (الفاتحة) فله (أن) يقرأها مرّة واحدة في الركعة، ولا يكررها في الركعة وتجوز صلاته، وهو قول أبي حنيفة، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أدنى ما يجوز من القراءة في الصلاة في؟...... سورة في القرآن مثل {إِنَّآ أَعْطَيْنَكَ الْكَوْثَرَ} (الكوثر) وإن قرأ بآيتين طويلتين أو بآية طويلة يكره مثل أقصر سورة في القرآن وإن لم تكن تلك الآيتين أو تلك الآية تشمل أقصر سورة في القرآن لا يجزيه وقراءة الفاتحة على التيقن ليس بفرض عندنا ولكنها وجب حتى يكره تركها، وقال الشافعي رحمه الله: فرض، حتى لو ترك حرفاً منها لم تصح، واستدل بقوله عليه السلام «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» ولمواظبة النبي عليه السلام على قراءتها في كل صلاة. ولنا: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الاْرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل: 20) فهذا يقتضي جواز الصلاة بقراءة القرآن مطلقاً، والعمل بالحديث الواحد إنما يجب على وجه لا يكون نسخاً لما في الكتاب، وذلك بأن يثبت في الحديث وجوب الفاتحة حتى يكره ترك قراءتها، إما أن تثبت الركنية فلا والله أعلم. في صفة القراءة، فنقول لا يخلو إما أن يكون إماماً أو منفرداً، والصلاة لا تخلو إما أن تكون مكتوبة أو نافلة. أما إذا كانت الصلاة مكتوبة، فإن كان يجهر في موضع الجهر ويسرّ في موضع السر. وموضع الجهر الفجر والمغرب والعشاء والجمعة والعيدين. وموضع الإسرار الظهر والعصر؛ وهذا لأن الجهر والإسرار في حق الأئمة في موضعها...... ظاهرتان يقيناً من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا. وإن جهر فيما يخافت أو خافَتَ فيما يجهر فقد أساء؛ لأنه خالف السنّة، وأما إذا كان منفرداً؛ إن كانت صلاة يُخافَتْ فيها فخافِت، وإن جهر فيها يكون مسيئاً، هكذا ذكر

الحسن بن زياد في كتاب صلاته، وإن كانت صلاة يجهر فيها فهو بالخيار إن شاء جهر وأسمع نفسه، وإن شاء أسرّ فقرأ في نفسه، أمّا له أن يجهر؛ لأنه سبقه الإمام وله أن يخافت؛ لأن الإمام بالجهر يُسمع غيره، والمنفرد لا يسمع غيره، هكذا ذكر في عامة الروايات، وذكر في رواية أبي حفص أن الجهر أفضل، والأصل فيه ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «من صلى بنية الجماعة صلت بصلاته صفوف الملائكة» (47أ1) والجهر سنّة الصلاة بجماعة فيما يجهر، فإن قيل..... الجهر جار الأئمة لحاجتهم إلى سماع غيرهم والمنفرد لا يحتاج إلى إسماع غيره، فلا يشرع الجهر في حقه، قبل له المنفرد الإمام في نفسه فيجهر لإسماع نفسه. فإن قيل: إذا اعتبر إماماً في نفسه لماذا جازت له المخافتة في حقه؟ قيل: له، لأن القراءة دون غيره، فكان تخافته كجهره. وأما النوافل لا تخلو إما أن تكون نوافل النهار أو نوافل الليل، فإن كانت نوافل النهار يكره الجهر فيها؛ لأنها تابعة للفرائض، والأصل فيه ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال: «صلاة النهار عجماء» . وأما نوافل الليل لا بأس بالجهر فيها؛ لأنه مشروع في فرائض الليلة لكن الأفضل أن يكون بين الجهر والإخفاء، لما روي عن النبي عليه السلام أنه خرج ذات ليلة، فمرّ بأبي بكر رضي الله عنه، وهو يُسرّ بالقراءة جزءاً، ومرّ بعمر وهو يجهر بالقراءة جزءاً، ومرّ ببلال رضي الله عنه، وهو يتنقل من سورة إلى سورة، فلما أصبح ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّمذلك لهم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: كنت أسمع من أناجيه، وقال عمر رضي الله عنه كنت أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، وقال بلال رضي الله عنه: كنت أنتقل من بستان إلى بستان، فقال عليه السلام لأبي بكر: ارفع من صوتك قليلاً، وقال لعمر اخفض من صوتك قليلاً، وقال لبلال: إذا افتتحت سورة، فلا تنتقل إلى غيرها حتى تفرغ عنها. وأما المخافتة في بسم الله الرحمن الرحيم في أوائل السورة، فهو عند أصحابنا رحمهم الله وهو قول الثوري، رُوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «صليت خلف رسول الله عليه السلام وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم» . بقي الكلام بعد هذا في القدر المسنون، قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : القراءة في الصلوات في السفر سواء، تقرأ بفاتحة الكتاب وأي سورة شئت، وفي الحضر تقرأ في

الفجر في الركعتين بأربعين أو خمسين آية سوى فاتحة الكتاب، وكذلك في الظهر والعصر والعشاء، سواء القراءة فيهما على النصف من القراءة في الظهر وفي المغرب يقرأ بالقصار..... هذا هو المذكور في ظاهر الرواية؛ وفي روايات الحسن، ويقرأ في الظهر في الركعتين مثل قراءته في الركعة الأولى من الفجر. اعلم بأن ما كان من باب المقادير لا يثبت قياساً بل يتبع فيه للنص، والنص قد يرد معقول المعنى والنص الوارد في تقدير القراءة في الصلوات كلها معقول المعنى، على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى. والحال حالتان، حالة السفر وحالة الحضر. وقال: السفر نوعان حالة الضرورة، وهو أن يعجل السير أو يكون خائفاً من جهة العدو، وحالة الاختيار وهو أن يكونوا آمنين في السفر، ولا يعجل السير. وحالة الحضر أيضاً نوعان؛ حالة الاختيار، وهو أن يكون في الوقت سعة، وحالة الضرورة وهو أن يخاف فوت الوقت، إذا عرفنا هذا، فنقول. بدأ محمد رحمه الله في «الكتاب» ببيان حالة السفر فقال: يقرأ في السفر بفاتحة الكتاب وأي سورة شئت؛ لأن السفر لمّا أوجب قصر الصلاة تخفيفاً أوجب قصر القراءة من طريق الأولى، وقد صح أنّ النبي عليه السلام «قرأ في صلاة الفجر في السفر المعوذتين» ، وهذا في حالة الضرورة، أما في حال الاختيار في السفر يقرأ في الفجر نحو سورة البروج وانشقت، ليحصل الجمع بين مراعاة السنّة في القراءة وبين التخفيف، وفي الظهر مثل ذلك، وفي العشاء والعصر دون ذلك، وفي المغرب يقرأ بالقصار جداً، وأما في حالة الحضر. فإن كانت الحالة حالة الضرورة بأن كان يخاف خروج الوقت يقرأ مقدار ما لا تفوته وقت الصلاة. وإن كانت الحالة حالة الاختيار بأن كان في الوقت سعة، ذكر في هذا «الكتاب» أنه يقرأ في الفجر في الركعتين بأربعين أو خمسين أو ستين آية سوى فاتحة الكتاب، ولم يرد بقوله بأربعين أو خمسين أو أربعون أو خمسون في كل ركعة، بل أراد به أربعون فيهما في كل ركعة عشرون، وذكر في «الأصل» : أنه يقرأ بأربعين آية سوى فاتحة الكتاب. وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يقرأ ما بين الستين إلى مائة وفي غير رواية «الأصول» عن أبي حنيفة أنه يقرأ في الركعة الأولى {الم تَنزِيلُ الْكِتَبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَلَمِينَ} (السجدة: 1، 2) ، وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَنِ} (الإنسان: 1) والآثار قد اختلفت عن رسول الله عليه السلام، فقد روى أبو برزة الأسلمي أن رسول الله عليه السلام «كان يقرأ في الفجر من ستين آية إلى مائة آية» ، وعن بعض الصحابة أنه

قال: تلقيّت من رسول الله عليه السلام سورة ق والنازعات، لكثرة ما يقرأها في صلاة الفجر وعنه عليه السلام أنه قرأ في الفجر، {إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ} (التكوير: 1) و {إِذَا السَّمَآء انفَطَرَتْ} (الانفطار: 1) . وروي عنه عليه السلام أنه قرأ في الفجر سورة المزمّل والمدثر، وعنه عليه السلام أنه قرأ في الركعة الأولى {الم تَنزِيلُ الْكِتَبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَلَمِينَ} (السجدة: 1، 2) وفي الركعة الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَنِ} (الإنسان: 1) ، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قرأ في الركعة الأولى فاتحة البقرة، وفي الركعة الثانية خاتمتها. وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ في الركعة الأولى سورة النمل، وفي الركعة الثانية سورة بني إسرائيل ولما اختلفت الأخبار في مقادير القراءة، اختلفت مقادير محمد رحمه الله، وباختلاف الآثار تدل على أن في الأمر سعة. والمشايخ وفقوا بين الروايات فمنهم من قال الأربعون للكسالى، وما فوق ذلك إلى الستين للوسط من الناس، وما بين الستين إلى المائة للذين يجهدون، ويستأنسون بالقراءة ولا يملون. ومنهم من وفق من وجه آخر، فقال: المراد من الأربعين إذا كان الآي طوالاً، كسورة الملك، فإنها مع طولها ثلثون آية، والمراد من الخمسين والستين إذا كانت الآي متوسطة بين الطول والقصر أو مختلطة فيها القصار والطوال...... فما بين الستين إلى المائة إذا كانت الآية قصار، كسورة المزمل والمدثر وسورة الرحمن. ومنهم من وفق وجه آخر فقال: إن كان الوقت وقت كدَ وكسب نحو الصيف يقرأ أربعين، فإن كان وقت فراغ كالشتاء يقرأ ما بين الستين إلى مئة، وإن كان فيما بينهما يقرأ خمسين إلى ستين، ومنهم من يقول إذا كانت الليالي قصاراً يقرأ أربعين، وإن كانت طوالاً يقرأ (ما) بين الستين إلى مئة، وإذا كان..... ذلك يقرأ خمسين أو ستين هذا في صلاة الفجر. وذكر في «الأصل» : يقرأ في الظهر بمثل الفجر أو دونه وكل ذلك، منقول عن النبي عليه السلام روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي عليه السلام..... الظهر {الم تَنزِيلُ الْكِتَبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَلَمِينَ} (السجدة: 1، 2) ، و...... أنه قرأ في الفجر أيضاً {الم تَنزِيلُ الْكِتَبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَلَمِينَ} (السجدة: 1، 2) ، فكان الظهر مثل الفجر في القراءة؛ ولأن وقت الفجر ووقت الظهر مُتَّسِع، لا يخاف بالتأخير.... يستحب تطويل القراءة ... ، وإحراز الأربع قبل الظهر، ويقرأ دون

الفجر أيضاً، لما روي عن جماعة من أصحاب رسول الله عليه السلام أنهم قالوا: أحرزوا قراءة رسول الله عليه السلام في..... ثلاثين إلى أربعين، و.... الظهر وقت اشتغال بالكسب، فتطويل القراءة يؤدي إلى السآمة، بخلاف وقت الفجر؛ لأنه وقت فراغ عن الكسب. وأما في صلاة العصر يقرأ في الركعتين بعشرين آية سوى فاتحة الكتاب، لحديث جابر بن سمرة «أن النبي عليه السلام قرأ في صلاة العصر في الأولى سورة البروج وفي الثانية والسماء والطارق» ، وروي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، قالوا: أحرزوا ما قرأ رسول الله عليه السلام في العصر، فوجدناه على النصف من قراءة في الظهر؛ وهذا لأن المستحب في العصر هو التأخير..... للناظر إذ النفل بعد العصر مكروه، فإذا أخّر العصر ... بأنه يطول القراءة فيها ... أن يتصل بالوقت المكروه، وأما في العشاء يقرأ بمثل ما يقرأ في العصر، لحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن قومه شكوه إلى رسول الله عليه السلام عن تطويل قراءته في العشاء، فقال النبي عليه السلام: «أفتّان أنت يا معاذ، أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها» ؛ ولأن المستحب هو تأخير العشاء إلى ثلث الليل، فلو أطال القراءة يؤدي إلى الملالة. وأما في المغرب يقرأ في كل ركعة سورة قصيرة، فإن النبي عليه السلام قرأ فيهما بالمعوذتين، وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: أن اقرأ في الفجر والظهر بطوال المفصّل، والعشاء بأواسط المفصّل، وفي المغرب بقصار المفصّل؛ ولأن مبنى المغرب على التعجيل، وعلى أن لا يحل تأخيرها كذا جاءت الآثار، قال (47ب1) عليه السلام: «لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم» ، فيجب تخفيف القراءة ليحصل التعجيل وهذا عندنا. وقال الشافعي رحمه الله: يقرأ في المغرب مثل سورة {وَالْمُرْسَلَتِ عُرْفاً} (المرسلات: 1) و {عَمَّ يَتَسَآءلُونَ} (النبأ: 1) ، وروي في ذلك خبر أن النبي عليه السلام قرأ في المغرب والطور، وتأويل الحديث عندنا: أنه افتتحها إلا أنه ضمها. وأما الوتر فما قرأ فيه فهو حسن، بلغنا عن رسول الله عليه السلام «أنه قرأ في الوتر في الركعة الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} (الأعلى: 1) وفي الثانية ب {قُلْ يأَيُّهَا الْكَفِرُونَ} (الكافرون: 1) ، وفي الثالثة ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) وروى

أنه كان يوتر بتسع سور من المفصّل في الركعة الأولى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ} (القدر: 1) و {إِذَا زُلْزِلَتِ} (الزلزلة: 1) و {أَلْهَكُمُ التَّكَّاثُرُ} (التكاثر: 1) ، وفي الركعة الثانية والعصر وإنا أعطيناك وإذا جاء نصر الله، وفي الركعة الثالثة ب {قُلْ يأَيُّهَا الْكَفِرُونَ} (الكافرون: 109) وتبّت و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) ، والأفضل أن يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة تامة. ولو قرأ بعض السورة في ركعة والبعض في ركعة أخرى، بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا يكره؛ لأنه خلاف ما جاء به الأثر، وذكر عيسى بن أبان رحمه الله في كتاب الحج أنه لا يكره، وروي ذلك عن أصحابنا رحمهم الله، وروى حديثاً بإسناد له عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قرأ في صلاة الفجر سورة بني إسرائيل، فلما بلغ أنهى التلاوة ركع وسجد، ثم قام إلى الثانية وختم السورة. ولو قرأ في الركعتين من وسط (سورة) أو من آخر سورة، فلا بأس به، ولو قرأ في الركعة الأولى من وسط سورة أو من آخر سورة وقرأ في الركعة الأخرى من وسط سورة أخرى أو من آخر سورة، فلا ينبغي أن يفعل ذلك على ما هو ظاهر الرواية، ولكن لو فعل لا بأس به، هكذا حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» في نسخة شمس الأئمة رحمه الله قال بعضهم: يكره وقال بعضهم: لا يكره. وفي «الفتاوى» : سئل عن القراءة في الركعتين من آخر السورة أفضل أم قراءة سورة بتمامها؟ قال: إن كان آخر السورة أكثر آية من سورة التي أراد قراءتها كان قراءة آخر السورة أفضل، وإن كانت السورة أكثر فهي أفضل، ولكن ينبغي أن يقرأ في الركعتين آخر سورة واحدة، ولا ينبغي أن يقرأ في كل ركعة آخر سورة على حدة، قال ذلك مكروه عند أكثرهم، هكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» . وإذا انتقل من آية إلى آية أخرى من سورة أخرى أو من هذه السورة وبينهما آيات يكره، فقد صح أن رسول الله عليه السلام نهى بلالاً عن ذلك حين سمعه ينتقل من سورة إلى سورة، فقال: «اقرأ كل سورة على نحوها» ، وكذلك يكره اختيار قراءة أواخر السور دون أن يقرأ السّور على الولاء في الصلاة وخارج الصلاة؛ لأنه يخالف فعل السلف، وكذلك إذا جمع بين سورتين بينهما سور أو سورة واحدة في ركعة واحدة، فإنه يكره. وأما في الركعتين إن كان بينهما سور لا يكره، وإن كان بينهما سورة واحدة هل يكره؟ اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم يكره، وقال بعضهم إن كانت السورة طويلة لا يكره وقال بعضهم لا يكره أصلاً. وإذا قرأ في ركعة سورة وقرأ في الركعة الأخرى سورة فوق تلك السورة أو قرأ في ركعة سورة ثم قرأ في تلك الركعة سورة أخرى فوق تلك السورة يكره، وإذا قرأ في الركعة الأولى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ} (الناس: 1) ، ينبغي أن يقرأ في الركعة الثانية {قُلْ أَعُوذُ

بِرَبّ النَّاسِ} (الناس: 1) أيضاً؛ لأن قراءة سورة واحدة في الركعتين غير مكروهة، وإذا قرأ في الركعة آية، وقرأ في الركعة الأخرى آية فوق تلك الآية أو قرأ في ركعة آية، ثم قرأ بعد هذا في تلك الركعة آية أخرى فوق تلك الآية، فهو على ما ذكرنا في السور. وإذا جمع بين آيتين بينهما آيات أو آية واحدة في ركعة واحدة أو في ركعتين، فهو على ما ذكرنا في السور أيضاً. ولو قرأ في ركعة سورة، وقرأ في الركعة الثانية سورة أطول منها، إن كان التفاوت قليلاً لا يكره، فقد صح أن رسول الله عليه السلام: «كان يقرأ في الجمعة في الركعة الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} (الأعلى: 1) ، وفي الركعة الثانية {هَلْ أَتَاكَ} ، وهل أتاك أطول من سبح اسم ربك بقليل، فإن كان التفاوت كبيراً يكره. وهذا كله في الفرائض فأما في السنن فلا يكره، هكذا ذكر صدر الإسلام أبو اليسر رحمه الله في زلة القاري. وإذا قرأ الفاتحة وحدها في الصلاة، أو قرأ الفاتحة ومعها آية أو آيتين، فذلك مكروه.Y ذكر في «شرح الطحاوي» : المقتدي إذا قرأ خلف الإمام في صلاة لا يجهر فيها اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: لا يكره، وإليه مال الشيخ الإمام أبو حفص، وبعض مشايخنا ذكروا في شرح كتاب الصلاة أن على قول محمد: لا يكره، وعلى قولهما: يكره، ولا بأس بقراءة القرآن على التأليف، فقد صح أن الصحابة فعلوا ذلك، ومشايخنا استحسنوا قراءة المفصل ليسمع القوم ويتعلموا. وإذا كبّر للركوع في الصلاة ثم بدا له أن يزيد في القراءة لا بأس به ما لم يركع، ويكره أن يتخذ شيئاً من القرآن مؤقتاً لشيء من الصلوات، يعني لا يقرأ غيرها في تلك الصلوات؛ لأن في هجرها سؤا وإذا فعل ذلك في بعض الأوقات لا بأس به، وفي بعض شروح «الجامع الصغير» أن هذه الكراهة فيما إذا اعتقد أن الصلاة لا تجوز بدونها، إلا أن قراءة هذه السورة أيسر عليه لا بأس به، وإذا كرر آية واحدة مراراً، فإن كان ذلك في التطوع الذي يصلي وحده، فكذلك غير مكروه فقد ثبت عندنا عن جماعة من السلف أنهم كانوا يُحيون ليلتهم بآية العذاب أو آية الرحمة أو آية الرجاء أو آية الخوف، وإن كان ذلك في صلاة الفريضة فهو مكروه؛ لأنه لم ينقل إلينا عن واحد من السلف أنه فعل ذلك. وهذا كلّه في حالة الاختيار وأما في حالة العدو والنسيان فلا بأس به والله أعلم. (نوع آخر) في معرفة طوال المفصّل وأوساطه وقصاره فنقول طوال المفصّل من سورة الحجرات إلى سورة والسماء ذات البروج، والأوساط من سورة والسماء ذات البروج إلى سورة لم يكن، والقصار من سورة لم يكن إلى الآخر. (نوع آخر) في إطالة القراءة في الركعة الأولى على الركعة الثانية قال أبو حنيفة رحمه الله في «الجامع الصغير» : يطول الركعة الأولى من الفجر على الثانية، وركعتا الظهر سواء وقال محمد: أحب أن يطول الركعة الأولى على الثانية في

الصلوات كلها، يجب أن يعلم بأن إطالة القراءة في الركعة الأولى على الثانية في الفجر مسنونة بالإجماع، ليدرك الناس ركعتي الفجر بجماعة، وفي سائر الصلوات كذلك عند محمد رحمه الله وعند أبي حنيفة وأبي يوسف إطالة القراءة في الركعة الأولى في سائر الصلوات غير مسنونة. احتج محمد رحمه الله بحديث أبي قتادة في غير هذه المسألة وحين وصف أبو حميد الساعدي صلاة رسول الله عليه السلام كان من جملة ما وصف «أن النبي عليه السلام كان يطول الركعة الأولى في كل صلاة» ؛ وهذا لأن التفضيل في صلاة الفجر باعتبار أنه وقت غفلة، فتفضيل الأولى ليدرك الناس الجماعة، وهذا المعنى موجود في سائر الأوقات، إلا أن الغفلة في وقت الفجر بسبب النوم، وفي سائر الأوقات باشتغال الناس بالكسب، ومما احتجا بما روي أن النبي عليه السلام قرأ في صلاة الجمعة في الركعة الأولى فاتحة الكتاب وسورة الجمعة وفي الثانية المنافقون، وقرأ مرّة أُخرى في صلاة الجمعة في الركعة الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} (الأعلى: 1) ، وفي الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَشِيَةِ} (الغاشية: 1) ، وهما متقاربان أو الثانية أطول من الأولى؛ ولأن الثانية تكرار الأولى، فتكون مثل الأولى، ألا ترى أنه يتكرر بصيغته، وهو الجهر والسورة فكذلك يتكرر بمقداره. والقياس في الفجر هكذا، وإنما تركنا القياس بعذر؛ لأنه وقت نوم وغفلة بخلاف سائر الأوقات، فإنها وقت علم ويقظة، فلو تغافلوا.... بسبب اشتغالهم بأمور الدنيا، وذلك يضاف إلى تقصيرهم واختيارهم، والنوم لا يكون باختيارهم، فالتفضيل هناك لا يكون تفضيلاً ههنا، ثم يعتبر التطويل من حيث الآيات، إذا كان بين ما يقرأ في الأولى، وبينما يقرأ في الثانية مقارنة من حيث الآي، أما إذا كان بين الآيات تفاوت من حيث الطول والقصر تعتبر الكلمات والحروف. بعد هذا اختلف المشايخ، قال بعضهم: ينبغي أن يكون التفاوت فيهما بقدر الثلث والثلثين، الثلثان في الأولى والثلث في الثانية، وفي «شرح الطحاوي» قال ينبغي أن يقرأ في الأولى ثلاثين آية وفي الثانية بقدر عشر آيات، أو عشرين، وهذا هو بيان الأولى، وأما بيان الحكم فنقول: التفاوت وإن كان فاحشاً بأن قرأ بأربعين آية وفي الثانية بثلاث آيات لا بأس به، به ورد الأثر (48أ1) . وأما إطالة الركعة الثانية على الركعة الأولى فمكروه بالإجماع، كذا ذكر صدر الإسلام وفجر الإسلام رحمهما الله في «شرح الجامع الصغير» قالا: وهذا إذا كان الفتاوت كبير بثلاث آيات فما فوقها، وأما إذا كان قليلاً نحو آية أو آيتين لا يكره والله أعلم.

(نوع آخر) في القراءة بالفارسية وإذا قرأ في الصلاة بالفارسية جاز قراءته سواء كان يحسن العربية أو لا يحسن، غير أنه إن كان يحسن العربية يكره، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان يحسن العربية لا تجوز قراءته، وإن كان لا يحسن العربية يجوز. فالعبرة عند أبي حنيفة للمعنى وعندهما للفظ والمعنى إذا قدر عليهما، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلاة شمس الأئمة السرخسي في «شرح الجامع الصغير» رجوع أبي حنيفة إلى قولهما رحمهما الله، وقال الشافعي: لا تجوز قراءته على كل حال، وأجمعوا على أنه لا تفسد صلاته بالقراءة بالفارسية إنما الخلاف في الجواز، احتج الشافعي رحمه الله بقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً} (الزخرف: 3) الله تعالى أخبر أن القرآن عربي، والفارسي غير العربي، فلا يكون قرآناً، فلا تجوز صلاته و؟.... القرآن اسم للمعجز، والإعجاز في النظم والمعنى، فإذا قدر عليهما لا يتأدى الفرض إلا بهما، وإذا عجز عن التعلم أتى بما قدر عليه كمن عجز عن الركوع والسجود، فإنه يصلي بالإيماء. وأبو حنيفة رحمه الله احتج بما روي أن الفرس كتبوا إلى سليمان أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتبها إليهم، وكانوا يقرؤون في الصلاة حتى لانت ألسنتهم بالعربية، والدليل عليه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاْوَّلِينَ} (الشعراء: 196) ، ولا شك أن في زبر الأوليين هو المعنى دون اللفظ. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: إن أبا حنيفة رحمه الله إنما جوز قراء القرآن بالفارسية إذا قرأ آية قصيرة يعني قرأ ترجمة آية قصيرة؛ لأن الصلاة عنده تجوز بأدنى الآيات، ثم ذكر أبو سعيد البردعي أن أبا حنيفة رحمه الله إنما جوّز القراءة بالفارسية خاصة، دون غيرها من الألسنة، أَمَرَ به بالعربية على ما جاء في الحديث «لسان أهل الجنة العربية والفارسية الدرية» ، والأصح أن الاختلاف في جميع الألسنة واللغات، نحو التركية والهندية والرومية خلاف واحد، ثم إنما يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله إذا كان مقطوع القول بأن ما أتى به هو المعنى، ويكون على نظم القرآن نحو قوله تعالى {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (النساء: 93) ستراي وي دونغ ونحو قوله تعالى {فَجَمَعْنَهُمْ جَمْعاً} (الكهف: 99) ..... وقال تعالى: {مَعِيشَةً ضَنكاً} (طه: 124) ، فأما إذا لم يكن على نظم القرأن لا يجوز. قال الإمام الزاهد الصفار رحمه الله يجوز كيف ما كان ذكر في باب السهو، قال بعضهم؛ إنما يجوز إذا كان ذلك..... كسورة الإخلاص، فأما إذا كان من القصص،

فإنه لا يجوز، كقوله تعالى: {اقْتُلُواْ يُوسُفَ} (يوسف: 9) فقال بكشند يوسف لا، فإنه لا يجوز وتفسد صلاته، والصحيح أنه يجوز في الكل، والله أعلم. ولو اعتاد القراءة بالفارسية أو أراد أن يكتب المصحف بالفارسية منع من ذلك أشدّ المنع، وإن فعل ذلك في آية أو آيتين لا يمنع من ذلك، ذكره شمس الأئمة السرخسي في «شرح الجامع الصغير» ، ولو كتب القرآن وكتب تفسير كل حرف وترجمته تحته؛ روي عن الفقيه أبي حفص رحمه الله لا بأس بهذا في ديارنا؛ لأن معانِ القرآن وفوائدها لا يضبطها العوام إلا بهذا، وإنما يكره هذا في ديارهم؛ لأن القرآن نزل بلغتنا. إذا قرأ الرجل في صلاته شيئاً من التوراة أو الإنجيل أو الزبور لم تجز صلاته، سواء كان يحسن القرآن أو لا يحسن، علل فقال: لأن هذا كلام وليس بقرآن ولا تسبيح، والذكر الذي يجري في الصلاة إما قرآن أو تسبيح وما يجري مجراه، قال عليه السلام: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتهليل وقراءة القرآن» قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني حاكياً عن استاذه القاضي الإمام هذا رحمهما الله، هذا التعليل من محمد يشير إلى أنه لا بأس للجنب أن يقرأ شيئاً من هذه الكتب؛ لأن محمداً رحمه الله حطه درجة عن درجة التسبيح حيث قال: لأن هذا ليس بقرآن ولا تسبيح، ثم لا بأس للجنب أن يسبح؛ فلأن لا يكون له بقراءة هذه الكتب بأساً من (باب) أولى. وفي «النوادر» : ويكره للجنب قراءة التوراة. ووجه ذلك: أنه منزل كالقرآن فيكره للجنب قراءته كالقرآن، وعن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن هذا فقال، إن عرف أنه منزل لم يقرأه الجنب، قال شمس الأئمة هذا رحمه الله، ونحن لا نعلم أنها كيف أنزل، لأنهم حرفوها وغيروها، فينبغي أن لا ينهى عن قراءتها، ثم قال رحمه الله: وجدت في بعض النسخ أنه إن كان ما قرأ من التوراة وأشباهها مؤدياً للمعنى الذي في القرآن يجوز في قول أبي حنيفة. وإن لم يكن مؤدياً المعنى الذي في القرآن لا شك أنه لا يجزيه عن صلاته، ولكن هل تفسد صلاته؟ ينظر: إن علم أنه هو التوراة الذي أنزل على موسى لا تفسد صلاته؛ لأنه بمنزلة التسبيح إلا أن يكون ذكر قصة، فحينئذٍ تفسد صلاته؛ لأنه كلام الناس، وكثير من مشايخنا اختاروا ما حكاه شمس الأئمة الحلواني عن بعض النسخ أن ما قرأ في صلاته من التوراة: إن كان موافقاً لمعنى القرآن جازت صلاته في قول أبي حنيفة؛ لأن العبرة عنده للمعنى، والله أعلم. من هذا الفصل في المتفرقات محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى: في رجل قرأ في الأوليين من

العشاء سورة سورة، ولم يقرأ بفاتحة الكتاب في الأخريين، يريد بقوله: لم يعد فاتحة الكتاب لم يقضها، وإن قرأ في الأولين بفاتحة الكتاب، ولم يقرأ بالسورة، قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب والسورة وجهر، هذا هو لفظ «الجامع الصغير» . واختلفت عبارة المشايخ في الفرق بعضهم قالوا: القراءة واجبة في الأوليين، فيحتاج إلى بيان كيفيتها، ينظر أنه هل يمكن القضاء بمثلها في الأخريين، فنقول: القراءة وجبت في الأوليين بصفة أن يفتتح بفاتحة، ويترتب عليها السورة، فإذا ترك الفاتحة في الأوليين، لا يمكن أن يقضيها كذلك.... الفاتحة في الركعتين الأخراوين مرّة واحدة، وإذا ترك السورة في الأوليين أمكنه القضاء؛ لأن الفاتحة مشروعة في الأخريين، فيقرأها، ويبني السورة عليها كما في الركعة الأولى، فيمكنه القضاء بالمثل، وبعضهم قالوا: الأخريين محل الفاتحة، فلم يتسع للقضاء، وليستا بمحل السورة فوسعتا للقضاء. وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يقضي السورة؛ لأنه عجز عن القضاء، لأن قراءة السورة غير مشروعة في الأخراوين، ألا ترى أنه لو ترك الفاتحة في الأوليين لا يقضيها في الأخريين، وإنما لا يقضيها لعجزه عن القضاء كذا هذا، فإن أراد أن يقرأ السورة وحدها في الأخريين، ويترك الفاتحة ويقول: كنت بالخيار قبل هذا في قراءة الفاتحة في الأخريين بين أن أقرأها، وبين أن أدع قراءتها، فأمضي على خياري، فلا أقرأها هل له ذلك لم يذكر هذا «في الكتاب» ، ومشايخنا فيه مختلفون منهم من قال: له أن لا يقرأ الفاتحة؛ لأنها لم تكتب عليه في الأخريين، وهو الأشبه بمذهب أصحابنا رحمهم الله، ومنهم من قال ليس له أن يترك الفاتحة هنا لتقع السورة بعد الفاتحة كما هو سنة القراءة في الصلاة، ثم قول محمد في «الجامع الصغير» . وإن قرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب ولم يقرأ بالسورة قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب والسورة مقتضى وجوب قضاء السورة وذكر هذه المسئلة في «الأصل» : وقال: إذا ترك السورة في الأوليين فأحب إلي إلى أن يقرأها في الأخريين نص على أن قضاء السورة في الأخريين بطريق الاستحباب، فصار في المسألة روايتان على رواية «الأصل» يستحب قصاء السورة، وعلى رواية «الجامع الصغير» يجب قضاء السورة، وقول محمد في «الجامع الصغير» قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب والسورة وجَهَرَ يحتمل أنه أراد به الجهر بالسورة والفاتحة جميعاً، وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله حتى لا تؤدى بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة، فإن ذلك غير مشروع ... الفاتحة تبعاً للسورة؛ لأنها سنّة والسورة واجبة، لكونها قضاء، فيكون على حسب الثواب واجبة والسنّة تبع الواجب، ومن حق السورة الجهر، فكذا ما هو تبع لها، وإلى هذا ذهب بعض مشايخنا رحمهم الله، ويحتمل أنه أراد بالجهر بالسورة دون الفاتحة، وإليه ذهب بعض المشايخ، وهو رواية عن أبي حنيفة أيضاً؛ لأن الفاتحة أداء والسورة قضاء، والأداء يكون على حسب محله،

والقضاء على حسب الفوائت وقد فات (48ب1) مع الجهر، فيقضي مع الجهر. ويلتحق بالركعة الأولى، فلا يؤدي إلى الجمع بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة تقديراً، ومنهم من قال، فإنه يخافت بهما، وهو رواية عن أبي حنيفة أيضاً؛ لأن الفاتحة تتقدم على السورة، فكانت أصلاً، والسورة تبع لها ومن حق الفاتحة في هذه الركعة المخافتة، فيخافت بالسورة تبعاً لها. ومما يتصل بهذه المسألة إذا نسي فاتحة الكتاب في الركعة الأولى أو في الركعة الثانية، وقرأ السورة ثم تذكر فإنه يبدأ فيقرأ قرأ فاتحة الكتاب ثم يقرأ السورة، هكذا ذكر في «الأصل» : وروى الحسن في «الأصل» : وروى الحسن عن أبي يوسف رحمه الله: أنه يركع ولا يقرأ الفاتحة؛ لأن فيه نقص الفرض (لا) يؤد التمام لمكان الواجب؛ لأن قراءة السورة وقعت فرضاً وقراءة الفاتحة واجبة. وجه ظاهر الرواية: أن باعتبار الحال، هذا نقص الفريضة لأجل الفرض، فإنه إذا قرأ الفاتحة تصير جميع القراءة فرضاً، وصار كما لو تذكر السورة في الركوع، فإنه يرجع، إلا أنّ أبا يوسف ربما يمنع تلك المسألة على قياس هذه المسألة، والله أعلم. ولو لم يقرأ في الركعتين الأوليين أصلاً وقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب خاصة، فإن صلاته جائزة وفوت هذا عن الأوليين، ولو قرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب خاصة، أليس أنه تجوز صلاته كذا هنا، إلا أن يزيد بقراءة الفاتحة في الأخريين ... على ما جرى من السنّة، فحينئذٍ لا تجز صلاته، ولا ينوب هذا عن القراءة. محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في رجل فات العشاء فصلاها بعدما طلعت الشمس إن لم فيها جهر بالقراءة؛ لأن القضاء بدأ على حسب الأداء، ويدل عليه حديث ليلة التعريس، فإن النبي عليه السلام قضى الوتر والفجر ضحى ليلة التعريس على حسب الفوائت من الأذان والإقامة والجهر، وإن كان صلى وحده اتفق المشايخ أنه مُخيّر بين المخافتة والجهر، والجهر أفضل إن كان في الوقت، وإن كان بعد ذهاب الوقت اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يخافت حتماً، وبعضهم قالوا: يخيّر والجهر أفضل كما في الوقت، وأصل هذا إن الجهر بالقراءة من شعار الدين، وإنه شرع واجباً في الجماعات، لما أنّ مبنى الجماعة على الإشهاد، أما لا يجب على التفرّد، وكذلك قال في «الأصل» : إذا جهر المنفرد فيما يخافت أو خافت فيما يجهر، لا يلزمه سجود السهو، وإذا لم يجب الجهر على المنفرد يخير في الوقت بالإجماع والجهر أفضل؛ لأنه مأمور بأداء الصلاة بالجماعة، ومن سنّتها الجهر، فإن عجز عن الجماعة لم يعجز عن الجهر، فأما بعد خروج الوقت؛ منهم من قال مخافتة؛ لأنه لا يجب عليه أداء الصلاة بالجماعة

بعد خروج الوقت؛ إذ لا يجد بجماعة بعد خروج الوقت، وإذا لم يجب أداء الصلاة بالجماعة لا تنوب إلى إقامة سنّة الجماعة، وهي الجهر، ومنهم من قال: كلاهما سواء، والجهر أفضل ليكون القضاء على حسب الأداء، وهذا أصح. واختلف مشايخنا في حدّ الجهر والمخافتة، قال الشيخ أبو الحسن الكرخي: أدنى الجهر أن يسمع نفسه وأقصاه أن يسمع غيره، وأدنى المخافتة تحصيل الحروف، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله، والإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري: أدنى الجهر أن يسمع غيره وأدنى المخافتة أن يسمع نفسه، وعلى هذا يعتمد. والله أعلم. محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في إمام يصلي في رمضان أو غيره، ويقرأ من المصحف، فصلاته فاسدة عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا تفسد صلاته ويكره، وعند الشافعي رحمه الله لا يكره، حكي عن الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني أنه قال: هذه المسألة دليل على أن الصحيح من مذهب أصحابنا أنه لا بأس بذكر رمضان مطلقاً من غير التقيد بالسهو، وإن مذهبهم بخلاف مذهب مجاهد. ألا ترى أنهم ذكروا رمضان هنا مطلقاً من غير تقييد حجة الشافعي في المسألة حديث ذكوان مولى عائشة رضي الله عنها أنه كان يؤم عائشة رضي الله عنها في رمضان، وكان يقرأ من المصحف، ولو كان مكروهاً لما رَضِيْت به، وأن النظر في المصحف عبادة، والصلاة أيضاً عبادة، فقد أضافت عبادة إلى عبادة فلا تكره، يبقى هذا العذر أنه نسبة بأهل الكتاب، فإنهم يفعلون كذلك، ولكن لا كل ما يفعله أهل الكتاب يكره. ألا ترى أنهم يقرؤون عن ظهر قلب، ونحن نقرأ كذلك أيضاً ولا يكره، ومما احتجا بجواز الصلاة بحديث ذكوان أيضاً؛ ولأن الواجب قراءة القرآن مطلقاً، وقد قرأ القرآن، فيجوز كما لو قرأ عن ظهر القلب؛ وهذا لأن المفسد إنما يكون محل المصحف أو النظر فيه، أو تقليب الأوراق وحمل المصف لا يصلح مفسداً، فإن حمل ما هو أكثر من ذلك لا تفسد، فإن النبي عليه السلام كان يصلي وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، وكان يضعها إذا سجد ويرفعها إذا قام، والنظر في المصحف لا يصلح مفسداً كالنظر إلى نقوش المحراب بل أولى؛ لأن النظر في المصحف عبادة، والنظر إلى نقوش المحراب ليس بعبادة، وتقليب الأوراق عمل يسير لا يقطع الصلاة، إلا أنه يكره؛ لأنه يشبه أهل الكتاب في صلاتهم فيما عنه بد بخلاف القراءة عن ظهر القلب؛ لأنه لا بد منه، فصار كالصلاة....، فإنه يكره لأن. ولأبي حنيفة رحمه الله وجهان: حمل المصحف وتقليب الأوراق، والنظر فيه عمل كثير والصلاة منه بد فتفسد الصلاة، فعلى هذا الوجه نقول: إن كان المصحف بين يديه على رجل وهو لا يحمل، ولا يقلب الأوراق تصح صلاته، وكذلك لو قرأ آية مكتوبة على المحراب تصح صلاته عند أبي حنيفة رحمه الله على قياس هذا التعليل.

والوجه الثاني: أن هذا تعلم من المصحف في الصلاة، والتعلم في الصلاة، مفسد للصلاة كما لو تعلّم من معلم؛ وهذا لأن التعلم نوعان: تعلم من الكتاب، وهما علم الصحيفتين، وتعلم من معلم، ثم التعلم من المعلم يفسد الصلاة، فكذا من الكتاب، فعلى هذا الوجه نقول: وإن كان المصحف بين يديه، وهو لا يحمله ولا يقلب الأوراق تفسد صلاته عن أبي حنيفة، وأورد الحاكم في «المختصر» مسألة تصلح حجة لأبي حنيفة. وصورتها: إذا كان لا يحفظ شيئاً من القرآن ويمكنه القراءة من المصحف، لو صلى بغير قراءة يجوز، ووجه الاحتجاج: أن القراءة من المصحف لو كانت جائزة لما جازت الصلاة في هذه الصورة من غير قراءة، ولكن الظاهر من مذهبهما أنهما لا يسلمان بهذه المسألة، وبه قال بعض المشايخ، وأما حديث ذكوان. قلنا: قوله وهو كان يقرأ من المصحف، هذا قول الراوي ذكره على وجه التعريف لذكوان أي لم يكن ذكوان ممن يقرأ القرآن كله عن ظهر القلب، لكنه استظهر فصار المفصّل فيقرأ في صلاته ويؤمها بالسور القصار، وكان لا يمكنه أن يختم في الصلاة؛ لأنه كان لا يقرأ جميع القرآن عن ظهر القلب، وكان يحتاج في قراءة السور الطوال إلى المصحف؛ لأنه إن كان يقرأ في الصلاة من المصحف، فيكون فيه دليلاً على أنه لا بأس بأن لا يختم القرآن في صلاة التراويح، بخلاف ما اعتاده العوام في يومنا هذا. ومما يحفظ في هذا المقام، ولو نظر إلى مكتوب في المحراب ينوي القرآن وماثل وفهم قيل: على قياس قول أبي يوسف: لا تفسد صلاته، وعلى قياس قول محمد: تفسد، أصل المسألة، فإذا حلف لا يقرأ كتاب فلان، فنظر فيه حتى فهم؛ عند أبي يوسف لا يحنث، وعند محمد يحنث، وقيل: لا تفسد صلاته إجماعاً، بخلاف مسألة اليمين على قول محمد. والفرق: أن جواز الصلاة تتعلق بصورة القرآن ولم توجد أما الحنث في قراءة الكتاب تتعلق بالمعنى وهو الفهم، وقد وُجد ثم فرّق بينهما، إذا حلف لا يقرأ القرآن فنظر فيه وفهم، فإنه لا يحنث، وبينما إذا حلف لا يقرأ كتاب فلان، فنظر فيه وفهم، فإنه يحنث. والفرق عرف في كتاب الأيمان، والله أعلم. محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة رحمة الله عليهم: في رجل صلى أربع ركعات تطوعاً، لم يقرأ فيهن شيئاً يقضي ركعتين، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف يقضي أربع ركعات. واعلم بأن هنا ثمان مسائل. إحداها: هذه المسألة. الثانية: إذا قرأ في إحدى الأوليين وإحدى الأخريين. والثالثة: إذا قرأ في الأوليين. والرابعة: إذا قرأ في الأخريين. والخامسة: إذا قرأ في الثلاث الأول.

والسادسة: إذا قرأ في الثلاث الأواخر. والسابعة: (49أ1) إذا قرأ في ركعة من الأولييين. والثامنة: إذا قرأ في ركعة من الأخريين. والأصل في جملتها أن يترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين، وفي إحداهما لا ترتفع التحريمة، ولا تنقطع عند أبي يوسف، فيُصبح بناء الشفع الثاني على الشفع الأول بتلك التحريمة، فإن قرأ في الشفع الثاني في الركعتين صح هذا الشفع، وعليه قضاء الشفع الأول لا غير، وإن ترك القراءة في الشفع الثاني في الركعتين أو في إحديهما فسد بهذا الشفع، وكان عليه قضاء الشفعين، وعند محمد ترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين أو في إحديهما يرفع التحريمة ويقطعها، فلا يصح بناء الشفع الثاني على الشفع الأول، فلا يلزمه قضاؤه، وعلى قول أبي حنيفة ترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين يقطع التحريمة، كما هو قول محمد باتفاق الراويات، فلا يصح الشروع في الشفع الثاني عنده، ولا يلزمه قضاؤه. واختلفت الروايات عنه في ترك القراءة في الشفع الأول في إحدى الركعتين، روى محمد أنه لا يقطع التحريمة، كما هو مذهب أبي يوسف، فيصح الشروع في الشفع الثاني، ويلزمه قضاء الأربع، كذا ذكر في صلاة «الأصل» . وفي «الجامع الصغير» . وروى بشر بن الوليد وعلي بن الجعفر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه يقطع التحريمة، فلا يصح الشروع في الشفع الثاني، ولا يلزمه قضاؤه، قال مشايخنا رحمهم الله في المسألة قياس واستحسان، فرواية محمد عنه استحسان، ورواية أبي يوسف عنه قياس. وجه قول محمد: أن كل شفع من التطوع صلاة على حدة، به ورد الحديث، قال عليه السلام: «صلاة الليل مثنى مثنى» وأراد به التطوع، فكانت القراءة في الركعتين فرضاً، كما في صلاة الفجر، فإذا ترك القراءة في إحداهما فقد فاتت الفرائض على وجه لا يمكن إصلاحه، كما لو ترك القراءة في إحدى ركعتي الفجر فيفسد الأداء، وإذا فسد الأداء فسدت التحريمة؛ لأن التحريمة للأداء، ومتى فسدت التحريمة لم يصح بناء الأخريين عليها، فلم يلزمه قضاؤه، ويتألف ترك القراءة منهما، أو في إحداهما حجة أبي يوسف أن فساد الأداء لا يكون أعلاها لا من عدم الأداء، وعدمُ الأداء لا يفسد التحريمة، ففساد الأداء أولى أن لا يفسد التحريمة أدنى الفساد لا ينعدم.... الجواز، والفقه ما عرف في موضعه أن التحريمة شرط الأداء، فلا يفسد بفساد الأداء، وإذا لم

يفسد بفساد الأداء صح بناء الأخريين على التحريمة وإن ترك القراءة في الأوليين. وجه قول أبي حنيفة ما قلنا لمحمد، والاستحسان على قوله وجهان. إحداهما: أن التحريمة شرط الأداء كما قال أبو يوسف إلا أنها مشروعية الأداء لا تقبل الفصل عن الأداء، والأداء يتم بركعة واحدة؛ لأن أركان الصلاة كلها تتم بركعة، فإذا قرأ في الركعة الأولى، فقد وجد فعل الأداء صحيحاً فاستحكمت التحريمة وانتهت في الصحة بها ههنا، فلم تفسد بترك القراءة في الركعة الثانية، وإذا لم تفسد صح بناء الأخريين عليها، بخلاف ما إذا ترك القراءة في الأوليين؛ لأن التحريمة وإن صحت في الابتداء، فما صحت إلا بالأداء، والأداء على سبيل التمام لم يوجد، فيفسد الأداء لفوات بعضه، ففسدت التحريمة التي يراد منها الأداء. الوجه الثاني: أن فساد الشفع الأول بترك القراءة في الركعتين مقطوع به؛ لأن القراءة في ركعة ثبت بدليل مقطوع به وهو الكتاب قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الاْرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل: 20) فجاز أن يؤثر في فساد التحريمة أما فساد الشفع الأول بترك القراءة في ركعة واحدة ليس بمقطوع به بل هو مجتهد فيه، ظن من الناس من قال الفرض القراءة في إحدى الركعتين، وهذا لأن الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار، لكن القراءة في الركعة الثانية احتياطاً؛ لأن الركعة الثانية تكرار للأولى على ما سبق، والاحتياط هنا في أن لا تجعل القراءة فرضاً في الثانية في حق إبقاء التحريمة حتى يحكم بصحة الشروع في الشفع الثاني، فيجب عليه إتمام الشفع الثاني، ولا يحكم بصحة الأداء احتياطاً أيضاً، فأخذنا في كل حكم بالاحتياط. وإذا عرفنا هذا الأصل فنقول: جئنا إلى تخريج المسائل، فنقول: إذا ترك القراءة أصلاً، فعلى قول أبي يوسف أو جبنا: يجب عليه قضاء الأربع؛ لأن التحريمة عنده بقيت على الصحة، فصح الشروع في الشفع الثاني، فعند أبي حنيفة ومحمد قضى ركعتين؛ لأن التحريمة قد انقطعت عندهما بترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين، فلم يصح الشروع في الشفع الثاني، فلا يلزمه قضاؤه، وإذا قرأ في إحدى الأوليين، وفي إحدى الأخريين، فعليه قضاء أربع ركعات عند أبي يوسف، وكذا عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه؛ لأن عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه يترك القراءة في إحدى الأوليين لا تبطل التحريمة، فصح بناء الشفع الثاني عليه، فيلزمه قضاء أربع ركعات. وعند محمد رحمه الله يلزمه قضاء ركعتين؛ لأن عنده بترك القراءة في إحدى الأوليين تبطل التحريمة، فلا يصح بناء الشفع الثاني عليها، فيلزمه قضاء ركعتين، وإذا قرأ في الأوليين، فعليه قضاء ركعتين بالإجماع؛ لأن التحريمة لم تنقطع بالإجماع، فيصح بناء الشفع الثاني عليها، وقد ترك القراءة في الشفع الثاني فصحت، يجب عليه قضاؤه، وإذا

قرأ في الأخريين فعليه قضاء الشفع الأول؛ لأن الشروع في الشفع الأول صحيح، والأداء قد فسد لعدم القراءة، فيلزمه قضاؤه. وأما الشفع الثاني فعند محمد لم يصح الشروع فيه، وكذلك عند أبي حنيفة، فلا يلزمه القضاء، وعند أبي يوسف صح الشروع فيه وصح الأداء لوجود القراءة، لا يلزمه القضاء، فإذا اتحد الجواب مع اختلاف التخريج، وإذا قرأ في الثلاث الأوائل، فعليه قضاء الشفع الثاني بالإجماع؛ لأن الشفع الأول قد صح لوجود القراءة فيه، فيصح بناء الشفع الثاني عليه، وقد فسد الشفع الثاني لترك القراءة في إحدى الركعتين، فيلزمه قضاؤه، وإذا قرأ في الثلاث الأواخر، فعليه قضاء ركعتين عند محمد؛ لأن بترك القراءة في الركعة الأولى انقطعت التحريمة، فلم يصح الشروع في الشفع الثاني، فلا يلزمه قضاء الشفع الثاني، ولكن يلزمه قضاء الشفع الأول؛ لأن الشروع فيه صح وفسد الأداء. وعند أبي يوسف يلزمه قضاء أربع ركعات؛ لأن بترك القراءة في الركعة الأولى لا تنقطع التحريمة، فيصح الشروع في الشفع الثاني وفسد الأداء؛ لأن الشفع الأول قد فسد، والثاني ما عليه والبناء على الفاسد فاسد، وكذلك الجواب عند أبي حنيفة، وعلى رواية محمد عنه، ولأن عند أبي حنيفة وعلى رواية محمد عنه التحريمة لا تقطع بترك القراءة في إحدى الركعتين الأوليين، فصح الشروع في الشفع الثاني، والتقريب ما ذكرنا. وإذا قرأ في إحدى الأوليين، فعند محمد عليه قضاء الشفع الأول لا غير، وعند أبي يوسف عليه قضاء الشفعين، وكذلك عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه لما ذكرنا، وإذا قرأ في إحدى الأخريين فعند محمد عليه قضاء الشفع الأول لا غير لأن الشروع في الشفع الثاني لا يصح عنده، وكذلك عند أبي حنيفة لا يصح الشروع في الشفع الثاني؛ لانقطاع التحريمة عنده بترك القراءة في الشفع الأول أصلاً، وعند أبي يوسف عليه قضاء الأربع كصحة الشروع في الشفع الثاني عنده إذا أوتر وترك القراءة في الركعة الثانية يفسد بالإجماع؛ لأن الوتر ليس بفرض في حق القراءة. في «الفتاوى» : وإذا ترك القراءة في إحدى ركعتي الفجر فسدت صلاته، وكذلك المسافر إذا ترك القراءة في إحدى الركعتين، وإذا افتتح الصلاة ثم نام فقرأ وهو نائم ذكر المسألة في «الفتاوى» في موضعين، وأجاب في أحد الموضعين بالجواز، وأجاب في الموضع الآخر بعدم الجواز، والمختار عدم الجواز. محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة رحمة الله عليهم في تفسير قوله عليه السلام: «لا يصلي بعد صلاة مثلها» يعني ركعتين بقراءة وركعتين بغير قراءة، أي: النفل لأشبه الفرض، هكذا ذكر في «الجامع الصغير» حتى لا يصلي بعد الظهر والعصر والعشاء أربعاً يقرأ في الركعتين الأوليين، لا يقرأ في الأخريين. وذكر هذا الباب في كتاب الصلاة وقال: تفسير الحديث روي عن عمر وعبد الله بن

مسعود، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وإنما حمل الحديث على ذلك؛ لأن هذا الحديث ثبت خصوصية بالاتفاق، فإن الرجل يصلي سنّة الفجر ركعتين ثم يصلي الفجر ركعتين، والمسافر يصلي الظهر ركعتين ثم يصلي السنّة ركعتين، والمقيم يصلي سنّة الظهر أربعاً، ثم يصلي الظهر أربعاً، فيحمل على وجه صحيح (49ب1) وهو ما قلنا. ومن العلماء من قال المراد منه الزجر على تكرار الصلوات التي أدّاها، وهو..... من الشيطان، فإنه يكره للإنسان أن يقضي صلوات عمره ثانياً، فإن النبي عليه السلام قضى صلاة الفجر ضحى ليلة التعريس، وقال له أصحابه من الغد ألا تعيد صلاة الأمس، فقال عليه السلام: «إن الله تعالى نهاكم عن الربا فنقبلها منكم» والله تعالى أعلم. ومما يحفظ ههنا (ما) ذكر في «الأصل» افتتح الصلاة وركع قبل أن يقرأ ثم رفع رأسه وقرأ وركع، فالمعتبر هذا للركوع الثاني حتى لو اقتدى به إنسان في هذا الركوع يصير مدركاً للركعة؛ لأنه مأمور بالقراءة بعد الركوع الأول؛ لأنه لم يأت بالقراءة فهو يأتي بها، ومحل القراءة قبل الركوع يرفض الركوع الأول، لتقع القراءة في محلها، وكذلك إذا لم يتم القراءة، وركع بأن قرأ الفاتحة ولم يقرأ السورة أو قرأ السورة، ولم يقرأ الفاتحة، وركع ثم رفع رأسه، وأتم القراءة وركع؛ لأن المعتبر هو الركوع الثاني؛ لأن ضم السورة إلى الفاتحة من واجبات الصلاة ولم يأت به، فإذا كان مأموراً بالإيتان به، فإذا أتى به وحمل القراءة على وجه التمام قبل الركوع لا بد وأن يرتفض الركوع الأول لتقع القراءة في محلّه، فإذا أتمّ القراءة وركع ثم رفع رأسه من الركوع وقرأ ثانياً وركع، ذكر في باب الحديث أن المعتبر هو الركوع الأول، حتى لو اقتدى به إنسان في هذا الركوع لا يصير مدركاً للركعة، وذكر في باب السهو أن المعتبر هو الركوع الثاني. وجه ما ذكر في باب الحديث أن الركوع الأول حصل في أدائه؛ لأنه حصل بعد تمام القراءة، فوقع معتداً به فلا يصح الثاني؛ لأنه يكون تكراراً فلا تكرار في الركوع في ركعة واحدة. وجه ما ذكر في باب السهو أن الركوعين جميعاً وجدا بعد القراءة؛ لأن القراءة الثانية لو لم تعتبر بالقراءة الأولى معتبرة، وهو معنى قولنا: أن الركوعين حصلا بعد القراءة إلا أن الثاني متصل بالسجود والأول غير متصل بالسجود والركوع، إنما يعتبر بإيصال السجود به، فكانت العبرة للركوع الثاني، فلو أنّ هذا الإمام ركع ولم يقرأ، فلما رفع رأسه من الركوع الأول سبقه الحدث واستخلف رجل، فقرأ هذا الرجل الخليفة وركع فجاء رجل، واقتدى به يصير مدركاً للركعة، وكذلك إذا قرأ الإمام الأول الفاتحة ولم يقرأ

السورة وركع، فلما رفع رأسه سبقه الحدث، فاستخلف رجلاً فقرأ الخليفة السورة وركع، فجاء رجل واقتدى به، فإن الرجل يصير مدركاً للركعة. وكذلك لو قرأ الإمام السورة ولم يقرأ الفاتحة، وباقي المسألة على حالها، فإنه يصير مدركاً للركعة، فلو أن الإمام الأول قرأ وركع، فلما رفع رأسه من الركوع سبقه الحدث، فاستخلف رجلاً فقرأ هذا الخليفة وركع، فجاء رجل واقتدى به، فعلى الرواية التي ذكر في باب الحدث لا يصير مدركاً للركعة، والمعنى في الكل أن الخليفة قائم مقام الأول، فحاله كحال الإمام الأول، والجواب في حق الإمام الأول على هذا التفصيل، فكذلك في حق الخليفة، والله أعلم بالصواب. فرع في زلة القارىء يحتاج لتخريج مسائل هذا النوع إلى معرفة مخارج الحروف، لتعرف اتفاق المخارج وقربها، وإلى معرفة جواز إبدال الحروف بعضها عن البعض فنبدأ أببيان مخارج الحروف، فنذكر الحروف، وهي تسعة وعشرون حرفاً على ترتيب مخارجها، فنقول: أولها الهمزة والألف والهاء، ثم الحاء والعين والغين والخاء ثم القاف والكاف، ثم الجيم والشين والتاء، ثم الضاد، ثم اللام والراء والنون، ثم الظاء والذال والثاء، ثم الصاد والزاي والسين، ثم الطاء والدال والتاء ثم الباء والميم والواو والفاء. ولهذه الحروف ستة عشر مخرجاً، للحلق منها ثلاثة مخارج، فأقصاها مخرجاً الهمزة والألف والهاء، وأوسطها مخرجاً الغين والخاء وأدناها من الفم العين والحاء، ومن أقصى اللسان مخرج القاف والكاف، ومن وسط اللسان مخرج الجيم والشين والتاء ولطرف اللسان جهة مخارج. فالطاء والدال والتاء من مخرج واحد وهو طرف اللسان، وطرف الثنايا العليا، والصاد والسين والزاي من مخرج واحد، وهو من طرف اللسان، وفوق الثنايا العليا، ويبقى، وجه قليل بين اللسان والثنايا عند الذكر يمنة وبين ما فوق الثنايا، ومخرج النون المتحركة من طرف اللسان، وما يتصل بالخياشيم، ووراء مخرج النون من ظهر اللسان والحنك مخرج الراء، ولحافة اللسان مخرجان وحرفان، فمن حافة اللسان من أقصاها إلى ... الأضراس الضاد، فبعضهم يخرجها من الجانب الأيمن وبعضهم يخرجها من الجانب الأيسر، ومن حافة اللسان من أدناها.... الثنايا، ومنتهى طرف اللسان بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى مخرج اللام وللشفة مخرجان، فالفاء من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا، والباء والميم والواو والفاء من بين الشفتين، ومخرج النون الخفيفة، وهو نون منك وعنك من الخياشيم ليس له في الفم موضع. ولهذه الحروف فروع، بعضها مستحسنة وبعضها مستقبحة، فالمستحسنة مستعملة في العربية الصحيحة واللغة الفصيحة، وهي خمسة: النون الخفيفة وصفتها ما ذكرنا والهمزة

الخفيفة، وهي التي لا تكون ممن.... من غير..... محضاً من غير همزة، وذلك نحو قوله سأل، فإنه ليس بمهموز محض ولا بلين محض، وألف التفخيم وهو الألف التي تجد ما بين الألف والواو، نحو الصلاة والزكاة والحياة واللام وألف الإمالة، وهي الألف التي تجد ما بين الألف والياء، كما في قوله عالم حاتم، والصاد التي كالراء غير أن الصاد التي كالراء إنما تقع مستحسنة إذا وقعت قبل الدال فقط. (وأما المستقبحة، فهي السين التي كالجيم والباء التي كالفاء والجيم التي كالشين والجيم التي كالكاف والحاء التي، كالراء والقاف التي كالكاف عند قوم قالوا في مثل قال وكال والطاء التي كالتاء، فهي سبعة أحرف، وإنها خارجة عن الفصحاء. جئنا إلى الإبدال، فنقول: الهمزة تبدل من خمسة أحرف، الألف والواو والهاء والياء والعين، والياء تبدل عن الواو، والباء في القسم وتبدل عنه الواو، والتاء في القسم والتاء تبدل من الواو والياء والسين والصاد والطاء والذل والياء تبدل من الياء والجيم تبدل من الياء والحاء، لا تبدل من حرف هاء إلا نادراً، وكذا الحاء. وقيل: الحاء تبدل عن العين، والحاء تبدل عن الخاء والدال تبدل عن الياء، والذال لا تبدل، وقيل: تبدل والثاء والراء لا تبدل، وقيل: تبدل عن اللام، والراء تبدل عن السين والصاد، والشين تبدل عن الذال والياء، والراء لا تبدل، وقيل: تبدل عن اللام والراء تبدل عن السين، والصاد والسين تبدل من الشين، ومن الكاف التي هي خطاب المؤنث، والصاد تبدل من السين إذا جاوره فاء أو غين أو قاف أو طاء، والصاد لا تبدل. وقيل: تبدل عن الصاد والطاء، والطاء تبدل عن.... افتعل، والطاء تبدل عن الدال عند بعضهم، والعين تبدل من الهمزة، والحاء والعين تبدل عن الغين عند بعضهم، والفا تبدل عن الياء والقاف تبدل عن الكاف، والكاف تبدل من القاف، واللام تبدل من الصاد والنون، والميم تبدل من الواو والنون والياء واللام، والنون تبدل عن الهمزة والألف والياء والهاء تبدل عن الهمزة والألف والياء والتاء، والألف الساكنة في لا، وهي التي تسمى الألف تبدل عن الهمزة والياء والنون الخفيفة والواو. والباء تبدل من الألف والواو والهمزة والهاء والسين والباء والراء والنون واللام والصاد والضاد والميم والدال والعين والكاف والثاء والتاء والجيم) . وبعد الشروع في هذه الجملة نشرع في المسائل فنقول: الذي يعرض من الخطأ في القراءة على وجوه، فيجعل كل وجه فصلاً تيسيراً على الطالبين، ونذكر عقيب كل فصل ما يتصل به من المسائل: فرع في ذكر حرف مكان حرف وإنه على وجهين، الأول: أن تخرج الكلمة بحرف البدل من ألفاظ القرآن، ومعناه أن هذه الكلمة مع حرف البدل توجد في القرآن نحو أن تقرأ تألمون مكان تعلمون أو ما

أشبه ذلك، وفي هذا الوجه لا تفسد صلاته ويُجعل كأنّه ابتدأ من هذه الكلمة. الوجه الثاني: إنه لا توجد الكلمة مع حرف البدل في القرآن، وإنه على قسمين. القسم الأول: يكون مع موافقة في المعنى، نحو أن تقرأ.... مكان قوله ثواباً أو يقرأ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوبِينَ} (البقرة: 222) أو يقرأ {كُونُواْ قِرَدَةً خَسِئِينَ} (البقرة: 65) وفي هذا القسم لا تفسد صلاته (50أ1) عند أبي حنيفة ومحمد، خلافاً لأبي يوسف، وأصل هذا الاختلاف أن قراءة القرآن بالمعنى جائزة عند أبي حنيفة ومحمد، ولهذا تجوز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة عنده، وعند أبي يوسف ومحمد لا تجوز قراءته بالمعنى غير أن عند محمد يجوز استبدال اللفظ بغيره من الألفاظ القريبة بعد اتفاقهما في المعنى، وعند أبي يوسف لا يجوز، ويعتبر اللفظ المنقول ومعنى آخر لأبي حنيفة أن هذه لغة مستعملة عند العرب، والمصدر واحد، والله تعالى يقول: {إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءاناً عَرَبِيّاً} (الزخرف: 3) ولم يقل مائة لغة، فعلى أنه لغة..... قرأ القرآن فيجوز، فقد كتب في مصحف عبد الله بن مسعود الحي القيام في سورة البقرة وآل عمران، وعلى هذا إذا قرأ ... عليم لا تفسد صلاته؛ لأن أهل اللغة يقولون: إنه في الأصل من ذوات الواو. والقسم الثاني: من هذا الوجه أن يكون مع مخالفة في المعنى نحو أن يأتي بالطاء مكان الضاد أو بالضاد مكان الطاء، فالقياس أن تفسد صلاته، وهو قول عامة المشايخ، واستحسن بعض مشايخنا وقالوا: بعدم الفساد للضرورة في حق العوام خصوصاً للعجم، وهذا في الحروف المتقاربة في المخرج فأما في الحروف المتباعدة في المخرج وما يفسد المعنى، نحو أن يقرأ ونيسرك مكان...... تفسد صلاته. والحاصل من الجواب في جنس هذه المسائل أن الكلمة مع حرف الدال إذا كانت لا توجد في القرآن، والحرفان من مخرج واحد أو بينهما قرب المخرج، ويجوز إبدال أحد الحرفين عن الآخر لا تفسد صلاته عند بعض المشايخ، وعليه الفتوى.6 وعن هذا قلنا إذا قرأ في صلاته {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ} (الصخر: 9) تكهر بالكاف لا تفسد صلاته على ما اختاره المشايخ؛ لأن جماعة العرب يبدلون الكاف عن القاف ومخرجها واحد، والمعنى في ذلك كلّه أن الحرفين إذا كانا من مخرج واحد كان بينهما قرب المخرج، وأحدهما يبدل عن الآخر كان ذكر هذا الحرف كذكر ذلك الحرف، فيكون قرآناً معنى، فلا يوجب فساد الصلاة، وكذلك إذا لم يكن من الحرفين اتحاد المخرج ولا قربة، إلا أن فيه بلوى العامة نحو أن يأتي بالدال مكان الصاد أو يأتي بالزاي المحض مكان الذال والطاء مكان الضاد لا تفسد صلاته عند بعض المشايخ. ولو قرأ الحمد لله بالخاء لا تفسد صلاته بعض المشايخ؛ لأن الحاء والخاء قرب المخرج. وفي الباب الأول من صلاة «الواقعات» إذا قال الحمد لله بالهاء تفسد صلاته إن كان لا يجهد لتصحيحه، وينبغي أن لا تفسد صلاته؛ لأن الهاء تبدل عن الحاء أن يقال

مدحته ومدهته، وإذا قرأ الصمد بالسين حُكي عن نجم الدين النسفي رحمه الله أنه لا تفسد صلاته؛ لأن السمد بالسين هو السند، وهكذا حكى فتوى القاضي الإمام الزاهد أبي بكر الزرنجري رحمه الله، وكذا لو قرأ إهدنا الصراط بالتاء الصغيرة أو قرأ المستقيم بالطاء العظيمة لا تفسد صلاته؛ لأنها من مخرج واحد وفيه بلوي العامة؛ لأنهم لا يعقلون بينهما. ولو قرأ إهدنا الصراط بالسين أو بالراء الخالصة أو بالصاد التي بين الراء والسين لا تفسد صلاته؛ لأن هذه قراءة مشهورة، ولو قرأ.... لا تفسد صلاته؛ لأن هذه قراءة، ولو قرأ..... مكان حتى لا تفسد صلاته، وهو قراءة عائشة، ولو قرأ..... لا تفسد؛ لأنه قراءة. وإن كانت شاذة. والحاصل: أن ما كان قراءة لا تفسد بها الصلاة وإن كانت شاذة. ولو قرأ الدال مكان الذال وعلى العكس أو ذكر العين مكان القاف أو اللام مكان النون أو على العكس تفسد صلاته بالاتفاق؛ إذ ليس بين هذه الحروف اتحاد المخرج ولا قربه ولو قرأ في دعاء القنوت ونستخفرك بالخاء لا تفسد صلاته عند بعض المشايخ؛ لأنه بين الغين والخاء اتحاد المخرج، وبينهما قرب المعنى، فالاستخفار طلب الأمان، والاستغفار طلب المغفرة، ومن رزق الأمان فقد رزق المغفرة، ومن رزق المغفرة فقد رزق الأمان. ولو قرأ..... مبثوثة تفسد صلاته؛ لأنه إبدال من..... الأخيرة ... المشددة...... وإبدال..... من..... بعيد حتى ولو قرأ وذرابيج لا تفسد صلاته؛ لأن إبدال الجيم من الياء ليس ببعيد. ومما يتصل بهذا الفصل إذا زاد حرفاً هو ساقط وأهل المشتق من الفعل واحد، نحو أن يقرأ...... على مكان ردوها ونحو أن يقرأ إنّا رادوه إليك لا يوجب فساد الصلاة؛ لأنه رده إلى ما توجبه الكلمة والصرف في الأصل، وإن كانت العرب تسقط أحد الحرفين لعلة، ويؤيد ذلك ما كتب في مصحف ابن مسعود {وَلاَ تَمْشِ فِى الاْرْضِ مَرَحًا} (الإسراء) بباء بعد الشين، وإن كانت العرب تسقط الباء لعلة، وكذلك كتب في مصحفه، وانهى عن المنكر بباء بعد الهاء، وكتب في مصحف آخر {يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم} (المائدة: 54) بدالين، كتب فيه ما مكنني بنونين. ومما يتصل بهذا الفصل إذا زاد حرفاً لا توجبه الكلمة في الأصل إلا أنه لا يغير النظم والحكم، ولا يقبح المعنى، نحو أن يقرأ {وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَذِبِينَ} (الشعراء: 186) مكان ما أنت، لا تفسد صلاته، فقد كتب في مصحف عثمان في العنكبوت: {خَلَقَ اللَّهُ

السَّمَوَاتِ وَالاْرْضَ بِالْحَقّ إِنَّ فِى ذلِكَ لآيَةً لّلْمُؤْمِنِينَ} (العنكبوت: 44) بالواو، وكتب في سورة النجم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَئِرَ الإثْمِ وَالْفَوحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الاْرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أُمَّهَتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: 32) ، بزيادة واو في هو، وكتب في اقتربت رحمة من عندنا، {نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ} (القمر: 35) ، بزيادة واو في كذلك، وكتب في الممتحنة: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآء مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآء السَّبِيلِ} (الممتحنة: 1) بزيادة واو في تسرون، وإن زاد ما لا توجبه الكلمة في الأصل ويفسد النظم ويقبح المعنى، نحو أن يقرأ {يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ} (يس: 1، 2) و {تِلْكَ آيَتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (البقرة: 252) بزيادة واو في إنك، أو تقرأ {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى: 3) و {مَا وَدَّعَكَ} (الضحى: 3) بزيادة واو في ما، أو تقرأ {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (الليل: 2) و {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} (الليل: 4) فقد قال بعض مشايخنا أخاف أن تفسد صلاته؛ لأن في إدخال الواو في هذه السورة تغيير وتعطيل للقسم؛ لأن إدخال الواو يخرج ما أُلحق الواو به من أن يكون جواب القسم، هذا هو المنقول عن أهل اللغة، فتوجب هذه الزيادة إفساد المعنى وتعطيل القسم، فلهذا قال أخاف أن تفسد صلاته. ومما يتصل بهذا الفصل الألثغ الذي لا يقدر على التكلم ببعض الكلمة، فيقرأ مكان الواو ياء، فيقرأ مكان الرحيم؟..... أو ما أشبه ذلك، ولا يطاوعه لسانه على غير ذلك، وإنه على وجهين: إما أن يؤم أو يصلي وحده. ففي الوجه الأول: لا ينبغي له أن يؤم إلا لمن كان حاله مثل حاله، لأنه إذا كان لا يقدر على التكلم ببعض الحروف كان في حق تلك الحروف.....، ولا تجوز إمامة الأمي للقارىء، ويجوز لمن كان بمثل حاله، وهذا قول أبي يوسف ومحمد، وكذلك قول أبي حنيفة إذا لم يكن في القوم من يقدر على التكلم ببعض الحروف فأما إذا كان في القوم من يقدر على التكلم بتلك الحروف فسدت صلاته وصلاة القوم عند أبي حنيفة قياساً على الأمّي إذا صلّى بأميين وبقارئين. وكذا من يقف في غير مواضعه، ولا يقف في مواضعه لا ينبغي له أن يؤم، وكذا من يتنحنح عند القراءة كثيراً لا ينبغي له أن يؤم؛ لأنه يؤدي إلى تقليل الجماعة، وكذلك من كان به تمتمة، وهو أن يتكلم بالتاء مراراً أو فأفأة، وهو أن يتكلم بالفاء مراراً حتى يتكلم بعده لا ينبغي له أن يؤم؛ لأنهما ربما يعجزان عن المضي عن القراءة، ويفسدان الصلاة على القوم.

وأما الذي لا يقدر على إخراج الحروف إلا بالجهد، ولا يتكلم بالتاء مراراً ولا بالفاء، وإذا أخرج الحروف أخرجها على الصحة، فصلاته وقراءته جائزتان، ولا يكره أن يكون إماماً. وفي الوجه الثاني: وهو ما إذا كان يصلي وحده ينظر إن لم يكن فيه تبديل الكلام، ولا يمكنه أن يتخذ من القرآن آيات ليس فيها تلك الحروف تجوز صلاته بالاتفاق، وإن كان يمكنه أن يتخذ من القرآن آيات ليس فيها تلك الحروف...... إلا فاتحة الكتاب، فإنه لا يدع قراءتها، وإن كان فيه تبديل، فإن كان يجد آيات ليس فيها تلك الحروف يتخذ تلك الآيات التي ليس فيها تلك الحروف، ولو قرأ مع ذلك الآيات التي فيها تلك الحروف هل تجوز صلاته؟ ذكر في بعض نسخ زلة القاري فيه اختلاف المشايخ، والصحيح لا تجوز صلاته؛ لأنه تكلم بكلام الناس مع قدرته على أن لا يتكلم، ومثل هذا يوجب فساد الصلاة، وذكر في بعض النسخ: القياس أن لا تجوز صلاته وفي الاستحسان: تجوز، وبالقياس نأخذ، وجه القياس ما ذكرنا (50ب1) . وجه الاستحسان: أن الآفة في لسانه خِلْقَة و...... لا يقدر على أن يزيلها عن نفسه بالجهد، فصار كالذي خلق فهو أخرس، وعلى جواب القياس يُفرّق بين الأخرس وبين الألثغ أن الأخرس لا يقدر على الإتيان بالقراءة أصلاً، فأما الألثغ ما درُ، على قراءة بعض السور بوصف الصحة، فهو نظير من حفظ سورة واحدة، ولا يحفظ غيرها، وهناك لا تجوز الصلاة من غير قراءة كذا ههنا. فإن قيل: الأخرس قادر على القراءة بأن يقتدي بالقارىء، فتصير قراءة الإمام له قراءة ما نطق به الحديث. قلنا: هذا فاسد؛ لأن الإنسان إنما يخاطب بفعل نفسه لا بفعل غيره، فلا تكون قراءة الإمام فرضاً عليه، وإن كان لا يجد آيات ليس لها تلك الحروف. قاله بعض المشايخ، فيسكت ولا يقرأ. ولو قرأ تفسد صلاته، وقال بعضهم يقرأ ولا يسكت، ولو سكت تفسد، وعلى قول من يقرآ نختار أنه يقرأ فيها تلك الحروف. والمختار للفتوى في جنس هذه المسائل: أن هذا الرجل إن كان يجهد آناء الليل والنهار في تصحيح هذه الحروف، ولا يقدر على تصحيحها، فصلاته جائزة؛ لأنه جاهد، وإن ترك جهده، فصلاته فاسدة؛ لأنه قادر، وإن ترك جهده في بعض عمره لا يسعه أن يترك في باقي عمره، ولو ترك تفسد صلاته إلا أن يكون الدهر كلّه في تصحيحه والله أعلم. فرع في ذكر كلمة مكان كلمة على وجه البدل وإنه على وجهين أيضاً: الأول: أن توجد الكلمة التي هي بدل في القرآن، وإنه على قسمين: الأول: أن

يوافق البدل المبدل في المعنى، نحو أن يقرأ الفاجر مكان الأثيم في قوله طعام الأثيم، والجواب فيه أن صلاته تامة على قول أصحابنا رحمهم الله، فقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أمران علم أن شجرة الزقوم طعام الفاجر حتى عجز المتعلم أن يقول طعام الأثيم. القسم الثاني: أن يخالف البدل المبدل من حيث المعنى، وإنه على وجهين: إن كان اختلافاً متقارباً، نحو أن يقرأ الحكيم مكان العليم، أو السميع مكان البصير. ويجوز أن يقرأ خبيراً مكان بصيراً، أو يقرأ كلا إنها موعظة مكان قوله تذكرة، وفي هذا النوع صلاته تامة، روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ليس الخطأ في القرآن أن يقرأ في موضع الحكيم العليم، وإن كان اختلافاً متباعداً، نحو أن يختم آية الرحمة بآية العذاب أو آية العذاب بآية الرحمة أو أراد أن يقرأ {الشَّيْطَنُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} (البقرة: 268) يجري على لسانه الرحمن يعدكم الفقر؛ فعلى قول أبي حنيفة ومحمد تفسد صلاته. وأما على قول أبي يوسف اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا تفسد إذا لم يتعمد بقصد ذلك، ومرّ على لسانه غلطاً، ويجعل على أنه ابتدأ بكلمة من كلمات القرآن، وهذا لأنه قصد قراءة القرآن على ما أنزل، فيجعل التقدير كأنه ترك القراءة من هذا الموضع، وأخذ بالقراءة من ذلك الموضع، وهو في ذلك الموضع قرآن، فلا تفسد صلاته، وبه كان يفتي الفقيه أبو الحسن، وهو اختيار محمد بن مقاتل الرازي. وقيل: في المسألة عن أبي يوسف روايتان: الوجه الثاني: أن لا توجد الكلمة التي هي بدل في القرآن وإنه على قسمين أيضاً: الأول: أن يوافق البدل المبدل نحو أن يقرأ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ} (النساء: 48) أن يكفر به مكان قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} (النساء: 48) أو يقرأ {فَبِأَىّ ءالآء رَبّكُمَا} (الرحمن: 13) تجحدان مكان قوله: {تُكَذّبَانِ} (الرحمن: 13) أو يقرأ {الم ذلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 1، 2) لا شك فيه مكان قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} (البقرة: 2) أو ما أشبه ذلك، وفي هذا القسم لا تفسد صلاته عن أبي حنيفة ومحمد، أما عند أبي حنيفة؛ فلأنه يعتبر المعنى مع لفظ العربية، وعند أبي يوسف تفسد صلاته؛ لأنه يعتبر اللفظ المنقول. القسم الثاني: أن لا يوافق البدل المبدل من حيث المعنى نحو أن يقرأ: قوسرة مكان قسورة، أو كعفص مكان كعصفٍ، أو فسحقاً لأصحاب السعير تفسد صلاته بالاتفاق؛ لأن هذه الألفاظ ليست بمنقولة في القرآن، وليس بين هذه الألفاظ وبين الألفاظ المنقولة في القرآن مقارنة من حيث المعنى، فلهذا فسد عند الكل والله أعلم.

ومما يتصل بهذا الفصل فصل استبدال النسبة، وإنه على وجهين: الأول: أن لا يكون المنصوص المنسوب إليه في القرآن، نحو أن يقرأ {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَنِتِينَ} (التحريم: 12) عيلان {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَنِتِينَ} (التحريم: 12) مكان {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَنِتِينَ} (التحريم: 12) أو يقرأ عيسى بن سارة مكان {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَءاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَتِ وَأَيَّدْنَهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} (البقرة: 87) ، وفي هذا الوجه تفسد صلاته؛ لأنه لم يقرأ القرآن، ولا يذكر الله تعالى، فكان متكلماً بكلام الناس فتفسد صلاته. الوجه الثاني: أن يكون المنسوب إليه في القرآن نحو أن يقرأ ومريم ابنت لقمان وعيسى بن موسى وموسى بن مريم وما أشبه ذلك، وفي هذا الوجه اختلف المشايخ المتأخرون، منهم من قال: في الصور كلها تفسد صلاته عند أبي حنيفة ومحمد، عند أبي يوسف روايتان في رواية لا تفسد؛ لأن لقمان وموسى ومريم مذكور في القرآن، وكذلك لفظ ابن وابنة مذكور في القرآن، فصار كأنه وقف عند قوله ومريم ابنت، وابتدأ من قوله لقمان، ومن المتأخرين من قال في مريم ابنت لقمان، وعيسى بن موسى الجواب على الخلاف، أما في موسى بن مريم وعيسى بن عمران لا تفسد صلاته بلا خلاف، أما الفساد في قوله مريم ابنت لقمان وعيسى بن موسى عندهما وإحدى الروايتين عن أبي يوسف؛ لأن هذا الكلام مركب من مضاف ومضاف إليه والمضاف، والمضاف إليه يجريان مجرى اسم واحد، وهذا الاسم بهذا اللفظ غير موجود في القرآن فصار كما لو قال جعفر بن زيد أو قال عمر بن الخطاب فصار من جملة كلام الناس، فتفسد صلاته. وأما الجواز في قوله موسى بن مريم مكان عيسى بن مريم؛ لأنه ليس فيه أكثر من أن يجعل مكان العين الذي في عيسى ميماً، ومكان الياء واواً، فأما باقي الاسمين على السواء. قلنا وإبدال الواو عن الياء وإبدال الياء عن الواو شائع، لم يبق التفاوت إلا في أول الحرف وهو العين والميم والحرف الواحد لا يكون كلاماً، فلا يصير آتياً بكلام الناس، وصار الحاصل في فصل النسبة أنه إذا كان التفاوت في حرف واحد لا يعتبر بلا خلاف. وإذا كان التفاوت في حرفين أو أكثر فالمسألة على الخلاف والله أعلم. الفصل في القراءة بغير ما في المصحف الذي جمعه أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بأن قرأ بما في مصحف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب روى نصر بن يحيى عن أبي سليمان الجوزجاني عن محمد بن الحسن أنه قال؛ قال أبو حنيفة رحمه الله إذا قرأ القارىء في الصلاة بغير ما في مصحف العامة

فصلاته....؟، قال وهو قول أبي يوسف وقولنا. وروى أيضاً نصر بن يحيى عن محمد بن سماعة قال سمعت أبا يوسف يقول: إذا قرأ القارىء في الصلاة بحروف أبي وابن مسعود، وليس ذلك في مصاحفنا، فإن الصلاة لا تجوز، وروى عبد الصمد بن الفضل عن عصام بن يوسف أنه كان يقول: من قرأ بقراءة ابن مسعود في الصلاة فسدت صلاته. والمتأخرون من مشايخنا قالوا: هذا إذا لم يثبت من وجه يلزم به الحكم أن هذه قراءة ابن مسعود أو قراءة أبي، بأن لم تثبت لهما رواية صحيحة مسندة إليهما أو إلى واحد منهما أنه قرأ، كذلك إنما وجه ذلك في المصحف؛ لأن لمجرد وجوده في المصحف لا تثبت قراءتهما، ولا يجوز العمل بما في المصاحف إذا لم توجد لهما رواية. الدليل على صحة ما قلنا ما روى الزهري عن سالم عن أبيه قال: كَتَبَ رسول الله عليه السلام كتاب الصدقة، فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض ثم الصحابة لم يعملوا بما في ذلك الكتاب؛ لأن رسول الله عليه السلام مات قبل أن يخرجه إلى عماله، وقبل أن يأمر به، فلم يجعلوا مجرد الوجود حجة الإلزام. فإن قيل: ذكر في الخبر عمل به أبو بكر حتى قبض ثم عمل به (عمر) حتى قبض. قلنا: عملهما بذلك غير مشهور ولو ثبت يحتمل أنهما عملا به لأنهما قد سمعا ما في الكتاب عن رسول الله عليه السلام، والدليل عليه ما روي في الأخبار أنه عمل به أبو بكر وعمر وعثمان صدراً من خلافته، ولو كان العمل به واجباً لكان لا يقتصر على العمل به واجباً في بعض خلافته، فأما إذا ثبتت رواية صحيحة مسندة إليهما أو إلى واحد منهما أنهما قرءا كذلك لا تفسد صلاته؛ لأنا لو قلنا تفسد صلاته، فقد قلنا أن عبد الله بن مسعود وأبي لم يصليا صلاة جائزة إذا كانا لم يجعلا للتلاوة قراءة على حدة غير التي كانا يقرءان في الصلاة، والذي يؤيد ما قلنا قول النبي عليه السلام: «من أراد أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أم عبد» ، فقد أخبر أن القرآن أنزل بقراءة عبد الله ورغب (51أ1) في القراءة بقراءته ولا يتوهم على النبي عليه السلام أنه يرغب في التلاوة بقراءة لا تجوز معها الصلاة، والجواب عن هذا أن يقال بأن من شرط جواز الصلاة قراءة القرآن قطعاً، ولم يثبت كون ما في مصحف ابن مسعود قرآناً عندنا قطعاً؛ لانعدام شرط وهو الفعل المتواتر، فلم تجز الصلاة بما في مصحفه لنا. أما كون ما في مصحفه قرآناً عنده، قد ثبت قطعاً؛ لأنه سمعه من رسول الله، فجازت صلاته من مصحفه، وقوله عليه السلام «من أراد أن يقرأ القرآن غضاً طرياً إلى آخره» ، فمعناه إذا ثبت قراءته عنده بشرط وهو النقل المتواتر، فليقرأ بقراءته وذكر بعض المشايخ أنه إذا قرأ ما يغير في

الفصل الخامس: في حذف حرف من كلمة

مصحف معروف ما لا يؤدي معنى بما في المصحف المعروف، تفسد صلاته بالاتفاق إذا لم يكن ذلك دعاءً، ولا ثناءً في نفسه؛ لأنه صار تاركاً النظم والمعنى. وإن قرأ ما يؤدي معنى ما في المصحف المعروف، فعلى قولهما لا تفسد، وعلى قول أبي يوسف تفسد، والصحيح من الجواب في هذا إذا قرأ بما في مصحف ابن مسعود أو غيره لا يعتد به من قراءة الصلاة أن لا تفسد صلاته؛ لأنه إن لم يثبت ذلك قرآناً ثبتت قراءة شاذّة، والمقروء في الصلاة إذا كانت قراءة لا توجب فساد الصلاة. وما روينا في أول هذا الفصل عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وعصام بن يوسف أن المصلي إذا قرأ بغير ما في المصحف العامة أن صلاته فاسدة، فتأويله إذا قرأ هذا، ولم يقرأ معها شيئاً مما في المصحف العامة، فتفسد صلاته لتركه قراءة ما في مصحف العامة، لا لقراءته في مصحف ابن مسعود حتى لو قرأ مع ذلك مما في مصحف العامة مقدار ما تجوز به الصلاة تجوز صلاته. فرع في ذكر آية مكان آية يجب أن يعلم أن المتأخرين اختلفوا في هذا الفصل، منهم من قال: تجوز على كل حال؛ لأنه قارىء بالآيتين جميعاً، والآية منفصلة عن الآية بخلاف الكلمة، ومنهم من فصَّله تفصيلاً، فقال: إن وقف على الآية وقفاً تاماً، ثم ابتدأ بآية أخرى لا تفسد. وإن تغيّر المعنى نحو أن يقرأ {وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ} (التين: 1) {وَطُورِ سِينِينَ} (التين: 2) {وَهَذَا الْبَلَدِ الاْمِينِ} (التين: 3) ووقف وقوفاً تاماً، ثم قرأ {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَنَ فِى كَبَدٍ} (البلد: 4) ؛ لأن هذا انتقال من سورة إلى سورة والكل قرآن، فأما إذا لم يقف ووصل الآية بالآية، إن كان لا يتغير المعنى نحو أن يقرأ {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} (عبس: 40، 41) ، ولم يقف ثم قرأ {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} (النساء: 151) .l أو قرأ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلهم جزاء الحسنى لا تفسد صلاته وأما إذا تغير به المعنى بأن قرأ وجوه يومئذٍ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم المؤمنون حقاً، قال عامة أصحابنا: تفسد صلاته؛ لأن هذا ليس بقرآن؛ لأنه إِخبار بخلاف ما أخبر به الله، وليس بذكر، وبعض أصحابنا قالوا: لا تفسد صلاته؛ لأن في هذا بلوى العامة، فلا يحكم بالفساد، ويجعل كأنه وقف على الآية الأولى ثم انتقل إلى الأخرى والله أعلم. الفصل الخامس: في حذف حرف من كلمة فنقول: إن كان الحذف على سبيل الترخيم والإيجاز يكون عين تلك الكلمة، فلا يوجب الفساد وللحذف على وجه الترخيم شرائط ثلاثة. أحدها: إما أن يكون ذلك في اسم النداء حتى لا يجوز الترخيم في الأفاعيل، ولا في الحروف، ولا في اسم المعرف بالألف واللام، ولا في النعت.

والثاني: أن يكون المنادى معرفاً نحو قوله يا حارث وما أشبه ذلك، ولا يصح في المنكر نحو قوله: يا قاتل يا ضارب إلا في قوله: يا صاحب يا فلان. والثالث: أن يكون اسم المنادى على أربعة أحرف صحاح أو ما زاد على ذلك أما إذا كان ثلاثة أحرف لا يجوز الترخيم، إلا إذا كان ثالث الحروف الهاء، فأما فيما عدا ذلك، فلا يجوز الترخيم، فإذا وجدت هذه الشرائط، وحذف الحرف الأخير نحو أن يقرأ {وَنَادَوْاْ يمَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّكِثُونَ} (الزخرف: 77) لا تفسد صلاته؛ لأن الاستعمال قد ورد على هذا الوجه، تقول العرب لعائشة يا عائش، ولفاطمة يا فاطم، وكتب في مصحف ابن مسعود {وَنَادَوْاْ يمَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّكِثُونَ} (الزخرف: 77) وكذلك لو ترك حرفين من آخر الكلمة والباقي ثلاثة أحرف أو ما زاد على ذلك، فذلك جائز. والحاصل: أنه ينظر في مثل هذا إلى الباقي إن كان الباقي من اسم النداء ثلاثة أحرف فصاعداً، لا تفسد صلاته، نحو أن يترك من طالوت الواو والتاء، ونحو أن يترك من هاروت وماروت الواو والتاء، ونحو أن يترك من هارون الواو والنون، وبعض مشايخنا قالوا: إذا حذف حرفاً زائداً وأتى بجميع أصول الكلمة، ولم يكن قاصداً لا تفسد صلاته على قول أبي حنيفة وعبد الله ابن المبارك وهو مذهب عبد الله بن مسعود، وذلك نحو أن يقرأ {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} بحرف الهاء أو قرأ {لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوتَكُمْ} (الحجرات: 2) بحذف الميم؛ وهذا لأن المحذوف إذا كان حرفاً زائداً لا يتغير المعنى الأصلي في الكلمة، فلا يوجب الفساد. ثم اختلف أهل النحو فيما بينهم في فصل أنه إذا ترك حرفاً أو حرفين فالحرف الباقي قبل المتروك هل يبقى على حركته، وأكثر أهل النحو على أنه يبقى على حركته حتى يقال: يا حارِ بكسر الراء * من حارث، ويقال يا عائشَ بنصب الشين من عائشة. وبعضهم على أنه يرفع الحرف الآخر، يقال: يا حارُ برفع الواو يا عائش برفع الشين، هذا إذا كان الحذف على وجه الإيجاز والترخيم، فأما إذا لم يكن على وجه الإيجاز والترخيم إن كان لا يغير المعنى لا تفسد صلاته، نحو أن يقرأ {مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِى إِسْرءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الاْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيّنَتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِى الاْرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (المائدة: 32) بترك التاء من جاءتهم أو يقرأ {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَبَ بِالْحَقِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءتْهُمُ الْبَيِّنَتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) ، بترك التاء من جاءتهم أو يقرأ {قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّدِقِينَ} (الشعراء: 153، 154) بترك الواو، قبل قوله

ما أنت أو يقرأ {فَسُبْحَنَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس: 83) بترك الفاء من سبحان، وإن غير المعنى تفسد صلاته عند عامة المشايخ، نحو أن يقرأ {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (الإنشقاق: 20) بترك لا أو يقرأ {وَإِذَا قُرِىء عَلَيْهِمُ الْقُرْءانُ لاَ يَسْجُدُونَ} (الإنشقاق: 21) بترك لا أو يقرأ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت: 30) بترك لا، فإنه تفسد صلاته. ألا ترى أنه لو تعمد ذلك مع علمه، ويعتقد ذلك يكفر فإذا كان مخطئاً تفسد به الصلاة. ومما يتصل بهذا الفصل إسقاط حرف من الكلمة بآيات.... مكانها إذا قرأ {حَفِظُواْ عَلَى الصَّلَوتِ والصَّلَوةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَنِتِينَ} (البقرة: 238) وقرأ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (البقرة: 206) وما أشبه ذلك، فعلى قول أبي حنيفة في ظاهر الرواية، وهو قول عبد الله بن المبارك: لا تفسد صلاته، وهو مذهب ابن مسعود، وعلى قول أبي يوسف وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة تفسد؛ لأنه قرأ ما ليس في مصحف العامة. (فصل) أن تزاد كلمة لا على وجه البدل. مسائل هذا الفصل على وجهين. أحدهما: أن تكون الكلمة الزائدة موجودة في القرآن وإنه على قسمين: إن كان لا يغير المعنى لا تفسد صلاته بالإجماع، نحو أن يقرأ {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} (الرحمن: 68) ويقرأ كلوا من ثمره إذا أثمر واستحصد، فعند عامة المشايخ لا تفسد صلاته، وزعموا أن هذا قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف تفسد صلاته. وإن كان يغير المعنى نحو أن يقرأ إنما غلي لهم

الفصل السابع في الخطأ في التقديم والتأخير

ليزدادوا إثماً؟...... لا تفسد صلاته بلا خلاف والله أعلم. الفصل السابع في الخطأ في التقديم والتأخير وإنه على وجوه: أحدها: أن يقدم بجملة على جملة، ويفهم بالتقديم ما يفهم بالتأخير، نحو أن يقرأ يوم تسود وجوه وتبيض وجوه، أو يقرأ وكتبنا عليهم فيها أن العين بالعين والنفس بالنفس، أو يقرأ العبد بالعبد والحر بالحر، ونحو ذلك لا تفسد صلاته، وإن غير المعنى نحو أن يقرأ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه، فخافوهم ولا تخافون، تفسد صلاته. وكذلك إذا قرأ إن هذا صراطي مستقيماً، لا تتبعوه واتبعوا السبل. والثاني: أن يقدم كلمة على كلمة، ولا يغير المعنى بأن يقرأ لهم فيها شهيق وزفير أو يقرأ...... لا تفسد صلاته، وكذلك إذا قرأ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فخافون ولا تخافوهم لا تفسد صلاته، وإن تغير المعنى تفسد صلاته (51ب1) . في «مجموع النوازل» : إذا قرأ إذ الأعناق في أغلالهم لا تفسد صلاته؛ لأن المعنى لم يتغير لأن الأغلال إذا كانت في الأعناق كانت الأعناق في الأغلال أيضاً. الثالث: أن يقدم حرفاً على حرف، فنقول: تقديم الحرف أبطل الكلمة لا محالة، فيكون الجواب فيه كالجواب فيما إذا ذكر كلمة مكان كلمة قالوا: هذا إذا لم يكن من باب المقلوب، فإن كان من باب المقلوب مثل..... و.....، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد لا تفسد صلاته؛ لأن في المقلوب التقديم، والتأخير سواء، وعلى قول أبي يوسف إن كانت الكلمة الثانية في القرآن أن لا تفسد صلاته، وإن لم تكن في القرآن تفسد والله أعلم. الفصل الثامن: في الوقف والوصل والابتداء إذا وقف في غير موضع الوقف أو ابتدأ من غير موضع الابتداء وإنه على وجهين؛ الأول: أن لا يتغير به المعنى تغيراً فاحشاً، لكن الوقف والابتداء قبيح، نحو إن وقف على الشرط قبل ذكر الجزاء ثم ابتدأ في الجزاء، فقرأ {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ} (البروج: 11) ووقف ثم ابتدأ بقوله: {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (البينة: 7) ونحو إن فصل بين النعت والمنعوت والصفة والموصوف، فقرأ {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا} (الإسراء: 3)

الفصل التاسع في ترك المد والتشديد في موضعهما والإتيان بهما في غير موضعهما

ووقف وابتدأ ب {ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} (الإسراء: 3) لا تفسد صلاته بالإجماع بين علمائنا رحمهم الله. الوجه الثاني: أن يتغير به المعنى تغيراً فاحشاً بأن قرأ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ} (آل عمران: 18) ووقف ثم قرأ {إِلاَّ هُوَ} (آل عمران: 18) وقرأ {وَقَالَتِ النَّصَرَى} (البقرة: 113) ، ووقف ثم قال: {الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (المائدة: 17) ... وفي هذا الوجه لا تفسد صلاته عند علمائنا، وعند بعض العلماء تفسد صلاته، والفتوى على عدم الفساد على كل حال؛ لأن في مراعاة الوقف والوصل والابتداء، إيقاع الناس في الحرج، خصوصاً في حق العوام، والحرج مدفوع شرعاً. ومما يتصل بهذا الفصل إذا وصل حرفاً من كلمة بكلمة أخرى بأن قرأ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، ووصل كاف إياك بنون نعبد، أو أقرأ {إِنَّآ أَعْطَيْنَكَ الْكَوْثَرَ} (الكوثر: 1) ووصل كاف إنا أعطيناك بألف الكوثر، أو {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 7) ووصل الباء بالعين أو ما أشبه ذلك، فعلى قول بعض العلماء تفسد صلاته، وعلى قول العامة لا تفسد صلاته، لأن القارىء عسى لا يجد بُدّاً عن الوقف في مثل هذا الموضع، أما لانقطاع النفس أو غيره، فلو راعينا ذلك يقع الناس في الحرج، وبعض المشايخ ذكروا في ذلك تفصيلاً، فقالوا: إذا علم أن القرآن كيف هو إلا أنه جرى على لسانه هذا لا تفسد، وإن كان في اعتقاده أن القرآن كذلك، تفسد صلاته. وعلى هذا إذا قرأ {إِذَا جَآء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (النصر: 1) بطريق الاستفهام. الفصل التاسع في ترك المد والتشديد في موضعهما والإتيان بهما في غير موضعهما ترك المد والتشديد في موضعهما، والإتيان بهما في غير موضعهما إن كان لا يغير المعنى، ولا يقبح الكلام لا يوجب فساد الصلاة، وإن كان يغير المعنى، ويقبح الكلام اختلف المشايخ قال بعضهم: لا تفسد صلاته دفعاً للحرج، وقال عامتهم: تفسد صلاته. مثال الأول: في ترك التشديد إذا قرأ المعوذتين إنما..... أخذوا وقبلوا بغير التشديد؛ لأنه قريب من قوله قبلوا بالتشديد. مثال الثاني: إذا قرأ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ} (الناس: 1) ذكر الرب من غير تشديد وقرأ {وَمَآ أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف: 53) ذكر الأمارة بغير تشديد، ولو قرأ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بغير تشديد قال بعضهم تفسد صلاته؛ لأن.... نعبد، وقال عامتهم لا

الفصل العاشر في اللحن في الإعراب

تفسد؛ لأن هذه قراءة، ولو قرأ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصّدْقِ إِذْ جَآءهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكَفِرِينَ} (الزمر: 32) شدد الذال في كذب اختلف المشايخ فيه، ولو قرأ {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآء ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (المؤمنون: 7) وشدد الدال تفسد صلاته بلا خلاف. ومثال الأول: في ترك المدّ إذا قرأ {إِنَّآ أَعْطَيْنَكَ} (الكوثر: 1) بدون المد. ومثال الثاني: إذا قرأ {سَوَآء عَلَيْهِمْ} (البقرة: 6) بدون المد ونحو إن قرأ {دُعَآء وَنِدَآء} (البقرة: 171) بدون المد اختلف المشايخ فيه، كما في ترك التشديد والله أعلم. ومما يتصل بهذا الفصل إذا فرغ المصلي من فاتحة الكتاب، وقال آمين بالمدّ والتشديد فقد قيل تفسد صلاته، وقيل لا تفسد على قول أبي يوسف؛ لأن هذه الكلمة مع المدّ والتشديد منقولة في القرآن، قال الله تعالى {وَلآ ءامّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} (المائدة: 2) ، وقيل: لا تفسد على قولهما أيضاً؛ لأن هذه قراءة، وعليه الفتوى. وينبغي أن يقول آمين بغير مد ولا تشديداً، أو آمين بالمد دون التشديد، وأصله يا آمين استجب لنا، إلا أنه لما سقط عنه ياء النداء أدخل فيه المد، وأقيم المد مقام النداء، ولو قرأ من بالمد وحذف الياء لا تفسد على قول أبي يوسف؛ لأنه مذكور في القرآن، ولو قرأ آمن بترك المد وحذف الياء ينبغي أن تفسد؛ لأن مثله لا يجد في القرآن والله أعلم. الفصل العاشر في اللحن في الإعراب إذا لحن في الإعراب لحناً، فهو على وجهين: إما أن يتغير المعنى بأن قرأ {لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوتَكُمْ} (الحجرات: 2) أو قرأ {إن الذين يفضون أصواتهم} (الحجرات: 3) أو قرأ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ} (طه: 5) بنصب الرحمن، وفي هذا الوجه لا تفسد صلاته بالإجماع. وأما إن غيّر المعنى، بأن قرأ {هو االخالق البارىء المصور} (الحشر: 24) بنصب الواو ورفع الميم، وقرأ {وَعَصَى ءادَمُ رَبَّهُ} (طه: 121) بنصب الميم ورفع الباء، أو قرأ {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّى جَعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّلِمِينَ} (البقرة: 124) برفع إبراهيم ونصب الرب، أو قرأ {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (الناس: 6) بنصب الجيم، أو قرأ {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} (التوبة: 43) بكسر الكاف والتاء. وفي هذا الوجه اختلف المشايخ، قال بعضهم؛ لا تفسد صلاته وهكذا روي عن أصحابنا وهو الأشبه؛ لأن في اعتبار الصواب في الإعراب إيقاع الناس بالحرج، والحرج مرفوع شرعاً. وروى هشام عن أبي يوسف إذا لحن القارىء في الإعراب، وهو إمام قوم وفتح عليه رجل إن صلاته جائزة، وهذه المسألة دليل على أن أبا يوسف كان لا يقول بفساد

الفصل الحادي عشر في ترك الإدغام والإتيان به

الصلاة بسبب اللحن في الإعراب في المواضع كلها، وعن أبي حنيفة..... فيمن قرأ {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّى جَعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّلِمِينَ} (البقرة: 124) برفع الميم ونصب الباء أنه لا تفسد صلاته، قال: ومعناه سأل إبراهيم ربه فأجابه...... وابتلاؤه وباختباره السؤال هل يجب أولاً بحيث، وسأله مخبراً..... سواء، لا كما أن الدعاء سؤال، وإن كان بلفظ الدعاء. وعنه أيضاً إن من قرأ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} بنصب الألف إنه لا تفسد صلاته، ومعناه إنما نجازى على خشية العلماء الله عزّ وجلّ، وهذا كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} (البينة: 7) إلى أن يقال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ} (البينة: 8) . الفصل الحادي عشر في ترك الإدغام والإتيان به إذا أتى بالإدغام في موضع لم يدغمه أحد من الناس لبعد مخرج الحرفين، وتقبح العبارة وتخرجه عن معرفة معنى الكلمة، نحو أن يقرأ {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} (آل عمران: 12) أدغم الغين في اللام، وشدد اللام، فقرأ {ستبلون} وأدغم الحَاء في الشين وشدد السين فقرأ وتسرون فسدت صلاته، وإن أتى بالإدغام في موضع لم يدغم أحد إلا أن المعنى لا يتغير به ويفهم ما يفهم مع الإظهار نحو أن يقرأ {قُلْ سِيرُواْ} أدغم اللام في السين وشدد السين لا تفسد صلاته؛ لأن اللام قد تدغم في الشين، أدغم حمزة والكسائي اللام في الشين في قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ} (يوسف: 18) ، وإذا ترك الإدغام بأن قرأ {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ} أو قرأ: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لّكَلِمَتِ رَبّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَتُ رَبّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} (الكهف: 109) أو قرأ: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الاْخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَدِقِينَ} (البصرة: 4) وأشباه ذلك، وكذلك كلما التقى الحرفان من جنس واحد، والأول ساكن والآخر متحرك، فلم يدغم الأول في الثاني، أو اجتمع ثلاثة أحرف، والأول ساكن، فلم يدغم الأوسط في الثالث نحو أن يقرأ، {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} ، (طه: 37) فأظهر النونات الثلاث كلها، أو اجتمع ثلاثة أحرف والأول منهما ساكن، فلم يدغم الأول في الثاني، كما في قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الاْرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الاْمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ الَّذِينَ ءامَنُواْ أَن لَّوْ يَشَآء اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (الرعد: 31) ، {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} (آل عمران: 12) وكذلك في نظائره لا تفسد صلاته، لأن فحش من حيث العبارة؛ لأن هذا أراد إلى ما أوجبه أصل موضعها في اللغة، وامتناع عن اختيار التخفيف،

الفصل الثاني عشر في الإمالة في غير موضعها

وتحمل المشقة في العبارة، وليس فيه المعنى، ولا يقبحه إنما فيه تثقيل العبارة فقط، فكذلك لا تفسد صلاته. الفصل الثاني عشر في الإمالة في غير موضعها إذا قرأ باسم الله بالإمالة أو قرأ مالك يوم الدين بالإمالة أو قرأ ذلك الكتاب بالإمالة أو قرأ حتى أو قرأ كانتا تحت عبدين وما شاكل ذلك لا تفسد صلاته؛ لأنه لم يغير (52أ1) نظم الحروف، ولا غيّر المعنى الذي وضعت العبارة له، وقد جرت هذه في..... العامة المميز منهم وغير المميز، وقد روي عن أبي يوسف أنه قال ليس كل لحن يفسد الصلاة، ولا يعلم لحن أخف من هذا وروي عن أبي صالح أنه كان يعلم الصبيان..... على الإمالة، ولم يرو عن أحد عن فقهاء السلف في وقته مع صلابتهم في أمر الدين، ومعرفتهم بالأحكام وإقدامهم على النهي، واشتهار هذه القراءة في المساجد، والمحاريب بإنكارها وقد روي أنه مكتوب في مصحف عثمان الذي فيه أثر الدم {اللَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَمَةِ} (النساء: 87) وكذلك في أول الإدغام في قرطاس، فلمسوه. وكذلك مكتوب في أول آل عمران آيات الله، وكذلك مكتوب {لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ} (النحل: 51) بالتاء بين اللام والهاء والله أعلم. الفصل الثالث عشر في حذف ما هو مظهر وإظهار ما هو محذوف إما إظهار ما هو محذوف نحو أن يقرأ {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} (الفتح: 25) فيحذف من الميم من هم ويظهر الألف من الذين، وكانت الألف محذوفة في الوصل غير مدغمة، بدلالة أنه لم يخلفها إلا التشديد الذي في اللام هو التشديد الذي هو موجود مع إظهار الألف، ونحو أن يقرأ {الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَلَمِينَ} (الفاتحة: 2) فأظهر الألف من العالمين وكانت محذوفة، بدليل أنه لم يخلفها تشديد البدل على الإدغام، وهذا لا يفسد الصلاة؛ إذ ليس فيه تغيير المعنى، ولا تغيير النظم إنما ثقل العبارة، وكانت العرب خففوها، ومثل هذا لا يوجب الفساد، وكذلك إذا أظهر حرفين إحداهما محذوفة والآخر مدغمة، نحو أن يقرأ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاْنثَى} (الليل: 3) أظهر الألف وكانت محذوفة، وأظهر اللام للتخفيف وكانت مدغمة في الذال لأجل التسهيل لا تفسد صلاته؛ لأن هذا رد اللفظ.t .... أصل موضوعه وامتناع عن اختيار التخفيف من غير أن يكون فيه تغيير المعنى، فلا تفسد صلاته.

الفصل الرابع عشر في ذكر بعض الحروف من الكلمة

وأما حذف ما هو مظهر نحو أن يقرأ وهم لا يظلمون أفرأيت فحذف الألف من أفرأيت، ووصل نون يظلمون بفاء أفرأيت ونحو أن يقرأ: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} (الكهف: 104) فحذف الألف من أنهم ووصل النون بالنون، وإنه لا يفسد الصلاة؛ لأنه ليس فيه تغيير المعنى، ولا يصبح الحكم، وقد اختلف القرّاء في حذف ألف..... من هذه نحو قوله: {قَدْ أَفْلَحَ} ، بل أتيناهم من أجل ذلك، وفي مصحف عثمان مكتوب في الصافات {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مّنَ الاْوَّلِينَ} {} (الصافات: 168) بحذف الألف من أن. ومما يتصل يتصل بهذا الفصل إذا قرأ ألهاكم، القارعة، الحاقة وحذف اللام، فإنه تفسد صلاته؛ لأن فيه تغيير المعنى الذي مع اللام، ويصير الكلام أفحش من كلام الناس. الفصل الرابع عشر في ذكر بعض الحروف من الكلمة إذا ذكر بعض الكلمة وما أتمها، إما لانقطاع النفس، أو لأنه نسي الباقي ثم تذكر، فذكر الثاني نحو أراد أن يقرأ {الْحَمْدُ للَّهِ} (الفاتحة: 2) ، فلما قال: {أل} انقطع نفسه أو نسي الباقي ثم تذكر، فقال {حمد ا} ولم يذكر الباقي، نحو إن قرأ فاتحة الكتاب، والسورة ثم نسي قراءته، فأراد أن يقرأ فلما قال إن تذكر أنه قد كان قرأ، فترك ذلك وركع أو ذكر بعض الكلمة، وترك تلك الكلمة ثم ذكر كلمة أخرى، وفي هذه الصور كلها وما شاكلها تفسد صلاته عند بعض مشايخنا، وبه كان يفتي الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني. ومن المشايخ من فصّل الجواب تفصيلاً، فقال: إن ذكر شطر كلمة لو ذكر كلها يوجب ذلك فساد الصلاة، فذكر شطرها يوجب فساد الصلاة، وإن ذكر شطر كلمة ذكر كلها لا يوجب فساد الصلاة، فذكر شطرها لا يوجب فساد الصلاة، وذكر الشيخ الإمام نجم الدين النسفي في الخصائل، في فصل زلة القارىء هذه المسألة. وفرّق بين الاسم وبين الفعل، فقال في الاسم نحو الحمد لا تفسد صلاته إذا ذكر البعض وترك البعض، وفي الفعل إذا ذكر البعض، وترك البعض نحو إن أراد أن يقرأ تشكرون، فقال تش وترك الباقي تفسد صلاته. والفرق: أن الألف واللام في الأسماء زوائد، وترك الزائد لا يفسد الصلاة، فأما في الأفعال الكل يكون أصلاً، وترك الأصل يوجب الفساد إلا أن هذا الفرق إنما يستقيم فيما إذا قال أل في الحمد وترك الباقي، فأما إذا قال الح وترك الباقي.....، هذا الفرق، فتفسد الصلاة ومن المشايخ من قال إن كان لما ذكر من الشطر وجهاً صحيحاً في

الفصل الخامس عشر في إدخال التأنيث في أسماء الله

اللغة، ولا يكون لغواً ولا يتغير به المعنى ينبغي أن لا يوجب فساد الصلاة وإن كان الشطر المفرد لا معنى له ويكون لغواً أو إن لم يكن لغواً أو يكون مغير للمعنى يوجب فساد الصلاة وصيانة الصلاة في هذا أكثر، وعامة المشايخ على أنه لا تفسد؛ لأن هذا مما لا يمكن التحرز عنه، فصار كالتنحنح المرفوض في الصلاة. ومما يتصل بهذا الفصل إذا خفض صوته ببعض حروف الكلمة والصحيح أنه لا تفسد صلاته، لأن فيه بلوى العامّة. الفصل الخامس عشر في إدخال التأنيث في أسماء الله إذا قرأ في صلاته {هل ينظرون إلا أن تأتيهم افي ظلل من الغمام} (البقرة: 210) قال علي بن محمد الأديب الزندواني تفسد صلاته؛ لأن التأنيث لا يجوز إدخاله في أسماء الله تعالى كما لا يجوز قوله تعالى: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ} (البقرة: 255) وكما لا يجوز في قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (الإخلاص: 3) وأشبهها ذلك. وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أنه لا تفسد صلاته؛ لأن الإتيان فعلى غير الله تعالى، ولا فرق في ذلك بين التذكير والتأنيث، وبعض مشايخنا صححوا ما ذكره الفضل من الجواب، ولكن أشاروا إلى معنى آخر، فقالوا إنما لا تفسد صلاته في هذه الصور بإضمار الكلمة وصار تقديراً؛ لأن {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ} (البقرة: 210) كلمة الله كما في وجه القراءة بالياء، ليس المراد إتيان الله، بل المراد إتيان أمر الله، هكذا في القراءة بالياء يكون المراد، إتيان كلمة الله، ويمكن أن يقال أما تقدم ذكر الملائكة في القراءة، ويصير تقديراً،؛ لأنه {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة في ظلل في الغمام} والله والتقديم والتأخير شائع في اللغة والله تعالى أعلم. الفصل السادس عشر في التغني والألحان هذا الفصل على وجهين: إن كانت الألحان لا تغير الكلمة عن وصفها، ولا يؤدي إلى تطويل الحروف التي حصل التغني لها، حتى لا يصير الحرف حرفين، بل...... تحسين الصوت ويزيّن القراءة لا يوجب ذلك فساد الصلاة، وذلك مستحب عندنا في الصلاة، وخارج الصلاة، وإن كان يغير الكلمة عن وضعها يوجب فساد الصلاة؛ لأن

ذلك منهي، وإنما يجوز إدخال المد في حروف المد واللين والهوائية، والمعتل نحو الألف والواو والياء والله أعلم. فصل الركوع اختلف المشايخ في وقت الركوع؛ عامتهم على أن وقته بعد ما فرغ من القراءة، وبعضهم قالوا: إذا أتم بقية القراءة في حالة للركوع، لا بأس به بعد أن يكون ما بقي من القراءة حرفاً أو كلمة. والأول أصح، لأن القراءة شرعت في القيام المحض، فلا يؤمر بها في حالة الركوع، وإذا ركع يضع يديه على ركبتيه ويفرج أصابعه؛ لأن هذا أمكن الأخذ، وقد قال عمر رضي الله عنه: أمرنا بالركب، فخذوا بالركب. ولا يطبق عندنا، وكان ابن مسعود وأصحابه يقولون بالتطبيق. وصورته: أن يضم أحد الكفين إلى الأخرى، ويرسلهما بين فخذيه، حجتنا في ذلك ما روي أن سعد ابن أبي وقاص رأى ابناً له يطبق فيها، فقال: رأيت عبد الله يفعله، فقال سعد رحمه الله أن أم عبد..... أمرنا بهذا ثم نهانا عنه...... أبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهما أن رسول الله عليه السلام كان إذا ركع بسط ظهره حتى لو وضع على ظهره قدح من ماء لاستقر، فلا ينكس رأسه ولا يرفعه. معناه: فسوى رأسه بعجزه لما روي عن رسول الله عليه السلام، نهى أن يذبح المصلي بذبح الحمار يعني إذا.... البول أو أراد أن يتمرغ، فإذا اطمأن راكعاً رفع رأسه، والطمأنينة (ليست) بفرض عند أبي حنيفة ومحمد حتى لو تركها لا تفسد صلاته، وعند أبي يوسف والشافعي فرض، حتى لو تركها تفسد صلاته. والحاصل: أن الركنيّة متعلقة بأدنى ما ينطلق عليه اسم الركوع عند أبي حنيفة ومحمد والطمأنينة المفضلة والكمال (52ب1) عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف والشافعي الركنية متعلقة بالطمأنينة، ولم يذكر الخلاف في ظاهر الرواية. ولكن ذكر المعلى في «نوادره» عن أبي يوسف قال سألت أبا حنيفة: عمن لم يقم صلبه في الركوع والسجود، وقال: تجزيه صلاته، قال أبو يوسف: وأنا أقول لا تجزيه صلاته. وفي كتاب «البرامكة» أن رجلاً سأل أبا حنيفة عمن لم يقم صلبه في صلاته، قال: الشيء خير من لا شيء، وفي صلاة.... عن هشام عن محمد مسألة تدل على أن قول محمد مع أبي حنيفة، وسيأتي قبل قول أبي يوسف، ولكن مشايخنا ذكروا قول محمد مع أبي حنيفة، وستأتي الحجج من الجانبين بعد هذا إن شاء الله تعالى. وإن طأطأ رأسه في الركوع قليلاً ولم يعتدل، ظاهر الجواب عن أبي حنيفة أنه يجوز، وروى الحسن عنه أنه إن كان إلى الركوع أقرب يجوز، وإن كان إلى القيام أقرب لا يجزيه، وقال بعض مشايخنا: إذا كان بحال لو نظر الناظر إليه من بعيد لم يشكل عليه

أنه في الصلاة يجوز. وإن أشكل عليه أنه في الصلاة أو خارج الصلاة لا تجزيه ... السجود السنّة في السجود أن يسجد على الجبهة، والأنف واليدين والقدمين، وأما فرض السجود يتأدى بوضع الجبهة والأنف والقدمين في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد يتأدى بوضع الأنف إلا إذا كان بجبهته عذر. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ذكر الأنف، وهو اسم لما صلب من الأنف دليل على أنه لا يكفيه أن يسجد على ما لان من الأنف، وهو الأرنبة، وإنّ عليه إن تمكن بما صلب من آنفه (على) الأرض بقدر الممكن، والسجود على اليدين والركبتين ليس بواجب عندنا، وقال زفر والشافعي: هو واجب. ولو سجد على كور عمامته جاز ويضع يديه في السجود حذاء أذنيه ويوجه أصابعه نحو القبلة ويعتمد على راحتيه ويبدي ضبعيه والمرأة في السجود تلزق بطنها بفخذيها وعضديها بجسمها؛ لأن ذلك أستر لها، ويعتدل في سجوده، ولا يفترش ذراعيه، وتفسير الاعتدال الطمأنينة، وإنه ليس بفرض عند أبي حنيفة ومحمد، ولكن لو ترك يكره أشد الكراهة، رأيت في بعض الشروح روي عن أبي حنيفة أنه قال: أخشى أن لا تجوز صلاته، والمرأة تلصق بطنها بركبتيها، ولا تجافي عضدها، وهي في الباقي كالرجل، ثم الاعتدال في الركوع والسجود إذا لم يكن فرضاً عند أبي حنيفة يكون واجباً أو سنة عنده، قال أبو عبد الله الجرجاني هو سنة، لو تركها ساهياً تلزمه سجدة السهو، ولو تركه متعمداً ذكر صدر الإسلام أنه تلزمه الإعادة، وههنا كلمات كثيرة تأتي في فصل ما ينبغي للمصلي أن يفعله في صلاته. فصل: القعدة الأخيرة يجب أن يعلم بأن القعدة الأخيرة فرض عندنا، وقدر الفرض فيها مقدار قراءة التشهد، والسنّة في القعدة الأولى والثانية أن يفترش رجله اليسرى، فيقعد عليها وينصب اليمنى نصباً، وتقعد المرأة كأستر ما يكون لها والله تعالى أعلم. فصل للقومة التي بين الركوع والسجود والجلسة بين السجدتين ليست بفرض وهو قول محمد، وقال أبو يوسف: العود إلى القيام والجلسة فرض، وعن أبي حنيفة أن الانتقال فريضة، فأما رفع الرأس من الركوع والعود إلى القيام، فليس بفرض، وهو الصحيح من مذهبه، والصحيح مذهب أبي حنيفة أن المأمور الركوع والسجود، والركوع عبارة عن الميلان وانحناء الظهر، يقال ركعت الشجرة.... إذا مالت. والسجود عبارة عن وضع الجبهة على الأرض، وإذا انتقل إلى السجود من الركوع، فقد حصل الميلان، ووضع الجبهة على الأرض مكان..... بالركوع، والسجود

مكان..... بالمأمور به، إلا أن الانتقال إلى السجدة من السجدة بدون رفع الرأس لا يمكن، فيشترط رفع الرأس لتحقق الانتقال، لا؛ لأن رفع الرأس فرض بنفسه، حتى لو تحقق الانتقال من السجدة إلى السجدة من غير رفع الرأس بأن سجد على وسادة، ثم نزعت الوسادة من تحت رأسه وسجد على الأرض يجوز، ولا يشترط رفع الرأس، هكذا ذكر القدوري في كتاب شيخ الإسلام في «شرحه» على رواية التي شرط رفع الرأس من الركوع يكتفي بالتي ما ينطلق عليه اسم الرفع. وكذلك في السجدة إذا شرطنا رفع الرأس يكتفي بالتي ما ينطلق عليه الاسم، والعود إلى القيام عند رفع الرأس من الركوع، والجلسة بين السجدتين إن لم يكن فرضاً عند أبي حنيفة، فهو سنّة عنده، بلا خلاف، هكذا ذكر الإمام الزاهد أبو نصر الصفار، والله تعالى أعلم. فصل الخروج عن الصلاة بفعل المصلي قال أبو حنيفة الخروج من الصلاة بفعل المصلي فرض، وذلك بأن يبني على صلاته صلاة، إما فرضاً أو نفلاً، أو ضحك قهقهة أو أحدث عمداً، أو تكلم أو يذهب أو يُسلّم، وقالا: ليس بفرض، وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا طلعت الشمس بعد ما قعد قدر التشهد، ولم يسلم ولم يفعل شيئاً مما ذكرنا فسدت صلاته عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، وينبني على هذا اثنتا عشرة مسألة. وأما واجبات الصلاة فالمذكور في شروح المشايخ أنها سنّة. إحداها: تعديل الأركان عند أبي حنيفة ومحمد. والثانية: تعيين الفاتحة للقراءة في الأوليين، والاقتصار على قراءتها مرة، وتقديمها على السورة، وتعيين الأوليين لقراءتها وقراءة ثلاث آيات بعدها، وقراءة الفاتحة في الأخريين عندهما في ظاهر الرواية عند الكل في رواية الحسن بن زياد. والثالثة: القعدة الأولى من ذوات الأربع والثلاث من الفرائض والواجبات. والرابعة: قراءة التشهد في القعدة الأولى والأخيرة. والخامسة: قراءة القنوت في الوتر، والسادسة: تكبيرات صلاة العيدين. وههنا أشياء أخرى من جملة الواجبات. إحداها: الجهر فيما يجهر والمخافتة فيما يخافت، والإنصات عند قراءة الإمام للمقتدي، ومتابعة الإمام على أي حال و..... إن لم يكن..... من صلاته، وسجدة التلاوة وسجدتي السهو. وأما سنن الصلاة فمن جملتها رفع اليدين مقارناً لتكبيرة الافتتاح، وقد ذكرنا المسألة مع فروعها في فصل تكبيرة الافتتاح، ومن جملتها نشر الأصابع عند رفع اليدين وجهر الإمام بالتكبير إعلاماً للناس بالشروع، وتكبير المقتدي في أقل القيام مع الإمام عند

أبي حنيفة، وبعد تكبير الإمام عندهما، وقد مرت المسألة من قبل، والتعوذ و.... والتعوذ لأجل القراءة، عند محمد، فيأتي به من يقرأ وحين يقرأ حتى قال لا يتعوذ المقتدي، والمسبوق، إذا قام إلى قضاء ما سبق يتعوذ وعند أبي يوسف التعوذ يتبع الثناء، فيتعوذ المقتدي، ولا يتعوذ المسبوق إذا قام إلى قضاء ما سبق والتسمية و (اثناء) ، والتأمين يأتي بها الإمام والقوم جميعاً. وكفوفه الاعتماد بيمناه على يساره، ويكون موضع الوضع تحت السرة عندنا، والتكبيرة إذا انحط للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع، والتسبيح في الركوع ثلاثاً، وأخذ الركبتين باليدين في الركوع، وتفريج الأصابع، والتكبير إذا خرّ ساجداً، والتسبيح في السجود ثلاثاً وافتراش رجله اليسرى، والقعود عليها وينصب اليمنى نصباً، وقد مرّت المسألة من قبل. والصلاة على النبي عليه السلام عند القعود، والدعاء بما يشبه ألفاظ القرآن، ولا يشبه كلام الناس. وقد قيل: رفع سبابة اليد اليمنى في التشهد عند قوله؛ أشهد أن لا إله إلا الله عند أبي حنيفة ومحمد والشافعي، وقال في ظاهر الأصول: لا يرفعها، وكذا روي عن أبي يوسف، وقد قيل قراءة الفاتحة في الأخريين في الفرائض سنة، والخروج بلفظ السلام والسلام عن يمينه ويساره سنّة. ومن جملة السنن الأذان ومسائله أنواع نوع في بيان صفته. فنقول: إنه من سنن الصلاة، وبعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله قالوا إنه واجب، والصحيح أنه سنّة، وعليه عامة المشايخ إلا أنه سنّة مؤكدة، ثبت ذلك بفعل النبي عليه السلام، وإجماع الصحابة ومن بعدهم وروي عن أبي حنيفة في يوم صلوا في مسجد بغير أذان ولا إقامة أنهم آخطؤوا إلى السنّة لما مرّ أن الأذان سنّة مؤكدة، والإعراض عنه يكون خطاً، وروي عن محمد أنه قال: إذا اجتمع أهل بلدة على ترك الأذان قاتلناهم، ولو ترك واحد ضربته وحبسته، وكذلك سائر السنن (53أ1) . وقال أبو يوسف: إذا امتنعوا عن إقامة الفرض، نحو صلاة الجمعة وسائر الفرائض وأداء الزكاة يقاتلون، ولو امتنع واحد ضربته، وأما السنن نحو صلاة العيد، وصلاة الجماعة والأذان فإني آمرهم وأضربهم ولا أقاتلهم لتقع التفرقة بين الفرائض والسنن. ومحمد رحمه الله يقول: الأذان وصلاة العيد، ونحو ذلك، وإن كانت من السنن إلا أنها من إعلام الدين، فالإصرار على تركها استخفاف بالدين، فيقاتلوا على ذلك. لهذا وقد نقل عن مكحول أنه قال: السنّة سنّتان سنّة أحدها: هدي وتركها لا بأس به، وسنّة أحدها: هدي وتركها ضلالة كالأذان والإقامة وصلاة العيد والجماعة، يقاتلون

على الضلالة إلا أن الواحد إذا ترك ذلك يُضرب ويحبس، لتركه سنّة مؤكدة، ولا يقاتل؛ لأن فعله لا يؤدي إلى استخفاف بالدين. نوع في بيان سبب ثبوت الأذان وقد تكلموا فيه، قال بعضهم: نزل به جبريل صلوات الله عليه حتى قال كثير بن مرة أذن جبريل في السماء فسمعه عمر بن الخطاب، وعن أبي جعفر محمد بن علي أن النبي عليه السلام حين أسري به إلى المسجد الأقصى، وجمع له النبيون أذن ذلك وأقام، فصلى بهم رسول الله عليه السلام. والأشهر من ذلك روي أن النبي عليه السلام لمّا قدم المدينة كان يؤخر الصلاة تارة ويعجلها أُخرى، فاستشار الصحابة في علامة يعرفون بها وقت أداء الصلاة، ليكلا تفوتهم الجماعة، فقال بعضهم؛ ننصب راية، فلم يعجبه ذلك، وأشار بعضهم بضرب الناقوس، فكره لأجل النصارى، وبعضهم بالنفخ في الصور فكره لأجل اليهود، وبعضهم بالبُوق فكره؛ لأجل المجوس فتفرقوا قبل أن يجتمعوا على شيء. قال عبد الله بن زيد بن عبد ربّه الأنصاري رضي الله عنه: فبت لا يأخذني النوم، وكنت بين النائم واليقظان إذ نزل شخص من السماء، وعليه ثوبان أخضران، وفي يده شبه الناقوس، فقلت أتبيعيني هذا؟ فقال ما تصنع به؟ فقلت: نضربه عند صلاتنا، فقال: أنا أدلك على ما هو خير منه فقلت: نعم، فقام إلى هدم حائط مستقبل القبلة، وقال: الله أكبر الله أكبر الأذان المعروف ثم سكت هنيهة، ثم قام فقال مثل مقالته الأولى، وزاد في آخره؛ قد قامت الصلاة مرتين، فأتيت رسول الله عليه السلام، وأخبرته بذلك، فقال عليه السلام: رؤيا صدق أو قال رؤيا حق ألقها على بلال، فإنه أندى صوتاً منك، فألقيتها عليه، فقام على سطح بيت امرأة أرملة بالمدينة وجعل يؤذن، فجاء عمر رضي الله عنه وهو في إزار وهو يهرول، ويقول: لقد طاف بي ما طاف بعبد الله بن زيد إلا أنه سبقني، فقال عليه السلام الحمد لله أنه لا، ورُوي أن سبعة من الصحابة رضي الله عنهم رؤوا تلك الرؤيا في ليلة واحدة. (نوع آخر) في بيان ما يفعل فيه المستحب للمؤذن أن يستقبل القبلة استقبالاً، هكذا روي عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه عن النازل من السماء، فلأن قوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح دعاء إلى الصلاة، وخطاب للناس بالحضور، وما قبله وبعده ثناءً على الله، فما كان ثناءً يستقبل القبلة، وما كان دعاء للناس يحول وجهه يميناً وشمالاً، ليتم سماع جميع الناس ذلك، ومن الناس من يقول إذا كان يصلي وحده لا يحول وجهه؛ لأنه لا حاجة إلى الإعلام، وهو قول شمس الأئمة الحلواني. والصحيح: أنه يحول على كل حال؛ لأنه صار سنّة الأذان، فيؤتى به على كل

حال، قال حتى قالوا في الذي يؤذن لمولود: ينبغي أن يحول وجهه يمنةً ويسرةً عند هاتين الكلمتين، وإن استدار في الصومعة فحسن؛ لأنه دعاء إلى الصلاة، فيحتاج فيه إلى ذلك لإسماع الجميع، وهذا الأداء لم يستطع سنة الصلاة والفلاح، وهو تحويل الرأس يميناً وشمالاً مع ثبات قدميه لاتساع الصومعة، فأما بغير حاجة، فلا يفعل ذلك، ويؤذن قائماً لما روينا أن النازل من السماء قام على هدم حائط وأذن، ولتوارث الأمة ذلك. وإن أذن راكباً ففي السفر لا بأس به، ويؤذن حيث كان وجهه، هكذا روي عن أبي يوسف وينزل للإقامة، فأما الأذان والإقامة راكباً في الحضر، فظاهر الرواية أنه يكره أن يؤذن راكباً، وعن أبي يوسف أنه لا بأس به، وإن لم ينزل المسافر للإقامة، وأقام كذلك أجزأه لحصول المقصود، وإن اقتصر المسافر على الإقامة وترك الأذان جاز؛ لأن السفر عذر مسقط شطر الصلاة، فلا يكون مسقطاً أحد الأذانين أولى، وإن تركهما أو ترك الإقامة، فقد أساء. وذكر في «الجامع الصغير» : جازت صلاته ويكره، ويكون التكبير الأول في الأذان أربعاً الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر وقال مالك مرتين، وهكذا روي عن أبي يوسف في غير رواية الأصول، وقيل: إنه قول الحسن بن زياد، اعتمادهم على حديث أبي محذورة، قال: علمني رسول الله عليه السلام الأذان، وقال الله أكبر مرتين، وقياساً على الطرف الأخير من الأذان. ولنا: أن النازل من السماء كرر التكبير الأول أربعاً؛ ولأنه لما شرع في آخره مرتين يجب أن يكون في أوله ضعف ذلك قياساً على التهليل، ويختم الأذان بالتهليل لا إله إلا الله عندنا، وعند مالك بالتكبير لا إله إلا الله والله أكبر، وهو قول أهل المدينة، ومن الناس من قال: إذا قال: لا إله إلا الله يقول بعده محمد رسول الله في نفسه، فيسمع نفسه، فمالك قاس الانتهاء على الابتداء، ونحن اعتمدنا على حديث عبد الله بن زيد، وهو حكى أن النازل من السماء ابتدأ بالتكبير وختم بالتهليل. ولا يرجّع في الأذان عندنا، وقال مالك والشافعي فيه ترجيع، وذلك أن يبتدىء بالشهادتين يريد به أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله يخفض بهما صوته، ثم يرجع إليهما فيرفع بهما صوته، لهما حديث أبي محذورة أن النبي عليه السلام علمه الأذان تسعة عشر كلمة والإقامة سبعة عشر كلمة، وأن يكون الأذان تسعة عشر كلمة إلا بالترجيع، وروي أنه أمره بالترجيع نصّاً: t ولنا: حديث عبد الله بن زيد فهو الأصل في الأذان، وليس فيه ذكر الترجيع؛ ولأنه أحد الأذانين، فلا يسن فيه ترجيع الشهادتين كالإقامة بل أولى؛ لأنه زيد في الإقامة ما ليس في الأذان، فلا يحذف عنهما ما كان مشروعاً في الأذان، وأما حديث أبي محذورة، فقد ترك الخصم الأخذ به في حق الإقامة؛ لأن عند الشافعي الإقامة تكون أحد عشر كلمة، فلا يجوز تعلقه به في حق الأذان، ثم إن ما أمره النبي عليه السلام بذلك؛ لأنه

كان مؤذن مكة وكان في ابتداء إسلامه، فلما انتهى إلى ذكر رسول الله عليه السلام أنه خفض صوته استحياءً من أهل مكة؛ لأنه كان حديث العهد بالإسلام (فأمسك) رسول الله عليه السلام أذنه، وأمره بأن يعود، فيرفع صوته ليكون تأدياً. قال والأذان والإقامة مثنى مثنى عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: الإقامة فرادى إلا قوله قد قامت الصلاة، فإنها مرتين لحديث أنس رضي الله عنه أن النبي عليه السلام «أمر بلالاً أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة» ؛ ولأن الأذان لإعلام الغائبين، والتكرار فيه أبلغ والإقامة لإقامة الصلاة، والإفراد بها يكون أعجل لإقامة الصلاة، فهي أولى. ولنا: حديث عبد الله بن زيد فهو الأصل. وقد حكى فيه الإقامة مثل الأذان، ولأن المحض بالإقامة قوله قد قامت الصلاة، ولا إفراد في هذه الكلمة، ففي غيرها أولى، وحديث أنس فمعناه أمر بلالاً أن يؤذن بصوتين ويقيم بصوت واحد والأفضل للمؤذن أن يجعل أصبعيه في أذنيه قال عليه السلام (لبلال) رضي الله عنه: «إذا أذنت فاجعل أصبعيك في أذنيك، فإنه أندى وأرفع لصوتك» ، ولأن المقصود من الأذان الإعلام، وذلك برفع الصوت وجعل الإصبعين في الأذنين يزيد في رفع الصوت، وعن هذا قلنا الأولى أن يؤذن حيث يكون أسمع للجيران، وإن ترك ذلك لم يضره. وقال في «الجامع الصغير» : فهو حسن، قالوا خلاف السنّة كيف يكون حسناً؟ والجواب أنه ليس بسنّة أصلية؛ أنه ليس في حديث النازل من السماء ذلك، ولكن أمر رسول الله عليه السلام بلالاً بذلك؛ لأن صوته يدخل أذنه، فربما يضعفه فإذا كان ذلك لا يؤثر فيه لا يكون بتركه (53ب1) بأس ولا يجهد نفسه لما روي أن عمراً رضي الله عنه رأى مؤذناً يجهد نفسه في الأذان فقال: أما يخاف أن تنقطع من تطاوللك والتثويب في الفجر حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح بين الأذان والإقامة حسن، ويكره التثويب في سائر الصلوات، هذا هو لفظ «الجامع الصغير» ، وذكر في «الأصل» ولا تثويب إلا في صلاة الفجر عندنا، والأصل فيه قوله عليه السلام لبلال رضي الله عنه «ثوِّب في الفجر، ولا تثوب في غيرها» . والمعنى في المسألة أن وقت الفجر وقت نوم وغفلة، فاستحسنوا زيادة الإعلام لتنبيه الناس، فيدركون فضيلة الصلاة بالجماعة، أما أوقات سائر الصلوات أوقات انتباه، فلا حاجة إلى التثويب فيها، وقال يعقوب: لا أرى بأساً أن يذهب المؤذن إلى باب الأمير في جميع الصلوات، ويقول السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حيّ على الصلاة

حيّ على الفلاح الصلاة يرحمك الله؛ لأن له زيادة شغل للنظر في أمور الرّعية، وتسوية أمر الجند مستحب في حقه، وزيادة إعلام، وكذلك كل من اشتغل لمصالح المسلمين كالمفتي والقاضي يُخص بنوع إعلام، والمعنى أنه لو لم يخص بنوع الإعلام لا يعرف هو وقت الحضور فربما يحضر كما يسمع الأذان، ولم يحضر القوم بعد، فيحتاج إلى انتظار القوم، فتتعطّل مصالح المسلمين. ومشايخنا رحمهم الله اليوم لم يروا بالتثويب بأساً في سائر الصلوات في حق جميع الناس فلا بأس لأنه حدث تكاسل في الأمور الدينية، واشتغلوا بأمور زائدة من أمور الدنيا، وتغافلوا عن أداء الصلاة لأوقاتها، فنزل سائر الأوقات في زماننا منزلة صلاة الفجر في زمن رسول الله عليه السلام، ثم على ما اختاره المشايخ من التثويب في سائر الصلوات في زماننا يعتبر في ذلك ما يتعارفه كل قوم، حكي عن محمد بن سلمة أنه كان يتنحنح وكان عادة أهل سمرقند قبل هكذا، واختار مشايخ بخارى الصلاة الصلاة..... قامت قامت. وعن أبي حنيفة رحمه الله: أنه ينبغي للمؤذن أن يمكث بعد الأذان قدر ما يقرأ الإنسان عشرين آية ثم يثوب ثم يصلي ركعتي الفجر ثم يمكث قليلاً ثم يقيم، وعن أبي يوسف أن التثويب بعد الأذان ساعة، قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : التثويب الذي يثوب الناس في الفجر بين الأذان والإقامة حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح مرتين حسن، وهو التثويب المحدث، ولم يبين التثويب القديم. وذكر في «الأصل» : أن التثويب الأول في صلاة الفجر بعد الأذان «الصلاة خير من النوم، فأحدث الناس هذا التثويب، وهو حسن، ولم يبين المحدث بعض مشايخنا رحمهم الله، قالوا: أراد محمد رحمه الله بقوله في «الأصل» ، فأحدث الناس هذا التثويب فأحدث الناس مكان التثويب لا نفس التثويب، فإن التثويب الأول في صلاة الفجر «الصلاة خير من النوم» بعد الأذان، فالناس جعلوها في الأذان، ولكن هذا مُشكل، فإن محمداً رحمه الله أضاف الإحداث إلى الناس، وإدخال هذا التثويب في الأذان غير مضاف إلى الناس، بل هو مضاف إلى بلال، فإنه هو الذي أدخل هذا التثويب في الأذان ولكن بأمر رسول الله عليه السلام. فإنه روي أن بلالاً أتى النبي يؤذنه في الصلاة، فوجده راقداً فقال: الصلاة خير من النوم، فانتبه النبي عليه السلام، وقال: «ما أحسن هذا يا بلال اجعله في أذانك» ، ومن المشايخ من قال: أراد بقوله، فأحدث هذا التثويب نفس التثويب، فإن التثويب الأول الصلاة خير من النوم، ثم إن التابعين، وأهل الكوفة أحدثوا هذا التثويب، وهو قوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح مرتين بين الأذان والإقامة، ولفظ «الجامع الصغير» يدل على هذا.

فإن لفظ «الجامع الصغير» التثويب الذي يثوب الناس في الفجر بين الأذان والإقامة حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح مرتين حسن، هذا هو التثويب المحدث، وروي عن أبي حنيفة أيضاً ما يدل على صحة هذا القول، فإنه روي عنه أن التثويب الأول كان في صلاة الصبح، ولم يكن في غيرها، وكان «الصلاة خير من النوم» ، فأحدث الناس حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح مرتين، وهو حسن. ومعنى التثويب العود إلى الإعلام بعد الإعلام الأول مشتق من قولهم ثاب إلى المريض نفسه إذا برأ وعاد إلى الصحة، وأصل اللغة ثاب يثوب بمعنى رجع والكعبة تسمى مثابة؛ لأن الناس يرجعون إليها مرة بعد مرة، وإنما سمي هذا التثويب الذي أحدثه الناس حسناً، لأنهم رأوه حسناً، وقد قال عليه السلام «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن» قال ويترسّل في الأذان، ويحدر في الإقامة، قال عليه السلام لبلال: «إذا أذنت فترسّل، وإذا أقمت فاحدر» وأن يرسل في الإقامة، ويحدر في الأذان، أو يرسل فيهما أو يحدر فيهما فلا بأس. (نوع آخر) في أذان المحدث والجنب وبيان من يكره أذانه ومن لا يكره قال محمد رحمه الله: في مؤذن أذن على غير وضوء وأقام: أجزأه ولا يعيد، والجنب أحب إليَّ أن يعيد وإن لم يعيد أجزأه. يجب أن يعلم بأن الكلام هنا في فصلين في الكراهة، وفي الإعادة. أما الكلام في الكراهة، فنقول: ذكر بعض المشايخ في شروحهم تكره الإقامة مع الحدثين باتفاق الروايات؛ لأنه يقع الفعل بين الإقامة والصلاة، وموضوع الإقامة يتصل بها أداء الصلاة، وكذلك يكره الأذان مع الجنابة باتفاق الروايات، وفي كراهته مع الحدث روايتان: فعلى الرواية التي قال: يكره الأذان مع الحدث، قاس الأذان على الإقامة، وجمع بينهما بمعنى جامع، وهو أن الأذان بينهما بالصلاة حتى يقام مستقبل القبلة، إلا أنه ليس بصلاة على الحقيقة، والصلاة بدون الطهارة لا تجوز أصلاً فما كان مشبهاً بالصلاة يجوز مع الكراهة، وعلى الرواية التي لا يكره الأذان مع الحدث. فرقٌ بين الأذان والإقامة؛ ووجه ذلك: أن كراهة الإقامة مع الحدث، إنما كان لئلا يقع الفصل فيه بين الإقامة والصلاة، وإنه غير مشروع، وهذا المعنى لا يتأتى في الأذان؛ لأن الفصل بين الأذان والصلاة مشروع. ثم في الأذان فرق بين الجنابة وبين الحدث على إحدى الروايتين فقال: لا يكره الأذان مع الحدث، ويكره مع الجنابة. ووجه ذلك ما ذكرنا: أن للأذان شبهاً بالصلاة إلا أنه ليس بصلاة على الحقيقة، ولو كان صلاة لا يجوز مع الحدث والجنابة، فإذا كان مشبهاً بالصلاة. قلنا: يكره مع الجناية اعتباراً لجانب الشبه، ولا يكره مع الحدث اعتباراً لجانب

الحقيقة إلا أنا اعتبرنا جانب الشبه في الجنابة، ولم نعتبر في الحدث؛ لأنا لو اعتبرنا في الحدث يلزمنا اعتباره في الجنابة من طريق الأولى؛ لأن الجنابة أغلظ الحدثين، فحينئذٍ يتعطل جانب الحقيقة، فاعتبرنا جانب الشبه في الجنابة، ولم نعتبره في الحدث لهذا. وبعض مشايخنا ذكروا في شروحهم عن أبي حنيفة أن أذان المحدث، وإقامته جائزة من غير كراهة، وهو رواية عن أبي يوسف؛ لأن الأذان والإقامة لا يدنوا درجتها على درجة القرآن، ثم المحدث لا يمنع من قراءة القرآن، هكذا لا يمنع من الأذان والإقامة. وأما الكلام في الإعادة، فأذان المحدث لا يعاد، وكذلك إقامته، وأذان الجنب، وإقامته تعاد على طريق الاستحباب، وفي رواية اختلط حكم الجنابة وجهه حكم الحدث، وفي رواية لا يعاد، قال بعض مشايخنا: والأشبه أن يقال: يعاد أذان الجنب ولا تعاد إقامته؛ لأن تكرار الأذان مشروع في الجملة كما في صلاة الجمعة، فأما تكرار الإقامة، فغير مشروع أصلاً. ثم إن محمداً رحمه الله، قال: في الجنب أحب إليّ أن يعيد، وإن لم يعد أجزأه، قيل تحتمل أن يكون معنى قوله أجزأه جواز الصلاة بغير أذان، وتحتمل الجواز في أصل الأذان لحصول المقصود. قال في «الأصل» وليس على النساء أذان ولا إقامة؛ لأن الأذان والإقامة من سنّة الصلاة بجماعة، وليس على النساء الصلاة بجماعة، فلا يكون عليهن أذان ولا إقامة، وإن صلين بجماعة وصلين بغير أذان وإقامة، وإن صلين بأذان وإقامة جازت صلاتهن مع الإساءة. قال في «الجامع الصغير» والمرأة (54أ1) إذا أذّنت يعاد أذانها، وإن لم يعيدوا جاز، هكذا ذكرنا، وذكر في «الأصل» ويكره أذان المرأة، ولم يذكر أنه هل يعاد؟، ووجه الكراهة: أنه رفع الصوت منها معصية رفعت صوتها تكتب المعصية، وإن لم ترفع صوتها، فقد أخلت بما هو المقصود من الأذان، وهو الإعلام وقوله في «الكتاب» وإن لم يعيدوا أجزأه، فيحتمل جواز الصلاة بغير أذان، ويحتمل الجواز في أصل الأذان على ما مرّ. ولم يذكر في «الجامع الصغير» حكم أذان الصبي، وذكر القدوري في «شرحه» : وإن آذان الصبي (الذي) لا يعقل أو مجنون يُعاد ذلك؛ لأن ما هو المقصود وهو الإعلام لا يحصل بأذانهما؛ لأن الناس لا يعتبرون كلام غير العاقل، فهو وصوت الطير سواء، ويكره أذان السكران، ويستحب إعادته، وكذلك يكره أذان الفاسق؛ لأنه أمانة شرعية فلا يؤمن الفاسق عليه، ولا يعاد أذانه، لحصول المقصود به، وإن اشترط على الأذان أجزأه، فهو فاسق كذا ذكره في الخصائل، ويجوز أذان العبد والقروي وأهل المفاوز، وولد الزنا والأعمى من غير كراهة، ولكن غير هؤلاء أولى، وكذلك يجوز أذان ... ويؤذن في بعض الصلاة دون البعض بأن كان في السوق نهاراً أو في السكة ليلاً يجوز من غير كراهة وغيره أولى.

وإن أذن رجل فأقام رجل آخر إن غاب الأول جاز من غير كراهة، وإن كان حاضراً ويلحقه الوحشة بإقامة غيره يكره، وإن رضي به لا يكره عندنا، وإن أذن وأقام ولم يصلّ مع القوم يكره؛ لأنه إن كان صلى، فهذا تنفل في الأذان، وإنه غير مشروع، فإن كان لم يصلِ؟ وفارقهم فيكره. (نوع آخر) في الفصل بين الأذان والإقامة قال في «الجامع الصغير» : ويجلس بين الأذان والإقامة إلا في المغرب، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يجلس في المغرب أيضاً جلسة خفيفة يجب أن يعلم بأن الفصل بين الأذان والإقامة في سائر الصلوات مستحب. والأصل في ذلك قوله عليه السلام لبلال: «اجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرع الأكل من أكله، والشارب من شربه» ، واعتبر الفصل في سائر الصلوات بالصلاة، حتى قلنا: إن في الصلوات التي قبلها تطوع مسنون أو مستحب، فالأولى للمؤذن أن يتطوع بين الأذان الإقامة. جاء في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَلِحاً} (فصلت: 33) أنه المؤذن يدعوا الناس بأذانه ويتطوع بعده قبل الإقامة، ولم يعتبر الفصل في المغرب بالصلاة؛ لأن الفصل بالصلاة في المغرب يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقته، وتأخير المغرب مكروه، وقال النبي عليه السلام؛ «لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم» ويؤيده قوله عليه السلام: «بين كل أذانين صلاة إلا المغرب» ، وأراد بالأذانين الأذان والإقامة، وإذا لم يفصل بالصلاة في المغرب يتأدى. بفصل، قال أبو يوسف ومحمد: يفصل بجلسة خفيفة؛ لأن الجلسة صالحة للفصل. ألا ترى أنها صلحت للفصل بين الخطبتين يوم الجمعة، فهنا كذلك، وقال أبو حنيفة يفصل بالسكوت، لأن لمّا لم يفصل بالصلاة التي هي عبادة، لتكون أقرب إلى الأداء أبعد عن التأخير فلأن لا يفصل ... بعبادة أولى، والفصل يحصل بالسكوت حقيقة، فلا حاجة إلى اعتبار الجلسة للفصل، ثم عند أبي حنيفة مقدار السكتة ما يقرأ ثلاث آيات قصار أو آية طويلة، وروي عنه أنه قال: مقدار ما يخطو ثلاث خطوات، وعندهما مقدار الجلسة ما جلس الخطيب بين الخطبتين من غير أن يطول، وتمكن مقعده على الأرض.

(نوع آخر) بيان الصلاة التي لها أذان والتي لا أذان لها وفي بيان أنه في أي حال يؤتى به وليس بغير الصلوات الخمس والجمعة والتطوعات والسنن والوتر، وغيرها أذان ولا إقامة، أما السنن والتطوعات؛ فلأن الأذان والإقامة من سنّة الصلاة بالجماعة والسنن والتطوعات لا تؤدى بجماعة، فلا يشرع فيها أذان ولا إقامة، ولأن الأذان شرع الإعلام للدخول بوقت الصلاة، ولا حاجة للتطوعات إلى ذلك، فإن جميع الأوقات وقت للتطوعات، ولأن التطوعات تبع للسنن، والسنن تبع للفرائض شرع مكملاً للفرائض، فلا حاجة إلى أتباعه للتبع. وأما الوتر فعندهما الوتر تطوع، ولا أذان ولا إقامة في التطوعات بالإجماع على ما ذكرنا، وأما عند أبي حنيفة، فلأن الوتر إن كان واجباً عنده إلا أنها لا تؤدى بالجماعة إلا في شهر رمضان، وعند أدائها هم مجتمعون، فلا حاجة إلى الإعلام وخارج رمضان لا تؤدى بالجماعة، والأذان سنّة أداء الصلاة بجماعة. وأما التراويح وإن أَدي بالجماعة لكنه تبع للعشاء، وهم مجتمعون عند أدائها. وأما العيدين، فلحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «صلى رسول الله عليه السلام العيدين بغير أذان ولا إقامة ولم يصل قبلها ولا بعدها» ، هكذا جرى التوارث إلى يومنا هذا، والتوارث كالتواتر، ولأن صلاة العيدين سنّة، وقد ذكرنا أنه لا أذان للسنن. فأما الجمعة يؤذن لها ويقام؛ لأنها فرض مكتوب وفرضيتها آكد من فريضة الظهر حتى ترك الظهر لأجلها، والأذان والإقامة مشروعان في الظهر، فكذلك في الجمعة؛ ولأن الأذان لها منصوص في القرآن، قال الله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اوذروا البيع} (الجمعة: 9) ؛ ولأن الأذان شرع للإعلام بدخول الوقت والدعاء إلى الاجتماع والجمعة أولى بهذا؛ لأنه لا يجوز قضائها خارج الوقت، ولا يجوز أدائها بدون الجماعة، وسائر الصلوات يجوز أداؤها بغير جماعة، ولا يجوز قضاؤها خارج الوقت، ولا يؤذن لصلاة قبل دخول الوقت. وقال أبو يوسف والشافعي رحمهما الله: يؤذن لصلاة الفجر في النصف الآخر من الليل، حجتهما في ذلك؛ ما روي أن بلالاً كان يؤذن على عهد رسول الله عليه السلام بالليل. ولنا: ما روي أن رسول الله عليه السلام قال لبلال: «لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا، ومدّ يده عرضاً» ، ولأن المقصود من الأذان الإعلام بدخول الوقت، فقبل الوقت يكون الأذان تجهيلاً لا إعلاماً، وأما الجواب عن فعل بلال قلنا: إن بلالاً ما كان يؤذن بالليل، لصلاة الفجر، وإنما كان يؤذن لقيام النائم، وإنما كانت صلاة الفجر

بأذان ابن أم مكتوم، كما قال عليه السلام: «لا يغرنكم أذان بلال؛ لأنه يؤذن ليرجع غائبكم ويتسحر صائمكم وينام قائمكم، وكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» ، وكان هو أعمى كان لا يؤذن حتى يسمع الناس يقولون: أصبحت، أصبحت وأجمعوا أن الإقامة قبل الوقت لا تجوز؛ لأن الإقامة لإقامة الصلاة ولا يمكنه إقامة الصلاة قبل الوقت، وإن لم يعد الأذان في الوقت جازت صلاته؛ لأنه لو ترك الأذان أصلاً جازت صلاته فها هنا أولى، ولم تذكر الكراهة ههنا لاختلاف العلماء وشبهة الحديث. (نوع آخر) في تدارك الحد الواقع فيه إذا غشي على المؤذن ساعة في الأذان أو في الإقامة، قال محمد رحمه الله: أحبّ إليّ أن يقتدي به من أولها؛ لأن لكل واحد منهما شبهاً بالصلاة، ولو غشي عليه في صلاة الأصل ثم أفاق، فإنه سوّى بها ولا شيء، كذا ههنا، فلو لم يقتد بها، وأتمها جازت صلاته؛ لأنه لو تركهما جازت صلاته، فههنا أولى. وكذلك لو رعف فيها أو أحدث، فذهب وتوضأ ثم جاء، فأحب إليّ أن يقتدي بها من أولها لما ذكرنا أن لها شبهاً في الصلاة ولو أحدث في الصلاة فكان، الأولى أن يقتدي بها، ولو ... عليها يجوز كذا هنا؛ فلأنه ربما يشتبه على الناس أنه يؤذن أو يتعلم كلمات الأذان، قال مشايخنا، والأولى أن يتم الأذان إن أحدث في الأذان، ويتم الإقامة إن أحدث في الإقامة ثم يذهب ويتوضأ ويصلي؛ لأن ابتداء الأذان والإقامة مع الحدث جائز فأما بهما، أولى. ونزول الاشتباه الذي ذكرنا، لهذا إذا كان الأفضل إتمامهما قبل التوضىء، وكذا إذا مات المؤذن في الأذان أو ارتد، فالأولى أن يقتدي غيره؛ لأن بالموت انقطع عمله، وبالردة حبط عمله؛ ولأننا على المنقطع والباطل، وإن لم يقتد غيره وأتمه جاز وإذا أذن بتمامه ثم ارتد، فإن اعتدوا بأذانه وأمروا من يقيم، ويصلي بهم جاز. وإن استعادوا الأذان (54ب1) فذلك أولى؛ لأن بالردة بطل، وصار كأنه لم يؤذن أصلاً، وإذا قدّم المؤذن في أذانه وإقامته بعض الكلمات على البعض، نحو أن يقول أشهد أن محمداً رسول الله قبل قوله أشهد أن لا إله إلا الله، فالأفضل في هذا أن ما سبق أوانه لا يعتد به حتى يعيده في أوانه وموضعه؛ لأن الأذان شرعت متطوعة مرتبة فتؤدى على نظيره وترتيبه إن مضى على ذلك جازت صلاتهم. ولو افتتح الأذان يظن أنها الإقامة، فأقام في آخرها وصلى بالقوم جازت صلاتهم؛ لأنه ترك آخر الأذان وأتى بأولها، وأتى بآخر الإقامة وترك أولها، ولو ترك الأذان والإقامة أصلاً يجوز، فههنا أولى. وإن استيقن قبل الشروع في الصلاة بأن علم بعدما قال قد قامت الصلاة، فإنه في الأذان فإنه يتم الأذان ثم يقيم؛ لأنه أتى بأول الأذان على وجهها، إلا أنه غيّر آخرها

فكان عليه أن يصلح ما غير إذا أمكنه الإصلاح، وقد أمكنه الإصلاح إذا استيقن قبل الشروع في الصلاة ثم يستقبل الإقامة؛ لأنه لم يأت بأولها. فرقٌ بين الإقامة وبين الأذان، فإن في الأذان لم يقل استقبل الأذان، وإنما قال يتم الأذان، وفي الإقامة قال: استقبل الإقامة. والفرق: أنه أتى بأول الأذان إلا أنه غير آخرها، وأمكنه إصلاح ما غيّر، فلا حاجة إلى الاستقبال، أما في الإقامة لم يأت بأولها، وإنما أتى بآخرها، ولا يمكن بناء الآخر على الأول؛ لأن الأول لم يؤُخر بعده فلهذا قلنا بالاستقبال. ثم في فصل الأذان قال يتم الأذان، ولم يبين صورة الإتمام. وقد ذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار صورة، فقال؛ يعود إلى قوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، وإذا ظن الإقامة من أولها أداها وأتمها أذاناً ينبغي أن يعيد الإقامة؛ لأن التغيير في كله، ولو ألحق بأخرها قد قامت الصلاة، فصلى بها جاز ولو أنه حتى فعل في الإقامة بأفعل ظن بأن ذلك لا يجزيه، فاستقبل الأذان من أوله ثم أقام وصلى، فإنه يجوز؛ لأنه أتى باجتهاد وأكملها. (نوع آخر) فيمن يقضي الفوائت بأذان وإقامة أو بغير أذان وإقامة ومن فاتته صلاة عن وقتها، فقضاها في وقت آخر أذن لها وأقام واحداً كان أو جماعة لحديث ليلة التعريس حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي وادٍ، فقال: من يكلؤنا الليلة، فقال؛ بلال أو أنس رضي الله عنهما أنا، فغلب رسول الله صلى الله عليه وسلّمالنوم يومئذٍ إلى مؤخر وحمله ونام، فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس، وكان عمر رضي الله عنه رابعهم، فاستيقظ ونادى فاستيقظ النبي عليه السلام من صياحه، وأمر بلالاً فأذن، فصلوا ركعتي الفجر ثم أمر بلالاً، فأقام، وصلى بهم الفجر. وشُغل رسول الله عليه السلام عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهُنّ بعد ... من الليل. قال ابن مسعود رضي الله عنه أمر بلالاً، فأذن وأقام الأولى ثم أقام لكل صلاة بعدها، وقال جابر أمره فأذن وأقام لكل صلاة، وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أمره بالإقامة لكل صلاة، والمعنى فيه وهو أن القضاء على نية الأداء وسنية الأداء بالأذان، والإقامة بجماعة، فكذلك القضاء، فإن اكتفوا بالإقامة لكل صلاة جائز؛ لأن الأذان لإعلام الناس، ولا حاجة إلى ذلك في القضاء، والإقامة لإقامة الصلاة، وهو محتاج إلى ذلك، ولكن الأحسن أن يؤذن ويقيم لكل صلاة، ليكون القضاء على سنّة الأداء، ولأنه إن لم يكن محتاجاً إلى الإعلام، فهو محتاج إلى أجر الثواب، وقد عرف ثواب الأذان والإقامة ذكره الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي. قال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: والأحسن أن يؤذن ويقيم الأولى، ثم بعد ذلك يقضي كل صلاة

بإقامة بغير أذان؛ لأن المقصود من الأذان هو الإعلام وهم مجتمعون، فلا حاجة إلى الإعلام أما الإقامة للتأهب والتحريم، وهو محتاج إلى ذلك. ذكره الإمام الصفار رحمه الله. وإن صلوا بغير أذان وإقامة وجماعة يجوز؛ لأن فعل النبي عليه السلام يدل على الجواز، ولا يدل على الوجوب، وفي «الجامع الهاروني» قدّم ذكر، وإفساد صلاة صلوها في غير وقت تلك الصلاة قضوها بأذان وإقامة في غير المسجد الذي صلوا فيه تلك الصلاة مرّة، وإن ذكروها في وقتها صلوها في ذلك المسجد، ولا يعيدون الأذان والإقامة، فإن صلوا بإقامة في ذلك المسجد صلوها وحدانا، والله أعلم. (نوع آخر) في المتفرقات من هذا الفصل إذا صلى رجل في بيته واكتفى بأذان الناس وإقامتهم أجزأه من غير كراهة، لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى بعلقمة والأسود في بيت، فقيل له: ألا تؤذن وتقيم؟ فقال: أذان الحي يكفينا، ولأن مؤذن الحي نائب عن أهل المحلة في الأذان والإقامة؛ لأنهم هم الذين نصبوه لها، فكان نائباً عنهم، فيكون الأذان والإقامة من المؤذن كأذان الكل بالكل وإقامتهم من حيث الحكم والاعتبار، وإذا جعل أذانه وإقامته من له أذانهم وإقامتهم، فقد وجد الأذان والإقامة منهم من حيث الحكم والاعتبار إن لم يوجد جميعه. فرق بين هنا وبين المسافر إذا صلى وحده وترك الأذان والإقامة أو ترك الإقامة، فإنه يكره له ذلك. والمقيم إذا صلى وحده بغير أذان ولا إقامة، لا يكره. والفرق: أن المقيم إن صلى بغير أذان وإقامة حقيقة، ولكنه صلى بأذان وإقامة من حيث الحكم والاعتبار، فأما المسافر فقد صلى بغير أذان وإقامة حقيقية وحكماً، فيكره لهذا. وإن أذن وأقام وحده فهو أحسن؛ لأن المستفرد مندوب إلى أن يؤدي الصلاة على هيئة الجماعة، ولهذا كان الأفضل أن يخفي بالقراءة في صلاة الجهر، وكذلك إن أقام ولم يؤذن؛ لأن الأذان لإعلام الناس حتى يجتمعوا، وذلك غير موجود ههنا، والإقامة لإقامة الصلاة وهو يقيمها. والدليل عليه ما روى طاوس: أنه قال: إذا صلى الرجل وحده إن صلى بإقامته صلى معه ملكاه، وإن صلى بأذان وإقامة صلى من وراءه من الملائكة ما يسد الأفق، قال القاضي الإمام صدر الإسلام؛ إذا لم يؤذن في تلك المحلة يكره له تركهما، ولو ترك الأذان وحده لا يكره. والقدوري في «شرحه» روى عن أبي حنيفة في الجماعة: إذا صلوا في منزل أو مسجد فنزل بغير أذان ولا إقامة بهم أساؤوا، ولا يكره للواحد؛ لأن أذان الجماعة يقع الأفراد وأما لا يقع لجماعة أخرى ومن سمع الأذان، فعليه أن يجيب، قال عليه السلام: «من لم يجب الأذان فلا صلاة له» قال شمس الأئمة الحلواني تكلم الناس في الإجابة،

قال بعضهم هي الإجابة بالقدم لا باللسان حتى لو أجاب باللسان ولم يمشِ إلى المسجد لا يكون مجيباً ولو كان حاضراً في المسجد حتى سمع الأذان، فليست بالإجابة. وقوله عليه السلام. «من قال مثل ما يقوله المؤذن، فله من الأجر كذا» فهو كذلك إن قاله نال الثواب الموعود، وإن لم يقل لم ينل الثواب الموعود فأما إني نائم أَوَ يكره له ذلك، فلا وإذا رد الجواب باللسان لنيل الثواب الموعود، فكل ما هو ثناء وشهادة يقول كما قال المؤذن، وعند قوله حيَّ على الصلاة حيّ على الفلاح، يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ما شاء الله كان. رجل دخل مسجداً صلى فيه أهله، فإنه يصلي وحده من غير أذان وإقامة، ويكره أن يصلي بجماعة بأذان وإقامة، والأصل في ذلك ما روي أن رسول الله خرج ليصلح بين الأنصار، واستخلف عبد الرحمن بن عوف، فرجع بعدما صلى عبد الرحمن فدخل جميع أصحابه وصلى بهم، ولو كان يجوز إعادة الصلاة في المسجد لما ترك الصلاة في المسجد، مع أن الصلاة في المسجد أفضل، وبأن في هذا التعليل الجماعة؛ لأن الجماعة إذا كانت لا تفوتهم لا يعجلون للحضور، فإن كل أحد يعتمد على جماعته، وبه وقع الفرق بين هذا وبينما إذا صلى فيه قوم ليسوا من أهله حيث كان لأهله أن يصلوا فيه بجماعة بأذان وإقامة؛ لأن تكرار الجماعة هنا لا يؤدي إلى تقليل الجماعة. وروي عن أبي يوسف في الفصل الأول أنه قال: إنما يكره تكرار الجماعة إذا كان القوم كثيراً، أما إذا صلى واحد بواحد أو باثنين بعدما صلى فيه أهله فلا بأس، لما روي أن رسول الله عليه السلام صلى بأصحابه، فدخل أعرابي وقام يصلي فقال عليه السلام: «من يتصدق على هذا فيقوم ويصلي معه» (55أ1) . فقام أبو بكر وصلى معه، وروي عن محمد أنه لم يرَ بالتكرار بأساً إذا صلوا في زاوية من المسجد على سبيل الخفية إنما يكره على سبيل التداعي والاجتماع. قال القدوري في «كتابه» : وإن كان المسجد على قارعة الطريق ليس له قوم معينين، فلا بأس بتكرار الجماعة فيه؛ لأن تكرار الجماعة في هذا الفصل لا يؤدي إلى تقليل الجماعة جماعة من أهل المسجد إذا نوى في المسجد على وجه المخافتة بحيث لم يسمع غيرهم، وصلوا ثم حضر قوم من أهل المسجد، ولم يعلموا ما صنع الفريق الأول، وإذا نوى على وجه الجهر والإعلان ثم علموا ما صنع الفريق الأول، فلهم أن يصلوا بالجماعة على وجهها لا غيره بالجماعة الأولى؛ لأنها ما أقيمت على وجه السنّة بإظهار الأذان والإقامة، ولا يبطل حق الباقين. ولا بأس بالتطريب في الأذان، وهو تحسين الصوت من غير أن يتغير، فإن تغير بلحنه أو ما أشبه ذلك كره، قال شمس الأئمة الحلواني؛ إنما يكره ذلك فيما كان من

الأذكار، أما قوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح لا بأس بإدخال المد فيه. المؤذن إذا لم يكن عالماً بأوقات الصلاة لا يستحق ثواب المؤذنين، ولا ينبغي للمؤذن أن يتكلم في الأذان والإقامة أو بشيء لما ذكرنا أن لهما شبهاً بالصلاة، وإن تكلم بكلام يسير لا يلزمه الاستقبال، وإذا انتهى المؤذن في الإقامة إلى قوله قد قامت الصلاة، له الخيار إن شاء أتمها في مكانه، وإن شاء مشى إلى مكان الصلاة إماماً كان المؤذن أو لم يكن. وإذا سلم رجل على المؤذن في أذانه أو عطس رجل؛ روي عن أبي حنيفة أنه يرد السلام في نفسه، ويشمته في قلبه، ولا يلزمه شيء من ذلك إذا فرغ، وعن محمد أنه لا يفعل شيئاً في الأذان، وإذا فرغ من الأذان رد السلام وشمت العاطس إن كان حاضراً، وعن أبي يوسف أنه (لا) يفعل شيئاً من ذلك؛ لا قبل الفراغ من الأذان ولا بعده، وهو الصحيح ولا يؤذن بالفارسية، ولا بلسان آخر غير العربية، وإن علم الناس أنه أذان فقد قيل يجوز. آداب الصلاة جئنا إلى بيان آداب الصلاة فنقول: من آداب الصلاة إخراج الكفين من الكمين عند التكبير. ومنها: أن يكون نظره في قيامه إلى موضع سجوده وفي الركوع إلى أصابع رجليه وفي السجود إلى أرنبة أنفه، وفي القعود إلى حجره، ومنها كظم الفم إذا تثاءب، فإن لم يقدر غطاه بيده أو كُمِّه، قال عليه السلام: «إذا تثاءب أحدكم في صلاته فليغط فاه إن الشيطان يدخل فيه» . ومنها: دفع السعال عن نفسه ما استطاع، ومنها أن لا يمسح التراب، والعرق عن وجهه بعدما قعد قدر التشهد في آخر الصلاة، هكذا ذكر نجم الدين النسفي في «الخصائل» . واعلم بأن هذه المسألة على وجوه: أحدها: إذا مسح جبهته بعد السلام وأنه لا بأس به بل يستحب ذلك؛ لأنه قد خرج من الصلاة ونية إزالة الأذى عن نفسه. والثاني: إذا مسح جبهته بعد الفراغ من أعمال الصلاة قبل السلام، وإنه لا بأس به أيضاً؛ لأن هذا دون الخروج عن الصلاة والذهاب، وقد أُبيح الخروج وأبيح له الذهاب قبل الخروج، حتى لو ذهب ولم يسلم قبلت صلاته فيما دون الخروج والذهاب أو إلى أن يكون ... حاله. والثالث: إذا مسح جبهته بعد ما رفع رأسه من السجدة. ذكر شمس الأئمة السرخسي أنه لا بأس به، وذكر شمس الأئمة الحلواني أنه اختلفت ألفاظ الكتب في هذا

الوجه، ذكره في بعضها لست أكره ذلك، وذكر في بعضها أكره ذلك، وذكر في بعضها لا أكره ذلك بعض مشايخنا قالوا: لا مقطوع عن قوله أكره، فقوله لا، نهي وقوله أكره تأكيد له معناه لا يفعل، فصار هذه اللفظ وقوله ذلك أكره ذلك سواء. وهذا القائل يستدل بما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أربع من الجفاء وذكر من جملتها، وأن تمسح جبهتك قبل أن تفرغ من صلاتك، وقال بعضهم قوله؛ لا متصل بقوله وأكره، فصار هذا اللفظ على قول هذا القائل، وقوله لست أكره ذلك سواء، ويستدل هذا القائل بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «بت في بيت خالتي ميمونة، فقمت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلّم فقمت عن يساره فحوله إلى يمينه، ورأيته يمسح العرق عن جبينه» . الرابع: إذا مسح جبهته في خلال الصلاة وفي ظاهر الرواية لا بأس به، وقال أبو يوسف؛ أحب إليّ أن يدعه فرّق أبو يوسف بين هذا الوجه، وبينما تقدم من الوجوه. والفرق: أنّ في هذا الوجه لو مسح جبينه ثانياً وثالثاً، فلا يفيد، ولو فعل ذلك في كل مرة كان عملاً كثيراً لولاء (الحركات) كذلك الوجوه الثلاثة؛ لأنه لا يحتاج إلى السجدة ثانياً في الوجوه الثلاثة، فكان المسح مفيداً. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا كان الإمام مع القوم في المسجد، فإني أحب لهم أن يقوموا في الصف إذا قال المؤذن حيّ على الفلاح، يجب أن يعلم بأن هذه المسألة على وجهين: إما أن يكون المؤذن غير الإمام أو يكون هو الإمام، فإن كان غير الإمام وكان الإمام مع القوم في المسجد، فإنه يقوم الإمام والقوم إذا قال المؤذن: حيّ على الفلاح عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله. وقال الحسن بن زياد وزفر إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة قاموا في الصف، وإذا قال مرة؟ والصحيح قول علمائنا الثلاثة؛ لأن قوله قد قامت الصلاة إخبار عن حقيقة القيام إلى الصلاة، وإنما يتحقق الإخبار عن حقيقة القيام إلى الصلاة إذا كان القيام سابقاً على قوله قد قامت الصلاة، ومتى سبق القيام على قوله قد قامت الصلاة يحصل القيام عند قوله حيّ على الفلاح؛ ولأنهم يحتاجون إلى إحضار النية؟.... أن يقوموا عند قوله حيّ على الفلاح حتى يمكنهم إحضار النية. هذا إذا كان المؤذن غير الإمام، والإمام حاضر في المسجد، فأما إذا كان الإمام خارج المسجد، إن دخل المسجد من وراء الصفوف اختلفوا فيه، قال بعضهم: كلما رأوا الإمام يقومون، وقال بعضهم؛ ما لم يأخذ الإمام مكان الصلاة لا يقومون. وقال بعضهم: إذا اختلط الإمام بالقوم قاموا: وقال بعضهم: كلما جاوز صفاً قام ذلك الصف، وإليه مال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني والشيخ الإمام خواهر زاده

والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي؛ لأنه كلما جاوز صفاً صار ذلك الصف بحال لو اقتدوا به صح اقتداؤه، فصار كأنه أخذ مكان الصلاة في ذلك الصف، وإن كان الإمام دخل المسجد يبدأ منهم يقولون كما.....؟ الإمام؛ لأن في تلك الحالة صاروا بحال لو اقتدوا به صح اقتداؤهم، فصار كأنه أخذ مكان الصلاة، فيقومون. وإن كان الإمام والمؤذن واحد فإن أقام في المسجد فالقوم لا يقومون ما لم يفرغ من الإقامة؛ لأنهم لو قاموا قاموا لأجل الصلاة. ولا وجه إليه؛ لأنهم تابعون لإمامهم وقيام إمامهم في هذه الحالة؛ لأجل الإقامة، لا لأجل الصلاة. وإن أقام خارج المسجد، فلا ذكر. فهذه المسألة في «الأصل» ، ومشايخنا اتفقوا على أنهم لا يقومون ما لم يدخل الإمام في المسجد، لما روي أن النبي عليه السلام كان في حجرة عائشة رضي الله عنها، فلما أقام بلال الصلاة، وخرج رسول الله عليه السلام إلى المسجد، فرأى الناس ينتظرونه، فقال لهم رسول الله عليه السلام: «ما لي أراكم سامدين» أي واقفين مُتحيِّرين، وفي رواية قال: «لا تقوموا في الصف حتى تروني قد خرجت» ؛ ولأنهم لا يقدرون على التكبير ما لم يدخل الإمام المحراب وينتصب للصلاة، فإذا قاموا هنا اشتغلوا بعمل غير مفيد فيكره. ثم المؤذن هل يتم الإقامة في المكان الذي بدأ، فإن كان الإمام والمؤذن واحد اختلفوا فيه: روي عن أبي يوسف أنه يتمها في المكان الذي بدأ؛ لأن هذا أحد الأذانين، فيعتبر بالآخر ثم الآخر يتمها في المكان الذي بدأ، فكذا هذا. وبه أخذ بعض المشايخ. وقال بعض مشايخنا: إذا انتهى إلى قوله قد قامت الصلاة سكت ويأخذ في المشي فإذا أخذ مكان الصلاة أتمها، وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار وشيخ الإسلام خواهر زاده أنه بالخيار إن شاء أتمها في المكان الذي بدأ، وإن شاء أتمها إذا شاء. وإن كان المؤذن غير الإمام، والإمام حاضر، فيتمها في المكان الذي بدأ ثم الإمام يأتي بالتكبير. قال أبو حنيفة رحمه الله: يكبر قبل قوله قد قامت الصلاة، هكذا فسر في «النودار» ؛ وظاهر ما ذكر في «الكتاب» وجب أن يكبر (55ب1) بعد فراغه عن قوله قد قامت الصلاة، قال شمس الأئمة الحلواني: والصحيح ما ذكرنا في «النوادر» ، وقال أبو يوسف ينتظر فراغ المؤذن من الإقامة فإذا فرغ منها كبّر، هذا بيان الأفضل، ولو كبّر بعد ما فرغ المؤذن من الإقامة كما قال أبو يوسف جاز عند أبي حنيفة، ولو كبّر قبل قوله قد قامت الصلاة كما قاله أبو حنيفة جاز عند أبي يوسف. وقال أبو يوسف: ليس المراد من قوله قد قامت الصلاة حقيقة الإخبار عن الإقامة، بل المراد الإخبار عن المقاربة يعني قرب

إقامة الصلاة، كما في قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} (النحل:1) أي قرب إتيان أمر الله وكما في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} (الزمر:3) أي قرب، ثم اختلفوا في وقت إدراك فضيلة تكبيرة الافتتاح، ذكر شيخ الإسلام اختلافاً بين أبي حنيفة وصاحبيه، فقال على قول أبي حنيفة: إذا كبّر مقارناً لتكبير الإمام، فيصير مدركاً فضيلة تكبيرة الافتتاح، وما لا فلا، وعندهما إذا أدرك الإمام في الثناء وكبّر يصير مدركاً فضيلة تكبيرة الافتتاح وما لا فلا. وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله أن شداد بن الحكيم كان يقول: إن كان الرجل حاضراً وأراد أن يدرك فضيلة تكبيرة الافتتاح ينبغي أن يشرع قبل قراءة سبع آيات، وقال بعضهم: إذا أدرك الإمام في الركعة الأولى يصير مدركاً فضيلة تكبيرة الافتتاح، وهذا أوسع بالناس والله أعلم. فرع في بيان ما يفعله المصلي بعد الافتتاح وإذا افتتح وضع يمينه على يساره تحت السرة وقد مرّ هذا، ولم يذكر في «الأصل» موضع وضع اليمين على اليسار، واختلف المشايخ فيه قال: يضع باطن كف اليمين على ظاهر كفه اليسرى، وقال: بعضهم يضع باطن كفه اليمين على ذراعه اليسرى، وقال أكثرهم: يضع كفه اليمنى على مفصل اليسرى وبه أخذ الطحاوي، وفي رواية الأصول قال أبو يوسف يقبض بيده اليمنى رسغه اليسرى، وقال محمد يضع كذلك. وقال الفقيه أبو جعفر قول أبي يوسف؛ أحبُّ إليّ؛ لأن في القبض وضعاً وزيادة، قال الشيخ الإمام المعروف بخواهر زاده كما كبّر يضع يمينه على يساره عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعن محمد في «النوادر» أنه في حالة الثناء يرسل يديه، ولا يعتمد، إنما يعتمد إذا فرغ من الثناء، وأما في صلاة الجنازة وقنوت الوتر وتكبيرات العيد والقومة التي بين الركوع والسجود يرسل، ولا يضع عند محمد. والحاصل: أن الوضع عنده سنّة قيام فيه قراءة، واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة في قنوت الوتر، قال بعضهم: يرسل وهو قول أبي يوسف، وقال بعضهم: يضع، وأما في القومة التي بين الركوع والسجود ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلاة أنه يرسل على قولهما كما هو قول محمد. وذكر في مواضع أُخر أن على قولهما يعتمد، ومشايخ ما وراء النهر اختلفوا. قال الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص: السنّة في صلاة الجنازة، وفي تكبيرات العيد والقومة التي بين الركوع والسجود الإرسال، وقال أصحاب الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل منهم القاضي الإمام أبو علي النسفي، والحاكم عبد الرحمن بن محمد الكاتب، والشيخ الإمام الزاهد عبد الله.... والشيخ الإمام إسماعيل الزاهد، السنّة

في هذه المواضع الاعتماد والوضع، وقالوا؛ مذهب الروافض الإرسال من أول الصلاة، فنحن نعتمد مخالفة لهم. وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني يقول كل قيام فيه ذكر مسنون، فالسنّة فيه الاعتماد كما في حالة الثناء والقنوت وصلاة الجنازة، كل قيام ليس فيه ذكر مسنون كما في تكبيرات العيد، فالسنّة فيه الإرسال، وبه كان يفتي شمس الأئمة السرخسي والصدر الكبير برهان الأئمة والصدر الشهيد حسام الأئمة رحمهم الله ثم يقول: سبحانك اللهم إلى آخره، ولم يذكر في «الأصل» ولا في «النوادر» وجلّ ثناؤك؛ لأنه لم ينقل في التفاسير وذكر شمس الأئمة الحلواني وشمس الأئمة السرخسي أن محمداً رحمه الله ذكر في كتاب الحجج على أهل المدينة، قال شمس الأئمة الحلواني: قال مشايخنا: إن قال وجلّ ثناؤك لم يمنع عنه، وإن سكت عنه لم يؤمر به، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة إذا قال: سبحانك اللهم بحمدك تبارك اسمك بحذف الواو، فقد أصاب وهو جائز، روى محمد بن المنكدر عن النبي عليه السلام مثل ذلك، وعن أبي يوسف في «الإملاء» أحب إليّ أن يزيد في الافتتاح «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً إلى قوله وأنا أول المسلمين» . بعد هذا عن أبي يوسف روايتان في رواية قال: يقول وأنا من المسلمين وفي رواية قال يقول، وأنا أول المسلمين، والطحاوي أخذ بهذا إلا أنه يقول: المصلي بالخيار إن شاء قال ذلك قبل الثناء، وإن شاء قال ذلك بعد الثناء، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة. وفي رواية أخرى عن أبي يوسف يقول ذلك بعد الثناء، قيل: هو الصحيح من مذهبه، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: وفي ظاهر رواية أصحابنا: لا يقول ذلك بعد افتتاح الصلاة، وهل يقول قبل افتتاح الصلاة؟ فعن المتقدمين لا يقول، وقال المتأخرون يقول، وهو اختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله، ثم اختلف المتأخرون فيما بينهم أنه يقول؛ وأنا أول المسلمين؛ لأن المنزل في كتاب الله، هكذا فيتبرك بالمنزَّل. وقال بعضهم: يقول: وأنا من المسلمين، وبه كان يُفتي شمس الأئمة الحلواني؛ لأنه لا يريد تلاوة القرآن، وإنما يريد الثناء فيختار ما هو أقرب إلى الصدق ثم على قول من يقول. وأنا من المسلمين، لو قال: وأنا أول المسلمين في الصلاة هل تفسد صلاته؟ اختلفوا فيما بينهم، قال بعضهم: تفسد، وقال بعضهم لا تفسد وفي قوله: ولا إله غيرك أربع لغات لا إله غيرك لا له غيرك لا إله غيرك لا إله غيرك، لا إله غيرك ولا يقول لا إله خيرك، ولو جرى ذلك على لسانه خطأ هل تفسد صلاته؟ اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه لا تفسد، وبه كان يفتي الشيخ الزاهد الصفار، ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في نفسه. واعلم بأن الكلام في التعوذ في فصول. أحدها: في أصله قال علماؤنا رحمهم الله: يتعوذ، وقال: لا يتعوذ، حُجته حديث

أنس قال: «صليت خلف رسول الله عليه السلام وخلف أبي بكر وعمر، وكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» ، ولم يذكر التعوذ، حجتنا حديث أبي الدرداء، فإنه روى أنه قام ليصلي، فقال له رسول الله عليه السلام «تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن» . والثاني: في وقته ومحله، قال علماؤنا يتعوذ بعد الثناء قبل القراءة، وقال بعض أصحاب الظواهر، يتعوذ بعد القراءة لقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ با} (النحل:98) ذكر بحرف الفاء أنه للتعقيب، وإنا نقول التعوذ لدفع وسوسة الشيطان وإنما يحتاج إلى دفع الوسوسة قبل الشروع في القراءة.k والثالث: في لفظ التعوذ، وهذا فصل لم يذكره محمد رحمه الله، وقد اختلف فيه القراء قال بعضهم أعوذ بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقال بعضهم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأنّ الله هو السميع العليم. وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني: أنه اختار أحد اللفظين أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يقرأ الفاتحة، ولا يقول بعد التعوذ: إن الله هو السميع العليم؛ لأن ههنا ثناءً، ومحل الثناء قبل التعوذ لا بعده، ثم إن محمداً رحمه الله قال: يتعوذ في نفسه، فهو إشارة إلى أن السنّة فيه الإخفاء، وهو المذهب عند علمائنا رحمهم الله؛ لأنه لم ينقل عن رسول الله عليه السلام الجهر به، والذي روى عن عمر أنه جهر بالتعوذ فله تأويلان: أحدهما: أنه وقع ذلك اتفاقاً لا قصداً. والثاني: أن قصده كان تعليم السامعين أنه ينبغي للمصلي أن يتعوذ، وكان عطاء يقول: الاستعاذة واجبة عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها، وإنه مخالف لإجماع السلف والسلف كانوا مجمعين على أنه سنّة. وهذا الذي ذكرنا في الإمام والمنفرد. وأما المقتدي هل يأتي بالتعوذ؟ على قول أبي يوسف يأتي، وعلى قول محمد لا يأتي، ولم يذكر قول أبي حنيفة، وذكر الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده والشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار في شرح كتاب الصلاة (56أ1) إن قول أبي حنيفة قبل قول محمد ... إلى «الزيادات» ، فطلبنا قول أبي حنيفة في «الزيادات» ، واستقصى في ذلك، فلم يجد قوله ثمة ولا في شيء من الكتب، فلعلّ الخلاف بين أبي يوسف ومحمد، وقد رأيت في «متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله» رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة مثل قول محمد. ومنشأ الخلاف أن التعوذ يتبع للثناء أو يتبع للقراءة، فوقع عند أبي يوسف أنه تبع

للثناء، والمقتدي يأتي بالثناء يأتي بالتعوذ تبعاً له، ووقع عند محمد أن التعوذ تبع للقراءة، والمقتدي لا يأتي بالقراءة فلا يأتي بالتعوذ، وثمرة الخلاف تظهر في ثلاث مواضع. أحدها: هذه المسألة. والثانية: أن في العيدين المصلي يأتي بالتعوذ بعد الثناء قبل تكبيرات العيد عند أبي يوسف، وعند محمد يأتي بالثناء بعد تكبيرات العيد. والثالث: أن المسبوق إذا قام إلى قضاء ما سبق، فعلى قول أبي يوسف لا يأتي بالتعوذ؛ لأنه تعوذ حين شرع في الصلاة، وعن محمد في هذه الصورة روايتان في رواية يتعوذ، وفي رواية لا يتعوذ، هكذا ذكره الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي، والقاضي الإمام صدر الإسلام أبو اليسر رحمه الله، قال صدر الإسلام قول أبي يوسف رحمه الله أصح، والتعوذ عند افتتاح القراءة في الركعة الأولى لا غير، إلا على قول ابن سيرين، فإنه كان يقول يتعوذ في كل ركعة ثم يفتتح القراءة، ويأتي بالتسمية ويخفيها.....؟ بأن الكلام في التسمية في مواضع: أن التسمية تُتلى هي من القرآن، فعندنا هو من القرآن، وعند مالك ليس من القرآن حجته في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله عليه السلام كان يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين» . حجتنا في ذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: «صليت خلف رسول الله عليه السلام، وخلف أبي بكر وعمر وكانوا يفتتحون ببسم الله الرحمن الرحيم» ، والدليل عليه أن محمداً أدخل التسمية في القراءة، حيث قال ثم يفتتح القراءة، ويخفي بسم الله الرحمن الرحيم، وهذا يدلك على أنها قرآن، والدليل عليه أنها مكتوبة في سورة النمل وسورة النمل قرآن، فما يكون فيها كان قرآناً ضرورة. والثاني: أنها هل هي من الفاتحة ومن رأس كل سورة أم لا؟ قال أصحابنا رحمهم الله: إنها ليست من الفاتحة ومن رأس كل سورة ولكنها آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور، وهو اختيار أبي بكر الرازي. وقال الشافعي: إنها آية من الفاتحة قولاً واحداً، وله في كونها من رأس كل سورة قولان، هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» . وفي «القدوري» قال أبو الحسن الكرخي رحمه الله لا أعرف هذه المسألة بعينها عن متقدمي أصحابنا، والأمر بالإخفاء دليل على أنها ليست من السورة، وفي شرح شمس الأئمة الحلواني اختلف المشايخ في أن التسمية هل هي آية من الفاتحة؟ أكثرهم على أنها آية من الفاتحة، وبه تصير سبع آيات. والثالث: أنه هل يجهر بها على قول أصحابنا لا يجهر بها، وقال الشافعي: يجهر.

والرابع: أنه هل تكرر؟ روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: المصلي يُسمي في أول صلاته ثم لا يعيد، وإليه مال الفقيه أبو جعفر رحمه الله، وروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله: أنه يأتي بها في أول كل ركعة، وهو قول أبي يوسف وذكر الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة: أنه إذا قرأها مع كل سورة فحسن. وروى ابن أبي رملة عن محمد أنه يأتي بالتسمية عند افتتاح كل ركعة، وعند افتتاح السورة أيضاً، إلا أنه إذا كان صلاة يجهر فيها بالسورة. لا يأتي بالتسمية بين الفاتحة والسورة، وعند الشافعي يأتي بالتسمية في كل ركعة، ويأتي بها أيضاً في رأس السورة، سواء كان صلاة يجهر فيها بالقراءة أو يخافت، وذكر أبو علي الدقاق أنه يقرأ قبل فاتحة الكتاب في كل ركعة، قال: وهو قول أصحابنا ورواية أبي يوسف عن أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف أحوط؛ لأن العلماء اختلفوا في التسمية أنها هل هي من الفاتحة أم لا؟ وعليه إعادة الفاتحة في كل ركعة، فكان عليه إعادة التسمية في كل ركعة لتكون أبعد عن الاختلاف. قال صدر الإسلام في «شرحه» : لم يذكر محمد رحمه الله في التسمية خلافاً بين أبي يوسف وبين ... أنها للصلاة، أو للقراءة كما ذكر في التعوذ، وما روى الحسن عن أبي حنيفة أنه يُسمي في الركعة الأولى فحسب، تدل على أنها للصلاة. وإذا فرغ من الفاتحة قال آمين والسنّة فيه الإخفاء، لقوله عليه السلام: «إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين» فإن الإمام يقولها، ولو كان تأمين الإمام مسموعاً يستغني عن قوله، فإن الإمام يقولها والمقتدي يؤمن في ظاهر الرواية، وروي عن أبي حنيفة أنه لا يؤمِّن، رواه الحسن وإذا سمع المقتدي من الإمام ولا الضالين في صلاة لا يجهر فيها مثل الظهر والعصر والعشاء هل يؤمن؟ فعن بعض المشايخ أنه لا يؤمن وعن الفقيه أبي جعفر أنه يؤمن، ومن سمع الإمام أمَّن في صلاة الجمعة أمّن هو. ثم إذا فرغ من القراءة يركع، وقد ذكرنا بعض مسائل الركوع في الفصل المتقدم، قال محمد وإذا أراد أن يركع يكبر، قال بعض مشايخنا ظاهر ما ذكر محمد يدل على أن تكبير الركوع يؤتى به في حال القيام، فإنه قال: وإذا أراد أن يركع يكبّر، وقال بعضهم: يكبّر عند الخرور للركوع، فيكون ابتداء تكبيره عند أول الخرور والفراغ عند الاستواء للركوع؛ لأن هذا تكبير الانتقال، ويؤتى بجميع الانتقال والطحاوي في كتابه يقول يخر راكعاً سكوتاً، وهذا إشارة إلى القول الثاني. ولا يرفع يديه عندنا لا في حالة الركوع ولا في حالة رفع الرأس من الركوع، والأصل فيه قوله عليه السلام: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن عند افتتاح الصلاة،

وعند القنوت في الوتر، وعند كل تكبيرة من صلاة العيدين» وذكر الأربعة الأُخرى في المناسك. ويقول في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاثاً، وذلك أدناه وإن زاد فهو أفضل بعد أن يختم على وتر. فيقول خمساً أو سبعاً، هكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني وشيخ الإسلام خواهر زاده، هذا في حق المنفرد، وأما الإمام فلا ينبغي له أن يطول على وجه يُمل القوم؛ لأنه يصير سبباً للتغيير، وذلك مكروه، وكان الثوري يقول: ينبغي أن يقول ذلك خمساً حتى يتمكن القوم من أن يقولوا ثلاثاً، كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» والطحاوي في كتابه بقوله: إذا كان إماماً، بعضهم قالوا: يقول ثلاثاً، وبعضهم قالوا: يقول أربعاً حتى يتمكن القوم من أن يقولوا ثلاثاً، ثم لم يرد محمد رحمه الله بقوله، وذلك أدناه أدنى الجواز؛ لأن الركوع بدون هذا الذكر جائز في ظاهر الرواية، فإنما أراد به أدنى الفضيلة. وروي عن محمد رحمه الله في غير رواية «الأصل» أنه إذا ترك التسبيح أصلاً أو أتى مرة واحدة يجوز ويكره، وكان أبو مطيع تلميذ أبي حنيفة يقول: كل فعل هو ركن يستدعي ذكراً فيه كان ركناً كالقيام، فقد أشار إلى أن تسبيح الركوع ركن. ولكنا نقول: إن النبي عليه السلام علّم الأعرابي الركوع ولم يذكر له شيئاً، ولو كان التسبيح ركناً لبين؛ لأنه بين الأركان، ولو كان الإمام في الركوع فسمع خفق النعال هل ينتظر أم لا؟ قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة وابن أبي ليلى عن ذلك فكرهاه، وقال أبو حنيفة؛ أخشى عليه أمراً عظيماً يعني الشرك، وروى هشام عن محمد أنه كره ذلك، وعن أبي مطيع أنه كان لا يرى به بأساً، وقال الشعبي لا بأس به مقدار التسبيحة والتسبيحتين، وقال بعضهم يطول التسبيحات، ولا يزيد في العدد، وقال أبو القاسم الصفار: إن كان الجائي غنّياً لا يجوز له الانتظار، وإن كان فقيراً جاز له الانتظار. وقال الفقيه أبو الليث: إن كان الإمام عرف الجائي لا ينتظره؛ لأنه يُشبه الميل إليه، وإن لم يعرفه فلا بأس بذلك؛ لأن في ذلك إعانة على الطاعة، وقال بعضهم: إن أطال الركوع لإدراك الجائي الركوع خاصة، فلا يزيد إطالة الركوع للتقرب إلى الله تعالى، فهذا مكروه؛ لأن أول ركوعه كان يقدر آخر ركوعه للقوم فهذا شرك في صلاته غير الله، فكان أمراً عظيماً إلا أنه لا يكفر؛ لأن إطالة الركوع ما كانت على معنى التذلل والعبادة للقوم، وإنما كان لإدراك الركوع، وعلى هذا يحمل قول أبي حنيفة، وإن أطال الركوع تقرباً إلى الله تعالى كما شرع فيه تقرباً إلى الله لا ليدرك الجائي الركعة، فيكون الركوع من أوله إلى آخره خالصاً له تعالى، فلا بأس به.

ألا ترى أن الإمام يطيل الركعة الأولى في الفجر (56ب1) على الثانية، وإنما يفعل ذلك لإدراك القوم الركعة، فلا يتحقق الإشراك كذا هنا، وعلى هذا يعمل بما نُقل عن أبي مطيع والله أعلم. ثم يرفع رأسه من الركوع فبعد ذلك لا يخلو إما أن يكون المصلي إماماً أو مقتدياً أو منفرداً. فإن كان إماماً يقول: سمع الله لمن حمده بالإجماع، وهل يقول ربنا لك الحمد؟ على قول أبي حنيفة: لا يقول وعلى قولهما يقول، حجتهما في ذلك: ما روي عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله عليه السلام إذا رفع رأسه من الركوع يقول سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد» ، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: ثلاث يخفيهن الإمام وذكر من جملتها ربنا لك الحمد، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أربع يخفيهن الإمام وذكر من جملتها ربنا لك الحمد ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه السلام: «إنما جعل الإمام إماماً ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، قال فإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا ربنا لك الحمد» ، فالنبي عليه السلام قسم هذين الذكرين بين الإمام وبين المقتدي، ومقتضى منطلق الحسن أن لا يشارك أحد.... إن كان قيل كيف؟ لِمَ تقولوا هكذا في حق التأمين، فإن النبي عليه السلام قال: وإذا قال «الإمام ولا الضالين، فقولوا آمين» ، وبالإجماع إذا لم يقول آمين قلنا لو وظاهر القسمة بأن الإمام لا يقول، إلا أنا تركنا هذا الظاهر بدليل، وهو قوله عليه السلام: «إذا أمّن الإمام فأمِّنوا» ، لا دليل فيما تنازعنا فيه، فيعمل فيه بظاهر القسمة كيف. وقد روى الحسن عن أبي حنيفة أن الإمام يقول آمين، فإن أخذنا بهذه الرواية يسقط السؤال. فإن قيل قد ثبت رجوع أبي حنيفة رحمه الله عن هذه الرواية بدليل أن محمداً رحمه الله ذكر في صلاة الأصل ثلاث يخفيها الإمام القعود والتشهد وبسم الله الرحمن الرحيم وآمين، وربنا لك الحمد، وسؤال محمد لا بد أن يكون عن أبي حنيفة. قلنا: هذا السؤال كما يحتمل أن يكون عن أبي حنيفة، يحتمل أن يكون عن أبي يوسف؛ لأن محمداً قرأ الكتب على أبي يوسف إلا ما فيه اسم الكتب الكبير، فلا يثبت الرجوع عن أبي حنيفة بالشكل، والمعنى في المسألة لأبي حنيفة أن الإمام لو أتى بالتحميد يقع تحميده بعد تحميد المقتدي، وأذكار الصلاة ما ثبتت على هذا، فإن ما

يشترك فيه الإمام، والمقتدي إما أن يأتيا به معاً أو يأتي به؟ ... الإمام أو لا، فأما أن يأتي به المقتدي أو فلا أصل له، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني كان شيخنا القاضي الإمام يحكي عن أستاذه أنه كان يميل إلى قولهما، وكان يجمع بين التسميع والتحميد فيمن كان إماماً، والطحاوي كان يختار قولهما أيضاً، وهكذا نقل عن جماعة من المتأخرين بأنهم اختاروا قولهما، وهو قول المدينة لم يذكر الكتاب لفظين ربنا لك الحمد، واللهم ربنا لك الحمد، والثاني أفضل؛ لأن فيه زيادة ثناء، وهذا لفظ آخر لم يذكر محمد في «الكتاب» ، وهو قوله ربنا ولك الحمد، وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله أنه لا فرق بين قوله ربنا لك الحمد وبين قوله ربنا ولك الحمد، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده ذكر في بعض الآثار ربنا ولك الحمد اللهم ربنا ولك الحمد، ولا يزيد على هذا شيئاً في ظاهر مذهب أصحابنا، وإن كان مقتدياً يأتي بالتحميد، ولا يأتي بالتسميع بلا خلاف. وإن كان منفرداً لا شك على قولهما يأتي بالتسميع والتحميد، وأما على قول أبي حنيفة ذكر الطحاوي؛ إذ لا رواية فيه نصّاً عن أبي حنيفة. واختلف مشايخنا فيه، والأصح أنه يأتي بهما. وفي القدوري: أن عن أبي حنيفة فيه روايتان، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» روى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجمع بينهما وروى المعلى عن أبي يوسف أنه يأتي بالتحميد لا غير، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يأتي بالتسميع لا غير. قال: والصحيح من مذهبه أنه يأتي بالتحميد لا غير، وبه كان يُفتي شمس الأئمة الحلواني، وشمس الأئمة السرخسي رحمهما الله؛ وهذا لأن التسميع حث لمن معه على التحميد، وليس هنا معه أحد ليحثه عليه، فلا معنى للإتيان بالتسميع فيأتي بالتحميد لا غير، وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار: أن المنفرد يأتي بالتسميع باتفاق المرويات، وفي التحميد اختلفت الروايات، والصحيح ما قلنا: أنه يأتي بالتحميد لا غير. وإذا ركع المقتدي قبل الإمام وأدركه الإمام في الركوع أجزأه، وقال زفر لا يجزيه؛ لأن ما أتى به قبل الإمام غير معتد به، والباقي بناءً عليه والبناء على الفاسد فاسد، ولنا أن القدر الذي وجد فيه المشاركة مع الإمام يكفي لجواز الصلاة، فهب أن ما وجد قبله بطل، وصار بمنزلة العدم، فهذا القدر كافي لجواز الصلاة. يوضحه: إن فعله مع الإمام فقبل القطع عما قبله، فيجعل مقتدياً به لا ثابتاً عليه، فتصح ولكن يكره للمقتدي أن يسبق الإمام، قال عليه السلام: «فلا تختلفوا عليه» . وإن رفع رأسه قبل أن يركع الإمام لم يجز الركوع لانعدام المشاركة أصلاً وهي

شرط، وهذا كله إذا ركع بعد فراغ الإمام من القراءة، فأما إذا ركع قبل (فراغ) هذا الإمام في القراءة ثم قرأ الإمام وركع والرجل راكع، فقد قال الفقيه أبو محمد أنه لا يجزيه من ركوعه؛ لأنه ركع قبل أوانه باعتبار الإمام وهو تابع الإمام، ولو ركع بعد ما قرأ الإمام ثلاث آيات ثم أتمّ القراءة وأدركه جاز، ولو ركع الإمام بعد قراءة الفاتحة ونسي السورة وركع المقتدي معه ثم عاد الإمام إلى قراءة السورة ثم ركع والمقتدي على ركوعه الأول أجزأه ذلك الركوع، ولو تذكّر الإمام في ركوعه في الركعة الثالثة أنه ترك سجدة من الركعة الثانية وركع للثالثة، والرجل على حالة ركوع لم يجزء المقتدي ذلك الركوع عن سائل الركوع. جئنا إلى السجود: قال ثم يخر ساجداً ويكبّر في حالة الخرور وذكر لفظ الخرور في «النوادر» وفي «الأصل» ذكر ثم ينحط ويكبّر، ويسجد مكانه.... لفظة الخرور اتباعاً «للكتاب» ، وإخبار لفظة الانحطاط اتباعاً للسنّة، ويقول في سجوده سبحان ربي الأعلى: ثلاثاً، وذلك أدناه، وإن زاد فهو أفضل والكلام في تسبيحات السجود نظير الكلام في تسبيحات الركوع ثم يرفع رأسه، ويكبّر حتى يطمئن، ثم يكبّر وينحط للسجدة الثانية ويسبح فيها مثل ما يُسبح في السجدة الأولى، وإذا سجد ورفع رأسه قليلاً ثم سجد أخرى إن كان إلى السجود أقرب لا يجزيه عن السجدتين؛ لأنه يعد ساجداً وإن كان إلى الجلوس أقرب يجزيه عن السجدتين، هكذا ذكر في «العيون» ؛ لأنه يعتد بالبناء. وبعض مشايخنا قالوا؛ إذا أرسل جبهته عن الأرض، ثم أعادها جاز ذلك عن السجدتين، وعن الحسن بن زياد؛ هو قريب من هذا، فإنه قال إذا رفع رأسه بقدر ما يجري فيه الريح يجوز، وقال محمد بن سلمة: لا يكون عنهما ما لم يرفع جبهته مقدار ما يقع عند الناظر أنه رفع رأسه ليسجد أخرى، فإن فعل ذلك جاز عن السجدتين، وإلا يكون عن سجدة واحدة وهو قريب كما ذكر في «العيون» . وفي القدوري بأنه يكتفي بأدنى ما ينطلق عليه اسم الرفع، وقد مرّ شيء من هذا في الفصل الثاني. وفصل الطمأنينة في الركوع والسجود والفرجة التي بين الركوع والسجود، فالجلسة بين السجدتين مرّ في الفصل الثاني أيضاً، وإذا سجد قبل الإمام، وأدركه الإمام فيها جاز على قول علمائنا الثلاثة، ولكن يكره للمقتدي أن يقول ذلك، وقال زفر: لا يجوز، والكلام فيه نظير الكلام في الركوع، وإذا سجد قبل رفع الإمام رأسه من الركوع أو سجد للثانية قبل رفع الإمام رأسه من السجدة الأولى، ثم شاركه الإمام فيها، فقد روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجوز، وإذا رفع المقتدي رأسه من السجدة الأولى، فرأى الإمام ساجداً، فظن أنه في السجدة الثانية وهو في السجدة الأولى تفسد، فالمسألة على ستة أوجه:

في الجمعة يصير ساجداً السجدة الأولى منها إذا لم ينوِ شيئاً حملاً لأمره على الصواب، وتلو المتابعة. والثانية: إذا نوى الأولى. والثالثة: إذا نوى المتابعة. والرابعة: إذا نوى الأولى والمتابعة، والجواب فيها أظهر. والخامسة: إذا نوى الثانية والمتابعة؛ لأنه تقع المعارضة بين الثنتين، فصلى كأنه لم ينوِ أو يترجح بما هو الصواب. والسادسة: إذا نوى الثانية فحسب وههنا يصير ساجداً عن الثانية؛ لأن هذه ثانية باعتبار فعله، فالسنة صادفت محلها، ولم توجد في معارضته نيّة أخرى (57أ1) ثم إذا صار ساجداً عن الثانية، فرفع الإمام رأسه عن السجدة الأولى وأدركه في هذه السجدة قد ذكرنا رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجوز، وروي عن أبي يوسف أنه يجوز، وعن محمد روايتان؛ فإن أطال المقتدي السجدة الأولى وسجد الإمام الثانية، ثم رفع المقتدي رأسه، فرأى الإمام ساجداً وظن أنه في السجدة الأولى فسجد فالمسألة أيضاً على ستة أوجه، وفي الوجوه كلها يصير ساجداً عن الثانية، أما إذا لم تحضره النية؛ لأن هذه ثانية باعتبار حاله، وقال الإمام: وأما إذا نوى الثانية أو نوى المتابعة أو نوى المتابعة والثانية فظاهر، وأما إذا نوى المتابعة والأولى فلما ذكرنا، وأما إذا نوى الأولى فحسب؛ لأن النية لم تصادف محلها لا باعتبار حاله ولا باعتبار حال الإمام، فتلغوا والله أعلم. أجمع أصحابنا رحمهم الله على أن فرض السجود يتأدى بوضع الجبهة، وإذا لم يكن بالأنف عذر، وهل يتأدى بوضع الأنف؟ قال أبو حنيفة رحمه الله: يتأدى وإن لم يكن بجبهته عذر، قالا: لا تتأدى إلا إذا كان بجبهته عذر فأبو حنيفة يقول: سجد على بعض ما تعين محلاً للسجدة، فيجوز كما لو سجد على الجبهة لا غير. بيانه: ما أجمعنا على أنه لو كان بجبهته عذر، فسجد على الأنف لا غير يجوز، ولو لم يكن الأنف مسجداً لما صار مسجداً بالعذر كالخدّ والذقن سئل نصير عمن يضع جبهته على حجر صغير، قال: إذا وضع أكثر الجبهة على الأرض يجوز، وإلا فلا يقبل إن وقع مقدار الأنف على الأرض لم لا يجوز على قول أبي حنيفة قال: لأن الأنف عضو كامل، وهذا القدر من الجبهة ليس بعضو كامل، ولا بأكثره فلا يجوز. وسئل الفقيه عبد الكريم عمن وضع جبهته على الكف ليسجد قال: لا يجوز، وقال غيره من أصحابنا يجوز كما لو كان منفصلاً عنه، وقال بعضهم: لا يجوز لأن كمه تبع له، واستدل هذا القائل ما ذكر في كتاب الأيمان إذا حلف لا يجلس على الأرض فجلس على زيله يحنث؛ لأن زيله تبع له كذا ها هنا، وإذا سجد على ظهر غيره بسبب الزحام، ذكر في «الأصل» أنه يجوز. وقال الحسن بن زياد والشافعي: لا يجوز، حجتهما قوله عليه السلام: «تمكن جبهتك من الأرض» .

حجتنا حديث عمر رضي الله عنه، فإنه قال: «هذا المسجد بناه رسول الله عليه السلام، ويحضر فيه المهاجرون والأنصار فمن وجد فيه موضعاً سجد فيه ومن لم يجد فيه موضعاً سجد على ظهر أخيه» ، فلأن فيه ضرورة؛ لأن الزحام أصل في أداء الصلوات بالجماعات، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إنما يجوز إذا سجد على ظهر المصلي، أما إذا سجد على ظهر غير المصلي لا يجوز؛ لأن الجواز بحكم الضرورة، والضرورة لا تتحقق في حق غير المصلي؛ لأن غير المصلي لا يمكن في المسجد، وذكر المسألة في «العيون» على نحو ما روى الحسن، وذلك مرّ.... ولو سجد على فخذه إن كان بغير عذر، فالمختار أنه لا يجوز؛ لأن الساجد يجب أن يكون غير محل السجود، وإن كان بعذر فالمختار أنه يجوز، وهكذا ذكر الصدر الشهيد رضي الله عنه. ولو سجد على ركبتيه لا يجوز بعذر أو بغير عذر، وإذا لم يضع المصلي ركبتيه على الأرض عند السجود لا يجزيه هكذا اختاره الفقيه أبي الليث؛ لأنا أمرنا أن نسجد على سبعة أعضاء، وفتوى مشايخنا على أنه يجوز؛ لأنه لو كان موضع الركبتين نجساً يجوز، هكذا ذكر القدوري في «كتابه» ، والفقيه أبي الليث لم يصحح هذه الرواية أنه لو كان موضع الركبتين نجساً أنه يجوز، وإذا بسط كُمه وسجد عليه أن.... يُبقي التراب عن وجهه يكره، ذلك؛ لأن هذا نوع يبقي التراب عن ثيابه ويسجد عليه لا يكره؛ لأن هذا ليس مكره. وفي أول كراهية «النوازل» : رجل يصلي على الأرض ويسجد على حرفها وضعها بين يديه يبقى به الحر لا بأس به، وذكر عن أبي حنيفة رحمه الله أنه فعل ذلك، فمرّ به رجل وقال ما يُسبح لا تفعل مثل هذا، فإنه مكروه، فقال له أبو حنيفة: من أين أنت، فقال: من خوارزم، فقال أبو حنيفة: الله أكبر ما التكبير ... من الصف الآخر، ومراده إن علم الشريعة يحمل من ههنا إلى خوارزم، لا من خوارزم إلى ههنا والله أعلم. ثم قال أبو حنيفة: في مساجدكم حشيش، فقال: نعم، فقال له أبو حنيفة: فيجوز السجدة على الحشيش ولا يجوز على الخرقة وإذا سجد رفع أصابع رجليه على الأرض لا يجوز، كذا ذكر الكرخي في «كتابه» والجصاص في «مختصره» . وفي «النوازل» : إذا سجد على أرض الثلج إن لبد جاز؛ لأنه بمنزلة الأرض، وإذا لم يلبد وكان تغيّب وجهه فيه، فلا يجد حجمه لم يجز؛ لأنه بمنزلة الساجد على الهواء، وعلى هذا إذا لقي في المسجد حشيش كثير، فسجد عليه إن وجد حجمه يجوز وإلا فلا حجمه وإذا صلى على التبن أو القطن المحلوج، وسجد عليه إن استقر جبهته وأنفه على ذلك ووجد الحجم يجوز وإن لم تستقر جبهته لا يجوز؛ لأن في الوجه الأول هو في معنى الأرض، وفي الوجه الثاني لا. وإذا سجد على ظهر ميت إن كان على الميت لبد، ولا يجد حجم الميت يجوز؛

لأنه سجد على اللبد، وإن وجد حجم الميت لا يجوز؛ لأنه سجد على الميت، وإن كان موضع السجود أرفع من موضع القدمين...... ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرح كتاب الصلاة» أنه إن كان التفاوت بمقدار لبنة أو لبنتين يجوز، وإن كان أكثر من ذلك لا يجوز، وأراد باللبة اللبنة المنصوبة دون المفروشة، ثم إذا فرغ من السجدة ينهض على صدور قدميه ولا يقعد. وقال الشافعي؛ يجلس ثم يقوم. حجتنا ما روى وائل بن حجر أن رسول الله عليه السلام كان إذا رفع رأسه من السجود الثاني قام كأنه على الرصيف، أي: على الحجارة المحراة، وفي قوله ينهض على صدور قدميه إشارة إلى أنه لا يعتمد على الأرض بيده عند قيامه، وإنما يعتمد على يديه، وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» ، وقال الشافعي: يعتمد بيده على الأرض، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله الخلاف في الأفضل حتى لو فعل كما هو مذهبنا لا بأس به عند الشافعي رحمه الله، ولو فعل كما هو مذهبه لا بأس به عندنا، ويفعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الركعة الأولى من القيام والقراءة والركوع والسجود. وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الثانية يقعد قدر التشهد في ذوات الأربع والثلاث من الفرائض، وهذه القعدة سنّة لو تركها لا تفسد صلاته، ولكن يكره تركها متعمداً وقد مرّ هذا من قبل، وصفة القعدة مرّت من قبل أيضاً، وإذا قعد يضع يديه على ركبتيه أو على فخذيه. والتشهد أن يقول: «التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله» ، ولا يزيد على هذا في القعدة الأولى، فإن زاد فصلى على النبي ودعا لنفسه ولوالديه، فإن كان عامداً كان ذلك مكروهاً، هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وإن كان ساهياً: روي عن أبي حنيفة أنه يلزمه سجدتا السهو، وعن أبي يوسف ومحمد: أنه لا يلزمه سجدتا السهو حالاً؛ لأنه لو لزم ذلك لزمه بالصلاة على النبي، وإنه يسبح وأبو حنيفة يقول سجود السهو لا يلزمه بالصلاة على النبي، وإنما تلزمه بتأخير الركن، فإذا فرغ من قراءة التشهد قام. ولا بأس بأن يعتمد بيده على الأرض، هكذا ذكر الطحاوي، وإذا قام فعل في الشفع الثاني مثل ما فعل في الشفع الأول من القراءة والركوع والسجود، غير أنه في القراءة بالخيار: إن شاء قرأ وإن شاء سبح وإن شاء سكت، وقد ذكرنا هذا في فضل القراءة، وإذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة من الشفع الثاني فقعد وهذه القعدة فرض، وقد مرّ هذا فيما تقدم، ويتشهد في هذه القعدة أيضاً، وقراءة التشهد فيها ليست بفرض حتى لو تركها لا تفسد صلاته عندنا، وإن قرأ بعض التشهد وقرأ البعض في ظاهر الرواية تجوز صلاته أيضاً؛ لأنه لو ترك الكل تجوز صلاته، فإذا ترك البعض أولى. وذكر في بعض الروايات فيما إذا قعد قدر التشهد، وقرأ بعض التشهد اختلاف بين

أبي يوسف ومحمد: على قول أبي يوسف تجوز صلاته كما لو ترك الكل، وعلى قول محمد: لا تجوز صلاته؛ لأنه إذا شرع في القراءة افترض عليه الإتمام، فإذا تركها، فقد ترك الفرض فتفسد صلاته، قال: وهو نظير من سلّم (57ب1) ثم تذكر أن عليه سجدة تلاوة أو ذهب ولم يسجد لها، فصلاته ثابتة، ولو خرّ ساجداً ثم رفع رأسه وذهب، ولم يعد القعدة فسدت صلاته، كذا في مسألتنا. فإذا فرغ من التشهد يصلي على النبي عليه السلام، ويدعو للمؤمنين وللمؤمنات ولنفسه ولوالديه إن كانا مسلمين هكذا ذكر الطحاوي، ولم يذكر محمد الصلاة على النبي هنا في «الأصل» ، والصحيح ما ذكره الطحاوي ثم يدعو بما شاء مما أشبه ألفاظ القرآن، ولا يدعو بما يشبه كلام الناس، والصلاة على النبي في هذه القعدة ليست من الواجبات، وقال الشافعي هي واجبة هكذا ذكره القدوري. وقال أبو الحسن الكرخي: الصلاة على النبي واجبة على الإنسان في العمر مرّة، إن شاء فعلها في الصلاة أو في غيرها، وعن الطحاوي: أنه يجب عليه الصلاة كلما ذكر، قال شمس الأئمة السرخسي: وما ذكر الطحاوي مخالف الإجماع فعامة العلماء قالوا: إن الصلاة على النبي كلما ذكر مستحبة، وليست بواجبة. وقال أبو عبد الله الجرجاني: الصلاة على النبي ليست بفرض أصلاً. بقي الكلام بعد هذا في كيفية الصلاة على النبي، ذكر عيسى بن أبان في كتاب الحج على أهل المدينة أن محمداً سئل عن الصلاة على النبي فقال: على النبي نقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وإنه خرج موافقاً لحديث كعب بن عجرة أنه قال: يا رسول الله عرفنا السلام عليك كيف الصلاة عليك؟ فقال: قولوا: «اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد» إلى آخره كما ذكرنا، وتكلم أصحاب رسول الله عليه السلام في كيفية الصلاة على النبي عليه السلام، وكان ابن عباس وأبو هريرة يصليان عليه على نحو ما بيّنا إلا أنهما كانا يزيدان، وارحم محمداً وآل محمد كما رحمت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وحكي عن محمد بن عبد الله: أنه يكره قول المصلي وارحم محمداً وآل محمد وكان يقول هذا نوع ظن بتقصير الإنسان فإن أحداً لا يستحق الرحمة لا بإتيان ما يُلام عليه، ونحن أمرنا بتعظيم الأنبياء وبتوقيرهم، وإذا ذكر النبي لا يقال: رحمه الله، ولكن يصلى عليه وكذا إذا ذكرت الصحابة لا يقال رحمهم الله ولكن يقال رضي الله عنهم هكذا

(ذكر) شيخ الإسلام خواهر زاده وشمس الأئمة السرخسي ذكر بأنه لا بأس به؛ لأن الأثر ورد به من طريق أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما ولا عيب على من اتبع الأثر، ولأن أحداً لا به يستغني عن رحمة الله. واختلفت الآثار في قوله على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، يذكر في بعضها إبراهيم، ولم يذكر آل وذكر في بعضها الآل ولم يذكر نفس إبراهيم، وفي بعضها جمع بينهما، وكان الفقيه أبي جعفر يقول: وأما أنا أقول: وارحم محمداً وآل محمد، واعتمادي عليه للتوارث الذي وجدته في أهل بلدي وبلدان المسلمين، وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو الحسن رحمه الله يقول: لا بأس به، وكان يقول: معنى قولنا: ارحم محمداً؛ ارحم أُمّة محمد فهو راجع إلى الأمة، هذا كمن حيّ وللجائي أب شيخ كبير، وأراد أن تقيموا العقوبة على الجائي فالناس يقولون للذي بحاجة ارحم هذا الشيخ الكبير، وذلك الرحم راجع إلى الابن الجائي حقيقة، ويكون معناه ارحم هذا الشيخ الكبير بالرحمة على ابنه الجائي، كذا ههنا الرحمة راجعة إلى الأمة، والله أعلم. وينبغي أن يهتم بالتكبيرات كلها تكبيرة الافتتاح، وتكبيرة الركوع والسجود لحديث إبراهيم النخعي موقوفاً عليه، ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام: «الأذان جزم والتكبير جزم» فلأن أكثر على وزن أفعل، وكل ما كان على هذا الوزن لا يحتمل المد. واعلم بأن المد في التكبير لا يخلو، إما أن يكون في الله وفي أكبر، فإن كان في الله لا يخلوا إما أن يكون في أوله أو أوسطه أو آخره، فإن كان في أوله كان خطأ، ولكن لا تفسد الصلاة، وقال بعض مشايخنا يوهم الكفر، وقال الإمام الزاهد الصفار: لا يوهم. فإن كان في أوسطه فهو الصحيح، وهو المختار. وإن في آخره فهو خطأ، ولكن لا تفسد الصلاة أيضاً. أما إذا كان المد في أكبر، فإنه تفسد الصلاة سواء كان في أوله أو أوسطه أو آخره، وإذا تعمد ذلك في وسطه يكفر؛ لأن الإكبار اسم الشيطان، وإن لم يتعمد لا يكفر ويستغفر ويتوب، وينبغي أن يقول: الله برفع الهاء ولا يقول بجزم الهاء وفي قوله أكبر هو بالخيار إن شاء ذكره بالرفع وإن شاء ذكره بالجزم وإن كرر التكبير مراراً ذكر الله بالرفع في كل مرة وذكر أكبر، فيما عدا المرة الأخيرة بالرفع وفي المرة الأخيرة هو بالخيار، إن شاء ذكر بالرفع، وإن شاء ذكره بالجزم. قال محمد في «الأصل» : ويكون انتهى نظر المصلي في صلاته إلى موضع سجوده، لحديث أبي قتادة، أن رسول الله عليه السلام إذا صلى رمى ببصره إلى السماء، فلما نزل قوله تعالى: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قَنِتِينَ} (البقرة: 238) رمى ببصره إلى موضع سجوده، وقال أبو طلحة لرسول الله عليه السلام حيث نزل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَشِعُونَ} (المؤمنون: 1، 2) (فقال كيف) الخشوع: يا رسول الله؟ فقال عليه السلام:

«أن يكون منتهى بصر المصلي إلى موضع سجوده» ، قال أبو طلحة؛ ومن يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال إذاً في المكتوبة» ، فهذا يدلك على أن الأمر في التطوع أسهل، ولم يزد محمد على ذكرنا. وذكر الطحاوي والكرخي: ينبغي أن يكون منتهى بصره في قيامه إلى موضع سجوده، قال الطحاوي: وفي الركوع إلى ظهر قدميه، وفي السجود إلى أرنبة أنفه، وفي قعوده إلى حجره، وزاد بعضهم: وعند التسليمة الأولى إلى كتفه الأيمن، وعند التسليمة الثانية إلى كتفه الأيسر، ومن الناس من يقول: يكون بصره أمامه، كمن يناجي غيره وهو بين يديه يكون بصره أمامه، وما ذكر الطحاوي بيان الاستحباب لا بيان الوجوب حتى لو نظر في حالة القيام أمامه، وفي حالة الركوع والسجود على الأرض لا بأس به، فلا يأثم إذا أخذ في التشهد، وانتهى إلى قوله أشهد أن لا إله إلا الله، هل يشير بإصبعته السبابة من اليد اليمنى؟ لم يذكر محمد هذه المسألة في «الأصل» . وقد اختلف المشايخ فيه، منهم من قال: لا يشير؛ لأن مبنى الصلاة على السكينة والوقار، ومنهم من قال: يشير، وذكر محمد في غير رواية الأصول حديثاً عن النبي عليه السلام أنه كان يشير، قال محمد: يصنع بصنع النبي عليه السلام، ثم قال هذا قولي وقول أبي حنيفة. ثم كيف يصنع عند الإشارة؟ حكي عن الفقيه أبي جعفر أنه قال: يعقد الخنصر والبنصر ويحلق الوسطى مع الإبهام ويشير بسبابته، وروي ذلك عن النبي عليه السلام، ثم إذا فرغ من التشهد وصلى على النبي دعا لنفسه ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات، فسلم بتسليمتين تسليمة عن يمينه، وتسليمة عن شماله، ويحول في التسليمة الأولى وجهه عن يمينه وفي التسليمة الثانية عن يساره، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله عليه السلام «كان يحول وجهه في التسليمة الأولى حتى يرى بياض خده الأيمن، وكان يسلم عن شقه الأيسر حتى يرى بياض خده الأيسر» ثم من الناس من يقول في السلام: سلام عليكم ورحمة الله بحذف الألف واللام، وعندنا يقول: السلام بالألف واللام ولا يقول في هذا السلام في آخره وبركاته عندنا. والسنّة في السلام: أن تكون التسليمة الثانية أخفض من الأولى، ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، وعن محمد في «النوادر» أن التسليمة الثانية تحية للحاضرين والتسليمة الأولى للتحية والخروج؛ لأن من يحرم للصلاة، فكأنه غاب عن الناس لا يكلمهم ولا يكلمونه، وعند التحليل كأنه يرجع إليهم فيسلم، فإن سلّم أولاً عن يساره يسلم عن يمينه، ولا يعيد عن يساره، وإذا سلّم تلقاء وجهه يعيد ذلك عن يساره، هكذا روي عن أبي حنيفة، وينوي

بالتسليمة الأولى من عن يمينه من الحفظة والرجال والنساء، وبالتسليمة الثانية من عن يساره منهم، هكذا ذكر محمد في «الكتاب» ، ولم يذكر كيفية النيّة. واختلف المشايخ فيه منهم من قال في نيّة الحفظة نوى الكرام الكاتبين، وهما ملكان مكرمان مع الآدمي يكون أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، ويكون الآخر عن يساره يكتب السيئات، ومنهم من قال: ينوي جميع من معه من مؤمن الملائكة؛ لأنه اختلف الإحصاء، وعددهم في بعضها إن مع كل مؤمن خمس منهم واحد عن يمينه، وواحد عن يساره، ويكتبان أعماله كما ذكرنا، وواحد أمامه يلقيّه الخيرات، وواحد وراءه يدفع عنه المكاره، وواحد على ناصيته يكتب (58أ1) ما يصلي على النبي، ويلقنه النية ما يصلي عليه، وقال بعضهم: مع كل مؤمن ستون ملكاً، وقال بعضهم مائة وستون. وفي نية الرجال والنساء واختلاف المشايخ أيضاً، منهم من قال: ينوي من كان معه في الصلاة؛ لأن التسليم خطاب والخطاب للحاضرين، فعلى هذا القول في زماننا لا ينوي النساء، ومنهم من قال: ينوي بالتسليمة الأولى من عن يمينه من الحضر؛ ولأنه لا ... ، وفي الثانية ينوي جميع عباد الله الصالحين؛ لأنه دعى كما في قولنا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ينوي جميع عباد الله الصالحين من الملائكة والإِنس. روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «من قال هذا فقد أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض» ، ولكن هذا القول بخلاف ما روينا عن محمد، فقد روينا عن محمد أن التسليمة الثانية تحية للحاضرين والتسليمة الأولى للتحية، وللخروج، ومنهم من قال في التسليمتين جميعاً: ينوي جميع المؤمنين، وإليه أشار الحاكم في «مختصره» ؛ لأن المصلي غيب عن الناس كلهم بالتحريمة لا يكلمونه ولا يكلموهم، فإذا سلّم الناس فكأنه قال..... كواحد منكم في أمور الدنيا فيكلمون، وهذا الذي ذكرنا في حق الإمام، والمقتدي يحتاج إلى نية الإمام مع نية من ذكرنا، فإن كان الإمام في جانب الأيمن نواه فيهم، وإن كان في جانب الأيسر نواه فيهم وإن كان بجانبه نواه في الجانب الأيمن عند أبي يوسف ترجيحاً لجانب الأيمن، وعند محمد ينويه فيهما الإمكان الجمع عند التعارض ذكر الخلاف على نحو ما ذكر شمس الأئمة السرخسي، وذكر شيخ الإسلام أن على رواية الحسن بن زياد ينويه بالتسليمتين، ولم يذكر قول محمد. وذكر الشيخ الإمام الزاهد الصفار: أن على رواية الحسن ينويه في الجانب الأيمن، ولم يذكر قول محمد، والمنفرد لا ينوي إلا الحفظة عند بعض المشايخ، فإن غير الحفظة ليسوا بحضور وخطاب غير الحاضر لغو، ومنهم من يقول: ينوي جميع من يتم على يمينه

من الرجال والنساء، وجميع من يتم على يساره من الرجال والنساء، ثم قدم الحفظة على بني آدم في الذكر في «الأصل» وفي «الجامع الصغير» قدم بني آدم على الحفظة في الذكر. فمن المشايخ من قال: ليس في المسألة اختلاف الروايتين؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب بل تقتضي مطلق الجمع، فينويهم من غير ترتيب كما لو سلّم على جماعة فهم الشيوخ والشبان، لا ترتيب في التسليم بل يجمعهم. ومنهم من قال: في المسألة روايتان؛ لأن الواو إن كانت لا تقتضي الترتيب إلا أن البداية بالذكر دليل الترجح وزيادة الاهتمام به. ومنهم من جعل هذه المسألة بناءً على مسألة أخرى أن الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فحين صنف محمد كتاب الصلاة كان من رأيه تفضيل الملائكة، وحين صنف «الجامع الصغير» كان من رأيه تفضيل بني آدم، ولكن مع هذا بعيد لأنهم كانوا قليل الخوض في الكلام، والمذهب الصحيح أن خواصّ البشر أفضل من جملة الملائكة، وخواصّ الملائكة أفضل من أوساط البشر، وأوساط البشر أفضل من أوساط الملائكة، وكأن الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي يحكي عن استملاء الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني أنه قال: من غلب عقله شهوته، فهو خير من الملائكة ومن غلبت شهوته عَقله فهو شرّ من البهيمة، فكأنه أراد به الغلبة من كل وجه حتى يكفر أما المؤمن الفاسق لا يكون شراً من البهيمة. ثم المقتدي متى يسلّم؟ فعن أبي حنيفة روايتان: في رواية يسلم مع الإمام فعلى هذه الرواية لا يحتاج إلى الفرق بين التسليم وبين التكبير، وفي رواية يسلم بعد الإمام فعلى هذه الرواية يحتاج إلى الفرق بين التسليم وبين التكبير. والفرق: أن في مقارنة التكبير شرعة إلى العبادة فيكون أولى وفي مقارنة التسليم شرعة إلى الخروج عن العبادة، والاشتغال بأمور الدنيا، ولأنه ينقل في حرمة الصلاة حين (من أن) يخرج عن حرمة الصلاة، وعلى قولهما يسلم بعد الإمام كما يكبّر بعد الإمام، وبعض مشايخنا قالوا: عند محمد يسلم مقارناً للإمام. وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله أن عطاء وإبراهيم يقولان: المقتدي بالخيار، إن شاء سلّم بعد فراغ الإمام، وإن شاء سلّم مع الإمام، وقال محمد بن سلمة: إذا سلّم الإمام عن يمينه بعده، وإذا سلّم الإمام عن يساره فيسلم المقتدي بعده عن يساره، وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: يسلم المقتدي مع الإمام حتى يصير خارجاً سلام نفسه، فذهب الفقيه أبو جعفر إلى أن المقتدي يصير خارجاً عن الصلاة بسلام الإمام، فيشترط أن يسلّم مع الإمام، حتى يصير خارجاً بسلام نفسه، فيكون مقيماً السنّة، وعن أبي حنيفة رحمه الله في هذا روايتان: في رواية يصير المقتدي خارجاً عن حرمة الصلاة بسلام الإمام، وفي رواية لا يصير خارجاً، فمال الفقيه أبو جعفر إلى الرواية التي تصير خارجاً عن حرمة الصلاة بسلام الإمام، وإضافة لفظة السلام واجبة عندنا، وليست بفرض حتى لو خرج عن الصلاة بكلام أو يُفعل بناءً في الصلاة يجوز، ولا يلزمه الإعادة، وعند الشافعي تلزمه الإعادة.

وإذا فرغ الإمام من التسبيحات قبل فراغ المأموم فالمأموم يتابع الإمام، ولا يتم التسبيحات، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هو الأشبه بمذهب أصحابنا رحمهم الله، وعلى قياس قول أبي مطيع البلخي يتم التسبيحات؛ لأن التسبيحات عنده فريضة حتى قال بفساد الصلاة بتركها كُلاً أو بعضاً، والاشتغال بإتمام الفرض أولى من الاشتغال بالواجب، فإذا فرغ الإمام من التشهد، والمؤتم لم يفرغ بعد من القعدة الأولى لا يتابع الإمام ما لم يتمم التشهد، وفي القعدة الأخيرة يتابع الإمام ويُسلم معه، والله أعلم.6 ومما يتصل بهذا الفصل إذا انتهى إلى الإمام وقد سبقه الإمام بشيء من صلاته، هل يأتي بالثناء؟ فهذا على وجوه: الأول: إذا أدركه في حالة القيام في الركعة المسبوقة هل يأتي بالثناء إذا فرغ في الصلاة أو في الركعة الثانية؟ وفي هذا الوجه كان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يحكي عن استملاء الشيخ الإمام أنه كان يقول: لا يأتي بالثناء، قال: وقال غيره من أصحابنا رحمهم الله يأتي، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: أنه إن كانت الصلاة صلاة يخافت فيها بالقراءة يأتي بالثناء لا محالة؛ لأنه لو لم يأته بالثناء إنما لا يأتي، كيلا يفوته الاستماع، فإذا كانت الصلاة مما يخافت فيها بالقراءة لا يلزمه الاستماع والثناء ذكر مقصود بنفسه، فيأتي به. فإن قيل: بأن كان لا يفوته الاستماع متى يشتغل بالثناء، فإنه يفوت فريضة الإنصات. قلنا: الإنصات إنما يفرض حالة اشتغال القراءة؛ لأن الاستماع إنما يتحقق بالإنصات، والاستماع فرض فما لا يتحقق الاستماع إلا به يصير فرضاً تبعاً له، فأما في حالة غير الاستماع فالإنصات إنما شرع بنفسه تعظيماً لا من القراءة بقدر الإمكان لا سنّة مقصودة بنفسها، والثناء ذكر مقصود بنفسه فكان مراعاة الثناء أهم من مراعاة الإنصات. فإن قيل: الإنصات فرض، وإن كان لا يستمع القراءة حتى سقطت عن المقتدى القراءة التي هي ركن في الصلاة لأجل الإنصات. قلنا: القراءة ما سقطت عن المقتدي لمكان الإنصات، لكن إنما سقطت لأن بقراءة الإمام جُعلت قراءة له متى شارك الإمام في القيام الذي هو محل قراءة الإمام. ألا ترى أنه متى أدركه في حالة الركوع صار مدركاً معتد بالركعة، وإن لم يوجد منه إنصات لقراءة الإمام؛ لأنه شاركه في القيام، فجعل قراءة الإمام له قراءة لمشاركته في القيام، فأما ثناء الإمام لم يجعل ثناء من المقتدي، فإذا لم يشتغل بالثناء يفوته الثناء أصلاً، وأما إذا كانت صلاة يجهر فيها بالقراءة إن أدرك الإمام في الركعتين الأخريين، فكذلك الجواب يشتغل بالثناء؛ لأن الإمام يخافت بالقراءة في الأخريين. وإن كان في الركعتين الأوليين، فقد اختلف فيه المشايخ، منهم من يقول: يشتغل

بالثناء، ومنهم من يقول: لا يشتغل بالثناء، بل يستمع القراءة، وإليه كان يميل الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل وهو الأصح، ومنهم من يقول: ينتظر مواضع سكتات الإمام ويأتي بالثناء فيما بينهما حرفاً حرفاً، أما من قال بأنه يشتغل بالثناء ذهب في ذلك إلى أن الاستماع إن فاته بسبب الاشتغال بالثناء ذهب في ذلك إلى أن الاستماع إن فاته (58ب1) بسبب الاشتغال بالثناء في البعض، والثناء يفوته أصلاً لو لم يشتغل بالثناء، فكان الاشتغال بالثناء أولى، وأما من يقول لا يشتغل بالثناء يقول بأنه لو اشتغل بالثناء، فإنه يفوته الاستماع وأنه فرض مقصود بنفسه، والثناء سُنُّة فكان ترك السنّة أولى من ترك الفرض بخلاف الإنصات؛ لأنه بانفراده ليس بفرض، وإنما يفترض حالة الاستماع. ألا ترى أن الأمر به على الانفراد لم يرد، وإنما ورد مع الأمر بالاستماع، فيكون فرضاً حالة الاستماع سنّة على الانفراد، وإذا كانت سُنّة في هذه الحالة كان الاشتغال بالثناء أولى من الوجه الذي بيّنا، وأما من يقول يأتي بالثناء في سكتات الإمام ذهب في ذلك إلى أنه يمكنه إقامة هذه السنّة من غير أن يفوته فرض الاستماع بأن يأتي بها في سكتات الإمام، وكان عليه أن يأتي بالثناء في سكتات الإمام، وفي متفرقات الفقيه أبي جعفر إذا جاء المسبوق إلى الإمام والإمام في الفاتحة في صلاة يجهر فيها بالاتفاق. وإذا جاء الإمام في السورة في صلاة يجهر بها قال أبو يوسف رحمه الله يثني المسبوق وقال محمد رحمه الله: لا يثني وفي صلاة العيد والجمعة إذا كان المسبوق بعيداً من الإمام لا يسمع قراءته، هل يثني بعد تكبيرة الافتتاح؟ قال الفضلي: لا يثني؛ لأنه على يقين أنه يقرأ فيدخل تحت قوله تعالى: {فَاسْتَمِعُواْ} (الأعراف: 204) وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن الفضل: يثني؛ لأنه لا يسمع فصار كما لو أدرك الإمام في الأوليين في صلاة لا يجهر فيها وهناك يثني، وإن تيقن أن الإمام في القراءة كذا ههنا، هذا الذي ذكرنا: إذا أدرك الإمام في حالة القيام، فأما إذا أدركه في حالة الركوع، وكبّر تكبيرة الافتتاح قائماً هل يأتي بالثناء قائماً يتحرى فيه؟ إن كان أكثر رأيه أنه لو أتى به قائماً يدرك الإمام في شيء من الركوع، فإنه يأتي به؛ لأن موضع الثناء أدرك الإمام فيه ليس بموضع القراءة للإمام، وإتيان الثناء لا يؤدي إلى تفويت هذه الركعة إذا كان يدركها فقد أمكنه إدراك الأمرين، والجمع بين الأمرين وإحرازهما، فلا تترك واحدة منهما، وإن كان أكثر رأيه أنه لو اشتغل بالثناء لا يدرك الإمام في شيء من الركوع لا يأتي بالثناء، بل يتابع الإمام في الركوع؛ وذلك لأنه لو أتى بالثناء فاتته الركعة مع الإمام، وإدراك الركعة أتمّ من إتيان الثناء. فإن قيل: الركعة لو فاتته تفوته إلى خلف، فإنه يقضي بعد فراغ الإمام من الصلاة والثناء يفوته أصلاً، فإنه لا يأتي به بعد ذلك. قلنا: الركعة تفوته إلى خلف إلا أن نية الجماعة في هذه الركعة تفوته أصلاً، ومراعاة سنّة الجماعة أولى من مراعاة سنّة الثناء. ألا ترى أنه لو أدرك الإمام في صلاة الفجر، فإن كان أكثر رأيه أنه لا يدرك الإمام في الركعة الثانية، فإنه لا يشتغل بركعتي الفجر، وقد ورد في ركعتي الفجر من ما لم تؤدَ

في غيره، ولكن لما كان الاشتغال بركعتي الفجر يؤدي إلى تفويت سنّة الجماعة في الركعة الثانية كان إقامته سنّة الجماعة أولى، فكذلك هنا، فإن أدركه بعدما رفع رأسه من الركوع يكبّر تكبيرة الافتتاح قائماً، ويأتي بالثناء إن كان أكثر رأيه أنه لو أتى بالثناء يدرك الإمام في السجدة، وكذا لو أدرك في السجدة الأولى يكبّر تكبيرة الافتتاح قائماً، ويأتي بالثناء إن كان أكثر رأيه أنه لو أتى به يدرك الإمام في هذه السجدة. وكذلك لو أدركه بعدما رفع رأسه من السجدة الأولى يكبّر تكبيرة الافتتاح قائماً، ويأتي بالثناء إن كان أكثر رأيه أنه أدرك الإمام في السجدة الثانية ثم يسجد، ولا يأتي بالركوع والسجدتين، ولو أتى بهما تفسد صلاته؛ لأنه صار منفرداً بركعة تامة بعدما شرع في صلاة الإمام، فتفسد صلاته. وأما إذا أدركه في القعدة الأخيرة، فإنه يكبّر تكبيرة الافتتاح قائماً، ثم يقعد ويتابعه في التشهد، فلا يأتي بالدعوات المشروعة بعد الفراغ من التشهد عند بعض المشايخ، وإليه مال شيخ الإسلام المعروف خواهر زاده؛ لأن الدعاء مشروع في آخر الصلاة، لا في وسطها. وبعضهم قالوا: لو أتى بها متابعة للإمام، وهكذا رواه أبو عبد الله البلخي عن أبي حنيفة رحمه الله، وبه كان يفتي عبد الله بن الفضل؛ هذا لأن المصلي إنما لا يشتغل بالدعاء في وسط الصلاة لما فيه تأخير الأركان، وهذا المعنى لا يوجد ههنا؛ لأنه لا يأتي بشيء من الأركان قبل سلام الإمام، ثم على قول من لا يأتي بالدعوات المشروعة بعد الفراغ من التشهد ماذا يصنع؟ اختلفوا فيما بينهم: قال بعضهم: يكرر التشهد، وقال بعضهم: يصلي على النبي عليه السلام، وقال بعضهم يأتي بالدعوات التي في القرآن {لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ} (البقرة: 286) وقال بعضهم: يسكت، وقال بعضهم: هو بالخيار إن شاء أتى بالدعوات المذكورة في القرآن، وإن شاء صلى على النبي عليه السلام. ولا ينبغي للمسبوق أن يقوم إلى قضاء ما سُبقَ به قبل سلام الإمام، فإن قام قبل أن يفرغ الإمام من التشهد، فالمسألة على وجوه: إما أن يكون مسبوقاً بركعة أو ركعتين أو ثلاث، فإن كان مسبوقاً بركعة، فإن وقع من قراءته بعد فراغه من التشهد مقدار ما تجوز به الصلاة جازت صلاته لو مضى على ذلك، وإن لم تقع من قراءته ذلك المقدار بعدما فرغ الإمام من التشهد لا تجوز صلاته، لأن قيامه وقراءته قبل فراغ الإمام من التشهد لم يَقع معتبراً، فإذا مضى على ذلك فقد ترك من صلاته ركعة، فلا يجوز، وكذلك لو كان مسبوقاً بركعتين؛ لأنه ترك القراءة في أحديهما، ولو كان مسبوقاً بثلاث كان عليه فرض القراءة في ركعتين وفرض القيام في ركعة، فينظر إن كان قام بعد فراغ الإمام من التشهد أدى قومة، وقرأ في الأخريين ما تجوز به الصلاة جازت صلاته، وإن ركع في الأولى قبل فراغ الإمام من التشهد، ومضى على ذلك فسدت صلاته.

وفي «الأصل» : إذا افتتح الصلاة، وركع قبل أن يقرأ ثم رفع رأسه، وقرأ وركع، فالمعتبر هنا الركوع الثاني، حتى لو اقتدى به إنسان في هذا الركوع يصير مدركاً للركعة؛ لأنه مأمور بالقراءة بعد الركوع الأول؛ لأنه لم يأت بالقراءة، فمتى أتى بها ومحل القراءة قبل الركوع يرتفض الركوع الأول تقع القراءة في محلها، وكذلك إذا لم تتم القراءة وركع بأن قرأ الفاتحة ولم يقرأ السورة أو قرأ السورة ولم يقرأ الفاتحة وركع ثم رفع رأسه وأتم القراءة وركع كان المعتبر هو الركوع الثاني؛ لأن ضم السورة إلى الفاتحة من واجبات الصلاة، ولم يأت به فكان مأموراً بالإتيان به، وإذا أتى به ومحل القراءة على وجه التمام قبل الركوع لا بُدّ وأن يرتفض الركوع الأول لتقع القراءة في محله، فأما إذا أتم القراءة وركع ثم رفع رأسه من الركوع وقرأ ثانياً وقرأ، ذكر في باب الحدث: أن المعتبر هو الركوع الأول حتى لو جاء إنسان واقتدى به في الركوع الثاني لا يصير مدركاً للركعة؛ لأن الركوع الأول حصل في أدائه؛ لأنه حصل بعد تمام القراءة فوقع مقتدياً به فلا يصح الثاني، حتى لا يصير تكراراً؛ لأنه لا تكرار في الركوع في ركعة واحدة. وذكر في باب السهو: أن المعتبر هو الركوع الثاني. ووجه ذلك: أن الركوعين جميعاً وُجدا بعد القراءة؛ لأن القراءة الثانية إن لم تعتبر بالقراءة الأولى معتبرة إلا أن الثاني متصل بالسجود والأول غير متصل بالسجود والركوع إنما يعتبر باتصال السجود به فكان العبرة للركوع الثاني فلو أن هذا الإمام ركع ولم يقرأ فلما رفع رأسه من الركوع الأول سبقه الحدث فاستخلف رجلاً فقرأ هذا الرجل الخليفة وركع فجاء رجل واقتدى يصير مدركاً للركعة، وكذلك إذا قرأ الإمام الأول الفاتحة ولم يقرأ السورة وركع سبقه الحدث فاستخلف رجلاً فقرأ الرجل الخليفة السورة وركع فجاء رجل واقتدى به، فإن الرجل يصير مدركاً للركعة. وكذلك لو قرأ الأول السورة ولم يقرأ الفاتحة وباقي المسألة بحالها يصير مدركاً للركعة، فلو أن الإمام الأول قرأ وركع فلما رفع رأسه من الركوع سبقه الحدث فاستخلف رجلاً فقرأ بهما الخليفة وركع فجاء رجل واقتدى به فعلى الرواية التي ذكر في باب الحدث يصير مدركاً للركعة، والمعنى في ذلك أن الخليفة قام مقام الأول فحاله كحال الإمام الأول، والجواب في حق الإمام الأول على هذا التفصيل فكذا في حق الخليفة والله أعلم. فرعفي بيان ما يكره للمصلي أن يفعل في صلاته وما لا يكره للمصلي (يكره) أن يغطي فمه في الصلاة لما روى أبو هريرة أن رسول الله عليه السلام «نهى أن يغطي المصلي فاه في الصلاة» ، وهذا الذي ذكرنا في غير (59أ1) حالة العذر بأن

غلبه التثاؤب، فلا بأس (بأن) يضع يده على فمه قال عليه السلام: «إذا تثاءب أحدكم فليغطّ فاه فإن الشيطان يدخل فاه» أو قال فيه أو قال فمه. ويكره أن يصلي معتجراً لنهي النبي عليه السلام عن ذلك، وتكلموا في تفسير الاعتجار: قال بعضهم: أن يشد العمامة حول رأسه بالمنديل ويبدي هامته كما يفعله الشطارون، وقال بعضهم: أن يشد بعض العمامة على رأسه واليدين على بدنه، وعن محمد أنه قال: لا يكون الاعتجار إلا مع منتعب وهو أن يلف العمامة على رأسه، ويجعل طرفاً منه شبه المعتجر للنساء يلف حول وجهه، وإنه مكروه لما فيه من تغطية الفم والأنف ويكره أن يصلي وهو عاقص.... شعره لحديث أبي رافع أن رسول الله عليه السلام «نهى أن يصلي الرجل ورأسه معقوص» والعقص هو الإحكام والشد والمراد من المسألة أن يجمع شعره على هامِتِهِ ويشده بشمع أو غيره ... عند بعض المشايخ، وعند بعضهم أن يلف ذوائبه حول رأسه كما تفعله النساء في بعض الأوقات وعند بعضهم أن يجمع الشعر كلّه من قبل القفار يحيط وخرقه كيلا يصيب الأرض إذا سجد، ويكره أن يضع يديه على الأرض قبل ركبتيه إذا انحط للسجود. وإذا قام رفع يديه قبل ركبتيه، ويجوز أن يفعل خلافه حالة العذر، والأصل فيه ما روى وائل بن حجر أن النبي عليه السلام «كان يضع ركبتيه قبل يديه» ، وعن أبي هريرة أن النبي عليه السلام «نهى أن يبرك المصلي بروك الإبل» ، وفي رواية بروك الجمل، وقال ليضع ركبتيه قبل يديه. ويكره أن ينقر نقر الديك، وأن يقعي إقعاء الكلب، وتفسيره: أن يضع أليتيه على الأرض وينصب فخذيه، وقيل: تفسيره: أن يضع أليته على الأرض وينصب يديه أمامه نصباً، وأن يفترش ذراعيه افتراش الثعلب، لحديث أبي هريرة قال: «نهاني خليلي عن ثلاثة أن أنقر نقر الديك، وأن أقعي إقعاء الكلب، وأن أفترش إفتراش الثعلب. ويكره أن يرفع يديه عند الركوع، وعند رفع الرأس من الركوع لحديث جابر بن سمرة قال كنا نرفع أيدينا عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع. فخرج النبي صلى الله عليه وسلّموقال: «ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة» . ويكره السدل في الصلاة لنهي النبي عليه السلام عن ذلك.

قال في «الأصل» وتفسيره: أن يضع ثوبه على كتفيه ويرسل طرفيه، وفي القدوري يقول في تفسيره أن يجعل ثوبه على رأسه وكتفيه ثم يرسل أطرافه من جوانبه، ومن صلى في فناء أو في مطرف أو في....... ينبغي أن يدخل يديه في كميه ويشد القباء بالمنطقة احترازاً عن السَّدل، وعن الفقيه أبي جعفر أنه كان يقول إذا صلى مع القباء وهو غير مشدود الوسط، فهو سيء وكان يقول كان فقيهاً يقول يخاف أن يدخل في الكراهة ويكره لبسه ... ، وذلك أن يجمع طرفي ثوبه، ويخرجهما تحت إحدى ثوبيه ويضعهما على كتفه الأخرى إذا لم يكن عليه سراويل. وكذلك يكره له أن يضع ثوبه على رأسه ويلف به جميع بدنه بحيث لا يبقى له فُرْجَه؛ لأن فيه تغطية الفم، وإنها مكروهة، وكذلك يكره أن يلف ... أو يرفعها لئلا؛ لأن فيه نوع تجبر، ويكره للمصلى ما هو من أخلاق الجبابرة، وكذلك تكره الصلاة في إزارٍ واحد بخلاف الصلاة في ثوب واحد متوشحاً به. وقدمت المسألة من قبل، وتكره الصلاة حاسراً رأسه تكاسلاً، ولا بأس إذا فعله تذللاً خشوعاً بل هو حسن، هكذا حكي عن شيخ الإسلام أبي الحسن السغدي رحمه الله. قال نجم الدين في «كتاب الخصائل» : قلت لشيخ الإسلام: إن محمداً يقول في «الكتاب» لا بأس بأن يصلي في ثوب واحد متوشحاً به، وقال: مراد محمد أن يكون ثوباً طويلاً يتوشح به فيجعل بعضه على رأسه وبعضه على منكبيه، وعلى كل موضع من بدنه أما ليس فيه تنصيص على إعراء الرأس والمنكبين، وقد روي أن أصحاب رسول الله عليه السلام كانوا يكرهون إعراء المناكب في الصلاة، وكذلك يتكره الصلاة في ثياب البذلة روي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلاً فعل ذلك، فقال: أرأيت لو كنت أرسلتك إلى بعض الناس أكنت تمر في ثيابك هذه، فقال: لا، فقال عمر: الله أحق أن تتزين له، وكذلك تكره الصلاة في ثوب فيه تصاوير. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: والمستحب للرجل أن يصلي في ثلاثة أثواب، قميص وإزار وعمامة. والمستحبُّ للمرأة أن تصلي في قميص وخمار ومقنعة، ولا يرفع رأسه، ولا يطأطئه ولا يعبث بشيء من جسده أو ثيابه. قال عليه السلام: «إن الله تعالى كره لكم ثلاثاً العبث في الصلاة والرفث في الصوم والضحك في المقابر» ولا يفرقع أصابعه، قال عليه السلام لعليّ «لا تفرقع أصابعك وأنت تصلي» . ولا يُشبك بين أصابعه، ولا يجعل يده على خاصرته. قيل: أنه استراحة أهل النار، ولا يقلب الحصى إلا أن لا يمكنه من السجود فيسوي موضع سجوده مرة أو مرتين، فلا بأس به.

ويكره مسح جبهته من التراب أثناء الصلاة وقد مرت المسألة من قبل. ويكره عد الآي والتسبيح في الصلاة، وكذلك عد السور يريد بالأصابع، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد لا بأس به. وجه قولهما: أن المصلي قد يضطر إلى هذا لمراعاة سنّة القراءة، والصلاة والعمل بما جاءت به السنّة في صلاة التسابيح ونحوها، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن هذا عمل ليس من أعمال الصلاة ولا حاجة إليه لمراعاة سنّة القراءة؛ لأنه يمكنه أن ينظر فيما يريد أن يقرأ قبل الشروع في الصلاة، ولو احتاج إليها كما في صلاة التسابيح عدّها إشارة أو فلا حاجة إلى العد بأصابعه، ثم من مشايخنا من قال لا خلاف في التطوع أنه لا يكره ذلك، وإنما الخلاف في المكتوبة، ومنهم من قال: لا خلاف في المكتوبة أنه يكره ذلك، وإنما الخلاف في النوافل. قال الفقيه أبو جعفر؛ وجدت رواية عن أصحابنا أنه يكره فيهما. وفي «نوادر المعلّى» عن أبي يوسف؛ لا أرى بعدّ الآي في المكتوبة ... ولا في التطوع، قال: وأراد بهذا العدّ العدّ بالقلب دون اللسان. المصلي إذا مرّ بآية فيها ذكر النار أو ذكر الموت فوقف عندها وتعوِّذ من النار واستغفر، أو مر بآية فيها ذكر الرحمة فوقف عندها، وسأل الله تعالى الرحمة فهنا ثلاث مسائل. مسألة في المتفرد، والجواب فيها أنه إن كان في التطوع فهو حسن لحديث حذيفة، قال: «صليت مع رسول الله عليه السلام صلاة الليل فما مر بآية فيها ذكر الجنة إلا وقف؛ وسأل الله تعالى الجنة، وما مرّ بآية فيها ذكر النار إلا وقف وتعوّذ بالله من النار، وما مر بآية فيها مَثَل إلا وقف عليها وتأمل وتفكر» ، فإن كان في الفرض يكره؛ وذلك لأنه لم ينقل عن رسول الله عليه السلام أنه فعل ذلك، ولا عن الأئمة بعده فكان محدثاً وشر الأمور محدثاتها. ومسألة في الإمام: والجواب فيها أنه لا يفعل ذلك في التطوع والفرض؛ لأنه لم ينقل ذلك عن رسول الله عليه السلام ولا عن الأئمة العابدين بعده؛ ولأنه يؤدي إلى تطويل الصلاة على القوم وأنه مكروه. ومسألة في المقتدي: والجواب فيها أنه يستمع وينصت ولا يشتغل بالدعاء. قال الله تعالى {وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف: 204) أمر بالإنصات والاستماع والأمر للوجوب والدعاء يُخلّ بالاستماع والإنصات فيخلّ بالواجب فلا يجوز، وعن هذا سقطت القراءة عن المقتدي، وعن هذا قال بعض مشايخنا: تكره قراءة القرآن جملة. ويكره له أن ينظر إلى السماء، وقد كان رسول الله عليه السلام يفضل ذلك ندباً،

فنزل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَشِعُونَ} (المؤمنوه: 1، 2) يومي ببصره إلى الأرض ولا يلتفت يميناً وشمالاً. قال عليه السلام: «لو علم المصلي من يناجي ما التفت» . ومراده من المسألة؛ إذا حول بعض وجهه عن القبلة، فإما أن ينظر بموفق عينيه ولا يحول بعض وجهه لا يكره، ويكره أن يسجد على كور عمامته، ويكره له التنحنح قصداً يعني عن اختيار إذا كان صوتاً لا حروف إلا أنه إذا صار له حروفاً كان في كونه مفسداً اختلافاً لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وأما السعال الذي هو مدفوع إليه فلا يكره، ويكره التنخم قصداً، ولا يصلي، وفي..... ولا يمنعه (59ب1) عن القراءة وإنْ منعه عن القراءة لم تجز الصلاة، هكذا ذكر في بعض المواضع، وذكر في موضع آخر إن منعه عن أداء الحروف أفسد الصلاة، وإن لم يمنعه عن عين القراءة وإنما يمنعه عن سنّة القراءة لا تفسد صلاته، ولكن يكره ذلك، وإن لم يمنعه عن شيء فلا بأس به. ويكره النفخ في الصلاة ومراده نفخ لا يسمع؛ لأن في كون النفخ المسموع كلام يأتي بعد هذا في فصل المفسدات.d ويكره له أن يبتلع ما بين أسنانه إذا كان قليلاً، ويكره الجهر بالتسمية في صلاة الجهر، والجهر بالتأمين، وكذا يكره له إتمام القراءة في الركوع، وكذا يكره تحصل الأركان المشروعة في الإساءات بعد تمام الانتقال، وفيه ... لأن تركها في موضعه وتحصيلها في غير موضعه. ويكره الاتكاء على البناء، ونحوه من غير عذر في الفرائض؛ لأنه يخل بالقيام ويزيل اليد إليه عن موضع السنّة في الوضع، ويكره ذلك في التطوع، هكذا قيل، وقيل: يكره ذلك في التطوع أيضاً، وكذا يكره إمساك شيء من ثوب أو دراهم بيده؛ لأنه يشغله عن الصلاة ويمنعه عن وضع اليد موضع السنّة، فإن كان لا يشغله عن الصلاة، ولا يمنعه عن وضع اليد على موضع السنّة، فلا بأس به، وكذا يكره حمل الصبي في حالة الصلاة؛ لأنه يشغله عن الصلاة، ويكره أن يخطو خطوات من غير عذر ووقف بعد كل خطوة لأنه لو والاها قطعت الصلاة على ما يأتي بيانه بعد هذا، وإن كان بعذر لا يكره. ويكره التمايل على يمناه مرة وعلى يسراه أخرى، فقد صح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله عليه السلام: يقول: «إذا صلى أحدكم فليسكت أطرافه ولا يتمايل تمايل اليهود» ، ويكره التربع من غير عذر، فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنه نهى ابنه عن ذلك، فقال له ابنه إنك تفعل هكذا فقال له عمر إن رجلاي لا تحملاني اعتذر بالضعف.

ولا بأس بقتل العقرب والحية في الصلاة بعد الأعذار الخمسة وغير الخمسة في ذلك على السواء، قالوا: هذا إذا لم يحتج إلى المشي والمعالجة، فأما إذا احتاج إلى المشي والمعالجة، تفسد صلاته، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا في فصل المفسدات. وإن وجد قملة في الصلاة كره له أن يقتلها، لكن يدفنها تحت الحصا، وهذا قول أبي حنيفة وروي عنه أيضاً، لو أخذ قملة أو برغوثاً وقتله أو دفنه، فقد أساء، وعن محمد أنه يقتلها وقتلها أحب إليّ من دفنها، وأي ذلك فعل فلا بأس به، وقال أبو يوسف يكره قتلها ودفنها في الصلاة، ويكره أن يتوق في الصلاة وكذا يكره ترك الطمأنينة في الركوع والسجود، وهو أن لا يقيم صلبة، ولا بأس بالصلاة على الطنافس واللبود وسائر الفرش والصلاة على الأرض، وعلى ما ... الأرض أفضل، ويكره أن يطول الركعة الأولى في التطوع، ويكره تطويل الثانية على الأولى في جميع الصلوات ويكره نزع القميص والقلنسوة ولبسهما وخلع الخف لعمل يسير. ويكره أن يشم طيباً أو ريحاناً وأن يرّوح بثوبه أو عرقه مرة أو مرتين ولا تفسد صلاته وكثير من مسائل هذا الفصل تأتي في كتاب الكراهية والاستحسان إن شاء الله تعالى. ومما يتصل بهذا الفصل قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : لا بأس بأن يكون مقام الإمام في المسجد ورأسه في السجود في الطاق، ويكره أن يقوم في الطاق. أما إذا قام في الطاق، فيكره إما؛ لأنه خص لنفسه مكاناً، وذلك مكروه لما روي عن عمار بن ياسر: أنه قام بالمدائن على الدكان يصلي بأصحابه، فجذبه حذيفة فلما فرغ من صلاته، قال له حذيفة: أما علمت أن رسول الله عليه السلام كان ينهى عن ذلك فقال عمار: لقد تذكرت ذلك حين مددتني معنى وهو أن هذا بسبب بأهل الكتاب والتشبه بهم مكروه؛ وأما لأنه إذا قام في الطاق يشتبه على القوم حاله وإنما قدم الإمام على القوم حتى يظهر لهم حاله ولا يشتبه فما يوجب اشتباه حال الإمام عليهم يكون مكروهاً وإن كان المحراب مشبكاً وقام الإمام في الطاق هل يكره على أحد الطريقين، وهو طريق تخصيص المكان وعلى الطريق الآخر وهو طريق الاشتباه حال الإمام لا يكره. ثم إن محمداً رحمه الله اعتبر العدم في هذه المسألة فجعل الإمام كالخارج عن الطاق إذا كان قدماه خارج الطاق، وإن كان رأسه عند السجود في الطاق، وأنه يوافق أصول أصحابنا رحمهم الله، فإنهم قالوا فيمن حلف لا يدخل دار فلان فأدخل رجليه في دار فلان يحنث في يمينه، وإن كان جميع أعضائه خارج الدار.

ولو أدخل جميع أعضائه في دار فلان ورجلاه خارج الدار لا يحنث، فكذا الصيد إذا كان قدماه في الحرم ورأسه خارج الحرم كان صيد الحرم، ولو كان على العكس لا يكون صيد الحرم، وكذلك المصلي إذا كان قدماه على مكان نجس لا تجوز صلاته، ولو كان قدماه على مكان طاهر وركبتاه ويداه على مكان نجس يجوز. وكذلك قالوا في المأموم إذا كان أطول من الإمام وصلى بجنبه وهو بحال لو سجد يقع رأسه قبل رأس الإمام فصلاته جائزة، فقد اعتبروا العدم في هذه المسائل فكذا في مسألة «الكتاب» . ونظير مسألة «الكتاب» : ما ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» إذا كان الإمام على الدكان والقوم على الأرض أو كان الإمام على الأرض والقوم على الدكان، ففي الفصل الأول يكره رواية واحدة وفي الفصل الثاني روايتان في رواية «الأصل» يكره، وذكر الطحاوي في «مختصره» أنه لا يكره فقال بعض مشايخنا رحمهم الله: وإنما يكره. أن يكون الإمام وحده على الدكان أو وجد على الأرض، أما إذا كان بعض القوم مع الإمام فلا بأس، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله فيما إذا كان القوم على الدكان إنما يكره على رواية «الأصل» إذا لم يكن للقوم فيه عذر أما عند العذر، فلا يكره كما في الجمعة، فإن القوم يقومون على الرفوف والإمام على الأرض ولم ينكر عليهم أحد من الأئمة لضيق المكان. وحكي عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله نظير هذا، فإنه كان يقول: الصلاة على الرفوف في المسجد الجامع من غير ضرورة مكروه وعند الضرورة بأن امتلأ المسجد، ولم يجد موضعاً يصلي فيه فلا بأس به، وهكذا حكي عن الفقيه أبي الليث رحمه الله في مسألة الطاق، فإنه كان يقول: إذا تحققت الضرورة بأن ضاق المسجد على القوم، والإمام يقوم في الطاق لا يكره، ولم يذكر محمد في «الأصل» الدكان تقديراً، وذكر شيخ الإسلام عن الطحاوي أنه قال: إن كان دون قامة الرجل لا يكره....، وإن كان مثل قامة الرجل إن كان الإمام على الدكان يكره رواية واحدة، وإن كان القوم على الدكان ففيه روايتان على ما مرّ. قال رحمه الله: وهكذا روي عن أبي يوسف أنه قدّر الدكان بهذا، وذكر شمس الأئمة الحلواني عن الطحاوي قال رحمه الله: إن الكراهة فيما إذا جاوزت الدكان قدر القامة الوسط وإن كان دون ذلك لا يكره، قال رحمه الله: وقد قال بعض مشايخنا: إذا كان قدر ذراع يكره وإن كان دون ذلك لا يكره. ويكره للمقتدي إذا كان وحده أن يقوم على يسار الإمام وخلفه، فإن السنّة أن يقوم على يمينه وكذا يكره للمنفرد أن يصلي أن بقوم في خلال صفوف الجماعة فخالفهم في القيام والقعود وكذا يكره للمقتدي أن يقوم خلف الصفوف وحده إذا وجد فرجة في

الصفوف، وإن لم يجد فرجة في الصفوف، روى محمد بن شجاع والحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه لا يكره فإن جر أحداً من الصف إلى نفسه وقام معه، فذلك أولى، وتكره الصلاة في طرق العامة، وكذا تكره الصلاة في الصحراء من غير سترة، ومقدار السترة تأتي بعد هذا في فصل على حِدَة. ويكره للرجل أن يأم قوماً هم له كارهون، وكذا يكره له أن يتنقل على قولهم بالتطويل وكذا يكره له أن يخفف عليهم على وجهٍ يعجلهم عن إكمال سننهما، وكذا يكره له أن (يحيج) القوم إلى الفتح عليه، ويقرأها ... فيه بأن عرض له شيء انتقل إلى غيره أو ركع إن قرأها تكفيه، وكذا يكره له أن يمكث في مكانه بعدما سلم طويلاً. فقد صح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه السلام «كان لا يمكث في مكان صلاته (60أ1) بعدما سلم. ممقدار أن يقول: «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والكرام» ، فبعد ذلك ينظر إن كان في صلاة يتنقل بعدها يباشر وينتقل وإن كان في صلاة لا يتنفل بعدها انحرف واستقبل القوم إن لم يخلو من يصلي، فإنه لو حادى من يصلي يكره ذلك. والأصل فيما روى ابن عمر رضي الله عنهما رأى رجلاً يصلي وآخر يواجهه فعلاهما بالدرة. والأولى للقوم أن ينحرفوا عن أمكنتهم، فقد روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: «أيعجز أحدكم إذا فرغ من صلاته أن يتقدم أو يتأخر» والله أعلم. فصل: في بيان ما يفسد الصلاة وما لا يفسد يجب أن يعلم بأن ما يفسد الصلاة نوعان: قول وفعل. فنبدأ بالقول، فنقول: إذا تكلم في صلاته ناسياً أو عامداً أو خطأً أو قاصداً قليلاً أو كثيراً تكلم لإصلاح صلاته بأن قام الإمام في موضع بالقعود، فقال اقعد أو قعد والإمام في موضع القيام، فقال له، المقتدي، قم أولاً لإصلاح صلاته ويكون الكلام من كلام الناس استقبل الصلاة عندنا لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه السلام قال: «من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم» وهذا قد تكلم فلا شيء في ظاهر هذا الحديث. وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قدم من الحبشة فوجد رسول الله عليه السلام في الصلاة فسلم عليه فلم يرد عليه الصلاة والسلام فقال ابن مسعود فأخذني ما قرب وما بعد. فلما فرغ عليه الصلاة والسلام قال لي: «يا ابن مسعود إن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء وإن من جملة ما أحدث أن لا يتكلم في صلاتنا، وهذا إذا

تكلم على وجه يسمع منه، فأما إذا تكلم على وجه لا يسمع منه إن كان بحيث يسمع نفسه تفسد صلاته، وإن كان بحيث لا يسمع نفسه إن لم يصحح الحروف لا يضره، وإن صحح الحروف. حكي عن الكرخي: أنه تفسد صلاته، وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أنه لا تفسد صلاته، والاختلاف في هذه المسألة نظير الاختلاف فيما إذا قرأ في صلاته ولم يسمع نفسه هل تجوز صلاته؟. وفي «النوازل» إذا تكلم في الصلاة وهو في النوم تفسد صلاته هو المختار؛ لأن الكلام قاطع للصلاة مطلقاً. قال عليه السلام: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» . وإذا عطس رجل فقال له رجل في الصلاة: يرحمك الله فسدت صلاته، ذكر المسألة في «الجامع الصغير» من غير ذكر خلاف، وذكر في موضع آخر، وقال أبو يوسف: لا تفسد صلاته، وجه قول أبي يوسف: أنه لم يدخل في الصلاة ما ليس منها، لأنه دعاء له بالمغفرة والرحمة، وهذا مما يوجد في الصلاة. وجه قول أبي حنيفة ومحمد: حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: «قدمت من الحبشة فعطس رجل بجنبي في الصلاة فقلت يرحمك الله فلما فرغ رسول الله عليه السلام من الصلاة قال: «إن صلاتنا هذه لا تصلح لكلام الناس إنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن» . وفي «فتاوى الفضلي» : إذا عطس الرجل فقال رجل في الصلاة الحمد لله لا تفسد صلاته، وإن أراد به الجواب؛ لأن جواب غير العاطس للعاطس ليس هو التحميد فلم يأتِ بما يصير به مجيباً للعاطس فلم يكن جواباً. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: إذا عطس الرجل في الصلاة حمد الله تعالى، فإن كان وجد ما يباشر به وحرك لسانه وإن شاء أعلن وإن كان خلف إمام أسر به وحرك لسانه، وقال أبو يوسف بعد ذلك: إن كان يصلي وحده أو خلف الإمام فعطس فليحمد الله في نفسه ولا يتكلم فيه، وقال أبو حنيفة: يصمت، وعن أبي حنيفة في العاطس يحمد الله تعالى في نفسه ولا يحرك لسانه فلو حرك تفسد صلاته، وعن بعض المشايخ: إن المصلي إذا عطس وقال لنفسه يرحمك الله يعني لا تفسد صلاته؛ لأن هذا ليس بكلام؛ لأن الإنسان لا يتكلم مع نفسه فصار كأنه قال: يرحمني الله أو قال الحمد لله، وهناك لا تفسد صلاته كذا ههنا، ولو عطس رجل في الصلاة فقال له رجل في الصلاة يرحمك الله، فقال العاطس آمين فسدت صلاته؛ لأنه إجابة.

وإذا أخبر المصلي بخبر يسوؤه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وأراد جوابه بأن قال له: مات أبوك أو قيل له ماتت أمك فقال إنا لله وإنا إليه راجعون، فهذا يقطع الصلاة، وإن لم يرد جوابه لا تقطع الصلاة وذكر المسألة من غير ذلك وخلاف. ولو أخبر بخبر يسوؤه بأن قيل له قدم أبوك، فقال: الحمد لله وأراد جوابه قطع الصلاة في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف لا تقطع، وعلى الاختلاف إذا أُخبر بما يعجبه فقال: سبحان الله أو قال: لا إله إلا الله وأراد جوابه فمن مشايخنا من قال مسألة الاسترجاع على الخلاف أيضاً، وهذا القائل لا يحتاج إلى الفرق بين مسألة الاسترجاع وبين تباين المسألتين. ومنهم من قال: مسألة الاسترجاع على الوفاق وهذا القائل يحتاج إلى الفرق لأبي يوسف، والفرق له أن الاسترجاع لإظهار المصيبة الصلاة لأجله، والتحميد لإظهار الشكر والصلاة شرعت لأجله، ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن الجواب منتظم الكلام فيصير كأنه قال: الحمد لله على قدوم أبي وأشباه ذلك، ولو صرح بذلك أليس إنه تفسد صلاته كذا ههنا، أو يقول: الكلام ينبني على قصد المتكلم، فمتى قصد بما قال المتعجب يجعل متعجباً لا مُسبِّحاً كأنه قال: سبحان الله على قصد التعجب كان متعجباً لا مسبحاً. ألا ترى أن من رأى رجلاً اسمه يحيى وبين يديه كتاب موضوع قال: يا يحيى خذ الكتاب بقوة وأراد خطابه لا يشكل على أَحَدٍ أنه متكلم وليس بقارىء، وكذا إذا كان الرجل في سفينة؛ لأنه خارج السفينة قال يا بني إركب معنا وأراد خطابه يُجعل متكلماً لا قارئاً وكذا إذا كان تحت المصلي رجل اسمه موسى وفي يديه عصا قال: وما تلك بيمينك يا موسى وأراد خطابه يجعل متكلماً لا قارئاً. وكذلك لو قال رجل للمصلي بأي موضع مررت فقال بئر معطلة وقصر مشيد وأراد جوابه يجعل متكلماً لا قارئاً. وكذلك إذا أنشد شعراً فيه ذكر الله تعالى نحو قوله: تبارك ذو العلى والكبر ... يجعل متكلماً حتى تفسد صلاته في هذه الوجوه كذا في مسألتنا، وكذلك إذا قرع الباب على المصلي ونوى من الخارج فقال: ومن دخله كان آمناً وأراد به الجواب والإذن بالدخول تفسد صلاته، وإن أراد قراءة القرآن في هذه السور كلها لا تفسد صلاته، وفي القدوري يقول: وإذا عرض للمصلي شيء في صلاته فذكر الله تعالى يريد به خطاب الغير نحو أن يزجره عن فعل أو أَمَرهُ به فسدت صلاته في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف لا تفسد صلاته. وإن عرض للإمام فسبح له، فلا بأس به، وكذا إذا سبح يَعْلَمُ غيره أنه في الصلاة لا تفسد صلاته، ولا يسبح الإمام إذا قام للأخريين، وإذا دعا في صلاته فسأل الله تعالى

الرزق والعافية لا تفسد صلاته، واعلم بأن الدعاء في الصلاة مندوب إليه، قال عليه السلام: «وأما في سجودك فاجتهد في الدعاء، فإنه أرجى أن يستجاب لك بعدها» . قال في «الأصل» إذا دعا بما يشبه في القرآن ولا يشبه كلام الناس لا تفسد صلاته؛ لأنه ذِكْرٌ وذكر الله تعالى لا يكون مفسداً للصلاة، وإن دعا بما يشبه كلام الناس تفسد صلاته لحديث معاوية بن الحكم السلمي أنه أجاب العاطس في الصلاة وقال: يرحمك الله، فلما فرغ رسول الله عليه السلام من صلاته قال لمعاوية؛ «إن صلاتنا هذه لا تصلح لشيء من كلام الناس إنما هي التهليل والتسبيح وقراءة القرآن» فقد جعل رسول الله عليه السلام قوله يرحمك الله من كلام الناس. والفرق فيما يشبه ما في القرآن وبين ما يشبه كلام الناس أن كل ما يسأل به الله تعالى ولا يسأل به غيره فهذا مما يشبه ما في القرآن، وذلك نحو قوله: اللهم اغفر لي، اللهم أدخلني الجنة؛ لأنّ المغفرة والإدخال في الجنة لا يسأل إلا من الله تعالى، وكل ما يسأل به الله تعالى ويسأل به غيره فهذا من جملة ما يشبه كلام الناس فيفسد الصلاة، وذلك نحو قوله: اللهم زوجني فلانة، اللهم اكسُني ثوباً، اللهم اقضِ ديني؛ لأن هذا كما يسأل به من الله تعالى لا يُسأل به مَنْ غيره يقول الرجل لغيره: زوجني ابنتك، اكسني ثوبك، اقضِ ديني، والذي يؤيد ما قلنا ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه (60ب1) أنه قال لرسول الله عليه السلام: «علمني يا رسول الله دعاء أدعو به في صلاتي فقال: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كبيراً وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» . وذكر في «الجامع الصغير» : ادع في الصلاة بكل شيء في القرآن وبنحوه، نُقل عن الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله، فإنه كان يقول: كل دعاء في القرآن إذا دعا المصلي بذلك الدعاء لا تفسد صلاته، وكان يقول: إذا قال: اللهم اغفر لوالدي لا تفسد صلاته؛ لأنه في القرآن، وكذلك إذا قال: اللهم اغفر لأبي، ولو قال: اللهم اغفر لأخي تفسد صلاته، ولو قال: اللهم إغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات لا تفسد صلاته؛ لأنه في القرآن ولو قال: اللهم إغفر لزيد أو قال لعمرو تفسد صلاته؛ لأنه ليس في القرآن ولو قال اللهم ارزقني من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها لا تفسد صلاته؛ لأن عينه في القرآن، ولو قال: اللهم ارزقني بقلاً وقثّاء وعدساً وبصلاً؛ لأن عين هذا اللفظ ليس في القرآن. وقول محمد في «الأصل» : إذا دعا بما يشبه ما في القرآن لم يرد به حقيقة..؛ لأن

الدعاء كلام العباد. والقرآن كلام الله وكلام العباد لا يشبه كلام الله، ولكن أراد به إذا دعا بدعوات يكون معناها الدعوات المذكورة في القرآن، ذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار: أنه إذا دعا بالدعوات التي ذكرها محمد رحمه الله في «الكتاب» فقال: اللهم أكرمني، اللهم أنعِم عليّ، اللهم عافني من النار، اللهم أصلح أمري، اللهم سددني ووفقني، اللهم اصرف عني شَرَّ كل ذي شر، أعوذ بالله من شر الجن والإنس، اللهم ارزقني حج بيتك وجهاداً في سبيلك، اللهم استعملني في طاعتك وطاعة رسولك، اللهم اجعلنا عابدين حامدين شاكرين، اللهم ارزقنا وأنت خير الرازقين فهذا كلّه حسن ولا يقطع الصلاة. وإذا نفخ التراب من موضع سجوده فعلى وجهين: إن كان نفخاً لا يسمع لا تفسد صلاته؛ لأن هذا نَفَسٌ لا بُدّ للحي منه. وإن كان نفخاً يسمع تفسد صلاته عند أبي حنيفة ومحمد، فظن مشايخنا أن النفخ المسموع ما يكون له حروفاً مهجأة نحو قوله أف تف ثف وغير المسموع ما لا يكون له حروفاً مهجأة وإليه مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وبعض مشايخنا لم يشترط، والنفخ المسموع أن يكون له حروفاً مهجأة وإليه ذهب شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده. ووجه ذلك: أن الكلام ما يكون له حروفاً مهجأة بصوت مسموع فالصوت: شطر الكلام كالحروف من حيث إنه لا يحصل الإفهام إلا بهما، ثم إقامة الحروف باللسان بدون الصوت مفسد فكذا الصوت المسموع الخارج من مخرج الكلام يجب أن يكون مفسداً، أو كأنه قال إلى قول الكرخي فيما إذا صحح الحروف بلسانه ولم يسمع نفسه، وكان أبو يوسف رحمه الله أولاً يقول: لا تفسد صلاته إلا إذا أراد به التأفيف يريد به لغة العرب أُفْ كما في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّهُ وَبِالْولِدَيْنِ إِحْسَناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} (الإسراء: 23) وقال القائل: إذا..... إن.... مالت الريح هكذا، وكذا مال مع الريح إن مالت فأما إذا أراد.... موضع سجوده عن التراب لا يقطع صلاته ثم رجع وقال لا تفسد صلاته. وإن أراد به التأفيف لغة العرب. ووجه هذا القول ما روي أن رسول الله عليه السلام قال في صلاة الكسوف «أف أف ثم قال رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم» وتقدم وتأخر ومضى على صلاته وقاسه بالتنحنح والعطاس، فإنه لا يقطع الصلاة، وإن كان مسموعاً وله حروف مهجأة، حجة أبي حنيفة ومحمد رحمه الله: أن رسول الله عليه السلام مرّ بمولى يقال له رباح وهو ينفخ التراب، فقال: أما علمت أن من نفخ في صلاته فقد تكلّم. فلأن قوله أف من جنس كلام الناس؛ لأنها حروف مهجأة تذكر لمقصود.

قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّهُ وَبِالْولِدَيْنِ إِحْسَناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا} (الإسراء: 23) والكلام قاطع للصلاة. قال الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله ذكر النفخ في «الكتاب» ولم يذكر تفسيره، قال رحمه الله: وتفسير أف توقف. والعطاس لا يقطع الصلاة على كل؛ لأنه مما لا يمكن دفعة عنه، فكان عفواً، والتنحنح إن كان مدفوعاً إليه لا يقطع الصلاة على كل حال أيضاً؛ لأنه مما لا يمكن الامتناع عنه، وإن لم يكن مدفوعاً إليه إلا أنه لإصلاح إلحاق ليتمكن من القراءة إن ظهر له حروف نحو قوله أح أح وتكلف لذلك كان الفقيه إسماعيل الزاهد يقول: تقطع الصلاة عندهما؛ لأنها حروف مهجأة وقال غيره من المشايخ: لا تقطع وإن لم تظهر له حروف مهجأة لا تقطع الصلاة عندهما على قياس ما ذكره شمس الأئمة، وإذا ساق الدابة بقوله هرا وساق الكلب فقال سر تقطع عندهما أيضاً؛ لأن له حروف مهجأة، وإن ساقها بما ليس له حروف مهجات لا تقطع عندهما على ما ذكره شمس الأئمة، وكذا إذا دعى الهرة بما له حروف مهجأة تقطع الصلاة عندهما، وإن دعاها بما ليس له حروف مهجأة لا تقطع. وكذلك إذا يغيرها بما له حروف مهجأة قطع عندهما، وإذا تجشّأ ولم يكن معفواً به وحصل به حروف مهجاة تقطع الصلاة عندهما، وإن لم يكن معفواً به أو كان؛ إلا أنه لم يحصل به حروف لا تقطع الصلاة عندهما. ولو أَنّ في صلاته أو تأَوّه أو بكى وارتفع بكاؤه، وإن كان من ذكر الجنة والنار فصلاته تامّة، وإن كان ذلك من وجع أو مصيبة، فسدت صلاته عند أبي حنيفة ومحمد وتفسير الأنين أن يقول آه آه، وتفسير التأوه إن يقول أوه. ولهما كان الجواب كما قلنا لحديث عائشة فإنها.. في صلاته فقالت إن كان لخشية الله تعالى لا تفسد صلاته، وإن كان لألم فسدت صلاته وهنا من ما كان من ذكر الجنة والتأوه فهو لخشية الله فيكون في معنى التسبيح؛ لأنه لتعظيم الله تعالى فَعَلَ ما فعل فكان له حكم التسبيح وقد قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة:114) وكان إبراهيم يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل. فأما ما كان من وجع أو مصيبة فهو جزع فيصير من جملة كلام الناس لوجود أحدهما فتقطع الصلاة، وعن أبي يوسف أنه إذا كان يمكن الامتناع تقطع الصلاة، وإذا كان لا يمكن لا تقطع الصلاة، وعن محمد ما هو قريب منه، فإنه قال: إذا كان المرض خفيفاً تقطع الصلاة وإن كان ثقيلاً لا تقطع الصلاة؛ لأنه لا يمكنه القعود والقيام إلا بالأنين. وسئل محمد بن سلمة عن ذلك فقال: لا تقطع الصلاة وعلّل فقال: لأن هذا ما يبتلي به له المريض إذا اشتدّ عليه المرض لا يمكنه الامتناع عنه والمشهور عن أبي يوسف روايتان. أحدهما: أن الأنين يوجب قطع الصلاة سواء كان من وجع أو ذكر الجنة، بعض

مشايخنا قالوا في «شرح الجامع الصغير» : الاختلاف في هذه المسألة بناءً على اختلافهم في التسبيح في الصلاة. عند أبي حنيفة ومحمد تقطع الصلاة وعند أبي يوسف لا تقطع. الرواية الثانية: إذا كان الأنين بحرفين نحو آه آه لا تفسد الصلاة، وإذا كان بثلاثة أحرف نحو قوله أوه تفسد الصلاة عنده وعند بعض المشايخ سواء كان من وجع أو ذكر النار هذا بناءً على أن كل كلمة اشتملت على حرفين زائدين أو أحدها أصلية والأخرى زائدة لا تقطع الصلاة عند أبي يوسف وعند محمد تقطع. وكل كلمة اشتملت على ثلاثة أحرف وما زاد عليها، ففي الزيادة على الثلاث تفسد الصلاة عند أبي يوسف بلا خلاف بين المشايخ، وفي الثلاث اختلاف المشايخ على قوله والحروف الزوائد عشرة جمعها البغداديون في قوله: «اليوم تنساها» وقوله أوه يتولد منه أربعة أحرف؛ لأن التشديد يقوم مقام حرف واحد، وأوه بدون التشديد يتولد منه ثلاثة أحرف فيكون في أوه بدون التشديد خلاف المشايخ، قول أبي يوسف: وفي أوه مع التشديد اتفاقاً بين المشايخ، فأبو يوسف يقول: مبنى كلام العرب على ثلاثة أحرف. أحدها: ليبتدأ به. والثاني: ليحسن به الكلام. والثالث: ليست عليه، إلا أنه إذا تكلم بحرفين أصيلين (61أ1) . وحد أكثر ما يبنى عليه كلام العرب فأقيم مقام كله، وبه فارق ما إذا كان أحدهما زائداً لأن بالنظر إلى ما يبنى عليه الكلام حد الأحرف واحد، والكلام لا يقوم بحرف واحد. والجواب عن هذا أن الزوائد من الحروف لو كانت تلغى لكان لا تفسد صلاته إذا قال أوه؛ لأن جمعها زوائد، وحكي عن الشيخ الإمام أبي حفص الكبير رحمه الله أنه كان يقول: إذا تأوه في صلاته لا تفسد صلاته وأنه خلاف الرواية، وإن جرى على لسانه حرف واحد لا تفسد صلاته عند الكل، هكذا ذكر المشايخ في شروحهم. وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده في «شرحه» : أن على قول أبي حنيفة ومحمد تفسد الصلاة بالصوت المسموع بحرف واحد أولى، عن هذه المسألة تصريح على مسألة النفخ فرعا أنه المصلي إذا قال: أف مخففاً لا تفسد صلاته عند أبي يوسف بلا خلاف بين المشايخ وإذا قال: أف مشدداً ينبغي أن يكون فيه اختلاف المشايخ، وعندهما تفسد الصلاة في المخفف والمشدد جميعاً والله أعلم. قال محمد رحمه الله: في الرجل يستفتحه الرجل وهو في الصلاة فيفتح، قال هنا كلام أصح علم بأن فتح المصلي لا يخلو من ثلاثة أحرف، إما أن يكون على إمامه أو على رجل ليس هو في الصلاة أصلاً، أو على رجل هو في صلاة غير صلاة الفاتح، فإن كان الفتح على إمامه لا تفسد صلاته لقوله عليه السلام: «إذا استطعمك الإمام فأطعمه»

أي: إذا استفتح منك فافتح عليه، وعن عمر رضي الله عنه» أنه قرأ سورة النجم وسجد فلما عاد إلى القيام ارتج عليه فلُقِّنَ إذا زلزلت فقرأها» ولم يُنكر عليه؛ فلأنه يبتغي إصلاح صلاته؛ لأنه لو لم يفتح عليه ربما يجري على لسانه شيء تفسد صلاته، وفي إصلاح صلاة الإمام صلاح صلاة نفسه، وما يرجع إلى إصلاح صلاة المصلي لا تفسد الصلاة وإنْ كَثُر. ألا ترى أنه إذا سبقه الحدث فذهب وتوضأ لا تفسد صلاته كذا ههنا، بعض مشايخنا قالوا: هذا إذا كان فيه إصلاح صلاته بأن أُرْتج على الإمام قبل أن يقرأ مقدار ما تجوز به الصلاة أو بعد ما قرأ إلا أنه لم ينتقل إلى آية أُخرى، أما إذا لم يكن فيه إصلاح صلاته بأن قرأ الإمام مقدار ما تجوز به الصلاة أو انتقل إلى آية أخرى تفسد صلاته؛ لأنه تعليم في غير موضع الحاجة. وبعضهم قالوا: لا تفسد صلاته على أي حال؛ لأنه يحتاج إليه لإصلاح صلاته؛ لأنه ربما يقرأ ما يفسد صلاته لما اشتبه عليه الصواب فكان بمنزلة الفتح في موضع الاستفتاح عند الحاجة ولو أخذ الإمام من الفاتح بعدما انتقل إلى آية أخرى هل تفسد صلاة الإمام حكي عن القاضي الإمام أبي بكر.... أنه قال: تفسد وغيره من المشايخ قالوا: لا تفسد. ولا ينبغي للإمام أن يلجأ القوم إلى الفتح؛ لأنه يلجئهم إلى القراءة خلفه وأنه مكروه، ولكن إن قرأ مقدار ما تجوز به الصلاة يركع، وإن لم يقرأ مقدار ما تجوز به الصلاة ينتقل إلى آية أخرى؛ لأن الواجب قراءة القرآن مطلقاً والكل قرآن. ولا ينبغي للمقتدي أن يفتح على الإمام من ساعته؛ لأنه ربما يتذكر الإنسان من ساعته فتكون قراءته خلفه قراءة من غير حاجة. وإن كان الفتح على رجل ليس هو في الصلاة فهو على وجهين: إن أراد التعليم تفسد صلاته وإن لم يرد به التعليم وإنما أراد به قراءة القرآن لا تفسد صلاته. أما إذا أراد به التعليم؛ لأنه أدخل في الصلاة ما ليس من الصلاة في الصلاة يوجب فساد الصلاة؛ فلأن هذا من كلام الناس؛ لأن معنى المسألة إن غير المصلي استفتح من المصلي فيصير فتح المصلي جواباً عرفاً فيصير من كلام الناس حقيقة هذين المعنيين بأن تفسد صلاته إذا فتح على إمامه، لكن سقط اعتبار التعليم على المعنى الأول وسقط اعتبار الجواب على المعنى الثاني بالأحاديث ولمكان الحاجة إلى إصلاح صلاة نفسه، ولا نصّ في هذه الصورة ولا حاجة إلى إصلاح صلاة نفسه فيُعمل بقضيّة القياس. وأما إذا أراد به قراءة القرآن لا تفسد صلاته، أما على المعنى الأول: فلأنه انتصب معلماً في الصلاة. وأما على المعنى الثاني: فلأنه ليس من كلام الناس بعض مشايخنا قالوا: ما ذكر

من الجواب فيما أراد به التعليم يجب أن يكون قول أبي حنيفة ومحمد، أما على قول أبي يوسف: ينبغي أن لا تفسد؛ لأنه قرآن فلا يتغير لقصد القارىء، وأراد أصل المسألة إذا أجاب رجلاً في الصلاة بلا إله إلا الله. وإن كان الفتح على رجل هو في صلاة الإمام فهو على هذين الوجهين أيضاً إن أراد به التعليم تفسد صلاته إلا على قول أبي يوسف رحمه الله على ما ذكره بعض المشايخ. وإن أراد به قراءة القرآن لا تفسد، وهل تفسد صلاة المستفتح في هذه الصورة وهو ما إذا لم يكن في صلاة واحدة لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في شيء من الكتب، وذكر الشيخ الإمام الزاهد الصفار في «شرح كتاب الصلاة» : أنها تفسد؛ لأنه انتصب متعلماً لأن المستفتح كأنه يقول لغيره ماذا فذكرني، ألا ترى أنه أفسد صلاة الفاتح لانتصابه معلماً، وذكر القدوري في «شرحه» : إذا فتح على غير الإمام فسدت صلاته من غير فصل. ثم لم يشترط في «الجامع الصغير» للتكرار في الفتح، وشرط في «الأصل» فقال: إذا فتح غير مرة فما ذكر في «الأصل» يدل على أن بالفتح مرة لا يفسد الصلاة، والمعنى الثاني يؤيد ما ذكر في «الجامع الصغير» ؛ لأن الكلام يضاد الصلاة، والشيء يبطل بضده قلّ أو كثر. والمعنى الأول: يؤيد ما ذكر في «الأصل» ؛ لأنه إذا قال ما ليس من الصلاة في الصلاة إنما يوجب فساد الصلاة إذاً، أما إذا قلّ فلا، والله أعلم. وإذا أذّن في الصلاة وأراد به الأذان فسدت صلاته في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: لا تفسد حتى يقول: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، وكذلك إذا سمع المصلي وقال مثل ما قال المؤذن وأراد به جواب المؤذن فسدت صلاته في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف: لا تفسد حتى يقول حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح. وإذا جرى على لسان المصلي نعم، فإن كان ذلك يجري على لسانه في غير الصلاة فسدت صلاته؛ لأنه من كلامه، وإن لم يكن ذلك عادة له لا تفسد صلاته؛ لأنه قرآن وإن قال بالفارسية أرى هو بمنزلة قوله نعم، إن كان ذلك عادة له تفسد صلاته وإلا فلا، وكان الفقيه أبو الليث يقول: ينبغي أن تكون المسألة على الاختلاف الذي عرف فيما إذا قرأ القرآن بالفارسية، والصحيح ما ذكرنا؛ لأن ... إذا جُعلت من القرآن صار كأنه قرأ القرآن بالفارسية وثمة لا تفسد بالإجماع، إنما الاختلاف في الاعتبار به، المصلي إذا وسوسه الشيطان، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله إن كان ذلك في أمر الآخرة لا تفسد صلاته، وإن كان في أمر الصلاة تفسد صلاته، وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا قال المصلي في صلاته صلى الله على محمد إن لم يكن مجيباً لأحد لا تفسد صلاته؛ لأنه دعا بصيغته ولم يقل جواباً حتى يغيّر والله أعلم.

وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا سمع اسم النبي فصلى عليه وهو في الصلاة فسدت صلاته لأن هذه إجابة. ولو صلى عليه ولم يُسمع اسمه، فهذا ليس بإجابة فلا تفسد صلاته، وإذا قرأ المصلي من المصحف فسدت صلاته، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد؛ لا تفسد. حجتهما: أن عائشة أمرت ذكوان بإمامتها وكان ذكوان يقرأ من المصحف، ولأبي حنيفة وجهان: أحدها: إن حمل المصحف وتقليب الأوراق والنظر فيه والتفكر ليفهم ما فيه فيقرأ عمل كثير، والعمل الكثير مفسد لما نبيّن بعد هذا، وعلى هذا الطريق يفرق الحال بينهما إذا كان المصحف في يديه أو بين يديه أو قرأ من المحراب والله أعلم. الوجه الثاني: إنه تلقّن من مصحف فكأنه تلقن من معلم آخر، وذلك يُفسِد الصلاة فهذا كذلك، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله يقول (61ب1) . في التعليل لأبي حنيفة: أجمعنا على أن الرجل إذا كان يمكنه أن يقرأ من المصحف ولا يمكنه أن يقرأ عن ظهر قلبه أنه لو صلى بغير قراءة أنه يجد به، ولو كانت القراءة من المصحف جائزة لما أبيح له الصلاة بغير قراءة، لكن الظاهر أنهما لا يسلّمان هذه المسألة وبه قال بعض المشايخ، وتأويل حديث ذكوان أنه كان ينظر في المصحف ويتلقن ثم يقوم ويصلي يدل عليه أن هذا مكروه عندهما ولا يظن بعائشة أنها كانت ترضى بالمكروه، وإذا كان المكتوب على المحراب غير القرآن بأن كان المكتوب عليه كن في صلاتك خاشعاً، فنظر المصلي في ذلك وتأمل حتى فهم. قال بعض مشايخنا على قياس قول أبي يوسف: لا تفسد وعلى قياس قول محمد: تفسد، وبناء بنوا هذه المسألة على مسألة اليمين، فإن من حَلَفَ لا يقرأ كتاب فلان فوصل إليه كتاب فلان ... ونظر فيه حتى فهم، ولم يقرأ بلسانه: قال أبو يوسف: لا يحنث في يمينه؛ لأنه لم يقرأ حقيقة، وقال محمد: يحنث؛ لأنه وجد معنى القراءة وهو يفهم ما في الكتاب وهو المقصود من اليمين، فعلى تلك المسألة يجعل قارئاً هنا عند محمد خلافاً لأبي يوسف، وعلى قياس هذا ينبغي للفقيه أن لا يضَّيع جزء، وتعليقه بين يديه في الصلاة؛ لأنه ربما يقع نظره على ما في الجزء ويفهم ذلك فيدخل فيه شبهة الاختلاف. ومن المشايخ من قال على قول محمد: لا تفسد صلاته، وإن فهم ما في المصحف وما على المحراب، وروي ذلك عن محمد نصّاً، وقد روي هذا القائل عن محمد عقيب هذا القول: إذا حلف لا يقرأ القرآن فنظر وعلم ما فيه لا يحنث في يمينه بخلاف قراءة الكتاب. والفرق: أن المقصود من قراءة الكتاب لفلان يفهم ما فيه، وهو معنى القراءة لا نفس القرآن، فانصرف يمينه إليه أما نفس قراءة القرآن مقصود من غير أن يفهم ويعلم نفس

القرآن فانصرف اليمين إلى القراءة باللسان ولم توجد القراءة باللسان، وهذا إذا نظر مستفهماً، فأما إذا نظر غير مستفهم وفهم لا تفسد صلاته بلا خلاف ثم لم يفصّل في «الكتاب» في هذه المسألة، بينما لو قرأ قليلاً أو كثيراً. قال بعض مشايخنا: إذا قرأ مقدار آية تامة تفسد صلاته عند أبي حنيفة وفيما دون ذلك لا تفسد، وقال بعضهم: إذا قرأ مقدار الفاتحة تفسد صلاته، وفيما دون ذلك لا تفسد وكذلك لم يفصّل في «الكتاب» بين ما إذا لم يكن حافظاً للقرآن وبينما إذا كان حافظاً للقرآن. قال الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار: إذا كان حافظاً للقرآن، ومع هذا نظر في المصحف أو في الكتاب المكتوب على المحراب، وقرأ جازت صلاته؛ لأن هذه القراءة مضافة إلى حفظه لا إلى تلقّيه من المصحف، وإن نظر إلى شيء مكتوب وفهم ما فيه، وإن نظر غير مستفهم لكنه فهم لا تفسد، وإن نظر مستفهماً وفهم تفسد عند محمد، وبه أخذ الشيخ أبو الليث، ولا تفسد عند أبي يوسف، وبه أخذ بعض مشايخنا، وعلى هذا الطريق لا يعرف الحال بين ما إذا كان المصحف في يديه أو بين يديه أو قرأ من المحراب. وفي «العيون» : المصلي إذا سلم على أحد أو ردّ السلام على غيره فسدت صلاته، فرأيت في موضع آخر إذا أراد المصلي أن يسلم على غيره...... السلام يذكر أنه لا ينبغي أن يسلم وهو في الصلاة فيسكت تفسد صلاته والله أعلم. النوع الثاني في بيان الأفعال المفسدة ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» روى ابن ثعلبة عن الأزرق بن قيس أنه رأى أبا برزة يصلي آخذاً بقياد فرسه حتى صلى ركعتين، ثم انسل قياد فرسه من يده، فمضى الفرس على القبلة فتبعه أبو برزة حتى أخذ بقياده ثم رجع ناكصاً على عقيبه حتى صلى الركعتين الباقيتين. قال محمد في «السير الكبير» : وبهذا نأخذ الصلاة تجري مع ما صنع لا يفسدها الذي صنع؛ لأنه رجع على عقيبه ولم يستدبر القبلة بوجهه أو.... حتى جعلها خلف ظهره فسدت صلاته ثم ليس في الحديث فضل بين المشي القليل والكثير فهذا يبين لك أن المشي في الصلاة مستقبل القبلة لا يوجب فساد الصلاة وإن كثر. بعض مشايخنا أوَّلوا هذا الحديث واختلفوا فيما بينهم في التأويل فمنهم من قال: تأويله أنه لم يجاوز الصفوف أو لم يجاوز مع سجوده، أما إذا جاوز ذلك، فإن صلاته تفسد؛ لأن موضع سجوده في الفضاء مصلاه، وكذلك موضع الصفوف كالمسجد وخطأه في مصلاه عفوٌ كما قالوا في المصلي: إذا ظن أنه رعف في صلاته قدمت للبناء مستقبل

القبلة ثم علم أنه ما رعف قبل، إن لم يخرج من المسجد ثم عاد إلى مكانه لا تفسد صلاته، ولو خرج من المسجد ثم عاد تفسد صلاته، وكذلك إذا كان في الفضاء فإن جاوز الصفوف أو موضع سجوده فسدت صلاته وإن لم يجاوز لا تفسد. وكذلك إذا رأى سواداً في صلاته فظن أنه عدو ثم ظهر أنه سواد نَفَرٍ، فإن جاوز الصفوف أو موضع سجوده تفسد صلاته، وإن لم يجاوز لا تفسد صلاته. ومنهم من قال: تأويله أنّ مشيه لم يكن مبتدأ حقاً بل مشى خطوة وسكن ثم مشى خطوة وذلك قليل، وإنه لا يوجب فساد الصلاة، فأما إذا كان المشي ميلاً حقاً تفسد صلاته، وإن لم يستدبر القبلة؛ لأنه كثر العمل، ومنهم من قال: حديث أبو برزة محمول على أنه مشى مقدار ما يكون بين الصفّين ولا يستدبر القبلة لا تفسد الصلاة. وهذا كما قالوا في رجل كان في الصف الثاني فرأى فُرجةً في الصف الأول فمشى إليها فَسَدَّها لم تفسد صلاته؛ لأنه مأمور بالموافقة في الصفوف قال عليه السلام: «تراصّوا في الصفوف» فلم يوجب ذلك فساد صلاته لما كان المشي مقدار ما بين الصفين. ولو كان في الصف الثالث، فرأى فرجة في الصف الأول فمشى إلى الصف الأول وسدّ تلك الفرجة تفسد صلاته، وإن لم يستدبر القبلة، ومن المشايخ من أخذ بظاهر هذا الحديث ولم يقل بالفساد قلّ المشي أو اكثر استحساناً. والقياس: أن تفسد صلاته إذا كثر المشي كما لو انسلّ قياد الفرس من يده فمشى مشياً كثيراً، فإنّ هناك تفسد صلاته، وإن لم يستدبر القبلة إلا أنا تركنا القياس بحديث أبي برزة وإنه خص ماله العذر، ففي غير حالة العذر يعمل بقضية القياس، وكان القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي يحكي عن أستاذه أنه كان يقول بجواز الصلاة وإن مشى مستقبل القبلة بعد أن يكون غازياً، وهكذا الجواب في كل حاج أو مسافر كان سفره العبادة. وهذا كله إذا لم يستدبر القبلة. فأما إذا استدبر القبلة فسدت صلاته، قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : لا بأس بقتل العقرب في الصلاة، وذكر في «الأصل» وذكر في صلاة «الأصل» : قتل العقرب والحية في «الأصل» لا يفسدها، ولم يذكر في صلاة «الأصل» هل يُباح ذلك، ونص على الإباحة في «الجامع الصغير» في قتل العقرب ولم يذكر الحية. واعلم بأن ها هنا حكمان: إباحة القتل، وفساد الصلاة. فأما حكم الإباحة فمن مشايخنا من سوّى بين قتل العقرب والحية في حكم الإباحة وقال: كما يحل قتل العقرب في الصلاة يحل قتل الحية الخبيثة هي أن تكون بيضاء تمشي مستوياً، أو غير الخبيثة وهي إن تكون سوداء تمشي ملتوية في ذلك سواء وإليه مال الطحاوي في كتابه. والأصل فيه قوله عليه السلام: «اقتلوا الأسودين الحية والعقرب ولو كنتم في

الصلاة» مطلقاً من غير فصل بين حية وحية، ومن مشايخنا من بين الحية والعقرب فقال: يحل قتل العقرب في الصلاة ولا يحل قتل الحية في الصلاة الجني وغير الجني في ذلك على السواء؛ لأن قتل العقرب يتأتى بعمل قليل بوضع النعل عليه وبغمزه كما فعل رسول الله عليه السلام، فإنه روي عن رسول الله عليه السلام كان يصلي فارغة عقرب فوضع نعله عليه وغمزه حتى قتله، وقتل الحية لا يتأتى إلا بمعالجة وعمل كثير فلا يفعل ذلك من غير ضرورة ومن المشايخ من يقول: يحل قتل غير الجني ولا يحل الجني و «الأصل» فيه قوله عليه السلام: «إياكم والحية البيضاء فإنها من الجن» وهذا القائل هكذا يقول في غير حالة الصلاة أنه يحل قتل غير الجني ولا يحل قتل الجني إلا بعد الإنذار والإعذار وهو أن يقول لها: خلي طريق المسلمين. فإن أتى حينئذٍ يحل قتله. ومن يقول بحل قتل الجني وغير الجني في الصلاة كذلك يقول خارج الصلاة وهو الصحيح من المذهب (62أ1) لقوله عليه السلام: «اقتلوا الأسودين» من غير فصل، ولأن رسول الله عليه السلام عاهد الجن أن لا يدخلوا بيوت أمته وإذا دخلوا لم يظهروا لهم وإذا فعلوا ذلك لا ذمة لهم، فالذي يظهر نفسه لأمة رسول الله عليه السلام فقد نقض العهد، فيستحق القتل لذلك، قالوا: وإنما يباح قتل الحية والعقرب في الصلاة إذا مرّا بين يديه وخاف أن يؤذيه، فأما إذا كان لا يخاف الأذى يكره، وهكذا روي عن أبي حنيفة، ذكر الحسن بن زياد في كتاب الصلاة والمذكور ثمة عن أبي حنيفة وأكره قتل الحية والعقرب في الصلاة إلا أن يخاف أن يؤذيه، فيحمل ما ذكر هنا على هذه الحالة. وأما حكم فساد الصلاة بالقتل فمن مشايخنا من قال: إنْ احتاج في القتل إلى المشي وإلى الضربات تفسد صلاته؛ لأن هذا عمل كثير والعمل الكثير مفسد للصلاة، وإن لم يحتج إلى للمشي والضربات الكثيرة بل وطئها برجله أو وضع نعله عليها وغمزها أو ضربها بحجرة ضربة واحدة لا تفسد؛ لأن هذا عمل يسير والعمل اليسير لا يفسد الصلاة. ومن المشايخ من أطلق الجواب إطلاقاً كما أطلق محمد في «الأصل» ؛ لأن هذا عمل رخّص للمصلي فيه فهو كالمشي بعد الحدث والاستقبال من السير والتوضىء، وذلك في «الأصل» . إذا رمى طائراً بحجر وهو في الصلاة أكره له ذلك وصلاته تامة، أم الكراهة فلأنه وليس من أعمال الصلاة وله بدٌّ منه وأما صلاته تامة؛ لأن هذا عمل قليل والعمل القليل لا

يفسد، ألا ترى أنه لو رمى إلى حية أو عقرب لا تفسد صلاته وإنما لا تفسد؛ لأنه عمل قليل كذا هنا إلا أنه ذكر الكراهية ها هنا ولم يذكر في قتل الحية والعقرب؛ لأنَّ الحية والعقرب مما يشغلان قلب المصلي عن صلاته فكان في قتلهما إصلاح صلاته فكان من أعمال صلاته فليس مكروهاً. أما الطير لا يشغل قلب المصلي عن صلاته فلم يكن في قتله إصلاح صلاته وله منه بدّ فيكره قتل هذا إذا كان الحجر في يده ما إذا أخذ الحجر من الأرض ورمى به طيراً تفسد صلاته ولكن هذا خلاف رواية «الأصل» ، فإن محمداً رحمه الله في «الأصل» قال: وصلاته تامة ولم يفصل بينهما إذا كان الحجر في يده أو أخذه من الأرض. وفي «الأصل» أيضاً: فإذا أخذ قوساً ورمى بها تفسد صلاته، قالوا وهذا إذا أخذ السهم ووضعه على الوَتَر ومدّ حتى رمى؛ لأنه يصير عملاً كثيراً، فأما إذا رمى بالقوس لا تفسد صلاته؛ لأنه عمل يسير كما لو رمى بالحجر، وكذلك لو كان القوس في يده والسهم على الوتر لا تفسد صلاته إذا رمى؛ لأنه عمل قليل. ثم اختلف المشايخ في الحد الفاصل بين العمل اليسير وبين العمل الكثير، بعضهم قالوا: العمل الكثير اشتمل على عدد الثلاث، واستدل هذا القائل بما روى الحسن عن أبي حنيفة إذا تروَّح المصلي بمروحة مرة أو مرتين لا تفسد صلاته، وإن زادت على ذلك فسدت صلاته، وبعضهم قالوا: العمل الكثير عمل يكون مقصوداً للفاعل إن تفرّد له مجلس على حدة. وهذا القائل يستدل بامرأة صلت فلمسها زوجها أو قبلها بشهوة تفسد صلاتها، وكذا إذا مص صبي ثديها وخرج اللبن تفسد صلاتها، وبعضهم قالوا: كل عمل لا يمكن إقامته إلا باليدين فهو كثير حتى قالوا: لو شدّ الإزار فسدت صلاته وكذلك إذا ... ، وكل عمل يمكن صنعه بيد واحدة فهو يسير ما لم يتكرر، حتى قالوا شد الرجل الإ زار لا تفسد صلاته. وكذلك إذا كان عليه عمامة وانتقض منها كور فسوّاه لا تفسد صلاته، وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا فتح باباً أو أغلقه بدفعة بيده ... لا تفسد صلاته، وإن عالجه بمفتاح غلق أو قفل فسدت صلاته. وقال بعضهم: كل عمل يشك الناظر في عامله أنه في الصلاة أو ليس في الصلاة فهو عمل يسير وكل عمل لا يشك الناظر أنه ليس في الصلاة فهو كثير قال الصدر الشهيد: وهكذا روى البلخي عن أصحابنا وهو اختيار الفضلي، وقال بعضهم؛ نفوض ذلك إلى رأي المبتلى به وهو المصلي إن استقبحه واستكثره فهو كثير وما لا فلا. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذا القول أقرب إلى مذهب أبي حنيفة؛ لأنه في جنس هذه المسائل لا تقدر تقديراً بل يفوض ذلك إلى رأي المبتلى به.

وإذا ادّهن أو سرّج دابته أو حملت المرأة صبيها وأرضعته أو قاتل رجلاً أو قطع ثوباً أو خاطه فهذا كله عمل كثير، وهو يخرج على الأقوال كلها. وفي متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله: إذا صلت ومعها صبي ترضعه، فإن مصّ الثدي ولم ينزل منه اللبن لا تفسد صلاتها وإن نزل منها اللبن فصلاتها فاسدة، وإذا تروح بمروحة فسدت صلاته وإذا تروح بكمه لا تفسد صلاته وهذا إشارة إلى القول الرابع. وسئل أبو نصر: عن رجل نتف شعره في الصلاة قال: إن نتف ثلاثاً فسدت صلاته وإنه يرجع إلى القول الأول، وعن الحسن رحمه الله في المصلي على الدابة إذا ضربها لاستخراج السير فسدت صلاته وإن حرك رجليه لا تفسد صلاته وبعض مشايخنا قالوا؛ لأنه ضرب مرة أو مرتين لا تفسد؛ لأن الضرب يقام بيد واحدة، وإن ضربها ثلاثاً في ركعة واحدة تفسد صلاته يريد به إذا كان على الولاء، ولو كان في صلاة الظهر أو في أربع من النفل فضربها في كل ركعة مرة لا تفسد صلاته، ولو ضربها ثلاث مرات في ركعة واحدة تفسد يريد به إذا كان على الولاء. وبعض مشايخنا قالوا: إذا كان معه سوط فهيبها به ونخسها لا تفسد صلاته وإن اهوى به وضربها تفسد صلاته، وإن حرك رِجْلاً واحداً لا تفسد صلاته، وإن حرك رجليه تفسد صلاته، واعتبر هذا القائل العمل بالرجلين بالعمل باليدين والعمل برجل واحدة بالعمل بيد واحدة. وقال بعضهم: إن حرك رجليه قليلاً لا تفسد صلاته، وإن فعل ذلك كثيراً تفسد صلاته، ولو أكل أو شرب عامداً أو ناسياً فسدت صلاته؛ لأن هذا ليس من أعمال الصلاة وهو كثير عمل اليد والفم والأسنان. وفي «الأصل» ؛ إن كان بين أسنانه شيء فابتلعه لا تفسد صلاته؛ لأن ما بين أسنانه تبع لريقه، ولهذا لا يفسد به الصوم. قالوا: وهذا إذا كان ما بين أسنانه قليلاً دون الحمصة؛ لأنه يبقى بين الأسنان، فأما إذا كان أكثر من ذلك تفسد صلاته، وسوى هذا القائل بين الصلاة والصوم. وقال بعض المشايخ: لا تفسد صلاته بما دون الفم. وفرّق هذا القائل بين الصلاة والصوم وفي أول باب الحديث من «شرح الطحاوي» : إذا بقي بين أسنانه شيء فابتلعه في الصوم؛ إن كان شيئاً يفسد به الصوم وهو قدر حمصة خمضفه تفسد به صلاته وما لا فلا، وهكذا رأينا في غريب الرواية للفقيه أبي جعفر رحمه الله. وفي «أجناس الناطفي» إذا ابتلع المصلي ما بين أسنانه أو فضل طعام ثم أكله أو شراب قد شربه قبل الصلاة....... ولم يذكر المقدار، وهذه الرواية توافق قول محمد في باب الحديث، فإن محمداً لم يذكر المقدار ثمة. وعن أبي يوسف رحمه الله في المصلي إذا مضغ العلك إن صلاته فاسدة، وعنه

أيضاً إذا كان في فيه.... فلاكها فسدت صلاته، ولو دخل منها شيء ولم يلوكها لا تفسد صلاته إلا إذا كثر ذلك..... إذا تناول شيئاً أو ناول شيئاً صلاته تامة ما لم يكثر ذلك أو يكون حملاً ثقيلاً يتكلف بأعضائه أن يأخذه. وعنه أيضاً: في امرأة تصلي فباشرها رجل قليل المباشرة لا تفسد بقليلها وفي كثير المباشرة تفسد، وكذا القبلة، قال الفقيه أبو جعفر: إن كان بشهوة فسدت صلاتها على كل حال وإن كان من غير شهوة فالقليل يخالف الكثير. وإن عبث بلحيته حك جسده لا تفسد صلاته، قيل: هذا إذا فعل ذلك مرة أو مرتين وكذلك إذا فعل ذلك مراراً ولكن بين المرتين فرجه، فأما إذا فعل ذلك مراراً متواليات لا تفسد صلاته، ألا ترى أنه لو نتف شعرة مرة أو مرتين لا تفسد ولو نتف ثلاث مرات على الولاء تفسد، وعلى هذا قيل..... وعن الفقيه أبي جعفر سئل عن المصلي يُقبّل قبلة (62ب1) في صلاته قال: لا تفسد صلاته، قيل: فإن قبل اثنتين أو ثلاثة قال: إن كان ... ذلك لا تفسد وإن قبل مرة بعد مرة، وإن كان يقبل على طلبه تفسد صلاته والله أعلم. ثم في كل عمل يحتاج فيه إلى اليدين لإقامته أو أقام ذلك العمل بيد واحدة هل تفسد على قول من يعتبر لفساد الصلاة كون العمل بحال يحتاج لإقامته إلى اليدين، وذكر نجم الدين النسفي أنه لا تفسد فإنه قال: لو تعمم بيد واحدة لا تفسد ولو تعمم بيدين تفسد، ولو رفع العمامة من الرأس ووضعها على الأرض أو رفع العمامة عن الأرض ووضعها على الرأس لا تفسد صلاته أنه يحصل بيد واحدة من غير تكرار. ولو نزع القميص لا تفسد صلاته، ولو لبس القميص تفسد صلاته، ولو تنعّل أو خلع نعليه لا تفسد؛ لأنه لا يحتاج إلى اليدين ولا إلى المعالجة، ولو لبس الخفين تفسد صلاته لأنه يحتاج فيه إلى اليدين، وإذا صافح إنساناً يريد بذلك التسليم عليه فسدت صلاته؛ لأنه يقوم باليدين غالباً، وكذلك كل من رآه يحسب أنه ليس في الصلاة فكان عملاً كثيراً، وارتكب في صلاته خطأ مستيقناً لا تفسد صلاته إلا أن يطول فيصير عملاً كثيراً فحينئذٍ تفسد صلاته. وحد الطول أن يزيد على ثلاث كلمات ذكره في «مجموع النوازل» ، ولو كتب على يده أو على الهواء شيئاً لا يستبين لا تفسد صلاته وإن كثروا. وإذا صبّ الدهن على رأسه بيد واحدة لم تفسد، وإن أخذ وعاء الدهن بيد ودهن رأسه بيد أخرى فسدت صلاته؛ لأنه عمل كثير. وإذا جعل ماء الورد على نفسه فهو على التفصيل الذي ذكرنا، ولو أغلق الباب لا تفسد صلاته، لو فتح الباب المغلق تفسد صلاته واختلفوا في تخريج المسألة بعضهم؛ لأن إغلاق الباب يقام بيد واحدة على ما عليه الغالب وفتح الباب المغلق غالباً لا يقام إلا بيدين، وبعضهم قالوا:؛ كلا الفعلين يقام بيد واحدة إلا أنّ في الغلق لا يكثر العمل؛ لأن

الحاجة هناك إلى إدخال اليد في المغلاق ثم شد المغلاق، وفي الفتح يكثر العمل؛ لأن الحاجة هناك إلى إدخال اليد في المغلاق ثم تحريك المغلاق وقت الفتح ثم إخراج الغلق من موضع السد، وقد ذكرنا قبل هذا رواية أبي يوسف فيما إذا فتح باباً أو أغلقه بدفعه بيده أنه لا تفسد، وتأويل تلك الرواية كساده وفراز كرده وأبا ركرددنا زكرده لا رار كرد. وتأويل هذه الرواية كرده وافرار كرد ومغلق برست درته على بسته وابكشاده ولو ركب دابة فسدت صلاته؛ لأن ركوب الدابة على ما عليه الغالب لا يقوم إلا باليدين، ولو نزل من الدابة لا تفسد صلاته؛ لأن النزول ممكن بدون استعمال اليدين قبل هذا بشكل منها. إذا حمله غيره ووضعه على السرج؛ فإن هناك تفسد صلاته، وإن كان هذا أمر يحتاج فيه إلى اليد أصلاً فضلاً من اليدين، قلنا: الجواب عنه من وجهين. أحدهما: أن الحكم ينبني على الغالب والغالب ركوب الإنسان بنفسه أما إركاب غيره فليس بغالب، وركوبه بنفسه لا يقوم إلا باليدين. والثاني: أن غيره لا يركبه عادة إلا بأمره وفعل الغير بأمره ينتقل إليه فكأنه ركب بنفسه. ولو تقلّد سيفاً أو نزعه لا تفسد صلاته ولو ضرب إنساناً بسوط أو يد فسدت صلاته، وهذا الجواب يوافق رواية الحسن في ضرب الدابة، وعلى قياس قول بعض المشايخ في تلك المسألة ينبغي أن يقال: إذا نخسه أن لا تفسد صلاته، وإن آهوى به وضربه تفسد صلاته. وإذا أحدث في صلاته من بول أو غائط أو ريح أو رعاف متعمداً فسدت صلاته، وإن سبق الحدث ولم يتعمد إن كان موجبه الغسل، فكذلك وذلك نحو إن احتلم أو نظر إلى امرأة، فأنزلها وتفكر فأنزل، وإن كان موجبه الوضوء فإن كان بفعل الآدمي، فكذلك الجواب تفسد، وإن لم تكن بفعل الآدمي لا تفسد الصلاة، بل يتوضأ ويبني وإذا كان على يديه دمل أو جراجة أو سرة فغمزها بيده غمزاً فسال منه الدم، فسدت صلاته؛ لأنه تعمد الحدث، وإن لم يغمزها لكنها انشقت بإصابة الداء والثوب في الركوع والسجود، وسال منها الدم فسدت صلاته في قول أبي حنيفة ومحمد، وهو بمنزلة ما لو رماه إنسان ببندقة أو حجر، وهناك تفسد صلاته عند أبي حنيفة، وكذلك لو سقط من السقف حجرٌ أو خشبٌ على المصلي.... إنسان ناداه. وكذلك لو دخل الشوك في رِجل المصلي أو وضع جبهته على الأرض في السجود فسال منه الدم من غير قصده فسدت صلاته عندهما، وقيل: تفسد عند الكل؛ لأن الاحتراز عنه ممكن، فإذا لم يحترز صار كأنه تعمد ذلك، وكذلك لو كان تحت شجرة يسقط منها تمرة فجرحته. وإذا قاء في صلاته فها هنا فصلان: فصل في القيء، وفصل في التقيء.

أما فصل القيء فنقول: لا تفسد صلاته بالقيء إذا كان أقل من ملىء الفم، فإن عاد إلى جوفه وهو لا يقدر على إمساكه لا تفسد صلاته أيضاً، وإن ابتلعه وهو قادر على أن يمجه يجب أن يكون على قياس الصوم عند أبي يوسف لا تفسد صلاته كما لا يفسد صومه. وعند محمد المسألة تكون على روايتين كما في الصوم، وفي «فتاوى الفضلي» ذكر روايتان عن أبي يوسف لا عن محمد، وإن قاء ملىء الفم تنتقض طهارته ولكن لا تفسد صلاته؛ لأنه ليس بحدث عمد فيتوضأ ويغسل فمه ويبني على صلاته، فإن ابتلعه بعدما قاء وهو قادر على أن يمجه فسدت صلاته؛ لأنه عمل كثير. وأما فصل التقيء، فإن كان أقل من ملىء الفم لم تفسد صلاته، وإن (كان) ملأ الفم فسدت صلاته؛ لأنه حدث عمد، وإذا ابتلع دماً خرج من بين أسنانه لا تفسد صلاته؛ إذا لم يكن ملىء الفم. المصلي إذا نظر إلى فرج امرأته المطلقة طلاقاً رجعياً بشهوة يصير مراجعاً، وهل تفسد صلاته؟ حكى الناطفي في «أجناسه» : أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: تفسد صلاته، وهكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده والصدر الشهيد رحمه الله في شرح كتاب الصلاة قبيل باب افتتاح الصلاة، وأجاب الفقيه أبو القاسم الصفار بالفساد مطلقاً حكى عند ذلك في «النوازل» . وفي «الجامع الصغير» قال ابن شجاع: إذا نظر المصلي إلى فرج امرأة بشهوة ينبغي أن تفسد صلاته في قياس قول أبي حنيفة؛ لأنه استمتع بها، ألا ترى أنه تحرّم عليه أمها وأختها وابنتها. ثم قال صاحب «الجامع الصغير» : ولنا في قياسه هذا نظر؛ لأن النظر إلى الفرج إنما جعل بمنزلة الاستمتاع في حق التحريم لا في حق شيء آخر فلا يظهر ذلك في حق فساد الصلاة فهذا شيء حكمي فيجوز أن يظهر في حق حكم دون حكم فهذا طعن (من) صاحب «الجامع الصغير» ، وقد تأيّد هذا الطعن ما ذكره ابن رستم في «نوادره» فقد ذكر ثمة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: المصلي إذا نظر إلى فرج المرأة بشهوة لا تفسد صلاته ويحرم عليه أمها وابنتها وهو قول محمد، وقال أبو يوسف في صلاة ... لا تفسد صلاته، وهو رجعة لو حصل ذلك في المطلقة الرجعية، وهكذا حكى الفقيه أبو الليث في «نوادره» جواب نصر بن يحيى قال: وهو القياس، وهذا ذكر في «الواقعات» ، فلو كان المذكور في «الجامع الصغير» قياس قول أبي حنيفة رحمه الله، فهذا القياس مطعون بما مرّ من المعنى والرواية أيضاً، ولو كان المذكور في «الجامع الصغير» قول أبي حنيفة وأبي يوسف في المسألة روايتان. رفع اليدين لا يفسد الصلاة منصوص عليه في باب صلاة العيدين من «الجامع» ، وذكر الصدر الشهيد في شرح «الجامع الصغير» رواية مكحول عن أبي حنيفة أنه تفسد.

وإذا سلّم إنسان على المصلي فرد السلام بالإشارة باليد أو بالرأس أو بالأصبع لا تفسد صلاته، ولو طلب من المصلي إنسان شيئاً فأومأ برأسه أن نعم أو أراه إنسان درهماً وقال ... رأسه أي نعم لا تفسد صلاته، ولو تفكر في صلاته فتذكر حديثاً أو شِعراً أو كلاماً مرتباً ولم يذكر ذلك بلسانه لم تفسد صلاته والله أعلم. ومما يتصل بهذا الفصل إذا قهقه في صلاته فسدت صلاته وهذا بلا خلاف (63أ1) وإنما خالفنا الشافعي رحمه الله في كونه حدثاً وجد. القهقهة ما يكون مسموعاً له ولجيرانه. والتبسم وهو ما لا يكون مسموعاً له لا ينقض الصلاة هكذا ذكر شيخ الإسلام، وذكر شيح شمس الأئمة الحلواني ما فوق التبسم دون القهقهة لا ذكر له في «المبسوط» ، كان القاضي الإمام يحكي عن أستاذه الشيخ الإمام أنه كان يقول: إذا ضحك حتى بدت نواجذه ومنعه عن القراءة والتسبيح نقض الصلاة، وغيره من المشايخ على أنه حتى يسمع صوته وإن قلّ. وإذا قهقه الإمام بعدما قعد مقدار التشهد قبل أن يسلم فصلاته تامة، وإن لم يكُ بلفظ السلام؛ لأن الخروج بلفظ السلام ليس بفرض عندنا. إنما الفرض على قول أبي حنيفة: الخروج بصنع المصلي وقد وجد صنع المصلي صحت صلاته وعليه الوضوء لصلاة أخرى عند علمائنا الثلاثة خلافاً لزفر. فرق زفر بين هذا وبينما إذا حدثت القهقهة في وسط الصلاة. والفرق: أن القهقهة جعلت ناقض الوضوء شرعاً بخلاف القياس في موضع يوجب فساد الصلاة، والقهقهة ها هنا لا توجب فساد الصلاة فلا يوجب انتقاض الوضوء، ولا كذلك القهقهة في وسط الصلاة، ولعلمائنا الثلاثة أن القهقهة لاقت حرمة الصلاة بعده. ألا ترى لو اقتدى رجل به في هذه الحالة يصح اقتداؤه فيوجب انتقاض الطهارة كما وجدت في وسط الصلاة إلا أنه لم تنتقض صلاته؛ لأنه ليس عليه ركن من أركان الصلاة ولا واجب من واجباته، وأما صلاة القوم، فإن كانوا لاحقين أدركوا أول الصلاة فصلاتهم تامة وإن كانوا مسبوقين فصلاتهم فاسدة في قول أبي حنيفة وفي قول أبي حنيفة، وفي قولهما صلاتهم تامة. حجتهم: أنه لم يوجد من المقتدي ما يوجب فساد صلاتهم ولو فسدت صلاتهم إنما تفسد بفساد صلاة الإمام ولم تفسد صلاة الإمام ها هنا. حجة أبي حنيفة حديث عبد الله بن عمر بن العاص عن رسول الله عليه السلام: أنه قال: «إذا رفع الإمام رأسه من السجدة الأخيرة وقعد قدر التشهد ثم أحدث فقد تمت صلاته وصلاة من كان بمثل حاله» ولولا أنّ صلاة من ليس بمثل حاله فاسدة وإلا لم يكن لهذا التخصيص فائدة.

والمعنى في ذلك: أن الإمام لما قهقهة فسد ذلك الجزء والذي لاقته القهقهة، وذلك الجزء مشترك بينه وبين القوم فيفسد مشتركاً إلا أن الإمام لم يبق عليه البناء فمضت صلاته على الصحة والقوم بقي عليهم البناء، وتعذر بناء ما بقي على هذا الجزء الفاسد، ففسدت صلاتهم، وهذا بخلاف ما لو سلّم الإمام أو تكلم أو خرج عن المسجد بعدما قعد قدر التشهد حيث لا تفسد صلاة المسبوقين بل يقومون ويقضون ما بقي من صلاتهم. والفرق: أن السلام منتهي؛ لأنه من موجبات التحريمة فتنتهي به التحريمة والكلام قاطع لا يفسد؛ لأنه لا يفوت شرط الصلاة وهو الطهارة فلم يؤثر ذلك في حق المسبوق، فأما القهقهة والحدث العمد مفسد للصلاة لا قاطع؛ لأنه لا يفوت به شرط، ولهذا لو تكلم الإمام وسلم بعدما قعد قدر التشهد فعلى القوم أن يسلِّموا، ولو أحدث الإمام متعمداً أو قهقهة لم يسلم الإمام، بل يقومون ويذهبون، دلّ أن الكلام قاطع وليس بمفسد فلا يمنع جواز البناء. وكذلك الخروج من المسجد بمنزلة الكلام لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال لابن مسعود: «إذا قلت هذا أو هذا فقد تمت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد» . وإذا تمت صلاة الإمام يقوم المسبوق، ويقضي ما عليه، وإن قهقهة الإمام والقوم جميعاً، فإن كان قهقهة الإمام أولاً فعلى الإمام إعادة الوضوء والصلاة، وليس على القوم ذلك؛ لأن القوم صاروا خارجين من الصلاة، فضحكهم لم يصادف حرمة الصلاة، وهذا ظاهر إذا لم يتقدمها ما يوجب خروج القوم عن حرمة الصلاة، وكذلك قهقهة الإمام لا يخرج عن الصلاة بخروج القوم عن الصلاة. وكذلك إن قهقهوا معاً؛ لأن قهقهة الكل صادفت حرمة الصلاة، أما قهقهة الإمام فظاهر، فكذلك قهقهة القوم لما اقترنت قهقهتهم بقهقهة الإمام أو تكلم الإمام بعدما قعد قدر التشهد ثم ضحك القوم لا وضوء عليهم؛ لأنهم صاروا خارجين من الصلاة بكلام الإمام، فضحكهم لم يصادف حرمة صلاتهم فلا تنتقض طهارتهم. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إمام تشهد ثم ضحك قبل أن يسلّم فضحك بعدُه مَن خلفه فعليهم الوضوء. علّل، فقال:.... أَمَرَهم أن يسلِّموا، أشار إلى أن القوم لا يخرجون عن حرمة الصلاة بضحك الإمام، قال الحاكم أبو الفضيل رحمه الله وقد روى عن محمد رحمه الله أنه قال: آمُرُهُم أن يسلموا أشار إلى أن ضحك الإمام يخرج القوم عن حرمة الصلاة فلا يحتاجون إلى التسليم؛ لأن التسليم للتحلل. ذكر الحاكم في «المنتقى» : في إمام قعد في آخر صلاته قدر التشهد ولم يتشهد القوم على مثل حاله فضحك الإمام ثم ضحك من خلفه؛ قال: أما في قول أبي حنيفة فعلى

الإمام الوضوء ولا وضوء على القوم من قبل الإمام قد أفسد عليهم ما بقي من صلاتهم، وقال أبو يوسف: عليهم الوضوء من قبل أنهم لو لم يضحكوا كان عليهم أن يتشهدوا ويسلموا، فلم يفسد الإمام عليهم شيئاً. ولو كان الإمام والقوم تشهدوا ثم سلّم الإمام ثم ضحك القوم قبل أن يسلموا فعليهم الوضوء عندنا؛ لأن سلام الإمام لا يفسد عليهم ما بقي، وكذلك الكلام، فأما الحدث متعمداً والضحك يُفسد عليهم ما بقي، وكذلك عند محمد لا وضوء على القوم في هذه الصورة وهو ما إذا ضحكوا بعد ما سلم الإمام؛ لأن عنده بسلام الإمام يخرج المقتدي عن حرمة الصلاة، فالضحك منه لم يصادف حرمة الصلاة فلا يوجب الوضوء، وعن محمد في عين هذه الصورة أنه ليس على القوم الوضوء، وذكر في بعض «النوادر» أنه لا تنتقض طهارته في هذه الصورة ولم ينسب هذا القول إلى أحد، والقهقهة في سجدتي السهو تنقض الوضوء ولا تفسد الصلاة لأن العود إليهما بدفع السلام دون القعدة فكأنه قهقه بعد القعدة قبل السلام فلا تفسد الصلاة. وعن أبي يوسف رواية شاذة أن العود إلى سجدتي السهو بدفع القعدة كالعود إلى سجدتي التلاوة، فعلى تلك الرواية تلزمه إعادة الصلاة كما يلزمه إعادة الوضوء. إمام أحدث فقدّم رجلاً قد فاتته ركعة فعليه أن يصلي بهم بقية صلاة الإمام؛ لأن المسبوق شريك الإمام في التحريمة وصحة الاستخلاف بوجود المشاركة في التحريمة، والحاجة ماسة إلى إصلاح صلاته، فيجوز تسليمه ويتم ما بقي على الأول، وإذا قالوا إنالتسليم تأخر وقدّم رجلاً من المدركين ليسلم بهم ثم يقوم هذا المسبوق ويقضي ما سبق به. فإن قهقه الإمام الثاني وقد بقي عليه ركعة أو ركعتان، فإن صلاته وصلاة الإمام الأول وصلاة من خلفه فاسدة، أما فساد صلاته؛ من قهقهته لا في حرمة الصلاة فتفسد صلاته، وإذا فسدت صلاته تفسد صلاة من خلفه؛ لأن صلاة المقتدي بناءً على صلاة الإمام صحة وفساداً؛ فإذا فسدت صلاة الإمام تفسد صلاة المقتدي.n وأما فساد صلاة الإمام الأول؛ لأن الأول لما استخلف الثاني تحولت الإمامة إلى الثاني وصار الأول مقتدياً بالثاني وتعلَّقت صلاته بصلاة الثاني صحة وفساداً كما في سائر المقتدين وقد فسدت صلاة الثاني فتفسد صلاة الأول ضرورة، ولا وضوء على القوم، ولا على الإمام الأول؛ لأن القهقهة وجدت من الثاني لا منهم، فإن لم يضحك الثاني حتى توضأ الأول والإمام الثاني في الصلاة مع القوم يتابعه الإمام الأول. ذكرنا أن الإمام الأول صار مقتدياً به فيكون حكمه كحكم سائر المقتدين، والمقتدي يتابع الإمام فكذلك ها هنا. فإن أراد الإمام الأول أن يصلي في نيّته يُنظر إن صلى بعدما فرغ الإمام الثاني من بقيّة صلاته، فصلاته تامة، وستأتي المسألة بعد هذا في فصل الاستخلاف إن شاء الله تعالى. وإن قعد الإمام الثاني في الركعة قدر التشهد وهي له الثالثة ثم قهقة أعاد الوضوء والصلاة؛ لأنه بقي عليه ركعة، فضحكه حصل في خلال الصلاة فتفسد صلاته وطهارته،

وأما صلاة من خلفه إن كان مسبوقاً، فكذلك فاسدة أيضاً؛ لأنهم خرجوا عن حرمة الصلاة، فضحك الإمام وقد بقي عليهم ركن ولا وضوء عليهم لصلاة أُخرى (63ب1) . لأن القهقهة وجدت من الإمام لا منهم، فلا تنتقض طهارتهم، كما لو أحدث الإمام حدثاً آخر، وصلاة المدركين تامة؛ لأنهم خرجوا عن حرمة الصلاة، ولم يبق عليهم ركن من أركان الصلاة، ولا تفسد صلاتهم كما لو خرجوا بضحك أنفسهم. وذكر الفقيه أبو جعفر الهندواني في غريب الروايات أن أبا يوسف رحمه الله قال في «الأمالي» : صلاة المدركين فاسدة أيضاً، كصلاة المسبوقين؛ لأن صلاتهم مربوطة بصلاة الإمام، فمتى فسدت صلاة الإمام فسدت صلاة القوم، إلا أن ظاهر الجواب ما قلنا؛ لأن صلاة القوم وإن كانت مربوطة بصلاة الإمام لكن لم يبق عليهم شيء، فمضت صلاتهم على الصحة، هكذا ذكر الإمام الزاهد الصفار وأما صلاة الإمام الأول، فإن كان فرغ من صلاته خلف الإمام الثاني مع القوم فصلاته تامة بلا خلاف..... المدركين، وإن كان في بيته لم يدخل مع الإمام الثاني في الصلاة، اختلفت الروايات فيه في رواية أبي سليمان تفسد صلاته، وهو الأشبه بالصواب، هكذا ذكر الحاكم الجليل في «مختصره» ، وفي رواية أبي حفص رحمه الله: صلاة ثلاثة لأنه لأول الصلاة إلى آخره فكأنه خلف الإمام من أول الصلاة إلى آخرها من حيث الحكم والاعتبار، ولو كان خلفه حقيقة لم تفسد صلاته، فكذلك إذا كان خلفه حكماً واعتباراً. وجه رواية أبي سليمان: أنه وإن كان مدركاً لأول الصلاة فقد بقي عليه شيء من صلاته بعد ما ضحك الإمام الثاني، وقد ذكرنا أن ضحك الإمام يوجب خروج المقتدي عن حرمة الصلاة، فقد خرج عليه شيء من صلاته، لأن الكلام فيما إذا بقي ركعة أو ركعتين فتفسد صلاته كما لو خرج بضحك نفسه. والإمام أبو نصر الصفار ومشايخ العراق صححوا رواية أبي حفص رحمه الله والله أعلم. وإذا زاد في صلاته ركوعاً أو سجوداً ذكر في ظاهر الرواية: أنه لا تفسد صلاته هذا ظاهر، فإن من اقتدى بالإمام والإمام ساجد كان عليه أن يسجد معه، وكانت السجدة له زيادة وكذلك لو تلا آية السجدة في الصلاة لزمه سجدة التلاوة، وهذه السجدة ليست من موجبات تحريمته، فثبت أن زيادة السجدة في الصلاة لا تفسد الصلاة، وكذلك إن زاد سجدتين أو أكثر لا تفسد صلاته؛ لأن الجنس واحد، فهيَ وإن كثرت كأنها سجدة واحدة. والدليل عليها: أن من ختم القرآن في صلاته تلزمه أربعة عشر سجدة وهي كلها زوائد في الحقيقة؛ لأنها ليست من موجبَات تحريمة الصلاة؛ ولأن ما شرع في الصلاة مثنى فللواحد حكم المثنى، فإن الركعة تنعقد بالسجدة الواحدة عندنا كما تنعقد بسجدتين، وكذلك التحلل يحصل بالسلام الواحد كما يحصل بالمثنى، فثبت أن ما شرع في

الصلاة مثنى حكمه حكم الواحد ثم الصلاة لا تفسد بالسجدة الواحدة فكذا في المثنى، والذي هنا في السجود، كذلك في الركوع الزائد، وكذلك الركوعان وما زاد على ذلك. فإن قيل: أليس أن المسبوق لو تابع الإمام في سجود السهو ثم تبين أنه ليس على الإمام سهو فصلاة المسبوق فاسدة وما زاد إلا سجدتين. قلنا: فساد الصلاة هناك ليس لزيادة السجدة؛ بل لأنه اقتدى في موضع كان عليه الانفراد فيه وذلك مفسد للصلاة. وروي عن محمد أنه قال: في السجود الزائد تفسد صلاته، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه عن أبي حنيفة، وجه هذه الرواية: أن السجدة عمدة الصلاة، ألا ترى أن الركعة يُتعَبَد بها؛ ولأنها قربة بنفسها دليل سجدة التلاوة، وإذا كانت قربة في نفسها أشبهت الركعة التامة، ولو زاد فيها ركعة تامة قبل إتمام صلاته فسدت صلاته، وكذا إذا زاد سجدة ثم فرق محمد على هذه الرواية بين السجدة وبين الركوع، فقال: بزيادة السجدة تفسد الصلاة وبزيادة الركوع لا تفسد. والفرق: أن السجدة قربة بنفسها والركوع ليس بقربة في نفسه والركوع يتعبَد بالسجدة وما يتعبد بالركوع فدل أن للسجدة من القوة ما ليس للركوع، فجاز أن تفسد الصلاة بزيادة السجدة ولا يفسد بزيادة الركوع، وإذا جاء إلى الإمام وقد رفع الإمام رأسه من الركوع، فدخل في صلاته وركع وسجد معه السجدتين لا يصير مدركاً للركعة، ولا تفسد صلاته، وكذلك لو أدرك الإمام في السجدة الأولى فركع هذا الرجل وسجد سجدتين لا تفسد صلاته. فرق بين هذا وبينما إذا ركع الإمام وسجد سجدة ورفع رأسه منها، فجاء رجل ودخل معه وركع وسجد سجدتين، فإنه لا تفسد صلاته، والفرق: أن في المسألة الأولى لم يدخل فيها إلا زيادة ركوع؛ لأنه وجب عليه متابعة الإمام في السجدتين، وذا لا يفسد الصلاة، أما هنا أدخل زيادة ركعة وهو الركوع والسجود وأنه يفسد الصلاة والله أعلم. وبعض مشايخنا قالوا: إذا زاد في الركوع أو في السجود، إن كانت الزيادة عن سهو بأن ركع ركوعاً زائداً أو سجد سجوداً زائداً تفسد صلاته بالإجماع، وأما إذا تعمد ذلك يجب أن تكون المسألة على الاختلاف على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: لا تفسد صلاته، وعلى قول محمد: تفسد بناءً على اختلافهم في سجدة الشكر، وكان الفقيه محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله يقول بالفساد في صورة العمد، والله أعلم. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل دخل (مع) الإمام في أول صلاته، ثم قام ثانية وقد سجد الإمام سجدة التلاوة، فظن هذا الرجل أنه قد ركع، وسجد.....؟ لرجل ويسجد يريد، اتباع الإمام، قال: لا تفسد عليه صلاته؛ لأنه متبع الإمام فيها وهي التلاوة، فإن سجد أخرى فسدت صلاته؛ لأنه قد زاد في صلاته ركعة وسجدة، فلا تكون

سجدة التلاوة فصلاً بين الركعة والسجدة الثانية والله أعلم. (فصل) في بيان من هو أحق بالإمامة وفي بيان من يصح إماماً لغيره، ومن لا يصح، وفي بيان تفسير حال المصلي إماماً كان أو منفرداً أو مقتدياً وفي بيان ما يمنع صحة الاقتداء وما لا يمنع أما الكلام في بيان من هو أحق بالإمامة، نقول: الأولى بالتقديم الأعلم بالسنّة إذا كان يحسن من القراءة ما يجوز بها الصلاة؛ لأن القراءة يحتاج إليها في ركن واحد والعلم بالسُنّة يحتاج إليه من أول الصلاة إلى آخرها؛ فكان الأعلم بالسنّة أولى، والذي روي أن النبي عليه السلام قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا سواء، فأعلمهم بالسنّة» فإنما قال ذلك في ذلك الوقت؛ لأنهم كانوا يتلقنون القرآن بأحكامه فالأقرأ فيهم كان أعلم، فأما في زماننا فيكون الرجل ماهراً في القراءة ولا حظ له من العلم، فالعلم بالسنّة أولى، قال: فإذا تساووا فأكثرهم ورعاً للحديث، فإذا تساووا فأسنهم عمراً فالقوله عليه السلام «من صلى خلف عالم تقي، فكأنما صلى خلف نبي» ؛ ولأن رغبة الناس في الإقتداء بالأورع....، وفي الحديث الذي روينا قدم أقدمهم هجرة على الأورع؛ لأن الهجرة كانت فريضة يومئذٍ ثم انتسخ لقوله «لا هجرة بعد الفتح» ؛ ولأن أقدمهم هجرة كان أعلمهم؛ لأنهم كانوا يهاجرون لتعلم الأحكام، فإن كانوا سواء فأكبرهم سنّاً لقوله عليه السلام «الكبر الكبر» ، ولأن أكبرهم سناً يكون أعظم حرمة عادة، ورغبة الناس في الاقتداء به أكثر، والعالم بالسنّة أولى بالتقديم إذا كان تجنب الفواحش الظاهرة، وإن كان غيره أورع منه؛ لأنه أقدر على حفظ هذه الأمانة. وقال أبو يوسف رحمه الله: أكره أن يكون الإمام صاحب بدعة، ويكره الرجل أن يصلي خلفه، وهذا لأن الناس قلما يرغبون في الاقتداء به، فيؤدي إلى تقليل الجماعة، ولو أن رجلين هما في الفقه والصلاح سواء، إلا أن أحدهما أقرأ فقدم القوم الآخر ولم يقدموا أقرأهمها، فقد أساؤا فلا يأتمون، قال: وأما الفاسق فتجوز الصلاة خلفه لقوله عليه السلام: «صلوا خلف كل بر وفاجر» ؛ ولأن الصحابة والتابعين لم يمنعوا عن الجمعة خلف الحجاج مع أنه كان أفسق أهل زمانه، حتى قال الحسن........

ولكن مع هذا يكره تسليمه لما فيه من تقليل الجماعة، فقل ما رغب الناس في الاقتداء بالفاسق. وذكر شيخ الإسلام في «شرح كتاب الصلاة» : في الصلاة خلف أهل الأهواء وقال: حاصل الجواب فيه، إن كان من كان من أهل قبلتنا، ولم يقل في هواه حتى لم يحكم بكونه كافراً ولا بكونه ماجناً بتأويل فاسد تجوز الصلاة خلفه، وإن كان هواه يكفر أهلها، كالجهمي والقدري الذي قال بخلق القرآن، والروافض المغالي الذي ينكر خلافة أبي بكر رضي الله عنه لا يجوز. وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف من انتحل من هذه الأهواء شيئاً (64أ1) ، فهو صاحب بدعة، ولا ينبغي للقوم أن يؤمهم صاحب بدعة. وعن الشيخ الفقيه الزاهد أبي محمد إسماعيل بن الحسن رحمه الله أنه قال: روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أن الصلاة خلف أهل الأهواء لا تجوز. وفي «نوادر ابن سماعة» وهشام عن محمد أنه لا يصحُ خلف أهل الأهواء، وقال أبو يوسف: لا تجوز الصلاة خلف من يستثني في إيمانه؛ لأنهم شاكون في أصل دينهم. وأما الصلاة خلف شافعي المذهب: ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أن من كان منهم يميل عن القبلة، أو يعلم يقيناً أنه احتجم ولم يتوضأ، أو خرج منه شيء من غير السبيلين ولم يتوضأ، أو أصاب ثوبه مني أكثر من قدر الدرهم ولم يغسله لا يجوز، وإن كان لا يميل عن القبلة، ولم يتيقن بالأشياء التي ذكرنا يجوز، وقال أبو يوسف لا تجوز الصلاة خلف المتكلم وإن تكلم بحق؛ لأنه بدعة فلا تجوز الصلاة خلف المبتدع، وفي «المنتقى» إبراهيم عن محمد أنه سئل هل يصلى خلف شارب الخمر؟، قال: لا ولا كرامته معنى قول محمد.... ينبغي، فأما الصلاة خلفهُ جائرة. وفي «نوادر المعلى» المعلا عن أبي يوسف: معتوه يفيق أحياناً إلا أنه ليس لإفاقته وقت معلوم إن كان في أكثر حالاته معتوهاً، فهو في جميع حالاته بمنزلة المطبق عليه، فإن صلى في حال إفاقته بقوم أعادوا الصلاة، وإن لإفاقته وقتاً معلوماً فهو في حال إفاقته بمنزلة الصحيح، قال ولا بأس بأن يؤم الأعمى، لما روي أن النبي عليه السلام أمر ابن أم مكتوم على المدينة مرة وعتبان بن مالك وكانا أعميين والبصير أولى؛ لأن الأعمى لا يتوقى النجاسات. وتكره إمامة العبد وولد الزنا، أما ولد الزنا؛ فلأنه لم يكن له أب يفقهه فكان الجهل عليه غالباً، والعبد مشغول بخدمة المولى فكان الجهل عليه غالباً أيضاً، قال: فأما الأعرابي: فإن كان عالماً بالسنّة فهو كغيره، إلا أن غيره أولى؛ لأن الجهل عليهم غالب والتقوى نادر، قال: فلا تجوز إمامة الصبي في صلاة الفرض، وقال الشافعي: تجوز؛ لأن العمل يصح من الصبي نفلاً لا فرضاً، واقتداء المفترض بالمتنفل لا يجوز عندنا

على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وأما اقتداء البالغ بالصبي في التطوع، فقد جوزه محمد بن مقاتل..... إليه خصوصاً في ليالي رمضان في التراويح، وبه قال مشايخ بلخ والأصح عندنا أنه لا يجوز؛ لأن نفل الصبي دون نفل البالغ حتى لا يلزم الصبي القضاء بالإفساد بخلاف البالغ، وبناء القوي على الضعيف لا يجوز، كيف وقد قال النبي: عليه السلام؛ «الإمام ضامن» والصبي لا يصح منه ضمان فليس، فكيف يَصح منه ضمان صلاة المقتدي «و (في) نوادر الصلاة» إذا افتتح الصلاة خلف غلام لم يحتلم ثم قهقه لا تنتقض طهارته؛ لأنه لم يصر شارعاً في الصلاة أصلاً، ولم يفصل بين الفرض والنفل، فعلم أن الصحيح أن إمامة الصبي كما لا تجوز في الفرض لا تجوز في النفل، أو يجوز الاقتداء لمن كان معروفاً بأكل الربا، ولكن يكره روي عن أبي حنيفة نصاً وعن أبي يوسف لا ينبغي للقوم أن يؤمهم صاحب خصومة في الدين. وإن صلى رجل خلفه جاز قال الفقيه أبو جعفر الوزان: يكون مراد أبي يوسف الدين يناظر في دقائق الكلام، ومن صلى خلف فاسق أو مبتدع يكون محرزاً ثواب الجماعة، قال عليه السلام: «صلوا خلف كل بر وفاجر» ، أما لا ينال ثواب من يصلي خلف تقي المذكور في قوله عليه السلام: «من صلى خلف تقي عالم فكأنما صلى خلف نبي» ، الفاسق إذا كان يؤم ويعجز القوم عن منعه تكلموا: قال بعضهم: في صلاة الجمعة يقتدى به، ولا تترك الجمعة بإمامته أما في غير الجمعة من المكتوبات لا بأس أن يتحول إلى مسجد آخر، فلا يصلي خلفه، ولا يأثم بذلك؛ لأن قصده الصلاة خلف تقي، ومن أم قوم وهم له كارهون، إن كانت الكراهة لفساد فيه، أو لأنهم أحق بالإمامة منه كره له ذلك، وإن كان هو أحق بالإمامة لم يكره: لأن الفاسق والجاهل يكره العالم والصالح. أبو سليمان عن محمد في «نوادره» : رجل أم قوماً شهراً ثم قال كنت على غير وضوء، وقال كان في ثوبي قذر، قال: يعيدون صلاتهم إلا أن يكون ماجناً، فحينئذٍ لا يلتفت إلى قوله ولا يعيدون الصلاة،، وقد فسر بعض المتقدمين الماجن...... إلى النرد واللعب في هذه الصورة والله أعلم. وأما في بيان من يصلح إماماً لغيره، ومن لا يصلح قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : لا يؤم القاعد الذي يومي قوماً قياماً يركعون ويسجدون، فلا قوماً قعوداً يركعون ويسجدون، والأصل في هذا أن يقال بأن

صلاة المقتدي مبني على صلاة الإمام فكان كالبيع له والشيء يستتبع ما هو دونه أو ما هو مثله، ولا يستتبع ما هو فوقه كأن كان حال الإمام مثل حال المقتدي أو فوقه جاز صلاة الكل، وإن كان حال الإمام دون حال المقتدي صحت صلاة الإمام، ولا تصح صلاة المقتدي. بيان هذا الأصل في المسائل: إذا كان الإمام يصلي قائماً بركوع وسجود وخلفه قوم يصلون قياماً بركوع وسجود أو قوم يصلون قعوداً بركوع وسجود أو قوم يصلون بالإيماء مستلقياً على قفاهم، فصلاة الكل جائزة؛ لأن حال الإمام مثل حال البعض وأقوى من حال البعض. وإن كان الإمام يصلي قاعداً بركوع وسجود وخلفه قوم يصلون قياماً بركوع وسجود. القياس: أن لا تجوز صلاة القوم، وبه أخذ محمد رحمه الله؛ لأن إحرام القوم انعقد للقيام، وإحرام الإمام لم ينعقد له، فلا تتحقق...... وحال القوم أقوى من حال الإمام، وفي الاستحسان تجوز صلاة القوم وهو قولهما فقد صح أن النبي عليه السلام صلى في آخر عمره قاعداً، والناس خلفه قيام، ولنا في رسول الله عليه السلام أسوة، لو كان القوم يصلون قعوداً بركوع وسجود كالإمام، أو يصلون قعوداً بالإيماء، فلا يقدرون على السجود، أو يصلون قياماً بالإيماء بأن كانوا لا يقدرون على القعود، فصلاة كلهم جائرة؛ لأن حال الإمام مثل حال البعض وفوق حال البعض، فإن الصلاة قاعداً بركوع وسجود أقوى من الصلاة قاعداً أو قائماً بالإيماء، ولو كان الإمام يصلي قاعداً بالإيماء لا يقدر على السجود وخلفه قوم يصلون قعوداً بإيماء أيضاً يجوز؛ لأن حال الإمام مثل حال القوم، فإن كان خلفه قوم قيام يركعون ويسجدون، أو قوم قعود يركعون ويسجدون لا تجوز صلاة القوم، وعند زفر رحمه الله يجوز؛ لأن الكل صلاة. ولنا: أن الاقتداء بناء والبناء على المعدوم لا يتحقق وإحرام الإمام لا ينعقد للركوع، فرع في «نوادر» الصلاة على هذا الأصل فقال: إذا كان الإمام مستلقياً يومي وخلفه من يومي مستلقياً ومن يومي قاعداً، تجوز صلاته، وصلاة من هو في مثل حاله، فلا تجوز صلاة القاعد لما فيه من بناء القوي على الضعيف، فإن حال المستلقي في الإيماء دون حال القاعد. ألا ترى أنه لا تجوز صلاة التطوع بالإيماء مستلقياً إذا كان قادراً على القعود وبهذا فرق أبو حنيفة وأبو يوسف بين هذا، وبين اقتداء القائم بالقاعد الذي يركع ويسجد؛ لأن حال الإمام هناك قريب من حال المقتدي، حتى يجوز أداء التطوع قاعداً مع القدرة على القيام، وها هنا بخلافه والله أعلم. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» أيضاً: عن أبي حنيفة في أمي صلى بقوم

أميين، وبقوم قارئين فصلاتهم جميعاً فاسدة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله،: صلاة الإمام ومن هو بمثل حاله تامة، يجب أن يعلم أن الأمي إذا أم قوماً أميين أن صلاتهم جميعاً جائزة بلا خلاف؛ لأن الحالة مستوية فهو كالقاريء إذا أم قوماً عراة، وكصاحب الجرح السائل إذا أم قوماً جرحى، والأمي إذا أم قوماً قارئين فصلاة الكل فاسدة، بلا خلاف، وإنما فسدت صلاة الإمام؛ لأنه ترك القراءة في صلاة مع القدرة عليها؛ لأن القارىء إذا كان يصلي معه كان يمكنه أن يقتدي به حتى تصير صلاة بقراءة؛ لأن قراءة الإمام جعلت قراءة للمقتدي، فإذا ترك الاقتداء مع القدرة عليها؛ فقد ترك القراءة مع القدرة عليها، وإذا فسدت صلاة الإمام فسدت صلاة المقتدي ضرورة، وكان أبو الحسن الكرخي يقول اقتداء القارىء بالأمي صحيح في «الأصل» ولكن (64ب1) إذا جاء أوان القراءة تفسد صلاته، وكان أبو جعفر الطحاوي يقول: لا يصح اقتداء القارىء بالأمي أصلاً، والقارىء إذا أم قوماً قارئين فصلاتهم جميعاً جائزة، وهذا ظاهر. وكذلك القارىء إذا أم قوماً أميين، فصلاة الكل جائزة بلا خلاف؛ لأن الإمام أعلى حالاً من المقتدي، وإنه لا يمنع صحة الاقتداء كالمتنفل إذا اقتدى بالمفترض، وكالمومي إذا اقتدى بمن يركع ويسجد، وأما الأمي إذا أم قوماً أميين وقوماً قارئين، فصلاة الكل فاسدة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف ومحمد صلاة الإمام، ومن هو بمثل حاله من الأميين جحائزة، وصلاة القارئين فاسدة. وفي مسألة «الجامع الصغير» : والأخرس إذا أم قوماً خرساً فصلاة الكل جائزة، وأما إذا أم أمياً ذكر في بعض المواضع: قال بعض مشايخنا: لا يجوز؛ لأن الأخرس لا يأتي بالتحريمة، وهي فرض، والأمي يأتي بها فصار كاقتداء القارىء بالأمي، وذكر في بعض المواضع لا يجوز عند علمائنا. وذكر شيخ الإسلام في «شرح كتاب الصلاة» : أن الأخرس مع الأمي إذا أراد الصلاة كان الأمي أولى بالإمامة فهذا دليل على جواز اقتداء الأمي بالأخرس، والأمي إذا أم الأخرس فصلاتهما جائزة بلا خلاف وأما الأخرس إذا أم قوماً خرساً وقوماً قارئين، فصلاة الكل فاسدة عند أبي حنيفة، وعندهما صلاة الإمام ومن هو أخرس جائزة. حجة أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أنه اقتدى هذا الإمام من هو بمثل حاله قياساً على القارىء إذا أم قوماً كساة وعراة وقياساً على صاحب الجرح السائل إذا أم قوماً صحاحاً وجرحى، وقياساً على المومي إذا أم قوماً مومين وقوماً قارئين، فإن في هذه الصورة تجوز صلاة الإمام ومن وبمثل حاله بلا خلاف كذا هنا. حجة أبي حنيفة: أن الإمام ترك القراءة مع القدرة عليها، فإنه قادر على أن يجعل صلاته بقراءة بالاقتداء بالقارىء على نحو ما بينا فهو معنى قولنا ترك القراءة مع القدرة عليها فتفسد صلاته، وإذا فسدت صلاته فسدت صلاة القوم ضرورة. وعلى هذه الطريقة: يقول: إذا كان بجنب الأمي رجل قارىء يصلي، والأمي يعلم أن صلاته موافق لصلاة الإمام فصلى الأمي وحده لا تجوز صلاته عند أبي حنيفة رحمه الله لما قلنا، وفي هذا الفصل كلمات تأتي عند تمام المسألة إن شاء الله تعالى.

بخلاف القارىء إذا صلى بقوم عراة وكساة، لأن القارىء غير قادر على أن يحصل صلاته بكسوة بالاقتداء بالكاسي؛ لأن كسوة الإمام لم تجعل كسوة للمقتدي حتى يقال إذا لم يقتد فقد ترك الكسوة مع القدرة عليها. وبخلاف صاحب الجرح السائل غير قادر على أن يجعل صلاة بطهارة بالاقتداء بالصحيح؛ لأن طهارة الإمام لم تجعل طهارة للمقتدي حتى يقال إذا لم يقتد، فقد ترك الطهارة مع القدرة عليها، وهذا هو تخريج المومي إذا أم قوماً مومين وقادرين، ورأيت مسألة الأمي إذا كان يصلي وحده، وهناك قارىء يصلي وحده، في بعض النسخ أن القارىء إذا كان على باب المسجد وبجوار المسجد، والأمي في المسجد يصلي وحدهُ أن صلاة الأمي جائزة بلا خلاف، وكذلك إذا كان القارىء في صلاة غير صلاة الأمي جاز للأمي أن يصلي وحده ولا ينتظر فراغ القارىء من الصلاة بالاتفاق، وأما إذا كان القارىء في ناحية من المسجد والأمي في ناحية أخرى، وصلاتهما موافقة.s فقد ذكر أبو حازم: أن على قياس قول أبي حنيفة: لا يجوز وهو قول مالك، ولئن سلمنا أنه يجوز فوجه تخريجه تحريمه أنه لم يظهر من القارىء رغبة في أداء الصلاة بالجماعة، فلا يعتبر وجود القارىء في حق الأمي، وذكر الفقيه أبو عبد الله الجرجاني عن القاضي أبي حازم رحمه الله في مسألة الأخرس إذا صلى بقوم خرساً وبقوم قارئين. وفي مسألة الأمي إذا صلى بقوم أميين وبقوم قارئين إنما تفسد صلاة الأمي، والأخرس عند أبي حنيفة إذا علم أن حوله قارىء، أما إذا لم يعلم لا تفسد صلاته، كما قالا، إلا أن في ظاهر الرواية لا فصل بين حال العلم وبين حالة الجهل. ووجه ذلك: أن القراءة فرض وما يتعلق بالفرائض لا يختلف بين العلم والجهل، ألا ترى أنه لو ترك القراءة ناسياً أو جاهلاً أو عامداً لا يجوز، وطريقهم ما قلنا، وإلى هذا كان يميل الشيخ الإمام الزاهد الصفار، وروى هشام عن محمد أنه قال: عَامة أصحابنا إذا أم الأخرس الأميين، فصلاة الأخرس تامة وصلاة الأميين فاسدة، وإن أم الأمي الأخرس فصلاتهما تامة، قال الفقيه أبو جعفر أراد محمد بقوله: قال عامة أصحابنا من كان معه من المتعلمين، أما لم يرد به أبا حنيفة؛ لأنه يخالفهم في ذلك، ثم إن محمداً رحمه الله لم يذكر في «الجامع الصغير» : أن القارىء إذا اقتدى بالأمي هل يصير شارعاً في الصلاة؟ وهذا فصل اختلف فيه المشايخ بعضهم قالوا: لا يصير شارعاً حتى لو كان في التطوع.... وبعضهم قالوا: يصير شارعاً ثم تفسد حتى لو كان في التطوع يجب القضاء، والصحيح هو الأول، نص عليه محمد في «الأصل» . وذكر القدوري في «شرحه» : أن القارىء إذا دخل في صلاة الأمي متطوعاً ثم أفسد ما لم يلزمه القضاء عند زفر رحمه الله، قال: ولا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله في هذا الفصل، وإنما يلزمه القضاء؛ لأن الشروع بمنزلة النذر، ولو نذر القارىء أن يصلي بغير قراءة لا تلزمه، فكذا إذا شرع.

وكل جواب عرفته في القارىء إذا اقتدى بالأمي ثم أفسده على نفسه، فهو الجواب في الرجل يقتدي بالمرأة والصبي والمحدث والجنب، ثم أفسده على نفسه، فلا يؤم المومي من يركع ويسجد، وقال زفر رحمه الله: يجوز، لأن الركوع والسجود هنا سقط إلى بدل والمتاوي بالبدل كالمتاوي بالأصل، ولهذا قلنا: إن المتيم يؤم المتوضئين، وبه فارق ما تقدم؛ لأن هناك الفرض سقط لا إلى بدل، فلم يمكن إلبنا عليه قلنا: إن الإيماء ليس ببدل عن الركوع؛ لأنه بعضه وبعض الشيء لا يكون بدلاً عنه، ومتى كان بعض الأصل، لو جاز الاقتداء لكان مقتدياً في بعض الصلاة ولا البعض، وكذلك لا يجوز قال: فلا تؤم المرأة الرجل كان الرجل إن قام خلفاً، فهو منهي عنه، ضرورة الأمر بالتأخير وإن قام بحزاءها لا تجوز لهذه العلة، ولعلة المحاذاة، فإنها تفسد صلاة الرجل، ويؤم الماسح الغاسل؛ لأنه صاحب بدل صحيح. والبدل الصحيح حكمه عند العجز عن الأصل حكم الأصل، بخلاف صاحب الجرح السائل، فإنه ليس بصاحب بدل صحيح، ويؤم القاعد الذي يركع ويسجد قوماً قياماً عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يؤم لقوله عليه السلام: «لا يؤمنّ أحد بعدي جالساً» ، ولأن المقتدي يبني صلاته على صلاة الإمام، وإنما يتحقق بناء الموجود على الموجود للبناء لموجود على المعدوم، واقتداء القائم بالقاعد بناء الموجود على المعدوم في حق القيام، ولهما ما روي أن النبي عليه السلام في مرضه صلى بالناس وهو جالس، ولأن بين القيام والقعود تفاوت، فإن القائم كلا النصفين منه، مستوي وأحد النصفين من القاعد مثني، وبينهما تقارب، والتقارب في وصف الكمال لا يمنع الاقتداء كاقتداء القائم بالراكع. ويؤم الأحدب القائم كما يؤم القاعد، ولا يؤم الراكب النازل، والألثغ إذا أم غير الألثغ، ذكر الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل أنه لا يجوز؛ لأن ما يقول صار لغة له، وقال غيره لا تجوز إمامته. والمفتصد إذا أم غيره إن كان يأمن خروج الدم يجوز، أمي اقتدى بقارىء بعد ما صلى ركعة فلما فرغ الإمام قام الأمي لقضاء ما عليه فصلاته فاسدة في القياس، وقيل: هذا قول أبي حنيفة، وفي الاستحسان يجزيه، وهو قولهما. وجه القياس: وهو أنه لما اقتدى بالقارىء صارت صلاته بقراءة؛ لأن قراءة الإمام له قراءة كما روينا من الحديث،، وإن كان قراءة الإمام له قراءة صار كأنه كان قارئاً في الابتداء، ولو كان قارئاً في الابتداء ثم قام إلى قضاء ما سبق به، وعجز عن القراءة بأن نسي القرآن لا تجوز صلاته لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، فكذلك هنا.

وجه الاستحسان، وهو: أنه إنما تلزم القراءة ضمن الاقتداء، وهو مقتدي فيما بقي على الإمام لا فيما سبق به. يوضحه: أنه لو بنى كان مؤدياً بعض الصلاة بقراءة، وبعضها بغير قراءة.... مستقبل كان مؤدياً جميع الصلاة بغير قراءة، ولا شك إن أداء بعض الصلاة بقراءة أولى من أداء جميع الصلاة بغير قراءة، وهذا كرجل افتتح صلاة العصر مع تذكره أن الظهر عليه، فلما صلى ركعتين فغربت بالشمس فمضى على صلاته؛ لأنه لو استقبل كان مؤدياً جميع الصلاة خارج الوقت، ولا شك أن أداء بعض الصلاة في الوقت (65أ1) ، وبعضها خارج الوقت أولى من إذا جمع الصلاة خارج الوقت، بخلاف ما إذا نسي القراءة حيث تفسد صلاته عند أبي حنيفة؛ لأنه لو استقبل كان مؤدياً جميع الصلاة بقراءة، فإن قارئاً حتى يذكره، فيتذكر فتصير جميع الصلاة قراءة، أما ها هنا لو أمرنا بالاستقبال صار مؤدياً جميع الصلاة بغير قراءة، وكذلك الجواب في الأخريين. وفي «الأصل» : الأمي إذا افتتح الصلاة بقوم بعضهم أميين وبعضهم قارئين فأحدث قبل أن يصلي شيئاً، فانصرف وقدم رجلاً من القارئين، فإن صلاتهم فاسدة، وخص قول أبي حنيفة في «الكتاب» ، وأنه قولهم جميعاً أما على مذهب أبي حنيفة؛ فلأن صلاة الإمام فاسدة من الابتداء، فالاستخلاف من الأمي إنما حصل في صلاة فاسدة والاستخلاف في صلاة فاسدة فاسد. وأما على مذهبهما؛ فلأن صلاة القارىء كانت فاسدة، فهذا قد استخلف من ليس له صلاة، فلا يصح الاستخلاف كما لو استخلف صبياً أو محدثاً أو رجلاً جانباً عنده ولم يشرع في صلاة الإمام كان الاستخلاف باطلاً؛ لأنه استخلاف من لا صلاة له كذا هنا إلا أن الذي..... إذا كبر ينوي الدخول في صلاة الإمام تجوز الخلافة؛ لأن الذي سبقه الحدث إمام ويصلح لإمامته، وفي مسألتنا القارىء وإن كبر بانياً ونوى الشروع في صلاة الإمام لا تصح الخلافة أيضاً، لأنه حصل مقتدياً بالأمي، والأمي لا يصلح إماماً للقارىء قبل سبق الحدث فبعد سبق الحدث أولى. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : قرأ في الأوليين فسبقه الحدث ثم قدم أمياً في الأخريين فسدت صلاتهم، وكذلك إن قدمه في التشهد وهو قول أبي يوسف في غير رواية «الأصول» أنه لا تفسد صلاتهم؛ لأن فرض القراءة صار مؤدى فصار الأمي والقارىء سواء في الركعتين الأخريين، ولظاهر الرواية وجهان. أحدهما: أن تحريمة هذا الخليفة لم تنعقد للقراءة؛ لأنه لا قراءة عليه متى كان أمياً، وإذا لم تنعقد تحريمته للقراءة، لا يمكنه أن يبني على صلاة انعقدت بقراءة، ألا ترى أن الأمي إذا تعلم في وسط الصلاة فسدت صلاته لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله، وإنما فسدت صلاته لما قلنا.

الوجه الثاني: أنه استخلف من لا يصلح إماماً له، ولهم فتفسد صلاته وصلاتهم كما لو قدم صبياً أو امرأة؛ وهذا لأن الاستخلاف عمل كثير إلا أنه يحمل لأجل الحاجة إلى إصلاح الصلاة وليس في تقديم من لا يصلح إماماً فتفسد. وبيانه: أنه عاجز عن القراءة ولا صلاة في حق القارىء الإجزاء، فمن لا يقرأ لا تجوز صلاته لعدم الركن للضرورة لهذا الدليل، والفقه في ذلك أن القراءة شرط في جميع هذه العبادة، قال عليه السلام: «لا صلاة إلا بقراءة» ، واسم الصلاة اشتملت جميع هذه العبادة فينبغي أن يؤخر القراءة مشتملة على كلها غير أنه لا يمكن تحصيل ذلك تحقيقاً فجعل الحاصل في البعض موجوداً في الكل تقديراً، وإنما يمكن إثبات الشيء تقديراً ممن يكون له أهليه تحصيله فعند استخلاف الأمي تفوت القراءة في الأخريين تقديراً وتحقيقاً فتفسد، وأما إذا صلى ركعة ثم سبقه الحدث ثم استخلف أمياً لم يصح هذا الاستخلاف بلا خلاف؛ لأن القراءة فرض في الركعة الثانية، وقد تركها الخليفة فتفسد صلاتهم، كما لو استخلف قارئاً فلم يقرأ، وكان الأول في مكانه وترك القراءة، وأما بيان تعيين حال المصلي قال محمد رحمه الله. في «الأصل» : أمي صلى بقوم بعض صلاته ثم تعلم سورة وقرأها فيما بقي، فإنه لا تجزئه صلاته، وصلاة من خلفه بمنزلة الأخرس بزوال من الخرس في حال صلاته، وهذا قول علمائنا الثلاثة؛ لأنه يريد أن يبني صلاته بقراءة على تحريمة لم تنعقد القراءة، فلا يصح هذا البناء قياساً على القارىء إذا اقتدى بالأمي، فإنه لا يصح اقتداؤه، وإنما لا يصح لوجهين، أحدهما: ما مر قبل هذا، والثاني: أن المقتدي يريد أن يبني صلاته بقراءة على تحريمة لم ينعقد لها، وكذا القادر على الركوع والسجود إذا اقتدى بالمومي لا يصح اقتداؤه، وإنما لا يصح اقتداؤه لما قلنا. بيان ما قلنا: أنه بعد ما تعلم سورة لزمته القراءة وتحريمته لم تنعقد لها في الابتداء، لكونه عاجزاً عن القراءة عند التحريمة هذا لو كان إماماً وتعلم سورة في وسط الصلاة، وكذلك الجواب فيما إذا كان منفرداً وتعلم سورة في وسط الصلاة، فأما إذا كان مقتدياً بالقارىء وتعلم سورة في وسط الصلاة لا ذكر لهذه المسألة في الكتب المشهورة وقد اختلف المشايخ كان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يقول: لا تفسد صلاته؛ لأنه كان قارئاً محكماً في أول صلاته من حيث إن قراءة الإمام جعل له قراءة فانعقد تحريمته للقراءة، فإذا تعلم سورة، فإنما يبني صلاته بقراءة على تحريمة انعقدت لها فلا تفسد صلاته، كالقارىء إذا تعلم سورة. وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن حامد وعامة المشايخ يقول: تفسد صلاته؛ لأن تحريمة المقتدي لم تنعقد للقراءة حقيقة؛ لأنه لم يكن قادراً على القراءة حقيقة إلا أنه اعتبر...... حكمنا من حيث إن قراءة الإمام جعلت قراءة له، وحين تعلم السورة

فقد قرأ على القراءة حقيقة، فلا يمكنه البناء على تحريمة انعقدت للقراءة من حيث الحكم؛ لأن ما لزمه فوق ذلك. القارىء إن صلى بعض صلاته ثم نسي القراءة وصار أمياً فسدت صلاته عند أبي حنيفة ويستقبلها، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: لا تفسد صلاته ويبني عليها استحساناً، وهو قول زفر. حجتهم في ذلك: أن فرض القراءة في الركعتين، ألا ترى أن القارىء لو ترك القراءة في الأوليين وقرأ في الأخريين أجزأه، فإن كان قارئاً في الابتداء وقرأ في الركعتين فقد أدى فرض القراءة فعجز عن ذلك كتركه القراءة مع القدرة. ولأبي حنيفة رحمه الله: أنه إذا كان قارئاً في الابتداء فقد التزم إذاً جميع الصلاة بقراءة، ثم عجز عن الوفاء بما التزم الاستقبال. القارىء إذا صلى بقوم وقرأ في الركعتين الأوليين ثم أحدث واستخلف أمياً فسدت صلاتهم إلا على قول زفر، فإنه يقول: الإمام الأول أدى فرض القراءة، وهي القراءة في الركعتين ولم تبق القراءة فرضاً في الركعتين الأخريين. فاستخلاف القارىء والأمي فيه سواء، وإنا نقول القراءة فرض جميع الصلاة لصفة القراءة، والأمي عاجز عن ذلك، فلا يصح خليفة له، واشتغال الإمام باستخلاف من لا يصلح خليفة له تفسد صلاة الإمام، كما لو استخلف صبياً أو امرأة وعلى هذا إذا رفع الإمام رأسه من أحد السجدة فسبقه الحدث فاستخلف أمياً، فسدت صلاته وصلاة القوم عندنا، فإن كان قعد مقدار التشهد، ثم سبقه الحدث واستخلف فهو على الاختلاف المعروف بين أبي حنيفة وصاحبيه، عند أبي حنيفة تفسد، وعندهما لا ويبني مرحلة الاثني عشرية، هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي وأبو عبد الله الجرجاني، وذكر الفقيه أبو جعفر في «كشف الغوامض» أن على قول أبي حنيفة لا تفسد صلاته؛ لأن هذا الفعل ليس من أفعال الصلاة، فيخرجه عن الصلاة، كما لو تكلم أو خرج من المسجد. وفي «الأصل» : الأمي إذا افتتح صلاة الظهر فقعد قدر التشهد وسلم، ثم تعلم سورة، ثم تذكر أن عليه سجدتي السهو، فإنه لا يعود وصلاته جائزة عند الكل، أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ فلأنه يصير خارجاً بالسلام إذا كان عليه سهو، وإنما تعود الحرمة متى أمكنه العود إلى السجود وبعدما تعلم السورة لا يمكنه العود إلى السجود؛ لأنه متى عاد لا يكون محسوباً من السهو، لأنه يؤدي سجدتي السهو بتحريمة لم تنعقد بقراءة بعدما صار قارئاً فلا يمكنه ذلك، كما لو تعلم سورة وقد بقيت عليه سجدة أصلية، أو قعدة؛ فإنه لا يمكنه إتيان الباقي بعد ما تعلم السورة، وإنما لا يمكنه لما قلنا كذا هنا، فإذا تعذر عليه العود بقي خارجاً بالسلام السابق فتعلم السورة يحصل بعد الخروج فلا تفسد صلاته. نظير هذا ما لو كان مسافراً فنوى الإمامة بعد السلام، وكان عليه سجدتي السهو، فإنه يصير خارجاً بالسلام؛ لأن العود تعذر بسبب الإقامة، كذا هنا، وعلى قول محمد: لا يخرج بالسلام لذا كان عليه السهو (65ب1) فكأنه تعلم السورة قبل السلام ولو تعلم

قبل السلام بعدما قعد قدر التشهد تجزيه صلاته؛ لأنه لم يبق عليه واجب كذا ها هنا. وأما إذا عاد إلى سجدتي السهو فلما سجد سجدة تعلم السورة، فإن صلاته تفسد على قول أبي حنيفة وعلى قولهما: لا تفسد؛ لأنه عاد إلى الحرمة حين سجد فصار كما لو تعلم قبل السلام بعدما قعد قدر التشهد فتصير المسألة اثني عشرية. وأما إذا سلم ثم تعلم سورة، ثم تذكر أن عليه سجدة تلاوة أو قراءة؟ فتشهد لم يذكر هذا في «الكتاب» ويجب أن تكون المسألة اثنا عشرية؛ لأنه سلام ساهي فيجعل وجوده كعدمه، فكأنه تعلم قبل السلام بعدما قعد قدر التشهد فيكون على الاختلاف، وأما إذا سلم ثم تعلم سورة ثم تذكر أن عليه سجدة قال: صلاته تفسد عندهم جميعاً؛ لأنه تعلم سورة وعليه ركن من أركان الصلاة، وأما بيان ما يمنع صحة الاقتداء وما لا يمنع، وإذا كان بين الإمام وبين المقتدي حائط أجر صلاته أطلق الجواب في «الأصل» إطلاقاً قالوا: وهذا إذا كان الحائط ذليلاً قصيراً أما إذا كان بخلافه منع صحة الاقتداء، ونص على هذا: الحاكم الشهيد رحمه الله في «المختصر» ، فإنه قال: وبينه وبين الإمام حائط ذليل قصير وأشار إلى المعنى، فقال: لأنه إذا كان بهذه الصفة حائلاً، واختلف المشايخ في الحد الفاصل بين القصير الذليل وغيره. حكي عن القاضي أبي طاهر الدباس رحمه الله أنه كان يقول: الذليل الذي يصعد عليه من غير كلفة ولا مشقة يخطو خطوة ويضع قدمه عليه، وعن محمد بن سلمة رحمه الله أنه قال: الذليل الذي لا تشتبه على المقتدي حال الإمام بسببه، وغير الذليل الذي يشتبه عليه حال الإمام بسببه. وذكر الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: أن الذليل الذي لا يمنع المقتدي عن الوصول إلى الإمام لو قصد الوصول إليه مثل حائط؛ لأنه إذا لم يمنع الوصول إلى الإمام لم يكن حائلاً بينه وبين الإمام، والمانع من صحة الاقتداء هو الحائل، وإن كان الحائط عريضاً طويلاً بحيث يمنعه عن الوصول إلى الإمام لو أراد الوصول إليه. ذكر في بعض المواضع أنه يمنع صحة الاقتداء اشتبه عليه حال الإمام أو لم يشتبه، وإن كان على هذا الحائط العريض الطويل نقب إن كان لا يمنعه عن الوصول إلى الإمام لا يمنع صحة الاقتداء، وإن كان النقب صغيراً يمنعه عن الوصول إلى الإمام، ولكن لا يشتبه عليه حال الإمام سماعاً أو رؤية، فمن مشايخنا من قال: يمنع صحة الاقتداء؛ لأنه إذا لم يمكنه الوصول إلى الإمام فقد اختلف المكان، ومنهم من قال لا يمنع؛ لأن الحائط إنما يصير مانعاً لاشتباه حال الإمام عليه لا لاختلاف المكان؛ لأن القدر الذي هو مشغول بالحائط لو كان فارغاً لا يختلف المكان، وهذا هو الصحيح. وإن كان على هذا الحائط باب إن كان الباب مفتوحاً لا يعتبر حائلاً، لأنه لا يشتبه عليه حال الإمام ولا يمنعه من الوصول إلى الإمام، فلا يمنع صحة الاقتداء، وإن كان الباب مسدوداً، قال الفقيه أبو بكر الإسكاف: يعتبر حائلاً ويمنع صحة الاقتداء؛ لأنه ي

منع الوصول إلى الإمام لو قصده، وقال الفقيه أبو بكر الأعمش: لا يمنع صحة الاقتداء؛ لأن الباب وضع للوصول والنفاذ فيكون على ما عليه وضع الباب كالمفتوح، وإن كان الحائط طويلاً إلا أنه مشبك، فمن اعتبر الوصول إلى الإمام يجعله حائلاً، ومن اعتبر عدم اشتباه حال الإمام لا يجعله حائلاً. وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أنه إذا لم يكن على الحائط العريض باب ولا خوخة ولا نقب، ففيه روايتان: في رواية يمنع الاقتداء؛ لأنه يشتبه عليه حال الإمام، وفي رواية لا يمنع، قال: وعليه عمل الناس بمكة، فإن الإمام يقف في مقام إبراهيم وبعض الناس يقفون وراء الكعبة من الجانب الآخر وبينهم وبين الإمام الكعبة ولم يمنعهم أحد من ذلك، ولو كان بينه وبين الإمام طريق عظيم أو نهر عظيم لا يجوز الاقتداء عندنا لقوله عليه السلام: «ليس مع الإمام من كان بينه وبين الإمام نهر أو طريق من....» ؛ فلأنه يحلل بينهما ليس بمكان للصلاة حقيقة وحكماً، واختلاف المكان يمنع صحة الاقتداء. وتكلم المشايخ في مقدار الطريق الذي يمنع الاقتداء، قال بعضهم؛ أن يكون ما تمر فيه العجلة أو جمل بغيره وقال بعضهم؛ إذا كان طريقاً متطرفاً ما تمر فيه العامة يكون عظيماً يمنع الاقتداء، وإن كان طريقاً لا تمر فيه العامة، وإنما يمر فيه الواحد والإثنين لا يمنع الاقتداء، وهذا إذا لم تكن الصفوف متصلة، فأما إذا اتصلت الصفوف على الطريق الذي لا يمنع الاقتداء؛ لأن الكل بحكم اتصال الصفوف فصار مكان الصلاة، وإن كان على الطريق واحد لا يثبت الاتصال، وبالثلاث يثبت الاتصال بالاتفاق، وبالمثنى خلاف: على قول أبي يوسف يثبت وعلى قول محمد: لا يثبت، وكذلك اختلفوا في مقدار النهر العظيم الذي يمنع صحة الاقتداء، وقال بعضهم: النهر العظيم ما تجري فيه السفن والزوارق، وهكذا ذكر الحاكم الشهيد. في «المنتقى» : عن أبي حنيفة وهو الصحيح؛ لأنه إذا كان هكذا يصير حائلاً، ولكن ألا يصح الاقتداء في هذه الصورة إذا كان الناس يمرون فيه، وإن كانوا لا يمرون فيه لا تمنع الاقتداء، هذه الزيادة في متفرقات الفقيه أبي جعفر وعن أبي يوسف أنه إذا كان بحيث يمكن الشيء في بطنه كان عظيماً ومن المشايخ من قال إذا كان لا يمكن الرجل القوي أن يجتازه بوثبة فهو عظيم مانع صحة الاقتداء، وإن كان على النهر جسر وعليه صفوف متصلة لا تمنع صحة الاقتداء وللثلاثة حكم الصف بالإجماع، وليس للواحد حكم الصف بالإجماع وفي المثنى اختلاف على ما مر في الطريق، فإن كان بينه وبين الإمام بركة أو حوض إن كان بحال لو وقعت النجاسة في جانب تنجس الجانب الآخر لا يمنع

الاقتداء، وإن كان لا يتنجس يمنع الاقتداء، ويكون كثيراً كذا ذكره الإمام الزاهد الصفار، وسيأتي بعد هذا بخلافه. وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل يصلي بقوم في فلاة كم مقدار ما ينبغي أن يكون بينه وبين القوم حتى لا تجوز صلاتهم حكي عن الفقيه أبي القاسم: أنه قال: مقدار ما يمكن أن يصطف فيه القوم، وغيره من المشايخ قال: مقدار ما يسع فيه الصفَّان. فرق بين هذا وبين ما إذا صلى الإمام في مصلى العيد يوم العيد حيث يجوز، وإن كان بين الصفوف فصل، والفرق: أن مصلى العيد بمنزلة المسجد في حق الصلاة بالاتفاق، وإن اختلفوا فيما عدا الصلاة؛ لأن ذلك كله جعل للصلاة ولا كذلك الفلاة. وفي «الفتاوى» : إمام صلى بقوم على الطريق فاصطف الناس في الطريق على طول قال: إذا لم يكن بين الإمام وبين القوم مقدار ما يمر منه الجمل جازت صلاتهم وإلا فلا، وكذلك بين الصف الأول وبين الصف الثاني؛ لأن المانع من الاقتداء ها هنا هو الطريق لأن..... بكون الطريق...... وقدرنا الطريق المانع بهذا لما قلنا، بخلاف المسألة الأولى؛ لأن المانع ثمة مجرد الانفصال، فقدرناه بالصف أو بالصفين. رجلان أم أحدهما صاحبه في فلاة من الأرض جاء ثالث، ودخل في صلاتهما، فتقدم الإمام حتى جاوز موضع سجوده مقدار ما يكون بين الصف الأول وبين الإمام لا تفسد صلاته، وإن جاوز موضع سجوده؛ لأن في الابتداء لو كانوا ثلاثة وكان بينه وبينهم هذا القدر جاز، فكذا إذا تقدم هذا القدر.x وفي «فتاوى الفضلي» : رجل يصلي في الصحراء فأخر عن موضع قيامه مقدار سجوده لا تفسد صلاته ويعتبر مقدار سجوده من خلفه وعن يمينه وعن يساره، ويعطى لهذا القدر حكم المسجد، كما في وجه القبلة، فما لم يتأخر عن هذا الموضع لم يتأخر عن المسجد، فلا تفسد صلاته، ولا يعتبر الخط في هذا الباب حتى لو خط حوله خطاً ولم يخرج عن الخط، ولكن تأخر عما ذكرنا من المواضع فسدت صلاته. وفي هذا الموضع أيضاً، قوم يصلون خارج المسجد أو في صحراء ووسط الصفوف موضع لم يقم فيها أحد مقدار حوض أو...... تجوز صلاة من وراء ذلك الموضع إذا كانت الصفوف متصلة حوالي ذلك الموضع؛ لأن الصفوف إذا كانت متصلة حوالي ذلك الموضع صار الكل في حكم المسجد (66أ1) وقد مر قبل هذا (في) مسألة الحوض والبركة، بخلاف هذا، وهذه المسألة تؤيد قول من يقول بجواز الاقتداء خارج المسجد إذا كانت الصفوف متصلة بصفوف المسجد، وإن لم يكن المسجد ملأناً أو في باب الجمعة في صلاة «الأصل» مسألة تدل على هذا القول. وصورتها: إذا صلى الرجل في سوق الصيارفة صلاة الجمعة مقتدياً بإمام في

المسجد جاز إذا كانت الصفوف متصلة بصفوف المسجد اعتبر اتصال الصفوف ولم يعتبر كون المسجد ملأناً. وإذا صلى في المئذنة مقتدياً بإمام في المسجد تجوز صلاته، وكذا لو صلى على سطح المسجد مقتدياً بإمام في المسجد تجوز صلاته، هكذا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يفعل ذلك؛ فلأن غالب حال سطح المسجد أن لا يخلو عن كوة ومنفذ، فصار كحائط بينه وبين الإمام عليه باب، وهذا إذا كان مقامه خلف الإمام أو على يمينه أو على يساره، فأما إذا كان أمام الإمام أو بإذائه فوق رأسه لا يجوز، هذا المنقول عن أصحابنا، ذكر هذه الجملة شمس الأئمة الحلواني في «شرح كتاب الصلاة» ، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده هذه المسألة، وجعل الجواب فيها كالجواب في الحائط إن كان عليه نقب أو باب مفتوح أو مسدود إلى آخره، هذا إذا صلى على سطح المسجد. فإن صلى على سطح بيت وسطح بيته متصل بالمسجد، ذكر شمس الأئمة الحلواني في «شرحه» أنه يجوز، وعلل فقال: لأن سطح بيته إذا كان متصلاً بالمسجد لا يكون أشد حالاً من منزل يكون بجنب المسجد بينه وبين المسجد حائط. ولو صلى رجل في مثل هذا المنزل مقتدياً بإمام في المسجد وهو يسمع التكبير من الإمام أو من المكبّر تجوز صلاته، فالقيام على السطح يكون كذلك، وذكر القاضي الإمام علاء الدين في «شرح المختلفات» هذه المسألة، وقال: لا يجوز الاقتداء وعلل فقال: الحائط حائل كما لو كان على أرض تلك الدار. ووجه التوفيق بين القولين يظهر لمن تأمل في المسألة المتقدمة، وإذا قام على رأس الحائط يريد به الحائط الذي بين المسجد ومنزله، وذكر علاء الدين رحمه الله في «شرح المختلفات» ، قالوا: بجوز الاقتداء؛ لأنه لا حائل هنا، وذكر علاء الدين أيضاً: إذا كان على رأس الحائط صف وصف على سطح المنزل فصحة اقتداء الذي على سطح المنزل على الخلاف فيما إذا قامت الصفوف خارج المسجد، وهناك إن كان المسجد ملأناً يصح الاقتداء، وإن لم يكن المسجد ملأناً، قال بعض المشايخ: لا يجوز الاقتداء، وقال بعضهم: يجوز، وهو الصحيح. وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى. فناء المسجد له حكم المسجد حتى لو قام في فناء المسجد، واقتدى بالإمام صح اقتداؤه، وإن لم تكن الصفوف متصلة ولا المسجد ملأناً وإليه أشار محمد في باب صلاة الجمعة، فقال يصح الاقتداء في الطاقات بالكوفة، وإن لم تكن الصفوف متصلة فلا يصح في دار الصيارفة، إلا إذا كانت الصفوف متصلة؛ لأن الطاقات بالكوفة متصلة بالمسجد ليس بينها وبين المسجد طريق، فلا يشترط فيها اتصال الصفوف، فأما دارُ الصيارفة، فمنفصلة عن المسجد بينها وبين المسجد طريق، فيشترط فيها اتصال الصفوف، فعلى هذا يصح الاقتداء لمن قام على الدكان الذي يكون على باب المسجد؛ لأنها من فناء المسجد متصلة بالمسجد. وفي «فتاوى أبي الليث» : إمام صلى بالناس في المسجد الجامع في غير يوم

الجمعة، فقام صف خلف الإمام عند المقصورة وقام صف آخر في آخر المسجد، تكلموا منهم من قال: تجوز، ومنهم من قال: لا تجوز، قال الصدر الشهيد: الأعدل من الأقاويل أن الإمام إذا كان بالمقصورة والقوم..... خاصة يجوز، وكذا إذا كان الإمام بمسجد..... والقوم.... خاصة يجوز، فإن كان الإمام بمقصورة والقوم بمسجد منارة لا يجوز، واتحاد الصلاتين شرط لصحة الاقتداء، حتى لم يصح اقتداء مصلي الظهر لمصلي العصر لا من يصلي ظهراً لمن يصلي ظهر يوم غير ذلك، ولا اقتداء المفترض بالمتنفل، ويصح اقتداء المتنفل بالمفترض. وقال الشافعي: يصح الاقتداء في جميع ذلك، ثم إذا لم يصح الاقتداء في هذه المسائل عندنا، ولم يصر شارعاً في الفرض، هل يصير متطوعاً شارعاً في الصلاة، ذكر في باب الحدث أنه لا يصير شارعاً، وذكر في باب الأذان أنه يصير شارعاً. فمن المشايخ من قال: في المسألة روايتان، ومنهم من قال ما ذكر في باب الحدث، قول محمد وما ذكر في باب الأذان قولهما بناءً على أن الفريضة إذا بطلت هل تنقلب تطوعاً. وذكر في «زيادات الزيادات» : إذا اختلف الفرضان قام أحدهما صاحبه لا تجوز صلاة المأموم، وإن قهقه فيها لم يكن عليه وضوء، وهذا يدل على أنه لم يصر شارعاً في الصلاة، وذكر في باب افتتاح الصلاة إذا وقع تكبير المقتدي قبل تكبير الإمام حتى لم يصر شارعاً في صلاة الإمام هل يصير شارعاً في صلاة..... تفسد، اختلفوا فيه قال بعضهم: يصير شارعاً، وإليه أشار محمد في هذا الباب حيث قال في تعليل المسألة؛ لأنه دخل في صلاة غير صلاة الإمام. وذكر في «نوادر أبي سليمان» وأشار إلى أنه لا يصير شارعاً، والأصح أن في المسألة روايتان: قال الصدر الشهيد: والاعتماد على أنه لا يصير شارعاً ثَمَّ بين المشايخ اختلاف في اقتداء المفترض بالمتنفل قال بعضهم: اقتداء المفترض بالمتنفل كما لا تجوز في جميع أفعال الصلاة لا تجوز في فعل واحد؛ لأن المعنى لا يوجب الفصل؛ لأن الاقتداء بناءً على سبيل المشاركة، وإنما يصح بناء الموجود على الموجود لا بناء الموجود على المعدوم، واقتداء المفترض بالمتنفل بناء الموجود على المعدوم في حق صفة الفرضية، وفي حق هذا المعنى جميع أفعال الصلاة والفعل الواحد على السواء. وبعض مشايخنا قالوا: اقتداء المفترض بالمتنفل إنما لا يجوز في جميع أفعال الصلاة أما يجوز في فعل واحد، ألا ترى إلى ما ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : أن الإمام إذا رفع رأسه من الركوع وجاء إنسان واقتدى به فقبل أن يسجد السجدتين سبق الإمام الحدث، فاستخلف هذا الرجل الذي اقتدى به ساعتئذٍ صح الاستخلاف، ويأتي الخليفة بالسجدتين، وتكون هاتان السجدتان فعل الخليفة حتى يعيدها بعد ذلك فرضاً في

حق من أدرك أول الصلاة، ومع هذا صح الاقتداء، وكذلك المتنفل إذا اقتدى بالمفترض في الشفع الأخير يجوز، وهذا اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القراءة، ومع هذا صح وعامة المشايخ على أن اقتداء المفترض بالمتنفل، كما لا تجوز في جميع أفعال الصلاة لا تجوز في فعل واحد؛ لأن المعنى لا يوجب الفصل على ما مر، وأما ما ذكر من المسألتين، أما المسألة الأولى قلنا؛ نحن لا نقول بأن السجدتين نفل في حق الخليفة بل هي فرض لوجود حد الفرض، فإن حد الفرض إنه إذا لم يؤده في محله يؤمر بالإعادة إذا أمكنه. وإذا عجز عن الصلاة بأن جنح عن حرمة الصلاة تفسد صلاته، وقد وجد هذا الحد في مسألتنا؛ وهذا لأن الخليفة قائم مقام الأول فكان الأول في مكانه ولو كان الأول في مكانه كانت السجدتان فرضاً في حقه، فكذا في حق الخليفة إلا أنه لا يعتد بها في صلاته، وكم من فرض لا يعتد به، فعدم الاعتداد لا يدل على عدم الفرضية. وأما المسألة الثانية قلنا: صلاة المقتدي أخذت حكم الفرض بسبب الاقتداء، ولهذا لزمه قضاء ما لم يدرك مع الإمام من الشفع الأول، وكذلك لو أفسد المقتدي الصلاة على نفسه يلزمه قضاء أربع ركعات، وإذا أخذت صلاة المقتدي حكم الفرض كانت القراءة نفلاً في حقه كما في حق الإمام، فكان هذا اقتداء المتنفل بالمتنفل في حق القراءة، وإذا اقتدى أحد الناذرين بصاحبه لم يجز؛ لأن سببهما مختلف واختلاف الأسباب يوجب اختلاف الأحكام، فصار كاختلاف الفرضين، وكذا من أفسد صلاة فقضاها مقتدياً بالمتنفل لا يجوز؛ لأن القضاء لزمه بالفساد، فصار كاقتداء المفترض بالمتنفل. ولو نذر رجل أن يصلي ركعتين فقال رجل آخر لله عليّ أن أصلي تلك المنذورة ثم اقتدى أحدهما بالآخر جاز، وإذا نذر رجل أن يصلي ركعتين وحلف آخر، وقال والله لأصلين ركعتين جاز اقتداء الحالف بالناذر، فلا يجوز اقتداء (66ب1) الناذر بالحالف. ولو حلف رجلان كل واحد أن يصلي ركعتين فاقتداء أحدهما بالآخر جاز بمنزلة اقتداء المتطوع بالمتطوع، ولو أن رجلين طاف كل واحد منهما أسبوعاً واقتدى أحدهما بالآخر في ركعتي الطوف لا يصح اقتداؤه بمنزلة اقتداء الناذر بالناذر. ولو أن حنفي المذهب اقتدى في الوتر بمن يرى مذهب أبي يوسف ومحمد، قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل: يصح اقتداؤه؛ لأن كل واحد منهما يحتاج إلى نية الوتر، فلم تختلف نياتهما ولو اشتركا في نافلة فأفسداها ثم اقتدى أحدهما بالآخر في القضاء صح، ولا يجوز اقتداء المسبوق في قضاء ما سبق بمثله، وكذا اقتداء اللاحق بمثله. وفي «النوادر» عن محمد: في رجلين صليا معاً صلاة واحدة ونوى كل واحد منهما إمامة صاحبه جاز؛ لأن كل واحد منهما منفرد في حق نفسه، ولو اقتدى كل واحد منها

بصاحبه، فإن صلاتهما فاسدة؛ لأن صلاة المقتدي متعلقة بصلاة الإمام، وليس ها هنا إمام. وإذا كان صف تام من النساء خلف الإمام ووراءهن صفوف من الرجال فسدت صلاة تلك الصفوف كلها استحساناً، وفي القياس تفسد صلاة صف واحد خلف صف النساء؛ لأن المحاذاة وجدت في حقهم، فصار كالمرأة الواحدة وهناك تفسد صلاة رجل واحد خلف المرأة، فكذلك ها هنا. وجه الاستحسان: حديث عمر رضي الله عنه موقوفاً عليه ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام: «من كان بينه وبين الإمام نهر أو طريق أو صف من النساء فلا صلاة له» ولأن الصف من النساء بمنزلة الحائط بين الإمام والمقتدي، ووجود الحائط الكبير الذي ليس عليه فرجة بين الإمام والمقتدي يمنع صحة الاقتداء، فكذلك الصف من النساء على الاختلاف الذي مر، فإن كن ثلاثاً وقفن في الصف تفسد صلاة واحد على يمينهن وواحد على شمالهن وثلاثة خلفهن إلى آخر الصفوف، لأن الثلاث جمع متفق عليه، هذا هو جواب ظاهر الرواية، وذكر في «واقعات الناطقي» : وجعل الثلاث صفاً تاماً حتى قال بفساد تلك الصفوف إلى آخرها. فإن كانتا امرأتين فالمروي عند محمد: أن المرأتين تفسدان صلاة أربعة نفر واحد عن يمينهما، وواحد عن يسارها، واثنان خلفهما بحذائهما؛ لأن المثنى ليس بجمع تام فها هنا قياس الواحدة لا تفسدان الصلاة من خلفهما، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان: في رواية جعل الثلاث كالاثنين وقال: لا تفسدان صلاة خمسة نفر واحد عن يمينهن وواحد عن يسارهن، وثلاث خلفهن بحذائهن؛ لأن الأثر جاء في صف تام والثلاث ليس بصف تام. وفي رواية أخرى جعل المثنى كالثلاث وقال: امرأتان تفسدان صلاة واحد عن يمينها، وواحد عن يسارهما، وصلاة رجلين خلفهما إلى آخر الصفوف؛ لأن المثنى حكم الثلاث في الاصطفاف حتى يصطف خلف الإمام، وقال عليه السلام: «الاثنان فما فوقهما جماعة» . ابن سماعة عن محمد في قوم وقفوا على ظهر ظلة والمسجد تحتهم والنساء قدامهم لا تجوز صلاتهم، قال: وكذلك الطريق قال: فإن كان الرجال الذين فوق الظلة بحذائهم من تحتهم نساء أجزأتهم بمنزلة امرأة بحذاء رجل بينها وبينه حائط، وهكذا ذكر في «واقعات الناطقي» . وفي «فوائد الرستغفني» : إذا كان في المسجد رف وعلى الرف صف من النساء اقتدين بالإمام وتحت الرف صفوف الرجال هل تفسد صلاة من وقف خلف صف النساء،

الفصل السابع عشر في بيان مقام الإمام والمأموم

قال: لا تفسد وإن قام ثلاث نسوة خلف الإمام أفسدن على من قام بحذائهن خلفهن إلى آخر الصفوف، ومن لم يكن بحذائهن من أهل الصفوف فصلاتهم تامة. بشر عن أبي يوسف في إمام صلى برجال ونساء بصف النساء بحذاء صف الرجال، قال: تفسد صلاة رجل واحد الذي بين النساء والرجال وصار ذلك الرجل كسترة أو حائط بينهم وبينهن. ألا ترى أنه لو كان بين صف النساء وبين صف الرجال سترة قدر مؤخر الرجل إن ذلك سترة للرجال، ولا تفسد صلاة أحد منهم، وكذلك لو كان بينهم حائط وكان الحائط قدر الذراع كانت سترة، وإن كان أقل من ذلك لا تكون سترة فإن كان النساء من فوق ذلك الحائط يعني الذي هو قدر الذراع فليس بسترة، وإن كان الحائط قدر قامة أو أطول، فهو سترة بأن كان على الأرض من الرجال ولا يكون سترة لمن كان على الحائط، وإن قام الرجل على الحائط والنساء على الأرض، فهذا وما لو قامت النساء على الحائط والرجال على الأرض سواء والله أعلم. الفصل السابع عشر في بيان مقام الإمام والمأموم وإذا كان مع الإمام رجل واحد وصبي يعقل الصلاة قام عن يمينه لحديث ابن عباس رضي الله عنه قال: بت عند خالتي ميمونة، لأراقب صلاة رسول الله عليه السلام بالليل، فانتبه وقال: «نامت العيون، وغارت النجوم، وبقي الحي القيّوم» ، ثم قرأ آخر آل عمران {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوتِ وَالاْرْضِ} (آل عمران: 19) ثم قام إلى ستر معلق، فتوضأ وافتتح الصلاة فقمت وتوضأت ووقفت عن يساره، فأخذ بأذي وأدارني خلفه حتى أقامني عن يمينه، فعدت إلى مكاني، فأعادني ثانياً وثالثاً، فلما فرغ قال: ما منعك يا غلام أن تثبت في الموضع الذي أوقفتك، فقلت أنت يا رسول الله، ولا ينبغي لأحد أن يشاركك في الموقف، فقال: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» ، فأعاده رسول الله صلى الله عليه وسلّمإياه إلى الجانب الأيمن، دليل على أنه هو المختار إذا كان مع الإمام رجل واحد، ثم في ظاهر الرواية لا يتأخر المقتدي عن الإمام. وعن محمد قال: ينبغي أن يكون أصابع المقتدي عند كعب الإمام، وهو الذي وقع عند العوام، ولو قام خلف الإمام لا يكره هكذا ذكر في متفرقات الفقيه أبي جعفر، ولو صلى خلف الصف ولم يلحق بالصف فالمنقول عن الشيخ أبي بكر أنه لا يكره، وذكر محمد بن شجاع في كتاب تصحيح الآثار على قول أبي حنيفة يكره. قال: وإذا كان معه إثنان قاما خلفه؛ لأن للمثنى حكم الجماعة على ما مر قبل

هذا، ويقدم الإمام من..... إذا الصلاة بالجماعة، وكذلك إن كان أحدهما صبياً لحديث أنس: «أن جدته مليكة دعت رسول الله عليه السلام إلى طعام فقال قوموا لأصلي بكم فأقاماني واليتيم من ورائه وأمي أم سليم وراءنا» . قال وإن كان معه رجل وامرأة أقام الرجل عن يمينه والمرأة خلفه، لأن رسول الله عليه السلام في حديث أنس: أقام المرأة وراء الكل» ، ولأن المحاذاة مفسدة للصلاة على ما نبين فتؤخذ المرأة صيانة للصلاة، قال: وإن كان رجلان وامرأة أقام الرجلين خلفه والمرأة وراءهما لما مر أن في هذه المسألة يقوم الرجلان خلف الإمام؛ لأن لهما حكم الجماعة بخلاف المسألة الأولى، وإن كان معه رجلان وقام الإمام وسطهما فصلاتهم جائزة ولم يذكر الإساءة لأن للمثنى حكم الجماعة في حق بعض الأحكام عند بعضهم حتى قال ابن عباس: إذا هلك الرجل وترك ابنتين فلهما نصف المال وهذا حكم الواحدة.... هذا القول لم يذكر الإساءة إذا لم يقمها خلفه قال: وأفضل مكان المأموم حيث يكون أقرب إلى الإمام لقوله عليه السلام: خير صفوف الرجال أولها، قال: وإذا تساوت المواضع فعن يمين الإمام أولى؛ لأن النبي عليه السلام «كان يحب التيامن في كل شيء» ، وقال بعض مشايخنا: عن يسار الإمام أولى، والأول أحسن، قال: وإذا قاموا في الصفوف تراصوا وسووا من مناكبهم، لقوله عليه السلام: «تراصوا وألصقوا المناكب» . قال: وينبغي أن يجيء إلى الصلاة بالسكينة والوقار، كذا إذا أدرك الإمام في الركوع لقوله عليه السلام: «إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون ولا تأتوها وأنتم تسعون عليكم بالسكينة الوقار، ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» . رجلان صليا في الصحراء، وأتم أحدهما بالآخر، وقام على يمين الإمام، فجاء ثالث وجذب المؤتم إلى نفسه قبل أن يكبّر الافتتاح حكى عن الشيخ الإمام أبي بكر بن طرفان أنه لا تفسد صلاة المؤتم جذبه الثالث إلى نفسه قبل التكبير أو بعده؛ لأن الثالث لما توجه إلى الصلاة وقام في مكان الصلاة (67أ1) صار ذلك الموضع مسجداً لهم، ويكون الثالث كالداخل في صلاتهما، وقال غيره من المشايخ: إذا جاء الثالث، لا ينبغي

أن يجذب المؤتم إلى نفسه لكن يتقدم الإمام ويقوم في موضع سجوده، فيصير الثالث مع من كان على يمين الإمام خلف الإمام؛ لأن الإمام ما لم يجاوز موضع سجوده لا تفسد صلاته، وعن الفقيه أبي بكر الأعمش في رجلين أم أحدهما صاحبه، وموضع سجود المؤتم قبل الإمام وموضع قدمه وراء قدم الإمام أو بحذائه، قال: تجوز صلاته؛ لأن العبرة لموضع القدم لا لموضع السجود، ألا ترى إلى ما ذكر في «الجامع الصغير» الإمام إذا كان يصلي وهو يسجد في الطاق وقدماه في غير الطاق أنه لا يكره، ولو كان قيامه وقدميه في الطاق يكره واعتبر القدم دون موضع السجود كذا ها هنا. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في رجل صلى لم ينوِ أن يؤم النساء فجاءت امرأة فدخلت في صلاته خلفه ثم قامت إلى جنبه لم تفسد صلاته عليه، ولم تجزءها صلاتها. يجب أن يعلم أن نية الإمام إمامة المرأة شرط لصحة اقتدائها به، لأصل معروف أن محاذاة المرأة الرجل في صلاة مطلقة مشتركة، توجب فساد صلاة الرجل استحساناً، ولا توجب فساد صلاة المرأة استحساناً، فلو صح اقتداؤها به لوقع الإمام في الضرر، فإنها تقوم بحذائه فتفسد صلاته وليست لها ولاية الإضرار به فيتوقف ذلك على التزامه، وذلك بالنية، فإذا لم توجد النية لا يصح الاقتداء، وإذا لم يصح الاقتداء لا تفسد صلاة الرجل بالمحاذاة، لأن المحاذاة إنما جعلت مفسدة في صلاة مشتركة ولا تصح صلاتها؛ لأن صلاتها مع الإمام تخالف صلاتها وحدها فإذا لم تصح...... لا تصح اقتداء، أو نقول بأن الإمام باقتداءها تلزمه فرضاً كان لا يلزم قبل الاقتداء وهو مراعاة الترتيب في المقام فلا تلزمه هذه الزيادة إلا بالقصد والإرادة كالمقتدي لما كان يلزمه مراعاة الترتيب في المقام بسبب الاقتداء وتلحق صلاته فساداً من جهته بسبب ذلك تلزمه هذه الزيادة إلا بالقصد والإرادة، بخلاف صلاة الجمعة؛ لأن الجمعة لا تتأدى إلا بالجماعة. والجماعة تتناول الرجال والنساء فإذا نوى إمامة الجماعة فقد نوى إمامة النساء، ولم يلزم القارىء إذا اقتدى بالأمي يصح بدون نية إمامته وتلحق صلاته فساد من جهته عند أبي حنيفة؛ لأنا نقول مذهب الكرخي أنه لا تصح بدون النية وإن سلمنا فنقول بمن لا يلحقه الفساد بسبب الاقتداء، فإن القارىء لو صلى وحده والأمي وحده فصلاته لا تجوز، دل أن الإفساد ليس سبب الاقتداء حتى يدفع الفساد عن نفسه بترك النية. ثم لا بد لمعرفة هذه المسألة من معرفة المحاذاة ومعرفة المرأة والصلاة المطلقة المشتركة، فنقول وبالله التوفيق. معنى المحاذاة: أن تقوم المرأة بحذاء الرجل في مكان متحد من أن يكون بينهما حائل، حتى لو كان الرجل على الدكان، والمرأة على الأرض والدكان مثل قامة الرجل لا تفسد صلاة الرجل لاختلاف المكان، ولو كان في مكان متحد بأن كانا على الأرض أو على

الدكان إلا أن بينهما أسطوانة أو ما أشبهها لا تفسد صلاة الرجل أيضاً لمكان الحائل، ونوى بالمرأة أن تكون من تصح منها الصلاة وهي بالغة أو صبية مشهاة، حتى إن المجنونة إذا حاذت الرجل لا تفسد صلاة الرجل، وإن كانت بالغة مشتهاة؛ لأنه لا تصح منها الصلاة، والصبية التي تعقل الصلاة إذا كانت لا تشتهى، فحاذت الرجل لا تفسد صلاة الرجل. ونوى بالصلاة المطلقة الصلاة المعهودة، حتى إن المحاذاة في صلاة الجنازة لا تفسد صلاة الرجل، ونوى المشتركة أن يكونا شريكين بتحريمة وأداء، ويعني بالشركة تحريمة أن يكونا ناويين تحريمتهما على تحريمة الإمام ونعني بالشركة أن يكون لهم إماماً فما يؤديان.v .... حقيقة أو تقديراً، فإذا استجمعت المحاذاة هذه الشرائط، أو حدث فساد صلاة الرجل، ولا يوجب فساد صلاة المرأة استحساناً، وإنما أوجبت بفساد صلاة الرجل؛ لأن الرجل ترك فرضاً من فروض المقام؛ لأنه مأمور بتأخير المرأة قال عليه السلام: «أخروهن من حيث أخرهن الله» ، والمراد من الحديث الصلاة المطلقة بدليل سياقه، وهو قوله عليه السلام: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها» ، فإذا لم تؤخرها، فقد ترك فرضاً من فروض المقام، فأوجبت فساد صلاته كالمقتدي إذا تقدم على الإمام تفسد صلاة المقتدي، وإنما تفسد لتركه فرضاً من فروض المقام. فإن قيل: الأمر بالتأخير في حق الرجل عرف بهذا الخبر وأنه من أخبار الأحادد، وجواز الصلاة بدون التأخير عرف بالنص المقطوع به والخبر الواحد لا يصلح ناسخاً لما ثبت بالنص المقطوع به. قلنا: هذا ليس ينسخ بالخبر الواحد؛ لأن النسخ بالخبر إنما يكون أن لو كان الحكم مقصوراً على الخبر، والحكم هنا وهو وجوب التأخير على الرجل غير مقصود على الخبر، فإنه وهو أن تأخير النساء إنما وجب إما تفضيلاً للرجال، فإن في تأخير النساء عن الرجال إظهار كمال الرجال ونقصان مالهن، غير أن التفضيل إنما يتحقق بتأخير المرأة في مكان واحد، وفي حرمة واحدة، وتفضيل الرجال على النساء ثابت بنص مقطوع، وهو قوله تعالى: {وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) وإنما وجب تأخير النساء صيانة لصلاة الرجل عن الفساد. فإن المرأة من فوقها إلى قدمها عورة، فربما تشوش الأمر على الرجل فيكون ذلك سبباً، لفساد صلاة الرجل فصيانة الصلاة عن الفساد واجبة بالنص المقطوع به، جاء الخبر الواحد مثبتاً لما ثبت بالنص المقطوع به لا أن يكون الحكم مقصوراً على الخبر الواحد،

وهذا الكلام في صلاة الرجل. وأما الكلام في صلاة المرأة فنقول: صلاة المرأة لا تفسد بالمحاذاة استحساناً، وكان ينبغي أن تفسد؛ لأنها تركت فرضاً من فروض المقام أيضاً؛ لأن الرجل كما صار مأموراً بالتأخير، فالمرأة صارت مأمورة بالتأخير؛ لأنه لا يمكن للرجل تأخيرها إلا بتأخرها، فصارت مأمورة بالتأخر ضرورة، فإذا لم تتأخر فقد تركت فرضاً من فروض الإمام. والجواب في قول بأن الحديث لظاهرة أمر الرجال بالتأخير وليس يأمر للنساء بالتأخير ولو صارت مأمورة بالتأخر لصارت مأمورة ضرورة على الوجه الذي قلتم ولا ضرورة؛ لأنه يمكن للرجال تأخيرهم بدون تأخرها، بأن يتقدم عليها خطوة أو خطوتين، فلا ضرورة إلى إثبات الأمر في حقها. وجوابٌ آخر: أن يقول بلى صارت مأمورة بالتأخر لكن لا قصداً، إلا أن الأمر بالتأخر غير ثابت في حقها قصداً أو صريحاً بل بطريق الضرورة على ما قلتم غير أن الثابت ضرورة يحفظ...... عن الثابت مقصوداً، فأظهرنا الأمر بالتأخر في حقها في حق لحوق الإثم بالترك لا في حق فساد الصلاة بالترك إظهاراً للتفرقة بين الثابت ضرورة وبين الثابت مقصوداً. وحكى عن مشايخ العراق صورة في المحاذاة تفسد صلاة المرأة، ولا تفسد صلاة الرجل. بيانها: إذا جاءت المرأة وشرعت في الصلاة بعدما شرع الرجل في الصلاة ناوياً إمامة النساء وقامت بحذاءه؛ وهذا لأن فساد صلاة الرجل بسبب المحاذاة لتركه فرضاً من فروض المقام، فإن الرجل مأمور بتأخير المرأة لقوله عليه السلام: «أخروهن من حيث أخرهن الله» ، فإذا لم يؤخرها فقد ترك فرضاً من فروض المقام، فأما المرأة ما تركت فرضاً من فروض المقام وإن صارت مأمورة بالتأخر؛ لأن المرأة ما صارت مأمورة بالتأخير نصاً وإنما تصير مأمورة بالتأخير إذا وجد التأخير من الرجل، ليقع تأخير الرجل مفيداً. فإذا كانت المرأة حاضرة حين شرع الرجل في الصلاة فصلت بحذاءه أمكنه التأخير بالتقدم عليها خطوة أو خطوتين لأن ذلك مكروه في الصلاة، وإنما تأخيرها بالإشارة لو بالنداء، أو ما أشبه ذلك، فإذا فعل ذلك فقد وجد منه التأخير فيلزمها التأخر فإذا لم تتأخر فقد تركت فرضاً من فروض المقام فتفسد صلاتها، وهذه مسألة عجيبة، وإذا قامت المرأة بحذاء الإمام واقتدت به ونوى الإمام إمامتها فسدت صلاة الإمام والقوم كلهم (67ب1) أما فساد صلاة الإمام؛ لأنه وجد في حقه المحاذاة في صلاة مشتركة، وأما فساد صلاة القوم لأن صلاتهم مربوطة متعلقة بصلاة الإمام على ما ذكرنا غير مرة.

وكان محمد بن مقاتل رحمه الله يقول: لا يصح اقتداؤها؛ لأن المحاذاة اقترنت بشروعها في الصلاة، ولو طرأ كان مفسداً صلاتها، فإذا اقترنت منع صحة الاقتداء، وهذا فاسد؛ لأن المحاذاة غير مؤثرة في صلاتها، وإنما تفسد صلاتها بفساد صلاة الإمام، ولا تفسد صلاة الإمام إلا بعد صحة شروعها، من المحاذاة ما لم تكن في صلاة مشتركة لا أثر لها في الإفساد، حتى أن الرجل والمرأة إذا وقفا في مكان واحد يصلي كل واحد منهما وحده لا تفسد صلاة الرجل؛ لأن الترتيب في المقام إنما يلزمه عند المشاركة، كالترتيب بين الإمام والمقتدي، والأصل فيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله عليه السلام يصلي بالليل وأنا نائمة بين يديه معترضة كاعتراض الجنازة، فكان إذا سجد خنست أرجلي، وإذا قام مددتها، وأما إذا لم ينوِ الإمام إمامتها لم تكن داخلة في صلاته. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا صلى الرجل برجال ونساء صلاة مكتوبة فأحدث رجل وامرأة ممن خلفه وذهبا يتوضئان ثم جاءا وقد صلى الإمام، فقاما يقضيان صلاتهما، فقامت المرأة بحذاء الرجل في مكان واحد فصلاة الرجل فاسدة وصلاة المرأة تامة، ولو كانا مسبوقين بأن دخلا في صلاة الإمام بعدما سبقهما الإمام بشيء من الصلاة، فلما فرغ الإمام قاما يقضيان ما سبقها به الإمام، فقامت المرأة بحذاء الرجل في مكان واحد، فصليا فصلاتها تامة، وهذا بناءً على ما ذكرنا أن محاذاة المرأة الرجل في الصلاة المطلقة المشتركة يوجب فساد صلاة الرجل دون المرأة إذا استجمعت المحاذاة شرائطها، وقد استجمعت المحاذاة شرائطها في المسألة الأولى دون الثانية، لأن المكان متحد ولا حائل والمرأة ممن تصح منها الصلاة وهي بالغة أو صبية مشتهاة والصلاة معهودة، والشركة........... تحريمتهما على تحريمة الإمام. وأما إذا كان لهما إماماً فيما يؤديان تقديراً واعتباراً؛ لأنهما الأداء مع الإمام...... الخروج عن عهدة ما التزما كما التزما، فيجعل كأنهما خلف الإمام لتمكنهما الخروج عن عهدة ما التزما، أو يقول بعبارة أخرى: أن لهما إماماً فيما يؤديان تقديراً واعتباراً؛ لأنهما يقضيان ما فاتهما مع الإمام لعذر الحدث مع أنهما أدركا أول الصلاة، والقضاء يقوم مقام الأداء تقديراً واعتباراً. ولو وقع الأداء في هذه الصورة حقيقة كان الأداء مع الإمام حقيقة، فإذا جاء وجد الأداء تقديراً كان الأداء مع الإمام تقديراً، ولهذا لا قراءة عليهما ولا سهو. أما في المسألة الثانية وهي مسألة المسبوقين، لم توجد الشركة في الأداء، بل هما منفردان في الأداء إذا قاما إلى القضاء؛ لأنه ليس لهما إمام فيما يؤديان لا حقيقة ولا تقديراً، أما حقيقة فظاهر، وأما تقديراً أما على العبارة الأولى؛ لأنهما ما التزما الأداء مع الإمام فيما فات حتى يجعل كأنهما خلف الإمام فلهما الخروج عن عهدة ما التزما كما

التزما، أما على العبارة الثانية لأنهما لا يقضيان ما فاتهما مع الإمام حتى يجعل الإمام الموجود حالة الأداء، كالموجود حالة القضاء تقديراً؛ لأنهما لم يدركا ما يقضيان مع الإمام، بل هما منفردان في الأداء إذا قاما إلى القضاء، ولهذا كانت عليهما القراءة والسهو، وكان الشيخ الإمام أبو عبد الله..... يقول: أصحابنا جعلوا المسبوق فيما يقضي كالمنفرد إلا في ثلاث مسائل. إحداها: أنه إذا قام إلى قضاء ما سبق به فجاء إنسان واقتدى به لا يصح اقتداؤه، ولو كان كالمنفرد يصح اقتداؤه، كما لو كان منفرداً حقيقة. الثانية: إذا قام إلى قضاء ما سبق به فكبّر ونوى استئناف تلك الصلاة وقطعها يصير مسابقاً وقاطعاً، ولو كان كالمنفرد لما صار مسابقاً وقاطعاً، كما لو كان منفرداً حقيقة. الثالثة: إذا قام إلى قضاء ما سبق وعلى الإمام سجدتا السهو فعليه أن يتابعه ولو لم يتابعه حتى فرغ من صلاته كان عليه أن يسجد سجدتي السهو، ولو كان كالمنفرد لكان لما تلزمه سجدتا السهو، بسهو سهاه الإمام. ثم إن محمداً رحمه الله وضع المسألة في «الكتاب» : فيما إذا تحاذيا بعد العود وفرق بين المدركين وبين المسبوقين، ولم يذكر إذا تحاذيا في الطريق، قال مشايخنا: ينبغي أن لا تفسد صلاة الرجل استحساناً سواء كانا مدركين أو مسبوقين؛ لأنهما غير مؤدين للصلاة أو مسبوقين؛ لأنهما غير مؤدين للصلاة إذ لو جعلا مؤدين للصلاة حصل الأداء مع الحدث، وفي أماكن مختلفة، وكل ذلك مانع من الأداء والمحاذاة إنما أوجبت فساد صلاة الرجل لتركه فرضاً من فروض القيام وذلك مختص بحالة الأداء، وحكي عن الشيخ الزاهد أبي الحسن علي بن محمد البزدوي رحمه الله أن القهقهة في هذه الحالة لا تكون حدثاً استحساناً، ولكن تقطع الصلاة، والله أعلم. (فصل) في الحث على الجماعة الجماعة سنّة لا يجوز لأحد التأخر عنها إلا بعذر، والأصل فيه قوله عليه السلام: «لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس وأنظر إلى أقوام تخلفوا عن الجماعة فأحرق بيوتهم» ، ومثل هذا الوعيد إنما يلحق تارك الواجب أو تارك السنّة المؤكدة، والجماعة ليست بواجبة فعلم أنها سنّة مؤكدة؛ ولأنها من أعلام الدين، فكان إقامتها هدى وتركها ضلالة إلا من عذر؛ لأن العذر أثراً في إسقاط الفرائض وفي إسقاط السنن أولى. وقد ذكرنا في باب الأذان أن أهل بلدة لو اجتمعوا على ترك الصلاة بجماعة إنا نضربهم ولا نعاملهم، والأعمى إذا وجد قائداً يقوده إلى الجمعة لا يجب عليه الجمعة عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، وقال محمد: لا يجب على المقود ومقطوع اليد والرجل من

الفصل التاسع عشر في المرور بين يدي المصلي وفي دفع المصلي المار، واتخاذ السترة ومسائلها

خلاف، ومقطوع الرجلين والشيخ الكبير الذي لا يقدر على المشي، لأنهم لا يقدرون عليها إلا بمشقة زائدة على المشي المعتاد، فصاروا كالمريض: قال؛ وإذا زاد على واحد فهي جماعة في غير جمعة لا لقوله عليه السلام: «الإثنان فما فوقهما جماعة» ؛ ولأن الجماعة مأخوذة من معنى الاجتماع، وذلك حاصل بالمثنى وإن كان معه صبي يعقل كانت جماعة وهو إشارة إلى أن صلاة الصبي صلاة معتبرة، وإن لم تكن فرضاً ولو فاتته الجماعة جمع بأهله في منزله لما روينا أن النبي عليه السلام «جمع بأهله في منزله حين انصرف من صلح بعدما فرغ الناس من الصلاة» ، وإن صلى وحده جاز لما بينا أن الجماعة سنّة ولهذا لا تجب الجماعة في القضاء، وترك السنّة لا تمنع الجواز. قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن الأمصار ... أنأتي فيها المساجد أو نصلي في المنازل قال: ما أحب أن تتركوا حضور المساجد قال أبو يوسف: هذا أحسن ما سمعنا، في ابن سماعة قال: سأل رجل محمداً فقال: إن لنا مسجداً.... على الطريق أذن فيه وأقيم ولا يجتمع فيه أحد إلا أنا وابن عمي وربما كنت وحدي وبقربي مسجد يجتمع فيه جمع عظيم أترى أن أعطل هذا المسجد، وأصلي في المسجد الكبير الجماعة قال: لا تعطله ما قدرت عليه، الحسن عن أبي حنيفة في رجل جاء إلى مسجد وقد صلى فيه فسمع الإقامة في مسجد آخر قال: إن دخل فيه فلا يخرج منه حتى يصلي هنا الصلاة التي صلاها. بشر عن عن أبي يوسف قال: سألت أبا حنيفة عن النساء هل يرخص لهن في حضور المساجد قال: العجوز تخرج للعشاء....، ولا تخرج لغيرها، والشابة لا تخرج في شيء من ذلك وقال أبو يوسف: العجوز تخرج في الصلوت كلها. الفصل التاسع عشر في المرور بين يدي المصلي وفي دفع المصلي المارّ، واتخاذ السترة ومسائلها قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في امرأة تريد أن تمر بين يدي رجل وهو يصلي قال: يدرأها وإن مرت لا تقطع صلاته. اعلم أن الكلام في هذه المسألة في مواضع: إحدها: أن المرور بين يدي المصلي لا تقطع الصلاة أي شيء كان المار، وهذا مذهبنا، وقال بعض الناس: بأن مرور المرأة والحِمار والكلب تقطع الصلاة (68أ1) وهو قول بعض الصحابة، واحتج هذا القائل بما روى عبد الله بن الزبير عن النبي عليه السلام: أنه قال: «تقطع الصلاة مرور ثلاثة المرأة

والحمار والكلب الأسود» فقيل ما بال الأسود من الأبيض فقال: «إن الأسود شيطان» ، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لا يقطع مرور شيء الصلاة إلا ثلاث: الكلب والحمار والمرأة» ، ولنا ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لا يقطع الصلاة مرور شيء وادرؤا ما استطعتم» ، وروي أن رسول الله عليه السلام؛ صلى في بيت أم سلمة، فأراد عمر بن أم سلمة أن يمر بين يدي رسول الله، فأشار إليه النبي عليه السلام أن قف فتوقف، ثم أرادت زينبُ بنت أم سلمة رضي الله عنها أن تمر بين يدي النبي عليه السلام، فأشار إليها النبي صلى الله عليه وسلّمأن قفي فلم تقف، ومرت بين يدي رسول الله عليه السلام، ورسول الله عليه السلام مضى على صلاته. وروي عن عبد الله بن عباس والفضل بن عباس رضي الله عنهم أنهما قالا: «أتينا رسول الله عليه السلام على أتانٍ، فوجدناه يصلي فتركنا الأتان ودخلنا في صلاته، فكانت الأتان تتردد بين يدي رسول الله ورسول الله عليه السلام مضى على صلاته» ، وعن أبي ذر وأبي الدرداء رضي الله عنهما أنه قال صلى الله عليه السلام: الجمعة فلما قعد أراد كلب أن يمر بين يديه فقلت سبحانك لا إله إلا أنت يا حنان يا منان يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اقتل هذا الكلب فخر الكلب ميتاً قبل أن يضع رجله موضع يديه فلما فرغ رسول الله عليه السلام من الصلاة قال: «من الداعي على الكلب فقلت: أنا، فقال دعيت عليه في ساعة لو دعوت على أهل الأرض أن يهلكوا لهلكوا، ثم قال ما حملك على هذا الدعاء فقلت: خشيت أن يمر بين يديك فيقطع صلاتك فقال عليه السلام: «لا يقطع الصلاة مرور شيء وادرؤوا ما استطعتم، وما روى من الحديث روي أن عائشة رضي الله عنها لما بلغها هذا الحديث قالت: يا أهل العراق بئس ما قرنتمونا بالكلاب والحمير، كان رسول الله عليه السلام يصلي وأنا معترضة بين يديه كاعتراض الجنازة وكان إذا سجد غمز رجلي» ، ولا شك أن هذا أكثر من المرور أو كان ذلك في بدء الإسلام ثم انتسخ بما روينا من الأحاديث. والثاني: أن المصلي هل يدرء المار وكيف يدرءه فنقول المصلي يدرء المار لما

روينا من حديث ولدي أم سلمة وحديث أبي سعيد الخدري وحديث أبي ذر وحديث أبي الدرداء رضي الله عنهم والأمر بالدرء في هذه الأحاديث بطريق الرخصة، والإباحة، كالأمر بقتل الأسودين في الصلاة. واختلف المشايخ في كيفية الدرأ منهم من قال: يدرء بالإشارة لحديث ولدي أم سلمة على ما روينا، ومنهم من قال يدرء بالتسبيح؛ لأن هذه نائبة وقعت للمصلي، وقد قال عليه السلام: «إذا وقعت لأحدكم نائبة في الصلاة فليسبح» ، وذكر في «الأصل» إذا سبح وأشار بإصبعه ليصرفه عن نفسه لم تقطع صلاته، وأحب إليّ أن لا تفعل. اختلف المشايخ في معنى قوله أحب إليّ أن لا تفعل، قال بعضهم: لأنه جمع بين الإشارة والتسبيح، وكان يكفي أحدهما، وقال بعضهم: لأنه نسخ والنص ورد بالإشارة، وقال بعضهم يحتمل أن يكون معناه أن ترك الإشارة والتسبيح للدرأ أولى؛ لأن الكراهية في المرور ثابتة من غيره وهذا ثابت بفعله، وفعل النبي عليه السلام محمول على الابتداء حين كان يجوز إدخال ما ليس من الصلاة في الصلاة، ثم أشار أو سبح أو جمع بينهما ولم يمتنع المار عن المرور، لا يزيد على ذلك، ولا يشتمل بالمعالجة، هذا هو مذهب علمائنا رحمهم الله، ومن العلماء من أطلق للمصلي أن يأخذ ببعض ثيابه أو ببعض ببدنه، فيدرأ لظاهر قوله عليه السلام: «وادرؤوا ما استطعتم» ، ومن العلماء من أطلق أن يضربه ضرباً، وجعلوا أن يقابله، فإن النبي عليه السلام قال في آخر حديث أبي سعيد الخدري «ادرؤوا ما استطعتم فإن أبى فليقاتله فإنه شيطان» ، وعندنا لا يزيد على الإشارة والحديث محمول على الابتداء حين كان العمل في الصلاة مباحاً. الثالث: أن المرور بين يدي المصلي مكروه والمار آثم، لما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لو علم المار بين يدي المصلي ما عليه لوقف أربعين، قال أبو أيوب لا أدري أراد بقوله أربعين، أربعين عاماً أو شهراً أو يوماً» . الرابع: في مقدار ما يجب أن يكون بين يدي المصلي وبين المار حتى لا يكره المرور، وهذا فصل لا ذكر له في «الأصل» وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم: قالوا خمسون ذراعاً، وبعضهم قالوا: موضع صلاته وهو موضع قدمه إلى سجوده، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: إذا مر في موضع يقع بصر المصلي عليه وبصره إلى موضع سجوده، فذلك مكروه، وما زاد على ذلك فليس بمكروه. وقال الفقيه أبو القاسم الصفار: إذا كان بينه وبين المار مقدار ما بين صف الأول إلى حائط القبلة فمر وراءه لم يضره، وهذا إذا كان في الصحراء أو لم يكن له سترة، فإن

كان له سترة فمر بينه وبين السترة فهو مكروه، فإن مر وراء السترة فهو ليس بمكروه، وكذلك لا يدرأه المصلي إذا مر من وراء السترة. قال بعض مشايخنا: فإنما يكره المرور بين المصلي وبين السترة إذا كان بين المصلي والمار أقل من مقدار الصفين، أما إذا كان مقدار الصفين فصاعداً فلا يكره، وإن كان يصلي في المسجد، فإن كان بينه وبين المار أسطوانة أو إنسان قائم أو قاعد لا يكره؛ لأن به وقعت الحيلولة بين المار وبين المصلي، وإن لم يكن بينهما حائل إن كان المسجد صغيراً يكره في أي موضع يمر وإلى هذا أشار محمد في «الأصل» ، فإنه قال في الإمام إذا فرغ من صلاته، فإن كانت صلاة لا تطوع بعدها فهو بالخيار، إن شاء انحرف عن يمينه وشماله، وإن شاء قام وذهب، وإن شاء استقبل الناس بوجهه إذا لم يكن بحذائه رجل يصلي ولم يفصل بين ما إذا كان المصلي في الصف الأول، أو في الصف الآخر وهذا هو ظاهر المذهب؛ لأنه إذا كان وجهه مقابل وجه الإمام في حال قيامه يكره ذلك، وإن كان بينهما صفوف. ووجه الاستدلال بهذه المسألة: أن محمداً رحمه الله جعل جلوس الإمام في محرابه وهو مستقبل له بمنزلة جلوسه بين يديه وموضع سجوده، فكذا مرور المار في أي موضع يكون من المسجد يجعل بمنزلة مروره بين يديه، وفي موضع سجوده، وإن كان المسجد كبيراً مثل مسجد الجامع، قال بعض المشايخ: هو بمنزلة المسجد الصغير، فكره المرور في جميع الأماكن، وقال بعضهم؛ هو بمنزلة الصحراء فيكون الجواب فيه كالجواب في الصحراء ومن المشايخ من قال: الحد في المسجد قدر ثلاثة أذرع، ويترك ذلك القدر فيما وراء ذلك الأمر واسع عليه. وإن كان الرجل يصلي على الدكان أو على السطح، فمر إنسان بين يديه على الأرض، فقد مر بين يديه إن كان السطح والدكان على أقل من قامة الرجل، هكذا ذكر بعض المشايخ في شرح «الأصل» . وذكر بعض المشايخ في شرح «الجامع الصغير» : إن كان بحيث يحاذي أعضاء المار أعضاء المصلي يكره، وما لا فلا ولو مر رجلان بين يدي المصلي متحاذيين فالذي يليه هو المار بين يديه، ولو مر بين يدي المصلي خلف الدابة، فليس بمار بين يديه. وقال محمد رحمه الله: رجل يصلي في الصحراء يستحب له أن يكون بين يديه شيء مثل العصا ونحوه، وإن كان لا يجد العصا ليستتر بحائط أو سارية أو شجرة، والكلام هنا في مواضع. أحدها: في أصل السترة وأنه مستحب، والأصل فيه؛ ما روي عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: «رأيت رسول الله عليه السلام يصلي إليها والناس يمرون من ورائها» ، وقال عليه السلام: «من كان يصلي في الصحراء فليضع بين يديه

مثل مؤخرة رحله أو واسطة رجل ثم لا يضره مرور شيء بين يديه. والثاني: أن السنّة فيها الفرز لما روينا من حديث بلال. والثالث: ينبغي أن يكون مقدار طولها ذراع، لأن العبرة قدر ذراع ولم يذكر في «الأصل» قدرها عرضاً، قيل: وينبغي أن يكون في غلظ إصبع (68ب1) هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وأنه موفق لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يجزىء من السترة السهم، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» : قال محمد رحمه الله في «السير» : بلغنا أن رسول الله عليه السلام قال: «تجزىء من السترة السهم» بفتح الياء معناه يكفي، قال الله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (البقرة: 48) ، قال: وطول السهم قدر ذراع وغلظه قدر إصبع، وقال عليه السلام: «إذا صلى أحدكم وبين يديه أجرة الرجل أو واسطة الرجل فليصلِ إليها ولا يبالي ما مر به من كل كلب أو حمار» ، وأجرة الرجل وواسطته يبلغ قدر ذراع، وأما إذا كان طول السترة أقل من ذراع ففيه اختلاف المشايخ.k قال شيخ الإسلام خواهر زاده: فعلى هذا إذا وضع قباه أو حقيبته بين يديه إن كان ارتفع قدر ذراع يصير بلا خلاف وإن كان دون ذلك يكون فيه خلافاً. والرابع: سترة الإمام تجزىء أصحابه، فقد صح أن رسول الله عليه السلام صلى إلى العنزة بالبطحاء؛ ولم يكن للقوم سترة. والخامس: ينبغي للمصلي أن يقرب إلى السترة، قال عليه السلام: «من صلى إلى سترة فليدن منها» . والسادس: ينبغي أن يجعل السترة على أحد جانبيه إما الأيمن أو الأيسر، والأفضل أن يجعلها على جانبه الأيمن، قال في «الكتاب» ؛ لأن النبي عليه السلام لم يصل إلى شجرة ولا إلى عمود إلا جعله على جانبه الأيمن. والسابع: إذا تعذر غرز السترة أيضاً به الأرض أو للحجر لا يضعها بين يديه عند بعض المشايخ، وعند بعضهم؛ يضع؛ لأن الشرع كما ورد بالغرز ورد بالوضع، ولكن يضع طولاً؛ لأنه لو أمكنه الغرز غرز طولاً ففي الوضع يكون كذلك. والثامن: لا بأس بترك السترة إذا أمن المرور ولم يواجه الطريق؛ لأن الداعي إلى السترة قد زال، وقد فصل محمد رحمه الله في طريق مكة ذلك غير مرة. والتاسع: إذا لم يكن معه خشبة أو شيء يغرز أو يضع بين يديه هل يخط خطاً

الفصل العشرون في صلاة التطوع

بين يديه، عامة المشايخ على أنه لا يخط، وهو رواية عن محمد، وقال بعض مشايخنا: يخط، وهو قول الشافعي، وهو رواية عن محمد أيضاً والذين قالوا بالخط، اختلفوا فيما بينهم في كيفية الخط: قال بعضهم: يخط طولاً، وقال بعضهم: يخط كالمحراب، والله أعلم. الفصل العشرون في صلاة التطوع رجل افتتح التطوع، فنوى أربع ركعات ثم تكلم فعليه قضاء ركعتين في قول أبي حنيفة ومحمد، وعن أبي يوسف ثلاث روايات، في رواية ابن سماعة عنه: أنه يلزمه أربع ركعات، ولا يلزمه أكثر من ذلك، وإن نواها، وفي رواية بشر بن الزهري عنه: أنه يلزمه ما نوى، وإن نوى مئة ركعة. وفي رواية أخرى عنه: إن كان شروعه في الأربع قبل الظهر، والأربع قبل العصر، والأربع قبل الجمعة وبعدها، يلزمه أربع ركعات، وإن كان في غير ذلك لا يلزمه إلا ركعتين، وبعض المتأخرين من أصحابنا اختاروا هذا القول، والصحيح من مذهبه أنه رجع إلى قول أبي حنيفة رحمه الله، وحاصل الكلام راجع إلى أن بالشروع في التطوع لم يلزم في ظاهر الرواية لا يلزم أكثر من ركعتين، وإن نوى أكثر من ذلك، وعند أبي يوسف يلزمه، واتفق أصحابنا أن الشرع في التطوع بمطلق النية لا يلزمه أكثر من ركعتين، إنما الاختلاف فيما إذا نوى أربع ركعات، هكذا ذكر الإمام الصفار رحمه الله. وجه قول أبي يوسف على الرواية التي قال يلزمه وإن نوى بمئة ركعة: أن الشروع يلزم كالنذر، فنيته عند الشروع، كتسميته عند النذر فيلزمه ما نوى. ووجه روايته التي قال تلزمه أربع ركعات ولا يلزمه أكثر من ذلك، وهو أن نية الأربع قارن سبب الوجوب فلزمه الأربع قياساً على النذر، فإنه إذا قال: لله عليّ صلاة ونوى أربع ركعات، وإنما قلنا النية قارنت سبب الوجوب؛ لأن الأربع قارنت الشروع، والشروع سبب كالنذر. وجه قول أبي حنيفة ومحمد: وهو أن العلماء اختلفوا في وجوب قضاء ركعتين، فعند أهل العراق: يجب، وعند أهل الحجاز: لا يجب، فاختلافهم في قضاء ركعتين اتفاق منهم على أن الأربع لا يجب؛ وهذا لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة، ألا ترى أن فساد الشفع الثاني لا يفسد الأول، فلا يصير شارعاً في الشفع الثاني، ما لم يفرغ من الأول، وبدون الشروع أو النذر لا يلزمه شيء. بخلاف ما لو قال: لله عليّ صلاة، ونوى أربع ركعات حيث يلزمه أربع ركعات؛ لأن النية هناك قرنت سبب الوجوب من حيث اللفظ وهو النذر، وهنا لم يوجد النذر، لو وجب إنما يجب بالشروع، ولم يوجد الشروع في الشفع الثاني على ما بينا فلا يلزمه.

وفي «متفرقات» الفقيه أبي جعفر رحمه الله: أن معنى قول أصحابنا: إذا شرع الرجل في التطوع، ونوى أكثر من ركعتين، لا تلزمه أكثر من ركعتين: إن ذلك في غير السنن، فأما في السنن مثل الأربع قبل الظهر، والأربع قبل العشاء الآخرة، فإنه يلزمه أربع ركعات، ولا يلزمه أكثر من ذلك، ويلزمه في كل ركعتين من القراءة والذكر والفعل ما يلزمه في صلاة الفرض، وقالوا إذا قام إلى الثالثة يستفتح كما يستفتح في الابتداء، لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة على ما مر. وإذا ترك القعدة الأولى فالقياس: أن تفسد صلاته وهو قول محمد رحمه الله، كما لو تركها من آخر الفرض، وفي الاستحسان لا تفسد، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وجه ذلك: أنه لما أدى أربعاً بتحريمة واحدة صارت هذه الصلاة بمنزلة الفرض في حق القعدة الأولى الفقهٍ، وهو أن القعدة الثانية ليست من جملة الأركان على ما مر، قبل هذا، ولكنها مفروضة شرعت للختم، وختم المفروض فرض، لهذا لم تكن القعدة الأولى فرضاً، لأنها ليست بحالة الختم، فإذا قام إلى الثالثة هنا حتى صارت الصلاة من ذوات الأربع، لم تكن حالة القعدة الأولى حالة الختم، فلم يبق فرضاً كما في الفرض، وما كان مسنوناً في الفرض، فهو مسنون في التطوع إلا أن يصلي قاعداً وهو يقدر على القيام، أو يصلي التطوع على الراحلة، فإن ذلك يجزئه، ولا يجزئه في الفرض على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وإن أفسد شيئاً من ذلك قضاه، وقال الشافعي رحمه الله: لا يجب القضاء؛ لأنه متبرع وذلك ينافي الوجوب والإلزام وقد قال عليه السلام: «الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء لم يصم» ، والخلاف في الصلاة والصوم واحد. ولنا: أن ما أدى عمل لله تعالى، لأنه إمساك لله تعالى بأمره وبدنه، فيجب صيانته عن البطلان، وذلك بالإتمام ولزمه القضاء عند الإبطال بقدر ما أدى، وإذا لزمه القضاء بقدر ما عمل لله تعالى، صار الحال في القضاء كالحال في الأداء، على معنى أن يلزمه الإتمام صيانة لما أدى، كما لزمه في الأداء. قال: وكل ركعتين أفسدهما فعليه قضاؤهما دونما قبلهما، لما مر أن كل شفع صلاة على حدة، فلا يفسد الشفع الأول لفساد الشفع الثاني، وإذا افتتح التطوع قائماً أراد أن يقعد من غير عذر فله ذلك عند أبي حنيفة استحساناً، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يجزئه وهو القياس. وجه القياس: وهو الشروع يلزم كالنذر بدليل أنه لو أفسدها يلزم القضاء، ومن نذر أن يصلي ركعتين قائماً لم يجز أن يقعد فيهما من غير عذر، فكذلك إذا شرع قائماً. وجه الاستحسان: وهو أن القعود في التطوع من غير عذر، كالقعود في الفرض بعذر، ثم هناك لا فرق بين الابتداء والبقاء فكذلك هنا؛ وهذا لأنه في الابتداء كان مخير

بين القيام والقعود، فكذا في البقاء، لأن البقاء أسهل من الابتداء، فلما جاز افتتاحها بالقعود فالبقاء أجوز، بخلاف النذر فهو التزام بالتسمية، وقد نص على القيام فلزمه، أما هنا لم يلزم اللفظ شيئاً لو التزم إنما يلتزم بالشروع والمباشرة وإجزاء الذي باشره قائماً وشرع فيه وأداه قائماً، آما سائر الأجزاء لما باشرها قائماً فلا يلزمه (إلا) قائماً، فإن قيل: ينبغي أن لا يجب عليه القضاء إذا أفسدها على هذه القضية؛ لأن بإجزاء الذي باشره قد أدى سائر الأجزاء (التي) لم تباشر، فلا يلزمه القضاء (69أ1) . قلنا: هو شرع فيما يسمى صلاة....... وإسمية الصلاة ألزمناه الأجر الآخر، أما ها هنا ليس من ضرورة استحقاق بهذا الجزاء واسمية الصلاة إلى انضمام إجراء آخر ما ضرورة استحقاق هذا.........، واسمية الصلاة التزام صفة القيام، لأن الصلاة تجوز بدون صفة القيام، لأن القيام صفة زائدة، والدليل على الفرق بين النذر، والشروع أيضاً أنه لو نذر أن يصلي ركعتين قائماً فقعد وصلى قاعداً من عذر لا يجزيه، وفي الشروع لا يلزمه الاستقبال، دل على التفرقة بينهما، إلا أن القيام أفضل بالإجماع، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» ، ولأن الصلاة قائماً أشق على البدن، وقال عليه السلام: «أفضل العبادات أحمزها» . ولو نذر أن يصلي صلاة ولم يقل قائماً أو قاعداً، وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني: لا رواية لهذه المسألة، واختلف المشايخ فيه، قال بعضهم؛ هو بالخيار، إن شاء صلى قائماً، وإن شاء صلى قاعداً، إلا أن القيام زيادة وصف في التطوع، بدليل أنه تجوز الصلاة بدون القيام، فلا يلزم إلا بالشرط كالتتابع في الصوم، وقال بعضهم: يلزمه قائماً، لأن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، وما أوجبه الله تعالى أوجبه قائماً، فكذا ما أوجبه العبد، بخلاف الصوم، لأنه أوجب متتابعاً وغير متتابع، فلا يلزمه التتابع إلا بالشرط، وعلى بعضهم على الاختلاف قياساً على الاختلاف الذي بينا في الشروع، فلو أنه افتتح التطوع قاعداً وأدى بعضها قاعداً ثم بدا له أن يقوم فقام فصلى بعضها قائماً وبعضها قاعداً أجزأه عندهم جميعاً، أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يشكل، لأن عندهما التحريمة المنعقد للقعود منعقدة للقيام، بدليل أن المريض إذا افتتح المكتوبة قاعداً ثم قدر على القيام، فإن له أن يقوم ويصلي بقية الصلاة قائماً، لهذا المعنى أن التحريمة المنعقدة للقعود منعقدة للقيام، وإنما يشكل هنا على مذهب محمد رحمه الله، لأن عنده التحريمة المنعقدة للقعود لا يكون منعقدة للقيام، حتى أن المريض إذا قدر على القيام في وسط الصلاة فسدت صلاته عنده إلا أنه قال هنا: تجوز صلاته، وفي المريض لا تجوز. والفرق لمحمد رحمه الله: أن في المريض كان قادراً على القيام وقت الشروع في

الصلاة فما انعقدت تحريمته للقيام، فأما هنا في صلاة التطوع كان قادراً على القيام، فانعقدت تحريمته للقيام، فلو أنه افتتح التطوع قاعداً، وكلما جاء أوان الركوع قام وقرأ ما بقي وركع جاز، وهكذا ينبغي أن يفعل إذا صلى التطوع قاعداً، لما روي عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي عليه السلام كان يفتتح التطوع قاعداً فيقرأ ورده حتى إذا بقي عشر آيات أو نحوها قام فأتم قراءته ثم ركع وسجد وهكذا كان يفعل في الركعة الثانية» فقد انتقل من القعود إلى القيام، ومن القيام إلى القعود، فدل أن ذلك جائز في التطوع. وإذا افتتح التطوع على غير وضوء وفي ثوب نجس، لم يكن داخلاً في صلاته، لأن الطهارة عن النجاسة الحقيقية شرط لجواز الصلاة، ولم يوجد فلا يصح شروعه فيها، وإذا لم يصح شروعه في الصلاة لا يلزمها القضاء، لأن القضاء يبنى على الأداء، وإن افتتحها نصف النهار، أو حين تحمر الشمس، أو بعد الفجر قبل طلوع الشمس، أو عند طلوع الشمس، فصلى فقد أساء على ما مر قبل هذا، ولا شيء عليه، لأنه أداها كما التزم، فلا يبقى عليه شيء، كمن نذر أن يصوم يوم النحر وصام، فإنه لا يبقى عليه شيء، والمعنى ما ذكرنا، كذلك هنا، وإن قطعها فعليه القضاء عندنا، وعند زفر لا قضاء عليه، زفر رحمه الله قاس الشروع في الصلاة في الأوقات المكروهة بالشروع في الصوم يوم النحر، لعلة أنه مرتكب للنهي. والفرق لأصحابنا وهو أن بالشروع هناك يصير قائماً مرتكباً للنهي، وهنا بنفس الشروع لا يصير مصلياً مرتكباً للنهي ما لم يقيد الركعة السجدة، بدليل أنه إذا حلف لا يصلي فصلى ما دون الركعة لا يحنث، ولو حلف لا يصوم فصام ساعة يحنث، وإذا كان مرتكباً للنهي بنفس الشروع في الصوم كان النهي مقارناً للشروع، فلا يجب إتمامه، فلا يلزمه القضاء بالإفساد، ولما لم يكن مرتكباً للمنهي بنفس الشروع في الصلاة ما لم يقيد الركعة بالسجدة، لم يكن المنهي مقارناً للشروع، فصح ما أدى، وإذا صح ما أدى وجب إبقاؤها إلا أنه أمر بالقطع كيلا يقع في المنهي، لا لأن ما أدى وجب إبقاؤها إلا أنه أمر بالقطع كيلا يقع في المنهي لما تناوله المنهي ثم إن أصحابنا فرقوا بينها إذا افتتح التطوع على غير وضوء أو في ثوب نجس حدث لا يلزمه القضاء، وإذا افتتح التطوع في الأوقات المكروهة، وقطعها فعليه القضاء عندنا، خلافاً لزفر. والفرق: أن الشروع يلزم كالنذر، والنذر بالصلاة في الأوقات المكروهة صحيحة، ولزمه المنذور به، فكذا بالشروع لزمه ما شرع فيه، فيلزمه القضاء بتركه، أما في النذر بالصلاة بغير وضوء لا يصح، فلا يلزمه النذور به، فكذا لا يلزمه بالشروع، فإذا لم يلزمه بالشروع كيف يلزمه القضاء بإفساده؟. ثم ها هنا مسائل: إذا نذر أن يصلي ركعتين بغير وضوء، أو بغير قراءة، أو عرياناً، فعلى قول أبي يوسف في المواضع كلها يلزمه ما سمى من الصلاة الصحيحة وما زاد في

كلامه فهو لغو، وعلى قول زفر: لا يلزمه شيء في الأحوال كلها، وعند محمد: إذا سمى ما لا يجوز أداء الصلاة معه بحال كالصلاة بغير طهارة لا يلزمه شيء، وإذا سمى ما يجوز معه الأداء في بعض الأحوال كالصلاة بغير قراءة يلزمه، والله أعلم. وطول القيام أفضل في التطوع، لما روي «أن النبي عليه السلام سئل عن أفضل الصلاة فقال: «طول القنوت» يعني: القيام، ولأنه أشق على البدن وقال عليه السلام، «أفضل الأعمال أدومها» أي: أشقها وروي عن أبي يوسف: إذا كان له ورد من القرآن فالأفضل أن يكثر عدد الركعات؛ لأن القيام لا يختلف ويضم إليه زيادة الركوع والسجود وإذا لم يكن له ورد فطول القيام أفضل ولا يصلي تطوع بجماعة إلا قيام رمضان فقد استثني عن النهي قيام رمضان، وكما أن قيام رمضان مستثنى عن النهي فصلاة الكسوف يجوز أداؤها بالجماعة مع أنها تطوع ذكر محمد في «الأصل» وحكى عن الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي دقيقة في كراهة أداء التطوع بالجماعة، وسيأتي بيانها في مسائل التراويح في نوع المتفرقات إن شاء الله تعالى. قال محمد رحمه الله: رجل صلى أربع ركعات ولم يقرأ فيهن شيئاً يقضي ركعتين وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف يقضي أربع ركعات، واعلم بأن هنا ثمان مسائل: إحداهما: هذه المسألة. الثانية: إذا قرأ في إحدى الأولين وإحدى الأخريين. والثالثة: إذا قرأ في الأولين. والرابعة: إذا قرأ في الأخريين. والخامسة: إذا قرأ في الثلاث الأول. والسادسة: إذا قرأ في الثلاث الأواخر. والسابعة: إذا قرأ في ركعة من الأوليين. والثامنة: إذا قرأ في ركعة من الآخريين، والأصل في جملتها أن يترك القراءة في الشفع الأول من الركعتين أو في إحداهما لا ترتفع التحريمة، ولا تنقطع عند أبي يوسف فصح بناء الشفع الثاني على الشفع الأول بتلك التحريمة، إن قرأ في الشفع الثاني في الركعتين صح هذا الشفع وعليه قضاء الشفع الأول لا غير، وإن ترك القراءة في الشفع الثاني في الركعتين أو في إحداهما فسد هذا الشفع وكان عليه قضاء الشفعين.

وعند محمد رحمه الله: ترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين أو في إحداهما رفع التحريمة وقطعها فلا يصح بناء الشفع الثاني على الشفع الثاني، ولا يلزمه قضاؤه، وعلى قول أبي حنيفة: ترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين يقطع التحريمة كما هو قول محمد باتفاق الروايات، فلا يصح الشروع في الشفع الثاني عنده ولا يلزمه قضاؤه، واختلفت الروايات عنه في ترك القراءة في الشفع الأول في إحدى الركعتين روى محمد عنه أنه لا يقطع التحريمة كما هو مذهب أبي يوسف، فيصح الشروع في الشفع الثاني، ويلزمه قضاء الأربع كذا ذكر في كتاب الصلاة. وفي «الجامع الصغير» : وروى بشر بن الوليد وعلي بن جعفر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يقطع التحريمة، فلا يصح الشروع في الشفع الثاني ولا يلزمه قضاؤه، قال مشايخنا في المسألة قياس، واستحسان، فرواية محمد عنه استحسان ورواية أبي يوسف عنه قياس وجه قول محمد: إن كل شفع من التطوع صلاة على حده، به ورد الحديث قال عليه السلام: «صلاة الليل مثنى» ، وأراد به التطوع كانت القراءة في الركعتين فرضاً كما في صلاة الفجر، فإذا ترك القراءة في أحدهما فقد فات الفرض على وجه لا يمكن إصلاحه كما لو ترك القراءة في إحدى ركعتي الفجر فيفسد الأداء، وإذا فسد الأداء فسدت التحريمة؛ لأن التحريمة للأداء ومتى (69ب1) فسدت التحريمة لم يصح بناء الآخرين عليها، فلم يلزمه قضاؤها إن ترك القراءة فيهما أو في إحداهما. حجة أبي يوسف: أن فساد الأداء لا يكون....... من عدم الأداء، وعدم الأداء لا يفسد التحريمة ففساد الأداء أن لا تفسد التحريمة إذ بالفساد لا تنعدم إلا صفة الجواز والفقه: أن التحريمة شرط للأداء، فلا تفسد بفساد الأداء، وإذا لم تفسد بفساد الأداء صح بناء الآخرين على التحريمة. حجة أبي حنيفة فيما إذا ترك القراءة في الأوليين ما قلنا لمحمد، وإن ترك القراءة في إحدى الأوليين، وجه القياس على قول أبي حنيفة ما قلنا لمحمد رحمه الله والاستحسان على قوله وجهان: أحدهما: أن التحريمة شرط الأدء، قال أبو يوسف: إلا أنه مشروعة للأداء لا تقبل الفصل عن الأداء والأداء ثم بركعة واحدة؛ لأن أركان الصلاة كلها تتم بركعة واحدة فإذا قرأ في الركعة الأولى فقد وجد فعل الأداء صحيحاً فاستحكمت التحريمة، وانتهت في الصحة بها بناء فلم تفسد بترك القراءة في الركعة الثانية، وإذا لم تفسد صح بناء الآخرين عليها بخلاف ما إذا ترك القراءة في الأوليين؛ لأن التحريمة وإن صحت في الابتداء فما صحت إلا للأداء على سبيل التمام ولم يوجد ففسد الأداء لفوات بعضه ففسدت التحريمة التي يراد منها الأداء.

الوجه الثاني: أن فساد الشفع الأول يترك القراءة في الركعتين مقطوع به؛ لأن القراءة في ركعة واحدة ثبت بدليل مقطوع به، ومن الكتاب قال الله تعالى: {فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ} (المزمّل: 20) فجاز أن يؤثر في فساد التحريمة، أما فساد الشفع الأول بترك القراءة في ركعة واحدة ليس بمقطوع به، بل هو مجتهد فيه، فإن من الناس من قال الفرض القراءة في إحدى الركعتين؛ وهذا لأن الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار، لكن أوجبنا القراءة في الركعة الثانية احتياطاً؛ لأن الركعة الثانية تكرار للأول على ما سبق، والاحتياط هنا في أن لا يجعل القراءة فرضاً في الثانية في حق إبقاء التحريمة حتى نحكم بصحة الشروع في الشفع الثاني، فيجب عليه إتمام الشفع الثاني، ولا يحكم بصحة الأداء احتياطاً أيضاً. وأخذنا في كل حكم بالاحتياط. وإذا عرفنا هذا «الأصل» جئنا إلى تخريج المسائل فنقول: إذا ترك القراءة أصلاً فعلى قول أبي يوسف: يجب عليه قضاء الأربع؛ لأن التحريمة عنده بقيت على الصحة، فصح الشروع في الشفع الثاني، وعند أبي حنيفة ومحمد عليه قضاء ركعتين؛ لأن التحريمة قد انقطعت عندهما بترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين، فلم يصح الشروع في الشفع الثاني، فلا يلزمه قضاؤه، وإذا قرأ في إحدى الأوليين، وفي إحدى الأخريين يعني قرأ في الركعة الأولى والثالثة، فعليه قضاء أربع ركعات عند أبي يوسف، وكذلك عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه؛ لأن عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه بترك القراءة في إحدى الأوليين لا تبطل التحريمة، فيصح بناء الشفع الثاني عليه، فيلزمه قضاء أربع ركعات وعند محمد يلزمه قضاء ركعتين؛ لأن عنده بترك القراءة في إحدى الأوليين تبطل التحريمة، فلا يصح بناء الثاني عليهما، فيلزمه قضاء ركعتين، وإذا قرأ في الأوليين إن كان قعد على رأس الركعتين، فعليه قضاء ركعتين بالإجماع؛ لأن التحريمة لم تنقطع بالإجماع، فيصح بناء الشفع الثاني عليها بالإجماع أنه بترك القراءة في الأخريين أفسد الشفع الثاني، وفساد الشفع الثاني لا يوجب فساد الشفع الأول. إذا قعد في الشفع الأول كما إذا أحدث متعمداً، وإن لم يقعد على رأس الركعتين فعليه قضاء الأربع بالإجماع؛ لأن الشفع الثاني قد لزمه، وقد أفسدها بترك القراءة قبل أن يقعد على رأس الركعتين، فيؤثر في الشفع الأول. كما لو أحدث متعمداً في الشفع الثاني قبل أن يقعد في الشفع الأول، وإذا قرأ في الأخريين فعليه قضاء الشفع الأول؛ لأن الشروع في الشفع الأول صحيح، والأداء قد فسد لعدم القراءة فيلزمه قضاؤه. وأما الشفع الثاني، فعند محمد رحمه الله لم يصح الشروع فيه، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله، فلا يلزمه القضاء، وعند أبي يوسف صح الشروع فيه وصح الأداء لوجود القراءة، فلا يلزمه القضاء فإذا اتحد الجواب مع اختلاف التخريج، وإذا قرأ في الثلاث الأوائل، فإن كان قعد على رأس الركعتين، فعليه قضاء الشفع الثاني بالإجماع؛ لأن الشفع الأول قد صح لوجود القراءة فيه، فيصح بناء الشفع الثاني عليه وقد فسد الشفع

الثاني لترك القراءة في إحدى الركعتين، فيلزمه قضاؤه. وإن لم يقعد على رأس الركعتين، فعليه قضاء الأربع بالإجماع. والجواب في هذا الفصل كالجواب فيما إذا قرأ في الأوليين فقط، وإذا قرأ في الثلاث الأواخر، فعليه قضاء ركعتين عند محمد؛ لأن بترك القراءة في الركعة الأولى انقطعت التحريمة، فلم يصح الشروع في الشفع الثاني، فلا يلزمه قضاء الشفع الثاني ولكن يلزمه قضاء الشفع الأول؛ لأن الشروع فيه قد صح، وفسد الأداء، وعند أبي يوسف يلزمه قضاء أربع ركعات؛ لأن بترك القراءة في الركعة الأولى لا تنقطع التحريمة، فصح الشروع في الشفع الثاني وفسد الأول؛ لأن الشفع الأول قد فسد، والثاني بناءً عليه والبناء على الفاسد فاسد. وكذلك الجواب عند أبي حنيفة في رواية محمد عنه؛ لأن عند أبي حنيفة على رواية محمد عند التحريمة لا تنقطع بترك القراءة في إحدى الركعتين الأوليين فصح الشروع في الشفع الثاني، والتقريب ما ذكرنا. وإذا قرأ في إحدى الأوليين، فعند محمد رحمه الله قضاء الشفعين، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله على رواية محمد رحمه الله لما ذكرنا، وإذا قرأ في إحدى الأخريين، فعند محمد عليه قضاء الشفع الأول لا غير؛ لأن الشروع في الشفع الثاني لا يصح عنده. وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله: لا يصح الشروع في الشفع الثاني؛ لانقطاع التحريمة عنده بترك القراءة في الشفع الأول أصلاً، وعند أبي يوسف رحمه الله قضاء الأربع لصحة الشروع في الشفع الثاني عنده، فإن صلى أربع ركعات، ولم يقرأ في الأوليين وقرأ في الأخريين ينوي قضاء الأوليين لا يكون قضاء عن الأوليين؛ لأنه بنى بناءً على تحريم واحدة والتحريمة الواحدة لا يتسع فيها القضاء والأداء، فإن ترك القراءة في الأوليين ثم اقتدى رجل في الأخريين، فصلاهما معه فعليه قضاء الأوليين كما يقضي الإمام، لأنه لما شارك الإمام في التحريمة فقد التزم ما التزم الإمام بعد التحريمة. وهذا إنما يستقيم على قول أبي يوسف وعلى قول أبي حنيفة على ما روى عنه محمد؛ لأن التحريمة لا تنحل بترك القراءة عندهما، فأما عند محمد رحمه الله التحريمة انحلت بترك القراءة وصار الإمام خارجاً من الصلاة، فلم يصح اقتداء الرجل بالإمام، فلا يجب عليه قضاء شيء، فإن دخل معه رجل في الأوليين، فلما فرغ منهما تكلم الرجل ومضى الإمام في صلاته حتى صلى أربع ركعات، فعلى الرجل المقتدي قضاء ركعتين الأوليين فقط؛ لأن المقتدي خرج من صلاة الإمام بالكلام قبل قيام الإمام إلى الشفع الثاني، وإنما يلزم الإمام الشفع الثاني بالقيام إليها، فإذا خرج المقتدي من صلاته قبل قيام الإمام إلى الشفع الثاني لم يلزمه شيء من هذا الشفع، وإنما يلزمه قضاء الشفع الأول؛ لأنه كان شارعاً فيه وقد أفسد الإمام بترك القراءة، فيلزمه قضاؤه. وذكر الحاكم الجليل رحمه الله في «مختصره» ، وإن كانت الصلاة كلها صحيحة لم يكن على الرجل إلا قضاء الركعتين قيد بالركعتين الأوليين؛ لأنه بالكلام خرج الإمام عن

كونه إماماً له قبل أن يدخل في الأخريين، ثم قال الحاكم الجليل أيضاً، إنما يصح هذا الجواب إذا أفسد الرجل الركعتين على نفسه قبل أن يفرغ منها والله أعلم. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: صلاة الليل إن شئت صليت بتكبيرة ركعتين، وإن شئت أربعاً، وإن شئت ستاً، وذكر في كتاب صلاة «الأصل» وإن شئت ثماناً، وليس في المسألة اختلاف الروايتين، لكن في «الجامع الصغير» ، والحال في كتاب الصلاة، واعلم بأن التطوع بالليل حسن لقوله تعالى: {وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} (الإسراء: 79) ، وبعض العلماء قالوا ركعتان في كل ليلة، كمن قرأ القرآن سنّة، وقال بعضهم فريضة، وعندنا قيام ليس بسنّة ولا فريضة، ولكنه مستحب قال عليه السلام: «خصصت بصلاة الليل» . قال: وصلاة النهار ركعتان ركعتان أو أربع أربع، ويكره أن يزيد على ذلك وإن زاد لزمه، واعلم بأن هنا أحكام ثلاثة الجواز والكراهية والأفضلية، أما الكراهية، فالزيادة على الثمان في صلاة الليل بتسليمة مكروه، والزيادة على الأربع في صلاة النهار بتسليمة مكروه؛ لأن السنّة في صلاة الليل وردت إلى الثمان، وفي صلاة النهار إلى الأربع وما وردت بالزيادة، فيكره الزيادة على ذلك لعدم ورود السنّة. فإن قيل: وردت السنّة في صلاة الليل بالزيادة على الثمان، فإنه روي (70أ1) «أنه كان يصلي بتسليمة واحدة تسعاً» ، وروي إحدى عشر وروي ثلاثة عشر، قلنا: ما روي أنه عليه السلام صلى تسعاً بتسليمة، فتأويله أن الثلاث كان وتراً وست ركعات، لصلاة الليل وما روي أنه عليه السلام أنه صلى إحدى عشر ركعة، فثلاث منها كان وتراً وثمان ركعات لصلاة الليل وما روي أنه عليه السلام كان يصلي ثلاث عشر، ثلاث منها كان وتراً وركعتان للفجر وثمان ركعات للتطوع قال الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله هذا التفسير، منقول عن النبي عليه السلام غير مستخرج من تلقاء أنفسنا؛ وهذا لأن في ابتداء الأمر كان النبي عليه السلام يوصل صلاة الليل بالوتر والوتر بركعتي الفجر صار الوتر واجباً، فصل من صلاة الليل والوتر وبين الوتر وركعتي الفجر، فاستقرت الشريعة على ثمان ركعات بتسليمة واحدة في صلاة الليل، فنكره الزيادة عليها؛ لأنه خلاف السنّة، لكن لو صلى يجوز لأن الكراهية لا تمنع الجواز كالصلاة في الأوقات المكروهة، فأما الكلام في الأفضلية، أما في صلاة الليل قال أبو حنيفة رحمه الله: الأفضل أربع ركعات بتحريمة واحدة. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي؛ الأفضل مثنى مثنى، ثم احتجوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال النبي عليه السلام «صلاة الليل مثنى مثنى» ، وفي كل ركعتين، فسلم ولأنها تطوع الليل، فيكون مثنى مثنى قياساً على التراويح في ليالي رمضان، فإن الصحابة أتفقوا على أن كل ركعتين من التراويح بتسليمة، فدل أن ذلك

أفضل؛ وهذا لأن الفصل بين الركعتين بالسلام يؤدي إلى زيادة تحريمة وزيادة تسليمة ودعاء لا يوجد ذلك إذا وصل أحدهما بالآخر، وكان الفصل بتسليمة أفضل. وأبو حنيفة رحمه الله احتج بما روي عن عائشة رضي الله عنه أنها سئلت عن قيام رسول الله عليه السلام في ليالي رمضان، فقالت: «كان قيامه في رمضان وغيرها سواء كان يصلي بعد العشاء أربع ركعات، لا تسل عن حسنهن وطولهن ثم أربعاً لا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم كان يوتر بثلاث» ، ولأن في الأربع بتسليمة واحدة معنى الوصل والتتابع في العبادة فهو أفضل، ولأن التطوع نظير الفرض، والفرض من صلاة الليل العشاء وهي أربع ركعات بتسليمة، فكذلك لك النفل. وقوله في كل ركعتين فسلم أي فتشهد، فالتشهد يسمى سلاماً لما فيه من السلام، وأما التراويح إنما جعلوا ركعتين بتسليمة، ليكون أرواح على البدن وما يشترك فيه العامة مبني على اليسر، فأما الأفضل فما هن أشق على البدن، وأما بعد الفراغ عن التراويح لو أراد أن يصلي في بيته، فإنه يصلي أربعاً بتحريمة واحدة، وإنه أفضل الأربع أدوم إحراماً، وقال عليه السلام: «أفضل الأعمال أدومها» ، وأما ما روي عن الحديث، وهو قوله عليه السلام؛ «صلاة الليل مثنى مثنى» قلنا: ما روي في رواية أربعاً أربعاً، فكليهما جائز والأربع أفضل؛ لأنه أدوم والدليل عليه أنه لو نذر أن يصلي أربع ركعات بتسليمة واحدة، فصلى بتسليمتين لا يخرج عن عهدة النذر، وحيث لا يخرج دل أن الأربع بتسليمة واحدة أفضل، وأما في صلاة النهار، فالأفضل أربع ركعات بتسليمة واحدة عندنا. وعند الشافعي بتسليمة واحدة، لما فيها من زيادة التكبير والتسليم، وحجتنا حديث ابن عمر رضي الله عنه: أن النبي عليه السلام «كان يواظب في صلاة الضحى على أربع ركعات» ؛ ولأن التطوع نظير الفرائض وفرائض النهار أربع ركعات كالظهر والعصر، فكذلك التطوع. فالحاصل: أن عند أبي حنيفة في تطوع الليل والنهار أربع ركعات أفضل، وعند الشافعي رحمه الله ركعتان فيهما أفضل وعندهما، وهو قول ابن أبي ليلى صلاة الليل مثنى أفضل، فصلاة النهار أربع أفضل، وإذا شرع في التطوع، وأراد أن يصلي ركعتين ثم بدا له أن يصلي أربعاً بتسليمة واحدة يستحب له ذلك؛ لأنه زاد خيراً. وعن أبي يوسف في «الأمالي» إذا قال الرجل: لله عليّ أن أصلي أربع ركعات، فصلى ركعتين بتسليمة ثم ركعتين بتسليمة لا يجوز، ولو نذر أن يصلي ركعتين وركعتين، فصلى أربعاً بتسليمة واحدة جاز والله أعلم.

الفصل الحادي والعشرون في التطوع قبل الفرض وبعده وفواته عن وقته وتركه بعذر وبغير عذر

الفصل الحادي والعشرون في التطوع قبل الفرض وبعده وفواته عن وقته وتركه بعذر وبغير عذر يجب أن يعلم أن التطوع قبل الفجر ركعتان اتفقت الآثار عليهما، وإنها من أقوى السنن، قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله عليه السلام: «ركعتا الفحر خير من الدنيا، وما فيها» والتطوع قبل الظهر أربع ركعات لا فصل بينهن إلا بالتشهد، يريد به أنه يصليها بتسليمة واحدة وتحريمة واحدة، ولو أدها بتحريمتين لا يكون معتداً بها عندنا، والأصل منه حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميصلي بعد الزوال أربع ركعات، يطيل فيهن القراءة، فقلت له ما هذه الصلاة التي تدوم عليها يا رسول الله، فقال: «هذه ساعة تفتح فيها أبواب السماء وما من شيء إلا وهو يسبح الله تعالى في هذه الساعة، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح» ، فقلت أفي كلهن قراءة، فقال: «نعم» فقلنا بتسليمتين أم بتسليمة واحدة، فقال: «بتسليمة واحدة» ، وبعد الظهر ركعتان لحديث عائشة رضي الله عنها، وأما قبل العصر، فإن تطوع بأربع ركعات فحسن خيره بين أن يفعل وبين أن لا يفعل؛ لأن رسول الله عليه السلام كان يفعله تارة ويتركه أخرى. والسنّة ما واظب عليها رسول الله عليه السلام، لكن لو فعل، فحسن لحديث أم حبيبة بروايتين روى شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أن رسول الله عليه السلام قال: «من صلى قبل العصر أربع ركعات كانت له جنة من النار» ، وروى شيخ الإسلام الشيخ الإمام أبو نصر الصفار: أن رسول الله عليه السلام، قال: «من صلى أربع ركعات قبل العصر حرم الله تعالى لحمه ودمه على النار» وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «من صلى قبل العصر أربع ركعات غفر الله تعالى له حتماً» ، ولا تطوع بعدها، والذي روي أن النبي عليه السلام صلى بعد العصر في بيت أم سلمة ركعتين، فقد سألته أم سلمة عنهما، فقال عليه السلام: «ركعتان بعد الظهر شغلني الوفد عنهما، فقضيتهما» فقالت أنقضيها نحن، فقال عليه السلام: «لا» .

والتطوع بعد المغرب ركعتان، بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله عليه السلام يصلي ركعتين بعد المغرب يطول فيهما القراءة، حتى يتفرق الناس» ، وعن سعيد بن جبير أنه قال: لو تركت ركعتي المغرب خشيت أن لا يغفر لي؛ ولأنه واظب عليها رسول الله عليه السلام، فكان سنّة. وأما التطوع قبل العشاء، فإن تطوع قبلها بأربع ركعات فحسن، والتطوع بعدها ركعتان وروى عمر وعائشة رضي الله عنهما، وإن تطوع بأربع بعدها، فهو أفضل لحديث ابن عمر رضي الله عنهما موقوفاً عليه ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام «من صلى بعد العشاء أربع ركعات كن كثمان من ليلة القدر» وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده، والإمام الزاهد أبو نصر الصفار؛ لأن التطوع بعد العشاء حسن، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل؛ لأنه لم ينقل إلينا أن رسول الله عليه السلام واظب عليه، والسنّة ما واظب عليه رسول الله عليه السلام. من مشايخنا من قال ما ذكر في «الكتاب» : أنه يتطوع بعد العشاء بركعتين قول أبي يوسف ومحمد، فأما على قول أبي حنيفة فالأفضل أن يصلي أربعاً، وجعل هذا القائل هذه المسألة. فرع مسألة أخرى أن صلاة الليل مثنى بتسليمة واحدة أفضل أو أربع، فعن أبي حنيفة أربع وعنهما مثنى والتطوع قبل الجمعة أربع ركعات، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله عليه السلام «كان يتطوع قبل الجمعة أربع ركعات» ، وقد اختلفوا في التطوع بعدها، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أنها أربع، وبه أخذ أبو حنيفة ومحمد، وعن علي رضي الله عنه أنه يصلي بعدها ستاً ركعتين ثم أربعاً، وروى عنه رواية أخرى أنه صلى ستاً أربعاً ثم ركعتين، وبه أخذ أبو يوسف والطحاوي، وكثير من المشايخ على هذا، قال شمس الأئمة الحلواني: الأفضل أن يصلي أربعاً ثم ركعتين، فقد أشار إلى أنه تخير بين تقديم الأربع وبين تقديم المثنى، ولكن الأفضل تقديم الأربع كيلا يصير متطوعاً بعد الفرض مثلها، وأما التطوع قبل صلاة العيد وبعدها سيأتي في باب صلاة العيد إن شاء لله تعالى. وأما سنة الضحى فقد ورد في الترغيب فيها أحاديث من ركعتين إلى إثني عشر ركعة، وفي «فتاوى الفضلي» أوكد السنن ركعتا الفجر، وهي آكد من الأربع قبل الظهر والأربع قبل الظهر آكد من ركعتي العشاء قال وركعتي الفجر، وركعتي المغرب أثر في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَرَ السُّجُودِ} (ق: 40) ، جاء في التفسير أنها ركعتا المغرب اتفق أصحابنا على أن ركعتي الفجر إذا فاتتا وحدها، بأن جاء

رجل ووجد الإمام في صلاة الفجر، فدخل مع الإمام في صلاته، ولم يشتغل بركعتي الفجر أنها لا تقضى قبل طلوع الشمس، وإذا ارتفعت الشمس لا تقضى قياساً، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وتقضى استحساناً إلى وقت الزوال، وهو (قول) محمد وإذا فاتتا مع الفرض تقضى مع الفرض إلى وقت الزوال وإذا زالت الشمس، يُقضى الفرض، ولا تقضى السنّة، فمن مشايخنا رحمهم الله من قال: لا خلاف في الحقيقة، لأن عند محمد لو لم تقضَ لا شيء (70ب1) ، وعندهما لو قضى يكون حسناً. ومنهم من حقق الخلاف، وقال: الخلاف في أنه إذا قضى يكون فعلاً حسناً أو سنّة. وجه قول محمد رحمه الله: أن النبي عليه السلام قضى الفجر غداة ليلة التعريس بعد طلوع الشمس، ولهما أن السنّة إحياء طريقة رسول الله عليه السلام، والنبي عليه السلام قضاها مع الفرض، في ليلة التعريس لا بدون الفرض، فلا يكون في قضائها بدون الفرض إحياء طريقة رسول الله عليه السلام. وأما الأداء قبل الظهر، إذا فاتته وحدها بأن شرع في صلاة الإمام، ولم يشتغل بالأربع هل يقضيها بعد الفراغ من الظهر ما دام وقت الظهر باقياً؟ فقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: لا يقضهما وعامتهم على أنه يقضيها، وهكذا روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله، وهو الصحيح، فقد روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه السلام «كان إذا فاته الأربع قبل الظهر» ، فقضاها بعد الظهر ثم اختلفت العامة، فيما بينهم، إن هذا يكون سنّة أو نفلاً مبتدأً، وهكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله، وبعضهم قالوا: يكون سنّة، وهكذا روي عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وهو قول إبراهيم النخعي وهو الأظهر، فإن عائشة رضي الله عنها أطلقت عليه اسم القضاء حيث قالت: قضاها بعد الظهر. ثم كيف يأتي بها قبل الركعتين أو بعد الركعتين، فعلى قياس قول من يقول بأن الأربع نفل مبتدأ، يقول يأتي بها بعد الركعتين؛ لأنه لو أتى قبل الركعتين تفوته الركعتان عن وقتها، وعلى قياس من يقول بأنها سنّة، يقول بأنه يأتي بها قبل الركعتين؛ لأن كل واحد منهما سنّة إلا أن إحداهما فائتة والأخرى وقتية، ولو كان عليه قضاءان وأحدهما فائت والآخر وقتي بدأ بالفائت أولاً، كذا ها هنا، وسائر النوافل إذا فاتت عن وقتها لا تقضى بالإجماع سواء فاتت مع الفرض أو بدون الفرض، هذا هو المذكور في ظاهر الرواية. وكان الفقيه أو جعفر الهندواني يقول في ركعتي المغرب أن يقضيها، ذكره في «غريب الرواية» . وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل ترك سنن الصلوات الخمس إن لم ير السنن حقاً فقد كفر، وإن رأى السنن حقاً منهم من قال لا يأثم، والصحيح أنه يأثم. وفي «النوازل» إذا ترك السنن إن تركها بعذر فهو معذور وإن تركها بغير عذر لا يكون معذوراً ويسأله الله تعالى عن تركها، والله أعلم.

ومما يتصل بهذا الفصل بيان الأماكن التي يؤتى فيها بالسنن. يجب أن يعلم بأن السنّة في ركعتي الفجر أن يأتي بهما الرجل في بيته، فإن لم يفعل، فعند باب المسجد إذا كان الإمام يصلي في المسجد، فإن لم يمكنه ذلك، ففي المسجد الخارج إن كان الإمام في الداخل، وفي الداخل إن كان الإمام في الخارج، وإن كان المسجد واحداً، فخلف أسطوانة أو نحو ذلك، ويكره أن يصلي خلف الصفوف بلا حائل، وأشدها كراهة أن يصلي في الصف مخالطاً للقوم، وهذا كله، إذا كان الإمام والقوم في الصلاة، فأما قبل الشروع في الصلاة إذا أتى بها في المسجد في أي موضع شاء لا بأس به. فأما السنن التي بعد الفرائض، فلا بأس بالإتيان بها في المسجد في المكان الذي يصلي فيه الفريضة، والأولى أن يتنحى خطوة أو خطوتين والإمام ينأى عن المكان الذي يصلي فيه الفريضة لا محالة. وفي «الجامع الصغير» : إذا صلى الرجل المغرب في المسجد بالجماعة يصلي ركعتي المغرب في المسجد إن كان يخاف أنه لو رجع إلى بيته يشتغل بشيء، وإن كان لا يخاف، فالأفضل أن يصلي في بيته لقوله عليه السلام: «خير صلاة الرجل في المنزل إلا المكتوبة» . وفي «شرح الآثار» للطحاوي أن الركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب يؤتى بهما في المسجد، فأما ما سواهما، فلا ينبغي أن يصلي في المسجد، وهذا قول البعض والبعض يقولون التطوع في المساجد حسن، وفي البيت أفضل، وبه كان يفتي الفقيه أبو جعفر، وكان يتمسك بقوله عليه السلام: «نوروا بيوتكم بالصلاة، فلا تجعلوها قبوراً» ، وكان يقول كانت جميع السنن والوتر لرسول الله عليه السلام في بيته. وذكر شمس الأئمة الحلواني في «شرح كتاب الصلاة» إن من فرغ من الفريضة في المسجد في الظهر والمغرب والعشاء، فإن شاء صلى التطوع في المسجد وإن شاء رجع فتطوع في منزله. ومما يتصل بهذا الفصل أيضاً إذا صلى ركعتين في آخر الليل ينوي بهما ركعتي الفجر، فإذا تبين أن الفجر لم يطلع لم يجزئه عن ركعتي الفجر، وكذلك إذا وقع الشك في طلوع الفجر في الركعتين أو وقع الشك في إحدى الركعتين أنها وقعت قبل طلوع الفجر لم يجزئه ذلك عن ركعتي الفجر، ولو صلى بعد طلوع الفجر ركعتين بنية التطوع كان ذلك عن ركعتي الفجر، هكذا حكي عن الفقيه أبي جعفر.

وذكر الحسن في كتاب الصلاة أنه لا يكون عن ركعتي الفجر، ولو صلى ركعتين بنية التطوع وهو يظن أن الليل باقٍ، فإذا تبين أن الفجر قد كان طلع ذكر القاضي الإمام علاء الدين محمود المفتي في «شرح المخلفات» أنه لا رواية في هذه المسألة، وقال المتأخرون تجزئه عن ركعتي الفجر، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني في «شرح كتاب الصلاة» : ظاهر الجواب أنه يجزئه عن ركعتي الفجر؛ لأن الأداء أصل في الوقت، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجوز وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله بهذا، وهذه الرواية تشهد أن السنّة تحتاج إلى النية، وفي بعض الروايات أن على قول أبي حنيفة: لا يجزئه عن ركعتي الفجر، وعلى قولهما تجزئة. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل دخل مسجداً قد صلى فيه، فلا بأس بأن يتطوع قبل المكتوبة ما بدا له في الوقت يريد بهذا إذا كان الوقت متسعاً، وإذا ضاق تركه، من مشايخنا من قال أراد بقوله. لا بأس بأن يتطوع قبل المكتوبة التطوع قبل العصر والعشاء، دون الفجر والظهر؛ لأن سنّة الفجر واجبة، وفي سنّة الظهر وعيد معروف قال عليه السلام: «من ترك الأربع قبل الظهر لم تنله شفاعتي» . ومنهم من قال؛ لا بل أراد به الكل، فالإنسان متى صلى صلاة المكتوبة، وحده عن غير جماعة لا بأس بأن يأتي سنة الفجر والظهر، فلا بأس بأن يتركهما؛ لأن النبي عليه السلام لم يأت بهما إلا عند أداء المكتوبة بالجماعة، فإذا أتى بهما إذا صلى وحده لم يكن أتى بسنّة رسول الله، وعن الحسن بن زياد أنه قال فيمن تفوته الجمعة، فصلى في مسجد بيته إنه يبدأ بالمكتوبة ولا يتطوع، وهو إشارة إلى ما قلنا، والقول الأول أظهر، والأخذ به أحوط. ومما يتصل بهذا الفصل أيضاً رجل انتهى إلى الإمام والناس في صلاة الفجر إن خشي أن تفوته ركعة من الفجر بالجماعة، ويدرك ركعة صلى سنّة الفجر ركعتين عند باب المسجد، ثم دخل المسجد فيصلي مع القوم، وإن خاف أن تفوته الركعتان جميعاً دخل مع القوم في صلاتهم.g الأصل في هذا أن تكبيرة الافتتاح خير من الدنيا وما فيها، وكذلك سنّة الفجر لهما فضيلة عظيمة، قال عليه السلام: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» ، والمراد سنّة الفجر، وقال عليه السلام في ركعتي الفجر: «صلوهما فإن فيهما الرغائب» ، ومهما أمكن الجمع بين الفضيلتين لا يترك أحدها، فإذا كان يدرك ركعة من الفجر مع الإمام أمكنه إجزاء الفضيلتين، فإنه إذا صلى ركعتي الفجر، فقد أحرز فضيلتهما، وإذا أدرك مع

الإمام ركعة، فقد أدرك ركعة واحدة مع الإمام حقيقة وأدرك الركعة الأخرى، فعنى قال عليه السلام: «من أدرك ركعة من الفجر، فقد أدركها» فدل أنه أمكن الجمع بين الفضيلتين، فلا يترك إحداهما أو يقول لو ترك ركعتي الفجر، فاتته فضيلتها أصلاً، ولو اشتغل بهما ثم دخل مع الإمام ينال ثواب أصل الصلاة بالجماعة أنها تفوته كماله، فكان هذا أولى، وقد صح أن رسول الله عليه السلام «خرج إلى حيين من أحياء العرب ليصلح منهم لشيء بلغه منهم، واستخلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فلما رجع وجده في الصلاة، فدخل منزله وصلى ركعتي الفجر ثم خرج وصلى معه» ، عبد الله بن مسعود دخل المسجد، فوجد الإمام في صلاة الفجر، فقام خلف سارية وصلى ركعتي الفجر، ثم صلى مع الإمام. وإذا خاف أن تفوته الركعتان جميعاً لو اشتغل بالسنّة دخل مع القوم في صلاتهم؛ لأنه تعذر إحراز الفضيلتين، فيجوز أهمهما، وإحراز فضيلة الجماعة أهم من إحراز فضيلة ركعتي الفجر؛ لأنه إن ورد في ركعتي الفجر، وعد الثواب على الإتيان بها لم يرد الوعيد على قولهما، وورد الوعيد على ترك الجماعة، فكان إحراز فضيلة الجماعة أولى. ثم فرَّق بين صلاة الفجر وبين صلاة الظهر، فقال في صلاة الفجر: إذا كان يدرك ركعة من صلاة الإمام يصلي ركعتي الفجر، وفي صلاة الظهر قال شرع في صلاة الإمام على كل حال، وإنما كان كذلك؛ إذ ليس الأربع قبل الظهر من الفضيلة بالجماعة، فيشتغل بالجماعة إحرازاً لأهم الفضيلتين، فأما لركعتي الفجر من الفضيلة ماللجماعة (71أ1) ، فقلت بأنه يأتي بركعتي الفجر إذا كان يرجو إدراك الركعة مع الإمام إحرازاً للفضيلتين. ثم ذكر في الكتاب إذا كان يرجو إدراك ركعة من الفجر مع الإمام يأتي بركعتي الفجر، ولم يذكر ما إذا كان يرجو إدراك القعدة مع الإمام صريحاً، هل يشتغل بركعتي الفجر؟ وأشار إلى أنه يدخل مع الإمام، فإنه قال: إذا خشي أن تفوته الركعتان مع الإمام دخل في صلاة الإمام، وبه أخذ بعض المشايخ. بخلاف ما إذا كان يرجو إدراك ركعة من الفجر مع الإمام؛ لأن هناك بإدراك ركعة من الفجر يصير مدركاً للفجر حكماً؛ فإن رسول الله عليه السلام قال: «من أدرك ركعة من الفجر فقد أدركها» ولم يقل: من أدرك الإمام في القعدة، فقد أدركها، فلا يصير بإدراك القعدة مدركاً للفجر حكماً، ومنهم من قال على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجب أن يشتغل بركعتي الفجر إذا كان يرجو إدراك الإمام في التشهد، وعلى قياس قول محمد يدخل في صلاة الإمام، ولا يشتغل بركعتي الفجر. أصل المسألة إذا أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد يصير مدركاً للجمعة عندهما،

وعند محمد رحمه الله لا يصير مدركاً لها، فأبو حنيفة وأبو يوسف جعلا هناك إدرك الإمام في التشهد كإدراك الركعة في حق إدراك الجمعة، فكذلك في حق هذا، ومحمد رحمه الله لم يجعل هناك إدراك الإمام في التشهد كإدراكه في حالة القيام في حق إدراك الجمعة، كذلك في هذا. ثم إن محمداً رحمه الله ذكر في «الجامع الصغير» إذا انتهى الرجال إلى الإمام، والإمام في صلاة الفجر إن خشي أن تفوته ركعة، ويدرك ركعة من الفجر يصلي ركعتي الفجر ويدخل مع القوم في صلاتهم وذكر في كتاب الصلاة إذا انتهى إلى الإمام والإمام يريد أن يأخذ في الإقامة، وقد اختلفوا فيه قال بعضهم هذا، وذلك سواء، ويشتغل بركعتي الفجر في الحالين إذا كان يرجو إدراك ركعة مع الإمام، وقال بعضهم: إذا انتهى إلى الإمام، والإمام في الصلاة يشتغل بركعتي الفجر إذا كان يرجو إدراك ركعة مع الإمام، وأما إذا أراد الإمام أن يأخذ في الإقامة، يدخل في صلاة الإمام؛ لأن في الصورة الأولى تكبيرة الافتتاح فاتته حقيقة، وفي الصورة الثانية تكبيرة الافتتاح ما فاتته حقيقة، فلو دخل في صلاة الإمام يحرز فضيلة تكبيرة الافتتاح حقيقة، وفضيلة الجماعة، فكان هذا أولى، ومن سوى بين الحالين يقول في الصورة الثانية إن كان يحرز فضيلة تكبيرة الافتتاح حقيقة تقوم فضيلة ركعتي الفجر، وإذا اشتغل بركعتي الفجر يحرز فضيلة ركعتي الفجر، ويحرز فضيلة تكبيرة الافتتاح معنى وكان هذا أولى، والله أعلم. (فصل في الرجل يشرع في صلاة ثم أقيمت تلك الصلاة أو يشرع في النفل ثم أقيمت الفرض أو يدخل في مسجد قد أذن فيه إذا صلى رجل ركعة من الظهر ثم أقيمت الظهر في ذلك المسجد يقطعها، ويدخل مع القوم. يجب أن يعلم بأن نقض العبادات مقصوداً بغير عذر حرام، النقض لأداء ما هو فوقه جائز؛ لأنه ليس بنقض معنى، بل هو إكمال، فيجوز كهدم المسجد للإصلاح، وكنقص الظهر يوم الجمعة لأداء الجمعة، قلنا: والصلاة بجماعة ضرب مزية على الصلاة منفرداً، قال عليه السلام: «صلاة الرجل بجماعة تفضل على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين درجة» ، وفي رواية «بسبع وعشرين درجة» ، فيجوز نقض الصلاة منفرداً لإحراز الجماعة؛ لأن هذا النقص وسيلة إلى ما فوقه، ولكن هذا إذا لم تثبت شبهة الفراغ عن صلاة منفرداً، فأما إذا ثبت شبهة الفراغ لا ينقضها؛ لأن العبادة بعد الفراغ عنها لا تقبل البطلان إلا بالردة.

إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسألة التي ذكرناها، والجواب فيها ما ذكرنا، وإنما يقطعها ويدخل مع القوم إحرازاً لفضيلة الجماعة، ولكن يضيف إليها ركعة أخرى؛ لأنه يمكنه إحراز الجماعة مع إحراز النفل بإضافة ركعة أخرى إلى الركعة الأولى حتى تصير شفعاً، فإن التطوع شرع شفعاً لا وتراً، ومهما أمكن إحراز العبادتين لا يصار إلى إبطال إحداهما، وإن كان في الركعة الأولى قائماً لم يتمها بعد حتى أقيمت الظهر ماذا يصنع؟ يمضي في صلاته أو يقطع للحال، هذا الفصل في «الكتاب» وقد اختلف المشايخ بعضهم قالوا: يقطعها للحال؛ لأن هذا القدر ليس له حكم فعل الصلاة، ألا ترى أن من حلف لا يصلي لم يحنث بهذا القدر، وإلى هذا القول مال الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزودي، فإن فعل ما أدى، إن لم يكن له حكم فعل الصلاة، فهو قربة، وفي القطع إبطال القربة والجماعة سنّة، فلم يكن إبطال القربة أولى من مراعاة السنّة؟ توضيحه: أنه لو شرع في التطوع فأقيمت الظهر، وهو قائم في الركعة الأولى، فهنا كذلك يجب، قلنا: هذا إبطال صورة، لكنه وسيلة إلى ما هو أكمل منه فيكون حكمه حكم الكمال، كمن صلى وسهى فيها وكان ذلك أول ما سهى يقطعها ويستقبل الصلاة؛ لأنه يقطعها ليؤدي أكمل منه، فكذلك هنا. بخلاف النفل؛ لأن ذلك القطع ليس للتكميل، فلا يجوز، وقال بعضهم: لا يقطع، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن إبراهيم الميداني إذا سئل عن هذه المسألة تارة يفتي بالمضي، وتارة يفتي بالقطع، فقيل له لم لا يثبت الشيخ على قول واحد، فقال: إن قلبي لا يثبت على شيء واحد فكيف يثبت قولي، وإذا لم يقطع على قول هؤلاء ماذا يصنع؟ اختلفوا فيما بينهم. قال بعضهم: يخفف إذا شرع المؤذن في الإقامة، ويتم الصلاة، وقال بعضهم: يصلي ركعتين ثم يقطع، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وإن كان قد صلى من الظهر ركعتين، وقام إلى الثالثة ثم أقيمت الظهر فإن لم يقيد الثالثة بالسجدة قطعها ولم يسجد؛ لأنه لو سجد لا يمكنه النقض بعد ذلك لما نبين (بعد هذا) إن شاء الله تعالى. ثم اختلف المشايخ بعد ذلك، قال بعضهم هو بالخيار إن شاء عاد فقعد وسلم ودخل في صلاة الإمام، وإن شاء كبّر قائماً ينوي الدخول في صلاة الإمام. وبعضهم قالوا يعود إلى التشهد لا محالة ويسلم، وإلى هذا مال شمس الأئمة السرخسي؛ لأنه أراد بالخروج عن صلاة معتد بها والخروج عن صلاة معتد بها لم يشرع إلا بالقعدة، ثم إذا عاد إلى القعدة على قول من يقول اختلفوا فيما بينهم أنه هل يقرأ التشهد ثانياً أم لا، بعضهم، قالوا يقرأ؛ لأن القعدة الأولى لم تكن قعدة ختم، وقال بعضهم يكفيه التشهد الأول؛ لأن بالعود إلى القعدة يرتفض القيام؛ لأن ما دون الركعة محل الرفض فحين عاد إلى القعدة ارتفضت هذه الركعة، وجعلت، كأنها لم توجد أصلاً، فكانت هذه القعدة غير القعدة الأولى، وقد تشهد فيها، فلا يتشهد مرة أخرى ثم يسلم تسليمتين عند بعض المشايخ؛ لأنه تحلل من التحريمة، فيكون بتسليمتين، وعند بعضهم

يسلم تسليمة واحدة؛ لأن التسليمة الثانية للتحلل، وهذا قطع من وجه؛ لأن التحلل في ذات الأربع لم يشرع على رأس الركعتين، وبعضهم قالوا: لا يعود إلى التشهد لا محالة؛ لأن القعدة شرط التحلل، وهذا قطع وليس بتحلل؛ لأن التحلل في الظهر لا يكون على رأس الركعتين، لكن يقطع بالسلام قائماً. وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح هذا الكتاب في هذا الفصل: أنه لو لم يعد إلى القعدة وسلم قائماً تفسد صلاته، قال رحمه الله: وهكذا فسر في «النوادر» وإن كان قد قيد الثالثة بالسجدة أتمها؛ لأن الثلاث أكثر الصلاة وللأكثر حكم الكل، فالآتي بها كالآتي بكل الصلاة، فثبتت شبهة الفراغ، ولو ثبتت حقيقة الفراغ لا يقبل البعض، فكذا إذا وجدت شبهة الفراغ، فإذا أتمها إن شاء دخل مع الإمام بنية التطوع. وإن شاء لم يدخل؛ لأن ما يؤدي مع الإمام تطوع له، والناس في التطوعات بالخيار، ولكن الأفضل أن يدخل في صلاة الإمام، ويكون ما صلى مع الإمام تطوعاً؛ وهذا لأن التطوع بعد الظهر مشروع لو خرج من المسجد، ولم يصل مع الإمام ربما يتهم أنه ممن لا يرى الجماعة، فلهذا يدخل مع الإمام. وقد ورد في عين هذه الصورة نص، وهو ما روي أن رسول الله عليه السلام فرغ من الظهر، فرأى رجلين في أخريات الصفوف، لم يصليا معه، فسألهما عن ذلك فقالا كنا صلينا في رحالنا، فقال: عليه السلام: «إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما صلاة قوم، فصليا معهم، واجعلا صلاتكما معهم سبحة» ، أي: نافلة، وإن أراد أن يكون فرضه أصلياً مع الإمام، فالحيلة له أن لا يقعد في الرابعة من صلاته التي أداها وحده، ويصلي الخامسة والسادسة فيصير ذلك نفلاً له، ويكون فرضه ما صلى مع الإمام، وكذلك الحكم في صلاة العشاء؛ لأن التنفل بعد العشاء مشروع. فإن قيل: أليس إن أدى النفل بجماعة خارج رمضان مكروه. قلنا: نعم، ولكن إذا كان (71ب1) الإمام والقوم مؤدّون النفل أما إذا أدى الإمام الفرض والقوم النفل لا بأس به بدليل ما روينا من الحديث وأما في العصر لا يدخل في صلاة الإمام بعدما أتم صلاته؛ لأن النفل بعد العصر مكروه، وفيما عدا هذا الحكم العصر نظير العشاء، ونظير الظهر. ولو كان في صلاة الفجر، وقد صلى ركعة منها ثم أقيمت الفجر في ذلك المسجد قطعها إحرازاً لفضيلة الجماعة، كذلك إذا قام إلى الثانية، ولم يقيدها بسجدة قطعها؛ لأنه لو قيد بالسجدة، لا يمكنه القطع بعد ذلك؛ لأنه يصير....... وثبتت شبهة الفراغ منها، فلو كان في المغرب وقد صلى ركعة منها ثم أقيمت في ذلك المسجد قطعها،

وكذلك إذا قام (إلى) الثانية ولم يقيدها بسجدة قطعها؛ لأنه لو قيدها بالسجدة لا يمكنه القطع بعد ذلك؛ لأنه يصير...... لأكثر. وإن قيدها الثانية بالسجدة أتمها، فلا يشرع في صلاة الإمام بعدما أتمها؛ لأنه لو شرع لا يخلو إما أن يسلم على رأس الركعتين أو يسلم مع الإمام على رأس الثالثة أو يقوم، فيضيف إليها ركعة أخرى حتى يصير أربعاً لا وجه أن يسلم على رأس الركعتين؛ لأنه يصير مخالفاً لإمامه ومخالفة الإمام مكروه، قال عليه السلام: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه» ولا وجه أن يسلم مع الإمام على رأس الثالثة؛ لأنه يصير متنفلاً بثلاث ركعات غير مشروع، ولا وجه إلى أن نضيف إليها ركعة أخرى لتصير أربعاً؛ لأنه يصير متنفلاً بأربع ركعات، وقد قعد على رأس الثالثة، وإنه مكروه. وعن أبي يوسف له قال الأحسن أن يدخل مع الإمام، ويصلي أربعاً يصلي ثلاث ركعات مع الإمام. وإذا فرغ الإمام قام وأتم الرابعة أكثر ما فيه أن فيهن نوع تغيير إلا أن هذا التغيير، إنما وقع بسبب الاقتداء، والتغيير بسبب الاقتداء لا بأس به، كمن أدرك الإمام في السجدة، فإنه يتابعه فيها، والسجود قبل الركوع غير مشروع، وكمن أدرك الإمام في القعدة، فإنه يتابعه فيها، والقعدة قبل أداء الأركان ليس بمشروع، فعلم أن التغيير إذا وقع بسبب الاقتداء لا بأس به، وعندنا إن دخل في صلاة الإمام فعل كما قال أبو يوسف. وعن أبي يوسف نظرية أخرى أنه يدخل في صلاة الإمام، ويسلم على رأس الثالثة مع الإمام؛ لأن هذا تغير وقع في التطوع بسبب الاقتداء، فلا يكون به بأس كما إذا صلى الظهر وحده أولاً، ثم يدخل في هذا الظهر مع الإمام، وترك الإمام للقراءة في الأخريين، فإنه يجوز صلاة المقتدي وهذه الصلاة تطوع في حق المقتدي، وإذا تطوع منفرداً على هذا الوجه لا يجوز، ولكن لما كان هذا تغيير بسبب الاقتداء لم يكن به بأس. وإذا صلى الظهر في بيته يوم الجمعة ثم صلى الجمعة مع الإمام فالجمعة فريضة، ويصير الظهر نفلاً له، فهذا؛ لأنه مأمور بالسعي إلى الجمعة، قال الله تعالى: {فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة: 9) ، ويعد أداء الظهر في بيته هذا الأمر؟ وكان مفترضاً في أداء الجمعة لا متطوعاً، ولا يجتمع فرضان في وقت واحد، فمن ضرورة كون الجمعة فرضاً ينقلب ما أداها قبلها تطوعاً، بخلاف سائر الأيام، فإن في سائر الأيام لو صلى الظهر في بيته، ثم شرع فيها مع الإمام، فإن الأولى تكون فرضاً، والثانية تطوعاً؛ لأن بعد أداء الظهر في سائر الأيام في بيته لا يبقى مخاطباً بشهود الجمعة في تلك الصلاة، فإذا شهد ما كان متنفلاً بها. يوضح الفرق بينهما: أن الجمعة عبادة مقصودة بنفسها، وليست بتبع للظهر، فلا تسقط بأداء الفرض، فأما الجمعة تبع للظهر؛ لأنه وصف للظهر، فإذا سقط الأصل سقط التبع ضرورة، وأما إذا شرع في النفل ثم أقيمت الفريضة وهو قائم في الركعة الأولى لا يقطع بالاتباع، ولكن يتم ذلك بالشفع، ويدخل في الفرض.

وإن كان في الأربع قبل الظهر، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: الجواب فيها كالجواب في الظهر من أولها إلى آخرها؛ لأن حرمته لا تكون فوق حرمة الظهر، وقال بعضهم يتمها أربعاً؛ لأنه بمنزلة صلاة واحدة، حتى إن الشفيع إذا انتقل إلى الشفع الثاني بعدما أخبر بالبيع لا يبطل خياره، فعلم أنها بمنزلة صلاة واحدة، وبمنزلة شفع واحد. والفرق بين الظهر وبين هذه ظاهر؛ لأن القطع في الظهر إنما شرع ليؤديها على أكمل الوجوه، وها هنا لو قطعها لا يعيدها على أكمل الوجوه؛ لأنها فائت من وقتها، فلا يكون الثاني مثل الأول فضلاً عن الزيادة، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: كنت أفتي زماناً أنه يتم الأربع هنا حتى وجدت رواية عن أبي يوسف أنه يسلم على رأس الركعتين، فرجعت عن ذلك، فإن قطعها قضى على ركعتين عند أبي حنيفة ومحمد، وعلى قياس قول أبي يوسف يقضيها أربعاً كما في سائر التطوعات إذا شرع فيها ينوي أربع ركعات، وأفسدها يلزمه قضاء ركعتين عندهما، وعند أبي يوسف يلزمه قضاء الأربع، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله يفتي في سنّة الظهر أنه يقضيها أربعاً متى قطعها في أي حال قطعها، وكان يقول في سائر التطوعات عندهما: إنما تقضى بركعتين؛ لأن كل شفع من التطوع في حكم صلاة على حدة. ألا ترى أن فساد الشفع الثاني لا يوجب فساد الشفع الأول، فلا يعتبر شارعاً في الشفع الأول قبل الفراغ من الشفع الأول، ووجوب القضاء حالة الإفساد لصيانة ما أدى، وإلا لم يصر شارعاً في الشفع الثاني قبل الفراغ من الشفع الأول، وكان الإفساد في حق الشفع الثاني امتناعاً لا إفساداً ولا يلزمه قضاء الشفع الثاني، وهذا المعنى للثاني في سنّة الظهر؛ لأنها بمنزلة صلاة واحدة بدليل ما ذكرنا من مسألة الشفعة، وخيار المخيرة، ألا ترى أن في سائر التطوعات تبطل الشفعة، والخيار بالانتقال إلى الشفع الثاني بعد العلم بالبيع والخيار، وفي سنّة الظهر لا تبطل، فعلم أنها بمنزلة واحدة، والتقريب ما ذكرنا، وكذلك إذا شرع في الأربع قبل الجمعة. ثم افتتح الخطيب الخطبة، هل يقطع؟ فيه اختلاف المشايخ، منهم من قال يصلي ركعتين ويقطع، ومنهم من قال يتم أربعاً، وبه كان يفتي الصدر الشهيد برهان الأئمة رحمه الله، قال محمد رحمه الله في رجل دخل مسجداً قد أذن فيه كره له أن يخرج حتى يصلي. اعلم بأن هذه المسألة على وجهين: أما إن كان هذا الرجل قد صلى تلك الصلاة أو لم يصل؛ فإن لم يصل، وكان هذا المسجد مسجد حيه، لقوله عليه السلام: «لا يخرج من المسجد أحد إلا منافق أو رجل يخرج لحاجة يريد الرجعة» ، ولأنه دعي إلى صلاة عليه فيلزمه طاعة الله تعالى عند سماع النداء بالإجابة. توضيحه: أنه إذ خرج من المسجد يلزم الدخول ثانياً، لأداء الصلاة بالجماعة، فلا يفيد الخروج من المسجد، وما لا يفيد لا يرد الشرع به، ولأنه يتهم بترك الصلاة، وقد

قال عليه السلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يقفن مواقف التهم» وأما إذا كان المسجد مسجداً آخر، فإن كان أهل مسجده قد صلوا في مسجده لا ينبغي له أن يخرج أيضاً لما روينا من الحديث، فإنه مطلق، ولما ذكرنا من المعنى، فإنه لا يجب الفصل بين مسجد ومسجد. وإن كان أهل مسجده لم يصلوا فيه فقد اختلف المشايخ فيه. بعضهم قالوا: إن خرج ليصلي في مسجد حيه، فلا بأس فيه؛ لأن لمسجد حيه عليه حقاً، وإن صلى في ذلك فلا بأس به، والأفضل أن يصلي في ذلك المسجد لما ذكرنا، وبعضهم قالوا: إن كان هذا الرجل يقوم بأمر الجماعة في مسجده كإمام أو مؤذن وتتفرق الجماعة بسبب غيبته لم يكره له الخروج استحساناً، صيانة للجمع في مسجد حيه، هذا إذا لم يصل الرجل تلك الصلاة، وإن كان صلى تلك الصلاة لا بأس بأن يخرج قبل أن يأخذ المؤذن في الإقامة؛ لأن الأذان دعاء لمن لم يصلِ، فلا يعمل في حق من صلى، فإذا أخذ المؤذن في الإقامة، ففي الظهر والعشاء لا يخرج، وشرع في صلاة الإمام، فيجعلها تطوعاً؛ لأن التطوع بعدهما مشروع، وفي العصر والفجر يخرج، ولا يشرع في صلاة الإمام؛ لأن التطوع بعدهما ليس بمشروع، وكذلك في المغرب لا يدخل في صلاة الإمام لما ذكرنا من المعنى، والله أعلم. ومما يتصل بهذا الفصل رجل له مسجد في محلته أراد أن يحضر المسجد الجامع لكثرة جمعه لا ينبغي له أن يحضر، الصلاة في مسجده أفضل قل أهل مسجده أو كثر لأن لمسجده حقاً عليه، وليس لذلك المسجد عليه حق ليترجح كثرة الجمع، ومنها أن المؤذن إذا لم يكن حاضراً لا ينبغي للقوم أن يذهبوا إلى مسجد آخر، بل يؤذن بعض القوم ويصلي، وإن كان واحداً؛ لأن لمسجده عليه حقاً، فلا يجوز تركه من غير ضرورة. ومنه مسجد إن أراد الرجل أن يصلي في أحدهما صلى في أقدمهما بناءً؛ لأن له زيادة حرمة، فإن كانا منزلة منهما ويصلي في أقربهما، وإن استويا فهو مخير؛ لأنه لا ترجيح لأحدهما على الآخر، وإن كان قدم أحدهما أكثر، فإن كان هو فقيهاً يذهب إلى الذين قومه أقل ليكثر جمعه بسببه، وإن لم يكن فقيهاً يذهب حيث أحب ذكر الصدر الشهيد هذه المسائل في «واقعاته» . قال في «الجامع الصغير» : في تحية المسجد بركعتين: إنها ليست بواجبة، وهذا مذهب علمائنا، وقال الشافعي، إنها واجبة، حجته: قوله عليه السلام: «من دخل مسجداً، فليحيه بركعتين» والأمر للوجوب، وإن قول النبي عليه السلام كما أمر، فقد ذكر التحية، وإنه يدل على عدم الوجوب، فيحمل الأمر على الندب ليكون عملاً بلفظة الأمر، والتحية جميعاً، والله تعالى أعلم (72أ1) .

الفصل الثالث عشر في التراويح والوتر مسائل التراويح تشتمل على أنواع:

الفصل الثالث عشر في التراويح والوتر مسائل التراويح تشتمل على أنواع: النوع الأول في بيان صفتها وكميتها وكيفية أدائها أما الكلام في صفتها، فنقول: التراويح سنّة هو الصحيح من المذهب، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليه نصاً، والدليل على أنها سنّة قوله عليه السلام: «إن الله تعالى فرض عليكم صيامه وسننت لكم قيامه» ، وقد صح أنه عليه السلام أقامها في بعض الليالي، وبين العذر في ترك المواظبة عليها، وهو خشية أن تكتب علينا ثم واظب عليها الخلفاء الراشدون، وقال عليه السلام: «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي» ، وقال عليه السلام في حديث سلمان؛ «إن الله تعالى فرض عليكم صيامه وسن لكم قيامه» ، فهذا الخبر يشير إلى أنه سنّة الله، ومعناه: موضع الله ومرضاته وإنها سنة الرجال والنساء جميعاً ما روى عرفجة بن عبد الله الثقفي عن علي رضي الله عنه، بدليل أنه كان يأمر النساء بصيام رمضان، وكان يجعل للرجال إماماً وللنساء إماماً، قال عرفجة: فأمرني فكنت إماماً للنساء. وعن هشام بن عروة عن أبي مكية أن عائشة رضي الله عنها أعتقت ديجون عن دين، مكان قومها ومن معها في رمضان في المصحف، وقال أبو حنيفة رحمه الله لم يرد ذلك، فإنه روى في إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال: كانوا يكرهون أن يؤم الوصل في المصحف، لما فيه من الشبه باليهود. وأما الكلام في كمها، فنقول إنها مقدرة العشرين ركعة عندنا والشافعي رحمه الله، وعند مالك رحمة الله عليه أنه مقدرة بست وثلاثين ركعة اتباعاً لعمر وعلي رضي الله عنهما، فإن قاموا بما قال مالك بالجماعة، فلا بأس به عند الشافعي، وعندنا يكره بناءً على أن التنفل بجماعة.......، والمكروه عندنا خلافاً للشافعي رحمه الله، وإن أتوا ما على العشرين إلى تمام ست وثلاثين فرادى، فلا بأس به وهو مستحب. وأما الكلام في كيفيته أدائها، روي الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما أن الإمام يصلي بالقوم ويسلم في كل ركعتين، وكلما يصلي ترويحة ينتظر بعد الترويحة قدر ترويحة، وينتظر بعد الترويحة الخامسة قدر ترويحة ويوتر بهم والانتظار بين كل

ترويحتين مستحب بقدر ترويحة عند أبي حنيفة رحمه الله. وعليه عمل أهل الحرمين، غير أن أهل مكة يطوفون بين كل ترويحتين أسبوعاً، وأهل المدينة يصلون بدل ذلك أربع ركعات، وأهل كل بلدة بالخيار يسبحون أو يهللون أو ينتظرون سكوتاً، وهل يصلون؟ اختلف المشايخ، ومنهم من كره ذلك فكان أبو القاسم الصفار وإبراهيم بن يوسف، وخلف وشداد رحمهم الله، لا يكرهون ذلك، وكان إبراهيم بن يوسف يقولون: ذلك حسن جميل، وأما الانتظار والاستراحة على رأس خمس تسليمات، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يكره، وعامتهم على أنه يكره؛ لأنه يخالف أهل الحرمين. وإذا صلى كل تسليمة إمام على حدة حتى يصير لكل ترويحة إمامان، فقد جوزه وبعض المشايخ. وعامتهم على أنه مكروه، وينبغي أن يؤدي كل ترويحة إمام على حده، وهو عمل أهل الحرمين وغيرهم. نوع آخر في بيان أن الجماعة ذكر الطحاوي في اختلاف العلماء عن المعلى، عن أبي يوسف رحمهما الله أنه قال: من قدر على أن يصلي في بيته كما يصلي مع الإمام في شهر رمضان، فأحب إليّ أن يصلي في بيته، وذكر نحوه عن مالك، وكان الشافعي رحمه الله يقول في القائم صلاة المنفرد في قيام رمضان أحب إليّ. أن قال الطحاوي رحمه الله: وقد قال قوم: إن الجماعة في ذلك أفضل، منهم عيسى بن أبان رحمه الله، وقد ذكر الطحاوي في «مختصره» استحب له أن يصلي التراويح في بيته، إلا أن يكون فقيهاً عظيماً يقتدى به، ويكون في حضوره ترغيب لغيره في الامتناع عن الحضور تقليل الجماعة، فحينئذٍ (لا) يستحب له أن يصلي في بيته ينبغي أن يحضر المسجد. وفي «نوادر هشام» قال سألت محمداً رحمه الله عن القيام في شهر رمضان في المسجد أحب إليك أم في البيت؟ قال: إن كان عمله يقتدى به فصلاته في المسجد أحب إليّ، وقال أبو سليمان كان محمد بن الحسين رحمه الله يصلي مع الناس التراويح ويؤم ثم يرجع، وهكذا كان يفعل أبو مطيع وخلف وشداد وإبراهيم بن يوسف رحمهم الله، فمن المشايخ من قال: من صلى التراويح منفرداً كان تاركاً للسنّة، وهو مسيء، وبه كان يعني ظهير الدين المرغيناني رحمه الله لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقدر ما صلى التراويح صلى بجماعة، وهكذا نقل عن الصحابة رضون الله عليهم، ومن المشايخ من قال يكون تاركاً لفضيلة، فلا بأس به، فقد صح عن ابن عمر وسالم ونافع أنهم كانوا ينصرفون، ولا يقومون، فدل عن الجماعة، وليست السنّة ولكن المشايخ على أن إقامتها بالجماعة سنّة على سبيل ثبوته حتى لو ترك أهل مسجد كلهم إقامتها بالجماعة، فقد أساؤوا وتركوا السنّة. وإن أقيمت التراويح بالجماعة في المسجد و........، وزاد الناس وصلى

في بيته، فقد ترك الفضيلة، ولم يكن مسيئاً، وإن صلوا بالجماعة في البيت، فقد اختلف المشايخ فيه، والصحيح أن للجماعة في البيت نصيبه؟...... فضيلة أخرى، فهذا قد جاء إحدى الفضيلتين وترك الفضيلة الزائدة. ولو أن إماماً يصلي التراويح في مسجدين في كل مسجد على الكنار لا يجوز؛ لأنه لو؟....... هكذا حكي عن أبي بكر الإسكاف رحمه الله، ثم قال أبو بكر، سمعت أبا نصر يقول يجوز لأهل كل المسجدين، قال أبو الليث رحمه الله: قول أبو بكر أحب إليّ، وذكر القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله فمن صلى العشاء والتراويح والوتر في مسجد، ثم أم قوماً آخرين في التراويح ونوى الإمامة كره له، ولا يكوه للمأمومين. ولو لم ينوِ الإمامة وشرع في الركوع، فاقتدى الناس لم يكره لواحد منهما، والمقتدي إذا صلى في مسجدين لا بأس به؛ لأن اقتداءه في المسجد الثاني يكون اقتداء المتطوع بمن يصلي السنّة، ولكن ينبغي أن يوتر في المسجد الثاني، هكذا حكي عن الفقيه أبي القاسم رحمه الله معناه لا يوتر في المسجد الأول، ويوتر في المسجد الثاني. ولو صلى التراويح ثم أرادوا أن يصلوا....... يصلون فرادى. نوع آخر في بيان وقت التراويح قال الشيخ الإمام الزاهد إسماعيل المستملي، وجماعة من متأخري مشايخ بلخ رحمة الله عليهم إلى وقت طلوع الفجر وقت إنهاء بعد العشاء قبل الوتر وبعد الوتر؛ لأنها مقام الليل فوقتها الليل. وقال كافة مشايخ بخارى رحمة الله عليهم: وقتها ما بين العشاء والوتر، فإن صلاها قبل العشاء، أو بعد الوتر لم يؤدها في وقتها، وأكثر المشايخ على أن وقتهما ما بين العشاء إلى طلوع الفجر، حتى لو صلاها قبل العشاء لا تجوز، ولو صلاها (72ب1) بعد الوتر يجوز؛ لأنها نوافل سنّت بعد العشاء، فأشبهت التطوع المسنون بعد العشاء في غير شهر رمضان، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: هذا القول يصح قال القاضي الإمام هذا أراد مشايخ بلدتنا تقديم التراويح على العشاء، لتعجيل الناس العشاء في ليالي رمضان؛ لأجل التراويح مخافة أن يقع العشاء قبل الوقت، لكن كرهوا مخالفة السلف. وفي «الفتاوى» : إمام صلى العشاء بغير وضوء وهو لا يعلم، ثم صلى بهم إمام أخر التراويح ثم علموا، فعليهم أن يعيدوا العشاء والتراويح، وهذا الجواب في التراويح على قول من يقول أن وقت التراويح ما بين العشاء إلى آخر الليل.

نوع آخر في نية التراويح إذا نوى التراويح أو سنة الليل (أو) الوقت، أو قيام الليل في النيتين يجوز وصار كما إذا نوى الظهر أو فرض الوقت، فإنه يجوز وإن نوى صلاة مطلقة، أو نوى تطوعاً فحسب، اختلف المشايخ فيه، ذكر بعض المتقدمين أنه لا يجوز؛ لأنها سنّة والسنّة لا تتأدى بنية التطوع أو بنية الصلاة المطلقة روى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما ذلك في ركعتي الفجر، أو يقول: هذه الصلاة مخصوصة كالمكتوبات، فلا تتأدى بمطلق النية ولا بنية التطوع كالمكتوبات، وأكثر المتأخرين على أن التراويح وسائر السنن تتأدى بمطلق النية، لأنها نافلة لكن واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم والنوافل تتأدى بمطلق النية، والاحتياط في التراويح أن ينوي التراويح، أو بنية الوقت أو قيام الليل، وفي سائر السنن الاحتياط أن ينوي الصلاة متابعاً لرسول الله عليه السلام. ولو صلى التراويح بنية الفوائت من صلاة الفجر لم تكن محتسبة في التراويح........ ليشترط النية في كل شفع، فقد اختلف المشايخ فيه. نوع آخر في بيان قدر القراءة في التراويح اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم؛ يقرأ في كل ركعة كما يقرأ في المغرب؛ لأن التراويح أخف من أخف المكتوبات، وقال بعضهم: يقرأ في كل ركعة كما يقرأ في العشاء، وقال بعضهم: يقرأ في كل ركعتين في عشرين أية إلى مائتين. وعن أبي حنيفة رحمة الله عليه: أنه يقرأ في كل ركعة عشر آيات. والحاصل: أن السنّة الختم في التراويح مرة، والختم مرتين فضيلة، والختم ثلاث مرات في كل عشر مرة أفضل؛ لأن كل عشر من رمضان مميز مخصوص، والختم مرة يقع بقراءة عشر آيات في كل ركعة؛ لأن عدد ركعات التراويح في ثلاثين ليلة ستمائة، وآيات القرآنستة آلاف وشيء، فيكون في كل ركعة عشر آيات والختم مرتين يقع بقراءة عشرين آية في كل ركعة والختم ثلاث مرات يقع بقراءة ثلاثين آية في كل ركعة. قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمة الله عليه، إذا قرأ بعض القرآن في سائر الصلوات بأن كان القوم الختم في التراويح، فلا بأس به. ويكون لهم ثواب الصلاة، ولا يكون لهم ثواب الختم. وسئل أبو بكر الإسكاف رحمه الله عن الإمام في شهر رمضان أيجرد للفريضة قراءة على حدة، أو يخلط قراءة الفرض بقراءة التراويح؟ قال سهل إلى ما هو أخف للقوم. وسئل أيضاً: عن الإمام إذا فرغ من التشهد هل يزيد عليها أو يقتصر، قال؛ إن علم

أن ذلك لا يمل القوم يزيد في الصلوات والاستغفار ما شاء. وإن علم أنه يثقل على القوم لا يزيد. قالوا: ويكره للإمام إذا ختم في التراويح أن يقرأ الإمام في ركعة واحدة إذا علم أن القوم يملون، وكذا يكره له أنه يعجل، ويختم القرآن في ليلة إحدى وعشرين إذا علم أن القوم يملون. قال مشايخ بخارى: وينبغي للإمام إذا أراد الختم أن يختم في ليلة السابع والعشرين، أكثره ما جاء في الأخبار فيها أنها ليلة القدر، وإذا غلط في القراءة في التراويح، فترك سورة أو آية وقرأ ما بعدها، فالمستحب له أن يقرأ المتروكة ثم المقروءة ليكون قد قرأ القرآن على نحوه وإذا فسد شفع وقد قرأ فيه هل يعتبر بما قرأ؟ اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يعتد ليكون الختم في صلاة صحيحة، وقال بعضهم: إذا فسد شفع وقرأ..... يعتد؛ لأن المقصود هو القراءة ولا فساد في القراءة؛ وإذا ختم القرآن، فله أن يبدأ من حيث شاء بقية الشهر. قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله، وإذا ختم في التراويح مرة وصلى العشاء يقية الشهر من غير تراويح يجوز من غير كراهة؛ لأن التراويح ما شرعت بحق نفسها بل لأجل القراءة فيها، فالسنّة هو الختم مرة وقد ختم مرة، فلو أمرناه بالتراويح بعد ذلك أمرناه بهابحق نفسها وإنها ما شرعت بحق نفسها. وعن هذا قلنا: إن في النساء من كانت قارئة تصلي عشرين ركعة في كل ليلة وتختم القرآن في الشهر مرة، ومن لم تكن قارئة منهن تصلي ستاً وثمانياً وعشراً. قال القاضي الإمام هذا رحمه الله: إذا كان إمامه يخلط لا بأس بأن يترك مسجده ويطوف، وكذلك إذا كان غيره أخف قراءة وأحسن صوتاً، وهذا يبين أنه إذا كان لا يختم في مسجد حيّه يطوف. وما ذكر الصدر الشهيد رحمه الله أنه إذا كان يقرأ في مسجد حيه قدر المسنون لا يترك مسجد حيه لم يتضح في معناه. ومما يتصل بهذا النوع أن الفضل تعديل الصراط بعد التسليمات، هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما وبنحوه ورد الأثر عن عمر رضي الله عنه وإن خالف هذا، فلا بأس؛ لأن السنّة هي الختم، وإنها لا تفوت بترك التعديل، وأما في التسليمة الواحدة، فلا يستحب تطويل الركعة الثانية على الركعة الأولى، كما في سائر الصلوات، أما تطويل الركعة الأولى على الركعة الثانية فقد قيل لا بأس به، من غير ذكر خلاف، وقد قيل ذكر يجب أن..... المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمه الله لا يطول.

بل يسوي وقال محمد رحمه الله: يستحب تطويل الأولى كما في الظهر والعصر والعشاء. نوع آخر في القوم يصلون التراويح قعوداً اعلم بأن هذا النوع على وجوه: الأول: أن يصلي الإمام والقوم جميعاً التراويح قعوداً من غير عذر، والكلام فيه في موضعين في الجواز وفي الاستحباب. أما الكلام في الجواز فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يجوز؛ لأنها سنّة فصار كركعتي الفجر، وقال بعضهم: يجوز وهو القائل بفرق بين التراويح وبين سنّة الفجر. والفرق: أن هذه نافلة لم تختص بزيادة تأكيد، فأشبهت سائر النوافل بخلاف ركعتي الفجر. وعلى قول من يقول بالجواز يكون ثوابه على نصف ثواب القائم، هكذا حكي عن القاضي الإمام أبي علي النسفي رحمه الله، وأيضاً الكلام في الاستحباب بلا خلاف أنه لا يستحب؛ لأنه (73أ1) خلاف المتوارث، وخلاف عمل السلف. الوجه الثاني: أن يصلي القوم والإمام جميعاً قعوداً بعذر، وإنه جائز بغير كراهة، والكلام فيه ظاهر. الوجه الثالث: أن يصلي الإمام التراويح قاعداً بعذر أو بغير عذر، واقتدى به قوم قيام، والكلام فيه في موضعين أيضاً، في الجواز والاستحباب، أما الكلام في الجواز فقد اختلف المشايخ فيه: قال بعضهم على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا يجوز بناءً على اختلافهم في اقتداء القائم بالقاعد في الفرض. ومنهم من قال يجوز الاقتداء إجماعاً، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمة الله عليه هو الصحيح، وإذا صح الاقتداء على الوفاق على قول هؤلاء هل يستحب للقوم القيام؟ اختلفوا فيما بينهم، قال بعضهم: لا يستحب احترازاً عن صورة المخالفة، وقال بعضهم عن قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمة الله عليهما يستحب القيام، وعلى قول محمد يستحب القعود. وذكر أبو سلمان عن محمد رحمهما الله: في رجل أم قوماً في رمضان جالساً أيقومون؟ يعني القوم قال: نعم في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، فبعض مشايخنا قالوا: إن محمداً خص قول أبي حنيفة وأبي يوسف في بيان حكم الجواز، يعني على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: يجوز لقوم أن يصفوا قياماً، والإمام قاعد وتخصص قولهما في بيان حكم الجواز دليل على أنه لا يصح اقتداؤهم به عند محمد رحمة الله عليه، وبعض مشايخنا قالوا خص قوليهما في بيان حكم الاستحباب يعني يستحب لهم القيام عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وعند محمد رحمه الله لا يستحب، وهذا لأن عند محمد رحمه الله الاختلاف بين الإمام والقوم في القيام والقعود اختلاف معتبر حتى يمنع الفرض من الجواز، فيمنع النفل في الاستحباب أيضاً.

نوع آخر فيما إذا صلى ترويحة واحدة أو أكثر أو أقل بتسليمة واحدة. يجب أن يعلم بأن هذه المسلة على وجهين: الأول: أن يقعد على رأس الركعتين، في هذا الوجه اختلاف المشايخ، قال بعض المتقدمين: لا يجزئه إلا عن تسليمة واحدة، وقال بعض المتقدمين، وعامة المتأخرين: إنه يجزئه عن تسليمتين، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: لأنه أكمل ولم يجد بشيء إنما جمع المتفرق، واستدام التحريم، وإنه لا يؤثر في المنع في الجواز. ألا ترى أن من أوجب على نفسه أن يصلي أربع ركعات بتسليمتين فصلى أربعاً بتسليمة واحدة، وقعد على رأس الركعتين يجوز عن جميع ما أوجبه على نفسه، كذا ها هنا. روى ذلك أصحاب «الأمالي» عن أبي يوسف رحمة الله عليه. ولو صلى ستاً أو ثمانياً بتسليمة واحدة، وقعد على رأس كل ركعتين لم يجزئه إلا عن ركعتين في قول بعض المتقدمين، وبعض المتقدمين وعامة المتأخرين الذين قالوا بالجوار عن تسليمتين إذا صلى أربعاً وقعد على رأس الركعتين اختلفوا فيما بينهم، عامتهم على أنه يجزئه كل ركعتين عن تسليمه تسليمتين؛ لأنه أكمل كل ركعتين بالقعود في آخرهما، وسائر الأفعال والتسليم قطع، وخروج، وليس بمقصود. وقال بعضهم: متى صلى عدداً بتسليمة واحدة، وهي مستحبة في صلاة الليل، وكل ركعتين من ذلك يجزىء عن تسليمة واحدة، ومتى صلى بتسليمة واحدة عدداً بعضها مستحبة في صلاة الليل، وبعضها غير مستحبة في صلاة الليل فإنما يجزئه عن القدر المستحب؛ لأنه في الزيادة مسيء، فكيف ينوب..... عن التراويح وما كان في..... اختلاف كان في هذا اختلاف أيضاً. فعلى هذا إذا صلى ستاً أو ثمانياً بتسليمة واحدة، وقعد على رأس كل ركعتين قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: يجزئه عن تسليمتين؛ لأن عندهما الزيادة على الأربع في صلاة الليل بتسليمة واحدة مكروهة، فلا تنوب الزيادة عن التراويح، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: فيما إذا صلى ستاً يقع ذلك عن ثلاث تسليمات باتفاق الروايات؛ لأن عنده إلى الست بتسليمة واحدة لا تكره باتفاق الروايات. وفيما إذا صلى ثمانياً يقع عن أربع تسليمات على ما ذكر في «الأصل» وعلى ما ذكر في «الجامع الصغير» يقع عن ثلاث تسليمات، وعلى ما قاله بعض المشايخ: إنه ليس في المسألة اختلاف الروايتين، ولكن طول في الأصل وأوجز في «الجامع» يجوز عن أربع تسليمات. ولو صلى عشر ركعات بتسليمة وقعد في كل ركعتين، فعلى قولهما: يجوز عن أربع ركعات، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله في الروايات الظاهرة يجوز عن أربع تسليمات؛

لأن ما زاد على الثماني ليس بمستحب عنده باتفاق الروايات الظاهرة، وعلى قول العامة وهو الصحيح يجوز عن خمس تسليمات كل ركعتين عن تسليمة. ولو صلى التراويح كلها بتسليمة واحدة، وقعد على رأس كل ركعتين، فعندهما يجزئه عن أربع ركعات، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: يجوز عن ثماني ركعات وعلى قول عامة المشايخ: يجوز على كل ركعتين عن تسليمة عن أبي حنيفة رحمه الله. ولو صلى أربعاً بتسليمة واحدة، ولم يقعد على رأس الركعتين، ففي هذا الوجه القياس، وهو قول محمد رحمه الله وزفر وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمهم الله: إنه تفسد صلاته، ويلزمه قضاء هذه الترويحة. وفي الاستحسان وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، وهو المشهور، وقول أبي يوسف رحمه الله: يجوز، ولكن يجوز عن تسليمة واحدة، وعن تسليمتين، وقال بعضهم: عن تسليمتين، وبه أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله، وهكذا كان يفتي الشيخ الإمام أبو عبد الله الخيزاخزي رحمه الله، وكان يقول التراويح سنّة مؤكدة، فكان كسنّة الظهر. ولو صلى سنّة الظهر أربعاً، ولم يقعد على رأس الركعتين أجزأه عن الأربع، كذا ههنا، وكان الفقيه أبو جعفر الهنداوي رحمه الله يقول: يجزئه عن تسليمة واحدة، وبه كان يفتي الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله. قال القاضي الإمام أبو علي النسفي قول الفقيه أبي جعفر والشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أقرب إلى الاحتياط، فكان الأخذَ بالاحتياط، فكان الأخذ به أولى فهكذا اختار الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله، وعليه الفتوى. فهذا لأن القعدة على رأس الثانية في التطوع فرض، فإذا تركها كان ينبغي أن تفسد صلاته أصلاً، كما هو وجه القياس. وإنما جاز استحساناً، فأخذنا بالقياس، فقلنا بفساد الشفع الأول، وأخذنا بالاستحسان في حق بقاء التحريمة. وإذا بقيت التحريمة صح الشروع في الشفع الثاني، وقد أتمهما بالقعدة فجاز عن تسليمة واحدة. وعن أبي بكر الإسكاف رحمه الله: أنه سئل عن رجل قام إلى الثالثة في التراويح، (73ب1) ولم يقعد على رأس الثانية، قال: إن تذكر في القيام، فينبغي أن يعود إلى القعدة فيعود ويسلم، وإن تذكر بعد ما ركع الثالثة وسجد، فإن أضاف إليها ركعة أخرى كانت هذه الأربعة عن تحريمة واحدة، ورأيت في نسخة فيما إذا صلى أربعاً بتسليمة واحدة، ولم يقعد على رأس الركعتين إن على قول أبي حنيفة رحمه الله: يجوز عن تسليمتين، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يكون عن تسليمة واحدة.

وأما إذا صلى ثلاثاً بتسليمة واحدة، إن قعد على رأس الثانية يجرئه عن تسليمة واحدة، وعليه قضاء ركعتين؛ لأنه شرع في الشفع الثاني وصح الشروع فيه، وقد أفسده فيجب عليه قضاء الشفع الثاني. وإن لم يقعد على رأس الثانية، ساهياً أو عامداً لا شك أن صلاته باطلة قياساً، وهو قول محمد وزفر وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمهم الله في المشهور، وهو قول أبي يوسف رحمهما الله اختلف المشايخ، قال بعضهم: يجزيه عن تسليمة، وقال بعضهم: لا يجزيه أصلاً، وكذلك الاختلاف في غير التراويح في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الثالثة قد صحت حيث حكم بصحة التحريمة إن قعد في آخر الصلاة، ولم يكملها بضم أخرى إليها فيلزمه القضاء، وعلى قول من يقول: لا يجزئه الثلاثة أصلاً لزمه قضاء الأوليين، وهل يلزمه؛ لأجل الثالثة شيء؟ إن كان ساهياً لا شيء عليه، لأنه شرع في مظنون. وإن كان عامداً لزمه ركعتان في قول أبي يوسف لبقاء التحريمة، وفي قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يلزمه شيء؛ لأن التحريمة قد فسدت حين لم يقعد على رأس الثالثة، ولم يأتِ بالرابعة، فإذا قام إلى الثالثة، فقد قام إليها بتحريمة فاسدة، وذلك موجب القضاء عند أبي يوسف رحمه الله، وعند أبي حنيفة لا في الصحيح من مذهبه. فعلى هذا إذا صلى التراويح....... تسليمات كل تسليمة ثلاث ركعات، ولم يقعد على رأس الركعتين، فعلى جواب القياس، وهو قول محمد وزفر رحمه الله: عليهما وهو رواية عن أبي حنيفة رحمة الله عليه قضاء التراويح كلها، ولا شيء عليه سوى ذلك. وأما قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. فعلى قول من يقول: إذا صلى ثلاث ركعات لا غير بتسليمة واحدة يجزئه عن تسليمة واحدة أجزأه هنا عن التراويح كلها، ولا شيء عليه إن كان قام ساهياً، وإن كان قام عامداً فعليه قضاء عشرين ركعة، وعلى قول من يقول: لا يجزئه الثلاث عن تسليمة واحدة عليه قضاء التراويح كلها، ولا شيء عليه سوى ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله كيف ما كان. وفي قول أبي يوسف رحمه الله: إن كان ساهياً فهو كذلك، وإن كان عامداً فعليه مع التراويح قضاء عشرين ركعة أخرى أيضاً. وإذا صلى التراويح كلها ثلاثاً ثلاثاً يصلي إحدى وعشرين ركعة بسبع تسليمات، كل تسليمة ثلاث ركعات، ولم يقعد على رأس الركعتين ساهياً رأيت في نسخة «مجموع النوازل» : أن عليه قضاء ركعتين لا غير عندهما، وعند محمد رحمه الله يعيد التراويح كلها، ولا يلزمه بالقيام إلى الثالثة شيء قال ثمة: والصحيح قولهما؛ لأنه لما صلى ثلاثاً ولم يقعد في الثانية وسلم ساهياً على رأس الثالثة فهذا السلام لم يخرجه عن حرمة الصلاة، ولو قام وكبّر وصلى ثلاث ركعات صار ست ركعات قد قعد في آخرهن فقام مقام ثلاث تسليمات، ثم الثلاث....... لهذه التسليمة عما عليه، فكان عليه قضاء الركعتين وثلاث وثلاث هكذا، فتصير ثماني عشرة ركعة قائمة مقام تسع تسليمات بقي

عليه تسليمة واحدة، فإذا صلى ثلاث ركعات وترك القعدة على رأس الركعتين من هذا الوجه حتى لو تذكر، وضم إلى الثالثة ركعة أخرى جاز ترويحه، ولا شيء عليه. نوع آخر في الشك في التراويح إذا سلم الإمام في ترويحة، فاختلف القوم عليه قال بعضهم: صلى ثلاثاً وقال بعضهم: صلى ركعتين، قال أبو يوسف رحمه الله يأخذ الإمام بعلم نفسه، ولا يدع علمه بقول غيره، وقال محمد رحمة الله عليه: يقبل قول غيره، ويكتمل بقول من معه. وإن كانوا أقل، وكذلك إذا وقع الاختلاف بين الإمام، وجميع القوم، وإن شك الإمام فأخبره عدلان يأخذ بقولهما. وإذا شك أنه صلى عشر تسليمات، أو تسع تسليمات اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يعيدون تسليمة؛ لأن الزيادة على التراويح ليست بمشروعة، وقال بعضهم: عليهم أن يعيدوا تسليمة بالجماعة، وليس في هذا زيادة على التراويح بجماعة، بل هو إتمام التراويح، فالزيادة على التراويح إن يتموا التراويح، ثم يصلوا ويريدوا الزيادة بنية التراويح، وها هنا يشرعون في هذه التسليمة بنية إتمام التراويح، فلا يكره. وهو نظير التطوع بعد العصر إذا شرع فيه مع العلم أنه يكره، وإذا شرع في التطوع بنية العصر، ثم علم أنه كان أذن فإنه يتم صلاته، ولا يكره كذا هنا. وقال بعضهم: يريدون، ولا...... تسليمة أخرى احترازاً عن الزيادة على التراويح. وقال بعضهم: يصلون تسليمة واحدة فرادى، حتى يقع الاحتياط من بعد السنّة بتمامها، ويقع الأخير من غيره إذ النافلة غير التراويح في الجماعة، وهو الصحيح. نوع آخرإذا صلى التراويح مقتدياً بمن صلى مكتوبة أو نافلة غير التراويح اختلف المشايخ فيه، منهم من بنى هذا الاختلاف في النية، حتى قال..... المشايخ: إن التراويح لا تتأدى إلا بنيتها نقول ها هنا لا يصح؛ لأنها لو كانت لا تتأدى إلا بنيتها منه لا تتأدى بنية إمامه، وهي تخالف نيته، ومن قال بأنها تتأدى من غير نيتها بل بنية مطلقة يجب أن يقول بصحة الاقتداء هاهنا، ومنهم من قال: لا يصح، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله، وهو الأظهر والأصح. وعلى هذا الخلاف إذا لم يسلم من العشاء حتى بنى عليه التراويح الصحيح: إنه لا يصح، وهذا أظهر؛ لأنه مكروه وعلى هذا الخلاف إذا بناها على السنة بعد العشاء الصحيح أنه لا يصح. وكذلك لو كان الإمام يصلي التراويح واقتدى به رجل، ولم ينوِ التراويح، ولا صلاة للإمام لا يجوز، كما لو اقتدى رجل يصلي المكتوبة فنوى الاقتداء به، ولم ينوِ

المكتوبة ولا صلاة للإمام لا يجوز وفي التراويح للقاضي الإمام أبو علي (74أ1) النسفي رحمه الله: رجل صلى العشاء بمنزله ثم أتى مجسداً، ووجد الإمام في الصلاة ظن أنه في التراويح، فاقتدى به ثم ظهر أنه في العشاء، قال هذا متنفل اقتدى بمفترض بتحريمة، ولم يقل يجزيه عن التراويح أو عن النفل. وفي «فتاوى النسفي» : إذا ظن المقتدي أن إمامه افتتح الوتر وأتم التراويح، ونوى الوتر ثم تبين أنه في التراويح فتابعه في ذلك قال: يجوز عن شفع يتأدى بنية النفل، هكذا: ونحوه في «فتاوى النسفي» وقد ذكرنا في قصد النية أن التراويح لا تتأدى إلا بنية التراويح، أو بنية سنّة الوقت أو قيام الليل في شهر رمضان عن بعض المشايخ. وفي التراويح للقاضي الإمام أبي علي النسفي رحمه الله: إذا اقتدى الإمام في التراويح ينوي العشاء، بأن لم يأت لسنّة العشاء حتى قام الإمام إلى التراويح أجزأه. وإذا اقتدى في التسليمة الأولى أو الثانية ثم يصلي التسليمة الخامسة أو السادسة، اختلف المشايخ فيه، قال الصدر الشهيد رحمه الله؛ فالصحيح أنه يجوز قال؛ لأن الصلاة واحدة ونية الأولى أو الثانية لغو الأولى أنه لو نوى الثالثة بعد الأولى لم يكن إلا الثانية. وألا ترى أنه لو اقتدى في الركعتين بعد الظهر، فمن يصلي الأربع بعد الظهر يجوز، فهذا كذلك. وإذا لم يدر المقتدي أن الإمام في التراويح أو العشاء، فنوى أنه إن كان في العشاء، فقد اقتديت به. وإن لم يكن في العشاء وكان في التراويح ما اقتديت به لا يصح الاقتداء، سواء كان في العشاء أو في التراويح. وإن نوى أنه إن كان في العشاء اقتديت به وإن كان في التراويح أيضاً اقتديت، فظهر أنه كان في التراويح أو في العشاء صح الاقتداء، وإذا فاتته ترويحة أو ترويحتان، وقام الإمام إلى الوتر يتابعه في الوتر أم يأتي بما زاد فإنه من الترويحات؟ فقد اختلف مشايخ زماننا فيه. وذكر في «واقعات الناطفي» عن أبي عبد الله الزعفراني أنه يوتر مع الإمام، ثم يقضي ما فاته من الترويحات. نوع آخر في إمامة الصبي في التراويح جوزها أكثر علماء خراسان، ولم يجوزها مشايخ العراق، وفي «الفتاوى» عن نصر بن يحيى قال: لا بأس بأن يؤم الصبي في شهر رمضان، إذا بلغ عشر سنين يعني في التراويح، وقال أحمد بن سلمة رحمه الله: إنه لا يجوز، وعن محمد بن مقاتل رحمه الله: أنه قال: يجوز في التراويح خاصته. وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما يؤم عائشة رضي الله عنها في التراويح، وإنه صبي، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: يفتي بالجواز وكان شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: يفتي بعدم الجواز، وكان يقول الإمام ضامن والصبي لا يصلح

للضمان، ولأن صلاة القوم صلاة حقيقية، وصلاة الصبي ليست حقيقية، ولا يجوز بناء الحقيقي على غير الحقيقي، فعلى..... لو أن هذا الصبي أم صبياً.... وفي «المنتقى» : لو أن قوماً صلوا خلف صبي لا تجوز صلاتهم؛ لأنهم يصلون للتقيد لا تقيد فيما ينفله الصبي، ولهذا قلنا إن الصبي لو أحرم ثم بلغ لا يمضي على إحرامه. نوع آخرإذا فاتت التراويح عن وقتها هل تقضى؟ اختلف المشايخ فيه قال بعضهم يقضي ما لم يدخل وقت تراويح آخر، وقال بعضهم: يقضي ما لم يمضِ رمضان، وقال بعضهم: لا يقضي أصلاً وهو الأصح؛ لأن التراويح ليست بأكثر من في السنّة بعد المغرب والعشاء، وهي لا تقضى، فهذا أولى. والدليل عليه: أنها لا تقضى بالجماعة بالإجماع، ولو كانت تقضى لقضيت كما فانت، فإن قضاها منفرداً كان نفلاً مستحباً كسنّة المغرب إذا قضيت. وفي «الفتاوى» ، من ترك السنّة سئل عن تركها وإذا فاتت عن وقتها لا يؤمر بالقضاء، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: من ترك السنّة بعذر، فهو معذور في تركه بغير عذر، فهو غير معذور، وإذا تذكرها في الليلة الثانية أنه فسد عليهم شفع سنّته الأولى، فأرادوا أن يقضوا يكره لهم؛ لأنهم لو قضوا بنية التراويح تزيد على تراويح هذه الليلة، وإنه مكروه. نوع آخر في المتفرقات إمام شرع في الوقت على ظن أنه...... التراويح، فلما صلى ركعتين تذكر أنه ترك تسليمة يسلم على رأس الركعتين، لم يجزىء ذلك عن التراويح؛ لأنه ما صلى بنية التراويح، ويكره للمقتدي أن يقعد في التراويح، فإذا أراد الإمام أن يركع يقوم؛ لأن هذا إظهار للكاسد في الصلاة والتشهد كالمنافقين، قال الله تعالى {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} (النساء: 142) وكذلك إذا غلبه النوم يكره له أن يصلي، بل ينصرف حتى يسقط لأن في الصلاة مع النوم تهاوناً وغفلة وترك تقيد. وكذا لو صلى على السطح في شدة الحر، لقوله تعالى {قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا بفقهون} (التوبة: 81) ، وكذا يكره أن يضع يديه على الأرض عند القيام، بل يقوم بواحدة؛ لأن وضع اليد على الأرض تشبه بالمنافقين، إلا أن لا يستطيع، فحينئذٍ لا يكره، ويكره عد الركعات في التراويح لما فيه من إظهار الملالة، ولا يصلي تطوعٌ بجماعة إلا قيام رمضان، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجده إلا مكتوبة» ، ولو كان أداء النافلة بالجماعة لكان أداؤها في المسجد أفضل،

كما في المكتوبة، ولأن الجماعة لإظهار السعاية، فيختص بالمكتوبات فأما قيام رمضان، فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي المسجد..... الحديث، واستشهاد عمر رضي الله عنه الصحابة رضوان الله عليهم أن يجمع الناس على قارىء فلم يخالفوه، فجمعهم على أبي بن كعب، فدل ذلك على جوازه فباعده، فردوه إلى الأصل وحكي من الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن التطوع بالجماعة إذا صلوا التطوع...... سبيل التداعي أما إذا اقتدى واحد بواحد لا يكره، وإذا اقتدى ثلاثة بواحدة، ذكر هو رحمه الله: أن فيه اختلاف المشايخ، قال بعضهم: يكره وقال بعضهم: لا يكره. وإذا اقتدى أربعة بواحد يكره بلا خلاف. (فصل في الوتر) جئنا إلى مسائل الوتر: ذكر القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: أن الوتر بالجماعات أحب إليّ في رمضان، قال وأجاز علماؤنا رحمهم الله: أن يوتر في منزله في رمضان كما اجتمعوا على التراويح فيها بعمر رضي الله عنه كان يؤمهم فيها في رمضان، وأبي بن كعب كان لا يؤمهم فيها. والوتر ثلاث ركعات عندنا. وقال الشافعي إن شاء أوتر بركعة أو ثلاث أو خمس أو سبع أو إحدى عشرة، لقوله عليه السلام: «من شاء أوتر بركعة، ومن شاء أوتر بثلاث أو بخمس» . ولنا ما روي عن عائشة رضي الله عنها وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم: أن النبي عليه السلام «أوتر بثلاث ركعات» ، وقال الحسن أجمع المسلمون أنه يصلى الوتر (74ب1) ثلاث ركعات لا يسلم إلا في آخرهن، وما روى الخصم محمول على ما قبل استقرار الوتر، وإنها سنّة عن أبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهما وعن أبي حنيفة رحمه الله في الوتر ثلاث روايات، في رواية هي واجبة، وفي رواية قال هي سنّة وفي رواية هي فرض. وفي الصحيح أنها واجبة عنده، ومعنى قولنا إنه فرض عنده أنها فرض عملاً لا اعتقاداً حتى إن جاحده لا يكفر، ومعنى قوله على رواية: إنها سنّة أن وجوبه ثلاث بالسنّة. حجة أبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهما في المسألة قوله عليه السلام: «ثلاث كتبت علي ولم تكتب عليكم الوتر والضحى والأضحى» ، وفي رواية: «خصصت بثلاث وهي لكم سنّة الوتر الضحى والأضحى» ؛ ولأن هذه صلاة لم يشرع لها أذان ولا

إقامة، ولا جماعة ولا يشرع لها وقت على حدة وشرعت القراءة في الركعات، وكل ذلك إبانة كونها سنّة. ولأبي حنيفة رحمه الله ما روي عن..... رضي الله عنه خرح علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّممستبشراً وقال: «إن الله تعالى زادكم صلاة على صلواتكم الخمس ألا وهي الوتر، فحافظوا عليها» فالاستدلال بها من وجهين: أحدهما: أن النبي عليه السلام سمى الوتر زيادة، والزيادة من جنس المزيد عليه، لا يقال زادني الثمر إذا وهب. والثاني: أمر بالمحافظة عليها، والأمر للوجوب، وما روي من الحديث محمول على الابتداء، وإنما لم يشرع لها أذان وإقامة وجماعة؛ لأن هذه الأشياء شرعت فيما هو فرض عملاً واعتقاداً والوتر عندنا، فرض عملاً لا اعتقاداً، ولأنه شرع باسم الزمان، فلا يلحق بالأصل في حق الشرائط، وإنما شرعت القراءة في الكل لأنها سنّة عملاً، فأوحينا القراءة في الكل احتياطاً على أنه يجوز أن تجب القراءة في الفريضة في جميع الركعات احتياطاً، فإن من دخل في صلاة إمام قد سبقه بركعتين وأحدث الإمام، واستخلف هذا المسبوق يجب عليه أن يقرأ في هاتين الركعتين، وإذا أتم صلاة الإمام..... يستخلف أحداً أدرك أول الصلاة حتى يسلم بهم، يقوم ويصلي ركعتين بقراءة فهذه صلاة فريضة مع ذلك افترضت القراءة فيها في جميع الركعات. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف رحمه الله، قال: سمعت أبا حنيفة رحمه الله يقول: الوتر فريضة واجبة فقد جمع بين صفة الفرضية وصفة الوجوب، والواجب عند أهل الفقه غير الفريضة. والجواب: أنها فريضة عملاً لا علماً، وواجبة علماً، وتفسيره أن من نفى فرضيته لا يكفر أو نقول بين بقوله واجبة أن وجوبها لم يثبت بطريق قطعي، كسائر الواجبات في اليوم والليلة. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: الوتر سنّة واجبة قيل في طريق الجمع بين السنّة والواجب إنه أراد بالسنّة الطريقة بمعنى قوله الوتر سنّة واجبة ووجوب الوتر طريقة مسنونة. وقيل أراد به بيان الطريق الذي عرفنا وجوب الوتر به؛ لأن وجوب الوتر ما عرف إلا بالسنّة، ففي القولين استناد إلى أن الوتر واجبة عند أبي يوسف رحمه الله، وإنه خلاف المشهور من قوله. وفي «النوازل» : أهل قرية اجتمعوا على ترك الوتر آذاهم الإمام وحبسهم، فإن لم

يمتنعوا قاتلهم، هذا الجواب ظاهر على قول أبي حنيفة، وكذلك على قولهما على ما اختاره........ بخارى رحمهم الله، فإنهم قالوا إذا اجتمع أهل البلدة على الامتناع من أداء الوتر فجواب أئمة بخارى أن الإمام يقاتلهم كما يقاتلهم على ترك الفريضة. ولو ترك الوتر حتى يطلع الفجر، فعليه قضاؤها في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله، وعن أبي يوسف رحمه الله في غير رواية «الأصول» أنه لا قضاء عليه، وعن محمد رحمه الله في غير رواية «الأصول» أحب إليّ أن يقضيها، وما ذكر في الجواب في ظاهر الرواية ظاهر على مذهب أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الوتر على مذهبه واجب، والواجب تقضى بعد فواتها يشكل على قولهما لأنها سنّة عندهما، والسنّة إذا فاتت عن وقتها لا تقضى وبهذا الفصل يستدل أبو حنيفة رحمه الله أن قضية القياس أن لا تقضى، لكن تركنا القياس بالأثر، وهو ما روي أن النبي عليه السلام قضى الوتر ليلة....... وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «من نام عن وتر أو نسيه، فليصله إذا ذكره» ، وربما تذكر بعد ذهاب الوقت، والله أعلم. ومتى قضي الوتر قضي بالقنوت؛ لأنه لا وتر بدون القنوت، فإذا وجب قضاء الوتر وجب قضاؤه بقنوته. ثم إذا أراد أن يصلي الوتر كبر وفعل بعد التكبير ما يفعل في سائر الصلوات فإذا فرغ من نوع القراءة في الركعة الثالثة كبّر ورفع يديه حذاء أذنيه ويقنت، والأصل فيه قوله عليه السلام: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن، وذكر في جملتها قنوت الوتر» . والكلام في الوتر في مواضع. أحدها: أنه لا قنوت إلا في الوتر عندنا. والثاني: أن القنوت في الوتر مشروع عندنا قبل الركوع، وعند الشافعي بعد الركوع. والثالث: أن القنوت في الوتر في جميع السنّة عندنا. وقال الشافعي لا قنوت إلا في النصف الآخر من شهر رمضان. والرابع: أن مقدار القيام في القنوت قدر سورة إذا السماء انشقت وليس فيه دعاء مؤقت؛ لأن القراءة أهم من القنوت، فإذا لم يؤقت في القراءة بشيء من الصلاة، ففي الدعاء أولى، وقد روي عن محمد رحمه الله أن التوقيت في الدعاء يذهب برقة القلب. قال بعض مشايخنا رحمهم الله: يريد بقوله ليس فيه دعاء مؤقت ليس فيه سوى قوله: اللهم إنا نستعينك دعاء مؤقت، والصحابة اتفقوا على هذا في الوتر وقال بعضم لا بل ليس فيه شيء مؤقت أصلاً مما ذكرنا والأولى أن يقأ: اللهم إنا نستعنيك ويقرأ بعده

اللهم اهدنا فيمن هديت، هكذا علم رسول الله صلى الله عليه وسلّمالحسن بن علي رضي الله عنهما. والخامس: إذا نسي القنوت حتى ركع فذكر في الركوع، ففي أصحابنا عنه روايتان نسي القنوت، وتذكر في الركوع في رواية يعود إلى القيام ويقنت؛ لأن الركوع له حكم القيام الأولى أنه لو أدرك الإمام في الركوع كان مدركاً للركعة، وهي رواية أخرى يمضي على ركوعه، ولا يرفع رأسه للقنوت؛ لأنها شيء فائت عن وقتها فتسقط بخلاف تكبيرات العيد إذا تذكرها في الركوع، فإنها لا تسقط. والفرق: أن محل القنوت القيام المحض، فكذا محل القنوت، ولا يمكن أن يأتي به في الركوع؛ لأن الركوع ليس بمحله ولا يمكن نقض الركوع لأجله؛ لأن الركوع فرض والقنوت سنّة، ولا يجوز نقض الفرض لأداء السنّة، وأما تكبيرات العيد فكما شرعت في القيام المحض شرعت (75أ1) فيما له حكم القيام، وهو الركوع. وذكر في بعض المواضع يعود إلى القيام، ويأتي بهما ثم إذا عاد إلى القيام وقنت على إحدى الروايتين، لا يعيد الركوع؛ لأن ركوعه لم يرتفض بالعود إلى القيام للقنوت لأن الركوع فرض والقنوت واجبة، ولا يجوز رفض الفرض لإقامة الواجب. ولو أوتر وقرأ في الثالثة القنوت ولم يقرأ الفاتحة ولا السورة أو قرأ الفاتحة دون السورة، وركع ثم تذكر ذلك في الركوع فإنه يعود إلى القيام ويقرأ ثم يركع؛ لأن ركوعه قد ارتفض في هذه الصورة، أما إذا لم يقرأ أصلاً لأن القراءة فرض وجاز أن يرتفض الفرض بالفرض، وأما إذا قرأ الفاتحة دون السورة؛ فلأن ضم السورة إلى الفاتحة، وإن كان من الواجبات، ولكن إذا ضم السورة إلى الفاتحة يصير الكل فرضاً، فيكون هذا نقض الفرض، لأجل الفرض، ثم قال: وعليه السجود للسهو عاد أو لم يعد قنت أو لم يقنت. السادس: إنه يجهر بالقنوت أو يخافت به وقع في بعض الكتب أن على قول محمد رحمه الله يخافت؛ لأنه دعاء والسبيل في الدعاء الإخفاء، على قول أبي يوسف رحمه الله يجهر به لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه كان يجهر به، حتى روي أن الصحابة رضي الله عنهم تعلموا القنوت في قراءة رسول الله عليه السلام، ووقع في بعض الكتب الخلاف على عكس هذا على قول أبي يوسف رحمه الله (كانت) به، وعلى قوله محمد رحمه الله يجهر به وذكر القاضي الإمام علاء الدين المعروف.... رحمه الله في «شرح المختلفات» : أن المنفرد يخافت بالقنوت، والإمام يخافت عند بعض المشايخ. منهم: الشيخ الإمام أبو بكر بن محمد الفضل، والشيخ الإمام أبو حفص الكبير رحمه الله فلولا علم في إشارة محمد بن الحسن رحمة الله عليه: أنه من سنّته المخافتة وإلا لما خالف أستاذه، وهذا لأنه دعاء على الحقيقة وخير الدعاء الخفي قال رحمه الله، وقد كانوا يستحسنون الجهر في بلاد العجم، ليتعلموا كما جهر عمر رضي الله عنه إلينا حين قدم وفد العراق، وقال بعض مشايخ زماننا إن كان الغالب في الفقه أنهم لا يعلمون دعاء القنوت،

فالإمام يجهر به ليتعلموا منه. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمجهر به، والصحابة تعلموا القنوت في قراءته، وإن كان الغالب فيهم أنهم يعلمون يخفي به، لأنه دعاء، والسبيل في الدعاء الخفية، وقال بعض المشايخ: يجب أن يجهر به، لأن له شبهاً بالقرآن، فإن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا فيه، قال بعضهم هما سورتان من القرآن ويجهر بما هو فرض على الحقيقة، فكذا بما له نسبة بالقرآن، وقال صاحب «شرح الطحاوي» : الإمام يجهر بالقنوت، ويكون ذلك الجهر دون الجهر بالقراءة في الصلاة. السابع: في بيان المقتدي هل يقرأ القنوت؟ ذكر القاضي الإمام عز الدين في «شرح المختلفات» : إن على قول أبي يوسف رحمه الله: يقرأ، وعلى قول محمد رحمه الله: لا يقرأ، وهكذا ذكر في «الفتاوى» ، وذكر في موضع آخر أن القوم يُؤمنون عند محمد رحمه الله ويسكتون، عند أبي يوسف رحمه الله القوم بالخيار إن شاؤوا قرأوا، وإن شاؤوا سكتوا. وقال محمد رحمه الله: إن شاؤوا قرؤوا وإن شاؤوا أمنوا لدعائه، وذكر الطحاوي رحمه الله: أن القوم يتابعونه إلى قوله؛ إن عذابك بالكفار ملحق، فإذا دعا الإمام، فعند أبي يوسف رحمه الله يتابعونه، وعند محمد رحمه الله يؤمنون. الثامن: أن في حالة القنوت يرسل يديه أو يعتمد: كان الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله يعتمد، وكان الفقيه أبو بكر بن أبي سعيد يرسل، وكذلك في صلاة الجنازة، وكذلك في الركوع والسجود، وكان الفقيه أبو جعفر يختار هذا القول. التاسع: في الصلاة على النبي عليه السلام في القنوت، وفي الشك الواقع فيه. قال بعضهم: هذا ليس موضع الصلاة على النبي عليه السلام يعني لا يصلي عليه، وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: هذا دعاء، والأفضل في الدعاء أن يكون فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم فإن صلى على النبي في القنوت وفي الشك الواقع فيه لم يصلِ في القعدة الأخيرة عند بعضهم، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أن عليه السهو، وقال محمد رحمه الله:؟..... أن ألزمه السهو لأجل الصلاة على النبي عليه السلام. وإذا قنت في الركعة الأولى أو الثانية ساهياً لم يقنت في الثالثة لأنه لا يتكرر في الصلاة الواحدة، وإن شك أنه قنت أم لا يعني في الثالثة وهو في قيام الثالثة تحرى، فإن لم يحضره شيء قنت، لأنه عسى لم يقنت. وذكر في «الواقعات» : رجل شك في الوتر وهو في حالة القيام أنه في الأولى أو الثانية أو في الثالثة فإنه يأخذ بالأقل احتياطاً إن لم يقع تحريه على شيء ويقعد في كل ركعة، ويقرأ، وأما القنوت: فقد قال أئمة بلخ: إنه يقنت في الركعة الأولى لا غير، وعن أبي حفص الكبير رحمه الله: إنه يقنت في الركعة الثانية أيضاً، وبه أخذ القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله.

الفصل الرابع عشر فيمن يصلى ومعه شيء من النجاسات

ولو شك في حالة القيام أنه في الثانية أو في الثالثة تمت تلك الركعة، ويقنت فيها، لجواز أنها الثالثة ثم يقعد ويقوم فيضيف إليها أخرى، ويقنت فيها أيضاً على قول أبي حفص الكبير، والقاضي الإمام أبي علي النسفي، فرقا بين هذا وبين المسبوق ركعتين في الوتر في شهر رمضان إذا قنت مع الإمام في الركعة الأخيرة من صلاة الإمام حيث لا يقنت في الركعة الأخيرة إذا قام إلى القضاء في قولهم جميعاً. والفرق: أن المسبوق هو مأمور بأن يقنت مع الإمام فصار ذلك موضعاً له فما أدى به مع الإمام وقع في موضعه فلا يقنت مرة أخرى لأن تكرار القنوت ليس بمشروع. أما في مسألة الشك لم يتيقن بوقوع الأولى في موضعها فيقنت مرة أخرى، وعن الشيخ الإمام أبي بكر الفضل رحمه الله أن في مسألة الشك لا يقنت مرة أخرى كما هو قول أئمة بلخ في المسألة الأولى. وإذا صلى الفجر خلف (من) لا يقنت فيها لا يتابعه في القنوت في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: يتابعه، ولو صلى الوتر خلف من يقنت في الوتر بعد الركوع تابع فيه. وكذلك لو اقتدى بمن نوى سجود السهو قبل السلام تابعه فيه، وكذلك لو اقتدى بمن يرى الزيادة في تكبير العيد يتابعه فيها ما لم يخرج عن حد الاجتهاد، وإن اقتدى في صلاة الجنازة بمن يرى التكبير خمساً لا يتابعه في الخامسة. الفصل الرابع عشر فيمن يصلى ومعه شيء من النجاسات صلى ومعه نافجة مسك ذكر الفضلي في «فتاويه» إن كانت النافجة بحال متى أصابها الماء لم تفسد جاز وصلاته، لأنها بمنزلة جلد ميتة دبغ، فإن كانت وأصابها تفسد فإن كانت هذه نافجة..... لم تزل تجز صلاته بمنزلة جلد ميتة لم يدبغ. وفي «البقالي» : فأما نافجة المسك فيبسها دباغها فهذا إشارة إلى جواز الصلاة معها على كل حال. وفي «القدوري» : وكل شيء دبغ به الجلد مما يمنعه من الفساد ويعمل عمل الدباغ فإنه يطهر وإذا ألقى جلداً للنشر في الشمس حتى يبس أو عولج بالتراب حتى نشف فهو طاهر، هكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله، وهذا لأن الدباغ إنما يؤثر في الجلد لاستحالته، فإذا استحال بالشمس والتراب، كان كما لو استحال..... والقرظ حتى قيل: لو لم يستحل وخف لم يطهر، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا أتاه من الشمس والدبغ ما لو ترك لم يفسد كان دباغاً، وذكر الكرخي رحمه الله في «جامعه» عن محمد

رحمه الله في جلد الميتة إذا يبس ووقع في الماء لم يفسده من غير فصل، وكذا روى عنه داود بن رشيد. ذكر رواية داود في «المنتقى» : وقيل: في جلد الميتة إذا يبس بالتراب أو الشمس ثم أصابه الماء هل يعود نجساً فعن أبي حنيفة رحمه الله فيه روايتان، واختلاف الروايات في عود النجاسة عند إصابة الماء دليل على الطهارة (75ب1) قبل إصابة الماء، وهذا يعني أن الصحيح في مسألة النافجة جواز الصلاة معها من غير التفصيل. ولو صلى ومعه جلد حية أكثر من قدر الدرهم لا تجوز الصلاة، مذبوحة كانت أو غير مذبوحة، لأن جلدها لا يحتمل الدباغ لتقام الذكاة فيه مقام الدباغ، فأما قميص الحية فقد ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «صلاة المستفتي» قال بعضهم: هو نجس، (وقال بعضهم) هو طاهر. وأشار إلى أن الصحيح أنه طاهر، فإنه قال عين الحية طاهر، حتى لو صلى وفي كبد حية خرء الحية يجوز، وإذا كان عين الحية طاهراً كان قميصها طاهراً، وخرء الحية وبولها نجس نجاسة الطير. وفي «المنتقى» : عن محمد رحمه الله: رجل صلى ومعه حية أو سنور أو فأرة أجزأه، ولو صلى ومعه جرو كلب أو ثعلب لم تجزئه صلاته. وذكر لجنس هذه المسائل أصلاً فقال: كل ما يجوز التوضؤ بسؤره تجوز الصلاة معه، وما لا يجوز التوضؤ بسؤره لا تجوز الصلاة معه. وذكر مسألة الجرو في متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله فقال: إذا كان فم الجرو أكثر من قدر الدرهم فمه خارج الفم. وفي «القدوري» : عين الكلب نجس، فإن محمداً رحمه الله يقول في «الكتاب» : وليس الكلب بأنجس من الخنزير وقد ذكرنا المسألة مع ما فيها في الاختلاف في كتاب الطهارات. وفي «البقالي» : في قطعة من جلد كلب ترق على جراحة في الرأس فيثبت أنه في معنى الدباغ ويعيد ما صلى قبل ذلك، وفي صلاة «النوازل» إذا صلى ومعه مرارة الشاة فمرارة كل شيء كقوله فكل حكم ظهر في البول فهو الحكم في المرارة والله أعلم. وتطهر الجلود كلها بالدباغ إلا جلد الإنسان والخنزير، وهذا قول علمائنا رحمهم الله في المشهور، وعن أبي يوسف رحمه الله في جلد الخنزير إنه يطهر بالدباغ، وفي بعض الروايات عن أصحابنا رحمهم الله في جلد الكلب روايتان: في رواية يطهر وهو الصحيح، وما طهر جلده ولحمه (بالدباغ، فإنه يطهر) بالذكاة. وقال الشافعي رحمه الله لا تؤثر الذكاة فيما لا يؤكل لحمه. قيل: ويشترط عند علمائنا رحمهم الله أن تكون الذكاة من أهلها ما بين اللبة واللميين وتكون الذكاة مقرونة بالتسمية بحيث لو كان المذبوح مأكولاً تحل بتلك التسمية.

حكي فصل التسمية عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. قال أصحابنا رحمهم الله بأن صوف الحيوانات الميتة وعصبها ووبرها وشعرها وعظمها طاهر. ألا ترى أنه يكون على العظم دسم سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم حتى تجوز الصلاة مع هذه الأشياء عندنا جز قبل الموت أو بعده. وقال الشافعي رحمه الله: إن كانت هذه الأشياء في مأكول اللحم جُزَّ منها قبل موتها فهي طاهرة يجوز الانتفاع بها، وإن جز منها بعد موتها فإنها نجسة، وإن كانت هذه الأشياء في غير مأكول اللحم، فإنها نجسة لا يجوز الانتفاع جز قبل الموت أو بعده. حاصل الاختلاف راجع إلى أن لهذه الأشياء روح أم لا، فعندنا لا روح في هذه الأشياء. وعند الشافعي رحمه الله في هذه الأشياء روح كما في اللحم، وإذا لم يكن فيها روح عندنا لا تحلها الوفاة فيجعل وجود الموت في الأصل وعدمه سواء وعندنا لما كان في هذه الأشياء، فالشافعي رحمه الله احتج بقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (المائدة: 3) والميتة اسم لجميع أجزائها فيحرم الانتفاع بجميع أجزائها عملاً بهذا الطاهر، والدليل عليه قوله عليه السلام: «لا تنتفعوا في الميتة بشيء» ، والمعنى فيه أن هذا جزء، ويتصل بذي روح....... الأصل فيتنجس بالموت قياساً على سائر الأطراف. والدليل على (أن) في العظم حياة أنه يتألم المرء بكسر العظم كما يتألم يقطع اللحم فتلحقه الوفاة ويتنجس بالموت، وكذا العظم وعلماؤنا رحمهم الله احتجوا بقوله تعالى: {أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومقاماً إلى حين} (النحل: 80) الله تعالى من علينا بأن يجعل هذه الأشياء مستمتعاً لنا من غير فصل بينما إذا أخذ منه قبل الموت أو بعده، في مأكول اللحم أو من غير مأكول اللحم، وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي عليه السلام أنه قال: «لا...... الجلود الميتة إذا دبغت ولا بقرونها ولا بشعورها إذا غسلت بالماء» والمعنى فيه. وهو أن هذا بمعنى لو انفصل منه حالة الحياة حكم بطهارته، فكذلك إذا انفصل بعد الموت قياساً على البيض والولد. والدليل على أنه لا روح في هذه الأشياء أن الحي لا يتألم بقطعها، فلو كان فيه حياة لتألم بقطعها كما في اللحم، ولا نقول إن العظم يتألم بل ما هو متصل به من اللحم يتألم. فالحاصل: أن عظم ما سوى الخنزير والآدمي من الحيوانات، إذا كان الحيوان ذكاة إنه طاهر سواء كان العظم رطباً أو يابساً، وأما إذا كان الحيوان ميتاً، فإن كان عظمه رطباً فهو نجس، وإن كان يابساً فهو طاهر؛ لأن اليبس في العظم بمنزلة الدباغ من حيث

إنه يقع الأمن في العظم باليبس عن الفساد كما يقع الأمن في الجلد بالدباغ، فكذا العظم باليبس، وأما عظم الخنزير فنجس وفي عظم الآدمي اختلفوا، بعض مشايخنا قالوا: إنه نجس، وبعضهم قالوا: إنه طاهر، واتفقوا (أنه) لنقص بكرامته؛ لأن الآدمي مكلف بجميع أجزائه، وفي الانتفاع بأجزائه نوع إهانة به، والله أعلم. وأما العصب ففيه روايتان: في رواية لا حياة ((فيه، فلا ينجس، وفي رواية) فيه حياة فيتنجس بالموت، وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي رحمه الله. وأما شعر الآدمي ففي (قول) محمد رحمه الله فيه روايتان: في رواية نجس وفي رواية طاهر حتى لو صلى ومعه شعر الآدمي أكثر من قدر الدرهم تجوز صلاته، نص عليه الكرخي رحمه الله وهو الصحيح. وحرمة الانتفاع به لكرامته لحرمة الانتفاع بعظمه، وهذا لا يدل على النجاسة. وأما شعر الخنزير فهو نجس هو الظاهر في مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه، وروي أنه رخص للخزازين استعماله؛ لأن منفعه الخرز عادة لا تحصل إلا به وجرت العادة في زمن الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا في استعماله في الخرز من غير نكير منكر، وعن أبي يوسف رحمه الله؛ أنه لا يفسد إلا أن يغلب على..... هل يجوز بيعه؟ قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: إذا لم يجد الخزاز شعر الخنزير إلا بالشراء يجوز له الشراء، ويكره للبائع بيعه لأنه لا ضرورة للبائع بخلاف المشتري، وعن ابن سيرين وجماعة من الزهاد رحمهم الله أنه لم يجوزوا الانتفاع به كذا ذكره الإمام الزاهد الصفار رحمه الله، وكانوا يقولون غيره يقوم مقامه وهو...... وأما عظم الفيل روي عن محمد رحمه الله أنه نجس؛ لأن الفيل لما يزكى كالخنزير، فيكون عظمه كعظم الخنزير، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه طاهر، وهو الأصح. ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله لحديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم «اشترى لفاطمة سواراً من عاج سوارين» وظهر استعمال الناس العاج من غير نكير منكر، والعاج عظم الفيل فدل أنه طاهر. وأما السبع إذا ذبح (هل) تجوز الصلاة مع لحمه؟ ولو وقع في الماء القليل هل ينجسه؟ قال أبو الحسن الكرخي رحمه الله: تجوز الصلاة مع لحمه ولا ينجس الماء لا يؤكل، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: لا تجوز الصلاة وينجس، وكان الصدر الشهيد رحمه الله يفتي بطهارة لحمه، وجواز الصلاة معه مطلقاً من غير قيد. وأما سباع الطير كالبازي وأشباهه، والفأرة، والحية تجوز الصلاة مع لحمها إذا

كانت مذبوحة؛ لأن سؤر هذه الأشياء ليس بنجس، وما لا يكون سؤره نجساً لا يكون لحمه نجساً، فتجوز الصلاة معه. وعن نصر بن يحيى أنه كان يفرق بين سباع ما يكون سؤرها نجساً، وبين سباع ما يكون سؤره طاهراً، وكان يجوز الصلاة (مع) ما يكون سؤره (76أ1) طاهراً، ولا يجوزها مع مع تجوز ما يكون سؤره نجساً، وفي صلاة «المنتقى» لشمس الأئمة الحلواني رحمة الله عليه: أن لحم الكلب وغيره من السباع سوى الخنزير يطهر بالذكاة، إذا كانت من اللبة واللحيين فيها إنهار الدم وإفراء الأوداج، وأما إذا عقر ومات من ذلك لا يطهر جلده. قال ثمة: وهذا إذا كان الكلب ألفاً، فأما إذا توحش فرمي بسهم، فمات من ذلك، فذلك ذكاة له، فيطهر جلده ولحمه وكذا الذئب والأسد والثعلب. وفي «العيون» جلد ومعها صبي ميت هي حامل له، فإن كان لم يستهل فصلاتها فاسدة، غسل لو لم يغسل لأن بالغسل إنما يطهر الميت الذي كان حياً، وكذلك إن استهل ولم يغسله، وإن استهل وغسل فصلاتها جائزة. وكذلك إذا صلى الرجل وهو حامل رجلاً ميتاً إن غسل فصلاته جائزة وإن لم يغسل فصلاته فاسدة، وهذا في المسلم، فأما إذا كان حاملاً ميتاً كافراً فصلاته فاسدة وإن غسل الميت، وإن صلى وهو حاملٌ شهيداً عليه دمه جازت صلاة، وإن أصاب دم الشهيد ثوب إنسان أفسده. وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف رحمهما الله: من صلى وهو حامل ميتاً قد غسله، فعليه إعادة الصلاة. وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» رحمه الله: لو أن رجلاً صلى ومعه صبي، وعلى صبي يستمسك بنفسه وهو الذي يركب عليه فإن صلاته معه تجوز، وإن كان لا يستمسك بنفسه، ويحتاج إلى من يمسكه عليه فصلاته فاسدة. وفي «العيون» : عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قطع فضل أذنه أو قلع سنّه، وأعاد ذلك فصلى مع ذلك أول إلى مكانه، وإن أعاد سنّه وأذنه المقطوع أو السن المقلوعة في كمه، فصلاته قائمة وإن كان أكثر من قدر الدرهم، وبه أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: إن كانت سنّه جازت صلاته، وإن كان شيء غيره لم تجز صلاته، قال: وبينهما فرق وإن لم يحضرني. وفي «متفرقات» الفقيه أبي جعفر رحمة الله عليه: إذا صلى ومعه عظم إنسان عليه لحم أو قطعة من لحمه لا تجوز، وإن كان ذلك مغسولاً، وفي العضو، نحو اليد والرجل إذا كان مغسولاً روايتان. وفي «الجامع الأصغر» : في سن الإنسان وعظمه إذا كان أكثر من قدر الدرهم لم

تجز الصلاة معه، واعتبر الوزن، وفي شعر الآدمي على الرواية التي تقول بأنه نجس اعتبر...... حتى قال: لو صلى ومعه شعر الآدمي أكثر من قدر الدرهم لا تجوز صلاته. وفي «صلاة المستفتي» إن أسنان الكلب الميت طاهرة لو صلى معها يجوز وأسنان الإنسان إذا سقطت بحبسه لو...... معها لا تجوز. وحكى الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله عن المتقدمين أصحابنا رحمهم الله أن من أثبت مكان أسنانه أسنان آدمي آخر منع ذلك جواز صلاته؛ لأن فمه...... من النجاسة، ولو أثبت مكان أسنّته أسنان الكلب لا يمنع ذلك جواز الصلاة. قال الفقيه أبو جعفر هذا رحمه الله: وتأويله عندي إذا أمكن قلع أسنانه من غير إلحاح ولا ضرر، أما إذا كان لا يمكن قلعها إلا بالإلحاح بالإجماع لا يمنع جواز الصلاة، وكذا إذا كسر ساقه ووصل فيه ساق إنسان أو عظم آخر من عظامه منع جواز الصلاة، وإن وصل فيه عظم كلب لا يمنع جواز الصلاة، وتأويله عند الفقيه أبي جعفر رحمه الله ما قلنا وكذا إذا احتمل الدباغ، فعولج ودبغ يطهر حتى لو صلى معه تجوز الصلاة، ولو جعل منه.... كرش الميتة يتنجس، وإن كان مائعاً. وإذا استنجى رجل بالماء ثم خرج منه ريح بعد أن..... لا يتنجس من.... الموضع الذي يمر فيه الريح عند عامة المشايخ، وكذلك لو كان السراويل مبتلاً وأصابه هذا الريح لا يتنجس سراويله عند عامة المشايخ، وكذلك إذا دخل إنسان المربط في الشتاء وبدنه مبتل بالماء أو بالعرق يجفف البلل من حر المربط وأدخل شيء مبتل في المرابط يجف ذلك الشيء من حر المربوط، لا يتنجس البدن وذلك الشيء عند عامة المشايخ إلا (أن) يظهر أثره كصفرة ظهرت في السراويل المنبذ بعد خروج الريح، أو في ذلك الشيء بعد الإدخال في المربط إذا نشر، فإن هذا يتنجس، لأنه صار متجمد الظهور......، وكذلك بخار المربط إذا ارتفع؟...... واستجمد أو خرج من شق الباب، واستجمد أو ارتفع بخار الكنيف إلى السقف، واستجمد ثم ذاب فأيما أصاب فتلك البلة تنجسه. وإذا ارتفع بخار البيت إلى الطاق، واستجمد إن كان ارتفاعه من موضع نجس، فهو نجس، وإذا ذاب ذلك، وأصاب شيئاً نجسه. وإن كان ارتفاعه من طاهر فهو طاهر ورأيت في موضع..... الطاق نجس قياساً وليس بنجس استحساناً، فصور ذلك فقال: إذا أحرقت...... في بيت فأصاب ماء الطاق ثوب إنسان لا يفسده استحساناً ما لم يظهر أنه النجاسة فيه وبه كان يفتي الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله، وهو اختيار ظهير الدين المرغيناني رحمة الله عليه. وكذلك الإصطبل إذا كان حالاً أو على كوته طاق أو بيت أو على كونه طابقاً أو

ثبت البالوعة إذا كان عليه طائق فعرق الطائق، وتقاطر منه، وكذلك الحمام ارتفعت فيه النجاسات فعرقت حيطانه وكوته وتقاطرت، وكذلك لو كان في الإصطبل كوز معلق فيه ماء يترشح من أسفل الكوز وتقاطر في القياس ويكون نجساً؛ لأن أسفل الكوز صار نجساً بنجاسة الإصطبل. وفي الاستحسان: لا يكون نجساً؛ لأن الكوز كان طاهراً في الأصل، وكذا الماء الذي فيه وصيرورة..... نجساً موهوم والمتيقن لا يزول بالموهوم. وإذا صلى وفي كمه بيضه حال محها دماً مذرة وما جازت صلاته، وكذلك البيضة فيه فرخ ميت والبيضة الرطبة أو السحلة إذا وقعت في...... لا تفسده في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله. وفي «الجامع الأصغر» والبيضة المذرة لا يجوز معها الصلاة عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وعلى قياس أبي حنيفة والحسن بن زياد رحمهما الله يجوز. وفي «الفتاوى» عن أبي عبد الله البلخي: إن الصلاة مع البيضة المذرة جائزة، فإذا صلت امرأة ومعها دود القز لا تفسد صلاتها؛ لأنها ليست بنجسة، ولو صلى..... من شعر الكلب لا تفسد صلاته، وإذا اختصت...... نجسته وصلت بعدما غسلت اليد ثلاثاً بماء طاهر جازت صلاتها؛ لأن الذي في وسعها هذا، وقد مرت المسألة في كتاب الطهارات، وإذا كان على يد الرجل نفطة يبست ما تحتها من الرطوبة ولم تذهب الجلدة عنها، فتوضأ وأمر الماء على الجلدة جاز، وإن لم يصب الماء تحتها لأن الواجب غسل الظاهر دون الباطن. إذا صلى ومعه درهم تنجس جانباه لا يمنع جواز الصلاة؛ لأن الكل درهم واحد إذا صلى وفي كمه قارورة فيها بول لا تجوز الصلاة سواء كانت ممتلئة أو غير ممتلئة؛ لأن هذا ليس في؟. ..... ولا في معدته. إذا صلى الرجل وفي كمه فرخة حية فلما فرغ من الصلاة رآها ميتة، فإن لم يكن في غالب رأيه أنها ماتت في الصلاة بأن كان مشكلاً لا يعيد الصلاة؛ لأنه لم تجب الإعادة غالباً، وإن كان في غالب رأيه أنها ماتت في الصلاة أعادها؛ لأنه وجبت الإعادة غالباً، وإذا شق جبته فوجد فيها فأرة ميتة، ولا يعلم متى دخلت فيها إن لم يكن للجبة ثقب يعيد صلوات ثلاثة أيام ولياليها، وعندهما لا يعيد إلا أن يعلم متى ماتت فيها كما في مسألة البئر. وإن صلى في ثوب أياماً ثم اطلع على نجاسة (76ب1) بدون أن يعلم متى أصابت الثوب، لا يعيد شيئاً مما صلى حين يتيقن هو متى الإصابة. ذكر في «الكتاب» : أن هذا قولهم جميعاً، قال أبو يوسف سألت أبا حنيفة رحمة الله عليه عن هذه المسألة، فقال؛ لا يعيد صلاة صلاها قبل ذلك حين يتيقن بوقت الإصابة

ولا أرى هذا يشبه البئر، وروى أبو حمزة السكوتي عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما أنه قال في الثوب يعيد صلاة يوم وليلة، وروي عنه في رواية أخرى إن كان ظنياً يعيد صلاة يوم وليلة، وإن كان متيقناً يعيد صلاة ثلاثة أيام ولياليها، وبعض مشايخنا قالو: إن كان بولاً يجوز لأول ما بال فيه، وإن كان رعافاً، فلأول ما ترعف، وإن كان منياً فلأول ما احتلم أو جامع فيه. وذكر ابن رستم في «نوادره» : إن وجد منياً في ثوبه يعيد الصلاة من آخر نومة نامها فيه، وعن ابن رستم رحمه الله أيضاً: إن وجد في ثوبه منياً يعيد الصلاة من آخر ما احتلم، أو جامع فيه، وإن رأى لا يعيد حتى يتيقن أنه صلى وهو فيه، هذا إذا كان ثوباً يلبسه بنفسه، وإن كان الثوب قد يلبسه غيره، فالنطفة والدم في ذلك سواء لا يلزمه الإعادة حتى يتيقن بوقت الإصابة، رطباً كان أو يابساً....... التي خرجت في المقعد أو غسلت وأمسكها مصلي، وصل معها جازت صلاته. والله أعلم. هذه المسائل قد ذكرناها في كتاب الطهارات. رجل به جرح سائل لا يرقأ ومعه ثوبان، أحدهما نجس، والآخر طاهر فأيها صلى فيه يجوز إذا كان الثوب الطاهر يفسده الدم إن لبسه؛ لأن لبس الطاهر غير مأجور عليه إذا كانت الحالة هذه؛ لأنه يفسده من ساعته. وفي «نوادر هشام» رحمه الله، قال: سألت محمداً رحمه الله عن رجل صلى وفي ثوبه أكثر من قدر الدرهم من النبيذ السكر أو نبيذ المنصف أو من نقيع الزبيب، يعني إذا غلى..... أن أبا حنيفة رحمه الله، قال يعيد الصلاة. وكذلك قول أبي يوسف رحمه الله، قلنا: فما قول أبي حنيفة فيمن صلى وفي ثوبه نبيذ نقيع يعني نبيذ الزبيب المطبوخ، قال: صلاته تامة؛ لأنه كان لا يرى بشربه بأساً، قال؛ وهو قول أبي يوسف رحمه الله، قال محمد: وأما أنا فأرى يعيد الصلاة بناءً على أن محمداً رحمه الله لا يرى للطبخ أثراً في الجلد، فسوَّى بين الطبيخ؛ إذ في طبخه وهي غير الطبيخ، والله أعلم. قد ذكرنا في أول هذا الفصل بعض مسائل الجلود قال محمد رحمه الله: وما لا تقع الذكاة عليه إذا دبغ جلده لم يطهر مثل الخنزير، أما الأسد إذا دبغ جلده فقد طهر، وكذا الثعلب المفتى عن أبي يوسف رحمهما الله في شعر الخنزير يفسد الماء وقد ذكرنا قول أبي يوسف في شعر الخنزير قبل هذا أنه يفسد الماء إنما أوردنا رواية المعلى لزيادة فائدة فيها، فإن رواية المعلى شعر الخنزير يفسد الماء إن كانت شعرة، وعنده أيضاً برواية المعلى لو صلى في جلد خنزير مدبوغ، فصلاته تامة وقد أساء، قد ذكرنا حكم عظم الفيل مثل هذا، وذكرنا الخلاف فيه نهي أبي يوسف ومحمد رحمهما الله. وفي كتاب الحج لمحمد قال أبو حنيفة رحمه الله: لا بأس ببيع عظام الفيل وغيره

الفصل الخامس عشر في الحدث في الصلاة

من الميت إذا نزع عنه اللحم ويبس وغسل، وكذلك جلدها إذا دبغ. وفي «نوادر إبراهيم» : عن محمد رحمة الله عليهما: امرأة صلت وفي عنقها قلادة فيها سن ثعلب، أو كلب أو أسد، فصلاتها تامة؛ لأنه لا يقع عليها الذكاة، قال ألا ترى أنه أجيز بيع الكلب، فأجيز بيعه وبيع جلد الأسد والثعلب، والله أعلم. إبراهيم عن محمد رحمهما الله مصارين شاة وصلى وهو معه، فصلاته جائزة، ألا ترى أنه يتخذ منه الأوتار قال: وكذلك لو دبغ المثانة، وأصلحها، فجعل فيها لبناً جاز ولا يفسد اللبن، قال؛ وأما الكرش فإن كنت تقدر على إصلاحه كما تقدر على إصلاح المثانة، فلا بأس بجعل اللبن فيه، وإن صليت وهو معك أجزأك، وعن أبي يوسف رحمه الله في الكرش أنه مثل اللحم أكرهه، وإن يبسه والله أعلم. وفي «عيون المسائل» : رجل زحمه الناس يوم الجمعة فخاف أن يضيع نعله، فرفعه وهو يجيء الصلاة وكان فيه نجاسة أكبر من قدر الدرهم فقام ثم وضعه لا تفسد صلاته حتى يركع ركوعاً تاماً أو يسجد سجوداً تاماً، والنعل في يده حتى يصير مؤدياً ركناً تاماً مع النجاسة من غير خلاف، بخلاف حالة القيام لأنه له في رفع النعل حالة القيام حالة كيلا يضيع نعله، وبخلاف ما إذا شرع في الصلاة، والبول النجس في يده لأن الشروع في الصلاة لم يصح. وفي «المنتقى» : عن إبراهيم عن محمد رحمه الله، لو أن مصلياً حمل نعله وفيه قذر أكثر من قدر الدرهم، ووضعه من ساعته فصلاته جائزة، وكذا ذكر ثمة أصلاً فقال جر النجاسة أكثر من قدر الدرهم إذا كان قليلاً لا يوجب فساد الصلاة، وإذا كان كثيراً، ولا كذلك...... الفصل الخامس عشر في الحدث في الصلاة قال: رجل دخل في الصلاة ثم أحدث حدثاً من بول أو غائط أو ريح أو شيء.... لا يتعمد به، فلا يخلو إما إن كان إماماً أو مقتدياً أو منفرداً،. فإن كان إماماً تأخر وقدم رجلاً من خلفه ليصلي بالقوم، ويذهب هو فيتوضأ ويبني صلاته إن لم يتكلم عندنا استحساناً. وفي القياس: وهو قول الشافعي رحمه الله يستقبل الصلاة وكان مالك يقول أولاً يبني ثم رجع وقال: يستقبل فعابه محمد رحمه الله في كتاب الحج ارجوعه من الآثار إلى القياس، ولم يذكر في «الكتاب» أن المستحب أن هذا، وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما أنه قال: المستحب أن يقطع الصلاة ويستقبل، وأجمعوا أنه لو أحدث متعمداً لا يجوز له البناء، إنما الاختلاف فيا إذا سبقه الحدث من غير قصد.

وأجمعوا أنه لو نام في الصلاة واحتلم لا يجوز له البناء استحساناً، وأجمعوا على أنه لو أغمي عليه أوجن في الصلاة لا يجوز له البناء، احتج الشافعي رحمه الله في المسألة، وقال هذا حدث وجد في وسط الصلاة، فيمنع البناء مقاساً على الحدث العمد، والاحتلام في النوم والجنون والإغماء، هذا لأن الطهارة كما هي شرط صحة التحريمة فهي شرط بقاء التحريمة؛ لأن المقصود لا يحصل بدون الطهارة، فكما لا يتحقق شروعه في الصلاة بدون الطهارة، فكذلك بقاؤها؛ لأن الحدث منافٍ للصلاة، قال عليه السلام: «لا صلاة إلا بطهور» ولا بقاء للعبادة مع وجود ما ينافيها، والدليل عليه أنه لو أخلد ساعة بعدما أحدث ثم انصرف وتوضأ لا يبني، فكذلك ها هنا. وعلماؤنا رحمهم الله قالوا القياس ما قال الشافعي رحمه الله، إلا أنا تركنا القياس بالأثر، وهو ما روي عن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي عليه السلام أنه قال: «من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته، فلينصرف وليتوضأ، وليبنِ على صلاته ما لم يتكلم» وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «من قاء أو رعف انصرف وتوضأ وليبنِ على صلاته ما لم يتلكم» . وفي المسألة إجماع في صلاة الصحابة رضوان الله عليهم، فإنه روي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وابن عباس وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وسلمان الفارسي رضوان الله عنهم أجمعين أنهم قالوا مثل قولنا، وترك علماؤها القياس بهذه الآثار وبقينا التحريمة بالآثار بخلاف القياس، والآثار وردت في الحدث السماوي، فلا يقاس عليه الحدث العمد؛ لأن الحدث العمد فوق السماوي. ألا ترى أن الشرع ما أوجب القضاء والكفارة في أكل الناسي، وأوجب في أكل العامد فنأخذ (به) ولا نقيس هذا على ذلك فكذلك ها هنا (77أ1) . والدليل على الفرق بينهما: أن في الحدث العمد يأثم، وها هنا لا يأثم وليس هذا كالاحتلام؛ لأنا عرفنا البناء في الحدث الصغرى بخلاف القياس، والنص الوادر في شيء يكون وارداً لما هو مثله أو دونه، (أو ما لا) يكون وارداً فيما هو فوقه، والجنابة فوق الحدث الصغرى فالنص الوارد ثم لا يكون وارداً ها هنا. وليس هذا كالإغماء والجنون؛ لأنه إذا أغمي عليه أو جن صار محدثاً من ساعته، وكما صار محدثاً لا يمكنه الانصراف في تلك الساعة نفسها به، بل يمكث ساعة ثم يفيق، والمفيق إذا سبقه الحدث في الصلاة، فمكث ساعة ثم انصرف تفسد صلاته فلا يمكنه البناء بعد ذلك؛ وهذا لأنه متى مكث ساعته يصير مؤدياً جزءاً من الصلاة مع الحدث، وأداء الصلاة مع الحدث لا تجوز، ففسد ما أدى، وإذا أفسد ما أدى يفسد الباقي ضرورة، وإن كان مقتدياً يذهب ويتوضأ، وإن كان فرغ من الوضوء قبل أن يفرغ

الإمام من الصلاة فعليه أن يعود إلى مكانه لا محالة؛ لأنه بقي مقتدياً ولو أتم يعيد الصلاة في بيته لا يجزئه؛ لأن بينه وبين إمامه ما يمنع صحة الاقتداء..... لوقوع إمامه تجير المقتدي بين أن يعود إلى المسجد، وبين أن يتمه في بيته على ما بين، وإن كان منفرداً يذهب ويتوضأ ثم يتخير بين الرجوع إلى المسجد ليكون مؤدياً جميع الصلاة في مكان واحد وبين أن يتم في بيته إذ ليس..... المشي في الصلاة، وذلك لا يضره، واختلف المشايخ في فضله للمنفرد وللمقتدي إذا فرغ الإمام من صلاته. ذكر الإمام السرخسي رحمه الله، والإمام خواهر زاده رحمه الله: أن العود إلى المسجد أفضل، وبعض مشايخنا قالوا: الصلاة في بيته أفضل لما فيه من تقليل المشي. وذكر في «نوادر ابن سماعة» : في المقتدي أنه إذا عاد إلى المسجد بعد ما فرغ الإمام تفسد صلاته؛ لأنه مشى في صلاته من غير حاجة، إلا أن محمد بن الحسين رحمة الله عليه لم يقسم هذا التقسيم، والصحيح ما بينا. والرجل والمرأة في حق حكم البناء سواء، هكذا ذكر محمد رحمة الله عليه في الباب الأول من «الجامع الكبير» : وهذا لأن جواز البناء عرف بالحديث الذي روينا أنه يتناول الرجل والمرأة لأن النبي عليه السلام ذكره بكلمة (من) عامة للرجال والنساء جميعاً. وعن أبي يوسف رحمة الله عليه في غير رواية «الأصول» : إذا أمكنها البناء من غير كشف العورة بأن أمكنها غسل ذراعها مع الكمين، وأمكنها مسح الرأس مع الخمار بأن كانا رقيقين يصل الماء إلى ما تحتهما فكشفتها لا تبني، لأنها كشفت عورتها من غير حاجة، فهو نظير الرجل إذا كشف عورته حالة البناء من غير حاجة، وإن لم يمكنها المسح والغسل بدون الكشف بأن كان عليها جبة وخمار ثخين لا يصل الماء إلى ما تحتها، فكشفت الذراعين والرأس فإن لها البناء لأنها كشفت عورتها لحاجة. فهو نظير الرجل إذا كشف عورته لحاجة بأن جاوزت النجاسة موضع الخروج أكثر من قدر الدرهم، حتى وجب عليه غسل ذلك الموضع يجوز له البناء، كذا هنا إلا أن محمداً رحمه الله أطلق الجواب في «الجامع» : إطلاقاً لأنه لا يمكنها غسل الذراعين من غير الكشف إلا بالغسل مع الكمين وفي ذلك حرج عليها، والحرج في الأحكام ملحق بالعجز ولو عجزت عن البناء إلا بعد كشف العورة جاز لها البناء، وكذا إذا خرجت. وعن إبراهيم بن رستم رحمه الله: أنه قال: لا يجوز للمرأة البناء، لأن المرأة من قرنها إلى قدمها عورة فتحتاج إلى كشف العورة، فلا يجوز لها البناء. بعض مشايخنا قالوا: ليس الأمر كما قال إبراهيم، والإطلاق في الجواب أنه لا يجوز لها البناء لا وجه إليه، لأن وجه المرأة ليس بعورة، وكذا الذراعين منها ليس بعورة في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، والقدم منها ليس بعورة في رواية أبي حنيفة رحمه الله، بقي الرأس منها، فإن أمكنها أن تمسح على خمارها وتصل البلة إلى شعرها لا

يحتاج إلى كشف العورة فيجوز لها البناء، وإن لم يصل البلة إلى شعرها، لأن يحتاج إلى كشف العورة، فلا يجوز لها البناء، ولكن كلا القولين بخلاف قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله. وعن محمد رحمه الله في «النوادر» : أن الرجل إذا سبقه الحدث لا يستنجي، إن استنجى من تحت ثيابه فإن صلاته لا تفسد وبنى، وإن كشف عورته فسدت صلاته، ولا يبني، وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» ، وهذا لأنه إن لم يكن مصلياً فهو في حرمة الصلاة وقد حصل الكشف عن غير ضرورة وحاجة؛ لأن الاستنجاء سنة فإن قاء في صلاته مرة أو طعاماً أو ماء أو تقيأ هل يبني على صلاته؟ فهذا على وجهين: إن كان أقل من ملء الفم لا تفسد صلاته ولا حاجة إلى البناء، القيء والتقيؤ في سواء، وإن كان ملء الفم ففي القيء، وهو ما إذا ذرعه القيء من غير قصد، فيذهب ويتوضأ ويبني عليه صلاته ما لم يتكلم كما في الرعاف، وفي التقيؤ: لا يبني، لأن هذا حدث عمد فيفسد الصلاة، فيمنع البناء، وإذا فعل بعدما سبق الحدث فعلاً ينافي الصلاة، فإن كان فعلاً لا بد منه كالمشي والاغتراف من الإناء لا يمنع البناء، وإن كان فعلاً له منه بد بأن دخل المخرج أو جامع أهله أو تغوط أما أشبه ذلك منع البناء، لأن تحمل ما لا بد منه لأجل الضرورة، وذلك لا يوجد فيما له منه بد، فيرد إلى ما يقتضيه القياس. وكذلك إذا فعل فعلاً لا بد منه بحكم الحال، وله منه بد في الجملة نحو أن يستقي ماء الوضوء من البئر؛ لا يبني لأن الأحوال يعتبر لبقاء الأحكام الشرعية وإنما تعتبر الجملة وفي الجملة لا يحتاج إلى الاستقاء من البئر؛ لأن الحاجة تندفع بالاغتراف من الجب. وفي «الفتاوى» : إذا سبقه الحدث والماء بعيد ويقربه بئر يذهب إلى الماء لأنه لو نزح الماء من البئر استقبل الصلاة. وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» رحمه الله: إذا سبقه الحدث وفي إناء (ماء) فيتوضأ بذلك الماء حمل ذلك الإناء إلى موضع صلاته جاز له البناء إن كان حمل الإناء على..... حده لأنه عمل يسير، وإن ملأ الإناء وحمل مع نفسه ليتوضأ لا يبني. ولو أدى شيئاً من صلاته مع الحدث قد فسد فيفسد الباقي ضرورة عدم التحري. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا تفكر الإمام المحدث من يقدم ولم ينو بمقامه الصلاة لم تفسد صلاته شرط في حال تفكره أن لا ينوي بمقامه أبطل الأداء مع الحدث. وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد رحمه الله: إمام أحدث في سجوده فرفع رأسه وكبر وكبر معه الناس، قال: فسدت صلاته وصلاة القوم، قال: لأنه كبر بعد الحدث ومعه الناس فقد مع الحدث.

وفي «الفتاوى» : لأبي الليث رحمه الله: إذا صلى فسبقه الحدث في قيامه في موضع القراءة، فذهب ليتوضأ، فسبح في ذلك الوقت قبل أن يتوضأ فصلاته تامة وإن قرأ فصلاته فاسدة، لأنه أدى ركناً من الصلاة مع الحدث، والجواب بينما إذا قرأ ذاهباً أو عائداً عند بعض المشايخ، ومن المشايخ.... فقال: إن قرأ ذاهباً تفسد، وإن قرأ عائداً لا تفسد، ومنهم من قال على العكس، والمختار أنه لا فرق؛ لأنه إن قرأ ذاهباً فقد أدى ركناً من الصلاة مع الحدث، وإن قرأ عائداً فقد أدى ركناً من الصلاة مع عمل السير. وفي «المنتقى» : قال الحاكم: وفي «نوادر الصلاة» : أحدثت..... فاقتضت في ما لها فتوضأت ثم تقنعت بنت، وإن رجعت إلى الصلاة غير..... قامت ثم تقنعت استقبلت، وإن قهقهة في صلاته توضأ واستقبل الصلاة ناسياً كان أو عامداً لأن البناء لأجل البلوى، وذلك لا يتحقق في القهقهة، ولأن جواز البناء عرف بخلاف القياس بالشرع في الحدث الحقيقي الذي يسبقه، والقهقهة حدث حكمي فيكون مردوداً إلى أصل القياس (77ب1) وإن ضحك دون القهقهة يبني على صلاته؛ لأن القهقهة عرفت حدثاً بخلاف القياس في الشرع. ألا ترى أنه لا يكون حدثاً خارج الصلاة، والضحك دون القهقهة. ألا ترى أن القهقهة لا تكون وارداً في الضحك، وإن قهقه بعدما قعد قدر التشهد قبل أن يسلم لا تفسد صلاته، لأنه خارج من الصلاة بالقهقهة وليس عليه ركن من أركان الصلاة، ولا واجب من واجباتها، وعليه الوضوء لصلاة أخرى عندنا، خلافاً لزفر رحمة الله عليه؛ لأن هذه القهقهة لا توجب فساد الصلاة، والشرع إنما جعل القهقهة موجبة أيضاً انتقاض الطهارة في موضع أوجبت فساد الصلاة.... يرد إلى الأصل، ولعلمائنا رحمهم الله أن القهقهة لاقت حرمة الصلاة. ألا ترى أنه لو اقتدى به إنسان في هذه الحالة إلا أن الصلاة لا تفسد؛ لأنه صار خارجاً عن الصلاة بالقهقهة وليس عليه ركن ولا واجب والله أعلم. وإذا أصاب المصلي حدث من غير فعله بأن شجه إنسان استقبل في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: يبني؛ لأن الحدث سبق بغير صنعه فهو كالحدث السماوي. ولهما: أن العذر فيها جاء من لا قبل من له الحق، وفي الحدث السماوي جاء من قبل من له الحق. ألا ترى أن المريض يصلي قاعداً ثم لا يلزمه الإعادة إذا بره...... فصلى قاعداً ثم يعيد إذا زاد من العبد. والفقه فيه: أن التحرز عن العباد ممكن في الجملة بخلاف العذر السماوي، فإن التحرز عنه لا يمكن فلم يجز إلحاق هذا بذلك، ولو سقط من السطح....... يسبح

برأسه رأيته إن كان بمرور الماء فهو على الاختلاف، وإن كان لا بمرور ماء فمن مشايخنا من قالوا: شيء فلا خلاف؛ لأنه حصل لا بصنع من جهة العباد، ومنهم من قال: على الاختلاف؛ لأن الشرط مضاف إلى الواضع، ولو وقع الكمثري من الشجر على رأسه فهو على هذا. منهم من قال: لا يبني لأنه حصل بصنعه، فإنه يمكنه التحفظ منه، ومنهم من قال: على الاختلاف، ولو أضاف بدنه أو ثوبه نجاسة إن أصاب بسبب مطلق له البناء بأن قاء أو رعف فأصاب ثوبه أو بدنه من ذلك يغسل ويبني؛ لأن هذه نجاسة حقيقية أصابته لا بصنع من جهة العباد فيعتبر بنجاسة تصيبه لا من جهة العباد، ولأن الشرع لما جوز البناء بمطلق رعاف مع علمه أن ذلك قد لا يخلو عن النجاسة علم أنه جعله عفواً، فأما إذا أصابته لا بسبب يطلق له البناء، فإن انتضح البول على ثوبه أكثر من قدر الدراهم فغسلها يبني. وعن أبي يوسف رحمة الله عليه: إنه يبني، وقيل الغسل: لو أمكنه النزع فإن يجد ثوباً آخر ينزع من ساعته أجزأه، لأن النجاسة الكثيرة في مدة قليلة بمنزلة النجاسة القليلة في مدة كثير، كما أن الكشف الكبير من مدة قليلة بمنزلة الكشف القليل في مدة كثيرة. وإن لم يمكنه النزع من ساعته بأن لم يجد ثوباً آخر، فإن أدى جزءاً من الصلاة مع ذلك الثوب تفسد صلاته بالإجماع، وإن لم يؤد جزءاً من الصلاة ولكن مكث كذلك لم تفسد صلاته، وإن طال مكثه وإن أمكنه النزع في ساعته بأن كان يجد ثوباً آخراً، فلم ينزع ولم يؤد جزءاً من الصلاة اختلف أصحابنا فيه، قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: تفسد صلاته فيذهب ويغسل الثوب ويستقبل الصلاة، وقال محمد رحمه الله: لا تفسد صلاته، فيغسل ويبني...... أصاب جسده. وعلى هذا الاختلاف مسائل: إحداها في النجس حملت ساعة فإن كان بعذر بأن لم يمكنه أن يتحول ولم يؤد شيئاً، فإن صلاته لا تفسد، وإن مكث بغير عذر، ولم يؤد شيئاً فهو على الاختلاف. وكذلك المصلي إذا سقط عنه ثوبه فمكث عرياناً ولم يستتر من غير عذر ولم يؤد شيئاً فعلى هذا الاختلاف محمد رحمه الله يقول: لم يؤد شيئاً في الصلاة فلا تفسد، كما لو مكث بعذر وهما يقولان: مكث من غير عذر فتفسد كما لو أدى ركناً، وهذا لأن بقاء الحرمة بعد فوات هذه الشرائط بخلاف القياس والشرع إنما...... الانصراف من ساعته، والله أعلم. وإن أصابه الدم بسبب الرعاف وأصابه بغير أدنى سبب آخر، وذلك أقل من قدر الدرهم لكن مع الرعاف أكثر من قدر الدرهم فغسل النجاسة التي لا تسبب الرعاف تثبت صلاته سواء كانا في محلة واحدة أو في محلتين، وإن سال من دمل به دم توضأ وغسل

ويبني ما لم يتكلم، ولو أصاب ثوبه من ذلك الدم، فإنه يغسل الثوب ويبني بخلاف ما إذا أصابته نجاسة أخرى فغسلها حيث لا يبني، وإن عصر الدمل حتى سال أو كان في موضع ركبتيه فانفتح من اعتماده على ركبتيه في سجوده فهذا بمنزلة الحدث العمد فلا يبني على صلاته، ولو خاف المصلي سبق الحدث فانصرف ثم سبقه فتوضأ ليس له أن يبني في قول أبي حنيفة ومحمد وزفر رحمهم الله. وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه يبني ذكر الاختلاف في اختلاف.m .... ويعقوب. حجته: أن الخوف من سبق الحدث كسبق الحدث من حيث الحكم، والمعنى حجة أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أن جواز البناء عرف بالنص بخلاف القياس عند سبق الحدث، فلا يجوز الانصراف قبل سبق الحدث، ولو ظن الإمام أنه أحدث ثم علم أنه لم يحدث، وهو في المسجد رجع وبنى. وروي عن محمد رحمه الله: أنه لا يبني وإن خرج من المسجد فسدت صلاته ولو ظن أنه على غير وضوء أو أن في ثوبه نجاسة فابتعد وتحول إلى القبلة فسدت صلاته، وكذا المتيمم إذا رأى سراباً فظنه ماء ولم يسلم في الركعتين ساهياً على ظن أنه تيمم ثم يبني له ذلك صار حكمه وحكم الذي ظن أنه أحدث سواء على الاختلاف الذي ذكرنا. وجه (ما) روي عن محمد رحمة الله عليه وهو القياس أنه انحرف عن القبلة بغير عذر فتفسد صلاته كالذي ظن أنه على غير وضوء كالمتيمم إذا رأى سراباً ظنه ماء. وجه الاستحسان؛ إن عرضه إصلاح صلاته والاستدبار بهذا القصد ليس بقاطع بدليل أنه لو تحقق ما توهم بنى فلم يكن على هذا القصد قاطعاً، لأن الصلاة يلائمها ما يصلحها الأداء..... مسجد؛ لأن اختلاف المكانين قاطع للصلاة لا عند العذر وبخلاف ما لو ظن أنه على غير وضوء، والمتيمم إذا رأى سراباً ظنه ماء؛ لأن..... لم يكن فيما صنع قاصداً إلى إصلاح صلاته بل كان قاصداً رفض التحريمة بدليل أنه لو تحقق ما توهم يبني والانحراف عن القبلة بهذا القصد مفسد للصلاة، وإذا كان يصلي في الصحراء فظن أنه أحدث فذهب عن مكانه ثم علم أنه لم يحدث بأن كان يصلي وحده فموضع سجوده ككونه في المسجد، وكذلك يمينه وشماله وخلفه، وإن كانوا يصلون بالجماعة فإن انتهى إلى آخر الصفوف ولم يجاوز الصفوف صلى ما بقي استحساناً، وإن جاوز الصفوف استقبل الصلاة، وإن تقدم إمامه وليس بين يديه بناء ولا سترة إن تقدم بمقدار ما لو قام جاوز الصفوف فسدت صلاته، وإن كان أقل من ذلك لا تفسد وصلى ما بقي. وإن كان بين يديه حائط أو سترة، فإذا جاوزها بطلت صلاته، وذكر هشام عن محمد رحمة الله عليهما: لا تفسد صلاته حتى يتقدم مثل ما لو تأخر خرج من الصفوف

الفصل السادس عشر في الاستخلاف

وجاوز أصحابه وإن كان بين يديه سترة، والله أعلم. الفصل السادس عشر في الاستخلاف وكل موضع جاز البناء فللإمام أن يستخلف؛ لأنه عجز عن إتمام ما ضمن القوم، الوفاء به فيستوي بمن تعذر عليه (78أ1) والأثر في ذلك ما روي عن النبي عليه السلام لما ضعف في مرضه قال: «مروا أبا بكر رضي الله عنه يصلي بالناس، فقالت عائشة رضي الله عنها لحفصة: قولي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إن أبا بكر رجل أسيف إذا وقف في مكانك لا يملك نفسه فلو أمرت غيره، فقالت ذلك، فقال:؟..... «صواحب يوسف، مروا أبا بكر يصلي بالناس» ، فلما افتتح أبو بكر رضي الله عنه الصلاة وجد رسول الله عليه السلام في نفسه خفة، فخرج وهو يتهادى بين علي والفضل بن عباس رضي الله عنهم، وتصل رجليه بخطاب الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسه فناجز القوم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصلى أبو بكر فصلى بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر يعني: أبو بكر يصلي بتكبير الرسول والناس يصلون بتكبير أبي بكر بين يدي الله ورسوله، فصار هذا أصلان: إن في كل موضع عجز الإمام عن الإتمام أن يتأخر ويستخلف معه، وما لا يصح منه البناء كالحدث العمد، فلا استخلاف فيه، لأن الاستخلاف في القائم، وقد فسدت صلاته بما صنع والإمام يحدث على بناء إمامته ما لم يخرج من المسجد أو يستخلف رجلاً ويقوم الخليفة في مقام ينوي أن يقوم الناس فيه أو يستخلف القوم غيره حتى لو لم يوجد شيء من ذلك يقوما في جانب المسجد والقوم ينتظر فيه ورجع إلى صلاته وأتم صلاته بهم آخر أتم. وإنما صح فنفذت ولايته عليهم فيما يرجع إلى تصحيح صلاتهم، فإذا استخلف القوم الخليفة فيه فصار هو الإمام وبطلت الإمامة في حق الأول؛ لأنه لا يجتمع في الصلاة الواحدة إمامان، وكذا إذا استخلف القوم صح استخلافهم بحاجتهم إلى تصحيح صلاتهم، وصار المقدم إماماً وبطلت الإمامة في حق الأول لما مر، فإن لم يستخلف الإمام ولا القوم حتى خرج من المسجد فسدت صلاة القوم، ويتوضأ الإمام ويبني لأنه في حق نفسه كالمنفرد. والقياس: أن لا تفسد صلاة القوم فإن بعد الحدث بقوا مقتدين به حتى لا يوجد الماء في المسجد فتوضأ وعاد إلى مكانه وأتم تتمة الصلاة أجزأه فكذلك بعد خروجه ولكن استحسن...... أن يكون قوم في الصلاة في المسجد وإمامهم في الصلاة في

المسجد وإمامهم في أهله وإماماً آخر في المسجد فكأنه في المحراب؛ لأن المسجد في كونه مكان الصلاة كبقعة واحدة فلم يكن بينه وبينهم في الاقتداء بخلاف ما نحن فيه وكل من يصلح إماماً للإمام الذي سبقه الحدث في الابتداء يصلح خليفة له، ومن لا يصلح إماماً له في الابتداء لا يصلح خليفة. ولو لم يكن مع الإمام إلا رجل واحد فهو إمام نفسه قدمه المحدث أم لا، لأن التقديم إنما يحتاج إليه للتعيين، والذي مع الإمام المحدث بناء معتبر فاستغنى عن التعيين، ولو اقتدى رجل بهذا الإمام المحدث قبل أن يخرج من المسجد صح دخوله، وإن كان بعد انصرافه؛ لأن حكم الإمامة قائم بخيار البناء عليه، وإن كان بعد انصرافه لأن المسجد مع تباين أطرافه وتباعد أكنافه جعل بمكان واحد بدليل جواز الاقتداء به، وإن كان المقتدي في آخر المسجد، فصار كأن الإمام في مكان الإمامة بعد فيؤد ذلك ينظر إن قدم المحدث خليفة يصلي بالقوم جازت صلاة الداخل، وإن لم يقدم حتى خرج من المسجد فصلاة الداخل فاسدة، وهذا هو الحكم في حق الذي كان مع الإمام قبل الحدث. ولو قدم الإمام امرأة فسدت صلاتهم جميعاً الرجال والنساء، والإمام المقدم، وقال زفر رحمه الله: صلاة المقدمة والنساء تامة، لأنها صلحت إماماً للنساء واعتبر ذلك بالابتداء. ولنا: أن المرأة..... لما تصلح لإمامة الرجال صار الإمام ولا استقبال باستخلاف من لا يصلح خليفة له معرضاً عن الصلاة فتفسد صلات النساء، وصلاته تفسد صلاة القوم، لأن الإمامة لم تتحول عنه. وكذلك إذا قدم صبياً فسدت صلاته وصلاة القوم؛ لأن الصبي لا يصلح إماماً في الفرض ولا يصلح خليفة له. وكذلك إذ قدم رجلاً على غير وضوء فسدت صلاته وصلاة القوم؛ لأن المحدث لا يصلح إماماً له، فلا يصلح خليفة له فصار بمنزلة ما لو استخلف امرأة. ولو أن الإمام حين قدم واحداً من هؤلاء لم يتقدم المقدم بنفسه، ولكن استخلف هو رجلاً آخر ذكر هذه المسألة في باب الجمعة: وإن المقدم على غير وضوء فإن استخلافه غير جائز، وإن كان المقدم امرأة أو صبياً أو كافراً لا يجوز استخلافه غيره. والفرق: أن المقدم إذا كان على غير وضوء فهو من أهل الإمامة في الجملة، فإن أهلية الإمام بالإسلام والذكورة والبلوغ من عقد وقد وجد ذلك من حقه فصح استخلافه؛ إلا أنه عجز عن الأداء لعدم الطهارة فيعتبر كما لو كان الأول على حاله وعجز عن الأداء لعدم الطهارة، وهناك يجوز الاستخلاف كذا هنا. فأما المرأة ليست من أهل الإمامة للرجال، وكذا الصبي ليس بأهل إمامة البالغين

فلم يصح استخلافها أصلاً، وإذا لم يصح استخلافهما كيف يصح الاستخلاف منهما؟ وإذا أحدث الإمام وخلفه نساء لا رجال معهن، فتقدمت واحدة منهن من غير تقديم الإمام قبل خروج الإمام، قال: هذا والأول سواء، قيل: أراد به مسألة استخلاف واحدة منهن يعني تفسد صلاة الإمام وصلاة النسوة. وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما، نصاً أن صلاة الإمام تفسد بتقدم واحدة منهن من غير تقديم منه؛ لأن تقديم الإمام واحداً من القوم وتقدم النسوة، ولا تفسد صلاة الإمام وقد روي عن محمد نصاً في هذه الصورة، وهو ما إذا تقدمت واحدة منهن بنفسها من غير تقديم الإمام أنه لا تفسد صلاة الإمام والله أعلم. وإذا كان مع الإمام صبي أو امرأة إن استخلفه فسدت صلاتهما وقدم هذا وإن لم يستخلفه وخرج من المسجد، اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: تفسد صلاته؛ لأنه لما تعين صار كأنه استخلفه. وقال بعضهم: إذا كان معه امرأة أنه تفسد صلاته وتفسد صلاة المقتدي وهذا أصح؛ لأن تعين الواحد للإمامة إنما كان للحاجة إلى إصلاح صلاة المقتدي، وفي جعلهما إماماً منهما فساد صلاتهما فلم...... إما ما بقي الإمام إماماً وليست المرأة تعذر به لا إمام لها في المسجد وعلى هذا: إذا كان خلف الإمام من يصلي التطوع إن استخلفه فسدت صلاته، وإن لم يستخلفه وخرج من المسجد يجب أن يكون فيه اختلاف المشايخ؛ لأن المتنفل لا يصلح إماماً للمفترض فصار نظير مسألة المرأة. وإذا أحدث الإمام ولم يقدم أحداً حتى خرج من المسجد فصلاة القوم فاسدة؛ لأنهم مقتدون فيها لم يتولهم إمام في مكانه وهو المسجد. ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : حكم صلاة الإمام، وذكر الطحاوي رحمه الله: أن صلاته تفسد أيضاً؛ لأن بعد سبق الحدث كان عليه الاستخلاف فيصير هو (78ب1) في حكم المقتدي به.....، فكما تفسد صلاة غيره من القوم، فكذا تفسد صلاته، وذكر أبو عصمة سعد بن معاذ المروزي عن محمد رحمه الله: أن صلاته ثابتة، وذكر في «مختصر الكرخي» : أنه لا تفسد صلاة الإمام، ولم ينتسب هذا القول إلى أحد. ووجه ذلك: أن الإمام ما كان يحتاج إلى الاستخلاف لإصلاح صلاته، وإنما كان يحتاج إليه لإصلاح صلاة القوم، فبقي هو منفرداً، والمنفرد إذا سبقه الحدث وخرج من المسجد ليتوضأ لم تفسد صلاته كذا هنا. وإذا أم رجلاً واحداً، فأحدثا وخرجا من المسجد فصلاة الإمام تامة لما مر، وصلاة المقتدي فاسدة إذا لم يبق له إمام في المسجد، وإذا أم الرجل قوماً فسبقه الحدث فقدم الإمام رجلاً والقوم رجلاً ونوى كل واحد أن يكون إماماً فإمامٌ هو الذي قدمه الإمام.

وإذا أحدث الإمام وقدم كل فريق من القوم إماماً، اقتدى كل فريق بإمامه فسدت صلاتهم؛ لأن هذه صلاة افتتحت بإمام، ولا يجوز إتمامها بإمامين، وليس أحدهما؛ بأن يجبذ إماماً بأولى من الآخر ففسدت صلاة المعتدين، ومن ضرورة فساد صلاة القوم، وهذا إذا استوى الفريقان في العدد، فأما إذا قدم جماعة القوم أحد الإمامين إلا رجلاً أو رجلين واقتدى به، وقدم الآخر رجلٌ أو رجلان واقتديا به فصلاة من اقتدى به الجماعة وصلاتهم صحيحة، وصلاة الآخرين مع إمامهما فاسدة. فأما إذا اقتدى بكل إمام جماعة، وأحد الفريقين أكبر من الآخر عدداً، فقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله: صلاة الأكثرين جائزة ويبتني الفساد في حق الآخرين كما في الواحد والمثنى، وقال بعضهم: صلاة الكل فاسدة، وفي «نوادر الصلاة» : صلاة الطائفة الأكثر جائزة؛ لأن الحكم للغالب. ولو قدم الإمام رجلين فهذا وتقديم القوم إياهما سواء، ولو فضل أحدهما إلى وضع الإمامة قبل الآخر يعتبر هو للإمامة وجازت صلاته وصلاة من اقتدى به؛ لأن الاستخلاف كان للضرورة، وقد ارتفعت الضرورة بوصول هذا إلى موضع الإمامة، فاستخلاف الآخر وجوده وعدمه بمنزلة. ولو تقدم رجل من غير تقديم آخر، وقام مقام الأول قبل أن يخرج الإمام من المسجد وصلى بالقوم أجزأهم ولو كان الإمام قد خرج من المسجد قبل وصول هذا إلى موضع الإمامة فسدت صلاتهم، وصلاة الإمام تامة. وإذا كان مع الإمام رجل وأحدث الإمام وتعين الرجل الذي خلفه للإمامة على ما مر، فتوضأ الإمام ورجل دخل مع هذا في صلاته؛ لأن هذا قد تعين للإمامة، وإن لم يرجع الأول حتى أحدث هذا وخرج من المسجد فسدت صلاة الأول؛ لأن الإمامة تحولت إلى الثاني، فإذا خرج الثاني عن المسجد لم يبق للأول إمام في المسجد فسدت صلاته، هكذا ذكر القاضي الإمام علاء الدين في «شرح المختلفات» . وذكر الحكم في «المختصر» : عن علي قول أبي عصمة رحمه الله: لا تفسد صلاته، ووجه ذلك: أن صيرورة الباقي إماماً كان بطريق القصد ليظهر في حق الأحكام كلها، وإنما كان بطريق الضرورة حتى لا تفسد صلاته بخروج الإمام عن المسجد ليتطهر، والله أعلم. وصلاة الثاني تامة؛ لأنه منفرد في حق نفسه، وإن لم يخرج الثاني من المسجد حتى رجع الأول ثم خرج الثاني صار الإمام هو الأول؛ لأنه متعين لإصلاح هذه الصلاة، فيكون متعيناً للإمامة، وإذا كان الأول متعيناً للإمامة صار الثاني مقتدياً، فجازت صلاتهما جميعاً، وإن جاء ثالث واقتدى بالثاني فسبقه الحدث فخرج من المسجد فحولت الإمامة إلى الثالث لكونه متعيناً، فإن أحدث الثالث فخرج من المسجد قبل رجوع أحد الأولين فسدت صلاتهما، لأنه لم يبق لهما إمام في المسجد وإن كان رجع أحد الأولين قبل خروج الثالث تحولت الإمامة إلى ذلك بخروج الثالث، وإن كانا رجعا جميعاً، فإن

استخلف الثالث أحدهما صار هو الإمام، وإن لم يستخلف حتى خرج فسدت صلاتهما، لأنه لم يبق لهما إمام في المسجد، لأنه ليس أحدهما بالإمامة بأولى من الآخر. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا أحدث الإمام وليس معه إلا رجل واحد، فوجد الماء في المسجد وتوضأ، قال: يتم صلاته مقتدياً بالثاني، لأنه متعين للإمامة بنفس الانصراف تتحول الإمامة إليه، فإن كان معه جماعة فتوضأ في المسجد عاد إلى مكان الإمامة وصلى بهم، لأن الإمامة لا تتحول منه إلى غيره في هذه الحالة إلا بالاستخلاف ولم يوجد. إمام صلى برجلين فسبقه الحدث فقدم أحدهما وذهب صار المقدم إماماً لهما، فإن سبقه الحدث فخرج فهذا الذي بقي صار إماماً إذا نوى الإمامة كذا قال في «نوادر الصلاة» ، قالوا: معناه: ترك المضي على الاقتداء، حتى لو بقي على اقتدائه بإمامه ولم يعمل عمل المنفرد لم يجز، فأما نية الإمامة ليست بشرط، ويختار بكون الجواب فيما إذا كان خلف الإمام رجل واحد هكذا أنه لو بقي على اقتدائه، فإمامه ولم يعمل عمل المنفرد إنه لا يجوز في «الخصائل» . إمام أحدث فانتقل وقدم رجلاً جاسياً....... فإنه ينظر إن كبّر قبله سبق الإمام الحدث صح استخلافه؛ لأنه........ الإمام في الصلاة، وكذلك إذا نوى الدخول في صلاة الإمام وكبّر قبل خروج الإمام من المسجد، لأنه ما دام في المسجد كأنه في الصلاة، وعلى قول...... رحمه الله؛ لا يصح استخلافه هنا، قال: لأن حدث الإمام من المقتدي، كحدثه. بنفسه، وكونه محدثاً يمنع من الشروع في الصلاة ابتداء، فيمنع الاقتداء به أيضاً، فإن بقاء الاقتداء بعد الحدث عرفناه بالسنّة، والابتداء ليس في معنى البقاء، ولكنا نقول: التحريمة باقية في حق الإمام حتى إذا عاد بنى على صلاته، وكذلك صفة الإمامة له باقية ما لم يخرج من المسجد، حتى لو توضأ في المسجد عاد إلى مكان الإمامة جاز فاقتداء صحيح في هذه الحالة، وإذا صح الاقتداء جاز استخلافه. وإن كان حتى كبّر نوى الدخول في صلاة نفسه ولم ينوِ الاقتداء بالأول فصلاته تامة، لأنه افتتحها منفرداً وأداها منفرداً ولم ينوِ الاقتداء، فتكون صلاته تامة، وصلاة القوم فاسدة؛ لأنهم كانوا مقتدين بالأول، فلا يمكنهم إتمامها مقتدين بالثاني لأن الصلاة الواحدة لا تؤدى بإمامين بخلاف خليفة الأول، فإنه قائم مقام الأول، فكأنه هو نفسه، فكان الإمام واحداً معنىً، وإن كان مثنى صورة، وها هنا الثاني ليس بخليفة الأول، لأنه لم يقتد به قط فتحقق إذ الصلاة الواحدة خلف إمامين صورة ومعنى، فبهذا لا تجزئهم صلاتهم، وأما صلاة الإمام الأول لم يذكر في «الكتاب» ، واختلف المشايخ: قال بعضهم: لا تفسد صلاته (79أ1) ، وقال: تفسد وهو الأصح، لأنه اقتدى بمن ليس في الصلاة فتفسد صلاته كما لو استخلفوا جنباً أو محدثاً أو امرأة.

إمام أحدث فقدم رجلاً من آخر الصفوف ثم خرج من المسجد، فإن نوى الثاني أن يكون إماماً من ساعته، ونوى أن في ذلك المكان جازت صلاة الخليفة وصلاة الإمام الأول، ومن كان على يمين الخليفة وعلى يساره في صفه ومن كان خلفه، ولا تجوز صلاة من كانوا أمامه في الصفوف؛ لأنهم صاروا أمام الإمام، وإن نوى الثاني أن يكون إماماً إذا قام مقام الأول، وخرج الإمام الأول قبل أن يصلي الثاني إلى مقام الأول فسدت صلاتهم؛ لأنه كما خرج الإمام الأول فلا مكان للإمامة عن الإمام، والإمام الأول يتوضأ ويبني على صلاته في الأحوال كلها. إذا أحدث واستخلف رجلاً من خارج المسجد والصفوف متصلة بصفوف المسجد لم يصح استخلافه، وتفسد صلاة القوم في «نوادر أبي حنيفة» وأبي يوسف رحمهما الله، وفي فساد صلاة الإمام روايتان، فقيل: والأصح هو الفساد. إمام سبقه الحدث واستخلف رجلاً، واستخلف الخليفة غيره: قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: إن كان الإمام لم يخرج من المسجد، ولم يأخذ الخليفة مكانه حتى استخلف غيره جاز، ويصير كأن الثاني تقدم بنفسه، أو قدمه لإحكام ما للأول وإن كان غير ذلك لا يجوز. إمام توهم أنه رعف فاستخلف غيره، فقبل أن يخرج الإمام من المسجد ظهر أنه كان ماء ولم يكن دماً، قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: إن كان الخليفة أدى ركناً من الصلاة لم يجز للإمام أن يأخذ الإمامة مرة ثانية، لكنه يقتدي بالخليفة؛ لأن الخلافة تأكدت بأداء ركن، وإن لم يؤدِ ركناً لكنه قام في المحراب، قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمة الله عليهما: له أن يأخذ الإمامة مرة أخرى؛ لأن المسجد كمكان واحد، فيجعل كأن لم يحول وجهه عن القبلة، وقال محمد رحمه الله: لا يجوز؛ لأنه حول وجهه عن القبلة بالشك لا بالتيقن بالحدث، فتفسد صلاته عند محمد رحمه الله. وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله» : إذا ظن الإمام أنه أحدث من غير حدث فاستخلف رجلاً ثم تبين له قبل أن يخرج من المسجد أنه لم يحدث قال: إن كان لم يأت بالركوع جازت صلاتهم يعني الخليفة، وإن أتى بالركوع فسدت صلاتهم. قال الفقيه: هذا وفي رواية محمد بن سماعة عن محمد رحمة الله عليهما: أنه قال: إذا قام مقام الإمام فسدت صلاتهم وإن لم يأت بركن من أركان الصلاة، وإذا لم يقم الخليفة مقام الإمام الأول جازت صلاتهم، قال: وكان الشيخ الإمام يفتي بهذا إذا ظن الإمام أنه أحدث فاستخلف رجلاً وخرج من المسجد، ثم علم أنه لم يكن حدثاً فسدت صلاة الكل هو الصحيح. ظن الإمام أنه أحدث، وأنه على غير وضوء، فانصرف القوم رجلاً (رجلاً) ثم استيقن بالطهارة فسدت صلاة الكل خرج الإمام من المسجد أو لم يخرج الإمام. إذا صار مطالباً بالبول، فذهب واستخلف غيره لا يصح استخلافه، إنما يصح الاستخلاف بعد خروج البول، وكذا إذا أصابه وجع البطن أو غير ذلك، وكذلك إن عجز

عن القيام بذلك السبب قعد وصلى قاعداً لا يجوز. إمام سبقه الحدث فاستخلف رجلاً وتقدم الخليفة ثم تكلم الإمام قبل أن يخرج من المسجد أو أحدث متعمداً، قالوا: يضره ولا يضر غيره، ولو جاء رجل في هذه الحالة، فإنه يقتدي بالخليفة ولو بدا للأول أن يقعد في المسجد فلا يخرج كان الإمام هو الثاني، ولو توضأ الأول في المسجد وخليفته قائم في المحراب لم يؤد ركناً يتأخر الخليفة ويتقدم الإمام الأول، ولو خرج الإمام الأول من المسجد، فتوضأ ثم رجع إلى المسجد وخليفته لم يؤد ركناً كان الإمام هو الثاني، وإن نوى الثاني بعدما تقدم إلى المحراب أن لا يخلف الأول ويصلي صلاة نفسه لا تفسد ذلك صلاة من اقتدى به. رجل صلى في المسجد وأحدث، وليس معه غيره، فلم يخرج من المسجد حتى جاء رجل وكبّر ينوي الدخول في صلاته ثم خرج الأول، فإن الثاني يكون خليفة الأول عند أصحابنا رحمهم الله، وكذا لو توضأ الأول في ناحية من المسجد، ورجع ينبغي أن يقتدي بالثاني؛ لأن الثاني صار إماماً له عينه أو لم يعينه. إذا أحدث الإمام واستخلف رجلاً وخرج من المسجد ثم أحدث الثاني ثم جاء الأول بعدما توضأ قبل أن يقوم الثاني مقام الأول جاز للثاني أن يقدمه، وإذا حضر الإمام من القراءة فتأخر وقدم رجلاً أجزأهم، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يجزئهم. حجتهما: أن...... في القراءة بأن ينسى جميع القرآن نادر غاية الندرة، فلا يلحق بالحدث، بل ملحق بالجنابة. حجة أبي حنيفة رحمة الله عليه: أن العلة في حق الذي سبقه الحدث عجزه عن الأداء، والعجز ها هنا ألزم؛ لأن المحدث ربما يصيب ماء في المسجد فيتوضأ ويبني من غير استخلاف، وأما الذي ينسى ما حفظ ذلك لا يعلم إلا بالتعلم أو بالتذكر، وذلك يكون بعد مدة، فيمتنع المعنى لا محالة، وهذا إذا لم يقرأ مقدار ما تجوز به، ولا يجوز الاستخلاف بالإجماع، وإذا صار جانياً بحيث لا يصدر على المعنى ذكر في غير رواية «الأصول» : أن على قول أبي حنيفة رحمه الله: ليس له أن يستخلف، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: له ذلك، فأبو حنيفة رحمه الله فَرَّق بين هذه المسألة وبين مسألة.H ...... والفرق: وهو أن العجز عن القراءة ليس بنادر، أما صيرورته جانباً في الصلاة على وجه يعجز عن المعنى نادر فبمنزلة الجنابة. لو أن قارئاً صلى بقوم ركعتين من الظهر، وقرأ منهما، وسبقه الحدث ثم استخلف أمياً جاز عند أبي يوسف رحمه الله؛ لأن الإمام قد أدى فرض القراءة، فلا حاجة إليها في الأخريين، فكان الأمي وغيره فيهما سواء.

وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: فسدت صلاة الكل؛ لأن استقباله باستخلاف من لا يصلح إماماً له تفسد، وكذا استخلاف الأمي في القعدة الأخيرة قبل قدر التشهد على هذا إذا قعد قدر التشهد. قال في «الجامع الصغير» : يجوز عند أبي يوسف رحمه الله وسكت عن ذكر قول أبي حنيفة رحمه الله، قالوا وعنده: يجوز أيضاً. وفي «النوادر» : الإمام إذا نسي القراءة في الأوليين من الظهر ثم سبقه الحدث فاستخلف رجلاً.....، فعلى الثاني أن يقرأه في الأخريين قضاء عن الأولين (79ب1) ، وإذا انتهى إلى موضع سلام الإمام واستخلف من يسلم بهم، وقام لقضاء الأولين، وقرأ فيهما، ولو ترك القراءة فيهما فسدت صلاته وإن قرأ مرة في ركعتين، لأن تلك القراءة التحقت بالأولين، فتعينت الأخريان. بغير قراءة، فإذا قضى الأولين فلا بد له من القراءة فيهما، والله أعلم. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : صلى رجل بقوم الظهر، فلما صلى ركعة وسجدة ثم أحدث فقدم مدركاً، فسهى عن الثلاث السجدات، وصلى بهم ركعة وسجدة ثم أحدث، فقدم مدركاً وتوضأ الأئمة الأربعة وجاؤوا قال: ينبغي للإمام الخامس أن يسجد السجدة الأولى؛ لأن الأئمة كلهم خلفاً للأول فعليهم ما على الأول ويسجد معه القوم وللأئمة جميعاً؛ لأنهم أدركوا أول الصلاة وقد فاتتهم تلك السجدة، فإذا أدركوها في موضعها كان عليهم أداؤها ثم يقوم الإمام الأول فيصلي ثلاث ركعات بغير قراءة؛ لأنه قد أدرك أول الصلاة وكأنه خلف الإمام. ثم يسجد الإمام الخامس السجدة الثانية ويسجد معه القوم والأئمة؛ لأنهم أدركوها في موضعها إلا أن الإمام الأول لا يسجد السجدة الثانية؛ لأن عليه أركاناً يصليها وهي الركعة الثانية؛ إلا أن يكون أدى الركعة الثانية، وانتهى إلى هذه السجدة، فحينئذٍ يسجد مع الإمام الخامس هذه ثم يقوم الإمام الثاني فيصلي ركعتين بغير قراءة، لأنه مدرك لأول الصلاة وكأنه خلف الإمام ثم يسجد الإمام الخامس السجدة الثالثة، ويسجد معه القوم والأئمة الأول والثاني؛ لأنهم أدركوها في موضعها على ما ذكرنا. ثم يقوم الإمام الثالث فيصلي ركعة بغير قراءة على ما بينا، ثم يسجد الإمام الخامس السجدة الرابعة ويسجد معه القوم والإمام الرابع لما بينا، ولا يسجد مع الأول والثاني والثالث؛ إلا أن يكونوا فرغوا من أداء ما عليهم وانتهوا إلى هذه السجدة، ثم يتشهد الإمام الخامس ويسجد السهو ويسجد معه القوم والإمام الرابع، ولا يسجد معه الإمام الأول والثاني والثالث؛ لأنهم مدركون، والمدرك لا يتابع الإمام في سجود السهو إلا أن يكون فرغ من أداء ما عليه، هذا هو الجواب في هذه المسألة. وإذا عرفت الجواب في ذوات الأربع ظهر لك الجواب في ذات الركعتين؛ لأن

الكلام في ذات الركعتين أظهر وأوضح؛ لأن هنا نحتاج إلى بيان أحكام الأئمة الخمسة، وهناك نحتاج إلى بيان أحكام الأئمة الثلاثة. قال محمد رحمه الله: الأول مقيم صلى بقوم مقيمين ركعة من الظهر وسجدة، ثم أحدث فقدم رجلاً جاسياً....... وصلى بهم ركعة وسجدة ثم أحدث وقدم رجلاً جاسياً......... وصلى بهم ركعة وسجدة ثم...... وقدم رجلاً....... ثم توضأ الأئمة الأربعة وجاؤوا، قال: ينبغي للإمام الخامس أن يسجد بهم والسجدة الأولى لما ذكرنا أنه خليفة للأول ويسجد معه القوم والإمام الأول لما ذكرنا أنهم أدركوها في موضعها؛ لأنهم أدركوا أول الصلاة، ولا يسجد معه الإمام الثاني والثالث والرابع؛ لأنهم مستوفون بهذه الركعة، وإذا حضرا هذه الركعة..... يسجد بهما، فلا فائدة في متابعتهم الإمام الخامس فيها، فلا يتابعونه ثم يقوم الأول فيصلي ثلاث ركعات بغير قراءة؛ لأنه مدرك أول الصلاة فهو فيما يأتي مؤدٍ وليس بقاضٍ، فهذا لا يقرأ، ثم يسجد الإمام الخامس السجدة الثانية، ويسجد معه القوم والإمام الثاني ولا يسجد معه الإمام الأول إلا أن يكون قد انتهى إلى هذه السجدة، وكذا لا يسجد معه الإمام الثالث والرابع؛ لأنه لا فائدة من ذلك؛ لأنهم مستوفون بهذه الركعة وهي الركعة الثانية فيقضونها بسجدتيها عند قضاء الركعة ثم يقوم الإمام الثاني فيقضي ركعتين بغير قراءة؛ لأنه مدرك لهما، فهو فيهما مؤدٍ ثم يسجد بهم الإمام الخامس السجدة الثالثة. ويسجد معه القوم والإمام الثالث، ولا يسجد معه الإمام الأول، والإمام الثاني إلا أن يكونا انتهيا إلى هذه السجدة، وكذلك لا يسجد معه الإمام الرابع ثم يقوم الإمام الثالث، ويؤدي ركعة بغير قراءة، ثم يسجد الإمام الخامس السجدة الرابعة، ويسجد معه القوم والإمام الرابع، ولا يسجد معه الإمام الأول والثاني والثالث، إلا أن يكونوا انتهوا إلى هذا الموضع، ثم يتشهد الإمام الخامس، فإذا انتهى إلى موضع السلام تأخر من غير أن يسلم وقدم رجلاً أدرك أول الصلاة، فيسلم بهم، ويسجد سجدتي السهو، ويسجد معه القوم والإمام الربع والخامس؛ لأن الإمام الرابع والخامس مسبوقان، والمسبوق يتابع الإمام في سجود السهو، ولا يسجد معه الإمام الأول والثاني والثالث؛ إلا أن يكونوا انتهوا إلى هذا الموضع، ويسلم الإمام السادس، ويسلم معه القوم، ولا يسلم معه واحد من الأئمة، إلا أن الإمام الأول إذا كان فرغ من أداء ما عليه ثم يقوم الثاني، فيقضي ركعة بقراءة إن كان فرغ من الأداء؛ لأنه مسبوق بركعة، ويقوم الإمام الثالث ويقضي ركعتين بقراءة إن كان فرغ من الأداء؛ لأنه سبق بهما، ويقوم الرابع ويقضي ثلاث ركعات يقرأ في الركعتين منهما، وفي الثالثة بالخفاء ثم يقوم الإمام الخامس ويقضي أربع ركعات يقرأ في الأوليين وفي الأخريين بالخفاء. وذكر في «نوادر الصلاة» : أن الإمام الخامس إذا سجد السجدة الأولى سجد معه

القوم والأئمة جميعاً، وإذا سجد السجدة الثانية سجد معه القوم والأئمة الإمام الأول، وكذلك على هذا القياس في الثالثة والرابعة، وإنما أجزأهم بذلك وإن كان لا يحتسب ذلك من صلاتهم بطريق المتابعة، ألا ترى أن المسبوق يتابع الإمام في السجدة التي أدركها وإن كان لا يحتسب ذلك من صلاته والله أعلم. قال في «الأصل» أيضاً: إمام أحدث فاستخلف مدركاً قد نام خلفه حتى صلى الإمام ركعة وقدمه، قال أبو حنيفة رحمه الله: لا ينبغي للإمام أن يقدم هذا ولا لهذا أن يتقدم، وهذا؛ لأن الذي لم ينم خلف الإمام والذي هو مسبوق قدر على إمامة ما بقي على الإمام من غير مكث ولبث، وكذا المسبوق، وهذا لا يقدر على إتمام ما بقي على الإمام إلا بعد مكث ولبث؛ لأنه يلزمه أن يبدأ بالأول فالأول، فكان غيره أولى، مع هذا لو قدمه الإمام وتقدم هو جاز، والأصوب له أن يشير إلى القوم حتى..... هذا هو بما قام خلف الإمام، فيؤدي ذلك، فإذا انتهى إلى ما انتهى إليه إمامه أمهم من ذلك، فلو لم يفعل هكذا، ولكن بدأ بما بقي على الإمام وأخر ما نام فيه إلى أن يتشهد ثم قام، فأدى ما كان نام فيه، ثم سلم جازت صلاته استحساناً، وللقياس أن لا يجزئه (80أ1) هو قول زفر رحمه الله وعلى هذا القياس والاستحسان؛ إذا نام المقتدي خلف الإمام حتى صلى الإمام ركعة أو ركعتين، ثم استيقظ يتابع الإمام فيما أدرك فيه وأخر ما نام فيه إلى آخر الصلاة، فلم يعتبر الترتيب في حق اللاحق، واعتبره في حق المسبوق حتى قال بأن المسبوق يتابع الإمام فيما أدرك مع الإمام ثم ينتقل ببعض ما سبق، فلو أنه استقبل نقصاناً سبق أولاً قبل أن يتابع الإمام فيما أدرك تفسد صلاته. والفرق يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، ولو أن هذا الذي تقدم، استقبل فإذا ما بقي على الإمام..... ركعة تذكر ركعته تلك، والأفضل له أن يومي إليهم لينتظروه حتى يقضي تلك الركعة، ثم يصلي بهم بعيد صلاته كما كان في الابتداء يفعله وإن لم يفعل وتأخر حتى يذكر ذلك وقدم رجلاً منهم يصلي بهم فهو أفضل من الأول..... إن لم يتأول، ولكنه صلى بهم وهو ذاكر لركعة أجزأه أيضاً لما بينا، وإذا أتم صلاة الإمام فقدم رجلاً من المدركين حتى يسلم بهم، والله أعلم. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف رحمهما الله: رجل صلى بقوم ركعة من الظهر فأحدث، وانتقل ليتوضأ وقد قدم رجلاً ثم تذكر أن عليه صلاة الغداة فصلاته فاسدة وصلاة القوم تامة، ولم يظهر فساد صلاته في حق فساد صلاة القوم؛ لأن فساد صلاته بسبب فوات الترتيب مختلف فيه؛ لأن الشافعي رحمه الله لا يرى الترتيب مستحقاً، فلم يكن الفساد قوياً، فلا يظهر في حق القوم، ولم يفصل في رواية ابن سماعة بينما إذا تذكر ذلك بعد خروجه من المسجد أو قبل خروجه من المسجد ورأيت في الموضع أن الإمام المحدث إذا تذكر فائتة قبل أن يخرج من المسجد فسدت صلاته وصلاة الثاني والقوم؛

لأن الإمام الأول ما دام في المسجد وكأنه في المحراب بعد. ولو كان في المحراب وباقي المسألة بحالها، فإن الجواب كما بينا ويجب أن يشترط ها هنا شرط آخر، وهو أن يتذكر الأول الفائتة قبل أن يخرج من المسجد وقبل أن يقوم الخليفة في مقام ينوي أن يؤم الناس فيه لفساد صلاة الكل وإن تذكر فائتة بعدما خرج من المسجد فسدت صلاته خاصة؛ لأن بعد الخروج من المسجد أو قبل خروجه ولكن بعدما قام الثاني في مقام ينوي أن يؤم الناس فيه. وفي «القدوري» إذا صلوا في غير مسجد يعني في الصحراء وأحدث الإمام فمجاوزة الصفوف كالخروج من المسجد يريد به إذا رجع الإمام خلفه حتى جاوز الصفوف ولم يقدم أحداً فسدت صلاة القوم بمنزلة ما لو صلى في المسجد وخرح الإمام من المسجد بعدما أحدث قبل أن يقدم أحداً؛ لأن مكان الصفوف بحكم الاقتداء صار كالمسجد وإن لم يرجع خلفه ولكن مشى قدامه وليس بين يديه بناء ولا سترة لم تفسد صلاتهم حتى جاوز من بين يديه مقدار الصفوف إلى خلفه هكذا روى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله اعتباراً ما بجنبه الأخرى؛ لأن...... لا يختلف القاطع، وهكذا روي عن محمد رحمه الله. وإن كان بين يديه حائط أو سترة، فإذا تجاوز أحداً فسدت صلاتهم، هكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله، لأن السترة تجعل ما دونها في حكم المسجد بدليل اقتصار كراهة المرور على ما دون الستر ولم يذكر في القدوري ما إذا كانت السترة سوطاً موضوعاً بين يديه في الطول أو بالعرض. وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف رحمهما الله: أنه لا تفسد صلاتهم حتى يجاوز قدر موضع أصحابه الذي خلفه كما لو لم يكن بين يديه سترة أصلاً إذا ذهب الإمام المحدث ليتوضأ وقد كان قدم رجلاً فتوضأ وأراد أن يصلي في بيته أو في مسجد آخر ينظر إن كان الخليفة قد فرغ من صلاته صلاة الإمام في بيته وفي مسجد آخر وإن لم يكن فرغ الخليفة من صلاته لا تجوز صلاة الإمام في بيته ولا في مسجد آخر هكذا ذكر في «الأصل» . وذكر في «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: أن صلاة الإمام المحدث في بيته فاسدة حتى تكون صلاته بعدما يشهد هذا الإمام المقدم قالوا: وهذا إذا كان بين الإمام المحدث وبين خليفتهما يمنع صحة الاقتداء من الحيطان والجدر والنهر وما أشبه ذلك، وإن لم يكن بينهما ما يمنع صحة الاقتداء تجوز صلاة الإمام المحدث في بيته قبل فراغ الخليفة من الصلاة أو بعده.

الفصل السابع عشر في سجود السهو

الفصل السابع عشر في سجود السهو الأصل في سجود السهو ما روي أن النبي عليه السلام سها في صلاته فسجد، وفي حديث ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم (قال) لكل سهو سجدتان بعد السلام، وهكذا الفصل يشمل على أنواع: الأول في بيان صفة هذه السجدة وكيفيتها ومحلها أما بيان صفتها: كان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: هو واجب استدلالاً. بما قال محمد رحمه الله: إذا سها الإمام وجب على المؤتم أن يسجد. ووجهه: أنه جبر لنقصان العبادة، وكان واجباً..... قرأ بجبر في الحج، وهذا لأن أداء العبادة بصفة الكمال واجب، وصفة الكمال لا تحصل إلا بجبر النقصان. وقال غيره من أصحابنا رحمهم الله: إنه سنّة استدلالاً لما قاله محمد رحمه الله: إن العود إلى سجود السهو لا يرفع التشهد ولو كان واجباً لكان رافعاً للتشهد كسجدة التلاوة ولأنه يجب بترك بعض السنن والخلف لا يكون فوق الأصل. وأما الكلام في كيفيتهما قال القدوري رحمه الله: في كتابه يكبر بعد سلامة الأول ويخر ساجداً ويسبح في سجوده ثم يفعل ثانياً كذلك ثم يتشهد ثانياً، قوله يكبر بعد صلاته الأول يشير إلى أنه يكتفي بتسليمة واحدة، وهذا فصل اختلف فيه المشايخ عامتهم على أنه يكتفي بتسليمة واحدة لأن الحاجة إلى السلام للفصل بين الأصل وبين الزيادة الملحقة به، وهذا يحصل بتسليمة واحدة، وذكر الشيخ الإمام شيخ الإسلام رحمة الله عليه في شرح كتاب الصلاة أنه لو سلم تسليمتين؛ لأن محمداً رحمه الله ذكر السلام في «الأصل» مطلقاً، فينصرف إلى السلام من الجانبين. ثم اختلفوا في الصلاة على النبي عليه السلام، وفي الدعوات أنها في قعد الصلاة أم في قعدة سجدتي السهو. ذكر الكرخي رحمه الله في «مختصر» : أنها في قعدة سجدتي السهو؛ لأنها من القعدة الأخيرة في الحاصل، فإن ختم الصلاة بها والفراغ منها يحصل بهذه القعدة. الطحاوي رحمه الله قال: لكل قعد في آخرها سلام ففيها صلاة على النبي

عليه السلام، فعلى هذا يصلي على النبي عليه السلام في القعدتين جميعاً، ومنهم من قال: في المسألة اختلاف، عند أبي حنيفة رحمه الله يصلي في القعدة الأولى، وعند محمد رحمه الله يصلي في القعدة الأخيرة وهو قعدة سجود السهو بناءً على أصل أن سلام من عليه السهو يخرجه من الصلاة عندنا، فإذا كان يخرجه (80ب1) من الصلاة كانت القعدة الأولى من قعدة الختم، فيصلى فيه على النبي صلى الله عليه وسلّمويدعو الله تعالى فيه ليكون خروجه منها بعد الفراغ من الأدعية والسنن والمستحبات. وعند محمد رحمه الله: سلام من عليه سجود السهو لا يخرجه من الصلاة فيؤخر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّمإلى قعدة سجدتي السهو؛ فإنهما من الأخيرة له. وهذا الاختلاف إنما يظهر إذا ضحك بعد السلام قبل سجود السهو لا تنتقض طهارته عندهما، وعند محمد رحمه الله تنتقض، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: القعدة بعد سجدتي السهو ليست بركن، وإنما أمر بها بعد السجود ليقع ختم الصلاة بها، فيوافق ذلك موضوع الصلاة ويوليها، وأما أن يكون ركناً فلا، حتى لو تركها بأن سجد سجدتين بعد السلام ثم قام وذهب لم تفسد صلاته؛ لأنه لو لم يسجد للسهو لا تفسد صلاته، فإذا سجد ولم يقعد أولاً أن لا تفسد صلاته. وأما بيان محلها فنقول سجود السهو بعد السلام سواء كان من زيادة أو نقصان، وقال الشافعي رحمه الله: يسجد قبل السلام. حجته: حديث عبد الله بن مسعود أن النبي عليه السلام سجد سجدتي السهو بعد السلام، ولأن السجدة شرعت تجبر النقصان فيجب أن يقع في الصلاة. ولنا: حديث ثوبان على ما مر، وما روى محمول على ما قبل السلام الثاني، فإن عندنا يسجد للسهو بعد السلام الأول قبل السلام الثاني، عليه عامة المشايخ رحمهم الله ولأن سجدة السهو تأخرت عن وقت السهو مع أن الحكم لا يتأخر عن السبب في الأصل لحكمة، وهو: التحرز عن وهم التكرار، وما قبل السلام متوهم فيه السهو فيتوهم التكرار، فيؤخر عن السلام، ثم يعود إلى حرمة الصلاة بالسجود لتحقق الجبر في الصلاة، ولو سجد بعد السلام أجزأه عندنا. قال القدوري رحمه الله: هذا رواية «الأصول» ، قال: وروي عنهم أنه لا يجزيه؛ لأنه أراه قبل، وفيه وجه رواية «الأصول» : أن فعله حصل في فصل مجتهد فيه، فلا يحكم بفساده..... بالإعادة يتكرر السجود، وهذا لم يقل به أحد من العلماء، وحكم السهو في صلاة الفرض والنفل سوى حديث ثوبان على ما مر، من غير فصل، ولأن الفرض والنفل إنما يفترقان في وصف الفريضة والنفلية دون الأركان والشروط.

نوع في بيان ما يجب به سجود السهو وما لا يجب تكلم المشايخ رحمهم الله في هذا وأكثرهم على أنه يجب بستة أشياء: بتقديم ركن، وبتأخير ركن، وتكرار ركن، وبتغيير واجب، وبترك واجب، وبترك سنّة تضاف إلى جميع الصلاة. أما تقديم الركن؛ فهو أن يركع قبل أن يقرأ، أو يسجد قبل أن يركع. وتأخير الركن أن يترك سجدة صلبية سهواً فيتذكرها في الركعة الثانية، فيجسدها، أو يؤخر القيام إلى الثالثة بالزيادة على قدر التشهد. وتكرار ركن: أن يركع ركوعين أو يسجد ثلاث سجدات. وتغيير الواجب: أن يجهر فيما يخافت، أو يخافت فيما يجهر. وترك الواجب: نحو أن يترك القعدة الأولى في الفرائض. وترك السنّة المضافة إلى جميع الصلاة: نحو أن يترك التشهد في القعدة الأولى، وكان القاضي الإمام صدر الإسلام رحمه الله يقول: وجوبه شيء واحد، وهو ترك الواجب، وهذا أجمع ما قيل فيه. فإن هذه الوجوه الستة تخرج على هذا، أما التقديم والتأخير؛ فلأن مراعاة الترتيب واجبة عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله: وإن لم يكن فرضاً كما قاله زفر رحمة الله عليه، فإذا ترك الترتيب فقد ترك واجباً، وإذا كرر ركناً فقد أخر الركن الذي بعده، والركن واجب من غير تأخير، والجهر في محله واجب، والمخافتة كذلك، فأما التشهد في القعدة الأولى فإنه كان يقول: إنه واجب، وعليه المحققون من أصحابنا، وهو واضح. وكذلك يجب سجود السهو في ترك التكبير الأولى، في القنوت (وعليه المحققون من) أصحابنا وهو واضح وفي القراءة وفي تكبيرات العيد وقراءة التشهد وفي السلام، أما في تكبيرة الافتتاح بأن شك في حالة القيام أو بعده...... كبر للافتتاح أم لا وطال تفكره فيه وعلم أنه قد كبر فبنى أو ظن أنه لم يكبّر فكبّر وقرأ شيء عليه، فعليه سجدتا السهو فيهما، وأما في القراءة، فمن كان من واجب القراءة يجب سجود السهو بتركه حتى إذا ترك فاتحة الكتاب أو السورة فعليه، وتذكر بعدما قرأ بعض السورة يعود فيقرأ بالفاتحة ثم بالسورة، وكذلك إذا تذكر بعد الفراغ من السورة أو في الركوع، فإنه يأتي بالفاتحة ثم يعيد السورة ثم يسجد للسهو. وذكر ابن سماعة في «نوادره» وعن محمد رحمهما الله: إذا قرأ فاتحة الكتاب ساهياً فعليه السهو يريد به إذا لم يقرأ السورة. وعلل فقال من قبل أنه ترك قراءة السورة التي بعد الفاتحة، وقراءة السورة بعد الفاتحة واجبة، ولو قرأ فاتحة الكتاب وسورة ثم قرأ فاتحة الكتاب فلا سهو عليه.

وعن هذا قيل: إذا قرأ في صلاة الجمعة سورة السجدة وسجد لها ثم قام وقرأ الفاتحة وقرأ: {ننجافى جنوبهم} (السجدة: 16) لا سهو عليه، وإن قرأ الفاتحة مرتين؛ لأن ما قرأها على الولاء. وروى إبراهيم عن محمد رحمة الله عليهما: إذا قرأ الفاتحة في ركعة مرتين، فإن كان ذلك في الأولين فعليه السهو من غير فصل بينهما إذا قرأ بينهما سورة أو لم يقرأ، وإن كان في الآخريين فلا سهو عليه. وذكر هشام عن محمد رحمه الله: إذا سها عن....... من فاتحة الكتاب فعليه السهو، وإذا بدأ بقراءة غيرها في الركعة الأولى أو الثانية وقرأ آخر فأوجب عليه السهو، وإذا قرأ في الآخرين من الظهر أو العصر الفاتحة والسورة ساهياً فلا سهو عليه هو المختار. فإن محمداً رحمه الله يقول في «الكتاب» : إن شاء قرأ في الآخرين وإن شاء سكت، ذكر القراءة مطلقاً. وإذا قرأ في الركعة الثانية سورة قبلها، فلا سهو عليه، ولو قرأ مع فاتحة الكتاب آية قصيرة وركع ساهياً، فعليه السهو؛ لأن قراءة ثلاث آيات فصاعداً مع الفاتحة أو آية طويلة مع الفاتحة من واجب الصلاة بالإجماع. وعن الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليه إذا لم يقرأ في الأخريين من الظهر أو العصر أو العشاء ولم يسبح..... إن كان متعمداً وإن كان ساهياً فعليه سجود السهو وروي (81أ1) عن أبي يوسف رحمه الله. وكذلك إذا جهر فيما يخافت أو خافت فيما يجهر ساهياً يجب عليه سجود السهو عندنا، خلافاً للشافعي رحمه الله. حجته: ما روى قتادة أن رسول الله عليه السلام كان يسمعنا الآية، والآيتين في الظهر والعصر، ولو كان ذلك يوجب السهو لما فعل رسول الله عليه السلام الجهر والمخافتة من هيئة القراءة، فتكون سنّة كهيئة الفعل نحو أخذ الركب، وهيئة العقدة. ولو قعد متوركاً أو متربعاً اختياراً ساهياً لا يجب عليه سجود السهو كذا هنا، بل أولى؛ لأن الفعل في الركعتين أقوى من القراءة. ولنا قوله عليه السلام: «لكل سهو سجدتان بعد السلام» من غير فصل بين سهو وسهو، ولأن الجهر في حق الإمام واجب؛ لأن قراءته أقيمت مقام قراءة المقتدي، لأن ما هو المقصود وهو التأمل يحصل بالإسماع فيقوم الاستماع مقام القراءة كان ذلك وكذلك المخافتة واجبة؛ لأن المخافتة في الأصل شرعت صيانة للقرآن عن إلغاء الكفرة و...... وإليه و..... الإشارة في قوله تعالى: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه

لعلكم تغلبون} (فصلت: 26) وصيانة القرآن عن مثل هذا واجب، فإذا خافت فيما يجهر أو جهر فيما يخافت فقد ترك واجباً من واجبات الصلاة فيلزمه سجود السهو، وأما هيئة الفعل فمن مشايخنا رحمهم الله من قال: هيئة الفعل واجبة إذا تركها اختياراً ساهياً يجب سجود السهو، ومن مشايخنا من قال: عرفنا الأخذ بالركب سنّة لحديث عمر رضي الله عنه فإنه قال: سن لكم الركب نقيس عليه هيئات سائر الأفعال. وأما الحديث فتأويله أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمكان يقول ذلك عمد السنن أن القراءة مشروعة في الظهر والعصر، ومع العمد لا يجب سجود السهو عندنا في ظاهر رواية «الأصل» سوى بين الجهر والمخافتة، فقال: إذا جهر فيما يخافت أو خافت فيما يجهر فعليه سجود السهو من غير تفضيل، وذكر في «النوادر» : أنه إن جهر فيما يخافت فلعليه السهو قل ذلك أو كثر. وإن خافت فيما يجهر إن كان ذلك في فاتحة الكتاب أو في أكثرها فعليه السهو وإلا فلا. وإن وقع هذا في سورة أخرى إن خافت ثلاث آيات أو آية طويلة عند الكل أو آية قصيرة عند أبي حنيفة رحمه الله فعليه السهو، وإلا فلا، وهذا لأن حكم الجهر فيما يخافت غلط من حكم المخافتة فيما يجهر؛ لأن حكم الشرع في ابتداء الإسلام الجهر في الصلاة كلها الصلاة ثم انتسخ الجهر في البعض دون البعض، فإذا جهر فيما يخافت فقد عمل بالمنسوخ خف حكمه، ولأن للصلاة بالجهر حظاً من المخافتة حتى يخافت بالفاتحة في الآخرين. وكذلك المنفرد يتخير بين الجهر والمخافتة، فأما صلاة المخافتة لا حظ لها من الجهر والمنفرد لا يتخير فأوجبنا السهو في الجهر قل أو كثر، وشرطنا الكثير في المخافتة، ففي الفاتحة شرطنا أكثرها؛ لأنها إن كانت قولها على الحقيقة أقيم مقام الدعاء في الآخرين. ولو كان دعاء من كل وجه لا يجب عليه السهو بتغيير هيئة، وإذا كان دعاء من وجه أوجب.... فاكتفي فيها بما يتعلق به جواز الصلاة. ووجه التسمية على رواية «الأصل» ما ذكرنا أن الجهر على الإمام في صلاة الجهر واجب، وكذلك المخافتة في صلاة المخافتة واجب عليه، فإن ذلك ترك فقد ترك الواجب، وقيل ما ذكر في كتاب الصلاة قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن جواز الصلاة عنده يستوي فيه القليل والكثير. وذكر ابن سماعة عن محمد رحمه الله فيما إذا جهر فيما يخافت أو خافت فيما يجهر أنه إذا فعل ذلك مقدار ما تجوز به الصلاة من فاتحة الكتاب أو غيرها فعليه السهو، وما لا فلا، وأما المنفرد فلا سهو عليه، أما إذا خافت فيما يجهر؛ لأنه ما ترك واجباً من واجبات الصلاة، لأن الجهر غير واجب عليه، ولهذا خير بين الجهر والمخافتة.

والتخيير ينافي الوجوب، وكذلك إذا جهر فيما يخافت لم يترك واجباً عليه؛ لأن المخافتة إنما وجبت لنفي، وإنما يحتاج إلى هذا في صلاة تؤدى على سبيل الشهرة، والمنفرد يؤدي على سبيل الخفية، وذكر أبو سليمان في «نوادره» : أن المنفرد إذا نسي حالة في الصلاة حتى ظن أنه إمام فجهر في صلاته كما يجهر الإمام سجد للسهو؛ لأن الجهر بهذه الصفة سنّة الإمام دون المنفردين، فإذا جهر كذلك فقد غير نظم القراءة، وها هنا بعدها سجود السهو. وكذلك إذا أخر القراءة إلى الآخرين فعليه السجود فاختلف المشايخ في حد الجهر والمخافتة، قال الشيخ أبو الحسن الكرخي رحمه الله: أدنى الجهر أن يسمع نفسه، وأقصاه أن يسمع غيره، وأدنى المخافتة تحصل الحروف. وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله، والشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله: أدنى الجهر أن يسمع غيره، وأدنى المخافتة أن يسمع نفسه، وعلى هذا يعتمد، وإذا و...... التشهد وقراءة الفاتحة سهو فلا سهو عليه، وإذا قرأ الفاتحة مكان التشهد فعليه السهو. وكذلك إذا قرأ الفاتحة ثم التشهد كان عليه السهو، كذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله في «واقعات الناطفي» رحمه الله، وذكر هناك إذا بدأ في موضع التشهد بالقراءة ثم تشهد فعليه السهو، ومثله لو بدأ بالتشهد ثم بالقراءة فلا سهو عليه؛ لأن في الوجه الأول لم يقع التشهد موضعه. وفي الوجه الثاني وضع التشهد موضعه، وفي غريب الرواية: إذا قرأ قاعداً يعني في حالة التشهد، فعليه السهو؛ لأن الموضع ليس موضع القراءة. وكذلك لو قرأ آية في ركوعه أو سجوده، ولو قرأ التشهد قائماً أو راكعاً أو ساجداً لا سهو عليه، لأن التشهد ثناء، والقيام موضع الثناء والقراءة. أرأيت لو افتتح فقال: السلام عليك أيها النبي إلى قوله عبده ورسوله، فإنه يكون بمنزلة الدعاء، ولا سهو عليه. وعن أبي يوسف رحمه الله: فيمن تشهد قائماً فلا سهو عليه، وإن قرأ في جلوسه فعليه السهو، أرأيت لو كبّر فقرأ بعد الثناء؛ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فقال هذا أو نحوه هل يجب عليه سجود السهو لأنه إن كان في موضع الثناء، فموضع الثناء منه معروف، وإن قرأ في الركعتين الأخيرتين، فليس عليه سجود السهو؛ لأنه يتخير في الركعتين الآخيرتين. وأما السهو في القنوت إن ترك القنوت ساهياً ثم يتذكر بعدما يركع أو يسجد وفي هذه الصورة لا يعود إلى القيام ولا يقنت بل يمضي في صلاته ويسجد للسهو في آخره. وكذلك إذا تذكر بعدما قام من الركوع، يمضي أم يقنت، ولو تذكر في الركوع هل يعود إلى القيام ففيه روايتان، وقد ذكرنا المسألة من قبل.

وأما السهو في تكبيرات العيد فهو بتحصلها في غير محلها أو بالزيادة (81ب1) فيها أو بالنقصان عنها أو تركها، وفي كل ذلك يجب سجود السهو، فأما السهو في التشهد بأن نسي حتى قام إلى الثالثة ثم تذكر وتشهد في القعدة الأخيرة حتى سلم سجد للسهو في ذلك كله، ولو ترك تكبيرات الركوع والسجود وتسبيحاتهما فلا سهو فيهما. والقياس في قراءة التشهد وقنوت الوتر وتكبيرات العيد لا سهو عليه؛ لأن هذه الأذكار سنّة، بتركها لا يتمكن النقصان كما في تكبيرات الركوع والسجود وتسبيحاتهما استحساناً ذلك في قراءة التشهد، وقنوت الوتر وتشهد الصلاة، فبتركهما يتمكن النقصان والتغيير في الصلاة فيجب الجبر بسجدتي السهو بخلاف تكبيرات الركوع والسجود؛ لأنها سنّة لا تضاف إلى جميع الصلاة، وإنما تضاف إلى ركن فيهما، فبتركهما لا يتمكن النقصان في الصلاة. وكذلك إذا ترك الاستفتاح لم يسجد لأنها سنّة لا تضاف إلى جميع الصلاة بل إلى الافتتاح، وإذا شرع في الصلاة على النبي عليه السلام بعد الفراغ من التشهد في الركعة الثانية ناسياً، ثم تذكر فقام إلى الثالثة. قال السيد الإمام أبو شجاع والقاضي الإمام الماتريدي؛ غير أن السيد الإمام قال: إذا قال: اللهم صلِ على محمد وجب، وقال القاضي الإمام: لا يجب ما لم يقل وعلى آل محمد، وفي أخريات الدخول في الصلاة، ولا يزيد في القعدة الأولى في التشهد، ولا يصلي على النبي عندنا، ولم يذكر.....، وفي «أمالي» الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: الصلاة..... عندك أنه يلزمه سجود السهو، وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أنه لا يلزمه في «شرح الكافي» للصدر الشهيد رحمه الله، وكان الشيخ الإمام ظهر الدين المرغيناني رحمة الله عليه يقول: لا يجب سجود السهو بقوله: اللهم صلِ على محمد ونحوه إنما المعتبر مقدار ما يؤدي فيه ركناً. وفي «واقعات الناطفي» : إذا زاد في التشهد الأول حرفاً قال أبو حنيفة رحمه الله: وجب سجود السهو. وفي غريب الرواية ذكر الشعبي أن من زاد في الركعتين على التشهد فعليه السهو، قال ابن مقاتل رحمه الله: ذكرت ذلك لابن زياد رحمه الله قال: هو في قول أبي رحمة الله عليه، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: بلغني عن أبي قاسم الصفار رحمه الله: أنه لا سهو عليه في هذا، وإذا تشهد مرتين فلا سهو عليه. قيل: أراد به في القعدة الأخيرة وفي صلاة جمع.....: إذا كرر التشهد في القعدة الأولى فعليه سجود السهو، وإن كررها في القعدة الثانية فلا، ولا كذلك في سجود السهو في الأفعال بأن قام في موضع القعود، أو قعد في موضع القيام، أو سجد في موضع الركوع، أو ركع في موضع السجود، أو كرر الركن أو قدم الركن أو أخره.

ففي هذه الفصول كلها يجب سجود السهو في القدوري: ومن ترك من صلاته فعلاً وضع فيه ذكر فعليه سجود السهو لما روي أن النبي عليه السلام قام إلى الثالثة فسبح له ولم يرجع وسجد للسهو، ولأن الفعل إذا وضع فيه ذكر فذاك أمارة كونه مقصوداً في نفسه فيتمكن بتركه النقص في صلاته فيجب جبره بسجدتي السهو، وإن كان فعل لم يوضع فيه ذكر وليس فيه سجود السهو كوضع اليمنى على الشمال وكقومته التي من الركوع والسجود، لأنه إذا لم يكن فيه ذكر لم يكن مقصوداً في نفسه فلا يجب له السهو؛ لأن السهو مقصود بنفسه.... الأحكام شيء مقصود، وإن زاد فعلاً من جنس أفعال الصلاة، فعليه سجود السهو. والأصل فيه ما روي أن النبي عليه السلام قام إلى الخامسة، فسبح له ورجع وسجد للسهو، ولأن الزيادة في الصلاة نقصان إذ لا بد وأن يتأخر بسببها شيء من أفعال الصلاة، وذلك يوجب نقصاً في الصلاة، وإذا قعد المصلي في صلاته قدر التشهد ثم شك في شيء من صلاته بأن شك أنه صلى ثلاثاً أو أربعاً حتى شغله ذلك عن التسليم لم أستيقن أنه صلى أربعاً وليتم صلاته فعليه سجدتا السهو؛ لأنه أخر فرضاً من فرائض الصلاة، وهو السلام. وإن شك في ذلك بعدما سلم تسليمة واحدة، فلا سهو عليه؛ لأنه بالتسليمة الواحدة خرج على حرمة الصلاة، فإنما وقع الشك بعد الخروج عن الصلاة، فلا يعتبر لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وإذا أحدث في صلاته وذهب ليتوضأ فوقع له هذا الشك حتى شغله عن وضوءه؟.....، فعليه سجدتا السهو، لأن حرمة الصلاة باقية بهذا شك وقع لحرمة الصلاة وقد أخر واجباً أو ركناً فيلزمه سجود السهو. نوع آخر في سهو الإمام..... إلى صاحبه سهو الإمام موجب عليه وعلى من خلفه السجود، أما عليه فظاهر، وأما على من خلفه لوجهين: أحدهما: أن السجود إنما وجب على الإمام لجبر نقصان تمكن في صلاته بسبب السهو وصلاة من خلفه بصلاته صحة وفساداً، وكذا في حق تمكن النقصان. والثاني: أن القوم مع الإمام فما يجب على الإمام يجب على القوم بحكم التبعية، ألا ترى أن الإمام لو نوى الإمامة في وسط الصلاة تصير صلاة المقتدي أربعاً، وإن لم توجد منهم النية، وما كان ذلك إلا بحكم التبعية. وكذلك إذا تلا الإمام آية السجدة في صلاة يخافت بها وسجد، فعلى القوم أن

يسجدوا وإن لم توجد منهم النية، وما كان ذلك إلا بطريق التبعية كذا ها هنا وسهو المؤتم لا توجب السجدة، أما على الإمام فلا، صلاة الإمام غير متعلقة بصلاته صحة وفساداً، فكذا في حق تمكن النقصان، ولأنه ليس يتبع للمؤتم ليلزمه السجدة بحكم التبعية، وأما على المؤتم؛ لأنه لو وجب عليه السجدة صار مخالفاً لإمامه، وقد قال عليه السلام: «فلا تختلفوا عليه» ولو ترك الإمام سجود السهو فلا سهو على المأموم؛ لأنه إنما وجب الأداء على المقتدي بحكم التبعية، فلا يمكنه الأداء منفرداً. نوع آخر فيمن صلى الظهر خمساً وفيه السهو عن القعدة رجل صلى الظهر خمساً وقعد في الرابعة قدر التشهد يضيف إليها ركعة أخرى، ويتشهد ويسلم ويسجد سجدتي السهود، ويتشهد ويسلم ثانياً، لم يرد محمد رحمه الله بقوله؛ صلى الظهر خمساً الظهر على وجه الحقيقة لأن الظهر لا يكون خمساً وإنما أراد به المجاز كما يقال؛ صلى فلان بغير طهارة؛ لأن الظهر لا يكون خمساً، والصلاة بغير (طهارة) لا تكون صلاة على الحقيقة، وإنما يراد به المجاز، وإنما وضع محمد رحمه الله المسألة في الظهر وإن كان الجواب لا يختلف بين الظهر والعصر والعشاء؛ لأن هذه واقعة رسول الله صلى الله عليه وسلّمثم هذه المسألة على وجهين: إما إن قعد في الرابعة قدر التشهد أو لم يفعل، وبدأ محمد رحمه الله بما إذا قعد قدر التشهد في الرابعة، ثم قام إلى الخامسة وإنه على وجهين: إن تذكر قبل أن يقيد الخامسة بالسجدة أنها الخامسة عاد إلى القعدة وسلم ليكون خروجه من الفرض بالسلام، فإصابة لفظ السلام عندنا واجب (82أ1) لم يكن فرضاً ولا يسلم قائماً كما هو؛ لأن السلام حالة القيام في الصلاة المطلقة غير مشروع، وبعد ذلك، أو سلم لا تفسد صلاته، وإن تذكر بعدما قيد الخامسة بالسجدة لا يعود إلى القعدة، ولا يسلم بل يضيف إليها ركعة أخرى بخلاف ما إذا لم يقيد الخامسة بالسجدة حيث يعود إلى القعدة؛ لأن ما دون الركعة ليس له حكم الصلاة، فلم يستحكم خروجه من الفرض فيعود إلى القعدة ليكون الخروح عن القعدة بالسلام، فأما الركعة فهي صلاة حقيقة وحكماً فيستحكم خروجه عن الفريضة بها، فلا يعود إلى القعدة، ألا ترى أن المسبوق إذا قام إلى قضاء ما سبق، ثم عاد الإمام إلى سجود السهو قبل أن يعيد المسبوق الركعة بالسجدة تابع الإمام فيها. وإن عاد الإمام إليها بعد ما قيد المسبوق الركعة بالسجدة لا يتابعه فيها، وإنما يضيفه إلى الخامسة ركعة أخرى، لأنها نفل فيضيف إليها ركعة أخرى حتى يصير شفعاً، فإن النفل شرع شفعاً لا وتراً ثم لا يحكم بفساد الفرض. وإن انتقل من الفرض إلى النفل؛ لأنه انتقل بعد تمام الفرض؛ لأن تمام الفرض بأداء أركانها، ومن أدى جميع الأركان إنما بقي إضافة لفظ السلام، وإنها عندنا واجب

وليس بركن، وترك الواجب لا يفسد الصلاة. وقد صح عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال له: «إذا رفعت رأسك من السجدة الأخيرة، وقعدت قدر التشهد فقد تمت صلاتك» ثم إن محمداً رحمه الله ذكر في «الجامع الصغير» : أنها تضاف إليها ركعة أخرى ولم يذكر أنه على معنى التخيير أو على معنى الاستحباب أو على معنى الإيجاب، وفي «الأصل» : ما يدل على الوجوب، فإنه قال في.....: عليه أن يضيف، وكلمة على للإيجاب، وإذا أضاف إليها ركعة أخرى يتشهد ويسلم، ويسجد سجدتي السهو ثم يتشهد ويسلم، وإنما وجب سجدتا السهو، لأنه ترك لفظة السلام وإصابة لفظ السلام عندنا واجب حتى إذا شك في صلاته، فسلم يدر أصلى ثلاثاً أو أربعاً، فشغله تفكره حتى آخر السلام لزمه سجود السهو، والضمان إنما يجب بتأخر الواجب، فقد ترك واجباً من واجبات الصلاة، فيلزمه سجود السهو، هذا جواب الاستحسان، والقياس أن لا يلزمه سجود السهو. وجه القياس: أن هذا سهو وقع في الفرض وقد انتقل منه إلى النفل، ومن سها في صلاة لا يجب عليه أن يسجد في صلاة أخرى. وجه الاستحسان: أنه انتقل إلى النفل إلى الفرض؛ إلا أن النفل بناءً على التحريمة الأولى، فيجعل في حق وجوب السهو كأنها صلاة واحدة، هذا كما صلى ست ركعات تطوعاً بتسليمة واحدة فقد سها في الشفع الأول، فسجد للسهو في آخر الصلاة، وإن كان كل شفع في التطوع كصلاة على حدة لهذا إن الشفع الثاني والثالث كله بناءً على التحريمة الأولى، فيجعل في حق السهو كأنه صلاة واحدة كذلك في هذا قالوا. وهذا القياس والاستحسان بناءً على مسألة أخرى، وهو أن المسبوق إذا انتقل بقضاء ما فاته ولم يتابع الإمام في سجود السهو، هل يسجد في آخر الصلاة أو لا يسجد؟ ولأن السهو وقع في صلاة الإمام وهو انتقل إلى صلاة أخرى. وفي الاستحسان: يجب، لأن صلاته بناءً على صلاة الإمام، فيجعل كأنها صلاة واحدة في حق وجوب السهو، كذلك في هذا قبل هذا القياس، والاستحسان على قول محمد رحمه الله؛ لأن عنده سجود السهو في هذه المسألة وجب لنقصان تمكن في الفرض بترك السلام. وجه القياس: أن السهو في صلاة والسجدة في صلاة أخرى، أما على قول أبي يوسف رحمه الله: سجود السهو في هذه المسألة إنما تجب لنقصان تمكن في النفل حيث شرع فيها من غير تحريمة مبتدأة، والشرع جعل الشروع في الصلاة بالتحريمة، فيكون السهو والسجدة في صلاة واحدة، فتجب السجدة قياساً واستحساناً، ثم إذا أضاف إليها ركعة أخرى فيها، فهاتان الركعتان هل تنوبان عن التطوع المسنون بعد الظهر؟ لم يذكر

محمد رحمه الله هذا الفصل في «الأصل» ، وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: ينوبان، قيل: هذا قولهما، وبعضهم قالوا؛ لا ينوبان، وقيل: هذا قول أبي حنيفة رحمه الله: وهو الصحيح. واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة على مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه، بعضهم قالوا: لأن المشروع صلاة كاملة على صفة السنّة، فلا تتأدى بالناقص، وفي هذا نقصان؛ لأنه شرع فيها من غير تحريمة مقصودة، وقال بعضهم: لأن السنّة عبارة عن طريقة الرسول صلى الله عليه وسلّم ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه يصلي بركعتين من غير قصد و...... إنه لم يضف إلى الخامسة ركعة أخرى وأفسدها فليس عليه قضاء شيء عندنا، خلافاً لزفر رحمه الله بناءً على أن من شرع في التطوع على ظن الفرض ثم تبين أنه لم يكن عليه شيء يبقى في نفل غير لازم عندنا. المحيط البرهانى وعند زفر رحمة الله عليه: يبقى في نفل لازم، وكذلك في الصوم، وأجمعوا على أنه لو شرع في الحج على ظن أنه عليه، ثم تبين أنه ليس عليه يبقى في إحرام لازم. وكذلك من تصدق على فقير على ظن أنه عليه الزكاة ثم تبين أنه لم يكن عليه شيء تبقى الصدقة ماضية بصفة اللزوم لا يتمكن من استردادها بحال، المسألة معروفة في المختلف. قال: جاء إنسان واقتدى به في هاتين الركعتين وجب عليه أن يصلي ست ركعات عند محمد رحمه الله، وعند أبي يوسف يجب عليه ركعتان بناءً على أن إحرام الفرض انقطع عند أبي يوسف لما انتقل إلى النفل؛ إذ لا يتصور كونه في أخراهن، فمن ضرورة انتقاله إلى النفل انقطاع الفرض. وعند محمد رحمه الله: إحرام الظهر باقٍ؛ لأن إحرام الفرض كان مشتملاً على أصل الصلاة، ووصف الفريضة والانتقال إلى النفل موجب انقطاع الوصف دون الأصل، وقول محمد رحمه الله أقيس، فإن كان المبتدي قضاء ركعتين ذكر الاختلاف في «النوادر» محمدٌ رحمه الله كما لا قضاء على الإمام لو أفسدها. وعند أبي يوسف رحمه الله: يجب على المقتدي قضاء ركعتين، ذكر الاختلاف في «النوادر» محمد رحمه الله: يقول: هذه الصلاة غير مضمونة على الإمام، فلا يكون مضمونة على المقتدي، لأن المقتدي مع الإمام، والتبع لا يخالف الأصل، ولأنها لو كانت مضمونة على المقتدي وحتى غير مضمونة على الإمام يكون هذا مفترضاً خلف المتنفل، وذا لا يجوز. ولأبي يوسف رحمه الله: أن النفل مضمون الأصل؛ لأنه قربة يجب صيانتها عن الإبطال، وإنما سقط الضمان على الإمام بعارض يخصه، وهو أنه شرع فيه (82ب1) على عزم الإسقاط لا على عزم التطوع، هذا المعنى يحصل بسقط بإسقاط الضمان على

الإمام، فبقي مضموناً على الإمام في حق المقتدي، وكل جواب عرف في الظهر فهو الجواب في العشاء؛ لأن المعنى لا يتفات، ولم يذكر محمد رحمه الله العصر في «الأصل» وقد اختلف المشايخ فيه. قال بعضهم: يقطع، ولا يضيف إلى لخامسة ركعة أخرى؛ لأن التنفل بعد العصر مكروه، وإلى هذا أشار محمد رحمة الله عليه «زيادات الزيادات» ، فإنه قال: فيمن شرع في العصر على ظن أنه عليه ثم تبين أنه أداها قال: يقطعها، وبعضهم قالوا: يضيف إليها ركعة أخرى، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة، وهشام عن محمد رحمهم الله؛ لأن المكروه يقتدي بالتطوع إما أن يصير ساهياً فيه فلا. ألا ترى أن من صلى العصر ثم وجد جماعة يصلون العصر فشرع معهم وقد كان يسيء صلاة نفسه، ثم تذكر أنه قد صلاها فإنه يمضي فيها، ولا يقطع كذا ها هنا. ونظير هذا ما قلنا: إن التطوع يوم الجمعة بعد خروج الإمام مكروه. ثم لو افتتح رجل التطوع قبل خروج الإمام بعدما صلى ركعة لا يقطعها بل يتمها ركعتين أو أربعاً على حسب ما اختلفوا؛ لأن المكروه أن يبتدىء بالتطوع قبل خروج الإمام إما أن يصير شارعاً فيه فلا، هذا إذا قعد في الرابعة قدر التشهد ثم قام إلى الخامسة ساهياً، أما إذا لم يفعل على رأس الرابعة حتى قام إلى الخامسة ساهياً إن تذكر قبل أن يقيد الخامسة بالسجدة عاد إلى القعدة؛ لأن في الفصل الأول يوفر بالعود لإصابة لفظة السلام مع أن للصلاة جوازاً بدونها، فلأن يؤمر ها هنا بالعود ولا جواز للصلاة بدون الفعل كان أولى، وإن قيد الخامسة بالسجدة فسد ظهره عندنا، خلافاً للشافعي رحمه الله بناء على أن عنده الركعة وما دونها في احتمال الرفض سواء، وعندنا دون الركعة يحتمل الرفض، والركعة لا تحتمل الرفض.I ووجه الفساد عندنا: أنه ترك العودة الأخيرة والعودة الأخيرة فرض، فقد ترك فرضاً من فرائض صلاته، فيفسد فرضه هذا. ثم اختلف أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: فيما بينهما في وقت فساد ظهره، قال أبي يوسف رحمه الله: لا تفسد صلاته حتى يرفع رأسه من السجود، ففرض السجود عند أبي يوسف رحمه الله يتأدى بوضع الرأس، وعند محمد رحمه الله: بالوضع والرفع. وفائدة الاختلاف تظهر فيما إذا أحدث في هذه السجدة عند أبي يوسف رحمة الله عليه: لا يمكنه إصلاحها، وعند محمد رحمه الله: يمكن إصلاحها، فيذهب ويتوضأ. وجه قول أبي يوسف: أن السجدة هو الإنحناء والانخفاض، وذلك، يحصل بمجرد الوضع. وجه قول محمد رحمه الله: أن تمام كل شيء بآخره، وآخر السجدة الرفع، ألا ترى أنه لو سجد قبل الإمام ثم أدركه الإمام في آخرها يجزئه، ولو تمت السجدة بوضع الرأس لا يجزئه؛ لأن كل ركن أدي قبل الإمام لا يعتد به. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : عقيب هذه المسألة؛ وأحب إليّ أن يشفع الخامسة

بركعة فيضيف إليها ركعة أخرى، ثم يسلم ويستقبل الظهر، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. أما قول محمد رحمه الله: لا يضيف إليها ركعة أخرى بناءً على أن عند أبي حنيفة رحمه الله: أن تطلب صفة الفرضية ها هنا لم تعطل أصل الصلاة، فيضيف إليها ركعة أخرى يصير متنفلاً بست ركعات، وعند محمد رحمة الله عليه: بطل أصل الصلاة ها هنا لأصلين مختلفين: أحدهما: أن من أصل محمد رحمه الله: أن كل فرض فسد بسبب من الأسباب يبطل التحريمة أصلاً؛ لأن للصلاة جهة واحدة عنده، فإذا فسدت صفة الفريضة بطل أصل الصلاة. والثاني: أن صلاته لو لم تفسد أصلاً ها هنا تصير تطوعاً، وترك القعدة على رأس الركعتين في التطوع تفسد الصلاة عنده، فإذا لم يقعد على رأس الرابعة تبطل صلاته أصلاً، وإذا بطلت صلاته لا يضيف إلى الخامسة ركعة أخرى. وعندهما: ترك القعدة على رأس الركعتين في التطوع لا يبطل الصلاة، وإذا بطل صفة الفريضة بسبب من الأسباب لا تبطل؛ لأن الفرضية صفة زائد على أصل الصلاة، فبطلان التحريمة في حق صفة الفريضة لا توجب بطلان التحريمة في حق أصل الصلاة، وإذا تعينت التحريمة في أصل الصلاة عندهما يضيف إليها ركعة حتى يصير متنفلاً بست ركعات؛ لأن النفل شرع شفعاً لا وتراً. وإذا بقي أصل الصلاة عندهما لو جاء إنسان واقتدى به في هذه الصلاة صح اقتداؤه، فإن قطعها الإمام على نفسه، فلا شيء عليه؛ لأنه شرع في تطوع مظنون لا يوجب اللزوم كما في الصوم. ولو قطعها المقتدي على نفسه يلزمه قضاء ست ركعات عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمة الله عليهما. فرق أبو يوسف بين هذا الفصل وبين الفصل الأول، وهو ما إذا قعد قدر التشهد في الرابعة فإن هناك قال يقضي ركعتين، وها هنا قال: يقضي ست ركعات، بعض مشايخنا رحمهم الله لم يشتغلوا بالفرق. وقالوا: الفرق في غاية الإشكال، وبعضهم اشتغلوا قالوا بأن هناك لما قعد قدر التشهد فقد تم فرضه فيصير شارعاً في النفل، ومن ضرورة شروعه في النفل خروجه عن الفرض، فإذا اقتدى به إنسان قائماً التزم ركعتين لا غير، فلا يلزمه بالإفساد إلا قضاء ركعتين، وههنا لم يتم الفرض حتى يصير شارعاً في النفل ويخرج عن الفرض ضرورة شروعه في النفل بل بترك القعدة بطلت الفرضية أصلاً وانعقد إخراجه في الابتداء لست ركعات، فإذا اقتدى به إنسان قائماً اقتدى به في تحريمة انعقدت الست، فيصير ملتزماً الست، فيلزمه بالإفساد قضاء الست. والجواب هنا في العشاء مثل الجواب في الظهر كما في الفصل الأول، وكذلك

الجواب في العصر هنا مثل الجواب في الظهر والعشاء بغير خلاف، وفي الفصل خلاف؛ لأن ها هنا لما بطلت الفرضية صار متنفلاً قبل العصر، والتنفل قبل العصر غير مكروه، وفي الفصل الأول الفرض قد تم فيصير متنفلاً بعد العصر، والتنفل بعد العصر مكروه، باقي الخلاف على نحو ما بينا، ولو كان هذا في صلاة الفجر، فإن قام إلى الثالثة وقيدها بالسجدة إن كان قعد على رأس الثانية قدر التشهد فقد تمت صلاة الفجر فيقطع صلاته، ولا يضيف إلى الثالثة ركعة أخرى عند بعض المشايخ، وهو رواية هشام عن محمد، ورواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهم الله (83أ1) ولا يضيف إليها ركعة عند بعض المشايخ؛ لأنه يصير متنفلاً قبل الفجر، والتنفل قبل الفجر مكروه كالتنفل بعد الفجر عند بعض المشايخ، وهو رواية هشام عن محمد رحمة الله عليهما، ورواية الحسن عن أبي (حنيفة) رحمة الله عليهما: لا يقطع، ويضيف إليه ركعة أخرى؛ لأنه وقع في النفل؛ لأنه قصد. ثم إن محمداً رحمة الله عليه في هذه المسائل: إذا قعد قدر التشهد ولم يبين مقدار التشهد، وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: هو مقدر بالشهادتين، وقال بعضهم: هو مقدر بالتشهد إلى آخره، وهو الأظهر والأصوب. نوع آخر في الرجل يسلِّم وعليه سجود السهو، فجاء رجل واقتدى به قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : عن أبي حنيفة رحمه الله في رجل يسلم وعليه سجدتا السهو ورجل وصل في صلاته بعد التسليم فإن سجد الإمام كان داخلاً وإلا لم يكن، وقال محمد رحمه الله: هو داخل سجد الإمام أو لم يسجد، وأصله أن سلام من عليه السهو لا يخرجه عن حرمة الصلاة أصلاً عند محمد رحمه الله، وعندهما يخرجه خروجاً موقوفاً إن عاد إلى سجود السهو ينبىء أنه لم يخرجه، وإن لم يعد ينبىء أنه أخرجه، ويتولد من هذا الأصل ثلاث مسائل: إحداهما: مسألة «الكتاب» : فإن عند محمد رحمه الله صح الاقتداء على سبيل النيات، وعندهما وُقِف. والثانية: إذا ضحك قهقهة في هذه الحالة عند محمد رحمه الله: عليه الوضوء لصلاة أخرى خلافاً لهما. الثالثة: إذا نوى المسافر الإقامة في هذه الحالة تحول فريضته أربعاً عند محمد خلافاً لهما. محمد رحمه الله يقول: المقصود من سجود السهو جبر نقصان تمكن في الصلاة، وإنما ينجبر النقصان المتمكن في الصلاة بسجود السهو إذا كان حرمة الصلاة قائمة؛ لأن القائم يجبر، أما المقضي؛ فلا يمكن جبره فيتأخر حكم السلام إلى سجود السهو، وأحكام الأسباب قد تتراضى عنها الحاجة. ولهما: أن هذا سلام عامد، فيوجب خروجه عن حرمة الصلاة؛ وهذا لأن السلام

محلل شرعاً، قال عليه السلام: «وتحليلها السلام» والمحلل من وجه يجب أن يقيد حكمه بالحاجة، وهو التحلل لو لم يعمل؛ إنما لا يعمل لحاجته إلى أداء سجود السهو، والثابت بالحاجة يقدر بقدر الحاجة، فإن عاد إلى سجدتي السهو جاءت الحاجة، فتعتبر الحرمة باقية وإن لم يعد إلى سجدتي السهو لم توجد الحاجة، فيعمل المحلل عمله من حيث وجوده، ثم إذا سجد الإمام حتى صار الرجل داخلاً في صلاته بالإجماع سجد هذا الرجل معه؛ لأن المسبوق يتابع الإمام فيما يدركه فيه، فإن سجد مع الإمام ثم قام يقضي لم يكن عليه أن يعيد السهو وإن كان ذلك السهو وسط الصلاة، ومحله آخر الصلاة؛ لأن هذا آخر صلاته حكماً، فإنه آخر صلاة الإمام حقيقة، فتكون آخر صلاته كأنما تحقق للمتابعة، فإن سها الرجل فيما يقضي فعليه أن يسجد السهو وسجوده الأول مع الإمام لا يجزئه عن سهوه؛ لأن المسبوق فيما يقضي منفرد، والسجود مع الإمام لا يقع عن السهو في صلاته. نوع آخر في بيان ما يمنع الإتيان بسجود السهو قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : وإذا سلم يريد به قطع الصلاة، وعليه سجود السهو فعليه أن يسجد السهو، وبطلت من القطع عندهم جميعاً، أما عند محمد رحمه الله؛ فلأن هذا لم يشرع محللاً للحال، فلا يصير محللاً لقصده؛ إذ ليس للعبد تغيير المشروع. وعندهما: هذا السلام اعتبر محللاً على سبيل التوقف، فمتى قصد أن يجعلها محللاً على سبيل الثبات، فقد قصد تغيير الشروع، فيرد عليه قصده. فقد ذكر في «الجامع الصغير» : مطلقاً أنه يسجد للسهو، وذكر هذه المسألة في «الأصل» ، وشَرَطَ لأداء الصحة شرطاً زائداً، فقال: إذا سلم وهو لا يريد أن يسجد لسهوه لم يكن تسليمه ذلك قطعاً، حتى لو بدا أن يسجد له وهو في مجلسه قبل أن يقوم وقبل أن يتكلم، فإنه يسجد سجدتي السهو، فقد شرط لأداء سجدتي السهو شرطاً زائداً، وهو أن لا يتكلم، ولا يقوم عن مجلسه ذلك، فهذا إشارة إلى أنه متى قام عن مجلسه واستدبر القبلة أنه لا يأتي بسجدتي السهو، وإن كان لم يخرج عن المسجد. وذكر في «الأصل» : بعد هذه المسألة بمسائل أنه يأتي بهما قبل أن يتكلم ويخرج من المسجد وإن مشى وانحرف عن القبلة، وبه قال بعض المشايخ. وأشار محمد رحمه الله في مسألة أخرى إلى ما يدل على هذا، فإنه قال: إذا سلم الرجل عن يمينه وسها عن التسليمة الأخرى، فما دام في المسجد يأتي بالأخرى وإن استدبر القبلة، وعامة المشايخ على أنه لا يأتي بها متى استدبر القبلة؛ لأنه انحرف عن القبلة من غير عذر، ومثل هذا الانحراف يخرجه عن حرمة الصلاة.

كما لو انحرف عن القبلة على ظن أنه لم يمسح رأسه، ثم تذكر أنه كان قد مسح رأسه وهو في المسجد بعد، فإنه يستقبل الصلاة، وإن تكلم أو خرج من المسجد لا يأتي بهما؛ لأنه خرج عن حرمة الصلاة على الثبات وبقاء حرمة الصلاة شرط لأدائهما، ولا تفسد صلاته؛ لأن سجود السهو ليس بركن، بل هو واجبة، وترك الواجب لا يوجب فساد الصلاة، وإن كان في مكانه ذلك فبدا له أن يسجد وفي القوم من تكلم أو خرج من المسجد ومنهم من لم يتكلم ولم يخرج من المسجد فعلى من لم يتكلم أن يتابعه فيهما، ولا شيء على من تكلم؛ لأن الذي تكلم أو خرج من المسجد خرج عن حرمة الصلاة بعد أداء أركانها والفراغ منها، فلا شيء عليه، والذي لم يتكلم وهو في مكانه بعد لم يخرج عن حرمة الصلاة، فيلزمه المتابعة، فإن كان من نيته حتى سلم أن يسجد السهو فلم يسجد حتى تكلم أو خرح من المسجد فقد قطع صلاته، فلا شيء عليه، وإن لم يتكلم ولم يخرج من المسجد وكان في مجلسه ذلك حتى تذكر عليه أن السهو، فإنه يسجدهما. نوع آخر في سلام السهو إذا سلم في الظهر على رأس الركعتين ساهياً مضى على صلاته؛ لأن هذا سلام السهو، وسلام السهو لا يخرجه عن حرمة الصلاة، ويسجد للسهو؛ لأنه أخر ركناً من أركان الصلاة عن وقته، وقوله مضى على صلاته استحسان. والقياس وهو: أن سلام الساهي ككلامه، ولو تكلم ساهياً فسدت صلاته، فكذلك إذا سلم ناسياً يدل عليه أن سلام العامد جعل ككلامه وإن وجد في غير موضع السلام فكذلك سلام الناسي وجب أن يجعل ككلامه. وجه الاستحسان وهو: أن النبي عليه السلام سلم على رأس الركعتين من الظهر ساهياً ثم قام فأتم صلاته، ولأن السلام ليس بكلام محض، وإنما هو كلام يشبه معنى الذكر، وإنه ما يجزىء في السجدة، ولو كان كلاماً محضاً لم يصلح في الصلاة، فثبت أنه يشبه الذكر من وجه، ويشبه الكلام من وجه، فيعطى له حظاً منهما، ففي حالة النسيان عيّنّا جهة الذكر ولم تفسد صلاته، وفي حالة العمد عيّنّا جهة الكلام وأفسدنا صلاته، ويجوز أن يكون الكلام واحداً ويختلف الحكم بالقصد. ألا ترى أن الجنب إذا قال: الحمد لله رب العالمين، وأراد به الشكر جاز له ذلك من غير كراهة، وإن أراد به تلاوة القرآن كره له ذلك، فاختلف الجواب لاختلاف القصد وإن كان الكلام واحداً كذا ها هنا. ثم السهو عن التسليمة؛ لا يخلو التسليم عن أحد الوجهين: إما إن وقع في أصل الصلاة أو في وصفها، إن وقع في أصل الصلاة يوجب فساد الصلاة، وإن وقع في وصف الصلاة لا يوجب فساد الصلاة. بيان الأول: إذا سلم في الركعتين (83ب1) على ظن أنه في صلاة الفجر أو في

الجمعة أو في السفر، فإنه تفسد صلاته؛ لأن في زعمه أن عليه التسليم على رأس الركعتين، وهذا رأس الركعتين، فهذا في التسليم وقع في أصل الصلاة، وكان هذا سلام عمد في أصل وسط الصلاة، فيوجب فساد الصلاة ولا يوجب سجود السهو. وبيان الثاني: إذا سلم على رأس الركعتين على ظن أنها رابعة لا تفسد صلاته؛ لأن في زعمه أن الواجب عليه التسليم على رأس الرابعة، وفي زعمه أنه أتمها أربعاً، فإذا ظهر أنه لم يتم لكون هذا سهواً وقع في وصف الصلاة، لأن تمام الشيء وصفه، وكان هذا سلام الساهي فلا تفسد صلاته، فعليه أن يقوم ويصلي ركعتين ويسجد سجدتي السهو؛ لأنه آخر ركنه. ومما يتصل بهذا الفصل قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا سلم ساهياً وعليه سجدة، فهذه المسألة لا تخلو إما أن يكون عليه سجدة تلاوة أو سجدة صلبية أو سجدة سهو، وأياً ما كان، فإنه يأتي بها؛ لأنه في حرمة الصلاة بعد؛ لأن سلام الساهي لا يجزئه عن حرمة الصلاة، وإذا لم يخرجه عن حرمة الصلاة صار وجود هذا السلام والعدم بمنزلة، ولو لم يوجد السلام أليس إنه يأتي بها، كذا ها هنا، وإذا أتى بها بعد ترتفض القعدة، فإن كانت سجدة تلاوة أو سجدة صلبية ترتفض القعدة؛ لأن القعدة شرعت بعدهما والإتيان بهما يوجب في رفض القعدة ضرورة، ثم هذا الإشكال في السجدة الصلبية؛ لأن الصلبية ركن، والقعدة الأخيرة فرض، ورفض السنن قبله جائز كما في الجمعة مع الظهر، فإنه يجوز رفض الظهر بالجمعة؛ لأنه فرض مثل الظهر، وإنما الإشكال في سجدة التلاوة؛ لأن سجدة التلاوة واجبة، والقعدة الأخيرة فرض، ولا يجوز رفض الفرض بالواجب كما لو تذكر القنوت في الركوع، فإنه لا يعود، لأنه متى عاد صار قضاء الركوع بالواجب، فلا يجوز وقد فقد ها هنا وجهه؛ لأن القعدة الأخيرة وإن كانت فرضاً إلا أنه لم يتم ما لم يخرج عن الصلاة؛ لأن القعدة ما شرعت بعينها وإنما شرعت للخروج، فإن الخروج عن الصلاة لا يصح بدون القعدة فما لم يوجد ما هو المقصود من القعدة، فإنها لا تتم، وإذا لم يتم حقيقة جاز رفضها بالتلاوة، لأن رفض الفرض قبل التمام لمكان الواجب جائز، كمن شرع في الظهر، فصلى ركعة أو ركعتين ثم أقيمت الصلاة، فإنه يتركها ويشرع مع الإمام في الجماعة ليدرك فضيلة الجماعة، والجماعة سنّة، فلما جاز رفض الفرض قبل التمام لمكان السنّة، فلما كان الواجب أولى بخلاف ما لو ترك القعدة الأولى ثم تذكر بعدما استتم قائماً، فإنه لا يعود؛ لأن القيام مشروع نفسه، فإذا وجد أدنى ما يطلق عليه اسم القيام تم الركن في نفسه، فلو عاد إلى القعدة يصير رافضاً للركن بعد التمام لمكان الواجب، وهذا لا يجوز، وكذلك الركوع ركن شرع لعينه فمتى وجد أدنى ما ينطلق عليه اسم الركوع وهو انحناء الظهر تم الركن في نفسه لوجود نفسه. فلو قلنا: إنه يعود إلى القنوت يصير رافضاً للركوع بعد التمام لمكان الواجب، وإنه

لا يجوز، فلا يعد في إحدى الروايتين حتى لو تذكر قبل أن تم انحناء..... بأنه يعود إلى القنوت باتفاق الروايات. وكذلك إذا تذكر..... قبل أن يستتم قائماً، فإنه يعود إلى القعدة على ما يأتي بيانه إن شاء الله. فإن قيل: هذا يشكل بما لو تذكر السورة في حالة الركوع فإنه يعود إلى السورة ويرتفض الركوع، وقراءة السورة واجبة والركوع ركن، بينا قراءة السورة واجبة قبل أن يقرأها، فأما متى عاد إليها تصير فرضاً كما لو قرأ الفاتحة والسورة قبل أن يركع؛ لأنه ليس أحدهما بأن يجعل فرضاً بأولى من الآخر، فيجعل الكل فرضاً، فإذا عاد إليها يصير فرضاً، فلو ارتفض الركوع إنما يرتفض بفرض مثله، فإنه جائز بخلاف القنوت والقعدة الأولى؛ لأنه وإن عاد إليهما لا يصيران فرضاً بل يكونان واجباً، فإن قعد لو تذكر سجدة التلاوة في حالة الركوع يعود إليها، وإن صار تاركاً الفرض لمكان الواجب، فإن سجدة التلاوة واجبة، والركوع ركن. قلنا: يعود إليها، ولكن لا يرتفض الركوع، بل يبقى الركوع معتبراً بعد العود حتى لو لم يعد الركوع ثانياً تجزئة صلاته، فدل أنه لا يصير رافضاً الركوع بالعود إلى التلاوة، وإنما يصير تاركاً الفرض، وترك الفرض لمكان الواجب جائز، كما لو قرأ في حالة القيام سجدة التلاوة، فإنه يأتي بها وإن صار تاركاً للفرض كذا هنا. ورأيت في موضع آخر أن في ارتفاض القعدة بالعودة إلى سجدة التلاوة..... في رواية، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: لا ترتفض، وإن كان عليه سجدة سجود فعاد إليها يرتفض السلام ولا ترتفض القعدة؛ لأن محله بعد الفراغ من القعدة والسلام إلا أن ارتفاع السلام به للضرورة حتى يكون مؤدياً في حرمة الصلاة، ولا ضرورة إلى ارتفاع القعدة به، حتى لو تكلم بعد ما سجد قبل أن يقعد فصلاته تامة. وإذا سها عن قراءة التشهد في القعدة الأخيرة حتى سلم ثم تذكر، فإنه يعود إلى قراءة التشهد؛ لأنه ترك واجباً وقد أمكنه التدارك؛ لأن سلام السهو لا يخرج عن حرمة الصلاة، فقد أدرك الواجب في محله فيأتي به، وإذا عاد إلى قراءة التشهد هل ترتفض القعدة؟ حتى لو تكلم قبل أن يقعد بعدها هل تفسد صلاته؟ ذكر الشيخ الإمام شيخ الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمهما الله في شرح كتاب الصلاة: أنه ترتفض القعدة كما ترتفض إذا عاد إلى سجدة التلاوة والصلبية، وذكر الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمة الله عليه في «فتاويه» : أنه لا ترتفض القعدة، قال إلى أن ترتفض قال: فإن قراءة التشهد واجبة ومحلها قبل الفراغ من القعدة، فالعود إليها يرفع القعدة كما يعود إلى الصلبية، وسجدة التلاوة، ومن قال: فإنه لا ترتفض يقول في سجدة التلاوة والصلبية: إنما ارتفضت القعدة

بالعود إليها؛ لأنه عاد إلى بين موضعه قبل القعدة، فيصير رافضاً للقعدة، هذا المعنى لا يتأتّى هنا؛ لأن محل التشهد القعدة فبالعود إليه لا يصير رافضاً للقعدة. وذكر في «النوادر» : أن من نسي التشهد حتى يسلم ثم تذكر، فجعل يقرؤه، فلما قرأه بعضه ندم فسلم قبل تمامه. قال أبو يوسف رحمه الله: تفسد صلاته؛ لأن القعدة الأولى قد ارتفضت بعوده إلى قراءة التشهد وقد سلم قبل تمام القعدة الثانية، فتفسد صلاته. وقال محمد رحمه الله: لا تفسد صلاته؛ لأن قدر ما قرأ من التشهد يرتفض من القعدة الأولى فأما ما ورده لا يرتفض، فإنما سلم عن قعود تام فتجزيه صلاته. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ولهذا نظير اختلف فيه المتأخرون، ولا رواية فيه، وهو أنه إذا نسي الفاتحة أو السورة حتى ركع ثم تذكر في ركوعه فانتصب قائماً ليقرأ ثم ندم قبل القراءة، فسجد ولم يعد للركوع منهم من قال: تفسد صلاته؛ لأنه قد ارتفض ركوعه حتى انتصب ليقرأ، ومنهم من قال: لا تفسد صلاته (84أ1) ..... لا يرتفض، لأن عليه فرضي قيام وقراءة، فما لم يأت بهم جميعاً لا ينتقض ركوعه. قال شمس الأئمة هذا رحمه الله، وذكر في «النوادر» أنه إذا تلا آية السجدة بعدها قدر التشهد فإنه يسجد لها ويعيد القعدة، والقعدة الأولى ترتفض بسجوده، حتى إنه لو سجد لها ولم يعد القعدة فسدت صلاته، لأنه سلم قبل سجدة قال رحمه الله: ومن أصحابنا رحمهم الله من لم يأخذ بهذه الرواية، وقال: ها هنا لا ترتفض القعدة وإنما ترتفض في سجدة سبق القعدة وجوبها، وإذا..... وعليه سجدة فقط قطع صلاته بسلامه، ثم ينظر إن كان المتروك سجدة صلبية فعليه إعادة الصلاة؛ لأنها ركن، وترك الركن يفسد الصلاة..... كان المتروك سجدة تلاوة فليس عليه إعادة الصلاة، وكذلك إذا كان المتروك قراءة التشهد؛ لأن قراءة التشهد واجبة، وترك الواجب لا يوجب..... الفساد. وفي «الأصل» : إذا سلم في الرابعة ساهياً بعد قعوده مقدار التشهد ولم يقرأ التشهد، فإن عليه أن يعود إلى قراءة التشهد لما مر، ثم يسلم ويسجد للسهو ويتشهد ويسلم، ولو سلم وهو ذاكر أنه قعد قدر التشهد لكنه لم يقرأ التشهد، ثم تذكر أن عليه سجدة التلاوة لا يعود؛ لأنه سلام عمد، وصلاته تامة؛ لأنه لم يترك ركناً. وكذلك لو سلم وهو ذاكر أن عليه سجدة التلاوة ثم تذكر أنه لم يتشهد، فإنه لا يعود إلى التشهد ولا يسجد للتلاوة، وصلاته تامة. وفي «الأصل» أيضاً: وإذا نهض من الركعتين ساهياً فلم يستتم قائماً حتى ذكر فقعد فعليه سجود السهو.

معناه: رجل صلى ركعتين من الظهر فقام إلى الثالثة قبل أن يقعد مقدار التشهد، فإنه ينظر إن استتم قائماً يعني استوى قائماً ثم تذكر، فإنه يمضي في صلاته ولا يعود إلى القعدة وسجد للسهو، أما لا يعود لأن القيام ركن والقعدة واجبة أو سنّة، وليس من الصواب ترك الركن لأجل الواجب أو السنّة، بخلاف القعدة الأخيرة؛ لأن ذلك فرض ورفض الشيء بمثله جائز.n ... سجود السهو؛ لأنه ترك واجباً من واجبات الصلاة أو سنّة مضافة إلى جميع الصلاة فليزمه سجود السهو، وإن لم يستتم قائماً فإنه يعود ويسجد للسهو. وأصل هذا ما روي عن النبي عليه السلام أنه قام من الثانية إلى الثالثة قبل أن يقعد فسبحوا له فعاد، وروي أيضاً لم يعد، ولكن سبح...... فقاموا. ووجه التوفيق بين الحديثين: أن ما روي أنه عاد كان لم يستتم قائماً، وما روي أنه لم يعد كان بعدما استتم قائماً ويسجد للسهو لأنه بالتحريك للقيام غير تسليم الصلاة، فيلزمه سجود السهو. وذكر أبو يوسف رحمه الله في «الأمالي» : أنه إذا تذكر قبل أن يستتم قائماً إن كان إلى القعود أقرب فإنه يعود ويقعد؛ لأنه كالقاعد من وجه، وإن كان إلى القيام أقرب لا يعود كما لو استتم قائماً، ولو كان إلى القعود أقرب وعاد وقعد هل يلزمه سجود؟ حكى الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أنه قال: لا يلزمه سجود السهو؛ لأنه إذا كان إلى السجود أقرب فكأنه لم يقم، وقال غيره: يلزمه سجود السهو؛ لأنه أخر الواجب عن وقته لما اشتغل بالقيام، فيلزمه سجود السهو، كذا ذكر الشيخ الإمام المعروف بخواهر زاده رحمه الله قال شمس الأئمة: ومشايخنا رحمهم الله استحسنوا رواية أبي يوسف. قال: نسي فاتحة الكتاب في الركعة الأولى أو في الركعة الثانية وقرأ السورة ثم تذكر فإنه يبدأ فيقرأ فاتحة الكتاب ثم يقرأ السورة هكذا ذكر في «الأصل» ، وروى الحسن عن أبي يوسف رحمة الله عليهما: أنه يركع ولا يقرأ الفاتحة؛ لأن فيه بعض الفرض بعد التمام لمكان الواجب؛ لأن قراءة السورة وقعت فرضاً، وقراءة الفاتحة واجبة. وجه ظاهر الرواية: أن باعتبار الحال هذا بعض الفريضة لأجل الفرض، فإذا قرأ الفاتحة تصير جميع القراءة فرضاً وصار كما لو تذكر السورة في الركوع فإنه يرجع إلا أن أبا يوسف رحمه الله: إنما يمنع تلك المسألة على قياس هذه المسألة. في «المنتقى» : إبراهيم عن محمد رحمه الله: رجل تشهد في الركعتين من الظهر ثم تذكر أن عليه سجدة من صلب الصلاة، فسجدها، قال: إن كانت السجدة في الركعة الأولى لم يعد التشهد، وإن كانت من الركعة الثانية أعاد التشهد من أي ركعة كانت السجدة.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل صلى ركعة ونسي سجدة منها ثم تذكرها وهو ساجد في الثانية قال: إن شاء رفض هذه السجدة التي هو فيها وسجد التي هي عليه ثم عاد إلى ما كان فيها وأربعاً اعتد بها ورفع رأسه منها وسجد التي هي عليه، ثم يمضي في صلاته، ورواه عن أبي حنيفة، وإن ذكر السجدة وهو راكع في الثانية قال أبو يوسف رحمه الله: إن شاء اعتد بها ورفع رأسه منها، ثم سجد التي هي عليه ثم سجد سجدتي الركعة الثانية، وسجد سجدتي من السهو، وإن شاء رفض ركوعه وسجد السجدة التي عليه ثم أعاد القراءة الثانية وركع عليها. وكذلك إن كانت السجدة التي تركها من الثانية تذكرها وهو راكع في الثالثة فعلى نحو ما بينا في الركعة الثانية، وإن كان رفع رأسه من الركعة الثانية في الفصل الأول أو من الركعة الثالثة في الفصل الثاني ثم تذكر السجدة التي عليه لا ترتفض هذه الركعة؛ لأنها ركعة تامة، وإن لم يكن بعينها سجدة ويسجد التي عليه ثم يسجد لهذه الركعة سجدتين. نوع آخر فيمن يصلي التطوع ركعتين ويسهو فيهما ويسجد لسهوه بعد السلام ثم أراد أن يبني عليها ركعتين أخراوين. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : عن أبي حنيفة رحمه الله: في رجل صلى ركعتين تطوعاً وسها فيهما وسجدة لسهوه بعد السلام ثم أراد أن يبني عليهما ركعتين أخراوين: لم يكن له أن يبني، لأنه لو فعله فقد أبطل سجود السهو لوقوعها في وسط الصلاة. فرق بين هذا وبين المسافر إذا صلى الظهر ركعتين وسها فيها وسجد بسهوه ثم نوى الإقامة، فإنه ملزم لإتمام صلاته؛ لأن هناك إن حصل سجود السهو في وسط الصلاة ولكن بمعنى شرعي لا يفعل.... باختياره. وحقيقة الفرق بينهما: أن السلام يحلل في جميع المواضع ثم بالعود إلى سجود السهو يصير عائداً إلى حرمة الصلاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لضرورة أن يكون سجود السهو مؤدياً إلى حرمة الصلاة، وهذه الضرورة فيما يرجع إلى إكمال تلك الصلاة لا فيما يرجع إلى صلاة أخرى، ونية الإقامة عملها في إكمال تلك الصلاة، فتظهر عود الحرمة في حقها، فأما كل شفع من التطوع صلاة على حدة، فلا يظهر عود الحرمة في حق شفع آخر، فلهذا لا يبني عليهما ركعتين، ولو أنه بنى عليه ركعتين أخراوين (84ب1) جاز، وهل يعيد سجدتي السهو في آخر الصلاة؟ فيه اختلاف المشايخ، والمختار أنه يعيد؛ لأن الشفع الثاني بناءً على التحريمة التي يتمكن فيها السهو فلا يمنعه من أداء سجود السهو.

ومن هذا الجنس لو صلى ركعتين تطوعاً فسها فيها، وتشهد ثم قام وصلى ركعتين أخراوين فعليه أن يسجد للسهو في الأولين إذا سلم؛ لأن الشفع الثاني بناءً على التحريمة التي تمكن فيها السهو، فلا يمنعه من أداء سجود السهو. ومن هذا الجنس رجل افتتح التطوع ونوى ركعتين فصلى ركعتين وسها فيها ثم بدا له أن يجعل صلاته أربعاً فزاد عليه ركعتين أخراوين، فإنه يجب عليه سجود السهو في آخر صلاته؛ لأن الشفع الثاني (بناءً) على التحريمة التي تمكن فيها السهو، فلا يمنعه من أداء سجود السهو. نوع آخر فيمن يصلي الظهر أو العشاء ويسلم وعليه سجدة صلبية وسجدة سهو وسجدة تلاوة رجل صلى العشاء فسها فيها وقرأ سجدة التلاوة فلم يسجدها، وترك سجدة من ركعة ساهياً ثم سلم، والمسألة على أربعة أوجه. إما إن كان ناسياً الكل أو عامداً للكل أو ناسياً للتلاوة عامداً للصلبية أو على العكس. أما على الوجه الأول: لا تفسد صلاته بالاتفاق؛ لأن هذا سلام السهو وسلام السهو لا يخرجه عن حرمة الصلاة على ما ذكرنا. وفي الوجه الثاني والثالث: تفسد صلاته بالاتفاق لما ذكرنا أن سلام العمد يخرجه عن حرمة الصلاة. وفي الوجه الرابع، فكذلك في ظاهر الرواية؛ تفسد صلاته، وروى أصحاب «الإملاء» عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا تفسد صلاته. ووجه ذلك الرواية: أن سجد التلاوة من الواجبات لا من الأركان فسلامه فيما هو ركن سلام سهو وذلك لا يفسد الصلاة. ووجه ظاهر الرواية وهو: أنه سلم وهو ذاكر لواجب يؤدى قبل السلام وكان سلامه قطعاً لصلاته، وإنما قطعها قبل إتمام أركانها، ولأنا لو لم نفسد صلاته حتى يأتي بالصليبية...... أن يقول يأتي بسجدة التلاوة بعد السلام عامداً أيضاً، لبقاء التحريمة، ولا وجه إلى ذلك، فقد سلم وهو ذاكر للتلاوة وكان قطعاً في حقه. قال شمس الأئمة رحمه الله: وصاحب «الكتاب» ذكر في «شرحه» معنىً آخر فقال: لأن التلاوة وإن لم تكن فرضاً ولكن العود إليها يوجب القعدة لما ذكر من أن العود إلى سجدة التلاوة يرفض القعدة، وتلك القعدة فرض، فإذا كان يعقب فرضاً ويؤدي إليه استوى الصلبية فصار كأنه ترك ركعتين وسلم وهو ذاكر لأحدهما ناس للآخر، وهناك صلاته فاسدة فكذلك هنا.

نوع آخرمن هذا الفصل في المتفرقات رجل يصلي المغرب فيجيء رجل ويقتدي به يصلي المغرب تطوعاً، فقام الإمام إلى الرابعة ناسياً ولم يقعد على رأس الثالثة وقيد الرابعة بالسجدة وتابعه المقتدي في ذلك، قال: فسدت صلاة الإمام فرضاً لا نفلاً عند أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله. ولا يقال على هذا بأن صلاة الإمام انقلبت نفلاً في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: فينبغي أن لا تفسد صلاة المقتدي؛ لأنا نقول: صلاة الإمام وإن صارت نفلاً إلا أنها كانت فرضاً، فصار في الحكم منتقلاً من تحريمة الفرض إلى تحريمة النفل، وصار كأنه صلى صلاتين بتحريمتين، وصار المقتدي كأنه صلى صلاته واحدة...... فلا يجوز. ومن عليه سجود السهو في صلاة الفجر إذا لم يسجد حتى طلعت الشمس وكان ذلك بعد السلام لم يسجد، وكذلك إذا كان في قضاء الفائتة فلم يسجد حتى احمرت الشمس لم يسجد؛ لأنها تجب لجبر نقصان مجزى حتى يجزىء القضاء؛ لأن الإكمال عليه، والقضاء لا يصح في هذا الوقت. ومن سلم عن يساره قبل سلامه عن يمينه فلا سهو عليه، ومن سلم وعليه سهو فبعدما يقطع الصلاة لم يسجد؛ لأن الحادث منعه عن العود إلى التحريمة، فلا يمكنه إلا ذا وقد صحت صلاته؛ لأن ترك سجود السهو لا يوجب فساد الصلاة. وإذا سها في الجمعة وخرج الوقت بعدما سلم قبل أن يسجد للسهو سقط عنه السجود وإذا ترك الصلاة ترك العشاء وقضاها نهاراً وأمّ وخافت ساهياً بالليل ناسياً وقضاها في النهار وأم فيها وخافت ساهياً، كان عليه السهو، وينبغي أن يجهر ليكون القضاء على وفق الأداء. وإن أم ليلاً في صلاة النهار يخافت ولا يجهر، وإن جهر ساهياً كان عليه السهو، ولو أم في التطوع في الليل وخافت متعمداً فقد أساء، وإن كان ساهياً فعليه السهو إذا سبقه الحدث بعدما سلم قبل أن يسجد للسهو وقبل ما سجد سجدة واحدة للسهو توضأ وعاد وأتم الصلاة؛ لأن حرمة الصلاة ناهية، وسبق الحدث لا يمنع البناء بعد الوضوء. وإذا أحدث الإمام وقد سها فاستخلف رجلاً، سجد خليفته للسهو بعد السلام؛ لقيامه مقام الأول، وإن سها خليفته فيما يتم أيضاً كفاه سجدتان لسهوه ولسهوه الأول، كما لو سها الأول مرتين، وإن لم يكن الأول سها وإنما سها خليفته؛ لأن الأول صار مقتدياً بالباقي كغيره من القوم، فيلزمه سجدتا السهو لسهو إمامه. ألا ترى أنه لو أفسد الصلاة على نفسه فسدت صلاة الأول، فكذا السهو الثاني، فتمكن النقصان في صلاة الأول ولو سها الأول بعد الاستخلاف لا يوجب سهوه شيئاً؛ لأنه مقتدٍ بالثاني. وإذا سلم المسبوق حتى سلم الإمام ساهياً بنى على صلاته، وعليه سجود السهو،

أما البناء؛ فلأن هذا سلام سهو، وإنه لا يخرجه عن حرمة الصلاة، وأما وجوب سجدة السهو فلأنه متى سلم الإمام صار هو كالمنفرد وقد سها حتى سلم قبل هذا فتلزمه سجدة السهو قبل هذا إذا سلم بعد الإمام، فأما إذا سلم مع الإمام فلا سهو عليه؛ لأن الإمام لم يخرج عن الصلاة بعد، فكان كأنه سها خلف الإمام. إذا لم يرفع المصلي رأسه من الركوع حتى خر ساجداً ساهياً جازت صلاته في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعليه السهو. المصلي إذا نسي سجدة التلاوة في موضعها ثم ذكرها في الركوع أو في السجود أو في القعود، فإنه يخر لها ساجداً ثم يعود إلى ما كان، يعيده استحساناً، وإن لم يعد جازت صلاته، وإن أخرها إلى آخر صلاته أجزأه؛ لأن الصلاة واحدة، وإن كان إمام فصلى ركعة وترك فيها سجدة، وصلى ركعة أخرى وسجد لها وتذكر المتروكة في السجود، فإنه يرفع رأسه في السجود ويسجد المتروكة ثم يسجد ما كان فيها؛ لأنها ارتفضت فيعيدها استحساناً، فأما ما قبل ذلك إلى المتروكة (85أ1) .... وبعض إن كان ما تخلل بين المتروكة وبين الذي تذكر فيه ركعة تامة لا يرتفض باتفاق الروايات، فلا يلزمه إعادة ذلك، وإن لم يكن ركعة تامة فكذلك في ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما أنه يرتفض. إذا سلم الإمام وعليه سجدة التلاوة فتذكر من مكانه بعدما تفرق القوم فإنه يسجد للتلاوة ويقعد قدر التشهد، فإن سجد للتلاوة ولم يقعد فسدت صلاته لارتفاض القعدة أيضاً باتفاق الروايات. وفي رواية على ما مر، ولا تفسد صلاة....... لانقطاع المتابعة يصلي الأربع إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الثالثة وتذكر أنه لم يسجد في الثانية إلا سجدة واحدة فإنه يسجد تلك السجدة ثم يتشهد..... ثم يسجد الثالثة سجدتين ثم يتم صلاته؛ لأن عوده إلى السجدة المتروكة لا يرتفض الركوع بعد تمامه، وهذا إنما يستقيم على ظاهر الرواية على ما ذكرنا في المسألة المتقدمة، ويلزمه السهو؛ لأنه أخر السجدة في الركعة الثانية عن محلها. وإن تذكر وهو راكع في الثالثة أنه ترك من الثانية سجدة، فإنه يسجد السجدة المتروكة ويتشهد ثم يقوم ويصلي الثالثة والرابعة بركوعهما وسجودهما؛ لأن الركوع والسجود قبل التمام قابل للرفض، فإذا.... من الركوع من الركعة الثالثة أن عليه سجدة الركعة الثانية وعاد إليها فقد ارتفض هذا الركوع، فيجب إعادته بخلاف ما بعد رفع الرأس من الركوع؛ لأن الركوع قد تم بعد رفع الرأس منه، والركوع بعد التمام ليس بقابل للرفض على ظاهر الرواية.

الفصل الثامن عشر في مسائل الشك، وفي الاختلاف الواقع بين الإماموالقوم في مقدار المؤدى

الفصل الثامن عشر في مسائل الشك، وفي الاختلاف الواقع بين الإماموالقوم في مقدار المؤدى قال محمد رحمة الله عليه في «الأصل» : إذا سها ولم يدر ثلاثاً صلى أو أربعاً، وذلك أول ما سها استقبل الصلاة، قال عليه السلام: «من شك في صلاته فلم يدر أثلاثاً أو أربعاً فليستقبل» ، ولأن الاستقبال لا يريبه، والمضي بعد الشك يريبه، وقال عليه السلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ، ولأنه قادر على إسقاط ما عليه من الفرض بيقين من غير شك فيلزمه ذلك قياساً على ما لو شك في أصل الصلاة أنه صلى أو لم يصلِ وهو في الوقت لزمه أن يصلي، وقياساً على ما لو ترك صلاة واحدة في يوم وليلة ولا يدري أيّة صلاة..... يصلي خمس صلوات حتى يخرج عما عليه بيقين، وكذلك ها هنا. وإن بقي ذلك غير مرة تجزىء الصلاة وليتم الصلاة على ذلك، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من شك في صلاته فليتحرّ الصواب» ، ولأنا لو أمرناه بالاستقبال يقع له الشك ثانياً وثالثاً إذا صار ذلك عادة له، فتعذر عليه المضي في الصلاة، فلهذا يجزىء، فإن وقع تحريه على شيء أخذ به، وإن لم يقع تحريه على شيء أخذ بالأول؛ لحديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من شك في صلاته فليأخذ بالأول» ، ولأن الأداء واجب عليه بيقين، فلا يترك هذا اليقين إلا بيقين مثله، وذلك في الأقل، إلا أن في كل موضع فتوهم أنه أخر صلاته يقعد لا محالة؛ لأن القعدة الأخيرة فرض، والاشتغال بالنفل قبل إكمال الفرض يفسد الصلاة. ثم اختلف المشايخ في معنى قوله: أول ما سها، قال بعضهم: معناه: أنه أول سهو وقع له في عمره ولم يكن سها في صلاته قط من حيث بلغ فها هنا استقبل الصلاة، فأما إذا وقع له ذلك في شيء من الصلوات فإنه يتحرى. وقال بعضهم: معناه أنه أول سهو وقع له في تلك الصلاة، فإن ها هنا يستقبل، وإن وقع ذلك مرة أو مرتين يتحرى ويبني على الأول. والأول أشبه. ثم الشك لا يخلو إما إن وقع في ذوات المثنى كالفجر أو في ذوات الأربع كالظهر

والعصر، أو في ذوات الثلاث كالمغرب، وإن وقع الشك في صلاة الفجر فلم يدر أنها الركعة الأولى أم الثانية وهو قائم يتحرى في ذلك بأن وقع تحريه على شيء عمل به، وإن لم يقع تحريه على شيء وهو قائم يبني على الأول ويجعلها أولى، يتم تلك الركعة، ثم يقعد لجواز أنها ثانية، ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى ويقعد لجواز أن ما صلى كان أولى وهذه ثانيته ثم يسلم لأنها ثانيته حكماً، وإن شك في الفجر أنها ثانية أو ثالثة عمل بالتحري كما ذكرنا، فإن لم يقع تحريه على شيء وإن كان قائماً، فإنه يقعد في الحال ولا يركع؛ لجواز أنها ثالثته. فلو قلنا: إنه يمضي ولا يقعد فقد ترك القعدة على رأس الركعتين فتفسد صلاته، فلهذا قال: لا يمضي ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى يقعد لجواز أن القيام الذي رفضها بالقعود ثانيته وقد ترك ذلك، فعليه أن يصلي ركعة أخرى حتى يتم صلاته، وإن كان قاعداً والمسألة بحالها، فإنه يتحرى في ذلك إن وقع تحريه أنها ثانيته مضت صلاته على الصحيح. وإن وقع تحريه أنها ثالثته يتحرى في القعدة إن وقع تحريه أنه قعد على رأس الركعتين يمضي على صلاته على الوجه الذي عرف. وإن وقع تحريه أنه لم يقعد على رأس الركعتين فسدت صلاته؛ لأن القعدة على رأس الركعتين فرض وقد ترك ذلك، وترك الفرض يوجب فساد الصلاة، وإن لم يقع يجزيه..... فسدت أيضاً؛ لأنه يحتمل أنه قعد على رأس الركعتين فصحت صلاته، ويحتمل أنه لم يقعد ففسدت صلاته، فدارت الصلاة بين الصحة والفساد، فتفسد على ما هو الأصل المعروف. وإن وقع الشك في ذوات الأربع أنها الأولى أو الثانية عمد بالتحري كما ذكرنا، فإن لم يقع تحريه على شيء يبني على الأول، فيجعلها أولى ثم يقعد لجواز أنها ثانيته، فتكون القعدة فيها واجبة، ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى لأنا جعلناها في الحكم ثانيته ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى ويقعد لجواز أنها رابعته، والقعدة على رأس الرابعة فرض. وكذلك إذا شك أنها الثانية أم الثالثة عمل بالتحري كما ذكرنا، فإن لم يقع يجزيه على شيء يقعد في الحال لجواز أنها رابعته ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى ويقعد؛ لأنها جعلناها رابعته، فالحكم وإن وقع الشك في ذوات الثلاث فهو على قياس ما ذكرنا في ذوات المثنى والأربع، وهذا كله إذا وقع الشك في الصلاة. وأما إذا وقع الشك بعد الفراغ من الصلاة بأن شك بعد السلام في ذوات المثنى أنه صلى واحدة أو شك في ذوات الأربع بعد السلام أنه صلى ثلاثاً أو أربعاً، أو في ذوات الثلاث شك بعد الصلاة أنه صلى ثلاثاً أو ثنتين، فهذا عندنا على أنه أتم الصلاة حملاً لأمره على الصلاح، وهو الخروج عن الصلاة في أولته.

ولو شك بعد ما فرغ من التشهد في القعدة الأخيرة على نحو ما بينا، فكذلك الجواب عمل على أنه أتم صلاته هكذا روي عن محمد رحمه الله. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله فيمن نسي ثلاث (85ب1) سجدات أو أكثر من صلاته، فإن كان ذلك أول ما وقع له في صلاته استقبلها، وإن كان يقع له ذلك كثيراً مضى على أكثر رأيه فيه، وإن لم يكن له في ذلك رأي أعاد الصلاة، هكذا ذكر ها هنا، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: هذا خلاف ما ذكره محمد رحمه الله في كتاب الصلاة، وإذا شك في صلاته فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً وتفكر في ذلك تفكراً ثم استيقن أنه صلى ثلاث ركعات فإن لم يطل تفكره حتى لم يشغله تفكره عن أداء ركن بأن يصلي ويتفكر فليس عليه سجود السهو؛ لأنه لم يؤخر ركناً ولم يترك واجباً لم يؤخره وإن طال تفكره حتى شغله عن ركعة أو سجدة أو يكون في ركوع أو في سجود فيطول في تفكره ذلك، ويعبر عن حاله بالتفكير فعليه سجود السهو استحساناً. وفي القياس: لا سهو عليه؛ لأن تفكره ليس إلا إقامة القيام أو الركوع أو السجود، وهذه الأذكار سنّة، وتأخير الأركان بسبب إقامة السنّة لا توجب السهو كما لا يوجب الإساءة إذا كان عمداً. وجه الاستحسان: أنه أخر واجباً أو ركناً ساهياً لا بسبب إقامة السنّة بل بسبب التفكر، والتفكير ليس من أعمال الصلاة، فيلزمه سجود السهو، كما لو زاد ركوعاً أو سجدة في صلاته بخلاف ما إذا أطال الركوع أو السجود أو القيام ساهياً حيث لا يلزمه سجود السهو؛ لأن التأخر حصل بفعل هو من أفعال الصلاة، وذلك سنّة وإن لم يكن واجباً وتأخير الركن الواجب..... فإنه فعل من أفعال الصلاة ساهياً لا يوجب سجدتي السهو. قال الشيخ الإمام الزاهد الصفار رحمه الله: هذا كله إذا كان التفكر يمنعه من التسبيح، فأما إذا كان لا يمنعه من التسبيح فإن سبح ويتفكر ويقرأ ويتفكر لا يلزمه سجود السهو في الآخرين كلها، وإن شك لو شك في صلاة صلاها وهو في صلاة أخرى قد صلاها قبل هذه الصلاة فيتفكر في ذلك، وهو في هذه الصلاة لم يكن عليه سجود السهو وإن شغله تفكره؛ لأنه لم يشك في هذه الصلاة، ولأن المصلي لا يخلو من هذا النوع من الشك، فلا يجب سجود السهو بهذا. قال شمس الأئمة رحمه الله: ما قال في «الكتاب» : وإن شغله تفكره ليس يريد به أنه شغله الشك عن ركن أو واجب فإن ذلك يوجب سجدتي السهو بالإجماع، ولكن أراد به شغل قلبه بعد أن كانت جوارحه مشغولة بأداء الأركان على نحو ما بينا في المسألة المتقدمة. وفي «فتاوى أبي الليث رحمه الله» : رجل شك في صلاته أنه قد صلاها أم لا،

وكان في الوقت فعليه أن يعيد؛ لأن سبب الوجوب قائم، فإنما لا يعمل هذا السبب بشرط الأداء قبله، وفيه شك، وإن خرج الوقت ثم شك فلا شيء عليه؛ لأن سبب الوجوب قد فات، وإنما يجب القضاء..... عدم الأداء..... وفيه شك، وكذلك لو شك في ركعة بعد الفراغ من الصلاة لا شيء عليه، وفي الصلاة يلزمه أداؤها. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : أن من شك في إتمام وضوء إمامه جازت صلاته ما لم يستيقن أنه ترك بعض أعضائه سهواً أو عمداً؛ لأن الظاهر أنه لم يترك. قال: يصلي الفجر إذا شك في سجوده، أنه صلى ركعتين أو ثلاثاً، قالوا: إن كان في السجدة الأولى يمكنه إصلاح صلاته بأن يعود إلى القعدة؛ لأنه إن كان صلى ركعتين كان عليه إتمام هذه الركعة؛ لأنها ثانيته، فإذا عاد إلى القعدة فقد أتمها فيجوز، ولو كان بالبدء لا تفسد صلاته عند محمد رحمة الله عليه؛ لأنه لما تذكر في السجدة الأولى ارتفضت تلك السجدة أصلاً، وصارت كأن لم تكن، كما لو سبقه الحدث في السجدة الأولى من الركعة الخامسة وإن كان هذا الشك في السجدة الثانية فسدت صلاته لاحتمال أنه يصلي الثالثة بالسجدة الثانية وخلط المكتوبة بالنافلة قبل إكمال المكتوبة تفسد المكتوبة. ولو شك في صلاة الفجر في قيامه أيهما الأولى من صلاته أو ثالثته؟ قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: يمكنه إصلاح صلاته بأن يرفض ما هو إلى القيام ويعود إلى القعدة، فإن كانت هذه الركعة ثالثته فقد رفضها بالعود إلى القعدة وتمت صلاته ثم يقوم فيصلي ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة ثم يتشهد ويسجد سجدتي السهو؛ لأن تلك الركعة إن كانت هي الأولى فلم يأت بشيء من صلاته...... بجميع أركانها ولا يقعد بينهما؛ لأنه في حال يلزمه ركعتان وفي حال لا يلزمه شيء، فلا يقعد. قد ذكرنا أنه إذا شك في صلاة الفجر أصلى ركعتين أم واحدة وكان الشك في حالة القيام أنه يتم هذه الركعة ويقعد قدر التشهد ثم يقوم فيصلي ركعة ويقعد ويسجد للسهو في آخرها بخلاف ما إذا شك أنها ثالثته أو الأولى، فإنه ها هنا لا يتم ركعتين ثم يقعد قدر التشهد؛ لأن ها هنا يحتمل أنها ثالثته، فلو بالمضي فيها تفسد صلاته فلذلك أم بالعود إلى القعدة، أما هناك شك في أنه أدى الركعة الثانية أو لم يؤد، فإما أن تكون هذه الركعة الأولى أو الثانية، وكيف ما كان لا تفسد صلاته فإتمام هذه الركعة، وإذا أتمها يقعد قدر التشهد لاحتمال أنها ثانيته ثم يقوم فيصلي ركعة أخرى. وإن شك وهو ساجد إن شك أنها الركعة الأولى أو الثانية المعنى فيهما سواء شك في السجدة الأولى أو في السجدة الثانية؛ لأنهما إن كانت الأولى يلزمه المضي فيها، وإن كانت ثانية يلزمه تكميلها، وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية يقعد قدر التشهد ثم يقوم ويصلي ركعة. ولو غدت على ظنه في الصلاة أنه أحدث في الصلاة أجزأته لم يمسح تيقن

بذلك لا شك له فيه لم يتيقن أنه لم يحدث وتيقن أنه قد مسح، قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمة الله عليه: ينظر إن كان أدى ركنه حال ما كان مسبقاً بالحدث وتقدم المسح فإنه يستقبل الصلاة، وإن لم...... فما معنى في صلاته؟ ولو شك في صلاته أنه هل كبّر للافتتاح أم لا؟ هل أحدث أم لا؟ أصابت النجاسة ثوبه أم لا؟ هل مسح رأسه أم لا؟ إن كان ذلك أول مرة استقبل الصلاة، وإن كان يقع له ذلك كثيراً جاز له المضي، ولا يلزمه الوضوء ولا غسل الثوب رجل دخل في صلاة الظهر ثم شك أنه هل صلى الفجر أم لا؟ فلما فرغ من الصلاة تيقن أنه لم يصلِ الفجر فإنه يصلي الفجر ثم يعيد الظهر، لأنه لما استيقن بعد الفراغ من الصلاة أنه لم يصلِ الفجر كان مستيقناً في ذلك الوقت كالمصلي بالتيمم إذا رأى ماء فظن (76أ1) أنه سراب، فلما فرغ من الصلاة تيقن أنه كان ماء فإنه يتوضأ ويعيد، ولو تذكر يوم الجمعة وقت الخطبة أنه لم يصلِ الفجر فإنه يقوم ويصلي الفجر..... ويسمع الخطبة؛ لأنه لو لم يصلِ الفجر حتى يفرغ الإمام من الخطبة لا يمكنه قضاء الفجر مع الجمعة من الخطبة يصلي الظهر. إذا صلى ركعة من الظهر ثم شك في الثانية أنه في العصر ثم شك في الثالثة أنه في التطوع ثم شك في الرابعة أنه في الظهر، قالوا: هو في الظهر، والشك ليس بشيء. رجل صلى ركعتين وشك أنه مقيم أو مسافر فسلم في حالة الشك، ثم علم أنه مقيم، فإنه يعيد صلاة المقيمين؛ لأنه سلام عمد والله أعلم. مسائل الاختلاف الواقع بين الإمام والقوم وإذا وقع الاختلاف بين الإمام والقوم فقال القوم: صليتَ ثلاثاً، فقال الإمام: صليتُ أربعاً، فإن كان بعض القوم مع الإمام يؤخذ بقول من كان مع الإمام ويترجح قول من كان مع الإمام بسبب الإمام، وإن لم يكن بعض القوم مع الإمام ينظر إن كان الإمام على يقين لا يعيد الإمام الصلاة، فإن لم يكن على يقين أعاد بقولهم، هكذا ذكر المسألة في «واقعات الناطفي» . ورأيت في موضع آخر: إذا كان مع الإمام رجل واحد يترجح قوله بسبب الإمام، ولا يعيد الصلاة، فإذا لم يكن مع الإمام واحد وأعاد الصلاة وأعاد القوم معه مقتدين به صح اقتداؤهم؛ لأنه إن كان هو الصادق كان هذا اقتداء المتنقل بالمتنفل، وإن كان الصادق هو القوم كان هذا اقتداء المفترض بالمفترض. وفي «فتاوى واقعات الناطفي» : إمام صلى وقت الظهر فهي الظهر، وإن كان في وقت العصر فهي العصر؛ لأن الظاهر شاهد من يدعي ما يوافقه الوقت، وإن كان مشكلاً جاز للفريقين في القياس بمنزلة قطرة من الدم وقعت فمن خلف الإمام ولا يدري ممن هو؛ لأن الشك في وجوب الإعادة، والإعادة لا تجب بالشك. وفي «فتاوى أهل السمرقند» : إذا صلى الإمام بقوم واستيقن واحد منهم أن الإمام

صلى أربعاً، واستيقن واحد منهم أنه صلى ثلاثاً والإمام والقوم في شك، فليس على الإمام والقوم شيء؛ لأن هذا شك بعد الفراغ من الصلاة وإنه غير معتبر، ولا يستحب للإمام الأعلى لما بينا، وعلى الذي استيقن بالنقصان الإعادة؛ لأن تعيينه لا يبطل بتعيين غيره. زاد في «المنتقى» : كذلك إذا كان......، فإن كان الإمام يستيقن بالنقصان وواحد منهم يستيقن بالتمام يقتدي القوم بالإمام؛ لأن الإمام تيقن أنه لم يؤد ولا يعيد الذي استيقن بالتمام؛ لأنه متيقن أنه......، هكذا ذكر من «فتاوى أهل سمرقند» ، وهكذا وقع في بعض نسخ «المنتقى» ، وفي بعضها يقتدي القوم بالإمام. وفي هذا الموضع أيضاً؛ إذا شك الإمام فأخبره عدلان يأخذ بقولهما؛ لأنه لو أخبره عدل يستحب أن يأخذ بقوله، فإذا أخبره عدلان يجب الأخذ بقولهما بخلاف ما إذا شك الإمام والقوم واستيقن واحد بالتمام، واستيقن واحد من القوم بالنقصان حيث يعيد الذي استيقن بالنقصان، فصلاة الإمام والقوم تامة وإن أخبره المستيقن بالنقصان؛ لأن قول المستيقن بالنقصان عارضه قول المستيقن بالتمام، فكأنهما لم يوجدا. ولو شك الإمام والقوم ويستيقن واحد من القوم بالنقصان الأحب أن يعيدوا، فإن لم يعيدوا ليس عليهم شيء حتى يكون. رجلين عدلين رجل صلى واحدة، وصلى بقوم، فلما سلم أخبره رجل عدل أنك صليت الظهر ثلاث ركعات، قالوا: إن كان عند المصلي أنه صلى أربع ركعات لا يلتفت إلى قول المخبر وإن شك المصلي في المخبر أنه صادق أو كاذب روي عن محمد رحمه الله أنه يعيد صلاته احتياطاً، وإن شك في قول رجلين عدلين أعاد صلاته وإن لم يكن المخبر عدلاً لا يقبل قوله. رجل صلى بقوم، فلما صلى ركعتين وسجد السجدة الثانية شك أنه صلى ركعتين أو ركعة، أو شك في الرابعة والثالثة فلحظ إلى من خلفه ليعلم بهم إن قاموا قام هو معهم وإن قعدوا قعد تعمد بذلك، فلا بأس به ولا سهو عليه والله أعلم. وفي «نوادر إبراهيم» : عن محمد رحمهما الله: صلى الإمام بقوم فقال له عدلان: إنك لم تتم الصلاة أعاد الصلاة، قال محمد رحمه الله: ولو كنت أنا لأعدته بقول الواحد تنزهاً وليس يرجع إلى الحكم؛ لأن الصلاة صحت ظاهراً، أو إبطال ما صح ظاهراً بقول الواحد لم يرد الشرع به والله أعلم. في «الجامع الصغير» (روى) محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة رحمهم الله في رجل تذكر وهو راكع أو ساجد أن عليه سجدة، فانحط من ركوعه فسجدها أو رفع رأسه من سجوده أو سجدها، فإنه يعيد الركوع والسجود يريد به على سبيل الرواية وإن لم يعد أجزأه، واختلف المشايخ في تعليل المسألة.

الفصل التاسع عشر في وقت لزوم الفرض

بعضهم قالوا: إنما يعيد لتكون صلاته على الولاء والترتيب وإذا لم يعد إنما تجوز لأن الترتيب في أفعال الصلاة عندنا ليس بشرط. وقال بعضهم: الانتقال حصل مع الطهارة فيصلح متمماً لما فيه إلا أنه لم يكن على قصد الإتمام، فمن حيث إنه يصلح متمماً لو اعتد بها أجزأه، ومن حيث إنه لم يكن على قصد الإمام كان الإعادة أولى. فإن قيل: الانتقال حصل لأداء ركناً..... فهلا جعله رافعاً لما كان فيه؟ قلنا: النفل يقصد قضاء با...... بمحل الأداء، فصار من حيث المعنى كأن الذي وجد فيه بعده والله أعلم. الفصل التاسع عشر في وقت لزوم الفرض الأصل عند أبي حنيفة: أن وجوب الصلاة يتعلق بآخر الوقت وأوله بسبب الأداء، وكان ابن شجاع رحمه الله يقول: الوجوب تعلق بأول الوقت وجوباً موسعاً ويتضيق بآخر الوقت، وعلى هذا كل عبادة مؤقتة يتسع وقتها لأداء أمثالها و...... الوقت..... يتخير المكلف بأول الوقت بين الاتخاذ والترك لا إلى بدل على عدم تعلق الوجوب بأول الوقت؛ إذ الواجب ما لا يتخير المرء فيه من الاتخاذ والترك. وما قال ابن شجاع لا يصح، لأن وقوع الشيء موقع الفرض لا يدل على الوجوب كما لو كره قبل الحول والتكفير بعد الجرح قبل الموت. قال: واختلف قول أبي الحسن رحمه الله: فيما إذا صلى في أول الوقت، ففي قول..... فرضاً ويتعين ذلك الوقت للوجوب فيه، وفي قول يتوقف فيه، فإن تبع آخر الوقت وهل أهل الوجوب دفع فرضاً، وإن خرج من أن يكون أهلاً كان نفلاً، وفي قول الواقع نفلاً، فإذا تبع آخر الوقت يسقط به الفرض، واختيار القاضي الإمام الكبير أبي زيد الدبوسي رحمه الله: أن الوقت حول للأداء وكل الوقت ليس بسبب؛ لأنه ظرف الأداء أيضاً، فلا يمكن أن يجعل كل الوقت سبباً بل السبب خروجه، فإذا (86ب1) . وجد الجزء، والأول جعلناه سبباً لوجوده وعدم غيره، وعند قوله: يجعل الجزء والذي يليه سبباً، هكذا إلى آخر الوقت، فإذا شرع في الأداء بقي الجزء الذي تقدم على الشروع سبباً ضرورة تصحح الأداء. قال: واختلف أصحابنا رحمهم الله في حكم آخر الوقت، فقال أكثرهم الوجوب يتعلق بمقدار التحريمة من آخر الوقت، وقال زفر رحمه الله: يتعلق إذا بقي من الوقت مقدار ما يؤدي فيه الصلاة، وهذا القول اختاره القدوري رحمه الله، والأول اختاره الشيخ أبو الحسن، والمحققون من أصحابنا كالقاضي الإمام أبي زيد الدبوسي رحمه الله تعالى.

الفصل العشرون في قضاء الفائتة

وثمرة الاختلاف تظهر في الحائض إذا طهرت في آخر الوقت، والصبي يبلغ والكافر يسلم، والمجنون، والمغمى عليه سيان، والمسافر إذا نوى الإقامة والمقيم إذا سافر فعلى قول أكثر أصحابنا رحمهم الله: يجب، ويتعين الفرض إذا بقي من الوقت مقدار ما توجد فيه التحريمة، وعند زفر رحمه الله: ومن تابعه من أصحابنا لا يجب ولا يتعين الفرض إلا إذا أدرك من الوقت ما يمكن الأداء فيه؛ لأن الخطأ والأداء، فلا بد من تصور الأداء؛ ولأنه إذا بقي من الوقت مقدار ما يمكن الأداء لم يكن مخيراً بين الإيجاد والترك، بل لزمه الإيجاد بل أثم، وهذا دليل على تعلق الوجوب به. وجه قول أصحابنا رحمهم الله: أن الوقت لما تعين سبباً للوجوب في الذمة، ثم الخروج عن عهدة ما وجب به يكون بالأداء، وقد يكون بالقضاء كالطهر في حق الحائض سبب للوجوب في ذمتها، والخروج عن القضاء دون الأداء ومتى كان الوقت معتبراً للوجوب في الذمة، ولا يعتبر الوقت الذي يمكن الأداء فيه لا محالة. قال: وإذا اعترضت هذه العوارض في آخر الوقت سقط الفرض بالإجماع أما على قول أبي الحسن وأكثر أصحابنا رحمهم الله؛ فلأن الوجوب يتعلق بآخر الوقت، وهذه العوارض مانعة من الوجوب. وأما على قول زفر رحمه الله: فلأن التكليف زال في البعض فيزول في الكل، ولو أن غلاماً صلى العشاء ونام واحتلم في منامه، ولم يستيقظ حتى طلع الفجر، فعليه قضاء العشاء إجماعاً، وهذه واقعة محمد سأل عنها أبا حنيفة رحمهما الله، فأجابه بما قلنا، فأعاد العشاء. الفصل العشرون في قضاء الفائتة يجب أن تعلم بأن الترتيب في الصلوات المكتوبة فرض عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: سنة. حجته في ذلك: أن كل واحد من الفرضين أصل بنفسه؛ فلأن يكون أداء أحدهما شرطاً لجواز الآخر، ولهذا سقط الترتيب عند النسيان، وضيق الوقت، وكثرة الفوائت، وشرائط الصلاة لا تسقط بعذر النسيان وضيق الوقت كالطهارة واستقبال القبلة، وأما ما روى ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي عليه السلام قال: «من نام عن الصلاة أو نسيها فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل التي هو فيها ثم ليصل التي ذكرها ثم ليعد التي صلى مع الإمام» فهذا دليل على فرضية الترتيب، وبهذا الحديث أخذ أبو يوسف

رحمه الله من أوله إلى آخره، ومحمد رحمه الله لم يأخذ بأوله، وأمر بقطع الصلاة التي فيها عند تذكر الفائتة، عملاً بقوله عليه السلام: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها» ، فإن ذلك وقتها وجعل وقت التذكير وقت الفائتة، فإذا صلى فيه غيرها لم يؤد الصلاة في وقتها، فلا يجوز. والمعنى فيه: وهو أن الصلوات المكتوبات وجبت مرتبة وقتاً وفعلاً، والترتيب وإن سقط من جهة الوقت لمكان العذر وجب أن يراعى من جهة العقد، وكان الحسن بن زياد رحمه الله يقول: إنما يجب مراعاة الترتيب على من علم به أي: علم بوجوب الترتيب لا على من لا يعلم به أما الترتيب في نفس أفعال الصلاة ليس يقرأ من عندنا، حتى أن من أدرك الإمام ونام في أول الصلاة خلفه أو سبقه الحدث، فسبقه الإمام أو توضأ لعاد، فعليه أن يقضي أولاً ما سبقه الإمام به ثم يتابع الإمام إذا أدركه، ولو تابع الإمام أولاً قبل قضاء ما لم يصل ثم قضى ما لم يصل بعد تسليم الإمام جاز عندنا. وكذلك في الجمعة إذا زحمه الناس، فلم يقدر على أداء الركعة الأولى مع الإمام بعدما اقتدى به، وبقي قائماً كذلك، ثم أمكنه الأداء مع الإمام، فإنه يؤدي الركعة الأولى أولاً، ولو أنه أدى الركعة الثانية أولاً مع الإمام ثم قضى الركعة الأولى بعد فراغ الإمام جاز عندنا، فنقول هذا الترتيب يسقط بعذر النسيان، وبضيق الوقت وبكثرة الفوائت، أما بالنسيان؛ فلأنه عاجز عن شرائط التكليف ولا تكليف مع العجز؛ ولأن مراعاة الترتيب عرفت بالخبر، والخبر يتناول حالة الذكر لا حالة النسيان بل في حالة النسيان خبر آخر بخلافه، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمخرج يوماً ليصلح بين حيين، فنسي صلاة العصر، وصلى المغرب بأصحابه ثم قال لأصحابه: «هل رأيتموني صليت العصر، فقالوا: لا» فصلى العصر ولم يعد المغرب ولو أنه نسي صلاة، ثم ذكر في الوقت الفائتة فصلى الفائتة وهو ذاكر للمنسية، وفي الوقت سعة لم يجز. وأما إذا ذكرها بعد أيام فقد ذكر الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله: أنه لا تجوز الوقتية أيضاً، ونسب هذا القول إلى مشايخه وأشار إلى المعنى، فقال وقت التذكر وقت الفائتة، قال عليه السلام: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها» فإن صلى الوقتية فقد صلاها في غير وقتها، فلا يجوز، وذكر محمد رحمة الله عليه في «الأصل» : أنه يجوز. هكذا ذكر الحاكم في «المنتقى» : عن بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمهم الله: أنه تجوز الوقتية، وهكذا ذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «عيون المسائل» ، وعليه الفتوى؛

لأن الترتيب بين الوقتية وبين الفائتة ليس بواجب؛ لأن المتخلل كثير والله أعلم. أما بضيق الوقت؛ فلأنه لو لم يسقط الترتيب عند ضيق الوقت تفوته الوقتية عن وقتها، وأداء الوقتية ثابت في وقتها بكتاب الله تعالى، ومراعاة الترتيب في الصلوات ثبت بأخبار الآحاد، ولا شك أن العمل بما ثبت بالكتاب أولى من العمل بما ثبت بالخبر الواحد، فإن عند سعة الوقت أيضاً لو بقي الترتيب معتبراً يؤدي إلى ترك العمل بما ثبت بكتاب الله تعالى، ثبت الجواز كما زالت الشمس. ولو أوجبنا الترتيب (87أ1) ومنعنا الجواز، قلنا: لو لم يبق الترتيب معتبراً في هذه الحالة فقد تركنا ما ثبت بالخبر الواحد أصلاً، ولو بقي الترتيب معتبراً لا يبطل ما ثبت بكتاب الله تعالى، بل يتأخر، ولا شك أن تأخير ما ثبت بكتاب الله تعالى أولى من ترك ما ثبت بالخبر الواحد أصلاً. ثم اختلف المشايخ فيما بينهم: أن العبرة لأصل الوقت، أم للوقت المستحب الذي لا كراهة فيه؟ قال بعضهم: العبرة لأصل الوقت، وقال بعضهم: العبرة للوقت المستحب، وقال الطحاوي على قياس قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله: العبرة لأصل الوقت، وعلى قياس قول محمد رحمه الله: العبرة للوقت المستحب. بيانه: إذا شرع في العصر وهو ناسٍ للظهر ثم تذكر الظهر في الوقت، لو اشتغل بالظهر يقطع العصر في وقت مكروه على قول من قال: العبرة لأصل الوقت يقطع العصر ويصلي الظهر ثم يصلي العصر، وعلى قول من قال: العبرة للوقت المستحب يمضي في العصر ثم يصلي الظهر بعد غروب الشمس. وفي «المنتقى» و «نوادر الصلاة» : إذا افتتح العصر من أول وقته وهو ناسٍ للظهر ثم احمرت الشمس ثم ذكر الظهر يمضي في العصر، وهذا يظن شرع في العصر في أول الوقت، وهو ذاكر للظهر أن العبرة للوقت المستحب، وإن افتتح العصر في أول وقتها، وهو ذاكر للظهر ثم احمرت الشمس قطع العصر ثم استقبلها مرة أخرى؛ لأنه افتتحها فاسدة بخلاف الفصل الأول، لو افتتح العصر في آخر وقتها، فلما صلى ركعتين غربت الشمس ثم تذكر أنه لم يصل الظهر، فإنه يتم العصر ثم يقضي الظهر؛ لأنه لو افتتح العصر في آخر وقتها مع تذكر الظهر يجوز، فهذا أولى، ولو تذكر في وقت العصر أنه لم يصل الظهر وهو متمكن من أداء الظهر قبل تغير الشمس، إلا أن عصره أو بعض عصره يقع بعد التغير عندنا يلزمه الترتيب، لا يجوز أداء العصر قبل قضاء الظهر، وعلى قول الحسن: لا يلزمه الترتيب إلا إذا تمكن من أداء الصلاتين قبل العصر. وأما لكثرة الفوائت، فلأن كثرة الفوائت في معنى ضيق الوقت؛ لأن الفوائت إذا كثرت لو راعى الترتيب فاتته الوقتية، فمراعاة الترتيب في هذه المواضع سقط لأجل العذر، وليس إذا كان الحكم يثبت في موضع بعذر ما يدل على أنه يثبت في موضع آخر بغير عذر، وقال زفر رحمه الله: الترتيب لا يثبت بكثرة الفوائت إذا كان الوقت يسع لها وللوقتية، وإن كانت الفوائت عشراً أو أكثر؛ لأن مراعاة الترتيب حكم الخبر الواحد،

وليس في العمل به ترك حكم الكتاب، فإن الوقت يسع للكل فيجمع بينهما، أما إذا كان الوقت حد الكثرة يسع للكل، فالعمل بخبر الواحد يؤدي إلى ترك العمل بالكتاب، فنقدم حكم الكتاب على حكم الخبر حده الكثرة في ظاهر الرواية أن تصير الفوائت ستاً، وروى محمد بن شجاع البلخي رحمة الله عليه عن أصحابنا رحمة الله عليهم: أن تصير الفوائت خمس صلوات، والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية. وفي «القدوري» قال أبو حنيفة، وأبو يوسف رحمة الله عليهما: إذا فاتته ست صلوات، ودخل وقت السابعة سقط الترتيب، وقال محمد رحمة الله: إذا دخل وقت السادسة سقط الترتيب، ومن تذكر صلاة عليه وهو في الصلاة، فقد حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله مذهب علمائنا رحمهم الله أن تفسد صلاته، قال: ولكن لا تفسد حين ذكرها بل يتمها ركعتين، ويعدها تطوعاً سواء كان الفائت قديماً أو حديثاً، ثم إذا كثرت الفوائت حتى سقط الترتيب، لأجلها في المستقبل سقط الترتيب في نفسها أيضاً حتى قال أصحابنا رحمهم الله: فيمن كان عليه صلاة شهر، فصلى ثلاثين فجراً ثم صلى ثلاثين ظهراً هكذا الضرورة؛ وهذا لأن الفوائت عند كثرتها لما أسقطت الترتيب في أغيارها؛ فلأن يسقط في نفسها كان ذلك أولى، هكذا ذكر بعض مشايخنا رحمهم الله المسألة في «شرح كتاب الصلاة» ، وفي المسألة كلمات تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى. ثم الفوائت نوعان: قديمة وحديثة، فالحديثة تسقط الترتيب بلا خلاف، وفي القديمة اختلاف المشايخ. وتفسير القديمة: رجل ترك صلاة شهر في حال صباه ومجانه وفسقه ثم ندم على ما وقع، فاشتغل بأداء الصلاة في مواقتها فقبل أن يقضي تلك الفوائت ترك صلاة، وصلى أخرى وهو ذاكر لهذه المتروكة الحديثة، قال بعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله: لا تجوز هذه الصلاة، ويجعل الماضي من الفوائت كأن لم يكن احتياطاً، وزجراً عن التهاون، وأن لا تصير المعصية المقضي وسيلة إلى التخفيف والتيسير. وبعضهم قالوا: يجوز وعليه الفتوى؛ لأن الاشتغال بهذه الفائتة ليس بأولى من الاشتغال بتلك الفوائت والاشتغال بالكل يفوت الوقتية عن وقتها، ولم تنقل هذه المسألة عن المتقدمين من مشايخنا رحمهم الله في كل موضع سقط الترتيب بحكم كثرة الفوائت، ثم عادت الفوائت إلى القلة بالقضاء، هل يعود الترتيب؟ وعن محمد رحمه الله روايتان.t وقد اختلف المشايخ فيه بيانه إذا ترك الرجل صلاة شهر، وقضاها إلا صلاة أو صلاتين ثم صلى صلاة داخل وقتها، وهو ذاكر لما بقي عليه، بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: لا تجوز، وإليه مال الفقيه أبو جعفر رحمه الله، وهو إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله، وبعضهم قالوا: تجوز، وإليه مال الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير رحمة الله عليه، وعليه الفتوى. وعلل هو فقال الترتيب قد سقط والساقط لا يحتمل العود كما قليل نجس دخل عليه الماء الجاري حتى كثر وسال ثم عاد إلى القلة، لا يعود نجساً والمعنى ما قلنا، أنه سقط

اعتبار النجاسة بالسيلان والساقط لا يحتمل العود كذا ههنا. وروى ابن سماعة عن محمد رحمة الله عليهما: في رجل ترك صلاة يوم وليلة، ثم صلى من الغد مع كل صلاة صلاة أمسيته إن الأمسيات كلها صحيحة، قدمها أو آخرها، وأما اليوميات، فإن بدأ بها فهي فاسدة؛ لأنه متى أدى اليوميات صارت سادسة المتروكات، إلا أنه إذا قضى متروكة بعدها عادت المتروكات خمساً (87ب1) ثم لا يزول، هكذا فلا يعود إلى الجواز، وإن بدأ بالأمسيات وأخر اليوميات، فاليوميات فاسدة إلا العشاء الآخرة، وإن العشاء الآخرة جائزة، وأما فساد ما وراء العشاء الآخرة في اليوميات؛ لأنه كلما صلى أمسيته عادت الفوائت أربعاً ففسدت الوقتية ضرورة، وأما العشاء الآخرة فما ذكر في الجواب أنها جائزة محمول على ما إذا كان الرجل جاهلاً؛ لأنه صلاها وعنده أنه لم يبق عليه فائتة، فصار كالناسي، فأما إذا كان الرجل عالماً لا تجزئه العشاء الآخرة أيضاً؛ لأنه صلاها وعنده أن عليه أربع صلوات، وهذه الرواية هي الرواية التي ذكرناها قبل هذا أن إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله: إذا كثرت الفوائت وسقط الترتيب ثم عادت الفوائت إلى القلة أنه يعود الترتيب. قال في «الأصل» : رجل صلى الظهر على غير وضوء ثم صلى العصر على وضوء ذاكراً لذلك، وهو يحسب أنه يجزئه، فعليه أن يعيدهما جميعاً. قال شمس الأئمة الحلواني رحمة الله عليه: معنى المسألة: أنه صلى الظهر بغير وضوء ناسياً، فإنه لو تعمد ذلك كفر في أصح القولين لأصحابنا رحمهم الله، وإنما كان عليه أن يعيدهما أما الظهر فظاهر، وأما العصر؛ فلأن مراعاة الترتيب واجب على ما مر، ولمجرد ظنه لا يسقط عنه ما هو مستحق عليه، كمن ظن أن الصلاة أو الزكاة ليس بواجب عليه، فإن أعاد الظهر وحدها ثم صلى المغرب، وهو يظن أن العصر له جائز، قال: تجزئه المغرب ويعيد العصر فقط؛ لأن ظنه هذا استند إلى خلاف معتبر بين العلماء. فإن أهل المدينة لا يرون الترتيب في الصلوات، وهو قول الشافعي رحمه الله الأول أن المغرب مجزئة وهذا موضع الاجتهاد، وأحوال المتأولين في المجتهدات فيما لا، فإنه مخالف للنص لا يبطل بل يغير. وإن كان الحكم فيما اجتهد بخلاف ذلك هذا كما يقول في القصاص، إذا كان بين اثنين، فعفا أحدهما وظن صاحبه أن عفو أخيه لا يؤثر في حقه، فقتل ذلك القاتل، فإنه لا يقاد منه ومعلوم أن هذا قتل بغير حق، ولكن لما كان جاهلاً أو مجتهداً في ذلك صار ذلك التأويل مانعاً وجوب القصاص، وإن كان مخطئاً في التأويل، كذلك ههنا حتى إذا كان عنده أن العصر لا تجزئه لا تجوز له المغرب نص عليه ابن سماعة عن محمد رحمهم الله، هكذا ذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار، والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمهما الله. وحاصل الفرق: أن فساد الصلاة بترك الطهارة فساد قوي مجمع عليه يظهر أثره، فيما يؤدي بعده، فأما فساد العصر بسبب الترتيب فساد ضعيف مختلف فيه، فلا يتعدى

حكمه إلى صلاة أخرى، كمن جمع بين حر وعبد في البيع بثمن واحد، بطل العقد فيهما، بخلاف ما إذا جمع بين قن ومدبر حيث صح العقد في حق القن، والمعنى ما ذكرنا كذلك ههنا. وكذلك رجل صلى الظهر بغير وضوء تام بأن ترك مسح الرأس ناسياً، وظن أن وضوءه تام فإنه تجزئه العصر إذا مسح الرأس أو جدد الوضوء للعصر؛ لأنه صلى العصر وعنده أنه لا ظهر عليه، فيجزئه كما لو ترك الظهر أصلاً، وعنده أنه صلى الظهر، فإنه يجزئه العصر، فإن لم يصل الظهر حتى صلى المغرب، وهو ذاكر للظهر لا يجزئه المغرب؛ لأن هذا اجتهاد يخالف النص؛ لأنه صلاها وهو ذاكر للظهر وذكر الظهر نص أو كنص، فكان هذا اجتهاد مخالف النص، فيلغو وعلى قول الحسن بن زياد رحمه الله: تجزئه المغرب إذا كان يجتهد أن الترتيب ركن أو فرض كما ذكرنا قبل هذا، وكثير من مشايخ بلخ أخذوا بقول الحسن بن زياد رحمه الله. رجل ترك الصلاة شهراً ثم أراد أن يقضي المتروكات، فقضى ثلاثين فجراً ومعه واحداً ثم ثلاثين ظهراً ثم ثلاثين عصراً، هكذا فعل في جميع الصلوات، قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمة الله عليه: الفجر الأول جائزة، لأنه ليس قبلها متروكة فتعين والفجر من اليوم الثاني فاسدة؛ لأن قبلها أربع متروكات ظهر اليوم الأول وعصره ومغربه وعشاؤه والفجر من اليوم الثالث جائزة؛ لأن قبلها ثمان صلوات أربع من اليوم الأول وأربع من اليوم الثاني ثم ما بعدها من صلوات الفجر إلى آخر الشهر جائزة. وأما صلوات الظهر، فالظهر من اليوم الأول جائزة؛ لأنه ليس قبلها متروكة وظهر اليوم الثاني فاسدة؛ لأن قبلها ثلاث صلوات من اليوم الأول وصلاة الظهر من اليوم الثالث جائزة؛ لأن قبلها ست صلوات متروكة ثلاث من اليوم الأول وثلاث من اليوم الثاني وما بعدها من صلوات الظهر إلى آخر الشهر جائزة. وأما صلوات العصر، فالعصر من اليوم الأول جائزة؛ لأنه ليس قبل العصر متروكة من ذلك اليوم، وصلاة العصر من اليوم الثاني فاسدة؛ لأن عليه المغرب والعشاء من اليوم الأول، وصلاة العصر من اليوم الثالث فاسدة؛ لأن عليه قبلها المغرب والعشاء في اليوم الأول والمغرب والعشاء من اليوم الثاني، وصلاة العصر من اليوم الرابع جائزة؛ لأن عليه قبلها ست صلوات المغرب. فصلوات المغرب في اليوم الأول جائزة؛ لأنه ليس قبلها متروكة، وصلاة المغرب من اليوم الثاني فاسدة؛ لأن قبلها متروكة وهي العشاء من اليوم الأول وصلاة المغرب من اليوم الثالث فاسدة؛ لأن قبلها صلاتان العشاء من اليوم الأول والعشاء من اليوم الثاني، وصلاة المغرب من اليوم الرابع فاسدة؛ لأن قبلها ثلاث صلوات عشاء اليوم الأول وعشاء اليوم الثاني وعشاء اليوم الثالث ومن اليوم الخامس كذلك؛ لأن قبلها أربع صلوات، ومن اليوم السادس كذلك؛ لأن قبلها خمس صلوات ثم ما بعدها من صلوات المغرب إلى آخر الشهر جائزة.

وأما صلوات العشاء، فكلها جائزة؛ لأنه ليس قبلها صلوات متروكة وهذه المسألة على الترتيب الذي قلنا: إنما تستقيم على إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله، وعلى قول من يقول من المشايخ: أن الترتيب إذا سقط بكثرة الفوائت يعود إذا قلت الفوائت، فأما على إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله، وعلى قول من يقول من المشايخ: أن الترتيب لا يعود وإن قلت الفوائت تجوز الصلوات كلها، وقد ذكرنا الروايتين مع اختلاف المشايخ فيما تقدم. قال في العصر: رجل صلى العصر (88أ1) وهو ذاكر أنه لم يصل الظهر، فهو فاسد إلا أن تكون في آخر الوقت بناءً على ما قلنا: أن الترتيب في الصلوات المكتوبات فرض، وإنما سقط الترتيب بالنسيان أو بكثرة الفوائت أو بضيق الوقت، ولكن إذا فسدت الفريضة لا تبطل أصل الصلاة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد رحمه الله تبطل، والمسألة معروفة، ثم عند أبي حنيفة رحمه الله فرض العصر يفسد صلاة موقوفة، حتى لو صلى ست صلوات أو أكثر، ولم يعد الظهر عاد العصر جائزاً لا تجب إعادته. وعندهما تفسد فساداً بائناً، لا جواز لها بحال، فالأصل: أن عند أبي حنيفة رحمه الله مراعاة الترتيب بين الفائتة والوقتية كما يسقط بكثرة الفوائت يسقط بكثرة المؤدى؛ وهذا لأن كثرة الفوائت إنما أوجبت سقوط الترتيب؛ لأن الاشتغال بالفوائت يوجب فوات الوقتية عن وقتها، وهذا المعنى موجود عند كثرة المؤدي؛ لأن الاشتغال بالمؤدى يفوت الوقتية عن وقتها، وإذا سقط مراعاة الترتيب ظهر أن ما أدى كان جائزاً. قال مشايخنا رحمهم الله: وإنما لا تجب إعادة الفوائت عند أبي حنيفة رحمة الله عليه إذا كان عند المصلي أن الترتيب ليس بواجب، وأن صلاته جائزة، أما إذا كان عنده فساد الصلوات بسبب الترتيب، فعليه إعادة كما قاله أبو يوسف رحمة الله عليه؛ لأن العبد يكلف ما عنده. ومن هذا الجنس مسألة أخرى: أن من ترك خمس صلوات، وصلى السادسة فهذه السادسة موقوفة، فإن صلى السابعة بعد ذلك جازت السابعة بالإجماع، وجازت السادسة بجواز السابعة عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن التوقف كان لأجل الترتيب فإذا صلى السابعة سقط الترتيب فعادت السادسة إلى الجواز، ولا يبعد أن يتوقف حكم الصلاة المؤداة على ما تبين في الحال، كمصل الظهر يوم الجمعة إن أدرك الجمعة تبين أن المؤدى كان تطوعاً، وإن لم يدرك كان فرضاً، كصاحبة العادة إذا انقطع دمها فيما دون عادتها، وصلت صلوات ثم عاودها الدم تبين أنها لم تكن صلاة صحيحة، وإن لم يعاودها الدم تبين أنها كانت صحيحة كذا هاهنا. رجل ترك الظهر، وصلى بعدها ست صلوات، وهو ذاكر للمتروكة كان عليه المتروكة لا غير، وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهم الله يقضي المتروكة وخمساً بعدها، ولو صلى بعد المتروكة خمس صلوات ثم قضى المتروكة، كان عليه الخمس التي صلاها في قولهم جميعاً.

قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في رجل يصلي الفجر وهو ذاكر أنه لم يوتر فالفجر فاسد إلا أن تكون في آخر وقت الفجر بخلاف أن يفوته الفجر تماماً، وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله الوتر سنّة، وعند أبي حنيفة رحمه الله واجب. وثمرة الاختلاف تظهر في موضعين: أحدهما في هذه المسألة، فإن عندهما الوتر لما كان سنّة لا يجب مراعاة الترتيب ويثبت الفجر، فإن مراعاة الترتيب لها يوجب في المكتوبات، وعند أبي حنيفة رحمه الله لما كان واجباً يجب مراعاة الترتيب. والمسألة الثانية: إذا صلى العشاء بغير وضوء فإنه يصلي العشاء، ولا يعيد الوتر عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما يعيد الوتر أيضاً؛ لأن الوتر عندهما سنّة وكان تبعاً للفرض، فإذا وجبت إعادة ما هو فرض وجبت إعادة ما هو تبعاً له، وعند أبي حنيفة رحمه الله: الوتر واجب كالعشاء، وقد أداه في وقته بطهارة، فلا يلزمه الإعادة. ومما يتصل بهذا الفصل إذا وقع الشك في الفوائت. رجل نسي صلاة، ولا يدري أي صلاة نسيها ولم يقع تحريمه على شيء يقدر صلاة وليلة عندنا حتى يخرج عما عليه مضى، قال بعض مشايخ بلخ رحمهم الله: يصلي الفجر بتحريمة ثم المغرب بتحريمة، ثم يصلي أربع ركعات، وينوي ما عليه من صلاة هذا اليوم وليلته. وقال سفيان الثوري رحمه الله: يصلي أربع ركعات ويقعد على رأس الركعتين، ورأس الثالثة ورأس الرابعة، وينوي ما عليه من صلاة يومه وليلته، فيجزئه عن أي صلاة فاتت، ولا حاجة إلى قضاء الخامس لنا: أن ما قلنا أولى؛ لأن هذا يؤدي إلى أركان، وهو القعود على رأس الثالث، وهو على ما قاله بعض مشايخ بلخ يقع الخلل في هيئة القراءة، فإنه الخمس والثلاث يدرى أنه يجهر في القراءة أو يخافت، وربما يؤدي إلى ترك الواجب، وهو الخروج عن الصلاة لا بلفظة السلام، فالخروج عما عليه يبقى من غير أن يقع الخلل في شيء مما قاله أصحابنا رحمهم الله، وعلى هذا إذا نسي صلاتين في يومين لا يدري أي صلاتين هما، قال: يعيد صلاة يومين، هكذا رواه أبو سليمان عن محمد رحمهما الله، وعلى هذا إذا نسي ثلاث صلوات من ثلاثة أيام، ولا يدري أي: صلوات هي قال: يعيد صلاة ثلاثة أيام ولياليها، رواه إبراهيم عن محمد رحمهما الله. ولو ترك صلاتين من يومين الظهر والعصر، ولا يدري أيهما تركها أولاً، ولا يقع تحريمه على شيء، قال أبو حنيفة رحمه الله: بأنه يصلي إحدى الصلاتين مرتين والأخرى مرة احتياطاً، فإن بدأ بالظهر ثم بالعصر ثم بالظهر كان أفضل؛ لأن الظهر أسبق وجوباً في الأصل، وإن بدأ بالعصر ثم بالظهر ثم بالعصر يجوز أيضاً؛ لأنه صار مؤدياً ومراعياً للترتيب بيقين وتقع إحديهما نافلة، وعندهما إن لم يقع تحريمه على شيء يصلي كل صلاة مرة إن شاء بدأ بالظهر، وإن شاء بدأ بالعصر، فمن مشايخنا من قال: لا خلاف بينهم، فإن ما قاله أبو حنيفة رحمه الله: جواب الأفضل، وما قالهما جواب الحكم ومنهم من

حقق الخلاف حجتهما: أنه لو وجب إعادة ما بدأ به إنما يجب لمراعاة الترتيب، والترتيب ساقط، فإنه في معنى الناسي، لأنه حتى بدأنا بأحديهما كان لا يعلم أن عليه صلاة قبلها، وأبو حنيفة رحمه الله يقول بأنه ليس بمعنى الناسي؛ لأنه متى صلى الأولى كان يعلم أن عليه صلاة أخرى، إلا أنه لا يعلم أنها قبل هذه أو بعدها، فدار بين أن يكون في وقتها، فيجوز وبين أن لا يكون في وقتها فلا يجوز فتجب الإعادة ليخرج عن الواجب بيقين؛ لأن الجواز لا يثبت بالشك، وفي الناسي أدى الوقتية في الوقت حقيقة، فلو لم يجز لا يجوز لكون الوقت وقت الفائتة، ولها معتبر كذلك، بالذكر، ولم يوجد. فأما إذا كان المتروك ثلاث صلوات في ثلاثة أيام ظهر وعصر ومغرب، فالجواب على قولهما ما سبق أنه يصلي كل صلاة مرة، وبأيهما بدأ جاز، وقول أبي حنيفة رحمه الله غير مذكور في «الكتاب» ، وقد اختلف المشايخ (88ب1) على قوله بعضهم قالوا: يصلي تسع صلوات؛ لأن المتروك لو كان صلاتين يصلي ثلاثاً على ما سبق وكذا هاهنا، ثم يصلي بعد ذلك الثالثة وهو المغرب ثم الثلاث التي بدأ بها لجواز أن تكون المغرب من المتروكة أولاً، وأما إذا كان المتروك أربعاً بأن ترك معها العشاء، فالجواب عندهما على ما بينا. وأما عند أبي حنيفة رحمه الله، فقد اختلف المشايخ قال بعضهم: يصلي خمسة عشرة صلاة؛ لأن في الثلاث يصلي السبع على ما بينا؛ فكذلك هاهنا ثم يصلي الرابعة، فصار ثمانية ثم يعيد السبع لجواز أن تكون الرابعة هي المتروكة أولاً. فأما إذا كان المتروك خمساً، فكذلك الجواب عندهما، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله اختلف المشايخ بعضهم قالوا: يعيد إحدى وثلاثين؛ لأنه لو كان المتروك أربعاً يصلي خمسة عشرة ثم يصلي الخامسة، فصار ست عشرة، ويحتمل أن تكون الخامسة هي الأولى، وما أدي قبلها كان نفلاً، فيصلي خمسة عشرة، فصار إحدى وثلاثين وبعض مشايخنا قالوا: الجواب في هذه المسائل، وهو ما إذا كان المتروك ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً على قول أبي حنيفة رحمه الله نظير الجواب على قولهما بخلاف ما إذا كان المتروك صلاتين؛ لأنه إذا كان المتروك صلاتين أو اعتبرنا الترتيب على قوله يلزمه قضاء ثلاث صلوات، فلا يؤدي إلى الحرج، ولا إلى فوات الوقتية عن الوقت، أما إذا احتاج إلى قضاء السبع أو الزيادة على ذلك يؤدي إلى الحرج، وإلى فوات الوقتية عن الوقت، فيصلي ما فاته، ويبدأ بأيهما شاء ولا يعيد شيئاً كما هو مذهبهما، وعليه الفتوى على ما تقدم أن من نسي صلاة ذكرها بعد شهر وصلى الوقتية مع ذكرها جاز أداء الوقتية، وعليه الفتوى، فها هنا كذلك يصلي العصر إذا تذكر أنه ترك سجدة واحدة، ولا يدري أنها من صلاة الظهر أو من صلاة العصر التي هو فيها، فإنه يتحرى، فإن لم تقع يجزئه على...... يتم العصر ويسجد سجدة واحدة لاحتمال أنه تركها من العصر

ثم يعيد الظهر ثم يعيد العصر، وإن لم يعد لا شيء عليه ولو توهم أنه لم يكبر تكبيرة الافتتاح ثم تيقن أنه كان كبر جاز له المضي وإن أدى ركناً. وإذا صلى الظهر ثم تذكر أنه ترك من صلاته فرضاً واحداً، قال: يسجد سجدة واحدة ثم يقعد ثم يقوم، ويصلي ركعة بسجدة واحدة ثم يقعد ثم يسجد أخرى، هذا إذا علم أنه ترك فعلاً من أفعال الصلاة، فإن تذكر أنه ترك قراءة تفسد صلاته لاحتمال أنه صلى ركعة بقراءة ثلاث ركعات بغير قراءة. ومما يتصل بهذا الفصل من المسائل المتفرقة إذا أراد أن يقضي الفوائت ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» : أنه ينوي أول ظهر لله عليه، وكذلك كل صلاة يقضيها، وإذا أراد ظهر آخر ينوي أيضاً أول ظهر لله عليه؛ لأنه لما قضى الأول صار الثاني أول ظهر لله عليه، ورأيت في موضع آخر أنه ينوي آخر ظهر لله عليه، وكذلك كل صلاة يقضيها، وإذا أراد ظهراً آخر أيضاً أول ظهر لله عليه؛ لأنه لما قضى الأول صار الثاني أول ظهر لله عليه، ورأيت في موضع آخر أنه ينوي آخر ظهر لله عليه، وكذلك كل صلاة يقضيها وإذا أراد أن يصلي ظهراً ينوي أيضاً آخر، ظهر لله عليه، لأنه لما أدى الآخر صار الذي قبله آخراً، وإذا قضى الفوائت إن قضاها بجماعة كانت صلاة يجهر فيها بالقراءة يجهر فيها الإمام، وإن قضاها وحده يخير إن شاء جهر، وإن شاء خافت والجهر أفضل ويخافت فيما يخافت فيها حتماً، وكذلك الإمام. وفي «فتاوى أهل سمرقند» مصلٍ نوى ظهر يوم الثلاثاء فتبين أنه يوم الأربعاء الظهر إذا نوى أن هذا الظهر ظهر يومه هذا يوم الثلاثاء فتبين أن ذلك اليوم يوم الأربعاء جاز لظهره؛ لأنه نوى صلاة بعينها وهو الظهر في وقت بعينه، وهو اليوم الذي هو فيه إلا أنه غلط في اسم الوقت. ونظير هذا ما ذكر في «النوازل» : إذا صلى الرجل خلف رجل وهو يظن أنه خليفة فلان إمام هذا المسجد فاقتدى به وهو خليفة في زعمه، فإذا هو غيره يجزئه وإن نوى الخليفة حتى كبر يريد به واقتدى بالخليفة لا يجوز؛ لأن في الوجه الأول اقتدى بالإمام مطلقاً، وفي الوجه الثاني اقتدى بالخليفة ولم يوجد. وفيه إذا افتتح المكتوبة ثم نسي، فظن أنها تطوع، فصلى على نية التطوع حتى فرغ من صلاته، فالصلاة هي المكتوبة، ولو كان على العكس فالصلاة هي التطوع؛ لأن النية لا يمكن اقترانها بكل جزء من أجزاء الصلاة، فشرط قرانها بأول الصلاة بقي الفصل الأول المقارن لأول الجزء من المكتوبة، وفي الفصل الثاني المقارن لأول الجزء ونية التطوع، وإذا كبر للتطوع ثم كبر ونوى به الفرض، وصلى فالصلاة هي الفرض ولو كان على العكس، فالصلاة هي التطوع؛ لأنه لما كبّر ونوى الآخر صار داخلاً في الصلاة الأخرى، وإذا أخر الصلاة الفائتة عن وقت التذكر مع القدرة على القضاء هل يكره، فالمذكور في «الأصل» أنه يكره؛ لأن وقت التذكر هو وقت الفائتة، وتأخير الصلاة عن وقتها مكروه بلا خلاف.

وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» : عن خلف بن أبي أيوب عن أبي يوسف رحمة الله عليهم، فيمن فاتته صلاة واحدة ومضى على ذلك شهر ثم تذكرها فله أن يؤخرها ويقضي ثم يقضيها، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: وكذلك من وجبت عليه كفارة يمين، فأخرها جاز ذلك ولم يكره والله أعلم. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل صلى خمس صلوات ثم علم أنه لم يقرأ في الأوليين من إحدى الصلوات الخمس ولا يعلم تلك الفائتة، فإنه يعيد الفجر والمغرب؛ لأنه إذا قرأ في الأخريين من الظهر والعصر والعشاء أجزأه بخلاف الفجر والمغرب، فيعيدهما احتياطاً، ولو تذكر أنه ترك القراءة في ركعة واحدة ولا يدري من أي صلاة تركها، قالوا: يعيد صلاة الفجر والوتر؛ لأنهما تفسدان بترك القراءة في ركعة واحدة منهما؛ ولو تذكر أنه ترك القراءة في أربع ركعات يعيد صلاة الظهر والعصر والعشاء ولا يعيد الوتر والفجر والمغرب، ولو أن ... في بعض ... في صلاة الفجر في وقتها وصلى بعدها الظهر والعصر والمغرب والعشاء أشهراً، كذلك على حسبان أنه يجوز، فالفجر الأول جائز؛ لأنه أداها، ولا فائتة عليه والصلوات الأربع التي يعيدها لا تجوز، وكذلك الفجر الثاني؛ لأنه صلاها وعليه أربع صلوات والفجر الثالث يجوز؛ لأنه صلاها وعليه أكثر من يوم وليلة (89أ1) ، قالوا وينبغي أن ينقلب الفجر الثاني جائزاً على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن فساد الفجر الثاني موقوف عنده لما علم في أصله، قال: وكذلك هل الفجر جائز وغير الفجر لا يجوز والله أعلم.

الفصل الحادي والعشرون في سجدة التلاوة

الفصل الحادي والعشرون في سجدة التلاوة هذا الفصل يشتمل على أنواع: الأول: في بيان صفتها وبين مواضعها، فنقول سجدة التلاوة واجبة عندنا، وعند الشافعي رحمه الله سنّة حجته في ذلك ما روي أن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قرأ آية السجدة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم يسجد لها زيد، ولم يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال: «كنت إمامنا لو سجدت سجدنا معك» ، ولو كانت واجبة لما تركها زيد، ولما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلّمبترك زيد. وحجتنا في ذلك: أن آيات السجدة دالة على الوجوب، فإن في بعضها أمراً بالسجود، وفي بعضها إلحاق الوعيد بتاركه وفي بعضها ما يستدل على إسكات الكفرة إنكار الكفرة عن السجود، والاحتراز عن التشبه بهم واجب، وفي بعضها إخبار عن فعل الملائكة وغيرهم والاقتداء بهم لازم؛ ولأنه يجوز قطع الفعل المفروض لأجلها وهو الخطبة، وهو دليل على كونها واجبة، والحديث محمول على الفور يعني لو سجدت للحال سجدنا معك، فإذا لم يسجد للحال سجدنا في أي وقت نشاء.6 وأما بيان مواضعها فنقول: موضع السجود معلومة في القرآن، والخلاف في موضعين، عندنا سجدة التلاوة في سورة الحج واحدة وهي الأولى، وعند الشافعي رحمه الله فيها سجدتان لحديث عقبة بن عامر قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «في الحج سجدتان أو قال: فضلت الحج لسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرأها» ، وهو مروي عن عمر رضي الله عنه، ومذهبنا مروي عن ابن عباس رضي الله عنه وابن عمر رضي الله عنه، قالا: سجدة التلاوة في الحج هي الأولى، والثانية سجدة الصلاة وهو الظاهر، فقد قرنها الله تعالى بالركوع فقال: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا

الخير لعلكم تفلحون} (الحج: 77) وهو تأويل الحديث، «فضلت الحج لسجدتين» أحدهما: سجدة التلاوة والأخرى سجدة الصلاة، وأما سجدة سورة «ص» ، فهي سجدة تلاوة. وقال الشافعي رحمه الله: هي سجدة الشكر، لما روي أن النبي عليه السلام: «قرأ في خطبته سورة «ص» ، فتشزن الناس السجود، فقال عليه السلام «علام تشزنتم إنها توبة نبي» ، وعن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال في السجدة «ص» «سجدها داود صلوات الله عليه للتوبة وخرّو نحن نسجدها شكراً» . ولنا: ما روي أن رجلاً من الصحابة، قال: «يا رسول الله رأيت ما يرى النائم كأني أكتب سورة «ص» ، فلما انتهيت إلى موضع السجدة سجدت الدواة والقلم فقال عليه السلام نحن أحق بها من الدواة والقلم ما مر حتى تليت في مجلسه وسجدها مع أصحابه» ، وإنما لم يسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلّمفي خطبته ليبين لهم أنه يجوز التأخير، وروي «أنه سجدها في خطبته مرة» وهو دليل على أنه سجدها تلاوة، فإن ... عباده بها ... العبد، وجبت قطع الخطبة لأجلها، وما روي أنه سجدها داود عليه السلام توبة، ويخر شكر كونها سجدة تلاوة آلا وفيه معنى الشكر. ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله: سببه وجوبها، فنقول لا خلاف أن التلاوة سبب لوجوبها، فإنها تضاف إلى التلاوة ويتكرر بتكررها، وأما السماع هل هو سبب؟ قال بعض المشايخ: إنه سبب، فإن الصحابة رضوان الله عليهم، قالوا: السجدة على من سمعها، كما قالوا: على من تلاها، ولأنه إنما وجبت على التالي؛ لأنه طلب منه بحكم أنه مخالفة للكفرة، وقد فهم من طلب منه فيلزمه، وكذا السامع. والصحيح: أن السبب هو التلاوة، فإنها تضاف إليها دون السماع لكن السماع شرط، لتعمل التلاوة في حق غير التالي أما، ليس في الحديث بيان السبب فيه بيان الوجوب على السامع. ولو تلاها بالفارسية، فعليه أن يسجدها وعلى من سمعها على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله، سواء فهم أو لم يفهم إذا أخبر له سجدة، وقال أبو يوسف رحمه الله: تجب على من فهم، ولا تجب على من لم يفهم؛ لأن عنده أنها تجوز بالفارسية إذا لم يقدر على العربية، فاعتبر تلاوة القرآن من وجه دون وجه، فأوجبها على من فهم دون من لم يفهم عملاً بالدليلين بقدر الإمكان. فأما التلاوة بالعربية توجب السجدة على من فهم أو لم يفهم؛ لأنها تلاوة القرآن من

كل وجه، والسبب متى وجد لا يتوقف عمله على الفهم، فهذا أبطل ما قاله أبو يوسف رحمه الله؛ لأنه إن كانت التلاوة بالفارسية تلاوة للقرآن ينبغي أن تجب على كل حال، وإن لم تكن لا تجب على كل حال، أما أن تجب في حال ولا تجب في حال، فهذا ليس من الفقه في شيء. وإذا تلا آية السجدة ومعه نائم أو مغشياً، عليه فلم يسمعها، فقد اختلف المشايخ في وجوب السجدة عليه، والأصح أنه لا تجب وإذا سمعها من طير لا تجب عليه السجدة، وإذا سمعها من نائم، فقد اختلف المشايخ فيه. والصحيح: أنها لا تجب، ولو سمعها من الصداى وتقال بالفارسية بجواك لا تجب عليه السجدة، ذكره الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله، ولو تهجى بالقرآن لا تجب عليه السجدة، وكذلك إذا كتب لا تجب عليه السجدة، ولا تجوز بالتيمم مع القدرة على الماء ويبطلها ما يبطل الصلاة من الكلام والحدث والضحك، ولا تبطل الطهارة بالضحك قهقهة في سجدة التلاوة وتبطل بالضحك قهقهة في الصلاة. نوع آخر في بيان شرائط جوازها فنقول شرائط جوازها ما هو شرائط جواز الصلاة من طهارة البدن عن الحدث والجنابة وطهارة الثوب عن النجاسة وستر العورة، واستقبال القبلة؛ لأنها ركن من أركان الصلاة، ويكبر عند الانحطاط، والرفع اعتباراً بالسجدة الصلاتية، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما: أنه لا يكبر عند الانحطاط؛ لأن تكبير الانتقال من الركن، وعند الانحطاط لا ينتقل من الركن ولم يذكر في «الأصل» أنه ماذا يقول في هذه السجدة، وفي «القدوري» يسبح فيها ولا يسلم، وأما التسبيح اعتباراً بالصلاتية، ولم يذكر أيضاً ماذا يقول في التسبيح (89ب1) ، والأصح أن يقول في هذه السجدة في التسبيح ما يقول في السجدة الصلاتية، وبعض المتأخرين استحبوا أن يقولوا: سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولاً، ما يقول فيها وكذلك استحبوا أن يقول ويسجد لقوله تعالى: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أُوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرُّون للأذقان سجَّداً} (الإسراء: 107) والخرور هو السقوط من القيام. وأما عدم السلام، فإن السلام شرع للتحلل عن التحريمة، وليس فيها تحريمة وإن لم يذكر فيها شيء أجزأه؛ لأنها لا تكون أقوى من السجدة الصلاتية، فتلك تجزىء وإن لم يذكر فيها شيئاً فههنا أولى. وقال القدوري: وإذا وجبت السجدة في الأوقات التي تجوز فيها الصلاة فسجدها، وفي الأوقات المكروهة لم تجز؛ لأنه التزمها كاملة وأداها ناقصة، فلا تجوز كمن افتتح الصلاة في وقت غير مكروه، وأفسدها وقضاها في وقت مكروه، فإن تلاها في هذه الأوقات وسجدها جاز، فإن لم يسجده في تلك الساعة، فسجدها في وقت آخر مكروه جاز؛ لأنه لا تفاوت بين المؤدى والواجب، هكذا ذكر القدوري؛ وهو نظير ما إذا افتتح

الصلاة في وقت مكروه وأفسدها وقضاها في وقت مكروه، وذلك جائز كذا ها هنا، وذكر في بعض الروايات أنه يومىء عندنا، وكذلك إذا سمعها وهو راكب يجزئه أن يومىء على أنه لا يجوز والله أعلم. ولو تلاها راكباً أجزأه على الدابة، وإن تلاها أو سمعها ماشياً لم تجزئه أن يومىء لها وهو في ركب يكون خارج المصر، أما الراكب الذي هو في المصر إذا أومأ لتلاوته، فقد جرى عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجوز، وهو قياس مذهبه على التطوع على الدابة في المصر، ولو تلاها على الدابة ثم نزل ثم ركب، فأداها بالإيماء جاز ماشياً إلا على قول زفر رحمه الله، وههنا آخر في نوع المتفرقات في هذا الفصل والله أعلم. نوع آخر في بيان حكمها فنقول من حكم هذه السجدة التواجد حتى يكفي في حق التالي سجدة واحدة، وإن اجتمع في حق التلاوة والسماع وشرط الترك حل اتحاد؛ لأنه اتحاد المجلس حتى لو اختلف المجلس واتحدت؛ لأنه لا تتداخل ولو اتحد المجلس واختلفت الآية لا تتداخل، ولها سبب على التداخل، لوجوه: أحدها: ما حكى القاضي أبو القاسم عن القضاة الثلاثة رحمهم الله: أنه يعيد مكرر عرفاً، فإن من قرأ أية واحدة في مجلس واحد بالحكمة، وقرأ خطبة واحدة في مجلس واحد مراراً يقال في العرف كرره، وهذا عرف تأيد بالحكمة، فإن من أقر بالزنا أربع مرات في مجلس واحد يكون في الإقرار التالي مكرراً ومعيداً، وإذا كان مكرراً ومعيداً عرفاً كان التالي الأول، فلا يكون التالي حكم نفسه، ولا عرف فيما إذا اختلف المجلس أو اختلف، ما حكي عن القاضي أبي عاصم العامري رحمه الله أن المجلس يجمع الكلمات المتفرقة من جنس واحد ويجعلها ككلمة واحدة، ألا ترى أن من أقر بالزنا أربع مرات في مجلس واحد يجعل مقراً مرة واحدة، فكذا ههنا يجعل كأنه قرأ مرة واحدة، فأما المجالس المختلفة لا تجمع الكلمات المتفرقة، ولا تجعلها ككلمة واحدة كما لو أقر بالزنا أربع مرات في أربع مجالس لا يجعل معبراً مرة واحدة، فكذا ههنا لا يجعل كأنه قرأ مرة واحدة. والثالث: ما ذهب إليه مشايخ ما وراء النهر: أن الحاجة إلى تكرار كلام الله تعالى للتعليم والتعلم وليحفظ صاحبه ما بينه فلو أوجبنا بكل مرة سجدة على حدة يقع في الحرج، ولأنه تنقطع عليه القراءة، بخلاف ما إذا اختلفت الآية في مجلس واحد؛ لأنه لا حرج ثم؛ لأن آيات السجدة في القرآن محصورة مضبوطة أما التكرار للتعلم وللحفظ غير محصورة ولا مضبوطة؛ ولأن الإنسان لا يقرأ جميع آيات السجدة في مجلس واحد غالباً، أما تكرار آية واحدة في مجلس واحد، فاللتعليم والتعلم والحفظ غالباً فظهرت التفرقة بينهما.

ولم يذكر في «الأصل» : حكم الصلاة على النبي عليه السلام إذا ذكر في مجلس واحد مراراً، وعلى قول الكرخي رحمه الله: لا يصلي عليه إلا مرة واحدة؛ لأن من مذهبه أنه لا تجب عليه الصلاة إلا مرة واحدة، فإن كان هذا الرجل قد كان عليه صلى مرة واحدة لا يلزمه ههنا شيء، وإن كان لم يصل عليه يلزمه ههنا مرة واحدة لكل مرة، وإن كرر اسمه في مجلس واحد؛ لأن هذا حق الرسول عليه السلام قال عليه السلام: «لا تجفوني بعد موتي» قيل وكيف نجفي بعدك يا رسول الله قال: «إن كان أذكر عند أحدكم، فلا يصلي عليّ» وبه كان يفتي شمس الأئمة السرخسي رحمه الله. نوع آخر في بيان من تجب عليه هذه السجدة فنقول التالي لآية السجدة تلزمه السجدة بتلاوته إذا كان أهلاً لوجوب الصلاة عليه، وإن كان منهياً عن القراءة كالجنب؛ لأن النهي عن التصرف لا يمنع اعتباره في حق الحكم كسائر التصرفات المنهي عنها، وكل من لا تجب عليه الصلاة ولا قضاؤها، كالحائض والنفساء والكافر والمجنون والصبي فلا سجود عليه للتلاوة لما ذكرنا، لأن السجدة من أركان الصلاة، فلا تجب على من لا تجب عليه سائر الأركان. وكذلك الحكم في حق السامع من كان أهلاً لوجوب الصلاة عليه تلزمه السجدة بالسماع، ومن لا يكون أهلاً لوجوب الصلاة عليه نحو الحائض أو الكافر أو الصبي أو المجنون لا تلزمه السجدة بالسماع. وإن لم يكن التالي أهلاً لوجوب الصلاة عليه، نحو الحائض أو الكافر أو الصبي أو المجنون والسامع أهلاً لوجوب الصلاة تجب على السامع السجدة، أو ليس فيه أكبر من كون التالي منهما منهي عن القراءة المنهي عن التصرف لا يمنع اعتباره الحكم غير أنه إنما يعتبر التصرف في حق الحكم، في حق من هو أهل لذلك، والتالي إن لم يكن أهلاً، فالسامع أهل فتجب عليه السجدة. وذكر مسألة المجنون في «نوادر الصلاة» : أن الجنون إذا قصر، فكان يوماً وليلة أو أقل تلزمه السجدة بالتلاوة والسماع حالة الجنون فيؤديها بعد الأهلية، إذا قرأ آية السجدة ولم يسجد لها، حتى ارتد والعياذ بالله ثم ذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله في غريب الرواية أنه لا قضاء عليه، والصبي الذي يعقل الصلاة إذا قرأ آية السجدة أمر أن يسجد، وإن لم يسجد لم يكن عليه أيضاً. والسكران إذا قرأ آية (90أ1) السجدة، روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه تلزمه السجدة. المرأة إذا قرأت آية السجدة في صلاتها، ولم تسجد لها حتى حاضت سقطت عنها السجدة، مصلي التطوع إذا قرأ آية السجدة، وسجد لها ثم فسدت صلاته وجب عليه

قضاؤها، لا تلزمه إعادة تلك السجدة، وإذا قرأ الرجل ومعه قوم سمعوها، فسجد سجدوا معه ولا يرفعوا رؤوسهم قبله. والأصل في ذلك ما روي «أن شاباً قرأ آية السجدة بين يدي رسول الله ولم يسجد لها، فقال عليه السلام: يا شاب كنت إمامنا لو سجدت سجدنا معك» ، فقد جعل التالي إماماً وعلى المأموم أن يتابع الإمام في السجدة، فلا يرفع رأسه من السجدة قبل رفع التالي جازت سجدته كما في السجدة الصلاتية. نوع آخر في بيان ما يبطل هذه السجدة وما لا يبطلها إذا تكلم في السجدة أو ضحك قهقهة أو أحدث متعمداً أو خطأ، فعليه إعادتها اعتباراً بالصلاتية، ولا وضوء عليه في القهقهة؛ لأن الضحك عرف حدثاً بالأمر، والأثر ورد في صلاة مطلقة، وهذه ليست بصلاة مطلقة، وإن سبقه الحدث توضأ وأعادها؟ قال شيخ الإسلام هذا الجواب مستقيم على قول محمد رحمه الله، فإن عنده تمام السجدة بوضع الجبهة ورفعها، فإذا أحدث فيها أو ضحك فيها أعادها، أما قول أبي يوسف رحمه الله: تمام السجدة بوضع الجبهة لا غير، فإذا وضع الجبهة، فقد تمت السجدة وإن قل، فكيف يتصور القهقهة فيها؟ فإذا ضحك بعد ذلك فقد ضحك بعد تمام السجدة، فلا تلزمه الإعادة. ومحاذاة المرأة الرجل في سجدة التلاوة لا تفسد صلاة الرجل، وإن نوى إمامتها؛ لأن المحاذاة لها عرفت مفسدة ضرورة وجوب التأخر على الرجل بأمر الشرع، والأمر إنما ورد في الصلاة المطلقة، وهذه ليست بصلاة مطلقة، فلم تكن المحاذاة فيها مفسدة. نوع آخر في بيان ما يتعلق به وجوب هذه السجدة ذكر في «الرقيات» : فيمن قرأ السجدة كلها إلا الحرف الذي في آخرها قال لا يسجد، ولو قرأ الحرف الذي يسجد فيه وحده لم يسجد إلا أن يقرأ أكثر من آية السجدة، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: إذا قرأ حرف السجدة ومعها غيرها قبلها أو بعدها فيه أمر بالسجدة سجد، وإن كان دون ذلك لا يسجد، وفي فوائد الإمام الزاهد السنكريتي رحمه الله: إن من تلا في أول السجدة أكثر من نصف الآية، وترك الحرف الذي فيه السجدة لم يسجد، وإن قرأ الحرف الذي فيه السجدة إن قرأ ما قبله أو بعده أكبر من نصف الآية تجب السجدة، وما لا فلا، وعن أبي علي الدقاق رحمه الله فيمن سمع سجدة من قوم قرأ كل واحد منهم حرفاً ليس عليه أن يسجد، لأنه لم يسمعها من قائلها.

نوع آخر في تكرار آية السجدة رجل قرأ آية السجدة فسجدها ثم قرأها في مجلسه، فليس عليه أن يسجدها، وإن قرأها فلم يسجدها حتى قرأها ثانية في مجلسه، فعليه سجدة واحدة، وهذا استحسان والقياس أن تجب بكل تلاوة سجدة؛ لأن السجدة حكم التلاوة، والحكم يتكرر بتكرر السبب اعتباراً للسبب، ولا معنى للبدل؛ لأن السجدة عبادة والعبادات يحتاط في إقامتها، ولا يحتال لدرئها بخلاف الحدود، فإنها عقوبات، والأصل في العقوبات إسقاطها لا استيفائها. وجه الاستحسان ما روي أن جبريل صلوت الله عليه كان ينزل بآية السجدة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان يكرر عليه مراراً، وكان رسول الله عليه السلام يسجد لها سجدة واحدة، وروي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان يعلم الناس القرآن في المسجد بالكوفة، وكان يكرر آية السجدة في مكان واحد. وفيما كان يخطو خطوة أو خطوتين، وكان يسجد لذلك مرة واحدة، والنص لها ورد في مكان واحد وفي آية واحدة فيما عدا ذلك يبقى على أصل القياس، والمعنى ما ذكرنا من الوجوه الثلاث في صدر هذا الفصل، فإن قرأ فسجد وذهب وعاد وقرأها ثانياً، فعليه سجدة أخرى، وكذلك إن لم يكن سجد للأولى حتى ذهب ثم عاد، فقرأ ثانياً تلزمه سجدتان؛ لأنه اختلف المجلس ولا يمكن إثبات الاتحاد، وهذا إذا ذهب بعيداً، فأما إذا ذهب قريباً تكفيه سجدة واحدة مقدر حد الفاصل، الحد الفاصل بين القريب والبعيد أنه إذا مشى خطوتين أو قلنا بذلك قريب، فإن كان أكثر من ذلك كان بعيداً. قال محمد رحمه الله: فإن كان نحواً من عرض المسجد وطوله فهو قريب، وهذا إذا كان المجلس مجلس القراءة كما روي عن أبي موسى الأشعري أنه كان يقرىء الصحابة وهم خلف كبيرة، فأما إذا لم تكن هكذا تلزمه ثانياً، لأن المجلس يختلف والله أعلم. ولو قرأها قاعداً ثم قام وقرأها ثانية تكفيه سجدة واحدة ولا يجعل المجلس مختلفاً؛ لأن مكان التالي لم يختلف لها إلا اختلاف هيئته، وهذا بخلاف المخيرة إذا قامت من مجلسها حيث يبطل خيارها؛ لأن ذلك ليس لاختلاف المجلس؛ بل للإعراض دلالة؛ لأن من حزبه أمر وهو قائم يقعد إذ القعود أجمع للرأي، وكان قيامها دليل الأعراض، والخيار يبطل بالأعراض صريحاً، ودلالة، أما ها هنا الحكم يتعدد باختلاف المجلس ولم يوجد، وإن أكل بيديه أكلاً طويلاً أو نام مضطجعاً أو أخذ في بيع أو في شراء أو عمل عملاً يعرف أنه قطع لما كان قبله لذلك، ثم قرأ فعليه سجدة أخرى استحساناً. والقياس: أن تكفيه سجدة واحدة، وجه القياس: أن المجلس ما تبدل حقيقة، فإنه لم ينتقل عنها إلى مكان واحد فكفته سجدة واحدة كما لو كان العمل يسيراً.

وجه الاستحسان: وهو أن المجلس قد يبدل اسماً وحكماً، وإن لم يتبدل حقيقة؛ لأن الفعل إذا كبر يضاف المجلس إليه، ألا ترى أن القوم إذا جلسوا للدرس يقولون أنه مجلس الدرس ثم يشتغلون بالأكل، فيقولون إنه مجلس الأكل ثم يقتتلون، فيصير مجلسهم مجلس القتال وصار تبدل المجلس بهذه الأعمال كتبديله بالذهاب والرجوع. وإن نام قاعداً أو أكل لقمة أو شرب شربة أو عمل عملاً يسيراً ثم قرأها فليس عليه سجدة أخرى؛ لأن المجلس لم يتبدل لا حقيقة، ولا حكماً، أما حقيقة فلا إشكال فيه؛ لأنه لم ينتقل عنها إلى مكان آخر، وأما حكماً؛ لأنه لا يضاف المجلس إلى الأكل بأكل لقمة، ولا إلى الشرب بشرب شربة، وإلى النوم بالنوم قاعداً ساعة، إذا لم يتبدل المجلس حقيقة، وصار وجود هذا وعدمه سواء. وفي الذي ... إذا كرر آية سجدة واحدة اختلف المشايخ فيه (90ب1) ، قال بعضهم تكفيه سجدة واحدة، فإن المجلس واحد من حيث الاسم، فإن المجلس يضاف إلى هذا الفعل، والأصح أنه يلزمه بكل مرة سجدة؛ لأن المجلس تبدل حقيقة بتبدل المكان ولو أنه اختلف حقيقة لا يعتبر واحداً باتحاد العمل، كما لو كان راكباً فتلا آية السجدة مراراً والدابة تسير لا تكفيه سجدة واحدة، وإن كان العمل وهو السير واحداً والتي تلاها على ... اختلف المشايخ فيه مثل اختلافهم في تسدية الثوب، وحجتهم ما ذكرنا في تسدية الثوب والتي تلاها على الشجرة على غصن ثم انتقل إلى غصن آخر، وتلا تلك الآية في ظاهر الرواية يلزمه سجدتان، وعن محمد رحمه الله: أنه يكفيه سجدة واحدة محمد رحمه الله، اعتبر أصل الشجرة أنه واحد. وجه ظاهر الرواية وهو أنه تبدل المكان لاختلاف الغصن، ألا ترى أنه لو سقط يكون الموضع الذي سقط غير ذلك الموضع حتى لو تلاها على الأرض، ثم انتقل مقدار الغصن يلزمه سجدتان، والسابح في الماء إذا تلا السابح في الماء ... الماء شيء يلزمه بكل مرة سجدة على حدة، قالوا إذا كان سبح في حوض أو غدير له حد معلوم تكفيه سجدة واحدة، وعن محمد رحمه الله إذا كان طول الحوض مثل طول المسجد وعرضه تكفيه سجدة واحدة. ولو قرأها في زوايا المسجد الجامع تكفيه سجدة واحدة كذلك حكم البيت والدار قيل: في الدار إذا كانت كبيرة كدار السلطان فتلا في دار منها ثم تلا في دار أخرى يلزمه سجدة أخرى، وأما في المسجد الجامع إذا تلا في دار ثم تلا في دار أخرى يلزمه يكفيه؛ لأن دور المسجد الجامع، وإن كثرت جعلت كمكان واحد في حق جواز الإقتداء، وكذا في حق حكم السجدة، ولا كذلك دور السلطان، وإذا قرأها مراراً على الدابة والدابة تسير، فإن كان في الصلاة تكفيه سجدة واحدة؛ لأن حرمة الصلاة تجمع الأماكن المختلفة، وإن كان خارج الصلاة يلزمه بكل مرة سجدة.

فرق بين هذا وبين السفينة، وبسفينة تجري يكفيه سجدة واحدة، وفي الدابة يلزمه بكل مرة سجدة، والفرق: هو أن سير السفينة مضاف إلى السفينة، لا إلى راكبها شرعاً وعرفاً، أما شرعاً فلقوله تعالى: {وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين} (هود: 42) الله تعالى أضاف الجري إلى السفينة، لا إلى الراكب، وأما عرفاً؛ فلأن الناس يقولون: سارت السفينة كذا كذا مرحلة، وإذا صار مضافاً إلى السفينة، فالمكان يتحد في حق الراكب، وإن اختلف في حق السفينة. فأما سير الدابة مضاف إلى الراكب عرفاً، فإن الناس يقولون في العرف سرت كذا وكذا فرسخاً اليوم، وإذا صار السير مضافاً إلى الراكب تبدل المكان حقيقة وحكماً بعض مشايخنا قالوا؛ ما ذكر في «الكتاب» إذا قرأ آية السجدة على الدابة مراراً والدابة تسير، فإن كان في الصلاة، فعليه سجدة واحدة محمول على ما إذا قرأها مراراً في ركعة واحدة، فإن كان ذلك في ركعتين يجب أن يكون على الاختلاف الذي يذكر فيما إذا تلاها على الأرض في الصلاة في ركعتين على قول أبي يوسف رحمه الله: يكفيه سجدة واحدة، وعلى قول محمد رحمه الله: يلزمه سجدتان، ومنهم من قال: الجواب في هذه المسألة في الركعتين والركعة الواحدة سواء بالإجماع، ويكفيه سجدة واحدة بالإجماع. والفرق لمحمد رحمه الله بين المصلي على الأرض، والمصلي على الدابة: أن المصلي على الأرض يصلي بركوع وسجود، وإنه عمل كثير يتخلل بين التلاوتين، والراكب نوى وهو عمل يسير، ولا يتحدد وجوب السجدة في الراكب على الدابة، ويتحدد في المصلي على الأرض، بهذا، وإذا سمع هذا الراكب المصلي آية السجدة من غيره مرتين وهو يسير فعليه سجدتان إذا فرغ من صلاته؛ لأن حرمة الصلاة لها تجمع الأماكن المختلفة في حق أفعال الصلاة، فأما ما ليس من أفعال الصلاة يبقى على الحقيقة، والمكان مختلف حقيقة، وسماعه ذلك الرجل قرأ راكباً ونزل فقرأ ليس من أفعال الصلاة، فلا يثبت اتحاد المكان في حقه، وإذا لم يثبت اتحاد المكان في حقه يلزمه بكل تلاوة سجدة، وإن قرأها راكباً، ثم نزل قبل أن يسير فقرأها فعليه سجدة واحدة استحساناً.b وفي القياس: عليه سجدتان وجه القياس: وهو أن المكان اختلف حقيقة؛ لأنه كان على الدابة ... وعلى الأرض، واختلاف المكان بهذا الصدر وإن كان لا يوجب تبدل المجلس، إلا أنه وجد معه عمل آخر وهو النزول وللعمل أثر في قطع المجلس، فإذا اجتمعا أوجب تبدل المجلس، وكان يجب أن تلزمه سجدتان. وجه الاستحسان: وهو أن النزول عمل قليل وما وجد من اختلاف المكان قليل أيضاً لو ... ولم يوجب ذلك تبدل المجلس، فكذلك مع النزول وإن كان سار ثم نزل، فعليه سجدتان؛ لأن سير الدابة كمشيه فتبدل به المجلس.

وإن قرأها على الأرض ثم ركب فقرأها قبل أن يسير سجدها سجدة واحدة على الأرض، ولو سجدها على الدابة لم يجزئه عن الأولى؛ لأنه إذا سجدها على الدابة فالمؤداة أضعف من الأولى، فأما إذا سجدها على الأرض، فالمؤداة أقوى من الأولى والمكان واحد فينوب المؤدى عنهما، وإن قرأها راكباً ثم نزل ثم ركب، فقرأها وهو على مكانه، فعليه سجدة واحدة وتجزئه على الدابة؛ لأنه التزمها على الدابة، فإذا أداها على الدابة، فقد أداها كما التزم. وإذا تبدل مجلس التالي، ولم يتبدل مجلس السامع يتكرر الوجوب على السامع عند بعض المشايخ وعند عامة الشايخ لا يتكرر؛ لأن الوجوب على السامع بالسماع ومكان السامع متحد، ولو تبدل مجلس السامع دون التالي تكرر الوجوب، وإن قرأها في غير صلاة وسجد ثم افتتح الصلاة في مكانه، فقرأها فعليه سجدة أخرى؛ لأن التي وجبت بالتلاوة صلاتية، فلا تنوب عنها المؤداة قبل الشروع في الصلاة؛ لأنها أضعف، وإن لم يكن سجد أولاً ثم شرع في الصلاة في مكانه، فقرأها يسجد لهما جميعاً أجزأه عنهما في ظاهر الرواية، وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله وهو إحدى روايتي «نوادر الصلاة» (91أ1) أنه لا يجزئه عنهما، وعليه أن يسجد للتي تلاها خارج الصلاة بعد الفراغ من الصلاة. وجه هذه الرواية: أنه لا يمكن إدخال الأولى في الثانية؛ لأنه خلاف موضع التداخل، فلا بد من اعتبار كل واحد منهما على حدة، والصلاتية تؤدى في الصلاة وغير الصلاتية، وهي الأولى أن تؤدى بعد الفراغ من الصلاة وجه ظاهر الرواية، وهو أن السبب واحد، فإن المتلو آية واحدة والمكان واحد والمؤداة أكمل من الأولى؛ لأن لها حرمتان، ولو كانت مثل الأولى نابت، فإذا كانت أكمل أولى أن تنوب عنهما، إذا قرأ المصلي آية السجدة وسمعها من أجنبي أيضاً أجزائه سجدة واحدة، هكذا ذكر في «الجامع الصغير» . وفي «الجامع الكبير» ، وذكر في «نوادر أبي سليمان» وهو رواية ابن سماعة عن محمد رحمهم الله: أنه لا يكفيه سجدة واحدة ولا تنوب المتلوة عن المسموعة وعليه أن يسجدها للمسموعة إذا فرغ من صلاته، وجه رواية ابن سماعة وهو أن السماعية ليست بصلاتية وجه ظاهر الرواية وهو أنه سمع وتلا في مكان واحد فتدخل المسموعة في المتلوة وتنوب المتلوة عنهما جميعاً؛ لأن المتلوة أقوى من السماعية؛ لأن لها حرمتين حرمة الصلاة وحرمة التلاوة، والمسموعة لها حرمة واحدة، والقوي ينوب عن الضعيف ولو استويا في القوة نابت إحديهما عن الأخرى، فلأن ينوب القوي عن الضعيف أولى. قال شمس الأئمة رحمه الله: وبين الناس كلام كثير في هذه المسألة، قال بعضهم: إن كان السماع والتلاوة في مقام واحد، ففيه روايتان كما ذكرنا، فأما إذا كانت التلاوة في مقام والسماع في مقام آخر، ينبغي أن تكون المسألة على الاختلاف، عند أبي يوسف رحمه الله يكفيه سجدة واحدة، وعند محمد رحمه الله يلزمه سجدتان، وذكر الفقيه أبو

جعفر أن جواب «الجامع الصغير» عندي فيما إذا كانت تلاوته وسماعه معاً بأن كانا يقرآن معاً هذه السجدة هذا في الصلاة، وذاك خارج الصلاة فههنا تتداخلان، وتنوب المتلوة عن المسموعة؛ لأنها أقوى كما ذكرنا. فأما إذا كانا على التعاقب بأن كان السماع أولاً ثم التلاوة أو كانت التلاوة أولاً ثم السماع، ففيه روايتان وإن كانا جميعاً في مقام واحد، هذا إذا كانت المتلوة والمسموعة سجدة واحدة، فأما إذا سجد في الصلاة لا يجب عليه أخرى في ظاهر الرواية؛ لأن الباقي أعلى للأولى للاتحاد المجلس سجدة أخرى للمسموعة إذا فرغ من الصلاة وإن سمع المصلي آية السجدة من رجل وسجد لها ثم أحدث وذهب، ثم عاد وسمع من ذلك الرجل مرة أخرى، فإنه يسجد سجدة أخرى، قيل: قرأ في الصلاة وسجد ثم أحدث ورجع وبنا وقرأ تلك الآية هذا على رواية «النوادر» . وعلى هذا قالوا لو قرأ آية السجدة في الصلاة ثم أحدث وذهب ليتوضأ ثم عاد، وأعادها يسجد سجدة أخرى، ويستوي سماعه وتلاوته مرتين في إيجاب السجدتين، ولو قرأ رجل سجدة في الصلاة، فسجدها ثم سلم وتكلم قرأها ثانية، فعليه إن لم يسجدها وإن كان لم يسجدها يكفيه سجدة واحدة كذا ذكر في «الأصل» . وذكر في «نوارد أبي سليمان» رحمه الله: إذا قرأ آية السجدة في الصلاة وسجد ثم سلم وقرأها في مقامه ذلك، فلا سجود عليه من مشايخنا رحمهم الله من قال في المسألة اختلاف الروايتين، ومنهم من قال: إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع ما ذكر في «النوادر» أنه سلم لا غير ومجرد السلام لا يوجب تبدل المجلس؛ لأنه كلام يسير؛ لأنه كلامان لا غير وموضوع ما ذكر في الصلاة أنه سلم وتكلم به يكثر الكلام؛ لأنه تكلم ثلاث مرات بسلامين وكلام آخر، فيوجب تبدل المجلس، ولو قرأ آية السجدة في الركعة الأولى، فسجد ثم أعادها في الثانية، فلا سجود عليه في قول أبي يوسف رحمه الله، وقال محمد رحمه الله يسجد استحساناً، وهذا من المسائل التي رجع أبو يوسف رحمه الله فيه من الاستحسان إلى القياس. وجه الاستحسان: أن القول باتحاد التلاوتين غير ممكن هنا، لأنا لو قلنا: بالاتحاد تفوت القراءة من إحدى الركعتين حكماً والقراءة في كل ركعة ركن، فاعتبرنا كل قراءة تلاوة على حدة. وللقياس وجوه: أحدها: أن يثبت الاتحاد بقدر ما تتعلق به السجدة لا غير. والثاني: أن يثبت الاتحاد في حق السجدة لا في حق الصلاة. والثالث: أن يثبت الاتحاد في حق سببية السجدة لا في حق القراءة، وتفسيره: أن يجعل كلاهما تلاوة واحدة، وإذا سجد للتلاوة وتلا في السجدة آية أخرى لا تلزمه سجدة أخرى، وكذا لو تلا في الركوع ذكر في صلاة الفارسية؛ لأن هذه التلاوة محجور عنها سجد للتلاوة، فقرأ في السجدة أية أخرى.

نوع آخر في سماع المصلي آية سجدة ممن معه في الصلاةأو ممن ليس معه في الصلاة وسماع غير المصليآية السجدة من المصلي ثم اقتداؤه بالمصلي قال محمد رحمه الله: إذا تلا آية سجدة خلف الإمام يسمعها الإمام والقوم ليس عليهم أن يجسدوها ما داموا في الصلاة، وهذا حكم الثابت بالإجماع؛ لأنه يؤدي إلى قلب الشريعة فإن التالي يتبع في هذه الصلاة وينقلب متبوعاً بسبب السجدة، لأن التالي إمام السامعين، قال عليه السلام للتالي «كنت إمامنا لو سجدت لسجدنا» ولهذا كانت السنّة أن يتقدم التالي بالسجدة، ويصطفون خلفه فلو ... الأداء في الصلاة انقلب التبع متبوعاً، وذلك باطل، فإن فرغوا من الصلاة لا يسجدونها أيضاً عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله يسجدونها؛ لأن التلاوة صحت من أهلها فوجبت السجدة أكثر ما في الباب أن حرمة القراءة على المقتدي خلف الإمام إلى حرمة القراءة لا يكون مانعاً وجوب السجدة كحرمة القراءة على الجنب والحائض والنفساء والكافر، فتلاوة هؤلاء، فإنها لا تمنع وجوب السجدة، فكذلك ها هنا. ولهما: أن المقتدي محجوب عن القراءة خلف الإمام بدليل يعد أنه قراءة الإمام عليه قال عليه السلام: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» ، وذلك دليل الولاية، والولاية دليل حجر المولى عليه وتصرف المحجور عليه لا ينعقد بحكم كسائر تصرفاته، بخلاف قراءة الجنب والحائض؛ لأنهما ليسا بموليين عليهما ولا (91ب1) محجورين، بل كانا منهيين عن التلاوة والتصرفات المنهي عنها ينعقد حكمها. وفرق بين الحجر وبين النهي، فأثر الحجر في منع اعتبار السببية، وأثر النهي في حرمة الفعل دون مولى الاختيار والفقه فيه: أن النهي ... مصدر المنهي عنه بعد النهي، كما كان قبل النهي بخلاف الحجر على أنا نقول الجنب والحائض ليسا بممنوعين عن قراءة ما دون الآية على ما ذكره الطحاوي رحمه الله، وذلك القدر كافٍ لتعلق الوجوب، فأما المقتدي ممنوع عن قراءة ما دون الآية ومحجور عليه على ما مر. وأما إذا سمعها من المقتدي رجل ليس معهم في الصلاة ذكر في «نوادر أبي سليمان» رحمه الله: أنه يلزمه نفل هو قول محمد رحمه الله ولئن كان قول الكل بالحجر ثبت في حق المقتدي، فلا يعدوهم إن قرأها رجل ليس معهم في الصلاة يسمعها القوم والإمام، فعليهم أن يسجدوها إذا فرغوا من الصلاة ولا يسجدوها في الصلاة إما تجب

سجدة لصحة التلاوة من غير حجر، ولا يجوز أن يسجد في الصلاة؛ لأنها ليست فيها؛ لأن تلك التلاوة ليست من أفعال الصلاة حتى تكون السجدة صلاتية، فيكون إذا قالها في الصلاة وجبت كاملة، فلا ينادى بالنهي ولكن مع هذا لو سجدوا في الصلاة لا تفسد صلاتهم، لأن السجدة من أفعال الصلاة في ذاتها وفساد الصلاة بما هو من أفعال الصلاة لا يكون، وذكر في «النوادر» أنه تفسد صلاتهم؛ لأنهم تركوا الصلاة حين انتقلوا لها وزادوا في الصلاة ما ليس منها، والصحيح ما قلنا بدئاً؛ لأنهم ما تركوا الصلاة ولا أتوا بما ينقضها. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : إذا قرأ الإمام آية السجدة سمعها رجل ليس معه، ثم دخل الرجل في صلاة الإمام، فهذه المسألة على وجهين. الأول: أن يكون اقتداؤه قبل أن يسجد الإمام، وفي هذا الوجه عليه أن يسجد مع الإمام؛ لأنه لو لم يكن سمع السجدة من الإمام قبل الاقتداء به كان عليه أن يسجد مع الإمام بحكم المتابعة، فإذا سمعها خارج الصلاة منه أولى أن يسجد معه، وإذا سجد مع الإمام سقط عنه لزمه بحكم سماعه قبل الإمام؛ لأنه لما اقتدى به صارت قراءة الإمام قراءة له، ألا ترى أنه لو أدرك الإمام حالة الركوع نابت عنه قراءة الإمام، وإن لم يكن مع الإمام حال قراءته، وإذا جعل قراءة الإمام قراءة المقتدي صار كأن المقتدي شرع في صلاة نفسه وتلا في صلاته ما سمع ثانياً، ولو كان هكذا سجد في الصلاة وسقط عنه ما وجب خارج الصلاة كذا ها هنا. الوجه الثاني: إذ اقتدى به بعدما سجد فليس عليه أن يسجدها في الصلاة كيلا يصير مخالفاً للإمام وليس عليه أن يسجدها بعد الفراغ من الصلاة أيضاً، قالوا، وتأويل هذه المسألة إذا أدرك الإمام في آخر تلك الركعة يصير مدركاً للركعة من أولها، فيصير مدركاً بالقراءة وما تعلق بالقراءة من السجدة، فأما إذا أدرك الإمام في الركعة الأخرى كان عليه أن يسجدها بعد الفراغ؛ لأنه إذا أدرك الإمام في الركعة الأخرى لم يصر مدركاً للركعة التي قرأ فيها، فلم يصر مدركاً لتلك القراءة، ولا لما تعلق بتلك القراءة من السجدة فقد جعله مدركاً للسجدة بإدراك تلك الركعة، ونظير هذا ما لو أدرك الإمام في الركوع في الركعة الثالثة من الوتر في شهر رمضان يصير مدركاً للقنوت، حتى لا يأتي بالقنوت في الركعة الأخيرة، هكذا ذكر في «النوادر» . ولو أدرك الإمام في الركوع في صلاة العيدين كان عليه أن يأتي بالتكبيرات ولا يصير مدركاً التكبيرات بإدراك تلك الركعة. والأصل في جنس هذه المسائل: أن كل ما لا يمكنه أن يأتي به من الركعة في الركوع نحو التلاوة وقنوت الوتر، فبإدرك الإمام في الركوع في تلك الركعة يصير مدركاً لذلك، وكل ما يمكنه أن يأتي به من الركعة في الركوع كتكبيرات العيدين، فبإدراك الإمام في الركوع من تلك الركعة لا يصير مدركاً لها.

نوع آخر فيما إذا تلا آية السجدة وأراد أن يقيم ركوع الصلاة مقام السجود قال في «الأصل» : وإذا قرأ آية السجدة في صلاته وهي في آخر السورة إلا آيات يعني، فإن شاء ركع لها وإن شاء سجد لها، واعلم أن هذه المسألة على أوجه، إما إن كانت السجدة قريبة من آخر السورة، وبعدها آيتان إلى آخر السورة، فالجواب ما ذكرنا أنه بالخيار إن شاء ركع لها، وإن شاء سجد، بعضهم قالوا: إن شاء سجد لها سجدة على حدة، وإن شاء ركع لها ركوعاً على حدة وبكل ذلك، ورد الأثر؛ وهذا لأن السجدة غير مقصودة بنفسها، إنما المقصود إظهار الخشوع أو مخالفة الكفار، فإنهم استنكفوا عن السجدة لله تعالى قال الله تعالى: {وإذا قرأ عليهم القرآن لا يسجدون} (الإنشقاق: 21) والخشوع والمخالفة كما يحصل بالسجود يحصل بالركوع غير أن السجدة أفضل، كذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله، لوجهين: أحدهما: في السجود أداء الواجب بصورته ومعناه وفي الركوع بالمعنى دون الصورة، فكان السجود أكمل، ولأنه متى سجد يصير مقيماً صورتين ومتى ركع يصير مقيماً صورة واحدة أولى من ولو سجد يعود إلى القيام؛ لأنه يحتاج إلى الركوع والركوع لها يكون من القيام، ويقرأ بقية السورة ليس ثم يركع إن شاء، كيلا يصير ثان الركوع على السجدة ولو شاء ضم إليها من السورة الأخرى أية حتى يصير ثلاث آيات، قال الحاكم الشهيد: وهو أحب إليّ، وهذه القراءة بعد السجدة بطريق الندب لا بطريق الوجوب حتى أنه لو لم يقرأ جعلها، ويكره غير أن في الركوع يحتاج إلى النية ينوي الركوع للتلاوة وفي السجدة لا يحتاج إلى النية؛ لأن الواجب الأصل السجدة والركوع إن كان موافق السجود صورة يخالفها معنى فمن حيث إنه يوافقها معنى ينادى به ومن حيث إنه يخالفها صورة يحتاج إلى النية بخلاف السجدة؛ لأنها هي الواجب الأصل، فلا يحتاج فيها إلى النية، وبعضهم قالوا: معنى قوله: إن شاء ركع لها وإن شاء سجد وإن شاء أقام ركوع الصلاة مقام سجدة (92أ1) التلاوة وهذا التفسير منقول عن أبي حنيفة رحمه الله نقل عنه أبو يوسف رحمه الله، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما ما يدل على أن سجدة الركعة تنوب عن سجدة التلاوة، فقد روي عنه إن كانت السجدة في آخر السورة مثل الأعراف والنجم أو سائرها من مثل بني إسرائيل وانشقت وركع حتى فرغ من السورة حتى أجزأته سجدة الركعة عن سجدة التلاوة. وهذا فصل اختلف فيه المشايخ: أنه إذا لم يسجد للتلاوة سجدة على حدة، ولم يركع لها ركوعاً على حدة، وإنما ركع للصلاة وسجد للصلاة والركوع ينوب عن سجدة التلاوة أو السجدة بعده، بعضهم قالوا: الركوع أقرب إلى موضع التلاوة فهو الذي ينوب عن سجدة التلاوة، وقال بعضهم: إن سجدة الصلاة تنوب، وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما؛ لأن المجانسة بينهما وبين سجدة التلاوة أظهر؛ ولأن الركوع لا يعرف قربة إلا في الصلاة والسجدة قربة في الصلاة وخارج الصلاة، فكانت

السجدة أولى في كونها قربة فكانت هي أولى؛ ولأن الركوع لافتتاح السجود، والسجدة هي الأصل، ولهذا لا يلزمه الركوع في الصلاة إذا كان عاجزاً عن السجدة، فإنما ينوب ما هو الأصل ثم اختلاف أن ركوع الصلاة لا ينوب بدون النية، وأما سجود الصلاة، هل ينوب بدون النية؟ اختلف المشايخ فيه، قال محمد بن سلمة وجماعة من أئمة بلخ رحمهم الله: لا تنوب ما لم ينو في ركوعه أو بعد ما يستوي قائماً أنه يسجد لصلاته، وتلاوته جميعاً، وغيرهم قالوا: النية فيها ليست بشرط وسجدة الصلاة تقع عن الصلاة والتلاوة بدون النية، وجه قول من قال النية ليست بشرط أنهما من جنس واحد، وإحداهما أقوى ... ومتى سجدة الصلاتية، فتدخل التلاوة فيه وإن لم ينوِ كصوم رمضان تنوب عن صوم الاعتكاف وإحرام الحج ينوب عن إحرام الدخول بمكة، وإن لم يوجد منه النية. وجه من قال: بأن النية شرط أنهما اختلفا سبباً، فإن سبب الصلاتية الصلاة وسبب الأخرى التلاوة، وهما مختلفان، واختلاف السبب يوجب اختلاف الحكم، ثم قوله: إن شاء ركع لها، وإن شاء سجد لها قياس. وفي الاستحسان: لا يجزئه الركوع عن سجدة التلاوة ولا سجدة الصلاة عن سجدة التلاوة نص على القياس والاستحسان في «الأصل» ، قال محمد رحمة الله عليه وبالقياس نأخذ، وجه القياس ما مر. ووجه الاستحسان: أن السجدة أقوى من الركوع في معنى الخشوع فلا ينوب الركوع عن السجود، وكذا سجدة الصلاة لا تنوب عن سجدة التلاوة استحساناً كما لا تنوب إحدى سجدتي الصلاة عن الأخرى، من أصحابنا من قال هذا غلط من الكاتب والصحيح أنه يجوز استحساناً، لا قياساً، ومن أصحابنا من قال موضع القياس والاستحسان خارج الصلاة، يعني إذا قرأ آية السجدة خارج الصلاة وأراد أن يركع بدلاً عن السجدة يجوز قياساً، ولا يجوز استحساناً. وجه القياس ما مر. ووجه الاستحسان: أن الركوع خارج الصلاة ليس بقربة والسجدة قربة وغير القربة لا ينوب عن القربة بخلاف الركوع في الصلاة؛ لأنه قربة فينوب عن السجدة قياساً واستحساناً. الوجه الثاني: إذا كان بعد السجدة ثلاث آيات إلى آخر السورة أو كانت السجدة في آخر السورة وهو الوجه الثالث: أو كانت السجدة في وسط السورة، وهو الوجه الرابع: والحكم في هذه الوجوه كلها ما ذكرنا في الوجه الأول فلو أنه، في هذه الوجوه لم يركع لها ولم يسجد على الفور، ولكن قرأ ما بقي من السورة أو خرج إلى سورة أخرى وقرأ منها شيئاً آخر إن قرأ بعدها أنه ... يجزئة الركوع وسجدة الصلاة عن سجدة التلاوة. أما إذا قرأ بعدها ثلاث آيات أو كانت السجدة في وسط السورة لم يجز الركوع عن

السجود؛ لأنه إذا قرأ ثلاث آيات بعد آية السجدة، فقد صارت السجدة ديناً في ذمته لفوات محل الأداء؛ لأن وقتها وقت وجوبها، إلا أن وقتها يقدر بأدائها أو، لا بد للتلاوة من وقت مقدر وكأن وقتها مقدر بأدائها، كما في سائر أفعال الصلاة إذا تقدر وقتها بأدائها، فإذا وجد من الفاصل قدر ما يقع به الأداء لو اشتغل بالأداء صارت فائتة، فلا ينوب الركوع والسجدة من التلاوة، وإذا لم يوجد من الفاصل قدر ما يقع به كان وقت الأداء باقياً، فلا تصير فائتة، فينوب الركوع أو السجدة عنها. وقدرنا وقت الأداء بثلاث آيات؛ لأن وقت أدائها يمضي بآيات كثيرة، ولا يمضي بقراءة آية أو آيتين فقدرنا الكثرة بالثلاث، لأنه أول الجمع الصحيح، فما لم يقرأ ثلاث آيات كان وقت الأداء باقياً وكان وقتها، ولا يعتبر الركوع فاصلاً، فلا يمنع ... السجدة بعد الركوع عن التلاوة وحتى لا تصير السجدة ديناً بالركوع؛ لأن نفس الركوع يتأدى بالانحناء دون الطمأنينة، فإذا لم يصر قراءة آية أو آيتين فاصلاً فهذا أولى، بخلاف ما إذا ركع على الفور؛ لأنها ما صارت ديناً لبقاء محلها، وبخلاف ما إذا قرأ بعد آية السجدة آية أو آيتان؛ لأنها ما صارت ديناً بعد حين لم يقرأ بعدها ما تتم به سنّة القراءة. نوع آخرمن هذا الفصل في المتفرقات قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ويكره أن يقرأ السورة في الصلاة أو غيرها ويدع آية السجدة، قال الحاكم الشهيد رحمه الله: إنما كره لمعانٍ. أحدها: أن ترك الآية من بين السورة يقطع النظم وإعجاز القرآن، فأشبه تحريف القرآن عن موضعه، فيكون فيه رعاية على تحريفه قابل ما في الباب أن يكره. والثاني: أن فيه ترك القراءة سنّة، فإن السنّة أن يقرأ فيها السورة على نحوها قال عليه السلام لبلال: «إذا قرأت سورة، فاقرأها على نحوها» وخلاف السنّة مكروه. والثالث: أن ترك الآيتين به من بين السورة يؤدي إلى إلغاء القرآن، ومن ألغى في القرآن فقد أجرم فيكره لقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) . والرابع: أنه تركها فراراً من السجدة، فيكره لقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} (الفرقان: 60) . والخامس: أن ترك السجدة من بين السورة يؤدي إلى هجر القرآن، فيكره لقوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يرَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً} (الفرقان: 30) وقال النبي عليه السلام: «ليس شيء من القرآن بمهجور» ، فلا ينبغي أن يدع آية السجدة فبعد ذلك

ينظر إن كان التالي وحده (92ب1) يقرأ كيف شاء أو كان معه جماعة قال مشايخنا رحمهم الله: إن كان القوم متهيئين للسجود ويقع في قلبه أنه لا يشق عليهم أداء السجدة، فله أن يقرأ جهراً حتى يسجد القوم معه؛ لأن في هذا حثهم على الطاعة، وإن كانوا محدثين ونظر أنهم يسمعون أو لا يسجدون أو يقع به جملته أنه يشق عليهم بآية السجدة ينبغي أن يقرأها في نفسه، لئلا يكون تاركاً ترتيب القرآن أو نظمها ولا يجهر تحرزاً عن تأثم المسلم، وذلك مندوب إليه، ولا فرق بينها إذا قرأها خارج الصلاة أو في الصلاة.t قال الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله في «شرح الجامع الصغير» : ومن الناس من كره ذلك خارج الصلاة ولم يكرهه في الصلاة، ولكن هذا خلاف الرواية، فإن محمداً قال في «الجامع الصغير» : وأكره أن يقرأ السورة في الصلاة أو غيرها ويدع آية السجدة، قال وكان لا يرى بأساً باختصار السجود في غير صلاة، وهو أن يقرأ آية السجدة ... السورة لما فيه من الإقبال على السجود على وجه القربة؛ ولأنه قرأ ما تيسر عليه، وقال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الاْرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المزمل: 20) وجاء عن النبي عليه السلام «أنه كان يقرأ في خطبته بعض الآي من القرآن لا يقرأ قبلها ولا بعدها من ذلك» ، ثم قال وجب إلا أن يقرأ معها آية أو آيتين؛ لأنه أبلغ في إظهار الإعجاز، وأدل على المعنى وأكمل النظم، ولم يذكر اختصار السجدة في الصلاة، بل قيده بغير حالة الصلاة، قالوا: ويجب أن يكره في حالة الصلاة؛ لأن الاقتصار على آية واحدة في الصلاة مكروه. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل قرأ آية السجدة، وهو ليس في الصلاة يسمعها رجل هو في الصلاة فيسجدها التالي ويسجد معه المصلي قال إن أراد ... بعد فسدت صلاته، ويجب عليه إعادة السجدة، وإذا أخر سجدة التلاوة عن وقت القراءة أو عن وقت السماع ثم أداها يكون مؤدياً لا قاضياً عندنا، فأداؤها ليس على الفور عندنا، وهذا يكره تأخيره عن وقت ... القراءة ذكر في بعض المواضع أنه إذا قرأ مكروه عن وقت القراءة، أما في الصلاة فتأخيرها المواضع إن تأخيرها خارج الصلاة لا يكره وذكر الطحاوي مطلقاً أن تأخيرها مكروه. وإذا قرأ آية السجدة عند طلوع الشمس وسجدها عند استواء النهار أو عند غروب

الشمس أجزأه عند أبي يوسف رحمة الله عليه، ومحمد رحمه الله كذا ذكر في «عيون المسائل» ، وذكر في موضع آخر عن أبي يوسف أنه لا يجوز؛ لأنه كما ارتفع النهار فقد قدر على الأداء كاملاً، فلا يجوز الأداء ناقصاً، وبه كان يفتي الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله. وقيل: لو قرأها عند غروب الشمس وأداها عند طلوع الشمس لا يجوز؛ لأن وقت الغروب أكمل حيث يجوز أداء عصر يومه في ذلك الوقت، ولا يجوز أداء الفجر في وقت طلوع الشمس. ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ولا ينبغي للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة في صلاة لا يجهر فيها، وهذا لأنه إذا قرأها يلزمه أن يخر ساجداً لها، فيظن القوم أنه سجد للصلاة ونسي الركوع، فلا يتابعونه فيها، فيكون قد فتن القوم ودون هذا مذكرة للإمام قال عليه السلام: «أفتان أنت يا معاذ» وأشار الحاكم في «شرحه» إلى حرف آخر، قال؛ لأنه إذا تلاها وسجد حسب القوم أنه قد غلط فيلجئهم إلى التسبيح ولا يجيبهم إلى ما يدعونه إليه ولا يتابعه القوم في سجوده، وفي هذا من التسبيح، ما لا يخفى على أحد وهذا الذي بينا جواب الاختيار وأما إذا قرأها فعليه أن يسجد لها، وعليهم أن يتابعونه فيها وهذا لما روينا عن النبي عليه السلام رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه «أنه صلى الظهر وسجد فيها حتى ظنوا أنه قرأ فيها {آلم تنزيل} السجدة» والله أعلم. وفي «العيون» : إذا افتتح الصلاة وهو راكب، وافتتحها آخر يسير معه، فقرأ أحدهما آية سجدة واحدة مرتين فسمعها صاحبه وقرأ صاحبه آية سجدة أخرى مرة فسمعها الأول يسجد الذي قرأ آية واحدة مرتين، سجدتين سجدة لقراءته؛ لأن تلاوة آية واحدة مرتين في الصلاة لا يوجب على الثاني لا سجدة واحدة، وسجدة إذا فرغ من صلاته لما سمع في صلاته من صاحبه، أما الذي قرأ مرة يسجد سجدة لقراءته؛ لأنه قرأ مرة ويسجد مرتين إذا فرغ من صلاته لما سمع من صاحبه؛ لأنه سمع تلاوته آية واحدة مرتين في مجلسين؛ لأن سماعه تلك التلاوة ليس من الصلاة وفيما ليس من الصلاة يفيد أن المجلس باليسير، وإنما الحد بالتحريمة فيما كان من الصلاة، وكان مجلس التالي متحداً، ومجلس السامع متعدد أو في مثل هذه الصورة يتعدد الوجوب على السامع يوجب عليه سجدتان، وذكر في «مختصر القصاص» أنه يسجد مرة وعليه الفتوى، أما إن نظرنا إلى مكان السامع، فهو واحد وإن نظرنا إلى مكان التالي فمكانه جعل كمكان واحد في حقه، فيجعل كذلك في حق السامع أيضاً؛ لأن السماع ما على التلاوة، المصلي إذا قرأ آية السجدة على الدابة مراراً وخلفه رجل يسوق الدابة سجد المصلي سجدة واحدة والسائق يسجد كذلك.

الفصل الثاني والعشرون في صلاة السفر

وإذا قرأ الإمام آية السجدة في صلاة الجمعة، فعليه أن يسجد ويسجد معه أصحابه؛ لأن الجمعة ظهر مقصورة، فيقاس بالظهر الممدودة ولو قرأها في الظهر الممدودة فعليه أن يسجدها ويسجد معه أصحابه، فكذلك إذا قرأها في الجمعة، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، قال مشايخنا المسألة في زماننا، إذا قرأها الإمام في الجمعة أن لا يسجد لها لامتداد الصفوف، وكثرة القوم؛ فإن المكبر إذا كبر لها ظن القوم أنه كبر للركوع، فيركعون وفيه من الفتنة ما لا يخفى، وهكذا في صلاة العيد قال شمس الأئمة هكذا سألت القاضي الإمام الأستاذ رحمه الله هل يكره للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة يوم الجمعة كما يكره في صلاة الظهر؟ قال: ليست فيه رواية وينبغي أن يكره؛ لأن الجمع في حق من لا يسمع قراءة الإمام كصلاة ما يجهر فيها بالقراءة. الفصل الثاني والعشرون في صلاة السفر يجب أن يعلم بأن للشروع بالسفر أحكاماً من جملة ذلك قصر (93أ1) الصلاة لقول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَفِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً} (النساء: 101) وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلّم «أنه صلى ركعتين حين ذهب إلى مكة وبمكة، وقال لأهل مكة بعدما سلم على رأس الركعتين «يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر» والله أعلم، وهذا الفصل يشتمل على أنواع. الأول في معرفة فرض المسافر قال أصحابنا رحمهم الله: فرض المسافر في كل صلاة رباعية ركعتان، وقال الشافعي رحمه الله فرضه أربع وركعتان رخصة حتى أن عند علمائنا رحمهم الله إذا صلى المسافر أربعاً ولم يقعد على رأس الركعتين فسدت صلاته، لانشغاله بالنفل قبل إكمال الفرض، وإن كان قعد تمت صلاته وهو مسيء لخروجه عن الفرض ودخوله في النفل لا على وجه المسنون، حجة الشافعي في المسألة قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم} (النساء:101) ، وقاس الصلاة بالصوم، فإن السفر أثر في رخصة الإفطار في الصوم، لا في الإسقاط، فكذا في الصلاة. حجة علمائنا رحمهم الله حديث عائشة رضي الله عنها: «فرضت الصلاة في الأصل ركعتين إلا المغرب، فإنها وتر ثم زيدت في الحضر وأقرت في السفر» وعن ابن عمر

رضي الله عنهما أنه قال: «صلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر» يتكلم على لسان عليه السلام؛ ولأن الشفع الثاني سقط عن المسافر لا إلى بدل، وعلامة الفرض الأداء أو القضاء به، فلأن الصوم ولا قصر، لأن القصر للتخفيف، فلا حاجة إليه في النوافل في ذوات الثلاث والمثنى؛ لأن شرطها ليس بصلاة ولا قصر في النوافل أيضاً؛ لأن له أن لا يفعلها وتكلموا في الأفضل في السفر، فقيل هو الترك ترخصاً، وقيل: هو الفعل معتزماً، وكان الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله يقول بالفعل في حالة النزول والترك في حالة السير. نوع آخر في بيان مدة السفر الذي يتعلق به قصر الصلاة قال علمائنا رحمهم الله: أدناها مسيرة ثلاثة أيام ولياليها، والأصل في ذلك قوله عليه السلام: «يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» ذكر المسافر بلام التعريف ... فقد جوّز لكل مسافر مسح ثلاثة أيام ولياليها ولا يتصور أن يمسح كل مسافر ثلاثة أيام ولياليها إلا وأن تكون أقل مدة السفر ثلاثة أيام ولياليها. والمعنى في ذلك: أن القصر في السفر لمكان الحرج والمشقة والحرج والمشقة في أن يحمل رحله من غير أهله، ويحط في غير أهله وذلك لا يتحقق فيما دون الثلاث، لأن في اليوم الأول يحمل من أهله وفي اليوم الثاني يحط في أهله، أما يتحقق في الثلاث؛ لأن في اليوم الثاني يحمل الرحل في غير أهله ويحط في غير أهله، فتحقق معنى الحرج، فلهذا قدر بثلاثة أيام ولياليها. ثم وصف في «الكتاب» : السير فقال سير الإبل ومشي الأقدام وهو سير الوسط والعام الغالب، وهذا لأن أعجل السير سير البريد وأبطأه سير العجلة، وخير الأمور أوساطها ثم معنى قول علمائنا رحمهم الله أدنى مدة السفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها السير الذي يكون في ثلاثة أيام ولياليها مع الاستراحات التي تكون في خلال ذلك، وهذا لأن المسافر لا يمكنه أن يمشي أبداً بل يمشي في بعض الأوقات، وفي بعض الأوقات يستريح ويأكل ويشرب، وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه اعتبر ثلاث مراحل، فعلى قياس هذه الرواية من بخارى إلى أرمينة مدة سفر، وكذلك إلى فربر وبه أخذ بعض مشايخ بخارى رحمهم الله. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قدره بيومين، والأكثر من اليوم الثالث مقام كله، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وابن سماعة عن محمد رحمة الله عليهما ثم على قياس هذه الرواية، إذا قدر بالمراحل عند أبي حنيفة يقدر بالمرحلتين والأكثر من

المرحلة الثالثة، وهو على قياس تقدير أقل مدة الحيض على قول أبي يوسف ولم يعتبر بعض مشايخنا الفراسخ، قالوا: لأن ذلك يختلف باختلاف الطرق في السهولة والصعوبة والجبال والبر والبحر. وعامة مشايخنا قدروه بالفراسخ أيضاً، واختلفوا فيما بينهم، بعضهم قالوا: أحد وعشرين فرسخاً، وبعضهم قالوا: ثمانية عشر فرسخاً أدنى مدة السفر ثمانية عشر فرسخاً، وبعضهم قالوا: خمسة عشر، والفتوى على ثمانية عشر؛ لأنها أوسط الأعداد، وإن كان السفر سفر جبال، فعبارة بعض مشايخنا رحمهم الله أن التقدير فيه بمنزلة ثلاثة أيام ولياليها على حسب ما تبين بحال الجبل، وعبارة الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمة الله عليه: أن التقدير فيه بالمراحل لا محالة يقدر ثلاثة مراحل مرحلة الجبل، لا مرحلة السهل. وإن كان السفر سفر بحر فقد اختلف المشايخ فيه أيضاً، والمختار للفتوى أنه ينظر أن السفينة كم تسير ثلاثة أيام، ولياليها حال استواء الريح، فيجوز ذلك أصلاً ويقصر الصلاة إذا قصد مسيرة ثلاثة أيام ولياليها على هذه السفينة في البحر، فلو سار في الماء سيراً سريعاً، ويكون ذلك على البرية ثلاثة أيام ولياليها، فقد ذكر الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه ... ، وهذا شيء يعرفه الملاحون، فيرجع في ذلك إلى قولهم، وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا خرج إلى مصر في طريق في ثلاثة أيام وأمكنه أن يصل إليه في طريق آخر في يوم واحد قصر، وقال الشافعي إذا كان بغير عرض لم يقصر؛ لأن ما يكون بغير عرض لا يكون معتداً به، فيكون وجوده وعدمه بمنزلة ولا هو له رخصة السفر، وأما بقول أن الحكم متعلق بالسفر دفعاً للحرج، فيتعلق بالسفر دون الغرض ثم سلوكه أحد الطريقين بغير عرض لا يكون أعلى من سفره بغير عرض، ولو سافر بغير عرض تعلق به رخصة السفر كذلك ها هنا. وفي «نوادر بن سماعة» : في مصر له طريقان؛ وأحدهما: مسيرة يوم والآخر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها إن أخذ في الطريق الذي مسيرة يوم لا يقصر الصلاة، وإن أخذ في الطريق الذي هو مسيرة ثلاثة أيام ولياليها قصر الصلاة، المسافر إذا بكر في اليوم الأول، ومشى إلى وقت الزوال حتى بلغ المرحلة، فينزل فيها للاستراحة وبات فيها ثم بكر في اليوم الثاني ومشى إلى ما بعد الزوال حتى بلغ المرحلة ونزل فيها للاستراحة وبات فيها ثم بكر في اليوم الثالث ومشى حتى بلغ إلى المقصد وقت الزوال هل يصير مسافراً بهذا (93ب1) ، وهل يباح له القصر قال: بعضهم لا؛ لأنه لم يمش في بقية اليوم الثالث، فهذا أقل من ثلاثة أيام ولياليها. قال شمس الأئمة الحلواني: الوجه الصحيح أن يصير مسافراً، فهذه النية ويقصر الصلاة، لأن المسافر لا بد له من النزول لاستراحة نفسه أو لاستراحة دابته أما أشبهه،

وهل الشرط أن يذهب من الفجر إلى الفجر، لأن الأدميين يطيقون ذلك وكذلك الدابة بل إذا مشى في بعض النهار فذلك يكفي. نوع آخر في بيان من يثبت القصر في حقه قال علمائنا رحمهم الله: القصر ثابت في حق كل مسافر سفر الطاعة وسفر المعصية في ذلك سواء، وقال الشافعي رحمه الله: سفر المعصية لا يعتد الرخصة، حجته أن الرخصة لها تثبت في حق المسافر نظراً وتخفيفاً عليه، وهذا لا يليق بالمعصية. ولنا قوله عليه السلام: «فرض المسافر ركعتان من غير قصر» ، ولأن السفر له صار مرخصاً باعتبار مشقة تلحقه المشي بالأقدام، والغيبة عن الوطن ولا خطر في هذا، ولنا الخطر في مقصوده لا في عين السفر، فيبقى بعين السفر مرخصاً مبيحاً. وعلى هذا الأصل المرأة إذا حجت من غير محرم، وكذا جواز الصلاة على الراحلة إذا خاف، وكذا جواز أكل الميتة من غير الضرورة، وكذا بجواز استكمال يده المسح على الخفين في السفر، فإن كان السفر معصية ويسوى في ذلك حال قصد الطاعة والمعصية، والمعنى في ذلك ما مر، أنه لا خطر في نفس السفر والقصر من كل مسافر يصلي وحده أو كان إماماً أو مقتدياً بمسافر فأما إذا اقتدى بمقيم متابعة له وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى. نوع آخر في بيان المسافر متى يقصر الصلاة فنقول القصر حكم ثبت في حق المسافر، فلا بد من بيان أن الشخص متى يصير مسافراً بمجرد نية السفر، بل يشترط معه الخروج. وفرق بين السفر والإقامة، فإن المسافر يصير مقيماً بمجرد النية، إذا كان في موضع يصلح للإقامة، ولم يكن تابعاً لغيره لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله. والفرق: أن في السفر الحاجة إلى العقل والفعل ولا يكفيه مجرد النية، أما في الإقامة الحاجة إلى ترك الفعل؛ لأن الأفضل الأصل وهو الإقامة ولهذا يبطل حكمه بالسفر، فيحتاج إلى ترك العارض ليظهر حكم الإقامة، وفي الترك يكفيه مجرد النية. ونظير هذا: قال في كتاب الزكاة: من كان له عبد الخدمة فنوى أن يكون للتجارة حتى يبيعه وإن كان للتجارة فنوى أن يكون للخدمة خرج من التجارة بالنية، وما افترقا إلا من حيث إن في الفصل الأول الحاجة إلى الفعل وفي الفصل الثاني الحاجة إلى ترك الفعل. قال محمد رحمه الله: ويقصر حين يخرج من مصره ويخلف دور المصر، وفي

موضع آخر يقول: ويقصر إذا جاوز عمرانات المصر قاصداً مسيرة ثلاثة أيام ولياليها، وهذا لأنه ما دام في عمران المصر فهو لا يعد مسافراً، والأصل في ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أنه خرج من البصرة يريد السفر فحان وقت العصر فأتمها ثم نظر إلى خص أمامه، فقال: إنا لو كنا جاوزنا هذا الخص قصرنا، وهكذا إن كانت المحلة منفصلة من المصر وكانت قبل ذلك متصلة بالمصر فإنه لا يقصر حتى يجاوز تلك المتصلة ويخلف دورها لأن تلك المحلة من المصر بخلاف القرية؛ لأن تلك القرية لا تكون من المصر وربما تكون من القرى وربما يترادف القرى ويتعارف المصر إلى فرسخ أو فرسخين المصر، فلو نهى عن القصر حتى يجوز القرية التي..المصر لنهي عن القصر في هذه القرى أيضاً، وهذا بعيد فعرفنا أن الشرط أن يتخلف عن عمران المصر، وبنيانه لا غير. ثم يعتبر الجانب الذي منه يخرج المسافر من البلدة، ولا تعتبر الجوانب الذي بحذاء البلدة حتى أنه إذا خلف البنيان الذي خرج منه قصر الصلاة، وإن كان بحذاءه بنيان أخرى من جانب آخر من المصر، وهذا كله بهذا الترتيب محفوظ عن محمد رحمه الله، ذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله في غريب الرواية ذكر هذه الجملة شمس الأئمة الحلواني في شرح صلاته. وذكر الصدر الشهيد عمي رحمة الله عليه في «واقعاته» : أن رجلاً خرج مسافراً من بخارى، فلما بلغ أرض أزبكستان ... أو إلى رباط وليان اختلف المشايخ فيه، والمختار: أنه يقصر الصلاة؛ لأنه جاوز الربض ومتى جاوز الربض فقد جاوز عمران البلدة. وعن الحسن رحمه الله القرى، إذا كانت متصلة بالمصر في القرى إذا كانت متصلة بالرمض إلى ثلاث فراسخ قال: لا يقصر حتى يجاوز البيوت وإن كان ثلاث فراسخ وإن كان بين البلدة، والقرية مقدار ... لا يكون مجاوزاً وإن كان قدر مائة ذراع كان مجاوزاً، ومن مشايخنا من اعتبر مجاوزة فناء المصر إن كان بين المار وبين فنائه أقل من قدر غلوة ولم يكن بينهما مزرعة، وإن كان بينهما مزرعة أو كانت المسافة بين المصر وفنائه قدر غلوة، ولا يعتبر مجاوزة الفناء، وهذا القائل يقول: إذا كانت القرى متصلة بفناء المصر لا بربض المصر يعتبر مجاوزة الفناء لا غير، بخلاف ما إذا كانت القرى متصلة بربض المصر حتى تعتبر مجاوزة القرى، والصحيح ما ذكرنا أنه يعتبر مجاوزة عمران المصر إلا إذا كان ثمة قرية أو قرى متصلة بربض المصر، فحينئذٍ يعتبر مجاوزة القرى.

نوع آخر في بيان مدة الإقامة ولا بد من معرفتها؛ السفر يبطل بالإقامة فنقول أدنى مدة السفر الإقامة عندنا خمسة عشر يوماً، وقال الشافعي رحمه الله أربعة أيام حتى لو نوى الإقامة أربعة أيام يتم الصلاة عنده. وعندنا ما لم ينو الإقامة خمسة عشر يوماً لا يتم الصلاة. حجة الشافعي: ما روي عن عثمان رضي الله عنه: أنه كان يقول: من أقام أربعاً صلى أربعاً، وفي رواية أخرى إذا نوى أن يقيم أربعة أيام صار مقيماً. حجتنا: حديث جابر رضي الله عنه «أن النبي عليه السلام دخل مكة صبيحة الرابع من ذي الحجة وخرج منها في اليوم الثامن من ذي الحجة، وكان يقصر الصلاة حتى قال بعرفات: «أتموا صلاتكم يا أهل مكة، فإنا قوم سفر» فعلم أنه لا يصير مقيماً بأربعة أيام، ولأن المسافر لا يجد بداً من المقام في المثال أياماً إما لاستراحته وأما لاستراحة دابته أو لطلب الرفقة، وربما تعبت دابته عقر ويحتاج إلى معالجتها أو أخرى ولا يتم ذلك بأربعة أيام، فيحتاج إلى الزيادة عليها. فقدرنا ذلك بخمسة عشر يوماً، لأن مدة الإقامة في معنى مدة الطهر (94أ1) بأنها تعيد ما كان سقط من الصوم والصلاة ثم أقل مدة الطهر مقدر بخمسة عشر يوماً بأقل مدة الإقامة، يجب أن يقدر بها الأولى، أما قدر أدنى مدة السفر بثلاثة أيام ولياليها اعتباراً بأدنى مدة الحيض من حيث أن مدة السفر نظير مدة الحيض، فإنه تسقط بهما الصلاة والصوم ولو أنه أقام في موضع أياماً ولم ينو الإقامة لا يصير مقيماً عندنا وإن طال إقامته والأصل في ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «أقام رسول الله عليه السلام بحنين أربعين يوماً وكان يصلي ركعتين» ، وروي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه أقام بقرية من قرى ... ، وكان يقصر الصلاة وعن عمر رضي الله عنه: أنه أقام بأذربيجان ستة أشهر، وكان يصلي ركعتين وعن علي رضي الله عنه: أنه أقام بخوارزم سنتين، وكان يصلي ركعتين، والمعنى في هذه المسألة وهو أن الإقامة ضد السفر، ثم أجمعنا أن المقيم لا يصير مسافراً إلا بالنية، وإن وجد منه حقيقة السفر وهو السير، فإنه إذا كان يسير مرحلة جميع الدنيا ولا ينوي سفراً لا يصير مسافراً، فكذا لا يصير مقيماً، وإن وجد منه حقيقة الإقامة ما لم ينو الإقامة، والله أعلم.

نوع آخر في بيان المواضع التي تصح نية الإقامة فيها والتي لا تصح نية الإقامة فيها فنقول إنما تصح نية الإقامة إذا كان الإقامة إذا كان الموضع الذي نوى الإقامة فيه محل للإقامة حتى أن أهل العسكر إذا نووا الإقامة في دار الحرب خمسة عشر يوماً أو أكثر، وهم يحاصرون أهل المدينة لا تصح منهم والأصل في ذلك ما روي «أن النبي عليه السلام حاصر أهل الطائف سبعة عشر يوماً، وكان يقصر الصلاة» وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً سأله وقال إنا نطيل.f .. المقام في أرض الحرب، فقال: «صل ركعتين حتى ترجع إلى أهلك» ؛ ولأن دار الحرب ليس موضع الإقامة في حق المحاربين من المسلمين لأن الغلبة فيها لأهل الحرب والظاهر أنهم يقاتلون المسلمين والمسلمون لا يقاومونهم لقلتهم فينوون نية الإقامة لا يصار محلها، ولا تصح كما لو نوى السفر في غير موضع السفر، وكذلك إذا نزلوا المدينة، وحاصروا أهلها في الحصن لا تصح منهم الإقامة؛ لأنه لا قرار لهم ما داموا محاصرين، وكانت نية الإقامة في غير موضعها، وكذا أهل البغي إذا ابتغوا في دار البغي، فحاصرناهم لا تصح فيه الإقامة، لأن دارهم ليس موضع لنا فيها كدار الحرب. وقال أبو يوسف رحمه الله في «الإملاء» : إذا كان العسكر استولوا على الكفار بذلوا إنسانيتهم وأرواحهم وركبانهم وللمسلمين منعة وشوكة فأجمعوا على الإقامة خمسة عشر يوماً أكملوا الصلاة، وإذا كانوا في عسكر في الأخبية والفساطيط في سفر فأجمعوا على الإقامة خمسة عشر يوماً صلوا ركعتين. وفرق بين الأبنية وبين الأخبية والفرق: أن البناء موضع الإقامة والطرء دون الصحراء، وإن حاصروا أهل أخبية وفساطيط لم يصيروا مقيمين سواء نزلوا بساحتهم، أو في أخبيتهم وخيامهم فنووا الإقامة فيها بالإجماع؛ لأن هذا لا يعد إقامة، ألا ترى أنهم يحملونها على الدواب حيث ما قصدوا واستخفونها يوم ظعنهم ويوم إقامتهم، وإذا هي حمولة وليس بمنازل. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وهكذا عسكر المسلمين إذا قصدوا موضعاً، ومعهم أخبيتهم وخيامهم وفساطيطهم، فنزلوا مفازة في الطريق ونصبوا الأخبية والفساطيط وعزموا فيها على إقامة خمسة عشر يوماً لم يصيروا مقيمين لما بينا، أنها حمولة وليست بمساكن. واختلف المتأخرون في الذين يسكنون في الخيام والأخبية والفساطيط كالأعراب ... الذين في زماننا منهم من يقول: لا يكونوا مقيمين؛ لأنهم ليسوا في

موضع الإقامة، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والصحيح أنهم مقيمون؛ لأن الإقامة للمراصد والسفر عارض وهم لا ينوون السفر وإنما ينتقلون من ماء إلى ماء ومن مرعى إلى مرعى، فكانوا مقيمين باعتبار الأصل. وروي عن أبي يوسف رحمة الله عليه: في الرعاة إذا كانوا يطوفون في المفاوز وينتقلون من كلأ إلى كلأ ومعهم أثقالهم وخيامهم إنهم مسافرون حيث نزلوا أو طافوا إلا في خصلة واحدة، وهي إذا نزلوا في مرعى كثيراً بكلأ والماء وأعدوا الخيام ونصبوا وعزموا على إقامة خمسة عشر يوماً، وكان الكلأ والماء يكفيهم، فإني استحسن أن أجعلهم مقيمين وآمرهم بالإكمال. وذكر في «المنتقى» : عن الحسن بن أبي مالك عن أبي حنيفة رحمهم الله في الأعراب إذا نزلوا بخيامهم في موضع التمسوا فيه المرعى، ونووا أن يقيموا شهراً أو أكثر للرعي ما يتموا الصلاة لأنه ليس بموضع قيام لهم، قال: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله يقول: يتمون الصلاة. وفيه أيضاً: عن أبي حنيفة رحمه الله إذا نوى المسافر الإقامة عند أهل ... ولم يكن ثم بيت، فليس بمقيم، وقال أبو يوسف: يتم الصلاة إذا كان ثمَّ قوم مستوطنون يسكنون بيوت الشهور، وإن نوى المسافر الإقامة في موطنين خمسة عشر يوماً نحو مكة ومنى أو الكوفة والحيرة لم يصر مقيماً، لأن نية الإقامة لهما تكون في موضع واحد، فإن الإقامة ضد السفر وهو ضرب في الأرض فلا يكون إقامة، وهذا إذ انوى الإقامة في موضعين فأما إذا عزم على أن يقيم في الليالي بأحد الموضعين، ويخرج في النهار إلى موضع آخر فإذا دخل أولاً الموضع الذي عزم الإقامة فيه بالنهار لا يصير مقيماً، وإن دخل أولاً الموضع الذي عزم فيه الإقامة بالليالي يصير مقيماً، ثم بالخروج إلى الموضع الآخر لا يصير مسافراً لأن موضع إقامة الرجل حيث يبيت فيه. ألا ترى أنك إذا قلت للسوقي: أين تسكن؟ يقول: في محلة كذا، وإن علم أن يكون في السوق في النهار وكان هو الأصل يوجب اعتباره. ومما يتصل بهذا النوع الأسرى من المسلمين، إذا كانوا في دار أهل الحرب فانفلت منهم، وهو مسافر فوطن نفسه على إقامة خمسة عشر يوماً في بخارى، وغيره قصر الصلاة؛ لأنه محارب لهم فلا تكون دار الحرب موضع الإقامة له، وكذلك إذا أسلم الرجل من أهل الحرب في دارهم فعلموا بإسلامه وطلبوه ليقتلوه، فخرج هارباً يريد مسيرة ثلاثة أيام، فهو مسافر، إن أقام في موضع مختفياً (94ب1) شهراً منهم، أو أكثر لأنه صار محارباً لهم حتى طلبوه ليقتلوه وكذلك المستأمن إذا غدروا به وطلبوه ليقتلوه؛ لأنه صار محارباً لهم، وإن كان..... من هو لا مقيماً علانية في دار الحرب، فلما طلبوه ليقتلوه اختفى فيها،

فإنه يتم الصلاة لأنه كان مقيماً بهذه البلدة، فلا يصير مسافراً إن لم يخرج. وكذلك إن أخرج منها مسيرة يوم أو يومين لأن المقيم لا يصير مسافراً بنية الخروج إلى ما دون مسيرة السفر، وكذلك لو أن أهل مدينة من أهل الحرب أسلموا فقاتلهم أهل الحرب وهم مقيمون في مدينتهم، فإنهم يتمون الصلاة. وكذلك إن غلبهم أهل الحرب على مدينتهم فخرجوا منها يريدون مسيرة يوم، فإنهم يتمون الصلاة وإن خرجوا يريدون مسيرة ثلاثة أيام قصروا الصلاة، فإن عادوا إلى مدينتهم ولم يكن المشركون عرضوا لها يعني لمدينتهم أتموا فيها الصلاة؛ لأن مدينتهم كانت دار السلام حتى أسلموا فيها فكان موضع إقامة لهم، فما لم يعرض لها المشركون فهي وطن أصلي في حقهم فيتمون الصلاة إذا وصلوا إليها. وإن كان المشركون غلبوا على مدينتهم فيها ثم إن المسلمين رجعوا إليها وتخلى المشركون عنها، فإن كانوا اتخذوها داراً ومنزلاً لا يبرحونها فصارت دار السلم يتمون فيها الصلاة؛ لأنها صارت في حكم دار الحرب حتى غلب المشركون عليها فحين ظهر المسلمون عليها، وعزموا على المقام فيها فقد صارت دار السلم ونية المسلم للإقامة في دار السلم صحيحة، وإن كانوا لا يريدون أن يتخذوها داراً، ولكن يتمون فيها شهراً ثم يخرجون إلى دار الإسلام يقصرون الصلاة فيها؛ لأن هذا الموضع مرحلة دار الحرب وهم محاربون، فلا يصيروا مقيمين بنية الإقامة فيها. وكذلك عسكر من المسلمين دخلوا دار الحرب فغلبوا على مدينة فإن اتخذوها داراً، فقد صارت دار السلم يتمون بها الصلاة، وإن لم يتخذوها داراً ولكن أرادوا الإقامة بها شهراً أو أكثر، فإنهم يقصرون الصلاة؛ لأنها دار الحرب وهم محاربون فيها هذه الجملة من «السير» عن أبي يوسف، فيما إذا غلب المسلمون على مدينة في أهل الحرب وقد ذكرنا في أول هذا النوع بخلاف ما ذكرنا في «السير» . نوع آخر في بيان من لا يصير مقيماً بنية إقامته ويصير مقيماً بنية إقامة غيره الأصل في هذا أن من يمكنه الإقامة باختياره يصير مقيماً بنية نفسه ومن لا يمكنه الإقامة باختياره لا يصير مقيماً بنية نفسه، حتى أن المرأة إذا كانت مع زوجها في السفر والرقيق مع مولاه والتلميذ مع أستاذه الأجير مع مستأجره، والجندي مع أميره فهم لا يصيرون مقيمين بنية أنفسهم في «ظاهر الرواية» . وذكر هشام في «نوادره» عن محمد في الرجل يخرج مع قائده، ونوى الرجل المقام ولم ينو قائده قال هذا مقيم ويصير العبد مقيماً بنية المولى، لأنه تبع له والحكم في التبع ثبت بشرط الأصل وكذلك كل من كان تبعاً، كالجندي مع الأمير، ومن أشبهه ممن تقدم ذكره إلا المرأة فإن فيها اختلافاً فإن من أصحابنا من قال: إن المرأة إذا استوفت صداقها فهي بمنزلة العبد تصير مقيمة بإقامة الزوج؛ لأنه ليس لها حق حبس النفس كما في العبد،

وإن لم تستوف الصداق، لكن سلمت نفسها إلى الزوج ودخل بالمرأة إذا سافرت مع زوجها بها، فعلى الخلاف المعروف عند أبي حنيفة رحمه الله لها حق حبس نفسها، وعندها ليس لها حق حبس نفسها، وقيل لا خلاف في هذا الفصل؛ لأن عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن كان لها حق حبس نفسها ولكن ما لم تحبس نفسها كان تبعاً للزوج، ولم يذكر مثل هذا الاختلاف، فيما إذا نوت المرأة الإقامة بنفسها، ولا فرق بين الصورتين فيجوز أن تكون نية المرأة. على هذا الاختلاف أيضاً. ذكر الحاكم في «المنتقى» : رجل حمل رجلاً وذهب ولا يدري أين ذهب به قال: يتم الصلاة حتى يسير ثلاثاً، فإذا سار ثلاثاً قصر، وإن علم أن الباقي بعدها يسير، ولو كان صلى ركعتين من جنس حملة أجرته، فإن سار به لعل من ثبت أعاد ما صلى. ذكر هو رحمه الله في «المنتقى» أيضاً: ولو أن والياً خرج من كورة إلى كورة، ومعه جنده وهم ينوون الإقامة بإقامته، والسفر بسفره، فقدم ذلك الوالي مصراً دون المصر الذي كان أراده، ونوى الإقامة ولم يدر به بعض من معه من جنده حتى صلوا صلاة سفر ثم علموا، قال: يعيدو صلاتهم. وفي «نوادر هشام» قال سمعت محمداً: في رجلين مسافرين لأحدهما دين على الآخر حبس رب الدين المديون بدينه في السجن: قال إن كان المحبوس يقدر على الأداء، فالنية نيته في المقام والسفر ويعص ما لم ينو الإقامة، وإن كان لا يقدر على الأداء، فالنية نية الحابس إن نوى أن لا يخرجه خمسة عشر يوماً، فعلى المحبوس أن يتم الصلاة وليس على الحابس أن يتم الصلاة، وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف في المسافر إذا حبس بالدين وهو معسر، فإنه يتم الصلاة وكذلك إذا كان موسراً إلا أن يكون قد وطن نفسه على أدائه، فيقصر والله أعلم. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : مسافر دخل مصراً وأخذه غريمه وحبسه، فإن كان معسراً صلى صلاة المسافرين؛ لأنه لا يقوم على الإقامة؛ إذ لا يحل للطالب حبسه في هذه الصورة، وإن كان موسراً ... لا يقضي دينه أبداً صلى صلاة المقيمين؛ لأنه عزم على الإقامة أبداً؛ لأنه يحل للطالب حبسه في هذه الصورة أبداً، وإن لم يعتقد ولم ينو أن لا يقضي دينه أبداً، لكن نوى أن لا يقضي دينه مدة غير معينة صلى صلاة المسافرين؛ لأنه وإن عزم على الإقامة ولكن مدة مجهولة. وقد قال مشايخنا: إن الحجاج إذا وصلوا بغداد شهر رمضان ولم ينووا الإقامة صلوا صلاة المقيمين؛ لأن من عزمهم أن لا يحرموا إلا مع القافلة، ومن هذا الوقت إلى وقت خروج القافلة أكثر من خمسة عشر يوماً، فكأنهم نووا الإقامة خمسة عشر يوماً فتلزمهم صلاة المقيمين. قال في «السير الكبير» : والأسرى من المسلمين في أيدي أهل الحرب هم له

قاهرون إن أقاموا به في موضع يريدون أن يقيموا به خمسة عشر يوماً فعليه أن يكمل الصلاة وإن كان الأسير لا يريد (95أ1) أن يقيم معهم، وإن كان الأسير يريد أن يقيم في موضع خمسة عشر يوماً وأخرجوه من ذلك الموضع يريدون مسيرة ثلاثة أيام قصر الصلاة لأن الأسير مقهور مغلوب في أيديهم، وكان سفره وإقامته بهم، كالعبد مع مولاه والقائد مع الأعمى والتلميذ مع الأستاذ. وكذلك الرجل يبعث إليه الخليفة، فيؤتى به من بلد إلى بلد كان نية الإقامة، والسفر إلى الشخص لا إليه؛ لأنه مقهور من هذا الشخص، فصار كالأسير بيد الكفار وإذا كان العبد بين موليين في السفر، فنوى أحد الموليين الإقامة دون الآخر، فإن كان مقيماً مهايأة في الخدمة، وإذا خدم المولى الذي لم ينو الإقامة يصلي صلاة السفر. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : مسلم أسره العدو وأدخله دار الحرب ينظر إن كان مسيرة العدو ثلاثة أيام، صلى صلاة المسافرين وإن كان دون ذلك صلى صلاة المقيمين، وإن كان لا يعلم بذلك سأل عنهم، فإن سأل عنهم ولم يخبره ... بنى الأمر على ما كان هو في الأصل، وإن كان مسافراً صلى صلاة المسافرين، وإن كان مقيماً صلى صلاة المقيمين لأنه لم يعلم وجود الغير. وكذلك العبد يخرج مع مولاه إلى وضع، فسأله فإن لم يخبره صلى صلاة المقيمين، وإن صلى أربعاً أربعاً ولم يقعد على رأس الركعتين فلما سار أياماً أخبره مولاه أنه كان قصد مسيرة سفر يعيد الصلاة؛ لأنه صار مسافراً من ذلك الوقت، وقيل: لا يعيد الصلوات ولا تظهر نية المولى في مقر العبد، وستأتي هذه المسألة بعد هذا. وعلى هذا لو نوى المولى الإقامة ولم يعلم أن العبد بذلك حتى صلى أياماً ركعتين ثم أخبره المولى كان عليه إعادة تلك الصلوات. وكذلك المرأة إذا أخبرها زوجها بنية الإقامة منذ أيام وقد كانت هي صلت ركعتين لزمها إعادة الصلوات في ظاهر الرواية عن أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله. العبد إذا أم مولاه في السفر، فنوى المولى الإقامة صحت بنية حتى إذا سلم العبد على رأس الركعتين كانت عليهما إعادة تلك الصلاة، وكذلك العبد إذا كان مع المولى في السفر فباعه مقيماً والعبد كان في الصلاة ينقلب فرضه أربعاً حتى إذا سلم على رأس الركعتين كان عليه الإعادة؛ لأنه سلام عمد، وقد صار العبد مقيماً تبعاً للمشتري. إذا أم العبد مولاه، ومعهما جماعة من المسافرين، فلما صلى ركعة نوى المولى الإقامة صحت نيته في حقه، وفي حق عبده، ولا تظهر في حق القوم في قول محمد رحمه الله، فصلى العبد ركعتين ويقدر واحداً من المسافرين ليسلم بالقوم ثم يقوم المولى والعبد، ويتم كل واحد منهما صلاته أربعاً. وهو نظير ما لو صلى مسافر بجماعة مقيمين ومسافرين، فلما صلى ركعة أحدث

الإمام وقدّم مقيماً، فإنه لا ينقلب فرض القوم أربعاً، فكذلك ههنا، ثم بماذا يعلم العبد أن المولى نوى الإقامة، قال بعضهم: يقوم المولى بأن العبد ينصب أصبعه أولاً، ويشير بأصبعه ثم ينصب أربعة أصابع، ويشير بأصابعه الأربع. الأكابر المسافر إذا سلم ونيته، وبين مقصده أقل من ثلاثة أيام كان حكم المقيم، وكذا الصبي إذا كان في السفر مع أبيه ثم بلغ الصبي وبينه وبين وطنه أقل من ثلاثة أيام كان مقيماً، هكذا قاله الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله، وقال غيره من المشايخ إذا بلغ الصبي يصلي أربعاً وإذا أسلم الكافر يصلي ركعتين، وهو اختيار الصدر الشهيد رضي الله عنه؛ لأن نية السفر من الكافر قد صحت، لكونه من أهل النية، فصار مسافراً من ذلك الوقت ونية الصبي لم تصح، لأنه ليس من أهل النية ومن الموضع الذي بلغ فيه إلى المقصد أقل من مسيرة سفر، فلهذا يصلي أربعاً، وقال بعضهم يصليان ركعتين. وفي «متفرقات» الفقيه أبي جعفر: أنهما يصليان أربعاً، فأما المسلم المسافر إذا ارتد والعياذ بالله، ثم أسلم من ساعته وبين وطنه وبينه أقل من ثلاثة أيام يبقى مسافراً، كمسلم تيمم ثم ارتد، والعياذ بكرم الله ثم أسلم لا يبطل تيممه، فكذا لا يبطل سفره والله أعلم. نوع آخرمسائله قريبة من مسائل هذا النوع قال محمد رحمة الله عليه في «السير الكبير» : إذا كان للمسلمين مدينتان بينهما مسيرة يوم واحد وإحداهما أقرب إلى أرض الحرب من الأخرى، فيكتب والي المدينة القريبة إلى والي المدينة البعيدة إن الخليفة، كتب إليّ يأمرني بالغزو إلى أرض الحرب، فأعلم من بذلك، فليقدموا إلي فإني شاخص من مدينتي يوم كذا وكذا، فخرج القوم من المدينة البعيدة يريدون الغزو معه ولا يدرون أين يريد من أرض الحرب، فإن كان بين المدينة القريبة وبين أرض الحرب مسيرة يومين فصاعداً، فإن الذين خرجوا من المدينة البعيدة يقصرون الصلاة حين يخرجون من مدينتهم، وإن كان أقل من مسيرة يومين، فإنهم قصدوا مسيرة ثلاثة أيام وفي الوجه الثاني يقصرون الصلاة؛ لأن في الوجه الأول قصدوا مسيرة أقل من ثلاثة أيام. فإن قيل: هذا اختيار أول أرض الحرب ويجوز أن يجاوز، ويجوز أن لا يجاوز، فيثبت من المدينة القريبة أول أرض الحرب قدر مسيرة يومين أو ثلاثة أيام أو زيادة على ذلك. قلنا: قصد الوالي إلى أرض الحرب ليس معلوم يجوز أن يجاوز، ويجوز أن لا يجاوز فيثبت من أهل المدينة البعيدة قصد مجاوزة أول أرض الحرب على أحد الاعتبارين، فكانوا قاصدين مسيرة السفر من وجه دون وجه، فلا يثبت قصد مسيرة السفر بالشك وبدونه لا يثبت إباحة القصر.

فلو أن الوالي حين كتب إليهم أخبرهم أين يريد من دار الحرب أو أخبرهم كم يريدون من المسير، وكان ذلك مسيرة يومين من المدينة القريبة فإن أهل المدينة البعيدة يقصرون الصلاة كما خرجوا من مدينتهم، لأنهم خرجوا قاصدين مسيرة سفر. فإن قدموا على والي المدينة القريبة، فلم يخرج أياماً فإن أهل المدينة البعيدة يقصرون الصلاة، ما لم يعزموا على الإقامة بالمدينة القريبة خمسة عشر يوماً، فصاعداً، فلو أن أهل المدينة القريبة خرجوا من بلدتهم وعسكروا خارجاً منها ينتظرون خروج الوالي، فقد قصدوا مسيرة ثلاثة أيام (95ب1) ، فمن كان منهم لم يعزم على الرجعة إلى وطنه حتى يخرج الوالي، فإنهم يقصروا الصلاة، وإن أقام في ذلك المكان شهراً، لا يهم بالخروج صاروا مسافرين. والمسافر يقصر الصلاة وإن كثر مقامه في موضع ما لم ينو الإقامة خمسة عشر يوماً في موضع يصلح للإقامة، ومن عزم منهم على الرجعة إلى منزله قبل أن يمضي ليقضي فيه ساعة من نهار ثم يرجع إلى عسكره، فإنه يتم الصلاة ما دام في العسكر، وفي منزله حتى يخرج من المدينة راجعاً إلى العسكر؛ لأنه نوى رفض السفر قبل استحكامه، فكما نوى يصير مقيماً. فلو أن أهل المدينة البعيدة حين خرجوا من مدينتهم قصروا الصلاة، ومن المدينة القريبة إلى المقصد مسيرة يومين فلما انتهوا إلى المدينة القريبة قال لهم الوالي: إن الخليفة كتب إليّ أن لا أغزو أقعد أن يخرح قبل أن يخرجوا من مدينة، فإن الصلاة التي قصروها أي: إن انتهوا إلى المدينة القريبة تامة، وكذلك الصلاة التي بالمدينة القريبة تامة ما لم يسمعوا بهذا الخبر، فإذا سمعوا بهذا الخبر فعليهم أن يتموا الصلاة. واختلفت عبارة المشايخ في تخريج هذه المسألة بعضهم، قالوا: لأن أهل المدينة البعيدة، فيخرجوا من مدينتهم وهم ليسوا تحت ولائه والي المدينة القريبة ... في أيدي أنفسهم، وفي تدبيرهم، فتعتبر نياتهم وقد نووا الخروج مدة السفر فصاروا مسافرين بمجرد الخروج فقد قصروا صلاتهم وهم مسافرون، فصح القصر ما داموا على سفرهم فإذا وصلوا إلى المدينة القريبة، فقد صاروا تحت سفرهم، وتوقف على سماعهم الخبر فإذا سمعوا ظهر الإتمام في حقهم، فيتمون الصلاة بعد سماع الخبر. وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمة الله عليه: أن ما ذكر محمد رحمه الله في هذه المسألة أن الصلاة التي قصروها أهل المدينة البعيدة في الطريق وبعدما انتهوا إلى المدينة القريبة ما لم يسمعوا بهذا الخبر الصحيح فيما إذا كان أهل المدينة البعيدة متطوعين في الغزوتان خيرهم والي المدينة القريبة بين الغزو والسفر وتركه؛ لأنهم إذا كانوا متطوعين في الغزو لم يكونوا تابعين لوالي المدينة القريبة، وقد نووا مسيرة السفر على النيات، فصاروا مسافرين والمسافر يقصر الصلاة ما لم يعزم على ترك السفر، فجاز

قصرهم، وما ذكر أنهم إذا سمعوا هذا الخبر يتمون الصلاة فهذا الجواب لا يصح في حقهم، إلا إذا كان تأويله أنهم عزموا على ترك السفر حين سمعوا هذا الخبر لما ذكرنا أن العبرة لنياتهم متى كانوا متطوعين في الغزو لا لنية الوالي. فأما إذا كانوا مجبورين على السفر، فما ذكر في الجواب قبل سماع الخبر أن الصلاة التي قصروها تامة لا يصح في حقهم؛ لأنهم لو كانوا مجبورين على السفر كانوا تابعين للوالي والعبرة بحال الأصل، لا بحال التبع، فإذا لم يصر الأصل مسافراً كيف يصير التبع مسافراً. وصار كالعبد والمرأة إذا أرادا السفر مع المولى والزوج ثم بدا للزوج والمولى، وقد قصر العبد والمرأة، فإنه لا تجزئهما صلاتهما لأنهما تابعين والعبرة لحال الأصل كذا ههنا، وما ذكر أنهم إذا سمعوا الخبر يتمون الصلاة صحيح في حقهم؛ لأن العبرة في حقهم بحال الوالي ولم يصر الوالي مسافراً، وإن سمع هذا الخبر بعضهم ولم يسمع البعض، فعلى من سمع أن يتم صلاته، ومن لم يسمع يقصر الصلاة، لأن ما بني على السماع لا يثبت حكمه في حق المخاطب قبل السماع. قال: ولو أن والي المدينة القريبة كتب إلى أهل المدينة البعيدة من أراد منكم الغزو، فليوافني عند أول دار الحرب في موضع كذا وكذا في دار الحرب، ولم يخبرهم أين يريد وذلك المكان مسيرة يومين من المدينة البعيدة، فخرج أهل المدينة البعيدة من مدينتهم إلى المكان الذي أمرهم الوالي بالموافاة فيه أقل من مدة سفر والوالي لما لم يخبرهم أين يريد، ويحتمل أن لا يجاوز ذلك المكان بل يجعله مسلمة وثغراً لم يثبت قصدهم مسيرة السفر بالشك.p ولهذا قال: يتمون الصلاة، قال قاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمة الله عليه: وهذه مسألة تصير رواية في مسألة، لا ذكر لها في «المبسوط» أن العبد إذا كان ينقله المولى من بلده ولا يعلم العبد أن المولى أين يريد ولا يخبره المولى بذلك أنه يكون على نية نفسه لا على نية مولاه حتى لو خرج من المولى، ونوى السفر على ظن أن مولاه على نية السفر يقصر الصلاة، ولم يكن من نية المولى السفر فإن صلاته جائزة. وكذا الزوج مع الزوجة وعلى قياس ما ذكر شيخ الإسلام، قيل: هذا في العبد والزوجة، ينبغي أن لا تجوز الصلاة للعبد والمرأة في هذه الصورة؛ لأنهما تابعان والعبرة بحال الأصل، وعلى ما ذكر شيخ الإسلام قبل هذا لا تصير هذه المسألة رواية في مسألة العبد؛ لأن أهل المدينة البعيدة في هذه الصورة، متطوعين في الغزو؛ لأن الوالي ما أمرهم بذلك بل فوض إليهم حيث كتب من أراد منكم الغزو، وإذا كانوا متطوعين لا يكونون تبعاً للوالي، فتكون العبرة لنيتهم بخلاف العبد والمرأة؛ لأنهما تبع للزوج والمولى، فكانت العبرة لنية الزوج والمولى؛ فإن انتهوا إلى ذلك المكان، فأخبرهم الوالي أنه يريد مسيرة شهر في دار الحرب، فإنهم يتمون الصلاة في ذلك المكان ما لم يرتحلوا؛ لأنهم نزلوا مقيمين في هذا المكان ومن كان مقيماً في مكان لا يصير مسافراً بمجرد النية ما لم يخرج، فإن قصروا صلاة من صلاتهم في ذلك المكان أعادوها، فإن لم

يعيدوها حتى مضى الوقت وهم في ذلك المكان بعد أعادوها قضاء، وهذا ظاهر؛ لأنهم يقصرون صلاة فاتتهم في حالة الإقامة وهم مقيمون وقت القضاء. وإن ارتحلوا عن ذلك المكان قبل أن يعيدوها يريدون السفر ثم أرادوا إعادتها، وهم في وقت الصلاة بعد أعادوها ركعتين؛ لأن المؤداة وقعت فاسدة، فكأنهم لم يصلوها حتى ارتحلوا عن مكانهم فأرادوا أن يصلوها وهم في وقت الصلاة بعد صلوا ركعتين؛ لأن العبرة لآخر الوقت وهم مسافرون في آخر الوقت، وإن أرادوا إعادتها بعد خروج الوقت أعادوها أربعاً؛ لأنهم يقضون صلاة فائتة في حالة الإقامة. قال: ومن دخل دار الحرب بأمان وهو كأنه في دار السلام، إن نوى بموضع منها (96أ1) أن يقيم خمسة عشر يوماً أتم الصلاة؛ لأن أهل الحرب لا يتعرضون له متى دخل بأمان، فصار دار الحرب بعد الأمان، ودار الإسلام سواء، ومن أسلم منهم في دار الحرب، فلم يأسروه بل تركوه على حاله، أو لم يعلموا بإسلامه فهو في صلاته بمنزلة المسلم في دار الإسلام يتم صلاته إذا كان في منزله، فإن خرج من منزله قاصداً مسيرة السفر قصر الصلاة. نوع آخر في بيان ما يصير المسافر به مقيماً بدون نية الإقامة المسافر إذا خرج من مصره مسافراً ثم بدا له أن يعود إلى مصره لحاجة وذلك قبل أن يسير مسيرة ثلاثة أيام صلى صلاة المقيمين في مكانه ذلك، وفي انصرافه إلى المصر؛ لأنه فسخ عزيمة السفر بعزم الرجوع إلى وطنه قبل استحكام السفر وتأكده، فانفسخ من ساعته وبينه وبين المقصد أقل من ثلاثة أيام، فيصلي صلاة المقيمين في انصرافه بهذا، ولو كان قد سار مسيرة ثلاثة أيام ثم بدا له أن يعود إلى مصره صلى صلاة المسافرين؛ لأن حكم السفر قد تأتى، وتأكد باستكمال مدته فيبقى حكمه إلى أن ينعدم بالإقامة. وكذلك لو خرج من مصره مسافراً ثم أحدث وانصرف ليأتي مصره، ويتوضأ وكان ذلك قبل أن يسير ثلاثة أيام ثم علم أن معه ماء، فإنه يتوضأ ويصلي صلاة المقيمين، وكذلك لو انصرف وذهب مكاناً، فوجد الماء خارج المصر يتوضأ، فإنه يصلي صلاة المقيمين لأنه فسخ عزيمة السفر قبل استحكامه على ما مر. وكذلك إذا دخل وطنه الأصلي أو مصراً صار وطناً له بأن كان اتخذ فيه أهلاً صار مقيماً، وإن لم ينو مصر غيره لا في مصر نفسه؛ لأن مكثه ومقامه في مصر غيره متردد بين أن يكون لإمكان السير وبين أن يكون للمقام فيه، فإن كان لإمكان السير فهو من السفر وإن كان لإمكان المقام فيه، فهو من الأهلية، فاحتيج إلى النية لتعيين المكث، للإقامة لا لإمكان السير أما مكثه في مصره يتعين للإقامة؛ لأن قبل السير كان يمكث للإقامة وعنه هذا المقام يحتاج إلى بيان الأوطان. فنقول عبارة عامة المشايخ في ذلك: أن الأوطان ثلاثة وطن أصلي وهو مولد

الرجل، والبلد الذي تأهل به ووطن سفر وسمي وطن حادث، وهو البلد الذي ينوي المسافر الإقامة فيه خمسة عشر يوماً أو أكثر، ووطن سكنى وهو البلد الذي ينوي المسافر الإقامة فيه أقل من خمسة عشر يوماً. ومن حكم الوطن الأصلي أن ينتقض بالوطن الأصلي، لأنه مثله والشيء ينتقض بما هو مثله حتى لو انتقل من البلد الذي تأهل به بأهله وعياله وتوطن ببلدة أخرى بأهله وعياله لا تبقى البلدة المنتقل عنها وطناً له. ألا ترى أن مكة كانت وطناً أصلياً لرسول الله عليه السلام ثم لما هاجر منها إلى المدينة بأهله وعياله وتوطن ثم انتقض وطنه بمكة حتى قال عام حجة الوداع: «أتموا صلاتكم يا أهل مكة، فإنا قوم سفر» . ولا ينتقض هذا الوطن بوطن السفر ولا بوطن السكنى؛ لأن كل واحد منهما دونه، والشيء لا ينتقض بما هو دونه، وكذا لا ينتقض بإنشاء السفر، ألا ترى أن رسول الله عليه السلام خرح من المدينة إلى الغزوات مراراً، ولم ينتقض وطنه بالمدينة حتى ما يجدد نية الإقامة بعد رجوعه، وإن كان له أهل ببلدة فاستحدث ببلدة أخرى أهلاً فكل واحد منهما وطن أصلي، وروي أنه كان لعثمان أهل بمكة وأهل بالمدينة، وكان يتم الصلاة بهما جميعاً. ومن حكم وطن السفر أنه ينتقض بالوطن الأصلي لأنه فوقه وينتقض بوطن السفر لأنه مثله وينتقض بإنشاء السفر لأنه ضده ولا ينتقض بالوطن السكنى؛ لأنه دونه. ومن حكم وطن السكنى أنه ينتقض بكل شيء بالوطن الأصلي، وبوطن السفر وبوطن السكنى وبإنشاء السفر. وعبارة المحققين من مشايخنا رحمهم الله: أن الوطن وطنان وطن أصلي ووطن سفر ولم يعتبروا وطن السكنى وطناً وهو الصحيح، وهذا لأن المكان إنما يصير وطناً بالإقامة فيه، ولم يثبت حكم الإقامة في الوطن للسفر بل حكم السفر فيه باقٍ لما ذكرنا أن أقل مدة الإقامة خمسة عشر يوماً، وإذا لم يثبت فيه حكم الإقامة لم يعتبر هو وطناً أصلاً فكيف يترتب عليه حكم الانتقاض؟ بيان هذا الأصل من المسائل. خراساني قدم بغداد، وعزم على الإقامة بها خمسة عشر يوماً ومكي قدم كوفة وعزم على الإقامة بها خمسة عشر يوماً ثم خرج كل واحد منهما من وطنه يريد قصر ابن هبيرة؛ لأنهما كانا متوطنين أحدهما ببغداد والآخر بكوفة ولم يقصدا مسيرة مدة السفر؛ لأن من بغداد إلى الكوفة مسيرة أربع ليال والقصر هو المنتصف، فكان كل واحد منهما قاصداً مسيرة ليلتين، وبهذا لا يصيرا مسافرين، فإن عزما على الإقامة بالقصر خمسة عشر يوماً صار القصر وطن سفر لهما، وانتقض وطن الكوفي بكوفة ووطن الخراساني ببغداد بوطن مثله، فإن خرجا بعد ذلك يريدان الكوفة صليا أربعاً في الطريق، وبالكوفة؛ لأنهما قصدا

مسيرة ليلتين من وطنهما، فلا يكونان مسافرين، فإن دخلا الكوفة وعزما على الإقامة أقل من خمسة عشر يوماً ثم خرجا من الكوفة يريدان بغداد ويمران بالقصر صلى كل واحد منهما أربعاً إلى القصر، وبالقصر ومن القصر إلى بغداد لأن القصر صار وطن سفر لهما، ولم يوجد ما ينقضه من الوطن الأصلي ووطن السفر، وإنشاء السفر، إنما وجد وطن السكنى ووطن السكنى لا ينقض وطن السفر، فيبقى القصر وطن سفر لهما، فهما رجلان خرجا من الكوفة يريدان بغداد والقصر وطنهما، فما لم يجاوزا القصر لا يصيرا مسافرين وبعد المجاوزة لم يبق أي القصد مسيرة سفر، فلهذا يصليان أربعاً. وعبارة المحققين في هذه المسألة: أن القصر صار وطن سفر لهما، ولم يوجد ما ينقضه من الوطن الأصلي، ووطن السفر، وإنشاء السفر، فيبقى القصر وطناً لهما والتقريب ما مر، ولو لم ينويا المرور على القصر يقصران كما خرجا من الكوفة، ولأنهما نويا مسيرة سفر وقد خرجا مسافرين، لعدم ما يمنع تحقق السفر، فلو كانا حين قدما القصر في الابتداء عزما على الإقامة بالقصر أقل من خمسة عشر يوماً، ثم ذهبا إلى الكوفة ليقيما بها ليلة يصليان أربعاً إلى الكوفة. فلو خرجا من الكوفة يريدان بغداد يصليان ركعتين؛ لأن القصر صار وطن سكنى لهما، وقد انتقض ذلك بوطن سكنى مثله بالكوفة، فهما رجلان خرجا من الكوفة يريدان بغداد، وليس لهما فيما بين ذلك وطن ومن الكوفة إلى بغداد مسيرة مدة السفر، فصارا مسافرين حين خرجا، فلهذا يصليان ركعتين. وعبارة المحققين في هذه المسألة: أنهما لما خرجا من الكوفة يريدان بغداد قصدا قصد السفر، وليس في خلال ذلك لهما وطن؛ لأن القصر لم يصر وطناً أصلاً، فيصليان ركعتين إلى بغداد بهذا، وكذلك ببغداد، أما المكي؛ فلأنه ماضٍ على سفره، وأما الخراساني؛ فلأن بغداد كانت وطن سفر له وقد انتقض ذلك بإنشاء السفر، لأنه حين نوى من الكوفة أن يقدم بغداد فقد نوى السفر وقد انتقض وطنه الذي كان ببغداد. ولو كان كل واحد منهما في الابتداء حين خرج من وطنه لم ينوِ القصر إنما نوى وطن صاحبه ليلقى به صاحبه الخراساني نوى الكوفة، والمكي نوى بغداد، فالتقيا بالقصر يصليان ركعتين؛ لأن كل واحد منهما قصد مسيرة مدة السفر، فلو ذهبا إلى الكوفة يصليان في الطريق ركعتين، وكذلك بالكوفة، أما الخراساني؛ فلأنه ماضٍ على سفره، وأما المكي، فلأن الكوفة كانت وطن سفر له، وقد انتقض ذلك بإنشاء السفر وعاد مسافراً بسفره الأصلي، فلو خرجا من الكوفة يريدان بغداد يصليان ركعتين في الطريق وببغداد، أما المكي، فلأنه ماضي على سفره، وأما الخراساني فلأن بغداد كانت وطن سفر له، وقد انتقض ذلك بإنشاء السفر، فعاد مسافراً بسفره الأصلي ثم تقدم السفر ليس بشرط ليثبت الوطن الأصلي بالإجماع، وهل يشترط لثبوت وطن السفر؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في «الأصل» . وذكر أبو الحسن الكرخي رحمه الله في «جامعه» : أن عن محمد (96ب1)

رحمه الله فيه روايتان: في رواية يشترط وفي رواية لا يشترط، مثاله بخاري ذهب من بخارى إلى...... ونوى ... الإقامة بها خمسة عشر يوماً ثم خرج ... من يريد ... فلما دخل ... بدا له أن يرجع إلى بخارى، فعلى الرواية التي يشترط تقدم السفر، لثبوت وطن السفر يصلي ركعتين في الطريق إلى بخارى؛ إذ ليس من بخارى إلى ... مسيرة سفر، فلم تصر وطناً له، فهذا رجل خرج من ... يريد بخارى وليس به فيما بين ذلك وطن ومن..... إلى بخارى مسيرة سفر على أصح الأقاويل، فيصلي ركعتين لهذا. وعلى الرواية التي ما تشترط تقدم السفر يصلي أربعاً في الطريق؛ لأن..... صار وطناً له ولم يوجد ما ينقضه، فما لم يجاوز لا يصير مسافراً ومن...... إلى بخارى أقل من مدة السفر، فلهذا كان يصلي أربعاً. وإذا دخل المسافر في صلاة المقيم يلزمه الإتمام سواء في أولها أو في آخرها، لأنه بالاقتداء صار تبعاً للإمام، فأخذت صلاته حكم صلاة الإمام باعتبار التبعية، فإن أفسد الإمام على نفسه كان على المسافر أن يصلي ركعتين، وقال الشافعي رحمه الله: يصلي أربعاً؛ لأن فرضه انقلب أربعاً بالاقتداء، فلا يتغير بعد ذلك. ولنا أن فرض المسافر ركعتان على ما مر، وإنما لزمه الأربع بحكم المتابعة، فإذا انقطعت ظهر حكم الأصل والله أعلم. ولو اقتدى المسافر بمسافر فأحدث الإمام فاستخلف مقيماً لم يلزم المسافر الإتمام؛ لأن الثاني إنما انتصب إماماً خلفاً عن الأول، فيلزم المسافر المقتدي من المتابعة بقدر ما التزم مع الأول ولو لم يحدث الأول ولكن نوى الإقامة أتم هو والقوم جميعاً. والفرق بينهما: وهو أن المقتدي باقتداء الإمام التزم متابعة الإمام فصار تبعاً له وقد تغير فرض الأصل في المسألة الثانية، فتغير فرض المقتدي ضرورة أما في المسألة الأولى: لم يتغير فرض الإمام الأول، والثاني صار إماماً بحكم الخلافة عن الأول لا أصلاً بنفسه، فيعتبر في حق المقتدي فرض الإمام الأول لا فرض الثاني الذي هو خلف عن الأول. ومما يتصل بهذا الفصل قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : مقيم صلى ركعة من العصر، فغربت الشمس فجاء مسافر واقتدى به في هذه الحالة لا يصح اقتداؤه، ولو أن مسافراً صلى ركعتي العصر فغربت الشمس وجاء مقيم واقتدى به في هذه الحالة صح اقتداؤه، وصار داخلاً في صلاته. والجملة في ذلك: أن اقتداء المسافر بالمقيم جائز في الوقت وخارج الوقت إذا

اتفق الفرضان، واقتداء المسافر بالمقيم يجوز في الوقت، فلا يجوز خارج الوقت أما اقتداء المقيم بالمسافر جائز في الوقت، وخارج الوقت، لما روي: أن النبي عليه السلام جمع بين الظهر والعصر بعرفات، وصلى ركعتين ركعتين، فلما فرغ من صلاته قال: «يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر» . والمعنى منه: أنه ليس في اقتداء المقيم بالمسافر الاقتداء المتنفل بالمفترض في حق القعدة من ذوات الأربع، فإن القعدة على رأس الركعتين نفل في حق المقيم فرض في حق المسافر، إلا أن اقتداء المتنفل بالمفترض جائز في جميع أفعال الصلاة، فلأن يجوز في فعل منها كان أولى، وفي حق هذا المعنى الوقت وخارج الوقت سواء. وأما اقتداء المسافر بالمقيم يجوز في الوقت، ولا يجوز خارج الوقت؛ لأن اقتداء المسافر بالمقيم يقتضي تغير الفرض في حق المسافر، إما شرطاً لصحة الاقتداء؛ لأن الاقتداء بالإمام في بعض صلاته لا يجوز، أو لصيرورته مقيماً في حق هذه الصلاة لكونه تبعاً للإمام داخلاً في ولايته وإقامة الأصل توجب إقامة التبع، وإذا ثبت أن اقتداء المسافر بالمقيم يقتضي تغير الفرض في حق المسافر. بعد هذا اختلفت عبارات المشايخ رحمهم الله بعضهم قالوا: إنما يصح الاقتداء في موضع كان الفرض قابلاً للتغيير، وفي الوقت الفرض للتغير حتى يتغير بنية الإقامة، فيتغير أيضاً بالاقتداء، وإذا كان فرض المسافر يتغير بالاقتداء بالمقيم في الوقت يمكن القول بصحة اقتدائه بالمقيم، فيصح الاقتداء، أما بعد خروج الوقت الفرض غير قابل للتغير، ولهذا لا يتغير بنية الإقامة، مع أنها أبلغ في التغير، فلأن لا يتغير بالاقتداء كان أولى. وإذا كان فرض المسافر لا يتغير باقتداء المقيم خارج الوقت لا يمكن القول بصحة اقتدائه بالمقيم؛ لأنه يؤدي إلى اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعدة إن كان الاقتداء في الشفع الأول كما هو موضوع المسألة في «الكتاب» ، وفي حق القراءة إن كان الاقتداء في الشفع الثاني؛ لأن القراءة في الشفع الثاني نفل في حق المقيم وقد ذكرنا أن اقتداء المفترض بالمتنفل لا يجوز. وبعضهم قالوا: إن سبب وجوب الصلاة جزء قائم في الوقت لا ما مضى من الأجزاء على ما عرف في موضعه، فإذا وجد المغير وهو الاقتداء بالمقيم في الوقت عمل عمله للسبب، وجعل الجزء القائم من الوقت سبباً لوجوب الأربع بعدما كان سبباً لوجوب ركعتين، وإذا عمل في السبب عمل في الحكم لكون الحكم تابعاً للسبب، فيصير في فرضه أربعاً، فيمكن القول بصحة الاقتداء، وأما بعد خروج الوقت المغير لم يعمل في السبب، فلا يعمل في الحكم، فيبقى فرضه ركعتين، فلا يمكن القول بصحة الاقتداء؛ لأنه يؤدي إلى اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعدة أو في حق القراءة على نحو ما بينا. فإن قيل: ما ذكرتم من المعنى يشكل بما لو نسي المقيم القراءة في الشفع الأول، فاقتدى المسافر به في الشفع الثاني، وكان ذلك خارج الوقت، فإنه لا يصح اقتداؤه، وهذا اقتداء المفترض بالمفترض في حق القراءة؛ لأن القراءة فرض عليهما في هذه الحالة.

قلنا: ليس اقتداء المفترض بالمفترض في حق القراءة؛ لأن الشفع الأول يبقى محلاً للقراءة على سبيل الوجوب، والقراءة في الشفع الثاني قضاءً بمحلها، وصار كأنها وجدت في الشفع الأول، فكان هذا اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القراءة أيضاً، ثم إذا اقتدى المقيم بالمسافر وسلم المسافر يقوم المقيم، ويتم صلاته كما فعل أهل مكة، وهل يقرأ المقيم في ما بين الركعتين؟ فيه اختلاف المشايخ، والأصح أنه لا يقرأ، وإليه مال الكرخي رحمه الله، لأنه لاحق أدرك أول الصلاة وقد تم فرض القراءة. ومنهم من قال: يقرأ؛ لأنه في ما بين الركعتين ينفرد، ولهذا يلزمه سجود السهو لو سهى فيه، فأشبه المسبوق والمسبوق يقرأ، ولو ترك المسافر القراءة في الركعتين، ثم نوى الإقامة في هذه الصلاة تصح صلاته ويقرأ في الأخرتين استحساناً عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد فسدت صلاته؛ لأن الظهر في حق المسافر كالفجر في حق المقيم، والمقيم لو ترك القراءة في الفجر فسدت صلاته فكذلك ههنا. وهما يقولان: فرض الظهر يحتمل التغيير في حق المسافر بنية الإقامة، فإذا نوى الإقامة صار فرضه أربعاً، وفي ذوات الأربع لا تفرض القراءة في الكل، بل في ركعتين، فمتى أتى بالقراءة في الأخريين فقد أدى ما عليه. نوع آخر في هذا الفصل في المتفرقات وإذ سافر أول الوقت أوآخره قصر إذا بقي منه مقدار التحريمة، وهذا مذهبنا؛ لأن الوجوب يتعلق بآخر الوقت عندنا؛ لأنه في أول الوقت، مخير بين الأداء والتأخير، وإنه يبقى الوجوب، ولهذا لو فات في أول الوقت لقي الله تعالى، ولا شيء عليه فدل أن الوجوب يتعلق بآخر الوقت وإذا كان هو مسافر في آخر الوقت كان عليه صلاة السفر، وعلى هذا الأصل مسائل أحدها هذه المسألة. والثانية: إذا أسلم الكافر وقد بقي الوقت مقدار ما يسع فيه التحريمة، فإنه تلزمه الصلاة عندنا. والثالثة: الصبي إذا بلغ في آخر الوقت. والرابعة: الحائض إذا طهرت في هذا الوقت. والخامسة: الطاهرة إذا حاضت في هذا الوقت، وإذا كان مسافراً في أول الوقت، وصلى صلاة السفر ثم أقام في الوقت لا يتغير فرضه، وإن لم يصلِ حتى أقام في آخر الوقت ينقلب فرضه أربعاً، وإن لم يبق من الوقت إلا قدر ما يسع بعض الصلاة. وإذا أسلم الكافر في سفره وبينه وبين المقصد أقل من ثلاثة أيام أو إذا أدرك الصبي (97أ1) في سفره وبينه وبين المقصد أقل من ثلاثة أيام، فقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: الذي أسلم يصلي ركعتين فالذي بلغ يصلي أربعاً وقال بعضهم: يصليان ركعتين. وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» : فإنهما يصليان أربعاً؛ لأنهما لم يكونا مخاطبين؛

فلا يقصران الصلاة، وأما الحائض إذا طهرت في بعض الطريق قصرت الصلاة؛ لأنها مخاطبة. وفي «الحاوي» : سئل عن صبي خرج من نوركارايريد بخارى، فلما بلغ كرمة بلغ، قال: يصلي ركعتين إلى بخارى، وكذلك الكافر إذا أسلم فأما الحائض إذا طهرت من حيضها تصلي أربعاً إلى بخارى. مسافر صلى الظهر ركعتين وسهى، وسلم ثم نوى الإقامة، قال: صلاته تامة وليس عليه سجود السهو ونيته هذه قطعت الصلاة، ألا ترى أنه لو قهقه في هذه الحالة لم يكن عليه وضوء؟ ولو كان في الصلاة لكان عليه الوضوء، ذكر المسألة في رواية أبي حفص مطلقاً من غير ذكر خلاف، وذكر في رواية أبي سليمان خلافاً، فقال لا تصح نيته عند أبي حنيفة، وأبي يوسف ويكون فرضه ركعتين كما كان في الابتداء. وعند محمد رحمه الله تصح نيته ويصير فرضه أربعاً، وهذا على أصل محمد رحمه الله مستقيم، فإن سلام من عليه السهو لا يخرجه من الصلاة عند محمد وإذا لم يخرجه من الصلاة بقي في حرمة الصلاة، فنية الإقامة ناهية حرمة الصلاة فتصح نيته ويتغير فرضه أربعاً، وأما على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمه الله أن سلام من عليه السهو يخرجه من الصلاة خروجاً موقوفاً، إن عاد إلى سجود السهو تعود حرمة الصلاة، وإلا فلا على ما ذكرنا، فينبغي أن تكون نيته موقوفة إن عاد إلى سجود السهو صحت نيته، فإن لم يعد لا، ومع هذا لا تصح نيته؛ لأن في اعتبار هذه النية إبطالها وكل نية يكون في اعتبارها إبطالها تكون باطلاً. وبيان هذا أنا لو صححنا هذه النية إنما صححنا بالعود إلى سجود السهو فإذا عاد إلى سجود السهو لا يقع معيداً بهما؛ لأنهما يقعان في وسط الصلاة، فكيف تصح هذه النية بسجدة لا تقع معيدة بها حالاتها كما صحت لغت، وإن سجد لسهوه سجدة أو سجدتين ثم نوى الإقامة، فعليه أن يكمل أربع ركعات ويسجد في آخرها سجدتي السهو بالاتفاق؛ لأنه لما سجد للسهو عاد إلى حرمة الصلاة، فصار كما لو حصلت النية قبل السلام، ولو حصلت النية قبل السلام صحت نيته، وصار فرضه أربعاً كذلك ههنا، والدليل عليه أنه لو قهقه كان عليه الوضوء ولو اقتدى به رجل كان داخلاً في صلاته.u مسافر أم قوماً مسافرين ومقيمين، فصلى بهم ركعة وسجدة وترك سجدة ثم أحدث فقدم رجلاً دخل معه في الصلاة ... وهو مسافر، قال: لا ينبغي لذلك الرجل أن يتقدم؛ لأن غيره أقدر على إتمام صلاة الإمام، وينبغي للإمام أن يقدم من قد أدرك أول الصلاة لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال «من استعمل غيره عملاً، وفيهم من هو أحق منه فقد خان الله ورسوله، وخان جميع المؤمنين» ، فإن تقدم هذا المسافر جاز؛

لأنه شريك الإمام كما ذكرنا وينبغي لهذا الرجل أن يسجد تلك السجدة؛ لأنه خليفة للأول، قائم مقامه، ولو كان الأول قائماً يأتي بهذه السجدة ثم يشتغل بباقي الصلاة. وكذلك الخليفة فلو أن الخليفة لم يأت بهذه السجدة ولكن قام وصلى بهم ركعة وسجدة وترك سجدة ثم أحدث فقدم رجلاً ثانياً عنه فإنه لا ينبغي له أن يتقدم، ولا للإمام الثاني أن يقدم لما ذكرنا، وإن تقدم جاز لما ذكرنا فيبدأ بالسجدة التي تركها الإمام الأول ثم بالسجدة التي تركها الإمام الثاني؛ لأن الثالث قائم مقام الثاني والثاني يأتي بالأول، فكذلك الثالث، فإن لم يسجدهما حين ذهب الإمام الأول والثاني فتوضأ أو رجعا، قال: يسجد الثالث للأولى لأنه خليفة الإمامين، ويسجدها معه الإمام الأول والقوم؛ لأنهم قد صلوا تلك الركعة وإنما بقي عليهم تلك السجدة، ولا يسجدها الإمام الثاني في ظاهر الرواية. وفي «نوادر ابن أبي سليمان» : قال: يسجدها معهم، وجه رواية أبي سليمان وهو أن الإمام الثاني كالمقتدي، فالثالث يتابعه فيما يأتي به، وإن لم يكن محسوباً من صلاته كمن أدرك الإمام في السجود. وجه ظاهر الرواية: وهو أن الإمام الثاني مسبوق في تلك الركعة فعليه إعادتها، فلا يبدأ بالسجدة منها؛ لأن تلك السجدة غير معتد بها ثم يسجد السجدة الأخرى ويسجدها معه الإمام الثاني والقوم؛ لأنهم صلوا هذه الركعة وإنما بقي عليهم سجدة ولا يسجد الإمام الأول هذه السجدة، إلا أن يكون صلى تلك الركعة وانتهى إلى هذه السجدة، فحينئذٍ يسجدها؛ لأنه لاحق، فيبدأ بالأول فالأول. ولهذا قلنا: يصلي الإمام الأول الركعة الثانية بغير قراءة ثم يتشهد الإمام الثالث ويتأخر ويقدم رجلاً غيره أدرك أول الصلاة من المسافرين، فيسلم بهم لأنه عاجز عن السلام بنفسه، فيستعين بمن يقدر عليه ثم يسجد هو للسهو، ويسجدون معه ولا إشكال فيه؛ لأنه لو وقع فيها سهو واحد لأمر يجبره، فكيف إذا تكرر السهو؟ ولا يسجد الإمام الأول للسهو، لأنه مدرك أول الصلاة، والمدرك يأتي بسجدتي السهو بعد فراغه من الصلاة ثم يقوم الإمام الثاني، فيقضي الركعة التي سبق بها بقراءة ثم يقوم الإمام الثالث ويصلي الركعتين اللتين سبق بهما، ويقرأ فيهما بفاتحة الكتاب ثم يقوم الإمام الأول فيقضي الركعة الفائتة بغير قراءة؛ لأنه لاحق لأول الصلاة ويكمل المقيمون صلاتهم وحداناً بغير قراءة. مسافر أم مسافرين يصلي بهم ركعة ثم نوى الإقامة، قال: عليه أن يكمل بهم الصلاة إن نيته استندت إلى أول الصلاة وقد التزموا متابعته، فعليهم ما على الإمام من إتمام الصلاة، فإن أحدث الإمام بعد ما نوى الإقامة، فقدم رجلاً، قال: يتم بهم الصلاة أربع ركعات؛ لأن الثاني قائم مقام الأول. ولو كان الأول قائماً يصلي أربع ركعات، فكذلك الثاني، فصار بهذا كمسافر اقتدى بالمقيم في الوقت، فإنه تصير صلاته أربع ركعات، فكذلك ههنا، فإن كان الإمام الأول

لم ينوِ الإقامة، ولكن الإمام الثاني ينوي الإقامة لا يتغير فرضهم؛ لأنهم ما التزموا متابعته، وإنما لزمهم ذلك ضرورة إصلاح صلاتهم، ففيما سوى ذلك، فليس عليهم متابعته. ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: في الرجل مسافر صلى بقوم مسافرين ومقيمين ركعتين فلما قعد فيها التشهد قام بعض المسافرين وانصرف إلى منزله وقام بعض المقيمين وأكمل صلاته، وانصرف وقد كان بعض المسافرين مسبوقاً بركعة قام وقضاها، وفرغ منها وانصرف، وقد كان كل ذلك بعد سلام الإمام ثم إن الإمام نوى الإقامة، فصلاتهم تامة. فإن كان بعض المقيمين قام ليتم صلاته حين نوى الإمام الإقامة، قال: إن كان سجد لركعة سجدة مضى في صلاته، ولم يتابع الإمام، وإن رجع إلى صلاة الإمام فسدت صلاته؛ لأنه لما قيد ركعته بالسجدة، فقد استحكم انفراده؛ لأن الركعة التامة لا تقبل الارتفاع والاقتداء في موضع الانفراد يوجب الفساد، وإن لم يقيد ركعته بالسجدة عاد إلى متابعة الإمام، وإذا لم يعد فسدت صلاته؛ لأن انفراده لم يستحكم، فصار وجوده وعدمه بمنزلة ولو لم يقم الإتمام صلاته حتى نوى الإمام الإقامة لزمته متابعته كذا ها هنا. ابن سماعة عن محمد رحمه الله: مسافر تشهد بعد ما صلى ركعتين من الظهر، ثم قام يريد أن يصلي ركعتين تمام أربع ركعات ونوى بها التطوع، فقرأ وركع ثم بدت له الإقامة، قال: ينبغي أن يجلس، فيعود إلى الحالة التي كان عليها قبل أن يقوم للتطوع؛ لأن التحريمة الأولى باقية، وقد ... قابلة للتغير بوجود المغير وقد وجد المغير فتغيرت، فيعود إلى الحالة التي كان عليها قبل أن يقوم للتطوع ليؤدي على الوجه الذي لزمه في إتمامها ثم يقوم، فإن شاء قرأ وإن شاء لم يقرأ لأنه قرأ في الأوليين ثم يركع؛ لأنه لما عاد إلى القعود ارتفض ركوعه؛ لأن ما دون الركعة قابل للرفض. ذكر الحاكم: رجل صلى بقوم الظهر الركعتين في مدينة ولا يدرون مسافر هو أو مقيم فصلاتهم فاسدة، فإن سألوه فأخبرهم أنه مسافر، فصلاتهم تامة. ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: مسافر صلى بمسافر الظهر ركعتين وسلم الإمام وعليه (97ب1) سجدتي السهو، فنوى الذي خلفه الإقامة، قال: إن سجد الإمام للسهو تمم هذه الصلاة، وإن لم يسجد لم يكن على هذا أن يتم الصلاة، قال الحاكم أبو الفضل: هذا الجواب غير موافق للمشهور عن محمد في نظائره. المسافر إذا أحدث، واستخلف مقيماً كان خلفه، وجب على المقيم القعدة على رأس الركعتين، حتى لو تركها تفسد صلاته. قال في «الأصل» : مسافر صلى بمسافر فأحدث الإمام وخرج من المسجد، ونوى الثاني أن يصلي لنفسه جاز وصار خليفة الأول، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قوله في «الكتاب» : ونوى أن يصلي لنفسه زيادة كلام لا حاجة إليه، لأنه يصير إمام نفسه،

وإن لم ينوِ وقد مر هذا فيما تقدم فلو جاء رجل واقتدى بالثاني جاز؛ لأن الثاني إمام إمام الأول، فإن أحدث الثاني فخرج من المسجد تحولت الإمامة إلى الثالث لأن الثالث مع الثاني كالثاني مع الأول. فإن أحدث الثالث فخرج من المسجد قبل أن يرجع الأولان، فصلاة الثالث تامة؛ لأنه منفرد في حق نفسه وصلاة الأوليين فاسدة؛ لأنه لم يبق لهما إمام في المسجد فإن لم يخرج هذا الثالث حتى رجع الأولان ثم خرج قبل أن يتقدم واحد منهما، فصلاته تامة وصلاة الأوليين فاسدة لأن أحدهما لم يتعين للإمامة بعد فبقيا بلا إمام، هذا هو جواب «الأصل» . قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وأورد في «بعض النوادر» أن صلاة الثالث فاسدة أيضاً لأن عليه أن يقدم أحدهما قبل أن يخرج من المسجد، فإذا لم يقدم حتى خرج من المسجد فقد ترك فرضاً من فرائض الصلاة فتفسد صلاته. قال رحمه الله: والصحيح هو الأول قال في «الأصل» أيضاً: مسافر صلى الظهر ركعتين بغير قراءة ثم نوى الإقامة، قال: عليه أن يصلي ركعتين بقراءة والمسافر، والمقيم فيه سواء عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد وزفر رحمهما الله: صلاته فاسدة، وهذا بناءً على الأصل الذي تقدم ذكره إن للصلاة جهة واحدة عند محمد رحمه الله فإذا فسدت بترك القراءة خرج من حرمة الصلاة، فلا تصح نية الإقامة في هذه الصلاة، وعندهما للصلاة جهتان فتبطلان جهة الفرضية بترك القراءة يبقى أصل الصلاة، فتصح نية الإقامة. حجة محمد رحمه الله في هذه المسألة، وهو أن ظهر المسافر كفجر المقيم ثم الفجر في حق المقيم يفسد بترك القراءة فيهما، أو في أحدهما على وجه لا يمكنه إصلاحه إلا بالاستقبال، فكذلك الظهر في حق المسافر، إذ لا تأثير لنية الإقامة في رفع صفة الفساد. حجتهما: أن نية الإقامة في آخر الصلاة كهي في أولها، ولو كان مقيماً في أول الصلاة لم تفسد صلاته بترك القراءة في الأوليين، فهذا مثله. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن الحاكم الشهيد زاد نية آخرها، فقال أجمعنا أن نية الإقامة تؤثر في القعدة، فتصيرها نفلاً بعدما كانت فرضاً، فإن المسافر إذا صلى الظهر ركعتين وقرأ فيها ثم نوى الإقامة في القعدة صحت نيته، فلا خلاف، وصارت قعدته نفلاً بعد ما كانت فرضاً؛ لأنها قعدة الختم في حق المسافر، وقعدة الختم فرض بالإجماع، فلما جاز أن تجعل النية الموجودة في حال القعدة كالموجودة في أول الصلاة في حق القعدة حتى صيرها نفلاً، فكذلك في حق القراءة. فرق بين هذا وبين الفجر في حق المقيم، والفرق: وهو أن فساد الفجر ما كان لترك القراءة بل لفوات محل القضاء. ألا ترى أنه لو ترك القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر أو العصر أو العشاء لا تفسد صلاته؛ لأنه لم يفت محل القراءة بهذا الذي

ذكرنا إذا وجدت النية في حالة القعدة، فإن وجدت بعد القيام إلى الثالثة أو بعدما ركع أو بعدما رفع رأسه من الركوع، فكذلك تصح نيته إلا أنه إن كان لم يقرأ في الأوليين يعيد القراءة، وإن كان قرأ في الأوليين يعيد القيام والركوع؛ لأن ما أدى كان نفلاً، فلا ينوب عن الفرض فتلزمه الإعادة لهذا، فإن لم يعد فسدت صلاته. فإن خرّ ساجداً ثم نوى الإقامة لم تفسد نيته، وعليه أن يستعيد الصلاة؛ لأنا لو أعملنا نيته لألزمناه ركعتين أخريين ولا وجه إلى ذلك؛ لأن ظهره يصير خمساً ولم يشرع خمساً وفي بعض النسخ إن قيد الثالثة بالسجدة، ثم نوى الإقامة، فصلاته تامة ويضيف إليها أخرى فتكون الركعتان نافلة أورد شمس الأئمة رحمه الله هذه الرواية والله أعلم. مسافر دخل في صلاة مقيم ثم ذهب الوقت لم تفسد صلاته؛ لأن الإتمام لزمه بالشروع مع الإمام في الوقت، فالتحق بغيره من المقيمين، بخلاف ما إذا اقتدى بعد خروج الوقت، فإن الإتمام لا يلزمه بهذا الاقتداء، فإن أفسد الإمام الصلاة على نفسه، كان على المسافر أن يصلي صلاة السفر؛ لأن وجوب الإتمام عليه لمتابعة الإمام وقد زال ذلك بالإفساد. فإن قيل: هو كان مقيماً في هذه الصلاة عند خروج الوقت، فبأن صار في حكم المسافر بعد خروج الوقت لا يتغير ذلك الفرض. قلنا: لم يكن مقيماً في هذه الصلاة، وإنما يلزمه الإتمام بمتابعة الإمام، ألا ترى أنه لو أفسد الاقتداء في الوقت، فإنه يصلي صلاة السفر. فرق بين هذا وبين ما إذا اقتدى المسافر بالإمام والإمام في الظهر، وهذا الرجل ينوي التطوع حتى لزمه أربع ركعات لو أفسد الإمام الصلاة على نفسه تجب على هذا الرجل، فصار أربع ركعات، وفي مسألتنا يلزمه قضاء ركعتين. والفرق: أن الشروع يلزم كالنذر إلا أن نذر المسافر أن يصلي الظهر أربع ركعات لا يصح، ونذر المسافر أن يصلي التطوع أربعاً يصح؛ لأن النذر بالتطوع تلزم وبالفرض غير ملزم. ويخفف القراءة في السفر في الصلوات، فقد صح أن رسول الله عليه السلام قرأ في الفجر في السفر {قُلْ يأَيُّهَا الْكَفِرُونَ} (الكافرون: 1) و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1) وأطول القراءة في صلاة الفجر، وأما تسبيحات الركوع والسجود يقولها ثلاثاً أو أكثر ولا ينقص عن الصلاة، وإذا أتم الإمام بمدينة وهو مسافر، فصلى بهم الجمعة أجزأه وأجزأهم، فقد أقام رسول الله عليه السلام الجمعة بمكة، وهو كان مسافراً بها. وكذلك الأمير يطوف في بلاد عمله فهو مسافر، والإمام هو الخليفة إذا سافر يصلي صلاة المسافرين؛ لأنه مسافر كغير الخليفة كذا ذكر في «النوازل» ، فقيل: إذا طاف الخليفة في ولايته لا يصير مسافراً، ويجوز للمسافر الجمع بين الصلاتين لعذر السفر بأن يؤخر الأول، ويعجل الثاني، وتأخير المغرب مكروه، إلا بعذر السفر. وإذا قضى في حال سفره صلاة فاتته في حالة الإقامة صلى أربعاً وإن قضى في حال

إقامته صلاة فاتته في حال السفر صلى ركعتين؛ لأن القضاء تمكن الفائت؛ لأنه إذا لما وجب من قبل فيتغير حالة الفوات نية اللاحق الإقامة، وهو في قضاء ما عليه، وقد فرغ الإمام من صلاته ساقطة على ظاهر الرواية لا يلزمه الإتمام، بل يصلي ركعتين، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: يتمها أربعاً، وهو قول زفر رحمه الله، هكذا روى أبو سليمان في «نوادره» عن محمد. ووجهه: أن هذا الرجل لا يخلو إما إن كان ملحقاً بالمسبوق أو بالمدرك فإن كان ملحقاً بالمسبوق يصلي أربعاً؛ لأن المسبوق إذا نوى الإقامة فيما يقضي يتعين فرضه أربعاً كذلك ههنا، وإن كان ملحقاً بالمدرك، فكذلك أيضاً؛ لأن المقتدي إذا نوى الإقامة خلف الإمام يتعين فرضه أربعاً كذا ههنا. وجه ظاهر الرواية في ذلك: أن اللاحق في حكم المقتدي فيكون تبعاً للإمام والإمام لو نوى الإقامة في هذه الحالة بعد الفراغ من الصلاة لم يتغير فرضه، وإن نوى اللاحق الإقامة قبل فراغ الإمام تغير فرضه؛ لأن الإمام لو نوى الإقامة في هذه الحالة تغير فرضه، وإن تكلم اللاحق ثم نوى الإقامة تغير فرضه؛ لأنه خرج من حكم المتابعة وصار أصلاً ونية الإقامة في الوقت ممن هو أصل يكون مغيراً للفرض. قال في «الكتاب» : وكذلك دخول اللاحق المصر يريد بهذا أنه كان يصلي المصر خلف الإمام والمصر أمامه، فدخل المصر ليتوضأ للعشاء ثم بدا له الإقامة فيها يصلي ركعتين، لأن دخول المصر كالنية خارج المصر، وقد ذكرت أن بنية الإقامة لا يصير مقيماً، فدخوله المصر كذلك. قال: ونية المسبوق (98أ1) في قضاء ما عليه للإقامة يلزمه الإتمام؛ لأن المسبوق يصلي صلاة نفسه بدليل أنه تجب عليه القراءة وسجود السهو إذا سهى، قال: وكذلك دخول المصر؛ لأنه بمنزلة النية واللاحق أحد الرجلين إما أن يكون قائماً خلف الإمام بعد فراغ الإمام من الصلاة أو يحدث خلف الإمام، فذهب ليتوضأ ثم جاء وقد فرغ من الصلاة. قال ونية المنفرد الإقامة في صلاة افتتحها في الوقت ثم ذهب وقتها ساقطة وكذلك دخوله المصر؛ لأن بخروج الوقت صارت صلاة السفر ديناً في ذمته فلا يتغير بإقامته، كالمقيم إذا سافر بعد خروج الوقت لا يتغير ما صلى. قال شمس الأئمة رحمه الله في مسألة أخرى لا ذكر لها في «المبسوط» : وهو ما إذا كان مسبوقاً بركعة نائماً في ركعة، فلما قام للقضاء نوى الإقامة صحت نيته الإقامة سواء نوى الإقامة في الركعة التي سبق بها أو في الركعة التي نام فيها؛ لأن عليه أن يبدأ بما نام فيها لو وجدت النية فيها، فإنها تدوم إلى آخر الصلاة، فكأنه نوى فيما سبق به. قلنا: وإن أخر النية إلى أن قام إلى قضاء ما سبق به، فهذا مسبوق نوى الإقامة فيما يقضي، فتصح نيته والله أعلم. مسافر صلى ركعة، فجاء مسافر واقتدى به ثم أحدث الإمام، واستخلف هذا الرجل

ثم خرج الإمام الأول ليتوضأ ونوى الإقامة والإمام الثاني نوى الإقامة أيضاً، ثم عاد الإمام الأول إلى الصلاة، ماذا يفعل الإمام الأول والثاني؟ قالوا: يقتدي الإمام الأول بالثاني في الركعة الثانية، وإذا قعد الإمام الثاني قدر التشهد يقوم ويستخلف رجلاً أدرك أول الصلاة ليسلم بالقوم، ثم يقوم الإمام الثاني ويصلي ثلاث ركعات والإمام الأول ركعتين؛ لأنه بنية الإمام الثاني لم يعمل في حق القوم، فإذا صلى ركعة خرج من الإقامة. مسافر صلى الظهر ركعتين وقام إلى الثالثة ناسياً بعدما قعد قدر التشهد ثم تذكر ذلك في قيام الثالثة أو في ركوعها فإنه يعود ويقعد وإن تذكر بعد أن قيد الثالثة بالسجدة يتم صلاته أربعاً، وكانت الثالثة والرابعة له سنّة الظهر، وإن لم يكن قعد على الركعتين إن تذكر في قيام الثالثة عاد وإن لم يعد حتى قيدها بالسجدة، فسدت صلاته، ولو كان هذا المسافر ترك القراءة في الركعتين الأوليين أو في أحدهما ثم قام إلى الثالثة وقرأ. وقالوا: في قياس قول أبي حنيفة، وأبي يوسف إذا نوى الإقامة في الثالثة تجوز صلاته ولو قرأ في الثالثة، وركع ثم نوى الإقامة في الركوع، قالوا: تجوز صلاته أيضاً. مسافر أم قوماً في آخر وقت صلاة العصر، فلما صلى ركعة غربت الشمس ثم جاء رجل واقتدى به، صح اقتداؤه، فإن سبق الإمام الحدث استخلف هذا الرجل الذي اقتدى به، فتذكر الخليفة أنه لم يصل الظهر، فسدت صلاته؛ لأن الوقت ليس بضيق عند شروعه ولو تذكر هذه الفائتة بعد الغروب قبل الشروع لا يصح شروعه، فإذا تذكر في خلال الصلاة تفسد صلاته، وإن تذكر الإمام الأول أنه لم يصلِ الظهر لم تفسد صلاته سبقه الحدث أو لم يسبقه؛ لأن الوقت كان ضيقاً عند شروعه، لو تذكر الفائتة في ذلك الوقت لم يمنعه، هكذا إذا تذكر في خلال الصلاة. مسافر صلى شهراً جميع الصلوات ركعتين، قال أبو حنيفة رحمه الله: يعيد ثلاثين مغرباً ولا يعيد غيرها، وقال صاحباه: يعيد ثلاثين مغرباً ويعيد صلاة العشاء والفجر والظهر والعصر بعد المغرب الأولى. مسافر صلى الظهر ركعتين، وقام إلى الثالثة ناسياً أو متعمداً فجاء مسافراً واقتدى به في تلك الحالة، فصلاة الداخل موقوفة إن عاد الإمام إلى القعدة وسلم، فصلاة الداخل ركعتان كصلاة الإمام، وإن لم يعد، فنوى الإقامة في القيام الثالثة ينقلب فرضه وفرض الداخل أربعاً؛ لأنه نوى الإقامة في حرمة الصلاة، فصحت نيته وتغير فرضه أربعاً. وكذلك فرض الداخل يتغير أربعاً؛ لأن اقتداءه به قد صح؛ لأنه كان في حرمة الصلاة حين اقتدى به، فصح اقتداؤه به وتغير فرضه أربعاً أيضاً، بحكم المتابعة، فيتابعه الداخل في الركعتين ثم يقضي ما فاته، وذلك ركعتان وإذا خرج الأمير مع جيشه لطلب العدو، ولا يعلم أين يدركهم فإنهم يصلون صلاة الإقامة في الذهاب وإن طالت المدة، وكذلك في المكث في ذلك الموضع، وأما في الرجوع، فإن كان إلى مصره مسيرة السفر يقصر الصلاة وإلا فلا.

نوع آخر في بيان اجتماع حكم السفر والإقامة مقيم صلى الظهر أربعاً ثم سافر في الوقت وقصر العصر وهو مسافر، ثم تذكر في وقت العصر شيئاً نسيه في مصره فعاد إليه ثم علم أنه صلى الظهر والعصر بغير طهارة، فتوضأ وصلى الظهر ركعتين والعصر أربعاً؛ لأنه ظهر أن الأداء لم يصح وقد خرج وقت الظهر وهو مسافر فصار الظهر في ذمته صلاة السفر، وخرج وقت العصر وهو مقيم، فصار العصر في ذمته صلاة الإقامة وإذا كان مسافراً في أول الصلاة ثم نوى الإقامة فيها في موضع الإقامة، وهو في الوقت، أتم أربعاً. ولو كان خرج الوقت ثم نوى الإقامة أتمها شفعاً، ولو كان مقيماً في أولها ونوى السفر في وسطها أتمها أربعاً؛ لأن النية بدون الفعل لا تعتبر. وإن كان شرع فيها وهو في السفينة في المصر فمرت وخرجت من العمران، وهو ينوي السفر صار مسافراً، لكنه يتم الصلاة التي شرع فيها أربعاً؛ لأنه لزمه أربعاً حين شرع فيها فلا يسقط منها شيء بنية السفر. المسافر إذا أم قوماً مسافرين ومقيمين، فسبقه الحدث واستخلف مقيماً صلى بهم تمام صلاة الإمام، وإذا انتهى إلى موضع التسليم لم يسلم، لأن عليه بعض الصلاة، فيستخلف من يسلم بهؤلاء المسافرين، ويقوم ويتم ما عليه والمقيمون أيضاً يتمون وحداناً، ولا يقرؤون على أصح الأقوال، وقد مر هذا من قبل. مسافر صلى بقوم مقيمين ومسافرين ركعة، فسبقه الحدث، فأخذ بيد رجل ليقدمه، فنوى الإقامة ثم قدمه صلى هذه الخليفة بهم أربعاً؛ لأنه نوى الإقامة وهو إمامهم؛ لأنه بالحدث لم يخرج من أن يكون إماماً لهم، ولهذا يملك الاستخلاف، ولو لم ينو المحدث الإقامة ولكنه قدم مقيماً فالخليفة يقعد على رأس الركعتين. ولو لم يقعد فسدت صلاته، وصلاة القوم وإذا أتم هذه القعدة يقدم من يسلم بهم، ويقوم هو ويتم صلاة نفسه ولو أن الخليفة لم يقرأ في فائتة الإمام، فسدت صلاته وصلاة القوم كما لو لم يقرأ الإمام الأول. مسافر صلى بمسافرين ركعتين، فلما تشهد في الثانية تكلم أو تكلم بعض من خلفه ثم نوى الإمام الإقامة صار فرضه، وفرض من بقي خلفه أربعاً، وصلاة من ذهب جائزة ركعتين، ولم تؤثر نية الإمام الإقامة في حقهم لزوال الاقتداء بالكلام والسلام قبل نية الإمام. مسافر صلى ركعتين بغير قراءة فظن أنه صلى ركعة فقام وقرأ وركع ثم نوى الإقامة صار فرضه أربعاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف ويعيد القيام والقراءة والركوع، وتجوز لأن الأول وقع نفلاً لا فرضاً؛ لأن فرضه حال كونه مسافراً ركعتان فلو لم يعد حتى قيد الركعة بالسجدة فسدت صلاته؛ لأنه تم انتقاله إلى النفل فلا يمكنه إصلاح الفرض ولو كان قرأ في الأوليين وقعد وقام إلى الثالثة، وقرأ وركع وسجد ثم نوى الإقامة لم يصر أربعاً؛ لأنه خرج من الفرض.

ولو كان لا يقيده بالسجدة صار أربعاً ويعيد القيام والركوع لوقوعهما نفلاً، وليس عليه إعادة القراءة؛ لأنه عليه في الأخريين من الفرض، فإن لم يعد بل مضى فسدت صلاته، لتركه القيام الفرض والركوع الفرض، فإن قام من الثانية إلى الثالثة من غير قعود ناسياً قبل نية الإقامة، فعليه أن يعود إلى القعود، فإن نوى الإقامة لم يعد؛ لأن فرضه صار أربعاً، وإن نوى الإقامة وهو قاعد إن كان تشهد قائماً، ولا يعيد التشهد، وإن لم يكن تشهد، فيتشهد ثم يقوم. ومما يتصل بهذا الفصلالمقيم والمسافر إذا أمَّ أحدهما صاحبه ثم يشكان فيه مسافر ومقيم أم أحدهما صاحبه، فشكّا فلم يدريا من الإمام، ومن المقتدي، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: إذ شكا بعدما صليا ركعة وإنه على خمسة أقسام: القسم الأول: إذا شكا قبل الحدث، وفي هذ القسم تفسد صلاتهما، لتعذر المضي بيانه: وهو أن كل واحد (98ب1) ، منهما يحتمل أن كان إماماً في الابتداء ويحتمل أنه كان مقتدياً ومن كان إماماً لا يصلح مقتدياً ومن كان مقتدياً لا يصلح إماماً؛ لأن صلاة الإمام مع صلاة المقتدي غيران حكماً. ألا ترى أن الإمام تلزمه القراءة وتنوب قراؤته عن قراءة المقتدي، وإذا قرأ آية السجدة يلزمه ومأمومه سجدة التلاوة، وإذا سهى لزمته ومأمومه سجدة السهو وإذ فسدت صلاته فسدت صلاة مأمومه، والمقتدي لا تلزمه القراءة، وإذا قرأ آية السجدة لا يلزمه ولا إمامه سجدة التلاوة، وإذا سهى لا سهو عليه، ولا على الإمام، وإذا فسدت صلاته لا تفسد صلاة الإمام. وألا ترى أن الإمام إذا كبر في خلال الصلاة ينوي الاقتداء بغيره في تلك الصلاة يصير خارجاً من صلاته، وكذلك إذا كبر ينوي الإقامة يصير خارجاً عن صلاته، بمنزلة من كان في صلاة الظهر فكبر ينوي العصر فثبت أنهما غيران حكماً. فإذا لم ينويا من الإمام ومن المقتدي لا يدري كل واحد منهما أنه يتم صلاته على الإمامة، أو على الاقتداء، فيعجز كل واحد منهما عن المضي على صلاته ففسدت صلاتهما؛ لهذا بعض مشايخنا قالوا: هذا إذا أصابتهما آفة وافترقا عن مكانهما، أما إذا كانا في مكانهما نجعل صاحب اليمين مقتدياً وصاحب اليسار إماماً، عملاً بما جاءت به السنّة. القسم الثاني: إذا لم يشكا حتى أحدث المقيم وخرج من المسجد، ثم أحدث المسافر وخرج ثم توضأ فأقبلا، ثم شكا فصلاة المقيم فاسدة وصلاة المسافر تامة أما صلاة المقيم فاسدة؛ لأنه إن كان مقتدياً فإذا خرج الإمام من المسجد بعده لم يبق له إمام في المسجد، وإن كان إماماً، فإذا خرج من المسجد أولاً تحولت الإمامة إلى المسافر

وصار المقيم مقتدياً به، حتى لو عاد أتم الصلاة خلفه. فإذا خرج المسافر من المسجد بعد ذلك لم يبق المقيم إماماً في المسجد، وخلو المسجد من الإمام يوجب فساد صلاة المقتدي، فتيقنا بفساد صلاته على كل حال، وصلاة المسافر تامة؛ لأنه إن كان إماماً بقي على إمامته، وإن كان مقتدياً، فقد تحولت الإمامة إليه حين خرج المقيم عن المسجد، وإذا خرج عن المسجد بعد ذلك لم يبق له مؤتم في المسجد، وخلو المسجد عن المؤتم لا يوجب فساد صلاة الإمام، ولكن على المسافر أن يقرأ في الركعة الثانية ويقعد في الثانية، لاحتمال أنه كان إماماً وكان فرضه هذا ويتم صلاته أربعاً لاحتمال أنه كان مقتدياً، وانقلب فرضه أربعاً. القسم الثالث: إذا لم يشكا حتى أحدث المسافر وخرج من المسجد ثم أحدث المقيم وخرج ثم توضأ فأقبلا ثم شكا، فصلاة المسافر فاسدة وصلاة المقيم تامة، وصلاة المسافر في هذه المسألة نظير المقيم في المسألة الأولى، والمقيم في هذه المسألة نظير المسافر في المسألة الأولى، وعلى المقيم أن يقرأ في الركعة الثانية، ويقعد على رأس الثانية حتى أنه إذا لم يفعل أحدهما فسدت صلاته، لجواز أنه كان مقتدياً فحين أحدث إمامه وخرج عن المسجد تحولت الإمامة إليه، وافترض عليه ما كان فرضاً على إمامه وكان فرضاً على إمامه القراءة في الثانية والقعدة، فافترض عليه ذلك ثم يقوم ويصلي ركعتين أخريين تمام صلاته وهل يقرأ. فيه اختلاف المتأخرين، قد ذكرنا قبل هذا أن مقيماً لو اقتدى بمسافر، فلما فرغ الإمام قام المصلي يصلي الركعتين الأخرين، روى الكرخي عن محمد أنه لا يقرأ، وبه أخذ بعض المشايخ، وعن أبي طاهر الدباس: أنه يقرأ، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والاحتياط أن يقرأ. القسم الرابع: إذا لم يشكا حتى أحدثا، وخرجا عن المسجد على التعاقب إلا أنه لا يدرى من الذي خرج أولاً ثم توضأا فأقبلا فشكا، فصلاتهما فاسدة؛ لأن الذي خرج أولاً فسدت صلاته لما ذكرنا، والذي خرج آخراً صلاته صحيحة، وكل واحد منهما يحتمل أنه خرج آخراً، فكانت صلاة كل واحد منها صحيحة من وجه فاسدة من وجه، فكان الحكم الفساد احتياطاً. القسم الخامس: إذا لم يشكا حتى أحدثا معاً أو على التعاقب إلا أنهما خرجا معاً، وباقي المسألة بحالها صلاتهما فاسدة أيضاً، لأن الإمام منهما بقي على إمامته، لما ذكرنا أن الإمامة لا تتحول لمجرد الحدث وإنما تتحول بالخروج، وقد خرجا معاً فبقي الإمام على إمامته والمقتدي على اقتدائه، فصلاة الإمام تامة وصلاة المقتدي فاسدة، وكل واحد يحتمل أن يكون إماماً ويحتمل أن يكون مقتدياً، فكانت صلاة كل واحد منهما صحيحة من وجه فاسدة من وجه فكان الحكم بالفساد. الوجه الثاني: إذا شكا بعدما صليا ركعتين وقعدا قدر التشهد، وإنه على خمسة أقسام أيضاً.

القسم الأول: إذا شكا قبل الحدث وفي هذا القسم يقوم المقيم ويصلي ركعتين أخرين ويتبعه المسافر فيها، أما المقيم، فيصلي ركعتين أخريين لأنه إن كان إماماً، فعليه إتمام صلاته، وإن كان مقتدياً فكذلك وأما المسافر فإنه يتبعه فيهما؛ لأنه إن إماماً فقد أتم صلاته والمتابعة في الركعتين الأخرتين لا تضر وأن كان مقتدياً فقد صار فرضه بالاقتداء بالمقيم أربعاً، فتلزمه المتابعة في الركعة، والمتابعة في الأخريين لازمة من وجه دون وجه، فأوجبناها احتياطاً. القسم الثاني: إذا أحدث المقيم وخرج من المسجد ثم أحدث المسافر، وخرج من المسجد فتوضأا وأقبلا وشكا، وفي هذا القسم صلاة المقيم فاسدة وصلاة المسافر تامة، أما صلاة المقيم فاسدة، فلأنه إن كان مقتدياً إن كانت لا تفسد صلاته بخروجه وخروج إمامه بعد ذلك؛ لأن صلاة إمامه قد تمت بأداء الركعتين تفسد صلاته إذا كان إماماً وخرج المسافر بعد خروجه لا بخروجه أولاً تحولت الإمامة إلى المسافر، وصار المقيم مقتدياً به، فإذا خرج المسافر من المسحد لم يبق للمقيم إمامٌ في المسجد، وخلو المسجد عن الإمام يوجب فساد صلاة المقيم، فصلاة المقيم تفسد من وجه، وهو أن يكون إماماً، ولا تفسد من وجه، وهو أن يكون مقتدياً، فحكمنا بالفساد، وصلاة المسافر تامة؛ لأنه إن كان إماماً بقي على إمامته، وإن كان مقتدياً فقد تحولت الإمامة إليه حين خرج المقيم من المسجد، فإذا خرج عن المسجد بعد ذلك، لم يبق له مؤتم في المسجد، وخلو المسجد عن المؤتم لا يوجب فساد صلاة الإمام، ولكن على المسافر أن يصلي أربعاً؛ لاحتمال أنه كان مقتدياً وانقلب فرضه أربعاً. القسم الثالث: إذا أحدث المسافر وخرج من المسجد ثم أحدث المقيم وخرج من المسجد، فتوضأا وأقبلا وشكا، وفي هذا القسم صلاة المسافر فاسدة لاحتمال أنه كان مقتدياً، وانقلب فرضه أربعاً، فحين خرج المقيم عن المسجد لم يبق للمسافر إمام في المسجد، وهذا يوجب فساد صلاته وصلاة المقيم تامة إن كان إماماً بقي على إمامته وإن كان مقتدياً، فقد جاء أوان الانفراد وخروج المنفرد عن المسجد لا يوجب فساد صلاته. القسم الرابع: إذا أحدثا وخرجا من المسجد على التعاقب، إلا أنه لا يدرى من الذي خرج أولاً ثم توضأا وأقبلا فشكا، وفي هذا القسم فسدت صلاتهما لما مر في الوجه الأول. القسم الخامس: إذا أحدثا معاً أو على التعاقب إلا أنهما خرجا معاً، ثم توضأا وأقبلا وشكا، وفي هذا القسم صلاة المسافر فاسدة، لاحتمال أنه كان مقتدياً وانقلب فرضه أربعاً فحين خرج المقيم لم يبق الإمام في المسجد، وصلاة المقيم تامة؛ لأنه إن كان إماماً بقي على إمامته، وإن كان مقتدياً، فحين أتم المسافر صلاته جاء أوان الانفراد في حقه وخروج المنفرد عن المسجد لا يوجب فساد صلاته. الوجه الثالث: إذا شكا بعدما صليا ثلاث ركعات، فالقياس: أن يكون الجواب في هذا الوجه، والجواب فيما تقدم سواء لمعنى الشك وتردد الحال في حق كل واحد

منهما، وفي الاستحسان الإمام هو المقيم فعليه أن يقوم فيصلي الركعة الرابعة، ويقتدي به المسافر حملاً لأمر المسلم على الصلاح، فإن فعل كل مسلم محمول على الصلاح ما أمكن، ولو جعلنا المقيم إماماً كان حمل أمرهما على الصلاح في الركعة الثالثة. ولو جعلنا المسافر إماماً كان فيه حمل أمرهما على ما لا يحل شرعاً من خلط النفل بالفرض، والخروج عن الفرض والدخول في النفل لا على وجه المسنون في حق المسافر، ومن اقتداء المفترض بالمتنفل (99أ1) في حق المقيم، فجعلنا المقيم إماماً لهذا. ونظير هذا من فرغ من صلاته وسلم ثم شك أنه صلى ثلاثاً أو أربعاً، فليس عليه شيء ويحمل قوله على الصلاح، وهو الخروج عن الصلاة في وقته فكذا ههنا. ومعنى آخر أشار إليه محمد رحمه الله في «الكتاب» : فقال: إن أمور المسلمين محمول على المتعارف والمعتاد فيما بين الناس، والمتعارف المعتاد فيما بين الناس أن المقيم يقوم إلى الثالثة والمسافر لا يقوم إلى الثالثة، إلا إذا كان مقتدياً بالمقيم، استشهد محمد رحمه الله بمن أحرم بشيئين، ثم نسيهما، فلم يدر أحجان أم عمرتان؟ يجعل قارناً بحجة وعمرة ولا يجعل قارناً بحجتين، ولا بعمرتين حملاً لأمره على الصلاح على المعنى الأول فإن الجمع بين الحج والعمرة صحيح مندوب إليه شرعاً والجمع بين الحجتين والعمرتين ممنوع عنه فجعل قارناً حملاً لأمره على الصلاح، وعلى المعنى الثاني يجعل قارناً بحجة وعمرة حملاً لأمره على المتعارف؛ لأن المتعارف فيما بين الناس الجمع بين حجة وعمرة لا الجمع بين حجتين أو عمرتين، فكذا ها هنا. وكذلك مسافر ومقيم أم أحدهما صاحبه ولم يقعدا في الثانية قدر التشهد، ثم سلما وسجدا سجدتي السهو ثم شكا، فلم يدريا أيهما الإمام؟ يجعل الإمام هو المقيم حملاً لأمرهما على الصلاح. وكذلك لو كانا تركا القراءة في الأوليين أو في أحدهما، فلما سلما وسجدا للسهو شكا، فإنه يجعل الإمام هو المقيم لما بينا وإذا كان في مسألتنا الإمام هو المقيم يسهل تخريج مسألة الحدث وإن أحدث المقيم أولاً، وخرج من المسجد ثم أحدث المسافر بعد ذلك وخرج من المسجد، فصلاة المقيم فاسدة لتحول الإمامة إلى المسافر فيصير هو مقتدياً فإذا خرج المسافر لم يبق الإمام في المسجد فتفسد صلاته، وصلاة المسافر جائزة تامة. وإن كان مقتدياً لكن تحولت إمامة المقيم إليه، وخروج الإمام عن المسجد لا تفسد صلاته وإن أحدث المسافر وخرج ثم أحدث المقيم، وخرج، فصلاة المسافر فاسدة لأنه لم يبق له إمام في المسجد، وإن أحدثا معاً أو متعاقباً لكن خرجا معاً فصلاة المقيم تامة لأنه إمام لم تتحول إمامته إلى غيره وصلاة المسافر فاسدة لأنه لم يبق له إمام في المسجد، وإن خرجا على التعاقب ولا يدري أيهما خرج أولاً؟ فصلاتها جميعاً فاسدة لما قلنا من قبل والله أعلم.

الفصل الثالث والعشرون في الصلاة على الدابة

الفصل الثالث والعشرون في الصلاة على الدابة قال في «الأصل» : ويصلي المسافر التطوع على دابته بإيماء حيث توجهت به، لما روي عن جابر رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله عليه السلام في غزوة إنما يتطوع على دابته بالإيماء، وجهه إلى المشرق» وزاد في آخر الحديث: «وكان إذا أراد الوتر أو المكتوبة نزل» ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «أن النبي عليه السلام كان يصلي على دابته تطوعاً حيث توجهت به، وقرأ قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 115) وكان ينزل للمكتوبة» . واختلفت الروايات عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الوتر، روي «أنه عليه السلام يوتر على دابته» وروي عنه «أنه كان ينزل للوتر» ، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال الحاكم الجليل في «إشاراته» تأويل ما روي «أنه كان يوتر على دابته» أنه كان يفعل ذلك، لعذر المطر والطين، أو كان ذلك قبل تأكد الوتر فأما بعد تأكد الوتر كان ينزل، وجاء في حديث آخر «أن النبي عليه السلام كان يصلي التطوع على حمار متوجهاً إلى خيبر» ، ولأن صلاة التطوع خبر موضوع بدليل الحديث فلو لم تجز على الدابة لغاية، هذا الخبر إذ لا يمكنه النزول في كل ساعة؛ لأنه يخاف على نفسه ودابته، فيجوز لهذا العذر ولو لم يكن له في التطوع على الدابة من المنفعة إلا حفظ اللسان وحفظ النفس عن الوساوس والخواطر الفاسدة كان ذلك كافياً، ويجعل السجود أخفض من الركوع؛ لأنه عجز عن الركوع والسجود كالمريض. وعلى أي الروايات إن صلى أجزأه لأن الرواية وقعت باسم الدابة واسم الدابة يقع على الكل، ثم إن محمداً رحمه الله وضع المسألة في «الأصل» في المسافر. وذكر الكرخي في كتابه، ويجوز التطوع على الدابة في الصحراء مسافراً كان أو مقيماً أينما توجهت به، فروى عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله أنه يطلق ذلك للمسافر خاصة؛ لأن الجواز بالإيماء بخلاف القياس، لأجل الضرورة والضرورة إنما تتحقق في السفر لا في الحضر، والصحيح أن المسافر وغير المسافر في ذلك على السواء بعد أن يكون خارج المصر حتى أن من خرج من المصر إلى مساعه، جاز أن يصلي التطوع على الدابة، وإن لم يكن مسافراً إلا أن الكلام بعد هذا في مقدار ما يكون بين المقيم، وبين المصر حتى يجوز له التطوع على الدابة. وذكر في «الأصل» : إذا خرج فرسخين أو ثلاثة فله أن يصلي على الدابة وهكذا ذكر

الكرخي في كتابه، ومن المشايخ من قدره بفرسخين فصاعداً، فقال: إذا كان بينه وبين المصر فرسخان، فله أن يصلي على الدابة، وإن كان أقل من ذلك لا يجوز. وقال بعضهم: إن كان بينه وبين المصر قدر ميل جاز له أن يصلي على الدابة، وإن كان أقل من ذلك فلا، وقال بعضهم: إن كان بينه وبين المصر قدر ما يكون بين المصر وبين مصلى العيد جاز له أن يتطوع على الدابة، وإن كان أقل من ذلك لا يجوز. وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والصحيح من الجواب أنه يعتبر فيه مخالطة البنيان ومفارقتهما، فما دام مخالطاً للبنيان لا يتطوع على الدابة وإذا فارق البنيان فقد خرج من المصر، فيجوز له التطوع على الدابة وهو قياس قصر الصلاة للمسافر، وعن أبي حنيفة رحمه الله: أن التطوع على الدابة جائز على المصر من غير فصل بينها إذا كان المكان الذي خرج إليه قريباً أو بعيداً، وإن كان بسرجه قذر لم تفسد صلاته. وأشار في «الكتاب» : إلى المعنى، وقال: والدابة أبعد من ذلك يريد بذلك أن الدواب ليسوا بطيبين ظاهراً؛ لأنهم يتمعكون في التراب والنجاسات، فالظاهر أنهم لا يخلون عن النجاسات ثم نجاسة الدابة تمنع الجواز، فكذا نجاسة السرج بل أولى؛ لأنها أقل، من أصحابنا من قال: لم يرد محمد بقوله: وإذا كان بسرجه قذر أن يكون على سرجه نجاسة حقيقية، وإنما أراد به قذر الدابة الذي يتلطخ به الثوب، أما إذا كان على سرجه نجاسة حقيقية نحو رجيع الآدمي وما أشبه ذلك، وكانت في موضع الجلوس أو الركابين أكثر من قدر الدرهم تمنع الجواز، وهو قول الفقيه محمد بن مقاتل الرازي والشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير رحمهما الله. وبعضهم قالوا: إذا كانت النجاسة في الركابين لا بأس به، وإن كان في موضع الجلوس يمنع الجواز، والحاكم الشهيد يشير إلى أن كل ذلك على السواء وشيء منها لا يمنع الجواز؛ لأن هذا أمر بني على الخفة والرخصة وطهارة السرج والركابين نادر، فلا يشترط طهارتها؛ ولأنه قد سقط عنه القيام والسجود وذلك ركن وطهارة المكان شرط والركن أقوى من الشرط، فسقوط الركن يدل على سقوط الشرط من طريق الأولى، ولم يذكر في ظاهر الرواية التطوع على الدابة في المصر. قال الحاكم في «الكتاب» : قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يصلي النافلة على الدابة في المصر، وقال أبو يوسف: لا بأس بذلك، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال في «الكتاب» : لا يصلي النافلة على الدابة في المصر، ولكن لم يذكر أنه لو صلى يجزئه. وذكر الفقيه أبو جعفر في «غريب الروايات» ، وقال: إني لا أعرف مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «الهارونيات» أنه لا يجوز التطوع على الدابة في المصر عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف لا بأس به، وعند محمد يجوز ويكره. فعلى ما ذكره شمس الأئمة السرخسي حجة أبي حنيفة رحمه الله، هو أنا جوزنا الصلاة على الدابة بالإيماء بالنص، بخلاف القياس والنص ورد خارج المصر والمصر

ليس في معنى خارج المصر لأن سيره على الدابة في المصر لا يكون مؤبداً عادة فرجعنا فيه إلى أصل القياس، وحكي أن أبا يوسف رحمه الله لما سمع هذا الجواب عن أبي حنيفة رحمه الله، قال: حدثني فلان، وسماه عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي عليه السلام ركب الحمار في المدينة، يقول سعد بن عبادة؛ وكان يصلي وهو راكب، فسكت أبو حنيفة ولم يرفع رأسه. قيل: إنما لم يرفع رأسه رجوعاً منه. وقيل: إنما لم يرفع رأسه؛ لأنه عده من شواذ الأخبار، وآحاده، ومثل هذا الخبر لا يكون حجة فيما تعم به البلوى، فأبو يوسف رحمه الله أخذ بهذا الحديث، ومحمد كذلك، إلا أنه كره ذلك في المصر لأن اللفظ (99ب1) يكثر فيها والكثرة ربما تمتلىء بالغلط في القراءة، فلهذا يكره، قيل: اللفظ صور مهمة. وقيل: الكلام الفاحش ثم يستوي الجواز عندنا بين أن يفتتح الصلاة مستقبل القبلة، وبين أن يفتتحها مستدبر القبلة في الحالين يجزئه؛ لأن جواز التطوع على الدابة بالديار، ولا فرق في الديار بين الابتداء وبين الانتهاء. ومن الناس من يقول: إنما يجوز التطوع على الدابة إذا توجه إلى القبلة عند افتتاح الصلاة، ثم تركها حتى انحرف عن القبلة، أما ما إذا افتتح الصلاة إلى غير القبلة لا تجوز؛ لأنه لا ضرورة في حالة الابتداء، إنما الضرورة في حالة البقاء إلا أن أصحابنا لم يأخذوا به؛ لأنه لا تفصيل في النص. ولو أومىء على الدابة وبنى بسير لم يجز إذا قدر أن يقفها، وإن تعذر الوقف جاز؛ لأن سير الدابة مضاف إلى راكبها، ويتحقق بسبب ذلك اختلاف المكان، فلا يتحمل إلا عند تعذر الوقف ولا يصلي المسافر المكتوبة على الدابة إلا في ضرورة فإن المكتوبة في أوقات محصورة لا يشق عليه النزول؛ لأدائها بخلاف التطوع، فإنه ليس مقدر بشيء فلو ألزمناه النزول؛ لأدائها تعذر عليه أداء ما يسقط من التطوعات أو ينقطع سفره. وكذلك ينزل للوتر عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنها واجبة عنده، وعندهما له أن يوتر على الدابة؛ لأنها سنة عندهما، وأما في حالة الضرورة له أن يصلي المكتوبة، والوتر على الدابة لما روي أن رسول الله عليه السلام كان مع أصحابه في سفر فمطروا، «فأمر منادياً حتى نادوا صلوا على رواحلكم» . ومن الأعذار إن خاف لو نزل عن الدابة على نفسه أو على دابته لصاً أو سبعاً أو كان في طين لا يجد على الأرض مكاناً يابساً أو كانت الدابة حموماً إن نزل عنها لا يمكنه الركوب إلا بمعين أو كان شيخاً كبيراً لا يمكنه أن يركب، ولا يجد من يركبه ففي هذه الأحوال كلها تجوز المكتوبة على الدابة، قال الله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا

فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 239) وعلى قياس ما ذكرنا في أول بيان الأعذار. لو صلى المكتوبة في البادية على الراحلة والقافلة تسير يجوز؛ لأنه يخاف على نفسه وثيابه لو نزل؛ لأن القافلة لا تنتظره، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه ألحق ركعتي الفجر بالمكتوبة، فقال: ينزل لها إلا بعذر، وذكر ابن شجاع: أن ذلك يجوز أن تكون لبيان الأولى يعني أن الأولى أن ينزل لركعتي الفجر ثم ها هنا مسألة لم يذكرها محمد رحمه الله في «الأصل» : ولا أوردها الحاكم الشهيد في «المختصر» : وهو ما إذا افتتح التطوع على الدابة خارح المصر ثم دخل المصر قبل أن يفرغ منها، وذكر في غير رواية الأصول أنه يتمها، واختلف الناس في معنى هذا، قال بعضهم: يتمها على الدابة، ما لم يبلغ منزله وأهله، لأنه التزمها راكباً، فله أن يتمها راكباً.H وقال كثير من أصحابنا رحمهم الله: إنه ينزل ويتمها نازلاً؛ لأنا قد روينا عن أبي حنيفة أنه كان لا يأذن بالصلاة على الدابة في المصر، وهذا لأن النزول عمل يسير لا يحتاج فيه إلى معالجة كثيرة فلهذا تجوز بقية الصلاة نازلاً. وروي عن محمد رحمه الله أنه قال: إن صلى ركعة بإيماء ثم دخل المصر لم يمكنه إتمام صلاته نازلاً؛ لأنه بناء الكامل على الناقص؛ لأن أول صلاته بإيماء وآخر صلاته بركوع وسجود. وإن لم يصل ركعة بإيماء نزل وأتمها نازلاً؛ لأنه لم يؤد شيئاً بإيماء، فله أن يكملها نازلاً بركوع وسجود. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا: هذه الرواية على أصل محمد لا تستقيم؛ لأن تحريمة الصلاة وقعت للإيماء فلا يصح إكمالها بركوع وسجود على أصله؛ لأنه بناء القوي على الضعيف، وهو لا يرى ذلك؛ لأن مذهبه فيمن افتتح الصلاة قاعداً لمرض بركوع وسجود، ثم برأ من مرضه، فقام فأتمها قائماً، فإنه لا يجوز؛ لأنه بناء القوي على الضعيف فهذه الرواية تخالف مذهبه، فلا يدرى من أين وقع هذا؟ والله أعلم. وإذا افتتح التطوع على الأرض، فأتمها راكباً لم تجزئه ولو افتتحها راكباً ثم نزل، فأتمها أجزأته لوجهين: أحدهما: وهو أن النزول عمل يسير والركوب عمل كثير؛ لأنه يحتاج فيه إلى استعمال اليدين عادة وفي النزول لا يحتاج إلى ذلك ولكن يجعل إليته من جانب، وينزل من غير أن يحتاج إلى معالجة اليدين. والثاني: وهو أنه افتتح الصلاة على الأرض، فلو أتمها راكباً كان دون ما شرع فيها؛ لأنه شرع فيها بركوع وسجود والإيماء دون ذلك، والراكب إذا نزل يؤديها أتم ما شرع فيها؛ لأنه شرع فيها بالإيماء، ويؤديها بركوع وسجود. وعن زفر رحمه الله: أنه يبني فيهما جميعاً؛ لأنه لما جاز الافتتاح على الدابة بالإيماء مع القدرة على النزول، فالإتمام أولى، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يستقبل

فيهما، أما إذا كان نازلاً، فركب لما ذكرنا، وأما إذا كان راكباً فنزل؛ لأنه بناء القوى على الضعيف، وذلك لا يجوز كالمريض الذي يصلي بالإيماء ثم يقدر على الركوع والسجود في خلال الصلاة، فإنه لا يبني، وإنه لا يبني، لما قلنا. والفرق بينهما على ظاهر الرواية: أن في المريض ليس له أن يفتتح الصلاة بالإيماء مع القدرة على الركوع والسجود، فكذلك إذا قدر على ذلك في خلال الصلاة لا يبني أما ههنا له أن يفتتح الصلاة بالإيماء على الدابة مع القدرة على الركوع، والسجود فكذلك قدرته على الركوع والسجود بالنزول تمنعه من البناء. وكذلك إن (نذر) على أن يصلي ركعتين فصلاهما راكباً من غير عذر لم يجزئه؛ لأن القدرة لم تنصرف إلى أتم الوجوه وأكملها، ألا ترى أن من نذر أن يصلي ركعتين، فصلاهما عند طلوع الشمس أو عند غروبها، أو عند زوالها لا يجوز، والمعنى ما ذكرنا كذلك ههنا. والدليل عليه: أنه إذا نذر أن يعتق رقبة، فأعتق رقبة أعجمي، فإنه لا يجوز؛ لأنه بالنذر التزم الصلاة مطلقاً، والمطلق ينصرف إلى الكامل، فإن صلاهما على الدابة بعذر جاز؛ لأن المكتوبة تؤدى على الدابة بعذر فالمنذورة أولى والله أعلم. رجلان في محمل واحد، فاقتدى أحدهما بالآخر في التطوع أجزأهما وهذا لا يشكل إذا كان في شق واحد، لأنه ليس بينهما حائل، فأما إذا كانا في شقين، اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: إن كان أحد الشقين مربوطاً بالآخر يجزئه؛ لأنه إذا كان مربوطاً بالآخر صار بحكم الاتصال كشق واحد أو كسفينتين ربطت أحدهما بالأخرى، فاقتدى أحدهما بصاحبه، فهذا يجوز الاقتداء بالإجماع كذا هنا، وإن لم تكن مربوطاً بالآخر لا يصح اقتداؤهما؛ لأن بينهما دابة تسير، فكان بين الإمام والمقتدي طريق، وإنه مانع جواز الاقتداء، وقال بعضهم: يجزئه كيف ما كان إذا كان على دابة واحدة، كما لو كانا على الأرض وإلى هذا أشار محمد رحمة الله في «الكتاب» . فإنه جمع في «الكتاب» : بين مسألتين مسألة المحمل ومسألة الدابتين وجوز في المحمل، ولم يجوز في الدابتين بعلة الطريق وفرق بينهما واسم المحمل يقع على الشقين، وعلى شق واحد فلو كان المراد في المحمل الشق الواحد لما احتاج إلى الفرق، ولأنهما إذا كانا في محمل واحد ليس بين الإمام والمقتدي ما يمنع صحة الاقتداء. قال في «الكتاب» : وأكره أن يأتم إذا كان عن يسار الإمام اعتباراً بما لو كان على الأرض، ولو كان كل واحد منهما على دابة لم تجز صلاة المؤتم؛ لأن بين الدابتين طريق والطريق العظيم بين الإمام والمقتدي يمنع صحة الاقتداء. وعن محمد رحمه الله قال: أستحسن أن يجوز اقتداؤهم بالإمام إذا كانت دوابهم على القرب من دابة الإمام على وجه لا تكون الفرجة بينه والقوم إلا بقدر العرف، قياساً على الصلاة على الأرض، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله قول محمد رحمه الله: كانا في محمل واحد يقع على الشقين جميعاً، وإنما جاز هذا لأن الرباط جمعهما

الفصل الرابع والعشرون في الصلاة في السفينة

فكأنهما شق واحد والرباط، كالجسر على النهر ثم الجسر يضم أحد شقي النهر بالآخر في حكم الاقتداء، فرباط المحمل أولى. وإذا صلى على دابة في المحمل، والدابة واقفة وهو يقدر على النزول، لا يجوز له أن يصلي على الدابة إلا إذا كان المحمل على عيدان على الأرض ولو صلى على عجلة إن كان طرف العجلة على الدابة، وهي تسير أو لا تسير فهو صلاة على الدابة فيجوز في حالة العذر، ولا يجوز في غير حالة العذر (100أ1) وإن لم يكن طرف العجلة على الدابة جاز، وهو بمنزلة الصلاة على السرير. وفي القدوري: لو صلى على بعير لا يسير لا يجوز، ولو صلى على عجلة لا تسير يجوز من غير فصل والله تعالى أعلم. الفصل الرابع والعشرون في الصلاة في السفينة قال محمد رحمه الله: وإذا استطاع الرجل الخروج من السفينة للصلاة، فأحب له أن يخرج ويصلي على الأرض، وإن صلى فيها جاز، أما الجواز: فلحديث ابن سيرين رضي الله عنه قال: صلينا مع أنس بن ملك رضي الله عنه في السفينة قعوداً، ولو شئنا لخرجنا إلى الجمد. وقال مجاهد: صلينا مع جنادة بن أبي أمية قعوداً، ولو شئنا لقمنا، هكذا روى الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي، وعن مولى عبد الله بن أبي ... أنه قال: صحبت أناساً في السفينة من أصحاب رسول الله عليه السلام، منهم أبو الدرداء أو أبو سعيد الخدري وجابر، وأبو هريرة رضي الله عنهم فحضرت الصلاة، فتقدم إمامهم فصلوا فيها، ولو شئنا لخرجنا إلى الجمد، ولأن السفينة في معنى الأرض؛ لأنه يباح الجلوس عليها للقراءة كما على الأرض فكانت السفينة كالسرير. ولو صلى على السرير تجوز صلاته، فكذلك ها هنا؛ ولأن الماء في معنى الأرض على معنى أنه يباح الجلوس عليه. للقراءة أي تمكن من الجلوس عليه. ألا ترى لو انجمد الماء يمكن من الجلوس يجلس عليه للقراءة، فكانت السفينة كالأرض فتجوز فيها الصلاة، بخلاف ما لو صلى على العجلة، فإنه لا يجوز؛ لأن؟ ... ما على الدابة، فكأنه يصلي على ظهر الدابة، فلا يجوز؛ لأنها ليست في معنى الأرض، فإنه لا يباح الجلوس على ظهر الدابة للقراءة، على ما قال عليه السلام: «لا تتخذوا دوابكم كراسي» وإنما يباح الانتقال.

وأما المستحب أن يخرج ويصلي على الأرض لأن الصلاة على الأرض أكمل والصلاة في السفينة أنقص؛ لأن الغالب من حال راكب السفينة دوران الرأس واسوداد العين متى صلى قائماً يحتاج إلى القعود، وله بد من ذلك. فإن صلى فيها قاعداً وهو يقدر على القيام والخروج أجزأه عند أبي حنيفة رحمه الله استحساناً، لكن الأفضل أن يقوم أو يخرج، وعندهما لا يجزئه قياساً. وأجمعوا أن السفينة إذا كانت مربوطة بالشط أنه لا يجوز فيها الصلاة قاعداً، وأجمعوا أنه إذا كان بحيث لو قام يدور رأسه تجوز الصلاة فيها قاعداً. وجه القياس: وهو أن السفينة كالبيت في حق راكب السفينة بدليل أنه يلزمه استقبال القبلة، ولا تجوز صلاة التطوع فيها بالإيماء مع القدرة على الركوع والسجود كما في البيت؛ وهذا لأن سقوط القيام في المكتوبة للعجز والمشقة وهو قد زال لقدرته على القيام أو الخروج. وجه الاستحسان: وهو أن الغالب من حال راكب السفينة دوران الرأس إذا قام والحكم يبنى على العام، والغالب دون الشاذ النادر. ألا ترى أن نوم المضطجع جعل حدثاً بناءً على الغالب من حاله أنه يخرج منه شيء لزوال الإمساك، وسكوت البكر جعل رضاً، لأجل الحياء بناءً على الغالب من حال البكر. وكذلك المترفه في السفر له أن يفطر كصاحب المشقة؛ لأن مبنى أحوالهم على المشقة والشدة، والترفه في السفر نادر، فلم يعتبر ذلك النادر في حق الترخيص بالإفطار، فهذا مثله. ثم لم يفصل في «الكتاب» على قول أبي حنيفة رحمه الله بين أن تكون السفينة جارية أو ساكنة ماسكة، منهم من قال على قول أبي حنيفة رحمه الله إنما يصلي قاعداً إذا كانت جارية؛ لأن الغالب دوران الرأس واسوداد العين إذا قام، فأما إذا كانت السفينة ساكنة ماسكة لم تجز الصلاة فيها قاعداً. قال الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بجواهر زاده رحمه الله: وقد ذكر الحسن بن زياد في كتابه بإسناده عن سويد بن غفلة، قال: سألت أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما عن الصلاة في السفينة، فقالا: إذا كانت جارية يصلي قاعداً وإذا كانت ساكنة يصلي قائماً؛ لأنه يقدر على القيام في هذه الحالة، ولا يجوز للمسافر أن يصلي فيها بالإيماء سواء كانت الصلاة مكتوبة أو نافلة؛ لأنه يمكنه أن يسجد فيها، فلا يعذر في تركه، والإيماء إنما شُرع عند العجز وهذا قادر، فلا يجوز له الإيماء. فرق بين هذا وبين الدابة والفرق وهو: أن الأثر في بالإيماء، ورد في حق راكب الدابة بخلاف القياس وما ورد في حق راكب السفينة على أصل القياس؛ ولأن راكب الدابة ليس له موضع قرار على الأرض وراكب السفينة له موضع قرار، فالسفينة كالبيت على ما ذكرنا.

ألا ترى أنه لا يجري بها، بل هي تجري به، قال الله تعالى: {وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ فِى مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِى مَعْزِلٍ يبُنَىَّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَفِرِينَ} (هود: 42) وراكب الدابة يجري بها حتى يملك إيقافها متى شاء، ولهذا جوزنا الصلاة على الدابة حيث كان وجهه. والذي يوضح الفرق ويؤكده، فصل المخيرة، فإنها إن كانت راكبة الدابة تستوي الدابة وساقتها بطل خيارها، وإن كانت راكبة السفينة ففرق السفينة بها لم يبطل خيارها، وهكذا الجواب في جميع ما يتوقف بالمجلس، وينبغي للمصلي فيها أن يتوجه القبلة كيف ما دارت السفينة سواء كان عند افتتاح الصلاة أو في خلال الصلاة لأنه التوجه إليها فرض عند القدرة وهذا قادر فيتوجه لقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 144) بخلاف راكب الدابة؛ لأنه عاجز عن استقبال القبلة؛ لأنه لو استقبلها حيث ما سارت له الدابة انقطع سير الدابة وفات مقصود راكبها، وفي ذلك حرج عليه، فجعل معذوراً في ترك الاستقبال إليها حتى أن راكب الدابة إن كان يسير نحو القبلة، فانحرفت عن القبلة لم تجز صلاته، كذا ذكر شمس الأئمة فلا يصير مقيماً بنية الإقامة فيها؛ لأن السفينة ليست بموضع قرار، ولا حتى بيت إقامة ولكنه يعد للانتقال والبحر موضع المخاوف قال النبي عليه السلام: «من ركب البحر إذا ارتج أو قال: ألتج أي موج يراوده فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله» ، فلا يكون هذا أقل حالاً من الذي ينوي الإقامة في المفازة وهناك لا يصير مقيماً فها هنا أولى، وكذلك صاحب السفينة، والملاح لا يصير مقيماً لأن محلته للإقامة لا تختلف بين المالك والملاح وغير ذلك. قال شمس الأئمة والحاكم رحمهما الله في «شرحه» : وهذه المسألة شهدت لأبي حنيفة رحمه الله: فيمن ترك القيام في السفينة وصلى قاعداً تجوز صلاته، فيقول: كما لم يصر صاحب السفينة والملاح مقيماً فيها وإن أمكنه المقام فيها، فكذلك تجوز صلاة القاعد فيها وإن أمكنه القيام. قال: إلا أن تكون السفينة تقرب من بلده أو قريبة، وأن تكون قريبة على الحد فحينئذٍ يكون مقيماً بإقامته الأصلية، فلا يجزىء أن يأتم رجل من أصل سفينة بإمام في سفينة أخرى لأن بينهما نهراً تجري فيه السفن، ولا خلاف بين أصحابنا أنه إذا كان بين الإمام والقوم نهر تجري فيه السفن لا يصح الاقتداء، إنما الاختلاف في نهر يمكن المشي في بطنه. فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: يمنع صحة الاقتداء، وعلى قول محمد رحمه الله: لا يمنع صحة الاقتداء، فإن كانت السفينتان مقرونتان، فحينئذٍ يصح الاقتداء؛ لأنه ليس

بينهما ما يمنع صحة الاقتداء، فكأنهما في سفينة واحدة؛ لأن في السفينتين المقرونتين في معنى ألواح سفينة واحدة، بخلاف ما إذا كانا على دابتين وإحدى الدابتين مربوطة بالأخرى حيث لا يصح الاقتداء؛ لأنهما لا يصيران كشيء واحد؛ لأن بينها طريق يمنع صحة الاقتداء، ألا ترى أنه لا يمكن تركيب إحدى الدابتين بالأخرى، ويمكن تركيب إحدى السفينتين بالأخرى بالخشب. وكذلك من اقتدى على الحد بإمام في السفينة أو على العكس، فإنه ينظر إن كان بينهم طريق أو طائفة من النهر لم يجز الاقتداء، وإن كان على العكس يجوز الاقتداء لأن النهر والطريق مانع صحة الاقتداء. هنا مسألة تركها صاحب «الكتاب» : وهو ما إذا وقف على الأطلال يقتدي بالإمام في السفينة صح اقتداؤه إلا أن يكون أمام الإمام؛ لأن السفينة كالبيت (100ب1) واقتداء الواقف على السطح لمن هو في البيت صحيح، إذا لم يكن أمام الإمام فكذلك ها هنا. ومن خاف فوت شيء من ماله وبيعه قطع صلاته، وهذا نحوه وإن كان قائماً على الحد يصلي فانقلبت السفينة حتى خاف عليهما الغرق. ورأى سارقاً يسرق شيئاً من متاعه أو كان نازلاً عن دابته فانقلبت الدابة فخاف عليها الضياع، أو كان راعي غنم فخاف على غنمه من السبع فإن في هذه المواضع كلها له أن يقطع الصلاة، ويسد السفينة ويتبع السارق والدابة والسبع لأن حرمة المال كحرمة النفس، قال النبي عليه السلام: «قاتل دون مالك حتى تقتل أو تقتل، فتكون من شهداء الآخرة» وفي رواية «من شهداء الجنة» وكذلك إذا خاف على نفسه من سبع أو عدو. وكذلك إذ رأى أعمى في حرف بئر فخاف أن يقع في البئر، فيقطع الصلاة بطريق الأولى؛ لأن حرمة النفس فوق حرمة المال، فلما جاز القطع لأجل المال، فلأجل النفس أولى، ولأن الله تعالى نهانا عن إلقاء النفس في التهلكة وإضاعة المال. فلو قلنا: فإنه يمضي على صلاته يؤدي إلى إهلاك النفس وإضاعة المال من غير خلف، ولو قلنا بأنه يقطع الصلاة يمكنه قضاء الصلاة ووصل إلى ماله، فالقطع أولى، فإن لم يقطع صلاته، وفعل ذلك الفعل تفسد صلاته إن احتاج إلى عمل كثير، فأما إذا لم يحتج إلى عمل كثير يبني على صلاته، لما روينا من حديث أبي برزة رضي الله عنه أنه كان يصلي في بعض المغازي، فانسل قياد الفرس من يده، فمشى أمامه حتى أخذ قياد فرسه ثم رجع ناكصاً على عقبيه وأتم صلاته وتأويل هذا أنه لم يحتج إلى معالجة ومشي كثير، ثم لم يفصل في «الكتاب» بين المال القليل أو الكثير. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني والسرخسي رحمه الله: وأكثر مشايخنا رحمهم الله قدروا ذلك بالدرهم، فصاعداً، وقالوا: ما دون الدرهم حقير فلا يقطع الصلاة لأجله، قال الحسن رحمه الله: لعن الله الدانق ومن دنق الدانق، ولأن اسم

الفصل الخامس والعشرون في صلاة الجمعة

المال لا يقع على الدانق بدليل أنه إذا حلف، وقال بالله مالي مال وله دون الدرهم لا يحنث في يمينه فكذلك لا يقطع الصلاة لأجله. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: هذا قول حسن لولا ما ذكر في كتاب الحوالة والكفالة أن للطالب أن يحبس غريمه بالدانق فما فوقه، فلما جاز حبس مسلم بالدانق، فلأن يجوز قطع صلاة يمكنه قضاءها بالدوانق أولى. قال الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: هذا إذا كان المال مال غيره فأما إذا كان المال ماله فإنه لا يقطع الصلاة ولا فصل في ظاهر الرواية، وهو الصحيح لما بينا والله تعالى أعلم بالصواب. الفصل الخامس والعشرون في صلاة الجمعة هذا الفصل مشتمل على أنواع: الأولفي تبيين فرضية الجمعة، وفي بيان أصل الفرض يوم الجمعة فنقول: صلاة الجمعة فريضة بالكتاب والسنّة، وإجماع الأمة، ونوع من المعنى. أما الكتاب قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) والمراد من الذكر المذكور في الآية هو الخطبة بإجماع أهل التفسير؛ لأنه ليس بعد الأذان ذكر الله تعالى إلا الخطبة، فالاستدلال بالآية من وجهين: أحدهما: أن الله تعالى أمر بالسعي إلى الخطبة، والأمر للوجوب، وإذا وجب السعي إلى الخطبة التي هي شرط جواز الصلاة، فإن أصل الصلاة أوجب. والثاني: أن الله تعالى أمر بترك البيع المباح بعد النداء وتحريم المباح لا يكون إلا لأمر واجب. وأما السنّة حديث جابر رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله عليه السلام يوم الجمعة فقال في خطبته: «أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا» إلى أن قال: «واعلموا أن الله تعالى فرض عليكم الجمعة في يومي هذا في شهري هذا في مقامي هذا فريضة واجبة في حياتي وبعد مماتي إلى يوم القيامة فمن تركها عن غير عذر تهاوناً واستخفافاً وله إمام جائر أو عادل ألا فلا بارك الله له ألا فلا جمع الله شمله ألا فلا صلاة له ألا فلا زكاة له ألا فلا صوم له ألا فلا حج له إلا أن يتوب فمن تاب تاب الله عليه» ، وروي عن النبي عليه السلام أيضاً أنه قال: «من ترك

الجمعة من غير عذر ثلاثاً، فهو منافق» وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «من ترك أربع جمع متواليات من غير عذر، فقد نبذ الإسلام وراء ظهره» . وأما الإجماع فلأن الأمة أجمعت على فرضية الجمعة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلى يومنا هذا. وأما المعنى فلأنا أمرنا بترك الظهر لإقامة الجمعة، والظهر فريضة ولا يجوز ترك الفرض إلا لفرضٍ هو آكد وأولى منه، فدل وجوب ترك الظهر لإقامة الجمعة على أن الجمعة أوجب وأقوى وآكد من الظهر في الفرضية، هذا بيان فرضيتها. وأما بيان أصل الفرض في هذا الوقت، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: أصل الفرض الظهر إلا أنه إذا أدى الجمعة يسقط الظهر عنه، وقال بعضهم: أصل الفرض الجمعة، وقال بعضهم: الفرض أحدهما إلا أن الجمعة أفرضهما، وقال بعضهم: على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله: أصل الفرض في هذا الوقت هو الظهر، وقد أمر بإسقاطه بالجمعة. وقال محمد رحمه الله: الفرض هو الجمعة وله أن يسقط الجمعة بأداء الظهر، ولمحمد رحمه الله في «النوادر» قول آخر: أن الفرض أحدهما ويتعين بفعل آخر، وقال زفر رحمه الله: الفرض هو الجمعة على اليقين، الظهر بدل عنه إذا فاتت. وإنما قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد رحمهم الله: إن أصل الفرض الظهر؛ لأن أصل الفرض في حق كل أحد ما يتمكن من أدائه بنفسه، وهو إنما يتمكن من أداء الظهر بنفسه، إما ما يتمكن بأداء الجمعة، ولأنا لو جعلنا أصل الفرض الجمعة كان الظهر خلفاً عن الجمعة عند فواتها، وأربع ركعات لا تكون خلفاً عن ركعتين، ولأن الظهر كان مشروعاً في هذا الوقت قبل شروع الجمعة، لو انتسخ شرعيته إنما تنسخ معوضاً بشرعية الجمعة، وليس من ضرورة شرع الجمعة انتساخ الظهر إذا وجمع الشرع بينهما كان مستقيماً، والدليل عليه أنه شرع في حق العبد والمريض والمسافر، حتى لو أدوا الجمعة جاز وبقي الظهر مشروعاً في حقهم، حتى لو صلى الظهر يجوز، فلو كان بينهما منافاة ما اجتمعا. وثمرة الاختلاف مع زفر تظهر في فصلين: أحدهما: أنه إذا صلى الظهر قبل أداء الناس الجمعة في منزله لم يعتد به في قول زفر؛ لأن الفرض هو الجمعة والظهر بدل عنها، ولا صحة للبدل مع القدرة على اتحاد الأصل، وعندهما لما كانت فرضية الظهر باقية مشروعة وقع موقعه. الفصل الثاني: أن المعذور من المريض والمسافر والعبد إذا أدى الظهر في منزله ثم

سعى إلى الجمعة انتقض الظهر، وقال زفر: لا ينتقض؛ لأن فرضية الجمعة لم تظهر في حقه، فوقع الظهر موقع الفرض فسقط الفرض، فلا ينتقض بعد ذلك. ولنا: أن فرضية الظهر لم تنسخ في حق المعذور، وغير المعذور أمر بإسقاط الفرض بأداء الجمعة، فإذا سعى إلى الجمعة صار ممتثلاً للأمر، فاستدعى انتقاض الظهر فإذا عرفنا هذا في غير المعذور. نقول: إنما فارق المعذور غير المعذور في حق الترخيص على معنى أنه رخص له لذلك يترك الظهر بأداء الجمعة، فإذا لم يترخص صار هو وغير المعذور سواء، فيستدعي انتقاض الظهر في حقه كما لو حضر قبل أداء الظهر، وأدى الجمعة صار تاركاً للظهر بأداء الجمعة كغير المعذور. وثمرة الاختلاف الذي ذكرنا مع محمد رحمه الله تظهر في مسألة أخرى، وهي أنه إذا تذكر الفجر في خلال الجمعة وهو يخاف إن اشتغل بأدائها أن تفوته الجمعة ولا تفوته الظهر، قال محمد رحمه الله: يتم الجمعة؛ لأن فرض الوقت هو الجمعة، فإذا خاف فوت فرض الوقت اشتغل به وعندهما فرضية الظهر فيه وأمر بإسقاطه بأداء الجمعة، فإذا لم يخف فوت فرض الوقت تعين مراعاة الترتيب فرضاً عليه. وهذه المسألة في الحاصل على ثلاثة أوجه: إن كان الوقت بحال لو اشتغل بالفائتة يخرج الوقت مضى في الجمعة عند الكل؛ لأن الترتيب سقط عند ضيق الوقت وإن كان في الوقت سعة، بحيث يعلم أنه لو اشتغل بالفائتة لا تفوته الجمعة بقطع الجمعة في قولهم ويقضي الفائتة. وإن علم أنه لو اشتغل بالفائتة تفوته لكن يمكنه أداء الظهر، فالمسألة على الخلاف على قول (101أ1) أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله يقطع الجمعة، ويصلي الفائتة ثم يصلي الظهر في آخر الوقت، وقال محمد: يمضي ويصلي في الجمعة والله أعلم. النوع الثاني في بيان شرائط الجمعة وما يتصل من المسائل بها فنقول: للجمعة شرائط بعضها في نفس المصلي، وبعضها في غيره، أما الشرائط التي في غير المصلي فستة: أحدها: المصر وهذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: المصر ليس بشرط وكل قرية سكنها أربعون من الأحرار البالغين لا يظعنون عنها شتاءً ولا صيفاً تقام لها الجمعة. حجته في ذلك: قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) من غير فصل وقوله عليه السلام: «الجمعة على من سمع النداء» من غير فصل، وعن ابن عباس

رضي الله عنهما قال: «أول جمعة جمعت في الإسلام بعد الجمعة بالمدينة جمعة جمعت بجواثا» وجواثا قرية من قرى عامر بن القيس بالجرين. ولنا: حديث علي رضي الله عنه موقوفاً عليه، ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام «لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع» ، وروى سراقة بن مالك عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لا جمعة ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع» ، ولأن إقامة الجمعة، وهي ركعتان مقام الظهر وهي أربع ركعات أمر عرف شرعاً بخلاف القياس فيراعى فيه جميع الشرائط التي اعتبرها الشرع، والشرع اعتبر المصر، فإن النبي عليه السلام أقامها بمدينة، ولم ينقل أنه أقامها في حوالي مدينة، وفي تسميتها جمعة دليل على أن المصر شرط فإنما تسمى جمعة؛ لأنها جامعة للجماعات حتى وجب بنداء الجماعات يوم الجمعة. وفي قرية يسكنها أربعون رجلاً لا يتصور جمع الجماعات، فإن جماعتهم واحدة، والآية لا حجة له فيها؛ لأن المكان مضمر فيه بالإجماع حتى لا يجوز إقامة الجمعة في البوادي بالإجماع، فنحن نضمر المصر وهو يضمر القرية، وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قلنا: جواثي بلدة كبيرة وتسميتها قرية لا ينافي كونها بلدة؛ لأن اسم القرية ينطلق على البلدة قال الله تعالى: {وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ الَّتِى أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَهُمْ فَلاَ نَصِرَ لَهُمْ} (محمد: 13) والمراد مكة وهي بلدة. وإذا ثبت أن المصر شرط لإقامة الجمعة نحتاج إلى بيان حد المصر الذي تقام فيه الجمعة، وقد تكلموا فيه على أقوال: روي عن أبي حنيفة رحمه الله: أن المصر الجامع ما يجتمع فيه مرافق أهلها ديناً ودنياً، وعن أبي يوسف رحمه الله ثلاث روايات، في رواية قال: كل موضع فيه منبر وقاضي ينفذ الأحكام ويقيم الحدود فهو مصر جامع، وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله، وفي رواية أخرى عنه كل موضع أهلها بحيث لو اجتمعوا في أكبر مساجدهم لم يسعهم ذلك فهو مصر جامع، وفي رواية أخرى قال: كل موضع يسكن فيه عشرة آلاف نفر، فهو مصر جامع. ومن العلماء من قال: المصر الجامع ما يعيش فيه كل صانع لصنعته، ولا يحتاج إلى العود من صنعة إلى صنعة، وعن محمد رحمه الله أنه قال: كل موضع مصر للإمام فهو مصر حتى أن الإمام إذا بعث إلى قرية نائباً لإقامة الحدود فيهم وقاضياً يقضي بينهم صار ذلك الموضع مصراً، وإذا عزله ودعاه إلى نفسه عادت قرية كما كانت، وقال بعض العلماء: كل مصر بلغت مساحته مصراً جمع فيه رسول الله عليه السلام، فهو مصر جامع. ومن العلماء من قال: كل موضع كان لأهله من القوة والشوكة، ما لو توجه إليهم

عدو دفعوه عن نفسهم، فهو مصر جامع. وقال سفيان الثوري رحمه الله: المصر الجامع ما يعده الناس مصراً عند ذكر الأمصار المطلقة كبخارى أو سمرقند، فعلى هذا القول لا يجوز إقامة الجمعة بكرمينة وكثانية. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وظاهر المذهب أن المصر الجامع أن يكون فيه جماعات الناس، وجامع وأسواق للتجارات وسلطان أو قاضي يقيم الحدود، وينفذ الأحكام، ويكون فيه مفتي إذا لم يكن الوالي أو السلطان مفتياً، ثم في كل موضع وقع الشك في كونه مصر أو أقام أهل ذلك الموضع الجمعة بشرائطها، فينبغي لأهل ذلك الموضع أن يصلوا بعد الجمعة أربع ركعات وينوون بها الظهر احتياطاً، حتى أنه لو لم تقع الجمعة موقعها يخرجون عن عهدة فرض الوقت بأداء الظهر بيقين. ولا بأس بالجمعة في موضعين أو ثلاثة من مصر واحد عند محمد، وأجاز أبو يوسف في موضعين دون الثلاث، وفي رواية «الأمالي» : أجاز في موضعين إذا كان مصراً له جانبان بينهما نهر عظيم حتى يصير في حكم مصرين كبغداد، فإن لم يكن المصر بهذه الصفة فالجمعة لمن سبق منهم بأدائها فإن فعلوا معاً، فسدت صلاتهم جميعاً وكما يجوز إقامة الجمعة في المصر يجوز إقامتها خارج المصر قريباً منه نحو مصلى العيد؛ لأن مصلى العيد أبداً يكون في فناء المصر، وفناء المصر ألحق بالمصر فيما كان من حوائج أهل المصر وأداء الجمعة من حوائج أهل المصر، فيلحق بالمصر في أداء الجمعة، هكذا ذكر المسألة في «شرح القدوري» . وفي «فتاوى أبي الليث رحمه الله» : شرط الفناء نصاً، فقال: ويجوز إقامة الجمعة خارج المصر إذا كان في فناء المصر، وفي «نوادر الصلاة» لو أن الأمير خرج للاستسقاء يدعو، وخرح معه ناس كثير فحضرت الجمعة فصلى بهم الجمعة في الجبانة على قدر غلوة من المصر أجزأهم، لأنه فناء المصر ولفناء المصر حكم المصر. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: اختلف الناس في تقدير فناء المصر فقدرة محمد في «النوادر» بالغلوة وفارسيته (يك تيربرتاو) ، وقدره بعض المشايخ بفرسخين، وبعضهم بثلاثة أميال كل ميل ثلث فرسخ. وبعضهم بمنتهى حد الصوت، إذا صاح في المصر إنسان أو أذن مؤذنهم لمنتهى صوته فناء المصر، فيجوز أداء الجمعة فيه، وما وراءه ليس فناء المصر، فلا يجوز أداء الجمعة فيه، والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: قدر الفناء بالغلوة اتباعاً لما ذكره محمد في «النوادر» ، وقدر أبو يوسف رحمه الله الفناء بميل أو ميلين، فإنه روي عنه: لو أن إماماً خرج من المصر مع أهل المصر لحاجة له قدر ميل أو ميلين، فحضرته الجمعة فصلى بهم الجمعة أجزأه، وهذا بخلاف ما لو خرج المسافر عن عمران المصر حيث يقصر الصلاة؛ لأن فناء المصر إنما يلحق بالمصر فيما كان من حوائج أهل

المصر، وقصر الصلاة ليس من حوائج أهل المصر، فلا يلحق الفناء بالمصر في حق هذا الحكم. وذكر في «فتاوى أبي الليث» : أن على قول أبي بكر لا تجوز الجمعة خارج المصر إذا كان ذلك الموضع منقطعاً عن العمران، وكان الفقيه أبو الليث يقول: بالجواز في فناء المصر، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وقد قال بعضهم: يجب أن يكون على الاختلاف على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز إقامة الجمعة في فناء المصر وعلى قول محمد: لا يجوز بناءً على اختلافهم في الجمعة بمنى ويجوز أن يكون هذا بلا خلاف بينهم من قبل أن محمداً إنما لم يجوز الجمعة بمنى؛ لأنه قرية ليس له حكم المصر فأما لفناء المصر حكم المصر. وقيل: إنما يجوز إقامة الجمعة في فناء المصر إذا لم يكن بينه مزارع، فعلى قول هذا القائل لا يجوز إقامة الجمعة ببخارى في مصلى العيد، وقد وقعت هذه المسألة مرة وأفتى بعض المفتين بعدم الجواز، ولكن هذا ليس بصواب فإن أحداً من الأئمة لم يقل بعدم جواز صلاة العيد في مصلى العيد ببخارى لا من المتقدمين، ولا من المتأخرين وكما أن المصر أو فنائه شرط جواز الجمعة، فهو شرط جواز صلاة العيد ويجوز إقامة الجمعة بمنى في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: لا جمعة بمنى أجمع العلماء على أنه لا جمعة بعرفات لأنه مفازة وليست بمصر، وليست من أفنية المصر؛ لأن بينها وبين مكة أربع فراسخ، وإنما تقام الجمعة إما في المصر أو في فناء المصر، وأما بمنى محمد رحمه الله يقول: فإنه ليس بمصر والمصر شرط، وهما يقولان: إن منى مصر في أيام الموسم، فإن لها أبنية. قيل: إنه ثلاث سكك وتنقل إليها الأسواق في أيام الموسم، فيصير مصراً، أكثر ما في الباب أنه لا يبقى مصراً بعد ذلك لكن بناؤه مصراً ليس بشرط بخلاف عرفات، فإنه ليس بمصر فإنه لا أبنية له، ومن المشايخ من قال: إن عندهما إنما يجوز أداء الجمعة بمنى؛ لأنها من أفنية مكة وهذا فاسد، إلا على قول من يقدر فناء المصر بفرسخين؛ لأن بينهما فرسخان. وقال محمد رحمه الله (101ب1) في «الأصل» : إذا نوى الإقامة بمكة وبمنى خمسة عشر يوماً لا يصير مقيماً، فعلم أنهما موضعان إنما الصحيح ما قلنا: لا يصلي بمنى صلاة العيد بالاتفاق، لا لعدم المصرية بل لاشتغال الحاج بأعمال المناسك في ذلك اليوم، فوضع عنهم صلاة العيد بخلاف الجمعة؛ لأنه لا يتفق كل سنة في يوم الجمعة في إقامة الرمي بمنى بخلاف صلاة العيد؛ لأنها لو شرعت كانت في كل سنة، وإنما تجوز الجمعة بمنى عندهما إذا كان فيها أمير مكة أو أمير الحجاز أو الخليفة، أو أمير الموسم فإن استعمل على مكة يقيم الجمعة بمنى عندهما أيضاً، وإن لم يستعمل على مكة إنما استعمل على الموسم لا غير، فإن كان من أهل مكة يقيم الجمعة بمنى عندهما أيضاً، وإن لم يكن من أهل مكة لا يقيم الجمعة عندهما أيضاً. وفي «نوادر هشام» : عن محمد رحمه الله قال على مذهب أبي حنيفة رحمه الله: إذا

جمع أمير الموسم بهم وهو مسافر بمكة قال يجزئه، وإن صلى بهم بمنى لا يجزئه ليس له حق إقامة الجمعة، ثم في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله لا يذهب شهود الجمعة، إلا على من يسكن المصر والأرباض المتصلة بالمصر حتى لا تجب على أهل السواد أن يشهدوا الجمعة سواء كان السواد قريباً من المصر أو بعيداً عنه. وعن محمد رحمه الله: أنه إذا كان بينه وبين المصر ميل أو ميلان أو ثلاثة أميال، فعليه الجمعة وإن كان أكثر من ذلك، فلا جمعة عليه وعنه في رواية «نوادر» أخرى أنه إذا كان بينه وبين أهل المصر أقل من فرسخين فعليه أن يشهد الجمعة، وإن كان أكثر من ذلك فلا، وعنه في رواية أخرى أن في كل موضع لو خرح الإمام إلى ذلك الموضع وأقام الجمعة فيه جاز جمعته، وعد مجمعاً في المصر فعلى أهل ذلك الموضع الرواح إلى الجمعة، وكل موضع لو خرج الإمام إليه وجمع فيه لم يعد مجمعاً في المصر، فلا جمعة عليه. وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه إذا كان بينه وبين المصر فرسخ أو فرسخان، فعليه أن يشهد الجمعة، وعنه أيضاً: أنه إذا كان بحيث لو غدا وشهد الجمعة أمكنه الرجوع إلى منزله قبل أن يؤتيه الليل، لزمه أن يشهد الجمعة، وكثير من المشايخ أخذوا بهذه الرواية. وجه ما ذكر في هذه ظاهر الرواية أن النبي عليه السلام وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين كانوا لا يأمرون أهل السواد القريبة بالحضور إلى الجمعة؛ إذ لو أمروا لاشتهر واستفاض، والمعنى فيه أن المسافر الذي في المصر لا يجب عليه حضور الجمعة لاشتغاله بأمور السفر نفياً للحرج، والحرج الذي يلحق القروي بدخول المصر أكبر من حرج المسافر فيسقط عن القروي بطريق الأولى. وروى الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة وأبي يوسف: أن من كان مقيماً في عمران المصر وأطرافه، وليس بين مكانه وبين المصر فرجة فعليه الجمعة، ولو كان بين ذلك الموضع وبين عمران المصر فرجة من المزارع والمراعي لا جمعة على أهل ذلك الموضع، وإن كان النداء يبلغهم، والغلوة والميل والأميال ليست بشيء. هذا جملة ما روى الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله، وبه كان يفتي شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وكان يقول: لا جمعة على أهل القلع ببخارى. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: لو أن أهل مدينة حضرهم جند من أهل الشرك، فأحاطوا بالمدينة، فخرجوا إليهم من مدينتهم وعسكروا على ميلين أو ثلاثة لا يريدون سفراً فعليهم الجمعة في عسكرهم، وكأنه أعط للمكان الذي نزلوا فيه وهو على قدر ميلين أو ثلاثة حكم المصر. والشرط الثاني: السلطان، أو نائبه من الأمير أو القاضي، هذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: السلطان ليس بشرط، حجته في ذلك ما روي: أن عثمان رضي الله عنه حين كان محصوراً صلى علي رضي الله عنه الجمعة بالناس ولم يرو أنه صلى بأمر عثمان رضي الله عنه؛ ولأنها مكتوبة كسائر الصلوات، فلا يشترط لإقامتها السلطان كسائر الصلوت.

ولنا: قوله عليه السلام: «أربع إلى الولاة» وذكر من جملتها «الجمعة والعيدين» ، وفي حديث جابر رضي الله عنه قال: «من تركها استخفافاً بها والإمام عادل أو جائر» ألحق الوعيد الشديد بترك الجمعة بشرط أن يكون له إمام، والمراد به السلطان؛ لأنه وصفه بالعدل أو الجور، وذا إنما يتحقق من السلطان، ولأن إقامة الجمعة مقام الظهر عرف شرعاً بخلاف القياس فيراعى جميع ما ورد به النص والنص ورد بإقامتها من السلطان؛ ولأن الناس يتركون الجماعة هذا اليوم لإقامة الجمعة. فلو لم يشترط فيها السلطان أدى إلى الفتنة لأنه يسبق بعض الناس إلى الجامع، فيقيمونها لفرض لهم وتفوت على غيرهم وفيه من الفتنة ما لا يخفى، فيجعل مفوضاً إلى الإمام الذي فوض إليه أحوال الناس والعدل بينهم؛ لأنه أقرب إلى تسكين الفتنة والاحتجاج بحديث علي رضي الله عنه لا يصح لأنه يحتمل أنه فعل ذلك بإذن عثمان رضي الله عنه، فلا يصح الاحتجاج به مع الاحتمال أو إن فعل بغير إذنه وإنما يفعل أن الناس اجتمعوا عليه وعند ذلك يجوز لما نبين إن شاء الله تعالى. وقوله: بأن هذه صلاة مكتوبة كسائر الصلوات، قلنا: نعم هذه مكتوبة إما ليست كسائر الصلوات فإنه يشترط لها من الشرائط ما لا يشترط كسائر الصلوات، بل هي صلاة عرف لها من النص فتعرف شرائطها من النص، لا في سائر المكتوبات. وإذا ثبت أن السلطان شرط يتفرع على هذا مسائل: أحدها: ما ذكر في «الأصل» : أن رجلاً من عرض الناس لو صلى الجمعة بالناس بغير إذن الإمام أو خليفته أو صاحب شرطة أو القاضي لا يجزئهم لفوات شرطها فقد جمع في هذه المسألة بين الإمام وخليفته وصاحب شرطة والقاضي، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذه المسألة بناءً على عرف زمانهم، فإن في زمنهم صاحب شرطة والقاضي كل واحد منهما كان مولياً أمر السياسة وإقامة الجمعة، أما في زماننا القاضي وصاحب الشرطة لا يوليان ذلك. وفي «نوادر بشر» أبي يوسف رحمهما الله: أن لصاحب الشرطة أن يصلي الجمعة بالقوم وإن لم يخرج الأمير، ولا يصلي بهم القاضي إذا لم يخرج الأمير، وعن أبي يوسف أيضاً أنه قال: أما القوم، فالقاضي يصلي بهم الجمعة؛ لأن الخلفاء يأمرون القضاة أن يصلوا بالناس الجمعة. قيل: أراد بهذا قاضي القضاة الذي يشهد له أنه قاضي الشرق والغرب كأبي يوسف في وقته، فأما في زماننا القاضي، وصاحب الشرطة لا يوليان ذلك. والي مصر مات، ولم يبلغ موته الخليفة حتى مضت بهم جمع، فإن صلى بهم خليفة الميت أو صاحب الشرطة أو القاضي جاز؛ لأنه فوض إليهم أمر العامة، هكذا ذكر في

«العيون» ، وهذا الجواب في حق القاضي وصاحب الشرطة بناءً على عرف زمانهم على ما بينا. ولو اجتمعت العامة على أن يقدموا رجلاً مع قيام واحد من هؤلاء الذين ذكرنا من غير أمرهم لم يجز؛ لأنه لم يفوض إليهم أمورهم إلا إذا لم يكن ثمة قاضي ولا خليفة الميت بأن كان الكل هو الميت حينئذٍ، جاز لضرورة. ألا ترى أن علياً رضي الله عنه صلى بالناس يوم الجمعة وعثمان رضي الله عنه محصور؛ لأن الناس اجتمعوا على علي رضي الله عنه، فقد جمع في هذه المسألة أيضاً بين القاضي وخليفة الميت، والجواب في حق القاضي بناءً على عرف زمانهم على ما ذكرنا. إبراهيم عن محمد رحمهما الله، أنه إذا خطب الأمير ثم أحدث ولم يقدم أحداً فتقدم عامل له لم يجز، ولا يجوز أن يقدم أحداً إلا أحد هؤلاء الثلاثة صاحب الشرطة أو القاضي أو الذي ولاه القاضي. والحاصل: أن حق التقدم في إقامة الجمعة حق الخليفة إلا أنه لا يقدر على إقامة هذا الحق بنفسه، في كل الأمصار، فيقيمها غيره بنيابته، والسابق في هذه النيابة في كل بلدة الأمير الذي ولي على تلك البلدة ثم الشرطي ثم القاضي ويريد به قاضي القضاة، ثم الذي ولاه قاضي القضاة، وتجوز صلاة الجمعة خلف المتغلب الذي لا عهد له أي لا منشور له من الخليفة إذا كانت سيرته في رعيته حسنه، لأمر الحكم فيما بين رعيته بحكم الولاية؛ لأن بهذه ثبتت السلطنة، فيتحقق الشرط. الشرط الثالث: الوقت يعني به وقت الظهر، حتى لا يجوز تقديمها على الزوال ولا بعد خروج الوقت، والأصل فيه ما روي أن النبي عليه السلام لما بعث مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة قبل هجرته قال له: «إذا مالت الشمس، فصل بالناس الجمعة» وكتب إلى سعد بن زرارة «إذا زالت الشمس من اليوم الذي تتجهز فيه اليهود لسبتها، فازدلف إلى الله تعالى بركعتين» ، ولأن الجمعة أقيمت مقام الظهر، فيشترط أداؤها في وقت الظهر، حتى لو خرج وقت الظهر في خلال الصلاة تفسد الجمعة، وإن خرج بعد ما قعد قدر التشهد، فكذا عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا تفسد ولو خرج بعد السلام لا تفسد بالإجماع، ثم إذا خرج وقت الظهر في خلال الصلاة حتى فسدت الجمعة يبقى أصل الصلاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وعند محمد رحمه الله: تبطل التحريمة، ولا يبقى أصل الصلاة، وهذا بناءً على أصل معروف تقدم ذكره أن للصلاة جهتان عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله الفرضية وأصل الصلاة، فإذا بطلت صفة الفرضية يبقى أصل الصلاة، وعند محمد

رحمه الله للصلاة جهة واحدة وهو الفرضية، فإذا بطلت الفرضية بطل أصل الصلاة. وفي «فتاوى الفضلي» : المقتدي إذا نام في صلاة الجمعة ولم ينتبه حتى خرج الوقت، فسدت صلاته؛ لأنه لو أتمها كان قضاء، وقضاء الجمعة لا يجوز، ولو انتبه بعد فراغ الإمام والوقت قائم أتمها جمعة؛ لأنه يصير مؤدياً الفرض في الوقت. الشرط الرابع: الجماعة؛ لظاهر قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) فهذا خطاب للجماعة، ولأنها سميت جمعة وفي هذا الاسم ما يدل على اعتبار الجماعة فيها. ثم إن العلماء رحمهم الله اختلفوا فيما بينهم في تقدير الجماعة، قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: يتم بثلاثة نفر سوى الإمام، وعن أبي يوسف رحمه الله: في غير رواية الأصول اثنان سوى الإمام، وقال الشافعي رحمه الله: لا تنعقد الجمعة إلا بأربعين رجلاً من الأحرار المقيمين سوى الإمام. حجة الشافعي: ما روي أن أول جمعة أقيمت في الإسلام كانوا أربعين رجلاً، وكان رسول الله عليه السلام ينتظر اجتماع الأربعين فلو كانت تنعقد بدون الأربعين لكان لا ينتظر اجتماع الأربعين، ولأن إقامة الجمعة مقام الظهر أمر عرف بخلاف القياس، فلا يقوم مقامها إلا بالشرائط التي ورد بها النص، ولم ينقل أن النبي عليه السلام أقام الجمعة بثلاثة نفر من الرجال وقد نقل أنه أقامها بأكثر من ثلاثة نفر فقدرنا الأكثر بأربعين بما روينا من الحديث. وأبو يوسف رحمه الله يقول: للمثنى حكم الجماعة حقيقة وحكماً، أما حقيقة، فلأن الجماعة مشتقة من الاجتماع وذلك يتحقق بالمثنى وأما حكماً، فلأن الجماعة الإمام يتقدم عليهما، وذلك من أحكام الجماعة وربما كان يقول إذا كان سوى الإمام إثنان يكون مع الإمام ثلاثة، والثلاث جمع متفق عليه. ولنا: قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) الآية، فالمنادي كأنه خارج عن خطاب الشرع كذلك الذاكر، وهو الإمام خارج عن خطاب السعي أيضاً، فيكون قوله: «فاسعوا» خطاب جمع الذين يسمعون النداء، فتناول هذا الخطاب كل جمع، وأقل الجمع المتفق عليه الثلاثة، فإذا أجاب المنادي ثلاثة من الناس وسعوا إلى الجمعة، وأقاموها جاز لظاهر الآية، وما قاله الشافعي: باطل لما روي أنه لما نفر الناس في اليوم الذي دخل فيه العير المدينة، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَرَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَرَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ} (الجمعة: 11) ، بقي مع رسول الله عليه السلام إثني عشر رجلاً، فصلى بهم الجمعة وقد روى الزهري: أن النبي عليه السلام بعث مصعب بن عمير أميراً إلى المدينة ثم كتب إليه أن أقم بهم الجمعة، فأقام بهم الجمعة وكانوا اثني عشر نفساً ولا حجة له في الحديث الذي روي إذ فيه أنه أقام

بأربعين وما دونه مسكوتٌ عنه على أنه روي أنهم كانوا أقل من أربعين. وقول أبي يوسف رحمه الله: إن للمثنى حكم الجماعة فاسد؛ لأن ما دون الثلاث ليس بجمع مطلق بدليل أن أهل اللغة، فصلوا بين التثنية والجمع، والجمع والشرط هو الجماعة المطلقة، وقوله الثاني أنه إذا كان مع الإمام إثنان كان مع الإمام جماعة فاسد؛ لأن الإمام شرط للجواز سوى الجماعة، فإن كل واحد منهما شرط على حدة، ولا يعتبر الإمام مع القوم في الجماعة بخلاف سائر الصلوات؛ لأن الإمام في سائر الصلوات ليس بشرط. وكذلك الجماعة، فأمكننا أن نعد الإمام من القوم ثم يشترط في الثلاثة أن يكونوا بحيث يصلحون للإمامة في صلاة الجمعة، حتى أن نصاب الجمعة لا يتم بالنساء والصبيان، ويتم بالعبيد والمسافرين؛ لأنهم يصلحون للإمامة، ولا شك أن درجة الإمامة أعلى من درجة الاقتداء، فإذا لم يشترط الحرية والإقامة في الإمامة الذي هو أعلى، فلأن لا يشترط في الاقتداء الذي هو أدنى وفي كونه مؤتماً كان ذلك أولى وأحرى وهذا مذهبنا. وقال زفر رحمه الله: لا تجوز إمامة العبد والمسافر في صلاة الجمعة لأنه لا تفترض عليهما الجمعة وإنما تصح منهما الأداء بطريق التبعية، فلا يجوز أن يكون أصيلاً بالإمامة وصار كالمرأة والصبي. ولنا: أن العبد والمسافر صلحاً إمامين في سائر الصلوات فكذا في الجمعة وامتناع الفرضية ليس لعدم الأهلية، بل لعذر رخص الشرع الترك لأجله على ما مر، فإذا حضر وأدى وقع عن الفرض، وبه فارق الصبي والمرأة فإن الصبي ليس بأهل لأداء الفرض وكذا المرأة ليست بأهل للأداء بهذا الفرض؛ لأن مبناها على الاستتار، وفيما بني على الاستتار المرأة لم تؤهل، فإذا ظهر الكلام في جواز إمامتها، ففي انعقاد الجمعة باقتدائهما يكون أظهر، وقد صح أن رسول الله عليه السلام أقام الجمعة بمكة، وهو مسافر حتى قال: «أتموا صلاتكم يا أهل مكة فإنا قوم سفر» . ومما يتصل بهذا الشرط من المسائل ما ذكر في «الجامع الصغير» : فقال: إذا نفر الناس بعدما خطب الإمام فهذا على وجهين: إما أن ينفروا قبل الشروع في الصلاة أو بعد الشرع فيها. فإن نفروا قبل الشروع فيها إن نفر الكل فالإمام يصلي بهم الظهر؛ لأن الجماعة شرط ولم تبق الجماعة وقت افتتاح الصلاة وإن نفر البعض إن كان الباقي سوى الإمام ثلاثة صلى الجمعة عندنا؛ خلافاً للشافعي؛ وإن كان الباقي اثنان سوى الإمام صلى الظهر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعن أبي يوسف رحمه الله في غير رواية «الأصول» :

أنه يصلي الجمعة؛ لأنا نجعل من ذهب من القوم كأنه لم يحضر من الابتداء غير هؤلاء كان الجواب كما قلنا، فهنا كذلك، وإن لم يبق مع الإمام إلا عبيد ومسافرون صلى بهم الجمعة عند علمائنا رحمهم الله على ما مر. وإن نفروا بعد الشروع في الصلاة إن صلى الإمام من الجمعة ركعة أتم الجمعة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وعند زفر يصلي الظهر، وإن لم يقيد الركعة بالسجدة حتى نفروا صلى الظهر عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما يتم الجمعة. فالأصل عند زفر: أن الجماعة شرط من أول الجمعة إلى آخرها كالطهارة والوقت، وهو القياس؛ لأن شرط الشيء يعتبر من أوله إلى آخره، وإنه ليس بصحيح، لأن شرط الشيء ما في وسع الإنسان، وإمكانه وليس في وسع الإمام وإمكانه إبقاء الجمع مع نفسه في جميع الصلاة، فلا يشترط ذلك. والأصل عندهما: أن الجماعة شرط وقت الشروع في الصلاة؛ لأن الجماعة إذا وجدت حالة الشروع تنعقد التحريمة للجمعة بوصف الصحة، فجاز أن يتمها جمعة كما إذا نفروا بعدما قيد الركعة بالسجدة، وليس كما إذا نفروا قبل الشروع؛ لأن هناك تحريمته لم تنعقد للجمعة، فكيف يتمها جمعة. والأصل عند أبي حنيفة رحمه الله: أن الجماعة شرط في ركعة تامة؛ لأن ما دون الركعة معتبر من وجه دون وجه، معتبره من وجه، فإنه إذا تحرم ثم قطع يلزمه القضاء، وغير معتبرة من وجه، فإنه إذا أدرك الإمام في السجود لا يصير مدركاً للركعة وإذا حلف لا يصلي، فافتتح الصلاة وقرأ وركع ثم قطع لا يحنث في يمينه، وصلاة الجمعة تغيرت من الظهر إلى الجمعة، فلا يتغير إلا بيقين ولا يقين إلا وأن توجد ركعة معتبرة من جميع الوجوه. وإذا كبر الإمام للجمعة والقوم حضور لم يشرعوا معه ثم شرعوا بعد ذلك، ذكر في «الأصل» : أنهم إذا كبروا قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع صحت الجمعة، وإلا استقبلها ولم يذكر في الأصل خلافاً، وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» رحمه الله جعل هذا قول محمد وذكر، وقال أبو حنيفة: إن كبر قبل أن يقرأ الإمام آية قصيرة صحت الجمعة وإلا استقبلها. وقال أبو يوسف: إن كبروا قبل أن يقرأ الإمام ثلاث آيات قصار أو آية طويلة صحت الجمعة وإلا استقبلها، وإن كبروا قبل أن يشرع الإمام في القراءة صحت الجمعة بالاتفاق، ولو خطب والقوم حضور وشرعوا في الصلاة (102ب1) ثم أحدث القوم فخرجوا فدخل آخرون لم يسمعوا الخطبة، ودخلوا في صلاته جاز؛ لأن الخطبة والافتتاح حصل مع الجمع، ولو ظهر أن الأولون لم يكونوا على وضوء فكبر الإمام ثم دخل آخرون هم على الوضوء استقبل بهم التكبير؛ لأن الشروع ما حصل مع الجمع والله أعلم. والشرط الخامس: الخطبة حتى لو صلوا من غير خطبة أو خطب الإمام قبل الوقت لا يجوز، والأصل فيه قول الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ

فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) والمراد منه الخطبة، فقد أمر بالسعي إلى الخطبة، والأمر بالسعي إليها دليل على وجوبها؛ ولأن إقامة الجمعة مقام الظهر عرفت شرعاً بخلاف القياس، والشرع ما جاء بها إلا مقيداً بالخطبة، فإن النبي عليه السلام ما أقامها في عجزه من غير خطبة. وبعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: الخطبة تقوم مقام ركعتين، ولهذا لا يجوز إلا بعد دخول وقت الجمعة، وفي حديث ابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم، «إنما قصرت الصلاة لمكان الخطبة» دليل على أن الخطبة شطر الصلاة، وهذا ليس بصحيح بدليل أن الإمام لا يستقبل القبلة عند الخطبة، ولا يقطعها الكلام ويعتد بها إذا أداها وهو محدث أو جنب على ما يأتي بيانه إن شاء الله. وإذا ثبت أن الخطبة شرط يتفرع على هذا مسائل؛ إذا خطب الخطيب وحده جاز على قول أبي حنيفة وعلى قولهما لا يجوز، ذكر الخلاف على هذا الوجه في «متفرقات الفقيه أبي جعفر» ، ورأيت في موضع آخر أن عن أبي حنيفة رحمه الله في هذا الفصل روايتان. وفي «نوادر المعلى» : عن أبي يوسف إذا خطب يوم الجمعة ونفر الناس عنه، ثم رجعوا صلى بهم الجمعة، ولو لم يرجعوا وجاء قوم آخرون لا يصلي بهم الجمعة إلا أن يعيد الخطبة، وفي ظاهر الرواية يصلي بهم الجمعة من غير أن يعيد الخطبة. ولو خطب والقوم حضور إلا أنهم محدثون، أو كانوا جنباً فذهبوا وتوضؤوا ثم رجعوا وصلى بهم الجمعة جاز، ولو خطب وهناك رجال من بعيد لم يسمعوا الخطبة جاز، ولو خطب بالفارسية جاز عند أبي حنيفة على كل حال. وروى بشر عن أبي يوسف: أنه إذا خطب بالفارسية وهو يحسن العربية لا يجزئه إلا أن يكون ذكر الله في ذلك العربية في حرف أو أكثر من قبل أنه يجزىء في الخطبة ذكر الله، وما زاد فهو فضل. قال الحاكم أبو الفضل: هذا خلاف قوله المشهور، وإذا خطب الإمام في الجمعة قبل الزوال وصلى بعد الزوال لا يجوز، فإنه شرعت الخطبة شرطاً للجواز، والشرائط تكون مقدمة على المشروط إلا أنها شرط بمنزلة الركعتين وهو الشفع الثاني، وكما لا يجوز إقامة الشفع الثاني قبل الخطبة فكذا الخطبة، ولو خطب صبي يوم الجمعة وله منشور الوالي، وصلى بالناس بالغ جاز. وفي «فتاوى خوارزم» : قال محمد رحمه الله: ويخطب الإمام قائماً يوم الجمعة؛ لما روي أن رجلاً سأل ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهم أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائماً أو قاعداً، قالا: أليس يتلو قول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَرَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَرَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ} (الجمعة: 11) كان رسول الله عليه السلام يخطب قائماً حين انفض عنه الناس بدخول العير المدينة، وهكذا جرى التوارث من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا، والذي روي أن عثمان

رضي الله عنه كان يخطب قاعداً، إنما فعل ذلك لمرض أو لكبر سن في آخر عمره، وفي حديث جابر بن سمرة «أن النبي عليه السلام كان يخطب قائماً خطبة واحدة فلما أسن وكبر جعلها خطبتين وجلس بينهما جلسة» ويستقبل القوم بوجهه مستدبراً القبلة، به جرى التوارث من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من غير نكير منكر. ثم السنّة أن يخطب خطبتين ويجلس جلسة خفيفة بينهما يحمد الله تعالى في الأولى، ويثني عليه ويتشهد ويصلي على النبي عليه السلام، ويعظ الناس ويذكرهم، وفي الثانية يفعل كذلك إلا أنه يدعو مكان الوعظ، كذا جرى التوارث. قال شمس الأئمة السرخسي في تقدير الجلسة بين الخطبتين: إنه إذا تمكن في موضع جلوسه، واستقر كل عضو منه في موضعه قام من غير مكث ولبث، وكان ابن أبي ليلى يقول: إذا مس الأرض موضع جلوسه أدنى مسه قام إلى الخطبة الأخرى. وينبغي أن تكون الخطبة الثانية ما يخطب بها الخطباء في بلدنا اليوم: الحمد لله نحمده ونستعينه لا يبدل هذا بحال ولا يغيره، وله أن يبدل الأولى ويغيرها، فقد صح أن النبي عليه السلام كان لا يترك هذه الخطبة بحال، ولو خطب خطبة واحدة قائماً أو قاعداً أو خطب خطبتين قاعداً أو إحداهما قائماً، والأخرى قاعداً أجزأه إلا أنه يصير مسيئاً إن فعل ذلك من غير عذر. وكذلك إذا خطب متكئاً على عصا أو على قوس جاز، إلا أنه يكره، لأنه خلاف السنّة وإذ خطب مستقبل القبلة مولياً ظهره إلى الناس جاز، ولكن يكره؛ لأنه خلاف السنّة، ويقرأ في خطبته سورة من القرآن أو آية، فالأخبار قد توافرت أن النبي عليه السلام كان يقرأ القرآن في خطبته، وأن خطبته لا تخلوا عن سورة أو آي من القرآن، روي أنه قرأ في خطبته: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (البقرة: 281) وروي أنه قرأ: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} (الأحزاب: 70) وروي أنه قرأ: {وَنَادَوْاْ يمَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّكِثُونَ} (الزخرف: 77) وروي أنه قرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا} (الزلزلة: 1) . وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل البخاري يقول: يستحب للإمام أن يقرأ في كل جمعة {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءوفُ بِالْعِبَادِ} (آل عمران: 30) الآية. إلا أنه إذا أراد أن يقرأ سورة، فإنه يتعوذ في أولها ويسمي وإن قرأ آية من القرآن اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يتعوذ ويسمي وأكثرهم قالوا: يتعوذ ولا يسمي، ولهذا تعارف الخطباء في زماننا ترك التسمية احتياطاً، والأمان بالتعوذ على كل حال يقولون: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقد يسمون وقد لا يسمون، وأصل الاختلاف في القراءة في غير الخطبة إذا أراد أن يقرأ سورة يتعوذ ويسمي، وإذا أراد أن

يقرأ آية هل يسمي؟ فعلى الاختلاف. وإذا قرأ الإمام على المنبر آية السجدة سجدها، وسجد معه من سمعها، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ينزل من المنبر ويسجد على الأرض، ثم قال رحمه الله: قال مشايخنا: إذا تلا الإمام آية السجدة في صلاة الجمعة لا يسجد لها؛ لأنه إذا خر للسجود كبر المكبرون، فيظن الناس أنه للركوع فيفتننون، فيكون تركها أولى ولا يطول الخطبة، جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: طولوا الصلاة وقصروا الخطبة، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: طول الصلاة وقصر الخطبة مئينة في فقه الرجل. قال القدوري في «كتابه» : ويكون قدر الخطبتين مقدار سورة من طوال المفصل ويستقبل الإمام بوجههم حالة الخطبة؛ لأن الخطيب يعظهم بالخطبة ويخاطبهم فالإعراض عنهم يكون تهاوناً وجفاءً. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: من كان أمام الإمام استقبله بوجهه، ومن كان عن يمين الإمام أو عن يساره انحرف إلى الإمام، فقد صح أن رسول الله عليه السلام كان إذا خطب استقبله أصحابه، فمن كان أمامه أقبل بوجهه إليه ومن كان عن يمينه أو عن يساره انحرف إليه، قال شمس الأئمة الحلواني السرخسي: والرسم في زماننا استقبال القوم القبلة، وترك استقبالهم الخطيب ما يلحقهم من الحرج بتسوية الصفوف بعدما فرغ الخطيب من الخطبة، لكثرة الزحام، قال: وهذا أحسن. ويجزىء في الخطبة قليل الذكر، نحو قوله الحمد لله، ونحو قوله: لا إله إلا الله، ونحو قوله: سبحان الله، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يجوز إلا إذا كان كلاماً به يسمى خطبة عادة، وقال الشافعي رحمه الله: لا بد من خطبتين الشافعي يحتج بالتوارث من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من غير نكير منكر، والمتوارث كالمتواتر. وأبو يوسف، ومحمد رحمهما الله، قالا: بأن الشرط هو الخطبة والتكبيرة الواحدة لا تسمى خطبة، ولا يقال لقائلها خطيباً عرفاً وعادة، وإن كانت خطبة حقيقة، فكانت خطبة من وجه دون وجه، وقع الشك في جواز الجمعة، فلا يحكم بالجواز. وأبو حنيفة رحمه الله يحتج بقوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) (103أ1) أمر بمطلق الذكر، فمن قيده فقد نسخ المطلق، وعن رسول الله عليه السلام أنه كتب إلى مصعب بن عمير «إذا مالت الشمس من اليوم الذي تتجهز اليهود لسبتها، فاجمع من قبلك من المسلمين، وذكرهم بالله» من غير فصل بين ذكر وذكر. وعن عثمان رضي الله عنه: أنه لما صعد المنبر في أول جمعة ولي قال: الحمد لله فأرتج عليه، فقال: «إن أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما كانا يعدان لهذا المكان حقه، ألا

وأنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، وسيأتي الخطب من بعد الله أكبر ما شاء فعل» ونزل، وصلى معه خيار الصحابة من غير نكير منكر ومراده من قوله: وأنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال أن الخطباء الذين يأتون بعد الخلفاء الراشدين يكونون على كثرة المقال مع قبح الفعال، وأنا لم أكن قوالاً مثلهم فأنا على الخير دون الشر فأما أن يريد بهذه المقالة تفضيل نفسه على الشيخين فلا، ثم قوله: الحمد لله، كلمة وجيزة تحتها معاني جمة تشتمل على قدر الخطبة وزيادة، فالمتكلم بقوله: الحمد لله كالذاكر بجملة ذلك، فيكون ذلك منه خطبة لكنها وجيزة. وقصر الخطبة مندوب إليه على ما مر. وحكى الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: عن أستاذه الفقيه أبو بكر الأعمش رحمه الله كان يقول: التسبيحة الواحدة والتكبيرة الواحدة في مثل هذا المكان، في مثل هذه الحالة من مثل هذا الخطيب خطبة، وإن كانت لا تكون خطبة من غيره؛ لأن المكان أعد للخطبة والوقت وقت خطبة والخطيب هيأ نفسه لذلك، فإذا جاء بالذكر وإن قل يكون خطبة ولا يبعد أن يختلف الكلام باختلاف المحل. ألا ترى أن من اعتاد التكلم بنعم في خلال الكلام كان نعم منه في خلال الكلام كفواً، وهدراً، وإذا قال له غيره: لي عليك كذا وكذا، فقال: نعم كان ذلك منه إقراراً ملزماً للمال، واختلف الكلام لاختلاف المحل كذا هنا. وقال الحاكم الشهيد رحمه الله في «إشاراته» : إن هذه المسألة، فرع مسألة أخرى: أن أبا حنيفة رحمه الله يعتبر في شروط جواز الصلاة أدناها حتى قال: لو حنى ظهره للركوع ولم يعتدل جاز، وإذا سجد بأنفه دون جبهته وإن رفع رأسه بين السجدتين أدنى الرفع جاز ووقع الفصل. وإن قرأ في صلاته آية قصيرة جاز عنده، فجعل هذا أصلاً من أصول أبي حنيفة وخرج المسائل عليه، وعد هذه المسألة من جملتها، وقاس الخطبة بالصلاة بأدنى الأذكار والأركان، فالخطبة أولى. وعن أبي يوسف رحمه الله أن الإمام إذا عطس على المنبر، وقال: الحمد لله، ثم نزل وصلى بالناس جازت صلاته، وكان حمده خطبة، ثم رجع، وقال: لا يكون خطبة، ومن المشايخ من قال: إذا عطس على المنبر وحمد الله تعالى، إذا نوى به الخطبة كان خطبة، وإذا نوى حمد العاطس لا يكون خطبة، وكذا فيما إذا أتى بتسبيحة إنما تجزئه عن الخطبة إذا نوى به الخطبة. وهو نظير من حمد الله تعالى عند الذبح أجزأه عن الذبح إذا نوى به التسمية، وإن لم ينو به التسمية لا يجزئه، ولو خطب وهو جنب أو محدث ثم اغتسل أو توضأ وصلى بهم الجمعة أجزأه وهذا مذهبنا. وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله بناءً على أن عند الشافعي الخطبة تقوم مقام ركعتين من الصلاة، وعندنا ليس كذلك بدليل ما ذكرنا من الأحكام.

والمعنى في المسألة: أن الخطبة ذكر الله تعالى، والجنب والمحدث لا يمنعان عن ذكر الله تعالى جاء في الحديث «أن النبي عليه السلام كان لا تحجره الجنابة عن شيء إلا عن قراءة القرآن» ، إلا أنه لو تعمد ذلك يصير مسيئاً لدخوله المسجد من غير طهارة، ولأن الخطبة وإن لم تكن صلاة حقيقة إلا أنها تشبه الصلاة، ولهذا لا تجوز الجمعة بدونها، ولو كانت صلاة حقيقة لا تجوز بدون الطهارة، فإذا كانت تشبه الصلاة.h قلنا: تكره مع الحدث والجنابة ولم يذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : أنه هل تعاد الخطبة؟ وذكر في «النودار» عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا تعاد، والأذان جنباً يعاد ولكل واحد منها شبهاً بالصلاة إلا أن الأذان أشبه بالصلاة من الخطبة فإن الأذان يؤدى مستقبل القبلة والخطبة تؤدى مستدبر القبلة. وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله الإعادة فيهما جميعاً وإن خطب وهو طاهر، ثم أحدث وأمر رجلاً بالصلاة فإن كان الرجل المأمور قد شهد الخطبة أو بعضها أجزأه، لأنه ينشىء تحريمة الجمعة وقد وجد شرط افتتاح الجمعة في حقه وهو الخطبة؛ فيجوز، وإن لم يشهد المأمور الخطبة لا يجزئه، إلا أنه يريد أن ينشىء تحريمة الجمعة من غير شرطها، وهو الخطبة، فلا تجزئه كما إذا لم يخطب الأولى، وأراد أن يصلي بالناس الجمعة. ولو أن الإمام الأول أحدث بعد الشروع في الجمعة، فأمر رجلاً لم يشهد الخطبة حتى يصلي بهم الجمعة يجوز؛ لأنه لا ينشىء التحريمة، بل يبني على صلاة الإمام والخطبة شرط افتتاح الجمعة، لا شرط البناء. فإن قيل: ما ذكرتم من العذر ليس بصحيح، بدليل أن الثاني لو أفسد صلاته ثم افتتح بهم أجزأه، وهو مفتتح في هذه الحالة. قلنا: نعم ولكن لما صح شروعه في الجمعة وصار خليفة للأول التحق بمن شهد الخطبة حكماً، فهلذا أجاز له الافتتاح بعد الإفساد. إذا خطب الإمام يوم الجمعة ثم قدم أمير آخر إن صلى القادم بخطبة الأول صلى أربعاً، لأن الخطبة شرط افتتاح الجمعة، وإنه غير موجود في حق القادم وإن خطب خطبة جديدة صلى ركعتين وإن صلى الأول الجمعة بالناس، فإن لم يعلم بقدوم الثاني أجزأهم؛ لأنه لا ينعزل ما لم يعلم بقدوم الثاني، وإن علم بقدوم الثاني لا يجزئهم؛ إلا أن يكون القادم أمر الأول بإقامتها، فحينئذٍ يجوز؛ لأنه يستجمع شرائط الجمعة. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وقد قيل: لا يجزئهم؛ لأن الثاني لما لم يملك إقامتها لعدم الخطبة يصح أمره الأول بها. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إمام خطب الناس يوم الجمعة ثم قدم عليه أمير آخر مكانه بعدما فرغ من الخطبة، فأمر هذا القادم رجلاً ممن شهد الخطبة فصلى بالناس

الجمعة يجزئهم من قبل أن خطبة الأول قد انتقضت حين عزل، ولو أن القادم شهد الخطبة ولم يعزل الأول، ولكنه أمر رجلاً أن يصلي الجمعة بالناس، فصلى جاز؛ لأنه لما شهد الخطبة، فكأنه خطب بنفسه، ولو أن القادم شهد خطبة الأول، وسكت عنه حتى صلى بالناس، وهو يعلم بقدومه فصلاته جائزة؛ لأنه على ولايته لم يظهر العزل. وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف: في الإمام الذي له حق إقامة الجمعة إذا عزل وصلى بالناس الجمعة قبل أن يأته الكتاب بعزله أي: قبل أن يعلم بعزله جاز وإن صلى بعدما علم بعزله لا يجوز، وإن صلى صاحب شرطة جاز؛ لأن عمالهم على حالهم بعد العزل، وإذا افتتح الإمام الجمعة ثم حضر والي آخر يمضي على صلاته؛ لأن افتتاحه قد صح فصار كرجل أمره الإمام أن يصلي بالناس الجمعة ثم حجر عليه، إن حجر عليه قبل الشروع في الصلاة عمل حجره؛ وإن حجر عليه بعد الشروع لا يعمل حجره؛ وكذا ها هنا. ولو أن الإمام سبقه الحدث قبل الشروع في الصلاة، فأمر جنباً قد شهد الخطبة حتى صلى بالناس، وأمر المأمور طاهراً قد شهد الخطبة، فصلى بهم جاز كما لو أمر الإمام الأول؛ وهذا لأن أمر الإمام الأول قد صح؛ لأنه فوض الجمعة إلى من هو من أهل الجمعة، فإن الجنب أهل للجمعة لكنه عاجز عن أدائها، لفقد الشرط وهو الطهارة، وإذا صح التفويض إلى الأول، لكونه أهلاً قام الثاني مقام الأول، فصار أمر الثاني كأمر الأول. بخلاف ما إذا أمر الأول صبياً لو محترماً، فأمر الصبي رجلاً قد شهد الخطبة لا يجوز الثاني أن يصلي الجمعة؛ لأن التفويض إلى الصبي لم تصح لعدم أهلية الجمعة، وإذا لم يصح التفويض إليه لم يقم مقام الأول ليصير أمره كأمر الأول، وبخلاف ما إذا أمر الأول امرأة، فأمرت المرأة رجلاً قد شهد الخطبة لا يجوز لهذا الرجل أن يصلي بهم الجمعة لما ذكرنا، في حق الصبي. وذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في «المنتقى» : أن إماماً لو سبقه الحدث في الصلاة، فذهب وقدم امرأة، فإنه ينظر إن قامت مقامه فسدت صلاته، وإن قدمت رجلاً مكانها جازت صلاة الكل. بعض مشايخنا ظنوا (103ب1) أن الاستخلاف من المرأة والصبي جائز في سائر الصلوات غير حائز في الجمعة، وليس الأمر كما ظنوا، بل الاستخلاف منها لا يجوز في الصلوات كلها؛ لأن تفويض الإمامة إلى الصبي، والمرأة لم تصح في سائر الصلوات، فلا يصح منها الاستخلاف، وإذا لم يصح استخلافهما جعل وجود الاستخلاف منهما وعدمه بمنزلة وجعل كأن خليفة الصبي، والمرأة تقدم بنفسه من غير استخلافهما إلا أنه لو تقدم بنفسه في سائر الصلوات يصير إماماً، ويجوز له أن يصلي بهم ولو تقدم بنفسه في الجمعة لا يصير إماماً فلا يجوز له أن يصلي الجمعة بهم؛ لأنه أقامها بغير إذن الإمام كذا ها هنا.

الإمام إذا خطب ثم أحدث وأمر من لم يشهد الخطبة أن يصلي بالناس، وأمر ذلك الرجل من شهد الخطبة فصلى بهم ذكر شمس الأئمة السرخسي أنه لا يجوز، وهكذا ذكر الحاكم في «المختصر» . وفي «فتاوى أهل سمرقند» : أنه يجوز؛ لأن الذي لم يشهد الخطبة من أهل الصلاة فصح التفويض لكن عجز عن الأداء، لفقد شرطه وهو سماع الخطبة، فيملك التفويض إلى الغير ولو كان الثاني ذمياً ولم يعلم الإمام به، فأمر الذمي مسلماً حتى يصلي بهم فصلى لم يجز؛ لأن التفويض إلى الذمي لم يصح؛ لأنه ليس من أهل الصلاة فلا يصح منه التفويض إلى المسلم. وكذا لو أن الأول أمر مريضاً يصلي بإيماء أو أخرساً أو أمياً، فأمر هؤلاء غيرهم حتى يصلي لم يجز، وفيه فإن كان التفويض إلى هؤلاء قبل الجمعة بأيام فبرأ المريض والأخرس وتعلم الأمي، فصلى بهم الجمعة أو أمروا غيرهم جاز؛ لأن التفويض ليس بلازم، وما ليس بلازم كان لبقائه حكم الابتداء فصار كأنه فوض إليهم للحال، وهم في الحال من أهل الصلاة، فإن كان الإمام دخل في الصلاة ثم أحدث، فقدم ذمياً وقدم الذمي غيره لا يجوز، فإن أسلم الذمي بعدما قدمه إن خطب بهم وصلى الجمعة من الابتداء أو أمر غيره بأن يخطب ويصلي بهم الجمعة، بعدما أسلم جاز، وإن بنى على تلك الصلاة لم يجز لما قلنا. وإذا أحدث الإمام قبل الشروع في الصلاة فلم يأمر أحداً فتقدم صاحب شرطة أو القاضي أو أمر رجلاً قد شهد الخطبة، فتقدم وصلى بهم الجمعة أجزأهم، واختلفت عبارة المشايخ في علة المسألة. بعضهم قالوا: إقامة الجمعة من أمور العامة وقد فوض إلى القاضي وصاحب الشرطة، ما هو أمور العامة، فينزلا فيها منزلة الإمام في الإمامة بأنفسهما وبالاستخلاف. وبعضهم قالوا: القاضي وصاحب الشرطة خلفاً للإمام فيما هو من السياسة والديانة، وإقامة الجمعة وتفويضهما إلى غيرهما من الديانة، فقاما فيهما مقام الإمام وقد مر شيء من ذلك في أول الفصل. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف في إمام خطب ونزل وافتتح التطوع ركعتين خفيفتين، وأتمهما أو أفسدهما أو شرع في الجمعة ثم علم أن عليه صلاة الغداة، فقضاها فإني آمره بإعادة الخطبة، وإن لم يعدها أجزأه، وكذلك لو خطب، ثم رجع إلى منزله، فتوضأ أو قعد أو فعل شبه ذلك، ثم رجع وصلى جاز. وفي «المنتقى» : إمام خطب يوم الجمعة وأحدث، وانصرف وتوضأ، ثم جاء وصلى أجزأه؛ لأن هذا من عمل الصلاة. ولو تغدى أو جامع فاغتسل ثم جاء استقبل الخطبة، وذكر الطحاوي رحمه الله في «شرح الأثار» ، فلا ينبغي أن يكون للإمام في صلاة الجمعة غير الخطيب؛ لأن صلاة الجمعة مع الخطبة كشيء واحد من حيث المعنى؛ لأن صلاة الجمعة إنما قصرت؛ لأجل

الخطبة؛ فلا ينبغي أن يقيمها اثنان ولا ينبغي للخطيب أن يتكلم في خطبته بما هو كلام الناس؛ إما لأن الخطبة تشبه الصلاة على ما بينا؛ ولا ينبغي للمصلي أن يتكلم في صلاته بما يشبه كلام الناس، أو لأن الخطبة كلمات منظومة شرعت قبل الصلاة، فأشبهت الأذان، ولا ينبغي للمؤذن أن يتكلم في أذانه بما يشبه كلام الناس، ولا بأس بأن يتكلم بما يشبه الأمر بالمعروف. وقد صح أن رسول الله عليه السلام كان يخطب، فدخل سليك الغطفاني، وجلس، فقال عليه السلام: «أركعت ركعتين» فقال سليك: لا، فقال عليه السلام: «قم واركع ركعتين ثم اجلس» ، وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يخطب يوم الجمعة، فدخل عثمان رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه: أية ساعة المجيء هذه، فقال عثمان: ما زدت حين سمعت النداء على أن توضأت، فقال عمر: «أتوضؤ أيضاً» ، ورسول الله عليه السلام كان يأمر بالاغتسال يوم الجمعة. ولأن ما يشبه الأمر بالمعروف خطبة من حيث المعنى، وإن لم يكن خطبة من حيث النظم؛ لأن الخطبة في الحقيقة وعظ وأمر بالمعروف. ثم فرق بين الإمام والقوم فحرم على القوم التكلم في وقت الخطبة بجميع الكلام ما يشبه بكلام الناس، وما يشبه الأمر بالمعروف، وفي حق الإمام فرق بينهما. والفرق: أن المفروض على الإمام الخطبة والأمر بالمعروف والوعظ لا يقطعها معنى، والمفروض على القوم الاستماع والإنصات، والكلام يقطع ذلك أي كلام كان. من العلماء من قال: السكوت على القوم كان لازماً في زمن رسول الله عليه السلام؛ لأنه كان يعرض عليهم في خطبته ما نزل عليه من القرآن فكان يلزمهم السكوت والاستجماع، ليأخذوا ويقبلوا منه ويصدقوه في ذلك، فأما اليوم، فالسكوت غير لازم لأنه قد يكون في القوم من هو أعلم من الإمام، وأورع منه، فلا يؤمر باستماع وعظ من هو دونه. ومنهم من قال ما دام في حمد الله تعالى والثناء عليه والوعظ للناس، فعليهم أن يستمعوا، وإذا أخذ في مدح الظلمة والدعاء لهم، فلا بأس بالكلام؛ لأن مدحهم لا يخلو عن كذب فالإعراض عنه أولى، وهذا ما روي عن بعض السلف أنه كان يقلب الحصى في ذلك الوقت إنما كان يفعل ذلك، ليصير ذلك مانعاً دخول ذلك في سمعه. وكان الطحاوي رحمه الله يقول: على القوم أن يستمعوا وينصتوا إلا أن يبلغ الخطيب قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56) ، فحينئذٍ يجب عليهم أن يصلوا على النبي عليه السلام ويسلموا؛ لأن الخطيب حكى عن...... الله تعالى وملائكته أنهم يصلون وحكى أمر

الله تعالى بالصلاة عليه وامتثال أمر الله تعالى واجب، فيجب عليهم في هذه الحالة، والذي عليه عامة مشايخنا: أن على القوم أن يستمعوا الخطبة وينصتوا من أول الخطبة إلى آخرها. والأصل فيه قول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِىء الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأعراف: 204) نزلت الآية في الخطبة على ما ذكرنا، والله تعالى أمر باستماع الخطبة مطلقاً فيتناول الخطبة من أولها إلى آخرها. وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: إذا ذكر الله والرسول في الخطبة استمعوا، ولم يذكروا الله تعالى والثناء عليه ولم يصلوا على النبي عليه السلام، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يصلي الناس عليه في نفوسهم وهذا كله في حق من كان قريباً من الإمام بحيث يسمع ما يقوله الإمام. أما من كان بعيداً من الإمام لا يسمع ما يقوله الإمام ماذا يصنع؟ لا رواية في هذا الفصل، قال محمد بن سلمة رحمه الله: يسكت، وهكذا ذكر المعلى في «كتاب الصلاة» عن أبي يوسف رحمه الله. وروي عن نصير بن يحيى رحمه الله: أنه إذا كان بعيداً من الإمام يقرأ القرآن، وروي عنه أنه كان يحرك بسيفه ويقرأ القرآن، وروى حماد عن إبراهيم أنه قال: إني لأقرأ جزأين يوم الجمعة والإمام يخطب وجه هذا القول أن المقصود من الإنصات الاستماع لما فيها من قراءة القرآن والوعظ، فإذا لم يستمع يقرأ حتى يحصل ما هو المقصود بقراءة القرآن. ووجه ما روي عن محمد بن سلمة حديث عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما قالا: إن أجر المنصت الذي لا يسمع مثل أجر المنصت السامع، ولأنه مأمور بشيئين بالاستماع والإنصات فمن قرب من الإمام، فقد قدر عليهما ومن بعد من الإمام فقد قدر على أحدهما وهو الإنصات فيأتي بما قدر عليه، ويترك ما عجز عنه. فأما دراسة الفقه والنظر في كتب الفقه وكتابته فمن أصحابنا رحمهم الله من كره ذلك، ومنهم من قال: لا بأس به، وهكذا روي عن أبي يوسف (104أ1) . وروي أن الحكم بن زهير كان أبلغ في الفطنة من أبي يوسف حتى روى عن أبي يوسف أنه كان يقول: ما رأيت رجلاً أذكى ولا أفصح ولا أصبح وجهاً من الحكم بن زهير، وقال الحسن بن زياد رحمه الله: ما دخل العراق أحد أفقه من الحكم بن زهير، وإن الحكم كان يجلس مع أبي يوسف يوم الجمعة وكان ينظر في كتابه ويصححه بالقلم وقت الخطبة. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هنا فصل آخر اختلف فيه المشايخ أيضاً: أنه إذا لم يتكلم بلسانه، ولكنه أشار برأسه أو بيده أو بعينه نحو إن رأى منكراً من إنسان، فنها بيده أو أخبر بخبر فأشار برأسه هل يكره ذلك، أم لا؟ فمن أصحابنا رحمهم الله من كره ذلك، وسوى بين الإشارة بالرأس وبين التكلم باللسان، والصحيح أنه لا بأس به، فإنه روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلّميوم الجمعة وهو

يخطب، فرد عليه بالإشارة» ، والدليل عليه ما روي «أن أبا ذر رضي الله عنه كان جالساً إلى جنب أبي بن كعب ورسول الله عليه السلام كان يخطب يوم الجمعة فقرأ في خطبته آية من القرآن، فقال أبو ذر لأبي رضي الله عنهما: متى نزلت هذه الآية؟ ولم يجبه وغمزه ليسكت» دل أن الإشارة، لا بأس بها. قال شمس الأئمة: وهنا فصل آخر وهو أن الدنو من الإمام أولى أو التباعد عنه، قال كثير من العلماء: التباعد أولى، كيلا يسمع مدح الظلمة ودعاؤهم، والصحيح من الجواب عن مشايخنا رحمهم الله أن الدنو منه أفضل. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ولا تشمتوا العاطس، ولا ترد السلام يعني وقت الخطبة، ولم يذكر فيه خلافاً وروى محمد عن أبي يوسف في صلاة الأثر أنهم يردون السلام ويشمتون العاطس، ويتبين بما ذكر في صلاة الأثر أن ما ذكر في «الأصل» قول محمد. والخلاف بين أبي يوسف، ومحمد في هذا بناءً على أنه إذ لم يرد السلام في الحال بل رده بعد ما فرغ الإمام من الخطبة على قول محمد يرد، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا يرد، فلما كان مذهب محمد الرد بعد فراغ الإمام من الخطبة كان الاستماع والإنصات أولى؛ لأنه لو رد يفوت الإنصات والاستماع، ولو استمع لا يفوت رد السلام بل يتأخر والتأخير أولى من التفويت. وعند أبي يوسف رحمه الله لما كان لا يمكنه رد السلام ولا يشمت العاطس بعد فراغ الإمام من الخطبة، فلو رد لا يفوت الاستماع أصلاً بل يفوت البعض، ولو لم يرد يفوت الرد أصلاً وتفويت البعض دون البعض أولى من تفويت الكل، وإنما لا يمكنه رد السلام بعد الفراغ من الخطبة عند أبي يوسف؛ لأن رد السلام جواب الخطاب وجواب الخطاب ما يكون على غرار الخطاب، أما إذا تأخر يكون كلاماً مبتدءاً ولا يكون جواباً، ومحمد رحمه الله يقول: يمكنه الرد؛ لأن المجلس واحد، فيجعل الموجود في آخر المجلس كالموجود في أوله، كما في البيع. وروي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية «الأصول» : أنه يرد بقلبه ولا يرد بلسانه؛ لأنه إن عجز عن رده بلسانه، فإنه لم يعجز عن رده بقلبه، يقوم الرد بالقلب مقام الرد باللسان كما قام الإيماء بالرأس في حق المريض مقام الركوع والسجود، ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : أن العاطس هل يحمد الله؟ وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أن العاطس وقت الخطبة يحمد الله تعالى في نفسه، ولا يجهر، وهذا صحيح؛ لأن ذلك لا يشغله عن الاستماع.

وعن محمد رحمه الله: أن العاطس يحمد الله تعالى بقلبه فلا يحرك شفتيه، وإذا فرغ الإمام من الخطبة يحمد الله تعالى بلسانه، وهذا كالمتغوط إذا سمع الأذان يجيبه بقلبه، وإذا فرغ من التغوط يجيبه بلسانه، فلا ينبغي لهم أن يشربوا أو يأكلو والإمام يخطب لما ذكرنا أن صلاة الجمعة مع الخطبة كشيء واحد. ثم لا ينبغي لهم أن يأكلوا ويشربوا والإمام في الصلاة فكذا إذا كان في الخطبة، وفي بعض الكتب ما يحرم في الصلاة يحرم في الخطبة، وهو إشارة إلى ما قلنا. ثم عند أبي حنيفة رحمه الله يكره الكلام من حين يخرج الإمام إلى أن يفرغ من الصلاة للخطبة، وكذلك الصلاة. وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: لا بأس بأن يتكلم قبل الخطبة وبعدها ما لم يدخل الإمام في الصلاة. وأما الكلام عند الجلسة الخفيفة، من مشايخنا رحمهم الله من قال: بأنه على هذا الخلاف، ومنهم من قال: بلا خلاف يكره، حجتهما ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي عليه السلام كان إذا نزل عن المنبر أمر ببعض حوائجه، وكان يسأل الناس عن حوائجهم وعن أسعار السوق ثم يصلي، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام، ولم يجعل خروجه قاطعاً للكلام. وروي عن عمر، وعثمان رضي الله عنهما كانا إذا صعدا المنبر أنهما يسألان الناس عن أسعار السوق، وحوائجهم؛ ولأن التكلم بما لا إثم فيه إنما حرم لأجل الاستماع ولا استماع في باقي الحال، بخلاف الصلاة؛ لأنها تمتد إلى وقت الخطبة أو إلى وقت الشروع في الصلاة. حجة أبي حنيفة رحمه الله ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول، فالأول» الحديث إلى أن قال: «فإذا خرج الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمتعون الذكر» وإنما يطوون الصحف إذا طوى الناس الكلام فأما إذا كانوا يتكلمون فهم يكتبون عليهم قال الله تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18) وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي عليه السلام أنه قال: إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ» فلأن الخطبة في معنى شطر الصلاة، فالمتكلم في الخطبة كالمتكلم في وسط الصلاة من وجه، فيكره وأما حديث رسول الله عليه السلام. قلنا: إن رسول الله عليه السلام كان إماماً، ولا بأس للإمام أن يتكلم، ألا ترى أنه يخطب والخطبة من أولها إلى آخرها كلام، وجواب آخر أن نقول: يحتمل أن رسول الله

عليه السلام فعل ذلك لعذر وضرورة، ويحتمل أنه كان في ابتداء الإسلام حين كان الكلام مباحاً في الصلاة، فيكون مباحاً في حالة الخطبة بطريق الأولى، وهو الجواب عن حديث عمر رضي الله عنه. وإن افتتح الصلاة بعدما خرج الإمام خففها، وأتمها، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أيهم الجواب في «الأصل» وفسره في «النوادر» قال: إن كان صلى ركعة أضاف إليها أخرى وسلم، وإن كان نوى أربعاً عند التكبير وإن قيد الثالثة بالسجدة أضاف إليها الرابعة وسلم وخفف القراءة فيها، فيقرأ بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة، وإن كان له ورد في القراءة ترك الورد في هذه الصورة، وإذا لم يقيد الثالثة بالسجدة، ماذا يصنع؟ لم يذكر هذا الفصل في «النوادر» ، المتأخرون في هذا على قولين، منهم من قال: يمضي فيها ويتمها أربعاً ويخفف القراءة، ومنهم من قال: يعود إلى القعدة، وكأن هذا القائل قاس هذه المسألة بمسألة باب الحدث. وصورة تلك المسألة: إذا شرع الرجل في فريضة في المسجد، ثم أقيم لها وقد كان قام إلى الثالثة، وإن لم يقيد الثالثة بالسجدة عاد إلى التشهد وسلم، وإن قيد الثالثة بالسجدة أتمها أربعاً، ويدخل في صلاة الإمام. والشرط السادس: الإذن العام، وهو أن تفتتح أبواب الجامع، ويؤذن للناس كافة حتى أن جماعة لو اجتمعوا في الجامع وأغلقوا الأبواب على أنفسهم وجمعوا لم يجزئهم ذلك وكذلك إذا أراد السلطان أن يجمع بحشمه في داره، فإن فتح باب الدار، وأذن للناس إذناً عاماً جازت صلاته، شهدها العامة أو لم يشهدوها، وإن لم يفتح باب الدار وأغلق الأبواب كلها، وأجلس عليها البوابين ليمنعوا الناس عن الدخول لم تجزئهم الجمعة؛ لأن اشتراط السلطان للتحرز عن تفويتها على الناس، ولا يحصل ذلك إلا بالإذن العام وكما يحتاج العام إلى السلطان لإقامة الجمعة والسلطان أيضاً يحتاج إلى العام بأن يأذن لهم إذناً عاماً حتى تجور صلاة الكل بهذا النظر من الجانبين.n وأما الشرائط التي في المصلي: فسبعة: أحدها: الإسلام وإنه ظاهر. والثاني: البلوغ. والثالث: العقل، وإنه ظاهر أيضاً؛ لأن الصبي والمجنون لا يخاطبان بشيء من العبادات. والرابع: الإقامة؛ لأن المسافر تلحقه المشقة في دخول المصر (104ب1) وحضور الجمعة، وربما لا يجد من يحفظ رحله وينقطع عن أصحابه. الخامس: الصحة؛ لأن المريض تلحقه المشقة أيضاً في حضور الجمعة، وانتظار الإمام. والسادس: الحرية؛ لأن العبد مشغول بخدمة المولى، فيتضرر المولى بترك خدمته،

وشهود الجمعة وانتظاره الإمام وأما الذكورة؛ فلأن المرأة مشغولة بخدمة الزوج، فيتضرر الزوج بترك خدمته، فلدفع الضرر والحرج أسقط الشرع الجمعة عن هؤلاء. والأصل فيه قوله عليه السلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا مسافر أو مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض» غير أن الإسلام والبلوغ والعقل شرائط الوجوب، والصحة والإقامة والحرية والذكورة شرائط الأداء، حتى أن المسافر والمملوك والمريض إذا حضروا الجمعة وأدوها جازت، وكانت فريضة؛ لأن سقوط فرض السعي منهم للضرر والحرج، فإذا تحملوها التحقوا في الأداء بغيرهم. ومما يتصل بهذه الشروط من المسائل روى إبراهيم عن محمد في نصراني استعمل على مصر أو استقضي، ثم أسلم ليس له أن يصلي بالناس الجمعة، ولا أن يحكم حتى يؤمر بعد إسلامه، وكذلك الصبي، ولو قال الخليفة للنصراني: إذا أسلمت تصلي بالناس الجمعة، لو قال للصبي: إذا أدركت تصلي بهم الجمعة، ثم أسلم النصراني وأدرك الصبي، وصلى بهم الجمعة جاز. وقد ذكرنا بعد هذا عن «فتاوى أهل سمرقند» : أن الإمام إذا أمر الصبي أو النصراني على بلدة وفوض إليه أمر الجمعة، ثم أسلم النصراني، وأدرك الصبي صلى بهم الجمعة جاز، وهذه الرواية بخلاف ما ذكرنا ثمة. وفي «النوازل» : العبد إذا ظهر على ناحية، فصلى بهم الجمعة جاز، ولكن لا تجوز الأنكحة بتزويجة كالقضاء، وليس على المقعد الجمعة بالإجماع وكذلك لا جمعة على الأعمى وإن وجد قائداً، عند أبي حنيفة، وعندهما عليه الجمعة إذا وجد قائداً. والفرق لهما بين المقعد والأعمى: أن الأعمى قادر على السعي إلا أنه لا يهتدي، فإذا وجد قائداً فقد وجد من يهتدي به، فهو بمنزلة الصحيح إذا ضل الطريق، فأما المقعد فغير قادر عليه أصلاً. وفي «نوادر هشام» : عن محمد أنه لا جمعة على الأعمى، وإن وجد قائداً، والشيخ الكبير الذي ضعف، وعجز عن السعي لا تلزمه الجمعة كالمريض، وعلى المكاتب الجمعة، وكذلك على معتق البعض إذا كان يسعى فلا جمعة على العبد المأذون، وعلى العبد الذي يؤدي الضريبة. قال في «الأصل» : وللمولى أن يمنع عبده من حضور الجمعة، ولا يكره له التخلف عنها؛ لأنه لم تكتب عليه، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ما ذكر في «الكتاب» محمول على ما إذا لم يأذن له المولى، أما إذا أذن له المولى، فتخلف عنها يكره كما في الحر. قال رحمه الله: وهذا موضع اختلاف، وقد تكلم الناس فيه، قال بعضهم: له أن يتخلف عنها وإذا أذن له المولى بها.

وقال بعضهم: ليس له أن يتخلف عنها؛ لأن المولى لو أمره بخدمة نفسه يلزمه طاعته، فإذا أمره بخدمة الله تعالى أولى. وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : إذا أذن المولى للعبد في حضور الجمعة كان له أن يشهد الجمعة؛ لأن المنع كان حق المولى، وقد أبطل المولى حقه بالإذن، فكان له أن يشهدها، ولكن لا يجب عليه ذلك؛ لأن منافع العبد لم تصر مملوكة للعبد بإذن المولى فالحال بعد الإذن كالحال قبله. قال في «الأصل» أيضاً: ولا ينبغي له أن يصلي الجمعة بغير إذن مولاه، قال بعض مشايخنا: إنما لا يصلي الجمعة بغير إذن مولاه إذا علم أنه لو استأذن منه في ذلك كره، أما إذا علم أنه لو استأذن منه في ذلك رضي له وأذن له لا يتخلف عنها. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وهكذا قالوا في المرأة إذا أرادت أن تصوم تطوعاً بغير إذن زوجها إن علمت أنها لو استأذنت منه أذن لها، ولم يكره تصوم، وإن علمت أنها لو استأذنت منه يكره ولا يرضى، فلا تصوم، وذكر شمس الأئمة الحلواني السرخسي رحمه الله اختلاف المشايخ في العبد يحضر مع مولاه المسجد الجامع ليحفظ دابته على باب الجامع، هل له أن يصلي الجمعة؟ قال رحمه الله: والأصح أن له ذلك إذا كان لا يخل بحق مولاه في إمساك دابته، وروي عن محمد أن له أن لا يصلي الجمعة، وإن تمكن من ذلك، وأذن له السيد في أدائها، وإذا قدم المسافر المصر يوم الجمعة على عزم أن لا يخرج يوم الجمعة لا تلزمه الجمعة ما لم ينوِ الإقامة خمسة عشر يوماً. ومما يتصل بهذه المسائل ما حكي عن الشيخ الإمام أبي حفص الكبير رحمه الله: أن للمستأجر أن يمنع الأجير من حضور الجمعة، وكان الفقيه أبو علي الدقاق رحمه الله يقول: ليس له أن يمنع الأجير في المصر من حضور الجمعة لكن يسقط عنه الأجر بقدر اشتغاله بالصلاة بذلك إن كان بعيداً، وإن كان قريباً لا يحط عنه شيء من الأجر وإن كان بعيداً، واشتغل قدر ربع النهار حط ربع الأجر، وليس للآجر أن يطالبه من الربع المحطوط بمقدار اشتغاله بالصلاة. الإمام إذ منع أهل مصر أن يجمعوا، حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله أنه إذا نهاهم مجتهداً بسبب من الأسباب، أو أراد أن يخرج ذلك الموضع من أن يكون مصراً لم يجمعوا، فأما إذا نهاهم متعنتاً، أو إضراراً بهم، فلهم أن يجتمعوا على رجل يصلي بهم الجمعة، ولو أن إمام مصر مصلٍ ثم نفر الناس عنه لخوف عدو وما أشبه ذلك ثم عادوا إليه، فإنهم لا يجمعون إلا بإذن مستأنف من الإمام. القروي إذا دخل المصر يوم الجمعة تلزمه الجمعة، وإن نوى أن يخرج من المصر في يومه ذلك قبل دخول وقت الصلاة أو بعد دخول وقت الصلاة، فلا جمعة عليه؛ لأن في الوجه الأول صار كواحد من أهل المصر، وفي الوجه الثاني لا، والله أعلم بالصواب.

نوع آخر في الرجل يصلي الظهر يوم الجمعة يتوجه إلى الجمعة أو لا يتوجه يجب أن نعلم أن الكلام ههنا في فصول: أحدها: في جواز الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة. والثاني: في الكراهة. والثالث: في الانتقاض إذا خرج يريد الجمعة، أما الكلام في الجواز فنقول: بجواز أداء الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة؛ لأن أصل الفرض الظهر لما مر قبل هذا، وأما الكلام في الكراهة فنقول: يكره أداء الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة؛ لأنه مأمور بأداء الجمعة وبإسقاط الظهر بالجمعة، فإذا صلى الظهر قبل فراغ الإمام، فقد خالف أمر الشرع فلهذا يكره، وهذا بخلاف ما بعد فراغ الإمام من الجمعة، فإن بعد فراغ الإمام من الجمعة سقط عنه الأمر بإقامة الجمعة ولزمه أداء الظهر فكان في أداء الظهر موافقاً أمر الشرع لا مخالفاً. قال في «الأصل» : وإن كان مريضاً يستحب له أن يؤخر الظهر إلى أن يفرغ الإمام من الجمعة، ولو لم يؤخر لا يكره، والصحيح المقيم يؤخر ولو لم يؤخر يكره. والفرق: أن المريض مأمور بأداء الجمعة لكن استحب التأخير؛ لأنه يرجى على إقامة الجمعة بزوال المرض ساعة فساعة فلا يصير بأداء الظهر مخالفاً أمر الشرع، ولا كذلك الصحيح. وأما الكلام في انتقاض الظهر إذا خرج يريد الجمعة به، فاعلم بأن هذا الفصل على وجهين: إما إن أدرك الجمعة مع الإمام، أو لم يدرك، فإن أدركها مع الإمام ينتقض ظهره عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، المعذور نحو العبد والمسافر والمريض، وغير المعذور في ذلك على السواء، حتى لو بطلت الجمعة بوجه ما كان عليه إعادة الظهر. وقال زفر رحمه الله في المعذور: لا ينتقض ظهره هو يقول: بأن فرض المعذور الظهر، وقد صح حين أداه في وقته فلا ينتقض بغيره. وجه قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله: أن المعذور إنما فارق غير المعذور في حق الترخيص بترك السعي إلى الجمعة فإذا سعى التحق بغير المعذور، وأما إذا لم يدرك الجمعة مع الإمام فهذه المسألة على وجهين: إما إن خرج من بيته والإمام قد فرغ من الجمعة أو خرج من بيته والإمام في الجمعة، فقبل أن يصل إلى الإمام فرغ الإمام من الجمعة، ففي الفصل الأول لا ينتقض ظهره بالإجماع، وفي الفصل الثاني اختلاف. قال أبو حنيفة رحمه الله: ينتقض ظهره، وقال أبو يوسف ومحمد: لا ينتقض، وهو المذكور في «الجامع الصغير» ، وعلى هذا الخلاف: إذا وصل الإمام والإمام في الجمعة إلا أنه لم يحرم للجمعة حتى سلم الإمام، ولو خرج لا يريد الجمعة لا ينتقض ظهره بالإجماع.

حجتهما: أن في المسألة المختلفة أنه مأمور بنقض ظهره ضرورة أداء الجمعة لا مقصوداً؛ لأن نقض العبادات مقصوداً حرام؛ فإن وجه الأداء (105أ1) ينتقض الظهر، وما لا فلا، ولا يمكن أن يجعل السعي إلى الجمعة كمباشرة الجمعة في حق نقض الظهر. ألا ترى أن من أحرم بالحج والعمرة يؤمر بتقديم أعمال العمرة، فلو أنه قدم أعمال الحج، ووقف بعرفة يصير رافضاً لعمرته، ولو سار إلى عرفات لا يصير بمجرد السير رافضاً لعمرته. ألا ترى أنه لم يجعل السعي إلى الوقوف بعرفات بمنزلة الوقوف في حق رفض العمرة كذا في مسألتنا، ولأبي حنيفة أن الأمر كما قالا: إنه مأمور بنقض الظهر، ضرورة أداء الجمعة، إلا أن السعي من خصائص الجمعة، ألا ترى أنه أمر به في الجمعة دون سائر الصلوات؟ فيقام مقام أداء الجمعة في موضع الاحتياط، وإعادة ما صلى من باب الاحتياط. وأما مسألة القارن فقد قيل: إنه قولهما، فأما عند أبي حنيفة رحمه الله، فالجواب في المسألتين هو أنه تنتقض العمرة بالسعي إلى الوقوف كما ينتقض الظهر هنا. وقيل: في مسألة القارن القياس على قول أبي حنيفة رحمه الله: ترتفض عمرته، وفي الاستحسان: لا ترتفض، ووجه الفرق على جواز الاستحسان على قول هذا القائل أن السعي إلى عرفات قبل أعمال العمرة منهي عنه؛ لأن بالوقوف بعرفات يصير رافضاً لعمرته، ورفض العمرة منهي عنه، فلا يقام السعي إلى عرفات مقام الوقوف إعلاماً للنهي، أما السعي إلى الجمعة ليس منهي عنه، بل هو مأمور به، وإنه من خصائص الجمعة، فجاز أن يقام مقام أداء الجمعة في حق نقض الظهر احتياطاً والله أعلم. نوع آخر في الرجل يريد السفر يوم الجمعة وإنه على وجهين: إن كان الخروج قبل الزوال فلا بأس به بلا خلاف؛ لأن الجمعة لا تجب قبل الزوال فلا يصير بالخروج تاركاً فرضاً، وصار الخروج قبل الزوال، وليس فيه ترك فرض، نظير الخروج يوم الخميس، وإن كان الخروج بعد الزوال، فإن كان يمكنه أن يخرج من مصره قبل خروج وقت الظهر، فإنه لا بأس به بالخروج قبل إقامة الجمعة، وإن كان لا يمكنه أن يخرج من مصره قبل خروج وقت الجمعة، فلا ينبغي له أن يخرج، بل يشهد الجمعة ثم يخرج. وهذه المسألة لا توجد بهذا التفصيل إلا في «السير» : وهذا بناءً إلى أصل معروف لنا أن وجوب الصلاة وسقوطها يتعلق بآخر الوقت، فمتى كان لا يخرج وقت الظهر قبل خروجه من المصر، فهو صار مسافراً في آخر الوقت ولا جمعة على المسافر، ولا يصير تارك فرض وإذا كان يخرج وقت الظهر قبل خروجه من مصره كان مقيماً في آخر الوقت،

وهو في المصر وكان عليه إقامة الجمعة، فيصير بالخروج تاركاً فرضاً، فلا يباح له الخروج. قال مشايخنا رحمهم الله: وعلى قياس هذه المسألة يجب أن يكون الجواب على التفصيل متى لم يخرج للسفر، ولكن خرج بعد الزوال قبل إقامة الجمعة إلى موضع لا يجب على أهل ذلك الموضع الجمعة، هل يباح له ذلك؟ إن كان يخرج وقت الظهر قبل أن ينتهي إلى ذلك الموضع لا يباح له ذلك؛ لأنه يكون تاركاً فرضاً، وإن كان لا يخرج وقت الظهر إلا بعد أن ينتهي إلى ذلك الموضع يباح له ذلك؛ لأنه لا يصير تارك فرض؛ لأن العبرة لآخر الوقت. حكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أنه كان يقول عندي في جواب أصل المسألة إشكال، وجهه: أن اعتبار آخر الوقت إنما يكون فيما ينفرد هو بأدائه وهو سائر الصلوات، فأما الجمعة لا ينفرد هو بأدائها، وإنما يؤديها مع الإمام والناس، فينبغي أن يعتبر وقت أدائهم حتى إذا كان لا يخرج من المصر قبل أداء الناس الجمعة ينبغي أن يلزمه شهود الجمعة. الرستاقي إذا سعى يوم الجمعة إلى المصر يريد إقامة الجمعة، وإقامة حوائج له في المصر ومعظم مقصوده إقامة الجمعة ينال ثواب السعي، إلى الجمعة، وإذا كان قصده إقامة الحوائج لا غير أو كان معظم مقصوده إقامة الحوائج لا ينال ثواب السعي إلى الجمعة، إذا أدرك الإمام في الجمعة بعدما قعد قدر التشهد، فعن محمد وزفر: أنه يصلي أربعاً بتحريمة الجمعة، ولا يستقبل التكبير بخلاف الإمام، إذا دخل عليه وقت العصر وهو في الجمعة، فإنه يستقبل التكبير للظهر، قال الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص رحمة الله عليه: قلت لمحمد رحمه الله: يصير مؤدياً الظهر بتحريمة الجمعة؟ فقال: ما تصنع وقد جاءت به الآثار. نوع آخرمن هذا الفصل في المتفرقات إذا تذكر يوم الجمعة والإمام في الخطبة أنه لم يصل الفجر، فإنه يقوم يصلي الفجر، ولا يستمع الخطبة؛ لأنه لو استمع وقضى الفجر بعدها تفوت الجمعة، إذا صلى السنّة التي بعد الجمعة بنية الظهر، ينبغي أن يقرأ في جميع الركعات، وإذا صلى الإمام ركعة من الجمعة ثم أحدث خرج من المسجد، ولم يقدم أحداً، فقدم الناس رجلاً قبل أن يخرج الإمام من المسجد، جاز ضرورة إصلاح صلاتهم، فإن تكلم المقدم أو ضحك قهقهة، فأمر غيره أن يجمع بهم لا يجوز، لأن الإمام لم يفوض إليه لكن استحسنا أن يبني على صلاة الإمام، ضرورة إصلاح صلاتهم فإذا خرج عن صلاة الإمام لم يبق إماماً.

ولو اقتدى رجل بالإمام يوم الجمعة ونوى صلاة الإمام إلا أنه يحسب أنه يصلي الجمعة، فإذا هو يصلي الظهر جاز ظهره معه وإن اقتدى به ونوى عند التكبير أن يصلي معه الجمعة، فإذا هو يصلي الظهر لا يجزئه الظهر معه؛ لأن في الوجه الأول نوى صلاة الإمام وحسب أنها جمعة، فصحت نيته الصلاة معه وبطل بالحسبان، أما في الوجه الثاني نوى أن يصلي الجمعة فإذا تبين أن الإمام يصلي الظهر تبين أنه لم يصح الاقتداء. إذا حضر الرجل يوم الجمعة والمسجد ملآن يتخطى يؤذي الناس لم يتخط، وإن كان لا يؤذي أحداً بأن لا يطأ ثوباً ولا جسداً لا بأس بأن يتخطى ويدنو من الإمام، وذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن أصحابنا رحمهم الله: أنه لا بأس بالتخطي ما لم يأخذ الإمام في الخطبة، ويكره إذا أخذ؛ لأن للمسلم أن يتقدم ويدنو من المحراب إذا لم يكن الإمام في الخطبة، ليتسع المكان على من يجيء بعده، وينال فضل القرب من الإمام، فإذا لم يفعل الأول فقد ضيع ذلك المكان من غير عذر، فكان للذي جاء بعده أن يأخذ ذلك المكان. أما من جاء والإمام يخطب فعليه أن يستقر في موضعه من المسجد؛ لأن مشيه وتقدمه عمل في حالة الخطبة، وروى هشام عن أبي يوسف أنه للناس بالتخطي ما لم يخرج الإمام، أو يؤذ أحداً. رجل لم يستطع يوم الجمعة أن يسجد على الأرض من الزحام فإنه ينتظر حتى يقوم الناس فإذا رأى فرجة سجد، وإن سجد على ظهر رجل أجزأه، وإن وجد فرجة فسجد على ظهر رجل لم يجز، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمه الله. وقال الحسن رحمه الله: لا يسجد على ظهر الرجال على كل حال. رجل ركع ركوعين مع الإمام في الجمعة ولم يسجد لكثرة الزحام، حتى صلى الإمام ثم رأى فرجة، قال أبو حنيفة: يسجد سجدتين للركعة الأولى، وتلغى ركعته الثانية التي ركعها مع الإمام فلا يعتد به ثم يقوم، فيركع بعدما تمكن قائماً، ولا يقرأ ويسجد سجدتين، وإن نوى حين يسجد للركعة الثانية، بطلت نيته وكانت السجدة للأولى، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هذا على إحدى الروايتين عن علمائنا رحمهم الله. فأما على الرواية الأخرى: السجدتان للثانية، وقال أبو حنيفة: إن ركع مع الإمام في الأولى ولم يسجد وركع معه في الثانية وسجد معه، فالثانية تامة ويقضي الأولى بركوع وسجود، ولو كان سجد مع الإمام في الركعة الأولى سجدة أجزأته الركعتان جميعاً؛ لأنه قيد الأولى بسجدة فيسجد للأولى سجدة أخرى ويسجد للثانية سجدتين ويتشهد، وإن لم يقدر على السجود مع الإمام في واحدة من الركعتين، فلما فرغ الإمام من سجدتي الركعة الثانية، وقعد سجد الرجل سجدتين يريد بهما اتباع الإمام في سجدتي الركعة الثانية، ثم تشهد الإمام وسلم، فإن نية الرجل باطلة والسجدتان للركعة الأولى، فتمت الأولى (105ب1) ، وبطلت الركعة الثانية، فليقم وليصل الركعة الثانية، وهكذا روى ابن سماعة عن محمد في «الرقيات» .

وفي «النوادر» عن محمد: رجل ركع مع الإمام في صلاة الجمعة ولم يستطع أن يسجد لكثرة الزحام، حتى قام الإمام إلى الثانية وقرأ وركع، فركع هذا الرجل معه يريد اتباعه في الثانية وسجد معه، قال: هذا السجود للثانية ولا يقعد مع الإمام، فيقوم ويقضي الأولى بركوع وإن لم يركع مع الإمام في الثانية، ولكنه سجد معه ينوي اتباعه، لا تجزئه هذه السجدة من الركعتين، فإن انحط فسجد قبله ينوي اتباعه ثم أدرك الإمام فيها فهي للأولى، وكذلك إذا سجد بعدما رفع الإمام رأسه ينوي اتباعه في الثانية، وإن سجد مع الإمام في الثانية ينوي الأولى فهي للأولى وروى ابن سماعة عن أبي يوسف، نحو هذا. قال محمد رحمه الله: ويكره أن يصلي الظهر يوم الجمعة في المصر بجماعة في سجن وغير سجن، هكذا روي عن علي رضي الله عنه، والمعنى فيه: أن المأمور به في حق من يسكن المصر في هذا الوقت شيآن، ترك الجماعة وشهود الجمعة، فأصحاب السجون قدروا على أحدها وهو ترك الجماعة، فيأتون بذلك ولو جوزنا للمعذور إقامة الظهر بالجماعة ربما يقتدي بهم غير المعذور، وفيه تقليل الناس في الجامع. بخلاف القرى حيث يصلي أهلها الظهر بالجماعة؛ لأنه ليس على من يسكنها شهود الجمعة، فكان هذا اليوم في حقهم كسائر الأيام، والمسافرون إذا حضروا يوم الجمعة في مصر يصلون فرادى، وكذلك أهل المصر إذا فاتتهم الجمعة، وأهل السجن والمرضى تكره لهم الجماعة والمريض الذي لا يستطيع أن يشهد الجمعة، إذا صلى الظهر في بيته بغير أذان وإقامة أجزأه، وإن صلاها بأذان وإقامة فهو حسن؛ لأن هذا اليوم في حق المريض كسائر الأيام، من صلى الظهر في بيته إن صلاها بغير أذان وإقامة، فهو جائز وإن صلاها بأذن وإقامة فحسن كذا ها هنا. وفي القدوري ومن فاتته الجمعة صلى الظهر بغير أذان ولا إقامة، وكذلك أهل السجن والمرضى والعبيد والمسافرون، ذكر الحاكم في المسافر مثلاً مسافر أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد صلى أربعاً بالتكبير الذي دخل به معه. الغسل يوم الجمعة سنّة بالإجماع، والأصل فيه ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «من السنّة الغسل يوم الجمعة» ، واختلفوا في أن الغسل للصلاة أو للوقت ذكر الفضلي في «فتاويه» ، عن أبي يوسف أن الغسل لليوم. وفي «الأصل» و «الطحاوي» و «القدوري» : أن الغسل عند أبي يوسف للصلاة، وعند الحسن لليوم وفي «العصام» : أن الغسل على قول أبي يوسف لليوم، وعلى قول محمد للصلاة. قال الفضلي في «كتابه» : الاغتسال للصلاة لا لليوم؛ لإجماعهم على أنه لو اغتسل بعد الصلاة، لا يكون مقيماً للسنّة، ولو كان الغسل لليوم، لصار مقيماً للسنّة ولكن هذا ليس بصواب، فقد ذكر في «شرح الإسبيجابي» أن الغسل يقع سنة على قول من يقول: بأن الغسل سنّة اليوم، وإذا اغتسل بعد طلوع الفجر ثم أحدث وتوضأ، وصلى لم تكن صلاة بغسل، وإن لم يحدث حتى صلى كان صلاة بغسل، وهذا على قول من يقول بأن الغسل سنّة الصلاة.

الأذان المعتبر الذي يجب السعي عنده، ويحرم البيع للأذان عند الخطبة لا للأذان قبله؛ لأن ذلك لم يكن في زمن النبي عليه السلام، هكذا ذكر في «النوازل» : وفي «شرح الطحاوي» وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وشمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أن الصحيح أن المعتبر هو الأذان الأول بعد دخول الوقت، وبه كان يفتي الفقيه أبو القاسم البلخي رحمه الله، وقال الحسن بن زياد: الأذان على المنارة هو الأصل، قال صاحب «شرح الطحاوي» : الأذان قبل التطوع وعلى المنارة محدث، وزيادة إعلام لمصلحة الناس.k وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل جالس على الغداء يوم الجمعة، فسمع النداء إن خاف أن تفوته الجمعة، فليحضرها بخلاف سائر الصلوات؛ لأن الجمعة تفوت على الوقت أصلاً وسائر الصلوات لا، وزان مسألتنا من سائر الصلوات إذا خاف ذهاب الوقت في سائر الصلوات، وهناك يترك الطعام ويصلي في وقتها كذا ها هنا. ذكر الحاكم في «المنتقى» : مرسلاً أمير أمر إنساناً أن يصلي بالناس الجمعة في المسجد الجامع وانطلق إلى حاجة له، ثم دخل المصر ودخل بعض المساجد وصلى الجمعة لا يجزئه إلا أن يكون علم الناس بذلك كله، فهذا كالجمعة في موضعين وإنه جائز به ورد الأثر عن علي رضي الله عنه، وإن خرج الإمام يوم الجمعة للاستسقاء، وخرج معه ناس كثير وخلف إنساناً يصلي بهم الجمعة في المسجد الجامع، فلما حضرت الصلاة صلى بهم الجمعة في الجبانة، وهو على غلوة من المصر وصلى خليفته في المسجد الجامع يجزئهما، ودلت المسألة على أن الجمعة في الجبانة جائزة. ويقرأ في الجمعة بأي سورة شاء ولا يقصد سورة بعينها يديم قراءتها، والكلام في الجمعة نظير الكلام في سائر الصلوات، وفي أي حال أدرك الإمام، دخل معه، وأجزأه عن الجمعة وكذا إذا أدركه في سجدتي السهو وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف. وقال محمد: لا تجزئه الجمعة حتى يدرك ركعة كاملة، لما روي عن رسول الله عليه السلام، أنه قال: «من أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فقد أدركها» ، ومن أدرك ما دونها صلى أربعاً ولهما قوله عليه السلام: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» وهذا عام في الصلوات كلها، ومذهبهما مثل مذهب ابن مسعود، ومعاذ، ثم عند محمد إذا لم تجز الجمعة يصلي أربعاً يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، وهل تجب عليه القعدة الأولى؟ حكى الطحاوي عنه وجوب القعدة الأولى؛ لوجوبها على الإمام، وحكى عنه المعلى أنها لا تجب؛ لأنه يصلي الظهر في حالة البداء والله أعلم بالصواب.

الفصل السادس والعشرون في صلاة العيدين

الفصل السادس والعشرون في صلاة العيدين الأصل في صلاة العيد قول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185) جاء في التفسير: أن المراد منه صلاة العيد، والآثار قد اتفقت، وتواترت أن رسول الله عليه السلام كان يصلي صلاة العيد، وروى أنس بن مالك «أن رسول الله عليه السلام قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما» ، فقال عليه السلام: «لقد أبدلكم الله تعالى بهما خيراً منهما الفطر، والأضحى» والأمة أجمعت على إقامتها من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من غير نكير منكر. وهذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منهافي بيان صفتها فنقول: روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: وتجب صلاة العيدين على من تجب الجمعة، فهذا يدل على وجوبها. وذكر في «الجامع الصغير» : في العيدين اجتمعا في يوم فالأولى سنّة والثانية فريضة، وأراد بالأول صلاة العيد وبالثاني صلاة الجمعة، فقد سمّى صلاة العيد ها هنا سنّة، وقال محمد رحمه الله في «كتاب الصلاة» : لا يقام شيء من التطوع بجماعة ما خلا التراويح في رمضان، وكسوف الشمس، وصلاة العيدين تؤدى بجماعة لو كان صلاة العيد تطوعاً لقال ما خلا التراويح في رمضان وكسوف الشمس وصلاة العيدين. فمن مشايخنا من قال: في المسألة روايتان في إحدى الروايتين هي واجبة، وفي إحدى الروايتين هي سنّة، وجه الرواية التي قال بأنها سنة قوله عليه السلام: «ثلاث كتبت عليّ وهي لكم سنّة الوتر، والضحى، والأضحى» وصلاة العيد وصلاة الضحى؛ لأنها تقام عند الضحى؛ فتكون سنّة؛ ولأنها لو كانت واجبة لشرع فيها الأذان والإقامة كسائر الصلوات الواجبات.

وجه الرواية التي قال: بأنها واجبة قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185) والمراد منه صلاة العيد، فقد أمر الله تعالى به، والأمر للوجوب، ولا حجة له في الحديث الذي روى؛ لأن الضحى متى أطلق يريد به صلاة الضحى لا صلاة العيد، وصلاة الضحى في سائر الأيام سنّة عندنا. وقوله: ليس فيها أذان، ولا إقامة، قلنا: هذا لا يدل على عدم الوجوب، ألا ترى أنه لا أذان للوتر ولا إقامة، وإنها واجبة عند أبي حنيفة رحمه الله على أصح الروايات، وكذلك صلاة الجنازة ليس لها أذان ولا إقامة، وإنها واجبة وعامة المشايخ على أن المذهب أنها واجبة. وتأويل ما ذكر في «الجامع الصغير» : أنها سنّة أن وجوبها ثبت بالسنّة لا بالكتاب، وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح كتاب الصلاة» أن الأظهر أنها سنّة، لكنها من معالم الدين أخذها هدى وتركها ضلالة. وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف صلاة العيد سنّة واجبة، فقد جمع بين صفة الوجوب والسنّة، واختلفوا في بيانه، بعضهم قالوا: أراد (106أ1) بالسنّة الطريقة، فمعناه وجوب صلاة العيد طريقة مستقيمة ظاهرة، وبعضهم قالوا: أراد بيان الطريق الذي عرفنا وجوبه، فإن وجوب صلاة العيد ما عرف إلا بالسنّة. نوع آخر في بيان وقتها فنقول: أول وقتها من حين تبيض الشمس، وانتهاؤها من حين تزول الشمس، أما أول وقتها فلما روي «أن النبي عليه السلام كان يصلي العيد والشمس على قدر رمح أو رمحين» ، وأما آخر وقتها فلما روي «أن قوماً شهدوا عند رسول الله عليه السلام برؤية الهلال في آخر يوم من رمضان، فأمر رسول الله عليه السلام بالخروج إلى المصلى من الغد للصلاة» ولو جاز الأداء بعد الزوال لم يكن للتأخير معنى، فإن تركها في اليوم الأول في عيد الفطر لغير عذر حتى زالت الشمس لم يصل من الغد، وإن كان لعذر صلى من الغد فإن ترك من الغد لم يصل بعده. والقياس: أنها إذا فاتت عن وقتها لا تقضى كما في الجمعة، وإنما ترك القياس بالنص، والنص إنما ورد في التأخير إلى اليوم الثاني بسبب العذر، فما عداه يرد إلى ما

يقتضيه القياس، وأما في الأضحى إن تركها في اليوم الأول لعذر أو لغير عذر صلى في اليوم الثاني، فإن لم يفعل ففي اليوم الثالث، فإن لم يفعل فقد فات، ولا يفعل بعد ذلك؛ لأن هذه صلاة عيد الأضحى، فتكون مؤقتة بأيام الأضحى وأيام الأضحى ثلاثة. نوع آخر في بيان كيفيتها قال أصحابنا رحمهم الله: في ظاهر الرواية التكبيرات في الفطر والأضحى سواء يكبر الإمام في كل صلاة تسع تكبيرات، ثلاث أصليات: تكبيرة الافتتاح وتكبيرتا الركوع، وست زوائد ثلاث في الأولى، وثلاث في الثانية، ويقدم التكبيرات على القراءة في الركعة الأولى ويقدم القراءة على التكبيرات في الركعة الثانية، وهذا قول عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعقبة بن عمر الجهني، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، والبراء بن عازب، وأبي مسعود الأنصاري رضوان الله عليهم أجمعين. وعن علي رضي الله عنه ثلاث روايات في رواية إحدى عشر تكبيرة في العيدين جميعاً ثلاث أصليات كما بينا، وثمان زوائد أربع في الركعة الأولى، وأربع في الثانية في كل عيد، وفي رواية ثمان تكبيرات ثلاث أصليات، وخمس زوائد: ثلاث في الركعة الأولى واثنتان في الركعة الثانية في العيدين جميعاً. وفي الرواية الثالثة: وهو المشهور عنه فرق بين عيد الفطر، والأضحى، فقال: في عيد الفطر يكبر إحدى عشر تكبيرة في الركعتين، ثلاث أصليات، وثمان زوائد أربع في الأولى وأربع في الثانية، وفي عيد الأضحى يكبر خمس تكبيرات في الركعتين ثلاث أصليات واثنتان زائدتان واحدة في الركعة الأولى، وواحدة في الركعة الثانية ومن مذهبه أنه يقدم القراءة على التكبيرات في الركعتين في العيدين جميعاً. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما خمس روايات: في رواية سبع تكبيرات ثلاث أصليات، وأربع زوائد في كل ركعة تكبيرتين في العيدين جميعاً، وفي رواية كما قال ابن مسعود رضي الله عنه والمشهور عنه روايتان في رواية ثلاث عشر تكبيرة ثلاث أصليات، وعشر زوائد خمس في الركعة الأولى وخمس في الثانية وعليه عمل الناس اليوم في عيد الفطر. وفي رواية اثنتا عشر تكبيرة ثلاث أصليات وتسع زوائد خمس في الركعة الأولى وأربع في الثانية، وهو قول الشافعي رحمه الله ورواية عن أبي يوسف وعليه عمل الناس اليوم في عيد الأضحى، ويقدم التكبيرات على القراءة في الروايتين المشهورتين عنه. وعن أبي بكر الصديق رحمه الله: أنه يكبر خمسة عشرة تكبيرة في كل صلاة ثلاث أصليات وثنتي عشرة زوائد ست في الأولى، وست في الثانية وهي الرواية المشهورة عن عمر رضي الله عنه، وفي رواية شاذة عن أبي بكر رضي الله عنه يكبر في كل صلاة ست

عشر تكبيرة ثلاث أصليات وثلاث عشر زوائد سبع في الأولى، وست في الثانية، فقد اختلفوا في عدد التكبيرات. وموضعها، على نحو ما بينا فيحمل اختلافهم على اختلاف فعل رسول الله عليه السلام في صلاة العيد، لأن المقادير في العبادات لا تثبت قياساً كأصلها وإنما تثبت توقيفاً وسماعاً، فحمل ما روي عن واحد منهم على أنه رأى رسول الله عليه السلام فعل ذلك، ولم يثبت عنده نسخ ذلك، فصار المروي عنهم كالمروي عن رسول الله عليه السلام، فيجب ترجيح بعض الأقوال على البعض، لما جهل التاريخ. فالشافعي رحمه الله رجح ما اشتهر عن أبي بكر، وابن عباس رضي الله عنهم أخذاً بالأكثر احتياطاً. وأصحابنا رجحوا قول ابن مسعود رضي الله عنه في العدد، وفي الموضع أما في العدد؛ لأنه لا تردد في قوله، ولا اضطراب، فإنه قال قولاً واحداً وفي أقوال غيره تعارض واضطراب، فكان قوله أثبت؛ ولأن قوله ينفي الزيادة على التسع، وأقوال غيره تثبت والنفي موافق القياس؛ إذ القياس ينفي إدخال زيادة للأذكار في الصلاة، قياساً على غيرها من الصلوات، والإثبات مخالف للقياس. ولا شك أن الأخذ بالموافق للقياس أولى، ولأن الجهر بالتكبير وهو ذكر مخالف للمنصوص والأصول، فالأخذ بما اتفقت الأقاويل عليه، وهو متيقن أولى؛ ولأن ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه أشهر، فإنه عمل به جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على نحو ما بينا، فكان الأخذ به أولى، وإذا وجب ترجيح قول ابن مسعود رضي الله عنه في العدد وجب ترجيحه في الموضع؛ لأن الرواية واحدة إلا أن الناس يعملون اليوم على مذهب ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأن الخلافة لأولاده وهم أخذوا على الولاة وكتبوا في مناشيرهم أن يصلوا صلاة العيد على مذهب جدهم. وهو تأويل ما روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قدم بغداد، فصلى بالناس صلاة العيد، وخلفه هارون الرشيد، فكبر تكبير ابن عباس رضي الله عنهما، وكذا روي عن محمد رحمه الله أنه فعل ذلك فتأويله أن هارون أخذ عليهما، وأمرهما أن يكبرا تكبيرة جده، ففعلا ذلك امتثالاً لأمره، وإظهاراً لمتابعته لا مذهباً واعتقاداً، ثم عملوا برواية الزيادة في عيد الفطر وبرواية النقصان في عيد الأضحى، ليكون عملاً بالروايتين، وإنما اختاروا رواية النقصان لعيد الأضحى لاشتغال الناس بالقرابين فيه. ويقدم الثناء على تكبيرات العيد في ظاهر الرواية، وروى ابن كاس عن أبي يوسف رحمه الله: أنه يقدم تكبيرات العيد على الثناء. وجه هذه الرواية: أن سبيل تكبيرات العيد في الركعة الأولى أن تكون مضمومة إلى

تكبيرة الافتتاح، وهذا أوجب تقديم التكبيرات على القراءة، كيلا تصير القراءة فاصلة بين تكبيرة الافتتاح، وتكبيرات العيد، وإنما تصير مضمومة، إلى تكبيرة الافتتاح إذا قدمنا التكبيرات على الثناء. وجه ظاهر الرواية: أن لو قدمنا التكبيرات على الثناء يفوت الثناء عن محله أصلاً؛ لأن محله عقيب تكبيرة الافتتاح، بلا فصل كما في سائر الصلوات، ولو قدمنا الثناء على التكبيرات لا يفرق التكبيرات عن محلها، لأن ما بعد تكبيرة الافتتاح إلى أن يرفع رأسه من الركوع محل التكبيرات العيد. ألا ترى أن المسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع فإنه يأتي بتكبيرات العيد في الركوع، وبعد ما رفع رأسه من الركوع لا يأتي به؟ فدل على أن ما بعد تكبيرة الافتتاح إلى أن يرفع رأسه من

الركوع محل التكبيرات العيد، فلو قدمنا الثناء على التكبيرات لا تفوت التكبيرات عن محلها، ولو قدمنا التكبيرات على الثناء فات الثناء عن محله، فكان تقديم الثناء أولى. قوله: فإنه يفوت الضم في حق التكبيرات، قلنا: كما يفوت الضم في حق التكبيرات يفوت قي حق الثناء إذا قدم التكبيرات على الثناء؛ لأن سبيل الثناء أن يكون مضموماً إلى تكبيرة الافتتاح، فإذا هو يستويان في حق تفويت الضم، ثم بتقدم الثناء على التكبيرات، لا يفوت التكبيرات عن محلها ووقتها كما ذكرنا، وبتقديم التكبيرات على الثناء يفوت الثناء عن محلها فصار تقديم الثناء أولى. قال أبو يوسف رحمه الله: يكبر تكبيرة الافتتاح ثم يأتي بالثناء ثم يتعوذ ثم يكبر تكبيرات العيد، وقال محمد رحمه الله: (106ب1) يتعوذ بعد تكبيرات العيد، وبه قال الشافعي رحمه الله ذكر الاختلاف في «الزيادات» ولم يذكر هناك قول أبي حنيفة رحمه الله وروى ابن كاس عن أبي حنيفة، وزفر مثل قول أبي يوسف، وهذا الاختلاف إنما يتأتى على ظاهر الرواية؛ لأن على ظاهر الرواية يقدم الثناء على تكبيرات العيد، أما على رواية ابن كاس يقدم تكبيرات العيد على الثناء، فيقع التعوذ بعد الثناء عند أبي يوسف رحمه الله. ثم هذه المسألة بناءً على أصل أن التعوذ شرع للصلاة أم للقراءة؟ عند محمد رحمه الله شرع للقراءة، فلا جرم يأتي به وقت القراءة، ووقت القراءة بعد تكبيرات العيد، وعند أبي يوسف رحمه الله شرع للصلاة فلا جرم يأتي به بعد الثناء قبل تكبيرات العيد احتج محمد رحمه الله بالنص، وهو قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَنِ الرَّجِيمِ} (النحل: 98) الله تعالى أمر بالتعوذ حال إرادة القراءة متصلاً بالقراءة؛ لأنه ذكر بحرف الفاء وحرف الفاء للوصل، وإذا أخر التعوذ عن التكبيرات يحصل الوصل بالقراءة، وإذا قدم على التكبيرات يفوت الوصل، فوجب أن يؤخر التعوذ عن التكبيرات حتى لا يفوت الوصل. وأبو حنيفة، وأبو يوسف رحمهما الله؛ قالا: إن محل التعوذ عقيب الثناء، بلا فصل كما في سائر الصلوات، ومحل التكبيرات بعد الافتتاح إلى أن يرفع رأسه من الركوع، فلو قدمنا التكبيرات على التعوذ يفوت التعوذ عن محله، ولو قدمنا التعوذ على التكبيرات لا تفوت التكبيرت عن محلها، ولا التعوذ عن محله، فكان تقديم التعوذ وتأخير التكبيرات أولى، قوله سبيل التعوذ أن يكون متصلاً بالقراءة. قلنا: وسبيله أن يكون متصلاً بالثناء أيضاً، فلو أخر التعوذ عن التكبيرات كما يفوت الاتصال بالقراءة يفوت الاتصال بالثناء، فكان تقديم التعوذ كيلا يفوت واحد منهم عن محله أولى من تقديم التكبيرات على التعوذ. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : يستحب المكث بين كل تكبيرتين مقدار ما يسبح ثلاث تسبيحات، وهذا؛ لأن صلاة العيد تقام بجمع عظيم وتوالي بين التكبيرات يشتبه على من كان نائباً عن الإمام، والاشتباه يزول بهذا القدر من المكث، وليس بين التكبيرات ذكر مسنون عندنا؛ إذ لو كان بينهما ذكر مسنون، لكان أتى به النبي عليه السلام، ولو أتى به لوصل إلينا ولم ينقل. ويرفع يديه في تكبيرات الزوائد في العيدين، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يرفع لحديث ابن مسعود رضي الله عنه «أن النبي عليه السلام كان لا يرفع يديه في الصلاة إلا في تكبيرة الافتتاح» . وجه قولهما قوله عليه السلام: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن، وذكر منها العيدين» ؛ ولأن رفع اليدين في تكبيرة الافتتاح إنما شرع ليتم الإعلام؛ لأن الإعلام لا يتم بالجهر وحده؛ لأن خلفه أصم وأعمى، فالأعمى إن كان يعلم بجهر التكبير فالأصم لا يعلم إلا برفع اليدين. فالشرع شرع رفع اليدين حتى يقع الإعلام على العموم، فكذا في تكبيرات العيد لا يقع الإعلام على العموم إلا بالجهر والرفع جميعاً بخلاف تكبيرات الركوع والسجود؛ لأن الإعلام على العموم يقع بالجهر، والانتقال من القيام إلى الركوع، فلا حاجة إلى رفع اليدين ليتم الإعلام وبخلاف تكبيرات الجنازة؛ لأنه شرع بين كل تكبيرتين ذكر مقدر، فإذا فرغ منها يعلم أنه جاء أوان الآخر، فلا حاجة إلى رفع اليدين كما في تكبيرات الركوع. أما هنا ليس بين التكبيرتين ذكر مسنون مقدر حتى يعلم بالفراغ منه أنه جاء أوان الآخر، فيحتاج إلى رفع اليدين هنا ليتم الإعلام، وما قال الحسن أنه يسبح بين كل تكبيرتين مقدار ثلاث تسبيحات ليس بمقدر لازم، بل يتفاوت بكثرة القوم وبقلته لأن المقصود إزالة الاشتباه عن القوم، وذلك يختلف بكثرة القوم وقلتهم، وإذا صلى العيد خلف إمام لا يرى رفع اليدين عند تكبيرات الزوائد فقد قيل يرفع هو.

نوع آخر في بيان شرائطها قال القدوري في «كتابه» : تصح صلاة العيدين بما تصح به صلاة الجمعة إلا الخطبة، فإنها في العيد تفعل بعد الصلاة، وفي الجمعة قبل الصلاة، وقوله: وتصح صلاة العيدين بما تصح به الجمعة إشارة إلى اشتراط المصر والسلطان، والأصل فيه قول النبي عليه السلام: «لا جمعة ولا تشريق ولا فطر، ولا أضحى إلا في مصر جامع» ، وروي عن النبي عليه السلام «أنه فتح مكة في رمضان وخرج منها إلى هوازن، فاتفق له العيد في سفره ولم يصل» ولو جاز إقامتها خارج المصر ما تركها، والمعنى الذي أوجب اعتبار السلطان في الجمعة من دفع الفتنة الموهومة، وقطع المنازعة موجود في العيد. ثم قال: إلا الخطبة فإنها في العيد بعد الصلاة، وفي الجمعة قبل الصلاة، هكذا جرى التوارث من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا، وإن خطب في العيد أولاً ثم صلى أجزأه. والأصل في ذلك ما روي: أن عمر رضي الله عنه ربما كان يخطب في العيد قبل الصلاة كيلا يذهب الناس، فيفوتهم ثواب الخطبة ومروان بن الحكم فعل كذلك، وصلى معه نفر من أصحاب رسول الله عليه السلام. فرق بين العيد وبين الجمعة، فإن في الجمعة لو خطب آخراً لا يجوز، والفرق: إنما يصير التغيير بالترك في الموضعين جميعاً، إلا أنه لو ترك الخطبة في صلاة الجمعة لا يجوز، فكذا إذا غير عن موضعها، ولو ترك الخطبة في صلاة العيد تجوز صلاة العيد، فكذا إذا غير عن موضعها والخطبة في العيدين كهي في الجمعة، يخطب خطبتين بينهما جلسة خفيفة كما في صلاة الجمعة، به ورد الأثر عن رسول الله عليه السلام، ويقرأ فيها بسورة من القرآن ويستمع لها القوم؛ لأن الخطبة في العيد إنما شرعت؛ لتعليم ما يجب إقامته في هذا اليوم من صدقة الفطر، أو الأضحية، وإنما يحصل التعليم بالاستماع والإنصات، والخروج إلى الجبانة لصلاة العيد سنّة، وإن كان يسعهم المسجد الجامع على هذا عامة المشايخ. وبعضهم قالوا: الخروج إلى الجبانة ليس سنّة، وإنما تعارف الناس ذلك لضيق المسجد، والصحيح ما عليه عامة المشايخ: أنهم لا يخرجون عن المصر، بل يقيمونها في فناء المصر؛ لأن المصر شرط جواز هذه الصلاة وفناء المصر من المصر. ألا ترى أن أفنية البيوت كأجوافها فكذا فناء المصر كجوفه، أما ما زاد على فناء المصر ليس من المصر، فلهذا قال يقيمونها في فناء المصر ثم إذا خرج الإمام إلى الجبانة، لصلاة العيد وإن استخلف رجلاً يصلي بالضعفة في الجامع، فحسن كما فعل

علي رضي الله عنه، فإنه روي أنه لما قدم الكوفة استخلف أبا موسى الأشعري رضي الله عنه ليصلي بالضعفة صلاة العيد في الجامع، وخرج إلى الجبانة مع خمسين شيخاً يمشي ويمشون، ولأنه راعى حق الأقوياء، فيراعي حق الضعفاء بأن يستخلف عليهم من يصلي بهم في الجامع كيلا تفوتهم صلاة العيد، وإن لم يفعل ذلك فلا شيء عليه؛ لأنه لم ينقل عن رسول الله عليه السلام أنه فعل ذلك. وتجوز إقامة صلاة العيد في موضعين نص على هذا في «الأصل» ، وهذا لما ذكرنا أن السنّة في صلاة العيد أن تقام خارج المصر بالجبانة، ولا يمكن للضعفاء الخروج إليها إلا بحرج عظيم، فجوزنا الإقامة في موضعين دفعاً للحرج. وأما إقامتها في ثلاث مواضع، فعلى قول محمد يجوز وعلى قول أبي يوسف لا يجوز، ولا يخرج المنبر في العيدين؛ لأنه لم يخرج على عهد رسول الله عليه السلام ولا على عهد من بعده من الخلفاء، وأول من أخرج المنبر مروان، وقد أنكر عليه بعض الصحابة وروي أن النبي عليه السلام خطب على ناقته العضا، ووجهه إلى المسلمين. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: من خطب على الدابة يكون قاعداً ففيه دليل على أن الخطبة قاعداً تجوز، وروي أنه عليه السلام خطب متكئاً على عنزته، وهو قائم وليس في هذا كله إخراج المنبر. قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: وأما في زماننا إخراج المنبر لا بأس به؛ لأنه رآه المسلمون حسناً وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن. وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: إخراج المنبر يوم العيد حسن. واختلف الناس في بناء المنبر في الجبانة في المصلى قال بعضهم: يكره ويخطب الإمام قائماً على الأرض أو على دابته كما فعل رسول الله عليه السلام، وقال بعضهم: لا يكره. ويجهر بالقراءة في العيدين هكذا روى نعمان البشير وأبو واقد الليثي وزيد بن أرقم عن رسول الله عليه السلام، وجرى التوارث هكذا فالتوارث حجة. وليس في العيدين أذان ولا إقامة هكذا جرى التوارث (107أ1) من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا. نوع آخر في بيان من يجب عليه الخروج في العيدين قال محمد رحمه الله في «الأصل» : والخروج في العيدين على أهل الأمصار والمدائن لا على أهل القرى والسواد. قال ثمة أيضاً: وليس على النساء خروج العيدين وكان ترخص لهن في ذلك قال: وقال أبو حنيفة: فأما اليوم فإني أكره لهن ذلك وأكره لهن شهود الجمعة وصلاة المكتوبة وإنما أرخص للعجوز الكبيرة أن تشهد العشاء والفجر والعيدين. وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: يرخص للعجوز في حضور الصلوات كلها

وفي الكسوف والاستسقاء. واعلم بأن النساء أمرن بالقران في البيوت قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَهِلِيَّةِ الاْولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَوةَ وَءاتِينَ الزَّكَوةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) ونهين عن الخروج قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَهِلِيَّةِ الاْولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَوةَ وَءاتِينَ الزَّكَوةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) الآية. أبيح لهن الخروج في الابتداء إلى الجماعات لقوله عليه السلام: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن إذا خرجن تفلات» أي غير متطيبات، ثم منعهن بعد ذلك لما في خروجهن من الفتنة قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَخِرِينَ} (الحجر: 24) المتأخرين قيل في التفسير: الآية نزلت في شأن النسوة كان المنافقون يتأخرون حتى يطلعون على عورات النساء فمنعن بعد ذلك، وقال عليه السلام: «صلاة المرأة في دارها أفضل من صلاتها في مسجدها وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في دارها» ، وعن عمر رضي الله عنه: أنه نهى النساء عن الخروج إلى المساجد فشكون إلى عائشة رضي الله عنها فقالت عائشة رضي الله عنها: لو علم النبي عليه السلام ما علم عمر ما أذن لكم في الخروج. ثم تكلموا أن في زماننا هل يرخص لهن في الخروج أم لا؟ أما الصواب فلا يرخص لهن في الخروج في شيء من الصلوات عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: يباح لهن الخروج واحتج بقوله عليه السلام: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله» . واحتج أصحابنا رحمه الله بنهي عمر رضي الله عنه عن الخروج لما رأى من الفتنة. وأما العجائز من النساء يرخص لهن الخروج إلى صلاة الفجر، والمغرب، والعشاء والعيدين، ولا يرخص لهن الخروج إلى صلاة الظهر، والعصر، والجمعة في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يرخص لهن في الصلوات كلها، وفي الكسوف والاستسقاء، هما احتجا وقالا: ليس في خروج العجائز فتنة فالناس قل ما يرغبون فيهن وقد كن خرجن إلى الجهاد مع رسول الله عليه السلام يداوين المرضى ويسقين الماء ويطبخن، ولهذا جاز للرجال مصافحتهن، ولهذا يرخص لهن الخروج إلى صلاة الفجر والمغرب والعيدين. واحتج أبو حنيفة رحمه الله وقال: وقت الظهر والعصر وقت يكثر فيهما الفساق فالحريص منهم يرغب في العجائز، فيصير خروجهن سبباً للوقوع في الفتنة بخلاف الفجر، والمغرب، والعشاء، فإنه لا يكثر فيها الفساق بل الصلحاء يحضرون في هذه الصلوات؛ ولأن في صلاة الفجر والمغرب، والعشاء ظلمة الليل تحول بينها وبين نظر الرجال إليهن

فلا يصير الخروج في هذه الحالة سبباً للوقوع في الفتنة. بخلاف الظهر والعصر؛ لأنهما يؤديان في ضوء النهار فيقع بصر الرجال عليها، وبخلاف الجمعة فإنها تؤدى في المصر بجمع عظيم، ولكثرة ربما تصدم وتصتدم وفي ذلك فتنة؛ لأن العجوز إن كان لا يشتهيها شاب يشتهيها شيخ مثلها وربما تحمل فرط الشبق بالشاب على أن يشتهيها ويقصد أن يصدمها، فأما صلاة العيد تؤدى في الجبانة فيمكنها أن تعتزل ناحية عن الرجال كيلا تصدم. ثم إذا خرجن في العيد هل يصلين؟ روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: يصلين؛ لأن المقصود من الخروج الصلاة، وروى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يصلين وإنما خروجهن لتكثير سواد المسلمين، جاء في حديث أم عطية: «كن النساء يخرجن مع رسول الله عليه السلام في العيدين حتى ذات الحيض» ومعلوم أن الحائض لا تصلي فعلمنا أن خروجهن لتكثير سواد المسلمين. قال في «الأصل» : وللمولى منع عبده من حضور العيدين، ولا يكره في العبد التخلف عنها؛ لأنها لم تكتب عليه. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ذكر في «الكتاب» محمول على ما إذا لم يأذن المولى، فأما إذا أذن له المولى فتخلف عنها يكره كما في الحر. قال رحمه الله: وهذا موضع اختلاف وقد تكلموا فيه، قال بعض مشايخنا: له أن يتخلف عنه وإن أذن له المولى، وقال بعضهم: ليس له أن يتخلف عنه لأن المولى لو أمره بخدمة نفسه كان عليه طاعته لا يسعه التخلف فإذا أمره بخدمة الله تعالى أولى. وفي شرح شيخ الإسلام رحمه الله: إذا أذن المولى للعبد أن يشهد العيدين كان له أن يشهدها؛ لأن المنع كان لحق المولى وقد أبطل المولى حق نفسه لما أذن له أن يشهدها، ولكن لا يجب عليه؛ لأن منافع العبد لم تصر مملوكة له بالإذن فالحال بعد الأذن كالحال قبله، قال: فلا ينبغي أن يشهد العيدين بغير إذن مولاه. قال بعض مشايخنا: إنما لا يشهد العيدين بغير إذن مولاه إذا علم أنه لو استأذن رضي بذلك وهو لا يتخلف عنها، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله اختلاف المشايخ في العيد: إذا حضر مصلى العيد مع مولاه ليحفظ دابته هل له أن يصلي صلاة العيد بغير إذن المولى؟ قال رحمه الله:..... مولاه في إمساك دابته، وروي عن محمد رحمه الله: أن له أن لا يصلي العيد وإن تمكن من ذلك وأذن له السيد بأدائها. والله أعلم بالصواب، وبه ختم النوع.

نوع آخر قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا أدرك الرجل الإمام في الركوع في صلاة العيد فإنه يكبر تكبيرة الافتتاح قائماً؛ لأن الافتتاح شرع في القيام المحض والركوع ليس بقيام محض بل هو قيام من وجه دون وجه فيأتي بكبيرة الافتتاح في محلها وهو القيام لا في الركوع كما في سائر الصلوات، ثم يأتي بتكبيرات العيد قائماً إذا كان غالب رأيه أنه يدرك شيئاً من الركوع مع الإمام لأن المحل الأصلي للتكبيرات القيام المحض، والركوع ليس بقيام محض، فإذا كان يرجو إدراك شيء من الركوع لو أتى بالتكبيرات قائماً فقد أمكنه الإتيان بالتكبيرات في محلها الأصلي من غير فوات الركوع فيأتي بها. فإن قيل: متى أتى بها في حالة القيام تفوته المتابعة في بعض الركوع ومتى أتى بها في الركوع لا تفوته المتابعة في بعض الركوع ولا التكبيرات، فكان الإتيان بها في حالة الركوع أولى. قلنا: لو لم يأت بها في حالة القيام تفوته التكبيرات أصلاً عند بعض العلماء وهو أبو يوسف والشافعي رحمه الله؛ لأن عندهما لا يأتى بتكبيرات العيد في حالة الركوع على ما نبين بعد هذا إن شاء الله. ولو أتى بها في حالة القيام لا تفوته المتابعة في الركوع أصلاً بالإجماع، فكان هذا أولى، وعلى أصل أبي حنيفة رحمه الله، ومحمد رحمه الله يقول: لو أتى بالتكبيرات في حالة القيام تفوته المتابعة في بعض الركوع دون البعض، ولو أتى بها في حالة الركوع تفوت جميع التكبيرات عن محلها من كل وجه، فكان ما قلناه أولى. فإن قيل: ينبغي أن لا يأتي بتكبيرات العيد هنا، لا في حالة القيام، ولا في حالة الركوع لأنه مسبوق في حق التكبيرات، لأنه حين أتى بها الإمام لم يكن هو في تحريمة الإمام، والمسبوق منهي عن قضاء ما سبق قبل فراغ الإمام. قلنا: الشريعة القديمة أن يأتي المسبوق بقضاء ما سبق أولاً، ثم يتابع الإمام بعد ذلك إلى أن دخل معاذ على رسول الله عليه السلام، فوجده في الصلاة وقد سبقه بشيء منها وتابعه فيما أدركه، ثم قام بعدما فرغ رسول الله عليه السلام وقضى ما سبق به، فسأله النبي عليه السلام عن ذلك، فقال: كرهت أن أصادقك على حال ولا أبايعك، فقال عليه السلام: «سن لكم معاذ سنّة حسنة فاستنوا بها ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» فانتسخ الاشتغال بقضاء ما سبق أولاً بهذا الحديث، وهذا الحديث في فائت يجب أداؤه لو أدركه مع الإمام، ولو فاته مع الإمام يجب قضاؤه، ألا ترى أنه قال: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» . والتكبيرات إن كان يجب أداؤها لو أدركها مع الإمام لا يجب قضاؤها لو فاتت مع الإمام، لأنه لو قضاها إما أن يقضيه مع الركعة (107ب1) أم بدون الركعة، لا وجه إلى

الأول؛ لأن فيه إدخال الزيادة في الصلاة، ولا وجه إلى الثاني؛ لأنها شرعت في قيام الركعة فلا يثبت الانتساخ في حق التكبيرات، فبقي الأمر في التكبيرات على الشريعة القديمة، هذا إذا كان يرجو إدراك شيء من الركوع مع الإمام لو أتى بتكبيرات العيد قائماً، فأما إذا كان لا يرجو إدراك شيء من الركوع مع الإمام لو أتى شيئاً قائماً، لا يأتي بتكبيرات العيد قائماً لأن في الإتيان بها قائماً؛ لأنه إذا أتى بها يرفع الإمام رأسه من الركوع فتفوته الركعة، ولا يجتزىء بهذه التكبيرات بل يجب عليه قضاء الركعة مع التكبيرات، فلا يأتي بها بل يركع حتى لا تفوته الركعة. فإذا ركع يأتي بالتكبيرات في الركوع، ولا يأتي بالتسبيحات في قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قياس قول أبي يوسف لا يأتي بالتكبيرات بل يأتي بالتسبيحات. ذكر الخلاف على هذا الوجه في «المنتقى» ، فوجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن هذا سنّة فاتت عن محلها؛ لأن محلها القيام، والركوع ليس بقيام؛ لأن القيام هو الاستواء، والركوع انحناء، وبين الاستواء والانحناء تنافي، والسنّة إذا فاتت عن محلها لا تقضى، ألا ترى لو أدركت الإمام في الركوع لا يأتي بالقراءة. وكذا إذا أدرك الإمام في الركوع في الوتر لا يأتي بالقنوت، وطريقه ما قلنا؛ ولأن الركوع محل للتسبيحات، فلو اشتغل فيه بالتكبيرات تفوته التسبيحات، فكان الاشتغال بالتسبيحات والركوع جعل محلاً لها أولى. ولأبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله ما أشار إليه محمد رحمه الله في «الكتاب» : إذ الركوع له حكم القيام، يريد بهذا والله أعلم أن الركوع أعطي له حكم القيام شرعاً حتى صار إدراك الركوع سبباً لإدراك القيام، قال عليه السلام: «من أدرك الإمام في الركوع فقد أدركها» أي أدرك الركعة، والركعة اسم للقيام والركوع والسجود علمنا أنه أعطي للركوع حكم القيام حتى صار إدراك الركوع سبباً لإدراك القيام. ثم تكبيرات العيد يؤتى بها في حالة القيام، فكذا في حال ماله حكم القيام، بخلاف القراءة والقنوت وتكبيرة الركوع والثناء، فإنه لا يؤتى بها في الركوع؛ لأن الركوع ليس بقيام حقيقة؛ لأن القيام حقيقة هو الاستواء والركوع انحناء إلا أنه أعطي له حكم القيام شرعاً على ما مر. فعملنا بالحكم في حق تكبيرات العيد، وعملنا بالحقيقة في حق غيرها لتكون عملاً بالحقيقة والحكم بقدر الإمكان، وإنما عملنا على هذا الوجه، ولم نعمل على العكس، لأنا لو عملنا بالحكم في حق القراءة، وقد نهينا عن القراءة في الركوع. قال علي رضي الله عنه: «نهاني خليلي أن أقرأ في الركوع وأن أعتد بسجدة ما لم يتقدمها ركوع» . فلزمنا العمل بالحكم في حق التكبيرات من طريق الأولى، لأن

التكبيرات ليست بقراءة ولا لها شبهاً بالقراءة فتعطل العمل بالحقيقة، وكذلك متى عملنا بالحكم في حق الثناء وتكبيرة الركوع وهما سنّتان فلزمنا العمل بالحكم في حق تكبيرات العيد وهي واجبة من طريق الأولى على أنه لا رواية في الثناء عن محمد رحمه الله. وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم على أنه يأتي بالثناء في حالة الركوع؛ لأن محل الثناء وهو القيام باقي، والثناء سنّة وتسبيحات الركوع أيضاً سنّة، فكان له أن يأتي بأيهما شاء، وكذلك متى عملنا بالحكم في حق القنوت. والشرع نهانا عن القراءة في الركوع وللقنوت شبهاً بالقرآن، فإنه ذكر مؤلف منظوم كالقرآن، ولهذا اختلف الصحابة فيه، فأبي بن كعب كان يجعله من القرآن وكان يسميه ... وكتب في مصحفه بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعيك إلى قوله: ونترك من يفجرك ثم كتب بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد إلى آخره، فلزمنا العمل بالحكم في حق التكبيرات؛ لأنها ليست بقراءة ولا لها شبهاً بالقراءة فتعطل العمل بالحقيقة، فعملنا على الوجه الذي قلنا: ليمكننا العمل بالحكم والحقيقة، وقوله: إن هذه سنّة فاتت عن محلها. قلنا: لا نسلم بأنها فاتت عن محلها؛ وهذا لأن محلها عنده القيام والركوع، ولا نقول: بأن هذا قضاء بل هو أداء لما كان الركوع محلاً له، وقوله: بأن الركوع محل للتسبيحات فلو اشتغل بالتكبيرات تفوته التسبيحات. قلنا: ولو اشتغل بالتسبيحات تفوته التكبيرات أيضاً إلا أن التكبير من أخص الأذكار بهذه الصلاة وليس للتسبيح هذه الخصوصية، فكان الاشتغال بالتكبير أولى، فلو أنه اشتغل بالتكبيرات في الركوع فلما كبر تكبيرة أو تكبيرتين رفع الإمام رأسه من الركوع رفع هو رأسه، وسقط عنه ما بقي من التكبيرات؛ لأنه لو أتى بها لا أن يأتي في الركوع أو بعدما رفع رأسه عن الركوع لا وجه إلى الأول؛ لأن الركوع بعدما رفع الإمام رأسه ليس بقيام حكماً لأنه إنما صار قياماً حكماً لكونه سبباً لإدراك الركعة أنه يصير سبباً، لإدراك الركعة بشرط المشاركة وقد انقطعت المشاركة فلا يبقى قياماً حكماً، ولا وجه إلى الثاني؛ لأن القومة التي بين الركوع والسجود ليس بمحل للتكبيرات. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ولو أن رجلاً دخل مع الإمام في صلاة العيد في الركعة الأولى بعدما كبر الإمام تكبير ابن عباس رضي الله عنه ست تكبيرات، فدخل الرجل معه وهو في القراءة، والرجل يرى تكبير ابن مسعود رضي الله عنه، فإنه يكبر برأي نفسه في هذه الركعة وفي الركعة الثانية يتبع رأي الإمام. والجملة في ذلك أن نقول: بأن المنفرد يتبع رأي نفسه، والمقتدي يتبع رأي الإمام ما لم يظهر خطأ الإمام بقين؛ وهذا لأن كل مجتهد مأمور بأن يعمل باجتهاده؛ لأن اجتهاده صواب عنده، واجتهاد غيره خطأ عنده، وكل مجتهد مأمور بأن يعمل ما هو

صواب عنده، فيعمل برأي نفسه إلا إذا حكم غيره على نفسه، فينفذ حكم الحاكم عليه، فحينئذٍ يسقط اعتبار رأيه ويعمل برأي الحاكم إلا إذا ظهر خطأ الحاكم بيقين. إذا ثبت هذا فنقول: المسبوق فيما سبق لم يحكم على نفسه أحداً هو منفرد، فيتبع رأي نفسه وفيما بقي مقتدي حكم الإمام على نفسه، فيعمل برأي الإمام إلا إذا ظهر خطأ الإمام بيقين وهذا الداخل في صلاة الإمام في الركعة الأولى، وقد كان كبر الإمام مسبوق بالتكبيرات التي أتى بها الإمام؛ لأنه حين كبر لم يكن هذا الرجل في تحريمته وهذا هو المسبوق، فكان منفرداً في تكبيرات الركعة الأولى، فيتبع رأي نفسه. ثم يقول محمد رحمه الله في هذه المسألة: إن الداخل يكبر حال ما يقرأ الإمام، وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا كان بعيداً عن الإمام لا يسمع قراءته؛ لأنه يأتي بالثناء في هذه الصورة مع أن الثناء سنّة؛ فلأن يأتي بالتكبيرات وإنها واجبة أولى. وكذلك لا يشكل فيما إذا كان قريباً من الإمام على قول من يقول: بأن الداخل في صلاة الإمام يأتي بالثناء في الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة إذا كان الإمام في القراءة وإنه يشكل على قول من يقول: فإنه لا يأتي بالثناء. والفرق على قول هذا القائل: أن الثناء سنّة فمتى أتى به يفوته الاستماع أو يتمكن الخلل مما هو المقصود من الاستماع وهو التأمل، والاستماع واجب، وترك السنّة أهون من ترك الواجب ومن إيقاع الخلل فيما هو المقصود من الواجب، فإن تكبيرات العيد واجبة كما أن الاستماع واجب وإذ استويا في الوجوب رجحنا التكبيرات؛ لأن التكبيرات تفوته أصلاً والاستماع لا يفوته أصلاً بل يتمكن الخلل فيما هو المقصود منه وهو التأمل وإن كان لا يفوته أصلاً ولكن يفوته في البعض دون البعض فكان الترجيح للتكبيرات من هذا الوجه. كذلك لو كان الإمام صلى الركعة الأولى وكبر تكبير ابن عباس رضي الله عنهما، فدخل الرجل معه في الركعة الثانية فلما سلم الإمام قام الرجل يقضي الركعة الأولى، وهو يرى تكبير ابن مسعود رضي الله عنه، يكبر تكبير ابن مسعود؛ لأنه مسبوق في الركعة الأولى، فكان منفرداً فيتبع رأي نفسه. واستشهد في «الكتاب» : لبيان أنه يعتبر في حق المسبوق فيما سبق حاله لا حال الإمام بمسائل. منها: إذا قرأ الرجل آية السجدة في ركعة فسجدها، ثم دخل رجل في الصلاة وقد فاتته الركعة الأولى التي قرأ الإمام فيها آية السجدة ثم قام يقضي تلك الركعة، فإنه لا يأتي بتلك السجدة التي أتى بها الإمام وإن كان يأتي بها لو كان مع الإمام؛ لهذا إنه مسبوق في تلك الركعة (108أ1) يتغير حاله لا حال الإمام. ومنها: رجل صلى الظهر ولم يقعد على رأس الركعتين واستوى قائماً، ومضى على صلاته ثم دخل رجل في صلاته، فلما فرغ الإمام قام الرجل الداخل إلى قضاء ما سبق، فإنه يقعد على رأس الركعتين، وإن كان لا يقعد لو كان مع الإمام لهذا إنه مسبوق فى

الركعتين، فيعتبر حاله لا حال الإمام. ومنها: أن الرجل إذا دخل مع الإمام في صلاة الوتر وهو في التشهد، وكان قنت في الركوع، وكان ذلك من رأيه فلما فرغ الإمام من صلاته قام الرجل للقضاء فكان من رأيه القنوت قبل الركوع يقنت قبل الركوع، وإن كان يقنت بعد الركوع لو كان مع الإمام؛ لهذا إنه مسبوق في القنوت، فيعتبر فيه حاله لا حال الإمام، فكذا في مسألتنا. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا دخل الرجل مع الإمام في صلاة العيد وهذا الرجل يرى تكبير ابن مسعود رضي الله عنه، فكبر الإمام غير ذلك اتبع الإمام إلا إذا كبر الإمام تكبيراً لم يكبره أحد من الفقهاء؛ فحينئذٍ لا يتابعه. وأراد بقوله: لم يكبره أحد من الفقهاء أحد من الصحابة، وهذا لأنه بالاقتداء بالإمام حكّمه على نفسه، فيتعين حكمه عليه ما لم يخرج عن حد الاجتهاد، وإذا كبر تكبيراً كبره أحد من الصحابة لم يخرج حكمه عن حد الاجتهاد فينفذ عليه. وإذا كبر تكبيراً لم يكبره أحد من الصحابة، فإن زاد على ستة عشر يعد خرج حكمه عن حد الاجتهاد فلا ينفذ عليه. فإن قيل: أليس لو كان الإمام يرى القنوت في صلاة الفجر والمأموم لا يرى ذلك لا يتابعه ولم يخرج حكمه عن حد الاجتهاد. قلنا: هناك خرج حكمه عن حد الاجتهاد؛ لأن القنوت في صلاة الفجر منسوخ عام لنا دلالة النسخ وبعد ما ثبت النسخ لا يبقى محلاً للاجتهاد.d وأما في تكبيرات العيد لم يعم دلالة النسخ بعض أقوال الصحابة رضون الله عليهم أجمعين فهو محل الاجتهاد، وهذا إذا كان الرجل يسمع تكبير الإمام، فإن لم يكن يسمع تكبير الإمام ولكن كبر الناس فكبر هو بتكبير الناس، فإنه يكبر ما كبر الناس، وإن زاد على ستة عشر؛ لأن الزيادة تحتمل أن من الإمام فيكون خطأ ويحتمل أن يكون من الناس بأن سبق تكبيرهم تكبير الإمام فتكون الزيادة واجبة، فدارت الزيادة بين أن تكون خطأ وبين أن تكون واجبة. والأصل: ما دار بين البدعة والواجب كان الإتيان به أولى من تركه، وكل ما دار بين البدعة والسنّة كان تركه أولى من الإتيان به. وقد قال مشايخنا: إن الرجل إذا كبر بتكبير الناس دون الإمام والأحوط له أن ينوي الافتتاح عند كل تكبيرة حتى أنهم إذا كبروا قبل تكبير الإمام ظناً منهم أن الإمام قد كبر ولم يكن كبر بعد يصير شارعاً في صلاة الإمام بالتكبيرة الثانية، وإن كان شارعاً في التكبيرة الأولى فنية الافتتاح لا تضره لأنه نوى الشروع في الصلاة التي هو فيها. قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: وإذا افتتح الرجل صلاة العيد مع الإمام ثم نام حين افتتح ثم استيقظ وقد فرغ من الصلاة وكبر تكبير ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا الرجل يرى تكبير ابن مسعود رضي الله عنه، فقام ليقضي صلاته فإنه يكبر تكبير ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأنه مدرك أول الصلاة فيجعل في الحكم كأنه خلف الإمام

على ما مر، ولو كان خلف الإمام حقيقة يكبر تكبير ابن عباس فكذا إذا جعل في الحكم كأنه خلف الإمام. قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: ولو أن رجلاً فاتته ركعة في صلاة العيد مع الإمام، وقد كبر الإمام تكبير ابن مسعود رضي الله عنه ووالى بين القراءتين، وهذا الرجل يرى تكبير ابن مسعود أيضاً، فلما سلم الإمام وقام الرجل يقضي ما فاته، فإنه يبدأ بالقراءة ثم بالتكبير، هكذا ذكر في عامة الروايات. وذكر في «نوادر الصلاة» لأبي سليمان رحمة الله عليه: أنه يبدأ بالتكبير ثم يقرأ، فمن مشايخنا رحمهم الله من قال: ما ذكر في عامة الروايات جواب الاستحسان، وما ذكر في «النوادر» جواب القياس. ومنهم من قال: في المسألة روايتان. وقال الكرخي رحمه الله: ما ذكر في عامة الروايات جواب الاستحسان قول محمد رحمه الله، وما ذكر في «النوادر» قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، بناءً على أن ما أدرك المسبوق مع الإمام أول صلاته عند محمد وما يقضيه آخر صلاته. وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ما أدرك المسبوق مع الإمام آخر صلاته وما يقضيه أول صلاته وأنكر بعض مشايخنا رحمهم الله هذا الخلاف، وقالوا: لا رواية عن أصحابنا على هذا الوجه، وإنما نصب الكرخي الخلاف على هذا الوجه مقتضى ما ذكره محمد رحمه الله من المسائل، والمسائل متعارضة، ولكن هذا ليس بصحيح. فالخلاف على هذا الوجه منصوص في «النوادر» ، ولأجل هذا الخلاف وضع المسألة فيما إذا كان الإمام والمقتدي يريان تكبير ابن مسعود رضي الله عنه ولا تكبير ابن عباس رضي الله عنهما ولا تكبير علي رضي الله عنه، حتى يختلف الجواب متى اعتبر ما يقضي أول صلاته أو آخر صلاته؛ لأن ابن مسعود يقدم التكبيرات في أول الصلاة ويؤخرها في آخر الصلاة، وابن عباس رضي الله عنهما يقدم التكبيرات في الركعتين فيبدأ بالتكبير بالإجماع اعتبر ذلك أول صلاته أو آخر صلاته، وعلي رضي الله عنه يؤخر التكبيرات عن القراءة في الركعتين فيبدأ بالقراءة بالإجماع اعتبر ذلك أول صلاته أو آخر صلاته. فإن كانت المسألة المذكورة هنا على الاختلاف الذي ذكره الكرخي رحمه الله فتخريجها ظاهر؛ لأن عند محمد رحمه الله ما يقضي المسبوق آخر صلاته، ومن مذهب ابن مسعود رضي الله عنه البداية في القراءة في آخر الصلاة. وعندهما ما يقضي المسبوق أول صلاته، ومن مذهب ابن مسعود رضي الله عنه البداية بالتكبير في أول الصلاة. وإن كانت المسألة على الروايتين كما ذهب إليه بعض المشايخ القياس والاستحسان كما ذهب إليه بعض المشايخ. فوجه القياس: وهو إحدى الروايتين أن ما يقضي المسبوق أول صلاته حكماً وآخر صلاته حقيقة؛ لأن ما أدرك مع الإمام أول صلاته حقيقة وآخر صلاته حكماً من حيث إن الأول اسم لفرد سابق فيكون ما أدرك مع الإمام أولاً في حقه حقيقة، ومن حيث إنه آخر في حق الإمام؛ لأن الآخر اسم لفرد لاحق، فيكون آخراً في حقه حكماً تحقيقاً للتبعية وتصحيحاً للاقتداء؛ لأن بين أول الصلاة وآخرها مغايرة من حيث الحكم، فإن القراءة فرض في الأوليين نفل في الأخريين. والمغايرة تمنع صحة الاقتداء، ولما صح الاقتداء علمنا أن ما أدرك اعتبر آخراً في حقه حكماً إن كان أولاً حقيقة، وإذا كان ما أدرك مع الإمام آخراً في حقه حكماً أولاً حقيقة كان ما يقضي أولاً في حقه حكماً آخراً حقيقة والعمل بالحقيقة والحكم في حق التكبيرات متعذر لما بينهما من التنافي فلا بد من اعتبار أحدهما وإلغاء الآخر. فنقول: اعتبار الحكم أولى؛ لأن الحكم قاضي على الحقيقة فسقط اعتبار الحقيقة شرعاً، ولهذا اعتبر الحكم في حق القنوت حتى لو قنت مع الإمام فيما أدرك يكون معتداً به حتى لا يقنت فيا يقضي. وجه الاستحسان: أن الأمر كما قلتم إنما يقضي المسبوق أول صلاته حكماً وآخر

صلاته حقيقة، وما أدرك مع الإمام أول صلاته حقيقة، وآخر صلاته حكماً، إلا أنه تعتبر الحقيقة فيما أدرك وفيما يقضي في حق الثناء حتى يقع في محله، وهو ما قبل أداء الأركان، ويعتبر الحكم فيما أدرك وفيما يقضي في حق القراءة، فجعلنا ما أدرك آخر صلاته وما يقضي أول صلاته فأوجبنا القراءة فيما يقضي؛ لأن القراءة ركن لا تجوز الصلاة بدونها فيعتبر الحكم في حق القراءة حتى يخرج من عهدة ما عليه بيقين، وفي حق القنوت يعتبر الحكم فيما أدرك وفيما يقضي فلا يأتي بالقنوت فيما يقضي كيلا يؤدي إلى تكرار القنوت الذي هو ليس بمشروع. وفي حق القعدة تعتبر الحقيقة فيما أدرك وفيما يقضي فألزمناه القعدة متى فرغ مما يقضي؛ لأن قعدة الختم ركن لا تجوز الصلاة بدونها، فاعتبرنا الحقيقة في حق القعدة فأوجبنا عليه القعدة متى فرغ مما يقضي حتى يخرج عن العهدة بيقين. وفي حق التكبيرات اعتبرنا الحقيقة فيما يقضي؛ لأن اعتبار (108ب1) الحكم يؤدي إلى مخالفة إجماع الصحابة، فإن الصحابة أجمعوا على عدم الموالاة بين التكبيرات، وفي اعتبار الحكم موالاة بين التكبيرات، فإنه آخر التكبيرات عن القراءة في الركعة التي أدركها مع الإمام فلو قدم التكبيرات فيما يقضي تقع الموالاة بين التكبيرات، أما لو اعتبرنا الحقيقة وبدأ بالقراءة يصير عاملاً بقول علي رضي الله عنه، فلا يؤدي إلى مخالفة إجماع الصحابة، فكان اعتبار الحقيقة في حق التكبيرات أولى. قال السيد الإمام أبو شجاع رحمه الله: وهذا ضعيف، فإن الموالاة بين التكبيرات جائز، ألا ترى أن الإمام لو افتتح الصلاة على مذهب علي رضي الله عنه حين قدم القراءة على التكبير، فلما صلى ركعة تحول رأيه إلى رأي ابن عباس رضي الله عنهما حتى قدم التكبير على القراءة في الركعة الثانية جاز ذلك، وهذا موالاة بين التكبيرات على أنا

نقول: هذا من حيث الصورة يترأى أنه موالاة بين التكبيرات، وأما من حيث المعنى فليس كذلك؛ لأن الركعة الثانية قضاء، والقضاء يلحق بمحل الأداء. والوجه الصحيح في ذلك أن يقال: اعتبار الحكم في حق التكبيرات يؤدي إلى أمر غير مشروع عند ابن مسعود رضي الله عنه، فإن من مذهب ابن مسعود أنه لا يشتغل بالتكبيرات الزوائد إلا بعد أداء ركن من أركان الصلاة في الركعتين جميعاً، فإن في الركعة الأولى يؤتى بتكبيرات العيد بعد تكبيرة الافتتاح، وإنها ركن أو فرض على ما عرف، وفي الركعة الثانية يؤتى بالتكبيرات الزوائد بعد القراءة والقراءة في الركعتين فرض. إذا ثبت هذا فنقول: لو اعتبرنا الحكم في حق التكبيرات يأتي بالتكبيرات في هذه الركعة أولاً، فيصير إتياناً بالتكبيرات الزوائد قبل أداء ركن في هذه الركعة، وإنه غير مشروع على مذهبه. ووجه آخر في المسألة أيضاً: أن ابن مسعود رضي الله عنه إنما لا يقدم التكبيرات في الركعة الأولى لا لكونها أولاً وتؤخر في الركعة الثانية لا لكونها ثانية، بل لأن السنّة في تكبيرات العيد الجمع بينهما، وإليه وقعت الإشارة في قوله عليه السلام حين صلى صلاة العيد وكبر فيها، كما هو مذهب ابن مسعود رضي الله عنه: لا تنسوا أربع كأربع الجنائز إلا أن في الركعة الأولى وقعت المعارضة بين تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع فإنهما عدتا من تكبيرات العيد، فكان الضم إلى تكبيرة الافتتاح أولى؛ لأنها أشبه بتكبيرات العيد، فإنها تؤدى في حالة القيام المحض كتكبيرات العيد. وترفع الأيدي عندهما كما ترفع عند تكبيرات العيد. وفي الركعة الثانية لم توجد تكبيرة الافتتاح فيجب الضم إلى تكبيرة الركوع. إذا ثبت هذا فنقول: إذا قام إلى قضاء ما سبق به فهذا وإن كان أول صلاته حكماً، إلا أن هذا أول ليس له تكبيرة الافتتاح فيضم التكبيرات الزوائد إلى تكبيرة الركوع ضرورة، فلهذا يقدم القراءة على التكبيرات في هذه الركعة. والله أعلم. نوع آخرمن هذا الفصل في المتفرقات قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وليس قبل العيدين صلاة يريد به أنه لا يتطوع قبل صلاة العيدين، والأصل فيه حديث جابر قال: كنت آخر الناس إسلاماً فحفظت من رسول الله عليه السلام «أن لا صلاة في العيدين قبل الإمام» ، ولأنه لو تطوع قبل الإمام ربما يدخل الإمام في الصلاة، فإما أن يقطع ويتابع الإمام، أو يتم ويترك المتابعة وكل ذلك لا يجوز. قال: وإن شاء تطوع بعد الفراغ من الخطبة لحديث علي رضي الله عنه:

«من صلى بعد العيد أربع ركعات كتب الله تعالى له بكل نبت وبكل ورقة حسنة» . قال القاضي الإمام أبو جعفر الإسترسي: كان شيخنا أبو بكر الرازي رحمه الله يفتى بقول أصحابنا رحمهم الله: وليس قبل العيدين صلاة ليس قبل العيدين صلاة مسنونة؛ لأن الصلاة قبل العيدين مكروه، إلا أن الكرخي نص على الكراهة فإنه قال: ويكره لمن حضر المصلى يوم العيد التنفل قبل الصلاة. والله أعلم. وقال بعض الناس: لا يكره التطوع قبل العيد ولا بعدها، لا في حق القوم ولا في حق الإمام. وقال الشافعي: يكره في حق الإمام، ولا يكره في حق القوم. ذكر في «نوادر الصلاة» : ولا شيء على من فاتته صلاة العيد مع الإمام، وقال الشافعي: يصلي وحده كما يصلي مع الإمام، وهذا بناءً على أن المنفرد هل يصلي صلاة العيد؟ عندنا لا يصلي، وعنده يصلي؛ لأن الجماعة والسلطان ليس بشرط عنده، فكان له أن يصلي وحده، فإذا فاتته مع الإمام لم يعجز عن قضائها. فقال بالقضاء كالتراويح إذا فاتت بالجماعة في رمضان يقضيها وحده؛ لأنه قادر على قضائها، لأنه يجوز الأداء منفرداً كما يجوز بجماعة كذا ههنا. وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: لا يجوز إقامتها إلا بشرائط مخصوصة منها الإمام، فإذا فاتت مع الإمام فقد عجز عن قضائها، فلا يلزمه القضاء. فإن قيل: صلاة العيد قائمة مقام صلاة الضحى، ولهذا تكره صلاة الضحى قبل صلاة العيد، وإذا قامت مقام صلاة الضحى، وهو قادر على صلاة الضحى إن عجز عن إقامة صلاة العيد وجب أن تلزمه صلاة الضحى لتقوم مقام صلاة العيد، كما إذا فاتته الجمعة يلزمه إقامة الظهر، وإنما تلزمه لما قلنا. قلنا: نعم صلاة العيد أقيمت مقام صلاة الضحى، فإذا عجز عن إقامة صلاة العيد لفوات الشرائط عاد الأمر إلى الأصل وهي صلاة الضحى، وصلاة الضحى غير واجبة في الأصل بل يتخير في ذلك. وفي أداء الجمعة لما عجز عن أداء الجمعة لفوات الشرائط سقطت عنه الجمعة، وعاد الأمر إلى ما كان قبل الجمعة، وقبل الجمعة كان يلزمه أداء الظهر، ولا يتخير في أدائه، فكذلك بعدها، فإن أحب أن يصلي صلى إن شاء ركعتين، وإن شاء أربعاً، ويكون ذلك صلاة الضحى والأفضل أن يصلي أربع ركعات، لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من فاتته صلاة العيد صلى أربع ركعات، يقرأ في الركعة الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى} (الأعلى: 1) ، وفي الثانية: {وَالشَّمْسِ وَضُحَهَا} (الشمس: 1) ، وفي الثالثة: {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1) ، وفي الرابعة: {وَالضُّحَى} (الضحى: 1) . وروي في ذلك عن النبي عليه السلام وعداً جميلاً وثواباً جزيلاً.

وكان محمد بن مقاتل الرازي يقول: لا بأس بصلاة الضحى قبل الخروج إلى الجبانة، إنما كره ذلك في الجبانة، وكان يقول: لا بأس للمرأة أن تصلي صلاة الضحى يوم العيد قبل أن يصلي الإمام صلاة العيد. وعامة المشايخ على الكراهة قبل الخروج إلى الجبانة وفي الجبانة، وعلى قول العامة: إذا أرادت المرأة أن تصلي صلاة الضحى يوم العيد تصلي بعدما صلى الإمام. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل أدرك الإمام في الركوع في صلاة العيد يشتغل بالتسبيحات دون الثناء، فقد قدم التسبيحات على الثناء، وفيما إذا أدرك الإمام في الركوع، وخاف أنه لو أتى بتكبيرات العيد قائماً لا يدرك شيئاً من الركوع يأتي بتكبيرات العيد دون التسبيحات عند أبي حنيفة ومحمد وقدم تكبيرات العيد على التسبيحات؛ لأن التسبيحات سنّة والتكبيرات تسبيحات في محلها والثناء لا. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : من أدرك الإمام في ركوع صلاة العيد تابعه في الركوع، فعلى قياس ما ذكرنا أنه يكبر في الركوع تكبيرات العيد ينبغي أن يرفع اليدين؛ لأنه سنّة في تكبيرات العيد. وفي «النوازل» : إمام صلى بالناس صلاة العيد ثم علم أنه على غير وضوء، إن علم قبل الزوال يعيد في العيدين؛ لأن الوقت باقي، وإن علم بعد الزوال يخرج في العيدين من الغد لأنه تأخير بعذر، وإن علم في الغد بعد الزوال ففي الأضحى يخرج في اليوم الثالث، لأن الوقت باقي، وفي عيد الفطر لا، لأن الوقت لم يبق، فإن علم في اليوم الأول بعد الزوال، وكان عيد الأضحى وقد كان ذبح الناس يجزىء من ذبح. وأي سورة قرأ في صلاة العيد جاز، بلغنا عن أبي بكر رضي الله عنه: أن النبي عليه السلام: «قرأ في صلاة العيد سورة البقرة» وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه قرأ فيها {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَهَا} » ، وعن نعمان بن بشير رضي الله عنه: أن النبي عليه السلام: «كان يقرأ في العيدين: « {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الاَعْلَى غُثَآء (1) هوَ الَّذِى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَشِيَةِ} » ، وروي أنه كان يقرأ سورة «الجمعة» و {إِذَا جَآءكَ الْمُنَفِقُونَ} ، فاختلاف يدل على أنه ليس فيها شيء مؤقت. والمعنى فيه: وهو أن هذه صلاة شرعت فيها القراءة، فلا يتعين فيها قراءة سورة من القرآن سوى الفاتحة قياساً (109أ1) على سائر الصلوات، وهذا لأن في تعيين سورة هجر الباقي، وليس شيء من القرآن بمهجور. وإذا أدرك الإمام في صلاة العيد بعدما تشهد الإمام قبل أن يسلم أو بعد ما سلم قبل أن يسجد للسهو أو بعدما سجد للسهو فدخل معه، ثم سلم الإمام فإنه يقوم فيقضي صلاة العيد لأنه شارك الإمام في الصلاة فيلزمه القضاء. من مشايخنا من قال: المذكور قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، فأما قول

محمد رحمه الله: لا يصير مدركاً لصلاة العيد كما قال في الجمعة: إذا أدرك الإمام في هذه الحالة لا يصير مدركاً للجمعة عنده، حتى يصلي أربعاً عنده فكذلك ها هنا. ومنهم من قال: هذا بلا خلاف وهو الأصح، فإن صح الخلاف لمحمد في صلاة العيد كما في الجمعة فلا حاجة لمحمد رحمه الله إلى الفرق بين صلاة الجمعة وصلاة العيد، وإن لم يصح الخلاف يحتاج محمد إلى الفرق بين صلاة العيد وبين صلاة الجمعة. فإنه قال: في صلاة الجمعة لا يصير مدركاً للجمعة، ويصلي أربعاً، وفي صلاة العيد قال: يصير مدركاً لصلاة العيد، ويصلي صلاة العيد وحده. ووجه الفرق لمحمد رحمه الله وهو: أن القياس ما قاله أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله في الجمعة، إلا أنه ترك القياس بالأثر، والأثر ورد في الجمعة، وما ورد في العيد، وترد صلاة العيد إلى أصل القياس، ولأن محمد رحمه الله جعله مدركاً للجمعة في تلك المسألة بدليل أنه لو ترك القعدة على رأس الركعتين لا تجزئه صلاته، كما إذا صلى الجمعة وترك القعدة على رأس الركعتين، وإذا خرج وقت الظهر فسدت صلاته إلا أنه أمر بزيادة ركعتين احتياطاً لتقوم مقام الظهر، وليس في صلاة العيد زيادة نأمره بها احتياطاً. ثم إذا سلم الإمام وقام هو إلى القضاء كيف يصنع؟ قال الشيخ الإمام الزاهد المعروف بخواهر زاده رحمه الله: يقوم فيكبر ثلاث تكبيرات، ثم يقرأ؛ لأن ما يقضي أول صلاته في هذه الحالة بالإجماع، لأنه مسبوق بركعتين، والتكبير مقدم على القراءة الأولى ومؤخر في الثانية عندنا، فكذلك ههنا. قال في «الأصل» : والسهو في العيدين والجمعة والمكتوبة والتطوع سواء لأن الجمعة والعيدين ساوت سائر الصلوات فيما يوجب الفساد فتساويها فيما يوجب الجبر، إلا أن مشايخنا قالوا: لا يسجدون للسهو في الجمعة والعيدين كيلا يقع الناس في الفتنة. ولا تجوز صلاة العيد راكباً كالجمعة، ولا بأس بالركوب في الجمعة والعيدين، والمشي أفضل في حق من يقدر عليه. «في غريب الرواية» : وإذا قرأ الإمام السجدة في خطبة العيد سجدها وسجد معه من سمعها، كما في الخطبة الجمعة، وكذلك إذا قرأها في الصلاة سجدها وسجد القوم معه. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا: لا يسجدون، والكلام في العيد نظير الكلام في الجمعة. وإذا أحدث رجل في الجبانة وخاف أنه إن رجع إلى الكوفة ليتوضأ تفوته الصلاة، وهو لا يجد الماء، فإن كان قبل الشروع في الصلاة يتيمم ويصلي مع الناس. من أصحابنا من قال: هذا في جبانة الكوفة لأن الماء بعيد، أما في ديارنا الماء محيط بالمصلى فينبغي أن لا يجوز التيمم. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والصحيح أنه متى خاف الفوت يجوز له التيمم في أي موضع كان، وكذلك إذا أحدث بعدما دخل في الصلاة تيمم وصلى، وإن لم يتيمم وانصرف إلى الكوفة وتوضأ، ثم عاد إلى المصلى وصلى جاز.

الفصل السابع والعشرون في تكبير أيام التشريق

وقال أبو يوسف، ومحمد: إذا أحدث بعدما دخل في الصلاة لم يجز له التيمم، وهذا الذي ذكرنا في حق المقتدي وكذلك الحكم في حق الإمام. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله: أنه ليس للإمام أن يتيمم، لأنه لا يخاف الفوت فإنه لا يجوز للناس أن يصلوا بدون الإمام، وجه ظاهر الرواية أنه يخاف الفوت بخروج الوقت فربما تزول الشمس قبل فراغه من الوضوء، ومن تكلم في صلاة العيد بعدما صلى ركعة فلا قضاء عليه. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هذا على قول أبي حنيفة، فأما على قولهما: عليه القضاء بناءً على المسألة المتقدمة، وهو ما إذا أحدث في صلاة العيد ولم يجد ماء وهو يخاف الفوت إن توضأ فعلى قول أبي حنيفة يتيمم؛ لأن على قوله لا يمكنه القضاء لو لم يجز له التيمم تفوته الصلاة أصلاً، وعلى قولهما: لا يتيمم؛ لأنه يمكنه القضاء لو لم يجز له التيمم لا تفوته الصلاة أصلاً. الفصل السابع والعشرون في تكبير أيام التشريق تكبير التشريق سنّة: أجمع أهل العلم على العمل بها، والأصل فيه قول الله تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (البقرة: 203) جاء في التفسير: أن المراد منه أيام العشر، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله عليه السلام قال: «وأفضل ما قلت وقالت الأنبياء قبل يوم عرفة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد» وعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله عليه السلام: «صلى الفجر يوم عرفة وقال: «الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد» وقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في ابتدائه وانتهائه. أما الاختلاف في ابتدائه فكبار الصحابة عمر، وعلي، وابن مسعود رضي الله عنهم قالوا: يبدأ بالتكبير من صلاة الغداة يوم عرفة، وبه أخذ علماؤنا في ظاهر الرواية، وهو أحد أقوال الشافعي رحمه الله.v وصغار الصحابة كعبد الله ابن عباس، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت رضوان الله عليهم أجمعين قالوا: يبدأ بالتكبير من صلاة الظهر من يوم النحر، وهو المشهور من أقوال الشافعي رحمه الله، وهو مروي عن أبي يوسف رحمه الله، وللشافعي رحمه الله قول ثالث أنه يبدأ بالتكبير من صلاة الفجر من يوم النحر.

وأما الاختلاف في انتهائه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: يكبر في صلاة العصر من أول يوم النحر ويقطع فتكون الجملة عنده ثمان صلوات، وبقوله أخذ أبو حنيفة رحمه الله، وقال علي رضي الله عنه: يكبر في صلاة العصر من آخر أيام التشريق ويقطع، فتكون الجملة ثلاثاً وعشرون صلاة، وبه أخذ أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله، وعن عمر رضي الله عنه روايتان، في رواية كما قال علي رضي الله عنه وفي رواية قال: يكبر إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: يكبر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق. وقال زيد بن ثابت في رواية كما قال علي رضي الله عنه: وفي رواية قال: يكبر إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشرق. وللشافعي رحمه الله للقطع ثلاثة أقوال أيضاً قال في قول: يكبر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق، وقال في قول: يكبر إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق، وقال في قول: يكبر إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق. نتكلم أولاً في ابتدائه حجة صغار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين قول الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَآءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الاْخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ} (البقرة: 200) والفاء للتعقيب، والمراد به التكبير؛ لأنه لا يجب ذكر آخر عقيب قضاء المناسك إلا التكبير، وقضاء المناسك إنما يتم وقت الضحوة من يوم النحر فينبغي أن يكون التكبير عقيبه فيقع ابتداء التكبير من صلاة الظهر. حجتنا قول الله تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِى أَيَّامٍ مَّعْدُودتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (البقرة: 203) روي عن جماعة من الصحابة أن المراد به أيام العشر، ومنهم من قال: المراد منه يوم النحر ويومان بعده، فاتفقوا على أن يوم النحر مراد بظاهره يقتضي أنه كلما طلع الفجر من يوم النحر يكبر وعنده لا يكبر في صلاة الفجر، وحديث جابر، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم على ما روينا دليل على صحة مذهبنا. وروى أبو الطفيل عن علي، وعمار بن ياسر رضي الله عنهما «أنهما سمعا رسول الله عليه السلام يكبر في دبر الصلوات المكتوبات من صلاة الغداة يوم عرفة إلى صلاة العصر من أخر أيام التشريق حتى يسلم من المكتوبات» . أما الجواب عن التعليق بالآية قلنا: أراد به ذكر الله تعالى في الأوقات كلها لا التكبير في أوقات مخصوصة ألا ترى أنه قال: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَآءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءاتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الاْخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ} (البقرة: 200) وهم كانوا يذكرون آبائهم في الأوقات كلها على سبيل التفاخر وأمرهم الله تعالى بذكره في الأوقات كلها مقام ذكر آبائهم.

وحاصل الاختلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله على ما هو المشهور من قوله راجع إلى أن التكبير في أول يوم النحر بأي علةٍ شرعت فإن التكبير في أول يوم النحر مشروع بالإجماع. فعند علمائنا رحمهم الله شرع؛ لأنه يوم اختص بركن من أركان الحج وهو طواف الزيارة فإنه يجوز فيه ولا يجوز قبله (109ب1) ، فشرع التكبير فيه ليكون علماً على أنه وقت ركن من أركان الحج. وعند الشافعي شرع فيه؛ لأنه يوم اختص بتبع من توابع الحج وهو الرمي فإن رمي جمرة العقبة مشروع فيه، وليس بمشروع قبله، فشرع التكبير فيه ليكون علماً على أنه وقت رمي الجمر، فنحن عللنا بما عللناه إلى يوم عرفة؛ لأن يوم عرفة يوم اختص بركن من أركان الحج، وهو الوقوف بعرفة وهو عدل بما علل إلى ثلاثة أيام التشريق؛ لأنه اختص هذه الأيام بتبع من توابع الحج وهو الرمي، فرجح الشافعي علته وقال: التكبير تبع من توابع الحج، وليس من أركان الحج فكان جعله علماً على ما شرع تبعاً من توابع الحج أولى من جعله علماً على ما شرع ركناً من أركان الحج. وعلماؤنا رحمهم الله رجحوا عليتهم فقالوا: متى عللنا بما قلنا فقد علقنا التكبير بما علقه الشرع به بيقين، ومتى عللنا بما قاله الشافعي رحمه الله فما علقنا التكبير بما علقه الشرع به بيقين. بيانه: أن في الركن تبع وزيادة لأن الركن يستتبع التبع أما التبع لا يستتبع الركن فمتى علقنا التكبير بالركن والتبع موجود فيه فقد علقناه بما علقه الشرع به بيقين ومتى علقناه بالتبع والركن لا يوجد في التبع فما علقناه بما علقه الشرع به بيقين لأنه يحتمل أن الشرع علقه بالركن والركن لم يوجد في التبع فكان ما قلناه أولى. وقد صح عن رسول الله عليه السلام برواية جابر رضي الله عنه «أنه صلى الفجر يوم عرفة وكبر» فصار تعليلنا مؤيداً بخبر رسول الله عليه السلام فكان أولى، هذا هو الكلام في البداية. وأما الكلام في القطع والنهاية فأبو حنيفة رحمه الله رجح قول ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأن شرعية التكبير في أول يوم النحر لكونه مختصاً بركن من الحج ولم توجد هذه العلة في اليوم الثاني من يوم النحر، وهما رجحا قول علي رضي الله عنه فقالا: تعليل الأصل كما يجوز بعلة واحدة فيجوز بعلتين، فنحن نقول شرعية التكبير في أول يوم النحر معلولة بما قلنا وبما قاله الشافعي رحمه الله، وإحدى العلتين موجودة في هذه الأيام بعد يوم النحر فصحت التعدية. ومحمد رحمه الله ذكر في «الكتاب» : ليرجح قولهما فقال: لما اختلف أصحاب رسول الله عليه السلام في التكبيرات عقيب الصلوات كان الأخذ بقول علي رضي الله عنه، وفيه زيادة تكبير أولى؛ لأنه إن كان كبر وليس عليه ذلك أولى من أن يترك وعليه

ذلك، فمن المشايخ من ناقض محمداً في هذا فقال: أليس لم يأخذ محمد رحمه الله بتكبير ابن عباس رضي الله عنه في صلاة العيد مع أن فيه زيادة تكبير. ومحمد رحمه الله يفرق ويقول: تكبيرات العيد يؤتى بها في الصلاة والأصل صيانة الصلاة عن إدخال الزوائد فيها كما في سائر الصلوات، إلا أن فيما اتفقت عليه الأقاويل هو الأقل عدلنا عن الأصل. وفيما اختلفت فيه الأقاويل عدنا إلى الأصل، أما تكبيرات التشريق يؤتى بها عقيب الصلوات، وهو موضع الدعاء والذكر والإكثار في الأذكار في موضعها أفضل قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} (الأحزاب: 41) بعد هذا يحتاج إلى بيان كيفية هذ التكبير وإلى بيان ما يجب عليه هذا التكبير. أما الكلام في كيفيته فنقول: التكبير عندنا الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. وقال الشافعي رحمه الله: التكبير أن يقول: الله أكبر ثلاث مرات، أو خمس مرات، أو سبع مرات، أو تسع مرات، حجته في ذلك أن المنصوص عليه في الكتاب هو التكبير لا غير قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185) والتكبير قول: الله أكبر وقوله: لا إله إلا الله، تهليل وقوله: ولله الحمد تحميد، فمن شرط ذلك فقد زاد على الكتاب. حجتنا في ذلك: حديث ابن عمر رضي الله عنه وحديث جابر على نحو ما روينا في ابتداء المسألة، والأمة توارثوا التكبير من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من الوجه الذي بينا، والتوارث حجة. وقيل: إن مأخذ التكبير من جبريل، وإبراهيم، وإسماعيل صلوات الله عليهم، فإن إبراهيم لما أضجع إسماعيل للذبح أمر الله عزّ وجلّ جبريل عليه السلام حتى يذهب إليه بالفداء فلما رأى جبريل أنه أضجعه للذبح فقال: الله أكبر الله أكبر كيلا يعجل بالذبح، فلما سمع إبراهيم صوت جبريل عليه السلام وقع عنده أنه يأتيه باللسان. فهلل الله تعالى وذكره بالوحدانية فقال: لا إله إلا الله والله أكبر، فلما سمع إسماعيل كلامهما وقع عنده أنه فدي، فحمد الله تعالى وشكره فقال: الله أكبر ولله الحمد، فثبوته على هذا الوجه بهولاء الأجلاء فلا يجوز أن يأتي بالبعض ويترك البعض. وأما الكلام فيمن يجب عليه هذا التكبير فنقول: على قول أبي حنيفة رحمه الله: لا تجب هذه التكبيرات مقصوداً إلا على الرجال المقيمين في الأمصار عقيب الصلوات المكتوبات بالجماعة، وهو مذهب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: يجب على كل من تجب عليه الصلاة المكتوبة في أيام التشريق، الرستاقي والبلدي والمسافر والمقيم والذي يصلي وحده والذي يصلي بجماعة سواء، وهو قول إبراهيم، وعامر.

فوجه قولهما: أن التكبير تبع للمكتوبة فيجب على كل من تجب عليه المكتوبة بطريق التبعية. وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: قوله عليه السلام: «لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع» والمراد من التشريق تكبير أيام التشريق هكذا قاله النضر بن شميل، والخليل بن أحمد وهما كانا من أئمة اللغة، ولأن التشريق حقيقته تقديد اللحم؛ لأنه تفعيل من شرق تشريقاً إذا قطع وأظهر للشمس سمي تقديد اللحم تشريقاً؛ لأن في ذلك تقطيعه وإظهاره للشمس والحقيقة وهو التقديد ليس بمراد؛ لأنه لا يختص بالمصر وله مجاز أن الصلاة والتكبير في أدبار الصلوات لأن في ذلك إظهار شعار الإسلام فإن أمكن حمله عليهما يحمل عليهما ويكون هذا تبعاً للصلاة والتكبير إلا في مصر جامع، وإن لم يمكن حمله عليهما يحمل على التكبير لأن نفي صلاة العيد إلا في المصر استفيد برواية أخرى، وهو قوله عليه السلام والتحية: «لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع» والمراد من الفطر والأضحى صلاة الفطر والأضحى فلو حمل التشريق المذكور في هذه الرواية على الصلاة كان تكراراً ومهما أمكن حمل اللفظ على فائدة جديدة لا يحمل على التكرار، وإذا ثبت أن المصر شرط وجب أن يشترط القوم الخاص والجماعة كما في الجمعة وصلاة العيدين. فإن قيل: هذه التكبيرات شرعت تبعاً ولا يجوز أن يشترط التبع ما لا يشترط الأصل قلنا: نعم إلا أن هذه التبعية عرفت شرعاً بخلاف القياس فإنه لم يشرع في غير هذه الأيام فيراعى لهذه التبعية جميع الشرائط التي ورد بها، والنص جعل من إحدى شرائط إقامته المصر وجب أن يشترط القوم الخاص والجماعة كما في الجمعة والعيد، واختلاف المشايخ على قول أبي حنيفة رحمه الله: أن الحرية هل هي شرط لوجوب هذه التكبيرات.

وفائدة الخلاف إنما تظهر فيما إذا أم العبد قوماً صلاة مكتوبة في هذه الأيام هل يجب عليه التكبير لمن شرط الحرية قال: فإن الذكورة والمصر شرط لإقامته مقصوداً فكذا الحرية قياساً على الجمعة وصلاة العيد. ومن لم يشترط الحرية قال: لم يشترط لإقامته السلطان فلا يشترط الحرية كسائر الصلوات وإنما لم يشترط لإقامته السلطان عند أبي حنيفة رحمه الله لما حكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله: أن التكبير يشبه صلاة العيد وصلاة الجمعة من حيث إنه شرط لإقامته المصر بالنص كما شرط الإقامة للجمعة والعيد ويشبه سائر الصلوات من حيث إنه يقام في يوم واحد خمس مرات، فكان له حظاً من الخصوص والعموم، فأشبه بالخصوص شرطنا القوم الخاص والجماعة وأشبه بالعموم لم يشترط السلطان توفيراً على الشبهين حظهما بقدر الإمكان. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا صلى النساء والمسافرون مع الرجال المقيمين في مصر جماعة وجب عليهم التكبير بالإجماع إذا كان الإمام مقيماً؛ لأنهم بالاقتداء به صاروا أتباعاً له في الصلاة، فكذا في التكبير؛ لأن التكبير من توابع الصلاة وقد يثبت الشيء تبعاً، وإن كان لا يثبت مقصوداً، ألا ترى أن الزكاة (110أ1) لا تجب في الجملان والفصلان مقصوداً عند أبي حنيفة رحمه الله وتجب تبعاً لغيرهن بأن كانت معهن مسنة. وأما المسافرون إذا صلوا جماعة في مصر ففيهم روايتان في رواية الحسن: عليهم التكبير، وفي رواية أخرى لا تكبير عليهم؛ لأن السفر للفرض مسقط للتكبير ثم لا فرق في تغير الفرض أن يصلوا في المصر وبين أن يصلوا خارج المصر فكذا في التكبير ولا يكبر في شيء من النوافل لأن الجهر بالتكبير عرف قربة شرعاً بخلاف القياس والشرع إنما ورد به في المكتوبات، ففي غير المكتوبات يبقى على أصل القياس. ولا يكبر في صلاة العيد؛ لأنها تطوع فأشبه سائر التطوعات ولا في الوتر. أما عندهما؛ فلأنه سنّة وتطوع، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه وإن كان فرضاً إلا أنه يؤدى بجماعة إلا في شهر رمضان والجماعة عند أبي حنيفة رحمه الله شرط. قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: ولو أن رجلاً صلى بقوم صلاة في أيام التشريق، فنسي التكبير، ثم تذكر بعدما خرج من المسجد، أو تكلم لم يكن عليه تكبير. والأصل في جنس هذه المسائل: أن ما يمنع بناء بعض الصلاة على البعض يمنع التكبير، وما لا يمنع بناء بعض الصلاة على البعض لا يمنع التكبير؛ لأن التكبير شرع متصلاً بالصلاة كأفعال الصلاة شرعت متصلة بعضها ببعض. قلنا: وكلام الناس والخروج عن المسجد لا لإصلاح الصلاة لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الظن يمنع البناء فيمنع التكبير، فأما إذا تحول من مكانه إلا أنه في المسجد بعد، ولم يتكلم فتذكر فإنه يأت بالتكبير أستدبر القبلة أو لم يستدبر، إن لم يستدبر فظاهر، لأن المسجد مع تباين أطرافه جعل كمكان واحد في حق الصلاة، ألا ترى أنه جاز اقتداء

من كان تأخر وانصرف بالإمام، فكذا في حق التكبير فصار كأنه في مكان صلاته حقيقة مستقبل القبلة، وقد سهى عن التكبير، ثم تذكر، وهناك يأتي بالتكبير فهنا كذلك، وأما إذا استدبر القبلة، فكذلك الجواب، وكان ينبغي أن لا يأتي بالتكبير لأن الاستدبار ما كان لإصلاح الصلاة هنا؛ لأنه أتم الصلاة، والاستدبار إذا لم يكن لإصلاح الصلاة يمنع البناء. ألا ترى أنه لو ظن أنه مسح رأسه فاستدبر القبلة ثم تذكر أنه مسح رأسه، وهو في المسجد بعد لا يمكنه البناء، فينبغي أن لا يأتي بالتكبيرات هنا أيضاً. والجواب وهو الفرق بين المسألتين: أن استدبار القبلة في تلك المسألة لا يمنع البناء؛ لأنه ما كان لإصلاح الصلاة بل لأنه كان للرفض والترك حقيقة، وهذا يمنع البناء؛ لأنه يقطع حرمة الصلاة وهنا الاستدبار لم يكن للترك والرفض؛ لأنه أتم الصلاة فشبه من هذا الوجه استدبار القبلة في مسألة الرعاف بأن سال من أنفه ماء فظن أنه رعاف فاستدبر القبلة ثم تبين أنه ماء وهو في المسجد بعد وهناك يبني؛ لأن الاستدبار ما كان للترك والرفض. وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني رحمه الله أنه كان يقول: ما ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» يصير رواية، فيمن سلم على ظن أنه أتم الصلاة واستدبر القبلة، ثم تذكر أنه لم يتم الصلاة وهو في المسجد بعد، ولم يتكلم بكلام الناس أنه يأتي بما بقي عليه، وكان يقول: لا يعرف لهذه المسألة رواية إلا في «الجامع» ، وكان يقول أيضاً: وذكر الكرخي رحمه الله في «الجامع الصغير» : أن من سلم على ظن أنه أتم صلاته ثم تذكر بعدما استدبر القبلة أنه لم يتم، وهو في المسجد بعد، لا يكون ذلك قاطعاً لصلاته عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند محمد رحمه الله يكون قاطعاً. فعلى قياس ما ذكر الكرخي ينبغي أن لا يأتي بالتكبير هنا عند محمد؛ لأن هذا يمنع البناء عنده فيمنع التكبير أيضاً عنده. قال: والحدث العمد يمنع التكبير لأنه يمنع البناء، والحدث ساهياً لا يمنع التكبير؛ لأنه لا يمنع البناء إلا أن هناك يلزمه الذهاب لتجديد الوضوء وهنا لا يلزمه؛ لأن التكبير ليس من أفعال الصلاة، ولا يؤدي في حرمة الصلاة، فلا يشترط له الوضوء ولكن لو ذهب وتوضأ كان أفضل؛ لأن ذكر الله تعالى مع الطهارة تكون أفضل. قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: رجل صلى بقوم في أيام التشريق فسلم ولم يكبر ساهياً حتى خرج من المسجد، فعلى القوم أن يكبروا، والمسألة لو كان على الإمام سجود السهو لم يكن على القوم أن يسجدوا. والفرق: أن سجود السهو من أفعال الصلاة، فإنها تؤدى في حرمة الصلاة؛ ولهذا لو أدرك الإمام في سجود السهو يصير مدركاً للصلاة، ولو قهقه في هذه الحالة يكون حدثاً وما كان من أفعال الصلاة، متى سقط عن الإمام سقط عن القوم كالقعدة على رأس الركعتين، وسجدة التلاوة واجبة في الصلاة. فأما تكبيرات التشريق ليست من أفعال الصلاة، وإنها تؤدى خارج الصلاة بدليل

عكس ما ذكرنا من الأحكام، فسقوطه عن الإمام لا يوجب سقوطه عن القوم. يوضحه: أن المقتدي بالاقتداء صار تابعاً للإمام فيما هو من أفعال الصلاة، لا فيما ليس من أفعال الصلاة، وحكم التبع لا يخالف حكم الأصل فيما هو من أفعال الصلاة متى سقط عن الإمام فسقط عن المقتدي بطريق التبعية، ولا كذلك ما ليس من أفعال الصلاة. فإن قيل: كان ينبغي أن لا يأتون بالتكبير عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الجماعة عنده شرط الوجوب يجب أن يكون شرط الأداء كما في الجمعة، والجماعة إنما تتحقق بالإمام والقوم، فإذا ذهب الإمام فقد انعدمت الجماعة على ما ذكرنا. قلنا: التكبير يشبه الجمعة ويشبه سائر الصلوات، فلشبهه بالجمعة يشترط لوجوبه الجماعة، ولشبهه بسائر الصلوات لا يشترط لأدائه الجماعة عملاً بالشبهين بقدر الإمكان. قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: إذا فاتته الصلاة في غير أيام التشريق فأراد أن يقضيها في أيام التشريق فهنا أربع مسائل: إحداها: هذه والحكم فيها أن يقضيها من غير تكبير وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يقضيها بتكبير، وجه هذه الرواية قوله عليه السلام: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها» جعل وقت التذكر وقت الأداء، ووقت التذكر وقت التكبير، وجه ظاهر الرواية: أنه إن في القضاء تعتبر حالة الفوات في حق بعض الأحكام فإن من قضى الفجر في غير وقته يجهر بالقراءة فيها، ومن قضى الظهر والعصر في غير وقتها يخافت بالقراءة فيها، ومن قضى الفائتة في حالة السفر في حالة الإقامة، فصار ركعتين في ذوات الأربع ومن قضى الفائتة في حالة الإقامة في حالة السفر قضاها أربعاً. وفي حق بعض الأحكام تعتبر حالة القضاء، ألا ترى أن المريض إذا فاتته صلاة قائماً فقضاها بعدما قدر على الركوع والسجود فقضاها بركوع وسجود ولو فاتته صلاة بركوع وسجود، فأراد أن يقضيها حال ما لا يقدر على الركوع والسجود قضاها قائماً، فباعتبار حالة القضاء إن كان يجب التكبير، فباعتبار حالة الأداء لا يجب التكبير. والجهر بالتكبير عرف شرعاً بخلاف الأصل، فإن الأصل في الأذكار والأدعية الخفية فإذا وجب من وجه دون وجه لا يجب على اعتبار حالة الفوات راجح، لأنه هو المعتبر في عامة الأحكام، وإنما اعتبر حالة القضاء في المريض خاصة وإبداء العبرة للراجح. والحديث لا حجة له فيه؛ لأن الحديث يقتضي أن يكون وقت التذكر وقت الصلاة الفائتة، فكان هذا الوقت من حيث التقدير، كأنه ذلك الوقت، وذلك الوقت ليس وقت التكبير. المسألة الثانية: إذا فاتته صلاة في أيام التشريق، وقضاها في غير أيام التشريق، فقضاها من غير تكبير، وعند الشافعي رحمه الله قضاها بتكبير وجه قوله: أن الفائت إنما

يقضى على الوجه الذي فات كما في الجهر والمخافتة على ما مر. وجه قولنا: أن الفائت إنما يقضى على الوجه الذي فات إذا أمكن، وهنا لا إمكان؛ لأن الجهر بالتكبير إنما عرف قربة في زمان مخصوص بالنص بخلاف القياس، فلا تكون قربة في غير ذلك الزمان، فعجز عن القضاء بالتكبير فسقط.v ألا ترى: أن التضحية إذا فاتت عن وقتها لا تقضى، وكذا رمي الجمار إذا فاتت عن وقته لا تقضى؛ لأن التضحية عرف قربة في زمان مخصوص بالنص بخلاف القياس (110ب1) ، فلا تكون قربة في غير ذلك الزمان فعجز عن القضاء بالتكبير فسقط. ألا ترى: أن التضحية لما كانت تثبت في الحقيقة فلا تكون قربة في غير ذلك الزمان فعجز عن القضاء فسقط كذا ههنا. المسألة الثالثة: إذا فاتته صلاة في أيام التشريق، فقضاها في أيام التشريق من عامه ذلك فقضاها بتكبير؛ لأن وقت التكبير باقي؛ لأن جميع أيام التشريق وقت التكبير. ألا ترى: أن التكبيرات تضاف إلى جميع أيام التشريق إلا أنه فات الوقت المستحب، فإن الوقت المستحب أن يأتي بها عقيب الصلوات في أوقاتها، ولكن فوات الوقت المستحب لا يوجب سقوط العبادة إذا بقي أصل الوقت. ألا ترى لو ترك رمي الجمار إلى آخر أيام التشريق ثم رمى فإنه يجزىء وكذا ههنا. المسألة الرابعة: إذا فاتته صلاة في أيام التشريق فقضاها في الأيام التشريق من العام القابل قضاها من غير تكبير في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقضيها بتكبير؛ لأنا إن اعتبرنا وقت الفوات فهو وقت التكبير، وإن اعتبرنا وقت القضاء فهو وقت التكبير فقد قدر على القضاء بالتكبير فيلزمه ذلك. وجه ظاهر الرواية: أن اعتبار وقت الفوات إن كان يوجب التكبير فاعتبار وقت القضاء لا يوجب التكبير؛ لأن وقت القضاء وقت التكبير عقيب الصلوات المشروعة فيه قضاء، فدار التكبير بين أن يجب وبين أن لا يجب، وهو بدعة في الأصل، فلا يجب عند التردد بخلاف ما إذا أراد أن يقضيها في أيام التشريق من عامه ذلك؛ لأن التكبير مشروع في الصلوات المشروعة في هذه الأيام، والفائت صلاة هذه الأيام، أما هنا فيخالفه. ويبدأ الإمام إذا فرغ من صلاته بسجود السهو ثم بالتكبير ثم بالتلبية إن كان محرماً، أما تقديم سجود السهو على التكبير؛ لأن سجود السهو يؤدى في حرمة الصلاة والتكبير يؤدى في فور الصلاة لا في حرمتها، ولهذا صح الاقتداء بالإمام في سجود السهو، ولا يصح الاقتداء به في التكبير. وأما تقديم التكبير على التلبية؛ فلأن التكبير يؤدى في فور الصلاة والتكبير لا يختص أداؤه بحال في فور الصلاة، والتكبير من خصائص الصلاة، والتلبية ليست من خصائص الصلاة، فإنه يلبي كلما هبط وادياً أو علا شرفاً وبالأسحار. يجهر بالتكبير في عيد الأضحى في طريق المصلى بلا خلاف، وإذا انتهى إلى المصلى يقطع، وفي رواية لا يقطع ما لم يفتتح الإمام الصلاة. وفي عيد الفطر هل يجهر بالتكبير في طريق المصلى؟ روى المعلى عن أبي يوسف

الفصل الثامن والعشرون في صلاة الخوف

عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يجهر، وروى الطحاوي عن أستاذه أبي عمر بن العلاء عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه يجهر وهو قول أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله. احتجوا بما روى الزهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي عليه السلام: «كان يكبر في الفطر والأضحى إذا خرج من بيته رافعاً صوته بالتكبير» ولأبي حنيفة رحمه الله ما روي أن ابن عباس رضي الله عنهما مر في يوم الفطر ومعه قائد فسمع الناس يكبرون فقال: أكبر الإمام، فقال: لا، قال: أفجن الناس؛ ولأن هذا وقت اختص بركن من أركان الحج فلا يشرع فيه التكبير قياساً على رمضان؛ وهذا لأن التكبير شرع علماً على وقت أركان الحج. فإن قيل: كلما دخل شوال دخل وقت بعض أفعال الحج فإنه لو أحرم في شوال وسعى لها يجوز، والسعي من أفعال الحج. قلنا: هذا من واجبات الحج لا من أركانه والواجبات تقع للأذكار فشرع التكبيرات علماً على الأركان، وإنها أصول لا يدل على شرعها علماً على الواجبات وإنها توابع. وعن الفقيه أبي جعفر رحمه الله أنه قال: سمعت أن مشايخنا كانوا يرون التكبير في الأيام العشر بدعة في الأسواق. والله تعالى أعلم. الفصل الثامن والعشرون في صلاة الخوف يجب أن نعلم بأن صلاة الخوف بقيت مشروعة بعد الرسول صلى الله عليه وسلّمفي ظاهر الرواية، وفي رواية الحسن بن زياد عن أبي يوسف أنها لم تبق مشروعة حتى لو صلى الإمام صلاة الخوف في زماننا على الوجه الذي صلاها رسول الله عليه السلام جاز في ظاهر رواية أصحابنا. وفي رواية الحسن عن أبي يوسف أنه لا يجوز وهذا ذكره محمد في الأثر عن أبي يوسف قال محمد: هذا قولي لولا الأثر أشار إلى أن القياس ما قاله أبو يوسف، لكن ترك القياس بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وجه رواية أبي يوسف: أن القياس أبى جواز صلاة الخوف لما فيه من المشي واستدبار القبلة، لكن عرفنا الجواز في زمن رسول الله عليه السلام بالنص وهو قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَوةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وحِدَةً وَلاَ

جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} (النساء: 102) لإدراك الناس فضيلة الصلاة خلف رسول الله عليه السلام، وليس للصلاة خلف غير الرسول من الفضيلة بالصلاة خلف الرسول، فردت صلاة الخوف في زماننا إلى أصل القياس. وجه ظاهر الرواية: أن الصحابة صلوا صلاة الخوف بعد رسول الله عليه السلام، روي عن سعيد بن أبي العاص أنه حارب المجوس بطبرستان ومعه الحسن بن علي، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عمرو بن العاص فقال: أيكم شهد صلاة الخوف مع رسول الله عليه السلام، فقال حذيفة: أنا، فقام وصلى بهم صلاة الخوف، وروي عن أبي موسى الأشعري أنه صلى صلاة الخوف..... ولم ينكر عليهما أحد فحل محل الإجماع. والذي قال: بأن صلاة الخوف إنما شرعت في زمن رسول الله عليه السلام لإدراك الناس فضيلة الصلاة خلف رسول الله فاسد؛ لأن ترك المشي والاستدبار في الصلاة فريضة، والصلاة خلف النبي عليه السلام فضيلة وسنّة؛ لأنه تجوز الصلاة خلف غيره، ولا يجوز ترك الفرض لإحراز الفضيلة، فلا يحال بجواز صلاة الخوف على ما قلتم، وإنما يحال على نفس الخوف؛ لأن للخوف أثراً في إسقاط الفرض، والخوف متحقق في زماننا حسب تحققه في زمن الرسول عليه السلام، فتثبت الشرعية في زماننا حسب ثبوتها في زمن الرسول عليه السلام. وكيفية صلاة الخوف: أن يجعل الإمام الناس طائفتين طائفة بإزاء العدو، وطائفة يفتتح الصلاة بهم ويصلي بهم، ويصلي بكل طائفة شطر الصلاة، فإن كانت الصلاة من ذوات الأربع كالظهر والعصر والعشاء في حق المقيم يصلي بالطائفة التي معه ركعتين، وتتشهد وتنصرف هذه الطائفة من غير سلام، ويقفون بإزاء العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم بقية الصلاة، ويتشهد ثم يسلم الإمام؛ لأنه تمت صلاته وتنصرف هذه الطائفة بغير سلام، ويقفون بإزاء العدو، ثم تعود الطائفة الأولى، فيقضون بقية صلاتهم بغير قراءة؛ لأنهم مدركون أول الصلاة، ويتشهدون ويسلمون ويذهبون، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة؛ لأنهم مسبوقون، ويتشهدون ويسلمون، وإن كانت الصلاة من ذوات المثنى نحو الفجر في حق الكل، والعصر والعشاء في حق المسافر صلى بكل طائفة ركعة على نحو ما بينا. وإن كانت الصلاة من ذوات الثلاث نحو المغرب صلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعة على نحو ما بينا؛ لأن حظ كل طائفة من صلاة الخوف الشطر وشطر المغرب ركعتان بدليل أن القعدة المشروعة عقيب الشطر شرعت في الغرب عقيب الركعتين؛ ولأن للطائفة الأولى حظاً من الركعة الثانية، والركعة الواحدة مما لا يتجزأ فرجحنا الطائفة الأولى بحكم السبق.

ثم الحال لا يخلو من وجهين: إما أن يكون العدو مستدبر القبلة، أو مستقبل القبلة وكل وجه على خمسة أوجه: إما أن يكون الإمام والقوم مسافرين، أو الكل مقيمين، أو كان الإمام مقيماً والقوم مسافرون، أو كان الإمام مسافراً والقوم مقيمون، أو كان بعض القوم مقيماً وبعض القوم مسافراً، والإمام مقيم أو مسافر، فإن كان العدو مستدبر القبلة، والإمام والقوم مسافرون، وأرادوا أن يصلوا صلاة الخوف، إن لم يتنازع القوم في الصلاة خلفه، فإن الأفضل للإمام أن يجعل القوم طائفتين، فيأمر طائفة ليقيموا بإزاء العدو، ويصلي بالطائفة التي معه تمام الصلاة، ثم يأمر رجلاً من الطائفة التي بإزاء العدو حتى يصلي بهم تمام صلاتهم أيضاً، والطائفة التي صلت مع الإمام الأول يقومون بإزاء العدو (111أ1) وإن تنازع كل طائفة فقالوا: إنا نصلي معك، فإنه يجعل القوم طائفتين تقف إحداهما بإزاء العدو ويراقبون العدو، والطائفة الأخرى يقيمون الصلاة مع الإمام، فيصلي بهم ركعة، فإذا صلى بهم ركعة ذهبت هذه الطائفة التي مع الإمام، وقاموا بإزاء العدو ويراقبون العدو، ثم جاءت الطائفة التي كانت بإزاء العدو والإمام قاعد ينتظرهم، فيصلي بهم الركعة الأخرى ثم يتشهد ويسلم، ولا يسلم معه من كان خلفه، ولكن يقومون ويذهبون ويقفون بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الأولى مكان صلاتهم فيصلون ركعة بغير قراءة؛ لأنهم مدركون أول الصلاة مع الإمام فصار كأنهم خلف الإمام، فإذا صلوا ركعة فقد قرأ قدر التشهد ويسلمون، ويذهبون ويقفون بإزاء العدو ويراقبونهم، ثم تجيء الطائفة الأخرى مكان صلاتهم، فيقضون ركعة بقراءة؛ لأنهم مسبوقون والمسبوق فيما يقضي يقضي بقراءة فيصلون صلاة الخوف على هذا الوجه عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله. وللشافعي في هذه المسألة ثلاثة أقوال: قول مثل قول أبي حنيفة، ومحمد. والقول الثاني: قال: يصلي بالطائفة التي معه تمام الصلاة، ثم تذهب الطائفة التي صلت مع الإمام تمام صلاتهم، ويقفون بإزاء العدو، وتجيء الطائفة الأخرى فيصلي بهم مرة أخرى ويجزئهم ذلك، وإن كان هذا من اقتداء المفترض بالمتنفل، ولكن اقتداء المفترض بالمتنفل جائزة عنده. والقول الثالث: وهو المشهور أنه يجعل القوم طائفتين طائفة تقوم بإزاء العدو وطائفة يفتتح الصلاة مع الإمام، فيصلي بالطائفة التي معه ركعة، فإذا صلى ركعة قام الإمام ووقف قائماً، ولا يقرأ حتى تصلي هذه الطائفة التي معه تمام صلاتهم، ويذهبون ويقفون بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الأخرى التي كانت بإزاء العدو فيصلي الإمام بهم ركعة ولا يسلم بل يمكث قاعداً حتى تصلي هذه الطائفة الثانية تمام صلاتهم، ثم يسلم الإمام مع القوم. فإن كان العدو مستقبل القبلة، فالخوف منه كالخوف فيما إذا كان العدو مستدبر القبلة عندنا. وقال الشافعي رحمه الله: إن كان العدو مستقبل القبلة، وكانوا في أرض مستوية لا يسترهم شيء، ولا يخافون الكمين من جهة العدو، فإنه يفتتح الصلاة بالقوم كلهم، ثم يركع ويركع معه كل القوم ثم يسجد ويسجد معه الصف الثاني، ولا يسجد

الصف الأول، بل يحرسون الصف الثاني، ثم يمكث الإمام قاعداً حتى يسجد الصف الأول السجدة الأولى، فإذا سجدوا السجدة الأولى سجد الإمام سجدة أخرى، ويسجد معه الصف الأول، ولا يسجد الصف الثاني، بل يحرسون الصف الأول حتى يحصل لكل طائفة سجدة مع الإمام، فيستويان، ثم يمكث حتى تسجد الطائفة الثانية السجدة الأخرى، ثم يدركون الإمام ثم يصلي بهم الركعة الأخرى على هذا الوجه إلا أنه في الركعة الثانية إن شاء تقدم الصف الثاني، وقام مقام الصف الأول حتى يستويان، وإن شاء يتقدم، وذلك أفضل وهو قول ابن أبي ليلى. فإن كان الإمام والقوم مقيمين والصلاة من ذوات الأربع فإنه تقوم طائفة بإزاء العدو، ثم يفتتح الصلاة بالطائفة التي معه، فيصلي بهم ركعتين، ويقعد قدر التشهد؛ فإنه تذهب هذه الطائفة بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الأخرى التي كانت بإزاء العدو مكان صلاتهم، والإمام قاعد منتظر مجيئهم، فيصلي بهم ركعتين، ثم يتشهد ويسلم، ولا تسلم معه الطائفة الثانية، بل يقومون فيذهبون بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الأولى مكان صلاتهم فيصلون ركعتين بغير قراءة، ويسلمون ويقفون بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الثانية مكان صلاتهم، ويصلون ركعتين بقراءة على نحو ما بينا. وإن كان الإمام مقيماً والقوم مسافرون فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كان الكل مقيمين؛ لأن القوم صاروا مقيمين في حق هذه الصلاة حين اقتدوا بالمقيم. فإن كان الإمام مسافراً، والقوم مقيمين صلى بالطائفة التي معه ركعة، ثم انصرفوا بإزاء العدو، وصلى بالطائفة الثانية ركعة وسلم، ثم تجيء الطائفة الأولى فيصلون ثلاث ركعات بغير قراءة، نص على هذا في «الكتاب» ، وهذا الجواب في الركعة الثانية لا يشكل؛ لأنهم في الركعة الثانية كأنهم خلف الإمام من حيث الحكم؛ لأنهم أدركوا أول الصلاة، إنما الإشكال في الركعتين الأخريين، لأنهم يؤدون الأخريين على سبيل الانفراد؛ لأن تحريمتهم هكذا انعقدت مع هذا قال: يقضيهما بغير قراءة. وذكر الحسن بن زياد رحمه الله في «المجرد» : أنه يقضيها بقراءة. وإن كان الإمام مسافراً والقوم مقيمون ومسافرون صلى الإمام بالطائفة الأولى ركعة، فمن كان مسافراً خلف الإمام بقي إلى تمام صلاته ركعة ومن كان مقيماً بقي إلى تمام صلاته ثلاث ركعات، ثم ينصرفون بإزاء العدو، وترجع الطائفة الأولى إلى مكان الإمام، فمن كان مسافراً يصلي ركعة بغير قراءة؛ لأنه مدرك أول الصلاة، ومن كان مقيماً يصلي ثلاث ركعات بغير قراءة في ظاهر الرواية. وفي رواية الحسن: يقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب، وفي الركعة الأولى لا يقرأ فإذا تمت الطائفة الأولى صلاتهم ينصرفون بإزاء العدو وتجيء الطائفة الثانية إلى مكان صلاتهم فمن كان مسافراً يصلي ركعة بقراءة؛ لأنه مسبوق ومن كان مقيماً يصلي ثلاث ركعات الأولى بفاتحة الكتاب وسورة؛ لأنه كان مسبوقاً فيها، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب على الروايات كلها. وإن كان الإمام مقيماً، والقوم مقيمون ومسافرون، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا

كان الكل مقيمون؛ لأن المسافرين يصيرون مقيمين بالاقتداء وإن لم تقرأ الطائفة الثانية فيما يقصرون لم يجزئهم لأنهم مسبوقون، وإن اقتدى أحدهما بصاحبه فيما يقضي فسدت صلاة المقتدي، وصلاة الإمام تامة، وإذا سهى الإمام في صلاة الخوف وجب عليه سجدتا السهو. ومن قاتل منهم في صلاته فسدت صلاته عندنا، ولو فعلوا كذلك وقال: لا تفسد صلاته وهو قول الشافعي رحمه الله، ولا يصلون وهم يقاتلون وإن ذهب الوقت لو فعلوا كذلك لا تجوز صلاتهم. وكذلك من ركب منهم في صلاته عند انصرافه إلى وجه العدو فسدت صلاته، ولا يصلون جماعة ركباناً إلا أن يكون الإمام والمقتدي على دابة فيصح اقتداء المقتدي به، وروي عن محمد رحمه الله: أنه جوز لهم في الخوف أن يصلوا ركباناً بالجماعة وقال: أستحسن ذلك لينالوا فضيلة الجماعة. عن محمد رحمه الله أنه قال: إذا كان الرجل في السفر فأمطرت السماء، فلم يجد مكاناً يابساً ينزل للصلاة، فإنه يقف على دابته مستقبل القبلة، فإنه يصلي مستدبر القبلة بالإيماء فعل هذا إذا كان يخاف النزول عن الدابة فيصلي بالإيماء إذا أمكنه إيقاف الدابة وإن لم يمكنه إيقاف الدابة، مستقبل القبلة فإنه يصلي راكباً مستقبل القبلة، بالإيماء إن أمكنه، وإن لم يمكنه صلى مستدبر القبلة، ثم إنما يجزئه ذلك إذا كانت الدابة تسير بسير نفسها، فأما إذا كان يسيرها صاحبها لا تجزئه، فإن كان ماشياً هارباً من العدو، فحضرت الصلاة، ولم يمكنه الوقوف ليصلي، فإنه لا يصلي ماشياً عندنا بل يؤخر. وعند الشافعي يصلي في تلك الحالة بالإيماء ثم يعيد، وإن صلوا صلاة الخوف من غير أن يعاينوا العدو جازت صلاة الإمام، ولم تجز صلاة القوم إذا صلوها بصفة الذهاب والمجيء، ولو رأوا سواداً وظنوا أنهم العدو، فصلوا صلاة الخوف، فإن تبين أنه كان سواد العدو فقد ظهر أن سبب الترخيص كان متقرراً، فتجزئهم صلاتهم. وإن ظهر أن السواد سواد إبل أو بقر أو غنم فقد ظهر أن سبب الترخيص لم يكن متقرراً فلا تجزئهم صلاتهم والخوف من سبع يعاينوه كالخوف من العدو؛ لأن الرخصة لدفع سبب الخوف عنهم، ولا فرق في هذا بين السبع والعدو. والراكب إذا أمكنه أن يصلي راكباً، ولم يمكنه النزول يصلي قائماً، وإذا صلى بالإيماء لم تلزمه الإعادة بعد زوال العذر في الوقت وخارج الوقت، والراجل يومىء إذا لم يقدر على الركوع والسجود، والراكب (111ب1) إذا كان طالباً لا يصلي على الدابة، وإن كان مطلوباً لا بأس بأن يصلي على الدابة. والله أعلم. نوع آخرمن هذا الفصل ينبني على ثلاثة أصول: أحدها: أن الانحراف عن القبلة في خلال الصلاة في غير موضعه وأوانه مفسدة

للصلاة، وترك الانحراف عن القبلة والثبات عليها في موضعه وفي غير موضعه غير مفسدة للصلاة؛ وهذا لأن نص الأصل الفساد بالانحراف مطلقاً في عموم الأحوال وإنما ترك نص هذا الأصل في صلاة الخوف مقيداً بأوانه، وقد بينا أوان الانحرف لكل واحد من الطائفتين، فبقي ما عداه على نص الأصل، أما ترك الانحراف عن القبلة والثبات عليها في موضع الانحراف عمل بالأصل وتمسك بما هو عزيمة، فلا يصلح مفسداً لكن يوجب الانتباه لمخالفة الجماعة أو السنّة. الأصل الثاني: أن من أدرك الشطر الأول فهو من الطائفة الأولى، ومن أدرك الشطر الثاني فهو من الطائفة الثانية؛ لأن صلاة الخوف تقام بطائفتين لكل طائفة شطر من الصلاة، وللصلاة شطران، والتي يقام بها الشطر الأول يجعل من الطائفة الأولى، والتي يقام بها الشطر الثاني يجعل من الطائفة الثانية. والأصل الثالث: أن المقتدي يتبع رأي الإمام لا رأي نفسه؛ لأنه بالاقتداء به ألزم متابعته، فيترك رأيه برأي الإمام إلا إذا تيقن بخطأ الإمام على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، والمنفرد يتبع رأي نفسه؛ لأنه أصل بنفسه، ولم يلتزم متابعة غيره، والمسبوق فيما يقضي منفرد واللاحق كأنه خلف الإمام. إذا عرفنا هذه الأصول جئنا إلى المسائل: قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : إذا صلى الإمام المغرب صلاة الخوف جعل الناس طائفتين، وصلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعة على ما بينا، فلو أنه أخطأ وصلى بالطائفة الأولى ركعة، وبالطائفة الثانية ركعتين ظناً منه أن المعتبر قسمة القراءة، ثم سلم الإمام وذهبت الطائفة الثانية، وجاءت الطائفة الأولى، فصلاة الإمام تامة؛ لأنه لم ينزح عن مكانه حتى أتم صلاته. وصلاة الطائفتين فاسدة، أما الطائفة الأولى، فلأنهم انحرفوا بعد الركعة الأولى، وهذا ليس أوان انحرافهم، وأما الطائفة الثانية فهو من الطائفة الأولى؛ لأنهم أدركوا شيئاً من الشطر الأول إلا أنهم مسبوقون بركعة، فكان ينبغي لهم أن ينحرفوا عقيب الركعة الثانية غير أن ترك الانحراف والثبات على القبلة لا تفسد الصلاة وإن كان في غير موضعه إلا أنهم انحرفوا عن القبلة بعد سلام الإمام. وهذا أوان انصرافهم إلى القبلة لا أوان انحرافهم ففسدت صلاتهم، حتى لو لم ينحرفوا لا تفسد صلاتهم. فإن صلى بالطائفة الأولى ركعة فانحرفوا، ثم جاءت الطائفة الثانية، فصلى بهم ركعة ثم انحرفوا ثم عادت الطائفة الأولى، فصلى بهم الركعة الثالثة، ثم انحرفوا، ثم عادت الطائفة الثانية، فقضوا الركعتين ثم جاءت الطائفة الأولى، فصلاة الإمام تامة لما ذكرنا. وصلاة الطائفة الأولى فاسدة، لأنهم انحرفوا عن القبلة في غير أوانه وهو ما بعد الركعة الأولى، ففسدت صلاتهم فحين جاؤوا وصلوا مع الإمام الركعة الثالثة، فقد بنوا تلك الركعة على تحريمة فاسدة، والبناء على الفاسد فاسد. وصلاة الطائفة الثانية جائزة؛ لأنهم من الطائفة الأولى، وقد انحرفوا في أوانه وهو ما بعد الركعة الثانية، فصحت صلاتهم، وعليهم أن يقضوا الركعة الثالثة أولاً بغير قراءة؛ لأنهم مدركون الثالثة، ثم يقضون الأولى بقراءة؛ لأنهم مسبوقون في حق الأولى، فلو أن الطائفة الأولى حين انصرفوا للركعة الثالثة جددوا التكبير والتحريمة، وصلوا الركعة الثالثة جازت صلاتهم؛ لأنهم الطائفة الثانية في الحقيقة، وقد انحرفوا في أوانه، فإذا رجعوا فعليهم أن يصلوا ركعتين بقرءاة؛ لأنهم مسبوقون فيهما. [ فإن جعل الإمام الناس ثلاث طوائف، وصلى بتلك الطائفة ركعة، ثم عادت الطائفة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، فصلاة الإمام تامة لما مر، صلاة الطائفة الأولى فاسدة لما قلنا، صلاة الطائفتين جائزة، أما الطائفة الثانية، فلأنهم الطائفة الأولى في الحقيقة، وقد انحرفوا في أوانه، ويقضون الركعة الثالثة أولاً بغير قراءة؛ لأنهم مدركون لها، ويقضون الركعة الأولى بقراءة؛ لأنهم مسبوقون فيها، وأما الطائفة الثالثة فإنهم في الحقيقة هم الطائفة الثانية، وقد انحرفوا في أوانه، وهو

ما بعد الثالثة ويقضون الركعتين بقراءة؛ لأنهم مسبوقون فيهما. قال محمد رحمه الله: وإذا صلى الإمام صلاة الظهر في المصر أو في فنائه مواقعين للعدو جعل الناس طائفتين فصلى بكل طائفة ركعتين لما ذكرنا، فإن أخطأ الإمام وظن أنه يقسم القراءة بين طائفتين، وصلى بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الثانية بقية الصلاة فسدت صلاة الطائفتين جميعاً لوجود الانحراف في غير أوانه من الطائفتين، أما الطائفة الأولى؛ فلأنهم انصرفوا قبل القعدة الأولى، وأما الطائفة الثانية؛ فلأنهم من الطائفة الأولى؛ لأنهم أدركوا شيئاً من الشطر الأول، وقد انصرفوا بعد سلام الإمام، وهذا أوان عودهم لا أوان انصرافهم. قال: ولو أن الإمام صلى بالطائفة الأولى ركعة وانصرفت، وبالطائفة الثانية ركعة وانصرفت، ثم صلى بالطائفة الأولى الركعة الثالثة، ثم بالطائفة الثانية الركعة الرابعة وانصرفوا، فصلاة الإمام تامة وصلاة الطائفة الأولى والطائفة الثانية فاسدة، أما صلاة الإمام فلما حلت غير مرة. وأما صلاة الطائفة الأولى، فلأنهم انصرفوا في غير أوانه ففسدت صلاتهم، فلما عادوا وصلوا مع الإمام الركعة الثالثة إن لم يجددوا التحريمة فهذا بناءٌ على الفاسد، وإن جددوا التحريمة صح شروعهم، وكانوا من الطائفة الثانية في الحقيقة فلما انصرفوا بعد الركعة الثالثة كان هذا انصرافاً في غير أوانه، فإن أوان انصراف الطائفة الثانية ما بعد فراغ الإمام، فإذا انصرفوا قبل ذلك فسدت صلاتهم. وأما الطائفة الثانية؛ فلأنهم من الطائفة الأولى لإدراكهم الركعة الثانية مع الإمام، وقد انصرفوا في أوانه، فلما جاؤوا وصلوا مع الإمام الركعة الرابعة فهذا المجيء منهم، وإن كان في غير أوانه إلا أنه لا يكون مفسداً لصلاتهم لما مر في أصل الباب، ولكن لما سلم الإمام، وانصرفوا فسدت صلاتهم؛ لأنهم من جملة الطائفة الأولى، وليس هذا أوان الانصراف من الصلاة للطائفة الأولى، ففسدت صلاتهم، حتى لو لم تنصرف الطائفة

الثانية بعد الفراغ من الرابعة لا تفسد صلاته، وعليهم أن يقضوا ركعتين الثالثة أولاً بغير قراءة؛ لأنهم لاحقون فيها، ثم الأولى بقراءة؛ لأنهم مسبوقون فيها. قال: ولو أن الإمام جعل الناس على أربع طوائف وصلى بكل طائفة ركعة فصلاة الإمام تامة، وصلاة الطائفة الأولى والثالثة فاسدة. أما الطائفة الأولى: فلأنهم انصرفوا في غير أوان الانصراف لما مر غير مرة. أما الطائفة الثالثة: فلأنهم في الحقيقة الطائفة الثانية وقد انصرفوا في غير أوان انصراف الطائفة الثانية وهو ما بعد الركعة الثالثة. وأما صلاة الطائفة الثانية والرابعة فجائزة، أما صلاة الطائفة الثانية؛ فلأنهم من جملة الطائفة الأولى لكنهم مسبوقون بركعة، وقد انصرفوا في أوان انصراف الطائفة الأولى فجازت صلاتهم، ثم إذا جاؤوا يتمون صلاتهم فعليهم أن يصلوا ركعتين بغير قراءة وهي الثالثة والرابعة؛ لأنهم لاحقون فيهما، ثم ركعة بقراءة وهي الركعة الأولى، لأنهم مسبوقون فيهما. وأما الطائفة الرابعة: فلأنهم من جملة الطائفة الثانية؛ لأنهم أدركوا شيئاً من وظيفة الطائفة الثانية، وانصرفوا في أوان انصراف الثانية وهو ما بعد فراغ الإمام، فجازت صلاتهم، ولكنهم مسبوقون بثلاث ركعات فعليهم أن يصلوا ركعتن بقراءة الفاتحة والسورة، وفي الثالثة بالخيار، وإن شاؤوا قرأوا الفاتحة، وإن شاؤوا سبحوا، وإن شاؤوا سكتوا كما هو الحكم في المسبوق بثلاث ركعات. قال محمد رحمه الله: وإذا قاتل الإمام العدو يوم العيد في المصر، فأراد أن يصلي بالناس صلاة الخوف جاز لوجود العلة كما في غيرها من الصلوات (112أ1) فيجعل الناس طائفتين ويصلي بكل طائفة ركعة، فإن كان الإمام يرى مذهب ابن مسعود، وأتى بتسع تكبيرات في الركعتين ثلاث منها أصليات وست زوائد، ثلاث في الأولى وثلاث في الثانية، بدأ بالتكبير في الركعة الأولى، وبالقراءة في الركعة الثانية تابعته الطائفة الأولى في الركعة الأولى، وتابعته الطائفة الثانية في الركعة الثانية، وإن كان رأي كل واحدة من الطائفين خلاف رأي الإمام؛ لأن على المقتدي متابعة رأي الإمام على ما مر إلا إذا تيقن بخطأ الإمام بأن فعل ما لم يقل به واحد من الصحابة ولم يوجد ذلك هنا. فإذا فرغ الإمام من صلاته انحرفت الطائفة الثانية وجاءت الطائفة الأولى يقضون الركعة الثانية بغير قراءة، فيقومون قدر قراءة الإمام، أو أقل أو أكثر، ثم يكبرون الزوائد، ويركعون بالرابعة كما فعله الإمام؛ لأنهم لاحقون في ذلك، فكانوا في حكم المقتدين، وإذا أتموا انحرفوا، وجاءت الطائفة الثانية يقضون الركعة الأولى بقراءة؛ لأنهم مسبوقون فيها يبدؤون بالقراءة ثم بالتكبير في رواية «الزيادات» و «الجامع» و «السير الكبير» وإحدى روايتي «النوادر» ، وهو الاستحسان، وفي إحدى روايتي «النوادر» يبدؤون بالتكبير وهو القياس، وقد ذكرنا نظير هذا في فصل صلاة العيد. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» أيضاً: إمام صلى الظهر بالناس صلاة الخوف،

وهم مقيمون فلما صلى بطائفة ركعتين انحرفوا إلا واحداً منهم لم تفسد صلاته؛ لأنه لم يوجد منه إلا ترك الانحراف، والثبات على القبلة، وكل ذلك لا يفسد الصلاة، ولكن لا يستحب له ذلك: لأنه التزم الذهاب مع أصحابه ليكونوا رصداً للطائفة الثانية، فإذا لم يذهب، فقد ضيعهم وترك الوفاء بما التزم فيكره له ذلك. لهذا فإن صلى مع الإمام الركعة الثالثة، فعلم أنه أساء فيما صنع، فانحرف بعد الثالثة أو بعد الرابعة قبل أن يقعد الإمام قدر التشهد، فصلاته صحيحة؛ لأنه من الطائفة الأولى، وما بعد الشطر الأول إلى أن يفرغ الإمام من الصلاة أوان الانحراف للطائفة الأولى. وإذا انحرف، فقد تدارك ما ترك في أوانه، وكذلك لو انحرف بعدما قعد مع الإمام قدر التشهد قبل السلام، فصلاته تامة، وإن كان هذا انحرافاً في غير أوانه، لأنه من الطائفة الأولى، وهذا أوان انصراف الطائفة الأولى إلى الصلاة إلا أنه إنما لم تفسد لانتهاء أركانها، فإن الصلاة بعد انتهاء أركانها لا تقبل الفساد حتى لو بقي عليه شيء من الأركان بأن بقي هذا الرجل بعد أداء الشطر الأول نائماً أو قائماً خلف الإمام، ولم يصل معه، وانحرف بعدما قعد الإمام قدر التشهد، أو كان مسبوقاً بركعة تفسد صلاته، ثم إذا لم تفسد صلاته بالانحراف بعدما قعد الإمام قدر التشهد لا يجب عليه أن ينصرف مع أصحابه، ليسلم؛ لأنه قد تمت صلاته وقد انحرف على وجه الرفض؛ لأنه انحرف ليشتغل بأمر العدو، والانحراف بعد تمام الصلاة على قصد الرفض يوجب رفض ما بقي، فلا يجب عليه العود بخلاف ما إذا أحدث بعدما قعد قدر التشهد قبل أن يسلم، وانصرف ليتوضأ ويبني، فإن عليه أن يعود ليجلس ويسلم؛ لأن هناك ما انحرف على وجه الرفض بل على وجه البناء، فلم يرفض ما بقي وقد بقي عليه سنّة، وهي الخروج بلفظة التسليم، فكان عليه أن يعود لإقامة السنّة، أما ههنا بخلافه. وإذا لم يكن العدو حاضراً ولكن خاف الإمام حضور العدو لا ينبغي له أن يصلي صلاة الخوف؛ لأن صلاة الخوف إنما جازت باعتبار الضرورة، فلا تجوز قبل تحققها. فإن افتتح الإمام صلاة الظهر، وهم مسافرون، فلما صلى ركعة أقبل العدو، فانحرفت طائفة من المصلين، ووقفوا بإزاء العدو، وبقيت طائفة مع الإمام حتى أتموا صلاتهم، فصلاتهم تامة، أما صلاة من بقي مع الإمام فظاهر، وأما صلاة من انحرف؛ فلأن هذا انحراف في أوانه والضرورة متحققة عند الانصراف، وكانت العبرة لحالة الانصراف لا لحالة الشروع؛ لأن الرخصة في الانصراف، فيعتبر قيام الرخصة وقت الانصراف. ولو افتتح الإمام بهم صلاة الظهر وهم مقيمون، فأقبل العدو، وانحرفت طائفة من المصلين بعد الركعتين لم تفسد صلاتهم، لأنهم لو انحرفوا حال حضور العدو بعد الركعتين لا تفسد صلاتهم، لأنه أوان الانحراف كذا هنا. وإن انحرفوا بعدما صلوا ركعة فسدت صلاتهم؛ لأن هذا ليس أوان الانحراف، ولهذا لو كان العدو حاضراً، وانحرفوا بعد الركعة الأولى تفسد صلاتهم، ولو حضر

الفصل التاسع والعشرون في صلاة الكسوف

العدو بعدما صلى الظهر ثلاث ركعات، وانصرفت طائفة منهم ليقفوا بإزاء العدو، لا ذكر لهذا الفصل في «الكتاب» . وقد اختلف المشايخ، قال بعضهم: لا تفسد صلاتهم؛ لأن بعد أداء الشطر إلى أن يفرغ الإمام أوان الانحراف للطائفة الأولى. وبعضهم قالوا: تفسد صلاتهم لأن الخوف تحقق في الشفع الثاني، فكان حكمهم حكم الطائفة الثانية، وليس هذا أوان الانحراف في حق الطائفة الثانية. فلو أن الإمام قال لأصحابه: لتقف طائفة منكم في موضع كذا ينتظرون العدو ... حضور العدو وصلى بطائفة أخرى جاز له ذلك، هكذا ينبغي للإمام أن يفعل؛ لأن العدو إذا لم يكن حاضراً لا يجوز له صلاة الخوف، وربما يحضر العدو في حال لا يمكنهم الانحراف، فكان النظر في هذا، فإن أقبل العدو فاستقبلهم الطائفة الواقفون وانحرف طائفة من المصلين مع الإمام، إن كان الانحراف بعد الركعة الأولى تفسد صلاتهم، وإن كان الانحراف بعد الركعة الثانية لا تفسد صلاتهم لما مر. فإن افتتح الإمام الصلاة بطائفة والعدو حاضر، ثم ذهب العدو بعدما صلوا شطر الصلاة لا ينبغي لهم أن ينحرفوا ولكن الطائفة الثانية يأتون فيصلون بقية الصلاة، فإن انحرفت الطائفة الأولى تفسد صلاتهم، لأن الانحراف مفسد للصلاة بنصية «الأصل» ، وإنما رخص بالشرع لأجل الضرورة، فإذا زالت الضررة يرد إلى الأصل. الفصل التاسع والعشرون في صلاة الكسوف اعلم بأن صلاة الكسوف مشروعة ثبتت شرعيتها بالكتاب والسنّة. أما الكتاب قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالاْيَتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاْوَّلُونَ وَءاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالاْيَتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} (الإسراء: 59) والكسوف آية من آيات الله المخوفة، أما أنه من آيات الله؛ لأن الخلق عاجزون عن ذلك وأنه من آيات الله المخوفة؛ لأنها مبدلة لنعمة النور إلى الظلمة، وتبديل النعمة إلى ضدها تخويف؛ ولأن القلوب تفزع بذلك طبعاً، فكانت من آيات الله المخوفة، والله تعالى إنما يخوف عباده ليتركوا المعاصي، ويرجعون إلى طاعة الله تعالى التي فيها فوزهم، وأقرب أحوال العبد في الرجوع إلى ربه حالة الصلاة. وأما السنّة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «إذا رأيتم من هذه الأفزع شيئاً فافزعوا إلى الصلاة» . بعد هذا يحتاج إلى أربعة أشياء: إلى معرفة سبب شرعيتها، وشرط جوازها، وصفتها، وكيفية أدائها.

أما سبب شرعيتها: الكسوف؛ لأنها تضاف إليه، وتتكرر بتكرره. وشرط جوازها: ما يشترط لسائر الصلوات. وصفتها: أنها ليست بواجبة؛ لأنها ليست من شعار الإسلام، فإنه يوجد تعارض، ولكنها سنّة؛ لأنه واظب رسول الله عليه السلام على ذلك. وأما كيفية أدائها: أجمعوا أنه تؤدى بجماعة لكن اختلفوا في صفة أدائها. قال علماؤنا رحمهم الله: يصلي ركعتين كل ركعة بركوع وسجدتين كسائر الصلوت، إن شاء طولها وإن شاء قصرها، ويقرأ فيها ما أحب كما في سائر الصلاة المعهودة، ولا يوقت فيه شيء من القراءة، ثم الدعاء حتى تنجلي الشمس. وقال الشافعي رحمه الله: يصلي ركعتين كل ركعة بركوعين وسجدتين. وصورته: يقوم في الركعة الأولى ويقرأ فيه بفاتحة الكتاب وسورة البقرة (112ب1) إن كان يحفظها، وإن كان لا يحفظها يقرأ غير ذلك مما يعدلها، ثم يركع، ويمكث في ركوعه مثل ما يمكث في قيامه، ثم يرفع رأسه ويقوم، ويقرأ سورة آل عمران إن كان يحفظها عن ظهر القلب، وإن كان لا يحفظها عن ظهر القلب يقرأ غيرها مما يعدلها ثم يركع ثانياً، ويمكث في ركوعه مثل ما يمكث في قيامه هذا، ثم يرفع رأسه ثم يسجد سجدتين، ثم يقوم، فيمكث في قيامه ويقرأ فيه مقدار ما قرأ في القيام الثاني في الركعة الأولى، ثم يركع ويمكث في ركوعه مثل مكثه في هذا القيام، ثم يقوم ويمكث في قيامه مثل ما مكث في الركوع أو نحوه، ثم يرفع رأسه ويقوم مثل ثلثي قيامه في القيام الأول من هذه الركعة الثانية هكذا يفعل، ثم يسجد سجدتين ويتم الصلاة. احتج الشافعي رحمه الله بحديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي عليه السلام صلى صلاة الكسوف ركعتين بأربع ركوعات وأربع سجدات» ، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي عليه السلام صلى بالناس صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة ركوعين» . وعلماؤنا رحمهم الله: احتجوا بحديث عبد الله بن عمر، والنعمان بن بشير، وأبي بكرة، وسمرة بن جندب بألفاظ مختلفة «أن النبي عليه السلام صلى في كسوف الشمس ركعتين كأطول الصلاة كان يصليها فانجلت الشمس مع فراغه منها» وفي «الكتاب» ذكر حديث إبراهيم أن النبي عليه السلام «صلى ركعتين في الكسوف ثم كان الدعاء حتى انجلت الشمس» ، وهو كان مقدماً في علم الأخبار، وكان ذا احتياط وثبت وثقة، فكان

لا يأخذ ولا يروي إلا ما كان يصح عنده. والمعنى فيه: أن صلاة الكسوف لا تخلو إما أن تكون معتبرة بالنوافل أو بالفرائض أو الواجبات وبأيها اعتبرنا لا يجوز أن يجتمع في ركعة منها ركوعان وقومتان. وتأويل حديث عائشة، وابن عباس رضي الله عنهم ما أشار الحاكم الشهيد رحمه الله في «إشاراته» : أن النبي عليه السلام إنما ركع ركوعين على وجه الصورة لا على وجه التحقيق؛ لأنه في تلك الصلاة قربت إليه الجنة والنار، وكان في تلك الصلاة يتقي شرها بيده ويتقدم ويتأخر، وقد قال في تلك الصلاة مراراً «ألم تعدني أن لا أعذبهم وأنا فيهم» ، فلما فرغ منها قال: «أدنيت مني النار حتى كنت أتقي شررها بيدي، وقربت مني الجنة حتى لو كدت أن آخذ ثمارها لفعلت» . وفي رواية «حتى لو كدت أن أقطف عنبها لفعلت قائماً» رفع رسول الله عليه السلام رأسه من الركوع فزعاً حين قربت منه النار فكان ذلك رفعاً على وجه الصورة لا على وجه الحقيقة، ثم عاد إلى الركوع حيث أمن منها جبراً للركع الأول وإتماماً له لا أن يكون ركوعاً ثانياً، فلم يركع في كل قيام إلا ركوعاً واحداً كما في الصلاة المعهودة، وإنما مثال هذا من كان في الركوع في صلاته، فتذكر سجدة تركها قبل الركوع، فإنه يرفع رأسه من الركوع ويحولها ساجداً، ثم يعود إلى الركوع جبراً وإتماماً له لا أن يكون ركوعاً على حدة. قال شمس الأئمة الحلواني: وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يذكر جواباً آخر وهو الذي يعتمد عليه أن النبي عليه السلام طول الركوع فيها للمعنى الذي ذكرنا فمل بعض القوم فرفعوا رؤوسهم وظن من خلفهم أن النبي عليه السلام رفع رأسه، ورفعوا رؤوسهم، ثم عاد الصف الأول إلى الركوع اتباعاً لرسول الله عليه السلام فركع من خلفهم وظنوا أنه ركع ركوعين في كل ركعة. ومثل هذا الاشتباه قد يقع لمن كان في آخر الصفوف، وعائشة كانت واقفة في صف النساء، وابن عباس في صف الصبيان في ذلك الوقت، فلهذا نقلا كما وقع عندهما، وإن كان هذا صحيحاً، فكان أمراً بخلاف المعهود، فينقله الكبار من الصحابة الذين كانوا يأتون رسول الله عليه السلام، وحيث لم ينقله أحد دل أن الأمر كما قلنا: وهو تأويل حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ولا يصلي هذه الصلاة بجماعة إلا الإمام الذي يصلي الجمعة، فأما أن يصلي الناس في مساجدهم جماعة فإني لا أحب ذلك، وليصلوا وحداناً، هكذا قال في «الكتاب» : قال شيخ الإمام خواهر زاده: يريد به أن يصلي في موضع واحد كما يصلي الجمعة. وروي عن أبي حنيفة في غير رواية «الأصول» : أن لكل إمام مسجد أن يصلي في مسجده، وجه رواية أبي حنيفة رحمه الله وهو أن هذه صلاة تؤدى بجماعة لا يشترط

لإقامتها المصر، فلا يشترط السلطان قياساً على سائر الصلوات. وجه ظاهر الرواية: وهو أن عليه السلام صلى صلاة الكسوف بجمع واحد وهو كان إمام الأئمة، فلا يجوز أداؤها إلا على ذلك الوجه. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: فإن عدم الإمام الذي يصلي الجمعة فإنهم يصلون وحداناً في مساجدهم إلا إذا كان الإمام الأعظم الذي يصلي الجمعة والعيدين أمرهم بذلك، فحينئذٍ يجوز أن يصلوا بجماعة ويؤمهم فيها إمام حيهم في مسجدهم. ولا يجهر بالقراءة في صلاة الجماعة في كسوف الشمس في قول أبي حنيفة رحمه الله، ويجهر بها عند أبي يوسف، وقول محمد فيه مضطرب، وقول الشافعي مثل قول أبي يوسف. وجه قول أبي يوسف والشافعي: حديث علي رضي الله عنه أنه جهر بالقراءة في صلاة الكسوف؛ ولأنها صلاة مخصوصة تقام بجمع عظيم، فيجهر فيها بالقراءة كالجمعة والعيدين. وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: حديث ابن عباس، وسمرة بن جندب رضي الله عنهم: أن النبي عليه السلام: «لم يسمع منه حرف من قراءته في صلاة الكسوف» ؛ ولأنها صلاة النهار، وفي الحديث: «صلاة النهار عجماء» أي ليس فيها قراءة مسموعة، وتأويل حديث علي رضي الله عنه أنه وقع اتفاقاً لا قصداً، أو تعليماً للناس أن القراءة فيها مشروعة. قال شمس الأئمة رحمه الله: والظاهر أن محمداً رحمه الله مع أبي حنيفة رحمه الله، والحاكم الشهيد ذكر قول محمد مع أبي يوسف. وفي القدوري: ولا يصلي في الكسوف في الأوقات المنهية عنها؛ لأنها تطوع كسائر التطوعات، ثم إذا فرغوا من الصلاة فالإمام يدعو؛ لأن الصلاة للدعاء، فإذا فرغوا منها يشتغلون بالدعاء، ثم الإمام في هذا الدعاء بالخيار إن شاء جلس مستقبل القبلة ودعا، وإن شاء قام ودعا، وإن شاء استقبل الناس بوجهه ودعا، ويؤمن القوم، قال شمس الأئمة الحلواني: وهذا أحسن، ولو قام واعتمد على عصا له، أو على قوس له، ودعا كان ذلك حسناً أيضاً. وليس في هذه الصلاة خطبة وهذا مذهبنا. وقال الشافعي رحمه الله: يخطب خطبتين بعد الصلاة كما في العيدين. احتج الشافعي بما روي عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: «كسفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام، فصلى رسول الله عليه السلام ثم خطب حمد الله وأثنى عليه» ، وهكذا روى سمرة بن جندب رحمه الله: أن النبي عليه السلام صلى ركعتين ثم حمد الله

تعالى وأثنى عليه» ولأنها صلاة تطوع تقام بجمع عظيم، فيكون من سننها الخطبة قياساً على صلاة العيد. وأصحابنا رحمهم الله احتجوا بما روى جابر رضي الله عنه عن النبي عليه السلام قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذ رأيتم من ذلك شيئاً فصلوا حتى تنجلي» فقد أمر بالصلاة ولم يأمر بالخطبة، وكذلك روي عن النبي عليه السلام قال: «إنه إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئاً فافزعوا إلى الدعاء» ؛ ولأن الخطبة مشروعة لأحد أمرين: إما شرطاً للجواز كما في صلاة الجمعة، أو للتعليم كما في صلاة العيدين، فإنه يحتاج فيهما إلى تعليم صدقة الفطر والأضحية، وهنا الخطبة ليست بشرط للجواز بالإجماع، ولا يجوز أن تكون مشروعة للتعليم؛ لأنه لا حاجة إلى التعليم في صلاة الكسوف؛ لأن التعليم حصل من حيث الفعل. ألا ترى أن في خطبة العيدين؛ لا يسن تعليم صلاة العيدين لأن التعليم حاصل بالفعل، وإنما يسن تعليم صدقة الفطر والأضحية، فأما حديث عائشة رضي الله عنها، قلنا: الحديث محمول على أن النبي عليه السلام احتاج إلى الخطبة بعد صلاة الكسوف؛ لأن الناس كانوا يقولون: إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم (113أ1) ولد النبي عليه السلام فخطب لكي يرد عليهم ذلك، أو نقول: معنى قوله خطب أي: دعا فإن الدعاء يسمى خطبة. والله أعلم. ومما يتصل بهذا الفصلالصلاة في خسوف القمر قال محمد رحمه الله: والصلاة في كسوف القمر وخسوفه حسن وحداناً، وكذلك في الظلمة والريح والفزع لقوله عليه السلام: «إذا رأيتم من هذه الأهوال» أو قال: «من هذه الأفزاع شيئاً فأفزعوا إلى الصلاة» .k قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وعاب بعض أهل اللغة والأدب على محمد رحمه الله في هذا اللفظ، وقال: إنما يستعمل في القمر لفظ الخسوف، قال الله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ} (القيامة: 7، 8) والجواب عن هذا أن نقول: الخسوف ذهاب دائرته، والكسوف ذهاب ضوئه دون دائرته، ومراد محمد رحمه الله من هذا ذهاب ضوئه لا ذهاب دائرته، فلهذا ذكر الكسوف. ثم الصلاة فيها فرادى عندنا، وعند الشافعي يصلي بجماعة، احتج الشافعي بما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما «أنه صلى بهم في خسوف القمر، وقال: صليت كما رأيت رسول الله عليه السلام صلى» ؛ ولأنه كسوف يصلى لأجله، فيكون

الفصل الثلاثون في الاستسقاء

من سنته الجماعة قياساً على كسوف الشمس. وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: بأن كسوف القمر يكون بالليل، فيشق على الناس الاجتماع بالليل، وربما تخاف الفتنة؛ ولأن كسوف القمر كان على عهد رسول الله عليه السلام ككسوف الشمس بل أكثر، فلو كان صلى بجماعة لنقل ذلك نقلاً مستفيضاً كما نقل في كسوف الشمس، ولأن الأصل في التطوعات ترك الجماعة فيها ما خلا قيام رمضان لاتفاق الصحابة عليه، وكسوف الشمس لورود الأثر به. وهكذا قال في «الكتاب» : ويكره في صلاة التطوع جماعة ما خلا قيام رمضان، وصلاة كسوف الشمس، ولهذا قال عليه السلام: «أفضل صلاة الرجل صلاته في بيته إلا المكتوبة» . ألا ترى أن ما يؤدى بالجماعة من الصلوات يؤذن لها ويقام ولا يؤذن للتطوعات ولا يقام؟ فدل أنها لا تؤدى بالجماعة. وأما حديث عبد الله بن عباس، فلا يصح لما بينا: أن النبي عليه السلام لو كان صلى صلاة الخسوف بجماعة لنقل عنه نقلاً مستفيضاً، وأما اعتباره بصلاة كسوف الشمس لا يصح؛ لأنا عرفنا ذلك بالأثر، وهذا ليس في معناه، فالأثر الوارد ثم لا يكون وارداً ههنا. والله أعلم. الفصل الثلاثون في الاستسقاء ولا صلاة في الاستسقاء إنما فيه الدعاء في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: يصلي فيها ركعتين بجماعة كصلاة العيد إلا أنه ليس فيها تكبيرات، وقال الشافعي رحمه الله: يصلي ركعتين كما قال محمد رحمه الله إلا أنه قال: يكبر فيها كما في صلاة العيد، يكبر سبعاً في الركعة الأولى، وخمساً في الركعة الثانية. حجة محمد، والشافعي رحمهما الله: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي عليه السلام: «صلى ركعتين فيها كصلاة العيد» وحجة أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} (نوح: 10) فإنما أمر بالاستغفار في الاستسقاء بدليل قوله تعالى: {يُرْسِلِ السَّمَآء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً} (نوح: 11) وما أمر بالصلاة، وفي حديث أنس رضي الله عنه «أن الأعرابي لما سأل رسول الله عليه السلام أن يستسقي وهو على المنبر وقال: أجدبت الأرض وهلكت المواشي فاستسق لنا يا رسول الله، فرفع رسول الله عليه السلام يديه إلى السماء ودعا» قال الراوي: فما نزل عن المنبر حتى نشأت سحابة، فمطرنا إلى الجمعة القابلة الحديث إلى آخره، ولم يرد أنه صلى. وإن عمر رضي الله عنه خرج للاستسقاء فما زاد على الدعاء، وروي أنه خرج بالعباس عم النبي عليه السلام، فأجلسه على المنبر، ووقف بجنبه يدعو ويقول: اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبيك ودعا بدعاء طويل، فما نزل عن

المنبر حتى سقوا. قال في «الكتاب» : عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله لم يبلغنا في ذلك صلاة إلا حديث واحد شاذ لا يؤخذ به. اختلفت النقلة والرواة أنه لأي معنى سمي شاذاً، منهم من قال: إنما سمي شاذاً؛ لأن عمر رضي الله عنه لم يصل في الاستسقاء، وعلي رضي الله عنه كذلك، ولو كانت بهذا سنّة مشهورة لما خفيت عليهما، ولا خير في سنّة خفيت على عمر، وعلي رضي الله عنهما. ومنهم من قال: إنما سمي شاذاً؛ لأنه ورد ونقل في بلية عامة، والواحد إذا روى حديثاً في بلية عامة يعد ذلك شاذاً ومستنكراً منه، ثم عند محمد رحمه الله يخطب الإمام بعد الصلاة نحو الخطبة في صلاة العيدين، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يخطب خطبة واحدة؛ لأن المقصود الدعاء، فلا يقطعها بالجلسة، وقد ورد بكل واحد منهما أثر عن رسول الله عليه السلام. وكان الزهري يقول: يخطب قبل الصلاة وهو قول مالك، وقد ورد به حديث ولكنه شاذ. قال محمد رحمه الله: أرى أن يصلي الإمام في الاستسقاء نحواً من صلاة العيد، ولا يكبر فيها كما يكبر في العيد، ويقلب الإمام رداءه إذا مضى صدر من خطبته. وصفته أنه إذا كان مربعاً جعل أعلاه أسفله، وإن كان مدوراً جعل الجانب الأيسر على الأيمن، والأيمن على الأيسر. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يقلب رداءه. حجة محمد ما روي عن النبي عليه السلام أنه «خرج مستسقياً عليه خميصة سوداء فأراد أن يجعل أسفلها أعلاها فلما ثقل عليه قلبها على عاتقه فحول اليمين إلى الشمال والشمال إلى اليمين» . وأبو حنيفة، وأبو يوسف رحمهما الله احتجا بما روي أن النبي عليه السلام استسقى يوم الجمعة ولم يقلب الرداء، والمعنى فيه أنه دعاء مشروع حالة الخوف فلا يسن فيه تقليب الرداء قياساً على كسوف الشمس، ولا تأويل في تقليب الرداء سوى أنه يقال بتغيير الهيئة يتغير الهوى ولا بأس بأن يعتمد في خطبته على عصا وأن يتنكب قوساً ورد به الأثر، وهذا لأن خطبته تطول فيستعين بالاعتماد على عصا. وإذا قلب الإمام رداءه فالقوم

الفصل الحادي والثلاثون في صلاة المريض

لا يقلبون أرديتهم، وإنما يتبع في هذه السنّة والأثار المعروفة. وقال مالك: يقلب القوم أرديتهم كما فعل الإمام، وعن أبي يوسف رحمه الله قال: إن شاء رفع يديه في الدعاء، وإن شاء أشار بأصبعه؛ لأن رفع اليدين في الدعاء سنّة جاء في الحديث «أن النبي عليه السلام كان يدعو بعرفات باسطاً يديه كالمتضرع المسكين» . وإنما يخرجون في الاستسقاء ثلاثة أيام لم ينقل أكثر من ذلك، ولا يخرج أهل الذمة في ذلك مع أهل الإسلام، وقال مالك: إن خرجوا لم يمنعوا من ذلك. حجتنا في ذلك: أنه إنما يخرج الناس للدعاء وما دعاء الكافرين إلا في ضلال؛ ولأنهم بالخروج يستنزلون الرحمة، وإنما تنزل على الكفار اللعنة والسخط وقد أمر رسول الله عليه السلام بتبعيد المشركين بقوله عليه السلام: «أنا بريء من كل مسلم مع مشرك ألا لا تراءى ناراهما» فلهذا لا يمكنون من الخروج مع المسلمين وينصت القوم لخطبة الاستسقاء؛ لأنه يعظهم فيها، وفائدة الوعظ تحصل بالإنصات، ولا يخرج فيه المنبر لما بينا في صلاة العيد. وليس فيها أذان ولا إقامة أما عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله فلا يشكل؛ لأنه ليس فيها صلاة بالجماعة إنما فيها الدعاء، وإن شاؤوا صلوا فرادى، وذلك في معنى الدعاء. وأما عند محمد رحمه الله، وإن كان فيها صلاة بالجماعة ولكنها تطوع فلا يكون فيها أذان ولا إقامة كصلاة العيد. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: تفسير قول محمد رحمه الله: أن الناس يخرجون إلى الاستسقاء مشاة لا على ظهورهم ودوابهم في ثياب خلقة أو غسيل أو مرقع متذللين خاضعين متواضعين ناكسي رؤوسهم في كل يوم يقدمون الصدقة قبل الخروج، ثم يخرجون هذا تفسير قول محمد رحمه الله. وإنما يكون الاستسقاء في موضع لا يكون لهم أودية وأنهار وآبار يشربون منها، ويسقون مواشيهم وزروعهم (113ب1) أو يكون ولا يكفي لهم ذلك. فأما إذا كانت لهم أودية وأنهار وآبار فإن الناس لا يخرجون إلى الاستسقاء؛ لأن الاستسقاء إنما يكون عند شدة الضرورة والحاجة. والله أعلم بالصواب. الفصل الحادي والثلاثون في صلاة المريض الأصل في هذا الفصل: أن المريض إذا قدر على الصلاة قائماً بركوع وسجود، فإنه يصلي المكتوبة قائماً بركوع وسجود ولا يجزئه غير ذلك؛ لأنه لما قدر على القيام

والركوع والسجود كان بمنزلة الصحيح، والصحيح لا يجزئه أن يصلي المكتوبة إلا قائماً بركوع وسجود كذلك هذا. وإن عجز عن القيام وقدر على القعود، فإنه يصلي المكتوبة قاعداً بركوع وسجود، ولا يجزئه غير ذلك؛ لأنه عجز عن نصف القيام، وقدر على النصف، فما قدر عليه لزمه، وما عجز عنه سقط. وإن عجز عن الركوع والسجود وقدر على القعود فإنه يصلي قاعداً بإيماء، ويجعل السجود أخفض من الركوع، وإن عجز عن القعود صلى مستلقياً على ظهره، وإن لم يقدر إلا مضطجعاً استقبل القبلة، وصلى مضطجعاً يومىء بإيماء. والأصل في هذا كله قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَوتِ وَالاْرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَطِلاً سُبْحَنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران: 191) قال الضحاك في تفسيرها: هذا بيان حال المريض في أداء الصلاة بحسب الطاقة، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ إِنَّ الصَّلَوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَباً مَّوْقُوتاً} (النساء: 103) جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: المراد من هذا الذكر في الصلاة، وقال عليه السلام لعمران بن حصين رضي الله عنه حين عاده وهو مريض: «صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى الجنب تومىء إيماءً» والمعنى في ذلك أن الطاعة بحسب الطاقة. وقوله: فإن عجز عن القيام وقدر على القعود يصلي المكتوبة قاعداً، لم يرد بهذا العجز العجز أصلاً لا محالة بحيث لا يمكنه القيام بأن يصير مقعداً، بل إذا عجز عنه أصلاً، أو قدر عليه إلا أنه يضعفه ذلك ضعفاً شديداً حتى تزيد علته لذلك، أو يجد وجعاً لذلك، أو يخاف إبطاء البرء، فها هنا وما لو عجز عنه أصلاً سواء. وإذا كان قادراً على بعض القيام دون تمامه كيف يصنع؟ لا ذكر لهذا الفصل في شيء من الكتب، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: يؤمر بأن يقوم مقدار ما يقدر، فإذا عجز قعد حتى إنه إذا كان قادراً على أن يكبر قائماً، ولا يقدر على القيام للقراءة، أو كان يقدر على القيام ببعض القراءة دون تمامها، فإنه يؤمر بأن يكبر قائماً، ويقرأ ما يقدر عليه قائماً، ثم يقعد إذا عجز، وبه أخذ الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. وإذا قدر على القيام متكئاً لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في شيء من الكتب، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: الصحيح أنه يصلي قائماً متكئاً، ولا يجزئه غير ذلك، وكذلك لو قدر على أن يعتمد على عصا، أو كان له خادم لو اتكأ عليه قدر على القيام، فإنه يقوم ويتكىء خصوصاً على قول أبي يوسف، ومحمد

رحمهما الله، فإن على قولهما: إذا عجز المريض عن الوضوء وكان يجد من يوضئه لم يجزئه التيمم، وقدر بغيره كقدرته بنفسه، فكذلك هذا. فإن كان يقدر على القيام، ولا يقدر على السجود أومأ إيماءً وهو قاعد؛ لأن القيام لافتتاح الركوع والسجود به، فكل قيام لا يتعقبه سجود لا يكون ركناً؛ ولأن إيماء القاعد أقرب إلى التشبه بالسجود من إيماء القائم. والمقصود من الإيماء التشبه بمن يركع ويسجد هكذا ذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وذكر الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، والشيخ الإمام الزاهد الصفار رحمه الله: أنه بالخيار إن شاء صلى قائماً بإيماء، وإن شاء صلى قاعداً بإيماء، وهو أفضل عندنا. وزاد شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله فقال: إذا أراد أن يومىء للركوع يومىء قائماً، وإذا أراد أن يومىء للسجود يومىء قاعداً، لأن الإيماء بدل من الركوع والسجود، ولو كان قادراً على الركوع والسجود فيركع قائماً، ويسجد قاعداً فكذلك الإيماء. لم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : ما إذا لم يقدر على القعود مستوياً، وقدر عليه متكئاً، أو مستنداً إلى حائط أو إنسان، أو ما أشبه ذلك، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا رحمهم الله: يجزىء أن يصلي قاعداً مستنداً أو متكئاً، لا يجزئه أن يصلي مضطجعاً خصوصاً على قولهما هكذا ذكر في «النوادر» ، وهذا نظير ما ذكرنا في القيام إذا كان قادراً على القيام بالاتكاء والاستناد. وإذا لم يستطع القعود صلى مستلقياً على قفاه متوجهاً نحو القبلة، ورأسه إلى المشرق، ورجلاه إلى المغرب هذا هو الأفضل عندنا، وإن صلى على جنبه الأيمن يومىء إيماءً أجزأه، وهو قول ابن عمر، وسعيد بن جبير رضي الله عنهم. وقال الشافعي رحمه الله: الأفضل أن يصلي على جنبه الأيمن كما يوضع الميت في القبر، وإن صلى مستلقياً على قفاه جاز، احتج الشافعي رحمه الله بظاهر قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَوةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ إِنَّ الصَّلَوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَباً مَّوْقُوتاً} (النساء: 103) وأراد به في الصلاة فقد ذكر الجنب، ولم يذكر الاستلقاء على قفاه. والدليل عليه حديث عمران بن حصين رضي الله عنه فإن النبي عليه السلام نقل الحكم من القعود إلى الجنب لا إلى الاستلقاء. وعلماؤنا رحمهم الله: احتجوا بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما موقوفاً عليه، ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام إلى نحو مذهبنا، ولأنه لو صلى مستلقياً على قفاه كان أقرب إلى استقبال القبلة؛ لأن الجانبين منه إلى القبلة، وإشارته تقع إلى هوى الكعبة، وإذا صلى على جنبه الأيمن فإشارته تقع إلى جانب رجليه، وذلك ليس بقبلة، ثم

ما به من العجز على وجه الزوال، إذا كان مستلقياً لو قدر على القعود، فقعد كذلك كان وجهه إلى القبلة، ولو قدر على القيام، فقام كذلك كان وجهه إلى القبلة فهذا أولى، ثم إذا أومأ فإنه يومىء بالرأس، فإن عجز عن الإيماء بالرأس لم يصل عندنا. ثم اختلف المشايخ بعد هذا، قال بعضهم: إن دام العجز أكثر من يوم وليلة سقطت عنه الصلاة، وإن زال قبل ذلك لا تسقط، وقال بعضهم: لا تسقط وإن دام أكثر من يوم وليلة حتى إنه إذا برأ يلزمه القضاء، ولو مات قضى عنه ورثته. وقال بعضهم: تسقط مطلقاً من غير فصل، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله. وعن أبي يوسف أن المريض إذا عجز عن الإيماء بالرأس يومىء بعينه ولا يومىء بقلبه، وعن أبي حنيفة أنه لم يجز للإيماء بالعينين، وسئل محمد رحمه الله، عن ذلك فقال: لا أشك أن الإيماء بالرأس يجوز، ولا أشك أن الإيماء بالقلب لا يجوز، وأشك في الإيماء بالعين أنه هل يجوز؟ وإذا افتتح الصلاة المكتوبة بالإيماء ثم قدر على القعود، واستقبل الصلاة قاعداً؛ لأن الصلاة قاعداً أقوى من الصلاة بالإيماء، وبناء القوي على الضعيف لا يجوز، وكذلك إذا كان يصلي قاعداً بركوع وسجود ثم قدر على القيام يستقبل الصلاة عند محمد رحمه الله؛ لأن عنده الصلاة قاعداً أضعف من الصلاة قائماً حتى لم يجز اقتداء القائم بالقاعد ابتداء على ما مر، فكذلك لا يجوز البناء هنا، وعندهما يتم الصلاة قائماً. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في الرجل يصلي تطوعاً وقد افتتح الصلاة قائماً ثم يضنى لا بأس بأن يتوكأ على عصا وهنا مسألتان: مسألة في القعود ومسألة في الاتكاء. أما مسألة القعود فهي على وجهين: فإن قعد بعذر يجوز؛ لأن في المكتوبة إذا قعد بعذر يجوز ففي النافلة أولى، وإن قعد بغير عذر، فقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز، وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: لا يجوز. وجه قولهما: أن الشروع يلزم كالنذر، ثم لو نذر أن يصلي قائماً، وافتتح قائماً ثم قعد لم يجزه كذلك هنا. وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: أنه كان في الابتداء مخيراً بين أن يصلي التطوع قاعداً، وبين أن يصليها قائماً، فيبقى هذا الخيار إلى الانتهاء؛ لأن حكم الانتهاء أشمل من حكم الابتداء. ألا ترى أن الحدث يمنع ابتداء الصلاة، ولا يمنع البقاء. وما يقولان بأن الشروع ملزم. قلنا: الشروع ليس بملزم بعينه إنما صار ملزماً ليبقى ما باشر (114أ1) قربة وما باشر من القيام يبقى قربة، وإن لم يقم فيما بقي؛ لأن التطوع قاعداً قربة مع القدرة على القيام بخلاف النذر؛ لأنه ملزم بنفسه من حيث التسمية، على أنا نقول: بأن الشروع إنما يلزم ما شرع فيه، وما لا ينفصل عنه، وأما ما ينفصل عما شرع فيه لا يلزمه، ألا ترى لو أنه نوى أربع ركعات، فسلم على رأس الركعتين لم يلزمه شيء آخر على ظاهر الرواية؟ لأن الشفع الأول ينفصل عن الشفع الثاني، فكذلك هنا

القيام من الأول ينفصل عن القيام في الثاني بخلاف النذر؛ لأنه التزم له ذكراً. وأما مسألة الاتكاء فهو على وجهين أيضاً: إن اتكأ بعذر تجوز صلاته من غير كراهة؛ لأن في الاتكاء تنقيص القيام، ولو ترك جميع القيام من غير عذر يجزئه عند أبي حنيفة رحمه الله فالتنقيص لا يكره، وعندهما ترك جميع القيام بعدما شرع قائماً لا يحزئه فتنقيصه يكره. وبعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: على قول أبي حنيفة رحمه الله: يجب أن يكره الاتكاء بخلاف القعود، فإنه إذا قعد بعدما افتتح قائماً لا يكره عند أبي حنيفة رحمه الله. ووجه ذلك: أن في الابتداء هو مخير بين أن يفتتح التطوع قائماً وبين أن يفتتحه قاعداً، فيبقى هذا الخيار في الانتهاء، فيجوز القعود من غير كراهة أما في الابتداء غير مخير بين أن يصلي متكئاً، وبين أن يصلي غير متكىء، بل يكره له ذلك لما فيه من سوء الأدب وإظهار التجبر، وكذلك في الانتهاء، وقد صح أن رسول الله عليه السلام «دخل المسجد، فرأى حبلاً ممدوداً فسأل عن ذلك فقيل: إن فلانة تصلي بالليل ما نشطت فإذا أعيت اتكأت به فقال عليه السلام: فلانة تصلي بالليل ما نشطت فإذا أعيت نامت» مع هذا تجوز الصلاة لوجود أصل القيام. هذا كله في التطوع، فأما في المكتوبة لا يجوز ترك القيام بالقعود من غير عذر، وكذلك يكره تنقيص القيام من عذر، وإن فعل ذلك جازت صلاته لوجود أصل القيام. وإذا افتتح التطوع قاعداً وأدى بعضها قاعداً، ثم بدا له أن يقوم فقام، وصلى بعضها قائماً أجزأه عندهم جميعاً، أما عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله لا يشكل؛ لأن عندهما التحريمة المنعقدة للقعود منعقدة للقيام بدليل أن المريض إذا افتتح المكتوبة قاعداً، ثم قدر على القيام جاز له أن يقوم ويصلي بقية الصلاة قائماً لهذا المعنى، أن التحريمة المنعقدة للقعود منعقدة للقيام، وإنما يشكل هذا على مذهب محمد رحمه الله؛ لأن عنده التحريمة المنعقدة للقعود لا تكون منعقدة للقيام، حتى أن المريض إذا قدر على القيام في وسط الصلاة فسدت صلاته عنده مع هذا قال: هنا تجوز صلاته. وفي المريض لا تجوز صلاته، والفرق لمحمد رحمه الله، وهو أن في المريض ما كان قادراً على القيام وقت الشروع في الصلاة، فما انعقدت تحريمته للقيام، فأما هنا في صلاة التطوع كان قادراً على القيام، فانعقدت تحريمته للقيام، فلو أنه افتتح التطوع قاعداً فكلما جاء أوان الركوع قام وقرأ ما بقي من القراءة وركع جاز، وهكذا ينبغي أن يفعل إذا صلى التطوع قاعداً لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام «كان يفتتح

التطوع قاعداً فيقرأ ورده حتى إذا بقي عشر آيات أو نحوها قام فأتم قراءته ثم ركع وسجد وهكذا كان يفعل، في الركعة الثانية» فقد انتقل من القعود إلى القيام ومن القيام إلى القعود فدل أن ذلك جائز في التطوع والله أعلم. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» أيضاً: ويوجه المريض القبلة كما يوجه القبلة في اللحد، وأراد به المريض الذي قرب موته حيث أمر أن يفعل به ما يفعل بالميت، وهذا لأنه في معنى الميت، قال عليه السلام: «لقنوا موتاكم» وأراد به الذي قرب موته. واختيار أهل بلادنا الاستلقاء فإنه أسهل لخروج الروح. وإذا أغمي على الرجل يوم وليلة أو أقل يلزمه قضاء الصلوات، وإن أغمي عليه أكثر من ذلك فلا قضاء عليه وهذا الاستحسان. وفي القياس: إذا أغمي عليه وقت صلاة كامل لا قضاء عليه، وجه القياس: وهو أن الإغماء عذر لعجزه عن فهم الخطاب، فيأتي الوجوب إذا استوعب وقت صلاة كامل كالجنون، هكذا ذكر بعض المشايخ مسألة الجنون على طريق الاستشهاد.j وذكر مسألة الجنون في «فتاوى الصغرى» : وجعلها نظير مسألة الإغماء، فلأن قليل الإغماء لو لم يكن مسقطاً لا يكون الكثير مسقطاً كالنوم، وإنه إذا نام أكثر من يوم وليلة يلزمه القضاء كما إذا نام وقت صلاة. وجه الاستحسان: حديث علي رضي الله عنه فإنه أغمي عليه في أربع صلوات فقضاهن، وعمار بن ياسر أغمي عليه يوم وليلة فقضى الصلوات، وابن عمر رضي الله عنهما أغمي عليه في ثلاثة أيام فلم يقض الصلوات؛ ولأن الإغماء إذا قصر فهو معتبر بما يقصر عادة، وهو النوم فلا يسقط القضاء، وإذا طال فهو معتبر بما يقصر عادة وهو النوم فلا يسقط القضاء، وإن طال فهو معتبر بما يطول عادة وهو الجنون والضر فيسقط القضاء، وقدرنا الطويل والقصير بالزيادة على يوم وليلة لتدخل الصلوات في حد التكرار فيحرج في القضاء إذ للحرج أثر في إسقاط القضاء. ثم اختلفوا في أن الزيادة على اليوم والليلة يعتبر بالساعات أم بالصلوات؟ وذكر الكرخي في «مختصره» : أن المعتبر الزيادة على اليوم والليلة بالصلوات، وذكر الفقيه أبو جعفر في كتابه اختلافاً بين أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله، عند أبي يوسف رحمه الله يعتبر من حيث الساعات وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله. وعند محمد رحمه الله يعتبر من حيث الصلوات ما لم تصر الصلوات ستاً لا يسقط القضاء، وإن كان من حيث الساعات أكثر من يوم وليلة وهو الأصح.

وإنما تظهر ثمرة هذا الخلاف فيما إذا أغمي عليه عند الضحوة ثم أفاق من الغد قبل الزوال بساعة، فهذا أكثر من يوم وليلة من حيث الساعات، فلا قضاء عليه في قول أبي يوسف رحمه الله، وفي قول محمد رحمه الله يجب عليه القضاء؛ لأن الصلوات لم تزدد على الخمس. هذا الذي ذكرنا إذا ألم الإغماء فلم يفق إلى تمام يوم وليلة وزيادة، فإن يفيق ساعة ثم يعاوده الإغماء لم يذكر محمد رحمه الله هذا في «الكتاب» ، وإنه على وجهين: إن كان لإفاقته وقت معلوم نحو أن يخف مرضه عند الصبح فيفيق قليلاً، ثم تعاوده الحمى فيغمى عليه، فهذه إفاقة معتبرة تبطل حكم ما قبلها من الإغماء إن كان أقل من يوم وليلة. فأما إذا لم يكن لإفاقته وقت معلوم، لكنه يفيق بغتة فيتكلم بكلام الأصحاء ثم يغمى عليه بغتة فهذه الإفاقة غير معتبرة، ألا ترى أن المجنون قد يتكلم في جنونه بكلام الأصحاء، ولا يعد ذلك منه إفاقة، كذا ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. وفي «المنتقى» : المجنون يعيد صلاة يوم وليلة إذا كان مجنوناً في ذلك، وإن كان أكثر من يوم وليلة فلا قضاء عليه يعني لا قضاء عليه فيما زاد على يوم وليلة. بيانه: فيما روى أبو سليمان عن محمد رحمه الله: إذا جن حين دخل في الظهر، ثم أفاق من الغد عند العصر، فليس عليه قضاء الظهر؛ لأن الظهر زائد على صلاة يوم وليلة، وإذا جن قبل الزوال، ثم أفاق من يومه قبل غروب الشمس يعيد الظهر والعصر. قال: وإذا كان بجبهته جرح لا يستطيع السجود عليه لم يجزئه الإيماء، وعليه أن يسجد على أنفه؛ لأن الأنف مسجد كالجبهة، وإن لم يسجد على أنفه، وأومأ لم تجزئه صلاته؛ لأنه ترك السجود مع الإمكان عليه فلا يجزئه. قال في «الأصل» : ويكره للمومىء أن يرفع إليه عوداً أو وسادة ليسجد عليه، لما روي أن النبي عليه السلام «دخل على مريض يعوده، فوجده يصلي كذلك، فقال: «إن قدرت أن تسجد على الأرض فاسجد وإلا أومىء برأسك» ، وأن ابن مسعود رضي الله عنه دخل على أخيه يعوده فوجده يصلي، ويرفع إليه عوداً فيسجد عليه فينزع ذلك من يد من كان في يده وقال: «هذا شيء عرض لكم الشيطان أومىء لسجودك» فإن فعل ذلك ينظر إن كان يخفض رأسه للركوع ثم للسجود أخفض من الركوع جازت صلاته (114ب1) وإن كان لا يخفض رأسه ولكن يوضع شيء على جبهته لم تجز صلاته؛ لأنه لم يوجد السجود ولا الإيماء. ثم اختلفوا أن هذا يعد سجوداً وإيماءً، قال بعضهم: هو سجود، وقال بعضهم: هو إيماء، وهو الأصح. فإن كانت الوسادة موضوعة على الأرض فكان يسجد عليها جازت صلاته، فقد صح أن أم سلمة رضي الله عنها كانت تسجد على برقعة موضوعة بين يديها لعلة كانت بها، ولم يمنعها رسول الله عليه السلام من ذلك.

قال القدوري في «كتابه» : والمريض إذا فاتته صلوات فقضاها في حالة الصحة فعل كما يفعله الأصحاء؛ لأن تحصيل الركن بكماله فرض في الأصل، وإنما سقط حالة الأداء للعذر، فإذا لم يؤد حتى صح ظهرت فرضية الأداء بتحصيل الأركان بأكمل الوجوه. وإن فاتته في الصحة، فقضى في المرض صلى بالإيماء؛ لأن فرض الوقت يجوز أداؤه مع الإيماء، فكذا القضاء لفقه أن التكليف يعتمد الوسع، وهو في حالة المرض يكلف على القضاء، كما كلف على الأداء وليس في وسعه أكثر من هذا فسقط ما عجز عنه في القضاء لهذه الضرورة، كما سقط في الأداء. وإذا شرع في الصلاة وهو صحيح، ثم عرض له مرض بنى على صلاته على حسب الإمكان، لأنه يؤدي البعض كاملاً والبعض ناقصاً، وإنه أولى من أن يستقبل ويؤدي الكل ناقصاً، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يستقبل إذا صار إلى الإيماء. ولو شرع وهو معذور ثم صح فإن كان الشروع بركوع وسجود بنى في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: يستقبل، وإن كان الشروع بالإيماء ثم قدر على الركوع والسجود فإنه يستقبل، وقال زفر رحمه الله: يبني. فالكلام مع محمد رحمه الله بناءً على أصل، وهو أن المنفرد يبني آخر صلاته على أول صلاته، كما أن المقتدي يبني صلاته على صلاة الإمام، ففي كل فصل جوزنا الاقتداء به يجوز البناء هنا وإلا فلا. وعند محمد رحمه الله القائم لا يقتدي بالقاعد، فكذا لا يبني في حق نفسه، وعندهما القائم يقتدي بالقاعد فكذلك يبني في حق نفسه. والكلام مع زفر رحمه الله بناءً على هذا الأصل أيضاً، فمن أصله أنه يجوز اقتداء الراكع بالمومىء. وعندنا لا يجوز، فكذا البناء في حق نفسه، وإن نزع الماء من عينه، وأمر أن يستلقي أياماً على ظهره، ونهي عن القعود والسجود أجزأه أن يصلي مستلقياً مومياً، وعلى قول مالك، والشافعي رحمهما الله: لا يجوز، هما احتجا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن طبيباً قال له: بعدما كف بصره لو صبرت أياماً مستلقياً صحت عينك فشاور عائشة وأبا هريرة وجماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فلم يرخصوا له في ذلك، وقالوا: أرأيت لو مت في هذه الأيام كيف تصنع بصلاتك؟ فترك ذلك وصلى بركوع وسجود. والمعنى فيه: وهو أنه إنما تجوز الصلاة بالإيماء للمريض إذا عجز عن القيام والركوع والسجود وهذا ما عجز عن القيام والركوع والسجود فلا يجزئه الإيماء. وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: إن حرمة الأعضاء كحرمة النفس، ولو كان قاعداً يخاف على نفسه الهلاك بسبب العدو، أو بسبب السبع فصلى مستلقياً بالإيماء جاز، فكذا إذا خاف على عينيه، ولأن من به رمد شديد فكان إذا وضع جبينه على الأرض ازداد وجعه واشتد، وإنه يومىء لسجوده ويجزئه ذلك فكذلك ههنا، ولأن الرمد من أشد الأوجاع فلا يختلف عن

سائر الأمراض، قال عليه السلام: «لا وجع إلا وجع العين» هكذا روى شمس الأئمة رحمه الله. وإذ صلى المريض بالإيماء لغير القبلة متعمداً لم يجزئه، لأن استقبال القبلة شرط من شرائط الصلاة، ولم يقع العجز عنه بسبب المرض فلا يسقط عنه، وإذا لم يسقط كان كالصحيح، والصحيح لو صلى إلى غير القبلة متعمداً لم تجزئه صلاته فكذلك ههنا، وإن كان ذلك منه خطأ أجزأه، يعني إذا اشتبهت عليه القبلة، ولم يكن بحضرته من يسأل عنه فتحرى وصلى جازت صلاته وإن تبين أنه أخطأ، كما تجوز من الصحيح لقول علي رضي الله عنه: قبلة المتحري جملة قصده. والحاصل: أن مفارقة المريض الصحيح فيما هو عاجز عنه، فأما فيما يقدر عليه هو كالصحيح. فإن كان يعرف القبلة، ولكن لا يستطيع أن يتوجه إلى القبلة، ولم يجد أحداً يحوله إلى القبلة، فإنه روي عن محمد بن مقاتل أنه يصلي كذلك إلى غير القبلة ثم يعيد؛ إذا برأ، وفي ظاهر الجواب لا يعيد؛ لأن ما عجز عنه من الشرائط لا يكون أقوى ما عجز عن الأركان، فإن وجد أحداً يحوله إلى القبلة، فإنه ينبغي أن يأمره، حتى يحوله إلى القبلة، فإن لم يأمره وصلى إلى غير القبلة، قال أبو حنيفة رحمه الله: تجوز صلاته، وقالا: لا تجوز. وكذلك على هذا إذا كان على فراش نجس إن كان لا يجد فراشاً طاهراً، أو يجد فراشاً طاهراً ولكن لا يجد أحداً يحوله إلى فراش طاهر، فصلى على هذا الفراش الطاهر جازت صلاته، فإن كان يجد أحداً يحوله إلى فراش طاهر ينبغي أن يأمره حتى يحوله، فإن لم يأمره وصلى على فراش نجس، قال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز، وقالا: لا يجوز، وهذا بناءً على أصل معروف. وهو أن القادر بقدرة الغير هل يصير قادراً؟ قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يصير قادراً، وقالا: يصير قادراً حتى أن الأعمى لا يجب (عليه الحج والجمعة، وإن كان له ألف قائد عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: يجب الحج والجمعة. قال شمس الأئمة رحمه الله: قول محمد رحمه الله في «الكتاب» : إذا صلى متعمداً إلى غير القبلة لا يجزئه رواية أن فاعله لا يكفر بخلاف ما قاله بعض المشايخ رحمهم الله. وإن صلى المريض قبل الوقت عمداً أو خطأ لم يجزئه؛ لأنه صلى قبل الوجوب، وقبل وجود سبب الوجوب، وصار هذا كمن صام رمضان قبل شهر رمضان؛ ولأن المريض فيما يقدر عليه كالصحيح، والصحيح لا تجوز له الصلاة قبل الوقت، فكذا المريض. ومعنى المسألة: وهو أن يصلي قبل الوقت مخافة أن لا يشغله المرض عن الصلاة، وكذلك لو صلى بغير قراءة، أو بغير وضوء لم يجزه أيضاً لما ذكرنا أن المريض فيما قدر

عليه كالصحيح، فإن عجز عن القراءة يومىء لغير قراءة؛ لأن القيام والركوع والسجود ركن كما أن القراءة ركن، ثم العجز عن تلك الأركان يسقط الأركان حتى يصلي مضطجعاً بالإيماء، فكذا العجز عن القراءة يسقط القراءة حتى يصلي بغير قراءة، فإن عجز عن الوضوء يصلي بالتيمم. والمومىء يسجد للسهو بإيماء؛ لأن سجدة السهو دون الصلاتية، فلما جازت الصلاتية بالإيماء حالة العجز فالسهو أولى. وليس للمريض أن يقصر الصلاة كالمسافر؛ لأن القصر في حق المسافر عرف بالنص، ولا نص في حق المريض، وإذا أراد المريض أن يجمع بين الصلاتين، فصلى الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها، لأن المرض عذر كالسفر، ثم المسافر كذا يجمع بين الصلاتين، فكذا المريض، ولا يجمع بين الصلاتين في وقت واحد ولا يدع الوتر، ولا يترك القنوت في الوتر. الأحدب إذا كان قيامه ركوعاً يشير برأسه للركوع؛ لأنه عاجز عما هو فوقه. وفي «الفتاوى» : إذا قال المريض عند القيام والانحطاط: بسم الله لما يلحقه من المشقة لا تفسد صلاته؛ لأنه ليس من كلام الناس، ولم يخرجه جواباً. وذكر في «مختلف الرواية» أن في قياس قول أبي حنيفة: تفسد صلاته، وفي قياس قول أبي يوسف رحمه الله: لا تفسد. رجل له عبد مريض لا يقدر على الوضوء فعلى المولى أن يوضئه هكذا روي عن محمد رحمه الله؛ لأنه ما دام في ملكه كان عليه تعاهده. أبو سليمان عن محمد: رجل افتتح الصلاة قاعداً من غير عذر، ثم قام يصلي بذلك التكبير لم تجز صلاته، ولو افتتح قائماً ثم قعد من غير عذر فجعل يركع مع الإمام وهو جالس ويسجد، قال: لا يجزئه، وإن كان لم يسجد بالأرض لكنه أومأ إيماءً، فإنه يقوم ويتبع الإمام في صلاته، وهي تامة أي: صلاته تامة، وقد أساء فيما فعل (115أ1) يريد بقوله: يقوم ويتبع الإمام في صلاته: أنه إذا أومأ بالركوع والسجود، ولم يركع ولم يسجد ينبغي له أن يقوم ويركع ويسجد ليصير إتياناً بالمأمور به، وصلاته تامة؛ لأنه لم يوجد منه سوى الإيماء، وبمجرد الإيماء لا تفسد صلاته. وقوله: قد أساء فيما فعل معناه وقد أساىء فيما أومأ أول مرة. ابن سماعة عن محمد: مريض صلى أربع ركعات جالساً، فلما قعد في الثانية منها قرأ وركع قبل أن يتشهد، قال: هو بمنزلة القيام؛ لأنه من عمل القيام، وإن كان حين رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الثانية نوى القيام ولم يقرأ ثم عمل، قال: يعود ويتشهد وليست النية في هذا بعمل، وهذا لأنه جالس حقيقة إلا أنه في الفصل الأول وجدها هو من أعمال القيام وهو القراءة فاعتبر تباعاً، وفي الفصل الثاني لم يوجد إلا مجرد النية، ومجرد النية لا أثر لها في تغيير الحقائق. مريض صلى جالساً فلما رفع رأسه من السجدة الأخيرة في الركعة الرابعة فظن أنها

ثالثة، فقرأ وركع وسجد بالإيماء فسدت صلاته؛ لأنه انتقل إلى النافلة قبل إتمام المكتوبة، ولو لم يكن في الركعة الرابعة، وإن كان في الثالثة فظن أنها ثانية، فأخذ في القراءة، ثم علم أنها ثالثة لا يعود إلى التشهد بل يمضي في قراءته، ويسجد للسهو في آخر الصلاة. ذكر الحاكم مرسلاً: رجل صلى يومىء إيماءً فلما كان في الرابعة ظن أنها الثالثة، فنوى القيام فقرأ فكان في قراءته مقدار التشهد ثم تكلم، قال: أجزأته صلاته من قبيل أن قراءته ليست في موضع قراءة تجزئه من شيء يعتد به، فلا تفسد عليه قعوده، قال: ولا يكون قائماً بنية القيام حتى يكون مع ذلك عمل يجزىء من شيء في الصلاة، أو بزيادة ركوع أو سجود. ولو كان صلى ركعتين بإيماء، فلما رفع رأسه من السجود ظن أنها الركعة الرابعة، فنوى أن يكون قائماً فقرأ {الْحَمْدُ للَّهِ} وسورة ثم ذكر أنها الثالثة، قال: هذا يركع للثالثة، ولا يعود ليتشهد الثانية؛ لأنه صار بالقراءة بمنزلة من قام. ذكر الحاكم: رجل صلى الظهر بإيماء، فصلى ركعتين بغير قراءة ساهياً، ثم ظن أنه إنما صلى ركعة، فنوى القيام، فقرأ وركع وسجد، ثم علم أنه هذه الثالثة، فصلى الرابعة بقراءة أجزأته صلاته. ولو كان قرأ في الأوليين، فلما رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الرابعة ظن أنها الثالثة، فنوى القيام، ومكث ساعة كذلك، ثم استيقن أنها الرابعة، فلم يحدث نية في الجلوس حتى مكث كذلك مقدار التشهد لم تفسد عليه صلاته. ومن يصلي التطوع قاعداً بعذر أو بغير عذر ففي التشهد يقعد كما في سائر الصلوات إجماعاً، أما حالة القراءة فعن أبي حنيفة رحمه الله إن شاء فكذلك قعد، وإن شاء تربع، وإن شاء احتبى، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يحتبي، وروي عنه أنه يتربع إن شاء، وعن محمد رحمه الله أنه يتربع. وعن زفر رحمه الله: أنه يقعد كما في التشهد، ثم قال أبو يوسف رحمه الله: يحل القعد عند السجود، وقال محمد رحمه الله: عند الركوع كذا ذكر الشيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله: في أول صلاته، وذكر هو في آخر باب الحدث أنه يخير بين التربيع والاحتباء حكي عن اختلاف زفر أن في صلاة الليل يتربع عند أبي حنيفة رحمه الله من أول الصلاة إلى آخرها. وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا جاء وقت الركوع والسجود يقعد كما يتشهد في المكتوبة، وقال زفر رحمه الله: يقعد من أول الصلاة إلى آخرها كما في تشهد المكتوبة، وعن أبي حنيفة رحمه الله أن الأفضل أن يقعد في موضع القيام محتبياً. قيل: ورأينا في «مختصر الكرخي» عن محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله يقعد كيف شاء، وهو قول محمد رحمه الله. وروى الحسن رحمه الله أنه يتربع وإذا أراد أن يركع بنى رجله اليسرى وافترشها. قال القدوري رحمه الله: أطلق أبو الحسن رواية الحسن وهو عن أبي يوسف رحمه الله، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف رحمهما الله أنه يركع متربعاً، وقال زفر:

يفترش رجله اليسرى في جميع صلاته، وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله أن الفتوى على قول زفر في هذا. والله أعلم. ما ذكر محمد رحمه الله في «الزيادات» رجل بحلقه خراج ولا يستطيع أن يسجد إلا ويسل خراجه، وهو صحيح فيما سوى ذلك يقدر على الركوع والقيام والقراءة، يصلي قاعداً يومىء إيماءً، ولو صلى قائماً بركوع وسجود، وقعد وأومأ بالسجود أجزأه، والأول أفضل. وإنما كان هكذا وذاك؛ لأن القيام لم يشرع قربة بنفسه، وكذلك الركوع، ولكن شرعا ليكونا وسيلتين إلى السجود، ولهذا كانت السجدة قربة بانفرادها، ولا كذلك القيام والركوع، وشرعت السجود مكررة يكون في ركعة، ولم يشرع القيام والركوع مكرراً في الركعة. قلنا: وقد أمر بترك السجود هنا؛ لأنه لو سجد سال من خراجه شيء فتصير صلاته بغير طهارة، ولو لم يسجد كانت صلاته بطهارة ولكن من غير سجود. قلنا: الصلاة مع الحدث لم تشرع في حالة الاختيار بحال، فأما الصلاة قاعداً وبإيماء مشروع في حالة الاختيار، حتى أن المتنفل إذا صلى قاعداً أو على الدابة بإيماء جاز، فكان ترك السجود أهون من تحمل الحدث، وقد عرف أن من ابتلي ببليتين يختار أهونهما، وإذا أمر بترك السجود هنا، أمر بترك القيام والركوع بطريق التبعية، ولكن مع هذا إن قام وركع جاز؛ لأن السجود هنا بقي مشروعاً، ولهذا لو تكلف وفعله بلا حدث جاز، فبقي القيام والركوع أيضاً مشروعاً تحقيقاً للتبعية، فإذا أتى به فقد أتى بما هو مشروع فجاز، إلا أنه لما أمر بترك السجود لما قلنا أمر بترك القيام والركوع أيضاً بطريق التبعية، لكن مع كونهما مشروعين في نفسهما فجاز الإتيان بهما. وكذلك إذا كان به جراحة إذا قام سال جرحه، وإذا قعد لا يسيل، أو كان شيخاً كبيراً إذا قام سلسل بوله، وإذا قعد استمسك، يصلي قاعداً بركوع وسجود، وإن كان لو سجد سال أيضاً صلى قاعداً يومىء إيماءً، ويجعل السجود أخفض من الركوع لما عرف في مواضع كثيرة. وإنما كان هكذا لما قلنا: أنه لو قام صار مصلياً بدون الطهارة، وذلك غير مشروع في حالة الاختيار بحال، وإذا قعد كانت صلاته بطهارة ولكن على غير قيام، وذلك مشروع في حالة الاختيار على ما مر، فكان ترك القيام أهون من تحمل الحدث، وهذا والأول سواء إلا أن هنا لو صلى قائماً لا يجوز، وهناك يجوز؛ لأن هنا السيلان يوجد في حالة القيام، فيصير مصلياً مع الحدث فلا يجوز، ولا كذلك الفصل الأول. وعلى هذا لو أن شيخاً كبيراً إذا قام ضعف وعجز عن القراءة، وإذا صلى جالساً يركع ويسجد، ويقدر على القراءة أمر بأن يصلي قاعداً بركوع وسجود؛ لأن الصلاة بغير قراءة لا تجوز في حالة الاختيار بحال، وتجوز الصلاة قاعداً مع القدرة على القيام، وبالإيماء راكباً مع القدرة على النزول، فكان ترك القيام أهون من ترك القراءة. وإذا كان بالرجل جرح إن قعد أو قام سال، وإن استلقى على قفاه رقأ الجرح، فإنه يصلي قائماً يركع ويسجد، وكذلك من به سلسل البول إذا كان بحيث يستمسك إذا استلقى

الفصل الثاني والثلاثون في الجنائز

على قفاه، وإنما كان كذلك، وذلك؛ لأن الصلاة مع الحدث في حالة الاختيار لا تجوز بحال، والصلاة مستلقياً على قفاه فكذلك، فاستويا من هذا الوجه إلا أنه إذا صلى قائماً فاته فرض واحد وهو الطهارة من الحدث، ولو صلى مستلقياً على قفاه يلزمه تحمل الاستلقاء، وترك القيام والركوع والسجود، فكان ما قلنا أهون الأمرين. وذكر في «المنتقى» عن أبي سليمان عن محمد رحمه الله: رجل به جرح إن اضطجع فأومأ لم يسل (115ب1) وإن قعد سال، قال: يصلي مضطجعاً ويومىء إيماءً. فعلى قياس ما ذكر في «المنتقى» ينبغي في مسألة «الزيادات» أن يصلي مستلقياً على قفاه. ومن هذا الجنس مسألة لا ذكر لها في شيء من الكتب، وهي أن المريض إذا كان يقدر على القيام لو كان يصلي في بيته، ولو خرج إلى الجماعة يعجز عن القيام يصلي في بيته قائماً، أو يخرج إلى الجماعة ويصلي قاعداً، اختلف المشايخ فيه. قال بعضهم: يصلي في بيته قائماً؛ لأن القيام فرض في الصلاة، فلا يجوز تركه لأجل الجماعة وهي سنّة. وأما من يقول: يخرج إلى الجماعة يقول: ليس في هذا ترك الفرض؛ لأن القيام إنما يفترض عليه إذا كان قادراً عليه وقت الأداء وهو عاجز عنه حالة الأداء، وإذا لم يكن القيام فرضاً عليه حالة الأداء لعجزه، وإنما اعتبر حالة الأداء في باب الصلاة لا حالة الوجوب لم يكن سبب الجماعة مدركاً فرضاً، فكان عليه مراعاة الجماعة. وفي «المنتقى» عن إبراهيم عن محمد رحمهما الله: في رجل إن صام رمضان يضعف ويصلي قاعداً، وإن أفطر يصلي قائماً، قال: يصوم ويصلي قاعداً. وفيه أيضاً: عن بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله: فيمن خاف العدو إن صلى قائماً، أو كان في خباء لا يستطيع أن يقيم صلبه فيه، وإن خرج لم يستطع أن يصلي من الطين والمطر قال: يصلي قاعداً.u والله أعلم. الفصل الثاني والثلاثون في الجنائز هذا الفصل يشتمل على أنواع: الأولفي غسل الميت وإنه ينقسم أقساما الأول: في نفس الغسل: يجب أن يعلم بأن غسل الميت شريعة ماضية والأصل فيه ما روي «أن آدم صلوات الله عليه لما قبض نزل جبريل عليه السلام بالملائكة وغسلوه، وقالوا: هذه سنّة موتاكم يا ابن آدم» . وقال عليه السلام: «للمسلم على المسلم ست

حقوق» وذكر من جملة ذلك أن يغسله بعد موته. ونوع من المعنى يدل عليه وهو أن الميت في صلاة الجنازة بمنزلة الإمام للقوم إنه لا تجوز الصلاة بدونه، وشرط تقديمه على القوم كالإمام، وطهارة الإمام شرط لجواز صلاة القوم فكذا طهارة الميت؛ لأنه بمعنى الإمام، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: الجنازة متبوعة وليست بتابعة، ولأن ما بعد الموت حالة عرضٍ على الله تعالى، ورجوع إليه فوجب تطهيره بالغسل تعظيماً لله تعالى. ولهذا يسن غسل الكافر، وإن كان لا يصلي تعظيماً لله تعالى: لأنه حالة عرضٍ عليه ورجوع إليه، وبه وردت السنّة في حق الكافر لما روي «أن النبي عليه السلام أمر علياً رضي الله عنه بغسل أبي طالب» . ثم اختلف المشايخ في علة وجوب غسل الميت، قال أبو عبد الله البلخي في «تفسير المجرد» : إنما وجب غسله لأجل الحدث لا لنجاسة ثبتت بالموت؛ لأن النجاسة التي تثبت بالموت لا تزول بالغسل كما في سائر الحيوانات التي لها دم سائل إذا تنجست بالموت، فإنها لا تطهر بالغسل، والحدث مما يزول بالغسل حالة الحياة، فكذا بعد الوفاة، ونجاسة الميت لا تزول بالغسل. علمنا أن غسل الميت شرع لإزالة الحدث لا لإزالة نجاسة الموت، ولأن الآدمي لا ينجس بالموت، وإن وجد احتباس الدم في العروق كرامة له بخلاف سائر الحيوانات، لكن يصير محدثاً؛ لأن الموت سبب استرخاء المفاصل وزوال العقل قبل الموت، وإنه حدث، فكان يجب أن يكون مقصوراً على أعضاء الوضوء كما في حالة الحياة لأن في حالة الحياة القياس: أن يجب غسل جميع البدن كما في الجنابة لا أنه سقط غسل جميع البدن، واكتفي بغسل الأعضاء الأربعة نفياً للحرج؛ لأنه يتكرر في كل يوم. ألا ترى أن الجنابة لما لم تتكرر لم يكتف فيها بغسل الأعضاء الأربعة وكذلك الحيض لما لم يتكرر لم يكتف فيه بغسل الأعضاء الأربعة، والحدث بسبب الموت لا يتكرر فوجوب الغسل في جميع البدن لا يؤدي إلى الحرج، فأخذ بالقياس بعد الموت، والقياس يوجب غسل جميع البدن. وكان الشيخ أبو عبد الله الجرجاني وغيره من مشايخ العراق يقولون: الغسل وجب لنجاسة الموت لا بسبب الحدث؛ لأن الآدمي له دم سائل، فيتنجس بالموت، والدليل على أنه يتنجس بالموت أن المسلم لو وقع في بئر ماء ومات فيها، فإنه يتنجس ماء البئر كلها حتى يجب نزح جميع البئر، وكذلك لو احتمل ميتاً قبل الغسل، وصلى معه لا تجوز

الصلاة، ولو كان الغسل واجباً لإزالة الحدث لا غير لكان تجوز الصلاة مع الميت قبل الغسل، كما لو احتمل محدثاً، وصلى معه. والدليل عليه: أن الميت لا يمسح برأسه ولو كان الغسل للحدث لسن المسح على رأسه كما في الجنب؛ لأن الحدث يزول بالمسح على الرأس، فدل أن الغسل واجب لإزالة نجاسة ثبتت بالموت كرامة للآدمي بخلاف سائر الحيوانات. وهذا القول أقرب إلى القياس؛ لأنه قال: بثبوت النجاسة بعد وجود علتها، وهو احتباس دم السائل في العروق. وقال: يزول بالغسل. والغسل أثر في إزالة النجاسة كما في حالة الحياة إن لم يكن له أثر في إزالة نجاسة الموت في سائر الحيوانات سوى الآدمي، فكان ما قاله موافقاً للقياس من كل وجه في حق ثبوت النجاسة بعد وجود علتها، وفي الزوال بالغسل موافقاً للقياس من وجه وهو الاعتبار بحالة الحياة إن كان مخالفاً للقياس باعتبار سائر الحيوانات، وما قاله البلخي مخالفاً للقياس من كل وجه، وهو المنع عن ثبوت النجاسة مع قيام العلة الموجبة للنجاسة فإما لم نجد سبب نجاسته لا يعمل في التنجس في الآدمي حالة الحياة كرامة له، فكذا بعد الوفاة، ولا شك أن ما هو أقرب إلى موافقة القياس أولى. قسم آخر في بيان كيفية الغسل ذكر أبو حنيفة عن حماد بن إبراهيم رحمهم الله أنه قال: يجرد الميت إذا أريد غسله، وقال الشافعي رحمه الله: السنّة أن يغسل في قميص واسع الكمين حتى يدخل الغاسل يده في الكمين، ويغسل يديه، فإن كان الكمين ضيقاً خرق الكمين. حجته: بما روي عن النبي عليه السلام «حين توفي غسل في قميصه الذي عليه» ، وما كان سنّة في حق النبي عليه السلام يكون سنّة في حق غيره حتى يقوم دليل التخصيص؛ ولأن الميت متى جرد يطلع الغاسل على جميع أعضائه، وربما يطلع على عورته، وقبل الموت كان يكره الاطلاع عليه، فكذلك بعد الموت حقاً للميت بخلاف حالة الحياة. لأنه يجرد نفسه بنفسه، فلا يطلع عليه غيره. وعلماؤنا احتجوا بما روت عائشة رضي الله عنها: أن النبي عليه السلام لما توفي أجمعت الصحابة رضوان الله عليهم لغسله، فقالوا: لا ندري كيف نغسله. يغسل كما نغسل موتانا أو نغسله وعليه ثيابه؟ فأرسل الله تعالى عليهم النوم فما منهم أحد إلا نام وذقنه على صدره إذ ناداهم منادي أن اغسلوا نبيكم عليه السلام وعليه قميصة ولا تنزعوا. فقد اجتمعت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أن السنّة في سائر الموتى التجريد، والمعنى فيه وهو أن هذا غسل واجب فلا يقام مع الثياب اعتباراً بحالة الحياة،

وهذا لأن المقصود من الغسل هو التطهر، والتطهير لا يحصل إذا غسل مع ثيابه؛ لأن الثوب متى تنجس الغسالة تتنجس يديه ثانياً بنجاسة الثوب، فلا يفيد الغسل، فيجب التجريد. وأما الحدث قلنا: النبي عليه السلام كان مخصوصاً بذلك لعظيم حرمته ألا ترى أن الصحابة قالت: لا ندري كيف نغسله؟ والنص الوارد في حق النبي عليه السلام بخلاف القياس لا يكون وارداً في حق غيره؛ لأنه ليس لغيره من الحرمة ما للنبي عليه السلام، وقوله: يطلع على عورته. قلنا: أصلنا بين أمرين: بين أن نغسله في ثيابه حتى لا يطلع على عورته غيره، وبين أن يجرده فيقع الاحتراز عن نجاسة تصيبه من الثوب، والتجريد أولى؛ لأن صيانته عن النجاسة فرض، واطلاع الغاسل على عورة الميت، مكروه. فكان مراعاة التطهير، وإنه فرض أولى من مراعاة الاطلاع على عورة الميت، وإنه مكروه. وإذا جرد عن ثيابه يوضع على تخت؛ لأنه لو وضع على الأرض يتلطخ (116أ1) ويتلوث بالطين فيوضع على التخت كيلا يتلطخ بالطين، ولم يبين في «الكتاب» كيفية وضع التخت إلى القبلة طولاً أو عرضاً. من أصحابنا رحمهم الله من اختار الوضع طولاً كما كان يفعله في مرضه إذا أراد الصلاة بالإيماء، ومنهم من اختار الوضع عرضاً كما يوضع في القبر. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وعلى الأصح أنه يوضع كما تيسر فإن ذلك يختلف باختلاف الأماكن والمواضع، ويوضع على عورته خرقة؛ لأن ستر العورة واجب على كل حال، والآدمي محترم حياً وميتاً. ألا ترى أنه لا يحل للرجال غسل النساء ولا للنساء غسل الرجال الأجانب بعد الوفاة، ثم ظاهر الرواية أنه يستر السوءة وهي العورة الغليظة وحدها ويترك فخذاه مكشوفتين. قال و «في النوادر» : ويوضع على عورته من السرة إلى الركبة، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه وهو الصحيح، قال عليه السلام لعلي رضي الله عنه: «لا تنظر إلى فخذ حي وميت» ويلف الغاسل على يديه خرقة ويغسل السوءة؛ لأن مس العورة حرام كالنظر فيجعل على يده خرقة ليصير حائلاً بينه وبين العورة. ولم يذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : أنه هل يستنجي؟ وذكر في صلاة الأثر أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أنه يستنجي، وعلى قول أبي يوسف: لا يستنجى، أبو يوسف يقول: المسكة تزول والمفاصل تسترخى بالموت وربما يزداد الاسترخاء بالاستنجاء، فيخرج زيادة نجاسة من باطنه، فلا يفيد الاستنجاء فائدته، فلا يشتغل به، وهما قالا: موضع الاستنجاء من الميت قل ما يخلو عن نجاسة حقيقة، فيجب

إزالتها كما لو كانت النجاسة على موضع آخر من البدن. ثم يوضأ وضوءه للصلاة جاءت السنّة به من رسول الله عليه السلام؛ ولأن الغسل بعد الوفاة معتبر بالغسل حالة الحياة، وفي حالة الحياة كان إذا اغتسل توضأ أولاً وضوءه للصلاة، فكذلك بعد الوفاة. قال شمس الأئمة الحلواني: هذا في البالغ والصبي الذي يعقل الصلاة، فأما الصبي الذي لم يعقل الصلاة، فإنه يغسله، ولا يتوضأ وضوءه للصلاة؛ لأنه كان لا يصلي. ويبدأ بغسل وجهه، ولا يغسل اليدين بخلاف حالة الحياة؛ لأن الحي يغسله بنفسه، وآلة الغسل اليد فيؤمر بغسل اليدين أولاً، فيحصل غسل الأعضاء فإنه طاهرة، والميت يغسله الغاسل، ولا يغسل بنفسه، فلا يؤمر بغسل يد الميت بل يؤمر الغاسل بغسل يده. ويبدأ في الوضوء بميامنه، وكذلك في الاغتسال؛ لأنه في حالة الحياة يفعل كذلك، فكذلك بعد الوفاة، وقد صح أن رسول الله عليه السلام «كان يحب التيامن في كل شيء» ، وقد روت أم عطية أن النبي عليه السلام قال: للنساء اللاتي غسلن ابنته «إبدآن بميامنها وبمواضع وضوئها» . لا يمضمض ولا يستنشق وهذا عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: يمضمض ويستنشق اعتباراً بالغسل حالة الحياة. ولنا ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «الميت يوضأ وضوءه للصلاة إلا أنه لا يمضمض ولا يستنشق» . وهذا نص في الباب؛ ولأنه بتعذره عليهم إخراج الماء من فيه فيكون سقياً لا مضمضمة، ولو كبوه على وجهه ربما يخرج من جوفه ما هو نتن منه فيكون أخبث لفمه. ومن العلماء من قال: يجعل الغاسل على أصبعه خرقة دقيقة ويدخل الأصبع في فمه ويمسح بها أسنانه ولهاته وشفتيه وينقيها، ويدخل من منخره أيضاً. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وعليه الناس اليوم: ولا يمسح برأسه بخلاف غسل الجنابة حالة الحياة: لأن إزالة الحدث بالمسح عرف نصاً بخلاف القياس حالة الحياة. ألا ترى أنه لا يزول الحدث في سائر الأعضاء بالمسح ولا نص في حالة الموت، فيبقى على أصل القياس، ولا يؤخر غسل رجليه بخلاف حالة الحياة؛ لأن هناك يجتمع الماء المستعمل في موضع رجليه فالمفيد الغسل، وهنا لا يجتمع، ثم يغسل رأسه ولحيته بالخطمي؛ لأن الغسل شرع للتنظيف والغسل بالخطمي أبلغ في التنظيف، وهذا إذا كان له شعر على رأسه، لأن الحي إذا غسل وله شعر فعل ذلك حتى يصل الماء إلى ثنون شعره،

ولا يسرح شعره؛ لأن الحي إنما يفعل ذلك للزينة وقد انقطع ذلك بالموت. ثم بعد التوضىء يغسل ثلاثاً؛ لأن هذا غسل مشروع بعد الوفاة، فيعتبر بالغسل المشروع حالة الحياة، ثم التثليث في الغسل حالة الحياة مشروع، وكذا بعد الوفاة، وإن زاد على الثلاث جاز كما في حالة الحياة. ثم يغسل أولاً بالماء القراح يعني بالماء الخالص، ثم بالسدر فيطرح السدر بالماء، وفي الثالثة يجعل الكافور في الماء ويغسل، هكذا روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «يبدأ أولاً بالماء القراح، ثم بالماء والسدر، ثم بالماء وشيء من الكافور» وإنما يبدأ أولاً بالماء القراح حتى يسيل ما عليه من الدرن والنجاسة، ثم بماء السدر حتى يزول ما به من الدرن والنجاسة، فإن السدر أبلغ في التنظيف وإزالة الدرن، ثم بماء الكافور يطيب بدن الميت، كذا فعلت الملائكة بآدم عليه السلام حين غسلوه. والغسل بالماء الحار أفضل عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: الأفضل أن يغسل بالماء البارد إلا أن يكون عليه وسخ ودرن، أو نجاسة لا تزول إلا بالماء الحار، فحينئذٍ يغسل بالماء الحار. حجته: أن الميت يسترخي، فلو غسل بماء حار ازداد الاسترخاء، فيصير سبباً لخروج ما في بطنه من النجاسات، فيؤدي إلى تنجيس الأكفان وتنجيسه ثانياً بعد الغسل، فكان الغسل بماء بارد أفضل. وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: إن غسل الميت شرع للتنظيف، والماء الحار أبلغ في التنظيف، فيكون أفضل قياساً على حالة الحياة، قوله: يزيد في الاسترخاء، قلنا: لهذا سنّ بالماء الحار ليزيد الاسترخاء، فيخرج جميع ما في بطنه كيلا تنجس الأكفان. ثم يضجعه على شقه الأيسر، فيغسل بالماء القراح حتى ينقيه؛ لأن البدائة بالأيمن مندوب إليه، ولا يمكنه ذلك إلا بعد أن يضعه على شقه الأيسر، فيضعه على شقه الأيسر، ويصب الماء عليه حتى ينقيه، ويرى أن الماء قد خلص إلى ما يلي التخت من الشق الأيسر، فإذا وقع عند هذا فقد غسله مرة. قال في «الكتاب» : وقد أمرن قبل ذلك بالماء ... بالسدر، فإن لم يكن بسدر فحرض، فإن يكن واحد منهما أجزأك الماء القراح. ثم يضعه على شقه الأيمن، وبصب الماء على شقه الأيسر، فيغسله بالماء القراح ثلاثاً حتى ينقيه، ويرى أن الماء قد خلص إلى ما يلي التخت منه؛ لأن الأيمن قد غسل بصب الماء عليه فيغسل الأيسر يصب الماء عليه؛ لأن صب الماء أبلغ في التطهير، فيجب أن يكون بكل جانب من ذلك حظ، فإن فعل هذا فقد غسل مرتين. ثم يقعده ويسنده إلى نفسه فيمسح بطنه مسحاً رقيقاً، فقد أمره بالمسح بعد الغسل مرتين، وأمره بمسح رقيق حقاً للميت. وروي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية «الأصول» أنه قال: يقعده أولاً،

ويمسح بطنه، ثم يغسله؛ لأن المسح قبل الغسل أولى حتى يخرج ما في بطنه من النجاسة، فيقع الغسل ثلاثاً بعد خروج النجاسة. وجه ظاهر الرواية: وهو أن المسح بعد المرة الثانية أولى؛ لأنه ربما يكون في بطنه نجاسة منعقدة لا تخرج بعد المسح قبل الغسل، ويخرج بعد الغسل مرتين بماء حار، فكان المسح بعد المرتين أقدر على إخراج ما به من النجاسة، فيكون أولى. والأصل في ذلك ما روي: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما غسل رسول الله عليه السلام مسح بطنه بيده وقتها طلب منه ما يطلب من الميت فلم ير شيئاً فقال: طبت حياً وميتاً، وروي أن العباس رضي الله عنه فعل وقال: هذا، وروي أنه لما فعل به هكذا أراح ريح المسك في البيت، وانتشر ذلك الريح في المدينة. وإن سال منه شيء مسحه، ولم يرد لهذا الاقتصار على المسح بل يغسل ذلك الموضع، وإنما أمره بالمسح قبل الغسل (116ب1) ؛ لأنه لو لم يمسح يتعدى عن ذلك الموضع بالغسل ثم يضجعه على شقه الأيسر، فيغسله بالماء القراح وشيء من الكافور حتى ينقيه، ويرى أن الماء قد خلص إلى ما يلي التخت منه، فإذا فعل ذلك فقد غسله ثلاثاً. ثم ينشفه بثوب كما في حالة الحياة بعدما اغتسل ينشف أعضاءه حتى لا تبتل ثيابه، فكذا ينشفه بعد الموت حتى لا تبتل الأكفان. ولا يأخذ من شعره وظفره؛ لأنه للزينة، وبالموت استغنى عن الزينة، وإن كان ظفره منكراً، فلا بأس بأن يأخذه. روي ذلك عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وهذا سبيل كل ميت مات بعد الولادة، فإن ولد ميتاً لم يغسل، ولا يصلى عليه هكذا ذكر في «الأصل» . وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: إذا استهل المولود سمي، وغسل، وصلي عليه، وورث وورث عنه، وإذا لم يستهل لم يسم، ولم يغسل، ولم يصلِ عليه؛ ولم يرث؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال: «إذا استهل المولود غسل وصلي عليه وورث، وإن لم يستهل لم يصلِ عليه ولم يورث» وهذه الرواية موافقة لما ذكر في «الأصل» . وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه يغسل ولا يصلى عليه وهكذا روي عن محمد رحمه الله في رواية، وبه أخذ الطحاوي رحمه الله. وفي رواية أخرى عن محمد رحمه الله: أنه لا يغسل ولا يصلى عليه، وبه أخذ الكرخي. وجه إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله: أن المنفصل ميتاً في حكم جرو حتى لا يصلى عليه فكذا لا يغسل. وجه رواية أبي يوسف رحمه الله: أن المولود ميتاً نفس مؤمنة، ومن النفوس من يغسل ولا يصلى عليه، فيجوز أن يكون لهذه الصفة وما يقول: بأن المولود ميتاً في حكم الجرو.

قلنا: إنه في حكم الجرو من وجه، وفي حكم النفس من وجه فيعطى له حظاً من الشبهين، فلاعتباره بالنفوس، قلنا: يغسل ولاعتباره بالأجراء قلنا: لا يصلى عليه. وأما السقط الذي لم تتم أعضاؤه، ففي غسله اختلاف المشايخ، والمختار أنه يغسل ويلف في خرقة. وإذا غرق الرجل في الماء ومات أو وقع في بئر ومات فعن أبي يوسف رحمه الله أن ذلك لا ينوب عن الغسل وكذلك إذا أصاب الميت المطر لا ينوب ذلك عن الغسل. فرق بين الميت والحي، والفرق: أن الغسل في حق الحي يتكلف به لغيره، وهو الطهارة وعرف ذلك بقوله تعالى: {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ} (المائدة: 6) ، وقد حصلت الطهارة من غير فعله، فأما الطهارة لم تعرف مطلوبة من غسل الميت يجوز أن يكون غسله لهذه الحكمة، ويجوز أن يكون غسله لحكمة أخرى، فلا يجوز القول بسقوط الأمر بالغسل عند حصول هذه الحكمة، وهي الطهارة؛ ولأن الأمر بغسل الميت لاقى الأحياء، فلا بد من فعل منهم، ولم يوجد، والأمر في حق الحي بالاغتسال لاقاه بعينه، وقد وجد نوع فعل منه في هذه الصورة. وإذا لم ينب ذلك عن الغسل يغسل ثلاثاً بعد ذلك في قول أبي يوسف. وعن محمد أنه إذا نوى الغسل عند إخراجه من الماء يغسل مرتين بعد ذلك وإن لم ينوِ الغسل عند إخراجه يغسل ثلاثاً بعد ذلك، وعنه في رواية أخرى يغسل مرة واحدة. وإذا غسل الميت، ثم خرج منه شيء؛ فإنه لا يعاد الغسل، ولا الوضوء عندنا، وبه ختم. قسم آخر في بيان الأسباب المسقطة لغسل الميت فنقول: غسل الميت يسقط بأسباب: أحدها: انعدام الغاسل حتى أن الرجل إذا مات بين يدي النساء في السفر ييمم، فبعد ذلك ينظر إن كن أجنبيات يممنه من وراء الثياب، وإن كانت فيهن ذو رحم محرم منه يممته بيدها. وكذلك المرأة إذا ماتت بين يدي الرجال في السفر، فإن كانوا أجانب يمموها من وراء الثوب، وإن كان فيهم ذو رحم محرم منها يممها بيده. وإذا كان مع النساء رجل من أهل الذمة، أو مع الرجال امرأة ذمية علم الذمي والذمية الغسل، وإذا كان مع الرجال زوجها لم يحل له أن يغسلها، ولو كان مع النساء امرأة الميت حل لها أن تغسله. وفي «العيون» : إذا ظاهر من امرأته ثم مات منها فلها أن تغسله لأن النكاح قائم ولو كان لرجل امرأتان فقال: إحداكما طالق ثلاثاً، وقد كان دخل بهما، ثم مات قبل البيان ليس لكل واحدة منهما أن تغسله لجواز أن كل واحدة منهما مطلقة، ولهما الميراث، وعليهما عدة الوفاة والطلاق. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : مات الرجل عن امرأته، وهي مجوسية؛ لأنه كان لا

يحل لها المس حال حياته، فكذا بعد وفاته بخلاف الذي ظاهر منها؛ لأن الحل قائم، فإن أسلمت قبل أن يغسل غسلته اعتباراً بحالة الحياة. وكذلك إذا مات عن امرأة، وأختها في عدته لم تغسله، فإن انقضت عدة أختها كانت لها أن تغسله. إذا مات الرجل فأقامت امرأتان أختان كل واحدة منهما بينة أنه تزوجها، ودخل بها، ولا يعلم أيتها الأولى لم تغسله واحدة منهما، وميراث امرأة واحدة بينهما. وإذا مات الرجل وثمة أمته أو أمة غيره يممته بغير ثوب إلا من عتق بموته، ولا تغسل الأمة مولاها، وكذلك أم الولد، وعن أبي يوسف رحمه الله للمحرمة والرضاعة أن تغسل زوجها. وإذا مات الرجل عن امرأته، فقتلت ابن الميت أو ارتدت والعياذ بالله أو وقعت المحرمية بينهما بسبب من الأسباب لم يجز لها أن تغسله. وإذا تزوج امرأة الرجل بزوج ودخل بها الزوج الثاني حتى وجب عليها العدة، ثم فرق بينهما، وردت إلى الزوج الأول، ومات عنها وهي في العدة من النكاح الثاني لم يكن لها أن تغسله، وإن انقضت عدتها في حال حياته، أو بعد وفاته لها أن تغسله. وإن كان معه امرأة قد بانت منه قبل موته بطلاق، أو غير طلاق لم تغسله؛ لأن النكاح ارتفع في حال الحياة، والعدة الواجبة عليها للاستبراء ولهذا تقدر بالأقراء، وكذلك لو ارتدت قبل موته ثم أسلمت. وتغسل المرأة الصبي الذي لم يتكلم؛ لأنه ليس لفرجه حكم العورة. والثاني: انعدام ما يغسل به، فإنه إذا مات الرجل في السفر، وليس هناك ماء طاهر ييمم ويصلى عليه. والثالث: الشهادة، فالشهيد لا يغسل عند عامة العلماء رحمهم الله، وقال الحسن البصري: يغسل. أولاً: يحتاج إلى بيان معرفة الشهيد ثم إلى بيان معرفة حكمه، فنقول وبالله التوفيق: الشهيد اسم لكل مسلم مكلف طاهر عند أبي حنيفة رحمه الله قتل ظلماً في قتال ثلاث.Y إما مع أهل الحرب، أو مع أهل البغي، أو مع قطاع الطريق، بأي آلة قتل لم يحمل على مكانه حياً ولم ينتفع بحياته، ولم يبق حياً بعد الجراحة يوماً أو ليلة، ولم يجب عن دمه عوض هو مال بالإجماع. وحكمه في الشرع أنه لا يغسل، ويصلى عليه عندنا، وقال الحسن البصري رحمه الله: يغسل، وقال الشافعي: لا يصلى عليه. أما الكلام مع الحسن رحمه الله في الغسل حجته في ذلك أن الغسل سنّة الموتى من بني آدم لما روينا أن الملائكة صلوات الله عليهم لما غسلوا آدم عليه السلام قالوا: «هذه سنّة موتاكم يا بني آدم» . والشهيد ميت؛ لأن المقتول ميت بأجله عند أهل السنّة والجماعة؛ ولأن الغسل شرع كرامة للميت،

والشهيد أحق بالكرامات، وإنما لم يغسل شهداء أحد؛ لأن الجراحة فشت في الصحابة في ذلك اليوم، وكان يشق عليهم حمل الماء من المدينة؛ لأن عامة جراحاتهم كانت ... في رسول الله عليه السلام لذلك. وإنا نحتج بما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال في شهداء أُحد (117أ1) «زملوهم بكلومهم ودمائهم» وفي رواية «واروهم بثيابهم ولا تغسلوهم فإنه ما من جريح يجرح في سبيل الله تعالى إلا وهو يأتي يوم القيامة وأوداجه تشخب دماً» ، وفي رواية «فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماً اللون لون الدم، والريح ريح المسك» ، وشهداء أُحد كانوا مكلفين طاهرين إذ لم ينقل أنه كان فيهم صبي، أو جنب، وقد قتلوا ظلماً في قتال أهل الحرب، وما اعتاضوا عن دمائهم عوض هو مال، وما حملوا عن مكانهم أحياء، وما انتفعوا بحياتهم، وما عاشوا يوماً أو ليلة بعد الجراحة. فكل من كان في معناهم يلحق بهم في حق سقوط الغسل، وما لا فلا. وكذلك من قتل في قتال أهل البغي لأنه إنما حارب لإعزاز دين الله تعالى، فصار كالمحارب مع أهل الحرب، وقد صح أن عمار بن ياسر قتل بصفين فقال: لا تنزعوا عني ثوباً، ولا تغسلوا عني دماً، وارمسوني في التراب رمساً، فإني رجل محاج أحاج معاوية يوم القيامة، وزيد بن صومان قتل يوم الجمل فقال: لا تنزعوا عني ثوباً، ولا تغسلوا عني دماً فإني مخاصمهم يوم القيامة، وعن صخر بن عدي أنه قتله معاوية، وكان مقيداً فقال: لا تنزعوا عني ثوباً، ولا تغسلوا عني دماً، فإني ومعاوية ملتقي يوم القيامة على الجادة. وكذلك من قتل في قتال قطاع الطريق؛ لأنهم في معنى أهل الحرب. ألا ترى أن الله تعالى وصفهم بكونهم محاربين الله ورسوله. وكذلك من قتل مدافعاً عن نفسه، أو ماله، أو أهله، فهو شهيد قال عليه السلام: «من قتل دون ماله فهو شهيد» ؛ ولأنه في معنى شهداء أُحد. والمعنى في المسألة: أن غسل الميت إنما شرع لإزالة نجاسة ثبتت بالموت بسبب احتباس الدم السائل في العروق كما في سائر الحيوانات التي لها دم سائل، والدليل على أن النجاسة إنما ثبتت بسبب احتباس الدم السائل في العروق، فإن ما ليس له دم سائل من الحيوانات لا ينجس بالموت، والقتل على سبيل الشهادة يزيل الدم السائل عن العروق فلا تثبت نجاسة الموت بخلاف الموت؛ لأن النص ما ورد فيه، فبقي هو على النجاسة الأصلية. وأما الجواب عما قاله الحسن رحمه الله: أن الجراحات فشت في الصحابة.

قلنا: هذا باطل؛ لأن النبي عليه السلام لم يأمرهم بالتيمم، ولو كان ترك الغسل لما ذكرتم من المعنى لأمرهم رسول الله عليه السلام بالتيمم، كما لو تعذر غسل الميت في زماننا لعدم الماء، وبأنه ما لم يعذرهم في ترك الدفن، ولا شك أن حفر التراب هو أشق من غسل الميت، فلما لم يعذرهم في ترك الدفن كان أولى أن لا يعذرهم في ترك الغسل، وكما لم يغسل شهداء أُحد لم يغسل شهداء بدر كما رواه عقبة ابن عامر رضي الله عنه، وهذه الضرورة لم تكن يومئذٍ. وكذلك لم يغسل شهداء الخندق، وحنين وهذه الضرورة لم تكن يومئذٍ فظهر أنهم إنما لم يغسلوا؛ لأن الشهيد لا يغسل. وأما حديث آدم صلوات الله عليه، قلنا: بلى الغسل سنّة الموتى من بني آدم وهذا شهيد والشهيد ليس بميت من كل وجه بل هو ميت من وجه. وأما الكلام مع الشافعي رحمه الله في الصلاة عليه: حجته في ذلك ما روى جابر رضي الله عنه أن النبي عليه السلام: ما صلى على شهداء أُحد؛ ولأنه بصفة الشهادة يطهر من دنس الذنوب، والصلاة عليه شفاعة له ودعاء لتمحيص ذنوبه، وقد استغنى عن ذلك كما استغنى عن الغسل، ولأن الصلاة مشروعة على الميت دون الحي، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم أحياء لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمرن: 169) ولنا ما روي أن النبي عليه السلام: صلى على شهداء أُحد، ولأن الصلاة على الميت لإظهار كرامته، ولهذا اختص به المسلمين، والشهيد أولى بهذه الكرامة. وأما قوله من المعنى الأول: ليسن بصحيح؛ لأن درجته لا تبلغ درجة رسول الله عليه السلام، وما يقول من المعنى الثاني: أن الشهيد حي قلنا: نعم ولكن في حق أحكام الآخرة كما قال الله تعالى: {بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ} أما في حق أحكام الدنيا فلا، ولهذا يقسم ماله بين ورثته، وتتزوج امرأته بعد انقضاء العدة، والصلاة عليه من أحكام الدنيا. وأما حديث جابر فتأويله لم يكن حاضراً حال ما صلى رسول الله عليه السلام عليهم، فقد روي أنه قتل أبوه وأخوه وخاله يومئذٍ، فرجع إلى المدينة ليدبر كيف يحملهم إلى المدينة؟ فلم يكن حاضراً حال ما صلى عليه السلام عليهم فروى ما روى لهذا. ومن شاهد النبي عليه السلام، وشاهد صلواته عليهم. روي أنه صلى عليهم فقد روى بعضهم أن النبي عليه السلام: «صلى على حمزة سبعين صلاة» وتأويله أن حمزة كان موضوعاً بين يديه، وكان يؤتى بواحد واحد، وكان يصلي رسول الله عليه السلام عليه فظن الراوي أنه صلى على حمزة في كل مرة، فروى أنه صلى عليه سبعين صلاة. جئنا إلى بيان الشرائط التي شرطناها لكون المقتول شهيداً أما كونه مكلفاً، فهو شرط عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما حتى أن الكفار إذا دخلوا قرية من قرى

المسلمين، وقتلوا الصبيان والمجانين، فإنهم يغسلون عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يغسلون. حجتهما: أنهم قتلوا في سبيل الله تعالى ظلماً، فيكونوا شهداء كالبالغين. يوضحه: أن حال الصبيان والمجانين في الطهارة فوق حال البالغين العاقلين، فإذا لم يغسل البالغ إذا استشهد؛ لأنه يطهر بالسيف، فالصبي والمجنون أولى، ولأبي حنيفة رحمه الله أنهم ليسوا في معنى شهداء أُحد إذ لم ينقل أنه كان فيهم صبي أو مجنون فلا يلحقوا بهم في حق سقوط حكم الغسل. وقد صح أن ابني آدم لما قتل أحدهما صاحبه أوحى الله تعالى إلى آدم عليه السلام: «أن اغسله وكفنه وصلي عليه وادفنه» ؛، ولأن السيف محاء للذنوب والخطايا، وليس لهؤلاء ذنوب، فكان القتل في حقهم والموت سواء. وهما يقولان: بأن السيف يطهر ويسقط الغسل عمن له ذنوب وخطايا، فلأن يسقط الغسل عنهم أولى، والجواب لأبي حنيفة رحمه الله ما بينا، ولأن ترك الغسل لإبقاء أثر الشهادة عليه ليكون له حجة على خصمه ولو لقيه، والصبي لا يخاصم بنفسه في حقوق الدنيا، فكذا في حقوق الآخرة، وإنما الخصم عنه في الآخرة هو الله تعالى، والله تعالى غني عن الشهود، فلا حاجة إلى إبقاء أثر الشهادة عليه. وأما كونه طاهراً فهو شرط عند أبي حنيفة رحمه الله حتى أن الجنب إذا قتله أهل الحرب، أو أهل البغي، أو اللصوص يغسل عنده، وقال أبو يوسف: لا يغسل. والحائض والنفساء إذا طهرتا، وتم الانقطاع، ثم قتلتا قبل الغسل، فهو على الخلاف، وإن قتلتا والحيض والنفاس قائم، عندهما لا يغسلان بلا إشكال، وعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان وأصح الروايتين عنه أن تغسل. هما يقولان: الغسل الواجب بالجنابة سقط بالموت؛ لأن الغسل كان واجباً عليه، فيسقط بالموت لعجزه، والغسل بسبب الموت لم يجب؛ لأنه شهيد. ولأبي حنيفة رحمه الله حديث حنظلة، فإنه استشهد وهو جنب فغسلته الملائكة. فسأل رسول الله عليه السلام زوجته عن حاله فقالت: أحبلني البارحة فأعجله الحرب من الغسل فقتل وهو جنب، فغسلته الملائكة تعليماً لنا، كما في قصة آدم عليه السلام؛ ولأن الأصل في بني آدم الغسل، إنما تركنا هذا الأصل بحديث شهداء أُحد، ولم يرو أنه كان فيهم جنب أو حائض؛ ولأن الشهادة عرفت مانعة ثبوت النجاسة، لا مطهرة عن نجاسة. بيانه: أن المسلم طاهر، ولكن يتنجس بالموت، فالشهادة تمنع ثبوت النجاسة بالموت، والجنب والحائض نجس ممنوع عن دخول المسجد وتلاوة القرآن، فالشهادة لو عملت (117ب1) في حقهما إنما تعمل في إزالة النجاسة، والمنع من الثبوت أسهل من الرفع بعد الثبوت، ولا يقاس الأعلى على الأدنى. وأما كونه مقتولاً ظلماً، فهو شرط بلا خلاف حتى أن من افترسه السبع، أو سقط

عليه البناء، أو الحائط، أو تردى من جبل، أو غرق في الماء، أو ما أشبه ذلك غسل كغيره من الموتى؛ لأن الأصل في هذا الباب شهداء أُحد، وهم قتلوا ظلماً، فلا يلحق بهم غيرهم إلا إذا كان في معناهم. يوضحه: أن هذه الأسباب غير معتبرة في حق أحكام الدنيا، والغسل من أحكام الدنيا؛ ولأن الشهيد من بذل نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى، وهذا المعنى لا يوجد في حق من مات بهذه الأسباب. وإنما عممنا الآلة؛ لأن الأصل في هذا الباب شهداء أُحد، ولم يكن كلهم قتيل السيف والسلاح بل فيهم من دمغ رأسه بالحجر، ومنهم من قتل بالعصا، ثم عمهم رسول الله عليه السلام في الأمر بترك الغسل؛ ولأن الشهيد من بذل نفسه لابتغاء مرضات الله، وفي حق هذا المعنى السلاح وغيره سواء. وشرطنا أن لا يحمل عن مكانه حياً حتى قلنا: إذا حمل عن مكانه حياً ومات في بيته، أو على أيدي الناس يغسل؛ لأن الأصل في هذا الباب شهداء أُحد، هم ما حملوا عن مصرعهم بل ماتوا كما وقعوا على الجنب. فالذي يحمل عن مكانه حياً ليس في معنى شهداء أُحد، وقد صح أن عمر وعلياً رضي الله عنهما حملا عن مصرعهما حيين وغسلا، وعثمان رضي الله عنه أجهز عليه في مصرعه ولم يغسل، فعرفنا أن الذي لا يغسل من أجهز عليه في مصرعه. وهذا إذا حمل ليمرض فأما إذا رفع من بين الصفين كيلا يطأه الجنود فإنه لا يغسل. والفرق الذي حمل كيلا يطأه الجنود ما نال شيئاً من راحات الدنيا فلم يخف الظلم في حقه فيكون في معنى شهداء أحد ولا يغسل ولا كذلك الذي مرض في بيته أو خيمته لأنه وصل إليه شيء من راحات الدنيا فيخف المظلم في حقه فلم يكن في معنى شهداء أُحد. وشرطنا أن لا ينتفع بحياته، حتى قلنا: إذا أكل أو شرب في مكانه يغسل؛ لأن هذا ليس في معنى شهداء أُحد، فإنه روي أنهم طلبوا ماء، وكان الساقي يطوف عليهم، فكان إذا عرض الماء على إنسان أشار إلى صاحبه حتى ماتوا عطاشاً، ولأنه إذا أكل أو شرب، فقد وصل إليه راحة من راحات الدنيا فخف الظلم في حقه، فصار كالتمريض والارتثاث. ولو كلم إنساناً ثم مات قبل أن يحمل لم يغسل. قيل: هذا إذا كان قليلاً ليس أمور الدنيا، فإن من شهداء أُحد من فعل ذلك، أما إذا كان كثيراً من أمور الدنيا كالبيع والشراء غسل. ولو أوصى بوصية، ثم مات لم يغسل، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: يغسل. واختلف المتأخرون رحمهم الله في ذلك، منهم من قال: هذا الاختلاف فيما أوصى بشيء من أمور الآخرة، فأما إذا أوصى بشيء من أمور الدنيا يغسل بالاتفاق، ومنهم من قال: لا خلاف بينهما في الحقيقة؛ لأن ما قاله أبو يوسف رحمه الله: محمول على ما إذا كانت الوصية بأمور الدنيا والاهتمام لأولاده. وعند مالك يغسل بالإجماع. وما قال محمد رحمه الله: محمول على ما إذا كانت

الوصية بالأمر الآخرة، وعند ذلك لا يغسل بالإجماع، استدل محمد رحمه الله في «الزيادات» بحديث سعد بن الربيع فإنه روي عن النبي عليه السلام «أنه قال يوم أُحد: «من يأتيني بخبر سعد فقال رجل: أنا آتيك بخبره، فجعل يتفحص القتلى حتى أدركه وبه رمق، فقال: إن رسول الله يقرئك السلام ففتح سعد عينيه، وقال: رسول الله في الأحياء قال: نعم هو سالم وقد بعثني إليك، فقال: الحمد لله على سلامته الآن طابت نفسي للموت، ثم قال: أقرأ رسول الله مني السلام، وأقرأ الأنصار السلام، وقل لهم: لا عذر لكم عند الله تعالى إن قتل محمد وفيكم عين تطرف، ثم قال: أخبر النبي عليه السلام أن بي كذا كذا طعنة كلها أصابت مقتلي، ثم مات» وكان من جملة شهداء أُحد، فهذا يبين لك صحة ما قلنا. وشرطنا أن لا يبقى بعد الجراحة حياً يوماً أو ليلة حتى قلنا لو عاش في مكانه يوماً أو ليلة فإنه يغسل، وإن كان دون ذلك لا يغسل؛ لأنه ليس في معنى شهداء أُحد، إذ لم يبق منهم أحد حياً بعد الجراحة يوماً كاملاً أو ليلة كاملة. يوضحه: أن القتيل يعيش قليلاً ولا يعيش طويلاً فلا بد من حد فاصل بين القليل والكثير فجعلنا الحد الفاصل بين القليل والكثير يوماً كاملاً أو ليلة كاملة؛ لأن كل واحدة من هذه المدة تعرف بنفسها، أما ما دون ذلك تعرف بالساعات فيكون هذا معرفة بغيرها لا بنفسها. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: إن عاش وقت صلاة كامل يغسل؛ لأنه وجبت عليه تلك الصلاة، وهذا من أحكام الأحياء. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمهما الله: إذ مكث الجريح في المعركة يوماً أو أكثر منه حياً، والقوم في القتال على قتالهم ذلك اليوم كله، وهو يعقل فكلمهم، أو لا يعقل فهو بمنزلة الشهيد، قال: ألا ترى أنه لو كان يقاتل راجلاً أو فارساً اليوم كله، ثم خر ميتاً في آخر النهار من جراحة أصابته في أول النهار إنه يكون شهيداً. وإن تصرم القتال بينهم وهو مجروح في المعركة صريع يعقل، فإن مكث كذلك وقت صلاتين أو وقت صلاة فهو بمنزلة الذي حمل حياً لا يكون شهيداً؛ لأنه صارت الصلاة ديناً في ذمته إذا كانت الحالة هذه، وهذا من أحكام الأحياء. وإن كانوا في معمعة القتال، فوجد جريحاً فحملوه والقوم في القتال، ثم مات فهو شهيد، قال الحاكم الشهيد رحمه الله: مجرد حمله ورفعه من المعركة والقتال على حاله فقد لا يجعله مرتثاً، وإنما ارتثاثه بذلك بعد تصرم القتال. وشرطنا أن لا يجب عن نفسه عوض هو مال حتى قلنا: إن من قتل خطأ يغسل؛ لأنه اعتاض عن دمه بدل هو مال، فلا يكون في معنى شهداء أُحد. يوضحه: أن الشهيد من سلم نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى لنيل الجنة قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْولَهُمْ} (التوبة: 111) فمن استوجب الدية

بدلاً عن نفسه، فقد اعتاض عن دمه، فلم يتم التسليم فيغسل. ومن وجد في المصر قتيلاً ينظر إن حصل القتل بعصا كبيرة، أو بحجر كبير ويعلم قاتله، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: يغسل؛ لأن القتل على هذا الوجه عنده يوجب الدية، فقد اعتاض عن دمه بدلاً هو مال، وعلى قول أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله: لا يغسل؛ لأن القتل على هذا الوجه عندهما يوجب القصاص ووجوب القصاص، لا يمنع الشهادة عندنا كما لو قتل بالسلاح. وإن لم يعلم قاتله يغسل؛ لأنه وجبت الدية، والقسامة بقتله، فلم يكن في معنى شهداء أُحد. وإن حصل القتل بعصا صغيرة يغسل علم قاتله، أو لم يعلم؛ لأن هذا القتل يوجب المال على كل حال، إن حصل القتل بحديدة، فإن لم يعلم قاتله تجب الدية والقسامة على أهل المحلة، فيغسل، وإن علم القاتل لم يغسل عندنا، وعند الشافعي يغسل بناءً على أن قتل العمد يوجب الدية عنده، فقد اعتاض عن دمه بدلاً هو مال، وعندنا القتل العمد يوجب القصاص فمن اعتاض عن دمه بدل هو مال. وحجتهما روي أن عمر وعلياً رضي الله عنهما غسلا وقد قتلا مظلومين. وحجتنا ما روي أن عثمان رضي الله عنه لم يغسل، وقد قتل في المصر بالسلاح ظلماً، وعلم قاتله، وكذلك صخر بن عدي لم يغسل، وقد قتل في المصر بالسلاح ظلماً، وعلم قاتله، ولا حجة له في حديث عمر، وعلي رضي الله عنهما؛ لأنهما ارتثا فغسلا لأجل الارتثاث، لا؛ لأن وجوب القصاص يوجب خللاً في أمر الشهادة. فإن قيل: الذي وجب القصاص بقتله ليس في معنى شهداء أُحد إذ لم يجب بقتلهم شيء. قلنا: فائدة القصاص يرجع إلى ولي القتيل، وسائر الناس دون المقتول، فلم يحصل له بالقتل شيء كما لم يحصل شهداء أُحد بخلاف الدية؛ لأن فائدة الدية ترجع إلى الميت من حيث إنه (118أ1) تقضى ديونه وتنفذ وصاياه. ومن قتل في قصاص أو رجم غسل؛ لأنه ليس في معنى شهداء أُحد؛ لأنه قتل بحق وشهداء أُحد قتلوا ظلماً؛ ولأن الشهيد من بذل نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى، وهذا لا يوجد في الذي قتل بحق؛ لأنه باذل نفسه لإبقاء حق مستحق. وقد صح أن ماعزاً لما رجم جاء عمه إلى رسول الله عليه السلام وقال: قتل ماعز كما تقتل الكلاب، ماذا تأمرني أن أصنع به، فقال عليه السلام: «لا تقل هذا لقد تاب ماعز توبة لو قسمت توبته على أهل الأرض لوسعتهم، اذهب فاغسله وكفنه وصل عليه» . وكذلك من مات من حد أو تعزير غسل لما بينا، وكذلك من عدا على قوم ظلماً وكابرهم فقتلوه غسل؛ لأنه ليس في معنى شهداء أُحد؛ لأن شهداء أُحد ما عدونا على غيرهم ظلماً؛ ولأن الظالم غير باذل نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى، فلا يكون شهيداً.

وكذلك الباغي إذا قتل لا يصلى عليه وهذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: يصلى عليه؛ لأنه مؤمن قال الله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ} (الحجرات: 9) إلا أنه مقتول بحق، فهو كالمقتول في رجم أو قصاص. ولنا حديث علي رضي الله عنه: أنه لم يغسل أهل الخوارج يوم النهروان، ولم يصلِ عليهم، فقيل له: أهم كفار فقال: لا ولكنهم إخواننا بغوا علينا، أشار إلى أنه ترك الغسل والصلاة عليهم عقوبة وزجراً لغيرهم، وهو نظير المصلوب يترك على خشبته عقوبة وزجراً لغيرهم. وإن وجد في المعركة ميتاً ليس له أثر القتل غسل؛ لأن المقتول يفارق الميت بالأثر، فإذا لم يكن به أثر، فالظاهر لم يكن انزهاق روحه بقتل مضاف إلى العدو، بل لما التقى الصفان انخلع قناع قلبه من شدة الفزع فمات، والجبان قد يبتلى بهذا، وقد وقع هذا في كثير من الصحابة رضوان الله عليهم. وإن كان به أثر القتل لم يغسل؛ لأن الظاهر أن موته كان بذلك الجرح، وإنه كان من العدو فاجتماع الصفين كان لهذا، والأصل أن الحكم متى ظهر عقيب سبب موته يضاف إلى ذلك السبب. ثم لا بد من معرفة الميت الذي ليس له به أثر القتل، والذي به أثر القتل، فالذي ليس به أثر القتل أن لا يكون به جراحة ولم يخرج منه الدم من موضع ما، أو خرج الدم منه من موضع يخرج منه الدم في حالة الحياة عادة. حتى قلنا: لو خرج من أنفه أو دبره، أو ذكره دم غسل؛ لأن المرء قد يبتلى بالرعاف، وقد يبول دماً لمرض في الباطن، أو من شدة الفزع، وقد يبتلى المرء بالباسور، فيخرج الدم من الدبر، فلا تثبت صفة الشهادة بالشك. والذي به أثر القتل أن يكون به جراحة، أو لم يكن به جراحة إلا أنه خرج الدم منه من موضع لا يخرج منه الدم في حالة الحياة عادة. قلنا: لو خرج الدم من أذنه أو عينه، لم يغسل؛ لأن الدم لا يخرج من هذين الموضعين عادة إلا لجرح في الباطن فالظاهر أنه ضرب على رأسه حتى خرج الدم من أذنه أو عينه. وإن كان يخرج من فمه فهو على وجهين: إما أن ينزل من رأسه أو يعلو من جوفه، فإن كان ينزل من رأسه غسل؛ لأنه رعاف؛ لأن للدماغ والرأس منفذين منفذاً إلى المخ ومنفذ إلى الفم والحلق، وإن كان يعلو من الجوف إن كان سائلاً لم يغسل وهو شهيد لأن الدم لا يسيل من الجوف حالة الحياة إلا الجرح في الباطن فكان ذلك علامة الضرب والقتل وإنا نعلم ذلك بلون الدم وإن كان متجمداً يفصل لأنه يحتمل أن يكون صفراً أو سواداً احترق فلا يكون ذلك دليل الجرح في الباطن، فلا يترك الغسل بالشك وبه ختم.

قسم آخريتصل بمسائل الشهيد ذكر محمد رحمه الله في «الزيادات» : أما في الشهيد وذكر فيها مسائل كثيرة وبنى مذهب أبي حنيفة ومذهب نفسه على أصل أن من صار مقتولاً في قتال ثلاث: إما مع أهل الحرب، أو مع البغاة، أو مع قطاع الطريق لمعنى مضاف إلى العدو، وكان شهيداً سواء كان بالمباشرة، أو بالتسبب، وكل من صار مقتولاً بمعنى غير مضاف إلى العدو لا يكون شهيداً لأن الشهيد اسم لقتيل العدو فلا بد وأن يكون القتل مضافاً إلى العدو مباشرة وتسبباً.t وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا صار مقتولاً في هذا القتال الثلاث كان شهيداً، وإن لم يكن قتله مضافاً إلى العدو؛ لأن الأصل في هذا الباب شهداء أُحد، وقد كان فيهم من رمت به دابته ثم عمهم رسول الله عليه السلام في حكم الشهادة. إذا أوطأ مشرك مسلماً بدابته لا يغسل؛ لأنه قتيل العدو مباشرة، ولو وطئت دابة المشرك والمشرك راكبها إلا أنه لا يعلم به، فقتله لا يغسل؛ لأنه قتيل العدو مباشرة؛ لأن فعل الدابة يضاف إلى راكبها؛ لأنها تبع له يوقفها كيف شاء. وكذلك لو كدمته الدابة بفمها أو ضربته بيدها أو بعجته برجلها أو بذنبها لا يغسل بلا خلاف، وكان ينبغي أن يغسل عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأن هذه الأفعال غير مضافة إلى راكب الدابة. ألا ترى أن الراكب في دار الإسلام بمثل هذه الأفعال لا يضمن فلم يكن قتل ألبتة. قلنا:...... هل هذه الأفعال مضافة إلى راكبها لما قلنا إلا أنه سقط اعتبار الإضافة شرعاً في حق الضمان في حق من يسير على الدابة، لأن الركوب في الطريق مسير مباح في الأصل فلم يصر خائناً بالركوب، والتحرز عن هذه الأسباب غير ممكن، فجعل ذلك عفواً حتى لو أوقف الدابة في طريق المسلمين يجب الضمان بمثل هذه الأفعال؛ لأن الإيقاف في الطريق غير مباح في الأصل، فيصير خائناً بالاتفاق، فما تولد منه يكون مضموناً عليه. فأما الحربي، فهو خائن في أصل الركوب للقتال مع المسلمين فما تولد منه يكون مضموناً عليه سواء أمكنه التحرز عنه أو لا. وإن كانت دابة المشرك منفلتة من المشرك وليس عليها أحد، ولا لها سائق أو قائد فأوطئت مسلماً في القتال، فقتلته، غسل عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأن قتله غير مضاف إلى العدو أصلاً، وعند أبي يوسف رحمه الله لا يغسل؛ لأنه صار قتيلاً في قتال أهل الحرب.

وإن عثرت دابة رجل من المسلمين في القتال فرمت به فقتلته غسل عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لأبي يوسف بناءً على الأصل الذي قلنا: ولو نفر مشركون دواب المسلمين فرمت دابة صاحبها وقتلته لم يغسل بالإجماع لأنه قتيل العدو تسبباً، ولو رأت دواب المسلمين دابات المشركين فتفرق من ذلك دابة من غير..... المشركين ورمت بصاحبها وقتلته فهو على الاختلاف الذي بينا. ولو انهزم المسلمون فوطئت دابة مسلم مسلماً وصاحبها عليها، أو سائق لها، أو قائد غسل؛ لأن قتله مضاف إلى المسلم، وإنه خطأ يوجب الدية، وكل قتيل هذا حاله لا يؤثر في سقوط الغسل. وكذلك لو رمى مسلم المشركين بسهم، فأصاب سهمه رجلاً من المسلمين، فقتله يغسل؛ لأنه قتله مضاف إلى المسلم، وإنه خطأ تجب فيه الدية، فلا يؤثر في سقوط الغسل فاستدل في «الكتاب» بحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فإن المسلمين التفوا بسيوفهم على اليمان، فقتلوه ولم يعرفوه فقضى رسول الله عليه السلام بالدية لحذيفة (118ب1) ، فهذا دليل على أن مثل هذا القتل يوجب الدية، ووجوب الدية يوجب خللاً في أمر الشهادة في حكم الغسل. ولو ألجأ المشركون المسلمين إلى خندق فيه ماء أو نار فلم يجدوا بداً من الوقوع ففرق بعضهم أو احترق غسل عند أبي حنيفة، ومحمد رحمه الله؛ لأن قتلهم غير مضاف إلى العدو؛ لأنهم هم الذين أوقعوا أنفسهم فيه، أكثر ما في الباب أنهم كانوا مضطرين في ذلك لكن مباشرتهم ذلك بأنفسهم يقطع تسبب العدو. ولو طعنوهم بالرماح حتى ألقوهم في الماء أو النار، أو رموا بهم عن سور المدينة، فلم تعقرهم الرماح وغرقهم الماء، أو ماتوا من وقوعهم لم يغسلوا؛ لأن قتلهم مضاف إلى العدو مباشرة. ولو أن المشركين جعلوا الحسك حولهم أو حفروا خندقاً حولهم وجعلوا فيه ناراً أو ماءً، فجاء المسلمون ليلاً ولا يعلمون بذلك، فوقعوا فيه غسلوا؛ لأن قتلهم مضاف إلى فعلهم حيث وضعوا أقدامهم على ذلك الموضع باختيارهم، وجهلهم بذلك لا يجعل فعلهم مضافاً إلى العدو، فلا يسقط الغسل إلا على قول أبي يوسف رحمه الله. ولو أن المشركين تحصنوا في مدينة، وصعد المسلمون سورها، فمالت رجل إنسان منهم فوقع فمات غسل عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأنه مات من فعله لا من فعل العدو، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا يغسل لما قلنا. وكذلك لو أن المسلمين نقبوا الحائط فوقع عليهم من نقبهم غسلوا لما قلنا، إلا على قول أبي يوسف رحمه الله. ولو نقب المشركون الحائط حتى سقط على المسلمين لم يغسلوا؛ لأنهم قتيل العدو. وإذا أغار أهل الحرب على قرية من قرى المسلمين فقتلوا الرجال والنساء والصبيان لا خلاف أنه لا يغسل النساء كما لا يغسل الرجال؛ لأنهن مخاطبات

بمخاصمتن يوم الجمعة من قتلهن، فيبقى عليهن أثر الشهادة ليكون شاهداً لهن كما للرجال، وأما الصبيان، فعند أبي حنيفة رحمه الله يغسلون، وعندهما لا يغسلون. قال أبو حنيفة رحمه الله: ليس للصبي ذنب هجره، فالقتل في حقه والموت حتف أنفه سواء، ثم الصبي لا يخاصم بنفسه، وإنما يخاصم عنه الله تعالى، والله تعالى غني عن الشهود، فلا حاجة إلى إبقاء أثر الشهادة. قسم آخر في تكفين الشهداء ويكفن الشهيد في ثيابه الذي عليه لقوله عليه السلام: «زملوهم بلباسهم» ولحديث زيد بن صوحان وصخر بن عدي: «لا تنزعوا عني ثوباً ولا تغسلوا عني دماً» ، ولأن في نزع ثيابه إزالة أثر الشهادة عنه. وقد أمرنا بإبقاء أثر الشهادة عليه. ألا ترى أنا أمرنا بإبقاء الدم الذي على يديه، وكره إزالته بالغسل، فكره نزع ثيابه لهذا، غير أنه ينزع عنه السلاح والجلود والفرو والحشو والخف والقلنسوة، وكلما ليس من جنس الكفن لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «تنزع عنه العمامة والخفان والقلنسوة» . وعن زيد بن صوحان رضي الله عنه أنه قال: «ادفنوني في ثيابي ولا تنزعوا عني إلا الحشو» ولأن ما يترك على الشهيد يترك ليكون كفناً له، والكفن للستر، والفرو والحشو يلبسان للزينة أو لدفع الحر والبرد، والميت قد استغنى عن ذلك، ولهذا كره تكفين غير الشهيد بهذه الأشياء، فإذا كره التكفين بهذه الأشياء ابتداء، كره الترك عليه كفناً له. وفي «السير الكبير» يقول: ينزع عنه ما ليس من جنس الكفن نحو السلاح والسراويل والقلنسوة، ولم يذكر محمد السراويل إلا في «السير» ، وكان الفقيه أبو جعفر الهندواني يقول: الأشبه أن لا ينزع عنه السراويل؛ لأن في نزعه إبراز العورة من غير الضرورة، ووافقه في ذلك كثير من المشايخ من مشايخنا رحمهم الله. ويزيدون في أكفانهم ما شاؤوا، وينقصون ما شاؤوا، قيل: معناه يزاد على ما عليه من الثياب إذا قل حتى يبلغ السنّة، وينقص عما عليه إذا كثر حتى يبلغ السنّة، وقيل: معناه يزاد على ما عليه من الثياب ثوب جديد تكرماً له، وإن كان ما عليه يبلغ السنّة، وينقصون ما شاؤوا كما يفعل بغيره من الموتى، إنما لا يزال عنه أثر الشهادة، فأما في سوى ذلك فهو كغيره من الموتى، وبه ختم. نوع آخرمن هذا الفصل في تكفين الميت هذا النوع ينقسم أقساماً قسم في مقدار الكفن. قال محمد رحمه الله: أدنى ما تكفن فيه

المرأة ثلاثة أثواب ثوبان وخمار، وأكثر ما تكفن فيه المرأة خمسة أثواب درع وخمار وإزار ولفافة وخرقة، وأدنى ما يكفن الرجل فيه ثوبان، وأكثر ما يكفن فيه الرجل ثلاثة أثواب. يجب أن يعلم بأن الكفن أنواع ثلاثة: كفن ضرورة وكفن كفاية وكفن سنّة، أما كفن الضرورة أن يكفن فيما يوجد، فإن حمزة استشهد، وعليه نمرة إذا غطي بها رأسه بدت قدماه وإذا غطي بها قدماه بدا رأسه فغطي بها رأسه، وجعل على قدميه الإذخر. وأما كفن الكفاية فما قال في «الكتاب» : أدنى ما تكفن به المرأة ثلاثة أثواب ثوبين وخمار وأدنى ما يكفن به الرجل ثوبين إزار ولفافة. والأصل في ذلك ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: «كفنوني في ثوبي هذين فقالت عائشة رضي الله عنها: ألا نشتري لك ثوباً جديداً فقال: الحي أحوج إلى الجديد من الميت» ؛ ولأنه لباس مشروع بعد الوفاة فيعتبر باللباس المشروع حالة الحياة ثوبين قميص وإزار. وأدنى ما تلبس المرأة حالة الحياة ثلاثة أثواب قميص وإزار وخمار فكذا بعد الوفاة؛ وروي عن أبي يوسف رحمه الله أن المرأة إذا كفنت في ثوبين وترك الدرع والخمار والخرقة جاز لأن المقصود هو الستر وذاك حاصل بالثوبين. وأما كفن السنّة للرجال فثلاثة، إزار ورداء وقميص، وللنساء خمسة لفافة وإزار ودرع وخمار وخرقة لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: تكفن المرأة في خمسة أثواب، ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «تكفن المرأة في خمسة أثواب والرجل في ثلاثة أثواب، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين» احتراز الزيادة على الخمسة في المرأة، وعلى الثلاثة في الرجل من الاعتداء، وروي أن رسول الله عليه السلام «كفن في ثلاثة أثواب سحولية» أي بيض، وعن أم عطية أن رقية بنت رسول الله عليه السلام توفيت، «وأمر رسول الله عليه السلام بغسلها، وتكفينها، وجلس على الباب وجعل يناول الثياب حتى بلغ خمسة» ؛ ولأنه لباس مشروع بعد الوفاة فيعتبر باللباس المشروع حالة الحياة. وأكثر ما تلبس المرأة حالة الحياة للخروج خمسة أثواب درع وخمار وإزار ... ونقاب فكذا بعد الوفاة تكفن بخمسة أثواب درع وخمار وإزار ولفافة وخرقة تربط فوق الأكفان من عند الصدر فوق الثديين، والبطن كيلا يقصر عليها الكفن إذا حملت على السرير. وعن زفر رحمه الله أنه قال: تربط الخرقة على فخذيها كيلا تضطرب إذا حملت على السرير، والأولى أن تكون الخرقة بحيث تصل إلى الموضعين ليكون أستر لها.

وأكثر ما يلبس الرجل في حالة الحياة ثلاثة أثواب قميص، وسراويل وعامته عمامته فكذلك بعد الوفاة يكفن في ثلاثة أثواب إزار، وقميص ولفافة، وهذا لأن مبنى حالة المرأة على الستر فيزاد في كفنها اعتباراً بحالة الحياة، ثم جعلنا الزيادة ثوبين ليكون الكفن وتراً لا شفعاً. وقال الشافعي رحمه الله: لا قميص في كفن الرجل بل هي لفاف كلها؛ لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام كفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، وفي رواية أثواب سحولية؛ ولأن القميص يختص به الأحياء للتقلب، ولا حاجة إليه في الميت. ولنا حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام: «كفن في حلة وقميص» ، والحلة اسم للثوبين عند العرب، رداء وإزار ولأن أشرف لباس الأحياء القميص، فوجب تقديمه إلا أنه لا يجعل قميصه على سنة قميص الأحياء، فلا يجعل له دخريض؛ لأن ذلك إنما يجعل في حق الحي ليتسع أسفله فيتيسر له المشي، والميت لا يحتاج إلى ذلك، ولا يجعل له الجيب أيضاً؛ لأن ذلك يفعل للحي ليكون ... ولا حاجة (119أ1) للميت إلى ذلك، ولا يكف أطرافه؛ لأن ذلك للصيانة ولا حاجة إليه في حق الميت، والأخذ بحديث ابن عباس رضي الله؛ عنهما أولى من الأخذ بحديث عائشة رضي الله عنها لأن الرجال حضروا رسول الله عليه السلام. وهل يعمم الرجل؟ اختلف المشايخ فيه، منهم من قال: يعمم؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما أوصى. ومنهم من يقول: إن كان في الورثة صغار لا يعمم، وإن كانوا كباراً وعمموا برضاهم يجوز. ومنهم من قال: إن كان عالماً معروفاً أو من الأشراف يعمم، وإن كان من أوساط الناس لا يعمم، ومنهم من قال: لا يعمم على كل حال لما روينا من الحديث، ولأنه لو عمم ... للكفن شفعاً، ويكفن الرجل بكفن مثله. وتفسير ذلك أن ينظر إلى ثيابه في حياته للخروج إلى الجمعة، والعيدين فذلك كفن مثله. قسم آخر في كيفية التكفين فنقول: يبسط للرجل اللفافة، وهي تستر من القرن إلى القدم، ثم يبسط عليها الإزار وهو يستر من القرن إلى القدم أيضاً، ثم يوضع على الإزار الميت، وبعدما يوضع على الإزار يقمص، ويوضع الحنوط في رأسه ولحيته وسائر جسده؛ لأن الحنوط طيب الميت، والطيب حالة الحياة يستعمل في هذه الأعضاء، فكذا الحنوط بعد الوفاة.

وفي «المنتقى» : لا بأس بأن يجعل شيء من المسك في الحنوط، ويوضع الكافور على مساجده يريد به جبهته وأنفه ويديه وركبتيه وقدميه؛ لأنه كان يسجد على هذه الأعضاء فتخص بزيادة الكرامة، وإن لم يكن لم يضره؛ لأن الحي قد لا يستعمل الطيب حالة الحياة، فلا يضره تركه بعد الوفاة. وفي «القدوري» : لا بأس بسائر الطيب غير الزعفران والورس في حق الرجل، وتحشى منافذه إذا خيف خروج شيء، ثم يعطف الإزار عليه من قبل اليسار، ثم من قبل اليمين، ويشد الإزار عليه؛ لأن شد الإزار على القميص أستر، وفي حالة الحياة يشد الإزار أولاً، ثم القميص؛ لأن ذلك للتقلب، وشد الإزار بحسب القميص ليكن للتقلب، ثم اللفافة كذلك، وإنما يعطف اليسار أولاً ثم اليمين لمعنيين. أحدهما: أن لليمين فضلاً على اليسار فيكون فوق اليسار. والثاني: إنما يلبسه حالة الحياة من الثياب يعطف أولاً من قبل الأيسر، ثم من قبل الأيمن كذا هذا. وأما المرأة تبسط لها اللفافة، والإزار على نحو ما بينا للرجل، ثم توضع على الإزار، وتلبس الدرع، ويجعل شعرها ضفيرتين على صدرها فوق الدرع، وقال الشافعي رحمه الله: يضفر شعرها خلف ظهرها اعتباراً بحالة الحياة، وإنما نقول: إنما يفعل ذلك؛ لأجل الزينة وهذه حال حسرة وندامة، فتعتبر بمثل هذه الحالة من حالة الحياة، ثم في حالة الحياة في حالة الحسرة والندامة بأن أصابتها مصيبة لا تجعل شعرها خلف ظهرها، بل تجعل على صدرها كذا بعد الوفاة. ثم يجعل الخمار فوق ذلك، ثم تعطف اللفافة كما بينا في الرجل، ثم الخرقة بعد ذلك تربط فوق الأكفان فوق الثديين؛ لأنه لو لم تربط الخرقة ربما يضطرب ثداياها وقت الحمل، فتنتشر أكفانها فيبدو شيء من أعضائها. والغلام المراهق، والجارية المراهقة بمنزلة البالغ؛ لأن المراهق، والمراهقة كل واحد منهما مشتهى كالبالغ والبالغة، فكان بدن كل واحد منهما في حكم العورة كبدن البالغ والبالغة، وإن كان لم يراهق كفن في خرقتين إزار ورداء، وإن كفن في إزار واحد أجزأه؛ لأن بدنه ليس بعورة لما أنه غير مشتهى، فانحطت درجته في الستر عن درجة من هو عورة. وأما السقط فإنه يلف في خرقة؛ لأن حاله لا يبلغ حال المنفصل حياً. قال القدوري رحمه الله في «كتابه» : والمحرم وغير المحرم في ذلك سواء، يريد به أنه يطيب ويغطى وجهه ورأسه، والكفن الخلق والجديد سواء، وروي عن محمد رحمه الله أن المرأة تكفن في الإبريسم والحرير والمعصفر، ويكره للرجال ذلك، وأحب الأكفان الثياب البيض. وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد يكفن الميت في كل شيء يجوز له لبسه في حال حياته، وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد رحمه الله تخمر الأمة كما تخمر الحرة. والله تعالى أعلم.

قسم آخر ويكفن الميت من جميع ماله قبل الوصايا والديون والمواريث، ومن لم يكن له مال فكفنه على من تجب عليه نفقته إلا المرأة، فإنه لا يجب كفنها على زوجها عند محمد رحمه الله خلافاً لأبي يوسف، فإن عنده يجب عليه الكفن وإن تركت مالاً، ومن لم يكن له من ينفق عليه، فكفنه في بيت المال هكذا ذكر القدوري. وفي «النوازل» : إذا مات الرجل، ولم يترك شيئاً ولم يكن هناك من تجب عليه نفقته يفترض على الناس أن يكفنوه إن قدروا عليه، وإن لم يقدروا عليه سألوا الناس. فرق بين الميت والحي، إذا لم يجد ثوباً يصلي فيه ليس على الناس أن يسألوا له ثوباً، والفرق: أن الحي يقدر على السؤال بنفسه، والميت لا. وفي «النوازل» أيضاً: رجل مات في مسجد قوم، فقام أحدهم وجمع الدراهم ليكفنه ففضل من ذلك شيء، إن عرف صاحب الفضل رده عليه، وإن لم يعرف كفن به محتاجاً آخر، وإن لم يقدر على صرفه إلى الكفن تصدق به على الفقراء. وفيه أيضاً: رجل كفن ميتاً من ماله، ثم وجد الكفن في يدي رجل كان له أن يأخذه؛ لأنه بقي على ملكه لم يملكه الميت، وإن كان وهبه للورثة، وكفنه الورثة فالورثة أحق بها. وكذلك لو افترس الميت سبع وبقي الكفن فهو على التفصيل الذي قلنا: إن كان وهبه للورثة فالورثة أحق به. وإذا نبش الميت وهو طري كفن ثانياً من جميع المال، فإن قسم المال فهو على الوارث دون الغرماء، وأصحاب الوصايا، وإن نبش بعدما تفسخ، وأخذ كفنه كفن في ثوب واحد. وإن لم تفضل التركة من الدين فإن لم يكن الغرماء قبضوا ديونهم بدىء بالكفن، وإن كانوا قبضوا ديونهم لا يسترد منهم شيء؛ لزوال ملك الميت. قال هشام في «نوادره» : سألت محمداً عن معتق مات ولا مال له، وترك خالته والذي أعتقه قال: كفنه على خالته. وفي «نوادر المعلى» : عن أبي يوسف رحمه الله: امرأة ماتت وتركت أباها وابنها، فالكفن عليهما على قدر مواريثهما، وكذلك البنت والأخ. والله تعالى أعلم. نوع آخرمن هذا الفصل في حمل الجنازة قال محمد رحمه الله «الجامع الصغير» : وتضع مقدم الجنازة على يمينك، ثم مؤخرها على يمينك ثم مقدمها على يسارك، ثم مؤخرها على يسارك هذا هو السنّة عند كثرة الحاملين، إذا تناوبوا في الحمل يبتدىء الحامل من اليمين المقدم للميت، وهو يمين الحامل أيضاً، وعند الشافعي رحمه الله السنّة أن يحملها اثنان يدخلان بين عمودي الجنازة يضع السابق منهما مقدمها على أصل عنقه، وكاهله، ويأخذ قائميها بيده، والآخر منهما يضع مؤخرها على أصل صدره، ويأخذ قائميها بيده.

وروى الشافعي بإسناده أن جنازة سعد بن معاذ حملت هكذا؛ ولأن الحمل على هذا الوجه أشق على البدن، وحمل الجنازة عبادة وما كان أشق على البدن من العبادات فهو أولى. ولنا ما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من السنّة أن تحمل الجنازة من جوانبها الأربع وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يدور على الجنازة من جوانبها الأربع؛ ولأن عمل الناس اشتهر بهذه السنّة من غير نكير منكر وإنه حجة؛ ولأن المسارعة في حملها، والحمل بأربعة يكون أبلغ في المسارعة، وفيه تخفيف على الحاملين، وصيانة للميت عن السقوط، وتعظيم للميت بأن يحمله جماعة من المؤمنين على أعناقهم. وإنما حملت جنازة سعد بن معاذ كما رواه الشافعي إما لازدحام الملائكة فقد روي (119ب1) أن النبي عليه السلام «كان يمشي على رؤوس أصابعه وصدور قدميه لكثرتهم» ، أو لضيق الطريق؛ أو لأن الحامل هناك رسول الله عليه السلام، والميت هناك بمأمن من السقوط؛ لأنه كان لكل نبي قوة أربعين رجلاً، وكان لنبينا قوة أربعين نبياً. قال محمد رحمه الله: ورأيت أبا حنيفة رحمه الله فعل هكذا، وذلك دليل تواضعه، وذكر الحسن بن زياد رحمه الله في «المجرد» : ويكره أن يقوم الرجل بين عمودي له بجنازة من مقدمه أو مؤخره. ويسرع بالجنازة وذلك ما دون الخبب لما روي أن النبي عليه السلام سئل عن المشي بالجنازة فقال: «ما دون الخبب فإن يك خيراً عجلتموه إليه وإن يك شراً وضعتموه عن رقابكم» أو قال: فبعداً لأهل النار» . والمشي خلف الجنازة أفضل، وإن مشى أمامه كان واسعاً، وقال الشافعي رحمه الله: المشي أمامها أفضل لما روي أن أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما كانا يمشيان أمام الجنازة، ولأن الناس شفعاء الميت والشفيع يقدم على من يشفع له. ولنا ما روي أن النبي عليه السلام كان يمشي خلف جنازة سعد بن معاذ، وعلي رضي الله عنه كان يمشي خلف الجنازة فقيل له: إن أبا بكر، وعمر كانا يمشيان أمامهما فقال: رحمهما الله قد عرفا أن المشي خلفها أفضل ولكنهما أرادوا أن ييسرا الأمر على الناس. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: فضل المشي خلف الجنازة على المشي أمامها كفضل المكتوبة على النافلة. وما يقول من المشي باطل؛ لأن الشفيع إنما يتقدم من يشفع له تحرزاً عن تعجيل من عنه الشفاعة بعقوبة من يشفع له حتى يمنعه من ذلك، وذلك لا يتحقق هنا. ويكره أن يتقدم الكل عليها، وإن كان كلهم خلفها، فلا بأس؛ لأنه ربما يحتاج إلى التعاون في حملها، فإذا كانوا يمشون خلفها تمكنوا من التعاون عند الحاجة، فلم يكن به

بأساً، وإن كانوا أمامها لم يتمكنوا من التعاون عند الحاجة فكره لهذا. قال الحاكم الصدر الشهيد رحمه الله في «المنتقى» : وجدت في بعض الروايات أن أبا حنيفة رحمه الله قال: لا بأس بالمشي أمام الجنازة وخلفها ويمنة ويسرة، وكره أبو يوسف أن يتقدمها منقطعاً عن القوم، فإذا كنت في جماعة من الناس فلا بأس بالمشي أمام الجنازة وخلفها ويمنة ويسرة.g ولا بأس بالقعود إذا وضعت الجنازة، ويكره قبله؛ لأن قبل الوضع ربما تقع الحاجة إلى التعاون، فإذا كانوا قياماً كان أمكن للتعاون، وبعد الوضع وقع الاستغناء عن ذلك، لأن الناس إنما حضروا إكراماً للميت، والجلوس قبل أن يوضع عن المناكب يشبه الازدراء والاستخفاف به، وبعد الوضع لا يؤدي إلى ذلك، ولا بأس بالركوب في الجنازة والمشي أفضل هكذا ذكر القدوري؛ لأنه يسير للصلاة فيجوز راكباً وماشياً، والمشي أفضل كما في سائر الصلوات، وهذا لأن المشي أقرب إلى الخشوع، وأليق بحال الشفيع. وفي «نوادر المعلى» : عن أبي يوسف رحمه الله قال: رأيت أبا حنيفة يتقدم أمام الجنازة وهو راكب، ثم يقف حتى تأتيه، فهذا دليل على أنه لا بأس بالركوب في الجنازة، قيل: هذا إذا بعد عن الجنازة، أما إذا قرب منها يكره؛ لأن السبيل في اتباع الجنازة أن يكون بطريق التذلل لا بطريق التكبر، فعلى قول هذا القائل يحمل فعل أبي حنيفة رحمه الله على أنه كان بعيداً عن الجنازة، وفي المسألة دليل عليه، فإن أبا يوسف رحمه الله قال: ثم يقف حتى تأتيه. ويكره النوح والصياح في الجنازة ومنزل الميت لما روي أن النبي عليه السلام «ينهى عن الصوتين الأجمعين الفاجرين صوت الصائحة والمغنية» . فأما البكاء من غير رفع الصوت لا بأس به وسيأتي هذا الفصل بتمامه في كتاب الكراهية والاستحسان إن شاء الله تعالى. ولا تتبع الجنازة بنار يعني الإجمار. قال في «الكتاب» : أكره أن يكون آخر زاده في الدنيا نار تتبع به، وروي «أن النبي عليه السلام خرج في جنازة فرأى امرأة في يدها مجمر فصاح عليها وطردها» . ويكره أن يحمل الصبي على الدابة لأن حمله على الدابة؛ يشبه حمل الأثقال، وفي الحمل بالأيدي إكرام الميت، والصغار من بني آدم يكرمون كالكبار، وعنى أبو حنيفة في الفطيم والرضيع لا بأس بأن يحمل في طبق يتداولونه، ولا بأس بأن يحمله راكب؛ على دابة، يريد به أن الحامل له راكب لأن الحمل من الجوانب الأربع إنما تيسيراً على الحاملة، وصيانة للميت عن السقوط، وفي حمل الصبي الرضيع لا يحتاج إليه فيحمله واحد.

والرواية الأولى محمولة على ما إذا وضع على الدابة كوضع الأمتعة، ولا يصلى على صبي وهو على الدابة أو على أيدي الرجال حتى يوضع؛ لأن الميت بمنزلة الإمام، ولا يصلح أن يكون الإمام محمولاً، والقوم على الأرض، ولا ينبغي أن يرجع من تبع جنازة حتى يصلي عليه. نوع آخرمن هذا الفصل في الصلاة على الجنازة هذا النوع ينقسم أقساماً. الأول: في نفس الصلاة وصفتها، فنقول: الصلاة على الميت مشروعة بالكتاب والسنّة وإجماع الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَصَلّ عَلَيْهِمْ} (التوبة: 103) والسنّة تأتي في خلال المسائل إن شاء الله تعالى، والأمة أجمعت عليها. ومن صفتها أنها فرض كفاية. إذا قام بها البعض سقط عن الباقين، أما كونها فرضاً فلأن الله تعالى أمر بها لقوله: {وَصَلّ عَلَيْهِمْ} والأمر للوجوب، وقال عليه السلام: «صلوا على كل بر وفاجر» والأمر للوجوب، وأما كونها فرض كفاية؛ لأنها تقام حقاً للميت فإذا قام بها البعض صار حقه مؤداً فيسقط عن الباقين كالتكفين والغسل. القسم الثاني: في كيفية الصلاة على الميت فنقول: يتقدم الإمام، ويصطف الناس خلفه كما في سائر الصلوات؛ ولأن التوارث هكذا من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : يقوم الإمام عند الصلاة بحذاء الصدر من الرجل ومن المرأة هذا هو جواب ظاهر الرواية، وهذا لأن الواجب استقبال الميت، واستقبال حملته غير ممكن، فوجب استقبال الصدر؛ لأن الصدر موضع القلب، والقلب موضع الحكمة والعلم، ولأنه موضع نور الإيمان قال الله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَمِ} (الزمر: 22) ... عليه، فكان الوقوف بحذاء الصدر الذي هو موضع نور الإيمان أولى. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يقوم بحذاء الوسط من الرجل ومن المرأة. إلا أن الميت إذا كان امرأة فليكن إلى رأسها أقرب، وإنما قال: يقوم بحذاء الوسط لما روي عن النبي عليه السلام «أنه كان يقوم على جنازة المرأة والرجل بحذاء الوسط» ، وعن سمرة بن جندب أن رسول الله عليه السلام «صلى على امرأة، ماتت في نفاسها فقام وسطها» ، وإنما قال: إذا كان الميت امرأة، فليكن إلى رأسها أقرب ليكون

أبعد عن عورتها فإن عورتها أشد، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: يقوم من المرأة بحذاء الوسط، ويقوم من الرجل مما يلي الرأس هكذا روي عن أنس رضي الله عنه موقوفاً عليه ومرفوعاً إلى رسول الله عليه السلام. والمعنى: أن الرأس معدن العقل فكان القيام عنده أولى، إلا أن في حق المرأة شرطنا القيام إلى وسطها؛ ليصير الإمام حائلاً بينها وبين عورتها الغليظة، فلا يقع بصر القوم عليها. وإن قام في غير ذلك المكان جاز؛ لأن ترك السنّة يؤثر في الإساءة لا في منع الجواز. ويكبر فيها أربع تكبيرات، وكان ابن أبي ليلى يقول: خمس تكبيرات، وهو رواية عن أبي يوسف، والآثار اختلفت في نقل رسول الله عليه السلام، فروي الخمس والسبع والتسع وأكثر من ذلك، إلا أن آخر فعله كان أربع تكبيرات، وكان ناسخاً لما قبله. بيانه فيما روي أن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة حين اختلفوا في عدد التكبيرات، وقال لهم: إنكم اختلفتم فمن يأتي بعدكم أشد اختلافاً، فانظروا إلى آخر صلاة صلاها رسول الله عليه السلام (120أ1) على جنازة فخذوا بذلك، فوجدوه صلى على امرأة، وكبر فيها أربعاً فاتفقوا على ذلك. وقال عليه السلام: «لا تنسوا أربع كأربع الجنائز» وروي عن علي رضي الله عنه أنه كبر أربع تكبيرات، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كبر أربعاً أيضاً؛ ولأن كل تكبيرة منها قائمة مقام ركعة، ثم الصلاة المعهودة لا تزيد على أربع ركعات، فكذا التكبير في هذه الصلاة لا يزيد على أربع تكبيرات؛ ولأن ابن أبي ليلى رحمه الله قال: التكبيرة الأولى الافتتاح، فينبغي أن يكون بعدها أربع تكبيرات كل تكبيرة قائمة مقام ركعة كما في الظهر، والعصر، والجواب أن التكبيرة الأولى وإن كانت للافتتاح، ولكن بهذا لا يخرج من أن يكون تكبيراً. ثم قال: يكبر الأولى. ويحمد الله تعالى بعد التكبيرة الأولى، ويثني عليه، ولم يوقت في الثناء ههنا شيئاً، وفي سائر الصلوات وقتوا في الثناء وهو قوله: سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره، قال شمس الأئمة رحمه الله: وقد اختلفوا في هذا الثناء بعد التحريم. قال بعضهم: يحمد الله تعالى بكل ذكر في ظاهر الرواية، وقال بعضهم: يقول سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره كما في الصلوات المعهودة. ثم يكبر الثانية، ويصلي على النبي عليه السلام؛ لأن الثناء على الله تعالى يعقبه الصلاة على النبي عليه السلام. ثم يكبر الثالثة ويستغفر للميت ويتشفع له؛ لأن الثناء على الله تعالى والصلاة على النبي عليه السلام يعقبه الدعاء والاستغفار، والمقصود بالصلاة على الجنازة الاستغفار للميت والشفاعة له، والدليل عليه ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «إذا أراد

أحدكم أن يدعو فليحمد الله تعالى وليصل على النبي عليه السلام ثم يدعو» ، قد روي «أن النبي عليه السلام رأى رجلاً فعل هكذا بعد الفراغ من الصلاة فقال عليه السلام: «ادع فقد استجيب لك» . ويذكر الدعاء المعروف: «اللهم اغفر لحينا وميتنا» إن كان يحسن ذلك، وإن كان لا يحسن ذلك يذكر ما يدعو به في التشهد «اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات» إلى آخره، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أن من صلى على صبي يقول: اللهم اجعله لنا فرطاً، اللهم اجعله لنا ذخراً، اللهم اجعله لنا شافعاً مشفعاً، ولا يستغفر له؛ لأنه لا ذنب له. ثم يكبر الرابعة ويسلم تسليمتين؛ لأنه جاء أوان التحلل وذلك بالسلام، ثم في ظاهر المذهب ليس بعد التكبيرة الرابعة دعاء سوى السلام، وقد اختار بعض مشايخنا ما يختم به سائر الصلوات «اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة» إلى آخره، قال شمس الأئمة رحمه الله: وهو مخير بين السكوت والدعاء لما بينا، وقال بعضهم: يقرأ «ربنا لا تزغ قلوبنا» إلى آخره، وقال بعضهم: يقرأ «سبحان ربك رب العزة عما يصفون» إلى آخره. وإن زاد الإمام على أربع تكبيرات فالمقتدي هل يتابع الإمام في الزيادة أو لا يتابع؟ فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يتابع، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يتابع؛ لأنه لم يظهر خطأ الإمام بيقين فإنه روي أن علياً رضي الله عنه كبر خمساً، وهكذا روي عن رسول الله عليه السلام. والصحيح مذهبهما: أنه لا يتابع؛ لأن ما زاد على الأربع صار منسوخاً بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولا متابعة في المنسوخ. وإذا لم يتابع الإمام في الزيادة فماذا يصنع؟ قالوا: يسلم أو ينتظر حتى يتابع الإمام في السلام. وذكر في «النوازل» : أن عن أبي حنيفة فيه روايتان: في رواية يسلم للحال، ولا ينتظر تحقيقاً للمخالفة، وفي رواية يسكت حتى سلم معه إذا يسلم ليصير متابعاً فيما وجب فيه المتابعة وفي «روضة المقتدي» : إنما لا يتابع الإمام في التكبير الزائد على الرابع إذا كان يسمع التكبير من الإمام، أما إذا كان يسمع من المنادي يتابعه كما في تكبيرات العيد على ما مر. ولا يقرؤون في صلاة الجنازة عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: لا بد من قراءة فاتحة الكتاب، يكبرون تكبيرة ويأتون بالثناء، ثم يقرؤون فاتحة الكتاب، حجته حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن النبي عليه السلام كبر على ميت أربعاً وقرأ فاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى» ، وقال عليه السلام: «لا صلاة إلا بفاتحة

الكتاب» وهذه صلاة، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه صلى على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب وجهر بها، وقال: «إنما جهرت لتعلموا أنها سنّة» ؛ ولأنها صلاة مشروعة، فلا تجوز بدون القراءة قياساً على سائر الصلوات. ولنا ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن صلاة الجنازة هل فيها قراءة؟ فقال: لم يوقت لنا رسول الله عليه السلام فيها قولاً ولا قراءة كبر ما كبر الإمام واختر من أطيب الكلام ما شئت، وما روي من الأحاديث يدل على الجواز لا على الوجوب، ونحن نقول بالجواز، فقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في صلاته أنه لو قرأ الفاتحة بدلاً عن الثناء لا بأس به، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: «إنما جهرت لتعلموا أنها سنّة» لم يقل أنها واجبة، كيف وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه وفضالة بن عبيد، وابن عمر رضي الله عنهم: ترك القراءة في صلاة الجنازة فيصير معارضاً لقول ابن عباس رضي الله عنهما يدل عليه أن القراءة لو شرعت لشرعت مكررة عقيب كل تكبيرة، فإن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة، وعنده القراءة فرض في الركعات كلها، وعندنا في الركعتين. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : من قرأ في صلاة الجنازة بفاتحة الكتاب، إن قرأ بنية الدعاء فلا بأس به، وإن قرأ بنية القراءة لا يجوز أن يقرأ؛ لأن صلاة الجنازة محل الدعاء، وليست محل القراءة. ويرفع يديه في تكبيرة الافتتاح في صلاة الجنازة، ولا يرفع في سائر التكبيرات: قال الشافعي: يرفع، وبقوله أخذ كثير من أئمة بلخ رحمهم الله، حجتهم أن هذه التكبيرات يؤتى بها في حالة القيام، فتكون من سنّة الرفع كتكبيرة الافتتاح، وتكبيرات العيدين، ولأن رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح وتكبيرات العيد للحاجة إلى إعلام من خلفه من أصم أو أعمى، وهذا المعنى يقتضي رفع اليدين هنا. حجة علمائنا رحمهم الله قوله عليه السلام: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن» وليس منها صلاة الجنازة، ولأن بين كل تكبيرتين ذكر مقدر فلا حاجة للإعلام، ونظير هذا ما ذكر الحسن بن زياد رحمه الله في كتاب صلاته لا ترفع صوته بالتسليم في صلاة الحنازة كما يرفع في سائر الصلوة؛ لأن رفع الصوت مشروع للإعلام ولا حاجة إلى الإعلام إذ التسليم عقيب التكبيرة الرابعة بلا فصل، ولأن كل تكبيرة قائمة مقام كل ركعة كذا ها هنا. ومما يتصل بهذا الفصل إذا اجتمعت الجنائز فالإمام بالخيار إن شاء صلى على كل جنازة صلاة على حدة،

وإن شاء صلى عليهم صلاة واحدة، ويجزىء عن الكل لما روي في شهداء أُحد أن رسول الله عليه السلام صلى على كل عشرة صلاة واحدة، ولأن الدعاء والشفاعة تحصل بصلاة واحدة. قال في «الكتاب» : فإن أراد أن يصلي عليها صلاة واحدة إن شاؤوا وضعوا الجنائز صفاً طولاً، وإن شاؤوا وضعوا واحداً بعد واحد مما يلي القبلة. والأصل فيه ما روي عن عثمان بن عبد الله بن صهيب أنه قال: صليت مع أبي هريرة رضي الله عنه ما لا أحصي صلاة الجنازة، فكان يضع مرة صفوفاً ومرة صفاً واحداً، ولم يجعل أحدهما أفضل في ظاهر الرواية، وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: إن وضعوا واحداً بعد الآخر كان أحسن حتى يصير الإمام قائماً بإزاء الكل، فإنه ليس البعض بأولى من البعض في أن يقوم الإمام بحذاءه، وهكذا وردت السنّة في شهداء أُحد، ولكن يجعل الرجال مما يلي الإمام، والصبيان بعده، والنساء مما يلي القبلة هكذا روي عن علي، وابن مسعود، وابن عمر رضوان الله عليهم أجمعين، ولأنه لو صلى بهم حالة الحياة فالرجل يلي الإمام والصبي يلي الرجل والمرأة (120ب1) تلي، الصبي فبعد الوفاة يصلي الإمام عليهم هكذا أيضاً. وإن كان حراً ومملوكاً فكيف ما وضعت أجزأك؛ لأنهما لا يختلفان في المقام حالة الحياة، فكذا بعد الوفاة، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يضع أفضلهما مما يلي الإمام وأسنهما. وإن كان صبياً حراً ومملوكاً لم يذكر هذا الفصل في «الأصل» ، وذكر في «المجرد» أنه يقدم الصبي الحر على العبد وهذا على رواية أبي حنيفة رحمه الله، أما على ما هو ظاهر الرواية في الرجل الحر والمملوك كيف ما يوضع جاز. وإن كان عبداً وامرأة، فالعبد مما يلي الإمام والمرأة خلفه، وإن كان جنازة خنثى وامرأة ورجل يوضع الرجل مما يلي الإمام وخلفه مما يلي القبلة خنثى وخلف الخنثى المرأة والله أعلم. وقال أبو يوسف رحمه الله: الأحسن عندي أن يكون أهل الفضل مما يلي الإمام لقوله عليه السلام: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهي» . وإذا انتهى إلى الإمام في صلاة الجنازة وقد سبقه بتكبيرة لا يكبر، ولكنه ينتظر تكبيرة الإمام حتى يكبر، فيكبر معه فإذا سلم الإمام قضى هذا الرجل ما فاته قبل أن ترفع الجنازة، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله، وعند أبي يوسف لا ينتظر تكبيرة الإمام بل يكبر ويدخل مع الإمام. وتفسير هذه المسألة على قول أبي حنيفة، ومحمد إذا جاء الرجل وقد كبر الإمام

تكبيرة الافتتاح، فإن هذا الرجل لا يكبر تكبيرة الافتتاح، ولكن ينتظر حتى يكبر الإمام التكبيرة الثانية، فيكبر معه التكبيرة الثانية، وتكون هذه التكبيرة تكبيرة الافتتاح في حق هذا الرجل، ويصير هذا الرجل مسبوقاً بتكبيرة يأتي بها بعد ما يسلم الإمام. وتفسير المسألة على قول أبي يوسف: هذا الرجل حين حضر يكبر تكبيرة الافتتاح، فإذا كبر الإمام الثانية تابعه فيها، ولم يصر مسبوقاً بشيء، حجة أبي يوسف رحمه الله قوله عليه السلام: «اتبع إمامك» في أي حال أدركته وقاسه بسائر الصلوات، فإن المسبوق في سائر الصلوات يكبر حين يحضر كذا هنا. والدليل عليه أنه لو كان حاضراً مع الإمام فكبر الإمام ولم يكبر المقتدي يكبر ولا ينتظر فكذلك هنا، ومذهبهما مروي عن ابن عباس رضي الله عنها؛ فإنه قال في حق الذي انتهى إلى الإمام في صلاة الجنازة وقد سبقه الإمام بتكبيرة أنه ينتظر الإمام حتى يكبر معه، ولم ينكر عليه غيره فيكون إجماعاً؛ ولأن كل تكبيرة من تكبيرات صلاة الجنازة قامت مقام ركعة حتى لو ترك تكبيرة منهما لا تجزئه الصلاة كما لو ترك ركعة من ذوات الأربع. فلو كبر قبل تكبير الإمام يصير متقدماً على الإمام بركعة، وهذا لا يجوز، وبه فارق سائر الصلوات؛ لأن هناك لو كبر لا يصير متقدماً على الإمام بركعة فيجوز، فإذا سلم الإمام يكبر المسبوق عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله تكبيرة صار مسبوقاً بها قبل أن ترفع الجنازة. وعند أبي يوسف رحمه الله يسلم مع الإمام؛ لأنه لم يصر مسبوقاً بشيء. وإن كان مسبوقاً بتكبيرتين يأتي بهما بعد سلام الإمام عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأنه حين جاء لا يكبر تكبيرة الافتتاح ما لم يكبر الإمام الثالثة، فإذا كبر تابعه هذا الرجل، وصارت الثالثة، في حق هذا الرجل تكبيرة الافتتاح. وصار مسبوقاً بتكبيرتين يأتي بهما بعد سلام الإمام قبل أن ترفع الجنازة. وعند أبي يوسف رحمه الله يأتي بتكبيرة واحدة؛ لأنه قد أتى بتكبيرة الافتتاح حين انتهى إلى الإمام وبتكبيرتين مع الإمام، فإذا أتى بتكبيرة أخرى بعده تم أربعاً. وإن كان مسبوقاً بثلاث يكبر ثلاث تكبيرات بعد سلام الإمام عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأنه أتى بتكبيرة واحدة مع الإمام، وهي التكبيرة الرابعة للإمام وتكبيرة الافتتاح لهذا الرجل، وبقي عليه ثلاث تكبيرات، فيأتي بها بعد سلام الإمام. وهل يأتي بالأذكار المشروعة؟ وإن كان لا يأمن رفع الجنازة يتابع بين التكبيرات ولا يأتي بالأذكار بين التكبيرتين، ذكر الحسن رحمه الله في «المجرد» : أنه إن كان يأمن رفع الجنازة فإنه يأتي بالأذكار المشروعة. وذكر المسألة في «النوازل» : مطلقة من غير تفصيل. فقال: من فاته بعض التكبيرات على الجنازة يقضيها متتابعة بلا دعاء ما دامت الجنازة على الأرض؛ لأنه لو قضى مع الدعاء يرفع الميت فيفوته التكبير.

والحاصل: أنه ما دامت الجنازة على الأرض، فالمسبوق يأتي بالتكبيرات وإذا وضع الجنازة على الأكتاف لا يأتي بالتكبيرات، وإذا رفعت بالأيدي ولم توضع على الأكتاف ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يأتي بالتكبيرات. وعن محمد أنه إن كانت الأيدي إلى الأرض أقرب، فكأنها على الأرض فيكبر، وإن كانت إلى الأكتاف أقرب، فكأنها على الأكتاف فلا يكبر، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: المسبوق بثلاث تكبيرات يكبر بعد سلام الإمام تكبيرتين؛ لأنه أتى بتكبيرة حين انتهى إلى الإمام، وبتكبيرة مع الإمام، فبقي عليه تكبيرتان فيأتي بهما بعد سلام الإمام، وإن كان مسبوقاً بأربع تكبيرات لا يصير مدركاً لصلاة الجنازة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن عندهما لا يكبر إلا مع الإمام، وإذا سلم الإمام فقد فاتته الصلاة، فلا يصير مدركاً لها، وعند أبي يوسف رحمه الله: يصير مدركاً للصلاة يكبر تكبيرة، ويشرع في الصلاة، فإذا سلم الإمام يكبر ثلاث تكبيرات ثم يسلم. وفي «المنتقى» : إذا كان الرجل حاضراً مع الإمام وقت الشروع في صلاة الجنازة فكبر الإمام ولم يكبر هو مع الإمام فإنه يكبر التكبيرة الأولى، ولا ينتظر التكبيرة الثانية، وقد ذكرنا هذا في حجة أبي يوسف في المسألة المتقدمة، فإن لم يكبر حتى كبر الإمام الثانية، فكبر الثانية عنها ولم يكبر الأولى حتى يسلم الإمام، فإن كبر الأولى مع الإمام ولم يكبر الثانية، والثالثة مع الإمام، فإنه يكبرهما اتباعاً، ثم يكبر مع الإمام ما بقي، وإن لم يكبر هو مع الإمام حتى كبر الإمام أربعاً كبر هو قبل أن يسلم الإمام، ثم يكبر ثلاثاً قبل أن ترفع الجنازة، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله في هذه الصورة أنه فاتته صلاة الجنازة، وقد ذكرنا أنه إذا كان مسبوقاً بأربع تكبيرات، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا يصير مدركاً للصلاة، وعلى قول أبي يوسف: يصير مدركاً؛ لأن عنده كما حضر يكبر. وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في هذه الصورة نظير قول أبي يوسف رحمه الله، وقال: حين حضر المقتدي يكبر تكبيرة الافتتاح عند محمد كما هو قول أبي يوسف، وقال: حين حضر المقتدي يكبر تكبيرة، وفرق لمحمد بينما إذا أدرك الإمام بعد التكبيرة الرابعة وبينما إذا أدركها بعد التكبيرة الثالثة. والفرق: أن بعدما كبر الإمام التكبيرة الثالثة لو انتظر المقتدي تكبيرة الإمام لا تفوته الصلاة؛ لأنه يكبر مع التكبيرة الرابعة، أما بعدما كبر الإمام الرابعة لا يمكنه انتظار الإمام؛ لأنه لم يبق عليه شيء، فلو لم يكبر حين حضر تفوته الصلاة، فلهذا افترقا.h إذا كبر على جنازة تكبيرة، ثم أتي بجنازة أخرى، فوضعت، يتم الصلاة على الأولى، ويفرد الثانية بالصلاة؛ لأنه لو جمع بينهما لا يخلو إما أن يقتصر على ما بقي من التكبيرات، فيصير مكبراً على الثانية ثلاث تكبيرات، وصلاة الجنازة لم تشرع بثلاث تكبيرات، وإما أن يزيد تكبيرة أخرى، فيصير مكبراً على الأولى خمس تكبيرات بتحريمة واحدة، وذاك أيضاً غير مشروع بإجماع الصحابة.

فإن نوى أن يصلي على الجنازة الثانية بهذه التحريمة لا يخلو إما أن ينوي الصلاة عليها جميعاً، وفي هذا الوجه تتم الصلاة على الأولى، ويستقبل الصلاة على الثانية؛ لأنه لم يخرج عن الأولى متى نوى البقاء عليها، وإذا لم يخرج عن الأولى لا يصير شارعاً في الثانية، وكذلك إذا لم ينوِ شيئاً، أو نوى الثانية، ولم يكبر لها، وفي هذين الوجهين أيضاً يتم الصلاة على الأولى، ويستقبل الصلاة على الثانية. أما إذا لم ينو شيئاً فظاهر، وأما إذا نوى الثانية ولكن ما يكبر لها؛ فلأن بمجرد النية لا يصير خارجاً من الأولى (121أ1) شارعاً في الثانية ما لم يقرنه بالعمل. وإن نوى الصلاة على الثانية لا غير، وكبر لها يتم الصلاة على الثانية، ويستقبل الصلاة على الأولى؛ لأنه لما نوى الصلاة على الثانية لا غير، وكبر لها صار شارعاً فيها، ومن ضرورة كونه شارعاً فيها أن لا يبقى داخلاً في الأولى. كذا قال محمد رحمه الله في «نوادر الصلاة» . القسم الثالث في بيان من يصلى عليه، ومن لا يصلى عليه فنقول: لا يصلى على الكافر لقوله تعالى: {وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَسِقُونَ} (التوبة: 84) ، وروي أنه لما مات أبو طالب جاء علي رضي الله عنه إلى رسول الله عليه السلام وقال: إن عمك الضال قد مات فقال عليه السلام: «اغسله وكفنه وادفنه وما تحدث به حدثاً حتى تلقاني» ، أي: لا تصلِ عليه؛ ولأن الصلاة على الميت دعاء واستغفار له، والاستغفار للكافر حرام قال الله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ} (التوبة: 80) ، وصلي على كل مسلم مات بعد الولادة لما تلونا من الكتاب، لا البغاة وقطاع الطريق، فإنه لا يصلى عليهم. وقال الشافعي: يصلى عليهم؛ لأنهم مسلمون، وقال عليه السلام: «صلوا على كل بر وفاجر» . ولنا: أن الصلاة دعاء واستنزال الرحمة، ونص القرآن يشهد لقطاع الطريق بالخزي قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَآء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاْرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاْرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 33) وحلول الخزي به ينافي الدعاء له، وكذلك البغاة؛ لأنهم يسعون في الأرض بالفساد وقطاع الطريق. وروي عن علي رضي الله عنه أنه لم يصلِ على قتلى نهروان وغيرهم من البغاة.

وكذلك الذي يقتل غيلة بالخنق هكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: وكذلك كل من يقتل على متاع يأخذه، والمكابرون في المصر بالسلاح؛ لأنهم يسعون في الأرض بالفساد، فكان حكمهم كحكم قطاع الطريق. ذكر الحاكم في «المنتقى» : من قتل مظلوماً لم يغسل ويصلى عليه، ومن قتل ظالماً غسل، ولا يصلى عليه، وأراد بالمقتول ظلماً المقتول من أهل العدل قتل بسيف أهل البغي، وأراد بالمقتول ظالماً المقتول من أهل البغي قتل بسيف أهل العدل، وإنما لا يصلي على الباغي إذا قتلوا في الحرب، فأما إذا قتلوا بعدما وضع الحرب أوزارها يصلى عليه. وكذلك قاطع الطريق إنما لا يصلى عليه إذا قتل في حالة الحرب، فأما إذا أخذهم الإمام، ثم قتلهم صلى عليهم. وإذا مات المولود في حال ولادته، وإن كان خرج أكثره صلى عليه، وإن كان أقل لم يصلِ عليه؛ لأن للأكثر حكم الجميع، فإذا مات بعدما خرج أكثره فكأنه مات بعد الولادة، وإذا مات بعدما خرج الأقل منه، فكأنه مات في البطن. ومن قتل نفسه خطأً بأن نازل رجلاً من العدو ليضربه، فأخطأه وأصاب نفسه ومات، فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وهذا بلا خلاف. وأما من يعمد قتل نفسه بحديدة، هل يصلى عليه؟ اختلف فيه المشايخ بعضهم قالوا: لا يصلى عليه، وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة أبو محمد عبد العزيز بن أحمد الحلواني رحمه الله يقول: الأصح عندي أنه يصلى عليه، وتقبل توبته إن كان تاب في ذلك الوقت لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} (النساء: 48) وكان القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله يقول: الأصح عندي أنه لا يصلى عليه، لا؛ لأنه لا توبة له، ولكن لأنه باغي على نفسه، والباغي لا يصلى عليه. والذي صلبه الإمام هل يصلى عليه؟ فعن أبي حنيفة رحمه الله فيه روايتان. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في صبي سبي ويسبى معه أبويه أو أحدها فمات، لا يصلى عليه إلا إذا كان أقر بالإسلام، وهو يعقل الإسلام، وإن لم يسب معه أحدهما فمات يصلى عليه. يجب أن يعلم أن الولد الصغير يعتبر تبعاً للأبوين أو لأحدهما في الدين، فإن انعدما يعتبر تبعاً لصاحب اليد، فإن عدمت اليد يعتبر تبعاً للدار؛ لأنه يقدر اعتباره أصلاً في الدين، فلا بد من اعتباره تبعاً نظيراً له، غير أن علة التبعية في الأبوين أقوى فتعتبر أولاً تبعاً لهما أو لأحدهما، وعند انعدامهما عليه التبعية في حق صاحب اليد أقوى. إذا ثبت هذا فنقول: إذا كان مع الصبي أبواه أو أحدهما يعتبر تابعاً لهما لا للدار، فيجعل كافراً تبعاً لهما، والأصل في ذلك قوله عليه السلام: «كل ولد يولد على الفطرة إلا أن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه حتى يعرب عنه لسانه إما شاكراً وإما

كفوراً» قوله عليه السلام: «كل ولد يولد على الفطرة» يحتمل أنه أراد به على الخلقة التي خلق الله تعالى قبل الولادة، فإن بعض اليهود كانوا يقولون: إن الولد قبل الولادة يكون على خلاف ما يكون بعد الولادة، فأبطل ذلك بهذا. أو يحتمل أنه أراد به على الدين الذي دان يوم الميثاق، فإن الله تعالى خاطب ذرية آدم صلوات الله عليه بعدما أخرجهم من صلبه كالذر، وأعطاهم العقول بعضهم بيض وبعضهم سود، فقال لهم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَفِلِينَ} (الأعراف: 172) ، فقالوا كلهم: بلى، إلا أن البيض قالوا: عن اعتقاد، والسود قالوا عن خوف. فالذين قالوا عن اعتقاد يموتون مسلمين، والذين قالوا عن غير اعتقاد يموتون كافرين، فيحتمل أن مراد النبي عليه السلام من هذا الكلام ذاك أي يولد كل مولود على ما دانه يوم الميثاق، وهذا مذهب أهل السنّة والجماعة. وقوله: يهودانه أو ينصرانه معناه يستتبعانه في الدين، وقوله: إما شاكراً معناه مسلماً، وقوله: إما كفوراً معناه كافراً. وأما إذا لم يسب معه أحد أبوية صلي عليه إذا مات، ويعتبر مسلماً تبعاً للدار عند انعدام تبعية الأبوين. والصبي إذا وقع في يد المسلم من الجند في دار الحرب وحده، ومات هناك صلي عليه، واعتبر مسلماً تبعاً لصاحب اليد عند انعدام تبعية الأبوين، ويستوي الجواب فيما قلنا إذا كان الصبي عاقلاً، أو غير عاقل؛ لأنه قبل البلوغ تابع للأبوين في الدين ما لم يصف الإسلام. وقوله في المسألة الأولى: إذا سبي معه أبوان لم يصلِ عليه حتى يقر بالإسلام، وهو يعقل، فهذا يدل على أن الصبي إذا أسلم وهو يعقل إنه يصير مسلماً، وهذا مذهبنا، والمسألة معروفة في «السير» . وقوله: يعقل الإسلام يعني: يعقل صفة الإسلام، وهذا يدل على أن من قال: لا إله إلا الله لا يكون مسلماً حتى يعلم صفة الإيمان، وكذلك إذا اشترى جارية واستوصفها صفة الإسلام، فلم تعلم فإنها، لا تكون مؤمنة، وصفة الإسلام ما ذكر في حديث جبريل صلوات الله عليه: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر، والبعث بعد الموت، والقدر خيره وشره من الله تعالى. ومما يتصل بهذه المسألة أن أولاد المسلمين إذا ماتوا حال صغرهم قبل أن يعقلوا يكونون في الجنة، فإن فيهم أحاديث كثيرة أكثرها من المشاهير، وبالأحاديث تبين أنهم قالوا: بلى يوم أخذ

الميثاق عن اعتقاد، وقد رووا عن أبي يوسف رحمه الله التوقف فيهم، وهو مردود على الراوي، فإن محمداً روى عن أبي حنيفة رحمه الله في كتابه «آثار أبي حنيفة» رحمه الله: أن الذين يصلون في جنازة أولاد المسلمين وهم صغار يقولون في التكبيرة الثالثة: اللهم اجعله لنا فرطاً، اللهم اجعله لنا ذخراً، اللهم اجعله لنا شافعاً مشفعاً، وهذا أيضاً منه رحمه الله بإسلامهم. وأما أولاد الكفار إذا ماتوا قبل أن يعقلوا اختلف فيه أهل السنّة والجماعة، روي عن محمد رحمه الله أنه قال: إني أعرف أن الله تعالى لا يعذب أحداً من غير ذنب، وبعضهم قالوا: يكونون في الجنة خداماً للمسلمين، وبعضهم قالوا: إن كان قال: بلى يوم الميثاق عن اعتقاد يكونون من أهل الجنة، وإن كان قال: من غير اعتقاد يكونون في النار. وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه: توقف فيهم وكل أمرهم إلى الله تعالى، والله أعلم. القسم الرابع في بيان من هو أولى بالصلاة على الميت ذكر محمد رحمه الله في كتاب الصلاة: أن إمام الحي أولى بالصلاة، وذكر الحسن في كتاب صلاته عن أبي حنيفة أن الإمام الأعظم، وهو الخليفة أولى إن حضر، فإن لم يحضر فإمام المصر أولى (121ب1) فإن لم يحضر فالقاضي أولى، فإن لم يحضر فصاحب الشرطة أولى، فإن لم يحضر فخليفة الوالي أولى، فإن لم يحضر فخليفة القاضي، فإن لم يحضر فإمام الحي، فإن لم يحضر فالأقرب من ذوي قرابة، وبهذه الرواية أخذ كثير من مشايخنا رحمهم الله. ومن المشايخ من قال: لا اختلاف بين الروايتين، فما ذكر في كتاب الصلاة محمول على ما إذا لم يحضر الإمام الأعظم، ولا واحد ممن ذكر في رواية الحسن، أما لو حضر الإمام الأعظم، فهو أولى بالصلاة باتفاق الروايات؛ لأن في التقدم على السلطان ازدراء له، ونحن أمرنا بتوقيره، فإن لم يحضر الإمام الأعظم، فأمير المصر أولى؛ لأنه في معنى الإمام الأعظم من حيث أنا أمرنا بتوقيره، وبعده القاضي أولى لما ذكرنا في أمير المصر، وبعده صاحب الشرطة، وبعده خليفة الوالي، وبعده القاضي، وبعد هؤلاء الإمام الحي أولى؛ لأنه هو صلى بالميت حال حياته، فيكون هو أولى بالصلاة عليه. وإنما ذكر محمد رحمه الله إمام الحي أولاً في كتاب الصلاة؛ لأن السلطان لا يوجد في كل موضع، قال الكرخي في كتابه: وتقديم إمام الحي ليس بواجب ولكنه أفضل، فأما تقديم السلطان فواجب؛ لأن في ترك تقديم السلطان ازدراء به، وفي ذلك إفساد أمور المسلمين فيجب تقديمه. فأما ليس في ترك تقديم إمام الحي إفساد أمور المسلمين، ولكنه برضى الميت حال حياته، وهذا المعنى يقتضي تفضيله على غيره، أما لا يوجب تقديمه، ثم بعد إمام الحي فولي الميت أولى، وهذا كله قول أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله.

وقال أبو يوسف والشافعي رحمهما الله: ولي الميت أولى بالصلاة على الميت على كل حال، حجة أبي يوسف والشافعي قول الله تعالى: {النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوجُهُ أُمَّهَتُهُمْ وَأُوْلُو الاْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَبِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَبِ مَسْطُوراً} (الأحزاب: 6) من غير فصل، ولأن هذا حكم تعلق بالولاية، فيكون الولي مقدماً على السلطان ومن سميناهم قياساً على النكاح؛ ولأن المقصود من صلاة الجنازة الدعاء للميت والشفاعة، ودعاء القريب أرجى في الإجابة؛ لأنه أشفق على الميت، فيوجد منه زيادة تضرع في الدعاء والاستغفار لا يوجد ذلك من السلطان، فيكون هو أولى. حجة أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله: أنه لما مات الحسن بن علي رضي الله عنهما خرج الحسين والناس لصلاة الجنازة، فقدم الحسين سعيد بن العاص، وكان سعيد والياً بالمدينة يومئذٍ، فأبى سعيد أن يتقدم فقال له الحسين: تقدم ولولا السنّة ما قدمتك، ولأن هذه صلاة تقام لجماعة فيكون السلطان أولى بإقامتها قياساً على سائر الصلوات. فإن اجتمع للميت قريبان هما في القرب إليه على السواء بأن كان له أخوان لأب وأم أو لأب، فأكبرهم سناً أولى، لأن النبي عليه السلام أمر بتقديم الأسن، فإن أراد الأكبر أن يقدم إنساناً ليس له ذلك إلا برضا الآخر؛ لأن الحق لهما استوائهما في القرابة لكنا قدمنا الأسن للسنّة، ولا سنّة في تقديم من قدمه، فيبقى الحق لهما كما كان، وإن كان أحدهما لأب وأم، والآخر لأب، فالذي لأب وأم أولى، وإن كان أصغر، وإن قدم الأخ لأب وأم غيره، فليس للأخ لأب أن يمنعه عن ذلك؛ لأنه لا حق للأخ لأب أصلاً. وإن اجتمع للميت ابن وأب، ذكر في «كتاب الصلاة» أن الأب أولى، من مشايخنا من قال: ما ذكر في كتاب الصلاة قول محمد رحمه الله، فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله الابن أولى، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله الولاية لهما إلا أنه يقدم الأب احتراماً له، ورد هذا القائل هذه المسألة إلى مسألة النكاح. ومسألة النكاح على هذا الخلاف، فإنه إذا اجتمع للمجنونة أب وابن، فالابن أولى عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند محمد الأب أولى، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله الولاية لهما إلا أنه يقدم الأب احتراماً له. ومنهم من قال: لا بل ما ذكر في صلاة الجنازة أن الأب أولى قول الكل؛ لأن للأب زيادة فضيلة وسن ليس للابن، وللفضيلة أثر في استحقاق الإمامة فيرجح الأب بذلك بخلاف النكاح؛ لأنه لا أثر للفضيلة هناك في إثبات الولاية، فلا يثبت الترجيح به، ونص هشام في «نوادره» عن محمد عن أبي حنيفة أن الأب أولى من الابن. وإذا اجتمع للميت أب وأخ، فالأب أولى بالإجماع، قال القدوري: وسائر القرابات أولى من الزوج، وكذا مولى العتاقة وابنه، وهذا مذهبنا. وقال الشافعي رحمه الله: الزوج أولى حجته في ذلك ما روي أنه لما ماتت امرأة ابن عباس رضي الله عنهما صلى عليها، وقال: أنا أحق بها.

وعلماؤنا رحمهم الله احتجوا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه لما ماتت امرأته قال لأوليائها: كنا أحق بها حين كانت حية، فإذا ماتت فأنتم أحق بها، ولأن السبب فيما بين الزوجين الزوجية، وإنها تنقطع بالموت، والسبب فيما بين الأقارب القرابة، وإنها لا تنقطع بالموت. وحديث ابن عباس رضي الله عنهما محمول على أنه كان إمام حي فصلى عليها لكونه إمام حي لا لكونه زوجاً. وإن كان للمرأة التي ماتت زوج وابن منه كره للابن أن يتقدم أباه؛ لأن في تقديمه على الأب ازدراء واستخفاف بالأب، فينبغي أن يقدم الأب، ولا يتقدم عليه. قال أبو يوسف رحمه الله: وله في حكم الولاية أن يقدم غير أبيه؛ لأن الابن هو الولي إلا أنه منع عن التقدم على أبيه لما ذكرنا من المعنى، وذلك المعنى لا يوجب انقطاع ولايته. وإن تركت أباً وزوجاً وابناً من هذا الزوج لم يكن الابن أن يقدم أباً إلا برضى الجد؛ لأن الابن ممنوع عن التقدم على الجد لكونه بمنزلة الأب، فيكون ممنوعاً عن تقديم غيره على الجد من طريق الأولى. وإن تركت زوجاً وابناً من زوج آخر، فلا بأس للابن أن يتقدم على هذا الزوج، ويقدم من شاء، لأنه هو الولي، ولم يوجد ما يمنع التقدم، والتقديم على هذا الزوج، وهو الازدراء بأبيه. ومولى الموالاة أحق من الأجنبي؛ لأنه ملحق بالقريب، ولهذا كان أحق من الأجنبي؛ لأنه ملحق بالقريب، ولهذا كان أحق بميراثه عند عدم القريب. وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا كان الأقرب غائباً المكان تفوت الصلاة بحضوره فالأبعد أولى، فإن قدم الغائب غيره بكتاب كان للأبعد منعه، وحد الغيبة ههنا أن لا يقدر على القدوم فيدرك الصلاة، ولا يقدرون على تأخيرها لقدومه، والمريض بمنزلة الصحيح يقدم من شاء، وليس للأبعد منعه؛ لأن ولايته لم تسقط، ولهذا لو حضر مع المرض كان له أن يتقدم، ومتى كانت الولاية باقية كان له حق التقدم. وإن قدم الأخوان من الأب والأم كل واحد منهما رجلاً، فالذي قدمه الأكبر أولى لأنهما؛ رضيا بسقوط حقهما، وأكبرهما سناً أولى بالصلاة عليه، فيكون أولى بالتقديم. ولا حق للنساء ولا للصغار في التقديم؛ لأن حق التقديم ينبني على ولاية التقدم، وليس للنساء والصغار ولاية التقدم فلا يكون لهم حق التقديم. عبد مات فاختصم في الصلاة عليه المولى وأب العبد أو ابنه، وهما حران فالمولى أحق بالصلاة عليه. وكذلك المكاتب إذا مات عن غير وفاء، ولو ترك وفاء، وأديت كتابته أو لم تؤد إلا أن المال حاضر لا يخاف عليه التلف، فالابن أولى، وكذا الأب، ولكن يكره أن يتقدم جده وهو أبو المكاتب، وإن كان المال غائباً فالمولى أحق بالصلاة.

نوع آخرمن هذا الفصل في القبر والدفن وإذا انتهي بالميت إلى القبر فلا يضر وتر دخله أم شفع؛ لأن المقصود وضع الميت في القبر، فإنما يدخل قبره بقدر ما يحصل به الكفاية الشفع والوتر فيه سواء. وقد صح: أنه دخل في قبر رسول الله عليه السلام أربعة علي، والعباس وابنه فضل، واختلفوا في الرابع ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن الرابع صالح مولى عتاقة رسول الله عليه السلام، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله: أن الرابع صهيب، وذكر شمس الأئمة الرخسي رحمه الله: أن الرابع المغيرة بن شعبة أو أبو رافع. ويقول واضعه في القبر: بسم الله وعلى ملة رسول الله معناه: بسم الله وضعناك، وعلى ملة رسول الله سلمناك. روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله عليه السلام كان إذا وضع ميتاً في القبر يقول (122أ1) : «بسم الله وعلى ملة رسول الله» ، وهكذا روي عن علي رضي الله عنه. ويلحد للميت ولا يشق له، وهذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: يشق ولا يلحد، حجة الشافعي توارث أهل المدينة، فإنهم توارثوا الشق دون اللحد، وعلماؤنا احتجوا بقوله عليه السلام: «اللحد لنا والشق لغيرنا» ولأن الشق فعل أهل اليهود والتشبه بهم مكروه فيما مسته يد ولا حجة له في توارث أهل المدينة؛ لأنهم إنما توارثوا ذلك لضعف أراضيهم بالبقيع، ولأجل هذا المعنى اختاروا الشق في ديارنا، فإن في أراضي ديارنا ضعف أو رخاوة فينهار اللحد فاختاروا الشق لهذا. وصفة اللحد: أن يحفر القبر بتمامه ثم يحفر في جانب القبلة منه حفيرة فيوضع فيه الميت، ويجعل ذلك كالبيت المسقف. وصفة الشق: أن يحفر حفيرة في وسط القبر ويوضع فيه الميت. ويدخل الميت من قبل القبلة في القبر، وفي «بعض الكتب» : ويستقبل به القبلة عند إدخاله في القبر يعني توضع الجنازة فوق اللحد من قبل القبلة. وقال الشافعي رحمه الله: يسل سلاً، قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: صورة السل أن توضع الجنازة في مؤخر القبر حتى يكون رأس الميت بإزاء موضع قدميه من القبر، ثم يدخل الرجل الآخذ القبر، فيأخذ برأس الميت، ويدخله القبر أولاً، ويسل كذلك. وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: صورة السل أن توضع الجنازة في مقدم

القبر حتى تكون رجلا الميت بإزاء موضع رأسه من القبر، ثم يدخل الرجل الآخذ القبر، فيأخذ برجلي الميت ويدخلهما القبر أولاً ويسل كذلك. حجتنا في ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي عليه السلام أدخل في القبر من قبل القبلة، وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: يدخل الميت قبره من قبل القبلة، ولأنه إذا أخذ من قبل القبلة كان وجوه الآخذين إلى القبلة، وإذا سل سلاً لا تكون وجوه الآخذين إلى القبلة، وأشرف حال الإنسان إذا كان قائماً أو نائماً أو قاعداً أن يكون وجهه إلى القبلة.h ويوضع في القبر على شقه الأيمن موجهاً إلى القبلة قال عليه السلام: «يا علي استقبل به القبلة استقبالاً وضعوه لجنبه ولا تكبوه لوجهه ولا تلقوه على ظهره» . قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ويسجى قبر المرأة بثوب حتى يفرغ من اللحد؛ لأنها عورة من قرنها إلى قدمها، فربما يبدو شيء من أثر عورتها فيسجى القبر. ألا ترى أن المرأة خصت بالنعش على جنازتها، وقد صح أن قبر فاطمة سجى بثوب ونعش على جنازتها ولم يكن النعش في جنازة النساء حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها، فأوصت قبل موتها أن تستر جنازتها، فاتخذوا لها نعشاً من جريد النخل، فبقي سنّة هكذا في جميع النساء، وإذا وضعت في اللحد استغني عن التسجية. وإن كان رجلاً لا يسجى قبره عندنا، وعند الشافعي رحمه الله: يسجى لما روي أن النبي عليه السلام لما دخل قبر سعد بن معاذ وأسامة بن زيد معه سجى قبره، ولأصحابنا رحمهم الله ما روي عن علي رضي الله عنه أنه مر بميت وقد سجي قبره فنزعه، وقال: إنه رجل، وأوصى شريح أن لا يسجى قبره؛ ولأن مبنى حال الرجل على الانكشاف، فلا يسجى قبره إلا لضرورة وهي ضرورة دفع الحر أو الثلج أو المطر عن الداخلين في القبر. وتأويل قبر سعد بن معاذ أنه إنما يسجى قبره؛ لأن الكفن كان لا يعم بدنه، فيسجى قبره حتى لا يقع الاطلاع على شيء من أعضائه. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ويكره الآجر على اللحد، ويستحب القصب واللبن، قال في «الأصل» : اللبن والقصب بدل المذكور في «الجامع الصغير» : على أنه لا بأس بالجمع بينهما، وقد جاء في الحديث أنه وضع على قبر رسول الله عليه السلام حزمة من قصب، ورأى رسول الله عليه السلام فرجة من قبر فأخذ مدرة وناوله الحفار وقال: «سد بها تلك الفرجة، فإن الله تعالى يحب من كل صانع أن يحكم صنعته» ، والمدرة قطعة من اللبن فدل أنه لا بأس باستعمال اللبن. وحكي عن الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنه قال: هذا في قصب لم يعمل فأما القصب المعمول وبالفارسية بورياء بافته أزنى فقد اختلف المشايخ فيه

قال بعضهم: لا يكره؛ لأنه قصب كله، وقال بعضهم: يكره لأنه لم ترد السنّة بالمعمول. وأما الحصير المتخذ من البردي فإلقاؤه في القبر مكروه؛ لأنه لم ترد السنّة به. وكثير من الصحابة أوصوا بأن يرمسوا في التراب رمساً من غير شق ولا لحد، وقالوا: ليس جنبنا الأيسر بأولى من الأيمن في التراب، وكانوا يرمسون في التراب رمساً ويهال عليهم التراب إلا أن الوجه يوقى من التراب بلبنتين أو ثلاث، وكراهة الآجر مذهبنا وقال الشافعي: لا بأس به لما روي أن دانيال النبي عليه السلام وجد في تابوت من صخرة. ولنا: ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه نهى عن تجصيص القبور وتقصيصها، والتجصيص هو العمل بالجص، والتقصيص هو العمل بالآجر؛ لأن القص هو الآجر، وعن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال: كانوا يستحبون اللبن والقصب ويكرهون الآجر، وقوله: كانوا كناية عن الصحابة والتابعين، ولأن الآجر إنما يستعمل في الأبنية للزينة والإحكام، والقبر موضع البلى. بعض مشايخنا قالوا: إنما يكره الآجر إذا أريد به الزينة أما إذا أريد به دفع أذى السباع أو شيء آخر لا يكره. قال مشايخ بخارى: لا يكره الآجر في بلدتنا لمساس الحاجة إليه لضعف الأراضي، حتى قال بعضهم: بأن في هذه البلدة لو جعل تابوتاً من حديد لا يكره لكن ينبغي أن يضع مما يلي الميت اللبن. وكذلك التابوت من الخشب. كره بعضهم على ظاهر الرواية وقال: بأن هذا في معنى الآجر؛ لأن كل واحد منها لإحكام النازل، ولا حاجة إلى الإحكام. وبعضهم فرق بينهما وقال: كراهة الآجر من حيث إنه مسته النار فلا انتقال به، وهذ المعنى معدوم في حق الخشب، ولكن هذا الفرق ليس بصحيح، ومساس النار في الآجر لا يصلح علة للكراهة، فإن السنّة أن يغسل الميت بالماء الحار، وقد مسته النار. قال: ويسنم القبر مرتفعاً من الأرض مقدار شبر أو أكثر قليلاً ولا يزاد عليه من تراب غير القبر، ولا يربع. وقال الشافعي: يربع ويسطح ولا يسنم، والمسنم هو السفط الذي هو على رسمنا، واحتج بما روى المزني بإسناده له لما توفي إبراهيم بن رسول الله عليه السلام جعل رسول الله عليه السلام قبره مسطحاً؛ ولأنه مسكن مشروع بعد الوفاة فيعتبر بالمسكن حال الحياة، المسكن حال الحياة يكون مسطحاً مربعاً فكذا المسكن بعد الوفاة. وعلمائنا احتجوا بحديث سعيد بن جبير وعروة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن جبريل عليه السلام صلى بالملائكة عليهم السلام على آدم عليه السلام وسنم قبره. وعن إبراهيم النخعي رضي الله عنه أنه قال: أخبرني من رأى قبر النبي عليه السلام وقبر أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما قبل أن يدار الحائط ناشزة مرتفعة مسنمة، وروي أنه لما مات عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بالطائف صلى عليه محمد بن الحنفية، وكبر

عليه أربعاً، وجعل له لحداً، وأدخله القبر من قبل القبلة، وجعل قبره مسنماً، وضرب عليه فسطاطاً. ولأن تربيع القبر تشبه بصنيع أهل الكتاب، والتشبيه بصنيعهم فيما لنا مستند مكروه؛ ولأن التربيع في الأبنية للإحكام، ونختار في القبور ما هو أبعد عن الإحكام. وتأويل حديث (122ب1) إبراهيم بن رسول الله سطح قبره أولاً ثم سنم. وإن خيف ذهاب أثره فلا بأس برش الماء عليه بلا خلاف، وإنما الخلاف فيما إذا لم يخف ذهاب أثره، ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يكره، وعن أبي يوسف أنه يكره. وإن خيف مع ذلك، فلا بأس بحجر توضع أو آجر، فالظاهر لا يكره على الظاهر، وقد وضع رسول الله عليه السلام على قبر أبي دجانة حجراً وقال: هذا لأعرف به قبر أخي. وفي «كتاب الآثار» عن محمد: لا أرى أن يزاد في تراب القبر على ما خرج، ولا أرى برش الماء عليه بأساً، ولا يجصص ولا يطين، روي عن أبي حنيفة رحمه الله، وهكذا ذكر الكرخي في «مختصره» . وفي «طهارات النوازل» : أنه لا بأس به، وعن أبي يوسف أنه كره أن يكتب عليه كتاباً وكره أبو حنيفة رحمه الله البناء في القبر وأن يعلم بعلامة. قالوا: وأراد بالبناء السقط الذي يجعل على القبور في ديارنا، وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله في رواية أخرى النهي عن السقط. ويكره أن يوضأ على القبر يعني بالرجل أو يقعد عليه أو يقضي عليه حاجة، ويكره أن يصلي عنده، وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: لا ينبغي أن يصلي على ميت بين القبور، وإن صلوا أجزأهم. قال القدوري: وذوي الرحم المحرم أحق بإدخال المرأة القبر من غيره، وفي «نوادر» إبراهيم عن محمد رحمهما الله: الأخوال أحق بدخول القبر من بني الأعمام يريد به دخول قبر المرأة، وبنو الأعمام أحق من الزوج ومن أخ الرضاعة. ولا يدفن الرجلان أو أكثر في قبر واحد، وعند الضرورة لا بأس به، ويقدم في اللحد أفضلهما، وجعل بينهما حاجز من الصعيد، فقد صح أن رسول الله عليه السلام أمر في شهداء أحد بأن يدفن الاثنين والثلاثة منهم في قبر واحد، وكانت الحالة حالة الضرورة. فالأنصار يومئذٍ أصابهم قروح وجهد شديد فشكوا إلى رسول الله عليه السلام، وقالوا: الحفر علينا لكل إنسان شديد، فقال عليه السلام: «أعمقوا وأوسعوا وادفنوا الاثنين والثلاثة، فقالوا: من نقدم، فقال عليه السلام: قدموا أكثرهم قرآناً» . وإن احتاجوا إلى دفن المرأة والرجل في قبر واحد قدم الرجل في اللحد، وفي الجنازة تقدم المرأة على الرجل ليكون الرجل إلى الرجل أقرب، والمرأة عنه أبعد. ثم في قوله عليه السلام: «أعمقوا» دليل على أن السنّة في القبر أن يعمق؛ لأن هذا أمر بالتعميق.

والمعنى: أن فيه صيانة الميت عن الضياع. وفي بعض «النوادر» عن محمد رحمه الله أنه قال: ينبغي أن يكون مقدار العمق إلى صدر رجل وسط القامة، قال: وكل ما ازداد فهو أفضل. وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: يعمق القبر صدر رجل، وإن عمقوا مقدار قامة الرجل فهو أحسن. والله أعلم، وبه ختم. نوع آخر في الكافر يموت وله ولي مسلم قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : كافر مات وله ولي مسلم قال: يغسله ويتبعه ويدفنه. وقال في «الأصل» : كافر مات وله ابن مسلم فما ذكر في «الأصل» خاص، وما ذكر في «الجامع الصغير» : عام فإن اسم الولي يتناول كل قريب، وهذا؛ لأن الغسل سنّة الموتى من بني آدم على سبيل العموم على ما مر لكن الغسل في حق المسلم يكون تطهيراً، وفي حق الكافر لا يكون تطهيراً. والولد المسلم مندوب إلى بر والده، وإن كان مشركاً قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (العنكبوت: 8) والمراد به الوالد المشرك بدليل قوله تعالى: {وَإِن جَهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (لقمان: 15) الآية، ومن الإحسان والبر في حقه القيام بغسله ودفنه بعد موته، ولما مات أبو طالب قال عليه السلام لعلي: اذهب واغسله وكفنه، وواره ولا تحدث به حدثاً حتى تلقاني أي لا تصل عليه. وفي «السير الكبير» : سأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما: أن أمي ماتت نصرانية فقال: اتبع جنازتها واغسلها وكفنها، ولا تصلي عليها وادفنها، وإن الحارث بن أبي ربيعة ماتت نصرانية فتتبع جنازتها في نفر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وقد صح أن رسول الله عليه السلام خرج في جنازة عمه أبو طالب، وكان يمشي ناحية منها. والحاصل: أنه إذا كان خلف جنازة الكافرين من قومه من يتبع الجنازة لا ينبغي لقريبه المسلم أن يتبع الجنازة حتى لا يكون مستكثراً سواد الكفرة، ولكن يمشي ناحية منها. وإن لم يكن خلف الجنازة من قومه الكافرين يتبعها، فلا بأس للمسلم أن يتبعها، وهذا التفصيل منقول عن محمد رحمه الله. ولا يغسل الكافر كما يغسل المسلم يريد به أنه لا يراعى في حقه سنّة الغسل من البدائة بالميامن وغير ذلك، ولكن يصب الماء عليه على الوجه الذي تغسل النجاسات، وكذلك لا يراعى في حقه سنّة الكفن، ولكن يلف في ثوب، وكذلك لا يراعى في حقه، شبه اللحد في حقه ولكن تحفر له حفيرة، ولا يوضع فيه بل يلقى، وهذا؛ لأن مراعاة السنّة في هذه الأشياء بحق المسلم.

وكذلك كل ذي رحم محرم منه مثل الأخ والأخت والعم والعمة والخال والخالة، وكل قرابة؛ لأنه من باب التكريم، وصلة الرحم وهو من محامد الدين. وإنما يقوم المسلم بغسل قريبه الكافر وتكفينه ودفنه إذا لم يكن هناك من يقوم به من المشركين، فإن كان هناك أحد من قرابته على ملته، فإن المسلم لا يتولى بنفسه بل يفوض إلى أقربائه المشركين ليصنعوا به ما يصنعون بموتاهم. ولم يبين في «الكتاب» : أن الابن المسلم إذا مات، وله أب كافر هل يمكن أبوه الكافر من القيام بغسله وتجهيزه وينبغي أن لا يمكن من ذلك، بل فعله المسلمون. ألا ترى أن اليهودي لما آمن برسول الله عليه السلام عند موته قال عليه السلام لأصحابه: «لوا أخاكم» ولم يخل بينه وبين والده اليهودي. قال: ويكره أن يدخل الكافر في قبر قرابته من المسلمين ليدفنه؛ لأن الموضع الذي فيه الكافر تنزل فيه اللعن والسخط، والمسلم يحتاج إلى نزول الرحمة في كل ساعة فينزه قبره من ذلك. وهذا الفصل يصير رواية في الفصل الأول. وبه ختم. نوع آخرمن هذا الفصل في الخطأ الذي يقع في هذا الباب إذا دفن قبل الصلاة عليه صلي عليه في القبر ما لم يعلم أنه تفرق أجزاؤه، لا يخرج عن القبر. أما لا يخرج عن القبر؛ لأنه قد سلم إلى الله تعالى، وخرج عن أيدي الناس، جاء في الحديث عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «القبر أول منزل من منازل الآخرة» وأما الصلاة عليه في القبر فلا يرد رسول الله عليه السلام فعلاً، ولكن إنما يصلي عليه ما لم يعلم أنه تفرق أجزاؤه؛ لأن المشروع الصلاة على الميت لا على أجزائه المتفرقة قالوا: وما ذكر أنه لا يخرج من القبر، فذلك فيما إذا وضع اللبن على اللحد أو وضع ولكن لم يهل التراب عليه يخرج ويصلى عليه؛ لأن التسليم لم يتم بعد. قال الحاكم الشهيد في «الأمالي» : عن أبي يوسف رحمه الله: أنه يصلى على الميت في القبر إلى ثلاثة أيام، والصحيح: أن هذا ليس بتقدير لازم؛ لأنه يختلف تفرق الأجزاء لاختلاف الأوقات في الحر والبرد وباختلاف الأمكنة، وباختلاف حال الميت في السن والهزال. فأما المعتبر فيه أكثر الرأي، إن كان في أكبر رأيهم أنه تفرق أجزاء هذ الميت المعين قبل ثلاثة أيام لا يصلون عليه إلى ثلاثة، وإن كان في أكبر رأيهم أنه لم تتفرق أجزاؤه بعد ثلاثة أيام يصلون عليه بعد ثلاثة أيام. فإن قيل: كيف يصلى عليه في القبر وإنه غائب عن أعين الناس بالتراب؟ قلنا: نعم، ولكن هذا لا يمنع جواز الصلاة، ألا ترى أن قبل الدفن كان غائباً بالكفن ولم يمنع ذلك جواز الصلاة.

وإذا صلي على الميت قبل الغسل، فإنه يغسل ثم تعاد الصلاة عليه بعد الغسل، وكذلك لو غسلوه وبقي عضو من أعضائه أو ... ، وإن كان قد لف في كفنه وقد بقي عضو لم يصبه الماء (123أ1) يخرج من الكفن فيغسل ذلك العضو، وإن كان الباقي شيء يسير كالأصبع ونحوه، فكذلك الجواب عند محمد رحمه الله؛ لأن الأصبع في حكم العضو بدليل اغتسال الحي. وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يخرج من الكفن؛ لأنه لا يتيقن بعدم وصول الماء إليه، فلعل وصل إليه الماء لكن أسرع إليه الجفاف لقلته، ذكر الخلاف على هذا الوجه في «نوادر أبي سليمان» . وإن دفنوه ثم تذكروا أنهم لم يغسلوه، فإن لم يهل التراب عليه يخرج ويغسل ويصلى عليه، وإن أهالوا التراب عليه لم يخرج، وهل يصلى عليه ثانياً في القبر؟ ذكر الكرخي رحمه الله في «مختصره» : يصلى عليه، وفي «النوادر» عن محمد: القياس أن لا يصلى عليه؛ لأن طهارة الميت شرط جواز الصلاة عليه ولم توجد. وفي الاستحسان يصلى عليه؛ لأن تلك الصلاة لم يعتد بها لترك الطهارة مع الإمكان، والآن زال الإمكان، وسقط فرضية الغسل، فيصلى عليه في قبره. أو نقول: صلاة الجنازة صلاة من وجه ودعاء من وجه، ولو كانت صلاة من وجه لا تجوز بدون طهارة أصلاً، ولو كانت دعاء من وجه تجوز بدون الطهارة، فإذا كانت بينهما. قلنا: أنه تشترط الطهارة حالة القدرة، ولا تشترط حالة العجز. وإن سقط شيء من متاع القوم في القبر، فلا بأس بأن يحفروا التراب في ذلك الموضع، ويخرج المتاع من غير أن ينبشوا الميت، وإن لم يمكنهم ذلك إلا بحفر الكل، ونبش الميت فعلوا ذلك كذا ذكر في «الأصل» ؛ لأن في إبقاء المتاع في البيت القبر إضاعة المال، ونهى رسول الله عليه السلام عن إضاعة المال. وإذا وضع الميت في اللحد لغير القبلة أو على يساره قد عرف ذلك، فإن كان بعد إهالة التراب لا ينبش عنه قبره وإن كان قبل إهالة التراب وقد شرحوا اللبن نزع اللبن ويوضع كما ينبغي. وإذا صلوا على جنازة والإمام على غير طهارة فعليهم إعادة الصلاة؛ لأن صلاة الإمام لم تجز لعدم الطهارة، فلا تجوز صلاة القوم لأن صلاتهم بناءً على صلاة الإمام، وإذا لم تجز صلاتهم، فهذا ميت لم يصل عليه، فيعيدوا الصلاة. وإن كان الإمام طاهراً، والقوم على غير طهارة لم يكن عليهم إعادتها؛ لأن عدم طهارة القوم لا يوجب فساد صلاة الإمام، وإذا جازت صلاة الإمام، فقد سقط الفرض بصلاة الإمام وحده، فلا يكون للباقين حق الإعادة؛ لأنه يكون تنفلاً بصلاة الجنازة، والتنفل بصلاة الجنازة غير مشروع. وإذا ظهر أن الموضع الذي دفن فيه الميت مغصوب، أو أخذ بالشفعة، فإنه يخرج الميت عنه، ويدفن في موضع آخر.

وفي كراهية «فتاوى أهل سمرقند» : حامل أتى على حملها تسعة أشهر فماتت وقد كان الولد يتحرك في بطنها، فلم يشق بطنها، ودفنت، ثم رؤيت في المنام أنها تقول: ولدت لا ينبش القبر؛ لأن الظاهر أنها لو ولدت كان الولد ميتاً. والله أعلم. نوع آخرمن هذا الفصل في المتفرقات بيان صفوف النساء في صلاة الجنازة: ويصف النساء في خلف الرجال في الصلاة على الجنازة لقوله عليه السلام: «خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها» ؛ ولأنها صلاة تؤدى بجماعة، فتعتبر بالصلاة المعهودة، وفي الصلاة المعهودة تقوم النساء خلف الرجال، فكذا في صلاة الجنازة. فإن وقعت امرأة بجنب رجل فيها لم تفسد عليه صلاته. وفرق بين هذا وبين الصلاة المعهودة فإنها إذا قامت بحذاء الرجل في الصلاة المعهودة، وقد نوى الإمام إمامتها، فإنه تفسد صلاة الرجل، وفي صلاة الجنازة لم تفسد صلاة الرجل. والفرق: وهو أن في الصلاة المعهودة القياس أن لا تفسد صلاة الرجل بمحاذاة المرأة كما قال الشافعي رحمه الله إلا أنا تركنا القياس بالنص، والنص ورد في صلاة مطلقة، وهذه ليست بصلاة مطلقة، ولهذا لا قراءة فيها، ولا ركوع ولا سجود بخلاف الصلاة المعهودة. والذي يعتمد عليه ما أشار شمس الأئمة في «شرحه» : وهو أن العلماء اختلفوا في محاذاتها في المكتوبات هل هي مفسدة أم لا؟ منهم من رأى ومنهم من أبى، فاختلافهم في الصلاة اتفاق منهم في جواز الصلاة المقيدة، وهذا أصل محمد، وفي الشرع عليه مسائل كثيرة من ذلك. قال أبو حنيفة رحمه الله: في المس الفاحش ناقض للوضوء، ولأن العلماء اختلفوا في المس القليل أنه هل ينقض؟ منهم من رأى ومنهم من أبى فكان اختلافهم في المس القليل اتفاق منهم في المس الفاحش أنه ناقض للوضوء. ومن ذلك قال أبو حنيفة رحمه الله: المكاتب إذا ملك أخاه لا يصير مكاتباً، لأن العلماء اختلفوا في الحر إذا ملك أخاه هل يصير حراً أم لا؟ منهم من رأى ومنهم من أبى، فاختلافهم في الحر اتفاق منهم في المكاتب أنه لا يصير مكاتباً. قال شمس الأئمة رحمه الله، وهذه المسألة تصير رواية لمسألة أخرى لا ذكر لها في «المبسوط» ، وهو أنه يصح اقتداء المرأة بالإمام في صلاة الجنازة من غير أن ينوي الإمام

إمامتها بخلاف الصلاة المعهودة؛ لأن في الصلاة المعهودة إنما جعل نية إمامتها شرطاً؛ لأن محاذاتها تفسد الصلاة فيتحرز بترك النية عن محاذاتها. أما هنا ... من الفساد من قبل المحاذاة فلم تجعل النية شرطاً، إلا أن النساء يمنعن من شهود الجنائز. لأنه روي عن النبي عليه السلام أنه رأى نساء في جنازة فقال: «ارجعن مأزورات غير مأجورات» . ليس على من قهقه في صلاة الجنازة وضوء، وكذلك سجدة التلاوة، وهذا بناءً على الأصل الذي بينا: أن العلماء اختلفوا في انتقاض الطهارة بالقهقهة في الصلاة المكتوبة المعهودة، منهم من رأى ومنهم من أبى. فاختلافهم في الصلاة المطلقة اتفاق منهم في الصلاة المقيدة أنها لا تنقض الوضوء، ولكنها تفسد الصلاة؛ لأن القهقهة تشبه الكلام لأنه صوت خارج من مخرج الكلام، فكان شبه الكلام. الكلام على الحقيقة يشبه الصلاة، فكذا ما هو شبه الكلام. وإن صلاها قعوداً أو ركوباً أمرهم بالإعادة استحساناً، وفي القياس تجزئهم. وجه القياس: وهو أن صلاة الجنازة دعاء من وجه والقيام والقعود في الدعاء سواء، تقاس هذه بالاستسقاء، فالقيام والقعود في الاستسقاء سواء، وإن كانت السنّة هو القيام وكذلك السنّة في الخطبة القيام، ثم لو خطب قاعداً جاز فكذا هنا. ووجه الاستحسان: وهو أن صلاة الجنازة واجبة، فلا تتأدى على الدابة، وقاعداً مع القدرة على القيام قياساً على الوتر، وكان القياس في سجدة التلاوة أن لا تتأدى راكباً؛ لأنها واجبة إلا أنه جوز كيلا ينقطع السفر؛ لأن قراءة القرآن مما يكثر في السفر، فالنزول لسجدة التلاوة يؤدي إلى قطع السفر، فتتأدى على الدابة. أما الصلاة على الجنازة لا تكثر في السفر بل توجد في الأحايين، فالنزول لها لا يؤدي إلى قطع السفر، فلا تتأدى على الدابة. وإن كان ولي الميت مريضاً، فصلى قاعداً وصلى الناس خلفه قياماً أجزأهم في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: تجزىء الإمام، ولا تجزىء المأموم لما عرف من أصله أن اقتداء القائم بالقاعد لا يجوز، وعندهما يجوز وقد مر الكلام فيه.z وإذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار، إن أمكن تمييز المسلمين بالعلامة يميزون، وإن لم يمكن التمييز، وكانت الغلبة للمسلمين غسلوا ويصلى عليهم إلا من عرف بعينه أنه كافر. وهذا لأن العبرة للغالب والمغلوب ساقط الاعتبار بمقابلته. ألا ترى أنه لو وجد ميت في دار الإسلام يصلى عليه، وإن احتمل أن يكون كافراً؛ لأن الغلبة في دار الإسلام للمسلمين. ولو وجد ميت في دار الحرب لا يصلى عليه، وإن احتمل أن يكون مسلماً؛ لأن الغلبة في دار الحرب للكفار. فإذا كانت الغلبة للمسلمين جعل من حيث الحكم كأن الكل

مسلمون فيصلى عليهم، لكن ينوون بالدعاء المسلمين؛ لأنه لو أمكن التمييز حقيقة يجب التمييز حقيقة، فإذا تعذر (123ب1) التمييز حقيقة وأمكن التمييز بالنية، وإن كان الأكثر كفاراً لم يغسلوا، ولم يصل عليهم لما ذكرنا أن العبرة للغالب. فإن قيل: إنما تعتبر الغلبة وعدم الغلبة حالة الاختيار لا حالة الاضطرار، والحالة ههنا حالة الاضطرار، فإن الصلاة على الميت فرض. قلنا: كما أن الصلاة على الميت فرض، وترك الصلاة على الكافرين فرض، فإذا تعارض الدليلان اعتبرنا الغالب، وإن استويا لم يصل عليهم عندنا. وقال الشافعي رحمه الله: يصلى عليهم ترجيحاً للمسلمين على الكافرين، وإنا نقول: استوى جانب الصلاة وجانب الترك فترجح جانب الترك؛ لأن الصلاة على الكافر لا تجوز بحال، وترك الصلاة على المسلم جائز في الجملة، فإنه لا يصلى على الباغي عندنا، وعلى الشهيد عندك، فكان الميل ما يباح الحال أولى. بخلاف ما إذا كانت الغلبة للمسلمين، لأنه لما ترجح بحكم الكثرة فكأنه ليس فيهم كفار. ولم يبين في «الكتاب» : في فصل الاستواء في أي موضع يدفنون، وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يدفنون في مقابر المشركين، وبعضهم قالوا: يتخذ لهم مقبرة على حدة، وهو قول الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمة الله عليه. وهذا بناءً على اختلاف الصحابة في نصرانية تحت مسلم حبلت من المسلم، ثم ماتت اختلف الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في دفنها، فرجح بعضهم جانب الولد وقال: تدفن في مقابر المسلمين، ورجح بعضهم جانبها وقال: تدفن في مقابر المشركين، لأن الولد في حق هذا الحكم جزء منها ما دام في بطنها، وقال عقبة بن عامر: يتخذ لها مقبرة على حدة، فكذلك هنا يتخذ لهم مقبرة على حدة، لتكون بين مقبرة المسلمين وبين مقبرة الكفار. ولما أمكن اعتبار حالهم بين الحالتين وجب اعتباره بخلاف الصلاة؛ لأنه واسطة بين فعل الصلاة وبين تركها، فإذا تعذر فعل الصلاة وجب الترك. وإذا لم يجدوا ماء يغسل الميت فيمموه وصلوا عليه، ثم وجدوا ماء يغسل ويصلى عليه ثانياً في قول أبي يوسف، وعنه في رواية يغسل ولا تعاد الصلاة عليه بمنزلة جنب تيمم وصلى، ثم وجد ماء بعد ذلك. وإذا أخطؤوا بالرأس وقت الصلاة فجعلوه في موضع الرجلين وصلي عليه جازت الصلاة؛ لأنه وجد شرائط الجواز، وهو كون الميت أمام الإمام، إنما تركوا سنّة من سننها، وترك السنّة لا يوجب فساد الصلاة. فإن فعلوا ذلك عمداً جازت الصلاة؛ لأن مثل هذا لو وقع في المكتوبة جاز ففي صلاة الجنازة أجوز. قال شمس الأئمة، والحاكم الشهيد ذكر في «إشاراته» حرفاً فقال: إذا كان عندهم أنهم يصلون عليها إلى القبلة يعني يصلون بالتحري، ولكن جهلوا عن النية، فلما فرغوا ظهر أنهم صلوا عليها إلى غير القبلة أجزأتهم صلاتهم، وفي الصلاة المكتوبة لا تجزئهم صلاتهم إذا فعلوا مثل هذا.

وفرق بينهما فقال: في عدم صلاة الجنازة الأمر فيها واسع، فإنها لم تتمحض صلاة على ما ذكرنا أنها دعاء من وجه، فانحطت رتبتها ودرجتها عن رتبة المكتوبة ودرجتها، فأما عند مشايخنا فكلتاهما سواء، والجواب فيهما أنهما تجوزان، فإن تعمدوا ذلك فإنهم يستقبلون الصلاة عليها كما في المكتوبة؛ لأنها في وجوب استقبال القبلة كسائر الصلوات. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ولا بأس بالإذن في صلاة الجنازة هكذا وقع في بعض النسخ، ووقع في بعض النسخ ولا بأس بالأذان في صلاة الجماعة فإن كان الصحيح لا بأس بالإذن في صلاة الجنازة فمعناه أحد الشيئين إما إذن الولي غيره في الصلاة على الجنازة؛ لأن للولي حق الصلاة لما ذكرنا، فتكون له ولاية تحويل هذا الحق إلى غيره، وإما إذن أولياء الميت للمصلي لينصرفوا قبل الدفن؛ لأنه لا ينبغي لهم أن ينصرفوا قبل الدفن إلا بإذنهم. لما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «أميران وليسا بأميرين» ولي الميت قبل الدفن والمرأة تكون في الركب وفي رواية «صاحب الدابة القطوف» . وإن كانت الرواية لا بأس بالأذان في صلاة الجنازة فمعناه لا بأس بالإعلام قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي إعلام من الله ورسوله. والإعلام لا بأس به في صلاة الجنازة فإنه روي عن رسول الله عليه السلام أنه مر بقبر فقال: قبر من هذا فقيل: «قبر فلانة ماتت ليلاً فقال: آذنتموني فقال: خشينا عليك هوام الليل فقال عليه السلام: «إذا مات منكم ميت فآذنوني فإن صلاتي عليكم دعاء ورحمة» فدل أنه لا بأس بالإعلام في صلاة الجنازة، ولأن في الإعلام إعانة وحث على الطاعة فلا بأس به لهذا. وقد حكي عن بعض مشايخ بلخ رحمهم الله: أنه يكره النداء في الأسواق أن فلاناً مات؛ لأنه من أفعال الجاهلية، وبنحوه ذكر الكرخي رحمه الله: عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا ينبغي أن يؤذن بالجنازة إلا أهلها وجيرانها ومسجد حيها، وكثيراً من مشايخ بخارى رحمهم الله لم يروا به بأساً إذ ليس المقصود منه الترسم برسم أهل الجاهلية، وإنما المقصود به الإعلام حثاً على الطاعة ألا ترى أن النداء الخاص لا يكره وكذا لا يكره العام أيضاً. ولا يصلى على ميت إلا مرة واحدة، وقال الشافعي رحمه الله: يجوز لمن لم يصلِ أن يصلي عليه. حجته: أنه لما قبض رسول الله عليه السلام صلى على قبره الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فوجاً بعد فوج، ولأن الصلاة على الميت شرعت دعاءً واستغفاراً له،

والدعاء والاستغفار مشروع مرة بعد مرة. وعلماؤنا رحمهم الله: احتجوا بما روي أن رسول الله عليه السلام صلى على جنازة فلما فرغ جاء عمر رضي الله عنه، ومعه قوم، فأراد أن يصلي عليها فقال عليه السلام: «الصلاة على الجنازة لا تعاد، ولكن ادع للميت واستغفر له» ، وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه لما مات أخوه عاصم قال لابن عاصم: أرني قبر أبيك فأراه، فقام عليه ودعا ولم يصل عليه. والمعنى: أن صلاة الفريق الأول وقعت فرضاً أن صلاة الجنازة شرعت قضاء لحق الميت صار مقاماً بالفريق الأول، فسقط الفرض بصلاة الفريق الثاني فيكون نفلاً، والتنفل بصلاة الجنازة غير مشروع، ولو جاز ذلك لكان الأولى أن يصلي على قبر رسول الله عليه السلام من رزق زيارته الآن؛ لأنه في قبره كما وضع؛ لأن لحوم الأنبياء حرام على الأرض، به ورد الأثر عن رسول الله عليه السلام، ولم يستقبل أحد بهذا، فعلم أنه لا تعاد الصلاة على الميت. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إلا أن يكون الذي صلى أول مرة غير الولي حينئذٍ يكون للولي حق الإعادة؛ لأن حق التقدم للولي، وليس لغيره؛ ولأنه إسقاط حقه، وهو تأويل فعل الصحابة، فإن أبا بكر رضي الله عنه كان مشغولاً بتسوية الأمور وتسكين الفتنة، وكانوا يصلون عليه قبل حضوره، وكان الحق لأبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه كان هو الخليفة. فلما فرغ صلى عليه، ثم بعده لم يصلِ عليه أحد. وأما حديث النبي عليه السلام: كان هو الولي لمن مات بالمدينة، وغير الولي متى صلى على الميت كان للولي حق الإعادة. وتكره صلاة الجنازة عند طلوع الشمس واستوائها وغروبها لحديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أنه قال: «ثلاث ساعات نهانا رسول الله عليه السلام أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا» وذكر هذه الساعات، والمراد من ذلك صلاة الجنازة؛ لأن الدفن في هذه الأوقات غير مكروه وإن صلوها لم يكن عليهم إعادتها؛ لأن حق الميت يتأدى بما أدوا، فإن المؤدى في هذه الأوقات صلاة، وإن كان بها نقصان إلا أن السبب أوجبها كذلك؛ لأن سبب صلاة الجنازة حضور الجنازة. ألا ترى أن الصلاة تضاف إلى الجنازة يقال: صلاة الجنازة، والحكم أبداً يضاف إلى السبب (124أ1) وكذلك تتكرر الصلاة بتكرر الجنازة وهذا يدل على كون الجنازة سبباً فهو معنى قولنا: السبب أوجبها مع النقصان وقد أداها كذلك. فهو نظير ما لو تلا آية السجدة في هذه الأوقات وسجد فيها جاز، وطريقه ما قلنا، ولأنهم لو أعادوها لازدادت الكراهة.

ونظير هذا ما لو سجد للسهو قبل السلام نهي عنه، ولو سجد مع ذلك جاز، لأنه لو لم يجز صارت سجدات أربعاً فازدادت الكراهة. وهذا الرجل ما خالف الكل فإن من العلماء من يجوز السجدة قبل السلام. وكذلك ههنا من العلماء من يجوز الصلاة في الأوقات المكروهة، ولأن صلاة الجنازة تشبه الصلاة المطلقة حيث إنه يشترط فيها الطهارة عن الحدث، والطهارة عن النجاسة، وستر العورة، واستقبال القبلة والتحريم بالتكبير، والتحلل بالسلام، وتشبه الدعاء من حيث سقوط القراءة والركوع والسجود، فمن حيث إنها تشبه الصلاة نهي، ومن حيث إنها تشبه الدعاء إذا أداها جاز، وهو قياس سجدة التلاوة إذا تلاها في هذه الأوقات، وأراد أن يسجد لها ينهى عن ذلك، ولو سجد جاز وسقط عنه، كذلك هنا. ولا تكره بعد طلوع الفجر، وبعد العصر لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه أتي بجنازة بعد العصر فقال: أسرعوا قبل أن تغرب الشمس، ولأن الصلاة على الجنازة فريضة، وإنما يكره في هذين الوقتين التطوع. ولو حضرت الجنازة بعد غروب الشمس يبدؤون بالمغرب ثم بالجنازة لما روي عن أبي برزة الأسلمي أنه أتي بجنازة بعدما غربت الشمس ووضعت على مقبرة بالبصرة، فأمر المؤذن فأذن، وصلى المغرب ثم صلى على الجنازة، ولأن صلاة المغرب فرض عين، وصلاة الجنازة فرض كفاية، فتكون المغرب آكد، والبداية بآكد الفرضين أولى؛ ولأن تأخير المغرب مكروه، وتأخير صلاة الجنازة لا بأس به. وروى الحسن بن زياد رحمه الله في «المجرد» : أنه يبدأ بأيهما شاء؛ لأن مبنى صلاة الجنازة على المسارعة، قال عليه السلام: «ثلاث لا يؤخرن» وذكر من جملتها الصلاة على الجنازة، ومبنى المغرب أيضاً على المسارعة فاستويا فيبدأ بأيهما شاء. وإن أوجد شيئاً من أطراف ميت كيد أو رجل أو رأس لم يغسل ولم يصلِ عليه، ولكنه يدفن. وقال الشافعي: يغسل ويصلى عليه قل ذاك الجزء أو كثر بناءً على مذهبه أن تكرار الصلاة على ميت واحد يجوز، وعندنا لا يجوز. وهذا في الميت عند الشافعي، أما في الشهيد عنده لا يصلى على كل البدن فكيف يصلى على جزء منه. وأجمعوا أنه لو وجد أكثر البدن يغسل ويصلى عليه. وذكر الحسن بن زياد في صلاته عن أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا وجد أكثر البدن غسل وكفن وصلي عليه ودفن. وإن كان نصف البدن، ومعه الرأس غسل وصلي عليه ودفن، وإن كان مشقوقاً نصفين طولاً، فوجد منه أحد النصفين لم يغسل، ولم يصلِ عليه، ولكنه يدفن لحرمته، وإن كان نصف البدن بلا رأس غسل، ولم يصلِ عليه. وإن كان أقل من نصف البدن ومعه الرأس غسل وكفن ودفن ولا يصلى عليه.

احتج الشافعي رحمه الله بما روي أن طائراً ألقى يد آدمي بمكة في وقعة الجمل، فغسلها أهل مكة وصلوا عليها، قيل: إنها يد طلحة بن عبيد الله، أو يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى على عظام بالشام، وعن أبي عبيدة رضي الله عنه أنه صلى على رؤوس، ولأن هذا نقص من جملة الآدمي لا يزال عنه في حالة السلامة، فيجب الصلاة عليه قياساً على ما لو كان الموجود في أكثر من نصف البدن، أو نصف البدن ومعه الرأس، وهذا لأن الصلاة على المسلم شرعت لحرمة المسلم وحرمة القليل كحرمة الكثير بدليل أنه لا يحل إتلاف القليل كما لا يحل إتلاف الكثير. وأصحابنا رحمهم الله: احتجوا بما روي عن ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: «لا يصلى على عضو» والمعنى: وهو أن هذا العضو لو انفصل عن الآدمي حالة الحياة لا يصلى عليه، فكذا لو انفصل عنه بعد موته وجب أن لا يصلى عليه قياساً على الشعر والظفر؛ وهذا لأن صلاة الجنازة ما عرفت قربة بدون الميت، والميت اسم لجميع البدن، ولم يوجد جميع البدن، ولا أكثر البدن، إنما وجد منه البعض، والمعدوم أكثر من الموجود، فيرجح العدم على الموجود، فكأنه لم يوجد شيء من البدن، وبدون بدن الميت لا تقام صلاة الجنازة بخلاف إذا وجد الأكثر؛ لأن جانب الموجود يرجح على العدم، فسقط اعتبار العدم. فأما حديث أهل مكة، قلنا: التعلق به لا يصح؛ لأنه ليس في الحديث أن الغاسل لليد والمصلي عليها من هو، فما لم يعرف الغاسل لا يكون الحديث حجة، وأما حديث عمر رضي الله عنه المراد منه الدعاء لإجماعنا أنه لا يصلى على العظام، وكذا حديث أبي عبيدة محمول على الدعاء صلى يعني: دعا. ثم الطرف يدفن لأن الدفن إماطة الأذى، وقد ورد الأثر به فإنه روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «الإسلام بضعة وسبعون باباً أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» . قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا كان القوم في المصلى فجيء بالجنازة هل يقومون لها إذا رأوها قبل أن توضع؟ فيه كلام، من الناس من يقول: يقومون لما روي عن النبي عليه السلام أنه كان جالساً فمرت عليه جنازة فقام فزعاً فقيل له: إنه جنازة يهودي فقال: «ما قمت لها وإنما قمت فزعاً من الموت» ، ومنهم من قال: لا يقومون وهو الصحيح. والصلاة على الجنازة في الجبانة والأمكنة والدور سواء لما روي عن النبي عليه السلام أنه صلى على بعض في الموتى في الأمكنة وصلى على البعض في الجبانة.

وإن النبي عليه السلام لما قبض صلى عليه في حجرة عائشة رضي الله عنها كان الناس يدخلون فوجاً فوجاً، فيصلون عليه وينصرفون. وإنما تكره الصلاة على الجنازة في الجامع ومسجد الحي عندنا. وقال الشافعي: لا تكره، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان: في رواية كما قال الشافعي، وفي رواية قال: إذا كانت الجنازة خارج المسجد الإمام والقوم في المسجد فإنه لا تكره وستأتي المسألة في باب الكراهية، وسيأتي لا يجهرون في صلاة الجنازة بشيء من الحمد والثناء وصلوات الرسول عليه السلام لأن هذا ذكر كله، والإخفاء في الذكر أولى كما في أذكار الصلوات. ومشايخ بلخ يقولون: السنّة أن يسمع الصف الثاني ذكر الصف الأول، والصف الثالث ذكر الصف الثاني، والرابع ذكر الصف الثالث، وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: لا يجهرون كل الجهر، ولا يسرون كل السر، وينبغي أن يكون بين ذلك. ويتيمم لصلاة الجنازة إذا خاف فوتها في المصر، وإن لم يخف الفوت توضأ، وكذلك إن كان افتتح الصلاة، ثم أحدث تيمم وبنى، وقد مر هذا في باب التيمم. رجل تيمم وصلى على جنازة ثم أتي بجنازة أخرى إن وجد من الوقت مقدار ما يتوضأ به، والماء منه قريب بطل ذلك التيمم، وعليه إعادة التيمم للصلاة على الجنازة الثانية بالإجماع؛ لأنه يمكنه استعمال الماء بعد التيمم الأول، فبطل التيمم، وإن لم يجد من الوقت مقدار ما يتوضأ به، فله أن يصلي بالتيمم الأول على الجنازة الثانية، عند أبي يوسف رحمه الله، وعند محمد رحمه الله ليس له ذلك ويعيد التيمم للجنازة الثانية، هكذا أورده الإمام السرخسي رحمه الله في «شرح الصلاة» ، وأورد الفقيه أبو الليث رحمه الله هذه المسألة في «مختلفاته» ، وذكر قول أبي حنيفة مع قول أبي يوسف رحمهما الله. حجة محمد رحمه الله: وهو أن التيمم إنما يجوز لضرورة، وقد ارتفعت الضرورة عند الفراغ من الأولى، فعليه تجديد التيمم للثاني. حجة أبي يوسف رحمه الله (124ب1) : وهو أن العذر قائم وهو خوف الفوت لو اشتغل بالوضوء، فلهذا جاز له أن يصلي بتيممه الأول. ويكره أن يجعل على اللحد دفوف خشب يريد به صفائح خشب توضع على اللحد؛ لأن في ذلك إضاعة المال بلا فائدة فإن اللبن يكفي، ولأن ذلك يستعمل للزينة أو لإحكام البناء، والميت غير محتاج إلى ذلك، ولكن مع هذا لو فعل لا بأس به لرخاوة الأراضي في ديارنا. وفي «وقف النوازل» المرتد لا يدفع إلى من انتحل إليهم كاليهود أو النصارى ليدفنوه في مقابرهم، ولكن تحفر له حفيرة، فيلقى فيها كالكلب. وفي «واقعات الناطفي» : رجل مات في السفينة يغسل ويكفن ويرمى في البحر؛ لأنه الدفن نقل الميت من مكان إلى مكان سيأتي في كتاب الاستحسان والكراهية إن شاء الله تعالى.

وفي «النوازل» : لا يدفن الميت في الدار وإن كان صغيراً؛ لأن الدفن مكان الموت سنّة الأنبياء عليهم السلام لا سنّة غيرهم. ولا تكسر عظام اليهود والنصارى التي توجد في قبورهم؛ لأن إيذائهم حرمة حتى حرم إيذاؤه في حياته فتكون لعظامه حرمة حتى لا تكسر متى وجدت بعد الموت. ولا يقوم الرجل بالدعاء بعد صلاة الجنازة؛ لأنه قد دعا مرة، لأن أكثر صلاة الجنازة الدعاء. ولا يصلى على صبي وهو على الدابة أو على أيدي الرجال كما في البالغ، وفي رواية «النوادر» يجوز. وفي «النوازل» : صلى رجل على جنازة، والولي خلفه، ولم يرض به أي لم يأمره به، فإن تابعه وصلى معه لا يجوز للولي أن يعيد الصلاة؛ لأنه قد صلى مرة، وإن لم يتابعه فإن كان الذي صلى السلطان، أو الإمام الأعظم، أو القاضي، أو والي البلدة، أو إمام حيه، فليس للولي أن يعيد، وإن كان غيرهم فله الإعادة. وفيه أيضاً: مات رجل في غير بلده وصلى عليه غير أهله، ثم جاء أهله وحملوه إلى منزله، فإن كان الأول صلى بإذن الإمام يعني السلطان، أو القاضي لا يصلون عليه ثانياً؛ لأن الصلاة بإذن الإمام كصلاة الإمام بنفسه. وفي «العيون» : إذا أوصى الميت أن يصلي عليه فلان، فالوصية باطلة إلا في رواية ابن رستم، فإنها جائزة في روايته، فيؤمر فلان بأن يصلي عليه. جنازة تشاجر فيها قوم، فقام رجل ليس بولي وصلى وتابعه بعض القوم في الصلاة عليها فصلاتهم تامة، وإن أحب الأولياء إعادة الصلاة أعادوا. ولا ينوي الإمام الميت في تسليمتي الجنازة لكن ينوي في التسليمة الأولى من على يمينه وينوي في التسليمة الثانية من على يساره. عن أبي يوسف رحمه الله إذ كبر يريد التطوع بصلاة الجنازة يجزئه عن التطوع. وعن أبي يوسف أيضاً في جنب وميت وعندهما من الماء ما يكفي لأحدهما الجنب أولى به يريد به إذا كان الماء مباحاً. ومن هذا الجنس عريان وميت ومعهما من الثوب ما يكفي لأحدهما إن كان الثوب ملكاً لأحدهما صرف إليه، وإن كان ملكاً للميت، والحي وارثه يكفن به الميت، ولا يلبسه الحي؛ لأن الكفن مقدم على الميراث. ثلاثة نفر في السفر جنب وحائض طهرت من الحيض، وميت، ومعهم من الماء قدر ما يكفي لأحدهم، فإن كان الماء لأحدهم فهو أولى به، وإن الماء لهم لا يصرف إلى واحد منهم؛ لأن للآخرين فيه نصيباً، وإن كان الماء مباحاً فالجنب أحق به، وتتيمم المرأة وييمم الميت أيضاً، وهذا؛ لأن غسل الجنب فريضة، ويمكنه الإمامة، وغسل الميت ليس بفريضة فييمم الميت، ويصلي الرجل، وتقتدي المرأة به بالتيمم؛ ولأن في

الفصل الثالث والثلاثون في بيان حكم المسبوق واللاحق

كون التيمم مزيلاً للجنابة خلاف. فإن عمر، وابن مسعود كانا لا يريان التيمم للجنب، فكان الصرف إلى الجنابة أولى، وكذا لو كان مكان الحائض محدثاً يصرف إلى الجنب للمعنى الثاني. والله أعلم. وجد قتيل في دار الحرب مختوناً غير مقصوص شاربه لا يصلى عليه؛ لأن من الكفرة من يختتن، ولو وجد غير مختون، ولكنه مقصوص الشارب يصلى عليه إذ ليس منهم من يقص الشارب هكذا حكى فتوى شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، ولم يجعل شمس الأئمة الختان علامة الإسلام، وهكذا كان يقول بعض المشايخ، وقد ذكرنا في «شرح الزيادات» أن الختان والخضاب ولبس السواد من علامات الإسلام. وإذا وجد قتيل في دار الإسلام، وعليه زنار وفي حجره مصحف لا يصلى عليه؛ لأن المسلم في دار الإسلام لا يعقد الزنار أصلاً، أما الكافر في دار الإسلام قد يقرأ القرآن، فلو كان ذلك في دار الحرب يصلى عليه؛ لأن الكافر في دار الحرب لا يقرأ القرآن أما المسلم قد يعقد الزنار على نفسه في دار الحرب لمصلحة ترى في ذلك.g في «متفرقات شمس الأئمة الحلواني» رحمه الله: من لا يجبر على نفقة الميت حال حياته كأولاد الأعمام، والعمات، والأخوال، والخالات لا يجبر على الكفن بلا خلاف. ثوب الجنازة إذا تخرق ولم يبق صالحاً لما اتخذ له، فليس للولي أن يتصدق به، بل يبيعه ويصرف ثمنه في ثمن ثوب آخر، وينبغي أن يكون غاسل الميت على الطهارة، ويكره أن يكون جنباً أو حائضاً، ولا بأس بجلوس الحائض والجنب عنده وقت الموت. الفصل الثالث والثلاثون في بيان حكم المسبوق واللاحق يجب أن يعلم أن المسبوق من لم يدرك أول الصلاة وبعض أحكامه من الإتيان بالثناء والإتيان بالتعوذ، والإتيان بالدعوات المشروعة بعد الفراغ من التشهد. وقيامه إلى قضاء ما سبق به قد مر في فصل ما يفعله المصلي في صلاته بعد الافتتاح، وما يتصل بذلك الفصل فلا يعد. واللاحق من أدرك أول الصلاة إلا أنه لم يصل مع الإمام إما؛ لأنه نام أو؛ لأنه أحدث وذهب، ثم توضأ ثم عاد، وانتبه النائم، وقد صلى الإمام بعض الصلاة. ومن حكم المسبوق أنه يصلي أولاً ما أدرك مع الإمام، فإذا فرغ الإمام من صلاته يقضي ما سبق به، ومن حكم اللاحق أنه يصلي ما فاته أولاً مع الإمام، ثم يتابع الإمام فيما بقي، والمسبوق في الحكم كأنه منفرد، ولهذا كان عليه القراءة فيما يقضي. ولو سهى فيما يقضي كان عليه السهو، واللاحق في الحكم كأنه خلف الإمام، ولهذا لا قراءة عليه فيما يصلي، ولا سهو عليه إن كان قد سهى. وكان الشيخ الإمام الزاهد عبد الله الخيراخري يقول عن أصحابنا رحمهم الله

تعالى: اجعلوا المسبوق فيما يقضي كالمنفرد، إلا في ثلاث مسائل، وقد ذكرنا ذلك عامة في الفصل السابع من هذا الكتاب، ذكرنا ثمة الفرق في فصل محاذاة المرأة بين المسبوق وبين اللاحق، وذكرنا الفرق بين نية اللاحق الإقامة، وهو في قضاء ما عليه، وقد فرغ الإمام من صلاته، وبين نية المسبوق الإقامة، وهو في قضاء ما عليه، وذكرنا أيضاً الفرق بين دخول اللاحق المصر، وبين دخول المسبوق المصر. في فصل المسافر المسبوق إذا سلم مع الإمام ساهياً، ومسح يديه على وجهه بعد السلام كما يفعل في العادة، ثم تذكر ليس له أن يبني، لأن مسح اليدين على الوجه عمل كثير من رآه يفعل ذلك يظنه خارج الصلاة، وهذا هو حد عمل الكثير، فيصير خارجاً من الصلاة، ويؤيده رواية مكحول النسفي عن أبي حنيفة أن من رفع يديه عند الركوع، أو عند رفع الرأس من الركوع تفسد صلاته، واعتبر عملاً كثيراً. وفي «نوادر أبي سليمان» : عن محمد رجل فاتته ركعة مع الإمام، ثم سلم الإمام فسهى الرجل، ولا يدري أفاتته الركعة، أو لا، ثم علم، فقام فقضاها فعليه السهو، وإن كان ذلك قبل سلام الإمام، فلا سهو عليه؛ لأن قبل سلام الإمام هو على المتابعة، فلا يعتبر سهوه، بخلاف ما بعد سلام الإمام. والمسبوق إذا لم ينتظر سلام الإمام وقام وقرأ، وركع ثم سلم الإمام، وسجد للسهو رجع إليه فسجدها معه، وأعاد القراءة والركوع، ولا سهو عليه (125أ1) وإذا قام الإمام إلى الخامسة وتابعه المسبوق، إن كان الإمام قعد في الرابعة فسدت صلاة المسبوق. والمسبوق يسجد سجدتي السهو مع الإمام. وكذا المقيم إذا كان مقتدياً بالمسافر يسجد للسهو مع الإمام، واللاحق لا يأتي بسجود السهو حتى يفرغ من صلاته، فإن يسجد المسبوق ولا المقيم المقتدي بالمسافر مع الإمام سجدا إذا فرغا من صلاتهما استحساناً. والقياس: أن لا يسجد لأنهما انتقلا من صلاة الإمام إلى غيرها وجه الاستحسان: أن التحريمة واحدة، فكانت صلاة واحدة فإن سجدا معه، ثم سهوا أعادا السهو، فإن لم يسجدا مع الإمام وسهوا، فعليهما سجدتان عن السهوين، فإن سهى الإمام ثم أحدث ثم استخلف رجلاً فالخليفة يأتي بسجود السهو بعد تمام صلاة الإمام، وإن سهى الثاني يسجد أيضاً، وإذا اجتمع سهو الأول وسهو الثاني كفاه سجدتان، وإن لم يسهو الأول وسهى الثاني يسجد أيضاً ويتابعه الأول في ذلك. إن أدركه رجلان سبقا ببعض الصلاة، وقاما إلى قضاء ما سبق به، واقتدى أحدهما بالآخر، فسدت صلاة المقتدي؛ لأنه اقتدى في موضع الانفراد. رجل اقتدى بالإمام في ذوات الأربع بعدما صلى الإمام بعض صلاته، فأحدث الإمام، وقدم هذا الرجل، والمقتدي لا يدري كم صلى الإمام وكم بقي عليه، فإن المقتدي يصلي أربع ركعات، ويقعد في كل ركعة احتياطاً. وإذا ظن الإمام أن عليه سهو يسجد للسهو وتابعه المسبوق في ذلك، ثم علم أنه لم يكن على الإمام سهو ففيه روايتان:

في إحدى الروايتين تفسد صلاة المسبوق، وبه أخذ عامة المشايخ، وفي إحدى الروايتين لا تفسد، وبهذه الرواية كان يفتي الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير، فإن لم يعلم أنه لم يكن على الإمام سهو لم تفسد صلاة المسبوق بلا خلاف. الإمام إذا سبقه الحدث في ذوات الأربع فاستخلف مسبوقاً بركعتين فإن المسبوق يصلي ركعتين ويقعد حتى يتم صلاة الإمام، ثم يقوم يقضي ما سبق به، ولو أن هذا المسبوق صلى ركعتين، ولم يقعد فسدت صلاتهم، كما لو اقتدى المقيم بالمسافر، فأحدث المسافر واستخلف المقيم، فصلى المقيم ركعتين ولم يقعد، وهناك تفسد الصلاة كذا ههنا، وهذا لأن الخليفة قائم مقام الإمام الأول ما لم يفرغ عن صلاة الأول، والأول لو ترك هذه القعدة فسدت صلاته فكذا إذا ترك الثاني. المسبوق بركعة إذا سلم مع الإمام ساهياً لا يلزمه سجود السهو؛ لأنه مقتد بعد، وإن سلم بعد الإمام كان عليه السهو؛ لأنه صار منفرداً. وإذا دخل الرجل في صلاة الرجل بعد ما سلم قبل أن يسجد للسهو فعلى قول محمد رحمه الله اقتداؤه به صحيح على كل حال عاد الرجل إلى سجود السهو أو لم يعد، وعلى قول أبي حنيفة اقتداؤه موقوف إن عاد الرجل إلى سجوده صح اقتداؤه، وإن لم يعد لا يصح اقتداؤه. ولو دخل في صلاته بعدما سجد سجدة واحدة، وهو في الثانية، فإنه يسجدها معه ولا يقضي الأولى، وكذلك إن دخل في صلاته بعدما سجدهما لم يقضيها. صلى بقوم صلاة الفجر فسلم واحد من القوم بعد الفراغ من التشهد وحال الإمام الدعاء وأخر السلام حتى طلعت الشمس فسدت صلاة الإمام على قول من يرى ذلك، ولم تفسد صلاة من سبق بالسلام، وكذلك لو تذكر الإمام تلاوة بعد سلام هذا الرجل، فسجد الإمام للتلاوة بعد سلام هذا الرجل، أو كانت الصلاة ظهراً فأدرك الإمام الجمعة لا تفسد صلاة من سلم إذا لم يدرك الجمعة. وكذا المسبوق بركعة إذا قام إلى قضاء ركعته بعد سلام الإمام، ثم تذكر الإمام تلاوة، وسجد لها لا تفسد صلاة المسبوق إلا إذا تابعه في السجدة بعدما قيد ركعته بالسجدة. أحدث الإمام وعليه سجود السهو، واستخلف مسبوقاً قد ذكرنا قبل هذا أنه لا ينبغي للإمام أن يقدمه، ولا له أن يتقدم، فلو أنه تقدم مع هذا كيف يصنع؟ قال: يصلي بالقوم بقية صلاتهم فإذا انتهى الإمام الصلاة إلى السلام يتأخر، ويقدم مدركاً يسلم به، ولا يسلم هذا المسبوق، فإن لم يكن ثمة مدرك كيف يصنع هذا المسبوق؟ قال: يتأخر من غير أن يسلم ثم يقوم ويقضي ما فاته وحده، وكذلك القوم يقومون، ويقضون ما فاتهم وحداناً، فإذا فعلوا ذلك يأتون بسجود السهو التي وجبت على الإمام استحساناً. قد ذكرنا أن اللاحق لا يتابع الإمام في سجوده، ولو تابعه مع ذلك، وسجد معه لا يجزئه، وعليه أن يسجد إذا فرغ من صلاته؛ لأن ما أتى به من السجدة في غير محلها؛ لأن سجدة السهو شرعت في آخر الصلاة، وهو إنما أتى بها في وسط الصلاة.

يجب أن يعلم أن ما يقضي المسبوق أول صلاته حكماً، وآخر صلاته حقيقة؛ لأن ما أدرك مع الإمام أول صلاته حقيقة، وآخر صلاته حكماً من حيث إن الأول اسم لفرد سابق يكون ما أدرك مع الإمام أولاً في حقه حقيقة، ومن حيث إنه آخر في حق الإمام؛ لأن الآخر اسم لفرد لاحق يكون آخراً في حقه حكماً تحقيقاً للتبعية، وتصحيحاً لاقتداء؛ لأن ما بين أول الصلاة وآخرها مغايرة من حيث الحكم، فإن القراءة فرض في الأوليين نفل في الآخريين، والمغايرة تمنع صحة الاقتداء. ولما صح الاقتداء علمنا أن ما أدرك مع الإمام آخر صلاته حكماً، وإذا كان ما أدرك أول صلاته حقيقة وآخرها حكماً، وما يقضي آخره حقيقة أوله حكماً، اعتبرنا الحقيقة فيما يقضي وفيما أدرك في حق الثناء. فقلنا: بأن المسبوق يأتي بالثناء متى دخل مع الإمام في الصلاة حتى يقع الثناء في محله وهو ما قبل أداء الأركان، واعتبرنا الحكم فيما أدرك، وفيما يقضي في حق القراءة، فجعلنا ما أدرك صلاته وما يقضي أول صلاته، فتجب القراءة عليه، فيما يقضي؛ لأن القراءة ركن لا تجوز الصلاة بدونها، واعتبرنا الحكم فيما أدرك وفيما يقضي في حق القنوت، فجعلنا ما أدرك آخر صلاته في حق القنوت حتى أنه إذا أتى بالقنوت فيما أدرك مع الإمام لا يأتي بالقنوت فيما يقضي كيلا يؤدي إلى تكرار القنوت الذي هو ليس بمشروع، واعتبرنا الحقيقة في حق القعدة، وفيما يقضي، وفيما أدرك فألزمناه القعدة متى فرغ من صلاته؛ لأن قعدة الختم ركن لا تجوز الصلاة بدونها، فألزمناه القعدة في آخر الصلاة عملاً بالحقيقة ليخرج عن القعدة بيقين. المسبوق بركعتين إذا قام إلى قضائها سبق، ولم يكن الإمام قرأ في الأوليين، وإنما قرأ في الأخريين، فإنه تجب عليه القراءة فيما يقضي، ولو ترك القراءة فيما يقضي لم تجز صلاته؛ لأن القراءة في الأخريين وقعت بطريق القضاء، فالتحقت بمحل الأداء، وصار كأنه قرأ في الأوليين، وهناك المسبوق يقرأ فيما يقضي كذا ها هنا. وإذا قام المسبوق إلى قضاء ما سبق به قبل أن يتشهد الإمام أو بعدما تشهد قبل أن يسلم، فقد ذكرنا هذه المسألة قبيل الفصل الرابع، ومن فروعات هذه المسألة إذا قام بعدما تشهد الإمام، وعلى الإمام سجود السهو، فقرأ وركع ولم يسجد حتى عاد الإمام إلى سجود السهو، فعلى هذا الرجل أن يتابع الإمام في سجود السهو؛ لأنه لم يستحكم انفراده بأداء ما دون الركعة؛ لأن ما دون الركعة ليس له حكم الصلاة، فعليه أن يعود إلى متابعة الإمام، ثم يقوم للقضاء، ولا يعتد بالذي أدى؛ لأنه صار رافضاً لها بالعود إلى متابعة الإمام. وإن لم يعد إلى متابعة الإمام ومضى على ذلك جازت صلاته، لأنه لم يبق على الإمام ركن من أركان الصلاة، ويسجد للسهو في آخر صلاته استحساناً، وإن قيد المسبوق الركعة بسجدة، ثم عاد الإمام إلى سجود السهو لم يعد إلى متابعة الإمام لأنه استحكم انفراده بأداء ركعة كاملة، وإن عاد إلى متابعته فسدت صلاته؛ لأنه اقتدى في موضع الانفراد، والاقتداء في موضع الانفراد تفسد الصلاة. فإن قيل: الاقتداء في موضع الانفراد إذا لم يكن بركعة كاملة ينبغي أن لا يوجب فساداً كالانفراد في موضع الاقتداء إذا لم يكن بركعة كاملة. قلنا: الاقتداء في موضع الانفراد إنما يفسد الصلاة، وإن حصل الاقتداء بما دون الركعة؛ لأنه لما اقتدى به (125ب1) زال الانفراد؛ لأن بين الاقتداء والانفراد تنافي، فأما المسبوق بالاقتداء بالإمام صار تبعاً للإمام، وبالانفراد لم تزل التبعية؛ لأنه يؤدي ما أداه الإمام، والتبعية تنفى بهذا كما في النائم، وإذا لم تزل التبعية بنفس الانفراد بقي في صلاة الإمام وإذا بقي في صلاة الإمام لم تفسد صلاته إلا أن يأتي بركعة كاملة، فحينئذٍ تفسد صلاته لا لزوال المتابعة، ولكن لشروعه في صلاة أخرى. وهذه فصول: أحدها: في السهو. والثاني: في الصلبية إذا تذكر الإمام سجدة صلبية بعدما قام المسبوق إلى القضاء، إن لم يكن قيد الركعة بالسجدة عاد إلى متابعة الإمام كما ذكرنا في سجود السهو، وإن لم يعد فسدت صلاته؛ لأن الصلبية من أركان الصلاة، ألا ترى أنه لو لم يأت بها الإمام كانت صلاته فاسدة، فكذلك إذا لم يتابع المسبوق فيها، وإن كان قيد الركعة بالسجدة، فصلاته فاسدة عاد إلى متابعة الإمام أو لم يعد لما ذكرنا أن السجدة الصلبية ركن وبعد إكمال الركعة عاجز عن المتابعة فلهذا تفسد صلاته. والثالث: إذا تذكر الإمام سجدة تلاوة، فإن كان المسبوق لم يقيد الركعة بالسجدة فعليه أن يعود إلى متابعة الإمام، ولأن الركعة الناقصة تحتمل الرفض على ما ذكرنا فصار كأنه لم يقم، ولو لم يقم يتابع الإمام فكذلك هنا، فلو لم يتابع، الإمام ومضى على ذلك فإنه ينظر، إن وجد منه القيام والقراءة بعد فراغ الإمام من القعدة الثانية مقدار ما تجوز به الصلاة جازت صلاته، وإلا فلا؛ لأن عود الإمام إلى سجدة التلاوة يرفع القعدة بدليل أنه لو لم يقعد بعدها لم تجر صلاته، والقعدة فرض أو ركن كالصلبية، وإذا ارتفعت القعدة صار كأنه قام إلى قضاء ما سبق به قبل فراغ الإمام من التشهد، ومضى على ذلك، فإنه يعتبر القيام والقراءة التي وجد بعد فراغ الإمام من التشهد كذلك هنا. فإن قيد المسبوق الركعة بالسجدة قبل أن يعود الإمام إلى سجدة التلاوة ثم عاد الإمام إلى سجدة التلاوة، فإن تابعه المسبوق فصلاته فاسدة رواية واحدة؛ لأنه لما قيد الركعة بالسجدة استحكم انفراده، فإذا تابع الإمام، فقد اقتدى في

موضع كان عليه الانفراد، فيوجب فساد الصلاة، وإن لم يتابعه ففيه روايتان: قال في «الأصل» : صلاته فاسدة؛ لأنه حين سجد الإمام للتلاوة، ارتفضت القعدة في حق الإمام. وإذا ارتفضت القعدة فسدت صلاته؛ لأن القعدة الأخيرة فرض. وفي «نوادر» أبي سليمان قال: لا تفسد صلاته؛ لأنه حين قيد الركعة بالسجدة تم انفراده، ولم يبق على الإمام ركن من أركان الصلاة بدليل أنه لو لم يسجد الإمام للتلاوة، وذهب جازت صلاته، بخلاف الصلبية على ما ذكرنا، وفقه هذا الكلام أن قعوده كان معتداً به، وإنما

انتقض في حق الإمام بالعود إلى سجدة التلاوة؛ وذلك بعدما استحكم انفراد المسبوق عنه، فلا يتعدى ذلك إلى المسبوق، كرجل صلى بقوم، ثم ارتد والعياذ بالله، بطلت صلاته ولم تبطل صلاة القوم، وكذلك رجل صلى الظهر بالناس يوم الجمعة في القرية، ثم راح إلى الجمعة، فأدركها اعتبر المؤدى في حقه تطوعاً، وصار فرضه الجمعة، وبقي المؤدى في حق القوم فرضاً كما كان، فكذلك هنا، كذا ذكره الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله. وذكر الشيخ الإمام خواهر زاده، والإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمهم الله الاختلاف على عكس ما ذكره الشيخ الإمام السرخسي رحمه الله فقالا: في ظاهر الرواية لا تفسد صلاته، وفي رواية أبي سليمان تفسد صلاته. إذا تذكر الإمام فائتة بعد الصلاة والسلام وخلفه مسبوق، حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر، محمد بن الفضل رحمه الله أنه قال: لا رواية في هذا الفصل، وعندي أن صلاة المسبوق لا تفسد كما لو ارتد الإمام بعد السلام وخلفه مسبوق. وإذا صلى الإمام الظهر أربع ركعات، وقعد على الرابعة، وقام إلى الخامسة ساهياً فجاء إنسان واقتدى به في صلاة الظهر. قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: يصح اقتداء الرجل؛ لأن الإمام لم يقيد الخامسة بالسجدة، فهو في تحريمة الظهر. وإذا كان الرجل يصلي الظهر، وخلفه مسبوق فقام الإمام إلى الركعة الخامسة تابعه المسبوق إن كان الإمام قعد على رأس الرابعة فسدت صلاة المسبوق؛ لأنه لما قعد على رأس الرابعة بقيت صلاته في حق المسبوق، فصار المسبوق في حكم المنفرد، فهذا اقتداء في موضع الانفراد، وإن لم يكن قعد على رأس الرابعة لا تفسد صلاة المسبوق؛ لأن الإمام على الصلاة الأولى حكماً. ولهذا قلنا: إذا لم يقعد الإمام على رأس الرابعة، وقام إلى الخامسة لا يسلم المقتدي ما لم يقيد الإمام الخامسة بالسجدة، بخلاف ما إذا قعد على رأس الرابعة فإن هناك للمقتدي أن يسلم. وكذلك قلنا في الإمام إذا كان يصلي المغرب، فقام إلى الرابعة، وتشهد المقتدي وسلم قبل أن يقيد الإمام الرابعة بالسجدة فإنه تفسد صلاة المقتدي، وطريقه ما قلنا. وإذا جاء المسبوق إلى الإمام وهو راكع وفي يد هذا المسبوق شيء، فوضعه حتى ... فكبر تكبيرتين، ودخل في الصلاة قال هشام: قال أبو حنيفة رحمه الله: لو وقع تكبيرة الافتتاح قائماً وهو مستوي أيضاً صح الشروع، وإن وقع وهو منحط عنه غير مستوى لا يجوز. وإن ركع المسبوق وسوى ظهره صار مدركاً للركعة قدر على التسبيح أو لم يقدر، وإن لم يقدر على تسوية الظهر في الركوع حتى رفع الإمام رأسه فاته الركوع. ولو كبر والإمام راكع، واشتغل هو بالثناء، ولم يركع حتى رفع الإمام رأسه، ثم ركع هو لم يصر مدركاً للركعة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله خلافاً لزفر رحمه الله، ولو

كبر قبل ركوع الإمام، ولم يركع معه حتى رفع الإمام رأسه من الركوع، ثم ركع هو صار مدركاً للركعة. وإذا سلم الإمام فالمؤتم المسبوق يتأنى، ولا يتعجل في القيام، وينظر هل يشتغل الإمام بقضاء ما نسيه من صلاته فإذا تيقين فراغ الإمام من صلاته حينئذٍ يقوم إلى قضائه، ولا يسلم مع الإمام؛ لأنه في وسط صلاته. وفيه حكاية أن أبا يوسف كان على مائدة هارون الرشيد، فسأل زفر وقال: ما تقول يا أبا هذيل متى يقوم المسبوق إلى قضائه؟ فقال زفر رحمه الله: بعد سلام الإمام، فقال أبو يوسف رحمه الله: أخطأت، فقال زفر: بعدما سلم الإمام تسليمة واحدة، فقال أبو يوسف: أخطأت، فقال زفر: قبل سلام الإمام، فقال أبو يوسف: أخطأت، ثم قال أبو يوسف رحمه الله: إنما يقوم بعد تيقنه أن الإمام فرغ من صلاته فقال زفر: أحسنت أيد الله القاضي. قال: مكث المسبوق حتى يقوم الإمام إلى تطوعه إن كانت صلاة بعدها تطوع، ويستدبر إلى المحراب إن كانت صلاة لا تطوع بعدها، وإن لم يمكث حتى يسلم الإمام، ولكن حين فرغ الإمام من قراءة التشهد قام المسبوق إلى قضاء ما سبق، جازت صلاته بالاتفاق، ولكنه مسيء فيما صنع، وإنما جازت صلاته لفراغ الإمام من الصلاة، حتى قالوا فيمن صلى مع الإمام الجمعة، والإمام في الجامع، وهو في الطريق، وهو مسبوق، فخاف أنه لو انتظر الإمام حتى يسلم، ثم يقوم هو إلى القضاء تفسد المارة عليه صلاته، فإذا علم أن الإمام فرغ من التشهد يقوم هذا إلى القضاء وتجوز صلاته. روى ابن سماعة، وأبو سليمان في «نوادره» عن محمد: إذا نام المؤتم خلف الإمام، وسهى الإمام عن سجدة من أول الركعة، فقضاها في آخر صلاته وسلم، ثم استيقظ ذلك الرجل، فإنه يصلي، ويسجد تلك السجدة في موضعها من الركعة الأولى. وفي رواية أبي سليمان إن كان الإمام ترك القعود في الثانية يقعد فيها هذا اللاحق قال: لأن الإمام يقضي السجدة، ولا يقضي الجلوس، وفي رواية ابن سماعة لو استيقظ هذا النائم قبل أن يسجدها الإمام، فإنه (126أ1) يصلي ما صلى إمامه، ولا يسجد تلك السجدة حتى يسجدها إمامه، فيسجدها معه؛ لأنه لا يجزئه أن يسجدها قبله، وكذلك إن لم يكن نام، ولكن سبقه الحدث فذهب وتوضأ، ثم انصرف. وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد: رجل دخل في صلاة إمام بعدما صلى الإمام ركعة فلما كبر رعف، فذهب، وتوضأ، ثم جاء، وقد صلى الإمام ركعتين أخريتين، وبقيت عليه ركعة فاتبع الإمام حين جاء ولم يقض ما فاته، وصلى معه الرابعة، قال: يقوم ويصلي ركعة بغير قراءة ويقعد، ويصلي ركعة أخرى بغير قراءة، ويقعد؛ لأن بالنية وافقه الإمام، ثم يصلي ركعة بقراءة لأنه أول صلاته. وفي «نوادر» أبي سليمان عن محمد لو نام الرجل خلف الإمام في التشهد الأخير، فلم يقرأ التشهد، وقرأه الإمام، ثم ضحك هذا الرجل بعدما انتبه قبل أن يتشهد، قال: عليه الوضوء لصلاة أخرى، وصلاته تامة، وإنما وجب عليه الوضوء، وإن كان الإمام قد

الفصل الرابع والثلاثون في المصلي إذا كبر ينوي الشروع في الصلاة التي هو فيهاأو في صلاة أخرى أو ينوي بخلاف ما نوى قبل ذلك

سلم؛ لأن المقتدي إنما يخرج من حرمة الصلاة بتسليم الإمام إذا لم يكن عليه شيء من واجبات الصلاة، وههنا عليه التشهد. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف سبق، فقام يقضي قال أبو حنيفة: صلاته فاسدة وقال أبو يوسف: صلاته تامة، وإنما فسدت صلاته عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه بالاقتداء بالقارىء التزم صلاة بقراءة، وقد عجز عن إتمامها بذلك فجاء الفساد، وعلى هذا إذا صلى ركعة بركوع، وسجود ثم مرض، وصار إلى حالة الإتمام، فصلاته فاسدة في قول أبي حنيفة؛ لأنه التزم صلاة بركوع وسجود خلافاً لأبي يوسف. وروى المعلا عن أبي يوسف في الأخريين الخلاف على نحو ما ذكرنا في الأمي. ابن سماعة في «الرقيات» عن محمد: رجل فاتته ركعة مع الإمام فلما تشهد الإمام قام الرجل يقضي ركعته، وقد كان الإمام نسي سجدة عليه من تلاوة، فلما سلم الإمام ذكر السجدة التي عليه من التلاوة قد فرغ الرجل من ركعته، أو لم يفرغ منها حتى سجد الإمام سجدة التلاوة، ومضى الرجل في ركعته، ولم يسجد معه سجدة التلاوة، قال محمد رحمه الله: إذا ركع، وسجد قبل أن يسجد الإمام سجدة التلاوة، فصلاته تامة؛ لأنه خرج من صلاة الإمام بالفراغ من تشهد الإمام قبل أن يبطل تشهد الإمام، فإن كان ركع وسجد بعدما سجد الإمام سجدة التلاوة، فصلاته فاسدة؛ لأن بعود الإمام يبطل تشهده؛ لأن من حق سجدة التلاوة الواجبة في الصلاة؛ أن تؤدى في الصلاة ولا تؤدى خارج الصلاة. أرأيت لو نسي الإمام سجدة تلاوة حتى سلم، وتفرق القوم غير أن الإمام بعد في مصلاه، ثم تذكر الإمام السجدة وسجدها، فمن خرج من المسجد، أو تكلم قبل أن يسجدها الإمام فصلاته فاسدة. قال: وإنما هو بمنزلة مسافر صلى ركعتين، ثم تشهد، فخرج بعض القوم من المسجد، أو تكلم، ثم نوى المسافر الإقامة. الفصل الرابع والثلاثون في المصلي إذا كبر ينوي الشروع في الصلاة التي هو فيهاأو في صلاة أخرى أو ينوي بخلاف ما نوى قبل ذلك قال محمد رحمه الله في «الجامع» : في رجل افتتح الظهر؛ وصلى منها ركعة ثم افتتح العصر، أو التطوع فقد نقض الظهر؛ لأن العصر غير الظهر، وكذا التطوع غير الفرض، وله ولاية الشروع فيهما، فإذا افتتح واحداً منهما يعني العصر، أو التطوع صح الافتتاح، وصار شارعاً فيه، وإذا صار شارعاً فيه يصير خارجاً عن الآخر ضرورة فيبطل الآخر. وإن افتتح الظهر بعدما صلى ركعة فهي تجزئه، وتجزئه تلك الركعة عن الظهر، فيصلي بعده ثلاث ركعات ويتم الظهر؛ لأنه نوى الشروع في شيء هو فيه، وذلك باطل فلغت نيته ويبقى في ظهره، فإن صلى أربعاً بعد ذلك على تقدير أنه افتتح الصلاة، ولم

يقعد في الثالثة فسدت صلاته؛ لأن هذه الثالثة رابعة صلاته حقيقة، وإن كانت ثالثة في ظنه، فقد ترك القعدة الأخيرة فتفسد صلاته. ولو نوى بالتكبير هذه الفريضة، وفريضة أخرى أو تطوعاً لم يخرج عن هذه الفريضة إذا نوى غيرها على حدة. رجل سلم في الركعتين من الظهر ناسياً، ثم ذكر فظن أن ذلك يقطع الصلاة، فاستقبل التكبير، ونوى به الدخول في الظهر ثانية، وهو إمام قومه، فكبروا معه ينوون ذلك فهم على صلاتهم الأولى يصلون ما بقي منها، ويسجدون السهو، وذلك لأنه لو خرج عن الصلاة لا يخلو إما أن يخرج بالسلام، أو بالنية، أو بالتكبير لا جائز أن يصير خارجاً بالسلام؛ لأن هذا سلام الساهي لأن حد السهو أن يسلم، وعليه ركن من أركان الصلاة وهو لا يعلم به، وقد وجد هذا الحد هنا فكان سلام الساهي، وقد ذكرنا غير مرة أن سلام الساهي لا يخرج المصلي عن الصلاة. لا جائز أن يصير خارجاً بالنية؛ لأنه نوى إيجاد الموجود وذلك لغو، فصار وجود النية وعدمه بمنزلة. ولا جائز أن يصير خارجاً بمجرد التكبير؛ لأن التكبير وجد في وسط الصلاة، والتكبير في وسط الصلاة، فلا يخرجه عن الصلاة. إذا ثبت أنه لا يصير خارجاً عن الصلاة الأولى، فإذا قعد في الرابعة، ثم قام إلى الخامسة تجوز صلاته، لأنه صلى الظهر خمساً، وقعد في الرابعة قدر التشهد تجوز صلاته؛ لأنه اشتغل بالنفل بعد إكمال الفرض. وإن لم يقعد في الرابعة قدر التشهد، فسدت صلاته؛ لأنه اشتغل بالنفل قبل إكمال الفرض. ثم إذا جازت صلاته بأن قعد في الرابعة قدر التشهد؛ فإنه يجب عليه سجدتا السهو بتأخير الركن عن محله، وهو القيام إلى الركعة الثالثة؛ لأنه حين كان قعد على رأس الركعتين يفترض عليه القيام بعدما تشهد، فإن اشتغل بالدعوات، فقد أخر الركن، وهي الركعة الثالثة، فتجب سجدتا السهو. فرق بين هذا وبين ما إذا كبر ينوي العصر، أو ينوي التطوع، فإنه يصير خارجاً عن الظهر داخلاً في العصر أو في التطوع، وهنا لا يصير خارجاً. ووجه الفرق: وهو أن هناك نوى شيئاً ليس هو فيه، لأنه نوى العصر وهو ليس في العصر، فالنية الثانية أفادت غير ما أفادته الأولى، فتكون معتبرة، وإذا كانت معتبرة صار شارعاً إلى العصر، ومن ضرورة الشروع في العصر الخروج عن الظهر. فأما هنا نوى شيئاً هو فيه، فلم تفد الثانية إلا ما أفادته الأولى، فلغت الثانية، فلهذا لا يصير خارجاً عن الأولى. ونظير هذا رجل باع شيئاً بألف، ثم باعه ثانياً بألف، فالبيع الثاني باطل، والبيع الأول على حاله؛ لأن الثاني لم يفد غير ما أفاده الأول، فيتضمن البيع الثاني انفساخ البيع الأول كذلك ههنا. وفرق بين هذا وبينما إذا سلم على رأس الركعتين من الظهر، وهو يظن أنه صلاة الفجر، أو صلاة المسافر، أو سلم على رأس الثالثة، وهو يظن أنه المغرب أو الوتر، فإن

هناك يصير خارجاً عن الصلاة وهنا لا. والفرق: وهو أن هناك السلام سلام عمد؛ لأنه سلم وهو عالم أنه صلى ركعتين لا غير، والسلام العمد يخرجه من الصلاة. أما ها هنا السلام سلام الساهي؛ لأنه سلم وقد بقي عليه أركان الصلاة، وهذا هو حد السهو، والسلام الساهي لا يخرجه عن الصلاة. فإذا صلوا أربع ركعات بعدما صلى ركعتين إن قعدوا على رأس الثانية جازت صلاته، والركعتين الأوليين من هذا الأربع فريضة تمام صلاة الظهر، والركعتين الأخرتين نافلة، ويجوز هذا؛ لأنه اشتغل بالنفل بعد إكمال الفرض. وإن لم يقعدوا على رأس الثانية فسدت صلاتهم لاشتغالهم بالنفل قبل إكمال الفرض. وإذا صلى من المغرب ركعتين، وقعد قدر التشهد، وزعم أنه أتمها، فسلم، ثم قام وكبر ينوي الدخول في سنّة المغرب، ثم تذكر أنه لم يتم المغرب، وقد سجد للسنّة، أو لم يسجد فصلاة المغرب فاسدة؛ لأنه كبر ونوى الدخول في صلاة أخرى، فيكون منتقلاً من الفرض قبل إتمامه إلى التطوع. أما إذا سلم وتذكر فحسب أن صلاته فاسدة، فقام، وكبر للمغرب ثانياً وصلى ثلاثاً. إن صلى ركعة وقعد، قدر التشهد أجزأه المغرب وإلا فلا؛ لأن نية المغرب ثانياً لم تصح بقي مجرد التكبير وذا لا يخرجه عن الصلاة. وإن افتتح المغرب، وصلى ركعة وظن أنه لم يكبر الافتتاح فافتتحها، وصلى ثلاث ركعات، وقعد على رأس الثانية جازت صلاته؛ لأنه في المرة الثانية قعد على رأس الثانية بزعمه، وهي ثالثته على الحقيقة. ولو صلى المغرب ركعتين وظن أنه لم يفتتح، فافتتحها، وصلى ثلاث ركعات، وقعد على رأس الثانية والثالثة لا تجوز صلاته؛ لأن من حقه أن يقعد على الركعة الأولى؛ لأنها ثالثته على الحقيقة، فإذا لم يقعد، فقد ترك القعدة على رأس الثالثة وإنه يوجب فساد الصلاة. وإذا صلى الظهر أربعاً فلما سلم تذكر أنه ترك سجدة منها ساهياً، ثم قام واستقبل الصلاة، وصلى أربعاً، وسلم وذهب، فسد ظهره؛ لأن نية دخوله في الظهر ثانياً لغو، فإذا صلى ركعة فقد خلط المكتوبة بالنافلة قبل الفراغ من المكتوبة. وإذا صلى الغداة بقوم فقال له رجل من القوم: تركت سجدة من صلب الصلاة، فقام الإمام وكبروا استأنف الصلاة (126ب1) . لا تجزئه لا الأولى ولا الثانية؛ لأن هذه التكبيرة لم تخرجه عن الأولى، فلقد خلط النافلة بالمكتوبة قبل الفراغ من المكتوبة. وفي «فتاوى الفضلي» : المسبوق إذا شك في صلاته بعد ما قام إلى قضائها أنه سبق بركعة أو بركعتين فكبر ينوي الاستقبال يخرج عن صلاته؛ لأن حكم صلاة المسبوق، وحكم صلاة المنفرد مختلفان ألا ترى أن الاقتداء بالمسبوق لا يصح وبالمنفرد يصح، فإذا أقبل على إحديهما وكبر ثبت الانتقال إلى الأخرى، كمن انتقل بالتكبير من فرض إلى نفل، أو من نفل إلى فرض.

وكذلك المسبوق إذا سلم مع الإمام ناسياً، وظن أن ذلك مفسد، فكبر ونوى به الاستقبال كان خارجاً عن صلاته، والمعنى ما ذكرنا، وهذا بخلاف المنفرد إذا شك المنفرد فكبر ينوي الاستقبال حيث لا يكون خارجاً عن صلاته؛ لأن هناك الصلاة لم تختلف، فهو بمنزلة ما لو كان في الظهر، فكبر ينوي الظهر أو كان في العصر فكبر ينوي العصر، وهناك لا يصير خارجاً عن صلاته، كذا في المنفرد، ولا كذلك المسبوق على ما ذكرنا. وفي «الرقيات» : كتب ابن سماعة إلى محمد في رجل صلى خلف إمام ركعة من صلاة فريضة (ثم) أن المأمور نوى أن يصلي صلاته لنفسه، أو نوى أن يؤم إمامه فيما بقي من الصلاة، فمضى على نيته ذلك، ويركع ويسجد ينوى بذلك كله الصلاة لنفسه أو يؤم أمامه ولا ينوي اتباع الإمام في شيء من ذلك غير أن ركوعه وسجوده كان بعد ركوع الإمام وسجوده، فلم يزل يفعل ذلك حتى أتم صلاته، قال: صلاته تامة، ولا يخرجه شيء من ذلك من صلاة الإمام؛ لأنه لم يفتتح الصلاة بتكبير مستقبل. قال: ولا يشبه هذا أن يأتم ببعض المأمومين إذا ائتم ببعض المأمومين، فقد خرج من صلاة إمام إلى صلاة إمام غيره أما هنا بخلافه، فالرجل لا يكون إمام نفسه. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل دخل مع الإمام في صلاة الظهر ينوى التطوع ثم ذكر أنه لم يصل الظهر فقطعها ثم استأنف التكبير معه ينوي الظهر، فلا قضاء عليه لما كان من النافلة؛ لأنها صلاة واحدة، فإذا صلاها لم يكن عليه أن يقضيها، وكذلك لو دخل فيها ينوي الظهر ثم تكلم، ثم استقبل التكبير والدخول فيها ينوي النافلة ثم أفسدها لم يكن عليه إلا المكتوبة. وفي «نوادر هشام» : قال: سمعت محمداً في رجل صلى المغرب في منزله ثم أدرك الجماعة، فدخل معهم والإمام في التشهد في آخر صلاته، قال: فإذا سلم الإمام فعلى هذا الداخل معه أن يصلي أربعاً كما يصلي الظهر، لكن يقرأ في كل ركعة بالفاتحة والسورة. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل صلى أربع ركعات جالساً، فلما قعد في الثانية منها قرأ وركع قبل أن يتشهد، قال: هو بمنزلة القيام ويمضي في صلاته لأنه من عمل القيام، وإن كان حين رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الثانية نوى القيام، ولم يقرأ ثم علم، قال: يعود ويتشهد وليست النية في هذا بعمل، وهذا لأنه جالس حقيقة إلا أن في الفصل الأول وجد ما هو من أعمال القيام وهو القراءة، فاعتبر قياماً، وفي الفصل الثاني وجد مجرد النية، ومجرد النية لا أثر لها في تغيير الحقائق. ذكر الحاكم في «المنتقى» : رجل يصلي بإيماء، فلما كان في الرابعة ظن أنها الثالثة، فنوى القيام فقرأ، وكان في قراءته مقدار التشهد ثم تكلم، قال: أجزته صلاته، قال: ولا يكون قائماً بنية القيام حتى يكون مع ذلك عمل يجزىء من شيء في الصلاة أو بزيادة ركوع أو سجود.

الفصل الخامس والثلاثون في المتفرقات

ولو كان صلى ركعتين بإيماء، فلما رفع رأسه من السجود ظن أنه (في) الركعة الثانية، فنوى أن يكون قائماً، فقرأ {الحمد} وسورة ثم ذكر أنها الثالثة، قال: هذا يركع للثالثة ولا يقول التشهد الثانية؛ لأنه صار بالقراءة بمنزلة من قام. ذكر هو في «المنتقى» أيضاً: رجل صلى الظهر بإيماء، فصلى ركعتين بغير قراءة ساهياً، ثم ظن أنه إنما صلى ركعة، فنوى القيام، فقرأ وركع وسجد، ثم علم أن هذه الثالثة وصلى الرابعة بقراءة أجزأته صلاته. ولو كان قرأ في الأوليين، فلما رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الرابعة ظن أنها الثالثة، فنوى القيام ومكث ساعة كذلك، ثم استيقن أنها الرابعة، فلم يحدث فيه في الجلوس حتى مكث كذلك مقدار التشهد لم تفسد عليه صلاته، وبه ختم. الفصل الخامس والثلاثون في المتفرقات رجل أسلم في دار الحرب، فمكث فيها شهراً ولم يعلم أن عليه صلاة، فليس عليه قضاؤها، وقال زفر رحمه الله عليه قضاؤها؛ لأن بقبول الإسلام صار ملتزماً أحكام الإسلام، ولكن قصر عنه خطاب الأداء لجهله له، وذلك غير مسقط للقضاء بعد تقرر السبب، كالنائم إذا انتبه بعد مضي وقت الصلاة. حجتنا: أن ما يجب بخطاب الشرع لا يثبت حكمه في حق المخاطب قبل علمه به، ألا ترى أن أهل قباء افتتحوا الصلاة إلى بيت المقدس بعد فرضية التوجه إلى الكعبة، وجوز ذلك لهم رسول الله عليه السلام، لأنه لم يبلغهم التوجه للكعبة، وكذلك شرب بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين الخمر بعد نزول آية التحريم قبل علمهم، وفيه نزل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَءامَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة: 93) والمعنى فيه، وهو أن الخطاب بحسب الوسع وليس في وسع الآدمي الائتمار قبل العلم، فلو ثبت حكم الخطاب في حقه كان فيه من الحرج ما لا يخفى، ولهذا قلنا أن الحجر في حق المأذون والقول في حق الوكيل لا يثبت قبل العلم. قال: والعلم الذي (يجب) به عليهم الصلاة أن يخبره بذلك رجلان عدلان أو رجل وامرأتان في دار الحرب أو في دار الإسلام. وإن كان ذمياً أسلم في دار الإسلام، فعليه قضاؤها استحساناً. وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: هما في القياس سواء، ولا قضاء عليهما حتى تلزمهما الحجة، وهو

قول الحسن رحمه الله، ولكنا ندع القياس ونقول كما قال أبو حنيفة. وجه القياس يأتينا أن الشرائع لا تلزمه إلا بالعلم والسماع، ولم يوجد، فلا يلزمه القضاء. وجه الاستحسان: وهو أن الخطاب شائع في دار الإسلام، فيقوم شيوع الخطاب مقام العلم به؛ لأنه ليس في وسع المبلغ أن يبلغ كل واحد، إنما الذي في وسعه أن يجعل الخطاب شائعاً، ولأنه ما دام في دار الإسلام يسمع الأذان والإقامة، ويرى حضور الناس الجماعات في كل وقت، فإنما اشتبه عليه ما لا يشتبه ولأنه في دار الإسلام يجد من يسأل عنه، فترك السؤال منه تقصير بخلاف دار الحرب. وعنه أيضاً: من أسلم ومكث سنين لا يعلم أن عليه صلاة أو زكاة أو صيام، وهو في دار الحرب أو في دار الإسلام، قال: ليس عليه قضاؤها معنى، قال: وإن أعلمه بذلك رجلان أو رجل وامرأتان ممن هو عدل، ثم فرط في ذلك كان عليه أن يقضي ما فرط فيه من وقت إعلامه، في دار الحرب كان، أو في دار الإسلام. فإن بلغه في دار الحرب رجل واحد، فعليه القضاء فيما ترك عندهما، وهو إحدى الروايتين عند أبي حنيفة رحمه الله، وفي رواية الحسن عنه: لا يلزمه القضاء حتى يخبره رجلان عدلان مسلمان أو رجل وامرأتان، وهذا بناءً على أصل معروف، وهو أن خبر الواحد هل هو حجة ملزمة أم لا، عند أبي حنيفة: لا يكون حجة، وعندهما: يكون حجة، فالعدد ليس بشرط عندهما. وأما العدالة هل هي شرط؟ عندها جواب «المبسوط» أنهما شرط عندهما، وروى الفقيه أبو جعفر رحمه الله في غريب الرواية أنها ليس بشرط عندهما، حتى إذا أخبره رجل فاسق أو صبي أو امرأة أو عبد، فإن الصلاة تلزمه، وموضع هذا كتاب الاستحسان. وجه رواية الحسن: وهو أن هذا خبر ملزم، فيشترط فيه العدد كالحجر على المأذون وعزل الوكيل والإخبار بجناية العبد، ووجه الرواية الأخرى وهو قولهما وهو الأصح أن كل أحد مأمور من صاحب الشرع بالتبليغ، قال عليه السلام: «رحم الله امرءاً سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها، ثم أداها إلى من لم يسمعها» فهذا المبلغ نظير الرسول من المولى والموكل، وخبر الرسول هناك يلزم فههنا كذلك. وفي «المنتقى» : قال أبو يوسف رحمه الله: من أخبره من عبد أو صبي أو فاسق، فهو إعلام وعليه قضاء ما لم يصلِ بعد الإعلام، وعن أبي حنيفة رحمه الله: إذا أخبره بذلك أناس من أهل الذمة لم يكن عليه أن يقضي شيئاً مما مضى، وقال أبو يوسف: إذا لم يبلغه وهو في دار الحرب لم يقض وإن كان في دار الإسلام. قضى (127ب1) . ذكر الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف رحمهم الله فيمن قال: لله عليّ أن أصلي

نصف ركعة أو أحج نصف حجة، قال: لا شيء عليه، ولو قال: لله عليّ أن أصلي ركعة أو أصوم من نصف يوم وجب عليه صوم يوم وصلاة ركعتين. وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ أن أصلي نصف ركعة، فعليه ركعتان، فلو قال: لله عليّ أن أصلي ثلاث ركعات، فعليه أربع ركعات، فصار عن أبي يوسف في قوله: نصف ركعة روايتان. المعلى عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ أن أصلي الظهر ثماني ركعات ليس عليه إلا الأربع. رجل دخل مع الإمام في الركعة الثالثة من المغرب ينوي به التطوع، فإنه يصلي الثالثة معه، فإذا سلم الإمام قام هو يصلي ثلاث ركعات بقراءة، يقعد في الأولى منهن؛ لأن شروعه في صلاة قد صح، فيلزمه ما على إمامه، والذي على إمامه ثلاث ركعات، إلا أن التطوع ثلاث ركعات غير مشروع، فلهذا يضم إليه الرابعة حتى يصير متطوعاً بأربع ركعات، وهذا لأن الشروع كالنذر، ثم لو نذر ثلاث ركعات يلزمه أربع ركعات، فكذلك إذا شرع في ثلاث ركعات وجب أن يلزمه أربع ركعات، ويقرأ في الثلاث كلها، لأنها تطوع والقراءة في التطوع في كل ركعة فرض، ويقعد في الأولى من الثلاث؛ لأن الأولى من الثلاث ثانية صلاته، والقعدة على رأس الركعتين من التطوع واجب، فإن لم يقعد في الأولى منهن جازت صلاته استحساناً، وهو قولهما. وفي القياس تفسد صلاته، وهو قول محمد وزفر رحمهما الله، ولا يقعد في الثانية من الثلاث؛ لأنها ثالثته، والقعدة على رأس الثالثة من التطوع بدعة غير مشروعة، ويقعد في الثالثة ويسلم؛ لأنها آخر صلاته، والقعدة في آخر الصلاة فرض. الرجل إذا كان خلف الإمام، ففرغ الإمام من السورة لا يكره له أن يقول صدق الله، وبلغت رسله، ولكن الأفضل أن لا يقول ذلك. ذكره شيخ الإسلام في «شرحه» . وفي «الأصل» : إذا صلى وقدامه عَذَرَة أو بول لا يفسد ذلك صلاته، ولكن المستحب له أن يبعد عن موضع النجاسة عند الصلاة، ورأيت في موضع آخر: ويكره أن يصلي وقدامه عَذَرَةٌ أو بول. وفي «الأصل» أيضاً: يكره للمسافر أن يصلي على الطريق، بل ينبغي له أن يتنحى عن الطريق؛ لأن الطريق مشغول بحق المسلمين، فهو كما لو صلى في أرض مغصوبة، فإن وجد موضعاً مباحاً يصلي في ذلك الموضع ولا يصلي على الطريق، فإن لم يجد موضعاً مباحاً ولكن وجد أراضي الناس، فإن كانت الأراضي مزروعة لا يصلي في الأراضي، ولكن على الطريق؛ لأن الضرر في الصلاة في الأراضي في هذه الصورة أكثر من الضرر في الصلاة في الطريق، وإن لم تكن الأراضي مزروعة يصلي في الأراضي، ولا يصلي في الطريق، وإن كانت الأرض للذمي، فالصلاة في الطريق أولى من الصلاة في الأرض. وإذا ذكر سجدتين من ركعتين بدأ بالأولى منهما؛ لأن القضاء معتبر بالأداء، فكما أن الثانية تترتب على الأولى في الأداء فكذلك في القضاء.

وعند الشافعي رحمه الله: من ترك سجدة وصلى بعدها ركعة أو ركعتين يأتي بتلك السجدة ويعيد ما صلى بعدها؛ لأنه حصل قبل أوانه. وهذا بناءً على أصله أن زيادة الركعة، والركعتين في احتمال الرفض والإلغاء كزيادة ما دون الركعة، فإنه عندنا زيادة الركعة الواحدة لا يحتمل الرفض والإلغاء والركعة تتقيد بالسجدة الواحدة، فأداء الركعة الثانية أداء معتبر، فليس عليه إلا قضاء المتروك، وعند الشافعي رحمه الله: الركعة لا تتقيد بسجدة واحدة بل تتقيد بسجدتين. وجه قوله: أن وجود الركعة الثانية إنما يكون بعد تمام الركعة الأولى، وتمام الركعة الأولى إنما يكون بالسجدتين، وهذا الرجل لم يسجد سجدتين، فلم يصح القيام إلى الثانية، والركعة الأولى محتاجة إلى سجدة واحدة، فالتحقت السجدة الواحدة من الركعة الثانية إلى الركعة الأولى، فصارت الأولى ركعة تامة. وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: وجود الركعة الثانية إنما يكون بوجود الركعة الأولى، ووجود الركعة الأولى إنما يكون بوجود أركانها، وأركانها القيام والقراءة والركوع والسجود، والسجدة الأخيرة شرعت متمة للركعة، وتمام الشيء وصفه، والشيء إنما يوجد بوجود أصله، لا بوجود وصفه، وقد وجد هنا أصل الركعة وهو القيام والقراءة والركوع والسجدة، فيصح القيام إلى الثانية، وإذا صح القيام إلى الثانية، فعليه أن يسجد سجدتين، وكذلك إذا ترك ثلاث سجدات من ثلاث ركعات، ثم ذكر في الرابعة فعليه أن يسجد ثلاث سجدات، لأن عليه أن يبدأ بالأولى فالأولى، والأسبق فالأسبق، وعليه سجدتا السهو؛ لأنه أخر ركناً وتأخير الركن يوجب سجدتي السهو إذا كان ناسياً. قال: وكذلك إذا كانت إحديهما تلاوة والأخرى صلبية، فإنه يبدأ بالأولى منهما، وقال زفر رحمه الله: يبدأ بالصلبية؛ لأنها أقوى، ولكنا نقول: القضاء معتبر بالأداء، فإذا كانت سجدة التلاوة من الركعة الأولى، والصلبية من الركعة الثانية بدأ بالتلاوة لتقدم وجوبها في الأداء، فكذلك في القضاء. وإذا سلم وانصرف ثم ذكر أن عليه سجدة صلبية أو سجدة تلاوة، فإن كان في المسجد لم يتكلم عاد إلى صلاته استحساناً، وفي القياس: إذا صرف وجهه عن القبلة لم يمكنه أن يعود إلى صلاته، وهو رواية محمد رحمه الله. وجه القياس: وهو أن صرف الوجه عن القبلة مفسد للصلاة كالكلام، فيمنعه من البناء. وجه الاستحسان: وهو أن المسجد من حيث إنه مكان الصلاة مكان واحد على ما عرف فبقاؤه في المسجد كبقائه في مكان الصلاة، وصرف الوجه عن القبلة غير مفسد للصلاة، كما في حق الملتفت في صلاته.m وهذا القياس والاستحسان نظير القياس والاستحسان فيمن ظن في صلاته أنه رعف، فانسحب ليتوضأ، فوجده مخاطاً، وهو في المسجد، وهناك يبنى على صلاته استسحاناً، وفي القياس: لا يبني، وروي عن محمد رحمه الله رواية أخرى، هذا إذا كان

يذهبُ ووجهه إلى القبلة بأن كان باب المسجد على حائط القبلة، فأما إذا أعرض عن القبلة بوجهه تفسد صلاته وإن كان في المسجد قياساً واستحساناً.. فإن خرج من المسجد فسدت صلاته في الصلبية؛ لأنها من أركان الصلاة، فتركها يوجب فساد الصلاة، وإن كانت تلاوة لا توجب فساد الصلاة لما ذكرنا أنها واجبة، وترك الواجب لا يوجب فساد الصلاة، وعلل محمد رحمه الله في الصلبية لفساد صلاته بالخروج عن المسجد، فقال: لو بقي في الصلاة وقد خرج من المسجد لبقي فيها وقد مشى فرسخاً أو فرسخين، وهذا فسخ محال هذا إذا كان في المسجد. فإن كان في الصحراء، فإن تذكر قبل أن يجاوز أصحابه عاد إلى مكان الصلاة وأتم الصلاة؛ لأن بحكم اتصال الصفوف صار ذلك الموضع كالمسجد بدليل صحة الاقتداء. ولم يذكر في «الكتاب» إذا كان يمشي أمامه. وقيل: وقته بقدر الصفوف خلفه اعتباراً لأحد الجانبين بالآخر، والأصح أنه إذا جاوز موضع سجوده، فذلك في حكم خروجه من المسجد لمنعه من البناء بعد ذلك. ذكر الإمام السرخسي رحمه الله وقد ذكرنا جنس هذا فيما تقدم: رجل افتتح الصلاة، فقرأ وركع ولم يسجد، ثم قام فقرأ وسجد ولم يركع، ثم ذكر ذلك قبل أن يصلي الثالثة، فهذا قد صلى ركعة واحدة؛ لأنه لما قام في الركعة الأولى فقرأ وركع، فقد صح هذا الركوع؛ لأنه حصل، بعد قيام وقراءة فوقع معتبراً إلا أن توقف صحة هذه الركعة على وجود السجدتين، فإذا قام إلى الثانية لم يصح قيامه؛ لأنه إنما يصح القيام من الأولى إلى الثانية بعد تمام الأولى، وهنا قام إلى الثانية قبل تمام الأولى، فلم يصح قيامه، وصار كأنه لم يكن، فالسجدتان لا تكونان معتبرتين من الركعة الثانية؛ لأنهما حصلتا قبل الركوع، والركعة الأولى محتاجة إلى وجود سجدتين، فانصرفت السجدتان إلى الركعة الأولى، فصارت ركعة تامة. فلو أنه قام وقرأ وركع ولم يسجد ثم قام في الثانية وركع وسجد ثم قام في الثالثة وسجد سجدتين ولم يركع قال: هذا إنما صلى ركعة واحدة بالاتفاق، إلا أنه اختلفت الروايات أن المعتبر هي الركعة الأولى، وفي رواية باب السهو: المعتبر هي الثانية. وجه رواية باب الحدث وهو أنه لما قام وركع، فقد وقع هذا الركوع موقعه إلا أنه يوقف هذه الركعة على وجود السجدتين، فإذا لم يسجد وقام إلى الثانية لم يصح قيامه، وصار كأنه لم يكن، فالتحقت السجدتان بالركعة الأولى، فصارت ركعة تامة وبطلت الثانية والثالثة. وجه (128أ1) رواية باب السهو وهو أنه لما قام إلى الثانية وركع وسجد، فقد وقعت هذه السجدة محلها؛ لأنها حصلت بعد قيام وركوع، ومن ضرورة وقوعها محلها بطلان الأولى، فكانت المعتبرة هي الركعة الثانية وبطلت الثالثة أيضاً؛ لأن هذه سجدة حصلت قبل الركوع، فلا يكون معتبراً. فلو أنه قام وسجد ولم يركع ثم قام في الثانية وركع ولم يسجد ثم قام في الثالثة

وركع وسجد، قال: هذا صلى ركعة واحدة أما في رواية باب الحدث: المعتبر هي الركعة الثانية؛ لأنه لما قام وسجد ولم يركع لا تكون هذه السجدة معتبرة؛ لأنها حصلت قبل الركوع، فلما قام إلى الثانية وركع صح هذا الركوع؛ لأنه حصل بعد قيام، إلا أنه توقف صحة هذه الركعة على وجود السجدتين، فإذا قام إلى الثالثة لم يصح قيامه وركوعه؛ لأنه قام وركع قبل تمام الثانية، فصار كأنه لم يقم ولم يركع وسجد سجدتين، والركعة الثانية محتاجة إلى وجود السجدتين، فانصرفت السجدتان إلى الركعة الثانية، فصار المعتبر هي الركعة الثانية، وفي رواية باب السهو المعتبر هي الركعة الثالثة، والمعنى ما بينا. فلو أنه قام وركع ولم يسجد ثم قام في الثانية وركع ولم يسجد ثم قام في الثالثة وسجد ولم يركع، فهذا قد صلى ركعة واحدة في الزيادات كلها؛ لأنه لما قام في الأولى وركع ولم يسجد وقع هذا الركوع معتبراً؛ لأنه حصل بعد قيام وقراءة، فإذا لم يسجد وقام إلى الثانية لم يصح قيامه وركوعه، فإذا قام إلى الثالثة وسجد التحقت السجدتان إلى الركعة الأولى، فصارت ركعة تامة وبطلت الوسطى وعليه سجود السهو في المسائل كلها؛ لأنه أخر ركناً من أركان الصلاة، وبتأخير الركن تجب سجدتا السهو، ولا تفسد صلاته إلا في رواية عن محمد رحمه الله، فإنه يقول: زيادة السجدة الواحدة كزيادة ركعة، بناءً على أصله أن السجدة الواحدة قربة. بيانه في سجود الشكر. فأما عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله: السجدة الواحدة ليست بقربة إلا سجدة التلاوة، وزيادة ما دون الركعة لا يكون مفسداً للصلاة إذا سلم وعليه سجدة السهو، فسجدها أو سجد إحديهما ثم أحدث متعمداً أو قهقهة، فإن صلاته تامة وعليه الوضوء لصلاة أخرى في القهقهة؛ لأن حال ما بعد سجدتي السهو أو بعد إحديهما كحال قعود مقدار التشهد، ولو فعل شيئاً من هذه الأشياء بعدما قعد قدر التشهد لا تفسد صلاته، فكذلك ههنا إذا اقتدى المتطوع، فصلى الظهر في أول صلاته أو في آخر صلاته قطعها، فعليه قضاء أربع ركعات، وهو قياس المسافر يقتدي بالمقيم في صلاة الظهر ثم يقطعه على نفسه. فرق بين هذا وبين الرجل إذا افتتح التطوع ينوي أربع ركعات، فلما صلى ركعتين بدا له أن يتمها، فسلم على رأس الركعتين، فإنه لا تلزمه الركعتان عند أبي حنيفة ومحمد، وهو الظاهر من قول أبي يوسف. افتتح الظهر، فنوى أن يصليها ستاً ثم بدا له وسلم على الأربع تمت صلاته، وكذلك إن دخل المسافر في صلاة الظهر، ونوى أن يصلي أربع ركعات، فبدا له فصلى ركعتين جازت صلاته؛ لأن الظهر في حق المسافر ركعتان كالفجر في حق المقيم فنية الزيادة على ذلك يكون لغواً، وليس عليه شيء، معناه: لا يجب عليه سجدتا السهو. افتتح التطوع ونوى ركعتين وصلى ركعة بقراءة وركعة بغير قراءة فسدت صلاته، فإن لم يسلم حتى قام وصلى ركعتين وقرأ فيهما ونوى قضاء عن الأولى، فإنه لا تجزئه وعليه أن يستقبل الصلاة ركعتين، وكذلك إذا صلى الفجر وقرأ في ركعة منها، ولم يقرأ في

الأخرى فسدت صلاته، ولو أنه لم يسلم ولكن قام وصلى ركعتين، وقرأ فيهما ونوى قضاء عن الأوليين، فإنه لا تجزئة وعليه أن يستقبل الصلاة. وفي «نوادر أبي سليمان» عن محمد: رجل افتتح الصلاة قاعداً من غير عذر ثم قام يصلي بذلك التكبير لم تجزئه صلاته، ولو افتتح قائماً ثم قعد من غير عذر، فجعل يركع مع الإمام وهو قاعد ويسجد، قال: لا تجزئة، وإن كان لم يسجد بالأرض، لكنه أومأ إيماءً، فإنه يقوم، ويتبع الإمام في صلاته وهي تامة، أي صلاته تامة، وقد أتى فيما فعل يريد بقوله: يقوم ويتبع الإمام في صلاته، أنه إذا أومأ بالركوع والسجود ولم يسجد ينبغي له أن يقوم ويركع ويسجد ليصير إتياناً للمأمور به وصلاته تامة؛ لأنه لم يوجد منه سوى الإيماء وبمجرد الإيماء لا تفسد صلاته، وقوله: وقد أساء فيما فعل، معناه: وقد أساء فيما أومأ أول مرة والله أعلم. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: إذا قعد على رأس الرابعة في ذوات الأربع، ثم سها وقام إلى الخامسة، فجاء إنسان واقتدى به يريد التطوع، فعليه قضاء ست ركعات، لأنها صلاة واحدة. وفي «نوادر بشر بن الوليد» عن أبي يوسف: إذا سلم الإمام عن يمينه وعليه سجدتا السهو، فجاء إنسان واقتدى به في هذه الحالة يريد التطوع، ثم تكلم قبل أن يسجد الإمام، فليس عليه شيء وإن سجد الإمام ولم يسجد الرجل معه ثم تكلم، فعليه قضاء الأربع، وهذا لأن السلام محلل قاطع حرمة الصلاة، إلا أنه إذا كان عليه سهو تعود حرمة الصلاة إذا سجد، وإذا لم يسجد لم تعد، وظهر أن الاقتداء لم يصح، فلا يلزمه شيء. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: لو أن رجلاً مسافراً صلى ركعتين ولم يقعد على رأس الثانية حتى قام ساهياً، وهو يظن أنه صلى ركعة، فدخل رجل معه في هذه الحالة يريد التطوع، ثم إن الإمام أخبر بما صنع فقطع صلاته، فعلى هذا الداخل معه أن يصلي ركعتين، وإن قعد المسافر على رأس الثانية ثم قام ساهياً أو عامداً وصلى ركعتين تمام الأربع، فدخل معه هذا الرجل في صلاته يريد التطوع، فعليه أربع ركعات. وفي «الرقيات» : عن ابن سماعة عن محمد افتتح الرجل صلاة ينويها ظهراً ظنها عليه، ثم دخل معه رجل في آخر صلاته يريد التطوع ثم رفضها الإمام، وأفسدها لما علم أنه ليس عليه، فلا شيء عليه ولا على الداخل. الإمام إذا قام إلى الخامسة ناسياً قبل أن يقعد على رأس الرابعة في ذوات الأربع ثم عاد الإمام إلى القعدة ولم يعد المقتدي وقيد الخامسة بالسجدة، جازت صلاة الإمام. واختلفوا في صلاة المقتدي، والإعادة أحوط. روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «من جمع بين صلاتين بغير عذر، فقد أتى باباً من أبواب الكبائر» ، هكذا ذكره الفقيه أبو جعفر رحمه الله قال رحمه الله:

والنوم ليس بتفريط، وروي عن رسول الله عليه السلام: «وإنما التفريط أن يدع الرجل الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى» . وفي «متفرقات أبي جعفر» : أن رجلاً جاء والإمام لم يسجد بعد فكبر، ولم يشاركه في الركوع حتى رفع الإمام رأسه، قال: يسجد معه على سبيل المتابعة، قال: ولهذا قلنا: إن الرجل إذا أدرك الإمام وهو قائم، فكبر وركع الإمام ولم يركع هو معه، وسجد الإمام ولم يسجد هو معه أيضاً ولم يتابعه حتى تفرد وأدى الركوع والسجدتين جميعاً في حالة الانفراد، لا تفسد صلاته، وكذلك لو جاء والإمام راكع، فلم يتابعه في الركوع حتى رفع رأسه ثم تفرد بالركوع جازت صلاته. رجل معه ثوبان بأحدهما نجاسة خفيفة لا يعلم بأيهما، فصلى في إحدى الثوبين الظهر وفي الآخر العصر، وفي الأول المغرب، وفي الآخر العشاء، ذكر هذه المسألة في «متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله» ، وذكر أن فيها ثلاثة أجوبة عن أصحابنا رحمهم الله. روي في كتاب «التحري» عن علمائنا المتقدمين أن صلاة الظهر والمغرب جائزتان، وصلاة العصر والعشاء فاسدتان، وروي عن خلف بن أيوب أن صلاة الظهر جائزة وما سواها فاسدة، وعن أبي القاسم أحمد بن ... أن الصلوات كلها جائزة. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله......... إنه إنما اختلفت أجوبتهم لا ختلاف الوضع، فمن قال بأن الصلوات كلها جائزة، فوضع المسألة عنده أن هذا الشخص حال ما أراد أن يصلي الظهر تحرى، ووقع تحريه على أحد الثوبين أنه هو الطاهر بعلامة رأى فيه، فصلى فيه الظهر ثم ظهر عنده أن الثوب الثاني هو الطاهر بعلامة رأى فيه حال ما أراد أن يصلي العصر، فصلى العصر في الثوب الآخر، ثم ظهر عنده حال ما أراد أن يصلي المغرب أن الطاهر هو الثوب الأول، فصلى فيه المغرب، ثم ظهر عنده حال ما أراد أن يصلي العشاء أن الطاهر هو الثوب الثاني، فصلى العشاء في الثوب الثاني، وإنما جازت الصلاة كلها في هذه الصورة؛ لأن اجتهاد الرأي إذا افضى إلى طهارة ثوب يجب عليه أن يصلي فيه، ولا يسعه غير ذلك، فقد صلى في كل ثوب بإيجاب الشرع أداء الصلاة فيه فيجوز. ومن قال بجواز صلاة الظهر والمغرب وبفساد العصر والعشاء، فوضع المسألة عنده أنه تحرى ووقع تحريه على أحد الثوبين، أنه طاهر من غير أن يرى فيه علامة تدل على طهارته، فصلى فيه الظهر، ثم صلى العصر في الآخر من غير تحر ومن غير أنه وقع في رأيه أنه هو الطاهر، ثم صلى المغرب ولم يعلم بأن عليه إحدى الصلاتين (128ب1) الأوليين ثم صلى العشاء، وإنما جاز ظهره في هذه الصورة لأنه أداها في ثوب طاهر

عنده، وإنما فسد العصر لأنه أداها في ثوب نجس عنده، وهو غير مضطر إلى الصلاة فيه. وإنما جاز المغرب، لأنه صلاها وفي زعمه أنه ليس عليه فائتة وإنما فسدت العشاء لأنه صلاها في حين حكمنا بنجاسته حين حكمنا بجواز الظهر، وهو غير مضطر في الصلاة فيه باجتهاده ورأيه. ومن قال بجواز الظهر وبفساد ما عداها من الصلاة، فوضع المسألة على قوله: أنه صلى الظهر في أحد الثوبين من غير تحر، ثم صلى العصر من غير تحر في الثوب الآخر، ثم صلى المغرب وهو يعلم بفساد العصر ثم صلى العشاء والله تعالى أعلم. مسائل هذا الكتاب مبنية على أصول معروفة في كتاب الصلاة أحدها: أن الترتيب في أركان الصلاة شرط أدائها إلا فيما شرعت مكرّرة كالسجدتين، فإن الترتيب في أداء السجدتين ليس بشرط، حتى لو أتى بالسجدة الأولى في آخر الصلاة تجزئه، ولا تفسد صلاته، وإنما لم يشترط الترتيب فيهما بالنص واعتباراً بالركعات، فإن الترتيب في أداء الركعات ليس بشرط لما كانت الركعات مكررة حتى إنه لو أدرك الإمام في الركعة الثانية من صلاة الفجر وصلى معه، فإنه تجزئه، وإن صلى الثانية قبل الأولى. وأصل آخر: أن المتروكة إذا قضيت التحقت بمحلها وصارت كالمؤداة في محلها. وأصل آخر: أن سلام السهو لا يخرج المصلي عن حرمة الصلاة. وأصل آخر: أن تأخير الركن يوجب سجدتي السهو. وأصل آخر: أن السجدة إذا فاتت عن محلها لا تجوز إلا بنية القضاء، ومتى لم تفت عن محلها تجوز دون نية القضاء، وإنما تفوت عن محلها فتحلل ركعة كاملة، وبما دون الركعة الكاملة لا تفوت عن محلها، لأن ما دون الركعة محل الرفض، فكان في حكم العدم، والركعة الكاملة ليست بمحل الرفض، فلا تكون في حكم العدم. وأصل آخر: أن زيادة ما دون الركعة الكاملة، لا يوجب فساد الصلاة، وزيادة الركعة الكاملة توجب فساد الصلاة إذا كانت الزيادة قبل إكمال أركان الفريضة، ومعنى زيادة ما دون الركعة الكاملة زيادة ركوع أو زيادة سجدة، ومعنى زيادة الركعة الكاملة ركوع وسجدة. وعن محمد أن زيادة السجدة الواحدة قبل إكمال الفريضة يفسدها. وأصل آخر: أن الصلاة متى جازت من وجه وفسدت من وجه أو جازت من وجوه وفسدت من وجه يحكم بالفساد احتياطاً، لأمر المعتاد حتى يخرج عن عهدة ما لزمه ديناً في الذمة بيقين. وأصل آخر: أن المأتي بها من السجدات إذا كان أقل من المتروكات فإنه يخرج المسألة عن اعتبار المأتي بها، وإن كانت المتروكات أقل من المأتي بها، فإنه يخرج المسألة على اعتبار المتروكات؛ لأن التخريج على الأقل أسهل، وإن كانا على السواء، فالمصلي به بالخيار إن شاء خرج المسألة على اعتبار المأتي بها، وإن شاء خرج المسألة على اعتبار المتروكة.

وأصل آخر: إذا شك أنه ترك سجدة أو ركعة، فإنه يأتي بهما احتياطاً ليخرج عن عهدة ما عليه بيقين، وينبغي أن يقدم السجدة على الركعة، ولو قدم الركعة على السجدة تفسد صلاته، وإنما تفسد صلاته إذا قدم الركعة على السجدة؛ لأنه ربما يكون المتروك السجدة، فإذا أتى بالركعة يصير منتقلاً من الفرض إلى النفل قبل إكمال الفرض، وإنه يتوجب فساد الصلاة، وأما إذا قدم السجدة على الركعة لا تفسد صلاته؛ لأنه إن كان المتروك هي السجدة، فإذا أتى بالسجدة فقد تمت صلاته، فبالإتيان بالركعة بعد ذلك يصير منتقلاً إلى الفعل بعد إكمال الفرض، وذلك لا يوجب فساد الصلاة، وإن كان المتروك الركعة، فإذا أتى بالسجدة تقع هذه السجدة زائدة وزيادة سجدة واحدة لا تفسد الصلاة، فلهذا قلنا: إنه يقدم السجدة، فإذا سجد يتشهد ثم يقوم ويصلي ركعة ثم يتشهد ويسلم ويسجد سجدتي السهو. قال محمد رحمه الله: رجل صلى الغداة وترك منها سجدة، فإنه يسجد تلك السجدة سواء علم أنه تركها من أي ركعة، وإذا أتى بها تمت صلاته إذ ليس فيه أكثر من أن يترك الترتيب في السجدة، أو أخر ركناً بعذر إلا أن الترتيب في السجدة ليس بشرط، وتأخير الركن بعذر غير جائز، فبعد ذلك ينظر إن علم أنه تركها من الركعة الأولى ينوي القضاء؛ لأنها فاتت عن محلها، أوإن علم أنه تركها من الركعة الثانية لا ينوي القضاء؛ لأنها لم تفت عن محلها، وإن لم يعلم أنه تركها من أي ركعة ينوي القضاء؛ لأن على أحد تقديرين يلزمه فيه القضاء، وعلى التقدير الآخر لا يلزمه فيه القضاء، فقلنا بأنه ينوي القضاء احتياطاً، ويستوي إن ذكرها قبل السلام أو بعده في الحالين جميعاً إذا سجد تلك السجدة تمت صلاته؛ لأن هذا سلام السهو؛ لأنه سلم وعليه ركن من أركان الصلاة، فلم يخرج عن حرمة الصلاة، فيصير مؤدياً السجدة في حرمة الصلاة، فتتم صلاته لهذا. ثم إذا سجد ينبغي أن يعقد قدر التشهد؛ لأن تلك القعدة قد ارتفعت بالعود إلى السجدة؛ لأن محل السجدة قبل القعدة فترتفض القعدة بالعود إلى السجدة، ليكون إتماماً لسجدة في محلها ثم يسلم ويسجد سجدتي السهو لها لتأخير ركن عن محله أو لزيادة قعدة أتى بها في الصلاة. وإن ترك سجدتين منها، فهذه المسألة على أربعة أوجه: إن علم أنه تركها من الركعة الأولى، فعليه أن يصلي ركعة واحدة بكمالها؛ لأن هذا الرجل ما صلى ركعة واحدة؛ لأنه أتى بركوعين؛ أحدهما: في الركعة الأولى، والثاني: في الركعة الثانية ثم أتى بسجدتين عقيبهما فهاتان السجدتان تنقلان إلى الركوع الأول على رواية باب الحدث وإن نقص الركوع الثاني، وعلى رواية باب السهو هاتان السجدتان للركوع الثاني ويرتفض الركوع الأول، وكيف ما كان يصير مصلياً ركعة واحدة، فيصلي ركعة أخرى. وإن علم أنه تركهما من الركعة الثانية، فإن عليه أن يسجد سجدتين حتى يتم الركعة الثانية، ويقعد قدر التشهد ويسلم ويسجد للسهو، وإن علم أنه تركهما من ركعتين، فإنه

يسجد سجدتين ينوي بالأولى قضاء ما عليه، ولا ينوي بالثانية قضاء ما عليه، ثم يقعد قدر التشهد ويسلم ويسجد للسهو. وإن لم يعلم أنه تركهما من أي ركعة، فإنه يسجد سجدتين ويصلي ركعة؛ لأنه تلزمه سجدتان من وجهين: وهو ما إذا تركهما من ركعتين أو من الركعة الثانية، وتلزمه ركعة من وجه، وهو ما إذا تركهما من الركعة الأولى، فيجمع بينها احتياطاً، وينبغي أن يقدم السجدتين على الركعة؛ لأنه لو قدم الركعة على السجدتين، والواجب عليه سجدتان تفسد صلاته لانتقاله إلى النفل قبل إكمال الفرض، وإذا قدم السجدتين فالواجب عليه ركعة لا تفسد صلاته؛ لأن زيادة السجدة والسجدتين قبل إكمال الفرض لا تفسد الفرض، فلهذا قلنا بتقديم السجدتين وينوي بالسجدة الأولى قضاء ما عليه؛ لجواز أنه ترك من كل ركعة سجدة، فتكون السجدة الأولى قضاء ما عليه لفواتها عن محلها، فتلزمه نية القضاء، ولا تلزمه نية القضاء بالسجدة الثانية؛ لأنها لم تفت عن محلها. وإذا سجد سجدتين يقعد بعدها قدر التشهد لا محالة؛ لجواز أن عليه سجدتين لا غير، وقد أتى بها فيفرض القعدة........ عقيبهما إذ قعدة الختم فرض تفسد الصلاة بتركها، ولو كان الواجب عليه الركعة لا غير، فزيادة التشهد لا يضره، فيقعد عقيب السجدتين قدر التشهد لهذا، ثم يقوم ويصلي ركعة ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو. فإن قيل لماذا لا نأمره بركعة أخرى حتى لا يكون متنفلاً بركعة واحدة إن كان الواجب عليه سجدتان لا غير؟ قلنا: لوجوه: أحدها: أن الركعة الأخرى متردد بين البدعة والتطوع وما تردد بين البدعة والتطوع لا يؤتى به، فأما الركعة الأولى يتردد بين الفرض وبين البدعة، وما يتردد بين الفرض والبدعة يؤتى بها، وهو أصل معروف في كتاب الصلاة، ولأنه يصير متطوعاً بعد الفجر قبل طلوع الشمس، وذلك منهي عنه، ولأنه كما يتوهم أن يكون متنفلاً بركعة إذا سلم عليها؛ لجواز أن يكون (129أ1) الواجب عليه سجدتان يتوهم ذلك إذا أضاف إليهما ركعة أخرى، لجواز أن الواجب عليه قضاء ركعة، فلا معنى للاشتغال بهذا. وإن ترك ثلاثة سجدات ذكر في «الكتاب» أنه يسجد سجدة، ويصلي ركعة. ووجه ذلك: أن هذا الرجل في الحقيقة ما سجد إلا سجدة واحدة، وبالسجدة الواحدة لا تتقيد إلا ركعة واحدة، فيسجد سجدة أخرى إتماماً لتلك الركعة، ثم لا يقعد بعد هذه السجدة، لأنه متيقن أنه لم يتم صلاته، ولكنه يصلي ركعة ثم يقعد ويسلم ويسجد للسهو. وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: ما ذكر محمد رحمه الله من الجواب في هذه الصورة خطأ، والصحيح أنه تلزمه ثلاث سجدات وركعة؛ لأنه من وجه تلزمه ثلاث سجدات، وهو أن يكون المقيد بالسجدة الركعة الأولى، فيسجد سجدة أخرى تتميماً لتلك

الركعة، ثم يسجد سجدتين أخراوين للركعة الثانية ويتم صلاته، ومن وجه تلزمه سجدة وركعة، وهو أن يكون إنما أتى بالسجدة عقيب الركوع الثاني، فإذا سجد سجدة أخرى فهاتان السجدتان تنتقلان إلى الركوع الأول، ويرتفض الركوع الثاني، أو يصيران للركوع الثاني، ويرتفض الركوع الأول على اختلاف الروايتين، وكيف ما كان يصير مصلياً ركعة، فلزمه أن يصلي ركعة أخرى، فهو معنى قولنا: إنه تلزمه ثلاث سجدات من وجه، وركعة وسجدة من وجه، فيجمع بين الكل احتياطاً، ويقدم السجدات على الركعة.t ولو قدم الركعة على السجدات، تفسد صلاته، ويتشهد عقيب السجدات؛ لأنه من وجه تلزمه ثلاث سجدات لا غير، فتكون هذه القعدة قعدة الختم، وقعدة الختم فرض ثم يصلي ركعة ويقعد بعدها؛ لأنه من وجه عليه سجدة وركعة، فتكون هذه الركعة ثانية صلاته، فتفترض القعدة بعدها. ومن المشايخ من قال: ما ذكر محمد من الجواب صحيح، ولكن يصرف تأويله أن يكون مراده من قوله يسجد سجدة ينوي بها أن يكون عن الركعة التي قيدها بالسجدة؛ لأنه إن نوى أن تكون هذه السجدة عن الركعة التي قيدها بالسجدة تلتحق هي بتلك الركعة ويصير هو مصلياً ركعة واحدة، فيلزمه ركعة أخرى، وإذا أتى بها تتم صلاته. وإن تذكر أنه ترك أربع سجدات لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» .

قال مشايخنا رحمهم الله؛ وينبغي أن يلزمه سجدتان وركعة؛ لأن هذا الرجل أتى بركوعين ولم يسجد أصلاً، فإذا سجد سجدتين، فهاتان السجدتان تلتحقان بالركوع الأول أو بالركوع الثاني على اختلاف الروايتين، وكيف ما كان يصير مصلياً ركعة واحدة، فيصلي ركعة أخرى حتى تتم صلاته. رجل صلى المغرب ثلاث ركعات وترك منها سجدة ثم تذكرها، فإنه يأتي بها ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو لما مر، وينبغي أن ينوي بهذه السجدة قضاء ما عليه لجواز أنه تركها من الركعة الأولى أو من الركعة الثانية، فإن على هذا التقدير يجب عليه نية القضاء؛ لأنها فاتت عن محلها، يجوز أنه تركها من الركعة الثالثة، وعلى هذا التقدير لا تلزمه نية القضاء، إلا أن نية القضاء إذا لم تكن قضاء لا يضره، وترك نية القضاء إذا كان قضاء تفسد الصلاة، فأتى بها احتياطاً. ولو تذكر أنه ترك منها سجدتين ولم يقع تحريه على شيء، فإنه يسجد سجدتين ويصلي ركعة؛ لأنه إن تركهما من ركعتين أو من الركعة الأخيرة تلزمه سجدتان، وإن تركها من ركعة قبل الركعة الأخيرة، فعليه ركعة فيجمع بين الكل احتياطاً، ويقدم السجدتين على الركعة وينوي بهما القضاء، لجواز أنه تركهما من الركعة الأولى أو الثانية أو من الأولى والثانية وصارتا ديناً عليه ويقعد بعد السجدتين؛ لأن صلاته قد تمت إن تركهما من الركعة الأخيرة أو من ركعتين ثم يقوم ويصلي ركعة ويتشهد ويسلم ويسجد سجدتي السهو.

وإن تذكر أنه ترك منها ثلاث سجدات، فعليه أن يسجد ثلاث سجدات، ثم يصلي ركعة؛ لأنه من وجه تلزمه ثلاث سجدات، وهو ما إذا تركها من ثلاث ركعات، أو ترك سجدتين من الركعة الأخيرة، وسجد من ركعة قبل الركعة الأخيرة، ومن وجه عليه ركعة وسجدة، وهو ما إذا ترك سجدتين من ركعة قبل الركعة الأخيرة، وسجدة من ركعة، فيجمع بين الكل احتياطاً، فإذا سجد سجدة، فقعد على وجه الاستحباب لا على وجه الفرض؛ لأن من وجه عليه سجدة وركعة، فهذه قعدة على رأس الركعتين من وجه. والقعدة على رأس الركعتين في ذوات الأربع والثلاث واجبة، ومن وجه عليه ثلاث سجدات لا غير فهذه القعدة تكون بدعة، فالقعدة بعد السجدة الواحدة ترددت بين البدعة والواجب، وقد عرف أن ما تردد بين البدعة وبين الواجب يستحب الإتيان بها، ثم يسجد سجدتين أخراوين، ويقعد على وجه الفرض؛ لأنه قد تمت صلاته إن كان عليه ثلاث سجدات لا غير، ثم يصلي ركعة ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو. وإن تذكر أنه ترك أربع سجدات يسجد سجدتين ويصلي ركعتين. وتخريج المسألة على اعتبار المأتي بها، فنقول: هذا الرجل أتى بسجدتين، وإن كان أتى بها في ركعتين، فعليه سجدتان وركعة، وإن كان أتى بها في ركعة، فعليه ركعتان، فيجمع من الكل احتياطاً ويبدأ بالسجدتين ويقعد عقيبهما على سبيل الاستحباب، لا على سبيل الفرض بالطريق الذي قلنا قبل هذا، ثم يصلي ركعة، ويقعد لا محالة؛ لأن صلاته قد تمت إن كان أتى بالسجدتين في ركعتين ثم يصلي ركعة أخرى؛ لأن من وجب عليه ركعتان، فهذا آخر صلاته، فيقعد لا محالة ثم يسلم ويسجد للسهو على نحو ما ذكروا. وإن تذكر أنه ترك منها خمس سجدات، فهذا الرجل ما أتى إلا بسجدة واحدة وبالسجدة الواحدة لا تتقيد إلا ركعة، فيسجد سجدة أخرى إتماماً لتلك الركعة ثم يقوم، ويصلي ركعتين يقعد بينهما، وهذه القعدة سنّة، ويقعد بعدهما وهذه القعدة فرض. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هذا الجواب غلط، وينبغي أن يقال: يلزمه ثلاث سجدات وركعتين؛ لأن من وجه تلزمه ثلاث سجدات وركعة بأن قيد الركعة الأولى بالسجدة، فيسجد سجدة إتماماً لتلك الركعة، ثم يسجد سجدتين ويلتحقان بالركوع الثاني أو الثالث، فيصير مصلياً ركعتين ثم تلزمه ركعة أخرى إتماماً لصلاته، فمن هذا الوجه تلزمه ثلاث سجدات وركعة، ومن وجه آخر تلزمه سجدة وركعتان، فإن قيد الركوع الثاني أو الثالث بالسجدة، فيلزمه سجدة إتماماً لتلك الركعة ويصير مصلياً ركعة، فيلزمه ركعتان أخراوان فيجمع بين الكل احتياطاً. ومن المشايخ من قال بأن ما ذكر من الجواب في «الكتاب» صحيح يصرف تأويله أن يكون مراد محمد من قوله يسجد سجدة تعيين إلحاقها بالركعة التي قيدها بالسجدة؛ لأنها حينئذٍ تلتحق بتلك الركعة ويصير مصلياً ركعة واحدة، فيلزمه ركعتين أخراوين. وإن تذكر أنه ترك منها ست سجدت لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» . قال مشايخنا: وينبغي أن يسجد سجدتين ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ركع ثلاث ركوعات ولم يسجد أصلاً، فتوقف كل ركوع على وجود السجدتين، فيسجد سجدتين إتماماً لركعة واحدة، ثم يصلي ركعتين أخراوين ويتم صلاته. رجل صلى الظهر أربع ركعات وتذكر أنه ترك منها سجدة، فإنه يسجد تلك السجدة، وينوي بها قضاء ما عليه، ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو. وإن تذكر أنه ترك سجدتين ولم يقع تحريه على شيء، فإنه يسجد سجدتين ويصلي ركعة؛ لأنه من وجه تلزمه سجدتان من ركعتين أو من الركعة الأخيرة، ومن وجه تلزمه ركعة بأن تركهما من ركعة قبل الركعة الأخيرة، فيجمع بين الكل احتياطاً، ويبدأ بالسجدتين وينوي بهما قضاء ما عليه، ويتشهد بعد السجدتين لا محالة؛ لأن من وجه عليه سجدتان لا غير، فمن هذا الوجه هذا تمام صلاته ثم يصلي ركعة ويتشهد بعدها لا محالة؛ لأن من وجه عليه الركعة، فمن هذا الوجه هذا تمام صلاته. وإن تذكر أنه ترك ثلاث سجدات سجد ثلاث سجدات وصلى ركعة، لأن من وجهين عليه ثلاث سجدات لا غير، وهو ما إذا تركهن من ثلاث ركعات أو ترك ثنتين منها من الركعة الأخيرة، ومن وجه عليه سجدة وركعة، وهو ما إذا ترك ثنتين منها من ركعة قبل الركعة الأخيرة، فيجمع بين الكل احتياطاً ويقدم السجدات على الركعة ويقعد بعدهن لا محالة، لجواز أنه تمت صلاته ثم يصلي ركعة ويقعد عقبهما لا محالة، لجواز أن صلاته تمت الآن. وإن تذكر أنه ترك أربع سجدات يسجد أربع سجدات ويصلي ركعتين؛ لأنه إن تركهن من أربع ركعات أو ترك ثنتين منها من الركعة الأخيرة وثنتين منها من الركعتين قبل الركعة الأخيرة، فعليه أربع سجدات لا غير، وإن ترك ثنتين منها من ركعة قبل الركعة الأخيرة وثنتين منها من ركعتين قبل الركعة الأخيرة، فعليه ركعة وسجدتان، وإن تركهن من ركعتين قبل الركعة الأخيرة، فعليه قضاء ركعتين، فيجمع بين الكل احتياطاً، فيجسد أربع سجدات، ويقعد بعدهن؛ لأن هذا آخر صلاته باعتبار الوجه الأول، ثم يصلي ركعة ويقعد؛ لأن هذا آخر صلاته باعتبار الوجه الثاني، ثم يصلي ركعة (129ب1) أخرى ويقعد؛ لأن هذا آخر صلاته باعتبار الوجه الثالث. وإن تذكر أنه ترك خمس سجدات، فهذا الرجل ما أتى إلا بثلاث سجدات، فإن أتى بها في ثلاث ركعات، فعليه ثلاث سجدات وركعة، ثلاث سجدات ليصير مصلياً ثلاث ركعات وركعة ليتم صلاته، وإن أتى بها في ركعتين بأن أتى بثنتين في ركعة، وواحدة في ركعة، فعليه سجدة وركعتان، سجدة ليصير مصلياً ركعتين، وركعتين إتماماً لصلاته، فيجمع بين الكل احتياطاً، فإذا سجد سجدة قعد بعدها وهذه قعدة مستحبة؛ لأن من وجه عليه سجدة وركعتان، فمن هذا الوجه تكون هذه القعدة واجبة؛ لأنها على رأس الركعتين، ومن وجه عليه ثلاث سجدات وركعة، فتكون هذه القعدة بدعة، وقد عرفت أن ما تردد بين البدعة وبين الواجب يستحب الإتيان بها، ثم يسجد سجدتين، ولا يقعد

عقبيها؛ لأن هذه القعدة تتردد بين البدعة والسنّة، وما تردد بين البدعة والسنّة لا يؤتى به، ثم يصلي ركعة ويقعد عقبها؛ لأن من وجه عليه سجدة وركعة، ومن هذا الوجه هذه الركعة تكون آخر صلاته، ثم يصلي ركعة أخرى ويقعد؛ لأن من وجه عليه ركعتان، ومن هذا الوجه يكون هذا آخر صلاته. قال بعض مشايخنا رحمهم الله: ما ذكر من الجواب مستقيم فيما إذا نوى بالسجدات إلحاقها بالركعات التي قيدهن بالسجدة، فأما إذا لم ينو ذلك بل سجد ثلاث سجدات مطلقاً، ينبغي أن تفسد صلاته؛ لأن من الجائز أنه أتى بثلاث سجدات في ثلاث ركعات قبل الركعة الأخيرة، ويقيد كل ركعة بسجدة، فإذا سجد ثلاث سجدات يقيد الركعة الأخيرة بثنتين منها، فإذا صلى بعد ذلك ركعتين يصير منتقلاً من الفرض إلى النفل قبل إكمال الفرض وإنه يوجب فساد الفرض. فأما إذا نوى إلحاقها بالركعات التي قيدها بالسجدة تلتحق هذه السجدات بتلك الركعات، ويصير مصلياً ثلاث ركعات، فإذا صلى ركعة بعد ذلك يتم صلاته، فإذا صلى بعد ذلك ركعة أخرى، يصير منتقلاً من الفرض إلى النفل في هذه الركعة، ولكن هذا إكمال الفرض، فلا يفسد الفرض. وإن تذكر أنه ترك ست سجدات، فهذا الرجل إنما أتى بسجدتين، فإن أتى بهما في ركعتين، فعليه سجدتان وركعتان وإن أتى بهما في ركعة فعليه ثلاث ركعات، فيجمع بين الكل احتياطاً، فيسجد سجدتين ويقعد بعدهما على سبيل الاستحباب؛ لأنه صار مصلياً ركعتين من وجه بأن كان عليه سجدتان وركعتان، ثم يقوم ويصلي ركعة ويقعد عقيبهما على سبيل الاستحباب أيضاً؛ لأنها ثانية من وجه بأن كان عليه ثلاث ركعات ثم يصلي ركعة، ويقعد عقيبهما على سبيل الاستحباب أيضاً؛ لأنها ثانية من وجه بأن كان عليه ثلاث ركعات ثم يصلي ركعة ويقعد عقيبهما على سبيل الفرض؛ لأن هذه رابعة من وجه فتفترض عليه القعدة. قال بعض مشايخنا: ما ذكر من الجواب مستقيم إذا نوى بالسجدتين إلحقاهما بالركعتين اللتين قيدهما بالسجدة، فأما إذا لم ينوِ الإلحاق ينبغي أن تفسد صلاته على ما ذكرنا قبل هذا. وإن تذكر أنه ترك سبع سجدات، فهذا الرجل لم يأت إلا بسجدة واحدة، والسجدة الواحدة لا تتقيد بها إلا ركعة واحدة، فيأتي بسجدة واحدة ليصير مصلياً ركعة، ثم يصلي بعد ذلك ثلاث ركعات يصلي ركعة ويقعد، وهذه العقدة سنّة؛ لأنها قعدة على رأس الركعتين في ذوات الأربع، وينبغي أن ينوي بالسجدة إلحاقَها بالركعة التي قيدها بالسجدة، ثم يصلي ركعتين ويقعد ويسلم ويسجد للسهو. وإن تذكر أنه ترك منها ثمان سجدات، فهذا الرجل ركع أربع ركوعات، ولم يسجد أصلاً، فيسجد سجدتين ليصير مصلياً ركعة ثم يصلي ثلاث ركعات والله أعلم. رجل صلى الغداة ثلاث ركعات وترك منها سجدة فسدت صلاته؛ لأن صلاته تفسد من وجه بأن ترك هذه السجدة من إحدى الركعتين الأوليين؛ لأنه زاد ركعة كاملة وعليه ركن من أركان الفريضة، ولا تفسد من وجه بأن ترك هذه السجدة من الركعة الثالثة؛ لأن زيادة ما دون الركعة الكاملة لا توجب فساد الصلاة، فيحكم بالفساد احتياطاً، وإن ترك سجدتين تفسد صلاته أيضاً؛ لأن صلاته تفسد

من وجه بأن ترك هاتين السجدتين من الركعتين الأوليين، أو من إحدى الأوليين، ولا تفسد من وجه بأن ترك اثنتين منها من الركعة الثالثة، فيحكم بالفساد احتياطاً، وإن ترك منها أربع سجدات لا تفسد صلاته. فالأصل في جنس هذه المسائل: أن المأتي بها من السجدات إذا كانت أقل من المتروكات، لا يحكم بالفساد كما في هذه المسألة، ومتى كانت المتروكات أقل من المأتي بها يحكم بالفساد كما في المسائل المتقدمة، وهذا لأن الفساد فيما إذا كانت المتروكات أقل باعتبار أنه زاد ركعة كاملة قبل إكمال أركان الفريضة. وهذا المعنى لا يتأتى فيما إذا كان المأتي بها أقل. بيان ذلك: فيما إذا كان المتروك أربع سجدات أن يقول: هذا الرجل ما أتى إلا بسجدتين، ولا يتقيد بالسجدتين إلا ركعتين، فقد تيقنا أنه ما زاد ركعة كاملة قبل إكمال أركان الفريضة، فلا يحكم بالفساد. ثم كيف يصنع؟ قال: يسجد سجدتين، ويصلي ركعة؛ لأن من وجه عليه سجدتان لا غير، وهو ما إذا أتى بالسجدتين في ركعتين، ومن وجه عليه ركعة، وهو ما إذا أتى بالسجدتين في (ركعتين) ، فيجمع بينهما احتياطاً، فيسجد سجدتين ويقعد عقبيهما لا محالة؛ لأن صلاته قد تمت باعتبار الوجه الأول، ثم يصلي ركعة، وينبغي أن ينوي بالسجدتين إلحاقهما بالركعتين اللتين قيدهما بالسجدة، أما بدون النية، ينبغي أن تفسد صلاته؛ لأنه يجوز أنه أتى بالسجدتين في الركعتين الأوليين في كل ركعة سجدة، فتوقف الركوع الثالث بهما، ويصير زائداً ركعة كاملة قبل إكمال أركان الفريضة، فتفسد صلاته. وإن ترك خمس سجدات، فكذلك لا يحكم بفساد الصلاة؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بسجدة واحدة وبالسجدة الواحدة لا يتقيد إلا ركعة واحدة، فيسجد سجدة أخرى إتماماً لتلك الركعة، وينبغي أن ينوي بهذه السجدة إلحاقها بتلك الركعة التي تقيدت بالسجدة، ثم يصلي ركعة ويتم صلاته. وإن ترك منها ست سجدات لا تفسد صلاته أيضاً؛ لأن هذا الرجل ركع ثلاث ركوعات، ولم يسجد أصلاً فيسجد سجدتين إتماماً لركعة واحدة، ثم يصلي ركعة ويتم صلاته. رجل صلى الظهر خمس ركعات، وترك منها سجدة تفسد صلاته، وكذلك إذا ترك منها سجدتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً تفسد صلاته، وطريق الفساد أنه يصير منتقلاً إلى النفل قبل إكمال أركان الفريضة على نحو ما بينّا في المسألة المتقدمة. وإن ترك ست سجدات لا تفسد صلاته، لأن هذا الرجل ما أتى إلا بأربع سجدات ولا يتقيد بالسجدات الأربعة أكثر من أربع ركعات، فلا يصير منتقلاً إلى النفل قبل إكمال

أركان الفرض، ثم وجه الإتمام أن يسجد أربع سجدات، ويصلي ركعتين؛ لأن من وجه عليه قضاء أربع سجدات وهو أن يكون أتى في كل ركعة بسجدة، ومن وجه عليه قضاء ركعة وسجدتين، وهو أن يكون أتى في ركعتين في كل ركعة بسجدة، وفي ركعة أخرى بسجدتين، ومن وجه عليه قضاء ركعتين، وهو أن يكون أتى بأربع سجدات في ركعتين في كل ركعة بسجدتين، فيجمع بين الكل احتياطاً، فيسجد أربع سجدات ثم يقعد لا محالة لأن صلاته قد تمت باعتبار الوجه الأول، ثم يصلي ركعة ويقعد لا محالة، لأن صلاته قد تمت باعتبار الوجه الثاني ثم يصلي ركعة أخرى، ويقعد لا محالة؛ لأنه تمت صلاته باعتبار الوجه الثالث. قال بعض مشايخنا ما ذكر من الجواب في «الكتاب» محمول على ما إذا نوى بالسجدة التي يأتي بها إلحاقها بالركعات التي قيدها بالسجدات، أما إذا لم ينوِ ينبغي أن تفسد صلاته على نحو ما بينّا قبل هذا. وإن ترك سبع سجدات لا تفسد صلاته أيضاً، ويسجد ثلاث سجدات ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بثلاث سجدات فإن كان أتى بها في ثلاث ركعات في كل ركعة سجدة، فعليه ثلاث سجدات وركعة، وإن كان أتى بسجدتين في ركعة أو بسجدة في ركعة، فعليه سجدة وركعتان، فيجمع بين الكل احتياطاً ثم طريق الإتمام أن يسجد ثلاث سجدات أولاً، ويقعد بعد الأولى على طريق الاستحباب، ولا يقعد بعد الثلاث لا على وجه الاستحباب ولا على وجه الفرض، ثم يصلي ركعة ويقعد على سبيل الفرض؛ لأنه تمت صلاته باعتبار الوجه الأول ثم يصلي ركعة ويقعد؛ لأنه تمت صلاته باعتبار الوجه الثاني. ولو ترك منها ثمان سجدات لا تفسد صلاته أيضاً، ويسجد سجدتين ويصلي ثلاث ركعات؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بسجدتين، فإن كان أتى بهما في ركعتين، فعليه سجدتان وركعتان، وإن كان أتى بهما في ركعة فعليه ثلاث ركعات فيجمع بين الكل احتياطاً، فيسجد سجدتين ويقعد بعدهما على سبيل الاستحباب لأن من وجه عليه سجدتان وركعتان، فيكون ما بعد السجدتين موضع قعوده المستحب، ثم يصلي ركعة ويقعد أيضاً على وجه الاستحباب دون الفرض، لأن من وجه عليه ثلاث ركعات، فيكون ما بعد هذه الركعة موضع قعوده المستحب، ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى على سبيل الفرض؛ لأن من وجه عليه سجدتان وركعتان، فيكون آخر صلاته ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى، ويقعد على سبيل الفرض؛ لأن من وجه عليه ثلاث ركعات، فيكون هذا آخر صلاته، وينبغي أن ينوي بالسجدتين اللتين يأتي بهما إلحاقهما بالركعتين اللتين قيدهما بالسجدة لما ذكرنا قبل هذا. وإن ترك منها تسع سجدات لا تفسد صلاته أيضاً، وهذا الرجل ما أتى إلا بسجدة واحدة، وبالسجدة الواحدة لا تتقيد إلا ركعة واحدة، فيسجد أخرى ينوي إلحاقها بالركعة التي قيدها بالسجدة؛ إتماماً لتلك الركعة، ثم يصلي ركعة ويقعد، وهذه القعدة سنّة ثم

يصلي ركعتين أخراوين ويقعد بعدهما إتماماً لصلاته. وإن ترك منها عشر سجدات، فهذا الرجل ركع خمس ركوعات، ولم يأت بشيء من السجدات فيسجد سجدتين ليتم ركعة ثم يصلي ثلاث ركعات بعد ذلك، ويتم صلاته، وكذلك الجواب في العصر والعشاء. رجل صلى المغرب أربع ركعات وترك منها سجدة فسدت صلاته، وكذلك لو ترك منها سجدتين أو ثلاثاً أو أربعاً فسدت صلاته أيضاً. وطريق الفساد: انتقاله من الفرض إلى النفل قبل إكمال أركان الفرض على نحو ما بينّا في المسائل المتقدمة. وإن ترك منها خمس سجدات لا تفسد صلاته؛ لأنه ما أتى إلا بثلاث سجدات، ولا يتقيد بالسجدات الثلاث أكثر من ثلاث ركعات، فلا يصير منتقلاً من الفرض إلى النفل قبل إكمال أركان الفرض، وطريق الإتمام أن يسجد ثلاث سجدات ويصلي ركعة؛ لأنه من وجه يلزمه (130أ1) ثلاث سجدات لا غير، وهو ما إذا أتى بثلاث سجدات في ثلاث ركعات، ومن وجه عليه سجدة وركعة، وهو ما إذا أتى بسجدتين في ركعة وبسجدة في ركعة، فيجمع بين الكل احتياطاً، فيسجد ثلاث سجدات أولاً ويقعد بعدهن؛ لأن صلاته قد تمت باعتبار الوجه الأول، ثم يصلي ركعة ويقعد لاحتمال الوجه الثاني، وينوي بالسجدات التي يأتي بهن إلحاقها بالركعات التي قيدهن بالسجدة لما ذكرنا غير مرة. وإن ترك ست سجدات لا تفسد صلاته أيضاً، ويسجد سجدتين، ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بسجدتين، فإن كان أتى بهما في ركعتين، فعليه سجدتان وركعة، وإن كان أتى بهما في ركعة فعليه ركعتان، فيجمع بين الكل احتياطاً، فيسجد سجدتين ويقعد عقيبهما على سبيل الاستحباب لا على سبيل الفرض، ثم يصلي ركعة ويقعد على سبيل الفرض؛ لأنه تمت صلاته باعتبار الوجه الأول ثم يصلي ركعة أخرى لاحتمال الوجه الثاني، وينبغي أن ينوي بالسجدتين اللتين يأتي بهما إلحاقهما بالركعتين اللتين قيدهما بالسجدة لما ذكرنا. وإن ترك سبع سجدات لا تفسد صلاته أيضاً، ويسجد سجدة ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بسجدة واحدة وبالسجدة الواحدة لا يتقيد إلا ركعة واحدة، فيسجد سجدة أخرى إتماماً لتلك الركعة ثم يصلي ركعتين ويقعد بينهما وهذه القعدة سنّة، ويقعد عقيبهما أيضاً وهذه قعدة الختم، وينبغي أن ينوي بالسجدة التي يأتي بها إلحاقها بالركعة التي قيدها لما ذكرنا. فإن ترك ثمان سجدات لا تفسد صلاته أيضاً، ويسجد سجدتين ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ركع أربع ركوعات ولم يأت بالسجدة أصلاً، فيسجد سجدتين ليصير مصلياً ركعة ثم يصلي ركعتين ويقعد فيهما وهذه القعدة سنّة، ويقعد عقيبهما أيضاً وهذه قعدة الختم. رجل افتتح الصلاة، وقرأ وركع ولم يسجد ثم قام إلى الثانية وقرأ وسجد ولم يركع ثم قام إلى الثالثة وقرأ وركع ولم يسجد، ثم قام إلى الرابعة وقرأ وسجد ولم يركع، فهذا

إنما صلى ركعتين؛ لأنه لما قام وقرأ وركع ولم يسجد توقف هذا الركوع إلى وجود السجدتين، فإذا قام إلى الثانية وقرأ وسجد ولم يركع تلتحق هاتان السجدتان بذلك الركوع باتفاق الروايات، فيصير مصلياً ركعة واحدة فإذا قام إلى الثالثة وقرأ وركع ولم يسجد، توقف هذا الركوع على وجود السجدتين أيضاً. فإذا قام إلى الرابعة وقرأ وسجد ولم يركع التحقت هاتان السجدتان بذلك الركوع أيضاً، باتفاق الروايات، فيصير مصلياً ركعتين. ولو أنه قام إلى الصلاة وقرأ وركع ولم يسجد ثم قام إلى الثانية وقرأ وسجد ولم يركع ثم قام إلى الثالثة وقرأ وركع وسجد سجدتين ثم قام إلى الرابعة، وقرأ وركع ولم يسجد ثم قام إلى الخامسة، وقرأ وسجد ولم يركع، قال: هذا إنما صلى ثلاث ركعات؛ لأنه لما قام وصلى، وركع ولم يسجد توقف هذا الركوع إلى وجود السجدتين، فإذا قام إلى الثانية وقرأ وسجد لم يركع، فالتحقت هاتان السجدتان بالركوع المتقدم، فيصير مصلياً ركعة واحدة فإذا قام إلى الثالثة وقرأ وركع وسجد صار مصلياً ركعة أخرى، فيصير مصلياً ركعتين، ثم لما قام إلى الرابعة قرأ وركع ولم يسجد توقف هذا الركوع على وجود السجدتين، فإذا قام إلى الخامسة وقرأ وسجد ولم يركع التحقت هاتان السجدتان بالركوع المتقدم، فيصير مصلياً ركعة أخرى، فيصير مصلياً ثلاث ركعات. ولو قام إلى الصلاة وقرأ وركع، ولم يسجد ثم قام إلى الثانية وقرأ وركع ولم يسجد أيضاً، ثم قام إلى الثالثة وقرأ وسجد ولم يركع ثم قام إلى الرابعة، وقرأ وركع وسجد، قال: هذا إنما صلى ركعتين؛ لأن في هذه الصورة توقف الركوع الأول والركوع الثاني على وجود السجدتين، فإذا سجد في الركعة الثالثة، ولم يركع تلتحق هاتان السجدتان بالركوع الأول أو بالركوع الثاني على اختلاف الروايتين، وكيف ما كان يصير مصلياً ركعة، ثم لما قام إلى الرابعة وقرأ وركع وسجد صار مصلياً ركعة أخرى، فتبين أنه صار مصلياً ركعتين فيقوم ويصلي ركعتين أخراوين، فتمت صلاته. رجل افتتح الصلاة خلف الإمام ثم قام حتى صلى الإمام أربع ركعات وترك من كل ركعة سجدة، فلما قعد الإمام في التشهد انتبه هذا الرجل، فأحدث الإمام وتقدم هذا الرجل، فإنه لا ينبغي له أن يتقدم؛ لأن المقصود من الاستخلاف إتمام صلاة الإمام، وغيره أقدر على إتمام صلاة الإمام؛ لأنه لاحِقٌ قد أدرك أول الصلاة، فعليه أن يبدأ بالأَولى فالأَولى، فلهذا لا ينبغي له أن يتقدم. مع هذا لو تقدم جاز؛ لأن صحة الاستخلاف تعتمد المشاركة بين الإمام وبين الخليفة في الصلاة، وهذا شريك في هذه الصلاة فيصح استخلافه. وينبغي له أن يصلي ركعة بسجدة من غير أن يصلي القوم معه؛ لأنهم قد أدّوا هذه الركعة مع الإمام، ثم يسجد السجدة التي تركها الإمام؛ لأنهم قد أدوا هذه الركعة مع الإمام، ثم يسجد السجدة التي تركها الإمام من تلك الركعة ويسجد القوم معه؛ لأن عليهم قضاء هذه السجدة مع الإمام. وكذلك يفعل في الركعة الثانية والثالثة والرابعة؛ يصلي كل ركعة منها بسجدة من

غير أن يصلي القوم معه، ثم يسجد السجدة التي تركها الإمام من تلك الركعة، ويسجد القوم معه، وإنما وجب عليه تقديم الركعة على السجدة التي تركها الإمام؛ لأنه لاحق أدرك أول الصلاة، واللاحق يبدأ بالأول فالأول، فإذا أتى بالركعات كلها على نحو ما بينا يتشهد ويسلم ويسجد للسهو ويسجد القوم معه؛ لأنه خليفة الإمام الأول، وعلى الإمام الأول أن يسجد للسهو والقوم يسجدون معه، فكذا هذا الخليفة. ثم قال في «الكتاب» : قلت: إنما تفسد عليه صلاته، قال: ولماذا تفسد؟ قلت: لأن الإمام مرة يصير إماماً للقوم ومرة غير إمام، وهذا قبيح، قال: ولو كان هذا في ركعة استحسنت أن أجيزه، يريد بهذا أنه لو ترك سجدة من الركعة الأخيرة وقام رجل خلفه عن هذه الركعة، فأحدث الإمام وقدم هذا الرجل والقوم قعود، فإن هذا الرجل يقوم ويصلي ركعة بسجدة، والقوم لا يتابعون في تلك السجدة ولا تفسد عليه صلاته، ذكر هذا السؤال في «الأصل» ، ولم يذكر الجواب، ففيه إشارة إلى أن ههنا قول آخر أنه لو صلى هكذا أنه تفسد عليه صلاته، ووجه ذلك: أن هذا الرجل يصير مقتدياً وإماماً في صلاة واحدة مراراً. بيانه: أنه حين يقوم في الركعة الأولى، فهو في الحكم كان خلف الإمام مقتدياً به؛ لأنه لاحق أدرك أول الصلاة، فإذا أدى الأمر إلى السجدة التي تركها الإمام من الركعة الأولى يصير فيها إماماً للقوم، ثم إذا قام إلى الركعة الثانية يصير مقتدياً بالإمام الأول، ويخرج من أن يكون إماماً للقوم، فإذا أدى الأمر إلى السجدة التي تركها الإمام من هذه الركعة يصير إماماً للقوم فيها، وكذلك في الركعة الثالثة والرابعة. فهو معنى قولنا: إن هذا الرجل يصير إماماً ومقتدياً في صلاة واحدة مراراً، وإنه قبيح، لكن استحسن في الركعة الواحدة؛ لأن في الركعة الواحدة لا يتكرر خروجه من حكم الإمامة وعوده إليه. قالوا: وينبغي لهذا الرجل على هذا القول إذا أراد أن لا تفسد صلاته أن يسجد تلك السجدات التي تركها الإمام، ويتابعه القوم فيهن، ثم يتشهد ويقدم عليه غيره حتى يسلم بهم ثم يقوم هذا الرجل ويقضي ما فاتته وحده، فلا يؤدي إلى الاستحالة التي ذكرها، إلا أنه يلزمه أمر مكروه، فإنه يصير آتياً بالسجدة قبل الإتيان بالركوع، وإنه مكروه، والله تعالى أعلم بحقائق الأمور وهو الرحيم الغفور وبه ختم الطهارات والصلاة من المحيط (130ب1) .

كتاب الزكاة

كتاب الزكاة هذا الكتاب يشتمل على سبعة عشر فصلاً: 1 * في كيفية وجوبها. 2 * في بيان سبب وجوب الزكاة. 3 * في بيان مال الزكاة. 4 * في تصرف صاحب المال في النصاب بعد الحول وقبله. 5 * في انقطاع حكم الحول وعدم انقطاعه. 6 * في تعجيل الزكاة. 7 * في أداء الزكاة والنية فيه. 8 * في المسائل المتعلقة بمن توضع الزكاة فيه. 9 * في المسائل المتعلقة بمعطي الزكاة. 10 * في بيان ما يمنع وجوب الزكاة. 11 * في الأسباب المسقطة للزكاة. 12 * في صدقات الشركاء. 13 * في زكاة الديون. 14 * في المال الذي ينوى ثم يقدر عليه. 15 * في المسائل التي تتعلق بالعاشر. 16 * في إيجاب الصدقة وما يتصل به من الهدي وأشباهه. 17 * في المتفرقات.

الفصل الأول في كيفية وجوبها

الفصل الأول في كيفية وجوبها فنقول: ذكر أبو الحسن الكرخي رحمه الله في كتابه: إنها على الفور، وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» أنها على الفور عند أبي يوسف ومحمد، وفي موضع آخر في «المنتقى» أنه إذا لم يترك حتى حال عليها حولان، فقد أساء وأثم، وعن محمد إن من لم يؤد الزكاة لم تقبل شهادته، وأن التأخير لا يجوز. ووجه ذلك: أن الأمر بالأداء إن كان معلقاً إلا أنه تعين الفور، بدليل أن الزكاة إنما وجبت لدفع حاجة الفقر، وحاجته ناجزة. وقال أبو بكر الرازي رحمه الله: إنها تجب على التراخي، وهكذا روى ابن شجاع، والبلخي عن أصحابنا. قال البلخي رحمه الله: وكذلك الحج، وهذا لأنه ليس في كتاب الله تعالى وما في سنّة رسوله بيان وقت أداء الزكاة، ولا يمكن إتيانه قياساً؛ لأن شروط العبادة لا تثبت قياساً كأصلها، فيبقى جميع العمر وقتاً لها كما في قضاء رمضان وكما في الكفارات. الفصل الثاني في بيان سبب وجوب الزكاة قال المحققون من مشايخنا: سبب وجوب أصلها في الذمة المال، وليس معناه أن الموجب هو المال بل الموجب هو الله تعالى، ولكن معناه: أن الله تعالى جعل المال سبباً لوجوب الزكاة كما أن المروي والمشبع هو الله تعالى، ولكن جعل الماء والطعام سبباً للري والشبع، وعلى قول هؤلاء الخطاب يطلب الأداء لا لأجل الوجوب في الذمة، وعليه اعتمد الإمام أبو منصور الماتريدي في كتاب «مأخذ الشرائع» . وقال بعض مشايخنا: وجوب أصلها في الذمة بالخطاب أيضاً، ويقول به عامة أصحاب الشافعي رحمهم الله؛ لأن المال لا يمكن أن يجعل سبباً؛ لأن المال موجود في حق كثير من الأشخاص، ولا وجوب نحو الذي أسلم في دار الحرب، ومن أشبهه. وجه قول المحققين من مشايخنا: أنها تضاف إلى المال، والحكم إنما يضاف إلى سببه قضية الأصل؛ لأن الأصل في الإضافات إضافة الحادث إلى سبب الحدوث؛ لأن الإضافة للاختصاص؛ ومعنى الحدوث به سابق على سائر معاني الاختصاص إلا أن الشرع جعل المال سبباً في وضع لا يؤدي إلى الحرج، وفي حق الذي أسلم في دار الحرب يؤدي إلى الحرج لتضاعف الواجبات.

الفصل الثالث في بيان مال الزكاة

غير أن مطلق المال ليس بسبب، إنما السبب المال النامي؛ لأن الزكاة وجبت بطريق التيسير بأداء عن نماء، ولهذا لم يجب القليل في القليل ولا الكثير في الكثير، ولم يجب مالاً بل وجب القليل في الكثير، ووجب مؤجلاً لا حالاً، وحتى التيسير إنما يتحقق بالأداء من نماء المال حتى يؤدي من عليه الواجب من النماء، ويبقى له أصل المال، غير أن طريق النماء في الحيوانات النسل، وفيما عداها من الأموال التجارة. غير أنه يسقط اعتبار حقيقة النماء، فإنه أمر خفي تتفاوت فيه أحوال الناس، فأقيم الإسامة به حولاً في الحيوانات مقام حصول النسل؛ لأنه زمان النسل عادة، وأقيم الإمساك بنية التجارة حولاً في غيرها من الأموال سوى الأثمان مقام حصول النماء؛ لأنه زمان حصول النماء عادة، إنما فعلنا ذلك دفعاً للحرج عن الناس والله أعلم. الفصل الثالث في بيان مال الزكاة فنقول: مال الزكاة الأثمان، وهو: الذهب والفضة وأشباهها، والسوائم وعروض التجارة فنعتبر ذلك نوع نذكر فيه مسائله والأحكام المتعلقة به، فنبدأ ببيان أحكام الذهب والفضة وأشباهها، لأن الحاجة إلى معرفة ذلك أمسّ فنقول: الزكاة واجبة في الذهب والفضة، مضروبة كانت أو غير مضروبة، نوى التجارة أو، لا إذا بلغت الفضة مائتي درهم، والذهب عشرين مثقالاً، وإذا نقص نقصاناً لا يسيراً يدخل بين الوزنين لا تجب الزكاة إن كان كاملاً في حق غيره، هكذا ذكر القدوري في «كتابه» ، وهذا لأن الزكاة إنما تجب على المال، فيعتبر كمال النصاب في حقه، فإذا كان ناقصاً في حقه لا تجب الزكاة. والمعتبر في الدراهم وزن سبعة، وهو أن تكون كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل على ما يزن الناس اليوم كما جرى التقدير في ديوان عمر رضي الله عنه، وقيل في تفسير وزن سبعة ما ينقص كل مائة منها سبعة مثاقيل، وعلى هذا القول وزن خمسة ما ينقص كل مائة منها خمس مثاقيل، والأصح هو التفسير الأول. وأصل ذلك ما حكى الفقيه أبو الليث رحمه الله في «فتاويه» في آخر باب الصلح أن الدراهم على عهد عمر رضي الله عنه كانت على ثلاثة أنواع: نوع اثنا عشر قيراطاً، ونوع عشرون قيراطاً، ونوع عشر قراريط، وكان الدينار على نوع واحد وهو عشرون قيراطاً. وكان يقع بين الناس الخصومة في مبايعاتهم بالدراهم. فشاور أصحابه في ذلك، فقيل له: خذ من كل نوع ثلثه وأخذ عمر رضي الله عنه ثلث العشرة وثلث اثنا عشر وثلث العشرين، فبلغ ذلك أربعة عشر قيراطاً، فجعل وزن الدراهم أربعة عشر قيراطاً وقدر وزن الدنانير على حالها، فبلغ وزن عشرة دراهم مائة وأربعين قيراطاً كل درهم أربعة عشر، وهو وزن سبعة دنانير كل دينار عشرون قيراطاً، وهذا هو تفسير وزن السبعة في الدراهم.

واختلفوا في وزن الدراهم على عهد رسول الله عليه السلام، فقيل: إنها كانت على وزن ستة، والأصح أنها كانت على وزن خمسة. وكذلك على عهد الصديق ثم صارت وزن سبعة على عهد عمر رضي الله عنه. وكذلك اختلفوا أن الدراهم متى صارت مدورة؟ والمشهور إنما صارت مدورة على عهد عمر، وقبل ذلك كان على شبه النواة. وإذا زاد الدرهم على مائتين أو زاد الدينار على عشرين فعلى قول أبي حنيفة: لا شيء في الزيادة في الدرهم حتى يبلغ أربعين درهماً، وفي الذهب أربعة مثاقيل. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله: تجب فيما زاد بحسابه، وذلك ربع العشر، ويضم الذهب إلى الفضة، والفضة إلى الذهب ويكمل أحد النصابين بالآخر عند علمائنا رحمهم الله؛ لحديث بكر بن عبد لله بن الأشج أنه قال: مضت السنة في ضم الذهب إلى الفضة في باب الزكاة، ولأن الذهب والفضة إن كانا مختلفين صورة فهما متفقان معنى من حيث إنه تعلق بهما وجوب الزكاة، وهو وصف لثمنيته، فجاء تكميل أحدهما بالآخر بخلاف البقر مع الإبل، فإن الزكاة تعلقت بهما باعتبار العين، والأعيان مختلفة حقيقة، ثم قال أبو حنيفة رحمه الله آخراً: يضم باعتبار القيمة، وقال أبو يوسف ومحمد: يضم باعتبار الأجزاء، يعني به الوزن. وأشار المعلى في «نوادره» ، إلى أن أبا يوسف رجع عن هذا القول، وقال: يضم باعتبار القيمة وصورة الكتاب بالأجزاء والوزن أن يكون النصف من هذا وزناً والنصف من آخر وزناً، بأن كانت الدراهم مائة والدنانير عشرة أو كان الربع من أحدهما وزناً، وثلاثة الأرباع من آخر وزناً بأن كانت الدراهم خمسين والدنانير خمسة عشر، أو كانت الدراهم........... القيمة بأن كانت الدراهم مائة والدنانير (131أ1) خمسة، وقيمتها مائة أو كانت الدنانير عشرة، والدراهم خمسين قيمتها عشرة دنانير. وثمرة الاختلاف لا تظهر حال تكامل الأجزاء والوزن، لأنه متى انتقص قيمة إحداهما وزاد قيمة الآخر، فيمكن تكميل ما انتقص منه بما ازداد وكمل النصاب وزناً (و) قيمة، فتجب الزكاة بلا خلاف، وإنما تظهر حال نقصان الأجر أو الوزن، فعلى قول أبي حنيفة: تجب الزكاة؛ لأنه يعتبر القيمة، وقد كمل النصاب باعتبار القيمة، وعلى قولهما: لا تجب الزكاة لأنهما يعتبران الوزن والأجزاء ولم يكمل النصاب من حيث الوزن والأجزاء، والحاصل أنهما يعتبران الوزن حالة الاجتماع، وأبو حنيفة اعتبر القيمة حالة الاجتماع. وأجمعوا على أن العبرة للوزن حالة الانفراد حتى إذا كان له أقل من مائتي درهم قيمتها عشرون ديناراً، أو كان له أقل من مائتي درهم قيمتها عشرون ديناراً، أو كان له أقل من عشرين ديناراً قيمتها مائتا درهم، أو كان له قلب فضة وزنه مائة وخمسون، وقيمته لصياغته عشرون ديناراً، أو كان له قلب ذهب وزنه خمسة عشر وقيمته لصياغته مائتا درهم لا تجب الزكاة.

وإنما اعتبر الوزن حالة الانفراد لقوله عليه السلام: «في مائتي درهم خمسة دراهم» والمراد من الدرهم الوزن، وقال عليه السلام: «في عشرين مثقال ذهب نصف مثقال» ، والمثقال هو الوزن، فالنبي عليه السلام نصّ على الوزن حالة الانفراد، فإن بلغ الوزن نصاباً حالة الانفراد فلا يبقى للقيمة عبرة؛ لأن القيمة إنما تعرف بالاجتهاد في موضع النص إذا كان العبرة للوزن حالة الانفراد، فإن بلغ الوزن نصاباً حالة الانفراد تجب الزكاة، وما لا فلا. جئنا إلى حالة الاجتماع: فهما يعتبران الوزن حالة الاجتماع اعتباراً لحالة الاجتماع بحالة الانفراد، وأبو حنيفة رحمه الله اعتبر القيمة حالة الاجتماع. وفرق بين حالة الاجتماع وبين حالة الانفراد، فقال: في حالة الانفراد؛ إنما تعتبر القيمة بخلاف القياس؛ لأن المال مال التجارة، وفي مال التجارة تعتبر القيمة كما في سائر أموال التجارة، إلا أن في حالة الانفراد لما اعتبر الشرع الوزن والتقويم اجتهاداً ولا عبرة للاجتهاد حال وجود النص كان ذلك من الشرع إسقاطاً لاعتبار القيمة، فإن في حال الاجتماع لا نص على اعتبار الوزن، فيجب العمل فيه بالقياس. في «المنتقى» : عن أبي يوسف رجل عنده عشرة دنانير ومائة درهم إن صرف الدنانير إلى الفضة، فقومها دراهم كان له مائتا درهم وزيادة، وإن أضاف الفضة إلى الدنانير، فقومها دنانير كان له أقل من عشرين دنانير، فلا زكاة حتى يكون أي مئة أضاف إلى الأخرى وجب فيها الزكاة، وهو قول أبي حنيفة أولاً، وقال أبو حنيفة آخراً: إذا وجب عليه الزكاة في أحد الوجهين، ولم يجب في الوجه الآخر، فعليه الزكاة. ذكر القدوري في «كتابه» : روى الحسن عن أبي حنيفة أن الزكاة تجب في الدراهم النبهرجة والزيوف، وما كان الغالب فيه الفضة إذا كانت مائتي درهم؛ لأن اسم الدرهم ينطلق على ما كانت الفضة فيه غالبة، فيتناولها النص الموجب باسم الدراهم، وإن كانت ستوقة ليست للتجارة لم تجب الزكاة فيها حتى يبلغ ما يكون فيها من الفضة مائتين؛ لأن الغالب فيها الغش فلا يتناولها اسم الدرهم، فينظر إلى ما فيها من الفضة، وهذا إذا لم تكن للتجارة، فإن كانت للتجارة، وقد بلغت قيمتها مائتين وجبت الزكاة؛ لأنه إذا لم ينطلق عليها اسم الدرهم لم تكن بمنزلة الأثمان، فتكون بمنزلة العروض، وفي العروض تجب الزكاة إذا كانت للتجارة وقد بلغت قيمتها مائتين، كذا هنا. وأما الفلوس، فلا زكاة فيها إذا لم تكن للتجارة، وإن كانت للتجارة، فإن بلغت

قيمتها مائتين وجبت الزكاة لما ذكرنا، وكان الفقيه أحمد بن إبراهيم رحمه الله يقول: من ملك مائتي درهم عطريفية، فإن كانت للتجارة تجب فيها الزكاة، وإن كانت للنفقة، فإن كان فيها فضة....... لفضة تجب الزكاة وما سوى الفضة لا تجب. وكان الفقيه أبو إسحاق الحافظ يقول على قول أبي حنيفة: تجب الزكاة إذا أمسكها للنفقة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد فيها: الزكاة وإن كانت للنفقة. وروي عن أبي عبد الله أحمد بن أبي حفص الكبير أنه قال: لسنا نأخذ بقول أبي حنيفة في هذه المسألة إنما نأخذ بقول أبي يوسف ومحمد.......... علم بد رأيهما عن أبي حنيفة والعطارف يسمى دراهم في عرفنا، فيتناولها النصير الموجب باسم الدراهم. وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يفتي في العطارف بوجوب الزكاة في المائتين منها عدد الخمسة دراهم، وكان يقول يجب أن يكون هذا قول أصحابنا جميعاً؛ لأن الثمينة، وقد تقررت فيها في بلادنا بحيث لا تتغير حيث تقررها في الذهب والفضة، وبه أخذ الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، ومشايخ زماننا قالوا: هم إنما أفتوا في زمنهم بهذا حيث تقررت الثمينة فيها، أما في زماننا قد تراجعت ولم تبق ثمناً، فلا يمكن إيجاب الزكاة فيها باعتبار المعنى، فينظر إلى أنها من الفضة. وروي عن سعد بن معاذ المروزي أنه قال: العطريفية إذا كانت ألفاً ومائتي درهم تجب فيها الزكاة وما لا فلا، وفي ألف ومائتي عطريفية خمسة دراهم، وذلك لأن في كل عطريفية دانق فضة، وما سواه نحاس وألف ومائتا دانق يكون مئتي درهم، وفي مائتي درهم خمسة دراهم. ولو أن رجلاً أعطى خمسة دراهم عن مائتي درهم رجلاً عن الزكاة ثم جاء المعطى له وقال وجدتها ستوقة، فإن كان في أكثر رأيه أنه صادق غير متهم، فإنه يصدقه، ولا شيء عليه إذا كان الذي وجد ستوقاً ليس فيه فضة، وكان للمعطى أن يستر ذلك من المعطي؛ لأن المعطي لم يملك؛ لأنه ليس بمحل للتمليك بجهة الزكاة، وإن كانت نبهرجة لم يسترد منه؛ لأنه ملك ذلك؛ لأنه محل التمليك بجهة الزكاة في الجملة، فلا يملك الاسترداد منه وإن لم يجزئه ذلك عن زكاة ماله في هذه الصورة؛ لأن من حجة المعطي أن يقول: شرط أن يكون ذلك من الزكاة لم تكن بيني وبينك، وإنما ذلك بينك وبين الله تعالى، هكذا حكي عن الفقيه أحمد بن إبراهيم رحمه الله. وفي الباب المعلمة بعلامة النون من «الواقعات» : رجل له مائتا درهم حال عليها الحول، فأدى زكاتها خمسة، فوجد الفقير فيه منها درهماً ستوقه فجاء به ليرده على صاحب المال، فقال صاحب المال رد عليّ الباقي؛ لأنه ظهر أنه لم يكن عليّ زكاة ليس له أن يسترد؛ لأنه ظهر أنه أداه على وجه التطوع، فلا يكون له الرجوع إلا إذا رد الفقير

باختياره، ويكون ذلك من الفقير بمنزلة الهبة المبتدأة، حتى لو كان الفقير صبياً، ورده باختياره لا يحل له الأخذ. رجل له مائتا درهم نقد بيت المال حال عليها الحول؛ فأدى عنها خمسة زيوفاً أو........ فإنه يجزىء ذلك عن زكاة المائتين عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد يجزئه مقدار مال الزيوف لا غير حتى لو كانت قيمة الزيوف أربعة دراهم جياد، فعليه أن يؤدي الدرهم الخامس عند محمد، وعندها ليس عليه شيء آخر. فوجه قول محمد: أن الواجب خمسة جاز إن ماز الزيوف عنها إنما يجوز إذا كان الزيوف (131ب1) مثلاً للجياد، وإنما تكون الزيوف مثلاً للجياد إذا سقط قيمة الجودة، والجودة في الأموال الربوية إنما يسقط اعتبارها عند المقابلة بجنسها فيما بين المتعاقدين كيلاً يؤدي إلى الربا، ألا ترى أن في حق الثالث لا يسقط اعتبارها، لما كان لا يؤدي إلى الربا، لأنها إنما تظهر قيمة الجودة في حق الصغير والربا لا تجري بين المتعاقدين وغيرها، فثبت أن للجودة قيمة في موضع لا يؤدي إلى الربا وإن حصلت المقابلة بجنسها. إذا ثبت هذا فنقول: اعتبار قيمة الجودة في حق الفقير يؤدي إلى الربا من وجه دون وجه، من حيث إن الفقير بما أخذ من الغني لا يملك من الغني قدر الواجب؛ لأن قدر الواجب لا يصير ملكاً للفقير قبل الأخذ، بل أخذه صلة ليسا بمتعاقدين، ومن حيث إنه تعلق بالواجب حق الفقير حتى ضمنه المالك عند الاستهلاك، والحق يلحق بالحقيقة متعاقدين؛ لأنه يصير مملكاً قدر الواجب من صاحب المال بما أخذ، فتمكن الربا من وجه دون

وجه، والعمل بالأمرين متعذر على حال، لما بينهما من التنافي، فعملنا بهما في حالين، فقلنا: متى كان في اعتبار الربا منفعة للفقير أو احتياط لأمر العبادة نعتبر الربا كما إذا وجب للفقير على الغني خمسة دراهم نبهرجة، فأعطاه أربعة جياداً تساوي خمسة نبهرجة لا يجوز؛ لأن في اعتبار الربا منفعة للفقير، فإنه يأخذ درهماً آخر، فتعتبر الربا ويؤخذ بالاحتياط وتسقط قيمة الجودة، وإذا كان في اعتبار الربا ضرر بالفقراء تعتبر الربا، ألا ترى أن صاحب المال لو أدى المال إلى الفقير ستة دراهم زيوفاً مكان خمسة دراهم جياد يجوز، وأخذ الستة مكان الخمسة ربا كما في حقوق العباد، ثم لم يعتبر الربا؛ لأن في اعتبار الربا ضرر على الفقير، فإنه لما سلم لهم الدرهم السادس، فلم تعتبر الربا؛ لأن في اعتبار الربا ضرر على الفقير، ولم يسقط قيمة الجودة.l إذا ثبت هذا فنقول: في مسألتنا في اعتبار الربا ضرر على الفقير؛ لأنه يفوت حقه في الجودة، ولا يصل إليه درهم آخر، ومن لم يعتبر الربا لا يفوت حقه في الجودة، فيصل إليه درهم آخر بإزاء الجودة، فلا تعتبر الربا أو الجودة في مال الربا لها قيمة، وإن قوبلت بجنسها إذا كان لا يؤدي إلى الربا. وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا: إن الربا فيما بين الفقير والغني ممكن من وجه دون وجه، فتمكن شبهة الربا على كل حال، والشبهة تلحقه بالحقيقة في باب المحرمات احتياطاً، فمست الضرورة إلى إسقاط قيمة الجودة في مسألتنا تحرزاً عن شبهة الربا، وإذا سقط اعتبار قيمة الجودة ههنا لا يضمن صاحب المال شيئاً، وأما إذا أدى ستة دراهم مكان خمسة دراهم ناوياً عن زكاة ماله؛ إنما جاز ولم يعتبر الربا؛ لأن المعارضة من الفقير والغني لا تثبت نصاً، وإنما ثبت في ضمن نية الربا، فإن صاحب المال بنية الزكاة قصد قضاء ما عليه من الحق للفقير واستخلاص ما للفقير لنفسه. ونية الزكاة من الغني بقدر خمسة إذا كان عليه خمسة، ولم يصح بقدر الدرهم السادس، وإذا لم تصح نية الزكاة في الدرهم السادس صار كأنه نوى أن تكون الخمسة زكاة والدرهم السادس تطوعاً، ولو نوى على هذا الوجه لا يتمكن الربا، أما ههنا نية الزكاة صحت بقدر خمسة؛ لأن عليه زكاة خمسة، وإذا صحت نية الزكاة بقدر خمسة ثبتت بين الغني والفقير معارضة باعتبار الحق إن كان لا يثبت باعتبار الملك، فيمكن شبهة الربا. وعلى هذا إذا كان مال الزكاة مكيلاً أو موزوناً، فأعطى من جنسها (ما) هو أجود منه، وهو أقل من الواجب كيلاً، نحو أن يؤدي أربعة أقفزة حنطة جيدة عن خمسة أقفزة حنطة وسط لا يجوز إلا عن قدره من الكيل أو الوزن، فإن كان المؤدى مثل الواجب في القدر، ولكنه أردأ من الواجب سقط منه الفضل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: يؤدي الفضل. وفي «القدوري» : رواية ابن سماعة عن أبي يوسف إذا أعطى الفضة مكان الفضة، فإن كان وزن الفضة مما دفع أقل لم يجز حتى يؤدي قدر النقصان، نحو أن يؤدي النبهرجة عن الجياد، وإن كان التفاوت لمعنى في الوصف، نحو أن يؤدي الفضة التبر عن الدراهم المضروبة، وقيمة المضروبة أكثر، إنه يجوز. وإذا كان لرجل إبريق فضة وزنه مائتا درهم وقيمته لصياغته ثلاثمائة، أدى عنه خمسة عما عليه، فهو على الخلاف الذي بينّا، أن الجودة والصياغة في أموال الربا سواء، ألا ترى أنه لا تعتبر الصياغة في حقوق العباد فيما بين المتعاقدين كما لا تعتبر الجودة هكذا ههنا، فصار الخلاف في الصياغة نظير الخلاف في الجودة، ولو أدى عنه قدر خمسة دراهم من الذهب لا يجوز عن جميع زكاة الإبريق بالإجماع؛ لأن للجودة قيمة في أموال الربا عند معاملتها بخلاف جنسها بالإجماع. وفي «القدوري» : إذا كان إناء فضة وزنه مائتان وقيمته ثلاثمائة، فإن زكى من عينه تصدق بربع عشره على الفقير فيشاركه فيه، وإن أدى من قيمته عدل إلى خلاف جنسه وهو الذهب عند محمد، فأما عند أبي حنيفة لو أدى خمسة من غير الإناء سقطت عنه الزكاة. وإن أدى من الذهب ما يبلغ قيمته قيمة خمسة دراهم من غير الإناء لم يجز في قولهم. جئنا إلى بيان زكاة عروض التجارة والمسائل المتعلقة بها، فنقول: الزكاة واجبة في عروض التجارة بظاهر قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْولِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ

صَلَوتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة: 103) واسم المال يتناول عروض التجارة، لو خلينا وظاهر الآية لكنا نوجب الزكاة في العروض، وإن لم تكن للتجارة لكن ترك العمل بظاهره ههنا إذا لم تكن للتجارة بالإجماع، ولا إجماع فيما إذا كان للتجارة فتبقى على ظاهرها. وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّميأمرنا بإخراج الزكاة عن الرقيق، وعن كل مال نبيعه» ، ولأن هذا مال نبغي منه النماء، فيكون سبباً لوجوب الزكاة كالدراهم والدنانير والسوائم. وإذا ثبت وجوب الزكاة في عروض التجارة، فنقول بعد هذا: الشرع لم يبيّن مقدار النصاب والواجب فيها، فيكون التقدير فيهما مفوضاً إلينا، أي في النصاب وفي الواجب، فقدرنا النصاب والواجب فيها بالذهب والفضة دون السوائم، إما لأن نصاب الذهب والفضة لا يختلف، والواجب فيهما أيضاً لا يختلف، لأن نصاب الدرهم مائتان على كل حال، ونصاب الذهب عشرون مثقالاً على كل حال، والواجب فيها ربع العشر على كل حال، وإما لأن الذهب والفضة أصول جملة هذه الأموال؛ لأن هذه الأموال في الغالب يحصل بهما مكان إلحاق هذه الأموال بالذهب والفضة أولى، وإذا وجب اعتبار المقدار بهما يعتبر بأيهما. ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» أن المالك فيها بالخيار إن شاء قوّم بالدراهم، وإن شاء قوّم بالدنانير ولم يحلء فيه خلاف، لأن هذا مال احتيج فيه إلى التقويم فيقوم، إما بالذهب أو الفضة كضمان المتلفات، وعن أبي حنيفة أنه يقوم بما فيه إيجاب الزكاة، حتى إذا بلغ بالتقوم بأحدهما نصاباً ولم يبلغ بالآخر قوم بما يبلغ نصاباً، وهو إحدى الروايتين عن محمد. ولو كان (132أ1) بالتقوم كل واحد منهما يبلغ نصاباً، يقوم ما هو أنفع للفقراء من حيث الرواج، وإن كانا في الرواج سواء يتخير المالك؛ لأن هذا المال كان في يد المالك، وقد انتفع به في ابتداء الحول من حيث التجارة، فيجب اعتبار منفعة الفقراء عند التقويم، لأداء الزكاة تسوية بين المالك وبين الفقراء، لأن الزكاة وجبت على وجه يعتدل النظر من الجانبين فيهما. وذكر محمد رحمه الله في «الرقيات» أنه يقوم في البلد الذي حال الحول على المتاع بما يتعارفه أهل ذلك البلد نقداً فيما بينهم، يعني غالب نقد ذلك البلد، ولا ننظر إلى موضع الشراء، ولا إلى موضع المالك وقت حولان الحول؛ لأن هذا مال وجب تقويمه، فيقوّم بغالب نقد البلد كما في ضمان المتلفات إلا أنه يعتبر نقد البلد الذي حال الحول فيه على المال؛ لأن الزكاة تصرف إلى فقراء البلدة التي فيها المال، فالتقويم بنقد ذلك البلد أنفع في حق الفقراء من حيث الرواج، فيجب اعتباره.

وروي عن أبي يوسف أنه يقوم ما اشترى به، وإن كان وهب له فقيل: ينوي به التجارة أو اشتراه بعرض إذا......... يقوم بغالب نقد البلد؛ لأن التقويم إنما احتيج إليه لأجل الزكاة والزكاة وظيفة الملك، وهذا المال ملك بالثمن وكان وجوب الزكاة فيه باعتبار الثمن، وكان التقويم به أولى، وهكذا نقول فيما إذا اشتراه بعرض: إن هذا المال ملك بذلك العرض، إلا أن التقويم بذلك العرض غير ممكن؛ لأن العرض لا يصلح لتقويم الأشياء، فوجب التقدير فيه بنقد البلد. ثم إذا قوم بالدراهم يقوم بمائتي درهم مضروبة، فلا زكاة فيه حتى يساوي مائتي درهم مضروبة، نص عليه في «المنتقى» . وإذا اشترى عرضاً بدراهم أو دنانير، فالمشترى لا يصير للتجارة؛ إلا إذا نوى التجارة، وإذا اشترى عرضاً بعرض التجارة، فالمشترى يكون للتجارة نوى التجارة أو لم ينو شيئاً، والفرق من وجهين: أحدهما: أن المشترى لو صار مالَ التجارة مع أنه لم ينو التجارة، إنما صار لكونه بدل مال التجارة؛ لأن العقد لا يتعلق بعين الدراهم والدنانير، وإنما يتعلق بمثلها ديناً في الذمة، وما في الذمة ليس مال التجارة، إنما المشترى بالعرض بدل مال التجارة؛ لأن العقد يتعلق بعين العرض، وإنه كان للتجارة، فجاز أن يصير بدله للتجارة بدون نية التجارة. الفرق الثاني: إن كان المشترى بدل مال التجارة في الفصلين جميعاً، إلا أن المشترى بالدراهم والدنانير لو صار مال التجارة لكونه بدلاً عن مال التجارة لصار مال التجارة من غير قصده. أما المشترى بغرض التجارة لو صار مال التجارة بكونه بدل مال التجارة لصار مال التجارة من غير قصده ونيته؛ لأن الأصل صار مال التجارة من غير قصده ونيته، وما سوى......... لا يصير مال التجارة قصده ولم يعترض ما يبطل قصده، حتى لو اعترض ما يبطل قصده بأن ينوي الابتذال والخدمة وقت الشراء لا يصير المشترى للتجارة. وأما العرض المشترى بغرض ليس هو للتجارة أو يفيد الخدمة، لا يصير للتجارة إلا بنية التجارة؛ لأن الأصل لو كان للتجارة من غير قصده، فالمشترى لا يصير للتجارة إلا بنية التجارة فإذا لم يكن الأصل للتجارة؛ بأن لا يصير المشترى به مال التجارة، إلا بنية التجارة كان أولى. ثم نية التجارة لا عمل (لها) ما لم ينضمَّ إليها الفعل بالبيع والشراء أو السوم فيما يسام، حتى إن من كان له عبد للخدمة أو ثياب للبذلة نوى فيهما التجارة لم تكن للتجارة حتى يبيعها، فيكون في الثمن الزكاة مع ماله، وهذا بخلاف ما لو كان له عبد للتجارة، فنوى أن يكون للخدمة، بطل عنه الزكاة بمجرد النية؛ لأن في الفصل الأول الحاجة إلى فعل التجارة، وهو........ بفاعل فعل التجارة فالنية ما اتصلت بالمنوي. وفي الفصل

الثاني الحاجة إلى ترك التجارة، وهو ترك التجارة حقيقة، فالنية اتصلت بالمنوي. ثم اتفق أصحابنا أن من ملك ما سوى الدراهم والدنانير من الأموال بالشراء، ونوى التجارة حالة الشراء أنه يعمل بنيته، ويصير المشترى للتجارة. واتفقوا أيضاً أنه لو ملك هذه الأعيان بالإرث ونوى التجارة وقت موت المورث لا تصير للتجارة، ولا تعمل نيته. واختلفوا فيما إذا ملكها بالتبرع كالهبة والصدقة والوصية والخلع والصلح عن دم العمد، ونوى التجارة عند التمليك، قال أبو يوسف: تعمل نيته، وقال محمد: لا تعمل نيته، وقول أبي حنيفة كقول محمد، كذا ذكره بعض المشايخ. فوجه قول محمد: أن المنوي هو التجارة، وهذه الأشياء ليست بتجارة فلم تتصل النية بالمنوي، فلا يعمل. وجه قول أبو يوسف رحمه الله: إنه يملك هذه الأعيان بكسبه والتجارة ليست هي إلا الكسب، فيلحق هذا الكسب بكسب التجارة احتياطاً لأمر العبادة. وذكر ابن سماعة عن محمد فيمن أجّر داره بعبد يريد به التجارة، فهو للتجارة؛ لأن الإجارة نوع تجارة؛ لأنها بيع المنفعة، فالنية اتصلت بالمنوي. وفي «المنتقى» : أن نية التجارة بالعقد المتزوج عليه باطلة، وهذا يجب أن يكون قول محمد. واختلف المشايخ في أن نية التجارة في العرض هل تعمل؟ قال شيخ الإسلام في «شرح الجامع» : والأصح أنها لا تعمل؛ لأن العرض بمعنى العارية، فعلى ما عرف في موضعه، ونية التجارة في العواري ليست بصحيحة، وفي «الجامع الكبير» ما يدل على أن بدل منافع عين هو للتجارة لا يصير للتجارة بدون النية. قال: رجل له دار لا مال له سوى الدار، ورجل له جارية للتجارة قيمتها ألف درهم، لا مال له سوى الجارية استأجر صاحب الجارية الدار عشر سنين بالجارية، وصاحب الدار يريد بالجارية التجارة، فإن الجارية عند صاحب الدار تكون للتجارة، فقد شرط نية التجارة من صاحب الدار في الجارية، لتصير الجارية للتجارة من غير فصل فيما إذا كانت الدار للتجارة أو لم تكن. وفي «الأمالي» : جعل بدل منافع عين التجارة للتجارة من غير نية كبدل عين هو للتجارة، وكان فيه روايتان، واختلف المشايخ فيه أيضاً، وإنما اختلفوا لاختلاف الروايتين قال القدوري في «شرحه» : والعمال الذين يعملون للناس بأجر إذا اشتروا أعياناً للعمل بها، فحال الحول عليها عندهم، وكل عين يبقى له أثر في العين، بحيث يرى كالعصفر والزعفران، وما أشبهه ففيه الزكاة، وما لا يبقى له أثر في العين، فمعنى التجارة لا يتحقق من عينه؛ لأن العين تتلف من كل وجه، فلا يكون المأخوذ عوضاً عن العين، بل يكون عوضاً عن عمله، فلا يصير مال زكاة كالصابون والأشنان بحيث يرى فلا زكاة فيه؛ لأن ما يبقى أثره في العين، فمعنى التجارة يتحقق في عينه، لأن ما يأخذ الأجير من الأجر يأخذ عوضاً عن الأثر العام بالعين المعمول، ولهذا يكون له حق بنفس العين إلى

أن يستوفي الأجر، فيكون مال التجارة، أما ما لا يبقى له أثر في العين......... وذكر في «الأصل» : الخباز إذا اشترى ملحاً أو حطباً للخبز، فلا زكاة فيه، لأن معنى التجارة لا يتحقق في عينه؛ لأنه يصير مستلهكاً من كل وجه، فما يأخذ من المال يكون عوضاً عن عمله لا عن الحطب والملح، فلا يصير (132ب1) مالَ التجارة. وإذا اشترى سمسماً ليجعل على وجه الخبز تجب فيه الزكاة؛ لأن عينه تبقى بعد الخبز، فيمكن تحقيق معنى التجارة في عينه، ولا تجب الزكاة في الشحوم والأدهان التي يحتاج إليها ليدهن به الجلود، ذكره في «المنتقى» بناءً على الأصل الذي قلنا. قال «القدوري» : وآلات الصُّناع الذين يعملون بها وظروف الأمتعة، لا تجب فيها الزكاة؛ لأنها غير معدة للتجارة. ولو أن نخاساً يشترى دواباً ويبيعها، فاشترى جلاجل ومقادد وبراقع فإن كان يبيع هذه الأشياء مع الدواب ففيها الزكاة، وإن كانت لحفظ الدواب فلا تجب الزكاة بمنزلة له آلات الصناع، وكذلك إذا كان من يبيعه إنما يسلم هذه الأشياء لمن يشترى، لا على وجه البيع فلا زكاة فيها، وهي بمنزلة ثياب الخدم التي يسلم البائع مع الخدم في البيع. قال هشام: سألت محمداً عن رجل اشترى جارية للخدمة، وهو ينوي أنه إن أصاب ربحاً قال: ليس فيها زكاة حتى يشتري، وعزيمة أمره والغالب منه أن يشتريها للتجارة، ذكر هذه الجملة في «المنتقى» . وقال في «العيون» : والعطار إذا اشترى قوارير فهو هكذا، وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا اشترى جوالق بعشرة آلاف دراهم ليؤاجرها من الناس، فحال عليها الحول، فلا زكاة فيها؛ لأنه اشتراها لعلة لا للتجارة، فإن كان في رأيه أنه يبيعها آخراً، فلا عبرة لهذا، وكذلك الجواب في إبل الحمالين، وهم المكارين. رجل له مائتا قفيز من الحنطة للتجارة حال عليها الحول، وقيمتها مائتا درهم حتى وجب عليه الزكاة، فإن أدى من عينها أدى ربع العشر من عينها خمسة أقفزة حنطة، وإن أدى من قيمتها أدى ربع عشر القيمة أيضاً خمسة دراهم، فإن لم يؤد حتى تغير سعر الحنطة إلى زيادة، فصارت تساوي أربعمائة، فإن أدى من عين الحنطة أدى ربع العشر خمسة أقفزة بالاتفاق، وإن أدى من القيمة أدى خمسة دراهم قيمتها يوم حولان الحول الذي هو يوم الوجوب عند أبي حنيفة، وعندهما يؤدي عشرة دراهم قيمتها يوم الأداء. وإن تغير به سعر الحنطة إلى نقصان، فصارت تساوي مائة إن أدى من عين الحنطة أدى خمسة أقفزة بلا خلاف، وإذا أدى من القيمة أدى خمسة دراهم قيمتها يوم حولان الحول الذي هو يوم الوجوب. وعندهما: أدى درهمين ونصف قيمتها يوم الأداء. فالحاصل: أن أبا حنيفة يعتبر القيمة يوم الوجوب في جنس هذه المسائل، وهما يعتبران القيمة يوم الأداء، وهذه المسألة في الحاصل بناءً على معرفة الواجب في عروض التجارة يوم حولان الحول، فعندهما الواجب يوم حولان الحول جزء من النصاب عيناً، لكن للمالك ولاية نقل الواجب إلى القيمة بالأداء، فتراعى قيمته يوم النقل والدليل (على) أن الواجب ما قلنا، قوله عليه السلام: «خذ من الإبل الإبل ومن البقر البقر» والدليل عليه أن في نصاب السوائم تعتبر القيمة يوم الأداء، حتى إن من وجب في إبله بنت مخاض قيمته خمسة دراهم ثم تغير السعر، فصارت تساوي درهمين ونصفاً فأراد أن يؤدي القيمة أدى درهمين ونصفاً بالإجماع، فقياس عروض التجارة على السوائم أن تعتبر القيمة يوم الأداء. واختلفت عبارة المشايخ في بيان مذهب أبي حنيفة رحمه الله، فعبارة بعضهم أن الواجب بعد حولان الحول أداء القيمة، ولكن من هذا النصاب العين وأمكن تخفيفه؛ لأن النصاب حنطة وهي مال، وأداء الخمسة من الحنطة من حيث إنها مال ممكن. والدليل على أن الواجب هذا أن النبي عليه السلام أوجب في خمس من الإبل السائمة شاة، وعين الشاة لا توجد في الإبل، وإنما يوجد فيه مال مقدر بقدر الشاة، والدليل عليه أن الزكاة وجبت بطريق التيسير، والتيسير في أن يكون الواجب من النصاب حتى تسقط بهلاك النصاب، ولكن من حيث إنه مال لا من حيث إنه عين؛ لأنه ربما يتعسر على المالك أداء العين بأن كان النصاب جارية حسناء، فعلم أن الواحب يوم حولان الحول أداء القيمة، ولكن من هذا النصاب والقيمة يوم حولان الحول خمسة دراهم، فوجب عليه خمسة دراهم، فلا يتغير بعد ذلك بتغير السعر، وهذا القائل يقول بأن مسألة السوائم على الخلاف، وإنما أمر رسول الله عليه السلام بأخذ العين تيسيراً على أرباب الأموال، لكن الأداء من العين الذي هو مملوك لهم أسهل وأيسر. وعبارة بعضهم: أن الواجب عند أبي حنيفة يوم حولان الحول في مال التجارة أحد الشيئين بالعين أو القيمة، لأن القيمة يوم حولان الحول معتبرة بالإجماع حتى إن قيمة الحنطة إن كانت أقل من مائتي درهم، لا تجب الزكاة والعين أيضاً معتبرة، لأن قيمة الشيء ماليته، والمالية تقوم بالعين، ومالية هذا العين تقوم بعين آخر، وكان كل واحد معتبراً أصلاً، وكل واحد منهما صالح للخروج عن عهدة الواجب، وكان الواجب أحدهما لا بعينه، فثبت أن الواجب أحد الشيئين إذا اختار أحدهما، فجعل ما اختار كأنه هو الواجب من الأصل دون غيره. وإذا صار الواجب من الأصل هو القيمة، حتى اختار أداءها لا يتغير الواجب عند ذلك بتغير السعر، وهذا القائل يقول بأن مسألة السوائم على الوفاق، والفرق على قول هذا القائل بين السوائم وبين عروض التجارة أن القيمة في السوائم يوم حولان الحول غير معتبرة للوجوب، إنما المعتبر هو العين؛ ألا ترى لو كان له خمس من الإبل لا تساوي مائتي درهم تجب الزكاة.

ولو كان له الأربع من الإبل تساوي مائتي درهم لا تجب الزكاة، وكان الحق متعلقاً بالعين؛ إلا أن للمالك، ولاية نقل هذا الحق من العين إلى القيمة بالأداء، فتعتبر القيمة يوم الأداء، فأما في عروض

التجارة بخلافه. فإن قيل: لو كان الواجب أحد الشيئين، فإذا أدى أربعة أقفزة حنطة جيد تساوي خمسة أقفزة حنطة وسط ينبغي أن يجزئه عن الخمسة، ويجعل الحنطة بدلاً عن القيمة، وإن كانت الحنطة منصوصاً عليها كما في كفارة اليمين إذا أعطى ثوباً واحداً لعشرة مساكين تساوي خمسة أصوع من الحنطة ناوياً عن الحنطة، فإنه يجزئه عن الحنطة، وبالإجماع في مسألة أقفزة لا يجزئه إلا عن أربعة. قلنا: إنما لا يجزئه عن الخمسة الأقفزة إذا قصد أداءها عن الخمسة الأقفزة الوسط؛ وهذا لأنه لما قصد أداء العين ظهر أن الواجب من الابتداء هو العين، فوقعت الأربعة بأجناسها عن نفسها لو وقع عن الباقي إنما يقع بالجودة، والجودة لا قيمة لها عند مقابليها بجنسها وقد قابل الجودة بجنسها حيث جعلها بدلاً عن الأقفزة الوسط، وقصد أداءها عن الوسط، حتى لو أدى أربعة أقفزة جيدة من الحنطة تساوي خمسة دراهم عن الدراهم تجزئة عن كل الواجب، وسقط عنه كل الواجب، هكذا ذكره الكرخي وعليه عامة مشايخنا، وإنه صحيح؛ لأنه ما قابل الجودة بالجنس، إنما قابلها بخلاف الجنس جعلها بدلاً عن الدراهم، وإن استهلك الحنطة بعد تمام الحول ثم تغير السعر، فالجواب فيه والجواب فيما إذا كانت الحنطة مائة وتغير السعر سواء لأن بالاستهلاك وجب المثل ديناً في الذمة، وتغير السعر يؤثر في المثل حسب تأثيره في العين، وكذلك الجواب في كل ما يكال أو يوزن أو تغير؛ لأن هذه (133أ1) الأشياء مضمونة بالمثل عند الإتلاف، وإن كان النصاب شيئاً هو ليس بمثلي كالثوب أو الجارية أو ما أشبهه، فاستهلكه بعدما تم الحول ثم تغير السعر إلى زيادة أو نقصان، فالجواب فيه عند أبي حنيفة، كالجواب في المثليات تعتبر القيمة يوم الوجوب، وعندهما تعتبر القيمة يوم الاستهلاك، فالتغير بعد الاستهلاك في غير المثليات. والفرق لهما: أن المثليات غير معتبر حتى اعتبر القيمة فيها يوم الأداء، والتغير بعد الاستهلاك في غير المثليات معتبر عندهما، حتى تعتبر القيمة يوم الاستهلاك في غير المثليات. والفرق لهما: أن المثليات بنفس الاستهلاك تنقل الحق من العين إلى المثل لا إلى القيمة وللمثل حكم العين، وسعر المثل قد يتغير، فيعتبر ما لو تغير سعر العين، ولو كان العين قائماً في يده، وتغير سعره لكان تعتبر قيمته يوم الأداء عندهما، فههنا كذلك.h أما في غير المثليات ينتقل الحق إلى القيمة بالاستهلاك لا إلى المثل، كما في حقوق العباد والقيمة التي وجبت على صاحب المال لم تعتبر بما تعتبر العين، وحق الفقير في القيمة لا في العين، فاعتبرنا القيمة يوم الاستهلاك لهذا. هذا الذي ذكرنا كله في فصل الحنطة إذا كان التغير من حيث السعر، فأما إذا كان

التغير من حيث الذات، إن كان التغير من حيث النقصان بأن أصاب الحنطة ما بعد الحول، وفسدت وصارت قيمتها مائة، إن أدى من عينها أدى خمسة أقفزة، وإن أدى من قيمتها أدى درهمين ونصفاً بلا خلاف، فأبو حنيفة رحمه الله فرق بين هذه المسألة وبين المسألة المتقدمة. والفرق أن في هذه المسألة فاتت الجودة، والجودة بعض العين، ألا ترى أن من غصب من أخر ثوباً جيداً، فأصابه بآفة وذهبت الجودة عنه، فالمغصوب منه بالخيار إن شاء تركه عليه وضمنه قيمته بالغة ما بلغت، وإن شاء أخذ منه وضمنه قيمة الجودة كما لو فاتت بعض العين، فدل أن الجودة بعض العين، فإذا فاتت الجودة فات بعض مال الزكاة، وفوات كل مال الزكاة يوجب سقوط كل الزكاة، ففوات بعضه يوجب سقوط الزكاة قدره، أما في المسألة المتقدمة لم تفت الجودة ولا شيء من العين، ولكن انتقصت قيمته لفتور رغائب الناس فيه، ورغائب الناس ليست بمال، فلم يفت شيء من مال الزكاة حتى تسقط الزكاة بقدره، فلهذا افترقا. وإن كان التغير إلى زيادة بأن كانت الحنطة ندية، وقيمتها يوم الوجوب بالإجماع فهما فرّقا التغير من حيث الذات إلى زيادة، وبين التغير من حيث فحقت بعد الحول، وصارت قيمتها أربعمائة إن أدى من العين أدى خمسة أقفزة، وإن أدى من القيمة أدى خمسة دراهم قيمتها السعر إلى زيادة. والفرق أن الزيادة من حيث الذات زيادة عينية، وكانت الزيادة الحاصلة من حيث الذات بعد الحول كزيادة مال استفادها بعد الحول، ولو استفاد زيادة مال بعد الحول لا يجب فيها شيء فههنا كذلك، أما الزيادة من حيث السعر ليست بزيادة عينية، فإن العين على حالها كما كانت، وإنما هي باعتبار رغبة يحدثها الله تعالى في قلوب العباد، ورغائب الناس ليست بمال لتجعل الزيادة بسببها بمنزلة زيادة مال استفادها بعد الحول، وإن لم تزدد العين كانت الأربعة قيمة ذلك العين، وكان قيمة حصة الفقراء عشرة دراهم، فإذا أراد أن يؤدي القيمة يؤدي عشرة دراهم. ثم إن محمداً قال في هذه الصورة: إن أدى من العين أدى خمسة أقفزة ولم يقل أدى خمسة أقفزة من هذا اليابس، أو خمسة أقفزة ندية وينبغي أن يؤدي خمسة أقفزة ندية لما ذكرنا أن هذه زيادة مال استفادها بعد الحول، ولا تعتبر بالزيادة المستفادة بعد الحول، ولو أوجبنا خمسة أقفزة من هذا اليابس فقد اعتبر بالزيادة المستفادة بعد الحول، فأوجبنا خمسة أقفزة ندية كما وجب يوم حولان الحول حتى لم يلزمنا اعتبار الزيادة المستفادة بعد الحول، هكذا حكي عن القاضي الإمام أبي عاصم العامري. قال القدوري في «كتابه» : ويضم الذهب والفضة إلى عروض التجارة؛ لأن وجوب الزكاة وعروض التجارة عندنا باعتبار القيمة، وباعتبار القيمة العروض من جنس الدراهم والدنانير.

زكاة السوائم جئنا إلى زكاة السوائم، وبيان أحكامها والمسائل المتعلقة بها، فنقول لا بد لبيان ذلك من معرفة السائمة وألفاظ الكتب في بيان ذلك مختلفة. ذكر الحسن في «كتابه» عن أبي حنيفة أن السائمة ما ترعى في البرية بنفسها وصاحبها يلتمس به الرَّسَل والنسل ولا يريد بيعها ولا التجارة. وذكر القدوري في «كتابه» أن السائمة هي الراعية التي تكتفي بالرعي وبمؤنتها (من) ذلك، وهذا لأن السوائم إنما تعتبر لتحقيق الزيادة من حيث الدر والنسل والسمن، وإنما يعتبر ذلك زيادة إذا قلت مؤنة العلف، أما إذا كثرت مؤنة العلف فلا، وإن كان يعلفها أحياناً ويرعاها أحياناً يعتبر فيها الغالب، لأن أصحاب المواشي لا يجدون بداً من أن يعلفوا مواشيهم في بعض السنّة بأن اشتد البرد أو وقع الثلج على الأرض فيسقط اعتبار ذلك، واعتبر الغالب. إلى هذا أشار محمد رحمه الله في «الأصل» حيث قال: ألا ترى إلى أهل الجبال ربما علفوا أشهراً أو أكثر، فتخرج بهذا من أن تكون مال الزكاة، أشار إلى أن العبرة للغالب. ولو نوى أن يجعل السائمة علوفة أو عاملة ذكر في «الأصل» : أنه لا مخرج من أن تكون نصاباً؛ لأن النية لم تتصل بالمنوي، وذكر القدوري في «كتابه» : فإن كان يرعاها مع هذه النية لا مخرج من أن تكون نصاباً. وإن ترك رعيها خرج من أن يكون نصاباً؛ لأن نية جعلها علوفة أو عاملة في الحاصل نية ترك السوم؛ فإن كان يرعاها، فالنية لم تتصل بالمنوي فلا يعمل، وإن ترك رعيها فقد اتصلت النية بالمنوي، فيعمل. وفي «المنتقى» : إذا كان للرجل غنم للتجارة نوى أن تكون للحم، فجعل يذبح كل شاة، أو كانت عنده إبل سائمة نوى أن تكون للحمولة، فإنها للحم والحمولة، وفيه أيضاً: ذكر إبراهيم عن محمد: إذا كان للرجل إبل يعمل عليها، وهي للعمل تركها ترعى أكثر من ستة أشهر فهي سائمة، وإذا رعاها أقل من ستة أشهر، فهي...... على حالها. وكذلك الغنم إذا لم تكن سائمة ورعاها، وهو عين ما ذكره القدوري قال: وإن كانت للتجارة ورعاها ستة أشهر أو سنة لم تكن سائمة أبداً، وهي للتجارة إلا أن ينوي أن يجعلها سائمة، قال: وهذا بمنزلة رجل له عبد للتجارة أراد أن يستخدمه سنين، فاستخدمه، فهو للتجارة على حاله، وفيه زكاة التجارة إلا أن ينوي أن يخرجه عن التجارة ويجعله للخدمة. (زكاة الإبل) قال محمد رحمه الله: وليس في دون الخمس من الإبل زكاة، وفي الخمس شاة وفي العشر شاتان وفي خمسة عشر ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه وفي خمس وعشرون بنت مخاض وهي التي طعنت في السنة الثانية، وفي ست وثلاثين بنت لبون

وهي التي طعنت في السنة الثالثة وفي ست وأربعين حُقَّة (133ب1) ، وهي التي طعنت في السنة الرابعة، وفي إحدى وستين جذعة، وهي التي طعنت في السنة الخامسة، ثم بعده هي..........، ولا يؤخذ شيء من ذلك في الزكوات، «لنهي النبي عليه السلام عن أخذ كرائم أموال الناس» ، ثم بعد ذلك يزداد عدد الواجب بزيادة إبل النصاب فيجب في ستة وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان إلى مائة وعشرين، على هذا اتفق العلماء. فإذا زادت الإبل على مائة وعشرين تستأنف الفريضة عند علمائنا، فيكون في الخمس شاة، وفي العشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض، فإذا بلغت خمساً وعشرين تجب بنت مخاض مع الحقتين في مائة وعشرين، فيكون عدد إبل النصاب مائة وخمسة وأربعين، ويكون عدد الواجب حقتان وبنت مخاض، فإذا بلغت الإبل مائة وخمسين تجب فيها ثلاث حقاق، فإذا زادت الإبل على مائة وخمسين تستأنف الفريضة على الترتيب الذي ذكرنا في أصل النصاب إلى خمس وعشرين، فإذا بلغت خمساً وعشرين وصارت جملة إبل النصاب مائة وخمسة وسبعين تجب فيها بنت مخاض مع ما سبق من الحقاق إلى ستة وثلاثين، فإذا بلغ ستاً وثلاثين تجب فيها بنت لبون مع ما تقدم من الحقاق إلى ست وأربعين فإذا بلغت ستاً وأربعين تجب فيها أربع حقاق إلى خمسين، فإذا صارت خمسين وصارت جملة إبل النصاب مائتين، وزادت عليها بعد ذلك استأنف الفريضة، وبعد ذلك كلما بلغت الإبل خمسين يستأنف الفريضة أبداً على نحو ما فسّرنا. (زكاة البقر) قال وليس في أقل من ثلاثين من البقر صدقة، فإن كانت ثلاثين سائمة ففيها تبيع أو تبيعة وهي الحول التي تمت له سنة، وطعن في الثانية، وفي أربعين مسنة، وهي التي طعنت في الثالثة، واختلفت الروايات عن أبي حنيفة رحمه الله فيما زاد على الأربعين، ذكر في «الأصل» : إن زاد فبسبحان ما مضى، فإن كانت واحدة ففيها ربع عشر مسنة، وروى الحسن عنه أنه لا شيء في الزيادة على الأربعين حتى يبلغ عشراً، فإذا بلغت عشراً وصارت جملة بقر النصاب خمسين تجب فيها مسنة وربع مسنة، مسنة في الأربعين وربع مسنة في الزيادة، وروى ابن كاس عنه أنه لا شيء في الزيادة، حتى تبلغ خمساً، فإذا بلغت خمساً وصارت جملة البقر خمسة وأربعين تجب مسنة وثُمْنُ مسنة، مسنة في الأربعين، وثُمْنُ مسنة في الخمس، وروى أسد بن عمرو عنه أنه لا شيء في الزيادة حتى تبلغ عشرين، فإذا بلغت عشرين، فصار جملة نصاب البقر ستون تجب فيها تبيعان أو تبيعتان، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي، وإذا ازدادت على الستين يتغير الفرض بعشر عشرة أبداً بلا خلاف، ويتغير من التبيع إلى المسنة ومن المسنة إلى التبيع، ويدار

الحساب على الأربعينات والثلاثينات فيجب في سبعين مسنة تبيع مسنة في الأربعين، وتبيع في الثلاثين، وفي ثمانين مسنتان في كل أربعين مسنة، وفي تسعين ثلاث أتبعه في كل ثلاثين تبيع، وفي المائة تبيعان ومسنة، في أربعين مسنة، وفي كل ثلاثين تبيع، هكذا أبداً. (زكاة الغنم) قال: وليس في أقل من أربعين من الغنم صدقة، فإذا كان أربعين ففيها شاة إلى مائة وعشرين، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا ازدادت واحدة، ففيها ثلاث شياه إلى أربعمائة فيكون فيها أربع شياه ثم في كل مائة شاة، ذكر في «الأصل» عن أبي حنيفة أنه لا يؤخذ إلى الثني فصاعداً، وروى الحسن عنه أنه يؤخذ الجذع من الضأن والثني من المعز، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله. إذا اجتمع في النصاب نوعان بأن كان غنم ضأن ومعز وإبل عراب وبخت وبقر وجواميس يجمع الغنم كلها على حدة، والبقر كلها على حدة. ويأخذ المصدق من أوساطها فريضة التي تجب له، فإن شاء أخذ من البقر دون الجواميس؛ لأنه شيء واحد وقال أصحابنا: المتولد بين الغنم والظبا يعتبر فيه الأم، فإن كانت الأم غنماً تجب الزكاة ويكمل به النصاب، وكذلك المتولد من البقر الأهلي والوحشي، وإذا أدى شاة سمينة تبلغ قيمتها قيمة شاتين وسطين عن شاتين وسطين جاز، كذا ذكر في «الجامع الكبير» ، لأن للجودة قيمة في الشاة، فلم يكن المؤدى عين المنصوص عليه، فيمكن بقدره بالمنصوص عليه. قال أبو حنيفة رحمه الله: الخيل السائمة إذا كانت ذكوراً وإناثاً، ففيها الزكاة ويخير صاحبها، فإن شاء أعطى من كل فرس ديناراً، وإن شاء أعطى ربع عشر قيمتها، والأصل في ذلك ما روى جابر أن رسول الله عليه السلام قال: «في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم وليس في المرابطة شيء» . وأما الذكور الخلَّص والإناث الخلَّص، ففيه روايتان عن أبي حنيفة. في رواية تجب كما في المختلط، وفي رواية لا تجب، وقال أبو يوسف ومحمد: لا صدقة في الخيل أصلاً، وهو قول الشافعي حجتهم في ذلك: قوله عليه السلام: «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة» ولأنا أجمعنا على أنه ليس للساعي ولاية الأخذ، ومعنى زكاة السوائم على أن ولاية الأخذ للساعي، لو كانت الزكاة واجبة في الخيل لكان ولاية الأخذ فيها للساعي، وأبو حنيفة رحمه الله يحمل ما رووا من الحديث على فرس الغازي، ويجب عن فصيل الساعي ويقول: الفرس مطمع كل طامع، فالظاهر أنهم إذا علموا أنه لا يتركونه لصاحبه.

ولا زكاة في الحمر والبغال وإن كانت سائمة؛ لأن الزكاة لا تجب في الحيوانات إلا بالإسامة والخيل والإبل والغنم تسام عادة أما الحمر والبغال لا تسام عادة. قال محمد رحمه الله: وليس في الحملان والفصلان والعجاجيل زكاة، وكان أبو حنيفة رحمه الله أولاً يقول: يجب فيها ما يجب في المسنان، وهو قول زفر، ثم رجع عن هذا القول، وقال: يجب فيها واحدة منها، وهو قول أبي يوسف والشافعي، ثم رجع عن هذا القول وقال: لا يجب فيها شيء، وهو قول محمد. وجه قوله الأول: قوله عليه السلام: «في خمس من الإبل السائمة شاة» ، وقوله عليه السلام: «في أربعين شاة شاة» وهذا اسم جنس، فيتناول الصغار والكبار كما يتناول الذكور والإناث. وجه قوله الثاني أن قول أبي بكر: «لو منعوني عناقاً مما كانوا يؤدونه على عهد رسول الله عليه السلام لقاتلتهم» بين أن للعناق مدخلاً في باب الزكاة، ولا يكون ذلك إلا في الصغار، وجه قوله الآخر: أن الزكاة عرفت نصاً، فإن أمكن إيجابها كما نطق به النص تجب وما لا فلا، وأدنى ما ورد الشرع بإيجابه في الإبل من الإبل بنت مخاض. ثم إن مشايخنا تكلموا في كيفية الاختلاف في هذه المسألة، بعضهم قالوا الاختلاف في انعقاد الحول على الصغار، عند أبي حنيفة آخر الحول لا ينعقد على الصغار، وهو قول محمد، وعند أبي يوسف وزفر والشافعي ينعقد، وبعضهم قالوا: الاختلاف في بقاء الحول إذا كان للرجل نصاب إبل أو نصاب بقر أو غنم، فولدت أولاداً وهلكت (134أ1) الأمهات وتمّ الحول على الأولاد، فلا شيء فيها عند محمد، وهو قول أبي حنيفة آخراً وعند أبي يوسف وزفر والشافعي تجب. ثم اتفقت الروايات عن أبي يوسف في الحملان إذا كانت أربعين وفي العجاجيل إذا كانت ثلاثين أنه تجب واحدة منها، وإذا كانت أقل من ذلك لا يجب شيء كما في المسنان، واتفقت الروايات عنه في الفصلان أيضاً أنه تجب في خمسة وعشرين فصيل واحد منها، ثم لا يجب شيء حتى تبلغ عدداً تجب اثنان من الكبار وهو ستة وسبعون، فإنه يجب فيها بنتا لبون، فإذا بلغت الفُصْلان هذا المبلغ تجب اثنان منها.......، فقد اختلفت الروايات عن أبي يوسف فيه، وفي رواية قال: لا يجب فيها شيء، وفي رواية قال: لا يجب في خمس فصال الأقل من واحدة منها، ومن شاة وفي العشر الأقل من ثنتين منها ومن شاتين، وفي خمسة عشر الأقل من ثلاث منها ومن ثلاث شياه. وفي عشرين الأقل من أربع منها ومن أربع شياه، وفي خمسة وعشرين واحدة منها، وفي رواية في العشر الأقل من واحدة منها ومن شاتين إلى آخر ما ذكرنا، وهاتان الروايتان لا حجة

لهما؛ لأن على اتفاق الروايات عنه تجب في خمس وعشرين منها واحدة منها، فكيف تجب في خمسة عشر ثلاث منها وفي عشرين أربع منها، وفي رواية هشام عنه: تجب في خمسة فصال خمس فصيل وفي ثلاثة عشر ثلاثة أخماس فصيل، وفي خمسة وعشرين واحد منها. وفي رواية محمد عنه: إذا كان له خمسة فصلان ينظر إلى قيمة أفصلها، وإلى قيمة بنت مخاض، فإن كان قيمة أفصلها تبلغ قيمة بنت مخاض تجب فيها شاة، وإن كانت تبلغ نصف بنت مخاض تجب نصف شاة؛ لأنه لو كان واحدة منها بنت مخاض تجب فيها شاة، فإذا لم تكن فيها بنت مخاض تعتبر قيمتها، هذا كله إذا كان النصاب كله صغاراً. وإن كان في النصاب واحدة مسنة فصاعداً تجب الزكاة بلا خلاف، حتى إذا كان له تسعة وثلاثون حملاً، وواحدة مسنة حال عليها الحول وجب فيها شاة، ويجعل الصغار تبعاً للمسنة، فبعد ذلك ينظر إن كانت المسنة وسطاً أخذت في الزكاة، وإن كانت جيدة لم يؤخذ، ويؤمر بأداء شاة وسط، وإن كانت أقل من الوسط يؤدي صاحب المال ذلك أو قيمته؛ لأن عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وجوب الزكاة كان باعتبارها، فلا يزاد عليها. وعند أبي يوسف رحمه الله الفصل على الحمل كان باعتبارها، فلا يزاد عليها، كان المعنى فيه أنّا لو أوجبنا شاة وسطاً والحالة هذه، ربما تؤثر تلك على قيمة أكثر النصاب، فيؤدي إلى الإجحاف بأرباب الأموال، فإن هلكت المسنة بعد تمام الحول لم يؤخذ مما بقي شيء في قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الوجوب عندهما باعتبار ملك الواحدة وجعل الصغار تبعاً لها، فإذا هلكت هي من غير صنع أحد صار كما لو هلك الكل، وعند أبي يوسف الفضل على الحمل كان باعتبار تلك الواحدة، فيبطل الفضل بهلاكها وجعل كأن النصاب كله كان حملاناً، وهلكت منها واحدة وهناك تجب تسعة وثلاثون جزءاً من أربعين جرءاً من الحمل، كذا ههنا. ولو هلك الحملان، وبقيت المسنة يجب فيها جزء من أربعين جرءاً من شاة مسنة، فقد جعل الواجب في السنة لا غير حال هلاكها، حتى لو قال بسقوط الواجب عندهما وبسقوط الفضل عند أبي يوسف، وجعل الواجب في الكل حال بقاء المسنة، وهلاك الصغار حتى أوجب في المسنة جزءاً من أربعين جزءاً من شاة مسنة. والوجه في هذا أن يقال: بأنّا لا نقول بأن الواجب في السنة وحدها، إذ لو كان كذلك كان هذا إيجاب القليل في القليل أو إيجاب الكثير في الكثير، وإنه خلاف مبنى الزكاة، بل الوجوب في الكل إلا أنه أعطى الصغار حكم الكبار تبعاً للمسنة، وجعل في حق المسنة كأن الكل كبار، وهلك تسعة وثلاثون، فتبقى المسنة يقسطها ويسقط قسط الباقيات، أما في حق الصغار الكبيرة أصل، فإذا هلكت جعل هلاكها بمنزلة هلاك الكل، فسقط كل الواجب لهذا. وكذلك إذا كان للرجل أربعة وعشرون فصيلاً وبنت مخاض سمينة أو وسط، أو

كان له تسعة وعشرون حمولاً، وتبيع سمينة أو وسط، فهو على التفاصيل التي بيناها، وإذا كان له أربعون شاة عجافاً إلا واحدة منها، فإنها شاة سمينة، فإنه تجب فيها شاة وسط، وإن لم يكن فيها شاة سمينة فإنه يجب واحدة من فضلهن إلى مائة وعشرين، ولا تؤخذ شاة وسط كيلا يؤدي إلى الإجحاف بأرباب الأموال. وإن كان له مائة وإحدى (و) عشرون شاة عجافاً إلا واحدة منها، فإنها شاة وسط، فإنه تؤخذ تلك الشاة وواحدة من أفضلهن؛ لأنه لو كان فيها شاتان وسطان أخذها، فإذا كان فيها واحدة وسط أخذت هي أو واحدة من أفضلهن. وإن كان له مائتان وواحدة فيها شاة وسط وما سواها عجاف، فإنه تؤخذ تلك الواحدة وشاتان من أفضلهن، لأنه لو كان فيها ثلاث شياه أوساط أخذن، فإذا كان فيها واحدة وسط تؤخذ تلك الواحدة وشاتان من أفضلهن. رجل له خمس من الإبل بنات مخاض أو فوق ذلك إلا أنها عجاف، بعجفهن لا تساوي واحدة منهن بنت مخاض وسط، فعليه شاة من ذلك الصنف الذي الإبل فيه. وبيان ذلك أنه ينظر إلى قيمة بنت مخاض وسط، وإلى قيمة شاة وسط، وإنما اعتبرنا قيمة بنت مخاض وسط، لأن أقل الأسنان التي فرضت فيها الزكاة بنات المخاض ثم تتغير الزكاة بعد ذلك بزيادة العدد لا بزيادة السن، فاعتبرت قيمة بنت مخاض وسط لهذا، فإن كانت قيمة بنت مخاض وسط مثلاً خمسين وقيمة الشاة الوسط عشرة، فنقول لو كانت الواحدة بنت مخاض وسط، لكان الواجب فيها شاة قيمتها عشرة، وذلك خمس بنت مخاض، فإذا لم تكن الواحدة بنت مخاض وسط.......... ننظر إلى قيمة أفضلهن، فإن كان قيمتها عشرين مثلاً، تجب فيها شاة تساوي أربعة مثل خمس أفضلهن على هذا التفسير، إذ لا وجه إلى الإجحاف بأرباب الأموال، ولا إلى تعطيل الأموال، ولو أوجبنا ههنا شاة وسطاً، ربما تبلغ قيمتها قيمة واحدة منها أو أكثر، فيؤدي إلى الإجحاف بأرباب المال، وكان النظر من الطرفين فبها قلنا. وكذلك لو كن ستاً أو سبعاً أو ثمانياً أو تسعاً على سن ما ذكرنا؛ لأن الفضل على الخمس إلى العشر عضو، فإذا صارت عشراً ففيها شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه على التفسير الذي قلنا. ولو كان له خمس وعشرون من الإبل بنات مخاض وفوق ذلك، وفيهن بنت مخاض وسط وجبت بنت مخاض وسط، لأنه وجد فيهن ما يؤخذ في الزكاة، وإن كن كلهن دون بنت مخاض وسط في القيمة، لا تجب بنت مخاض وسط لأنا (134ب1) ، لو أوجبنا ذلك لا يكون المأخوذ مأخوذاً في النصاب، ومبنى الزكاة أن يكون المأخوذ موجوداً في النصاب، ولأن فيه إضراراً بأرباب المال، ولكن يؤخذ أفضلهن فيكون ذلك قائماً مقام بنت مخاض وسط، وإن كان عشر عجاف بنات مخاض أو خمس عشرة أو عشرين إلا

الفصل الرابع في تصرف صاحب المال في النصاب بعد الحول وقبله

واحدة منها، فإنها بنت مخاض وسط، وجبت في العشر شاتان وسطان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه أوساط، وفي عشرين أربع شياه أوساط؛ لأن الأصل في نصاب الإبل بنت المخاض وما زاد عليها عفو، ألا ترى أن من كان له خمس بنت مخاض تجب فيها شاة وسط، فإذا (وجد) في النصاب ما هو الأصل يكفي، وجعل ما وراءه تبعاً له. فإن قيل: إذا وجدنا أربعاً من الشياه الأوساط وقع الإجحاف بأرباب الأموال؛ لأن قيمتها قد تزيد على بنت المخاض التي تجب الزكاة لأجلها، قلنا: هذا فاسد؛ لأن سعر الغنم مع سعر الإبل تتفاوتان من حيث الغالب، فإذا ازداد أحدهما يزداد الآخر، وإذا انتقص أحدهما انتقص الآخر. ألا ترى أن الشرع أوجب في الخمس من الإبل السائمة شاة وسطاً، وفي العشرين أربع شياه أوساط، وفي خمس وعشرين بنت مخاض وسط، ولو جاز أن تكون قيمة أربع شياه أوساط تزيد على قيمة بنت مخاض وسط كان الواجب في خمس وعشرين أقل من الواجب في العشرين، وهذا مما يجوز أن يقال به. الفصل الرابع في تصرف صاحب المال في النصاب بعد الحول وقبله لا خلاف لأحد أن تصرف الرجل في ماله قبل الحول جائز بيعاً كان أو غيره، وإنما الكلام في الكراهة، فنقول: أجمعوا على أنه إذا باع لتوسيع النفقة على نفسه وعياله أنه لا يكره، وأما إذا قصد بالبيع الفرار عن وجوب الصدقة يكره عند محمد، وعند أبي يوسف لا يكره، وروي عن أبي يوسف رواية أخرى أنه يكره، وأما تصرفه بعد الحول جائز عندنا، فالأصل عندنا أن وجوب حق الله تعالى في المال نحو الزكاة وما أشبهه لا يمنع النقل من ملك إلى ملك، وهذا لأن الحق في الحقيقة في الذمة، والمال محل إقامة الحق، فقبل الإقامة كان المال خالياً عن حق الله تعالى، فانعدم المانع من النقل. ألا ترى أن مال الزكاة إذا كانت جارية فحال عليها الحول حل لصاحب المال وطؤها، ولو كان الحق ثابتاً في العين كانت الجارية مشتركة، ولا يحل وطء الجارية المشتركة، ولأن الزكاة إنما وجبت بصفة اليسر، واليسر في الأداء من نماء المال ولا نماء إلا بالتصرف، لو صار وجوب الزكاة مانعاً من التصرف لصار مانعاً من الأداء من نماء المال، فصار مانعاً من الأداء بصفة اليسر، فيعود إلى موضوعه بالنقص، وإنه لا يجوز. وإذا ثبت أن وجوب الزكاة لا يمنع المالك من التصرف بعد ذلك ينظر إن إزالة المال عن ملكه بتصرفه بغير عوض نحو الهبة وأشباهها، فهو ضامن قدر الزكاة، وإن أزاله عن ملكه بعوض نحو البيع، فإن حصلت الإزالة بعوض يعدله ويوازيه لا يصير ضامناً للزكاة بقي العوض في يده أو هلك، وإن حصلت الإزالة بعوض لا يعدله ولا يوازيه يصير ضامناً قدر الزكاة بقي العوض في يده أو هلك؛ وهذا لأن البيع إذا حصل بعوض يعدل

والعوض يقوم مقام جميع مال الزكاة، ويصير من حيث المعنى كأن مال الزكاة قائم في ملكه، فلا يصير بالبيع مستهلكاً للزكاة، بل يصير ناقلاً، إياها من محل إلى محل، وله ولاية النقل حتى جاز أدء القيمة عندنا، فأما إذا حصل البيع بعوض لا يعدله، فالعوض لا يقوم مقام جميع مال الزكاة، فيصير بالبيع مستلهكاً مال الزكاة لا ناقلاً، والاستهلاك سبب وجوب الضمان. ثم إذا وجب الضمان بالاستهلاك وزال الاستهلاك بانفساخ السبب من الأصل برىء من الضمان؛ لأن انفساخ السبب يوجب انعدامه من الأصل، كأن لم يكن وانعدام سبب الضمان يوجب انعدام الضمان، وإن زال بطريق الارتفاع لا بطريق الانفساخ من الأصل لا يبرأ عن الضمان؛ لأن ارتفاع السبب لا يوجب زوال الحكم؛ لأنه لا يظهر عدم السبب من الأصل ووجود السبب يشترط لثبوت الحكم، أما بقاؤه لا يشترط لبقاء الحكم، فيبقى حكم الضمان وإن زال السبب. إذا عرفنا هذا الأصل جئنا إلى بيان المسائل: قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا كان له إبل سائمة باعها بعد الحول حتى بعد البيع ثم حضر الساعي، فإن قال له البائع: أنا أدفع إليك قيمة الواجب أو عين الواجب من مال آخر، فلا سبيل له على المشترى، وإن قال له البائع: ليس عندي ما أدفعه إليك للحال، ينظر: إن كان البائع والمشتري في مجلس العقد بعد، فالساعي بالخيار إن شاء اتبع البائع بقدر الزكاة؛ لأن الزكاة وجبت عليه، وإن شاء اتبع المشتري وفسخ العقد في قدر الزكاة، وأخذ ذلك من النصاب. وإن حضر الساعي بعدما تفرق البائع والمشتري عن مجلس العقد، فالقياس أن للساعي الخيار على نحو ما بينا، وفي الاستحسان لا سبيل له على المشتري، بل يتبع البائع بقدر الزكاة بمال. وإذا بادل عروض التجارة بعروض التجارة وهي مثلها في القيمة أو باعها بدراهم أو دنانير لا يصير ضامناً للزكاة؛ لأنه بادل مال الزكاة بعوض يعدله، بخلاف ما إذا باعها بعبد للخدمة. قال في «الجامع» : رجل له ألف درهم حال عليها الحول وجبت فيها الزكاة، ثم اشترى بها عبداً للتجارة يساوي تسعمائة وخمسين درهماً، ثم هلك العبد سقط عنه زكاة الألف المقدر بتسعمائة وخمسين؛ لأنه بهذا القدر بادل مال الزكاة بعوض يعدله ويوازيه؛ لأن العوض للتجارة كالأصل، فلا يصير بهذا القدر مستهلكاً، بخلاف ما إذا اشترى عبداً للخدمة أو طعاماً للأكل أو ثياباً للبس، حيث يعتبر ضامناً قدر الزكاة، بقيت هذه الأشياء في يده أو هلكت؛ لأنه بادل مال الزكاة بعوض لا يعدله، فيصير مستلهكاً قدر الزكاة. وأما بقدر الخمسين وإن شاء مستهلكاً بهذا القدر؛ لأنه ليس بمقابلته عوض، إلا أن هذا القدر غبن يسير لأنه يدخل تحت تقويم المقومين منهم من يقومه بتسعمائة وخمسين، ومنهم من يقومه بألف فالاستهلاك إن ثبت بقول أحدهما لم يثبت بقول الآخر، فلا يثبت بالشك.

ولو كان اشترى بالألف عبداً قيمته خمسمائة وتقابضا وهلك العبد في يده لزمه زكاة خمسمئة، لأن بهذا القدر صار مستهلكاً؛ لأنه لمس بمقابلته عوض، وهذا غبن فاحش لأنه لا يدخل تحت تقويم المقومين والغبن الفاحش ليس بعفو؛ لأنه استهلاك بيقين، وعن أبي يوسف أن المشتري إنما يضمن زكاة خمسمائة إذا علم أن قيمة العبد خمسمائة واشتراه مع ذلك بالألف، أما إذا حسب أن قيمته ألف لا يضمن شيئاً، لأنه ما قصد الاستهلاك بل خدعه البائع، فكان مغروراً من جهته فيكون معذوراً، والصحيح ما ذكر في «الكتاب» ؛ لأن علم المشتري وجهله أمران باطنان لا يوقف عليهما، فلا يتعلق الحكم بها، بل يتعلق بسبب ظاهر، وفي الظاهر (135أ1) استهلاك، وما يقول البائع خدعه. قلنا: إنما يكون كذلك إذا قال البائع هذا العبد يساوي ألفاً ورغبه في الشراء بالألف؛ لأنه يساوي، ولا كلام فيه حتى قال مشايخنا: لو قال البائع للمشتري ذلك لا يبعد أن يقول: لا يضمن المشتري. رجل له ألف درهم حال عليها الحول ووجب فيها الزكاة، ثم إنه وهبها لرجل وسلمها إليه صار ضامناً للزكاة، لأنه صار مستهلكاً قدر الزكاة بإزالته عن ملكه بغير عوض أصلاً، فلو أن الواهب رجع في الهبة نقضاً بغير رضا وقبضها، وهلكت في يده فلا زكاة عليه. علّل في «الكتاب» فقال: لأنها رجعت إلى حالتها الأولى، ومعنى هذا الكلام: أن الرجوع في الهبة فسخ في حق الناس كافة، والدراهم تتعين في الهبة، فتعين في فسخها، فعاد إليه قديم ملكه في الدراهم وارتفع الاستهلاك، فقد جعل الرجوع بالهبة فسخاً في حق الناس كافة، وإن حصل الرجوع بتراضيهما على رواية «الجامع» وفي كتاب الهبة........ هكذا على رواية أبي حفص، وعلى رواية أبي سليمان جعله عقداً جديداً في حق الثالث إذا حصل بتراضيهما. وحكى الجصاص بإسناده عن محمد رحمه الله: أن القياس أن يكون الرجوع في الهبة فسخاً سواء بقضاء أو بغير قضاء غير أني أستحسن، فلا أجعله فسخاً إذا كان بغير قضاء، وعلى قول أبي يوسف هو فسخ على كل حال. قيل: ما ذكر في «الجامع» وفي كتاب الهبة في رواية أبي حفص قياس، وما ذكر في رواية أبي سليمان والمتأخرون من مشايخنا قالوا: الصحيح ما ذكر في «الجامع» ، وفي كتاب الهبة في رواية أبي حفص، والوجه في ذلك أن الواهب بالرجوع يستوفي عين حقه؛ لأنه استحق الرجوع في الموهوب بنفس الهبة لا بدلاً عن شيء يصلح أن يكون الفسخ عوضاً عنه، وهذا لأن العوض المال وإن كان عوضاً للواهب بالهبة، إلا أن العوض المالي لا يصير مستحقاً بالمطالبة لمكان الجهالة، فلا يمكن أن يجعل الفسخ عوضاً عنه، وما عدا العوض المالي ليس بعوض، ولا مستحق بالعقد إذا لم يكن ما عدا العوض

المالي عوضاً ومستحقاً بعقد الهبة، ولا يمكن أن يجعل فسخه عوضاً عن العوض المالي كان الفسخ ثابتاً بنفس الهبة ابتداء لا بدلاً، ولهذا لو تعذر الفسخ بسبب من الأسباب لا يستحق الواهب الرجوع بشيء آخر. فهو معنى قولنا: إن الواهب بالرجوع استوفى عين حقه، فلا يكون بيعاً جديداً، بل يكون فسخاً في حق الناس كافة، كما لو حصل الرجوع بقضاء. ولم يذكر في «الكتاب» : إذا رجع في الهبة ولم يقبضها حتى هلكت في يد الموهوب له، هل يضمن قدر الزكاة؟ وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم، قالوا: يضمنون؛ لأن سبب الضمان الهبة والتسليم، الهبة إن انتقضت بالرجوع، فالتسليم لم ينتقض، فلا يبطل الضمان، وبعضهم قالوا: لا يضمن؛ لأنه إنما ضمن بالهبة والتسليم من حيث إنه أزال قدر الزكاة عن ملكه بعدما تعلق به حق الفقراء من غير تلف لا من حيث إنه دفعه إلى غيره، وبالرجوع عاد إليه قديم ملكه على رواية هذ الكتاب، فزال سبب الضمان، فيزول الضمان. ولو كان اشترى بالألف عبداً للخدمة بعد الحول حتى ضمن قدر الزكاة، ثم إن المشتري وجد بالعبد عيباً ورده بقضاء، أو بغير قضاء واسترد تلك الألف وهلك في يده لا تسقط عنه الزكاة؛ لأن سبب الضمان لم يزل؛ لأن أكثر ما في الباب أنه عاد إليه ملك الألف إلا أنها ما عادت إليه بسبب الفسخ؛ لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في فسخ البيع كما لا يتعينان في البيع، فالفسخ أوجب الألف ديناً في ذمة البائع، والمشتري أخذ هذه الألف عوضاً عما وجب في ذمة البائع، لا بحكم الفسخ، فلم يكن هذا الاسترداد إعادة إلى قديم الملك. بل كان تمليكاً ابتداء عوضاً عما وجب في الذمة، وتجدد الملك يُنزّل منزلة تجدد البيع، ولو وصل إليه عين آخر اليسر أنه لا يرتفع حكم ذلك الاستهلاك كذا ههنا، بخلاف الرجوع في الهبة؛ لأن الدراهم والدنانير تتعينان في الهبة، فيتعينان في الفسخ فعين النصاب عاد إليه بناءً على انفساخ سبب الزوال، فافترقا من هذا الوجه. رجل تزوج امرأة على ألف درهم، ودفعها إليها، فحال عليها الحول وهي في يدها حتى وجبت عليها الزكاة، ثم طلقها قبل الدخول بها وأخذ منها نصف الألف، لا يسقط عنها شيء من الزكاة؛ لأن الدراهم لا تتعين عند فسخ النكاح كما لا تتعين عند عقد النكاح، فبالطلاق قبل الدخول بها يجب عليه رد نصف الألف ديناً في الذمة، فهذا دين لحقها بعد الدخول، وقد قضت ذلك من محل تعلق به حق الفقراء، فصارت ضامنة للزكاة. ولو تزوجها على إبل سائمة أو غنم سائمة أو بقر سائمة، ودفعها إليها، فحال الحول عليها، وهي عندها ثم طلقها قبل الدخول بها وأخذ منها النصف، فلا زكاة عليها في النصف الذي دفعت إلى الزوج، وإنما عليها الزكاة في النصف الباقي. وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا تزوجها على إبل بعينها؛ لأنها تعينت للرد،

فالاستحقاق ورد على بعض النصاب بعينه، وإنه يوجب سقوط الزكاة بقدره، وإنما يشكل هنا إذا تزوجها على إبل بغير عينها ثم عينها؛ لأن الإبل إذا لم تكن معنية عند العقد، فعند الفسخ بطلاق الزوج لا يستحق عليها نصف المقبوض، وإنما يستحق مثل المقبوض ديناً في الذمة أو نصف قيمة المقبوض، فلم تصر عين مال الزكاة مستحقاً، فينبغي أن لا يسقط شيء من الزكاة، ألا ترى أن الإبل إذا لم تكن معنياً عند العقد، فالمرأة لا تستحق عين الإبل إنما تستحق أحد الشيئين؛ إما الوسط من المسمى أو القيمة، كذا الزوج عند الطلاق. فمن مشايخنا من حمل المسألة على ما إذا تزوجها على إبل بعينها ألا ترى أن محمداً رحمه الله قال تزوجها على إبل سائمة وإسامة ما في الذمة لا يتصور، وإنما يتصور إسامة العين، ومنهم من قال الجواب في العين وغير العين على السواء، وهو الصحيح. وإطلاق محمد رحمه الله في «الكتاب» يدل عليه، والتنصيص على السائمة لا يدل على إرادة العين. فقد ذكر محمد رحمه الله في كتاب النكاح: إذا تزوجها على إبل سائمة بغير عينها، فالوجه في المسألة أن الإبل لم تكن معينة عند العقد إلا أن بعد ما عينها التحقت بالمعين وقت العقد كأن العقد من الابتداء ورد عليها، وإنما التحقت بالمعين وقت العقد ضرورة أنها لو لم تلتحق بالمعين وقت العقد (135ب1) وجب على المرأة بالطلاق قبل الدخول مثل ما يجب على الزوج عند العقد، ولا وجه إليه؛ لأنه وقع التفاوت بين مثل نصف المقبوض وبين المقبوض؛ لأن الحيوان ليست من ذوات الأمثال. وكذا يقع التفاوت بين نصف المقبوض وقيمته، والتحرز عن هذا التفاوت ممكن بإيجاب نصف المقبوض وإلحاق المقبوض بالمعين وقت العقد، فألحقنا المقبوض بالمعين وقت العقد، فأوجبنا رد نصف المقبوض بخلاف ابتداء العقد؛ لأن الاحتراز عن هذا التفاوت في ابتداء العقد بإيجاب المعين غير ممكن إذ ثبت حالة العقد غير معين، فأما بعد الطلاق تعين المقبوض بالقبض فأمكن إيجاب نصفه تحرزاً عن التفاوت، وإذا أوجب عليها رد نصف المقبوض صار غير مال الزكاة مستحقاً عليها، وهذا بخلاف الدراهم؛ لأن الدراهم بالتعيين لا تلتحق بالمعين وقت العقد، وكيف تلتحق وإن تعيينها وقت العقد لا يصح. ثم إن محمداً رحمه الله أوجب عليها الزكاة في النصف الباقي، ولم يشترط أن يكون ذلك نصاباً، وفرق بين هذا وبين ما إذا لم تقبض المرأة الإبل حتى طلقها بعد الحول قبل الدخول بها، فإن عليها زكاة نصفها إن كان نصاباً والفرق أن الصداق إذا كان عيناً وكان مقبوضاً، فبالطلاق قبل الدخول لا ينتقض ملكها في النصف إلا بقضاء ورضاء، وإذا لم يكن مقبوضاً فبالطلاق قبل الدخول ينتقض ملكها في النصف من الأصل من غير قضاء ولا رضاء. فالوجه في ذلك: أن بالطلاق قبل الدخول يفسد سبب الملك في نصف الصداق؛

لأن العقد ورد على العين بالعين وقد هلك أحدهما قبل القبض، وبقي الآخر، والأصل أن العقد إذا ورد على العين بالعين، وهلك أحدهما قبل القبض وبقي الآخر، يفسد العقد في الآخر ولا يبطل؛ لأن كل واحد منهما أصل من وجه، فبقاء ما بقي يوجب بقاء العقد، وهلاك ما هلك يوجب انفساخ العقد، فعملنا بهما فقلنا ببقاء أصل العقد، وبارتفاع وصف الصحة إذا ثبت أن سبب ملكها في نصف الصداق يفسد بالطلاق قبل الدخول. فنقول: فساد السبب لا يمنع ثبوت الملك في اليد بعد القبض، فلا يمنع بقاء من الطريق الأولى، فيبقى الملك إلا أنه ينتقض بالقضاء أو الرضا، فيقتصر البطلان على حالة القضاء أو الرضا، وكان بمنزلة هلاك البعض بعد الحول، فلا يشترط كون الباقي نصاباً، أما فساد السبب قبل القبض يمنع ثبوت الملك فيمنع البقاء، فينتقض الملك في النصف من الأصل، وصار كأن لم يكن، وكان كالمال المشترك بينهما، فيشترط أن يكون نصاباً. وإن كانت الإبل قد ازدادت في يديها زيادة متصلة ثم طلقها قبل الدخول بها لا يسقط عنها شيء من الزكاة، لأن الواجب عليها في هذه الصورة: رد نصف القيمة لا رد نصف الأصل؛ لأن الزيادة المتصلة في المهر تمنع بنصف العين بالطلاق قبل الدخول على ما عرف؛ فلم يصر عين مال الزكاة مستحقاً، ذكر المسألة في «الجامع» من غير ذكر الخلاف، وذكر في نكاح «الأصل» : أن الزيادة المتصلة بالمهر تمنع بنصف المهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعلى قول محمد وزفر: لا تمنع، ولما كان قول محمد في الزيادة المتصلة أنها لا تمنع بنصف المهر صار نصف المهر عين مال الزكاة مستحقاً عليها، فينبغي أن تسقط نصف الزكاة، وتبين مما ذكر في نكاح «الأصل» أن المذكور في الجامع قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، وعلى قول محمد، وزفر لا تمنع ويكون المذكور، في «الجامع» قول الكل وثبت برجوع محمد إلى قولهما؛ لأن «الجامع» آخر تصانيف محمد رحمه الله. ولو لم يكن الزوج طلقها قبل الدخول، ولكنها قبلت ابن زوجها قبل الدخول بها بشهوة حتى بانت من زوجها، وجب عليها رد جميع البدل إذا لم تزدد الإبل في بدنها لمكان الفرقة الجاثية من قبلها قبل الدخول بها، وسقط عنها كل الزكاة؛ لأن عين مال الزكاة استحق عليها بكماله. فإن قيل: سبب استحقاق مال الزكاة صنعها، وهو التقبيل، فصارت مستهلكة مال الزكاة، فتصير ضامنة قدر الزكاة، والواجب أن بالتقبيل في هذه الصورة لا يزول ملكها عن الصداق متى كان الصداق عيناً، وكان مقبوضاً ما لم يقض القاضي بالرد أو ترد هي بنفسها؛ لأن النكاح في هذه الصورة مشتمل على عوضين يتعينان بالعقد؛ لأن المرأة عين والصداق في هذه الصورة عين أيضاً، والمعاوضة متى اشتملت على عوضين عينين يتعينان بالمعاوضة وهلك أحدهما قبل التسليم، والآخر مقبوض، فالمقبوض يبقى ملكاً للقابض ملكاً فاسداً ما لم يقض القاضي بالرد أو يرد القابض بنفسه على ما مر.

الفصل الخامس في انقطاع حكم الحول وعدم انقطاعه

إذا ثبت هذا فنقول: هلك أحد العوضين وهو المرأة معنى بالتقبيل، والعوض الآخر وهو الصداق مقبوض، فبقي ملكاً لها ملكاً فاسداً ما لم يقض القاضي بالرد أو ترد هي بنفسها، فهو من حيث المعنى كالرد بقضاء القاضي؛ لأنها ردت بسبب فساد الملك، والرد بقضاء وبغير قضاء سواء؛ لأنه في الحالين لا يثبت عقد جديد في حق الثالث؛ لأنها في الحالين موقفه عين حق الزوج، فإن كانت قبلت ابن زوجها، وقد ازدادت الإبل في يديها جبراً لا يجب عليها رد الإبل عندهما، لقيام المانع من الرد، وهو الزيادة المتصلة، فترد القيمة وعليها جميع زكاة الإبل؛ لأن عين مال الزكاة لم يصر مستحقاً عليها، وعلى قول محمد رحمه الله على ما ذكر محمد في نكاح «الأصل» ، يجب عليها رد عين الإبل؛ لأن الزيادة المتصلة ليست بمانعة نصف العين فيلزمها رد عين الإبل، وتسقط جميع الزكاة عنها لاستحقاق عين مال الزكاة عليها بكماله، والله أعلم. الفصل الخامس في انقطاع حكم الحول وعدم انقطاعه إذا استبدل الدراهم أو الدنانير بجنسها أو بخلاف جنسها لم ينقطع حكم الحول، حتى لو تم حول الأصل تجب الزكاة، وكذلك إذا بادل عروض التجارة بعروض التجارة لا ينقطع حكم الحول، وإذا استبدل السائمة بخلاف جنسها بأن باعها بدراهم أو دنانير أو بجنسها بأن باعها بإبل مثلها مثلاً يبطل حكم الحول عندنا، وهذا لأن الزكاة السائمة تجب باعتبار العين ولا يراعى فيها القيمة، وكان انعقاد الحول عليها باعتبار العين، والعين الثاني غير الأول حقيقة، فقد تبدل ما انعقد عليه الحول، فيبطل حكم الحول ضرورة بخلاف عروض التجارة؛ لأن وجوب الزكاة في عروض التجارة، وانعقاد الحول عليه باعتبار القيمة، والقيمة لم تتبدل. فإن قيل: زكاة السائمة كما تجب باعتبار العين تجب باعتبار القيمة والمالية أيضاً، ألا ترى أنه لو هلكت المالية بالموت لا تجب الزكاة، وههنا إن تبدل العين لم تتبدل المالية، فاعتبار العين يوجب بطلان الحول، واعتبار المالية يوجب بقاء الحول، فلا يبطل الحول بالشك. قلنا: وجوب الزكاة في السائمة (136أ1) إن كان باعتبار العين والمالية جميعاً إلا أن اعتبار العين أولى، لأن العين أصل، والمالية تبع، فإن العين تبقى بدون المالية، والمالية لا تبقى بدون العين، فإذا تبدل العين، فقد تبدل الأصل، فجعل المالية مقيداً له حكماً ومعنى تبعاً وإن لم تتبدل من حيث الحقيقة، وإذا تبدل العين والمالية جميعاً بطل حكم الحول ضرورة. وإذا كان للرجل إبل سائمة، فإذا كان قبل الحول بشهر هلك واحدة منها لا يبطل حكم الحول عندنا، حتى لو استفاد واحدة منها أخرى قبل الحول ثم تم الحول تجب

الزكاة عندنا، وهذا بناءً على أن نقصان النصاب في أثناء الحول لا يمنع وجوب الزكاة بلا خلاف، وهذا لأن الحول إنما ينعقد باعتبار المال، وبعض المال في السوائم عندنا خلافاً للشافعي، وفي عروض التجارة والدراهم والدنانير نقصان النصاب في أثناء الحول لا يمنع وجوب الزكاة إن زال بقي البعض. فزوال ما زال إن كان يوجب بطلان الحول، فبقاء ما بقي يوجب بقاء الحول وقد عرف أن الحكم متى ثبت بعلة يبقى ما بقي شيء من العلة، وعلى هذا إذا جعل البعض علوفه في خلال الحول لا يبطل حكم الحول عندنا، وإنما يبطل إذا جعل الكل علوفة؛ لأن الحول إنما ينعقد على المال باعتبار النماء، فإذا جعل الكل علوفة، فقد زال جميع ما انعقد عليه الحول بخلاف ما إذا جعل البعض، لأن هناك بقي بعض ما انعقد عليه الحول، فبقي حكم الحول باعتباره. وفي «فتاوى الفضلي» : سئل عمن له غنم للتجارة منها تبلغ نصاباً، فماتت في خلال الحول، فسلخها ودبغ جلدها وقيمة الجلد تبلغ نصاباً، فعليه الزكاة عند تمام الحول قال: وبمثله لو كان عصيراً للتجارة تبلغ قيمته نصاباً فتخمر في خلال الحول ثم تخللت، وقيمته تبلغ نصاباً ثم تم الحول، فلا زكاة عليه وأشار إلى الفرق فقال لا بد وأن يكون على ظهر الشاة شيء من الصوف له قيمته، فيبقى الحول باعتباره، ولا كذلك العصير. وذكر مسألة الجلد في «المنتقى» : على نحو ما ذكرنا ولم يذكر مسألة العصير، وذكر المعنى في مسألة الجلد، فقال: الجلد في نفسه مال، لكن لا تظهر أحكام المالية لمجاورة النجاسات إياه، فمن حيث إنه مال يبقى الحول، وهذ المعنى يقتضي بقاء الحول في مسألة العصير؛ لأن الخمر عندنا مال إلا أنه ليس بمتقوم، فيبقى الحول من حيث إنه مال.h ونص القدوري في «شرحه» أن حكم الحول لا ينقطع في مسألة العصير، وسوى بين مسألة العصير وبين مسألة الشاة. قيل: وفي «نوادر ابن سماعة» : أن الحول لا ينقطع في مسألة العصير كما ذكره القدوري. ولو كان له عبد للتجارة كاتبه ثم عجز ورد في الرق، ذكر في «المنتقى» : أنه لا يعود للتجارة، وقيل: وفي «الجامع» : أنه يعود للتجارة، قال في «المنتقى» : وكذلك إذا لم يكاتبه، ولكنه وهبه لرجل ودفعه إليه ثم رجع في نفسه لم تكن للتجارة، وكان هبته إياه إخراجاً له من التجارة، قال: والبيع في هذا يفارق الهبة وأشار إلى الفرق؛ فقال: ألا ترى أني لو أمرت رجلاً أن يهب عبدي هذا من فلان، فوهبه له ثم رجعت فيه لم يكن له أن يهبه له ثانياً، ولو أمرته ببيع عبد لي، فباعه ثم ردّ إليّ بعيب كان له أن يبيعه مرة أخرى. وفي «القدوري» : إذا كان العبد للتجارة فقتله عبد خطأً، فدفع به فالثاني للتجارة؛ لأن الثاني قائم مقام الأول لحماً ودماً فيبقى حكم الأول فيه ولو قتله عبد عمداً، فصالحه المولى عن الدم على العبد أو على غيره، لم يكن للتجارة لأنه عوض عن شيء آخر هو ليس بمال، وليس بقائم مقام الأول، فلا يبقى حكم الأول والله أعلم.

الفصل السادس في تعجيل الزكاة

الفصل السادس في تعجيل الزكاة ويجوز تعجيل الزكاة قبل الحول إذا ملك نصاباً عندنا؛ لأنه أدى بعد وجود سبب الوجوب؛ لأن سبب الوجوب نصاب نام؛ فإن نظرنا إلى النصاب فالنصاب قد وجد؛ وإن نظرنا إلى النماء فقد وجد أيضاً؛ لأن العبرة لسبب النماء وهو الإسامة أو التجارة لا لنفس النماء، وقد وجد سبب النماء. بخلاف ما إذا عجل قبل كمال النصاب؛ لأنه أدى قبل وجود سبب الوجوب، وإذا عجل زكاة سنتين، يجوز عن علمائنا الثلاثة خلافاً لزفر، وكذلك إذا عجل زكاة نصب كثيرة، وله نصاب واحد جاز عند علمائنا الثلاثة، وإذا عجل عشر نخلة قبل أن يخرج منه شيء لا يجزئه عند أبي حنيفة ومحمد، ويلزمه أن يعطي عشر الخارج وعلى قول أبي يوسف يجوز التعجل، ولا يلزمه شيء إذا كان ما أدى مثل عشر ما خرج. وعلى هذا الخلاف: إذا زرع وعجل العشر قبل النبات، ولو عجل بعدما نبت وصار له قيمة، فإنه يجزئه بالإجماع، إذا خرج الحب بعد ذلك. وجه قول أبي يوسف: أنه أدى بعد وجود سبب الوجوب؛ لأن النخيل سبب حصول التمر؛ لأن بعد وجود النخيل لا يحتاج إلى واسطة اختيارية لحصول التمر وهذا هو حد السبب، وكذلك الزراعة سبب حصول الحب بهذا الطريق، وإذا كان سبباً لخروج التمر والحب كان سبباً لوجود النماء، فيكون سبباً للوجوب، فكان الأداء بعد وجود سبب الوجوب، وعلى هذا الجواب يخرج ما أدى قبل الزراعة. وجه قول محمد: أن الأداء حصل قبل وجود سبب الوجوب؛ لأن سبب وجوب العشر الخارج الذي يجب فيه العشر كما أن سبب وجوب الزكاة المال الذي تجب فيه الزكاة. وفي «المنتقى» : قال أبو يوسف: لا بأس بتعجيل زكاة النخل والكرم لسنين؛ لأن هذا قائم كالحرث الذي بذره حال ثمنه، قال أبو يوسف: وأما الأنعام إذا أراد أن يزكي ما في بطونها مع الأمهات ويحتسب بها في العدد، فعجل ذلك قبل الحول أجزأه إذا كانت حوامل. وفيه أيضاً: الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: رجل له ألف درهم أراد أن يعجل زكاتها قبل الحول فعليه أن يزكي من كل إحدى وأربعين درهماً، وسيأتي المعنى فيه بعد هذا، وإن حال الحول قبل أن يؤدي وجب عليه في كل أربعين درهماً درهم، ولو كانت له واحد وأربعون ألف درهم، فعجل زكاتها عجل ألف درهم وليس عليه أكثر منها؛ لأن الحول إنما يحول على أربعين ألفاً. قال محمد في «الزيادات» : رجل مرّ على العاشر بمائتي درهم، فأخبر العاشر أنه لم

الفصل الأول: أن يتم الحول وعند صاحب المال ما بقي من المال مائة وخمسة وتسعون، وهذا الفصل على سبعة أوجه:

يتم حوله، وحلف على ذلك لم يأخذ منه العاشر شيئاً، فإن طلب فيه العاشر أن يعجل زكاته خمسة ففعل، فهذه المسألة تشتمل على فصول ثلاثة: الفصل الأول: أن يتم الحول وعند صاحب المال ما بقي من المال مائة وخمسة وتسعون، وهذا الفصل على سبعة أوجه: الوجه الأول: أن يتم الحول والخمسة المقبوضة قائمة في يد العاشر (136ب1) وفي هذا الوجه لا يصير المعجل زكاة قياساً، ويصير زكاة استحساناً، لم يذكر القياس والاستحسان ههنا، إنما ذكره في فصل الإبل، عامة المشايخ على أن ذكر القياس والاستحسان في فصل الإبل ذكر في فصل الدراهم. وجه القياس: أن المعجل إنما يصير زكاة إذا ثبت الوجوب في آخر الحول؛ لأن أداء الزكاة ولا زكاة مستحيل، ولا زكاة إلا بعد الوجوب ولا وجوب في آخر الحول ههنا لانعدام شرطه، وهو كمال النُّصُب، فإن المؤدى خرج عن ملكه بالأداء، ولهذا لو أراد أن يسترد من العاشر لم يكن له ذلك. وجه الاستحسان: أن يد الساعي في المقبوض قبل الوجوب، وهو المعجل قائمة مقام يد الملك، وفي المقبوض بعد الوجوب قائمة مقام يد الفقراء، وهذا لأن المقبوض قبل الوجوب حق المالك، والساعي يقبض مال المالك بأمره ويعمل له، فيكون نائباً عنه واعتبرت يده يد المالك، والمقبوض بعد الوجوب حق الفقراء. ولهذا يجبر المالك على الأداء، والإنسان لا يجبر على أدء المالك لحق نفسه، وإنما يجبر لحق غيره، ولا حق في الصدقة إلا للفقراء، فتعتبر يد الساعي في قبض حقهم قائماً مقام يدهم، ومتى أشكل الأمر فيها عند الإخراج الدفع أنها واجبة وليست بواجبة كان حكمها موقوفاً، فإن ظهر أنها واجبة تبين أن يد الساعي كانت يد الفقراء من يوم الأخذ، وإن ظهر أنها نفل تبين أن يد الساعي يد صاحب المال من وقت الأخذ، إذا ثبت أن يد الساعي في المعجل قائمة مقام يد المالك صارت الخمسة المعجلة في يد المالك حكماً، فيكمل به النصاب ويثبت الوجوب، فيصير المعجل زكاة. الوجه الثاني: أن يستهلكها العاشر، ويأكلها قرضاً، وهو الوجه الثالث؛ إذا أخذها عمالة له نفسه، وهو الوجه الرابع، وهذه الوجوه على القياس والاستحسان أيضاً. وجه القياس: أن المعجل في هذه الصور لا يمكن أن يجعل باقياً على المالك، فكان النصاب ناقصاً في آخر الحول. وجه الاستحسان: أن المستهلك والمأكول قرض مضمون في ذمة الساعي بمثله، فيمكن تكميل النصاب به يكون الضمان قائماً مقام المضمون، والمأخوذ عمالة لا تزول عن ملك رب المال بمجرد الأخذ، إذ لو زال لا تجب الزكاة، فلا يكون له عمالة؛ لأن العمالة في الصدقة الواجبة فيصير المأخوذ عمالة حينئذٍ ديناً على الساعي، ويكمل به النصاب، ففي إبطال الزكاة ابتداء إيجابها انتهاء، غير أن في فصل الاستهلاك والقرض نوع إشكال، فإن المعجل صار ديناً في ذمة الساعي، وأداء العين عن الغير لا يجوز، ولا

الفصل الثاني: إذا استفاد صاحب المال خمسة قبل تمام الحول، فتم الحول وفي يده مائتا درهم، فإنه تجب الزكاة في الوجوه كلها، لأنه تم الحول ونصابه كامل بدون المعجل ويصير المعجل زكاة؛ لأنه عجلها لتصير زكاة عما تلزمه من الزكاة في هذه السنة، وقد لزمته الزكاة في هذه السنة، فتصير زكاة، وليس عليه في الخمسة المعجلة

يقال بأن المعجل يصير زكاة من حين دفعه وعند ذلك كان عيناً، لأنا نقول هذا فاسد؛ لأن المعجل لو صار زكاة من حين دفعه، تخرج الخمسة من ملك المالك من وقت التعجيل، فلا يكمل به النصاب، ولا تجب الزكاة، فيبطل المعجل ولا يصير زكاة، فتقتصر صيرورة المعجل زكاة على الحال، وعند ذلك يتأتى الإشكال. الوجه الخامس: أن يتصدق بها العاشر على المساكين قبل تمام الحول، ثم تم الحول، وفي هذا الوجه لا يصير المعجل زكاة لانعدام الوجوب في آخر الحول، لعدم كمال النصاب؛ لأن المعجل بوصوله إلى كف الفقير خرج عن ملكه حقيقة وحكماً، ولا ضمان على الساعي؛ لأن التصدق حصل بإذن المالك. بيانه: أن الدفع إلى الساعي والساعي يقبض للمساكين، ويحتمل أن يصرفها إلى الفقراء قبل تمام الحول إذن بالدفع، زكاة على تقدير وجوب الزكاة، بأن يستفيد خمسة أخرى قبل الحول، وإذن بالدفع تطوعاً على تقدير عدم وجوب الزكاة. الوجه السادس: أن يأكلها الساعي صدقة بحاجة نفسه، والجواب فيه نظير الجواب في الوجه الخامس لأن التصدق به على نفسه كالتصدق على مسكين آخر. الوجه السابع: إذا ضاعت من يد الساعي قبل تمام الحول ثم وجدها بعد تمام الحول، وفي هذا الوجه لا يصير المعجل زكاة؛ لأن تكميل النصاب بالخمسة المفقودة متعذر؛ لأنها ضمان، وإذا لم يصر المعجل زكاة كان للمالك أن يسترده من الساعي، فإن لم يسترده حتى تصدق بها العاشر لم يضمنه، هكذا ذكر في «الكتاب» بعض مشايخنا، قالوا: هذا على قولهما، أما على قول أبي حنيفة: ينبغي أن يضمن؛ لأن صاحب المال أمره بالأداء على وجه يسقط الفرض عنه، وهذا المعنى لا يمكن تحقيقه ههنا. أصله: الوكيل بأداء الزكاة إذا أداها بعدما أدى الموكل بنفسه، وهناك الوكيل ضامن عند أبي حنيفة لما قلنا، وعندهما لا يضمن فههنا كذلك. والمحققون من مشايخنا قالوا: لا ضمان ههنا عند الكل، وفرقوا لأبي حنيفة بين هذه المسألة، وبين مسألة الوكيل، والفرق: أن في مسألة الوكيل الفرض لازم وقت الأمر، فيتقيد بالأمر بالصرف على وجه يسقط الفرض عنه، وهذا المعنى عن الأمر، وههنا الفرض غير لازم وقت التعجيل، ويحتمل أن يكون المعجل في يد الساعي إلى آخر الحول ويحتمل أن لا يبقى، ويحتمل أن يستفيد مالاً آخر، ويحتمل أن لا يستفيد، وعلى بعض الوجوه لا يقع الصرف مسقطاً الفرض عنه، فلا يتقيد الأمر بالصرف بإسقاط الفرض عنه، وإن نهى العاشر عن التصدق في هذه الصورة ضمنها إذا تصدق بعد ذلك بلا خلاف. الفصل الثاني: إذا استفاد صاحب المال خمسة قبل تمام الحول، فتم الحول وفي يده مائتا درهم، فإنه تجب الزكاة في الوجوه كلها، لأنه تم الحول ونصابه كامل بدون المعجل ويصير المعجل زكاة؛ لأنه عجلها لتصير زكاة عما تلزمه من الزكاة في هذه السنة، وقد لزمته الزكاة في هذه السنة، فتصير زكاة، وليس عليه في الخمسة المعجلة

الفصل الثالث: إذا ملك شيء ما في يد صاحب المال، وفي هذا الفصل لا تلزمه الزكاة في الوجوه كلها؛ لأن أكثر ما فيه أنا نجعل المعجل باقيا على ملكه، فالنصاب مع ذلك ناقص عند تمام الحول، فلا يجب الزكاة ولا يصير المعجل زكاة، فبعد ذلك إن كان المعجل قائما في يد الساعي استرده المالك، فإن كان قد أكلها قرضا أو أخذها بعمالة نفسه أو استهلكه ضمن مثل ذلك لصاحب المال، وإن كان قد أكلها صدقة بحاجة نفسه أو كان تصدق بها على الفقراء فلا ضمان، وإن كان قائما في يده وتصدق بها في الحال هل يضمن؟ فهو على الخلاف الذي مر.

شيء، وإن كانت قائمة في يد المصدق، أما على قول أبي حنيفة، فلأنه لا يرى الزكاة في الكسور، وأما على قولهما، لأن المعجل صار زكاة من وقت الأداء وخرج عن ملكه، ولا زكاة بدون الملك، فقد حكم بزوال المعجل عن ملكه من وقت التعجيل، وفي الفصل الأول لم يحكم بزوال المعجل من وقت التعجيل حتى قال بوجوب الزكاة في بعض الوجوه من الفصل الأول. ولو زال المعجل عن ملكه من ذلك الوقت لما وجبت الزكاة أصلاً لنقصان النصاب في آخر الحول. والوجه في ذلك: أن المعجل يجب أن يكون زكاة من وقت القبض نظراً إلى أصل المال، ويجب أن تكون زكاة عند تمام الحول نظراً إلى أصله، وهو وصف النماء، لأن النماء إنما يحصل بالحول، إلا أنه لا معارضة بين الأصل وبين الوصف، فتجعل الزكاة من وقت التعجيل باعتبار الأصل، وإسقاطاً لاعتبار الوصف، إلا أنه إذا كان (137أ1) في اعتباره زكاة من وقت وجوده إبطال الوصف، فحينئذٍ يعتبر الوصف ويجعل زكاة عند تمام الحول تصحيحاً للزكاة بقدر الممكن. قلنا: وليس في جعل المعجل زكاة من وقت التعجيل في هذه الصورة إبطال الزكاة؛ لأن الزكاة واجبة عند تمام الحول لتمام النصاب بدونه، فجعلنا المعجل زكاة زائلاً عن ملكه من وقت وجود التعجيل، فلا تجب فيه الزكاة، أما في الفصل الأول: لو جعلنا المعجل زكاة من وقت التعجيل كان فيه إبطال الزكاة؛ لأن الزكاة حينئذٍ لا تجب عند تمام الحول لنقصان النصاب بدون المعجل، فلم يجعله زكاة من وقت وجوده، فتم الحول والمعجل باق على ملكه، فكان النصاب تاماً عند الحول، فتجب الزكاة، ويصير المعجل زكاة. الفصل الثالث: إذا ملك شيء ما في يد صاحب المال، وفي هذا الفصل لا تلزمه الزكاة في الوجوه كلها؛ لأن أكثر ما فيه أنا نجعل المعجل باقياً على ملكه، فالنصاب مع ذلك ناقص عند تمام الحول، فلا يجب الزكاة ولا يصير المعجل زكاة، فبعد ذلك إن كان المعجل قائماً في يد الساعي استرده المالك، فإن كان قد أكلها قرضاً أو أخذها بعمالة نفسه أو استهلكه ضمن مثل ذلك لصاحب المال، وإن كان قد أكلها صدقة بحاجة نفسه أو كان تصدق بها على الفقراء فلا ضمان، وإن كان قائماً في يده وتصدق بها في الحال هل يضمن؟ فهو على الخلاف الذي مرّ. رجل له مائتا درهم عجّل منها خمسة ودفعها إلى المصدق ثم هلكت المائتان إلا درهماً وذلك قبل الحول، فأراد صاحب المال استرداد المعجل ليس له ذلك والأصل في هذا أن كل تصرف صح بجهة، لا يجوز نقضه ما لم تبطل تلك الجهة بيقين. ألا ترى أن المشتري يشرط الخيار للبائع إذا عدّ الثمن في مدة الخيار لا يملك استرداده؛ لأن النقد قد صح بجهة الثمنية، ولم تبطل هذه الجهة قطعاً؛ لأن احتمال أن يصير المؤدّى ثمناً قائماً.

وكذلك المستأجر إذا عجل الأجرة قبل استيفاء المنفعة لم يملك الاسترداد، وإنما لم يملك لما قلنا. إذا ثبت هذا فنقول: دفع الخمسة إلى المصدق بجهة الزكاة قد صح، ولم تبطل هذه الجهة قطعاً لاحتمال أن يستفيد ما يكمل به النصاب قبل الحول، وكذلك لو أنفق صاحب المال الدراهم كلها قبل الحول والخمسة المعجلة قائمة في يد الساعي أو أكلها قرضاً أو استهلكها، أو أخذها بعمالة نفسه، فليس لرب المال أن يأخذ ذلك منه، وكذلك لو عجل المائتين كلها، وأداها إلى العاشر لا يملك استرداد شيء منه للحال لاحتمال إلى آخر الحول مقدار ما يصير المؤدى زكاة عنه، ويكون الحول باقياً باعتبار المؤدى، إذ المؤدى باقٍ على ملك المالك؛ لكون يد الساعي قائمة مقام يد رب المال في هذه الحالة. فرع على هذه الصورة وهي ما إذا عجل المائتين كلها، فقال: لم أستفد شيئاً حتى تم الحول، والمائتان قائمة في يد العاشر، كان له أن يسترد من الساعي مائة وخمسة وتسعين ولا يسترد الخمسة؛ لأن مقدار الخمسة صار زكاةً، وما عدا الخمسة لم يبق لها احتمال أن تصير زكاة هذه السنة، وهو إنما عجل ليصير المعجل زكاة هذه السنة، فلو كان استفاد ألف درهم قبل تمام الحول، فالساعي يمسك من المائتين زكاة ألف، خمسة وعشرين، بقي هناك مائة وخمسة وتسعون يمسك الساعي هذا المقدار عند أبي حنيفة، وعندهما يمسك أربعة دراهم وثلاثة أثمان درهم، فأبو حنيفة لا يرى زكاة الكسور، وهما يريان ذلك. رجل له خمس وعشرون من الإبل السائمة عجل منها بنت مخاض ودفعه إلى العاشر، فتم الحول وفي يد صاحب الإبل أربعة وعشرون، ففي القياس يصير قدر أربع من الغنم من بنت المخاض زكاة، ويرد الساعي الباقي، وفي الاستحسان يصير الكل زكاة، وقد مر وجه القياس والاستحسان في فصل الدراهم، هكذا ذكر في «الزيادات» . وفي كتاب «زكاة الإملاء» رواية بشر بن الوليد لا يكمل النصاب فيما (في) يد المصدق، ولا يجوز ذلك عن زكاته وعلى المصدق أن يردها على صاحبها، ويأخذ منه أربعاً من الغنم، ولو لم يحل الحول حتى هلك من إبله واحد، وبقي ثلاثة وعشرون، ثم حال الحول، فالساعي يمسك من المؤدي قدر أربع من الغنم ويرد الباقي قياساً واستحساناً؛ لأنا وإن جعلنا المؤدى باقياً على ملكه تم الحول، ونصابه أربعة وعشرون، فلا يجب إلا بقدر أربع من الغنم، وإن أكلها العاشر قرضاً وهو غني ضمن قيمتها، أما حصة رب المال، فلا شك. وأما حصة الفقراء؛ فلأنه غني والغني ليس بمحل للصدقة، وإن أكلها بحساب عمالة نفسه يضمن حصة رب المال، ولا يضمن حصة الفقراء؛ لأن حصة الفقراء وجبت زكاة، والعمالة تجب في الزكاة، وإن تصدق بها على المحتاجين أو أكل وهو محتاج لا يضمن شيئاً؛ لأن التصدق حصل بأمر رب المال. رجل له أربعون شاة سائمة، فقبل أن يتم حولها عجل شاة منها وتصدق بها العاشر

أو باعها، وتصدق بثمنها ذلك جائز، أما إذا تصدق بعينها فظاهر، وأما إذا باعها وتصدق بثمنها، فلأن المأمور بالصدقة يملك البيع والتصدق بالثمن؛ لأنه ربما يكون البيع والتصدق بالثمن أيسر عليه، فإن تم الحول وليس عند صاحبها إلا تسعة وثلاثون شاة، لا يصير المعجل زكاة، لأنه لا تجب الزكاة حينئذٍ؛ لأن المؤدى لا يمكن أن يجعل باقياً على ملكه بعدما وصل إلى الفقير عينه أو بدله، فتم الحول ونصابه ناقص، فلا تجب الزكاة، ويكون المؤدى تطوعاً ولا يجب الضمان على العاشر؛ لأنه تصدق بأمر صاحبها. ولو لم يبعها ولم يتصدق بعينها، وهو في يد المصدق على حالها يصير المعجل زكاة استحساناً عند عامة المشايخ، ولو كان العاشر باعها وأخذ الثمن لنفسه على وجه العمالة ثم تم الحول، وغنم صاحب الغنم تسعة وثلاثون كان على العاشر قيمتها؛ لأن الزكاة لم (تتم) وإذا لم تتم لا تجب العمالة، وقد صار مستهلكاً لها بالبيع، ووجب عليه القيمة؛ فتم الحول وبعض النصاب قيمة، ونصاب السوائم لا تكمل بالقيمة. وكذلك إذا أكلها قرضاً، وباقي المسألة بحالها بخلاف فصل الدراهم، لأن هناك ما وجب على الساعي من جنس النصاب فجاز أن يكمل به النصاب، ولو أكلها العاشر وهو محتاج، فلا ضمان. رجل له مائتا درهم وأربعون درهماً عجل منه ستة دراهم فتم الحول وعند......... عند العاشر، فإن القياس على قول أبي حنيفة أن تصير الخمسة زكاة والدرهم السادس على رب المال؛ لأن الخمسة المعجلة صارت زكاة من وقت القبض، فتم الحول وماله مائتان وخمسة وثلاثون، فتجب الخمسة عن المائتين، ولا يجب في الباقي شيء؛ لأنه لا يرى زكاة الكسور، ووجه الاستحسان: أن في جعل المعجل زكاة من وقت التعجيل إبطال بعض المعجل، فيصير زكاة بعد الحول فتم الحول، وماله مائتان وأربعون. والقياس على قولهما: أن يمسك الساعي خمسة دراهم زكاة عن المائتين، ويمسك أيضاً خمسة وثلاثين جزءاً من أحد وأربعين جزءاً من درهم وفي الاستحسان لا يرد شيئاً. وجه القياس: أن في التعجل كل درهم يقع زكاة عن نفسه، وعن أربعين سواه، ألا ترى أنه إذا عجل عن المائتين خمسة وبقيت الخمسة في يد الساعي ثم استفاد خمسة أخرى، فالخمسة المعجل تقع عن نفسها، وعن المائتين سواها، فكذا هنا جعلت الخمسة المعجلة من المعجل زكاة من وقت القبض عن نفسها وعن المائتين، فبقي له خمسة وثلاثون أربعة وثلاثون في يده ودرهم في يد الساعي. ولو كان في يده ستة أخرى كان كل الدراهم الزائدة زكاة عن نفسه، وعن هذه الأربعين، فإنما يجب رد شيء (137ب1) من الدرهم الزائد بسبب فوات ستة دراهم، فيقسم الدرهم الزائد زكاة على نفسه، وعن هذه الأربعين على واحد وأربعين، فيسقط منه

بقدر ستة أجزاء من واحد وأربعين جزءاً من درهم. وجه الاستحسان: أن ما قلنا لأبي حنيفة، ولو هلك بعد التعجيل ما فعل، فإن الساعي يمسك من الدرهم الزائد على قولهما استحساناً، ستة أجزاء من واحد وأربعين جزءاً من درهم؛ لأن المعجل صار زكاة بعد الحول، فتم الحول، وفي ملكه مائتان وستة دراهم. فنقول: لو كان ههنا خمسة وثلاثون درهماً كان الدرهم الزائد كله زكاة، فيسقط من الدرهم الزائد بقدر خمسة وثلاثين، وذلك خمسة وثلاثون جزءاً من أحد وأربعين جزءاً من درهم، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: يرد الدرهم السادس كله قياساً واستحسناً؛ لأنا وإن جعلنا المعجل باقياً على ملكه، فالزائد على المائتين يكون في ستة، وأبو حنيفة لا يرى الزكاة في أقل من الأربعين. ولو أنفق صاحب المال مما في يده درهماً، فتم الحول وفي يده مائتان وثلاثة وثلاثون درهماً، فعلى قول أبي حنيفة الساعي يرد الدرهم الزائد كلها على رب المال قياساً واستحساناً لما ذكرنا، وأما على قولها فالساعي يرد على رب المال جزءاً من أربعين جزءاً من درهم؛ لأن المعجل باق على ملكه استحساناً، فتم الحول وماله تسعة وثلاثون درهماً، فانتقص من الأربعين درهم، فينقص من الدرهم الزائد بقدره. رجل له أربعون من الغنم السائمة عجل شاة منها ثم إن الإمام أعطاها المصدق من عمالته، أو أخذها المصدق من عمالته بنفسه، وأشهد على ذلك، وكانت في يده سائمة حتى تم الحول وفي يد صاحب الغنم أربعون شاة......... دفعه على سبيل العمالة وصار زكاة. ولو تم الحول وعند صاحب الغنم تسعة وثلاثون شاة فليس على صاحبها زكاة؛ لأن المأخوذ عمالة لا يمكن إبقاؤه على ملك صاحب المال، لأن هنا الأخذ وقع للساعي، فلا يمكن أن يجعل الساعي نائباً عن رب المال فيه، فتم الحول ونصابه ناقص، وكان على الساعي رد الشاة على المالك، لأنه أخذها بحسب العمالة، وتبين أنه لا عمالة، ولو كان الساعي باعها قبل الحول بيوم نفذ البيع، يريد به إذا أخذها بعمالة نفسه وباعها لنفسه، وكان على الساعي قيمتها؛ لأنه تعذر رد عينها بسبب البيع فيلزمه رد قيمتها.d ولو كان المصدق لم يأخذها بعمالة نفسه، ولكن باعها للفقراء قبل الحول نفذ البيع، فإن تم الحول، وفي يد صاحب المال ثلاثة وثلاثون من الغنم، وثمن المعجل قائم في يد الساعي رد الثمن على المالك، أداء الزكاة ههنا لم يجب، لأن نصاب الغنم لا يكمل بالثمن، ولو لم يبعها المصدق حتى تم الحول، وفي يد صاحب الغنم تسعة وثلاثون من الغنم ثم باعها للفقراء نفذ البيع وتصدق بثمنها؛ لأن الزكاة قد وجبت ههنا، فإن نقصت شاة من الغنم قبل الحول ثم باع المصدق الشاة المعجلة نفذ، ولا ضمان عليه

عند الكل علم بذلك أو لم يعلم على ما عليه المحققون من أصحابنا. رجل له أربعون بقرة سائمة عجل منها مسنة ثم تم الحول وفي يده أربعون بقرة سائمة صار المعجل زكاة، وهذا ظاهر. ولو هلكت واحدة منها قبل الحول، ثم تم الحول والمسنة في يد الساعي على حالها، فإن المصدق يمسك من المسنة قدر تبيع أو تبيعة ويرد الفضل قياساً واستحساناً؛ لأن المعجل إنما يصير زكاة عما لزمه، والذي لزمه قدر تبيع أو تبيعه؛ لأنا وإن جعلنا المعجل باقياً على ملكه، ثم تم الحول ونصابه ناقص عن أربعين، فإن أراد المتصدق أن يرد المسنة ويأخذ تبيعاً، وأبى المالك ذلك وأراد المالك أن يسترد المسنة، ويرد التبيع وأبى المصدق ذلك، فليس لواحد منهما ذلك إلا برضا الآخر؛ لأن التعجيل قد صح بتراضيهما فلا يصح النقض إلا بتراضيهما، فإن تم الحول وعند صاحب البقر ستون أخذت تلك المسنة ويأخذ الساعي من صاحب البقر تام قيمة تبيعين أو تبيعتين؛ لأنه تم الحول وقد لزمه تبيعان. فإن قال صاحب البقر للساعي: رد علي المسنة حتى أعطيك التبيعين، أو قال الساعي: أرد عليك المسنة وآخذ منك تبيعين، فليس لواحد منهما ذلك إلا برضا الآخر. قال: ولو حال الحول وعنده أربعون من البقر فعدها المصدق وأخذ منها بقرة مسنة، ثم أعاد المصدق عدها فوجدها سبعة وثلاثين مع البقر التي أخذها المصدق وقد اتفقا على الخطأ في العدد، فلصاحب البقر أن يسترد المسنة ويعطيه تبيعاً وإن أبى الساعي ذلك. وكذلك للساعي أن يرد المسنة ويأخذ التبيع بخلاف مسألة التعجيل. والفرق: أن التسليم والأخذ في هذه الصورة كان بناءً على تمام النصاب، وكان التراضي ثابتاً بهذا الشرط، فإذا فات الشرط فات التراضي، فثبت لكل واحد منهما الخيار، أما في مسألة تعجيل التسليم والتسلم كان مع كمال العدد، ويحتمل تمام النصاب في آخر الحول ويحتمل ضده، وكان التراضي ثابتاً مطلقاً، فلا ينفرد أحدها بالنقض. قال: وإن لم يرد المصدق المسنة على صاحب البقر حتى ضاعت أو تصدق بها المصدق أجزأته من زكاته؛ لأنه أدى ما وجب عليه وهو قدر تبيع وزيادة شيء، فبقدر ما وجب يقع عن زكاة ماله، وهل يضمن المصدق الفضل؟ قال: ينظر إن أعطاه صاحب البقر باختياره لا يضمن؛ لأن الدفع حصل على جهة الصدقة وصح منه، ولم يوجد من المصدق بعد ذلك تعد في حقه فلا يضمن، وإن كان المصدق أكرهه على الدفع ينظر إن أكرهه وهو يرى أن عدد البقر ناقص كان ضامناً للفضل على قدر التبيع؛ لأنه تعمد الجور والظلم. واستدل محمد رحمة الله لإيضاح مسألة التعجيل: رجل له أربعون من البقر، فلما حال عليه الحول أتاه المصدق، فقال المصدق إني كنت أمرت غلامي أن يبيع عشرة منها قبل الحول، وأنا لا أدري أباع أو لم يبع، فخذ هذا التبيع، فإن كان باعها، فذلك زكاتها وإن لم يبعها أتممت لك زكاة الأربعين، وأخذ المصدق التبيع على هذا، ثم ظهر أن

الغلام لم يبعها، فأراد المصدق أن يرد التبيع، ويأخذ المصدق المسنة أو أراد صاحب البقر أن يسترد التبيع ويأخذ المسنة أو أراد صاحب البقر أن يسترد التبيع ويأخذ المسنة لا يكون لأحدهما ذلك بدون رضا صاحبه، وأمر صاحبه البقر أن يتم زكاة الأربعين، ولا ينقض ما فعلا بتراضيهما إلا بتراضيهما، فكذا مسألة التعجيل. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل له مائتا درهم وعشرون مثقالاً من الذهب، عجل زكاة المائتين ثم هلكت المائتان قبل تمام الحول، وبقي الذهب، فإن المؤدى يكون زكاة عن الذهب، وروي عن أبي يوسف: أن المؤدى لا يكون زكاة عن الذهب ويصير تطوعاً، وعليه زكاة الذهب وهو رواية عن أبي حنيفة، ذكر رواية أبي حنيفة أبو عبد الله البلخي في المناسك. وجه رواية أبي يوسف: أنهما مالان مختلفان، بدليل اختلاف قدر نصابهما وواجبهما والتعيين في الجنس المختلف صحيح، وإذا صح التعيين وهلك المؤدى عنه قبل الحول يصير المؤدى تطوعاً، فتبقى عليه زكاة الذهب، والدليل عليه: إذا كان له نصاب غنم ونصاب إبل عجل زكاة (138أ1) . الغنم، ثم هلك الغنم قبل الحول لا يقع المعجل عن الإبل وطريقه ما قلنا. وجه ما ذكر في «الجامع» : أن التعيين لم يصح؛ لأن التعيين إنما يصح في الأجناس المختلفة. وجواز التعجيل مبني على السببية، والذهب والفضة وإن كانا مختلفين حقيقة فهما في حق سببية الزكاة جنس واحد معنى، ولهذا يضم أحدهما إلى الآخر، وإذا صارا في حق، سببية الزكاة جنساً واحداً معنىً التحقا بالجنس الواحد حقيقة في حق هذا الحكم، فلا يصح التعيين إلا إذا كان في التعيين فائدة، فحينئذٍ يصح التعيين، ويعمل فيه بالحقيقة، وهما جنسان مختلفان حقيقة. إذا ثبت هذا فنقول: لا فائدة للتعيين في الحال؛ لأن الواجب في مائتي درهم خمسة دراهم، وفي عشرين مثقال نصف مثقال، فأما إن كان قيمتها على السواء، أو كان قيمته نصف مثقال أقل أربعة، أو أكثر ستة، فإن كان قيمتها على السواء يسقط عنه خمسة، ويبقى خمسة جعل المؤدى عنهما أو عن أحدهما، فإن كان قيمة نصف مثقال أربعة يسقط عنه خمسة، ويبقى عليه أربعة جعلنا المؤدى عنهما، أو عن الدراهم خاصة، وإن كان قيمة نصف مثقال ستة تسقط عنه قدر خمسة ويبقى عليه قدر ستة، فجعلنا المؤدى عنهما، أو عن أحدهما يدل أنه لا فائدة في التعيين في الحال، وإنما الفائدة باعتبار الهلاك، فإنه إذا هلكت الدراهم تلزمه زكاة الدنانير بكماله، والهلاك موهوم. وإذا كان في فائدة التعيين، وهما لم يعتبرا جنسين، بل اعتبرا جنساً واحداً، فلا يصح. فالتعيين صار كأنه عجل خمسة ولم يعين وهناك، أو هلكت المائتان يقع المعجل عن الدنانير كذا ههنا، بخلاف ما إذا كان نصاب غنم ونصاب إبل، وعجل زكاة أحدهما؛ لأن هناك التعيين قد صح؛ لأن الجنس مختلف، ولهذا لا يضم أحدهما إلى الآخر، والتعيين في الجنس المختلف صحيح.

وأما إذا عين الأداء عن الدراهم بعد الحول وبعد الوجوب، بل يصح التعيين حتى إذا هلكت الدراهم، بل تلزمه زكاة الذهب اختلف المشايخ فيه. بعضهم قالوا: يصح التعيين، وفرق هنا القائل فيما قبل الحول وفيما بعد الحول. ووجه الفرق: أن الأداء قبل الحول أداء بطريق التعجيل، وإنه مبني على قيام السبب لا على قيام الواجب، والذهب والفضة في حكم السببية جنس واحد، والتعيين في الجنس الواحد لغو، أما إذا كان بعد الحول مبني على قيام الواجب، والواجب مختلف والتعيين في الجنس المختلف صحيح، وبعض مشايخنا قالوا: التعيين بعد الحول غير صحيح كالتعيين قبل الحول؛ لأنه ما يفيد إلا على اعتبار هلاك المؤدى عنه، وإنه موهوم. وفي حق هذا المعنى لا فرق فيما قبل الحول وفيما بعده، هذا إذا هلك المؤدى عنه قبل الحول، فأما إذا هلك المؤدى عنه بعد الحول ذكر في «الجامع» أن المؤدى يكون عنهما، وتلزمه نصف زكاة الدراهم ونصف زكاة الدنانير، وذكر في «نوادر الزكاة» أن المؤدى يكون عن الدراهم، وتلزمه زكاة الدنانير بكمالها، وهكذا ذكر في «المنتقى» عن محمد. قال في «المنتقى» عقب هذه المسألة: وكذلك لو كان مكانها عبد وأمة للتجارة. وروى بشر عن أبي يوسف أيضاً أن المؤدى يكون عن الدراهم، ذكر هذه الرواية في «المنتقى» . وجه رواية «نوادر الزكاة» و «المنتقى» : أن التعيين معتبر، فإنه تلزمه زكاة الدنانير، وفيه فائدة، فإن قيمة المالين ربما تختلف بعد الحول، ربما تكون قيمة نصف مثقال أقل من خمسة دراهم بعد الحول إلا أنه إذا هلك المؤدى عنه قبل الحول يلغو التعيين؛ لأن المؤدي كما قصد أن يكون المؤدى عن الدراهم قصد أن يكون المؤدى زكاة، فإذا هلك المؤدى عنه قبل الحول له اعتبرنا نية التعيين تلغو نية الزكاة؛ لأن ما أدى يصير تطوعاً إذا هلك المؤدى عنه قبل الحول، ومتى اعتبرنا نية الزكاة تلغو نية التعيين. فنقول: إلغاء نية التعيين أولى من إلغاء نية الزكاة؛ لأن نية التعيين غير محتاج إليها، فإنه لو عجل خمسة دراهم ناوياً عما يجب عليه يجوز، ويكون المؤدى عن المالين، ونية الزكاة محتاج إليها إذا كان المؤدى محتاج إليها، فإنه لو عجل خمسة دراهم ناوياً عما يجب عليه يجوز، ويكون المؤدى عن المالين، ونية الزكاة محتاج إليها إذا كان المؤدى بعض النصاب حتى يصير المؤدى كله زكاة، ولا شك أن إلغاء ما لا يحتاج إليه أولى من إلغاء ما يحتاج إليه، فأما إذا بقي المالان بعد الحول أمكن اعتبار نية الزكاة مع نية التعيين، فاعتبرناهما ولم نشتغل بالترجيح. وجه ما ذكر في «الجامع» : أنه لا فائدة في التعيين إلا باعتبار الهلاك، والهلاك أمر موهوم، ولا معتبر بالفائدة الموهومة، فلا يصح التعيين، وفي حق هذا المعين لا فرق فيما إذا هلك المؤدى عنه قبل الحول، وفيما إذ هلك المؤدى عنه بعد الحول. وفي «المنتقى» عن أبي حنيفة: رجل له ألف درهم سود، وألف درهم بيض عجل عن البيض خمسة وعشرون، ثم هلكت البيض قبل الحول أجزأه ما أدى عن السود، ولو لم تهلك حتى حال الحول وهما عنده، وهلكت البيض كان نصف ما أدى مما هلك نصفه

الفصل السابع في أداء الزكاة والنية فيه

مما بقي، وهذه الرواية توافق رواية «الجامع» . قال في «المنتقى» : وكذلك لو كان الأداء بعد حَوَلان الحول، قال: وكذلك عنده ألف درهم ومائة دينار، أو جارية للتجارة تساوي ألف درهم، فأدى عن أحد الجنسين، والجواب في جميع هذه الوجوه على ما وصفت لك، وهو قول أبي يوسف. وذكر في «المنتقى» بعد هذه المسائل مسألة البيض والسود عن محمد في صورة أخرى، فقال: إذا استحقت الألف التي زكى عنها قبل الحول أو بعده لم تجزه الزكاة عن الألف الباقية. قال محمد: وإن زكى عن ألف بعد الحول، ثم ضاعت وله دين على رجل لم يكن المؤدى عن زكاة دينه، وإن كان الأداء والضياع قبل الحول أجزأه عن زكاة دينه. وفي «نوادر هشام» عن محمد: إذا كان للرجل أربعون شاة سائمة عجل منها شاة، فأخذها المصدق، ووضعت عنده عناقاً، أي: ولدت، فحال الحول وقيمته على حاله، فالشاة مع العناق صدقة. وإن نقص من غنم رب الغنم حتى أخذ العناق، وتكون الشاة صدقة. وفي «الأجناس» : لو كان عنده خمسة وتسعون ديناراً ومائة درهم، وثوب للتجارة، وقيمته خمسة دراهم، فعجل ذلك الثوب إلى المصدق من زكاة ماله قبل الحول، فقطعه المصدق، ولبسه يجزئه ذلك من زكاته، قال: لأن عنده دراهم، وقيمة الثوب دراهم، فجاز ضمه إلى ما عنده ليكتمل النصاب، والله أعلم. الفصل السابع في أداء الزكاة والنية فيه وإذا كان للرجل على رجل دين حال عليه الحول، فوهبه ممن عليه دين أو تصدق به عليه، فهذا على وجهين: الأول: أن يكون الموهوب له غنياً، وفي هذا الوجه لا يجزئه عن زكاته، وهذا ظاهر؛ لأن محل صرف الزكاة الفقراء دون الغني، وهل يصير ضامناً للزكاة؟ ذكر في «الجامع» وعامة الروايات أنه يصير ضامناً، وذكر في «نوادر الزكاة» (137أ1) لأبي سليمان أنه لا يصير ضامناً؛ لأنه استهلك النصاب قبل وجوب الأداء، فلا يصير ضامناً كما لو استهلكها قبل الحول. بيانه: أن أداء الزكاة عن الدين إنما تجب بعد القبض على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء، فقبل القبض لا يكون الأداء واجباً. وجه ما ذكر في عامة الروايات: أنه استهلك النصاب بعد وجوب الزكاة، فيضمن كما لو وهب النصاب العين من الغني. بيانه: أن الدين الواجب بدلاً عما هو مال نصاب قبل القبض بالإجماع على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وما يقول بأن الأداء ليس بواجب قبل القبض، قلنا:

أصل الوجوب ثابت قبل القبض بالإجماع إن لم يكن وجوب الأداء ثابتاً، فباعتبار أصل الوجوب يصير مستهلكاً، وباعتبار وجوب الأداء لا يصير مستهلكاً، فرجحنا جانب الاستهلاك ليمكننا إيجاب الضمان احتياطاً لأمر العبادة. الوجه الثاني: إذا كان الموهوب له فقيراً، فهذا على وجهين أيضاً: الوجه الأول: أن يهب كل الدين منه، وإنه على وجهين أيضاً: أما إن لم ينو الزكاة، وفي هذا الوجه يجزئه عن زكاة هذا الدين استحساناً. ولو كان مكان الهبة صدقة يجزئه عن زكاة هذا الدين قياساً واستحساناً. هكذا ذكر في «الجامع» ، وذكر القدوري في كتابه «فضل الصدقة» ، وجعل على القياس والاستحسان كالهبة. أما الكلام في الصدقة، فوجهه: أنه وجد أصل نية العبادة؛ لأن الصدقة ما ينبغي بها وجه الله إلا أنه لم يوجد نية الفرض، لكن نية الفرض مستغنى عنها لكون النصاب متعيناً. يوضحه: أن قدر الزكاة من النصاب صار حقاً للفقير، فإذا وصل ليد الفقير بأي طريق ما وصل يقع عن المستحق على ما عرف. وفي «المنتقى» : روى المعلى عن أبي يوسف: رجل له مائتا درهم حال عليها الحول، فتصدق بها كلها، ولا نية له، فعليه أن يتصدق بخمسة دراهم لزكاتها. وروى ابن سماعة عنه أنه يجزئه عن الزكاة. أما الكلام في الهبة فإنما لم يجزه عن زكاة هذه الدراهم ... قياساً؛ لأنه لم يوجد نية القربة أصلاً، ويجزئه استحساناً؛ لأن نية المال من الفقير يقصد بها أيضاً مرضاة الله تعالى، فصارت الهبة من الفقير والتصدق عليه سواء. الوجه الثاني: إذا وهب كل الدين ممن عليه ناوياً الزكاة، وإنه على ثلاثة أوجه: إما إن نوى زكاة العين الذي عنده، وأنه لا يجزئه قياساً واستحساناً؛ لأنه أدى الكامل بالناقص؛ لأن الدين في المالية أنقص من العين على ما عرف، وأداء الكامل بالناقص لا يجوز؛ ولأن النصاب إذا كان عيناً، فالواجب تمليك جزء منه من كل وجه، وهبة الدين لمن عليه تمليك من وجه، إسقاط من وجه، ولهذا يصح من غير قبول وإنما يصح من حيث أنه إسقاط، والتمليك من وجه دون التمليك من كل وجه، والشيء لا يتأدى بما دونه. وإما إن نوى زكاة دين آخر له على رجل آخر، وإنه لا يجزئه أيضاً قياساً واستحساناً؛ لأن الدين الآخر بمحل أن يصير عيناً بالقبض، والدين الموهوب له ليس بمحل أن يصير عيناً، فيصير مؤدياً الدين عن العين باعتبار المال، وقد ذكرنا أن أداء الدين عن العين لا يجوز. وإما أن يؤدي زكاة هذا الدين، وفيه قياس واستحسان، القياس: أن لا يجزئه؛ لأن الواجب في باب الزكاة التمليك من كل وجه، ولهذا لا يتأدى بالإعتاق، وهبة الدين إسقاط من وجه على ما مر.

وفي الاستحسان: يجزئه؛ لأن المؤدى المثل عن المثل؛ لأن المؤدى عنه دين كالمؤدى، والمؤدى عنه لا يصير عيناً في الثاني كالمؤدى، فيجزئه وما قول من المعنى. قلنا: التمليك من كل وجه إنما يجب إذا كان الواجب في النصاب فائدة للتمليك من كل وجه، إما حالاً كما في العين، أو مآلاً كما في الدين له على آخر، أما إذا كان لا يقبل التمليك إلا من وجه كما في مسألتنا لا يجب إلا هذا القدر، هذا إذا وهب كل الدين ممن عليه، وهو فقير، فأما إذا وهب بعض الدين ممن عليه وهو فقير إن لم ينوِ الزكاة لا يسقط عنه شيء من الزكاة، عند أبي يوسف إذا كان الباقي بعد الهبة بقي بحق الفقير، حتى لو وهب منه مائة وخمسة وتسعين، وبقيت خمسة كان عليه أن يؤدي خمسة؛ لأن ما بقي يصلح زكاة هذا الدين، ولو وهب مائة وستة وتسعين كان عليه أن يؤدي أربعة دراهم، وعلى قول محمد: تسقط عنه زكاة ما وهب من الفقير، وإنما عليه زكاة الباقي لا غير حتى لو وهب له مائة سقط عنه درهمان ونصف وبقي عليه درهمان ونصف، وعلى هذا الخلاف إذا وهب البعض من الفقير ناوياً عن التطوع. وذكر القدوري في «شرحه» : إذا تصدق ببعض ماله، ولم ينوِ الزكاة وجعله على الخلاف على نحو ما ذكرنا في الهبة. فوجه قول محمد رحمه الله: أن الواجب شائع في الكل، ولو وهب الكل ليس يسقط عنه جميع الزكاة، فإذا وهب البعض يجب أن يسقط قدر ما فيه اعتباراً للبعض بالكل، ولأبي يوسف أن بعد حَوَلان الحول صار النصاب مشتركاً بين الفقير وصاحب المال، فإذا وهب منه البعض، ولم تحضره النية، أو نوى التطوع انصرفت الهبة إلى نصيبه بقي حق الفقير بكماله، فيلزمه الأداء بخلاف ما إذا وهب كل النصاب؛ لأن بعد هبة الكل ليس له مال تصرف الهبة إلى نصيبه خاصة، فصرفناها إلى النصيبين جميعاً. فأما إذا وهب بعض النصاب ممن عليه ناوياً الزكاة، إن نوى زكاة العين أو زكاة دين له على رجل آخر لا يجزئه قياساً واستحساناً، وإن نوى زكاة هذا الدين لا شك أنه لا يجزئه عن زكاة الباقي قياساً واستحساناً؛ لأن الباقي يصير عيناً في الباقي بالقبض، وكان بمنزلة ما نوى زكاة دين له على رجل آخر، فأما عن قدر ما وهب، ودفعت المرأة عنه للمدفون لا يجزئه قياساً، ولا تسقط زكاة ذلك القدر، ويجزئه استحساناً، حتى أنه لو وهب منه مائة تسقط عنه درهمان ونصف حصة الموهوب، ويؤدي درهمين ونصف عن الباقي، ولو وهب منه خمسة دراهم يؤدي عن الباقي خمسة دراهم إلا ثمن درهم، والقياس والاستحسان في هذا نظر القياس والاستحسان إذا وهب الكل منه ناوياً عن الدين الذي له عليه. وفي «القدوري» : إذا نوى أن يؤدي الزكاة، فجعل يتصدق إلى آخر السنة، ولم تحضره النية، يعني وقت التصدق لا يجزئه، فإن أفردها للزكاة، فتصدق مال أرجو أن يجزئه. وفي «نوادر هشام» : سألت محمداً رحمه الله عن رجل قال: ما تصدقت به إلى آخر

الفصل الثامن في المسائل المتعلقة بمن توضع الزكاة فيه

السنة، فقد نويت أنه من الزكاة، وفي وقت التصدق لم تحضره النية قال: أرجو أن يجزئه، ولو تصدق بخمسة ينوي بها التطوع والزكاة بل عن الزكاة في قول أبي يوسف، وقال محمد: يقع عن التطوع؛ لأنه لا وجه إلى اعتبار النيتين لتناف سببهما، ولا وجه إلى اعتبار أحديهما لا بعينها ولا بغير عينها، فبطلتا فتقع عن التطوع كما لو لم تحضره النية أصلاً، ولأبي يوسف أن الفرض أقوى من النفل، والتعيين بالنية يحتاج إليه في الفرض دون النفل، فيندفع النفل بالفرض، والله أعلم. الفصل الثامن في المسائل المتعلقة بمن توضع الزكاة فيه قال الله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} (التوبة: 60) (138أ1) . والآية جامعة محل الصدقات من جملة ذلك الفقراء والمساكين، وفيها ما يدل على أن المساكين والفقراء صنفان، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله. ووجه الدلالة: أن الله تعالى عطف المساكين على الفقراء، والمعطوف غير المعطوف (عليه) ، وعن أبي يوسف أنهما صنف واحد. بيانه: فيمن أوصى بثلث ماله لفلان، وللفقراء والمساكين، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لفلان ثلث الكل، ولكل صنف ثلث آخر، وعلى ما روي عن أبي يوسف لفلان نصف الثلث، وللفريقين نصف الثلث كأنهما فريق واحد، والصحيح قول أبي حنيفة رحمه الله، ثم اختلفت الروايات عن أبي حنيفة رحمه الله في معنى المسكين والفقير، روى أبو يوسف عنه أن الفقير الذي لا يسأل؛ لأنه يجد ما يكفيه للحال، والمسكين الذي يسأل؛ لأنه لا يجد شيئاً، قال الله تعالى: في صفة الفقراء: {لا يسألون الناس إلحافاً} (البقرة: 273) قيل: لا إلحافاً ولا غير إلحاف، وقال الله تعالى في المساكين: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً} (الإنسان: 8) قيل: وقد جاء يسأل، وهذه الرواية تدل على أن الفقر أفقر، وفائدة ذلك تظهر في الوصايا لا في الزكاة لجواز صرف الزكاة إلى صنف واحد على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله. وأما العاملين: فهم العمال الذين نصبهم الإمام لاستيفاء صدقات المواشي، فيعطيهم ما في يده من مال الصدقة ما يكفيهم وعيالاتهم وأعوانهم في مجيئهم وذهابهم، وإن أحاط ذلك بنصف العشر أو بثلاثة أرباعه ذكره المعلى في «نوادره» ؛ وهذا لأنهم حبسوا أنفسهم لعمل المسلمين، فيستحقون كسواتهم في مالهم كالقاضي والمفتي والمحتسب ومن بمعناهم.. قال «القدوري» في «كتابه» : لو هلك المال في يد العامل سقط حقه، وأجزأت عن الزكاة، أما سقوط حقه؛ فلأن حقه في المال الذي في يديه، فيسقط بهلاكه كما في المضاربة إذا هلك في يد المضارب بعد العمل، وأما جواز الزكاة؛ فلأن قبض العاشر

بعد الحول واقع للفقير، وكان كقبض الفقير بنفسه. قال القدوري أيضاً: وُكِلَ للعامل أخذ العمالة، وإن كان غنياً، ولم يذكر ما إذا كان العامل هاشمياً، وذكر الكرخي والطحاوي والجصاص أنه لا يحل له ذلك عند علمائنا؛ لأن المأخوذ من أجر الصدقة، فتكون فيه شبهة الصدقة، قلنا: والشبهة في هذا الباب تعمل على الحقيقة في حق الهاشمي منها؛ لقرابة النبي صلى الله عليه وسلّم ولا تعمل عمل الحقيقة في حق غيره، ألا ترى أن الصدقة حرمت على مولى الهاشمي الغني، ولم تحرم على مولى الغني. وفي «المنتقى» : رجل من بني هاشم استعمل على الصدقة، ونوى له فيها رزق، فإنه لا ينبغي أن يأخذ من ذلك، وإن عمل فيها ورزق من غيرها، فلا بأس بذلك. وأما المؤلفة قلوبهم: فهم قوم من المشركين كان رسول الله عليه السلام يعطيهم شيئاً تألفاً لهم حين كان بالمسلمين ضعف وبالكفار قوة، وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّمسقط ذلك لوقوع الاستغناء عن تألفهم لما كثر أهل الإسلام وقوي حالهم، وهو معنى ما نقل عن الشعبي قال: انقطع الرأي بوفاة رسول الله عليه السلام. وأما الرقاب فالمراد منه المكاتبون، هكذا روي عن علي رضي الله عنه، فالله تعالى جعل لهم سهماً من الصدقة عوناً لهم على أداء المكاتبة، وهو المراد من قوله تعالى: {وآتوهم من مال االذي آتاكم} (النور: 33) وعن هذا قلنا: يجوز صرف الزكاة إلى مكاتب غيره. وأما الغارمون: فهم الذين لزمهم الدين، فهم محل الصدقة، وإن كان في أيديهم مال إذا كان ذلك المال لا يزيد على الدين قدر مائتي درهم فصاعداً؛ لأن مقدار الدين من ماله مستحق بحاجته الأصلية، فيجعل كالمعدوم، كالماء المستحق بحاجة العطش، وما وراء ذلك إذا كان لا يبلغ مائتي درهم لا يعتبر في جريان الصدقة على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وأما قوله: {وفي سبيل ا} (التوبة: 60) قال القدوري: في «كتابه» قال أبو يوسف: المراد به فقراء الغزاة، وقال محمد: الحاج المنقطع، وذكر بعض مشايخنا في شرح «الجامع الصغير» أراد الغازي والحاج المنقطع على قول من يقول: إن المراد هو الغازي فقير رقبة أو يداً لا رقبة؛ بأن كان منقطعاً عن ماله، فيكون فقيراً يداً غنياً رقبة، أما إذا كان غنياً رقبة ويداً، فلا يحل له الأخذ، والمراد من قوله عليه السلام: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة» ، وذكر من جملتهم الغازي الغني بقوة البدن، والقدرة على الكسب لا الغنى بملك المال، والغازي وإن كان مكتسباً مستغنياً به يحل له أخذ الصدقة؛ لأن الكسب أقعده عن الجهاد.

وأما ابن السبيل، فهو المنقطع عن ماله، ويجوز الدفع إليه وإن كان له مال كثير في وطنه؛ لأنه غني باعتبار ملك الرقبة فقير باعتبار اليد فلِغنَاه أوجبنا عليه الزكاة، ولفقره أبحنا له الصدقة. وفي كتاب علي بن صالح للعائر: أن ابن السبيل هو الذي لا يقدر على ماله، وهو غني على أن يستقرض، والقرض عزله من قبول الصدقة، وإن قبل الصدقة أجزأ من يعطيه. وإذا صرف الصدقة إلى صنف واحد من هذه الأصناف، أو صرفها إلى واحد من صنف واحد بأن أعطى مسكيناً واحداً، أو فقيراً واحداً أجزأه عندنا، وقال الشافعي: لا يجوز، والصحيح مذهب علمائنا لقوله تعالى: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} (البقرة: 271) والآية تقتضي جواز الصرف إلى فقير واحد؛ لأن الله ذكر الفقراء بلام التعريف، والاسم المذكور بلام التعريف يكون للتجنيس إذا لم يكن ثمة معهود، وليس للفقراء ههنا معهود، وكان هذا الاسم للتجنيس، واسم الجنس عند الإطلاق ينصرف إلى الواحد على ما عرف في موضعه؛ ولأن المقصود دفع الحاجة، فصار التنصيص على الأصناف السبعة، والتنصيص على المحتاجين سواء، ولو وقع التنصيص على المحتاجين، فإن قال الله تعالى: إنما الصدقات للمحتاجين، فإن الصرف إلى محتاج واحد لتعلق الحكم باسم الجنس عند انعدام المعهود، وكذا ههنا. ولا يعطي من الزكاة والداً وإن علا، ولا ولداً وإن سفل، والأصل في ذلك أن الزكاة عبادة لله تعالى ركنها إخراج المال إلى الله تعالى بواسطة كف الفقر، والإخلاص في العبادة شرط، ولا يتحقق الإخلاص إلا بالانقطاع لحق المؤدي عن المؤدى؛ لأن منافع الأموال مشتركة. ولا يعطي زوجته بلا خلاف من أصحابنا؛ لأن منافع الأموال مشتركة، فلا ينقطع حق المؤدى عن المؤدى، وكذا لا تعطي المرأة زوجها عند أبي حنيفة لما قلنا، وعندهما تعطيه لما روي أن امرأة ابن مسعود قالت لرسول الله عليه السلام: إني أريد أن أتصدق على زوجي، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لك أجران أجر الصدقة وأجر الصلة» وأبو حنيفة رحمه الله يحمل الحديث على الصدقة النافلة. ولا يعطي عبده ومدبره وأم ولده؛ لأن مولاهما يملكه رقبة ويداً، ومنفعة أكسابهم له، فلا يتحقق الإخراج إلى هؤلاء أصلاً، وكذا لا يعطي مكاتبه؛ لأنه مملوك رقبة وكسبه متردد بين أن يكون له وبين أن يكون للمولى، فلا يخلص الإخراج إلى الله تعالى، ولا يصرف في بناء مسجد وقنطرة، ولا يقضي بها دين ميت، ولا يعتق عبداً، ولا يكفن ميتاً، والحيلة لمن أراد ذلك أن يتصدق (138ب1) بمقدار زكاته على فقير، ثم يأمره بعد ذلك

بالصرف إلى هذه الوجوه، فيكون لصاحب المال ثواب الصدقة، ولذلك الفقير ثواب هذه القُرَب، ولا يعطي منها غنياً ولا ولد غني إذا كان صغيراً، وإن كان كبيراً فقيراً جاز الدفع إليه، وهذا لأنه إذا كان صغيراً يعد غنياً بمال أبيه؛ لأن كفايته عليه، ولا كذلك ما إذا كان كبيراً، فهو ليس بغني بغنى الأب؛ لأن كفايته ليس على الأب هكذا. ذكر القدوري في «كتابه» . وبعض مشايخنا ذكروا في «شرح الجامع الصغير» خلافاً في المسألة، فذكر أن على قول أبي حنيفة يجوز الدفع إلى أولاد الأغنياء إذا كانوا فقراء صغاراً كان الأولاد، أو كباراً، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يجوز الدفع إلى الكبار، ولا يجوز الدفع إلى الصغار، وبه أخذ جلال الرازي، وجه قولهما ما ذكرنا. وجه قول أبي حنيفة أنهم فقراء حقيقة، ووجوب النفقة على غيرهم يدل على فقرهم لا على غناهم؛ لأن الغني لا يستوجب النفقة على الغير، وقال الفقيه أبو بكر الأعمش: إذا كان الأب يوسع عليهم في النفقة لا يجوز الدفع إليهم، وإن كانوا كباراً، وروى أبو سليمان عن أبي يوسف لو أعطي من الزكاة صبياً فقيراً، أبوه غني أو كبير زمناً، أو أعمى لا يعتمل له، وهما في عيال الأب لم يجز، وإن لم يكن الزمن في عياله جاز، وكذلك إذا كانت بنتاً كبيرة في عياله جاز الدفع إليها، هو لفظ «المنتقى» . وفي «الحاوي» سئل الفقيه عمن دفع زكاة ماله إلى بنت رجل غني، والابنة فقيرة كبيرة، ولها زوج، أو ليس لها زوج، قالوا: قال بعضهم: يجوز، وقال بعضهم: لا يجوز، وعن أبي يوسف أنه قال: إذا كان الأب من المكثرين لا يجوز، قال: وكذلك الاختلاف في المرأة لرجل غني، والمرأة فقيرة، فسئل الفقيه، وكيف يفتي الفقيه في هذين القولين؟ قال: لا أفتي بأحدهما لكن أذكر الاختلاف. وفي «العيون» : إذا كان ولد الغني بالغاً جاز الدفع إليه، ذكراً كان أو أنثى، صحيحاً كان أو زمناً، قال: وكذا الأب إذا كان محتاجاً، والابن موسر جاز الإعطاء إلى الأب، قال القدوري في كتابه: وقال أبو حنيفة ومحمد: يجوز الدفع إلى امرأة الغني إذا كانت فقيرة، وعن أبي يوسف: أنه لا يعطي امرأة الغني إذا قضي لها بالنفقة؛ لأنها غنية بمال الزوج، فتستحق النفقة عليه، فهي نظير ولد صغير لغني، إلا أنه شرط القضاء بالنفقة؛ لأن الاستغناء به يتأكد؛ لأن النفقة بدون قضاء القاضي لا تصير ديناً على الزوج، ولهما أن المرأة لا تصير غنية بمقدار ما يقضى لها من النفقة، فإن لها حوائج أخر سوى النفقة تستحق بملك على الزوج، وبه فارق الصبي، ولا يجوز الصرف إلى عبد الغني ومدبره وأم ولده؛ لأن الملك يقع للمولى بالصرف إليهم، وعن أبي يوسف أنه إذا أعطى عبداً زمناً، وليس في عيال مولاه، ولا يجد شيئاً أجزأه، ولو دفع إلى مكاتب الغني يجوز؛ لأن الملك لا يقع للمولى في مكاتبه إلا بعد العجز، وأنه موهوم. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف إذا أعطي عبد الغني من الصدقة، والمولى غائب جاز وإن كان المولى غنياً، وفي «الجامع الأصغر» : سئل عبد الكريم عمن دفع زكاة ماله

إلى صبي قال: إن كان حراً حقاً يعقل الأخذ يجوز، وإلا فلا يجوز، ولو دفع إلى المعتوه، فهو على هذا التفصيل، ولو دفع إلى المجنون لا يجوز، وسئل الفقيه أبو إبراهيم عمن دفع زكاة ماله إلى صبي غير عاقل، ثم دفع الصبي إلى الوصي، أو إلى أبويه لا يجوز قال: وهو بمنزلة ما لو وضع الرجل ماله زكاة على الدكان، فأخذها الفقير، فذلك لا يجوز، فهذا كذلك. قال القدوري في «كتابه» : ولا تجوز الزكاة إلا إذا قبضها الفقير أو بعضها من يجوز قبضه له بولايته عليه، كالأب والوصي يقبضان للمجنون والصبي، وكذلك أقاربهما إذا كانا في عيالهم، وكذلك الأجنبي الغني بقوله، وكذلك الملتقط يقبض للقيط، فأما الفقير البالغ فلا يقع القبض له إلا بتوكيله؛ لأنه غير مولى عليه بخلاف الصبي والمجنون. ولا يجوز أن يعطى من الزكاة فقراء بني هاشم، ولا مواليهم، قال عليه السلام «الصدقة محرمة على بني هاشم» ومولى القوم من أنفسهم، وقال عليه السلام: «يا بني هاشم إن الله تعالى كره لكم غسالة الناس، وعوضكم منها بخمس الخمس من الغنيمة» . قال: وبنو هاشم الذي تحرم عليهم الصدقة آل عباس، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل علي، وولد الحارث بن عبد المطلب؛ لأن الله تعالى إنما حرم الصدقة على من عوضه عنه خمس الخمس من الغنيمة، وهو خمس ذوي القربى، ومنهم ذوي القربى يختص هؤلاء، فكذا تحرم الصدقة، وإنما تحرم على هؤلاء الصدقة الواجبة من العشور والبذور والكفارات، فأما الصدقة على وجه الصلة والتطوع، فلا بأس؛ لأن في الواجب المؤدي نفسه بإسقاط الفرض، فيتدنس المؤدى بمنزلة من استعمل الماء في الوضوء، وهو معنى قوله يا بني هاشم «إن الله تعالى كره لكم غسالة الناس» . فأما في النفل يتبرع المؤدي بأداء ما ليس عليه، فلا يتدنس المؤدى بمنزلة من تبرد بالماء وروى عن أبي يوسف: أنه جوز صرف صدقات الأوقاف إليهم إذا سموا في الوقف؛ لأن حال بني هاشم في حرمة الصدقة كحال الأغنياء، ثم يجوز صرف صدقات الوقف إلى الأغنياء إذا سموا في الوقف، فكذا إلى بني هاشم، فأما إذا لم يسموا في الوقف لا يجوز الصرف إليهم كما لا يجوز إلى الأغنياء. وحكى أبو عصمة الكبير عن أبي حنيفة: أنه تجوز الصدقة لفقراء بني هاشم، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف أنه قال: لا بأس بصدقة بني هاشم بعض على بعض، ولا أرى الصدقة عليهم، ولا على مواليهم من غيرهم. وفي «العيون» : إذا كان يعوله يتيماً، فجعل يكسوه ويطعمه، ويجعل ما يكسوه

ويأكل عنده من زكاة ماله، فالكسوة أشك أنه تجوز من زكاته لوجود الركن، وهو التمليك فيها، وأما الطعام، فما يدفع إليه بيده أيضاً يجوز لوجود الركن فيه، وهو التمليك، وما يأكله بنفسه من غير أن يدفع إليه لا يجوز لانعدام الركن فيه. وفي «المنتقى» : قال هشام: سألت أبا يوسف رحمه الله عن صبي فقير يعوله يكسوه ويطعمه، ويده مع يده، فيحتسب ما يأكل عنده من زكاة ماله بالقيمة يجوز، وقال محمد رحمه الله: لا يجزئه في الطعام بطريق الإباحة والتمكين، وإنما يجزئه إذا دفعه إليه بطريق الهبة والكسوة يجزئه بالقيمة. قال محمد رحمه الله: ولا تحل الزكاة لمن له مائتا درهم فصاعداً، ولا بأس بأن يأخذها من له أقل من مائتي درهم. يجب أن يعلم بأن الغنى محرم للصدقة، ولا خلاف لأحد فيه، وإنما الخلاف في يده، والصحيح أنه مقدر بملك مائتي درهم وما يبلغ قيمته مائتي درهم فاضلاً عن مسكنه، وأثاث مسكنه وخادمه، ومركبه وسلاحه وثياب بدنه، وهذا لأن ملك المائتين أو ما يبلغ قيمته مائتين فاضلاً عن هذه الأشياء أمارة الغنى، بدليل أنه وجب على صاحبه وظائف الغني من الزكاة والأضحية، وصدقة الفطر، أما ملك ما دون مائتين عن هذه الأشياء (فليس) أمارة الغني، بدليل أنه لو ما تبلغ قيمته دون المائتين ليس أمارة الغنى ألا ترى أنه لم يجب على صاحبه (139أ1) . شيء من وظائف الغني، وإذا لم يكن غنياً كان أو فقيراً، ومحل الصدقات الفقراء وإنما يعتبر في المسكن والكسوة وأثاث البيت مقدار الكفاية، بدليل ما روى هشام عن محمد أنه سئل عمن له فضل على كسوته، أو عن متاع بيته، أو فضل على مسكنه قدر مائتي درهم، أيعطى من الزكاة؟ قال: لا إذا كان مستغنياً عنه. يعني عن فضل الكسوة والمتاع. وذكر ابن سماعة عن محمد، إذا كان للرجل داراً تساوي عشرة آلاف درهم لجودة موضعه، وقربه من السوق، وليس فيها فضل عن سكناه، قال: تحل له الزكاة، وإنما لا تحل له الزكاة إذا كان في مسكنه فضل عن سكناه ما يساوي مائتي درهم. وفي «البقالي» : وأطلق في الكتب عن محمد رحمه الله: إذا كان له دار تساوي عشرة آلاف درهم، ولو باعها، واشترى بألف لوسعته بذلك لا آمره ببيعها، وعن نصر رحمه الله: إذا كان فيها بستان لا يحتاجون إليها اعتبرت قيمتها وقيمته أيضاً، ويعتبر ما زاد على الدار الواحدة في (العادة) ، وكذا ما زاد على الثوب للبسه من الثياب للشتاء والصيف (دينوي البلد في الباب هنا والصيف) وكذا ما زاد على الفرسين للغازي. وسئل الفقيه أبو القاسم عمن له كتب العلم، وهو من أهله، وأنه يساوي مائتي درهم هل يحل له أخذ الزكاة؟ قال: روى محمد بن سلمة عن أصحابنا: أنه يحل، وإن كان له مصاحف لا يحل، ثم رجع، وقال: يحل، قال أبو القاسم: من كان له كتب،

وهو يحتاج إليها لحفظها، ودراستها يحل له أخذ الزكاة أدباً كان، أو فقهاً أو حديثاً، وقال أبو بكر: في الكتب كذلك، وفي المصاحف والأسابع وغيرها قال: لا يحل له أخذ الزكاة، قال: لأنه يجد مصحفاً آخر مثله، أما لا يجد كتباً مثل كتبه؛ لأنه ربما قابله وأحكمه، وكان الفقيه أبو الليث يقول: لا فرق بين الكتب، والمصاحف ويحل له أخذ الزكاة إذا كان من الكتب، والمصاحف ما يحتاج إليه، وبه كان يقول بصير، وإليه مال الصدر الشهيد حسام الدين، وإن كان عنده من المصاحف والكتب ما لا يحتاج إليه، ويبلغ قيمته مائتي درهم فصاعداً، لا يحل له أخذ الزكاة. وسئل محمد بن الحسن عمن له أراضي يزرعها، أو حوانيت يستعملها، قال: إن كان غلتها تكفي لنفقته ونفقة عياله سنة لا يحل له أخذ الزكاة، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، وإن كان غلتها لا تكفي لنفقته ونفقة عياله سنة، قال محمد: يحل له أخذ الزكاة إذا كان بلغ قيمتها الوفاء، قال محمد رحمه الله: لست أنظر في هذا إلى ثمنها، وإنما أنظر إلى دخلها، وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا يحل له أخذ الزكاة إذا كان تبلغ قيمتها نصاباً. والحاصل: أن ما يكون مشغولاً بحاجته الحالية نحو الخادم والمسكن، وثيابه التي يلبسها في الحال لا تعتبر في تحريم الصدقة بالإجماع، وما يكون فاضلاً عن حاجته الحالية لا يعتبر في تحريم الصدقة، وإنما اعتبرنا الفراغ عن الحاجة الحالية في التحريم، بأنا لو اعتبرنا الفراغ عن الحاجة الحالية لا يتصور التحريم؛ لأن الإنسان خلق محتاجاً يحتاج إلى جميع ما في يديه في التالي. إذا ثبت هذا فنقول: الضيعة فارغة عن الحاجة الحالية حقيقة، فاعتبرناها في تحريم الصدقة اعتباراً للحقيقة، وبقولهما أخذ أبو عبد الله البلخي، ومحمد رحمه الله: اعتبرها من الحاجة الحالية؛ لأن الملك في الضيعة ما لا يستخلف ساعة فساعة، فمتى لم تبح له الصدقة يحتاج إلى بيعها إذا كانت غلتها لا تكفي لنفقته ونفقة عياله سنة، ويشق على كل أحد بيع الضيعة، فاعتبر الضيعة من الحاجة دفعاً للمشقة عن الناس، وبقوله أخذ محمد بن مقاتل ومحمد بن سلمة، بخلاف ما إذا كان غلتها تكفي لنفقته ونفقة عياله سنة؛ لأنه إذا كان كذلك لا يحتاج إلى بيعها لو لم تبح له الصدقة، فلا تعتبر الضيعة والحالة هذه من الحوائج الحالية، فتعتبر في تحريم الصدقة، وقيل: على قول محمد رحمه الله، إذا كان غلة الضياع لا تكفيه لتقصيره في العمل، فهو غني. وإن كان عنده بقر يحتاج إليه للحراثة، فعندهما يعتبر في تحريم الصدقة، وعند محمد لا يعتبر؛ لأنه من توابع الضيعة، فلا يعطى له حكم نفسه، بل يكون له حكم الضيعة والله أعلم. وفي «البقالي» : ما زاد على الثورين وآلة العددين يعتبر في تحريم الصدقة، والبقرة تعتبر في تحريم الصدقة، وإذا اشترى طعاماً، لقوته مقدار ما يكفيه شهراً، أو أكثر من ذلك أو أقل، وهو يساوي مائتي درهم فصاعداً، فإن كان قوت شهر أو أقل حل له أخذ

الزكاة بلا خلاف بين المشايخ؛ لأنه مشغول بحاجته وإن كان أكثر من الشهر اختلفوا فيه، قال بعضهم: لا يحل له أخذ، وبه قال نصير، وهو اختيار الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله؛ لأن الشهر هو العدل فيما يدخر الناس لأنفسهم قوتاً، وكان ما وراء ذلك فاضلاً عن حاجته، وبعضهم قالوا: يحل له ذلك إلى سنة، فقد صح «أن النبي عليه السلام ادخر لنسائه قوت سنة» ، وإن كان أكثر من سنة لا يحل له أخذ الزكاة بلا خلاف، وقال نصير: فيمن كان له كسوة الشتاء، وهو لا يحتاج إليها في الصيف، أنه يحل له أخذ الزكاة، وإن بلغ قيمتها مائتي درهم وزيادة، وقال أبو القاسم: فيمن كان له على آخر دين مؤجل واحتاج، حل له الأخذ مقدار كفايته إلى حلول الأجل، قال: وكذلك المسافر إذا كان له مال في وطنه واحتاج، فله أن يأخذ من الزكاة قيمة ما يبلغه إلى وطنه، وسئل نصير عمن له دار وبستان في الدار، وقيمة البستان مائتا درهم فصاعداً، قال: إن كان البستان ليس فيه من مرافق الدار نحو المطبخ، والموضأ، وغيره مما يحتاجون إليه، لا يحل له أخذ الزكاة. وفي «الواقعات» للصدر الشهيد رجل له مائتا درهم على إنسان والمديون مقر به، هل يحل لصاحب الدين أخذ الزكاة؟ قال: إن كان المديون معسراً، فقد اختلف المشايخ المتأخرون فيه، والمختار أنه يحل؛ لأن يده زائل عن ماله، وكان بمنزلة ابن السبيل، وإن كان موسراً لا يحل له أخذ الزكاة، وإن كان ما به جاحد لدينه، فإن كانت له بينه عادلة، لا يحل له أخذ الزكاة أيضاً؛ لأن ماله في يده معنى؛ لأنه يمكنه أخذه متى شاء بواسطة إقامة البينة، وإن لم يكن له بينة عادلة يحل له أخذ الزكاة للحال، وإنما يحل له إذا رفع الأمر إلى القاضي، وحلفه القاضي فحلف؛ لأن قبل ذلك الوصول إليه مأمول، وبعد ذلك وقع اليأس عنه بحكم الظاهر، فيحل له الأخذ. وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا دفع زكاة ماله إلى أخته، وهي تحت زوج، إن كان مهرها أقل من مائتي درهم، أو أكثر من مائتي درهم، إلا أن المعجل أقل من مائتين أو كان أكثر، إلا أن الزوج معسر جاز الدفع، وهو أعظم للأجر، وإن كان المعجل أكثر من مائتي درهم، والزوج موسر، فعند أبي حنيفة الآخر، فكذلك الجواب، وعندهما لا يجوز الدفع، ولا يحل لها الأخذ بناءً على أن المهور قبل القبض، هل تكون نصاباً؟ ووجوب الأضحية وصدقة الفطر عليها، على هذا قال الصدر الشهيد رحمه الله: يفتى بقولهما احتياطاً. في «العيون» : رجل يعول أخته أو أخاه أو عمه، فأراد أن يعطيه الزكاة إن لم يكن فرض عليه القاضي نفقته جاز؛ لأن التمليك من مولاه بصفة القربة يتحقق من كل وجه، فيتحقق ركن الزكاة، وإن كان القاضي فرض عليه نفقته، إن لم يحتسب المؤدى إليه نفقته

جاز أيضاً، وإن كان يحتسب لا يجوز؛ لأن هذا أداء الواجب بواجب آخر. وقال في «الحاوي» : قال أبو بكر الإسكاف: لو دفع الزكاة إلى أخته، وهي في عياله جاز، وكذلك لو فرض الحاكم عليه نفقتها جاز من الزكاة، والنفقة جميعاً، قال به، وقيل: لم يجز بعد الفرض. وفي «المنتقى» عن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: رجل فرض عليه القاضي نفقة قرابته، وأعطاه من زكاة ماله جاز. وكذلك إذا نوى أن تصير (139ب1) .h النفقة التي ينفق عليهم بأمر القاضي من زكاته أجزأه، وذكر عن الحسن بن مالك عن أبي يوسف: إن نوى بما يعطيهم ما فرض القاضي عليه لم يجز، ووجهه ما ذكرنا أن هذا أداء الواجب بواجب آخر، ووجه ما روي عن أبي حنيفة: أن بعد فرض القاضي ما تغيرت ماهية النفقة، فإنها صلة شرعاً، فلا يمنع وقوعها عن الزكاة، ألا ترى أن على أصله من اشترى أباه ناوياً عن كفارة يمنه أجزأه عن الكفارة، وهذا الشراء واجب صلة للقرابة ثم وجوبه بجهة الصلة لم يمنع وقوعه بجهة الكفارة، كذا ههنا. أبو سليمان عن أبي يوسف: رجل له مائة ألف وعليه مائة ألف، قال: استحسن أن لا يعطى من الزكاة، وإن أعطي أجزأه من المعطي. وفي «فتاوى ما وراء النهر» سئل الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير عمن يعطي الزكاة إلى الفقراء أحب إليك، أم إلى من عليه دين ليقضي دينه؟ قال: إلى من عليه دين. وفي «الواقعات» للناطفي: ولا ينبغي لأحد أن يسأل إليك وعنده قوت يومه؛ لأن السؤال لا يجوز إلا لضرورة. قال محمد رحمه الله: في «الأصل» إذا أعطى زكاة ماله مائتي درهم أو ألف درهم إلى فقير واحد، فإن كان عليه دين مقدار ما دفع إليه، أو كان صاحب عيال يحتاج إليه للإنفاق عليهم، فإنه يجوز ولا يكره، وإن لم يكن عليه دين، ولا صاحب عيال، فإنه يجوز عند أصحابنا الثلاثة، ويكره، وقال زفر: لا يجوز، وذكر في «الجامع الصغير» وقال أبو يوسف: يجوز في المائتين، ولا يجوز في الزيادة عليها. وجه قول زفر: أن الغنى صارت ههنا؛ لأن الغنى حكم الأداء، والحكم يقارن العلة، فيحصل الأداء إلى الغني، ولعلمائنا الثلاثة على ما ذكر في «الأصل» ، أن الأداء يلاقي كف الفقير من كل وجه، وإنما ثبت الغنى بعد ذلك حكماً للأداء، إلا أن الأداء يلاقي كف الغني من وجه، وكف الفقير من وجه. بيانه: أن الغنى حكم الملك، والملك إنما ثبت بعد تمام التمليك، فكان الغنى متأخراً عن التمليك، فلا يصلح مانعاً من التمليك؛ لأن المانع من الشيء سابق عليه، ولا يكون متأخراً عنه إلا أنه يكره؛ لأن الغنى أفضل بالدفع، ولهما به منع الجواز، فإذا اتصل به، وقرب منه أوجب الكراهة. قال في «الجامع الصغير» : ولا بأس بأن يعطي أقل من مائتين، وأن يغني به إنساناً واحداً أحب من أن يفرقها، لم يرد بقوله: وأن يغني إنساناً أحب إلى الغنى المطلق؛ لأن

تحصيل ذلك مكروه على ما بيناه، وإنما أراد به الغنى الحالي، وهو الغنى عن السؤال لحاجة الوقت؛ لأن المقصود من الصدقة دفع حاجة الوقت قال عليه السلام: «أغنوهم عن السؤال في مثل هذا اليوم» وإنما استحب هذا الإغناء؛ لأنه يوافق أمر الشرع، ويحقق ما هو المقصود من شرع الصدقة، وعن هذه المسألة قال مشايخنا: من أراد أن يتصدق بدرهم ينبغي له أن يتصدق به على فقير واحد، ولا يشتري به فلوساً، ويفرقها على المساكين، إن الفقيه من أغنى الفقير عن السؤال، وإنما يحصل الإغناء بصرف الدرهم إلى فقير واحد. وفي «المنتقى» قال همام: سألت أبا يوسف عن الرجل له مائة وتسعة وتسعون درهماً، فتصدق عليه بدرهمين، قال: يأخذ واحداً، ويؤدي واحداً. وفيه قال هشام: سألت محمداً عن رجل له تسعة عشر ديناراً تساوي ثلثمائة درهم، هل يسعه أن يأخذ الزكاة؟ قال: نعم، ولا يجب عليه صدقة رأسه، أشار إلى أن الغنى إنما يثبت في يده، والمالية ليست في يده، وإنما في يده العين، وبالعين لا يثبت الغنى شرعاً. وفيه أيضاً: وقال أبو يوسف: في رجل نوى أن يعطي رجلاً ألف درهم من زكاة ماله والرجل معسر، وليس عليه دين، فجاء المعطي بألف درهم فوزنها له مائة، كلما وزن مائة دفعها إليه، قال تجزئة الألف من زكاته إذا دفعها في مجلس واحد، ويجعل كأنه دفع الكل إليه بدفعة واحدة، وهذه الرواية عن أبي يوسف مخالفة لما حكى عنه في «الجامع الصغير» في المسألة المتقدمة. قال في «المنتقى» : وكذلك لو نوى أن يعطيه ألف درهم، فجاء المعطي بألف درهم قبل أن يزن له، وقال: إني أعطيك ألف درهم من زكاتي، فهذا مثل الأول، وتجزئه إذا كان في مجلس، وكانت الألف حاضرة عنده، وإن كانت الألف غائبة عنه، ونوى أن يعطيه ألف درهم من زكاة ماله، فأتى بمائتي درهم فوزنها له، فإنه تجزئه من الزكاة المائتان والباقي تطوع. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وتقسم صدقة كل بلدة في فقرائها، ولا يخرجها إلى بلدة أخرى، واعلم بأن فقراء تلك البلدة مع فقراء بلدة أخرى، إن كانوا في الحاجة على السواء تصرف إلى فقراء تلك البلدة، ولا يصرفها إلى فقراء بلدة أخرى، وإن صرفها إلى فقراء بلدة أخرى يكره؛ وهذا لأن فقراء تلك البلدة مع فقراء بلدة أخرى، إذا كانا في الحاجة على السواء، ففي صرفها إلى فقراء تلك البلدة مراعاة حقين حق الفقير وحق الجوار، وفي الصرف إلى فقراء بلدة أخرى مراعاة حق واحد؛ ولأن في صرفها إلى فقراء بلدة أخرى، والحالة هذه تعريض المال على التلف من غير فائدة.

وعن أبي حنيفة في غير «روايات النوادر» أنه إنما يكره الإخراج إلى بلدة أخرى، إذا كان الإخراج في حينها، بأن أخرجها بعد حَوَلان الحول، فأما إذا كان الإخراج قبل حينها، فلا بأس به، هذا إذا لم يكن فقراء بلدة أخرى ذوي قرابة منه، فأما إذا كان فقراء بلدة أخرى ذو قرابة منه، فعن أبي حنيفة فيه روايتان، روى الحسن في «المجرد» عنه: ولا يخرج الزكاة إلى بلدة أخرى لا لذي قرابة ولا لغيره، وإن أخرج جاز إلا أنه أساء. وذكر هشام في «نوادره» عن ابن المبارك عن أبي حنيفة: أنه سئل عن إخراج الزكاة إلى بلدة أخرى، فقال: لا إلا لذي قرابته، وروى ابن رستم عن محمد رحمه الله في «نوادره» لا يخرج الزكاة إلى فقراء بلدة أخرى إلا لذي قرابته، وجه الرواية التي قال: لا يخرج إلى فقراء بلدة أخرى قوله عليه السلام لمعاذ رضي الله عنه: «خذها من أغنيائهم، وردها في فقرائهم» من غير فصل. وجه الرواية الأخرى: أن في الإخراج إلى ذوي قرابته مراعاة حق القرابة، وفي عدم الإخراج مراعاة حق الجوار، ولا شك أن مراعاة حق القربة أولى، ثم يعتبر جوار المال دون المالك، فقد ذكر هشام في «نوادره» عن محمد فيما كان بالرقة، ومعه عشرة آلاف درهم، وعشرة آلاف له بالكوفة أنه يزكي الذي معه بالرقة بالرقة، والذي بالكوفة بالكوفة، وهذا لأن الزكاة كما تجب على المالك تجب بسبب المال، ففي صرفها إلى فقراء جوار المال مراعاة جانب المال، وفي نقلها إلى بلدة المالك مراعاة جانب المالك، وكان في النقل إلى بلدة المالك تعريض المال على التلف من غير فائدة، فكره هذا الذي ذكرنا، إذا كان فقراء تلك البلدة، وفقراء بلدة أخرى في الحاجة على السواء. فأما إذا لم يكن فقراء تلك البلدة محتاجين، إلا أن فقراء بلدة أخرى أكثر حاجة، فالصرف إلى فقراء بلدة أخرى أولى، فقد صح أن معاذاً كان يأخذ صدقات أهل اليمن، ويبعث إلى النبي عليه السلام بالمدينة، وكان النبي عليه السلام يقسمها بين المهاجرين والأنصار، وإنما كان معاذ يفعل ذلك؛ لأن فقراء المدينة كان أشد حاجة. وفي «فتاوى ابن الليث» من لا يحل له أخذ الصدقة، فالأفضل له أن لا يقبل (140أ1) . جائزة السلطان؛ لأنها تشبه الصدقة، ولا يحل له قبول الصدقة، فكذا لا يحل له قبول الجائزة وهذا إذا أدى ذلك من بيت المال، فأما إذا أدى ذلك من مال موروث جاز القبول؛ لأنها لا تشبه الصدقة، وإن كان فقيراً، فإن كان السلطان يؤدي ذلك من بيت المال، ولا يأخذ ذلك غصباً من الناس يحل له الأخذ؛ لأنه تحل له الصدقة حقيقة، فههنا أولى، وإن كان يأخذ ذلك غصباً، فإن كان لا يخلط بدراهم أخرى لا يحل له الأخذ، وإن كان يخلط فلا بأس به؛ لأنه ملكه عند أبي حنيفة، حتى وجب عليه

الزكاة، وورث عنه، وقوله: أرفق بالناس؛ لأن أموال الناس لا تخلو عن قليل غصب. قال محمد في «الأصل» : قوم من الخوارج غلبوا على قوم من أهل العدل، وأخذوا صدقات السوائم، ثم ظهر عليهم الإمام، لا يكون له أن يأخذ الزكاة منهم ثانياً. من المشايخ من قال: إنما لا يكون للإمام ذلك؛ لأن حق الأخذ للإمام بسبب الحماية حتى اختص الأخذ بالأموال التي تكون محمياً بحماية الإمام، نحو السوائم وأموال التجارة التي تكون في المفاوز والأسفار، ولا يثبت حق الأخذ في الأموال الباطنة التي تكون في البلدان؛ لأنها لا تكون محمية بحماية الإمام، والإمام في هذه الصورة لم يحمهم، فلا يثبت له حق الأخذ منهم. ومن المشايخ من قال: إنما لا يكون للإمام ذلك لا؛ لأن حق الأخذ للإمام بسبب الحماية، بل لأن حق الأخذ للإمام بسبب ولاية أثبتت له بالشرع، ألا ترى أن أخذ الصدقات من الأموال الباطنة كان مفوضاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكذلك في زمن أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما كان أخذ الصدقة من الأموال الباطنة مفوضاً إلى الإمام؟ إلا أن عثمان رضي الله عنه في زمنه فوض ذلك إلى أربابها لمصلحة رأى في ذلك، ولما كان حق الأخذ للإمام بسبب الولاية، فنقول: ولايته قد انقطع بسبب تخلية الخوارج، فيبطل حقه في الأخذ، وهل يؤمر أرباب الأموال بالأداء ثانياً، فيما بينهم وبين الله تعالى؟ فالمسألة على وجوه: الأول: إذا علموا أنهم صرفوا الصدقات إلى الفقراء، وفي هذا الوجه لا يؤمرون بالأداء ثانياً، فيما بينهم وبين ربهم؛ لأنه وصل الحق إلى مستحقه. الوجه الثاني: إذا علموا بأنهم لم يصرفوها إلى الفقراء، إنما صرفوها إلى شهوات أنفسهم، وفي هذا الوجه يؤمرون بالأداء ثانياً. الوجه الثالث: إذا لم يعلم من حالهم أنهم ماذا يصنعون بما يأخذون؟ وفي هذا الوجه روايتان: وجه الرواية التي قال: يؤمرون بالأداء ثانياً؛ لأن الحق لم يصل إلى المستحق، ولا إلى نائبه، أما إلى المستحق فظاهر، وأما إلى نائبه؛ فلأن السلطان إنما يصير نائباً عن الفقراء في الأخذ إذا كان يأخذ للفقراء، والخارجي لم يأخذ للفقراء إنما أخذ لنفسه، وجه الرواية التي قال: لا يؤمرون بالأداء ثانياً أن ظاهر البغي، إن كان يدل على الصرف إلى شهوات نفسه، فظاهر العقل والإسلام يدل على الصرف إلى الفقراء، وظاهر العقل والإسلام أدل من ظاهر البغي، فقد وصل الحق إلى باب المستحق، فلا يؤمرون بالإعادة ثانياً ذلك لتهمة البغي يندبون إلى الإعادة وفي «فتاوى أبي الليث» السلطان الجائر إذا أخذ صدقات السوائم فهذا على وجهين: إما أن ينوي المؤدي عند الأداء الصدقة عنهم، وفي هذا الوجه اختلف المتأخرون منهم قال مفتي أرباب الصدقات بالأداء ثانياً بينهم وبين الله تعالى؛ لأنهم لا يصرفون الصدقات إلى مصارفها. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: لا يؤمرون بالأداء ثانياً؛ لأن أخذ السلطان منهم صح لأن ولاية الأخذ له، فسقطت الصدقات عن أربابها، فلا يعود

الفصل التاسع في المسائل المتعلقة بمعطي الزكاة

عليهم بعد ذلك، فإن لم يضع السلطان مواضعها، قال الصدر الشهيد رحمه الله: وبهذا أفتي. هذا هو الكلام في صدقات الأموال الظاهرة، فأما إذا أخذ صدقات الأموال الباطنة ونوى صاحب المال الصدقة عند الأداء، اختلف المشايخ فيه، قال الصدر الشهيد: الصحيح أنه يفتى بالأداء ثانياً؛ لأن أخذ السلطان منه لم يصح، إذ ليس له ولاية أخذ صدقات الأموال الباطنة. الفصل التاسع في المسائل المتعلقة بمعطي الزكاة وفي «الجامع الأصغر» : سئل أبو حفص عمن دفع زكاة ماله إلى رجل وامرأة أن يتصدقا بها، فأعطى ولد نفسه الكبير أو الصغير أو امرأته، وهم محاويج، جاز هذا إذا كان المأمور فقيراً، فأما إذا كان المأمور غنياً يجب أن تكون المسألة على الخلاف، كما إذا أدى صاحب المال بنفسه. وفي «الفتاوى» عن الحسن: رجل أعطى رجلاً دراهم يتصدق بها على الفقراء، فلم يتصدق حتى نوى الآمر من زكاته من غير أن يقول شيئاً، ثم تصدق المأمور، جاز من زكاته، وكذا لو أمره أن يتصدق بها عن كفارة يمينه، ثم نوى زكاة ماله، ثم تصدق. وفي «المنتقى» : رجل أمر رجلاً أن يؤدي عنه زكاة ماله فأداه قال: يجوز عنه، ولا يرجع على الآمر بما أدى، قال: وكذلك الشريك المفاوض وشريك العنان، أمر شريكه بأداء الزكاة عنه، فأداها لم يرجع على الآمر إلا أن يقول: على أنها لك حل. وفي «مجموع النوازل» : سئل نجم الدين: عن المؤذن يقوم عند حضور السؤال من الفقراء لأخذ الصدقات من أهل الجماعة، فدفع إنسان إليه درهماً، ولم يحضر نية الزكاة، فقبل أن يدفع المؤذن ذلك إلى الفقير نوى عن الزكاة، ثم دفع المؤذن ذلك إلى الفقراء قال: تجزئة عن الزكاة، ويد المؤذن يد الدافع إلى أن يصل إلى الفقير، وسئل الفقيه عمن جمع دراهم الفقيه أخذها من الناس، والناس أعطوا الدرهم من زكاة مالهم واضح أكثر من مائتي درهم هل تجزئهم من الزكاة؟ فهذا على وجهين: أما إن كان الذي جمع الدراهم جمع بأمر الفقيه أو من غير أمر الفقيه، فإن كان جمع بأمر الفقيه جاز لكل من أعطى قبل أن يبلغ مائتي درهم إذا كان الفقيه فقيراً، ولا يجوز لمن أعطى بعدما بلغ مائتي درهم، إذا لم يكن على الفقيه دين، وإن كانوا لا يعلمون ذلك جاز في قول أبي حنيفة، ومحمد. وإن كان جمع الدراهم من غير أمر الفقيه، فإنه يجوز من زكاتهم في الحالين جميعاً، ولكن يكره لمن أعطى بعد المائتين؛ لأن الذي يجمع يصير وكيلاً للدافعين في دفع ذلك إلى الفقيه في هذه الصورة، وكأنهم دفعوا بأنفسهم، ولو دفعوا بأنفسهم إلى

الفصل العاشر في بيان ما يمنع وجوب الزكاة

الفقير مائتين أو أكثر عن زكاتهم أليس أنه يجوز؟ كذا ههنا، وهذا إذا لم يخلط أموالهم، فإذا خلط أموالهم، فهو ضامن، ولا يجوز لهم من زكاتهم لما يأتي في المسألة التي تلي هذه المسألة. وفي «الفتاوى» : إذا دفع رجلان إلى رجل كل واحد منهما دراهم ليتصدق بها عن زكاة ماله، فخلط الدراهم قبل الدفع، ثم دفع، فهو ضامن، وكذلك المتولي إذا كان في يده أوقاف مختلفة، وخلط غلاتها صار ضامناً لها، وكذا السمسار إذ خلط غلات الناس وأثمانها، وكذلك البائع إذا خلط من أمتعة الناس، والحاصل أن الخلط سبب الضمان؛ لأنه استهلاك إلا في موضع جرت العادة والعرف ظاهراً بالإذن بالخلط. إذا وجبت الزكاة على رجل، وهو لا يؤديها لا يحل للفقير أن يأخذ من ماله بغير علمه، وإن أخذ كان له أن يسترد إن كان قائماً، وإن كان هالكاً يضمن؛ لأن الحق ليس لهذا الفقير بعينه. ولو كان عند رجل أربعمائة درهم، فظن أن عنده خمسمائة درهم فأدى زكاة خمسمائة درهم. (140ب1) ثم ظهر أن عنده أربعمائة، فله أن يحتسب الزيادة للسنة الثانية، لأنه أمكن أن يعجل الزيادة تعجلاً، ولو مر بأصحاب الصدقات، فأخذوا منه كثيراً مما عليه ظناً منهم أن ذلك عليه لما أن ماله أكثر يحتسب الزيادة للسنة الثانية؛ لأنهم أخذوا ذلك بجهة الزكاة، وإن علموا مقدار ماله، وأخذوا الزيادة منه جوراً، لا يحتسب؛ لأنهم أخذوا الزيادة غصباً. ولو شك رجل في الزكاة، فلم يدرأزكى، أو لم يزكِ، فإنه يعيدها، فرق بين الزكاة وبين الصلاة، فإنه إذا شك في الصلاة بعد ذهاب الوقت أنه صلاها، أو لم يصلها، فإنه لا يعيدها، ولا فرق في المعنى؛ لأن العمر كله وقت أداء الزكاة، فصار الشك فيها بمنزلة شك وقع في الصلاة في الوقت أنه أدى، أو لم يؤد، وهناك يؤمر بالإعادة، فههنا كذلك، والله أعلم. الفصل العاشر في بيان ما يمنع وجوب الزكاة فنقول: ما يمنع وجوب الزكاة أنواع، منها الذي قال أصحابنا رحمهم الله: كل دين له مطالب من جهة العباد يمنع وجوب الزكاة، سواء كان الدين للعباد، أو لله تعالى كدين الزكاة. فأما الكلام في دين العباد، فنقول: إنما منع وجوب الزكاة؛ لأن ملك المديون في القدر المشغول بالدين ناقص، ألا ترى أنه يستحق أخذه من غير مضار لا رضا، كأنه في يده غصب أو وديعة؟ ولهذا حلت له الصدقة، ولا يجب عليه الحج، والملك الناقص لا يصلح سبباً لوجوب الزكاة.

وأما الكلام في دين الزكاة، فنقول: إن كان زكاة السائمة تمنع وجوب الزكاة بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله. وصورته: إذا كان له نصاب من الأثمان أو السوائم، أو عروض التجارة، فحال الحول ووجب الزكاة، ثم حال الحول ثانياً لم تجب الزكاة في الحول الثاني في السوائم بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله، سواء كان ذلك في العين بأن كان العين قائماً، أو في الذمة باستهلاك النصاب، وفي الأثمان وعروض التجارة كذلك الجواب عند أبي حنيفة، ومحمد، سواء كان ذلك في العين، أو في الذمة باستهلاك النصاب، وقال أبو يوسف: إن كان في العين لا تجب الزكاة في الحول الثاني، وإن كان في الذمة تجب الزكاة في الحول الثاني، وقال زفر: تجب الزكاة في الحول الثاني سواء كان ذلك في العين أو في الذمة. وجه قول زفر: أن هذا دين لا مطالب له من جهة العباد؛ لأن الزكاة في الأثمان وعروض التجارة أداؤها مفوض إلى أربابها، فلا يمنع وجوب الزكاة قياساً على النذور والكفارات، وأبو يوسف يقول: القياس ما قاله زفر، إلا أنه إذا كان في العين، إنما يمنع وجوب الزكاة؛ لأن جزءاً من العين صار مستحقاً به، فصار النصاب ناقصاً، وأبو حنيفة، ومحمد قالا: هذا دين له مطالب من جهة العباد تقديراً. بيانه: أن زكاة الأثمان، وعروض التجارة زمن رسول الله عليه السلام وزمن أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما كان مفوضاً إلى الإمام، إلا أن عثمان رضي الله عنه فوض ذلك إلى أربابها لمصلحة رأى في ذلك، وجعل أرباب الأموال كالوكلاء نفسه، لا أنه أبطل على نفسه حق الأخذ، وهذا لأن حق المطالبة للإمام عرف بعهد رسول الله عليه السلام وبعهد أبي بكر، وعمر، وحكم ثبت من جهة النبي عليه السلام، ومن جهة أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، لا يجوز لعثمان رضي الله عنه إبطاله، فدل أنه فوض الأداء إلى أرباب الأموال بطريق التوكيل، وكان هذا ديناً له مطالب من جهة العباد تقديراً. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل له مائتا درهم، فقبل الحول وجب عليه حجة الإسلام، أو حجة أوجبها، أو كفارة، أو صدقة من طعام، أو عتق، أو هدي متعة، أو أضحية، ثم تم الحول على المائتين وجبت عليه الزكاة؛ لأن هذه الحقوق لا مطالب لها من جهة العباد، ومثل هذا لا يمنع وجوب الزكاة، فلو امتنع وجوب الزكاة ههنا إنما يمنع لهذه الحقوق، ولو كان الدين خراج أرض يمنع وجوب الزكاة بقدره؛ لأن هذا دين له مطالب من جهة العباد، وهو السلطان، فإن السلطان مطالب بالخراج، وإذا امتنع يحبسه عليه. وكان الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطهاويسي رحمه الله يحكي عن أستاذه الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد رحمه الله أنه كان يقول: هذا إذا كان خراجاً يوجد بحق، فأما ما يوجد بغير حق كخراج المستقرض لا يمنع وجوب الزكاة ما لم يوجد منه قبل الحول؛

لأن هذا ليس بدين، بل هو مصادرة يوجد من أرباب الأراضي، فما لم يوجد منه حتى يصير النصاب ناقصاً، لا يمنع وجوب الزكاة، وإذا كان الخراج بحق إنما منع وجوب الزكاة إذا كان تمام الحول بعد إدراك الغلة، أما إذا كان قبل إدراك الغلة، فلا؛ لأن الخراج إنما منع وجوب الزكاة على تقدير الوجوب، ووقت وجوب الخراج وقت إدراك الغلة، وكذلك الأرض العشرية إذا أخرجت طعاماً، واستهلكه، وضمن مثله ديناً في الذمة، وذلك قبل تمام الحول على الدراهم، ثم تم الحول على الدراهم فليس عليه فيها زكاة؛ لأن هنا دين له مطالب من جهة العباد، وهو الإمام. قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: رجل له مائتا درهم لا مال له غيرها قال قبل الحول: لله عليه أن يتصدق بمائة منها صح النذر، ولزمه أن يتصدق بمائة منها عيناً، حتى لو هلكت المائتان بطل النذر؛ لأن النذر بالتصدق أضيف إلى مائة من هاتين المائتين والدراهم والدنانير تتعينان في النذور؛ لأن النذر ينزع، فلو أنه لم يتصدق بمائة من هاتين المائتين حتى حال الحول على المائتين لزمه زكاة المائتين خمسة، وإن صارت مائة منه مستحقة بالنذر؛ لأن هذا حق لا مطالب له من جهة العباد. فإن قيل: لم لا يمنع وجوب الزكاة من حيث أن الاستحقاق بمنزلة الهلاك؟ قلنا: إن الاستحقاق ثبت بنذره، وله ولاية تغيير ماله، أما ليس له ولاية تغيير ما عليه، وكون المال سبباً لوجوب الزكاة أمر عليه، فلا يظهر الاستحقاق الذي هو بمنزلة الهلاك في حق خروج هذا المال من أن يكون سبباً لوجوب الزكاة بنذره، ثم إذا لزمته الزكاة، وإخراج خمسة منها ينوي الزكاة بها، فإن عليه أن يتصدق للنذر سبعة وتسعين درهماً ونصف درهم، وسقط عنه التصدق بدرهمين ونصف؛ لأن الخمسة التي وجبت زكاة وجبت شائعة في المائتين في كل مائة درهمان ونصف، فيصير قدر درهمين ونصف مستحقاً من المنذور به من غير إيجاب بإيجاب الله تعالى، فصار بمنزلة ما لو هلك هذا القدر، فبطل النذر بقدره، ولزمه الوفاء بما بقي، وذلك سبعة وتسعون ونصف.v وهذا بخلاف ما لو قال: لله عليّ أن أتصدق بمائة درهم، ولم يقل: منها، وتم الحول حتى لزمه الزكاة، فأدى خمسة منها ينوي بها الزكاة، فإن عليه أن يتصدق بمائة درهم للنذر، بخلاف المسألة الأولى. والفرق: أن في هذه المسألة النذر بالتصدق ما أضيف إلى مائة من النصاب حتى يتعين مائة من النصاب للتصدق، بل وجب التصدق بمائة في الذمة، ولا تعلق له بالنصاب، فوجوب الزكاة لا يصيّر شيئاً من النذور مستحقاً، فلا يبطل شيء من النذر. (141أ1) وكذلك المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى: النذر بالتصدق أضيف إلى المائة من النصاب عيناً، والخمسة الواجبة نصفها من المائة المنذورة لما ذكرنا، أن الزكاة في المائتين وجب على الشيوع، فبقدر درهمين ونصف صار مستحقاً من المنذور، فسقط التصدق بقدره، فلو أن هذا الرجل بدأ بالنذر أولاً، وأدى المائة عن النذر صح؛ لأنه وفاءٌ

بالنذر والوفاء بالنذر واجب، ولم يذكر محمد رحمه الله أن أي قدر يؤدي الزكاة، واختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه يؤدي درهمين ونصفاً، وهذا القائل يقول: كل المائة لا تقع عن النذر، بل تقع عن النذر قدر سبعة وتسعين درهماً ونصف درهم، والباقي إلى تمام المائة وهو درهمان ونصف تقع عن الزكاة. وجه ذلك: أن درهمين ونصفاً من الزكاة كان في المائة التي تصدق بها عن النذر، وتعلق به حق الفقير، وقد يصل ذلك إلى الفقير، فيعتبر واصلاً إليه من جهة المستحق لا من جهة المنوية، ألا ترى أنه لو تصدق بجميع النصاب ينوي التطوع تسقط عنه الزكاة. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : أيضاً رجل له دراهم ودنانير، وعروض التجارة وسوائم، ومال قنية، وعقار، وغلة دين مستغرق، فلا زكاة عليه، وقد مر هذا، وإن استغرق الدين بعض هذه الأموال، ذكر في عامة نسخ «الجامع» : أنه يصرف الدين إلى نصاب الدراهم والدنانير، ثم إلى مال التجارة، وهكذا ذكر في «النوادر» ، وذكر في بعض نسخ «الجامع» : أنه يصرف الدين إلى الدراهم والدنانير، وأموال التجارة، وسوى بين الدراهم والدنانير وأموال التجارة والأول أصح. يجب أن يعلم أنه إذا كان للمديون صنوف من الأموال المختلفة، والدين مستغرق بعض هذه الأموال، فالدين أولاً يصرف إلى الدراهم والدنانير إما لأن قضاء الدين استبدال من حيث إن الديون يقضى بأمثالها، والقضاء بالمثل مبادلة، وكان صرفه إلى مال معد للاستبدال أولى، والدراهم والدنانير معدة للاستبدال دون غيرهما، وإما لأن الدراهم والدنانير أيسر المالين قضاء، والدين أبداً يصرف إلى أيسر المالين قضاء، فإن فضل شيء من الدين يصرف إلى عروض التجارة دون السائمة، إما؛ لأن قضاء الدين من عروض التجارة أيسر من قضائها من السائمة؛ لأن السائمة معدة للإمساك. بخلاف عروض التجارة، أو لأن الصرف إلى عروض التجارة أنفع في حق الفقراء؛ لأن السائمة خالية عن الدين، وزكاة عروض التجارة مفوض إلى أربابها، وعيني يختار الأداء وعيني لا يختار، فإن فضل شيء من الدين يصرف إلى السائمة، ولا يصرف إلى مال العينية؛ لأن قضاء الدين من السائمة أيسر؛ لأنها فارغة عن الحاجة الأصلية، فالإتيان دليل عليه بخلاف مال العين؛ لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية. فإن كان له نصيب من السوائم الإبل، والبقر، والغنم، والدين يصرف إلى أهلها زكاة، حتى إن في هذه المسألة يصرف الدين إلى الإبل أو الغنم، ولا يصرف إلى البقر؛ لأن الواجب في ثلاثين من البقر تبيع، والواجب في خمس من الإبل شاة، وكذلك الواجب في أربعين من الغنم شاة، ولا شك أن تبيعاً أنفع في حق الفقير من الشاة، فيصرف الدين إلى الإبل، أو الغنم دون البقر، ليمكن إيجاب الأنفع للفقراء، ثم المالك إن شاء صرف الدين إلى الغنم، وإن شاء صرفه إلى الإبل لإيجاد الواجب فيهما، وروي في غير رواية الأصول الدين يصرف إلى الغنم دون الإبل، لأن ذلك أنفع في حق الفقير. بيانه: أنه إذا صرف الدين إلى الغنم يبقى نصاب الإبل خالياً عن الدين، والواجب

فيها شاة لأحمد، فإذا أداها يبقى نصاب الإبل ثابتاً في السنة الثانية، فأما لو صرفنا الدين إلى الإبل يبقى نصاب الغنم خالية عن الدين، فتجب شاة منها، فينتقص النصاب في السنة الثانية وكان صرف الدين إلى الغنم أنفع في حق الفقراء. وصار الأصل من جنس هذه المسائل: إن ما كان أنفع للفقراء لا يصرف الدين إليه، وإن فضل شيء من الدين يصرف إلى مال القنية دون العقار، ولأن بيع مال القنية أيسر؛ لأن العقار ما لا يستحدث فيه الملك، ولا يباع في كل ساعة بخلاف المنقول. وإن كان في مال القنية عبد لخدمته، وثياب البذلة والمهنة، والدين لا مستغرق ذلك كله، بل يكفيه أحد المالين، فإلى أي المالين يصرف الدين؟ اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يصرف إلى عبد الخدمة، منهم الفقيه أبو إسحق الحافظ، والفقيه أبو بكر البلخي، وبعضهم قالوا: يصرف إلى ثياب البذلة والمهنة، منهم الفقيه أبو جعفر رحمه الله، وهذا الذي ذكرنا من الترتيب إذا أتاه المصدق، فيقول: عليّ دين، فيصرف على هذا الترتيب، فأما إذا كان يؤدي بنفسه يصرفه إلى أي المالين ما بعد أن يكون مقدار الواجب، فهما على السواء، وهذا لأن الدين عليه والمال له، وليس في صرفه إلى أحدهما ضرر على الفقراء، وكان له أن يصرف إلى أيهما. وقيل في دين المهر: أنه يمنع وجوب الزكاة كسائر الديون، وقيل: إن كان من نية الزوج: أنها متى طالبته تلقاها بلطف، ويقرها أنه متى صادف مالاً لا يبطل حقها يمنع وجوب الزكاة كسائر الديون، وإن كان من حقه أنه متى طالبته ضربها، وتلقاها بالإنكار لا يمنع وجوب الزكاة. قال القدوري في «كتابه» : وقال أصحابنا رحمهم الله: إن النفقة لا تمنع وجوب الزكاة ما لم يقض بها، فإذا قضي منعت؛ لأن النفقة لا تصير ديناً قبل قضاء القاضي فهذا الجواب مستقيم في نفقة الزوجات؛ لأنها تصير ديناً بقضاء القاضي، فأما نفقة المحارم ففي صيرورتها ديناً بقضاء القاضي كلام يأتي في موضعها إن شاء الله. ولو ضمن دركاً، فاستحق المبيع بعد الحول لم تسقط الزكاة؛ لأن الوجوب يقتصر على ماله الاستحقاق، ومن جملة الموانع الصبي والجنون، حتى لا تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون عندنا، فإذا كان الجنون أصلياً ثم أفاق، فعند أبي حنيفة: يعتبر ابتداء الحول من حين الإفاقة؛ لأنه لا خطاب قبل ذلك، فصارت الإفاقة في حق المجنون بمنزلة البلوغ في حق الصبي، وإذا طرأ الجنون فإن استمر سنة سقط، وإن كان أقل من ذلك لا يعتبر. وروي عن أبي يوسف: أنه اعتبر الإفاقة في أكثر السنة، فإن كان مفيقاً في أكثر السنة تجب الزكاة وما لا فلا، وروي عنه: أنه إذا أفاق ساعة من الحول تجب الزكاة، وهو قول محمد؛ لأن السنة للزكاة بمنزلة الشهر للصوم، ثم الإفاقة في شيء من الشهر تكفي لوجوب الصوم، فكذا الإفاقة في شيء من السنة تكفي لإيجاب الزكاة، والذي يجن ويفيق بمنزلة الصحيح، وهو النائم والمغمى عليه.

الفصل الحادي عشر في الأسباب المسقطة للزكاة

الفصل الحادي عشر في الأسباب المسقطة للزكاة فمن جملة ذلك هلاك مال الزكاة، قال أصحابنا رحمهم الله؛ إذا هلك مال الزكاة بعد حَوَلان الحول من غير تعد منه بالاستهلاك سقط عنه الزكاة، سواء هلك بعد التمكن من الأداء، أو قبل التمكن منه، وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: إذا طالبه الساعي بالأداء، فلم يؤد حتى هلك ضمن، وقال أبو سهل الزجاجي من أصحابنا: لا يضمن. فوجه قول أبي الحسن: أن الساعي ناب عمن له الحق في قبض هذا المال على التعين، فيصير ضامناً بالمنع منه كما في الوديعة، إذا قال صاحب الوديعة للمودع: ادفع الوديعة إلى غلامي هذا، فطلب غلامه ذلك الوديعة، فلم يدفع إليه، فإنه يصير ضامناً، فههنا كذلك، وعلى هذا العرف يخرج ما إذا طلب الفقير منه ذلك، فلم يدفع إليه حتى هلك حيث لا يضمن؛ لأن هذا الفقير (141ب1) لم يتعين نائباً عمن له الحق في أخذ هذا المال، فهو نظير ما لو قال صاحب الوديعة: ادفع الوديعة إلى أي غلماني شئت، فجاء واحد من غلمانه وطلب الوديعة، فلم يدفع إليه حتى يدفع إلى غلام آخر هناك لا يصير ضامناً كذا. وجه قول أبي سهل: أن وجوب الضمان يستدعي تفويتاً، ولم يوجد، وفي فصل الوديعة وجد التفويت؛ لأن المودع بالمنع بدل اليد، فصار مُفوتاً يداً بذلك، فيجب الضمان بالتفويت، أما ههنا بخلافه. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا كان للرجل ثمانون من الغنم السائمة حال عليها الحول، حتى وجبت شاة، ثم هلك منها، وبقي أربعون، ففي القياس يزكي الباقي نصف شاة، وهو قول محمد وزفر، وفي الاستحسان يزكي الباقي بشاة كاملة، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف. من مشايخنا من قال: هذه المسألة في الحاصل تبنى على أصل أن المال إذا اشتمل على النصاب في العفو، فالواجب يتعلق بالنصاب، وحل استحساناً حتى لو هلك العفو، وبقي النصاب بقي كل الواجب، وقال محمد وزفر: يتعلق بهما قياساً حتى لو هلك العفو سقط من الزكاة بقدره، فوجه القياس في ذلك قوله عليه السلام «في أربعين شاة شاة إلى مائة وعشرين» ، فقد جعل الشاة واجبة في الكلّ؛ ولأن ما زاد على الأربعين نعمة، فتجب الزكاة فيه شكراً قياساً على الأربعين، وبالإجماع لم يجب فيما زاد على الأربعين شيء آخر. علمنا أن الشاة واجبة في الكل، فإذا هلك ما زاد على الأربعين يجب أن يهلك بخمسة كما لو كان له أربعون من الغنم، وهلك بعضها، إلا أن هذه الزيادة تسمى

عفواً بمعنى أن الشاة تجب بدونها، ولكن إذا وجدت الزيادة، فالوجوب يتعلق بالكل. ومن مشايخنا من قال: الشاة وإن كانت واجبة في الأربعين لا غير، مع هذا يمكن القول بسقوط بعض الواجب بهلاك الزيادة. وبيان ذلك: أن ما وجب فيه الشاة غير معين، فأربعون من الثمانين مال الزكاة وأربعون ليس مال الزكاة، وليس أحد الأربعين..... المالين للآخر، بل كل واحد من الأربعين أهلاً نفسه؛ لأن أحد المالين إنما جعل تبعاً للآخر، إما أن يكون متفرعاً عنه كالولد، أو بأن يكون مستفاداً..... ولم يوجد شيء من ذلك ههنا، وقد اختلطا على وجه تعذر التمييز؛ لأن الذي فيه الشاة ليس بمعين، والأصل في كل مالين هذا حالهما، أنه إذا هلك شيء منها، فما هلك يجعل هالكاً من المالين، وما بقي يجعل باقياً من المالين؛ لأنه في معنى الشائع، والشائع كذلك يكون، والدليل عليه. مسألة في «النوادر» : إذا كان للرجل ألف درهم حال عليها الحول، فاستفاد ألفاً أخرى، واختلط المستفاد بالنصاب على وجه تعذر التمييز بينهما، ثم هلك منها ألف فإنه يزكي خمسمائة، وجعل الهلاك من المالين بالطريق الذي قلنا، كذا ههنا. وجه الاستحسان في ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام «في أربعين شاة الشاة» وليس في الزيادة شيء حتى يبلغ مائة وواحداً وعشرين» ، فالنبي عليه السلام عفى الوجوب عن الزيادة إلى أن يبلغ مائة واحداً وعشرون، فمن جعل الشاة بشاة في الثمانين، فقد أوجب في الزيادة على الأربعين شيئاً قبل وجود نصابه، وإنه خلاف النص، والعمل بما روينا أولى من العمل بما رواه الخصم؛ لأن ما روينا محكم في حكم الواجب عن الزيادة على الأربعين، وما رواه الخصم محتمل أن يكون حتى قوله: إلى مائة وعشرون، أن الشاة واحدة في الكل، ومحتمل أن يكون معناه من الأربعين إلى مائة واحد وعشرين عفو لا يتعلق به الواجب، فكان العمل ما روينا أولى، والمعنى في المسألة: أنهما مالان اختلطا، وتعذر التمييز بينهما وأحدهما أصل هو النصاب الأول، والآخر تبع، وهو الزائد على النصاب؛ لأن الأصل ما يقوم بنفسه، ويوجد دون غيره، والتبع ما لا يقوم بنفسه، ولا يوجد دون غيره، والنصاب الأول يقوم بنفسه، ويوجد بدون الزيادة، والزيادة لا تقوم بنفسها، ولا توجد بدون النصاب الأول فهو معنى قولنا: إن النصاب الأول أصل، والزيادة عليه تبع، فيصرف الهلاك إلى التبع؛ لأن الأصلي أقوى، وصرف الهلاك إلى الأضعف أولى، ولأن في صرف الهلاك إلى التبع صيانة الواجب عن النقصان، فكان هو أولى. وأما مسألة «النوادر» . قلنا: ما ذكر أنه يزكي خمسمائة فهو قول محمد وزفر، وهو القياس، أما على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، وهو الاستحسان، يزال النصاب الأول الذي هو الأصل، وهو مائتا درهم ثم يصرف الهلاك إلى ما وراءه يكون ذلك جعله تبعاً

للنصاب الأول، إلا أن التابع للنصاب الأول في هذه الصورة بعضه مال وجب فيه الزكاة، وذلك ثماني مائة من الألف التي حال عليه الحول، وبعضه حال لم يجب فيه الزكاة، وذلك ألف درهم، فيصرف الهلاك إلى الكل، وجعلنا لكل مائتي درهم منهما، فصار ما وجب فيه الزكاة أربعة أسهم، وما لم يجب فيه الزكاة خمسة أسهم، فجملة ذلك تسعة أسهم فما هلك، وذلك ألف، يهلك على تسعة أسهم، وما بقي وذلك ثماني مائة يبقى على تسعة أسهم، أربعة اتساعها مما وجب فيه الزكاة، وذلك أربعمائة وأربعة وأربعون وأربعة الأتساع، فيبقى ذلك ثلثمائة وخمسة وخمسون وخمسة الأتساع. يضم هذا القدر من ثماني مائة إلى النصاب الأول الذي هو الأصل، وذلك مائتا درهم، فيصير الجملة خمسمائة درهم وخمسة وخمسين وخمسة الأتساع يزكي هذا القدر على طريق الاستسحان، نصّ عليه في زكاة الإبل في «نوادر الزكاة» . ولو هلكت من الثمانين ستون، وبقي عشرون يزكي الباقي، بنصف شاة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف؛ لأن الهلاك عندما يصرف إلى الزيادة أولاً، ويجعل كأن الزيادة لم تكن، وكان ماله أربعين لا غير، وقد هلكت منها عشرون وبقي عشرون، يزكي الباقي بنصف شاة من هذا الوجه، وعند محمد وزفر زكى الباقي ربع الشاة؛ لأن عندهما الشاة كانت سابقة في الثمانين. ولو كان له مائة وعشرين من الغنم هلك بعد الحول ثمانون، وبقي أربعون يزكي عن الباقي شاة واحدة في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف؛ لأن الهلاك عندهما انصرف إلى الزيادة على النصاب الأول كأنه لم يملك إلا الأربعين. ولو كان له مائة واحد وعشرون من الغنم حال عليها الحول، ثم هلك منها أحد وثمانون، وبقي أربعون ذكر في «الجامع» أنه يزكي الباقي بشاة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، وروي عن أبي يوسف في «الأمالي» أنه يزكي الباقي بأربعين جزءاً من مائة وإحدى وعشرين جزءاً من مائين وهو قول محمّد، وإنما خالفت هذه المسألة المسألة الأولى عند أبي يوسف على رواية «الأمالي» ؛ لأن في هذه المسألة المال اشتمل على النصابين، وفي المسألة الأولى اشتمل على النصاب، والعفو والمال إذا اشتمل على النصاب والعفو، فالهلاك يصرف إلى العفو عند أبي يوسف باتفاق الروايات، ومتى اشتمل على النصابين، فالهلاك ينصرف إلى النصابين على رواية «الأمالي» عنه، وعلى ظاهر الرواية يصرف الهلاك إلى النصاب الزائد على النصاب الأول، أو نصاباً (142أ1) الأول مستغنى عنه، وفي الزيادة إذا كانت نصاباً، إن انهدم المعنى الذي قلتم وجد المعنى الذي قلنا، فالثاني لا يستغني عن الأول، والأول مستغني عن الثاني، وإنه كافٍ للتبعة كما في التعجل، فإنه إذا عجل زكاة نصب كثيرة بعدها هلك نصاباً واحداً جاز، وطريق الجواز أن يجعل ما وراء هذا النصاب تابعاً له، وذكر القدوري في «شرحه» روايتين، أبي يوسف عن أبي حنيفة: في المال أداء اشتمل على النصابين مثل قول محمد، ورواية أبي يوسف، وقال أبو الحسن: هو الصحيح.

وفي «القدوري» : إذا كان له أربعون من الإبل السائمة هلك منها عشرون بعد الحول، ففي الباقي أربع شياه عند أبي حنيفة؛ لأنه يجعل الهالك كأن لم يكن لكون الهالك تبعاً، وصرف الهلاك إلى التابع عنده، فيلزمه زكاة العشرين، وذلك أربع شياه، وعند أبي يوسف: يجب عشرون جزءاً من ستة وثلاثين جزءاً من بنت لبون؛ لأن الأربعة عفو، فالواجب وذلك بنت لبون في ست وثلاثين، فيبقى من الواجب بقدر الباقي، فلو كان له مائتا درهم، ودمج معها بعد الحول مائتين، ثم هلك نصفها لم تسقط هي؛ لأن الربح تابع لأصل المال بلا خلاف، فيصرف الهلاك إليه عند الكل كما صرف إلى العفو عند أبي حنيفة. قال القدوري: والعفو عند أبي حنيفة يتصور في سائر الأموال، وعندهما لا يتصور في الذهب والفضة، إنما يتصور في السوائم بناءً على أن الزكاة تجب في الزيادة على المائتين والعشرين، عندهما خلافاً لأبي حنيفة، وفي «المنتقى» فالدين صح عن أبي يوسف، وإبراهيم عن محمد: رجل دفع زكاة ماله لثلاث سنين إلى الوالي، ثم ضاع ماله قال: رد عليه الوالي، إن كان قائماً بعينه، وإن كان فرقه، فلا شيء عليه. وفيه: أبو سليمان عن محمد رحمه الله: رجل له جارية للتجارة قيمتها مائة درهم حال عليها الحول ثم باعها بثلثمائة درهم، ثم نوى منها مائتا درهم، قال: يزكي مائة الدرهم الباقية. بشر عن أبي يوسف: رجل له أربعون شاة سائمة حال عليها الحول، ثم باعها بثلثمائة درهم، ولدت أربعين حملاً، ثم ماتت الأمهات بطل عنها الزكاة. ابن سماعة عن محمد: رجل له ألف درهم حال عليها الحول ثم أقرضها رجلاً يفوت عليها مال الزكاة عليه؛ لأنه ما أخرجهما عن حد الزكاة، وإنما أقرضها ليكون له عليه مثلها، وكذلك لو كان له ثواب للتجارة حال عليها الحول، ثم أعاره رجلاً فضاع. ومن جملة الأسباب المسقطة للزكاة موت من عليه مال، قال أصحابنا رحمهم الله: إذا مات من عليه الزكاة تسقط الزكاة بموته حتى أنه إذا مات عن زكاة سائمة، فالساعي لا يجبر الوارث على الأداء، ولو مات عن زكاة التجارة لا يجب عليه الأداء فيما بينه وبين ربه، وقال الشافعي: لا يسقط بموته؛ لأن هذا حق مال وجب في ذمته، والنيابة تجري فيه. ألا ترى أنه لو أمر غيره بأداء الزكاة في حالة الحياة جاز، وكذا لو أوصى لوارثه بأن يؤدي زكاة ماله بعد موته يجب على الوارث أداءه، فصح ما ادعينا، أن هذا حق مال وجب في ذمته والنيابة تجري فيه، فوجب أن لا يسقط بموته قياساً على سائر الحقوق التي بهذه الصفة، وأقر بها العشر. وإنما نقول: بأن الزكاة عبادة خالصة لله تعالى، والركن في العبادات الأداء عن اختيار، ولا اختيار للمتغيب، وما يقول: بأن هذا حق تجري فيه النيابة. قلنا: نعم ولكن نيابة اختيارية لا نيابة جبرية، ولو وجب على الوارث الأداء ههنا

الفصل الثاني عشر في صدقات الشركاء

لصار نائباً عنه جبراً، فلا يكون الأداء عن اختيار من عليه، حتى لو وجد الاختيار، وفي النيابة بأن أوصى إليه قول بأنه ثبت على الوارث الأداء، ثم إذا أوصى قائماً يجب على الوارث تنفيذ الوصية بقدر الثلث؛ لأن الميت لو لم يوص بذلك لكن تسلم الورثة جميع المال لو بطل حقهم عن بعض المال، إنما يبطل بحكم الوصية، وعمل الوصية في مقدار الثلث، لا في الزيادة على الثلث. ومن جملة الأسباب المسقطة: الردة، قال أصحابنا: من عليه الزكاة إذا ارتد عن الإسلام، والعياذ بالله، بطل عنه الزكاة، وكذلك ما مضى من الأحوال....، فلا زكاة فيها عندنا بناءً على ما قلنا أن الزكاة عبادة، والمرتد ليس من أهلها، وهذا لأن أصلية الشيء بأصلية حكمه، وحكم العبادة الزكاة الثواب، والمرتد ليس من أهل الثواب والله أعلم. الفصل الثاني عشر في صدقات الشركاء قال أصحابنا: وإذا كان النصاب من خليطين لا تجب فيه الزكاة، والأصل فيه قوله عليه السلام، «وسائمة الرجل إذا كان أقل من أربعين، فلا زكاة فيها» ؛ ولأن الزكاة وظيفة الغني، وهذا ليس بغنى في حق كل واحد منهما. وقال الشافعي: تجب الزكاة عند وجود شرائط الخليطين، وذلك بأن يتحد الراعي والمرعى والمراح، والمسرح والبئر والكلب، ويحتج بقوله عليه السلام «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، وما كان بين خليطين يتراجعان بالسوية» ، فالنبي عليه السلام اعتبر الجمع والتفريق والخلطة، وعندكم لا أثر لهذه الأشياء، وعندنا مضى قوله عليه السلام: «لا يجمع بين متفرق» إذا كان بين رجلين ثمانون شاة، فإنه تجب فيها شاتان، فلا يجمعا فيها، فيقولان: إنها لرجل واحد لإيجاب شاة واحدة، وإذا كان بين رجلين أربعون شاة، فلا ينبغي للساعي أن يجعلها كأنها لرجل واحد، فيأخذ منها شاة، ومعنى قوله: «ولا يفرق بين مجتمع» إذا كان لرجل أربعون شاة، فلا ينبغي له أن يجعل عشرين منها على يدي رجل، ويقول: ليس لي إلا عشرون حتى لا تجب الزكاة، وإذا كان لرجل مائة وعشرون من الغنم، فلا ينبغي للساعي إن فرق كل أربعين على حدة، فيأخذ ثلاث شياه وقوله: «ما كان بين خليطين يتراجعان بالسوية» ، فهذا ما ذكر ابن رستم في «نوادره» عن محمد: l إذا كان رجلان بينهما مائة وعشرون شاة لأحدهما أربعون، وللآخر ثمانون وأخذ المصدق منها شاتين، فصاحب الثمانين يرجع على صاحب الأربعين بثلث

الفصل الثالث عشر في زكاة الديون

شياه؛ لأن المأخوذ من نصيب صاحب الأربعين ثلث شاتين، وثلث شاتين لا شاة واحدة، والواجب عليه شاة، والثلث الآخر أخذ من نصيب صاحب الثمانين، فرجع هو بذلك على صاحب الأربعين. وفي «نوادر هشام» عن محمد صورها في الإرث، فقال: رجل توفي وترك مائة وعشرين شاة سائمة، وله ابن وبنت، فورثاها على فرائض الله، فجاء المصدق، وأخذ منها شاتين، فإن الأخت تعود على أخيها بسدس قيمة كل شاة من الشاتين. وفي «نوادر ابن رستم» : ثلاثة نفر لكل رجل منهم خمسون شاة، فخلطوها، فجاء المصدق، وأخذ منها شاتين، وإن كان يعرف غنم كل رجل، فأخذ الشاتين من الغنم لرجل بعينه، فهذا ظلم به. وفي «نوادر هشام» : في ثمانين شاة بين أربعين رجلاً لرجل واحد من كل شاة نصفها والنصف الآخر من الشاة لهؤلاء الباقين، قال أبو حنيفة: ليس على صاحب الأربعين صدقة، وهو قول محمد، ولو كان بين رجلين يجب على كل واحد منهما شاة؛ لأنه مما يقسم في هذه المسألة. (142ب1) ، وفي المسألة الأولى لا يقسم. وفي «القدوري» : قال أبو يوسف: إذا كان ماء مشترك بين رجلين، وبين أحدهما وبين آخر تسعة وسبعون، فعلى الذي تمّ نصابه، وذلك أربعون الزكاة، وقال زفر: لا يجب الزكاة لأنه أحسبه بالقسمة نصيب كامل، فإنه يستحق من هذه الشاة الواحدة نصفاً ومن الباقي نصفاً، وأبو يوسف يقول: المعتبر كمال النصاب في ملكه، وقد اجتمع في ملكه أربعون شاة، فتجب منه الزكاة. الفصل الثالث عشر في زكاة الديون يجب أن تعلم أن من عليه الدين لا يخلو أن يكون مقراً بالدين، أو جاحداً له، وإما أن يكون مليئاً، أو مفلساً. فإن كان مليئاً، وكان مقراً بالدين، فلا يخلو إما إن وجب الدين بدلاً عما هو مال التجارة كبدل الدراهم والدنانير وعروض التجارة، وما أشبهه، أو وجب بدلاً عما هو مال، إلا أنه ليس للتجارة كثمن عبد الخدمة، وما أشبهه، أو وجب بدلاً عما ليس بمال كالمهر، والدية، وبدل الخلع، والصلح عن دم العمد، وما أشبهه، فأوجب بدلاً عما هو مال التجارة. فحكمه عند أبي حنيفة: أن يكون نصاباً قبل القبض يجب فيه الزكاة، ولكن لا يجب الأداء ما لم يقبض منه أربعين درهماً، وما وجب بدلاً عما هو مال، إلا أنه ليس للتجارة، فحكمه في رواية عنه: أنه لا يكون نصاباً قبل القبض، وعلى هذه الرواية اعتمد الكرخي رحمه الله. وفي رواية الأصل عنه: أنه يكون نصاباً قبل القبض، وعلى قوله الآخر لا يكون

نصاباً قبل القبض، وهو الصحيح، فقد فرق على قوله الآخر بينما وجب بدلاً عما ليس بمال أصلاً، وبينما وجب بدلاً عما هو مال. وجه الفرق: أن المال إنما يعتبر نصاباً باعتبار معنى التجارة لدين ثابت من وجه دون وجه، فإن صاحب الدين يملك المشترى بالدين ممن عليه ولا يملك المشترى بالدين من غير من عليه، فكان معنى التجارة بالدين إما من وجه دون وجه، فإن صاحب الدين يملك المشترى بالدين ممن عليه ولا يملك المشترى بالدين من غير من عليه، فإذا كان الدين بدلاً عما هو مال التجارة، فالمال في حقه مال النصاب لا مال الثبوت، والثابت بعلة يبقى ما بقي شيء من تلك العلة، فتبقى نصاباً في حقه، فتجب فيه الزكاة، إلا أنه لا يجب الأداء؛ لأن العين أفضل من الدين، فإنه يملك التصرف في العين على الإطلاق. فأما ما يجب بدلاً عما ليس بمال أصلاً، فالحال في حقه حال الثبوت للنصاب، فاعتبار معنى التجارة من كل وجه، ومعنى التجارة للدين ثابت من وجه على أمر لا يكون نصاباً قبل القبض، ولهذا قال أبو حنيفة في الدين الذي وجب بدلاً عما هو عينه، إلا أنه ليس للتجارة، وفي رواية: أنه لا يكون نصاباً قبل القبض؛ لأن أصله لم يكن نصاباً، ولم يكن للتجارة، وكان المال في حقه مال ثبوت النصاب، فلا بد من اعتبار معنى التجارة من كل وجه. وفي رواية «الأصل» : ما لا يكون نصاباً قبل القبض يجب فيه الزكاة، ولكن لا يجب الأداء ما لم يقبض منه مائتي درهم. وإنما شرطنا لوجوب الأداء في الدين الذي وجب بدلاً عما هو مال التجارة، أن يكون المقبوض أربعين درهماً؛ لأن الدين إذا وجب بدلاً عما هو مال التجارة يفيد صاحب الدين قبل القبض البيع كانت ثابتة على النصاب، وبالبيع زالت من حيث الحقيقة، ولكن مع إمكان الإعادة بقبض البدل، واعتبار إمكان الإعادة بجعل اليد الزائلة حقيقةً قائمةً حكماً، واعتبار إمكان ثبوت اليد حقيقة بعد ذلك.... بما زائدة على اليد الثابتة من حيث الاعتبار، وأنه شرط وجوب الأداء، فيصير تقدير المحل في هذه اليد الزائدة، لوجوب الأداء قدر الزيادة على النصاب في حق أصل الوجوب، وملك الزيادة ما لم يكن أربعين. وعلى قول أبي حنيفة: لا تجب الزكاة، هكذا ههنا ما لم تثبت هذه اليد الزائدة على الأربعين لا يجب الأداء إلا إذا أوجب الدين بدلاً عما هو مال، إلا أنه ليس للتجارة يفيد صاحب الدين قبل البيع لم يكن نائب على النصاب حقيقة، حتى تصير بائعه بعد البيع اعتباراً وحكماً باعتبار إمكان الإعادة، وكان ثبوت اليد حقيقة بعد ذلك ابتداء يد يشترط لوجوب الأداء لا يداً زائدة، فيصير تقدير المحل في حق هذه اليد المبتدأة بتقدير أصل

مال يشترط لوجوب أصل الزكاة، ذلك مقرر بالمائتين، فكذا ههنا ما لم تثبت هذه اليد ابتداءً على المائتين لا يجب الأداء، وروي عن الحسن عن أبي حنيفة: أنه ينوي حينما وجب بدلاً عما هو مال التجارة، وهنا وجب بدلاً عن مال ليس هو مال التجارة، وقال: إذا قبض منها أربعين درهماً يجب عليه الأداء بقدر ما قبض. هذا كله قول أبي حنيفة. فأما على قولهما: فالديون كلها سواء، وهي نصاب تجب فيها الزكاة قبل القبض، إذا حال عليها الحول، ولكن لا يجب الأداء قبل القبض، وإذا قبض شيئاً منه يجب الأداء بقدر ما قبض، قلنا: ما كان أو كثراً، إلا الدية وبدل الكتابة فإنهما ليسا بسبب حتى يقبض، ويحول الحول عليه. ووجه ذلك: أن الديون كلها سواء في حكم المالية من حيث إن المطالبة بها متوجهة، وتعتبر حالاً حقيقة بالقبض، فكانت سواء في حق حكم الزكاة، وهذا لأن الغائب ليس إلا اليد، وتأثير انعدام اليد في امتناع أصل الوجوب، كما في ابن السبيل بخلاف، ومن الكفاية لأن ذلك ليس دين على الحقيقة؛ لأن المكاتب عبد والمولى لا يستوجب على عبده ديناً، ولهذا لا تصح به الكفالة، أما ههنا بخلافه، وبخلاف الدية؛ لأنها صلة تجب لدفع الوحشة عن أولياء القتيل، وإطفاء ثائرة القتل، ولهذا وجب على غير القاتل، فكانت من باب الصلة، والصلات لا تتم قبل القبض. وفي كتاب «الأجناس» : جعل مسألة المهر على وجهين، فقال: إن تزوجها على إبل تعتبر أعيانها، ثم قبض خمساً من الإبل بعد الحول، فلا زكاة عليها في قولهم ما لم يحل عليه الحول بعد القبض، وإن تزوجها على إبل بعينها، فكذلك عند أبي حنيفة للزكاة حتى يحول عليها الحول بعد القبض، قال: وكذلك إذا كان المهر مئتي درهم، فهو على هذا الخلاف، هذا كله لفظ كتاب «الأجناس» للناطفي رحمه الله، وستأتي مسألة المهر في آخر هذا الفصل أيضاً. وأما الدين الموروث، فالجواب فيه في حق الوارث عندهما كالجواب في حق المورث على التفاصيل التي مرت؛ لأن الوارث خلفه الوارث قائم مقام المورث، فيكون حكمه حكم المورث. وأما عند أبي حنيفة: إن وجب الدين في حق المورث بدلاً عما ليس بمال، فإنه لا يكون نصاباً في حق الوارث قبل القبض، وإن وجب الدين في حق المورث بدلاً عما هو مال. ذكر أبو سليمان في «نوادر الزكاة» : أنه يعتبر حكم الوارث؛ لأن الوارث قائم مقام المورث، فتجب الزكاة فيه قبل القبض، ولا يخاطب بالأداء قبل القبض، وإذا قبض منه شيئاً إن وجب في حق (143أ1) المورث بدلاً عما هو مال التجارة، فإذا قبض أربعين درهماً يؤدي زكاته، وإن وجب في حق المورث بدلاً عن مال ليس هو للتجارة، فإذا قبض منه مائتي درهم تؤدى زكاته. وذكر هشام في «نوادره» عن أبي حنيفة: أنه لا يكون نصاباً قبل القبض؛ لأن الوارث ملك هذا الدين بغير عوض، ولو ملكت بعوض ليس هو مال لا تكون نصاباً قبل القبض عند أبي حنيفة كالمهر، فهذا أولى.

وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» : عن الحسن بن أبي مالك قال: سمعت أبا يوسف في سنة تسع وستين ومائة يحكي عن أبي حنيفة أنه قال في الميراث: لا يزكى لما مضى، وهي التي رواها هشام عنه قال: وإنه كان إلى عامنا في سنة سبع وستين ومائة أن أبا حنيفة قال في الميراث: إذا أخذ مائتي درهم زكاه لما مضى، ولم ينتظر بها إلى أن يحول الحول بعد القبض، وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أيضاً. وفي ظاهر الرواية لأبي حنيفة رحمه الله: الموروث قبل القبض يكون نصاباً تجب فيه الزكاة، ولكن لا يجب الأداء ما لم يقبض منه مائتي درهم، هو أوجب هذا الدين في حق المورث بدلاً عما هو مال التجارة، أو بدلاً عن مال ليس هو للتجارة، أما إذا وجب عن مال ليس هو للتجارة فظاهر، وأما إذا وجب عن مال هو للتجارة؛ لأن الوارث إنما يقوم مقام المورث في أصل الملك لا في التجارة؛ لأنها عمل قد انقضى من المورث، فلا يتصور قيام الوارث مقامه في ذلك، إنما يقوم الوارث مقامه في الملك، فصار كثمن عبد الخدمة، وثياب المهنة، وأما الدين الموصى به، فلا ذكر له عن أبي حنيفة في ظاهر الرواية. وذكر أبو سليمان في «نوادر الزكاة» عن أبي حنيفة: أنه لا يكون نصاباً قبل القبض، فيحتاج على روايته إلى الفرق بين الموصى له وبين المورث. والفرق: أن الموصى له لا يقوم مقام الميت في الموصى به، كأنه هو، وإنما يملكه ابتداء بالوصية، كما يملكه بالهبة وغيرها من أسباب الملك، فيصير فيه مال الموصى له بنفسه لا مال المورث، والموصى له ملك هذا الدين بغير عوض، ولو ملكه بعوض هو ليس بمال لا يكون له نصاباً قبل القبض، فههنا أولى، وأما الوارث يقوم مقام المورث في الموروث كأنه هو، ألا ترى أنه يرد بالعيب، ويرد عليه بالعيب، فجاز أن يعتبر حاله كحال المورث، وأما الآخرة ففي ظاهر رواية أبي حنيفة هي نصاب قبل القبض، ولكن لا يلزمه الأداء ما لم يقبض منها مائتي درهم، وروى بشر الوليد عنه: أنه لا يكون نصاباً قبل القبض. وروى عنه في «الأمالي» : أن العبد المستأجر إن كان للتجارة، فهو نصاب قبل القبض، ويجب الأداء إذا قبض أربعين درهماً، وإن كان للخدمة لا يكون نصاباً قبل القبض، ويجب الأداء إذا قبض مائتي درهم. وجه رواية بشر: أن الآخرة تجب بدلاً عن المنافع، فأشبه المهر، ثم المهور لا تكون نصاباً قبل القبض، فهذا كذلك. وجه رواية «الأمالي» : أن المنافع تبع للرقبة، فإذا كانت الرقبة للتجارة كانت المنافع للتجارة، فيكون بدلها بدل مال التجارة، وإذا لم تكن الرقبة للتجارة بل كانت للمهنة كانت المنافع للمهنة أيضاً، فيكون بدلها بدل مال المهنة، وجه ظاهر الرواية عنه: أن الآخرة ملكت عن مال لم يكن مال الزكاة تشبه من هذا الوجه ثمن عبد الخدمة. بيانه: أن الآخرة بدل عن منافع البدن، ومنافع البدن مال حتى لا يجب الحيوان

ديناً في الذمة بدلاً عنها، بخلاف منافع البضع لكن لا تصلح نصاباً في نفسها؛ لأنها لا تبقى بسبب يشبه من هذا الوجه ثمن عبد الخدمة، فأما المشترى قبل القبض، فقد قال مشايخ العراق: إنه لا يكون نصاباً قبل القبض عندهم جميعاً. وفي «المنتقى» : أنه لا يكون نصاباً قبل القبض من غير ذكر خلاف على ما يأتي في آخر هذا الفصل. وقال غيرهم من المشايخ: هو على الخلاف الذي ذكرنا في الثمن، وقال بعضهم: هو نصاب قبل القبض بلا خلاف، قالوا: وإليه أشار في «الجامع الكبير» قال مشايخنا: والاختلاف الذي ذكرنا في ثمن عبد الخدمة، وعروض التجارة، فهو كذلك في زمان استهلاك العبد للخدمة؛ لأن ضمان الاستهلاك في حكم ضمان البيع، ولهذا أخذ به المأذون. وفي «نوادر المعلى» : أن ثمن عبد الخدمة نصاب قبل القبض، وقيمة عبد الخدمة المستهلك لا يكون نصاباً قبل القبض، هذا الذي ذكرنا، إذا كان من عليه الدين مليئاً مقراً بالدين، وإذا كان من عليه الدين مفلساً مقراً بالدين، فإن كان القاضي قد فلسه بما عليه من الدين لا يكون نصاباً قبل القبض عند أبي يوسف، ومحمد، وعند أبي حنيفة يكون نصاباً، وهذه المسألة في الحاصل بناءً على مسألة أخرى، أن الحكم بالإفلاس عندهما صحيح؛ لأن الإفلاس عندهما يتحقق في حالة الحياة، فمتى فلسّه القاضي انسد طريق الوصول إليه على رب الدين، فصار في معنى الناوي، فلا ينعقد نصاباً. وعند أبي حنيفة: الحكم بالإفلاس غير صحيح؛ لأن الإفلاس عنده لا يتحقق في حالة الحياة، فصار وجوده وعدمه بمنزلة، وإن كان القاضي لم يفلّسه، فعلى قول أبي حنيفة، وأبي يوسف: ما يكون عليه من الدين يكون نصاباً قبل القبض؛ لأن طريق الوصول إلى الدين، وهو الملازمة والمطالبة؛ لأن المال غادٍ ورائح، فإن هذا إذا كان من عليه الدين مقراً بالدين، فإن كان جاحداً، وليس لرب الدين عليه بينة، فهو في معنى الناوي، وسنبينه مع أجناسه في الفصل الذي يلي هذا الفصل إن شاء الله تعالى. وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد: رجل له على معسر ألف درهم دين اشترى بالألف من المصر ديناراً، ثم وهب له الدينار وجب عليه زكاة الألف؛ لأن.... لها بالدنانير، ومعنى هذا الكلام: أن الدين يعتبر سبباً، وإن كان على المعسر، إلا أن وجوب الأداء يتوقف على القبض، والقبض مرة قبض لا صورة ومعنى، ومرة قبض بداء قبضاً اعتبارياً ما من حيث إنهما مشتركان في المالية مع التقوم، فلهذا قال: تجب زكاة الألف. وفيه أيضاً: رجل له مائتا درهم، فتزوج امرأة على حجة، ثم حال عليه الحول لم تجب عليه زكاة مال؛ لأن الحجة عليه دين بحكم السبب، وأراد به الإحجاج، وذلك بصرف مال يمكنها من أفعال هي حجة هذا بعضه معاوضة، فيكون لازماً، فيكون ديناً

مطالباً من جهة العباد، فيمنع السببية، فيمنع في المائتين. هشام قال: قلت لمحمد رحمه الله: رجل له مال على وال من الولاة وهو يقر به، إلا أنه لا يعطيه، ولا يورى عليه مال يطلبه بباب الخليفة، فإذا طلب لم يصل إليه في سنة، فلا زكاة عليه فيه، وإذا هرب المديون ومن المدين إلى مصر من الأمصار، فعليه الزكاة فيما يقبض منه؛ لأن عليه أن يطالبه، أو يوكل بذلك، وهو قادر على ذلك حتى لو لم يقدر على طلبه، أو على التوكيل، فلا زكاة. بشر عن أبي يوسف: رجل له على رجل ألف درهم دين حال عليه الحول، ثم إن رب الدين وهب ذلك الدين من الذي عليه الدين ينوي زكاة الدين، أو زكاة مال عنده هو، والذي عليه محتاج، فإن أبا حنيفة قال: لا يجزئه ذلك من زكاة الدين، ولا من زكاة العين وعند أبي يوسف، وهذا الجواب خلاف ما ذكرنا في مسائل «الجامع» ، (143ب1) إلا أن يكون مراده أن ينوي به زكاة دين آخر. هشام عن محمد: رجل له ألف درهم التقط لقطة ألف درهم، وعرفها سنة، ثم تصدق بها، ففي القياس لا زكاة عليه في ألف؛ لأن صاحب اللقطة إن شاء ضمنها إياه، ولكن يستحسن بأن يزكها قال: وبه نأخذ. قال في «المنتقى» : وإذا اشترى الرجل غنماً سائمة، وهو يريد أن تكون سائمة أيضاً، فحال عليه الحول، ثم قبضها، فلا زكاة على المشتري لما مضى، ويستقبل لها حولاً؛ لأنها كانت مضمونة في يد البائع، ذكر المسألة من غير خلاف، وهي مسألة المشتري قبل القبض، قال: وكذلك الغصب، وإن كان الغاصب مقراً، إذا كان مانعاً بها، ثم رد ما بعد الحول، فلا زكاة على رب الغنم فيها لما مضى. قال: وكذلك لو تزوج امرأة على مائة شاة، والمرأة تريد بها السائمة، فلم تقبضها حتى حال الحول، فلا زكاة على المرأة فيها لما مضى؛ لأنها مضمونة في يد الزوج ذكر المسألة من غير ذكر خلافه، ومن غير فصل بينما إذا كان الغنم بعينها، أو بغير عينها، وقد ذكرنا المسألة قبل هذا مع التفصيل، والخلاف، والدراهم إذا كانت في يدي رجل، وهو مقر بها، وفوضها من لها، فعلى صاحبها إذا قبضها الزكاة لما مضى. قال: وليست الدراهم مثل الغنم. وفي كتاب «الاختلاف» : رجل له ألف درهم، ثم مكث عنده شهراً، ثم أتلف لرجل متاعاً قيمته ألف درهم، ثم أبرأه صاحب المتاع عن ضمانة، قال أبو يوسف: إذا تم الحول على الألف منذ ملكها زكاها...... إلا أنه لا يشترط الحول من وقت سقوط الدين، والله أعلم.

الفصل الرابع عشر في المال الذي يتوى، ثم يقدر عليه

الفصل الرابع عشر في المال الذي يتوى، ثم يقدر عليه إذا كان لرجل على غيره دين، وهو جاحد، فإن لم يكن لرب الدين بينة عادلة على الدين، فإنه لا يكون نصاباً عند علمائنا الثلاثة، وهذه المسألة في الفقه تسمى مال الضمار، ومال الضمار كل مال بقي أصله في ملكه، ولكن زال عن يده زوالاً يرجى عوده في الغالب، والأصل فيه أثر علي رضي الله عنه: لا زكاة في مال الضمار، وفسر الضمار بما ذكرنا. والمعنى في ذلك أن المال إنما ينعقد نصاباً باعتبار معنى التجارة، ومنفعة التجارة تزول إذا صار المال ضماراً بخلاف ابن السبيل؛ لأن منفعة التجارة لا تزول في حقه، وأما إذا كانت له بينة عادلة، ذكر في «الأصل» أنه ينعقد نصاباً، وسوّى بين الإقرار والبينة، وذكر في «الجامع الصغير» أنه لا ينعقد نصاباً. والمذكور في «الجامع الصغير» : رجل له على آخر دين جحدها سنين، ثم أقام البينة عليه لا يزكها لما مضى. من مشايخنا من قال: ما ذكر في «الجامع الصغير» ، تأويله: إذا لم يكن صاحب المال عالماً بأن كان له بينة عادلة، لأنه نسيها، ثم ينكر، أو يكون تأويله: أنه لم يكن له بينة من الابتداء، ثم صار له بينة بأن أقر المديون بين يدي الشهود بعدما جحدها، فأما إذا كان له بينة عادلة من الابتداء، وهو عالم بها، فإنه ينعقد نصاباً، ولزمه زكاة ما مضى، كما ذكر في «الأصل» ؛ لأنه تمكن من أخذه بواسطة إقامة البينة، فإذا لم يقمها، فهو الذي قصر في حق نفسه، فلا يعذر فيه، ومن مشايخنا من قال: لا ينعقد نصاباً على كل حال كما ذكر في «الجامع الصغير» ، وذكر هشام في «نوادره» عن محمد رحمه الله ما يؤيد قول هؤلاء، فقال: لا زكاة عليه فيما مضى، وإن كانت له بينة عادلة، وهو يقدر على أن يقضيها؛ لأنه لا يتمكن من أخذها إلا بعد القضاء بالبينة، ولا قضاء بالبينة إلا بعد العدالة، ولا كل شاهد يعدل، ولا كل قاضي يعدل. قال الكرخي في «كتابه» : وإن كان القاضي يعلم بالدين، فعليه زكاة ما مضى؛ لأن القاضي يقضي بعلمه لا محالة كان التمكين من الأخذ ثابتاً، ولا كذلك البينة، والعبد الآبق الذي لا يعلم مكانه، والمغصوب، والغال، والمفقود، والذي غلب العدو عليه، ثم أصابه المسلمون، والمال المدفون في الصحراء إذا نسي المالك مكانه، فهذه الأموال لا تنعقد نصاباً عند علمائنا الثلاث لفوات معنى التجارة فيها، لتعذر الوصول إلى جميع ذلك فيما مضى لا يصنع من جهته، وإن كان المال مدفوناً في بيته وداره، ونسيه، فعليه زكاة ما مضى؛ لأن الوصول إليه غير متعذر؛ لأنه يمكن حفر جميع البيت والدار بخلاف ما إذا

الفصل الخامس عشر في المسائل التي تتعلق بالعاشر

دفنه في الصحراء؛ لأن حفر جميع الصحراء غير ممكن. وإن كان المال مدفوناً في أرضه لوكلائه، ففيه اختلاف المشايخ، هكذا ذكر بعض المشايخ في شرح «الجامع الصغير» . وذكر في «الأصل» : إذا دفن ماله في أرضه ونسيه، فلا زكاة قال القاضي الإمام علاء الدين محمود: من مشايخنا من قال: أراد محمد بالأرض المذكورة في «الأصل» المغارة لا الأرض المملوكة له؛ لأنه لا يمكنه حفر جميع المغارة، فيتعذر الوصول، أما حفر جميع الأرض المملوكة، فلا يتعذر الوصول إليه، فيصير بمنزلة الدار، ومن المشايخ من قال: لا زكاة في المدفون في الأرض، وإن كانت الأرض مملوكة؛ لأن حفر جميعه إن كان لا يتعذر لا شك بأنه يتعسر، ويحرج الإنسان فيه، والحرج مدفوع شرعاً بخلاف البيت والدار حتى لو كانت الدار عظيمة، فالمدفون فيها يصير ضماراً، ولا ينعقد نصاباً. وفي «القدوري» : إذا كان الغريم يقر في السر، ويحجد في العلانية، فلا زكاة فيه؛ لأنه لا يقتنع بهذا الإقرار أصلاً، فصار وجوده وعدمه بمنزلة.g وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: رجل أودع رجلاً لا يعرفه مالاً، ثم أصابه به بعد سنين، فلا زكاة عليه لما مضى، وهو والمدفون في المغارة لا يعرف موضعه سواء، وإن كان يعرفه، فنسيه، ثم ذكر زكى لما مضى، وهو والمدفون في بيته إذا نسيه سواء. الفصل الخامس عشر في المسائل التي تتعلق بالعاشر يجب أن يعلم بأن العاشر من نصبه الإمام على الطريق؛ لأخذ الصدقات من التجار والنائبين التجار بمتاعه في الطريق من شر اللصوص، وقد صح أن رسول الله عليه السلام «نصب عشاراً» ، وكذلك الخلفاء بعده، وكما يأخذ العاشر صدقات الأموال الظاهرة يأخذ صدقات الأموال الباطنة التي تكون مع التاجر؛ لأن حق الأخذ له في الأموال الظاهرة إنما ثبت؛ لأنها في حمايته؛ لأن المال في الفيافي محفوظ بحماية الإمام، فأثبت الشرع له حق الأخذ بسبب الحماية ليستوجبها كفاية، فيصير حاملاً له على الحماية، وهذا المعنى موجودة في الأموال الباطنة التي أخرجها التاجر مع نفسه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّميأخذ الصدقات من الأموال الظاهرة والباطنة، وكذلك أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما. وعثمان رضي الله عنه فوض صدقات الأموال الباطنة إلى أربابها في الأمصار لا يمكن وارداً الظاهرة في الفيافي على ما لا يعمل، والنص الوارد من عثمان في الأمصار

لا يكون وارداً في الفيافي؛ لأن في الأمصار الأموال محمية بحماية السلطان من وجه، وبحماية المسلمين من وجه، وفي المغاور الأموال تكون محمية بحماية الإمام من كل وجه، فإسقاط حق الأخذ للساعي في الأمصار، وحماية الإمام فيها أقل لا يدل على إسقاط حق الأخذ له في المغارة، وحماية الإمام فيه أكثر. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا مر على العاشر بعض ماله، وقال: ليس لي مال غير هذا، أو قال: لي مال آخر في بلدي إلى تمام النصاب، فالعاشر (لا يأخذ) منه شيئاً (144أ1) ؛ لأن حق الأخذ للعاشر بسبب الحماية، وجميع النصاب ليس في حمايته، وما دونه الذي في حمايته ليس بسبب لوجوب الزكاة، وبدون الحول لا تجب الزكاة، وكذلك مع قيام الدين، والقول قول المنكر، وقوله أصبته منذ شهر محمول على ما إذا لم يكن في يده مال آخر من جنس هذا المال قد حال عليه الحول؛ لأن حَوَلان الحول على المستفاد ليس بشرط لوجوب الزكاة في المستفاد إذا كان المستفاد من جنس النصاب، إلا إذا كان المستفاد من ثمن الإبل الزكاة عند أبي حنيفة. وقوله في «الكتاب» : على دين أراد به ديناً له مطالب من جهة العباد، فهو المانع من وجوب الزكاة عندنا، قال: وكذلك إذا قال: أنا أديت زكاته إلى الفقراء، وحلف على ذلك صدق، والمراد من المسألة: أن يدعي الأداء بنفسه من الأموال الباطنة قبل أن يخرجها إلى السفر؛ لأن أداء الزكاة من الأموال الباطنة ما دام صاحبها في المصر، مفوض إلى صاحبها، فإذا ادعى الأداء بنفسه قبل الإخراج، فقد ادعى ماله ذلك، فكان منكراً ثبوت حق الأخذ للساعي من هذا الوجه، فأما إذا ادعى الأداء من الأموال الباطنة بعد الإخراج إلى السفر، فإنه لا يصدق ويكون ضامناً عند علمائنا رحمهم الله؛ لأن صدقات الأموال الظاهرة وصدقات الأموال الباطنة بعد الإخراج إلى السفر يأخذها العاشر، فلو قبلنا قول الناس.... بصنعاء، وكل أحد لا يعجز عن مثل هذه المقالة أي إلى أن لا يوجد صدقة أبداً، إلى هذا المعنى أشار محمد رحمه الله في «الأصل» : ولأنه بالأداء بنفسه أبطل حق الأخذ على الساعي، فيصير ضامناً، وإن قال: دفعتها إلى مصدق آخر، فإن لم يكن في تلك السنة مصدق آخر، وحلف على ذلك قبل قوله. وفي «الأصل» يقول: إذا جاء بخط الساعي قبل قوله، وكف عنه، شرط في «الأصل» بمجيء الخط للتصديق، وفي «الجامع الصغير» لم يشترط المجيء بالخط، وفرق على رواته «الجامع الصغير» بين الزكاة، وبين الخراج، فإن من عليه الخراج إذا ادعى الأداء إلى عامل آخر في تلك السنة لا يقبل قوله؛ ما لم يأت بخط العامل؛ لأن بدل الخط في الخراج علامة لا ينفك عنها أداء الخراج، وبكذلك يدل الخط في الزكاة، ولو جاء بالخط، ولم يحلف لم يصدق في قياس قول أبي حنيفة، وفي قياس قولهما يصدق بناءً على جواز الشهادة بالخط إذا لم يذكر الحادثة.

وكل جواب عرفته في حق المسلم، فهو الجواب في حق الذمي في هذه الفصول، إذا مر على العاشر ببعض النصاب إذا ادعى أن عليه ديناً، أو لم يحل الحول على ماله، أو ادعى الدفع إلى عاشر آخر، وإنما يفارق الذمي المسلم في مقدار المأخوذ، فإن المأخوذ من المسلم ربع العشر، ومن الذمي نصف العشر عرف ذلك بأثر عمر رضي الله عنه، فإنه كتب إلى عشاره أن خذوا من المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر، وأما الحربي إذا مر على العاشر ببعض النصاب، وقال: لي مال في بلدي إلى تمام النصاب، أو قال: ليس لي مال آخر، فذكر في «الجامع الصغير» أنه لا يأخذ منه شيئاً، وذكر في «الأصل» أنه يأخذ منه العشر، قال مشايخنا: يجب أن يكون الجواب فيه على التفصيل. إن كانوا يأخذون منا من قليل، فنحن نأخذ منهم من قليل الأموال، وهو تأويل ما ذكر في «الأصل» ، وإن كانوا لا يأخذون منا من قليل المال، فنحن لا نأخذ منهم من قليل الأموال، وهو تأويل ما ذكر في «الجامع الصغير» . وهذا لأن الأخذ منهم على طريق المجازاة، ألا ترى إلى ما روي أن عشار عمر رضي الله عنه «قالوا: لعمر كم نأخذ مما يمر بنا الحربي؟ فقال عمر: كم يأخذون منا؟ قالوا: العشر، فقال عمر فخذوا: منهم العشر، وفي رواية قال: خذوا منهم مثل ما يأخذون منا، قالوا: فإن لم يعلم كم يأخذون منا؟ قال: خذوا منهم العشر» . ثم ليس معنى قولنا: إن الأخذ منهم على طريق المجازاة، إن أخذنا بمقابلة أخذتم، وكي يكون ذلك، وإن أخذتم أموالنا ظلم وأخذنا أموالهم حق، وإنما معناه، إذا عاملناهم بمثل ما يعاملوننا به كان ذلك أقرب إلى مقصود الأمان، واتصال التجارات، وإن كان لا يعلم أنهم هل يأخذون منا من قليل المال أو لا يأخذون؟ فنحن لا نأخذ منهم من قليل المال، إما لأن الظاهر أنهم لا يأخذون من قليل المال؛ لأنه يؤدي إلى إخراج المالك، وإنه جور، والظاهر من ملوكهم العدل، أو لأن حق الأخذ للعاشر بطريق الحماية، والمال القليل غير محتاج إلى الحماية؛ لأن السراق لا يقصدون أخذه، وإن قال الحربي: أصبته منذ شهر، أو قال: عليّ دين، فإن كان يعلم أنهم يصدقوننا في هذه الأعذار، فنحن نصدقهم أيضاً، وإن كان يعلم أنهم لا يصدقوننا في هذه الأعذار، فنحن لا نصدقهم أيضاً، وإن كان لا يعلم حقيقة الحال لا يصدقهم، ويأخذ منهم العشر بخلاف الذمي، فإن الذمي يصدق في دعوى هذه العوارض، واختلفت عبارة المشايخ في الفرق. فعبارة بعضهم أن المأخوذ من الذمي له حكم الزكاة في حق المأخوذ منه؛ لأن تضعيف الزكاة في حق أصل الذمة مشروع كما في صدقة بني تغلب، فلا يتعداه حكم الزكاة فيما وراء التضعيف، وإذا كان للمأخوذ حكم الزكاة في حق الذمي راعى فيه أحكام الزكاة، بل له حكم أصلاً؛ لأن الزكاة في حق أهل الحرب غير متصور، فلا يتعلق بالمأخوذ حكم الزكاة عوض الحماية، وكل ما في يده محتاج إلى الحماية سواء كان عليه

دين، أو لم يكن، وسواء حال عليه الحول، أو لم يحل، فيأخذ منهم العشر، ولا يصدقون في ذلك، إذ لا فائدة في التصديق، وعبارة بعضهم: أن ما يأخذ أهل الحرب يأخذ بطريق المجازاة، أو فيما كان طريقه طريق الخبر، فالظاهر أنهم لا يصدقوننا؛ لأنه ظهر فيهم تكذيبنا في الخبر عن أصل الدين، فالظاهر تكذيبهم إيانا في الخبر عن الفروع، فلا نصدقهم. فيه أيضاً: قال: ولو مر الحربي على العاشر بنصاب كامل أخذ منه العشر، لما روينا من حديث عمر رضي الله، عنه إلا إذا علم أنهم يأخذون منا أقل من ذلك أو أكثر، فيأخذ منهم مثل ذلك، هكذا ذكر في «الجامع الصغير» ، وهو إشارة إلى طريق المجازاة، وإن علم أنهم لا يأخذون من تجارنا شيئاً، فنحن لا نأخذ منهم شيئاً أيضاً. واختلف المشايخ فيما إذا علم أنهم يأخذون منا جميع المال قال بعضهم: نأخذ منهم جميع المال بطريق المجازاة زجراً لهم عن صنيعهم، وقال بعضهم: لا نأخذ منهم جميع المال، بل نترك في أيديهم قدر ما يبلغهم مأمنهم؛ لأنا لو أخذنا الكل نحتاج إلى من يعطيهم هذا القدر؛ لأن تبليغهم مأمنهم علينا قال الله تعالى: {ثم أبلغه مأمنه} (التوبة: 6) ، فلا نأخذ ذلك من الابتداء لعدم الفائدة، وإذا مر الحربي على العاشر وعشره، ثم مر عليه في تلك السنة ثانياً، فإن كان لم يعد إلى دار الحرب، وإنما هو يتردد في دار الإسلام لا نأخذ منه في هذه السنة ثانياً؛ لأن أخذ العاشر عوض الحماية، والحماية لم تتجدد في هذا المال. قال شيخ الإسلام في «شرحه» : هنا إذا علم أنهم لا يأخذون من تجارنا في السنة إلا مرة واحدة ما داموا يترددون في دارهم، أو لم يعلم، أما إذا علم أنهم يأخذون ذلك مراراً، فنحن نأخذ كذلك أيضاً، وإن كان الحربي قد عاد إلى دار الحرب ثم خرج ثانياً في تلك السنة (144ب1) ومر على العاشر أخذ منه العشر ثانياً؛ لأن بدخوله دار الحرب التحق بحربي لم يدخل دارنا قط الأحرى إنه يحتاج إلى استئمان جديد، وإذا كان هكذا يحتاج إلى حماية مبتدأة في هذا المال، ونزل هذا المال باعتبار تجدد وصف الحماية منزلة مال آخر، في عشره ثانياً. قال شيخ الإسلام: وهذا إذا علم أنهم يأخذون من تجارنا كلما دخلوا عليهم مرة بعد أخرى في سنة واحدة، أما إذا علم أنهم لا يأخذون، كذلك فنحن لا نأخذ منهم أيضاً. وإذا عاد الحربي إلى دار الحرب، ولم يعلم به العاشر، ثم علم في الحول الثاني لم يأخذه لما مضى؛ لأن ما مضى قد سقط لانقطاع الولاية، فأما المسلم والذمي، إذا مر على العاشر، ولم يعلم به، ثم علم في الحول الثاني أخذه بما مضى؛ لأن الوجوب قد ثبت، والمسقط لم يوجد. وإذ مر التاجر على العاشر، ولم يعلم به، ثم علم في الحول الثاني أخذه بما مضى؛ لأن الوجوب قد ثبت، والمسقط لم يوجد إلى متاع وأمراء قومي

أو.......، والعاشر يظن غير ذلك، ويريد فتحه؛ فإن كان في فتحه ضرر على المالك يفتحه، وينظر فيه، ولا يلتفت إلى قول المالك؛ لأن في الوجه لا يمكن معرفة ما وقع فيه الدعوى من حيث المعاينة بالفتح لمكان ضرر المالك، فتصير فيه الدعوى والإنكار، فالعاشر يدعي لنفسه زيادة حق، والمالك ينكر، وفي الوجه الثاني؛ أمكن معرفة ما وقع فيه الدعوى بالمعاينة بواسطة الفتح، فلا ضرورة إلى اعتبار قوله. وإذا مر على العاشر بمائتي درهم بضاعة، فالعاشر لا يأخذ منه شيئاً؛ لأن العشر إنما يؤخذ من المالك، أو ممن هو نائب عنه في أدائه، والمستصنع ليس بمالك، وليس بنائب عن المالك في أداء العشر، فلا يأخذ من المالك منه، وإن سِيْرَ عليه بمائتي درهم مضاربة، فلأبي حنيفة رحمه الله فيه قول أول وآخر، في قوله الأول يأخذ منه، وفي قوله الآخر؛ لا يأخذ، وهو قول أبي يوسف، ومحمد؛ لأنه ليس بمالك، ولا بنائب عن المالك في حق أداء الزكاة؛ لأن المالك أمره بالتجارة، أما ما أمره بأداء الزكاة. وإذا مر العبد على العاشر بمال فهو على وجهين: إن كان في يده مال المولى، فإن العاشر لا يأخذ منه شيئاً مأذوناً كان العبد أو محجوراً، وإن كان في يده كسبه، فإن كان محجوراً، فكذلك الجواب، وإن كان مأذوناً فلأبي حنيفة فيه قول أول، وقول آخر، في قوله الأول: لا يأخذ منه شيئاً، وهو المذكور في «الجامع الصغير» ، وفي قوله الآخر يأخذ، وهو قول أبي يوسف، ومحمد، وجهه ما ذكرنا في المضارب. إذا مر التاجر على عاشر أهل الخوارج، وأخذ منه العشر، ثم مر على عاشر أهل العدل أخذ منه العشر ثانياً، فرق بين هذا وبين ما إذا غلب الخوارج على بلدة من بلاد أهل العدل وأخذوا زكاة سوائمه، ثم ظهر عليهم أهل العدل، فإنه لا يأخذ منهم الزكاة ثانياً. والفرق: إن قدر الزكاة حق الفقراء أمانة في يد صاحب المال، فإذا مر على الخوارج بذلك، فقد عرض الأمانة على التلف، والأمين يضمن بمثل ذلك كالمودع، بخلاف ما إذا غلب الخوارج على أهل العدل؛ لأن هناك لم يوجد في أرباب المواشي تعريض للأمانة على التلف والأمين يضمن بمثل ذلك كالمودع، إنما أخذ الأمانة منهم كرهاً، والأمين لا يضمن بمثل ذلك كالمودع إذا أخذ منه الوديعة على كره منه. إذا مر على العاشر بما لا يبقى نحو البطيخ والقثاء والرمان، وقد اشتراه للتجارة، فالعاشر لا يأخذ منه شيئاً عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لها، فهما يقولان: حق الأخذ للعاشر بسبب الحماية، وهذا المال كان في حماية هذا العاشر، ولأبي حنيفة: أن حق الأخذ للعاشر، وإن كان بسبب الحماية، ولكن أنظر الفقراء، ولا ينظر للفقراء في الأخذ ههنا. بيانه: أن الغالب فيه يكون العاشر نائباً عن البلدة، فلا يجد ثمنه فقيراً يؤدي المأخوذ إليه، فيحتاج إلى النقل إلى البلد ليصرفه إلى الفقراء، فيتنازع إليه الفساد.

الفصل السادس عشر في إيجاب الصدقة، وما يتصل به من الهدي وأشباهه

فإن قيل: ينبغي أن يأخذ القيمة إذا أخذ الغير كما في الذي إذا مر على العاشر بخمر، أو يأخذ عينه بحساب عمالته. قلنا: الكلام فيما إذا قال المالك فهنا: لا أؤدي القيمة، وبدون اختيار المالك لا يكون للساعي ولاية أخذ القيمة إذا كان الغير محلاً للأخذ، فلو قال المالك: أنا أؤدي القيمة كان للساعي أن يأخذ عند أبي حنيفة. وأما الأخذ بحساب العملة، قلنا: الكلام فيما إذا لم يرد الساعي أخذه بعمالة لنفسه، ولو أراد ذلك كان له حق الأخذ عند أبي حنيفة، وإذا مر الذمي على العاشر بخمر أو خنزير للتجارة عشر الخمر دون الخنزير عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، ومعنى قولهم: عشر الخمر أنه ينظر إلى قيمة الخمر، ويأخذ نصف عشر قيمتها، وطريق معرفة قيمة الخمر الرجوع إلى أهل الذمة، هكذا روي عن محمد رحمه الله. والوجه فيه: أن العشر عوض الحماية، وحماية خمورهم دخلت تحت ولاية الإمام أما حماية خنازيرهم لم تدخل تحت حماية الإمام، وهذا لأن أصل ولاية الإنسان على نفسه، ثم تتعدى إلى غيره عند وجود سبب التعدي، والمسألة ولاية حماية خمور نفسه حتى إذا أسلم ذمي، وله خمور كان له أن يحفظها لتخليلها، أو يتخلل بنفسه، فتكون ولاية خمور غيره عند وجود سبب التعدي بالسلطنة، وليس للمسلم ولاية حماية خنازير نفسه، حتى إن الذمي إذا أسلم، وله خنازير، يجب عليه أن يسيبها، ولا يحل له أن يحفظها، فلا تكون له ولاية حفظ خنازير غيره عند وجود سبب التعدي، وإنما افترق الخمر والخنزير في حق ولاية الحماية في حق المسلم؛ لأن الخمر مال في الحال عندنا إن لم يكن متقوماً، ويصير متقوماً في الثاني. والخنزير ليس بمال، ولا يصير متقوماً في الثاني، ولم يذكر محمد رحمه الله حكم جلود الميتة إذا مر بها الذمي على العاشر قالوا: وينبغي أن يكون للعاشر أن يعشرها؛ لأن جلد الميتة نظير الخمر، فإن للمسلم ولاية حفظ جلد الميتة على نفسه بالدباغة، فيدخل جلد غيره تحت حمايته عند وجود التعدي كما في الخمر، والله أعلم. الفصل السادس عشر في إيجاب الصدقة، وما يتصل به من الهدي وأشباهه قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا نذر أن يتصدق بشاتين وسطين، فتصدق بشاة سمينة تعدل شاتين وسطين تجزئه عن الشاتين. ولو قال: لله عليّ أن أهدي شاتين وسطين، فأهدى بشاة سمينة تساوي شاتين وسطين لم تجزه إلا عن شاة واحدة، هكذا ذكر في «الجامع» قالوا: هذا إذا أراد به الذبح أو لم يكن له نية؛ لأنه إذا أراد الذبح، أو لم يكن له نية كان النذر بالإراقة، والجواب في النذر بالإراقة ما ذكر، فأما إذا أراد الصدقة، فتصدق بشاة سمينة تعدل شاتين وسطين، ينبغي أن تجزئه عن الشاتين بدليل المسألة الأولى.

والجواب في النذر بالإعتاق نظير الجواب في النذر بالإراقة، حتى لو نذر أن يعتق عبدين وسطين، فأعتق عبداً مرتفعاً يساوي عبدين وسطين لا يجزئه إلا عن عبد واحد، والفرق أنا لو جوزنا الواحد عن الاثنين، إنما يجوز باعتبار القيمة، غير أن الواجب في معنى الهدي إراقة الدم، وتمليك اللحم، والتمليك إن كان متقوماً، فإراقة الدم ليست بمتقومة، فباعتبار التمليك قد أمكن التجويز (145أ1) من حيث القيمة، وباعتبار الإراقة لا يمكن، فلا يثبت الإمكان بالشك حتى لو ذبح شاتين، وجاء بلحم شاة، فظنه يبلغ شاتين، وتصدق به يجوز؛ لأن الواجب بعد الإراقة تمليك اللحم، والتمليك متقوم، فيمكن تجويزه من حيث القيمة. وكذلك الواجب في باب الإعتاق ليس بمتقوم؛ لأن الواجب في باب الإعتاق إزالة الملك، وإزالة الملك ليست بمتقوم، فلا يمكن تجويزه من حيث القيمة، أما الواجب في باب الصدقة متقوم؛ لأن الواجب في باب الصدقة التمليك، والتمليك متقوم فيمكن تجويزه بالقيمة، فعلى هذا إذا قال: لله عليّ أن أتصدق بعبدين وسطين، فتصدق بعبد مرتفع تبلغ قيمته قيمة وسطين يجوز. في «المنتقى» : عيسى بن أبان عن محمد إذا قال: لله عليّ أن أتصدق بهذا الدرهم، فضاع الدرهم، فقال: لله عليّ أن أتصدق بهذا الدينار مكان الدرهم الذي ضاع وجب عليه أن يتصدق بالدينار، فإن وجد الدرهم، وتصدق به يبطل عنه الدينار، إذا وجب الدينار مكان الدرهم الذي ضاع. علل في «الكتاب» : فقال: لأن الدرهم حيث ضاع، فقد بطل عنه ما أوجب على نفسه فيه، وإن وجده تصدق به، ولو لم يكن عليه أن يتصدق بفضل الدينار عليه قال: ولا يشبه هذا الأضحية، فإن الأضحية، إذا ضاعت كان عليه مكانها، إذا كان موسراً. وفيه: المعلى عن أبي يوسف: إذا قال: إن أصبت مائة درهم فعهد عليّ أن أؤدي زكاتها خمسة دراهم فأصاب مائة فلا شيء عليه؛ لأنه التزام غير المشروع. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا قال: إن رزقني الله تعالى مائة درهم فللَّه عليّ زكاتها عشرة، وملك مائتين لا تلزمه إلا الخمسة زكاة؛ لأنه التزام غير المشروع. وفي «فتاوى» أبي الليث رحمه الله إذا قال: لله عليّ أن أتصدق على فقراء مكة بكذا، أو قال: مالي صدقة على فقراء مكة، فتصدق على فقراء بلخ جاز؛ لأن المطلوب من الصدقة ابتغاء مرضات الله تعالى، والفقير جهة يتوسل به إلى ابتغاء مرضات الله تعالى، وجميع الفقراء في حق هذا المعنى جنس واحد، وهو نظير من جعل على نفسه الصوم، أو الصلاة بمكة، فصلى وصام ههنا يجوز، وطريقه ما قلنا. وفي «المنتقى» : إذا قال: لله عليّ أن أتصدق بهذا الدرهم على هذا المسكين، لا يلزمه شيء رواه الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف، إذ ليس لله تعالى من جنسه في العين إيجاب، وإن كان المسكين يعتبر عينه يلزمه ذلك، وهذا الجواب بخلاف جواب الروايات المشهورة.

وفيه أيضاً: برواية المعلى عن أبي يوسف: إذ قال: لله عليّ أن أتصدق من هذه العشرين بعشرة دراهم، فتصدق بعشرة منها، ولا نية له لم يجزه فيما حصل على نفسه، ولو تصدق بالعشرين كلها، ولا نية له أجزأه. وفي «القدوري» : إذا قال: لله عليّ أن أتصدق بهذه الدراهم يوم يقدم فلان، ثم قال: إن كلمت فلاناً، فعلي أن أتصدق بهذه الدراهم، وكلم فلاناً، وقدم فلان أجزأه أن يتصدق بتلك الدارهم، ولا يلزمه غير ذلك؛ لأن الواجب تعلق بمحل بعينه، وذلك مما لا يزداد، وهذا كالعين إذا جعل شرطاً في يمينين ووجد الشرطان لم يجب شيء آخر كذا ههنا. وفيه أيضاً: إذا قال: إن كلمت فلاناً، فعليّ أن أتصدق بهذه الدراهم، وكلم فلاناً حتى وجب التصدق بها، فأعطاها من زكاة ماله، أو كفارة يمينه، فعليه أخرى مكانها؛ لأنه بالصرف إلى جهة أخرى صار كالمستهلك لها، فيضمن كما لو أنفقها بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك النذر أن يعلقها بمحل واحد، فوقع عنهما أما ههنا بخلافه. قال في «الجامع» : إذا قال الرجل: إن كان ما في يدي دراهم إلا ثلاثة دراهم، فجميع ما في يدي صدقة، فإذا هي خمسة دراهم، أو أربعة دراهم لا يلزمه التصدق بشيء. وفي «الجامع» أيضاً: إذا قالت: لله عليّ إطعام المساكين، أو إطعام مساكين، فإن أبا حنيفة قال: هذا على غيره في الوجهين جميعاً، وهذا استحسان. ووجهه: أن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، ولعل الطعام المقدر بالمساكين في إيجاب الله تعالى طعام عشرة مساكين كما في كفارة اليمين، فإن أبهم عدد المساكين أخذ المقدار منه. فإن قيل: كيف لم يأخذ أبو حنيفة رحمه الله المقدار عند الإبهام من كفارة الحلف في الأذى وإنه أقل؛ لأنه مقدر بثلاثة أصوع على ستة مساكين؟. قلنا: لأن الواجب في كفارة الحلف واجب باسم الصدقة لا باسم الإطعام؛ لأن الله تعالى قال: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} (البقرة: 196) وهذا الشخص إنما أوجب على نفسه باسم الإطعام لا باسم الصدقة حتى لو قال: لله عليّ صدقة المساكين يؤخذ قدره من كفارة الحلف. وفي «نية النوازل» : رجل في يده دراهم فقال: لله عليّ أن أتصدق بهذه الدراهم، فلم يتصدق حتى هلكت، فلا شيء عليه؛ لأن الدراهم تتعين في باب النذور، ولو لم تهلك وتصدق بدراهم سواها، فهو جائز، وهي مسألة دفع القيم. وفي «وقف النوازل» : رجل له شيء فقال: إن وجدته فللَّه على أن أقف أرضي هذه على ابن السبيل، فوجده يجب عليه الإيقاف، فإن وقف على الأجانب، أو على الأقارب الذين يجوز له إعطاء الزكاة إياهم جاز، وخرج عن عهدة النذر، وإن وقف على الأقارب الذين لا يجوز له إعطاء الزكاة جاز الوقف، ولكن لا يخرج عن عهدة النذر، أما جواز

الوقف، فظاهر، وأما بقاء النذر؛ فلأن صرف الصدقة الواجبة إلى هذه القرابة لما لم يجز لم يصر مؤدياً المنذور، فيبقى عليه كما كان. وفي «الجامع» : إذا قال: أول كُرَ حنطة أملكه صدقة في المساكين، فملك كر ونصف كر لا يلزمه التصدق بشيء، وإن قال: أول عبد أملكه فهو حر، فاشترى عبداً ونصف عبد عتق العبد الكامل. والفرق: أن الكُرَّ اسم لأربعين قفيزاً، فصار تقدير يمينه أول أربعين قفيز حنطة أملكها، فهو صدقة، ولو صح بذلك، وملك ستين قفيزاً لا يلزمه التصدق؛ لأن الكر اسم لأربعين قفيزاً، ووفيناه ثلاث عشرينات أي العشرين ضمناه إلى عشرين آخر، فنطلق عليه اسم الكر، وبسبب اسم الكر عن الآخر فاق المزاحمة، ومن شرط إطلاق اسم إلا وليست بينهما المزاحمة، فإذا لم تنتف المزاحمة لم يتحقق الشرط، فلا يلزمه التصدق بخلاف مسألة العبد، فأما إذا ضممنا النصف من العبد الكامل إلى نصف العبد لا يسمى عبداً، بل يسمى نصف العبدين ولا ينتفي اسم العبد عن الكامل، فلم يكن نصف العبد من أيهما للعبد، فيتحقق شرط وجوب التصدق. وزان مسألة الكر عن مسألة العبد ما إذا قال: أول أربعين عبداً أملكهم، فاشترى ستين، والحكم في سائر ما يكال ويوزن كالحكم في الكر، والحكم في الثياب والعروض كالحكم في العبد إذا قال: إن فعلت كذا مالي صدقة في المساكين، أو قال: وكل مالي، ففعل ذلك الفعل، فالقياس أن يلزمه التصدق بجميع ماله مال الزكاة وغيره (145ب1) في ذلك على السواء؛ لأنه أضاف الصدقة إلى ماله مطلقاً في الصورة الأولى، وإلى جميع ماله في الصورة الثانية، فيدخل تحته جميع أمواله كما في الوصية يدل عليه أن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} (النساء: 29) تناول جميع الأموال، وقوله عليه السلام: «من ترك مالاً» تناول جميع الأموال. ووجه الاستحسان: أن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، ثم ما أوجب الله تعالى من الصدقة مضافاً إلى مال مطلق بقوله: {خذ من أموالهم صدقة} (التوبة: 103) تناول مال الزكاة خاصة، فكذا ما وجب بإيجاب العبد بخلاف الوصية؛ لأنا لم نجد في الوصية إيجابات الشرع تفيد مال الزكاة حتى يصرف إيجابه إليه، فانصرف إيجابه إلى الأموال كلها. قال القدوري في «كتابه» : ولا فرق بين مقدار النصاب وما دونه؛ لأنه وإن قل، فهو مال الزكاة، فإن السبب ما يقل المال لا قدر منه، ولو كان عليه دين محيط بماله يلزمه التصدق بما في يديه، فإذا قضى الدين به يلزمه التصدق بمثله، وهذا لأن ما في يده مال الزكاة إلا أنه امتنع الوجوب فيه لمانع، وهو الدين، فيدخل تحت النذر، ولزمه التصدق به، فإذا قضى دينه به، فقد استهلك مالاً وجب التصدق به، فيكون مضموناً بمثله.

ولو نوى بهذا النذر جميع ما يملك حتى بيته؛ لأنه شدد على نفسه بنيته، والاسم صالح لتناول الكل، فيلزمه التصدق بالكل، ولو كان له ثمرة عشرية تصدق بها؛ لأنه مال تعلق به العشر، والعشر في معنى الصدقة وكان مال الصدقة. وقال أبو حنيفة: الأرض العشرية لا تدخل تحت هذا النذر، خلافاً لأبي يوسف؛ لأن الأرض العشرية ليست مال الصدقة دون العشر، إنما يجب في الخارج لا في الأرض؛ فكانت الأرض خالية عن الصدقة، فلم تكن مال الصدقة، ولا خلاف أن أرض الخراج لا تدخل في هذا النذر، وقول محمد في أرض العشر نظير قول أبي حنيفة ذكره في «المنتقى» . وفي «المنتقى» محمد: أن أرض التجارة لا تدخل في هذا النذر، وقول محمد في أرض العشر نظير قول أبي حنيفة هذا الذي ذكرنا ما إذا حصل النذر باسم المال، فأما إذا حصل النذر باسم المال بأن قال: إن فعلت كذا، فجميع ما أملكه صدقة في المساكين ذكر في كتاب الهبة أنه يتصدق بجميع ما يملكه ويمسك قوته، فمن المشايخ من قال: هذا جواب القياس. وفي الاستحسان: ينصرف إلى مال الزكاة، وإليه ذهب الفقيه أبو بكر البلخي، والشيخ الإمام الأجل شمس الدين السرخسي، ومنهم من قال: لا هذا جواب القياس والاستحسان، وإليه ذهب الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني، فعلى قول هذا القائل يحتاج إلى الفرق بين ذكر المال وبين ذكر الملك على جواب الاستحسان. والفرق: أن اسم المال مطلقاً إنما يفيد مال الزكاة في هذا الباب اعتباراً لإيجاب العبد بإيجاب الله تعالى، وهذا المعنى معدوم عند ذكر الملك؛ لأنا لم نجد في إيجاب المشرع إضافة الصدقة إلى المالك المطلق، وأراد مال مقيد، فيعمل فيه بعضه اللفظ، واللفظ عام أو مطلق. ثم قال في كتاب الهبة: ويمسك من ذلك قوته؛ لأن حاجته في هذا القدر معدم، وهذا لأنه لو لم يمسك مقدار قوته يحتاج إلى أن يسأل الناس من ساعته، ولا يحسن أن يتصدق الرجل بماله، ويسأل الناس من ساعته، ولم يبين مقدار ما يمسك. قال مشايخنا: إن كان محترفاً يمسك قوت يوم، وإن كان صاحب حوانيت غلة يمسك قوت شهر، وإن كان دهاقاً يمسك قوت سنة؛ لأن قوت الدهاقين يحدد في كل سنة، وقوت أهل الحرف في كل يوم، فإذا وصل يده إلى شيء من المال بعد ذلك تصدق بمقدار ما أمسك؛ لأنه مستهلك قدر ما أمسك من المال الذي لزمه التصدق منه، فيصير ضامناً مثله كما لو استهلك مال الزكاة، فإذا جعل الرجل على نفسه حجة أو عمرة، أو ما أشبه ذلك ما هو طاعة الله عزّ وجلّ، وكان النذر مرسلاً لزمه الوفاء بما سمى، ولا يلزمه الكفارة بلا خلاف، فإن كان النذر معلقاً بالشرط إن كان شرطاً يريد وجود لجلب منفعة،

الفصل السابع عشر في المتفرقات

أو لدفع مضرة بأن قال: إن شفى الله مريضي، أو رد لي غائبي، أو مات عدوي، فعليّ صوم سنة، فوجد الشرط لزمه الوفاء بما سمى، ولا يخرج عن العهد والكفارة بلا خلاف أيضاً، وإن كان النذر معلقاً بشرط لا يريد كونه، فعليه الوفاء بما سمى في ظاهر الرواية عن أصحابنا، وروي عن أبي حنيفة أنه رجع عن هذا القول، وقال: هو بالخيار، إن شاء خرج عنه بين ما سمى، وإن شاء خرج عنه بالكفارة، وهكذا روي عن محمد، ومشايخ بلخ كانوا يفتون بهذا، وهو اختيار الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد، والشيخ الإمام شمس الدين السرخسي، والصدر الشهيد برهان الأئمة رحمهم الله، وبه قال عمر، وعائشة رضي الله عنهما. وجه قول أبي حنيفة الآخر: إن النذر المعلق بشرط لا يريد كونه يمين من وجه، نذر من وجه، يمين باعتبار الشرط؛ لأن الشرط مرغوب عنه فراراً عما يلزمه جميعاً لله تعالى على الخلوص كالشرط في اليمين بالله مرغوب عنه فراراً عما يلزمه من الكفارة جميعاً لله تعالى على الخلوص نذر باعتبار الجزاء؛ لأن معلق الشرط صوم، أو صلاة، أو حج كما في النذر المعلق بشرط يريد كونه، وكان نذراً من وجه يميناً من وجه علق أحدهما على الآخر؛ لأن اليمين إنما يتم بالشرط والجزاء جميعاً، والجمع بين الوجهين متعذر؛ لأن أحدهما يوجب الكفارة، والآخر يوجب الوفاء بالمسمى، والجمع بين الكفارة والمسمى متعذر؛ لأن العقد واحد فلا يلزمه موجبان وإذا تعذر الجمع بين الوجهين والبعض من هذا، والبعض من ذلك متعذر أيضاً، وجب التوفير (على الش....... التنجيز) ، وهذا بخلاف ما لو علق النذر بشرط يريد كونه، فإنه نذر من كل وجه باعتبار الجزاء والشرط جميعاً؛ لأن الشرط مرغوب فيه، والشرط باليمين بالله مرغوب عنه خوفاً عما يلزمه من الكفارة حقاً لله تعالى، بخلاف ما نحن فيه، وبخلاف النذر المرسل؛ لأنه ليس فيه معنى اليمين أصلاً، والله أعلم. الفصل السابع عشر في المتفرقات في «المنتقى» الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: في الحربي المستأجر إذا مر على العاشر أخذ منه العشر في جميع ما معه كان للتجارة، أو لم يكن. وروى الحسن عن ابن أبي مالك عن أبي يوسف إن كان معه أعشر التجارة لا يعشره. ابن سماعة عن محمد في «نوادره» : رجل اشترى عبداً بمائة درهم، وقيمة العبد مائتا درهم، وهو يريد التجارة، فلما كان آخر الحول صار قيمته ثلاثمائة، ثم استحق نصف العبد، فعلى المشتري زكاة مائتي درهم؛ لأنه تبين أنه تم الحول وفي ملكه مائتا

درهم مائة وخمسون في العبد، وخمسون في ذمة البائع نصف من العبد، والدين يضم إلى ما عنده في حق تكميل النصاب، وإن كان لا يخاطب بالأداء منه قبل القبض. ابن سماعة في «الرقِّيَّات» عن محمد: رجل عنده عشرون ديناراً ومائتا درهم حال عليها الحول، فدفع إلى رجل خمسة دراهم من المائتين ليؤدي عن المائتين إلى المساكين، فلم يؤدها حتى ضاعت المائتان وصاحب المال لا يعلم بذلك، ثم إن الآخر دفع الخمسة إلى المساكين (146أ1) لا يجزئه عن زكاة الدنانير، وكذلك على هذا إذا كان لرجل ألف درهم وضح وألف درهم غلة حال عليه الحول، فدفع إلى رجل خمسة وعشرين درهماً وضحاً ليتصدق بها عن زكاة الوضح، وباقي المسألة بحالها لا يقع المؤدى عن الغلة، ولو كان الدفع على سبيل التعجيل قبل الحول، والباقي بحاله، فالمؤدى يقع عن الباقي، وقد ذكرنا هذا التفصيل فيما إذا أدى صاحب المال بنفسه، فكذا إذا أمر غيره بالأداء. هشام عن أبي يوسف: في رجل له على رجل دين ألف درهم فوهبها لآخر، ووكله بقبضها، فلم يقبضها حتى وجبت فيه الزكاة، ثم قبضها الوكيل، وهو الموهوب له، فزكاتها على الواهب؛ لأن قبض الوكيل بمنزلة قبض صاحب المال. في «مجموع النوازل» : قال محمد: إذا هلكت الوديعة في يد المودع، وأدى إلى صاحب الوديعة ضمانها ناوياً عن زكاة ماله، قال: إن أدى إليه لدفع خصومته لا تجزئه عن زكاته. وفيه أيضاً: روي عن أبي حنيفة: في رجل له عشرون شاة في الجبل، وعشرون في الواد، ومصدقهما يختلف، قال: يأخذ كل واحد منهما نصف شاة. عن أبي يوسف في رجل قال: لله عليّ أن أتصدق بما عليّ من الزكاة تطوعاً، فأدى ما عليه جاز عن زكاته، ولا شيء عليه غير ذلك، ولو قال: لله عليّ أن أحج تطوعاً، ثم حج من عامه حجة الإسلام كان عليه أن يحج عن التطوع. ولو قال: لله عليّ حجة الإسلام تطوع، فحجها للإسلام لم يلزمه التطوع. ابن سماعة عن محمد: في رجل له مائتا درهم على رجل حال الحول إلا شهراً، ثم استفاد ألفاً، وتم الحول على الدين قال: يزكي الألف التي عنده، وإن لم يأخذ من الدين شيئاً، وكذا إذا نوى الدين بعد الحول، وفي قياس أبي حنيفة: لا يزكي الألف من الزكاة مثلها ليس له أن يعطيها، وإن أعطاها، ثم مات كان لورثة الميت أن يرجعوا عليهم بثلثها. وفيه أيضاً: رجل دفع إلى رجل مالاً قال: أعط هذا من أحببت، ليس له أن يتصدق على نفسه عند أبي حنيفة، وقال محمد: له ذلك. وفيه أيضاً: الدين المجحود إذا كان لصاحبه عليه بينة، ولم يقم لا تجب عليه الزكاة؛ لأن الحاكم لا يقبلها. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا قضى دين غيره من زكاته، فإن قضى بأمر المديون وكان المديون فقيراً يجوز، وإن أدى بغير أمره لا يجوز؛ لأن المأخوذ على رب

المال تمليك المال والفقير، فإذا قضى بأمر المديون، أو كان المديون فقيراً يجوز، فقد وجد التمليك منه؛ لأن تقدير الأمر بقضاء الدين، ولا يتصور قضاء الدين عنه إلا بعد تمليك قدر الزكاة عنه ملكني قدر الزكاة، ثم كن وكيلي بقضاء ديني من ذلك، ولو قال: هكذا يجوز، وينوب قبض صاحب الدين عن قبض المديون، فإذا قضى بغير أمر المديون لم يوجد التمليك منه؛ لأنه لم يرض بوقوع الملك له، فلا يمكن أن يجعل هذا تمليكاً منه، فلهذا لا يخرج عن العهدة. وفي «الأصل» أيضاً: إذا كان للرجل سائمة للتجارة حال عليها الحول، وهي كذلك سائمة أجمعوا على أنه لا يجمع بين زكاة السائمة وبين زكاة التجارة؛ لأن المال واحد، والجمع بينهما يؤدي إلى العناء. بعد هذا قال أصحابنا رحمهم الله: زكاة التجارة أولى من زكاة السائمة؛ لأن نية التجارة قد صحت فيها؛ لأنها لو لم يصح إنما لا يصح لمكان السوم، إلا أن السوم لا ينافي صحة نية التجارة، ألا ترى أن السائمة إذا كانت أقل من النصاب اشتراها بنية التجارة وتركها سائمة كما كانت للتجارة، تصح نية التجارة فيها، وتجب زكاة التجارة؟ كذا ههنا، وكل مال صحت نية التجارة فيه تجب فيها زكاة التجارة. الحربي إذا أسلم في دار الحرب وله سوائم، وقد علم بوجوب الزكاة عليه بسبب السوائم، ولم يؤدها سنتين حتى خرج إلى دار الإسلام بسوائمه، فإنه لا ينبغي للإمام أن يأخذ منه زكاة ما مضى؛ لأنه لم يكن في حماية الإمام حال وجوب الزكاة، ويجب عليه الأداء فيما بينه وبين الله تعالى، وإن لم يعلم بوجوب الزكاة لا يجب عليه الأداء فيما بينه وبين الله تعالى، وعلى هذا الصوم والصلاة. قال في «المنتقى» : والعلم الذي به عليه الصلاة، والصوم أن يخبره بذلك رجلان عدلان، أو رجل وامرأتان في دار الحرب، أو في دار الإسلام. وفي «المنتقى» : حربي أسلم في دار الحرب، ومكث سنين لا يعلم أن عليه صلاة، أو زكاة أو صياماً، وهو في دار الحرب، فليس عليه قضاء ما مضى، وإن علمه بذلك رجلان، أو رجل وامرأتان ممن هو عدل، ثم فرط في ذلك كان عليه أن يقضي ما فرط منه من وقت إعلامه في دار الحرب كان، أو في دار الإسلام، وإن كان إنما أعلمه بذلك، رجل واحد، أو ناس من أهل الذمة لم يكن عليه أن يقضي شيئاً فيما مضى، وقال أبو يوسف: إذا لم يبلغه، وهو في دار الحرب لم يقض، وإن كان في دار الإسلام قضى، والله أعلم بالصواب.

كتاب العشر

كتاب العشر هذا الكتاب يشتمل على سبعة فصول: 1 * في بيان ما يجب فيه العشر وما لا يجب. 2 * في بيان اعتبار النصاب لوجوب العشر. 3 * فيمن يجب عليه العشر وفيمن لا يجب عليه. 4 * في معرفة وقت وجوب العشر. 5 * في معرفة أرض العشر. 6 * في التصرف فيما يخرج من الأرض من الطعام وفي التصرف في العشر. 7 * في المتفرقات.

الفصل الأول في بيان ما يجب فيه العشر وما لا يجب

الفصل الأول في بيان ما يجب فيه العشر وما لا يجب يجب أن يعلم بأن الأصل في وجوب العشر قول الله تعالى: {أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض} (البقرة: 267) قال أهل التفسير: المراد من قوله: {من طيبات ما كسبتم} زكاة مال التجارة، والمراد من قوله: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} العشر، وقوله تعالى: {وآتو حقه يوم حصاده} (الأنعام: 141) والمراد من الحق المذكور في الآية العشر، وقوله عليه السلام: «ما سقته السماء ففيه العشر، وما سقي بقرب دالية، أو ساقية ففيه نصف العشر» . قال أبو حنيفة رحمه الله: كل شيء أخرجته الأرض مما تستنمي به الأرض فيه العشر إلا الحطب، والقصب، والحشيش، والتبن، والسعف. وقال أبو يوسف، ومحمد: وكل شيء له ثمرة باقية، وتكون منفعته عامة، ويكون مقصوداً في نفسه يجب فيه العشر، وما كان يخالفه لا يجب فيه العشر، حتى إن عندهما لا يجب العشر في الخضر، وعند أبي حنيفة يجب، وقولهما: في ماله ثمرة باقية تدخر في الغالب، وتبقى سنة أو أكثر نحو الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب وأشباهها حجتهما في ذلك قوله عليه السلام، «ليس في الخضروات صدقة» ، ولأبي حنيفة رحمه الله العمومات التي مر ذكرها، وإن سبب وجوب العشر الأرض النامية بالخارج والاشتباه بالرطب أكثر من الاشتباه بالحنطة والشعير، ولهذا كان وظيفة الخراج في أراضي الرطاب أكثر، وما روينا من الحديث، فتأويله ليس فيها صدقة توجد. ونحن هكذا نقول: أن الساعي لا يأخذ العشر من الرطاب التي مر بها، والمستثنى عند أبي حنيفة: الأشياء الخمسة الحطب والحشيش، فلأن سبب وجوب العشر الأرض النامية بالخارج والأراضي لا تستنمي بهذه الأشياء، ولا تقصد بالزراعة بل الاستنماء يفوت بهذه الأشياء، وأما القصب فالمراد منه القصب الفارسي؛ لأن الأراضي به لا تستنمي عادة، فأما قصب السكر، وقصب الذريرة، ففيهما العشر؛ لأن الأراضي تستنمي بهما عادة. قال محمد في «الأصل» : قصب السكر بمنزلة التمر، وقصب الذريرة بمنزلة

الريحان، قال صاحب «العين» : الذريرة..... قصب الطيب وفارسية....، وقصب الطيب قصب يجاء به من أرض الهند و (146ب1) في..... الذريرة ما يدر على الميت أي ينشر، وأما السعف، فلأنه من جملة الحطب؛ لأنه جزء من أجزاء النخيل، ولأنه أصل الشجر؛ لأن السعف الغصن والعشر لا يجب في أصل الشجر، وأما التبن فلأن التبن هو الساق الذي يتولد منه الحب قد زانه أصل الشجر. في «المنتقى» قال إبراهيم بن هراسة: سألت محمداً عن أرض عشر فيه شجر ليس له ثمر مثل التوت، والخلاف، أو بالقصب وما أشبهها، فكان يقطع في كل سنة، ويبيع يجب فيه العشر عند أبي حنيفة، وإنه حسن، ولا عشر في الخوخ، والتفاح، والكمثرى، والإجاص، والسفرجل، والمشمش؛ لأن هذه الأشياء لا تدخر ولا تبقى سنة. وفي «المنتقى» : وفي التبن الذي ييبس العشر، ولا عشر في الخوخ الذي يسعق وييبس، علل فقال: لأن الغالب منه ليس على ذلك، فقد أشار إلى أن كل ما ييبس غالباً، فهو الباقي في أيدي الناس، فيجب فيه العشر، وأشار إلى أن الخوخ مما لا ييبس في الغالب، وعن أبي يوسف: أن الإجاص الذي عين بمنزلة الزبيب يجب فيه العشر، وكذا العناب يجب فيه العشر. ولا عشر في الثوم والباقلاء عند محمد؛ لأنها من جملة الخضر، وكذلك الثوم، وعن أبي يوسف: أنه أوجبه في البصل، وعن محمد: أنه لا عشر في القت؛ لأنه من الخضر، ولا عشر فيما هو من جملة الأدوية؛ لأنه لا ينتفع به انتفاعاً عاماً، وعن محمد: لا عشر في الرياحين كلها الآس والحناء؛ والورد والوسمة، وعن أبي يوسف: أنه أوجب في الحناء؛ لأنه ينتفع به انتفاعاً عاماً، وإنه يبقى سنة، ولا شيء في القنب؛ لأنه حطب ويجب في حبّه؛ لأنه ينتفع به انتفاعاً عاماً، ويدخر غالباً، ويبقى حولاً. والبذور التي لا تصلح إلا للزراعة كبذر البطيخ وما أشبه ذلك، فلا عشر فيه؛ لأنها غير مقصودة في نفسها؛ ولأنه لا ينتفع به انتفاعاً عاماً، ولا شيء في السوسن والبانجواه والحلبة؛ لأنها من جملة الأدوية، أو لأنه لا ينتفع به انتفاعاً عاماً. وما يوجد في الجبال من الثمر والفواكه، ففيه العشر، في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف: لا يجب؛ لأنه على أصل الإباحة كالقصب، وعن أبي حنيفة: أن الملك فيه ثبت بالأخذ والإحراز، وهو مما يحصن في نفسه، فيكون هذا، وما لو حصل في ملكه سواء في حق وجوب حق الله تعالى كخمس المعادن، والعشر واجب في العسل إن كان في أرض العشرية، به ورد «الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ ولأن الأراضي يستنمى بها، وتعدله كالثمار، وما يوجد في الجبال من العسل، ففيه الخلاف عن أبي حنيفة، وأبي يوسف على نحو ما ذكرنا في الثمار والفواكه وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله.

الفصل الثاني في بيان اعتبار النصاب لوجوب العشر

ولو كان في دار رجل شجرة لا يجب في ذلك عشر، وإن كانت تلك البلدة عشرية، فرق بين هذا، وبين الثمار التي تكون في الجبل. والفرق: أن نفقة داره ليست بعشرية، والجبل عشري، وما سقته السماء، أو سقي سيحاً، ففيه العشر، وما سقي بقرب أو دالية أو ساقية، ففيه نصف العشر به ورد «الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والمعنى في التفاوت اختلاف قدر المؤنة وكثرتها.v وإذا سقي في بعض السنة سيحاً وفي بعضها بماله، فالمعتبر هو الأغلب، وقد مر نظير هذا، في الصوم عن أسد بن عمر، وفي أرض نبتت فيها بزار عنب من غير معالجة أحد، فجمع منه رجل قال: إن كان في أرض عشرية، ففيه العشر، وإن كانت هذه الأرض ليست لأحد، ولم يعالجها أحد، فكذلك فيه العشر، وسئل الحسن عن ذلك، فقال: ليس عليه عشر إذا وجدها في أرض ليست لأحد. قال الفقيه أبو الليث: قول الحسن أحب إليّ. الفصل الثاني في بيان اعتبار النصاب لوجوب العشر وإنه مختلف فيه فأبو حنيفة رحمه الله: لا يعتبر النصاب، بل يوجب العشر في كل قليل وكثير أخرجته الأرض مما تستنمى به الأرض، ومما اعتبر النصاب قالا: لا يجب العشر حتى يبلغ الخارج خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً، فخمسة الأوسق تكون ثلثمائة أصوع، فما لم يبلغ الخارج ثلثمائة أصوع لا يجب فيه العشر، وإنما اعتبر النصاب لإيجاب العشر؛ لأن هذ نوع زكاة فيعتبر ههنا النصاب قياساً على الزكاة المعهودة، ويؤيده قوله عليه السلام «فيما دون خمسة أوسق صدقة» . ولأبي حنيفة رحمه الله: العمومات الواردة في هذا الباب من غير فصل فيما إذا قل الخارج أو كثر، والحديث الذي روينا محمول على الزكاة؛ لأنها هي الصدقة المطلقة، وإنما قدراه بالأوسق إما اتباعاً للحديث؛ أو لأنهم كانوا يتبايعون بالأوسق وإنما قدرناه بالخمسة؛ لأن ما دون الخمسة الأوسق كان لا يبلغ مائتي درهم في ذلك الزمان، والتقدير بالأوسق عندهما فيما يدخل تحت الوسق، ويكال به كالحنطة، والشعير، والذرة، وأشباهها، فأما ما لا يدخل تحت الوسق، ولا يكال به كالقطن، والزعفران، والفانيد، والسكر، والعسل وأشباهها، فعند أبي يوسف: تعتبر القيمة.

فبعد ذلك اختلفت الروايات عنه روى الفضل بن عاصم عنه: إذا بلغت قيمة الخارج فيه خمسة أوسق من أدنى الأشياء الخمسة الحنطة، والشعير، والذرة، والتمر، والزبيب يجب العشر، وما لا فلا، وروى ابن سماعة عنه: إذا بلغت قيمة الخارج فيه خمسة أوسق من أدنى ما يجب فيه العشر نحو الأرز، والعدس، والحمص، والمج يجب فيه العشر، وإلا فلا، وهو رواية ابن رستم عن محمد، وروى ابن سماعة عن محمد: أنه يعتبر خمسة أعداد على ما يقدر به ذلك الشيء، ففي القطن خمسة أحمال وفي العسل خمسة أفراق، والفرق ستون رطلاً بالعراقي، وفي الزعفران، والسكر، والفانيد خمسة أمنان، وهذا هو المشهور من قوله. فأبو يوسف يقول: نصب النصاب بالرأي لا يكون ويكن فيما ورد عليه النص يعتبر المنصوص عليه، وفيما لا نص فيه تعتبر القيمة، ولا نص في هذه الأشياء، فتعتبر القيمة، بعد هذا قال: تعتبر قيمة الأدنى ولا تعتبر قيمة الأقصى نظراً للفقراء غير أن في إحدى الروايتين لم يعتبر الأدنى من جملة ما يوسق، وكأنه فعل ذلك نظراً لأرباب الأموال، لأنه كما يجب نظراً للفقراء، يجب نظراً لأرباب الأموال، فقد اعتبرنا نظراً للفقراء حتى لم نعتبر الأقصى، فيجب اعتبار نظر أرباب المال، وذلك في أن لا يعتبر الأدنى من جميع ما يوسق. ومحمد يقول: إن القيمة ساقطة الاعتبار في هذا الباب بالإجماع، فإن الغير يجب باعتبار العين بالإجماع، والشرع اعتبر الوسق في الموسقات أقصى ما يقدر به المغاير، فإنه يقدر أولاً بالمد، ثم بالصاع، ثم بالوسق، فاعتبرنا في هذه الأشياء التي لا تدخل تحت الوسق أقصى ما يقدر به من المغاير، استدلالاً بالموسقات، وأقصى ما يقدر به السكر، والفانيد، والزعفران المنّ، وأقصى ما يقدر به العسل الفرق، وأقصى ما يقدر به القطن الحمل، فقدرناه بذلك. هذا إذا كان الخارج جنساً واحداً، وإن أخرجت الأرض أجناساً مختلفة كالحنطة، والشعير، والذرة، ولم يبلغ كل نوع منها خمسة أوسق، فعن أبي يوسف روايات: أحدها: أنه لا يجب شيء حتى يبلغ كل نوع نصاباً؛ لأن العشر في ما يدخل تحت الوسق يجب باعتبار العين، والتكميل باعتبار العين متعذر لاختلاف العين كما في السوائم. وفي رواية: كل نوعين لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً دليل المجانسة، قال القدوري: وهو قول محمد. وفي رواية أخرى قال: كل ما أدرك في وقت واحد ضم بعضه إلى بعض، وما لا يدرك في وقت واحد لا يضم. قال في «المنتقى» : وبهذه الرواية كان يقول محمد رحمه الله أولاً، ثم رجع إلى الرواية الأولى. وجه هذه الرواية أن الحق إنما يجب باعتبار المنفعة فما أدرك في وقت واحد،

فمنفعته واحدة، فلا يعتبر اختلافه كالعروض، ولو حصل خمسة أوسق مختلفة في وسائق مختلفة، فإن كان العامل واحد انضم البعض إلى البعض، وأخذ العشر، وإن اختلف العامل، فلا سبيل لأحد من العاملين على الخارج الذي في عمله حتى يبلغ خمسة أوسق، وهذا لأن حق الأخذ للعامل بالحماية، فإذا كان العامل مختلفاً فإنما حمى كل واحد منهما أقل من خمسة أوسق، فلا يثبت له حق الأخذ، ولا كذلك ما إذا كان العامل واحداً، وهذا كله قول أبي يوسف، وقال محمد: لا يثبت لاختلاف العامل بعد اتحاد المالك. ووجهه أن الأراضي كلها محمية بحماية الإمام الأكبر، فكان حق الأخذ باقياً للإمام الأكبر، والعاشر نائب عنه، فيثبت له حق الأخذ بحكم النيابة، وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» : رجل له في كور من أرض يخرج من كل واحد منهما وسقان ونصف من بر يوجب فيه العشر. ولو كان له نخل وكرم، فخرج من كل واحد منهما أربعة أوسق لم يوجد منه شيء وكذلك الحنطة، والشعير. وفي «المنتقى» أيضاً: أبو سليمان عن محمد عن أبي حنيفة في التمور المختلفة جمع بعضها إلى بعض من غير خلط، وقد بلغت خمسة أوسق أنه يؤخذ منها الصدقة من أوساطها، حتى إنه إذا اجتمع تمر دقل وتمر فارسي وتمر بري، أخذ العشر من الوسط، وهو قول محمد. وقال أبو حنيفة بعد هذا: إنه يؤخذ من كل صنف بحصته، قال أبو الفضل، وهو القياس. وفيه أيضاً: إذا كان له شجرة لها ثمر بان مثل العصفر والقرطم لا يجمعان كلاهما، وإن كانا لو جمعا بلغا خمسة أوسق من أدنى ما يخرج من الأرض، ولكن إذا بلغ كل واحد منها خمسة أوسق من أدنى ما تخرج الأرض، ففيه العشر. وفيه أيضاً: ابن سماعة عن محمد: أرض زرعت مرتين في السنة، فأخرجت كل مرة أربعة أوسق، ففيه العشر؛ لأنه زرع سنة. وفيه أيضاً: رجل زرع مراحاً له في السنة ثلاث مرات، فمرة خرج وسقان من سمسم، ومرة خرج وسقان من حنطة، ومرة خرج وسقان من شعير، فلا عشر فيه حتى يكون من نوع واحد خمسة أوسق. وقال إبراهيم بن هراسة: يضم البعض إلى البعض، وروى خالد بن صبح: أنه لا يضم. وفيه أيضاً: إذا أخرجت الأرض خمسة أوسق من التمر الجاف، أو الزبيب كان فيه العشر فإن بيع رطباً، أو عنباً، أو بسراً أخضر قال: يخرص ذلك تمراً جافاً وزبيباً، فإن بلغ خمسة أوسق وجب فيه العشر، وإلا فلا شيء عليه. وفيه أيضاً: في الطلع يبيعه رب النخل إذا بلغ ثمنه خمسة أوسق من التمر أن فيه العشر، وكذلك العنب الأخضر يبيعه إن بلغ ثمنه خمسة أوسق من الزبيب ففيه العشر؛ لأن هذا جنس واحد وشيء واحد، والله أعلم بالصواب.

الفصل الثالث فيمن يجب عليه العشر وفيمن لا يجب عليه

الفصل الثالث فيمن يجب عليه العشر وفيمن لا يجب عليه ذكر في «المنتقى» عن محمد: إذا زرع رجلان بالنصف، والبذر من رب الأرض، أو من العامل، فأخرجت الأرض خمسة أوسق، ففيها العشر، وإن كان البذر منهما نصفين فلا عشر فيها، إلا أن يبلغ نصيب كل واحد منها خمسة أوسق. وفيه عنه أيضاً: إذا كان للرجل زرع في أرض العشر، فمات قبل أن يحصد، فوزنه، وفرقه، ولا يصيب كل واحد منهم خمسة أوسق، ففيه العشر؛ لأن ملك الورثة بناءً على ملك المورث، فيعتبر كمال النصاب في حق المورث، وقد وجد. وفيه أيضاً: أرض بين رجلين، أخرجت خمسة أوسق حنطة، فاقتسماها، أو لم يقسماها قال: يؤخذ منه العشر، ولو تهايأا على الأرض فزرع كل واحد منهما طائفة منها لم تكن على واحد منها عشر حتى تخرج له خمسة أوسق. وفي «القدوري» : إذا أخرجت الأرض المشتركة خمسة أوسق، ففيها العشر في إحدى الروايتين عن أبي يوسف، وروي عنه أنه لا يجب، وهو قول محمد، والله أعلم. ويؤخذ العشر من الأراضي العشرية إذا كان المالك مسلماً صغيراً كان، أو كبيراً عاقلاً كان، أو مجنوناً، وكذلك يجب في أرض المكاتب، وفي أرض الوقف؛ لأن هذا حق مال يجب بسبب أرض نامي، فيجب على هؤلاء كالخراج، وهذا لأن معنى المؤنة في العشر أصل، ومعنى العبادة تبع لأنه تجب بسبب أرض نامية، ونماء الأرض لا يحصل إلا بمؤنة عظيمة تلحق المالك، فعلم أنه أوجب بطريق المؤنة. ألا ترى أن الزكاة لا تجب بسبب الإبل العوامل؛ لأن منفعتها لا تحصل إلا بمؤنة عظيمة تلحق المالك.... وجب العشر بسبب الأرض النامي الذي لا يحصل نماؤه إلا بمؤونة عظيمة تلحق المالك، علمنا أن الشرع ألحقه بالمؤن، إلا أن معنى العبادة فيه تبع من حيث المصرف، فإنه يصرف إلى الفقراء، وإذا كان معنى المؤن فيه أصلاً كانت العبرة لمعنى المؤن، فيجب على هؤلاء كالخراج، وهذا بخلاف الزكاة؛ لأن الزكاة عبادة محضة ليس فيها معنى المؤن، أوجبت شكراً على نعمة الغنى، ألا ترى أنها لا تجب بسبب الإبل العوامل التي لا تحصل منفعتها إلا بمؤنة عظيمة تلحق المالك؟ والمعنى لا يثبت للمالك بما في يده، ولهذا حلت له الصدقة، فلا تجب عليه الزكاة، ويجب العشر على المديون بخلاف الزكاة؛ وهذا لأن الدين إنما منع وجوب الزكاة لنقصان في الملك، إلا أن نقصان الملك لا يمنع وجوب العشر، ألا ترى أنه يجب العشر في أرض المكاتب. وإذا استأجر أرضاً عشرية وزرعها، فالعشر على رب الأرض في قول أبي حنيفة،

وقال أبو يوسف، ومحمد: يجب العشر على المستأجر، وأما المستعير إذا زرع، فعليه العشر دون صاحب الأرض، في ظاهر رواية أصحابنا. وروى المبارك عن أبي حنيفة أنه أوجب على المستعير، فأبو حنيفة على رواية ابن المبارك. لا يحتاج إلى الفرق بين المستعير وبين الآجر، وعلى ظاهر الرواية يحتاج. ووجه الفرق أن الخارج سلم للمستأجر بعوض، وكأنه اشترى الزرع بعد الإدراك، ولا كذلك المستعير، فإن الخارج سلم له بغير عوض. وأما الغاصب، إذا زرع فإن نقصت الزراعة الأرض غرم الغاصب النقصان، وعلى رب الأرض العشر عند أبي حنيفة؛ لأن ضمان النقصان بمنزلة الأجر، وإن لم توجب زراعته نقصاناً في الأرض، فالعشر على الغاصب، (147ب1) لا على رب الأرض استحساناً؛ لأنه لم يسلم لرب الأرض الخارج لا بعينه، ولا بيد له، إنما سلم ذلك للغاصب، فتكون المؤن على الغاصب لا على رب الأرض، وعلى قول أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله: العشر على الغاصب، أوجب زراعته نقصاناً في الأرض، أو لم يوجب؛ لأن ضمان النقصان ليس بإزاء الخارج، بل بإزاء منفعة الأرض، فقد سلم الخارج للغاصب بغير عوض، فيكون الخراج عليه كما لو كان مستأجراً، فإن في الإجارة العشر على المستأجر لأن الأجرة بإزاء منفعة الأرض لا بإزاء الخارج، كذا ههنا. مسلم له أرض عشرية باعها من ذمي كان عليه الخراج عند أبي حنيفة، وعند محمد عليه عشر واحد كما كان، وقال أبو يوسف: عليه عشران. محمد رحمه الله يقول: هذه وظيفة تقدرت في الأراضي، فلا تتبدل بتبدل المالك قياساً على الخراج حتى أن المسلم إذا اشترى أرضاً خراجياً، يبقى خراجياً كما كان، أكثر ما فيه أن العشر معنى العبادة، إلا أن معنى العبادة فيه تبع، فيمكننا إلغاؤه، ويبقى العشر من حيث إنه مؤنة. وأبو يوسف يقول: هذا حق مالي وجب أخذه من الذمي، فيؤخذ ضعف ما يؤخذ من المسلم كما في المال الممرور به على العاشر، وأبو حنيفة يقول: يقدر لها العشر؛ لأن في العشر معنى العبادة، والكفر ينافي العبادة، وما يقول: بأنه يلغي معنى العبادة عيناً فاسد؛ لأنه لا يحتمل الإلغاء والإسقاط، فإن الإمام لو أخذ العشر، وأراد أن يصرف إلى المقابلة لا يحجز، ولو فعل ذلك لمصلحة رأى يصير ديناً ببيت مال العشر في بيت مال الخراج. وهذا بخلاف ما لو اشترى مسلم أرضاً خراجياً؛ لأن معنى العقوبة في الخراج يحتمل الإلغاء، ألا ترى أن الإمام لو أراد أن يصرف الخراج إلى الفقراء له ذلك؟ ولو فعل ذلك لمصلحة رأى لا يصير ديناً لبيت مال الخراج في بيت مال الزكاة، فيلغي معنى العقوبة، ويبقي الخراج باعتبار معنى المؤنة، أما هنا بخلافه، ثم اتفقت الروايات عن أبي يوسف: أن ما يؤخذ من العشر المضاعف يصرف إلى المقابلة، وعن محمد في صرف ما يؤخذ من العشر الواحد روايتان.

في رواية: يصرف إلى المقابلة مصرف الخراج؛ لأن معنى العبادة لما لغى عنده، وبقي معنى المؤنة التحق هذا العشر بالخراج، فيصرف مصرف الخراج. وفي رواية: يصرف مصرف الزكاة، فيصرف إلى الفقراء؛ لأن إسقاط معنى العبادة مع الصرف إلى الفقراء ممكن، فإن الإمام لو صرف الخراج إلى الفقراء يجوز، وإذا أمكن إلغاء معنى العبادة مع الصرف إلى الفقراء لا ضرورة إلى تغيير المصرف، ومصرف هذا المال كان هو الفقراء في الأصل، فيبقى مصروفاً إليهم كما كان، فإن أخذها مسلم بالشفعة، ففيها عشر واحد عندهم جميعاً، وهذا لا يشكل على قول محمد، وكذلك عند أبي يوسف؛ لأنه لو اشتراها من المشتري كان عليه عشر واحد عنده؛ لأن التضعيف لكفر المالك، فإذا اشتراه مسلم، أو أخذها بالشفعة، فقد عدم كفر المالك، فيسقط التضعيف. إنما يشكل على قول أبي حنيفة؛ لأنه لو اشتراها من المشتري كان خراجياً في حقه عنده، والأخذ بالشفعة شرعي، والوجه في ذلك: أن الأخذ بالشفعة مع أن خيار المشتري يمنع وقوع الملك للمشتري في المشترى عند أبي حنيفة، وتملك على المشتري من وجه، فإنه لو أخذها من المشتري ترجع حقوق العقد إليه، ولو كان تملكاً على المشتري من كل وجه يكون خراجياً في هذه الصورة، ولو كان تملكاً على البائع من كل وجه يكون عشرياً في هذه الصورة، فإذا وقع كان فيهما الشك في كونه خراجياً في هذه الصورة، ولو كان تملكاً على البائع من كل وجه يكون عشرياً أو عشرياً، وقد كان عشرياً، فيبقى على ما كان، ولو كان الذمي اشتراها من المسلم بشرط الخيار للبائع يفسخ البائع العقد بحكم الخيار، فإنها تكون عشرية في حقه، وكذلك إذا كان الخيار للمشتري فرده بحكم الخيار، فإنها تكون عشرية في حق البائع، وكذلك إذا كان الرد من المشتري بخيار الرؤية؛ لأن الرد بهذه الأسباب فسخ من كل وجه، فعاد الأرض إلى قديم ملك البائع، وإن كان الرد بالعيب بعد القبض، إن كان قضاء، فإنها تكون عشرية، وإن كان بغير قضاء، فهو عشرية في قول أبي يوسف ومحمد. وفي قول أبي حنيفة هو خراجي؛ لأن الرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء، فسخ في حق المتعاقدين عقد جديد في حق الثالث، والعشر والخراج ثالث، فصار في حقها كأن البائع اشتراها من المشتري ثانياً، ولو اشتراها من المشتري ثانياً كان خراجياً عند أبي حنيفة؛ عشرياً عندهما كذا ههنا. إذا كان للرجل أرض عشرية، فيها زرع قد أدرك، فباع الأرض مع الزرع، فالعشر يكون على البائع لا على المشتري؛ لأن العشر إنما يجب على من سلم له الحب بغير عوض، والحب سلم للبائع بغير عوض، فيكون العشر عليه. وإن كان الزرع بقلاً، وباع الأرض مع الزرع، وأدرك الزرع، فالعشر على المشتري؛ لأن الحب ههنا سلم للمشتري بغير عوض؛ لأن الأرض على ملكه حين انعقد الحب، فيكون العشر عليه، هذا إذا باع الأرض مع الزرع. فأما إذا باع الزرع دون الأرض، والزرع قصيل؛ فإن كان البيع بشرط أن قفصله

المشتري، فقصله، فالعشر على البائع؛ لأن الخارج سلم للبائع بغير عوض، فيكون العشر عليه، واعتبره ما لو قصله أولاً، ثم باعه، وهناك العشر على البائع، فقد أوجب العشر في الفصل مع أن القصيل في الحقيقة تبن، ولا عشر في التبن. وفرق بين هذا، وبينما إذا أدرك الزرع، ثم هلك الحب، وبقي التبن، فإنه لا يجب في التبن شيء. والوجه في ذلك: أن البائع لما قصل بنفسه، أو أمر المشتري بذلك، فهو الذي منع الحب من الانعقاد بعد وجود سببه، فيصير الحب بغير، فلا يمكن أن يجعل باقياً في حقه، وما بقي تبن، والعشر لا يجب في التبن، وإن كان البيع مطلقاً من غير شرط، وترك الزرع حتى أدرك، فإن كان الترك بغير أجر ذكر في «الأصل» : أن العشر على المشتري، ولم يحك فيه خلافاً. وذكر في «نوادر الزكاة» لأبي سليمان على قول أبي حنيفة: فالعشر على المشتري، وعلى قول أبي يوسف: يقدر القصيل على البائع، وما زاد على ذلك إلى أن أدرك على المشتري؛ لأن بعض الخارج سلم للبائع بغير عوض، وهو قدر القصيل، فيكون عشره عليه، وما زاد على قدر القصيل إلى أن أدرك سلم المشتري بغير عوض، فيكون عشره على المشتري، لأبي حنيفة رحمه الله عن عشر الحب وجب على المشتري، وما وراء ذلك تبن، ولا عشر في التبن بعدما وجب على أحد، فجاز أن يجب عشر القصيل على البائع بالطريق الذي قلنا، أما هنا بخلافه. هذا إذا ترك القصيل في الأرض بغير أجر، فأما إذا تركه بأجر إلى أن أدرك، قال أبو حنيفة: العشر على البائع، وقال أبو يوسف ومحمد: العشر على المشتري، والخلاف في هذا نظير الخلاف فيمن استأجر أرضاً عشرية، وزرعها، فعلى قول أبي حنيفة: العشر على الآجر، وعلى قولهما العشر على المستأجر. وفي «المنتقى» : رجل له أرض (148أ1) عشرية فيها نخل، وفي النخل طلع، باع ذلك كله بما في النخل من التمر، قال أبو حنيفة: العشر على المشتري الذي يدرك ذلك في يده، وقال أبو يوسف: العشر على البائع في قيمة الطلع إلى أن باعه إن كان يبلغ ذلك خمسة أوسق، وعلى المشتري تمام ذلك من يوم اشتراه إلى حين يبلغ. قال: وعلى هذا الزرع، ولو باع الطلع وحده، وقبضه المشتري، فإن أبا حنيفة يقول: لا عشر في كل واحد منهما، وقال أبو يوسف: العشر فيه على البائع إلى يوم باعه إن كانت قيمته ذلك الوقت تبلغ خمسة أوسق، ولا..... الزيادة فيه بعد البيع، ولا عشر فيه على المشتري. قال الحاكم أبو الفضل: قد صح رجوع أبي يوسف عن ذلك إلى قول أبي حنيفة.

الفصل الرابع في معرفة وقت وجوب العشر

الفصل الرابع في معرفة وقت وجوب العشر قال أبو حنيفة: وقت وجوب العشر عند وجود الخارج قال الله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} (البقرة: 267) وقال أبو يوسف: عند الإدراك قال الله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} (الأنعام: 141) وقال محمد: عند استحقاقه وتصفيته، وحصوله في الحظائر. وثمرة هذا الاختلاف على قول أبي حنيفة تظهر في الاستهلاك، فإن ما يستهلكه قبل الوجوب لا يكون مضموناً عليه، وما يستهلكه بعد الوجوب يكون مضموناً عليه، وعندهما: يظهر في حق هذا الحكم، وفي حق تكميل النصاب؛ لأنهما يعتبران النصاب، فما هلك قبل الوجوب لا يكمل به النصاب، وما هلك بعد الوجوب لا يعدم الوجوب في الباقي، وإن انتقص النصاب كما في مال الزكاة، وما هلك من المال بعد الوجوب ألحق بغير فعل المالك سقط عنه من الواجب بقدره، ويفيد بما هلك في النصاب في قول من يعتبر النصاب؛ لأن الواجب عشره، فما هلك هالك بما فيه. في «القدوري» قال أبو حنيفة: ما أكل من الثمرة، أو أطعم بثمن عشره، عند أبي يوسف أنه لا يضمن، ولكن بعشر ذلك في حق تكميل الأسوق. وفي «المنتقى» قال أبو يوسف: ليس على الرجل فيما أكل من ثمره ونخله عشر، وقال: أنظر إلى رجل وعياله، وأترك له بقدر ما أظن أنه يكفيهم لأكلهم، وأحسبه لك لهم فيما أكلوا، وكأنه فعل ذلك دفعاً للحرج، قال: وأخذهم بالبغية، قال أبو حنيفة: آخذهم لكل شيء منه، ولا أحسبه لهم مما أكلوا شيئاً، وقال محمد: ما أكل حسب عليه من تسعة أعشاره، فالروايات اتفقت أن ما يعدو الكفاية له ولعياله يحتسب عليه من تسعة أعشاره، وإنما الخلاف في مقدار الكفاية، والله أعلم. الفصل الخامس في معرفة أرض العشر، وما العشر قال محمد رحمه الله في «الأصل» : أرض العرب كلها عشرية، وهي من عذيب إلى مكة وعدن أبني إلى مهرة في أقصى اليمن، وكان ينبغي أن تكون أرض مكة خراجية؛ لأن رسول الله عليه السلام فتحها قهراً، وكل أرض فتحت قهراً تكون خراجية، وإن أسلم أهلها طوعاً بعد ذلك كأراضي العجم، وأراضي العجم، وأراضي العرب، إذا كان أهلها من أهل الكتاب، وقد فتحت عنوة، لكن جعلناها عشرية اتباعاً لفعل رسول الله عليه السلام، فإن رسول الله عليه السلام فتح مكة عنوة، وأسلم أهلها، وتركها عليهم، ووظف عليهم العشر والمعنى فيه: أن أهل مكة كانوا عبدة الأوثان، وعبدة الأوثان من مشركي العرب لا يقبل منهم إلا السيف، أو الإسلام، ولا يتركون على الكفر بالجزية والخراج.

فبالفتح قبل إسلام لم يثبت حق توظيف الخراج عليهم لو ثبت حق توظيف الخراج عليهم بعد الإسلام، كان هذا توظيف الخراج على المسلم ابتداءً، والمسلم لا يبتدأ بتوظيف الخراج، بخلاف العجم ومشركي العرب من أهل الكتاب، فإنهم يتركون بالجزية والخراج بعد الفتح، فبمجرد الفتح يثبت للإمام حق توظيف الخراج عليهم، فلو وضعنا الخراج بعدما أسلموا لا يكون في هذا توظيف الخراج على المسلم، ابتداء، والمسلم لا يبتدأ بتوظيف الخراج بخلاف العجم، ومشركي العرب من أهل الكتاب، فإنهم يتركون بالجزية والخراج بعد الفتح، فبمجرد الفتح يثبت الإمام حق توظيف الخراج عليهم، فلو وضعنا الخراج بعدما أسلموا لا يكون في هذا توظيف الخراج على المسلم ابتداء. وكذلك كل أرض أسلم عليها أهلها طوعاً، فإنها تكون عشرية، «ألا ترى أن رسول الله عليه السلام وظف العشر على أهل الحجاز واليمن، وقد أسلم أهلها طوعاً» ، فصار هذا أصلاً للعمل في كل بلدة أسلم أهلها عليها طوعاً، وكذلك كل أرض فتحت قهراً وعنوة، وقسمت بين الغانمين، فهي عشرية، عرف ذلك بفعل النبي عليه السلام في أراضي قريظة والنضير. وكذلك كل أرض من أراضي العرب، إذا فتحت عنوة وقهراً، وأهلها من عبدة الأوثان، فأسلموا بعد الفتح، وترك الإمام الأراضي عليهم، فهي عشرية، وكذلك بلدة من بلاد العجم إذا فتحها الإمام، أو عنوة، وتردد في أن يمن عليهم برقابهم وأراضيهم، ويضع على الأراضي الخراج، وبين أن يقسمها بين الغانمين، ويضع على الأراضي العشر، فقال: جعلت الأراضي عشرية، ثم بدا له، فمنّ عليهم برقابهم، فإن الأراضي تبقى عشرية، هكذا ذكر محمد في «النوارد» ، والكرخي في «كتابه» . ولا يكون هذا ابتداء توظيف العشر على الكافر؛ لأن وضع العشر سبق المن، فلا يكون وضعه في أرض الكافر، وكذلك المسلم إذا جعل داره بستاناً أو مزرعة، فهو عشري هكذا ذكر في «الأصل» وفي «الجامع الصغير» فمن الحنفية من مشايخنا من قال: هذا إذا كانت الأرض في الأصل عشرية بأن أسلم أهلها عليها طوعاً، فمتى جعل داره في مثل هذه الأرض بستاناً تكون عشرياً؛ لأنها كانت عشرية في الأصل، إلا أنها ما دامت أياً كأن لا يوجد (148ب1) منها شيء؛ لأنها غير نامية، فإذ جعلها بستاناً صارت نامية، فجاءت الوظيفة الأصلية. فأما إذا كانت أرضه في الأصل خراجياً، إذا جعل داره فيه بستاناً، فإنه يكون خراجياً لما ذكرنا في طرف العشر، ومن مشايخنا من قال: العبرة في هذا للماء، فإن كانت تسقى بماء العشر، فهي عشرية، وإن كانت تسقى بماء الخراج، فهي خراجية؛ لأن وظيفة الأرض بسبب النماء، وحياة الأرض، وحصول النماء بالماء، فإن كانت تسقى من هذا مرة، ومن هذا أخرى فالعشر أحق بالمسلم؛ لأن فيه معنى العبادة. وكذلك أرض الخراج إذا انقطع عنها ماء الخراج، وصارت تسقى بماء العشر، فهي عشرية لما ذكرنا أن وجوب وظيفة الأراضي بسبب النماء، فإذا انقطع عنها ماء الخراج، وصارت تسقى بماء العشر كان النماء بسبب ماء العشر، وكذلك أرض الموات إذا أحييت

الفصل السادس في التصرف فيما يخرج من الأرض من الطعام، وفي التصرف في العشر

بإذن الإمام بماء العشر، فهي عشرية، وإن فتحت عنوة في الابتداء هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ، والمعنى ما ذكرنا، وهذا قول محمد. فأما على قول أبي يوسف، فإن كانت هذه الأراضي التي أحييت في جزء أرض العشر فهي عشرية، وإن كانت في جزء أرض الخراج فهي خراجية؛ لأن جزء الشيء يعطى له حكم ذلك الشيء، لهذا لا يجوز إحياء ما في خير القرية بحق أهل القرية، ويجوز لصاحب الدار الانتفاع بجزئه. جئنا إلى بيان معرفة الماء، فنقول: ماء البئر التي حفرت في أرض العشر، وماء العين التي تظهر في أرض العشر؛ لأنه يخرج من الأرض، فإذا كانت الأرض عشرية كان الماء الخارج منها عشرياً تبعاً للأرض، وكذلك ماء السماء، وماء البحار العظام عشري؛ لأن الخراج من حكم الغنيمة، والغنيمة اسم لما كانت في أيدي الكفرة، ثم صارت في أيدينا بطريق القهر والغلبة، ولم تثبت أيدي الكفرة على ماء السماء، ولا على ماء البحار العظام؛ لأن ثبوت اليد على الماء إنما يتحقق بإمكان القنطرة، أو بإمكان السكر، أو بعقد الشقف بعضها ببعض حتى يصير بمنزلة القنطرة، وهذا الإمكان لا يثبت في ماء البحار وماء السماء، وإذا لم تأخذ هذه المياه حكم الغنيمة لم تكن خراجياً فتكون عشرياً؛ لأن العشر ليس من حكم الغنيمة. فأما ماء السيحون، وماء الجيحون، وماء الفرات، فذكر المشايخ في شرح كتاب الزكاة من «الأصل» : أن على قول أبي يوسف خراجي، وعلى قول محمد عشري، وذكر محمد في أول كتاب «العشر والخراج» أنه خراجي، فإنه ذكر أن كل أرض تسقى بماء دجلة والفرات، فهي خراجية، وروي عن أبي حنيفة في «النوادر» أنه خراجي، وهكذا روي عن أبي يوسف في «النوادر» أيضاً، وروي عن محمد في «النوادر» أيضاً أنه عشري، فقيل أن يكون المذكور في كتاب «العشر والخراج» قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، ويحتمل أن يكون قول الكل، فيكون في المسألة روايتان عن محمد، وإلى هذا مال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، أو يكون ما ذكر في «الكتاب» ، أي في كتاب «العشر والخراج» تأولاً على قول محمد، وإليه مال شيخ الإسلام رحمه الله، وتأويله إذا كان الأرض بحالة بأن سقيها بماء الخراج، فسقيت بماء دجلة أو الفرات، وكل أرض خراجية يمكن سقيها بماء الخراج، إذا سقيت بماء العشر، فهي عشرية. الفصل السادس في التصرف فيما يخرج من الأرض من الطعام، وفي التصرف في العشر قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا كان للرجل أرض عشرية، وأخرجت طعاماً، فباع الطعام قبل أن يؤدي عشره، ثم جاء صاحب العشر يعني المصدق، والطعام عند المشتري كان للمصدق أن يأخذ من المشتري عشر الطعام، ذكر المسألة ههنا مطلقة،

وذكر في مسائل الزكاة أن المصدق، إذا جاء قبل أن يتفرقا عن مجلس العقد يتخير: إن شاء أتبع البائع، وإن شاء أتبع المشتري، وإن جاء بعدما تفرقا عن مجلس العقد، ففيه قياس واستحسان، فمن مشايخنا من قال: ذكر القياس والاستحسان عن ذكره ههنا، ومنهم من قال: الجواب هنا على الإطلاق، وللمصدق خيار أن يتبع المشتري على كل حال. والفرق على قول هذا القائل بين الزكاة والعشر أن في باب العشر الحب كما نبت نبت على أن يكون العشر للفقير، وتسعة أعشاره للمالك؛ لأنه أوجب باسم العشر، وهذا الاسم ينبي عن الشركة، وأمكننا أن نجعل قدر العشر ملك الفقير قبل التسليم؛ لأن الأصل في العشر معنى المؤونة، ومعنى العبادة فيه تابع، فحصل تصرف المالك في مال الغير بغير إذنه فسد حق الفسخ على كل حال بخلاف الزكاة؛ لأن الزكاة عبادة، فلا يمكننا أن نجعل قدر الزكاة ملكاً للفقير قبل التسليم، إذ يفوت به معنى العبادة، وإنما الثابت للفقير والساعي قبل التسليم حق الأخذ، فأما الملك في قدر الزكاة فللمالك، فلاعتبار حق الأخذ للساعي أثبتنا له حق الفسخ، إذا وجده قبل التفرق عن مجلس لعقد. وفي «المنتقى» : إذا وجب العشر في الطعام، وباعه السلطان من رب الأرض، ومن غيره من غير أن يقضيه يجوز قال: لأنه شريك فيه بالعشر، ولا يجوز ذلك في صدقة السوائم؛ لأنه ليس بشريك فيها. وفيه أيضاً: لو مر على عاشر بمائتي درهم، فوجب له فيها خمسة دراهم، فباعها من صاحب المال بدينار، وقضى الدينار جاز، وهذا بمنزلة الصلح، ولو باعه من غيره لم يجز، ولا يشبه هذا عشر الطعام، واستشهد فقال: ألا ترى أن هذا قد يموت قبل أن يؤخذ عشرة دراهم، فلا يؤخذ، (149أ1) وإن هذا بطل بالدين يكون عليه، ولا يبطل عشر الطعام بموت صاحبه، ولا بالدين وغيره، وذكر عن محمد بعد هذا: إن عشر الطعام بمنزلة زكاة السائمة، ولا تبعية من رب الأرض، ولا من غيره حتى يقضيه وليس بشريك فيه، وكذلك قال بعد هذا في عشر مائتي درهم إذا باعه منه بدينار أنه لا يجوز. وإن قال: خذ هذا الدينار من الخمسة التي يكون فيه حبيبه علي فهو جائز، وكذلك لو أخذ منه مكان عشر الطعام على غير بيع، فهو جائز، وإذا عجل عشر الأرض، أو عجل عشر الثمار، فقد ذكرنا هذه الفصول بتمامها في فصل تعجيل الزكاة، وإذا ترك السلطان عشر الأرض لرب الأرض لا يجزئه بلا خلاف في زكاة العيون. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : من عليه العشر إذا صرف العشر إلى نفسه لا يجوز، ولا يبرأ عن العشر فيما بينه، وبين الله تعالى، ومن عليه الخمس، إذا صرف الخمس إلى نفسه، وكان فقيراً يجوز، ويخرج عن عهدة الخمس فيما بينه وبين الله تعالى، وكذلك إذا صرف من عليه العشر العشر إلى أبيه، أو ابنه، فإنه لا يجوز؛ لأن صرفه إلى هؤلاء كالصرف إلى نفسه.

الفصل السابع في المتفرقات

وفي «مجموع النوازل» : سئل أبو القاسم عن أرض جبل يأخذ عشرها دهقان دون السلطان قال: إن كان الدهقان يأخذون بأمر السلطان جاز أخذه، وسقط عنهم العشر، وليس لصاحب الطعام أن يأكل الطعام قبل أن يؤدي عشره؛ لأن قدر العشر ملك الفقراء، والله أعلم. الفصل السابع في المتفرقات قال الكرخي في «كتابه» : يؤخذ العشر من جميع ما أخرجته الأرض، ولا يحتسب لصاحبها ما أنفق على الغلة من سقي، أو عمارة، أو أجرة حافظاً، وأجر العمال، ولا نفقة الثغور. وفي «الأصل» : ولا يجتمع العشر والخراج في الأرض واحدة، سواء كان الأرض عشرية أو خراجية، به ورد الأثر عن رسول الله عليه السلام، والمعنى فيه: أن سبب وجوب الخمس واحد، وهو الأرض النامية، ولهذا يضاف كل واحد منهما إلى الأرض. يقال: عشر الأرض وخراج الأرض، والحكم أبداً يضاف إلى سببه. قلنا: لا يجب حقان لله تعالى بسبب واحد، ولو اشترى أرض عشر، أو خراج للتجارة، ففيها العشر، والخراج يكون إنما زكاة التجارة. وروي عن محمد: أنه جمع بين العشر والزكاة في الإيجاب، وإذا صرف العشر إلى صنف واحد يجوز، وكذا إذا صرفه إلى واحد يجوز؛ لأن العشر نوع صدقة كالزكاة، وقد ذكرنا وجه الكلام في الزكاة في مسائل الزكاة، ولا يسقط العشر بموت من عليه في ظاهر رواية أصحابنا، وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة أنه يسقط.

كتاب الخراج

كتاب الخراج هذا الكتاب يشتمل على ثمانية فصول: 1 * في بيان نوعه. 2 * في بيان أراضي الخراج. 3 * في بيان مياه الخراج. 4 * في بيان مقدار الخراج. 5 * في بيان من يجب عليه الخراج ومن لا يجب عليه. 6 * في الأسباب الموجبة لسقوط الخراج. 7 * في تعجيل الخراج. 8 * في المتفرقات.

الفصل الأول في بيان نوعه

الفصل الأول في بيان نوعه فنقول: في الخراج نوعان: خراج الأراضي، وخراج الروس، ويسمى ذلك جزية فبذا ثنتان. خراج الأراضي: وإنه نوعان خراج وظيفة، وخراج مقاسمة. فخراج المقاسمة صورته: أن يفتح الإمام بلدة من بلاد أهل الحرب قهراً، أو عنوة، ويمنّ عليهم برقابهم وأراضيهم، ويقاسمهم في زروع أراضيهم، وثمار كرومهم على النصف والثلث والربع، وهذا النوع من الخراج بفعل رسول الله عليه السلام، فإنه روي «أنه عليه السلام، فتح خيبر قسم بعض أراضيه بين الغانمين، ومنّ عليهم بالبعض، ووضعهم في زروع ما منّ عليهم أرزاقاً لأهله» . وخراج الوظيفة صورتها: أن يفتح الإمام بلدة من بلاد أهل الحرب قهراً وعنوة، ويمنّ عليهم برقابهم وأراضيهم، ويوظف على الأراضي مقداراً معلوماً من الدراهم والدنانير، أو أقفزة معلومة من الطعام، وهذا النوع من الخراج عرف بقضاء عمر رضي الله عنه، «فإنه حينما فتح سواد العراق، أراد أن يوظف هذا النوع من الخراج، فاستسلمت الصحابة له إلا شرذمة قليلون، مثل بلال وغيره، ثم ندموا، ورجعوا إلى رأيه، وبعث عمر رضي الله عنه حذيفة بن اليمان، وعثمان بن حنيف يقسمان الأراضي، وأمرهما أن يفرضا على كل جرين من جرين أرض الزرع درهماً، وعلى كل جرين أرض من أرض الكرم عشرة دراهم، وعلى كل جرين من أرض الرطبة خمسة دراهم ففعلا، فلما رجعا قال لهما عمر رضي الله عنه: لعلكما حملتما الأراضي ما لا تطيق فقالا: لا بل حملناها ما تطيق، ولو زدنا لما ضاقت، فسكت عمر رضي الله عنه، وقرر على ذلك بمحضر من الصحابة» . وروي أن عمر رضي الله عنه ندم عن ذلك، وأحب أن يزيد، فبعثهما من أخرى، وأمرهما أن يضعا على كل جرين من أرض الزرع مع الدرهم قفيزا بر، وفي رواية قفيزاً من زرع ذلك الأرض، وأن يضعا على كل جرين من أرض الرطبة مع الدراهم عشرة أقفزة من البر، وهذا فنصاب المقادير لا يثبت قياساً، إنما يثبت نصاً وسماعاً، وكأنه بلغ عمر رضي الله عنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «في أشراط الساعة منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت الشام دينارها ومدها، ومنعت مصر دينارها وإِرْدِبّها» وأراد رسول الله عليه السلام بهذا الحديث الإخبار عما يكون

الفصل الثاني في بيان أراضي الخراج

بعده، فبهذا الحديث علم عمر رضي الله عنه: أن التقدير في الخراج على هذه........ الفصل الثاني في بيان أراضي الخراج قال محمد رحمه الله في كتاب «العشر والخراج» أرض السواد كلها خراجية، وحدّها من عذيب إلى عقبة همذان طولاً، ومن عذيب إلى السواد عرضاً، وأراد به سواد العراق، وإنما صار سواد العراق خراجياً بقصة عمر رضي الله عنه على نحو ما بينا. قال: وكذلك (149ب1) ما في سواد العراق من أرض الجبل كأراضي طبرستان، ونحوها خراجية، عرف ذلك بفعل عمر رضي الله عنه، فإن عمر وظف الخراج على أرض الجبل، كما وظف على الأرض السواد، وكذلك كل أرض فتحت قهراً وعنوة، وتركت على أهلها خراجية، كما فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق، وكذلك كل بلدة طلب أهلها من الإمام أن يقروا ذمة لنا، فإن الإمام يجيبهم إلى ذلك، ويضع على أراضيهم الخراج، وهذا لأن وظيفة الأراضي في الأصل كانت هو الخراج، وإنما ثبت النقل إلى العشر في بعض الأراضي بسبب إسلام المالك، فبدونه لا يثبت النقل، ويبقى خراجياً كما كان في الأصل. وكذلك الإمام إذا نقل قوماً من أهل الذمة من بلدة إلى بلدة أخرى لمصلحة رآها، فإن الأراضي المنتقل إليها أراضي خراج بما ذكرنا، وكذلك الذمي، إذا اتخذ داره مزرعة، أو كرماً يوضع عليها الخراج؛ لأن الأراضي النامية لا تخلى عن وظيفة، والوظيفة إما العشر أو الخراج، ويقدر إيجاب العشر على الذمي، فيتعين الخراج. قال بعض مشايخنا: وعلى قياس قولهما ينبغي أن يجب العشر إذا كانت الأرض في الأصل عشرية، كالذمي إذا اشترى أرضاً عشرية، وكذلك الإمام إذا فتح بلدة عنوة، وتردد بأن يمنّ عليهم برقابهم، وأراضيهم بالخراج، وبين أن يقسمها بين الغانمين، فوظف الخراج على الأراضي، ثم بدا له أن يقسمها بين الغانمين، فقسمها، فهي خراجية، وليس هذا توظيف الخراج على المسلم ابتداءً؛ لأن الخراج وضع فيها قبل القسمة، وبدون القسمة لا يثبت الملك للغانمين فيها، ولذلك أرض عشرية انقطع عنها ماء العشر، وصارت تسقى بماء الخراج، فهي خراجية، وهذا قول محمد على نحو ما بينا، في جانب العشر، وفي هذا المقام يحتاج إلى معرفة ماء الخراج، وهو:

الفصل الثالث في بيان مياه الخراج

الفصل الثالث في بيان مياه الخراج فنقول: ماء الخراج ماء الآبار التي حفرت في أرض الخراج. وماء العيون التي تظهر في أرض الخراج. وماء الأنهار التي حفرتها الأعاجم كنهر يزدجرد. ونهر الملك، وأشباهها؛ لأن هذه الأودية كما كانت في يد أهل الكفر، وصارت في أيدينا بطريق القهر والغلبة، فأخذ حكم الغنيمة، وأما سيحون، وجيحون، ودجلة، والفرات، فقد ذكرنا حكم مائها في مسائل العشر، فلا نعيده. الفصل الرابع في بيان مقدار الخراج فأما خراج الوظيفة، فقال محمد رحمه الله: في أرض الخراج على كل جريب يصلح للزراعة قفيز ودرهم، وعلى جريب الرطبة خمسة دراهم، وعلى جريب الكرم عشرة دراهم، وعلى جريب الزعفران يقدر ما يطيق، أما أرض الزرع والكرم والرطبة، فالتقدير فيها من جهة عمر رضي الله عنه، وأما أرض الزعفران، فلم يرد فيها تقدير من جهة عمر؛ لأنه لم يكن بسواد العراق في ذلك الوقت، واعتبر فيها الطاقة، وهذا لأن الخراج توظيف بقدر الطاقة، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه قال: للذين مسحا سواد عراق لعلكما حملتما الأراضي ما لا تطيق، فقد اعتبر الطاقة. وذكر القاضي الإمام صدر الإسلام في شرح كتاب العشر والخراج، ذكر في بعض الروايات: أن في أرض الزعفران قفيز ودرهم، والجريب اسم لستين ذراعاً بذراع الملك، وذراع الملك تسع قبضات، وذلك يرد على ذراع العامة بقبضة، هذه الجملة لفظ كتاب العشر والخراج. قال شيخ الإسلام المعروف بخواهرزاده رحمه الله: إن قول محمد: الجريب اسم لستين ذراعاً في ستين ذراعاً، فكان عن جريبهم في أرضهم، وليس بتقدير لازم في الأراضي كلها، بل جريب الأراضي يختلف باختلاف البلدان، فيعتبر في كل بلدة بتعارف أهلها، وأراد بذراع الملك ذراعاً، كان ينسب إلى ملكهم في زمانهم، وكان يزيد على ذراع العامة بقبضة، وكانت الأرض في ذلك الزمان تزرع بذراع الملك وفيه الأرض نحو الكرباس وأشباهه يزرع بذراع العامة، وأراد بالدراهم بوزن سبعة، وقد مر تفسيره في كتاب الزكاة، وأراد بالقفيز الصاع الذي كان على عهد رسول الله عليه السلام، وهو ثمانية أرطال بالعراقي، وهو أربعة أمنان، وهذا قول أبي حنيفة، ومحمد، وهو قول أبي يوسف الأول، ثم رجع أبو يوسف، وقال: هو ثمانية أرطال وثلث رطل، وهو صاع أهل

المدينة، وسيأتي ذلك في مسائل صدقة الفطر، وهذا القفيز يكون من الحنطة، هكذا ذكر في موضع من كتاب العشر والخراج، وذكر في موضع آخر منه، قال: ويكون هذا القفيز بما يزرع في ذلك الأرض، وهو الصحيح قال في كتاب العشر والخراج: وينبغي أن يكال هذا القفيز بزيادة حفنتين، وتكلموا في تفسير قوله يكال بزيادة حفنتين. قال بعضهم تفسيره: أن يضع الكيال كفيه على جانب القفيز عند الكيل من الصبرة، ويمسك ما يقع في كفيه من الطعام، ونصف القفيز مع ما بحفنتيه في جوالق العاشر، وبعضهم قالوا: معناه أن يملأ الكيال القفيز، ثم يمسح أعلى القفيز في أعلاه من الحبات، ثم يصب القفيز في جوالق العاشر بما بحفنتيه في الصبرة، ويرميها في جوالق العاشر زيادة على القفيز، وإنما شرطنا زيادة حفنتين احتياطاً لحق الله تعالى، ليخرج عن حقه بيقين، وذكر في أرض الزعفران أن خراجها بقدر ما تطيق، ومعنى الطاقة يأتي بعد هذا إن شاء الله. ثم هذا المقدر لا يجب (150أ1) في كل سنة إلا مرة واحدة، زرع المالك مرة واحدة، أو مراراً إلا أن عمر رضي الله عنه، لما وظف هذا المقدار في السنة مع علمه أن الأرض قد تزرع مرتين، علمنا بأن المعتبر أصل الزراعة لا المرات بخلاف خراج المقاسمة والعشر؛ لأن هناك الواجب جزء الخارج فيتكرر الوجوب بتكرر الخراج الوظيفة بخلافه. ثم ما ذكرنا في مقدار الخراج، فذلك إذا كانت الأراضي تطيق ذلك، فأما إذا كانت الأراضي لا تطيق ذلك، بأن قل ريعها، فإنه ينقص عنه إلى ما يطيق، فالنقصان عن وظيفة عمر إذا كانت الأراضي تطيق الزيادة بأن كثر ريعها، هل يجوز؟ ففي الأرض التي صدر التوظيف فيها من عمر لا يجوز الزيادة بالإجماع، وإن أطاقت الزيادة، وهذا لأن المقادير لا يعرف توقيفاً وسماعاً، والظاهر أن عمر رضي الله عنه عرف هذا التقدير من جهة رسول الله عليه السلام، وفي بعض الآثار ما يدل على هذا، وهو حديث أبي هريرة على ما روينا، وكأنه أخذ التقدير من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما، والتقدير الشرعي يتبع الزيادة. مع هذا رضي عمر بهذا المقدار. أو نقول: الصحابة أجمعوا على هذا المقدار، وإجماع الصحابة حجة شرعاً، فيمنع الزيادة، وكذلك لو أن هذا الإمام وظف على أراضي مثل وظيفة عمر، ثم أراد أن يزيد على تلك الوظيفة ليس له ذلك، وإن كانت الأراضي تطيق الزيادة، وكذلك لو أراد أن يحولها إلى وظيفة أخرى بأن كانت الوظيفة الأولى دراهم، فأراد أن يحولها إلى المقاسمة، أو كانت الوظيفة الأولى مقاسمة، فأراد أن يحولها إلى الدراهم ليس له ذلك، فإن زاد عليهم على تلك الوظيفة، أو حولها إلى وظيفة أخرى، وحكم بذلك عليهم، وكان من رأيه ذلك، ثم ولي بعده والي يريد خلاف ذلك، فإن كان الأول صنع ما صنع بطيب أنفسهم، أمضى الثاني ما فعله الأول، وإن كان الأول صنع ذلك بغير طيب أنفسهم، فإن كانت الأراضي فتحت عنوة، ثم مَنَّ الإمام بها عليهم أمضى الثاني ما صنع الأول؛ لأن

فعل الأول حصل في محل مجتهد فيه.B بيانه: أن العلماء اختلفوا في الأراضي التي فتحت عنوة، ومنّ الإمام عليهم بها، منهم من قال: بأن الأراضي تصير للمسلمين ضرب عليهم الضرائب، وهكذا قالوا: سواد العراق إن جعل السواد بمنزلة العبيد للمسلمين، وجعل أراضيهم ملكاً للمسلمين، وما وضع عليهم، فهو كالضريبة التي يضربها المولى على عبده، وعبيدنا هم أحرار، والأراضي مملوكة لهم، وما يؤخذ منهم، فهو خراج كأهل بلدة من أهل الحرب ما...... مع الإمام على أن نجعلهم رقيق، فإن كان الأمر كما قال علماؤنا رحمهم الله: لا يجوز الزيادة، وإن كان الأمر كما قاله أولئك يجوز الزيادة، ويجوز التحويل؛ لأن للإمام ولاية نقل الجند من وظيفة إلى وظيفة، وأن يزيد على الوظيفة الأصلية، فإذا اجتهد الإمام حول أولئك، وحكم عليهم بالزيادة وبالتحويل، فقد حكم في فعل مجتهد فيه، فلا يكون للثاني أن يبطله بعد ذلك. وإن افتتح الأراضي بالصلح قبل أن يظهر الإمام عليهم، وباقي المسألة بحاله، فالثاني ينقض فعل الأول؛ لأن فعله فعل في موضع لا يسوغ فيه الاجتهاد، لأن العلماء اتفقوا على أن هؤلاء أحرار، وأموالهم باقية على ملكهم، وليسوا بمنزلة العبيد للمسلمين إذ لم يوجد فيهم سبب الرق، والإمام أعطاهم الأمان بما شرط عليهم من الوظيفة، والتحويل والزيادة عليها تكون غدر بهم بالإجماع، فلم يقبل حكم الأول، فرده الثاني، بخلاف ما إذا فتحت الأراضي عنوة؛ لأن هناك وجد سبب الرق فيهم، وهو القهر والغلبة والاستيلاء، فيأتي الخلاف أن الإمام بالمن جعلهم أحراراً، أو جعلهم عبيداً للمسلمين على نحو ما بينا، الأراضي التي يريد الإمام توظيف الخراج عليها ابتداء، إذا زاد على وظيفة عمر رضي الله عنه على قول محمد، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف يجوز، وعلى قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أبي يوسف لا يجوز، وهو الصحيح للمعنى الذي ذكرنا هذا هو الكلام خراج الوظيفة حيناً إلى خراج المقاسمة، فالتقدير فيه مفوض إلى الإمام، ولكن لا يزاد على نصف الخارج؛ لأن الشرع لم يرد بالزيادة على نصف الخارج. ثم إن محمداً رحمه الله يعتبر طاقة الأراضي في الخراج، ومعنى الطاقة أن لا يزيد الخراج نصف الخارج؛ لأن الشرع لم يرد بالزيادة على نصف الخارج، إليه أشار في كتابه «العشر والخراج» . وروى داود بن رشيد عن محمد: في معنى الطاقة أن يترك لكل رجل من أصحاب الأراضي من زرعه ما يقوته، ويقوت عياله، ويذره في أرضه، إلى أن يعود الزرع من قابل، وذكر القاضي الإمام صدر الإسلام معنى الطاقة في أرض الزعفران فقال: ينظر إلى ما خرج من جريب الأرض من الزرع كم قيمته، فإن كان قيمته مائة ينظر إلى الواجب فيه،

الفصل الخامس في بيان من يجب عليه الخراج ومن لا يجب

وهو قفيز ودرهم كم يبلغ؟ فإن كان يبلغ أربعة بأن كان قيمة القفيز ثلاثة عرفت أن الواجب في المائة أربعة دراهم، ثم ينظر أن الخارج من الزعفران كم قيمته؟ فإن كان قيمته مائة يجب فيه أربعة، وإن كان قيمته (150ب1) مائتين يجب فيه ثمانية، فعلى هذا القياس يجب. الفصل الخامس في بيان من يجب عليه الخراج ومن لا يجب كل من ملك أرض الخراج يؤخذ منه الخراج كافراً كان، أو مسلماً صغيراً كان، أو مكاتباً، أو عبداً مأذوناً، رجلاً كان أو امرأة؛ لأن الخراج مؤنة محضة، وهؤلاء من أهل إيجاب المؤن عليهم، قال محمد رحمة الله عليه في كتاب «العشر والخراج» : وليس في النخيل والشجر شيء، فقد صح عن عمر رضي الله عنه إنما في النخيل والشجر في سواد العراق، ومضى المسألة إذا كان حول المزرعة أشجار، إلا أن لا تكون ملتفة بحيث يمكن زراعة ما تحتها، فإنه لا يجب بسبب الأشجار والنخيل وظيفة أخرى زيادة على خراج الأرض، فأما إذا كان في نفس المزرعة، فبعض المزرعة أشجار ملتفة بحيث لا يمكن زراعة من تحتها. ذكر محمد في كتاب «العشر والخراج» من أصل: أنه يوضع على كل جريب عشرة دراهم، ولم يذكر أن هذا قول مَن. وفي «النوادر» عن أبي يوسف: أنه يوضع على كل جريب عشرة دراهم مثل ما ذكر محمد في «الأصل» ، وذكر محمد في «نوادر الزكاة» ، وفي «الجامع الصغير» أن على قوله يوضع على كل جريب بقدر ما يطيق، وبين ذكر محمد من قوله في «النوادر» وفي «الجامع الصغير» أن المذكور في الأصل قول أبي يوسف. وجه قول محمد: أنه لم يرد في الأشجار الملتفة تقدير من جهة عمر، لأن الذي ورد منه ثلاثة مقادير؛ جريب الأرض قفيز ودرهم، وفي جريب الرطبة خمسة دراهم، وفي جريب الكرم عشرة دراهم، ففي الأشجار الملتفة يوضع بقدر الطاقة، لما مر أن المعتبر في الخراج الطاقة. ووجه قول أبي يوسف: أنه ورد في الأشجار الملتفة تقدير من جهة عمر رضي الله عنه، فإنه روي أنه وظف على جريب النخل عشرة دراهم. ونقول: الأشجار الملتفة في معنى الكرم؛ لأنها تسمى بستاناً فيما بين الناس، والبستان في معنى الكرم، فالمعنى الوارد في الكرم يكون وارداً في البستان، قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل له أرض خراج عطلها، فعليه الخراج؛ لأنه قصد الإضرار بالمقابلة بإبطال حقهم في الخراج، فيرد عليه قصده، وذلك بإبرام الضمان، وقال في كتاب «العشر والخراج» من أصل: لو أن أرضاً من أراضي الخراجية عجز عنها صاحبها، وعطلها، وتركها للإمام أن يدفعها إلى من يقوم عليها، ويؤدي خراجها، وأراد

بقوله: من يقوم عليها، ويؤدي خراجها: من يعمل فيها بالخراج يأخذ الأرض، ويزرعها، ويؤدي الخراج من الغلة، ويمسك الباقي لنفسه. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والصحيح من الجواب في هذه المسألة أن يؤجر الإمام الأرض أولاً وما ويرفع عنه قدر الخراج، ويمسك الباقي لرب الأرض، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «الزيادات» ؛ وهذا لأن الإمام نصب ناظراً لكل، وتمام نظر في الإجارة أولاً حتى لا يزول ملكهم مع اتصال حق المقابلة إليهم، فإن كان لا يجد من يستأجرها، فدفعها مزارعة بالثلث، أو الربع على قدر من يوجد مثل ملك الأرض مزارعة، فيأخذ (مقدار) الخراج من نصيب صاحب الأرض، ويمسك الباقي على رب الأرض، فإن كان لا يجد من يأخذها مزارعة يدفعها إلى من يقوم عليها، ويؤدي الخراج عنها، وعن هذه المسألة قلنا: أن للسلطان إذا دفع أراضي مملكة إلى قوم ليعطوا الخراج جاز، وطريق الجواز أخذ إلى إقامتهم مقام الملاك في الزراعة، وإعطاء الخراج والإجارة تقدير الخراج، ويكون المأخوذ منهم خراجاً في حق الإمام أجرة في حقهم. قال: وإن لم يجد الإمام من يعمل فيها بالخراج يبيعها ويرفع الخراج عن ثمنها، ويحفظ الباقي على رب الأرض، وإنما كان كذلك؛ لأن الإمام نصب ناظراً للمسلمين وينظر رب الأرض، والمقاتلة في الترتيب الذي قلنا قبل ما ذكر أن الإمام يبيع الأراضي قول أبو يوسف، ومحمد، وأما على قول أبي حنيفة، ينبغي أن لا يبيعها؛ لأن الخراج دين، وأبو حنيفة لا يرى بيع مال المديون بغير رضاه؛ لأن في بيع ماله حجر عليه، وأبو حنيفة لا يرى الحجر على الحر. وقيل: هذا قول الكل، وهو الصحيح؛ لأن أبا حنيفة يرى الحجر في موضع يعود بنفعه إلى العامة كالحجر على الطبيب الجاهل، ومنفعة الحجر هنا عائدة إلى عامة المسلمين، فيجوز البيع على قول الكل من هذا الوجه. وذكر في بعض الكتب في هذه المسألة؛ أن الإمام يشتري ثيراناً، وأداة الزراعة، ويدفعها إلى إنسان يزرعها، فإذا حصل الغلة نأخذ منها قدر الخراج، وما أنفق عليها، وحفظنا الباقي على رب الأرض، وقال أبو يوسف: يقرض الإمام صاحب الأرض من مال بيت المال مقدار ما يشتري به الثيران والأداة، ويأخذ منه حقه، ويكتب عليه بذلك كتاباً ليزرع، فإذا ظهرت الغلة أخذ منها الخراج، ومقدار ما أقرض من مال بيت المال، فيكون ديناً على صاحب خراج الأرض، قال: وإن لم يكن في بيت المال شيء يدفعها إلى من يقوم عليها ويؤدي خراجها، وهذا كله إذا كان رب المال عاجزاً عن الزراعة بأن كان معسراً، فأما إذا كان غنياً، فالإمام يتقدم إليه، ثم لا تزرع أرضك، ولا يجيزه على العمل، ولكن يأخذ الخراج منه لترك زراعتها مع الإمكان؛ ثم إذا كان رب الأرض عاجزاً

عن الزراعة، وصنع الإمام بالأرض ما ذكرنا، ثم عادت قدرته، وإمكانه من العمل والزراعة يستردها الإمام ممن هي في يده، ويردها على صاحبها، إلا في البيع خاصة؛ لأن بالبيع قد زالت عن ملك صاحبها. رجل له أرض خراج باعها من غيره فهذه المسألة على وجهين: الأول: (151أ1) أن تكون الأرض فارغة، والجواب في هذا الوجه أنه، إن بقي من السنة مقدار ما يقدر المشتري على زراعتها قبل دخول السنة، فالخراج على البائع، وإلى هذا أشار محمد رحمه الله في «النوادر» ، فإنه ذكر في «النوادر» : إذا غرق أرض الخراج، ثم نضب الماء عنها، إن نضب الماء عنها في وقت يقدر على زراعتها ثانياً قبل دخول السنة الثانية، فلم يزرعها، فعليه الخراج، وإن نضب الماء عنها في وقت لا يقدر على زراعتها ثانياً قبل دخول السنة الثانية لا يجب الخراج، ثم اختلف المشايخ فيما بينهم أن المعتبر زرع الحنطة، والشعير، أو أي زرع كان؟ فالفقيه أبو نصر رحمه الله يعتبر أي زرع كان، والفقيه أبو القاسم يعتبر زرع الحنطة أو الشعير، وكذلك اختلفوا أنه هل يشترط إدراك الريع بكماله؟ بعضهم شرطوا، فقالوا: إذا بقي من السنة مقدار ما يتمكن المشتري من أن يزرع الأرض، ويدرك ريعها قبل دخول السنة الثانية، فلم يزرعها، فالخراج على المشتري، وإن كان بخلافه فلا خراج عليه، وإلى هذا القول مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. وبعضهم لم يشترطوا إدرك الريع بكماله، وقالوا: إذا بقي من السنة مقدار ما يمكنه أن يزرع الأرض أي زرع، فتصير قصيلاً، فتبلغ قيمته قدر الخراج، ومثله يجب الخراج على المشتري، وإن كان بخلافه، فالخراج على البائع. وكان الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله يختار إن بقي من السنة تسعون يوماً، فالخراج على المشتري، وإن كان أقل من ذلك، فالخراج على البائع، وهذا منه اعتبار زرع الدخن، وإدراك الريع بكماله، فإن ريع الدخن يدرك في مثل هذه المدة. الوجه الثاني: إذا كانت الأرض مزروعة، فإن كان الزرع لم يبلغ بعد، فالخراج على المشتري على كل حال. وذكر في «نوادر مختصر عصام» وإن كان الزرع قد بلغ، وانعقد الحب كان هذا، وما لو باع أرضاً فارغة في حق هذا الحكم سواء، ويعتبر في ذلك المدة، ويكون هذا بمنزلة ما لو باع حنطة من تبنه مع الأرض. في آخر زكاة «فتاوى أبي الليث» ، وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل له أرض خراج باعها من رجل، ومكث عند المشتري شهراً، ثم باعها المشتري من رجل آخر، ومكث عنده شهر أيضاً، ثم وتم يبيع كل مشتري بعد شهر له حتى مضت السنة، فليس على واحد منهم خراج وإنه ظاهر؛ لأنه لم يكن في يد كل منهم مقدار ما يتمكن من الزراعة، حتى لو كان في المشتري الآخر مقدار ما يتمكن من الزراعة على حسب ما اختلفوا، يجب الخراج عليه. وإذا كان للأرض ريعان خريفي، وربيعي، وسلم الواحد منهما للبائع، والآخر

للمشتري، أو تمكن كل واحد منهما من تحصيل أحد الريعين لنفسه، فالخراج عليهما، هكذا ذكر صدر الإسلام في شرح كتاب «العشر والخراج» . قال محمد في كتاب «العشر والخراج» : ولو أن رجلاً له أرض خراج، وهي سبخة، لا تصلح للزرع، ولا يبلغها الماء، وهي مما يصلح أن يعالج ويزرع، فعلى صاحبها الخراج، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: من به من هذا أن الخراج إنما لا يجب بشرطين أن ينقطع الماء عنها، وإن غلب عليها السبخة حتى أنه إذا انقطع الماء عن أرض، وأنها ليست بسبخة، أو كانت سبخة إلا أنه يصل الماء عليها يجب الخراج، وهذا لأن الأرض، وإن كانت سبخة إذا كان الماء يصل إليها، ولا ينقطع يمكن زراعتها وعمارتها؛ لأن عمارة الأراضي بالماء، والسبخة تزول إذا غرقت بالماء، والتمكن من الزراعة يكفي لوجوب الخراج، وكذلك إذا انقطع الماء عن الأرض إلا أنها ليست بسبخة يمكن زراعتها؛ لأن السماء تسقيه، والأنهار،....... والتمكن من الزراعة يكفي لوجوب الخراج، وعن هذا قلنا: إن ماء الخراج إذا انقطع عن أرض عاماً واحداً وعامين، فالخراج لا يسقط، لأن السماء تسقيه فينزل ذلك منزلة النهر. فأما إذا كانت الأرض سبخة، والماء لا يصل إليها لا يجب الخراج؛ لأن الأرض السبخة، لا يمكن معالجتها وعمارتها بماء السماء، فلا يثبت التمكين من الزراعة، ثم اختلفت..... في هذه الصور، في بعضها، أن الخراج لا يجب، وفي بعضها أن الخراج يجب، والمشايخ وقفوا، فقال: موضوع المسألة في السبخة التي فيها وجوب الخراج أن يكون السبخة قليلة بأن يكون السبخة في جانب واحد من جوانب الأرض، وعامة جوانبها صالحة للزراعة، وهذا لا يوجب سقوط الخراج؛ لأن هذا يؤخذ في عامة الأراضي، وموضوع المسألة في السبخة التي فيها نفي الوجوب أن السبخة تكون عالية على الأرض كلها، وسقوط الخراج في هذه الصورة ظاهر. وكذلك لو لم تكن الأرض سبخة في الأصل وتركها حتى صارت سبخة، فلا خراج فيها بعدما صارت سبخة، وكذلك إن كانت الأرض ذات بر لا يخرج شيئاً، فلا خراج فيها، ذكر هذين الفصلين صدر الإسلام رحمه الله. قال ثمة أيضاً: رجل له أرض غرس مائة جريب منها كرماً، وهي مما لا يقلع سنين، ولا مما..... لا قليلاً ولا كثيراً، فإن عليه فيه ما يجب في الأرض تزرع في كل جريب قفيز ودرهم، ولا يجب عليه خراج الكرم؛ لأنه ما لم يدرك كرماً، فهو كرم اسماً لا حقيقة، وأما عليه خراج المزارع، وإن لم يبق ممكّناً من الزراعة؛ لأن فوات التمكين كان لمعنى من جهته، فيبقى على ما كان في الأصل، فإن بلغ الكرم وأثمر، وكان قيمة الخارج يبلغ عشرين درهماً فصاعداً، فعليه خراج الكرم عشرة دراهم في كل جريب، وإن كان قيمة الخارج أقل من عشرين درهماً، (151ب1) فإنه يؤخذ منه قفيز ودرهم؛

لأنه لو لم يزرع فيها شيئاً يؤخذ منه قفيز ودرهم، فإذا زرع وخرج شيء قليل أولى. وذكر في بعض روايات، أنه إذا كان الخارج أقل من عشرين درهماً يؤخذ منه قفيز ودرهم؛ لأنه قد كان فيها قفيز ودرهم، فيبقى ذلك حتى يحصل له ريع الكرم عادة ذكر القاضي الإمام صدر الإسلام في شرح كتاب «العشر والخراج» : إذا زرع في الأرض الخراج الأشجار التي ليست لها ثمرة مثل الحلاف وأشباهه، ففيها قفيز ودرهم، إذا كان جريناً؛ لأنها في معنى الزرع؛ لأنها تقطع وتباع. وذكر أيضاً: إذا غرس نخيلاً وأشجاراً أخرى مثمرة تلتف في جميع الأرض، وهي جرين ففيها عشرة دراهم، وإن لم يبلغ، هكذا ذكر في بعض الروايات بخلاف شجر الكرم؛ لأن شجر الكرم ليس لها قيمة كثيرة، بل قيمتها مثل قيمة الزرع، فيجب فيها ما يجب في الزرع إلى أن يبلغ، فإن قيمة الأشجار والنخيل المثمرة كثيرة مثل قيمة الكرم المدركة، فيجب فيها ما يجب في الكرم المدركة، وإذا استأجر الرجل أرضاً، وزرعها أو استعار أرضاً وزرعها، والخراج خراج وظيفة، فالخراج على الأجر والمعير؛ لأن الخراج الوظيفة وعُدَّ به معتمد التمكن من الزراعة، وصاحب الأرض يمكن من الزراعة ههنا؛ لأن المستأجر والمستعير إنما تمكنا من ذلك بتمكنه. وإن غصب من آخر أرضاً، وزرعها، والخراج خراج وظيفة، فإن لم تنقص الزراعة الأرض، فالخراج على الغاصب؛ لأنه بقدر إيجابها على المالك أمكن إيجابها على الغاصب، بيانه: أن وجوب خراج الوظيفة إن كان يعتمد سلامة الخارج، فالخارج لم يسلم للمالك لا حقيقة، وهذا ظاهر، ولا حكماً؛ لأنه لم يسلم له بدل ما استوفى الغاصب من منفعة الأرض شيء، فهي لم تنقص الزراعة الأرض حتى يجعل سلامة البدل له كسلامة المبدل، فإن كان يعتمد التمكن من الزراعة، فالمالك لم يتمكن من الزراعة؛ لأن الكلام فيما إذا كان الغاصب جاحداً، ولم يكن للمالك بينة عادلة حتى لو كان الغاصب مقر، وكان للمالك بينة عادلة، فقد اختلف المشايخ. قال بعضهم: يجب الخراج على المالك. وقال بعضهم: يجب على الغاصب على كل حال، وإن تمكن المالك من الزراعة، إلا أنه يسقط التمكن إذا خرج الحب، ويتعلق الواجب بالحب، ألا ترى أنه يسقط الواجب إذا فات الحب من غير صنع صاحب الأرض ورضاه بأن اصطلم الزرع آفة؟ على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وروي عن أبي يوسف أن الخراج على المالك في هذه الصورة، وأما إذا أنقصتها الزراعة غرم الغاصب النقصان، وعلى قول أبي حنيفة: الخراج على رب الأرض؛ لأن الخارج قد سلم للمالك اعتباراً حيث سلم له بدله، وهو رواية عن أبي يوسف، وعن محمد روايتان: في رواية، قال: إن كان النقصان أقل من الخراج، فالخراج على الغاصب، ويدخل في ذلك النقصان حتى لا يضمن الغاصب لرب الأرض نقصان الأرض. وإن كان النقصان مثل الخراج وأكثر منه، فالخراج على رب الأرض.

الفصل السادس في بيان الأسباب الموجبة لسقوط الخراج

وفي رواية قال: بمقدار ما حصل من ضمان النقصان يجب على رب الأرض والباقي على الغاصب، وهو رواية عن أبي يوسف. في «فتاوى أهل سمرقند» : رجل اشترى أرضاً خراجية، وبنى فيها داراً، فعليه الخراج، وإن لم يبق متمكناً من الزراعة؛ لأن التمكن إنما فات بصفة، وسيأتي في الفصل الذي يليه بخلاف هذا. الفصل السادس في بيان الأسباب الموجبة لسقوط الخراج قال محمد رحمه الله: إذا زرع الرجل أرضه الخراجية، فأصاب زرعها آفة فاصطلمه، فلا خراج عليه، فرق بين هذا، وبينما إذا لم يزرعها. والفرق: أن الذي لم يزرعها قصد الإضرار بالمقاتلة، فيرد عليه قصده، فأما الذي هلك زرعه لم يقصد الإضرار بالمقاتلة بل بذل جهده وأتى بما في وسعه؛ ولأن وجوب الخراج باعتبار النماء فقضية هذا يكون الحكم متعلقاً بحقيقة النماء، إلا أن الشرع أقام التمكن من تحصيل النماء؛ لكونه مفضياً إلى النماء مقام حصول النماء في موضع قصر في تحصيل النماء كما أقام التمكن من استيفاء المنفعة، في باب الإجارة مقام استيفاء المنفعة، وإذا زرعها، وخرج الحب تعلق الحكم بحبه الخارج، وسقط اعتبار التمكن واعتبار السبب، هذا هو الأصل المعهود في الشرع، إن حقيقة العلة مع السبب الظاهر إذا اجتمعا يتعلق الحكم حقيقة بالعلة لا بالسبب أن السبب في معنى الخلف بعد وجود الأصل وإذا تعلق الواجب حقيقة بالخارج في هذه الحالة أشبه العشر، وخراج المقاسمة، وذلك يسقط بهلاك الخارج ويسلم بسلامته كذا ههنا. هذا إذا ذهب كل الخارج، فأما إذا ذهب بعض الخارج، فإن بقي من الخارج مقدار الخراج بأن بقي مقدار درهمين وقفيزين يجب الخراج؛ لأن الخراج ههنا لا يزيد على نصف الخارج، فيمكن إيجابه إذ الشرع ورد بالخراج إلى نصف الخارج كما في خراج المقاسمة، وإن بقي أقل من مقدار الخراجِ ومثلِهِ لا يجب تمام الوظيفة، وإنما يجب قيمة نصف الخارج؛ لأنا لو أوجبنا الوظيفة بتمامها زاد الخراج على نصف الخارج والشرع لم يرد بمثله. قال (152أ1) مشايخنا: والصواب في مثل هذا أن ينظر الإمام أولاً، إلى ما أنفق هذا الرجل في هذه الأرض، وينظر إلى الخارج، فيحتسب له ما أنفق، فيرفع أولاً من الخارج، فإن فضل شيء منه أخذ منه الخراج على نحو ما بينا. قال مشايخنا: وما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» ، أن الخراج يسقط بهلاك جميع الغلة محمول على ما إذا لم يبق من السنة مقدار ما يمكنه أن يزرع الأرض ثانياً، قبل دخول السنة الثانية، أما إذا بقي من السنة مقدار ما يمكنه أن يزرع الأرض ثانياً قبل دخول السنة

الفصل السابع في تعجيل الخراج

الثانية، فلم يزرعها لا يسقط عنه الخراج، ويؤيده مسألة «النوادر» على ما تقدم ذكرها. وذكر القاضي الإمام المظفر رحمة الله عليه في «شرح كتاب العشر والخراج» أن الخراج إنما يسقط بهلاك الغلة إذا كان الهلاك بآفة سماوية لا يمكن التحرز عنها، كالحرق والغرق والبرد وغيرها، أما إذا كان الهلاك بآفة يمكن الاحتراز عنها، كأكل السبع ونحو ذلك، لا يسقط الخراج؛ لأن التقصير جاء من قبل صاحب الأرض، حيث لم يحفظ. وبعض مشايخنا قالوا: لا خراج، وإن هلك بآفة يمكن التحرز عنها، والقول الأول أصح، ويسقط خراج الأراضي الموت من عليه إذا كان خراج وظيفة، في ظاهر الرواية من أصحابنا، وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة أنه لا يسقط، ورفع الفرق بين الخراج وبين العشر على ظاهر الرواية، وعلى رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة، فإن العشر لا يسقط بموت من عليه في ظاهر رواية أصحابنا، وفي رواية ابن المبارك عن أبي حنيفة يسقط، أما الفرق على رواية ابن المبارك أن العشر عبادة نظير الزكاة، ثم الزكاة تسقط بالموت، فكذا العشر، أما الخراج فليس بعبادة، بل مؤنة محضة والمؤنة لا تسقط بالموت، وأما الفرق على ظاهر الرواية، أن الخراج صلة تستحق على صاحب الأرض؛ لأن صاحب الأرض لا يسلم له عوض بإزاء ما يعطي، فيشبه من هذا الوجه نفقة الزوجات، فإنها تسقط بالموت، فكذا الخراج.g فأما العشر فليس بصلة، بل هو في معنى الأعواض؛ لأن الخارج يجب شركاً بين صاحب الأرض، وبين الفقير، وما كان عوضاً لا يسقط بالموت كثمن المبيع، وما أشبهه. وفي «الفتاوى» : إذا جعل الرجل أرضه الخراجية مقبرة، أو خاناً للغلة، أو مسكناً للفقراء سقط الخراج؛ لأن سبب الخراج أرض تصلح للزراعة، وقد انعدمت الصلاحية، فيسقط ضرورة. خراج الأراضي إذا توالى على المسلمين سنون: فعند أبي يوسف ومحمد: يؤخذ بجميع ما مضى، وعند أبي حنيفة لا يؤخذ إلا بخراج السنة التي هو فيها، والاختلاف هنا نظير الاختلاف في الجزية، هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرح السير الصغير» ، وذكر صدر الإسلام: الصحيح أنه يؤخذ. الفصل السابع في تعجيل الخراج ذكر محمد رحمه الله في «نوادر الزكاة» : إذا جعل خراج أرضه لسنة أو سنين، فإنه يجوز؛ لأنه أدى الواجب بعد انعقاد سبب الوجوب؛ لأن سبب وجوب الخراج الأرض النامية، ومحله الذمة، وقد وجدنا بعقد السبب كما في باب الزكاة. في «المنتقى» : رجل عجل خراج أرضه، ثم غرقت الأرض في تلك السنة، قال: يرد عليه ما أدى من خراجه، فإن زرعها في السنة الثانية حسب له، وعن محمد: في رجل أعطى خراج أرضه لسنين، ثم غلب عليها الماء، وصارت دجلة قال: يرد عليه إذا كان

الفصل الثامن في المتفرقات

قائماً بعينه، وإن كان قد دفعه، فلا شيء عليه يريد به: إذا كان صرفه إلى المقاتلة، فلا شيء عليه، فقد راعى شرطاً، وهو كون المدفوع قائماً بعينه؛ لأن الخراج في حق المصروف إليه في معنى الصلة، والصلات إذا أمضيت لا يتبعها تبعة. الفصل الثامن في المتفرقات وإن وجوب الخراج عند أبي حنيفة رحمه الله أول السنة لكن بشرط بقاء الأرض النامية في يديه سنة، إما حقيقة، أو اعتباراً السلطان إذا جعل خراج الأرض لصاحب الأرض، وترك عليه يجوز عند أبي يوسف، وقال: أبو يوسف.... أن السلطان لو قبض الخراج من ضاحية الأرض، ثم رأى الصرف إليه أولى كان له ذلك ولا فائدة في أخذ ثم دفع، وقال محمد رحمه الله؛ لا يجوز، رواه ابن سماعة عنه، ويتبقى لمن عليه أن يؤدي ما عليه من الخراج، وإن جعل العشر لصاحب الأرض لا يجوز بالإجماع، محمد سوى بينهما من حيث أن الحق فيهما للعامة، فلا يجوز تخصيص البعض به. وفي «نوادر هشام» : إذا جعل السلطان خراج الأرض لصاحب الأرض يجوز من غير ذكر خلاف، وعن أبي يوسف: السلطان إذا ترك الخراج لمن يعلم أنه ليس بمحل لصرف الخراج إليه ينبغي أن يجهز غادياً ويتصدق به على المساكين، وهذا لأن مصرف الخراج المقاتلة، وإن فضل، فالمصرف المساكين المتروك له قادر على الصرف إلى المقاتلة، وإلى المساكين فله ذلك. وعنه أيضاً: والي الزكاة إذا ترك لرجل خراجه، فليجهز غازياً، أو يتصدق به على المساكين، وإلا لم يسعه، وأراد بوالي الزكاة العاشر ومن بمعناه، إذا فوض إليه أخذ الأخرجة، ولم يكن والياً مطلقاً عام الولاية، فترك الخراج منه لا يصح؛ لأن المفوض إليه مجرد الأخذ. قال في كتاب «العشر والخراج» : إذا كان للرجل أرض خراج لا يسعه يأكل منها حتى يؤدي خراجها، قال بعض مشايخنا: هذا (152ب1) إذا كان الخراج خراج مقاسمة؛ لأنه بمعنى العشر بعض الخارج، فيصير أكله من غلة مشتركة، أما إذا كان الخراج خراج وظيفة، فهو يجب في الذمة لا تعلق له بالمحل، فكان الخارج حق صاحب الأرض على الخلوص، فيجعل له التناول، وبعضهم قالوا: وإن كان الخراج خراج وظيفة، فالجواب يكون كذلك أيضاً؛ لأن الخارج محبوس بالخراج، فإن للسلطان أن يحبس الغلة إلى أن يستوفي الخراج، فهو بمنزلة المبيع إذا كان محبوساً بالثمن، ولا يحل للمشتري تناول المبيع قبل أداء الثمن، كذا هذا.

قال في «الجامع الصغير» : إذا كان للرجل أرض زعفران، فترك الزعفران بغير عذر، وزرع فيها الحبوب يوضع عليه خراج الزعفران، وكذلك من انتقل إلى أحد الأمرين بغير عذر، بأن كان له كرم مثلاً، أو زرع فيها الحبوب، يؤخذ منه خراج الكرم؛ لأنه هو الذي صنع الزيادة، فصار كما لو عطل أرضه. وفي كتاب «العشر والخراج» ، إذا أجر أرضاً تصلح للزراعة من الأراضي الخراجية من رجل، فجعلها المستأجر كرماً، ذكر في بعض الروايات: أن مقدار خراج المزرعة على رب الأرض، والزيادة إلى تمام خراج الكرم على المستأجر؛ لأنها إنما صارت كرماً بصنع المستأجر. السلطان الجائر إذا أخذ خراج الأراضي خرج صاحب الأراضي عن العهدة؛ لأنهم يضعون الخراج مواضعها، وهم المقاتلة. في «فتاوى أبي الليث» وفي «فتاوى أهل سمرقند» : السلطان إذا لم يطلب خراج الأرض، فعلى أصحاب الأراضي أن يتصدقوا به على الفقراء، ولو طلب السلطان الخراج وتصدق من عليه بنفسه لا يجزئه. إذا اشترى أرضاً من أراضي الخراج، ولم يقبضها، أو قبضها، ولكن منعه إنسان عن زراعتها، فلا خراج عليه؛ لأن الخراج إنما يجب على المالك، ليتمكن من الزراعة وفي «فتاوى أبي الليث» : فيه خراج أراضيها على التعاون. طلب من ثقل خراج أرضه تسوية خراج أراضي القرية، قال الفقيه أبو القاسم: إذا لم يعرف ابتداء وضع الخراج على هذه القرية أنه كان على التساوي أو على التفاوت ترك على حاله. وفي كتاب «العشر والخراج» ، وينبغي للوالي أن يولي الخراج رجلاً يرفق بالناس ويعدل عليهم في خراجهم، وأن يأخذهم بالخراج كلما خرجت غلة، فيأخذهم بقدر ذلك حتى يستوفي تمام الخراج في آخر الغلة، وأراد بهذا أن يوزع الخراج على قدر الغلة، حتى إن الأرض إذا كان يزرع فيها غلة الربيع وغلة الخريف، فعند حصول غلة الربيع ينظر المتولي أن هذه الأرض كم تغل غلة الخريف بطريق الحزر والظن؟ فإن وقع عنده أنها تغل مثل غلة الربيع، فإنه ينصف الخراج، فيأخذ نصف الخراج من غلة الربيع، فيؤخر النصف إلى غلة الخريف، وهذا لأن وجوب الخراج باعتبار الريع، ولهذا لو هلك الريع يبطل الخراج، فيتوزع على الريع، وبهذا لو هلك الريع يبطل الخراج، فيتوزع على الريع، وكذلك يفعل في البقول ينظر إن كان مما يخرج خمس مرات يأخذ من كل مرة خمس الخراج، وإن كان مما يخرج أربع مرات يأخذ من كل مرة ربع الخراج، وعلى هذا القياس، فافهم. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : ضيعة لرجل بعضها كروم، وبعضها قراح، فاشترى قوم الكروم، واشترى قوم القراح، فإن كان حصة الكروم من الخراج معلومة من الابتداء وحصة القراح، كذلك يبنى الحكم عليه، وإن كان خراج يخرج جملة ولا يعلم حصة

الكروم، ولا حصة القراح من الابتداء، فإن كان الكرم كرماً من الابتداء لم يعرف إلا هو كرم، والأرض القراح كذلك كان على الكروم وعلى القراح، فإن كان الكل دراهم يقسم على قدر المنافع، فإن كان موضع الكرم قراحاً في الأصل، ثم جعل كرماً من بعد قسم الخراج على الأرض القراح، فإن الكل كذلك، والله أعلم. وفي «مجموع النوازل» قال إبراهيم بن يوسف: سألت أبا يوسف عن رجل ارتد، ولحق بدار الحرب، والعياذ بالله، وله كروم، وأرض خراج وورق، ثم رجع مسلماً بعد الحول، والمال قائم، قال: ليس عليه في الدراهم شيء، ويؤخذ منه العشر والخراج. انتهى بيان النوع الأول، وهو خراج الأراضي بيقين. جئنا إلى بيان النوع الثاني، وهو خراج الروس، فنقول: ترك الكافر في دار الإسلام بالجزية جائز عرف ذلك بالكتاب، وبفعل النبي صلى الله عليه وسلّم وإجماع الصحابة من بعده. أما الكتاب بقوله تعالى: {حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} (التوبة: 29) والأمر بقتال الكفرة إلى غاية إعطاء الجزية، فهذا يدلك على أن ترك الكفرة بالجزية جائز. وأما فعل النبي عليه السلام؛ فلأنه ترك كثيراً من الكفار على الكفر بالجزية. وأما إجماع الصحابة، فإن عمر رضي الله عنه «بعث حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف لتوظيف خراج الأراضي، والروس بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، وكان إجماعاً» . بعد هذا يحتاج إلى معرفة من يقبل منه الجزية ومن لا تقبل، وإلى معرفة ما يجب عليهم، وإلى معرفة وقت وجوبه، وإلى معرفة ما يوجب سقوطه وإلى معرفة ما يؤاخذون به بعد صرف الجزية (153أ1) وقبول عقد الذمة. أما بيان من تقبل منه الجزية. فنقول: تقبل الجزية من جميع أهل الكتاب بلا خلاف سواء كانوا من العرب، أو من العجم، ولا تقبل من مشركي العرب، وعبدة الأوثان، والمرتدين بلا خلاف، وتقبل من مشركي العجم من عبدة الأوثان عندنا، وتقبل من المجوسي بلا خلاف، والمسألة تأتي في كتاب «السير» إن شاء الله تعالى. وأما بيان ما يجب عليهم: فنقول: أهل الذمة في حق ما يجب عليهم أنواع ثلاثة التغلبي والنصراني من النصارى وسائر أهل الذمة. أما التغلب: ي فالواجب عليه الصدقة المضاعفة اتباعاً لصلح عمر رضي الله عنه معهم. وأما النصراني: فالواجب عليهم الحلل اتباعاً لصلح رسول الله عليه السلام. وأما سائر أهل الذمة قالوا: الواجب على المعتمل منهم الجزية على الترتيب الذي نبين بعد هذا، وتكلموا في معنى المعتمل والصحيح من معناه الذي يقدر على العمل، وإن لم يحسن حرفته، وإنما خصصنا القادر على العمل بإيجاب الجزية حتى لا تجب على المقعد، والأعمى والشيخ الكبير الذي لا يستطيع الكسب؛ لأن الجزية لا تجب إلا على المقاتلين؛ لأنها عقوبة للمقاتلين، ولهذا لا يجب على النسوان والصبيان، وكذلك لا تجب على العبيد والمكاتب والمدبرين؛ لأنهم لا يملكون القتال شرعاً؛ لأنهم لا يملكون ماله قوام القتال، وهو البدن، فبسبب أن الجزية عقوبة المقاتلين، والذي لا يقدر على

العمل لا يقدر على القتال، فلا يجب عليه الجزية، فشرطنا القدرة على العمل لهذا. ثم القادر على العمل. إن كان معسراً، فعليه اثني عشر درهماً، وإن كان وسط الحال، فعليه أربعة وعشرون درهماً، وإن كان غنياً فعليه ثمانية وأربعون درهماً، وإنما اعتبرنا هذا الترتيب؛ لأن الجزية عقوبة باليد، والغني أمثل لهذه العقوبة من الفقير، فشرع في حق الغني أكثر مما شرع في حق الفقير استدلالاً بسائر العبادات المالية، فأصل التفاوت بتفاوت الغنى معقول، والتقدير اتبعنا فيه الشرع، وقد ورد أن الشرع بنى التقدير على الترتيب الذي بينا، فقد صح أن عمر رضي الله عنه حين بعث حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف إلى سواد العراق ليوظف الخراج، والجزية، وظفا الجزية على الترتيب الذي ذكرنا، وقدر عمر رضي الله عنه ذلك بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، وكان إجماعاً، وتكلم العلماء في معرفة الغني والفقير والوسط. حكي عن عيسى بن أبان أنه قال: الفقير المعتمل الذي لا مال له، وإنما يعيش بكسب يده في كل يوم، وإنما يؤخذ منه اثنا عشر درهماً، إذا كان يفضل شيء من كسبه عن قوته وقوت عياله، أما إذا كان لا يفضل شيء من قوته وقوت عياله، فإنه لا يؤخذ منه شيء، وهكذا ذكر في «النوادر» عن محمد. وأما الوسط فهو الذي له مال إلا أن ذلك المال لا يكفيه مَدَّ عمره، فيحتاج إلى العمل في بعض الأوقات لرحبة عمره. وأما الغني، فهو الذي له مال يكفيه لعمره من غير أن يعمل فيه. وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: يعتبر في كل بلدة عرفها، فمن عده الناس في بلدهم فقيراً أو وسطاً أو غنياً، فهو كذلك، وهو الأصح، وتؤخذ الجزية من قسيسهم ورهبانهم، هكذا ذكر في كتاب «العشر والخراج» ، وفي آخر «السير الكبير» أن عند أبي حنيفة تؤخذ، منهم الجزية، وعندهما لا تؤخذ ولا تؤخذ من المجنون والمعتوه. وأما بيان وقت وجوب الجزية، فنقول: الجزية تجب بأقل الحول عندنا، حتى كان للإمام أن يطالبه بالجزية متى قبل عقد الذمة، والاستيفاء في آخر الحول بطريق التخفيف، والتأجيل عند أبي حنيفة، وهذا لأن الجزية خلف عن القتل، وبعقد الذمة سقط الأصل، فيجب خلفه في الحال غير أن الحول تخفيف وتأجيل عند أبي حنيفة، فيؤخذ في آخر الحول قبل دخول الحول الثاني. وعن أبي يوسف أنه قال: يؤخذ في كل شهرين يقسط ذلك. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف: يعامل على الجزية كالضريبة كلما مضى شهران، أو نحو ذلك أخذ منه شيء، ولا يؤخذ منه جميع ذلك حتى تتم السنة، وعن محمد أنه يؤخذ في كل شهر بقسطه. وفي «المنتقى» بشر عن أبي يوسف إذا احتلم الغلام من أهل الذمة في أول السنة قبل أن توضع الجزية على رؤوس الرجال، وهو موسر، وضع عليه الجزية، وإن أسلم بعدما وضعت الجزية على رؤوس رجال لم يؤخذ عنه لتلك السنة، هذا الفصل بناءً على ما قلنا إن وجوب الجزية وتوظيفها في أول السنة، فراعى أهلية التوظيف في تلك الحالة،

وعلى هذه المجنون يعتق، والمملوك يعتق، والحربي إذا صار ذمة أول السنة، أو آخرها. وفي «المنتقى» قال أبو يوسف: إذا أغمي عليه، أو أصابه زمانة، وهو موسر أخذت منه الجزية، قال الحاكم أبو الفضل: هذا خلاف رواية «الأصل» ، معنى المسألة إذا أغمي عليه، أو أصابته زمانة في آخر السنة، فعلى رواية هذا الكتاب شرط أخذ الجزية أهلية الوجوب من أول الحول إلى آخره. وأما بيان ما يوجب سقوطه، فمن جملة ذلك الموت، وإنه على وجهين: إما أن يموت في بعض السنة، أو بعد تمام، وكيف ما كان لا يؤخذ من تركته؛ لأنها عقوبة الكفر وجبت للزجر عن الكفر، وهذا المقصود (153ب1) لا يتحقق بعد الموت، فيسقط ضرورة، وكذلك يسقط بالإسلام لما ذكرنا. وفي «المنتقى» عن محمد: نصراني عجل خراج رأسه لسنتين، ثم أسلم قال: يرد إليه خراج سنة، وإن أدى خراج سنة، ثم أسلم في أول السنة لم يرد إليه، وهذه مسألة بناءً على ما قلنا: إن وجوب الجزية في الأولى لسنة، والخطاب بالأداء في آخر السنة، أو متفرق على أشهر السنة على حسب ما اختلفوا، فإذا أدى في أول سنة خراج هذه السنة، وخراج سنة أخرى على سبيل التعجيل، ثم أسلم ففي السنة الأولى وجد المانع من الوجوب قبل الوجوب، وفي هذه السنة عقوبة استوفيت بعد الوجوب، فلا يجب الرد. قال محمد رحمه الله في كتاب «العشر والخراج» : قوم لم يؤخذ منه خراج رأسه على ما وظف حتى جاء سنة أخرى لا يؤدي، لما مضى عند أبي حنيفة. وعندهما يؤخذ، ولعل المسألة أن الجزية إذا اجتمعت وتوالت تداخلت عند أبي حنيفة، وعندهما لا. هما يقولان: إن امتداد المدة يؤكد السبب، وما يؤكد السبب لا ينافي حكم السبب. بيانه: أن سبب الجزية الكفر، والكفر يتغلظ لطول المدة، ولأبي حنيفة أن الجزية في حق من تجب عليه عقوبة الكفر شرعت الزجر عن الكفر، وفي حق المصروف إليهم، وهم مقاتلة خلف عن النصرة بالبدل، فإن نظرنا إلى معنى العقوبة، فالعقوبات إذا اجتمعت تداخلت؛ لأن الزجر يحصل بالواحد؛ لأن الزجر لا يحصل في الماضي، وإنما يحصل في المستقبل، والواحد يكفي لذلك، وإذا عمي، أو صار مقعداً، أو شيخاً كبيراً لا يقدر على العمل لا يؤخذ لما مضى بالاتفاق، أما على قول أبي حنيفة فظاهر، وأما على قولهما؛ فلأن الجزية إنما تؤخذ بطريق العقوبة، وهؤلاء ليسوا من أهل هذه العقوبة. وأما بيان ما يؤخذون به بعد ضرب الجزية وقبول عقد الذمة. قال محمد رحمه الله: في آخر «الجامع الصغير» ويؤخذ أهل الذمة بإظهار الكستيجات والركوب على السرج كهيئة الأكف، وقال في كتاب «العشر والخراج» : وينبغي أن لا يترك أحد من أهل الذمة يتشبه بالمسلمين في ملبوسه ولا مركوبه، ولا في

زيه وهيئته، والمعنى: أنا لو تركناهم يتشبهون بنا في هيئة اللباس والمركب كنا متشبهين بهم، وقد نهينا عن التشبه بهم بقدر الإمكان، والإمكان في أصل اللباس إن لم يكن ثابتاً، ففي هيئة اللباس ثابت، فوجب المخالفة فيه؛ ولأنهم من أهل الصغار، والمسلمون من أهل العز، فيجب إظهار المخالفة في الزي، والهيئة ليقع التمييز بيننا وبينهم، فلا يذل المسلم، ولا يعز الكافر، ولأنا نهينا عن بدايتهم بالسلام والتحية. قال الله تعالى: {لا تتخذوا عدوي} إلى قوله: {تلقون إليهم بالمودة} (الممتحنة: 1) ، فلا بد من علانية يعرفهم كيلا يحسبهم مسلمين، فيبدأهم بالتحية، ويمنعون عن ركوب الفرس؛ لأن من باب العز، وهم من أهل الصغار، فيمنعون عنه إلا إذا وقعت الحاجة إلى ذلك بأن استعان بهم الإمام في المحاربة، والذب عن المسلمين، هكذا ذكر شيخ الإسلام. وذكر صدر الإسلام: ويمنعون عن ركوب الأفراس الفاخرة؛ إلا الكوادن قال شيخ الإسلام: ولا يمنعون عن ركوب البغل، لأنه نتج الحمار، ولا يمنعون عن ركوب الحمار؛ لأن كل أحد لا يقدر على المشي، ولكن يمنعون من أن يضعوا على المركب سرجاً كسرج المسلمين، وينبغي أن يكون على قربوس سرجهم مثل الرمان، والأصل في هذا كله ما روي عن عمر رضي الله عنه «أنه كتب إلى أمراء الأمصار والجنود أن لا يتركوا أهل الذمة يتشبهون بالمسلمين في ثيابهم ومركبهم» . واختلفوا في قوله: وينبغي أن يكون على قربوس سرجهم مثل مقدم الأكاف وهو مثل الرمان، وقال بعض مشايخنا:..... أن تكون سروجهم كسروج المسلمين، وعلى مقدمها شيء كالرمان والأول أصح، فإنه أقرب إلى موافقة رواية «الجامع الصغير» . قال: ويمنعون لبس الرداء والعمائم، والدباغة التي يلبسها علماء الدين؛ لأن فيه تشدقاً، وينبغي أن يلبسوا ملابس مضربة، وكذلك يمنعون أن يكون شراك نعالهم كشراك نعالنا، وفي ديارنا لا يلبس الرجال النعال، وإنما يلبسون المكاعب، فيجب أن تكون مكاعبهم على خلاف مكاعبنا، وينبغي أن تكون خشنة فاسدة اللون، ولا تكون مزينة تحقيراً لهم، وينبغي أن يؤخذ..... يتخذ كل إنسان منهم بمثل الخيط الغليط يعقد على وسطه به أمر عمر رضي الله عنه، والمعنى فيه أن المقصود هو العلامة، ليقع التمييز بين المسلمين وبينهم، والغالب وقوع البصر على الوسط، وكان الوسط في تحصيل هذا المقصود أبلغ، وينبغي أن يكون ذلك من الخيط أو الصوف، ولا يكون من الإبريسم وينبغي أن يكون غليظاً، ولا يكون رفيعاً بحيث لا يقع البصر عليه، إلا وأن يدقق النظر قال شيخ الإسلام: أن يعتمد الخيط ويربط عقداً، ولا يجعل له حلقة يشده كما يشد المسلم المنطقة، ولكن يعلقون على الحقارة، واندفاع التلبيس في هذا أشد، ولا يتركون أن يلبسوا خفافاً مزينة، وينبغي أن تكون (154أ1) خفافهم خشنة فاسدة اللون.

وكذا لا يتركون أن يلبسوا أقبية خشنة من كراس، أراد أنها طويلة وذيولهم قصيرة، وكذلك يلبسون قمصاً خشنة من كربيس جيوبهم على صدورهم كما يكون النسوان، وهذا كله إذا وقع الظهور عليهم، فأما إذا وقع معهم الصلح على بعض هذه الأشياء، فإنهم يتركون على ذلك، ثم اختلف المشايخ بعد هذا أن المخالفة بيننا وبينهم شرط بعلامة واحدة أو بعلامتين، أو بالثلاث، قال بعضهم: بعلامة واحدة إما على الرأس كالقلنسوة الطويلة المصرية، أو على الوسط، كالكستيج، أو على الرجل كالنعل والمكعب على خلاف نعالنا ومكاعبنا، لحصول ما هو المقصود وهو التمييز بالعلامة الواحدة، وقال بعضهم: لا بد من الثلاث؛ لأن التمييز لا يحصل بالواحدة لا محالة؛ لأن البصر قد يقع على الرأس لا غير، وقد يقع على الوسط لا غير، وقد يقع على الرجل لا غير، والمقصود هو التمييز وقت اللقاء وقت وقوع البصر عليهم حتى لا يعظمهم، فلا يبدئهم بالسلام، ومنهم من قال: في النصراني يكتفي بعلامة واحدة، وفي اليهود يحتاج إلى علامتين، وفي المجوس يحتاج إلى ثلاث علامات، وإليه مال الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله، ووجه ذلك أن هذه العلامات تشعر بالذل والصغار، وإنما صاروا مستحقين للذل والصغار بالكفر، فيزداد بزيادة غلظ الكفر، وينتقص بخفة الكفر، وكفر المجوسي أغلظ من كفر اليهود، والنصارى؛ لأنهم أنكروا نبوة جميع الأنبياء، فشرط في حقهم ثلاث علامات زيادة في ذلهم وصغارهم، وكفر اليهود بعد ذلك أغلط من كفر النصارى؛ لأن اليهود يجحدون نبوة نبيين نبوة نبينا ونبوة عيسى. والنصارى يجحدون نبوة نبي واحد، وهو نبينا، وكان كفر اليهود أغلظ، فشرط في حقهم علامتان، واكتفي في حق النصراني بعلامة واحدة، قال شيخ الإسلام: والأحسن أن يكون في الكل ثلاث علامات، ليقع الامتياز لا محالة، وكان الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي رحمه الله يقول: إن صالحهم الإمام، وأعطاهم الذمة بعلامة واحدة، لا يزاد عليها، وأما إذا فتح بلدة قهراً وعنوة كان للإمام أن يلزمهم بعلامات، وهو الصحيح.m ولا يتركون حتى يحدثوا كنيسة أو بيعة، وبيت نار في مصر من أمصار المسلمين، قال عليه السلام: «لا كنيسة ولا بيعة في الإسلام» ؛ ولأن في إحداث البيع والكنائس في الأمصار إعلان دين الكفر، ونحن إنما أعطيناهم الذمة بشرط أن لا يعلنوا ما كان في دينهم ولا يمنعون من إحداث الكنائس في القرى في ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنهم يمنعون من إحداث الكنائس في القرى، كما يمنعون من ذلك في الأمصار، وهكذا ذكر محمد في كتاب «العشر والخراج» ؛ لأن في إحداث الكنائس إعلان دين الكفر، وقد منعوا عن إعلان دين الكفر في القرى كما يمنعون عنه في الأمصار، ألا ترى أنهم يمنعون من إظهار الخمور والخنازير ومنع الربا في القرى كما يمنعون عن ذلك في الأمصار؟ فكذا يمنعون عن إحداث الكنائس في القرى كما يمنعون عن ذلك في الأمصار.

وظاهر رواية أصحابنا: أن إحداث الكنيسة والبيعة مباح بعينه؛ لأنه بناء وعمارة، والبناء والعمارة مباح في الإسلام، ولهذا لو وجد مثل ذلك من المسلمين كان مباحاً، وإنما تحريمه لأجل قصدهم هذا البناء المعصية، وكان حراماً لغيره، فلكونه حراماً لغيره منعوا عن إحداثها في الأمصار، ولكونه مباحاً لعينه لم يمنعوا عن إحداثها في القرى توفيراً على الشبهين حظهما، بخلاف بيع الخمر والخنزير؛ لأنه حرام ومعصية لعينه، وهم منعوا عن إظهار المعاصي في دار الإسلام، فأما إذا كانت الكنيسة قديمة، ففي القرى تترك القديمة بلا خلاف، وفي الأمصار كذلك يترك القديمة على رواية الإجارات، وعامة الكتب، وعلى رواية كتاب العشر لا يترك القديمة، وبرواية كتاب العشر أخذ الحسن، وعلى هذا إذا كان لهم كنيسة في قرية، فبنى أهلها فيها أبنية كثيرة، وصارت من جملة الأمصار أمروا بهدم الكنيسة على رواية كتاب العشر، وعلى عامة الروايات لا يؤمرون بذلك، وهكذا إذا كانت لهم كنيسة بقرب من المصر، فبنو حولها أبنية حتى اتصل ذلك الموضع بالمصر، وصار كمحلة من محال المصر، أمرهم الإمام بهدم الكنيسة على رواية كتاب العشر، وعلى عامة الروايات لا يؤمرون بذلك، وبرواية كتاب العشر أخذ الحسن بن زياد، والصحيح ما ذكر في عامة الروايات بدليل ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «أيما أرض صَّر به العرب، فليس لأحد من أهل الذمة أن يبنوا فيها بيعة، ولا كنيسة ولا بيت نار وأن يبيعوا فيها خمراً أو أن يضربوا فيه بناقوس، وما كان قبل ذلك، فحق على المسلمين أن يوفوا لهم» ؛ ولأنه جرى التوارث فيه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلى يومنا هذا، تترك الكنائس في الأمصار من غير (154ب1) نكير منكر، وتوارث الناس من غير نكير منكر حجة شرعاً. ثم هذه الرواية فيما إذا ظهر الإمام عليهم من غير صلح، فأما إذا وقع الصلح بينهم، وبين الإمام قبل ظهور الإمام، فإن الكنائس تترك على حالها في الروايات كلها، المصر والقرى في ذلك سواء، ثم إذا كانت الكنائس قديمة حتى لم يكن للإمام هدمها ونقضها على عامة الروايات. إذا انهدمت كنيسة كان لهم بناؤها؛ لأن هذا ليس بإحداث، بل هو إعادة الأول، وكأنه الأول، فلا يمنعون عنه إلا إذا أرادوا أن يبنوا أوسع من الأول، فحينئذٍ يمنعون من الزيادة؛ لأن في حق الزيادة إحداثاً. قال في كتاب «العشر والخراج» : ولا يترك واحد منهم حتى يشتري داراً، ولا منزلاً في مصر من أمصار المسلمين، وكذلك لا يترك واحد منهم حتى يسكن في مصر من أمصار المسلمين، وبهذه الرواية أخذ الحسن بن زياد، وعلى رواية عامة الكتب يمكنون المقام في دار الإسلام إلا أن يكون المصر من أمصار العرب نحو أرض الحجاز، فإنهم لا يمكنون فيها.

وجه رواية كتاب العشر ما روي أن رسول الله عليه السلام «أمر بإخراج اليهود من جزيرة العرب» ، وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال: «لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب لا أدع فيها إلا مسلماً» ، قال: فأخرجهم عمر رضي الله عنه، وعن علي رضي الله عنه «أنه أجلاهم من الكوفة» ، والمعنى في ذلك أنهم، لا يمكنوا من شري الدور، لا يشتري كل واحد منهم دوراً، أو منازل، فيؤدي إلى أن يصير جميع المصر لهم، ويخرج من أن يكون دار الإسلام، وإنه لا يجوز. وجه ما ذكر في عامة الروايات قول ابن عباس رضي الله عنهما، «وما كان قبل ذلك، فحق على المسلمين أن يوفوا لهم» وسكناهم في الأمصار كان قبل ذلك، فيوفي لهم بترك ذلك عليهم، وعن عمر رضي الله عنه أنه فتح بيت المقدس قهراً، وترك أهل الذمة فيها، وخالد بن الوليد فتح مدينة وترك أهل الذمة فيها، وفتح أبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان أرض الشام عنوة وقهراً، وتركوا أهل الذمة فيها، ولأنا أجمعنا على أنهم يتركون المقام في القرى من أرض العجم، وإنما يتركون، ليسمعوا كلام الله تعالى، فيقفون على مجلس الإسلام، وليروا عزة الإسلام، وعزة أهله، وربما يميل قلبهم إلى الإسلام، وهذا المعنى يقتضي تركهم في الأمصار من الطريق الأولى؛ لأن هذه الفائدة في الأمصار، أتم وأكمل، وما روي من الأخبار سوى خبر علي رضي الله عنه، فوجه الجواب عن التمسك بها أنها وردت في الأرض العرب. ونحن نقول: أنهم لا يمكنون من المقام في أرض العرب، والنص الوارد بخلاف القياس في أرض العرب لا يكون وارداً في سائر الأمصار؛ لأن أرض العرب لها زيادة حرمة لمكان رسول الله عليه السلام فيهم ليست تلك الحرمة بسائر الأمصار، فالنص الوارد ثمة لا يكون وارداً هنا، وأما خبر علي رضي الله عنه، فهو محمول عندنا على أنه إنما أجلاهم من الكوفة، لمصلحة رأى في ذلك بأن عرف أنهم يقصدون بذلك أن يتملكوا جميع الكوفة، فتصير الدار لهم، ولا كلام فيما ينقله الإمام على سبيل المصلحة، فإنا نقول به. فصل في تبين خراج الروس والأراضي قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : إذا أراد أن يصالح أهل دار من ديار الحرب كل سنة على دراهم معلومة، وعلى كيل من الطعام معلوم، أو على عدد من الثياب معلومة عن أراضيهم وجماجمهم، فهو جائز، فقد صح «أن رسول الله عليه السلام صالح أهل الحرب، وهم نصارى كل سنة على ألف ومئتي حلة من حللهم يؤدون النصف في المحرم والنصف في رجب» ، وله الخيار إن شاء جمع بين الرقاب والأراضي فجعلها خراجاً

واحداً من دراهم، أو الدنانير، أو الكيل، أو الوزن، أو الثياب، كما فعل رسول الله عليه السلام بأهل نجران، وإن شاء أفرد كل واحد منهما، فإن جمع قسم المال على الأراضي والجماجم على قدر حال الجماجم وعددهم، وعلى قدر الأراضي بالعدل والإنصاف؛ لأن المال قوبلت بشيئين بالأراضي والجماجم، والمال متى قوبل بشيئين يقسم عليهما بالحصص. فما أصاب الجماجم، فهو جزية حتى يقسم على الترتيب الذي ذكرنا دون النسوان والصبيان، والذمي غير المقاتلين. وما أصاب الأراضي يكون خراجاً حتى يقسم على عدد الأراضي على قدر ريع والعلة على الترتيب الذي ذكرنا، وهذا لأنه لا وجه إلى إهمال جماجم الكفار عن الجزية بعدما وقع الصلح، ولا إلى إخلاء الأراضي النامية عن المؤنة، ويقدر إيجاب مال آخر مكان الصلح، فمست الضرورة إلى أن يجعل ما أصاب الجماجم جزية، وما أصاب الأراضي خراجاً. فإن قلت الجماجم بأن مات بعضهم، وأسلموا تدخل حصتهم في خراج الأراضي إن احتملت، وكذلك لو زادت الجماجم فهاهنا دخل حصة الجماجم في خراج الأراضي إن احتملت؛ لأن المال مسمى في الصلح جملة، وليس بمفرق، فلهذا يمنع الطرح، فتدخل وظيفة الأراضي وأمكن القول به؛ لأن الأراضي أصل في هذا الباب، والرقاب (155أ1) تبع حتى لم يجز إفراد الرقاب بالمن، والمعنى أن الجماجم ليس لها أصول باقية؛ لأنها تهلك فينقطع حق المقاتلة، والأراضي لها أصول باقية، وهو الخراج، فتبقى منفعة المقاتلة، والبدل متى قوبل بشيئين أحدهما تبع، والآخر متبوع كان للبائع حصة من البدل ما دام باقياً، وإذا هلك يصرف كل البدل إلى المتبوع، كما إذا اشترى أرضاً فيها نخيل بثمن معلوم كان للنخيل حصة من الثمن ما دامت قائمة، وعند الهلاك يجعل كل الثمن بمقابلة الأرض كذا ههنا. قال: إذا كانت الأراضي لا تحتمل ذلك، فحينئذٍ يوظف عليها بقدر ما احتملت اعتباراً لكل منها بالابتداء، فإن كثرت الجماجم بعد ذلك رد عليهم حصتهم؛ لأن الطرح كان لضرورة، وقد ارتفعت الضرورة. وإن هلكت الأراضي بأن بارت، أو غرقت، وبقيت الجماجم لا يحول وظيفة الأراضي إلى الجماجم؛ لأن الجماجم تبع في هذا الباب، والأراضي أصل، وعند هلاك الأصل لا يجعل كل البدل بمقابلة التبع، بل تسقط حصة الأصل. ولو لم تهلك الأراضي، ولكن قل ريعها تحسب حصة الأراضي، وتقلب إلى الجماجم إن احتملت، فإن عاد ريع الأراضي على الكمال اعتد عليها ما رد، وكذلك إذا لم يقل ريع الأراضي، ولكن كثرت الجماجم نقص عن الأراضي، وصرف من خراجها إلى الجماجم بقدر ما تحتمل كما إذا دُقَّ النخل قبل القبض، فإنه ينقص من حصة الأرض، ويصرف إلى النخيل، كذا هنا، هذا إذا جمع بين الرقاب والأراضي في الصلح،

وأما إذا أفرد، فحمل للجماجم حصة معلومة من المال يدخل إحدى الوظيفتين في الأخرى حتى أنه إذا قلت الجماجم سقط حصة من قلت، وكذلك إذا هلكت الجماجم جملة سقط حصة الجماجم جملة، ولا يصرف إلى الأراضي شيء من حصة الجماجم، وكذلك إذا كثرت الجماجم، وقل ريع الأراضي، أو بقي على حاله لم يصرف إلى الجماجم شيء من حصة الأراضي. وإنما كان كذلك؛ لأن الجماجم وإن كانت تابعة للأراضي في حكم المنّ، إلا أنها لما أفردت بالصلح وبالبدل صارت أصلاً، وهلاك بعض الأصل يسقط ما بإزائه من البدل، كما لو اشترى أرضاً فيها نخيل، وسمى لكل واحد ثمناً معلومة، فاحترقت بنخيل قبل القبض، ولو صالحهم الإمام في الابتداء على مال معلوم على أن يأخذ ذلك من الأراضي دون الجماجم، أو من الجماجم دون الأراضي، كان ذلك باطلاً؛ لأن فيه إهمال جماجم الكفار، وإخلاء الأرض النامية عن المؤنة، وذلك باطل، ولكن هذا لا يبطل الذمة؛ لأن عقد الذمة لا يبطل بالشروط الفاسدة، بل يبطل الشرط، ويبقى المال مقابلاً بهما، وصار هذا، وما تقدم سواء. قال: ولو أسلم أهل هذه الدار التي صالحهم الإمام على مال معلوم يؤدون عن رؤوسهم وأراضيهم سقط عنهم خراج الرؤوس، وخراج الأراضي على حاله، فالإسلام ينافي خراج الرؤوس، أما لا ينافي خراج الأراضي، والأصل في ذلك ما روي أن علياً رضي الله عنه قال لدهقان: «إن أسلمت وضعنا عنك خراج رأسك، وأخذنا منك خراج أرضك» ، وعن عمر رضي الله عنه «أنه أخذ من دهقانة نهر الملك خراج أرضها بعدما أسلمت» ، وعن ابن مسعود، والحسن بن علي، وأبي هريرة، وابن عمر رضي الله عنهم «أنهم اشتروا أراضي خراجية بالسواد، وكانوا يؤدون الخراج عنها» . وإن أراد الإمام أن يجعل الأراضي عشرية فليس له ذلك، فقد صح أن عمر رضي الله عنه ترك من أسلم من أهل سواد عراق على خراج أرضه، ولم يغير، وهو المقتدى في هذا الباب، ولو فعل ذلك، وحكم به وكان من رأيه ذلك، ثم ولى غيره، ورأى حكمه بعده، وأمضاه؛ لأنه مجتهد فيه، فإن من العلماء من قال: بأن أراضي الكفار بعدما أسلموا تصير عشرية، وهو مالك. ولو لم يسلم أهل هذه الدار، لكن أراد الإمام أن ينقلهم من دارهم إلى دار قوم من أهل الذمة لا يجوز ذلك إلا بعلة؛ لأنهم لما قبلوا عقد الذمة ليتوطنوا في دارهم، فكان في النقل غدر بهم، والغدر حرام، فلا يفعل الإمام ذلك إلا لعلة، والعلة أن يخاف الإمام عليهم لضعفهم وعجزهم عن دفع الكفار عن أرضهم إن قصدهم، أو يخاف عليهم أن يخبروا الكفار بعورات المسلمين، وإذا فعل إن شاء قوم أراضيهم، وأعطاهم أثمانها، كما

فعل يهود وادي القرى، وإن شاء أبدلهم أراضي القوم الذين نقلهم إلى بلادهم كما فعل عمر رضي الله عنه بأهل نجران «فإنه رضي الله عنه أعطاهم أراضي من العراق مثل أراضيهم» ، وإذا فعل ذلك كان على رأس كل فريق الوظيفة التي كانت عليهم في بلدتهم، وكان على كل فريق خراج الأرض المنقول عنها، هكذا ذكر في «الزيادات» ، وذكر في رواية أخرى أن على كل فريق خراج الأرض المنقول (لها) ، واختلف المشايخ فيه. بعضهم قالوا: في المسألة روايتان، وذكروا لكل رواية وجهين: وجه ما ذكر في الزيادات: أن الوظيفة إنما وجب عليهم بالصلح، وإنما وقع الصلح مع كل فريق على وظيفة المنقول عنها، وجه الرواية الأخرى: أن هذا من الإمام مبادلة الأراضي بالأراضي، وفي مبادلة (155ب1) الأراضي بالأراضي بعشر خراج المنقول إليه، كما إذا اشترى الرجلان أرضاً بأرض، وبعضهم قالوا: ليس في المسألة روايتان، ولكن كل رواية مأولة. واختلفوا في التأويل، بعضهم قالوا: ما ذكر في الزيادات محمول على ما إذا لم يكن للمنقول إليها خراج موظف، فيقدر خراج المنقول إليها بخراج المنقول عنها؛ لأن ذلك الخراج المنقول حقيقة، وما ذكر في الرواية الأخرى محمول على ما إذا كان للمنقول إليها خراج موظف مقدر، وبعضهم قالوا: ما ذكر في الزيادات محمول على ما إذا وقع الصلح عن الأراضي إذ لا يمكن الفصل، وما ذكر في الرواية الأخرى محمول على ما إذا وقع الصلح متفرقاً، وعند ذلك الفصل ممكن، فيعتبر في الأراضي خراج المنقول إليها، فإن كانت إحدى الأراضي خير من الأخرى، والإمام يريد للذين حولهم إلى الأراضي الردية في المساجد حتى يأخذوا مثل ما أخذ منهم في القيمة اعتباراً لنظر بين الجانبين. هذا إذا نقل إلى تلك الأراضي قوماً من أهل الذمة، وإن نقل إليها قوماً من المسلمين، فعلى المسلمين خراج تلك الأراضي؛ لأن الخراج استقر وظيفة هذه الأراضي، فلا يبطل بإسلام المالك بعد ذلك، كما لو اشترى المسلم أرضاً خراجياً، فبعد ذلك: إن كان المال مفرداً في الصلح جعل الإمام على المسلمين حصة الأراضي، وإن كان جملة قسم المال على جماجم الذين أخرجهم، وعلى الأراضي كل سنة، فما أصاب الأراضي جعل على المسلمين الذين نقلهم إليها، وما أصاب الجماجم جعل على الذين نقلهم عنها، والله أعلم.

كتاب المعادن والركاز والكنوز اعلم بأن الكنز اسم لمال مدفون في الأرض دفنه بنو آدم، والمعدن اسم لمال جعلها الله تعالى في الأرضين يوم خلقها، والركاز قد يذكر، ويراد به المعدن وقد يذكر ويراد به الكنز إلا أنه للمعدن حقيقة وللكنز مجاز؛ لأن الركاز مأخوذ من الركز، وهو الإتيان يقال: ركز رمحه في الأرض إذا ثبته فيها، والمثبت في الأرض حقيقة عرق الذهب، فأما الكنز موضوع فيها، وليس بمثبت حقيقة، وأما الكلام في المعدن، فلا يخلو: إما إن وجده في أرض مباحة، أو وجده في أرضه، أو في داره. فإن وجده في أرض مباحة وجب فيه الخمس، سواء كان معدن ذهب، أو معدن فضة، أو رصاص، أو أصفراً، ولأن له حكم الغنيمة؛ لأن هذه المواضع كانت في أيدي الكفرة ثم وقعت في أيدينا بحكم القهر، فكانت غنيمة، فيجب فيها الخمس، ويكون أربعة أخماسها للواحد، وكان ينبغي أن يكون للمسلمين الغانمين؛ لأن لها حكم الغنيمة. والجواب: هذا المال كان مباحاً قبل أخذ الغانمين، والمال المباح إنما يملك بإثبات اليد عليه، كالصيد، ويد الغانمين ثابتة في هذا المال حكماً لا حقيقة؛ لأن إثبات اليد على ظاهر الأرض إثبات على باطنها حكماً لا حقيقة، وهو في يد الواحد حقيقة، فاعتبار الحكم إن أوجب الملك للغانمين، فاعتبار الحقيقة لا يوجب الملك لهم، والملك لم يكن ثابتاً لهم، فلا يثبت بالشك والاحتمال، فلا يعطى الأربعة الأخماس حكم الغنيمة في حق الغانمين لهذا المعنى، أما في حق وجوب الخمس أعطيت حكم الغنيمة؛ لأن جهة الحكم توجب الخمس وجهة الحقيقة لا توجب، فيترجح الموجب احتياطاً. وإن وجده في دار، فليس فيه شيء، وهو لصاحب الدار، وقال أبو يوسف ومحمد: فيه الخمس اعتباراً بالأرض، والجامع بينهما أنه مال معلوم، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن الذهب والفضة التي في المعادن من جملة أجر الأرض؛ لأنها قامت مع الأرض، ولهذا يملكه المشتري بشراء الدار، والدار بسائر أجزائها خلف عن حقوق الله تعالى، وصارت ملكاً للمالك. ألا ترى أنه لا يجب فيها عشر ولا خراج فكذا هذا الجزء وأما الأرض، ففي الموجود فيه روايتان عن أبي حنيفة ذكر في «الأصل» أنه لا يجب فيه شيء، وسوى بين الموجود في الأرض، والموجود في الدار، وجه ذلك أن سائر أجزاء الأرض سلم له بالعشر والخراج، ولا يجب فيها حق آخر، فكذا هذا الجزء. وذكر في «الجامع الصغير» أن فيه الخمس، وفرق على هذه الرواية بين الموجود في

الأرض، وبين الموجود في الدار، والفرق: أن سائر أجزء الأرض غير سالمة لصاحب الأرض خالياً عن حق الله تعالى، فإنه يجب فيه عشر، أو خراج، فكذا هذا الجزء، وسائر أجزاء الدار سلم لصاحبها خالية عن حق الله، فكذا هذا الجزء. وأما قوله: بأن هذا مال معلوم، قلنا: نعم، ولكنه مودع في الأرض، وقد أخذ الخمس من ظاهر الأرض، فجاز أن لا يؤخذ فيما هو مودع فيها. وأما الكلام في الكنز، فلا يخلو من وجهين الأول: أن يجده في دار الإسلام، وإنه على وجوه: أحدها: أن يجده في أرض غير مملوكة بحق المغارة والجبال وما أشبهها، فإن كان فيه علامات الإسلام كالمصحف والدراهم المكتوبة فيها الشهادة، وما أشبه ذلك، فهو بمنزلة اللقطة يعرفها حولاً، وإن كان فيه علامات الشرك نحو الصنم والصليب (156أ1) وما أشبهها، ففيه الخمس، وأربعة الأخماس للواجد، وهذا لأنه إذا كان فيه علامات الإسلام، فالظاهر أنه من وضع المسلمين، ومال المسلم لا يصير غنيمة، والمالك ليس بمعلوم، فيكون له حكم اللقطة. وإذا كان فيه علامات الشرك، فالظاهر أنه من وضع مشركين، وقع في أيدينا بإيجاف الخيل والركاب، فيكون غنيمة، فيجب فيه الخمس، وإن لم يكن فيه علامات تدل على شيء، فهو لقطة في زماننا؛ لأن العهد قد تقادم، فالظاهر أنه لم يبق شيء مما دفنه أهل الحرب، ويستوي أن يكون الواجد صغيراً أو كبيراً، أو عبداً مسلماً، أو ذمياً؛ لأن استحقاق هذا المال بمنزلة استحقاق الغنيمة، ولجميع من سميت حق في الغنيمة، فيكون لهم حق في استحقاق هذا المال، إلا إن ترجح للعبد والذمي والصبي في القتال، ولا يبلغ نصيبهم السهم تحرز عن المساواة بين التبع والمتبوع عند المزاحمة، وهنا لا تزاحم للواجد في الاستحقاق حتى يصير التفاضل، فلهذا كان الواجد حربياً مستأمناً لا يعطى له شيء؛ لأنه لا حظ لأهل الحرب من غنيمة المسلمين إلا أن يكون الحربي عمل بإذن الإمام وشرطه وتعاطيه، فعليه أن يفي بشرطه؛ لأن الوفاء بالشرط واجب قال عليه السلام «المسلمون عند شروطهم» . وإن وجده في دار مملوكة له، وفيه علامات الشرك، أو لم يكن فيه، الخمس وأربعة أخماسه للمختط له عند أبي حنيفة، ومحمد، وهو الذي اختطه الإمام حين فتح أهل الإسلام تلك البلدة إن كان فيئاً، ولا شيء للواجد، وقال أبو يوسف: هو للواجد؛ لأن هذا مال مباح سبقت إليه يده الحقيقية، فيكون أحق به كما لو وجده في المغارة. بيانه: إن هذا المال كان مباحاً، والمباح يملك بإثبات اليد، ويد المختط له، تثبت على هذا المال حكماً لا حقيقة، ويد الواجد تثبت عليها حقيقة، فاعتبار الحكم إن كان

يقتضي ثبوت الملك للمختط له فاعتبار الحقيقة يقتضي ثبوت الملك للواجد، فيترجح الواجد؛ لأن الحقيقي فوق الحكمي. ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أن يد المختط له على الكنز سبقت يد الواجد، فيكون ملكاً له كالمعدن، وهذا لأن اليد على ما في باطن الأرض تثبت حكماً لثبوتها على الظاهر؛ لأن قبل القسمة تلك يد عموم، وبعد الاختطاط تصير يد خصوص، واليد الحكمية تكفي لثبوت الملك في المباح إذا كانت يد خصوص، ولا تكفي إذا كانت يد عموم تعتبر اليد الحكمية باليد الحقيقية، واليد إذا كان يد خصوص تفيد الملك على وجه يكفي لنفاذ التصرف. ألا ترى أن تصرف الغازي في الغنيمة قبل القسمة لا ينفذ، وبعد القسمة ينفذ، فكذا اليد الحكمية، فيثبت الملك للمختط باليد الحكمية، ثم المختط له إن باع، وتناولته الأيدي لا يبطل ملكه في الكنز؛ لأن البيع تناول الدار، والكنز ليس من أجزاء الدار، والمشتري وإن استولى على الكنز لا يملكه، لأن الكنز للمختط له، وإنه مسلم، ومال المسلم لا يملك بالاستيلاء. الوجه الثاني: إذا وجد كنزاً في دار الحرب، فاعلم بأن محمداً رحمه الله وضع هذه المسألة في «الجامع الصغير» ، وفي «الأصل» في الركاز، فقال: m مسلم دخل دار الحرب بأمان، ووجد في دار بعضهم ركازاً رده عليهم، وإن وجده في الصحراء يريد به موضعاً، لا يكون مملوكاً لأحد كالمغارة ونحوها، فهو له، ولا شيء فيه، قال شيخ الإسلام: أراد بالركاز في هذه المسألة المعدن دون الكنز؛ لأن الموجود في الصحراء إن كان كنزاً يلزمه الرد عليهم؛ لأن الداخل دار الحرب بأمان التزم أن لا يغدر بهم، وفي أخذ الكنز من دارهم غدر وخيانة لما فيه من التعرض بملكهم؛ لأن المدفون ملكهم سواء في الصحراء، أو في دار. والقدوري ذكر هذه المسألة في «شرحه» ، ووضعها في الكنز، وجعل الجواب فيه على نحو ما ذكره محمد رحمه الله في «الأصل» وفي «الجامع الصغير» ، فهذا يبين لك أن الكنز والمعدن في هذه الصورة واحد. ووجه ذلك: أن يد صاحب الدار حقيقة، فتعتبر ثابتة على ما في باطن الدار حكماً، والأمان يمنع إزالة يدهم عما فيها، فأما الصحراء، فلا يد لأحد ظاهرة حقيقة حتى تعتبر ثابتة على ما في باطنه حكماً، فلا يمنع الأمان أخذه كما لا يمنع أخذ الحطب والحشيش. ولا خمس في العنبر والروح الذي يوجد في الجبال، وكذا في الياقوت والزمرد؛ لأنه ليس له حكم الغنيمة؛ لأنه لم يكن في يد أحد، وليس له معدن إنما يوجد بالطلب، فكان كالصيد بخلاف الكنز؛ لأن الكنز كان مملوكاً للكفرة، وكان في أيديهم، ثم كنزوها، فيكون له حكم الغنيمة، فيجب فيه الخمس. ولا خمس في الذهب والفضة يستخرجان من البحر، وكذلك جميع ما يستخرج من

البحر كالعنبر واللؤلؤ، فلا خمس فيه ليس بغنيمة؛ لأن الغنيمة ما كان في أيدي الكفرة، ثم صار في أيدينا بحكم القهر والغلبة، وباطن البحر لا يرد عليه يد أحد، ولا قهر أحد، فلم يكن غنيمة، وفي كل موضع وجب الخمس لو دفع الواجد الخمس بنفسه إلى الفقراء، ولم يدفعه إلى السلطان لا يأخذ منه السلطان (156ب1) ثانياً بخلاف زكاة السوائم، ولو دفع الواجد الخمس إلى والديه، أو إلى والده، وهم فقراء يجوز بخلاف الزكاة والكفارات وصدقة الفطر، ويجوز له أن يحبس الخمس لنفسه إذا كان أربعة الأخماس لا يكفيه لحديث علي رضي الله عنه. قال محمد رحمه الله: في آخر كتاب الزكاة من «الأصل» فصل في بيان بيوت الأموال: يجب أن تكون بيت الأموال أربعة: أحدها: بيت مال الزكاة والعشور والكفارات إذا وصلت إلى يد الإمام. والثاني: بيت مال الخراج والجزية التي نقلت، وما يأخذه العاشر من الكفرة. والثالث: فصل في بيان بيوت الأموال: بيت مال الخمس يعني خمس الغنائم والمعادن والركاز والكنوز. والرابع: بيت مال اللقطات والتركات، وإنما وجب أن يكون بيوت المال أربعة أما بيت مال الزكاة والخراج والخمس؛ فلأن بكل مال منها حكم يختص به لا يشاركه مال آخر فيه، فمتى جعل الكل في بيت واحد، وخلطه لا يمكنه إقامة حكم كل مال، وأما بيت مال اللقطات والتركات؛ لأنه ربما يظهر لها مستحق بعينها، فلو خلطها بغيرها لا يمكنه ردها بعينها على مستحقها، فيجعل بيوت المال أربعة لهذا. بيان ذلك: إن مال الزكاة، وعشور الأراضي مصروفة إلى المذكور في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} (التوبة: 60) إلا أنه لا يجوز صرفها إلى المقاتلة، ولا إلى فقراء بني هاشم، وقال: الخراج والجزية تصرف إلى المقاتلة، وإلى سد ثغور المسلمين، وبناء الحصون في الثغور، وإلى مراصد الطريق في دار الإسلام ليقع الأمن عن قطع الطريق من جهة اللصوص، وإلى كري الأنهار العظام الذي فيه صلاح المسلمين، وإلى من فرغ نفسه لعمل المسلمين نحو القضاة والمحتسب والمفتين والمؤذنين والمعلمين، وإلى عمارة المساجد والقناطر، وإلى معالجة المرضى إذا كانوا فقراء، وإلى تكفين الموتى الذين لا مال لهم، وإلى نفقة اللقيط وعقل حياته، وما أشبه ذلك. والحاصل: أن هذا النوع يصرف إلى ما فيه صلاح الدين، وصلاح دار الإسلام والمسلمين، ومال الخمس يصرف إلى فقراء المسلمين الهاشمي وغيره سواء، اللقطات والتركات تصرف إلى ما فيه صلاح المسلمين كمال الخراج والجزية، إلا أنه يجعل لها بيت على حدة، لما ذكرنا أنه ربما يظهر لها مستحق بعينها. ولو كان في بعض بيوت هذه الأمور مال، ولم يكن في البعض مال، فللإمام أن يصرف مال ذلك البيت إلى هذا البيت عند الحاجة حتى إذا لم يكن في بيت مال الخراج مال، وفي بيت مال الصدقة مال، فالإمام يأخذ بيت مال الصدقة، ويصرفه إلى المقاتلة،

ثم إذا وصل إليه مال الخراج، يرد على بيت مال الصدقة مثل ما أخذ؛ لأنه لا حق للمقاتلة في مال الصدقة، وإنما صرف إليهم على وجه القرض، فيرد مثله عند القدرة، إلا إذا صرف إلى فقراء المقاتلة، فحينئذٍ لا يرد؛ لأنه صرفه إلى مصرفه. ولو لم يكن في بيت مال الصدقة مال، وصرف مال الخراج إلى الفقراء، ثم وصل إليه مال الصدقات، لا يرد مثله إلى بيت مال الخراج؛ لأن الخراج له حكم الغنيمة، وللفقراء حظ من الغنيمة، وإنما كان لا يعطي الفقير من مال الخراج؛ لاستغنائه بالصدقات، فإذا احتاج وصرف إليه كان الصرف إلى المصرف، فلا يصير قرضاً، والله أعلم.

كتاب الصوم

كتاب الصوم هذا الكتاب يشتمل على أربعة عشر فصلاً: 1 * في بيان وقت الصوم وما يتصل به. 2 * فيما يتعلق برؤية الهلال. 3 * فيما يتعلق بالنية. 4 * فيما يفسد الصوم، وما لا يفسد. 5 * في وجوب الكفارة في إفساد الصوم. 6 * فيما يكره للصائم أن يفعله، وما لا يكره. 7 * في الأسباب المبيحة للفطر. 8 * في بيان الأوقات التي يكره فيها الصوم. 9 * فيما يصير شبهة في إسقاط الكفارة. 10 * في المجنون والمغمى عليه، والصبي يبلغ، والنصراني يسلم، والحائض تطهر، ومن بمعناهم. 11 * في النذور. 12 * في الاعتكاف. 13 * في صدقة الفطر. 14 * في المتفرقات.

الفصل الأول في بيان وقت الصوم وما يتصل به

الفصل الأول في بيان وقت الصوم وما يتصل به قال أصحابنا رحمهم الله: وقت الصوم من حين يطلع الفجر الثاني، وهو الفجر المستطير المنتشر في الأفق إلى وقت غروب الشمس خروج وقت الصوم، ولم ينقل عنهم أن العبرة لأول طلوع الفجر الثاني، أو لاستطارته وانتشاره، وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: العبرة لأوله، وبعضهم قالوا: العبرة لاستطارته، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: القول الأول أحوط، والثاني أوسع. وإذا شك في الفجر قال في «الأصل» : أحب إليّ أن يدع الأكل والشرب، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الخليلي رحمه الله: الواجب على من شك في طلوع الفجر أن يطالع الفجر أو يأمر من ينوبه حتى يطالعه، فإن طالع وليس في السماء علة بأن لم تكن السماء مقمرة، ولا متغيمة وليس ببصره علة، وهو ينظر إلى مطلع الفجر، فله أن يأكل ما لم يطلع الفجر، فإن كان في موضع لا يرى طلوع الفجر، أو يرى، إلا أن السماء كانت مقمرة، أو متغيمة، فإن انضم إلى الشك علامة أخرى تدل على طلوع الفجر من حيث الظاهر بأن كان له ورد يوافق فراغه طلوع الفجر، ففرغ منها. (157أ1) وشك في طلوع الفجر، أو كان يرى نجماً إذا أخذ مكاناً من السماء يوافق ذلك طلوع الفجر، فإذا انضم إلى الشك مثل هذه العلامة يدع الأكل والشرب، ويكون مسيئاً إذا أكل أو شرب، ويكون عليه القضاء إن كان أكبر رأيه أن الفجر طالع، هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهرزاده. وذكر القدوري: أن في هذا الفصل روايتين، وقال: الصحيح أنه لا قضاء عليه؛ لأن الأصل بقاء الليل، ونحن على ذكر الأصل حتى يقوم الدليل بخلافه، إلا أنه يستحب له القضاء احتياطاً لأمر العبادة، وإن لم يصم إلى الشك مثل ما ذكرنا من العلامة يستحب له أن يترك الأكل. وإن أكل لا يكون مسيئاً، ولا قضاء عليه، إلا إذا كان أكبر رأيه أن الفجر طالع، فحينئذٍ يستحب له القضاء، وإن أمر إنساناً ليطالع طلوع الفجر، فأخبره بالطلوع، فإن كان المخبر عدلاً يجوز له أن يأكل حراً كان أو مملوكاً ذكراً كان أو أنثى، وإن أخبره صبي عاقل لا يأكل إذا غلب على ظنه أنه صادق، وإن أخبره عدل بالطلوع، وعدل آخر بعدم الطلوع يتحرى سواء كان أحدهما حراً، والآخر مملوكاً، وإن كان من أحد الجانبين عدلان، أو من الجانب الآخر عدل يأخذ بقول العدلين، وإن كان من أحد الجانبين عدلان حران، ومن الجانب الآخر مملوك يأخذ بقول الحرين، وإن كان يأكل، فأخبره

عدل أن الفجر طالع، فأتم الأكل لا تلزمه الكفارة؛ لأنه قد أكل قبل الإخبار، وفسد صومه، لا عن كفارة، فلا تلزمه الكفارة بأكل يوجد بعد ذلك حتى لو لم يكن أكل قبل الإخبار، وإنما أكل بعد الأخبار تلزمه الكفارة، وإن كان يأكل فقال: له واحد عدل محوركه سهده دمدمي أو قال: مي دمد، فأكل مع ذلك، وظهر أن الفجر كان طالعاً لزمه الكفارة. في «مجموع النوازل» ؛ لأن قوله: دمدمي إخبار أنه يطلع الآن، فما كان من الأكل قبل الإخبار، فإنما كان قبل طلوع الفجر، فلم يفسد به الصوم، وما وجد من الأكل بعد ذلك وجد بعد طلوع الفجر، وبعد العلم به فيكون عمد وقصد، فيوجب الكفارة. ولو أخبره عدلان أن الفجر قد طلع، وعدلان أنه لم يطلع، فأكل بعد ذلك، ثم ظهر أن الفجر كان طالعاً هل تلزمه الكفارة؟ اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: لا تلزمه الكفارة؛ لأن البينتين قد تعارضتا، فتساقطتا، وكان سحراً على ظن أن الفجر لم يطلع، وهناك لا تلزمه الكفارة، وبعضهم قالوا: تلزمه الكفارة. ولو شهد واحد على طلوع الفجر، واثنان على أنه لم يطلع لم تجب الكفارة، ولو أراد أن يتسحر بالتحري، فإن ذلك إذا كان بحال لا يمكنه مطالعة الفجر بنفسه أو بغيره، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أن من تسحر بأكبر الرأي لا بأس إذ كان هذا الرجل ممن لا يخفى على مثله، مثل ذلك، وإن كان ممن يخفى عليه مثل ذلك قبيله أن يدع الأكل، وإن أراد أن يتسحر بضرب طبل سَحَرِيَ، فإن كثر ذلك الصوت من كل جانب، وفي جميع أطراف البلدة، فلا بأس به، وإن كان يسمع صوتاً واحداً، فإن علم عدالته يعتمد عليه وإن عرف فسقه لا يعتمد عليه وإن لم يعرف حاله يحتاط ولا يأكل. وإن أراد أن يعتمد بصياح الديك، فقد أنكر ذلك بعض مشايخنا، وقال بعضهم: لا بأس به إذا كان قد جربه مراراً، وظهر له أنه يضبط الوقت، إذا تسحر فدخل عليه قوم، وقالوا له: الفجر طالع، فقال: إذاً حصل الفطر آكل أكلاً مشبعاً، فأكل، ثم ظهر أن الأكل الأول كان قبل الصبح، والثاني بعد الصبح قال الحاكم أبو محمد الكوفي رحمه الله: إن كانوا مما عرف عدالتهم؟ لا كفارة. وإن كان المخبر واحداً إلا أنه عدل، فكذلك الجواب، وإن كان فاسقاً، فعليه الكفارة، وإذا قالت المرأة لزوجها: طالعت الفجر، فلم يطلع بعد، فجامعها، ثم ظهر أن الفجر كان طالعاً قال الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي رحمه الله: إن صدقها، وهي ثقة لا كفارة عليه، وقال عبد الرحمن بن أبي الليث، في «فتاويه» : لا كفارة عليه من غير تقييد، وعليها الكفارة، وكذا أفتى القاضي الإمام أبو علي، والخطيب مصطفى بن اليمان، هذا كله بيان الأحكام المتعلقة بأول وقت الصوم. جئناً إلى بيان الأحكام المتعلقة بآخر الوقت قال بعض مشايخنا: لا يجوز الإفطار بالتحري، وعن محمد: إن كان في موضع يمكنه معاينة غروب شمس لا يمنعه عن ذلك

الفصل الثاني فيما يتعلق برؤية الهلال

مانع لا يفطر بالتحري، بل يفطر بالمعاينة، وإن منعه عن ذلك مانع يفطر بالتحري بعد أن يتيقن فيه، ويحتاط نحو أن يتبع العلامة من الظلام ونحوه وبنحوه، روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وذكر شمس الأئمة الحلواني أن ظاهر مذهب أصحابنا: أنه يجوز الإفطار بالتحري، وإن أفطر وغالب رأيه أن الشمس قد غربت، ثم تبين أنها لم تغرب بعد كان عليه قضاء ذلك اليوم، بخلاف ما إذا تسحر، وغالب رأيه أن الفجر لم يطلع؛ ثم تبين أنه قد طلع، فإنه لا يجب عليه القضاء، بل يستحب له القضاء على الرواية الصحيحة؛ لأن ثمة الأصل بقاء الليل، فلا يترك إلا بيقين مثله، وههنا الأصل بقاء النهار، فلا يترك إلا بيقين مثله وأما إذا شك في غروب الشمس، والشك يساوي اليقين، فلو فطر، ثم تبين (157ب1) أن الشمس ما غربت تلزمه الكفارة، هكذا قاله الفقيه أبو جعفر، ووجه ما ذكرنا: أن الأصل بقاء النهار، وروى ابن رستم عن محمد أنه لا كفارة عليه استحساناً، وإن أخبره مخبر بغروب الشمس، من المشايخ من قال: لا يجوز له الفطر بقول الواحد بل شرط المثنى. قال شمس الأئمة الحلواني: كان الجواب أنه لا بأس بأن يعتمد على قوله إذا كان عدلاً، ويميل قلبه إلى صدقه كما في السحر، ولو أخبره عدلان أن الشمس قد غربت، وأخبره عدلان أنها لم تغرب، فلا كفارة عليه؛ لأن اللذان شهدا بعدم الغروب لم تقبل شهادتهما، إما لأن هذه شهادة على النفي، أو لأن الأصل هو النهار، وإن بانت بدون شهادتهما، أو اللذان شهدا على الغروب شهدا على إثبات ما ليس بثابت بشهادتهما، فيثبت الغروب بشهادتهما؛ فلهذا لا تجب الكفارة، وبهذا الطريق تجب الكفارة عند بعض المشايخ في مسألة طلوع الفجر، وهو الصحيح سئل شمس الأئمة الحلواني عن الإفطار يوم الغيم، فقال: جواب هذه المسألة لا يؤخذ في الكتب، والجواب فيها كالجواب في مراعاة الوقت ليصلي، وهناك قال أصحابنا: يؤخر المغرب فكذا ههنا يؤخر الإفطار يأخذ فيه بالثقة ما استطاع، والله أعلم. الفصل الثاني فيما يتعلق برؤية الهلال الواحد إذا شهد برؤية هلال رمضان، فإن كانت السماء متغيمة تقبل شهادة الواحد إذا كان مسلماً رجلاً كان، أو امرأة، أو عبداً، أو أمة أو محدوداً في قذف تائباً بعد أن يكون عدلاً في ظاهر الرواية، وذكر الطحاوي: أنه تقبل شهادة الفاسق، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه لا تقبل شهادة المحدود في القذف بعد التوبة. أما إذا كان مستور الحال، فالظاهر أن لا تقبل شهادته، وروى الحسن عن أبي

حنيفة: أنه تقبل شهادته، وهو الصحيح، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن فضل رحمه الله يقول: إذا كانت السماء متغيمة إنما تقبل شهادة الواحد إذا فسر، وقال: رأيت الهلال خارج البلدة في الصحراء، ويقول: رأيته في البلدة بين الخلل السحاب في وقت يدخل في السحاب ثم ينجلي، أما بدون هذا التفسير لا تقبل شهادة الواحد في ظاهر الرواية، خلافاً لما روي الحسن عن أبي حنيفة، بل يحتاج فيه إلى زيادة العدد، واختلفوا في مقدار ذلك، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أنه تقبل شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، وعن أبي يوسف أنه قال: يعتبر في ذلك جمع عظيم، وروي عنه أنه قدره بعدد القسامة. وعن خلف بن أيوب أنه قال: خمسمائة ببلخ قليل، وعن أبي حظ الكبير أنه يعتبر الوفاء، وعن محمد أنه قال: يفوض مقدار القلة والكثرة إلى رأي الإمام، ثم إنما لا تقبل شهادة الواحد على هلال رمضان، إذا كانت السماء مصحية، إذا كان هذا الواحد في المصر، فإذا جاء من خارج المصر، أو جاء من أعلى الأماكن في مصر ذكر الطحاوي أنه تقبل شهادته، وهكذا ذكر في كتاب الاستحسان، وذكر القدوري: أنه لا تقبل شهادته في ظاهر الرواية هذا الذي ذكرنا في هلال رمضان. وأما إذا قامت الشهادة برؤية هلال شوال، أو برؤية هلال ذي الحجة، إن كانت السماء مصحية، فالجواب فيه كالجواب في رؤية هلال رمضان يعني لا تقبل فيه شهادة الواحد، بل بشرط زيادة العدد، ولا بد من اعتبار العدالة والحرية في شهادات خواهرزاده، وفي «شرح الطحاوي» عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه تقبل في ذلك شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، فأما إذا كانت السماء متغيمة، فلا تقبل ما لم يشهد بذلك رجلان، أو رجل وامرأتان في ظاهر الرواية، وفي «المنتقى» أنه يقبل في ذلك شهادة الواحد، علل محمد في «المنتقى» القبول شهادة الواحد على هلال رمضان، فقال: لأن هذا أمر يدخل في فريضة وحق، وفي فصل الإفطار يقول: ههنا خروج عن فرض وحق. قال: ألا ترى لو شهد مسلم عدل على نصراني أنه أسلم قبل موته، وبرأ من دينه قبلت شهادته حتى يصلى عليه، ولو شهد مسلم عدل على مسلم أنه ارتد، والعياذ بالله لا تقبل شهادته، ولا تترك الصلاة عليه لهذا إن الإسلام دخول في حق وفرض، وتقبل شهادة الواحد العدل عليه، والارتداد خروج حق وفرض، فلم تقبل شهادة الواحد العدل عليه، وذكر شيخ الإسلام في شرح الشهادات: أن شهادة المثنى في الفطر والأضحى إنما تقبل إذا كان بالسماء علة، أو كانت مصحية وجاءا من مكان آخر، أما إذا كانت مصحية، وما جاءا من مكان آخر لا يكتفى بشهادة اثنين، بل يشترط فيه شهادة جماعة، وعن أبي يوسف في «المنتقى» : ما هو قريب من هذا، فقال: إنما أقبل شهادة الرجلين على هلال شوال إذا كانا قادمين، أو أخبرا أنهما رأياه في غير البلد، أما إذا أخبرا أنهما رأياه في البلد، وكان البلد كثير الأهل يراه الناس لا بد وأن يكونوا جماعة كثيرة.

وروى بشر عن أبي يوسف في «الأمالي» : أن أبا حنيفة كان يجبر على هلال شهر رمضان شهادة (158أ1) الرجل الواحد العدل، والمولى، والعبد، والأمة، والمحدود في القذف إذا كان عدلاً، ولا يجبر بشهادة الكافر والفاسق، ولا يجبر في هلال ذي الحجة والفطر، إلا بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، ولا يجبر بشهادة العبد والأمة والمحدود في القذف، قال: وهو قول أبي يوسف. وعن الفقيه أبي جعفر أنه قال: في هلال رمضان في الصوم يقبل قول رجل واحد عدل، سواء كان بالسماء علة، أو لم يكن، وروى الحسن بن زياد أنه قال: يحتاج إلى شهادة رجلين في الفطر والصوم جميعاً، سواء كان بالسماء علة، أو لم يكن، وأما هلال ذي الحجة ذكر في بعض المواضع أنه بمنزلة هلال شوال، وذكر في بعض المواضع أنه بمنزلة هلال رمضان، وتقبل شهادة الواحد على شهادة الواحد في هلال رمضان، ولا يشترط لفظة الشهادة، ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب الاستحسان، وذكر شيخ الإسلام في شرح نوادر الصوم يشترط فيه لفظة الشهادة، وأما في شهادة الفطر، والأصح فيعتبر لفظ الشهادة ذكره شيخ الإسلام في شرح كتاب الشهادات. في «المنتقى» : هشام عن محمد: شهادة العبد في هذا الباب بمنزلة شهادة الحر في المعاملات، ثم شهادة الحر على شهادة الحر مقبولة في المعاملات، فكذا شهادة العبد على شهادة العبد في هذا الباب، ثم الواحد إذا أري هلال رمضان وحده هل يلزمه أن يشهد عند الحاكم؟ لا ذكر لهذا في «المبسوط» ؛ قال: شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا كان عدلاً يلزمه أن يشهد عند الحاكم حراً كان أو عبداً أو أمة، حتى الجارية المخدرة، وهو من فروض العين، ويجب أن يشهد في ليلته تلك، كيلا يصبح الناس مفطرين، وللجارية المخدرة أن تشهد بغير إذن وليها، فأما إذا كان الرائي فاسقاً يكون فيه شبهة قول الطحاوي، إن علم أن القاضي يميل إلى قول الطحاوي، ويقبل شهادته يلزمه أن يشهد، وأما إذا كان مستوراً دخل فيه شبهة الروايتين عن أصحابنا، وهذا في المصر، أما في السواد إذا أري أحدهم هلال رمضان يشهد في مسجد قريته، وعلى الناس أن يصوموا بقوله بعد أن يكون عدلاً، إذا لم يكن هناك حاكم يشهد عنده. وفي «فتاوى القاضي» : إذا أخبر رجلان برؤية هلال شوال في الرستاق، والسماء مصحية، وليس هناك والي، فلا بأس بالناس أن يفطروا فيه أيضاً، الإمام إذا رأى هلال شوال وحده، لا ينبغي له أن يخرج، وأن يأمر الناس بالخروج، وإذا أبصر هلال رمضان وحده، وشهد عند القاضي، فرد القاضي شهادته، فعليه أن يصوم خلافاً للحسن البصري وعثمان البتي، فإن أفطر بعد ما رد الإمام شهادته، فلا كفارة عليه عندنا. وإن أفطر قبل أن يرد الإمام شهادته، أو قبل أن يشهد عند القاضي هل تلزمه الكفارة عندنا؟ فيه اختلاف المشايخ، ذكره شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصوم، وأما إذا قبل الإمام شهادته، وأمر الناس بالصوم، فأفطر هو، أو واحد من البلدة هل تلزمه

الكفارة؟ قال عامة مشايخنا: تلزمه، وقال الفقيه أبو جعفر: لا تلزمه، ثم الواحد إذا شهد عند القاضي، وردّ القاضي شهادته، وأكمل هذا الرجل ثلاثين يوماً لا يفطر إلا مع الإمام. في شرح «القدوري» : الواحد إذا شهد على هلال رمضان عند القاضي، والسماء متغيمة، وقبل القاضي شهادته، وأمر الناس بالصوم، فلما أتموا ثلاثين يوماً غم عليهم هلال شوال، قال أبو حنيفة، وأبو يوسف: يصومون من الغد، وإن كان يوم الحادي والثلاثين ولا يفطرون، وقال محمد: يفطرون، قال شمس الأئمة الحلواني: هذا الاختلاف فيما إذا لم يروا هلال شوال، والسماء مصحية، فأما إذا كانت السماء متغيمة، فإنهم يفطرون بلا خلاف، هذا إذا شهد على هلال رمضان واحد، فأما إذا شهد على هلال رمضان شاهدان، والسماء متغيمة، وقبل القاضي شهادتهما، وصاموا ثلاثين يوماً، فلم يروا الهلال، إن كانت السماء متغيمة يفطرون من الغد بالاتفاق، وإن كانت مصحية يفطرون إليه أشار.r في «القدوري» ، وفي «المنتقى» وهكذا حكى فتوى شيخ الإسلام أبي الحسن قبل، وفي «فوائد ركن الإسلام» علي السغدي أنهم لا يفطرون، والصحيح هو الأول. أهل مصر صاموا رمضان بغير رؤية الهلال، وفيهم رجل لم يصم حتى رأوا الهلال من الغد، فصام أهل المصر ثلاثين يوماً، وصام هذا الرجل تسعة وعشرين، ثم أفطروا جميعاً، فإن كان أهل المصر رأوا هلال شعبان، وعدو شعبان ثلاثين يوماً، كان على هذا الرجل قضاء اليوم الأول، وإن كان أهل المصر صاموا من غير عد شعبان ثلاثين يوماً، ومن غير رؤية هلال رمضان ليس على هذا الرجل قضاء اليوم الأول في «الكافي» . وفي «القدوري» إذا صام أهل المصر تسعة وعشرين يوماً للرؤية، وفيهم مريض لم يصم، فعليه قضاء تسعة وعشرين؛ لأن القضاء لحق الفائت، فيكون على عدد الفائت، فإن لم يعلم هذا الرجل ما صنع أهل المصر صام ثلاثين ليخرج عن العهدة بيقين؛ قال محمد رحمه الله: ولا عبرة لرؤية الهلال نهاراً قبل الزوال ولا بعده، وهي لليلة (158ب1) المستقبلة، وبنحوه ورد الأثر عن عمر رضي الله عنه. وقال أبو يوسف: إذا كان قبل الزوال، فهي الليلة الماضية، قيل: قول أبي حنيفة، كقول محمد، وفي صوم شيخ الإسلام رواية عن أبي حنيفة: أنه إذا غاب في هذه الليلة قبل الشفق، فهي من هذه الليلة. وفي «المنتقى» عن أبي حنيفة إن كان مجراه أمام الشمس، والشمس تتلوه، فهو لليلة الماضية، وإن كان مجراه خلف الشمس، فهو لليلة المستقبلة. أهل بلدة رأوا الهلال هل يلزم ذلك في حق أهل بلدة؟ روي عن محمد أنه قال: يعتمدون على قول أهل تلك البلدة، ويأخذون بقولهم، ويصومون بصومهم، وينظرون كذلك، وهذا فصل اختلف المشايخ فيه. بعضهم قالوا: لا يلزم وإنما المعتبر في حق كل بلدة رؤيتهم، وبنحوه «ورد الأثر

عن ابن عباس رضي الله عنه» . وفي «المنتقى» بشر عن أبي يوسف وإبراهيم عن محمد: إذا صام أهل بلدة ثلاثين يوماً لرؤية، وصام أهل بلدة تسعة وعشرين يوماً للرؤية، فعليهم قضاء يوم، وفي «القدوري» إذا كان بين البلدتين تفاوتاً لا تختلف المطالع لزم حكم إحدى البلدتين حكم البلدة الأخرى، فأما إذا كان تفاوتاً تختلف المطالع لم يلزم إحدى البلدتين حكم البلدة الأخرى، وذكر شمس الأئمة الحلواني: أن الصحيح من مذهب أصحابنا رحمهم الله أن الخبر إذا استفاض، وتحقق فيما بين أهل البلدة الأخرى يلزمهم حكم أهل هذه البلدة الأخرى، وفي «مجموع النوازل» شاهدان شهدا عند قاضي مصر لم ير أهله الهلال على أن قاضي مصر كذا شهد عنده شاهدان برؤية الهلال، وقضى به، ووجد استجماع شرائط صحة الدعوى قضى القاضي بشهادتهما حكاه عن شيخ الإسلام. وفيه أيضاً: قال نجم الدين رضي الله عنه: أهل سمرقند رأوا هلال رمضان سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة بسمرقند ليلة الاثنين، وصاموا كذلك، ثم شهد جماعة عند قاضي القضاة يوم الاثنين، وهو اليوم التاسع والعشرين، إن أهل كثر رأوا الهلال ليلة الأحد، وهذا اليوم آخر الشهر، فقضى به، ونادى المنادي في الناس أن هذا آخر يوم، وغداً يوم العيد، فلما أمسوا لم ير أحد من أهل سمرقند الهلال، والسماء مصحية لا علة بها أصلاً، ومع هذا عيدوا يوم الثلاثاء. قال نجم الدين: وأنا أفتيت بأنه لا يترك التراويح في هذه الليلة، ولا يجوز الإفطار يوم الثلاثاء، ولا صلاة العيد، قال: فالصحيح هذا، وكأنه مال إلى أن حكم إحدى البلدتين لا يلزم البلدة الأخرى أصلاً وعيد اختلاف المطالع، وعلم أن المطالع مختلفة إلا أن تلك المسألة مختلفة، وقد مضى بقول البعض، فارتفع الخلاف، فلم يتضح لنا وجه جواب نجم الدين ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح صومه، أن الواحد إذا رأى هلال شوال، وشهد عند القاضي ورد القاضي شهادته، ماذا يفعل؟ قال محمد بن سلمة: يمسك يومه، ولا ينوي صومه. وبعض مشايخنا قالوا: إن أيقن برؤية الهلال أفطر لكن يأكل سراً، وروي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يفطر، قال الفقيه أبو جعفر: قوله: لا يفطر معناه أنه لا يأكل ولا

الفصل الثالث في النية

يشرب، ولكن ينبغي أن يفسد صوم ذلك اليوم، ولا يتقرب به إلى الله تعالى، وإن أفطر في ذلك اليوم الكفارة عليه بلا خلاف، ولو شهد هذا الرائي عند صديق له سراً، فصدقه وأفطر لا كفارة عليه، والله أعلم. الفصل الثالث في النية قال أصحابنا رحمهم الله: إذا صام رمضان بنية ما قبل الزوال جاز، هكذا وقع في بعض الكتب، وفي بعضها، إذا صام رمضان بنية قبل انتصاف النهار جاز، وإنما تظهر ثمرة اختلاف اللفظين فيما إذا نوى عند قرب الزوال، أو عند استواء الشمس في كبد السماء، فاللفظ الأول يدل على الجواز، واللفظ الثاني يدل على عدم الجواز، والصحيح هو اللفظ الثاني؛ لأن قضية القياس قران العزيمة يجمع أجر العمل لكن سقط اعتباره بمكان التعذر، واكتفى بقران العزيمة بأول جزء يمكن من غير حرج، وما قبل انتصاف النهار من أجر العلم يمكن قران العزيمة بها من غير حرج، فلا يسقط اعتباره بهذا الطريق لم يجز الصوم بنيته بعد الزوال، وكذلك الصوم المنذور في وقت بعينه يجوز بنية ما قبل انتصاف النهار، وما وجب في ذمته من الصوم، وليس له وقت معين كالقضاء، والنذور المطلقة، والكفارات لا يجوز بنية، ما قبل انتصاف النهار، وإذا نوى قبل غروب الشمس من اليوم أن يصوم غداً لا تصح نيته، حتى لو أغمي عليه قبل غروب الشمس، وبقي كذلك إلى ما بعد الزوال من الغد أو نام، هكذا لا يصير صائماً في الغد، ولو نوى بعد غروب الشمس جاز؛ لأن الجواز بنية متقدمة بخلاف القياس لرفع الحرج، والحرج يندفع بتقديم النية في الليل، فلا يعتبر تقديم النية قبل الليل، وإن نوى في الليل أن يصوم غداً ثم بدا له في الليل أن لا يصوم، وعزم على ذلك، ثم أصبح من الغد وأمسك، ولم ينو الصوم لا يعتبر صائماً؛ لأن عزيمته انتقضت بالرجوع عنها، وبعد ذلك لم توجد العزيمة أصلاً، فإذا أصبح في رمضان لا ينوي صوماً، ولا فطراً، وهو يعلم أنه من رمضان ذكر شمس الأئمة الحلواني عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله: أن عن أصحابنا يصير.... صائماً روايتين، والأظهر أنه لا يصير صائماً ما لم ينو الصوم انتصاف النهار. وإذا قال: نويت أن أصوم غداً (159أ1) إن شاء الله، أو قال: أصوم غداً بمشيئة الله، فلا رواية في هذه المسألة عن أصحابنا قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وفيها قياس واستحسان؛ القياس أن لا يصير صائماً؛ لأن بالاستثناء تبطل النية، وفي

الاستسحان يصير صائماً؛ لأن قوله: إن شاء الله ههنا ليس على معنى حقيقة الاستثناء؛ بل هو على معنى الاستعانة، وطلب التوفيق حتى لو أراد به حقيقة الاستثناء بقوله إن نوى أن يفطر غداً، إن دعي إلى دعوة، وإن لم يدع لصوم، لا يصير صائماً بهذه النية، وإن لم يدع. ونظيره في نية صوم يوم الشك أكل السحر يكون بنية الصوم هكذا حكي عن نجم الدين عمر النسفي رحمه الله: إذا نوى واجباً آخر في رمضان، ففي الصحيح المقيم يقع صومه عن رمضان، وأما في المسافر فكذلك عندهما، وعند أبي حنيفة يقع عما نوى، ولو نوى المسافر التطوع فعن أبي حنيفة روايتان: في رواية يقع عن الفرض، وفي رواية يقع عن التطوع، والمريض إذا نوى التطوع، فالصحيح أنه والمسافر سواء، وهو على الروايتين إذا كان عليه قضاء يومين من رمضان واحد، فأراد القضاء ينبغي أن ينوي أول يوم وجب عليه قضاؤه من هذا الرمضان أو آخر يوم، وجب عليه قضاؤه وإن لم يعين اليوم، ونوى قضاء رمضان لا غير يجزئه سواء كان عن رمضان واحد، أو عن رمضانين، مذكور في غريب الرواية، ولو أصبح صائماً ينوي من اليومين الذين وجبا عليه أجزأه عن واحد منهما استحساناً، وكذلك لو أصبح ينوي صومه من ظهارين أجزأه عن واحد منهما استحساناً، ولو كان عليه قضاء يوم، فصام يوماً، ونوى به قضاء رمضان، وصوم التطوع أجزأه عن رمضان عند أبي يوسف، وقال محمد: لا يجوز عنه ويكون تطوعاً؛ لأن بين النيتين تنافياً في أن من نوى النفل أو القضاء، ثم نوى الآخر في الليل انتقض الأول بالثاني، فبطلت عند التعارض، والصوم لا يتأدى بدون النية. ولأبي يوسف: أن نية الفرض محتاج إليها، ونية النفل غير محتاج إليها، فاعتبر ما يحتاج إليها، وبطل ما لا يحتاج إليها. ولو نوى صوم القضاء، وكفارة اليمين لم يكن عن واحد منهما عند أبي يوسف للتعارض، وعند محمد لمكان القضاء بين النيتين، ولكن يصير متطوعاً؛ لأنه لم يبطل أصل النية، وأصل النية يكفي للتطوع، ولو نوى قصاء رمضان، وكفارة الظهار كان عن القضاء استحساناً في قول أبي يوسف، وقال محمد: يقع عن النفل وهو القياس؛ لأن كل واحد منها مثل الآخر، فتشاقدت قطب النيتان لمكان التعارض بقي أصل النية، فيقع عن التطوع، ولأبي يوسف أن القضاء أقوى؛ لأنه يدل عما وجب بإيجاب الله، وصوم النذر والكفارة وجب بسبب وجد من العبد، وما وجب بإيجاب الله تعالى أقوى، فاندفع. ولو نوى النذر لمعين وكفارة اليمين، فهو عن النذر في رواية عن محمد، ولو نوى صوم رمضان، وهو يرى أنه فيه، ثم تبين أنه قد مضى أجزأه، وإن تبين أنه لم يأت لم يجزئه. أصل المسألة ما ذكر محمد في «الأصل» : في رجل أسره العدو واشتبهت عليه

الفصل الرابع فيما يفسد الصوم وما لا يفسد صومه

الشهور، فلم يدر أي شهر رمضان؟ فتحرى شهوراً، إن وافق صومه رمضان جاز، وإن صام شهراً قبل شهر رمضان لم يجزه، وإن صام شهراً بعد شهر رمضان أجزأه، ولكن بشرطين: أحدهما: إكمال العدة. والثاني: ثبوت النية؛ لأنه قاضي ما عليه، وفي القضاء يعتبر الشرطان، فإن قيل: كيف جوز هذا وإنه نوى الأداء دون القضاء؟ قلنا: هو ناوي ما هو واجب عليه في هذه السنة، وهذا ونية القضاء سواء. الفصل الرابع فيما يفسد الصوم وما لا يفسد صومه فإن عاد شيء إلى جوفه، فهذا على وجهين: إما إن كان القيء ملء الفم، أو أقل من ملء الفم، فإن عاد بإعادته يفسد صومه بالإجماع، وإن عاد لا بإعادته، قال أبو يوسف: لا يفسد صومه، وقال محمد: يفسد هكذا ذكر القدوري، وذكر شيخ الإسلام الخلاف على خلاف ما ذكره القدوري، فذكر أن على قول أبي يوسف: يفسد صومه، وعلى قول محمد: لا يفسد. وإن كان القيء أقل من ملء الفم، فعاد شيء منه لا بإعادته لا يفسد صومه بالاتفاق، وإن أعاده، فعلى قول أبي يوسف: لا يفسد صومه، وقال محمد: يفسد صومه، وأما إذا تقيأ، فإن كان ملء الفم يفسد صومه بالاتفاق، عاد شيء منه إلى جوفه، أو لم يعد، وإن كان أقل من ملء الفم، فعلى قول أبي يوسف: لا يفسد صومه عاد شيء إلى جوفه أو أعاده، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قول محمد: يفسد عاد شيء إلى جوفه، أو أعاده، أو لم يعد أصلاً. فالحاصل أن محمداً: لا يعتبر الصنع في طرق الإخراج، أو الإدخال، وأبو يوسف يعتبر ملء الفم، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: فيما إذا تقيأ أقل من ملء الفم، فعاد شيء إلى جوفه، إن عن أبي يوسف روايتين، وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» .... في هذه الفصول بالاتفاق في مفهوم «الأصل» ، وإذا قاء بلغماً لا ينتقض صومه في قول أبي حنيفة ومحمد وأما قول أبي يوسف: ينتقض الصوم، القدوري؛ ثم على قول من يشترط ملء الفم في التقىء إذا تقيأ أقل من ملء الفم، مراراً يجمع إن كان بنفس ذلك السبب يجمع، هكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، والمذكور في شرح «الجامع الصغير» على قول أبي يوسف (159ب1) . إن كان الغثيان واحد يجمع، وإن سكن غثيانه، ثم تقيأ لا يجمع.

وحدّ ملء الفم ما لا يمكن ضبطه، وفي بعض المواضع ما لا يمكن ضبطه ألا يخرج، وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه قال: ملء الفم أن يعجزه عن الكلام، ومن المشايخ من اعتبر في هذا أن يبلغ نصف الفم. وإذا استعط، أو أقطر في أذنه، إن كان شيئاً يتعلق به صلاح البدن، نحو الدهن والدواء يفسد صومه من غير كفارة، وإن كان شيئاً لا يتعلق به صلاح البدن كالماء قال مشايخنا: ينبغي أن لا يفسد صومه، إلا أن محمداً رحمه الله: لم يفصل بينما يتعلق به صلاح البدن، وبينما لا يتعلق. ولو اغتسل، فدخل الماء في أذنه لا يفسد صومه، بلا خلاف، وفي الإقطار في الأذن لم يشترط محمد رحمه الله الوصول إلى الدماغ حتى قال مشياخنا: إذا غاب في أذنه كفى ذلك لوجوب القضاء، وبعضهم شرطوا الوصول إلى الدماغ. وإذا حك أذنه، فأخرج العود، وعلى رأسه شيء من الدرن؛ ثم أدخله ثانياً مع ذلك الدرن، ثم أخرجه، وبقي الدرن ثم في الأذن لا يفسد صومه، وإذا أوجر فما دام في فمه لا يفسد صومه، وإذا أوصل إلى الجوف يفسد صومه، ولا تلزمه الكفارة في ظاهر الرواية من غير تفصيل بين حالة الاختيار، وبين حالة الاضطرار. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه فرق بينهما، وقال: أرأيت لو استلقى على قفاه، وقال: صبوا في حلقي ماء أكان لا تلزمه الكفارة؟ وعامة المشايخ في هذه المسألة على أنه إن فعل ذلك به باختياره، ولا عذر به تلزمه الكفارة، وإن فعل ذلك من غير اختياره، أو باختياره، لكن به عذر ألا تلزمه الكفارة. وروى هشام عن أبي يوسف: أن عليه الكفارة في هذه المسائل، وإذا احتقن يفسد صومه، وإذا استنجى، وبالغ حتى وصل الماء إلى موضع الحقنة يفسد صومه، ومن غير كفارة، وإذا أقطر في إحليله لا يفسد صومه عند أبي حنيفة، ومحمد، خلافاً لأبي يوسف، وروى الحسن عن محمد: أنه توقف في هذه المسألة في آخر عمره. قال الفقيه أبو بكر البلخي: إنما يفسد الصوم على قول أبي يوسف: إذا وصل إلى الجوف، أما إذا كان في القصبة بعد لا يفسد، وهكذا ذكر في «المنتقى» : وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أن الصب في الإحليل بمنزلة الحقنة يفسد الصوم إذا أوصل في الجوف. وتكلم المشايخ في الإقطار في قبل النساء، منهم من قال: هو على هذا الخلاف، ومنهم من قال: يفسد الصوم بلا خلاف كالحقنة، وهو الصحيح. وفي الجائفة والآمة إذا داواهما بدواء يابس لا يفسد صومه، وإذا داواهما بدواء رطب يفسد صومه عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، وأكثر المشايخ اعتبروا الوصول إلى الجوف في الجائفة والآمة إن عرف أن اليابس وصل إلى الجوف يفسد صومه بالاتفاق، وإن عرف أن الرطب لا يصل إلى الجوف لا يفسد صومه، كذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله،

وأما إذا اكتحل، أو أقطر شيئاً من الدواء في عينه لا يفسد صومه عندنا، وإن وجد طعم ذلك في حلقه، وإذا بزق فرأى أثر كحل ولونه في بزاقه، هل يفسد صومه؟ ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن فيه اختلاف المشايخ، عامتهم على عدم الفساد. شد طعاماً بخيط، وعلقه في حلقه ما دام مشدوداً في الخيط لا يفسد صومه، وإن سقط من الخيط في حلقه يفسد صومه هكذا روي عن أبي يوسف. في شرح شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا طعن الصائم برمح، فإن نزعه لم يفطره، وإن بقي الرمح أفطر، هكذا ذكر في عامة الكتب، وذكر سيدنا رحمه الله في «شرح التجريد» بيان في هذا الفصل، وهو ما إذا أبقي الرمح اختلاف المشايخ. في «البقالي» : السهم إذا أصابه، ونفذ من الجانب الآخر لا يفسد صومه، وإذا أدخل إصبعه في دبره أكثر المشايخ على أنه لا يجب الغسل والقضاء، وإذا أدخل خشبة في دبره، إن كان طرفها خارجاً لا يفسد صومه. في الباب الأول من «الواقعات» ، وعلى هذا إذا ابتلع حنطة، وأخذ طرفها في يديه، ثم أخرها لم يفطره، وإن ابتلع كلها فطر، إذا كان بين أسنانه شيء، فدخل جوفه، وهو كاره لذلك لا يفسد صومه هذا هو لفظ محمد رحمه الله، وأما إذا ابتلعه، فيه اختلاف المشايخ، ونص في «الجامع الصغير» : على أنه لا يفسد، وهذا كله إذا كان شيئاً قليلاً، فأما إذا كان كثيراً يفسد صومه دخل جوفه، أو ابتلعه، والحمّصة وما فوقها كثير ذكره في اختلاف زفر ويعقوب عن أبي حنيفة. وفي «الجامع الأصغر» : أن أبا نصر الدبوسي قدر الكثير بأن يقدر على ابتلاعه من غير ريق، وهذا إذا لم يخرجه من فمه، فإن أخرجه، ثم ابتلعه يفسد صومه بالاتفاق، ثم إذا فسد صومه إذا كان قدر الحمصة، أو كان أقل لا أنه أخرجه من الفم، ثم ابتلعه هل تلزمه الكفارة؟ قال أبو يوسف: لا تلزمه؛ لأنه ليس من جنس ما يتغذى به، والطباع لا تميل إليه، فهو بمنزلة التراب، وإذا ابتلع سمسمة كانت بين أسنانه لا يفسد صومه، وإن تناولها من الخارج إن مضغها لا يفسد صومه، إلا أن يجد طعمه في حلقه، وإذا مص إهليلجة يابسة، ولم يدخل عينها في جوفه لا يفسد صومه، ولو فعل هذا بالفانيد أو السكر يفسد صومه. وفي «الجامع الصغير» : إذا وقع ثلجة أو مطرة في فم الصائم، وابتلعها يفسد صومه هو المختار، والغبار والدخان وطعم الأدوية، وريح العطر، إذا وجد في حلقه لم يفطره؛ لأن التحرز عنه غير ممكن. وإذا وضع البزاق على كفه، ثم ابتلعه فسد صومه بالاتفاق، وإن كان البزاق شيئاً (160أ1) ، فيدلي من فمه لكن لم يزايل فمه، ثم ابتلعه لم يفسد صومه، في صوم شمس الأئمة الحلواني، وعن الفقيه أبو جعفر أنه إذا أخرج البزاق على شفتيه، ثم ابتلعه فسد صومه. في «المنتقى» : الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف قال: البزاق إذا خرج من الفم

ثم رجع إلى فمه، فدخل حلقه، وقد بان من الفم، أو لم يبن، فإن كان ذلك قدر ما إذا أصاب الصائم فطره، فإنه يفطره، وإذا ابتلع بزاق غيره فسد صومه من غير كفارة، إلا إذا كان بزاق صديقه، فحينئذٍ تلزمه الكفارة؛ لأن الناس قلما يعافون بزاق أصدقائهم، وفي «المنتقى» : إذا شرب النائم، فعليه القضاء قال: ثمة، وليس هو كالناسي، وأشار إلى الفرق، فقال: ألا ترى أن النائم أو الذاهب العقل، إذا ذبح لم تؤكل ذبيحته، والناسي للتسمية تؤكل ذبيحته؟ وفي «الواقعات» : للصدر الشهيد رحمه الله: الدمع إذا دخل فم الصائم إن كان قليلاً، كالقطرة والقطرتين لا يفسد صومه، وإن كان كثيراً حتى وجد ملوحته في جميع فمه، وابتلعه يفسد صومه، وكذلك الجواب في عرق الوجه. وفي «متفرقات الفقيه أبي جعفر» إن تلذذ بابتلاع الدموع، فعليه القضاء مع الكفارة. وفي «الواقعات» أيضاً الدم إذا خرج من الأسنان، ودخل الحلق إن كانت الغلبة للبزاق لا يفسد صومه، وإن كانت الغلبة للدم فسد صومه، وإن كان على السواء فسد صومه احتياطاً، ولا كفارة إذا كانت الغلبة للدم، أو كانا على السواء، لأنه لا كفارة في الدم الخالص في ظاهر الرواية، فهذا أولى. إذا أكل لحماً غير مطبوخ يلزمه القضاء بلا خلاف، وتكلموا في الكفارة قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : والمختار أنه تلزمه، وإذا أكل لحماً غير مطبوخ تلزمه الكفارة بلا خلاف؛ الصائم إذا دخل المخاط من أنفه رأسه، فاستشمه، فأدخل حلقه على عمد منه لا يفسد صومه، وهو بمنزلة ريقه، إذا رمت المرأة القطنة في قبلها إن انتهت إلى الفرج الداخل، وهو رحمها انتقض صومها؛ لأنه تم الدخول. قيل لرجل يأكل: إنك صائم، وهو لا يتذكر، تكلموا فيه، واختيار الصدر الشهيد: أنه يلزمه القضاء، وإذا فتل خيطاً، أو سلكاً، فبله ببزاقه، ثم أدخله في فمه ثم أخرجه، وفعل كذلك مراراً لا يفسد صومه في صوم شمس الأئمة الحلواني؛ الصائم إذا عمل عمل الإبريسم، فأدخل الإبريسم في فمه، فخرجت به خضرة الصبغ، أو صفرية، أو حمرية، واختلطت بالريق، فصار الريق أخضراً أو أحمراً أو أصفراً، فيبلع هذا الريق، وهو ذاكر لصومه فسد صومه. وفي «البقالي» : إذا أمسك في فمه شيئاً لا يؤكل، فوصل إلى جوفه لا يفسد صومه، وفيه أيضاً: إذا اغتسل فدخل الماء في فمه لا يفسد صومه. وفيه أيضاً: عن نصر إذا اغتسل، فدخل الماء في فمه لا يفسد صومه؛ لأنه لم يصب فيه متعمداً. نوع منه: إذا عالج ذكره بيده حتى أمنى، قال أبو بكر، وأبو القاسم: لا يفسد صومه، وعامة مشايخنا استحسنوا، وأفتوا بالفساد، وكذلك على هذا الخلاف إذا أتى

بهيمة فأنزل، وإن لم ينزل لا يفسد صومه بلا خلاف، وأما إذا قبل بهيمة أو مس فرج بهيمة، فأنزل لا يفسد صومه بالاتفاق في صوم شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وإذا قبل امرأته، وأنزل فسد صومه من غير كفارة، وإذا قبلت المرأة زوجها، فكذلك في حقها، وهذا إذا رأت بللاً، فأما إذا وجدت لذة الإنزال لكنها لا ترى بللاً قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، قال: ينبغي أن لا يفسد صومها عند محمد خلافاً لأبي يوسف، وهو نظير الاختلاف، فيما إذا رأت في منامها، ووجدت لذة إلا أنها لم تر بللاً قيل: يلزمها الاغتسال؛ l جامع في نهار رمضان قبل الصبح، فلما جيء الصبح خرج، فأمنى بعد الصبح لا يفسد صومه؛ لأنه لم يوجد بعد الصبح الجماع لا صورة ولا معنى؛ ولو نظر إلى امرأته بشهوة، فأمنى لا يفسد، وإذا مسها، وأمني يفسد صومه، والمراد مس ليس بينهما ثوب، فأما إذا مسها من وراء ثياب، فإن كان يجد حرارة أعضائها فسد صومه إذا أمنى، وإن كان لا يجد حرارة أعضائها لا يفسد صومها، وإن أمنى، في صوم شمس الأئمة. وإذا مست المرأة زوجها حتى أنزل لم يفسد صومه، ولو كان تكلف بذلك، ففيه اختلاف المشايخ. في «البقالي» : مس الصائم امرأته، وأمذى لا يفسد صومه، ومن المشايخ من فصل القول وقال: إذا خرج المذي على سبيل الدفق يفسد، وإن خرج لا على سبيل الدفق لا يفسد. جماع الميتة بمنزلة جماع البهيمة يفسد صومه، إذا أنزل، إذا جامع امرأته في نهار رمضان ناسياً، فتذكر وهو مجامعها، فقام عنها، أو جامعها ليلاً، فانفجر الصبح، وهو مخالطها، فقام عنها قال محمد رحمه الله: هما سواء، ولا قضاء عليه، وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأنه لم يوجد بعد التذكر وانفجار الصبح.... عن الجماع، ولو وجد بجزء من المجامعة ومخالطة، فذاك مما لا يستطاع الامتناع عنه، وقال إسماعيل: قال إسماعيل: قال أبو يوسف يقضي الذي كان يطأها الليل، ولا يقضي الذي كان يطأها بالنهار، وإن طلع الفجر، وهو مخالطها وبقي، فعليه قضاء لا كفارة، وكذلك إذا جامع ناسياً، فتذكر، فبقي، رواه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة، (160ب1) وأبي يوسف، وهشام عن محمد. وعن أبي يوسف: إذا بقي بعد الطلوع، فعليه الكفارة، وإن بقي بعد الذكر، فلا كفارة، والصحيح هو الأول؛ لأنه ما لم يصح الشروع لا تجب الكفارة، واقتران المجامعة بالشروع يمنع صحة الشروع، وعلى هذا إذا كان يأكل ويشرب ناسياً، فتذكر، أو كان طلع الفجر، وهو يأكل ويشرب، فقطع الشرب، أو ألقى اللقمة، فصومه تام.

الفصل الخامس في وجوب الكفارة في فساد الصوم

في «الحاوي» في امرأتين عملتا عمل الرجال من الجماع، إن أنزلتا، فعليها القضاء، وإن لم تنزلا، فلا قضاء عليهما، والله أعلم. الفصل الخامس في وجوب الكفارة في فساد الصوم ما يجب اعتباره في هذا الفصل شيئان: أحدهما: أن الصائم إذا أكل ما يتداوى به، أو ما يؤكل عادة، إما مقصوداً بنفسه، أو تبعاً بغيره تلزمه الكفارة، وهذا لأن الكفارة إنما شرعت بخلاف القياس زجراً عن جناية إفساد الصوم، وإنما يحتاج إلى الزجر فيما يميل الطبع إليه، والطبع إنما يميل إلى ما يعتاد أكله، أو يتداوى به، أما لا يميل إلى ما لا يعتاد أكله، ولا يتداوى به، والثاني: أن ما يصلح للدواء والغذاء يجب في ما لا يعتاد أكله، ولا يتداوى إلا بأقله الكفارة قصد الغذاء، أو الدواء أو لم يقصد. إذا ثبت هذا فنقول: إذا أكل ورق الشجر إن أكل ما تؤكل عادة كرام زكيد مر تلزمه الكفارة، وإن أكل التاك والحلبوي، فكذلك إن أكل في الابتداء تلزمه الكفارة، وإن أكل بعد ما كبر هذه الأشياء لا تلزمه الكفارة؛ لأنه لا يعتاد أكله كذلك، وعن هذا قلنا: إذا ابتلع جوزة يابسة، أو لوزة يابسة لا كفارة عليه، وإن ابتلع لوزة رطبة، فعليه الكفارة. وكذلك إذا ابتلع بطيخة صغيرة، فعليه الكفارة، ولو مضغ الجوزة اليابسة، أو اللوزة حتى وصل الممضوغ إلى جوفه، فعليه الكفارة روي ذلك عن أبي يوسف مطلقاً من غير فصل، وذكر هشام عن محمد في «المنتقى» المسألة مطلقة أيضاً من غير فصل، قال مشايخنا رحمهم الله: إن وصل القشر أولاً إلى حلقه، فلا كفارة؛ لأن الفطر حصل بالقشر، وإنه لا يوجب الكفارة، وإن وصل اللب أولاً إلى حلقه، فعليه الكفارة. في «نوادر» صوم شمس الأئمة الحلواني، وفي «المنتقى» ، وابن سماعة في «نوادره» : لو أكل قشور الرمان بشحمه، أو ابتلع رمانة، فعليه القضاء، ولا كفارة، أكل قشر البطيخ، إن أكل يابساً أو كان بحال يتقذر منه، فلا كفارة، وإن كان طرياً وكان بحال لا يتقذر منه، فعليه الكفارة، وإذا أكل الحنطة، فعليه الكفارة؛ قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: تلزمه الكفارة، وإن أكل حبة، وفي «القدوري» يقول: إذا قضم حنطة، فعليه الكفارة، وإن أكل الشعير، فلا كفارة عليه، إلا إذا كان مقلياً، في «نوادر الصوم» لشيخ الإسلام، وذكر شمس الأئمة الحلواني في «نوادر» صومه أن فيه اختلاف المشايخ، ولم يتعرض للمقلي وغير المقلي، وأكل الأرز والجاورس لا يوجب الكفارة وإن أكل عجيناً، فعليه الكفارة عند محمد، وعند أبي يوسف لا كفارة عليه؛ لأنه لا يؤكل عادة، وبه أخذ الفقيه أبو الليث، وفي موضع آخر الخلاف على عكس هذا وإن أكل عجين الحوك الذي سمي بالفارسية تبعه، ينبغي أن تجب الكفارة كما لو أكل العصيدة

في «نوادر» شمس الأئمة أيضاً، ودقيق الذرة إذا لته بالسمن والدبس تجب الكفارة بأكله؛ لأنه يؤكل كذلك عادة، ودقيق الحنطة أو الشعير غسل بالماء وخلط بالسكر وسمي بالفارسية تيست تجب الكفارة بأكله؛ لأنه دواء، وإن أكل الطين الأرمني، فعليه الكفارة لأنه يتداوى به، وعن أبو يوسف أنه لا يجب في «البقالي» ، وإن أكل الطين الذي يأكله الناس على سبيل العلة ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في صومه أن فيه اختلاف المشايخ، وذكر رحمه الله في «نوادر» صومه عن محمد أنه لا كفارة، قال: تدري أن كثيراً من مشايخنا استحسنوا، وأوجبوا الكفارة، وفي «البقالي» عن ابن المبارك مطلقاً أنه تجب الكفارة، فقيل له: ترويه عن أحد، قال: هو قول محمد و «شرحه» . في بعض روايات «المنتقى» الأكل للتداوي، ولو أكل كافوراً، أو مسكاً، أو زعفراناً، فعليه الكفارة؛ لأنه يتداوى بهذه الأشياء ولو ابتلع إهليلج ففيه روايتان، وإذا أخذ لقمة من الجبن ليأكلها، فلما مصها تذكر أنه صائم، فإن ابتلعها كذلك، فعليه القضاء والكفارة، وإن أخرجها من فمه، ثم أعادها، وابتلعها، فلا كفارة؛ لأن بالإخراج صارت نحلاً يعاف عنها، وإذا أكل الملح وحده، فقد قيل: بأنه لا تلزمه الكفارة، وقد قيل: بأن عليه الكفارة، وقيل: تجب الكفارة بأكل القليل منه، ولا تجب بأكل الكثير؛ لأن الكثير منه مضر؛ نوع منه إذا جامع امرأته في نهار رمضان ناسياً، فتذكر وهو مجامعها فقام عنها، أو جامع ليلاً، فانفجر الصبح، وهو مخالطها، فقام عنها حتى لم يفسد صومه، أو عاد وهو ذاكر، في بعض الكتب أن عليه الكفارة من قبل إن عاد وهو على صومه، وذكر في بعض الكتب أن عن محمد في وجوب الكفارة روايتين، في رواية قال: تلزمه الكفارة لما قلنا، وفي رواية قال: إن كان الرجل فقيهاً يعلم أن الأول لم يفطره، ثم عاد تلزمه (161أ1) الكفارة، وإن كان جاهلاً لا تلزمه الكفارة. وهو نظير ما لو أكل ناسياً، ثم أكل ناسياً، ثم أكل بعد ذلك متعمداً، إن كان الرجل فقيهاً تلزمه الكفارة، وإن كان جاهلاً لا تلزمه كذا ههنا. الجماع في الدبر عندهما يوجب الكفارة، وكذلك عند أبي حنيفة على إحدى الروايتين، وهو الصحيح، لأن وجوب الكفارة بالجماع؛ لأنه قضاء الشهوة على سبيل التمام، وقد وجد ذلك ههنا، ووجوب الحد بالزنا لتضييع الولد، وفساد الفراش، وهذا المعنى لم يوجد ههنا. وإذا طاوعت المرأة زوجها في الجماع، فعليها الكفارة، وإن كانت مكرهة، فلا كفارة عليها قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: الشرط كونها مكرهة وقت الإيلاج؛ لأن الصوم إنما يفسد بالإيلاج، ولو أكرهت المرأة زوجها على الجماع، فعلى الزوج الكفارة، هكذا ذكر في بعض المواضع؛ لأن الزوج لا يجامعها إلا بعد انتشار الآلة، وإذا جاء الانتشار زال الإكراه، وذكر محمد في «الأصل» أن الكفارة عليه، وعليه الفتوى؛ لأن هذا إفطار بقدر،

الفصل السادس فيما يكره للصائم أن يفعله وما لا يكره

إذا علمت بطلوع الفجر، وكتمت عن زوجها حتى جامعها، والزوج لم يعلم بطلوع الفجر، فعليها الكفارة، والله أعلم. الفصل السادس فيما يكره للصائم أن يفعله وما لا يكره إذا أراد أن يحتجم إن أمن على نفسه من الضعف لا بأس به، فأما إن خاف أن يضعفه ذلك، فإنه يكره، وينبغي له أن يؤخر إلى وقت الغروب هكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده شرط الكراهة ضعفاً يحتاج إلى الفطر والقصد يكون فطر الحجامة. ويكره المبالغة في المضمضة، والاستنشاق لحديث لقيط بن صبرة، وإنه معروف، وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ويفسر ذلك أن يكثر إمساك الماء في فمه، ويملأ فمه لا أن يغرغر، ويكره مضغ العلك للصائم، قال مشايخنا: والمسألة على التفصيل، إن لم يكن العلك مصلحاً ملتئماً فطره، وإن كان مصلحاً ملتئماً، فإن كان أسود فطره، وإن كان أبيض لم يفطره إلا أن في «الكتاب» لم يفصل. قال في «الأصل» : ويكره للصائم أن يذوق شيئاً بلسانه، ومن أصحابنا من قال: هذا في صوم الفرض، أما في صوم التطوع لا يكره في صوم شمس الأئمة، ومنهم من قال: في صوم الفرض إنما يكره إذا كان له بد أما إذا لم يكن بد بأن احتاج إلى شراء شيء مأكول، وخاف أنه لو لم يذق يغبن فيه، أو لا يوافقه، لا يكره في صوم خواهر زاده رحمه الله، ونص على الكراهة في هذه الصورة في «فتاوى أهل سمرقند» . قال: ويكره للصائم أن يذوق العسل والدهن عند الشراء ليعرف جيده ورديئه. وفيه أيضاً: يكره للصائم ذوق المرقة. وفي «فتاوى البلخي» : إن كان زوجها سيء الخلق يضايقها في ملوحة الطعام، فلا بأس به. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف: أن أبا حنيفة كان يكره أن تمضغ المرأة لصبيها طعاماً، وفي «القدوري» : لا بأس للمرأة أن تمضغ لصبيها طعاماً إذا لم تجد منه بدّاً، ولا بأس بالسواك الرطب واليابس، وأن يغمر في الماء قال عليه السلام «خير خلال الصائم السواك» ، وقال أبو يوسف: يكره المعلوك، ولا يكره الرطب.......؛ لأن في

الفصل السابع في الأسباب المبيحة للفطر

المعلوك إدخال الماء في الفم من غير حاجة، وفي «المنتقى» : كان أبو حنيفة رحمه الله يكره للصائم أن يمضمض، ويستنشق بغير وضوء، وأن يصب الماء على وجهه ورأسه، وأن يستنقع في الماء، وأن يذوق شيئاً بلسانه، وعن أبي يوسف أنه يكره له أن يتمضمض بوضوء، ولا بأس بأن يستنقع ويغسل على رأسه ويبل ثوبه. وفي «القدوري» : ولا بأس للصائم أن يقبل ويباشر إذا أمن على نفسه ما سوى ذلك، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه كره المعانقة والمباشرة والمصافحة، وليس بين الروايتين تنافي، فرواية الحسن محمولة على المباشرة الفاحشة، بأن يعانقها، وهما متجردان، ويمس فرجه فرجها، وهذا مكروه بلا خلاف، ولأن المباشرة إذا بلغت هذا المبلغ يفضي إلى الجماع غالباً، وما ذكر في ظاهر الجواب محمول على ما إذا لم تكن المباشرة فاحشة، وفي المباشرة إذا لم تكن فاحشة، إذا كان يخاف على نفسه يكره أيضاً. الفصل السابع في الأسباب المبيحة للفطر إذا أفطر في صوم التطوع فإن كان بعذر يحل، واختلفت الروايات عن أصحابنا رحمهم الله في الضيافة، أنه هل تكون عذراً؟ فعن أبي يوسف أنه إذا دعاه أخ له إلى الطعام فهذا عذر يفطر ويقضي، وروى هشام عن محمد: إذا دخل على أخ له، فسأله أن يفطر لا بأس بأن يفطر قالوا: إن الصحيح من المذهب أنه ينظر في ذلك، إن كان صاحب الدعوة ممن يرضى بمجرد حضوره، ولا يتأذى بترك الإفطار لا يفطر، وإن كان يعلم أنه يتأذى بترك الإفطار يفطر قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: أحسن ما قيل في هذا الباب: إن كان يثق من نفسه بالقضاء يفطر، دفعاً للأذى عن أخيه المسلم، وإن كان لا يثق من نفسه بالقضاء لا يفطر وإن كان في ترك الإفطار أذى المسلم، وقد اختلف مشايخ بلخ فيمن حلف على صائم (161ب1) بطلاق امرأته أن يفطر قال خلف بن أيوب: لا ينبغي له أن يفطر، وقال الفقيه أبو الليث: الأولى أن يفطر، ثم يقضي، وعلى قياس ما ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في مسألة الضيافة يجب أن يكون الجواب في مسألة الحلف على ذلك التفصيل أيضاً. وهذا إذا كان الإفطار قبل الزوال، فأما بعد الزوال، فلا يفطر إلا إذا كان في ترك الإفطار عقوق بالوالدين أو بأحدهما، وأما الإفطار بغير عذر بشرط القضاء ذكر في «المنتقى» عن أبي يوسف أنه يحل. وهكذ روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة ذكر أبو بكر الرازي عن أصحابنا أنه لا يحل، والمتأخرون اختلفوا فيه وهذا كله في التطوع، أما في الفرض والواجب لا يحل الإفطار إلا بعذر، والسفر ليس بعذر في اليوم الذي أنشأ السفر فيه، وعذر في سائر الأيام

بخلاف ما لو مرض بعدما أصبح صائماً؛ لأن المرض عذر جاء من قبل الله.... سبيل من إسقاطه، فجاز أن يسقط عن المعني في الصوم، وأما السفر معني في مهنة من، وعليه لا يقدر على إسقاط ما عليه إلا بالأداء، والسفر الذي يبيح الفطر ما يبيح القصر، والمرض الذي يبيح الفطر ما خاف منه الموت، أو زيادة علة، حتى لو خاف أنه لو لم يفطر يزداد عنه وحفا أو حماة شدة حل له أن يفطر، وقد فرق بين المرض وبين السفر، فجعل أصل السفر مبيحاً، ولم يجعل أصل المرض مبيحاً، والوجه في ذلك: أن العلة الأصلية في إباحة الفطر المشقة، والمرض أنواع منها ما يكون الصوم خير المريض، فلا يصلح لإباحة الفطر على الإطلاق، فأما السفر، فالصوم فيه يوجب المشقة بكل حال. إذا ثبت هذا: فنقول المريض إذا خاف على نفسه التلف، أو ذهاب عضو منه يفطر بالإجماع، وإن خاف زيادة العلة وامتداده، فكذلك عندنا، وعليه القضاء إذا أفطر لقوله تعالى: {ومن كان مريضاً أو على سفر، فعدة من أيام أخر} (البقرة: 185) وقال في «الأصل» : إذا خافت الحامل أو المرضع على أنفسهما، أو ولدها جاز الفطر، وعليهما القضاء، وهو بناءً على ما قلنا، ولم يذكر في شيء من الكتب أنه إذا زال المرض، وبقي الضعف هل له أن يفطر؟ قيل: وينبغي أن لا يفطر لأن المبيح هو المرض دون الضعف، ولا يعتبر فوت المرض دون الضعف أيضاً لما ذكرنا أن المبيح هو المرض لا خوفه. سئل أبو القاسم عمن لدغته حية، فأفطر بشرب الدواء ينفعه، فلا بأس به. في «مجموع النوازل» : سئل شيخ الإسلام عن صغير رضيع مبطون يخاف موته بهذا الدواء. وله ظئر، ويزعم الأطباء إن شربت دواء كذي يبرأ هذا الصغير، وتحتاج الظئر أن تشرب ذلك نهاراً في رمضان هل لها الإفطار بهذا العذر؟ قال: نعم إذا قال الأطباء البصراء بذلك. في «الحاوي» : إن أفطرت يوماً في شهر رمضان لضعف أصابها في عمل البيت من طبخ أو خبز أو غسيل ثياب، فإن خافت على نفسها بسبب الصوم لو لم تفطر كان عليها قضاء ذلك اليوم لا غير؛ لأنه إفطار بعذر؛ لأنها تحت يد المولى، ولها أن تمنع من الائتمار لأمر المولى إذا كان يعجزها عن أداء الفرض؛ لأنها مبقاة على أصل الحرفة حق الفرائض، وفي هذه المواضع أيضاً: إذا سافر في شهر رمضان وخرج من مصره، ولم يفطر، وقد نسي شيئاً، فرجع إلى منزله يحمل ذلك الشيء، وأكل في منزله شيئاً، وخرج كان عليه الكفارة لأنه لما رجع فقد رفض سفره، وكان مقيماً. نوع منه إذا استدام السفر أو المرض حتى مات، فلا قضاء عليه؛ لأن وجوب القضاء مؤخر إلى وقت زوال العذر، فيبقى التأخير ما بقي العذر، وإن زال العذر بالصحة أو الإقامة وجب القضاء، واختلف أصحابنا في وقت القضاء، منهم قال: بأن القضاء على الفور،

ومنهم من قال: بأنه مؤقت بما بين رمضانين، وبه أخذ أبو الحسن الكرخي، والصحيح أنه على التراخي لقوله تعالى: {فعدة من أيام أخر} (البقرة: 184) من غير فصل، وعن هذا قال أصحابنا رحمهم الله: لا يكره لمن عليه قضاء رمضان أن يتطوع بالصوم؛ لأن الوجوب ليس على الفور قد قال أصحابنا: إذا أخر قضاء رمضان حتى دخل رمضان آخر، فلا فدية عليه، وهو بناءً على ما قلنا: إن القضاء غير مؤقت، فكان رجاء القضاء ثانياً، ومع رجاء القضاء لا تلزمه الفدية، فإن لم يصم بعدما صح، أو أقام حتى مات، فعليه أن يوصي أن يطعم عنه؛ لأنه عجز عما هو واجب عليه، فينقل إلى ما يقوم مقامه، وكان عليه أن يوصي بالإطعام، ولا يجوز لابن أن يصوم عنه، وكذا لا يجب عليه الإطعام بدون الوصية؛ لأن العبادات لا يجوز أداؤها عن الغير إلا بالوصية كسائر العبادات وكحالة الحياة. وقد روي عن عصام ومحمد بن يسار رحمه الله: أن من أراد الاحتياط لميته فليصم، وليطعم عنه؛ لأن السنة وردت بالأمرين «قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّممن مات وعليه صيام أطعم عنه وليه» نحن، وإن لم نأخذ بهذا الحديث بغريب اجتهاد بقي نوع شبهة، فيجمع احتياطاً، ولو صح المريض أياماً، فإن صح عشرة أيام مثلاً، ثم مات لزمه من القضاء بقدر ما صح، هكذا ذكر في ظاهر الرواية، وذكر الطحاوي ههنا خلافاً، فقال: على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف: يلزمه قضاء جميع الشهر حتى يلزمه أن يوصي جميع الشهر، وقال محمد: يلزمه بقدر ما صح. والصحيح: أن لا خلاف ههنا، وإنما الخلاف في المريض إذا نذر بصوم شهر، فمات قبل أن يصح لم يلزمه شيء، وإن صح يوماً يلزمه أن يوصي بجميع الشهر في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، قال محمد: يلزمه بقدر ما صح. فأما الشيخ الفاني يفطر، ويفدي يطعم عن كل يوم مقدار صدقة (162أ1) الفطر؛ لأنه وقع الناس له عن الصوم؛ لأن الشيخ الفاني أن يكون عاجزاً عن الأداء في الحال، ويزداد عجزه كل يوم إلى أن يموت، وفرق بينه وبين المريض إذا لم يدرك عدة من أيام أخر حيث لم يوجب عليه الفدية؛ لأن من شرط وجوب الفدية تحقق الناس وفي حق الشيخ الفاني تحقق الناس أما في حق المريض لا يتحقق الناس لا في آخر برء من آخر جزء من أجزاء حياته؛ لأن قبل ذلك احتمال البرء قائم، وفي آخر جزء من أجزاء حياته، هو عاجز عن الإيصاء، قال مشايخنا: إذا كان مريضاً يعلم أن آخره الموت، وابتدأ ذلك حتى أمكنه الإيصاء يجعل في هذه الحالة بمنزلة الشيخ الفاني وهذا شيء يجب أن يحفظ جداً.

الفصل الثامن في بيان الأوقات التي يكره فيها الصوم

الفصل الثامن في بيان الأوقات التي يكره فيها الصوم صوم ست من شوال مكروه عند أبي حنيفة رحمه الله متفرقاً كان أو متتابعاً، وقال أبو يوسف: كانوا يكرهون أن يتبعوا رمضان صياماً خوفاً من أن يلحق بالفريضة. وعن مالك قال: ما رأيت أحداً من أهل الفقه يصومها، ولم يبلغنا عن أحد من السلف، قال: وكان أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون أن يلحق برمضان ما ليس منه إذا رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم، ورأوهم يفعلون ذلك، فلفظ مالك ولفظ أبي يوسف دليل على أن الكراهة في حق الجهال الذين لا يميزون. وعن أبي يوسف أنه قال: أكره متتابعاً ولا أكره متفرقاً. ومن المشايخ من قال: ينبغي للعالم أن يصوم سراً، وينهى الجهال عنه، وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصوم: كراهية، وفي نسخة أخرى لشمس الأئمة رحمه الله أن الكراهة في المتصل برمضان، أما إذا أكل بعد العيد أياماً، ثم صام لا يكره بل يستحب. قال الحاكم الشهيد في «المنتقى» : وجدت عن الحسن أنه كان لا يرى لصوم ستة أيام متتابعاً بعد الفطر بأساً، وكان يقول: كفى بيوم الفطر مفرقاً بينهن وبين شهر رمضان، وعامة المتأخرين لم يروا به بأساً، واختلفوا فيما بينهم الأفضل هو التفرق أو التتابع، قال القدوري: ورد النهي عن صوم الوصال، وهو أن يصوم ولا يفطر، واختيار الصدر الشهيد في صوم الوصال أنه إن كان يفطر في الأيام المنهية لا يكره، وكان يقول: تأويل النهي أن يصوم جميع الأيام ولا يفطر الأيام المنهية، قال أيضاً: ونهي عن صوم الصمت، وهو أن لا يتكلم في حال صومه. قيل: هو فعل المجوس، ولا بأس بصوم عرفة، وهو أفضل لمن قوي عليه في السفر والحضر رواه الحسن، وقد روي فيه نهي، وكذا صوم التروية، وقيل: النهي في حق الحاج إن كان يضعفه، أو يخاف الضعف، وجاء عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: «حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّمفلم يصم، وكذا مع أبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم يصوموا، وأنا لا أصومه ولا آمر بصيامه ولا أنهى عنه» . ولا بأس بصوم يوم الجمعة، وقال أبو يوسف رحمه الله: جاء حديث في كراهيته إلا أن يصوم يوماً قبله أو بعده. ويكره صوم النيروز والمهرجان إذا تعمده، ولم يوافق يوماً كان يصومه قبل ذلك، وهكذا قيل: في صوم السبت والأحد، ومن المشايخ من قال: إن صامه تعظيماً لعيد المجوس، فهو مكروه وإن صامه شكراً لانقضاء الشيء فلا بأس به، وذكر الصدر الشهيد

في «واقعاته» : أن صوم يوم النيروز جائز من غير كراهة، هو المختار، فإن كان يصوم قبله تطوعاً، فالأفضل أن يصوم، فإن كان لا يصوم قبله تطوعاً، فالأفضل أن لا يصوم؛ لأنه يشبه تعظيم هذا اليوم وإنه حرام.6 وعن أبي يوسف رحمه الله، أنهم كانوا يستحبون صيام أيام البيض، وصوم يوم الاثنين والخميس، وبعضهم كره توقيت الصوم، ومن صام يوماً فأفطر يوماً، فحسن، وقيل: ذلك صوم داود صلوات الله عليه ومن صام شعبان، ووصل بصوم رمضان، وكانوا يستحسنون أن يصوموا قبل عاشوراء وبعده خلاف أهل الكتاب، وعن أبي يوسف أنه قال بعض الفقهاء: من صام الدهر وأفطر أيام خمسة، فهذا ما صام الدهر، قال: وليس هذا عندي، كما قال، والله أعلم هذا قد صام الدهر، ودخل في النهي. ومما يتصل بهذه المسألة صوم يوم الشك، والكلام فيه من وجهين: من حيث الكراهة والإباحة، ومن حيث الأفضلية. أما الكلام في الكراهة والإباحة فنقول: إما أن ينوي الصوم وبت النية، أو ردد النية، فإن بت النية فهو على وجوه: أحدها: أن ينوي صوم رمضان، فهو مكروه، وقال عليه السلام: «من صام يوم الشك فقد عصى الله ورسوله» وقال عليه السلام: «لا تتقدموا الصيام شهر رمضان عن جماعة الناس بيوم وبيومين إلا أن يوافق يوم الشك صوم يوم أحدكم» . وتأويله: إذا كان من عادته أن يصوم كل خميس، أو في كل جمعة، فوافق يوم الشك، فلا بأس أن يصوم فيه أورده، وإن حاك في صدره أنه من رمضان كره، وأثم وأما إذا لم يحك في صدره ذلك فلا بأس به. الثاني: أن يصوم بنية التطوع من غير أن يقع في قلبه أنه من رمضان، فلا بأس بذلك عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف ومحمد يكره هكذا ذكر في بعض المواضع، وذكر في بعض المواضع أن فيه اختلاف المتأخرين من المشايخ، قال بعضهم: يكره وأكثر المشايخ على أنه لا يكره سواء كان يصوم قبل هذا اليوم (162ب1) أو كان لا يصوم، وهو مروي عن أصحابنا رحمهم الله، ثم إذا نوى صوم رمضان فإن ظهر أن هذا اليوم من رمضان جاز صومه عن رمضان، وإن ظهر أنه من شعبان كان صومه تطوعاً، وإن كان نوى صوم التطوع، فإن ظهر أن هذا اليوم من رمضان جاز صومه عن رمضان؛ لأنه صام بنية التطوع، وإن ظهر أن هذا اليوم من شعبان كان صومه تطوعاً. الثالث: إذا نوى واجب آخر يكره، ولكنه في الكراهية دون الأول، وهو ما إذا نوى

صوم رمضان؛ لأن النهي في الحقيقة عن أداء صوم رمضان في شعبان، وهذا ليس بصوم رمضان، ولكنه مثله في الفريضة، فيكره دون الأول، فبعد ذلك إن ظهر أن هذا اليوم من رمضان كان صومه عن رمضان عندنا؛ لأنه صحيح مقيم صام رمضان بنية واجب آخر، فإن ظهر أن هذا اليوم من شعبان قد اختلف المشايخ فيه. بعضهم قالوا: يقع صومه عن النفل ولا يقع عن ما نوى، وعامة المشايخ على أن صومه يقع عما نوى، فإن صام وظهر أن هذا اليوم من شعبان أو رمضان لا يسقط عنه ما نوى من الواجب بلا خلاف، فإن أطلق النية إطلاقاً، فهو مكروه أيضاً، فإن ظهر أن هذا اليوم من شعبان أيضاً كان صومه عن رمضان، هذا الذي ذكرنا كله إذا بت النية، فأما إذا ردد النية، فهذا على وجهين: كان الترديد في أصل النية. أو كان الترديد في وصف النية. فإن كان الترديد في أصل النية بأن نوى إن كان غداً رمضان فهو صائم عن رمضان، وإن كان غداً من شعبان، فهو غير صائم أصلاً، فإنه لا يصير صائماً بهذه النية أصلاً، وإن كان غداً من رمضان، فهو يصير ما لو نوى أن فطر غداً متى دعي أي دعوة يصوم إن لم يدع، فإنه لا يصير صائماً بهذه النية أصلاً، وإن لم يدع إلى دعوة. وإن كان الترديد في وصف النية بأن نوى أن يصوم غداً عن رمضان، إن كان غداً من رمضان، وإن كان من شعبان يصوم عن واجب آخر، فهو مكروه، فبعد ذلك إن ظهر أن غداً من رمضان صار صائماً عن رمضان؛ لأنه لا ترديد ههنا في أصل النية، وإنما الترديد في جهته فتلغو النية بحكم الترديد، وتبقى أصل النية، وإنه يكفي لصوم رمضان عندنا، وإن ظهر أنه من شعبان لا يصير صائماً عما نوى؛ لأن النية قد بطلت بحكم الترديد بقي أصل النية لا يكفي لإسقاط الواجب، ولكن يصير صائماً تطوعاً، فإن أفطر فيه لا يلزمه القضاء، فإن لم يظهر أن غداً من شعبان، أو من رمضان لا يسقط الواجب عنه، وإن نوى أن يصوم غداً من رمضان، وإن كان من شعبان يصوم تطوعاً، فهو مكروه، فإن ظهر أنه من رمضان كان صائماً عن رمضان، وإن ظهر أنه من شعبان كان صائماً تطوعاً، ولكن لو أفسده لا يلزمه القضاء، وإن نوى أن يصوم غداً عن رمضان وإن كان غداً من رمضان، وإن كان من شعبان، فهو صائم أطلق، وما عين شيئاً، فهذا وما لو نوى أن يصوم غداً من رمضان، وإن كان غداً من رمضان، وإن كان من شعبان يصوم تطوعاً سواء هلآت..... هو الكلام في الكراهة والإباحة جئنا إلى الأفضلية، فنقول: اتفق مشايخنا على أنه إذا كان يوافق يوماً كان يصومه قبل ذلك بأن اعتاد

الفصل التاسع فيما يصير شبهة في إسقاط الكفارة

رجل صوم يوم الخميس ويوم الجمعة، فوقع الشك في ذلك اليوم أن الأفضل أن يصومه تطوعاً، وإن لم يوافق ما كان يصومه قبل ذلك، فالأفضل أن يتلوم، فلا يأكل ولا ينوي الصوم ما لم يقرب انتصاف النهار، فإن قرب انتصاف النهار، ولم يتبين الحال اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: الأفضل أن يصوم، وبعضهم قالوا: الأفضل أن يفطر، وعامة المشايخ على أنه ينبغي للقاضي والمفتي أن يصوم تطوعاً، ويفتي بذلك في حق خاصته، ويفتي للعامة بالفطر. وفيه حكاية أبي يوسف، وإنها معروفة حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله أن نصير بن يحيى كان يختار الصوم يوم الشك، ومحمد بن سلمة كان يختار الفطر، فدخل أبو نصر بن سلام على نصير بن يحيى فقال له نصير: لما اختار صاحبك الفطر يوم الشك، والصوم أحوط قال أبو نصر: الفطر أحوط؛ لأنهم أجمعوا على أن من أفطر لا إثم عليه واختلفوا في الصوم قال بعضهم: يكره ويأثم، وقال بعضهم: لا يكره، فدل أن الفطر أحوط، والله أعلم. الفصل التاسع فيما يصير شبهة في إسقاط الكفارة إذا جامع امرأته في نهار رمضان، ثم حاضت امرأته، ومرضت في ذلك اليوم لا كفارة عليها عندنا. وكذلك إذا مرض الرجل سقط عنه الكفارة، وكذلك إذا أكلت أو شربت، ثم حاضت أو مرضت في ذلك اليوم لا كفارة عليها، وإذا جامع أو أكل أو شرب، ثم سافر في ذلك اليوم لا تسقط عنه الكفارة، وإن سوفر به مكرهاً بأن ركب على الدابة، وخرج إلى السفر مكرهاً روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا كفارة عليه، وعندهما تجب الكفارة حجتهما أن العذر جاء لا من جهة من له الحق، فصار بمنزلة ما لو سافر بنفسه وأكره على السفر، فخرج بنفسه. وجه قول أبي حنيفة إن العذر جاء لا من جهة المفطر، فصار كالحيض والمرض إذا حسبت المرأة أن هذا اليوم يوم حيضها، فأفطرت فيه، ثم لم تحض، أو كان لها (163أ1) نوبة حمى، ففطرت فلم تصم في ذلك اليوم أجمعوا أن في فصل الحمى تجب الكفارة، وفي فصل الحيض اختلاف المشايخ، والصحيح أنه تجب. في «فتاوى القاضي» : إذا أكل بعد الفجر، أو قبل غروب الشمس، وهو لا يعلم، ثم أكل بعد ذلك متعمداً، فعليه القضاء دون الكفارة، أصبح في رمضان لا ينوي الصوم فأكل أو شرب، فلا كفارة عليه، قال أبو يوسف رحمه الله: إن أكل بعده، فلا كفارة عليه، وإن نوى الصوم قبل الزوال، ثم أفطر في باقي اليوم، فعليه الكفارة عند أبي يوسف ومحمد؛ لأن هذا إفطار في صوم جائز، وعند أبي حنيفة لا كفارة عليه؛ لأن ظاهر قوله

الفصل العاشر في المجنون والمغمى عليه، والصبي يبلغ، والنصراني يسلم، والحائض تطهر، ومن بمعناهم

عليه السلام «لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل» يورث شبهة عدم الجواز، والكفارة تدرأ بالشبهات. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : إذا أكل أو شرب أو جامع في نهار رمضان ناسياً، وظن أن ذلك يفطره، فأكل بعد ذلك متعمداً، فلا كفارة عليه، وإنما لم تجب الكفارة لمكان الشبهة، والشبهة نوعان: شبهة اشتباه بالنظير، وهو أن يجد لما ظن، واشتبه عليه نظير أو شبهة حكمية، وقد وجد لما اشتبه نظيراً، وهو الأكل حالة العمد؛ لأن أكل الناسي ينافي الإمساك في الظاهر كأكل العامد، وكذلك وجدت الشبهة الحكمية، فإن الصوم قد فسد بالأكل الأول عند أهل المدينة، وإنه قياس غير مهجور، فصار شبهة في الاستحسان. وعن أبي حنيفة: أنه إن بلغه الحديث لزمه الكفارة؛ لأنه علم أن القياس متروك، فلا يعتبر القياس سبباً للشبهة في حقه، وفي رواية أخرى عنه لا تلزمه الكفارة على كل حال، وهو الصحيح. وإذا احتجم، فظن أن ذلك يفطره، فأكل بعد ذلك متعمداً، فإن لم يستفت أحداً، ولا بلغه الخبر الوارد في هذا الباب، أو بلغه، وعرف نسخه، فعليه الكفارة، وإن لم يبلغه النسخ، أو استفتى أحداً ممن يؤخذ منه الفقه، ويعتمد على فتواه، فأفتي أن صومه فاسد، فلا كفارة عليه؛ لأن على العامي العمل بفتوى المفتي، فإذا فعل كان ذلك موزوراً فيما صنع، وإن كان المفتي مخطئاً فيما أفتى، وإذا ذرعه القيء فظن أن ذلك يفطره، فأكل بعد ذلك متعمداً، فلا كفارة عليه لوجود شبهة الاشتباه بالنظير، فالقيء والمقيوء سواء، وإذا اكتحل، فظن أن ذلك يفطره، فأكل بعد ذلك متعمداً، فعليه الكفارة لانعدام الشبهتين، ولو أوصى بالفطر فلا كفارة عليه وإذا قبل امرأته أو مسها، فظن أن ذلك يفطره، فأكل بعد ذلك متعمداً، فلا كفارة عليه لوجود الاشتباه، فإن له نظيراً، وهو الفعل في حالة التيقظ والله أعلم. الفصل العاشر في المجنون والمغمى عليه، والصبي يبلغ، والنصراني يسلم، والحائض تطهر، ومن بمعناهم قال محمد رحمه الله: إذا جن (في) رمضان كله، فليس عليه قضاؤه، وإن أفاق شيئاً لزمه قضاء ما مضى، ولم يذكر ما إذا أفاق في الليلة الأولى، ثم أصبح مجنوناً، واستوعب الشهر كله، وذكر في «المجرد» عن أبي حنيفة أنه يلزمه القضاء، وكذا ذكر

الفقيه أبو جعفر في «كشف الغوامض» ، وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصوم أنه لا قضاء عليه، وهو الصحيح؛ لأن الليلة لا يصام فيها، وعلى هذا إذا أفاق في ليلة في وسط الشهر، ثم أصبح مجنوناً لا قضاء عليه، وإن أفاق في آخر يوم من رمضان إن أفاق بعد الزوال، فقد اختلفوا فيه. والصحيح: أن لا يلزمه؛ لأنه لا يصح الصوم فيه، ثم في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله أنه لا فرق بين الجنون الطارىء، والأصلي إذا أفاق في شيء من الشهر لزمه قضاء ما مضى. ومن أصحابنا من فرق بين الجنون الأصلي والطارىء، فقال: إن المجنون الأصلي إذا أفاق في بعض الشهر بأن بلغ مجنوناً، ثم أفاق في بعض الشهر لا يلزمه قضاء ما مضى، وهكذا روي عن ابن سماعة في «نوادره» عن محمد ونص في «المنتقى» عن أبي يوسف أن الجنون الأصلي إذا لم يكن مستغرقاً، فإنه لا يسقط القضاء، ولو أغمي عليه شهر رمضان، أو بعضه، فعليه قضاء ما مضى، ولو أغمي عليه بعدما غربت الشمس من الليلة الأولى رمضان، وبقي كذلك جميع الشهر، فعليه قضاء جميع الشهر إلا اليوم الأول، فإنما استثني اليوم الأول. أما إذا نوى بعد دخول الليل قبل الإغماء؛ فلأنه نوى الصوم في محله، فصحت النية وصح صوم ذلك اليوم، وكذلك إذا لم يعلم أنه نوى قبل الإغماء؛ لأن كل مؤمن في كل ليلة من رمضان عليه قصد صوم الغد، هذا هو الظاهر، والبناء على الظاهر واجب ما لم يعلم بخلافه، حتى لو كان هذا الرجل مسافراً، ولم يعلم وجود النية منه في الليلة الأولى كان عليه قضاء اليوم الأول؛ لأن نية صوم الغد في الليالي من المسافر ليس بظاهر. وكذلك إذا كان هذا الرجل متهتكاً يعتاد الفطر في رمضان كان عليه قضاء اليوم الأول؛ لأن حال مثله لا يدل على عزيمة بصوم الغد، فأما إذا أغمي عليه قبل دخول الليلة الأولى لزمه قضاء اليوم الأول أيضاً؛ لأن الإغماء حصل قبل دخول وقت النية، فلا يمكن جعل النية موجودة ظاهراً. قال القدوري في «شرحه» : إذا أغمي عليه في ليلة من رمضان، فأفاق من الغد قبل الزوال، (163ب1) فينوي ذلك اليوم أجزأه، وكذلك المجنون، ومعنى المسألة: ما إذا علم أنه نوى، فصومه في الغد جائز، ولا حاجة إلى النية في الغد. قال في «الجامع الصغير» : غلام بلغ في النصف من رمضان في نصف النهار يأكل بقية يومه، ويصوم بقية الشهر، ولا قضاء عليه فيما مضى، وإن أكل في اليوم الذي أدرك فيه ليس عليه قضاؤه، وعلى هذا الكافر إذا أسلم في النصف من رمضان في نصف النهار، وإنما لم يجب قضاء اليوم الذي أسلم الكافر فيه، وأدرك الصبي فيه؛ لأن صوم يوم واحد لا يتجزأ وجوباً وسقوطاً، وقد امتنع الوجوب في صدر النهار، فيمتنع في الباقي، فلا يلزمه قضاؤه أكل فيه أو لم يأكل، وإن كان لم يأكل، في يومه ذلك، وقد أسلم لم يجزئه عن رمضان.

الفصل الحادي عشر في النذور

أسلم الكافر أو أدرك الصبي قبل الزوال، فنوى أن يصوم ذلك اليوم عن رمضان لم يجزئه عن رمضان، هكذا ذكر المسألة ههنا. قال مشايخنا: وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف في رجل ارتد عن الإسلام في صدر النهار من رمضان، والعياذ بالله، ثم رجع إلى الإسلام قبل الزوال، ونوى الصوم أجزأه، وأنه يكون صائماً عن رمضان يجب أن يصير صائماً عن رمضان في هذه المسألة. ورواية في «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف: إذا احتلم الصبي، وأسلم النصراني ضحى النهار، فعليهما أن يصوما ذلك اليوم، ولو أفطرا، فعليهما القضاء؛ لأنه إذا أسلم أو أدرك قبل الزوال، فقد أدرك وقت النية، فصار كما لو أدرك أو أسلم في الليل، ولو كانت جارية حاضت، فعليها قضاء ذلك اليوم، ولو كان ذلك بعد الزوال لم يلزمهم القضاء علل فقال: إنهم لو صاموا لا يكون صوماً، فهذا التعليل إشارة إلى أن وجوب القضاء يعتمد وجوب الأداء، ولا أداء بعد الزوال. قال في «الجامع الصغير» : ولو كان هذا خارج رمضان يعني بلغ الصبي قبل الزوال، ونوى النفل صح؛ لأن الصبي أهل للنفل، فإذا نوى قبل الزوال، فقد نوى الصوم في وقته، والأهلية ثابتة من أول اليوم إلى آخره فيصح. والحائض والنفساء إذا طهرتا قبل الزوال خارج رمضان ونوت النفل لا يصح صومها لعدم الأهلية في أول النهار، والكافر إذا أسلم قبل الزوال خارج رمضان، ونوى التطوع، فقد ذكر في بعض «النوادر» : صومه صحيح، والذي عليه عامة مشايخنا صومه لا يصح إلحاقاً له بالحائض. قال في «الجامع الصغير» أيضاً: في مسافر نوى الإفطار، ثم قدم المصر قبل الزوال، فعليه أن يصوم إن كان في رمضان؛ لأن الصوم واجب على المسافر نظراً للسبب والأهلية لكن رخص له الترك؛ لأجل السفر، فإذا انتهى السفر نهايته، والوقت قابل للصوم لزمه الأداء، ولكن مع هذا لو أفطر لا تلزمه الكفارة؛ لأن الكفارة عرف وجوبها بخلاف القياس في صوم لا يكون إباحة الإفطار فيه ثابتة في أول النهار، والله أعلم. الفصل الحادي عشر في النذور قال محمد رحمه الله في «نوادر الصوم» : إذا قال: لله عليّ أن أصوم هذا اليوم ثلاثين مرة لزمه كذلك؛ لأنه نوى ما يحتمله لفظه؛ لأن قوله: شهراً عقيب ذكر اليوم يذكر بتقدير ما أوجب على نفسه مكانه، قال: لله عليّ أن أصوم هذا اليوم ثلاثين مرة، ولو نوى أن يصوم هذا اليوم كلما دار في الشهر، فهو كما نوى، ويلزمه صوم هذا اليوم أربع مرات كلما دار في الشهر؛ لأنه نوى ما يحتمله لفظه بإضمار في، وإن لم تكن له نية اختلفت الرواية فيه، قال في بعض الروايات: يلزمه صوم هذا اليوم كلما دار في الشهر أربع مرات

وخمس مرات يلزمه الزيادة بالشك، وقال في بعض الروايات: يلزمه صوم هذا اليوم ثلاثين مرة احتياطاً لأمر العبادة. «المنتقى» : المعلى عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ صوم اثنين، ونوى كل الاثنين يأتي عليه، فعليه ما نوى، وكذلك صوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، ولو قال: عليّ صوم غد ورأس الشهر، ونوى كلما يأتي عليه، فليس بشيء، وعليه أن يصوم ذلك اليوم الذي تكلم به، ولو قال: عليّ صوم هذا الشهر يوماً كان عليه أن يصوم هذا الشهر في أي الوقت ما شاء. ويصير تقدير هذه المسألة لله عليّ أن أصوم شهراً في وقت ما، وإذا قال: عليّ صوم هذا اليوم غداً، فإنه ينظر إن كان قال هذه المقالة بعد الزوال وبعد الأكل، فلا شيء عليه؛ لأن ذكر الغد لغو ههنا إذ لا يتصور صوم هذا اليوم في الغد، فإذا لغا ذكر الغد صار كأنه قال: لله عليّ صوم هذا اليوم، وهناك الجواب على التفصيل الذي ذكرنا. ولو قال: لله عليّ أن أصوم غداً اليوم لزمه صوم الغد؛ لأن ذكر اليوم لغو ههنا، لأنه لا يتصور صوم الغد في اليوم، فصار حاصلاً مثلما لله عليّ أن أصوم أمس لا يلزمه شيء، ولو قال: لله عليّ حج السنة الماضية في هذه السنة لزمه الحج؛ لأن ذكر الوقت لغو في باب الحج؛ لأن الحج مقدم بأفعاله لا بالوقت، وإذا لغا ذكر الوقت صار النذر مضافاً إلى صوم لا يتصور فيه. في «المنتقى» : إذا قال: لله عليّ صوم يوم الفطر، فإنه يفطر، ولا قضاء عليه. روى هشام عن محمد، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ صوم يوم الأضحى قال: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا شيء عليه، وقال أبو يوسف رحمه الله: عليه الصوم يوم، فإن أفطر يوم الأضحى، وقضاه يوم الفطر أجزأه إذا علق النذر بالصوم بالشرط، وأداه قبل وجود الشرط لا يجوز إجماعاً، وإذا كان مضافاً إلى وقت (164أ1) وأداه قبل مجيء الوقت بأن قال: لله عليّ أن أصوم رجباً، فصام ربيع الأول مكانه، فعلى قول أبي يوسف: يجوز، وهو قول أبي حنيفة، وعلى قول محمد: لا يجوز، وأما إذا كان مضافاً إلى مكانه، وأداه في مكان آخر إن كان المكان الذي أدى فيه أفضل أو مثله يجوز بالإجماع، وإن كان دونه، فعلى قول علمائنا الثلاثة يجوز خلافاً لزفر. إذا قال: لله علي أن أصوم شهراً متتابعاً، وما نوى شهراً بعينه، فشرع في صوم شهر، وأفطر يوماً لزمه الاستقبال، ولو قال: لله عليّ أن أصوم هذا الشهر متتابعاً، فأفطر يوماً منه لا يلزمه الاستقبال؛ لأنه لو لزمه الاستقبال في الفصل الثاني وقع جميع الصوم وأكثر في غير الوقت المضاف إليه النذر، وكذلك ما إذا كان الشهر تعين بعينه. قال محمد رحمه الله في «نوادر الصوم» : قال رجل: لله عليّ صوم يوم، فأصبح من الغد لا ينوي صوماً، فلم تزل الشمس حتى نوى أن يصوم اليوم الذي أوجب على نفسه، فإن ذلك لا يجزئه من قضاء ذلك اليوم، فرق بين هذا، وبينما إذا قال: لله عليّ أن أصوم

غداً، فأصبح من الغد لا ينوي صومه مما عليه قبل الزوال إثراً..... وإنما كان كذلك اعتبار الواجب بإيجاب العبد بالواجب بإيجاب الله تعالى في كل فصل. إذا قال: لله عليّ أن أصوم رجباً بعينه، ثم إنه ظاهر من امرأته، وصام شهرين متتابعين عن ظهاره أحدهما رجب أجزأه من الظهار، وكان عليه أن يقضي رجباً بخلاف ما إذا صام عن ظهاره شهرين أحدهما رمضان، حيث لم يجز ذلك عن الظهار، وكان من رمضان خاصة، وإذا وقع صوم رجب من الظهار، ولم يقع عن رجب لا كفارة عليه إن أراد يميناً؛ لأنه صام رجباً كما حلف في الأصل، إذا قال: لله عليّ أن أصوم شهر، ونوى شهراً بعينه نحو إن نوى رجباً أو شعبان أو ما أشبهه، فأفطر يوماً منه لزمه قضاؤه، وليس عليه الاستقبال، ولو نوى شهراً بغير عينه، فأما إن نوى شهراً بالأهلة أو بالأيام، وأي ذلك ما نوى صحت نيته، فبعد ذلك إن لم ينو التتابع فله الخيار، إن شاء صام متتابعاً وإن شاء صام متفرقاً، وإن نوى متتابعاً وشرع في صوم شهر وأفطر يوماً لزمه الاستقبال كما صرح بالتتابع، وقد مرت المسألة. وإذا قال: لله عليّ أن أصوم سنة، فهذه المسألة على وجهين: إما إن قال: هذه السنة وإنه على وجهين: إما إن قال: في أول السنة، وفي هذا الوجه يلزمه بنذره أحد عشر شهراً لا يدخل في ذلك أيام العيد ولا يدخل شهر رمضان، وأما إن قال ذلك في بقية السنة، وفي هذا الوجه يلزمه ما بقي للسنة من.... يكون شهر رمضان في الباقي، وأما إن قال: سنة وإنه على وجهين: إما إن عين السنة بأن قال: سنة كذا، والجواب فيه كالجواب فيما إذا قال نذر على الصوم هذه السنة يلزمه بنذره أحد عشر شهراً وإن لم يعين السنة إن لم ينص على التتابع يلزمه اثنا عشر شهراً، بخلاف ما إذا عين السنة، فإن هناك يلزمه أحد عشر شهراً. والفرق: أن النذر إذا تناول سنة معينة كان النذر مضافاً إلى رمضان وإلى غيره من الشهور، والنذر المضاف إلى رمضان لا يصح، وما وراءه أحد عشر شهراً، أو إذا تناول سنة غير معينة، فالنذر هنا أضيف إلى رمضان؛ لأن السنة إذا كانت بغير عينها إذا صام اثني عشر شهراً متفرقاً يجوز، فلزمه اثنا عشر شهراً وإن نص على التتابع يلزمه أن يصوم أحد عشر شهراً؛ لأن السنة المتتابعة لا تخلو عن رمضان، فيكون النذر مضافاً إلى رمضان وإنه لا يصح، وما وراءه أحد عشر شهراً هذا الذي ذكرنا في حق الرجل.k وأما المرأة إذا نذرت صوم سنة بعينها، فالجواب في حقها كالجواب في حق الرجل يلزمها أحد عشر شهراً بنذرها، وتقضي أيام حيضها؛ لأن النذر إذا كان مضافاً إلى سنة بعينها كان مضافاً إلى كل يوم من تلك السنة، فيلزمها صوم يوم حيضها. في «الفتاوى» إذا قال: لله علّي أن أصوم شوال وذا العقدة وذا الحجة، فصامهن بالرؤية، وكان ذو العقدة تسعة وعشرون، فعليه قضاء خمسة أيام إن لم يصم في العيدين،

وأيام التشريق؛ لأنه أبرم صوم ثلاثة أشهر متفرقاً وقد صام ما عدا هذه الأيام الخمسة. ولو قال: لله عليّ أن أصوم ثلاثة أشهر، فصامهن على نحو ما قلنا، فعليه قضاء ستة أيام؛ لأنه أشار إلى غائب، فيلزمه كل شهر ثلاثين، وإذا قالت المرأة: عليّ صوم يوم حيضي لا يلزمها شيء، وكذلك إذا قالت: لله عليّ صوم هذا اليوم، وهي حائض، وكذلك لو قال رجل أو امرأة: لله عليّ أن أصوم هذا اليوم، وكان أكل فيه، أو قال ذلك بعد الزوال لا يلزمه شيء. وكذلك لو قال: لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم فلان بعد الزوال، أو قبل الزوال، ولكن بعد الأكل، فإنه لا يلزمه شيء، ولو قالت: لله عليّ أن أصوم غداً يوم حيضها لزمها صوم الغد حاضت أو لم تحض. كذلك إذا قالت: لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم فلان قبل الزوال، وهي حائض، فعليها أن تقضي، وكذلك إذا قالت: لله عليّ أن أصوم يوم الخميس، فجاء يوم الخمس، وهي حائض، فعليها القضاء. وروى هشام عن محمد إذا قالت: لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم فلان في يوم هي حائض، فلا قضاء عليها (164ب1) . وروى ابن رستم عن محمد إذا قالت المرأة: لله عليّ أن أصوم غداً، وهي اليوم حائض وغداً من أيام حيضها، فلم تطهر غداً، فعليها يوم مكانه، قال: لأني لا أدري لعل الدم ينقطع غداً، وكذلك في النفاس، وقد ولدت اليوم، وقالت: لله عليّ أن أصوم غداً، وإذا قال: لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم فلان يوم أضحى فعليه يوم مكانه. إذا نذر بصوم شهر بعينه، وأفطر يوماً منه لزمه قضاؤه، ولا يلزمه الاستقبال، وقد مر هذا. قال محمد: وإن أراد بقوله: لله عليّ اليمين كفر يمينه مع قضاء ذلك اليوم. واعلم أن هذه المسألة على تسعة أوجه: إما أن نوى بقوله: لله عليّ النذر، ولا نية له في اليمين، أو نوى اليمين ولا نية له في النذر، أو نوى أن لا يكون يميناً، أو نوى اليمين، ونوى أن لا يكون نذراً، أو نوى النذر، ونوى أن لا يكون يميناً، أو نوى اليمين ونوى أن لا يكون نذر، أو نوى النذر واليمين جميعاً، أو لم يكن له نية أصلاً، فإن لم ينوِ شيئاً أو نوى النذر، ولا نية له في اليمين، أو نوى النذر، ونوى أن لا يكون يميناً كان نذراً، ولا يكون يميناً في هذه الوجوه، وإن نوى اليمين، ونوى أن لا يكون يميناً، ولا يكون نذراً، إن نوى النذر واليمين كان يميناً ونذراً عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف يكون نذراً، ولا يكون يميناً، فأبو يوسف يقول: بأن هذه الصيغة للنذر حقيقة، ولليمين مجاز؛ لأن النذر يوجب المنذور به لعينه، فكان واجباً من كل وجه، واليمين يفيد وجوب المحلوف به بغيره؛ إذ ليس في لفظ اليمين ما يقتضي الوجوب، وكان واجباً من وجه، واللفظ الموضوع لإفادة معنى لا يفيد ما دونه إلا مجازاً، والحقيقة والمجاز يرادان بلفظ واحد، فتترجح الحقيقة على المجاز وهما يقولان: هذا التصرف نذر صيغة يمين معنى، أما نذر صيغة، فظاهر، وأما

يمين معنى؛ لأنه نوى اليمين، وصحت نيته لكون اللفظ محتملاً لليمين بإقامة حرف اللام مقام حرف الباء، فيجب العمل باللفظ المعنى كما في الهبة بشرط العوض، والعمل باللفظ والمعنى ليس من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز؛ لأن اللفظ إذا صار مجازاً عن غيره تسقط حقيقته في نفسه، كالهبة المضافة إلى الحرة والعمل باللفظ والمعنى لا يوجب سقوط اعتبار اللفظ، بل يبقى اللفظ على حاله مقرراً في وصفه لكن زاد عليه شيء آخر كما في الهبة بشرط العوض، وقد وجد هذا الحد في مسألتناً؛ لأن حقيقة هذا اللفظ للنذر، ومتى نوى اليمين يبقى مقرراً على حاله، لكن يزاد عليه حرف القسم وهو الباء، أو تقام اللام مقام حرف الباء، فهذا من باب العمل باللفظ والمعنى، وإنه جائز، وإن نوى اليمين ولا نية في النذر، فعلى قول أبي يوسف يكون يميناً، ولا يكون نذراً؛ لأنه لا يرى الجمع، وقد تعين اليمين مراداً بنيته، فلا يبقى النذر مراداً. وعلى قولهما: يكون يميناً ونذراً؛ لأنهما يريان الجمع ونيته اليمين صار معنى اليمين معتبراً في النذر، فيكون يميناً ونذراً، وإذا نذر بصوم كل خميس يأتي عليه، فأفطر خميساً واحداً، فعليه قضاؤه وكفارة يمين إن أراد يميناً مع النذر، وإن أفطر خميساً آخر، فلا كفارة عليه عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن نية اليمين لما صحت في النذر عندهما صار كأنه قال: لله عليّ صوم كل خميس، وقال مع ذلك: والله لأصوم كل خميس، ولو صرح بالأمرين جميعاً، ثم أفطر جميعاً بقي النذر، ولم يبق اليمين؛ لأن يمين واحدة حيث فيها مرة، فلا تجب مرة أخرى، فلم تتكرر الكفارة، فأما القضاء إنما يجب بالإفطار، والإفطار قد تكرر، فيتكرر القضاء. إذا قال: لله عليّ صوم الأبد يفطر أيام العيد، ويطعم عن كل يوم مسكيناً نصف صاع من حنطة؛ لأنه وقع الناس عن قضاء هذه الأيام بالصوم، فيفدي كما في الشيخ الفاني هكذا ذكر في صوم «الأصل» . وفي «المنتقى» : هشام عن محمد فيمن جعل على نفسه صوم الأبد، فأفطر يوم الفطر ويوم الأضحى لا يطعم عن هذه الأيام في حياته، وعليه أن يقضي أن يطعم بخلاف الشيخ الفاني، فإنه يطعم في حياته. إذا قال: لله عليّ أن أصوم جمعة إن أراد أيام الجمعة يلزمه صوم جمعة، وإن أراد أيام الجمعة يلزمه سبعة أيام، وإن أراد به يوم الجمعة يلزمه صوم يوم الجمعة، وإن لم يكن له نية يلزمه صوم سبعة أيام؛ لأن الجمعة تذكر، ويراد بها يوم الجمعة، وتذكر ويراد بها الأيام السبعة لكن الأيام السبعة أغلب، فانصرف المطلق إليه، إذا قال: لله عليّ أن أصوم شهراً مثل شهر رمضان إن نوى المماثلة في التتابع يلزمه صوم شهر متتابعاً، وإن نوى المماثلة في العدد، أو لم يكن له نية يلزمه أن يصوم ثلاثين يوماً إن شاء متفرقاً، وإن شاء متتابعاً. وهو نظير ما ذكر في أيمان «الفتاوى» : إذا قالت المرأة: إن كلمت فلاناً عليّ صوم شهر كشهر رمضان، فكلمت فلاناً، فإن شاءت فرقت، وإن شاءت تابعت إلا إذا نوت التتابع والفرق النية إلى أصل الوجوب وإلى العدد لا إلى صفة الواجب به إذا نوت.

ابن سماعة عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فلان في يوم هو فيه صائم من رمضان أم من كفارة يمين أو تطوع، فإن ذلك اليوم يجزئه لما هو صائم به، وعليه أن يصوم لقدوم فلان، وستأتي هذه المسألة بعد هذا الخلاف ما ذكر ههنا. وعنه أيضاً إذا قال: لله عليّ أن أصوم شهرين متتابعين (165ب1) من يوم يقدم فيه فلان في أيام ثبتت من شعبان، فإنه يصوم ما بقي من شعبان لنذره ويصوم رمضان من الفريضة، ويقضي بعد الفطر ما بقي من نذره، فإن جعل على نفسه أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان أبداً..... فلان في اليوم الذي قدم فيه فلان، فعليه صوم ذلك اليوم وحده أبداً، ولا شيء عليه غير ذلك. وعنه أيضاً إذا قال: لله عليّ أن أصوم الشهر، فعليه أن يصوم بقية الشهر الذي هو فيه، وإن نوى شهراً، فهو كما نوى. هشام عن أبي يوسف: إذا قال: إن شفى الله مريضي صمت كذا وكذا، فلا شيء عليه حتى يقول: فعليّ أن أفعل، هشام عن محمد إذا قال: والله؛ لأن صوم الأبد يعني يوماً واحداً من الأبد، أو قال: لله عليّ أن أصوم الأبد، وذلك يعني يوماً واحداً من الأبد، وذلك أن ينوي صوم الخميس والجمعة، فهو على ما نواه. هشام قال: سألت محمداً عن رجل أراد أن يقول: لله عليّ صوم يوم، فجرى على لسانه صوم شهر، فعليه صوم شهر، وكذلك الطلاق والعتاق والنذر، وإن كان نيته خلاف ما قال، قال: وقال أبو حنيفة: الطلاق لا يقع فيما بينه وبين الله تعالى، والعتاق يقع، قال هشام: قلت لمحمد: ما كان حجة أبي حنيفة؟ قال: لا أدري، قال محمد: أما أنا أراه واقعاً، وهو قول أبي يوسف. عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ صوم رأس الشهر، فعليه صوم اليوم الأول، ولو قال: آخر الشهر، فعليه أن يصوم اليوم الآخر، ولو قال: لله عليّ صوم يومين متتابعين من أول الشهر، وآخره كان عليه أن يصوم الخامس عشر والسادس عشر. إذا قال: لله عليّ أن أصوم عشرة أيام متتابعة، فصامها متفرقة لم يجزئه؛ لأنه أداء الكامل بالناقص، ولو أوجبها متفرقة، فقضاها متتابعة أجزأه؛ لأنه أوجبها ناقصاً، وأداها كاملاً، وهو نظير ما لو قال: لله عليّ أن أصلي أربع ركعات بتسليمة، فصلاها بتسليمتين لا تجزئه، ولو قال: لله عليّ أن أصلي أربعاً بتسليمتين، فصلى أربعاً بتسليمة أجزأئه. في آخر «القدوري» : إذا قال: لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم في رمضان فصامه أجزأه عن رمضان، وعن الصوم الذي جعل عليه، ولا كفارة عليه، وإن كان أراد العين؛ لأن زمان رمضان يتعين لرمضان، فلم يتعلق بنذره حكم، وقوله: أجزأه عن رمضان، وعن الصوم الذي جعل عينه، فإنما أراد بالجواز أنه لا تلزمه بالنذر شيء ولا كفارة؛ لأن اليمين انعقدت على الصوم، وقد صام، ولو كان قال: لله عليّ أن أصوم

الفصل الثاني عشر في الاعتكاف

اليوم الذي يقدم فيه فلان شكراً لله تعالى تطوعاً لقدومه، وأراد اليمين، فصامه عن كفارة يمين، ثم قدم فلان في ذلك اليوم بعد ارتفاع النهار، فعليه القضاء والكفارة. ولو قدم في يوم من رمضان، فعليه الكفارة، ولا قضاء عليه، أما الفصل الأول فإنما لزمه القضاء؛ لأنه التزم الصوم للقدوم، وصامه عن الكفارة، وهي غير متعينة فيه، فكان عليه القضاء، وعليه الكفارة؛ لأنه حنث في يمينه؛ لأنه لم يحلف على الصوم المطلق إنما حلف على الصوم عن القدوم، وقد صام عن غيره فحنث. وأما الفصل الثاني: فإنما لا يلزمه القضاء؛ لأن الزمان متعين لرمضان، فلا يصح إلحاقه بغيره، وإنما لزمه الكفارة؛ لأنه لم يصم لما حلف عليه. إذا نذر أن يصوم يوم كذا ما عاش، ثم كبر، وضعف عن الصوم يطعم مكان كل يوم مسكيناً، وإن لم يقدر لعسرته يستغفر الله تعالى، فإن ضعف عن الصوم في ذلك اليوم لمكان الصيف كان له أن يفطر، وينتظر حتى إذا كان في الشتاء صام يوماً مكانه؛ لأنه لو سافر في ذلك اليوم يفطر، ويصوم مكانه فكذا ههنا؛ لأن المرض والسفر كلاهما سبب العذر، ومن جنس هذه المسألة إذا قال: لله عليّ أن أصوم أبداً، فضعف عن الصوم لاشتغاله بالمعيشة كان له أن يفطر؛ لأنه لو لم يفطر يقع الخلل في جميع الفرائض، ويطعم كل يوم نصف صاع من الحنطة؛ لأنه متيقن أنه لا يقدر على قضائه أبداً. الفصل الثاني عشر في الاعتكاف قال علماؤنا رحمهم الله: الاعتكاف سنة مشروعة، وهو ضربان: تطوع: وهو أن يشرع. وواجب: وهو أن يوجبه على نفسه وجوازه، قال القدوري: ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد الجماعات، وروي عن أبي حنيفة أنه لا يصح إلا في مسجد تصلى فيه الصلوات الخمس، قيل: أراد أبو حنيفة رحمه الله غير المسجد الجامع، فإن هناك يجوز الاعتكاف، وإن لم يصلوا فيه الصلوات كلها بجماعة. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف: أن الاعتكاف الواجب لا يجوز أداؤه في غير مسجد الجماعة، وغير الواجب يجوز أداؤه في غير مسجد الجماعة، والأفضل اعتكاف الرجل في الجامع إذا كان ثمة قوم يصلون بجماعة، وإن لم يكن، فاعتكافه بالمسجد أفضل، والأفضل في حق المرأة الاعتكاف في مسجد بيتها يريد به الموضع المعد للصلاة، ولو خرجت واعتكفت في مسجد الجماعة جاز اعتكافها. والصوم شرط لصحة الاعتكاف الواجب، واختلفت روايات في النفل، وروى الحسن عن أبي حنيفة الصوم شرط لصحته، وفي ظاهر الرواية ليس بشرط، وهو قول أبي يوسف ومحمد، ولا يخرج المعتكف من معتكفه ليلاً ولا نهاراً إلا بعذر، وإن خرج من غير عذر ساعة فسد اعتكافه في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف (165ب1) ومحمد: لا يفسد حتى يكون أكثر من نصف يوم.

من الأعذار الخروج للغائط والبول أولى، والجمعة، فبعد ذلك ينظر إن كان منزله بعيداً من الجامع يخرج حين يرى أنه يبلغ الجامع عند البداء، فإن كان منزله قريباً يخرج حين تزول الشمس، وفي «القدوري» : يخرج عند الأذان، فيكون في المسجد مقدار ما يصلي أربعاً أو ستاً قبل الجمعة الأربع السنة والركعتان تحية المسجد، وروي عن أبي حنيفة ما يصلي قبلها أربعاً، وبعدها أربعاً وذكر في «الأصل» أربعاً قبلها وأربعاً أو ستاً بعدها على حسب اختلاف الأخبار في النافلة بعد الجمعة، ولو أقام في المسجد الجامع يوماً وليلة ينتقض اعتكافه؛ لأن الجامع محل ابتداء الاعتكاف، فيكون محل مقامه من طريق الأولى، ولا يخرج لأكل وشرب، ولا لعيادة المريض ولا لصلاة الجنازة، قيل: وينبغي أنه إذا لم يكن ثمة أحد يقوم بأمور الميت وبالصلاة عليه أنه يخرج، وإذا مرض، فليس له أن يخرج. وإذا انهدم المسجد الذي هو فيه، أو أخرج منه، فدخل مسجداً آخر من ساعته صح استحساناً، والقياس في الإكراه أن يعيد، وإن صعد المئذنة للتأذين لا يفسد اعتكافه، وإن كان باب المئذنة خارج المسجد، كذا ذكر في «الأصل» ، وفي «أمالي الحسن بن زياد» عن أبي حنيفة أنه يبطل اعتكافه، وإذا خرج لغائط أو بول لا بأس بأن يدخل فيه، ويرجع إلى المسجد كلما فرغ من الوضوء، ولو مكث في بيته فسد اعتكافه، وإن كان ساعة عند أبي حنيفة؛ لأن بيته ليس بمحل لابتداء الاعتكاف، فالبقاء فيه بعد فراغه من الحاجة يبطل اعتكافه، ولو انتقل من مسجد إلى مسجد من غير عذر انتقض اعتكافه عند أبي حنيفة، وعندهما لا ينتقض، وهذا بناءً على أن عند أبي حنيفة الخروج ناقض للاعتكاف قليلاً كان أو كثيراً، وعندهما الخروج القليل ليس بناقض، وهذا كله في الاعتكاف الواجب، فأما في الاعتكاف النفل، وهو أن يشرع فيه من غير أن يوجبه على نفسه لا بأس بأن يخرج بعذر وغير عذر، وهذا على ظاهر الرواية، فإن على ظاهر الرواية يقدر.... الاعتكاف بشيء، فإن محمد رحمه الله قال في «الأصل» : المعتكف بقدر تارك، له....: إذا خرج ولهذا لم يشرط الصوم على ظاهر الرواية لصحة اعتكاف النفل وعلى رواية الحسن عن أبي حنيفة اعتكاف النفل أقله مقدر بيوم، ولهذا شرط لصحت اعتكاف النفل الصوم. ويحرم على المعتكف الجماع ودواعيه نحو المباشرة والتقبيل واللمس، الليل والنهار في ذلك على السواء، وبالجماع يفسد الاعتكاف على كل حال، واللمس والمباشرة تفسد الاعتكاف إذا أنزل، وإذا لم ينزل لا يفسد اعتكافه، ولو نظر فأنزل لم يفسد اعتكافه، والجماع ناسياً يفسد الاعتكاف كالجماع عامداً، والأكل ناسياً لا يفسد الاعتكاف؛ لأن الأكل ليس من محظورات الاعتكاف، بل هو من محظورات الصوم.

ولهذا تؤقت حرمته بحرمة الصوم وهو النهار وبالأكل ناسياً لا يفسد الصوم، فلا يفسد الاعتكاف بخلاف الجماع؛ لأن الجماع من محظورات الاعتكاف، قال الله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} (البقرة: 187) فيستوي فيه العامد والناسي كما في الإحرام. نوع منه يجب أن يعلم بأن النذر بالاعتكاف صحيح. أما على قول من يقول بأن الشرط صحة النذر أن يكون المنذور به عبادة لا أن يكون لله تعالى من جنسه إيجاب، فظاهر؛ لأن الاعتكاف عبادة مقصودة بنفسه؛ لأنه لبث وقرار في المسجد، وانتظار للصلاة في مكان الصلاة، وأما على قول من يقول بأن شرط صحة النذر كون المنذور به عبادة، وأن يكون لله تعالى من جنسه إيجاب؛ فلأن للاعتكاف شبهاً بالصلاة من حيث إنه لبث وقرار في مكان الصلاة لانتظار الصلاة، والمنتظر للصلاة كأنه في الصلاة إيجاب، أو يقول: النذر بالاعتكاف نذر بالصوم؛ لأن الصوم شرط لصحة الاعتكاف الواجب، والتزام الشيء التزام لشرائطه، ولله تعالى من جنس الصوم إيجاب. إذا قال: لله عليّ أن أعتكف شهراً، فهذه المسألة على وجهين: إن نوى شهراً، فهو كما نوى. وإن لم ينوِ شهراً بعينه، فله أن يعتكف أي شهر شاء، ولا يتعين الشهر الذي يليه، وهو نظير ما لو قال: لله عليّ أن أصوم شهراً، ولم ينوِ شهراً بعينه كان له أن يصوم في أي شهر شاء، وإن بين مسألة الاعتكاف، وبين مسألة الصوم فرقان. مسألة الاعتكاف إذا عين شهراً، وشرع في الاعتكاف يجب التتابع نص على التتابع أو لم ينص، وفي مسألة الصوم لا يجب التتابع إلا إذا نص على التتابع، وإن قال: نويت أن أعتكف بالنهار دون الليل لم تصح نيته لا قضاء، ولا فيما بينه وبين الله. إذا أصبح الرجل صائماً متطوعاً، ثم قال في بعض النهار: لله تعالى عليّ أن أعتكف هذا اليوم، فلا اعتكاف عليه في قياس قول أبي حنيفة؛ لأن الاعتكاف الواجب لا يصح إلا بالصوم، فلو وجب الاعتكاف وجب الصوم، والصوم في أول اليوم انعقد تطوعاً، فلا يمكن جعله واجباً بعد ذلك، وقال أبو يوسف: إن قال ذلك بعد الزوال، فلا اعتكاف، وإن كان قبل الزوال، فعليه الاعتكاف، وكذلك قال أبو يوسف في رجل أصبح مفطراً، ثم قال: لله عليّ أن أعتكف هذا اليوم وكان ذلك قبل انتصاف النهار فإنه يلزمه ويعتكفه بصومه وإن لم يفعل، فعليه القضاء، ولو نذر اعتكاف ليلة لا يلزمه شيء، وإن نوى اليوم معها لم تصح نيته، وعن أبي يوسف أنه يلزمه، ويصير تقدير المسألة كأنه قال: لله عليّ أن أعتكف ليلة بيومها، ولو نذر اعتكاف يومين أو ليلتين أو أكثر من ذلك صح نذره، ودخل فيه الأيام والليالي.

يجب أن يعلم أن ذكر الأيام يستتبع ما بإزائها من الليالي، (166أ1) . وكذا ذكر الليالي يستتبع ما بإزائها من الأيام باتفاق الروايات، وكذا ذكر اليومين والليلتين يستتبع ما بإزائهما من الليلتين واليومين في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف أنه لا يستتبع ما بإزائهما، على هذه الرواية نفي النذر باعتكاف يومين وباعتكاف ليلتين، والنذر باعتكاف اليومين صحيح، وتدخل الليلة المتوسطة تحت النذر، والنذر باعتكاف الليلتين غير صحيح، فلا يلزمه شيء، ولو نذر باعتكاف ثلاثين يوماً وقال: عنيت به النهار خاصة، فهو كما نوى وإن يفرقه، ولو قال: أردت بالليل خاصة لم يصدق، وإن قال: ثلاثين ليلة، ونوى بالليل خاصة لم يلزمه شيء. إذا قال: لله عليّ أن أعتكف شهراً بغير صوم، فعليه أن يعتكف شهراً، ويصوم فيه، إذا أوجب الاعتكاف في وقت معين، ولم يعتكف قضى؛ لأن الاعتكاف قد لزمه في ذلك الوقت، فلا يخرج عن العهدة إلا بالأداء في الوقت أو بالقضاء خارج وقت كما في الصوم. إذا نذر اعتكاف يوم دخل المسجد قبل طلوع الفجر، وأقام فيه إلى أن تغرب الشمس، ولو نذر اعتكاف يومين دخل المسجد قبل غروب الشمس، وأقام الليلة ويومها وليلته الأخرى ويومها، وعن أبي يوسف: أنه يدخل المسجد قبل طلوع الفجر، وهذا بناءً على ما روينا عن أبي يوسف أن من نذر الاعتكاف يومين تدخل فيه الليلة المتوسطة، ولا تدخل الليلة الأولى، وحكى أبو يوسف برواية بشر عن أبي حنيفة مثل قوله، ولو أوجب الاعتكاف شهراً بعينه دخل المسجد قبل غروب الشمس؛ لأن الشهر اسم له من الهلال إلى الهلال والبداية بالليل. إذا قال: لله عليّ أن أعتكف رمضان صح نذره كما لو قال: لله عليّ أن أعتكف رجباً أو ما أشبهه. فإن قيل: إذا قال: لله عليّ أن أعتكف رجباً إنما صح نذره؛ لأنه أضاف النذر بالاعتكاف إلى وقت يقع صومه بجهة الاعتكاف، فكان المنذور به اعتكافاً بصومه هذا معنى ههنا معدوم. قلنا: إذا نذر اعتكاف رجب إنما صح نذره؛ لأنه أضاف النذر بالاعتكاف إلى محل يقبل الصوم؛ لأنها محل تقبل الصوم بجهة الاعتكاف؛ لأن من شرط صحة الاعتكاف ذات الصوم لا الصوم بجهة الاعتكاف. قال عليه السلام: «لا اعتكاف إلا بالصوم» ولم يقل لا اعتكاف إلا بالصوم بجهة الاعتكاف، فلو أنه صام رمضان، ولم يعتكف كان عليه أن يقضي اعتكافه يعتكف شهراً آخر مكانه متتابعاً، ويصوم فيه، وعن أبي يوسف برواية بشر: أنه يبطل نذره، ولا يلزمه القضاء، وإن لم يعتكف حتى دخل رمضان آخر، فصامه واعتكف قضاء عن الاعتكاف في شهر الأول لا يجوز؛

الفصل الثالث عشر في صدقة الفطر

لأن تفويت رمضان. كما وجب الاعتكاف ديناً في الذمة وجب الصوم لأجل الاعتكاف ديناً، وكل صوم وجب ديناً في الذمة لا يتأدى بصوم رمضان، فلو أفطر في رمضان الأول من عذر، ووجب عليه قضاؤه باعتكاف متتابع؛ لأن الأول إذا كان واجباً عليه بهذه الصفة؛ فإن قضى صوم رمضان، واعتكف فيه متتابعاً أجزأه كما لو صام رمضان واعتكف فيه؛ لأن القضاء يقوم مقام الأداء. إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر، ولم يعتكف حتى مات يطعم عن كل يوم نصف صاع من حنطة؛ لأنه لزمه صوم بهذا النذر، وقد عجز عن الأداء بالموت، فينقل إلى الفداء، وإن كان مريضاً وقت الإيجاب، فلم يبرأ حتى مات، فلا شيء عليه اعتباراً لإيجاب العبد بإيجاب الله تعالى، وإن كان صحيحاً حين أوجب، وعاش عشرة أيام أطعم عنه لجميع الشهر. قيل: هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وعلى قول محمد: يطعم عنه بقدر ما كان صحيحاً، والله أعلم بالصواب. الفصل الثالث عشر في صدقة الفطر اختلفت الروايات في صفة صدقة الفطر ذكر في «الأصل» : وتجب صدقة الفطر عن نفسه وعبيده، وذكر في «المجرد» : عن أبي حنيفة: أن صدقة الفطر سنة لا ينبغي تركها، والمذهب أنها واجبة؛ لأنه ورد الأثر بها، قال عليه السلام: «أدوا عمن تمونون» ، وقال عليه السلام: «أدوا عن كل حر وعبد» والأمر للوجوب، ومعنى قول أبي حنيفة في «المجرد» أنها سنة: أن وجوبها ثابت بالسنة، ووقت وجوبها من حين يطلع الفجر الثاني من يوم الفطر حتى إن مات قبل ذلك، فلا وجوب، ومن ولد أو أسلم قبله وجب، وأفضل لو قال: الأداء قبل خروجه إلى الصلاة. ومن حكمها أنها لا تسقط بالتأخير، وإن طالت المدة، هكذا ذكر القدوري في «شرحه» وأن يجوز تعجيلها قبل يوم الفطر بيوم أو يومين في رواية الكرخي، وعن أبي حنيفة لسنة أو سنتين، وعند بعض المشايخ يجوز التعجيل في شهر رمضان، ولا يجوز قبله، وذكر الصدر الشهيد في شرح كتاب الصوم أن ذكر اليوم والسنة في رواية الكرخي، ورواية أبي حنيفة وقع اتفاقاً، لا لتقييد الجواز به.

ولا تجب هذه الصدقة إلا على حر مسلم غني، والغني أن يملك نصاباً أو ما قيمته نصاب فاضلاً عن مسكنه وأثاثه وثيابه على نحو ما يعتبر في حرمة الصدقة، وما تأدى به هذه الصدقة في المشهور من الأخبار ثلاثة أشياء الحنطة والشعير والتمر، ومقدارها من الحنطة نصف صاع، ومن الشعير والتمر صاع، وأما الزبيب فهو مروي في بعض الأخبار، ومقداره نصف صاع عند أبي حنيفة على رواية «الجامع الصغير» ، وروى الحسن عنه أنه صاع والزبيب جوازه باعتبار..... العين عند بعض المشايخ، وعند العامة باعتبار القيمة، ودقيق الحنطة وسويقها كالحنطة ودقيق الشعير وسويقة كالشعير عندنا، والجواز باعتبار العين؛ لأن الدقيق منصوص عليه في بعض الروايات، والخبر يجوز باعتبار العين عند بعض المشايخ، وعند العامة باعتبار القيمة، وهو أصح، وفي سائر الحبوب الجواز باعتبار القيمة، وإذا أراد أن يعطي قيمة الحنطة أو الشعير أو التمر يؤدي قيمة (166ب1) أي ثلث شاء عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، وقال محمد: يؤدي قيمة الحنطة. ذكره الصدر الشهيد في شرح الصوم، وكان الفقيه أبو بكر الأعمش يقول: أداء الحنطة أفضل، وكان الفقيه أبو جعفر يقول: أداء القيمة في ديارنا أفضل، وعن أبي يوسف في غير رواية «الأصول» أنه قال: الدقيق أحب إليّ من الحنطة، والدراهم أحب إليّ من الدقيق، ويؤدي نصف صاع تمر، أو شعير، ومد حنطة لا يجوز، وجوزه في الكفارة، ولو أدى نصف صاع تمر تساوي نصف صاع حنطة لا يجوز؛ لأن كل واحد منهما منصوص عليه، والمقصود من الكل واحد، ولو أدى الحنطة رديئة جاز، وإن كان عفناً، أو به عيب أدى لنقصان، وقد اعتبر الحسن في رواية قيمة الوسط في الجواز، وأما إذا كان قيمته دون قيمة الوسط لا يجوز. فقد ذكر في كتاب الزكاة لو أخرج قيمة نصف صاع حنطة لم يجز إلا إن أخرج قدر نصف صاع وسط، فإن كان ما أخرج لا يساوي نصف الصاع حنطة وسط، ولكن يساوي قيمة صاع من شعير وسط، أو صاع تمر وسط، ففي هذه الصورة نوع اضطراب ذكر في بعض نسخ الحسن أنه يجوز، وذكر في بعض نسخه أنه لا يجوز، قال البلخي في «كتابه» في حياته: والصحيح عندي جوازه. وفي «المنتقى» : إذا أعطى قيمة نصف صاع رديئة لم يجزه، وعليه أن يعطي قيمة نصف صاع حنطة وسط، وإن أعطى قيمة صاع دقيق أو سويق جيد، وذلك لا يساوي نصف صاع حنطة وسط لا يجزئه، وكان عليه تمام قيمة نصف صاع حنطة وسط، والصاع الذي تقدر الحنطة بنصفه والشعير والتمر بكله، قال الطحاوي: ثمانية أرطال مما يستوي كيله ووزنه قبل معناه إن سوى بالعديس والماش، وإن أعطى بالوزن سويق من الحنطة عند أبي حنيفة وأبي يوسف يجوز، وقال محمد: لا يجوز إلا كيلاً.

قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ويجب على الرجل الحر المسلم الغني أن يؤدي صدقة الفطر عن نفسه، ورقيقه كفاراً كانوا أو مسلمين إذا لم يكونوا للتجارة، وكذا عن مدبريه وأمهات أولاده ولا يخرج عن مكاتبه، ولا عن رقيق مكاتبه، ولا يجب على المكاتب أيضاً، والمعتق البعض عند أبي حنيفة بمنزلة المكاتب، وعندهما بمنزلة حر عليه دين، فإن كان الفاضل عن دين السلعة ما يساوي مائتي درهم سوى ما يحتاج إليه في الحال تجب عليه صدقة الفطر. ويخرج عن عبده الذي في يدي غيره بإجارة أو عارية أو وديعة وكالعبد المرهون، ففي ظاهر الرواية تجب صدقة الفطر على الراهن إذا كان عبده وفى له بالدين وفضل مائتي درهم، وإن كان فضل مائتي درهم في المرهون فهما سواء، ولا يخرج عن الآبق والمغصوب المجحود، ويخرج صدقة الفطر عن عبده المأذون المديون، وأما مماليك هذا العبد فإن كانوا للتجارة، فلا يخرج عنهم سواء كان على المأذون دين أو لم يكن، وأما إذا كان اشتراهم المأذون للخدمة بإذن المولى، فإن لم يكن على المأذون دين يجب على المولى صدقة فطرهم، وإن كان على المأذون دين لا يجب على المولى صدقة فطرهم عند أبي حنيفة خلافاً لهما. وإذا كان العبد بين رجلين فلا صدقة على واحد منها عندنا، وهذا بناءً على أن عندنا الوجوب على المولى بسبب الملك، والملك لم يكتمل، وإذا كان عدد من العبيد بين رجلين، فلا صدقة على واحد منهما عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: تجب على كل واحد منهما ما يحصه بالقسمة من العدد، لو قسم بناءً على أنه عند أبي حنيفة الرقيق لا يقسم قسمة واحدة، فلم يملك كل واحد منهما ملكاً تاماً، ومحمد رحمه الله يرى قسمة الرقيق، وكذلك أبو يوسف؛ لأن أبا يوسف رحمه الله لم يوجب ههنا لعدم الولاية، وإذا كانت الجارية مشتركة بين رجلين، فجاءت بولد، فادعياه، فلا صدقة على واحد منهما في الأم، فأما الولد، فقال أبو يوسف: على كل واحد منهما صدقة تامة، وقال محمد: عليهما صدقة واحدة، وإن كان أحدهما فقيراً والآخر موسراً، أو كان أحدهما ميتاً، فعلى الآخر صدقة تامة عندهما. ولا يجب على الرجل صدقة الفطر عن أولاده الكبار سواء كان لهم مال، أو لم يكن، وسواء كانوا أصحاء أو زمنين في ظاهر رواية أصحابنا، وأما الأولاد الصغار، فإن كان لهم مال، فإنه يؤدي من مالهم صدقة فطرهم وصدقة فطر مماليكهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافاً لمحمد رحمه الله، وكذلك الوصي على هذا الخلاف، وإن لم يكن للصغير مال، فإنه يجب على الأب صدقته دون صدقة فطر مماليكه، وفي «البقالي» : والقاضي كالولي في الأداء من مال الصغير، والمعتوه والمجنون بمنزلة الصغير، سواء كان الجنون أصلياً بأن بلغ مجنوناً، أو كان الجنون عارضاً، هو الظاهر من المذهب، ولا يخرج عن سائر قرابته، وإن كانوا في عياله، وكذا لا يخرج عن

الفصل الرابع عشر في المتفرقات

نوافله في ظاهر الرواية، وكذا لا يخرج أحد الزوجين عن صاحبه. ويجوز أن يعطي ما يجب عن جماعة مسكيناً واحداً، وإن أعطى ما يجب عن واحد مسكينين يجوز عند الكرخي، ولا يجوز عند غيره. عن أبي يوسف: يعطي الرجل صدقة الفطر عن نفسه، ويكتب إلى أهله، فيعطون حيث هم، وإن أعطى عن نفسه، وعنهم حيث هو، أو كتب إليهم حتى يعطوا عن أنفسهم وعنه يجوز. وعنه أيضاً: لو أعطى صدقة الفطر عن زوجته وأولاده الكبار الذين هم في عياله أجزأه وإن لم يأمروه بذلك، ولا يجوز أن يعطي عن غير عياله إلا بأمره، ويؤدي صدقة الفطر عن نفسه وعبيده حيث هو، وفي زكاة المال، وهذا قول محمد وهو قول أبي يوسف الأول، ثم رجع، وقال: يؤدي عن العبد حيث العبد، وروي عن أبي يوسف: أن العبد إذا كان حياً يعتبر مكان العبد، وإن كان ميتاً يعتبر مكان المولى، فلا تجب هذه الصدقة عن الحمل، وتجب عن عبد الجناية عمداً أو خطأً، وأما عبد الموصى برقبته لرجل وبخدمته لآخر صدقة فطره على مالك (167أ1) الرقبة، وإذا اشترى عبداً شراءً صحيحاً، ومر يوم الفطر قبل قبضه لزمه صدقة الفطر إن قبضه وقيل: هو قولهما، وإن مات قبل القبض، فلا صدقة، وإن رده قبل القبض، فعلى البائع، وإن كان بعده، فعلى المشتري، والله أعلم. الفصل الرابع عشر في المتفرقات إذا كان عليه قضاء يوم الخميس مثلاً، وظن أنه يوم الجمعة، فصامه ينوي قضاء الجمعة لم يجز، ولو نوى قضاء اليوم الذي عليه غير أنه ظن أنه يوم الجمعة أجزأه في «الجامع» للكرخي. ابن سماعة عن محمد: صائم جن وشرب في حال جنونه، فعليه القضاء. إذا نذر صوم رجب، فدخل رجب، وهو مريض لا يستطيع الصوم ولا.... أفطر وقضى، لو مات الناذر قبل دخول الوقت فلا قضاء عليه، وكذلك إن أدرك الوقت، وهو مريض، ثم مات قبل أن يبرأ، فإن برأ فعليه القضاء. الحسن عن أبي حنيفة في المجنون إذا قال: لله عليّ أن أصوم رجباً فلم يزل مجنوناً، ثم مضى رجب ثم أفاق، فعليه قضاؤه هذه المسألة بناءً على أن النذر المضاف

إلى وقت معين بسبب المحال، والمسألة معروفة. بشر عن أبي يوسف: أصبح يوم النحر ينوي الصوم، ثم أفطر فعليه قضاؤه، وروى الحسن في اختلاف مثله، وهذه المسألة على روايتين في رواية جعل الشروع بمنزلة النذر، والجواب في النذر كما ذكرنا، وفي رواية فرق بين الشروع وبين النذر. لا بأس للمعتكف أن يبيع ويشتري في المسجد، وعن أبي يوسف أنه قال: هذا إذا لم يحضر السلعة في المسجد، فأما إذا أحضر، فهو مكروه. وقيل: إذا كان يبيع ويشتري للتجارة، فهو مكروه، وللمعتكف أن يلبس ما شاء، ويأكل ويدهن، ويعصب بما شاء. في «الأصل» : وليس للمرأة أن تعتكف بغير إذن الزوج، وكذلك ليس للعبد والأمة أن يعتكف بغير إذن المولى، وإن نذرت المرأة بالاعتكاف، فللزوج أن يمنعها عن ذلك، وكذلك العبد والأمة إذا نذر بالاعتكاف، فللمولى أن يمنعه عن ذلك، وإن أذن الزوج للمرأة بالاعتكاف، ثم أراد أن يمنعها ليس له ذلك، وإن أذن المولى للمملوك بالاعتكاف، فله أن يمنعه لكن يكره له المنع، ولا تصوم المرأة تطوعاً بغير إذن زوجها، فإن كان صيامها لا يضر به بأن كان صائماً أو مريضاً، فلها أن تصوم وليس له منعها، وهذا بخلاف العبد والأمة، فإنه ليس لهما أن يتطوعا بغير إذن المولى، وإن لم يضر ذلك بالمولى، وللزوج والمولى أن ينقضه إذا كان الشروع بغير رضا، وتقضي المرأة إذا أذن لها زوجها أو بانت منه، ويقضي العبد إذا أذن له المولى أو عتق، والأجير الذي استأجره للخدمة لا يصوم تطوعاً إلا بإذن المستأجر إذا كان الصوم يضر به في الخدمة، وإن كان لا يضر، فله أن يصوم بغير إذنه. إذا أفطر المريض والمسافر في رمضان لا تسقط عنه صدقة الفطر. في «فتاوى أبي الليث» : إذا قال لعبده الذي هو للخدمة: إذا جاء يوم الفطر فأنت حر، فجاء يوم الفطر عتق، وعلى المولى صدقة الفطر لوجود السبب، وهو رأس يمونه وقت الوجوب، وهو وقت طلوع الفجر الثاني من يوم الفطر؛ لأن العتق ثبت بعده في هذا الموضع. أيضاً: زوج ابنته الصغيرة من رجل وسلمها إليه، ثم جاء يوم الفطر لا يجب على الأب صدقة الفطر. في فتاوى «خوارزم» . وفي «البقالي» : إذا تزوج امرأة على عبد في يوم الفطر، والعبد في يد الزوج بعد، فلا صدقة، وأيضاً: إذا أجاز المالك البيع الموقوف بعد الفطر، فعليه الصدقة. وفي «القدوري» : من افتقر بعد يوم الفطر لم تسقط عنه الصدقة، والله أعلم بالصواب.

كتاب المناسك

كتاب المناسك هذا الكتاب يشتمل على عشرين فصلاً. 1 * في بيان شرائط الوجوب. 2 * في بيان ركن الحج، وكيفية وجوبه. 3 * في تعليم أعمال الحج. 4 * في بيان مواقيت الإحرام وما يلزم بمجاوزتها بغير إحرام. 5 * فيما يحرم على المحرم بسبب إحرامه، وما لا يحرم وهو أنواع: منها في الصيود والدلالة على الصيد، ومنها في المحرم يضطر إلى الصيد، ومنها في المحرم شاركة غيره في فعل المفسد، ومنها لبس المخيط، ومنها في الجماع، ومنها في حلق الشعر والأظفار، ومنها في الدهن والطيب والخضاب. 6 * في صيد الحرم وشجره وحشيشه، وحكم أهل مكة. 7 * في بيان وقت الحج والعمرة. 8 * في الطواف والسعي. 9 * في القارن. 10 * في التمتع. 11 * في الإحصار. 12 * في معرفة فائت الحج، وبيان أحكامه. 13 * في الجمع بين إحرامين. 14 * في الحلق والتقصير.

15 * في الرجل يحج عن آخر. 16 * في الوصية بالحج. 17 * في إحرام المرأة والمماليك. 18 * في التزام الحج والتزام الهدي والبدن، وما يتصل بذلك. 19 * في الخطأ في الوقوف بعرفة، والشهادة فيه. 20 * في المتفرقات.

الفصل الأول: في بيان شرائط الوجوب

الفصل الأول: في بيان شرائط الوجوب شرائط وجوب الحج: العقل، والبلوغ، والحرية، والاستطاعة، وتكلموا في تفسير الاستطاعة. قال أبو حنيفة رحمه الله في «ظاهر الرواية» : تفسيرها ملائمة البدن وملك الزاد والراحلة، وهو رواية عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف ومحمد في «ظاهر الرواية» : تفسيرها ملك الزاد والراحلة لا غير، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، حتى إن في «ظاهر الرواية» عن أبي حنيفة رحمه الله: لا يجب الحج على الزّمِن، والمفلوج، والمقطوع الرجلين، وإن ملكوا الزاد والراحلة وهو رواية عنهما، وفي ظاهر روايتهما يجب الحج على هؤلاء، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة إذا كان ملكه من الزاد والراحلة قدر ما يحج به، ويحج معه من يرفعه ويقوده إلى المناسك وإلى حاجته، وفائدة هذا الخلاف إنما تظهر فيما إذا ملك هؤلاء الزاد والراحلة، ففي ظاهر رواية أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يجب عليهم الإحجاج بمالهم؛ لأن الإحجاج بالمال بدل عن الحج بالبدن ولم يجب (167ب1) عليهم الحج بالبدن لمكان العجز فكيف يجب عليهم البدل؟ وفي ظاهر روايتهما يجب؛ لأنه لزمهم الأصل وهو الحج بالبدن في الذمة، وقد عجزوا عنه فيلزمهم البدل. ولو ملك الزاد والراحلة وهو صحيح البدن فلم يحج حتى صار زمناً أو مفلوجاً، لزمه الإحجاج بالمال بلا خلاف؛ لأن الحج قد لزمه في الذمة بلا خلاف لوجود الشرط، وهو الاستطاعة، وقد وقع العجز عن الأداء بنفسه فيلزمه البدل. وأما الأعمى إذا وجد الزاد والراحلة ولم يجد قائداً يقوده، أجمعوا على أنه لا يلزمه الأداء بنفسه. وهل يلزمه الإحجاج بالمال؟ فهو على الخلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله. وفي «المنتقى» : عن أبي عاصم قال: سمعت أبا عصمة الكبير قال: سمعت إبراهيم بن رستم وأبا سليمان في المرأة والأعمى لهما مال ليس لهما من يخرجهما إلى الحج قال أحدهما عن محمد: الحج واجب عليهما ويستأجر الأعمى من يخرجه ويقود المرأة المحرم حتى يخرجها، وقال الآخر: ليس عليها حج، وإذا وجد الأعمى قائداً يقوده إلى الحج ووجد مؤنة القائد فعلى قول أبي حنيفة في المشهور لا يلزمه على قياس الجمعة، وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» أنه يلزم الحج عنده، فأما على قولهما فقد ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» أن على قياس قولهما في الجمعة يلزمه، وهكذا ذكره

ابن سماعة في «نوادره» عن محمد، قال محمد في رواية ابن سماعة: ولا يشبه الأعمى عندي المقعد والذي يفسده الريح حتى لا يستطيع القيام؛ لأن الأعمى هو الذي يقوم ويقعد ويمشي، وإنما هو بمنزلة رجل لا: يعرف الطريق، فيحتاج إلى مرشد يدله عليه. قال: والحاصل من قول محمد في حق أهل الآفات إنَّ كل من كان من أهل آفة يعمل مع ذلك الآفة إلا أنه يحتاج إلى معونة لو وجد تلك المعونة، فعليه الجمعة والجماعة والحج، وكل من كان من أهل آفة لا يقدر أن يجد تلك ويقوم ويمشي وإن أُعِين على ذلك حتى يحمل ويوضع، فليس عليه جمعة ولا جماعة ولا حج. وذكر القدوري في «شرحه» : أن في وجوب الحج عليهما في هذه الصورة روايتان: فعلى إحدى الروايتين يحتاجان إلى الفرق بين الجمعة والحج، والفرق: أن القدرة على أداء الحج بالغير نادر، فلم يعتبر، والقدرة على أداء الجمعة بالغير ليس بنادر، فجاز أن يعتبر. وإن كان صحيح البدن إلا أنه لا يملك الزاد والراحلة لكن بذل له غيره الزاد والراحلة في طريق الحج، ومعناه أنه أباح له ذلك غيره لا تثبت الاستطاعة به عندنا، وكان الكرخي يقول: إنما تشترط الراحلة في حق من بَعُد عن مكة، فأما أهل مكة ومن حولها لا تشترط الراحلة في حقهم، ثم المراد من الاستطاعة بملك الزاد والراحلة أن يكون عنده مال فاضل عن حوائجه الأصلية قدر ما يشتري أو يكري به شقّ محمل أو راحلة، وقدر نفقته ونفقة عياله مدة ذهابه ومجيئه من غير سرف ولا تقتير، وكان الشيخ أبو عبد الله الجرجاني يقول: وأن يكون عنده قدر نفقة يوم بعدما رجع إلى وطنه؛ لأنه بعدما رجع إلى وطنه لا يمكنه أن يشتغل بالكسب لنفقة يومه، وعن أبي يوسف أنه شرط نفقة شهر بعد رجوعه. وفي «الأصل» : إذا كان له دار يسكنها، وعبد يستخدمه وثياب يلبسها، ومتاع يحتاج إليه، لا تثبت به الاستطاعة، وذكر القدوري في «شرحه» : إذا كان له دار لا يسكنها وعبد لا يستخدمه، فعليه أن يبيعه ويحج به، وكل ذلك يشير إلى اعتبار الفراغ عن الحاجة الأصلية. وفي «القدوري» أيضاً: إذا كان له منزل يسكنه، ويمكنه أن يبيع ويشتري بثمنه منزلاً دون منه، ويحج بالفضل لم يلزمه ذلك، لأنه محتاج إلى منزله للسكنى، ولا يعتبر في الحاجة قدر ما لا بد منه، ألا ترى أنه لا يلزمه بيع المنزل والاقتصار على السكنى؟ وفي «المنتقى» بشر بن الوليد عن أبي يوسف في «الأمالي» إذ كان له مسكن وخادم، وكفاف من ملبس ومتاع لنفسه وعياله فوق شهر أو سنة، وأي ذلك باع كان فيه جهاز للحج، فليس عليه حج إلا أن يكون في شيء من ذلك فضل على الكفاف ويبلغه إلى الحج، ولو لم يكن له مسكن ولا شيء من ذلك، وعنده دراهم تبلغه الحج، وتبلغه من مسكن وخادم وطعام وقوت كان عليه أن يحج، وإن جعلها في غير الحج أثم، فإن كان ذلك قبل شهر الحج وقبل أن يخرج أهل بلده إلى الحج، فهو في سعة من صرفها إلى أي الأصناف التي سمّينا إن شاء.

قالوا في كتب الفقه: إذا كانت لفقيه وهو يحتاج إلى استعمالها أنه لا تثبت بها الاستطاعة، وإن كان لجاهل تثبت الاستطاعة وإذا كان كتب الطب والنجوم، ثبتت له الاستطاعة سواء كان يحتاج إلى استعماله والنظر فيه، أو لا يحتاج. وحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أنه كان يقول: اختلف الناس في وجوب الحج على الرجل إذا كان عنده طعام، قال بعضهم: إذا كان عنده طعام سنة فهو فقير، ولا يلزمه الحج؛ لأن هذا القدر من الطعام مباح له إمساكه، وإن كان أكثر فهو من المحتكرين، وعليه الحج، وقال بعضهم: إذا كان عنده قوت شهر، فهو فقير لا يلزمه الحج، وإن كان أكثر من ذلك فهو غني، ويلزمه الحج. وأما أمن الطريق، فقد روى أبو شجاع عن أبي حنيفة أنه من جملة الاستطاعة لا يثبت الوجوب بدونه كالزاد والراحلة، ومن أصحابنا من جعله شرط الأداء، وثمرة الخلاف إنما تظهر في حق وجوب الوصية بالحج، فمن جعله شرط الوجوب قال: لا تجب عليه الوصية، ومن جعله شرط الأداء يقول: تجب عليه الوصية. وجه من جعله شرط الوجوب ظاهر أنه لا وصول إلى الحج إلا بأمن الطريق، كما لا وصول إليه إلا بالزاد والراحلة، ومن جعله شرط الأداء، وهو الفرق بين الزاد والراحلة أن بالزاد والراحلة (168أ1) يثبت التمكن من الأداء، فلا تثبت الاسطتاعة بدونهما، فأما خوف الطريق مبني بعجزهما عن الأداء، فهو في معنى المعارض والمانع، فلا تنعدم به الاستطاعة يعتبر هذا بالمحسوسات، فإن المقيد الممنوع عن المشي لا يكون نظير المريض الذي لا يقدر. والمحرم في حق المرأة شرط، شابة كانت أو عجوزاً إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام، واختلفوا في كون المحرم شرط الوجوب، أو شرط الأداء حسب اختلافهم في أمن الطريق، والمحرم: الزوج، ومن لا يجوز له مناكحتها على التأبيد برضاع أو صهريه؛ لأن المقصود من المحرم الحفظ؛ لأن النساء عرضة للفتنة، والزوج يحفظها، وكذا سائر محارمها يحفظونها، ولا يطمع فيها إذا لم تجز له مناكحتها على التأبيد، والحر والعبد والمسلم والذمي سواء؛ لأن كل ذي دين يقوم بحفظ محارمه، ولا يطمع فيها إذا لم تجز له مناكحتها على التأبيد. قال القدوري في «شرحه» : إلا أن يكون مجوسياً يعتقد إباحة المناكحة، فلا تسافر معه؛ لأنه لا ينقطع طمعه عنها، ولهذا لا يجوز لها أن تخلو به، فكذا لا يجوز لها أن تسافر معه؛ قال القدوري أيضاً: وكذا المسلم إذا لم يكن مأموناً لا تسافر معه؛ لأن ما هو الغرض من المحرم لا يحصل به، والصبي الذي لم يحتلم لا غيرة له، وكذا المجنون الذي لا يفيق؛ لأن ما هو المقصود من المحرم وهو الحفظ لا يحصل بهما، ولا يجب عليها أن تتزوج إذا لم يكن لها زوج. وإذا وجدت محرماً، ولا يأذن لها زوجها أن تخرج، فلها أن تخرج بغير إذنه في حجة الإسلام دون التطوع؛ لأن حق الزوج لا يظهر في العبادات المفروضة.

الفصل الثاني: في بيان ركن الحج وكيفية وجوبه

حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله في المرأة القادرة على نفقة نفسها ونفقة المحرم أن الحج يفرض عليها، واضطربت الروايات عن محمد في هذا، وأكثر المتأخرين على أنها إن وجدت محرماً لا يكون عليها نفقته يفترض عليه الحج، وإلا فلا. الفصل الثاني: في بيان ركن الحج وكيفية وجوبه فنقول: ركن الحج شيئان: الوقوف بعرفة، وطواف الزيارة إلا أن الوقوف بعرفة في الركنية فوق طواف الزيارة؛ لأن الوقوف يؤدى في حال قيام الإحرام من كل وجه، والطواف يؤدى حال قيام الإحرام من وجه؛ لأنه يؤدى بعد الحلق، وقد حصل التحلل بالحلق عن جميع المحظورات إلا النساء، ولأجل ذلك قلنا: إذا جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجه، وعليه القضاء، ولو جامع بعد الوقوف بعرفة قبل طواف الزيارة لا يفسد حجه، ولا قضاء عليه. وأما كيفية وجوبه، فنقول: ذكر الحسن الكرخي رحمه الله أنه يجب على الفور ولا يجوز التأخير عن أول أوقات الإمكان، وهذا قول أبي يوسف روى عنه بشر والمعلى، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله في أصح الروايتين. وقال محمد: يجب على التراخي، وهو قول الشافعي. محمد احتج بتأخير رسول الله عليه السلام الحج من غير عذر، بيانه: فيما روي أن فرضية الحج نزلت في سنة ثلاث من الهجرة ورسول الله حج سنة عشر، وما كان به عذر. وأبو يوسف يحمل ذلك على العذر التأخير بعذر جائز. الفصل الثالث: في تعليم أعمال الحج في «المنتقى» روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: الأحسن للحاج أن يبدأ بمكة فإذا قضى نسكه أتى المدينة، قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذ أراد الرجل الإحرام ينبغي له أن ينوي بقلبه الحج والعمرة أيَّ ذلك أراد الإحرام له، ويلبي ولا يصير داخلاً في الحرام بمجرد النية، ولم يضم إليها التلبية، أو يسوق هدياً. واعلم بأن الروايات قد اختلفت في هذا الفصل في رواية ابن سماعة بمجرد النية، لا يصير محرماً إلا أن يلبي أو يكبر أو يذكر الله، يريد به الإحرام. وفي رواية أخرى عنه: أنَّ بتقليد الهدي والسوق والتوجه معه يصير محرماً كما يصير محرماً بالتلبية وبذكر الله تعالى، وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف أن من نوى الدخول في الإحرام، فهو محرم.

وذكر هذه الروايات في الباب الرابع من حج «المنتقى» ، وفي باب الخامس من حج «المنتقى» داود بن رشيد عن محمد رجل خرج يريد الحج، فأحرم لا ينوي شيئاً، فهو حج بناءً على أن العبادات لصيرورته سابقة عليها جائز، وهذه المسألة دليل على أن التلبية والذكر ليس بشرط لصيرورته محرماً. وفي هذا الباب أيضاً الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: رجل أتى الحج، وهو يريد العمرة وأتى بالعمرة وهو يريد الحج فهو كان ما نواه، وإن قال: لبيك بحجة وهو ينوي الحج والعمرة كان قارناً، وفي المسألة إشكال من وجهين: أحدهما: أنه اعتبر النية، ولم يعتبر اللفظ. والثاني: أن الحج في قوله: لبيك بحجة يكره في موضع الإثبات، فكيف جعله قارناً إذا نوى الحج والعمرة جميعاً؟ الجواب. أما الأول: قلنا: الحج اسم لزيارة أماكن مخصوصة قصد الزائر تعظيمها، والعمرة كذلك، فإنها تسمى حجة صغرى، فالمنوي من محتملات اللفظ، فيكون هذا اعتبار اللفظ فيما يحتمله اللفظ لاعتبار النية بانفرادها. وأما الثاني قلنا: القارن حاج كما أن المفرد حاج لكن القارن حاج بأبلغ جهات الحج، ففي الحقيقة هذا يرجع إلى صيغة الملتزم، ولا يرجع إلى العموم، والإحرام (168ب1) عندنا شرط جواز الحج حتى جاز تقديمه على أشهر الحج؛ لأن تقديم شرط العبادات على أوقاتها جائز، كتقديم الطهارة على وقت الصلاة، والمحرمون أنواع أربعة: مفرد بالحج، ومفرد بالعمرة، وقارن، ومتمتع. فالمفرد بالحج: أن يحرم بالحج من الميقات، أو قبل الميقات في أشهر الحج، أو غير أشهر الحج، ويذكر الحج بلسانه عند التلبية مع القصد بالقلب، ويقول: لبيك بحجة، أو ينوي الحج بقلبه، ولا يذكر بلسانه، والذكر باللسان أفضل، وركنه الوقوف بعرفة من وقت الزوال يوم عرفة، وطواف الزيارة يوم النحر، وواجباته أربعة: الوقوف بمزدلفة، ورمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة، وطواف الصدر. وأما المفرد بالعمرة، فإنه يحرم للعمرة من الميقات أو قبل الميقات في أشهر الحج، ويذكر العمرة بلسانه عند التلبية مع القصد بالقلب، فيقول: لبيك بعمرة، أو يقصد العمرة بقلبه ولا يذكرها بلسانه، والذكر باللسان أفضل، وركنه الطواف، وواجبه السعي بين الصفا والمروة. وأما القارن أن يحرم بالحج والعمرة معاً، ويذكرهما بلسانه عند التلبية مع القصد بالقلب، فيقول: لبيك بحجة وعمرة، أو يقصدهما بالقلب، ولا يذكرهما بلسانه، والذكر باللسان أفضل، فإذا لبى على هذا الوجه يصير محرماً بإحرامين، فيعتمر في أشهر الحج، أو قبله ويحج من عامه ذلك. أما المتمتع: فهو أن يحرم بالعمرة من الميقات، أو قبله في أشهر الحج، أو قبله ويعتمر، ويحرم للحج، ويحج من عامه ذلك من غير أن يلم بأهله إلماماً صحيحاً، وسيأتي بيان المواقيت بعد هذا إن شاء الله تعالى.

ويستحب لمن أراد الإحرام أن يقص شاربه وأظفاره، ثم يغتسل أو يتوضأ، والغسل أفضل، فقد صح «أن رسول الله عليه السلام اغتسل» وهذا الاغتسال للنظافة، وليس بواجب، ويلبس ثوبين جديدين أو غسيلين إزار ورداء؛ لأنه منهي عن لبس المخيط، ولا بد من ستر العورة مما يحصل به دفع الحر والبرد، وإذا لبس إزار ورداء، فقد حصل ستر العورة ودفع الحر والبرد، وقد صح برواية جابر وأبي بريدة رضي الله عنهما «أن رسول الله عليه السلام أحرم ولبس إزاراً ورداء» ، غير أن الجديد أفضل لقوله عليه السلام لأبي ذر «تزين لعبادة ربك» وبالإزار يحصل ستر العورة، ويدهن شاربه؛ لأن الغالب من أحوال أهل الحجاز الحرارة والنتونة والدهن يزيل ذلك، ويتطيب بأي طيب شاء في المشهور، وروي عن محمد أنه لا يتطيب بطيب تبقى عينه بعد الإحرام بأن يلطخ رأسه أو جبهته بالغالية أو المسك، والصحيح ما ذكر في المشهور لحديث عائشة رضي الله عنها، فإنها قالت: «كنت أطيب رسول الله عليه السلام؛ لإحرامه قبل أن يحرم» لأن الحج أمر مهم، ومن قصد أمراً مهماً يطلب التيسير من الله تعالى، ثم يلبي في دبر صلاته، وإن شاء بعدما يستوي بعيره، والأفضل أن يلبي بعد صلاته، ثم يصلي ركعتين، ويقرأ فيها بما شاء، وإن قرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب و «قل يا أيها الكافرون» ، وفي الركعة الثانية بفاتحة الكتاب و «قل هو الله أحد» تبركاً بفعل رسول الله عليه السلام، فهو أفضل. ثم إذا فرغ من صلاته يطلب من الله التيسير، فيدعو: «اللهم، إني أريد الحج، فيسره لي وتقبله مني» من قبل أن يزور بالبيت ذكرت الطيب مطلقاً من غير فصل. وصفة التلبية أن يقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وروي عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أن «النبي لبى كذلك» ، وقوله إن الحمد والنعمة لك مروي بفتح الألف حتى روي أنه كان ينشد في حرمه شعر وبين يائسين سام.... إن تصديق الطير قل ... فقلى له أثر....

ى وأنت محرم فقال إنما أ.... النساء مروي بفتح الألف وبكسرها، وبالكسر أصح لأنه ابتداء الذكر قال الكرخي: يأتي بها ولا ينقص؛ لأن التعيين وجد.... إن لم يوجد.... إن لم يوجد قضاء؛ لأن الظاهر أن الإنسان لا يتحمل المشقة العظيمة للتنقل إذا كان عليه حجة الإسلام والتعين النهاية قضاء سواء على ما عرف ههنا؛ لأن النبي عليه السلام أتى بها وإن زاد عليها فهو حسن، فإذا لبى ونوى بقلبه يصير محرماً. قال القدوري في «شرحه» : ويصير داخلاً في الإحرام بكل ذكر يحصل به التعظيم سواء كان بالعربية أو بالفارسية، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا يصير داخلاً في الإحرام إلا بالتلبية، فقد فرّق محمد رحمه الله بين الصلاة والإحرام، فقيد بالعربية ثمة، ولم يقيد بالعربية ههنا؛ لأن باب الحج أوسع. ألا يرى أن غير الذكر، وتقليد الهدي يقام مقام الذكر، فكذا غير العربية يقام مقام العربية بخلاف الصلاة؟ وإذا أتى ينوي الإحرام، ولم تحضره نية في حج أو عمرة مضى في أيهما شاء ما لم يطف بالبيت، فإذا طاف بالبيت شوطاً واحداً كان إحرامه إحرام عمرة؛ لأن طواف العمرة ركن، وطواف التحية في الحج ليس بركن، ولا معارضة بين الركن وغير الركن. ومن كان عليه حجة الإسلام، فأحرم بحجة لا ينويها فريضة ولا تطوعاً، فهي عن حجة الإسلام استحساناً، وهو المراد من النسيء المذكور في قوله: {إنما النسيء زيادة في الكفر} (التوبة: 37) . ثم إذا صار محرماً يتقي ما نهى الله عنه من الرفث والفسوق والجدال في قوله: {فلا رفث ولا فسوق لا جدال في الحج} (البقرة: 197) واختلفوا في تفسير الرفث المذكور ههنا، بعضهم قالوا: إنه الجماع، وبعضهم قالوا: الكلام الفاحش، وهو الذي فيه الكلام عن الجماع. غير أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقول: «الكلام الفاحش رفث بحضرة النساء» (من عيتهن للصلاة، لتكبير التشريق، فقلنا: الأفضل أن يلبي بعد صلاته؛ لأن التلبية ذكر فيسن له أوقاتها وما أتى بها إلا في مصلاه وأخذ بالرواية ابن عباس ذلك قوم آخرون، فظنوا (169أ1) أنه أول تلبيته فتتلوا، وأيم الله وظنوا أنه أول تلبيته فيقبلوها، ثم أتى حين علا البيداء، فسمع ذلك القوم في دبر صلاته، فسمع قوم من أصحابه فيقبلوا، وكان القوم الله عليهم وأخذه، فقال لبى رسول الله عليه السلام اختلف الناس في وقت تلبية رسول الله عليه السلام ورسول البيداء) ، قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس كيف لبى «حين استوت به راحلته» وعن جابر «أنه لبى

حين علا» ، وروى ابن عباس أنه لبى بعدما صلى، وعن عمر رضي الله عنه، وروى ابن عباس، واختلفت الرواية في وقت التلبية من رسول الله صلى الله عليه وسلّم والفسوق المعاصي وإنه منهي عنه في الإحرام وغيره إلا أن الحرمة في الإحرام أشد. فأما الجدال فقد قيل: المراد منه المخاصمة مع رفيقه بسبب كأنه السفر وضيق الصدر، وقيل: المراد المجادلة مع المشركين في تحرمة العباد في التقديم والتأخير في أشهر الحج، وذلك لأن العرب في الجاهلية كانوا يحجون في ذي الحجة إذا فرغوا، وإذا لم يفرغوا أخّروه وحجوا عاماً في صفر وعاماً في شهر ربيع الأول، وهو المراد من النسيء المذكور في قوله: {إنما النسيء زيادة في الكفر} (التوبة: 37) ، فلما حج رسول الله عليه السلام في شهر ذي الحجة استقر الوقت وحرم المجادلة فيه، وههنا أشياء أخر يأتي بيانها في الفصل الذي يلي هذا الفصل.h ويكثر من التلبية ما استطاع في أدبار الصلوات، وكلما لقي ركباً علا شرفاً أو هبط وادياً وبالأسحار وحين يستيقظ من منامه، ثم يتوجه نحو مكة. وإذا ركب البعير يقول: باسم الله وبالله الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومنَّ علينا بمحمد عليه السلام، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون. وإذا دخل الحرم يقول: اللهم هذا البيت بيتك والحرم حرمك والعبد عبدك، فوفقني لما تحب وترضى، وإذا وقع بصره على البيت يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام وإليك يرجع السلام جئنا يا ربنا بالسلام اللهم زد بيتك تعظيماً وتشريفاً ومهابة، وزد من عظمه ممن حج واعتمر تعظيماً ومهابة، ويبدأ بالحجر الأسود، فيستلمه، والاستلام أن يضع كفيه على الحجر ويقبله، يفعل ذلك إن أمكنه من غير أن يؤذي أحداً، ويقول عند الاستلام: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم اغفر لي ذنوبي، وطهر لي قلبي، واشرح لي صدري ويسر لي أمري، وعافني فيمن عافيته. وإن لم يقدر على الاستلام والتقبيل من غير إيذاء أحد لا يستلمه، ولا يقبله بل يستقبله، ويشير إليه بباطن كفه، ويكبر ويهلل، فيقول: الله أكبر الله أكبر اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتباعاً لسنّتك وسنّة نبيك، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، آمنت بالله، وكفرت بالجبت والطاغوت. وإن أمكنه الاستلام من غير إيذاء أحد، ولكن لم يمكنه التقبيل من غير ذلك لا يقبله، بل يستلمه، ويقبل يديه، ثم يأخذ من يمينه على باب الكعبة، ويطوف بالبيت سبعة

أشواط كل شوط من الحجر إلى الحجر، فهذا الطواف يسمى طواف التحية، وله أسامي أخرى يأتي بعدها إن شاء الله تعالى، ويرمل في هذا الطواف في الثلاث الأول ويمشي على هينته في الأربع. وفسّر الرمل بأن يسرع في المشي ويتبختر كهيئة مشية المبارز يتبختر بين الصفين، ويكون الرمل من الحجر إلى الحجر، وكلما انتهى إلى الحجر الأسود استلمه، وينبغي أن يكون طوافه من وراء الحطيم؛ لأن الواجب هو الطواف حول البيت والحطيم من البيت وجعلت له بابين باباً شرقياً للبيت (والعنت القبعة بالباب الله عليه، وأوصلت الحطيم في وأظهرت قواعد الخليل صلوات ببناء الكعبة البيت، ولو لأحد ثان عمد قومك قد لهم وأخرجوه من وقال صلي؟ فإن الحطيم من البيت) ، إلا أن أخذ رسول الله عليه السلام يدها وأدخلها الحطيم ركعتي إن فتح الله تعالى مكة على رسوله، فبعد الفتح بدليل ما روي عن عائشة رضي الله عنها «نذرت أن تصلي في البيت» وإن زحمه الناس في الرمل قام جانباً، فإن وجد فرجة رمل. ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» استلام الركن اليماني في الطواف، وذكر الكرخي في «مختصره» ، ويستلم الركن اليماني. وذكر هشام في «نوادره» عن محمد: أن الركن اليماني في الاستلام والتقبيل كالحجر الأسود، وعن أبي حنيفة رحمه الله في «المجرد» أن استلامه حسن وتركه لا يضره، ثم إن محمداً رحمه الله ذكر في «الأصل» أنه يفتح الطواف من غيره وباباً غربياً هل يجزئه؟ وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يجزئه، وهكذا ذكر في «الرقيات» والمذكور في «الرقيات» : لو افتتح الطواف من الركن اليماني، وختم به لا يجوز، وعامة المشايخ على أنه يجوز؛ لأن المأمور به هو الطواف بالبيت، وقد طاف بالبيت ذكر في بعض المواضع أن الطائف يقول في طوافه: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر والذل، وموقف الخزي في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. في «المنتقى» روى الفهر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي للرجل أن يقرأ في طوافه، ولا بأس بذكر الله تعالى، فإذا فرغ من الطواف أتى مقام إبراهيم، ويصلي ركعتين، وإن لم يقدر على الصلاة

في المقام بسبب الزحمة يصلي حيث تيسر له عليه من المسجد، وهاتان ركعتان واجبتان عندنا قال عليه السلام: «ويصلي الطائف كل أسبوع ركعتين» ويقرأ في الركعة الأولى {قل يا أيها الكافرون} ، وفي الركعة الثانية {قل هو اأحد} تبركاً بفعل رسول الله فإذا فرغ من الصلاة يدعو للمؤمنين والمؤمنات، ثم يقول: اللهم وفقني لما تحب وترضى، وجنبني ما تسخط وتكره وثبتني على ملة حبيبك وخليلك عليهما السلام، ثم يعود إلى الحجر بعد ركعتي الطواف. أما كل طواف ليس بعده سعي، فلا عود (169ب1) فيه إلى استلام الحجر، ويدعو تحت الميزاب: اللهم أظلني تحت ظلك يوم لا ظل إلا ظلك لا إله غيرك يا أرحم الراحمين، ثم يخرج إلى الصفا من أي باب شاء، ويصعده ويستقبل البيت، ويحمد الله تعالى ويثني عليه ويصلي على النبي عليه السلام، ويكبر ويهلل، ويدعو الله لخاصته ويلبي. وقد روى جابر أن النبي عليه السلام لما صعد الصفا استقبل البيت، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده» ، ثم ينزل من الصفا ويتوجه نحو المروة ويقول: اللهم استعملني لسنّة نبيك وتوفني على ملة رسولك، وأعذني من معضلات الفتن برحمتك يا أرحم الراحمين، ويمشي على هينته حتى يصل إلى بطن الوادي، فإذا وصل إليه سعى بين الميلين الأخضرين، ويقول في سعيه: «رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم اهدني للتي هي أقوم، فإنك تعلم وأنا لا أعلم» ، فإذا جاوز بطن الوادي يمشي على هينته حتى يأتي المروة ويصعدها، ويستقبل البيت ويقول مثل ما قال على الصفا، ثم ينزل من المروة، ويتوجه إلى الصفا. يطوف هكذا بينهما سبعة أشواط يسعى بين الميلين الأخضرين كل شوط، اتفق على هذا رواة نسك رسول الله، وإن لم يقف على الصفا والمروة يجزئه سعيه رواه عيسى بن أبان عن محمد. وعنه أيضاً: لو ابتدأ السعي من الصفا، وسعى حتى إذا بقي بينه وبين المروة مقدار ثلاثة رجع إلى الصفا حتى سعى هكذا بين الصفا والمروة سبع مرات، ثم رجع إلى أهله لم يكن عليه دم، قال: لأنه طاف الأكثر، وعليه صدقة يتصدقها، والسعي بين الصفا والمروة عندنا واجب وليس بركن، حتى لو ترك يقوم الدم مقامه، ويتحلل عن جهة النساء بدونه لحديث جابر «أن النبي عليه السلام طاف بينهما سبعة أشواط، بدأ بالصفا، وختم بالمروة» أي بدأ بالشوط الأول بالصفا وختم بالمروة الشوط السابع بالمروة؛ لأنه ذكر

بداية واحدة وختماً واحداً لجميع السبعة، ولم يقل: بدأ بالصفا وختم بالمروة في كل مرة، وإنما يستقيم ذكر بداية واحدة، وختم واحد لجميع السبعة إذا اعتبرنا بالذهاب من الصفا إلى المروة شوطاً، والرجوع من المروة إلى الصفا شوطاً. ثم لا خلاف بين أصحابنا أن الذهاب من الصفا إلى المروة شوط محسوب من أشواط السبعة، أما الرجوع من المروة إلى الصفا هل هو شوط؟ لم يذكر محمد هذا الفصل في «الكتاب» نصاً، ولكن أشار إلى أنه شوط آخر. وقال الطحاوي: لا يعتبر الرجوع من المروة إلى الصفا شوطاً آخر، والصحيح ما أشار إليه في «الكتاب» ، ثم إذا فرغ من ذلك يقيم بمكة حراماً حتى يجيء يوم التروية يطوف بالبيت كلما بدا له، ويصلي لكل أسبوع ركعتين، ولكن لا يسعى عقيب سائر الأطواف في هذه المدة، ثم إذا جاء يوم التروية خرج من مكة بعدما طلعت الشمس. روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا صلى الصلاة بمنى غدا إلى عرفة، ونزل به في أي موضع شاء، إلا أنه لا ينزل على الطريق كيلا يضر بالمارة، وينتظر زوال الشمس، فإذا زالت الشمس يصعد الإمام المنبر، ويجلس ويؤذن، ويخطب الإمام خطبتين بينهما جلسة خفيفة، فإذا فرغ من الخطبة يقيم المؤذن، ويصلي الإمام بالناس الظهر ركعتين إن كان مسافراً، ثم يقوم المؤذن، ويقيم ثانياً، ويصلي الإمام بهم العصر في وقت الظهر من غير أن يشتغل بالنافلة بين الصلاتين يعني غير سنّة الظهر، وإنما قدمنا الخطبة على الصلاة ههنا؛ لأن المقصود من الخطبة ههنا تعليم الناس المناسك. ومن جملة المناسك الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر، وإذا اشتغل بالنافلة بين الصلاتين يعيد الأذان للعصر، إلا رواية شاذة عن محمد. وإن لم يدرك الجمع مع الإمام الأكبر، فأراد أن يصلي وحده في رحله أو بجماعة بدون الإمام الأكبر صلى كل صلاة في وقتها عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: كما فعل مع الإمام الأكبر، فالحاصل أن عند أبي حنيفة شَرْط جواز الجمع بين صلاة الظهر والعصر في وقت الظهر يوم عرفة إحرام الحج، والإمام الأكبر، وعندها إحرام الحج لا غير. وههنا فصل لا بد من معرفته أن إمام مكة إمام الحاج في صلاة الظهر والعصر، فإن كان مقيماً يصلي بهم صلاة المقيمين، ويصلي العصر في وقت الظهر، والإمام عند أبي حنيفة رحمه الله شرط جواز الجمع، أما القصر ليس بشرط جواز الجمع، وإن كان مسافراً يصلي صلاة المسافرين، ويقول لأهل مكة: أتموا صلاتكم يا أهل مكة، ولا يجوز للإمام بمكة أن يقصر الصلاة؛ إذا لم يكن مسافراً، ولا للحجاج أن يقتدوا به إذا كان يقصر الصلاة لأنه إذا لم يكن مسافراً كانت صلاته أربعاً، والمسافر إذا اقتدى بالمقيم يصير فرضه أربعاً، فإذا قصروا لا تجوز صلاتهم. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: كان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: العجب من أهل الموقف أنهم يتابعون إمام مكة في قصر

الظهر والعصر بعرفات، وبينهم وبين مكة فرسخات، ثم يقفون للدعاء فأنى يستجاب لهم، وأنى يرجى لهم الخير وصلاتهم غير جائزة، قال شمس الأئمة هذا: كنت مع أهل الموقف، فاعتزلت وصليت كل صلاة في وقتها كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وأوصيت بذلك أصحابي وإخواني والجهال كانوا يقصرون معه، وقد سمعت أن إمام مكة يتكلف كذلك، ويخرج مسيرة السفر، ثم يأتي عرفات ويقصر بهم، لو كان هكذا كان القصر جائزاً، ولو كان بخلافه لا يجوز، فيجب الاحتياط فيه. ثم إذا فرغ من العصر راح إلى موقف، ويقف في أي مكان شاء إلا بطن عرنة لقوله عليه السلام «عرفات كلها موقف إلا بطن عرنة» (170أ1) . والأفضل أن يقف الإمام، ويقف بأي صفة شاء، والأفضل أن يقف راكباً، ويقف بمستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى، ويهلل ويصلي على النبي عليه السلام، ويدعو الله لحاجته رافعاً يديه نحو السماء، فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «قال رسول الله عليه السلام واقفاً بعرفات يدعو رافعاً يديه» الحديث، كالمستطعم المسكين، وليكن عامة دعائه بعرفات لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير، وهو على كل شيءٍ قدير، لا نعبد إلا إياه، ولا نعرف ما سواه، اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، اللهم هذا مقام المستجير العائذ من النار أجرني من النار بعفوك، وأدخلني الجنة برحمتك، اللهم إذا هديتني للإسلام، فلا تنزعه عني حتى تقبضني وأنا عليه. ويلبي في هذا الموقف عندنا، فقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه «أنه لبى في هذا الموقف، فقيل له: ليس هذا موضع التلبية، فقال: أجهل الناس أم طال بهم العهد لبيك عدد التراب لبيك، حججت مع رسول الله عليه السلام، فما زال يلبي حتى أتى جمرة العقبة» والأفضل أن يقف بقرب الإمام، ويقف بأيّ صفةٍ شاء، والأفضل أن يقف راكباً، ويقف مستقبل القبلة ويحمد اللَّه تعالى، ويهلل ويصلي على النبي عليه السلام، ويدعو الله لحاجته رافعاً يديه نحو السماء، ويكون الوقوف إلى غروب الشمس، ولم يرد به بيان امتداد وقت الوقوف يمد إلى طلوع الفجر من يوم النحر، حتى إن من لم يقف عرفة، ووقف ليلة النحر، فقد تم حجه، وإنما أراد به بيان امتداد نفس الوقوف، يعني: إذا وقف بعد الزوال ينبغي أن يقف إلى وقت غروب الشمس، فإذا غربت الشمس مشى على هينته حتى يأتي المزدلفة، فإن خاف الزحام، فتعجل في الذهاب قبل غروب الشمس، فلا بأس به إذا لم يخرج من حدود عرفات قبل غروب الشمس، فإذا خرج من حد عرفة قبل غروب الشمس، فعليه عندنا دم.

فإن عاد إلى عرفة قبل أن يرفع الإمام سقط عنه الدم، وإن عاد بعدما رفع الإمام لا يسقط عنه الدم في رواية «الأصل» ، وروى ابن شجاع عن أبي حنيفة أنه يسقط. ولا يصلي المغرب في طريق المزدلفة قال عليه السلام «مزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر» ، ثم إذا أتى المزدلفة ينزل حيث شاء مع القوم إلا في وادي محسر، ولا ينزل على الطريق أيضاً كيلا يضر بالمارة، ثم يؤذن المؤذن، ويقيم، ويصلي الإمام المغرب بالناس، ثم يتبعها العشاء ولا يعيد الأذان والإقامة للعشاء، بخلاف القصر بعرفات، والفرق أن العصر بعرفات مقدمة على وقتها، فلا بد من تجديد الإقامة لها إعلاماً للناس، أما العشاء ههنا مؤداة في وقتها، فلا يحتاج إلى تجديد الإقامة لها، ولا يتطوع بين المغرب والعشاء، فإن تطوع بينهما أعاد الإقامة للعشاء، وإن صلى المغرب والعشاء وحده جاز بلا خلاف. فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبين الجمع بعرفات، الفرق أن أداء المغرب ههنا يقع بعد وقته، وهذا غير مقيد بشيء، وهناك أداء العصر يقع قبل وقته، وإنه تقيد بالجماعة مع الإمام الأكبر. وإذا فرغ من العشاء يبيت ثمة، فإذا انشق الفجر من الغد صلى الفجر بغلس لحديث ابن مسعود، ويقف حيث شاء من المزدلفة يحمد الله تعالى في وقوفه ويهلل، ويصلي على النبي عليه السلام يدعو الله تعالى لحاجته رافعاً يديه إلى السماء، وليكن عامة دعائه بالمزدلفة مثل دعائه بعرفات، ويقول: اللهم حرّم شعري ولحمي ودمي وعظمي، وجوارحي على النار يا أرحم الراحمين، وهذا الوقوف من الواجبات عندنا، وليس بركن حتى لو تركها أصلاً يلزمه الدم، ولكن يجزئه الحج بخلاف الوقوف بعرفة، فإذا أسفر جداً ذهب قبل أن تطلع الشمس حتى نزل منى، وروي عن محمد رحمه الله أنه حد الإسفار فقال: إذا أسفر النهار بحيث لم يبق إلى طلوع الشمس إلا مقدار ما يصلي ركعتين يذهب. ثم إذا أتى منى يرمي الجمرة بسبع حصيات مثل حصى الخذف. والكلام في الرمي في مواضع: أحدها: في وقته، فنقول: اتفق العلماء على أن وقت الرمي يوم النحر وثلاثة أيام بعدها غير أن عند علمائنا رحمهم الله أول وقته من حين يطلع الفجر الثاني من يوم النحر، وعند سفيان الثوري أول وقته من حين تطلع الشمس من يوم النحر، وبكل ذلك ورد الأثر، فأصحابنا عملوا بالآثار كلها، وقالوا: يجوز الرمي بعد طلوع الفجر، والأولى تأخيره إلى وقت طلوع الشمس، قال الحسن في «مناسكه» من حين تطلع الشمس من يوم النحر هو الوقت المستحب للرمي، ومن حين زالت الشمس إلى ما قبل طلوع الفجر الثاني من غده هو وقت جمار الرمي مع الكراهة والإساءة، هذا هو الكلام في اليوم الثاني والثالث، فوقت الرمي ما بعد الزوال ولو رمى قبل الزوال لا يجزئه هكذا ذكر في «الأصل» و «المجرد» ، وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» قال محمد رحمه الله: كان أبو

حنيفة يقول: أحب إليّ أن لا يرمي في اليوم الثاني والثالث حتى تزول الشمس، وإن رمى قبل ذلك أجزأه، فصار في اليوم الثاني والثالث روايتان. وذكر في «المجرد» عن أبي حنيفة لو أراد أن ينفر في اليوم الثالث، فله أن يرمي قبل الزوال، وإنما لا يجوز الرمي قبل الزوال لمن لا يريد النفر فيه، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف أنه لا يرمي في اليوم الثالث قبل الزوال، وإن أراد أن ينفر فيه، وأما في اليوم الرابع فلا رمي فيه إلا بعد الزوال، ولو رمى قبل الزوال أجزأه في قول أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز إلا بعد الزوال. الثاني: فيما يرمي به، فنقول: يرمي بكل ما كان من جنس الأرض (170ب1) كالحديد والعنبر، وما أشبهه. والثالث: في مقدار ما يرمي، فنقول: يرمي بالصغار مثل حصى الخذف، قال عليه السلام «عليكم بحصى الخذف لا يؤذي بعضكم بعضاً» ، قال الحسن في «مناسكه» : حصى الخذف تكون مثل النواة وأقصر، ولو رمى بحصاً أكبر من حصى الخذف يجزئه، ولكن لا يستحب ذلك. والرابع: في بيان صفة الرمي، فنقول: ينبغي أن تكون الحصاة مغسولة، وينبغي أن تكون مأخوذة من قوارع الطريق لا من موضع الرمي، فقد جاء في الأثر «أن ما بقي من الحصى في موضع الرمي حصى من لم يقبل حجه» ، فلا يأخذ من موضع الرمي تعافياً. والخامس: في كيفية الرمي، وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يأخذ الحصى على إبهامه، ويضع إبهامه على طرف سبابته كأنه عاقد، ويرميها، وقال بعضهم: يرمي رمية الخلف المعروفة، واختار مشايخ بخارى أنه كيفما رمى فهو جائز؛ لأن المنصوص عليه في الأحاديث الرمي، فبأي طريق أتى بالرمي، فقد أتى بالمنصوص، فيجوز. قالوا: وينبغي أن يكون بينه وبين وقوع الحصى خمسة أذرع فصاعداً؛ لأن ما يكون دونه يكون وضعاً أو طرحاً، والسنة جاءت بالرمي، وذكر في «الأصل» : لو قام عند الجمرة ووضع الحصى عندها وضعاً لا يجزئه، ولو طرحها طرحاً أجزأه؛ لأن الطرح رمي لكنه مسيء لمخالفة فعل رسول الله. والسادس: في صفة الرامي راكباً وماشياً، وله أن يختار أيهما شاء عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: كل رمي بعده وقوف، فالرمي ماشياً أفضل، وكل رمي لا وقوف بعده، فالرامي راكباً أفضل؛ وهذا لأن كل رمي لا وقوف بعده، والمستحق على الرامي الوقوف بعد الرمي، والماشي أمكن للوقوف من الراكب فمكان الرمي ماشياً أفضل. وفي «مناسك الحسن» : ويستحب له أن يمشي إلى الجمار إذا أراد أن يرميها، وإن ركب فلا بأس، والمشي أفضل.

والسابع: في محل الرمي فنقول: محل الرمي الجمار الثلاث أولها التي تلي مسجد الخيف والوسطى والأخيرة، وهي جمرة العقبة. والثامن: أنه في أي موضع يرمي فنقول: الرمي من بطن الوادي يعني من أسفله إلى أعلاه به ورد الأثر، وإذا وقف للرمي جعل منى عن يمينه والكعبة على يساره ويرمي حيث يرى موضع الحصى. والتاسع: في موضع وقوع الحصاة فنقول: ينبغي أن تقع الحصاة عند الجمرة أو قريباً منها حتى لو وقعت بعيداً منها لم يجزه؛ لأنا إنما عرفنا الرمي قربة بالشرع بخلاف القياس في مكان مخصوص إلا أن قريب الشيء حكمه حكم ذلك الشيء، فيعمل بالبعيد عن الجمرة بقضية القياس. في «المنتقى» عن أبي يوسف: إذ رمى الجمرة، فوقعت الحصاة على ظهر رجل، أو على محمل وثبتت عليه كان عليه أن يعيدها، وإذا سقط عن المحمل أو عن ظهر الرجل في المرمى ذلك أجزأه، وهكذا روى إبراهيم بن رستم عن محمد. والعاشر: في عدد الحصاة فنقول: يرمي كل جمرة بسبع حصيات، ولو رمى إحدى الجمار بسبع حصيات جملة لا يجزئه؛ لأن المنصوص عليه تفريق الأفعال. والحادي عشر: أن يكبر عند كل حصاة فيقول: بسم الله والله أكبر رغماً للشيطان وحزبه اللهم اجعل حجي مبروراً وسعي مشكوراً وذنبي مغفوراً. والثاني عشر: أنه في اليوم الأول يرمي جمرة العقبة لا غير، وفي بقية الأيام يرمي الجمار كلها يبدأ بالأولى، ثم بالوسطى، ثم بجمرة العقبة، وإذا رمى جمرة العقبة في اليوم الأول يقطع التلبية عند أول حصاة يرميها، هكذا روي عن رسول الله، وإذا لم يرم حتى حلق، فقد انقطعت التلبية، وهذا بلا خلاف؛ لأن التلبية إنما شرعت في الإحرام، وبالحلق حصل التحلل، فيقطع التلبية ضرورة، وكذلك إذا لم يحلق حتى زالت الشمس، فقد انقطعت التلبية أيضاً عند أبي يوسف. وروي عن أبي حنيفة: أنه لا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة إلى أن تغيب الشمس، فحينئذٍ (يقطع) التلبية، وهو رواية عن محمد، وهذا بناءً على أن عند أبي حنيفة جمرة العقبة لا يفوت وقتها إلا بغروب الشمس، فإذا غربت الشمس وفات وقتها وكأنها سقطت بالفعل، وعند أبي يوسف جمرة العقبة يفوت وقتها بزوال الشمس. وإن طاف قبل الرمي والذبح والحلق قطع التلبية في قول أبي حنيفة، روي عن أبي يوسف أنه يلبي ما لم يحلق أو تزول (171أ1) الشمس يوم النحر، ثم إذا رمى جمرة العقبة في اليوم الأول لا يقف عندها، يعني لا يقف للدعاء عند جمرة العقبة التي رماها في اليوم الأول، بل يأتي منزله، فبعد ذلك ينظر إن كان مفرداً بالحج يحلق أو يقصر؛ لأنه جاء أوان التحلل، والتحلل بالحلق والتقصير، وإن كان قارناً أو متمتعاً يذبح، ثم يحلق أو يقصر، لما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «إن أول نسكنا بمنى أن نرمي،

ثم نذبح، ثم نحلق» ورسول الله عليه السلام كان قارناً، والحلق أفضل، وإذا حلق أو قصر حل كل شيء له إلا النساء.h ثم يدخل مكة من يومه ذلك إن استطاع، ويطوف طواف الزيارة، أو من الغد أو بعد الغد، ولا يؤخر إلى ما بعد الغد، فيطوف بالبيت أسبوعاً ويصلي ركعتين، وهذا الطواف هو الحج الأكبر المذكور في قوله تعالى: {وأذان من اورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر} (التوبة: 3) ووقته أيام النحر أفضلها أولها، ولا سعي بعد هذا الطواف إن كان قد سعى بعد طواف التحية إذ ليس على الحاج إلا سعي واحد، وإن لم يكن سعى بعد طواف التحية يسعى بعد هذا الطواف، وكذلك لا رمل في هذا الطواف إن كان قد سعى بعد طواف التحية، وكل طواف ليس بعده سعي، فلا رمل فيه. وإذا طاف بالبيت على نحو ما بينا حل له النساء أيضاً، ثم لا يبيت بمكة، بل يعود إلى منى ويبيت ثمة، فإذا كان من الغد، وهو اليوم الثاني من أيام النحر يرمي الجمار الثلاث بعد الزوال كل جمرة بسبع حصيات على نحو ما بيّنا، ثم يأتي المقام الذي يقوم فيه الناس، فيقوم يحمد الله تعالى، ويثني عليه، ويصلي على النبي عليه السلام، ويدعو الله بحاجته، يريد بقوله: يأتي المقام الذي يقوم فيه الناس أعلى الوادي؛ لأن الرمي كان من بطن الوادي، فيعود إلى أعلاه، ويقف للدعاء، ثم يرمي الجمرة الوسطى بسبع حصيات على نحو ما بينا، ثم يقوم حيث يقوم فيه الناس، فيصنع في قيامه مثل ما صنع عند الأولى، ويرفع يديه بالدعاء في قيامه، ثم يرمي جمرة العقبة، ويرميها بسبع حصيات، ولا يقف عندها للدعاء أي الجمرة، وعن أبي يوسف: في الرجل يرمي الجمار الثلاث في اليوم الثاني، فيأتيهن غداً جاز ولا يعيد شيئاً، وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا أن يرمي التي عند المسجد، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة، فإذا كان من الغد وهو اليوم الثالث من أيام النحر يرمي الجمار الثلاث أيضاً على نحو ما بينا، ثم يرجع في يومه إن أحب، وإن أقام من الغد، وهو اليوم الرابع رمى الجمار الثلاث أيضاً بعد زوال الشمس على نحو ما بينا. قال في «الجامع الصغير» : ولو رمى الجمرة الوسطى والأخيرة في اليوم الثاني، ولم يرم الجمرة الأولى، واستغنى في يومه ذلك، فإن رمى الأولى، ثم أعاد على الوسطى، ثم على الأخيرة، فحسن ليصير آتياً بالترتيب المسنون، وإن رمى الأولى فحسب أجزأه؛ لأنه هو المتروك. وفي «الأصل» : إذا بدأ في اليوم الأول بجمرة العقبة ثم بالوسطى، ثم بالأولى وقد ذكر ذلك في يومه يؤمر بأن يعيد على الوسطى، ثم على جمرة العقبة ليأتي بها اليوم الثاني مسنوناً مرتباً، ولا يعيد على الأولى؛ لأنه قد رماها لكن لا مرتباً وبالإعادة على الأولى والوسطى يحصل الترتيب، فلا حاجة إلى الإعادة على الأولى. وفي «الأصل» أيضاً: إذا رمى من كل جمرة ثلاث حصيات، ثم ذكره بعد ذلك،

فإنه يبدأ من الأولى بأربع حصيات، فيتمها، ثم يعيد على الوسطى سبع حصيات وكذلك على جمرة العقبة، ولا يعيد جماراً في الوسطى وجمرة العقبة؛ لأنه أتى بهما قبل ما يأتي بأكثر رمي عند الجمرة الأولى، فكأنه لم يرم من الأولى شيئاً، حتى لو رمى من كل جمرة أربع حصيات، فإنه يرمي لكل واحدة بثلاث حصيات؛ لأنه أتى بأكثر الرمي عند كل جمرة بثلاث، وإن استقبل رميها، فهو أفضل. وفي «مناسك الحسن» : إذا رمى الجمرة الأولى بحصاة، ثم رمى الجمرة الوسطى بحصاة، ثم رمى الجمرة الأخيرة بحصاة، ثم رجع فرماهن بحصاة حصاة حتى رمى كل واحدة منهن على ما وصفت لك، فقد تم رميه على الجمرة الأولى، ورمى أربع حصيات على الجمرة الوسطى فعليه أن يتمها برمي ثلاث حصيات، ورمى جمرة العقبة بحصاة فيها، فرمى ست حصيات. وإن نقص حصاة لا يدري من أيتهن نقصها أعاد على كل واحدة منهن حصاة أخذاً بالاحتياط، وإن لم يرم يوم النحر جمرة العقبة حتى جاء الليل رماها ولا شيء عليه، وإن لم يرمها حتى أصبح من الغد رماها، وعليه للتأخير دم عند أبي حنيفة خلافاً لهما، وإن ترك منها حصاة أو حصاتين إلى الغد يرمي ما تركه ويتصدق لكل حصاة بنصف صاع إلا أن يبلغ دماً، فيتصدق بما شاء. وفي «المجرد» قال أبو حنيفة رحمه الله: لو ترك رمي جمرة الوسطى والأولى فعليه دم، ولو ترك رمي جمرة العقبة أطعم لكل حصاة نصف صاع حنطة. وفي «الأصل» : لو ترك رمي الجمار كلها في سائر الأيام إلى اليوم الرابع قضاها على التأليف في اليوم الرابع؛ لأن وقت الرمي والحبس واحد، وإن لم يرم حتى غابت الشمس من اليوم الرابع سقط عنه الرمي لفوات الوقت وعليه دم واحد بالإجماع؛ لأن الرمي كله نسك واحد، ثم إذا فرغ من الرمي أتى الأبطح، وينزل به ساعة، والأبطح اسم موضع نزل به رسول الله عليه السلام حين انصرف من منى إلى مكة ويطوف طواف الصدر إن أراد الرجوع، ويسمى هذا طواف واجب عندنا، حتى لو تركه يلزمه الدم. قال مشايخنا: يستحب للحاج إذا أراد الرجوع أن يأتي باب الكعبة، فيقبل العتبة، ويأتي الملتزم، فيلزمه ساعة ويبكي، ويتشبث بأستار الكعبة، ويلصق خده بالجدار إن تمكن، ثم يأتي زمزم (171ب1) ويشرب من مائه، ويصب على جسده، ويقول: اللهم إني أسألك رزقاً واسعاً وعلماً نافعاً وشفاءً من كل داء يا أرحم الراحمين، ثم ينصرف ويمشي وراءه، ووجهه إلى البيت متبكياً متحسراً على فراق البيت، ويقول عند رجوعه: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، اللهم فكما هديتنا لذلك فتقبله منا، ولا تجعله آخر العهد منا، وارزقنا العود إليه حتى ترضى برحمتك يا أرحم الراحمين. فهذا هو بيان عام للحج الذي أراده رسول الله عليه السلام في قوله «من حج هذا

الفصل الرابع: في بيان مواقيت الإحرام وما يلزم بمجاوزتها من غير إحرام

البيت فلم يرفث فيه ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» ثم يأتي المدينة، ويقوم قريباً من قبر النبي عليه السلام، ويقول: اللهم رب البلد الحرام والركن والمقام ورب المشعر الحرام بلغ روح محمد منا في هذا اليوم التحية والسلام، اللهم أعط محمد الدرجة والوسيلة والرفيعة والفضيلة، اللهم أوردنا حوضه واسقنا بكأسه، واجعلنا من رفقائه، ثم يدعوا بما أحب، والله الموفق. الفصل الرابع: في بيان مواقيت الإحرام وما يلزم بمجاوزتها من غير إحرام إنّ رسول الله عليه السلام جعل للحج والعمرة مواقيت منها يحرم العبد، وهي خمسة في حديث عائشة رضي الله عنها: ذو الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام، وقرن لأهل نجد، ويلملم لأهل اليمن، وذات عرق لأهل العراق. وقال: «هن لهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة» وهذا الحديث ورد في حق أهل الآفاق. والناس أصناف ثلاثة: أهل الآفاق، ومن كان أهله في الآفاق، ومن كان أهله في الميقات أو دخل الميقات إلا أنه في الحل دون الحرم. وأهل الحرم وهم أهل مكة. وأما أهل الآفاق، فالأفضل لهم الإحرام من دويرة أهلهم جاء في التفسير قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة} (البقرة: 196) إتمامها أن يحرم بها الرجل من دويرة أهله، وذكر هشام عن محمد إذا كان الرجل أول ما يحج، فالأفضل أن يحرم من أهله، وإن أخّر حتى أحرم من ميقات مصره، فهو حسن، وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله إن أحرم الرجل من مصره، فهو أفضل بعد أن يملك نفسه في الإحرام أن لا يقع في المحظورات. وإذا لم يحرم الآفاقي من دويرة أهله حتى بلغ الميقات، فعليه أن يحرم من الميقات. وأما من كان أهله في الميقات، أو داخل الميقات إلى الحرم، فميقاتهم للحج والعمرة الحل الذي بين المواقيت والحرم حتى لو أخّر الإحرام إلى الحرم جاز؛ لأنه جاز لهم الإحرام من دويرة أهلهم وميقاتهم للعمرة الحل فيخرج الذي يريد العمرة إلى الحل من أي جانب شاء، وأقرب الجوانب التنعيم وعنده مسجد عائشة رضي الله عنها.

قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا أراد الآفاقي دخول مكة ينبغي له أن يحرم من الميقات بحجة أو عمرة سواء دخل مكة مريداً النسك، أو دخلها لحاجة من الحوائج، ومن كان أهله في الميقات، أو داخل الميقات جاز له دخول مكة بغير إحرام لحاجة من الحوائج، وكذا من كان من أهل مكة وخرج منها لحاجة من الحوائج، وكذا من دخل مكة منها لحاجة له إلى ذلك نحو الاحتطاب، وما أشبهه جاز له أن يدخلها بغير الإحرام. والأصل فيه ما روي أن رسول الله عليه السلام قال في خطبته عام فتح مكة: «ألا إن مكة حرام حرّمها الله تعالى يوم خلق السموات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة» ، وأراد بقوله: «لا تحل لأحد من بعدي» حلّ الدخول بغير إحرام، لأن قوله: «لا تحل لأحد بعدي» الصرف إلى ما انصرف إليه المراد من قوله: «أحلت لي ساعة من نهار» حلّ الدخول بغير إحرام، فإنه دخلها بغير إحرام؛ لأجل القتال في الحرم؛ لأن القتال مع أهل الحرب في الحرم حلال على كل حال، فهذا الحديث لا يوجب الفصل بين الآفاقي، وبين أهل مكة، ومن كان أهله داخل الميقات لكن دخل عنه أهل الميقات وأهله بمكة لمكان الحرج، فإنه يتكرر دخول أهل الميقات، ومن كان داخل الميقات بمكة لإقامة الحرج بمكة، وكذا يتكرر دخولهم؛ لأنه مكرر خروجهم لإقامة المصالح خارج مكة، فلو أوجبت الإحرام عند كل دخول لوقعوا في الحرج، فأما أهل الآفاق فلا يتكرر دخولهم مكة، فإيجاب الإحرام عليهم عند الدخول لا يوقعهم في الحرج، ويبقى أهل الآفاق داخلين تحت الحديث. ثم إذا دخل الآفاقي مكة بإحرام، وهو لا يريد الحج ولا العمرة، فعليه الدخول مكة إما حجة أو عمرة لزمه الإحرام إذا بلغ الميقات على قصد دخول مكة، والإحرام إنما يكون بحجة أو عمرة، فلزمه الإحرام بأحدهما، وما وجب على الإنسان لا يسقط إلا بأدائه، فإن أحرم بالحج أو العمرة من غير أن يرجع إلى الميقات، فعليه دم لترك حق الميقات، وإن عاد إلى الميقات، وأحرم فهذا على وجهين: إن أحرم بحجة أو عمرة عما لزمه خرج عن العهدة، وإن أحرم بحجة الإسلام، أو عمن كاتب عليه إن كان ذلك في عامه أجزأه عما لزمه لدخول مكة بغير إحرام استحساناً، وإن تحولت السنة وباقي المسألة بحالها لم يجزئه عما لزمه لدخول مكة بغير إحرام، وهذا لأن حق الوقت ينادي بإحرام حجة الإسلام جاز فيما بقي وقت لإحرام حجة الإسلام، فوقت ما يجب بسبب الوقت باقي فلا يصير ديناً في ذمته، فإن عاد إلى الميقات، وأحرم بحجة الإسلام فقد أدى حق الوقت، فأما إذا تحولت السنة، فقد فات وقت الإحرام بحجة الإسلام، وفات (172أ1) وقت ما يجب بسبب الوقت، فيصير ذلك ديناً عليه مقصوداً،

فلزمه الأداء بإحرام آخر له مقصوداً، وإن جاوز الآفاقي الميقات بغير إحرام، وهو يريد الحج والعمرة، فإن عاد إلى الميقات وأحرم سقط عنه الدم، وإن أحرم من مكانه ذلك، وعاد إلى الميقات محرماً، فإن لبى سقط عنه الدم، وإن لم يلب وجاوز الميقات، واشتغل بأعمال ما عقد الإحرام له لا يسقط عنه الدم. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا عاد إلى الميقات سقط عنه الدم لبى أو لم يلب، فوجه قولهما: أن حق الميقات في كونه محرماً فيه لا في أشياء الإحرام منه لا يرى أنه لو أحرم من دويرة أهله، وجاوز الميقات محرماً ولبى بالميقات أو لم يلب لا يلزمه شيء، فإذا عاد إلى الميقات محرماً، فقد يدرك حقه، وإن لم يلب فيه لا يلزمه شيء. ولأبي حنيفة رحمه الله إن ميقات الآفاقي بطريق العزيمة دويرة أهله حتى كان الإحرام من دويرة أهله أفضل، وله التأخير بطريق الترخيص إلى الميقات، فمن أحرم وراء الميقات فحق الميقات عليه المرور فيه محرماً، ومن أخر الإحرام إلى الميقات عليه إنشاء الإحرام فيه، والإنسان لا يكون (محرماً) إلا بالتلبية إلا أن نفس الإنشاء لا يعقل له زيادة حرية، فلا يستحق الميقات صفة الإنشاء، بل يستحق الإحرام، ووجود التلبية فيه لكون التلبية من شعائر الإحرام، فإذا عاد محرماً ملبياً، فقد قضى حقه المستحق، فصار متداركاً للفائت فيسقط، وأما إذا لم يلب فما قضى حقه المستحق، ولم يصر مدركاً للفائت، فلا يسقط عنه الدم، فلو أن هذا الرجل حين أحرم لم يعد إلى الميقات، واشتغل بأعمال ما عقد الإحرام له، ثم عاد إلى الميقات ولبى أو لم يلب يسقط عنه الدم؛ لأنه ما لبى به وقع مفيداً، فلا يصير متداركاً الفائت بالعود إلى الميقات. قال في «الجامع الصغير» : مكي خرج من الحرم يريد الحج وأحرم ولم يعد إلى الحرم حتى وقف بعرفة، فعليه شاة وهذا لما ذكرنا أن ميقات المكي دويرة أهله، فإذا خرج من الحرم حلالاً، فقد جاوز الميقات بغير إحرام، فإذا اشتغل بأعمال الحج، فعليه الدم عاد إلى الحرم أو لم يعد، وإن لم يشتغل بأعمال الحج حتى عاد إلى الحرم إن عاد ملبياً سقط عنه الدم بلا خلاف، وإن عاد غير ملبٍ لا يسقط عنه الدم عند أبي حنيفة خلافاً لهما، وصار الكلام فيه نظير الكلام في الآفاقي إذا جاوز الميقات بغير إحرام. وفيه أيضاً: رجل دخل بستان بني عامر لحاجة له، فله أن يدخل مكة بغير إحرام، وهو وصاحب المنزل سواء، وبستان بني عامر موضع هو داخل الميقات إلا أنه خارج الحرم، ومعنى المسألة: الآفاقي إذا جاوز الميقات لا يريد دخول مكة، وإنما أراد موضعاً آخر وراء الميقات خارج الحرم نحو بستان بني عامر، وما أشبه ذلك، ثم بدا له أن يدخل مكة لحاجة، فله أن يدخلها بغير إحرام، وهذا هو الحيلة لمن أراد دخول مكة بغير إحرام أن لا يقصد دخول مكة، وإنما يقصد مكاناً آخر وراء الميقات خارج الحرم لحاجة له، ثم إذا وصل إلى ذلك المكان يدخل مكة بغير إحرام، وهذا لأن الذي لا يقصد دخول مكة، وإنما يقصد مكاناً آخر لا يلزمه الإحرام لا يلزمه لحق الميقات نفسه،

الفصل الخامس: فيما يحرم على المحرم بسبب إحرامه وما لا يحرم

بل تعظيماً للبيت، حتى لا يكون القدوم عليه لقصد الزيارة وكأنه تمام التعظيم بالقصد للزيارة مر في البيت وحريمه وهو المواقيت، فإذا لم يرد دخول مكة لو لزمه الإحرام لزمه لحق المواقيت نفسه، وهو لا يلزم لحق المواقيت نفسه، وبعدما وصل إلى ذلك المكان التحق بأهل ذلك المكان، ولأهل ذلك المكان دخول مكة بغير إحرام، فكذلك لهذا الرجل الذي التحق بهم. وعن أبي يوسف أنه شرط نية الإقامة بذلك المكان خمسة عشر يوماً؛ لأن نية الإقامة خمسة عشر يوماً يصير متوطناً به، فيلتحق بأهله، فأما إذا نوى الإقامة أقل من خمسة عشر يوماً فهو ماض على سفره، فلا يلتحق بأهل ذلك المكان؛ فلا يدخل مكة بغير إحرام. وفيه أيضاً: إذا جاوز الميقات بغير إحرام ثم أحرم بعمرة وأفسدها قضى فيها؛ لأن الإحرام عقد لازم لا يخرج المرء عنه إلا بأداء الأفعال، وقضائها بعد ذلك؛ لأنه التزمها بوصف الصحة، ولم يؤدها ولا دم عليه لترك الوقت إذا نقضها من الوقت كله، والقضاء يقوم مقام الأداء، فكأنه لم يفسد العمرة. الفصل الخامس: فيما يحرم على المحرم بسبب إحرامه وما لا يحرم هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه في الصيود. قال الكرخي في كتابه في بيان حد الصيد: أن الصيد هو الحيوان المتوحش بأصل الخلقة، وهو المذكور في كتاب اللغة، قال محمد رحمه الله: صيد البحر حلال للمحرم قال الله تعالى: {أحل لكم صيد البحر} (المائدة: 96) وأما صيد البر، فجنسه حرام على المحرم إلا ما استثناه رسول الله عليه السلام، قال الكرخي في «كتابه» : صيد البرّ ما يكون مثواه وتوالده في البرّ، وصيد البحر ما يكون توالده ومثواه في البحر، والمعتبر هو التوالد دون الكينونة؛ لأن الأصل هو التوالد، والكينونة تكون بعارض، فيعتبر الأصل، فيتناول جنسه مأكول اللحم. وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: أن كلّ حيوان يعيش في الماء، فهو صيد البحر، وكل حيوان يعيش في البرّ إذا أخرج من الماء، فهو صيد البر، وينطوي في صيد البرّ مأكول اللحم وغير مأكول اللحم؛ لأن الله ذكر الصيد في آية التحريم بلام التعريف حيث قال: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} (المائدة: 95) فتناول جنسه، واسم الصيد فما يتناول مأكول اللحم ويتناول غير مأكول اللحم لما ذكرنا من حد الصيد إلا أن البعض صار مستثنى عن التحريم ببيان رسول الله عليه السلام، حيث قال: «خمس من الفواسق يقتلن في الحرم الفأرة والحية والعقرب والحدأة والكلب (172ب1) العقور» ، وفي بعض الروايات

«الغراب» مكان الحية، وفي بعض الروايات مكان الكلب العقور، فإذا صارت هذه الأشياء مستثناة عن التحريم صارت مستثناة عن وجوب الجزاء بقتلها؛ لأن المحرم بقتل هذه الأشياء لا يصير جانياً على إحرامه بارتكابه شيئاً من محظورات إحرامه، بعد هذا قال الشافعي رحمه الله: استثناءً لما عداها من السباع نحو الفهد، والأسد، والبازي، والصقر، وابن آوى، لأن استثناء الخمس؛ لأنهن مؤذيات طبعاً، وقد وجد الإيذاء طبعاً في هذه الأشياء، وإنا نقول: استثناء الخمس لوجود الأذى منهن عادة؛ لأن سكنى الخمس فيما بيننا إما مزارعاً، أو مساكناً كالفأرة والحية والعقرب والكلب العقور أو مزارعاً لا مساكناً كالحدأة، والغراب، والذئب، ومن طبعهن الأذى فيوجد الأذى عادة، فأما الفهد والبازي والصقر وأشباهها من السباع بعيد منا مساكناً ومزارعاً؛ لأن من عادتهن التباعد من الناس، ولا يوجد الأذى منهن، فاستثناء الخمس لا يدل على استثناء سائر السباع مستثناة عندما تجب الحماية بقتلها ولا يجاور به الدم عند علمائنا البيت، والأصل فيه قوله عليه السلام «الضبع صيد» ، وفيه شاة إذا قتله المحرم، هذا إذا قتل المحرم السبع ابتداء من غير أذى من جهته، فأما إذا قتله بناءً على أذى من جهته فلا جزاء، فقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قتل ضبعاً فأدى جزاءه، وقال: إنا ابتدأناها.... بالابتداء منه يدل على أن الابتداء إذا كان من السبع أنه لا يلزمه الجزاء، والمعنى أن حالة الأذى تصير من جملة الفواسق؛ لأن الفسق اسم مشتق من الخروج، وقد خرج علينا، وعلى حقوقنا، فإنما قتل صيد هو ليس بمحرم أصلاً، فلا يلزمه الجزاء. وفي «المنتقى» إبراهيم عن محمد رحمه الله: محرم أصاب بازياً أو عقاباً كَفَّر ابتداء بالإيذاء أو لم يبتدي وكذا الطير إذا ذبحه المحرم، فعليه الكفارة، وإن ابتدأنا لأذى في طعام أو ما أشبهه إلا أن يكون طعاماً له ثمن، وابتدأه بالأذى، فحينئذٍ لا كفارة. قال الكرخي رحمه الله في «كتابه» : وليس في هوام الأرض كالقنفذ والخنافس شيء على المحرم؛ لأنه ليس بصيد، وفي اليربوع والسنور الكفارة إذا لم يبتدىء بالأذى؛ لأنه صيد، وكذلك الذئب والثعلب والفيل، وكذلك الخنزير والقرد. قال: والفيل إذا كان وحشياً، ففيه الجزاء، وإن كان أهلياً، فلا جزاء؛ لأنه ليس بصيد، وذكر في «المنتقى» عن أبي حنيفة رحمه الله: الفيل مطلقاً وأوجب فيه الجزاء إذا لم يبتدى بالأذى قال: إلا أنه لا يجاوز فيه شاة، وعن أبي حنيفة لا شيء في السنور الأهلية والوحشية، والكلب العقور؛ لأن الجنس واحد.

وروى هشام عن محمد الكفارة في السنور الوحشي، وفي الضب الجزاء، وكذلك في الأرنب؛ لأن كل واحدة منهما صيد، ولا يوجد منه الأذى عادة وفي العقعق الجزاء؛ لأنه صيد ولا يوجد منه الأذى عادة. قال: وفي «المنتقى» هشام عن محمد: إنما أمر بقتل الغراب في الحرم؛ لأنه يقع على ذنب، وقال أبو حنيفة: الغراب الزرعي لا ينبغي أن يقتله المحرم، وروى مثله ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله. وذكر في «المنتقى» بعد هذه المسائل لو قتل غراباً، وقد ابتدأه بالأذى، أو لم يبتدىء، فلا كفارة إن كان أبقع، أو من السود التي تأكل الجيف، فإن كان صغير لا يأكل الجيف، ويأكل الزرع الذي يسمى الزاغ فعليه كفارة، وإن كان أمامه غراب يخلط يأكل الزرع ويأكل الجيف فلا كفارة. قال الكرخي في «كتابه» : ولا يقوم المحرم في الجزاء إلا قيمته لحماً. ومعنى المسألة: أن المحرم إذا قتل بازياً صيوداً لا يقوم عليه في الجزاء معلماً؛ لأن المعتبر في وجوب الجزاء معنى الصيدية، وكونه معلماً ليس من الصيدية في شيء. قال في «المنتقى» : عن أبي يوسف رحمه الله: ولا يجاوز بقيمته شاة، وأشار أبو يوسف إلى العلة، فقال: لأنه ذو مخلب، فليس فيه وفيما أشبهه، ولا في شيء من السباع أكثر من الشاة، قال أبو يوسف رحمه الله: وما لم يكن نحو البازي من النعام والحمام وحمام الوحش، فعليه قيمته بالغة ما بلغت.j وكذلك لو قتل حمامة تجيء من بعيد لا تعتبر تلك في إيجاب الجزاء، بل تقوم الحمامة على اللحم أو على القيمة بقيمة الزارع الذي يؤكل. قال في «المنتقى» : وكذلك ما يتخذ في البيوت من أصناف الصيود لصاحبه، وغير ذلك، وفيه أيضاً لو قتل ظبية حاملاً يقوم في الفداء حاملاً. وفيه أيضاً: محرم أصاب ظبياً في مدينة السلام، وقيمته قيمة أكثره، قال أبو يوسف: يقوم عليه في الكفارة قيمة ظبي الحرم وفي الضمان لصاحبه قيمته التي يشترى بها أي: بمدينة السلام. وفي «الجامع الصغير» : محرم ذبح بطَّة من بطّ الناس أو دجاجة، فلا جزاء عليه أما الدجاجة، فلأنها ليست بصيد، وأما البط قال مشايخنا: ما ذكر من الجواب في «الكتاب» محمول على البط الذي يكون في المنازل والخاص؛ لأنه يستأنس بجنسه، فأما البط الذي يطير، فهو صيد يجب على المحرم الجزاء بذبحه. وإن ذبح حماماً مسرولاً فعليه جزاؤه؛ لأنه صيد بجنسه، فإن جنس الحمام متوحش بأصل الخلقة وأراد بالمسرول الذي على قوائمه الريش سمي بذلك؛ لأن الريش بمنزلة السراويل له. وفي «الجامع الصغير» أيضاً: محرم قتل برغوثاً أو قملة أو بقة، فلا شيء عليه، وإن قتل قملة على يديه أطعم شيئاً، أما إذا قتل قملة على يديه قائماً أطعم شيئاً؛ لا لأنها

صيد، ولكن لأنها ما دامت على البدن، فقتلها من قضاء التفث؛ لأنها متولدة من البدن، ويتأذى بها ويرتفق بإزالتها، وقضاء التفث حرام على المحرم، فإذا قتلها مقدار مكثه محرماً، فيؤاخذ به؛ حتى لو كانت القملة ساقطة على الأرض فقتلها، فلا شيء عليه؛ لأن قتلها في هذه الصورة ليس من قضاء التفث بخلاف البرغوث (173أ1) والنملة وأشباهها؛ لأن هذه الأشياء ليست بصيد، وقتلها ليس من جملة قضاء التفث أيضاً لأنها لا تنمو من البدن، ثم إن محمداً رحمه الله قال في «الجامع الصغير» : في قملة أطعم شيئاً، وفي «الأصل» قال: تصدق بشيء، وفي «القدوري» : أوجب فيها الصدقة بكف من طعام. وفي «عيون المسألة» : محرم أخذ قملة من رأسه وقتلها، أو ألقاها أطعم بها كسرة خبز، وإن كانتا اثنتين أو ثلاثاً أطعم قبضة من طعام وإن كان كثيراً أطعم بنصف صاع، وما ذكر في «الجامع الصغير» و «العيون» يشير إلى أنه لا يشترط التمليك، ويكتفى بالإباحة، وهو الصح. وفي «الفتاوى» : محرم وقع في ثيابه قمل كثير، فألقى ثيابه في الشمس ليقتل القمل من الشمس، فمات القمل، فعليه الجزاء نصف صاع من حنطة إذا كان القمل كثيراً، ولو ألقى ثوبه ولم يقصد أن يقتل القمل من حر الشمس، فلا شيء عليه؛ لأنه في الوجه الأول سبب، وفي الوجه الثاني لا إنما قصد إلقاء الثوب لا غير.... أنه لو غسل ثيابه، فمات القمل لم يكن عليه جزاء. وفي «المنتقى» : عن محمد: محرم دفع ثوبه إلى حلال لغسيله قال: إذا علم أنه قتل قملاً، فعليه الكفارة. وفي «الفتاوى» : إذا دفع المحرم ثوبه إلى حلال ليقتل ما فيه من القمل، فقتله كان على الآمر جزاء، وكذلك لو أشار إلى قملة، فقتلها المشار إليه كان على المشير الجزاء. وفي «المنتقى» إذا قال المحرم لحلال: ارفع هذا القمل عني، ففعل فعليه الكفارة. وإذا قتل المحرم بعوضاً أو ذباباً أو حَلَماً فلا شيء عليه لما قلنا في البرغوث قد ذكرنا أن ما لا يؤكل من صيود البر لا يجاور في جزاءه الدم. وأما ما يؤكل من صيود البر يجب في جزائه قيمتها بالغة ما بلغت، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، ويستوي أن يكون المقتول صيداً له مثل من النعم خلقة أولا مثل له من النعم خلقة. وقال محمد والشافعي: ماله مثل من النعم خلقة وصورة يجب في جزائه المثل خلقة، فيجب في النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الظبي شاة، وفي الأرنب عناق، وكذلك قالا فيما لا يؤكل ماله مثل من النعم يجب في جزائه المثل خلقه حتى قالا: يجب في الضبع شاة، وفيما لا مثل له من النعم خلقة وصورة وتجب القيمة،

والمنصوص عليه في كتاب الله المثل بعد هذا قال محمد والشافعي رحمهما الله: المثل حقيقة هو المثل صورة ومعنى، والقيمة مثل معنى الصورة، فيكون مجازاً، ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعذر العمل بالحقيقة، وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا: المثل معنى وهو القيمة، أريد بهذا النص فيما لا مثل له خلقة وصورة، فلا يبقى المثل صورة مراداً كيلا يؤدي إلى الجمع بين الحقيقة والمجاز، وما روي عن الصحابة في هذا الباب أنهم أوجبوا بالمثل صورة، فتأويله أنهم أوجبوا ذلك باعتبار القيمة لا باعتبار الصورة والأعيان، وإذا وجب المثل معنى، وهو القيمة عند أبي حنيفة وأبي يوسف مطلقاً، وعندهما فيما لا مثيل له صورة، فعلى رواية «الجامع الصغير» يعتبر مكان القتل في اعتبار قيمة الصيد لا غير، فيُقوِّم الحَكَمان الصيد المقتول في المكان الذي قتله إن كان الصيد يباع ويشترى في ذلك المكان، وإن كان لا يباع ولا يشترى في ذلك المكان ففي أقرب الأماكن من ذلك المكان مما يباع فيه الصيد ويشترى والواحد يكفي للتقويم على قصد القياس، لكن اعتبرنا بالمثنى اتباعاً للنص. وعلى رواية «الأصل» اعتبر المكان والزمان في اختيار قيمة الصيد، وهو الأصح؛ لأن قيمة الصيد كما تختلف باختلاف المكان تختلف باختلاف الزمان، ثم إذا ظهرت قيمة الصيد ينظر إن بلغت ثمن هدي كان القاتل بالخيار إن شاء أهدى، وإن شاء اشترى بها طعاماً، وأطعم كل مسكين نصف صاع من حنطة، أو صاعاً من تمر أو شعير، وإن شاء نظر كم يؤخذ بها من الطعام؟ فيصوم عن كل نصف صاع من حنطة يوماً، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: الخيار إلى الحكمين، فأي نوع عيناه لزمه ذلك، والأصح قولهما؛ لأن الاختيار إنما يثبت نظراً لمن عليه، ونظره في أن يكون التعيين معوضاً إليه، ويجوز اختيار الصوم مع القدرة على الهدي والإطعام؛ لأن الله تعالى ذكر بكلمة «أو» وإنها للتخيير. ثم إن اختار الهدي ذبح بمكة، قال الله تعالى: {هدياً بالغ الكعبة} (المائدة: 95) وإن ذبح الهدي بالكوفة أجزأه عن الطعام ولم يجزىء عن الهدي، معنى قوله: أجزأه عن الطعام إذا تصدق باللحم، وفيه بقية الطعام؛ لأن جواز الهدي يختص بمكة، وإن اختار الطعام أو الصيام يجوز في غير مكة، وإذا اختار الهدي يهدي بما يجوز به، وهو الجذع من الضأن إذا كان عظيماً، والشيء من غيره، وإن اختار الهدي، وفضل عنه شيء نحو إن قتل شيئاً تزيد قيمته على قيمة شاة، ولا تبلغ قيمته قيمة بدنه أو بقرة، والزيادة على قيمة الشاة لا تبلغ قيمة شاة أخرى، فهو في الزيادة مخير إن شاء صرفها إلى الطعام، وإن شاء صرفها إلى الصوم؛ لأن تلك الزيادة إذا لم تبلغ هدياً، فهي في الحكم كالصيد الصغير الذي يبلغ هدياً، وثمة الجواب هكذا، وإن اختار الصوم قُوِّم المقتول طعاماً، وصام عن كل نصف صاع حنطة يوماً، وإن فضل عن الطعام أقل من نصف صاع كان مخيراً إن شاء صام عنه، وإن شاء أخرج طعاماً؛ لأن الصوم لا يكون أقل من يوم.

قال في «الأصل» : والعامد والخاطىء في قتل الصيد سواء؛ لأن الله تعالى حرم على المحرم قتل الصيد مطلقاً، والتقييد بالعمد في قوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمداً} (المائدة: 95) ليس لأجل بل للوعيد المذكور في آخر الآية المستفاد بقوله: {ليذوق وبال أمره} (المائدة: 95) قال: (173ب1) والمملوك والمباح في ذلك سواء؛ لأن اسم الصدقة يتناول الكل، ولا يحل أكل الصيد الذي ذبحه المحرم؛ لأن الصيد لا يحل وقتل الصيد غير مشروع، فلا يفيد إباحة التناول، فإن أتى المحرم الجزاء، ثم أكل منه ضمن قيمة ما أكل منه عند أبي حنيفة، وعندهما لا يلزمه سوى الاستغفار شيء، وأجمعوا على أنه لو أكل منه محرم آخر، وأكل منه حلال أنه لا يلزمه شيء سوى الاستغفار. ولو أصاب الحلال صيداً في الحل وذبحه، لا بأس للمحرم أن يأكله به ورد «الأثر عن رسول الله عليه السلام» ، هذا بيان حكم قتل الصيد. جئنا إلى بيان حكم الجراحة، قال محمد في «الأصل» : المحرم إذا جرح صيداً إن علم بموته بعد الجراحة، وهذا ظاهر، وإن علم أنه برأ من الجراحة، فهو على وجهين: إن لم يبق للجراحة أثر، فلا شيء عليه هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» ، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : أن هذا قول أبي حنيفة ومحمد، أما على قول أبي يوسف يلزمه صدقة باعتبار ما أوصل من الألم إلى الصيد، وهذا اختلاف نظير اختلافهم في الصيد المملوك إذا جرحه إنسان، وبرأ من الجراحة على وجه لا يبقى لها أثر. وأما إذا بقي لها أثر ضمن النقصان عندنا، وإذا غاب عنه، ولم يعلم أنه مات بعد الجراحة أو برأ، فالقياس لا يلزمه النقصان، وفي الاستحسان يلزمه النقصان لا غير كما في الصيد المملوك؛ لأنه وقع الشك فيما زاد على النقصان، وفي الاستحسان يلزمه جميع قيمة الصيد؛ لأن ضمان الصيد يسلك مسلك العبادة حتى وجب على المعذور، والعبادة إذا وجبت من وجه دون وجه ترجح جانب الوجوب احتياطاً، بخلاف الصيد المملوك؛ لأن الواجب هناك في حق العبد، وحق العبد لا يجب مع الشك. في «المنتقى» : بشر بن الوليد عن أبي يوسف: محرم ضرب على عين صيد، فانتصب ثم ذهب البياض، أو نتف صيد لم ينبت ريشه، فعليه طعام يتصدق به. في «الجامع الصغير» : محرم شوى بيض صيد، فعليه الجزاء لابتدائه بالشيء، وهو أصل الصيد، فيعطى حكم الصيد احتياطاً، فيلزمه قيمته صيداً، قالوا: هذا إذا لم يكن البيض إذا كان قدر، فهو ليس بأصل الصيد، وكذلك لو كسرها، فعليه الجزاء ذكر مسألة الكسر في «الأصل» ، فإن كان فيها فرج ميتاً إن علم أنه كان ميتاً قبل الكسر فلا شيء عليه، وإن علم أنه كان حياً قبل الكسر، فعليه قيمته؛ لأنه أتلف ما هو صيد، وإن لم يعلم أنه كان حياً أو ميتاً فعليه قيمته استحساناً احتياطاً.

قال في «الأصل» : وكذا إذا ضرب بطن ظبية، وطرحت ظبياً ميتاً، ثم ماتت، فعليه جزاء، وهما جميعاً أخذ فيه بالثقة؛ لأن الضرب سبب صالح لموتهما، وقد ظهر عقيبه، فيحال به عليه، وإنما أراد بقوله: أخذ فيه بالثقة إشارة إلى الفرق بين هذا وبين الضمان الواجب حقاً للعباد، فإن من ضرب بطن امرأة، فألقت جنيناً ميتاً، وماتت كما وجب هناك ضمان الأم لا يجب ضمان الجنين، لأن الجنين في حكم جزء من أجزاء الأم من وجه، وفي حكم النفس من وجه، وجزء الصيد مبني على الاحتياط، فرجحنا جانب النفسية وأما..... الجنين احتياطاً، فأما الضمان الواجب لحق العباد فغير مبني على الاحتياط، فلم يترجح جانب النفسية في الجنين، فلم يوجب ضمانه. وفي «الجامع الصغير» : إذا حلب لبن صيد يلزمه الجزاء قيمته؛ لأن اللبن سبب لتربية الصيد فيعطى حكم الصيد، وإذا شوى جرادة، فعليه الجزاء. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف: إذا حلب عيراً من الظباء، فعليه ما نقص العير قيمته، وقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال «ثمره خير أده» ، وإذا أدى قيمة البيضة والجراد ملكه إذ المضمون يملك عند أداء الضمان كما في ضمان الأموال، فلو أنه باع هذه الأشياء بعد ذلك جاز ولكن يكره، أما الجواز، فرق بين هذه الأشياء وبين الصيد إذا ذبحه المحرم وأدى قيمته، ثم باع اللحم حيث لا يجوز. والفرق أن الصيد محل الذبح، وقد تعلق حله بذبح شرعي، ولم يوجد فصار ميتة وبيع الميتة لا يجوز، أما هذه الأشياء لم يتعلق حلها بذبح شرعي، فلا تصير ميتة، وقد ملكها بالجزاء فَثَمَّ رافع، وأما الكراهة، فلأنه لو أطلق في بيعها يتطرق الناس إلى مثله وذلك قبيح، ولا بأس للمشتري أن ينتفع به من حيث التناول، بخلاف البائع، فإنه لا يحل له؛ لأن الحل في حق البائع إنما لم يثبت لا لأنها ميتة بل لئلا يطرق الناس إلى مثله، وهذا المعنى لا يتأتى في حق المشتري، ولو كان القاتل للصيد قارناً، فعليه جزاءان؛ لأن القارن محرم بإحرامين، فبقتل الصيد يصير جانياً عليهما، فيلزمه جزاءان لهذا. نوع آخرهو في معنى قتل الصيد، وهو الدلالة على الصيد فنقول: كما يحرم على المحرم قتل الصيد يحرم عليه الدلالة على الصيد؛ لأن الدلالة تفويت للأمن عن الصيد؛ لأن الصيد يأمن عند القدرة و....... حتفه وعند العجز، والبوم باختفائه عن أعين الناس، وبالدلالة يزول الاختفاء، فيزول ما به الأمن، فصار الدلالة نظير الأخذ والقتل، وإذا ثبت أن الدلالة في معنى قتل يتعلق بها من الجزاء ما يتعلق بالقتل، ولأجل هذا المعنى يتعلق بها حرمة الصيد حتى حرم الصيد الذي دل المحرم عليه كما حرم الصيد الذي قتله المحرم، هكذا ذكر في «الأصل» ، وإليه أشار عليه السلام في «قصة أصحاب أبي قتادة» .

وفي «المنتقى» : المحرم إذا دلّ حلالاً على صيد، وقتله الحلال، فلا ينبغي للدال أن يأكل منه، وإن حل من إحرامه، وكذلك غيره من المحرمين، ولا بأس للحلال أن يأكله بأربع شرائط: أحدها: أن يتصل بها القتل؛ لأن كونها مفوتة للأمن على شرف الزوال بترك المدلول أخذه، وقراره عن ذلك المكان، فكان كالمغصوب قبل الهلاك. والثاني: بأن لا يكون المدلول عالماً بمكان الصيد؛ لأنه إذا كان عالماً به ففوات الأمن لا يكون مضافاً إلى الدلالة. الثالث: أن يصدقه (174أ1) المدلول في دلالته، ويتبع أثره، أما إذا كذبه في دلالته وإن تبع أثره حتى دله آخر، فصدقه واتبع أثره، فقتله، فلا جزاء على الدال الأول؛ لأن فوات أمن الصيد لا يكون مضافاً إلى دلالته إذا كذبه في دلالته. الرابعة: أن يأخذ المدلول الصيد، والدال محرم، فأما إذا حل الدال من إحرامه قبل أن يأخذه المدلول، فلا جزاء على الدال؛ لأن الدلالة إنما تتم جناية عند فوات الأمن عن الصيد بإثبات الآخذ يده عليه، فإذا لم يكن الدال محرماً وقت الأخذ لا يتم فعله جناية. ومسائل الدلالة أقسام: أحدها: محرم دل محرماً على صيد، فقتله المدلول، فعلى كل واحد منهما جزاء كامل، ذكره في «الأصل» . والثاني: محرم دل حلالاً على الصيد، فقتله المدلول، فعلى الدال قيمته، ولا شيء على الحلال ذكره في «الأصل» أيضاً. والثالث: حلال دل محرماً على صيد، والحلال في الحرم فقتل المحرم الصيد، فليس على الدال الجزاء في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وقولهما ذكر في «الجامع الكبير» ، وهكذا ذكر في «المجرد» عن أبي حنيفة، وفي «الهارونيات» قال: على الحلال نصف قيمته. محرم رأى صيداً في موضع لا يقدر عليه، فدله محرم آخر على الطريق إليه، فذهب فقتله كان على الدال الجزاء؛ لأن دلالته على الطريق كدلالته على الصيد. وكذلك لو أن محرماً رأى صيداً دخل غاراً، فأقبل رجل يطلبه، فدله المحرم على باب الغار فأخذه وقتله، فعلى المحرم جزاؤه، وكذلك لو رأى محرم صيداً في موضع لا يقدر عليه بوجه من الوجوه إلا أن يرميه بشيء، فدله محرم آخر على قوس، ونشاب ودفع ذلك إليه فرماه وقتله، فعلى كل واحد منهما الجزاء. محرم استعار من محرم سكيناً ليذبح صيداً له، فأعاره فذبح به الصيد، فلا جزاء على صاحب السكين، وفي «السير» : إن عليه الجزاء، قال الشيخ أبو العباس الناطفي رحمه الله: ما ذكر في «الأصل» محمول على ما إذا كان المستعير يقدر على ذبحه بغيره، أما إذا لم يقدر على ذبحه بغيره يضمن كما ذكر في «السير» .

وفي «الأصل» : ولو أمر المحرم محرماً بقتل صيد ودله عليه، فأمر الثاني ثالثاً بقتله فقتله، فعلى كل واحد منهم جزاء كامل قيمته. ولو أخبر محرم محرماً بصيد، فلم يره حتى أخبره محرم آخر، فلم يصدق الأول، فلم يكذبه، ثم طلب الصيد وقتله كان على كل واحد الجزاء. ولو أرسل محرم محرماً إلى محرم فقال: قل له: إن فلاناً يقول لك: في هذا الموضع صيد فذهب فقتله، فعلى الرسول والمرسل والقاتل على كل واحد قيمة الصيد، وإن كان المرسل إليه يراه، ويعلم به فلا شيء على أحد إلا القاتل، فإن عليه الجزاء. ولو أن محرماً أشار إلى صيد، وقال لرجل: خذ ذلك الصيد من وكره، وهو يرى صيداً واحد في (المشار إليه) ، فانطلق ذلك الرجل، وأخذ ذلك الصيد، وصيد آخر كان في الوكر، فإن على الآمر جزاء الذي أمر به، ولا شيء عليه في الآخر ذكره هشام عن أبي يوسف، وذكر هشام أيضاً عن محمد في محرم أشار إلى جراد، ولم يكونوا رأوها إلا من دلالته، فأخذوها، فعلى الدال لكل جرادة تمرة، إلا أن يبلغ ذلك دماً، فعليه دم. نوع منه فى المحرم يضطر إلى الصيد روى الحسن بن زياد: اضطر إلى ميتة وإلى صيد ذبحه قال أبو يوسف رحمه الله: يذبح الصيد ويكفر، وبه أخذ الراوي. وقال أبو حنيفة ومحمد وزفر: يأكل الميتة ويذبح الصيد؛ لأن في أكل الصيد ارتكاب محظورين الذبح وارتكاب أكل الميتة الحسن؛ لأنه ميتة حكماً وإن اضطر إلى ميتة، وإلى صيد ذبحه محرم، فعلى قول أبي حنيفة، وهو قول محمد أكل الصيد ولم يأكل الميتة، وإن وجد صيداً حياً ولحم كلب أكل لحم الكلب وترك الصيد؛ لأن في أكل الصيد ارتكاب محظورين. وإن كان وجد صيداً، ومال مسلم ذبح الصيد، ولا يأخذ مال المسلم؛ لأن الصيد حرام حقاً لله تعالى، ومال المسلم حرام حقاً للعبد وكان الترجيح لحق العبد لحاجته، وإن وجد لحم إنسان وصيداً يذبح الصيد، ولا يأكل لحم الإنسان استحساناً؛ لأن الصيد حرام حقاً لله تعالى، ولحم الإنسان حرم حقاً لله تعالى والإنسان، فما استويا في الحرمة. نوعفي المحرم شاركه غيره في قتل الصيد إذا أشرك محرماً في قتل صيد، فعلى كل واحد منهما قيمة كاملة؛ لأن الواجب على المحرم جزاء وكفارة، والكفارة لا تتجزأ، وإن كان الصيد مملوكاً للآدمي، فكذلك الجواب فيما يعود إلى حق الله تعالى، ويصرف إلى..... ويغرمان قيمة واحدة للمالك

بدل المحل والمتلف في حقه محل واحد، وهو نظير رجلين قتلا عبداً لرجل خطأ، فعلى كل واحد منهما كفارة على حدة وقيمة واحدة للمالك عليهما، ولهذا قلنا: ما لزم المحرمين لله يسقط بالصوم، وهذا كفارة كونه كفارة. محرم أخذ صيداً، وقتله محرم آخر في يده، فعلى كل واحد منهما الجزاء أما الآخذ؛ فلأنه جان على الصيد بإزالة الأمن، فإنه أثبت يده عليه، وأخذه وهو يخاف منه، وأما القاتل؛ فلأنه بالقتل قرر فوات الأمن؛ لأن فوات الأمن بالآخر كان يوحي الزوال بانفلات الصيد أو بإرسال الأخذ، وبالقتل يتقرر ذلك الفوات، وللتقرير حكم الإنشاء على ما عرف، ثم الآخذ يرجع على القاتل بما ضمن؛ لأن سبب ملك الصيد في حق الأخذ قد وجد، وهو الأخذ لكن لم يثبت له الملك المانع، وهو إحرام الصيد، وهذا المانع خص الصيد، فلا يصير الامتناع في حق بدله، كان الأصل صار مملوكاً له. نوع منه فى لبس المخيط قال محمد رحمه الله في «الأصل» : لا يلبس المحرم قميصاً ولا قباء ولا سراويلاً ولا قلنسوة ولا خفين به ورد «الأثر (174ب1) عن رسول الله عليه السلام» رواه ابن عمر رضي الله عنهما، وما ذكر من الجواب في الفتيا محمول على ما إذا وضعه على منكبه وأدخل يديه في كميه وزره أو لم يزره، فأما إذا وضع على منكبيه ولم يدخل يديه في كميه، ولم يزره فلا بأس به عندنا؛ لأنه بمعنى التردي. والأصل أن المحرم ممنوع عن لبس المخيط على وجه المعتاد حتى لو اتزر بالسراويل وارتدى بالقميص إذا فسخ به فلا بأس به؛ لأن المنع عن لبس المخيط في حق المحرم لما فيه من معنى الترفيه، وذلك في اللبس المعتاد لا في غيره؛ لأن غير المعتاد يحتاج إلى تكلف حفظه عند استعماله كما يحتاج إلى تكلف حفظ الأزرار، ويكره له أن يزر ليس أن يعقده على إزاره بحبل أو نحوه؛ لأنه لا يحتاج في حفظه إلى تكلف، فيشبه المخيط مع هذا لو فعل لا شيء عليه لأن المحرم عليه لبس المخيط ولم يوجد، ولا يلبس الجوربين كما لا يلبس الخفين وإذا لم يجد نعلين، وله خفان قطعهما أسفل الكعبين، وتعتبر الكعب هنا العظم المربع في وسط القدم عند معقد الشراك، وإنما أمر بذلك ليصيرا في معنى النعلين، وإذا لبس المحرم المخيط على وجه المعتاد يوماً إلى الليل فعليه دم، وإن كان أقل من ذلك فعليه صدقة، وفسر الكرخي الصدقة ههنا فقال: نصف صاع من بر، قال: وكذلك كل صدقة في الإحرام غير مقدرة فيفسرها بهذا إلا في قتل القمل والجراد.

d وفي «المنتقى» : إذا لبس قميصاً أكثر اليوم، فعليه دم في قول أبي حنيفة الأول ثم رجع، وقال: حتى يكون يوماً كاملاً وهو قول محمد، وعن محمد إذا لبس بعض اليوم، فإني أرى أن أحكم عليه من الدم مقدار لبسه، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا لبس قميصاً أكثر من نصف يوم أو أكثر من نصف ليلة فعليه دم، وإن لبس ما لا يحل لبسه من المخيط يوماً أو أكثر بضرورة، فعليه أي الكفارات شاء وذلك إما النسك أو الصوم أو الصدقة، فإن اختار النسك أو الصوم أو الصدقة، فإن اختار النسك ذبح في الحرم، وإن اختار الصوم صام ثلاثة أيام في أي مكان شاء، وإن اختار الصدقة تصدق بثلاثة أصوع حنطة على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والأفضل أن يتصدق على فقراء مكة، ولو تصدق على غير فقراء مكة جاز، وإن أطعم طعام الإباحة جاز عند أبي يوسف، وعند محمد لا يجوز قيل: قول أبي حنيفة كقول محمد رحمهم الله، ووجه ذلك أن هنا حق مالي شرع بلفظ الصدقة، فلا يتأدى بالتمليك قياساً على الزكاة. وإن لبس ما لا يحل له لبسه من غير ضرورة أراق كذلك دماً، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام، وإن اضطر إلى لبس قميص فلبس قميصين، فعليه كفارة الضرورة؛ لأن الزيادة في موضع الضرورة، فلا تصير جناية مبتدأة، وهذا هو الأصل في جنس هذه المسائل: أن الزيادة في موضع الضرورة لا تعتبر جناية مبتدأة، بل يجعل الكل للضرورة لا ينصب له الميزان، ويختلف الناس باختلاف أبدانهم وباختلاف الهواء في ذلك الوقت، والزيادة في غير موضع الضرورة تعتبر جناية مبتدأة حتى إنه إذا اضطر إلى لبسه قميصاً، فلبس قميصاً، ولبس معه عمامة أو قلنسوة، فعليه دم في لبس القلنسوة، وفي لبس القميص يخير في الكفارات يختار أي ذلك شاء؛ لأنهما مختاران، فيعتبر لكل لبس الحكم اللائق به، وإذا اضطر إلى لبس قميص، فلبسه فلما مضى اليوم ذهبت الضرورة، فتركه عليه حتى مضى يوم أو يوماً، فما دام في شك من الضرورة، فذلك ضرورة، وليس عليه إلا كفارة الضرورة، وإذا جاء اليقين أن الضرورة قد ذهبت عنه من قبل ... فلبس بعد ذلك، فعليه كفارتان كفارة الضرورة على قدر ما لبس، والكفارة الأخرى على قدر ما لبس. ذكر هذه الجملة عيسى بن أبان عن محمد المحرم إذا لبس قميصاً أو جبة بالنهار، ونزعه بالليل لليوم ولبس من الغدو لم يعزم على ترك اللباس إنما نزعه لأجل اليوم، فعليه كفارة واحدة. والحاصل أن لبس شيء واحد ما لم يتركه، ويعزم على الترك، فإذا تركه وعزم على الترك ثم لبسه، فهو لبس آخر أما بدون العزم على الترك، فهو لبس واحد، ومن هذا الجنس إذا لبس مخيطاً للضرورة أياماً، وكان ينزع بالليل للاستغناء من ذلك، فهذا كله جناية واحدة، بخلاف ما إذا نزع لزوال الضرورة، ثم اضطر إليه بعد ذلك ولبس، فإنه تلزمه كفارة أخرى؛ لأن حكم الضرورة الأولى قد انتهى بالرد، وكان اللبس الثاني جناية

مبتدأة، بخلاف ما نحن فيه، وهو نظير ما لو داوى جرحه بدواء فيه طيب مراراً كان عليه كفارة واحدة ما لم يبرأ، وإذا برأ، ثم جرحت له جراحة أخرى، فداواها بالطيب كان عليه كفارة أخرى. في «المنتقى» : إذا كان كان المحرم يحمُّ يوماً، وتتركه الحمى يوماً، قد عرف ذلك، وكان يلبس في يوم الحمى ويترك اللبس في اليوم الآخر، فعليه كفارة واحدة ما لم يذهب ذلك الحمى، وتأتيه حمى أخرى، وكذلك المحرم إذا عرض له عدو، واحتاج إلى لبس السلاح والدرع وما أشبه ذلك لمقاتلتهم، ثم تفرقوا ونزع ما عليه من السلاح، ثم عادوا فلبس ثانياً وثالثاً، فعليه في ذلك كفارة واحدة حتى يذهب العدو، ويأتيه عدو آخر، ولو لبس قميصاً يوماً أو أكثر من غير ضرورة وأراق كذلك دماً، ثم ترك القميص عليه بعد ما كفر أياماً كثيرة، فعليه كفارة أخرى. ولو أحرم، وعليه مخيط، وتركه على نفسه يوماً أو أكثر عليه الكفارة؛ لأنه لبس مستدام، فيكون لدوامه حكم الابتداء. ولا يغطي المحرم رأسه ولا وجهه، والمحرمة لا تغطي وجهها، وإن فعل ذلك إن كان يوماً (175أ1) إلى الليل، فعليه دم، وإن كان أقل من ذلك، فعليه صدقة، وكذلك لو غطى ربع رأسه، فصاعداً يوماً، فعليه دم وإن كان أقل من ذلك، فعليه صدقة، هكذا ذكر في المشهور، وعن محمد رحمه الله أنه قال: لا يجب الدم حتى يغطي الأكثر من الرأس، والصحيح ما ذكر في المشهور؛ لأن ما يتعلق بالرأس من الجناية، فللربع حكم الكل لما تيسر بعد هذا. ولو حمل المحرم شيئاً على رأسه، فإن كان شيئاً من جنس ما لا يغطى به الرأس كالطست، والإجانة وعدل بر ونحوها، فلا شيء عليه، وإن كان من جنس ما يغطى به الرأس من الثياب، فعليه الجزاء؛ لأن ما لا يغطى به الرأس، فالمحرم يكون حاملاً له لا مستعملاً ألا ترى أن الأمين لو فعل ذلك لا يصير ضامناً؟ قال في «الأصل» : وإن استظل المحرم بفسطاط فلا بأس به، وكذلك إذا دخل تحت ستر الكعبة حتى غطاه والستر لا يصيب رأسه لا وجهه لا بأس به، لأن التغطية إنما تحصل بماس بدنه، وإن كان يصيب رأسه ووجهه كرهت له ذلك لمكان التغطية، وإن كان المحرم نائماً، فغطى رجل رأسه ووجهه بثوب يوماً كاملاً، فعليه دم؛ لأن فعل غيره كفعله بنفسه في حق حصول الارتفاق. نوع منه في الجماع حرام على المحرم بالنص قال الله: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} (البقرة: 197) والرفث هو الجماع عند بعض المفسرين، وإن جامع وكان مفرداً بالحج إن كان جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجه، وعليه دم، تكفيه الشاة، وعليه المضي في فاسده يفعل جميع ما يفعله في الحج الصحيح، وعليه الحج من قابل، وإن كان جامع ثانياً قبل الوقوف بعرفة، فعليه شاة أخرى في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الثاني من محظورات

الإحرام، وقال محمد رحمه الله: يكفيه كفارة واحدة، إلا أن يكون كفر عن الأولى، فيلزمه كفارة أخرى؛ لأن الجناية من جنس واحد، والمجني عليه واحد، فيثبت الاتحاد في الواجب كما في كفارة الصوم، فإن جامع في مجلس واحد مرتين تكفيه كفارة واحدة بلا خلاف. وإن جامع بعد الوقوف بعرفة لا يفسد حجة، وعليه جزور، فإن جامع جماعاً آخر، فعليه شاة مع الجزور؛ لأن الجناية الثانية تقاصرت عن الجناية الأولى لتمكن النقصان لوجود الجناية الأولى، فتكفيه الشاة، فإن كان الجماع الثاني على وجه الرفض فلا دم عليه للثاني. ذكر القدوري في «شرحه» : وإن جامع وكان مفرداً بالعمرة إن جامع قبل الطواف فسدت عمرته ومضى في فاسده، وعليه عمرة مكانها، وعليه دم تجزؤه الشاة، وإن جامع بعد الطواف لا تفسد عمرته فعليه دم تجزؤه الشاة، وكذلك إذا جامع بعد ما طاف لعمرته أربعة أشواط لا تفسد عمرته؛ لأنه أتى أكثر الطواف، وللأكثر حكم الكل. وإن كان قارناً، وجامع قبل أن يطوف لعمرته فسدت عمرته وحجه ويمضي فيها، وعليه دمان، وعليه حجة وعمرة من قابل، وسقط عنه دم القران؛ لأن دم القران وجب شكراً على ما اتفق له من نسكين صحيحين في سفرة واحدة، ولم يتفق له نسكان صحيحان، وإن جامع بعدما طاف لعمرته قبل الوقوف فسد حجه، ولم تفسد عمرته، وعليه دمان، وعليه قضاء الحج من قابل، وسقط عنه دم القران، وكذلك إذا جامع بعدما طاف لعمرته أربعة أشواط فسد حجه ولم تفسد عمرته، وإن كان جامع بعدما وقف بعرفة لا تفسد عمرته ولا حجته، وعليه جزور لحجته وشاة لعمرته، ولزمه دم القران؛ لأنه اتفق له نسكان صحيحان في سفر واحد. وإن كان متمتعاً، فإن لم يسق الهدي مع نفسه، فالجواب في المفرد بالعمرة، وإن ساق الهدي مع نفسه، فهو والقارن سواء، هكذا ذكر الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله، لم يرد بهذه التسوية في حق جميع الأحكام. ألا ترى أن القارن إذا جامع قبل أن يطوف لعمرته فسد عمرته وحجه، لأنه في إحرام الحج والعمرة جميعاً، والمتمتع قبل أن يطوف لعمرته تفسد عمرته لا غير؛ لأنه لم يصر شارعاً في إحرام الحج؟ وإنما أراد به التسوية في حق بعض الأحكام، وهو سقوط دم المتعة متى جامع قبل الطواف لعمرته، أو قبل الوقوف بعرفة، ولزوم بعده الدمين متى جامع قبل الوقوف بعرفة. فإن ساق الهدي مع نفسه لمتعة من التحلل بمتعة من التحلل بين النسكين، على ما تبين، فيبقى في إحرام العمرة كما كان، فإذا شرع في إحرام الحج، وجامع قائماً جنى على إحرامين. والوطء في الدبر لا يفسد الحج ولا العمرة في إحدى الروايين عن أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن معنى الوطء متقاصر، ولهذا لم يجب الحد عنده، وفي رواية أخرى يفسد؛ لأنه كامل من حيث إنه ارتفاق.

وإذا أتى بهيمة لا يفسد حجة ولا عمرته أنزل، أو لم ينزل، غير أنه إن أنزل فعليه الدم، وإن لم ينزل فلا شيء عليه، وإذا جامع فيما دون الفرج وأنزل أو لم ينزل، أو قبل بشهوة أو لمس بشهوة وأنزل، أو لم ينزل لا يفسد حجة؛ لأن القياس أن لا يفسد الحج بالجماع وبدواعيه كما لا يفسد بسائر المحظورات لكن عرفنا الفساد بالجماع بالنص، والنص الوارد بالجماع لا يكون وارداً في هذه الأشياء؛ لأن الاستمتاع والارتفاق بالجماع أكمل وعليه دم أنزل أو لم ينزل لوجود أصل الاستمتاع. وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف: محرم قَبَّل امرأة بشهوة فعليه دم، وإن اشتهت هي فعليها دم أيضاً، وإن لم تشته هي فلا شيء عليها، ولو قبلها بغير شهوة فلا شيء عليه، ولو نظر إلى فرج (175ب1) . امرأته بشهوة، قلت: ذكر في «الجامع الصغير» : أنه لا شيء عليه، وذكر في «المنتقى» الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا نظر إلى فرج امرأته بشهوة، فعليه دم، وإن جومعت المرأة مكرهة أو نائمة، أو كان جامع صبياً أو مجنوناً، فعليها الدم لحصول معنى الارتفاق لها. نوع منه فى حلق الشعر وقلم الأظافير يجب أن يعلم بأن حلق الشعر وقلم الأظافر حرام على المحرم؛ لأنه من جملة قضاء التفث وأوان قضاء التفث أوان التحليل، وهو ما بعد الرمي في اليوم الأول من أيام النحر وبعد الذبح والحلق. قال محمد رحمة الله عليه في «الجامع الصغير» : محرم حلق موضع المحاجم، فعليه دم، وقال أبو يوسف ومحمد: عليه صدقة، فهما يقولان إن موضع المحاجم لا يحلق لقضاء التفث ولا يقصد به ذلك، وإنما يقصد به الحجامة فمن حيث إنه حصل به قضاء التفث حقيقة أوجبنا الصدقة، ومن حيث إنه لا يقصد به قضاء التفث لم يوجب الدم، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: حلق هذا الموضع قضاء التفث حقيقة، وإنه مقصود لمن يقصد الحجامة، وقضاء التفث حقيقة (من) محظورات الإحرام، وإنما يسقط اعتباره إذا لم يكن مقصوداً أصلاً، وإنه ليس بهذه الصفة، فلا يسقط اعتباره. ولو حلق الإبطين، أو حلق أحدهما فعليه دم، وكذلك إذا نتفه أو طلى بنورة؛ لأن حلق كل واحد منهما مقصود لمعنى الراحة، وإن حلق الرقبة كلها، فعليه دم؛ لأنه حلق مقصود للراحة. قال في «الجامع الصغير» : إذا حلق من رأسه أو لحيته ثلثاً أو ربعاً، فعليه دم، وقال في «الأصل» : إذا أخذ ثلث لحيته أو رأسه فعليه دم، وذكر في «الأصل» لفظة الأخذ، وإنها تتناول الحلق والتقصير، وذكر حكم الثلث ولم يذكر حكم ما دونه، وفي «الجامع

الصغير» ذكر لفظة الحلق، وإنها لا تتناول التقصير، وذكر حكم ما دون الثلث، وهو الربع، وإنما أوجب الدم بحلق الربع؛ لأنه يعمل عمل حلق الكل في المعنى الموجب للدم، وهو الارتفاق الكامل و (هو) المقصود. أما في الرأس؛ فلأن عامة العرب يحلقون النواصي ويتركون الباقي، والأتراك يحلقون وسط الرأس قدر الربع، وبه يقع رفقهم عادة. وأما في اللحية؛ فلأن اللحية إذا طالت قد يؤخذ منها الربع والثلث حتى لا يبقى إلا قدر قبضة، وإنه مطلوب للزينة، وهو عادة أهل العراق فيكون رفقاً كاملاً. وإن أخذ من شاربه، فعليه حكومة عدل هكذا ذكر في «الجامع الصغير» ، ومعناه أنه ينظر أن هذا المأخوذ كم يكون من ربع اللحية؟ فيجب عليه الصدقة بقدر ذلك، حتى إنه إذا كان قدر ربع اللحية يلزمه ربع قيمة الشاة يتصدق به، هكذا ذكر في «الجامع الصغير» ، وذكر في «الأصل» عن هذه المسألة، وقال: عليه الصدقة يحتمل أن يكون المراد الصدقة على التفسير الذي قلنا، ولو حلق الشارب كله يلزمه الدم، كذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله، وبه أخذ بعض أصحابنا. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والأصح عندي أنه لا يلزم الدم؛ لأنه طرف من أطراف اللحية، وهو تبع اللحية فالعضو واحد، وإنه دون ربع الكل، وما دون الربع ليس له حكم الكل، فلا يجب به الدم بل يكفيه الصدقة. قال في «الجامع الصغير» عقيب هذه المسائل: وإذا حلق عضواً كاملاً فعليه الدم، وإن حلق بعضه فعليه الصدقة، وأراد به الفخذ والساق والإبط دون الرأس واللحية، وقد ذكرنا أن بحلق ربع الرأس واللحية يجب الدم، وهذا لأن الربع في الساق والفخذ والإبط لا يعمل عمل الكل في العادة؛ إذ العادة في هذه الأعضاء ليس هو الاقتصار على الربع، ولا كذلك الرأس واللحية على ما بينا. وفي «المنتقى» : إذا نتف المحرم من إبطيه وهو كثير الشعر قدر ثلث أو ربع فعليه دم، وإن كان إبطه قليل الشعر، فنتف الأكثر فيه فعليه دم، فإن نتف الأقل منه أطعم كذلك نصف صاع. وفي كل موضع قلنا بوجوب الصدقة لا ينقص عن طعام مسكين واحد نصف صاع من حنطة، وقد مر هذا. ولو حلق رأس حلال أو من شارب حلال شيئاً أطعم ما شاء عندنا خلافاً للشافعي رحمه الله، وعلى هذا الخلاف إذا حلق رأس محرم، أو أخذ من شارب محرم يجب على المحلوق رأسه إذا كان محرماً الجزاء بالإجماع؛ لأن ما هو المقصود من الحلق، وهو الراحة قد حصل له. وإذا ألبس المحرم محرماً أو حلالاً مخيطاً أو طيبه بطيب، فلا شيء عليه بالإجماع، وكذلك إذا قتل قملة على غيره لا يلزمه شيء. في «الأصل» : حلق المحرم رأسه بغير عذر أراق دماً، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام، وإن فعل ذلك بعذر يخير بين الكفارات الثلاث على ما مر. في «المنتقى» هشام عن محمد: إذا سقط من شعر رأس المحرم أو لحيته عند

وضوئه ثلاث شعرات، فعليه كف من طعام، قال: وإن كان قدر جزء، فعليه دم، قال هشام: قلت لمحمد رحمه الله: ما قدر الجزء؟ قال: قدر العشر من شعر اللحية أو الرأس، عنه أيضاً: إذا خبز العبد المحرم، فاحترق بعض شعر بدنه في التنور، فعليه الدم إذا عتق. فيه أيضاً: أبو سليمان عن محمد رحمه الله: رجل جهل، وهو حاج فحلق رأسه قبل أن يرمي الجمر، فلا شيء عليه. فيه أيضاً: إذا حلق رأسه وأخذ من لحيته ثلثاً أو ربعاً فإن فعل ذلك في مقام واحد فعليه دم واحد، وإن فعل كل شيء من ذلك في مقام، فعليه في كل شيء من ذلك دم واحد وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: المقام والمقامات عندي على السواء، وإن حلق رأسه وأراق لذلك دماً وهو بعد في مقام واحد، ثم حلق لحيته أو شاربه فعليه دم آخر بلا خلاف (176أ1) . الحسن بن زياد في كتاب «الاختلاف» ، فيمن أخر الحلق حتى مضى أيام النحر، فعليه دم، وكذلك القارن أو المتمتع إذا أخر الذبح حتى مضت أيام النحر. إذا قلم المحرم جميع أظافيره، فعليه دم واحد هكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وإن قلم أظافير كف، فعليه دم؛ لأنه ربع الجملة، وهو رفق كامل وزينة تامة، وإن قلم أقل من كف فعليه صدقة؛ لأنه دون الربع قلم من كل كف أربعاً، فعليه الطعام إلا أن يبلغ دماً، فيطعم ما شاء معناه، فينقص من الدم ما شاء، وقال محمد رحمه الله: إذا قلم خمسة أظافير من يد واحد أو يدين أو يد ورجل، فعليه دم؛ لأنها ربع الجملة، وإذا قلم الأظافير كلها في مجالس متفرقة بأن قلم أظافير يد واحدة، ثم قلم أظافير اليد الأخرى في مجلس آخر، ثم قلم أظافير إحدى الرجلين في مجلس آخر، فإن كان حين قلم أظافير إحدى اليدين كَفَّر، ثم قلم أظافير اليد الأخرى لزمه كفارة أخرى، وعلى هذا حكم الرجلين. وإن كان لم يكفر حتى قص الأظافير كلها فعليه دم واحد في قول محمد رحمه الله، وعندهما يلزمه لكل فعل دم؛ لأن الفعل الواحد في مجالس مختلفة ينزل منزلة أفعال مختلفة. ولو قامت الأفعال حقيقة بأن جامع وتطيب ولبس المخيط أنه يلزمه لكل فعل دم، وإذا انكسر ظفراً محرم وانقطع منه شطره، فقلمه فلا شيء؛ لأن ما انقطع لا شيء سئموا فقلمه لا يكون جناية. في «المنتقى» : الحسن بن أبي مالك عن أبي حنيفة، إذا قلم أصبعاً واحد، فعليه طعام مسكين، وقال أبو يوسف: عليه في ذلك قبضة من طعام، المحرم إذا قلم أظافر حلال أو محرم أطعم ما شاء عندنا، وعلى المقلوم أظافيره الدم إذا كان محرماً لما ذكرنا في الحلق، والله أعلم.

نوع منه فى الدهن والطيب والخضاب يجب أن يعلم بأن المحرم ممنوع عن استعمال الدهن والطيب، قال عليه السلام في صفة الحاج «الحاج الشعث التفل» ، وقال عليه السلام «يأتون شعثاً غبراً من كل فج عميق» واستعمال الدهن والطيب لهذا، فإذا استعمل الطيب، فإن كان كثيراً فاحشاً، فعليه الدم، وإن كان قليلاً فعليه الصدقة. واختلف المشايخ في الحد الفاصل بين القليل والكثير، وإنما اختلفوا لاختلاف عبارات محمد رحمه الله، ففي بعض المواضع جعل حد الكثرة عضواً كثيراً، فقال: إذا خضب الرجل لحيته أو رأسه بالحناء، أو خضبت المرأة يدها أو رأسها بالحناء ففيه الدم، وفي بعض المواضع جعل حد الكثرة الكثيرة في نفس الطيب فقال: إذا اكتحل المحرم كحلاً فيه الطيب يكفيه الصدقة ما لم يفعل ذلك مراراً، فإذا فعل ذلك مراراً فعليه الدم، وقال في المحرم: إذا مس الطيب أو استلم الحجر فأصاب يده خلوق، إن كان ما أصابه كثير فعليه الدم، فبعض مشايخنا اعتبروا الكثرة بالعضو الكبير نحو الفخذ والساق، فقالوا: إذا طيب الساق أو الفخذ بكماله يلزمه الدم، وبعضهم اعتبروا الكثرة بربع العضو الكثير فقالوا: إذا طيب رب الساق، والفخذ يلزمه الدم، وإن كان أقل من ذلك يلزمه الصدقة. والفقيه أبو جعفر رحمه الله اعتبر القلة والكثرة في نفس الطيب، فقال: إن كان الطيب في نفسه بحيث يستكثره بكفيه الناس، لكفين من ماء الورد، والكف من المسك أو الغالية، فهو كثير وما لا فلا، قال الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: إن كان الطيب في نفسه قليلاً، إلا أنه طيب عضواً كاملاً، فإنه يكون كثيراً، أو تكون العبرة في هذه الحالة للعضو، وإن كان الطيب في نفسه كثيراً لا يعتبر العضو مكانه سلك فيه طريق الاحتياط، وإن مس طيباً إن لم يلزق بيده شيء منه، فلا شيء عليه، وإن لزق بيده منه إن كان كثيراً يلزمه الدم، وإن كان قليلاً لا يلزمه الدم، ويكفيه الصدقة. وفي «المنتقى» : عن محمد رحمه الله: إذا أصاب المحرم طيباً فعليه دم، فقلت: ما فرق بين القميص والطيب فإن يلبس القميص لا يجب الدم حتى يكون أكثر اليوم؟ قال: لأن الطيب تعلق به، فقلت: وإن اغتسل من ساعته؟ قال: وإن. وفيه: هشام عن محمد رحمه الله: خلوف الفرد إذا أصاب ثوب المحرم غسله، ولا شيء عليه فإن كان كثيراً أو أصاب جسده منه كثير، فعليه دم.

قال في «الأصل» : الوسمة ليست بطيب.... والحناء طيب لأن لها....، وذكر في «المنتقى» هشام عن محمد رحمه الله: إذا خضب رأسه بالوسمة يطعم نصف صاع مسكيناً. وفيه أيضاً: ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: إذا طيب المحرم شاربه كله، فعليه دم، وكذلك مثل موضع الشارب من اللحية والرأس، وأما الجسد فإن أصابه شيء كثير فعليه دم، وإن كان يسيراً فعليه طعام، ولم يوقت في الجسد شيئاً. وفيه أيضاً: هشام عن محمد إذا مس طيباً كثيراً يجب عليه فيه الدم، فأراق لذلك دماً ولو ترك الطيب على حاله يجب عليه لأجل ترك الطيب دم آخر، ولا يشبه هذا الذي تطيب قبل أن يحرم، ثم أحرم وترك الطيب عليه بعد إحرامه، فإنه لا يكون عليه شيء. وفيه أيضاً: الحسن عن أبي حنيفة إذا أحرم في إزار أو رداء، وفيه طيب أو دهن، ووجد فيه ريح، فإن كان كثيراً فاحشاً قدر شبر في شبر، فمكث عليه ساعة أطعم كذلك مسكيناً نصف صاع. ويكره للمحرم أن يشم الريحان والطيب والثمار الطيبة، كذا روي عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولكن لا يلزمه بالشم شيء، ولو أكل زعفران من غير أن يكون في الطعام إن كان كثيراً، فعليه دم، وإن جعل الزعفران في طعام وطبخ، فأكل فلا شيء عليه، فإن (176ب1) جعل في طعام لم تمسه النار كالملح، فلا بأس به، إلا أن يكون الزعفران هو الغالب، فحينئذٍ يلزمه الدم اعتباراً للغالب.k وإذا خضب الرجل رأسه ولحيته بالحناء، فعليه الدم هكذا ذكر في «الأصل» ، وجمع بين الرأس واللحية في إيجاب الدم. وفي «الجامع الصغير» أفرد الرأس بالذكر وبإيجاب الدم وتبيين ما ذكر في «الجامع الصغير» أن كل واحد منهما مضمون بالدم المسألة على وجهين: إن خضب رأسه بالمائع حتى لم يصير ملبداً رأسه يلزم دم واحد لاستعمال الطيب، ولو خضب رأسه بغير المائع يلزمه دمان، دم لاستعمال الطيب، ودم لتغطية الرأس. محرم دهن رأسه بزيت قبل أن يحلق أو يقصر، فإن كان الزيت قد ألقي فيه شيء من الطيب، ففيه الدم بالإجماع، وإن كان الزيت خالصاً لم يلزمه شيء من الطيب، ففيه الدم عند أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد: فيه الصدقة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: هذا إذا استكثر منه، فأما إذا قل، فعليه الصدقة بالإجماع، وجه قولهما: أن غير الطيب لا يساوي الطيب في الزينة، فكانت جناية قاصرة فلا يلزمه الدم، ولأبي حنيفة رحمه الله أن الدهن أصل الطيب؛ لأن الروائح تلقى فيه، ويصير طيباً، فيلحق بحقيقة الطيب في حق وجوب الجزاء احتياطاً. ولو داوى جرحه أو شقوق رجله بدهن ليس فيه طيب، فلا شيء عليه؛ لأن الدهن

الفصل السادس: في صيد الحرم وشجره وحشيشه وحكم أهل مكة

ليس بطيب حقيقة، لكن ألحق بالطيب من حيث إنه أصل الطيب؛ إذا استعمل استعمال الطيب بخلاف الكافور والمسك والزعفران؛ لأنه طيب حقيقة، فكيف ما استعمله يجب الدم به. ولو ادهن بشحم أو سمن، فلا شيء عليه؛ لأنه مأكول وليس بطيب، ولا أصل للطيب، ولو وجب الجزاء هنا لوجب باستعمال الطيب، ولو غسل رأسه ولحيته بالخطمي، فعليه الدم عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما عليه الصدقة. وفي «المنتقى» هشام عن محمد رحمه الله: إذا غسل المحرم يده بأشنان فيه طيب، فإن كان إذا نظروا إليه قالوا: هذا أشنان ففيه الصدقة، وإن قالوا: هو طيب فعليه الدم. وعنه أيضاً: لا بأس أن يأكل المحرم الزيت ودهن الشح، وأن يقطر في أذنه الزيت قال: لأن هذا طعام وطيب يعني الزيت طعام وطيب من حيث إنه أصل الطيب، فإذا لم يستعمله على وجه الطيب لا يظهر حكم الطيب بخلاف البنفسج، وأمثاله؛ لأنه طيب بنفسه. الفصل السادس: في صيد الحرم وشجره وحشيشه وحكم أهل مكة أما حكم الصيد فنقول: قتل صيد الحرم حرام إلا ما استثناه رسول الله عليه السلام في قوله «خمس من الفواسق» ، هذا لأن الصيد يستفيد الأمن بسبب الحرم قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} (العنكبوت: 67) وأثر ثبوت الأمن حرمة التعرض. وقال عليه السلام في الحديث المعروف «ولا ينفر صيدها» وفي القتل تنفير الصيد، فيكون حراماً، فإن قتله حلال، فعليه جزاؤه؛ لأنه أتلف محلاً أمناً ويجوز فيه الإطعام، فإذا أراد القاتل إخراج الطعام عن قيمته قوَّمه، ثم أخرج إلى كل فقير نصف صاع من حنطة أو صاعاً من شعير، ولا يجوز الصوم عندنا، وهو مذهب عثمان رضي الله عنه؛ لأن ضمان صيد الحرم بدل محض؛ لأنه وجب باعتبار وصف في المحل، وهو الأمن الثابت للصيد بسبب الحرم وصار الأمن الثابت للصيد بسبب الحرم بمنزلة ملك الآدمي في المحل، ولا مدخل للصيام في إبدال المحل؛ لأن بدل المحل يجب أن يكون مثلاً، ولا مماثلة بين الصوم والمال بخلاف ما يجب على المحرم؛ لأن جزء العادة فيه معنى البدلية، والصوم إن لم يصلح بدلاً يصلح كفارة، وأما الهدي فقد ذكر القدوري أن فيه روايتين: في رواية لا يجوز، وفي رواية يجوز. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن في ظاهر رواية أصحابنا يجوز، وفي غير رواية «الأصول» لا يجوز، فعلى ظاهر الرواية كما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، وعلى إحدى الروايتين كما ذكره القدوري، سوى بينه وبين المحرم في حق الهدي، فيجوز الهدي

فيهما، وعلى غير رواية «الأصول» كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، وعلى إحدى الروايتين كما ذكره القدوري فرق بينه وبين المحرم والصحيح هو التسوية. ووجه ذلك أن جواز الهدي في حق المحرم على موافقة القياس؛ لأن الجناية من المحرم من حيث إراقة الدم، وفي الهدي إراقة الدم فيمكن تجويزه في حق صيد الحرم قياساً عليه بخلاف الصوم؛ لأن جواز الصوم في حق المحرم كان على مخالفة القياس؛ لأن الجناية من المحرم بإراقة دم ما هو مال، ولا إراقة في الصوم، ولا مالية، فلا يمكن قياس صيد الحرم على المحرم؛ لأن الواجب على المحرم كفارة، والصوم شرع في الكفارات؛ لأن المماثلة بين الكفارات وشبهها ليس بشرط، والواجب في صيد الحرم بدل محض والمماثلة في الأبدال المحضة شرط. وصورة الهدي في هذا الباب: أن يشتري بقيمة الصيد هدياً ويذبحها، ويتصدق بلحمها على الفقراء، وقد فسر الحسن بن زياد رحمه الله في «مناسكه» ، فقال: ينظر إن كان في لحمه وفاء بقيمته حياً جاز، وإن لم يكن في لحمه وفاءٌ بقيمته حياً فعليه أن يتصدق بتمام القيمة، ويجزئه. المحيط البرهانى قال الفقيه أبو العباس الناطفي رحمه الله: وذكر شيخنا أبو عبد الله الجرجاني رحمه الله في مسائل أصحابنا روي عن أبي حنيفة كما فسره الحسن، قال: وكان يقول في الدرس: إن كان قيمة الهدي عند الذبح قدر قيمة الصيد، ثم نقص بالذبح قيمته عن قيمة الصيد جاز، ولا شيء عليه بالنقصان في ظاهر رواية «الأصل» ، وإن كان محرماً واختار الهدي إن كان الذبح قيمة الهدي حياً قدر قيمة الصيد المقتول ولا شيء عليه من النقصان، وإن كان أقل منها ذبحها، وعليه تمام القيمة، فما ذبح جازه بقدره (177أ1) والزيادة يتصدق بها على الفقراء دراهم أو طعام أو صيام بقدره، وإن اختار الهدي ذبحه في الحرم. ولو ذبح حاج الهدي ذبحه في الحرم، ولو ذبح خارج الحرم يجزئه، إلا أنه إذا سرق لحمه بعد الذبح، وقد كان الذبح في الحرم، فليس عليه بدله، وإن كان الذبح خارج الحرم، فعليه بدله إذا سرق، هكذا ذكره الناطفي رحمه الله في «أجناسه» ، وإذا قتل المحرم صيداً في الحرم لا يجب عليه لأجل الحرم شيء، ويجب عليه ما يجب على المحرم، وإذا اشترك حلالان في قتل الصيد بالحرم فعليهما جزاء واحد، وكذلك إذا اشتركا في قطع شجر الحرم. ولو اشترك حلال ومحرم في قتل صيد الحرم، فعلى المحرم جزاء كامل، وهو جميع القيمة، وعلى الحلال النصف؛ لأن الواجب في حق المحرم ضمان الإحرام، وأنه لا يتجزأ، والواجب في حق الحلال بدل المحل وإنه متجزىء، وإذا أخذ حلال صيداً في الحرم، فقتله حلال آخر في يده، فعلى كل واحد منها جزاء كامل؛ لأن كل واحد منهما متلف للصيد أحدهما بالأخذ المفوت للأمن، والآخر بالقتل. وإذا رمى صيداً على غصن شجرة في الحرم أصلها في الحل أو في الحرام لم ينظر إلى أصلها، وإنما ينظر إلى موضع

الصيد، فإن كان في الحل فلا جزاء عليه، وإن كان في الحرام، فعليه الجزاء. ولو رمى صيداً بعضه في الحل وبعضه الحرم، فالعبرة لقوائمه؛ لأن قوامه بالقوائم، ولو كان بعض القوائم في الحل والبعض في الحرم يرجح جانب الحرمة احتياطاً، وهذا إذا لم يكن الصيد نائماً، فإن كان نائماً، وقوائمه في الحل ورأسه في الحرم، فهو صيد الحرم؛ لأن قوامه في حالة النوم بجميع البدن، فإذا كان جزءاً من بدنه في الحرم احتياطاً. وإذا أرسل الحلال كلبه على صيد في الحل فاتبعه الكلب وأخذه في الحرم لم يكن على المرسل شيء لكن لا يؤكل الصيد، وهذا الحل يتعلق بالذكاة، والذكاة فعل الكلب غير أن فعل الكلب صار مضافاً إلى المرسل باعتبار الإرسال، فاعتبر في حق إيجاب الضمان حالة الإرسال، وفي حق الحل حالة الأكل عملاً بالشبهتين جميعاً. ولو رمى الحلال إلى صيد في الحل، فدخل الصيد الحرم وأصابه السهم في الحرم لا يلزمه الجزاء؛ لأن أصل الرمي لم يكن جناية منه، ولكن لا يؤكل الصيد، وهذه المسألة هي المسألة المستثناة من أصل أبي حنيفة رحمه الله، فإن عنده العبرة في حق الحل لحالة الرامي، إلا في هذه المسألة اعتبر حالة الإصابة وكان فعل ذلك احتياطاً. حلال أخرج عنزاً من الظباء من الحرم الذي مولد في يده أولاد، ثم ماتت هي وأولادها، فعليه جزاء الكل، وهذا لأن الإمام مستحق للإعادة إلى الحرم؛ لأن إخراجها وقع محظوراً من حيث إنه يتضمن تفويت ما استحق من الإعادة إلى الحرم لأن إخراجها وقع محظوراً من حيث إنه يتضمن تفويت ما استحق من الأمن بسبب الحرم ... بالفعل المحظور مستحق، والإعادة إلى الحرم سبب لقود الأمان، فصار الأمان ثابتاً لها قصد للسبب، وهو إعادة الاستحقاق إلى الحرم، والأمان وصف شرعي، والأوصاف الشرعية تسري من الأم إلى ولدها، فيسري الأمان إلى ولدها ثبت اليد على الولد، ولم يرده إلى الحرم، فقد فوت الأمن على ولد مقصود، أفيجب ضمان الولد بسبب صادفه مقصوداً بخلاف ولد المغصوب في حقوق العباد؛ لأن ضمان الغصب فيما بين العباد لا يجب بإثبات اليد؛ لأن إثبات اليد يقع في حق المالك؛ لأن الأموال إنما تصان عن الهلاك بالأيدي. وإنما وجوب ضمان الغصب لتفويت اليد، ولم يوجب تفويت الولد في حق الولد، فلم يجب ضمانه، فإن أدى جزاء الأم وولدت بعد ذلك لم يكن عليه ضمان الولد؛ لأن الواجب بمقابلة صيد الحرم بدل محض، والبدل يقوم مقام المبدل فيصير بأداء الأم يرد المبدل، ولهذا قلنا: بعد أداء الجزاء لا يجب إعادة الأم إلى الحرم، وإذا صارت ... الأم فلم يبق الأمان صفة لهذه الصورة أصلاً، فلا يحدث الولد نصف الأمان، فلا يجب بإثبات اليد عليه شيء. وأما حكم الشجر فنقول: قطع شجر الحرم حرام، قال عليه السلام في الحديث

المعروف، «ولا يقطع شجرها» والمعنى: أن في تبقية أشجار الحرم عمارة البقعة، فقلعها يتضمن خرابها؛ ولأن صيد الحرم يأوي إلى أشجار الحرم، ويستظل بظلها، ويأخذ الوكر في أغصانها؛ ففي قلعها إيحاش صيد الحرم، واعلم بأن الشجر الحرام أنواع أربعة: ثلاث منها يحل قطعها والانتفاع بها من غير جزاء، وواحدة لا يحل قطعه منها ولا الانتفاع بها من غير جزاء، وإذا قطعها رجل فعليه الجزاء. بيان الثلاث: كل شجر أنبته الناس، وهو من جنس ما ينبته الناس، وكل شجر أنبته الناس، وهو ليس من جنس ما ينبته الناس، وكل شجر نبت بنفسه، وهو من جنس ما ينبته الناس. بيان الواحدة: كل شجر نبت بنفسه وهو ليس من جنس ما ينبته الناس، ويستوي في الواحدة أن تكون مملوكة لإنسان، أو لم تكن، حتى قالوا في رجل نبت في ملكه أم غيلان، فقطعه إنسان فعليه قيمة لما أهلكه، وعليه قيمة أخرى لحق الشرع بمنزلة ما لو قتل صيداً مملوكاً في الحرم، وبعد ما أدى جزاء الشجرة يكره للقاطع الانتفاع بها، وإنما كره كيلا يتطرق الناس إلى مثله، فلا يؤدي إلى استئصال شجر الحرم. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله: لا بأس لغيره من محرم أو حلال أن ينتفع به قال: وما جف من شجر الحرم أو تكسّر، فلا بأس بالانتفاع به؛ لأنه ليس شجر الحرم حقيقة؛ لأنه لا نمو له بل هو حطب الحرم، ولا حرمة لحطب الحرم. قال هشام: قلت لمحمد: ما تقول في شجرة يابسة في الحرم القلع؟ قال: إن كانت عروقها لا تسقها فلا بأس بأن تقطع يعني العروق اليابسة، قال: لأنها حطب معنى قلع شجرة في الحرم حتى وجب عليه قيمتها فغرس المقلوع ... (177ب1) فلأن يقطع ويصنع به ما شاء من غير جزاء، والعبرة في هذا الباب لأصل الشجر لا للأغصان حتى أنه لو كان الأصل في الحرم وعلى قاطع أغصانها، وهذا لأن الأغصان تابعة؛ لأن قواها بأصل الشجرة والعبرة للأصل النفع، وإن كان بعض الأصل في الحل، والبعض في الحرم، فهي شجر الحرم، وعلى قطع الأغصان القيمة سواء كان الغصن من جانب الحل أو من جانب الحرم، ثم إذا وجبت القيمة في شجر الحرم يتصدق بها، ولا يجزىء فيه الهدي ولا الصوم، وعن أبي يوسف في «المنتقى» : وإن شاء اشترى به هدياً. وأما حكم الحشيش قال محمد رحمه الله في «الأصل» : لا يختلى حشيش الحرم ولا يقطع إلا الإذخر بلا خلاف، فإنه بلغنا أن رسول الله عليه السلام رخص في الإذخر، فكان يحرم قطع الحشيش، وهو القطع بالمنجل، يحرم إرسال البهيمة على

الحشيش في الرعي، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف: لا بأس بالرعي، ولا بأس بأخذ كمأة الحرم ليس من نبات الأرض بل هو مودع فيه، ولا بأس بإخراج حجارة الحرم؛ لأن الانتفاع به جائز في الحرم، وما جاز الانتفاع به في الحرم جاز إخراجه عن الحرم. وفي «المنتقى» : هشام عن محمد رحمه الله: لا بأس بإخراج تراب الحرم إلى الحل، ألا ترى أنه يخرج القدور والأراك، وتراب البيت وماء زمزم يستسقي به؟ قيل: هذا إذا أخرج قدراً يسيراً لطلب التبرك بحيث لا يفوت به عمارة المكان، فأما إذا أراد أن ينقل ما هو خارج عن العادة ويعمق المكان، فذلك من باب التخريب لا من باب التبرك فليس له ذلك، وليس للمدينة حرمة الحرم في حق الصيود، والأشجار ونحوها إنا ذلك ملكة خاصة، ألا ترى أنه لم تظهر حرمتها في حق إحرام الداخلين حتى جاز الدخول فيها من غير إحرام؟ فكذا في حق الصيود والأشجار، وأما حكم أهل مكة في «المنتقى» هشام عن أبي يوسف قال: سمعت أبا حنيفة رحمه الله يقول: أكره إجارة بيوت مكة في أيام الموسم، وأرخص فيها في غير أيام الموسم، وهكذا روى هشام عن محمد عن أبي حنيفة رحمهم الله، قال: وكان يقول يعني أبا حنيفة رحمه الله لهم: يعني للحاج أن ينزلوا عليهم في دورهم إذا كان لهم فضل، وإذا لم يكن لهم فضل فلا. قال هشام: وإنما قال لهم أن ينزلوا عليهم في دورهم لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَهُ لِلنَّاسِ سَوَآء الْعَكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) ، قال: وإنما فرق أبو حنيفة بين أيام الموسم وغيرها في كراهيته الإجارة والرخصة فيها؛ لأن في أيام الموسم يزدحم الخلق، وتقع الضرورة إلى النزول في مساكنهم، فأنزل منازلهم كالمملوكة للنازلين من وجه نظراً ورحمة لهم، وبعد أيام الموسم ترفع الضرورة، ثم هذه المسألة دليل على جواز إجارة البناء بدون الأرض؛ لأن الإجارة لا ترد على الأرض عند أبي حنيفة كالبيع، وإنما ترد على البناء ورخص فيها في غير أيام الموسم، قال هشام: وكان أبو حنيفة رحمه الله يكره الجوار بمكة؛ لأنها ليست بأرض هجرة، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: أكره الجوار بمكة والمقام بها، وكان يقول: هاجر رسول الله عليه السلام منها. وفي «المنتقى» أيضاً: هشام عن محمد رحمه الله: ليس لهم أن يبنوا بمنى شيئاً؛ لأنه مباح، قال عليه السلام: «منى مباح من سبق» وقوله: مباح لبيان الانتفاع كأنه يقول في صفة منى إنما ينبغي أن تكون مباحاً للخلق؛ وبه يتبين أن منى كاسمه لإراقة الدماء وإراقة الدماء مظنة على الصراط، والبناء ينقص عليهم كونه مباحاً. والله أعلم بالصواب.

الفصل السابع: في بيان وقت الحج والعمرة

الفصل السابع: في بيان وقت الحج والعمرة وقت الحج أشهر معلومات قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الالْبَبِ} (البقرة: 197) والمراد وقت الحج، والأشهر المعلومات شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي حجة، فإذا عمل شيئاً من أعمال الحج من طواف أو سعي قبل أشهر الحج لا يجوز، وإذا عمل في أشهر الحج يجوز. ولو أحرم قبل أشهر الحج ينقض إحرامه، قد ذكرنا في صدر الفصل الثاني أن الإحرام عندنا شرط، وتقديم شرط العبادة على وقتها جائز ولكن يكره الإحرام قبل أشهر الحج؛ لأنه لا يؤمن الوقوع في محظورات الإحرام لو قدمه، فإن أمن ذلك لا يكره. ووقت العمرة السنة كلها؛ لأنه لم يرد فيها توقيت، ولكن يكره في يوم عرفة، وأيام التشريق هكذا روي عن عائشة رضي الله عنها؛ ولأن هذه الأيام وقت أداء الحج، فيجب تجريدها لأداء الحج، وعن أبي يوسف: أنه لا يكره إحرام للعمرة يوم عرفة قبل الزوال؛ لأن ما قبل الزوال ليس وقت أداء أعمال الحج، فإن الوقوف بعد الزوال. في «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف في «الأمالي» : رجل أهل بعمرة في أول العشر، ثم قدم في أيام التشريق، فأحب أن يؤخر الطواف حتى تمضي أيام التشريق، ثم يطوف، وليس عليه أن يرفض إحرامه، ولو طاف لها في تلك الأيام أجزأه ولا دم عليه، ولو أهل بعمرة في أيام التشريق، فإنه يؤمر بأن يرفضها، وإن لم يرفض، ولم يطف حتى مضت أيام التشريق، ثم طاف لها أجزأه، ولا دم عليه، وهذا بناءً على ما قلنا: أن العمرة في يوم عرفة وأيام التشريق مكروهة، وإذا لم يكن الإحرام بالعمرة في يوم عرفة، فالإحرام وجد في وقت لا كراهة فيه، وانعقد لا بصفة الكراهة، فلم يؤمر بالرفض، وأمر بتأخير الطواف لتجريد هذه الأيام للحج. وأما إذا كان الإحرام بالعمرة في يوم عرفة، أو في أيام التشريق فالإحرام (178أ1) وجد في وقت مكروه، فانعقد بصفة الكراهة، فأمر برفضها إزالةً لهذه الصفة (وقال) ، وفيه عمرو بن أبي عمرو في «الأمالي» بالرفض، وإذا طاف المعتمر بين الصفا والمروة راكباً وهو يقدر على المشي قال أبو حنيفة رحمه الله: عليه الدم، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: عليه لكل طواف طعام مساكين إلا أن يبلغ ذلك دماً، فينتقص منه شيء.

الفصل الثامن: في الطواف والسعي

الفصل الثامن: في الطواف والسعي وقد ذكرنا قبل هذا أنه ينبغي للطائف أن يفتتح الطواف عن يمينه إلى باب الكعبة، ولو أخذ عن يساره على باب الكعبة، وطاف كذلك سبعة أشواط يعيد طوافه في حكم التحلل عندنا، وعليه الإعادة ما دام بمكة. وإن رجع إلى أهله قبل الإعادة فعليه دم. وقال الشافعي رحمه الله: لا يعتد بطوافه، ولعل المسألة إذا طاف بالبيت معكوساً، وأما إذا سعى معكوساً بأن بدأ بالمروة، فمن أصحابنا رحمهم الله من قال: يعتد به ولكن يكره، والصحيح أنه لا يعتد بالشوط الأول لا لكونه معكوساً لكن؛ لأن الواجب هناك صعود الصفا أربع مرات، وصعود المروة ثلاث مرات، فإذا بدأ بالمروة، فإنما صعد الصفا ثلاث مرات، فعليه أن يصعده مرة أخرى فلا يمكنه ذلك إلا بإعادة شوط واحد بين الصفا والمروة، فأما ها هنا ما ترك شيئاً من أصل الواجب عليه، وقد دار حول البيت سبع مرات فلهذا كان طوافه معتداً به. وينبغي أن يطوف بالبيت ماشياً، ولو طاف راكباً أو محمولاً، أو سعى بين الصفا والمروة راكباً أو محمولاً إن كان كذلك من عذر يجزئه، ولا يلزمه شيء، وإن كان من غير عذر، فما دام يمكنه، فإنه يعيد، وإذا رجع إلى أهله، فإنه يريق لذلك دماً عندنا، ولو كان الذي حمل هذا الشخص محرماً هل يجزئه بذلك عن طوافه؟ ذكر القاضي الإمام جلال الدين محمود بن مسعود النسفي أن عندنا يجزئه، وعلّل فقال: إن المقصود من الطواف حضور الطائف في جميع مكان الطواف ليصير زائراً لجميع البيت، وقد حضر في مختلفاته في جميع أماكن الطواف، فيسقط عنه الفرض كما في الوقوف بعرفات. بعض مشايخنا قالوا: إنما يجوز الحامل عن طوافه إذا نوى الطواف أما إذا لم ينوِ لا يجزئه، واستدل هذا القائل بما ذكر القدوري في «شرحه» : إذا طاف بالبيت طالباً الغريم، أو هارباً من عدو أو سبع، ولا ينوي الطواف لا يجزىء عن طوافه بخلاف الوقوف بعرفة، وبعضهم قالوا: وإن لم ينوِ الحامل الطواف جاز إن لم يرد به الحمل، ويستدل هذا القائل بما ذكر القدوري أيضاً. وكل من وجب عليه طواف، فأتى به وفيه وقع عنه سواء نواه أو لم ينوه، أو نوى به طوافاً آخر، ومثاله المحرم بالحجة والعمرة إذا قدم مكة، وطاف، ولم ينوِ شيئاً أو نوى التطوع، فإن كان معتمراً وقع عن العمرة، ولو كان حاجاً وقع عن طواف القدوم، فالحاصل أن على قول هذا القائل نية الطواف ليست بشرط وقت الطواف، إنما الشرط أن لا يكون ناوياً شيئاً آخر، وخرج على هذا ما إذا طاف بالبيت طالباً الغريم؛ لأن هناك قصد شيئاً آخر سوى الطواف، وفي مسألتنا لو كان قصد الحامل ونيته حمل المحمول لا يجزئه عن الطواف أيضاً. وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف رحمه الله: طاف المحرم بالحج يوم النحر

طوافاً كان ... لله على نفسه أجزأه من طواف الزيارة يوم النحر. أحد عينيه من حيث الزمان، فنزل من هذا الوجه منزلة صوم رمضان. إذا طاف طواف الواجب في جوف الحجر فإن كان بمكة أعاد الطواف كله، هكذا ذكر في «الجامع الصغير» ، وذكر في «الأصل» : يطوف ما ترك يعني ما يطوف بالحجر، ولا يعيد الطواف على البيت، وليس في المسألة اختلاف الروايتين فما ذكر في «الأصل» جواب الجواز، معناه لو طاف بالحجر وحده أجزأه؛ لأنه أتى بالمتروك، وذكر في «الجامع الصغير» جواب الاستحسان والأولية، يعني المستحب، والأولى أن يعيد الكل ليحصل الطواف على الولاء والترتيب، ثم طريق الطواف بالحجر أن يأخذ من يمينه خارج الحجر حتى ينتهي إلى آخر الحجر، ثم يدخل في الحجر، ويخرج من الجانب الآخر، ثم يطوف وراء الحجر هكذا سبع مرات، ويتصور بطريق آخر من خارجه وهو أنه إذا انتهى إلى آخر الحجر يرجع إلى أوله، ثم يبتدىء لكن لا يعد الخروج إلى أوله شوطاً. وإن لم يعد الطواف على الحطيم حتى يرجع إلى أهله أجزأه وعليه دم عندنا؛ لأنه ترك واجباً من واجبات الحج، فيقوم الدم مقامه. بيانه: أن كون الحطيم من البيت ثبت بالخبر الواحد، وإنه يوجب العمل، أمالا يوجب العلم، فجعلنا الطواف به واجباً لا ركناً وترك الواجب يجبر بالدم. قال محمد في «الجامع الصغير» : إذا طاف طواف الزيارة على غير وضوء، وطاف طواف الصدر في آخر أيام التشريق بالوضوء، فعليه دم، ويجزئه الطواف، ولو كان طاف للزيارة جنباً، وطاف للصدر في آخر أيام التشريق على الطهارة، فعليه دمان عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهم الله عليه دم واحد. يجب أن يعلم بأن الطواف عندنا صحيح بدون الطهارة، فالطهارة ليست من شرائط الطواف عندنا، بل هي من واجباته، وترك الواجب لا يمنع الاعتداد، أما يوجب النقصان إلا أن في الجنب يجب الإعادة، ما دام بمكة، وفي المحدث صحت الإعادة ولا تجب؛ لأن النقصان المتمكن في الطواف (178ب1) بسبب الجنابة، وصار طواف الجنب كالمعدوم من وجه، ولم...... عن النقصان في الطواف بسبب الحدث، فلم يعتبر طواف بسبب الحدث فلم يعتبر طواف المحدث كالمعدوم من وجه، فاستحب الإعادة في طواف المحدث، ووجبت الإعادة في طواف الجنب، لهذا فإن أعاد طواف الزيارة، إن أعاده في وقته فلا شيء عليه. ووقت طواف الزيارة أيام النحر أوله ما بعد طلوع الفجر من يوم النحر، فإذا أعاده في أيام النحر فلا شيء عليه؛ لأنه أيام النحر أداه في وقته، وكان المعتبر في حق المحدث الطواف الأول، والطواف الثاني جابر له اتفق عليه مشايخنا رحمهم الله. واختلفوا في الجنب إذا أعاد طواف الزيارة أن المعتبر أيهما؟ في الكرخي كان

يقول: المعتبر هو الأول والثاني جابر له، ويستدل بفصل المحدث وبفصل أقرانه لو طاف جنباً لعمرته في رمضان، ثم أعاد طوافه في أشهر الحج، ثم حج من عامه ذلك لا يكون متمتعاً. ولو كان المعتبر هو الطواف الثاني لكان متمتعاً، وكان الفقيه أبو بكر الرازي رحمه الله يقول: المعتبر هو الطواف الثاني، ويستدل بفصل ذكره محمد رحمه الله: أنه لو طاف للزيارة جنباً في أيام النحر، ثم أعاد طوافه بعد أيام التشريق، فعليه دم عند أبي حنيفة رحمه الله لتأخير الطواف عن وقته، ولو كان المعتد به هو الأول، والثاني جابر لما لزمه التأخير؛ لأن الأول موجود في وقته، هذا إذا أعاد طواف الزيارة في أيام النحر، فإن أعادها بعد أيام النحر، فعلى الجنب الدم عند أبي حنيفة؛ لأنه أخر الطواف عن وقته، والتأخير عنده يوجب الدم وكذلك في الابتداء، لتأخير طواف الزيارة عن أيام النحر، فعليه دم عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا دم عليه في هذه الفصول. فتأخير النسك عندهما لا يوجب الدم بحال، وأما المحدث إذا عاد طواف الزيارة بعد أيام النحر فلا ذكر له في «الأصل» ، قال مشايخنا: وينبغي أن يكون بالصدقة كفاية على مدينه. وفي «المنتقى» : الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا طاف طواف الزيارة على غير وضوء، ثم قضاه بعد أيام النحر لم يكن عليه شيء، وروي عنه أن عليه صدقة؛ لأن طواف الزيارة مؤقت بأيام النحر، فقد أخره، وبالقضاء خفت جنايته، أما لم تسقط، فلهذا وجبت الصدقة. فلو أنه لم يعد الطواف حتى رجع إلى أهله، فعليه إن كان جنباً بدنة، وإن كان محدثاً شاة. إذا عرفنا هذه الجملة جئنا إلى مخرج المسألة التي ذكرها في «الجامع الصغير» فنقول: فإذا طاف للصدر في آخر أيام التشريق طاهراً وقع طواف الصدر عن طواف الزيارة، وصار تاركاً طواف الصدر، فيجب عليه الدم لترك طواف الصدر، وهذا بلا خلاف، ويجب عليه دم آخر لتأخير طواف الزيارة عند أبي حنيفة، فإذا طاف للزيارة محدثاً، ثم طاف للصدر في آخر أيام التشريق طاهراً لم يقع طواف الصدر عن طواف الزيارة حتى يصير تاركاً طواف الزيارة، فيلزمه الدم بسبب ترك طواف الصدر إنما أخر طواف الزيارة له لا غير فيكفيه دم واحد، فقد فرق بين المحدث والجنب من حيث إنه أوقع طواف الصدر عن طواف الزيارة في حق الجنب، وما أوقعه عن طواف الزيارة في حق المحدث. والفرق من وجهين: أحدهما: إن إعادة طواف الزيارة في حق المحدث مستحبة وليست بواجبة، وطواف الصدر واجب، ولا يقام الواجب مقام المستحب، أما إعادة طواف الزيارة في حق الجنب واجب، فجاز أن يقام طواف الصدر مقامه؛ ولأن إيقاع طواف الصدر عن طواف الزيارة في حق المحدث غير مفيد؛ لأنه يلزمه الشاة في

الحالين، أما في حق الجنب يعيد؛ لأنه يلزمه الجزور لو لم يقع طواف الصدر عن طواف الزيارة، وإذا وقع يكفيه شاة، فلهذا افترقا. هذا هو الكلام في طواف الزيارة. طواف العمرة جئنا إلى طواف العمرة، فنقول: إذا طاف للعمرة محدثاً أو جنباً، فما دام بمكة يعيد الطواف ركن في العمرة كطواف الزيارة في الحج، فإن رجع إلى أهله ولم يعد، ففي المحدث يلزمه البدنة، وفي الاستحسان يكفيه؛ لأنه لا مدخل للبدنة في العمرة إلا أن المعتمر لو جامع قبل الفراغ من العمرة لا يلزمه بدنه، بخلاف الحاج إذا جامع. طواف الصدر جئنا إلى طواف الصدر، فنقول: إذا طاف للصدر جنباً أو محدثاً، فما دام بمكة يعيده، وإن رجع إلى أهله، فعلى الجنب الشاة، وأما المحدث، فقد ذكر في رواية أبي سليمان أنه يكفيه الصدقة، حتى لا تقع التسوية بين الحدث والجنابة، وذكر في رواية أبي حفص أن عليه الدم؛ لأن الجنابة والحدث مما سوى طواف الزيارة على السواء، ألا ترى أنهما استويا في طواف العمرة؟ فكذا هنا. وفي «المنتقى» : وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لكل شوط طعام مسكين إلا أن يبلغ دماً فينتقص عنه، ولو طاف طواف الزيارة وفي ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم أجزأه ولكن مع الكراهة، ولا يلزمه شيء، ولو طاف منكشف العورة قدر ما لا يجوز معه الصلاة أجزأه، وعليه دم، ذكره القدوري في «شرحه» . وفي «المنتقى» الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: إذا طاف طواف الزيارة في ثوب كله نجس، فهذا وما لو طاف عريان سواء، فيلزمه دم إن لم يعد، وإن كان من الثوب قدر يواريه طاهراً (179أ1) والباقي نجس جاز طوافه، ولا شيء عليه. وليس على المكي، وأهل المواقيت، ومن دونهم طواف الصدر كما هو مشروع لتوديع البيت، فهو مشروع لحكم المناسك، وكذلك ليس على الحائض والنفساء طواف الصدر. ابن سماعة عن محمد رحمه الله في «الرقيات» : إذا طهرت الحائض والنفساء قبل أن تخرج من بيوت مكة، فعليها طواف الصدر، ولو جاوزت البيوت حتى تكون في وضع لو خرج المكي إليه يريد سفراً قصر الصلاة، وطهرت في ذلك الموضع فليس عليها الطواف الصدر. وفي «الجامع الصغير» : طاف لعمرته، وسعى على غير الوضوء له حل بمكة أعاد الطواف ويسعى، وإنما أعاد السعي؛ لأن السعي وإن صح مع الحدث بوصف التمام؛ لأنه لا تعلق له بالبيت، إلا أن السعي تابع للطواف ومرتب عليه، ألا ترى أنه لا يعد قربة بدون الطواف، وقد أمر بإعادة السعي بطريق التبعية؟ وإن رجع إلى أهله، ولم يعد يصير حلالاً وعليه الدم لإدخال النقصان في طواف العمرة، وليس عليه للسعي شيء، وكان ينبغي أن يلزمه دم لأجل السعي كما لو عاد طواف العمرة طاهراً ولم يعد السعي.

الفصل التاسع: في القارن

والجواب: إذا أعاد الطواف ولم يعد السعي إنما يلزمه الدم؛ لأن بالإعادة يرتفع المؤدى، ويصير كأن لم يكن بقي السعي قبل الطواف، فيلزمه الدم لترك السعي، بخلاف ما إذا لم يعد الطواف، ولكن أراق الدم؛ لأن بإراقة الدم لا يرتفع المؤدى، ولا يصير كأن لم يكن؛ لأنه ليس من جنسه بل يرتفع النقصان، فيبقى الطواف في محله والسعي بعده، فلا يلزمه شيء. ومن طاف للصدر، ثم أقام بمكة لشغل، فليس عليه إذا انصرف أن يطوف، وتأويل قوله عليه السلام «من حج هذا البيت فليكن آخر عهده الطواف» فليكن آخر مناسكه الطواف دون مقامه، وعند أبي حنيفة رحمه الله إذا طاف للصدر، ثم أقام إلى العشاء، فأحب إليّ أن يطوف طوافاً آخر ليكون توديع البيت متصلاً بالخروج من غير فصل، وإذا رجع الحاج قبل طواف الصدر، فعليه أن يرجع قبل أن يجاوز الميقات، وإن جاوز الميقات لم يرجع. وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا يجمع بين أسبوعين لا يصلى بينهما، وإن فعل صح ويكره، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يكره إذا انصرف عن وتر القارن. إذا طاف طوافين لعمرته وحجته، وسعى سعيين بعد ذلك لعمرته وحجته جاز، وقد أساء وإنما لزمته الإساءة لترك السنّة المتواترة والترتيب المشروع، فإن الترتيب المشروع في حق القارن أن يقدم أفعال العمرة على أفعال الحج، فيطوف بالبيت سبعة أشواط لعمرته، ويسعى من الصفا والمروة سبع مرات لعمرته، ثم يطوف طواف التحية لحجته وعمرته، فقد ترك الترتيب المشروع، فيلزمه الإساءة لهذا، ولا شيء عليه؛ لأنه ما ترك واجباً، ولا أخر واجباً إنما ترك مجرد الترتيب وإنه سنّة، وترك السنّة يوجب الإساءة، أما لا يوجب الدم ولا الصدقة. الفصل التاسع: في القارن اعلم بأن القران في حق الآفاقي أفضل من التمتع والإفراد، والتمتع في حق الآفاقي أفضل من الإفراد، وهذا هو المذكور في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله، وذكر الحسن في «المجرد» عن أبي حنيفة رحمه الله أن القران أفضل من التمتع، والإفراد أفضل من التمتع، فصار في التمتع روايتان. وفي حق المكي الإفراد أفضل من القران؛ لأنه لا يمكنه إحراز فضل القران لا يترك واجباً وهو الإحرام من الميقات، أما ميقات الحج إن أحرم بها من الحل؛ لأن ميقاته

للحج من دويرة أهله، أو ميقات العمرة إن أحرم بها من فوق مكة؛ لأن ميقاته للعمرة من التنعيم والإحرام من الميقات واجب، وإحراز فضل القران مستحب، ولا شك أن مراعاة الواجب أولى. والقارن هو الجامع بين الحج والعمرة سواء أحرم بهما معاً أو أحرم بالحجة، وأضاف إليها العمرة، أو أحرم بالعمرة، ثم أضاف إليها الحجة إلا أنه إذا أحرم بالحجة وأضاف إليها العمرة، فقد أساء فيما صنع، لأن الله تعالى جعل العمرة بداية، وجعل الحج نهاية، وعليه فمن أضاف العمرة إلى الحج، فقد جعل الحج بداية، وإنه مخالف ما في الكتاب، وعليه أن يقدم أعمال العمرة على أعمال الحج هذا هو دأب القارن، وعليه دم شكراً لما أنعم الله تعالى عليه من التوفيق للجمع بين العبادتين بسفره، ولهذا يحل له التناول ولغيره من الأغنياء؛ لأنه دم شكر، وإن لم يأت بأفعال العمرة حتى وقف بعرفات يصير رافضاً لعمرته؛ لأن بالوقوف تم حجة، فلو لم ترتفض عمرته يصير بانياً أفعال العمرة على أفعال الحج، وإنه غير مشروع، وكذلك لو طاف لعمرته شوطاً أو شوطين أو ثلاثة، ثم وقف بعرفة يصير رافضاً لعمرته؛ لأن المأتي به من أعمال العمرة أقل، فيجعل وجودها كعدمها، وإذا ارتفض عمرته لزمه دم لرفض العمرة، ولكن يسقط عنه دم القران. وأما إذا توجه إلى عرفات، وأخذ في السير قبل أن يأتي بأفعال العمرة، هل يصير رافضاً لعمرته؟ ذكر في «الجامع الصغير» أنه لا يصير رافضاً، وذكر المسألة في «الأصل» في موضعين، وذكر في أحد الموضعين أنه يصير رافضاً لعمرته، وذكر في موضع آخر: القياس على قول أبي حنيفة أن يصير رافضاً، وفي الاستحسان لا يصير رافضاً، وهو لم (179ب1) يذكر القياس، والاستحسان في «الأصل» في أحد الموضعين أن ما ذكر في «الأصل» في الموضع الآخر أنه يصير رافضاً استحساناً. وإنما تظهر فائدته فيما إذا توجه إلى عرفات، ثم بدا له، فرجع عن الطريق قبل الوقوف بعرفة، وطاف لعمرته، وسعى لها، ثم وقف بعرفة، هل يكون قارناً؟ على جواب الاستحسان يكون قارناً، وأراد بما ذكر في «الأصل» في آخر الموضعين من القياس على قول أبي حنيفة رحمه الله القياس على مسألة معروفة في كتاب الصلاة: إن من صلى الظهر في منزله، ثم توجه إلى الجمعة هل ينتقض ظهره بمجرد التوجه؟ ولو أحرم بالعمرة، ثم طاف لحجة، وسعى لحجة يريد به طواف التحية، ولم يطف لعمرته حتى وقف بعرفة هل يصير رافضاً لعمرته؟ ذكر القاضي الإمام علاء الدين رحمه الله في «مختلفاته» أنه لا يصير رافضاً؛ لأن ما أتى به من الطواف وقع لعمرته، وإن نوى به الحجة؛ لأن الطواف الأول في حق القارن مستحق للعمرة، فيقع عن العمرة على ما مر قبل هذا، وإذا وقع عن العمرة تمت عمرته ولا رفض بعد التمام، وإن كان هذا الرجل أحرم بالحج، وطاف للحج طواف التحية، ثم أحرم بالعمرة لزمته، وعليه لجمعه بينهما دم؛ لأن طواف التحية سنّة وليس بركن، فلا يصير به مؤدياً شيئاً من الحج، فصار بمنزلة ما لو أحرم بالعمرة قبل هذا الطواف إلا أن في هذا الفصل يستحب له رفض العمرة،

الفصل العاشر في التمتع

وفيما إذا لم يطف لحجته أصلاً عملان لا يستحب له رفض العمرة. والفرق أن هذا لو مضى على عمرته يصير بانياً عمل العمرة على عمل الحج، ولكن عملاً هو مسنون لا عمل هو ركن، والمشروع ترتيب جميع أفعال الحج على أفعال العمرة، فإذا فات هذا الترتيب في عمل هو مسنون لا في عمل هو ركن يستحب له الرفض من حيث فوات الترتيب في عمل هو مسنون، ولم يؤمر من حيث إنه لم يفت الترتيب في عمل هو ركن، أما إذا لم يطف لحجته أصلاً فإن مضى عليها لا يكون بانياً أعمال العمرة على أعمال الحج أصلاً، وقد ذكر الاستحسان هذا، ولم يذكر ثمة لهذا. في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد رحمه الله: قارن طاف وسعى لعمرته، ثم حلق رأسه فعليه دمان، وهذا لأن العمرة في حق القارن تبع للحج، فما دام إحرامه للحج باقياً لا يتحلل عن إحرام العمرة، وإن أتى بأفعالها، وكان الحلق جناية على إحرامين، وبه فارق المتمتع؛ لأن العمرة في حق المتمتع أصل، فيقع التحلل عنها بإتيان أفعالها، فلا يصير بالحلق جانياً على إحرام العمرة، فلا يلزمه دم العمرة. وفيه أيضاً: رجل جمع بين حجة وعمرة، ثم قدم مكة، وطاف لعمرته في شهر رمضان كان قارناً، ولكن لا هدي عليه؛ لأن الهدي إنما يجب على من طاف للعمرة في أشهر الحج؛ لأن الهدي إنما يجب على القارن شكراً لما أنعم لله عليه من تجوز الجمع بين الحجة الصغرى والكبرى في وقت الحجة الكبرى. وفيه أيضاً: ابن أبان عن محمد رحمه الله: قارن طاف لعمرته، وسعى ينوي أن تكون لحجته كان سعيه عن العمرة؛ لأنه أولهما فصار السعي مستحقاً لها فيقع عنها، وإذا لم يجد القارن الهدي صام ثلاثة أيام، فإن صام ثلاثة أيام، ثم وجد الهدي قبل أن يحلق، فعليه أن يذبح. الفصل العاشر في التمتع قدمت في صدر الكتاب أن المتمتع: هو الذي اعتمر في أشهر الحج، وحج من عامه ذلك في سفر، ولم يُلمّ بأهله فيما بينهما إلماماً صحيحاً، والأصل فيه قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ

إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 196) جعل الحج في حق المتمتع مفصلاً بالعمرة؛ لأنه بدأ بالعمرة إحراماً وسفراً، وقد يوصل بها سفراً لا إحراماً، فالأول: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويأتي بأكبر أفعال العمرة، ثم يحرم بالحج، ويأتي بباقي أفعال العمرة بتمامها، ثم يحرم بالحج في ذلك السفر، فيتحقق الوصل

سفراً إن كان لا يتحقق إحراماً، وإنما يتحقق الوصل سفراً إذا كان السفر واحداً، وإنما يتخذ السفر إذا لم يلم بأهله فيما بينهما إلماماً صحيحاً حتى لا ينتهي حكم السفر الأول، وعن هذا قلنا: إنه لا يمنع لأهل مكة وأهل المواقيت ومن دونها إلى مكة، أما أهل مكة؛ فلأن من شرط المتمتع أن لا يلم بأهله فيما بين عمرته وحجته إلماماً صحيحاً، وذلك لا يتصور في حق أهل مكة؛ لأنه كلما فرغ من العمرة، فقد حصل ملماً بأهله إلماماً صحيحاً، وأما أهل المواقيت ومن دونها إلى مكة؛ فلأنهم ألحقوا بأهل مكة، ولهذا جاز لهم دخول مكة بغير إحرام، فألحقوا بهم في حق هذا الحكم أيضاً. ويفسر الإلمام الصحيح أن يرجع إلى أهله، ولا يكون العود إلى مكة مستحقاً عليه، والعمرة للجمع بين أفعال العمرة وبين إحرام الحج في أشهر الحج لا للجمع بين إحرامين. ثم المتمتع نوعان: متمتع ساق الهدي مع نفسه، ومتمتع لم يسق الهدي مع نفسه. فالذي لم يسق الهدي، أو فرغ من أعمال العمرة يتحلل بالحلق، والذي ساق الهدي مع نفسه لا يتحلل بالحلق، وإن فرغ من أفعال العمرة؛ لأن للسوق أثراً في ابتداء الإحرام، فيكون له أثر في استدامته من الطريق الأولى، وعلى المتمتع دم إذا وجد ذلك، قال الله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 196) سئل رسول الله عليه السلام عن ذلك فقال: «أدناه شاة» . وإنه دم شكر حتى جاز للغني التناول منه، وإن لم يجد (180أ1) فصيام ثلاثة أيام في الحج أي في وقت الحج، حتى لو صام بعدما أحرم بالعمرة في أشهر الحج جاز عندنا خلافاً للشافعي، والأفضل له أن يصوم ما قبل يوم التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة؛ لأن الصوم بدل عن الهدي، وكان الأفضل له أن يؤخر الصوم إلى آخر الوقت الذي يفوته الصوم بمضي ذلك الوقت، وهذه الأيام الصوم، فإن مضت يعني هذه الأيام ولم يصم سقط الصوم، وعاد إلى الهدي عندنا، فإن لم يقدر على الهدي كان عليه دمان دم التمتع ودم التحلل قبل الهدي، وإنما سقط الصوم، وعاد حكم الهدي باعتبار أن كون الصوم بدلاً عن الهدي عرف عن الكتاب، والكتاب وقت كونه بدلاً بهذه الأيام. فإن المراد من قوله: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 196) في وقت الحج، فبعد فوات هذه الأيام يظهر حكم الأصل، وبنحوه ورد الأثر عن عمر وابن عباس.f وأما صوم السبعة، فيجوز إذا فرغ من أفعال الحج وإن لم ينصرف إلى أهله، ولا يجوز قبل أفعال الحج؛ لأن صوم السبعة معلق بالرجوع بقوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 196) إلا أنا أقمنا سبب الرجوع، وهو الفراغ من أعمال الحج مقام الرجوع، فبقي ما وراءه على أصل التعليق. ولو قدر على الهدي في خلال الصوم الثلاث أو بعدها قبل يوم النحر لزمه الهدي، وسقط حكمه؛ لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل؛ لأن المقصود هو التحلل، ولم يحصل فسقط حكم البدل، كالمقيم إذا وجد الماء قبل الفراغ من الصلاة، ولو وجد الهدي بعدما حلق قبل أن يصوم السبعة، فلا هدي عليه؛ لأن المقصود قد حصل بالحلق، وهو التحلل فيسقط حكم البدل. وفي «المنتقى» : رواية البشر عن أبي يوسف: إذا صام المتمتع ثلاثة أيام، ثم وجد هدياً قبل أن يحل انتقض صومه، وإن وجد الهدي بعدما حل جاز صومه، ولا هدي عليه. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : كوفي قدم بعمرة في أشهر الحج، ففرغ منها، وحلق أو قصر، ثم أخذ مكة والبصرة داراً، ثم حج من عامه، فهو متمتع. اعلم أن هذه المسألة على أربعة أوجه: الأول: إذا أقام بمكة بعدما فرغ من العمرة وحلق، ثم حج من عامه ذلك، وفي هذا الوجه متمتع لما ذكرنا من صورة المتمتع. الوجه الثاني: إذا خرج من مكة، ولكن لم يجاوز الميقات حتى حج من عامه ذلك، وفي هذا الوجه هو متمتع أيضاً؛ لأن لداخل الميقات حكمه جوف مكة، فكأنه لم يخرج من مكة. الوجه الثالث: إذا خرج من المواقيت وعاد إلى أهله، ثم حج من عامه ذلك، وفي هذا الوجه ليس بمتمتع؛ لأنه ألم بأهله بين العمرة وبين الحج إلماماً صحيحاً؛ لأن العود إلى مكة غير مستحق عليه، فإن رجع إلى أهله بعدما حصل له التحلل بالحلق، حتى إن هذا الكوفي لو ساق مع نفسه هدياً، والباقي بحاله كان متمتعاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأن الإلمام بأهله غير صحيح؛ لأن سوق الهدي يديم الإحرام، ولا يقع التحلل بالحلق، ولو أدام الإحرام كان العود مستحقاً لأجل الإحرام، فلا يصح الإلمام.

الوجه الرابع: إذا خرج من الميقات، فأتى البصرة واتخذها داراً، ثم حج من عامه ذلك؛ قال في «الكتاب» : هو متمتع، ولم يذكر فيه خلافاً، وروى الحاكم الشهيد عن أبي عصمة سعد بن معاذ أن ما ذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قولهما لا يكون متمتعاً، وهكذا ذكر الطحاوي في «كتابه» ، وذكر الجصاص أنه لا يكون متمتعاً على قول الكل. وجه أن لا يصير متمتعاً: أنه لما اتخذ البصرة داراً، فقد انتهى السفر الأول نهايته، واتخاذ السفر شرط التمتع. وجه أن يصير متمتعاً: أن شبهة السفر الأول قائمة؛ لأنه حاصل في سفر واحد حقيقة؛ لأنه لم يعد إلى وطنه الذي أنشأ السفر منه، ودم المتمتع نسك، فيجب احتياطاً إلحاقاً للشبهة بالحقيقة. قال القدوري: لو أحرم بعمرة وفرغ منها وتحلل، وأقام بمكة حتى دخل عليه أشهر الحج، فأحرم بعمرة أخرى لم يكن متمتعاً؛ لأنه بمنزله، ولا تمتع في حق أهل مكة، فإن خرج من مكة، ثم عاد محرماً بالعمرة لم يكن متمتعاً إلا إذا رجع إلى أهله في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا خرج إلى موضع لأهله التمتع والقران، وهو ما وراء الميقات فهو متمتع، وإذا خرج قبل دخول أشهر الحج إلى موضع لأهله التمتع والقران، فأحرم بالعمرة كان متمتعاً في قولهم. إذا خرج المكي إلى الكوفة وقرن صح قرانه، ولو خرج بالكوفة وأهلّ بالعمرة واعتمر، ثم حج لم يكن متمتعاً؛ لأنه صار ملماً بأهله بين الحج والعمرة، ولو أن المكي خرج إلى الكوفة، وأحرم بعمرة، وساق الهدي لم يكن متمتعاً، وصح إلمامه مع سوق الهدي، بخلاف الكوفي؛ لأن العود مستحق على المكي، فلا يمنع صحة الإلمام. مكي وكوفي مجاور بمكة أحرم بعمرة وطاف لها شوطاً، ثم أحرم بحجة، قال: يرفض الحجة، وعليه لرفضها دم، وإن مضى عليهما أجزأه، وكان عليه لجمعه بينهما دم، وهذا قول أبي حنيفة، وهذا بناءً على ما قلنا: إنه لا يمنع في حق أهل مكة، فلأنه من رفض أحدهما، فإذا لم يطف بعمرته رفض العمرة؛ لأنه لم يتصل الأداء بالعمرة، كما لم يتصل بالحجة، والعمرة أخف النسكين، فكان رفضها أولى، وإن طاف لعمرته رفض الحجة بلا خلاف، وكذلك إذا أتى بأكثر طواف العمرة رفض العمرة بلا خلاف، وإن طاف أقلها بأن طاف لها شوطاً أو شوطين أو ثلاثاً، قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إنه يرفض العمرة، وقال أبو حنيفة: يرفض الحجة، ثم إذا رفض الحجة قال: عليه دم لرفضها، وعليه حجة وعمرة، الحجة بالدخول، والعمرة؛ لأنه لم يأت بأفعال الحج في السنة التي أحرم فيها، فصار كفائت الحج، فإن حج من عامه ذلك، فلا عمرة عليه، وإن لم يرفض (180ب1) ذلك، ومضى منها خرج عن العهد وعليه دم؛ لأجل الجمع، ولكن هذا دم جبر لارتكاب المنهي حتى لا بد له من تناول المعنى.

الفصل الحادي عشر: في الإحصار

الفصل الحادي عشر: في الإحصار المحصر لغة: هو الممنوع عن الوصول إلى بيت الله تعالى بعد الإهلال بحجة أو عمرة، وحكمه في الشرع: أن يتحلل بشاة يبعث بها إلى الحرم، فتذبح هناك. قال أهل التفسير: معنى قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (البقرة: 196) فإن أحصرتم فلكم التحلل بالهدي، ولا خلاف لأحد أن المحصر بالعدو يتحلل بالهدي. وأما المحصر بالمرض هل يتحلل بالهدي؟ عندنا يتحلل، وعند الشافعي لا يتحلل، والمرض الذي يثبت الإحصار عندنا أن يقعده عن الركوب إلا بزيادة مرض، وهذا لأن التحلل للحصر بالعدو إنما يثبت كيلا يلزمه الزيادة على موجب إحرامه؛ لأنه إن اختار المضي خاف على نفسه وماله، وإن اختار الترك يبقى في الإحرام زماناً مديداً، وهو بالإحرام التزم الكف إلى وقت معلوم، فإذا اختار الترك يزداد الكف على ذلك الوقت، فيشرع له التحلل، لتبقى لك الزيادة هذا المعنى موجود في المريض؛ لأنه متى لم يمض يزداد الكف عن المحظورات، ولو أمضى تلحقه زيادة مرض، فشرع له التحلل لتبقى الزيادة. ولا يلزم الذي ضل الطريق؛ لأن التحلل في حق المحصر بالهدي ينحر عنه في الحرم، وهو لا يجد من يبعث بالهدي إلى الحرم، ولو وجد لا يبقى محصراً؛ لأنه وجد الطريق، حتى قال مشايخنا رحمهم الله: لو كان الذي وجده فارساً، وهو لا يقدر على الذهاب معه جاز له أن يبعث بالهدي على يديه ليتحلل، ولا يلزم المحبوس بالدين؛ لأن المديون إنما يحبس إذا كان مليئاً مماطلاً وإذا كان مليئاً مماطلاً، (وإذا كان بهذه الصفة) ، فهو غير ممنوع؛ لأنه قادر على أن يقضي الدين ويخرج، حتى لو حبس ظلماً كان له أن يتحلل بالهدي كالممنوع بالعدو والمرض. والمهِلَّة بالحج والعمرة إذا فقدت المحرم، وبينها وبين مكة مسيرة سفر تصير محصرة عندنا؛ لأنها صارت ممنوعة عن الذهاب شرعاً، وكذلك إذا أحرمت بحجة التطوع، ومنعها زوجها فهي محصرة؛ لأن حق المنع ثابت للزوج شرعاً وكان أولى بالاعتبار من المنع الباطل، وهو المنع من العدو، وله أن يحللها بما هو من محظورات الإحرام، وإذا حلله فعليها هدي وحجة وعمرة. فرق بين حجة التطوع، وبين حجة الإسلام إذا صارت محصرة لانعدام زوجها معها لا يتحلل إلا بالهدي؛ لأن هناك المنع لحق الزوج، بل شرعا لعقد المحرم، فصار نظير

المنع بسبب المرض، حتى لو كان لها زوج يحلها زوجها عن حجة الإسلام، وعليها دم. وفسر القدوري في «كتابه» فقال: شاة أو بقرة أو بدنة أو شرك بقرة أو بدنة والبُدْن أفضل، ثم هذا الدم وجميع ما يجب من الدماء يختص جوار الهدي بها بالحرم باتفاق بين العلماء، وهل يختص جوازها بيوم النحر؟ ففي دم الإحصار اختلاف قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يختص، وقالا: يختص. ودم المتعة والقران يختص جوازها بيوم النحر بلا خلاف، وما سواهما من الدماء لا يختص جوازه بيوم النحر بلا خلاف، ثم المحصر بالحج إذا بعث بالهدي يواعد صاحبه أن ينحر عنه في يوم كذا عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الإحصار عنده غير مؤقت بوقت، فاحتيج إلى المواعدة ليصير وقت الإحلال معلوماً له، فأما عندهما دم الإحصار في الحج مؤقت بيوم النحر، ولا حاجة إلى المواعدة عندهما في المحصر بالعمرة؛ لأن دم الإحصار فيها غير مؤقت بيوم النحر عندهما كدم الإحصار في الحج عند أبي حنيفة، فإذا بعث المحصر بالهدي وذبح عنه لا حلق عليه عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الحلق شرع للتحلل، وفي حق المحصر التحلل بذبح الهدي، فسقط الحلق عنه. في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد: في المحرم يسرق بعضه أنه ليس بمحصر إذا كان يقدر على المشي يلبي ويسأل الناس، وإن كان لا يقدر على المشي فهو محصر، وكذلك إذا كان يومه ذلك يقدر، ولكنه يخاف أن يعجز في نصف الطريق أو بعضه عن ذلك، ولا يقدر على المضي ولا على الرجوع، ولا يبق على نفسه بقوة على ذلك فهو محصر، ثم إذا تحلل المحصر بالهدي، وكان مفرداً بالحج، فعليه حجة وعمرة من القابل. أما الحجة فظاهرة، وأما العمرة؛ فلأنه في معنى فائت الحج؛ لأنه كان خروجه عنها بعد صحة الشروع قبل أداء الأعمال، وعلى فائت الحج أعمال العمرة، ولم يأت بها، وإن مفرداً بالعمرة، فعليه عمرة مكانها، وإن كان قارناً، فإنما يتحلل بذبح هديين، وعليه عمرتان وحجة، حجة وعمرة أخرى بسبب فوات الحج، وإن كان المحصر معسراً لا يجد الهدي أقام حراماً حتى يطوف ويسعى، كما يفعله فائت الحج. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في محرم بالحج يقف بعرفة، ثم يخرج إلى الحل لحاجة له فيحصر، لا يكون محصراً حتى لا يتحلل بالهدي، وهو محرم عن النساء حتى يطوف طواف الزيارة، وإنما ليكون محصراً على التفسير الذي قلنا: لأن معظم أركان الحج الوقوف بعرفة. ألا ترى أن الوقوف يؤتى به حال قيام الإحرام من كل وجه وطواف الزيارة يؤتى به في حال قيام الإحرام من وجه؟ إلا أنا لو شرعنا الهدي لإحلال لا يبقى الطواف معتبراً، وكان ذلك سعياً لإبطال (181أ1) ما هو الأصل لا من دونه، وإنه لا يجوز، ثم قال: وهو محرم في حق النساء (حتى النساء) حتى يطوف طواف الزيارة؛ لأنه في الحج بعد؛ لأن طواف الزيارة باقٍ عليه، وإنه ركن، وإن لم يكن أصلياً، فإذا ذهب أيام التشريق، ووجد سبيلاً إلى البدن بعد ذلك يطوف طواف الزيارة، ويطوف طواف الصدر؛ لأن هذا الإحصار لما

الفصل الثاني عشر: في معرفة فائت الحج وبيان أحكامه

لم يعتبر شرعاً صار وجوده وعدمه بمنزلة، ولو عدم الإحصار حتى ذهب أيام التشريق كان عليه أن يطوف طواف الزيارة وطواف الصدر كذا هنا، ثم هل يحلق يوم النحر حيث أحصر أو يؤخر الحلق إلى أن يجد سبيلاً إلى البيت فيحلق في الحرم؟ أشار في «الجامع الصغير» إلى أنه يحلق يوم النحر حيث أحصر، وذكر في «الأصل» أنه يؤخر الحلق. ولو أحرم بالحج، وأتى مكة قبل الوقوف بعرفة، فأحصر بها لا يكون محصراً بالإحصار بمكة، وفي الحرم ليس بإحصار عندنا، واختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: إنما لا يكون إحصاراً إذا منع من الوقوف بعرفة دون البيت، أو منع عن البيت دون الوقوف بعرفة؛ لأنه إذا منع عن أحدهما لا يزداد عليه موجب إحرامه، أو لم يتحلل بالهدي؛ لأنه لو منع عن البيت يقف بعرفة، ثم يحلق ويتحلل، وإن منع عن الوقوف يطوف بالبيت، ثم يحلق ويتحلل، فإن فائت الحج يتحلل بالطواف. وإلى هذا أشار القدوري في «كتابه» حيث قال: ولا يكون محصراً في الحرم إذا أمكنه الطواف، فأما إذا منع عنها كان محصراً يتحلل بالهدي؛ لأنه لو لم يتحلل يزداد عليه موجب إحرامه. وبعضهم قالوا: لا يعتبر محصراً بأن منع عنها؛ لأن الإحصار بمكة عنها بعدما صارت مكة دار السلام نادر، والنادر لا عبرة له، فصار وجوده والعدم بمنزلة، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: سألت أبا حنيفة هل على أهل مكة إحصار؟ قال: لا، قلت: فإن رسول الله أحصر بالحديبية، قال: كانت مكة يومئذٍ في حكم أهل الحرب، واليوم هو في حكم أهل الإسلام؛ أشار إلى ما قلنا. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: إذا كان بمكة حائل بينه وبين الدخول، كما حال المذكور بين رسول الله وبين دخول مكة يكون محصراً، والله أعلم بالصواب. الفصل الثاني عشر: في معرفة فائت الحج وبيان أحكامه الفائت الحج من فاته الوقوف بعرفة، ووقت الوقوف بعرفة من حين تزول الشمس من يوم عرفة إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر على ما مرَّ، إذا لم يقف في شيء من هذا الوقت، فقد فاته الحج، وعليه أن يتحلل بأفعال العمرة عندنا، يطوف ويسعى ويحلق، قال عليه السلام: «فائت الحج يحل بالعمرة» ، ولا دم عليه عندنا، بخلاف المحصر؛ لأن الدم في حق المحصر إنما يجب للتحلل، وفائت الحج يتحلل بأفعال العمرة، فلا حاجة له إلى الدم، هذا إذا كان فائت الحج مفرداً بالحج. وإن كان قارناً طاف للعمرة وسعى لها أولاً؛ لأن العمرة لا تفوت، ثم يطوف طوافاً آخر، ويسعى لفوات الحج ويحلق، وإن كان فائت الحج متمتعاً قد ساق الهدي بطل

الفصل الثالث عشر: في الجمع بين الإحرامين

تمتعه لما ذكرنا من صورة المتمتع قبل هذا، ويصنع بهديه ما شاء؛ لأن الدم في حق المتمتع للجمع، وقد انعدم الجمع. فائت الحج إذا تحلل بأفعال العمرة هل ينقلب إحرامه إحرام عمرة؟ ذكر في غير رواية «الأصول» أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا ينقلب بل يبقى إحرام، وعند أبي يوسف رحمه الله لا يرفضها بل يمضي فيها؛ لأنه محرم بعمرة أضاف إلى إحرامه حجة، وعند محمد رحمه الله لا يصح الثاني كما لو أحرم قبل الفوات. وفي «نوادر» : بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله أنه يرفضها كما هو قول أبي حنيفة، وفي بعض المواضع في كتاب «المنتقى» يشير إلى أنه ينقلب إحرامه إحرام عمرة من غير ذكر خلاف، وثمرته تظهر فيما إذا أهلّ بعد فوت الحج بحجة أو عمرة رفضها، حتى لا يصير محرماً بعمرتين، وفي بعض المواضع يشير إلى أن إحرام الحج يبقى من وجه دون وجه من غير ذكر خلاف، وثمرته تظهر فيما إذا أهل بعد فوت الحج بحجة أو عمرة رفضها أياً ما كان، والصحيح قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الحاجة إلى الخروج عن إحرام الحج بأفعال العمرة، ولو صار إحرامه إحرام عمرة لم يكن التحلل واقعاً عن إحرم الحج. الفصل الثالث عشر: في الجمع بين الإحرامين يجب أن يعلم بأن الجمع بين إحرامي الحج أو إحرامي العمرة بدعة، ولكن إذا جمع بينهما لزمتاه عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد يلزمه أحدهما؛ لأن الإحرام ما شرع إلا للأداء فلا يتصور إلا وجه يتصور الأداء، وأداء حجتين أو عمرتين معاً لا يتصور، فلا يتصور الإحرام لها أيضاً كالتحريمة في باب الصلاة لما شرعت للأداء، لا تتصور التحريمة للصلاتين كما لا يتصور أداء الصلاتين معاً، وهما قالا: الإحرام بالحج التزام محض في الذمة بدلالة أنه يصح منفصلاً عن الأداء، والذمة متسع لحجج كثيرة، فصارت في هذا الوجه نظير النذر بخلاف التحريمة للصلاة؛ لأنها لا تصح إلا على وجه يتصل بهما الأداء، والأداء لا يتصور، فانعدم الإحرام لانعدام الاتصال، إلا أنه لا بد من رفض أحدهما تورعاً عن المنهي. بعد هذا (181ب1) قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا توجه إلى أحدهما يصير رافضاً الأخرى، وقال أبو يوسف رحمه الله: كما فرغ عن الإحرامين يصير رافضاً لأحديهما. وفائدة الاختلاف: تظهر فيما إذا قتل صيداً قبل أن يتوجه إلى أحدهما، قال أبو حنيفة رحمه الله: عليه قيمتان، وقال أبو يوسف: قيمة واحدة، وكذلك إذا حصر في هذه الحالة، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يحتاج إلى هديين للتحلل، وعلى قول أبي يوسف يكفيه هدي واحد، والصحيح ما قاله أبو حنيفة رحمه الله؛ لأن الالتقاء لا يحتاج فيه إلى

الفصل الرابع عشر: في الحلق والتقصير

الدليل، وإنما هو لعدم الرفع، والرافع بعذر الجمع أداء، وذلك لا يكون قبل الأداء ما لم يأخذ في الأداء للرفض أحدهما، ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله في رواية: لا يصير رافضاً حتى يبتدىء الطواف؛ لأن الأداء عنده يتحقق، إلا أن في ظاهر الرواية جعل السير إلى أحدهما قائماً مقام الأداء، كما في مصلي الظهر إذا توجه إلى الجمعة، وكما أن الجمع بين إحرامي الحج، أو بين إحرامي العمرة بدعة، فكذلك بناء أعمال العمرة على أعمال الحج على إحرام العمرة، فليس ببدعة حتى إن من أحرم بحجة، وطاف لها شوطاً، ثم أهل بعمرة رفض العمرة؛ لأنه إذا طاف للحجة، فقد أتى بفعل من أفعال الحج، فلو مضى في العمرة يصير بانياً العمرة على الحج وإنه غير مشروع. ولو أحرم بحجة، ثم أحرم بعمرة قبل أن يطوف لحجته شوطاً، فإنه لا يرفض العمرة؛ لأنه لم يأت بفعل من أفعال الحج؛ لأن الإحرم ليس من أفعال الحج، ولا يصير بانياً العمرة على الحج بل بنى إحرام العمرة على إحرام الحج، وإنه غير منهي عنه. في «المنتقى» عن محمد: أحرم بشيء لا ينوي به حجاً ولا عمرة، أحرم بحجة، فالأول عمرة إن شاء وإن أبى، وإن أحرم بعمرة، فالأول حجة إن شاء وإن أبى، وإن كان الإحرام الثاني لا يريد به شيئاً أيضاً، فهو قارن، وإن كان الذي أحرم بها أولاً عمرة، فهذا حج. ولو أحرم بشيئين، وأراد أن يكون مخيراً فيها إن شاء حجتين، وإن شاء عمرة وحجة قال: هذا عمرة وحجة إن شاء وإن أبى، وهذا على الصحة لا يكون على غير ذلك، وإن أحرم لا ينوي حجاً ولا عمرة، ثم أحرم بعد ذلك بإحرام آخر لا ينوي حجة لا عمرة، فهذا كلّه حجة وعمرة. ولو أحرم بإحرامين لا نية له فيهما، ثم أحرم بإحرامين لا نية له فيهما، قال محمد رحمه الله: الأوّلان حجة وعمرة والآخران باطل، والله أعلم. الفصل الرابع عشر: في الحلق والتقصير الحلق والتقصير مشروعان في حق الرجل للتحلل عن الإحرام، والحلق أفضل من التقصير. وأما المرأة فلا حلق عليها؛ لأن الحلق في حقها نوع مثلة، ولكنها تقصر، تأخذ شيئاً من أطراف الشعر مقدار أنملة هكذا قال ابن عمر، والأفضل أن تقصر من كل شعر مقدار أنملة؛ لأن التقصير في حقها قائم مقام الحلق في حق الرجل، والأفضل في حق الرجل حلق جميع الرأس، وكذا الأفضل في حقها الأخذ من كل شعر. وإن قصرت بعض رأسها وتركت البعض أجزأها إذا كان ما قصرت مقدار ربع الرأس فصاعداً، وإن كان أقل من ذلك لا يجزأها اعتباراً للتقصير في حقها بالحلق في حق الرجل. وإذا جاء وقت الحلق، ولم يكن على رأسه شعر بأن كان حلق قبل ذلك، أو بسبب

الفصل الخامس عشر: في الرجل يحج عن آخر

آخر، ذكر في «الأصل» أنه يجري الموس على رأسه؛ لأنه لو كان على رأسه شعر كان المأخوذ عليه إجراء الموس، وإزالة الشعر فما عجز عنه سقط وما لم يعجز عنه يلزمه، ثم اختلف المشايخ أن إجراء الموس مستحب أو واجب، والأصح أنه واجب لما ذكرنا، والحلق في حق الحاج يتوقت بالمكان، وهو الحرم، وبالزمان وهو يوم النحر عند أبي حنيفة رحمه الله، حتى لو أخرّه عن يوم النحر، أو عن الحرم يلزمه الدم، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا يتوقت بالزمان، ولا بالمكان حتى لا يلزمه الدم أخرّه عن المكان أو عن الزمان، وعلى قول محمد رحمه الله يتوقت بالزمان حتى يلزمه الدم بالتأخير عن الزمن. وفي حق المعتمر لا يختص بالمكان ولا بالزمان بلا خلاف. وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد رحمه الله: حاج أو معتمر برأسه قروح لا يستطيع معها إمرار الموس على رأسه، ولا يصل إلى تقصير شعره، وهذا مما يطمع في برئه قريباً أو مما لا يدري هل يبرأ أو لا يبرأ؟ قال: إذا لم يبق إلا الحلق، ولم يقدر عليه ولا أن يمر الموس على رأسه، فقد حل في العمرة والحج، بمنزلة ما لو حلق رأسه، فإن أخرّ الإحلال حتى يمر الموس على رأسه قبل مضي أيام النحر، فقد أحسن، وإن لم يؤخر فلا شيء عليه. هذا إذا عجز عن الحلق بقروح في رأسه، وإن عجز عن ذلك؛ لأنه لم يجد الموس، أو لم يجد من يحلقه، فهذا ليس بعذر، ولا يجوز له إلا الحلق أو التقصير، والله أعلم. الفصل الخامس عشر: في الرجل يحج عن آخر اختلفت عبارة المشايخ في المأمور بالحج عن الغير إذا حج، فعبارة الشيخ الإمام الزاهد شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده أن على قول أصحابنا رحمهم الله أصل الحج يقع عن المأمور، وللآخر ثواب النفقة إلا أن أصل الحج يقع عن الآمر، وهذا لأن أصل الحج لو وقع عن الآمر إنما يقع إذا صار المأمور نائباً عن الآمر في أصل الحج عبادة بدنية، والنيابة لا تجزىء في العبادات البدنية، والدليل عليه أنه يشترط أهلية المأمور، وهذا يدلّك أن الفعل ما وقع عن الآمر، ولكن (182أ1) للآمر ثواب النفقة، وصار إنفاق المأمور كإنفاق الآمر بنفسه، فأمكن القول به؛ لأن النيابة تجري في الإنفاق، ولكن يسقط أصل الحج عن الآمر؛ لأن الإنفاق أقيم مقام الأفعال في حق سقوط الأفعال حالة العجز عن الفعل، كما أقيم الفداء مقام الصوم في حق الشيخ الفاني في حق سقوط الصوم. وعبارة الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: «أن أصل الحج يقع عن الآمر، وبنحوه ورد الأثر، فإن النبي عليه السلام قال للخثعمية «حجي عن أبيك» وأنه

يدل على أن أصل الحج يقع عن المحجوج عنه، والدليل عليه أنه لا يسقط حجة الإسلام عن المأمور ولو وقع أصل الحج عن المأمور يسقط عنه حجة الإسلام، والدليل عليه أن المأمور، يحتاج إلى إسناد الإحرام إلى الآمر، والإحرام عقد على الأداء، فهذا يدلك أن الحج يقع عن المحجوج عنه بذلك الإحرام هذا هو في حجة الفرض» ا. هـ. جئنا إلى حجة التطوع، فنقول: من أمر غيره بحجة التطوع جاز، ويصير للآمر ثواب النفقة في طريق الحج من حيث أنه سبب إلى الحج بالإنفاق، أو يصير المأمور جاعلاً ثواب فعله للآمر، وهذا جائز عند أهل السنّة، ومن الناس من ينكر جعل الثواب لغيره عملاً بظاهر قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَنِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) وأهل السنّة يحتجون بما روي أن النبي عليه السلام «ضحى بكبشين أملحين أحدهما: عن نفسه، والأخرى عن أمته» ولا حجة له في الآية؛ لأن العامل لما جعل سعيه لغيره صار ذلك الغير. الجواب الذي ذكرنا في حجة التطوع صحيح على عبارة جميع المشايخ، أما على عبارة شيخ الإسلام رحمه الله فظاهر، وأما على عبارة شمس الأئمة؛ فلأن وقوع أصل الحج عن الآمر عرف بحديث الخثعمية، وحديث الخثعمية ورد في الفرض لا في النفل، ثم إنما تسقط حجة الفرض عن الإنسان بإحجاج غيره إذا كان الحج وقت الأداء عاجزاً عن الأداء بنفسه، ودام عجزه إلى أن مات، أما لو زال عجزه بعد ذلك، فلا يسقط عنه حجة الفرض؛ لأن الأصل في هذا الباب حديث الخثعمية، وإنه ورد في حق الشيخ الفاني، فيبقى غيره على أصل القياس، والقياس يأبى ذلك. بيان هذا فيما ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : رجل أحج رجلاً وهو مريض، فلم يزل مرضه حتى مات، فهو جائز عن حجة الإسلام، وإن صح لا يجزئه عن حجة الإسلام. وروى المعلى عن أبي يوسف أنه إن برأ من مرضه قبل فراغ المأمور عن الحج، فعليه الإعادة، وإن برأ بعد ما فرغ المأمور عن الحج فلا إعادة، وجعل هذا نظير المكفر بالصوم إذ قدر على التحرير، ونظير المصلي بالتيمم إذا قدر على الماء. وإن أحج رجلاً، وهو صحيح أجزأه عن التطوع؛ لأن فرض الحج يتأدى بالإحجاج حالة العذر، وكل عبادة جاز أداء فرضها بجهة حالة العذر جاز أداء نفلها بتلك الجهة في غير حالة العذر كالصلاة قاعداً وراكباً. وكل من كان عاجزاً لا يرجى زواله ظاهراً وغالباً يجب عليه أن يحج رجلاً إذا قدر عليه. ومن كان عاجزاً عجزاً يرجى زواله كالمرض والحبس لا يجب عليه ذلك؛ لأن العبرة للغالب والظاهر في حق الأحكام، فإذا كان عجزاً لا يرجى زواله غالباً وظاهراً الحق الإحجاج، وإذا كان عجز يرجى زواله غالباً وظاهراً الحق بالصحة في حق عدم وجوب الإحجاج عملاً بالغالب، والظاهر في الفصلين جميعاً، ومن كان عاجزاً، وأحج رجلاً إن كان عاجزاً لا يرجى زواله ظاهراً أو غالباً كان حكمة موقوفاً، فإن استمر به

العجز إلى وقت الموت حكم بوقوعه موقع المرض. والأفضل للإنسان إذا أراد أن يحج رجلاً عن نفسه أن يحج رجلاً قد حج عن نفسه؛ لأنه أهدى إلى إقامة الأعمال؛ ولأنه أبعد عن الخلاف، فإن الذي لم يحج عن حجة الإسلام عن نفسه لم تجز حجته عن غيره عند بعض الناس، ومع هذا لو أحج رجلاً لم يحج عن نفسه حجة الإسلام يجوز عندنا، وسقط الحج عن الآمر؛ لأن النبي عليه السلام حين أمر الخثعمية، قال الحج عن أبيها لم يستفسر أنها هل حجت عن نفسها أم لا؟ وإذا أمر غيره بالإفراد بحجة أو عمرة فقرن، فهو مخالف ضامن في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يجزىء عن الآمر استحساناً. وهذا الخلاف فيما إذا قرن عن الآمر ما لو نوى بأحدهما عن شخص آخر وعن نفسه، فهو مخالف ضامن بلا خلاف. لهما: لأنه أتى بالمأمور به وزيادة ... ، لأبي حنيفة رحمه الله أنه أمره بقطع جميع المسافة، وهو قطع بعض المسافة للعمرة، فيصير مخالفاً. ولو أمره بالحج فاعتمر، ثم حج من مكة، فهو مخالف في قولهم؛ لأنه أمره بأن يؤدي بالسفر الحجة، وقد أدى الحجة من غير سفر. ولو أمره بالعمرة فاعتمر أولاً، ثم حج عن نفسه لم يكن مخالفاً، وإن كان حج أولاً، ثم اعتمر فهو مخالف، ولو أمره بالحج مطلقاً فحج المأمور ماشياً فهو مخالف؛ لأن مطلق الأمر بالحج فيما بين العباد ينصرف إلى فرض الله تعالى على عباده، وذلك الحج راكباً، ولو حج على حمار كره له ذلك، والجمل أفضل؛ لأن النفقة في ركوب الجمل أكثر. ولو أقام بمكة بعد أداء الحج إن كانت إقامة معتادة، فالنفقة في مال الآمر، وإن كانت غير معتادة، فالنفقة في مال المأمور، والمعتبر في زماننا أن يقيم إلى وقت خروح الناس إذ لا يمكنه أن يستقيم في الخروج. ولو عزم أن يقيم بمكة زيادة على القدر المعتاد، ثم عزم على الخروج عادت نفقته في مال الآمر، إلا أن يكون قد اتخذ مكة داراً، فلا تعود النفقة بعد ذلك؛ لأن ذلك السفر قد انقطع باتخاذ مكة داراً، فلا يعود حكمه بعد ذلك. وكذلك إذا اتخذ موضعاً آخر وطناً له، ثم بدا له الانصراف لم يكن له أن ينفق من مال الآمر. ابن سماعة عن محمد رحمه الله: المأمور بالحج إذا حج عن الآمر، ثم أحرم بعمرة ينفق من مال نفسه ما دام معتمراً؛ لأنه في العمرة عامل لنفسه، فإذا انصرف أنفق من مال الآمر؛ لأنه مأمور بالانصراف، ولو عجل المأمور الإحرام، فوصل مكة محرماً في شهر رمضان أو بعده، فإنه محرم ينفق من مال نفسه إلى عيد الأضحى أو قبله بيوم أو يومين على اختلاف ما يدخل الناس مكة، وإن أحصر المأمور بالحج، فالهدي على الآمر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعند أبي يوسف على المأمور.

واعلم بأن الدماء ثلاثة: دم قربة، وهو دم الإحصار، وإنه على الخلاف، ودم نسك وهو دم المتعة والقران، وإنه على المأمور، ودم جبر وهو ما يجب بالجناية على الإحرام بارتكاب محظور (182ب1) من قتل صيد أو قَلْم أظافر، أو ما أشبه ذلك، أو يجب بنقصان تمكن في مناسك الحج بأن طاف بالبيت منكوساً أو محدثاً أو جنباً، وإنه على المأمور بلا خلاف. وإذا أمر رجلان أن يحج عن كل واحد منهما حجة، فأهل بحجة فهي عن الحاج النفقة وإن كان أنفق من مالهما، وإنما كان الحج عن الحاج، ويضمن الحاج؛ لأن كل واحد منهما أمره أن يخلص له الحجة والسفرة من غير إشراك، فإذا أحرم عنهما صار مخالفاً، فيقع فعله عنه، وأما ضمان النفقة؛ لأنه صرف مالهما إلى حج نفسه، وهما لم يأمراه بذلك، فإن عين بعد ذلك عن أحدهما لا يصح التعيين. فرق بين هذا وبينما إذا أهل بحجة عن أبويه، فإنه يجوز أن يجعله عن أحدهما، هذا إذا أحرم عنهما، فإن أحرم عن أحد منهما فإن مضى ذلك صار مخالفاً، وإن عين لأحدهما قبل المضي أي قبل الطواف وقبل الوقوف صح التعيين استحساناً، وقول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ... ؛ لأن الإحرام عندنا ليس من الأركان مقصوداً، بل شرع وسيلة إلى أداء الأفعال، ولهذا صح تقديمه على وقت الأداء، وهو أشهر الحج، فكان بمنزلة الشرط، فإنما يشترط منه ما يقع التمكن به من الأداء، والمبهم الذي يحتمل التعيين يصلح للأداء بواسطة التعيين، فالنفي به شرطاً بخلاف ما إذا اشتغل بالأفعال؛ لأن الفعل مقصود، والفعل لا يصح مع الجهالة، وليس أحدهما لأن يقع الفعل عنه بأولى من الآخر، فتعين إحرامه عن نفسه، فلا يمكنه أن يجعله بعد ذلك لغيره. ومما يتصل بهذا الفصل ما ذكر في «الجامع الصغير» : رجل توجه يريد حجة الإسلام، فأغمي (عليه) فأهل عنه أصحابه أجزأه، ويصير المغمى عليه محرماً حتى لو وقفوا به وطافوا به جاز، وسقط عنه حجة الإسلام، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجزئه، واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة، قال بعضهم: لا خلاف بين أصحابنا أن الإحرام يتأدى بالنائب، حتى أن من أمر أهل رفقته أن يحرموا عنه متى عجز عن الإحرام بنفسه، فأغمي عليه، وأحرم عنه واحد من أهل رفقته يجوز، ويصير المغمى عليه محرماً، وإنما وقع الخلاف في هذه المسألة لاختلافهم في أنه هل وجدت الإنابة من المغمى عليه في الإحرام عنه؟ فهما تمسكا بالحقيقة والصريح، وقالا: لم توجد الإنابة من حيث الحقيقة والصريح، وأبو حنيفة رحمه الله يتمسك بالدلالة، وقال الناس فيما بينهم: إنما يقصدون عقد الرفقة للإستعانة بعضهم ببعض فيما يحتاج إليه في سفره، هذا هو الكلام في الإحرام وأما سائر المناسك هل تتأدى بأهل رفقته، فمن المشايخ من قال: تتأدى، إلا أن الأولى أن يطوفوا به ويقفوا به ليكون أقرب إلى أدائه لو كان مفيقاً،

وإليه مال شمس الأئمة السرخسي، فعلى هذا القول لا يقع الفرق بين سائر المناسك وبين الإحرام. ومنهم من فرق بين الإحرام وسائر المناسك، والفرق أن الاستعانة تتحقق عند العجز، وفي أصل الإحرام تحقق العجز، فأما في الأعمال لم يتحقق العجز، فإنهم إذا حضروه المواقف كان هو الواقف والطائف بمنزلة ما لو طاف راكباً بعذر، ومن المشايخ من قال: لا خلاف بين العلماء أن عقد الرفقة استعانة من كل واحد منهم بأصحابه فيما يعجز عن الفعل بنفسه. والخلاف في هذه المسألة بناءً على اختلافهم في أن الإحرام هل يتأدى بالنائب؟ على قول أبي حنيفة يتأدى، وعلى قولهما: لا يتأدى وهذا القائل يقول: لا رواية عنهما فيما إذا أمر أصحابه بالإحرام عنهما صريحاً، وإنما الرواية في بدنة بين سبعة نفر قلّدها واحد منهم بأمر أصحابه محرمين، فالرواية عنهما في التقليد، والرواية في التقليد لا تكون رواية في التلبية فيما يقولان بأن الإحرام فعل من أفعال الحج، فلا تجري فيه النيابة قياساً على الطواف وسائر الأفاعيل، والمعنى في الكل أن أفعال الحج عبادة بدنية، وهذا بخلاف ما لو أغمي عليه بعد الشروع، وطافوا ووقفوا به؛ لأن ذلك إعانة وليس بنيابة؛ لأن المغمى عليه يصير طائفاً وواقفاً لكن بإعانتهم، والإعانة جائزة، وبخلاف النفل؛ لأنه فعل مأتيّ والنيابة تجري في نفله. وأبو حنيفة يقول: الإحرام عنه ليس بمقصود تحريم المحظورات، وهذا المقصود يحصل بالنائب، فتصح النيابة كما في باب الزكاة بخلاف الوقوف والطواف؛ لأن المقصود من الطواف والوقوف تعظيم البيت وحصوله في ذلك المكان، هذا المقصود لا يحصل بفعل النائب وأما إذا أحرم عنه من ليس من رفقته، لا شك أن على قولهما لا يجوز، وأما على قول أبي حنيفة، اختلف المشايخ، بعضهم قالوا: يجوز لوجود الإذن دلالة؛ لأنه أنفق مالاً عظيماً حتى بلغ الميقات، فالظاهر أنه يكون مستعيناً بكل واحد من آحاد الناس بالإحرام عنه إذا لم يحرم عنه أهل رفقته. في «المنتقى» : عيسى بن أبان عن محمد رحمهم الله: رجل أحرم بالحج، وهو صحيح ثم أصابه عته، فقضى به أصحابه المناسك ووقفوا به، فلبث كذلك سنين، ثم أفاق أجزأه ذلك عن حجة الإسلام، قال: وكذلك الرجل إذا قدم مكة أو صحيح أو مريض، إلا أنه يعقل أغمي عليه بعد ذلك، فحمله أصحابه وهو مغمى عليه، وطافوا به فلما قضوا الطواف أو بعضه أفاق، وقد أغمي عليه ساعة من نهار لم يتم ذلك يوماً، أجزأه ذلك عن طوافه، قال: لأنه حين ما أغمي عليه فقد صار في حال من يجزئه أن يطاف به من غير تعيين منه، فهو بمنزلة ما لو أصابه وجع، ولعجزه عن القيام فصلى قاعداً، فلما فرغ منها قدر على القيام. وفيه أيضاً: ولو أن مريضاً لا يستطيع الطواف إلا محمولاً، وهو يعقل نام من غير غشية، فحمله أصحابه وهو نائم فطافوا به، أو أمرهم أن يحملوه ويطوفوا به، فلم يفعلوا

حتى نام، ثم احتملوه وهو نائم، فطافوا به أو حملوه حين أمرهم بحمله، وهو مستيقظ فدخلوا به الطواف حتى نام على رؤوسهم، فطافوا به على تلك (183أ1) الحالة، ثم استيقظ. روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أنه إذا طافوا به من غير أن يأمرهم لا يجزئه، ولو أمرهم، ثم نام بعد ذلك، فطافوا به أجزأه، وكذلك إن دخلوا به الطواف أو توجهوا به نحوه فنام وطافوا به أجزأه. ولو قال لبعض من عنده: استأجر لي من يحملني فيطوف بي، ثم غلبت عيناه ونام، ولم يحضر الذي أمره بذلك من فوره، بل لبث على تحين طويلاً، ثم استأجر أجراء فحملوه فأتوه، وهو نائم، فطافوا به، قال: استحسن إذا كان في فوره ذلك أنه يجوز، فأما إذا طال ذلك ونام، فأتوه واحتملوه، وهو نائم لا يجزئه عن الطواف، ولكن لا جرم لازم بالأمر قال: والقياس في هذه المسألة لا يجزئه حتى يدخل الطواف، وهو مستيقظ ينوي الدخول فيه، لكن يستحسن إذا أحضر كذلك فنام، وقد أمر بأن يحمل فيطاف به أن يجزئه؛ لأنه على تلك النية. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : والصبي الذي يحج به أبوه يقضي المناسك ويرمي الجمار وإنه على وجهين: الأول: إذا كان صبياً لا يعقل الأداء بنفسه، وفي هذا الوجه إذا أحرم عنه أبوه جاز، والأصل فيه ما روي أن امرأة أخرجت صبياً من هودجها، وقالت يا رسول الله: ألهذا حج؟ فقال النبي عليه السلام: «نعم ولك أجره» . وإن كان يعقل الأداء بنفسه يقضي المناسك كلها يفعل مثل ما يفعله البالغ؛ لأن نوافل الصلاة مشروعة في حق الصبي نظراً له، حتى يثاب عليه لو أتى به، ولو تركه لا يعاقب عليه، ولو ترك هذا الصبي بعض أعمال الحج نحو الرمي وما أشبهه لم يكن عليه شيء؛ لأنه لو ترك الكل لا شيء عليه، فكذا إذا ترك البعض. قال في «الكتاب» : وهو الأصل أيضاً، وكل جواب عرفته في الصبي يحرم عنه الأب، فهو الجواب في المجنون؛ لأن المجنون أشد حالاً من الصبي، ثم الأب إذا أحرم عن ابنه الصغير، وارتكب بعض محظورات الإحرام لم يلزمه بسبب إحرام الصغير شيء؛ لأنه في حق الإحرام جعل نائباً عن الصغير حكماً، ألا ترى أنه يقف بالصغير ليحرم بنفسه، لو أحرم الصغير بنفسه لا يلزم الأب شيء؟ فكذا ههنا.

الفصل السادس عشر: في الوصية بالحج

الفصل السادس عشر: في الوصية بالحج إذا أوصى بأن يحج عنه، وهو في منزله، إن بين مكاناً، يحج عنه من ذلك المكان بالإجماع، وإن لم يبين مكاناً بالحج عنه من وطنه عند علمائنا رحمهم الله؛ لأن الوصية بالإحجاج أمر بإقامة غيره مقام نفسه في الحج، فإنما ينصرف مطلق هذا الأمر إلى ما كان واجباً على المنوب عنه، والواجب على المنوب عنه الحج من وطنه، حتى لا يجب عليه ما لم يملك من الزاد والراحلة قدر ما يحمله من وطنه إلى مكة ويرده إلى بلده، وهذا إذا كان ثلث ماله يكفي الحج من وطنه، فأما إذا كان لا يكفي كذلك، فإنه يحج عنه من حيث يمكن الإحجاج عنه؛ لأنه يقدر صرف مطلق الأمر ههنا إلى الإحجاج من وطنه، هكذا ذكر في «الجامع» وإليه أشار في «الأصل» . وذكر في «شرح القدوري» أن القياس أن تبطل الوصية في هذه الصورة، وفي الاستحسان أن لا تبطل ويحج عنه من حيث يبلغ، وليس هذا كما إذا كان له أوطان شتى؛ فإن في تلك الصورة يحج عنه من أقرب أوطانه إلى مكة؛ لأنه إذا حج من أقرب أوطانه إلى مكة كان النائب نائباً بجميع ما على المنوب عنه أن يحج من أي وطن شاء، ولا كذلك ما إذا كان له وطن واحد. هشام عن محمد رحمه الله في «نوادره» : مكي قدم خراسان، ومات بها، وأوصى أن يحج عنه، قال: يحج عنه من مكة، وإذا خرج من بلده يريد الحج، فمات فأوصى بأن يحج عنه حجة، فإنه يحج عنه من حيث مات في قول أبي يوسف ومحمد، وفي قول أبي حنيفة يحج عنه من وطنه، هكذا ذكر المسألة في «الجامع الكبير» القياس أن يحج عنه من وطنه، وفي الاستحسان يحج عنه من حيث مات. وذكر في وصايا «المبسوط» أنه يحج عنه من حيث أوصى ومات، ولم يذكر الخلاف والقياس والاستحسان، وبعض مشايخنا قالوا: يجعل ما ذكر في الجامعين تفسير لما أبهم في المبسوط، ويجعل بعض ما ذكر في «الجامع الصغير» تفسيراً لبعض ما ذكر في «الجامع الكبير» ، وبعض ما ذكر في «الجامع الكبير» تفسيراً لبعض ما ذكر في «الجامع الصغير» ، فصار حاصل الجواب على قول هذا القائل أنه يحج من وطنه قياساً، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، ومن حيث مات وأوصى استحساناً وهو قولهما، وهذا إذا خرج من وطنه يريد الحج، فأدركه الموت في الطريق، وأوصى بأن يحج عنه حج عنه من وطنه لا من حيث إنه مات عندهم جميعاً. وكذلك على هذا الخلاف إذا أحج الوصي عن الميت رجلاً، ومات النائب في بعض الطريق حتى وجب على الوصي أن يحج رجلاً آخر عن الميت، فعلى قول أبي حنيفة يحج آخر عنه من وطنه لا من حيث مات الأول، وعندهما من حيث مات الأول، وحاصل الخلاف في هذه المسألة راجع إلى أن ما أدي من السفر بنية الحج هل يبطل

بالموت أم لا؟ عند أبي حنيفة يبطل، وهو القياس فلا يجوز البناء عليه، وعندهما لا يبطل وهو استحسان فيجوز البناء عليه. وإذا أوصى أن يحج عنه، فأحجوا عنه رجلاً، فسرقت نفقته في بعض الطريق أو هلكت أو سرقت النفقة، أو هلكت بعدما دفع إليه قبل أن يسافر، فعلى قول أبي حنيفة عليهم أن يحجوا آخر من ثلث ما بقي في أيديهم من حيث أوصى الميت؛ لأن الأول لم يتم، ألا ترى أن الميت لو كان أوصى أن يعتق كان عليهم أن يعتق الآخر من ثلث ما بقي في أيديهم إلى أن يبقى من المال حقه؟ وقال محمد رحمه الله: إذا قاسم الوصي الورثة، ودفع حقوقهم (183ب1) وأخذ الوصية، ثم دفعها إلى النائب أو دفع الورثة النفقة إلى النائب، فسرقت أو هلكت في يد النائب لم يجب عليهم أن يحجوا عن الميت رجلاً آخر، وقال أبو يوسف رحمه الله: يحج الوصي رجلاً آخر إن بقي من الثلث الأول شيء، وإن لم يبق من الثلث الأول شيء فلا يحج آخر. وصورة هذه المسألة إذ هلك الرجل وترك ثلاثة آلاف درهم، وقد كان أوصى أن يحج عنه، فدفع الوصي إلى رجل ألف درهم ليحج عنه فسرق ذلك من يده، فعلى قول أبي حنيفة حج عنه من ثلث ما بقي، وذلك ست مائة وستة وستون وثلثان، وعلى قول أبي يوسف ومحمد تبطل الوصية، ولا يحج عنه، ولو ترك أربعة آلاف درهم، فقاسم الوصي مع الورثة، وأخذ ألفاً ودفع ثلاثة آلاف إلى الورثة، ثم دفع الألف إلى رجل ليحج عن الميت، فهلكت الألف في يده أو سرقت، فإن على قول أبي حنيفة رحمه الله يحجون عنه من ثلث ما بقي، وذلك ألف درهم؛ لأن ما بقي ثلاثة آلاف درهم، وقال أبو يوسف: يحج عنه بما بقي من الثلث الأول، وذلك ثلثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث، وعلى قول محمد رحمه الله بطلت الوصية، ولا يحج آخر عنه. في «المنتقى» : بغدادي أوصى أن يحج عنه حجة الإسلام بثلث ماله يبلغ من بغداد، فأحج الوصي رجلاً من الكوفة، فالموصى ضامن، وإن أحج الوصي رجلاً من نهر صرصر، ونهر صرصر قريب من بغداد، فالقياس أن يصير الوصي مخالفاً، وفي الاستحسان: إذا كان أحج من موضع من مصره يمكن للرجل أن يذهب من ذلك الموضع، ويرجع إلى المصر عند الليل يجوز، وإن كان أكثر من ذلك لا يجوز؛ لأن المسافة إذا كانت بهذه الصفة، فهي ساقطة الاعتبار شرعاً، عرف ذلك في أحكام كثيرة أقربها المطلقة إذا أرادت التحول بالولد. إذا أوصى أن يحجوا عنه وارثاً له، فإن ذلك لا يجوز إلا أن يخيره الورثة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأن هذه وصية الوارث؛ لأنه قصد إيصال يقع إليه من ماله بمجرد قوله، وهذا هو معنى الوصية للوارث، فالوصية للوارث لا تجوز إلا بإجازة الورثة. إذا أوصى أن يحج عنه بثلثه، وثلثه يبلغ حجاً، فهذا على وجهين: أما إن قال: أحجوا عني بثلث مالي ولم يزد على هذا، وفي هذا الوجه على

الوصي أن يحج عنه حجاً إلى أن لا يبقى من ثلث ماله شيء، وإن كان الأمر بالإحجاج أمر بالفعل، والأمر بالفعل لا يقتضي التكرار ما ثبت مقتضى الأمر بالفعل هنا، وإنما ثبت بدلالة الحال أو بدلالة العرف؛ لأن ثلث المال شيء كان كثيراً بحيث يبلغ حججاً يراد بالإيصاء بالحج به الإيصاء بالحجج إلى أن لا يبقى من الثلث شيء، ثم الوصي بالخيار في هذه الصورة إن شاء أحج عنه في سنة واحدة، بأن أتى برجال ودفع إليهم نفقتهم حتى يحجوا عنه في سنة واحدة، وإن شاء أحج عنه رجلاً في كل سنة مرة، والأول أفضل؛ لأن في التأخير توهم هلاك باقي المال، فإن أحج الوصي بالثلث حجاً، وبقي من الثلث شيء قليل لا يفي الحج من وطنه، ويفي الحج من أقرب المواقيت أو من مكة، أو ما أشبه ذلك يأتي بذلك، وإلا رد الباقي على الورثة. وفي «المنتقى» : هشام عن محمد رحمه الله إذا قال: حجوا عني من ثلثي حج عنه من ثلثه حجة واحدة، والفضل للورثة، وأما إذا قال: أحجوا عني بثلث مالي حجة واحدة، وقال: حجة، ولم يقل: واحدة، فإن الوصي يحج عليه حجة واحدة؛ لأنا إنما أثبتنا التكرار في الفصل الأول بدلالة الحال، أو بحكم العرف، ولا عبرة لهما إذا جاء الصريح بخلافه، فلو أن الوصي في هذه الصورة دفع إلى رجل مالاً مقدراً لينفق المال على نفسه في الطريق ذاهباً وجائياً ومدة مقامه بمكة، فأنفق، وبقي من ذلك شيء، ينظر إن كان الباقي كثيراً بحيث يمكن للمأمور الاحتراز عنه يصير مخالفاً، ويضمن ما أنفق على نفسه قياساً واستحساناً؛ لأنه مأمور خالف إلى شر، لأنه أمر أن ينفق كل المال في طريق الحج ليكون أكبر الأجر، فهذا إذا ترك البعض، والمتروك كثير بحيث يمكن المأمور الاحتراز عنه اعتبر مخالفاً، فصار منفقاً ما أنفق على نفسه بغير أمر ضامناً، وإن كان الباقي قليلاً بحيث لا يمكن الاحتراز عنه عرفاً وعادة، فالقياس أن يصير ضامناً لما أنفق على ... وفي الاستحسان لا يصير ضامناً؛ لأن هذا خلاف لا يمكن الاحتراز عنه للمأمور، فيكون عفواً، كالوكيل بالشراء إذا اشترى بغبن يسير، بيانه: أنه لا يمكنه أن ينفق الكل بحيث لا يبقى شيء يسير، ولا يفيض منه شيء يسير، بخلاف ما إذا كان الباقي شيئاً كثيراً؛ لأن التحرز عنه ممكن، فلا يجعل عفواً، كالغبن الفاحش إذا كان الباقي شيئاً قليلاً بحيث لا يمكن الاحتراز عنه حتى لا يصير مخالفاً، فالباقي لا يسلم للمأمور؛ لأن المستحق قدر النفقة مدة ذهابه ومجيئه ومقامه بمكة، فما زاد على ذلك لا يكون له فيرد على الورثة؛ لأنه مال الميت وقد خلا عن وصيته. فإن كان الميت قال: ما بقي من النفقة فذلك يكون للمأمور، فهذا على وجهين: إن لم يعين رجلاً ليحج عنه كانت الوصية بالباقي باطلة؛ لأن الموصى له مجهول، وجهالة الموصى له تمنع صحة القسمة للوصية، والحيلة في ذلك أن يقول الموصي للوصي: أعط ما بقي من النفقة من شئت فإذا أعطى الموصي الباقي من النفقة للمأمور

كان جائزاً، كما لو أوصى أن يعطى ثلث ماله من شاء الوصي. وإن عين رجلاً ليحج عنه كانت الوصية بالباقي جائزة؛ لأن الموصى له معلوم. في «المنتقى» : إذا أوصى أن يحج عنه، فأحج الوصي رجلاً، فأحرم الرجل بالحج عن الميت، ثم قدم وقد فاته الحج، قال محمد: يحج عن الميت من بلده إن بلغت النفقة، وإلا فمن حيث تبلغ، وعلى المحرم قضاء الحجة التي فاتت عن نفسه ولا ضمان عليه فيما أنفق، ولا نفقة له بعد الفوت. وفيه أيضاً إبراهيم عن محمد رحمه الله: دفع دراهم إلى رجل ليحج عن الميت مرض في الطريق، قال: ليس له أن يدفعها إلى غيره إلا يكون قال وقت الدفع: إصنع ما شئت، فحينئذٍ له أن يدفع إلى غيره ليحج عن الميت مرض أو لم يمرض، وفيه دفع إلى رجل دراهم، وأمره أن يحج عنه، فلما أحرم المأمور بدا للآمر أن يأخذ منه المال، وطلب منه المأمور نفقة الرجوع إلى أهله فله ذلك (184أ1) استحساناً. وفي «فتاوى أبي الليث» : الوصي إذا دفع الدراهم إلى رجل ليحج بها عن الميت، ثم أراد أن يسترد المال منه كان له ذلك ما لم يحرم؛ لأن المال أمانة في يده، فإذا استرد وطلب المأمور نفقة الرجوع إلى بلده، قال: ينظر إن استرد المال منه بجناية ظهرت منه، فالنفقة في ماله خاصة. وإن استرد لضعف رأيه أو لجهله بأمور المناسك، فالنفقة في مال الميت؛ لأن منفعة الاسترداد راجعة إلى الميت، فتكون نفقة الرجوع في ماله، وإن استرد لا لجناية ولا لتهمة، فالنفقة في مال الوصي. رجل دفع إليه في مدينة السلام مال ليحج عن الميت، فأخذه في طريق البصرة، وسلك طريق الكوفة: قال محمد رحمه الله: لا بأس بذلك؛ لأن الحاجَّ يسلكه من غير عذر، وكذلك إن دفع إليه في مصر له طريقان إلى مكة أحدهما أشد وأبعد فأخذ فيه، قال: إن كان الحاج يسلكه، فله ذلك. دفع إلى رجل خمسمائة ليحج بها عن الميت، فأنفق منها مائة في أهله وحج بأربعمائة منها، جاز الحج عن الميت، ويضمن المائة التي أنفقها في أهله. الحاج عن الميت إذا مرض، وأنفق المال كله، فليس على الوصي أن يبعث بالنفقة إليه ليرجعه. إذا قال الوصي للحاج: إن فني المال، فاستقرض وعلي قضاء الدين، فهو جائز. إذا استأجر المأمور بالحج خادماً ليخدمه، ينظر إن كان مثله لا يخدم نفسه، فهو في مال الميت؛ لأنه يكون مأذوناً فيه، وللمأمور بالحج أن يدخل الحمام، ويعطي أجر الحارس وغير ذلك ما يفعله الحاج؛ لأن ذلك معروف، وقدر المعروف كالمنصوص. الحاج عن الميت إذا اشترى ببعض المال المدفوع إليه حماراً ركبه أجزأه، ولو اشترى بالدراهم المدفوع إليه متاعاً للتجارة، وحج بمثلها عن الميت، فإنه يرد المال، والحجة عن نفسه، قال هشام: سمعت أبا يوسف يقول في هذا الفصل: يتصدق بالفضل يعني بالربح، وأجزت الحجة عن الميت في قول أبي حنيفة، وفي قولهما إليه: يحج.

أوصى أن يحج عنه بثلثه، وثلثه لا يبلغ للحج من بلده إلا ماشياً، فقال رجل: أنا أحج من بلده ماشياً لم يجز ذلك، ويدفع إلى رجل يحج راكباً من حيث يبلغ. أوصى أن يحج عنه فلان فمات فلان رد المال إلى ورثته. هشام عن محمد رحمه الله أوصى أن يحج عنه بألف درهم، وذلك النقد لا يجوز في الحج، قال: يخرجه الوصي بقدر ما أوصى، ويصرفها بدراهم تجوز في الحج، وإن شاء دفع دنانير بقيمتها. الحاج عن الميت إذا ضاعت نفقته في الطريق، فأنفق من عند نفسه حتى قضى حجة ينوي عن الميت. قال محمد رحمه الله: فهي للميت تطوع وعليهم (أن) يحجوا عن الميت من حيث فمات الموصى؛ لأن الشرع أقام السبب مقام الحج وذلك بالإنفاق في كل الطريق من مال الميت، وليس للذي أنفق من ماله أن يرجع بذلك على أحد، وأما من أنفق قبل ذلك، فقد ذهب من مال الميت. ولو كانت النفقة ضاعت بعد ما أحرم عن الميت جازت الحجة عن الميت، ولم يرجع بالنفقة على أحد. المأمور بالحج لا بأس له بالثمر في الطريق، وتفسيره أن يخلط دراهم الآمر مع دراهم الرفقة أن ينفقوا جملة من المخلوط، سواء كان الآمر أمره بذلك أو لم يأمره لمكان العرف. الوصي إذا أمر رجلاً أن يحج عن الميت في هذه السنة، فأخّر الحج عن وقته حتى مضت السنة، وحج من قابل جاز عن الميت، ولا يضمن النفقة، وذكر السنة في هذا للاستعجال لا ليفيد الآمر بها. المأمور بالحج عن الميت إذا رجع عن الطريق، وقال: مُنِعْتُ، وقد أنفق من مال الميت في الرجوع لم يصدق، وهو ضامن جميع النفقة، إلا أن يكون أمراً ظاهر. المأمور بالحج عن الميت إذا قال: حجه عن الميت وأنكر الورثة والوصي، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنهم أرادوا الرجوع عليه بالنفقة، وهو منكر، فيكون القول قوله مع يمينه، إلا أن يكون للميت على المأمور دين، فقال له: حج عني بهذا المال حجة، فحج عنه بعد موته، فعليه أن يقيم البينة أنه حج بها؛ لأنه يدعي الخروج عن عهدة ما عليه، والورثة منكرون. في «المنتقى» : عن محمد رحمه الله: رجل دفع إلى رجل دراهم ليحج بها عن الميت، فادعى الدافع أنه لم يحج، وأقام البينة أنه كان يوم النحر بالكوفة، وقال المدفوع إليه: قد حججت، فالقول قوله، وليست تلك الشهادة بشيء، ألا ترى أنه لو كان عند رجل وديعة لرجل فقال المودع: دفعتها إليك بمكة، وأقام رب الوديعة أن المودع في اليوم الذي يدعي الدفع بمكة كان بالكوفة لم تجز هذه الشهادة؟ وإن أقاما جميعاً البينة في النائبين على إقرار المدفوع والمودع أنه كان بالكوفة، وأنه لم يدفع الوديعة ولم يحج قبلت. أوصى أن يعطى بعيره هذا رجلاً يحج عنه، فدفع إلى رجل، فأكراه الرجل وأنفق

الكراء لنفسه في الطريق، وحج ماشياً جاز عن الميت استحساناً، وإن خالف أمره، قال الصدر الشهيد رحمه الله: هو المختار؛ لأنه لما ملك أن يملك رقبته بالبيع ويحج بالثمن ملك أن يملك منفعته بالإجارة، ويحج بالأجرة بطريق الأولى؛ إذ لو لم يملك ذلك على هذا التقدير يكون بالكراء عاصياً، فيكون الكراء له والحج له، فيتضرر، وكان نظير الميت فيما قلنا، ثم يرد البعير على الورثة؛ لأنه ملك الميت، وقد فرغ عن وصيته. في مناسك «المنتقى» : ابن سماعة في «نوادره» : عن محمد رحمه الله إذا قال: أحجوا عشرة يعني عشر حجج فأحجوا عنه رجلاً عشر حجج جاز، وهو نظير ما لو قال: أطعموا عني عشرة مساكين، فأطعموا عنه مسكيناً واحداً عشرة أيام، وعلى هذا إذا قالوا: تصدقوا عني بهذه العشرة على عشرة مساكين، فتصدق على مسكين واحد أجزأه، وإن قال: على مسكينين، أو قال: على مسكين، فتصدقوا على عشرة أجزأه، وهذا وأجناسه على الأجر لا على العدد. وأعاد هذه المسائل في وصايا «المنتقى» بعينها، وزاد عليها لو قال: تصدقوا بها على مساكين مكة، فتصدقوا بها على مساكين الكوفة ضمنوا، لأنه سمى لهم قوماً ووصفهم ولا يشبه هذا العدد. في «الجامع الكبير» إذا قال: أوصيت بثلث مالي في الحج يحج عني كل سنة (184ب1) بمائة درهم أو قال: يحج من ثلثي كل سنة بمائة درهم، فإنه يحج عنه بالثلث كل سنة واحدة حتى يأتي على جميعه كل حجة بمائة درهم كما سمى، وكذلك إذا قال: أوصيت بثلث مالي في المساكين يتصدق منه كل سنة بمائة درهم، أو قال: أوصيت بأن يتصدق من ثلثي كل سنة بمائة درهم فإنهم يتصدقون بجميع الثلث في السنة الأولى، ولا يوزع على السنين، وكذلك إذا قال: أوصيت بثلثي يشترى منه كل سنة نسمة بمائة درهم فيعتق أو قال: أوصيت أن يشترى من ثلثي كل سنة نسمة، فإنه يشترى ذلك بكله في السنة الأولى ويعتق عنه ولا يوزع على السنين. فَرْق بين هذه المسائل وبينما إذا أوصى أن يعطى لفلان كل سنة من ثلث ماله، فالثلث يوقف على فلان، ويعطى له كل سنة ما سمى، والفرق أنه إنما يراعى من الشروط ما يفيد لا ما لا يفيد، والأمر بإنفاق الثلث موزعاً على السنين يفيد؛ لأنه ربما يموت الموصى له قبل أن يستكمل الثلث، فيعود ما بقي من الثلث إلى ورثة الموصي، ونفع الوارث كنفع المورث، فأما في المسائل الثلاث الأمر بالتوزيع على السنين لا يفيد؛ لأنه لا يتوهم أن يفضل شيء من وصيته في المسائل، بل ثلث؛ لأن هذه جهات لا تنقطع إلى يوم القيامة، فلا يعود شيء إلى ورثته. بقي من هذه الجنس مسألة لا بد من معرفتها: أن من مات، وعليه فرض الحج، ولم يوص به لم يلزم الوارث أن يحج عنه، وإن أحب أن يحج عنه حج، وأرجو أن يجزئه إن شاء الله، هكذا ذكر القدوري في «شرحه» ؛ لأن رسول الله عليه السلام شبه ديون الله تعالى بديون العباد في الحج في حديث الخثعمية، ثم في ديون العباد من قضى دين غيره

الفصل السابع عشر: في إحرام المرأة والمماليك

بغير أمره يجوز، ولكن موقوفاً على مشيئة رب الدين، فكذا في دين الله تعالى. وذكر في «الزيادات» : فيمن مات وعليه صيام وأوصى أن يطعم عنه، فأطعم عنه الوارث، قال: يجزئه إن شاء الله، قرن الجواب بالمشيئة في باب الصوم، ولو حصل الإطعام بأمر من عليه، وفي باب الحج قصر الاستثناء على الحج بغير الأمر، والفرق: أن تشبيه دين الله تعالى بديون العباد في الحج منصوص عليه؛ لأن حديث الخثعمية ورد في الحج مجرى الحج يجري ديون العباد على النيّات إن كان بأمر من عليه، ومعلقاً بالمشيئة إن كان بغير أمر من يلي على ذلك، أما في باب الصوم لم يرد نص يوجب تشبيه دين الله بدين العبد، وإنما جوّز الإطعام بدلاً عن الصوم بقوله عليه السلام: «من مات وعليه صيام أطعم عنه وليه» ، وهذا الخبر من جملة أخبار الآحاد، وخبر الواحد يوجب العمل دون العلم، فمن حيث إنه يوجب العمل قلنا بالجواز، ومن حيث إنه لا يوجب العلم قرن الجواز في الوجهين جميعاً، والله أعلم. الفصل السابع عشر: في إحرام المرأة والمماليك المرأة إذا أحرمت بحجة تطوع بغير إذن زوجها له أن يحللها في قول علمائنا رحمهم الله، والتحليل بارتكاب محظور والمحظور نوعان: إما حلق شعر أو تطييب عضو أو جماع، غير أن الأولى أن يكتفي بأقلها وأهونها حظراً، أو عليه الدم؛ لأجل التحلل، فإن أذن لها زوجها بعد ذلك، يعني: بعد ما حللها وكان ذلك قبل فوت الحج، وإن شاءت حجت من عامها ذلك، فطالما شرعت فيه، وإذا حجت من عامها ذلك فلا عمرة عليها لأن وجوب العمرة لأجل فوات الحج والدم عليها على حاله، وإن شاءت حجت في العام القابل وعليها العمرة، وكذلك إن كان ذلك بعد ما فات الحج، فعليها الحجة، والعمرة في العام القابل. ابن سماعة عن محمد: في رجل أذن لامرأته في الحج، فأحرمت بالحج قبل أشهر الحج يحللها، وإن أحرمت في أشهر الحج، فليس له أن يحللها، وإن كانت في بلاد بعيدة يخرجون منها قبل أشهر الحج أو في أشهر الحج، فله أن يحللها ويكره له ذلك. وإحرام الأمة في حق هذا الحكم يفارق إحرام المنكوحة. الرجل إذا أحرمت امرأته أو أمته بغير إذنه، فجامعها أو قبلها مع علمه بإحرامها فذلك تحليل، أراد به التحليل، أو لم يرد. الحسن بن زياد ذكر في كتاب «الاختلاف» : امرأة أحرمت بحجة تطوعاً تزوجت،

الفصل الثامن عشر: في التزام الهدي والبدنة وما يتصل بذلك

ولها ذو رحم محرم، فلزوجها أن يحللها، وأن يمنعها من الحج عند أبي يوسف خلافاً لزفر، وذكر عيسى بن أبان في «نوادره» : عن محمد: امرأة أحرمت بحج تطوعاً، ثم طلقها ولم يدخل بها، فزوجت رجلاً آخر في إحرامها، فليس له أن يحللها، قال: وليست هذه كالأمة إذا باعها المولى، وقد كانت أحرمت بإذن المولى، فإن للمشتري أن يحللها. وفرق في حق الأمة بين المشتري والبائع، فإنه يكره للبائع أن يحللها إذا كانت أحرمت بإذنه، ولا يكره للمشتري أن يحللها، والفرق أن التحليل من البائع خلف في الميعاد بخلاف التحليل من المشتري، وقد اختلفت ألفاظ نسخ «الجامع الصغير» في مسألة الأمة في حق المشتري، وقع في بعضها، للمشتري أن يحللها ويجامعها، وقع في بعضها وللمشتري أن يحللها أو يجامعها. وفي «الأصل» قال: للمشتري بأن يحللها، ولم يرد عليه، فإن كان الصحيح، فللمشتري أن يحللها ويجامعها، فمعناه يحللها بمس أو قص شعر، ويجامعها بعد ذلك، وإن كان الصحيح يحللها أو يجامعها، فمعناه يحللها بقص شعر أو مس أو جماع، واختلف المشايخ في تحليلها بالجماع فبعضهم كره ذلك كيلا يلاقي الجماع إحرامها، وبعضهم لم يكره ذلك؛ لأن المواقعة لا تخلو عن سابقة مس يقع به التحلل، فتقع المواقعة بعد التحلل، والله أعلم بالصواب. الفصل الثامن عشر: في التزام الهدي والبدنة وما يتصل بذلك إذا قال: عليّ المشي إلى بيت الله أو إلى مكة لزمه حجة أو عمرة استحساناً، ولو قال: عليّ المشي إلى الحرم وإلى المسجد الحرام، فعلى قول أبي حنيفة (185أ1) لا يصح النذر، ولا يلزمه شيء خلافاً لهما، ولو قال: عليّ المشي إلى زمزم أو إلى أسطوانة الكعبة، في غير رواية الأصول أنه على هذا الخلاف أيضاً، ولو قال: عليّ الذهاب إلى مكة، أو قال: عليّ السفر إلى مكة، أو قال: عليّ الركوب إلى مكة لا يلزمه شيء، بلا خلاف هذه الجملة في «الأصل» . وفي «المنتقى» ابن سماعة عن محمد: رجل قال: لله عليّ المشي إلى بيت الله تعالى ثلاثين سنة، قال: عليه ثلاثون حجة أو ثلاثون عمرة، ولو قال: عليّ المشي إلى بيت الله ثلاثين شهراً، أو قال: أحد عشر شهراً، فإنما عليه عمرة واحدة. قال هشام: استحسن في السنتين؛ لأن عليه أيمان الناس، ولو قال: لله عليّ في هذه السنة حجتان، فعليه حجتان يعني في سنتين، ولو قال: لله عليّ عشر حجات في هذه السنة، فعليه عشر حجات في عشر سنين، فرق بينه وبين الصوم، فإنه إذا قال: لله عليّ صوم يومين في هذا اليوم لا يلزمه صوم يومين. أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله: إذا قال الرجل بخراسان: إن كلمت فلاناً

فعليّ المشي إلى بيت الله تعالى، فكلمه بالكوفة، فعليه أن يمشي من خراسان. الحسن بن زياد عن أبي حنيفة إذا قال: أنا محرم بحجة بل بعمرة إن فعلت كذا ففعل، فعليه حجة وعمرة. الحسن بن زياد: إذا نذر المشي إلى بيت الله، ثم قرن بين حجة الإسلام وبين عمرة نواها بالمشي الذي أوجبه، ومشى فيهما إلى مكة أجزأه، ولا يلزمه شيء. ابن سماعة عن أبي يوسف: رجل قال وهو في غير أشهر الحج: لله عليّ حجة في أشهر الحج، فمات قبل أن يجيء لم يجب عليه شيء، وإن قال: وهو في غير أشهر الحج، فالحجة واجبة عليه من قبل أنه أوجبها على نفسه الساعة، فإذا قال: في أشهر الحج، فكأنه قال: إذا جاء فلان. «الجامع الصغير» : رجل جعل على نفسه أن يحج ماشياً، فإنه لا يركب حتى يطوف للزيارة، وفي «الأصل» يشير إلى خلافه وموضع ما ذكر في «الأصل» : إذا حلف بالمشي إلى بيت الله تعالى، فعليه حجة أو عمرة استحساناً، فإن عنى حجة أو عمرة كان عليه أن يحج أو يعتمر ماشياً، ويصير تقدير كلامه عند تعيين أحدهما لله عليّ أن أحج ماشياً، أو لله عليّ أن أعتمر ماشياً، ولو نص على هذا لزمه كذلك، ولكن إن ركب يجزئه، ويريق لذلك دماء. الأصل فيه حديث عقبة بن عامر الجهني حيث قال: «يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية، فقال عليه السلام: إن الله تعالى غني عن تعذيب أختك، مُرها فلتركب ولترق دماً» . ثم إذا حج أو اعتمر ماشياً متى يبتدىء، ومتى يترك المشي؟ أما الترك: ففي الحج يترك المشي متى طاف الزيارة؛ لأن الحج ينتهي بطواف الزيارة، فينتهي المشي أيضاً بطواف الزيارة، وفي العمرة يترك المشي متى طاف وسعى. وفي «البداية» : اختلف المشايخ، بعضهم قالوا: يمشي من حين يحرم؛ لأنه التزم الحج ماشياً، فإنما يلزمه المشي متى أخذ في أفعال الحج، وإنما يصير أخذ في أفعال الحج متى أحرم، ومنهم من قال: يمشي حين يخرج من بيته؛ لأن المشي من بيته من أفعال الحج؛ لأنه لا يتوصل إلى الأعمال إلا به. في «العيون» : إذا قال: لله عليّ حجة الإسلام مرتين لا يلزمه شيء؛ لأنه التزم غير المشروع، وفي «فتاوى أبي الليث» إذا قال: أن أحج فلا شيء عليه، ولو قال: إذا دخلت الدار، فأنا أحج فدخلها لزمه الحج. وفيه أيضاً: إذا قال: لله عليّ مئة حجة لزمها كلها، ويظهر الوجوب فيما زاد على عمره في حق وجوب الإيصاء، وفي الأيمان من «فتاوى أبي الليث» إذا قال: لله عليّ ثلاثين حجة لزمه بقدر عمره؛ لأن ما زاد على عمره إيجاب بعد الموت، والإيجاب بعد الموت لا يعمل.

في «فتاوى أبي الليث» أيضاً إذا قال: لله عليّ ثلاثين حجة ثلاثين نفساً في سنة واحدة إن مات قبل أن يجيء وقت الحج جاز الكلّ؛ لأنه لم يستطع بنفسه، فتبين أن شرط الإحجاج كان موجوداً، وإن (جاء) وقت الحج، وهو حي قادر على الحج بطلب حجة واحدة؛ لأنه استطاع، فتبين أن شرط الإحجاج وهو الناس لم يكن موجود، وكذلك كل سنة عليّ هذا. إذا قال المريض: إن عافاني الله من مرضي هذا فعليّ حجة، فبرأ من مرضه، فعليه حجة، وإن لم يقل: فلله حجة، فبرأ وحج جاز ذلك عن حجة الإسلام؛ لأن الغالب من أمور الناس أنهم يريدون بهذا الكلام حجة الإسلام إذا لم يكن حج قبل ذلك، فإن نوى حجة غير حجة الإسلام أجزأه؛ لأنه نوى ما يحتمله.d إذا قال: إن فعلت كذا فعليّ هدي، أو قال: فعليّ بدنه، فهذه المسألة لا بد لمعرفتها من أصل أن اسم الهدي عند الإطلاق يتناول الهدي، فنقول: اسم البدنة عند الإطلاق يتناول الإبل والبقر، قال عليه السلام «البدن من الإبل والبقر» قال علي رضي الله عنه: الهدي من ثلاثة، فهي من الإبل والبقر والشاة، ولأن الهدي اسم لما تهدى إليها كالإبل والبقر تحدياً البدنة؛ لأن البدن مشتقة من الضخامة والضخامة للإبل والبقر دون الشاة. إذا عرفنا هذا جئنا إلى تخريج المسألة؛ فنقول: إذا قال: لله عليّ هدي نوى شيئاً من الأنواع الثلاثة فهو على ما نوى، وإن لم ينو شيئاً ينصرف إلى الشاة لأنه أدنى الأنواع الثلاثة، وإن قال: لله عليّ بدنة، فإن نوى شيئاً من النوعين فهو على ما نوى، وإن لم ينو شيئاً فله أن يختار أي النوعين شاء. ثم في البدن إن نوى أن ينحرها بمكة لزمه أن ينحرها بمكة، وإن لم ينو ذلك نحرها في أي مكان شاء، وقال أبو يوسف (185ب1) ومحمد: يلزمه أن ينحرها بمكة، وفي الهدي يلزمه النحر بمكة، وإن لم ينو النحر بمكة بلا خلاف، ولا يجزي في الهدايا والضحايا إلا الجذع من الضأن إذا كان عظيماً والثني من غيره، والجذع من الضأن عند الفقهاء الذي أتى عليه أكثر الحول سبعة أشهر، فصاعداً، وعند أهل اللغة الذي أتى عليه ستة أشهر، والثني من الإبل الذي طعن في السنة السادسة، ومن البقر الذي طعن في السنة الثالثة ومن الغنم الذي طعن في السنة الثانية. قال في «الأصل» : ويستحب للرجل أن يأكل من هدي المتعة والتطوع والقران، وكذلك يستحب له التصدق، وما أكثر من التصدق فهو أفضل، ولا يستحب له أن يتصدق بأقل من الثلث، وإذا بلغ هدي التطوع الحرم وعطب فيه قبل يوم النحر فإن كان قد تمكن منها نقصان يمنع أداء الواجب ذبحه وتصدق بلحمه، لأنه لما عينه للهدي فقد لزمه شيئان قربة الإراقة فيه والتصدق باللحم، فإذا تمكن فيه عيب يمنع قربة الإراقة إن عجز عن قربة

الفصل التاسع عشر: في الخطأ في الوقوف

الإراقة ما عجز عن التصدق باللحم، فيلزمه ما قدر عليه ولا يأكل منه لأن إباحة الأكل من الهدي، معلقة بقربة الإراقة كما في الأضحية وقربة الإراقة لا تتأدى بمثل هذا العيب كما لا تتأدى قربة الأضحية، فإذا لم توجد قربة الإراقة لا يحل الأكل، وإن كان النقصان المتمكن يسيراً بحيث لا يمنع أداء الواجب ذبحه ويتصدق بلحمه وأكله، لأن قربة الإراقة قد وجدت لأن ما لا يمنع أداء الواجب لا يمنع أداء التطوع، وهذا بخلاف هدي المتعة، فإنه لو عطب في الحرم قبل يوم النحر فذبحه لا يجزئه؛ لأن هدي المتعة مؤقت بيوم النحر فلا يجزئه الذبح قبل يوم النحر بخلاف هدي التطوع. قال في «الأصل» : وإذا سرق هدي رجل فاشترى مكانها أخرى وقلدها وأوجبها، ثم وجد الأول فإن نحرها، فهو أفضل؛ لأنه أوجبها الأول على نفسه مطلقاً وأوجبها الثاني بنية إسقاط الواجب، وتبين أنه ليس عليه حين وجد الأول، فالأفضل في مثل هذا المعنى، كما إذا شرع في صوم أو صلاة على ظن أنه عليه ثم تبين أنه ليس عليه، فإن نحر الأول وباع الآخر أجزأه، وإن نحر الآخر وباع الأول، فإن كان قيمة الآخر مثل قيمة الأول وأكثر فلا شيء عليه، وإن كان أقل يتصدق بفضل ما بينهما. قال في «الأصل» : عقيب هذه المسائل: وهدي المتعة والتطوع في هذا، قالوا: وما ذكر محمد رحمه الله يبطل قول من قال بأن من الفقير إذا اشترى شاة بنية الأضحية فضلت فاشترى بأخرى، ثم وجد الأولى، أنه يلزمه أن يضحي بهما لأن الشراء بنية الأضحية بمنزلة النذر فكأنه نذر أن يضحى بالأخرى ووجه الإبطال أن محمد رحمه الله نص هنا على أن له بيع الآخر، وإن كان هذا في التطوع في هذا الواجب سواء. وفي «المنتقى» : قال عيسى بن أبان في «نوادره» : قلت لمحمد: رجل قلد بدنة تطوعاً فضلّت منه، ثم اشترى مكانها أخرى هي أفضل منها وقلدها وأوجبها، ثم وجد الأولى قال: إن نحر الأولى تصدق بفضل الثانية عليها، وكذلك في الأضحية قلت: لو قلد بدنة تطوعاً وأوجبها فضلت منه، ثم اشترى مكانها بدنتين كل واحدة منهما أفضل من الأولى فقلدهما جميعاً، ثم وجد الأولى، قال: أحب إليّ أن ينحرهن جميعاً، وإن لم يفعل ينحر الأولى وإحدى هاتين، وأمسك إحداهما، والله أعلم. الفصل التاسع عشر: في الخطأ في الوقوف ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله في الإمام يخطىء، ويقف بالناس بعرفة يوم التروية لم يجز للناس حجتهم. وفي «الجامع الصغير» : أهل عرفة وقفوا في يوم شهد قوم أنهم وقفوا في يوم النحر أجزأتهم حجتهم. وصورة المسألة: أن يشهد قوم برؤية هلال ذي الحجة في ليلة كان اليوم الذي وقفوا اليوم العاشر من ذي الحجة، وهذا لأن التحرز عن الخطأ غير ممكن،

فإذا ظهر الخطأ، والتدارك غير ممكن، وجب أن يسقط التكليف صيانة لجميع المسلمين، ولأن هذه شهادة قامت على النفي، وعلى أمر لا يدخل تحت الحكم والإلزام، ومثل هذه الشهادة لا تقبل. وذكر الكرخي رحمه الله: إذا التبس على الناس هلال ذي الحجة، فأكملوا عدة ذي القعدة ثلاثين يوماً، ووقفوا في اليوم التاسع من ذي الحجة ثم تبين أن اليوم الذي كان وقوفهم صحيحاً وحجهم تاماً استحساناً، والقياس: أن لا يجوز. وفي «المنتقى» : عمرو بن أبي عمرو عن محمد رحمه الله: إذا قيل الحجاج..... بريدون، فأبصر بعضهم هلال ذي الحجة، فرد الإمام شهادتهم، وعدّ الإمام ذا القعدة ثلاثين يوماً، ووقف يوم التاسع بعرفة وهو اليوم العاشر في شهادة الشهود، ووقف الشهود معه، فحجهم تام، هم وغيرهم في الحج سواء، وإن استيقنوا أن هذا اليوم يوم النحر. ولو أن هؤلاء الشهود بعدما رد الإمام شهادتهم وقفوا بعرفات على ما رأوا عليه الهلال قبل وقوف الإمام بيوم ولم يقفوا مع الإمام من الغد، فقد فاتهم الحج، وعليهم أن يحلوا بعمرة، وعليهم الحج من قابل. وفيه أيضاً: ولو أن قوماً من الحجاج أو من غيرهم أتوا الإمام وشهدوا عنده في صبيحة يوم عرفة أنهم رأوا الهلال قبل عدد الثلاثين بيوم، وهذا اليوم يوم النحر وهم عدول لا تقبل شهادتهم، ووقف بالناس على عدده الذي عدّوا، ووقف معه هؤلاء الشهود أجزأهم؛ لأن الإمام لا ينبغي له أن يبطل الحج في سنة من السنين، حتى لا يكون فيها حج. وكذلك لو كانوا شهدوا بذلك في آخر ليلة عرفة في ساعة، إن طلب (186أ1) الإمام المسلمين أن يأتوا عرفة، فيقفوا بها لم يدركوها حتى يطلع الفجر لا تقبل هذه الشهادة، وإن شهد في أول الليل أو في عشي اليوم الذي هو يوم عرفة في شهادتهم، وكان الإمام والمسلمون يقدرون على أن يمضوا إلى عرفات حتى يقفوا بها قبل الإمام شهادتهم، قال: ولا ينبغي أن يقبل في هذا شهادة الواحد والاثنين ونحو ذلك في الاستحسان. وأما في القياس فتقبل فيه شهادة العدلين، وأما الذي تقبل فيه شهادة العدلين قياساً واستحساناً إذا كان القوم يقدرون على الوقوف على ما أمروا به، معناه: أن الشهود إذا شهدوا في زمان يمكّنهم الوقوف بعرفة نهاراً تقبل شهادة عدلين، وإذا شهدوا في زمان لا يمكنهم الوقوف بعرفة نهاراً، ويحتاجون إلى الوقوف بها ليلاً لا تقبل فيه شهادة العدلين، لأن الوقوف يتحول بشهادته حتى يوقف بالليل مكان النهار، فلا يقبل فيه الأمر الظاهر. وفيه أيضاً: لو شهدوا عند الإمام عدلان على رؤية الهلال في أول العشر من ذي الحجة أو شهود عدول، فرأى أن لا يقبل ذلك حتى يراه العامة، يعني حتى يشهد عنده جماعة كذلك، ومضى ما رأى ووقف في يوم هو يوم النحر في شهادة الشهود، ووقف

الفصل العشرون: في المتفرقات

الناس معه والشهود أجزأهم: قال: لأن هذا أمر يختلف فيه الفقهاء، وإن خالفه الشهود، ووقفوا قبله لا يجزئه، قال: إنما هذا بمنزلة الأحكام التي يختلف فيها المسلمون يريد بقوله: إن هذا أمر يختلف فيه الفقهاء، إن الفقهاء اختلفوا في هلال ذي الحجة، بعضهم جعلوه بمنزلة هلال رمضان، فتقبل فيه شهادة عدلين، وبعضهم جعلوه بمنزلة هلال شوال، فلا تقبل فيه إلا شهادة الجمع العظيم. وفي «الرقيات» : ابن سماعة، قلت لمحمد رحمه الله: أرأيت لو غُمَّ على الناس هلال ذي الحجة بمكة قعدوا لأيام حتى إذا أصبحوا في اليوم الذي يرونهم يوم عرفة أتاهم تعين الخبر أن ذلك اليوم يوم النحر أيجزئهم أن يقفوا؟ أرأيت إن أتاهم الخبر وهم بمنى ليلة النحر في وقت إن أرادوا إتيان عرفة أصبحوا دونها، أو في وقت يلحق المسرع عرفة بمثل طلوع الفجر، فأما المشاة وأصحاب الثقل، فلا يلحقوا بها إلا بعد الفجر، قال محمد رحمه الله: لا ينبغي للإمام أن يقبل على هذا بينة، ولا يلتفت إلى شيء من ذلك إذا كان أمراً إن فعله كان القوم فاتهم الحج، فإن كان الإمام، ومن أسرع فيه يدركون الحج تقبل فيه شهادة الشهود، وإن فات بعضهم الحج. وفي صورة أخرى من هذا الجنس يقول: إذا جاء الإمام، وذلك أمر مكشوف معروف، وهو يقدر على الذهاب إلى عرفة، ومن أسرع معه في المشي، فليذهب هو وليقف، ومن لم يقف معه فاته الحج، وإن كان لا يدري هو، ولا غيره، فلا ينبغي له أن يقبل شهادتهم على هذا وإن كثروا، ولا يقف إلا من الغد. والحاصل أن في كل موضع لو قبلت الشهادة لفات الحج على الكل، فالإمام لا يقبل الشهادة، وإن كثر الشهود في كل موضع لو قبلت الشهادة لفات الحج على البعض دون البعض قبلت الشهادة. الفصل العشرون: في المتفرقات ذكر في «واقعات الناطفي» أن المرأة المحرمة ترخي على وجهها خرقة، وتجافي عن وجهها، ودلت هذه المسألة على أن المرأة منهية عن إظهار وجهها للرجال من غير ضرورة؛ لأنها منهية عن تغطية الوجه لحق نسك، لولا أن الأمر كذلك، وإلا لما عرف بهذا الإرخاء في النواهي. البالغ إذا جن بعد الإحرام، ثم ارتكب شيئاً من المحظور، فإن عليه فيها الكفارة. فرق بينه وبين الصبي؛ لأن ابتداء إحرام المجنون قبل أن يجن كان صحيحاً لازماً؛ بخلاف إحرام الصبي. حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أن المرأة إذا لم تجد محرماً لم تحج عن نفسها إلى أن تبلغ الوقت الذي تعجز، فلا تقدر على السير، فحينئذٍ تبعث من يحج عنها، وقبل ذلك لا يجوز لها ذلك لتوهم وجود

المحرم، فإن بعثت رجلاً، فإن دام عدم المحرم إلى وقت الموت فذلك جائز، كالمريض إذا أحج عنه فدام به المرض. ولو بلغ الصبي أو أسلم الكافر في وقت لا يقدر على الحج ثم مات، ذكر في اختلاف زفر ويعقوب أن على قول أبي يوسف: يجب الحج، وعلى قول زفر: لا يجب، قال البلخي: وقد روي عن أبي يوسف أنه يجب قضاءً، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان، قيل: وكان عن أبي حنيفة روايتان أيضاً. وكذلك على هذا إذا أصاب مالاً، واستهلكه أو هلك المال في وقت لا يقدر على الحج. والفتوى: على أنه لا يجب عليه الحج وهو الأظهر. وروى الحسن عن أبي حنيفة إذا أتى بالإحرام في الميقات يعني الحاج يقول: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبل مني عن فلان. إذا حج الرجل مرة، ثم أراد أن يحج مرة، فالحج مرة أخرى أفضل له أم الصدقة، فالمختار أن الصدقة أفضل له؛ لأن نفع الصدقة يعود إلى الفقير، ونفع الحج يقتصر عليه. في «العيون» : إذا أراد الرجل أن يخرج إلى الحج وأبوه كاره، فإن كان الأب مستغنياً عن خدمته لا بأس بذلك؛ وإن لم يكن مستغنياً لا يسعه الخروج. وذكر في «السير الكبير» إذا كان لا يخاف عليه لذلك الضيْعة فلا بأس بالخروج، وكذلك إن كره خروجه زوجته وأولاده ومن سواهم ممن يلزمه نفقتهم، وهو لا يخاف الضيْعة عليهم، فلا بأس بأن يخرج، ومن لا يلزمه نفقته لو كان حاضراً، فلا بأس بالخروج مع كراهيته، وإن كان يخاف الضيعة عليه. وذكر في «فتاوى أبي الليث» : إذا كان الابن أمرداً صبيح الوجه فلا بأس أن يمنعه عن الخروج حتى يلتحي، وإن لم يكن كذلك إلا أن أبواه يحتاجان إلى النفقة، ولا يمكنه أن يخلف لهما نفقة كاملة، أو يمكنه إلا أن الغالب هو الخوف في الطريق، فلا يخرج مع كراهيته، وإن كان الغالب هو السلامة، فلا بأس بالخروج. في «فتاوى أبي الليث» : الخروج إلى الحج راكباً أفضل من الخروج ماشياً؛ لأن المشي يجهد الإنسان، ويسيء خلقه، فلا يأمن أن يأثم في إحرامه. فيه أيضاً: رجل وجب عليه الحج، فحج من عامه فمات في الطريق، فليس عليه أن يوصي بالحج إلا أن يتطوع؛ لأنه لم يؤخر بعد الإيجاب، شكَّ الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله عمن قال: اللهم نريد الإحرام هل يصير محرماً؟ قال: على قياس قول أبي حنيفة يجب أن يصير محرماً؛ لأنه يجوز الشروع في الصلاة بقوله: اللهم، فأولى أن يجعله محرماً به، روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله قال: أقل ما يجب أن يكون بين الناس وبين الجماعة في حال ما بين من عشرة أذرع، والله أعلم بالصواب. ويتلوه كتاب النكاح (186ب1) .

كتاب النكاح

كتاب النكاح هذا الكتاب يشتمل على خمسة وعشرين فصلاً: 1 * في الألفاظ التي ينعقد بها النكاح. 2 * في الألفاظ التي تكون إجارة أو إذناً في النكاح والتي تكون رداً وإبطالاً. 3 * فيما يكون إقراراً بالنكاح، وما لا يكون إقراراً به. 4 * في الشروط والخيار في النكاح. 5 * في تعريف المرأة والزوج في العقد بالتسمية أو الإشارة. 6 * في الكفارة. 7 * في الشهادة في النكاح. 8 * في الوكالة في النكاح. 9 * في معرفة الأولياء، 10 * في نكاح الصغار والصغائر وتسليمهن إلى الأزواج وتصرف الأولياء في المهر. 11 * في نكاح الأبكار. 12 * في النكاح بالكتاب والرسالة، وفي النكاح مع الغائب. 13 * في بيان أسباب التحريم. 14 * في بيان ما يجوز من الأنكحة وما لا يجوز. 15 * في الأنكحة التي لا تتوقف على الإجازة والتي تتوقف على الإجازة. 16 * في المهور. 17 * في النكاح الفاسد وأحكامه. 18 * في ثبوت النسب. 19 * في نكاح العبيد والإماء. 20 * في نكاح الكفار.

21 * في الخصومات الواقعة بين الزوجين. 22 * في بيان ما للزوج أن يفعل، وما ليس له أن يفعل، وفي بيان ما للمرأة أن تفعل وما ليس لها أن تفعل. 23 * في العنين والمجبوب. 24 * في بيان حكم الولد عند افتراق الزوجين. 25 * في المسائل المتعلقة بنكاح المحلل وما يتصل به ونكاح الفضولي وفي طلاق المضاف، والحيل في رفع اليمين في طلاق المضاف وقضاء القاضي في مسألة العجز عن النفقة وأمثالها. 26 * في المتفرقات.

الفصل الأول: في الألفاظ التي ينعقد بها النكاح

الفصل الأول: في الألفاظ التي ينعقد بها النكاح قال القدوري رحمه الله في «كتابه» : عقد النكاح ينعقد بلفظين يعبر بهما عن الماضي نحو أن تقول المرأة: زوجت، ويقول الرجل: قبلت، قال: وينعقد أيضاً بلفظين أيضاً، يعبر بأحدهما عن المستقبل نحو أن يقول الرجل: زوجت. وفي نكاح «فتاوى أهل سمرقند» : إذا (قال) الرجل لغيره: دخرحوبش مراده، فقال: وادم، ينعقد النكاح، وإن لم يقل الخاطب: بدر فتم، ولو قال: دمتر حوبش مراد داي، فقال: دا دم، لا ينعقد النكاح ما لم يقل الخاطب: بدر فتم إلا إذا أراد أن يقول: دادي التحقيق دون السوام، فحينئذ يصح النكاح وإن لم يقل الخاطب: بدرفتم. ولو قال: حوبش بمن ذرى فقالت: دادم، فقال الزوج: لي بدرفتم، فها هنا لا يمكن حمل قوله: دادي على التحقيق؛ لأن معنى التحقيق لا يتضمن هذا الكلام، وقول الزوج: بدرفتم يعني خوبش بمن داري كه من بدرفتم، وهذا المعنى لا يمكن تحقيقه مع التصريح بعدم القبول بعد ذلك. وفي «مجموع النوازل» : عن الشيخ الإمام الزاهد نجم النسفي رحمه الله: إن في قوله: دمتر حوبش مراده لا بد وأن يقول: برني، ويقول الآخر: برني دادم، أما بدون ذلك لا ينعقد النكاح عند بعض المشايخ، وعند بعضهم ينعقد، فلا بد من هذه الزيادة لتصير المسألة محققة، وفي قوله: برى دادي، قال: اختلف مشايخ بلخ، بعضهم جعلوا هذا استفهاماً، وبعضهم جعلوه بمنزلة الأمر: خوبش بمنى برني ده، قال الشيخ الإمام الزاهد نجم الدين عمر رحمه الله: ومعنى الأمر راجح، ألا ترى أن التعارف فيما بين الناس أنهم يقولون وقت العقد جوتشتن بفلان نولي دادي، ويريدون به الأمر. وسئل نجم الدين عمن قال: لامرأة خوشتن بهزاردرم كبتن عن ترني دادي فقال: ما يسمع والطاعة قال: ينعقد النكاح. ولو قال: فساس دارم لا ينعقد؛ لأن الأول إجابة، والثاني عقد. وسئل هو أيضاً عمن قال: لأب امرأة: وجوحويشتن عقيد ركابين أصدر كردى مربن فلان راكضت كردم، وقيل للزوج بهذه اللفظة أيضاً، فقال: كردم، قال: لا ينعقد النكاح إن لم يسبق من غيرهما في حقهما عقد؛ لأن الإجازة الإمضاء لا الابتداء قيل للمرأة خويشتن بفلان ترني داري فقالت: دار. وقيل للزوج: بدرقتي، قال: بدرفتم ينعقد النكاح، وإن لم تقل المرأة: وادم ويدرفتم لمكان الفرق. وعلى هذا البيع إذا قيل للبائع: فروخني، فقال: فروخت، وقيل للمشتري خريدي

فقال: خريد ينعقد البيع وإن لم يقل: خريدم وفروختم، قيل لامرأة فلان رابا سيدي فقالت: يا شدم، قيل: لا ينعقد النكاح إلا إذا كان المخاطب قال لها: فلان رائرى ياشدي، فقال: يا شرم فحينئذ يكفي قولها جواباً، وانعقد النكاح بينهما، وقيل: ينعقد وهو الظاهر بحكم الفرق خويشتن دازن كر دانتدي، فقالت: كرد انيدم. وقال الزوج: بدرختم ينعقد النكاح في الأمر إذا قال لها: تزوجتك بكذا، فقالت: فعلت تم النكاح وإن لم تقل: قبلت. وإذا قال لها: جئتك خاطباً، فقالت: فعلت، أو قالت زوجتك نفسي نكاحاً تاماً، وكذلك إذا قال لها: خطبتك إلى نفسك، فقالت: قد فعلت كان نكاحاً تاماً ذكرهما شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح «الكافي» . وفي «نوادر المعلى» قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا قال الرجل لرجل: جئتك خاطباً ابنتك، فقال الأب: زوجتك، فقد تم النكاح. وينعقد النكاح بلفظ الهبة والصدقة والتمليك بأن قالت: وهبت نفسي منك، ملكت نفسي منك، تصدقت بنفسي عليك، ولا ينعقد بلفظ الإحلال والإباحة، وهل ينعقد بلفظة الإجارة؟ فعلى قول أبي بكر الرازي رحمه الله لا ينعقد، وعن الحسن الكرخي رحمه الله أنه ينعقد. وإنما وقع الاختلاف في هذا لاختلاف روايات عن أصحابنا رحمهم الله روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أن كل لفظ يملك به شيء ينعقد به النكاح، وهذه الرواية تدل على جواز النكاح بلفظ الإجارة. في رواية ابن رستم عن أبي حنيفة رحمه الله: كل لفظ تملك به الرقاب ينعقد به النكاح، والأولى وهذه الرواية تدل على عدم جواز النكاح بلفظ الإجارة وفي العبارة بلفظ البيع والشراء بأن قالت المرأة: بعت نفسي منك، أو قال أبو البنت: بعت ابنتي منك بكذا، أو قال الرجل لامرأة: اشتريتك بكذا، وأجابت بنعم، اختلاف المشايخ. كان الفقيه أبو القاسم البلخي يقول بالعبارة، وإليه أشار محمد رحمه الله في كتاب الحدود، ورواية الحسن ورواية ابن رستم عن أبي حنيفة رحمه الله يدلان عليه وهو الصحيح. وفي القرض والرهن اختلاف المشايخ كذلك وفي لفظ الإعارة اختلاف المشايخ. روي عن أبي الحسن الكرخي رحمه الله أن ينعقد، وكان يقول: الإعارة تفيد ملك المنفعة، ألا ترى أن إباحة استيفاء المنافع دون التمليك، ألا ترى أنه لا يملك الإجارة من غيره؟ فقال الفقيه أبو العباس الناطفي: وكان شيخنا أبو عبد الله رحمه الله يقول: النكاح.... أصلين مختلفين أحدهما الإباحة، فلا ينعقد بلفظة العارية بالشك، وأما لفظة الإقالة، فقد حكى الناطفي في «واقعاته» عن شيخه أبي عبد الله الجرجاني رحمه الله أنه لا ينعقد به النكاح؛ لأنها موضوعة لفسخ عقد سابق لا لعقد مبتدأ. قال: وعلى هذا

لا ينعقد النكاح بلفظة الجامع، وكذلك لا ينعقد بلفظ الصلح؛ لأن موضعه الحطيطة ولإسقاط الحق. وذكر شيخ الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب الصلح: الابتداء النكاح بلفظ الصلح العطية جائز، قال الناطقي رحمه الله: وكذلك لا ينعقد بلفظ الشركة، وإن كانت تفيد التمليك لمن قال لغيره: أشركتك في هذه الجارية، فإنه يفيد تمليكاً قال الناطقي رحمه الله: إنما كان كذلك؛ لأنها تفيد الملك في بعض رقبتها، لا في جميعها، فصار كمن قال لآخر: زوجتك نصف جاريتي، فإنه لا يصح النكاح؛ لأنه من حيث لم يزوج النصف الآخر، لا يستباح وطؤها، فاجتمع الحلال والحرام وكان الحكم الحرام، وفيه نظر، وقد ذكر في كثير من الكتب إذا أضاف النكاح إلى فضولي أضاف إليه الطلاق يقع الطلاق يصح النكاح أيضاً، وإن أضاف الطلاق إلى نصفها يقع الطلاق، فإذا أضاف النكاح إلى نصفها يصح النكاح أيضاً، وهذا لما عرف أن المرأة في حق محلية النكاح لا تتجزأ، وذكر بعض ما لا يتجزأ ذكر كله (187أ1) .t وفي «البقالي» : إذا تزوج نصفها، فقد ذكر بعضهم أنه يجوز، والنكرة غيره، وأما لفظ الرد هل ينعقد به النكاح ذكر في نكاح «إملاء بشر بن غياث» أن من طلق امرأته طلاقاً بائناً، فقالت: رددت نفسي عليك، فقال الرجل: قبلت كان نكاحاً هذا لفظ كتابه. قال أبو العباس الناطفي رحمه الله قال: وقد يكون في حكم الابتداء النفي. في «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله، لو مرض الموهوب له، فرد الموهوب على الواهب بغير قضاء جاز في قدر ثلثه، ولا يجوز في قدر ثلثيه، وأما لفظ المتعة فقد اختلفت الروايات فيها ذكر في «الأصل» ، وفي «نوادر هشام» عن أبي حنيفة رحمه الله لو قال لها: أتزوجك بمتعة لا ينعقد به النكاح، وقال في «الهارونيات» : قال أبو حنيفة رحمه الله: ينعقد به النكاح، ويلغو قوله: متعة. وفي «المنتقى» : هشام عن محمد رحمه الله إذا قال لامرأة: أتزوجك متعة، فالنكاح باطل، ولو قال لغيره: أبيعك هذه الدار تلجئة بألف درهم فالبيع جائز، وقال أبو يوسف: البيع والنكاح فاسدان، وفي «الأصل» إذا تزوج امرأة مدة معلومة، فالنكاح باطل، وهو المتعة.... إلى الآجال حتى سمى مائة وأبطل فيه العقد. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وكثير من مشايخنا قالوا: إذا سميا ما يعلم يقيناً أنهما لا يعيشان إليه كألف سنة ينعقد العقد ويبطل الشرط، كما لو تزوجها إلى قيام الساعة أو خروج الدجال، أو نزول عيسى عليه السلام، وهكذا روي عن الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، فأما بلفظة الوصية إن أطلق وقال: أوصيت لك ببضع أمتي بألف درهم وقبل الآخر، أو أضاف العقد إلى ما بعد الموت، بأن قال: أوصيت لك ببضع أمتي للحال بألف درهم وقبل الآخر ينعقد النكاح. ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، وهكذا حكي عن

الشيخ أبي عبد الله الجرجاني رحمه الله، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله مطلقاً أن النكاح لا ينعقد بلفظة الوصية. وفي كتاب الصلح من «الأصل» أعطيك مائة درهم على أن تكوني امرأتي، فهو جائز إذا قبلت بمحضر من الشهود، فيكون ذلك نكاحاً مبتدأ، فالنكاح ابتداء ينعقد بلفظة الكون، ولهذا من قال لامرأة: كوني امرأتي بمائة فقبلت بمحضر الشهود صح، إذا قال لامرأة: ثبت حقي في منافع بضعك بألف فقالت: قبلت صح النكاح، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا: لو قال الرجل لامرأة: كنت لي، أو صرت لي فقالت: نعم، أو صرت لك كان نكاحاً في كتاب الصلح في باب الصلح، وقد قيل بخلافه. ادعى رجل قبل امرأة نكاحاً، فجحدت فصالحها على مائة إن هي بذلك أقرت فهذا الإقرار منها جائز، وهذا الإقرار منها بمنزلة إنشاء النكاح؛ لأن هذا إقرار مقرون بالعوض، فيكون عبارة عن تمليك مبتدأ للحال، كمن قال لغيره: أقر لي بهذا العبد على أن أعطيك مائة فكان بيعاً حتى لو قال: إلى الحصاد لم يجز. وإذا جعل هذا الإقرار بمنزلة إنشاء النكاح، فإن كان بمحضر من الشهود صح النكاح، ووسعها المقام مع زوجها فيما بينهما وبين ربها، وإن لم يكن بمحضر من الشهود لا ينعقد النكاح، ولا يسعها المقام مع زوجها، وهو الصحيح، وهو نظير ما لو قضى القاضي بالنكاح بشهادة شهود زور ينفذ قضاؤه ظاهراً وباطناً عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، ويجعل ذلك بمنزلة إنشاء النكاح، وإن كان بمحضر من الشهود يصح النكاح، وما لا فلا، وهو الصحيح. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قال لامرأة بمحضر الشهود: راجعتك، فقالت المرأة: رضيت يكون نكاحاً، وفي «فتاوى القاضي» : لا يكون فقد نص في «الجامع» أن من قال للمطلقة بائناً أو ثلاثاً: إن راجعتك فعبدي حر، ينصرف إلى النكاح؛ لأن الرجعة قد يراد بها الرجعة المعروفة، وقد يراد بها النكاح فينظر إلى (المراد) وهذا المحل لا يقبل الرجعة المعروفة، فكان المراد منها النكاح. وفي «أجناس» الناطفي رحمه الله، إذا طلق امرأته طلاقاً بائناً أو ثلاثاً ثم قال لها: راجعتك على كذا، فرضيت المرأة بذلك، وكان بمحضر الشهود كان ذلك نكاحاً صحيحاً وإن لم يذكر المال، فإن أجمعا على أن الزوج أراد به النكاح كان نكاحاً، ومالا فلا، وتبين بما ذكر في «الأجناس» أن ما ذكر (في) «الفتاوى» محمول على ما إذا ذكر المال، أو أقر أن الزوج أراد به النكاح. إذا قال لامرأة: هذه امرأتي، وقالت المرأة: هذا زوجي، وكانت بمحضر من الشهود لا يكون نكاحاً، وكذلك لو قال بالفارسية: رن وسوهم لا يكون ذلك نكاحاً. وفي «فتاوى النسفي» أن فيه اختلاف المشايخ، قال ثمة: ولو قضى قاضى بصحة هذا النكاح ينفذ القضاء ويصح النكاح، ودلت المسألة أن قضاء القاضي في مثل هذه

الفصل الثاني: في الألفاظ التي تكون إجازة وإذنافي النكاح والتي تكون ردا وإبطالا

المجتهدات صحيح. فإن قال لها الشهود: أجزتما أو رضيتما، فقالا: أجزنا، أو قالا: رضينا لا يكون نكاحاً مبتدأ، فالنكاح لا ينعقد بلفظة الإجازة والرضا، ولو قال لهما الشهود: جعلتما هذا نكاحاً، فقالا: نعم كان ذلك نكاحاً مبتدأ، فالنكاح ينعقد بلفظ الجعل، ولهذا إذا قالت المرأة: نفسي لك بكذا، وقال الرجل: قبلت كان نكاحاً تاماً. طلب من امرأة زنا، فقالت المرأة للطالب: وهبت نفسي منك، وقبل الطالب لا يكون نكاحاً، بخلاف ما إذا وهبت نفسها منه على وجه النكاح، والفرق أن هبة نفسها من طالب الزنا يمكن..... وليست بهبة حقيقة لا يكون جواباً لما التمس، أما هبة نفسها على وجه النكاح هبة حقيقة، وبالهبة ينعقد النكاح، وهو نظير ما لو قال لآخر: وهبت لك ابنتي، وقال الآخر: قبلت كان نكاحاً إذا كان بمحضر من الشهود، ولو قال: وهبت ابنتي منك لتخدمك، (وقال) الآخر لا يكون نكاحاً. قيل لرجل: دحترخوش دابه بسر من بادراني داستي، فقال: دا شم لا ينعقد النكاح بينهما؛ لأن هذا اللفظ لا ينبىء عن التمليك ولا يستعمل فيه. في «فتاوى الفضلي» : إذا قال الرجل لغيره: زوج ابنتك مني بألف درهم، فقال والدها: ادفعها واذهب بها حيث شئت، وكان ذلك بمحضر (الشهود) لا ينعقد به النكاح، وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا قال أب الصغير: اشهدوا أني قد زوجت ابنة فلان الصغيرة من ابني فلان بمهر كذا، فقيل لأب الصغيرة: أليس هكذا؟ فقال أب الصغيرة: هكذا، ولم يزد على ذلك، فالأولى أن يجدد النكاح وأن يجدد إجازته. الفصل الثاني: في الألفاظ التي تكون إجازة وإذناًفي النكاح والتي تكون رداً وإبطالا رجلٌ زوج رجلاً امرأة بغير أمره، فلما بلغه الخبر فقال: نعم ما صنعته بارك الله لنا فيها، أو قال: أحسنت، أو قال: أصبت، قال الفقيه أبو القاسم رحمه الله: إنه ليس بإجازة، وذكر الصدر الشهيد في أول نكاح «واقعاته» : أنه إجازة هو المختار، واختاره الفقيه أبو الليث رحمه الله، إلا إذا علم بيقين أنه أراد به الاستهزاء، قال: وكذلك هذا في البيع والطلاق، قال: كذلك إذا هنأه قوم وقبل التهنئة كان إجازة. وذكر (في) بيوع «المنتقى» : أن من باع عبد الغير (187ب1) بغير إذنه، فقال صاحب العبد: قد أحسنت وأصبت ووفقت، أو قال: كفيتني لمؤنة البيع وأحسنت، فجزاك الله خيراً إن ذلك ليس بإجازة، ولو قبض الثمن من المشتري فهو إجازة، وذكر هذه المسألة في موضع آخر من الكتاب وذكر أن قوله: أحسنت ووفقت إجازة.

في الباب الأول من نكاح «واقعات الصدر الشهيد» رحمه الله إذا قال لأجنبية: إني أريد أن أزوجك من فلان، فقالت بالفارسية: توبة داني، لا يكون إذناً منها، ولو قالت: ذلك إليك فهو إذن وتوكيل، وهكذا ذكر في «أجناس الناطفي» عن أبي يوسف رحمهما الله. وفي «واقعات الناطفي» رحمه الله: العبد إذا طلب من المولى أن يأذن له في النكاح، فقال المولى: ذلك إليك فهو إذن، ولو قال: أنت أعلم، أو قال بالفارسية: توبة دان فذلك ليس بإذن، وبعض مشايخنا قالوا: قوله توداني وتوبة دان في عرفنا تفويض وتوكيل بمنزلة قوله: ذلك إليك. وهكذا حكي عن الفقيه أبي بكر الإسكاف رحمه الله أنه كان يقول: إن قوله: توية دان إذن، ووافقه في ذلك الفقيه أبو القاسم أحمد بن حمر. رجل زوج امرأة من رجل بغير أمرها، فبلغها الخبر فقالت باك نيت فهذا إجازة، هكذا ذكر الفقيه أبو الليث، وهو قول الفقيه أبي جعفر رحمهما الله؛ لأن هذا الكلام يستعمل في الإجازة في متعارف الناس، ومن مشايخ زماننا من أبى ذلك، وقال: إن قوله: بالانيت غير صلبي عن الإجازة، وهكذا كان يقول محمد بن سلمة رحمه الله ولكن هذا غير صواب؛ لأنه إن لم يكن منبئاً عن الإجازة، فهو مستعمل فيها، والإنباء ليس بشرط لا محالة إنما الشرط الاستعمال وقد وجد، وهو معنى كلام الفقيه أبي جعفر رحمه الله في تعليل هذه المسألة، هذا الكلام يراد به الإذن، وليس فيه معنى الإذن، أراد به أنه مستعمل في الإذن، وأنه لا ينبىء عن الإذن. رجل زوج وليته وهي بالغة، فلما بلغها الخبر قالت: أنا لا أريد الأزواج، أو قالت: رضيت بيت أبي، فهذا لا يكون رداً للنكاح، ولو قالت: لا أريد فلاناً فهو رد للنكاح، هكذا ذكر في «المنتقى» عن محمد رحمه الله، وقيل: هو رد في الوجهين جميعاً، والأول أظهر وأقرب إلى الصواب. وإذا استأمرها الولي في التزويج من رجل، فقالت: غيره أولى لم يكن ذلك إذناً في العقد، ولو أخبرها به بعد العقد، فقالت ذلك كان ذلك إجازة في «القدوري» . في «فتاوى الفضلي» : في عم قال لبنت أخيه: إني أريد أن أزوجك من فلان، فقالت: يصلح، ثم لما فارقها العم، فقالت: لا أرضى، فزوجها العم قبل أن يعلم قولها: لا أرضى ممن سمى لها، قال: صح النكاح عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن العم كالوكيل لا ينعزل قبل العلم، وأما عند محمد رحمه الله ينبغي أن لا يصح نكاح العم؛ لأن عنده العم ليس بوكيل وإنما يزوجها بحق له في تزويجها، وحين زوجها بحق الولاية زوجها وهي غير راضية بذلك فلا يجوز. في «المنتقى» : البنت إذا قبلت الهدية، فليست بإجازة للنكاح، وإذا قبلت المهر فهو إجازة؛ لأن المهر ثمن رقبتها، وفيه أيضاً: إبراهيم عن محمد رحمهما الله: قال لامرأة: قد تزوجتك على ألف درهم، فقالت: ما زوجتك نفسي، ثم قالت بعد ذلك: قد زوجتك

نفسي فهو جائز، وفيه أيضاً: المرأة إذا زوجت، فقالت: لا أرضى، لا أجيز له،.... أنا كارهة، فهذا كله فرقة، وليس لها أن ترضى بعد ذلك، وإن وصلت بقولها لا أرضى ولكني قد أجزت، أو وصلت بقولها: وأنا كارهة لكني قد أجزت، فهو في القياس باطل لكني قد أجيزه بالاستحسان. وعن أبي يوسف رحمه الله إذا زوج رجل امرأة من رجل بغير أمرها، فبلغها فقالت: لا أجيز فقال لها: افعلي، فقالت: قد أجزت لم يجز، وبطل النكاح حين ردت، ثم قال: إذا ردت ما قد وقع لم يكن لها أن تجيزه، وإذا كان لم يقع بعد مثل مخاطبة الزوج إياها، وردت كان لها أن تجيزه. وعن هذا قال أبو يوسف رحمه الله: إذا قال لامرأة: زوجيني نفسك على ألف، فقالت: لا أفعل إلا بألفين، فقال: اتق الله وأجيبي، فقالت: قد فعلت كان جائزاً. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: المرأة إذا بلغها خبر النكاح أخذها السعال أو العطاس، فلم يمكنها الرد، فلما ذهب ذلك عنها فقالت: لا أرضى صح الرد، وكذلك إذا أخذها، فلم يمكنها الرد فلما تركت قالت: لا أرضى صح الرد، وإن تركت الرد حال ما بلغها الخبر؛ لأنها تركت بعذر. وفيه: قالت المرأة لوليها: لا تزوجني من فلان فلاني لا أريده، فزوجها الولي من فلان، فبلغها الخبر، فرضيت جاز النكاح؛ لأن المنع عن الفعل في حال لا يمنع الرضا به في حال آخر، ولو قالت: كنت قلت: لا أريد فلاناً ولم تزد على هذا لم يجز النكاح؛ لأنها أخبرت عن إبائها الأول. الأم إذا زوجت ابنتها الصغيرة حال غيبة أبيها، فلما حضر الأب قال لها: حر اكردى، أو قال: اين كتوكردي مصلحت، فهذا لا يكون رداً للنكاح. الأم زوجت الصغيرة، ولها أب وسكتت الابنة نفسها بعد البلوغ، فهذا إجازة منها للنكاح. سئل أبو نصر عن امرأة زوجها وليها، فبلغها، وردت النكاح، ثم عاد إليها وليها في مجلس، فقال: إن أقواماً يخطبونك فقالت: أنا راضية بما تفعله أنت، فزوجها الولي من الذي قد ردته، فأبت أيضاً أن تجيز هذا النكاح، قال: لها أن ترد؛ لأن قولها: أنا راضية بما تفعله ليس بتفويض عام، وإنما ينصرف ذلك إلى غير الأول من الرجال؛ لأن تقدير هذا الكلام كأن الولي، قال لها: إذا أبيت فلاناً قد خطبك قوم آخرون، فماذا تقولين؟ فقالت: قد رضيت بما تفعل، فيكون ذلك رضا بغير الأول بمنزلة من قال لغيره: إني كرهت صحبة امرأتي فلانة فطلقتها، فزوجني امرأة ترضاها لي فزوجه المطلقة لم يجز كذا ههنا. وفي هذا الجواب نوع نظر عندي؛ لأن الإباء في حال لا يمنع الرضا في حال آخر

الفصل الثالث: فيما يكون إقرارا بالنكاح وما لا يكون إقرارا به

كما في المسألة المتقدمة، فيمكن أن يجعل قولها: أنا راضية بما تفعله تفويضاً عاماً كما يقتضيه ظاهر اللفظ، فلا ضرورة إلى صرفه إلى غير الذي ردته. سئل هو أيضاً عن رجل زوج وليته، فلما بلغها الخبر قالت: هو دميم لا أرضى به، أو قالت: هو دباغ لا أرضى لك منه الإباء، قال: هذا كلام واحد، فلا يضرها ما قدمت وبطل النكاح. وسئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن بالغة وكلت رجلاً ليزوجها من فلان بألف درهم، فزوجها منه بخمسمائة درهم، فلما أخبرت بذلك قالت: لم يعجبني هذا لأجل الناس لنقصان المهر، فقيل لها: لا يكون لك منه إلا ما تريدين، فقالت: رضيت، قال: يجوز النكاح؛ لأن قولها لم (188أ1) يعجبني ليس برد، فالرضا يرد على النكاح الموقوف فصح. ولو تزوج العبد امرأة بغير إذن مولاه، ثم قال له مولاه: طلقها لا يكون ذلك إجازة للنكاح، ولو قال له: طلقها تطليقة رجعية، أو قال: طلقها تطليقة تملك الرجعة، فهو إجازة للنكاح. في «الجامع الصغير» . وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد رحمه الله: رجل زوج رجلاً امرأة بغير أمره، فبلغه الخبر فقال: هي طالق لم يكن إجازة، وكان رداً، وإن قال: فهي طالق، فهذا عند أبي حنيفة رحمه الله قبول، والطلاق واقع، وقال محمد رحمه الله: هو رد ولا يقع الطلاق، والله أعلم. الفصل الثالث: فيما يكون إقراراً بالنكاح وما لا يكون إقراراً به قال محمد رحمه الله في إقرار «الأصل» : إذا قالت المرأة لرجل: طلقني، فهذا إقرار منها بالنكاح؛ لأنها طلبت منه ما لا صحة له إلا بالنكاح، فتضمن ذلك إقراراً بالنكاح، فلأن الطلاق لرفع قيد النكاح، وقولها: طلقني بمنزلة قولها: ارفع عني قيد النكاح الذي لك عليّ، وكذلك إذا قالت: اخلعني بألف درهم وهذا أظهر من الأول؛ لأنها التزمت البدل، والبدل لا يلزمها إلا بزوال ملك الزوج عنها بالخلع، وكذلك لو قالت: طلقتني أمس بألف درهم، خلعتني أمس بألف درهم، أنت مني مظاهر، أنت مني مول لأنه لا صحة لشيء مما أخبرت إلا بعد صحة النكاح، فيتضمن ذلك إقراراً منها بصحة النكاح، فكذلك إذا قال الرجل لامرأة اختلعي مني بمال فهذا إقرار منه أنه زوجها، فكذلك إذا قالت: طلقني، فقال لها: اختاري أمرك بيدك في الطلاق فهذا منه إقرار بالنكاح. ولو قال الرجل: والله لا أقربك فهذا لا يكون إقراراً منه بالنكاح بخلاف قوله: أنا منك مول، وهذا لأن قوله: والله لا أقربك محتمل يحتمل والله لا أقربك؛ لأنه لا ملك

لي عليك، ويحتمل لا أقربك مع أن لي عليك ملك على قصد الإضرار والتعنت والمحتمل لا يصلح لبناء الحكم عليه. وقوله: أنت عليّ حرام، أنت مني بائن أمرك بيدك، اختاري، اعتدي لا يكون إقراراً بالنكاح إلا إذا خرج جواباً لقولها طلقني؛ لأن هذه الألفاظ عند مذاكرة الطلاق متعينة للطلاق، ولهذا لا تحتاج إلى النية وإيقاع الطلاق إقرار بالنكاح. ولو قال لها: أنت عليّ كظهر أمي فهذا لا يكون إقراراً بالنكاح؛ لأن هذا إخبار منه بحرمتها، وهو ضد موجب النكاح بخلاف قوله: ظاهرتك، أنا منك مظاهر، فإن هذا يكون إقراراً بالنكاح، ولو قال لها ألم أطلقك أمس؟ أما طلقتك أمس؟ فهذا إقرار بالنكاح؛ لأن في هذا الاستفهام معنى التقرير قال الله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ} (الأنعام: 130) أي: أتاكم وتقرير الطلاق لا يكون إلا بعد النكاح، فكان إقراراً بالنكاح. ولو قال لها: هل طلقتك أمس؟ فهذا إقرار منه بالنكاح، ولا يكون إقراراً بالطلاق؛ لأن مثل هذا الاستفهام للاستبيان لا للتقرير فلا يصير به مقراً للطلاق، ولكن استبيان الطلاق لا يكون إلا بعد النكاح، فكان إقراراً منه بالنكاح. إذا قال لامرأة حرة: هذا ابني منك، فقالت: نعم، أو قالت حرة لرجل ذلك، فقال الرجل: نعم كان هذا إقراراً بالنكاح؛ لأن ثبوت النسب باعتبار الفراش والأصل فيه الفراش الصحيح؛ لأن الشرع إنما يرد بالصحيح دون الفاسد، ولا يثبت الفراش الصحيح على الحرة إلا بالنكاح فكان اتفاقهما على النسب اتفاقاً على سببه وهو النكاح، حتى لو كان مكان الحرة أمة لا يكون إقراراً بالنكاح، هذه الجملة من إقرار «الأصل» . وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد رحمه الله: امرأة قالت لرجل: أنا امرأتك فقال الرجل: أنت طالق فهذا إقرار منه بالنكاح. قال في «الأجناس» : وهذا بخلاف ما لو قال لها ابتداء أنت طالق حيث لا يكون إقراراً بالنكاح، وأشار إلى الفرق فقال: الطلاق يفضي إلى ارتفاع الزوجية فلا زوجية بين الأجنبيين ولا كذلك على وجه الجواب؛ لأن من حكم الجواب أن يكون مقصوداً على السؤال وقد تقدم ذكر الزوجية منها، وقوله لها: أنت طالق تقديره عن الزوجية التي تزعمها، فيكون إقراراً بالزوجية. في «الأجناس» أيضاً: لو قالت له: أنا امرأتك فقال: ما أنت امرأتي أنت طالق لا يكون إقراراً بالنكاح، وكذا لو قال لها: إن أنت امرأتي فأنت طالق فهنا لا يكون إقراراً بالنكاح. وفي «المنتقى» : امرأة قالت للقاضي: فرق بيني وبين هذا فهذا لا يكون إقراراً بالنكاح. وفيه أيضاً عمرو بن أبي عمرو. وفي «الإملاء» : رجل قال لامرأة: إني أريد أن أشهد أني قد تزوجتك فيما مضى لأمر خفته، فأقري بذلك أيتها المرأة، فقالت: نعم. فأشهد بذلك وصدقته المرأة، ثم تصادقا على ما كانا قالا، فالقول قولهما ولا نكاح بينهما، وأما الطلاق والعتاق في المرأة والعبد والأمة فلا يصدقان في إبطالهما في القضاء، وفيما بينهم وبين الله

الفصل الرابع: في الشروط والخيار في النكاح

تعالى فهي امرأته، والعبد والأمة رقيق المولى، وفي نكاح «الأصل» : إذا تزوج امرأة في عقدة وامرأتين في عقدة، وثلاثاً في عقدة ولا يعرف الزوج أيتهن الأول إلا أنه جامع امرأة منهن أو طلقها، أو ظاهر منها كان إقراراً منها بأنها هي الأول. ومما يتصل بهذا الفصل ما ذكر في «المنتقى» ، قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن أختين إحداهما فاطمة والأخرى خديجة، فقال رجل: قد تزوجت فاطمة بعد خديجة، فأخبرني أن أبا يوسف رحمه الله قال: فاطمة امرأته؛ لأنه تكلم بها أولاً، قال محمد رحمه الله: وهو كما قال الزوج؛ لأنه وصل بين كلاميه، فأجعل خديجة امرأته، وأفرق بينه وبين فاطمة. وكذلك إن امرأة قالت: تزوجت أبا موسى بعد (ما) تزوجت أبا حفص، وادعى الرجلان تزوجها، فهي امرأة أبي موسى عند أبي يوسف رحمه الله، ولا تصدق عليه، وقال محمد رحمه الله: تصدق عليه، فإن سألها القاضي من تزوجك؟ فقالت: تزوجت أبا موسى بعد ما تزوجت أبا حفص، فهي امرأة أبي حفص إذا كان جواب المنطق استحساناً استحسن ذلك أبو يوسف رحمه الله ذكر هذا الاستحسان في «المنتقى» في مسألة أخرى هي من جنس هذه المسألة. قال ثمة: وكذلك إذا قال: بعت عبدي من هذا بعدما بعته منك، فهو مثل التزويج. وفيه أيضاً: بشر عن أبي يوسف رحمه الله: امرأة قالت: تزوجت هذا الرجل أمس، ثم قالت: تزوجت هذا الرجل الآخر منذ سنة، فهي امرأة صاحب الأمس؛ لأنها أقرت له أول أمره، وإذا شهد الشهود على إقرارها لهما جميعاً، فإني أسأل الشهود بأيهما بدأت، ثم أنفذ الحكم عليه، ولو قالت: تزوجتهما جميعاً فهذا أمس وهذا مذ سنة كانت امرأة صاحب الأمس. الفصل الرابع: في الشروط والخيار في النكاح الخيارات التي تثبت في العقود أنواع أربعة: خيار شرط، وخيار عيب، وخيار رؤية، وخيار إجازة. فخيار الإجازة يثبت في النكاح كما يثبت في سائر العقود، وخيار الرؤية لا يثبت في النكاح، وخيار الشرط كذلك لا يثبت في النكاح، ولا يبطل به النكاح عندنا، وخيار العيب لا يثبت للزوج عندنا، وكذلك لا يثبت للمرأة عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد رحمهم الله يثبت لها الخيار في العيوب الخمسة، إذا كان على صفة لا تطيق المقام معه، وإذا شرط أحدهما لصاحبه السلامة عن العمى والشلل والزمانة، فوجد بخلاف ذلك لا يثبت له الخيار، وكذلك لو شرط أحدهما على صاحبه الجمال، أو شرط الزوج عليها صفة البكارة يأتي بعد هذا.

r في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد رحمهما الله إذا قال الرجل لغيره: زوجتك أمتي فلانة بكذا إن رضيت، وقبل ذلك الغير، فالنكاح جائز، والشرط باطل، ولو قال: بعت عبدي هذا إن رضي فلان، وسمى رجلاً أجنبياً، فالبيع جائز والشرط باطل، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: تأويله عندي إذا بين وقت الرضا. وفيه أيضاً: هشام عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لامرأة: قد تزوجتك بألف درهم إن رضي فلان اليوم، فإن كان فلان حاضراً فقال: قد رضيت جاز النكاح استحساناً، وإن كان غير حاضر لم يجز، وليس هذا كقوله: قد تزوجتك ولفلان الرضا لمعنى في هذه الصيغة، (هذا قول وزوجت وشرط خيار) ، والأول لم يوجب وجعل الإيجاب مخاطرة. ولو قال: تزوجتك اليوم على أن لك المشيئة اليوم إلى الليل، فالنكاح جائز والشرط باطل، وهو مثل شرط الخيار. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: تزوج امرأة على أن أباه بالخيار صح النكاح ولا خيار، ولو قال: تزوجتك إن رضي أبي لم يصح، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: لأنه علق النكاح بالخطر، ولا يعلق كذلك وفي الأول وقع في الحال. وفي «مجموع النوازل» : سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل خطب إلى رجل بنته الصغيرة لابنه الصغير، فقال المخطوب إليه: زوجتها من فلان قبل هذا، ولم يصدقه الخاطب فقال المخطوب إليه: إن لم أكن زوجتها من فلان فقد زوجتها من ابنك فلان، قال الآخر: قبلت، وذلك بحضرة الشهود، وظهر أنه لم يكن زوجها من فلان هل ينعقد هذا النكاح بهذه الكلمات؟ قال: نعم. قيل: أليس هذا تزويجاً معلقاً بالشرط؟ قال: هذا تعليق بما هو موجود للحال، ومثل هذا التعليق تحقيق. في «شرح الزيادات» : إذا قال لأمته: تزوجتك على أن أعتقك، أو قالت الأمة: تزوجني على أن تعتقني، فقبل جاز العتق، ولا يجوز النكاح؛ لأن العتق متأخر عن النكاح، فيصير متزوجاً أمة نفسه، ولو قال لها: تزوجتك على عتقك، أعتقتك على تزوجك فقبلت، فقد اختلف المشايخ في هذه الفصول، عامتهم على أنه لا يصح النكاح؛ لأن النكاح مقارن للعتق هنا، لكونه بدلاً عن النكاح، ثم العتق تصدفها، وهي أمة فكذا النكاح، وكان القاضي الإمام أبو حازم رحمه الله يقول: يصح في هذه الفصول لأنهما تصرفان لا يصح أحدهما وهو النكاح إلا بتقديم الآخر وهو العتق وجب القول بتقديم العتق كما في قوله: أعتق عبدك عني على ألف درهم. والصحيح ما ذهب إليه عامة المشايخ، لأن النكاح مع العتق ذكرا (على) سبيل العوض والمعوض، والعوض يقترن ثبوته بالمعوض ولا يسبقه، فيصادفها النكاح وهي أمة، بخلاف قوله: أعتق عبدك عني بألف درهم؛ لأن البيع هناك يثبت شرطاً للعتق لا عوضاً عنه، والشرط أبداً يثبت سابقاً، فأمكن تقديمه على الإعتاق، وأما هنا بخلافه. إذا تزوجها على أن يعتق أخاها، فقبلت جاز النكاح، ولا يعتق الأخ إلا بإعتاق

مستأنف؛ لأن العتق هنا موعود، ولا يخبر الزوج على الإعتاق؛ لأن العتق كان موعوداً، فلا جبر في المواعيد. بعد هذا المسألة على وجهين: أما إن عتق الزوج أخاها أو لم يعتق، فإن لم يعتق ينظر إن كان لم يسم لها مهراً، فلها مهر مثلها، وإن سمى لها مهراً، فإن كان المسمى مثل مهر مثلها، فلها ذلك ليس لها غيره، وإن كان المسمى أقل من مهر المثل، فلها تمام مهر مثلها، لأنها حطت عن مهر المثل لخلاص أخيها عن ذل الرق، ولم يحصل لها هذا المقصود. وإن أعتق الزوج أخاها فإن كان الزوج سمى لها مهراً، فلها المسمى، وإن كان المسمى دون مهر مثلها؛ لأن مقصودها قد حصل هنا، وإن لم يسم له مهراً، فلها تمام مهر مثلها. ولو تزوجها (على) أن يعتق أخاها عنها، فقبلت جاز النكاح، فصار رقبة الأخ ملكاً لها بنفس العقد، وعتق الأخ عليها بحكم القرابة أعتقه الزوج أو لم يعتقه؛ لأن المرأة طلبت منه أن يعتقه عنها، والعتق عنها لا يثبت إلا بعد تقدم الملك لها، فتقدم الملك، وثبت العتق عنها بجهة القرابة. في هذا الفصل نوع إشكال؛ لأنه أثبت الملك بدون الإعتاق، والملك في مثل هذا لا يثبت بدون الإعتاق كما في قوله: أعتق عبدك عني على ألف درهم، والجواب وهو الفرق بين الفصلين أن النكاح يقتضي ملك المهر، فملك العبد يصلح مقتضى النكاح، ويصلح مقتضى العتق فاستويا فاحتجنا إلى الترجيح، فنقول: جعله مقتضى النكاح أولى؛ لأنا إن جعلناه مقتضى العتق، فالعبد يكون مهراً أيضاً، والملك لها في العبد باعتبار أنه مهر بدليل أنه لو طلقها قبل الدخول يجب عليها رد نصف قيمة العبد، فكان الترجيح لجانب النكاح، فجعلناه مقتضى النكاح، فيثبت بمجرد النكاح، ولا كذلك في قوله: أعتق عبدك عني؛ لأن هناك الملك مقتضى العتق؛ لأنا لو لم نجعله مقتضى العتق يبطل كلامهما، فجعلها مقتضى العتق، فلا يثبت قبل ثبوت العتق. ولو تزوجها على عتق أخيها، فقبلت جاز النكاح وعتق العبد عن المولى؛ لأنه جعل العتق عوضاً عن النكاح، ولها مهر مثلها؛ لأن عتق الأخ لا يصلح صداقاً، وإن كان سمى لها مع ذلك ما يصلح مهراً، فلها المسمى لا غير، وإن كان دون مهر مثلها. ولو تزوجها على عتق أخيها عنها فقبلت جاز النكاح، وعتق العبد عليها، وليس لها غير الأخ؛ لأن الزوج حصل على رقبة الأخ؛ لأن العتق عنها لا يكون إلا بعد تقديم للملك لها في رقبة الأخ، فصار اشتراط العتق اشتراطاً لتمليك الرقبة منها، ورقبة الأخ تصلح مهراً، فلا يجب شيء آخر لها. ولو كان تزوجها على أن يعتق عبداً أجنبياً لا قرابة بينه وبينها جاز النكاح (189أ1) ولا يعتق العبد إلا بإعتاق الزوج، فيكون لها مهر مثلها إن لم يسم لها مهراً، وإن سمى لها ما يصلح مهراً، فلها المسمى لا غير وإن كان ذلك دون مهر مثلها؛ لأن الشرط هنا ليس بمرغوب بخلاف إعتاق الأخ.

ولو كان تزوجها على أن يعتق عنها عبداً من عبيده بعينه لا قرابة بينه وبينها جاز النكاح، وتصير رقبة العبد ملكاً لها مهراً، وصار الزوج وكيلاً عنها بالإعتاق فإن أعتقه قبل نهي المرأة صح إعتاقه، وإن نهته ثم أعتقه كان باطلاً؛ لأن تقدير هذا كأن المرأة قالت له: ملكني هذا العبد ثم كن وكيلي بالعتق، فكان لها أن تعزله عن الوكالة بخلاف قوله: على أن يعتق أخاها عنها؛ لأن الملك كما ثبت لها في رقبة الأخ عتق فلا تعزل الزوج عن الوكالة، ولو كان تزوجها على عتق عبد بعينه، لا قرابة بينه وبينها، فقبلت جاز النكاح وعتق العبد عن المولى حتى كان الولاء له، ولها مهر مثلها، وإن كان قد سمى لها مع ذلك (ما) يصلح مهراً، فلها المسمى لا غير، ولو كان تزوجها على عتقه عنها جاز النكاح، وعتق العبد من جهتها حتى كان الولاء لها، وهو مهرها ليس لها غيره. هذه الجملة من «الزيادات» . في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: تزوج امرأة على أنها بكر، فدخل فوجدها (ثيباً) بالوثبة أو غير، فعليه المهر كلاً ويستوي إن زالت بكارتها بالوطء أو بطول التعنيس؛ لأن البكارة لا تصير مستحقة بالنكاح، وفيما إذا اشترى جارية على أنها بكر فوجدها زائل العذرة، وقال البائع: زالت عذرتها بالوثبة، قال بعض مشايخنا: إن صدقه المشتري في ذلك لا يكون له حق الرد وإن كذبه، وقال: لا بل زالت عذرتها بالوطء كان القول قوله، وله حق الرد، وأكثر المشايخ على أن له حق الرد على كل حال هو الصحيح؛ لأن الناس باشتراط البكارة يريدون صفة العذرة، فبأي طريق زالت العذرة، فقد فات الشرط، فيكون له حق الرد. وفي «الفتاوى» للفقيه أبي الليث رحمه الله قال أبو نصر: قال البلخي: زوج رجل أمته من عبده على أن أمرها بيده يكون كذلك، وقال ابن سلمة: صح النكاح، ولا يكون الأمر بيده، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: لو بدأ العبد بقوله: زوجني على أن أمرها بيدك، فزوجها لا يكون الأمر بيده لوجود التفويض قبل النكاح، وإن بدأ المولى فقال: زوجتها منك على أن أمرها بيدي أطلقها كلما أريد، فقال العبد: قبلت صار الأمر بيده لوجود التفويض بعد النكاح. بيانه: أن العبد لما قال: قبلت في هذه الصورة صار كأنه قال: قبلت على أن أمرها بيدك تطلقها كما تريد، فيكون التفويض بعد النكاح. ونظير هذا: رجل قال لامرأة: تزوجتك على أنك طالق، أو على أن أمرك بيدك تطلق نفسها كما تريد، فقبلت لا يقع الطلاق، ولا يصير الأمر بيدها، ولو بدأت فقالت: زوجت نفسي منكَ على أني طالق، أو على أن أمري بيدي أطلق نفسي كلما أريد، فقال الزوج: قبلت، وقع الطلاق، وصار الأمر بيدها، وتصير هذه المسألة حيلة للمطلقة ثلاثاً إذا خافت من المحلل أن يمسكها، ينبغي أن تبدأ هي، وتقول للزوج: زوجت نفسي منك على أن أمري بيدي أطلق نفسي كلما أريد، ثم يقبل الزوج، فيصير الأمر بيدها تطلق نفسها كلما أرادت، ولو كان الزوج قال لها: تزوجتك على أنك طالق بعد ما أتزوجك،

الفصل الخامس: في تعريف المرأة والزوج في العقد بالتسمية أو الإشارة

أو على أن أمرك بيدك بعد ما أتزوجك، تطلقي نفسك كلما تريدين، فقالت المرأة: قبلت تطلق، ويصير الأمر بيدها. وفي «المنتقى» : الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا قال لها: أتزوجك على أن أمرك بيدك بعدما أتزوجك شهراً، فالنكاح جائز، وأمرها بيدها شهراً منذ تزوجها، فإن اختارت زوجها في يوم من الشهر لم يبطل خيارها في باقي الشهر، وروى الحسن عن أبي مالك عن أبي يوسف رحمهم الله، أنه يبطل خيارها في باقي الشهر. تزوج امرأة على أن يأتي بعبدها الآبق، فلها مهر مثلها، هكذا قال الفقيه أبو القاسم رحمه الله. وعنه أيضاً: تزوج امرأة على أنه مدني فإذا هو قروي لا خيار لها، وفي «الجامع الأصغر» ؛ قال أبو الليث الكبير رحمه الله: تزوج أمة رجل على أن كل ولد تلده فهو حر، فالنكاح جائز، والشرط كذلك، وكل ولد تلده فهو حر. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل تزوج امرأة، ولم يسم لها مهراً على أن تدفع المرأة إلى الزوج هذا العبد قسم مهر مثلها على قيمة العبد، وعلى مهر مثلها؛ لأنها بذلت البضع والعبد بأداء مهر مثلها، والبدل ينقسم على وقدر قيمة المبدل، فما أصاب قيمة العبد فالبيع فيه باطل؛ لأنها باعت بشيء مجهول، ويصير الباقي مهراً لها. في «واقعات الناطفي» : رجل قال لامرأة: أتزوجك على أن تعطيني عبدك هذا، فأجابته بالنكاح، فالنكاح جائز بمهر المثل، ولا شيء له من العبد، قوله: لا شيء له من العبد ظاهر؛ لأنه اشترى العبد شراءً باطلاً؛ لأنه اشتراه بثمن مجهول، وقوله: فالنكاح جائز بمهر المثل يفسره ما قلنا في المسألة المتقدمة: إن مهر مثلها يقسم على مهر مثلها وعلى قيمة العبد، فما أصاب مهر مثلها يصير مهراً لها. الفصل الخامس: في تعريف المرأة والزوج في العقد بالتسمية أو الإشارة امرأة وكلت رجلاً ليزوجها من نفسه، فذهب الوكيل، وقال لجماعة: اشهدوا أني قد تزوجت فلانة ولم يعرف الشهود فلانة لا يجوز النكاح ما لم يذكر اسمها واسم أبيها، واسم جدها، لأنها غائبة، والغائب لا يعرف إلا بهذه الأشياء، ألا ترى أنه لو قال بين يدي الشهود: تزوجت امرأة قد وكلتني بنكاحها لا يجوز؟ وإنما لا يجوز لما قلنا، هكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في الباب الأول من «واقعاته» ، وذكر الخصاف في «حيله» مسألة تدل على أن مثل هذا التعريف يكفي لجواز النكاح. فصورة ما ذكر الخصاف: رجل خطب امرأة إلى نفسها، فأجابته إلى ذلك، وكرهت أن يعلم بذلك أولياؤها، فجعلت أمرها في تزويجها إليه، واتفقا على المهر، فكره الزوج أن يسميها عند الشهود إني خطبت امرأة إلى نفسها، وبذلت لها من الصداق كذا وكذا،

فرضيت بذلك، وجعلت أمرها إليّ بأن أتزوجها، فاشهدوا أني قد تزوجت المرأة التي جعلت أمرها إليّ على صداق كذا وكذا، ينعقد النكاح بينهما إذا كان كفئاً لها، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: الخصاف كبير في العلم، وهو من جملة من يصح الاقتداء به، قال رحمه الله: وذكر في «المنتقى» أيضاً (189ب1) . أن مثل هذا التعريف يكفي فيتأمل عند الفتوى، هذا إذا كان الشهود لا يعرفون فُلانة. فأما إذا كانوا يعرفونها وذكر الزوج اسمها لا غير جاز النكاح، وإن كانت غائبة إذا عرف الشهود أنه أراد به المرأة التي عرفوها لأن المقصود هو التعريف وقد حصل التعريف بمجرد ذكر الاسم. وفي «البقالي» : إذا لم ينسبها الزوج ولم يعرفها الشهود وسِعَهُ فيما بينه وبين ربِّه. وفيه أيضاً: إذا قال: المرأة التي في هذا البيت جاز إن كانت وحدها وإن كانت المرأة حاضرة إلا أنها متنقبة لا يعرفها الشهود فقال الرجل: تزوجت هذه، وقالت المرأة زوجت جاز، هو المختار خلافاً لما يقوله نصر لأنها حاضرة والحاضر يعرف بالإشارة، والاحتياط أن يكشف وجهها أو يُذكر أبوها وجدها فيقع الأمن من أن يرفع الأمر إلى قاضٍ يميل إلى قول نصر فيبطل النكاح. جارية لها اسم سُمّيت به في صغرها فلما كبرت سميت باسم آخر، تُزوج باسمها الآخر إن صارت معروفة بهذا الاسم. في نكاح «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجلٌ له ابنة واحدة اسمها فاطمة، قال لرجل: زوجت منك ابنتي عائشة ولم تقع الإشارة إلى شخصها، ذكر في «فتاوى الفضلي» : أنه لا ينعقد النكاح لأنه إذا لم تقع الإشارة إلى شخصها كان انعقاد النكاح بالتسمية وليست له ابنة بهذا الاسم. ولو قال: زوجت ابنتي منك ولم يزد على هذا وله ابنة واحدة جاز؛ لأنه أمكن تصحيح النكاح بدون التسمية، وفي أول شرح عتاق «الأصل» : إذا قال لغيره: بعتك عبدي أو قال: عبداً لي، وليس له إلا عبد واحد هل يجوز البيع؟ اختلف فيه المشايخ، بعضهم قالوا: يجوز كما لو قال: بعتك عبداً لي في مكان كذا وليس له في ذلك المكان إلا عبد واحد وذلك جائز بلا خلاف، وبعضهم قالوا: لا يجوز، وإليه أشار محمد رحمه الله في باب الشهادة على العتق، وبه أخذ شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، فيجوز أن تكون مسألة النكاح على الاختلاف بين المشايخ كمسألة البيع. في «فتاوى الفضلي» رحمه الله أيضاً: إذا كانت للرجل ابنتان كبرى اسمها عائشة وصغرى (اسمها) فاطمة فأراد أن يزوج الكبرى، وعقد النكاح باسم عائشة بأن قال: زوجت منك ابنتي عائشة ولم يُشِرْ إلى أحدهما، ولم يقل ابنتي الكبرى ينعقد النكاح على عائشة، ولو قال: زوجت منك ابنتي الكبرى فاطمة لم يذكر هذا الفصل ثمة، قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : يجب أن لا ينعقد النكاح أصلاً لأنه ليست له ابنة كبرى بهذا الاسم. إذا أراد أن يزوج أمته من إنسان فقال: زوجت منك أمتي قتلغ، أو قال تنفشة جاز إذا لم يكن له بهذا الاسم إلا أمة واحدة، وكذا لو أراد أن يزوج امرأة من عبده فقال:

زوجتك من عبدي سنقر جاز إذا لم يكن له غلام آخر بهذا الاسم، ألا ترى لو أراد أن يزوج ابنته يقول: زوجت ابنتي فاطمة مثلاً، وإن أراد أن يزوج ابنه فقال: ابني أحمد مَثَلاً، ويجوز كذا هنا. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل (أراد) أن يزوج ابنته الصغيرة من ابن صغير لغيره، فقال أب الصغيرة لأب الصغير: زوجت ابنتي الصغيرة فلانة من ابنك الصغير فلان، وقال أب الصغير قبلت جاز النكاح للابن؛ وإن لم يقل الأب قبلت الابن؛ لأن المزوج أوجب العقد للابن، وقبول المتزوج جواب، والجواب يتقيد بالإيجاب فكأنه قال: قبلت الابن. وفي هذا الموضع أيضاً. رجل خطب لابنه الصغير امرأة، فلما اجتمعا للعقد قال أبُ المرأة لأب الصغير بالفارسية: دادم برابرني ابن دحتر بهزاردرم فقال أب الابن: بدرفتم يجوز النكاح للأب، وإن جرى بينهما مقدمات النكاح للابن، هو المختار؛ لأن الأب أضاف النكاح إلى نفسه، وهذا أمر يجب أن يحتاط فيه. وفي «البقالي» : إذا خطب الرجل صغيرة لابنه الصغير فقال أب الصغيرة لأب الصغيرة وهنيئاً لك؛ فقال أب الصغير: قبلتها لابني جاز. في «مجموع النوازل» : سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل قال لآخر: زوجت ابنتي فلانة من ابنك فلان بكذا ولفلان ابنان فقال فلان: قبلت لابني ولو لم يقل فلان لا يجوز النكاح. ولو قال: قبلت ولم يقل لابني جاز النكاح للابن المسمى في التزويج؛ لأن في الفصل الثاني أمكن جعل قوله قبلت جواباً للإيجاب السابق؛ لأنه لم يزد على حرف الجواب فيتقيّد بالإيجاب، وصار كأنه قال: قبلت لابني فلان. وأما في الوجه الأول زاد على حرف الجواب وقصر عن الإتمام فلا يمكن أن يجعل جواباً فلا يتقيّد بالإيجاب فنفي القبول منهما فلا يصح. فالحاصل: أنه إذا كان للمزوج ابنة واحدة وللقابل ابن واحد فقال: زوجت ابنتي من ابنك يجوز على ما ذكره الفضلي. وعلى قياس مسألة البيع المذكور في العتاق يكون فيه اختلاف المشايخ، وإن كان للمزوج ابنة واحدة وللقابل ابنان فسمى المزوج الابنة والابن باسمهما؛ إن سمى القابل الابن باسمه صح النكاح للابن المسمى، وكذلك إذا لم يسمه واقتصر على قوله قبلت يجوز النكاح للابن المسمى ويجعل قول القابل قبلت جواباً فيتقيّد بالإيجاب. ولو ذكر القابل الابن إلا أنه لم يسمه باسمه بأن يقول قبلت لابني لا يصح لأنه لا يمكن أن يجعل جواباً؛ لأنه زاد على حرف الجواب، فإنه كان يكفيه قبلت، بخلاف ما إذا سمى الابن باسمه لأنه إن زاد على حرف الجواب فما قصر عن الإتمام، وجنس هذا في «الجامع» في الأيمان والله أعلم.

الفصل السادس: في الكفاءة

الفصل السادس: في الكفاءة الكفاءة معتبرة في باب النكاح، والأصل فيه قوله عليه السلام فيما رواه جابر عنه: «لا تنكح النساء إلا من الأكفاء» وقال عليه السلام: «ألا لا يُزوجُ النساءَ إلا الأولياءُ ولا يزوجن إلا من الأكفاء» والحكمة في اشتراطها: تحقيق ما هو المقصود من النكاح وهو السكنى والازدواج، إذ المرأة تتعير باستفراش من لا يكافئها، ثم اعتبارها من وجوه: أحدها: النسب، واعلم بأن الناس طبقات ثلاث: قريش والعرب والموالي، فقريش بعضهم أكفاء لبعض، والعرب بعضهم أكفاء لبعض، ولا يكون العرب أكفاء لقريش، والموالي بعضهم أكفاء لبعض، ولا يكون الموالي أكفاء للعرب ولا لقريش. قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: الكفاءة فيما بين الموالي (190 ب1) تعتبر بالإسلام لا بالنسب لأن الموالي ضيّعوا أنسَابهم فلا يعتبر النسب في حقهم، وما قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : بعضهم أكفاء بعض إلا أن يكون أمراً مشهوراً، وإنما قال ذلك تعظيماً لأمر الخلافة أو تسكيناً للفتنة والعالم يكون كفئاً للعلوية لأن للعالم شرف الكسب يعني به كسب العلم وللعلوية شرف النسب، وشرف الكسب أولى، وعن هذا قيل: إن عائشة أفضل من فاطمة رضي الله عنهما؛ (لأن لعائشة شرف كسب العلم، قال عليه السلام: «..... تأخذون ثلثي دينكم من عائشة» . ولفاطمة شرف النسب) . الثاني: المال إلا رواية عن أبي يوسف رحمه الله رواها ابن زياد أن الكفاءة في المال غير معتبرة، وفي ظاهر الرواية معتبرة، والمعتبر فيه القدرة على المهر والنفقة، ولا تعتبر الزيادة على ذلك حتى إن من كان قادراً على المهر والنفقة كان كفئاً لها وإن كانت صاحبة أموال كثيرة وهو الصحيح من المذهب، وإن كان يقدر على نفقتها بالتكسُّب ولا يقدر على مهرها اختلف فيه المشايخ: عامتهم على أن لا يكون كفئاً لها، وذكر هشام في «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله رواية أخرى أنه إذا كان قادراً على العمل فهو كفء لها، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهو الصحيح، وعن أبي حنيفة رحمه الله فيه أنه كفء لها، هكذا روي عن محمد، وروي عن أبي يوسف روايتان ذكره البقالي في «فتاويه» . وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: أنه إذا كان للرجل المهر والنفقة لستة أشهر

فهو كفء، والقياس: نفقة شهر. وفيه أيضاً: إذا كان يجد نفقة المرأة ولا يجد نفقة نفسه فهو كفء. ثم إنما تعتبر القدرة على النفقة إذا كانت المرأة كبيرة أو صغيرة تصلح للجماع، أما إذا كانت صغيرة لا تصلح للجماع لا تعتبر القدرة على النفقة لأنه لا نفقة لها في هذه الصورة، ويكتفى بالقدرة على المهر، إليه أشار ابن رستم في «نوادره» . في «المنتقى» : إذا تزوجها وهو فقير فتركت له المهر، وهذا ليس بكفء وينبغي أن يقدر على مهرها ونفقتها يوم تزوج. في «فتاوى أهل سمرقند» : رجل زوج أخته وهي صغيرة وهو وليها من صبي ليس له طاقة المهر وقبل أبوه النكاح وهو غني جاز؛ لأن الصغير يُعَدُّ غنياً في حق المهر بغنى الأب؛ ولا يعد غنياً في حق النفقة بغنى الأب؛ لأن العادة أن الآباء يتحملون المهر عن الأبناء ولا يتحملون النفقة.u وفي «فتاوى الفضلي» سئل عن العم إذا زوج الصغيرة من صبي صغير لا مال (له) ولأبيه مال كثير وللصغيرة مال كثير هل يكون هذا كفئاً لها؟ وهل يجوز النكاح؟ قال: اختلف المتأخرون فيه من علمائنا، منهم من لم يجعله كفئاً لها؛ ومنهم من جعله كفئاً لها لأنه يُعد غنياً بغنى أبيه، ولم يفصل بين المهر والنفقة قال رحمه الله: وقول من قال إنه كفء لها أعجب إليَّ. في «فتاوى أهل سمرقند» أيضاً: رجل يملك ألف درهم ... فهذا الرجل كفء لها، وإن كانت القدرة على المهر شرطاً فإن القدرة ثابتة هنا فإنه يقضي أي الدينين شاء بذلك المال. والثالث: الحرية فالعبد لا يكون كفئاً للحرة وكذلك المعتق لا يكون كفئاً للحرة الأصلية، والمعتق أبوه أو جده لا يكون كفئاً للمرأة لها أبوان في الحرية عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله خلافاً لأبي يوسف رحمه الله في الجد. ومن كان له أبوان في الحرية كان كفئاً لمن كان له ثلاثة آباء في الحرية أو أكثر في ذلك. امرأة أمُّها حرة الأصل وأبوها معتق قوم فالمعتق لا يكون كفئاً لها لأن المعتق قد بقي فيه أثر من آثار الرق وهو الولاء، والمرأة إذا كانت أمها حرة الأصل كانت هي حرة الأصل فلا يكون المعتق كفئاً لهذه المرأة. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله، وفي «المنتقى» : قال هشام: سمعت محمداً رحمه الله وفي رجل خطير زوج ابنته من مملوك نفسه، قال: إن كانت الابنة كبيرة ورضيت جاز، وإن كانت صغيرة لم يجز، فقلت: إن أبا يوسف رحمه الله أجازه ولم يقبل ذلك مني، وكذا إذا زوج ابنته من مكاتبه؛ إن كانت كبيرة ورضيت به جاز، وإن كانت صغيرة لا يجوز، وعلى قول أبي حنيفة رحمه اللَّه: يجوز في الفصلين جميعاً بناءً على مسألة الكفاءة على ما يأتي بيانها في آخر الفصل إن شاء الله تعالى. والرابع: إسلام الأب في الموالي: من أسلم بنفسه لا يكون كفئاً لامرأة لها أب في

الإسلام، ومن له أب في الإسلام لا يكون كفئاً لامرأة لها أبوان في الإسلام عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، خلافاً لأبي يوسف رحمه الله في الجد، ومن كان له أبوان في الإسلام كان كفئاً لامرأة لها ثلاثة آباء في الإسلام أو أكثر، والكلام في إسلام الجد وفي حرية الجد ينبني على أن التعريف هل يحصل بدون ذكر الجد؟ عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا يحصل، وعند أبي يوسف رحمه الله يحصل، هذا في حق الموالي، وأما في حق العرب، فإسلام الأب ليس بشرط. في «المنتقى» إبراهيم عن محمد رحمه الله من كان له أب واحد في الإسلام وله فضل ودين هل يكون كفئاً لمن له أبوانِ في الإسلام أم (لا) ؟ قال: إذا استويا في المال على ما يرى الناس فربما يكون الذي له أب كفئاً لمن له أبوان، وكذلك هذا في الحرية، وروى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله: من أسلم على يد إنسان لا يكون كفئاً لموالي العتاقة، وذكر ابن سماعة عنه في الرجل يُسلم والمرأة معتق أنه كفء لها قال في «شرح الطحاوي» : ومولى الوضيع لا يكون كفئاً لمولاة أشرف القوم؛ لأن الولاء «لُحْمَةٌ كلحمة النسب» حتى إن معتق العربي لا يكون كفئاً لمعتقة الهاشمي، فكان لمعتقها حق.... ومعتقة أشرف القول تكون كفئاً للموالي لأن لمعتقة أشرف القوم شرف الولاء وللموالي شرف إسلام الآباء وحريتهم. والخامس: التقوى والحسب حتى لا يكون الفاسق كفئاً للعدلة عند أبي حنيفة رحمه الله سواء كان معلن الفسق أو لم يكن، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن الصحيح عند أبي حنيفة رحمه الله أن الكفاءة في التقوى، والحسب غير معتبر في التقوى، وفسّر الحسب فقال: هو مكارم الأخلاق، حتى روي عنهُ أن الذي يشرب المسكر إن كان غير متهتك بسكره حين يسكر كان كفئاً لامرأة صالحة من أهل البيوتات، وإن كان يصير ضحكة حين يسكر ويُستهزأ منه ويعربد ويتهتك لا يكون كفئاً لامرأة صالحة من أهل البيوتات، هكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله عن محمد رحمه الله أن الذي يسكر فيخرج ويستهزىء منه الصبيان لا يكون كفئاً لامرأة صالحة من أهل البيوتات. وكذلك أعوان الظلمة من يستخف به منهم لا يكون كفئاً لامرأة صالحة من أهل البيوتات، وإن كان مهيباً معظماً في الناس فهو كفء لامرأة صالحة من أهل البيوتات، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: الذي يشرب المسكر إن كان يشرب ذلك ولا يخرج سكراناً كان كفئاً لامرأة صالحة من أهل البيوتات، وإن كان يعلن ذلك (190ب1) لا يكون كفئاً لها، فما ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله من قول محمد رحمه الله يوافق ما ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله من قول أبي يوسف رحمه الله قيل وعليه الفتوى.

والسادس: الكفاءة في الحرف فقد اعتبرها أبو يوسف ومحمد رحمهما الله وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الناس بعضهم أكفاء لبعض إلا حائك أو حجام، وفي رواية أو دباغ. قال مشايخنا: ورابعهم الكنّاس، فواحد من هؤلاء الأربعة لا يكون كفئاً للصيرفي والجوهري وعليه الفتوى. وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: وهنا خسيس خامس أخسّ من كلهم وهو الذي يخدم الظلمة، هو الذي يُدعى شاكرياً كان صاحب مروءة وقال وصنعة الظلم فيه خساسة لأنه يأكل من دماء الناس وأموالهم بعد هذا المروي عن أبي يوسف رحمه الله أن الحرف متى تفاوت لا يعتبر التفاوت وتثبت الكفاءة فالحايك يكون كفئاً للحجام والدباغ للكناس، والصغار يكون كفئاً للحداد، والعطار يكون كفئاً للبزاز. قال شمس الأئمة الحلواني وعليه الفتوى، وفي «الحاوي» أن القروي كفئاً للمدني. والسابع: الكفاءة في العقل وإنها معتبرة عند بعض المتأخرين من المشايخ حتى إن الزوج إذا كان مجنوناً لا يكون كفءً للمرأة العاقلة وعند بعضهم غير معتبرة لأن الجنون بمنزلة المرض، ثم سائر الأمراض لا تسلب الكفاءة فكذا الجنون، ثم المرأة إذا زوجت نفسها من غير كفء صح النكاح في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله، وهو قول أبي يوسف رحمه الله آخراً، وقول محمد رحمه الله آخراً أيضاً لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله، حتى إن قبل التفريق يثبت فيه حكم الطلاق والظهار وله إيلاء والتوارث وغير ذلك، ولكن للأولياء حق الاعتراض؛ لأنها ألحقت الشين بالأولياء بنسبة من لا يكافئهم إليهم بالصمدية فكان لهم أن يدفعوا هذا الشين عن أنفسهم. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أن النكاح لا ينعقد، وبه أخذ كثير من مشايخنا رحمهم الله. ولا يكون التفريق بذلك إلا عند القاضي، يريد به: أنه ينبغي للولي أن يرفع الأمر إلى القاضي ليفسخ القاضي العقد بينهما أما بدون فسخ القاضي لا ينفسخ النكاح بينهما وتكون هذه فرقة بغير طلاق، حتى لو لم يكن الزوج دخل بها فلا شيء لها من المهر، وإن كان قد دخل بها فلها ما سمى لها من المهر وعليها العدة، والذي يلي المرافعة إلى القاضي المحارم عند بعض المشايخ، وعند بعضهم المحارم وغير المحارم في ذلك على السواء حتى يثبت ولاية المرافعة لابن العم ومن أشبهه وهو الصحيح. في «البقالي» : وإذا زوجها أحد الأولياء من غير كفء برضاها لا يكون للآخرين حق الاعتراض إذا كانوا مثل المزوج أو دونه في الدرجة أمّا إذا كان أقرب من المزوج فله حق الاعتراض لأن المزوج لا يكون ولياً إذا كان لها ولي أقرب منه فكان هو وأجنبيٌ آخر سواء. وسكوت الولي عن المطالبة بالتفريق لا يكون رضاً منه في النكاح من غير الكفء وإن طال ذلك حتى تلد منه. وإذا زوجها الولي من غير كفء ثم فارقته ثم زوجت نفسها منه بغير ولي كان للولي حق التفريق فلا يكون رضاه بالنكاح الأول رضاً بالنكاح الثاني.

في نكاح «الأصل» : ولو طلقها طلاقاً رجعياً وراجعها بغير رضا الولي لا يكون للولي حق التفريق في «نظم الزندويستي» رحمه الله. وإذا زوج الأب ابنته الصغيرة من رجل هو ليس بكفء لها جاز في قول أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما. ولو زوجها غير الأب والجد من رجل هو ليس بكفء لها بأن زوجها ممن لا يقدر على مهرها أو نفقتها أو ما أشبه ذلك فلا رواية في هذا الفصل عن أصحابنا المتقدمين ولا عن أصحابنا المتأخرين رحمهم الله، وإنما الرواية عن المتأخرين فيما إذا زوجها غير الأب والجد وقصّر في مهرها إنه لا يجوز النكاح. قال الفضلي رحمه الله: على قياس مسألة التقصير في المهر: ينبغي أن لا يجوز هذا النكاح بلا خلاف، قيل له: إن كان عقد النكاح على أن فلاناً ضامنٌ لها المهر والنفقة؟ قال: لا يجوز أيضاً، وإنما يجوز في هذا إذا كان الزوج صغيراً وأبوه غني فيكون غنياً بغنى الأب استحساناً. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: غير الأب والجد إذا زوج الصغيرة من رجل كان جده معتق قوم أو كان جده أسلم، وكان للصبية آباء أحرار مسلمون ثم أدركت فأجازت لم يجز؛ لأن هذا النكاح لم يكن موقوفاً؛ لأنه لم يكن له مجيز لأن نكاح هؤلاء من غير الكفء لا يجوز، وهذا ليس بكفء، وهذا إنما يتأتى على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن عندهما إسلام الجد وحريته شرط لضرورة (كون) الرجل كفئاً لامرأة لها آباء مسلمون وأحرار. وإذا زوج الرجل ابنته الصغيرة من رجل على طراية مصلح لا يقرب الخمر أخبره الناس بذلك ثم وجده شريباً مدمناً؛ إن لم يعرف أب المرأة شرب الخمر وكان غلبة أهل بيته الصلاح فالنكاح باطل لأن الأب زوجها على طرائها كفء وهذه المسألة يجب أن يكون بالاتفاق، وإنما الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله فيما إذا زوجها من رجل عرفه غير كفء، فَعندَ أبي حنيفة رحمه الله يجوز؛ لأن الأب كامل الشفقة وافر الرأي فالظاهر أنه تأمل غاية التأمل ووجد غير الكفء أصلح من الكفء. أما إذا.... كفء فالظاهر قلة التأمل، وبناء الأمر على ظاهر الكفاءة، فلهذا افترقا. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله أيضاً، وفي هذا الموضع: امرأة زوجت نفسها من غير الكفء فلها أن تمنع نفسها من الزوج ولا تمكنه عن وطئها، وهذا الجواب خلاف ظاهر الرواية، إنما هذا اختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله، قال: لأن من حجة المرأة أن تقول: إنما تزوجت بك رجاء أن يجيز الولي، فإذا لم يجز فلي أن أمتنع منك. يوضحه أن للولي حق الخصومة فعسى يخاصم ويفرق القاضي بينهما، فيكون هذا وطئاً بشبهة، وكثير من مشايخ زماننا قالوا بجواز هذا النكاح. أفتوا بظاهر الرواية، وقالوا ليس لها أن تمنع نفسها من زوجها.

وإذا أكرهت المرأة أن تزوج نفسها من كفء بمهر المثل ثم زال الإكراه فلا خيار لها، وأما إذا أكرهت على تزويج نفسها من غير كفء بأقل من مهر المثل ثم زال الإكراه فلها الخيار. وإذا زوجت المرأة نفسها من غير كفء بغير رضا الولي؛ فقبض الولي مهرها، فهذا منه رضاً وتسليم. ولو قبضها ولم يجزها فقد اختلف المشايخ فيه، والصحيح: أنه يكون رضاً وتسليماً لأن العقد توقف على إجازة الولي، وقبض البدل ممن توقف العقد على إجازته يكون رضاً منه بالعقد دلالة كما في البيع الموقوف، فأما إذا لم يقبض ولكن خاصم زوجها في نفقتها وتقرير مهرها عليه (191ب1) بوكالة منها كان ذلك منه رضاً وتسليماً للعقد استحساناً؛ لأن طلب المهر لم يكن لإثبات عدم الكفاءة عند القاضي؛ لأن عدم الكفاءة ثابت عند القاضي لأنه وضع المسألة فيما إذا زوجت نفسها من غير كفء، فتعين أن يكون طلب المهر للاستيفاء وذلك دلالة الرضا من غير احتمال، حتى لو لم يكن عدم الكفاءة ثابتاً عند القاضي لا يكون ذلك رضاً بالنكاح قياساً واستحساناً. في «المنتقى» ابن سماعة عن محمد رحمه الله في امرأة تحت رجل هو ليس بكفء لها خاصمه أخوها في ذلك، وأبوها غائب غيبة منقطعة، أو خاصمه ولي آخر غيره أولى منه غائب غيبة منقطعة، وادعى الزوج أن الولي زوجه يوم إقامة البينة وإلا فرق بينهما، فإن أقام بينّة على ذلك قبلت بينته وأجزته على الأول يعني على الولي الذي هو أولى لأن هذا خصم. في نكاح «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل زوج أمة له وهي صغيرة من رجل ثم ادعى أنها ابنته ثبت النسب والنكاح على حاله؛ إن كان الزوج كفئاً، وإن لم يكن كفئاً فهو في القياس لازم لأنه هو الذي زوج وهو ولي. ولو باعها من رجل ثم ادعى المشتري أنها ابنته فكذلك إذا كان الزوج كفئاً، وإن كان الزوج غير كفء فالقياس كذلك لأنه زوَّجها وليٌّ مالك، واستقبح في هذا الموضع أي في قصد المشتري وأفرّق بينهما. وفي كتاب الطلاق من «المنتقى» : رجل تزوج امرأة مجهولة النسب ثم ادعاها رجل من قريش وأثبت القاضي نسبها منه وجعلها ابنة له وتزوجها حجام، فلهذا الأب أن يفرق بينها وبين زوجها. ولو لم يكن ذلك لكن أقرت بالرق لرجل، لم يكن بمولاها أن يبطل النكاح بينهما، وإذا تسمى رجل لامرأة بغير اسمه وانتسب لها إلى غير نسبه، فلما زوجت نفسها منه علمت بذلك، فهذه المسألة على وجهين: الأول: أن يكون النسب المكتوم أفضل مما أظهر لها، بأنْ أخبرها أنه عربي فإذا هو قرشي، وفي هذا الوجه لا خيار لها ولا لأوليائها لأنهم وجدوا خيراً مما شرط لهم، وعن أبي يوسف رحمه الله: أن لها الخيار، وكذا في «المجرد» وفي «المنتقى» : الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمها الله: إذا تزوج امرأة على أنه مولى فإذا قرشي فلها الخيار. الوجه الثاني: أن يكون النسب المكتوم أدون مما أظهر وإنه على قسمين: إن كان

مع هذا النسب المكتوم كفئاً لها؛ بأن تزوج عربيّة على أنه قرشي فإذا هو عربي، وهذا القسم لا خيار للأولياء؛ لأن الحق للأولياء في الكفاءة لا غير، حتى لا ينتسب إليهم من لا يكافئهم بالصمدية، وهذا الحق قد صار مقاماً، ولها الخيار عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأن الاستفراش ذلّ من جانبها، وهي إنما رضيت بتحمل هذا الذل ممن هو فوقها لا ممن هو مثلها، فثبت لها الخيار لا يعدُّ له تمام الرضا. وذكر الكرخي في «جامعه» : أنه لا خيار لها. القسم الثاني: إذا لم يكن مع هذا النسب المكتوم كفئاً لها بأن تزوج قرشيّة على أنه من قريش، فإذا تبين أنه عربي أو من الموالي؛ وفي هذا القسم لها الخيار، ولو رضيت به كان للأولياء حق المخاصمة وهذا ظاهر. وإن كانت المرأة هي التي غرت الزوج وانتسبت إلى غير نسبها فلما غرت بزوجها علم بذلك فلا خيار هكذا ذكر في «الأصل» من غير ذكر خلاف، وهذا إشارة إلى أن الكفاءة غير مطلوبة من جانب النساء. وذكر هشام في «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله إذا تزوج امرأة على أنها قرشية فإذا هي نبطية فله الخيار، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا خيار له، وفي آخر باب الوكالة من كتاب النكاح من «الجامع الصغير» ....... أمر رجلاً أن يزوجه امرأة فزوجه أمة لغيره قال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز وقالا: لا يجوز، وقال مشايخنا رحمهم الله: هذه المسألة دليل على أن الكفاءة في النساء للرجال معتبرة عندهما خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله، وفي وكالة «الأصل» أن الكفاءة في النساء للرجال استحسان وليس بقياس. وفي «المنتقى» : الحسن بن زياد: إذا تزوج امرأة على أنَّه فلان بن فلان فإذا هو أخوه أو عمه فلها الخيار. وفي آخر باب نكاح العبيد من نكاح «الأصل» عبد تزوج امرأة بإذن مولاه ولم يخبر وقت العقد أنه عبدٌ أو حرّ، ولم تعلم المرأة أيضاً ولا أولياؤها أنه حر أو عبد، ثم ظهر أنه عبد فإن كانت المرأة هي التي باشرت عقد النكاح فلا خيار لها، ولكن للأولياء الخيار. وإن كان الأولياء هم الذين باشروا عقد النكاح فلا خيار لها، ولكن للأولياء الخيار، وإن كان الأولياء هم الذين باشروا عقدا النكاح عليها برضاها وباقي المسألة بحالها فلا خيار لا للمرأة ولا للأولياء. وبمثله لو أخبر الزوج أنه حر وباقي المسألة بحالها كان لهم الخيار، فهذه المسألة دليل على أن المرأة إذا زوجت نفسها من رجل ولم تشترط الكفاءة ولم تعلم أنه كفء أو غير كفء ثم علمت أنه غير كفء لا خيار لها ولكن للأولياء الخيار. وإن كان الأولياء هم الذين باشروا عقد النكاح برضاها ولم يعلموا أنه كفء فلا

الفصل السابع في الشهادة في النكاح

خيار لواحدٍ منهم، أما إذا شرطوا الكفاءة أو أخبرهم بالكفاءة ثم ظهر أنه غير كفء كان لهم الخيار، سئل. شمس الإسلام رحمه الله عن مجهول النسب هل هو كفء لامرأة معروفة النسب قال: لا والله أعلم. الفصل السابع في الشهادة في النكاح ولا يجوز عقد النكاح بين مسلمين بشهادة الكفار والصبيان والمجانين والعبيد والمكاتبين والمدبرين والنائمين الذين لا يسمعون كلام المتعاقدين والأصمين. ذكر فصل النائم والأصم في «نظم الزندويستي» ، وذكر القاضي الإمام الإسبيجاوي رحمه الله: أن النكاح ينعقد بشهادة الأصمين، وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام عن السغدي رحمه الله في «شرح السير الكبير» في أبواب الأمان هكذا: أن النكاح ينعقد بشهادة الأصمين. والمسألة في الحاصل بناءً على أن سماع الشهود كلام المتعاقدين هل هو شرط انعقاد النكاح؟ قد اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم قالوا: ليس بشرط وإنما الشرط حضرتهما، فهذا القائل يقول بانعقاد النكاح بشهادة الأصمين، وبعضهم قالوا: هو شرط، فهذا القائل يقول: لا ينعقد النكاح بشهادة الأصمين. ونصّ القدوري رحمه الله في «كتابه» أنه لا بدّ من سماع الشهود كلام المتعاقدين، وسيأتي بعد هذا عن أبي يوسف رحمه الله ما يدل عليه إن شاء الله. وأما (سماع) الشهود كلام المتعاقدين هل هو شرط؟ فقد ذكر «البقالي» في «فتاويه» : هل الاعتبار بسماع الشهود لفظ النكاح وإن لم يعرفوا تفسيره، قال: والظاهر خلافه، وفي «البقالي» أيضاً عن محمد رحمه الله فيمن زوج امرأة بحضرة هنديين لم يفهما فلا يمكنهما أن يعبرا ما سمعا لم يجز. وفي «النوازل» عن محمد رحمه الله في غير هذه المسألة: إن أمكنهما أن يعبّرا ما قالوا جاز النكاح. في «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل تزوج امرأة وسمع أحد الشاهدين كلامهما (192أ1) ولم يسمع الشاهد الآخر؛ ثم أعادا على الذي لم يسمع؛ إن كان المجلس واحداً جاز استحساناً، وإن كان متفرقاً لا يجوز، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: وقد روي من وجه آخر عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يجوز حتى يسمعا معاً، إذ لا يوجد عند كل واحد من النكاحين إلا شاهد واحد. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله في كتاب الشهادات: تزوج بمحضر رجلين أحدهما أصم، فسمع السميع ولم يسمع الأصم حتى صاح صاحبه في أذنه أو غيره لا يجوز النكاح حتى يكون السماع معاً. وفي «نظم الزندويستي» : إذا سمع أحد الشاهدين كلام المرأة وسمع الشاهد الآخر كلام الزوج ثم أعاد العقد؛ فالذي سمع كلام الزوج في العقد الأول سمع في هذا العقد كلام المرأة لا غير، والذي سمع كلام المرأة في العقد

الأول سمع كلام الزوج في العقد الثاني لا غير، فإن كان العقدان في مجلسين متفرقين لا يجوز بالاتفاق، وإن كانا في مجلسٍ واحد قال عامة علمائنا لا ينعقد، وقال بعضهم مثل أبو سهل الكبير الشرعي: إنه ينعقد. قال «الزندويستي» رحمه الله: ولا نأخذ بقول أبي سهل. في «فتاوى الفضلي» : زوّج ابنته بحضرة السكارى وهم يعرفون أمر النكاح غير أنهم لا يذكرونه بعدما صحوا كما هو عادة السكارى؛ ينعقد النكاح لأن هذا نكاح بشهود. تزوج امرأة بشهادة الله ورسوله لا يجوز؛ لأن هذا نكاح لم يحضره شهود، وعن أبي القاسم الصفار رحمه الله أنه قال: يكفر من فعل هذا؛ لأنه اعتقد أن رسول الله عليه السلام عالم الغيب. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل قال لقوم: اشهدوا أني تزوجت هذه المرأة التي في هذا البيت فقالت المرأة: قبلت، فسمع الشهود مقالتها ولم يروا شخصها، فإن كانت في البيت وحدها جاز النكاح؛ لأنه لا جهالة، وإن كانت معها في البيت أخرى لم يجز؛ لأن الجهالة ممكنة، وكذلك لو وكّلت المرأة رجلاً فسمع الشهود قولها ولم يروا شخصها فهو على ما ذكرنا من الوجهين، وفي «شهادات الفتاوى» : رجلٌ زوج ابنته ورجل في بيت وقوم في بيت آخر يسمعون التزويج، ولم يشهدوهم، إن كان من هذا إلى ذلك البيت كوّة رأوا الأب منها تقبل شهادتهم، وإن لم يروا الأب لم تقبل شهادتهم.u في «فتاوى أهل سمرقند» بعث الرجل أقواماً يخطبون امرأة، فقال الأب زوجت ابنتي فلانة من فلان، وقبل واحد من القوم تكلموا فيه قال بعضهم: لا يجوز؛ لأن هذا نكاح بغير شهود لأن الكل خاطبون من تكلم منهم ومن لم يتكلم؛ لأن المتعارف هكذا أن يتكلم واحد من القوم ويسكت الباقون. والخاطب لا يصلح شاهداً، وبه أخذ بعض مشايخ زماننا، وقال بعضهم: يجوز لأنّه لا ضرورة إلى جعل الكل خاطباً، فيجعل المتكلم خاطباً والباقون شهود، وبه أخذ الصدر الشهيد رحمه الله. وإذا تزوج الرجل المسلم امرأة مسلمة بحضرة عبدين أو أو صبيين أو كافرين ومعهما شاهدان مسلمان حُرّان بالغان جاز؛ لأن هذا نكاح بشهود، فإن أَدرك الصبيان أو أُعتق العبدان أو أسلم الكافران وشهدوا أنه تزوجها؛ ذكر في «الأصل» مطلقاً أنه تقبل شهادتهما، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» أن المسألة على التفصيل: إن شهدا أنه تزوجها بحضرتنا وكان معنا شاهدان رجلان حران مسلمان جازت شهادتهما، وإن شهدا وقالا: لم يكن معنا غيرنا لا تقبل شهادتهما لأنهما شهدا بنكاح فاسد، والقاضي لا يقضي بنكاح فاسد. وإذا شهد شاهد أنه تزوجها أمس، وشهد آخر أنه تزوجها اليوم فشهادتهما باطلة؛ لأنّ كل واحد منهما يشهد بعقد عقد بحضوره وحده، وذلك عندنا فاسد فكان امتناع القضاء بهذه الشهادة لكون المشهود به فاسداً لا لاختلاف الوقت؛ لأن الشهادة قامت على القول، والشهادة القائمة على القول لا يمنعها اختلاف الوقت كما في البيع، حتى

قالوا: لو شهد كل واحد أنه كان معه رجل آخر قضى بشهادتهما؛ لأن كل واحد شهد بنكاح صحيح، لم يبق إلا اختلاف الوقت وإنه لا يمنع قبول الشهادة متى قامت على القول، هكذا ذكر شيخ الإسلام علّه هذه المسألة في «شرحه» ، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله علة تقتضي عدم القبول على كل حال فقال: النكاح بمنزلة الأفعال، وهذا لأن النكاح ... والصحيح: ما ذكر شمس الأئمة، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الشهادات على نحو ما ذكره شمس الأئمة، وإن كان قولاً إنّه يتضمن فعلاً وهو إحضار الشهود، فصار النكاح ملحقاً بالفعل من هذا الوجه، واختلاف الشهود في المكان والزمان في الأفعال يمنع قبول الشهادة في حق هذا المعنى، لا فرق بينهما إذا شهد كل واحد منهما أنه كان معه رجل آخر ولم يشهد على هذا الوجه. قال الزندويستي في «نظمه» وينعقد النكاح بشهادة الأخرسين إذا كانا سميعين، وإذا وقع التجاحد فلا شهادة لهما لأنه لا لفظ لهما. وكذلك ينعقد النكاح بشهادة الأعمى والمحدود في القذف والمحدود في الزنا، وكذلك ينعقد بشهادة ابنيه لا منها وبشهادة ابنيها لا منه وبشهادة ابنيه منها. وإذا تزوج المسلم الذمية بشهادة الذميين جاز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأن ملك النكاح ثبت للرجل على المرأة مضموناً بالمهر، وشهادتهما حجة من حيث إثبات الملك له عليها، وأما لا يعتبر من حيث إيجاب المهر لها عليه إلا أن المهر زائد في الباب، فوقوع الخلل في الشهادة فيما يرجع إلى المهر لا يمنع انعقاد العقد؛ لأن الخلل دون انعدام التسمية. المرأة إذا زوجت ابنتها البالغة بحضرتها برضاها بحضرة رجل وامرأة جاز النكاح، وإن كانت الابنة غائبة لا يجوز؛ لأن الابنة إذا كانت حاضرة كانت هي المزوجة والأم معبرة عنها، وهي مع المرأة الأخرى والرجل شهود، فيكون هذا نكاحاً بحضرة رجل وامرأتين، فأما إذا كانت الابنة غائبة؛ لا يمكن أن تجعل الابنة هي المزوجة، فبقيت الأم مزوجة ووراءها رجل وامرأة، ولو كانت الابنة صغيرة وباقي المسألة بحالها لا يجوز النكاح سواء كانت الابنة حاضرة أو غائبة؛ لأنه لا يمكن أن تجعل الابنة مزوجة؛ لأن الصغيرة ليست من أهل التزويج. ومن هذا الجنس ذكر خواهر زاده رحمه الله في شرح كتاب الرهن وصورتها: وكّل رجلٌ رجلاً أن يزوج له امرأة، فزوجه الوكيل امرأة بحضرة شاهد واحد، إن كان الموكل حاضراً يجوز، وطريقه: أن الموكل يعتبر متزوجاً ويعتبر الوكيل مع الشاهد الآخر شاهدان، وإن كان الموكل غائباً لا يجوز، حاصل هذه المسائل مسألة ذكرها (192بأ) في آخر الباب الأول من نكاح «الجامع الصغير» وصورتها: رجل أمر رجلاً أن يزوج ابنة له وهي صغيرة فزوجها والأب حاضر جازت شهادة المزوج، وإن كان الأب غائباً لم تجز شهادة المزوج وطريقه ما قلنا.

ومن هذا الجنس مسألة ذكرت في «مجموع النوازل» سئل عنها الإمام نجم الدين عمر النسفي رحمه الله وصورتها: امرأة وكلت رجلاً أن يزوجها من رجل فزوجها بحضرة امرأتين والموكلة حاضرة، قال: يجوز النكاح وتصير الموكلة هي المزوجة. قيل: فإن أنكر الزوج أوالمرأة الموكلة هذا العقد هل تقبل شهادة الوكيل والمرأتين على النكاح؟ قال: نعم إذا لم يقل الوكيل: أنا زوجتها منه بالوكالة؛ لأنه إذا قال ذلك تكون شهادة على قول نفسه ولا تقبل. قيل له: فهل يكفيه أن يقول: هذه امرأة هذا؟ قال: لا بد من إثبات العقد. قال ولو قال قائل: إن الوكيل يشهد ويقول: هذه امرأة هذا بعقد صحيح قام بتزويج من له ولاية التزويج، وقبول من له ولاية القبول لا ينفذ ولكن لا أحفظ في هذا رواية، والصواب: أنه يشهد أن هذه امرأة هذا، ويقبل القاضي ذلك، ولا حاجة إلى إثبات العقد. وإذا وكلّ الرجلُ رجلاً أن يزوج عبده امرأة فزوج الوكيل العبد امرأة بشهادة رجل واحد والعبد حاضر لا يجوز؛ لأنه لو جاز إنما يجوز بأن تنتقل عبارة الوكيل إلى العبد فيجعل العبد متزوجاً، ولا وجه إليه؛ لأن الوكيل ليس بمأذون من جهة العبد حتى تنتقل عبارته إلى العبد فبقي الوكيل مزوجاً لا شاهداً. وإذا زوج الرجل ابنته البالغة وأنكرت الرضا فشهد عليها أبوها لا يقبل لأنه يريد تتميم ما باشره. ولو شهد عليها بالرضا أخواها قبلت شهادتهما. وإذا زوج الرجل ابنته بشهادة ابنيه ثم جحد الزوج النكاح وادعاه الأب والمرأة فشهد الابنان بذلك لم تقبل شهادتهما عند أبي يوسف، وعند محمد رحمهما الله تقبل شهادتهما، ولو كان الزوج هو المدعي والأب والمرأة يجحدان ذلك فشهادة الابنين مقبولة بلا خلاف. والحاصل: أن شهادة الإنسان لأخيه أخته وعليهما مقبولة، وشهادته فيما يجحده الأب مقبولة، وإن كان للأب فيه منفعة بأن شهدا على أبيهما ببيع ما يساوي مائة ألف، وشهادته فيما يدعيه الأب إن كان للأب فيه منفعة لا تقبل بلا خلاف. وإن لم يكن للأب فيه منفعة فكذلك عند أبي يوسف، وعند محمد رحمهما الله تقبل، حجّة محمد رحمه الله: أن شهادة الابن لأبيه إذا كان للأب فيه منفعة إنما لا تقبل لمكان التهمة، فإن الإنسان متهم بإيثار الأب على غيره في المنافع، وهذا المعنى لا يتأتى فيما لا منفعة للأب فيه، وأبو يوسف رحمه الله يقول: شهادة الابن لأبيه إنما لا تقبل بالنص، ولا فصل في النص، على أن المنفعة هنا متحققة وإن لم تكن مالية وهو ظهور صدقه عند الناس. وإذا وقع الاختلاف بين الزوج والمرأة في أن النكاح كان بشهود أو بغير شهود فالقول قول من يدعي أنه كان بشهود؛ لأن الذي يدّعي النكاح بشهود يدّعي صحة العقد، والذي يدعي النكاح بغير شهود يدعي فساد النكاح. والأصل: أن الزوجان إذا اختلفا في

الفصل الثامن في الوكالة بالنكاح

صحة العقد وفساده كان القول قول من يدّعي الصحة، وإن ادعى أحدهما أن النكاح في حالة الصغر بمباشرته؛ كان القول قوله؛ لأنه أضاف العقد إلى عدم الأهلية وهو حالة الصغر، فيكون منكراً العقد معنًى فيكون القول قوله، وسيأتي في مسألة الاختلاف في الشهادة بعد هذا في فصل الخصومة الواقعة بين الزوجين. وإذا كان القول قول من يدعي النكاح في حالة الصغر بعد هذا نقول لا نكاح بينهما ولا مهر لها (إن) لم يكن دخل بها قبل الإدراك، وإن كان قد دخل بها قبل الإدراك، فلها الأقل من المسمى ومن مهر المثل، ولا يثبت الرضا بهذا الدخول أما لها الأقل فلأن الدخول حصل في نكاح موقوف؛ لأن العقد من الصغير يتوقف على إجازة المولى إذا كان الولي يملك مباشرة ذلك، والدخول في النكاح الموقوف يوجب الأقل بمنزلة الدخول في النكاح الفاسد، وأما لا يثبت الرضا لأن الدخول أو التمكين دليل الرضا وصريح الرضا في حالة الصغر لا تعتبر فكذا دليل الرضا وإن دخل بها بعد الإدراك كان هذا رضا وإجازة للنكاح الذي كان بينهما في حالة الصفر؛ لأن صريح الرضا بذلك النكاح بعد الإدراك معتبر، فكذلك دليل الرضا وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: إذا ادعى أحدهما أن النكاح كان في حالة الصغر بمباشرته فعلى رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله يقول له القاضي: هل كان النكاح بإذن الولي؛ فإن قال: لا، يقول له هل أجازه الولي؟ فإن قال: لا، يقول له: هل أجريته بعد البلوغ؟ فإن قال: لا، يقول له: هل من رأيك أن تجيزه فإن قال: لا؛ فرق القاضي بينهما، وهذا إذا قال ذلك ولم يوجد بينهما دخول بعد الإدراك، فأما إذا وجد فهو دليل الرضا إذا وقع الاختلاف بين الزوج ووكيله بالنكاح فقال الوكيل: أُشهدت على النكاح، وقال الموكل: لا بل لم تشهد فالقول قول الوكيل ويفرق بينهما وعليه نصف الصداق إن لم يكن دخل بها، وإن وقع هذا الاختلاف بين المرأة ووكيلها فالقول قول الوكيل وهي امرأته لا يفرق بينهما، وهذا لأن الوكيل مع الموكل اتفقا على أصل العقد فيكون اتفاقاً بينهما على شرائطه، فالذي ينكر الإشهاد يكون في معنى الراجع فلا يقبل قوله. الفصل الثامن في الوكالة بالنكاح إذا وكل رجلاً بأن يزوِّجه امرأة بعينها فزوجها إياه بأكثر من مهر مثلها، إن كان الزيادة بحيث يتغابن الناس في مثلها يجوز بلا خلاف، وإن كانت الزيادة بحيث لا يتغابن الناس فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يجوز. وهذا بناء على أن المطلق من الألفاظ يجري على إطلاقه ما لم يوجد دليل القيد غير أنهما يقولان وجد دليل القيد هو العرف، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: العرف مشترك، وفرّق أبو حنيفة رحمه الله بين الوكيل بالنكاح وبين الوكيل بالشراء أن الوكيل بالشراء إذا اشترى بما لا يتغابن الناس في مثله يصير مشترياً لنفسه، والفرق: أن في مسألة الشراء أصل العقد مضاف إلى الوكيل؛ لأن الوكيل بالشراء يستغني عن إضافة العقد إلى موكله،

فتتمكن التهمة في تصرفاته قصد الشراء لنفسه (......) العين حوله إلى الآمر، وأما في مسألة النكاح: أصل العقد مضاف إلى الموكل؛ لأن الوكيل بالنكاح لا يستغني عن إضافة العقد إلى الموكل فلا تتمكن التهم في تصرفه، فلهذا حرما. وإذا وكل رجلاً بأن يزوج له امرأة بعينها ببدل سماه، فتزوجها الوكيل لنفسه بذلك البدل جاز النكاح للوكيل بخلاف الوكيل بشراء شيء بعينه، إذا اشترى ذلك الشيء لنفسه بذلك البدل حال غيبة الموكل حيث يصير مشترياً لموكل. إذا وكلّه أن يزوج امرأة ولم يسمها فزوجه امرأة هي ليست بكفؤ له؛ القياس أن يجوز على الموكل، وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله عملاً بإطلاق التوكيل، وفي الاستحسان: لا يجوز على الموكل (193 أب) وبه أخذا فهما يقيدان اللفظ المطلق بالعرف، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: العرف مشترك، وقد يتزوج الرجل من ليس بكفؤ. وعلى هذا الخلاف: إذا زوجه امرأة، أو مقطوعة اليدين، أو رتقاء، أو مفلوجة، أو مجنونة، أو معتوهة، ذكر الاختلاف في هذه الفصول، ورواية أبي سليمان وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد رحمه الله إذا قال لغيره: زوجني فزوجه عمياء، أو مقطوعة اليدين، أو الرجلين لا يجوز، ولو زوجه عوراء، أو مقطوعة إحدى اليدين جاز، وفيه أيضاً: أمر رجلٌ رجلاً أن يزوجه فزوجه ابنته الصغيرة أو ابنة أخيه الصغير فهو وليها لا يجوز، وكذلك كل من يلي أمرها بغير أمرها، قال: وذلك بمنزلة رجل أمر امرأة أن تزوجه امرأة فزوجته نفسها. ولو زوجه ابنته الكبيرة برضاها ذكر في «الأصل» أن على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز إلا أن يَرضى به الزوج، وعلى قولهما يجوز، بناء على عند أبي حنيفة رحمه الله بمطلق الوكيل لا يملك التصرف مع ولده للتهمة، والتهمة دليل يقيد المطلق، وعندهما يملك، ولو زوجه أخته الكبيرة برضاها جاز بلا خلاف؛ لأنه لا تهمة في حق الأخت. وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله في «الأصل» : رجل أمر رجلاً أن يزوج له امرأة فزوجه ابنته الصغيرة أو الكبيرة بأمرها لم يجز استحساناً. وكله أن يزوجه امرأة من قبيلة فزوجه من قبيلة أخرى لم يجز وهذا ظاهر. وكّله أن يزوجه امرأة سوداء فزوجه امرأة بيضاء أو على العكس لا يجوز، ولو وكلّه أن يزوجه امرأة عمياء فزوجه امرأة بصيرة يجوز، كذا ذكر في «المنتقى» قال ثمة: وليس هذا كالأول لأن الأول جنس، وكله أن يزوجه أَمَةً فزوجه حرة لا يجوز؛ لأنه خالف أمره نصّاً وله في ذلك منفعة، وهو أن لا يساوي هذه الحرة التي عنده في القسم، وإن زوجه مكاتبة أو مدبرة أو أم ولد جاز. وكله أن يزوجه امرأة فزوجه صبية يجامع مثلها أولا يجامع (مثلها) جاز؛ لأن اسم المرأة اسم جنس يتناول الكبيرة والصغيرة جميعاً، قيل هذا على قول أبي حنيفة رحمه الله، وأما على قولهما لا يجوز إذا زوجه صبية لا يجامع مثلها، كما لو زوجه رتقاء أو قرناء ومثل هذا قول الكل بخلاف ما إذا زوجه رتقاء أو قرناء ولو وكله أن يزوجه امرأة فزوجه الوكيل

امرأة جعلها الزوج طالقاً إن تزوجها فالنكاح جائز والطلاق واقع. قيل هذا على قول أبي حنيفة رحمه الله، أما على قولهما لا يجوز. وكله أن يزوجه امرأة على ألف درهم فإن أتت فيما بين الألف والألفين فأبَت المرأة أن تزوج نفسها بألف فزوجها بألفين؛ ذكر في «الأصل» أن ذلك جائز لازم للزوج، من مشايخنا من قال: ما ذكر في الكتاب قولهما لأن عندهما الغاية الثانية تدخل كما في الإقرار والطلاق، فصار الوكيل بالتزويج إلى الألفين موكلاً بالتزويج بالألفين وقد زوجها بالألفين، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله يتوقف النكاح على إجازة الزوج لأن عنده الغاية الثانية لا تدخل فيعتبر وكيلاً بالتزويج بألف وتسع مائة وتسعة وتسعين، فإذا زوجها بالألفين فقد زوجها بأكثر من المسمى فيتوقف على الإجازة، ومنهم من قال: لا، بل هذا قول الكل. وفرق هذا القائل بين هذه المسألة وبين مسألة الإقرار والطلاق، والفرق وهو أن الغاية إنما لا تدخل تحت المضروب له الغاية إذا لم يوجد دليل يدل على دخولها، أما إذا وجد دليل يدل على دخولها تدخل، ألا ترى أن الغاية الأولى كيف دخلت لما وجد الدليل، وهو أن الثانية لا تتصور بدون الأولى. إذا ثبت هذا فنقول: الدليل هنا على دخول الغاية الثانية وهو العرف بأن العرف فيما بين الناس أنهم يتزوجون بالكوامل من العدد لا بالكسور، بخلاف الطلاق؛ لأن هناك يوجد عرف يوجب إدخال الغاية، وإن الناس يوقعون الواحدة والثنتين، وكذلك في باقي الأمصار لم يوجد عرف يوجب إدخال الغاية الثانية، فإن الناس كما يقرون بالكوامل من العدد يقرون بالكسور، إذا وكله أن يزوجه امرأة بألف درهم فأبت أن تزوجه حتى زادها الوكيل ثوباً من ثياب نفسه فالنكاح موقوف على إجازة الزوج؛ لأنه زاد على المسمى، فهو بمنزلة ما لو وكّله أن يزوجه بألف درهم فزوجه بألف وخمسمائة. فإن قيل: إذا زوجه بألف وخمس مائة إنما يصير مخالفاً؛ لأن الزيادة لو صحت كانت الزيادة على الزوج؛ لأن الوكيل لم يضفها إلى ماله، أما هنا لو صحت الزيادة كانت الزيادة على الوكيل؛ لأن الوكيل أضاف الزيادة إلى ماله فلا ضرر على الموكل في الزيادة، قلنا: إن لم يتضرر الموكل في الحال يتضرر في الثاني بأن يهلك الثوب قبل التسليم أو يستحق من يده، متى صحت الزيادة تجب قيمة ذلك على الزوج فلا يجب على الوكيل؛ لأن الوكيل متبرع بالعين، فإذا هلك العين لا تجب عليه قيمة، فيجب على الزوج متى صحت الزيادة. وكَّلَه أن يزوجه امرأة بعينها فزوجها إياه على عبد الزوج؛ فإن العبد لا يصير مهراً ما لم يرض الزوج به؛ لأن الزوج ما أمره بإزالة العبد عن ملكه نصّاً، وإزالة العبد عن ملكه ليس من ضرورات ما أمره به أيضاً. ثم القياس أن لا يجوز هذا النكاح؛ لأنه صار مخالفاً بتسمية ما لم يؤمر بتسميته، فكأنه أمر بالتزويج بألف فزوجه بألفين، وفي الاستحسان يجوز النكاح لأنه لم يخالف ما أمر به نصاً فإنه كما لم يؤمر بتسمية العبد لم يدعيه أيضاً، ولكن امتنع صحة التسمية في حق العين لما ذكرنا، وذلك لا يمنع جواز النكاح، كما لو

تزوج امرأة على عبد الغير فإنه يصح العقد وإن لم تصح التسمية في حق العين حتى لا يجب التسليم للعين متى لم يرض به صاحب العين كذا هنا. ذكر «المنتقى» إبراهيم عن محمد رحمه الله في الوكيل بالنكاح من جانب الزوج إذا ضمن المهر للمرأة وكان الضمان بغير أمر الزوج، فإذا رجع بما أدى على الزوج فقد جعل الأمر بالنكاح على روايه «المنتقى» أمراً بضمان المهر، حتى أثبت للوكيل حق الرجوع على الزوج، وإن لم يأمره الزوج بالضمان صريحاً، وفي «الأصل» لم يجعل الأمر بالنكاح أمراً بضمان المهر، حتى قال: لا يرجع الوكيل على الزوج بما ضمن من المهر. وفرق على رواية «الأصل» بين الأمر بالنكاح وبين الأمر بالخلع، وجعل الأمر بالخلع أمراً بالضمان حتى قال: المأمور إذا ضمن بدل الخلع يرجع بما ضمن وإن لم تأمره المرأة بالضمان، والفرق أن في باب الخلع الوكيل بعد الوكالة يملك مباشرة الخلع على وجه يوجب البدل على الموكل ابتداءً، بأن يرسل البدل ويملك المباشرة على وجه يوجب البدل على نفسه ابتداءً بأن يضيف البدل إلى نفسه؛ إما إضافة مُلك، أو إضافة ضمان وهو يملك، هذا النوع بدون الوكالة لما عرف أن الخلع ببدل على الأجنبي صحيح، فإذا ملك هذا النوع بدون الوكالة فقد دخل هذا النوع تحت التوكيل بحكم إطلاق اللفظ، كان فائدة دخوله تحت التوكيل الرجوع على الموكل بما أدى، أما الوكيل بالنكاح لا يملك المباشرة على وجه يلزمه البدل ابتداءً؛ لأن النكاح ببدل على الأجنبي لا يصح، فكان لزوم البدل للوكيل بطريق الكفالة، والكفيل إنما يرجع على المكفول عنه بما (193 ب1) أدى إذا كانت الكفالة بأمره فلهذا افترقا، وفي «الجامع الكبير» : لو أن رجلاً وكّل رجلاً بأن يزوجه امرأة فزوجه امرأة على عبد الوكيل أو عوض له صح التزويج ونفذ، وعلى الوكيل تسليمه، وإذا سلّم لا يرجع على المزوج بشيء، ولو كان مكان النكاح خلع يرجع على المرأة بقيمة ما أدى، والفرق ما ذكر ثم في باب النكاح؛ إذا لم يرجع على الزوج بشيء لا يظهر أن النكاح عُقد على غير الزوج بل البدل على الزوج، ولكن الوكيل متبرع عند الأداء، فإن لم تقبض المرأة العبد الذي هو مهر حتى هلك لا ضمان على الوكيل وترجع المرأة بقيمته على الزوج. فرّق بين هذا وبين الوكيل بالخلع. إذا خالع على عبد الوكيل وهلك العبد في يده قبل التسليم فإنه يضمن الوكيل قيمته. والفرق: أن في باب النكاح يسلم المهر على الزوج بحكم العقد لا على الوكيل إلا أن الوكيل تبرع عنه بالأداء، فإذا عجز عن تسليمه بالهلاك بطل تبرعه، فكان تسليم قيمته على الزوج، وأما في باب الخلع تسليم العوض على الوكيل بحكم الخلع ابتداءً، وإنما الرجوع على المرأة بحكم الأمر، فإذا هلك فقد عجز عن تسليمه، والسبب الموجب للتسليم في حقه قائم فيصار إلى قيمته. ولو (زوجه) الوكيل امرأة بألف درهم من ماله بأن قال: زوجتك هذه المرأة بألف من مالي أو قال زوجتك هذه المرأة بألفي هذه جاز النكاح والمال على الزوج، فلا يطالب الوكيل بالألف المشار إليه، وكان ينبغي أن يطالب لأن الوكيل متبرع والدراهم والدنانير يتعينان في التبرعات والجواب: هذا تبرع في ضمن

المعاوضة والدراهم والدنانير إذا كانا لا يتعينان في المعاوضات لا يتعينان فيما يثبت في ضمن المعاوضة، فلا يطالب الوكيل بالألف المشار إليه، لهذا لا يطالب بألف آخر لانعدام الضمان؛ لأنه يحتمل أن يكون ما قال ضماناً، ويحتمل أن يكون وعداً بأن يؤدي من مال نفسه فلا يثبت الضمان بالاحتمال. وإذا وكلّه أن يزوجه امرأة فزوجه امرأة معتدة أو لها زوج ودخل بها الزوج ولم يعلم؛ فرق بينهما وعليه الأقل من مهر المثل ومن المسمى كما في سائر الأنكحة الفاسدة، ولا ضمان على الوكيل في ذلك؛ لأن ما لزم الزوج لزمه بفعله وهو الدخول لا بعقد الوكيل. ولو وكّلَه أن يزوجه امرأة فزوجه امرأتين في عقد لم يلزم الزوج واحدة منهما، ولو وكّله أن يزوجه امرأة بعينها فزوجه تلك وأخرى معها لزمه تلك.Y وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمهم الله: إذا وكّله أن يزوجه امرأة بعينها بألف درهم، فزوجها إياه وأخرى معها بألفي درهم فإن كان الذي يصيبها إذا قسم ذلك ألف أو أقل جاز على الآمر، ولو زوجها إياه وحدها بغير مهر مسمى فإن كان مهر مثلها ألف أو أقل جاز في قول أبي يوسف رحمه الله، وإن كان أكثر لم يجز. قال: وقياس قول أبي حنيفة رحمه الله في هذا أن لا يلزمه النكاح من قبل أن يعقد العقد على غير التسمية، وهذا خلاف ما أمره، وهذا إشارة إلى الجواز عند أبي حنيفة رحمه الله في الثنتين كما هو قول أبي يوسف رحمه الله، ولو وكّلَه أن يزوجه امرأتين في عقد فزوجه واحدة جاز، فكذا إذا وكّله أن يزوجه هاتين المرأتين في عقد فزوجه إحداهما، وتفريق العقد ليس بخلاف، ولو كان قال: لا تزوجني إلا باثنتين التي أمره بها في هذه، ويقع في الثنتين على التسمية، وهذا خلاف ما أمر في عقد واحد فزوجه امرأة لم يلزمه، وكذلك في المعينتين إذا ألحق بآخر كلامه ولا تزوجني واحدة منهما دون الأخرى فزوجه إحداهما لا يجوز. وإذا أمر الرجل رجلاً أن يزوجه امرأة بعينها بمهر مسمى وذلك ألف درهم مثلاً فزوجه امرأة فزاد عليه في المهر؛ فالزوج بالخيار إن شاء أجاز النكاح بالمهر الذي سماه الوكيل، وإن شاء رده؛ لأنه أتى بخلاف ما أمره به، فكان هذا ابتداء عقد فيتوقف على إجازة الزوج، فإن لم يعلم الزوج بذلك حتى دخل بها فالزوج بالخيار أيضاً، فلا يكون دخوله بها رضاً بما خالف به الوكيل؛ لأن الرضا بالشيء لا يتحقق قبل العلم به، فكان على خياره إن شاء أقام معها وأجاز نكاحها على ما سمى لها الوكيل، وإن شاء فارقها، ومتى فارقها كان لها الأقل مما سمى لها الوكيل ومن مهر المثل؛ لأن الدخول حصل في نكاح موقوف، وإن كان المأمور ضمن لها المهر المسمى وأخبرها لأنه أمره بذلك ثم أنكر الزوج الأمر بالزيادة على الألف، وهذا قبل الدخول بها فنقول إنكار الأمر بالزيادة إنكار الأمر بهذا النكاح، ولو أنكر الأمر بالنكاح أصلاً كان النكاح باطلاً ولا مهر على الزوج ولها أن تطالب المأمور بالمهر؛ لأن في زعمهما أن النكاح صحيح وأن الضمان صحيح.

بعد هذا نقول في رواية كتاب النكاح وبعض روايات كتاب الوكالة أن المرأة تطالب المأمور بنصف المهر، وفي بعض روايات كتاب الوكالة نقول: تطالبه بجميع المهر، واختلف المشايخ فيه. والصحيح أنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع موضوع، ما ذكر في كتاب النكاح أن القاضي فرق بينهما بطلبها بذلك حتى لا تبقى معلقة فيسقط نصف المهر عن الأصل بزعمهما لكون الفرقة جائية من قبل الزوج قبل الدخول فيسقط عن الضمين. وموضوع ما ذكر في بعض روايات كتاب الوكالة أنها لم تطلب التفريق قالت: أصبر حتى يقر بالنكاح أو آخذ بيّنة على الأمر بالنكاح فبقي جميع المهر بزعمها على الأصل، فكذا على الوكيل لأنه كفيل الوكيل. وكّلت المرأة رجلاً بأن يزوجها فتزوجها الوكيل بنفسه لم يجز، وكذلك لو وكلته أن يزوجها من رجل، وأما في الفصل الأول فلأنها وكلته بالتزويج مطلقاً، وتزويجها من نفسه إن كان تزويجاً باعتبار جانبها فهو تزوج باعتبار جانبه، فكان يروى من وجه دون وجه فكان ناقصاً والناقص لا يدخل تحت مطلق الاسم، وأما في الفصل الثاني فلهذا المعنى أيضاً ولمعنى آخر أنها امرته بالتزويج من رجل منكر، والوكيل صالر معرفاً بالخطاب، والمعرف لا يدخل تحت اسم النكرة، فلو وكلته أن يزوجها من نفسه فزوجها من نفسه يجوز وإنه يخرج عن المعنيين جميعاً. وكّلته أن يزوجها فزوجها أباه أو ابنه لم يجز عند أبي حنيفة رحمه الله، وجاز عندهما إلا أن يكون الابن صغيراً فلا يجوز بلا خلاف، ولو زوجها أعمى، أو مقعداً، أو زمناً، أو عنيناً، أو خصياً جاز، قيل: هو قول أبي حنيفة رحمه الله، لو وكلت رجلاً أن يزوجها فزوجها من كفء بمهر مثلها فالكلام فيه كالكلام فيما إذا زوجت نفسها، وأنه على الخلاف على ما يأتي بيانه في موضعه بعد هذا إن شاء الله تعالى، فكذا هذا. وإن زوجها من غير كفء لها لم يجز عليها، هكذا ذكر في وكالة الأصل، من مشايخنا من قال: هذا الجواب قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أولاً، أو قياس رواية الحسن عند أبي حنيفة رحمه الله: أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها من غير كفءٍ، أما على ظاهر رواية أبي حنيفة رحمه الله أن المرأة تملك أن تزوج نفسها من غير كفءٍ وينبغي أن يجوز. ومنهم من قال: هذا قول الكل، فهذا القائل يحتاج إلى الفرق على قول أبي حنيفة رحمه الله في ظاهر الرواية بين التوكيل من جانب الرجل وبين التوكيل (194أ1) من جانب المرأة، حيث لم يقيد التوكيل من جانب الرجل بالكفاءة وقيد التوكيل من جانب المرأة بالكفاءة. ولو وكّله بالتزويج ثم إن المرأة تزوجت بنفسها خرج الوكيل من الوكالة علم الوكيل بذلك أو لم يعلم، ولو أخرجها عن الوكالة أو لم يعلم بذلك لا يخرج عن الوكالة، وإذا زوجها جاز النكاح ولو كان وكيلاً من جانب الرجل.

تزوج امرأة بعينها ثم إن الزوج تزوج أمها أو ابنتها خرج الوكيل عن الوكالة وإذا وكلت المرأة رجلاً أن يزوجها وقالت له: ما صنعت من شيء فهو جائز حتى جاز للوكيل أن يوكل غيره ليزوجها، فحضر الوكيل المؤمَّن فأوصى إلى رجل بالتزويج فزوجها الوكيل الثاني بعد موت الأول يجوز، وكان ينبغي أن لا يجوز؛ لأن الأول أضاف الوكالة إلى ما بعد موته وبعد الموت لا يبقى وكيلاً فكيف يصح توكيله بعد الموت؟ والجواب: أن الأول رسول عن المرأة في التوكيل، وعبارة الرسول منقولة إلى المرسل فحينئذ مخيّر. قال لغيره: أوصيت إليك بالتزويج وهو وكيل حال ما قال هو بالمقالة صار كلامه منقولاً إلى المرأة وكأن المرأة قالت: هو وكيل بتزويجي بعد موت الأول، ولو خرجت المرأة بهذا متى مات الوكيل الأول فزوّجها الوكيل الثاني كان جائزاً، كذا فهمنا، وصار الحاصل: أن الوكيل الثاني وكيل المرأة، وكذا هذا في سائر الوكالات. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وكل الرجل رجلاً أن يزوج له امرأة فزوجه امرأة بغير إذنها زوجها أبوها فلم يبلغها الخبر حتى نقض الوكيل النكاح بغير محضر منها وبغير محضر من أبيها فزوجها جاز؛ لأنه على وكالته بعد. بيانه: وهو أن الوكالة متى صحت فهي على حالها ما لم يوجد العزل أو انتهت بتحصيل ما وكل به ولم يوجد العزل هنا، والوكيل لم يحصل ما وكل به على التمام؛ لأنه وكله بالعقد التام وقد أتى بأصل العقد. إذا بقي على وكالته فنقول: تصرف الوكيل حال بقاء الوكالة كتصرف الموكل بنفسه، والموكل يقدر على إبطال هذا العقد فكذا الوكيل، وبهذا الطريق قلنا: إن الوكيل بالبيع مطلقاً يملك البيع بشرط الخيار لإطلاق اللفظ ويملك فسخع في مدة الخيار لبقاء الوكالة، ولكون تصرف الوكيل بمنزلة تصرف الموكل حال بقاء الوكالة فإن قيل تصرف (الوكالة) حال بقاء الوكالة كتصرف الموكل تصرفاً دخل تحت الوكالة، لا تصرفاً لم يدخل تحت الوكالة والداخل تحت الوكالة العقد لا نقضه قلنا: نعم الداخل تحت الوكالة العقد ولكن لحمكة النظر في حق الموكل، فربما يكون النظر في عقد آخر لا يمكنه تحصيل عقد آخر إلا بنقض هذا العقد، فكان نقض هذا العقد من ضرورات تحصيل المأمور به، فيكون هو قائماً مقامه في هذا النقض. وإنما لم يشترط حضرة المرأة ولا حضرة أبيها؛ لأن حكم العقد لم يظهر في حقها أصلاً، ولو أن الوكيل لم ينقض هذا النكاح ولكن زوج الموكل أخت هذه المرأة بإذنها كان ذلك نقضاً للنكاح الأول؛ لأنه وكيل في العقد الثاني؛ لأن العزل لم يوجد ولم تنته الوكالة على أمر وبين النكاحين تنافي فيكون الإقدام على الثاني فسخاً للأول، وكذلك لو زوجه الثانية بغير إذنها كان نقضاً للنكاح الأول؛ لأن نكاح الثانية أيضاً موقوف؛ لأنه على وكالته بعد، والجمع بين الأختين ملكاً كما هو حرام فالجمع بينهما عقداً أيضاً حرام، فتضمن إقدامه على النكاح الثاني فسخاً للأول، ولو كان مكان الوكيل فضولي بأن زوج رجل رجلاً امرأة بغير أمره ثم فسخ المزوج العقد قبل أن يخبره الزوج كان فسخاً باطلاً، وعن أبي يوسف رحمه الله أن فسخه صحيح، فأبو يوسف رحمه الله قاس النكاح على

البيع، فإن الفضولي إذا باع ثم فسخ قبل الإجازة صح فسخه، ومحمد رحمه الله فرق بينهما. ووجهة الفرق أنه ثبت للزوج ولمن وقع البيع له حق الإجازة في هذا العقد، وفي النقض إبطاله، والإنسان لا يملك إبطال حق الغير إلا بطريق النيابة عن صاحب الحق أو ضرورة دفع الضرر عن نفسه والنيابة لم توجد، وليس في بعض النكاح دفع الضرر عن العاقد؛ لأن حقوق العقد لا ترجع إليه على تقدير النفاد، أما في بعض البيع دفع الضرر عن العاقد؛ لأن الحقوق ترجع إليه على تقدير النفاد. فرّع محمد رحمه الله في الجامع على أصله فقال: عاقد النكاح في الفسخ على أربعة أوجه: منها ما لا يملك الفسخ بالقول والفعل وهو (....) بالعقد الذي لم يؤمر به إذا فسخه لم يصح فسخه، ولو زوجه أمها كان الثاني موقوفاً ولم ينفسخ الأول. والثاني: أن يملك الفسخ بالقول ولا يملك الفسخ بالفعل، نحو أن يوكله بأنه يزوجه امرأة بعينها فزوجها إياه، وخاطب من جانب المرأة أجنبي فإنه يملك الفسخ قبل أن يخبر المرأة بالقول ولا يملك الفسخ بالفعل حتى لو زوجه أختها كان الثاني موقوفاً أيضاً ولم ينفسخ الأول، وقد ذكرنا الوجه فيه. والثالث: أنه يملك الفسخ بالقول، نحو أن يزوجه امرأة بغير أمره ثم إن الزوج وكله أن يزوجه امرأة فزوجه أختها فيفسخ العقد الأول؛ لأنه في العقد الثاني وليه وينزل قوله نزلة قول الموكل: لو أن الموكل تزوج أختها، انفسخ العقد الموقوف، فكذا إذا زوجه الوكيل أختها ولكن لو فسخ الوكيل ذلك العقد بالقول لا يصح فسخه، وقدمنا الوجه فيه. والرابع: أنه يملك الفسخ بالقول والفعل جميعاً نحو: أن يوكله أن يزوجه امرأة بغير عينها، فزوجه امرأة وخاطب عنها فضولي ملك الفسخ بالقول، وكذا لو زوجه أختها انفسخ العقد الأول؛ لأنه وكيل في النكاح الثاني فانتقل فعله إلى الموكل، فصار كأن الموكل تزوج بنفسه. وذكر في «العيون» : رجل وكل رجلاً أن يزوجه امرأة نكاحاً فاسداً فزوجه امرأة نكاحاً جائزاً لم يجز، فرّق بين الوكيل بالنكاح الفاسد وبين الوكيل بالبيع الفاسد فإن الوكيل بالبيع الفاسد، لو باع بيعاً صحيحاً يجوز. والفرق: أن الوكيل بالبيع الفاسد وكيل بالبيع؛ لأن البيع الفاسد بيع لأنه يفيد الملك، فإذاً صار وكيلاً بالبيع؛ فإذا باع بيعاً جائزاً فقد خالف إلى خير، وأما الوكيل بالنكاح الفاسد ليس بوكيل بالنكاح، فإن النكاح الفاسد ليس بنكاح؛ لأنه لا يفيد الملك، ولهذا لا يجوز طلاقها ولا ظهارها، وإذا لم يصر وكيلاً لم ينفذ تصرفه على الموكل. في «فتاوى الفضلي» رحمه الله: أكره رجل ابنه على أن يوكله بتزويج ابنته لهذا الابن، وقال الابن للأب من ارسوما يررنرنترارم مرخه خواهى كن فذهب الأب فزوج ابنة

الابن، لا يجوز النكاح؛ لأنه لا يراد بمثل هذا الكلام التحقيق. في آخر «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل وكل رجلاً أن يزوجه امرأة بألف درهم فزوجه بالزيادة إن كانت الزيادة مجهولة ينظر إلى مهر مثلها إن كان ألفاً أو أقل جاز النكاح ويجب لها ذلك، وإن كان أكثر لا يجوز ما لم يُجز الزوج؛ لأن الزيادة إذا كانت مجهولة كان الواجب مهر المثل، فإذا كان مهر المثل أكثر من الألف صار كأنه زوجها بالزيادة على ما (194 ب1) سمى له الموكل فيقف على الإجازة، وإن زاد شيئاً معلوماً لا يجوز ما لم يُجِزْ الزوج. في «الأصل» : إذا وكلت المرأة رجلاً أن يزوجها فزوجها على مهر صحيح أو فاسد أو وهبها لرجل بشهود، أو تصدق بها على رجل وقبل ذلك الرجل جاز النكاح، أما إذا زوجها على مهر صحيح فظاهر، وكذلك إذا زوجها على مهر فاسد؛ لأن فساد التسمية لا أثر لها في إفساد عقد النكاح، وكذلك إذا وهبها أو تصدق؛ لأنه أتى بمعني التزويج إلا أنه ترك التسمية، ولكن ترك التسمية في هذا الباب ليس بضائر، كما لو باشرت بنفسها وتركت التسمية. وإذا وكلته أن يزوجها من رجل ويكتب لها كتاب المهر؛ فزوجها ولكن لم يكتب لها كتاب المهر جاز؛ لأنه مأمور بشيئين بالنكاح وكتابة كتاب المهر، وقد أتى بأحدهما وترك الآخر وترك بعض المأمور به لا يوجب خللاً في المأتي به. وكلت رجلاً بأن يزوجها من فلان يوم الجمعة فزوجها يوم الخميس لا يجوز، وكذلك لو وكّلته أن يزوجها منه اليوم بعد الظهر فزوجها قبل الظهر؛ لأن التفويض تناول زماناً مخصوصاً ولا يثبت قبله. إذا وكلته أن يزوجها من فلان بأربعمائة درهم فزوجها الوكيل فأقامت معه سنة ثم زعم الزوج أن الوكيل زوجها منه بدينار وصدقه الوكيل في ذلك، فإن كان الزوج مقراً أن المرأة لم توكله بدينار فالمرأة بالخيار إن شاءت أجازت النكاح بدينار وليس لها غير ذلك، وإن شاءت ردت ولها عليه مهر مثلها بالغاً ما بلغ، ولا نفقة لها في العدة؛ لأنها لما ردت النكاح تبين أن الدخول حصل في نكاح موقوف فيوجب مهر المثل ولا يوجب النفقة في العدة. وإن كان الزوج منكراً، أو وقع الاختلاف بينهما فكذلك الجواب أيضاً؛ لأن القول قولها مع يمينها. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: ومن هذا الجنس وكل الرجل رجلاً بأن يزوجه امرأة بثمانٍ، فزوجه امرأة بثمانٍ وخمسين حتى صار مخالفاً صار فضولياً في العقد وتوقف العقد على إجازة الزوج فإن أجازه وجب ثمان وخمسون، وإن رده وقد كان دخل بها وهو لا يعلم فعليه الأقل من المسمى ومن مهر المثل كما في النكاح الفاسد. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل قال لغيره: زوِّج ابنتي هذه رجلاً ذا علم وعقل ودين بمشورة فلان وفلان، فزوجها من رجل بهذه الصفة من غير مشورة فلان وفلان جاز؛ لأن الأمر بالمشورة لتحقيق هذه الصفة. وقد وجد في هذا الموضع. امرأة وكلت رجلاً أن يتصرف في أمورها فزوجها من نفسه فقالت المرأة: أردت

الفصل التاسع في معرفة الأولياء

البيع والأشرية لا يجوز النكاح؛ لأنها لو وكلته بالنكاح أو التزويج فزوجها من نفسه لا يجوز فههنا أولى. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل وكل رجلاً أن يخطب له ابنة فلان الوكيل إلى أب المرأة فقال: هب ابنتك مني فقال الأب: وهبت، ثم ادعى الوكيل أني أردت النكاح لموكلي إن كان القول من المخاطب وهو الوكيل على وجه الخطبة، ومن الأب على وجه الإجازة على وجه العقد لا ينعقد النكاح بينهما أصلاً، وإن كان على وجه العقد ينعقد النكاح للوكيل لا للموكل، وكذلك إذا قال الوكيل بعد ذلك قبلت لفلان؛ لأن الوكيل لما قال: هَبْ ابنتك مني وقال الأب: وهبت تم العقد بينهما من غير أن يحتاج فيه إلى قبول الوكيل فكان قبول الوكيل بعد ذلك فَصْلاً. فأما إذا قال الوكيل: هب ابنتك من فلان فقال الأب: وهبت لا ينعقد النكاح ما لم يقل الوكيل قبلت، وإذا قال قبلت فهو على وجهين إما إن قال: قبلت لفلان أو قبلت مطلقاً؛ ففي الوجهين جميعاً ينعقد النكاح للموكل. وفي «فتاوى أهل سمرقند» من نص: كَلَّ لسانه فقال له رجل: أكون وكيلاً عنك في تزويج ابنتك فقال: أرى أرى فذهب الوكيل فزوجها لا يجوز؛ لأن هذا لفظ مجمل، يحتمل: أرى وكيلي، ويحتمل أرى وكيل كيمت وفيه نظر، ينبغي أن يجوز النكاح؛ لأن قوله: أرى جواب فينعقد بالسؤال، والسؤال عن الوكالة الحالية والله أعلم. الفصل التاسع في معرفة الأولياء يجب أن يعلم بأن الولي من كان من (....) وهو عاقل بالغ حتى لا يثبت الولاء للصبي والمجنون، ولا يثبت الولاء للكافر على المسلم، ولا للمسلم على الكافر، ولأن كل واحد منهما يحتاج إلى معرفة ( ... ) فنقول: أقرب الأولياء إلى المرأة الابن وإنه على الخلاف على ما يأتي بيانه بعد هذا، ثم ابن الابن وإن سفل، ثم الأب، ثم الجد أب الأب وإن علا، ثم الأخ لأب وأم، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ لأب وأم، ثم الابن الأخ لأب وإن سفلوا، ثم العم لأب وأم، ثم العم لأب، ثم ابن العم لأب وأم، ثم ابن العم لأب وإن سفلوا، ثم عم الأب لأ وأم، ثم عم الأب لأب، بنوهم على هذا الترتيب، ثم رجل هو أبعد العصبات إلى المرأة، وهو ابن عم بعيد لأن مرجع العشيرة إلى أب واحد وإن تباعدوا، ثم مولى العتاقة ثم عصبة مولى العتاقة، ثم الآمر ثم ذو الأرحام الأقرب فالأقرب، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وهو استحسان، وقال محمد رحمه الله لا ولاية للأم وقومها ولا لأحد من ذوي الأرحام وهو القياس وقول أبي يوسف رحمه الله (....) .

ذكر القدوري مع محمد رحمه الله وذكر الطحاوي رحمه الله قوله مع أبي حنيفة رحمه الله، ثم مولى الموالاة، ثم سلطان القاضي، ومن نصبه القاضي لا يرث من صاحبه. ولا تثبت الولاية للعبد؛ لأنه لا يرث من أحد بعد هذا. إذا شرط تزويج الصغار والصغائر في عهده وإذا لم يشترط فلا ولاية له، ثم إنما يحتاج إلى الولي في الصغير والصغيرة والمجنون والمجنونة. وإذا زال الصغر والجنون تزول الولاية عندنا. وسئل إسماعيل بن حمّاد عن امرأة جاءت إلى القاضي وقالت إني أريد أن أتزوج وليس لي ولي ولا يعرفني أحد، قال القاضي يقول لها: إن لم تكوني قُرشية ولا عربية ولا ذات زوج ولا في عدة أحد فقد أذنت لك. وإذا اجتمع للمجنونة أب وابن فالابن أولى عند أبي حنيفة رحمه الله، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: الأب أولى، وعلى هذا الاختلاف الجد مع الابن، هكذا ذكر القدوري، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن عند أبي يوسف رحمه الله الابن أولى من الجد (في) رواية. وفي نوادر هشام عن محمد رحمه الله: إذا كان الرجل بخيلاً وله ابن وأب فالتزويج إلى الابن عند أبي حنيفة رحمه الله والتبع للأب، وفي قولهما إلى الأب. وإذا اجتمع الجد والأخ لأب وأم أو لأب فعند أبي حنيفة رحمه الله الجد أولى، وغيرهما يستويان كما في الميراث. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرحه: الأصح عندي أن الجد أولى في الإنكاح عند الكل؛ لأن في الولاية معنى الشفقة معتبرة، وشفقة الجد فوق شفقة الأخ، وإذا اجتمع الابن والأخ لأب وأم أو لابن فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: الابن أولى وقال (195أ1) محمد رحمه الله: الأخ أولى. وفي «المنتقى» قال محمد رحمه الله: الأخ أولى، وفي «المنتقى» قال محمد رحمه الله: إن كان للصغير ولد الأب الفاسد ابن فاسق أو جد لم يزوجهما القاضي، وإن كان الأب فاسداً أو الجد ينبغي للقاضي أن يزوجهما من الكفء. وإن زوج الصغير أو الصغيرة أبعد الأولياء؛ فإن كان الأقرب حاضراً أو هو من أهل الولاية توقف نكاح الأبعد على إجازته، وإن لم يكن من أهل الولاية بأن كان صغيراً أو كان كبيراً مجنوناً جاز، وإن كان الأقرب غائباً غيبة منقطعة جاز نكاح الأبعد، وتكلموا في حق الغيبة المنقطعة، وأَكثَرَ المشايخُ الكلام فيه، وكذلك اختلفت الروايات فيه. والأصح: أنه إذا كان في موضع لو انتظر حضوره أو استطلاع رأيه فات الكفء الذي حضر فالغيبة منقطعة، وإن كان لا يفوت فالغيبة ليست بمنقطعة، وإلى هذا أشار في الكتاب فقال: أرأيت لو كان في السواد وأتوه أما كان يستطلع رأيه؟ أشار إلى أن المعتبر استطلاع الرأي، فمن المشايخ من لم يتجاوز عن هذا المقام، ومنهم من يتجاوز عنه، وقال: الكفؤ لا ينتظر أياماً كثيرة وينتظر قليلاً، فلا بد من حد فاصل بينهما، فقدرنا ذلك بثلاثة أيام ولياليهما؛ لأنه لا نهاية لما زاد على

الثلاث، وهو قول أبي عصمة سعد بن معاذ المروزي رحمه الله ومحمد بن مقاتل الرازي رحمه الله، فصار حدّ الغيبة المنقطعة على قولهما ثلاثة أيام ولياليهما، وهكذا كان يفتي القاضي الإمام ركن الدين علي السعدي رحمه الله، فإنه سئل عن صغيرة زوجتها أمها ولها ولي بنسف وهذا السؤال كان ببخارى قال من بخارى إلى نسف مسيرة شهر فهو غيبة منقطعة. قال القاضي الإمام رحمه الله: هذا إذا زوج الأبعد، ولا يعرف أن الولي الأقرب أين هو يجوز، وإن ظهر أنه في ذلك المصر، وإذا زوجها الأقرب من حيث هو؛ اختلف المشايخ فيه: في «المنتقى» عن محمد رحمه الله: المرأة إذا لم يكن لها ولي حاضر استحسن أن تولي رجلاً يزوجها، وهكذا جاء عن ابن عمر رضي الله عنه، والرجل الذي يعول الصغير أو الصغيرة فلا له ولاية في إنكاحهما، وكذلك الوصي لا ولاية له في إنكاح الصغير والصغيرة سواء أوصى إليه الأب بالنكاح أو لم يوص، إلا إذا كان الوصي وليهما، فحينئذ يملك الإنكاح بحكم الولاية لا بحكم الوصاية.l في «مجموع النوازل» : سئل شيخ الإسلام عن رجل غاب غيبة منقطعة وله بنت صغيرة فزوجتها أختها لأب أو لأم حاضرة، قال: إن لم يكن لها عصبة أولى من الأخت جاز النكاح، قيل: لا تكون الأم أولى من الأخت قال: لا لأن الأخت؟ لأب وأم أو لأب من قوم الأب، والنساء اللواتي من قوم الأب لهن ولاية التزويج عند عدم العصبات بإجماع بين أصحابنا رحمهم الله وهي الأخت والعم وبنت الأخ وبنت العم، فأما الأم والنساء اللواتي من قبل الأم فلهن ولاية عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند محمد رحمه الله لا ولاية لهن. وقد ذكرنا قبل هذا: إن ولاية ذوي الأرحام على الخلاف، فما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن النساء اللواتي من قوم الأم لهن ولاية التزويج عند عدم العصبات بإجماعٍ بين أصحابنا مستقيم في الأخت لا في العمة وبنت الأخ وبنت العم؛ لأنهن من جملة ذوي الأرحام. وإذا زوج الصغير أو الصغيرة غير الأب والجد ثم بلغا فلهما الخيار عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، والمسألة معروفة، ولو زوجتها أمها فبلغت فلها الخيار عند أبي حنيفة رحمه الله (على) أصح الروايتين، والقاضي إذا زوج الصغير أو الصغيرة فله الخيار في أظهر الروايتين عن أبي حنيفة وهو قول محمد إذا كان الوصي ولياً وزوج الصغير أو الصغيرة وبلغ فله الخيار لأن نفاذ تصرفه ليس يكون وصيّاً فصار بكونه وصياً وغير وصي سواء. في «العيون» : معتوهة زوجها عمها أو أخوها ثم عقلت فلها الخيار، وإن زوجها أبوها أو جدها فلا خيار لها؛ لأن المعتوهة بمنزلة الصغيرة وفي الصغيرة الحكم كذلك. وإن زوج المعتوهة ابنها فلا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله فيه، ويجوز أن لا يكون لها الخيار؛ لأن عند أبي حنيفة رحمه الله إذا اجتمع الابن والأب في البالغة المعتوهة فولاية الإنكاح للابن، وإذا كان الابن مقدماً على الأب عنده ولا خيار لها في تزويج

الأب جاز أن لا يكون لها الخيار في تزويج الابن من طريق الأولى، وكما ثبت خيار البلوغ للأنثى ثبت للذكر لأن سبب ثبوت هذا الخيار صدور العقد عن شفقة قاصرة، وهذا المعنى يعم الذكر والانثى ولا تكون الفرقة فيه إلا بقضاء القاضي. ويبطل هذا الخيار في جانبها بالسكوت إذا كانت بكراً ولا يمتد إلى آخر المجلس حتى سكتت كما لو بلغت وهي بكر بطل خيارها، وإن كانت ثيباً في الأصل أو كانت بكراً، إلا أن الزوج قد بنى بها ثم بلغت عند الزوج لا يبطل خيارها بالسكوت، ولا بقيامها عن المجلس؛ لأن سكوت البنت لم يجعل رضاً شرعاً، وإنما يبطل خيارها إذا رضيت بالنكاح صريحاً أو يوجد منها فعل يستدل به على الرضا، وذلك نحو التمكين من الجماع أو طلب النفقة أو ما ذلك. أما لو أكلت من طعامه خدمته كما كانت فهي على خيارها، وفي جانبه لا يبطل هذا الخيار بالسكوت، وهذا لأنا نعتبر الإجازة بالإنشاء، وسكوت البنت والغلام لا يجعل رضاً بالإنشاء بعد البلوغ، فكذا لا يجعل إقراره للعقد الذي سبق البلوغ، وإنما يبطل خياره بتصريح الرضا أو بما يدل عليه من قربان المرأة وتجهيزها أو تسليم الصداق إليها، وهذا الخيار يبطل بالجهل؛ لأنه جهل في غير موضعه. وتفسير ذلك: إذا علمت بالعقد ساعة ما بلغت لكن جهلت ثبوت الخيار، أما إذا لم تعلم بالعقد ساعة ما بلغت كان لها الخيار إذا علمت. وإذا بلغت وسألت عن اسم الزوج أو عن المهر المسمى، أو سلمت على الشهود بطل خيار البلوغ، وإذا وقعت الفرقة بخيار البلوغ (......) الزوج دخل بها ولا مهر لها؛ وقعت الفرقة باختيار الزوج فيما تختاره المرأة، وإن كانت قد دُخل بها فلها المهر كاملاً وقعت الفرقة باختيار الزوج أو باختيار المرأة. إبراهيم عن محمد رحمهما الله ينبغي للصغيرة أن تختار نفسها مع رؤية الدم. قلت: فإن رأت الدم في جوف الليل؟ قال: ينبغي أن تقول بلسانها: قد فسخت النكاح، وتُشْهِد إذا أصبحت وتقول: رأيت الدم الآن لأنها لا تُصدق أن تقول: رأيت بالليل وفسخت والنكاح. قال إبراهيم: قلت لمحمد رحمه الله ويسعها ذلك؟ قال: نعم، قال هشام: سألت محمد رحمه الله عن الصغيرة التي زوجها عمها إذا حاضت؟ فقال: الحمدلله قد اخترت فهي على خيارها، وإن بعثت خادمها حيث حاضت تدعوا (195ب1) الشهود لشهدهم، فلم تقدر على الشهود وهي في موضع منقطع عن الناس، فمكثت أياماً لا تقدر على الشهود قال: التزمها النكاح ولم يجعل هذا عذراً. ابن سماعة عن محمد رحمه الله: إذا اختارت نفسها وأشهدت على ذلك ولم تتقدم إلى القاضي شهرين فهي على خيارها ما لم تمكنه من نفسها. إذا زوج القاضي صغيرة لا ولي لها ولم يكن السلطان أذن للقاضي في تزويج

الصغائر ثم أذن له في ذلك فأجاز ذلك النكاح لم يجز، وإن كان قد أذن له قبل التزويج فزوج جاز، هكذا ذكر في «فتاوى الفضلي» رحمه الله، وعلى قياس ما قال محمد رحمه الله في الجامع: العبد إذا تزوج امرأة بغير إذن المولى، ثم إن المولى أذن له في النكاح فأجاز ذلك النكاح أنه يجوز استحساناً. والفضولي إذا زوج رجلاً امرأة ثم إن الزوج وكله أن يزوجه امرأة فاجاز ذلك النكاح. لم يجز استحساناً، ينبغي في هذه المسألة أن تجوز إجازته ذلك النكاح، تزوجها فزوجها القاضي بغير علم الأخ قال: لا يصح النكاح إلا إذا كان الأخ غائباً أو (......) ، فحينئذ يجوز للأب أو الجد أو غيرهما. إذا زوج الصغيرة ممن لا يكافئها، أو زوج الصغيرة امرأة ليست بكفء له فقد وجدت هذه المسألة في فصل الكفاءة، وإذا زوج الأبُ أو الجدُ الصغيرَ امرأة بأكثر من مهر مثلها؛ أو زوج الصغيرة بأقل من مهر مثلها إن كانت الزيادة أو النقصان بحيث يتغابن الناس في مثله يجوز بالاتفاق، وكذلك الجواب في غير الأب والجد من سائر الأولياء، وأما إذا كانت الزيادة أو النقصان فاحشاً بحيث لا يتغابن الناس في مثله قال أبو حنيفة رحمه الله: صح النكاح وصح الحطّ والزيادة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمها الله: لا يجوز، ولم يتبين بإذنه لا يجوز النكاح أو التسمية، فروى الحسن بن زياد رحمه الله: أن النكاح جائز والتسمية لا تجوز، وذكر هشام عن محمد رحمه الله أن النكاح جائز. وفي «الجامع الصغير» عنهما: أن النكاح لا يجوز وأجمعوا على أن غير الأب والجد لو زاد أو نقص بحيث لا يتغابن الناس في مثله أنه لا يجوز النكاح، حتى لو أجاز بعد البلوغ لا تعمل إجازته، وأجمعوا على أن الأب أو الجد لو زوزج أمة ابنه الصغير بأقل من مهر المثل أنه لا يجوز. إذا كان الرجل يجن ويفيق هل تثبت له ولاية الغير عليه في حال جنونه؟ ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في أدب القاضي في باب شهادة: الأعمى أنه إذا كان يجن يوماً أو يومين فهو بمنزلة المغمى عليه، ولا تثبت للغير عليه ولاية في حال جنونه، وتقبل شهادته في حال إفاقته، وأما الجنون المطبق يوجب الولاية، وقدره في بعض المواضع بأكثر من السنة في قول أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله قدره أولاً بشهر، ثم رجع وقدره بالسنة. وفي «واقعات الناطفي» : قدر المطبق في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله بالشهر، فالحاصل أن الصلوات في حق المطبق تقدر بست صلوات وفي حق الصوم بالشهور، وفي الزكاة وما سواها على الخلاف، وإذا عرفت حد الجنون المطبق فغير المطبق ما دونه وهو المراد في قوله في الكتاب يجن ويفيق. في آخر «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل زوج ابنه الكبير امرأة فلم يجز الابن

حتى جُنّ الابن جنوناً مطبقاً فأجاز الأب ذلك النكاح جاز؛ لأنه لو استأنف النكاح عليه في هذه الحالة يجوز فكذا إذا أجازه، وإذا أقرّ الولي على ولده الصغير بالنكاح؛ فإن قال: كنت زوجت ابنتي الصغيرة أمس من فلان أو زوجت لابني الصغير فلانة أمس فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يصدق الأب على ذلك وإن صدقته المرأة أوالزوج ما لم يشهد بذلك شاهدان أو يصدقان بعد الإدراك. وإنما تبين هذا فيما إذا أقر الولي عليهما بالنكاح ثم أدركا فكذا هذا، أو أقام المدعي عليهما شاهدين بعد البلوغ بإقرار الولي عليهما بالنكاح في حالة الصغر، وكذلك على هذا الوكيل بالنكاح من جانب الرجل أو المرأة إذا أقر على موكله بالنكاح، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في آخر باب النكاح بغير شهود: أنّ على رواية كتاب الطلاق الخلاف في إقرار الولي بالنكاح على الصغير، فأما إقرار الوكيل فجائز على الموكل عند أبي حنيفة رحمه الله إذا كان الأمر مقراً بأن امرأة تعقله قال رحمه الله والأصح أن الخلاف في الكل، فإن قيل: على من تقام البينة في مسألة الصغير والصغيرة، والبينة لا تقبل إلا على منكر يعتبر إنكاره؟ وليس هنا منكر يعتبر إنكاره، قلنا: القاضي ينصب خصماً للصغير والصغيرة حتى ينكر فتقام عليه البينة فيثبت النكاح في حق الصغير والصغيرة. ومما يتصل بهذا الفصل مسألة النكاح بغير ولي. الحرة البالغة العاقلة لوزوجت نفسها من رجل هو كفء لها أو ليس بكفء لها نفذ النكاح في ظاهر رواية أبي حنيفة رحمه الله وهو قول أبي يوسف رحمه الله آخراً، لا أن الزوج إذا لم يكن كفئاً فللأولياء حق الاعتراض، فروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أن الزوج إذا لم يكن كفؤاً لا ينفذ النكاح وكان أبو يوسف رحمه الله أولاً يقول: يتوقف النكاح إلى أن يجيزه الولي أو الحاكم، على كل حال وهو قول محمد رحمه الله، وصح رجوع محمد إلى قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله آخراً، ذكره في كتاب «الحيل» وإذا قصرت في مهر مثلها فللأولياء حق المخاصمة مع الزوج حتى تبلغ تمام مهر مثلها أو يفرق القاضي بينهما. وإذا فرّق القاضي بينهما. لا يجب لها إلا المسمى في العقد، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله ليس للأولياء حق المخاصمة وجاز النكاح بما سمت، وقول محمد رحمه الله لا يأتي في هذه المسألة، وإنما يأتي في مسألة أخرى: أن السلطان إذا أكره رجلاً أن يزوج وليته من كفء بأقل من مهر مثلها فرضيت المرأة بذلك ثم زال الإكراه فللولي حق الخصومة مع الزوج حتى تبلغ مهر مثلها أو يفرق القاضي بينهما، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: لا حق للولي في ذلك وكذلك في مثله. إذا كانت المرأة مكرهة ثم زال الإكراه؛ على قول أبي حنيفة رحمه الله حق الخصومة للمرأة مع الولي، وعلى قولهما: حق الخصومة للولي لا غير، وهو بناء على أن الحق إلى تمام مهر مثلها عند أبي حنيفة رحمه الله للمرأة وللأولياء حق الكفاءة، وعندهما: الحق للمرأة لا

الفصل العاشر في نكاح الصغار والصغائر وتسليمهنإلى الأزواج وتصرف الأولياء في المهر

غيرها، يقولان: المهر خالصُ حقهم حتى استندت بالتصرف فيه استيفاء وإسقاطاً. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الأولياء يتغيرون بالتحسين عن مهر المثل كما يتغيرون بالوضع عند من لا يكافئهم، فإن أمرت رجلاً حتى زوجها فهو على هذا الخلاف؛ لأن تزويج المأمور إياها بأمرها بمنزلة مباشرتها بنفسها. وإن طلقها الزوج ثلاثاً قبل إجازة الولي أو الحاكم؛ فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: لا يحل له أن يتزوجها قبل التزويج بزوج آخر، وكذلك على قول محمد رحمه الله على القول المرجوع إليه، وعلى قوله الأول يكره له التزويج قبل التزوج بزوج آخر، لكن لا يحرم؛ لأن الطلاق لم ينفذ عنده على الحقيقة. في «المنتقى» : إبراهيم عن محمد رحمه الله: صغيرة زوجتها (196م) أمها من رجل ثم طلقها الزوج قبل أن يدخل بها له أن يتزوج أمها؛ لأن ذلك ليس بنكاح، وهذا لأن الأم ليست بولية عند محمد رحمه الله، وإن كانت كبيرة فزوجت نفسها أو زوجتها أمها برضاها ثم طلقها قبل أن يخلو بها فليس له أن يتزوج بأمها قال: لأن الناس اختلفوا في النكاح بغير ولي، وكُرِهَ هنا لاختلاف الناس فيه. وعنه أيضاً: رجل زوج أمها برضاها قال أبوهما: قد أبطلت النكاح، لا يكون إبطالاً حتى يطلبه القاضي، وقال: للولي أن يجيز النكاح وليس له أن ينقضه، أشار إلى أن في النكاح بغير ولي يحتاج إلى إبطال القاضي ولا يكفيه إبطال الولي. وفي «فتاوى الفضلي» : سئل عن امرأة زوجت نفسها بحضرة امرأتين وحضرة وليها من رجل، قال: النكاح جائز على مذهب أبي حنيفة رحمه الله، ويصير الولي شاهداً مع المرأتين أكثر في الباب أن الولي إذا اعتبر شاهداً كان هذا نكاحاً بغير ولي إلا أن النكاح بغير ولي جائز عنده. في فوائد المشايخ المتقدمين ببخارى: أن القاضي إذا زوج الصغيرة من نفسه فهو نكاح بغير ولي؛ لأنه رعية في حق نفسه، وإنما الحق للذي هو فوقه وهو الوالي، والوالي في حق نفسه أيضاً رعية: وكذلك الخليفة في حق نفسه رعية والله أعلم. الفصل العاشر في نكاح الصغار والصغائر وتسليمهنإلى الأزواج وتصرف الأولياء في المهر قال محمد رحمه الله في «الأصل» بلغنا أن رسول الله عليه السلام «بنى بعائشة وهي ابنت تسع سنين» فيه دليل أن للزوج أن يدخل بامرأة صغيرة إذا بلغت تسع سنين،

وإن لم تبلغ فإن بلوغها لم ينقل في الحديث، وبه أخذ المشايخ، ومن المشايخ من قال: ليس للزوج أن يدخل بها ما لم تبلغ، وأكثر المشايخ على أنه لا عبرة للسن في هذا الباب، وإنما العبرة للطاقة إن كانت صحة سمينة تطيق الرجال ولا يخاف عليها المرض من ذلك؛ كان للزوج أن يدخل بها وإن لم تبلغ تسع سنين. فإن كانت نحيفة مهزولة لا تطيق الجماع ويُخاف عليها المرض لا يحل للزوج أن يدخل بها، وإن كبر سنها وهو الصحيح. وكذلك المشايخ اختلفوا على نحو هذا في ختان الصغيرة، بعضهم اعتبروا البلوغ وبعضهم اعتبروا تسع سنين وبعضهم عشر سنين، وبعضهم يعتبر أن الطاقة إن كان قوياً بحيث يطيق ألم الختان يختتن قبل سنة أو أكثر. وإذا نقد الزوج المهر فطلب من القاضي أن يأمر أبا المرأة بتسليم المرأة فقال أب المرأة: إنها صغيرة لا تصلح للرجال، ولا تطيق الجماع. وقال الزوج: لا بل هي تصلح للجماع وتطيق الرجال، قال ننظر؛ إن كانت ممن يخرج أخرجها القاضي وأحضرها ونظر إليها فإن صلحت للرجال أمر برفعها للزوج، وإن لم تصلح لم يأمر، وإن كانت ممن لا يخرج أمر من يثق بهن من النساء أن ينظرن إليها فإن قلن: إنها تطيق الرجال وتحتمل الجماع أمر الأب برفعها إلى الزوج، وإن قلن لا تحتمل الجماع لا يؤمر بتسليمها إلى الزوج. في «أدب القاضي» للخصاف في باب المطالبة بالمهر: وإن ادعى الزوج أنها بلغت مبلغ النساء وقال الأب: هي صغيرة لم تبلغ ولا تحتمل الرجال وهي ممن يشك في بلوغها، إذا قلن إنها تحتمل الرجال دفعت إلى الزوج في هذا الباب، وإن للزوج بينة تشهد على سنها قد عرفت مولدها. فإن كانت قد أتى عليها خمس عشر سنة دفعت إلى الزوج؛ لأن الظاهر أن المرأة إذا بلغت هذا المبلغ تصلح للرجال فتدفع إليه إلاّ إذا تبين بخلافه، ألا ترى أن البالغة إذا كانت لا تحتمل لا يؤمر بدفعها إلى الزوج كذا هنا. صغيرة لا يُستمتع بها زفها أبوها فللأب أن يطالب الزوج بمهرها بخلاف النفقة في هذا الباب، وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله أيضاً. والفرق: وهو أن النفقة بإزاء الاحتباس في حق الزوج وهي غير محبوسة لحق الزوج؛ لأن الزوج لا يستمتع بها بخلاف المهر؛ لأن المهر بإزاء الملك والملك ثابت، وفي «البقالي» قيل: ليس للأب أن يطالب الزوج بمهر ابنته الصغيرة إلى أن تصير بحال ينتفع بها (......) الزوج مهر ابنته البكر، وإن كانت كبيرة استحساناً إلا إذا نهته عن القبض فحينئذ ليس له علاقة بمطالبته، فليس لأحد من الأولياء ذلك إلا بوكالة منها، وإن كانت بنتاً كانت كبيرة فليس للأب المطالبة بالمهر. وفي «المنتقى» إبراهيم عن محمد رحمه الله وبشر عن أبي يوسف رحمهم الله: إذا أقر الأب بقبض المهر والبنت بكر صُدّق وعنه أيضاً إبراهيم عن محمد رحمه الله: رجل

تزوج امرأة بكراً ودفع المهر إلى الأب برىء وليس للأب أن يأخذ الزوج بالمهر إلا بوكالة منها، ولو قبض الهبة وهدية الزوج لم يكن قبضه قبضاً لها، وللزوج أن يأخذ ذلك من الأب معنى المسألة: إذا وهب الزوج لامرأته قبل أن يبني بها هبة وأهدى إليها بهدية فقبض الأب ذلك والمرأة بكر فقبض الأب لا يكون قبضاً لها حتى كان للزوج أن يأخذ ذلك من الأب بخلاف قبض الأب المهر، فإنه جعل قبضاً لها إذا كانت بكراً حتى برىء الزوج عنه. وفيه أيضاً: بشر عن أبي يوسف رحمه الله: إذا زوج الرجل ابنته وهي بكر وكان الزوج مقراً بالنكاح والمهر، فللأب أن يخاصم بالنفقة والمهر وإن كان جاحداً للنكاح أو المهر فليس له أن يخاصم إلا بالوكالة، وفي «فتاوى الفضلي» : وللرجل أن يخاصم في مهر ابنته البكر البالغة بغير وكالة منها لما أن له أن يقبض المهر، ثم في حق البكر البالغة إنما تملك قبض مهرها المسمى حتى لو كان المسمى بيضاً لا تملك قبض السود وكذا على العكس، هكذا ذكر في «أدب القاضي» للخصاف في باب المطالبة بالمهر، وهذا تنصيص على أنه لا يملك قبض الصاع بدلاً عن الدراهم، وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله الأب إذا قبض ضيعة بمهر ابنته البكر إن كان ذلك في بلد لم يَجْرِ التعارف بدفع الضيعة بالمهر لم يجز لأن هذا إسراف وليس بقبض للمهر، وليس للأب أن يشتري على ابنته البالغة. وإن كان في بلدة جرى التعارف بذلك جاز إذا كانت بكراً؛ لأن هذا قبض للمهر. وللأب قبض مهر ابنته البكر وإن كانت بالغة، وإن كانت صغيرة، وأخذ الأب ضياعاً بمهرها وإن كان يساوي المهر فهو جائز سواء كان في بلدة جرى التعارف بدفع الضيعة بالمهر، أو كان في بلدة لم يَجرِ التعارف بدفع الضيعة بالمهر لأن هذا إما أن يعتبر قبضاً للمهر أو شراء، وأيَّا ما كان فللأب ملك ذلك على ابنته الصغيرة. وإن كانت الضيعة لا تساوي المهر إن كان في بلدة جرى التعارف بدفع الضيعة بالمهر بأضعاف قيمتها جاز؛ لأن هذا قبض للمهر، وإن كان في بلد لم يَجْرِ بذلك التعارف لا يجوز؛ لأن هذا شراء وليس للأب ولاية الشراء على ابنته الصغيرة بأضعاف القيمة. وفي «البقالي» : وللقاضي أن يقبض (196ب1) مهر البكر البالغة كالأب والجد والوصي، رواه هشام عن محمد رحمه الله وأطلق الخصاف أنه لا يقبض إلا الأب يعني من غير وكالة منها. وفيه أيضاً: وأما الشراء بالمهر فالأشبه أنه لا يجوز، قال: وقد قيل أنه يعتبر فيه العادة، وفيه أيضاً: ولا يجوز إقرار الأب بعد بلوغها بقبض المهر في صغرها، ولا يضمن للزوج؛ لأن الزوج قد صدقه إلا أن يقول وقت القبض أقبضه على أن أبرئك من ابنتي. معنى المسألة: إذا زوج الرجل ابنته وهي صغيرة ثم أدركت وطالب زوجها بالمهر فقال الزوج: دفعت إلى أَبيْك وأنت صغيرة وصدقه الأب في ذلك؛ فإن إقرار الأب اليوم لا يجوز على ابنته، ولها أن ترجع بالمهر على الزوج، ولا يرجع به الزوج على الأب من قبل أنه مقر أنه دفعه إليه، ودفعه جائز. وإن كان الأب قال: أخذت منك المهر على أن أبرئك من ابنتي وباقي المسألة

بحالها كان للزوج أن يرجع على الأب؛ لأنه قبضه على أن يبرئه من صاحبه. قال في «المنتقى» : والحكم (فيهما كالحكم) فيما بين الوكيل والمديون، وإن الدين في مثل هذا نظير الحكم فيما بين المرأة والأب. (والأب) إذا قبض مهر ابنته البالغة من الزوج ثم ادعى عليه الرد؛ فإن كانت البنت بكراً لم يصدق إلا ببينة لأن له حق القبض وليس له حق الرد فقد ادعى ما ليس حقه فلا يصدق، وإن كانت ثيباً يصدق؛ لأنه ليس له حق قبض مهر الثيب البالغة إلا بوكالة منها ولم توجد الوكالة فلا يقع قبضه للبنت وإنما يقع قبضه للزوج وكان المهر أمانة للزوج في يده، فإذا قال: رددت على الزوج فقد ادعى رد الأمانة على صاحبها فيصدق. الأب إذا زوج ابنته من إنسان فطلبوا منه أن يقر بقبض بعض الصداق أو يهب شيئاً من الصداق فالإقرار بالقبض باطل؛ لأن أهل المجلس يعرفون أنه كذب حقيقة، وأما الهبة فإن كانت الابنة كبيرة فالأب يقول: أهب بإذن البنت كذا وكذا ثم يضمن للزوج عنها ويقول: إن أنكرت الإذن بالهبة ورجعت عليك فأنا ضامن لك عنها، ويكون هذا الضمان صحيحاً لكونه مضافاً إلى سبب الوجوب، وإن كانت البنت صغيرة فالحيلة أن يباشرا العقد على ما وراء ... الملتمس هيئته، فلا يحتاجان إلى الهبة، أو يحيل الزوج بعض الصداق على أن الصغيرة فيفرغ ذمته إن كان أب الصغيرة أملى من الزوج. إذا جعل الأب بعض المهر لابنته البالغة معجلاً أو البعض مؤجلاً والبعض هبة كما هو المعهود ثم قال الأب: إن لم تجز البنت الهبة فهي عليّ لا يلزم الأب بهذا شيء. في شهادات «فتاوى أبي الليث» رحمه الله، ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : لو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي، وقال إني زوجت هذا ابنتي على صداق كذا وكذا بأمرها وهي بكر....... فإن أمر الزوج بالتزويج والمهر وقال: لم أدخل بها أَمَرَهُ بدفع المهر إلى الأب، ولا يشترط إحضار المرأة للاستيفاء عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وقال زفر رحمه الله: يشترط إحضارها وهو قول أبي يوسف رحمه الله آخراً، هو يقول إنّ النكاح معاوضة فكان بمنزلة البيع، ثم البائع إنما يملك مطالبة المشتري بالثمن إذا أحضر المبيع مع نفسه ليسلمه عقيب قبض الثمن فكذا في النكاح، وإنا نقول بأن العادة جرت فيما بين الناس بتسليم الصداق أولاً وبتجهيز الولي المرأة بذلك وتسليمها إلى الزوج مع جهازها، فصار الزوج راضياً بتأخير تسليم المرأة فلا معنى لاشتراط إحضار المرأة ولا كذلك البيع. وإذا قال الزوج للقاضي: من الأب فليقبض المهر مني ويُسلِّم الجارية إليّ، قال له القاضي: اقبض المهر وادفع الجارية إليه، فإن قال الأب: ليس عليّ دفعها فهو يطلبها حيث هي فالقاضي يقول: إن المهر الذي تريد أخذه ثمن بضعها، وعليها إذا كانت كبيرة وقبضت المهر أن تُسلّم نفسها إلى الزوج، فإذا قبضت أنت المهر لها كان عليك تسليمها

إليه إن كانت في منزلك فإن قال الأب: ليست ابنتي في منزلي ولا أقدر عليها فأنا أقبض المهر، وهو يطلبها حيث هي، ليس له ذلك. وإن قال: هي في منزلي فأنا أقتصر المهر وأجهزها به أسلمها إليه فالقاضي يأمر الزوج بدفع المهر إليه. فإن قال الزوج: هو يدافعني عنها ويريد أن يأخذ المهر ولا يسلمها إليّ فمُرْهُ فليوثق لي من المهر بكفيل، فالقاضي يأمر الأب أن يوثق من المهر للزوج بكفيل فيعطيه بالمهر، فيأمر الزوج بدفع المهر حتى إذا سلّم له البنت إليه برىء الكفيل، وإن عجز عن ذلك توصل الزوج إلى حقه بالكفيل فيعتدل النظر في الجانبين، وهكذا كان يقول أبو يوسف رحمه الله أولاً، ثم رجع وقال: القاضي يأمر إلا أن تجعل المرأة مهيأة للتسليم ويحضرها ويأمر الزوج بدفع المهر، وللأب بتسليم البنت فيكون دفع الزوج المهر عند تسليمها نفسها إلى الزوج؛ لأن النظر لا يحصل للزوج بالكفالة لأنه لا يصل إلى المرأة بإمهاله بالكفالة، وإنما النظر في تسليم المهر بحضرتها، وقال الخصاف: وهذا أحسن القولين. وإن كان الأب إنما قدم الزوج إلى قاضي الكوفة والخصومة بينهما على ما وصفنا (قال) الأب: ابنتي بالبصرة وثمة كان عقدة النكاح؛ أو قال: كانت ابنتي بالكوفة إلا أنها انتقلت إلى البصرة فأنا أسلمها إليه بالبصرة فإن الأب لا يُجبر على حملها إلى الكوفة، ولكن يقال للزوج: ادفع المهر إلى الأب واخرج إلى البصرة مع الأب وخذ المرأة هناك من الأب، فقد ذكرنا قبل هذا أن إحضار المرأة ليس بشرط لتسليم المهر. فإن اتهم الزوج الأب بما قُلنا من قبل، فالقاضي يأمر الزوج أن يأخذ من الأب كفيلاً بالمهر على أنه إن سلم الأب البنت بالبصرة يرى الكفيل، فإذا أتى البصرة وسلم الأب البنت إليه يرى الكفيل والأب، وإن عجز عن تسليم البنت إليه يخاصم الكفيل ويستوفي حقه منه فيعتدل النظر من الجانبين. وإن قال الزوج: لا يمكنني الخروج إلى البصرة ولكن أوجه وكيلاً يحولها إلى منزلي بالبصرة فذلك له، فإن قال الزوج يحملها وكيلي إليّ فإن كان الوكيل محرماً فله ذلك بناء على أن المرأة إذا استوفت صداقها كان للزوج أن ينقلها حيث أحب، وستأتي المسألة بعد هذا مع قول الفقيه أبي القاسم الصفار رحمه الله إن شاء الله، وإن لم يكن الوكيل محرماً لم يؤمن بالخروج معه وإن رضي الزوج بذلك، لأنه رضي بما لا يرضى به الشرع وهو خروج المرأة إلى السفر من غير محرم هذا هو الكلام في الأب. جئنا إلى الوكيل بقبض المهر من جهة المرأة فنقول: إذا وكلت المرأة رجلاً بقبض مهرها من الزوج كان الأمر في اشتراط حضرة المرأة وأخذ الكفيل بالمهر من الوكيل عند التهمة، ورجوع أبي يوسف رحمه الله كالكلام في الأب، وهذه المسألة على هذا التفصيل استفيدت من جهة الخصاف رحمه الله. وإن كان الزوج قد دخل بامرأته فليس للأب أن يقبض مهرها إلا بوكالة منها (فيما) ذكرنا. فإن طالب الأب الزوج بالمهر وقال: ابنتي بكر في منزلي، وقال الزوج (197أ1) دخلت بها فالقول في ذلك قول الأب لأنه متمسك بالأصل فينكر العارض، وإن قال

الزوج للقاضي حلف الأب أنه لم يسلّم أني قد دخلتُ بها؛ ذكر الصدر الشهيد رحمه الله هذه المسألة في «الواقعات» في الباب المعلّم بعلامة النون وقال: لم يذكر جواباً عن هذه المسألة في «الكتاب» ويحتمل أن يحلف؛ لأن الأب لو أقر بذلك صح إقراره في حق نفسه حتى لم يكن له أن يطالبه بالمهر، وكانت المطالبة إلى البنت فكان التحليف معتبراً. ونص الخصاف في «أدب القاضي» في باب المطالبة بالمهر: لا يحلف إنما لا يحلف لوجهين: أحدهما: ما أشار إليه الخصاف فقال: لأنه لو أقرّ بالدخول لم يَجْرِ ذلك عليها؛ لأنه إقرار على الغير إلا أنه يبطل حقه في القبض ما لم يوجد التوكيل منها وكان بمنزلة الوكيل بقبض الدين. إذا ادعى المديون أن الموكل أبرأه أو استوفى الدين منه فإنه لا يحلف الوكيل، وإن كان الإبراء أو الاستيفاء من الموكل لو ثبت يبطل حق الوكيل. والثاني: أن الزوج لا يدعي على الأب شيئاً، وإنما يدعي عليها معنى وهو الدخول، حتى لو ثبت ذلك يسقط حق الأب في قبض الصداق، فهذا بمنزلة ما لو اشترى جارية ثم ادعى أنها ذات زوج وطلب يمين البائع لا يمين (عليه) لأنه لا يدعي على البائع شيئاً، وإنما يدعي علبها معنى وهو النكاح، حتى إذا ثبت النكاح ثبت للمشتري حق الرد بالعيب، كذا هنا. فإن قال الزوج للقاضي: مُر الأب بإحضارها وسلها عما أقول من دخولي بها، فإن كانت المرأة ممن تخرج في حوائجها أَمَرَهُ بإحضارها ليسألها عن دعوى الزوج؛ لأن الزوج لو ادعى عليها شيئاً آخر وهي ممن يخرج في حوائجها فالقاضي يحضرها مجلسه كذا هنا. وإن كانت ممن لا يخرج في جوانحها فالقاضي يبعث إليها أميناً من أمنائه، ويدخل عليها الأب رجلين عدلين ممن يعرفها مع الأمين والزوج، ويسألها الأمين عن دعوى الزوج، فإن أقرت بذلك شهد الشاهدان بذلك عند القاضي وأجبرها القاضي على المصير إلى منزل زوجها ويطالبه بمهرها. ولو أنكرت الدخول فالقول قولها، فإن قال الزوج لأمين القاضي حلّفْها أني لم أدخل بها حلفها الأمين، إن كان القاضي أمر الأمين باستحلافها إن أنكرت. وإن قال الزوج: دخلت بها برضاها وقالت هي: لم أرض بذلك ولكنه استكرهني على نفسي؛ فالقول قولها مع يمينها على ذلك أنه لم يدخل بها برضاها؛ لأن حق حبس النفس كان ثابتاً لها فالزوج يدعي سقوط ذلك أقرّ بالدخول بها برضاها وهي تنكر فكان القول قولها. وهو نظير ما إذا قبض المشتري المبيع قبل نقد الثمن وادعى القبض برضا البائع وأنكر البائع ذلك كان القول قول البائع، وطريقة ما قلنا. ولو قالت المرأة: قد خلا بي إلا أنه لم يقع علي ولم أمكنه (من) ذلك حتى أقبض مهري، فالقول قولها لما قلنا، وليس للزوج أن يحتجّ على القاضي ويقول: إن الخلوة أقيمت مقام الجماع، ولو كنت جامعتها أليس يلزمها الذهاب إلى منزلي ثم تطالبني بالمهر فهنا كذلك؛ لأن من حجة القاضي أن يقول: الخلوة ليست بجماع حقيقة وإنما أقيمت

مقامه في حق بعض الأحكام دون البعض، ألا ترى أنه (إن) طلقها بغير الخلوة لا يملك مراجعتها في هذه العدة، وإن كان أهل الصغيرة دفعوها إلى الزوج أو كان أبوها قد دفعها إلى زوجها ثم رجعت إلى منزل أبيها فطلبها الزوج وقال: قد دخلت بها وقال أهلها: نعم قد دخلت بها إلا أنك قد عقرتها لما أنها لا تحتمل الرجال، وقال الزوج: إنها تحتمل الرجال إلا أنها نشزت عليّ فالقاضي يريها النساء، فإن قلن: إنها تصلح للرجال دفعت إلى الزوج. وإذا كان أبوها دفعها إليه وهي ممن لا تطيق الرجال ولا تحتمل الوطء فصارت في منزل زوجها، ثم إنها رجعت إلى منزل أبيها، وقال أبوها: لا أدفعها إلى أن تصير إلى الحالة التي تحتمل الرجال، وقال الزوج: قد كنتَ دفعتَها إليّ فصارت في منزلي فليس لك منعها عني بعد ذلك فللأب ذلك، هكذا ذكر الخصاف رحمه الله، وأشار إلى المعنى وقال: لأن الزوج لا ينتفع بها في هذه الحالة. سئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عمن تزوج صبية ومضى على ذلك مدة هل لأب الصبية أن يطالب الزوج بدفع المهر والزفاف؟ قال: أما دفع المهر فنعم، وأما الزفاف فكذلك إن كانت تصلح للرجال، وإن كانت لا تصلح فلا. وإذا زوج ابنته الصغيرة وضمن لها المهر عن الزوج صح، بخلاف ما لو باع شيئاً من مالها وكفل الثمن عن المشتري حيث لا يصح، والفرق: أن المطالبة بالثمن مملوكة للأب؛ لأن حقوق العقد في باب البيع والشراء ترجع إلى العاقد عقدها، ولهذا لو بلغت الصغيرة كان حق القبض للأب؛ لأنها لو نهت الأب عن القبض لا يصح نهيها ولو صحت الكفالة لاستوجب الأب المطالبة على نفسه بنفسه وهذا لا يجوز. أما المطالبة بالمهر غير مملوك الأب؛ لأن حقوق العقد في باب النكاح ترجع إلى من وقع له العقد لا إلى العاقد، ولهذا لو بلغت كانت المطالبة بالمهر لها (لأب ونهت) عن القبض يصح نهيها، وإذا لم تكن المطالبة مملوكة الأب صار الأب في هذه وأجنبي آخر سواء، وإذا صح الضمان عندما بلغت البنت كان لها الخيار إن شاءت طالبت الزوج بالمهر بحكم النكاح، وإن شاءت طالبت الأب بحكم الضمان، وإذا أدّى الأب لا يرجع على الزوج بشيء إن ضمن بغير أمر الزوج، وإن ضمن بأمره رجع عليه بما أدى. في شرح «الكافي» وفي «أدب القاضي» للخصاف في باب في نكاح الصغيرة: وإن كان هذا الضمان من الأب في مرض موته كان باطلاً، وإذا زوج ابنه الصغير امرأة وضمن عنه المهر، وكان ذلك في صحته جاز، ومعناه: إذا قبلت المرأة الضمان، وإذا أدى الأب ذلك إن كان الأداء في حالة الصحة لا يرجع على الابن بما أدى استحساناً إلا إذا كان شرط الرجوع في أصل الضمان، وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: إذا أشهد عند الأداء أنه يرجع به في مال أبيه فله أن يرجع، وإن لم يشهد على الرجوع حين ضمن. وذكر إبراهيم هذه المسألة في «نوادره» ووضَعَها فيما إذا كبر الابن وأدى الأب وأشهد عند الأداء، وذكر الجواب على نحو ما ذكرنا.

وفي «المنتقى» في موضع آخر: إذا لم يشهد عند العقد لا يرجع وإنما لا يرجع بدون الشرط بحكم العرف والعادة، فإن العادة أن الآباء يتحملون المهر عن الأبناء الصغار، وهو نظير ما لو أنفق على ابنه الصغير في طعامه وكسوته من مال نفسه؛ فإنه لا يرجع في مال الصغير بذلك إلا إذا اشترط الرجوع وقت الانفاق، وإنما لا يرجع بحكم العرف والعادة. هذا بخلاف ما لو اشترى لابنه الصغير شيئاً آخر سوى الطعام والكسوة ونقد الثمن من مال نفسه، فإنه يرجع على الصغير بذلك وإن لم يشترط الرجوع؛ لأنه لا عُرف؛ لأن الآباء يتحملون الثمن عن الأبناء ولو كان (197ب1) مكان الأب وصيٌ أو غيره من الأولياء وضمن المهر عن الصغير وأدى من ماله رجع في مال الصغير وإن لم يشترط الرجوع؛ لأنه لا عرف في الأوصياء والأباعد من الأولياء أنهم يتحملون المهور عن الصغار، هذا إذا كان الضمان والأداء من الأب في حالة الصحة. وإن كان الضمان في حالة الصحة والأداء في حالة المرض؛ ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أنه لا يكون متبرعاً عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما، ويحتسب ذلك في ميراث الابن، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يكون متبرعاً حتى لا يرجع هو ولا ورثته بعد موته على الابن بشيء. هذا إذا أدى الأب ذلك في صحة أو مرض. وأما إذا لم يؤد الأب ذلك حتى مات الأب فهذه صلة لم تتم للابن، ثم المرأة بالخيار إن شاءت أخذت الصداق من الزوج وإن شاءت أخذت من تركة الأب، فإن أخذت من تركة الأب رجع سائر الورثة بذلك في نصيب الابن أو عليه إن كان قبض نصيبه عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله في شرح «الكافي» باب نكاح الصغير والصغيرة، وذكر الخصاف أن على قول أبي يوسف رحمه الله: سائر الورثة لا يرجعون بذلك في نصيب الابن ولا عليه إن كان قد قبض نصيبه. ووجه ذلك: أن هذا الضمان انعقد غير موجب للرجوع، ألا ترى أن الأب لو أدى ذلك في حياته وصحته لا يرجع بذلك في مال الابن فلا ينقلب موجباً للرجوع بعد ذلك، وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: إذا جعلت الأداء في حالة الصحة، وهذا كله إذا حصل الضمان في حالة الصحة. أما إذا حصل الضمان في مرض الموت؛ فباطل لأنه قصد بهذا الضمان إيصال النفع، والمريض محجور عن ذلك فلا يصح. وكذلك كل دين ضمن عن وارثه أو لوارثه في مرض موته فهو باطل لما قلنا، وفي «البقالي» : إذا قال الأب: اشهدوا أني زوجت ابنتي فلانة بألف من مالي لم تلزمه إلا أن يؤدي وتكون صلة قال: كأنه عن أبي يوسف رحمه الله. امرأة زوجت ابنتها وهي صغيرة وقبضت صداقها ثم أدركت فإن كانت الأم وصيتها فللبنت أن تطالب أمها بالصداق دون الزوج، وإن لم تكن وصيتها فلها أن تطالب زوجها، والزوج يرجع على الأم؛ لأنها قبضت وليس لها حق القبض، وكذا هذا الجواب في سائر الأولياء سوى الأب والجد. ذكر رحمه الله في الباب الأول من نكاح «واقعاته» : غير الأب والجد إذا زوج

الفصل الحادي عشر في نكاح الأبكار

الصغير فالاحتياط أن يعقد مرتين؛ مرة بمهر مسمى ومرة بغير تسمية لأمرين: أحدهما أنه لو كان في التسمية نقصان لا يصح النكاح الأول ويصح النكاح الثاني بمهر المثل. والثاني: أن الزوج لو كان حلف بطلاق امرأته يتزوجها بلفظ أي، أو بلفظ كل امرأة يتزوجها فينعقد النكاح الثاني ويحل وطؤها، وإن كان الأب والجد زوجها فكذلك الجواب عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله للمعنيين جميعاً، وعند أبي حنيفة رحمه الله: للمعنى الثاني في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله. وأما إذا لم يؤد الأب ذلك حتى مات الأب فهذه صلة لم تتم للابن، ثم المرأة بالخيار إن شاءت أخذت الصداق من الزوج وإن شاءت أخذت من تركة الأب، فإن أخذت من تركة الأب رجع سائر الورثة بذلك في نصيب الابن أو عليه إن كان قبض نصيبه عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله في شرح «الكافي» باب نكاح الصغير والصغيرة، وذكر الخصاف أن على قول أبي يوسف رحمه الله: سائر الورثة لا يرجعون بذلك في نصيب الابن ولا عليه إن كان قد قبض نصيبه. ووجه ذلك: أن هذا الضمان انعقد غير موجب للرجوع، ألا ترى أن الأب لو أدى ذلك في حياته وصحته لا يرجع بذلك في مال الابن فلا ينقلب موجباً للرجوع بعد ذلك، وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: إذا جعلت الأداء في حالة الصحة، وهذا كله إذا حصل الضمان في حالة الصحة. أما إذا حصل الضمان في مرض الموت؛ فباطل لأنه قصد بهذا الضمان إيصال النفع، والمريض محجور عن ذلك فلا يصح. وكذلك كل دين ضمن عن وارثه أو لوارثه في مرض موته فهو باطل لما قلنا، وفي «البقالي» : إذا قال الأب: اشهدوا أني زوجت ابنتي فلانة بألف من مالي لم تلزمه إلا أن يؤدي وتكون صلة قال: كأنه عن أبي يوسف رحمه الله. امرأة زوجت ابنتها وهي صغيرة وقبضت صداقها ثم أدركت فإن كانت الأم وصيتها فللبنت أن تطالب أمها بالصداق دون الزوج، وإن لم تكن وصيتها فلها أن تطالب زوجها، والزوج يرجع على الأم؛ لأنها قبضت وليس لها حق القبض، وكذا هذا الجواب في سائر الأولياء سوى الأب والجد. ذكر رحمه الله في الباب الأول من نكاح «واقعاته» : غير الأب والجد إذا زوج الصغير فالاحتياط أن يعقد مرتين؛ مرة بمهر مسمى ومرة بغير تسمية لأمرين: أحدهما أنه لو كان في التسمية نقصان لا يصح النكاح الأول ويصح النكاح الثاني بمهر المثل. والثاني: أن الزوج لو كان حلف بطلاق امرأته يتزوجها بلفظ أي، أو بلفظ كل امرأة يتزوجها فينعقد النكاح الثاني ويحل وطؤها، وإن كان الأب والجد زوجها فكذلك الجواب عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله للمعنيين جميعاً، وعند أبي حنيفة رحمه الله: للمعنى الثاني في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله. الفصل الحادي عشر في نكاح الأبكار اعلم بأن السكوت من البكر البالغة جعل رضاً بالنكاح سواء استأمرها الولي قبل النكاح أو زوجها الولي قبل الاستئمار، فبلغها الخبر فسكتت. والأصل فيه قوله عليه السلام: «البكر تستأمر في نفسها فسكوتها رضاها» والحكمة في ذلك صيانة مصلحة النكاح عن الفوات في حق الأبكار وهذا لأن النكاح لا ينفد على البكر البالغة من غير رضاها، إنما يعرف من جهتها وهي تستحيي عن الرضا صريحاً لما فيه من إظهار الرغبة في الحال لو لم يكتف بسكوتها لجواز النكاح فإن مصالح النكاح (تتعطل) . وإنما جعل السكوت من البكر البالغة إذناً إذا كان المستأمر وليّاً، أو كان ولياً إلا أن هناك وليٌّ وآخر وهو أقرب إلى المرأة من هذا الولي المستأمر، فالسكوت لا يكون إذناً في حق الولي المستأمر إلا إذا كان الولي المستأمر رسول الولي. وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن المستأمر أو المخبر عن النكاح إذا لم يكن وليّاً ولم يكن رسول الولي فسكتت كان سكوتها رضا في ظاهر الرواية، وذكر الكرخي رحمه الله أنه لا يكون رضاً. وفي «البقالي» : وأكثر المتأخرون على أن الرسول كالولي وقيل عن أبي حنيفة رحمه الله خلافه في «النوادر» وهو ظاهر قول الكرخي، وقيل في الرسول بعد النكاح إنه كالولي، و (في) «مجموع النوازل» : أن المخبر بالنكاح إذا كان أجنبياً فسكتت هل يكون رضاً؟ فيه اختلاف المشايخ؛ والمختار أنه رضا، وفي «فتاوى شمس الأئمة السرخسي» رحمه الله وشمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله أنه لا يكون رضاً، وهذا إذا سمى الزوج عندها تسمية تقع لها المعرفة به فكان الزوج كفؤاً والمهر وأما إذا أبهم الزوج لم يكن السكوت رضاً، وكذلك إذا سمى الزوج وسمى المهر والزوج ليس بكفء والمهر ليس بوافر إن كان الزوج كفئاً والمهر ليس بوافر أو كان المهر وافراً إلا أن الزوج ليس بكفء فالسكوت لا يكون رضاً في حق جميع الأولياء إلا في حق الأب والجد عند أبي

حنيفة رحمة الله عليه؛ لأنهما وليّان عنده، أجنبيان عندهما، والمسألة معروفة، وإن كان المخبر أجنبياً ليس بولي والرسول عنه فإن كان المخبر رجلين عدلين أو غير عدلين أو كان رجلاً واحداً عدلاً لا يثبت النكاح، حتى لو سكتت ولم ترد يلزمها النكاح. وإن كان المخبر رجلاً واحداً غير عدل فإن صدقته (في) ذلك ثبت النكاح وإن كذبته لا يثبت وإن ظهر صدق الخبر عند أبي حنيفة، وعندهما يثبت النكاح إذا ظهر صدق الخبر، وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: البكر البالغة إذا استأمرها أبوها في التزويج فسكتت فزوجها أبوها ثم قالت: لا أرضى ينظر إن كان الأب وقت الاستئمار لم يذكر ممن يزوجها ولم يذكر أنه بكم يُزوجها لا ينعقد النكاح ولها أن ترد. وإن كان الأب ذكر الزوج والمهر جميعاً بعد النكاح فلا يصلح الرد. وإن كان ذكر الزوج ولم يذكر المهر فإن وهبها بعد النكاح بمهر المثل، وإن زوجها بمهر مسمى لا ينعقد لأنه إذا وهبها فتمام العقد الزوج والمرأة عالمة بالزوج (وثم بالرضا) بهذا العقد. وإذا زوجها بمهر مسمى فتمام العقد بالزوج، فيذكر البدل وهي غير عالمة بالبدل فلا يتم الرضا بهذا العقد، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح كتاب النكاح: إن اشتراط تسمية المهر عند الاستئمار قول المتأخرين من المشايخ لأن رغبتها تختلف باختلاف الصداق في القلة والكثرة. والكبيرة على ما عليه إشارات محمد رحمه الله في كتاب النكاح تسمية المهر عند الاستئمار ليس بشرط، إنما الشرط تسمية الزوج فعلى ما عليه إشارات محمد ينفذ نكاح الأب في هذا الوجه وإن كان بمهر مسمى. وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرحه» : أنه إذا لم يسم لها الزوج أو المهر فسكتت، ففيه اختلاف المشايخ المتأخرين، فمنهم من رآه رضاً ومنهم من أبى مطلقاً من غير فصل بينما إذا وهبها أو زوجها بمهر مسمى، هذا إذا أخبرها بالنكاح (قبل) العقد. وأما إذا أخبرها به بعد العقد فسكتت ففيما إذا لم يذكر المهر أو الزوج. قال الفقيه أبو نصر رحمه الله: ينفذ هو فرّق بين الماضي (واللاحق) (198أ1) . وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله لا ينفذ، قال الصدر الشهيد رحمه الله وهو الصحيح وعليه الفتوى، وفيما إذا ذكر الزوج والمهر ينفذ وفيما إذا ذكر الزوج، ولم يذكر المهر فالمسألة على التفصيل الذي ذكرنا، وهو اختيار الصدر الكبير برهان الأئمة تغمده الله بالرحمة والرضوان، قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله إن أصحابنا رحمهم الله جعلوا السكوت رضاً في مسائل معدودة: أحدها: في البكر إذا استأمرها وليها في التزويج. الثانية: إذا قبض الأب أو الجد مهر البكر البالغة فسكتت كان سكوتها رضاً حتى برىء الزوج. ولو قبض المهر غير الأب والجد فسكتت أو قبض الأب أو الجد سائر..... فسكتت لا يكون سكوتها رضاً.

الثالثة: إذا سكت الشفيع بعدما علم بالبيع ساعة بطلت شفعته كما لو سلم الشفعة. الرابعة: إذا تواضعا في السر أن يظهر البيع تلجئه ثم قال أحدهما علانية، بمحضر من صاحبه قد بدا لي أن أجعله بيعاً صحيحاً فسكت صاحبه ولم يقل شيئاً.... كان البيع جائزاً. الخامسة: عبدٌ أسره المشركون فوقع بعد ذلك في غنيمة المسلمين وساقه في قسم واحد من الغانمين فباعه الذي وقع في سهمه ومولاه الأول حاضر عند البيع فسكت لا سبيل له على أخذ العبد بعد ذلك. السادسة: إذا قبض المشتري البيع والبائع يراه فسكت ولم يمنعه من القبض بطل حقه في الحبس، ذكره الطحاوي رحمه الله في باب المأذون، وهو مخالف لما ذكر محمد رحمه الله في باب الإكراه. السابعة: مجهول النسب إذا بيع وهو ساكت كان ذلك إقراراً منه بالرق ذُكر في كتاب الإقرار، زاد الطحاوي رحمه الله وقيل له بعد البيع قم مع مولاك فقام فذلك منه إقرار بالرّق. الثامنة: إذا رأى المولى عبده يبيع ويشتري فسكت صار العبد مأذزوناً في التجارة. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرحه» في النكاح: وكذلك الولي إذا رأى الصبي المحجور يبيع ويشتري..... والتكثير فسكت جعل فكاً للحجر. التاسعة: وهب لرجل جارية والجارية حاضرة فقبلها وقبضها في المجلس بمحضر من الواهب ولم يأذن له الواهب بالقبض، ولم ينهه عنه بل هو ساكت، فإنه يثبت له إذن بالقبض استحساناً ويثبت الملك للموهوب له.h ولو قام الواهب عن المجلس قبل قبض الموهوب له لم يصح قبضه حتى يأمره بذلك. العاشرة: إذا باع بيعاً فاسداً والمبيع حاضر عند العقد فقبضه المشتري بحضرة البائع ولم يمنعه من قبضه وسكت كان إذناً له بالقبض حتى يملكه المشتري، دفع الثمن أو لم يدفع. الحادي عشر: إذا قال: والله (لا) أُسْكِنُ فلاناً في داري، أو قال: والله لا أتركه في داري وفلان في دار الحالف فسكت الحالف بعد اليمين ولم يقل: اخرج منها حنث. ولو قال اخرج منها فأبى (أن) يخرج فسكت عنه لا يحنث في يمينه. الثاني عشر: إذا كان الخيار للمشتري فرأى عبده الذي اشتراه يبيع ويشتري فسكت فهو اختيار للبيع وإبطال لخياره، ولو كان الخيار للبائع لا يكون إبطالاً لخياره. والثالث عشر: إذا سكت عن نفي الولد حتى مضى على ذلك زيادة على يومين لزمه الولد في قول أبي حنيفة رحمه الله، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله إذا هنىء بالولد فسكت لزمه الولد، وزاد شمس الأئمة الحلواني رحمه الله على هذه المسائل، ما إذا قال لغيره: بع عبدي فلم يقبل ولم يرد بل سكت ثم قام وباع جُعل بائعاً بتوكيل، وجعل السكوت منه قبولاً، وكذلك رآه غيره شق زقه فسكت حتى سال

ما فيه لم يضمن الشاق ما سال منه واحتج على صاحب الزق بسكوته. وهنا مسألة أخرى من هذا الجنس: إنّ غير الأب والجد إذا زوج الصغيرة فبلغت وهي بكر فسكتت ساعةً بطل، وجعل سكوتها بمنزلة الرضا صريحاً، ولو ضحكت البكر عند الاستئمار أو بعدما بلغها الخبر فهو رضاً، هكذا ذكر القدوري وشيخ الإسلام رحمهما الله، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنها إذا ضحكت كالمستهزئة لمّا سمعت لا يكون رضاً، وإن ابتسمت فهو رضاً، هو الصحيح من المذهب، ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، ولو بكت ذكر هشام في «نوادره» : أنه يكون رضاً، وذكر المعلى عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يكون رضاً، وذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» : أن عند أبي يوسف رحمه الله فيه روايتان: في رواية لا يكون رضاً وهو قول محمد رحمه الله، ومن المشايخ من قال: إن كان النكاح عن سكوت وإقرار فهو رضاً، وإن كان عن صياح ولطمِ وجهٍ فهو ردّ، ومنهم من قال: إن كان الدمع حارّاً فهو رد، وإن كان بارداً فهو رضاً. وإذا زوج البكر وليان كل واحد منهم رجل وهما في الدرجة على السواء، فبلغها العقدان فأجازتهما بطلا، ولو سكتت ذكر القدوري في «شرحه» : أن عند محمد رحمه الله في هذا روايتين: في رواية سكوتها بمنزلة رضاها بالعقدين فبطلا، وفي رواية: هو ليس برد ولا إجازة، والأمر موقوف. وإذا زوج البالغة أبوها من رجل وأخوها بعد ذلك من رجل آخر وأجازت نكاح الأخ كان جائزاً، وبطل نكاح الأب؛ لأن النكاح لا ينعقد على البالغة بغير رضاها فتوقف النكاحان على إجازتها، فإذا أجازت نكاح الأخ وجد شرط النفاذ في هذا النكاح فينفذ، ومن ضرورته بطلان الآخر ويكون هذا نكاحاً بلا ولي؛ لأن الأخ مع الأب ليس بولي فيكون على الاختلاف على ما مرّ. وفي «فتاوى الفضلي» : صغيرة زوجها عمها لأبيها ثم زوجها عمها لأبيها وأمها فبلغت فأجازت نكاح العم لأب قال: نكاح العم لأب باطل، ولا يبطل نكاح العم لأب وأم بردّها حتى يفرق القاضي بينهما؛ لأن نكاح العم لأب موقوف على إجازة العم لأب وأم (و) نكاح العم لأب وأم ثابت فقد نفذ، لكن لها حق فسخه، والفسخ لا يكون إلا عند القاضي ولم يوجد، والنافذ متى ورد على الموقوف أبطله. البكر إذا بلغها الخبر فقالت: لا أرضى ثم قالت قد رضيت فلا نكاح بينهما؛ لأن النكاح قد بطل بردها، فالرضا صادَف عقداً مفسوخاً، وعن هذا استحسن المشايخ تجديد العقد عند الزفاف؛ لأن البكر في المرة الأولى تظهر الرد وغير ذلك لم.... منها لو لم يجدد العقد لكانت تزف إلى أجنبي. في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد رحمه الله: إذا قال الرجل لابنته الكبيرة وهي

بكر: فلان وفلان خطباك إليّ وأنا مزوجك، أو لم يقل: وأنا مزوجك فسكتت فله أن يزوجها أيهما شاء، وكذلك إذا قال لها: إن بني فلان يخطبونك وهم يحصون ويعرفون ولم يذكر قبيلة ولا فخذاً. وكذلك إذا قال: جيراني يخطبونك، وهم يحصون. ولو قال: إن بني تميم يخطبونك وأصحاب فلان يخطبونك وهم لا يحصون لم يكن سكوتها عند هذا الذِّكر رضاً. قال الحاكم الشهيد أبو الفضل رحمه الله: وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله في المسلمين جميعاً. المعلى عن أبي يوسف رحمه الله في بكر كبيرة استأذنها وليُّها أن يزوجها فسكتت ولم يخبرها ممن يزوجها ثم زوجها من نفسه فذلك جائز. ابن سماعه عن محمد رحمه الله في رجل وكَّل رجلاً يزوّج ابنته الكبيرة فزوجها (198ب3) ولم يبلغها حتى زوجها الأب من آخر بلغها فلها أن تجيز نكاح أيهما شاءت. رجل خطب امرأة من أبيها وهي بكر فقال الأب مراكد خدا بسر راست برجه واكررواست، فزوج الابن أخته من رجل فبلغها فسكتت، ثم زوجها أبوها من آخر، فبلغها فسكتت يجوز نكاح الأب ولا يجوز نكاح الأخ، ولم يجعل سكوتها عن نكاح الأخ إجازة؛ لأن السكوت إنما جعل إجازة لنكاح الولي لا لنكاح غير الولي، والأخ مع الأب ليس بولي. هكذا ذكر المسألة في «فتاوى أهل سمرقند» وفيه نظر، ينبغي أن يجوز نكاح الأخ ولا يجوز نكاح الأب لأن الابن وكيل عن الأب في هذا العقد قائم مقام الأب فكأنّ الأب باشره بنفسه فيجعل سكوتها رضاً به. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا قالت البكر: لم أرض بالنكاح حين بلغني وادعى الزوج رضاها فالقول قولها عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأنها تنكر تملك بضعها، وبمثله لو وقع الاختلاف في خيار البلوغ فقالت المرأة: اخترت نفسي ورددت النكاح لمّا بلغت وقال الزوج: لا بل سكت وسقط خيارك فالقول قول الزوج لأنه ينكر زوال ملكه عن بضعها، فإن أقام الزوج بينة على سكوتها حين بلغها الخبر فهي امرأته وإلا فلا نكاح بينهما ولا يمين عليها في قول أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: عليها اليمين، وإذا نكت يقضى عليها بالنكول. وإن أقام الزوج بينة على سكوتها حين بلغها الخبر وأقامت هي بنية على الرد فبينتها أولى، قال «البقالي» : وقد روي أنه إذا كان بحضرتها قوم حين بلغها النكاح فلم يسمعوها تكلمت لم تُصدّق في دعوى الرد. ولو كانت البكر قد دخل بها زوجها ثم قالت: لم أرض لم تصدق على ذلك وكان تمكينها إياه من الدخول بها رضاً منها إلا إذا دخل بها وهي مكرهة فحينئذ لا يثبت الرضا، فإن أقامت بنية على الرد في هذه الصورة ذكر في «فتاوى الفضلي» أنه تقبل بينتها، قيل: والصحيح أنه لا تقبل بينتها لأن التمكين منها في معنى الإقرار بالرضا. ولو أقرت بالرضا ثم ادعت الرد لا تصح دعواها ولا تقبل بينتها لمكان التناقض كذا هنا. وذكر الخصاف في «أدب القاضي» في باب الشفعة: إذا زوج ابنته البكر البالغة ثم

خاصمت مع الزوج فقال الزوج: بلغك الخبر وسكّت فقالت المرأة: بلغني الخبر ورددت فالقول قولها، ولو قالت بلغني الخبر يوم كذا ورددت أو قالت وقت كذا ورددت أو قالت: علمت يوم كذا ورددت، وقال الزوج: بل سكتّ فالقول قول الزوج. وفي «المنتقى» : هشام سألت محمداً رحمه الله عن بكر زوجها وليُّها فقالت بعد سنة: قد كان بلغني النكاح يوم زوجني فلم أسكت قلت: لا أرضى وادعى الزوج أنها كانت رضيت فالقول قول المرأة وإنه خالف ما ذكر الخصاف. ومن جنس هذه المسائل: روى ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف: امرأة خاصمت زوجها فزعمت أن أخاها زوجها وهي صغيرة وبنى بها أي: دخل بها وهي صغيرة كارهة له فجاءت تخاصمه وتريد فراقه وقالت...... وقال الزوج بنيت بها وهي كبيرة وقد أدركت فالقول قول الزوج. وعنه أيضاً برواية ابن سماعة في رجل زوج ابنتاً له كبيرة بغير أمرها فمات زوجها فجاءت (تريد) الميراث وقالت: قد كنت أجزت النكاح لم تصدق إلا ببينة. وإن قالت: زوجني بأمري فالقول قولها. وعنه أيضاً برواية خالد بن صبيح: رجل زوج ابنة له.... وهو وليها قال الزوج للمرأة بعدذلك: أنت قد علمت وما رضيت، وقالت المرأة لا بل أجزت ورضيت، لا تكون هذه المقالة من الزوج فرقة وهي امرأته فالقول قولها وكذلك إذا قال الزوج: لم تعلمي، وقالت المرأة لا بل علمت وأجزت فالقول قولها، ولو مات الزوج قبل هذه المقالة فقالت الورثة وهم كبار: قد علمت وما رضيت وقالت المرأة: لا بل رضيت فالقول قولها، وهذه الرواية بخلاف رواية ابن سماعة، وبخلاف رواية «فتاوى أبي الليث» رحمه الله فالمذكور في «الفتاوى» في هذه الصورة: أن القول قول ورثة الزوج فلا مهر لها ولا ميراث. وإن كانت الورثة قالوا للمرأة بعد موت الزوج: لم تعلمي...... حتى تقيم البينة على سكوتها بعد...... إن كانت بكراً أو على رضاها إن كانت ثيباً، هكذا رواه خالد. وإن كانت المرأة لم تقل: بلغني النكاح وأجزت لكن قالت زوجني أخي بأمري.... الميراث والمهر وعليها العدة، ولو كانت هي الميتة وكان الطالب للميراث هو الزوج، والأخ المزوج هو الوارث فقال الأخ: لم تكن أمرتني ولم تعلم حتى ماتت وادعى الزوج رضاها بهذا الزوج أو أنها أمرته بذلك فعلى الزوج البينة على ذلك والله أعلم بالصواب.

الفصل الثاني عشر في النكاح بالكتاب والرسالة وفي النكاح مع الغائب

الفصل الثاني عشر في النكاح بالكتاب والرسالة وفي النكاح مع الغائب قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا كتب إليها يخطبها فزوجت نفسها منه كان صحيحاً والأصل في ذلك أن الكتابة من الغائب بمنزلة الخطاب من الحاضر، وقد صح أن رسول الله عليه السلام كتب إلى النجاشي يخطب أم حبيبة فزوجها النجاشي له...... منه إلا أن الكتاب من الغائب مع الخطاب مع الحاضر يفترقان من وجه، فإن الحاضر إذا خطبها فلم تجبه في مجلس الخطاب وإنما أجابته في ملجس آخر لا يصح النكاح، وإذا بلغها الكتاب وقرأت الكتاب ولم تزوج نفسها منه في ذلك المجلس وإنما زوجت نفسها في مجلس آخر بين يدي الشهود وقد سمع الشهود كلامها وما في الكتاب يجوز النكاح وإذا بلغها الكتاب فقالت زوجت نفسي من فلان، فكان ذلك بمحضر من الشهود لا ينعقد النكاح وإن بلغه الخبر، وأجاز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن سماع الشهود كلامَ المتعاقدين شرط انعقاد النكاح والشهود إن سمعوا كلامها لم يسمعوا كلام الزوج. ولو قرأت الكتاب على الشهود أو قالت: إن فلاناً كتب إلي يخطبني فاشهدوا أني قد زوجت نفسي منه صح النكاح؛ لأن الشهود سمعوا كلامها بإيجاب العقد، وسمعوا كلام الخاطب بإسماعها إياهم إما بقراءة الكتاب أو العبارة عنه، وإن جاء الزوج بالكتاب مختوماً وقال: هذا كتابي إلى فلانة فاشهدوا عليه لا يصح عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى يقرأ عليهم الكتاب، أو يعلمهم ما في الكتاب خلافاً لأبي يوسف رحمه الله. ثمرة الخلاف تظهر فيما إذا جحد الزوج الكتاب فشهدوا أن هذا كتابه إلى فلانة ولم يشهدوا بما في الكتاب لا تقبل الشهادة عندهما ولا يقضي بالنكاح. وإذا أرسل إليها رسولاً فالحر والعبد والصغير والكبير والعدل والفاسق في ذلك على السواء؛ لأن الرسالة تبلغ عبارة المرسل إلى المرسل إليه، ولكل واحد من هؤلاء عبارة مفهومة فيصح تبليغ الرسالة منهم. وإذا بلغ الرسالة وقال: إن فلاناً يسألك أن تزوجي نفسك منه، فأشهدت أنها قد زوجت كان ذلك جائزاً إذا أقرّ الزوج بالرسالة أو قامت عليه البينة؛ لأن الرسول بلغها عبارة المرسل فكأنّ المرسل حضر بنفسه، وعبّر عن نفسه بين يدي الشهود، وإن كان الرسول قد خطبها وضمن لها (199ب) المهر وقال: أمراني بذلك فزوجت نفسها ثم حضر الزوج وصدّق الرسول في الرسالة، والأمر بالضمان صح النكاح وصح الضمان إذا كان الرسول من أهل الضمان، فإذا أدّى الضامن رجع بذلك على الزوج، وإن كذبه في الأمر بالضمان وصدّقه في الرسالة صح النكاح، وصح الضمان فيما بين المرأة والرسول،

لا في حق المرسل، حتى كان للمرأة أن ترجع على الرسول بالصداق فلا يرجع الرسول على الزوج بما أدى من ذلك، وإن كذبه في الرسالة والأمر بالضمان ولا بينّة له على ذلك، فالنكاح باطل والمهر على الزوج، ولها أن تطالب الرسول بالمهر؛ لأن في زعمها أن النكاح صحيح وأن الضمان صحيح. بعد هذا اختلفت الروايات، ذكر في نكاح «الأصل» وفي بعض روايات كتاب الوكالة أن المرأة تطالب الرسول بنصف الصداق، وذكر في بعض روايات كتاب الوكالة أن المرأة تطالب الرسول بجميع المهر، فقيل: في المسألة روايتان، وقيل: اختلف الجواب لاختلاف الموضوع وهو الصحيح، وقد ذكرناه في فصل الوكالة. وإن قال الرسول: لم يأمرني فلان ولكني أزوجه وأضمن عليه المهر ففعل ثم أجاز الزوج النكاح جاز عليه ولزم الرسول الضمان، وإن أبى الزوج أن يجيز النكاح (لم) يكن على الرسول شيء من الضمان لأنه أصل السبب فلا يبقى الزوج النكاح فينتفي حكمه، وهو وجوب الصداق فبراءة الأصيل حقيقة توجب براءة الكفيل. وإذا عَقَدَ عَقْدَ النكاح واحد وهو وليّ من الجانبين بولاية أصلية نحو الملك أو القرابة أو بولاية عارضة نحو الوكالة صح العقد. بيان الأول: إذا زوج ابنة أخيه الصغيرة من ابن أخيه الصغير وليس لهما أقرب، أو زوّج ابنة عمه وهي صغيرة من نفسه (وليس) لها أقرب منه، أو كانت بنت العم كبيرة قال لها: إني أريد أن أزوجك من نفسي فسكتت وهي بكر فذهب وتزوجها. بيان الثاني: إذا وكلّه رجل أن يزوجه فلانة ووكّلته فلانة أن يزوجها من ذلك الرجل، أووكلّت امرأةٌ رجلاً أن يزوجها من نفسه فتزوجها، ولا يتوقف شطر العقد على ما وراء المجلس عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، خلافاً لأبي (يوسف) رحمه الله، حتى إن فضولياً لو قال: زوجت فلانة من فلان وهما غائبان ولم يقبل عنه أحد، أو قالت امرأة زوجت نفسي من فلان الغائب ولم يقبل عنه أحد وقال رجل: تزوجت فلانة وهي غائبة ولم يجب عنها أحدٌ، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا يقف هذا على إجازة الغائب وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يقف، وكذلك إن كان فضولياً من أحد الجانبين، وكيلاً من الجانب الآخر، وفي توقف كلامه اختلاف. ولو قال فضولي: زوجت فلانة من فلان، وقبل عن فلان فضولي آخر، وقال رجل: تزوجت فلانة فقال رجل فضولي: زوجتها منك أو قالت امرأة: زوجت نفسي من فلان، فقال فضولي قبلت عنه. وفي هذه المسائل يتوقف العقد على الإجازة بالاتفاق، هذا هو الكلام في النكاح، واتفق علماؤنا رحمهم الله أن العقد في باب البيع لا يقف على ما وراء المجلس، حتى إن الرجل إذا قال لقوم: اشهدوا أني قد بعت عبدي فلاناً فبلغ ذلك فلاناً وقال: قد اشتريته لم يجز بالاتفاق، قال محمد رحمه الله: ولو كتب رجل إلى رجل: بعني عبدك بألف فقال: بعت كان جائزاً، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا لا يكاد يصح لأن

الفصل الثالث عشر في بيان أسباب التحريم

الحاضر لو قال لغيره: بعني عبدك بكذا فقال: بعت لا يتم البيع ما لم يقل قبلت فكذلك إذا كتب، فلا بُدّ من زيادة بعني وذلك بأن يكتب: قد اشتريت عبدك بكذا فبعه مني، فإذا قال الآخر بعت حينئذ يتم البيع بينهما كما لو كان حاضراً، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وجه تصحيح ما ذكر محمد رحمه الله أن قول الحاضر: بعني يكون استياماً عادة، ومن الغائب إذا كتب يكون أحد شطري العقد عادة، فإذا انضم إليه الشطر الثاني يتم البيع والله أعلم. الفصل الثالث عشر في بيان أسباب التحريم فنقول: أسباب التحريم كثيرة، من جملة ذلك النسب، ومسائله معروفة، ومن جملة ذلك المصاهرة. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا وطىء الرجل امرأة بنكاح أو ملك أو فجور حرمت عليه أمُّها وابنتها، وهو محرم لهما؛ لأنه لا يجوز له نكاحهما، وحرمت هي على آبائه وأبنائه، وكما ثبتت هذه الحرمة بالوطء تثبت بالمسّ والتقبيل والنظر إلى الفرج بشهوة سواء كان بنكاح أو ملك أو فجور عندنا إذا كان المحل مشتهاه، ولا تثبت هذه الحرمة بالنظر إلى سائر الأعضاء وإن كان عن شهوة وحد، والشهوة: أن تنتشر آلته إليه بالنظر إلى الفرج أو المس إذا لم يكن منتشراً قبل هذا، وإذا كان منتشراً فإن كان يزداد قوة و..... بالنظر والمسّ كان ذلك عن شهوة وما (لا) فلا، وهذا إذا كان شاباً قادراً على الجماع، وإن كان شيخاً أو عنيناً فحدُّ الشهوة أن يتحرك قلبه بالاشتهاء إن لم يكن متحركاً قبل ذلك، ويزداد الاشتهاء إن كان متحركاً فهذا هو حدّ الشهوة التي حكاها.... عن أصحابنا رحمهم الله، وإليه مال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده وشمس الأئمة السرخسي رحمهما الله. وكثير من المشايخ لم يشترطوا الانتشار، وجعلوا حدّ الشهوة أن يميل قلبه إليها ويشتهي جماعها. وكان الفقيه محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله لا يعتبر تحرك القلب، وإنما يعتبر تحرك الآلة، وكان لا يفتي بثبوت الحرمة في الشيخ الكبير العنين والذي ماتت شهوته حتى لم يتحرك عضوه بالملامسة. وروى ابن رستم عن محمد رحمه الله: أنه إذا لمسها بشهوة فلم ينتشر عضوه أو كان منتشراً فلم يزدد انتشاره حتى تركها ثم ازداد انتشاره بعد لم تثبت به الحرمة، وإنما تثبت الحرمة إذا انتشر بالمس وهو بعدُ لامسها، أو يزداد انتشاره وهو لامسها بعد. جئنا إلى حدّ المشتهاة: حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل

رحمه الله: أنها إذا كانت بنت تسع سنين أو أكثر فهي مشتهاة من غير تفصيل، وإذا كانت بنت خمس سنين أو دونه لم تكن مشتهاة. وإن كانت بنت سبع سنين أو بنت ست سنين أو بنت ثماني ينظر إن كانت عبدة ضخمة كانت مشتهاة وما لا فلا. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله في «أيمان الفتاوى» : المشايخ سكتوا في الثمان والتسع والغالب أنها لا تشتهى ما لم تبلغ تسع سنين. قال الصدر الشهيد رحمه الله في شرح كتاب النفقات وعليه الفتوى، وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر هذا رحمه الله أنه كان يقول: ينبغي للمفتي أن يفتي في السبع، والثمان أنها لا تحرم إلا إذا بالغ السائل أنها عبلة ضخمة وجسيمة فحينئذ يفتي بالحرمة. وفي «البقالي» عن محمد رحمه الله، في بنت ثمان أو تسع إذا كانت ضخمة سمينة أنه تثبت به الحرمة، وإن لم تكن بهذه الصفة فإلى ثنتي عشرة وعن أبي يوسف رحمه الله: إذا كانت الصبيّة بنت خمس ويشتهى مثلها فهي مشتهاة فلا توقيت فيه، ورواه عن أبي حنيفة رحمه الله، وإذا جامعها ولم يُفْضِها فهي ممن يجامع مثلها، وإذا أفضاها لم تثبت به الحرمه خلاف أبي يوسف رحمه الله استحساناً. قال محمد رحمه الله وربما أفضت التي يفضى مثلها، وأطلق أبو يوسف رحمه الله في رواية ابن سماعة في بنت سبع وخمس أشهر وطئها فيما دون الفرج بشهوة ماتت ولا يُدرى هل كان يُشتهى مثلها في حسنها وجمالها، لم تحل له الأم. وفي «الفتاوى» : سئل الفقيه أبو بكر عمن: قبّل امرأة ابنه وهي بنت خمس سنين أو ست سنين عن شهوة، قال: لا تحرم على ابنه؛ لأنها (199ب1) غير مشتهاة، وإن اشتهاها هذا فلا ينظر إلى ذلك. قيل له: فإن كبرت حتى خرجت عن حد الاشتهاء والمسألة بحالها؟ قال تخرج؛ لأن الكبيرة دخلت تحت الحرمة فلا تخرج وإن كبرت، ولا كذلك الصغيرة. وسئل ابن سلمة عن امرأة أدخلت ذكر صبي في فرجها، والصبي ليس من أهل الجماع قال: تثبت به حرمة المصاهرة، وقال أصحابنا رحمهم الله: وتثبت الحرمة بالتقبيل والمس والنظر إلى الفرج بشهوة في جميع النساء؛ الدميمة وغيرها في ذلك سواء، بخلاف العقد ثم المسّ إنما يوجب حرمة المصاهرة إذا لم يكن بينهما ثوب، أما إذا كان بينهما ثوب فإن كان صفيقاً لا يجد حرارة الممسوس لا تثبت حرمة المصاهرة، وإن انتشرت آلته إليه بذلك، وإن كان رقيقاً بحيث تصل حرارة الممسوس إلى يده تثبت حرمة المصاهرة. وفي طلاق «المنتقى» : الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا لمس الرجل شيئاً من جسد امرأة من فوق الثياب عن شهوة؛ فإن كان يجد مس جسدها حرمت عليه امرأته، وكذلك إذا مسّ رجلها فوق الخف أو ساق الخف أو أسفل الخف. وفيه أيضاً: المعلى عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قبّل الرجل المرأة وبينهما ثوب، إن كان يجد برد إليها أو برد الشفه فهو تقبيل ومس.

m ويعتبر في النظر: النظر إلى داخل الفرج، وكذلك إنما يكون إذا كانت متكئة، أما إذا كانت قاعدة مستوية أو قائمة لا تثبت حرمة المصاهرة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: هو الصحيح. وقال أبو يوسف في رواية ابن سماعة: النظر إلى المدخل والركب سواء، وتحرم بذلك أمُّها إذا كان بشهوة، وروى إبراهيم عن محمد رحمه الله: أن النظر إلى موضع الجماع من الدبر في حرمة المصاهرة نظير النظر إلى الفرج، ثم رجع وقال: لا يحرمه إلا النظر إلى الفرج من الداخل. وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله أن النظر إلى دبر المرأة لا يوجب حرمة المصاهرة، وكذلك ذكر محمد رحمه الله في «الزيادات» في باب: إتيان المرأة في غير الفرج، وإنما وقع الفرق بين النظر إلى موضع الجماع من الدبر وبين النظر إلى موضع الجماع من القبل؛ لأن النظر إلى القبل سبب يفضي إلى الوطء في القبل؛ الذي تحصل به الحرمة والتعصيب؛ إذ السبب يقوم مقام المسبب خصوصاً في باب الحرمات، وأما النظر إلى الدبر يفضي إلى الجماع في الدبر، وبه لا تحصل الحرمة والتعصيب، ولا تثبت به الحرمة. والجماع في الدبر لا يثبت حرمة المصاهرة، ذكره محمد رحمه الله في «الزيادات» في باب إتيان المرأة في غير الفرج، وبه أخذ بعض مشايخنا، وبعض مشايخنا قالوا: يوجب حرمة المصاهرة، وبه كان يفتي شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله. ووجهه: أن الجماع في الدبر لا يخلو عن اللمس بشهوة، ومجرد اللمس بشهوة تثبت حرمة المصاهرة عندنا، فهذه الزيادة إن كانت لا توجب زيادة حرمة لا توجب خلافها، وما ذكر محمد رحمه الله أصح؛ لأن المس بشهوة إنما يوجب حرمة المصاهرة، لكونه سبباً مفضياً إلى الوطء في القبل، الذي تحصل به الحرمة، وبالإتيان في غير المأتى تبيّن أن ذلك المس لم يكن مفضياً إلى الوطء الذي تحصل به الحرمة، فلا تثبت به حرمة المصاهرة، وكذلك ألا ترى أن من مس امرأة بشهوة وأمنى لا تثبت حرمة المصاهرة؛ إذا نظر إلى فرج امرأة بشهوة وأمنى لا تثبت حرمة المصاهرة؛ لأن المس المجرد والنظر المجرد إنما يوجب حرمة المصاهرة، لكونه سبباً للوطء الذي هو سبب للحرمة، وباتصال الإنزال تبيّن أن ذلك المس لم يكن بهذه الصفة، فلا ثبتت به حرمة المصاهرة. وكذلك إذا قبلها ثم قال: لم تكن عن شهوة، أو لمسها أو نظر إلى فرجها (وقال) : لم يكن عن شهوة فقد ذكر الصدر الشهيد رحمة الله: أن في القبلة يفتى ثبوت الحرمة ما لم يتبين أنه قبّل بغير شهوة، وفي المس والنظر إلى الفرج لا يفتى بالحرمة، إلا إذا تبين أنه فعل بشهوة؛ لأن الأصل في التقبيل الشهوة، بخلاف المس والنظر. الدليل عليه: أن محمداً رحمه الله في أي موضع ذكر التقبيل لم يقيده بشهوة، وفي أي موضع ذكر المس والنظر فيه قيدهما بالشهوة. وفي بيوع «العيون» بخلاف هذا قال: إذا اشترى جارية على أنه بالخيار وقبلها أو نظر إلى فرجها ثم قال لم يكن شهوة وأراد ردّها، فالقول قوله، ولو كانت مباشرة، وقال لم يكن عن شهوة لم يصدق.

ومن المشايخ من فصّل في التقبيل بينما إذا كان على الفم وبينما إذا كان على الجبهة والرأس فقال: إن كانت القبلة على الفم يفتى بالحرمة ولا يصدق إن كان بغير شهوة، وإذا كان على الرأس أو على الذقن أو على الخد لا يفتى بالحرمة، إلا إذا ثبت أنه فعل بشهوة. ويصدق إن لم يكن بشهوة وهكذا ذكر في «مجموع النوازل» . وكان الشيخ الإمام ظهير الدين رحمه الله يفتي بالحرمة في القبلة على الفم والذقن والخد والرأس وإن كان على المقنعة وكان يقول: لا يصدق في أنه لم يكن بشهوة، وظاهر ما أطلق في «بيوع العيون» يدل على أنه يصدق في القبلة سواء كانت على الفم أو على موضع آخر. وفي «البقالي» : ويصدق إذا أنكر الشهوة، يعني في المس إلا أن يقوم منتشراً فيعانقها قال: له، وكذا قال في «المجرد» : وانتشاره دليل الشهوة وهذا إشارة إلى أن في المس لا يُفتى بالحرمة ما لم ينضم إليه دليل آخر يدل على الشهوة. وإذا أخذ بدنها وقال كان ذلك عن غير شهوة ففيه كلام. وإذا ركبت على ظهره وعبر بها الماء ثم قال لم يكن عن شهوة صُدّق. ولو أخذت امرأة ذكر ختنها في الخصُومة وشدته وقالت: كان عن غير شهوة صدّقت، وفي «كراهة الحاوي» : أن مسّ شعر المرأة عن شهوة لا يوجب حرمة المصاهرة. وفي «الأجناس» : إن مسّ شعر رأس المرأة عن شهوة يوجب حرمة المصاهرة والرجعة، وأنكر القاضي الإمام علي السغدي رحمه الله ما ذكره في «الأجناس» قال: لأن الرأس تحت الشعر فيصير ماساً شعرها لا بدنها، فهو بمنزلة ما لو مسّ يدها من وراء الكم، وتقبل الشهادة على الإقرار باللمس بشهوة. وعلى الإقرار بالتقبيل بشهوة. وهل تقبل الشهادة على نفس اللمس والتقبيل عن شهوة؟ اختلف فيه المشايخ قال بعضهم: لا تقبل وإليه مال الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله، وهذا لأن الشهوة أمر باطن لا يوقف عليها عادة، وقال بعضهم تُقبل وإليه مال الشيخ الإمام الزاهد علي البزدوي رحمه الله، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «نكاح الجامع» ؛ لأن الشهوة مما يوقف عليها في الجملة إما لتحرك العضو من الذي يتحرك عضوه أو آثار أخرى ممن لا يتحرك عضوه. ابن سماعة في «نوادره» : عن أبي يوسف رحمه الله: رجل نظر إلى فرج ابنته (200أ1) من غير شهوة فتمنى أن تكون جارية: فوقعت له الشهوة مع وقوع نظره قال: إن كانت الشهوة منه على ابنته حرمت عليه امرأته، وإن كانت الشهوة وقعت على ما تمنى لم تحرم؛ لأن النظر إلى فرج ابنته حينئذ لا يكون عن شهوة. في «واقعات الناطفي» : إذا قصد أن يقيم امرأته إلى فراشه أو يجامعها وهي نائمة ومعها ابنتها المشتهاة، فوصلت يده إلى الابنة فقرصها بإصبعه وظنّ أنها امرأته؛ إن كانت يده إلى الابنة وهو تشتهي لها، حرمت عليه امرأته وإن كان يحسبها امرأته؛ لأنه مسها بشهوة، وإن كان لا شهوة له في وقت ملامستها لا تحرم؛ لأنه لم يوجد مسها بشهوة،

وإن اختلفا فالقول قول الزوج؛ لأنه ينكر ثبوت الحرمة فالقول قول المنكر. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: زوج جدة المرأة محرم لها؛ إن كان قد دخل بالجدة سواء كانت الجدة من قبل أبيها أو من قبل أمها، وزوج بنت البنت محرم للجدة دخل الزوج بها أو لم يدخل؛ لأن البنت لا تحرم بنفس نكاح الأم، فكذا بنفس نكاح الجدة والأم تحرم بنفس نكاح البنت، فكذا بنفس نكاح بنت البنت. في «العيون» : نظر إلى فرج امرأة من خلف ستر أو زجاجة وتبيّن من خلفها فرجها وكان النظر بشهوة؛ حرمت عليه أمها وابنتها، بخلاف ما لو نظر في المرآة، والفرق: أن المرئي في المرآة عكس الفرج لا عين الفرج، ولا كذلك المرئي من خلف الستر والزجاجة. أقر بحرمة المصاهرة يؤاخذ به ويفرق بينهما. وكذلك إذا أضاف ذلك إلى ما قبل النكاح بأن قال لامرأته: كنت جامعت أمك قبل نكاحك يؤاخذ به ويفرق بينهما، ولكن لا يصدق في حق المهر حتى يجب المسمّى دون العقر، ولكن إذا كان قبل الدخول بها يجب نصف المسمَّى، وإن كان بعد الدخول بها يجب كمال المسمى، والإقرار على الإقرار ليس بشرط في القضاء، حتى لو أقر بجماع أم امرأته أو مسها، ثم رجع عن ذلك وقال كذبت؛ فالقاضي لا يصدقه، ولكن فيما بينه وبين الله تعالى إن كان كاذباً فيما أقرّ لا تحرم عليه امرأته، والدوام على المس ليس بشرط لثبوت الحرمة، حتى قيل إذا مدّ يده إلى امرأته بشهوة فوقعت على كف ابنتها فازدادت شهوته حرمت عليه امرأته، وإن نزع من ساعته. في نكاح «المنتقى» في باب ما يبطل المهر بعقد أحد الزوجين: إذا قبل امرأة ابنه بشهوة، أو قبل الأب امرأة ابنه بشهوة وهي مكرهة، وأنكر الزوج أن يكون ذلك عن شهوة فالقول قول الزوج؛ لأنه ينكر بطلان ملكه، وإن صدقه الزوج أنه كان عن شهوة وقعت الفرقة ويجب المهر على الزوج، ويرجع الزوج بذلك على الذي فعل ذلك إن تعمد الفاعل الفساد؛ لأنه وجب الحد بالوطء، والمال مع الحد لا يجتمعان. قال: ولو كان جامعها بشبهة وهي مكرهة وبين وجه الشبهة فقال: بأنّ زوّجها أبوها منه بغير أمرها فلا حدّ عليه، ورجع الأب عليه بنصف المهر في قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال أبو يوسف رحمه الله: عليه الحدّ ولها على الأب نصف المهر ولا يرجع به على الابن من قبل الحد الذي لزمه، قال أبو يوسف رحمه الله فلا أحفظه عن أبي حنيفة رحمه الله. وينبغي في قياس قوله أن لا يرجع الأب عليه بذلك من قبل المهر الذي وجب عليه بالدخول بناءً على شبهة النكاح، فلا يجب مهر آخر في هذا الباب أيضاً. وفيه أيضاً: رجل تزوج بأمةِ رجل ثم إن الأمة قبّلت ابن زوجها قبل الدخول بها، فادعى الزوج أنها قبلته بشهوة، وكذبه المولى فإنها تبين من زوجها، لإقرار الزوج أنها قبّلت بشهوة، ويلزمه نصف الصداق؛ لتكذيب المولى إيّاه أنها قبّلت بشهوة، ولا يقبل قول الأمة في ذلك ولو قالت قَبَّلْتُه بشهوة. قيل لرجل: ما فعلت بأمِّ امرأتك؟ قال:

جامعتها، قال: تثبت حرمة المصاهرة، قيل: إن السائل والمسؤول هازلان، قال: لا يتفاوت ولا يصدق أنه كذب. في أيمان «مجموع النوازل» : والشهوة من أحد الجانبين في فصل المس تكفي لثبوت هذه الحرمة. ومن جملة أسباب التحريم: الرضاع، فالرضاع في إيجاب الحرمة كالنسب والصهرية. والأصل فيه: قوله عليه السلام «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» والمعنى في ذلك: أن الماء أصل في التكوين، واللبن أصل في النشوء والزيادة، فجرى النشوء من أصل التكوين مجرى الوصف من الأصل مجرى الحق من الحقيقة، والحرمان يختلط في أنسابها، فالحق ألحق بالحقيقة والوصف بالأصل. قال أصحابنا رحمهم الله: وما يتعلق به التحريم في النسب يتعلق في الرضاع إلا في مسألتين: أحدهما: أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب ويجوز في الرضاع، وإنما كان كذلك؛ لأن أخت ابنه من النسب إن (كانت) منه فهي ابنته، وإن لم تكن منه فهي ربيبته، فإنما حرمت لهذا المعنى، وهذا المعنى لا يتأتى في الرضاع حتى إن في النسب لو لم يوجد أحد هذين المعينين فإن كانت جارية بين شريكين جاءت بولد فادعياه، حتى يثبت النسب منهما ولكل واحد منهما ابنة من امرأة أخرى جاز لكل واحد من الموليين أن يتزوج ابنة شريكه، وإن كل واحد من الموليين متزوجاً بأخت من النسب. والمسألة الثانية: لا يجوز للزوج أن يتزوج بأم أخته من النسب ويجوز في الرضاع، وإنما كان كذلك؛ لأن في النسب إن كانا أخوين لأم؛ فأم الأخ أمه، وإن كانا أخوين لأب فأم الأخ امرأة أبيه، وهذا المعنى معدوم في الرضاع، وأما فيما عدا هاتين المسألتين حكم الرضاع وحكم النسب سواء. والتحريم بالرضاع كما يثبت من جانب المرأة يثبت من جانب الرجل وهو الزوج الذي نزل لبنها بوطئه ويسميه الفقهاء: لبن الفحل. وبيانه: أن المرأة إذا أرضعت بلبن حدث من حمل رجل فذلك الرجل أب الرضيع، لا يحل لذلك الرجل نكاحها وإن كانت أنثى. وكذلك إذا كان الرجل امرأتان وحملتا منه، فأرضعت كل واحدة منهما صغيراً فقد صارا أخوين لأب، فإن كانت إحداهما أنثى لا يحل النكاح بينهما، وإن كانتا ابنتين لا يحل الجمع بينهما؛ لأنهما أختان لأب. وإن كانت للرجل امرأة واحدة فحملت منه، وأرضعت صبيين صارا أخوين لأب وأم، وأخوات الزوج عمات المرضع ولا يحل له مناكحتهن، ويجوز له مناكحة أولادهن، وأم الزوج جدة المرضع تحرم عليه ولا يحل لهذا المرضع أن يتزوج امرأة وطئها الزوج، ولا

للزوج أن يتزوج امرأة وطئها المرضع. فهذا تفسير «لبن الفحل» والدليل على ثبوت هذه الحرمة من جانب الرجل قوله عليه السلام: «يحرم من الرضاع ما يحرم (200ب1) من النسب» . وقال عليه السلام: «إن الرضاعة تحرم ما تحرّم الولادة» وسألت عائشة رضي الله عنها وقالت: يا رسول الله: إن أفلح بن أبي العقيس يدخل عليّ وأنا في ثياب فضلٍ تقيني فقال عليه السلام: «ليلج عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة، فقالت عائشة رضي الله عنها: إنما أرضعتني المرأة لا الرجل فقال عليه السلام: إنه عمك فليلج عليك» . والعم من الرضاعة يكون لا الأمر لبن الفحل. وفي النكاح للحسن بن زياد رحمه الله: في امرأة ولدت من زوج وأرضعت ولدها ثم تيبس لبنها ثم درّ لها اللبن بعد ذلك، فأرضعت صبيّاً إن لهذا الصبي أن يتزوج بابنة هذا الرجل من غير هذه المرأة، قال: وليس هذا بلبن الفحل، وكذلك إذا تزوج امرأة ولم تلد منه قط ثم نزل لها اللبن فإن هذا اللبن من هذه المرأة دون زوجها حتى لو أرضعت صبية لا تحرم على ولد هذا الزوج من غير هذه المرأة. ولو زنى بامرأة فولدت منه فأرضعت بهذا اللبن صبيّة لا يجوز لهذا الزاني أن يتزوج بهذه الصبّية ولا لأبيه ولا لآبائه ولا لأبناء أولاده لوجود التعصيب بين هؤلاء، وبين الزاني، فلما لم يجز للزاني أن يتزوجها فكذا لا يجوز لهؤلاء. والرضاع الموجب للتحريم ما كان في حالة الصغر دون الكبر قال عليه السلام: «الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم» وقال عليه السلام: «لا رضاع بعد الفصال» ولأن الحرمة بالرضاع من حيث إنه سبب للنشوء والزيادة، وذلك في حالة الصغر؛ لأن الصغير لا يتربى بغيره بخلاف الكبير. وقليل الرضاع وكثيره في إثبات التحريم سواء؛ لأن المنصوص عليه فعل الإرضاع دون العدد، قال الله تعالى: {وَأُمَّهَتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ} (النساء: 23) ولمدة الرضاع ثلاثة أوقات: أدنى وأوسط وأقصى. فالأدنى: حول ونصف، والأوسط: حولان، والأقصى: حولان ونصف، حتى لو نقص عن الحولين لا يكون شططاً، ولو زاد على الحولين لا يكون تعدياً. والوسط هو حولان فلو كان الولد يستغني عنها دون الحولين ففطمه في حول ونصف يحل ولا تأثم بالإجماع، ولو لم يستغن عنها بحولين فلها أن ترضعه بعد ذلك ولا تأثم عند عامة

العلماء، خلافاً لخلف بن أيوب رحمه الله. وإنما الكلام في ثبوت الحرمة: بالرضاع وفي استحقاق الأجر، فأما الكلام في ثبوت الحرمة، قال أبو حنيفة رحمه الله: يثبت بحكم الرضاع في الصغير إلى ثلاثين شهراً، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إلى سنتين. حجتهما: قوله تعالى: {وَالْولِدتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233) وقال عليه السلام: «لا رضاع بعد الحولين» ولأبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (البقرة: 33) اعتبر التراضي والتشاور. في الفصال بعد الحولين ورفع الجناح عن الفصال بعد الحولين بالتراضي والتشاور فهذا دليل على أن ما بعد الحولين مدة الرضاع، ولأن الرضاع يتعلق باللبن في حق الصغير؛ لأنه سبب للنشوء والزيادة وهو الغذاء الأصلي في حقّه، والغذاء لا يتغير إلا بعد زمان فلا بدّ من اعتبار مُدّة بعد ذلك حتى يتغير به الغذاء، فقدّر أبو حنيفة رحمه الله تلك المّدة بستة أشهر لأنها مدّة تغيّر الغذاء، فإن الولد يبقى في النظر ستة أشهر ويتغذى بغذاء الأم، ثم ينفصل ويصير أصلاً في الغذاء، فإنما قدّر المدّة بستة أشهر لهذا. أما الكلام في استحقاق الأجر؛ قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هو على هذا الخلاف، حتى إن المطلقة تستحق أجرة رضاع الولد على الأب إلى تمام حولين ونصف عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهم الله: تستحق إلى تمام حولين ولا تستحق فيما دون الحولين. وكثير من المشايخ قالوا: إن مدة الرضاع في حق استحقاق الأجرة على الأب مقدرة بحولين عند الكل حتى لا تستحق المطلّقة أجرة الرضاع بعد الحولين بالإجماع، وتستحق في الحولين بالإجماع. ولو فطم الرضيع في مدة الرضاع ثم سقي بعد ذلك في المدة فهو رضاع على قول من يرى الرضاع في تلك المدة؛ لوجود الإرضاع والظاهر من المذهب، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه قال: هذا إذا لم يتعود الصبي الطعام حتى لا يكتفي بالطعام بعد الفطام، وأما إذا صار بحيث يكتفي بالطعام لا تثبت الحرمة بعد ذلك؛ لأنه إذا صار بحيث يكتفي بالطعام فاللبن يفسده بعده ذلك ولا يغذيّه ولا يحصل به النشوء، وهو المعنى المعوّل عليه في إثبات الحرمة بعد الرضاع. وفي «البقالي» : إذا فطم في الحولين واستغنى بالطعام فأرضع بعد ذلك؛ فعن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله روايتان. والبكر إذا نزل لها اللبن تعلق به الحرمة ما تتعلق بلبن الثيب. قال في «الأجناس» :

وفائدته لو تزوجت بزوج فطلقها قبل أن يدخل بها له أن يتزوج بهذه الصبية؛ ولو دخل بها، والمسألة بحالها لا يجوز له أن يتزوج بهذه الصبية لأنها ربيبته المدخولة. ولبن الحية والميتة سواء في التحريم؛ لاستوائهما في المعنى الموجب للحرمة وهو حصول التسوية. وتثبت حرمة الرضاع بالسعوط والوجور لأنه مما يغذي الصبي، فالسعوط يصل إلى الدماغ فيتقوى به، والوجور يصل إلى الجوف فيحصل به النشوء. والإقطار في الأذن لا يثبت الحرمة؛ لأن الظاهر أنه لا يصل إلى الدماغ لضيق ذلك الثقب. وكذلك الإقطار في الإحليل؛ لأن أكثر ما فيه أن يصل إلى المثانة فلا يتغذى به الصبي عادة، وكذلك الحقنة في ظاهر الرواية لا يوجب الحرمة. وإذا وُضِعَ لبن المرأة في طعام فأكله صبي، فإن كانت النار قد مسته وأنضج الطعام حتى يتغير لا تثبت الحرمة، سواء كان اللبن غالباً أو مغلوباً. وإن كانت النار لم تمسه فإن كان الطعام هو الغالب لا تثبت به الحرمة، وإن كان اللبن هو الغالب فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: تثبت الحرمة اعتباراً للغالب. وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا تثبت. وشرط القدوري رحمه الله على قول أبي حنيفة أن يكون الطعام مستبيناً معناه إذا كان بمنزلة الثريد، وهذا لأن الطعام إنما كان مستبيناً فهو الأصل، واللبن وإن كان غالباً فهو كالتَّبَعِ للطعام فيما هو المقصود، فإن اللبن يغلب الثريد، ويكون الأصل هو الثريد. قيل إنما لا تثبت الحرمة على قول أبي حنيفة رحمه الله إذا كان لا يتقاطر اللبن (201أ1) عند حمل اللقمة، وأما إذا كان يتقاطر تثبت به الحرمة وقيل لا تثبت به الحرمة، وقيل: لا تثبت الحرمة على قول أبي حنيفة رحمه الله على حال، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله، أن على قول أبي حنيفة رحمه الله إنما لا تثبت الحرمة إذا أكل لقمةً لقمةً. أما إذا حَسَا حسواً تثبت الحرمة، وقيل: إذا وصل اللبن منفرداً فلا خلاف، وإذا تناول الثريد فلا خلاف. وفي كتاب الرضاع للخصاف: إذا ثردت له خبزاً في لبنها حتى نشف الخبز ذلك اللبن، أو بلّت به سويقاً أو شيئاً ثم أطعمته إيّاه؛ إن كان طعم اللبن يوجد فهو رضاع؛ وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهما الله، هكذا ذكر صاحب «الأجناس» . ولوخلط لبن المرأة بالماء أو بالدواء أو بلبن البهيمة فالعبرة للغالب. في «المنتقى» : فسّر الغلبة في رواية ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله فقال: إذا جعل في لبن المرأة دواء فغيّر اللون ولم يتغيّر الطعم أو على العكس فأوجرته صبيّاً حرم، وإن غيّر اللون والطعم فلم يوجد طعم اللبن وذهب لونه لم يحرم، وفسّر الغلبة في رواية ابن الوليد عن محمد رحمه الله فقال: إذا لم يتغير الدواء من أن يكون لبناً تثبت به الحرمة، وإن خُلط بلبن امرأة أخرى فكذلك عند أبي يوسف، وعند محمد رحمها الله: تثبت الحرمة بينهما وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله. وإذا طلق الرجل امرأته ولها منه لبن فتزوجت بزوج آخر بعدما انقضت عدتها

ووطئها الثاني؛ أجمعوا أنها إذا ولدت من الثاني، فاللبن من الثاني وينقطع عن الأول، وأجمعوا على أنها إذا لم تحبل من الثاني فاللبن من الأول. وأما إذا حبلت من الثاني ولكن لم تلد منه؛ قال أبو حنيفة رحمه الله: اللبن يكون من الأول حتى تلد من الثاني، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن علم أن اللبن من الثاني بأمارة أو علامة فهو من الثاني، وإن علم أنه من الأول فهو من الأول، وإن لم يعلم أنه من الأول أو من الثاني فهو من الأول، وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله: أن على قول أبي يوسف رحمه الله: اللبن من الثاني على كل حال.l فروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمهما الله: أن اللبن من الأول كما هو قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: اللبن منهما. نوع منه ولا فرق في التحريم بين الرضاع الطارىء والمقدم بيانه: إذ تزوج رضيعة فأرضعتها أمه، حرمت عليه؛ لأنها صارت أختاً له؛ وهذا لأن المحرمية إنما تمنع النكاح لعلة المنافاة، فإن بين الحل والحرمة تنافٍ، والمنافي كما يؤثر إذا اقترن بالسبب يؤثر إذ جرى عليه. وكذلك: إذا تزوج رضيعتين فأرضعتهما امرأة معاً، أو واحدة بعد أخرى حرمتا عليه؛ لأنهما صارتا أختين من الرضاعة، ويجب لها نصف الصداق؛ لأن الفرقة ثبتت بفعل غيرهما، فإن الأخوة إنما ثبتت بينهما بواسطة الأمومة والأمومة، حصلت بفعل الكبيرة؛ والإضافة إلى فعلها أولى من الإضافة إلى فعل الصغيرة؛ لأن اختيارها معتبر، واختيار الصغيرة ساقط الاعتبار شرعاً، فيرجع الزوج على المرضعة بذلك إن تعمدت الفساد، ويعتبر القصد مع العلم بالحكم. وإن أخطأت وأرادت الخير؛ بأن خافت على الرضيع الهلاك من الجوع فلا يرجع عليها، وهذا لأن المرضعة مسببة إلى الفرقة وليست بمباشرة، والمسبب إنما يضمن إذا كان متعدياً في تسببه، فإذا تعمدت الفساد فهي متعدية، وإذا أخطأت أو أرادت الخير فهي ليست بمتعدية، وتصدق المرضعة أنها لم تتعمد الفساد إذا لم يظهر خلافه. في «البقالي» : وعن محمد رحمه الله: أنه يرجع عليها بكل حال؛ لأن من أصله أن المسبب كالمباشر. أصله: مسألة فتح باب القفص والإصطبل وأشباه ذلك. في «العيون» : رجل تزوج رضيعتين فجاءت امرأتان ولهما منه لبن، فأرضعت كل واحدة منهما إحدى الصبيتين معاً، وتعمدتا الفساد، لا ضمان على كل واحدة منهما؛ لأن كل واحدة منهما غير مفسدة بصنعها وبنفسها خاصةً هكذا وضع المسألة في «العيون» . وفي «المنتقى» : وضع المسألة فيما إذا جاءت امرأتان برجل أجنبي، لهما من ذلك الرجل الأجنبي لبنٌ، وأرضعت كل واحدةٍ منهما إحدى الصبيتين معاً وتعمدتا الفساد، وأجاب: أنه لا ضمان على واحدة منهما لأن كل واحدة منهما غير مفسدة بنفسهما وبصنعها خاصة، قال: هو بمنزلة مريض قال لامرأتين: إن دخلتما هذه الدار فأنتما

طالقان، أو قال لهما: أنتما طالقان إن شئتما فشاءتا معاً، وما ذكر في «العيون» وقع سهواً؛ لأن الفساد في تلك الصغيرة بعلّة البنتية، فإن المرضعة تصير ابنةً للزوج، وبإرضاع كل واحدة من الكبيرتين صارت الصغيرة التي أرضعتها هذه الكبيرة ابنةً للزوج، من غير أن يتوقف ذلك على إرضاع الكبيرة الأخرى، فصارت كل واحدة من الكبيرتين مفسدة نكاح الصغيرة، التي أرضعتها بصنعتها خاصة. أما موضوع «المنتقى» صحيح؛ لأن الفساد في تلك الصغيرة بعلّة الأجنبية، والأجنبية إنما يثبت بصنعتها فلم يصر لكل واحدة منهما مفسدة بصنعها خاصة. وفي «المنتقى» : رجل تحته كبيرة ورضيعة، جاء رجل وأخذ من لبن الكبيرة وأوجر الصغيرة بانتا؛ لأنهما صارتا أمّاً وابنةً، وللصغيرة نصف المهر، وكذا الكبيرة إن لم يكن الزوج دخل بها، ويرجع الزوج بذلك على ذلك الرجل إن تعمّد الفساد. وفي «العيون» : لو كانت عنده كبيرة مجنونة أو معتوهة وصغيرة، وأرضعت الكبيرة الصغيرة حتى بانتا، لا رجوع للزوج على الكبيرة؛ لأن فعل المجنونة والمعتوهة لا يوصف بالجناية. وفي «المنتقى» : إذا كان تحت رجل صغيرتان جاءتا إلى امرأة نائمة وشربتا منها لبناً بانتا، ولكل واحدة نصف الصداق ولا يرجع الزوج على النائمة. وفي «الأصل» : إذا تزوج الرجل صبية، ثم تزوج عمّتها وفرّق بينه وبين العمّة لا تحرم الصغيرة، فإن جاءت أم العمّة وأرضعت الصغيرة لا يفسد نكاح الصغيرة، وإن ثبتت الأختية بينها وبين العمة؛ لأن نكاح العمّة وقع باطلاً فلم يتحقق الجمع المحرم. وفي «المنتقى» : إذا تزوج امرأة نكاحاً فاسداً ووطئها وفرّق بينهما، ثم تزوج صبية رضيعة فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة فسد نكاح الصغيرة، يريد به: إذا كان الإرضاع في عدة الكبيرة بدليل أنه علّل وقال: من قبل أنها صارت أخت الكبيرة، والكبيرة في العدة، فعلى هذا إذا كان الإرضاع بعد انقضاء عدّة الكبيرة لا تحرم الصغيرة. تزوج رجل ثلاث صبيات فجاءت امرأة وأرضعتهن معاً بأن حلبت لبنها في قارورة وألقمت إحدى ثدييها إحداها والأخرى الأخرى وأوجرت الثالثة معاً بِنَّ جميعاً؛ لأنهن صِرْنَ أخوات معاً، وإن أرضعتهن واحدة بعد أخرى بانت (201ب1) الأوليتان والثالثة امرأته؛ لأنه لما أرضعت الثانية ثبتت الأختية بين الثانية وبين الأولى، فتقع الفرقة بينه وبينهما، فإذا أرضعت الثالثة صارت الثالثة أختاً لهما إلا أنه لم يبق الجمع فلا يفسد نكاح الثالثة لهذا. ولو أرضعت الأولى ثم أرضعت الثنتين معاً حرمن عليه؛ لأن رضاع الأولى لم يتعلق به تحريم، فإذا أرضعت الثنتين صرن أخوات وقد تحقق الجمع فيهن فيحرمن، ولو كنّ أربع صبيات فأرضعتهن واحدة بعد أخرى حرمن عليه. وطريقه: أن بإرضاع الثانية حرمت الأولى والثانية، وبإرضاع الرابعة حرمت الرابعة والثالثة، وكذلك لو أرضعت واحدة ثم أرضعت الثلاث معاً حرمن عليه جملة، وكذلك

ولو أرضعت الثلاث منهن معاً ثم أرضعت الرابعة لا تحرم الرابعة. ولو تزوج صغيرة وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة بانتا، ولا مهر للكبيرة إن كان قبل الدخول بها، وللصغيرة نصف المهر، وله أن يتزوج بالصغيرة إن لم يكن دخل بالكبيرة، ولا يتزوج الكبيرة؛ لأن الصغيرة ربيبته من الرضاع ولم يدخل بها، والكبيرة أم امرأته. ولو تزوج كبيرة وصغيرتين، وأرضعتهما الكبيرة واحدة بعد أخرى؛ فإن لم يكن دخل بالكبيرة حرمت الكبيرة والصغيرة الأولى؛ لأنه حين أرضعتها فقد صارتا أماً وابنة، فوقعت الفرقة بينهما، فحين أرضعت الثانية فليس في نكاح فبقي نكاحهما؛ لأن السابق مجرد العقد على الأم، ولا تحل له هذه الكبيرة أبداً، وتحل له الصبية إذا فارق التي عنده، وإن كان ذلك بعدما دخل بالكبيرة حرمن عليه جميعاً؛ لأنهما صارتا ابنتيها من الرضاعة، ولا تحل له واحدة منهن أبداً؛ لوجود الدخول بالأم، وصحة العقد ما لا يثبت. ولو تزوج كبيرة وثلاثاً صفاراً فأرضعتهن واحدة بعد أخرى حرمن عليه، دخل بالكبيرة أو لم يدخل، أما حرمة الكبيرة والصغيرة الأولى؛ لأنهما صارتا أماً وبنتاً، وأما حرمة الصغيرة الثانية والثالثة إن لم يدخل بالكبيرة، فلثبوت الأختية بينهما، وإن دخل بالكبيرة؛ لأن كل واحدة منهما ربيبته وقد دخل بالأم. ولو تزوج كبيرتين وصغيرتين، ولم يدخل بالكبيرتين بعد، حتى عمدت الكبيرتان إلى إحدى الصغيرتين وهي زينب، فأرضعتاها إحداهما بعد الأخرى، ثم أرضعتا الصغيرة الثانية وهي عمرة إحداهما بعد الأخرى، بانت الكبيرتان، والصغيرة الأولى وهي زينب، والصغيرة الثانية وهي عمرة امرأته؛ لأن إحدى الكبيرتين حين أرضعت زينب بانتا؛ لأنهما صارتا ابنةً وأماً، فحين أرضعت الكبيرة الأخرى زينب صارت أم امرأته فحرمت أيضاً، فإن أرضعتا عمرة صارت عمرة ربيبته ولم يدخل بأمها فلا يحرم. ولو أنّ إحدى الكبيرتين أرضعت الصغيرتين واحدة بعد أخرى، ثم أرضعت الكبيرة الأخرى الصغيرتين واحدة بعد أخرى، فإن كانت الكبيرة الثانية بدأت بالتي بدأت بها الكبيرة الأولى وهي زينب بانت، الكبيرتان والصغيرة الأولى وهي زينب، والصغيرة الأخرى وهي عمرة امرأته، ولو بدأت الكبيرة الثانية بالصغيرة الأخرى حَرُمْنَ عليه جُملة. ولو كانت تحته صغيرة وكبيرة، فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة بانتا؛ لأنهما صارتا أختين. وكذلك لو أرضعتهما أخت الكبيرة؛ لأن الصغيرة صارت بنت أخت الكبيرة، والجمع بين المرأة وابنة أختها لا يجوز، ولو أرضعتها عمة الكبيرة أو خالتها لم تبن واحدة منهما؛ لأن الجمع بين المرأة وابنة عمها أو ابنة عمتها أو ابنة خالها جائز. وإذا كانت تحت الرجل كبيرة وصغيرة فطلّق الكبيرة، ثم إن أخت الكبيرة أرضعت الصغيرة والكبيرة في العدة بعد؛ بانت الصغيرة؛ لأن حرمة الجمع في حالة العدة كحرمتها حال قيام النكاح.

ولو زوج رجل ابنه الصغير امرأة لها لبن فارتدت وبانت من الصبي، ثم أسلمت فتزوجها رجل فحبلت منه، وأرضعت بلبنها ذلك الصبي الذي كان زوجها، حرمت عليه زوجها الثاني؛ لأن الصبي صار ابناً لزوجها، فكانت هذه امرأة الابن فحرمت عليه. ولو زوج رجل أم ولده مملوكاً له وهو صغير فأرضعته بلبن السيد حرمت على زوجها وعلى مولاها؛ لأن المملوك صار ابناً لمولاه، فحرمت على المولى لأنها امرأة ابنه وحرمت على الزوج لأنها موطوءة ابنه. ولو تزوج صغيرة وطلقها، ثم تزوج كبيرة فأرضعت هذه الكبيرة تلك الصغيرة بلبنها أو لبن غيرها حرمت عليه؛ لأنها أم امرأته. نوع منه ولا تقبل في الرضاع إلا شهادة رجلين أو شهادة رجل وامرأتين عدول هكذا روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما. والمعنى: أن ثبوت الحرمة لا تقبل الفصل عن زوال الملك في باب النكاح، وإبطال الملك عن المحل لا يثبت إلا بشهادة شاهدين، وهذا بخلاف ما إذا اشترى لحماً فأخبره مسلم أنه ذبحه مجوسي، فإنه لا يحل تناوله؛ لأن حرمة التناول تقبل الفصل عن زوال الملك، فكان هذا من باب الدين، فقبل قول الواحد فيه، وإن كان المخبر واحداً ووقع في قلبه أنه صادق فالأولى أن يتنرّه ويأخذ بالثقة، وحط الإخبار قبل العقد أو بعده، ولا يجب عليه ذلك. وإذا شهد بذلك رجلان أو رجل وامرأتان وهم عدول لم يتسع لكل واحد منهما المقام مع صاحبه؛ لأن الحجة قد تمّت. صبيّة أرضعها بعض أهل القرية فهو في سِعَةٍ من المقام معها في الحكم؛ لأنه لم يظهر المانع في «فتاوى أهل سمرقند» . وفيه أيضاً: أدخلت المرأة حلمة ثديها فم رضيع ولم تدر أدخل اللبن في حلقه أم لا فإنه لا يحرم النكاح؛ لأن في المانع شك. وفي آخر «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل تزوج امرأة رضيعة ومضى على ذلك زمان فقالت أم الزوج أو أختها: إني قد أرضعتها، إن قالت قد أرضعتها قبل النكاح لا يحل للزوج أن يتزوج أختها ما لم تُطلّق الرضيعة؛ لأن إقدام الزوج على النكاح إقرار منه بصحة النكاح، وإقراره حجة في حقّه. وإن قالت: أرضعتها بعد النكاح جاز له أن يتزوج بأختها قبل أن يطلقها والله أعلم. نوع منه إذا قال الزوج: هذه المرأة أمي من الرضاعة أو قال: ابنتي أو قال: أختي، ثم أراد أن يتزوجها بعد ذلك وقال: أو همت أو أخطأت أو لبست، وصدقته المرأة فهما مصدقان في ذلك وله أن يتزوجها، وهذا استحسان وإن ثبت على قوله الأول وقال: هو حق كما قلت، ثم تزوجها فرّق بينهما قياساً واستحساناً. وجه القياس: أن الرجوع عن الإقرار فيما هو على المقرّ غير عامل؛ لأن الإقرار ملوم بنفسه على ما عرف.

وجه الاستحسان: أن هذا أمر قد تسببه، وقد وقع عند الناس أن بينه وبين امرأة رضاع، فيخيّر بذلك ثم يتفحص عن حقيقة الحال فيتبيّن (202أ1) أنه غلط في ذلك، وفيما يقع فيه الاشتباه إذا أخبر بالغلط وليس هناك من يكذبه يجب قبول خبره، ولم يوجد المكذب هنا. وإذا أقرت المرأة أن هذا أبي من الرضاعة أو أخي أو ابن أخي وأنكر الرجل، ثم كذبت المرأة نفسها فقالت أخطأت فتزوجها فالنكاح جائز، وكذلك لو لم يتزوجها قبل تكذيب نفسها. ولو قالت المرأة بعد النكاح: قد كنت أقررت: أنك أخي وقد قلت: إن ما أقررت به حق حين أقررت بذلك وقد وقع النكاح فاسداً، فإنه لا يفرق بينهما، ولو كان هذا القول من الزوج يفرق بينهما. وإذا أقرّ الرجل أن هذه المرأة أخته من الرضاعة، وثبت على ذلك وأشهد عليه شهوداً، ثم تزوجها ولم تعلم المرأة بذلك، ثم جاءت بهذه الحجة بعد النكاح فرقت بينهما، ولو أقرّا بذلك جميعاً ثم أكذبا أنفسهما وقالا: أخطأنا، ثم تزوجها كان النكاح جائزاً، وكذلك هذا في النسب، ليس يلزم من ذلك إلا ما ثبتا عليه؛ لأن الغلط والاشتباه فيه مما يتحقق، ولو تزوج امرأة ثم قال بعد النكاح هي أختي من الرضاعة أو ما أشبه، ثم قالت المرأة: أُوهمت، ليس الأمر كما قلت لا يفرق بينهما استحساناً، ولو ثبت على هذا المنطق وقال: هو حق كما قلت، يفرق بينهما، ولو جحد بعد ذلك لا ينفعه جحوده. والحاصل: أنّ مثل هذا الإقرار إنما يوجب الفرقة بشرط الثبات عليه، فإذا قال: أُوهمتُ فقد انعدم ما شرطه فلا يوجب الفرقة. وإذا قال بعد الإقرار: هو حق كما قلت: هذه أختي أو هذه ابنتي، وليس لها نسب معروف ثم قال: أُوهمت يصدق، وهذا بخلاف ما لو قال لعبده: هذا ابني، أو قال لأمته: هذه ابنتي ثم قال: أُوهمت، لا يصدق ويحكم بعتق العبد والأمة. والفرق: أن الأشتباه لا يقع بين العبد وبين ابنه إلا نادراً لأن العبد في الغالب.... لابنه في المطعم والملبس والمجلس، والنادر لا عبرة له، فلا يُعتد بقوله: أوهمت، والاشتباه بين ابنته وبين زوجته ليس بنادر بل هو غالب، لتفارقهما في المطعم والملبس والمجلس، والغالب معتبر شرعاً، ولهذا تعلّل إذا قال: أوهمت فهو الفرق بين الصورتين. ولو قال: هذه ابنتي من النسب، قال ذلك لامرأته وثبت عليه، ولها نسب معروف لم أفرق بينهما، وكذلك لو قال: هذه أمي والأم معروفة وثبت عليه، ذلك لا يفرق بينهما؛ لأنه مكذب شرعاً فيما قال. ولو صار مكذباً من جهة نفسه بأن قال: أوهمت لم يفرق بينهما، فكذا إذا صار

الفصل الرابع عشر في بيان ما يجوز من الأنكحة وما لا يجوز

مكذباً شرعاً. ولو قال: هي ابنتي وليس لها نسب معروف ومثلها يولد لمثله، وثبت على ذلك يفرق بينهما، فبعد ذلك إن صدقته المرأة أنها ابنته ثبت النسب وما لا فلا، وإن كان مثلها لا يولد لمثله لا يثبت النسب منه ولا يفرق بينهما؛ لأنه ثبت كذب إقراره حقيقةً، والله أعلم. الفصل الرابع عشر في بيان ما يجوز من الأنكحة وما لا يجوز قال أصحابنا رحمهم الله: لا يجوز للرجل أن يتزوج بأم امرأته دخل بها أو لم يدخل بها، وهذا لقوله تعالى: {وَأُمَّهَتُ نِسَآئِكُمْ} (النساء: 23) حرم أمهات النساء مطلقاً، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنه أم المرأة.... في القرآن أي: مطلقة. ولا يجوز أن يتزوج بابنة امرأته إن كان قد دخل بها، وإن لم يدخل بها فلا بأس لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّتِى فِى حُجُورِكُمْ مّن نِّسَآئِكُمُ اللَّتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} (النساء: 23) . وإذا جمع بين امرأتين في النكاح فالأصل في جنس هذه المسائل: أن كل امرأتين لو صورنا إحداهما من هذا الجانب أو من ذلك الجانب ذكراً لم يجز النكاح بينهما، برضاع أو نسب لم يجز الجمع بينهما، ولو جاز لواحد منهما أن يتزوج بالأخرى، والجمع جائز كالجمع بين المرأة وابنة زوج كان لها من قبل، وإن كانت ابنة الزوج لو كان ذكراً لا يجوز النكاح بينهما، إلا أن امرأة الأب لو كانت ذكراً يجوز النكاح بينهما، وهذا لأن الأصل في هذا الباب ذواتي رَحِمٍ محّرم، وهناك الحرمة بائنة من الجانبين، لو صورنا إحداهما رجل أي جانب كان، وكل امرأتين هما في معناهما، ثبت هذا الحكم في حقهما وما لا فلا. وكما لا يجوز للزوج أن يتزوج بأخت امرأته في عدة امرأته فكذا لا يجوز له أن يتزوج أحداً من ذوات محارمها في عدتهما؛ لأنهما في معنى الأجنبي في حرمة الجمع بينهما، فلا يجوز له أن يتزوج أمّه على الحرمة؛ الحرّ والعبد في ذلك سواء عندنا، بعموم قوله عليه السلام «لا تنكح الأمة على الحرة» . ولو جمعهما في عقد صحّ نكاح الحرة وبطل نكاح الأمة؛ لأن الأمة ليست بمحلٍ حالة الضم إلى الحرة، وهذا لما عرف أن الرق في جانب النساء منقصٌ للحل كما في جانب الرجال، غير أن في جانب النساء لا يمكن إظهار النقصان في حق العدد، فأظهر بالنقصان في حق الأحوال، فجعلناها من المحللات قبل الحرة، ومن المحرمات بعد

الحرة ومع الحرة، وهذا إذا كان يصح نكاح الحرة وحدها. وأما إذا كانت الحرة لا يصح (نكاحها) وحدها فضمهما إلى الأمة لا يوجب بطلان نكاح الأمة، كما لو جمع بين حرة وأمة وللحرة زوج، فإنه لا يبطل نكاح الأمة. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : أختان قالت كل واحدة منهما لرجل واحد قد زوجت نفسي منك بكذا، وخرج الكلامان معاً، فقبل الزوج نكاح إحداهما فهو جائز، لأن كلامهما منفصل في الأصل فلم يتحقق الجمع لا في حق الحكم ولا في حق النسب. وفيه أيضاً: رجل له بنت كبيرة وأمة كبيرة فقال الرجل: قد زوجتهما كل واحدة منهما بكذا، فقبل الزوج نكاح الأمة كان باطلاً؛ لأن الموجب جمع بين والأمة والحرة في الإيجاب، وذلك يوجب بطلان نكاح الأمة، لكون نكاح الأمة دافعاً نكاح الحرة فإن قبل بعد ذلك نكاح الحرة جاز؛ لأن نكاحها توقف على قبوله ولم يرتد بقبول نكاح الأمة؛ لأن الإيجاب في حق الأمة باطل. وفيه أيضاً: رجل وكّل رجلاً أن يزوجه امرأة، ووكّل رجلاً آخر يمثل ذلك، فزوجه كل واحد منهما امرأة بغير أمرها، وهما أختان من الرضاعة، وخرج الكلامان معاً فهما باطلان، وكذلك لو كان أحد النكاحين برضا المرأة أو كان كلاهما برضاهما لما ذكرنا. وقال أبو حنيفة رحمة الله: عليه لا يتزوج الأمة في عدة الحرة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يتزوج في عدة المبتوتة. هما يقولان: المحرم إدخال الأمة في نكاح الحرة لا الجمع، بدليل أن نكاح الأمة إذا كان سابقاً يجوز، ولا يتحقق الإدخال إذا كانت الحرة مبتوتة. وأبو حنيفة يقول: بأن العدّة حق من حقوق النكاح ... من ... فيتحقق الإدخال (202ب1) . على الحرة من وجه، فيعتبر بالإدخال من كل وجه احتياطاً لأمر الحرمة. ولو تزوج أمة وحرّة والحرة في عدة من نكاح فاسد أو عن وطىء بشبهة ذكر الحسن أنه على هذا الخلاف وغيره. قال: يجوز نكاح الأمة هنا بالاتفاق، ويجوز له أن يتزوج أخت أمته التي وطئها، وأخت أم ولده، ولكن لا يطأ الزوجة حتى تحرم الأمة وأم الولد على نفسه، بنكاح أو ببيع الأمة، فلا يجوز له أن يتزوج أخت أم ولده في عدة أم الولد، بأن أعتق أم الولد ثم أراد أن يتزوج بأختها في عدتها فإنه لا يجوز، ويجوز له أن يتزوج أربعاً، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يجوز نكاح الأخت والأربع؛ لأن العدة أثر ذلك الفراش، وذلك الفراش لم يكن مانعاً نكاح الأخت ولا نكاح الأربع فكذا أثره. وأبو حنيفة رحمه الله يقول في الفرق: أن المقصود من النكاح الوطىء، وهذا الرجل باختيار عدة أم الولد غير ممنوع عن وطىء الأربع بالنكاح؛ بأن يعتقها وتحته أربع

نسوة، فإن له أن يظاهر، فكذا لا يكون ممنوعاً من العقد على الأربع، وهو باعتبار عدتها ممنوع عن وطىء أختها بالنكاح، فيكون ممنوعاً من العقد عليها أيضاً، بمنزلة العدة من النكاح. وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: يجوز أن يتزوج امرأة حاملاً من الزنا، ولا يطأها حتى تضع، وقال أبو يوسف وزفر رحمهما الله: لا يصح النكاح، والفتوى على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ وهذا لأن المنع من النكاح إذا كان الحمل من النكاح لأجل الحق المحترم لصاحب.... يدخل على فراشه غيره، وأما فيما يرجع إلى الحمل بنفسه فأثره في حق المنع من الوطىء؛ كيلا يصير ساقياً زرع غيره بمائة. وفي «مجموع النوازل» : إذا تزوج امرأة قد زنى هو بها وظهر بها، حبل فالنكاح جائز عندالكل، وله أن يطأها عند الكل، ويستحق النفقة عند الكل. في «المنتقى» : قال هشام سألت محمداً رحمه الله: رجل تزوج امرأة لم يكن لها زوج قبل ذلك وزنى بها فجاءت بولد لأم لأقل من ستة أشهر من يوم تزوجها، قال: النكاح فاسد في قولي وقول أبي يوسف رحمه الله؛ لأنه تزوجها وهي حامل، وإن جاءت بسقط استبان خلقه أو بعض خلقه لأربعة أشهر منذ تزوجها أو أكثر، النكاح جائز، وإن جاءت به لأقل من ذلك فالنكاح فاسد، قال: لأنه بلغنا أنه يكون نطفة أربعين يوماً ثم علقة أربعين يوماً ثم مضغة أربعين يوماً، فإذا أسقطت لأربعة أشهر منذ تزوجها أو أكثر من ذلك فهو ابن الزوج والنكاح جائز، قال محمد رحمه الله: والأربعة الأشهر وجبت عندي في السقط الذي استبان خلقه مثل الستة الأشهر في الولد التام.e قال: ولا نحفظ عن أبي حنيفة رحمه الله في السقط؛ الذي استبان (من) خلقه شيئاً. قال محمد رحمه الله: وإن نقص عدد الأربعة الأشهر من عشرين ومائة يعني في السقط لم أنظر فيه إلى الشهور يعني إلى الأهلّة، وإنما أنظر فيه على عدد الأيام على ما جاء في الحرمة والوقت فيه تمام مائة وعشرين يوماً، وأما الولد التام فعلى عدد الشهور. فإن تزوجها على رأس عشرة أيام من شهر عددت لها عشرين يوماً من هذا الشهر. وخمسة أشهر بالأهلة، وعشرة أيام من الشهر السادس. وقال أبو حنيفة رحمه الله في الحربية إذا هاجرت إلى دار الإسلام مسلمة جاز تزوجها ولا عدة عليها. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: عليها العدة لأن البنيونة إنما وقعت بعد دخول دار الإسلام فيلزمها حكم الإسلام، ولأبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى في آية المهاجرات: {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (الممتحنة: 10) ومتى حكمنا بوجوب العدة كان حكماً ببقاء العصمة. والفقه فيه: أن العدة أثر النكاح. حكم الشرع به: إظهار الخطر، وهذا المعنى لا يمكن تحقيقه في نكاح الحربي الذي لا خطر لملكه، ألا ترى أنها لو سُبيت لا تجب العدة، حتى يحل للثاني وطئها بعد الاستبراء، فإن كانت حاملاً، فعن أبي حنيفة رحمه

الله فيه روايتان، روى أبو يوسف عنه: أنه يجوز النكاح فلا يطأها حتى تضع، وهو اختيار الكرخي رحمه الله، وروى محمد رحمه الله عنه: أنه لا يتزوجها؛ لأن النسب ثابت وظهر الفراش في حق النسب، فكذا في حق المنع عن النكاح. ولا يجوز وطىء كافرة بنكاح ولا ملك يمين، إلا الكتابيات، فنكاح غير الكتابية لا يجوز للمسلم بحال، ونكاح الكتابية يجوز للمسلم سواء كانت حربية أو غير حربية، غير أنها إذا كانت حربية وتزوجها المسلم في دار الإسلام جاز نكاحها من غير كراهة، وإن تزوجها في دار الحرب يجوز نكاحها ويكره هذا، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» واختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: إنما يكره إذا كان من قصده، وقال بعضهم: إنما يكره إذا كان من قصده أن يطأها ثمة كما قال محمد رحمه الله المغازي: إذا دخل دار الحرب بأمته يكره أن يطأها ثمة، وقال بعضهم: إنما يكره إذا كان من قصده أن يستولدها ثمة. والمرتدة لا يجوز نكاحها على أحد، وكذا المرتد لا يجوز نكاحه مع أحد. وإذا تزوج الرجل بجارية من اكتساب مكاتبه لا يجوز. ولو تزوج بجارية ثم استبرأه المكاتب لا يفسد النكاح، وكذا المكاتب إذا تزوج بجارية من اكتسابه لا يجوز. ولو تزوج بجارية ثم اشتراها بنفسه لا يفسد النكاح. والفرق: أن الثابت للمولى في اكتساب المكاتب حق الملك لا حقيقة الملك، وحق الملك يمنع ابتداء النكاح ولا يمنع بقاؤه؛ لأن حق الملك ليس إلا الملك الثابت من وجه دون وجه، فاعتبار شبه الوجود إن كان يبقى النكاح، فاعتبار شبه العدم لا يبقى، فلا يجوز نكاح لم يكن بالشك، ولا يبطل نكاح قد كان بالشك. وإذا زوج الرجل ابنته وهي بالغة برضاها من مكاتبه أو من عبده يجوز، وقد مرّ هذا فيما تقدم. وإن مات المولى ولم يدع مالاً آخر سوى هذا المكاتب وترك ابنته هذه وعصبته لا يفسد النكاح؛ لأن المرأة لا تملك شيئاً من رقبة زوجها، ولو فسد النكاح في هذه الصورة لفسد من هذا الوجه. بيانه: أن المكاتب لا يملك بسائر أسباب الملك حقاً للمكاتب، فلا يملك بالإرث أيضاً، فإن طلقها المكاتب فإن كان الطلاق رجعياً كان له أن يراجعها، وإن كان الطلاق بائناً ليس له أن يتزوجها، وهذا لأنه ثبت للمرأة في رقبة المكاتب حق الملك، ولهذا لا يملك المكاتب التزوج إلا برضاها، والطلاق البائن يزيل النكاح، فهذا حال ابتداء النكاح، وحق الملك يمنع ابتداء النكاح، وأما الطلاق الرجعي لا يزيل ملك النكاح، والرجعة في حكم استدامة الملك، وحق الملك لا ينافي استدامة ملك النكاح. ولو لم يكن شيء من ذلك، ولكن مات المكاتب بعد موت المولى وترك ثلاثة آلاف درهم ومهرها على المكاتب ألف درهم، وبدل الكتابة ألف درهم ابتداء (203أ1) بالمهر ثم يستوفي بدل الكتابة ويحكم بعتقه في آخر جزء من أجزاء حياته، فيكون ذلك ميراثاً عن مولى المكاتب، النصف للبنت والنصف للعصبة.

الفصل الخامس عشر: في الأنكحة التي لا تتوقف على الإجازة

بقي هنا ألف آخر يكون ميراثاً عن المكاتب لورثته فيكون المثبت الرابع بحكم الزوجية والباقي للعصبة، وإن لم تكن الابنة في نكاح فلا شيء لها من هذه الألف وهي لعصبة المولى، وعليها عدة الوفاة ولو لم ... المكاتب، ولكن عجز فسد النكاح؛ لأنها ملكت نصف رقبة زوجها. بيانه: أن بالعجز ينفسخ عقد الكتابة وهو المانع من الإرث، وسقط كل الصداق وإن لم يدخل بها لوقوع الفرقة بمعنى من قبلها وهو يملكها شيئاً من رقبة زوجها قبل الدخول بها والله أعلم. الفصل الخامس عشر: في الأنكحة التي لا تتوقف على الإجازة والتي تتوقف على الإجازة ثم تنفذ بدون الإجازة وما يحتاج فيه إلى الإجازة. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : عبد أو مكاتب تزوج امرأة بغير إذن المولى يوقف ذلك؛ لأن له مجيز حال وقوعه وهو المولى، فإن عتق قبل إجازة المولى ينفذ ذلك العقد عليه من غير إجازة. والصبي إذا تزوج امرأة ثم بلغ إن أجاز ذلك العقد نفذ عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وإن لم يجز لا يجوز. والفرق: أن امتناع النفاذ في حق العبد والمكاتب مع كمال أهليتهما لحقّ المولى، وحق المولى قد زال بالعتق. وأما امتناع النفاذ في حق الصبي لقصور أهليته فلا بُدّ من الخبر........ الولي (أو) القاضي أو إجازته بعد البلوغ، فلا ينفد إلا بإجازة الولي والقاضي قبل البلوغ أوإجازته بعد لبلوغ. مكاتب زوج عبده امرأة لم يجز ولم يتوقف؛ لأنه لا مجيز له حال وقوعه. أما المكاتب لأن تزويج العبد ليس بتجارة ولا كسب، بل هو تغييب وتنقيص للمالية، والداخل تحت ولاية المكاتب التجارة والكسب. وأما المولى؛ فلأنه اغتنى عن اكتساب مكاتبه. ولو وكَّل المكاتب بذلك وكيلاً كان التوكيل باطلاً؛ لأن المكاتب لا يملك المباشرة بنفسه فلا يملك التعويض إلى غيره، فلو زوجه الوكيل قبل عتق المكاتب لم يجز ولم يتوقف، ولو زوجه بعد عتق المكاتب يوقف على إجازته؛ لأن الوكالة لما بطلت كان هذا فضولياً، زوج عبد الغير وذلك الغير من أهل الإجازة وقت المباشرة فيتوقف على إجازته، ولو تزوج عبد المكاتب بنفسه بغير أم المكاتب لم يتوقف حتى لو عتق المكاتب وأجاز ذلك لا يجوز لأنه لا مجيز له. ولو تزوج بعدما عتق المكاتب جاز. وإذا وكّل الصبي رجلاً أن يزوجه امرأة فزوجه الوكيل قبل البلوغ؛ يتوقف على

إجازة الولي أو القاضي قبل البلوغ أو إجازته بعد البلوغ. وإن زوّجَهُ الوكيل امرأة بعد البلوغ يتوقف النكاح على الإجازة أيضاً، ولكن على إجازة الصبي لا غير، وهذا لأن الوكالة حصلت عن رأي.... فلا تكون لازمة، فصار الوكيل كالفضولي فيتوقف نفاد تصرفه على الإجازة. قال في «الجامع» عبد زوجه رجل امرأتين في عقد بغير إذنه وإذن مولاه، ثم زوجه أيضاً امرأتين في عقد كذلك، ولم يبلغه حتى عتق، فأي العقدين أجازه نفذ. وكذلك لو أجاز إحدى الأوليين ونكاح إحدى الأخريين جاز أيضاً، وهذا لأن نكاح كل واحدة وقع موقوفاً، ألا ترى أن المولى لو أجاز نكاح واحدة منهن قبل العتق جاز، وكذلك إذا أجاز العبد، إلا أن إجازة العبد كانت لا تعمل قبل العتق بحق المولى، وحق المولى قد أسقط بالاعتبار، ولو أجاز نكاحهن جملة بطل الكل؛ لأن العقد ينفد، إلا موقوفاً على إجازة اثنين، فلا يصح إجازة الكل ويصير بإجازة الكل معرضاً عن العقد فيبطل العقدان لعدم الفائدة في اتفاقهما. ولو أجاز نكاح الثلاث منهن بأعيانهن بطل نكاحهن، وإن أجاز نكاح الواحدة الباقية بعد ذلك صح لأن عقدها بقي موقوفاً فلا يكون إجازة نكاح الثلاث فسخاً لنكاحها؛ لأن الإجازة إنما تعمل في إبطال النكاح الموقوف بعد صحة الإجازة، وإجازة الثلاث لم تصح فبقي نكاح الرابعة موقوفاً على الإجازة فتنفذ بالإجازة. وفيه أيضاً: حرُّ تحته امرأة زوجه رجل أربع نسوة بعقد بغير أمره، فبلغه الخبر فأجاز نكاح بعضهن لم يجز؛ لأن أصل الخطاب وقع فاسداً، أو زوجه أربع نسوة في عقود متفرقة فأجاز نكاح بعضهن جاز لأن هناك الخطاب ما وقع فاسداً، وإن أجاز نكاحهن في هذه الصورة لم يجز وبطل نكاح الكل، حتى لو أجاز بعد ذلك نكاح بعضهن لا يجوز، ولو بانت امرأته قبل الإجازة في العقد الواحد وفي العقود المتفرقة، ثم أجاز نكاح الكل لم يجز. أما في العقد الواحد فظاهر، وأما في العقود المتفرقة؛ فلأن الموقوف على الإجازة نكاح الثلاثة لا غير. وفي نكاح «الأصل» رجل تزوج أمة بغير إذن المولى، ثم تزوج حرّة ثم أجاز مولى الأمة نكاحها لم يجز؛ لأن الإجازة لاقت عقداً مفسوخاً؛ لأن نكاح الأمة واقع بعد نكاح الحرة باعتبار النظر إلى ما هو المقصود من العقد وهو الملك والمحل، فانفسخ بنكاح الحرة، أو لأنه أعترض بعد عقد الأمة قبل الإجازة ما يمنع ابتداء عقد الأمة، فمنع الإجازة أيضاً، ألا ترى أنه لو تزوج امرأة نكاحها موقوفاً ثم تزوج أختها، ثم إن الأولى أجازت لم يجز، أرأيت إذا تزوج أم هذه الأمة أو ابنتها، وهي حرة قبل إجازة مولاها، ثم أجاز مولاها أكان يجوز؟ لا شك أنه لا يجوز. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: عبد تزوج أمة ثم تزوج حرة ثم

تزوج أمة ثم أجاز المولى، نكاحهن جاز نكاح الأمة الآخرة، ولو كان دخل بكل واحدة منهن لم يجز نكاح شيء منهن. وفي «نوادر ابن رستم» عن محمد رحمه الله: عبد تزوج أمة ثم حرة بغير إذن المولى، فبلغ المولى فأجاز النكاحين، فنكاح الحرة جائز ونكاح الأمة باطل. ولو كان تزوج حرة ثم أمة بغير إذن المولى، فأجاز المولى، فنكاح الحرة جائز ونكاح الأمة باطل في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: نكاح الأمة جائز ونكاح الحرة باطل؛ لأن محمداً رحمه الله يقول: نكاح الأمة في عدة الحرة جائز. ومما يتصل بهذا الفصل: انتقال الإجازة إلى غير من توقف العقد عليه. يجب أن يعلم أن العقد قد يتوقف على إجازة الغير ثم تنتقل الإجازة إلى غيره وتصح بإجازته وقد لا يصح انتقال الإجازة إلى غيره. بيان الأول: إذا زوج رجل ابنة أخيه من ابنه وهما صغيران.... أخيه، إن مات الأب قبل إجازة النكاح وأجاز العم هذا النكاح قبل بلوغها صحت الإجازة ونفد النكاح، وكذلك إذا زوج الرجل ابنه البالغ بغير إذن الابن فلم يبلغه حتى صار معتوهاً فأجاز الأب ذلك النكاح جاز، وكذلك العبد إذا تزوج بغير إذن المولى ثم خرج عن ملكه إلى ملك غيره فأجاز الثاني النكاح صحت إجازته ونفذ العقد. وكذلك به: أمة زوجت نفسها بغير إذن المولى، ثم خرجت عن ملكه إلى ملك غير البيع أو بالهبة أو بالإرث، فإن لم يحل فزوجها للمالك الثاني بأن ورثها جماعة أو ... أبيه وكان الميت قد وطئها أو باعها أو وهبها (203ب1) . من جماعة أو من أبيه وكان الأب قد وطئها فللوارث الإجازة. وبيان الثاني: إذا كانت الجارية تحل للثاني في هذه الصورة بأن وهبها من أجنبي، أو باعها من أجنبي، أو وهبها من أجنبي، أو من أبيه ولم يكن الأب قد وطئها، أو ورثها ابنه ولم يكن الأب وطئها، فإنه لا تصح الإجازة من الثاني، ولا يصح النكاح بإجازة الثاني. والأصل في جنس هذه المسائل: أن الإجازة إنما لا يصح انتقالها إلى غير من توقف العقد عليه؛ إذا ثبت الحل لذلك الغير، وهو يعني ما نقل عن مشايخنا: أن الحل الثابت إذا طرأ على الحل الموقوف أبطله، أما إذا لم يثبت الحل لذلك الغير صح الانتقال إلى غير من وقع عليه، وعن هذا قلنا: إن الجارية إذا زوجت نفسها بغير إذن المولى، ووطئها الزوج ثم باعها الولي من رجل صحّت الإجازة من الثاني؛ لأن وطىء الزوج يمنع ثبوت الحل للمشتري فلم يرتفع الحل الموقوف والله أعلم.

الفصل السادس عشر في المهور

الفصل السادس عشر في المهور وهذا الفصل يشتمل على أنواع، منه في بيان ما يصح مهراً، وفي بيان مقداره وكميتّه. قال الكرخي رحمه الله في كتابه: المهر لا يكون إلا ما هو مال أو ما هو يوجب تسليم المال، فإن سمى في العقد مالاً كان المملوك في العقد مضموماً بالمسمى، وإن لم يسمّ كان مضموماً مهر المثل حتى لو مات عنها قبل الدخول بها وجب مهر المثل عندنا، بناء على أن النكاح لم يشرع إلا معاوضة البيع بالمال عندنا. والأصل فيه قوله (تعالى) : {تَبْتَغُواْ بِأَمْولِكُمْ} (النساء: 24) أحلّ ما وراء المحرمات بشرط الابتغاء بالمال، فإذا سمى في العقد ما هو مَعْدوم في الحال بأن تزوجها على ما تثمر أو على ما تخرج أرضه العام، أو على ما يكتسب غلامه العام لا تصح التسمية وكان لها مهر المثل؛ لأن المعدوم لا يوصف بالمالية، ولا يصح ذكره مهراً، وكذا إذا سمى ما ليس بمال للحال من كل وجه بأن تزوجها على ما في بطون غنمها، وعلى ما في بطن جاريته لا تصح التسمية، وكان لها مهر المثل، وكذا لو تزوجها على طلاق امرأة أخرى، أو عفو عن قصاص فلها مهر مثلها؛ لأن المسمى ليس بمال. وإذا تزوجها على أن لا مهر لها صح النكاح ووجب لها مهر المثل. والنساء التي يعتبر مهرها بمهور من قوم أتها أخواتها لأبيها وأمها، أو لأبيها وعماتها وبنات عماتها، ولا يعتبر مهرها بمهر أمها وقوم أمها، إلا أن تكون أمها من قوم أبيها بأن كانت ابنة عم أبيها فحينئذ يعتبر مهرها؛ لا لأنها أمها؛ بل لأنها ابنت عم أبيها، وإنما يعتبر من.... من هي مثلها في الحسن والجمال والسّن والمال والبكارة، وكذلك يعتبر أن تكون تلك المرأة من بلدتها؛ لأن المهر يختلف باختلاف البلدان. ومن المشايخ من قال: لا يعتبر الجمال في المرأة إذا كانت من أهل بيت الحسب والشرف والنسب. فإن لم توجد من قوم أبيها امرأة بهذه الصفة؛ ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في أول باب المهر أنه يعتبر مهرها بمهر مثلها من الأجانب في بلدها ولا تعتبر بمهر مثلها من قوم أمها. وذكر هو أيضاً في مسألة اختلاف الزوجين في هذا الباب: أن على قول أبي حنيفة رحمه الله تقدير مهرها بأقرانها من الأجانب، فكان المذكور في أول باب قولهما، وإذا تزوجها ولم يُسمِّ لها مهراً ثم سمى لها مهراً، أو فرض لها مهراً، أو رافعته إلى القاضي ففرض لها مهراً جاز ويكون ذلك تقديراً لمهر المثل. وفي «الفتاوى» : سئل أبو القاسم عن امرأة زوجت نفسها بغير مهر، وليس لها مثل في قبيلة أبيها في المال والجمال؛ قال: ننظر إلى قبيلة أخرى مثل قبيلة أبيها فيقضي لها

مهر مثلها من نساء تلك القبيلة، وإنما يعتبر حالها في السن والجمال حالة التزوج. وفي المهر حقوق ثلاثة: حق الشرع: وهو أن لا يكون حق من عمر. وحق الأولياء: وهو أن لا يكون أول من مهر مثلها. وحق المرأة: وهو كونه ملكاً لها، غير أن حق الشرع وحق الأولياء يعتبر وقت العقد لا في حالة البقاء، حتى لو زوجت نفسها من رجل بعشرة ثم أراد أنه عن كلها أو عن بعضها جاز، وكذلك إذا زوجت نفسها من رجل بمقدار مهر مثلها، ثم أراد أنه عن كلها أو بعضها، لا يكون للأولياء حق الاعتراض. وعن هذا قلنا: إذا تزوجها على ثوب قيمته ثمانية فلم يقبضه حتى صارت قيمته عشرة فلها الثوب ودرهمان. ولو كانت قيمة الثوب عشرة فلم يقبضه حتى صارت قيمته ثمانية فلها الثوب لا غير؛ لأن في الوجه الثاني حق الشرع صار.... إذ قيمة الثوب وقت العقد كانت عشرة، فالانتقاص بعد ذلك لا يصير بخلاف الوجه الأول؛ لأن حق الشرع لم يصر.... لأن قيمة الثوب يوم العقد ثمانية. وقد ذكرنا أن حق الشرع إنما تداعى وقت العقد، فروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أن في الثوب وما ليس من ذوات الأمثال تعتبر القيمة يوم التسليم، وفي المكيل والموزون تعتبر القيمة يوم العقد، وهذه الرواية إنما يتضح وجهها؛ إذا لم يكن الثوب معيباً في العقد، ووجه ذلك: أن القيمة أصل في التسليم ألا ترى أنه لو أجبرت على القبول، فتعتبر القيمة يوم التسليم، وأما المكيل والموزون فقد استحكم الوجوب في الذمة، وذكرها الدراهم سواء، فتعتبر القيمة يوم الوجوب. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: إذ تزوج امرأة على قطعة فضة.... عشرة ولا تساوي عشرة مضروبة، جاز ولا يلزمه فضل ما بينهما. ولو شرط تعليم القرآن مهراً لا يصح؛ لأنه ليس بمال. ولو تزوجها على أن يخدمها سنة لم يجز. ولو تزوجها على أن يرعى غنمها سنة لم يجز على رواية الأصل. وروى ابن سماعة أنه يجوز في الرعي، وقد اختلف أصحابنا رحمهم الله في هذا؛ فمنهم من يقول: بأن المنفعة صلحت مهراً؛ لأنها متقومة بالعقد، إلا أن الزوج يمنع عن الخدمة لما فيه من الاستهانه ولا استهانة في رعي الغنم فيجوز شرطه. ومنهم من قال بأن منفعة الحر لا تصلح مهراً، وعلى هذا الأصل قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: إذا تزوجها على خدمته سنة فلها مهر المثل. وقال محمد رحمه الله: لها قيمة خدمته، فمحمد رحمه الله يقول: بأنّ المنفعة تصلح عوضاً في سائر العقود فتصلح عوضاً في باب النكاح أيضاً، لا أنه منع من التسليم شرعاً لما فيه من الاستهانة به مع صلاحيته مهراً فيصار إلى قيمته، كما لو تزوجها على عبد الغير ولم يجز ذلك

الغير...... بأن المنافع في الأصل ليست.... ولهذا لا يضمن بالغصب، وإنما يظهر لها حكم المالية والتقويم شرعاً بالعقد ضرورة الحاجة إليها، فإذا تمّ يجب التسليم بالعقد ... لا تندفع له الحاجة فبقي حكم الأصل، فلم تظهر المالية والتقويم فيجب مهر المثل. وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: إذا تزوجها على خدمت نفسه يجوز، ولو تزوجها على خدمة عبده سنة جاز بلا خلاف (204أ1) . وإذا تزوجها على هذا العبد وهو ملك الغير، أو على هذه الدار (التي) هي ملك الغير، فالنكاح جائز والتسمية صحيحة، فتسمية مال الغير صداقاً صحيح؛ لأن المسمى مال معدوم، فبعد ذلك ينظر؛ إن أجاز صاحب الدار فصاحب العبد ذلك فلها غير المسمى، وصار الجواب في النكاح مع ... المستحق التسمية نظير الجواب في البيع. وإن.... المستحق لا يبطل النكاح ولا التسمية، حتى لا يجب مهر المثل، وإنما تجب قيمة المسمى بخلاف البيع، فإن في باب البيع متى لم يجز المستحق التسمية ينفسخ البيع من كل وجه حتى لا تجب قيمة المسمى. وفي «المنتقى» ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: رجل تزوج امرأة على عبد لها فلها مهر مثلها، ولم يجعل هذا بمنزلة من تزوج امرأة على عبد غيره؛ لأن الذي له العبد لو أجاز كان جائزاً وليس كذلك المرأة. وفيه أيضاً: إذا تزوج امرأة على عبد ورفعه إليها ووهبته للزوج، ثم استحق فالمرأة ترجع على الزوج بقيمة العبد. وفي «الأصل» : إذا تزوجها على شيء بعينه، وهلك قبل التسليم أو استحق؛ فإن كان ذلك من ذوات الأمثال رجعت على الزوج بالمثل وإلا بالقيمة، وإذا تزوجها على ألف درهم على أن ترُدّ ألفاً عليه فلها مهر المثل لأن الألف المشروط بمقابلة الألف المسمى حتى لا تؤدي إلى..... فيبقى النكاح بلا تسمية، حتى تزوجها على ألف درهم على أن تردّ عليه مائة دينار بقيمة الألف على المائة دينار وعلى مهر مثلها؛ فما أصاب الدنانير كان صرفاً يشترط فيه التقابض في المجلس، وما يخص مهر المثل يكون صداقاً وكذلك إذا تزوجها على ألف درهم على أن ردت عليه عبداً بعينه فهو جائز، وتقسم الألف على قيمة العبد ومهر مثلها، فما أصاب قيمة العبد يكون شراءً........ العبد قبل التسليم أو وجد الزوج به عيباً بطل ذلك القدر، وما أصاب مهر مثلها فهو صداقها. نوع منه: فيما إذا سمى لهامالاً وضمّ إليه ما ليس بمال وفي «الأصل» : إذا تزوجها على ألف وعلى أرطال معلومة من خمر فليس لها الألف؛ لأن ذكر الخمر جعل كالعدم، فكأنه تزوجها على ألف، ولو تزوجها

على......... وأرطال من خمر معلومة؛ بأن تزوجها قبلاً على خمسة أو ستة وأرطال معلومة من خمر فلها تمام عشرة دراهم؛ لأن ذكر الخمر يعد كالعدم فكأنه تزوجها على خمسة. ولو تزوجها على هذا الدّن من الخمر وقيمة الطرف عشرة؛ فعن محمد رحمه الله في ذلك روايتان: إحداهما أنه يجب لها الدّن لا غير لأنه جمع بينهما.d ... يصلح مهراً وبينهما لا يصلح مهراً فهو كما لو جمع بين الخل والخمر على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله. وفي رواية أخرى عنه: أنه يجب مهر المثل؛ لأن الطرف لا يقصد بالعقد وإنما يقصد ما فيه، وقد لغت تسمية ما في الطرف فبلغوا تسمية الطرف بطريق التبعية. فإذا تزوجها على ألف وعلى طلاق فلانة وقع الطلاق على فلانة؛ بنفس العقد، بخلاف ما إذا تزوجها على ألف وعلى أن يطلق فلانة؛ لأن في الفصل الأوّل أوجب الطلاق عوضاً بالعقد، والعوض ثبت بنفس العقد، وفي القصد ما أوجب الطلاق عوضاً، إنما شرط التطليق فلا يقع الطلاق ما لم تطلق. ثم إذا شرط التطليق ولم يطلق فلانة كان لها....... مهر مثلها؛ لأنها إنما رضيت بالنقصان عن مهر المثل ليحصل لها منفعة طلاق الضرة، فإذا لم يسلم لها ذلك كان لها تمام مهر مثلها كما لو تزوجها على ألف درهم وعلى كرامتها، أو تزوجها على ألف درهم وعلى أن هذي لها هدية فلم يف بالشرط والمعنى ما ذكرنا، وكذلك في كل شرط لها فيه منفعة، إذا لم يف الزوج بالشرط. ولو تزوجها على ألف درهم وعلى طلاق ضرتها فلانة على إن ردت عليه عبداً وقع الطلاق بنفس العقد، وانقسم الألف والطلاق على بعضها وعلى العبد، وهذا لأن الزوج بذل شيئاً: الألف والطلاق. والمرأة بذلت شيئين أيضاً: البضع والعبد فانقسم الطلاق والألف على البضع وقيمة العبد، فإذا كانت قيمة العبد وقيمة البضع سواء كان نصف الألف ونصف الطلاق عوضاً عن العبد، ونصف الألف ونصف الطلاق عن البضع صداقها، وانقسم البضع والعبد على الطلاق والألف أيضاً، وصار بمقابلة الطلاق نصف العبد ونصف البضع، ويكون طلاق فلانة في هذه الصورة بائناً؛ لأن بمقابلة الطلاق نصف العبد ونصف البضع فيكون طلاقاً يحصل. ثم إنما جعلنا نصف العبد ونصف البضع بمقابلة الطلاق؛ لأن المجهول إذا لم يضم إلى المعلوم فالانقسام باعتبار الذات دون القيمة، وجعل الطلاق الذي ليس بمتقوم ولا مقدر متقوماً ومقدراً بانضمام ما هو متقوم ومقدر إليه. فإن استحق العبد أو هلك قبل التسليم رجع بخمس مائة حصة العبد، ورجع بنصف قيمة العبد أيضاً؛ لأن نصف العبد بمقابلة نصف الطلاق. واستحقاق الجعل وهلاكه قبل التسليم يوجب قيمته على من كان...... تسليمه. وإن كان تزوجها على ألف وعلى أن يطلق ضرتها فلانة على إن ردت عليه

عبداً.... لا يقع الطلاق على الضرّة ما لم يطلقها فصار نصف الألف صداقاً لها، والنصف ثمن العبد إذا كان قيمة البضع، وقيمة العبد على السواء، فبعد ذلك ينظر؛ إن وفّى لها بالشرط بأن يطلق فلانة فلها الخمسمائة لا غير، فإن لم يطلق فلانة فلها تمام مهر مثلها لأنها، إنما نقصت عن مهر المثل رغبة في طلاق ضرتها.... عدم حصول المرغوب كان لها تمام مهر مثلها والله أعلم. نوع منه: في المهر يدخل الجهالة الأصل: أن جهالة المسمى إذا كانت جهالة جنس تمنع صحة التمسية ويجب مهر المثل. وإن كانت جهالة وصف لا يمنع صحة التسمية وللمرأة الوسط من ذلك. بيان الأول: إذا تزوج امرأة على دابة أو ثوب فلها مهر مثلها بالغاً ما بلغ. وكذلك إذا تزوجها على دار، لأن المسمى مجهول الجنس.... أجناس مختلفة، لاختلاف أصولها من القطن والكتاب والإبريسم والخز. وكذلك الدابة؛ لأن اسم الدابة يقع على الخيل والبغال والحمير، وأنها أجناس، وكذلك الدار؛ لأنها في معنى الأجناس المختلفة، فإنها تختلف باختلاف البلدان والمحالّ، وباختلاف الضيق والسعة وكثرة المرافق وقلتها. بيان الثاني: إذا تزوج امرأة على عبد أو ثوب هروي ولم يصف، فالتسمية صحيحة ولها الوسط من ذلك نظراً للجانبين، والزوج بالخيار إن شاء أعطاها الوسط؛ وإن شاء أعطاها القيمة لأن الوسط لا يعرف إلا بالقيمة، فتسليم الغير تسليم ما هو المستحق بالعقد فصارت القيمة أصلاً في التسليم والسوط من.... في زماننا أدنى التركي وأرفع الهندي، وتعتبر قيمة الوسط في الوسط على قدر غلاء السعر والرخص عندهما وهو الصحيح، وهذا (204ب1) إذا ذكر العبد والثور مطلقاً غير مضاف إلى نفسه، أما إذا ذكره مضافاً إلى نفسه فإن قال: تزوجتك على عبدي، أو قال.... ليس له أن يعطي القيمة؛ لأن الإضافة من أسباب التعريف كالإشارة، ولو كان العبد والثوب مشار إليه في العقد ليس له أن يعطيها القيمة فكذا هنا، والمسألة مذكورة في «السير» في أبواب الإمام. ولو تزوجها على ثوب موصوف فكذلك الجواب في ظاهر الرواية للزوج الخيار إن شاء أعطاها غير الثوب، وإن شاء أعطاها القيمة، فروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجبر على تسليم عين الثوب، وهو قول زفر رحمه الله؛ لأن الثوب بذكر الصفة يلتحق بذوات الأمثال، ألا ترى أن يجوز السلم فيه، وعن أبي يوسف رحمه الله: إن ذكر الأجل مع ذلك يجبر على التسليم، وإن لم يذكر الأجل كان للزوج الخيار؛ لأنه إذا ذكر الأجل صار نظير السلم فيجبر على التسليم كما في السلم. وذكر «البقالي» : إن في الثياب الموصوفة روايتان.

ولو تزوجها على كر حنطة ولم يصف، فإن شاء أعطى كراً وسطاً، وإن شاء أعطى القيمة، فروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يجبر على تسليم الكر، وهو قول زفر رحمه الله بخلاف العبد على هذه الرواية، فإن هناك لا يجبر على تسليم العبد مع أن الواجب في الصورتين جميعاً الوسط؛ لأن العبد من ذوات الأمثال، فطريق معرفة الوسط فيه القيمة فكانت القيمة أصلاً في التسليم فلا كذلك الحنطة؛ لأنها من ذوات الأمثال، فيمكن معرفة الوسط منها بدون القيمة فلم تكن القيمة أصلاً في التسليم ثمة. والجواب في سائر المكيلات والموزونات نظير الجواب في الحنطة. وإذا تزوجها على شيء مما يكال أو يوزن فسمى منه كيلاً أو وزناً معلوماً من صنف معلوم فلما ما سمى من ذلك، وإن جاء بقيمته دراهم أو دنانير لم تجبر المرأة على القبول بخلاف الحيوان والثوب الهروي، هكذا ذكر الشيخ الإسلام رحمه الله في «النوادر» . إذا تزوجها على مكيل ووصفه بحيث يكفي مثله في السلم لا يجبر على قبول القيمة، وإن قصر في الوصف وترك شيئاً مما يشترط في السلم أجبرت على قبول القيمة، وهو قول زفر رحمه الله. ولو تزوجها على بيت فاسم البيت في عرفنا ينصرف إلى المبني من المدر، فإنه لا يصلح صداقاً إذا لم يكن تعينه. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: إذا تزوجها على ألف رطل خل فإن كان الغالب في ذلك البلد خل التمر فهو عليه، إن كان الغالب خل الخمر فهو عليه، وكذلك لو تزوجها على كذا رطل لبن فهو على الغالب من ذلك، فإن لم يكن واحد منهما غالباً فلما مهر المثل، لأن هذا من جنسين، ألا ترى أنه لو اشتراه على أنه خل خمر، فإذا هو خل تمر كان البيع فاسداً. ولو تزوجها على كر تمر فلها كر تمر وسط، قال: لأن هذا جنس واحد. وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله، قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا تزوج امرأة على ما له من الحق من هذه الدار، قال: أفرض لها مهر المثل لا أجاوزنه قيمة الدار، وفي قولنا: لها ما كان من الحق في الدار لا غير، إذا بلغ ذلك عشرة. وفي «المنتقى» : أيضاً عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا تزوجها بنصيبه من هذه الدار، فلها الخيار إن شاءت أخذت النصيب، وإن شاءت أخذت مهر المثل لا يجاوزنه قيمة الدار. وفيه أيضاً: إذا تزوجها على دراهم ولم يسم كم هي فلها مهر مثلها، قال: لا يشبه هذا الخلع، ولو قال: تزوجتك على ثوب يساوي خمسين درهماً فلها مهر المثل، وقال أبو حنيفة: إذا تزوجها على قيمة هذا الثوب فلها مهر المثل عن محمد رحمه الله: إذا تزوجها على ألف فهذا على أقربهما على مهر مثلها من الدراهم والدنانير، وإذا تزوجها على ألف دينار ولم يسم نيسابورياً أو تجارياً أو ملكنا فقد قيل: يجب مهر

المثل لأن اسم الدينار يقع على جميع هذه الأنواع، وكان المسمى مجهولاً، وقيل لها الوسط، وهو التجاري؛ لأن هذه جهالة نوع، فلا تمنع صحة التسمية وينصرف إلى الوسط، كما في العبد والثوب الهروي. وفي «الجامع الأصغر» : إذا تزوجها على دراهم وفي البلد نقود مختلفة ينصرف إلى الغالب، وإن لم يكن نظر إلى مهر مثلها وإلى تلك النقود ما بها وافق مهر المثل حكم لما به. وإذا تزوجها على ناقة من إبله هذه فلها مهر مثلها في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: يعطيها ما شاء من تلك الإبل. روى بشر في «نوادره» : وكذا لو تزوجها على ملأ هذا البيت أو هذا الجوالق أو هذا الرطل حنطة، فلها مهر المثل عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف رحمه الله لها المسمى فإن أو الجوالق صدق في مقداره. قال في «البقالي» : عقب ذكر مسألة ... وكذلك إذا تزوجها بوزن هذا الحجر، أو بقية هذا العبد، أو بجميع ما يملك أو على مهر فلانة ولو تزوجها على حكمها أو حكم أجنبي أو حكمه فالتسمية فاسدة، فبعد ذلك ينظر، إن شرط حكمه وحكم مهر المثل أو أكثر فلما ذلك، وإن حكم بالأول فلها مهر المثل إلا أن ترضى المرأة، وإن شرط حكمها وحكمت بمهر المثل، أو أقل فلها ذلك، وإن حكمت باأكثر فلها مهر المثل إلا أن يرضى الزوج. وإن شرط حكم أجنبي، فإن حكم بأقل من مهر المثل لم يجز إلا برضى المرأة، وإن حكم بأكثر من مهر المثل لم يجب إلا برضى الزوج، وإن حكم بمهر المثل جاز حكمه ولا يتوقف على الرضى والله أعلم. نوع منه في الرجل يتزوج امرأة على مهر فهو حد على خلاف ما سمى قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا تزوج امرأة على عبد معين، أو دن من خل معين، أو شاة ذكية معينة، فوجد العبد حراً أو الخل خمراً أو الشاة ميتة، فلها مهر المثل في جميع ذلك. وقال أبو يوسف رحمه الله: لها مهر مثل ذلك العبد عندنا ومثل ذلك الدن من خل وسط، ومثل تلك الشاة ذكية. وقال محمد رحمه الله: في الميتة كما قال أبو حنيفة. في الخمر الخمر كما قال أبو يوسف رحمه الله. هذه المسألة في الحاصل، بناء على أصل معروف في البيوع: أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعوا والمشار إليه من خلاف جنس المسمى، فالعبرة للتسمية. وإن كان

المشار إليه من جنس المسمى إلا أنهما يختلفان وصفاً فالعبرة للإشارة بعد هذا. قال أبو يوسف رحمه الله: الحر مع العبد والخل مع الخمر جنسان مختلفان؛ لأن أحدهما مال يصلح صداقاً، والآخر ليس بمال لا يصلح صداقاً، يتعلق الحكم بالتسمية والمسمى حال، فاعتبرت الإشارة لبيان وصف المسمى، كأنه قال: علي مثل هذا العبد في الوصف فكذا في الخل والشاة. محمد رحمه الله يقول: الخل من الخمر جنسان مختلفان؛ لأن المطلوب من كل واحد منهما غير المطلوب من الآخر، وأما الحر مع العبد جنس واحد؛ لأن منفعة الحر مع العبد تحصل على نمط واحد، فكانت العبرة للإشارة. والمشار إليه لا يصلح مهراً، فصار كأنه قال: تزوجتك على هذا، أو سكت. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: اختلاف الجنس باختلاف الصورة والمعنى؛ لأن قيام الشيىء (205أ1) بالصورة والمعنى، وصورة الخل والخمر تنفي معنى المجانسة من وجه، فلم يسقط حكم الإشارة فيجب مهر المثل. ولو سمى حراماً وأشار إلى حلال بأن قال: تزوجتك على هذا الخمر، وأشار إلى الخل. وتزوجتك على هذا الحر وأشار إلى العبد، فلها المشار إليه في ظاهر قول أبي حنيفة رحمه الله، وهو قول أبي يوسف رحمه الله اعتبار الإشارة. عن محمد عن أبي حنيفة رحمها الله: أن يجب مهر المثل لأنه.... التسمية مسقط حكم التسمية أصلاً، وعن محمد رحمه الله: أن لها المشار إليه، وفي رواية أخرى عنه أن لها مهر المثل. ولو جمع بين حر وعبد وخل وخمر فقد روي عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله: إن لها الحلال المشار إليه لا غير، إذا بلغ عشرة وإلا....، وفي رواية مهر المثل أخرى عنه إذا كان الحلال أقل من مهر المثل، فإنه يبلغ. وقال أبو يوسف رحمه الله: لها العبد، وقيمة الحر لو كان عبداً، وقال محمد رحمه الله: لها الحلال المسمى لا غير. في «نوادر ابن سماعة» : رجل تزوج امرأة على شيء، وأشار إلى شيء بعينه وسمى شيئاً سواه وكانا جميعاً حلال فلها مثل الذي سمى، وإن كان أحدهما حراماً، إما الذي سمى، وإما الذي أشار إليه فلها مهر المثل، قال: لا يشبه: إذا كانا حلالين، إذا كان أحدهما حراماً، معنى قوله في ابتداء المسألة: أشار إليه بعينه وسمى شيئاً سواه، وسمى نوعاً آخر. الحاصل: في النوعين يعتبر المسمى على ما ذكرنا فإذا كانا حلالين يجب مثل المسمى، وإذا كان أحدهما حراماً يجب مهر المثل. بيانه: إذا تزوجها على هذا الثوب الهروي، فذا هو مروي فلها ثوب هروي مثل جودة التي رأته، وكذلك إذا تزوجها على هذا الدن الخل، فإذا هو طلاء فلها خل مثل كيل الطلي.

وإن قال: على هذا الدن من الخمر فإذا هو خل فلها مهر المثلها، قال.... جعلنا على التسمية.... نوعان وهما إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله على ما ذكرنا. ولو تزوجها على هذه الشاة الميتة فإذا هي ذكية أو هي حية، قال: هذا نوع واحد فيقع العقد على المشار إليه ولا تعتبر فيه التسمية، وكان المشار إليه ميتة فلها مهر مثلها، وإن كان قد سمى ذكية، وإن المشار إليه ذكية أو حية فلها ذلك، وإن كان قد سمى ميتة. وذكر الحسن عن أبي يوسف رحمه الله في «كتاب الأختلاف» : إذا تزوج امرأة على عبد وهو لا يعلم حاله، فإذا هو حر فلها قيمته، وإن كانت تعلم أنه حر فلها مهر مثلها، وإن كان مدبراً أو مكاتباً أو أم ولد وهي تعلم بذلك، أو لم تعلم وكان مشكلاً وقت العقد فلها قيمته. وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد رحمه الله: إذا تزوج امرأة على هذه الشاة، فإذا هي خنزير فلها مهر مثلها في قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي قول أبي يوسف رحمه الله. وقولنا عليه قيمة شاة وسط. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد رحمه الله: إن عليه شاة وسط. وقال محمد رحمه الله في «الإملاء» : إذا تزوجها على هذه الشاة فإذا هي خنزيراً، أو على هذا الخنزير، فإذا هي شاة وهي تعلم حالة المشار إليه، فالنكاح على المشار إليه، ولا تعتبر فيه التسمية فبعد ذلك ينظر إن كانت المشار إليه حلالاً فلها ذلك مهراً وليس لها غير ذلك، وإن كان حراماً فلها مهر مثلها. قال: ألا ترى أن رجلاً لو قال لآخر: ابتعتك هذا الخنزير بألف، وأشار إلى الشاة وهما يعلمان أنها شاة، فالبيع جائز وكذلك إذا قال لغيره: ابتعتك هذا الخنزير بألف وأشار إلى عبد وهما يعلمان أنه عبد فالبيع جائز، وإن كان مشكلاً فالبيع باطل في قولهم، وهذه المسألة مع أجناسها بناء على أصل أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعنا والمشار إليه خلاف جنس المسمى، إنما يتعلق العقد بالمسمى: إذا لم يعلم المتعاقدان حال المشار إليه، أما إذا علم المتعاقدان حال المشار إليه فالعقد يتعلق بالمشار إليه، وسائل هذا الأصل مذكورة في «الزيادات» في باب الوكالة بالشيء يكون على غير ما أمرته. وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: إذا تزوج امرأة على أرض وحددها على أن فيها نخلاً فيها عشرة، أجرته ببعضها المرأة فإذا تبينت أجرته وكان ذلك مثل أن يزرعها فلها الخيار؛ إن شاءت أخذت الأرض ولا شيء لها غيرها، وإن شاءت ردت الأرض وأخذت أو وهبتها وسلمتها ثم علمت أنها سنة أجرتها فلا شيء لها غير الأرض؛ لأن الزوج يقول لها: ردي الأرض وخذي قيمة عشرة أجرته، وكذلك اللؤلؤة إذا انتقصت من وزنها، والثياب إذا انتقصت من ذراعها، ولو لم يكن باعها فلا.... ولكن غلب عليها

دجلة أو نحوها من الأنهار مجرى فيها فصارت مستهلكة ثم ملحت لها سنة أجرته رجعت على الزوج بتمام قيمة الأرض. وكذلك إذا تزوجها على عشر أثواب هروية ... على أن كل ثوب منها عشاري فوجد كلها.... فهي بالخيار إن شاءت أخذتها وإن شاءت ردتها وأخذت قيمتها لو كانت عشارية على مثل حالة التي هي عليه، فإن وجدت كلها عشارية إلا واحدة منها فإنها.... فهي بالخيار، إن شاءت أخذت الثياب العشارية وردت الثوب الذي وجدته ساعيا وأخذت قيمته لو كانت عشارية على مثل جودته ورفعته. وإذا تزوج امرأة على الأرض على أن فيها ألف نخلة وحددها، أو تزوجها على دار وحددها على أنها مبنية بالآجر والجص والساج، فإذا الأرض لا يخيل منها، والدار لا بناء فيها، فهي بالخيار، إن شاءت أخذت الدار والأرض ولا شيء غير، وإن شاءت أخذ مهر مثلها، وإن طلقها قبل أن يدخل بها لم يكن لها إلا نصف الأرض ونصف الدار على وحدتها عليه إلا أن تكون متعتها أكثر من ذلك فيكون الخيار للمرأة، إن شاءت أخذت نصف الأرض ونصف الدار لا شيء غير ذلك، وإن شاءت أخذت المتعة والله أعلم. نوع منه في الشروط ف يالمهر إذا تزوج امرأة على ألف درهم أو على ألفي درهم فالنكاح جائز ويحكم مهر المثل عند أبي حنيفة رحمه الله، فإن كان مهر مثلها ألف أو أقل فلها ألف، وإن كان ألفان أو أكثر فلها الألفان، وإن كان أكثر من ألف أو أقل من ألفي فلها مهر مثلها. فالحاصل: أن عنده لا ينقص عن الأقل، ولا يزاد على الأكثر، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لها الألف في الوجوه كلها، وهذه المسألة بناء على أن الموجب الأصل في باب النكاح عند أبي حنيفة رحمه الله مهر المثل، وإنما يصار إلى المسمى عند صحة التسمية من كل وجه، وعندهما الموجب الأصلي المسمى، وإنما يصار إلى مهر المثل عند فساد التسمية من كل وجه وعلى هذا الأصل مسألة ذكرها محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» وصورتها: إذا تزوج امرأة على ألف حالة أو على ألف إلى سنة فعلء قول أبي حنيفة رحمه الله: يحكم مهر المثل، وإن كان مهر مثلها ألف درهم أو أكثر فلها ألف حالة، وإن كان أقل من ألف فلها إلى سنة وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: لها ألف إلى سنة على حال، وهذا لأن تأخير الأجل في نقصان المالية، ولهذا التجار يشترون بالنقد بأقل مما يشترون بالنسيئه ولما كان هكذا كان الزوج على ألف حالّة أو ألف نسيئة بمنزلة ... الزوج على ألف أو على ألفين.

وهناك الجواب على الاختلاف كذا هنا، فلو كان تزوجها على ألف حالة أو على ألفين إلى سنة، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله إن كان مهر مثلها ألفي درهم أو أكثر كانت المرأة بالخيار؛ إن شاءت أخذت ألفي درهم إلى سنة وإن شاءت أخذت ألفاً حالة؛ لأن المرأة رضيت عن نقصان مهرها على كل حال. بعد هذا نقول: الألف أزيد وصفاً وأنقص قدراً، والألفان أزيد قدراً أو أنقص وصفاً لما من أن المؤجل أنقص من المال والإنسان مدة يختار هذا لتعجله، ومدة يختار داراً لكبرته. وإن كان مهر مثلها أول من الألف فالخيار إلى الزوج يعطيها أي المال شاء لأنه..... إحدى الزيادتين، فكان الخيار كما في جانب المرأة. وإن كان مهر مثلها أكثر من ألف، أو أقل من ألفين فلها مهر مثلها في قول أبي حنيفة رحمه الله لما ذكرنا: أنه إنما يعدل عن مهر المثل عنده عند استقرار التسمية، وعندهما الخيار إلى الزوج في الوجوه كلها؛ لأنه لا يلزمه للأول، والأول مما يختاره الزوج. فرّق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبين الخلع على ألف أو ألفين، والإعتاق على ألف أو ألفين، فإن هناك جوابه كجوابهما. والفرق أنه ليس للخلع موجب أصلي يُصار إليه فيجب المتيقن من المسمّي، فالنكاح موجب أصلي، وهو مهر المثل لا يعدل عنه إلا بعد استقرار التسمية. إذا تزوجها على ألف إن لم يخرجها من البلدة، وعلى ألفين إن أخرجها فالنكاح جائز، والمعتبر في المهر الشرط. فإن وفّى به الأول فلها المسمى على ذلك الشرط، وإن لم يف فلها مهر المثل لا ينقص عن الأول، ولا يزاد على الأكثر، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: الشرطان جائزان. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا تزوج امرأة على ألف إن كانت قبيحة وعلى ألفين، إن كانت جميلة. فإن كانت جميلة؛ فلها الألفان. وإن كانت قبيحة فلها الألف، وهذا بلا خلاف، وفرّق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبين ما إذا تزوج على ألف وبينما إذا تزوجها على ألفين إن أخرجها من القرية، وعلى ألفين إن لم يخرجها فإن الشرط الأول جائز عنده، والشرط الثاني فاسد. والفرق أن في مسألة الإخراج دخلت المخاطرة في التسمية فإنه لا يدري أن الزوج يخرجها أو لا يخرجها. وفي مسألة القبح والجمال والمخاطرة أصلاً، فإن المرأة على صفة واحدة قبيحة كانت أو جميلة، لكن الزوج لا يعرف وجهالته لا توجب الخطر. وذكر نجم الدين النسفي رحمه الله في شرح «الشافي» : أن من تزوج امرأة على ألف إن كانت أعجمية وعلى ألفين إن كانت عربية وجعلها بمنزلة شرط الإخراج من البلدة. وما ذكر من الفرق يشكل بهذه المسألة.

وإذا تزوجها على هذا العبد أو على هذا العبد بحكم مهر المثل عند أبي حنيفة رحمه الله فإن كان مهر مثلها مثل ذويها قيمة فلها الأدون إلا أن يرضى الزوج بالأرفع، فإن كان مثل أرفعها قيمة فلها الأرفع إلا أن ترضى المرأة بالأدون، وإن كان فيما بين ذلك فلها مهر المثل. وفي «المنتقى» : إذا قال لامرأة: أتزوجك على ألف على أن تزوجيني فلانة بمهر من عندك يعطها إيّاه وتزوجها على ذلك كان النكاح بحصتها من الألف إذا قسم على مهرها فليس (لها) أن تزوجه فلانة. ولو قال: أتزوجك على أن تزوجيني فلانة بألف، فقبلت ذلك وتزوجت، فهذه امرأة قد تزوجت بغير مهر مسمى فلها مثل نسائها. كرجل تزوج امرأة على ألف على أن تردّ عليه ألف درهم، ولو أن المرأة التي شرط نكاحها ووجب....... بخمس مائة جاز، ونكاح الأولى على ما وضعت لك بغير مهر مسمى. وفيه أيضاً: لو تزوج امرأة على أن يهب لأبيها ألف درهم، فهذا الألف لا يكون مهراً ولا يجبر على أن يهب، ولها مهر مثلها، وإن سلّم الألف فهو للواهب وله أن يرجع فيها إن شاء. ولو قال له: على أن أهب له عنك ألف درهم فالألف مهر إن طلقها قبل الدخول، وقد وقع الهبة.... عليها بنصف ذلك وهي الواهبة. وفيه أيضاً: لو تزوجها على أن يعطيها عبد فلان، فالنكاح جائز والشرط باطل. ابن سماعة عن محمد رحمه الله: رجل تزوج امرأة على ألفين، ألفاً لها وألفاً لأبيها، أو قالت المرأة زوجت نفسي منك على ألفين ألفاً لي وألفاً لأبي فذلك جائز والألفين لها. وعنه أيضاً: رجل تزوج ابنة من رجل على ألفي درهم وأشهد على نفسه أنه زوج فلانة من فلان بألفي درهم على أن عليّ ألف درهم من مالي، وعلى فلان ألف درهم، فقبل الزوج بالمهر فالمهر كله على الزوج والأب ضامنٌ عنه من ألف درهم. فإن أخذت المرأة ذلك من أبيها أو ميراثها كان للأب أو لورثته أن يرجع بذلك على الزوج؛ لأن قول الأب على أنّ ألف درهم عليّ من مالي بمنزلة الضمان لذلك، والزوج لما قبل العقد بالمهر فقد أجاز ذلك الضمان فصار كأنه أمره به. وفي «نوادر ابن هشام» عن محمد رحمه الله: أولياء المرأة إذا قالوا للذي يريد أن يتزوجها: زوجناك على ألف درهم على أن مائة منها لك فهو جائز، والمهر تسعمائة ولو قالوا: زوجناك على ألف درهم على أن لنا خمسين ديناراً فالدراهم والدنانير كلها للمرأة. وعنه أيضاً: رجل تزوج امرأة على خادم على أن يخدم الخادم الزوج ما عاش، قال: إن كان مهر ... المرأة مثل قيمة الخادم فلها مهر مثلها إلا أن يشاء...... الزوج لها الخادم بغير خدمة.

فروى بشر عن أبي يوسف رحمه الله: رجل تزوج امرأة على جارية على أن له خدمتها ما عاش أو في بطنها، قال: الجارية وما في بطنها وخدمتها كلّه للمرأة وكذلك الغنم، ولو قال: على أن أصوافها لي فالصوف له استحساناً. الحسن بن زياد في كتاب «الاختلاف» عن أبي يوسف رحمه الله. رجل (قال) لامرأته أتزوجك على ألف على أن أهب لك عبدي فداء، فتزوجها على ذلك قال: إن دفع الذي سمى فهو مهرها، وإن أبى (أن) يزيد لا يجبر عليه، فكان عليه مهر مثلها لا يجاوز بذلك الألف، ولا قيمة العبد، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله. ابن سماعة عن محمد رحمه الله: امرأة زوجت نفسها من رجل على أن أبرأ فلاناً ممّا له عليه من (الدين) بدين: ... فلان منه، ولها على الزوج مهر مثلها، وعن أبي يوسف رحمه الله في «الأمالي» : إذا زوج ابنته على أن يبرئه من الدين الذي له عليه أو زوجت المرأة نفسها على أن يبرئها من الدين الذي له عليها وهو كذا فالبراءة جائزة ولها مهر مثلها. نوع منه في الزيادة في المهر وما في معنى الزيادة الزيادة في المهر صحيحة، قال: قيام النكاح عند علمائنا الثلاثة خلافاً لزفر رحمه الله والخلاف فيه نظير الخلاف في الزيادة في الثمن. هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرحه. وفي «المنتقى» ذكر أبو سليمان عن أبي يوسف رحمه الله أن الزيادة في المهر جائزة (206أم) عند أبي حنيفة رحمه الله، وفي قول أبي يوسف رحمه الله لا يجوز. وفي «فتاوى» أبي الليث رحمه الله: أن الزيادة في المهر بعد الفرقة باطلة، وهكذا روى بشر عن أبي يوسف رحمه الله، وصورة ما روى بشر: إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل الدخول بها أو بعده، ثم رادّها في المهر لم يصح، وكذلك إذ انقضت عدة المطلقة طلاقاً رجعياً ثم رادّها في المهر بعد ذلك لم تصح الزيادة. وفي القدوري: أن الزيادة في المهر بعد موت المرأة جائزة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يجوز. وفي «فتاوى» أبي الليث إذا وهب المرأة مهرها من زوجها، ثم إن الزوج بعد ذلك أشهد أن عليه لها كذا من المهر تكلموا فيه. واختار الفقيه أبو الليث رحمه الله: أنه يجوز إقراره لأنه أمكن تجويز إقراره بأن يجعل الزوج زائداً لها في مهرها فينقضي هذا الإقرار وأمكن جعله زائداً لها، فإن الزيادة في المهر بعد هبة المهر صحيحة. وإذا تزوجها بألف درهم، ثم جدّد العقد بألفي درهم، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا تثبت الزيادة، فيكون مهرها ألف درهم. وعلى قول محمد رحمه

الله: تثبت الزيادة ويكون مهرها ألفا درهم. هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في شرح النكاح، وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرحه: أن على قول أبي حنيفة رحمه الله تثبت زيادة المهر، وعلى قولهما لا تثبت الزيادة. وفي شرح «مختصر الطحاوي» : أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تثبت الزيادة، وعلى قول: لا تثبت الزيادة. وفي «إقرار المختصر» : أنه لا تثبت الزيادة من غير خلاف. وإذا تزوج امرأة على صداق في السّر وسمع في العلانية بأكثر، من ذلك فالمسألة على وجهين: الأول: أن يتواضعا في السر على مهر ثم يتعاقدا في العلانية بأكثر فيقول: إن كان ما تعاقدا عليه في العلانية من.... عليه في السر، إلا أنه أكثر مما تواضعا عليه في السر، فإن اتفقا على المواضعة وأشهد الرجل عليها أو على وليها أن المهر هو المسمى في السر والزيادة سمعه والمهر ما تواضعا عليه في السر. وإن اختلفا وادعى الزوج المواضعة في السر على ألف وأنكرت المرأة المواضعة على ذلك فالمهر هو المسمى في العقد ويكون القول قول المرأة إلا أن يقوم الزوج ببينة. وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله: إذا أشهد الزوج على نفسه في السّر أن المهر (الذي) يريد أن يتزوج عليه ألف، ثم أشهد على نفسه من الغد بألفين قال أبو حنيفة رحمه الله: المهر ألفان. وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا أشهدت الشهود أنه قد أشهدها في السّر أن المهر ألف وأنه يسمع بألفين فالمهر ألف، قالوا: هذا خلاف ما حكي عن أبي حنيفة رحمه الله في الأصل، وإن كان ما تعاقدا عليه في العلانية من خلاف جنس ما تواضعا عليه؛ فإن لم يتفقا على المواضعة فالمهر (هو) المهر المسمى في العقد، وإن اتفقا على المواضعة ينعقد النكاح (على) مهر المثل. الوجه الثاني: أن يتعاقدا في السر ثم أقرّ في العلانية بأكثر من ذلك فإن اتفقا على.... في السر أو أشهد أن الزيادة في العلانية سمعه والمهر هو المذكور عند العقد في السر. وأما إذا لم يشهد أن الزيادة في العلانية سمعه. ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن على قول أبي حنيفة: المهر مهر العلانية فيكون هذا منه زيادة لها في المهر، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هو الأول. وفي «شرح مختصر الطحاوي» : أن على قول أبي يوسف رحمه الله المهر هو الأول، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: المهر مهر العلانية، فيكون زيادة على المهر الأول سواء كان من جنسه أو من خلاف جنسه، غير أنه كان من خلاف جنسه فجميعه يكون زيادة على المهر الأول. وإن كان من جنسه فتقدر الزيادة على المهر الأول تكون زيادة.

فروى ابن سماعة في «نوادره» : وإنما تتأكد الزيادة إما بالدخول بها أو بالخلوة الصحيحة أو بموت أحدهما، حتى لو وقعت الفرقة بينهما قبل وجود واحد من هذه الأشياء بطلت الزيادة وينتصف الأصل دون الزيادة. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أنهما إذا تعاقدا في السر بألف وأظهرا في العلانية خلاف ذلك ثم اختلفا فقال الزوج: ما أوردت به في العلانية هزل. وقالت المرأة: لا بل جد، فالقول قول المرأة، والمهر هو المذكور في العلانية إلا أن يقوم الزوج ببيّنة على ما ادعى. إبراهيم عن محمد رحمه الله: قالت لِرَجلٍ: زوجتك نفسي على ألف فقال الزوج قبلت النكاح بألفين، فالنكاح جائز على الفين كأنه زادها ألفاً. إبراهيم عن محمد رحمه الله: رجل زوج أمته من رجل على مهر معلوم ثم أعتقها ثم زادها الزوج في المهر شيئاً معلوماً؛ فالزيادة للمولى؛ لأن الزيادة في أصل النكاح. فروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله أن الزيادة لها، ولا أجبر الزوج على دفع الزيادة............ وفي «فتاوى الفضلي» : إذا طلّق امرأته ثم راجعها فقال لها: زدت في مهرك لا يصلح لمكان الجهالة ولو قال لها: راجعتك بمهر ألف درهم فإن قبلت المرأة ذلك وإلا فلا؛ لأن هذه زيادة في المهر فيتوقف على قبولها. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : عبد تزوج أمة بغير إذن مولاها على مائة درهم فقال الزوج للمولى: أخِّر النكاح فقال المولى: أخرته على أن تزيد في الصداق خمسين درهماً، فإن رضي الزوج فذلك صح وتثبت الزيادة، وإن لم يرض به لم تثبت الإجازة. الأصل في جنس هذه المسائل: أن تعليق الإجازة في النكاح الموقوف بقبول الزوج زيادة مال على المسمى صحيح، وكذلك بقبول مال آخر سوى المسمى، وتعليقه بسائر الشروط لا يصح، وهذا لأن الإجازة لها حكم ابتداء العقد على ما عرف في مواضع كثيرة، وتعليق أصل العقد بقبول الزوج المال صحيح، ولا يصح تعليق سائر الشروط فكذا تعليق الإجازة. إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: المولى أثبت الإجازة معلقة بشرط رضا الزوج بزيادة خمسين درهماً؛ لأن كلمة «على» كلمة شرط، وقد صحّ التعليق لما ذكرنا. فإن رضي الزوج بالزيادة ثبتت الإجازة لوجود شرطها. قال: ولا يكون كلام المولى ردّاً للعقد بمائة حتى لو أجاز النكاح بمائة قبل رضا الزوج بالزيادة صح، ولو ردّه ينفسخ؛ لأن هذا التماس الزيادة في الصداق، وذلك يقتضي تقدير الأصل لا ردّه. وكذلك الجواب فيما إذا قال المولى: لا أجيز النكاح إلا بزيادة خمسين درهماً أو

قال: لا أجيز النكاح حتى تزيدني خمسين درهماً. ولو قال: لا أجيز النكاح ولكن زدني خمسين درهماً أو قال: لا أجيزه إن زدتني خمسين درهماً كان هذا من المولى نقضاً للنكاح حتى لو أجاز بعد ذلك بالمائة لا يجوز، وكل جواب عرفته في المولى مع الأمة فهو الجواب في الولي يزوج البالغة بغير أمرها فيبلغها فتجيز في جميع ما بيّنا. وفي «الجامع» أيضاً: (206ب1) : أمة منكوحة أعتقت حتى ثبت لها الخيار على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى فقال لها زوجها: زدتك في صداقك خمسين درهماً على أن تختاريني ففعلت، صح الاختيار وثبتت الزيادة وتكون الزيارة للمولى، وبمثله لو قال لها: ... على خمسين درهماً على أن تختاريني ففعلت فلا شيء لها وبطل خيارها؛ لأن في الوجه الأول جعل الخمسين بإزاء بضعها، فإنه جعله زيادة في الصداق، ولكن علل هذا الجمل باختيارها زوجها، فإذا وجد الاختيار (صارت) الزيادة عوضاً عن منافع بضعها لا للحاقها بأصل العقد ولا كذلك الوجه الثاني لأن في الوجه الثاني؛ ما جعل الخمسين بإزاء البضع، إنما جعله بإزاء اختيارها زوجها، وإنه غير مستقيم؛ لأن اختيارها زوجها ليس بمال والتزام المال بمقابلة ما ليس بمال غير مستقيم. وفي نكاح «المنتقى» : رجل ادعى نكاح امرأة وهي تجحد، ثم إن الزوج مع المرأة اصطلحا على أن أعطاها ألف درهم على أن أجازت له النكاح الذي ادعى فهو جائز. وكذلك إذا قال لها: أزيدك مائة على أن تقرِّي بالنكاح ففعلت. وإن وجد بينة على أصل النكاح الأول لم يكن له أن يرجع في المائة لأنها بمنزلة زيادة في المهر. والبيع نظير النكاح؛ لأن الزيادة في الثمن صحيحة كالزيادة في المهر. ولو كان هذا منه في الطلاق بأن ادعت امرأة على زوجها أنه طلقها بألف درهم وأنها نقدته المال، فجحد الزوج فصالحته على مائة أخرى على أن يقرّ بالطلاق بالجعل الأول ففعل، ثم إنها وجدت بينة على الطلاق بالجعل الأول فلها أن ترجع بالمائة لأن الزيادة في جعل الطلاق بعد وقوعه لا يصلح، والصلح في القصاص في العتاق كالصلح في الطلاق. والكتابة كالبيع يعني: إذا ادعى المملوك الكتابة والله أعلم: نوع منه في المرأة نفسها بمهرها.... جعل في المهر ومايتصل به. قال الكرخي رحمه الله: وللمرأة أن تمنع الزوج عن الدخول بها حتى يوفيها جميع المهر، قال: وليس للزوج أن يمنعها من السفر والخروج من منزله وزيارة أهلها حتى يوفيها المهر. وإن كان المهر مؤجلاً لم يكن لها أن تمنع نفسها منه وله أن يمنعها من السفر وزيارة بعض أهلها بغير إذنه، قال أبو يوسف رحمه الله: القياس كذلك، كما في البيع، لكن استحسنا وقلنا: لها أن تمنع نفسها منه، وليس له أن يمنعها من السفر وزيارة بعض أهلها حتى يوفيها المهر. قال: وليس هذا كالبيع، وهذا آخر قوله.

قال أبو يوسف رحمه الله: إذا كان بعض المهر حالاً وبعضه مؤجلاً فله أن يدخل بها إذا أعطاها الحال. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا كان المهر مؤجلاً فإن دخل بها الزوج حتى تحل الأجل فمنعت نفسها عن الزوج حتى يوفيها المهر فليس لها ذلك من قبل أن أصله لم يكن حالاً. ثم لا خلاف لأحد أن تأجيل المهر إذا كان إلى غاية معلومة نحو شهر أو سنة إنه صحيح، وإن كان لا إلى غاية معلومة فقد اختلف المشايخ (فيه) . بعضهم قالوا: لا يصح، وبعضهم قالوا: يصح وهو الصحيح، وهذا لأن الغاية معلومة في نفسها وهو الطلاق أو الموت، ألا ترى أن تأجيل البعض صحيح وإن لم يتفقا على غاية معلومة نحو الشهر أو السنة، وإنما يصح بالطريق الذي قلنا. قال مشايخنا رحمهم الله: وفي عرف ديارنا ليس للمرأة أن تمنع نفسها من زوجها حتى تستوفي جميع المهر؛ لأن في عرفنا؛ البعض مؤجل والبعض معجّل والمعجل يسمى دست بيمان والمؤجل يسمى كابين برني والمعروف كالمشروط، فإن بينا مقدار المعجل ومقدار المؤجل فهو على ما بينا، وإن لم يبينا شيئاً ننظر إلى المسمى وإلى المرأة إن مثل هذه المرأة كم يكون لها من مثل هذا المسمى معجلاً، وكم يكون لها مؤجلاً في العرف فنقضي بالعرف. وما ذكر في «مجموع النوازل» أنه يقضي لها نصف المهر معجلاً فإنما ذلك بناء على عرف أهل سمرقند أنهم يعجلون النصف من المسمى، وهو اختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله إلا أن ذلك يختلف باختلاف البلاد، والصحيح ما ذكرنا. وإن شرطا تعجيل الكل في العقد فهو كما شرطا، ووجب تعجيل الكل، إذ لا تعتبر دلالة العرف إذا جاء الصريح بخلافها. ولو دخل الزوج بها خلا بها برضاها فلها أن تمنع نفسها منه وتمنعه عن السفر بها حتى تستوفي جميع المهر على جواب «الكتاب» والمعجل في عرف ديارنا في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمهما الله: ليس لها ذلك وأجمعوا على أنه لو دخل بها كارهة أو دخل بها وهي صغيرة أو مجنونة إنه لا يبطل حقها في المنع والحبس. ووجه قولهما: أن المقصود عليه صار مُسَلَّماً بالوطأة الواحدة، ألا ترى أن المهر كله يتأكد الوطآة واحدة، فلو ثبت لها حق المنع تصير مستردة، والثابت لها حق المنع عن التسليم لا حق الاسترداد بعد التسليم، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن المستوفى بالوطء وإن كثر فهو مستحق بعقد فلا يجوز اخلاؤه عن العوض إبانةً لخطره لأن في حق تأكد المهر أقيم وطأه واحدة مقَامَ جميع الوطآت لأنه لا يمكن تأكيده بقدره؛ لأنه لا يعرف مقدار عدده لكن إذا وجد وطآت أُخر فالبدل مقابل الكل فكانت ممتنعة عن تسليم ما قابله البدل لا مستردة. وكان الشيخ الفقيه أبو القاسم الصّفار رحمه الله، يُفتي في السفر بقول أبي حنيفة رحمه الله وفي منع النفس بقولهما، واستحسن بعض مشايخنا اختياره. في «العيون» : تزوج امرأة على ألف درهم إلى سنة فأراد الزوج الدخول بها قبل السنة قبل أن يعطيها شيئاً، وإن كان شرط الزوج في العقد أن يدخل بها قبل السنة فله

ذلك وليس لها أن تمنع نفسها منه بلا خلاف، وإن لم يشترط ذلك، فله ذلك عند محمد رحمه الله وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله ليس له ذلك استحساناً وقد مَرَّ هذا. قال الصدر الشهيد رحمه الله: وبهذا يفتى وإنه حسن، قال رحمه الله ففي ديارنا إذا ادعى المعجّل ولم يؤدّ المؤجل فله أن يبني بلا خلاف؛ لأن الدخول عند أداء المعجل مشروط عرفاً فصار كما لو كان مشروطاً نصاً. فأما إذا كان الكل مؤجلاً فالدخول غير مشروط لا عرفاً ولا نصاً فلم يكن له أن يبني على (قول) أبي يوسف رحمه الله استحساناً. قال القدور في «كتابه» : قال أبو يوسف رحمه الله: لو كان المهر حالاً فأخرته مدة فأراد الدخول بها قبل مضي المدة فليس له ذلك، ولها أن تمنع نفسها منه، وهذا مستقيم على قول أبي يوسف آخراً، وهو استحسان؛ لأن الأصل لو كان مقارناً للعقد كان لها أن تمنع نفسها منه على قوله استحساناً، فكذا إذا كان طارئاً. وذكر في «المنتقى» : أن الزوج إذا كان شرط الدخول قبل مضي المدة فله ذلك، وإن لم يشترطا لدخول قبل مضي المدة فليس له ذلك إلا برضاها وهذا مستقيم على قول (207أ) أبي يوسف رحمه الله استحساناً. وفي «المنتقى» أيضاً: إذا كان المهر حالاً فأحالت عليه غريماً لها بالمهر فلها أن تمنع نفسها منه حتى يأخذ غريمها بمنزلة وكيلها، ولو أن الزوج أحالها بالمال على غريم له على أن أبرأته منه ففي القياس له أن يدخل بها، وفي الاستحسان: لا يدخل حتى تأخذ المهر، وعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان. روى الحسن بن زياد رحمهما الله عنه: أن له أن يدخل بها قبل ذلك، فروى الحسن ابن أبي مالك عنه: أنه ليس له ذلك. ولو باعها بالمهر متاعاً فلها أن تمنع نفسها منه حتى تقبض المتاع، وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا قبضت المهر فإذا هو زيوف أو دراهم لا تنفق فلها أن تمنع نفسها منه حتى يبدلها. ولو كان دخل بها برضاها ثم وجدت المهر المقبوض زيوفاً أو ما أشبه ذلك أو كان متاعاً اشترت منه وقبضته فاستُحق بعدما دخل بها فليس لها أن تمنع نفسها منه؛ لأن من أصله أنها لو سلمت نفسها من غير قبض ليس لها حق المنع والحبس فهنا أولى. وفي «واقعات الناطفي» : إذا زوج ابنته البالغة فأراد أبوها التحول إلى بلد آخر بعياله فله أن يحملها معه وإن كره الزوج ذلك إذا لم يكن أعطاها المهر، وإن كان قد أعطاها المهر فليس له ذلك إلا برضا الزوج. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : بأن صغيرة زوجت وذهبت إلى بيت زوجها بدون أخذ تمام مهرها كان لمن كان (له) حق بإمساكها قبل التزوج أن يمنعها حتى تأخذ جميع المهر ويأخذ من له حق الأخذ؛ لأن هذا الحق ثابت للصغيرة. ولو بطل بطل برضاها وهي ليست من أهل الرضا.

ولو زوج العم بنت أخيه وهي صغيرة بصداق مسمى وسلمها إلى الزوج قبل قبض جميع الصداق فالتسليم فاسد، وترد إلى بيتها لأنه ليس للعم ولاية إبطال حقها. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: وإذا أراد الزوج (أن) يخرج المرأة من بلد إلى بلد وقد أوفاها مهرها فجواب «الكتاب» : أن له ذلك، اختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله على أنه ليس لها ذلك. ولو أراد أن يخرجها من البلد إلى القرية أو من القرية إلى البلد فله ذلك.t وفي «المنتقى» : إذا تزوجها على أن ينقدها عليه والباقي إلى.... قال: كله إلى سنة إلا أن يقيم بيّنة أنه.... عليه شيء منه أو كلّه فيأخذه. طلق امرأته طلاقاً رجعياً ثم راجعها هل لها أن تطالب الزوج بالمهر المؤجل؟ فيه اختلاف المشايخ، فكذلك لو ارتدت والعياذ بالله ثم أسلمت وأجبرت على النكاح هل لها أن تطالبه ببقية المهر؟ فيه اختلاف المشايخ. نوع منه في وجود العيب في المهر، وفي تغيره عن وصف ويرد الصداق بالعيب الفاحش وهل يرد بالعيب اليسير إن لم يكن من ذوات الأمثال لا يرد، فإن كان من ذوات الأمثال يرد، والعيب اليسير ما يدخل تحت تقويم المقومين فهو أن يقومه مقوِّم وهو صحيح بألف. ويقومه مقوم آخر وبه هذا العيب بألف، وهذا لأن الرد بالعيب اليسير في غير ذوات الأمثال لا يفيد لأنها ترجع بقيمته. ولا فرق بين عين الشيء وبه عيب يسير وبين قيمته وبه فارق أما إذا كان من ذوات الأمثال؛ لأن هناك يرجع بمثله صحيحاً ويقيم الفرق بين شيئين: أحدهما صحيح والآخر معيب. وإذا كان العيب يسيراً فالرد مفيد، وكذلك إذا كان العيب فاحشاً فالرد مفيد لأنه يرجع بقيمته صحيحاً فيقع الفرق بين عين الشيء وبه عيب فاحش وبين قيمته صحيحاً. قال الكرخي رحمه الله في «كتابه» : إذا انتقص الصداق في يد الزوج بفعل أجنبي فالمرأة بالخيار إن شاءت أخذت وابتعت الجاني بالأرش، وإن شاءت أخذت من الزوج يوم العقد قيمته واتبع الزوج الجاني بالأرش؛ لأن الصداق قد تغيّر في ضمان الزوج لأنه كان عيناً والآن صار قيمةً، فيثبت لها الخيار كما يثبت الخيار للمشتري إذا تغيّر المبيع في ضمان البائع، وإن انتقص بآفة سماوية فالمرأة بالخيار إن شاءت أخذته ناقصاً ولا شيء لها وإن شاءت أخذت القيمة يوم العقد. أما الخيار: فلما ذكرنا، وأما لا شيء لها إذا اختارت الأخذ لأن الصداق مضمون على الزوج بالعقد فلا تظهر في حق الأوصاف؛ لأن العقد لا يرد على الوصف، وهذا إذا كان العيب فاحشاً، وأما إذا كان يسيراً فلا خيار لها كما لو كان موجوداً حالة العقد. وإن

كان النقصان بفعل الزوج فالمرأة بالخيار إن شاءت أخذته فضمنته النقصان وإن شاءت أخذت القيمة يوم العقد. هذا هو المشهور من الرواية، مروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا ضمان عليه في الأرش ولكنها بالخيار إن شاءت أخذته ناقصاً ولا شيء لها، وإن شاءت أخذت القيمة. وسوّى بين هذا والبيع، فإن البائع إذا جنى على المبيع قبل القبض لم يكن عليه ضمان. وجه المشهور من الرواية: أن الوصف صار مقصوداً بالإتلاف فيجب ضمانه كما لو أتلفه أجنبي وإنما لم يجب الضمان على البائع؛ لأن المبيع مضمون على البائع بالثمن وضمان الثمن يمنع ضمان المهر؛ لأن المحل الواحد لا يصير مضموناً بضمانين، والصداق غير مضمون على الزوج بضمان آخر ينافي ذلك ضمان القيمة ألا ترى أنه لو أتلفه يضمن قيمته فكذا إذا تلف والبائع إذا أتلف المبيع لا يضمن قيمته بل ينفسخ البيع ويسقط الثمن. وإن كان النقصان بفعل المهر بأن جنى المهر على نفسه ففيه روايتان: أحدهما: أنها كالآفة السماوية؛ لأن جناية الإنسان على نفسه هدر، والرواية الأخرى أنها في حكم جناية الزوج لأن المحل مضمون في يده فصار كالمغصوب إذا جنى على نفسه في يد الغاصب. وإن كان النقصان بفعل المرأة صارت قابضة بالجناية ويدخل في ضمانها، كالمشتري إذا جنى على المبيع في يد البائع. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا تزوج امرأة على ألف درهم من الدراهم التي من نقد البلد فكسدت قبل القبض فصار النقد غيرها كان على الزوج قيمتها يوم كسدت. قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : هو المختار، وهذا قول محمد رحمه الله. وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله: على الزوج قيمتها يوم الخصومة. ولو كان مكان النكاح بيعٌ فسد البيع، والفرق: أن الكساد بمنزلة الهلاك، وهلاك البدل في باب البيع قبل القبض يوجب فساد البيع، أما هلاك البدل في باب النكاح لا يوجب فساد النكاح، فتجب قيمته كان مشايخ ما وراء النهر قبل هذا يقولون بجواه لكون عقد النكاح بما وراء النهر بالفطر يفي لا بالعدلي لأن العدلي يتغير والفطر يفي لا يتغير، وهذا إذا كان في الزمان الماضي. أما في زماننا يجب أن يكون العقد بالذهب أو بالفضة. والحكم في الانقطاع كالحكم في الكساد. وإن غلت الدراهم بأن ازدادت قيمتها فلها تلك الدراهم ولا خيار للزوج، وإن رخصت بأن انتقصت قيمتها فقد اختلف فيه المتأخرون. (207ب1) بَعْضهم قالوا لها من تلك الدراهم وليس لها أن تطالبه بالتفاوت وإن فحش، وبعضهم قالوا: إن كان يوجد من تلك الدراهم بالعيار الذي ورد العقد عليه تطالبه بذلك، وإن كان لا يوجد تطالبه بقيمة ما ورد عليه العقد. وإن تزوجها بكذا من العدليان وهي كاسدة ماذا يجب لها؟ قالوا: يجب

لها مهر المثل لأنها إذا كانت كاسدة وقت النكاح كان المهر مجهولاً لأنها إذا كانت كاسدة كانت سلعة وزنية، والسلعة الوزنية إنما تعرف بالإشارة أو بذي الوزن وهو ما ذكر الوزن إنما ذكر العدد. ولو كانت رائجة وقت العقد وهي نوعان من الضرب أولاً وآخراً ينبغي بيان نوعه وقت العقد، ولو لم يبين ننظر إلى مهر مثلها فأي نوع من ذلك وافق مهر مثلها، يقضى لها بذلك النوع. وقد مرّ جنس هذا النوع. وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف رحمه الله: رجل تزوج امرأة على أمة بعينها ودفعها إليها وماتت عندها، ثم علمت أنها كانت عمياء رجعت عليه بنقصان العمى وهذا ظاهر. ولو كان تزوجها على خادم بغير عينها وأعطاها جارية وسطاً وماتت عندها، ثم علمت أنها كانت عمياء فإنها تضمن قيمتها عمياء، ويضمن الرجل قيمة خادم وسط فيتقاصان إن صار كأن لم يكن بينهما فضل ويترادان الفضل والله أعلم. نوع منه في اختلاف الزوجين في المهر إذا ادعت المرأة أن المهر ألفان وادعى الزوج أنه ألف درهم، فأيهما أقام البيّنة قبلت بينته، فإن أقاما البينة فالبينة بينة المرأة؛ لأنها تثبت زيادة في المهر، وإن لم يكن لهما بينة فإنهما لا يتحالفان عندنا. هكذا ذكر في «الأصل» . بعد هذا قال أبو يوسف رحمه الله: القول قول الزوج إلا أن يأتي بشيء مستنكر جدّاً ولذلك تفسيران: أحدهما: أن يدعي أنه تزوجها بأقل من عشرة، وبه أخذ بعض المشايخ؛ لأن ما دون العشرة مستنكر شرعاً. والثاني: أنه يدعي أنه تزوجها بما لا يتزوج مثل تلك المرأة بمثل ذلك المهر، وبه أخذ عامة المشايخ وهو الصحيح. وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله في المرأة يموت عنها زوجها فتدعي مهراً وهو مهر مثلها والورثة يقولون قد تزوجها على (شي) إلا أنا لا ندري ما هو قال: أجعل لها مهر مثلها، قال ابن سماعة: وقد كان قال قبل ذلك بخلاف هذا، قال: هذا في رجب سنة ثلاث وتسعين ومائة. وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: يحكم مهر مثلها فإن كان مهر مثلها، ما قال الزوج ألفاً أو أقل فلها ما قال الزوج مع يمينه بالله ما تزوجتها على ألفين على الغبن، فإن كان مثل ما قالت المرأة ألفين أو أكثر فلها ما قالت مع يمينها بالله ما زوجت نفسها منه بألف درهم، وإن كان مهر مثلها بين الدعوتين فإنهما يتحالفان ثم يقضى لها بمهر المثل، وهو نظير ما ذكر في كتاب الإجارات، إذا وقع الاختلاف بين رب الثوب وبين الصباغ في الأجرِ يحكم في ذلك قيمة الصبغ، فإن كانت قيمة الصبغ بين الدعوتين فإنهما يتحالفان كذا هنا.

وذكر الكرخي رحمه الله في «كتابه» : إذا لم يكن لهما بينّة فإنهما يتحالفان أولاً، فإذا حلفا حينئذ يحكم مهر المثل عندهما. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والأصلح ما ذكره الكرخي رحمه الله؛ لأن ظهور مهر المثل عند انعدام التسمية، وإنما تنعدم التسمية بالتحالف وإنما يدعي كل واحد منهما ... بيمين صاحبه فيبقى نكاحاً بلا تسمية، فيكون موجبه مهر المثل، وغيره من المشايخ صححوا ما ذكر في «الأصل» ؛ لأنه إنما يصار إلى التحالف إذا لم يكن ترجيح قول أحدهما على الآخر بشهادة الظاهر له وإذا كان مهر المثل يشهد لأحدهما فالظاهر شاهد له فلا يصار إلى التحالف. وإن وقع الاختلاف بينهما على هذا الوجه بعد الطلاق. فإن كان قد دخل بها فهذا والأول سواء، فإن لم يدخل بها فقد ذكر في كتاب النكاح: أن القول قول الزوج وعليه نصف ما أقرّ به. وقد ذكر في «الجامع» : أن القول قول تشهد له المتعة، فمن مشايخنا من قال: ما ذكر في النكاح قول أبي يوسف رحمه الله وما ذكر في «الجامع» قولهما ومنهم من قال: ما ذكر في النكاح قولهما، أيضاً، وإنما اختلف قولهما لاختلاف الموضوع موضوعَ المسألة في «الجامع» في الاختلاف في العشرة والمائة فالزوج يدعي الزواج بالعشرة فيكون مقراً لها بالخمسة وذلك لا يبلغ متعتها فأفاد تحكيم المتعة. موضوع المسألة في النكاح في الاختلاف في الألف والألفين فيكون الزوج مقراً لها بالخمس مائة وذلك يزيد على متعتها عادة فلا يفيد تحكيم المتعة. ومن المشايخ من قال: ما ذكر في «الجامع» قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وما ذكر في النكاح قول أبي يوسف رحمه الله، فصار في تحكيم المتعة في الطلاق قبل الدخول روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله على قول هذا القائل. وحكى القاضي أبو القاسم عن القضاة الثلاثة رحمهم الله أن ما ذكر في النكاح قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وما ذكر في «الجامع» قول محمد رحمه الله، فصار الحاصل على قول هذا القائل أن على قول أبي يوسف رحمه الله القول قول الزوج قبل الطلاق وبعده إلا أن يأتي بشيء مستنكرٍ جداً، وعلى قول محمد رحمه الله يحكم مهر المثل قبل الطلاق والمتعة بعد الطلاق، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يحكم مهر المثل قبل الطلاق ولا تحكم المتعة بعد الطلاق فيكون القول قول الزوج بعد الطلاق. والفرق له: أن مهر المثل (واجب) لأن الزوج استوفى بدله حين دخل بها، فأما المتعة ليست ببدل على البضع؛ لأن الزوج (لم) يدخل بها فلا يجب اعتبار المعادلة فنصير فيه إلى الأصل، والأصل: أن من ادعى على آخر شيئاً وأنكر الآخر فالقول قول المنكر، والمنكر هنا الزوج. ولو مات أحدهما ثم وقع الاختلاف بين ورثة الميت وبين الحي فهذا وما لو اختلفا وهما حيّان سواء. ولو ماتا فههنا فصلان.

أحدهما: أن يتفق الورثة أنه لم يكن في العقد تسمية، وفي هذا الفصل القياس أن يقضى لها مهر المثل وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، قال أبو حنيفة رحمه الله: أستحسن في هذا أن أبطل المهر، وله في ذلك طريقان: أحدهما: يشير إلى أنه إنما يقول ببطلان مهر المثل إذا تقادم العهد وانقرض أهل ذلك العصر، حتى تعذر على القاضي الوقوف على مقدار مهر المثل. أما إذا لم يتقادم العهد وأمكن للقاضي الوقوف على مقدار مهر المثل لا يبطل مهر المثل فيقضى لها بمهر المثل كما هو مذهبهما. والثاني: يشير إلى أنه يقول ببطلان مهر المثل لموتهما على كل حال تقادم العهد أو لم يتقادم. الفصل الثاني إذا وقع الاختلاف بين قولهما في مقدار المسمّى فعلى قول محمد رحمه الله يحكم مهر المثل، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: القول قول ورثة الزوج إلا (أن) يأتوا بما هو مستنكر جداً، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله فهو المثل لا يبقى بعد موتهما على أحد الطريقين مطلقاً، وعلى أحد الطريقين إذا تقادم العهد فيكون القول (208أ1) قول ورثة الزوج إلا أن يقوم لورثة المرأة بينة على ما ادعوا. قال الكرخي رحمه الله في «مختصره» : لو ادعى الزوج أن المهر هذا العبد، وقالت المرأة: هذه الجارية فالكلام فيه كالكلام في الألف والألفين إلا في فَصلٍ واحد؛ أنه إذا كان مهر مثلها مثل قيمة الجارية أو أكثر فلها قيمة الجارية، لأن بملك الجارية لا يكون إلا بالتراضي، وإذا لم يتفقا على ذلك فقد تعذر التسليم فوجبت القيمة. وعلى هذا: إذا قال الزوج: تزوجتك على عبدي الأسود هذا وقيمته ألف، وقالت المرأة: تزوجتني على عبدك الأبيض هذا وقيمته ألفي درهم فهو نظير الاختلاف في الألف والألفين إلا في فصل واحد؛ أنه إذا كان مهر مثلها مثل قيمة الأبيض أو أكثر فلها قيمة الأبيض لما قلنا في فصل العبد والجارية. ولو اختلفا في طعامٍ بعينه فقال الزوج: تزوجتك على هذا الطعام بشرط أنه كرّ، وقالت المرأة: لا بشرط أنه كرّين فهو مثل الاختلاف في الألف والألفين. والأصل في جنس هذه المسائل: أن الزوجان إذا اتفقا على تسمية شيء بعينه في النكاح واختلفا في مقداره أنه كان شيئاً لا يضره التبعيض كالمكيل والموزون يحكم فيه مهر المثل، فيتحالفان إذا كان مهر المثل بين الدعوتين. بيانه في هذه المسألة: فيما إذا تزوجها على نُقرة فضة بعينها واختلفا فقال الزوج: تزوجتك على هذه النُقرة بشرط أنها مائتي درهم، وقالت المرأة: لا بشرط أنها ثلاثمائة وإن كان شيئاً يضرّه التبعيض كما لو تزوجها على ثوب خز بعينه ثم اختلفا فقال الزوج: تزوجتك على هذا الثوب على أنه عشرة أذرع، وقالت المرأة: لا بل على أنها تسعة أذرع؛ ففي هذه الصورة القول قول الزوج ولا يتحالفان.

وكما لو تزوجها على إبريق فضة بعينه ثم اختلفا في وزنه فالقول قول الزوج، فإذا وقع الاختلاف في الصفة في مسمى بعينه، كما لو قال الزوج: تزوجتك على هذا الكر على أنه رديء، وقالت المرأة: لا بل على أنه جيد فالقول قول الزوج ولا يتحالفان كما في.... فإن الاختلاف في الصفة في باب البيع لا يوجب التحالف، كما لو اختلفا في اشتراط صفة البكارة. وإن كان المهر ديناراً واختلفا في صفته أو جنسه أو نوعه بأنه يحكم مهر المثل ويتحالفان؛ لأن الدين إنما يعرف بالصفة، والأوصاف تختلف فكان الاختلاف في الوصف اختلافاً في أصل التسمية. وإن اختلفا فيما يضرّه التبعيض في القدر والصفة جميعاً؛ ففي القدر بحكم مهر المثل، وفي الصفة قول الزوج مع يمينه اعتباراً لحالة الاجتماع بحالة الانفراد. هذا إذا اختلفا حال قيام النكاح فأما إذا اختلفا بعد الطلاق وكان الطلاق بعد الدخول فيمكن تحكيم مهر المثل. وإن كان الطلاق قبل الدخول بها إن اتفقا على مسمىً بعينه واختلفا في صفة ذلك أو في قيمته فالقول قول الزوج بالإجماع، ولا يحكم متعة مثلها؛ لأنهما اتفقا على ما يوجب سقوط المتعة؛ لأن مع تسمية شيء بعينه لا تجب المتعة بالطلاق قبل الدخول بها، فيقدر بحكم المتعة فوجب اعتبار الدعوى والإنكار. وإن اختلفا في جنس المهر أو مقداره أو في صفته والمهر دين، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: يحكم متعة مثلها فالقول قول من تشهد له المتعة، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: القول قول الزوج إلا أن يأتي بشيء مستنكرٍ جداً. ولو تزوجها على عبد بعينه وملك العبد في يد الزوج، واختلفا في قيمته فالقول قول الزوج ولا يحكم مهر المثل؛ لأنهما اتفقا على تسمية صحيحة وذلك يوجب العدول عن مهر المثل بعيب وهي مدعية الزيادة والزوج ينكر، فيكون القول قوله مع يمينه. ولو قال: تزوجتك على عبدي الأسود وقيمته ألف، ومات في يدك فإنه يحكم مهر المثل ويتحالفان إن كان مهر المثل بين الدعوتين. ولو تزوجها على كرّ بعينة وهلك واختلفا في مقداره أو في صفته، أو تزوجها على ثوب بعينه أو نقرة فضة بعينها أو إبريق فضة بعينه وهلك، واختلفا في الذرعان أو الوزن؛ ففي كل ما ذكرنا أن القول قول الزوج قبل الهلاك كان القول قوله بعد الهلاك أيضاً. ولو ادعى على أحدهما ألف درهم والآخر مائة دينار فهو نظير الاختلاف في الألف والألفين. إذا بعث إلى امرأته دقيقاً أو عسلاً أو تمراً ثم قال: بعثت من المهر، وقالت المرأة: بعتث هدية فالقول قول الزوج لأنه هو المملّك، فيكون القول قوله في جهة التمليك إلا فيما صار مكذباً عرفاً وذلك في شيء يفسد ولا يبقى. في «عيون المسائل» وإليه أشار محمد رحمه الله في «السير الكبير» ، وفي «نوادر»

ابن رستم عن محمد رحمه الله: إلا أن يكون الخبيص واللحم والشاة المذبوحة والثريد ونحو هذا من الطعام مما لا يبقى، فحينئذ القول قول المرأة استحساناً. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: بعث إلى امرأته متاعاً وبعث أن المرأة.... متاعاً ثم ادعى الزوج أن الذي بعث كان صداقاً كان القول قوله مع يمينه؛ لأنه هو المملك، فإن حلف والمتاع قائم فللمرأة أن ترد وترجع بما بقي منه، إن كان هالكاً لم يكن على الزوج شيء، وإن كان قائماً وقد بعثه الأب من مال نفسه فله أن يرجع فيه؛ لأن الواهب في هذه الصورة.... وقد وهبت من زوجها. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله ( «وفتاوى) أهل سمرقند» : تزوج امرأة وبعث إليها عبداً وعوضته المرأة على ذلك عوضاً، ثم زفت إليه ثم فارقها وقال: إنما بعثت إليك عارية وأراد أن يسترد ذلك وأرادت المرأة أن تسترد العوض فالقول قوله في الحكم لأنه أنكر التمليك وإذا استردّ ذلك من المرأة كان للمرأة أن تسترد منه ما عوضته عليه. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: اشترى لامرأته أمتعة بأمرها بعدما بيّن لها، ودفع إليها دراهم حتى اشترت هي أيضاً، ثم اختلفا فقال الزوج: هو من المهر، وقالت المرأة: هدية. فالقول قول الزوج أنه من المهر إلا أن يكون شيئاً مأكولاً. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: المختار أن ننظر إن كان ذلك من متاع سوى ما يجب على الزوج فالقول قوله أنه من المهر، وإن كان ذلك يجب على الزوج من الخمار والدرع ومتاع الليل ليس له أن يحتسبه من المهر؛ لأن الظاهر يكذبه. والخف والملاءة لا تجب عليه؛ لأنه ليس عليه إن نهى لها أمر الخروج. بعث إلى امرأة ابنه ثياباً ثم ادعى أنه بعث أمانة صُدِّق، وكذا لو ادعى بعد موت المرأة. وفي «مجموع النوازل» : بعث إلى امرأته أيام العيد دراهم وقال: إنها عيدي أو قال سم سكر فيصير متناقضاً في دعواه بعد ذلك أنه من المهر. امرأة ادعت على زوجها بعد وفاته أن لها عليه ألف درهم من مهرها، تُصدق في الدعوى إلى تمام مهر مثلها في قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن عنده يحكم مهر المثل فمن شهد له به بمهر المثل كان القول قوله مع يمينه. في «المنتقى» : بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله: إذا اختلف الزوج..... فإن أمر بشيء مسمىً وحلف عليه فالقول....، وإن لم يقرّ بشيء وحلف على ما ادعت جعلت لها وكثير من مهر مثلها ومما ادعت، قال وكذلك.... وورثتهما بعد موتهما. وفيه أيضاً: إذا قالت المرأة لزوجها: تزوجتني بغير شيء، وقال الزوج: تزوجتك على هذا العبد، فإن كان قيمة العبد مثل مهر مثلها أو أقل؛ مقدار ما يتغابن (208ب) الناس فيه فالمرأة بالخيار؛ إن شاءت أخذت عين العبد وإن شاءت أخذت قيمة العبد أقل

من مهر مثلها مقداراً ما لا يتغابن الناس فيه فلها مهر مثلها. وفيه أيضاً: قال هشام: قلت لمحمد رحمه الله: رجل أقام بينّة أنه تزوج هذه المرأة وكان عقد النكاح على ألفين وقال: المهر ألف. قلت: ولِمَ وقد يكون أن تقع عدة النكاح على ألف ثم يزيد بها يقيم البينة على الزيادة، قال هشام:....... محمد رحمه الله بأن القاضي لو كان حضر العقد على ألف وجاءت المرأة بألفين قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله في «المنتقى» وفي هذا الجواب نظر، وذكر في «المنتقى» : بعد هذه المسألة نورد ما يشبه الخلاف. قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن امرأة ادعت أن هذا الرجل تزوجها بالكوفة منذ سنة على ألفين، وأقامت على ذلك بينة، وأقام الزوج بينّة أنه تزوجها بالبصرة منذ سنتين على ألف، قال: البينة بينة المرأة، قلت وإن كان معها..... سنتين قال: وإن كان. نوع في بيان ما يستحق به جميع المهر المهر كما يتأكد بالدخول يتأكد بالخلوة الصحيحة عندنا؛ لأن البدل في عقود المعاوضات يُقدّر بتسليم من له البدل، لا بحقيقة استبقاء المبدل ألا ترى أن البائع إذا خلّى بين المبيع وبين المشتري، أو الآجر إذا اخلّى بين المستأجَر والمستأجر يتأكد البدل وإن لم يوجد القبض حقيقة، والمعنى فيه: أنا لو وقفنا بقدر البدل على استيفاء المبدل حقيقة؛ فمن عليه البدل يمنع عن الاستيفاء قاصداً الإضرار بمن له البدل، والضرر مدفوع شرعاً. وتعتبر الخلوة الصحيحة لأن ثمة مانع يمنعها لا حقيقة ولا شرعاً حتى لو كان أحدهما مريضاً مرضاً يمنع الجماع لا تصح الخلوة، وإن كان مريضاً مرضاً لا يمنع الجماع تصح الخلوة. والحاصل: أن المرض من جانبها مسوّغ بلا خلاف، وأما المرض من جانبه فقد قيل: إنه مسوغ أيضاً، وقيل: إنه غير مسوغ وأنه غير ممنوع، وأنه يمنع صحة الخلوة على كل حال، جميع أنواعه في ذلك على السواء. قال الصدر الشهيد رحمه الله: هو الصحيح، وكذا لو كان أحدهما محرماً بحجة فرض أو نافلة أو كانت المرأة حائضاً لا تصح الخلوة. وكذا إذا كان أحدهما صائماً في رمضان لا تصح الخلوة، واختلفت الرواية في غير صوم رمضان. قال القدوري رحمه الله: الصحيح أن الصوم للتطوع والقضاء والنذر لا يمنع، ولو كان معهما ثالث لا تصح الخلوة إلا أن يكون الثالث ممن لا يشعر بذلك، كصغير لا يعقل أو مغمى عليه، والمجنون كالصبي، وفي بعض المواضع: لو كان معهما مجنون أو مغمىً عليه لا تصح الخلوة ولو كان معهما أعمى أو نائم لا تصح الخلوة، ولو كانت ثمة أمته كان محمد رحمه الله أولاً يقول: تصح الخلوة، بخلاف ما إذا كانت ثمة أمتها، ثم

رجع وقال: لا تصح الخلوة، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، ولو خلا بها ومعها امرأة أخرى لهذا الزوج فقد أفتى محمد رحمه الله بالرقة أنه خلوة ثم رجع عنه وقال: ليس بخلوة. قال هشام: كان محمد رحمه الله يقول أولاً: للرجل أن يطأ امرأته بين يدي امرأة أخرى له، فجعل ذلك خلوة ثم رجع وقال: ليس له أن يطأها بين يدي امرأة أخرى له فلم يجعلها خلوة. والمكان الذي تصح فيه الخلوة: أن يأمنا فيه اطلاع غيرهما بغير إذنهما كالبيت والدار وما يشبهه. ولهذا لا تصح الخلوة في المسجد، والطريق الأعظم، والحمام، وكان شداد رحمه الله يقول: في المسجد والحمام إنه خلوة إذا كان ظلمة لأن الظلمة كالسترة إذ لا يراهما أحد. وفي «المنتقى» : إبراهيم عن (محمد) رحمه الله: رجل ذهب بامرأته إلى رستاق.... أو ما أشبه ذلك، وكان ذلك بالليل قال إن سار بها في طريق الجادة لا تكون خلوة، وإن عدل بها عن الطريق في موضع خالٍ كان خلوة. ولو حج بها ونزل المفازة من غير خيمة فليس بخلوة، وكذلك لو خلا بها في جبل. ولو خلى بها في بيت غير مسقوف فهو خلوة، وكذلك الكوخ ولو خلى بها على سطح من الدار فهو خلوة، ذكر مسألة السطح في «المنتقى» مطلقاً. قالوا: إذا لم يكن على جوانب السطح سترة لا تكون خلوة، وعلى قياس ما قاله شداد في مسألة المسجد والحمام أنه يكون خلوة. إذا كان في ظلمة يجب أن تكون خلوة في مسألة السطح إذا كان في ظلمة أيضاً. هشام عن محمد رحمه الله: إذا خلا بها في بستان ليس عليه باب يغلق فليس بخلوة، وإن كان لها باب وأغلق فهو خلوة. ولوخلا بها في محمل عليه قبة مضروبة ليلاً أو نهاراً، فإن كان يقدر أن يطأها فهو خلوة ولو خلا بها وبينها وبين النساء سترة من ثوب رقيق يرى منه؛ قال أبو يوسف رحمه الله: ليس هذا بخلوة، قال وكذلك لو كانت سترة قصيرة. قدرها لو قام إنسان رآهم، رواه بشر. المرأة إذا دخلت على الزوج ولم يكن معه أحد ولم يعرفها الزوج لا يكون هذا خلوة ما لم يعرفها، هكذا اختارٍ الفقيه أبو الليث رحمه الله؛ لأن الخلوة إنما تقام مقام الوطء إذا تحقق التسليم بالخلوة، وإذا لا يحصل بدون المعرفة، وقال الفقيه أبو بكر رحمه الله: تكون خلوة وكذلك إذا كانت نائمة. وإن عرفها الزوج ولم تعرفه فهو خلوة. هذه الزيادة من «مجموع النوازل» ، وفي «مجموع النوازل» أيضاً: سئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن تزوج امرأة فأدخلتها عليه أمها وخرجت وردت الباب إلا أنها لم تغلقه والبيت في خان يسكنها أناس كثيرة، ولهذا البيت طوائق مفتوحة، والناس قعود في ساحة

الخان ينظرون من بعيد هل تصح هذه الخلوة؟ قال: إن كانوا ينظرون في الطوائق يترصدون لهما وهما يعلمان بذلك لا تصح الخلوة، وأما النظر من بعيد والعقود في الساحة فغير مانع من صحة الخلوة، فإنهما يقدران أن ينتقلا في هذا البيت إلى زواية لا تقع أنظارهم عليهما، فقد قيل: إن الزوجين إذا اجتمعوا في بيت بابه مفتوح، والبيت في دار لا يدخل عليهما أحد إلا بإذن؛ فالخلوة صحيحة وإلا فلا. هذه جملة ما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله وعلى قياس ما روى بشر عن أبي يوسف رحمه الله، في السترة القصيرة ينبغي أن يقال في هذ المسألة: إذا كان البيت والطوائق بحيث لو نظر فيهما إنسان رآهما لا تصح الخلوة، ولو كان معهما كلب معقور لا تصح الخلوة وقيل في الكلب: إذا لم يكن عقوراً؛ إن كان كلب المرأة يمنع صحة الخلوة، وإن كان كلب الزوج لا يمنع. ولو خلا بها ولم تمكنه من نفسها فقد اختلف المتأخرون فيه. وفي طلاق «النوازل» : إذا قال لامرأته: إن خلوت بك فأنت طالق، فخلى بها يقع الطلاق وعليه نصف المهر؛ لأن الطلاق وقع عقيب الخلوة فلا فصل، فلم يكن متمكناً من الوطىء ليقام مقام الوطىء والخلوة بالرتقاء ليست بخلوة، وخلوة المجبوب خلوة صحيحة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما ليست بخلوة، هكذا ذكر الكرخي في مختصره. وفي «المنتقى» ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: لا توجب خلوة المجبوب بامرأته مهراً تاماً إلا أن تجيء بولد، فإن جاءت بولد لزمه وعليه المهر لأنهم زعموا أنه يحتمل. وخلوة العنين والخصي خلوة صحيحة، ثم إن أصحابنا رحمهم الله أقاموا الخلوة مقام الوطىء في حق بعض الأحكام دون البعض. أما الأحكام التي أقاموا الخلوة فيها مقام الوطىء تأكد جميع المسمى إن كان في العقد تسمية، وتأكد (209أ1) مهر المثل إن لم يكن في العقد تسمية، وثبوت النسب ووجوب العدة، ووجوب النفقة والسكنى في هذه العدة، وحرمة نكاح أختها ما دامت العدة قائمة، وحرمة نكاح أربع سواها، وحرمة نكاح الأمة عليها على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله في حرمة نكاح الأمة على الحرة في العدة عن الطلاق البائن، ومراعاة وقت الطلاق في حقها. وأما الأحكام التي لا تقوم الخلوة فيها مقام الوطء: فالإحصان حتى لا يصير محصناً بالخلوة، وحرمة البنات والإحلال للزوج الأول، والرجعة، والميراث حتى لو طلقها ثم مات في العدة لا ترث. أما وقوع طلاق آخر في هذه العدة فقد قيل: لا يقع، وقيل: يقع وهو أقرب إلى الصواب؛ لأن الأحكام لمّا اختلفت في هذا الباب يجب القول بالوقوع احتياطاً. وكام يتأكد جميع المهر بالدخول، وبالخلوة الصحيحة يتأكد بموت أحدهما. ولو فقلت الحرة نفسها فلها المهر عندنا، ولو كانت أمة فقتلها المولى فلا مهر عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: يجب المهر للمولى. ولو

قتلت الأمة نفسها فعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان: في رواية لا يجب، وفي رواية يجب، وهو قولهما. وإذا تأكد المهر لم يسقط وإن جاءت الفرقة من قبلها بأن.... أو طاوعت ابن زوجها بعدما دخل بها أو خلى بها وقبل ذلك يسقط جميع المهر لمجيء الفرقة من قبلها والله أعلم. نوع منه في بيان حكم المهر وما يجب لها بالطلاق قبل الدخول وللمطلقة قبل الدخول بها نصف المفروض لقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (البقرة: 237) وإن لم يكن في النكاح مفروضاً وفرض لها بعد العقد مهراً فرضيت به أو رفعت الأمر إلى القاضي ففرض لها مهراً ثم طلقها قبل الدخول بها؛ فعلى قول أبي يوسف الأول رحمه الله: لها نصف المفروض بعد العقد، وهذا أو المسمى في العقد سواء ثم رجع وقال: المتعة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن الفرض لمهر المثل. وعلى اعتبار الطلاق قبل الدخول لا يجب مهر المثل فلا يجب نصف المفروض. وعلى هذا إذا سمى لها مهراً ثم زاد لها في مهرها ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف المسمى مع نصف الزيادة. وعلى قوله الآخر وهو قول أبي حنيفة رحمه الله: ثم المتعة واجبة للمطلقة قبل الدخول إذا لم يسم لها مهراً. وكذلك في كل فرقة جاءت من قبل الزوج قبل الدخول بها ولم يسم لها مهراً فإنها مستحقة لكل مطلقة، يريد به المطلقة بعد الدخول بها إذا لم يكن في النكاح تسمية أو كان فيه تسمية والمطلقة قبل الدخول بها إذا كان في النكاح تسمية. وفي القدوري: وكل فرقة جاءت من قبل المرأة فلا متعة فيها، وإن كان من قبل الزوج ففيها المتعة. وفيه أيضاً: وكل فرقة من جهة الزوج بعد الدخول يُستحب فيها المتعة إلا أن ترتدّ أو تأبى عن الإسلام وفيه أيضاً: ولو خيّر المرأة فاختارت فهي فرقة من قبل الزوج، والمتعة ثلاث أثواب؛ قميص وملحفة ومقنعة وسطاً لا جيداً غاية الجودة فلا ولا رديء غاية الرداءة فيجب لها ذلك إلا (إذا) زاد ذلك على نصف مهر مثلها فلها الأثواب إلا أن تنقص قيمتها عن خمس دراهم. والحاصل: أن لها الأقل من نصف مهر المثل ومن المتعة إلا أن تكون قيمة المتعة أقل من خمس دراهم، فحينئذ لا تنقص عن خمسة، وهذا لأن مهر المثل هو للعوض الأصلي، ولكن تعذر بنصفه لجهالته، فيصير إلى المتعة خلفاً عنه فلا يجوز أن يزيد على نصف مهر المثل، فلا ينقص عن خمسة دراهم لأن المهر لا يكون أقل من عشرة دراهم. وإن كانت المتعة مثل نصف مهر المثل فلها المتعة، ويعتبر فيها حال الدخول لقوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} (البقرة: 236) أي: على قدره. وكان الكرخي رحمه الله يقول هكذا في المتعة المستحبة. وفي المتعة الواجبة يقول: يعتبر حالها؛ لأنها خلف عن مهر

المثل، وفي مهر المثل المعتبر حالها فكذا في خلفه. ولا متعة للمتوفى عنها زوجها سمى لها مهراً أو لم يسم، دخل بها زوجها أو لم يدخل، وكذلك كل نكاح فاسد فرق فيه بينهما قبل الدخول بها، وقبل الخلوة وبعد الخلوة، والزوج منكرٌ للدخول فلا متعة فيها؛ لأن المتعة خلف عن مهر المثل، وما هو الأصل لا يجب في النكاح الفاسد قبل الدخول، فكذلك ما هو خلف عنه، والعبد بمنزلة الحر في وجوب المتعة إذا كان النكاح بإذن المولى؛ لأنه مساوٍ الحر في سبب الوجوب وهو النكاح فيساويه في الموجب. ولو شرط مع المسمى ما ليس بمال نحو طلاق الضرة أو على أن لا يخرجها من البلدة، ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف المسمى وسقط الشرط، وكذا إذا شرط مع المسمى كرامتها، ولو تزوجها على أقل من عشرة ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف ما سمى وتمام خمسة دراهم، لأن العشرة في كونها مهراً لا تتجزأ، وذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر الكل فكأنه سمى عشرة، وكذا إذا تزوجها على ثوب يساوي خمسة دراهم وطلقها قبل الدخول فلها نصف الثوب ودرهمان ونصف. وإذا كان المهر في يدي الزوج وغنياً وطلقها قبل الدخول بها عاد الملك في النصف إلى الزوج بنفس الطلاق، حتى لو كانت أمة فأعتقها بعد العتق في النصف ولو كان مقبوضاً لم ينفسخ الملك بنفس الطلاق ولم يعد إلى ملك الزوج حتى يقضي القاضي عليها برد النصف أو تسلم هي النصف إلى الزوج، وذكر القدوري رحمه الله: لو كان الطلاق مقبوضاً لم ينفسخ الملك بنفس الطلاق حتى يفسخه الحاكم أو تسلمه المرأة أو يقول الزوج: قد فسخت، إلا رواية رويت عن أبي يوسف رحمه الله، فقد روي عنه في «النوادر» : أنه ينفسخ الملك في النصف بنفس الطلاق وإن كان الصداق مقبوضاً وهو قول زفر رحمه الله. والفرق: أن سبب ملكها في النصف يفسد بالطلاق قبل الدخول فيفسخ من وجه دون وجه؛ لأن الطلاق قبل الدخول إن كان قطعاً صورة فهو فسخ معنىً؛ لأن المقصود عليه يعود إلى ملكها بكماله كما خرج، فجعل فسخاً من وجه دون وجه. والأصل: أن العقد متى انفسخ من وجه دون وجه يعتبر فاسداً؛ لأنه لو انفسخ من كل وجه ارتفع أصل العقد وصفة الجواز جميعاً، ولو لم ينفسخ أصلاً بقي أصل العقد والجواز جميعاً، فإذا انفسخ من وجه دون وجه يرتفع الجواز ويبقى أصل العقد اعتباراً للمعنيين. وإذا ثبت أن سبب ملكها يفسد بالطلاق قبل الدخول فنقول: فساد السبب لا يمنع ثبوت الملك في البدل بعد القبض فأولى أن لا يمنع البقاء. أما فساد السبب قبل القبض يمنع ثبوت الملك في البدل فيمنع البقاء. وإنما ينتقض الملك بعد القبض بالقضاء أو بالرضا كما في المقبوض بحكم العقد الفاسد. وكذلك ينتقض بقول الزوج قد فسخت على (ما) ذكره القدوري رحمه الله لما ذكرنا أنه فسد سبب ملكها، ولكل واحد من المتعاقدين، فلأنه فسخ السبب الفاسد كما في البيع الفاسد، وبعدما وجد القضاء أو الرضا أو انتقض الملك يعتبر الانتقاض على حالة القضاء أو

الرضا حتى لو كان المهر مملوكاً أو اكتُسِبَ اكتساباً بعد الطلاق فالكسب يكون للمرأة، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في شرحه وفي «الجامع» ما يدل عليه. ولو كان المهر دراهم أو دنانير أو مكيلاً أو مقروناً في الذمة فقبضت وطلقها قبل الدخول (209ب1) بها، فعليها رد مثل نصف ما قبضت، وليس عليها رد عين المقبوض، لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في عقد النكاح فلا يتعينان في فسخه. ولو كان المهر عبداً في الذمة، أو إبلاً في الذمة، أو ثوباً في الذمة، ثم عيّنه ودفعه إليها ثم طلقها قبل الدخول فعليها رد نصف عين ما قبضت. من المشايخ من أبى ذلك وقال: إذا لم يكن العبد أو الإبل متعيناً وقت العقد فالمرأة لا تستحق عين العبد وعين الإبل، وإنما المستحق لها أحد الشيئين الوسط من المسمى أو قيمته، والخيار إلى الزوج، فعند فسخ النكاح بالطلاق قبل الدخول كيف يستحق الزوج عليها نصف العبد ونصف الإبل. ومنهم من صحَّحَ ذلك وقال: العبد والإبل إن لم يكن معيّناً وقت العقد إلا أن ما بعد تعيينه التحق بالمعين وقت العقد، وجعل كأن العقد من الابتداء ورد على هذا المعين وإنما التحق بالمعين وقت العقد ضرورة أنه لو لم يلتحق وجب عليها بالطلاق قبل الدخول ما وجب على الزوج بالعقد فلا وجه إليه؛ لأنه يقع التفاوت بين مثل نصف المقبوض؛ وبين نصف المقبوض لأن الحيوان ليس من ذوات الأمثال وكذا يقع التفاوت بين مثل نصف المقبوض وبين قمته لأن القيمة إنما تعرف بالحزر والظن وعليها رد مثل نصف المقبوض بلا زيادة ولا نقصان والتحرز عن هذا التفاوت ممكن بإيجاب رد نصف المقبوض وإلحاق المقبوض بالعين وقت العقد، وألحقنا المقبوض بالمعين وقت العقد فأوجبنا رد نصف المقبوض بخلاف ابتداء العقد؛ لأن الاحتراز عن هذا التفاوت في ابتداء العقد بإيجاب المعين غير ممكن رده ... حالة العقد غير متعين. أما بعد الطلاق تعين المقبوض بالقبض، فأمكن إيجاب نصفه احترازاً عن التفاوت، فأوجبنا ذلك، وهذا بخلاف الدراهم والدنانير؛ لأن الدراهم والدنانير بالتعيين لا تلتحق بالمعين وقت العقد وكيف تلتحق وإن تعيينها وقت العقد لا يصح. إذا وقعت الفرقة بين الزوجين بمعنى من قبل الزوج قبل الدخول بها إن وقعت بالطلاق لفظاً وحكماً أو حكماً لا لفظاً يوجب سقوط نصف الصداق. وإن وقعت بما هو فسخ من كل وجه بأن لم يوجد لفظ الطلاق ولا حكمه يوجب سقوط كل الصداق، وهذا لأن الفرقة من قبل الزوج قد تكون بماهو فسخ من كل وجه، ألا ترى أن غير الأب والجد إذا زوج الصغير امرأة ثم بلغ قبل الدخول واختار الفرقة وفسخ القاضي العقد بينهما كان ذلك فسخاً من كل وجه حتى يسقط الصداق، ففي كل موضع وجد الطلاق لفظاً أو ثبت حكمه كانت الفرقة بالطلاق قد سقط نصف الصداق. وفي كل موضع لم يوجد الطلاق لفظاً أو لم يتثبت حكمه كانت الفرقة بحكم الفسخ

فيوجب سقوط كل الصداق، وصارت الفرقة الواقعة من قبل الزوج بحكم الفسخ نظير الفرقة الجائية من قبل المرأة قبل الدخول بها، وإنها فسخ من كل وجه؛ لأنه تعذر أن تُجعل ذلك الفرقة بالطلاق؛ لأنها لا تملك الطلاق وتملك الفسخ؛ لأنها تفسخ النكاح بخيار البلوغ وعدم الكفاءة فاعتبر فسخاً من كل وجه فيوجب سقوط كل الصداق، وهذا لأن سقوط نصف المهر بالطلاق قبل الدخول عرف بخلاف القياس بالشرع، فإنه فسخ معنى لأن به يعود المعقود عليه إلى مُلك العاقد كما خرج عن ملكه من غير سبب جديد طلاقاً حقيقة وحكماً، وكل ما كان في معناه من كل وجه أو من وجه يلتحق به وما (لا) فلا. ولهذا قلنا: إذا ارتد الزوج أو قبّل أم امرأته بشهوة قبل الدخول بها سقط نصف الصداق لأنه فسخ معنى وطلاق حكماً، فإن حكم الطلاق ثبوت الحرمة وقد ثبتت الحرمة والزوج يملك إثبات الحرمة بالطلاق فيعتبر طلاقاً في حق المرأة فيوجب سقوط النصف. وإذا اشترى منكوحته قبل الدخول بها سقط كل الصداق، والفرقة جاءت من قبل الدخول بها، ومع هذا سقط الصداق كله؛ لأن الفرقة وقعت بما هو فسخ من كل وجه؛ لأنه لم يوجد الطلاق لا لفظاً ولا حكماً، فإن الحرمة لم تثبت هنا، هذه الجملة في «شرح الجامع» . وفي «المنتقى» : رجل وكل رجلاً بشراء امرأته فاشتراها الوكيل من المولى حتى فسد النكاح، فلا مهر للمولى. ولو باعها المولى من رجل ثم إن الزوج اشتراها من المشتري فعليه نصف المهر للمولى الأول لأن في هذا الوجه لم يكن من قبله معونة على فساد النكاح. ولو وكل الرجل من يشتريها له ووكل المولى من يبيعها فاشتراها وكيل الزوج من وكيل المولى فقد بطل المهر. ولو باعها المولى من أجنبي وخرج المشتري بها إلى بلدة أخرى وعلى الزوج في السفر إليها مؤنة فلا مهر لها على الزوج حتى يؤتى بها في قول أبي حنيفة رحمه الله، وكذلك في قول أبي يوسف رحمه الله. نوع منه في المهر يزيد أو ينقص في يد الزوج أو في يد المرأة فطلقها الزوج قبل الدخول بها أو أخذت الزيادة في يد الزوج في المهر، فإن كانت متصلة كالسمن والجَمَال فإنها تنصف مع الأصل بالطلاق قبل الدخول بالإجماع، وإن كانت منفصلة فإن كانت متولدة من العين كالولد أو كانت مستفادة بسبب العين كالعفو والأرش فإنها تنصف مع الأصل بالإجماع لأن هذه الزيادة صداق بمنزلة الزيادة المتولدة من مبيع المبيع على ما يأتي بيانه في تلك المسألة. وللقبض شبه بالعقد فكانت الزيادة الموجودة لدى العقد، وإن كانت الزيادة مستفادة بسبب المنافع كالكسب والغلّة. والأصل يتنصف بالطلاق قبل الدخول بالإجماع. وأما الزيادة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا تتصف بل تكون كلها للمرأة. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تنصف الزيادة مع الأصل. قال القدوري رحمه الله في

شرحه: ولو أخر الزوج المهر فالأجرة له ويتصدق بها، وهذا لأن المنافع إنما تتقوم بالعقد عندنا، والعقد كان من الزوج غير أنه يتصدق بالأجرة لأنها حصلت عن محل مملوك للغير فدخل الخبث هذا إذا حدثت الزيادة في يد الزوج. وإن حدثت الزيادة في يد المرأة ثم طلقها قبل الدخول فهذه الزيادة لا تنصف بلا خلاف وهل منع تنصف الأصل، فإن كانت الزيادة منفصلة وقد استفيدت بسبب المنافع كالكسب والغلة يمنع تنصف الصداق. وإن كانت الزيادة متولدة من العين كالولد أو كانت مستفادة سبب العين كالإرث يمنع تنصف الأصل، وعلى المرأة نصف قيمة الأصل يوم قبضت، فكذلك لو لم يطلقها الزوج في هذه الصورة، لكنها ارتدت أو قبّلت ابن زوجها فعليها رد جميع القيمة يوم القبض فصار أثر الردة في حق الكل بمنزلة أثر الطلاق في حق الطلاق. فروي عن أبي يوسف رحمه الله في الردة والتقبيل أنه يجب عليها رد الأصل والزيادة. فرّق (210أ1) بين الزيادة والتقبيل وبين الطلاق، وإن كانت الزيادة الحادثة في يد المرأة متصلة؛ كالسمن والجمال فإنها تمنع تنصف الأصل عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعلى المرأة نصف قيمة الأصل يوم القبض. وقال محمد رحمه الله لا يمنع تنصف الأصل. ولو هلكت هذه الزيادة ثم طلقها كان لها نصف الأصل لأن المانع من التنصيف قد ارتفع، ولو حدثت هذه الزيادة في يد المرأة بعد الطلاق أو الزيادة ثبت حق الزوج في الزيادة. هكذا ذكر القدوري رحمه الله؛ لأن الصداق في يدها في هذه الصورة بمنزلة المقبوض بحكم العقد الفاسد، فيجب عليها الرد بزوائدها المتصلة والمنفصلة جميعاً. وفي «المنتقى» : قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن رجل تزوج امرأة على نخيل صغار طول النخلة قدر شبر وسلمها إليها، فمكثت حتى صارت النخيل طول الرماح إلا أنها لم تحمل ثم طلقها قبل الدخول بها قال: له أن يأخذ بعضها بالعدد. فقد أشار إلى الزيادة المتصلة في يد المرأة تنصف، وأنه يخالف رواية الأصل كما بيّنا. قال هشام: قلت: فإن تزوجها على زرع حنطة بعل ودفعه إليها، وأعارها الأرض حتى بلغ الزرع وانعقد الحب قال: إن كان الحب قد استبدَ فلا سبيل للزوج على الزرع؛ لأنه قد خرج من الحالة التي تزوجها عليها. قلت: فإن تزوجها على عشرين شاة عجاف فأحسنت إليها حتى حملت ودرّ اللبن من ضروعها ثم طلقها قبل أن يدخل بها قال: يأخذ بعضها على حالها. هذا هوالكلام في الزيادة. جئنا إلى النقصان فنقول: إذا انتقص المهر في يد الزوج ثم طلقها قبل الدخول بها فهذا على وجوه: أحدها: أن يكون النقصان بآفة سماوية وأنه على وجهين: إن كان النقصان يسيراً كان لها نصف الخادم معيناً من غير ضمان النقصان، ليس لها غير ذلك، وإن كان النقصان فاحشاً فلها الخيار؛ إن شاءت تركت المهر على الزوج وضمنته نصف قيمته يوم العقد، وإن شاءت أخذت نصف الخادم معيناً من غير أن يضمن الزوج ضمان النقصان.

الوجه الثاني: أن يكون بفعل الزوج فإنه على وجهين أيضاً: إن كان النقصان يسيراً فإنها تأخذ نصف الخادم على الزوج وتضمنه قيمة الخادم، وإن كان النقصان فاحشاً إن شاءت أخذت نصف قيمة الخادم يوم العقد وتركت الخادم، وإن شاءت أخذت نصف الخادم وضمن الزوج نصف قيمة النقصان. الوجه الثالث: أن يكون النقصان بفعل المرأة، وفي هذا الوجه لها نصف الخادم لا شيء لها غير ذلك، فلا خيار لها سواء كان النقصان يسيراً أو فاحشاً. الوجه الرابع: أن يكون النقصان بفعل الصداق، ففي ظاهر الرواية كالنقصان بآفة سماية، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه بمنزلة تعييب الزوج. الوجه الخامس: أن يكون النقصان بفعل الأجنبي وأنه على وجهين: إن كان يسيراً فإنها تأخذ نصف الخادم ويضمن الأجنبي نصف قيمة النقصان ليس لها غير ذلك. وإن كان فاحشاً إن شاءت أخذت نصف الخادم وأتبعت الأجنبي بنصف قيمة النقصان وإن شاءت تركت الخادم على الزوج وأخذت من الزوج نصف قيمة الخادم يوم العقد، ثم الزوج أتبع الجاني علة النقصان. هذا إذا حصل النقصان في يد الزوج. فإن حصل النقصان في يد المرأة ثم طلقها قبل الدخول بها، فإن كان بآفة سماوية والنقصان يسيراً أخذ الزوج نصف المهر معيباً ليس له غير ذلك. وإن كان النقصان فاحشاً إن شاء أخذ النصف كذلك معيباً من غير ضمان النقصان، وإن شاء ترك ذلك على المرأة وضمنها نصف قيمته صحيحاً يوم القبض؛ لأن قبضها غير مضمون عليها؛ لأنها قبضت ملك نفسها، فما أخذت من النقصان لا يكون مضموناً عليها، لكن الزوج يتخير لأنه وجب عليها الرد كما قبضت وإن كان النقصان في يد المرأة بعد الطلاق ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله: أن هذا وما لو كان النقصان قبل الطلاق سواء، وعامة المشايخ على أن للزوج أن يأخذ بعضها مع نصف النقصان وهكذا ذكر القدوري رحمه الله في شرحه وهو الصحيح لما ذكرنا أن الصداق في يد المرأة بعد الطلاق بمنزلة المقبوض بحكم يقع فاسداً فيكون مضموناً بجميع أجزائه، وإن شاء أخذ نصف قيمته يوم قبضت. وإن كان النقصان قبل الطلاق أو بعد الطلاق بفعل المرأة فهذا وما لو كان النقصان بآفة سماوية سواء. وإن كان النقصان بفعل المهر فكذلك الجواب أيضاً. وإن كان النقصان قبل الطلاق بفعل الأجنبي ينقطع الرجوع عن المهر وعليها نصف القيمة للزوج يوم قبضت؛ لأن الأجنبي قد ضمن الأرش فتصير هذه زيادة منفصلة إلا أن تكون هي أبرأت الزوج عن الجناية أو هلك الأرش في يدها قبل الطلاق، فحينئذ يتنصف المهر لزوال المانع. وإن كان النقصان بعد الطلاق: ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله: أن هذا وما لو حصل النقصان قبل الطلاق سواء، وذكر القدوري رحمه الله: في شرحه أن الزوج يأخذ نصف الأصل وهو بالخيار في الأرش، إن شاء أتبع الجاني وأخذ منه نصف الأرش، وإن شاء أخذ من المرأة لما ذكرنا أن الصداق في يدها بعد الطلاق بمنزلة المقبوض بحكم عقد فاسد فيكون مضموناً عليها.

وإن كان النقصان قبل الطلاق بفعل الزوج فهذا وما لو كان النقصان بفعل الأجنبي سواء؛ لأن الزوج ضمن الأرش كالأجنبي، فصار الجواب في حقه كالجواب في حق الأجنبي. وإن هلك الصداق في يد الزوج ثم طلقها قبل الدخول بها فلها على الزوج نصف القيمة يوم العقد. وإن هلك في يد المرأة وطلقها قبل الدخول بها فله على المرأة نصف القيمة يوم القبض والله أعلم بالصواب. نوع منه في المرأة تهب الصداق من زوجها ثم يطلقها الزوج قبل الدخول بها الصداق لا يخلو أن يكون ديناً، كالدراهم والدنانير والمكيل والموزون في الذمة لها، فلا رجوع له عليها بشيء سواء وهبت قبل القبض أو بعد القبض؛ لأن عين ما وجب رده عاد إلى الزوج، وكذلك لو كان المهر حيواناً في الذمة أو عروضاً في الذمة فأعطاها حيواناً وسطاً أو عرضاً وسطاً ثم وهبته من الزوج لما مر أنه يلتحق بالمعين وقت العقد، ولو كان المهر ديناً فوهبته منه قبل القبض ثم طلقها قبل الدخول بها لا يرجع عليها بشيء عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله. ولو قبضت ذلك منه ثم وهبته منه رجع عليها بنصف المقبوض؛ لأن رد العين ليس بواجب، ألا ترى أن لها أن تمسك المقبوض وترد مثله، فصار كأنها وهبته مالاً آخر. ولو قبضت النصف ووهبت منه النصف الباقي ثم طلقها قبل الدخول بها؛ قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يرجع عليها بشيء. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يرجع بنصف المقبوض، هكذا ذكر في «الأصل» وفي «القدوري» ، ولم يذكر ما إذا وهبت النصف المقبوض. ذكر في «المنتقى» إبراهيم عن (210ب) محمد رحمها الله إذا تزوج امرأة على ألف ودفع إليها خمس مائة ثم إنها وهبت من الزوج الخمس مائة المقبوضة ثم طلقها الزوج قبل الدخول بها فلا رجوع له عليها، ولو دفع إليها ست مائة ووهبتها منه ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بمائة. علل فقال: لأن ما وقع إليها بينهما نقصان: وما بقي بينهما نقصان بيانه: أن رد عين المقبوض ليس بواجب عيلها بل لها أن تمسك المقبوض وتردّ مثله مكانها، وهبت بالآخر وبقيت الستمائة المقبوضة مهراً في يدها على حالها، فتنصفت الستمائة بالطلاق قبل الدخول بها كما تنصفت الأربعمائة التي بقيت في الذمة، فمئتان بمائتين وبقيت له مائة. ولو كانت الستمائة التي دفعها إليها والأربعمائة الباقية رجع عليها بثلاث مائة وهو بناءً على ما قلنا. وفيه أيضاً: لو دفع الألف كلها إليها ثم اختلعت منه بألف قبل أن يدخل بها رجع عليها في القياس بخمس مائة. وفي الاستحسان: لا يرجع عليها بشيء. وفي الأصل: إذا وهبت الصداق من أجنبي وسلطته على قبضه فقبض ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بنصفه. ولو قبضت الصداق ووهبته من أجنبي ثم الأجنبي وهبه من الزوج، ثم طلقها قبل الدخول بها رجع

عليها بالنصف الدين والعين فيه على السواء، وهذا لأن المستحق للزوج بالطلاق قبل الدخول سلامة نصف المهر من جهة المرأة من غير عوض ولم يوجد ذلك هنا. وفي القدوري: لو باعته المهر ووهبته على عوض ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بنصف القيمة، وتعتبر القيمة يوم البيع، ولو كانت قبضت ثم باعت اعتبرت القيمة يوم القبض. نوع منه في وجوب المهر بلا نكاح إذا وطىء جارية الابن مراراً فعليه مهر واحد، وإذا وطىء جارية الأب مراراً أو ادعى الشبهة فعليه بكل وطئة مهر، وهذا لأن الثابت في حق الأب شبهة ملك فكان الوطىء الثاني استيفاء بملكه. ومن استوفى منفعة ملكهِ مراراً لا يلزمه إلا بَدَلٌ واحدفي ابتداء.... والثابت في حق الابن بشبهة اشتباه فكان كل وطىء استيفاء ملك الغير فيجب بكل وطء مهر. وعلى هذا إذا وطىء جارية امرأته مراراً يجب بكل وطىء مهر؛ لأن له شبهة اشتباه. ولو وطىء مكاتبته مراراً فعليه مهر واحد لأن له شبهة ملك. هذه الجملة في «واقعات» الناطفي وإذا وطىء أحد الشريكين الجارية المشتركة مراراً يجب بكل وطئة نصف مهر إذ ليس له في النصف الثاني شبهة ملك فصار بمنزلة جارية ووطئها مراراً ثم استحقت فعليه مهر واحد. وإذا استحق نصفها فعليه نصف مهر. وفي «نوادر» هشام أيضاً عن محمد رحمه الله في صبي ابن أربع عشر سنة جامع امرأة ثيباً وهي نائمة لا تدري فلا مهر عليه. وإن كانت بكراً فأفضاها فعليه المهر. وكذلك المجنون. وفي آخر حدود شيخ الإسلام رحمه الله: الصبي إذا زنى بصبيّةٍ فعليه المهر؛ لأنه مؤاخذ بأفعاله، فإن أُمر الصبي بذلك فلا مهر عليه. وإذا زنى الصبي بامرأة حرة بالغة فأذهب عذريتها؛ إذا كانت مكرهة ضمن الصبي المهر، وإن كانت طائعة دعته إلى نفسها فلا مهر عليه. والصبية إذا دعت صبيّاً إلى نفسها فأذهب عذريتها فعليه المهر؛ لأن أمرها لم يصح في إسقاط حقها بخلاف البالغة. والأمة إذا دعت صبيّاً وزنى بها لزمه المهر؛ لأن أمرها لا يصح في حق المولى. وفي «واقعات الناطفي» : إذا وطىء منكوحته مراراً ثم ظهر أنه كان حَلَفَ بطلاقها يلزمه مهر واحد؛ لأن له شبهة ملك. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل طلّق امرأته وهو يجامعها ثم تم على جماعه إياها حتى قضى حاجته منها فلا حدّ عليه ولا مهر، إلا أن يكون أخرجه بعد الطلاق ثم عاد إلى المخالطة فيكون ذلك جماعاً مستقبلاً؛ لأن الجماع ليس بجماع

تام إلا بابتداء إدخاله ثم بإخراجه. فإذا كان الجماع أوّله وآخره حلالاً فهذا ليس بجماع تام على الحرمة فدرأت عنه الحد ولم ألزمه، قال: وكذلك ثم تم على جماعه ثم طلقها فإني أدرأ عنه الحد وألزمه مهرين؛ مهر بابتداء الغشيان ومهر آخر بالتزوج لأن مكثه على الجماع لا يكون أولى من الخلوة في إيجاب المهر. ألا ترى أنها لو حملت من جماعه ذلك كان ابنه، ولا أجعل هذا منه إحصاناً. وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل غصب امرأة وجامعها فيما دون الفرج وجاءت بولد، فإن كانت بكراً فعليه المهر، وإن كانت ثيبّاً فلا مهر عليه. وعنه أيضاً: إذا وطىء الرجل امرأته أبيه من قبل أن يدخل بها الأب وإن كان علم أنها امرأة أبيه فعليه لها مهر بالدخول، ونصف المهر للأب بما أفسد عليه، فإن كان لا يعلم أنها امرأة أبيه فعليه لها مهر الدخول، وعلى الأب لها نصف المهر في قولي وفي قول أبي حنيفة رحمه الله. قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله. ذكر هذه المسألة بخلاف هذا في رواية بشر. وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف رحمه الله لو أن أخوين تزوج أحدهما بامرأة، والآخر بابنتها فأدخلت كل واحدة منهما على غير زوجها منهما ودخل بها فقد بانت منهما امرأتاهما، وعلى كل واحد منهما نصف المهر، وللتي وطئها مهر مثلها وليس لواحد منهما أن يتزوج بامرأته بعد ذلك، ولزوج الأم أن يتزوج بالابنة التي وطئها وإن كانت هي ربيبته إلا أنه لم يدخل بالأم. وليس لزوج الابنة أن يتزوج الأم التي وطئها لأنها أم امرأته، وكذلك لو لم يكن بين الزوجين قرابة. وفي «المنتقى» : رجل وابنه تزوجا امرأتين أجنبيتين فأدخلت كل واحدة منهما على زوج صاحبتها، فعلى كل واطىء مهر التي وطئها ولا شيء عليه لامرأته؛ لأن الوطء كان بمطاوعةٍ منها والآخر بابنتها فأدخلت امرأة الأب على الابن وأدخلت امرأة الابن على الأب فوطئاهما فإن على الواطىء الأوّل نصف مهر امرأته وجميع مهر الموطوءة فلا شيء على الواطىء الآخر من مهر امرأته فإن كان الوطء منهما معاً فلا شيء على واحد منهما لامرأته. وفيه أيضاً: إذا قال لامرأته ولم يدخل بها: أنت طالق حين أخلو بك أو قال: إذا خلوت بك، فخلى بها وجامعها فعليه مهر ونصف مهر بالدخول، ونصف مهر بالطلاق قبل الدخول، ولا أثر للخلوة في هذه الصورة في تأكيد المهر؛ لأن المهر إنما يتأكد بالخلوة إذا كانت فيها مُدّة يمكنه الدخول فيها. وإن لم يكن جامعها بعد الخلوة فعليه نصف المهر. وفيه أيضاً: إذا قال لأجنبية: إذا تزوجتك وخلوت بك ساعة فأنت طالق فتزوجها وخلى بها وقع الطلاق عليها ولها مهران: مهر بالخلوة، ومهر بالدخول بعد الخلوة

الفصل السادس عشر في النكاح الفاسد وأحكامه

بساعة. وإن كان الدخول مع الخلوة لم يكن عليه إلا مهرٌ لأن الطلاق وقع بعد الدخول. في «العيون» : إذا قال لامرأة: كلما تزوجتك فأنت طالق، فتزوجها في يوم واحد ثلاث مرات ودخل بها في كل مرّة (211أ1) فهي امرأته وعليه مهران ونصف وقد وقعت تطليقتان على قياس قول أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف رحمهما الله؛ لأنه لما تزوجها أولاً وقعت تطليقة ووجب نصف مهر، فلما دخل بها وجب مهر كامل؛ لأن هذا وطىء عن شبهة في المحل ووجبت العدة، فإذا تزوجها ثانياً وقع طلاق آخر. وهذا الطلاق بعد الدخول معنى، فإن من تزوج المعتدة وطلقها قبل الدخول بها عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله يكون هذا الطلاق بعد الدخول معنى فيجب مهر كامل فصار مهران ونصف. فإذا دخل بها فقد دخل بها وهي معتدة عن طلاق رجعي فصار مراجعاً، ولا يجب بالوطىء شيء، فإذا تزوجها ثالثاً لا يصح النكاح؛ لأنه تزوجها وهي منكوحة. ولو قال: كلما تزوجتك فأنت طالق بائن والمسألة بحالها بانت بثلاث وعليه خمس مهور ونصف مهر في قياس قولهما يخرج على الأصل الذي بينّا. ذكر نجم الدين النسفي رحمه الله تفسير العقر الواجب بالوطء في بعض المواضع حاكياً عن القاضي الإمام الإسبيجابي رحمه الله: أن ينظر بكم يستأجر هذه المرأة بالوطء لو كان الاستئجار بالوطء حلالاً. وفي «واقعات الناطفي» في آخر كتاب البيوع أن تفسيره عند أبي حنيفة رحمه الله أن ينظر بكم يتزوج به مثلها وأحاله إلى اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى رحمهما الله. الفصل السادس عشر في النكاح الفاسد وأحكامه إذا وقع النكاح فاسداً وفرق القاضي بين الزوج وبين المرأة فإن لم يكن دخل بها فلا مهر لها ولا عدة، وإن كان قد دخل بها فلها الأول (إن) لم يكن دخل مما سمى لها ومن مهر المثل إن كان ثمة مسمى، وإن لم يكن ثمة مسمى فلها مهر المثل بالغاً ما بلغ وتجب العدة. ويعتبر الجماع في القبل حتى يصير مستوفياً المعقود عليه، وتعتبر العدة من حين يفرق بينهما عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، ولكل واحد من الزوجين فسخ هذا النكاح بغير محضر من صاحبه عند بعض المشايخ، وعند بعضهم إن لم يدخل بها فكذلك الجواب. وإن دخل بها فليس لواحد منهما حق الفسخ إلا بمحضر من صاحبه، كما في البيع الفاسد لكل واحد من المتعاقدين حق الفسخ بغير محضر من صاحبه قبل القبض فليس له ذلك بعد القبض. وإن فرّق القاضي بين الزوج وامرأته بحكم فساد النكاح وكان ذلك بعد الدخول بها وجبت عليها العدة، ثم تزوجها في العدة نكاحاً صحيحاً، ثم طلقها قبل الدخول بها فلها

المهر الثاني كاملاً وعليها العدة مستقبلة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد رحمه الله: يجب نصف المهر الثاني وتلزمها بقية العدة الأولى. وكذلك لو كان النكاح الأول صحيحاً وطلقها تطليقة بائنة بعد ما دخل بها، ثم تزوجها في العدة ثم طلقها في النكاح الثاني قبل الدخول بها فلها المهر الثاني كاملاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. فالحاصل: أن في الدخول في النكاح الأول دخول في النكاح الثاني إذا حصل النكاح الثاني في العدة، وأجمعوا على النكاح الثاني لو كان فاسداً وفرق بينهما قبل الدخول بها في النكاح الثاني أنه لا يجب المهر الثاني؛ لأن الدخول في النكاح الأول إنما اعتبر دخولاً في النكاح لتمكنه من الدخول شرعاً، وذلك بالعقد الفاسد لا يكون. وبهذا الطريق قلنا: إن الخلوة في العقد الفاسد لا توجب المهر والعدة، هذه الجملة في نكاح «الأصل» في باب الأكفاء. ذُكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل تزوج امرأة نكاحاً فاسداً وجاءت بولد أتى بستة أشهر ثبت النسب، فالنكاح الفاسد بعد الدخول في حق النسب بمنزلة النكاح الصحيح ويعتبر أقله وذلك ستة أشهر من وقت النكاح عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد رحمه الله من وقت الدخول. قال الفقيه أبو الليث: والفتوى على قول محمد رحمه الله؛ لأن النكاح الصحيح إنما يقام مقام الوطء؛ لأنه داعٍ إليه شرعاً، والنكاح الفاسد ليس بداعٍ فلا يقام مقام الوطء. وذكر في كتاب الدعوى في «الأصل» : إذا تزوجت الأمة بغير إذن مولاها ودخل الزوج ثم ولدت لستة أشهر منذ تزوجها، فادعاه المولى والزوج فهو ابن الزوج؛ لأن النكاح الفاسد عند اتصال الدخول به في حق النسب ملحق بالنكاح الصحيح، والجواب في النكاح الصحيح ما قلنا فكذا هنا، فقد اعتبر المدة من وقت النكاح فإنه وضع المسألة فيما إذا ولدت لستة أشهر منذ تزوجها، ولم يحك خلافاً. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذه المسألة دليل على أن الفراش ينعقد بنفس العقد في النكاح الفاسد، خلافاً لما يقوله بعض مشايخنا لا ينعقد إلا بالدخول. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً: أن الفراش لا ينعقد بالنكاح الفاسد إلا بالدخول. وتأويل هذه المسألة على (ما) ذكره شيخ الإسلام: أن الدخول كان عقيب النكاح بلا فصل، فتكون المدة في وقت النكاح وفي وقت الدخول سواء. إذا تزوجها نكاحاً فاسداً وخلا بها وجاءت بولد وأنكر الزوج الدخول فعن أبي يوسف رحمه الله روايتان، في رواية قال: يثبت النسب ووجب المهر والعدة، وفي رواية قال: لا يثبت النسب ولا يجب المهر ولا تجب العدة وهو (قول) زفر رحمه الله، وإن لم يخل بها لا يلزمه الولد. في «مجموع النوازل» الطلاق في النكاح الفاسد ليس بطلاق على الحقيقة بل هو متاركة، حتى لا ينتقص من عدد الطلاق، والمتاركة في النكاح الفاسد لا تتحقق بعدم

الفصل السابع عشر في ثبوت النسب

مجيء كل واحد منهما إلى صاحبه، وإنما تتحقق بالقول بأن يقول الزوج مثلاً: تركتك، تركتها خليت سبيلك، خليت سبيلها والله أعلم بالصواب. الفصل السابع عشر في ثبوت النسب قال محمد رحمه الله في كتاب الدعوى: إذا تزوج الزوج جارية وجاءت بولد فقال الزوج: تزوجتك منذ شهر، وقالت المرأة: لا بل منذ سنة فإن الولد ثابت النسب، وإن كانا تصادقا أنه تزوجها منذ شهر لم يثبت نسب الولد منه. وإن قامت البيّنة بعدما تصادقا أنه تزوجها منذ سنة قبلت. أما إذا كان الولد كبيراً وقد أقام البينة بنفسه فهذا الجواب ظاهر؛ لأن هذه بينة قامت من خصم على خصم. وأما إذا كان الولد صغيراً فقد تكلّم المشايخ في تخريج المسألة، بعضهم قالوا: القاضي ينتصب خصماً عن الصغير لأن النسب حق الصغير، فينتصب عنه خصماً لتكون البينة قائمة ممن هو خصم، ثم الخصم إنما يقيم البينة على الزوج هنا؛ لأن النسب ثابت منهما على كل حال. وبعضهم قالوا: يسمع البينة من غير أن ينتصب عنه خصماً بناء على أن الشهادة على النسب هل (211ي1) يقبل جنسه من غير دعوى، وقد اختلف مشايخنا فيه منهم من قال يقبل. وزعم أن هذه المسألة تدل عليه، وإذا كان الصبي في يدي امرأة فقال رجل للمرأة: هذا ابني من نكاح وقالت المرأة: هو ابنك من زنى لم يثبت نسبه، لإنكارها ما ادعاه من الفراش. وإن قالت بعد ذلك: هو ابنك من نكاح ثبت نسبه منهما؛ لأنها أقرّت له بالنكاح بعدما أنكرت، والإقرار بعد الانكار صحيح، فثبت النكاح بينهما، فمن ضرورته ثبوت نسب للولد منهما. وإذا كان الولد في يد رجل وامرأته فقال الزوج: هذا الولد من زوج كان لك قبلي، وقالت المرأة: بل هو منك فهو منه؛ لأن السبب بينهما ظاهر وهو الفراش، وما ادعاه الرجل غير معلوم. رجل تحته امرأة وفي يدي المرأة ولد والولد ليس في يد الزوج فقالت المرأة: تزوجتني بعدما ولدت هذا الولد من زوج قبلك، وقال الزوج: لا بل ولدته في ملكي فهو ابن الزوج لما بيّنا أن السبب ظاهر بينهما. ولو كان الولد في يد الزوج دون المرأة فقال: هو ابني من غيرك، فقالت هو ابني منك فالقول قول الزوج، ولا تصدق المرأة، بخلاف ما سبق. والفرق أن قيام الفراش بينه وبينها لا يمنع فراشاً آخر على غيرها إما بنكاحٍ أو ملك. فإذا كان الولد في يده كان بيان نسبته إليه في أي فراش حصل. أما ثبوت الفراش له

عليها يمنع فراشاً لغيره عليها فكان هذا الفراش في حقها متعيناً، وباعتباره ثبت النسب من هذا الزوج.d قال أصحابنا رحمهم الله: لثبوت النسب مراتب ثلاثة أحدها: النكاح الصحيح وما هو من معناه في الزواج الفاسد، والحكم فيه أنه يثبت النسب من غير دعوى، ولا ينتفي بمجرد النفي وإنما ينتفي باللعان، فإن كانا ممن لا لعان بينهما لا ينتفي نسب الولد. والثاني: الولد والحكم فيه أن نسب ولدها ثبت بدون الدعوى ولكن ينتفي لمجرد النفي. الثالث: الأمة والحكم فيه أن نسب ولدها لا يثبت بدون الدعوى، قالوا وإنما يثبت نسب ولد أم الولد بدون الدعوى إذا كانت بحال يحل للمولى وطئها، وأما إذا كانت بحال لا يحل للمولى وطئها لا يثبت النسب بدون الدعوى حتى أن المولى إذا كانت أم ولده فجاءت بولد بعد ذلك لا يثبت نسبه بدون الدعوى. وكذلك الجارية إذا كانت بين رجلين جاءت بولد.... حتى يثبت النسب منهما ثم جاءت بولد آخر لا يثبت نسب هذا الولد بدون الدعوى. وفي «الواقعات» إذا غاب عن امرأته وهي بكر أو بنت عشر سنين فتزوجت وجاءت بالأولاد فالأولاد من الزوج الأول عند أبي حنيفة رحمه الله، ووضع المسألة في «الأصل» فيما إذا نُعِيَ إلى المرأة زوجها فاعتدت وتزوجت وولدت من الزوج الثاني ثم جاء الزوج الأول حيّا فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله الولد للزوج الأول على كل حال؛ لأنه صاحب الفراش الصحيح؛ لأنه بغيبته لا يفسد فراشه. وفراش الزوج الثاني فاسد، ولا معارضة بين الصحيح والفاسد بوجه ... الفاسد مدفوع بالصحيح. وروى عبد الكريم الجرجاني عن أبي حنيفة رحمه الله أن النسب من الزوج الثاني وهو قول ابن أبي ليلى رحمه الله. وكان أبو يوسف رحمه الله يقول: إن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها فالأولاد للزوج الأول. وإن جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً منذ تزوجها فالأولاد للزوج الثاني وقال محمد رحمه الله: إن جاءت بالولد لأقل من سنتين منذ دخل بها الزوج الثاني فالأولاد للأول. وإن جاءت بالولد لأكثر من سنتين منذ دخل بها الزوج الثاني فالأولاد للثاني وكذلك لو ادعت الطلاق فاعتدت وتزوجت والزوج الأول جاحد لذلك فهو على الخلاف الذي قلنا. هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله شرح في كتاب «الدعوى» . وفي نكاح «المنتقى» : رجل له زوجة تزوجت وهو حاضر فجاءت بولد، فإن الولد للأول في هذا الموضع. قال ثمة: بهذا يحتج أبو حنيفة رحمه الله في فصل الغيبة قال وقول أبي يوسف رحمه الله كقول أبي حنيفة رحمه الله إذا كان الزوج حاضراً أو غائباً غيبة منتهية، وإن كان

غائباً غيبة منقطعة معروفة فالولد للآخر. ذكر الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمه الله في مجبوب تزوج امرأة وبقيت عنده زماناً ثم جاءت بولد قال: لزمه الولد وأجعل ذلك إحصاناً، ويحلها ذلك لزوج كان قبله، وبهذا طلاقه. وفي نوادر هشام قال: سمعت أبا يوسف رحمه الله في رجل اشترى أمة فولدت منه، ثم أقام رجل البينة أنها امرأته زوجها مولاها منه قال: أجعلها وأجعل الولد ولد الزوج لأنه صاحب الفراش، وأعتق الولد بدعوة المولى يعني: لو ادعاه بحكم يعتقه. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل زوج ابنه وهو صغير لا يجامع مثله ولا تحمل المرأة (منه) فجاءت امرأته (بولد) لا يلزمه الولد ولا ترد المرأة ما أنفق أب الزوج عليها عن ابنه لأنها إن زنت وحملت فلها النفقة وهي على ذلك؛ لأنه لا يعرف أبوه، يعني أب الولد، وإن أقرّت أنها تزوجت ردت على الزوج نفقه ستة أشهر مقدار مدة الحمل، وإن كان زوّجه أمة فجاءت بولد فادعاه السيد فهو ابنه؛ لأنه عبده لا يعرف له نسب فيجوز دعوته فيه. رجل زنى بامرأة فحملت منه فلما استبان حملها تزوجها الذي زنى بها فالنكاح جائز، فإن جاءت بالولد بعد النكاح لستة أشهر فصاعداً يثبت النسب منه وترث منه، لأنها جاءت به في مدة حمل بأنه عقيب نكاح صحيح، فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر لا يثبت النسب ولا ترث منه إلا أن يقول: هذا الولد مني ولم يقل من الزنى. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله. وفيه أيضاً: رجل له جارية يطأها يعزل عنها فجاءت بولد، فإن كانت الجارية غير محصنة تخرج وتدخل وأكثر ظن الرجل أن الولد ليس منه فهو في سعة من نفيه وإن كانت محصنة لا يسعه نفيه ولا يعتمد العزل؛ لأنه قد يعزل في الفرج الخارج ويظن أنه لا يدخل ويدخل ومتى عزل وعاد وجامع (من غير) أن يبول تحبل لأنه يبقى الماء في ذكره فالعزل مما لا يعتمد عليه. وهذا أيضاً في كتاب العتاق. جارية هربت من مولاها يوماً ثم وجدها، ويطأها ويعزل عنها وظهر بها حبل وولدت بعد ستة أشهر منذ هربت ومات الولد فإن كانت الجارية قد ذهبت إلى متهم بها (212أ1) فالمولى في سعة من بيعها إلا أن الغالب أن الولد كان من فجور، وإن كانت الجارية عفيفة لم يظهر منها فجور لا ينبغي له أن يبيعها، وينبغي أن يشهد أنها أم ولده حتى لا تباع بعد موته، هذا حق لازم ديانةً لأن الغالب أنه منه، فالعزل مما لا يعتمد عليه على ما ذكرنا. وإذا طلق امرأته طلاقاً بائناً وجاءت بولد ما بينهما وبين سنتين ثبت النسب منه. وإن جاءت به لأكثر من سنتين لا يثبت. وأما المطلقة الرجعية فيثبت نسب ولدها بينها وبين سنتين ولم يصر الزوج مراجعاً. وإن جاءت به لأكثر من سنتين ثبت النسب وصار مراجعاً، وهذا كله إذا لم تقر بانقضاء العدة، فأما إذا أقرت بانقضاء العدة ثم جاءت بولد

الفصل الثامن عشر في نكاح العبيد والإماء

لستة أشهر فصاعداً من وقت الإقرار لم يثبت نسبه من الزوج في الفصول كلها. وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار؛ ففي فصل الموت والطلاق البائن يثبت النسب إلى سنتين من وقت الموت والطلاق. وفي الطلاق الرجعي يثبت النسب من الزوج وإن جاءت به لأكثر من سنتين من وقت الطلاق. وإذا طلق الرجل امرأته الصغيرة تطليقة بائنة أو مات عنها زوجها فعلى هذا ثلاثة أوجه: الأول: أن تدعي حملاً بعد الموت والبينونة في هذه العدة، وفي هذا الوجه الحكم فيها والحكم في الكسوة سواء. الوجه الثاني: أن تقر بانقضاء العدة عند مضي ثلاثة أشهر من البينونة أو عند مضي أربعة أشهر وعشراً من الموت، ثم جاءت بولد، إن جاءت بالولد لتمام ستة أشهر من وقت الإقرار لا يثبت النسب، وإن جاءت به لأقل من ذلك يثبت، وإن كانت لم تدع الحبل ولم تقر بانقضاء العدة فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله إن جاءت بالولد لأقل من تسعة أشهر من وقت الطلاق أو لأقل من عشرة أشهر وعشراً من وقت الموت يثبت النسب. وإن كان لتسعة أشهر فصاعداً من وقت الطلاق ولعشرةِ أشهر وعشراً من وقت الموت لا تثبت. وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: يثبت النسب إذا جاءت به لأقل من سنتين، وإن كان الطلاق رجعياً ثبت النسب إذا جاءت بالولد لأقل من سبعة وعشرين شهراً لا بالحكم؛ لأن العلوق كان في مدة العدة فصار به مراجعاً، وأما المتوفى عنها زوجها إذا كانت كبيرة فيثبت نسب ولدها إلى سنتين. الفصل الثامن عشر في نكاح العبيد والإماء لا يتزوج العبد أكثر من ثنتين، الحرتان والأمتان في ذلك على السواء، ولا يتزوج أمة على حرّة عندنا، والمكاتب والمدبر وابن أم الولد بمنزلة العبد، فكما لا يجوز للعبد أن يتزوج بغير إذن المولى فكذا لا يجوز للمكاتب والمدبر وابن أم (الولد) ، وكذلك معتق البعض عند أبي حنيفة رحمه الله، وكذلك الأمة والمكاتبة وأم الولد والمدبرة لا يصح نكاحهن بغير إذن المولى، ولا يجوز للمولى أن يزوج المكاتبة والمكاتب بغير رضاهما، ويجوز نكاحه على الأمة بغير رضاها، وكذا على العبد إلا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله فيجوز للمكاتب والمكاتبة أن يزوجا ابنيهما من غير رضى المولى وتزوجهما أمتهما يخالف تزوجهما أنفسهما. وإذا تزوج العبد أو المكاتب أو المدبر وابن أم الولد بغير إذن المولى ثم طلقها

ثلاثاً قيل إجازة المولى فهذا الطلاق مشارك للنكاح وليس بطلاق حقيقةً، حتى لا ينتقص من عدد الطلاق ولكن لو وطئها بعد الطلاق يلزمه الحدّ، فإن أجاز المولى هذا النكاح بعد ذلك لا تعمل إجازته؛ لأنه قد ارتفع بالطلاق. وإن أذن له أن يتزوجها بعد هذا الطلاق كرهت له أن يتزوجها، ولم أفرق بينهما إن فعل. وقال أبو يوسف رحمه الله لا أكرهه، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله الخلاف على هذا الوجه في شرحه. وفي «المنتقى» بشر عن أبي يوسف رحمه الله: أمة تزوجت بغير إذن مولاها وطلقها الزوج ثلاثاً كان فرقة لا طلاقاً، غير أني أكره أن يتزوجها حتى تنكح زوجاً غيره. وإذا أذن له سيده في النكاح مطلقاً فتزوج امرأتين في عقدة لم تجز واحدة منهما عليه، وهذا بناء على أن الإذن بالنكاح مطلقاً ينصرف إلى امرأةٍ واحدة إلا إذا اقترن به ما يدل على التعميم بأن قال: تزوج ما شئت من النساء أو ما أشبهه فحينئذ يتعمم ويتزوج ثنتين. وإن قال المولى: عنيت به امرأتين جاز نكاحهما عليه؛ لأنه نوى ما عمله لفظه، لأنه نوى كل الفعل في حقه، ونية الكل في اسم الجنس صحيحة، وكل مهر وجب للأمة بعقد أو دخول فهو للمولى. أما المكاتبة ومعتقة البعض فالمهر لهما لأن ما لزم من مهر العبد بإذن الولي يباع فيه لأنه ظهر وجوبه في حق المولى. وأما المكاتب والمدبر فيستبقيان فيه؛ لأنه تعذر الاستيفاء من غير الرقبة فيستوفى من الكسب، وما لزمهم بغير إذن المولى اتبعوا به بعد العتق؛ لأنه لم يظهر الوجوب في حق المولى فصار بمنزلة الدين الثابت بالإقرار. وإذا أذن لعبده في النكاح مطلقاً فتزوج امرأة نكاحاً فاسداً ودخل بها لزمه المهر في الحال على قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يتأخر إلى ما بعد العتق، وهذا بناء على أن الإذن بالنكاح مطلقاً ينصرف إلى الجائز والفاسد عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما إلى الجائز وحده. وثمرة الخلاف إنما تظهر في مسألتين إحداهما: هذه المسألة الثانية: لو أن العبد بعدما تزوج هذه المرأة نكاحاً فاسداً أَوَلَهُ أن يتزوج هذه أو أخرى بعد ذلك نكاحاً صحيحاً؟ لا يملك عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الإذن انتهى، وعندهما يملك. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : عبد تزوج امرأة بغير إذن المولى ثم إن المولى أذن له في النكاح فأجاز ذلك النكاح، فإن أبا يوسف رحمه الله قال: القياس أن لا يجوز لكني استحسن أن أُجيره، وإنما أضاف جواب القياس إلى أبي يوسف رحمه الله؛ لأن أبا يوسف يقول بالقياس في هذه المسألة ثم رجع وقال بالاستحسان. ومحمد رحمه الله كان يقول بالاستحسان من الابتداء، ولم يذكر قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه لم يحفظ عنه لا لأن قوله بخلاف قولهما. وجه الاستحسان أن الإجازة إتمام لذلك العقد، والإذن بالشيء إذن به ومما هو من

تمامه، ألا ترى أن الوكيل بالشراء يملك القبض؛ لأن القبض من تمامه، وألا ترى أن الوكيل بالقبض يملك إسقاط خيار الفرق، به بخلاف ما إذا أذن له بنكاح امرأة بعينها فتزوج امرأة أخرى (212ب1) لا يجوز؛ لأن نكاح غيرها غير ذلك ليس من تمام نكاحها، وبخلاف العبد المحجور إذا باع شيئاً من كسبه ثم أذن له المولى في التجارة فأجاز ذلك البيع حيث لا يجوز؛ لأن الإجازة هناك ليست من تمام ما تحت الإذن لأن بيع مال المولى ليس بداخل تحت الإذن في التجارة وكسب العبد ودخل المحجور الخالص مال المولى، ألا ترى أنه لو باع هذا المال بعد الإذن في التجارة لا يجوز وإذا لم يكن بيع هذا المال داخلاً تحت الإذن لم يكن إدخال إجازة ذلك البيع تحت الإذن من حيث إنها إتمام لذلك البيع. أما الإجازة في النكاح إتمام لذلك النكاح؛ لأن نكاح أية امرأة شاء العبد داخل تحت الإذن، ألا ترى أن العقد يملك التزوج بعد إذن المولى فيملك من إتمامه. ومن المشايخ من قال: القياس ما كان. ووجد استحسان في هذه المسألة من وجه آخر. القياس: أنه يبطل النكاح الموقوف بإذن المولى عنده في النكاح فلا تعمل إجازة العبد، وفي الاستحسان لا يبطل فتعمل إجازته. ثم على جواب الاستحسان لا ينفذ هذا العقد من غير إجازة، بخلاف ما إذا أعتق العبد حيث ينفذ ذلك النكاح عليه من غير إجازة. وفيه أيضاً: إذا أذن الرجل لعبده أن يتزوج على رقبته فتزوج على رقبته أمة أو مدبرة أو أم ولد بإذن مولاهن جاز النكاح، فصار رقبة العبد لمواليهن وأنه أجاز النكاح؛ لأنه لو لم يجز إنما لم يجز من حيث أنه يقارن نكاحها.... في نكاحها وهو ملكها رقبة زوجها من حيث أن الملك في المهر يثبت للأمة أولاً، ثم ينتقل إلى المولى وليس كذلك، بل الملك في المهر يثبت للمولى ابتداءً؛ لأن المملوك ليس كذلك من أهل الملك. ولو قلنا: إن الملك يثبت لها ابتداءً إلا أن هذا ملك لاقرار له فلا يكفي لقيان النكاح حرة على رقبته لا يجوز؛ لأنها تملك رقبة زوجها، لو جاز النكاح مقارناً للنكاح؛ لأن الملك في البدلين في المعاوضات يقع معاً، وهذا ملك له قرار يمنع صحة النكاح، ألا ترى أنه لو طرأ على النكاح أبطله، فإذا فارقه منع ثبوته، وكذلك لو تزوج مكاتبة على رقبته كان النكاح باطلاً؛ لأنه لو جاز هذا النكاح ثبت له حق الملك في رقبة زوجها إذنٌ؛ لأن المكاتبة في الكتابة حق الملك هذا إذا أذن له أن يتزوج على رقبته امرأة. أما إذا (أذن) له أن يتزوج امرأة ولم يقل على رقبتك، فتزوج امرأة حرة أو مكاتبة أومدبرة أو أم ولد على رقبته جاز النكاح بقيمته استحساناً، بخلاف ما إذا أذن له أن يتزوج على رقبته فتزوج حرة أو مكاتبة أو على رقبته فإنه لا يجوز. وإذا (أذن) لمكاتبه أو مدبره أن يتزوج على رقبته فتزوج على رقبته أمة أو مدبرة أو أم ولد جاز وهذا ظاهر أنه يجوز مثل هذا من العبد مع أن العبد، يقبل النقل من ملك إلى

ملك وكذا إذا تزوج حرة أو مكاتبة، لأن المرأة لا تملك شيئاً من رقبة الزوج هنا؛ لأن المكاتب والمدبر لا يقبلان النقل من ملك إلى ملك بخلاف العبد. وإذا صح النكاح يجب على المكاتب والمدبر قيمتهما ويسيعيان في ذلك، وهذا لأنه إن يقدر تصحيح النكاح هنا تعين المسمى أمكن تصحيحه بقيمة المسمى، لأن المسمى مال معلوم إلا أنه معجوز التسليم لحقٍ مستحق شرعاً لا لفساد العقد، وفي مثل هذا يجوز النكاح بالقيمة، كما لو تزوج امرأةً على عبد الغير ولم يجز ذلك الغير. وفي «الجامع» أيضاً: عبد تزوج حرةً أو أمةً أو مكاتبةً أو أم ولدٍ أو مدبرةٍ على رقبته وبغير إذن المولى فبلغ المولى ذلك فأجازه، فإن كان تزوج أمة أو مدبرة أو أم ولدٍ عملت إجازته وصح النكاح. وإن كان تزوج حرة أو مكاتبة لا تعمل إجازته، فإن كان قد تزوج على رقبته حرة وقد دخل بها لزمه الأقل من قيمته ومن مهر المثل بعد ذلك، ينظر إن دخل بها بعدما دخل بها بعدما أجاز المولى النكاح يكون ذلك ديناً في رقبته يباع فيه إلا إن يفديه المولى. وإن دخل بها قبل إجازة المولى النكاح يؤاخذ مما لزمه بعد العتق، وهذا لأن هذا النكاح فاسد والمهر في النكاح الفاسد لا يجب بمجرد العقد، وإنما يجب بالعقد والدخول والدخول آخرهما فيضاف الوجوب إليه. إذا ثبت هذا فنقول: إذا دخل بعد إجازة المولى والإجازة في الانتهاء كإذنٍ في الابتداء كان النكاح والدخول حاصلاً بإذن المولى؛ لأن إذن المولى له بالعقد إذن بالدخول. والإذن بالدخول يوجد في المستقبل معتبر، فكان هذا ديناً لزمه بسبب هو مأذون فيه، فيؤاخذ به للحال. أما إذا دخل بها قبل إجازة المولى فالإذن في حق العقد إن عمل؛ لأنه قائم بمن ينفسخ بعد. ففي حق الدخول لم يعمل؛ لأنه مضى وانقضى حقيقة، فبقي الدخول بغير إذن فكان هذا ديناً لزمه هو بسبب ليس بمأذون فيه فيؤاخذ به بعد العتق. وإن كان تزوج على رقبته أمةً أو مدبرةً أو أم ولدٍ وقد دخل بها، إن دخل بها بعد إجازة المولى النكاح لا يجب إلا المسمى، وهو رقبة العبد لمواليهن؛ لأن الدخول حصل في نكاح نافذ. وإن دخل بها قبل إجازة المولى النكاح فكذلك الجواب لا يجب إلا المسمى، وهو رقبة العبد للمولى. بعض مشايخنا قالوا: ما ذكر جواب الاستحسان. والقياس: أن يجب مهر المثل بالدخول والمسمى بالعقد، وقاسوا هذه المسألة على مسألة ذكرها في «الأصل» وصورتها: عبد تزوج امرأة بغير إذن مولاه بألف درهم ودخل بها قبل اجازة المولى النكاح ثم أجاز المولى النكاح، ذكر أن القياس: أن يلزمه مهر المثل بالدخول والمسمى بالنكاح؛ لأنه بالدخول قبل الإجازة لزمه مهر المثل؛ لأنه دخل بها عن شبهة، وبالإجازة نفذ النكاح فلزمه المسمى في النكاح. وفي الاستحسان يجب المسمى لا غير؛ لأن مهر المثل في مثل هذه الصورة لو

وجب بالدخول وجب باعتبار العقد، فإنه لولا العقد كان الواجب هو الحد، والمسمى واجبٌ بالعقد أيضاً. والعقد الواحد لا يوجب مهرين. وبعض مشايخنا.... ذكر من القياس ثمة لا يبالي هنا؛ لأن مولى الأمة ملك رقبة العبد عند الإجازة، فسقط مهر المثل الواجب بالدخول عن شبهة، إذاً المولى لا يستوجب على عبده شيئاً. وإذا سقط ذلك في مسألتنا لم يجتمع المسمى ومهر المثل على طريق القياس ولا كذلك مسألة الأصل. وإذا زوج أمته من عبده لا مهر لهاعليه، واختلف المشايخ في تخريج المسألة، بعضهم قالوا: لا يجب المهر أصلاً؛ لأنه لا فائدة (213أ1) في إيجاب وقال بعضهم: يجب ثم يسقط، وإذا أعتقت الأمة فلها الخيار؛ لأن بالعتق يزداد الملك عليها؛ لأن الملك قبل العتق يزول بتطليقتين، وبعد العتق لا يزول إلا بثلاث تطليقات، فكان لها أن ترفع زيادة الملك عن نفسها، وذلك برد أصل النكاح، فيثبت لها رد أصل النكاح، وكما ثبت لها الخيار بالعتق حال قيام النكاح يثبت لها الخيار بالعتق في العدة عن طلاق رجعي، هكذا ذكر في «المنتقى» . ويستوي أن تكون الأمة صغيرة أو كبيرة، إلا أنها إذا كانت صغيرة لا ينصرف بحكم هذا الخيار فسخاً، فلا إجازة ما لم يبلغ فسخاً بأن تختار نفسها، وأجازه بأن تختار وزوجها لتردده بين الضرر النفع، والصغير لم يؤهل لمثل هذا التصرف، فلا يملك وليها التصرف بحكم هذا الخيار أيضاً؛ لأن وليها قائم مقامها فلما بلغت خيرها القاضي خيار العتق فلا يخيرها خيار البلوغ. وقوله: ولا يخيرها خيار البلوغ يحتمل فلا يخيرها خيار البلوغ؛ لأنه ليس لها خيار البلوغ فلا يخيرها خيار البلوغ مع أن خيار البلوغ ثابت لأنه ثبت لها خيار العتق وخيار العتق ينتظم خيار البلوغ؛ لأنه أعم من خيار البلوغ. واختلف المشايخ فيه، منهم من قال بالأول وهو الأصح، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» في فصل العبد على ما يأتي بيانه بعد هذا. وهذا لأن العقد صدر ممن هو كامل الولاية؛ لأن ولاية المولى على مملوكه نسبت الملك، ولا نقصان في الملك فكانت الولاية كاملة فلا يثبت خيار البلوغ كما في الأب والجد، ثم الكلام في خيار العتق في فصول: أحدها: أن خيار العتق يثبت للأنثى دون الذكر. الثاني: أن خيار العتق لا يبطل بالسكوت فيبطل بقول أو فعل يدل على اختيارها النكاح، وقد ذكر الكرخي عن محمد رحمه الله أن المعتقة إذا قالت: رضيت بالنكاح بطل خيارها. والثالث: أنه يبطل بالقيام عن المجلس. الرابع: أن الجهل بخيار العتق عذر حتى لو علمت بالعتق ولم تعلم بالخيار لا يبطل خيارها وإن قامت عن المجلس على ما عليه إشارات في «الجامع» وهو قول

الكرخي رحمه الله وجماعة مشايخ بخارى خلافاً لما قاله القاضي الإمام أبو طاهر الدباس وأحمد ابن ... رحمهما الله. والخامس: أن الفرقة بخيار العتق فرقة بغير طلاق؛ لأن خيار العتق إنما يثبت للأنثى دون الذكر والفرقة من جانب المرأة لا تكون طلاقاً. قال في «المنتقى» وخيار العتق نظير خيار الطلاق، سوّى بين الخيارين مطلقاً. وفي الكتب الظاهرة بينهما فرق في حق بعض الأحكام، فإن الفرقة ثمة طلاق والجهل ثمة ليس بعذر إلى غير ذلك من الأحكام. قال: إذا زوج الرجل عبده الصغير امرأةً حرةً، ثم إن المولى أعتق العبد ثم بلغ فليس له خيار البلوغ ولا خيار العتق. وبهذه المسألة ينبني أن الصحيح في فصل الأمة قول من يقول بأن خيار البلوغ غير ثابت لها لا أنه ثابت لكن ينتظمه خيار العتق، ألا ترى أن في حق العبد خيار العتق غير ثابت ولم يثبت له خيار البلوغ، والمعنى: ما ذكر أن له إنكاح صدر ممن له ولايةٍ كاملة، ولأن إنكاح المملوك حق المولى باعتبار ملكه، ولم يكن حقاً للعبد عليه بطريق النظر حتى يجب التخيير بطريق النظر بخلاف ما إذا أثبتنا النكاح بعد العتق وهو صغير؛ لأنه حق على المولى بطريق النظر فكان هو بمنزلة اليتيم فيجب التخيير بطريق النظر.t رجل كانت جاريته وهي بنت عشر سنين ولم تبلغ وقبلت المكاتبة والمكاتبة جائزة؛ لأن المكاتبة منفعة محضة؛ لأنها تعتق بأداء كسب يكون ملكاً للمولى من غير عتق، والصبي العاقل من أهل مثل هذا التصرف. فإن زوجها المولى بعد ذلك بغير إذنها يوقف النكاح على إجازتها؛ لأن الكتابة لما صحت من الصغيرة العاقلة حَسُنت صحتها من البالغة وكانت الصغيرة بالمكاتبة فيما يُبنى على الكتابة بمنزلة البالغة، ولو كانت المكاتبة بالغة فزوجها المولى بغير رضاها تتوقف على إجازتها كذا هنا، وإن لم ترد النكاح حتى أدّت فعتقت بقي النكاح موقوفاً على الإجازة ولكن على إجازة المولى لا على إجازتها، حتى يجوز بإجازة المولى، فرق بين هذا وبين المكاتبة إذا زوجت نفسها من رجل بغير إذن المولى ثم إنها أدت فعتقت بعد النكاح عليها من غير إجازة وإنما كانت كذلك لأنها إذا زوجت نفسها بغير إذن المولى فالنكاح إنما يوقف بحق المولى لا لحقها وحق المولى زال بالعتق فزال التوقف. كالراهن إذا باع الرهن ثم قضى الدين، فأما إذا زوج المولى المكاتبة بغير رضا المكاتبة، والتوقف لحق المكاتبة صارت حرة يداً وحرية اليد التي كان يوقف النكاح من المولى لأجلها تأكدت. وازدادت بالعتق فبقي الموجب للتوقف فبقي التوقف فكان العبد إذا تزوج بغير إذن المولى ثم أذن له المولى في التزوج فإنه لا ينفذ ذلك النكاح من غير إجازة العبد أو المولى وإن صار للعبد ولاية التزوج بالإذن لأن التوقف كان لحق المولى لقيام ملكه في رقبته وبعد الإذن ملك المولى باقٍ، فكان الموجب للتوقف باقياً، فبقي التوقف إلا أنه لا

تعمل إجازتها بعدما عتقت قبل أن تبلغ بحكم الصغير، وتعمل إجازة المولى؛ لأن الولاية تحولت إلى المولى بحكم الولاية؛ لأنه عصبتها إذا لم يكن لها ولي أقرب منه. قال مشايخنا رحمهم الله: هذه المسألة من..... المسائل وأعجبها، فإنهم صححوا إجازة المكاتبة الصغيرة نكاحها قبل العتق، وقبل العتق هي حرة يداً لا رقبةً ولم يصححوا إجازته قبل العتق الذي هو حال قيام الملك حقيقة. وأما الأول فلأن قبل العتق هي مكاتبة والمكاتبة وإن كانت صغيرة فهي ملحقة بالبالغة حكماً في حق الأحكام التي على الكتابة. ولو كانت بالغة حقيقة صحت إجازتها، فكذا إذا كانت ملحقة بالبالغة، حكماً. وأما بعد العتق لم تبق مكاتبة وبطل التحاقها بالبالغة فعادت القضية الأصلية والصغيرة يقضية الأصل ليست من أهل الإجازة كما أنها ليست من أهل ابتداء النكاح. وأما الثاني فلأن أصل العتق هي ملحقة بالبالغة، ولو كانت بالغة حقيقة لا تعمل إجازة المولى عليها، فكذا إذا ألحقت بالبالغة، وبعد العتق بطل إلحاقها بالبالغة فهذه حرة صغيرة والمولى وليها إذا لم يكن لها (213ب1) ولي أقرب منه فيملك إجازة النكاح عليها كما يملك الإنشاء عليها، ثم إذا أجاز المولى نكاحها وعمل إجازته ونفذ النكاح عليها كان لها الخيار إذا بلغت عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن الإجازة بمنزلة نكاح مبتدأ فكأنه زوجها بعد العتق، ولو كان كذلك كان لها خيار البلوغ؛ لأنه زوجها بأثر الملك وهو الولاية فكان ناقض الولاية، فكان كالأخ والعم. ولو أن هذه المكاتبة الصغيرة حين زوجها المولى رضيت بالنكاح وهي صغيرة نفذ، حتى صح رضاها ونفذ النكاح، ثم أدت فعتقت لا خيار لها حتى تبلغ، كالأمة الصغيرة إذا أعتقت فإن بلغت فلها خيار العتق عند علمائنا رحمهم الله لما ذكرنا وليس لها خيار البلوغ وكان ينبغي أن يكون لها خيار البلوغ؛ لأن المولى بحكم الملك وبعد الكتابة ملكه ناقص والتزويج صدر ممن هو ناقص الولاية. والجواب: إنما لم يثبت لها خيار البلوغ لوجهين: أحدهما: أنه يثبت لها خيار العتق وأنه أعم، فلا يقيد إثبات خيار البلوغ معه. الثاني: أن صدور العقد ممن له ولاية ناقصة، إنما يثبت الخيار إذا لم يوجد الرضا من المولى عليه بعد البلوغ اعتباراً على (ما) ذكرنا قال: ولو أن هذه المكاتبة لم ترض بالنكاح ولم تنقضه حتى عجزت وردت في الرق بطل النكاح حتى لو أجازه المولى لا تعمل إجازته؛ لأن بالعجز حلت للمولى فطرأ للمولى على الحل الموقوف حل بات فأوجب بطلان الموقوف حتى لو كان مكان المكاتبة مكاتب صغير أو قد زوجه المولى امرأة بغير رضاها ثم عجز ورد رقيقاً لم يبطل نكاحه بل يبقى موقوفاً على إجازة المولى؛ لأنه لم يطرأ حل بات على حل موقوف، وكان ينبغي أن ينفذ نكاح المكاتب من غير إجازة المولى، إنما رضي بهذا النكاح

ليكون المهر والنفقة في كسب هو غير مملوك للمولى، فإن كسب المكاتب حال قيام الكتابة غير مملوك للمولى، وبعد العجز يصير كسبه مملوكاً للمولى وهو لم يرضَ بكون المهر والنفقة في مثل هذا الكسب فلهذا توقف على إجازته. فرع على مسألة المكاتب فقال: لو لم يعجز المكاتب ولكن أدى وعتق بقي النكاح موقوفاً على إجازة المولى أيضاً لما قلنا في فصل المكاتبة، ففي حق المكاتب لا يختلف الجواب بين العجز والعتق، إنما يختلف ذلك في حق المكاتبة. ولو طرأ الرق على النكاح فهو كالمقارن في حق ثبوت خيار العتق عند أبي يوسف رحمه الله، وذلك نحو الحربية إذا تزوجت ثم سبيت وأعتقت. والمسألة: إذا تزوجت ثم ارتدت مع زوجها ثم سبيا ثم أعتقت فلها الخيار في قول أبي يوسف رحمه الله وعن محمد رحمه الله، أنه لا يثبت لها الخيار، هكذا ذكره القدوري رحمه الله. قال «البقالي» : والصحيح أن الخلاف على العكس، هكذا قال القدوري. قال أبو يوسف رحمهما الله: يجوز أن يثبت خيارالعتق مرة أخرى نحو أن تعتق فتختار زوجها ثم ترتد مع الزوج ثم تسبى فتعتق فتختار نفسها، وقال محمد رحمه الله: يثبت خيار واحد إذا اختارت المعتقة نفسها قبل الدخول بها ولا مهر لها أصلاً، وإن اختارت بعد الدخول بها وجب لسيدها، ولو اختارت زوجها كان المسمى لسيدها دخل بها أو لم يدخل بها. إذا زوجت الأمة نفسها بغير إذن المولى ثم أعتقها المولى بعد العتق لما قلنا في جانب العبد. ولا خيار للأمة، ويجب مهر واحد إن لم يكن الزوج دخل بها قبل العتق فيكون لها؛ لأنه ملك بضعها وهي حرّة؛ لأن نفاذ النكاح بعدالعتق، فصار كما لو عقد العقد عليها وهي حرة ولأجل ذلك قال: لا خيار لها. وإن كان الزوج قد دخل بها قبل العتق فالقياس أن يجب مهران: مهر للمولى بالدخول بشبهة النكاح قبل العتق، ومهر لها بنفوذ العقد عليها بعد العتق. وفي الاستحسان: لا يجب إلا مهر واحد ويكون للمولى؛ لأن وجوب المهر بالدخول في هذه لا يكون إلا بالعقد، ألا ترى أنه لو لم يسبق العقد لا يجب المهر بل يجب العقد، والعقد الواحد لا يوجب إلا مهر لواحد. فإذا وجب به مهر واحد للمولى لا يجب مهر آخر لها. وأما المدبرة إذا زوجت نفسها من غير إذن مولاها وعتقت ( ... ) النكاح عليها كما في الأمة، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله. وفي «المنتقى» إذا خرجت المدبرة من الثلث جازالنكاح، وإن لم تخرج لم يجز من قول أبي حنيفة رحمه الله حتى..... ويجوز في قول أبي يوسف رحمة الله عليه، وأما أم الولد إذا زوجت نفسها بغير إذن المولى ثم مات المولى حتى عتقت هل ينفذ النكاح عليها؟ لم يذكر محمد رحمة الله عليه هذا الفصل في «الأصل» ، ومشايخنا فصّلوا الجواب فيها تفصيلاً فقالوا:

إن كان الزوج قد دخل بها قبل موت المولى ثم مات المولى نفذ النكاح عليها، وإن لم يدخل بها الزوج حتى مات المولى بطل النكاح، قيل: وهذا الجواب إنما يستقيم على رواية ابن سماعة، فإن على روايته: أم الولد إذا زوجت نفسها بغير إذن المولى ودخل بها الزوج قبل الإجازة ثم مات المولى لا تجب العدة عن المولى فينفذ النكاح. أما على «ظاهر الرواية» تجب العدة عن المولى فلا ينفذ النكاح، وإن لم يدخل بها الزوج حتى مات المولى لا ينفذ النكاح، وإن لم لأجل العدة التي لزمتها للمولى، ولو لم يمت المولى ولكن أعتقها فهو على هذا التفصيل أيضاً، إن أعتقها قبل أن يدخل بها الزوج بطل النكاح إلى آخر ما ذكرنا في فصل الموت. وإذا زوج أحد الشريكين الجارية المشتركة بدون رضا صاحبه ودخل بها الزوج ثم رد الآخر النكاح، فللمزوج الأول من نصف مهر المثل ومن نصف المسمى؛ لأنه راضٍ بالمسمى، ورضاه معتبر في حقه. وإن لم يدخل بها الزوج حتى رد الآخر النكاح فلا مهر لواحد منهما خلا بها الزوج أو لم يخل بها. وهذا لأن الخلوة إنما تعتبر في النكاح الصحيح، وهذا النكاح لم يصح. قال «البقالي» في فتاويه: ومهر مثل الأمة على قدر الرغبة، وعن الأوزاعي رحمه الله ثلث قيمتها. وفي «البقالي» : إذا زوج أمته ثم أعتقها ثم (213أ1) زاد الزوج في مهرها فالزيادة للمولى. رواه ابن رستم عن محمد رحمه الله، وعن أبي يوسف رحمه الله أن الزيادة لها، وكذلك لو باعها ثم زاده فالزيادة للمشتري. في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد رحمه الله في أمة تزوجت بغير إذن المولى ثم وطئها المولى لم يكن ذلك نقضاً للنكاح. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه ينفسخ النكاح. ولو باعها على أنه بالخيار فهو نقض للنكاح من قبل أن البيع ينفذ إذا سكت عن نقضه حتى تمضي مدة الخيار. بشر عن أبي يوسف رحمه الله: أمة تزوجت بغير إذن المولى ثم إن المولى أوصى بها لرجل، فإن قبلها صاحب الوصية انفسخ النكاح، وإن لم يقبل لا ينفسخ، ولو وهبها لم ينفسخ النكاح، ولو مات المولى وتركها ميراثاً فهذا في القياس ملك حادث فيكون فسخاً للنكاح. وفي الاستحسان: لا ينفسخ؛ لأن الوارث يقوم مقام المورث في تركته. في «المنتقى» ابن سماعة عن محمد رحمه الله عبد تزوج حرة أذن مولاهما ودخل بها ثم تزوج أمة لم يكن تَزَوُّجُهُ الأمة في عدة الحرة رداً لنكاح الحرة في قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: هو ردّ بناء على أن عند أبي حنيفة رحمه الله لا يتزوج الأمة في عدة الحرة خلافاً لهما، ولو تزوج حرة ودخل بها ثم تزوج أختها ودخل بها لم يكن ذلك رداً النكاح الأول. وفي «نوادر بشر» بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله: عبد تزوج بغير إذن مولاه أمة رجل بإذنه ثم قال: لا حاجة لي في نكاحها فهذا رد، ولو لم يقل ذلك حتى دخل بها ثم تزوج بعض من لا يصلح له نكاحها في عدتها لم يكن ذلك نقضاً للنكاح. في

«المنتقى» : تزوج العبد حرة بإذن المولى على غير مهر، ثم جعل المولى العبد لامرأته بمهرها وقبلت ذلك انتقض النكاح حين ملكته وعليها أن ترد نكاح العبد إن لم يكن دخل بها. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل زوج أمته برضاها من رجل بغير أمر الزوج والزوج بالغ عاقل خاطب عنه أبوه أو أجنبي بغير أمره حتى توقف النكاح على إجازة الزوج فأعتق المولى الأمة قبل أن يجيز الزوج النكاح بقي النكاح كذلك موقوفاً على إجازة الزوج، وأيهما نقض هذا النكاح يعني الأمة أو الزوج قبل إجازة الزوج صح نقضه، أما إذا نقض الزوج فظاهر، وأما إذا نقضت الأمة فلأن حكم العقد يلزمها عند الإجازة، فكان لها النقض دفعاً لحكم العقد عن نفسه، ثم نقضها صحيح وإن لم يعلم به الزوج؛ لأن المولى فضولي في النكاح في حق الزوج وتصرّف الفضولي غير منعقد في حق الحكم، فصار عقد المولى في حق الزوج بمنزلة غير المنعقد فكان النقض في حق الزوج امتناعاً عن العقد لا إلزاماً على الزوج فيص3ح من غير علم الزوج بخلاف مسألة البيع بشرط الخيار إذا منعه من له الخيار بغير علم صاحبه حيث لا يصح عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن البيع بشرط الخيار منعقد وإنما الحكم معلق، فصار الفسخ إلزاماً على خصمه فيتوقف على علمه. ولو أراد المولى أن ينقض هذا العقد بعد العتق قبل إجازة الزوج لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» ، وقد اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه ليس له ذلك. وإن أجاز الزوج النكاح بعدما عتقت حتى نفذ النكاح لم يكن لها خيار العتق؛ لأن الإجازة بمنزلة نكاح مبتدأ في حق الحكم، فكأنه تزوجها بعد العتق برضاها، وهناك لا يثبت لها خيار العتق كذا هنا ويكون المهر للمعتقة. ولو كان المولى زوجها بغير رضاها وباقي المسألة بحالها ثم إن الأمة بعدما أعتقت نقضت النكاح قبل إجازة الزوج أو بعد إجازة الزوج فإنه يعمل نقضها في الحالين، فرق بين هذا وبينما إذا زوجها برضاها ثم نقضت الأمة النكاح بعد (ما) أعتقت وقد أجاز الزوج النكاح، حتى لا يعمل نقضها. والفرق: أن في الفصلين جميعاً تعتبر الإجازة كابتداء العقد، فإذا كان النكاح عليها برضاها يجعل المولى كالمستأنف للعقد عليها برضاها بعد العتق، ولو استأنف العقد عليها برضاها بعد العتق وأجاز الزوج النكاح لا يصح نقضها بعد ذلك، وإن كان النكاح عليها بغير رضاها يجعل المولى كالمستأنف للعقد بغير رضاها بعد العتق، وإن استأنف العقد عليها بعد العتق بغير رضاها كان لها أن تنقضه بعد إجازة الزوج وقبلها. قال في «الأصل» : وإذا زوج الرجل أمته أو مدبرته أو أم ولده وبوّأ لها بيتاً مع زوجها ثم بدا له أن يستخدمها ويردها إلى منزله فله ذلك؛ لأن للمولى حق استخدامها بحكم الملك، والملك قائم في المحل فلا يسقط بالتبوء به، ألا ترى أنه لا يسقط بالإنكاح، وكذلك لو كانت شرطت ذلك للزوج كان الشرط باطلاً يمنعه ذلك من استخدامها؛ لأن المستحق للزوج بالنكاح ملك البضع، ومنافع سائر الأعضاء باقية على

ملك المولى فيصير المولى معتبراً منافع سائر الأعضاء التي بقيت على ملكه، والإجازة شرعت غير لازمة فليس إلى العباد تغيير المشروط في المزوج فيلغو هذا الشرط. رجل زوج أمته من عبد رجل فولد بينهما أولاد فالأولاد لمولى الأمة؛ لأن الولد يتبع الأم في الملك، ألا ترى الولد يتبع الأم في الرق والحرية. تزوج الرجل امرأة على أنها حرة أخبرت عن حرية نفسها ثم ظهر بعد ذلك أنها أمة قد أذن لها المولى في النكاح، وقد ولدت ولداً فالولد حر بالقيمة لمكان الغرور يضمن الأب ذلك لمولى الأمة وتعتبر القيمة يوم الخصومة. ولو مات الولد قبل الخصومة فلا ضمان على الأب فيه ويرجع الزوج بقيمة الولد عليها إذا عتقت؛ لأنها لما زوجت نفسها منه على أنها حرة فقد ضمنت له سلامة الأولاد في ضمن عقد المعاوضة فكان بمنزلة الكفالة والمملوك يؤاخذ بضمان الكفالة بعد العتق، وإن ظهر أنها مدبرة أو مكاتبة أو أم ولد فكذلك الجواب في ظاهر الرواية، فروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه إذا ظهر أنها أم ولد فلا شيء على الأب لأن ولد أم الولد لا قيمة له عند أبي حنيفة رحمه الله كما لا قيمة لأم الولد، ألا ترى أنه لا يضمن بالغصب عنده كما لا يضمن أم الولد، فروى الحسن عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه إذا ظهر بها مكاتبة فلا شيء على الأب لأنه لو ضمن، ضمن لها وهي تسعى لتحصيل الحرية لنفسها وولدها، ففي حرية ولدها تحصيل بعض مقصود، وكيف يجب الضمان به ويرجع الزوج بقيمة (214ب1) الأولاد عليهم بعد العتق لما قلنا، هذا كله إذا اشترطت الأمة الحرية للزوج بغير إذن المولى، أما إذا اشترطت ذلك بإذن المولى تجب عليها قيمة الولد للزوج في الحال إلا في المكاتبة فإن المكاتبة لا تؤاخذ بقيمة الأولاد للحال، وإن أذن له المولى باشتراط الحرية لما ذكرنا أن ضمان الغرور بمنزلة ضمان الكفالة، والمكاتب لا يؤاخذ بضمان الكفالة في الحال وإن أذن له المولى. ولو مات الولد في هذه الصورة وترك مالاً فالمال لأبيه بحكم الإرث ولا ضمان على الأب فيه يريد به: لو مات الولد قبل الخصومة، وهذا لأن الضمان على المقدور بالمنع بعد الطلب فإذا مات قبل الخصومة لم يوجد المنع بعد الطلب فلم يوجد سبب الضمان. ولو قتل الولد وأخذ الأب قيمته كان عليه قيمة الولد لمولى الأمة؛ لأنه سلم له بدل نفسه، وحكم البدل حكم للمبدل فيتحقق المنع بعد الطلب ولو مات الأب في هذه الصورة ونفى الولد أخذ المولى قيمته من تركة الأب، فلا يرجع بها بقية الورثة في حصة الولد، وإن لم يترك الأب شيئاً لم يؤخذ الولد بشيء كما لا يؤخذ بسائر ديون الأب. فإن كان المخبر عن حرية الجارية رجل خنثى إلا أن الرجل المخبر لم يزوجها إيّاه بل الزوج تزوج بنفسه على أنها حرة فالزوج لا يرجع على الرجل المخبر بقيمة الولد لأنه لم يضمن له سلامة الولد نصاً، ولا في ضمن عقد المعاوضة؛ لأنه ما زوجها منه، ولكن يرجع بقيمة الولد على الجارية إذا أعتقت لما ذكرنا. وإن كان الرجل المخبر زوجها منه على أنها حرة فالزوج يرجع بقيمة الولد على المخبر للحال. أما الرجوع لأنه ضَمِنَ له

سلامة الولد في ضمن عقد المعاوضة، وأما في الحال فلأن الحر يؤاخذ بضمان الكفالة في الحال. قال في «المنتقى» : قال إبراهيم: سألت محمداً رحمه الله عن امرأة قالت للقاضي: زوجني فإني حرة فزوجها وولدت أولاداً ثم استحقت قال: أخذها المستحق وعقرها وقيمة ولدها، ولا يرجع على القاضي بشيء ولكن يرجع عليها. وإن تزوج وأخذت هؤلاء امرأة بإذن المولى على أنها حرّة ثم ظهر أنها أمة لا يكون مقذوراً حتى لا يكون الولد حراً بالقيمة، بل يكون رقيقاً، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله آخراً، وكان أبو يوسف رحمه الله أولاً يقول: الولد حر بقيمته تجب على الأب بعد العتق وهو قول محمد رحمه الله. اشترى جارية وزوجها قبل القبض إن تم البيع جاز النكاح، وإن انتقض البيع بطل النكاح عند أبي يوسف خلافاً لمحمد رحمهما الله. قال الصدر الشهيد رحمه الله: والمختار قول أبي يوسف رحمه الله؛ لأن البيع إذا انتقض قبل القبض ينتقض من الأصل ويصير كأن لم يكن، فيكون النكاح باطلاً. عبد طلب من مولاه أن يزوجه معتقة فأبى ثم تشفع العبد أن يأذن له في التزويج، فأذن له فذهب وتزوج المعتقة جاز؛ لأن الإذن حصل مطلقاً ... في «مجموع النوازل» في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا أذن الوارث لكاتب موروثة في النكاح جاز لأنهم لم يملكوا رقبته فالولاء لهم. وفيه أيضاً: عبدٌ تزوج امرأةً ثم امرأةً ثم امرأةً فبلع المولى فأجاز الكل، فإن لم يكن دخل بهن جاز نكاح الثالثة؛ لأن الإقدام على نكاح الثالثة ردٌ لنكاح الأولى والثانية، بقي الموقوف نكاح الثالثة. وإن كان دخل بهن فَسَدَ نكاحهن؛ لأن الإقدام على نكاح الثالثة لا يمكن أن يجعل رداً لعدة الأولى والثانية، ونكاح الثالثة في عدة الأولى، فكذا الحر إذا تزوج عشر نسوة بغير إذنهن فبلغهن فأجزن جميعاً جاز نكاح التاسعة والعاشرة لأن الخامسة ردٌ لنكاح الأربع اللاتي قبلها، ونكاح التاسعة رد لنكاح الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة وكان الموقوف نكاح التاسعة والعاشرة. وفي «الأصل» : الأب يملك تزويج أمة ولده الصغير وكذا الوصي، ولا يملكان تزويج عبد الصغير، وهل يملكان تزويج أمة الصغيرة من عبده سيأتي ذلك في كتاب الوصايا والمكاتب يملك تزويج أمته والشريك شركة معاوضة، وأما العبد المأذون، والصبي المأذون، والشريك شركة عنان والمضارب، لا يملكون تزويج الأمة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: يملكون والله أعلم بالصواب.

الفصل التاسع عشر: في نكاح الكفار

الفصل التاسع عشر: في نكاح الكفار هذا الفصل يشتمل على أنواع، نوع منه في نكاح أهل الذمة، وكل نكاح جائز بين المسلمين فهو جائز بين أهل الذمة، وأما (ما) لا يجوز بين المسلمين فهو أنواع منها: النكاح بغير شهود قال محمد رحمه الله: إذا تزوج الذمي ذميةً بغير شهودٍ وهم يدينون ذلك فهو جائز حتى لو أسلما يقر على أن ذلك عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله. وكذلك إذا لم يسلما، ولكن طلبا من القاضي حكم الإسلام أو طلب أحدهما ذلك فالقاضي لا يفرق بينهما. ومنها نكاح معتدة الغير، قال محمد رحمه الله إذا تزوج الذمي معتدة الغير وجبت العدة من مسلم كان النكاح فاسداً بالإجماع، ويتعرض لهم في ذلك قبل الإسلام وإن كانوا يدينون جوازالنكاح في حالة العدة، وإن وجبت العدة من كافر وهم يدينون جواز النكاح في حالة العدة فما داموا على الكفر لا يتعرض لهم بالإجماع. وإن أسلما أو أسلم أحدهما فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يفرق بينهما، وكذلك إذا لم يسلما ولكن ترافعا إلى القاضي وطلبا حكم الإسلام أو رافع أحدهما، وأما على قول أبي حنيفة: القاضي لا يفرق بينهما أسلما أو أسلم أحدهما ترافعا أو رافع أحدهما.d واختلف المشايخ في تخريج قوله، وأكثرهم على أن العدة لا تجب عنده على الذمية من الذمي؛ لأن خطاب العدة لم يعمل في حقهم، ألا ترى أنهم لو لم يدينوا وجرت العدة، لم يتعرض لهم في ذلك، وهذا لأن العدة إما أن تجب عليها حقاً للشرع ولا وجه إليه؛ لأنهم لا يخاطبون بحقوق الشرع، وإما أن تجب لحق الزوج ولا وجه إليه إذا كان الزوج لا يدين ذلك، بخلاف ما إذا كانت العدة من المسلم؛ لأن خطاب العدة إذا كانت العدة من المسلم يعلم في حقهم، ألا ترى أنهم لو لم يدينوا وجرت العدة من المسلم يتعرض لهم في ذلك، وهذا لأنه أمكن إيجاب العدة من المسلم لحقه إن لم يكن إيجابه لحق الشرع. وإذا لم تجب العدة على الذمية من الذمي كان النكاح مصادفاً محلاً فارغاً فصح. ومنها نكاح المحارم والجمع بين الخمس والجمع بين الأختين: قال محمد رحمه الله: إذا تزوج ذمي بمحارمه أو تزوج خمس (215أ1) نسوة (أو) بأختين فما داموا على الكفر ولم يترافعُوا إلينا لا نتعرض لهم بالاتفاق إذا كانوا يدينون ذلك، غير أن على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: هذا النكاح يقع فاسداً حالة الكفر حتى لو طلبت من قاضي المسلمين النفقة فالقاضي لا يقضي بذلك ولا يجري الإرث بينهما، وإذا دخل بها يسقط إحصانه لو أسلم بعد ذلك وقذفه قاذف لا يحد. وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله اختلف المشايخ، قال مشايخ العراق: يقع فاسداً، وقال مشايخنا: يقع جائزاً، واتفقوا على (قول) أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجري الإرث بينهما ويقضى بالنفقة ولا يسقط إحصانه متى دخل بها، واتفقوا على قوله أيضاً أنه لو تزوج

أختين في عقدة واحدة ثم فارق إحداهما قبل الإسلام ثم أسلم إن الباقية نكاحها على الصحة، حتى يُقرّان على النكاح، والباقي عين الثابت، وإنه دليل جواز هذا النكاح فإن (أسلما) أو أسلم أحدهما يفرق بينهما بالإجماع وكذلك إذا لم يسلما ولكن رفعا الأمر إلى القاضي، وإن رفع أحدهما الأمر إلى القاضي فالقاضي يفرق بينهما. قال القدوري رحمه الله في «كتابه» : وقال أبو يوسف رحمه الله: يفرق القاضي بينهما إذا علم بذلك سواء ترافعا إلينا أو لم يترافعا. وإذا طلّق الذمي امرأته ثلاثاً أو خالعها ثم أقام عليها، فرافعته إلى السلطان، فالقاضي يفرق بينهما بالاتفاق بخلاف نكاح المحارم على قول أبي حنيفة رحمه الله فإنه لا يفرق بينهما بمرافعةِ أحدهما وأما إذا تزوجها بعد الطلاقات الثلاث برضا قبل التزوج بزوج آخر، الآن هذا ونكاح المحارم في جميع التفريعات على السواء، هكذا ذكر في «الأصل» . وفي «القدوري» : إذا طلق امرأته ثلاثاً أو خالعها ثم أقام عليها فإنه يفرق بينهما، وإن لم يترافعا يحتمل ترك المرافعة بينهما، ويحتمل ترك المرافعة من أحدهما. وإذا تزوج الذمي ذمية على أن لا مهر لها صح ذلك ولا شيء لها، وإن أسلمت في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله لها مهر مثلها فلو تزوجها وسكتا عن المهر فلها مهر المثل في ظاهر رواية «الأصل» . قال أبو الحسن الكرخي رحمه الله: قياس قول أبي حنيفة رحمه الله أن لا فرق بين حالة السكوت وحالة النفي، ولا يجب المهر إلا إذا سمى. ولو تزوجها على ميتة أو دم وذلك في دينهم جائز فلها مهر المثل في رواية «الأصل» . وذكر في «الجامع الصغير» : أنه لا يجب شيء. قيل: ما ذكر في «الجامع» قوله، أما على قولهما لها مهر المثل إذا مات عنها أو دخل بها، فإن كان المذكور في «الجامع» قول أبي حنيفة كان المذكور في «الأصل» وفي «مختصر الكرخي» قولهما، وإن كان ما ذكر في «الجامع الصغير» قول الكل كان في المسألة روايتان. ولو تزوجها على خمر أو على خنزير فهو جائز فلها المسمى، فإن أسلما أو أسلم أحدهما فإن كان الخمر أو الخنزير عيناً في العقد فلها ذلك وليس لها غيره في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يجب الخمر أو الخنزير بعد إسلام أحدهما، وأجمعوا على أنه إذا سمى الخمر أو الخنزير دَيْنَاً في الذمة لم يجب لها غير ذلك ولم يكن لها أن تقبض. بعد هذا قال أبو حنيفة رحمه الله يجب لها في الخمر القيمة وفي الخنزير مهر المثل سواء كان بعينه أو بغير عينه، وقال محمد رحمه الله لها القيمة، في ذلك كله، وإن كان مهرها مقبوضاً قبل الإسلام فلا شيء لها. وتجوز المناكحة بين أهل الذمة وإن اختلفت مراتبهم، والمولود بين الكتابي والمجوسي تابع للكتابي تحل مناكحته للمسلمين، وتحل ذبيحته عندنا خلافاً للشافعي رحمه الله. قال: الأصل إذا زوجت صبية من صبي وهما من أهل الذمة فأدركا، فإن كان

المزوج أباً فلا خِيَارَ لهما؛ لأن الشفقة لا تتفاوت. وإن كان المزوج غير الأب والجد فلهما الخيار عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وإذا تزوجت الذمية ذمياً فقال الولي: هو ليس بكفء لا يلتفت إلى قوله لأنهم أكفاء بعضهم لبعض؛ لأن ذل الشرك وصغار الجزية لجمعهم، فلا يَظهر مع ذلك نقصان النسب. ألا ترى أنهم لو استرقوا كانوا أكفاء، ولو أعتقوا كذلك، ولو أسلموا كذلك فلا يكون للمولى أن يخاصم، قال: إلا أن يكون أمراً مشهوراً يعني كانت بنت ملك خدعها حَائك أو سائس وهنا يفرق بينهما لا لانعدام الكفاءة بل لتسكين الفقيه والقاضي مأمور بن سكين الثمنية فيما هو بينهم كما هو مأمور به فيما بين المسلمين والله أعلم. نوع منه في نكاح أهل الحرب الحربي إذا تزوج حربية على أن لا مهر لها، فلا يجب المهر بلا خلاف بخلاف الذميين على قولهما. وإذا تزوج الحربي خمس نسوة أو بأختين ثم أسلم وأسلمن معه، فإن تزوجهن في عقدة واحدة بطل نكاحهن، وإن تزوجهن في عقد منفرد صح نكاح الأربع الأُوَل وبطل نكاح الخامسة. وكذلك الحكم في الأختين إن تزوجهما في عقد واحد بطل نكاحهما، وإن تزوجهما في عقدتين متفرقتين صح نكاح الأولى وبطل نكاح الثانية، هذا قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: يختار من الخمس أربعاً، ومن الأختين واحدة سواء تزوجها أو تزوجهن في عقدة واحدة أو في عقود متفرقة. وجه قول محمد: أن الأنكحة وقعت صحيحة في الأصل لأن حرمة الجمع بخطاب الشرع وخطاب الشرع قاصر عنهم، ألا ترى لو ماتت واحدة من الخطاب الخمس أو من الأختين أو فارقها قبل الإسلام ثم أسلم كان نكاح الباقية على الصحة والباقي غير الثابت، وإنما تثبت من الإجماع في العقد حرمة الجمع في حقّه في حالة الإسلام فيجب الإعراض عما وجد في الابتداء من الاجتماع في العقد والتفريق، ويجب اعتبار حالة الإسلام فيرفع ما يتحقق به الجمع وهو نكاح إحداهما في الأختين ونكاح إحداهن في الخمس. قال محمد رحمه الله في «السير الكبير» : ولو كانت هذه العقود فيما بين أهل الذمة كان الجواب على ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله لأن الخطاب بحكم الشيوع في دار الإسلام يجعل ثابتاً في حق أهل الذمّة وإن كنا لا نتعرض لهم ما لم يسلموا، وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله قالا: خطاب التحريم بسبب الجمع كان موجوداً حالة الكفر، ولكن امتنع عمله لمكان الكفر، فإذا زال الكفر يعمل الخطاب عمله على وجه لولا المانع فكان عاملاً فيثبت الحكم. إلا أن على وفاق ما يقتضيه السبب في الابتداء ولولا الكفر حرم نكاح الكل إن كان النكاح واحداً لأن الجمع حصل بالكل وحرم نكاح الخامسة والأخت الثانية إن كان النكاح متفرقاً لأن الجمع حصل بهما كذا هنا.

وعلى هذا (215ب1) لو أسلم وتحته أم وابنة وأسلما معه، فان كان تزوجهما في عقد واحد بطل نكاحهما ثم ينظر إن لم يكن دخل بهما فله أن يتزوج الابنة دون الأم، وإن كان دخل بهما، لم يكن له أن يتزوج بواحدة منهما، وكذلك إن كان دخل بالأم وحدها، وإن كان دخل بالابنة وحدها فله أن يتزوج الابنة دون الأم، وإن كان تزوجهما في عقدين، فنكاح الأولى جائز ونكاح الثانية فاسد، وهذا إذا دخل بهما أو دخل بالأولى، فإن كان دخل بالثانية فإن كانت الأولى ابنة فسد نكاحهما، وإن كانت الأولى أماً فنكاح الابنة صحيح، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعلى قول محمد رحمه الله، فسواء تزوجهما في عقدةٍ واحدةٍ أو في عقدتين، فنكاح الابنة صحيح لأن العقد على الابنة يُحرِّم الأم والعقد على الأم لا يحرم الابنة إلا أن يكون دخل بالأم فحينئذ يفرق بينه وبينهما، وهذا إذا كان دخوله بالأم بعدما تزوج الابنة، وإن كان قبل أن يتزوج الابنة، فنكاح الأم صحيح لأن نكاح الأم لو بطل بطل بحكم نكاح الابنة إلا أن نكاح الابنة هنا لم يصح؛ لأنها حرمت بالدخول بالأم، وإذا لم يصح نكاح الابنة كيف يبطل نكاح الأم؟ إلا أن يكون دخل بالبنت أيضاً، فحينئذ تقع الفرقة بينه وبينهما بالمصاهرة وليس له أن يتزوج بواحدة منهما. وإذا أسلم الحربي وامرأته وقد كان طلقها ثلاثاً ثم تزوج قبل أن تنكح زوجاً غيره فرّق بينهما لأن الطلقات الثلاث تقع في دار الحرب حسب وقوعها في دار الإسلام؛ لأنهم يعتقدون ذلك، وإنها تثبت حرمة المحل إلى وقت إصابة التزوج، وكذلك لو كان جامع أمّها أو ابنتها أو قبل واحدة منهما بشهوة؛ لأنها الحرمة بسبب المصاهرة نظير الحرمة بسبب الرضاع، وذلك يتحقق في دار الحرب كما تتحقق في دار الاسلام وهذا مثله. وإذا خرج أحد الزوجين من دار الحرب إلى دار الإسلام وترك الآخر كافراً في دار الحرب وقعت الفرقة بينهما عندنا، فبعد ذلك ينظر إن كان الخارج إلى (دار الإسلام) الزوج فلا عدة على المرأة بلا خلاف. وإن كان الخارج هي المرأة فلا عدة لها عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما وقدّم مسألة المرأة قبل هذا في فصل ما يجوز من الأنكحة وما لا يجوز. ولو كذلك خرج أحدهما ذميّاً وقعت الفرقة بينهما، ولو خرج إلينا بأمان لم تقع الفرقة بينهما. ولو سُبي حربي مع أربع نسوة له بطل نكاح الكل عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله سواء تزوجهن في عقدة واحدة أو في عقود متفرقة، بخلاف ما إذا أسلم مع خمس نسوة تحته أو مع أختين لأن في هذه الصورة حال وقوع النكاح لم يكن سبب التحريم قائماً؛ لأنه كان حرّاً وكان نكاح الأربع مشروعاً فوجب اعتبار حالة البقاء واعتبار حالة البقاء توجب بطلان الكل؛ لأن الجمع يقوم بالكل بخلاف مسألة الإسلام على ما ذكرنا. نوع منه في نكاح المرتد إذا ارتدّ أحد الزوجين وقعت الفرقة بينهما في الحال، هذا هو جواب ظاهر الرواية وبعض مشايخ بلخ وبعض مشايخ سمرقند رحمهم الله كانوا يفتون بعدم الفرقة بارتداد

المرأة حسماً لباب المعصية، وعامتهم على أنه تقع الفرقة إلا أنها تجبر على الإسلام، والنكاح مع زوجها الأول لأن الحسم يحصل بالجبر على النكاح الأول، ومشايخ بخارى رحمهم الله، كانوا على هذا. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله برواية ابن سماعة: إذا تكلمت بالكفر وقلبها مطمئن بانت وهي مشركة، ثم إن كانت المرأة هي المرتدة ولم يكن الزوج دخل بها فلا مهر، وهذه فرقة بغير طلاق بلا خلاف، وإن كان الزوج هو المرتد ولم يكن دخل بها فلها نصف المهر، وتكون هذه فرقة بغير طلاق عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد رحمه الله تكون فرقة بطلاق. ولو ارتد الزوجان معاً لم تقع الفرقة استحساناً عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، فإن أسلما فهما على نكاحهما، وإن أسلم أحدهما وقعت الفرقة ويجعل إصرار صاحبه على الردة بعد إسلامه كإنشاء الردة منه. مسلمٌ تحته نصرانية ثم تمجسّا معاً فهما على النكاح، قال: لأن هذا منهما ردة فصار كما لو ارتدا معاً، قال: ولو تهودا بانت منه قال: لأن هذا منها ليس بردة فصار كأنه ارتد الزوج وحده، روى المسألة مع هذا التعليل ابن رستم عن محمد، وعن محمد رحمهما الله رواية أخرى في التهود أنها لا تبين كما لو تمجسا فحصل عن محمد فيما إذا تهودا روايتان، وعن أبي حنيفة رحمه الله فيما إذا تهودا روايتان أيضاً، فيما إذا تمجسا رواية واحدة أنهما على النكاح، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان في الفصلين جميعاً. وفي «الأصل» : إذا أسلم النصراني وتحته نصرانية فتحولت إلى اليهودية، فهي امرأته كما لو كانت يهودية في الابتداء، أو إن أسلم النصراني وتحته مجوسية ثم ارتد عن الاسلام بانت منه لأن النكاح بعد إسلامه باقٍ ما لم يفرق القاضي بينهما، وتفرُّدُ أحد الزوجين بالردة يوجب الفرقة، وكذلك لو أسلمت المجوسية ثم ارتد بانت منه، وإن لم يرتد الزوج ولم يسلم حتى مات الزوج فلها المهر كاملاً دخل بها أو لم يدخل بها. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : مسلم تزوج صبية مسلمة زوجها أبوها منه ثم ارتد أبواها عن الإسلام ولحقا بدار الحرب أو لم يلحقا، فإنها لا تبين من زوجها ما دامت في دار الإسلام؛ لأنها بقيت مسلمة ما بقيت في دار الإسلام، بيانه: وهو أن الصغيرة قبل ارتداد الأبوين كانت مسلمة تبعاً للأبوين ولدار الإسلام؛ لأن لدار الإسلام أثراً في الاستتباع كما للأبوين، ألا ترى أن من سُبي صغيراً أو صغيرة وأدخله دار الإسلام يحكم بإسلامه كما دخل دار الاسلام تبعاً للدار حتى لو مات يصلي عليه، وإذا كان لدار الإسلام أثر في الاستتباع كما للأبوين كان إسلام الصغيرة حكم بسبب التبعية مضافاً إليهما وأحدهما قائم بعد ردتهما، فبقي إسلامها. فإن قيل: دار الاسلام إنما توجب إسلام الصغير حال فقد الأبوين كما في الصغير إذا سبي وحده، فأما حال وجود الأبوين فلا، ألا ترى أن الولد الحادث بين النصرانيين في دار الإسلام وبين اليهوديين يكون نصرانياً ويهودياً تبعاً للأبوين فلا يكون مسلماً تبعاً

للدار؛ وهذا لأن سبب الاستتباع في جانبها بالجزئية والتعصبية، وفي الدار بالمجاورة والاتصال وأبداً يحال بالحكم على الأقوى، فجعلناها (216أ1) مسلمة تبعاً للأبوين وبارتدادهما زالت التبعية فيحكم بكفرها وتبين من زوجها. قلنا: إنما يحال بالحكم على أقوى السببين إذا كان الأقوى من السبب يوجب من الحكم خلاف ما يوجبه الأضعف؛ لأنه حينئذ يتعذر العمل بهما لما بينهما من التنافي في الحكم، فيجب العمل بالراجح لما في المسألة التي أوردها إذ الشخص الواحد لا يتصور أن يكون مسلماً وكافراً، أما إذا كان الحكم واحداً يضاف بالحكم إليهما ألا ترى أنه لو كان في حادثة نصّ الكتاب وخبر الواحد والقياس وموجب الكل حكم واحد كان ذلك الحكم مضافاً إلى الكل، فيقال هذا حكم ثبت بالكتاب والسنة والقياس، وهنا الحكم واحد وهو إسلامها وأضفناه إليهما والتقريب ما ذكرنا حتى لو ألحقاها بدار الحرب بانت من زوجها لأن تبعية الدار قد زالت كما زالت تبعية الأبوين فحكمنا بردتها فبانت وبطل مهرها. ولو ماتت أمها مسلمة في دار الإسلام أو بعدما ارتدت ولحق بالصبية أبوها مرتداً بدار الحرب لم تبن من زوجها، بخلاف ما إذا كانا حيين ولحقا بالصبية بدار الحرب مرتدين. فإنها تبين من زوجها. مسلم تزوج صبية نصرانية زوجها أبوها وأبواها نصرانيان ثم تمجس أحد أبويها وبقي الآخر على النصرانية، فهذه البنت لا تبين من زوجها؛ لأن الولد يتبع خير الأبوين ديناً، وخيرهما ديناً النصراني قال: النصراني أقرب إلى الإسلام من المجوسي حتى تحل ذبيحته، ويحل للمسلم نكاح النصرانية فبقيت نصرانية تبعاً لوالدها النصراني، ولو كان الأبوان تمجسا والجارية صبية على حالها بانت من زوجها. وإن لم يكن أدخلاها دار الحرب فرق بين هذه المسألة وبين الصغيرة المسلمة إذا ارتد أبواها لا تبين من زوجها ما لم يدخلاها دار الحرب، والفرق أن في تلك المسألة الصغيرة بقيت مسلمة بعد ارتداد الأبوين تبعاً لدار الإسلام، وههنا لا يمكن إبقاؤها نصرانية تبعاً للدار إذ الدار ليست داراً للتنصر، واستشهد في «الكتاب» لحال بعد النكاح بحال ابتداء النكاح فقال: ألا ترى أن بعد تمجس الأبوين ليس للقاضي ولا لأحد أن يزوج الصغيرة من مسلم، وبعد ردّة الأبوين جاز للقاضي أن يزوج الصبية من مسلم، فكذا في حالة البقاء، قال وليس لها من المهر قليل ولا كثير، علل فقال: لأن الفرقة جاءت من قبلها. فإن قيل: كيف يستقيم هذا التعليل، فإنه لم يوجد منه صنيع أصلاً إنما الصنيع للأبوين في التمجس، قلنا: ما قاله محمد رحمه الله مستقيم؛ لأنه لم يقل: الفرقة جاءت بصنعها حقيقة، إنما قال الفرقة جاءت من قبلها أي من عندها والفرقة جاءت من عندها لأن الفرقة وقعت بردتها تبعاً للأبوين، وتبعيتها بسبب الصغر، وصغرها من قبلها لأنه وصفها، وكذلك الجواب فيما إذا بلغت معتوهة؛ لأنها إذا بلغت معتوهة بقيت تابعة للأبوين وللدار في الدين لأنه ليس للمعتوهة إسلام نفسها حقيقة فكانت بمنزلة الصغيرة من هذا الوجه.

امرأة مسلمة بالغة صارت معتوهة ولها أبوان مسلمان زوجها أبوها وهي معتوهة حتى جاز النكاح ثم ارتد الأبوان والعياذ بالله ولحقا بها بدار الحرب لم تبن من زوجها. فرّق بين هذه وبين الصغيرة. المسلمة إذا ارتد أبواها ولحقا بها بدار الحرب إنها تبين من زوجها والفرق إنها إذا بلغت عاقلة فقد زالت تبعية الأبوين، وإذا وصفت الإسلام صارت مسلمة بإسلامها مقصوداً وبعد صفة العته إسلامها باق حقيقة؛ لأن العته لا يُنافي الإسلام فأما الصغيرة فهي مسلمة تبعاً للأبوين لا بإسلام نفسها وبعدما ارتد الأبوان لا يمكن إبقاؤها مسلمة تبعاً للأبوين وليس لها إسلام نفسها فلهذا بانت من زوجها، والصغيرة إذا عقلت الإسلام ووصفت ثم صارت معتوهة كانت بمنزلة هذه؛ لأنها لما عقلت الإسلام ووصفت صارت مسلمة بطريق الأصالة كالبالغة. مسلم تزوج نصرانية صغيرة، ولها أبوان نصرانيان، فكبرت وهي لا تعتد ديناً من الأديان ولا تصفه وهي غير معتوهة، فإنها تبين من زوجها، معنى قوله لا تعتد ديناً من الأديان لا تعْرف ديناً من الأديان بقلبها ومعنى قوله: لا تصفه لا تعرفه باللسان لأنه له هو لها دين الأبوين لزوال التبعية ولم تظهر لها جهة الأصالة، فكانت جاهلة ليس لها ملّة معنية والملّة المعينة شرط النكاح ابتداءً وبقاءً. وكذلك الصغيرة المسلمة إذا بلغت عاقلة وهي لا تعتقد الإسلام ولا تصفه وهي غير معتوهة بانت من زوجها لما ذكرنا، ومحمد رحمه الله سمى هذه في «الكتاب» مرتدة؛ لأنا حكمنا بإسلامها بطريق التبعية، والآن بكفرها، فكانت مرتدة. ولم يذكر في «الكتاب» إذا بلغت فعرفت الإسلام بأن قالت أنا أعقل الإسلام وأعرفه وأقدر على وصفه إلا أني لا أصفه أنها هل تبين من زوجها؟ قيل: يجب أن يكون فيه اختلاف المشايخ على قول من يشترط الإقرار باللسان لصيروته مسلماً تبين من زوجها؛ لأنها تركت ما هو الركن بلا عذر وكذلك لم يذكر ما إذا قالت أنا أعقل الإسلام، ولكن لا أقدر على الوصف هل تبين من زوجها قيل يجب أن يكون فيه اختلاف المشايخ على نحو ما بينّا، على قول من يشترط الإقرار باللسان تبين من زوجها لأنها تركت ركناً بغير عذر لأن العجز إنما جاء من ناحية الجهل لانعدام الآلة، والجهل في دار الإسلام ليس بعذر، ولو كانت هاتان اللتان بلغتا قد عقلتا الإسلام أو النصرانية قبل أن تبلغا ولكن لم تصفا ذلك ولا غيره لم تبن واحدة منهما من زوجها، فهذا دليل على أن من صَدق بقلبة كان مسلماً وإن لم يقرّ لسانه. وهكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله في كتاب العالم والمتعلم، وبه أخذ الشيخ الإمام الزاهد أبو منصور الماتريدي رحمه الله وهو مذهب أبي الحسن الأشعري، وعامة مشايخنا قالوا لا بل الإقرار باللسان شرط لصيرورته مسلماً، فتأويل هذه المسألة على قول عامة المشايخ أنهما عقلتا الإسلام قبل البلوغ ولم يصفا ذلك ولا غيره وأنهما لا تبينان من زوجيهما ما دامتا صغيرتين لأنهما ما دامتا صغيرتين؛ كانت تبعية الأبوين باقية، فكانت المسلمة مسلمة والنصرانية نصرانية تبعاً. وأما بعد البلوغ فلا. فإن وصفت المجوسية ودانت بانت من زوجها (216ب1) عند أبي حنيفة رحمه الله هذا بمنزلة الردة، وردة

الصبي العاقل صحيحة عندهما وعند أبي يوسف رحمه الله: إن تمجست وكانت مسلمة لا تبين من زوجها؛ لأن ردة الصبي المسلم عنده غير صحيحة، وإن تمجست وكانت نصرانية فقد اختلف المشايخ فيه على قول بعضهم قالوا: تبين من زوجها بخلاف ما إذا كانت مسلمة؛ لأن التمجس هناك إنما لم يصح لما فيه من ضرر زوال الإسلام، وإنه لا يتأتى هنا لأنها انقلبت من كفر إلى كفر، فصح التمجس منها فتبين من زوجها.r وبعضهم قالوا: لا تبين من زوجها؛ لأنه إن لم يمكن في التمجس ضرر زوال الإسلام، ففيه ضرر ببنيونتها عن الزوج، والصبي محجور عما هو ضرر في حقّه، فلم يصح التمجس منها فلهذا لا تبين من زوجها والله أعلم. نوع منه في إسلام أحد الزوجين إذا أسلم أحد الزوجين في دار الإسلام، فإن كان الذي أسلم هي المرأة يعرض الإسلام على الزوج، فإن أسلم بقيا على النكاح وإلا فرّق بينهما، ويحتاج في هذه الفرقة إلى القضاء فتكون هذه فرقة بطلاق عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله إذا كان الزوج من أهل الطلاق، وإن لم يكن الزوج من أهل الطلاق بأن كان صبيّاً عقل الإسلام حتى اعتبر إباؤه فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: هي فرقة بغير طلاق؛ لأن الصبي ليس من أهل الطلاق، وقال بعضهم: هي فرقة بطلاق والطلاق هو المعتبر للفرقة شرعاً، فإذا استحقت الفرقة لم تستحق إلا بما وضع له شرعاً، فيكون لها نصف المهر إن كان إباء الزوج قبل الدخول بها ونفقة العدة إن كان بعد الدخول بها. وإن كان الذي أسلم هو الزوج فإن كانت المرأة كتابية أقرّا على النكاح، وإن كانت مجوسية أو وثنية عرض عليها الإسلام، فإن أسلمت وإلا فرّق بينهما وتكون هذه فرقة بغير طلاق بلا خلاف ولا مهر لها إن كان الإباء قبل الدخول بها، وإن كان بعد الدخول بها فليس لها نفقة العدة. وإن أسلم أحد الزوجين في دار الحرب، فإن الفرقة توقف على مضي ثلاث حِيَضٍ، فإذا مضت وقعت الفرقة، وهذا لأنه تعذر اعتبار التفريق من جهة القاضي لانتزاع ولايته من دار الحرب، ولانقضاء ثلاث حيض أثّر في وقوع الفرقة بالطلاق فأقمنا مضي ثلاث حيض مقام التفريق عند تعذر اعتبار التفريق. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا عقد النكاح على صبيين من أهل الذمة ثم أسلم أحدهما وهو يعقل الإسلام حتى صح إسلامه عندنا استحساناً عرض على الآخر الإسلام إن كان يعقل الإسلام، فإن أسلم فهما على نكاحهما، فإن أبى أن يسلم، فإن كان الزوج هو المسلم، والمرأة كتابية أقرّا على النكاح، وإن كانت مجوسية أو وثنية ففي القياس لا يفرّق بينهما. وفي الاستحسان يفرق بينهما، ولا مهر لها إن لم يكن دخل بها، وهذا هو وضع المسألة في «الأصل» ، وفي «الجامع» وضع المسألة في مجوسي تزوّج جارية مجوسية بنت عشر سنين تعقل الإسلام، زوجها أبوها فأسلم الزوج عرض على

الجارية الإسلام، فإن أسلمت فهي امرأته وإن أبت فرّق بينهما ولا مهر لها إن لم يكن دخل بها، وهذا استحسان والقياس أن لا يفرق بينهما. ومن مشايخنا من قال: هذا ليس بقياس واستحسان مبتدأ في هذه المسألة إنما هو القياس. والاستحسان الذي يذكر في الصبي العاقل إذا أسلم، فالقياس أن لا يصح إسلامه، وفي الاستحسان: يصح ومنهم من قال: هذا قياس واستحسان آخر في هذه المسألة وجه: القياس في ذلك: أن في عرض الإسلام عليها وهي صغيرة خطاب لها بالإسلام، والإجماع أن خطاب العقل ساقط عن الصغير ما لم يبلغ، إذ اختلفوا أنه إذا أسلم هل يصلح إسلامه. وجه الاستحسان: أن الصبي العاقل والصبية العاقلة إنما لا يخاطبان بالعقل قبل البلوغ لحق الله، وهاهنا لا تخاطب الصغيرة بالإسلام لحق الله وإنما تخاطب به لحق الزوج حتى يبقيان على النكاح، والصغيرة يجوز أن تخاطب بأداء حقوق العباد، فإن أسلمت بقيا على النكاح، فإن أبت فُرّق بينهما، وهذا لا يشكل على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن على قولهما ردتهما عن الإسلام صحيحة وإنها إنكار بعد الإقرار، فأولى أن يصح إباؤها، وإنه امتناع عن قبول الإسلام، وأما على قول أبي يوسف رحمه الله اختلف المشايخ منهم من لم يصحح إباءها على قوله وسوى بينه وبين الردة، ومنهم من صحح إباءها وفرق بين الإباء والردة. واختلفت عباراتهم في ذلك بعضهم قالوا: إن أبا يوسف رحمه الله إنما أبطل الردة شرعاً رحمة على الصبي، وههنا وُجد الإباء بناء على العرض حقاً على العبد وإنه تقتضي صحته، وبعضهم قالوا: الردة تبدليل الاعتقاد ولا اعتقاد للصغير ولا ردة فأما الإباء مداومة على ما كان قبل ذلك، فلا حاجة فيه إلى اعتقاد بعدما تيقنابإبائه وحكمنا به، ولم يقع مثله في الردة ولم يحكم به. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : نصراني زوج ابنه النصراني وهو صغير لا يعقل امرأةً كبيرة نصرانية، فأسلمت المرأة وطلبت من القاضي التفريق، فالقاضي لا يفرق بينهما حتى يبلغ الصغير أو يعقل الإسلام، وإذا عَقَلَهُ عرض عليه الإسلام فإن أبى فرق بينهما ولا يجعل إباءً لأن قبل بلوغه بمنزلة إبائه بعد البلوغ. فرق بين هذا وبينما إذا كان الزوج نصرانياً معتوهاً مطبقاً لا ترجى صحته، وأبواه نصرانيان زوّجه أبوه امرأة نصرانية فأسلمت وأرادت التفريق فإن القاضي يُحضر والده إن كان حيّاً، ووالدته إن كان الوالد ميتاً، ويقول له: إما أن تسلم فيصير ابنك مسلماً بإسلامك وإلا فأفرق بينهما والقاضي عاجز عن عرض الإسلام على الزوج في الموضعين، وكل واحد منهما يصير مسلماً بإسلام الأب، والفرق بينهما: أن التفريق بعد إسلام المرأة معلق بإباء الزوج الإسلام من كل وجه، وكذلك بأن يوجد الإباء من الزوج حقيقة وحكماً، وبقاؤهما على النكاح معلّق بإسلام الزوج من كل وجه، وذلك بأن يوجد الإسلام من الزوج حقيقة وحكماً، وهذا مرجو متى عقل الصغير أو بلغ ولبلوغه غاية معلومة فتأخر الأمر إلى أن يوجد من الزوج الإسلام من كل وجه أو الإباء من كل وجه ولا يكون هذا إبطالاً لحق المرأة في التفريق فوجب التأخير ولم يجز إقامة إسلام ناقص وإباء ناقص مقام الكامل من غير ضرورة، وأما في مسألة المعتوه متى

أخرنا الأمر إلى أن يزول العته (217أ1) وليس لزواله غاية معلومة أدى إلى إبطال حقها في التفريق وإنه لا يجوز، فلهذه الضرورة أقمنا إباء ناقصاً وإسلاماً ناقصاً مقام الكامل. فإن قيل: هذا القول يُشْكل بما لو كان الزوج غائباً وهو صبي، فإنه لا يعرض الإسلام على أبيه وليس لإبائه وإسلامه من حيث الحقيقة والحكم وقت معلوم. قلنا: الغائب من يعرف مكانه، ومتى عرف مكانه عُرض الإسلام عليه من حيث الحقيقة، إما بإحضاره أو بأن توكل المرأة وكيلاً حتى تخاصم معه حيث هو..... عقل، فيعرض الإسلام عليه حتى لو كان مفقوداً لا يُعرف مكانه نقول: يعرض الإسلام على أبيه. ثم إن محمداً رحمه الله قال في مسألة المعتوه: يعرض الإسلام على والده، فإن أسلم وإلا فرق بينهما. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي في تعليقه على القاضي الإمام أبي عاصم العامري رحمه الله: ليس هذا على طريق الحكم لكن إنما قال ذلك لأن للوالدين شفقة على ولدهما كما أن لهما شفقة على أنفسهما، فيجوز أن تحملهما شفقة الولاد على الإسلام، فيصير المعتوه مسلماً بإسلامه، كما أن شفقته على نفسه تحمله على أن يسلم فلا يفرق بينهما، فإنما قال: يعرض الإسلام عليه لهذا الأمر طريق الحكم. وفي مسألة الصبي صحح عرض الإسلام عليه وإن كان لا يخاطب الصبي بالإسلام عندنا؛ لأن ذلك وضع عنه، وقبل منه إذا أدّاه في حق الرحمة عليه، وههنا وجب العرض لحقوقها، وحقوق العباد لا تسقط بعذر الصغر فيوجه الخطاب بالعرض لحق العبد لا لحق الله تعالى، واستشهد في «الكتاب» فقال: ألا ترى أن امرأة النصراني إذا أسلمت فرفعت الأمر إلى القاضي، فوكل الزوج رجلاً بالخصومة وغاب الزوج، فالقاضي لا يفرق بينهما حتى يحضر الزوج فيفرق بينهما إذا أبى الإسلام؛ لأنه يمكن اعتبار إباء الزوج حقيقة وحكماً، فلا ضرورة إلى إقامة إباء الوكيل مقام إباء الزوج كذا مسألتنا. ثم فرّع على مسألة المعتوه فقال: إن كان الأبوان قد ماتا، فالقاضي ينصب خصماً عنه ويفرق بينهما؛ لأنه تعذر عرض الإسلام عليه وعلى غيره، فغلب الإمساكَ بالمعروف التسريحُ بالإحسان. فإن قيل: لما تعذر اعتبار الإسلام والإباء حقيقة ينبغي أن تقام ثلاث حيض مقام الفرقة إقامة للشرط مقام (العلة) كما لو أسلم أحد الزوجين في دارالحرب، قلنا: في تلك المسألة: إنما أقمتم ثلاث حيض مقام الفرقة إقامة للشرط مقام العلة لتكون الحِيَض شرط الفرقة، وههنا أمكن اعتبار العلة حقيقة وهو تفريق القاضي بأن ينصب عنه وكيلاً، فلا ضرورة إلى إقامة الشرط مقام العلة، والله أعلم بالصواب.

الفصل العشرون: في الخصومات الواقعة بين الزوجين

الفصل العشرون: في الخصومات الواقعة بين الزوجين وما يتصل بها هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضاً: نوع منه في دعوى النكاح وإقامة البينة عليه. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : رجل ادى على امرأة نكاحاً، وأقام على ذلك بيّنة وأقامت أخت المرأة على هذا الرجل بينة أنها امرأته، وأنه تزوجها، فالبينة بينة الزوج، لأن الزوج ببنيته يثبت لنفسه ملك المتعة التي هي أصل في باب النكاح، والأخت ببنيتها تُثبت لنفسها ملك المهر الذي هو تبع في باب النكاح، إنما ملك المتعة يثبت عليها لعبرة ولا شك أن الأصل أقوى من التبع فكانت بيّنة الزوج أكثر إثباتاً فكانت أولى بالقبول، وإذا قضى ببينة الزوج بطل نكاح الأخرى ولا يقضي للأخرى بالمهر إن لم يكن الزوج دخل بها، وهذا كله إذا لم تؤرخ البينتان أو أرخ وتاريخهما على السواء، أما إذا كان تاريخ أحدهما أسبق يجب القضاء ببينة من كان أسبق تاريخاً، ويفسد نكاح الأخرى اعتباراً للثابت بالبينة بالثابت معاينة. وفي «المنتقى» عن أبي حنيفة رحمه الله: لو وقتت بينة المرأة ولم توقت بيّنة الرجل، فدعوى الرجل جائزة، ويثبت نكاح المرأة التي ادعاها فيبطل نكاح المدعية. قال في «الأصل» : وإن شهد شهود الزوج أنه تزوج إحداهما ولا تعرف بعينها غير أن الزوج يقول: هي هذه، فإن صدقته المرأة فهي امرأته ويحكم بصداقها، وإن جحدت فلا نكاح بينه وبين واحدة منهما؛ لأن الشهود لم يشهدوا على نكاح امرأة بعينها إنما شهدوا على نكاح إحداهما، ونكاح إحداهما مجهول، والشهادة بالمجهول لا تكون حجة فبقي دعوى الزوج، وبمجرد دعوى الزوج لا يَثبت النكاح، ولا يمين للزوج على التي يدعى عليها النكاح عند أبي حنيفة رحمه الله، والمسألة معروفة فلا مهر عليه إن لم يكن دخل. وكذلك لو شهد شهود امرأة أنه تزوجها أحد هذين الرجلين ولا يعرف بعينه غير أن المرأة تقول: هو هذا، فإن صدقه ذلك الرجل فهي امرأته وإن كذبه فلا نكاح بينهما وبين واحد منهما، ولا مهر على واحد منهما ولا يمين لها عليه في قول أبي حنيفة رحمه الله، وإن كانت ادعت أنه طلقها قبل الدخول بها وأن لها عليه نصف (المهر) يستحلف على نصف المهر. وكذلك لو ادعت أنه طلقها بعد الدخول بها، وأن لها عليه جميع المهر يستحلف على جميع المهر؛ لأن الدعوى الآن وتقع في المال، وإذا نكل قضي بالمهر ولا يقضى بالنكاح؛ لأن عند النكول إنما يقضى بما وقع فيه الاستحلاف، والاستحلاف وقع في المال، ألا ترى أن في دعوى السرقة إذا استحلف ونكل يقضى بالمال دون القطع كذا ها هنا.

وإذا ادعت أختان على رجل بعينه كل واحدة تدعي أنه تزوجها أولاً وأقامت كل واحدة بيّنة على حسب ما ادعت كان ذلك إلى الزوج، فأيتهما قال الأولى فهي الأولى وهي امرأته، ويفرق بينه وبين الأخرى ولا مهر عليه للأخرى إن لم يكن دخل بها. قال الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: وبهذه المسألة تبين أنه إذا وجد التصادق بعد إقامة البينة، فالنكاح يعتبر ثابتاً بالبينة، إذ لو اعتبر ثابتاً بالتصادق يجب أن تُقبل بينّة الأخت في هذه المسألة وقد أقامت البينة أنه تزوجها أولاً وإن جحد الزوج ذلك كله وقال: (لم) أتزوج واحدة منهما أو قال تزوجتهما ولا يدري أيتهما أولى فهو سواء، ويفرق بينه وبينهما وعليه نصف المهر بينهما إن لم يكن دخل بهما. من مشايخنا من قال: هذا الجواب لا يستقيم فيما إذا أنكر الزوج نكاحهما أصلاً؛ لأنه لما أنكر نكاحهما فقد أنكر وجوب (217ب1) المهر على نفسه وتعذر القضاء بالبينتين لمكان التعارض فكيف يجب نصف المهر لهما عليه؟ قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: لا بل هذا الجواب مستقيم في الفصلين لأن التعارض لا بين البينتين في حكم الحل دون المهر، ألا ترى أن البينتين لو قامتا بعد موت الزوج عمل بهما في حق المهر والميراث، وإذا لم يكن بينهما تعارض في حكم المهر وجب نصف المهر على الزوج، وليست إحداهما أولى من الأخرى فيكون بينهما. وعن أبي يوسف رحمه الله في ا «لإملاء» أنه لا شيء عليه؛ لأن المقضي له مجهول وعن محمد رحمه الله أنه يقضى عليه بجميع المهر؛ لأن النكاح لم يرتفع بجحوده فوجب القضاء بجميع المهر للتي صح نكاحها، وإن كان دخل بإحداهما كان لها المهر المسمى وهي امرأته؛ لأنه صار مهراً بأولية ملك نكاح الموطوءة حكماً للإقدام على الوطء. وإن قال: هي الآخرة وتلك الأولى فرق بينها وبينه ولزم المهر المسمى للتي دخل بها لا ينقص عنه وإن كان المسمى أكثر من مهر المثل. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل ادعى نكاح امرأة والمرأة أنكرت ذلك، وأقام المدعي بيّنة أنها امرأته وأقامت المرأة بينة أنه كان تزوج أختها قبل الوقت الذي ادعى فيه نكاحها، وأنها اليوم امرأته على حاله والزوج ينكر أجمعوا على أن القاضي لا يقضي بنكاح الغائبة، وهل يقضي بنكاح الحاضرة القياس أن يقضي وبه أخذ أبو حنيفة رحمه الله، وفي الاستحسان لا يقضي بل يوقف الأمر إلى أن تحضر الغائبة، فإن حضرت وأقامت البينة على ما ادعت لها الحاضرة يقضى بأنها امرأته ويفرق بين الزوج وبين الحاضرة، وإن أنكرت ذلك يقضى بنكاح الحاضرة ببينة الزوج ولا يلتفت إلى بيّنة الحاضرة، وبه أخذ أبو يوسف ومحمد رحمهما الله. الأصل في هذه المسألة وأجناسها أن القضاء بالبينة على الغائب أو للغائب لا يجوز إلا إذا كان عنه خصم حاضر، إمّا قصدي وذلك بتوكيل الغائب إياه، وإما حكمي وذلك أن يكون المدعى على الغائب سبباً لثبوت المدعى على الحاضرة لا محالة لو شرطا له على ما ذكر فخر الإسلام علي البزدوي

رحمه الله، وعند عامة المشايخ أن يكون المدعى على الغائب سبباً لثبوت المدعى على الحاضرة لا محالة وإليه أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» في مواضع، ثم سوى شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله بينما إذا كان المدعى على الغائب والحاضر شيئان وبينما إذا كان المدعى شيء واحد بشرط السببية لانتصاب الحاضر خصماً عن الغائب في الفصلين جميعاً وذكر القاضي الإمام الكبير أبو زيد في كشف المشكل وعامة المشايخ في شروحهم أن السببية تشترط فيما إذا كان المدعى شيئين، وهو الأشبه والأقرب إلى الفقه. بيان هذا الأصل فيما إذا كان المدعى عليهما واحداً: إذا ادعى رجل داراً في يدي رجل أنها داره اشتراها من فلان الغائب وهو يملكها وقد غصبها ذو اليد منّي، وقال ذو اليد: الدار داري فأقام المدعي بينة على دعواه قبلت بينته ويكون ذلك قضاء على الحاضرة والغائب، وينصب الحاضر خصماً عن الغائب. وأما على ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله فلأن المدعى على الغائب والحاضر شيء واحد، والمدعى على الغائب سبب لثبوت المدعى على الحاضر لا محالة، وهذا ما ذكره عامة المشايخ، ولأن المدعى على الحاضر والغائب شيء واحد. بيان هذا الأصل فيما إذا كان المدعى عليهما شيئان: إذا شهد شاهدا الرجل على رجل بحق من الحقوق، فقال المشهود عليه: هما عبدان لفلان الغائب، وأقام المشهود له بينة أن فلاناً الغائب أعتقهما وهو يملكهما فإنه تقبل هذه الشهادة ويثبت العتق في حق الحاضر والغائب جميعاً، والمدعى شيئان: المال على الحاضر، والعتق على الغائب إلا أن المدعى على الغائب سبب لثبوت المدعي على الحاضر لا محالة لأن العتق لا ينفك عن ثبوت ولاية الشهادة بحال، فصار كشي واحد من حيث المعنى، فينتصب الحاضر خصماً عن الغائب ويقضى بالعتق في حق الحاضر والغائب جميعاً. وإذا كان المدعى عليهما شيئين إلا أن المدعى على الغائب ليس سبباً لثبوت المدعى على الحاضر لا محالة، بل قد يكون سبباً وقد لا يكون سبباً لا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، وهذا لأن الغائب ما جعل الحاضر خصماً عن نفسه لكن جعلناه خصماً عنه في موضع لا ينفك المدعى على الغائب عن المدعى على الحاضر ضرورة ولا ضرورة فيما إذا كان ينفك عنه فيعمل فيه بالحقيقة. بيان هذا الأصل في رجل قال لامرأةِ رجلٍ غائب: إن زوجك فلان الغائب وكلني أن أحملك إليه، فقالت المرأة: إنه قد كان طلقني ثلاثاً، وأقامت على ذلك بينة قبلت بينتها في حق المرأة أنه قد كان (طلقها في حق) قصر يد الوكيل عنها لا في إثبات الطلاق على الغائب، حتى لو حضر الغائب وأنكر الطلاق فالمرأة تحتاج إلى إعادة البينة؛ لأن المدعى على الغائب وهو الطلاق ليس بسبب لثبوت المدعى على الحاضر وهو قصّر يده لا محالة، فلأن الطلاق متى تحقق قد لا يوجب قصر يد الوكيل بأن لم يكن وكيلاً بالحمل قبل الطلاق، وقد يوجب بأن كان وكيلاً بالحمل قبل الطلاق، فكان المدعى على الغائب سبباً لثبوت المدعى على الحاضر من وجه دون وجه، فمن حيث إنه سبب يقضي

به في حق قصر يد الوكيل، ومن حيث إنه ليس بسبب لا يقضي به في حق إزالة ملك الغائب عملاً بهما. وإذا كان المدعى عليهما شيئان والمدعى على الغائب سبب للمدعى على الحاضر باعتبار البقاء لا ينتصب فالقاضي لا يلتفت إلى دعوى المدعى، ولا يقضي ببينته لا على الحاضر ولا على الغائب. بيان هذا رجل اشترى من آخر جارية، ثم إن المشتري ادعى أن البائع قد كان زوجها من فلان الغائب قبل أن أشتريها وقد اشتريتها ولم أعلم بذلك، وأنكر البائع دعواه، فأقام على ذلك بيّنة يريد رد الجارية لا تقبل هذه البينة لا على الحاضر ولا على الغائب لأن المدعى شيئان النكاح على الغائب والرد على الحاضر، والمدعى على الغائب من النكاح نفسه ليس بسبب لما يدعيه على الحاضر من غير اعتبار البقاء، فإن البائع لو زوجها ثم الزوج طلقها لا يكون للمشتري الرد، وإنما السبب بقاء النكاح إلى حالة الرد؛ ولم يقم البينة على البقاء، ولو أقام البينة على البقاء لا تقبل أيضاً ولا يقضي بالرد لأن البقاء تبع الابتداء (218أ1) فإذا لم يمكن أن يجعل خصماً في نفس النكاح لم يمكن أن يجعل خصماً في إثبات البقاء. وبعد الوقوف على هذه الجملة جئنا إلى تخريج المسألة، فوجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن المدعى على الحاضر والغائب شيئان، ونفس ما تدعي الحاضر على أختها الغائبة من النكاح من غير اعتبار البقاء لا يكون سبباً لما يدعي على الزوج من فساد نكاح نفسها، لأنه إذا كان طلّق الغائبة قبل نكاح الحاضرة يصح نكاح الحاضرة فلا تقبل بينة الحاضرة أصلاً، فإذا لم تُقبل بينة الحاضرة لم يثبت نكاح الغائبة، وحجة القضاء للزوج على الحاضرة موجودة وإنما يمتنع عملها لمانع مخصوص وهو نكاح الغائبة، فإذا لم يثبت نكاح الغائبة لم يمتنع عملها. فإن قيل: أليس إن محمداً رحمه الله وضع المسألة فيما إذا شهدوا أنه زوجها قبل ذلك، وأنها اليوم امرأته وشهادتهم أنها اليوم امرأته ينافي نكاح الأخرى. قلنا هذه الزيادة بناء على علمهم بابتداء النكاح، فصار وجود ذلك والعدم بمنزلة ولأنها إذا لم تصلح خصماً في إثبات أصل نكاح الغائبة لا تصلح خصماً في إثبات بقائه. وجه قولهما ان القياس ما قاله أبو حنيفة رحمه الله، إلا أنا تركنا القياس هنا لنوع ضرورة؛ لأن الباب باب الفروج، فإن الحاضرة ادعت حرمة فرجها على الزوج بسبب فساد نكاحها، وقد يترك القياس في باب الفرج احتياطاً ما لا يترك لغيرها. ثم في «الكتاب» يقول: إذا حضرت الغائبة وأقامت البينة على ما ادعت لها الحاضرة قضي بنكاحها بشرط إعادة البينة من الغائبة للقضاء بنكاحها، بعض مشايخنا قالوا: إذا حضرت الغائبة وصدقت شهود الحاضرة فيما شهدوا من نكاحها تثبت نكاحها ولا يحتاج إلى إعادة البينة، وقد حكي عن بعض مشايخنا أنه كان يقول: لا خلاف في هذه المسألة حقيقة؛ لأن أبا يوسف ومحمد رحمهما الله إنما قالا: لا يُقضى بنكاح

الحاضرة بطريق الاحتياط؛ لأن الغائبة إذا حضرت إنما تصدق شهود الحاضرة أو تعيد البينة على نكاحها فيفسد نكاح الحاضرة، ويجب التفريق بين الحاضرة والزوج، وما يكون بطريق الاحتياط لا يكون فرضاً. وكذلك لو أقامت الحاضرة بينة على إقرار الزوج بنكاح الغائبة، فهذا والأول سواء لا تقبل بينة الحاضرة عند أبي حنيفة رحمه الله، وإنما لم تقبل لا لأنها قامت على غير خصم بل قامت على خصم؛ لأنها قامت على إقرار الزوج، والزوج خصم حاضر إلا أن من شرط قبول البينة أن يكون المشهود به حقاً يلزمه المشهود عليه، والمشهود به ههنا إقرار الزوج بنكاح الغائبة قبل نكاح الحاضرة حتى يثبت مكان فساد نكاح الحاضرة؛ فبهذا القدر من الإقرار لا يلزم الزوج فساد نكاح الحاضرة لأن للزوج أن يقول: كنت تزوجت الغائبة قبل نكاح الحاضرة إلا أني طلقتها قبل نكاح الحاضرة. قال: ولو أقرّ الزوج عند القاضي أن الغائبة كانت امرأته، فالقاضي يسأله هل كان بينه وبينها فرقة؟ فإن قال: لا، فالقاضي يفرق بينه وبين الحاضرة، ولكن لا يثبت نكاح الغائبة إلا بتصديق الغائبة أو ببينة يقيمها عليها؛ لأن الزوج أقرّ بفساد نكاح الحاضرة، وهذا أمر عليه، وبنكاح الغائبة وإنه أمر له، فيُصدق فيما عليه ولا يصدق فيما له. وإن قال الزوج: قد كنت طلقتها قبل أن أدخل بها أو بعدما دخلت بها، وأخبرتني عن انقضاء العدة في مدة تنقضي في مثلها العدة، وكذبته الحاضرة في الطلاق، وقد أقام هو البينة على نكاح الحاضرة يقضى له بنكاح الحاضرة؛ لأن الزوج بما قال ادعى سقوط حق الغائب في النفقة والسكنى فتزول حرمة نكاح الحاضرة فلئن كان لا يصدق في سقوط حق الغائبة لأنه ضمين يدعي سقوط ما عليه من الضمان يصدق في زوال الحرمة؛ لأنه أمين في ذلك لأن الحرمة خالص حق الله تعالى والعبد في حقوق الله تعالى أمين والأمين فيما أخبر مصدق إذا احتمل خبره الصدق وقد احتمل خبره الصدق إذا كان في مدة تنقضي في مثلها العدة وصار كالمطلقة ثلاثاً إذا تزوجت بزوج آخر وفارقها قبل خلوة ظاهرة فقال الزوج؛ فارقتها قبل الخلوة والإصابة، وقالت المرأة: فارقني بعد الإصابة صدقت المرأة في حق زوال الحرمة على الزوج الأول؛ لأنه من حقوق الله تعالى وإن لم تصدق في استحقاق كمال المهر على الزوج الثاني كذا ههنا هذا إذا لم تحضر الغائبة. فإن حضرت الغائبة وكذبت الزوج في الطلاق وادعت أنها امرأته، فإن الطلاق واقع عليها بإقرار الزوج وعليها العدة منذ أقر الزوج بالطلاق إن كان قد دخل بها، والحاضرة امرأته لأن نكاح الغائبة ثبت بتصادق الزوج والغائبة إلا أن الزوج يدّعي الطلاق في زمان ما مضى وأخبر عن إخبارها بانقضاء العدة في مدة تنقضي في مثلها العدة، وفي مثل هذا يعتبر قول الزوج في حق جواز نكاح أختها وأربع سواها كما لو كان نكاح الغائبة ثابتاً معاينة. هذا إذا أقامت الحاضرة بينّة أن هذا الزوج المدعي تزوج أختها قبل الوقت (الذي فيه) ادعى نكاحها. فأما إذا أقامت بيّنة أنه تزوج أمها أو ابنتها قبل الوقت الذي ادعى نكاحها فيه فهذه

المسألة والمسألة الأولى سواء على قول أبي حنيفة رحمه الله يقضي بنكاح الحاضرة ولا يلتفت إلى بينتها. وعلى قولهما يوقف الأمران على حضور الغائبة. وهذا الجواب من أبي حنيفة رحمه الله لا يشكل فيما إذا ادعت الحاضرة أنه تزوج أمها؛ لأن ما ادعته الحاضرة من نكاح الأم ليس بسبب لثبوت ما تدعي على الزوج من فساد نكاح نفسها لا محالة لجواز أنه تزوج الأم قبل الابنة ثم طلقها قبل الدخول بها؛ لأن مجرد نكاح الأم لا يوجب حرمة الابنة، إنما يشكل فيما إذا أقامت البينة أنه تزوج ابنتها؛ لأن نكاح الابنة سبب لفساد نكاح (الأم) (أثبت) نكاح الأم لا محالة، وفي هذا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب فينبغي أن تقبل البينة على نكاح البنت. والجواب: أن أصل نكاح الابنة ليس بسبب لفساد نكاح الحاضرة لا محالة؛ لأن نكاح الابنة إذا كان فاسداً ولم يدخل بها لم تحرم الأم، وإنما سبب فساد نكاح الحاضرة نكاح الابنة بوصف الصحة، وإذا لم يكن أصل نكاح الابنة سبباً لفساد نكاح الحاضرة لا تنتصب الحاضرة خصماً عن الغائبة في إثبات أصل نكاحها، ولا تنتصب خصماً في إثبات وصف الصحة وإن كان ذلك سبباً للفساد؛ لأن الوصف تبع للأصل. ولو أقامت الحاضرة بينة على إقرار الزوج بذلك إن أقامت (219ب1) بينة على إقرار الزوج بنكاح الأم لا تقبل بينتها؛ لأن هذه البينة لا تلزم المشهود عليه حقّاً لأنه يمكنه أن يقول: نكحها ثم فارقتها قبل الدخول بها، حتى لو أقامت بينة على إقرار الزوج أنه تزوج أمهّا وأنها امرأته للحال تُقبل بينتها؛ لأنها تلزم المشهود عليه حقاً. وإن قامت البينة على إقرار الزوج بنكاح الابنة تقبل بينتها؛ لأنها قامت على خصم حاضر، وإنها تلزم على المشهود عليه حقاً؛ لأن مطلق إقرار الزوج بالنكاح ينصرف إلى نكاح صحيح. ونكاح الابنة متى صحّ كان سبباً لفساد نكاح الأم. فرّق بين هذا وبينما إذا أقامت البينة على نفس نكاح الابنة حيث لا تقبل بينتها ولم يصرف مطلق الشهادة إلى النكاح الصحيح كما صرف مطلق الإقرار إلى النكاح الصحيح، والظاهر في الفصلين هو الصحة إلا أنه يحتمل الفساد، فتتمكن الشبهة، والشهادة لا تثبت مع الشبهة، والإقرار لا يبطل بالشبهة هذا إذا أقامت الحاضرة بينة أن الزوج تزوج أمها أوابنتها أو على إقرار الزوج بذلك ولم تتعرض للجماع. أما إذا تعرضت لذلك وأقامت البينة أن الزوج تزوج بأمها (أو) ابنتها وجامعها، أو أقامت بينة على إقرار الزوج بذلك فرّقنا بينه وبين الحاضرة ولم يثبت نكاح الغائبة وقبلت هذه البينّة على جماع الغائبة لا على نكاح الغائبة، وهذا لأن دعوى نكاح الغائبة غير محتاج إليه عند دعوى الجماع فيما هو المقصود، وهو إثبات فساد نكاح الحاضرة؛ لأن جماع الأب يوجب حرمة الابنة سواء كان بصفة الحال أو بخلافه، فصار دعوى النكاح عند دعوى الجماع والعدم بمنزلته. وصار كأنها أقامت البينة على الجماع لا غير، وهناك لا تقبل بينتها لأن البينة على الجماع قامت على خصم وهو الزوج؛ لأن الجماع يتم بالزوج وحده من غير أن يوجد من المرأة فعل؛ لأن الزوج يجامعهما وهي نائمة، فكان

الزوج خصماً في دعوى جماع الغائبة عليه، وجماع الغائبة سبب لما تدّعي الحاضرة من فساد نكاحها، بخلاف ما لو أقامت الحاضرة البينة على مجرد النكاح؛ لأن النكاح لا يتم بالزوج وحده وإنما يتم به وبقبولها، وقدر ما يوجد من الزوج وإن كان الزوج فيه خصماً إلا أنه يكفي لما ادعى الحاضرة من فساد نكاحها، وما يوجد من قبول الغائبة والزوج فيه ليس بخصم، فتلك البينة قامت على غير الخصم أماها هنا بخلافه. ثم إذا قضى القاضي بجماع الغائبة هل يقضى لها بالمهر، حتى إذا حضرت أخذت الزوج بذلك من غير إعادة البنية؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» ، وإنما أشار إلى أنه يقضي، وعليه عامة المشايخ. وكذلك إذا أقامت الحاضرة البينة على أن الزوج تزوج أمها أو ابنتها أو قبّلها بشهوة، أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا أقامت البينة أنه تزوجها وجامعها، وكذلك لو أقامت البينة على إقرار الزوج أنه قبّلها أو لمسها بشهوة ثم هذه المسألة دليل على أن الشهادة على التقبيل واللمس بشهوة مقبولة، وهذا فصل اختلف فيه المشايخ، وبعضهم قالوا: لا تقبل، وإليه مال الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله. ومعنى قول محمد رحمه الله في «الكتاب» شهدوا أنه قبلها أو لمسها بشهوة على قول هؤلاء: شهدوا على إقرار الزوج بذلك بعضهم قالوا: تقبل، وإليه مال الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله. وهذه المسألة دليل على قول هؤلاء، ولا يمكن حمل المسألة على الشهادة على إقرار الزوج؛ لأن محمداً رحمه الله ذكر فصل الشهادة على اللمس والتقبيل بشهوة أولاً، وعطف عليه فصل الشهادة على إقرار الزوج بذلك. وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد رحمه الله: رجل أقام بينّة على امرأة أنها امرأته، وأقامت المرأة بينة على رجل آخر أنها امرأته وهو يجحد فالبيّنة بيّنة الزوج. علل فقال: لأن شهود الزوج شهدوا عليها بالنكاح وبه يثبت إقرارها بنكاح هذا الرجل فإقرارها على نفسها أصدق من بينتها، قال: ألا ترى أنه لو أقام رجل على رجل البينة أني اشتريت منك ثوبك هذا وأقام صاحب الثوب بيّنة على آخر أني بعتك هذا الثوب وهو يجحد، والبينة بينة المدعي على صاحب الثوب، وطريقه ما قلنا. قال: ولو كانت المرأة حين أقامت البينة على ذلك الرجل إذا ادعى الرجل نكاحها كانت البينة بينة المرأة. وهو كامرأة أقام عليها رجلان البينة على النكاح ولمن. لم يؤقتا فأيهما صدّقته المرأة فهو زوجها، هذا هو لفظ «المنتقى» . قال في «الأصل» : إذا تبايع رجلان في امرأة كل واحد يدعي أنها امرأته، وأقام البينة، وإن كانت في بيت أحدهما أو كان دخل بها أحدهما فهي امرأته لأنه تمكنه من الدخول بها أو من نقلها إلى بيته دليل سبق عقده فيقضى له بالمرأة إلا إذا أقام الآخر بيّنة أنه تزوجها قبله فحينئذ يسقط اعتبار دليل السبق عند التصريح بالسبق وإن لم تكن في بيت واحد منهما ولا دخل بها أحدهما، فإن وقّتا فالوقت الأول أولى، فإن لم يوقتا أو وقتا

وقتاً واحداً، فالذي زكيت بينته فهو أولى، وإن زكيت البينتان تسأل المرأة عن ذلك، وإن لم تقر المرأة بنكاح أحدهما فرّق بينها وبينهما. وإن أقرت لأحدهما أنه تزوجها قبل الآخر أو أنه تزوجها دون الآخر، فهي امرأته إلا إذا أقام الآخر بينة أنه تزوجها قبل هذا، وهذا لأن العمل بالبينتين متعذر فيسقط اعتبارهما، فبقي تصادق أحد الرجلين مع المرأة فثبت النكاح بينهما بتصادقهما. إذا لم تقر المرأة لأحدهما حتى فرّق بينها وبينهما إن لم يكن دخلا بها فلا مهر لها. وإن كان قد دخلا بها ولا يدرى أيهما أول فعلى كل واحد منهما الأقل ممّا سمى له ومن مهر المثل وإن جاءت بولد فهو ابنهما يرث من كل واحد منهما ميراث ابن كامل ويرثانه ميراث أب واحد. وإن ماتت في هذه الصورة وهو ما إذا لم تقرّ بنكاح أحدهما كان على كل واحد منهما نصف ما سمى لها من المهر وكان ميراث الزوج من تركتها بينهما نصفان. وإن (لم) تمت هي ولكن مات أحد الرحلين، فإن قالت المرأة: هذا الميت هو الأول فهي للأول، ولها في ماله المهر والميراث؛ لأن تصديقها بعد موت الزوج كتصديقها في حال حياته، فثبت نكاح هذا (219ب1) بتصادقهما وانتهى بالموت. وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف رحمه الله في عشرة ادعوا نكاح امرأة قال: إن كان دخل بها أحدهم فهي امرأته، وإن ادعت هي واحد منهم فهو زوجها. وإن واحد دخل بها ولا يعرف هو ولم تدع هي واحداً منهم، فلها على كل واحد منهم نصف مهر، وإن ماتوا كان لها عشر مهر كل واحد منهم ولها عشر ميراث امرأة من كل واحد منهم. وإن ماتت هي كان على كل واحد منهم عشر مهر ولهم ميراث زوج بينهم إذا تصادقوا أنهم لا يعلمون. رجلان ادعيا نكاح امرأة وهي ليست في يد أحدهما، فأقرت لأحدهما فهي للمقر له، فإن أقام الآخر بعد ذلك بينة على النكاح فصاحب البينة أولى. ولو أقاما البينة بعدما أقرّت لأحدهما فإن وقّتا فالوقت الأول أولى، وإن لم يوقتا فالذي زكيت بينته أولى، فإن زكيت بينتهما، فعند بعض المشايخ يقضى للذي أقرت له بالنكاح سابقاً وهو الأقيس، وعند بعض المشايخ لا لواحد منهما، وإليه أشار في «أدب القاضي» للخصاف في باب الشهادة على النكاح. ذكر القاضي الإمام علي السغدي رحمه الله في «شرح المبسوط» : إذا تنازع اثنان في امرأة، وكل واحد يقيم البينة أنها امرأته، وإن أرّخا وتاريخهما سواء ولا يد لواحد منهما عليها أو لكل واحد منهما يد عليها ولم يؤرخا، فإنه لا تقبل بينتهما، وكذا إذا أرّخا على السواء ولأحدهما يد عليها يقضى له وتترجح بينته بحكم اليد، وكذا إذا أرّخا على السواء فأقرت لأحدهما يقضى للمقر له لأن الإقرار بمنزلة اليد، وإن أرخا على السواء ولا يد لواحد منهما ولم تقر هي لأحدهما فرّق بينهما وبينها، فإن كان قبل الدخول لا يقضى لها بشيء من المهر على أحدهما. وإن تنازعا بعد موتها فهذا أيضاً على وجوه، ولا يعتبر فيه الإقرار واليد. فإن سبق تاريخ أحدهما قضي له بالميراث، وإن كان

تاريخهما على السواء أو لم يؤرخا يرثان ميراث زوج واحد ويكون بينهما وعلى كل واحد نصف المهر. وذكر هو في موضع آخر إذا ادعى كل واحد منهما أنه تزوجها أولاً وأقاما البينة، فإن القاضي لا يقبل واحدة من البينتين يترجح على صاحبها بإحدى معان ثلاثة: إما بإقرارها أو بكونها في بيت أحدهما أو بكونها مدخولة لأحدهما ولم يفصل بينما إذا أقرّت لأحدهما قبل إقامة البينة أو بعدها إلى هذا من حاشيته. ادعيا نكاح امرأة وهي تجحد وليست في يد أحدهما، فأقام أحدهما البينة على النكاح وأقام الآخر البينة على النكاح وعلى إقرار المرأة له بالنكاح لا تترجح بينة من يدعي إقرارها بالنكاح؛ لأن الآخر ببينته أثبت نكاحها وبه يثبت إقرارها بالنكاح للآخر فاستوت البينتان في إثبات الإقرار معنى، وقيل: تترجح بينة من يدعي إقرارها؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت عياناً، من يدعي إقرارها لأحدهما بعدما أقاما البينة كان المقر له أولى. وما يقول بأن الآخر أثبت إقرار المرأة، قلنا: نعم ولكن في ضمن إثبات النكاح، وهذا أثبتَ إقرارها قصداً، ولا شك أن اعتبار القصدي أولى من اعتبار الضمني. ادعيا نكاح امرأة وهي ليست في يد أحدهما وأقاما البينة من غير تأريخ، وسئلت المرأة عن ذلك ولم تقر لأحدهما حتى تهاترت البينتان، ثم أقام أحدهما البينة على إقرارها له بالنكاح قضي له بالنكاح كما لو أقرت لأحدهما بالنكاح بعدما أقاما البينة عياناً. ادعى رجل نكاح امرأة وهي ليست في يد أحد، وأقام بينة على دعواه قضيتُ له بالمرأة، فإن جاء رجل آخر وأقام بينة على مثل ذلك لم أحكم له بها إلا إذا شهد شهود الثاني أنه تزوجها قبل الأول؛ لأن دعوى النكاح بمنزلة دعوى الشراء، ومن ادعى الشراء في عين من رجل وقضي له بها ثم ادعى آخر الشراء في ذلك العين من ذلك الرجل لا يقضى للثاني كذا هنا. ادعى نكاح امرأة وهي في يد رجل، فأقام المدعي البينة على ذلك وقضى القاضي له بالنكاح ثم أقام صاحب اليد بعد ذلك بينة على النكاح من غير ذكر تاريخ يقضى لصاحب اليد عند بعض المشايخ؛ لأن يده دليل على سبق نكاحه، فصار كما لو أقام بينته على النكاح بتاريخ سابق صريحاً، وبعض مشايخنا قالوا: ينبغي أن لا تسمع بينة صاحب اليد في هذه الصورة. وإليه مال الصدر الشهيد والدي تغمده الله بالرحمة والرضوان، وعلى قول من يقول: تسمع بينة صاحب اليد لو أقام الخارج بعد ذلك بينة على أنه تزوجها قبل صاحب اليد يقضى للخارج، وفي «الحاوي» : إذا شهد الشهود بعد الدعوى والإنكار أنها امرأته وحلاله، ولم يقولوا: إنه تزوجها قبل لا تقبل الشهادة ما لم يشهدوا على العقد. قال: وفي كتاب الحدود إشارة إلى أنها تقبل، فإن محمداً رحمه الله قال: إذا قال المشهود عليه بالزنا: إني قد تزوجتها أو قال: هي امرأتي درىء الحد سوّى بين الأمرين فدلّ أنهما واحد فتقبل.

ادعى رجل نكاح امرأة وهي في يد آخر وأقرّت المرأة للمدعي ثم أقاما البينة بدون التاريخ. بعض مشايخنا قالوا: يُقضى للخارج بحكم الإقرار، وقال بعضهم: يقضى لصاحب اليد، فلو أنها ما أقرت للخارج حتى أقام الخارج البينة على النكاح وأرّخ شهوده وأقام ذو اليد بينة على النكاح مطلقاً من غير ذكر تاريخ إن أقام ذو اليد بينة على أنها امرأته ومنكوحته كانت بينة الخارج أولى كما في دعوى الملك. وإن أقام بينة على أنه تزوجها كانت بينة ذي اليد أولى، فإن لم يؤرخ فكأن يده دليل سبق نكاحه، هكذا حكي عن بعض مشايخنا وبعض مشايخنا قالوا: يجب أن تكون بينة ذي اليد أولى على كل حال؛ لأن السبب متعين في باب النكاح فيصير مذكوراً لا محالة، ولأجل هذا المعنى قلنا: إن من ادعى على امرأة أنها امرأته بسبب النكاح وشهد الشهود مطلقاً أنها امرأته تقبل الشهادة؛ لأن السبب لما كان متعيناً في باب النكاح صار هو مذكوراً في الشهادة. ولو أقام الخارج بينة على النكاح وأرّخ شهوده وأقام بينة على إقرار ذي اليد أن نكاح (ذي) اليد كان في وقت كذا، ولكن وقّتا بعد تاريخ بينة الخارج كانت بينة الخارج أولى، فتندفع به بينة ذي اليد إلا إذا وقت ذو اليد فقال تزوجتها قبل تزوج الخارج ثم جددنا العقد بعد ذلك التاريخ، فحينئذ (219ب1) لا تدفع بيّنة ذي اليد بينة الخارج، فكانت بينة الخارج أولى. رجل ادعى امرأة في يد رجل أنها امرأته، وأقام على ذلك بينة، وأقام الذي في يديه بينة أنها امرأته، قال بعض مشايخنا: إن ادعى كل واحد أنها امرأته مطلقاً ولم يذكر أنه تزوجها لا يقضى لذي اليد بل يقضى للخارج إن ذكر كل واحد منهما أنه تزوجها والشهود شهدوا كذلك يقضى لصاحب اليد، وهذا القائل قاس هذا على دعوى الملك، فإن الخارج مع ذي اليد إذا ادعيا مُلك عين ملكاً مطلقاً وأقاما البينة على ذلك يقضى للخارج. ولو ادعيا الشراء من رجل واحد وأقاما البينة يقضى لصاحب اليد، ومنهم من قال يقضى لصاحب اليد على كل حال؛ لأن السبب متعين في دعوى المرأة وهو التزوج، فصار ذلك مذكوراً في الدعوى، ولا كذلك ملك العين. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله. سئل ابن سلمة عن امرأة ادعت على رجلٍ أنه تزوجها فأنكر، قال: قال أبو يوسف رحمه الله: يحلف بالله ما هي بزوجة له وإن هي زوجة له فهي طالق بائن، أما الاستحلاف على النكاح فهو مذهبهما وهو المختار، اختاره الفقيه أبو الليث رحمه الله رفقاً بالناس، وأما ضمّ الحلف بالطلاق إلى الحلف على النكاح، فلأنه يجوز أن يكون كاذباً في الحلف على النكاح، وبجحوده لا يقع الطلاق فتبقى معلقة، فيضم إليه الحلف بالطلاق حتى لا تبقى معلقه لو كان كاذباً في الحلف على النكاح. وفي «الجامع الأصغر» قال: حَلَفَ متى حلف ولا بينة لها فالقاضي يقول: فرقت بينكما وما لم يقل ذلك لا تقع الفرقة. ولو ادعى رجل على امرأة نكاحاً والمرأة في نكاح الغير ولا بينة للمدعي يستحلف

الزوج والمرأة، فيبدأ بيمين الزوج فيحلف بالله ما يعلم أنها امرأة هذا المدعي. وإن حلف انقطع دعوى المدعي، وإن نكل تحلف المرأة على الثبات بالله ليست امرأة لهذا المدعي فإن نكلت قُضي عليها بالنكاح. وفي دعوى «الفتاوى» عن محمد رحمه الله فيمن تزوج امرأة وابنتها في عقدتين ثم قال: لا أدري السابق منهما إذا ادعيا السبق يحلف بكل واحدة منهما أنه تزوجها قبل صاحبتها، بأيهما شاء بدأ وإن شاء أقرع، فإن حلف لإحداهما ثبت نكاح الأخرى وإن نكل لزمه وبطل نكاح الأخرى. وسئل نصر عن رجلين ادعيا نكاح امرأة فأقرت هي لأحدهما، قال: ليس للآخر أن يحلفها ما لم يحلف الذي أقرت هي له به، فإن حلف برىء، وإن نكل عن اليمين يفرق بينهما ثم حلف المرأة، فإن حلفت برئت وإن نكلت عن اليمين صارت زوجة له. بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله: إذا تزوج العبد حرة ثم ادعى أن المولى لم يأذن له في النكاح، وقالت المرأة قد أذن له فإني أفرق بينهما لإقراره بفساد النكاح، قال: ولا أصدقه في إبطال المهر وألزمه الساعة إن كان دخل بها ولها النفقة ما دامت في العدة وإن لم يدخل بها جعلت لها نصف المهر. وكذلك لو قال: لا أدري أذن لي أم لم يأذن. قال: محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل تزوج امرأة ثم أقرّ بعدما تزوجها أن فلاناً كان تزوجها قبلي إلا أنه طلقها وانقضت عدتها ثم تزوجتها بعد ذلك، وقالت المرأة: إن فلاناً تزوجني قبلك وهو زوجي في الحال ولا نكاح بيني وبينك وفلان المقر له غائب، فالقاضي لا يفرق بين المرأة وبين الزوج الثاني في الحال، فإن حضر الغائب وأقرّ بالنكاح وأنكر الطلاق قضي بالمرأة للذي حضر؛ لأن نكاح الذي حضر ثبت بتصادق الكل ولم يثبت طلاقه لما أنكر الطلاق، فظهر أن الثاني تزوجها وهي منكوحة الأول، فلم يصح نكاح الثاني فيفرق بين الثاني وبين المرأة ويقضى بالمرأة للأول. ثم ننظر إن كان الثاني لم يدخل بها كان للأول أن يقربها للحال؛ لأنها امرأته ولم تجب عليها العدة عن الغير، وإن كان الثاني قد دخل بها فليس للأول أن يدخل بها للحال؛ لأنه وجب عليها العدة من الثاني؛ لأنه وطئها بشبهة النكاح ولا يجوز وطء معتدة الغير كما لا يجوز وطء منكوحة الغير. ونكاح الأول على حاله وإن صارت معتدة عن الثاني؛ لأن العدة تمنع ابتداء النكاح أما لا تمنع بقاءه وإن أقرّ الذي حضر بالطلاق وانقضاء العدة كما قاله الزوج الثاني، وأنكرت المرأة الطلاق وانقضاء العدة فإن الطلاق يقع عليها من الأول حين أقر بالطلاق، وتجب عليها العدة منذ يوم أقر للأول بطلاقها، ويفرق بينها وبين الزوج الثاني؛ لأن الذي حضر أقرّ بالطلاق وأسند الطلاق إلى وقتٍ ما مضى، فيصدّق في حق الطلاق ولا يصدق في الإسناد عند تكذيب المرأة إياه في الإسناد لما في الإسناد من إبطال حقها في النفقة والسكنى ويقع الطلاق في الحال وتجب العدة في الحال.

فإن قيل: وجد من المرأة التصديق في هذا الإسناد لما أقدمت على تزويجها من الزوج الثاني. قلنا: هذا التصديق لم يقع معتبراً؛ لأنه وجد في غير أوانه؛ لأنه وجد قبل إقرار الأول بالطلاق؛ لأن التصديق منها يقتضي إقدامها على النكاح الثاني، وذلك قبل إقرار الأول بالطلاق، وما وجد في غير أوانه فوجوده وعدمه سواء، ثم إذا لم يعتبر الإسناد في هذه المسألة ووقع الطلاق للحال ظهر أن الثاني تزوجها وهي امرأة الأول، فيفرق بينهما وإن صدقت المرأة الزوج الذي حضر في الطلاق، وانقضاء العدة لم يفرق بينها وبين الثاني؛ لأنا إنما لا نصدق الذي حضر في الإسناد، لحق المرأة فإذا وجد التصديق منها ثبت الإسناد وظهر أن الزوج الثاني تزوجها بعدما طلقها وانقضت عدتها. فإن قيل: ينبغي أن لا يصدقا لحق الله تعالى؛ لأن في العدة حق الله. قلنا: نعم إلا أن المعتدة في حقوق الله تعالى أمنية والأمين إذا أخبر عما اوئتمن فيه وهو محتمل الصدق فإنه يصدق. وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني رحمه الله أنه كان يفتي في الزوجين يتصادقان على الطلاق وانقضاء العدة أنهما لا يصدقان على إبطال العدة، وعليها أن تعتد من وقت الإقرار وإن كان جواب هذا الكتاب والإقرار أنهما يصدقان، وكان يحتاط بهذا الجواب دفعاً للحيل الباطلة ورداً للعادة القبيحة. وإن أنكرت المرأة نكاح الغائب أصلاً والمسألة (220أ1) بحالها فهي امرأة الثاني. ولو أن هذا الزوج قال: كان لها زوج قبلي ولم يسمه بل أبهمه إبهاماً طلقها وانقضت عدتها ثم تزوجها وقالت المرأة: نعم كان لي زوج قبلك إلا أنه لم يطلقني، فالقاضي لا يفرق بينها وبين الزوج الثاني، فإن جاء رجل وادعى نكاحها وأقرت المرأة به وقالا: يعني المرأة والذي حضر: هذا هو الذي أقرّ به الزوج الثاني، وأنكر الثاني ذلك فالقول قول الزوج الثاني، لأنه أقر بمجهول والإقرار للمجهول لا يصح، فإذا جاء رجل وادعى كان هذا بمنزلة ابتداء الدعوى من غير تقدم الإقرار، فيكون القول في إنكار نكاحه قول الزوج الثاني. قال: ولا يمين على الزوج الثاني في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي قياس قولهما يستحلف، فإن حلف فهي امرأة الثاني، وإن نكل فرق بين المرأة والزوج الثاني وقضى بها للذي حضر. وبعض مشايخنا قالوا: يجب أن يستحلف الزوج الثاني ههنا بلا خلاف؛ لأن الدعوى ههنا في التفرقة. ألا ترى لو نكل الزوج الثاني يفرق بينه وبين المرأة، والاستحلاف يجري في دعوى الفرقة بلا خلاف فإن المرأة إذا ادعت الطلاق على الزوج وأنكر الزوج الطلاق يستحلف بلا خلاف. فإن قيل: وجد من المرأة التصديق في هذا الإسناد لما أقدمت على تزويجها من الزوج الثاني. قلنا: هذا التصديق لم يقع معتبراً؛ لأنه وجد في غير أوانه؛ لأنه وجد قبل إقرار الأول بالطلاق؛ لأن التصديق منها يقتضي إقدامها على النكاح الثاني، وذلك قبل إقرار الأول بالطلاق، وما وجد في غير أوانه فوجوده وعدمه سواء، ثم إذا لم يعتبر الإسناد في هذه المسألة ووقع الطلاق للحال ظهر أن الثاني تزوجها وهي امرأة الأول، فيفرق بينهما وإن صدقت المرأة الزوج الذي حضر في الطلاق، وانقضاء العدة لم يفرق بينها وبين الثاني؛ لأنا إنما لا نصدق الذي حضر في الإسناد، لحق المرأة فإذا وجد التصديق منها ثبت الإسناد وظهر أن الزوج الثاني تزوجها بعدما طلقها وانقضت عدتها. فإن قيل: ينبغي أن لا يصدقا لحق الله تعالى؛ لأن في العدة حق الله. قلنا: نعم إلا أن المعتدة في حقوق الله تعالى أمنية والأمين إذا أخبر عما اوئتمن فيه وهو محتمل الصدق فإنه يصدق. وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني رحمه الله أنه كان يفتي في الزوجين يتصادقان على الطلاق وانقضاء العدة أنهما لا يصدقان على إبطال العدة، وعليها أن تعتد من وقت الإقرار وإن كان جواب هذا الكتاب والإقرار أنهما يصدقان، وكان يحتاط بهذا الجواب دفعاً للحيل الباطلة ورداً للعادة القبيحة. وإن أنكرت المرأة نكاح الغائب أصلاً والمسألة (220أ1) بحالها فهي امرأة الثاني. ولو أن هذا الزوج قال: كان لها زوج قبلي ولم يسمه بل أبهمه إبهاماً طلقها وانقضت عدتها ثم تزوجها وقالت المرأة: نعم كان لي زوج قبلك إلا أنه لم يطلقني، فالقاضي لا يفرق بينها وبين الزوج الثاني، فإن جاء رجل وادعى نكاحها وأقرت المرأة به وقالا: يعني المرأة والذي حضر: هذا هو الذي أقرّ به الزوج الثاني، وأنكر الثاني ذلك فالقول قول الزوج الثاني، لأنه أقر بمجهول والإقرار للمجهول لا يصح، فإذا جاء رجل وادعى كان هذا بمنزلة ابتداء الدعوى من غير تقدم الإقرار، فيكون القول في إنكار نكاحه قول الزوج الثاني. قال: ولا يمين على الزوج الثاني في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي قياس قولهما يستحلف، فإن حلف فهي امرأة الثاني، وإن نكل فرق بين المرأة والزوج الثاني وقضى بها للذي حضر. وبعض مشايخنا قالوا: يجب أن يستحلف الزوج الثاني ههنا بلا خلاف؛ لأن الدعوى ههنا في التفرقة. ألا ترى لو نكل الزوج الثاني يفرق بينه وبين المرأة، والاستحلاف يجري في دعوى الفرقة بلا خلاف فإن المرأة إذا ادعت الطلاق على الزوج وأنكر الزوج الطلاق يستحلف بلا خلاف. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: هذا هو الصحيح أن الزوج الثاني يحلف بالإجماع؛ لأنه استحلاف على الفرقة، وأبو حنيفة رحمه الله يرى ذلك ومحمد رحمه الله في «الكتاب» يقول في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله ولم يقل في قول أبي حنيفة رحمه الله فيكون هذا تخريجاً على قول أبي حنيفة رحمه الله، ويجوز أن محمداً أخطأ في هذا التخريج فلا يسلم هذا التخريج على قول أبي حنيفة رحمه الله.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: الأول أصح؛ لأن أبا حنيفة رحمه الله إنما يرى التحليف على الفرقة إذا وقع الدعوى في الفرقة مقصوداً كما في المسألة التي ذكرها، والدعوى ههنا ما وقع في الفرقة مقصوداً إنما وقع في النكاح؛ لأن الذي حَضَرَ لا يدعي الفرقة على الثاني إنما يدعي نكاح نضعه إلا أنه متى نكل الثاني وثبت نكاح الذي حضر يجب التفريق بين المرأة وبين الزوج الثاني حكماً لثبوت نكاح الذي حضر لا أصلاً ومقصوداً. والأصل في هذا الباب دعوى النكاح، ودعوى الفرقة تبع، والتبع ليس له حكم نفسه إنما له حكم الأصل فإذا لم يجزىء الاستحلاف فيما هو الأصل وهو النكاح لا يجزىء فيما هو التبع له وهو الفرقة، ولو أن المدعي في ابتداء الدعوى أقام البينة على طلاق الغائب، فالقاضي يقبل بينته ويقضي بالمرأة للمدعي ويتعدى القضاء إلى الغائب حتى لو حضر (و) أنكر الطلاق لا يحتاج إلى إعادة البينة. ولو شهد شاهدان أنه مات وهي امرأته ووارثته وقضى القاضي لها بالميراث، ثم شهد آخر أن الميت كان طلقها ثلاثاً في صحته هل تقبل بينة الطلاق؟ أشار في «السير الكبير» أنها تقبل. والمذكور في «السير» : رجل مات فجاءت امرأة وادعت أنها امرأة الميت ووارثته فأنكر ولد الميت نكاحها فأقامت بينة أنه مات وهي امرأته ووارثته ولا وارث له من النساء غيرها وقضى القاضي لها بالميراث واستهلكته. ثم أقام الولد بينة أن الميت قد كان طلقها ثلاثاً في صحته، فإن الضمان فيه على المرأة، فلا يجب على الشاهدين ولولا أن بينة الطلاق مقبولة وإلا لما وجب الضمان على المرأة. وهذه المسألة قبلت بينة الطلاق تؤيد قول القاضي الإمام في المسألة المتقدمة لأن في هذه المسألة قبلت بينة الطلاق مع أن شهود النكاح شهدوا بالنكاح يوم الموت، فلأن تكون بينة الطلاق أولى في تلك المسألة، وشهود النكاح لم يشهدوا بالنكاح يوم الموت كان أولى في تلك المسألة، ثم إنما قبلت بينة الطلاق في مسألة «السير» لأن قول شهود النكاح: مات وهي امرأته غير محتاج إليها للقضاء بالميراث، فإنهم لو قالوا: كانت امرأته فالقاضي يقضي لها بالميراث، وما لا يحتاج إليه في الشهادة وجوده وعدمه بمنزلة، ولو لم يقولوا: وهي امرأته كان تقبل بينة الطلاق دون بينة النكاح كذا ههنا. وفي «فتاوى الفضلي» رحمه الله سئل عن (رجل) مات فشهد شاهدان أن هذه المرأة كانت امرأته، وشهد آخران أنه كان طلقها قبل الموت قال: بينة النكاح أولى لأنه..... كأنه طلقها ثم تزوجها، وقال القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله بينة الطلاق أولى؛ لأنها ثبتت زيادة أمر وهو الطلاق بعد النكاح، وفي «مجموع النوازل» : إذا شهد أحد الشاهدين أنها زوجت نفسها منه، وشهد الآخر أن وليها زوجها برضاها لا تفيد لاختلافها لفظاً ومعنى.

ولو ادعى هذا المدعي بعد هذه الدعوى أنها زوجت نفسها منه ثم شهد بذلك شاهدان تقبل ولا يتحقق التناقض؛ لأنه يمكنه أن يقول: تزوجها مدة بتزويج الولي إياها منّي وتزوجتها مرة أخرى بتزويجها نفسها منّي. وفيه أيضاً: إذا أقامت المرأة بينة على الطلقات الثلاث، وأقام الزوج بينة في دفع دعواها عليها أنها أقرّت أنها اعتدت بعد طلقاته الثلاث، فتزوجت بزوج آخر ودخل بها ثم طلقها وانقضت عدتها، ثم تزوجته وهي حلال له هل يصح دعواه عليها على هذا الوجه؟ قال: لا لأن أكثر ما فيه أنه ثبت بهذه البينة أنها مبطلة في دعواها إلا أن دعواها ليس بشرط لسماع البينة القائمة على الحرمة وصحتها. قال: هو نظير ما لو أقامت البينة أنه طلقها ثلاثاً وادعى في دفع دعواها أنها أقرت أنها استأجرت هؤلاء الشهود ليشهدوا لها بذلك زوراً، لا يبطل ما أقامت من البينة على الطلقات الثلاث لأنه وإن ثبت ببينة الزوج بطلان دعواها وإقرارها بكذب الشهود إلا أن دعواها ليس بشرط لسماع البينة على الحرمة. ادعى على امرأة نكاحاً، فشهد الشهود بهذا اللفظ باهر دور أذن وشوى داتست أيم، فالقاضي لا يقضي بشهادتهم؛ لأن هذا بمنزلة ما لو قالوا: نشهد فيما نعلم، وذلك غير مقبول عند أبي حنيفة رحمه الله. وكذلك لو شهدوا فقالوا: إنسان جنان ناشيده ايدكي رنان وشوبان باشند لا تقبل شهادتهم. إذا ادعى على امرأة نكاحاً وأقام على ذلك بينة ثم إن المرأة ادعت عليه على وجه الدفع أنك أقررت في حال جواز إقرارك طائعاً أنك خالعتني ووقعت الفرقة بيننا (220ب1) بالخلع ولم يبق بيننا نكاح وأقامت على ذلك بينة، فهذا دفع صحيح ويجعل كأن المدعي تزوجها ثم خالعها، فهذا من باب العمل بالبينتين وسواء كان هذا الدفع قبل القضاء بالنكاح أو بعده؛ لأن إقامة البينة على الخلع يقرر النكاح السابق. رجل ادعى النكاح على امرأة وهي تنكر وحلفت على دعواه لا يحل للرجل أن يتزوج بأختها وأربع سواها، لأن في زعم الرجل أن النكاح ثابت وأن المرأة كاذبة في إنكارها، وزعمه معتبر في حقّه، وكذلك لو ادعت امرأة النكاح على رجل وحلف الرجل لا يحل لها أن تتزوج بزوج آخر؛ لأن في زعم المرأة أن الرجل كاذب وأني منكوحته. رجل ادعى على امرأة النكاح والمرأة تجحد نكاحه وتقر بالنكاح لرجل آخر فأقام المدعي بينة على دعواه فلم تظهر عدالة الشهود، فالقاضي يسلّم المرأة إلى المقر له، وهذا إذا قال المدعي: لا بينة لي سوى هذه البينة. وأما إذا قال: لي بينة أخرى فالقاضي لا يسلمها إلى المقر له بل يحول بينها وبين المقر له إلى أن يظهر عجز المدعي عن إقامة البينة. امرأة ادعت على رجل النكاح والرجل يجحد فأقامت المرأة شاهدين شهد أحدهما أن هذا الرجل أقرّ أن هذه المرأة امرأتي وشهد الآخر أنه أقرّ أنها كانت امرأتي تقبل هذه الشهادة. وكذلك إذا شهد أحدهما أنها كانت امرأته وشهد الآخر أنها امرأته وشهد

أحدهما بالفارسية ابن زن وى است وشهد الآخر اين زن وى تودست تقبل لأن الذي شهد أنها كانت امرأته شاهد أنها امرأته للحال، ألا ترى أن في دعوى ملك الأعيان، لو شهد أحد الشاهدين أن هذه العين كان ملك هذا المدعي وشهد الآخر أنه ملكه تقبل شهادتهما، ولو كان الزوج يدعي أنها كانت امرأته وشهد الشهود أنها امرأته ينبغي أن لا تقبل هذه الشهادة كما في دعوى ملك العين، فإن من ادعى عيناً في يد إنسان أنه ملكه وشهد الشهود أنها ملكه أو ادعى أنه كان له وشهد الشهود أنه له لا تقبل هذه الشهادة عند أكثر المشايخ وهو الأصح. رجل ادعى النكاح على امرأة وهي تجحد وتقول: إن لي زوجاً في بلد كذا وسمت ذلك الزوج أو لم تسمِّ، فأقام الرجل بينة على دعواه، فالقاضي يقضي بالنكاح عليها، ولا يكون إقرارها بالنكاح لغير هذا المدعي مانعاً من القضاء ببينة المدعي. تزوج امرأة بشهادة شاهدين ثم أنكرت المرأة النكاح وتزوجت بآخر وقد مات شهود الأول ليس للزوج الأول أن يخاصم المرأة، لأن المخاصمة للتحليف والمقصود من التحليف النكول الذي هو إقرار، ولو أقرت صريحاً بنكاح الأول بعدما تزوجت بالثاني لا يصح إقرارها ولكن الزوج الأول يخاصم الزوج الثاني ويحلفه، فإن نكل حتى صار مقرّاً ببطلان نكاحه الآن يخاصم المرأة ويحلفها، وقد ذكرنا تمام المسألة قبل هذا. في «واقعات الناطفي» : لو أقام رجل بينة على امرأة، أن أباها زوجها منه قبل بلوغها وأقامت المرأة بينة أنه زوجها منه بعد البلوغ بغير رضاها، فبينتها أولى لأن البلوغ معنى خاف يثبت ببينتها فكانت بينتها أكثر إثباتاً ثم يثبت فساد النكاح ضرورة. وفي «فتاوى الفضلي» رحمه الله: تزوج الرجل امرأة ودخل بها ثم ادعت بعد الدخول أنها قد ردت النكاح حين زوجها الأب وأقام على ذلك بينة تقبل بينته. قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : الصحيح أن لا تقبل بينته لأن التمكين قائم مقام الإقرار. ولو ادعت الرد بعد الإقرار لا تسمع دعواها الرد ولا تقبل بينتها على ذلك كذا ههنا. وفي هذا الموضع أيضاً إذا زوج الرجل وليّته فردت النكاح، فادعى الزوج أنها صغيرة وادعت هي أنها بالغة، فالقول قولها إذا كانت مراهقة لأنها إذا كانت مراهقة، فقد أخبرت عما هو محتمل للثبوت فيقبل قولها لأنها تنكر معنىً. وإن كانت مدعية صغيرة؛ لأنها تنكر وقوع الملك عليها. والشهادة على النكاح بالشهرة والتسامع جائز. وفي «المنتقى» : الشهادة على المهر بالتسامع يجوز. وفي «الإملاء» عن محمد رحمه الله أن الشهادة على المهر بالتسامع لا تجوز. وأما الشهادة على الدخول بالشهرة والتسامع فقيل: لا يجوز، وإذا أرادت المرأة إثبات تأكد المهر ينبغي أن تثبت الخلوة الصحيحة بالبينة، وقد قيل: يجوز الشهادة بالشهرة والتسامع، وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وهكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» .

ادعى النكاح على امرأة فشهد الشهود بهذا اللفظ كواهي ميد هم كه جوف بدروي يزني دأدر وإذا شت نكاح بدربا، قال بعض مشايخنا: لا تقبل الشهادة لأنهم شهدوا على الرضا بالنكاح، وهذا سهو ينبغي أن تقبل الشهادة لأنهم شهدوا على النكاح وعلى رضاها بالنكاح وحيث قالوا: جون بدررا بزني دأد رواداشت نكاح بدررا ادعى النكاح بمحضر من الشهود لا بد وأن يذكر سماع الشهود كلام المتعاقدين؛ لأن بين العلماء اختلافاً في أن سماع الشهود كلام المتعاقدين هل هو شرط، والأصح أنه شرط فلا بد من ذكره لتصحّ الدعوى. شهدا أنه زوج ابنته فلانة من فلان إلا أنهما قالا: نحن لانعرفها بوجهها، فإن لم يكن له إلا ابنة واحدة، أو كانت له ابنتان أو ثلاثة إلا أنه ليس له بهذا الاسم إلا واحدة فالشهادة جائزة، وإن كانت له ابنتان كبرى وصغرى فشهد شاهدان أنه تزوج ابنته الكبرى من هذا وقالا: نحن لا نعرف الكبرى بوجهها فالشهادة جائزة. ويقضي القاضي بالنكاح، وإذا أحضر المدعي بعد ذلك امرأة ويدعي أنها هي الكبرى، فالقاضي يأمره بإقامة البينة على أنها هي الكبرى. وفي إقرار «المنتقى» : امرأة ادعت على رجل أنه تزوجها، وقال الرجل: ما فعلت ثم قال: بلى فعلت فهو جائز، وكذلك ادعى الرجل النكاح وجحدت المرأة ثم أقرت، ولو كانت المرأة بدأت بالدعوى فقالت: زوجني إياك أبي، فقال قد فعلت إلا أني قد رددت النكاح ثم قال بعد ذلك قد كنت أجزته فلا نكاح بينهما إلا أن تعود المرأة إلى تصديقه فيجوز حينئذ، قال: وليس إنكاره النكاح كادعائه الفسخ، ألا ترى أنه لو أقامت بيّنة على رجل أن أباها زوجها إيّاه وقد رضي بالنكاح، فقال الرجل: زوجني إياها إلا أني قد فسخت النكاح ولم أقبل، فإني أفرّق بينهما وألزمه نصف المهر. ولو بدأ (221أ1) الزوج فقال قد زوجني إياك أبوك، فقالت قد فعل إلا أني قد رددت أو قالت لم يفعل ثم قالت قد فعل ورضيت لزمها في الوجهين. وفي كتاب الدعوى من «المنتقى» ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله في رجل مع امرأة لها منه أولاد وهي معه في منزله يطؤها وتلد له سنيناً ثم أنكرت أن تكون امرأته، قال: إذا أقرت أن هذا الولد ولده منها فهي امرأته، وإن لم يكن بينهما ولد وإنما كانت معه على هذا الحال فالقول قولها. وفيه أيضاً: ادعى رجل على امرأة أنه تزوجها ثم أنكرت ثم مات الرجل، فجاءت تدعي ميراثه فلها الميراث، وكذلك لو كانت المرأة ادعت النكاح وأنكر الزوج ثم ماتت المرأة فجاء الرجل لطلب ميراثها وزعم أنه تزوجها فله الميراث. وفي إقرار «الأصل» : إذا أقرّ رجل أنه تزوج فلانة بألف وصدقته المرأة بعدما مات عمل تصديقها حتى كان لها المهر والميراث. ولو أقرّت المرأة أنها تزوجت فلاناً بألف درهم فصدقها الزوج بعد موتها عمل تصديقه عندهما حتى يرث منها. وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يعمل تصديقه حتى لا يرث منها. ادعى أنها امرأته وشهد الشهود أنه تزوجها في شهر كذا تقبل، وعلى العكس لا

تقبل. شهد أحد الشاهدين أنه تزوجها وشهد الآخر أنها وهبت نفسها منه تقبل الشهادة؛ لأن لفظ الهبة صارت كناية عن التزويج مجازاً، ولو شهد أحدهما أنه نكحها وشهد الآخر أنه تزوجها تقبل الشهادة، وقيل: لا تقبل شهادتهما؛ لأن النكاح يستعمل في الوطء، وهذا القائل يقول: لو شهدا أنه نكحها لا تقبل شهادتها، وعلى القول الأول: تقبل شهادتها وهو الصحيح. ولو شهد أحدهما أنه نكحها وشهد الآخر بالفارسية ورا بزني خواشت لا تقبل هذه الشهادة، هكذا قيل، وقيل تقبل، وهكذا ذكر «البقالي» ، في «فتاويه» ، وإذا اختلفا في الزمان فقد ذكرنا هذا الفصل في أول الكتاب في فصل الشهادة. وإذا اختلفا في المكان لا تقبل الشهادة، وكذا إذا اختلفا في الإنشاء والإقرار لا تقبل الشهادة. وإذا ادعى النكاح وشهد الشهود على إقرارها تقبل الشهادة. وإذا ادعى أنه تزوجها على ألف وخمس مائة، وشهد أحد الشاهدين بذلك، وشهد الآخر بألف قضى بالنكاح بألف لأن المقصود والمتبقي من جانب الزوج ملك البضع وقد اتفقا عليه، ولو كان الدعوى من جانب المرأة، فكذا الجواب عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يقضى بالنكاح، وعن أبي يوسف رحمه الله في «الإملاء» مثل قول أبي حنيفة رحمه الله. ولو شهد أحدهما أنه تزوجها على هذا العبد وقيمته ألف، وشهد الآخر أنه تزوجها على ألف، فإن كان الدعوى من جانب الزوج قضى بالنكاح، وإن كان من جانب المرأة يجب أن تكون على الخلاف أقام رجل (امرأة) على امرأة أنها منكوحته وقضى القاضي ببينته وجاء آخر وأقام البينة على تلك المرأة بالنكاح، فالقاضي لا يلتفت إلى دعوى الثاني وبينته كما في دعوى الشراء إذا (أقام) المدعي بينة على الشراء من رجل بعينه. وقضى القاضي له ببينته ثم جاء آخر وادعى شراء تلك العين من ذلك الرجل بعينه فالقاضي لا يلتفت إلى الثاني وبينته كذا ههنا. نوع منه في اختلافهما في متاع البيت إذا اختلف الزوجان في متاع البيت حال قيام النكاح أو بعد الفرقة بالطلاق وما أشبهه، قال أبو حنيفة رحمه الله: ما يصلح للرجل، فهو للرجل وذلك نحو السيف والقوس وأشباه ذلك إلا أن تقيم المرأة البينة، وما يصلح للنساء فهو للمرأة وذلك نحو الدرع والخمار والمغزل وأشباه ذلك إلا أن يقيم هو البينة، وإن أقاما فبينتها أولى. وما يصلح لهما نحو الدار والخادم والغنم السائمة فهو للرجل إلا أن يقيم الزوج البينة، وإن أقاما البينة في ذلك فالبينة بينة الزوج. وقال أبو يوسف رحمه الله: للمرأة جهاز مثلها والباقي للرجل، وهذا الذي ذكرنا إذا اختلفا بعد الفرقة في متاع كان في أيديهما حال قيام النكاح أما لو اختلفا بعد وقوع الفرقة في متاع أحدهما بعد الفرقة فهو بينهما؛ أي شيء كان. وإذا مات أحدهما ثم وقع الاختلاف بين الباقي وورثة الميت، فعلى قول أبي

يوسف رحمه الله تعطى المرأة جهاز مثلها إن كانت حيّة ولورثتها إن كانت ميتة، والباقي للزوج إن كان حيّاً ولورثته إن كان ميتاً، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد: ما يصلح للرجال فهو للرجل إن كان حيّاً ولورثته إن كان ميتاً، وما يصلح للنساء، فعلى هذا. وما يصلح لهما فعلى قول محمد رحمه الله هو للرجل إن كان حيّاً ولورثته إن كان ميتاً. قال أبو حنيفة رحمه الله: المشكل للباقي منهما، وما كان من متاع التجارة والرجل معروف بتلك التجارة فهو للرجل، وإن كان أحدهما حرّاً والآخر مملوكاً؛ فإن كان المملوك محجوراً فالمتاع للحر منهما أيهما كان. وإن كان أحدهما مأذوناً أو مكاتباً عند أبي حنيفة رحمه الله هذا وما لو كان أحدهما محجوراً سواء. وعندهما هذا وما لو كانا حُرَّين سواء. وإن كانت له نسوة ووقع الاختلاف بينه وبينهن في المتاع؛ فإن كن في بيت واحد، فمتاع النسوة بينهن على السواء، وإن كانت كل واحدة في بيت على حدة فما كان في بيت (على) امرأة فهو بينها وبين زوجها على ما وصفنا لا تشارك بعضهن بعضاً. وإن أقرت المرأة بمتاع أن الرجل اشتراه فهو للرجل اعتباراً للثابت بإقرارها بالثابت عياناً. وإذا كان المنزل ملكاً للزوج، فالقول في المتاع على ما وصفنا. وإن كان أحد الزوجين غير مدرك إلا أنه يجامع مثله فالقول في المتاع على ما وصفنا، وإن كانا مملوكين أو مكاتبين، فالقول في المتاع على ما وصفنا؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد رحمه الله في رجل له بنون زوجهم إلا أنه لم يبوئهم بيوتاً بل مع أبيهم في داره وفي عياله، قال البنون: المتاع متاعنا فإن المتاع للأب إلا الثياب اللاتي عليهم. وإذا كان الأبوان في عيال ابن كبير في منزله فالمتاع متاع الابن؛ لأنه رب الدار وصاحب النفقة. وقال أبو يوسف رحمه الله ما كان على الأمة مما يلبس النساء من الثياب والحلي فهو لها، وكذلك ما كان على العبد من لباس (221ب1) يلبسه الرجال قال: ولا أحفظ في هذا عن أبي حنيفة رحمه الله، ولكني أحفظ عنه في رجل أجر عبده من رجل ليعمل عنده فما كان في يد العبد فهو لأستاذه، وما كان العبد لابسه فهو للعبد، فهذا على ذلك. أبو سليمان عن أبي يوسف رحمه الله: إذا اختلف الزوجان في دار في أيديهما فهي للزوج في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، فإن أقاما البينة فالبينة بينة المرأة، وإن اختلف في متاع من متاع النساء وأقاما البينة قضى به للزوج.t نوع منه فى اختلافهما في المتاع وفي النكاح قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن رجل وامرأة في دار ادعت المرأة أن الدار دارها وأن الرجل عبدها وأقامت على ذلك بيّنة، وادعى الرجل أن الدار داره وأن المرأة امرأته قال: أقبل بينة المرأة على الدار لأني أجعل الدار في يد الرجل، فالدار دارها وأجعل البينة بينة الزوج في التزويج وأجعلها امرأته وتزويجها نفسها منه إقرار منها بأنه ليس بمملوك لها.

وروى بشر عن أبي يوسف رحمه الله: رجل وامرأة في أيديهما دار أقامت المرأة بينة أن الدار لها والرجل عبدها، وأقام الرجل بينة أن الدار له وأن المرأة زوجته تزوجها على ألف درهم ودفعها إليها ولم يقم بينة أنه حرّ، فإنه يقضي بالدار للمرأة ويقضي بالرجل عبداً لها، ولو أقام بينة أنه حرّ الأصل، والمسألة بحالها كانت المرأة امرأته ويقضي بأنه حر ويقضي بالدار للمرأة من قبل أن الدار والمرأة في يدي الرجل حيث جعلها امرأته، فالمرأة هي المدعية للدار كزوجين في أيديهما دار أقام كل واحد منهما بينة أن الدار داره وهناك يقضي بالدار للمرأة، قال: وهكذا في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله، قال: ولو لم يكن بينهما بيّنة كانت الدار للزوج. نوع منه فى اختلافهما في صحة العقد وفساده امرأة قالت لزوجها تزوجتني بغير شهود وقال الزوج: لا بل تزوجتك بشهود، فالقول قول الزوج. ولو قالت المرأة: تزوجتني وأنا صبية، وقال الزوج: تزوجتك وأنت بالغة فالقول قولها. الأصل في جنس هذه المسائل ما مر قبل هذا في فصل الشهادة في النكاح أن الزوجين إذا اختلفا في صحة العقد وفساده، فالقول قول من يدعي الصحة لشهادة الظاهر له فبعد ذلك إن كان المدعي للصحة المرأة يفرّق بينهما، يجعل كأن الزوج أمر بثبوت حرمة حالية كأنه قال لها: أنت عليّ حرام للحال، فيفرق بينهما ولها عليه نصف المهر إن لم يدخل بها، وجميع المهر إن دخل بها وعليها العدة. وإذا اختلفا في وجود أصل النكاح فالقول (قول) من ينكر الوجود. إذا ثبت هذا فنقول: في الفصل الأول: اختلفا في صحة العقد وفساده لا في وجود أصله: لأن الشهادة شرط صحة العقد لا شرط وجوده. وفي الفصل الثاني: اختلفا في وجود أصل العقد لأن النكاح في حالة الصغر قبل إجازة الولي ليس بنكاح معنى لأن النكاح متردد بين الضرر والنفع، وعبارة الصبي في مثل هذا التصرف ملحق بالعدم، فكانت منكرة وجود العقد، فكان القول قولها. وإذا جعلنا القول قول الزوج في المسألة الأولى وقضى القاضي بالنكاح بينهما ذكر أن في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف الأول وسعها أن تدعه يجامعها، وإن مات الزوج حل لها أخذ الميراث، وإن كانت صادقة فيما قالت لا يسعها المقام معه ولا يسعها أن تدعه يجامعها ولا يأخذ ميراثها إلا أن يرجع عن هذا القول قبل موت الزوج، وهذه المسألة فرع مسألة قضاء القاضي بشهادة الزور. وكذلك إذا قالت المرأة لزوجها: تزوجتني وأنا معتدة فلان، وقال الزوج: تزوجتك بعد انقضاء العدة، فالقول قول الزوج ويقضى بالنكاح بينهما لأن الاختلاف وقع في صحة العقد، فالزوج يدعي صحته، فيكون القول قوله. وهل يسعها المقام معه وأن تدعه يجامعها؟ إن علمت وقت القضاء أنها كانت منقضية العدة يسعها ذلك في (قول) أبي حنيفة

وأبي يوسف رحمهما الله الأول؛ لأن بالقضاء ثبت لهما نكاح مبتدأ، وهي في هذا الوقت كانت خالية عن العدة محلاً للنكاح، وإن علمت أن وقت القضاء كانت في العدة لا يسعها ذلك بالاتفاق؛ لأن بالقضاء إنما يثبت النكاح في محلّه، ومعتدة الغير ليست بمحل أصلاً. وفصل أخذ الميراث على هذا إن علمت أن وقت القضاء كانت منقضية العدة حل لها أخذ الميراث، وإن علمت أن وقت القضاء كانت في العدة لم يحلّ لها أخذ الميراث؛ فإن عادت المرأة إلى تصديق الزوج إن كان ذلك قبل موت الزوج ثم مات الزوج كان لها الميراث، وإن كان ذلك بعد موت الزوج لم يكن لها الميراث لأنها في التصديق بعد الموت متهمة لكون ما بعد الموت وقت الميراث ولا كذلك حالة الحياة. وكذلك لو أن مجوسية أسلمت فادعى عليها رجل النكاح بعد الإسلام فقالت المرأة: تزوجتني قبل الإسلام فالقول قول الزوج ويقضى بالنكاح بينهما، وهل يسعها المقام معه فهو على ما ذكرنا. وكذلك لو أن امرأة قالت لزوجها: إني أختك من الرضاعة وقال الزوج: لا بل أنت أجنبية، فالقول قول الزوج ويقضي القاضي عليها بالنكاح وهل يسعها المقام معه وأخذ ميراثه؟ فهو على ما ذكرنا هذه الجملة في شهادة الجامع قبيل باب الشهادة في الحائط المائل. وفي باب الإحصان من نكاح «الأصل» : إذا أقرت المطلقة الثلاثة بعدما تزوجت بآخر وطلقها أن الزوج الثاني قد دخل بها حل للزوج الأول أن يتزوجها؛ لأنها أخبرت بزوال الحرمة التي هي حق الشرع والعبد مصدق فيما هو حق الله تعالى. ولم يشترط في «الكتاب» أن تكون ثقة، وكذلك لو أخبر عنها بذلك ثقة، يريد به أنها أرسلت رسولاً بذلك، كان الجواب كما قلنا، فقد شرط العدالة في الرسول، ولم يشترط ذلك في المرأة. وذكر هذه المسألة في تجريد «القدوري» ، وذكر أنه يجوز له أن يتزوجها إذا كانت عنده ثقة أو وقع في قلبه أنها صادقة. وإن كان الزوج الثاني هو الذي أقرّ بالدخول، والمرأة ما أقرت بذلك لم يحل للزوج الأول أن يتزوجها، ولا يصدق الزوج الثاني عليها وإن كان قد خلا بها ولو أنكرت (222أ1) الدخول بعدما تزوجها الأول بإقرارها لم تصدق في ذلك لكونها متناقضة فيه. وإن كان الزوج الأول بعدما تزوجها أنكر أن يكون الزوج الثاني دخل بها وادعت هي الدخول كان القول قولها؛ لأن إقدام الزوج الأول على النكاح بعد النكاح الثاني إقرار منه بالدخول دلالة، ولو أقر بذلك صريحاً ثم أنكر لا يلتفت إلى إنكاره كذا ههنا. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله المطلقة ثلاثاً إذا طلقها الزوج الثاني واعتدت منه، وعادت إلى الأول بنكاح جديد ثم ادعت أن الثاني لم يكن دخل بها فإن كانت عالمة بشرائط الحل الأول لا تصدق، وله أن يمسكها، وإن كانت عالمة بالشرائط صدقت؛ لأن إقدامها على النكاح مع العلم بشرائط الحل إقرار بوجود تلك الشرائط، فأما الإقدام مع

الجهل بالشرائط لا يكون اقراراً بوجود الشرائط. وفي نكاح «المنتقى» : قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن رجل طلق امرأته بعد الدخول بها ثم تزوجت بزوج آخر بعد الطلاق بيوم فقال الزوج: تزوجتك ولم تنقض عدتك وقالت: قد كنت أسقطت بعد الطلاق، فالقول قول الزوج ولو بدأت هي قبل أن تزوج نفسها من هذا الرجل أو بعد ذلك، وقالت قد كنت أسقطت وانقضت عدتي وتزوجت قبل قولها وإن قال الزوج بعد ذلك كنت في العدة حين تزوجتك فسخ النكاح بينهما وقضيت لها بنصف المهر على الزوج. وفي طلاق «المنتقى» : أبو سليمان عن أبي يوسف رحمهما الله رجل طلق امرأته ثلاثاً فمكثت شهرين ثم تزوجها رجل، فقالت بعد النكاح: لم تكن عدتي انقضت لم تصدق المرأة وله أن يمسكها في قول أبي حنيفة رحمه الله وقولهما، وتزويجها نفسها إقرار بانقضاء العدة، ولو كان التزويج بعد الطلاق في وقت لا تنقضي في مثله العدة قبل قولها فلو تزوجها الزوج الأول بعد سنين من وقت الطلاق، فقالت بعد ذلك: لم أتزوج غيرك، فالقول قولها قال: وليس هذا كالعدة. نوع منه امرأة غزلت قطن زوجها ثم وقع بينهما فرقة أو لم تقع واختلفا في الغزل، فقال كل واحد منهما: الغزل لي فإن كان الزوج بياع القطن فالغزل لها وعليها مثل قطن الزوج؛ لأن الظاهر أنه اشترى القطن للتجارة لا لغزل المرأة، فتصير المرأة بالغزل غاصبة، وإن لم يكن الزوج بياع القطن، فالغزل له؛ لأن الظاهر أنه إنما حمل القطن إلى البيت لغزل المرأة، والظاهر أن المرأة تغزل للزوج، وكذلك هذا الجواب فيما إذا طبخت المرأة القديد من اللحم الذي جاء به الزوج. ولو قال لها الزوج حين جاء بالقطن: اغزلي ليكون لك ولي منه الثوب والمتاع فالغزل للزوج ولها أجر مثلها؛ لأنه استأجرها ببعض ما يحصل من عملها، فإن اختلفا فقالت المرأة: غزلت بأجْرٍ وقال الزوج: بغير أجْرٍ كان القول قول الزوج؛ لأن هذا الشرط وهو شرط الأجر يستفاد من مثله فيكون القول له مع يمينه هذه الجملة في «فتاوى أهل سمرقند» . وفي نكاح «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: امرأة غزلت قطن زوجها بإذنه وكانا يبيعان من ذلك للكرباس ويشتريان بالثمن أمتعة لحاجة بينهما واتخذا ببعض الكرباس ثياب البيت فجيمع ذلك من الكرباس وما اشترى به للرجل؛ لأن المرأة تعمل للرجل عادة، فيكون ذلك للرجل إلا شيئاً اشترى لها أو علم عادة أنه اشترى لها فيكون لها. وفي بيوع «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل كان يدفع إلى امرأته ما تحتاج إليه وكان يدفع إليها أحياناً دراهم ويقول: اشتري بها قطناً واغزلي، فكانت تشتري وتغزل ثم تبيع وتشتري بثمنها أمتعة البيت كانت الأمتعة لها لأنها اشترت من غير توكيل الزوج إياها بالشراء فتكون مشترية لنفسها.

ولو اشترى الزوج قطناً فغزلته المرأة بإذنه أو بغير إذنه كان ذلك للزوج؛ لأن هذا من جملة خدمة البيت، فكانت عاملة للزوج. وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف رحمه الله في رجل اشترى قطناً و (أمر) امرأته أن تغزله فغزلته، قال تغزله فإن وضعه في البيت فغزلته فهو لها دونه ولا شيء عليها هو بمنزلة الطعام وضعه في بيته فأكلته. وفيه: رجل جاء بقطن لتغزله امرأته ولم يقل لها اغزليه أو قال لها اغزليه أو تركه عندها نفقة لها كلّها وتنتفع بها ولم يفرض لها كل شهر نفقة واشترت منه قطناً وغزلته فهو للزوج في جميع هذه الوجوه. وإن فرض لها كل شهر نفقة واشترت منها قطناً وغزلته فهو لها. وإن كان له في بيته قطن فغزلته بغير أمره فهو لها. وفي «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله: رجل اشترى قطناً فغزلته امرأته، فقال لها الرجل: غزلته بغير أمري، فالقول له قال: لأن القطن له. ومما يتصل بهذا الفصل رجل زوج ابنته وجهزها فماتت الابنة، فزعم أبوها أن الذي دفع إليها من الجهاز ماله وأنه لم يهبه منها، وإنما أعاره منها، فالقول للزوج وعلى الأب البينة؛ لأن الظاهر شاهد للزوج لأن الظاهر أن الأب إذا جهز ابنته يدفع ذلك إليها بطريق الملك، والبينة الصحيحة أن يشهد عند التسليم إلى البنت أني إنما سلمت هذه الأشياء إلى البنت بطريق العارية أو يكتب نسخة معلومة، ويشهد الأب على إقرارها أن جميع ما في هذه النسخة ملك والدي عارية في يدي منه لكن هذا يصلح للقضاء لا للاحتياط لجواز أنه اشترى لها بعض هذه الأشياء في حالة الصغر، فهذا الإقرار لا يصير للأب فيما بينه وبين الله تعالى، فالاحتياط أن يشتري منها ما في هذه النسخة بثمن معلوم. ثم إن البنت تبرئة عن الثمن، وحكي عن القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله أن القول قول الأب؛ لأن اليد استفيدت من جهته، فيكون القول قوله أنه يأتي إلى جهة أبيها، وبه أخذ بعض مشايخ زماننا. وهكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح كتاب السير» في باب العصبة بالمال، فقال: العارية تبرع، والهبة تبرع، والعارية أدناهما، فحمل على الأدنى. وقال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : المختار للفتوى أن العرف إذا كان مستمراً أن الأب يدفع ذلك جهازاً لا عارية كما في ديارنا فالقول قول الزوج. وإن كان العرف مشتركاً فالقول قول الأب. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله (222ب1) امرأة ماتت واتخذت والدتها مأتماً فبعث زوج الميتة إليها بقرة فذبحتها وأنفقتها أيام المأتم، فطلب الزوج قيمة البقرة، فإن اتفقا أنه بعث إليها وأمرها أن تذبح وتطعم من اجتمع عندها ولم يذكر القيمة ليس له أن يرجع عليها لأنها فعلت ما فعلت بإذن الزوج من غير شرط القيمة. وإن اتفقا على أنه بعث إليها لتذبح وتطعم من اجتمع عندها ليرجع بالقيمة عليها كان له أن يطالبها بالقيمة

الفصل الثاني والعشرون: في بيان ما للزوج أن يفعل: وما ليس له أن يفعل، وفي بيان ما للمرأة أن تفعل، وما ليس لها أن تفعل

لاتفاقهما على شرط القيمة، وإن اختلفا في ذلك فالقول قول أم الميتة لأن حاصل اختلافهما في شرط الضمان وأم الميتة تنكر ذلك والله أعلم. الفصل الثاني والعشرون: في بيان ما للزوج أن يفعل: وما ليس له أن يفعل، وفي بيان ما للمرأة أن تفعل، وما ليس لها أن تفعل ذكر الخصاف في «أدب القاضي» في باب نفقة المرأة وفي كتاب النفقات: إذا مَنَع الرجل أم المرأة أو أباها أو «أحداً من أهلها من الدخول عليها في منزله فله ذلك، ولكن لا يمنعهم من النظر إليها وتعاهدها والتكلم معها، فيقوموا على باب الدار والمرأة داخل الدار. هذا في حق (أهلها) وكل ذي رحم محرم ومن لا يتهمه الزوج، أما إذا لم يكن محرماً ويتهمه الزوج كان له أن يمنعه من النظر إليها، وكذلك إن كان لها ولد من غيره ليس له أن يمنع بعضهم من أن ينظر إلى البعض، فروي عن أبي يوسف رحمه الله أن الزوج لا يملك أن يمنع الأبوين عن الدخول عليها للزيارة في كل شهر مرتين وأما يمنعهما من الكينونة. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله عن الفقيه أبي بكر الإسكاف رحمه الله أن الزوج لا يملك أن يمنع الأبوين عن الدخول عليها عن الزيارة في كل جمعة وأما يمنعهما عن الكينونى وعليه الفتوى. وأما غير الأبوين من المحارم، فقد ذكر الخصاف أيضاً في هذين الموضعين أنه يمنعهم عن الزيارة في كل سنة وعليه الفتوى. وأما إذا أرادت المرأة أن تخرج إلى زيارة المحارم نحو الخالة أو العمة أو إلى زيارة الأبوين فهو على هذا يعني لا يمنعها عن زيارة الأبوين في كل جمعة وعن زيارة سائر المحارم في كل سنة. وكان القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله يقول: لا تخرج إلى زيارة الأبوين ولكن الأبوان يحضران منزلها بحضرة الزوج في كل شهر أوشهرين مرة. وفي «نوادر فضل بن غانم» عن أبي يوسف رحمه الله أنها لا تخرج إلى زيارة المحارم والأبوين إذا كانا يقدران على إتيانها، وإن كانا لا يقدران على إتيانها أذن لها في زيارتهما في شهرين بنحوه مرة، وذكر هذه المسألة في «النوادر» في موضع آخر، وقال: تذهب إلى الأبوين للعيادة إن مرضا أو مرض أحدهما ولا يمنعها الزوج عن العيادة، أما غير هذا فلا. ذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله أن للزوج أن يضرب امرأته على أربع خصال وما هو في معنى الأربع: أحدهما على ترك الزينة لزوجها، والزوج يريدها. والثانية: على

ترك الإجابة إذا دعاها إلى فراشه. والثالثة: على ترك الصلاة وعلى ترك الغسل. الرابعة: على الخروج من المنزل. وفي كتاب العلل: ليس للزوج أن يضرب امرأته على ترك الصلاة، وليس للأب أن يَضرب ولده على ترك الصلاة في رواية وفي رواية له ذلك. ضرب الزوج زوجته لترك مطاوعته في الفراش فهلكت ضمن، وكذا الأب إذا ضرب ولده للتأديب. وفي كتاب «الخراج» لأبي يوسف رحمه الله: وللرجل أن يأمر جاريته الكتابية بالغسل عن الجنابة ويجبرها على ذلك، والمرأة الكتابية تكون تحت مسلم على هذا القياس. قيل: و ... الزوج في معنى الأربع. إذا أراد أن يطلق امرأته بغير ذنب منها يسعه فيما بينه وبين الله تعالى أن يعطيها مهرها ونفقة عدتها ويطلقها لما روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنّه كان كثير النكاح كثير الطلاق، فقيل له في ذلك فقال: إني أَحبُّ الغنى، والله تعالى جمع الغنى في هذين قال الله تعالى: {إِن يَكُونُواْ فُقَرَآء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (النور: 32) ، وقال الله تعالى: {وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته} (النساء: 130) . في «العيون» : رجل له امرأة لا تصلي، فطلقها حتى لا يصحب امرأة لا تصلي فإن لم يكن له ما يعطي مهرها فالأولى أن يطلقها. قال أبو حفص الكبير البخاري رحمه الله: إن لقي الله ومهرها في عنقه أحب إلي من أن يطأ امرأة لا تصلي. وذكر الشيخ الإمام أبو حفص السفكردري رحمه الله في «فوائده» : أنه لا ينبغي للرجل الحنفي أن يزوج ابنته من شفعوي المذهب، وعن بعض مشايخنا أنه يجوز لنا أن نتزوج بناتهم، ولا يجوز لنا أن نزوج بناتنا منهم. وعن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل أن من قال: أنا مؤمن إن شاء الله إنه يكفر في الحال، فعلى هذا القياس لا يجوز المناكحة بيننا وبينهم أصلاً. إذا عزل عن امرأته بغير إذنها لما يخاف من سوء هذا الزمان، فظاهر جواب «الكتاب» لا يسعه ذلك، وفي «فتاوى أهل سمرقند» أن له ذلك. وفيه أيضاً: إذا منع الرجل امرأته عن الغزل فله ذلك. وفي «مجموع النوازل» وللرجل أن يأذن لامرأته بالخروج إلى سبعة مواطن: أحدها: إلى زيارة الأبوين وعيادتهما أو أحدهما وتعزيتهما أو تعزية أحدهما. والثانية: زيارة الأقرباء. والثالثة: إذا كانت قابلة. والرابعة: إذا كانت غسالة. والخامسة: إذا كان لها على آخر حقّاً. والسادسة: إذا كان لآخر عليها، وفي هذه الصورة يجوز لها أن تخرج بغير إذن. والسابعة: للحج، فلا يجوز له أن يأذن لها فيما عدا ذلك من زيارة الأجانب وعيادتهم والوليمة وأشباهها. ولو أذِنَ وخرجت كانا عاصيين. وإذا أرادت أن

تخرج إلى مجلس العلم لنازلة وقعت لها، فإن كان الزوج يسأل عن العالم ويخبرها بذلك، فليس لها أن تخرج. وإذا امتنع من السؤال، فلها أن تخرج وإن لم تقع لها نازلة، فأرادت أن تخرج إلى مجلس العلم لتتعلم بعض مسائل الصلاة والوضوء، فإن كان الزوج يحفظ المسائل ويذكر عندها له أن يمنعها من الخروج، وإن كان لا يحفظ ولا يذكر عندها، فالأولى أن يأذن لها بالخروج أحياناً، وإن لم يأذن فلا شيء عليه، ولا يسعها أن تخرج ما لم تقع لها نازلة. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله، وفي هذا الموضع أيضاً: امرأة لها أب زمن ليس له من يقوم عليه غير البنت، ويمنعها الزوج عن تعاهده جاز لها أن تعصي زوجها وتطيع أباها مؤمناً كان الأب أو كافراً؛ لأن القيام عليه فرض عليها في هذه الحالة (223أ1) وحق الزوج لا يظهر مع الفرائض. المنكوحة والمعتدة إذا امتنعت من الطبخ والخبز إن كان بها علّة لا تقدر على الطبخ أو الخبز، عن إبراهيم (عن يحتمل) للمرأة أن لا تخبز لزوجها ولا تطبخ ولا تخدمه ولا تعمل شيئاً وفيه: إن كانت من بنات الأشراف لا تجبر عليه، وعلى الزوج أن يأتيها بمن يطبخ ويخبز. وإن كانت ممن يقدر على ذلك، وهي من جملة (من) يخدم نفسها تجبر عليهما؛ لأنها متعنتة، فإن النبي عليه السلام جعل خدمة داخلِ البيت على فاطمة وخدمة خارج البيت على علي رضي الله عنهما. وذكر شمس الأئمة السرخسي أنها لا تجبر أصلاً، ولكن لا يُعطى لها الإدام حينئذ وهو الصحة. وفي «المنتقى» عن عيسى عن محمد رحمهم الله: ليس للزوج أن يستخدم امرأته الحرة. وفيه عن أبي حنيفة رحمه الله: للمرأة أن لا تخبز لزوجها ولا تطبخ له والزوج بالخيار إن شاء أعطاها خبزاً وإن شاء أعطاها دقيقاً. إذا كان للرجل والدة أو أخت أو ولد من امرأة أخرى أو إنسان ذو رحم محرم من الزوج، وكانت المرأة نازلة له معهم في...... واحد فقالت المرأة للزوج: أنا لا أنزل مع أحد من هؤلاء، فصيرني في منزل على حدة فالمسألة على وجهين: إن كان في الدار بيوت فأعطاها بيتاً تغلق عليه وتفتح لم يكن لها أن تطالبه بمنزل آخر، وإن لم يكن في الدار إلا بيت واحد، فلها أن تطالبه بمنزل آخر لوجهين: أحدهما: أنها تخاف على أمتعتها والثاني: أنه يكره المجامعة ومعها في البيت غيرهما ذكر الخصاف المسألة في «أدب القاضي» في باب نفقة المرأة. وإن كانت للرجل أمة فقالت المرأة: أنا لا أسكن مع أمتك وأريد بيتاً على حدة قيل: ليس لها ذلك؛ لأن جارية الرجل بمنزلة متاعه، وإنه مشكل على المعنيين جميعاً. أما على المعنى الأول فظاهر. وأما على المعنى الثاني، فلأنه تكره المجامعة بين يدي أمة

الفصل الثالث والعشرون: في العنين والمجبوب والخصي

الرجل، هذا هو قول محمد رحمه الله آخراً، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. إذا اشتكت المرأة عند القاضي أن الزوج يضربها وطلبت من القاضي أن يأمره أن يسكنها بين قوم صالحين، فإن علم القاضي أن الأمر كما قالت زجره عن ذلك ومنعه من التعدي عليها، وإن لم يعلم فإن كان جيران هذه الدار قوماً صالحين أقرها هنا وسأل عنهم، فإن ذكروا منه مثل ما ذكرت زجره عن ذلك ومنعه من التعدي عليها، وإن ذكر بأنه لا يؤذيها تركها، وإن لم يكن في جواره من يوثق به أو كانوا يميلون إليه؛ أمره أن يسكنها بين قوم صالحين ويسأل عنهم وبيّن الأمر على جبرهم في هذا الباب أيضاً والله أعلم. الفصل الثالث والعشرون: في العنين والمجبوب والخصي إذا وجدت المرأة زوجها عنيناً، فلها الخيار إن شاءت أقامت معه كذلك، وإن شاءت خاصمته عند القاضي وطلبت الفرقة، فإن خاصمته فالقاضي يؤجله سنة وتعتبر السنة عند أكثر المشايخ بالأيام، وهو رواية ابن سماعة عن محمد رحمه الله، وعليه الفتوى، ولا يكون التأجيل إلا عند سلطان يجوز قضاؤه. وابتداء التأجيل من وقت المخاصمة. فإذا مضت سنة من وقت التأجيل وادعى الرجل أنه وصل إليها فإن كانت ثيباً فالقول قول الزوج مع يمينه، فإن كانت بكراً أراها القاضي النساء، والواحدة تكفي، والمثنى أحوط، فإن قلن ثيب ثبت ثيابتها وصوله إليها، فيكون القول في ذلك قول الزوج مع يمينه، وإن قلن: هي بكر فالقول قولها في عدم الوصول إليها، فإن شهد البعض بالبكارة والبعض بالثيابة يريها غيرهن، فإن قلن: هي بكر يخيرها القاضي، وإن اختارت زوجها أو قامت من مجلسها أو أقامها أعوان القاضي أو قام القاضي قبل أن تختار شيئاً بطل خيارها. وإن اختارت الفرقة أمر القاضي زوجها أن يطلقها، وإن أبى فرّق القاضي بينهما، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» . وذكر في «المنتقى» : هشام عن محمد رحمه الله في العنين إذا مضى سنة خيّر القاضي امرأته، وصار كأن الزوج خيرها، فإذا اختارت نفسها بانت منه، فعلى هذه الرواية لم يشترط قضاء القاضي لوقوع الفرقة وإنها تخالف رواية «الأصل» أيضاً. بشر عن أبي يوسف رحمه الله: خيار امرأة العنين إذا تم الأجل وخيرها القاضي بمنزلة خيار الزوج ذكره مطلقاً ولم يفسّره قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: تأويله عندي في القيام عن المجلس قبل أن تختار شيئاً ثم رضاها بالمقام عند السلطان أو غيره يسقط حقها، واختيارها نفسها لا يكون إلا عند السلطان. ثم إذا فرّق القاضي بينهما على ما هو المذكور في «الأصل» كانت هذه تطليقة بائنة؛ لأن حكم الرجعة تختص بعدّةٍ واجبة بعد الدخول حقيقة، ولها المهر كاملاً وعليها العدة. ولو خاصمته وهو محرم أُجل سنة بعد

الإحرام، ولو خاصمته وهو مظاهر فإن كان يقدر على العتق أجله سنة من حين الخصومة. وإن كان لا يقدر على العتق أمهله شهرين لأجل التكفير ويؤجله سنة بعد الشهرين. ولو ظاهر بعدما أجّل لم يزد على المدة شيئاً؛ لأنه كان متمكناً من أن لا يظاهر منها بخلاف ما إذا خاصمته وهو مظاهر. وإن كان يصل إلى غيرها من نسائه وجواريه يؤجل في حق هذا، وإذا وصل إليها مرة بطل خيارها وسقط حقها في التفريق وإذا وجدت زوجها عنيناً وأخرت المرافعة إلى القاضي لا يسقط حقها ما لم تقل: رضيت بالمقام معه (فيسقط) حقها. وكذلك إذا أخرت الخصومة بعد مضي الأجل لا يبطل حقها في الخصومة ما لم تقل رضيت. وإذا أجل العنين؛ فأيام الحيض وشهر رمضان يحتسب عليه ولا يجعل له بدل، ولو مرض أحدهما مرضاً لا يستطيع الجماع معه وإن كان أقل من نصف شهر احتسب عليه فلا يجعل له بدل. وإن كان أكثر من نصف عن محمد لا يحتسب، شهر وما دونه يحتسب، وهذا أصح الأقاويل، شهر لا يحتسب عليه ويجعل له بدل، هكذا روى ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله. وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان، في رواية كما قال محمد رحمه الله، وفي رواية ما لم يمرض سنة لا يعوض مكانه. وفي «المنتقى» جعل غيبة أحدهما وحبسه بمنزلة المرض، ولو حجت لا يحتسب على الرجل مدة خروجها، ولوحج هو احتسب عليه هكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله. ولو تزوجها ووصل إليها ثم عُنَّ وفارقته ثم تزوجها ولم يصل إليها فلها الخيار ولو (223ب1) كانت المرأة رتقاء والزوج عنين فلا خيار لها هذا إذا وجدت زوجها عنيناً، فإن وجدت زوجها مجبوباً، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا وجدت زوجها عنيناً إلا في مسألة: أن المجبوب لا يؤجل؛ لأنه لا فائدة منه بخلاف العنين. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : امرأة الصبي إذا وجدت الصبي مجبوباً، فالقاضي يفرق بينهما بخصومتها في الحال ولا ينتظر بلوغ الصبي بخلاف ما إذا وجدت امرأة الصبيِّ الصبيَّ عنيناً لا يصل إليها، فإن القاضي لا يفرق بخصومتهما في الحال بل ينتظر بلوغ الصبي. والفرق أن الصبي إذا كان عنيناً لم يتعين سبب الفرقة؛ لأن الصبي يفقد الشهوة، فلعلَّ عجز الصبي عن الوطء بسبب الصبا لا بسبب العنة فلم يتيقن بسبب التفريق وهو العنّة. وإذا كان مجبوباً فقد تيقنا سبب الفرقة وهو الجب وهو نظير المريض إذا تزوج فوجدته المرأة لا يقدر على جماعها فرافعته (إلى) القاضي، فالقاضي لا يفرق بينهما للحال بل ينتظر برءه وبمثله لو وجدته مجبوباً يفرق بينهما للحال. فإن قيل: يجب أن ينتظر بلوغ الصبي في الجب لأن الفرقة بالجبّ فرقة بطلاق كالفرقة بسبب العنّة، والصبي ليس من أهل الطلاق، قلنا: الفرقة بالجب إذا كان الزوج من أهل الطلاق فرقة بطلاق، وإذا لم يكن الزوج من أهل الطلاق بأن كان صبيّاً فقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: هي فرقة بغير طلاق نظير الفرقة بخيار البلوغ، وهذا

لأن هذه الفرقة لحق المرأة، وحق المرأة في نفس الفرقة لا في الطلاق، وبعضهم قالوا: هي فرقة بطلاق لا بسبب فرقة قد تحققت وهو الجب، والطلاق هو المتعين للفرقة شرعاً، وإذا استحقت الفرقة قد استحقت ما تعيّن لها شرعاً ولا حاجة في الإيقاع إلى عبارة الصبي؛ لأن القاضي هو الذي يوقعه، فصار الصبي في هذا كالبالغ فصار كالصبي إذا مَلَكَ قريبه يعتق عليه، وإن لم يكن الصبي من أهل العتق؛ لأنه تحقق سببه وهو ملك القريب، ولا يحتاج فيه إلى عبارة الصبي، فصار هو في حق عتق القريب كالبالغ كذا هنا إلا أن القاضي لا يفرق بين الصبي وامرأته ما لم يكن عنه خصم حاضر لأن القضاء على الغائب لا يجوز، والصغير وإن كان حاضراً حقيقة فهو غائب حكماً لكونه عاجزاً عن الخصومة بنفسه. وإن كان للصغير أب أو وصي أب كان خصماً عن الصغير في ذلك كما كان خصماً في جميع ما كان للصغير وعليه، وإن لم يكن الأب ولا وصيه، فالجد أو وصيه خصمه فيه، فإن لم يكن له جد ولا وصيه فالقاضي ينصب عنه خصماً فإذا جاء الخصم بحجة يبطل الحاكم حق المرأة من بيّنة يقيمها على رضاها بهذا العيب أو علمها بهذا العيب لم يفرق بينهما، وإن لم يكن للخصم بينة على ذلك وطلبَ يمين المرأة تحلف المرأة، لأنه يدعي عليها معنى لو أقرّت به يلزمها فإن نكلت لم يفرق بينهما فإن حلفت فرق بينهما. ولو كانت المرأة صغيرة زوجها أبوها، فوجدت زوجها مجبوباً لا يفرّق بينهما بخصومة الأب حتى تبلغ، علل محمد رحمه الله في «الكتاب» فقال: لأني (لا) أدري لعلها سترضى بزوجها إذا بلغت، وفرّق بين هذه المسألة وبينما إذا ورث الصغير عبداً قد اشتراه مورثه، واطلع الولي على عيب (بالعنين) قد كان عند بائع مورثه كان للولي أن يخاصم البائع في العيب، ولا ينتظر بلوغه. وكذلك إذا كان للصغير قصاص أو شجة فللولي أن يستوفيه ولا ينتظر بلوغه. ولو كانت المرأة البالغة والمسألة بحالها فوكلت المرأة رجلاً بالخصومة مع زوجها وجاءت هل يفرق بينهما بخصومة الوكيل؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» . وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يفرق بل ينتظر حضورها ألا ترى أنه لا يفرق بخصومة الأب إذا كانت البنت صغيرة، وبعضهم قالوا: يفرق بينهما. وفرق بين الصورتين والفرق أن المرأة إذا كانت بالغة غائبة فلو أخرنا التفريق إلى أن يحضر، وليس بحضرتها من الغيبة وقت معلوم كان في هذا التأخير إبطالٌ لحقها في التفريق، فيفرق بخصومة الوكيل لصيانة حقها، فأما إذا كانت صغيرة فليس في تأخير الفرقة إلى أن تبلغ إبطال حقها في التفريق لأن لبلوغها غاية معلومة والرضا بعد البلوغ موهوم فوجب التأخير، وإذا وجب التأخير لم يكن إقامة الأب مقامها في استيفاء هذا الحق قبل البلوغ كما لو كان لها دين مؤجل على إنسان لا يقوم الأب مقامها في استيفاء ذلك قبل الأجل، وإن كان استيفاء الدين مما يجري فيه النيابة، وإن وجدت زوجها خصياً، فإن كان بحال تنتشر آلته ويصل إلى المرأة لا خيار لها، وإن كان لا تنتشر آلته ولا يصل إلى المرأة

الفصل الرابع والعشرون: في بيان حكم الولد عند افتراق الزوجين

فالجواب فيه كالجواب في العنين. ولو تزوجت وهي تعلم بحاله فلا خيار لها. ومن المشايخ من قال في المجبوب لا خيار لها، وفي الخصي والعنين لها الخيار؛ لأنها طمعت حالة العقد أن يزول العذر وتصل إلى حقها. وقال مشايخ العراق: إن كان عنيناً قضى القاضي بعيبه مرة لا خيار لها. وإذا فرّق بين العنين وبين المرأة فجاءت بولد ما بينها وبين سنتين لزمه الولد، لأن النسب يثبت حقاً للصبي. فإن ادعى الزوج الوصول إليها فقال: كنت وصلت إليها أبطل الحاكم الفرقة، كذا روي عن أبي يوسف رحمه الله لأن بيان النسب دليل على الدخول؛ لأنه الموضوع له بقضية الأصل. ولو شهد شاهدان على الدخول أليس إن يبطل الفرقة كذا ههنا. ولو كان الزوج مجبوباً ففرق القاضي بينهما فجاءت بولد لأقلّ من ستة أشهر من وقت الفرقة لزمه الولد خلا بها أو لم يخل بها، وهذا عند أبي يوسف رحمه الله، وقال أبو حنيفة رحمه الله يلزمه إلى سنتين إذا خلا بها، والفرقة ماضية بلا خلاف، وإن كان الزوج مجبوباً وهي لم تعلم بحاله فجاءت بولد فادعاه وأثبت القاضي نسبه ثم علمت بحاله وطلبت الفرقة فلها ذلك، قال: لأن الولد لزمه بغير جماع. ولو أقام الرجل بينة قبل الفرقة على إقرارها أنه وصل إليها بطلت الفرقة، ولو أقرت هي بعد الفرقة أقرت بالوصول بعد الفرقة (224أ1) أنه قد كان وصل إليها قبل الفرقة لا تبطل الفرقة، وإذا كان زوج الأمة عنيناً فالخيار إلى المولى عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، فقال محمد وزفر رحمهما الله: الخيار لها، وقال محمد رحمه الله: وللمرأة الخيار في الجنون والجذام وكل عيب لا يملكها المقام معه إلا بضرر، ألا ترى أنه لها ثبت الخيار في الجبّ والعنة وإنما ثبت دفعاً للضرر عنها، وفرّق بين جانب الرجل وبين جانب المرأة من حيث إنّ الرجل متمكن من دفع الضرر عن نفسه بالطلاق؛ لأن الطلاق في يده بخلاف المرأة وهما سويا بين جانب المرأة وبين جانب الرجل فيما سوى الجب والعنة والله أعلم. الفصل الرابع والعشرون: في بيان حكم الولد عند افتراق الزوجين قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا كان للرجل ولد صغير وقد فارق أمّه، فالأم أحق بالولد من الأب إلى أن يستغني عنها، فإذا استغنى عنها فالأب أحق به. وحدّ الاستغناء في الغلام أن يأكل وحده ويشرب وحده. وفي غير رواية الأصول ويتوضأ وحده يريد به الاستنجاء، ولم يقدر محمد رحمه الله في ذلك تقديراً من حيث السنة. وذكر الخصاف في كتاب النفقات أن الأم أحقّ بالغلام ما لم يبلغ تسع سنين أو ثمان. وذكر الفقيه أبو بكر الرازي رحمه الله: أن الأم أحق به إلى تسع سنين. وأما في الجارية، فحدّ الاستغناء أن تحيض أو تبلغ مبلغ النساء بالسن، وبعد ذلك

الأب أولى. وروى هشام عن محمد رحمه الله أن الأم أولى بها إلى مبلغ حدّ الشهوة. فإن وقع الاختلاف بين الأم وبين الأب فقالت الأم: هذا ابن ست سنين وأنا أحق بإمساكه. وقال الأب: هو ابن سبع سنين وأنا أحق به، ينظر إلى الصبي إن استغنى بأن كان يأكل ويشرب ويلبس ويستنجي وحده دفع إلى الأب وإلا فلا؛ لأنا إنما اعتبرنا سبع سنين بطريق القيام مقام الاستغناء فإذا وقع الاختلاف في السن يجب بحكم الاستغناء. فإن تركت الأم الولد على الأب هل تُجبر الأم على حضانته وتربيته؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في «الأصل» ، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنها لا تجبر إلا أن لا يكون للولد ذو رحم محرم سوى الأم، فحينئذ تجبر كيلا يفوت حق الولد، وذكر البقالي في «فتاويه» مطلقاً أنها لا تجبر، قال: وقد قيل خلافه. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله سئل أبو بكر الإسكاف رحمه الله عن حالة الصغيرتين لا زوج لهما قالت: لا آخذهما ولا أمنعهما عن الكون معي في منزلي فلها ذلك، فإن قالت: لا أدعهما حتى يكونا في منزلي، فإنها تجبر على أن يكونا معها في المنزل حتى يستغنيا. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: عليها أن تتعاهدهما كما لو كانت تقدر على النفقة وهما محتاجان إلى النفقة تجبر على نفقتهما، فكذا إذا كانا محتاجين إلى التعاهد. وإن ماتت الأم فأُمُّ الأم أولى بحضانة الولد، وبعدها أم الأب أولى، وذكر البقالي عن أبي يوسف رحمه الله أن أم الأب أولى من أم الأم وبعد أم الأب الحضانة إلى الإخوان: أولهن الأخت لأب وأم، وبعدها الأخت الأم، وبعدها قال شيخ الإسلام: اختلفت الروايات ذكر في بعضها بنت الأخت لأب وأم، ثم بنت الأخت لأم ثم الخالة ثم بنات الخالة ثم الأخت لأب، وذكر في بعضها الأخت لأب بعد الأخت لأم ثم بنات الأخوات. ثم الخالات ثم العمات. وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن بعد الأخت لأم اختلاف الروايات في تقديم الخالات على الأخت لأب. قال في كتاب النكاح: الأخت لأب أولى، وقال في كتاب الطلاق: الخالة أولى، فعلى رواية كتاب النكاح اعتبر القرب، والأخت لأب أقرب، وعلى رواية كتاب الطلاق اعتبر المدلى به، فقال: الأخت لأب تدلي بالأب، والخالة تدلي بالأم، والأم في الحضانة مقدمة على الأب، فمن يدلي بالأم يكون أولى ممن يدلي بالأب. قال شمس الأئمة رحمه الله وبعد الأخوات بناتهن وبعدهن الخالات وبعدهن بنات الأخ وبعدهن العمات، والتي لأم في هذه القرابات أولى من التي لأب والخالة لأب أولى من العمة. وأما بنات العم والخال والعمة والخالة فلا حق لهن في الحضانة، هكذا ذكر القدوري رحمه الله، وذكر البقالي في «الفتاوى» روى أن أولاد العمات والخالات بمنزلتهن والظاهر خلافه، قال: ويستوي في حق الحضانة المسلمة والكتابية. قال الفقيه أبو بكر الرازي: إذا كانت الأم كافرة فعقل الولد فإنه يؤخذ منها جارية كانت أو غلاماً لأنه مسلم بإسلام الأب وإنما تعلمها الكفر فلا يؤمن من الفتنة إذا ترك عندها. ومن تزوج

من هؤلاء بزوج فإن كان الزوج أجنبياً يسقط حقها في الحضانة، وإن كان ذو رحم محرم من الصغير لم يسقط حقها في الحضانة كالأم إذا تزوجت بعم الصغير، وكالجدّة إذا تزوجت بجد الصغير، ومن تزوجت بأجنبي ثم بانت من زوجها عاد حقها في الحضانة وتصدق المرأة أنها لم تتزوج أو أنها بانت إذا لم تقر بزوج بعينه. وإذا اجتمع النساء ولهن أزواج أجانب يضعها القاضي حيث شاء. ولا حقّ للأمة ولأم الولد في حضانة الولد الحر.... إذا طلقها فكذلك المكاتبة إذا طلقها زوجها ويكون الولد عند مولى الأم، ولكن لا يفرق بين الولد وبين الأم على ما عرف في موضعه. وإذا أعتق الرجل أُمّ ولده أو مات عنها فهي كالحرة في حق الحضانة ولا حق للمرتدة في الولد وليس لمن سِوَى الجدتين والأم حق في الولد إذا أكل وشرب ولبس وحده جارية كانت أو غلاماً. وإذا بلغ الولد عند واحدةٍ منهن هذا المبلغ أو بلغ عند الأم والجدتين ما قلنا فالأب أحق بالولد ثم بعده الجد أب الأب يعتبر الأقرب فالأقرب من العصبات، ولا حقّ لابن العم في حضانة الجارية؛ لأنه ليس بمحرم منها ويحل له نكاحها، فلا يؤتمن عليه وكذلك كل ذي رحم محرم منها إذا كان لا يؤتمن عليها لفسقه ومجانته فلا حقّ له فيها، وإن لم يكن للجارية من عصبات إلا ابن العم اختار لها القاضي أفضل المواضع؛ لأن الولاية إليه. هكذا ذكر القدوري رحمه الله، وذكر في «الأصل» إذا لم يكن للجارية (224ب1) والد، وأخوها أو عمها مخوف عليه فالقاضي لم يفصل بينه وبينها ولكن يجعل معهما امرأة ثقة قال محمد: وإنما يثبت الحق للعصبات في هذه الصغيرة إذا كان على دين الولد، قال محمد رحمة الله عليه: في كل ذكر من قبل النساء كالأخ من الأم والخال لأب ولأم، فلا حقّ لهم في الولد، وعنه أيضاً. إنه يثبت الحق حتى قال: إذا كان لها ابن عم وخال، فالخال أولى وأب الأم أولى من الخال والأخ لأم. وإذا اجتمع إخوة في درجة واحدة بأن كان الكل لأب وأم، أو لأب فأبينهم صلاحاً أولى، فإن استووا في الصلاح فأكبرهم سناً أولى. نوع منه: إذا بلغ الغلام رشيداً فله أن ينفرد بالسكنى، وليس للأب أن يضمه إلى نفسه إلا أن يكون مفسداً مخوفاً، وأما الجارية إذا بلغت فإن كانت ثيباً فليس للأولياء حق الضم إلى أنفسهم، ولها أن تنزل حيث شاءت إلا أن يخاف عليها الفساد، فحينئذ للأولياء حق الضم إلى أنفسهم، وإن كانت بكراً فللأولياء حق الضم، وإن كان لا يخاف عليها الفساد إذا كانت حديثة، فأما إذا دخلت في السن واجتمع لها رأيها وعقلها فليس للأولياء حق الضم، ولها أن تنزل حيث أحبّت حيث لا يتخوف عليها، وإذا بلغت الجارية وهي ممن يخاف عليها الفساد وليس لها والد، وأخوها أو عمها مخوف عليها فالقاضي لم يحل بينه وبينهما بل يضع عندها امرأة ثقة والله أعلم.

نوع منه: إذا وقعت الفرقة بين الرجل وبين امرأته، فأرادت أن تخرج بالولد عند انقضاء عدتها إلى مصرها، فإن كان النكاح وقع في غير مصرها فلها ذلك، وإن كان وقع النكاح في مصرها فليس لها ذلك إلا أن يكون بين موضع الفرقة وبين مصرها قرب بحيث لو خرج الأب لمطالعة الولد يمكنه الرَّوح إلى منزله قبل الليل، فحينئذ هما بمنزلة محالّ مختلفة في مصر ولها أن تحوّل من مَحِلَّةٍ إلى محلة. وذكر في «البرامكة» أن لها أن يخرج بالولد إلى بلدها من غير تفصيل، وهكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرحه» . ولو أرادت أن أن تنقله إلى حيث وقع النكاح وليس ذلك ببلدها، فليس لها ذلك في رواية «الأصل» . وذكر في «الجامع الصغير» أن المعتبر، ولو أرادت أن تنقله إلى بلد ليس بلدها ولم يقع فيه النكاح، فليس لها ذلك إلا إن كان بين البلدتين قرب على التفسير الذي قلنا، وإن كان النكاح في رستاق لها قرى متفرقة، فأرادت أن تنقله إلى قريتها، فإن كان النكاح في قريتها فلها ذلك، وإن لم يكن النكاح في قريتها فليس لها ذلك إلا أن تكون القرى قريبة بعضها من بعض على التفسير الذي قلنا، وعلى رواية «البرامكة» على قياس البلدتين يجب أن يكون لها ذلك من غير تفصيل. ولو أرادت أن تنقله من قرية إلى مصر جامع وليس ذلك مصرها ولا وقع النكاح فيها، فليس لها ذلك، إلا أن يكون المصر قريباً من القرية على التفسير الذي قلنا. ولو أرادت أن تنقله من مصر جامع إلى قرية فليس لها ذلك. وإن كانت القرية قريبة إلا أن تكون قريتها وقد وقع أصل النكاح فيها، فحينئذ لها ذلك، وذكر البقالي: ولا تخرجه من المصر إلى القرية بحال، فإن كانت القرية بعيدة لا ذكر لها في الكتب، ويجب أن يكون الجواب فيه على التفصيل الذي (قلنا) . وليس لها (أن) تنقله إلى دار الحرب، وإن كان النكاح وقع ثمة ذكر البقالي في «فتاويه» : ولها أن تنقله إلى بعض نواحي المصر. وإن كان الأب لا يمكنه الرجوع من زيارته في يومه إلى وطنه قبل الليل، وكذلك إذا كان له جانبان. وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: رجل تزوج امرأته بالبصرة وولدت له ولداً ثم إن هذا الرجل أخرج ولده الصغير إلى الكوفة وطلقها فخاصمته في ولدها فأرادت رده عليها، قال: إن كان الزوج أخرجه بأمرها، فليس عليه أن يردّه ويقال لها: اذهبي فخذيه. وإن كان أخرجه بغير أمرها فعليه أن يجيء به إليها، فروي عنه أن الرجل إذا خرج مع المرأة وولدها في البصرة إلى الكوفة ثم ردّ المرأة إلى البصرة ثم طلقها إن عليه إن يرد الولد ويؤخذ بذلك لها والله أعلم.

الفصل الخامس والعشرون: في المسائل المتعلقة بنكاح المحلل وما يتصل به ونكاح الفضولي في طلاق المضاف والحيل في رفع اليمين في طلاق المضاف وقضاء القاضي في مسألة العجز عن النفقة وأمثالها

الفصل الخامس والعشرون: في المسائل المتعلقة بنكاح المحلل وما يتصل به ونكاح الفضولي في طلاق المضاف والحيل في رفع اليمين في طلاق المضاف وقضاء القاضي في مسألة العجز عن النفقة وأمثالها وأما المسائل المتعلقة بالمحلل وفي «مجموع النوازل» : المطلقة ثلاثاً إذا زوجت نفسها من غير كفء ودخل بها حلّت للزوج الأول عند زفر رحمه الله، وهذا الجواب عن أبي حنيفة رحمه الله مستقيم على ظاهر الرواية، وأما على رواية الحسن عنه لا يستقيم؛ لأن على رواية الحسن عنه: إذا زوجت نفسها من غير كفء لا يجوز النكاح، ولا بُدّ من صحة نكاح الزوج الثاني لتحل على الزوج الأول وجماع الصبي الذي يجامع مثله والمجنون يحل للزوج الأول.k وإن كانت المطلقة ثلاثاً صغيرة تُجامَع، فتزوجها رجل ودخل بها حلّت للزوج الأول، ولو كان الزوج الثاني عبداً أو مدبراً أو مكاتباً تزوجوا بإذن المولى ودخل بها حلّت للزوج الأول؛ لأنه وُجد الدخول في نكاح صحيح. وكذلك لو كان مشلولاً فجامع. ولو كان مجبوباً لم تحل للزوج الأول، فإن حبلت وولدت حلّت للأول عند أبي يوسف رحمه الله، وقال زفر رحمه الله والحسن: لا تحل للأول وإن كانت النصرانية تحت مسلم طلقها ثلاثاً فتزوجت بنصراني ودخل بها حلّت للمسلم الذي طلقها ثلاثاً؛ لأنه دخول في نكاح صحيح وإذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً، فتزوجت بزوج آخر وطلقها الزوج الثاني ثلاثاً قبل الدخول ثم تزوجت الثالث ودخل بها حلّت للزوجين الأولين. ولو وطئها الزوج الثاني في حيض أو نفاس أو إحرام حلّت للزوج الأول لإطلاق قوله عليه السلام «ويذوق من عسيلتك» . وفي «فتاوى النسفي» رحمه الله سئل عن الزوج المحلل إذا كان عبداً صغيراً لإنسان زوجت نفسها منه وقَبِلَ عنه مولاه ومثله يجامع فدخل بها فوهبه (225أ1) مولاه منها حتى فسد النكاح واعتدت هل تحل للزوج الأول بالنكاح قال: نعم، والأولى أن يكون حراً بالغاً، فالجواب في الجواز عن أصحابنا رحمهم الله منصوص عليه، وأما الأولية أما في اشتراط البلوغ فلأن مالكاً يشترط الإنزال، وأما في اشتراط الحرية، فلأنه روي عن أبي يوسف رحمه الله أن الحرة إذا زوجت نفسها من عبد لا يجوز لعدم الكفاءة فيتحرز عن خلافهما، وقد ذكرنا في أول هذا الفصل أيضاً أن على رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لو زوجت نفسها من غير كفء لا تحل للزوج الأول، فيتحرز عن هذه الرواية أيضاً. وفي «القدوري» : إذا زوجت المطلقة ثلاثاً بزوج،

فكان من قصدهما التحليل إلا أنهما لم يشترطا ذلك يقول: حلّت للزوج الأول، ولو شرطا الإحلال بالقول فإن تزوجها لذلك، فالنكاح صحيح في قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله، وتحل للأول ولكن يكره ذلك للأول والثاني، وقال أبو يوسف رحمه الله: النكاح الثاني فاسد ولا تحل للأول. وقال محمد رحمه الله: النكاح الثاني صحيح فلا تحل للأول، وفي «الجامع الأصغر» وقال بعض أشياخنا: إذا تزوجها ليحللها للأول فهذا الثاني مأجور في ذلك؛ لأنه نوى أن يصل الأول إلى الحلال بما هو مباح، وليس فيه إبطال حق على أحد فلا إضرار بالغير والمراد من قوله «لعن الله المحلل والمحلل له» أن يقول لغيره: أحللت لك ابنتي بكذا وما أشبهه. والحكم في الأمة المنكوحة بعد الثنتين نظير الحكم في الحرة بعد الثلاث لا تحل لزوجها ما لم تتزوج بزوج آخر ويدخل بها الثاني ووطء المالك لا يحلها للزوج الأول، ولو اشتراها الزوج لم تحل له بملك اليمين. وقد ذكرنا بعض هذه المسائل في النوع الرابع من الفصل العشرين. ومما يتصل بهذه المسائل: سئل نجم الدين النسفي رحمه الله عمن حلف بثلاث تطليقات وظنّ أنه لم يحنث فاستفتيت المرأة فأفتيت بوقوع الثلاث، وعلمت أنها لو أخبرت الزوج بذلك أنكر اليمين، هل لها أن يحللها بعدما فارقها زوجها بسفر أو غيره وتنقضي عنها فتعتد من الزوج الثاني ثم تأمر الأول بعد الإياب بتجديد النكاح لشيء دخل قلبها من شبهة قال: فأما في القضاء فلا لإنكار الزوج وقوع الثلاث ولا بيّنة لها، وأما فيما بينها وبين الله تعالى فهي في سعة من ذلك، قال: وقد وقعت هذه الحادثة في زمن السيد الإمام أبي شجاع، فسألته عن ذلك بالفتوى وكَتَب أنه يجوز ثم سألته بعد ذلك بمدّة فقال لا يجوز ولا نطلق لها ذلك، فلعله إنما أجاب بذلك في حق التي لا يوثق بقولها، فلا يؤمن من أن تكذب تطرقاً في مخالطة من تريده سفاحاً فتصور ذلك نكاحاً. وسئل أبو القاسم عن امرأة سمعت من زوجها أنه طلقها ثلاثاً، ولا تقدر أن تمنع نفسها منه هل يسعها أن تقتله؟ قال: لها أن تقتله في الوقت الذي يريد أن يقربها ولا تقدر على منعه إلا بالقتل، قال نجم الدين النسفي رحمه الله في «فتاويه» : وهكذا كان فتوى شيخ الإسلام أبي الحسن عطاء بن حمزة، والسيد الإمام الأجل أبي شجاع رحمهما الله فكان القاضي الإمام الإسبيجابي رحمه الله يقول: ليس لها أن تقتله، وكان يستدل بما ذكر محمد رحمه الله في كتاب الإكراه أن السلطان إذا أكره امرأة على الزنا، فمكنت لا تأثم بخلاف الرجل إذا كان مكرهاً على الزنا حيث يأثم، وإذا لم تأثم أن توطأ وهي مكرهة لم تكن مضطرة إلى قتل الزوج. قال نجم الدين رحمه الله فحكي له أن السيد الإمام أبا شجاع رحمه الله يقول: لها (أن) تقتله فقال: إنه رجل كبير وله مشايخ أكابر لا

يقول ما يقول إلا عن صحة فالاعتماد على قوله. وفي «فتاوى محمد بن الوليد السمرقندي» رحمه الله في باب مناقب أبي حنيفة رحمه الله عن عبد الله بن المبارك عن أبي حنيفة رحمهما الله أن من طلق امرأته ثلاثاً ثم قصدها، فإنها ترده عن نفسها ولها أن تقتله. وفي آخر باب الاستحسان: إذا شهد شاهدان عدلان أن زوجها طلقها ثلاثاً وهو يجحد ذلك ثم ماتا أو غابا قبل أن يشهدا عند القاضي لم يسعها أن تقيم معه وأن تدعه يقربها. فإن حلف الزوج على ذلك والشهود قد ماتوا فردها القاضي عليه لا يسعها المقام معه، وينبغي لها أن تفتدي بمالها أو تهرب منه وإن لم تقدر على ذلك قتلته متى علمت أنه يقربها، لكن ينبغي أن تقتله بالدواء، وليس لها أن تقتل نفسها، وإذا هربت منه لم يسعها أن تعتد وتتزوج بزوج آخر، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب الاستحسان: هذا جواب الحُكم. فأما فيما بينها وبين الله تعالى إذا هربت فلها أن تعتد وتتزوج بزوج آخر والله أعلم. (نكاح الفضولي في النكاح المضاف) وأما المسائل التي تتعلق بنكاح الفضولي في الطلاق المضاف: إذا حلف الرجل بطلاق امرأة بعينها إن تزوجها، فزوجه رجل تلك المرأة بغير أمره وأجاز هو قولاً أو فعلاً. أو حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها، فزوجه رجل امرأة بغير أمره فأجاز هو قولاً أو فعلاً، قال بعض مشايخنا: إن أجاب بالقول يحنث وإن أجاز بالفعل؛ لا يحنث. وقال بعضهم: يحنث أجاز بالقول أو بالفعل، لأن الإجازة في الانتهاء بمنزلة الإذن (في) الابتداء من حيث إن العاقد بالإجازة يصير نائباً عن المجيز من ذلك الوقت، وفعل النائب كفعل المنوب عنه، فيصير متزوجاً من ذلك الوقت، وقال بعضهم لا يحنث أجاز بالقول أو بالفعل وإليه أشار في «الزيادات» وهو الأشبه. ووجه ذلك أنّا لو جعلناه حانثاً بالإجازة لجعلناه متزوجاً إياها عند الإجازة لأن شرط الحنث التزوج، ولو صار متزوجاً إياها لصار متزوجاً من وقت مباشرة العقد فيقع الطلاق من ذلك الوقت. وإذا وقع من ذلك الوقت تبين أن الإجازة كانت باطلة إذ تبين أن الإجازة بعد وقوع الطلاق وارتفاع النكاح والإجازة بعد ارتفاع النكاح لا تعمل. وإذا تبين بطلان الإجازة تبين أنه لم يصر متزوجاً (225ب1) إياها وبدونه لا يقع الطلاق، فتبيّن بطلان الطلاق ففي إيقاع الطلاق ابتداء إبطاله انتهاءً، ولا يقع الطلاق ابتداءً ويجعل في حق الطلاق كأن الإجازة لم توجد، قال نجم الدين رحمه الله: فكلُّ جواب عرفته في قوله أتزوجها فهو الجواب في قوله كل امرأة تدخل في نكاحي؛ لأن دخولها في نكاحه لا يكون إلا بالتزوج، فكان ذكر الدخول في نكاحه بمنزلة ذكر التزوج، فصار كأنه قال: كل امرأة أتزوجها. وبتزويج الفضولي لا يصير متزوجاً. وهذا بخلاف ما لو قال: كل عبد يَدخل في ملكي فهو حرٌّ، فإنه يعتق بعقد الفضولي إذا أجازه؛ لأن ملك اليمين لا يختص بالشراء، بل له أسباب، فلا يكون ذكره ذكراً للشراء أما ههنا بخلافه؛ وإذا قال: كل امرأة تصير حلالاً لي فهذا وما لو قال: كل امرأة تدخل في نكاحي سواء. وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله أنه قال: وقال بعض الفقهاء الحيلة

في هذه الصورة أن يزوجه فضولي امرأة بغير أمره وبغير أمرها ثم يجيز هو النكاح ثم تجيز النكاح فيقع الحنث قبل إجازة المرأة بإجازة الزوج، فإجازتها لا تعمل فيجددان النكاح بعد ذلك، فيكون هذا نكاحاً جائزاً لأن اليمين انعقدت على زوج واحد، ثم الفعل الذي تقع به الإجازة في نكاح الفضولي فعل هو يختص بالنكاح، وهو بعث شيء من المهر وإن قل، وأما بعث الهدية والعطية لا يكون إجازة؛ لأنه لا يختص بالنكاح بل قد يكون بطراً أو أجراً فلا يكون ذلك إجازة للنكاح، هكذا حكي عن نجم الدين رحمه الله، فعلى هذا القياس لو بعث إليها شيئاً من النفقة لا تكون إجازة؛ لأن النفقة لا تختص بالنكاح. وسئل نجم الدين رحمه الله عمن قال: كل امرأة أتزوجها أو يتزوجها غيري لأجلي، فهي طالق ثلاثاً فما الوجه فيه؟ قال إن تزوج الفضولي لأجله فيقع الطلقات الثلاث ولكن لا يحرمه عليه؛ لأنها تطلق قبل دخولها في ملك الزوج فلا تحرم عليه، ألا ترى أن بعد عقد الفضولي لو طلقها الزوج ثلاثاً لا تحرم عليه وإنما لا تحرم؛ لأن الطلاق إنما يقع قبل دخولها في ملك الزوج فكذا ههنا؛ إلا أنه لا تقبل الإجازة؛ لأنه صار مردوداً فيعقد الفضولي ثانياً لأجله ويجيز هو بالفعل على ما ذكرنا، هكذا حكي عن نجم الدين رحمه الله، وعندي: أن في الكرّة الثانية لا حاجة إلى عقد الفضولي بل إذا تزوج بنفسه لا تطلق؛ لأن اليمين في حق هذه المرأة انجلت بتزوج الفضولي له. ألا ترى أن من قال: إن تزوجت فلانة أو أمرت إنساناً أن يزوجها فهي طالق فأمر إنساناً ليزوجها منه فزوجها لم تطلق؛ لأن اليمين انحلت بالأمر لا إلى جزاء وكذلك إذا قال: إن خطبت فلانة أو تزوجتها فهي طالق فتزوجها لم تطلق لأن اليمين انحلت بالخطبة لا إلى جزاء وسئل هو أيضاً عمن إذا قال لامرأة: أتزوجها أو تزوجها غيري لأجلي وأجيزه فهي طالق ثلاثاً، قال: لا وجه لجوازه، لأنه شدد على نفسه. إذا قال الحالف لغيره راسوكند ست براين وجه وبعقد فضولي حاجب است ولم يأمره بالعقد فعقد وأجاز الحالف بالفعل لا يحنث. ولو قال: ارتهرمن عقد فضولي إن فهذا توكيل فيحنث الحالف، وإذا حلف لا تطلق امرأته وطلقها فضولي، وأجاز النكاح الزوج ذلك قولاً أو فعلاً، فالجواب فيه نظير الجواب في النكاح، والله أعلم. (الحيل في رفع اليمين في الطلاق المضاف) وأما المسائل التي تتعلق برفع اليمين في الطلاق المضاف الحنفي إذا عقد اليمين على جميع النسوة بأن قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، أو عقد اليمين على امرأة واحدة بأن قال لامرأة: إن أتزوجك فأنت طالق فتزوج امرأة في الفصل الأول أو تزوج تلك المرأة بعينها في الفصل الثاني ثم إنهما رفعا الأمر إلى حاكم يعتقد مذهب الشافعي رحمه الله وقضى بجواز النكاح وبطلان اليمين المضاف نفذ قضاؤه وصارت المرأة حلالاً له بلا خلاف إن كان الحالف عاميّاً، وإن كان فقيهاً فكذلك في قول محمد رحمه الله. وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا تصير حلالاً، هكذا وقع في بعض النسخ، ووقع في بعض النسخ وإن كان فقيهاً فكذلك في ظاهر الرواية فروي عن أبي يوسف رحمه الله في غير رواية «الأصل» لا تصير حلالاً.

واعلم بأن المبتلى بالحادثة سواء وقع الحكم له أو عليه، وإن كان فقيهاً له رأي إن وقع الحكم عليه بأن كان هو يعتقد الحِل فقضى القاضي بالحرمة فعليه أن يتبع قضاء القاضي، وإن حصل الحكم له بأن كان يعتقد الحرمة وقضى القاضي بالحل فعليه أن يتبع حكم القاضي في قول محمد رحمه الله وعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا يترك رأي نفسه، ولا يلتفت إلى إباحة القاضي فيما يعتقده حراماً، هكذا وقع في بعض النسخ، وذكر الخصاف في «أدب القاضي» في هذه الصورة أن عليه أن يتبع حكم القاضي في ظاهر الرواية، وذكر في غير رواية الأصول أن على قول أبي يوسف رحمه الله لا يلتفت إلى إباحة القاضي فيما يعتقده حراماً. وإذا كتب القاضي الحنفي إلى القاضي الشافعي في تقليده في هذه الصورة وأمثالها إن كان التقليد للحكم ببطلان اليمين كان جائزاً في قول أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما بناء على مسألة معروفة أن القاضي إذا قضى في فصل مختلف بخلاف رأيه على قول أبي حنيفة رحمه الله ينفذ قضاؤه، وعلى قولهما لا ينفذ. وإذا كان من مذهبهما أن قضاءه بخلاف رأي نفسه لا ينفذ، فكذا لا يجوز التقليد بخلاف رأيه عندهما أيضاً. وإن كان التقليد للحكم بما يراه ويقتضيه الشرع كان التقليد صحيحاً عند الكل وفي «الجامع الأصغر» قال أبو نصر الدبوسي رحمه الله: في الحاكم المحكم إذا حكم بجواز النكاح بعد الطلاق المضاف وهو يرى ذلك نفذ حكمه وجاز النكاح فلا يقع الطلاق، وقال كثير من مشايخ بلخ: لا يجوز، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرح أدب القاضي» للخصاف رحمه الله أن حكم الحاكم المحكم إذا حكم فيما عدا الحدود والقصاص من المجتهَدَات، نحو الكنايات والطلاق المضاف جائز هو الظاهر من مذهب أصحابنا، وهو الصحيح، لكن مشايخنا امتنعوا عن هذه الفتوى، وقالوا: يحتاج إلى حكم الحاكم المقلد كما في الحدود والقصاص كيلا يتجاسر العوام فيه. وسئل الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله عن هذا فقال (226أ1) أقول: لا يحل لأحد أن يعتقد هذا، ولا أزيد على هذا. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وقد روي عن أصحابنا ما هو أوسع من هذا، وهو أن صاحب الحادثة إذا استفتى فقيهاً عدلاً من أهل الفقه والفتوى، فأفتاه ببطلان اليمين وسعه اتباع فتواه، وإمساك المرأة المحلوف بطلاقها، قال: وقد روي عنهم ما هو أوسع من هذا أن صاحب الحادثة إذا استفتى فقيهاً وأفتاه ببطلان اليمين وسعه إمساك المرأة، فإن تزوج امرأة أخرى فكان حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها، فاستفتى فقيهاً آخر فأفتاه بصحة اليمين يفارق الأخرى ويمسك الأولى عملاً بفتواهما جميعاً. وإذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، فتزوج امرأة وفسخ اليمين عليها وقال لامرأة بعينها: إن تزوجتك فأنت طالق، فتزوجها وفسخ اليمين عليها بطريقة إلى عقد جديد والعقد الأول يكفي، هكذا حكي عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، عن أستاذه القاضي الإمام علي النسفي رحمه الله وهذا لأن القاضي بالفسخ لا يرفع الطلاق الواقع إذ

لا سبيل إليه ولكن يبطل اليمين السابق بقضائه وتبيّن أن الطلاق لم يكن واقعاً. وعن هذا قلنا: لو كان الزوج وطئها قبل الفسخ ثم فسخ القاضي اليمين كان ذلك الوطء حلالاً؛ لأن بقضاء القاضي بالفسخ تبين أن اليمين لم تكن منعقدة وأن الطلاق لم يقع، فتبين أن الوطء كان حلالاً. وإذا عقد على جميع النسوة يميناً واحدة بأن قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأة وفسخ اليمين عليها ثم تزوج امرأة أخرى هل يحتاج إلى الفسخ على المرأة الأخرى على قول محمد رحمه الله لا يحتاج، والفسخ على امرأة واحدة فسخ على جميع النسوة، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله، يحتاج إلى الفسخ على المرأة الأخرى، والصدر الشهيد الأكبر برهان الأئمة، والقاضي الإمام الأجل جمال الدين جدّي، والقاضي الإمام عماد الدين والصدر الشهيد حسام الله رحمهم الله، كانوا يفتون بقول محمد رحمه الله وأصل المسألة في كتاب «المنتقى» : إذا قال الرجل: كل عبد اشتريته إلى سنة فهو حرّ، فاشترى عبداً وخاصمه إلى القاضي وأقام البينة على هذه اليمين، وقضى القاضي بعتقه ثم اشترى عبداً آخر وخاصمه، قال محمد رحمه الله: أقضي بعتقه ولا أكلفه بإعادة البينة قال: من قبل أني قضيت على الحالف بذلك اليمين، فالبينة لهما جميعاً، وهو رواية ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله. وروى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله أن القاضي لا يقضي بعتقه حتى يعيد البيّنة، وهو رواية ابن سماعة عن أبي حنيفة رحمه الله. وإذا عقد على جماعة من النسوة على كل امرأة يميناً على حدة، وفسخ القاضي اليمين على امرأة واحدة لا ينفسخ اليمين في حق امرأة أخرى بالاتفاق. وإذا عقد أيماناً على امرأة واحدة بأن قال لها: إن تزوجتك فأنت طالق، قال ذلك مراراً ثم تزوجها وقضى القاضي بصحة نكاحها ترتفع الأيمان كلها. وإذا عقد على امرأة واحدة بكلمة كلّما بأن قال لها: كلما تزوجتك، أو عقد على كل امرأة بكلمة: كلما، بأن قال: كلما تزوجت امرأة فهي طالق، فتزوج تلك المرأة في الفصل الأول وفسخ القاضي اليمين عليها ثم طلقها ثلاثاً أو تزوج امرأة في القضاء الثاني وفسخ القاضي اليمين عليها ثم طلقها وتزوجها ثانياً هل يحتاج إلى الفسخ في حقها مرة أخرى يجب أن تكون المسألة على روايتين بناء على مسألة أخرى أن الثابت من كلمة كلما في الحال يمين واحدة، ويتحدد انعقادها على حسب الحنث، أو أيمان متفرقة والمسألة معروفة في «الجامع» . وإذا قال: إن تزوجت فلانة، فهي طالق ثم قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق ثم تزوج امرأة وفسخ اليمين عليها، ثم تزوج فلانة طلقت فلانة لأن بالفسخ على تلك المرأة انفسخ في حق فلانة اليمين العامة دون اليمين الخاصة. ثم على قول من يعتبر الفسخ على امرأة واحدة فسخاً على النسوة كما يظهر الفسخ في حق التي يتزوجها بعد التي فسخ النكاح عليها يظهر الفسخ في حق التي سبقها حتى إذا تزوج امرأة ووقع عليها ثلاث تطليقات ثم تزوج امرأة ثانية وفسخ اليمين على الثانية تصير المرأة الأولى حلالاً له

وكذلك إذا سبقها بثنتين أو ثلاث، وإن سبقها أربع لا يظهر الفسخ في حقهن إذ لو ظهر الفسخ في حقهن لظهر أن القضاء يُحلّ هذه وبفسخ اليمين على هذه كان باطلاً؛ لأنه يظهر أن هذه خامسة، وإذا بطل في حق هذه بطل في حق الأربع أيضاً، فيبطل من حيث يصح. وكذلك لو كانت الثانية أخت الأولى لا يظهر الفسخ في حق الأولى، هكذا حكي عن الصدر الشهيد رحمه الله، ورأيت مكتوباً بخط بعض المشايخ أن القاضي لا يفسخ اليمين على المرأة التي سبقها أربع؛ لأنه لو فسخها عليها يظهر الفسخ في حق الأربع التي سبقن فيظهر أن نكاح الأربع وقع صحيحاً، فظهر بطلان نكاح الخامسة فلأن يكون الفسخ معتداً في حق الخامسة، وكذلك لا يفسخ اليمين على الأخت الثانية على قول هذا القائل. وإذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، فتزوج امرأة ووقع الثلاث عليها ثم إن هذه المرأة تزوجت بزوج آخر، ولم يعلم به الزوج الأول ثم إن الزوج الأول، طلب من المرأة أن يرفعا الأمر إلى قاض يعتقد مذهب الشافعي حتى يفسخ تلك اليمين ويقضي بصحة نكاحهما ففعلا ذلك فقضى القاضي بفسخ تلك اليمين ويقضي بصحة نكاحهما هل يصح قضاؤه؟ ذكر نجم الدين رحمه الله في «فتاويه» أنه لا يصح، قال: قيام النكاح بين المرأة والزوج الثاني يمنع صحة القضاء بالنكاح للزوج الأول. وسمعت عن الشيخ الإمام ظهير الدين الحسن بن علي رحمه الله أن هذه المسألة على وجهين: إن كان الزوج الثاني غائباً لا يصح قضاؤه؛ لأن هذا حكم بفساد نكاح الزوج الثاني والقضاء على الغائب لا يجوز. وإن كان الزوج الثاني؛ حاضراً يصح قضاؤه وبطل نكاح الثاني لأنه لما قضى ببطلان تلك اليمين ظهر أن الطلقات الثلاث لم تقع وأن الثاني تزوج بها وهي منكوحة الأول. وإذا قال: كل امرأة أتزوجها طالق ثلاثاً، فتزوج امرأة وطلقها ثلاثاً، ثم ترافعا إلى قاض يعتقد مذهب الشافعي، فحكم ببطلان تلك اليمين هل يصح حكمه؟ فاعلم بأن هذه المسألة اختلف المشايخ فيها، أكثرهم على أن الزوج إن لم يكن دخل بها حتى طلقها ثلاثاً لا يصح حكمه لانعدام (226ب1) دعوى صحيحة؛ لأنه لا يمكن دعوى حقوق النكاح بعد انقطاعه، وههنا انقطع النكاح بلا خلاف عندنا بالطلاق المعلق، وعند الشافعي رحمه الله بالطلاق المرسل وبدون الدعوى لا يصح الحكم. وإن كان الزوج قد دخل بها بعد النكاح ثم طلقها ثلاثاً وادعت هي نفقة العدة الواجبة بالطلقات المرسلة بعد الدخول والزوج ينكر ذلك بناء على اعتقاده وقوع الطلاق المعلق عقيب النكاح لاعتقاده صحة اليمين. فإذا قضى ببطلان تلك اليمين ووقوع الطلاق المرسل ونفقة العدة عليها ينفذ قضاؤه؛ لأن قضاءه حصل في فصل مجتهد فيه وقد تقدمه دعوى صحيحة. وفي «فتاوى النسفي» سئل عن حنفي قال: إن تزوجت امرأة فهي طالق ثلاثاً، فتزوج امرأة ثم ترافعا إلى قاض حنفي فبعثها إلى عالم شفعوي المذهب ليسمع خصومتهما ويقضي بينهما، فأمره بذلك فقضى ذلك العالم الشفعوي ببطلان اليمين وصحة النكاح هل

يجوز؟ قال للسائل: هل أخذ القاضي الأول على هذه الحادثة شيئاً، قال: نعم، قال: إذا قضى الثاني باطل؛ لأن القاضي إذا أخذ على القضاء مالاً، فقد عمل لنفسه فلم يكن قضاء فلم ينفذ.r قيل: إن أخذ القاضي من صاحب الحادثة أجر مثل الكتابة هل يصح الحكم من المكتوب إليه، قال: نعم، وإن لم يأخذ القاضي هذا القدر من الأجر كان أفضل. قيل: وهل يحتاج لصحة ذلك إلى إجازة القاضي الأول، قال: العرف على هذا أنه يرفع إليه، ولكن في الحكم لا حاجة إلى ذلك لأنه فعل بأمره. وفي «مجموع النوازل» : سئل شيخ الإسلام أبو الحسن عطاء بن حمزة رحمه الله عن رجل غاب عن امرأته غيبة منقطعة وقد كان النكاح بينهما بشهادة الفسقة هل يجوز إلى القاضي أن يبعث للقاضي الشفعوي ليبطل هذا النكاح بهذا السبب. قال نعم، وللقاضي الحنفي أن يفعل ذلك نفسه أخذاً بهذا المذهب، وإن لم يكن هذا مذهبه، فقد ذكر في «الكتاب» القاضي إذا قضى بشيء ثم ظهر أنه قضاء بخلاف مذهبه إنه ينفذ قضاؤه، وقد ذكرنا هذه المسألة من قبل. قال فروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه صلى بالناس للجمعة ثم أخبر بوجود الفأرة في بئر الحمام وقد كان اغتسل فيه وكان ذلك بعد تفرق الناس فقال نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة أن الماء إذا بلغ قلتين لا يحمل خبثاً ولم يكن مذهبه. وفيه أيضاً: وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن تزوج امرأة بغير ولي وطلقها ثلاثاً بعدما وطئها ثم تزوجها ثانياً بتزويج الولي وارتفعا إلى القاضي وقضى القاضي بأن النكاح الأول لم يقع صحيحاً لعدم الولي وأن الطلقات الثلاث لم تقع، وأن النكاح الثاني بتزويج الولي الأول قد صح هل يصح قضاء القاضي على هذا الوجه، قال: لا أرى ذلك؛ لأن محمداً رحمه الله هو الذي يشترط الولي ثم هو يقول في الكتاب: لو طلقها ثلاثاً ثم أراد أن يتزوجها، فإني أكره له ذلك، وفيه نظر، لأن الشافعي فيه مخالف فإنه بانعقاد النكاح بدون الولي، فيكون قضاء القاضي، في مُجتَهَدٍ فيه، ولكن على خلاف رأي القاضي، وإنه صحيح على قول أبي حنيفة رحمه الله على ما مر، قيل له: فإن كتب الحنفي بذلك إلى عالم شفعوي لا يرى انعقاد النكاح بدون الولي حتى يعقد فيما بينهما ثم يقضي القاضي بذلك قال: إن أخذ القاضي المكاتب.... المكتوب إليه مالاً من المقضي له لا يصح ذلك، وقد مثّل هذا، قيل له: إن لم يأخذ بذلك شيئاً وقضى المكتوب إليه بذلك هل يصح قضاؤه؟ قال نعم. قيل له: وهل يظهر له بذلك القضاء أن الوطء في النكاح الأول كان ضداناً أو فيه شبهة، وإن كان بينهما ولد هل يكون فيه خبث قال لا لأنهما حنفيّان يعتقدان صحة ذلك النكاح، وقضاء هذا القاضي كان لما في حق إبطال الطلقات الثلاث، فلا يتعدى عنهما إلى حكم آخر.

الفصل السادس والعشرون: في المتفرقات

(قضاء القاضي في مسألة العجز عن النفقة وأمثالها) وفيه أيضاً: وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عمن غاب عن زوجته غيبة منقطعة ولم يخلف نفقتها فرفع الأمر إلى القاضي فكتب القاضي إلى عالم يرى التفريق بالعجز عن النفقة ففرّق بينهما هل يصح؟ قال: نعم إذا تحقق العجز، قيل فإن كان للزوج ههنا عتاد ومتاع وأملاك هل يتحقق العجز؟ قال: نعم إذا لم يكن جنس النفقة؛ لأن بيع هذه الأشياء للنفقة لا يجوز؛ لأنه قضاء على الغائب هكذا نقل عنه وفيه نظر، والصحيح: أنه لا يصح قضاؤه إذ العجز لا يعرف حالة الغيبة لجواز أن يكون في يديه مال وهو يقدر على أن يبعث إليها بنفقتها، فلا يبعث فيكون هذا ترك الإنفاق لا العجز عن الانفاق وترك الإنفاق، من الحاضر لا يوجب التفريق بالاتفاق فمن الغائب أولى فلم يكن قضاؤه في المجتهد فلا ينفذ. فإن رفع قضاءه إلى قاض حنفي فأجاز قضاءه هل ينفذ ذلك القضاء؟ والصحيح: أنه لا ينفذ؛ لأن هذا الفصل ليس بمجتهد لما ذكرنا أن العجز لم يثبت. الفصل السادس والعشرون: في المتفرقات في «المنتقى» عن محمد رحمه الله ليس للرجل أن يزوج أمة ابنه الصغير من عبد ابنه الصغير. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمه الله: الوصي يزوج أمة اليتيم من عبد اليتيم وكذلك الأب؛ ابن سماعة عن محمد: تزوج امرأة على الألف التي له على فلان فالنكاح جائز فإن مات أخذ الزوج بالألف، وإن شاءت أخذت فلان، ويأخذ الزوج حتى يوكلها بقبضها منه. وعنه أيضاً: إذا قال لامرأته: تزوجتك على الألف التي لي على فلان أتى ببينة ورضيت بذلك، فإذا أخذت زوجها بالألف أخذته إلى بينة. إبراهيم عن محمد رحمه الله: إذا قال الرجل لغيره: زوجتك أمتي هذه وبعتك عبدي هذا بألف درهم، فقال هذا الغير: قبلت البيع ولا أقبل النكاح فهو باطل. رجل جاء إلى معتدة الغير وقال: أنفق عليك ما دمت في العدة على أن تزوجي نفسك مني إذا انقضت عدتك، فرضيت به المرأة فأنفق عليها، حتى انقضت عدتها كان له أن يرجع عليها بما أنفق زوجت نفسها أو لم تزوج. وفي «فتاوى الفضلي» لأنها رشوة معنًى، والسبيل في الرشوة (الرد، تزوج) أو لم يزوج في «فتاوى الردة» ، وحكي عن بعض المشايخ أن الزوج إنما يرجع إذا شرط الرجوع عند الإنفاق بأن قال: أنفق عليك بشرط أن تزوجيني نفسك مني، فإن لم تفعلي أرجع عليك بما أنفقْ أما بدون شرط الرجوع لا يكون له حق الرجوع والأول أصح (227أ1) هذا إذا أنفق عليها بشرط التزوج، فأما إذا أنفق عليها من غير هذا الشرط ولكن عُلِمَ عُرفاً أنه ينفق بشرط أن تزوج نفسها منه اختلف المشايخ فيه، منهم من قال: يرجع على قياس ما ذكره الفضلي؛ لأن المعروف كالمشروط

وهو عندنا. قال الصدر الشهيد رحمه الله: الصحيح أنه لا يرجع؛ لأنه أنفق على طمع التزوج لا على شرط التزوج فلا يكون في معنى الرشوة. ومن هذا الجنس: إذا قال الرجل: اعمل معي في كرمي هذه السنة حتى أزوجك ابنتي، فعمل معه السنة كلها، ثم بدا للرجل أن يزوج ابنته منه هل يجب للعامل عليه مثل أجر عمله؟ وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: لا يجب، وبعضهم قالوا: يجب، وهو الأشبه، وكذلك اختلفوا فيما عمل العامل ابتداءً من غير.... البنت إيّاه بالعمل بشرط التزوج، ولكن علم أنه إنما يعمل معه طمعاً في التزويج. وعلى هذا إذا قال الرجل: اعمل معي في كرمي حتى أقفل في جعل كذا وكذا ثم أبى أن يفعل. إذا تزوج امرأتين على ألف درهم وإحداهما لا تحل له بأن كانت ذات زوج، أو معتدة من زوج، أو محرّمة عليه برضاع أو مصاهرة، فعند أبي حنيفة رحمه الله: الألف كلها مهر التي تحل له، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: تُقسم الألف على مهرهما، فمهر التي تحل لها حصتها من ذلك، فهما احتجا على أبي حنيفة رحمه الله بفصلين أحدهما: أنا أجمعنا على أنه لو دخل بالتي لا تحل له يلزمها مهر مثلها لا يجاوز به حصتها من الألف. والمسألة مذكورة في «الزيادات» ، وهذا بذلك على اختيار انقسام المهر. الثاني: أنه لا يلزمه الحد بوطء التي لا تحل له مع العلم، وهذا يدل على دخولها تحت العقد، ومن ضرورة دخولها تحت العقد انقسام البدل المسمى. فأبو حنيفة رحمه الله يقول انقسام المهر من حكم المعاوضة والمساواة في الدخول في العقد؛ والمحرمة لم تدخل تحت العقد؛ لأنها ليست بمحل لعقد النكاح، بيانه أن النكاح يختص لمحل الحل لأن موجبه ملك الحل، وبين الحل والحرمة تناف وأما إذا دخل بالتي لا تحل له ذكر في نكاح «الأصل» لها مهر مثلها مطلقاً، وهو الأصح على قول أبي حنيفة رحمه الله، وما ذكر في «الزيادات» قولهما، وبعد التسليم بقول المنع من المجاورة لمجرد التسمية ورضاها بالعدد المسمى لا بانعقاد العقد، وذلك موجود في حق التي لا تحل له فأما الانقسام باعتبار المعاوضة في الدخول تحت العقد، والتي تحل له من المحصنة بالدخول تحت العقد، وأما فصل سقوط الحد قلنا سقوط الحد عند أبي حنيفة رحمه الله لا تحل صورة العقد لا لأجل انعقاده، وقد وجد صورة العقد في حق التي لا تحل له، فأما انقسام البدل من حكم انعقاد العقد. في «المنتقى» إبراهيم عن محمد رحمه الله: رجل زوج امرأة على خمسة دراهم وصالحته من الخمسة على بحر يساوي خمسين درهماً ثم طلقها قبل الدخول فهي بالخيار إن شاءت أمسكت الكر ولا شيء لها غير ذلك، وإن شاءت ردت نصفه ورجعت عليه درهمين ونصف. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل زوج ابنته الصغيرة من ابن كبير لرجل بغير إذنه خاطب عنه أبوه ثم مات أب الصغير قبل أن يخير الابن النكاح؛ بطل النكاح لأن

لأب الصغير أن يفسخ هذا النكاح، لأنه في هذا النكاح قائم مقام الصغيرة، والصغيرة لو كانت كبيرة فزوجت نفسها من ابن كبير لرجل بغير إذنه خاطب عنه أبوه كان لها أن تفسخ النكاح قبل إجازة الابن فكذا الأب الذي هو قائم مقامها، وإذا كان للأب ولاية الفسخ جعل موته بمنزلة رجوع.، ولو كان مكان الصغيرة كبيرة زوجها بغير إذنها وباقي المسألة بحالها لا يبطل النكاح بموت الأب، لأن الأب لو أراد أن ينقض نكاحها لا يملك لأنه بمنزلة الفضولي، وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله في رجل زوج ابنة له صغيرة من رجل غائب ثم مات الأب وبلغ الزوج النكاح، فأجاز ذلك فهو جائز في قولي، وهذا نص أن بموت الأب لا يبطل نكاح الصغيرة، فهذه الرواية مخالفة لما ذكر أبو الليث رحمه الله في «فتاويه» ، ثم فصل الكبيرة دليل على أن بقاء الفضولي في باب النكاح ليس بشرط لصحة الإجازة، والبيع في هذا بخلاف النكاح ألا ترى أن العاقد الفضولي لو قال: رجعت قبل قبول الآخر عمل رجوعه في البيع، ولا يعمل رجوعه في النكاح وهذا لأن حقوق العقد في البيع ترجع إلى العاقد، وفي النكاح لا يرجع إليه. سئل نصير عن امرأة قالت لرجل: زوجتك نفسي على ألف درهم، فقال الزوج: قبلت النكاح على ألفين، قال: يجوز النكاح في قول محمد رحمه الله، فإن قالت المرأة قبل أن يتفرقا قبلت له ألفين فعلى الزوج ألفان، وإن تفرقا من غير قبول جاز على ألف ولا يلزمه الزيادة، وقال شداد: لا يثبت النكاح وبه قال زفر رحمه الله، ولو قال رجل لامرأة تزوجتك على ألف فقالت المرأة: قبلت النكاح على خمسمائة قال محمد رحمه الله: جاز النكاح ولها خمسمائة، لأنها حطت الفضل عن الزوج، وقال شداد: لا يثبت، وبه قال زفر رحمه الله، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وهذا مثل ما قالوا: في رجل وكل رجلاً بأن يبيع عبده بألف درهم، فباعه بألفين يجوز في قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وفي قول زفر رحمه الله لا يجوز. ذكر في الشراء وسئل نصير عن رجل قال لآخر زوجتك ابنتي على مهر ألف درهم فقال الرجل: قبلت النكاح ولا أقبل المهر فالنكاح باطل وإن قبل النكاح وسكت عن المهر فالنكاح جائز على ما سمى من المهر، وفي شهادات «فتاوى الفضلي» في الوكيل بالنكاح من جهة امرأة إذا زوجها من رجل، أو الأب إذا زوج ابنته البكر الكبيرة أو الصغيرة من رجل بمهر مسمى ثم أبرأ الوكيل أو الأب الزوج على كل المسمى أو البعض عن مهرها على شرط الضمان قال: إذا لم تجز المنكوحة الهبة أو البراءة لم يلزمها الضمان؛ لأن الضمان للزوج انما يكون فيما له على غيره، وهذا إنما ضمن له أن يدفع إليه مثل ما وهب له من ماله، وهذا لا يجوز كمن قال لغيره: ضمنت لك أن أدفع إليك من مالي لم يلزمه بهذا الضمان شيء كذا هاهنا. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل تزوج بأمة الغير ثم تزوج امرأة حرة على هذه الأمة بإذن مولاها أو بغير إذن مولاها لكن بلغه الخبر، وأجاز ذلك أو أمر الزوج المولى أن يزوجه حرة على رقبة أمته هذه، ففعل فإن نكاح (227ب1) الحرة

صحيح في هذه الوجوه كلها، ولا يفسد نكاح الأمة؛ لأنه لو فسد إنما يفسد لعلة أن (في) النكاح الزوج ملك رقبتها ولم يملك. بيانه: ان تسمية مال الغير مهر صحيح، ووجب على الزوج العين أو القيمة وصار المولى بالإجازة قاضياً ديناً على الزوج بأمره، ومن قضى دين غيره بأمره يخرج المقضي به عن ملك القاضي إلى ملك المقضي له من غير أن يدخل في ملك المقضي عنه، ولأن الزوج لو ملكها ملكها بالاستقراض، لأنه لما جعل رقبتها مهرها فقد طلب من المولى أن يقرضها، والمولى بالإجازة أقرضها فلا وجه إليه، لأن القرض لا يفيد الملك قبل القبض ولم يوجد القبض من الزوج وقبض المرأة لا يقع للزوج؛ لأنها قابضة غير حقها، وملكها لا يتوقف على القبض بل يثبت بمجرد العقد، والإنسان في قبض حقه لا يصلح نائباً على الغير فانقلبت الجارية من ملك المولى إلى ملك المرأة من غير أن تدخل في ملك الزوج، وعلى الزوج قيمتها للمولى، إما لأن المولى قضى دين الزوج بأمره من مال نفسه فيستوجب بدله، والحيوان ليست من ذوات الأمثال، فيستوجب القيمة، وإما لأن الزوج صار مستقرضاً الجارية من المولى حيث جعلها مهرها، والمستقرض مضمون. وإن قبضتها الحرة من الزوج ثم طلقها الزوج قبل الدخول بها حتى وجب عليها رد نصف الأمة على الزوج لا يفسد نكاح الأمة ما دامت في يد الحرة بناء على ما قلنا: إن الصداق إذا كان مقبوضاً لا ينفسخ الملك في نصفه بنفس الطلاق قبل الدخول بل يحتاج فيه إلى القضاء وإلى رد المرأة فإن ردت النصف على الزوج بقضاء أو بغير قضاء فسد نكاح الأمة، وكان ينبغي أن لا يفسد؛ لأن الجارية خرجت عن ملك المولى إلى ملك الحرة من غير أن تدخل في ملك الزوج، فعند ارتفاع السبب يجب أن تعود إلى ملك المولى من غير أن يدخل في ملك الزوج، والجواب قضية الأصل ما قلتم، ولكن تركنا هذا الأصل لضرورة؛ لأن المولى استحق البدل على الزوج لو عاد نصف الجارية إلى ملك المولى يجتمع البدل والمبدل في ملك رجل واحد، وإنه لا يجوز على أنا نقول: سبب الملك للزوج في الجارية موجود ههنا، وهو الاستقراض لكن لم يثبت الملك للزوج فيها لمانع وهو ملك الحرة فيها مهر، فإذا زال ملك الحرة يملكها الزوج بهذا السبب والعود إلى ملك من خرج إنما يكون في موضع لم يوجد في حق غيره سبب ملك قائم. بعد هذا ينظر إن كان القاضي قضى للمولى بقيمة الجارية، فلا سبيل له على الجارية. وإن لم يقض كان للمولى الخيار إن شاء استرد النصف من الزوج وضمنه النصف، وإن شاء ترك النصف على الزوج وضمنه جميع القيمة، وإنما كان للزوج حق استرداد الجارية مع أن الزوج يملكه بالاستقراض؛ لأنه ملك فاسد بسبب قبض فاسد، فإن استقراض الحيوان فاسد في نفسه، إلا أنه ما دام تبعاً للعقد لم يثبت فيه حكم الفساد؛ فإذا انفصل بالطلاق ظهر حكم الفساد، والفاسد يستحق الرد شرعاً. ولو أن زوج الأمة قال لمولاها: زوجتي حرة ولم يقل بهذه الأمة صح النكاح، فصارت أمته مهراً للحرة ولا قيمة لمولاها على الزوج؛ لأنه متبرع في جعلها مهراً؛ لأن

العدة في باب النكاح ترجع إلى الزوج لا إلى المأمور، والزوج لم يأمره بإمهارها ومن قضى دين غيره بغير أمره لا يستحق عليه البدل. ألا ترى لو زوجها إياه على ألف درهم وقضاها الألف من ماله كان متبرعاً فكذا ههنا، بخلاف المسألة الأولى؛ لأن هناك الزوج بالإمهار صار مستقرضاً الجارية منه فيلزمه قيمتها عند الصرف إلى قضاء دين نفسه، وبخلاف الوكيل بالشراء إذا نقد الثمن من مال نفسه، فإنه يرجع على الموكل وإن لم يأمره الموكل بالنقد من مال نفسه؛ لأن العهدة في باب الشراء ترجع إلى المأمور، فلم يصر بالقضاء متبرعاً فإن قبضت الحرة الأمة ثم طلقها قبل الدخول بها لا يفسد نكاح الأمة؛ لأنها تعود إلى ملك المولى ههنا لا إلى ملك الزوج؛ لأن المولى قضى دين الزوج متبرعاً، ومن قضى دين غيره متبرعاً في عقود المعاوضات ثم انفسخ ذلك العقد بوجه من الوجوه عاد المقضي به إلى ملك القاضي بخلاف ما تقدم لأن هناك قضاء الدين حصل بأمر الزوج، ألا ترى أن من قضى الثمن عن الغير متطوعاً ثم انفسخ البيع يعود الثمن إلى ملك القاضي. ولو قضى بأمر المشتري يعود إلى ملك المشتري كذا ههنا. في «مجموع النوازل» : امرأة أرضعت رضيعين أحدهما كافر والآخر مسلم فاشتبها عليها وعلى الوالدين، ولا يعرف الكافر من المسلم، فهما مسلمان ولا يرثان من أبويهما، أما هما مسلمان لأن الغلبة للإسلام، وأما لا يرثان من أبويهما فلمكان الشك. فيه أيضاً: سئل عن السكران إذا زوج ابنته بأقل من مهر مثلها قال: لا يجوز بلا خلاف، بخلاف الصاحي على قول أبي حنيفة رحمه الله، والعرف أن أبا حنيفة رحمه الله إنما جوز ذلك من الصاحي؛ لأنه ذو شفقة كاملة ورأي كامل، فالظاهر أنه تأمل غاية التأمل، فرأى في نقصان مهرها منفعة تربو عليه، هذا لا يتأتى في السكران إذ ليس له رأي كامل يقف به على المنافع والمضار. سئل الشيخ الإمام الزاهد أبو الحسن الرشيفعي رحمه الله عن المناكحة بين أهل السنة وبين أهل الاعتزال قال: لا يجوز؛ لأنهم عندنا كفار؛ لأن من مذهبهم أن من يعتقد غير مذهب الإعتزال فهو ليس بمسلم. امرأة زوجت نفسها بمهر مثل أمها، والزوج لا يعلم قدر مهر أمها فالنكاح جائز بمقدار مهر أمها. ولو طلقها الزوج قبل الدخول بها، فلها نصف ذلك، وللزوج الخيار إذا علم مقدار مهرها، كما لو اشترى شيئاً بوزن هذا الحجر ثم علم بوزنه، ولا خيار للمرأة، والبيع نظير النكاح لو باع بما باع فلان جاز؛ لأن الوقوف على ما باع فلان ممكن بخلاف ما لو باع كما يبيع الناس؛ لأن الوقوف عليه غير ممكن. في «مجموع النوازل» عن شيخ الإسلام رحمه الله: في رجل يدعي على امرأة أنها منكوحته وحلاله وهي تقول: كنت امرأته وقد طلقني وانقضت عدتي (228أ1) وتزوجت بهذا الرجل الثاني والثاني يدعي ولم يقم المدعي بينة على دعواه فتوسط المتوسطون بين المدعي وبين هذه المرأة حتى اختلعت من المدعي بمال واعتدت هل يحل لهذا الرجل الثاني من غير تجديد العقد قال لا حاجة إلى الاعتداد وإلى تجديد العقد ولا صحة لهذا

الخلع، لأن نكاح المدعي لم يثبت فكيف يصح الخلع منه، وإقدام المرأة على الإختلاع وأن جعل إقراراً منها لنكاح المدعي دلالةً إلا أن إقرارها بالنكاح في حق الزوج الثاني غير عامل لو أقرت صريحاً، فكيف إذا أقرت دلالة؟ فلم يثبت نكاح المدعي، ولم يصح الخلع منه ولم يجب اعتداد، وبقي نكاح الثاني صحيحاً كما كان. ادعى زيد وعمرو نكاح امرأة فأقرت المرأة لزيد فقضى القاضي بالمرأة لزيد بحكم إقرارها فقال القاضي بعد ذلك للمرأة: كان زوجك القديم عمرو ولك منه أولاد ثم أقررت بالنكاح لزيد وكيف الحال فقالت: بلى كان زوجي القديم عمرو، إلا أنه طلقني وانقضت عدتي وتزوجت بزيد بعد انقضاء عدتي، وأنكر عمرو أنه طلقها، فإن كان للقاضي علماً أن هذه المرأة كانت امرأة عمرو لها منه أولاد سلمها إلى زيد، وكذلك لو أن القاضي سألهما حين ادعيا نكاحها بهذا السؤال قبل إقرارها بالنكاح لزيد، فأجابت على نحو ما بينا وأقرت بالنكاح لزيد فالقاضي لا يقضي بالنكاح لزيد ما لم يثبت زيد طلاق عمرو. إذا زوج الرجل أخته ثم قال لها وقت الزفاف هل أجزت ما فعلت فقالت: أجزت، وقد كان الأخ باع أملاكها فقالت: ما علمت ببيع الأملاك، وما أراد به بقوله لي أجزت فالقول قولها وصرف قولها أجزت إلى ترتيب الزفاف. زوج ابنة البالغ امرأة فذهب الابن إلى بيت الصهر وسكن معهم، وإذا سئل أين تسكن يقول في بيت صهري فهذا من أجازه للنكاح كذا حكى شيخ الإسلام الأوزجندي رحمه الله. صبي عامل تزوج امرأة وغاب، وتزوجت المرأة تاجراً فحضر الصبي، وقد بلغ وأجاز النكاح الذي باشره في حال صغره، ينظر إنّ كانت المرأة قد تزوجت التاجر قبل بلوغ الصبي وإجازته، صح النكاح ويتضمن إقدامها على النكاح الثاني فسخاً للأول، وإن كانت قد تزوجت التاجر بعد إجازة الصبي وبلوغه؛ إن كان النكاح من الصبي بمهر النكاح أو بأكثر مقدار يتغابن الناس فيه لا يصح النكاح الثاني لأن نكاح الصبي في هذه الصورة قد انعقد وعمل إجازته بعد البلوغ، وصارت المرأة امرأة الصبي ولا يصح نكاحها مع الثاني، وإن كان نكاحها بأكثر من مهر المثل مقدار ما لا يتغابن الناس فيه، فإن كان للصغير أب أوجد، فكذلك لأن نكاحه قد انعقد لأن له مجيز وهو الأب أو الجد، لأنهما يملكان مباشرة هذا العقد على الصغير فيملكان إجازته وهذا الجواب إنما يستقيم على قول أبي حنيفة رحمه الله ما عرف، وإن لم يكن للصغير أب أو جد فنكاحها مع الثاني صحيح لأن نكاح الصبي في هذه الصورة لا ينعقد لأنه لا مجيز له فيجوز نكاحها مع الثاني. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله وفي «النوازل» امرأة وهبت مهرها لزوجها ثم ماتت بعد مدة وطلبت ورثتها مهرها من زوجها، وقالوا: كانت هبتها المهر في مرض موتها فلم تصح فقال الزوج: لابل كانت الهبة في الصحة، فالقول قول الزوج لأنهم يدعون عليه الدين وهو ينكر، وفي المسألة نوع إشكال لأن المهر كان ثابتاً فالزوج يدعي السقوط وهم ينكرون ذلك والجواب على المهر كان ثابتاً ولكن حقاً للمرأة لاحقاً للورثة فهم يدعون الاستحقاق لأنفسهم ولم يعرف هذا الاستحقاق لهم، والزوج ينكر فكان

القول قوله، وفيه أيضاً تزوج امرأة على ألف درهم ومهر مثلها ألوف ولم يعلم الأولياء بذلك حتى ماتت المرأة ثم علموا بعد ذلك فليس لهم حق مطالبة الزوج بكمال المهر لأن للأولياء حال حياتها أن يقولوا للزوج إما أن يبلغ مهر مثلها أو يفسخ القاضي النكاح بينكما، أما ليس لهم حق المطالبة بتكميل المهر عيناً فلا يمكن إثبات حق المطالبة بتكميل المهر عيناً، بعد موتها. رجل خطب امرأة إلى أبيها وقال الأب: إن تقرب المهر وذلك كذا وكذا إلى خمسة أشهر أزوجكها فذهب الخاطب واشتغل بالنقد فكان الخاطب يبعث إلى الأب بهدايا فمضى خمسة أشهر ولم يقدر على نقد المهر ولم يزوجه الأب ابنته هل له أن يسترد ما بعث، قال في «مجموع النوازل» : ما بعث على وجه المهر فله أن يسترده إن كان قائماً وقيمته أو مثله إن كان هالكاً، وما بعث على وجه الهدية فله أن يسترده إن كان قائماً وإن كان هالكاً فلا شيء له، ويجب أن تكون هذه المسألة على قياس مسألة الانفاق على معتدة الغير قيل لرجل مرا فلانة فقال ومرا نكاح في سان فهذا لغو من الكلام وله أن يتزوجها متى شاء. ذكر في «مجموع النوازل» : رجلٌ قال لامرأته بمحضر من الشهود جزاك الله خيراً قد وهبت مهركِ أبرأت ذمتي فقالت: أرى فقال الشهود هل تشهدي على هبتك المهر قالت: أرى كراناست هل هي هبة قال في «مجموع النوازل» : هذا الكلام يحتمل الهبة والرد والشهود يقفون على هيأة كلامها بمحضر الكلام إن كان هيأة كلامها هيأة التعزير حمله عليه وإن كان هيأة كلامها هيأة لكلامه والامتناع عن الإجابة يحمل عليه أيضا. إذا قالت المرأة لأبيها فوضت إليك الأمر في المعجل فذهب الأب وأجل المعجل سنه لا يصح غير الأب والجد، ولا يملك قبض صداق الصغيرة وإنما يقبضه القاضي، سأل نجم الدين رحمه الله عن رجلٍ تزوج صغيرةً زوجها أبوها منه ثم غاب الزوج ومات الأب وكبرت الصغيرة وتزوجت بزوج آخر ثم حضر الزوج الأول وادعاها ولم يكن له بينة فلم يقض للأول وقضى بها للثاني فولدت من الثاني بنتاً ولزوج الأول ابن صغير من امرأة أخرى، فأراد الزوج الأول أن يزوج هذه البنت من ابنه الصغير لا يجوز لأن من زعم الزوج الأول أن أم البنت زوجته والابنة ولدت (228ب1) على فراشه فهي ابنته بزعمه فلا يجوز له أن يزوجها من ابنه وأما إذا كبر الابن وأراد ان يتزوج البنت بنفسه من غير تزويج الأب يجوز لأن زعم الأب لا يعتبر في حقه. والصحيح من الجواب أن الابن بعدما كبر أن يصدق الأب في دعواه له أن يتزوج البنت وإن لم يكن يصدقه فله أن يتزوج لأنه لما صدقه فقد زعم أن الابنة وزعم الأب إن كان لا يعتبر في حق الابن فزعم الابن يعتبر في حقه إذا لقنت المرأة بالعربية حتى قالت: زوجت نفسي من فلان وفلان حاضر فقبل وكان ذلك بمحضر من الشهود إلا أن المرأة لم تعرف أن هذا تزويج والشهود يعرفون أنه تزويج فقد قيل بأن النكاح ينعقد، وهذا القائل يقيس النكاح على الطلاق فإن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق وهو لا يعرف أن هذا تطليق، أو قال لعبده: أنت حر وهو لا

يعلم أن هذا تحرير يقع الطلاق والعتاق، وقيل إنه لا ينعقد لأن النكاح معاوضة وتمليك، وفي المعاوضة والتمليك يشترط على المتعاقدين بمعناه كما في البيع والإيجارة وغير ذلك. زوج ابنه البالغ امرأة بغير إقراره، ومات الابن واختلف الأب والزوجة بعد ذلك، فقال الأب: مات الابن قبل أن يخير، وقالت المرأة: لا بل مات بعد الإجازة، فالقول قول الأب والبينة بينة المرأة. الولي ادام وجه وليه فردت النكاح فقال الزوج والولي إنها صغيرة فردها باطل، وقالت هي: أنا كبيرة فروي صحيح، فإن كانت مراهقة فالقول قولها، لأنها أخبرت عما يحتمل ثبوته. إذا ادعى رجل على امرأة أن وليها زوجها منه في حال صغرها وأقام على ذلك بينة وأقامت المرأة بينة أن الولي زوجها منه بعد البلوغ بغير رضاها فالبينة بينة المرأة، لأنها تُثبت أمراً حادثاً وهو البلوغ، وان لم يكن لها بينة فالقول قول المرأة لأنها تنكر الملك، وقيل يجب أن يكون القول قول الزوج، لأن البلوغ حادث فيحال بحدوثه إذا أقرت له، أو مات وهو ما بعد النكاح ولكن الأول أصح لأن البلوغ كما هو حادث فالنكاح أيضاً حادث فيحال بحدوثه إلى أقرب الأوقات وهو ما بعد البلوغ فتعارض الحادثان بقيت المرأة منكرة الملك فكان القول قولها، وكذلك البيع على هذا القياس إذا باع مال ولده ووقع الاختلاف بين الابن وبين المشتري وقال الابن: البيع كان بعد البلوغ وقال المشتري: لا بل كان قبل البلوغ، فالبينة بينة الابن والقول قول الابن أيضاً، لأنه ينكر التمليك عليه. ادعى على امرأة نكاحاً وقال هذه امرأتي وفي يدي وأقام البينة على ذلك، فرجل آخر أقام البينة أنها امرأته وهي في يدي الثاني معاينة، قضى للثاني في المرأة لأن له يد معاين، والآخر مشهود بها والمعاينة أقوى من الخبر، ولو أقام الأول بينة على أنها امرأته وفي يديه وأنه تزوجها وأقام الثاني بينة أنها امرأته وفي يديه، ولا يدري أن المرأة في يد من (قبله) فالمرأة للأول لأن كل واحد منهما أثبت أنها امرأته، وأنها في يده وتفرد الأول بإثبات العقد وعلى قياس ما ذكرنا قبل هذا أن دعوى الرجل أن هذه امرأته دعوى النكاح، يجب أن البنتان لأنهما استويا في الاثبات وهو الانسب. في «فتاوى النسفي» : سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن امرأة نعي إليها زوجها ففعلت هي وأهل الميت ما يفعل أهل المصيبة من إقامة رسم التعرفة واعتدت، فتزوجت بزوج آخر، ثم جاء آخر وأخبرها أن زوجها حيّ، وأني رأيته في بلد كذا، كيف حال نكاحها مع الثاني؟ وهل يسعها أن تقيم معه؟ قال: إن صدقت المخبر الأول لا يمكنها تصديق المخبر الثاني، ولا يبطل نكاح الثاني ويسعها المقام معه، وقيل: إن كان المخبر الأول عدلاً أو كان أكثر رأيها أنه صادق بما أخبر لا يفرق بينها وبين الثاني، وفي «مجموع النوازل» : رجلٌ طلق امرأته ثلاثاً وانقضت عدتها وتزوجت بعبدٍ بغير إذن سيده ودخل بها، ثم أجاز السيد النكاح، فلم

يطأها بعد ذلك حتى طلقها فإنه لا يحل النكاح للزوج الأول حتى يطئها بعد الإجازة، وفيه أيضاً: أمة زوجت نفسها من رجل بغير إذن مولاها على عشرة دراهم ومهر مثلها منه درهم، فوطئها الزوج، فإن أجاز المولى النكاح لم يكن له إلا عشرة دراهم وإن لم يُجِز أخذ مهراً لها وإن أجاز المولى النكاح ثم طلقها قبل أن يدخل بها بعد الإجازة فإن ذلك الوطىء كان بعد الإجازة وإن لم يجز النكاح ولكنه اعتق الأمة وهو يعلم بالنكاح أو لم يعلم جاز النكاح والمهر للمولى. وفيه أيضاً عبد تزوج امرأة على رقبته بغير إذن سيده فقال السيد: أجيز النكاح وأجيز على رقبته النكاح فلها الأول من مهر مثلها ومن قيمة العبد باع منه، وفيه أيضاً: رجل قال لآخر: زوجني امرأة على مائة درهم فزوجه امرأة على ألف درهم ودخل بها ومهر مثلها ألفي درهم فلها الألف لأنها رضيت بالألف، ولو أن امرأة قالت لرجل زوجني على ألف درهم فزوجها على مائة درهم ودخل بها ومهر مثلها ألفي درهم فلها ألفي درهم لأن الوكيل لم يزوجها على ما رضيت به. ادعى على امرأة أن هذه امرأته تزوجها في غرة شهر كذا وأقام على ذلك بينة، وأقامت المرأة بينة أنه أقر بعد هذا التاريخ بثلاثة أشهر أنها حرام عليه وأنها ليست بامرأته إقراراً صحيحاً فهذا دفع صحيح حتى يحلف بالله ما أردت به الطلاق فإن نكل تندفع الخصومة عن المرأة والله أعلم.

كتاب الطلاق

كتاب الطلاق هذا الكتاب يشتمل على سبعة وعشرين فصلاً. 1 * في بيان أنواع الطلاق. 2 * في بيان شرط صحة الطلاق وبيان حكمه. 3 * في بيان من يقع طلاقه ومن لا يقع طلاقه. 4 * فيما يرجع إلى صريح الطلاق. 5 * في الكنايات. 6 * في إيقاع الطلاق بالكتابات. 7 * في الشركة في الطلاق. 8 * في الطلاق الذي يكون من غير الزوج فيجزه الزوج. 9 * في الاستثناء في الطلاق. 10 * في إيقاع الطلاق على امرأة بعينها ثم الرجوع عنها بالإيقاع على أخرى. 11 * في إضافة الطلاق إلى الأوقات. 12 * في الرجل يوقع الطلاق ثم يقول: لي امرأة أخرى والمطلقة هي الأخرى. 13 * في طلاق الغاية والظرف. 14 * في الشك في إيقاع الطلاق وفي الشك في عدد ما وقع وفي الإيجاب المبهم. 15 * في إيقاع الطلاق بالمال. 16 * في الخلع. 17 * في الأيمان في الطلاق. 18 * في الطلاق الذي يقع بقوله: أول امرأة أتزوجها وبقوله: آخر امرأة أتزوجها. 19 * في الشهادة في الطلاق والدعوى والخصومة. 20 * في طلاق المريض.

21 * في التعليقات التي هي إيقاع في الحال. 22 * في مسائل الرجعة. 23 * في مسائل الظهار وكفارته.

الفصل الأول: في بيان أنواع الطلاق

الفصل الأول: في بيان أنواع الطلاق فنقول الطلاق نوعان: مسمى وبدعي والمسمى نوعان: مسمى من حيث العدد، ومسمى من حيث الوقت المسمى من حيث العدد نوعان: حسن وأحسن وأما الأحسن أن يطلقها واحدة في وقت السنة ويتركها حتى تنقضي عدتها لأنه أبعد عن العدم فيكون أحسن ضرورة، وأما الحسن أن يطلقها ثلاثاً في ثلاثة (229أ1) أطهار لأن الإنسان قد يحتاج إلى حسم باب النكاح حتى يتخلص عنها بالكلية. ولكن إنما يحتاج إلى ذلك إذا أخرت نفسها فوجدت نفسه بمال لا يتبعها إذا لم يجد إلى النكاح سبيلاً، فقدر الشرع زمان التجربة بثلاثة أطهار فصار إيقاع الثلاث في ثلاثة الأطهار محتاجاً إليها فكان حسناً، وأما المسمى من حيث الوقت أن يطلقها طاهراً من غير جماع، أو حاملاً قد استبان حملها، وهذا لأن الأصل في الطلاق الحظر والإباحة باعتبار الحاجة ودليل الحاجة الإقدام على الطلاق في زمان كمال الرغبة فيها، وزمان كمال رغبة الزوج فيها زمان الحبل يشفعه على الولد فزمان الطهر الذي لم يجامعها لأنه لم يحصل مقصود منها في هذا الطهر، أما زمان الحيض زمان تغربه عنها شرعاً وطبعاً، والطهر الذي جامعها فيه زمان فل رغبته فيها لتحصيل مقصوده فيها في هذا الطهر فكان الطلاق في الطهر الذي لم يجامعها فيه واقعاً عن حاجة فيكون سبباً، وفي الطهر الذي جامعها فيه وفي زمان الحيض واقعاً لا عن حاجة فيكون بدعياً ثم ظاهر ما يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» في هذه المسألة يدل على أنه يطلقها متى طهرت من الحيض. فإنه قال: يطلقها إذا طهرت من الحيض قبل أن يجامعها، واختار بعض مشايخنا تأخير الإيقاع إلى أحسن الطهر ليكون أبعد من تطويل مدة العدة وهو رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله، ثم الطهر الذي لم يجامعها فيه إنما يكون وقتاً للطلاق المسمى إذا لم يحتاج معها في الحيض الذي سبقه هذا الطهر، فإن الجماع في حالة الحيض، والطلاق في حالة الحيض يخرجان الطهر الذي عقبته من أن يكون محلاً للطلاق المسمى، نص عليه في «الزيادات» وهذا إذا لم يراجعها حين طلقها في حالة الحيض فإذا راجعها منذ ذكر في الأصل أنها إذا طهرت ثم حاضت ثم طهرت طلقها إن شاء وهذا إشارة إلى أن في المراجعة لا يعود الطهر الذي عقيب الحيض محلاً للطلاق المسمى، وذكر الطحاوي رحمه الله أنه يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة وهذا إشارةً إلى أنه يعود محلاً للطلاق السني. قال أبو الحسن رحمه اللَّه ما ذكر الطحاوي قول أبي حنيفة رحمه

الله، وما ذكر في الأصل قولهما، ولو طلقها في حالة الحيض ثم تزوجها ثم أراد أن يطلقها في الطهر الذي يلي هذه الحيضة فهذا الطلاق يكون سبباً بالاتفاق، وهذا كله إذا كانت المرأة مدخولاً بها وهي ممن تحيض، وإن كانت ممن لا تحيض لصغر أو كبر طلقها متى شاء واحدة، وإن كان عقيب الجماع وكذلك الحامل، وقال زفر رحمه الله يفصل بين الطلاق والجماع في حق الآيسة والصغيرة بشهر. والصحيح مذهب علمائنا الثلاثة رحمهم اللَّه، لأن الطلاق في حق ذوات الأمر في الطهر الذي جامعها فيه إنما كان حراماً لأنه ربما يكون سبباً للندم بأن يظهر بها حبل فيندم على طلاقها وإنما يباح الإيقاع بشرط أن يأمن الندم، هذا المعنى لا يتأتى بحق الآيسة والصغيرة، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني: فكان شيخنا رحمهما الله يقول: هذا إذا كانت صغيرة لا يرجى منها الحيض والحبل وأما إذا كانت صغيرة يرجى منها الحيض والحبل فالأفضل أن يفصل بين جماعها وطلاقها بشهر. وأما البدعي فنوعان: بدعي لمعنى يعود إلى العدد، بدعي لمعنى يعود للوقت فالذي يعود إلى العدد أن يطلقها ثلاثاً في طهر واحد بكلمة واحدة أو بكلمات متفرقة، أو يجمع بين التطليقتين في طهر واحد بكلمة أو بكلمتين متفرقتين، وأما الذي يعود إلى الوقت أن يطلق المدخول بها وهي من ذوات الأقراء في حالة الحيض لم يكن مكروهاً، لأنه إيقاع بحاجة لأن جميع الأزمنة في حق غير المدخول بها زمان كمال الرغبة فيها لأنه لم يقض وطهره منها والمرء تواق بمعنى شواق إلى ما لم ينل وبه فارق المدخول بها، ولو طلق غير المدخول بها ثلاثاً يكون بدعياً ففي حق العدد سوى بين المدخول بها وغير المدخول بها وفي حق الوقت فرق بينهما فجعل الطلاق في حالة الحيض مكروهاً في حق المدخول بها، ولم يجعله مكروهاً في حق غير المدخول بها لأن الجميع إنما يكره لأنه بسبب يحسم باب النكاح وأنه لا يختلف، فأما الإيقاع في حق المدخول بها في زمان الحيض كره لأنه زمان التفرقة عنها فيكون إيقاعاً لا عن حاجة وجميع الأزمة في حق غير المدخول بها زمان كمال الرغبة فيها فكان الإيقاع عن حاجة فافترقا، والمرأة التي خلى بها زوجها في حق مراعاة وقت الطلاق بمنزلة المدخول؛ لأن الخلوة أقيمت مقام الدخول في بعض الأحكام فكذا في حق هذا الحكم احتياطاً، وطلاق الناس ليس بسني في ظاهر الرواية، وفي «الزيادات» أنه بسني والخلع سني كان في حالة الحيض أو في غير حالة الحيض. وفي «المنتقى» ذكر مسألة الخلع بهذه الصورة ولا بأس بأن يخالعها في الحيض إذا رأى منها ما يكره وفيه أيضاً: فلا بأس بأن خير امرأته في حالة الحيض فلا بأس لها أن تختار نفسها في حق الحيض. وفيه أيضاً: أدركت واختارت نفسها فلا بأس للقاضي أن يفرق بينهما في حالة الحيض، وإذا قال لامرأته المدخول بها وهي من ذوات الأقراء أنت طالق للسنة وقعت تطليقة للحال إن كانت ظاهرة من غير جماع، وإن كانت حائضاً، أو كانت في طهرٍ جامعها، لم يقع للحال بِسُني حتى يأتي وقت السنة، ولو قال لها: أنت

طالق ثلاثاً لسُنة فهو على وجوه: إن نوى أن يقع عند كل طهرٍ تطليقه فهو على ما نوى، فكذلك إذا لم ينو شيئاً فهي طالق عند كل طهر تطليقة وإن نوى أن يقع الثلاث جملة للحال صحت نيته لأن وقوع الثلاثه جملة عرف بسنة رسول الله عليه السلام ولو نوى أن يقع عند رأس كل شهر تطليقة فهو على مانوى، لأن قوله محتمل يحتمل أن يكون للسنة كاملاً بأن يكون رأس الشهر زمان الطهر، فيكون سنة وقوعاً وإيقاعاً ويحتمَل أن يكون رأس الشهر زمان الحيض، فيكون سنة وقوعاً لا إيقاعاً. ولو نوى ما هو بدعة حقيقة وهو الثلاث جملة في الحال يقع ثلاثاً. وإذا نوى (229ب1) ما تردد حاله بين السنة والبدعة أولى، ولو كانت آيسة أو صغيرة مدخولة فقال لها: أنت طالق ثلاثاً للسنة وقعت في الحال وطئها في الحال أو لم يطأها ويقع بعد شهر أخرى لأن الشهر في حق الأمة والصغيرة أقيم مقام الحيض في ذوات الأقراء فكما أن في حق ذوات الأقراء يقع أخرى إذا طهرت من الحيض فكذا في حق الآيسة والصغيرة إذا مضى شهر. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله إذا قال لأمرأته: أنت طالق كل شهر للسنة كانت قد أيست من المحيض تعتد بالشهور فهي طالق ثلاثاً عند كل شهر واحدة، وإن كانت تعتد بالحيض فهي طالق واحدة إن نوى ثلاثاً فيكون ثلاثاً بمنزلة قوله كل يوم. وفي «الأصل» إذا طلق امرأته في طهر لم يجامعها فيه واحدة ثم راجعها في ذلك الطهر بالقول فله أن يطلقها ثانياً في ذلك الطهر، وكان سنة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف رحمه الله لا يكون سنة، وعن محمد رحمه الله روايتان وعلى هذا الاختلاف إذا راجعها بالقبلة والملامسة فأبو يوسف رحمه الله يقول: الشرط للفصل بين طلاق السنة الحيضة الكاملة ولم يوجد ذلك ههنا. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الفصل بالحيضة إنما يعتبر إذا كانت الثانية تقع في العدة وبالمراجعة ارتفعت العدة فكانت الثانية بمنزلة ابتداء الإيقاع وقد حصل في طهر لا جماع فيه فيكون سنة. ثم الفقه لأبي حنيفة رحمه الله في المسألة أن إيقاع الثانية حصل عن حاجة فيكون سنة كما لو كان مكان الرجعة نكاحاً. بيانه: أن الحاجة إلى إيقاع الثانية عليها حاجة الخلاص عنها عند عجزه عن الإمساك بالمعروف وقد تجددت هذه الحاجة بالمراجعة فإنه عاد حقها في القسم فيجب عليه الإمساك بالمعروف. وذكر في «المنتقى» مسألة النكاح على الخلاف أيضاً، وصورة ما ذكر ثمة: إذا قال لامرأته ولم يدخل بها: طالق للسنة وقعت واحدة ساعة ما تكلم، فإن تزوجها وقعت أخرى ساعة تزوجها في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا تقع حتى يمضي شهر كامل من الطلاق الأول، وكذا لو كانت حاملاً فقال لها: أنت طالق ثلاثاً للسنة حتى وقعت واحدة ساعة ما تكلم ولو وضعت حملها بعد ذلك بيوم وتزوجها

تقع أخرى عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لأبي يوسف. وعلى هذا إذا لمسها بشهوة ثم قال لها في حالة الملامسة: أنت طلاق للسنة يقع عليها ثلاث تطليقات على التعاقب عند أبي حنيفة رحمه الله، ولو كان راجعها بالجماع فإن لم تحبل فليس له أن يطلقها أخرى بالإجماع وإن حبلت فله أن يطلقها أخرى عند أبي حنيفة رحمه الله فيكون سبباً، وقال أبو يوسف رحمه الله: ليس له أن يطلقها أخرى، فأبو يوسف رحمه الله مر على أصله أن الشرط للفصل بين طلاقي السنة الحيضة الكاملة، وأبو حنيفة رحمه الله فرق بينما إذا حبلت وبينما إذا لم تحبل. والفرق أنها إذا لم تحبل فهذا طهر جامعها فيه، والطلاق عقيب الجماع في الطهر لا يكون سبباً لاحتمال حدوث الندم على ذلك لاشتباه الأمر، وهذا المعنى لا يتأتى إذا كان الحبل ظاهراً. وفي «المنتقى» : إذا طلق امرأته واحدة وهي طاهرة من غير جماع ثم جامعها نكاية صار رجعة ثم قال لها: أنت طالق للسنة لم يقع في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله من قبل الجماع الذي كان في هذا الطهر وإنه محمول على ما إذا لم تحبل عند أبي حنيفة رحمه الله قال ثمة: ولو قال: كان طلاق سنتها بالشهر، وإن كان له أن يوقع الثانية بعد الجماع، لأن الجماع فيهما لا يمنع من طلاق السنة. وفيه أيضاً: إذا طلق امرأته وهي حامل ثم راجعها فولدت واغتسلت من النفاس فله أن يطلقها للسنة في قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله وإن لم يتم بين التطليقتين شهر ودم وفصل النفاس بين الطلاقين كالحيض، ولو طلقها وهي صغيرة ثم حاضت وطهرت قبل مضي الشهر فله أن يطلقها أخرى في قولهم جميعاً لأن الشهر إنما يعتبر للفصل بين الطلاقين في حق الآيسة والصغيرة بدلاً عن الحيض فإذا وجد الحيض سقط حكم البدل، ولو طلقها وهي من ذوات الأقراء ثم النسب فله أن يطلقها أخرى حين تيأس عند أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يطلقها حتى يمضي شهر. وفي «نوادر أبي سليمان» عن أبي يوسف رحمه الله لا يطلقها حتى يمضي شهر وفي «نوادر أبي سليمان» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل قال لأمرأته وقد أيست من الحيض: أنت طالق ثلاثاً للسنة وقعت واحدة حين تكلم به، ثم إذا حاضت بعد ذلك وطهرت بطلت تلك التطليقة الأولى ولزمتها تطليقة عند الطهر من الحيض يريد به إذا كان جامعها بعد الإياس قبل هذه المقالة قال: وليست هذه كالصغيرة إذا حاضت، فإن في حق الصغيرة لا تبطل التطليقة الأولى قال: فإن أيست بعد هذه الحيضة من المحيض واستبان إياسها وقعت التطليقتان الباقيتان بالشهور، وإذا قال لأمرأته: أنت طالق هذا للسنة وهي ممن لا يقع عليها طلاق السنة في العدة لا يقع عليها الطلاق إلا في وقت السنة. قال ابن سماعة في «نوادره» أبا ترى أنه إذا قال لها: أنت طالق غداً إذا دخلت الدار أنت طالق غداً بدخولك الدار لا تطلق ما لم تدخل الدار كذا ههنا. ذكر المعلى في «نوادره» : رجل طلق امرأته للسنة وهي طاهرة من غير جماع من

الزوج إلا أن رجلاً آخر كان وطئها في طهرها هذا قال: إن كان وطئها بالزنا فالطلاق واقع عليها في طهرها هذا وإن كان وطئها لشبهة فالطلاق لا يقع عليها في هذا الطهر وعليها العدة من الذي وطئها ومن المشايخ من قال على العكس، ومن المشايخ من قال بالوقوع في الوجهين جميعاً.l وفي «المنتقى» : إذا ظاهر من امرأته ثم طلقها طلاق السنة في وقته قبل أن يكفر عن الظهار وقع ولم يمنع حرمة الظهار وقوع الطلاق السني، وكذلك لو تزوج بأخت امرأته ودخل بها وفرق بينهما وطلق امرأته للسنة في عدة الأخت وكذلك لو طلق امرأته للسنة وهي حبلى من فجور. امرأة نعي إليها زوجها فتزوجت بزوج آخر ودخل بها هذا الزوج ثم قدم زوجها الأول ثم فرق بينها وبين الزوج الثاني حتى وجبت العدة من الثاني فطلقها الأول (230أ1) للسنة في عدتها من الثاني لم يقع في قول أبي يوسف رحمه الله، وفي قول أبي حنيفة رحمه الله يقع. ولو كان الأول طلقها ثلاثاً للسنة قبل أن تتزوج بالثاني فحاضت وطهرت فلزمها تطليقة ثم تزوجت بالثاني ودخل بها الثاني وفرق بينهما لم يقع عليها ما بقي من طلاق السنة ما دامت تعتد من الثاني في قول أبي يوسف رحمه الله، وفي قول أبي حنيفة رحمه الله يلزمها الطلاق. نوع آخريتصل بهذا الفصل ذكر في «المنتقى» : إذا قال: لها أنت طالق للسنة فقالت أنا طاهرة، وقال الزوج: أوقعت عليك في الحيض أو بعده فالقول قول المرأة، ولو قالت: أنا حامل فقال هو: ليست بحامل لم تصدق المرأة على ادعاء الحمل. وفي «نوادر هشام» عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قال لامرأته وقد دخل بها أنت طالق واحدة للسنة، وقالت المرأة: قد كنت حضت وطهرت قبل هذا قبل أن تتكلم بهذا الكلام تكلمت به وأنا طاهرة لم يقربني، وقال الزوج: قد كنت قربتك بعد الطهر قبل هذا الكلام فالقول قول الزوج، ولو قال الزوج: قد كنت قربتك في الحيض وكذبته المرأة فالقول قول المرأة، وكذلك لو قالت: لم يكن دخلت بها قط، فالقول قولها نوع آخريتصل بهذا الفصل أيضا قال القدوري: رجل قال لامرأته وهي أمة أنت طالق للسنة وهي الساعة ممن لا يقع عليها طلاق السنة ثم اشتراها ثم جاء وقت السنة لم يقع عليها شيء؛ لأن الطلاق إنما يقع إذا بقي النكاح والعدة، وبعدما اشتراها لا نكاح ولا عدة، أما لا نكاح فظاهر لطريان ملك اليمين المنافي للنكاح، وأما لا عدة فلأنها تحل له بملك اليمين وإنها تنافي وجوب العدة فإن اعتقها ثم جاء وقت السنة يقع الطلاق لأن حكم العدة قد ظهر بعد العتاق فكانت محلاً للطلاق، ولو كان الزوج عبداً والمرأة حرة فقال لها: أنت طالق للسنة ثم

اشترته وقع الطلاق إذا جاء وقت سنتها. رجل قال لامرأته الأمة: أنت طالق ثلاثاً للسنة وهي طاهرة بطهر جامعها فيه ثم اشتراها ثم أعتقها مكانه فإنها تعتد بحيضتين، فإذا طهرت من الحيضة الأولى وقع بها تطليقة وتبين بالأخرى أي: بالحيضة الأخرى ولا يقع طلاق آخر ولو كانت حائضاً حينما قال لها هذه المقالة ثم اشتراها وأعتقها في تلك الحيضة ثم طهرت من تلك الحيضة لا يقع عليها الطلاق من قبل أنه قد وقعت الفرقة منها بفساد النكاح ولا يقع طلاق السنة بعد فرقة كانت بين الزوج وامرأته إلا بعد شهر أو بعد حيضة، وكذلك المعتقة إذا اختارت نفسها في حالة الحيض وقد كان الزوج قال لها: أنت طالق للسنة لم يقع عليها الطلاق إذا طهرت من هذه الحيضة. إذا قال لامرأته الأمة: أنت طالق للسنة وهي في الحال من لا يقع عليها طلاق السنة فاشتراها ثم أعتقها في مدة العدة وتزوجها في مدة العدة يقع عليها الطلاق إذا كانت طاهرة من غير جماع ولو تزوجها بعد انقضاء العدة فهي حائض وقع الطلاق عليها كأنه قال لها: إذا تزوجتك فأنت طالق للسنة فتزوجها وهي حائض. نوع آخريتصل بهذا الفصل أيضا إذا قال لها: أنت طالق للبدعة ونوى ثلاثاً فهي ثلاث لأن إيقاع الثلاث جملة بدعة فقد نوى ما يحتمله لفظه ففتحت ثلاثة هكذا روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله، وروى إبراهيم عنه أنها واحدة تملك الرجعة. إذا قال لها: أنت طالق للشهور وهي لا تحيض فهي طالق عند كل شهر تطليقة، هكذا ذكر «القدوري» رحمه الله في «شرحه» فزاد في «المنتقى» ونوى ثلاثاً فهي طالق ثلاثاً عند كل شهر واحدة، ولو قال لها: أنت طالق للحيض وهي ممن لا تحيض لا يقع شيء ولم يفصل بين الآيسة والصغيرة قال بعض مشايخنا: وهذا الجواب ظاهر في حق الآيسة لأن الحيض في حقها ليس بموجود ولا يوجد غالباً مشكل في حق الصغيرة لأن الحيض في حقها يحتمل الوجود ويوجد غالباً، والإضافة إلى معدومة يحتمل الوجود صحيح، كما لو قال لها: أنت طالق بعد غد وهذا القائل يقول: بأن جواب «الكتاب» محمول على الآيسة، وفي حق الصغيرة يتوقف وقوع الطلاق على وجود الحيض وبعض مشايخنا قالوا: هذا الجواب مشكل في حق الآيسة والصغيرة جميعاً؛ لأن الحيض الذي يضاف إليها الطلاق حيض العدة فكأنه قال لها: أنت طالق للعدة هذا إذا قال لها أنت طالق للحيض وهي ممن لا تحيض، وإن قال لها: أنت طالق للحيض وهي ممن تحيض قال: كانت طاهرة من غير جماع وقت هذه المقالة طلقت الساعة كأنه قال لها: أنت طالق للعدة، هكذا روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله، إن قال لها ذلك وهي حائض فإن لم ينو شيئاً فهي واحدة رجعية تقع عند كل طهرها من الحيضة، وإن نوى ثلاثاً فهي طالق عند طهرها من كل حيضة حتى تطلق ثلاثاً، ذكر المسألة على هذا التفصيل ابن سماعة رحمه

الفصل الثاني: في بيان شرط صحة الطلاق وبيان حكمه

الله. وفي «القدوري» ذكر المسألة من غير تفصيل فقال: إذا قال لها أنت طالق للحيض وهي ممن تحيض وقع عند كل حيضة تطليقة. وفي «المنتقى» : إذا قال لها أنت طالق بكتاب الله ينوي طلاق السنة فهو على ما نوى وإن لم ينو شيئاً فهي طالق ساعة ما تكلم به، ولو قال لها: أنت طالق على ما في كتاب الله تعالى، أو على قول القضاة، أو على قول الفقهاء، أو قال: بسنة رسول الله عليه السلام فهي طالق ساعة ما تكلم، إلا أن يقول عنيت للسنة فيكون على ما عنى. نوع آخريتصل بهذا الفصل أيضا ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثاً للسنة مع كل واحدة واحدة للبدعة فهي طالق ثلاثاً الساعة للبدعة، وذكر المعلى عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لأمرأته: أنت طالق تطليقتين أولهما للسنة، فإن كانت طاهرة من غير جماع وقعت عليها التي هي للسنة أولاً، ثم تتبعها الأخرى، وإن كانت حائضاً تأخرت التطليقتان جميعاً حتى تطهر ثم تقعان التي للسنة قبل الأخرى، ولو قال لها: أنت طالق تبين إحداهما للسنة والأخرى للبدعة، أو قال: أنت طالق واحدة للسنة والأخرى للبدعة فإن كان الوقت وقت السنة تقعان جميعاً تقع السنة أولاً ثم تتبعها البدعة، وإن لم يكن الوقت وقت السنة تقع البدعية وتتأخر السنية وإن بدأ بالبدعة والوقت ليس وقت السنة (230ب1) يقع البدعة ويتأخر السنة والله أعلم. نوع آخرمن هذا الفصل أيضا أبو يوسف رحمه الله في رجل قال لامرأته وقد دخل بها: أنت طالق ثلاثاً للسنة بألف درهم وقبلت المرأة ذلك، وقال: عنيت أن تقع الثلاث جميعاً لزمها ثلاث تطليقات بقوله فلا يكون له إلا ثلث الألف إلا أن تصدقه المرأة في هذه الثلاثة، ولو قال: أنت طالق ثلاثاً للسنة بألف درهم إن شئت، أو قدم المشيئة على الطلاق، فإن كانت هذه المقالة في حالة الحيض فالمشيئة في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله لا يكون حتى تطهر من الحيض، وإن كانت هذه المقالة في طهر جامعها فيه، فحتى تحيض حيضة أخرى وتطهر والله أعلم. الفصل الثاني: في بيان شرط صحة الطلاق وبيان حكمه فنقول شرط صحة الطلاق قيام العقد في المرأة نكاحاً كان أو عدة، وقيام حل جواز العقد، ولا يكفي أحدهما لصحة الطلاق، أما قيام العقد وحده فلأنها إذا حرمت

الفصل الثالث: في بيان من يقع طلاقه ومن لا يقع طلاقه

بالمصاهرة بعد الدخول بها حتى وجبت العدة وطلقها في العدة لا يصح طلاقه وإن كان العقد قائماً لما لم يكن حل جواز العقد قائماً، وأما قيام حل جواز العقد وحده لأنه بعدما طلقها واحدة أو ثنتين وانقضت عدتها وطلقها لا يصح طلاقه، وإن كان حل جواز العقد قائماً لما لم يكن العقد قائماً. وقيام ملك النكاح ليس بشرط لوقوع الطلاق وصحته حتى إن المختلعة يلحقها صريح الطلاق ما دامت في العدة، فإن لم يكن ملك النكاح قائماً وحكم الطلاق زوال ملك النكاح، وزوال حل العقد متى تم ثلاثاً، والطلاق يصح مفيداً (أحد حكمته) ، فإنه إذا طلق امرأته واحدة وتركها حتى انقضت عدتها فهذا الطلاق صحيح، وإن كان لا يفيد إلا زوال ملك النكاح، وكذا إذا طلق المختلعة أو المبانة تطليقتين في حالة العدة يصح وهذا الطلاق لا يفيد إلا زوال حل العقد لأن ملك النكاح زال بالخلع والطلاق البائن. الفصل الثالث: في بيان من يقع طلاقه ومن لا يقع طلاقه طلاق الصبي غير واقع، وكذلك طلاق المجنون والمعتوه، وقيل في الحد الفاصل بين المعتوه والمجنون والعاقل أن العاقل من يستقيم كلامه وأفعاله فيكون هذا غالباً، وذلك غالباً فيكون سواء، قيل أيضاً: المجنون من يفعل هذه الأفعال لا عن قصد والعاقل يفعل ما يفعله المجانين في الأحايين لكن لا عن قصد يعني يفعل على ظن الصلاح، والمعتوه من يفعل ما يفعله المجانين في الأحايين لكن عن قصد يعني يقصد فعله مع ظهور وجه الفساد، وكذلك طلاق النائم غير واقع، وإذا طلق النائم امرأته في حالة النوم ثم قال بعدما انتبه: أجزت ذلك الطلاق لا يقع شيء، ولو قال: أوقعت ذلك يقع تطليقه، ولو قال أوقعت ما تلفظت به في حالة النوم لا يقع شيء، ذكره شيخ الإسلام رحمه الله المعروف بخواهر زاده في آخر باب الطلاق. على هذا الصبي إذا طلق امرأته ثم قال بعدما بلغ أجزت ذلك الطلاق لا يقع، ولو قال: أوقعت ذلك يقع، وكذلك لو أن رجلاً طلق امرأة الصبي فقال الصبي بعد بلوغه أوقعت الطلاق الذي أوقعه فلان يقع ولو قال أجزت ذلك لا يقع، ذكره رحمه الله في «شرح المأذون الكبير» . قال القدوري رحمه الله في «كتابه» : وطلاق السكران واقع إذا سكر من الخمر والنبيذ، وهو مذهب أصحابنا، وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يختار أنه لا يقع وهو قول الطحاوي وأحد قولي الشافعي رحمهما الله. ولو أكره على الشرب أو شرب الخمر عند الضرورة فذهب عقله وطلق امرأته فطلاقه واقع رواه هشام عن محمد رحمه الله وعلل فقال: لأن عقله إنما ذهب بلذة، ولو

الفصل الرابع: فيما يرجع إلى صريح الطلاق

ذهب عقله من داليس وطلق امرأته لا تطلق، وكذلك لو شرب البنج وذهب عقله وطلق، وذكر عبد العزيز الترمذي رحمه الله قال: سألت أبا حنيفة وسفيان الثوري رحمة الله عليهما عن رجل شرب البنج فارتفع إلى رأسه وطلق امرأته قال: إن كان حين يشرب يعلم أنه ما هو فهي طالق، وإن كان حين يشرب لم يعلم أنه ما هو لم تطلق، ولو شرب النبيذ ولم يذهب عقله منه ولكن لم يوافقه فصدع منه فزال عقله بالصداع دون الشرب لم يقع طلاقه، ولو شرب من الأشربة التي تتخذ من الحبوب أو من العسل أو من الشهد وسكر وطلق امرأته لا يقع طلاقه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله خلافاً لمحمد رحمه الله. وطلاق اللاعب والهازل به واقع، وكذلك الرجل يريد أن يتكلم بكلام فسبق لسانه بالطلاق فالطلاق واقع ذكر القدوري العتاق مثل الطلاق في جميع ذلك في المشهور. وفي «المنتقى» : وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يجوز الغلط في الطلاق ويجوز في العتاق حتى إن الرجل لو أراد أن يقول لامرأته اسقيني فسبقه اللسان فقال: أنت طالق قال: هي طالق، ولو كان ذلك في العتاق يدين فيما بينه وبين الله تعالى. وقال أبو يوسف رحمه الله: هما سواء ولا يجوز في واحد منهما وسوّى أبو يوسف رحمه الله في «الإملاء» بينهما على قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال على قول أبي حنيفة: لا يدين فيما بينه وبين الله تعالى فيهما. الفصل الرابع: فيما يرجع إلى صريح الطلاق إذا قال لامرأته: يا مطلقة وقع الطلاق عليها، ولو قال: أردت به الشتم دين فيما بينه وبين الله تعالى ولم يدين في القضاء؛ لأنه وصفها بالطلاق. وإذا قال: أردت الشتم فقد نوى شيئاً ليس بوصف لها فيكون مدعياً خلاف الظاهر فلا يصدق في القضاء، ولو قال: أردت طلاق زوج كان لها قبل ذلك إن لم يكن لها زوج قبل ذلك لا يلتفت إلى قوله، وكذا إذا كا لها زوج قبل ذلك وقد مات عنها زوجها لا يلتفت إلى قوله، وإن كان قد طلقها صدق ديانة باتفاق الروايات ويدين في القضاء في رواية أبي سليمان لأنه وصفها بطلاق واقع والطلاق لا يختص بإيقاع زوج دون زوج فيصدق في ذلك، ولو قال لها: أنت مطْلقة بالتخفيف فذلك على النية. وفي «الواقعات» : إذا طلق امرأته ثم قال لها: قد طلقتك أو قال بالفارسية: طلاق دادم تر ادادم ترا طلاق يقع تطليقة بائنة، ولو قال: قد كنت طلقتك أو قال بالفارسية طلاق داده اهم ترا لا يقع شيء. وفي «الأصل» في باب الطلاق إذا قال لامرأته قد طلقتك أمس وهو كاذب كانت طالقاً

في القضاء ولو قال لها: أنت طالق طالق أو قال: طلقتك (231أ1) طلقتك، أو قال: أنت طالق قد طلقتك، ثم قال عنيت الأولى دين فيما بينه وبين الله تعالى ولم يدين في القضاء. ومن هذا الجنس ما ذكر في «الفتاوى» إذا قال لامرأته نبك طلاق دست بازدا سمت أو قال: دست بازدا سم نبك طلاق، فقالت امرأته: بازاوى تامرديان سنويد باز كيت اكرباء دوم حنين كفت دست بازدا سته أم باكد بردست باردا سنه كم بكت واحدا. وإن قال: دست بارداسمت نبك طلاق يقع إلا إذا قال: عنيت بالثاني الإخبار فيصدق ديانة، ولو قال لها: أنت طالق فقال له رجل: ما قلت فقال طلقتها قال: أو قلت هي طالق فهي واحدة في القضاء لأن قوله في المرأة الثانية خرج جواباً فيكون إخباراً عن الإيقاع الأول ليتحقق جواباً بخلاف المسألة المتقدمة لأن قوله في المرة الثانية خرج على سبيل الابتداء فكان إيقاعاً، هذه الجملة في «شرح القدوري» . ولو قال لها: أنت طالق ثم قال لها: يا مطلقة لا تقع أخرى لأنه صادق في مقالته، ولو قال لها: أنت طالق ونوى طلاقاً من وثاق لم يدين في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، ولو صرح وقال: أنت طالق من وثاق لا يقع في القضاء شيء. ولو قال: أنت طالق من قبل أو من عل ذكر هذه المسألة: «المنتقى» في موضعين وأجاب في أحد الموضعين أنه لا يقع الطلاق في القضاء وأجاب في الموضع (الآخر) أنه يقع الطلاق في القضاء، فروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله إذا قال لامرأته، أنت طالق من هذا القبل أو من هذا العل لم تطلق، ولو قال أنت طالق ثلاثاً من هذا القبل أو من هذا العل طلقت ثلاثاً ولم يدين في القضاء. ولو قال لها: أنت طالق وأراد به أنها طالق من العمل لم يدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى ما لا يحتمله لفظه لأن الطلاق لإزالة القيد وهي غير مقيدة بالعمل فروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يدين لأن الإطلاق يذكر ويراد به التخليص عن العمل فكان ناوياً ما يحتمله لفظه. ولو قال: أنت طالق من هذا العمل وقع الطلاق في القضاء ولا يقع فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن المرأة إذا لم تكن مقيدة بالعمل كان قوله من هذا العمل بياناً صورة لا حقيقة فلا يصدق قضاءً باعتبار الحقيقة فيدين فيما بينه وبين الله تعالى، لوجود البيان صورة. ولو قال لها أنت طالق وقال: لم أعنِ الطلاق عن وثاق النكاح فإنه يقع الطلاق فيما بينه وبين الله تعالى كما يقع في القضاء، والوجه في ذلك أن الطلاق في حقيقة اللغة، وإن كان الإطلاق عن وثاق العبد، إلا أنه صار الإطلاق عن وثاق النكاح حقيقة، والإطلاق عن قيد الحقيقي مجازاً لأنه ثبت هذا الاسم للطلاق عن وثاق النكاح عرفاً وشرعاً والاسم متى ثبت لغير ما وضع له عرفاً وشرعاً يصير لذلك حقيقة ولما وضع له مجازاً والحقيقة من الكلام لا النية ندفع حكمها إلا بإرادة المجاز، أما بمجرد ترك نية الحقيقة من غير نية المجاز لا يندفع حكم الحقيقة لأن النية ليست بشرط لثبوت ما هو حقيقة اللفظ ولا لمنع ثبوت حكم الحقيقة بترك النية والحاصل أن الكلام أنواع أربعة

حقيقة باعتبار الوضع، وحكمه لا يندفع ما لم ينوِ المجاز، ومجازٌ صار كالحقيقة وهو ما ثبت عرفاً وشرعاً، وحكمه لا يندفع أيضاً ما لم ينو المجاز، لأنه ألحق بالحقيقة، ومجازٌ متعارف ومطلق للفظ ينصرف إليه ولكن إذا نوى أن لا يثبت ذلك لا يثبت وإن لم ينو غيره. ومجازٌ غير متعارف، وإنه لا يثبت بمطلق الكلام إلا الهيئة. رجل قال لامرأته: براشه طلاق يقع الثلاث لأن هذا بمنزلة قوله أعطيتك ثلاث تطليقات ألا ترى أنه لو قال لغيره لك هذا الثوب كان هبة وكان بمنزلة قوله أعطيتك هذا الثوب. هكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في باب النون. وفي هذا الباب أيضاً: إذا تشاجر الرجل مع امرأته فقال لها بالفارسية هرار طلاق برا ولم يزد على هذا تقع الثلاث لأن هذا فارسي قوله ألف تطليقة لك، ولو قال ألف تطليقة لك تقع الثلاث لأنه لو قال: لك ألف تطليقة تقع الثلاث، وكذلك إذا قدم المؤخر، هكذا ذكر رحمه الله تعليل المسألتين مع صورتهما. وفي «فتاوى أهل سمرقند» من طلاق برا دادم. قال: نوى الإيقاع وقع الطلاق وإن نوى التفويض لا يقع لأنه يحتمل التفويض، وإن لم يكن له نية يقع لأنه إيقاع ظاهراً فيصُرِفَ إليه ما لم ينو شيئاً آخر. وفي «فتاوى الفضلي» تر طلاق إيقاع طلاق ترا تفويض إن طلقت نفسها في المجلس يقع. وفي «المنتقى» رجل قال لامرأته لك الطلاق قال أبو حنيفة رحمه الله: إن نوى الطلاق فهي طالق وإن لم يكن له نية فلا شيء عليه، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن نوى الطلاق فطلاق وإلا فالأمر بيدها، ولو قال عليك الطلاق فهي طالق إذا نوى. وفيه أيضاً عن أبي يوسف رحمه الله: إذ قال لامرأته لكم الطلاق إنها طالق في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى إن عنى غير ذلك، ولو قال: طلاقي عليك واجب وقع، وكذا إذا قال لها الطلاق عليك واجب ذكره البقالي في «فتاويه» . ولو قال لها: طلاقك عليَّ لا يقع، ولو قال: طلاقك عليَّ واجب أو لازم أو فرض أو ثابت ذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «فتاويه» خلافاً بين المتأخرين، منهم من قال يقع واحدة رجعية نوى أو لم ينوِ، ومنهم من قال لا يقع نوى أو لم ينوِ، ومنهم من قال في قوله واجب يقع بدون النية، وفي قوله لازم لا يقع وإن نوى والفارق العرف، وعلى هذا الخلاف إذا قال لها إن فعلت كذا فطلاقك عليَّ واجب، أو قال: لازم أو قال ثابت ففعلت. وذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» أن على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يقع في الكل، وعند أبي يوسف رحمه الله إن نوى الطلاق يقع في الكل وعن محمد رحمه الله أنه يقع في قوله لازم ولا يقع في قوله واجب و (هو) اختيار الصدر الشهيد رحمه الله، قال: الوقوع في الكل لأن نفس الطلاق لا يكون واجباً ولا لازماً وفرضاً إنما يكون حكمه واجباً وحكم الطلاق لا يجب إلا بعد الوقوع، وكان الشيخ الإمام ظهير الدين الحسن بن علي المرغيناني رحمه الله يفتي بعدم الوقوع في الكل، وعن ابن سّلام فيمن قال إن فعلت كذا فثلاث تطليقات عليَّ أو قال عليَّ واجب فإنه يعتبر عادة أهل البلد هل غلب، (231ب1) ذلك في كلامهم.

ولو قال لامرأته: طلقك الله تطلق، وإن لم ينو لأنه لا يطلقها الله إلا وهي طالق، هكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث رحمه الله» . وفي «المنتقى» وفي «العيون» شرط النية، والأول أصح، ولو قال لها: نسيه طلاق باش، أو قال بطلاق باش تحكم النية، فكان الشيخ الإمام ظهير الدين رحمه الله يفتي بالوقوع (في) هذه الصورة بل لنية إذا قال لامرأته أنت أطلق من امرأة فلان وهي مطلقة فذلك على نيته إلا أن يكون جواباً لمسألة الطلاق، هكذا ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» وصورة ذلك: أن المرأة إذا قالت لزوجها قد طلق فلان امرأته فطلقني، فقال الزوج: أنت أطلق منها فهي طالق ولا يدين، وكذلك لو قال: أنت أبين منها. وسأل نصر عن ذلك فقال: تقع ثم قال في اليوم الثاني، وجدت رواية عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يقع، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله معناه: إن لم ينو وإذا نوى يقع كذا روي عن أبي يوسف رحمه الله في «الأمالي» . إذا قال: خذي طلاقك يقع، وكذا وإذا قال لها: أوجدت طلاقك يقع، وإذا قال لها شئت طلاقك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» أنه يقع الطلاق، ولم يشترط نية الإيقاع، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» إذا قال: شئت طلاقك بنية الإيقاع يقع. وذكر في «المنتقى» في باب اللفيف من كتاب الطلاق: قال لامرأته: شئت طلاقك وهو ينوي الطلاق طلقت، وذكر في باب الكنايات إذا قال لها: شاء الله طلاقك، قضى الله طلاقك، شئت طلاقك، أمضيت، قضيت لا تطلق إلا أن ينوي، ولو قال: نويت طلاقك أحببت طلاقك رضيت طلاقك أردت طلاقك لا تطلق وإن نوى.s قال في «المنتقى» : والقياس في ذلك سواء غير أن شئت هو أشبه بالطلاق فاستحسنه وحده. إذا قال لها وهبت طلاقك فهذا صريح حتى يقع الطلاق قضاء وإن لم ينو به الطلاق، وإذا قال: نويت أن يكون الطلاق في يدها لا يصدق قضاء ويصدق ديانة، وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يصدق قضاء أيضاً، ولو قال لها: أعدتك طلاقك، روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يقع، وعن محمد أنه لا يقع، وذكر هذه المسألة في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله، وقال نصر: الطلاق في يدها بمنزلة ما لو قال لها: أمرك بيدك، ولو قال لها: أقرضتك طلاقك لا يقع، ولو قال لها: وهبتك طلاقك قال (في) مشايخنا ينبغي أن لا يقع، وإذا قال لرجل أخبر امرأتي بطلاقها فهي طالق ساعة ما تكلم أخبرها ذلك الرجل أو لم يخبرها فكذلك إذا قال شهرها بطلاقها، احمل إليها طلاقها، أخبرها أنها طالق قل لها إنها طالق بخلاف ما لو قال لها أنت طالق فإنه لا يقع الطلاق هناك ما لم يطلقها إذا قال لها برشه طلاق دادستند لا يقع لأنه ذكر الإيقاع دون الوقوع. امرأة قالت لزوجها طلقني فضربها وقال: اينك طالق لا يقع لأنه لم يوجد الإضافة، ولو قال: ابيكت طلاق يقع كذا حكي عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، «في مجموع النوازل» في «كتاب الأيمان» سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن امرأة قالت لزوجها عند المشاجرة: مرا طلاق ده مر دجوب برداشت ومي زدومي كفت دار طلاق قال: لا تطلق،

وسئل الإمام أحمد الغلاييني رحمه الله عن امرأة قالت لزوجها: طلقني فوكزها قال: اينك طالق ثم وكزها ثانياً وقال: اينك ذو طلاق ثم وكزها ثالثاً وقال: اينك ننته طلاق قال: تطلق ثلاثاً قال: ولو كان قال لها: اينك نكي، اينك دو، اينك ننته ولم يتلفظ بالطلاق لم تطلق، قال نجم الدين النسفي رحمه الله: جواب شيخ الإسلام في المسألة الأولى كجوابه في المسألة الثانية يعني لا تطلق، وجواب الغلاييني رحمه الله في المسألة الأولى كجوابه في المسألة الثانية يعني تطلق فشيخ الإسلام يقول: تسمى الضربة طلاقاً فبطل، والغلاييني يقول يلفظ الطلاق فيقع. سئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله عمن قال لامرأته هذا وطلاق بدا منت اندر كردم قال: إن كان هذا في مذاكرة الطلاق فكذلك وإن لم يرد الطلاق فالقول قوله مع يمينه، إذا قال لها: طالق يرتحا دركوشه توبرشت قومي والبسي الملحفة لا يقع الطلاق عليها في الحال ولا بعد ما لبست الملحفة، وكذا لو قال لها طلاق توكو ارستان برتهادة است مريه هنل بخلاف ما ذكرنا في المسألتين جميعاً وهو الأظهر والأشبه لأن هذا يقتضي وجود الطلاق فرايت ديوى بجوارشان أراد به رف نجم الدين في قوله شبه طلاق تركزانه خادرت بريشتم إنه يقع الطلاق، قال ولها دار طلاق يتوى لعدم الإضافة إليها وقيل يقع من غير نية وهو الأشبه لأن قوله دار في العادة وقوله حد سواء ولو قال لها: خذي طلاقك يقع من غير نية كذا هاهنا. سئل شمس الأئمة الأوزجندي رحمه الله عن امرأة قالت لزوجها لو كان الطلاق بيدي لطلقت نفسي ألف تطليقة فقال الزوج من هزار هذا طلاق دارم ولم يقل دارم برا قال: يقع الطلاق لأن كلامه خرج جواباً. امرأة قالت لزوجها طلقني ثلاثاً فقال الزوج: إنك هزار لا تطلق من غير نية لأن قوله إنك هزار كلام محتمل لو قال: بنية طلاق وليست امرأته في بيته وقت هذه المقالة تطلق امرأته إذ ليس المراد من البيت المذكور في هذه الصورة حقيقة البيت إنما المراد بيت النكاح فكأنه، قال: المرأة التي في نكاحي طالق، ولو قال: ابن طالق وليست امرأته في ذلك البيت وقت المقالة لا تطلق امرأته، لأن المراد من اسم البيت عند تعيين الزيادة على ما سمى أولاً وهو الطلاق فصار كأنه قال: دادش هزار طالق ذكر امرأة قالت لزوجها من طلاقه لم فقال الزوج شي أو قال: طلاقه تشي أو قال توكن بالبيت فيقع عليها ثلاث تطليقات. سئل الفقيه أبو بكر رحمه الله عمن قال لامرأته: هزار طلاق تو لكن قال يقع ثلاث تطليقات كأنه قال طلقتك الصادر وكذلك إذا قال: هزار طلاقي توكى ونوى الطلاق تطلق ثلاثاً لأنه يراد بمثل هذا الكلام الإيجاب وقيل في الصورة الأولى ينوي الزوج لأنه يحتمل هزار طالق توكى كردم فيكون هذا وعداً في الإيقاع (232أ1) فينوي لهذا وقيل: في الصورة الثانية لا تطلق وإن نوى لأن هذا وعد ولا يحتمل الايقاع في الحال. امرأة سألت من زوجها الطلاق فقال الزوج لها: أنت طالق خمس تطليقات فقالت المرأة: الثلاث تكفيني فقال الزوج: الثلاث لك والباقي لصواحبك فله سواها امرأة أو امرأتان يقع على

المخاطبة ثلاث تطليقات ولا يقع على غيرها شيء لأن الزيادة على الثلاث لغو شرعاً فقد صرف إلى غير المخاطبة ما هو لغو شرعاً فلا يعمل، وإذا قال لها قولي إني طالق فإن قالت ذلك طلقت، وإن لم تقل لم تطلق بخلاف ما إذا قال لغيره: قل لامرأتي أنها طالق حيث تطلق قال ذلك الرجل لها ذلك أو لم يقل وقد مر نظير هذا. نوع آخر في الإيقاع بطريق الإجازة وفي ترك الإضافة وما يشبهها إذا قال: أنت ثلاث وأضمر الطلاق فاعلم أن هذا ثلاث فصول: أحدها: أن يضم بالطلاق الثلاث وفي هذا الفصل لا يقع الطلاق. والثاني: واحتياطاً إذا قال لامرأته توكى يوشه أو قال لها: تراكى قال الشيخ أبو القاسم الصفار البلخي رحمه الله لا يقع الطلاق قال: لأن العربية لها أجازات فأما الفارسية فليس لها اجازات قال الصدر الشهيد: المختار عندي أنه إذا نوى يقع الطلاق لأن هذا ليس من باب الإجاز بل هذا من باب تعيين أحد محتملي اللفظ لأن اسم الثلاث يقع على غير الطلاق وعلى الطلاق فإذا لم ينو الطلاق لا يتعين الطلاق مراداً فإذا نواه يتعين. وفي «فتاوي شمس الأئمة الأوزجندي» : رحمه الله ذكر قبل هذا في التعليق فصورته الكرتومكا فأجاب بأنه لا يقع بدون النية، وفي «فتاوي النسفي» : رجل اتهمته امرأته بشيء وطلبت منه أن يحلف على ذلك بطلاقها فحلف بهذا اللفظ: اكرفلان وأجاب أنها لا تطلق. في «فتاوي الفضلي» : إذا قال لها: أنت مني ثلاثاً إن نوى الطلاق طلقت لأنه نوى ما يحتمله وإن قال: لم أنو الطلاق لم يصدق إذا كان الحال حال مذاكرة الطلاق. وفيه أيضاً: إذا قال لها: بوبيه ده ونوى الطلاق قال: يقع الطلاق لأنه أضمر الطلاق وهو نظير قوله أنت الثلاث ونوى الطلاق. وفيه أيضاً اكرتوا فلان كاركني نويتك طلاق ففعلت وقع الطلاق من غير نية الزوج لأن المعنى كلامه نويتك طلاق هشتي، ولو قال لها: نوبيه ثارا بدون فكان ذلك في حالة الغضب فالقول قوله أنه لم يرد الطلاق لأن قوله الدون كما يحتمل الطلاق يحتمل اللعن وغيره ولا يتعين الطلاق مراداً إلا بالنية. قالت لزوجها طلقني وأشار إليها ثلاث أصابع يريد بذلك ثلاث تطليقات لا تطلق ما لم يقل بلسانه لأنه لو وقع وقع بالضمر فالطلاق لا يقع بالضمر، وفي «فتاوى أهل سمرقند» إذا قال لها.... طلاقي يقع عليها طلقة لأن معناه.... طالقي، وفي

«نوادر أبي الليث» رحمه الله قالت لزوجها كيف لا تطلقني فقال لها بالفارسية توخودا سراز تاناني طلاق كردواي قال: تسأل الزوج عن مراده لأنه أخبر عن الطلاق فتسأل عن مراده. إذا قال لها في حالة الغضب: اكرتوزن مني بنية طلاق لا يقع شيء لأنه حذف الباء فلم يكن مضيفاً إليها فلا يكون موجباً، وعلى هذا فصل للتعليق. إذا قال: هرزن طلاق فتزوج امرأة لا يقع الطلاق هو الصحيح وسئل أبو خضر عن سكران قال لأمرأته أتريدين أن أطلقك فقالت: نعم فقال بالفارسية: اكرتوزن طلاق ذو طلاق بنية طلاق قومي واخرجي من عندي وهو يزعم أنه لم يرد به الطلاق فالقول قوله، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله؛ لأنه لم يضف الطلاق إلى المرأة. ولم يذكر الإيقاع. إذا قالت لزوجها طلقني فقال الزوج طالق يردارور في إن نوى طلاقها يقع الطلاق، ولو قال بنية طلاق جود يقع الطلاق من غير نية. قال لامرأته: أنت طالق واحدة فقالت المرأة: هزار فقال الزوج هزار ينوي الزوج فإن لم يكن له نية لا يقع شيء في الحكم لأنه يحتمل وإن كان إلى الإيقاع أقرب. رجل اتهم امرأته برجل ثم رأى ذلك الرجل في بيته فغضب فقال: زن دادم عدداً طلاق قيل يقع الطلاق إذا نوى وقيل بالوقوع من غير نية. رجل جمع أصدقاءه وأمر امرأته أن تتخذ لهم طعاماً فلم تفعل وذهبت من بيت الزوج فقال الزوج: زنى كردوست شمن مرا بنو داز من بينة طلاق ذكر في «مجموع النوازل» أنه تطلق امرأته. رجل قال لخدمه وهم يذكرون امرأته بسوء جندان كرديت كه نسه طلاقه كردتبش أو قال: جندان كردتب كه ست طلاق كردتيش يقع الطلاق عليها. رجل قال: طلقت امرأة أو قال: امرأة طالق، ثم قال: لم أعن امرأتي يصدق ولم يقل عمرة طالق وامرأته عمرة وقال: لم أعن امرأتي لم يصدق قضاءً لأن في الوجه الأول لم تعرف امرأته أصلاً وفي الوجه الثاني عرفها بالاسم ذكره في «فتاوى أهل سمرقند» . وفي «النوازل» رجل يريد الخروج إلى السفر وأخذته صهرته فقالت: لا أدعك تخرج حتى تطلق ابنتي فقال الزوج: دختر تراسه طالق ثم لم أنو امرأتي وإنما نويت بنتك التي ليست بامرأتى لا يصدق قضاء ويصدق ديانة. سئل نجم الدين النسفي رحمه الله عن رجل عادة إذا رأى صبياً أن يقول: ما درت طلاقه فسكن ... فقال: أي ما دريت بنية طلاقه وهو لم يعرفه قال: تطلق امرأته ثلاثاً. إذا قال ابنته لأنها طالق نسب امرأته إلى أبيها ولم يسميها أو نسبها إلى أمها أو إلى أخيها أو ما أشبه ذلك ولم يذكر اسمها طلقت امرأته إذا كانت كذلك وعن أبي يوسف رحمه الله ممن قال: عمرة بنت صبيح طالق وامرأته عمرة بنت حفص ولا نية له لم تطلق امرأته وإن كان صبيح زوج أمها فكانت في حجره وكانت تنسب إليه وإنما أبوها حفص وهو يعلم نسبها أو لا يعلم فقال مثل ما قلنا ولا نية له لم يدين في القضاء ويقع الطلاق، وأما فيما

بينه وبين الله تعالى: إن كان يعرف نسبها لا يقع الطلاق وإن كان لا يعرف يقع الطلاق وإن نوى في هذه الوجوه امرأته طلقت امرأته في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى: وإن كان يريد اسم امرأته وإنما يريد الاسم الذي (232ب1) سمي على النسب الذي أضافها إليه وهو يعرف نسبها لم تطلق في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى. ولو قال: امرأته الحبشية طالق ولا نية له في طلاق امرأة وامرأته ليست بحبشية لا يقع عليها، وعلى هذا امرأته الأسدية وغلامه السندي وعلى هذا إذا سماها بغير اسمها ولا نية له في طلاق امرأته، وإن نوى طلاق امرأته في هذه الوجوه طلقت امرأته، وإن سمى امرأته واسم أبيها بأن قال: امرأتي عمره بنت صبيح بن فلان أو قال: أم هذا الرجل التي في وجهها الخال طالق طلقت امرأته سواء كان في وجهها الخال أو لم يكن، لأنه وصفها باسمها ونسبتها قيمت المعرفة الشرعية فلا حاجة إلى ذكر بني آخر ويجعل كل شيء آخر كلامه. وفي «المنتقى» : زوج رجل.... امرأته قالت: أنا أسماء بنت عبد الله القرشية والرجل لا يعرفها فقال الرجل بعدما تزوجها كل امرأة لي طالق غير اسماء بنت عبد الله القرشية واسم هذه المرأة كانت وبنت النبطية فهي طالق في القضاء ولا تطلق فيما بينه وبين الله تعالى، إذا قال: نساء أهل الدنيا طالق أو قال أهل راي. وهو من أهل راي، أو قال: نساء أهل بغداد وهو من بغداد لم تطلق امرأته عند أبي يوسف رحمه الله إلا أن ينويها قال لأن هذا أمر عام، وعن محمد رحمه الله روايتان: روى ابن سماعة عنه أنه تطلق امرأته من غير النية فروى هشام عنه أنه لا تطلق امرأته إلا أن ينويها، وذكر في «فتاوى أهل سمرقند» أن في قوله جميع نساء الدنيا طوالق أو قال جميع نساء أهل العالم طالق أنه تطلق امرأته من غير نية ولو قال: نساء أهل هذه السكة طالق وهو من أهل هذه السكة طلقت امرأته. وكذلك لو قال نساء أهل هذه الدار طوالق وهو من غير أهل هذه الدار طلقت امرأته بلا خلاف، ولو قال: نساء أهل هذه القرية طالق فقد اختلف المشايخ فيه منهم من ألحقه بالبيت والسكة ومنهم من ألحقه بالمصير. وجه عدم الوقوع في قوله نساء أهل الراي نساء أهل الدنيا أنه لو وقع الطلاق على امرأته إنما يقع إذا اعتبر هذا الكلام النساء في حق هذا القائل وإذا اعتبر نساء في حق هذا القائل يعتبر النساء في حق الكل وبعد اعتباره النساء في حق الكل لأنه إذا اعتبر النساء في حق الكل لا بد وأن يتوقف على إجازتهم وإجازة أهل الدنيا متعذر خرج على هذا فصل السكة والقرية على قول بعض المشايخ. نوع آخريتصل بهذا الفصل بالإيقاع وبالإضافة إلى بعض المرأة إذا قال لامرأته رأسك طالق فالأصل في جنس هذه المسائل أن كل (ما) يعبر به عن جميع البدن نحو الرأس والرقبة والفرج والوجه يصح إضافة الطلاق إليه وكل جزء لا يعتبر

به عن جميع البدن إن كان جزءاً لا يستمتع به نحو الدمع والريق والدم لا يصح إضافة الطلاق إليه بالاتفاق، هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في «شرحه» . قال: شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، ولو نوى جميع ما في بدنها من الدم يتبع أن تطلق، وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في أول باب الطلاق أنه إذا أضاف الطلاق إلى دمها ففيه روايتان: على رواية «كتاب العتاق» لا تطلق، وعلى رواية «كتاب الكفالة» تطلق، وإن كان جزءاً يستمتع به نحو اليد والرجل لا يصح إضافة الطلاق إليه عندنا. وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا قال لها رأسك طالق وعنى اقتصار الطلاق على الرأس لا يبعد أن يقول لا تطلق، ولو قال لها يدك طالق وأراد به العبارة عن جميع البدن لا يبعد أن يقول بأنها تطلق. وفي «البقالي» : أنه لا يقع الطلاق بالإضافة إلى اليد وإن نوى، وإذا قال لها: بضعك طالق. ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» أن يقع وهكذا وقع في بعض النسخ، قال ظهرك طالق وبطنك طالق ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» أن الأصح أن لا يقع واستدل بمسألة ذكرها في «الأصل» إذا قال: ظهرك عليَّ كظهر أمي أو قال بطنك عليَّ كظهر أمي أنه لا يصير مظاهراً. وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرحه» : أن الأشبه بمذهب أصحابنا أنه يقع الطلاق قال هو نظير ما قال مشايخنا فيما إذا أضاف عقد النكاح إلى ظهر المرأة أو إلى بطنها أن الأشبه لمذهب أصحابنا أن ينعقد النكاح، وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه أن الأصح أن يقع، وإذا قال لها يدك طالق فالمحفوظ عن أصحابنا أنها لا تطلق بخلاف قوله مدحك طالق في الحكمة، وذكر في «المنتقى» أن قوله: استك طالق في الحكمة بمنزلة قوله مدحك طالق ولو قال لها نصفك الأعلى طالق واحدة ونصفك الأسفل طالق تبين فلا رواية في هذه المسألة عن المتقدمين وعن المتأخرين وقد صارت هذه المسألة موافقة ببخارى فأفتى بعض مشايخنا بوقوع الواحدة بالإضافة إلى النصف الأعلى لأن الرأس في النصف الأعلى فيصير مضيفاً الطلاق إلى رأسها وأفتى بعضهم بوقوع بالإضافتين لأن الرأس في النصف الأعلى والفرج في النصف الأسفل فيصير مضيفاً الطلاق إلى رأسها بالإضافة إلى النصف الأعلى وإلى فرجها بالاضافة إلى النصف الأسفل. نوع آخر في تكرار الطلاق وإيقاع العدد في المدخولة وغير المدخولة امرأة قالت لزوجها: طلقني وطلقني فقال الزوج: قد طلقتك طلقت ثلاثاً نوى الزوج أو لم ينو، ولو قال بغير حرف الواو طلقني طلقني طلقني فقال الزوج قد طلقتك فإن نوى الثلاث طلقت ثلاثاً، وإن نوى واحدة أو لم ينو شيئاً تقع واحدة لأن بدون حرف الواو يحتمل كل الأول ويحتمل الابتداء ذلك نوى الزوج صحت بنية، هكذا ذكر في «عيون المسائل» .

وفي «المنتقى» : إذا قالت: طلقني طلقني طلقني بدون حرف الواو فقال: الزوج قد طلقتك أنه يقع ثلاث تطليقات ولم تشترط نية الزوج الثلاث. امرأة قالت لزوجها: طلقني ثلاثاً فقال الزوج أنت طالق أو قال: فأنت طالق تقع واحدة هكذا رواه ابن سماعة، وهشام عن محمد رحمه الله علل محمد في رواية هشام رحمه الله فقال: لأن هذا ليس بجواب قال في رواية هشام: وإن عنى الجواب في قوله أنت طالق استحسن أن جعلها ثلاثاً، ولو كان قال: قد طلقتك تقع الثلاث فكذا لو قال: فعلت وقيل: ينبغي أن تقع الثلاث في الوجه الأول لأنه إخراج الكلام فخرج الجواب وأنه يصلح جواباً، وسيأتي في مسائل الخلع ما يدل على أن قوله أنت طالق جواب، وذكر في «البقالي» في «فتاويه» في الوجه الأول أنها (2331) تطلق واحدة إلا أن ينوي الثلاث فيصح استحساناً قال: ثمة فروى إنما تطلق واحدة يعني مع نية الثلاث. وفي «المنتقى» : امرأة قالت لزوجها طلقني فقال الزوج: قد فعلت طلقت فإن قالت: ردني فقال: قد فعلت طلقت أيضاً. إبراهيم عن محمد رحمه الله: في رجل قيل لرجل طلقت امرأتك ثلاثاً فقال: نعم واحدة قال: القياس أن يقع عليها ثلاث تطليقات ولكنا نستحسن فنجعلها واحدة. في «المنتقى» : إذا قالت المرأة طلقني ثلاثاً فقال الزوج قد أبنتُك فهذا جواب وثلاث وكذا قوله: بائن. وفي «نوادر ابن سماعة» سئل عن أبي يوسف رحمه الله عمن طلق امرأته قد حلت عليه أخت امرأته وعاينته وقالت: طلقت أختي فلأنه تطليقتين ولم يحفظ حق...... فقال الزوج: هذه ثالثة أو قال فهذه ثالثة لزمته الثلاث: وإن لم يذكر الطلاق في معاينتها وباقي المسألة بحالها فقوله هذه ثالثة ليس بشيء إذا لم ينو الطلاق. إذا قال لها قبل الدخول بها أنت طالق ثلاث يقع الثلاث وكذلك إذا قال لها: ثنتين تقع ثنتان والوجه في ذلك أن في هذه الصورة أول الكلام يتوقف على آخره لأن في آخر الكلام ما يغير حكم أوله لأن قوله أنت طالق لا يحتمل العدد عندنا. ولهذا لا تصح نية العدد فيه وإذا توقف أول الكلام على آخره كان الوقوع عنه آخر فيصادفها آخر الكلام وهي منكوحة بخلاف ما إذا كرر لفظ الطلاق بحرف العطف أو بغير حرف العطف فقال لها: أنت طالق وطالق أو قال وطالق أو وقال ثم طالق أو قال أنت طالق طالق، أو قال: ترايك طلاق ترايك طلاق حيث تقع واحدة لأن هناك ليس في آخر كلامه ما يغير حكم أوله فلم يتوقف أوله على آخره فطلقت بأول الكلام وبانت لا إلى عدة فيصادفها الكلام الثاني فهي مبانة..... وفي «فتاوى الفضلي» : إذا قال لها قبل الدخول بها اكرتوزن مني بيك طلاق وذو طلاق دست باردا شبه يقع ثلاث تطليقات، ولو لم يقل دست باز داسبيه تقع واحدة لأن

في الوجه الأول النكاح إنما يتم عند قوله دست باز داسبيه لأنه صار يعتبر الأول فيتوقف فتقع الثلاث جملة وفي الثاني الأول كلام تام صاحب به لا إلى عدة قال لامرأته المدخول بها طلاق داديت طلاق داديت تقع عليها ثلاث تطليقات لأن هذا في الفارسية عطف بمنزلة قوله وتبين في العربية، ولو قال دويعبر حرف الواو وإن نوى العطف تقع الثلاث، وإن لم ينو العطف تقع واحدة، ولو قال لها: ترابك طلاق اكرم من لكن قال شيخ الإسلام أبو الحسن رحمه الله تقع الثلاث عند وجود الشرط قال الشيخ الإمام محمد بن علي.... رحمه الله: تقع واحدة. إذا قال لامرأته ولم يدخل بها: أنت طالق طالق إن دخلت الدار بانت بالأولى ولم تتعلق البائنة بالدخول، ولو كان معطوفاً فقال أنت فقال: طالق وطالق إن دخلت الدار أو طالق إن دخلت تعلقا جميعاً بالدخول لأنه كما ذكر بحرف الواو علم أن عرض الزوج من الأول التعليق والأول ناقصى في معنى التعليق فتوقف أول الكلام على آخره وتعلق الكل بالشرط دفعة واحدة فيما لم يذكر حرف العطف لم يظهر إن عرض المتكلم من أول التعليق فنفى الأول يتخير فبانت بالأولى لا إلى عدة وعلقت الثانية لأن تعليقها حصن في غير الملك. إذا قال لها ولم يدخل بها إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق فدخلت الدار تقع واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: تقع الثلاث ولو قدم الجزاء فقال: أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار فدخلت الدار تقع الثلاث بلا خلاف والمسألة معروفة. ولو قال لها: أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار فعند أبي حنيفة رحمه الله تقع عليها واحدة للحال، وثنتين بها ويبطل ما بعد ذلك من الكلام، وعندهما يتوقف الكل على وجود الشرط وإذا وجد الشرط تقع الثلاث هكذا ذكر المسألة في «النوازل» وذكر القدوري رحمه الله أن على قولهما إنما تقع الثلاث عند وجود الشرط بعدما دخل الزوج بها أما إذا وجد الشرط قبل أن يدخل الزوج بها تقع واحدة وهو الأشبه.g وجه قولهما: أن كلمة ثم من حروف العطف كالواو والفاء إلا أنه يقتضي العطف على التراخي فلاقتضائه العطف قلنا تتعلق الكل بالشرط وباعتبار اقتضاء به التراخي قلنا تأخر البائنة، والبائنة عن الأول وقوعاً، ولأبي حنيفة رحمه الله أن خاصة هذه الكلمة التراخي وقد دخلت على اللفظ فيجب إظهار التراخي في نفس اللفظ وذلك فإن يتراخى تعليق الثاني عن الأول، وعلى هذا الاعتبار يقع الفصل بين الأول والثاني فصار كما لو فصل بينهما بالسكوت وهناك الجواب كما قلنا فهاهنا كذلك. والحاصل: أنهما يظهران التراخي في الوقوع دون التعليق وأبو حنيفة رحمه الله أظهر التراخي في التعليق دون الوقوع، ولو قدم الشرط فقال: إن دخلت الدار فأنت طالق

ثم طالق ثم طالق تعلق الأول بالدخول ووقعت الثانية ولغُيت الثالثة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: يتوقف الكل على وجود الشرط وإذا وجد الشرط تقع واحدة والكلام في هذا الفصل بناء على ما ذكرنا في الفصل المتقدم أنهما يظهران التراخي في الوقوع، وأبو حنيفة رحمه الله يظهر التراخي في التعليق. وفي «نوادر» : هشام عن محمد رحمه الله: إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة حتى تبين بثلاث وهوينوي ثلاثاً طلقت ثلاثاً واحدة بعد واحدة بعد أخرى، ولو قال لها: أنت طالق حتى تبين بثلاث فهي ثلاث فيما أظن الشك من هشام، وفي باب اللفيف من «المنتقى» أنت طالق حتى تحرمي حتى تبين لكن تبين لثنتين أنها واحدة وإن نوى ثلاثاً فهي ثلاث، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لها: أنت طالق حتى تشكل ثلاث تطليقات فهي طالق ثلاثاً ولا تدين في القضاء على إبطال ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لامرأته: أنت طالق وبائن أو قال لها: أنت طالق ثم بائن وقال: لم أنو بقول بائن شيئاً فهي طالق تطليقة رجعية، ولو ذكر بحرف الفاء وباقي المسألة بحالها فهي تطليقة ثانية. وفي «المنتقى» : إذا طلق امرأته ولم يدخل بها ثنتين ثم قال: ... طلقها واحدة قبل الثنتين فأنا لا أبطل عنه الثنتين وألزمه التي أقر بها فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره. إذا قال لامرأته ولم يدخل بها أنت (233ب1) . طالق واحدة قبل واحدة أو بعدها واحدة طلقت واحدة، ولو قال قبلها واحدة أو مع واحدة أو معها واحدة أو بعد واحدة وقعت ثنتان، والأصل في تخريج هذه المسائل أن كلمة قبل إذا دخلت بين اسمين إن كانت مذكورة بحرف الهاء كانت القبلية صفة للمذكور آخراً، وإن كانت مذكورة بدون حرف الهاء كانت القبلية صفة للمذكور أولاً بقول الرجل: جاءني زيد قبله عمرو وكانت القبلية صفة لعمرو وتقول جاءني زيد قبل عمرو وكانت القبلية صفة لزيد وكلمة بعد مقتضاها على ... مقتضى كلمة قبل وكلمة مع للقران ذكرت بالهاء أو بغير الهاء فتقول في كلمة مع يستوي الجواب بين أن يكون مذكورة بالهاء أو بغير الهاء لأن كلمة مع للقران فاقتضى وقوع التطليقتين معاً على غير المدخول بها، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قال معها واحدة تقع واحدة، والصواب ما ذكرنا. وفي كلمة قبل وبعد يختلف الجواب بالذكر مع الهاء وبغيرالهاء، وإذا قال: لها أنت طالق واحدة قبل واحدة فالقبلية صفة المذكور أولاً فسبق الأول في الوقوع وبانت لا إلى غيره فلا تقع البائنة وإذا قال قبلها واحدة والقبلية صفة المذكور آخر وليس في وسعه تقديم الآخر على الأول إما في وسعه القران فيثبت من قصده قدر ما كان في وسعه وهو القران فتقعان معاً، وإذا قال لها: أنت طالق واحدة بعد واحدة فالتعدية صفة للمذكور أولاً فاقتضى وقوع الأول بعد الثاني وليس في وسعه ذلك أما في وسعه القران فتقعان معاً، وإذا قال: واحد بعدها واحدة فالتعدية صفة

المذكور آخراً وهو كان موصوفاً بهذه الصفة من غير وصفه ولم يرد ذلك إلا بكل كذا وبعدما وقع الأول لا يتصور وقوع الثاني قبل الدخول. وفي «المنتقى» : وقال أبي يوسف رحمه الله في رجل قال لامرأته ولم يدخل بها أنت واحدة بعدها واحدة إن دخلت الدار بانت بالأولى ولم يلزمها اليمين لأن هذا منقطع، ولو قال لها: أنت طالق واحد قبل واحدة إن دخلت الدار لم تطلق حتى تدخل الدار، وإذا دخلت طلقت واحدة، ولو قال لها: أنت طالق واحدة أو معها أو مع واحدة أو معها واحدة إن دخلت الدار لم تطلق حتى تدخل: وإذا دخلت تقع عليها ثنتان، ولو قال لها: أنت طالق واحدة وبعدها أخرى إن دخلت الدار لم تطلق حتى تدخل وإذا دخلت وقع عليها ثنتان وهذا وقوله واحدة وواحدة سواء. ولو قال لها ولم يدخل بها أنت طالق أحد وعشرون تقع الثلاث عند علمائنا رحمهم الله الثلاثة خلافاً لزفر رحمه الله، ولو قال أحد عشر تقع الثلاث في قولهم والوجه لعلمائنا الثلاثة أن قوله أحد وعشرون كلام واحد كقوله وأحد عشر فلا يحكم بأوله قبل آخره حتى يقال تبين بواحدة بأول الكلام فيصدقها العدد الآخر وهي مثابة. وإنما قلنا: أنه كلام واحد فإن من أراد أن يعبر عن واحدة وعشرين لا يمكنه أن يعبر عنها بعبارة أوجز من هذا في عرف الاستعمال ويجعل كلاماً وأحد عشر وقت واحدة لأنه يمكنه أن يأتي باللفظ المعتاد وبعبارة أوجز من هذا وجعل العددين شيئاً واحداً يكون بطريق الضرورة والضرورة تندفع بالمعتاد فينبغي ما وراء المعتاد مردوداً إلى أصل القياس وهما عددان في الحقيقة، ولو قال: واحد ومائة وواحد وألف كانت واحدة في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف رحمه الله تقع الثلاث، ولو قال واحدة ونصفاً وقع عليها ثنتان، ولو قال نصفاً وواحدة وقعت واحدة عند محمد رحمه الله خلافاً لأبي يوسف رحمهما الله. ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله رجل وامرأتان لم يدخل بهما فقال امرأتي طالق امرأتي طالق قال: أردت واحدة منهما لا أصدقه وأبنتهما منه، وكذلك لو قال: امرأتي طالق وامرأتي طالق، ولو كان قد دخل بهما وما في المسألة بحالها منه أن يوقع الطلاقين على أحديهما والله أعلم. نوع آخر في إيقاع الطلاق بعدد ما له عدد وما لا عدد له وفي البينةالواقع بما له عدد وما لا عدد له إذا قال لها أنت طالق مثل عدد كذا لشيء لا عدد له كالشمس والقمر وما أشبه ذلك فهي واحدة بائنة لقول أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف رحمه الله: تقع واحدة رجعية لأنها لما شبهه بعدد ما لا عدد له لما ذكر العدد وبقي قوله: أنت طالق، والواقع واحدة رجعية ولأبي حنيفة رحمه الله أنه وصف الطلاق بضرب من الزيادة فليس بعذر إظهار الزيادة من حيث العدد أمكن إظهارها من حيث وصف البينونة فيجب إظهارها.

فروي عن أبي يوسف رحمه الله رواية أخرى أنه تقع واحدة بائنة كما هو قول أبي حنيفة رحمه الله، ولو قال أنت طالق عدد شعر بطن كفي فهي طلقة واحدة لأنه لا شعر على بطن كفه فلا يكون بذكر هذا العدد موافق العدد، كذلك وإذا قال عدد ما في كفي من الدراهم وليس في يده شيء تقع طلقة واحدة. وكذا إذا قال عدد ما في هذا الحوض من السمك وليس في الحوض سمك، وكذلك لو قال بعدد كل شعرة على جسد إبليس تقع واحدة حتي يُعلم على جسد إبليس شعر. ولو قال: أنت طالق عدد شعر رأسي أو عدد شعر ظهر كفي وقد كان حلق ظهر كفه أو رأسه قبل هذه المقالة طلقت ثلاثاً لأنه شبه الواقع بعدد شعر الرأس وبعدد شعر الكف وشعر ظهر الكف وشعر الرأس ذو عدد في نفسه، وإن لم يكن موجوداً بالحال ويصير موقعاً للعدد بخلاف ما لو قال عدد ما على رأسي من الشعر أو عدد ما على ظهر كفي من الشعر لأن هناك شبهة الطلاق بالعدد الموجود حيث قال: عدد ما على ظهر كفي من الشعر وإذا لم يكن موجوداً لفي ذكر العدد. ولو قال لها أنت طالق كعدد النجوم أو مثل عدد النجوم أو كالنجوم أو كالرمل فهي واحدة بائنة كذا رواه ابن سماعة عن محمد رحمه الله، وفي رواية أخرى عنه أنها واحدة رجعية. ولو قال: عدد النجوم فهو ثلاث وفي «الجامع الصغير» إذا قال لها أنت طالق كألف فهي واحدة بائنة إلا أن ينوي ثلاثاً لأن الشيء قد شبه الألف لزيادة قوة كما في قوله رب واحد لعدل الألف زائدة وقوة الطلاق بالبينونة فهذا يقتضي وقوع واحدة بائنة وقد يشبه به لكثرته وهذا يقتضي وقوع الثلاث لأن الثلاث كثير لأن الواحدة أدنى وقيد الإطلاق يقع واحدة، وإذا نوى ثلاث صحت نيته، وفي «القدوري» إذا قال لها أنت طالق كألف وإن نوى ثلاثاً فثلاث وإن نوى واحدة أو لم يكن له بينة فهي واحدة بائنة لقول أبي حنيفة رحمه الله (234أ1) وأبي يوسف الآخر رحمه الله، وقال محمد رحمه الله هي ثلاث ولا تدين في الحكم وتبين بما ذكر القدوري رحمه الله أن المذكور في «الجامع الصغير» قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وجه قول محمد رحمه الله: ما ذكره القدوري أن هذا يشتبه من حيث العدد لأن الألف عدد واقتضى التشبيه بعدده كما لو قال أنت طالق كعدد ألف بخلاف ما لو قال أنت طالق واحدة كألف لأنه صرح بالواحدة علماً أنه أرادا به التشبه في الشدة والقوة دون العدد وتقع واحدة لهذا ولا تقع الثلاث وإن نوى لأن الواحدة لا تحتمل العدد ومن نوى ما لا يحتمله لفظه لا يعمل بنية، ولو قال أنت طالق كعدد ألف أو ثلاث فهي ثلاث في القضاء. ذكره في «القدوري» أيضاً: لأنه لما صرح بالتشبيه من حيث العدد لم يبق لاحتمال التشبيه من حيث القوة غيره، وإذا قال لها: أنت طالق مثل عظم رأس الإبرة أو قال مثل

الجبل أو قال مثل حبة الخردل فلأصل عند أبي حنيفة رحمه الله في حبس هذه المسائل أنه إذا شبه الطلاق بشيء عظيم أو صغير يقع بائن أي شيء كان المشبه به سواءً ذكر العظيم أو لم يذكر والأصل عند زفر رحمه الله أنه متى شبه الطلاق بشيء عظيم يكون بائن ومتى شبهه بشيء صغير حقير يكون رجعياً ذكر العظم أو لم يذكر. والأصل عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أنه متى ذكر العظم باللفظ يكون بائناً وإن كان المشبه به صغيراً أو من لم يذكر العظم باللفظ وشبهه بشيء عظيم أو شيء صغير حقير إن كان له حدة يكون بائناً وإن لم يكن له حدة يكون رجعياً بناه في مسائل إذا قال لها أنت طالق عظم سمسم أو عظم الخردل. وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تقع تطليقة بائنة إعتبار للعظم ذكراً. وعند زفر رحمه الله تقع واحدة رجعية في مسألتين اعتباراً لصغر المسمى ولو قال مثل رأس الإبرة تقع واحدة بائناً عندهما لأن له حدة ولو قال مِثْلاً لسمسم تقع واحدة رجعية إذ ليس له حدة وأنه صغير وعند زفر رحمه الله تقع واحدة رجعية في المسألتين جميعاً إعتباراً لصغر المسمى، ولو قال: مثل الأساطين أو التراب أو الجبال عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تقع تطليقة رجعية. وعند زفر رحمه الله تقع واحدة بائنة، وعند أبي حنيفة رحمه الله تقع واحدة بائنة في هذه الفصول كلها للأصل الذي ذكره. ذكر بعض مشايخنا قول محمد رحمه الله مع أبي يوسف رحمه الله على نحو ما بينا وبعضهم قول محمد مع أبي حنيفة رحمهما الله، وإذا قال لها أنت طالق مثل سبحة دانق طلاق تقع واحدة لأنها سبحة واحدة فقد شبه الواقع بالواحدة فتقع واحدة، ولو قال مثل سبحة دانق ونصف وفارسية تقع ثنتان لأن سبحة دانق ونصف وفارسية دانكم سبيك تقع ثنتان لأن سبحة دانية ونصف سبحتان من حيث العدد فقد شبه الواقع بعددين فتقع ثنتان، ولو قال يتم درم سيك تقع واحدة لأن سبحة ونصف درهم في العرف واحدة، ولو قال صار دانك سنك تقع تطليقتان لأن له سبحتان في العرف، ولو قال جهاردانك ديتم سنك تقع ثلاث بثلث سبحات في العرف فقد يك شبه الواقع بالثلاث. والحاصل: أن التعديل على عدد السبحات المتعارفة فيما بين الناس. ولو قال لها أنت طالق هكذا وأشار بإصبع واحدة فهي واحدة وإن أشار بثنتين فهي ثنتان وإن أشار بالثلاثة فهي ثلاث لأن الإشارة بالأصابع بمنزلة التصريح بالعدد وإن أشار بثلاثة أصابع وقال: عنيت بهذه الإشارة التشبيه بالكف دون الأصابع لا يصدق قضاء لأنه خلافاً للظاهر لأن الظاهر فيما بين الناس أنهم يريدون بهذه الاشارة تنقض الأصابع والتشبيه بالأصابع دون الكف ومن المتأخرين من قال: إذا جعل ظهر الكف. إليها والأصابع إلى نفسه صدق قضاءٍ. ولو قال: عنيت اثنتين بالأصبعين اللتين عقدتهما لا يصدق في القضاء وتقع ثلاث تطليقات لأنه نوى خلاف الظاهر فالظاهر فيما بين الناس أنهم يريدون الإشارة بالأصابع

المنشورة دون المعقودة بعض مشايخ بلخ قالوا: إنما لا يصدق قضاء إذا كانت الأصابع كلها معقودة قبل الإشارة نضف ثلاثاً منها وقال: أنت طالق هكذا، وقال أعني بها الأصابع المعقودة أما إذا كانت الأصابع كلها منشورة عقد ثنتين منها وقال: أنت طالق هكذا وقال عنيت به الأصابع المعقودة يصدق قضاءً لأنه ادعى المعتاد لأن المعتاد فيما بين الناس أنهم يريدون الإشارة بما أخذ فوافقه الحركة فإذا كانت الأصابع كلها منشورة وعقد ثنتين منها، وإنما أخذت الحركة في المعقودة فكان مدعياً هو المعتاد فيصدق قضاء ولكن هذا الخلاف رواية محمد رحمه الله. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا قال عنيت اثنتين بالاصبعين اللتين عقدت لا يصدقه القاضي وقوله عقدت يقتضي أنها كانت منصوبة من قبل وإن أشار بالأصابع كلها فقال أنت طالق ولم يقل هكذا تقع واحدة لأن الإشارة بالأصابع محتملة بين أن تكون نسبة الواقع بها وبين أن تكون للكناية عن المرأة تأكيداً لقوله أنت فيقع الشك في وقوع ما زاد على الواحدة بخلاف ما إذا قال: هكذا لأنه إذا قال هكذا؛ فقد نص على التشبيه والظاهر يشبه الطلاق بها دون المرأة لأن الطلاق يتعدد في نفسه دون المرأة. ولو قال: لها أنت طالق من هنا إلى الشام فهي واحدة رجعية لأنه وضعها بالمصر لأن الطلاق إذا وقع يقع في جميع الدنيا فإذا قال إلى الشام فقد وصفه بالمصر ومصره يكون من حيث الحكم والمصر من حيث الحكم هو الرجعي. إذا قال لها: أنت طالق طلاق ملىء الدار فإن نوى ثلاثاً فهي ثلاث وإن نوى واحدة أو ثنتين أو لم يكن له نية فهي واحدة بائنة لأن الطرف قد يمتلىء من الشيء بضخامته وقد يمثل به لكثرته ونفس الطلاق لا يوصف بالغلط فأما حكم يوصف بالغلط وهو البينونة فإذا لم ينو شيئاً تقع واحدة بائنة؛ لأنه أدنى، وإذا نوى الثلاث تصح نيته لأن اللفظ يحتمله. وإذا قال لها: أنت طالق واحدة بملىء الدار فهي واحدة بائنة لأنه لما نص على الواحدة نص على الواحدة ووصفها بملىء الدار علماً أنه إذا أراد ملىء الدار من حيث الضخامة والغلظ، وإذا قال: لها أنت طالق لونين من الطلاق فهما تطليقتان تملك الرجعة ولو قال لها: ثلاثة ألوان فهي ثلاثة فكذلك إذا قال ألواناً من الطلاق فهي طلاقاً ثلاثاً وإن نوى ألوان الحمرة والصفرة فله (234ب1) بينة فيما بينه وبين الله تعالى وكذلك إذا قال: ضروباً أو أنواعاً أو وجوهاً من الطلاق. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله أنت طالق واحدة يكون ثلاثاً أو يصير ثلاثاً أو يعود ثلاثاً فهو ثلاث، وكذلك إذا قال: يتم ثلاثاً، ولو قال لها أنت طالق كماهي ثلاثاً وثالث فهي ثلاثة، ولو قال لها: أنت طالق آخر ثلاث تطليقات فهي واحدة، ولو قال: أطلقك آخر ثلاث تطليقات طلقت ثلاثاً إذا قال لها: تراسيار طلاق ولا نية له تقع تطليقتان لأن الشيء إذا ضم إلى الشيء يصير كثيراً ويكثر أكثر فأكثر كثير الطلاق ثلاث الكثير ثنتان هكذا ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» . وفي «البقالي» : إذا قال لها: أنت طالق قال؛ لأن الثلاث إذا نصف كان نصفه

الأكثر ثنتان من القاضي فخر الدين رحمه الله عامة الطلاق أو قال: هل الطلاق منهما تطليقتان ولو قال أكثر الطلاق فهو ثلاث، ولو قال: كل الطلاق فهو واحدة ولو قال أكثر الطلاق فهو ثلاث. ولو قال: كل الطلاق فهو واحدة ولو قال أكثر الثلاث فهو ثلثان وأخرى فهي واحدة ولو قال: أنت طالق، ولو قال: أنت طالق طالق الطلاق كله فهو ثلاثة وكذلك إذا قال كل طلقة، ولو قال عدداً من الطلاق فهو ثنتان وكذلك إذا قال عدد الطلاق، ولو قال عدة الطلاق فهو ثلاث. ولو قال أنت طالق واحدة وأخرى فهي ثنتان، ولو قال: أنت طالق غير واحدة فهي ثنتان ولو قال غير ثنتين فهي ثلاث. وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله في قوله أنت طالق غير واحدة أنها واحدة إلا أن ينوي، ولو قال لها: أنت طالق لا قليل فلا كثير. حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أنه تقع واحدة قال؛ لأن الطلاق لا يوصف بالقلة والكثرة فلما ذكر القلة أو الكثرة ففي قوله أنت طالق وهكذا حكي عن الفقيه أبي بكر البلخي رحمه الله، واختيار الصدر الشهيد رحمه الله على أنه تقع الثلاث لأنه لما قال أولاً لا قليل فقد قصد إيقاع الثلاث لأن الثلاث هو الكثير فلا يعمل بعد ذلك قوله فلا كثير، فعلى هذا لو قال لا كثير ولا قليل تقع واحدة. وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله أنه يقع ثنتان وهو الأشبه؛ لأن الثنتان كثير على ما ذكرنا فإذا قال لا قليل بعد قصد إيقاع الثنتين فلا يعمل بعد ذلك قوله ولا كثير. نوع آخر في إلحاق العدد بالإيقاع وفي نية العدد إذا قال لها: أنت طالق فسكت ثم قال ثلاثاً فإن كان سكوته لانقطاع النفس وقع الثلاث لأن الفصل هنا غير معتبر وإن كان سكوته ليس لانقطاع النفس لا تقع إلا واحدة لأن الفصل هنا معتبر هكذا ذكر في «النوازل» . ولو قال لها: أنت طالق فقيل له بعدما سكت ثم قال ثلاثاً قال أبو يوسف رحمه الله: كانت طالقاً ثلاثاً هكذا ذكر في «العيون» فيحتمل أن يكون هذا قول أبي يوسف رحمه الله خاصة بناءً على ما روى عنه أن من قال لامرأته: أنت طالق ونوى الثلاث أنه يصح ويحتمل أن هذا قول أبي حنيفة رحمه الله أيضاً على أن من طلق امرأته واحدة ثم قال جعلها ثلاثاً قال الصدر الشهيد رحمه الله وهو الظاهر. رجل قال لامرأته: ترا طلاق أو قال دامت طلاق ونوى الثلاث يصح وتقع الثلاث بخلاف ما إذا قال لها: أنت طالق ونوى الثلاث؛ لأن قوله طالق نعت فرد ونعت الفرد لا يحتمل العدد وأما الطلاق مصدر والمصادر أسماء الأجناس واسم الجنس يتناول الأدنى ويحتمل الكل فعند انعدام البينة تنصرف إلى الواحدة وإذا نوى الثلاث فقد نوى ما يحتمله لفضله.

وفي «الأصل» : إذا قال لها: أنت طالق لا يقع إلا واحدة وإن نوى الثلاث، ولو قال أنت الطلاق ونوى الثلاث تقع الثلاث ولو قال: أنت طالق الطلاق كله تقع الثلاث وإن لم ينوِ الثلاث ومن المشايخ من يشترط نية الثلاث لوقوع الثلاث وهو قول عيسى بن أبان. وإذا قال لها: طلقي نفسك ونوى الثلاث صحت نيته حتى لو طلقت نفسها ثلاثاً تقع الثلاث لأن معنى كلامه افعلي فعل الطلاق أوقعي الطلاق على نفسك كما أن معنى قوله اضرب افعل فعل الضرب والطلاق مصدر والتقريب ما ذكرنا. ولو قال لها: أنت طالق طلاقاً ولا نية لم تقع واحدة ولو نوى الثلاث صحت نيته ولو نوى الثنتين لا تصح لأن المصدر يحتمل الكل ظظاما لا يحتمل العدد والثنتان عدد فلم تصح نية الثنتين في الطلاق وصحة نية الثلاث فيه أجدى ولو نوى بقوله أنت طالق واحدة وبقوله طلاقاً أخرى تصح نيته وتقع ثنتان هكذا ذكر القدوري في كتابه يصير تقدير المسألة أنت طالق أنت طالق طلاقاً. نوع آخر في إيقاع بعض التطليقة إذا قال لامرأته: طالق ثلاثة أيضاً تطليقتين يقع عليه ثلاث تطليقات هكذا ذكر في «الجامع الصغير» فاعلم بأن من هذا الجنس مسائل: أحدها: إذا قال لها أنت طالق نصفي تطليقة تقع تطليقة واحدة لأن نصفي تطليقه تكون تطليقة واحدة كنصفي درهم يكون درهماً واحداً. الثانية: إذا قال لها: أنت طالق ثلاثة أيضاً وتطليقة تقع تطليقتان لأن ثلاثة أنصاف تطليقة، تطليقة ونصف فكأنه قال لها: أنت طالق تطليقة ونصف. الثالثة: أن يقول: أنت طالق أربعة أنصاف تطليقة تقع تطليقتان لأن أربعة أنصاف تطليقة تطليقتان كما أن أربعة أنصاف درهم درهمان فصار كأنه قال: أنت طالق تطليقتين. الرابعة: أن يقول: أنت طالق نصف تطليقتين فهي واحدة لأن نصف تطليقتين طلقة فكأنه قال لها: أنت طالق تطليقة. الخامسة: أن يقول: لها أنت طالق تطليقتان. السادسة: إذا قال لها أنت طالق ثلاث أنصاف تطليقتين نصفي تطليقتين تقع تطليقتان لأن نصفي تطليقة طلقة فيكون نصفي تطليقتين تطليقتان وكأنه قال لها: أنت طالق تطليقتان.f السادسة: إذا قال لها: أنت طالق ثلاث أنصاف تطليقتين تطليقتين وهي مسألة «الجامع الصغير» والجواب فهذا ما ذكرنا أنه يقع ثلاث تطليقات لأن التطليقتين نصف وهو يكون ثلاث تطليقات ضرورة. السابعة: إذا قال لها أنت طالق نصف ثلاث تطليقات تقع تطليقتان لأن نصف الثلاث تطليقة ونصف فكأنه قال لها: أنت طالق تطليقة ونصف. الثامنة: إذا قال لها: أنت طالق نصفي تطليقات طلقت ثلاثاً؛ لأن لثلاث تطليقات

نصف (235أ1) وذلك طلقة ونصف وطلقة ونصف مرتين يكون ثلاث تطليقات. وإذا قال لها: أنت طالق نصف تطليقة وثلث تطليقة والسدس تطليقة تقع ثلاث تطليقات لأن ... إذا كررت كانت البائنة غير الأول فيكون موقعاً ثلث، تطليقة أخرى وسدس تطليقة أخرى، ولو قال نصف تطليقة وثلثها وسدسها تقع واحدة؛ لأنه أضاف الثلث وسدس والنصف إلى الموقعة والواحدة الموقعة تقع لجميع أجزائها فلا يتصور إيقاع شيء بها مرة أخرى هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله. وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : إذا قال لها: أنت طالق نصف تطليقة ونصف تطليقة ووقع تطليقة تقع ثنتان هو المختار؛ لأنه متى جمع هذه الأخرى تزداد على الواحد فعلى قياس ما ذكر الصدر الشهيد رحمه الله ينبغي في قوله أنت طالق نصف تطليقة وثلث تطليقة وسدس تطليقة أن تقع تطليقة واحدة لأنه متى جمع بين هذه الأخرى لا تزداد على الواحدة ولو قال نصف تطليقة وثلثها وربعها وقعت ثنتان هكذا ذكر الحسن بن زياد رحمه الله لأنه زاد على آخر الواحدة لا بد وأن تكون الزيادة من طلقة أخرى، وبعض مشايخنا قالوا: تقع واحدة وإليه مال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، ولو قال لها: أنت طالق واحدة ونصف أو قال واحدة وربع أو ما أشبه ذلك تقع ثنتان، ولو قال واحدة ونصفها أو قال واحدة وربعها تقع واحدة. والفرق أن في المسألة الأولى ذكر نصفاً مطلقاً وربما مطلقاً فاقتضى ذلك تطليقة بائنة، وفي المسألة الثانية ذكر النصف والربع مضافاً إلى الواحدة الموقعة لكون الهاء كناية عن المذكور أولاً وقد وقعت الأولى تحملها فلا يتصور إيقاعها بائناً. ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» إذا قال الرجل لأربع نسوة له بينكن تطليقة طلقت كل واحدة واحدة لأن كلمة بين كلمة تقسيم وتشريك فتصير التطليقة مقسومة بينهن فيصيب كل واحد منهن ربع تطليقة وإيقاع بعض التطليقات إيقاع الكل. وكذا إذا قال بينكن تطليقتان أو ثلاثة أو أربعاً، فروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمه الله، لو قال لامرأتين له جعلت بينكما تطليقتين أو قسمت بينكما تطليقتين تطلق كل واحدة ثنتين وكأنه قال: إن كل تطليقة تقسم بينهن على حدة وعلى قياس هذا ينبغي أن تقع على كل واحدة ثلاث تطليقات في قوله ثلاثاً أو أربعاً وهو قول زفر رحمه الله. ولكن نقول الأصل في العددي المتفاوت قسمت الجملة والطلاق من جملة الاعداد المتقارب ولو قال بينكن خمس تطليقات طلقت كل واحدة ثنتين لأن الخمس إذا قسم بين الأربع نصيب كل واحدة تطليقة وربع فيه كامل الربع فتصير تطليقتان وكذا الجواب فيما زاد على الخمس إلى الثمانية وعلى قياس قول أبي يوسف رحمه الله: تقع على كل واحدة ثلاث تطليقات لأن نصيب كل واحدة طلقتان وربع والله أعلم.

الفصل الخامس: في الكنايات هذا الفصل يشتمل على أنواع

الفصل الخامس: في الكنايات هذا الفصل يشتمل على أنواع نوع منه في قوله: أنت علي حرام وما يتصل به إذا قال لامرأته: أنت علي حرام فإنه يسأل عن بينته قال نوى الطلاق يسأل كم نوى ثلاثاً قبلت وإن نوى واحدة فواحدة بائنة وإن نوى ثنتين فهي واحدة بائنة أيضاً وهذا لأن الحرمة نوعان: حقيقة: وهي التي تثبت بالواحدة البائنة. وغليظة: وهي التي تثبت بالثلاث فأي ذلك نوى فقد نوى ما يحتمله لفظه هذا المعنى معدوم في البينتين فنفى هدايته العدد وهذا اللفظ لا يحتمل العدد حتى لو كانت المرأة أمة تصح نية الثنتين لا يلزم على هذا ما إذا طلق امرأته الحرة واحدة ثم قال لها: أنت علي حرام ينوى ثنتين حيث لا يصح هذه النصيحة لأن هناك الحرمة المغلظة لا يحصل بهما بل يحصل بهما وبما تقدم هي هذا مجرد نية العدد حتى لو قال لها بعدما طلقها واحدة أنت علي حرام ونوى الثلاث تصح نيته وتقع تطليقتان آخر بأن نص على هذا محمد رحمه الله في آخر بأن ما تقع به الفرقة مما يشبه الطلاق. وإن نوى الطلاق في قوله: أنت علي حرام ولم ينو العدد فهي واحدة وإن لم ينو الطلاق فهو يمين نوى اليمين أو لم ينو لأن تحريم الحلال يمين غير أن اليمين في الزوجات إيلاء فإن قربها كان عليها الكفارة وإن لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانت بالإيلاء فلا وكذلك هذا الحكم في جانب المرأة إذا قالت لزوجها أنت علي حرام أو قالت أنا عليك حرام كان يميناً وإن لم ينو كما في جانب الزوج حتى لو مكنت زوجها الإيلاء حنثت في يمينها ولزمها الكفارة محفوظ عن أصحابنا رحمهم الله في «النوادر» وإن قال الرجل أردت بهذا الكلام الإيك فهو وما لو قال أردت اليمين سواء وإن قال: نويت الظهار فعلى قول محمد رحمه الله لا يكون ظهاراً وعندهما يكون ظهاراً وإن قال نويت بهذا الكلام الكذب فهو كذب فلا حكم له ويصدقه القاضي لأنه فسر لفظه بما يقتضيه ظاهره وهو نظير ما لو قال لامرأته: أنت حرة فقال أردت نفيها بالحرية لا الطلاق، يدين في القضاء هكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله قالوا: لا تصدق في القضاء. وفي «المنتقى» : إذا قال لها أنت علي حرام ثم قال: عنيت به الكذب لم يصدق في إبطال الإيلاء قضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، ولوقال كل حل علي حرام فإنه يسأل عنه النية فإن نوى اليمين أو لم ينو شيئاً بعينه كان يميناً وتنصرف إلى الطعام والشراب ولا تدخل فيه امرأته به إلا بالنية استحساناً هكذا قال محمد رحمه الله في «الكتاب» ، وحكي

عن مشايخ بلخ أنه تدخل فيه امرأته أيضاً وإن لم ينوها لأن العرف قد مشى فيما بينهم أنهم يريدون بهذه اللفظة النساء، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله حتى لو فشى هذا العرف فيما بينا أيضاً دخلت امرأته في اليمين من غير الله وبعض مشايخ زماننا. وفي قوله حلال بر من حرام هرجه حلال است مرا بر من حرام أنه ينصرف إلى الطلاق من غير نية لأنه علة استعمال هذا في النساء ثم على ما هو جواب محمد رحمه الله إذا نوى امرأته حتى دخلت فيه امرأته لا يخرج الطعام والشراب من اليمين فيحنث إذا أكل أو شرب أو قرب امرأته وتلزمه الكفارة ويصير تقدير المسألة كأنه قال والله تناول النساء والطعام والشراب، وإذا تناول شيئاً من الطعام والشراب حنث في يمينه وانقضى حكم يمينه حتى لو قرب امرأته بعد ذلك لا يحنث في يمنه أن يتناول شيئاً (235ب1) قليلاً أو كثيراً من الطعام والشراب بخلاف ما إذا قال والله لا آكل هذا الطعام أو الشراب وذلك مما يستوفيه واحد، فإن هناك لا يحنث في يمينه ما لم يستوف جميع ذلك. والفرق: أن هناك الحنث بحكم الشرط، والحرمة تثبت ضرورة كون الأكل والشرب شرطاً والحالف جعل أكل كل الطعام وشرطا، والمعلق بالشرط لا ينزل عند وجود بعضها وأما ههنا الحرمة لموجب التحريم وضرورته شرطاً كان ضرورة تنوب الحرمة، والحرمة إذاً ثبتت للمعنى صار كل جزء جواباً، فصار الحلال اليمين وجوب الكفارة معلقاً يناول جزءاً منه فكذلك لا يدخل في هذا اليمين اللباس إلا بالنية وإذا نوى اللباس حتى دخل اللباس تحت اليمين لا يخرج الطعام والشراب عن اليمين فإنه ليس شيئاً من الملبوسات حنث في بيمنيه فتلزمه الكفارة وينقضي حكم اليمين. والحاصل: أنه إذا لم ينو في هذه اليمين شيئاً بعينه من الحلال فيمينه على الطعام والشراب خاصة، وإن كان اللفظ عاماً صالحاً يناول جميع الحلال به لأنه مقصود الحالف من اليمين البر دون الحنث، ولا تصور للبر إذا حمل على العموم، لأنه حينئذٍ يصير مرتكباً هو شرط الحنث عقب اليمين؛ لأن التنفيس وفتح العين والقعود والقيام بها أشبه ذلك من الأشياء التي لا يخلو الإنسان عنها تدخل تحت التحريم. وإذا تعذر اعتبار معنى العموم فدخل على المتعارف وهو الطعام والشراب الذي بهما قوام النفس فلا يدخل تحت التحريم سواهما إلا بالنية، ولو نوى الطعام خاصة أو الشراب خاصة، أو اللباس خاصة، فهو على ما نوى فيما بينه وبين الله تعالى وفي القضاء، أما فيما بينه وبين الله تعالى فإنه نوى ما يحتمله لفظه، وأما في القضاء فلأن عدم التصديق في القضاء لو كان إنما يكون لمراعاة العموم، وقد سقط اعتبار العموم على ما بينا، ولو نوى المرأة خاصة، ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرحه» أن نيته لا تعمل، ويكون يمينه على الطعام والشراب والنساء، وعن أبي حنيفة رحمه الله في فصل التعليق إذا قال الرجل: كل حل حرامٌ إذا دخلت الدار فدخلها، إن هذا على الطعام والشراب خاصة دون ما سواه، وإن نوى، امرأته دون ما سواها فهو كما نوى فليس على الطعام ولا على الشراب، فذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّه يصدَّق ويعمل بنيتهُ، وهكذا

ذكر القدوري في «شرحه» ، وإن قال نويت بهذا الطلاق في امرأتي فإن نيته تعمل في طلاق امرأته، فيخرج الطعام والشراب من أن يكون مراداً حتى لو أكل أو شرب بعد ذلك لا يحنث من يمينه، لأن اللفظ واحد، واللفظ الواحد لا يجتمع فيه معنيان مختلفان، ومعنى الطلاق غير معنى اليمين أصلاً، فروى إبراهيم عن محمد رحمه الله وإذا قال: كل حلِّ عليَّ حرام ونوى الطلاق في لسانه واليمين في نعم الله تعالى فهو طلاق ويمين. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لامرأتين له: أنتما عليّ حرام ينوي الطلاق في إحديهما واليمين أي الإيلاء في الأخرى فهما طالقتان فهكذا روي عن محمد رحمه الله أيضاً. ووجه ذلك: أن اللفظ واحد فلا يحتمل معنيين مختلين فحمله على الأغلظ وهو الطلاق عند عدم إمكان اعتبارهما، وكذلك إذا نوى في إحديها ثلاث تطليقات وفي الأخرى واحدة فهما طالقتان ثلاثاً لأن الحرمة بالثلاث. نوع آخر غير الذي يثبت بالواحدة فلا يجتمعان في لفظ واحد، فحمل على الأغلظ. وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله الأمر كما نوى يقع على إحديهما ثلاث تطليقات وعلى الأخرى واحدة، لأن هذا اللفظ للثلاث حقيقة، والواحدة كالمجاز، لأن الحرمة المطلقة تثبت بالثلاث فصار نظير لفظة النذر، إذا نوى به النذر واليمين، وهناك يكون يميناً ونذراً عند أبي حنيفة رحمه الله، خلافاً لأبي يوسف رحمه الله كذا ههنا. ولو قال هذه عليَّ حرام وهذه وهو ينوي الطلاق في إحديهما فالإيلاء في الأخرى، فهما طالقتان لأنه كلام واحد حنث، قال وهذه، ولم يقل وهذه علي حرام، والكلام الواحد لا ينتظم معنيين مختلفين فحمل على الأغلظ وهو الطلاق. ولو قال هذه عليَّ حرام ونوى الطلاق، وهذه عليّ حرام ينوي الإيلاء، فهو كما ينوي، لأنهما لفظان وكلامان، فجاز أن يراد بكل واحد منهما معنى على حدة، ولو قال لأمرأته وأم ولده أنتما علي حرام، ينوي في الحرة اليمين وفي أم الولد الطلاق فهو يمين فيهما. وعن اسماعيل بن حماد عن أبي يوسف رحمه الله في رجل قال لامرأته وجاريته أعتقتكما ينوي طلاق المرأة وعتاق الأمة قال: تعتق الأمة ولا تطلق المرأة، قال: لأن العتق أغلب لأنه لا يحتاج فيه إلى نية، ولو قال لثلاث نسوة أنتنّ علي حرام ينوي لأحداهن طلاقاً، واليمين في الأخرى، والكذب في الثالثة طلقن جميعاً، هكذا ذكر في «النوازل» ، قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» ، وهذا قول أبي يوسف رحمه الله، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله يجب أن تكون كما نوى قياساً على المسألة المتقدمة. ولو قال لها: أنت علي حرام، قال ذلك مرتين ونوى بالمرة الأولى الطلاق وبالمرة الثانية اليمين فهو على ما نوى بالإجماع لأن اللفظ مختلف. وقد مرَّ جنس هذا، إذا قال حلال الله علي حرام أو قال حلال حرام أو قال: حلال هذا بر من حرام إن فعلت كذا، أو قال حلال المسلمين فهذا كله طلاق بائن، لأن

الناس في بلادنا تعارفوا هذا طلاقاً، فصار حكم العرف، كالصريح في هذا الباب فلا يحتاج فيه إلى النية، أو يقال فلا يصدق في ترك النية فبعد ذلك ينظر إن كانت له امرأة وقت الحلف طلقت واحدة بائنة، وإن لم يكن له امرأة وقت الحلف كان يميناً لأنه تعذر صرفه إلى المرأة فتحق المسألة لأن تحريم الحلال يمين حتى إن من قال لغيره حرام است بوستخن كفتن كان يميناً حتى لو كلمة تلزمه الكفارة، فكذا ههنا يكون يميناً، وتلزمه الكفارة إذا حنث، هكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» ، وبه كان يفتي القاضي الإمام شمس الأئمة الأوزخندي رحمه الله، وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول إذا لم يكن له امرأة وقت اليمين، فتزوج امرأة تطلق، ويصير تقدير كلامه كل امرأة أتزوجها فهي طلاق. وكان نجم الدين النسفي رحمه الله يقول إذا لم يكن له امرأة وقت اليمين يبطل الكلام ولا يحمل هذا يميناً، لأن هذا الكلام لما تعين للطلاق بحكم العرف صار تقدير كلامه: كل امرأة لي طالق إن فعلت كذا، وليس له امرأة، وهناك لا ينعقد اليمين على قول من يقول إنه لا يكون يميناً إذا لم يكن له امرأة وقت هذه المقالة إذا عنى التعليق حتى يصير تقدير (236أ1) كلامه: إن تزوجت فهي طالق إن فعلت كذا، هل تصدق في ذلك وهل تصح عنايته، قالوا: ينبغي أن.... وهكذا حكى فتوى شمس الإسلام فسيأتي شيء من هذا الجنس في فصل المتفرقات، ولو قال: حلال الله علي حرام وكذلك في أجناسه، وله أربع نسوة وقعت على كل واحدة تطليقة، هكذا حكي عن الفقيه أبي بكر البلخي، وحكي عن الإمام أبي الحسن الرستفغني رحمه الله، أنه كان يقول فيمن قال: حلّ المسلمين علي حرام، ونوى الطلاق وله امرأتان، أنه يقع على كل واحدة تطليقة. وفي «فتاوى» أئمة بخارى فيمن قال: حلال الله علي حرام وله امرأتان، قال محمد بن الفضل رحمه الله: إن لم يكن له نية طلقتا جميعاً، وإن نوى أن تطلق إحداهما ثنتين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء وحكى فتوى القاضي الإمام شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله، والشيخ الإمام الخطيب مسعود بن الحسين الكُشاني رحمه الله أنه يقع الطلاق على واحدة منهن وإليه البيان وهو الأظهر والأشبه، وهذا لأن قوله حلال الله علي حرام بمنزلة قوله امرأتي طالق عرفاً ولهذا وقع الطلاق به من غير نية، وفي قوله: امرأتي طالق يقع الطلاق على واحدة منهن والبيان إليه كذا ههنا إذا قال: هرجه بدست راست كيرم يرمن حرام فهذا طلاق بائن بحكم العرف وقوله هرجه بدست راست كرفته أم نظير قوله هرجه بدست راست كيرم وسيأتي في فصل المتفرقات بخلافه ولو قال: هرجة

بدست كيرم أو قال كرفته أم لا يكون طلاقاً لانعدام العرف ولو قال هرجة بدست كيرم فقد قيل: يجب أن يكون طلاقاً لأن اليد اسم جنس. وقيل: لا يكون طلاقاً لانعدام العرف. سئل نجم الدين رحمه الله عن رجل خلع امرأته ثم تزوجها بعد ذلك، ثم قال لها: بعد ذلك توبي من حرامي بأن خلع قال: يحرم لأنه أخبر أنها حرام عليه الآن بذلك الخلع وإنما يكون حراماً عليه بذلك الخلع إذا كان ذلك الخلع طلاقاً ثلاثاً حتى لا يصح هذا النكاح، فيكون مقراً على نفسه بالطلقات الثلاث، وإقراره على نفسه صحيح قيل: له.... يجب لها بحكم هذا النكاح، المسمى في هذا النكاح أو مهر المثل قال المسمى في هذا النكاح لأنه لم يصدق عليها في حق فساد النكاح، وفساد التسمية لأن ذلك حق المرأة فصحت التسمية في نفسها، وحرمت عليه بإقراره الآن بالحرمة. إذا قال لآمرأته: أنت علي حرام ألف مرة تقع واحدة، لأن معنى كلامه مرة بعد مرة. سئل نجم الدين رحمه الله أيضاً: عن امرأة قالت لزوجها حلال جيراي بدنو حرام قال يروي حرام شودبيك طلاق قال شود لأن قوله لدي يتضمن إعادة كلامها فصار كأن الزوج قال: حلال خذاي من حرام وهو تطليق في عرفنا تغير نية ثم في قوله: حلال خداي. واختار نية إذا وقع الطلاق بغير نية كان الواقع بها ثانياً اشتراط النية بحكم العرف فبقي فيما ورائه غير صريح، فيجوز أن يكون اللفظ صريحاً في حق حكم كتابه في حق حكم آخر كقوله: اعتدي واستبرئي رحمك وأنت واحدة فقال هذه الألفاظ في حكم الصريح على معنى أن الواقع بها رجعي ولا يقع بها أكثر من واحدة، وهي في معنى الكنايات لافتقارها إلى النية أو دلالة الحال. وحكي عن شيخ الإسلام علي الإسبيجابي رحمه الله أنه كان يقول في جنس هذه المسائل ينبغي للمعنى أن ينظر في سؤال السائل، إن كان سأل أن قد قلت كذا، هل يكون طلاقاً، تكتب في الجواب نعم إن نويت الطلاق، لأنه لما سأل عن كونه طلاقاً وغير طلاق فقد زعم كونه غير طلاق، وإن كانت تسأل أني قد قلت كذا كم يقع من الطلاق تكتب في الجواب أنه تقع واحدة ولا تتعرض للنية وإنه حسن. وفي «واقعات الناطقي» : إذا قال لها: أنت معي في الحرام فهو كقوله لها أنت علي حرام لأنها إذا حرمت عليه يحرم هو عليها فتكون معه في الحرام، إذا قال لها أنت علي حرام والحرام عنده طلاق لكن لم ينو الطلاق، فهي طالق على قول من يشترط نية الطلاق في هذا اللفظ، لما كان الحرام عنده الطلاق كان ذكره وذكر الطلاق سواء، وكما يصح إضافة التحريم إلى المرأة يصح إضافة الرجل بأن يقول الرجل أنا عليك حرام حرمت نفسي عليك غير أن إضافة التحريم إلى المرأة صحيح من غير ذكر الزوج حتى لو قال لها: حرمتك ونوى الطلاق، يقع الطلاق وإن لم يقل حرمتك على نفسي، وإضافة التحريم إلى

الزوج لا يصح من غير ذلك المرأة، حتى لو قال: حرمت نفسي أو قال: أنا حرام، ولم يقل عليك نوى الطلاق لا يقع. وكذلك يصح إضافة البينونة إلى الرجل كما يصح أضافتها إلى المرأة غير إضافة البينونة إلى المرأة صحيحة، من غير ذكر الرجل حتى إن الرجل إذا قال للمرأة أنت بائن، ولم يقل مني، يقع الطلاق إن نوى، ولو قال: أنا بائن ولم يقل منك، لا يقع الطلاق وإن نوى. والفرق: إن وصله المرأة يختص بهذا الزوج لأن المرأة لا يحل لها الأزواج واحد، فإذا قال: لها أنت بائن، علمنا أنه أراد قطع الوصلة التي بينها وبينه فقد وضع البينونة في محلها فتقع وأما وصلة الزوج لا تختص بها المرأة لأن الرجل يحل له أربع نسوة فإذا قال: أنا بائن لا يعلم أنه أراد به قطع الوصلة التي بينه وبين هذه أو بينه وبين امرأة أخرى، ولهذا لا تقع ما لم يقل أنا منك بائن، وإذا قال أنت علي كمتاع فلان ينوي الطلاق الإيلاء فهذا ليس بشيء. وإذا قال لها: أنت علي كالخمر والخنزير فهذا وما لو قال لها: أنت علي حرام سواء على التفاصيل التي قلنا. فالحاصل: أن بالتشبيه إذا حصل بما هو محرم العين كالعين والخنزير والميتة فالحكم فيه كالحكم في قوله: أنت علي حرام إلا أن في قوله أنت علي حرام إذا لم ينو شيئاً كان يميناً بلا خلاف بين المشايخ ههنا إذا لم ينو شيئاً فقد اختلف المشايخ فيه أنه هل يكون يميناً. امرأة قالت لزوجها: أنا حرام عليك أو حلال لك فقال أنت علي مثل ما أنت على جميع أهل المصر، أو قال بالفارسية: ير أحياني كي ينمة سهررا أو قال بائن حياتي كباسمة سهر فهي طالق إذا نوى الطلاق. وسئل نجم الدين عمر قال: إن فعلت كذا فحلال واحد من حلال الله علي حرام، وقال: عنيت به لحم الإبل قال: طلقت امرأته. نوع آخر في قوله أنت خلية أو ما أشبهها إذا قال لها أنت خلية أو قال برية، أو قال بتة أو قال بائنة، وقال لم أنو به الطلاق فالأصل في جميع ألفاظ الكنايات أنه لا يقع الطلاق إلا بالنية، وإذا قال الزوج (236ب1) لم أنو به الطلاق فالمسألة على وجوه: أما إن قال ذلك في حالة الرضا، أو في حالة الغضب أو في حال مذاكرة الطلاق بأن سألت طلاقها أو سأل غيرها طلاقها، ففي حال الرضا يصدق الزوج في قوله لم أنو به الطلاق في الألفاظ كلها قضاء، وديانة وفي حال مذاكرة الطلاق لا يصدق الزوج في قوله لم أنو به الطلاق في كل لفظة يصلح جواباً ولا يصلح رداً قضاء ويصدق الزوج ديانة وذلك نحو قوله الرحله أنت بحرية نية بائن حرام لأن هذه الألفاظ لما خرجت عقيب سؤال الطلاق وأنها صالحة للجواب، فالظاهر أنه يريد الجواب فإذا قال: لم أنو به الجواب فقد ادعى

أمراً بخلاف الظاهر فلا يصدق القاضي بيان أنها صالحة للجواب، لأن الصالح للجواب عن سؤال الطلاق كل لفظة منه إيجاب نفس الطلاق إذ إيجاب حكمه، لأنها تطلب بالطلاق حكمه. إذا ثبت هذا فنقول في هذه الألفاظ إيجاب حكم الطلاق لأن حكم الطلاق ما يثبت بالطلاق من غير فعل فاعل مختار، والبينونة والحرمة والخلو عن النكاح والمرأة عن النكاح يثبت بنفس الطلاق من غير فعل فاعل مختار فكانت هذه الألفاظ صالحة للجواب من هذا الوجه. بخلاف قوله: اغربي اذهبي، اخرجي، تقنعي، استتري، تخمري لأنه ليس في هذه الألفاظ تنصيصاً على حكم الطلاق، لأن الذهاب والتقنع والتستر والتغرب كلها أفعال اختيارية لا أحكام شرعية ولم توجد الإجابة لا في عين الطلاق ولا في حكمه. وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه ألحق قوله خليت سبيلك لا سبيل لي عليك، لا ملك لي عليك، الحقي بأهلك، فارعتك، سرحتك بقوله خلية، برية وأشباهها فقال لا يصدّق الزوج في القضاء، إذا قال الزوج لم أنوبها الطلاق في حال مذاكرة الطلاق، لأنها صالحة للجواب فيجعل جواباً بدلالة الحال ولها في حالة الغضب كل ما لا يصلح للشتم ويصلح للطلاق الذي يدل عليه الغضب يجعل طلاقاً فلا يصدق الزوج في قوله: أنوي به الطلاق، وما يصلح رداً فيصلح جواباً، نحو قوله: اعدلي اخرجي، لا يجعل طلاقاً وصلاحية هذه الألفاظ للرد أن يرد الزوج بقوله: اخرجي، اتركي سؤال الطلاق، ولما احتمل هذا الرد والإجابة تثبت الأولى.... أو الرد أدنى والإجابة أعلى، ولا تثبيت الإجابة بالشك وما يصلح أن يكون جواباً، ويصلح تسميه بحق قوله: خلية، برية، بتة، بائن حرام لا يجعل طلاقاً إذا قال: لم أنو به الطلاق وصلاحية هذه الألفاظ التسمية إن يريد الزوج بقوله: خلية الخلية من الخيرات، ويريد بقوله برية البرية عن الطاعات، والمحامد، ويريد بالبته والبائن أبتة والبائن عن كل ... ، فإذا احتمل الشتم والطلاق، وحالة المقايضة كما تدل على الطلاق تدل على الشتم يثبت أدناهما وهو....، وإن نوى في الخلية والبرية وألبتة والبائن والحرام ثلاثاً أو واحدة بائنة، فهو على ما نوى، أما في البائن والحرام، لأن البينونة به نوعان غليظة لا تحتمل الفصل، وخفيفة تحتمل الوصل، وكذا الحرمة ولكل نوع مقتضى، فتقتضي الخفيفة طلقة واحدة ومقتضى الغليظ الثلاث، فعند عدم النية تثبت الخفيفة وهو الخفيفة، وإذا نوى الغليظة تثبت الغليظة، لأنه نوى أحد نوعي الحرمة واحد نوعي البينونة، وكذا في الخلية والبرية وألبتة لأن هذه الألفاظ تبنى عن البينونة، والبينونة على ما مر. وأما قوله: اعتدي لا يكون إلا واحدة تملك الرجعة، لأنه أمر بالاعتداد وليس فيه ما يبنى في الطلاق لأن الأمر بالاعتداد لما كان لا يصلح إلاّ بعد سابقة للطلاق اقتضى

طلاقاً سابقاً ليصح الأمر بالاعتداد، والمقتضى بائن بطريق الضرورة، يرتفع بأصله فلا يظهر سبق الطلاق في حق صحة بنية الثلاث فيه في قوله: اخرجي، اذهبي، اغربي، تقنعي، استتري، تخمري، تصح نية الثلاث، لأن هذه الألفاظ يبنى عن البينونة، وأنها نوعان على ما مر، وإذا قال لها وهبتك لأهلك فهو من جملة الكنايات لا يقع الطلاق به إلا بالنية، وإنما وقع الطلاق بالنية لأنه نوى ما يحتمله لفظه، لأن الهبة تقتضي زوال الملك، ويتسوى إن قبلتها أو لم تقبلها، لأن القبول في الهبة إنما يحتاج إليه لدخول الموهوب في ملك الموهوب له والبائن ههنا: إزالة الملك، فلا يحتاج إلى القبول. وروي عن أبي يوسف رحمه الله: أنه إذا قال لها: وهبتك لأهلك، أو لأبيك، أو لأمك أو للأزواج فهو طلاق، إذا نوى لأن المرأة ترد على هؤلاء فلا يكون بالطلاق، ويملكها الزوج بعد الطلاق فكانت من مدلولات هذه الألفاظ، ولو قال وهبتك لأخيك، أو لأختك أو ما أشبه ذلك، فليس بطلاق، وإن نوى لأن المرأة بالطلاق لا ترد على هؤلاء فلا يكون الطلاق من مدلولات هذا، وإذا قال لها وهبت نفسك منك، فهو من جملة الكنايات إن نوى به الطلاق يقع وإلا فلا، ولو قال لها: ألحقك لا تقع وإن نوى، ولو قال لها: جهارداه برتوكشادم دست لا يقع الطلاق، وإن نوى ما لم يقل خذي إنها سبب عند أكثر المشايخ، وأنه منقول عن محمد رحمه الله، ولو قال جهارداه برتوكشادم يقع الطلاق إذا نوى، وإن لم يقل خذي أيها شئت لأن في الوجه الأول أخبر عن كون الطلاق مفتوحة عليها فهي كذلك، فإذا قال خذي في أيها شئت فكأنه قال: اذهبي، ونوى الطلاق، وفي الوجه الثاني أخبر عن فتح الطريق عليها وذلك قد يكون بالإذن، وقد يكون برفع النكاح بالطلاق، فإذا نوى رفع النكاح فقد عين الطلاق، ولو قال لها: اذهبي فتزوجي لا يقع الطلاق إلا بالنية، وإن نوى فهي واحدة بالله وإن نوى الثلاث فهي ثلاث، وإذا قالت لزوجها طلقني فقال: لا أفعل فقالت إن لم تطلقني أذهب فأتزوج فقال الزوج: سوى كن خوانتي بكلي خواهي دوخواهي نية لا يقع الطلاق في «واقعات الصدر الشهيد» رحمه الله، ولو قال: اذهبي البسي الثوب أو قال: اذهبي فتقنعني أو ما أشبه ذلك فأراد بقوله: اذهبي الطلاق لا تطلق. وفي «مجموع النوازل» : دستاز من بدار فقال لها: اذهبي إلى جهنم ونوى الطلاق يقع. نوع آخر في قوله: نهشم وما يتصل به. الأصل في هذا النوع من الألفاظ أن يقال كل لفظ في الفارسية يستعمل في الطلاق، ولا يستعمل في غيره، فهو كصريح الطلاق بالعربية، وإن كانت اللفظة مستعملة في الطلاق وغيره فهو بمنزلة كنايات العربية. إذا ثبت هنا فنقول (237أ1) إذا قال الرجل لامرأته بهشتم ترا أرزتي فاعلم بأن هذا لفظ استعمله أهل خراسان وأهل العراق في الطلاق، وإنه صريح عند أبي يوسف رحمه الله، حتى كان الواقع به رجعياً ويقع بدون النية لأن الناس تعارفوا إيقاع الطلاق

بالفارسية بهذا اللفظ فالمستحق تصريح الطلاق بالعربية فكان الواقع به رجعياً لهذا، أو أما إذا قال: بهشتم ترا ولم يصل أرزتي، فإن كان في حال غضب أو مذاكرة الطلاق فواحدة لملك الرجعة، إذ ليس لهذا اللفظ اختصاص بالنكاح، فلا يحمل عليه إلا بقرينة أو دلالة حال، أو نية، فإذا وجد شيء من ذلك لا يصدق في صرفه إلى غير الطلاق، وإن نوى بائناً أو ثلاثاً فهو كما نوى، وقول محمد رحمه الله في هذا كقول أبي يوسف رحمه الله، وعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان، في رواية الحسن رحمه الله يقع الطلاق بلا نية ويكون رجعياً، وبه أخذ الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني رحمه الله، وفي رواية ابن رستم رحمه الله، لا يقع إلا بالنية ويكون بائناً وبه أخذ الفقيه أبو نصر أحمد بن سهل رحمه الله، لأن هذا تفسير قوله خليتك. وذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» : وقال أبو حنيفة رحمه الله في فارسي قال لامرأته: بهشتم ترا أو: بهشتم أرزتي إنه لا يكون طلاقاً إلا بالنية، وأنه يوافق رواية ابن رستم ثم قال: فإن نوى الطلاق ولم ينو البينونة ولا عدداً فهو واحد بملك الرجعة، وإن نوى ثلاثاً قبلت وإن نوى بائناً كان بائناً قال القدوري رحمه الله: فصارت هذه اللفظة ملحقة بكنايات العربية من حيث اعتبار أصل النية وصحت نية الثلاث، ولم يلحقه في حق صفة البينونة، إذا لم ينو البينونة وهذا لأن هذا اللفظ كما يحتمل غيره فلا بد من اعتبار النية، فإذا نوى الطلاق كان صريحاً فتقع واحدة رجعية، وإن نوى البينونة، أو الثلاث فقد جعل هذا اللفظ تفسير التخلية، ونية الثلاث والبينونة في التخلية صحيحة، فكذا في هذه اللفظة. أما إذا لم ينو البينونة والثلاث لم يجعل هذا اللفظ تفسيراً للتخلية فبقيت صريحاً فتقع واحدة رجعية، أو يقال عند عدم نية البينونة والثلاث، يحتمل أنه جعله تفسير التخلية، ويحتمل أنه جعله تفسير التصريح، فلا تقع البينونة بالشك والاحتمال قال القدوري رحمه الله: وأثبتت المغايرة بين العربية والفارسية من وجه آخر. فقال لو قال في حال مذاكرة الطلاق بالعربية خليتك أنه يكون طلاقاً، ويتعين بدلالة الحال، ولو قال بالفارسية في حال مذاكرة الطلاق أو حالة الغضب بهشتم لم يقع شيء حتى ينوي، لأن هذه اللفظة وإن أقيمت مقام لفظة التخلية إلا أنها تستعمل لا للتخلية فكانت أضعف من لفظة التخلية فلا تؤثر فيها دلالة الحال، ولو قال بله كردم يرافقه اختلاف الشيخين على نحو ما ذكرنا في قوله بهشتم ولو قال دست بازداشتم يرافقه اختلاف الشيخين ولكن على عكس ما ذكرنا في قوله بهشم ولو قال باي كشا دكردم كسرا يقع الطلاق بلا نية، ويكون رجعياً باتفاق الشيخين ولو قال حبك بازداشتم ترا فهو نظير قوله دست بازداشتم ترا، ومن المتأخرين من مشايخ بخارا من جعل الثلاث، الأول تفسيراً لقوله طلقت عرفاً حتى يقع بلا نية وجعل الرابع والخامس تفسيراً لقوله خليت سبيلك حتى لا يقع الطلاق إلا بالنية ويكون الواقع بائناً، وكان الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله يفتي في قوله بهشتم بالوقوع بلا نية ويكون الواقع به رجعنا ويفتي

فيما سواها في اشتراط النية ويكون الواقع بائناً. وعن شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله، أنه كان يقول صريح الطلاق في ديارنا طلقتك طلاق دادم ترايا كشادة كردمت وفي بلاد العراق دهاكردم بيك طلاق إذا قال تيك طلاق بازداشتم فهي واحدة بائنة وكذلك إذا قال: طلاق فهو واحدة بائنة، ولو قال به تك صلاق دست بازداشتم أو قال رها كردم بيك طلاق فهي واحدة رجعية، وإذا قالت مرارهاكن فقال رهاكردم فهو بمنزلة قوله دهاكردمت في «فتاوى النسفي» ، وإذا قالت بازداشتم مرا وقال بازداشتم فهذا بمنزلة ما لو قال: دست بازداشتم ترا لأن كلامه خرج جواباً فيتضمن إعادة ما في السؤال، وإذا قال مرادركارخداي كن فقال الزوج برادركارخداي كردم أو قالت براخداي إن نوى الطلاق يقع وإن لم ينو لا يقع استدلالاً بما لو قال تصده أبت.... أو خولتك الله فإن هناك إن نوى يقع العتق، وإن لم ينو لا يقع العتق ويصدق في أنه لم ينو الطلاق فيما بينه وبين الله تعالى، وفي القضاء سواء كان ذلك في حالة الرضا، أو في حال الغضب أو في جواب كلامها، وفي «فتاوى أهل سمرقند» إذا قال الرجل لامرأته من نيردست بازداشتم أزتوان نوى الزوج فقالت المرأة بازداشتم بنية الطلاق فقال الزوج من بزدست بازداشتم ارتوان نوى الزوج واحدة أو ثلاثاً فهو كما نوى، لأنه محتمل لذلك، وإن لم ينو شيئاً لا يقع شيء، لأنه لو وقع وقع بقوله من نيرازتو وبهذا لا يقع إلا بالنية. نوع آخر في قوله ليست لي بامرأة وما يتصل به إذا قال: مراحيرى بيانتي وكذا هذا القول ونوى به الطلاق لا يقع الطلاق وكذا إذا قال لم يكن بيننا نكاح، أو قال لم أتزوجك ونوى به الطلاق لا يقع الطلاق، بالإجماع، ولو قال: لست لي امرأة، إذا ما تزوجتك ونوى الطلاق، وطلاق عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما. وإذا سئل الرجل ألك امرأة فقال لا، ونوى الطلاق فهو على هذا الخلاف، فرق أبو حنيفة رحمه الله بين قوله ليست لي امرأة وبين قوله لم يكن بيننا نكاح، لم أتزوجك. والفرق: أن قوله لم أتزوجك لم يكن مبيناً نكاح لا يحتمل النفي بالطلاق، ولهذا لو قال لم أتزوجك لم يكن بيننا نكاح لأني قد طلقتك لا يصح، فإن نوى الطلاق به فقد نوى ما لا يحتمله لفظه أما قوله ليست لي امرأة، ما أنا بزوجك كما يحتمل نفي النكاح من الأصل يحتمل للحال بالقطع أي ليست لي امرأة لأني قد طلقتك، ألا ترى أنه لو صرح به يصح، فإذا نوى به الطلاق فقد نوى ما يحتمله لفظه، ولو قال لا نكاح بيني وبينك. ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : إنه إذا نوى الطلاق يقع، ولم يُحْكَ

خلافاً، قيل: وينبغي أن يكون هذا قول أبي حنيفة رحمه الله بناءً على ما إذا قال لست لي بامرأة ونوى به الطلاق وعلى هذا (237ب1) إذا قال: ليس بيني وبينك نكاح ونوى به الطلاق، ولو قال: لم يبق بيني وبينك شيء ونوى به الطلاق لا يقع، ولو قالت لزوجها لست لي بزوج فقال الزوج: صدقت، قال الفقيه أبو نصر رحمه الله: أخاف أن يقع عند أبي حنيفة رحمه الله كما في قولهما، أما تزوجتك ونوى الطلاق، ولو قال: والله ما أنت لي بامرأة أو قال علي حجة إن كانت لي امرأة، لم يكن طلاقاً بلا خلاف، وإن نوى، هكذا ذكر القدوري رحمه الله في كتابه، لأنه لما قرن به اليمين، واليمين لتأكيد الخبر، علمنا أنه أراد به الماضي، إذ الخبر إنما يقع عن الماضي، فإذا أراد به الماضي كان كذباً، فأما بدون اليمين يحتمل معنى الإنشاء فيقع به الطلاق إذا نوى عند أبي حنيفة رحمه الله ومن مشايخنا من قال: هذه المسألة على الخلاف أيضاً: وذكر الناطفي في «طلاق الهداية» : إذا قال: ما لي امرأة ونوى الطلاق لا يكون طلاقاً عند أبي حنيفة رحمه الله. ولو قال: لست لي بامرأة ولم يواجهها لا يقع به الطلاق عند أبي حنيفة رحمه الله وإن نوى في هذا الموضع أيضاً. وفي هذا الموضع أيضاً: إذا قال لها: لست لي بامرأة إن دخلت الدار ونوى به الطلاق طلقت إذا دخلت في قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. ولو صرت غير أمرأتي ونوى به الطلاق يكون طلاقاً. قال الناطفي رحمه الله: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. ولو قال لها فسخت النكاح بيني وبينك ونوى الطلاق فهو طلاق، لأن الفسخ أوجب البينونة، فقد نوى ما يوجبه لفظه، وعن أبي حنيفة رحمه الله إذا قال: لا حاجة لي فيك فليس بطلاق وإن نوى؛ لأن نفي الحاجة لا ينفي الزوجية، ولا أحكامها لأن النكاح نكاح مع عدم الحاجة فإن الإنسان قد يتزوج بمن لا حاجة له فيها. في «مجموع النوازل» : امرأة قالت لزوجها احرز بوم فقال الزوج مه تودمه رني تو لا يقع بها شيء. وفيه أيضاً: رجل قال لامرأته: إنبكانة لا يقع الطلاق لأن كونها أجنبية لا ينافي النكاح فقد نوى ما لا يحتمله لفظه. رجل قال لامرأته: برئت من طلاقك أَو قال: برئت إليك من طلاقك، إن لم ينو الطلاق لا يقع، وإن نوى فقد اختلف المشايخ، واختار الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه الله أنه لا يقع. ولو قال: أنا بريء من نكاحك يقع الطلاق لأن البراءة عن الشيء إعراض عنه والإعراض عن الطلاق لا يكون طلاقاً، فأما الإعراض عن النكاح فطلاق وفي «مجموع النوازل» : امرأة قالت لزوجها: أنا بريء منك فقال الزوج: أنا بريء منك أيضاً، فقال: أنظر ماذا يقول، فقال الزوج: ما نويت الطلاق، قال: لا يقع الطلاق لعدم النيّة.

وفي «فتاوى شمس الإسلام» رحمه الله: إذا قال لها: أنا أبرأتك عن الزوجية يقع الطلاق من غير نية في حال الغضب وغيره. نوع آخر في قوله طلاق زاده كير وما يتصل به امرأة قالت لزوجها: مر إطلاق ده فقال الزوج داره كير أو قال دارده ماد ينوي، فإن نوى الإيقاع يقع الطلاق، وإن لم ينو الإيقاع لا يقع الطلاق لأنه يحتمل الإيقاع والوعد. فإذا نوى الإيقاع حتى وقع الطلاق يقع رجعياً. ويجوز أن يشترط النية، ويكون الواقع رجعياً. وكذلك إذا قال: كرده كير أو كرده باد أو قال يقع الطلاق نوى أو لم ينوِ لأنه للتحقيق. ولو قال داده إنكار وكرده إنكار لا يقع الطلاق وإن نوى. ولو قالت: مر إطلاق فقال الزوج كفتة كير لا يقع الطلاق وإن نوى لأن قوله كفتة كير لا يحتمل الجواب بخلاف قوله داده كير ولو قالت: مرامدار فقال الزوج ما دست كير يقع الطلاق إذا نوى ويكون ثابتاً وكذلك إذا قال: دست أزمن بازدار فقال بازداشت كير يقع الطلاق إذا نوى فيكون ثابتاً. ولو قالت من برتو بطلاقم فقال الزوج كحان كير فقد ذكر في «مجموع النوازل» : إنها تطلق وفيه اختلاف المشايخ. ولو قال: حنان ولم يقل كير لا تطلق لأنه ليس بتام في الجواب والتام أن يقول: بحنان است كناني بحنان كير. قالت لامرأته: أنت طالق، فقالت لا أكتفي بالواحدة فقال الزوج دوكير فإن نوى الطلاق الزوج بقوله دوكير إيقاع الطلاق تطلق ثلاثاً، ويكون قوله دوكير إيقاع الثنتين ابتداءً وقد سبقها طلقة وطلقت ثلاثاً لهذا. ولو قالت مرايله كن فقال الزوج بله كرده كير أو قال دما كيردده فهو على ما قلنا أنه إن نوى الإيقاع يقع. ولو قالت خويشتن خريدم أزتو نفروش فقال الزوج: فزوجته فقد قيل: ينبغي أن يصح الخلع، وهذا إذا أراد به التحقيق. ولو قال: سوكيدخوربر فقالخورده كير حكى، فتوى شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله أنه لا تطلق، وعلى قياس المسألة المتقدمة ينبغي أن تطلق إذا نوى التحقيق. امرأة قالت لزوجها من بيك سو وتونيك سو فقال الزوج نجذبين كير لم تطلق لأن هذا ليس من ألفاظ الكنايات. امرأة قالت لزوجها: برمن جرا امرءاي كرمن زن تونم ومالي ني كير فقال: لا تطلق. رجل دعى امرأته إلى الفراش فأبت فقال: لها اخرجي من عندي فقالت: طلقني حتى أذهب فقال الزوج: إكرارزوني توجنين است حنين كبر ولم تقل شيئاً، قد قامت لا تطلق في أيمان «مجموع النوازل» .

نوع آخر في بيان حكم الكنايات فنقول: الكنايات التي هي بوائن، إذا نوى به الزوج الطلاق كان طلاقاً بائناً، وإن نوى اليمين كان يميناً، لأن هذه الألفاظ تحتمل إيجاب الحرمة فصارت هذه الألفاظ بمنزلة قوله: أنت علي حرام، وإن لم يكن نوى شيئاً، هل يكون يميناً؟ ففيه اختلاف المشايخ: من قال بأنها يمين قاس هذه الألفاظ على قوله: أنت عليّ حرام. ومن قال: إنها ليست بيمين قال: بأن هذه الألفاظ ليس بصريح في باب اليمين، وما ليس بصريح في باب إنما يلحق بالصريح فيه إما بغلبة الاستعمال، أو بدلالة الحال، أو بالنية، ولم يوجد شيء من ذلك هنا، بخلاف قوله: أنت علي حرام لأن هناك وجد غلبة الاستعمال في اليمين فالتحق بالتصريح والله أعلم. نوع آخر في تكرار ألفاظ الكنايات وما يتصل به قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا قال لها: اعتدي اعتدي اعتدي وقالت: نويت بالكل طلقة واحدة لا يُصدّق قضاء، ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى: أما لا يصدق قضاء لأنه لما نوى بالكل طلقة واحدة، كأنه نوى بكل لفظ ثلث تطليقة والتطليقة مما لا يتجزّأ نية بعضها يكون نية كلها، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لمكان الاحتمال لأنه نوى بالأول الإيقاع وبالثاني وبالثالث الأمر بعدة واجبة، أو لأنه نوى بالأول الإيقاع وبالثاني والثالث التكرار وإذا قال: عنيت بالأول طلاقاً وبالثاني والثالث الأمر بعدة واجبة يصدق في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه لما نوى بالأول الطلاق صار كأنه (238أ1) قال لها: أنت طالق ثم قال بعد ذلك: اعتدي اعتدي، ولو قال هكذا وقال: عنيت بقولي: اعتدي اعتدي الأمر بعدة واجبة كان كما نوى؛ لأنه نوى حقيقة واحدة لأن هناك نوى بكل لفظ ثلث تطليقة والتقريب فامر. ولو قال: عنيت بالأولى طلاقاً ولم ينو بالثاني والثالث شيئاً تقع الثلاث عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأن الثاني والثالث واحد حال مذاكرة الطلاق لما نوى بالأول الطلاق وقوله اعتدي حال مذاكرة الطلاق طلاق. وفي «الأصل» أيضاً: إذا قال: أنت طالق فاعتدي، وقال: أنت طالق واعتدي، وأراد بقوله واعتدي فاعتدي الأمر بعدة واحدة صدق قضاءً. وإن أراد به تطليقة أخرى أولم ينوبه شيئاً فهي أخرى. قال مشايخنا: وما ذكر محمد رحمه الله من الجواب أنه إذا لم ينو شيئاً فهما طلاقان فذلك مستقيم في قوله: أنت طالق واعتدي، غير مستقيم في قوله: فاعتدي، وينبغي أن تقع واحدة في هذه الصورة، وإليه أشار في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله وهو الصحيح.

وفي «المنتقى» : إذا قال لها: اعتدي يا مطلقة، ونوى بقوله اعتدي الطلاق فهي طالق تطليقتين أحدهما: بقوله اعتدي، والثانية: بقوله يا مطلقة فإن قال: نويت أنها مطلقة بما لزمها من الطلاق فاعتدي يدين فيما بينه وبين الله تعالى، ولو قال: بيني فأنت طالق فهي طالق واحدة إذا لم ينو بقوله بيني طلاقاً (ولو بيني طلاقاً) . ولو قال: حرمت نفسي عليك فاستتري ونوى بها طلاقاً فهي واحدة بائنة؛ لأنه لا يقع بائن بائن، وكذلك إذا قال: نويت بقولي حرمت نفسي واحدة وبقولي استتري ثلاثاً فهي واحدة. ولو قال: لم أنو بقولي حرمت نفسي شيئاً، وأردت بقولي فاستتري واحدة أو ثلاثاً فهو كما نوى. ولو قال لها: أنت طالق ألبتة، أو قال لها: أنت طالق بائن تقع تطليقة واحدة بقوله: أنت طالق نوى الطلاق أو لم ينو فبعد ذلك المسألة على خمسة أوجه. وإن أراد بقوله ألبتة والبائن صيغة قوله: أنت طالق أو لم ينو شيئاً فالواقع واحدة بائنة. وإن نوى بقوله: ألبتة أو البائن طلاقاً آخر كان كما نوى وطلقت تطليقتين سوى الأول طلقت تطليقتين: g أحدهما بالكلام الأول والثانية بالكلام الثاني. ولو نوى بقوله ألبتة ثلاثاً تقع ثلاث تطليقات كما لو قال ابتداءً: أنت بائن أنت بتة. وفي «المنتقى» لو قال: أنت طالق واحدة بائن ونوى ثلاثاً فهي اثنتان، واحدة بالطلاق وواحدة بالواحدة. ولو نوى بالبائن الثلاث فهي ثلاث. نوع آخر في تفويض الطلاق إلى المرأة أو إلى الأجنبي بقوله: أمرك بيدك، طلقي نفسك، أمرها بيدك، طلقها، وبيان أحكامه وما يتصل به من المسائل قال: إذا قال الرجل لامرأته: أمرك بيدك ينوي الطلاق فإن كانت تسمع فأمرها بيدها ما دامت في مجلسها، وإن لم تسمع فأمرها بيدها إذا علمت أو بلغها. والأصل في هذا: أن الزوج يملك إيقاع الطلاق بنفسه فيملك التفويض إلى غيره فيتوقف عمله على العلم؛ لأن تفويض طلاقها إليها يتضمن معنى التمليك، لأنها فيما فوّض إليها من طلاقها عاملة لنفسها دون الزوج، والإنسان فيما يعمل لنفسه يكون مالكاً ولا يكون بائناً عن المرة وعمل التمليكات يقف على علم من يقع التمليك منه فلأجل ذلك اقتصر الجواب على المجلس كما في سائر التمليكات، إلا أن هذا التمليك مفارق سائر التمليكات من حيث إنه يبقى إلى ما وراء المجلس لأن هذا التمليك يضمن معنى التعليق فإن الإيقاع، وإن صدر من غير الزوج إلا أن الوقوع مضاف إلى معنى من قبل الزوج فلا بد من اعتبار معنى التعليق والتعليق لا يتوقف على المجلس فاعتبرنا معنى التعليق فقلنا ببقاء الإيجاب إلى ما وراء المجلس إذا كانت غائبة.

واعتبرنا معنى التمليك فقلنا بالاقتصار على مجلس العلم عملاً بالدليلين بقدر الإمكان. ولو لم يرد الزوج بالأمر باليد طلاقاً فليس بشيء إلا أن يكون في حالة الغضب أو في حالة مذاكرة الطلاق فلا يُديّن في الحكم وهذا لأن قوله: أمرك يحتمل وجوهاً شتى، ألا ترى أنه يحتمل أمرك بيدك في الخروج والانتقال، والمحتمل لوجوه شتى لا يتعين بعض وجوهه إلا بالنية أو دلالة حال تقوم مقام النية. ولو ادعت المرأة منه الطلاق أو أنه كان في غضب أو مذاكرة طلاق فالقول قوله مع اليمين وتقبل بينة المرأة في إثبات حالة الغضب ومذاكرة الطلاق؛ لأنها قامت على معنًى بشهادة الشهود فلا تقبل شبهتها في نية الطلاق؛ لأنها قامت على ما لا يشاهده الشهود فلا يقبل إلا أن تقوم البنية على إقرار الزوج بذلك. ثم الأمر باليد قد يكون مرسلاً وقد يكون معلقاً بالشرط بأن قال: إذا قدم فلان فأمر امرأتي بيدها أو قال: بيد فلان. وإن كان مرسلاً فهو على وجهين: إن كان مطلقاً غير مؤقت بوقت فحكمه ما ذكرنا أن المفوض إليه إن كان يسمع فالأمر بيده. ما داموا في ذلك المجلس وإن لم يسمع أو كان غائباً قائماً يصير الأمر بيده إذا علم أو بلغه الخبر، ويكون الأمر في يده ما دام في مجلس العلم. والقبول في المجلس ليس بشرط ولكن إذا ردّ المفوض إليه ذلك يريد بردّه، وهذا لما ذكرنا أن الأمر باليد يتضمن معنى التمليك ومعنى التعليق والقبول في التعليقات ليس بشرط، فاعتبرنا معنى التعليق، ولم يشترط القبول في المفوض إليه، واعتبرنا معنى التمليك فقلنا: يريد بالرد عملاً بالمعنيين بقدر الإمكان. وأما إذا كان مؤقتاً بوقت وإن علم المفوض إليه بالأمر مع بقاء شيء من الوقت فله الخيار في بقية الوقت ولا يبطل بالقيام عن المجلس. وإن مضى الوقت قبل علم المفوض إليه بذلك ينتهي الأمر؛ لأنه خصّ التفويض بزمان فلا يبقى بعد مضي ذلك الزمان. وأما إذا كان الأمر معلقاً بالشرط فإنما يصير الأمر في يد المفوض إليه إذا جاء الشرط، وإذا جاء الشرط فإن كان الأمر مطلقاً غير موقت بوقت صار الأمر في يده في مجلس علمه. والقبول في ذلك المجلس ليس بشرط، لكن يريد بالرد، وإن كان مؤقتاً فعلم المفوض إليه بالأمر، مع بقاء شيء من الوقت والأمر في يده ما دام ذلك الوقت باقياً. وإذا مضى الوقت قبل العلم ينتهي الأمر، ثم إذا جعل الأمر بيدها فاختارت نفسها في مجلس علمها بانت بواحدة. وإن كان الزوج أراد ثلاثاً فثلاث، وإن نوى ثنتين فواحدة أو لم تكن له نية في العدد فهي واحدة لأن قوله: أمرك بيدك من جملة الكنايات لافتقارها إلى النية أو دلالة الحال. والواقع بالكنايات واحدة، إلا أن ينوي ثلاثاً ولا تقع به ثنتان وإن نوى على ما عرف.

وليس للزوج أن (238ب1) يرجع عن ذلك ولا أن ينتهي المفوض إليه عن الإيقاع لما ذكرنا أن هذا التصرف يتضمن معنى التعليق، والتعليق لا يقبل الرجوع، ولو قال لها: أمرك بيدك إلى عشرة أيام فالأمر في يدها من هذا الوقت إلى مضي عشرة أيام فتحفظ بالساعات، وهذا لأن الأمر باليد مما يحتمل التأقيت، ألا ترى أن من قال لامرأته: أمرك بيدك اليوم لا يبقى الأمر بيدها بعد اليوم فيعمل تحقيقه ويجعل الأمر بيدها من هذا الوقت إلى تمام عشرة أيام. ولو أراد الزوج أن يكون الأمر بيدها بعد مضي عشرة أيام دُيّن فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء؛ لأنه خلاف الظاهر، وهذا بخلاف ما ذكرنا في الطلاق العصام. إذا قال لامرأته: أنت طالق إلى سنة فإنها تطلق بعد مضي السنة إلا أن ينوي الوقوع للحال لأن الطلاق لا يحتمل التأقيت فيجعل هذا إيقاعاً بعد مضي السنة ولا كذلك الأمر باليد. وإذا قال: أمرك بيدك في تطليقة رجعيّة لأنه جعل أمرها بيدها في تطليقة والتطليقة تعقبه الرجعة. في «الكتاب» وفي «المنتقى» : إذا قال: أمرك بيدك في ثلاث تطليقات وطلقت نفسها واحدة أو ثنيتين فهي رجعية. وإذا قال لها: أمري بيدك فاختارت نفسها تكلموا فيه، قال الصدر الشهيد رحمه الله: المختار أن يقع الطلاق؛ لأن هذا أبلغ في التفويض من أن يجعل أمرها بيدها. وفي «البقالي» : عن محمد رحمه الله: أنه لا يقع الطلاق. وسئل الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله عمن قال لغيره إن غبت عن هذه البلدة ومضى على غيابي ستة أشهر فأمر امرأتي بيدك حتى يخلعها ببقية مهرها ونفقة عدتها، فغاب ولم يحضر حتى مضت هذه المدة قال هو: توكيل مطلق حتى لا يبطل بالقيام عن المجلس لأنه وإن ذكر الأمر باليد، لكن فسّره بما هو توكيل وهو أن يخلعها. وغيره من مشايخ سمرقند وبخارى أفتوا، لأنه تمليك حتى يبطل بالقيام عن المجلس لأنه صريح بالأمر باليد. والصحيح إذا قال لها: أمرك ثلاث تطليقات بيدك إن أبرأتيني عن المهر فقالت: وكلني حتى أطلق نفسي فقال لها: أنت وكيلي حتى تطلقي نفسك، إن قامت عن المجلس خرج الأمر عن يدها حتى لو طلقت نفسها لا يقع وإن طلقت نفسها في المجلس إن أبرأته من المهر أولاً يقع الطلاق، وإن لم تبرئه لا يقع لأن التوكيل كان بشرط أن تبرئه عن المهر. رجل جرى بينه وبين امرأته كلام فقالت المرأة: اللهم نجِّني منه، فقال الزوج: إن كنت تريدين النجاة فأمرك بيدك وهو ينوي طلقة واحدة فقالت المرأة: طلقت نفسي ألفاً فقال لها الزوج: نجوت لم يقع عليها شيء عند أبي حنيفة رحمه الله، لأنه فوض إليها الواحدة وهي أتت بالثلاث، ونظيره: إذا قال لغيره: خوا هي كناريت واطلاق كتم. فقال ذلك الغير خواهم فقال دادمش منه طلاق لا تطلق شيء على قياس قول أبي

حنيفة رحمه الله لما قلنا: حتى أن في المسألة الأولى لو قالت المرأة: طلقت نفسي، وفي المسألة الثانية لوقال ذلك الرجل دادمش طلاق يقع طلقة واحدة عند الكل. وعن هذا قلنا: إن من وكّل الرجل أن يطلق امرأته فطلقها الوكيل ثلاثاً إن كان الزوج نوى الثلاث تقع الثلاث، وإن لم يكن نوى الثلاث لا يقع شيء عند أبي حنيفة رحمه الله. وفي «المنتقى» : إذا قال لامرأته: إن غبت عنك ومكثت في غيبتي يوماً أو يومين فأمرك بيدك فمكث يوماً في غيبته يصير الأمر بيدها. قال: وهذا على أول الكلام، ولك هذا الحكم في جنس هذه المسائل. وفيه أيضاً: رجل جعل أمر امرأته بيد أبيها فقال أبوها: قد قَبِلْتُها طلقت. وكذلك لو جعل أمر امرأته بيدها فقالت قبلت بشيء طلقت وإذا قال لامرأته: أمر نسائي بيدك، أو قال لها: طلقي أية نسائي شئت ليس لها أن تطلق نفسها، مذكور في «الأصل» . وفي «المنتقى» في باب الأمر باليد إذا قال لامرأته: أمر امرأة من نسائي في يدك يعني في الطلاق فطلقت نفسها أو غيرها طلقت. ولو قال لامرأةٍ له: طلقي أية نسائي شئت وطلقت نفسها لم تطلق. وفي «المنتقى» في باب المنبتَّة: إذا قال لامرأةٍ له طلقي أية نسائي شئت فلها أن تطلق نفسها ومن شاءت من نسائه. وكذلك لو قال لعبد من عبيده أعتق أي عبدٍ شئت. وفي «المنتقى» : في الذي يلي باب الأمر باليد: إذا قال لامرأةٍ له طلقي كل امرأة لي ليس لها أن تطلق نفسها. وفي «المنتقى» في باب الأمر باليد إن طلقت امرأة من نسائي فهي طالق وطلقت نفسها لا تطلق، وكذلك لو قال: طلقي امرأة من نسائي أو قال لعبدٍ له بع عبداً من عبيدي وطلقت نفسها أو باع العبد نفسه لم يجز. رجل جعل أمر امرأته بيدها فقالت للزوج: أنت عليّ حرام وأنت مِنّي بائن أو أنا عليك حرام أو أنا (بائن) منك فهذا كله طلاق. ولو قالت: أنت حرام، ولم تقل علي أو قالت: أنت بائن ولم تقل مني فهو باطل. ولو قالت: أنا حرام ولم تقل عليك أو قالت: أنا بائن ولم تقل منك فهذا كله طلاق. وفي «المنتقى» : إذا قال لامرأته: طلقي نفسك فقالت: أنا حرام أو خلية أو بريئة أو بائن فهذا كله طلاق. والأصل في هذا كله: أن كل شيء يكون من الزوج طلاقاً فيما يقوله إذا سألته المرأة فأجابها، فإذا أوقعت المرأة مثل ذلك على نفسها بعدما صار الطلاق بيدها يقع الطلاق. والمرأة لو قالت لزوجها: طلقني فقال الزوج: أنت حرام أو أنت بائن كان طلاقاً

فإذا قالت المرأة مثل ذلك بعدما صار الطلاق في يدها يكون طلاقاً أيضاً. ولو قالت لزوجها: طلقني فقال لها: الحقي بأهلك وقال لم أنو به الطلاق كان مصدقاً ولا يقع الطلاق، فإذا قالت المرأة مثل ذلك بعدما صار مفوضاً إليها ألحقتُ نفسي بأهلي لا تطلق. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا جعل أمر امرأته بيدها فقالت المرأة: أعطني كذا إن طلقتني فقال الزوج: لا أدري ما هذا فقالت المرأة: إن جعلت أمري بيدي فقد طلقت نفسي لا تطلق لأنها لما تكلمت بكلام وهو قولها أعطني كذا إن طلقتني، وقولها إن جعلت أمري بيدي فقد قطعت الملجس. وفيه أيضاً: رجل قال لامرأته: أمر ثلاث تطليقاتك بيدك فقالت له لم لا تطلقني بلسانك فقالت: طلقت نفسي، طلقت؛ لأن قولها لم لا تطلقني بلسانك ليس برد للتمليك فكان لها أن تطلق نفسها بعد ذلك، وفيه نوع نظر لأنه يتبدل المجلس به من حيث إنه كلام زائد إن كان لا يريد به التمليك. وفي «واقعات الناطفي» : إذا قال لامرأته: أمرك بيدك وأمر امرأتي الأخرى هذه بيدك فقالت: قد طلقت فلانة ولم تطلق نفسها طلقت لأن بتطليق الأولى لم يتبدل المجلس ولم يوجد منها الرد. وسئل الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله عن رجل جعل أمر امرأته بيدها على أنه إن غاب عنها شهرين فهي تطلّق نفسها (239أ1) متى شاءت فغاب شهرين إلا يوماً وحضر في اليوم الأخير وغيبت المرأة نفسها حتى مضى شهرين ثم طلقت نفسها، فأجاب: إنه يقع الطلاق. وفيه نظر يتأمل بعد هذا إن شاء الله تعالى. إذا جعل أمر امرأته بيدها على أنه إن غاب عنها عن بخارى أو عن المكان الذي يسكنان فيه شهرين، فهي تطلق نفسها متى شاءت، فغاب عن بخارى شهرين، وكان ذلك قبل أن يبني بها وطلقت المرأة نفسها، فقد قيل: بأنها لا تطلق لأن الغيبة عنها قبل البناء لا يتحقق؛ لأن الغيبة إنما تتحقق من الحاضر. وقبل البناء بها هو غائب عنها فلا تتحقق الغيبة منها. إذا قال لامرأته: إن دخلت دار فلان فأمرك بيدك فدخلت دار فلان فطلقت نفسها، أن تَزامل المكان الذي فيه سميت داخلة طلقت؛ لأنها طلقت والأمر في يدها. وإن مشت خطوتين ثم طلقت نفسها لا تطلق لأنها طلقت نفسها بعدما خرج الأمر عن يدها. رجل جعل أمر امرأته بيدها، فقالت دست ازداستم ولم تقل خويستن الابين، ولو قالت: عنيت نفسي، إن كان المجلس قائماً صدقت لأنها تملك الإنشاء، وإن تبدل المجلس لا تصدق. وإنما لم تبين في الصورة الأولى لأنها لم تضف الإبانة إلى نفسها فصار كما لو قال لها: اختاري فقالت اخترت. هكذا ذكر في «فتاوى الفضلي» ، وبعض مشايخنا قالوا: ينبغي أن يقع استدلالاً بمسألة الخلع فإنه إذا قيل للمرأة خويشين خريدي فقالت خريدم،

ثم قيل للزوج فزوجني فقال فزوجتم يتم الخلع، وإن لم توجد الإضافة إلى المرأة، ولا يستقيم الاستدلال بمسألة الخيار؛ لأنه ثمة لم توجد الإضافة إلى نفسها من الجانبين حتى لو قال لها: اختاري نفسك فقالت: اخترت يقع الطلاق، وههنا وجدت الإضافة إليها من جانب الرجل حتى جعل أمرها بيدها وذلك كافٍ لوقوع الطلاق، وستأتي مسألة الخيار وتفاصيلها بعد هذا إن شاء الله تعالى. ولو قالت أمكندم تسأل نادي أمكندي إن قالت: الطلاق طلقت وما لا فلا، وإن قالت طلاق أمكندم تطلق نوى الطلاق أم لا، وكذلك إذا قالت أمراً مكندم تطلق نوي الطلاق أو لا؛ لأن هذا اللفظ بحكم العرف يعتبر لإيقاع الطلاق، يقال: زن فلان أمر أمكند ويفهم فيما بين الناس أنها طلقت نفسها. رجل جعل أمر امرأته بيدها على أنه متى ضربها بغير جناية فهي تطلق نفسها متى شاءت فخرجت من البيت بغير إذن الزوج فضربها هل يصير الأمر بيدها؟ قيل: لا يصير الأمر بيدها إن أوفى صداقها المعجل، وإن لم يوفها ذلك صار الأمر في يدها؛ لأنه إذا لم يوفها المعجل، فلها أن تذهب إلى بيت أبيها من غير إذنه وتمنع نفسها لاستيفاء المعجل فلا يكون الخروج جناية. وكان الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله يفتي بأن الأمر لا يصير في يدها من غير تفصيل وكان يقول: خروجها من البيت جناية إذ ليس لها ولاية الخروج عن بيت الخروج بغير إذن الزوج لمنع نفسها منه لأجل أنها يمكنها منع نفسها عنه في بيته والأول أصح، فقد ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» في كتاب النكاح: وليس للزوج أن يمنعها من السفر والخروج من منزله حتى يوفيها جميع المهر. جعل أمرها بيدها على (أنه) متى ضربها بغير جناية فهي تطلق نفسها، ثم قال لها الزوج لعت بربوباد فقالت لعت خود بربوباد فضربها تكلموا فيه. وبعضهم قالوا: هذا ليس بجناية منها لأنها ثانية وليست ببادئه، وعامتهم على أن هذا جناية منها، وهو الأصح إذ ليس في هذا قصاص في الشرع حتى لا يكون الثاني جانياً. وعلى هذا: إذا قال لها: مادرت سياهه فقالت المرأة ما درت أست سياهة فعلى قول الأولين هذا ليس بجناية لأنها بائنة، والعامة تكلموا فيما بينهم، قال بعضهم: إن كانت أم الزوج حيّة فهذا ليس بجناية منها في حقه. وإن كانت أمّهُ ميتة فهذا جناية منها في حقه. وبعضهم قالوا: لا يصير الأمر بيدها سواء كانت أم الزوج حيّة أو ميتة؛ لأن الزوج ذكر الجناية مطلقة وما ذكر الجناية في حقّه، ألا ترى أنها لو تركت الصلاة في هذه الصورة فضربها لا يصير الأمر بيدها قلنا: وشتمها أمه جناية، سواء كانت أمه حية أو ميتة، وإن لم تكن جناية في حقه إذا كانت أمها حية إذا جعل أمرها بيدها على أنه متى ضربها بغير جناية، فهي تطلق نفسها فلازمت الزوج لأجل الكسوة فضربها صار الأمر بيدها، فإن هذه ليست بجناية، فإن لصاحب الحق حق الملازمة. ولو كانت تعلقت به

وأخذت لحيته فهذا منها جناية إذ ليس لها ذلك شرعاً. ولو قالت له: خذ أنت مرك دعاة فهذا جناية منها، وكذلك لو قالت له: أي خزاي، كاو فهذا جناية منها. ولو قالت: أي يدحو إن كان كذلك فهذا ليس بجناية، وإن لم يكن كذلك فهو جناية. ولو قال لها: لا تفعلي هكذا، فقالت: حوش في ارم، إن كانت قالت في فعل هو معصية فهذا منها جناية، وإن كان قالت في فعل هو ليس بمعصية فهو ليس بجناية، ولو كشفت وجهها لغير محرم فقد قيل: هذه جناية، وقد قيل: هذه ليست بجناية، والتكلم ورفع الصوت مع غير المحرم جناية بلا خلاف. إذا جعل أمر امرأته بيد امرأة له أخرى، ثم إنه طلق المفوض إليها طلاقاً بائناً أو رجعياً لا يخرج الأمر من يدها. ولو جعل أمرها بيدها ثم طلقها طلاقاً بائناً خرج الأمر من يدها. ولو طلقها واحدة رجعية بقي الأمر على حاله. وفي «الأمالي» : إذا قال لها: أمرك بيدك إذا شئت، ثم طلقها واحدة بائنة، ثم تزوجها واختارت نفسها طلقت عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لأبي يوسف رحمه الله. ولو قال لها: إذا تزوجت عليك امرأة، فأمر تلك المرأة بيدك ثم خالعها أو طلقها بائناً أو ثلاثاً ثم تزوج امرأة أخرى لا يصير أمرها بيدها. ولو قال: إذا تزوجت امرأة فأمر تلك المرأة بيدك ولم يقل: عليك ثم إنه طلقها بائناً أو ثلاثاً أو خالعها، ثم تزوج امرأة يصير أمرها بيدها؛ لأن في الفصل الأول الشرط التزوج عليها، وفي هذا الفصل الشرط التزوج مطلقاً. وإذا قال لها: إن تزوجت عليك في هذا النكاح فأمرك بيدك، أو قال: فأمرها بيدك، ثم إنه طلقها واحدة بائنة ثم تزوجها ثم تزوج امرأة أخرى لا يصير الأمر بيدها، لأن الشرط التزوج عليها في ذلك النكاح، وهذا نكاح آخر. وإذا قال لها: إن دخلت الدار فأمرك بيدك ثم طلقها واحدة ثم طلقها واحدة أو ثنتين لا يبطل الأمر حتى لو تزوجها ثم دخلت الدار صار الأمر بيدها سواء تزوجها وهي في العدة أو تزوجها بعدما انقضت العدة (239ب1) . أو كانت غير مدخول بها قيل: الرواية في «المنتقى» : إذا قالت لزوجها: طلقني، فقال الزوج: من طلاق توبدست تونهادم، فقالت: من خوشين باطلاق دارم، فقال الزوج: من مرها داوم تقع طلقتان؛ لأن الواقع بكل إيقاع رجعي والرجعي. يلحق الرجعي،.... لآخر حتى مضى ذلك الوقت وقد تزوج امرأة، فليس لصاحب المال اكرستم من ندعي إلى وقت كذا أمر يدست من نهاوي طلاق زن فراتسني، فقال: تهادم فلم يعطه المال حتى مضى ذلك الوقت وقد تزوج امرأة، فليس لصاحب المال أن يطلقها. ولو كان قال: اكر سيم من ندعي إلى وقت كذا أمر يدست من نهادى طلاق. راكي بخواعي وباقي المسألة بحالها، فله أن يطلقها؛ لأن قوله: زن خواستي ينطلق على امرأة

يريد أن يتزوجها، فلا ينطلق على التي يتزوجها، وتفويض طلاق امرأة يريد أن يتزوجها لا يصح. ونظير هذا اللفظ: است برنشتي، فإن هذا اللفظ في العرف ينطلق على فرست يريدان يركبها لا على مرتين يركبها لا محالة. رجل جعل أمر امرأته بيدها على أنه إن لم يعطها كذا في وقت كذا، فهي تطلق نفسها متى شاءت، فمضى ذلك الوقت فطلقت نفسها، ثم اختلفا، فقال الزوج: أعطيتها ذلك في الوقت وأنكرت المرأة ذلك، فالقول قول الزوج في حق الطلاق حتى لا يحكم بوقوع الطلاق عليها؛ لأنه ينكر وقوع الطلاق، والقول قول المرأة في حق عدم وصول ذلك الشيء إليها؛ لأنها منكرة وصول ذلك الشيء إليها. أصل المسألة مسألة ذكرها في «المنتقى» ، وصورتها: رجل قال لأب امرأته: إن لم أتك إلى أربعين يوماً، فأمر امرأتي بيدك، فإذا مضى أربعون يوماً..... فإن قال الزوج: إنها من الساعة التي تكلم فيها فأمرها بيده ما دام في مجلسه، فإن قال الرجل بعد ذلك قد آتيتك، فقال أب المرأة: لم يأتني، فالقول قول الزوج؛ لأنه ينكر صيرورة الأمر بيده. ونظير هذا مسألة «الجامع الصغير» : إذا قال الرجل لعبده: إن لم أحج العام (فأنت حر) ، فمضى العام، فقال المولى: حججت. فقال العبد: لم حج، فالقول قول المولى؛ لأنه ينكر العتق، وعلى هذا إذا جعل أمرها بيدها على أنه متى ضربها بغير جناية (فالقول) ، فهي تطلق نفسها فضربها، ثم اختلفا، فقال الزوج: ضربتها بجناية، فالقول قوله لما ذكرنا. (وفقد) محمد رحمه الله في كتاب الكفالة مسألة تدل على أن القول قول المرأة، صورتها: رجل قال لغيره: إن مات فلان قبل أن يعطيك الألف التي لك عليه فأنا كفيل بها، فوقع الاختلاف بين الكفيل وبين الطالب بعد موت المطلوب، فقال الطالب: لم يعطني، فصرت كفيلاً. وقال الكفيل: قد أعطاك ولم أصر كفيلاً إن القول قول الطالب. وهذا استحسان؛ لأنه ينكر الاستيفاء. فإن قيل: إن كان ينكر الاستيفاء صورة يدعي الكفالة على الكفيل معنى، والكفيل ينكر الكفالة، فلِمَ كان اعتبار الصورة أولى من اعتبار المعنى؟ ألا ترى أن من قال لعبده: إن لم أدخل الدار اليوم فأنت حر، فمضى اليوم، فقال العبد: لم تدخل وعتقت. وقال المولى: لا بل دخلته ولم تعتق، فالقول قول المولى؛ لأنه يدعي الدخول وينكر ثبوت العتق فكان منكراً معنىً (إن) مدعياً صورة كذا هنا. والجواب وهو الأصل في جنس هذه المسائل: أنه متى أمكن اعتبار المنازعة فيما وقع فيه الاختلاف صورة لا تعتبر المنازعة من حيث المعنى. وفي مسألة الكفالة أمكن اعتبار المنازعة فيما وقع فيه الاختلاف من حيث الصورة؛

لأن الاختلاف من حيث الصورة وقع في إيفاء الدين والمنازعة في إيفاء الدين معتبر في الجملة، ويكون القول قول من ينكر الإيفاء، ألا ترى أنه لو لم يكن بالمال كفيل ووقع الاختلاف بين رب الدين وبين المديون في الإيفاء كان القول قول رب الدين. فهو معنى قولنا أمكن اعتبار المنازعة فيما وقع فيه الاختلاف من حيث الصورة، فلا تعتبر المنازعة من حيث المعنى، وباعتبار الصورة الطالب منكر، وفي مسألة اليمين تعذر اعتبار المنازعة فيما وقع فيه الاختلاف صورة، وهو الدخول وعدم الدخول. ألا ترى أنه لو وقعت المنازعة في الدخول وعدم الدخول ابتداء من غير أن يكون فيه تعليق العتق لأن تعليق العتق لا يعتبر المنازعة أصلاً، فاعتبر بالمنازعة في المعنى، ومن حيث المعنى المولى ينكر العتق. وخرج على هذا مسألة «الجامع الصغير» : لأن هناك تعذر اعتبار المنازعة، وفيما وقع فيه الاختلاف صورة والحج وعدم الحج، ألا ترى أنه لو وقع الاختلاف فيه ابتداء من غير أن يكون فيه تعليق العتق لا تعتبر المنازعة فيه أصلاً، فاعتبرنا المنازعة من حيث المعنى. جئنا إلى مسألة الأمر باليد، فنقول: أمكن اعتبار المنازعة فيما وقع فيه الاختلاف صورة، وهو إعطاء النفقة وعدم الإعطاء، ألا ترى أنه لو وقع الاختلاف فيه ابتداء بأن قال الزوج للمرأة: أعطيت نفقتك، وقالت المرأة: لم تعطني، كان القول قول المرأة، فقد أمكن اعتبار المنازعة فيما وقع فيه الاختلاف صورة، وباعتبار الصورة المرأة منكرة، فيكون القول قولها. امرأة قالت لزوجها: أريد أن أطلق نفسي، وقال الزوج: نعم. وقالت: طلقت نفسي. ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في باب ... أنها تطلق من غير تفصيل. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله ذكر المسألة على التفصيل: إن نوى الزوج التفويض يقع، وإن نوى الرد يعني: طلقي إن استطعت لا تطلق. وعلى قياس مسألة الأمان المذكورة في «السير» ينبغي أن يقال: إن غيّر الزوج النغمة في قوله: نعم، بحيث يعلم أنه أراد به الاستهزاء والرد لا تطلق. وذكر في طلاق «الجامع» : إذا قال الرجل لغيره: أمر امرأتي بيد الله وبيدك، وهو يريد الطلاق، فطلقها الرجل يقع الطلاق؛ لأن اسم الله في مثل هذا إنما يذكر للتبرك به عند افتتاح الكلام على هذا استعمال الناس، وقد تأيد ذلك بالكتاب، وهو قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} (الأنفال: 41) مطلق الكلام ينصرف إلى المتعارف، فيكون هذا تفويضاً للطلاق إلى من خاطبه وحده، فإذا أوقع يقع. وإذا قال: أمر امرأتي بيدي ويدك، أو قال: جعلت أمرها بيدي ويدك وطلقها المخاطب لم يجز طلاقه إلا أن يخير الزوج؛ لأنه ما جرت العادة بذكر المتصرف بنفسه

ابتداء للتبرك، فلا بد وأن يحمل ذكر المتصرف بنفسه على وجه يخرج من أن يكون لغواً، وذلك بأن يحمل بأن مراده من هذا أن لا يتصرف المخاطب على وجه الاستبداد بخلاف الفصل الأول. وفي «الجامع» أيضاً (240أ1) : إذا قال الرجل: أمر امرأتي بيدك، وطلقها الوكيل قبل أن يقوم عن المجلس فهي واحدة بائنة إلا أن ينوي الزوج ثلاثاً، فتكون ثلاثاً. ولو قام الرجل عن مجلسه قبل أن يطلقها بطل الأمر؛ لأن قول الزوج، وطلقها عقيب قوله: أمر امرأتي بيدك علم أنه أراد مما سبق جعل الأمر إليه في الطلاق، فكان هذا تفويض الطلاق إليه والتفويض مقصور على المجلس، وكذلك لو قال: طلقها وأمرها بيدك كان هذا وما تقدم سواء. ولو قال له: طلق امرأتي قد جعلت ذلك إليك، أو قال: جعلت طلاق امرأتي إليك فطلِّقها، فهذا والفصل الأول سواء، يريد به أنه يقتصر على المجلس. وإذا طلقها في المجلس كان الواقع رجعياً، بخلاف الفصل الأول؛ لأن في الفصل الأول التفويض حصل بقوله: أمر امرأتي بيدك وإنه من جملة الكنايات، فيكون المفوض إليه تطليقة بائنة، والتفويض ههنا حصل بقوله: طلقها، وإنه صريح. وقوله: قد جعلت ذلك إليه إشارة إلى ما سبق ذِكْره. والذي سبق ذكره صريح الطلاق، فكأنه قال: جعلت إليك صريح الطلاق فطلِّقها. ولو نص على ذلك كان المفوض إليه طلقه رجعية، كذا ههنا. وفي «المنتقى» : إذا قال لغيره: طلق امرأتي فقد جعلت أمرها بيدك فهذا وكيل يطلق في المجلس وغيره، والطلاق رجعي. ولو قال: جعلت أمرها بيدك فطلقها، فهذا على المجلس، والطلاق بائن. ولو قال له: طلق امرأتي وقد جعلت امرأتي أمرها بيدك، وإن طلقها في المجلس طلقت تطليقتين لا يملك الرجعة بعد ذلك. ولو قام عن مجلسه وطلقها تقع واحدة رجعية؛ لأن قوله طلق امرأتي توكيل بصريح الطلاق. وقوله: قد جعلت أمرها بيدك هذا تفويض آخر ليس بحكم الأول؛ لأن حرف الواو لا يحتمل ذلك، وقد صار الحال حالة مذاكرة الطلاق بما سبق ذكره، وهو قوله: طلق امرأتي، فكان هذا (الوكيل) بصريح الطلاق، وتفويضاً للطلاق إليه. فإذا قال في المجلس: طلقها، صار جواباً لهما، فلا رجعة مع البينونة، ولهذا قال: وقعت تطليقتين لا يملك الرجعة. وإذا قام عن المجلس بطل التفويض وبقي التوكيل بصريح الطلاق، فتقع به واحدة رجعية إلا إن نوى الزوج الثلاث فحينئذ تقع الثلاث، لأن هذا أمر بالطلاق وإنه يحتمل الثلاث. وكذلك الجواب فيما إذا قال له: جعلت أمرها بيدك وطلقها، جعل قوله وطلقها في هذه الصورة تفويضاً مبتدأً حتى قال له: جعلت أمرها بيدك وطلقها إذا طلقها في المجلس. طلقت ثنتين.

وفيما إذا قال له: جعلت أمرها بيدك وطلقها لم يجعل قوله: وطلقها تفويضاً مبتدأً حتى قال: إذا طلقها في المجلس تطلق واحدة بائنة. والفرق: أن حرف الفاء وجد للتعقيب والفصل، فإذا قال فطلقها جعل الثاني حكماً للأول وتفسيراً له، إذ حكم الشيء يعقب ذلك الشيء، وقوله فطلقها يصلح حكماً وتفسيراً لقوله: أمر امرأتي وقوله: أمر امرأتي بيدك يصلح علة للطلاق، ولهذا لو نص عليه يصح، وكما لو كان هكذا صار كأنها: طلق امرأتي لأني فوضت طلاقها إليك، ولو نص على هذا، لم يكن ذلك تفويضاً مبتدأً فههنا كذلك. وهذا المعنى لا يتأتى فيما إذا ذكره بحرف الواو فبقي على حقيقته، وحقيقته تقتضي أن يكون تفويضاً مبتدأً. ولو قال له: طلق امرأتي فأبنها، فهذا على المجلس وغيره، لأن هذا (الوكيل) وليس بتمليك؛ إذ ليس فيه تفويض الأمر إليه، ولا جعل ذلك منوطاً بمشيئته ورأيه نصاً أو معنى، بل هو مطلق استثنائه وما هذا سبيله فهو توكيل، والوكيل بالإيقاع يملك الإيقاع في المجلس وبعده، فإن طلقها في المجلس أو بعده، كانت تطليقة بائنة، لأن الفاء للوصل والتعقيب وإنما تتصل الصيغة بالأصل، فكان معناه وأبنها بتلك التطليقة، فيكون توكيلاً بإيقاع طلقة بائنة، وكذلك الجواب فيما إذا قال: أنبها فطلقها، ولو قال: طلقها وأنبها، أو قال: أبنها وطلقها، فطلقها في المجلس أو بعد القيام عن المجلس، طلقت تطليقتين بائنتين، لأن العطف بحرف الواو لا يصلح لبيان الحكم والعلة على ما مر، فصارا جميعاً أمرين: أحدهما صريح ولا تمليك في واحد منهما، بل كل واحد منهما توكيل، فلم يقتصر على المجلس، فإذا طلقها صار جواباً لهما فيقع تطليقتان، ولا تظهر حق الرجعية مع وجود الإبانة، فلهذا قال: طلقت تطليقتين لا يملك الرجعة بعدهما. فإذا قال لها: أمرك بيدك يوماً أو شهراً أو سنة، فلها الأمر من تلك الساعة إلى استكمال المدة التي ذكر، ولا تسقط بالقيام عن المجلس، ولا بشيء آخر، وهذا لما ذكرنا أن في هذا التفويض معنى التعليق، والتوقيت يلائم التعليق، فصح التوقيت من حيث إنه يتضمن التعليق، وإذا صح التوقيت صار الطلاق بيدها في هذه المدة، ولو بطل الأمر بعد ذلك بقيامها عن المجلس، أو بشيء آخر لم يكن للتأقيت حينئذ فائدة، ويكون الشهر ههنا بالأيام؛ لأن التفويض حصل في بعض الشهر، فلا يمكن اعتبار الأهلية فيه، فيعتبر الأيام بالإجماع ولو عرف وقال: هذا اليوم، أو قال: هذا الشهر، أو قال: هذه السنة، كان لها الخيار في اليوم والشهر والسنة ويكون الشهر ههنا على الهلال. فروي عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قال لها: أمرك بيدك هذا اليوم، فهذا على اليوم كله، ولو قال: في هذا اليوم كان على مجلسها، لأن في الفصل الأول جعل كل اليوم وقتاً للأمرباليد فعم الوقت، وفي الفصل الثاني جعل الأمر بيدها في جزء من اليوم، لأنه جعل اليوم ظرفاً وذلك لا يقتضي التعميم، فإن المظروف قد يستعمل جزءاً من الظرف.

ألا ترى لو قال: لله تعالى علي صوم عمري، يلزمه صوم العمر، ولو قال في عمري يلزمه صوم يوم من العمر، فهذا يبين لك الفرق بين اللفظتين. وذكر ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: إذا قال لها: أمرك بيدك رأس الشهر كان الأمر بيدها، الليلة التي يهل فيها الهلال، ومن الغد إلى الليل، ولو قال لها أمرك بيدك في رأس الشهر كان لها مجلسها حتى تغرب الشمس. قال: ألا ترى أنه لو قال لها أمرك بيدك غداً، كان لها الغد كله، ولو قال في غد، كان على المجلس حتى تغرب الشمس من الغد. وذكر إبراهيم عن محمد رحمه الله ما يخالف هذا، فقد روي عنه: إذا قال لها: أمرك بيدك رمضان، أو قال في رمضان، فهما سواء، والأمر في يدها رمضان كله، وكذلك لو قال لها: أمرك بيدك غداً أو في غد، فهما سواء. وفي القدوري روي عن أبي يوسف رحمه الله: أنه إذا قال لها أمرك بيدك إلى رأس الشهر، فلها أن تطلق نفسها مرة واحدة في الشهر، وليس لها أن تطلق (مرة) أخرى في الشهر (240ب1) لأنه جعل الشهر وقتاً للطلاق، فإذا طلقت مرة واحدة، فقد استوفت ما جعل إليها فلا تملك إيقاع العدد، فلا يخرج الأمر من يدها بتبدل المجلس ليكون التأقيت مفيداً. ولو قالت: اخترت زوجي بطل خيارها في اليوم فلها أن تختار نفسها من الغد في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: خرج الأمر عن يدها في الشهر كله. ذكر القدوري رحمه الله الخلاف في هذه المسألة على هذا الوجه، وذكر الخلاف في مثل هذه المسألة على عكس هذا. وصورتها: إذا قال لها: أمرك بيدك هذا الشهر فاختارت زوجها أو قالت: لا أختار الطلاق، خرج الأمر من يدها في جميع الشهر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، قال أبو يوسف رحمه الله: لا يبطل خيارها في مجلس آخر. وجه قول من قال: إن خيارها لا يبطل في مجلس آخر: إن ردها لقيامها عن المجلس فإذا لم يبطل قيامها اختيارها في المجلس الثاني كذا الرد. وجه قول من يقول ببطلان الخيار في المجلس الثاني أن الأمر يتحد في نفسه وقد صادفه الرد صريحاً فبطل في نفسه بخلاف القيام عن المجلس لأنه ليس رداً صريحاً، وإنما هو امتناع عن الاتحاد فيبقى في نفسه إذ لو لم يبق في نفسه لم يكن التأقيت مفيداً. ولو قال لها: أمرك بيدك اليوم وبعد غد. لم يدخل الليل في ذلك لو اختارت نفسها لا يقع وإن ردت الأمر في يومها، بطل أمر ذلك اليوم فكان لها الأمر بعد غد. ولو قال لها: أمرك بيدك اليوم وغداً، دخلت الليلة تحت الأمر وإن ردت الأمر في يومها ذلك لم يكن لها الأمر في الغد، هكذا ذكر محمد رحمه الله المسألة في «الجامع الصغير» ، وإن لم تدخل الليلة في الفصل الأول لأن كل واحد من اليومين ذكر منفرداً، واليوم المنفرد لا يستتبع ما بإزائه من الليل وإنما دخل الليل في الفصل الثاني لأنه جمع

بين اليوم والغد في الفصل الثاني بحرف الجمع فينزل منزلة الجمع بلفظ الجمع، فكأنه قال: يومين وهناك تدخل الليلة لما عرف أن اسم اليومين يستتبع الليلة، وإنما كان لها الأمر بعد الغد في الفصل الأول، لأن في الفصل الأول الموجود أمران لأن بمجيء الغد ينقطع الأمر الأول لما لم يدخل الليل في الأمر، والأمر إذا انقطع لا يعود به إلا بتجديد الأمر، فاقتضى ذكر ما بعد الغد معطوفاً على اليوم أمراً آخراً حتى يصح العطف، فثبت أن الأمر متعدد فإبطال أحدهما لا يكون إبطالاً للآخر. كما لو قال لها: أمرك بيدك اليوم، وأمرك بيدك بعد غد، بخلاف المسألة الأولى على قول من يقول ببطلان الخيار في جميع الشهر. إذا قالت: اخترت زوجي لأن هناك الأمر واحد، لأن الوقت واحد لم يتخلله وقت لا خيار فيه ولهذا دخلت الليالي فإذا كان الأمر واحد، فإذا بطل بالرد لا يبقى نفسه. أما في الفصل الثاني الموجود أمر واحد؛ لأنه جمع بين الغد واليوم بحرف الجمع فصار كأنه جمع بينهما بلفظ الجمع، وهناك يكون الأمر واحد فههنا كذلك، وإذا أبطلته في اليوم بطل في نفسه. وذكر ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: إذا قال لها: أمرك بيدك اليوم وغداً وبعد غد، فردت الأمر اليوم، بطل خيارها في اليوم فكان لها الخيار غداً، وكذلك إن ردت اليوم وغداً، فلها الخيار بعد الغد. ثم رجع عن هذا فقال: إذا ردت الأمر اليوم: بطل الأمر كله، وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا قال لها: أمرك بيدك هذه السنة، فاختارت نفسها ثم تزوجها، لم يكن لها خيار في باقي السنة لأن الأمر واحد، إلا أنه ممتد، فإذا استوفت مرة لا يبقى في نفسه، قال أبو يوسف رحمه الله: وقياس قول أبي حنيفة رحمه الله أن يثبت لها خيار آخر، ولم يظهر لنا وجه القياس. ولو طلقها زوجها واحدة ولم يكن قد دخل بها، ثم تزوجها في تلك السنة، فلها الخيار في قول أبي حنيفة رحمه الله، لأنها لم تستوف موجب الخيار، وتطليقات ذلك الملك باق، فيبقى موجب التخيير. وقال أبو يوسف رحمه الله: لا خيار لها لأن الزوج أزال بنفسه عما جعل، إليها إزالته، فيخرج الأمر من يدها كالموكل بالبيع إذا باع عين ما وكل ببيعه، غير أن هذا مشكل، لأن التخيير ينصرف إلى تطليقات هذا الملك فإذا بقي شيء من تطليقات هذا الملك يبقى موجب التخيير إذا قال لها: يوم يقدم فلان فأمرك بيدك، فقدم فلان نهاراً فلم يعلم به حتى جن الليل فلا خيار لها، ولو قال لأجنبية يوم أتزوجك فأنت طالق فتزوجها ليلاً يحنث في عينيه فجعل اليوم في مسألة الأمر عبارة عن بياض النهار وفي مسألة التزوج جعله عبارة عن مطلق الوقت. والأصل في ذلك أن اليوم لغة يستعمل لمطلق الوقت فيحتمل الليل والنهار جميعاً، ويستعمل أيضاً في بياض النهار خاصة، والنهار لا يستعمل إلا في البياض، والليل لا يستعمل إلا في السواد، هذا هو المشهور من أهل اللغة، غير أن الناس تعارفوا استعمال

اليوم لمطلق الوقت إذا قرن بفعل لا يمتد، وتعارفوا استعمال اليوم لبياض النهار إذا قرن بفعل يمتد، واستعمال الناس حجة يجب العمل بها منجماً ذكر اليوم على مطلق الوقت عند قرانه بفعل لا يمتد كما في مسألة النكاح، فإن التزوج لا يمتد ولهذا لا يضرب له مدة. ويحمل ذكر اليوم على بياض النهار عند قرانه بفعل يمتد كما في الأمر باليد فإن الأمر باليد مما يمتد، ولهذا يضرب له مدة فيقال جعل فلان أمر امرأته بيدها شهراً أشباه ذلك. وإذا حمل على بياض النهار صار الأمر مؤقتاً ببياض النهار فلا يبقى بعد ذهاب البياض، فإذا علمت به بعد ذهاب البياض فإنما علمت به بعد انتهائها، فلهذا لا يكون لها الخيار. وفي «المنتقى» : إذا قال لها إذا هل الهلال فأمرك بيدك، فإن علمت أن الهلال قد أهل ولم تختر نفسها في ذلك المجلس خرج الأمر من يدها، وإن جاءت بعد الهلال بأيام، وقالت: لم أعلم به، فإن جاءت بأمر أرى أنها فيه صادقة حلفها على ذلك وقبل قولها والأمر بيدها، وإن جاءت بأمر أرى أنها كاذبة فيه لم أقبل قولها. وفيه أيضاً: إذا قال لها أمرك بيدك على أن لا تأتيني البصرة أو على أن لا تخرجي من مصرك، أو ما أشبه ذلك هذا كله على القبول، فإذا قبلت ثم اختارت نفسها طلقت. وكذلك لو قال: إن تؤدي (لي) ألف درهم، أو قال على أن تؤدي إلي كل يوم درهماً، أو قال على أن تعمل في حاجتي اشترط شيئاً مجهولاً، فهذا على القبول وإذا قبلت واختارت نفسها وقع الطلاق وردت مهرها الذي أخذت منه إلا في قوله ألف درهم، ولو قال: أمرك بيدك إن لم تخرجي اليوم من (241أ1) منزلك فهذا يمين مؤقت إلى القبول فيكون الأمر بيدها حتى تغرب الشمس إن لم تخرج من منزلها، فإذا غربت الشمس خرج الأمر من يدها. إذا قال لها: أمرك بيدك كلما شئت فلها أن تختار نفسها كلما شاءت في ذلك المجلس وغيره حتى تبين بثلاث؛ لأن كلمة كلما تقتضي تكرار الأفعال فيتكرر التفويض بتكرر المشيئة إلا أنها لا تطلق نفسها أكثر من مرة في كل مجلس أكثر من واحدة؛ لأن كلمة كلما لما اقتضت التكرار صار كأنه قال لها في كل مجلس: أمرك بيدك، فإذا اختارت نفسها مرة الملك عند مشيئة استوفت موجب ذلك الأمر من التطليقة فإنما يتجدد لها الملك عند مشيئة مستقبلة، فإذا استوفت ثلاث تطليقات ثم عادت إليه بعد زوج فلا خيار لها؛ لأنها استوفت ذلك الملك بتمامه والمفوض إليها ذلك إذ هو المملوك للزوج. ولو قال لها: أمرك بيدك إذا شئت أومتى شئت فلها أن تختار نفسها مرة واحدة في ذلك المجلس وغيره أما الاقتصار على المرة لأن إذا ومتى لا تقتضيان التكرار، وأما التعدي إلى ما بعد المجلس لأن كلمة إذا ومتى توجبان تعميم الوقت فقد جعل لها مشيئة عامة في الأوقات كلها كأنه قال لها: في أي وقت شئت، ولو اختارت زوجها خرج الأمر

من يدها، لأنها ردت ما جعل إليها هذه الجملة من «القدوري» . ولو قال لامرأته: أمر فلانة بيدك لتطلقيها متى شئت، فهذه مشورة والأمر بيدها في ذلك المجلس، ذكره في «المنتقى» . ذكر في «الأصل» : إذا قال الرجل لغيره: قل لامرأتي أمرك بيدك، لا يصير الأمر بيدها ما لم يقل المأمور لها أمرك بيدك، وجعل هذا من الزوج أمراً بالتفويض لا أمراً بالإخبار عن كون الأمر في يدها؛ لأنه لا يمكن أن يجعل هذا أمراً بالإخبار لأن الأمر بالإخبار يقتضي وجود المخبر عنه أولاً، وما أحدث الزوج لا يصلح لتفويض الأمر إليها ليجعل تفويضاً من الزوج أولاً ثم أمراً بالإخبار تفويضاً إلى الغائبة لا يثبت بقوله: أمرك بيدك، وإذا تعذر أن يجعل هذا أمراً بالإخبار جعلنا أمراً بالتفويض. ولمثله لو قال لغيره قل لامرأتي إن أمرها بيدها، يصير الأمر بيدها قبل الإخبار وجعل ذلك أمراً بالإخبار عن كون الأمر بيدها لا أمراً بالتفويض إليها، لأنه أمكن أن يجعل ذلك أمراً بالإخبار، لأن (قول) الزوج إن أمرها بيدها يصلح لتفويض الأمر إلى الغائبة، فيجعل تفويضاً من الزوج أولاً ثم أمراً بالإخبار كما هو حقيقة اللفظ؛ لأن قوله: إن أمرها بيدها حقيقة الإخبار عن كون الأمر بيدها. وفي «الأصل» : إذا قال لها: أمرك بيدك ثم قال لها: أمرك بيدك، بألف درهم فقالت: اخترت نفسي فهي بائن بتطليقتين والألف لازم لها. وفيه أيضاً: إذا جعل أمرها بيد صبي أو مجنون فليس له أن يخرجه منه ويتقيد بالمجلس جعل أمرها بيد رجلين فطلقها أحدهما لم يجز؛ لأن هذا أمر يحتاج فيه إلى الرأي وقد رضي برأيهما، والراضي برأي المثنى لا يكون راضياً برأي الواحد وهذا بخلاف ما لو قال لهما: طلقا امرأتي وطلقها أحدهما، فإنه يجوز لأن هذا أمر لا يحتاج فيه إلى الرأي. وفي «المنتقى» : الحسن بن زياد رحمه الله: إذا قال لامرأتين له أمركما بيدكما لم تطلق واحدة منهما إلا باجتماعهما على طلاقهما. إذا جعل أمر امرأته بيدها إن غاب عنها أو شرب المسكر فوجد أحد الأمرين وطلقت المرأة نفسها ثم وجد الأمر الآخر ليس لها أن تطلق نفسها، لأن الأمر واحد، وإنه تعلق بأحد الشرطين لا أن يكون معلقاً بكل واحد من الشرطين. وقعت واقعة في زماننا أن رجلاً جعل أمر امرأته بيدها على أنه متى ضربها بغير جناية منها فهي تطلق نفسها متى شاءت، فخاصمته المرأة إلى القاضي وقالت: إنه ضربني بغير جناية وطلقت نفسي وطالبته ببقية المهر، فسأل القاضي الزوج: لماذا ضربتها، فقال الزوج: تقصدني زدم، فقالت المرأة للقاضي: إنه أقر بالضرب وأقر بشرط صحة إيقاع الطلاق فمره بتسليم بقية مهري إلي فجاء الزوج بعد ذلك عند القاضي وادعى أنه ضربها

بجناية كانت منها وأقامت على ذلك بينة فاستفتوا عن صحة دعواه فاتفقت الأجوبة على فساده لمكان التناقض.h ووجه ذلك: أن المرأة ادعت الضرب بغير جناية، والقاضي سأله عن ذلك لأن القاضي، إنما يسأل المدعى عليه عما يدعيه المدعي، فإذا أقر بالضرب فقد أقر بالضرب بعد جناية لأن كلامه خرج جواباً لسؤال القاضي والجواب يتضمن إعادة ما في السؤال فيصير بدعوى الضرب بالجناية بعد ذلك متناقضاً فلا تسمع دعواه. ويمكن أن يقال: تسمع دعواه ولا تناقض فيه؛ لأنه ما أقر أولاً بالضرب بعد جناية؛ لأن القاضي لم يسأله عن الضرب لغير جناية نصاً بل سأله عن الضرب مطلقاً وسؤاله عقيب دعواها الضرب بغير جناية لا يدل على تقيد السؤال بالضرب بغير جناية؟ إذ يجوز أن يسأله عن أصل الضرب حتى إذا جحد الضرب أصلاً يأمرها بإقامة البينة على الضرب، ولو أقر بالضرب يسأله أكان الضرب بجناية أو كان بغير جناية، فلا يتقيد السؤال عن الضرب بغير جناية بالشك فلا يصير الزوج بما تكلم مقراً بالضرب بغير جناية، ولا يتحقق التناقض في دعواه الضرب بجناية بعد ذلك، ثم إذا صار الأمر بيدها كانت على خيارها ما دامت في المجلس وإن تطاول يوماً أو أكثر، لأن المجلس قد يطول وقد يقصر وهذا حكم يؤقت بالمجلس فلا يفترق الحال بين أن يطول الحال وبين أن يقصر. ألا ترى أن حكم قبض بدل الصرف والسلم لما يؤقت بالمجلس لا يفترق الحال بين أن يطول الحال وبين أن يقصر. وإن قامت عن محلها بطل الخيار لأن هذا دليل الإعراض والأمر باليد يبطل بصريح الإعراض فكذا بدليل، فكذا إذا أحدث في عمل آخر يعلم أنه قطع لما كانت فيه بطل خيارها، وإن كانت قائمة فقعدت لا يبطل خيارها؛ لأن القعود دليل الإقبال لا دليل الإعراض، لأن هذا أمر يحتاج فيه إلى الرأي والقعود أجمع للرأي بخلاف ما إذا كانت قاعدة فقامت ولو كانت قاعدة فاضطجعت ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن عن أبي يوسف رحمه الله فيه روايتان. وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أنها إذا وضعت وسادة واضطجعت ووضعت عليها رأسها فيه اختلاف المشايخ، منهم من قال: لا يبطل خيارها ومنهم من قال: إذا هيأت الوسادة لما تفعل للنوم، فهذا منها تهاون بالأمر وإعراض عنه ويبطل خيارها. ولو كانت...... قاعدة (241ب1) لا يبطل خيارها. ولو كانت قاعدة فاتكأت ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن فيه روايتين، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله فيما إذا كانت قاعدة فاتكأت أن في ظاهر الرواية لا يبطل خيارها. فروي عن أبي يوسف رحمه الله: أنه يبطل وإن ركبت يبطل خيارها. وإن نزلت من الدابة لا يبطل خيارها وإن كانت محتبية فتربعت، أو كان على العكس لا يبطل خيارها.

وإذا كانت على دابة حين جعل الزوج أمرها بيدها فهذا على وجوه: إن كانت الدابة واقفة حين جعل أمرها بيدها فسارت أو كانت سائرة فسارت كذلك خرج الأمر من يدها، وإن كانت واقفة فأجابت ثم سارت أو كانت سائرة وكما سمعت التفويض أجابت في خطوتها ذلك وأسرعت في ذلك حتى سبق جوابها خطوتها بانت منه. وكذلك الجواب إذا كانت تمشي وإن تسبق خطوتها جوابها لم تبن منه، وإن كانت الدابة سائرة فأوقفتها لا يبطل خيارها، ولو كانت في بيت فمشت في البيت من جانب إلى جانب فهي على خيارها. والسفينة كالبيت لا كالدابة، وفي الحقيقة لا فرق بين السفينة وبين ظهر الدابة، فإن المجلس قد تبدل حقيقة، ولكن إنما فرقنا بينهما لأن سير السفينة لا يضاف إلى راكبها لأنها لا تساق لكنها تجري بالماء والريح، ليست في يد أحد بخلاف سير الدابة، فإنه يضاف إلى راكبها يقال في العرف: فلان سار اليوم كذا فرسخاً وإن كان سار على الدابة. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وسواء كانا على دابتين أو على دابة واحدة، أو كانت هي على دابة وهو يمشي، أو كانا في سفينتين أو في سفينة واحدة، أو كانا في محلين أو في محل واحد حتى إنهما إذا كانا على عاتق رجل واحد فاختارت نفسها في خطوتها ذلك بانت منه، وإذا قال لها أمرك بيدك فقالت: ادع إلي أبي أستشيره، أو قالت ادع شهوداً أشهدهم فهي على خيارها لأن هذا من أسباب الامتثال، ودليل الإقبال دون الإعراض حتى إذا اختارت نفسها ووقعت الفرقة فالزوج لا ينكرها، وكذا إذا لبست ثياباً من غير قيامها عن المجلس لا يبطل خيارها، وإن لم تجد أحداً يدعو بالشهود فقامت بنفسها ولم تنتقل لتدعوا شهوداً هل يبطل خيارها؟ اختلف فيه المشايخ قال بعضهم: لا يبطل خيارها؛ لأنه لم يوجد منها الإعراض لا نصاً ولا دلالة فإن هذا القيام ليس دليل الإعراض، وقال بعضهم: يبطل خيارها؛ لأنه تبدل المجلس إن لم يوجد منها الإعراض وتبدل المجلس يوجب بطلان الخيار سواء كانت معذورة أو غير معذورة. ألا ترى أن الزوج إذا أخذ بيدها وأقامها من مجلس الخيار بطل الخيار وإنما بطل لتبدل المجلس لا لوجود الإعراض منها كذا ههنا. وإذا بدأت الصلاة بعدما جعل أمرها بيدها يبطل الخيار، فلو كانت في صلاة الفريضة لا يبطل خيارها بإتمام الصلاة؛ لأنها ممنوعة عن القطع فلا تكون متمكنة من الاختيار قبل الإتمام، وإنما الإعراض بترك الاختيار بعد التمكن منه وإن كانت في تطوع لم يبطل خيارهما إن سلمت على رأس الركعتين، لأنه لا يحل لها قطع ذلك، وإن قامت إلى الشفع الآخر حينئذ يبطل خيارها؛ لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة، فصار القيام إلى الشفع الآخر بمنزلة اشتغالها بابتداء الصلاة. ثم إن محمداً رحمه الله في «الأصل» : لم يفصل بين تطوع وتطوع، فروى ابن سماعة في «نوادره» عنه أنها إذا كانت في الأربع قبل الظهر في الشفع الأول فقامت إلى الشفع الثاني، لا يبطل خيارها؛ لأن الأربع قبل الظهر شرعت بتحريمة واحدة لا يجوز

أداؤها بتحريمتين فكانت هذه الأربعة كالركعتين في سائر التطوعات. ولو كانت في الوتر في الشفع الأول فأتمتها لا يبطل خيارها. أما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأن الوتر واجب بمنزلة المغرب وأما عندهما فلأنهما سنة مؤكدة شرعت بتحريمة واحدة فكانت كالأربع قبل الظهر، ألا ترى أن الوتر يقضى إذا فات عن وقته بخلاف الأربع قبل الظهر. ولو دعت بطعام في مجلس الخيار وطعمت بطل خيارها قل ذلك أو كثر، ولو شربت ماءً لا يبطل خيارها. والفرق: أن مجلس الخيار مجلس التدبير والناس لا يأكلون عادة في مجلس الرأي والتدبير، بل يفردون للأكل مجلساً فتصير بالأكل رافضة مجلس الرأي فكان ذلك دليل الأعراض، فأما شرب الماء في مجلس التدبير معتاد، فلا تصير بشرب الماء رافضة مجلس الرأي. وذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» : أن الأكل اليسير لا يبطل الخيار وإذا أكلت من غير أن تدعو بطعام، لأن الأكل اليسير لا يدل على الإعراض فأما إذا دعت بطعام أو تكلمت بكلام يكون تركاً للجواب بأن أمرت وكيلها ببيع أو شراء أو أمرت أجنبياً بذلك بطل خيارها، لأن هذه الأفعال دليل الإعراض، وإذا انبسطت أو اغتسلت أو مكنت من زوجها بطل خيارها، وإن ... أو قرأت شيئاً قليلاً لا يبطل خيارها، ولو طال ذلك يبطل خيارها. وفي «المنتقى» : إذا قال لها أمرك بيدك فقالت: الحمد لله على عتق نسمة وهدي بدنة وحجة شكراً لما جعلت إلي وقد طلقت نفسي فهو جائز فلا يخرج الأمر من يدها بما قالت. وإذا قال لغيره: طلق امرأتي واحدة رجعية فطلقها واحدة بائنة، أو قال: طلقها واحدة بائنة فطلقها واحدة رجعية تقع تطليقة واحدة على حسب ما أمره الزوج ذكره في «الأصل» . وفي «المنتقى» : إذا قال لها: طلقي نفسك واحدة بائنة إن شئت، فطلقت نفسها واحدة تملك الرجعة ولم يقع عليها شيء في قول أبي يوسف وهو قياس قول حنيفة رحمهما الله. ولو قال لها: طلقي نفسك واحدة أملك الرجعة إن شئت وطلقت نفسها واحدة بائنة فإنه يقع عليها واحدة يملك الرجعة في قول أبي يوسف، ولا يقع شيء في قياس قول أبي حنيفة رحمهما الله. إذا وكل رجلاً بأن يطلق امرأته للسنة وهي ممن تحيض وكان التوكيل في حالة الحيض أو في طهر جامعها فيه، وطلقها الوكيل في حالة الحيض أو في ذلك الطهر لا يقع الطلاق؛ لأنه ليس بتوكيل للحال بل وكالته مضافة إلى الطهر في الصورة الأولى، وإلى الحيض والطهر في الصورة الثانية.

وكذلك لو قال لها في هذه الحالة: أنت طالق للسنة أنت طالق إذا طهرت أنت طالق إذا حضت وطهرت لا يقع الطلاق، وإذا طهرت في الصورة الأولى أو حاضت وطهرت في الصورة الثانية وطلقها الوكيل بعد ذلك يقع الطلاق؛ لأنه صار وكيلاً الآن فالإيقاع حصل بحكم التوكيل فيصح. وإذا وكل غيره بأن يطلق امرأته (242أ1) ثم طلقها الزوج بنفسه قبل طلاق الوكيل، فهذا لا يكون عزلاً للوكيل ويقع طلاق الوكيل عليها ما دامت في العدة وبعدما انقضت العدة لا يقع طلاق الوكيل عليها تزوجها الزوج أو لم يتزوج. وكل رجلاً بطلاق امرأته والوكيل غائب لا يعلم فطلق الوكيل قبل العلم لا يقع طلاقه؛ لأنه لا يصير وكيلاً قبل العلم. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف رحمه الله: أنه يصير وكيلاً قبل العلم، قال أبو يوسف رحمه الله. ولا أحفظه عن أبي حنيفة رحمه الله وإذا قال لغيره: طلق امرأتي ثلاثاً، فقال: فعلت صح، وإذا قال لرجلين طلقا امرأتي ثلاثاً وطلقها أحدهما واحدة والآخر ثنتين طلقت ثلاثاً. في «البقالي» : وإذا قال لغيره: طلق امرأتي إن شاءت لا يعتبر وكيلاً ما لم تشأ ولها المشيئة في مجلس علمها، وإذا شاءت في مجلس علمها حتى صار وكيلاً لو طلقها الوكيل في ذلك المجلس يقع، ولو قام عن مجلسه بطل التوكيل ولا يقع طلاقه بعد ذلك، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وينبغي أن يحفظ هذا وأن البلوى فيه تعم وأن عامة كتب الطلاق التي يكتبها الزوج من القرية يكون فيها: أيها الذي كتبت إليك هذا الكتاب سل امرأتي هل تشاء الطلاق، فإن شاءت فطلقها، ثم إن الوكلاء كثيراً ما يؤخرون الإيقاع عن مجلس مشيئتها فلا يدرون أن الطلاق لا يقع. وإذا قال لغيره: أنت وكيلي في طلاقها على أني بالخيار أو على أنها بالخيار أو على أن فلاناً بالخيار، فالوكالة جائزة والخيار باطل. قال لغيره: طلق إحدى نسائي فطلق واحدة منهن بعينها صح، وليس للزوج أن يصرف الطلاق إلى غيرها، وكذلك إذا طلق واحدة منهن لا بعينها صح فيكون الخيار للزوج، وهذا؛ لأن «إحدى» كما تطلق على واحدة نكرة تطلق على واحدة بعينها ألا ترى أنه يستقيم أن يقال هذه من إحدى نسائي وقد حصل التوكيل مطلقاً من غير تقييد الإحدى بالعينية ولا بالجهالة، فيجوز على إطلاقه ويصير تقدير المسألة كأنه قال: طلق واحدة من نسائي إن شئت بعينها وإن شئت لا بعينها، ولو نص على هذا كان الجواب كما قلنا فههنا كذلك الجملة (في) «الأصل» . وفي «الجامع» : إذا قال لامرأته: طلقي نفسك ثلاثاً للسنة، وقد كان دخل بها فقالت في زمان الحيض أو في طهر جامعها فيه: طلقت نفسي ثلاثاً للسنة لم يقع عليها شيء بهذا القول، أما في الحال فظاهر، وأما إذا جاء وقت السنة فلأنها تتصرف بحكم التفويض، والداخل تحت التفويض والتنجيز دون الإضافة والتعليق. بخلاف ما إذا قال الزوج لها: أنت طالق للسنة في غير زمان السنة حيث يقع

الطلاق إذا جاء وقت السنة لأن الزوج يتصرف بحكم المالكية، وهو كما يملك التنجيز يملك الإضافة والتعليق فإذا لم يصح هذا القول تنجيزاً صح إضافةً وتعليقاً صيانة للتصرف عن البطلان. وإن كانت طاهرة من غير جماع حين قالت هذا القول وقعت للحال واحدة لوجود وقت السنة ثم لا يقع عليه بذلك اللفظ شيء في الطهر الثاني والثالث إلا إذا جددت الإيقاع عند كل طهر لما ذكرنا أن المفوض إليها أن تطلق نفسها عند كل طهر طلقة، ومن فوض إليه إيقاع الطلاق في المستقبل إذا أوقع في الحال لا يصح إيقاعه لأنه لا يمكن تصحيحه منجزاً وإنه ظاهر، ولا يمكن تصحيحه معلقاً لأن المفوض إليه التنجيز، فلهذا لا يقع عليها شيء بذلك اللفظ في الطهر الثاني والثالث إلا إذا جددت الإيقاع في الطهر الثاني والثالث، وينبغي أن تجدد الإيقاع في المجلس الذي طهرت فيه الطهر الثاني، وكذا في الطهر الثالث لما عرف. فإن قيل: لو كان هذا تفويضاً عند كل طهر تطليقة ويجب أن لا يقع في الطهر الأول شيء عند أبي حنيفة رحمه الله، لأنها طلقت نفسها ثلاثاً، والزوج إذا قال لها: طلقي نفسك واحدة فطلقت نفسها ثلاثاً لا يقع شيء عند أبي حنيفة رحمه الله. قلنا: اختلف مشايخنا في الجواب عن هذا الإشكال بعضهم قالوا ما ذكر في «الكتاب» قولهما، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يقع في الطهر الأول شيء، وبعضهم قالوا: لا بل ما ذكر في «الكتاب» قول الكل، والفرق لأبي حنيفة رحمه الله على قول هذا القائل بين هذه المسألة وبين تلك المسألة أن هناك خالفت أمر الزوج لفظاً ومعنى فلم يقع، وههنا وافقت أمره؛ لأنه أمرها أن تطلق نفسها ثلاثاً للسنة وقد طلقت كذلك، والأول أصح. ولو قال لها: طلقي نفسك ثلاثاً للسنة بألف درهم، فقالت: طلقت نفسي ثلاثاً للسنة بألف درهم وهي طاهرة من غير جماع، وقعت واحدة للحال بثلث الألف، فإذا حاضت وطهرت لا يقع عليها شيء آخر بذلك القول إلا بتجدد الإيقاع لما قلنا وإن جددت الإيقاع بعدما طهرت في مجلس طهرها وقعت واحدة بغير شيء، وكذلك في الطهر الثالث. وإن قال الزوج: أنا رضيت بإيقاعها الثلاث بالألف، وقد أوقعت الثلاث بثلث الألف فصارت مخالفة لا يلتفت إلى قوله، ويقال له: إنها لم تخالف أمرك لفظاً ومعنى، لكن امتنع وجوب بعض البدل حكماً لانعدام شرط الوجوب بالثانية والثالثة، وهو زوال الملك لكون الملك زائلاً بالطلقة الأولى، ولكن الطلاق يجعل شرط وقوعه وجود القبول لا وجوب القبول، وقد تقدم قبول صحيح فوقعت الثانية والثالثة بغير شيء. لهذا قلنا: وامتناع وجوب بعض البدل حكماً لانعدام شرط الوجوب لا يجعلها مخالفة ألا ترى أنه لو أبانها ثم قال لها: طلقي نفسك واحدة بألف، فقالت: طلقت نفسي بألف يقع الطلاق عليها مجاناً. وألا ترى أنه إذا قال لغيره: طلق امرأتي بخمر أو خنزير وطلقها، يقع الطلاق بغير شيء.

وألا ترى أنه إذا قال لغيره: قل لامرأتي: أنت طالق ثلاثاً عند كل طهر واحدة بألف درهم، فقال الرجل لها ذلك وقبلت، وقع عليها في الطهر الأول واحدة بألف، ويقع الآخران بغير شيء. والمعنى في الكل ما قلنا: إذا وقعت المشاجرة بين رجل وامرأته فقالا لرجل: أمرنا بيدك تصلح بيننا، وإن جرى مذاكرة طلاق فله أن يطلقها في «البقالي» . وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: أولياء المرأة إذا اجتمعوا وطلبوا من الزوج أن يطلقها فطال الكلام بينهم فقال الزوج لأبيها: ماذا تريد مني، اِفعلْ ما تريد وخرج ثم طلقها أبوها لم تطلق إن لم يرد به الزوج التفويض لأنه قد لا يراد به التفويض، وفي «فتاوى أهل سمرقند» ، إذا قالت المرأة لزوجها في غضب: إن كان ما في يدك في يدي استنقذت نفسي، فقال الزوج: الذي في يدي في يدك فقالت المرأة: طلقت نفسي ثلاثاً فقال الزوج لها: قولي مرة أخرى فقالت طلقت نفسي ثلاثاً، ثم قال الزوج لم أرد بذلك طلاقاً طلقت ثلاثاً بقولها طلقت نفسي ثلاثاً بعد قوله: قولي مرة أخرى؛ لأن هذا بمنزلة قول الزوج لها قولي طلقت نفسي ثلاثاً تطلق ثلاثاً. وفي (242ب1) «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قالت المرأة لزوجها على وجه وكيل هتم، فقال: هتى فقالت: طلقت نفسي ثلاثاً، فقال الزوج بالفارسية تريد من حرام الشتى ما راجدا بايد شرن، ثم تفرقا ثم أراد الزوج أن يراجعها قال في «الكتاب» يسأل الزوج، قال: نوى بالتوكيل الطلاق، ولم ينو العدد طلقت واحدة رجعية، وإن نوى بالتوكيل المفارقة ولم ينو العدد فهي واحدة بائنة، ويمكن أن يقال: بأن قول الزوج توبر من حرام الشتى دليل إراده البينونة، فينبغي أن يسأل: هل نوى الثلاث، فإن كان نوى الثلاث يقع الثلاث، وإن لم ينو الثلاث تقع واحدة بائنة عندهما وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يقع شيء، لأنها مأمورة بإيقاع الواحدة، وقد أوقعت الثلاث. إذا وكل رجلاً بأن يطلق امرأته وقال له: طلقها بين يدي أخي فلان، فذاك مشورة وليس بشرط حتى لو طلقها لابين يديه وقع كما لو قال له: طلقها بشهود، وطلقها بغير شهود. في «فتاوى (أهل) سمرقند» . وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا قال الرجل لغيره: لا أنهاك عن طلاق امرأتي، لا يصير وكيلاً بالطلاق، وهذا بخلاف ما لو قال لعبده لا أنهاك عن التجارة حيث يصير ماذوناً في التجارة لأن ترك النهي سكوت، وبالسكوت يثبت الإذن في التجارة، أما لا يثبت التوكيل بالطلاق. وفي «مجموع النوازل» قالت لزوجها: يك سحن كويم رواد أشتى أو قالت يكي كاركتم رواد أشتى: فقال الزوج واشتم، فقالت المرأة: طلقت نفسي ثلاثاً، لا يقع شيء وقول الزوج أنه لم يرد الطلاق، وسئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عمن قال لغيره: طلق امرأتك فقال ذلك الغير: الحكم لك فقال: الحكم والأمر لك فطلقها، قال: لا تطلق.

إذا وكل الرجل رجلاً أن يطلق امرأته وطلقها وهو سكران، ينظر إن وكله وهو سكران فطلق يقع، وإن وكله وهو صاح وطلقها بعدما صار سكراناً لا يقع، هكذا حكى فتوى شمس الأئمة الحلواني رحمه الله قبل هذا إذا كان الطلاق على مال، أما في الطلاق بغير المال يقع الطلاق على كل حال؛ لأن المطلوب من الوكيل مجرد العبارة إذا كان الطلاق بغير مال، والسكران وغيره في مجرد العبارة على السواء. نوع آخر في تفويض الطلاق إليها بقوله اختاري إذا قال لها: اختاري وهو ينوي الطلاق فلها الخيار ما دامت في ذلك الملجس، وإن تطاول المجلس يوماً أو أكثر، وإن قال الزوج: لم أرد الطلاق بقوله: اختاري فذاك ليس بشيء، ويقبل قول الزوج في ذلك إلا أن يكون في حالة الغضب أو في حالة مذاكرة الطلاق أو يكون كرر لفظة الاختيار بأن قال: اختاري اختاري اختاري؛ لأن هذا الكلام لا يذكر على وجه التكرار إلا في حق الطلاق وإن قامت عن مجلسها قبل أن تختار شيئاً بطل خيارها، واعلم بأن الخيار بمنزلة الأمر باليد في جميع ما ذكرنا من الأحكام إلا في حكم واحد، وهو صحة نية الثلاث. قال: الزوج إذا نوى بالأمر باليد الثلاث صحت نيته؛ وإذا نوى بالتخيير الثلاث لا تصح نيته؛ لأن قوله: أمرك بيدك تفويض الأمر، وأنه يحتمل العموم والخصوص، فأي ذلك نوى صحت نيته، أما قوله اختاري أمر بالفعل وأنه لا يحتمل العموم فلا تصح نية العموم، فإن اختارت زوجها فليس بشيء، روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خيرنا رسول الله عليه السلام فاخترناه، ولم يكن طلاقاً، وإن اختارت نفسها فهي تطليقة بائنة؛ لأن هذا من جملة ذكر نفس المرأة أو التطليقة أو الاختيارة بأن قال الكنايات ثم التخيير لا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يكون في كلامهما ذكر نفس المرأة أو التطليقة أو الاختيارة بأن قال لها: اختاري نفسك، أو قال لها: اختاري تطليقة أو قال: اختاري اختيارة، فقالت المرأة: اخترت نفسي أو قالت: اخترت تطليقة أو قالت: اخترت اختيارة، وفي هذا الوجه يقع الطلاق. وإما أن يكون في كلام أحدهما ذكر شيء من ذلك إما في كلام المرأة، أو كلام الزوج بأن يقول الزوج: اختاري نفسك اختاري تطليقة أو اختاري اختيارة، فتقول المرأة: اخترت، أو يقول الزوج: اختاري، فتقول المرأة: اخترت نفسي أو تقول: اخترت تطليقة، وفي هذا الوجه يقع الطلاق أيضاً؛ لأنه إذا ثبت ذلك في كلام الزوج ثبت في كلامها لأن كلامها خرج جواباً والجواب يتضمن إعادة ما في السؤال، فلم ينو الاحتمال لا في الخطاب ولا في الجواب. وإذا ثبت ذلك في كلام المرأة يزول الاحتمال عن الخطاب بالنية، وعن الجواب بالتنصيص أما إذا خلا اللفظان عن ذكر شيء من ذلك لم يقع شيء؛ لأن اختيارها محتمل

بين أن يكون لنفسها فيقع، وبين أن يكون لزوجها فلا يقع بالشك، ولا يصير مجمل كلامها مفسراً بنية الزوج، لأن نية الزوج؛ إنما تفسر ليصير الطلاق بيدها، فأما أن يصير المجمل من كلامها مفسراً بنية الزوج فلا (يقع) ولو قال: اختاري اختاري اختاري، ينوي الطلاق بهذا كله فاختارت نفسها فهي طالق ثلاثاً، قال مشايخنا: قول محمد رحمه الله في هذه المسألة وهو ينوي الطلاق بذلك كله يقع اتفاقاً؛ لأن عند تكرار هذه اللفظة لا يحتاج إلى النية على ما مر، وكذلك لو قالت قد طلقت نفسي، أو قالت: أنا طالق، فهو جواب للكل وتطلق ثلاثاً، ولو قال: اخترت تطليقة فهو تطليقة بائنة.h هشام قال: سألت محمداً رحمه الله عمن قالت لزوجها: خيرني خيرني خيرني فقال: قد فعلت، فطلقت نفسها فهي واحدة بائنة، ولو قالت: خيرني وخيرني وخيرني: فقال: قد فعلت وطلقت نفسها فهي ثلاث. الحسن بن زياد رحمه الله إذا قال لها (الزوج) : اختاري اختاري اختاري، فقالت: قد الطلب واحدة بطل ذلك كله، رواه عن أبي حنيفة رحمه الله. ولو قال لها: اختاري ثم اختاري، ثم اختاري فاختارت نفسها، ذكر محمد رحمه الله أنها تطلق ثلاثاً واختلف المشايخ فيه: منهم من قال: إن المسألة مأولة. تأويلها: أنه قال لها: اختاري وسكت ثم قال: اختاري وسكت، ثم قال اختاري وسكت، فقالت: اخترت نفسي وما من كلمة ثم فذلك لفظ محمد رحمه الله لا لفظ الزوج، حتى لو كان ذلك لفظ الزوج بأن قال: الزوج اختاري ثم اختاري ثم اختاري، فقالت: اخترت نفسي، لا تقع إلا الأولى، ويتوقف وقوع الثانية والثالثة على قولها: اخترت ثانياً وثالثاً. وهو نظير ما لو قال لامرأته: إن دخلت الدار فإنت طالق، إن دخلت الدار فأنت طالق إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت مرة تطلق ثلاثاً، ولو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق ثم إن دخلت الدار فأنت طالق ثم إن دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار مرة تطلق واحدة ولا يقع الثلاث ما لم تدخل الدار ثلاث مرات كذا ههنا ومنهم من قال (243أ1) تقع الثلاث وإن ذكر الثانية والثالثة بكلمة ثم فعلى هذا يحتاج إلى الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الدخول. والفرق: أن قوله: اختاري تفويض وتمليك نصاً وتعليق اقتضاء، وإذا كان تمليكاً نصاً كانت العبرة للتمليك وجواب واحد يكفي لتمليكات كثيرة حصلت جملة أو مرتبة، فإنه لو قال: بعت هذا منك بكذا، ثم قال وهبتك هذا فقال قبلت كان جواباً للكل أما قوله إن دخلت الدار تعليق نصاً وليس فيه معنى التمليك وفي التعليقات تداعى صفة الشرط لوقوع الطلاق كما تداعى أصل الشرط وصفة الشرط لم يوجد في الثانية والثالثة. إذا قال: لها اختاري اختاري وقال عقيب الأولى الطلاق وبالتالي إن أفهمها صدق ديانة لا قضاء. إذا قال لها: اختاري الأزواج أو قال: اختاري أهلك ونوى الطلاق فقالت: اخترت الأزواج أو قالت: اخترت أهلي، وقع الطلاق استحساناً.

ولو قال اختاري أختك أو أمك. أو أباك ونوى الطلاق فاختارت ما قال، ففيما إذا اختارت أمها أو أباها يقع الطلاق استحساناً، وفيما عداهما لا يقع. وفي «الجامع» إذا قال لها: اختاري اختاري اختاري بألف درهم، فقالت: اخترت نفسي واحدة أو بواحدة، طلقت ثلاثاً وكان عليها الألف؛ لأن قولها: اخترت نفسي جواب تام لجميع ما قال الزوج لو اقتصرت عليه وكذا إذا أرادت قولها واحدة؛ لأن قولها: واحدة يَصلح جواباً عن الكل أيضاً، بأن يكون معناه اخترت نفسي باختيارة واحدة، لا يحتاج بعد هذا إلى اختيارة أخرى كما في قولهم: ضربته وجيعاً، أي ضرباً وجيعاً. ولو كانت قالت: اخترت نفسي بالأولى أو بالوسطى أو بالأخيرة طلقت ثلاثاً وعليها الألف في قياس قول حنيفة رحمه الله، وفي قولهما: إن قالت بالأولى أو بالوسطى طلقت واحدة بائنة بغير شيء، وإن قالت بالأخيرة طلقت واحدة بألف درهم. ولو قال: اختاري تطليقة فهي تطليقة رجعية، وقد ذكرنا نظير هذا في الأمر باليد إذا قال لها: اختاري فقالت: لا أختارك أو قالت لا أريدك: أو لا أريدك أو لا حاجة لي فيك، وهذا كله باطل ولو قالت: لا أختار الطلاق فهذا رد للأمر، وإن قالت: هويت زوجي أو أجبته فهي على خيارها، فهي وإن قالت كرهت فراق زوجي فقد اختارته، وإن قالت: اخترت أن لا أكون امرأتك فقد برأت منه عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال الرجل لغيره: أخبر امرأتي أن أمرها بيدها، فاختارت من نفسها قبل أن يخبرها جاز وعن محمد رحمه الله بخلاف ذلك. نوع آخر فيما يصلح جواباً في التفويض قول المرأة: طلقت اخترت، يصلح جواباً لقول الزوج: أمرك بيدك، ولقوله: اختاري، وقولهما: اخترت لا يصلح جواباً لقوله طلقي نفسك حتى إنه إذا قال: طلقي نفسك فقالت اخترت نفسي لا يقع شيء، ولو قال لها: أمرك بيدك أو قال: اختاري فقالت: طلقت نفسي يقع. والفرق: وهو أن قولها: اخترت ليس من ألفاظ الطلاق لا وصفاً ولا حكماً، ولهذا لو أراد الزوج أن يوقع الطلاق عليها بقوله اخترت لا يقدر، ولكن جعل جواباً بإجماع الصحابة متى انبنى على تخير من الزوج، فإذا لم يسبق من الزوج تخيير بقيت لفظة الاختيار وأما قولها: طلقت من ألفاظ الطلاق وضعاً وحكماً بل هو الأصل فيه، إلا أنها خالفت في الوصف متى سبق من الزوج التخيير فيلفوا الوصف ولكن الموافقة في الأصل كافية في الوقوع، فإذا جمع الزوج بين ألفاظ التفويض وهو قوله: أمرك بيدك اختاري طلقي، فإن ذكرها بغير حرف صلة لجعل كل واحداً كلاماً مبتدأً، ولو ذكرها بحرف الفاء فالمذكور بحرف الفاء يجعل تفسيراً إن صلح تفسيراً، وقال أبو يوسف رحمه الله إذا قال لها طلقي نفسك فقالت: أبنت نفسي، لم يقع على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله.

وعندهما يقع تطليقة رجعية؛ لأن لفظ البينونة متضمنه طلاقاً فصار كما لو قالت: طلقت نفسي تطليقة بائنة فيصح الأصل ويلغوا الوصف لأبي حنيفة رحمه الله أن لفظة الإبانة جواباً تضمنت طلاقاً، وههنا لفظة الإبانة لا تصح جواباً؛ لأنه لم يفوض إليها الإبانة فصارت مبتدأة بهذا الكلام، فلم يتضمن هذا الكلام طلاقاً هكذا ذكر القدوري في «شرحه» . وذكر في «الجامع» قول أبي حنيفة رحمه الله: إنه يقع، والوجه ما ذكرنا لأبي يوسف ومحمد رحمهما الله، ولفظ الاختيار يصلح تفسيراً للأمر باليد؛ لأنه أخص من لفظة الأمر؛ لأن الأمر باليد قد يكون في الاختيار وغيره، وقد يكون بثلاث، وقد يكون بواحد، والخاص يصلح تفسيراً للعام، والأمر باليد لا يصلح تفسيراً للاختيار؛ لأن العالم لا يصلح تفسيراً للخاص، والطلاق يصلح تفسيراً للأمر، والاختيار؛ لأنه مفسر مصرح فيصلح تفسيراً لهما، والأمر لا يصلح تفسيراً للأمر. وكذلك الاختيار لا يصلح تفسيراً للاختيار؛ لأن الشيء لا يصلح تفسيراً لنفسه، وإذا لم يصلح تفسيراً يجعل علة لما تقدم، وإن تعذر جعله علة يحمل على العطف. ولو ذكرها بحرف الواو فهو للعطف والمعطوف لا يصلح تفسيراً للمعطوف عليه؛ لأن العطف يقتضي المغايرة والتفسير مع المفسر كشيء واحد، وإذا عطف البعض على البعض والتفسير المذكور في آخرها يجعل تفسيراً للكل؛ لأن بحكم العطف صار الكل في معنى كلام واحد إذا قال: أمرك بيدك طلقي نفسك أو قال لها: اختاري نفسك، فقالت اخترت نفسي وقال الزوج: لم أرد الطلاق كان مصدقاً، ولا يقع عليها شيء؛ لأن قوله: طلقي نفسك لما ذكر بدون حرف الصلة لم يجعل جواباً وتفسيراً لأول الكلام بل اعتبر تفويضاً مبتدأً فبقي الأول منهما، فكان القول قوله في أنه لم يرد الطلاق، وقوله: طلقي وإن كان تفويضاً مفسراً إلا أن قولها اخترت لا يصلح جواباً له فلا يقع به شيء، حتى لو قالت طلقت نفسي تقع تطليقة رجعية في المسألتين جميعاً بقوله: طلقى نفسك؛ لأنه تفويض صريح مفسر وقولها طلقت يصلح جواباً له والواقع بالصريح رجعي. ولو قال لها: أمرك بيدك وطلقي نفسك أو قال لها: اختاري وطلقي نفسك فاختارت نفسها، فقال الزوج: لم أرد الطلاق بالأمر باليد، وبالاختيار لم يقع شيء؛ لأن الكلام بقي منهما مجملاً؛ لأن قوله: وطلقي لم يصر تفسيراً لكونه معطوفاً عليه، فيقبل قول الزوج: إنه لم يرد الطلاق بالكلام الأول، وقوله: وطلقي وإن كان تفويضاً مفسراً إلا أن قولها اخترت نفسي لا يصلح جواباً له. ولو قال لها: أمرك بيدك فاختاري وطلقي نفسك، فقالت: قد اخترت نفسي، وقال الزوج: لم أرد بشيء من ذلك، فإنه لا يصدق على ذلك، وتقع تطليقة بائنة بقوله: أمرك بيدك مع يمينه بالله ما أراد به الثلاث؛ لأن الأمر (243 ب1) باليد؛ كلام مبهم، وقوله اختاري خرج جواباً وتفسيراً له لأنه ذكره بحرف الفاء وهو يصلح جواباً وتفسيراً للأمر باليد؛ لأن الأمر أشد إبهاماً من الاختيار ولأنه ينتظم الاختيار وغيره، فإذا فسره بالاختيار قبل الإبهام فيصلح تفسيراً له من هذا الوجه.

ويصير تقدير الكلام: أمرك بيدك لتختاري نفسك فلما قال بعد ذلك فطلقي نفسك وأنه يصلح تفسيراً للاختيار، صار الاختيار مفسراً بالطلاق فصار الاختيار المفسر تفسيراً للأمر باليد والوقوع بالمفسر لا بالتفسير والواقع بالأمر باليد طلاق بائن ولكن مع احتمال الثلاث، فلهذا قال: تقع تطليقة بائنة مع يمينه بالله ما أراد به الثلاث. ولو قال لها: اختاري فاختاري فطلقي نفسك، فاختارت نفسها طلقت تطليقتين بائنتين؛ لأن قوله اختاري مبهم وقوله: فاختاري لا يصلح تفسيراً له فيجعل تفويضاً مبتدأً معطوفاً على الأول كأنه قال: اختاري واختاري لما عرف أن حروف الصلات يقام بعضها مقام البعض باعتبار الخاصية. وصارت مسألتنا: اختاري واختاري وطلقي نفسك وهناك قوله فطلقي نفسك، يصير تفسيراً للتفويض بحكم العطف كذا ههنا، وإذا صار قوله: فطلقي نفسك تفسيراً لهما كان الواقع بهما وقولهما: اخترت يصلح جواباً لهما، والواقع بكل واحد منهما طلاق بائن فطلقت تطليقتين بائنتين. لهذا ولو قال لها: اختاري فأمرك بيدك وطلقي نفسك فقالت: قد اخترت نفسي أو قالت طلقت نفسي فهي طالق تطليقة بائنة بقوله أمرك بيدك يجعل المقدم مؤخراً كأنه قال: أمرك بيدك فاختاري فطلقي نفسك وإنما كان كذلك، لأن الأمر باليد لا يصلح تفسيراً للاختيار والاختيار يصلح تفسيراً للأمر باليد فيجعل الاختيار تفسيراً للأمر باليد بالتقديم والتأخير، فإن التقديم والتأخير في كلام العرب جائز فصار كأنه قال: أمرك بيدك فاختاري وطلقي نفسك. ولو قال هكذا تقع تطليقة بائنة بقوله أمرك بيدك وهي المسألة المتقدمة كذا ههنا، فلم يجعل الفاء ههنا بمنزلة الواو ليصير كأنه قال: اختاري وأمرك بيدك فطلقي نفسك، لأنا لو جعلنا هكذا تقع تطليقتان، ولو جعلنا المقدم مؤخراً على نحو ما ذكرنا تقع تطليقة واحدة وكلا الوجهين من الممكنات، فجعلنا المقدم مؤخراً كيلا تقع تطليقة أخرى بالشك والله أعلم. نوع آخريتصل بهذا الفصل في تعليق الطلاق بالمشيئة وفي تعليق التفويض بالمشيئة إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، فذلك إليها ما دامت في مجلسها فإن شاءت في مجلسها وقع الطلاق؛ لأن هذا في معنى الخيار من حيث إن المشيئة عمل فلها كالاختيار فيكون الواقع رجعياً؛ لأن الوقوع بصريح الطلاق وهو قول الزوج: أنت طالق، وكذلك إذا قال: طلقي نفسك إن شئت أو لم يقل إن شئت فذلك إليها في مجلسها إلا أن ههنا لا تطلق ما لم تطلق نفسها؛ بخلاف المسألة الأولى، فإن هناك إذا شاءت طلاقها وإن لم تطلق نفسها لأن ههنا المعلق بالمشيئة التطليق وهناك المعلق بالمشيئة الطلاق. ولو قال لأجنبي: طلق امرأتي إن شئت يقتصر على المجلس وبدون قوله: إن شئت

لا يقتصر على المجلس؛ لأن بدون ذكر المشيئة توكيل ومع ذكر المشيئة تمليك. وقوله: للمرأة طلقي نفسك مع المشيئة وبدون المشيئة تمليك، وقوله للمرأة: طلقي صاحبك نظير قوله للأجنبي: طلق امرأتي إن كان مع ذكر المشيئة فهو تمليك وإن كان بدون ذكر المشيئة فهو توكيل. ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً ثلاثاً إن شئت فقالت: شئت في واحدة فهو باطل؛ لأن معنى قوله: إن شئت الثلاث فصار الطلاق معلقاً بمشيئتها الثلاث. وعلى هذا إذا قال لها: طلقي نفسك ثلاثاً إن شئت، فطلقت نفسها واحدة، لم يقع شيء؛ لأن معنى كلامه طلقي نفسك ثلاثاً إن شئت الثلاث فإذا طلقت نفسها واحدة فقد شاءت واحدة دون الثلاث. وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إن شئت فقالت: أنا طالق لا يقع إلا أن تقول: أنا طالق ثلاثاً، إذا قال لها: طلقي نفسك إن شئت، فقالت: قد طلقت نفسي يقع الطلاق؛ لأنها شاءت حيث طلقت نفسها إذا قال لها إذا جاء الغد فأنت طالق إن شئت، كان لها المشيئة في الغد؛ لأن في الفصل الأول علق الطلاق بمشيئتها ثم جعل المعلق بمشيئتها مضافاً إلى الغد فلا بد من اعتبار مشيئتها أولاً لتصح الإضافة إلى ما بعد الغد، وفي الفصل الثاني علق الطلاق بمجيء الغد وجعل المعلق بمجيء الغد معلقاً بمشيئتها فلا بد من مجيء الغد أولاً ليتعلق ذلك بمشيئتها ذكر المسألة في «الزيادات» . وذكر في «الأصل» : إذا قال لها: أنت طالق غداً إن شئت فلها المشيئة في الغد، ولو قال: إن شئت فأنت طالق غداً فلها المشيئة في الحال، ولم يذكر في المسألة خلافاً. قالوا وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعن أبي يوسف رحمه الله: أن لها المشيئة في الغد في المسألتين جميعاً. وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال لها: أنت (طالق) غداً إن شئت، أو أنت طالق إن شئت غداً، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال: لها المشيئة غداً، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن قدم المشيئة فلها المشيئة في الحال، وإن آخرها فهو على ما قال أبو حنيفة رحمه الله، وعلى هذا إذا قال لها: اختاري غداً إن شئت اختاري إن شئت غداً أمرك بيدك غداً إن شئت أمرك بيدك إن شئت غداً فالمشيئة في الغد في الحالين عند أبي حنيفة رحمه الله. وعلى هذا إذا قال لها: طلقي نفسك غداً إن شئت طلقي نفسك إن شئت غداً إن شئت فطلقي نفسك غداً لم يكن لها أن تطلق نفسها حتى يجيء الغد في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إن قدم المشيئة فلها أن تطلق نفسها في الحال فتقول في الحال: طلقت نفسي غداً. وذكر هشام عن محمد رحمهما الله: إذا قال لامرأته: أنت طالق غداً، أو لم يقل غداً على ألف إن شئت فقالت في الحال شئت لا يقع الطلاق حتى يقول الزوج: قبلت؛

لأن الإيجاب من الزوج مضاف إلى الغد، فالمشيئة من المرأة قبل مجيء الغد يصير ابتداء، ولو ابتدأت مشيئة الطلاق على ألف تتعلق بقبول الزوج، فههنا كذلك. ولو قال لها: إن شئت الساعة فأنت طالق غداً طالقاً وقع الطلاق في الغد، ولو قال شئت أو نوى ذلك ولم يقل الساعة فقالت شئت أن أكون غداً طالقاً وقع الطلاق في الغد، ولو قال: شئت أن يقع الطلاق في اليوم، فإنه لا يقع الطلاق في اليوم ويخرج الأمر (244 * أ1) ، من يدها (وإن قال:) أنت طالق إذا شئت أو متى شئت فلها أن تشاء في المجلس وبعده ولكن مرة واحدة. ولو قال لها: واحدة بعد واحدة حتى تطلق ثلاثاً. (ولو قال لها:) أنت طالق كلما شئت فلها ذلك أبداً كلما شاءت في المجلس وغير واحدة بعد واحدة حتى تطلق ثلاثاً. أما في قوله «متى» فلأن متى للوقت فصار كأنه قال: في أي وقت شئت، وهناك لها أن تطلق نفسها في أي وقت شاءت، ولا يبطل بالقيام عن المجلس؛ لأن هذا إيقاع في وقت المشيئة فلا يعتبر له المجلس قبل وقت المشيئة وههنا، كذلك لو ردت الأمر لا يكون رداً لما ذكرنا أن هذا إيقاع في وقت المشيئة والإيقاع لا يحتمل الرد، ثم لها أن تشاء واحدة وليس لها أن تشاء أخرى؛ لأن كلمة متى تعم الزمان، أما (إذا) تعم الأفعال فتملك الإيقاع في أي وقت شاءت ولكن مرة واحدة. أما في قوله إذا زادا ما، أما عندهما فإن إذا وإذا عندهما للوقت، وعنده يستعملان للشرط وللوقت فباعتبار الشرط يخرج الأمر عن يدها بالقيام عن الملجس، وباعتبار الوقت لا يخرج فلا يخرج بالشك. وأما في قوله: كلما؛ فلأن كلمة كلما توجب التكرار فيتكرر الطلاق بتكرر المشيئة حتى تتم الثلاث. وإن عادت إليه بعد زوج فليس لها أن تشاء آخر بعد ذلك؛ لأن اليمين إنما يصح باعتبار الملك القائم للحال، فإذا وقعت الثلاث فقد ذهب ذلك الملك بتمامه فلم يبق اليمين وإذا تزوجها بعد ذلك وشاءت الطلاق فقد شاءت ولا يمين. ولو قال: أنت طالق حيث شئت أو إن شئت لم تطلق حتى تشاء، وإن قامت عن مجلسها فلا مشيئة لها بعد ذلك. ولو قال لها: كلما شئت فأنت طالق ثلاثاً فشاءت واحدة، فذلك باطل لأن معنى كلامه كلما شئت الثلاث لأنه لم يذكر للمشيئة خبراً وصار تأخر خبراً للمشيئة. إذا قال لامرأتين له: إذا شئتما فأنتما طالقتان فشاءت إحداهما دون الأخرى، أو شاءتا طلاق إحداهما لا يقع شيء، لأن معنى المسألة: إن شئتما طلاقكما فصار الشرط مشيئتهما طلاقهما. وكذلك إذا قال لامرأتين له: طلقا أنفسكما ثلاثاً إن شئتما، فطلقت إحداهما نفسها وصاحبتها ثلاثاً في المجلس لم تطلق واحدة منهما، لأن معنى كلامه طلقا أنفسكما إن شئتما طلاكما؛ لأنه لم يذكر لمشيئتهما خبراً فيصرف إلى السابق ذكره وهو طلاقهما. فإذا طلقت إحداهما نفسها وصاحبتها فإنما وجد نصف الشرط فبوجود نصف الشرط لا يترك الجزاء، فإن طلقت الأخرى نفسها وصاحبتها بعد ذلك ثلاثاً قبل القيام عن

المجلس طلقتا ثلاثاً؛ لأنه يكمل الشرط فإن طلقتا إحداهما لم يقع الطلاق. ولو قامتا عن المجلس ثم طلقت كل واحدة منهما؛ نفسها وصاحبتها ثلاثاً لم تطلق واحدة منهما لأن الأمر كله معلق بالمشيئة ههنا فكان كله تمليكاً فيبطل بالقيام عن المجلس. ولو كان قال لهما: طلقا أنفسكما ثلاثاً فطلقت إحداهما نفسها وصاحبتها قلنا: طلقتا ثلاثاً، لأن التفويض هنا مطلق غير معلق بمشيئتهما وقد أمرنا بالإيقاع بغير بدل، فتنفرد إحداهما بالإيقاع. كما لو قال لرجلين طلقا امرأتي، فإذا قال لها طلقي نفسك واحدة إن شئت فطلقت نفسها ثلاثاً لا يقع شيء عند أبي حنيفة رحمه الله لأن الزوج علّق تمليك الواحدة بمشيئة الواحدة لأن معنى كلامه طلقي نفسك واحدة إن شئت الواحدة والثلاث غير الواحدة عنده، فكانت مشيئة الثلاث مشيئة غير الواحدة فكانت مبتدئة بهذه المشيئة لا بانية كلامها على كلام الزوج، ولا صحة لكلامها إلا على سبيل الجواب والبناء. وعندهما: تقع واحدة لأن الواحدة من جملة الثلاث عندهما فكانت مشيئة الثلاث مشيئة الواحدة. وعلى هذا الخلاف إذا قال لها: أنت طالق واحدة إن شئت فقالت: شئت ثلاثاً لم يقع شيء عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قال لها: طلقي نفسك عشراً إن شئت فقالت: طلقت نفسي ثلاثاً لم تطلق، إذا قال لها: أنت طالق إن شئت، فقالت: شئت إن كان هكذا فهذا على وجهين: إما إن علّق مشيئتها بشيء ماض قد وجد، وفي هذا الوجه يقع الطلاق لأن التلعيق بشيء موجود كائن تخيّر وليس بتعليق حقيقة فكانت آتية بمشيئة منجزة كما فوض إليها الزوج فصحت، وأما إن علق مشيئتها بشيء لم يوجد بعد. وفي هذا الوجه لا يقع الطلاق؛ لأن التعليق بشيء لم يوجد تعليق على الحقيقة والمفوض إليها مشيئة منجزة لا مشيئة معلقة فلا تعتبر هذه المشيئة في حق وقوع الطلاق ويخرج الأمر من يدها لأنها اشتغلت بما لم يفوض إليها صارت معرضة عما فوض إليها ومن هذا إذا قالت شئت إن شاء أبي، كان ذلك باطلاً، وكذلك إذا قالت: شئتُ إن شئتَ لا يقع، فإن قال الأب بعد ذلك: شئت أو قال الزوج: شئت لا يقع الطلاق أيضاً. وفي «المنتقى» : إذا قال لها: أنت طالق إن هويت أو أردت أو أعجبك أو وافقك أو أحببت فقالت: شئت وقع. وفيه أيضاً: عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قال لها: طلقي نفسك واحدة بائنة متى ما شئت ثم قال لها طلقي نفسك واحدة أملك الرجعة حينما شئت، فقالت بعد أيام أنا طالق فهي طالق واحدة يملك الرجعة ويصير قولها جواباً بالكلام الآخر. وفيه أيضاً: داود بن رشيد عن محمد رحمهما الله: إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة إن شئت أنت طالق ثنتين إن شئت فقالت: قد شئت واحدة قد شئت ثنتين، قال:

إن وصلت فهي طالق ثلاثاً إذا قال لأمرأته أنت طالق إن شئت وأبيت لا تطلق بهذا اليمين أبداً لأنه جعل المشيئة والإباء شرطاً واحداً فيشترط اجتماعهما في حالة واحدة وإنه لا يتصور، هكذا ذكر في «المنتقى» وفي «النوازل» . وفي «العيون» : أنها إذا شاءت تطلق وإن أبت فكذلك تطلق، والصحيح: ما ذكر في «المنتقى والنوازل» ، وكذلك إذا قال: إن شئت وأبيتِ فأنت طالق. وكذلك إذا قال إن شئت ولم تشائي، ولو قال: أنت طالق إن شئت وإن لم تشائي فإن شاءت في مجلسها طلقت بحكم المشيئة، وإن قامت من مجلسها طلقت أيضاً لأنها لم تشاء، وهذا لأنه جعل المشيئة وعدم المشيئة وكل واحدة منهما شرطاً على حدة لوقوع الطلاق فأيهما وجد يقع الطلاق، وكذلك الجواب فيما إذا قال لها: أنت طالق إن شئت أو لم تشائي، إن شاءت في المجلس، طلقت بحكم (244 * ب1) المشيئة وإن قامت عن مجلسها طلقت أيضاً لما قلنا.k وأما إذا قال لها: إن شئت وإن لم تشائي فأنت طالق شئت كلاماً لا تطلق بهذه اليمين أبداً، لأنه لما أخر الطلاق لم يكن قوله إن شئت كلاماً تاماً فيوقف على ذكر الطلاق فإذا قال: وإن لم تشائي صارا شرطاً واحداً فيشترط اجتماعهما في حالة واحدة وأنه لا يتصور. وإذا قال لها: أنت طالق إن شئت أو أبيت فهو على أحد الأمرين في مجلسها إن شاءت في المجلس طلقت، وإن قالت في المجلس: أبيت، طلقت أيضاً وإن قامت قبل أن تشاء أو تأبى لا تطلق ولا يكون الإباء إلا بكلام، وهذا كله إذا لم يكن للزوج نيّة. وإن نوى إيقاع الطلاق عليها على كل حال يريد به أنك طالق شئت أو أبيت، أنت طالق إن شئت وإن أبيت أنت طالق إن شئت وإن لم تشائي فهو على ما نوى، ويقع الطلاق عليها لا محالة. بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمهما الله: رجل قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، إلا أن تشائي واحدة، فقامت عن مجلسها قبل أن تشاء طلقت ثلاثاً، وإن شاءت واحدة قبل أن تقوم لزمها تطليقة واحدة، وكذلك لو قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا أن تريدي واحدة إلا أن تهوي واحدة إلا أن تحبي وكذلك لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا أن يشاء فلان واحدة وإلا أن يهوى وإلا أن يحب. إذا قال لها: أنت طالق واحدة إن شئت، فشاءت نصف واحدة، أو إلا أن تريد واحدة فهو مثل ذلك، وإن لم يكن فلان حاضراً فله ذلك إذا علم به في المجلس الذي يعلم فيه. إذا قال لها: أنت طالق واحدة إن شئت ثنتين، فإن شاءت ثنتين فهي طالق واحدة فقال: بعتك طلاقك بألف درهم فقبلت بطل الأمر، بخلاف ما لو لم يذكر المشيئة. وفي «البقالي» : إذا قال لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق إن شئت، فلها مجلس العلم بعد النكاح والله أعلم.

نوع آخر في الرجوع عن التفويض ذكر في طلاق «الجامع» : إذا قال لامرأته: طلقي نفسك بألف درهم أو قال: طلقتك بألف درهم قبل أن تتكلم المرأة بشيء إن رجع الزوج عن هذه المقالة، كان رجوعه باطلاً، حتى لو قبلت المرأة بعد ذلك، وهي في مجلسها صح ذلك منها وطلقت، وكذلك...... طالق بقيام الزوج عن المجلس، حتى أن بعد قيام الزوج لو قبلت وهي في المجلس طلقت، وكذا ثم رجع المولى لو قال لعبده بعتك عتقك بألف درهم، اعتقك بألف درهم ثم رجع المولى أو قام عن المجلس، قبل قبول العبد، لا يبطل ذلك حتى لو قبل العبد بعد ذلك وهو في المجلس صح. ولو كانت البداية من المرأة والعبد، كان الجواب على عكس ما تقدم في الوجهين. والفرق: أن الطلاق على مال والعتق على مال من جانب الزوج والمولى يمين؛ لأن الملتمس من الزوج والمولى الطلاق والعتق وهما مما يحلف بهما ويصح تعليقهما بالشروط والأخطار وينفرد الزوج والمولى بإيجاب ذلك، فإذا تعلق بالقبول صار في معنى اليمين فألحق له واليمين لا يقبل الرجوع فلا يبطل بقيام الحالف عن المجلس، والمتوقع من المرأة والعبد المال، والمال مما لا يحلف به ولا يصح تعليقه بالشروط والأخطار ولا تنفرد المرأة والعبد بإيجابه فكان كالبيع من جانبهما، والرجوع عن إيجاب البيع قبل قبول المشتري صحيح. ولو قال: طلقي نفسك إن شئت، أو لم يقل: إن شئت، ثم أراد أن يرجع عن ذلك ليس له. ولو قال لها: طلقي صاحبك أو قال لرجل أجنبي: طلّق امرأتي لمن قال إن شئت فليس له أن يرجع عن ذلك، وإن لم يقل إن شئت فله أن يرجع. والحاصل: أن قول الزوج لامرأته طلقي نفسك تمليك الطلاق منها. وفيه معنى التعليق وكل ذلك لا يقبل الرجوع. وقوله للأجنبي: طلق امرأتي، وقوله لامرأته: طلقي صاحبتك إن كان مقترناً بالمشيئة فهو تمليك؛ لأن المالك هو الذي يتصرف عن مشيئة. وهذا النوع من التمليك لا يقبل الرجوع وإن لم يكن مقروناً بالمشيئة فهو توكيل محض، والتوكيل يقبل الرجوع فلا يصح عزل التوكيل بالطلاق قبل علمه، لأن العزل خطاب الوكيل بالنهي عن الإيقاع وحكم الخطاب لا يثبت في حق المخاطب قبل العلم. قال في كتاب الوكالة: إذا قال الرجل لامرأته انطلقي إلى فلان حتى يطلقك، ثم إنه نهاها عن الذهاب وقال: لا تذهبي إلى فلان ولا يطلقك، لا يكون هذا نهياً عن الطلاق ولا ينعزل فلان بنهي المرأة ما لم يعلم بالنهي.

يجب أن يعلم إن قال لامرأته: انطلقي إلى فلان حتى يطلقك فذهبت فطلقها فلان صح ويصير فلان وكيلاً بالتطليق، وإن لم يعلم وكالته. وذكر في «الزيادات» ما يدل على أنه لا يصير وكيلاً قبل العلم قيل: في المسألتين روايتان وقيل: ما ذكر في «الزيادات» قياس، وما ذكر في «الأصل» استحسان، ثم على رواية «الأصل» وهو جواب الاستحسان إذا صار وكيلاً وإن لم يعلم لو أن الزوج نهى المرأة عن الانطلاق إلى فلان لا يصير فلان معزولاً بنهي المرأة قبل العلم بالنهي، لأن النهي في حق الغائب لم يصح لأنه لو صح إما أن يصح مقصوداً ولا وجه إليه لأن النهي مقصوداً قبل العلم لا يصح، وإما أن يصح؛ مقتضى نهي المرأة عن الانطلاق إلى فلان ولا وجه إليه أيضاً؛ لأن نهي المرأة عن الانطلاق إلى فلان لا يصح؛ لأنه نهي عن فعل فيه طلاقها وهو الانطلاق ويعتبر بما لو فوض إليها طلاقها ثم نهاها عن الإيقاع، وذلك لا يصح فكذا هذا. فصار الجواب فيه نظير الجواب فيمن وكل رجلاً أن يطلق امرأته ثم قال للمرأة نهيت فلاناً أن يطلقك فلأن فلاناً لا ينعزل ما لم يعلم بالنهي؛ لأنه لو انعزل انعزل بالنهي مقصوداً لانتفاء النهي للمرأة؛ لأنه ما نهي المرأة عن شيء وما فوض إليها شيئاً حتى يصح نهي الغائب بطريق التبعيّة وتعذر القول بانعزاله مقصوداً بالنهي قبل العلم فلهذا لا ينعزل قبل العلم، هذا إذا نهى المرأة قبل الانطلاق إلى ذلك الرجل. أما إذا نهاها بعد الانطلاق إلى ذلك الرجل لا يصير فلان معزولاً، وإن علم بالعزل وقبل الانطلاق يصير معزولاً إذا علم بالعزل النهي وصار الجواب فيه نظير الجواب فيما إذا قال لآخر: طلق امرأتي إن شاءت إذا عزل الوكيل قبل مشيئتها صح العزل إذا علم بالعزل وإذا لم يعلم لا يصح العزل وبعد مشيئتها لا يصح العزل. وإن علم الوكيل بالعزل، وذلك لأن المفوض إلى المرأة في المسألتين (245أ1) جميعاً ليس بطلاق حتى لا يصح نهي الزوج عن ذلك على كل حال، وإنما المفوض إليها ما هو سبب طلاقها وهو الانطلاق والمشيئة، فمن حيث إن المفوض إليها لم يكن طلاقاً صح نهي الزوج إذا علم الوكيل بذلك قبل الانطلاق والمشيئة، ومن حيث إن المفوض إليها هو سبب طلاقها لم يصح نهي الزوج بعد الانطلاق والمشيئة وإن علم الوكيل بذلك توفيراً على الأمرين حظهما بقدر الإمكان. وهذا بخلاف ما لو قال لأجنبي: انطلق إلى فلان وقل له حتى يطلق امرأتي، ثم نهاه بعد ذلك صح النهي. ولو نهى المرأة عن الانطلاق لا يصح لأن المفوض إلى الأجنبي فعل فيه طلاق المرأة فيعتبر بما لو فوض إليه طلاقها بأن قال: له طلق امرأتي. ولو قال له ذلك صح نهيه فكذا ههنا، وههنا فوض إلى المرأة فعلاً فيه طلاقهما، فيعتبر بما لو فوض إليها طلاقها بأن قال لها: طلقي نفسك وهناك لا يصح نهيه إياها فهنا كذلك.

وهذا بخلاف ما لو قال لغيره: إن جاءتك امرأتي فطلقها، أو قال: إن خرجت إليك امرأتي فطلقها، ثم إنه نهى الوكيل عن الإيقاع بعد مجيء المرأة إليه، وبعد خروجها إليها يصح النهي إذا علم كما قبل المجيء والخروج. وإذا قال لها: انطلقي إلى فلان حتى يطلقك ثم نهاها بعد الانطلاق إنه لا يصح وإن علم فلان بذلك؛ لأن في تلك المسألة لم يُفوض إلى المرأة شيئاً إنما علق الوكالة بالطلاق بمجيئها وخروجها فيعتبر بما (لو) علق الطلاق بمجيئها وخروجها، ولو علق الطلاق بمجيئها لا يصير مفوضاً إليها شيئاً وههنا كذلك. أما في مسألة الانطلاق فوض إليها فعلاً فيه طلاقها فيعتبر بما لو فوض إليها طلاقها. وهناك لا يصح عزل الزوج كذا هنا. وفي «الزيادات» : إذا قال لامرأته: إذا جاء الغد فطلقي نفسك بألف درهم ثم رجع قبل مجيء الغد لا يعمل رجوعه. ولو كانت المرأة قالت إذا جاء الغد فطلقني على ألف درهم، ثم رجعت قبل مجيء الغد يعمل رجوعها. وهذا بناء على ماتقدم ذكره أن الطلاق على مال من جانب الزوج يمين، ومن جانب المرأة بمنزلة البيع. والتقريب ما ذكرنا. ومن هذا الجنس امرأة قالت لرجل: خلعت نفسي من زوجي بألف درهم فاذهب إلى زوجي وأخبره بذلك، فلما ذهب الرجل أشهدت المرأة أنها رجعت عن ذلك صح رجوعها حتى لو بلغ الرسول الرسالة بعد ذلك وقبل الزوج كان قبوله باطلاً حتى لا يقع الخلع علم الرسول بالرجوع أو لم يعلم. وكذلك لو رجعت بعد تبليغ الرسالة قبل قبول الزوج، وكذلك العبد إذا أعتق نفسه على مال وأرسل بذلك إلى المولى رسولاً فلما ذهب الرسول رجع العبد صح رجوعه علم الرسول بذلك أو لم يعلم، فرق بين هذا وبينما إذا وكلت المرأة رجلاً بالخلع أو وكل العبد رجلاً أن يشتري له نفسه من مولاه بألف درهم ثم رجعا من غير علم الوكيل إنه لا يعمل رجوعهما. والفرق: وهو أن التوكيل إثبات الحكم في حق الوكيل فإن للوكيل إطلاق التصرف، والعزل منع له عن التصرف، فلو صح من غير علمه كان ذلك غروراً في حقه والغرور حرام. فأما الرسالة فليست بإثبات شيء للرسول، فإن الرسول ينقل عبارة المرسل كأن المرسل حضر بنفسه وكان ذلك، ولو صح الرجوع من غير علمه لا يكون ذلك غروراً في حقه، ألا ترى أن الرسول لا تلزمه العهدة أصلاً، والوكيل في بعض العقود تلزمه العهدة. وكذلك لو رجعت بعد تبليغ الرسالة قبل قبول الزوج صح رجوعها أيضاً وإن لم يعلم الرسول بذلك، إليه أشار في «الكتاب» . ولو كانت المرأة قالت لزوجها: اخلعني على ألف درهم، أو قال العبد للمولى: أعتقني على ألف درهم ثم رجعا من غير علمهما لا يعمل رجوعهما لأن هذا توكيل منهما للولي والزوج، والتوكيل لا يقبل الرجوع من غير علم الوكيل.

ومما يتصل بهذا الفصلإيقاع الطلاق على المُبانة والمطلقة بصريح الطلاق أجمع العلماء على أن الصريح يلحق بالصريح ما دامت في العدة، فكذلك البائن يلحق بالصريح، والصريح يلحق بالبائن ما دامت في العدة عندنا؛ لأن بعد الإبانة محلية الطلاق باقية ما دامت العدة باقية؛ لأن محلية الطلاق بقيام العقد وبعد الإبانة العقد باق ما بقيت العدة بدليل بقاء الأثر المختص به وهو المنع عن الخروج والتزين والتزوج بزوج آخر. والبائن لا يلحق البائن إلا أن يتقدم سببه بأن قال لها: إن دخلت الدار، فأنت بائن ونوى بها الطلاق ثم أبانها ثم دخلت الدار وهي في العدة وقعت عليها تطليقة بالشرط عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله خلافاً لزفر رحمه الله. فوجه قول زفر رحمه الله: أن المعلق بالشرط عند الشرط كالمرسل، ولو أرسل الإبانة عند دخول الدار بعدما أبانها لا يصح فلا يترك بحكم التعليق. والدليل عليه: أنه إذا علق بدخول الدار ظهاراً أو إيلاءً ثم أبانها ثم دخلت الدار لا يترك الظهار والإيلاء، وطريقه ما قلنا. ولنا: أن المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمرسل ولكن كما تعلق بالشرط، والمتعلق بالشرط طلاق بائن لا الإبانة، فنزل عند الشرط طلاق بائن لا مجرد الإبانة كأنه قال لها عند الشرط: أنت طالق بائن. ومن قال لمبانته وهي في العدة: أنت طالق بائن تطلق كذا هنا. وإنما قلنا: إن المعلق بالشرط طلاق بائن بأن قوله: أنت بائن قد صح لمصادفته المنكوحة وإنه يصلح صفة للمرأة ويصلح صفة للطلاق، يقال: طلاق بائن وامرأة بائنة فيجعل صفة للطلاق ليثبت السبب أولاً لأن الأصل ثبوت السبب أولاً، فيثبت الحكم عقيبه، والصفة تقتضي ذكر الموصوف فيصير في التقدير كأنه قال: أنت طالق بائن فينزل عند الشرط أنت طالق بائن، والتقريب ما ذكرنا، وهذا بخلاف ما لو قال لمبانته: أنت بائن ابتداءً حيث لا يصح، ولا يجعل كأنه قال أنت طالق بائن لأنا إنما نجعل كذلك إذا صح قوله أنت طالق بائن. وقوله للمبانة: أنت بائن لم يصح لعدم مصادفته محلها؛ لأن محل الإبانة من قام به الاتصال؛ لأن الإبانة لقطع الوصلة والوصلة قد انقطعت بالإبانة السابقة. فهذا هو الفرق بين الصورتين. وهكذا نقول في فصل الظهار إن المعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمرسل إلا أنه لو أرسل الظهار البينونة لا يصح؛ لأن حكم الظهار ليس هو الطلاق بل حكمه حرمة المتعة لشبهة المحللة بالمحرمة، والحرمة تثبت بالبينونة ولا يثبت بالظهار. وأما مسألة الإيلاء فغير مُسلّم لوآلى منها ثم طلقها واحدة بائنة ثم مضت مدة الإيلاء (245ب1) قبل أن تنقضي عدة الطلاق يقع عليها تطليقة أخرى بالإيلاء؛ لأن الإيلاء متى صح كان بمنزلة ما لو قال لها: إن لم أقربك أربعة أشهر فأنت طالق، فيكون المعلق بمضي أربعة أشهر (فإن) لم يقربها فيها (يقع) الطلاق لا البينونة ولا الحرمة. وعلى

هذا إذا قال: أنت بائن الغد ونوى به الطلاق ثم أبانها اليوم ثم جاء الغد يقع عليها تطليقة بالشرط عندنا. قال مشايخنا رحمهم الله: وينبغي على قياس هذه المسألة أنه إذا قال: إن دخلت هذه الدار فأنت بائن، ينوي به الطلاق ثم قال لها: إن كلمت فلاناً فأنت بائن ينوي به الطلاق ثم دخلت الدار ووقع عليها تطليقة واحدة ثم كلمت فلاناً بعد ذلك يقع عليها تطليقة أخرى. وإذا قال لها: إذا جاء الغد فاختاري، ثم أبانها ثم جاء الغد فاختارت نفسها لا يقع الطلاق كما لو نجز التنجيز. وكذلك إذا قال لها: اختاري، ولم يقل إذا جاء الغد ثم اختارت نفسها بعدما أبانها لم يقع عليها شيء؛ لأن قولها اخترت إيقاع مبتدأ منها، وليس بإيجاد لشرط وقوع الطلاق، والواقع بقولها: اخترت البينونة، فإنه من جملة الكنايات فصار كما لو قال لها: أنت بائن ابتداءً وهناك لا يقع به شيء فههنا كذلك. وأما الدخول في مسألة التعليق إيجاد شرط وقوع الطلاق، والوقوع مضاف إلى التعليق السابق، ووقت التعليق كان النكاح قائماً فيصح قوله: أنت بائن وصار بمنزلة قوله: أنت طالق بائن، ولو قال للمختلعة اعتدي، ينوي الطلاق، أو قال لها: استبرئي رحمك ونوى بالطلاق، أو قال لها أنت واحدة يقع بها تطليقة أخرى. وقال أبو يوسف رحمه الله؛ لا يقع بها شيء لأنها من جملة الكنايات، وبهذا يحتاج فيه إلى النية، فلا يقع بها شيء كسائر الكنايات. ولهما أن هذه الألفاظ في حكم الصريح على معنى أن الواقع بها رجعي، وإنما اعتبرت النية لأنه في الصريح يحتمل وجوهاً أُخَر. أما بعدما نوى كان الواقع صريحاً والصريح يلحق بالصريح بالإجماع. وإذا قال لمبانته أبنتك بتطليقة ولا يقع عليها شيء. ولا يلغو، قوله أبنتك، بخلاف ما لو قال لها: أنت طالق بائن، فإنه يقع عليها تطليقة، ويلغو قوله: أبنتك، لأن في قوله أنت طالق بائن لو ألغينا قوله بائن، يبقى قوله أنت طالقة وإنه كلام مبتدأ في الإيقاع فألغيناه تصحيحاً للإيقاع. أما في قوله: أبنتك بتطليقة لو ألغينا قوله: أبنتك يبقى قوله بتطليقة، وإنه غير مفيد في الإيقاع. وعلى هذا إذا قالت المختلعة لزوجها خويشتن خريسدم أرقوا بكابين وتقع عدة، فقال الزوج لا يقع بشيء، فلا يلغو قوله: فروختم الأفللو ألغيناه يبقى قوله بيك طلاق، وإنه لا يفيد شيئاً، فكل فرقة توجب التحريم مؤبداً فإن الطلاق لا يلحق بالمرأة؛ لأنه لا يظهر له أثر، وكذلك إذا اشترى منكوحته لا يلحقها الطلاق. وإذا ارتد الرجل ولحق بدار الحرب لم يقع على المرأة طلاقه؛ لأن تباين الدارين ينافي النكاح، فيكون منافياً للطلاق الذي هو من أحكام النكاح، فإن عاد إلى دار الإسلام وهي في العدة وقع عليها الطلاق؛ لأن المنافي وهو تباين الدارين قد ارتفع، ومحلية الطلاق بالعدة إنها قائمة فيقع الطلاق.

الفصل السادس: في إيقاع الطلاق بالكتابات

وإذا ارتدت المرأة ولحقت بدار الحرب لم يقع طلاق الزوج عليها، فإن عادت قبل الحيض لم يقع طلاق الزوج عليها عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن العدة قد سقطت عليها عنده لفوات المحلية؛ لأن من كان في دار الحرب فهو كالميت في حقنا، وبقاء الشيء في غير محله مستحيل، والعدة متى سقطت لا تعود إلا بعود سببها بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك العدة باقية ببقاء محلها؛ لأنها في دار الإسلام إلا أن تباين الدارين كان مانعاً وقوع الطلاق، فإذا ارتفع المانع والعدة باقية وقع. وقال أبو يوسف رحمه الله: يقع الطلاق؛ لأن العدة باقية عنده إلا أنه لم يقع الطلاق لتباين الدارين، والتقريب ما ذكرنا والله أعلم. الفصل السادس: في إيقاع الطلاق بالكتابات يجب أن يعلم بأن الكتابة نوعان: مرسومة وغير مرسومة. فالمرسومة: أن تكتب على صحيفة مصدراً ومعنوناً وإنها على وجهين: الأول: أن تكتب هذا كتاب فلان بن فلان إلى فلانة أما بعد: فأنت طالق. وفي هذا الوجه يقع الطلاق عليها في الحال. وإن قال: لم أعنِ به الطلاق لم يصدق في الحكم، وهذا لأن الكتابة المرسومة بمنزلة المقال. ولو قال لها: يا فلانة أنت طالق ولم يذكر شرطاً يقع الطلاق عليها في الحال. وإذا قال لم أنو الطلاق لم يصدق في الحكم كذا ههنا. وهل يدين فيما بينه وبين الله تعالى؟ ذكر هذه المسألة في «المنتقى» : في موضعين، وذكر في أحد الموضعين أنه لا يدين، وذكر في الموضع الآخر أنه يدين. الوجه الثاني: أن يكتب إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق. وفي هذا الوجه لا يقع الطلاق إلا بعد مجيء الكتاب؛ لأنه علّق الطلاق بالشرط كتابة، ولو علقه بالشرط مقالة لا يقع الطلاق قبل وجود الشرط كذا ههنا. فإن كتب أول الكتاب أما بعد: إذا جاءك كتابي هذا أنت طالق، ثم كتب الحوائج، ثم بدا له مجيء الحوائج وترك قوله: إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق فوصل إليها هذا القدر يقع الطلاق. وإن محى قوله إذا جاء كتابي هذا فأنت طالق وترك الحوائج لا يقع الطلاق عليها وإن وصل إليها الكتاب، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله؛ لأن شرط وقوع الطلاق عليها أن يصل إليها ما كتب قبل قوله هذا ولم يصل لما محاه قبل الوصول. وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أنه إذا محى ذلك الطلاق من كتابه، وترك ما سوى ذكر وبعث بالكتاب إليها فهي طالق إذا وصل، وهكذا ذكر في «العيون» ؛

لأن شرط وقوع الطلاق وصول كتابه إليها وقد وصل، ومجيء الطلاق بمنزلة الرجوع عن التعليق، وإن محى الخطوط كلها وبعث بالبياض إليها تطلق. وفي «القدوري» : لو محى ذكر الطلاق عنه وأنفذ الكتاب وقع الطلاق إن بقي منه ما يسمى كتابة أو رسالة، وإن لم يبق منه كلام يكون رسالة لم يقع الطلاق، وإن وصل إليها لأن الشرط وصول الكتاب إليها فلا بد من أن يبقى بعد المحو ما يسمى كتاباً. وإن كتب الحوائج أولاً ثم كتب بعده: أما بعد إذا جاءك كتابي هذا، فأنت طالق، فبدا له محو الحوائج وترك قوله إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق لا يقع عليها الطلاق. وإن وصل إليها (246أ1) الكتاب. وفي «الحاوي» أنها تطلق، وإذا محى قوله: إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق فجاءها الكتاب طلقت. ولو كتب وسط الكتاب إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق وكتب قبله حوائج وبعده حوائج ثم بدا له فمحى الطلاق وترك ما قبله طلقت، وإن محى ما قبله أو أكثر وترك الطلاق وترك ما قبله لم تطلق. وفي «الحاوي» : إذا كتب فصل الطلاق في وسط الكتاب ثم محى ذلك، قال أبو يوسف رحمه الله: إن كان ما قبل الطلاق أكثر طلقت، وإن كان الأكثر بعده لا تطلق. وفي «المنتقى» : لو كتب رجل رسالة منه إلى امرأته وكتب: إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق، فمحى ذكر الطلاق وبعث بالكتاب إليها، فإن كان صدر الرسالة أكثرها على ما يكتب الناس على حاله فالطلاق لها لازم. معنى المسألة: أنه إن بقي بعد محو الطلاق ما يسمى كتابة أو رسالة يقع الطلاق وما لا فلا، ألا ترى أنه ذكر بعده، قال: كأن كتب: إذا أتاك كتابي هذا فأنت طالق، فمحى أنت طالق وترك إذا أتاك كتابي هذا، وليس للكتاب صدر غير هذا الحرف لم يقع عليها الطلاق، وليس هذا كتابه إليها. وفي «الحاوي» : لو محى بعض الكلمات وترك بعضه وترك فصل الطلاق أيضاً وهو في آخره فإن كان الممحو أكثر والمتروك أقل لا تطلق، وإن كان على العكس تطلق. وأما إذا كانت الكتابة مرسومة، فإن كانت غير مستبينة بأن كتب على وجه لا يمكن فهمها وقراءتها بأن كتب على الماء أو على الهواء، وفي هذا الوجه يقع الطلاق نوى أو لم ينو.r وإن كانت مستبينة على وجه يمكن قراءتها وفهمها بأن كتب على الأرض أو الحجر إلا أنه غير مصدر ولا معنون وفي هذا الوجه إن نوى الطلاق يقع، وإن لم ينو لا يقع، فبعد ذلك إن (كان) ذلك صحيحاً يبين بنية بلسانه وإن كان أخرساً...... بالكتاب. ولو كتب الصحيح أو الأخرس إلى امرأته كتاباً فيه طلاقها وكان الكتاب مرسوماً ثم جحد الكتاب وقامت عليه البينة أنه كتبه فرق بينهما قضاء، وأما ديانة فإن كان لم ينو به الطلاق فهي امرأته.

الفصل السابع: في الشركة في الطلاق

وفي «المنتقى» : لو كتب كتاباً في قرطاس فكان فيه: إذا أتاك كتابي هذا فأنت طالق ثم نسخه في كتاب آخر أو أمر غيره أن ينسخه ولم يُمل هو، فأتاها الكتابات بأن طلقت تطليقتين في القضاء إذا أقرأتهما كتاباه أو قامت به بينة. وأما فيما بينه وبين الله تعالى فيقع عليها تطليقة واحدة بأيهما أتاها ويبطل الآخر لأنها نسخة واحدة. وفيه أيضاً: رجل كتب من رجل آخر إلى امرأته كتاباً بطلاقه وقرأه على الزوج وأخذه الزوج وطول وختم وكتب في عنوانه وبعثه إلى امرأته، فأتاها الكتاب وأقرّ الزوج أنه كتابه فإن الطلاق يقع عليها، وكذلك لو قال لذلك الرجل: ابعث بهذا الكتاب إليها أو قال له: اكتب نسخة وابعث بها إليها، وإن لم تقم عليه بينة بالكتاب ولم يقر أنه كتابه ولكنه وصف الأمر على وجهه، فإنه لا يلزمه الطلاق في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى، وكذلك كل كتاب لا يكتبه بخطه ولم يمله بنفسه لا يقع به الطلاق إذا لم يقر أنه كتابه. وفي «المنتقى» : عن محمد رحمه الله: إذا كتب الرجل إلى امرأته: كل امرأة لي غيرك وغير فلانة فهي طالق، ثم محى ذكر غير فلانة، وبعث بالكتاب لا تطلق فلانة وهذه حيلة جيدة. وفي «العيون» : إذا كتب إلى امرأته أما بعد أنت طالق إن شاء الله، فإن كان كتب إن شاء الله موصولاً بكتابته أما بعد فأنت طالق لا تطلق، وإن فتر فترة بعدما كتب أنت طالق ثم كتب إن شاء الله تطلق؛ لأن الكتاب من الغائب بمنزلة التلفظ من الحاضر. وفي «النوازل» : إذا كتب إلى امرأته إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق، فوصل الكتاب إلى أبيها فمزق الكتاب ولم يدفعه إليها، فإن كان الأب هو المتصرف في جميع أمورها وقع الطلاق متى وصل الكتاب إلى أبيها في بلدها؛ لأن الوصول إلى أبيها وهو المتصرف في عموم أمرها بمنزلة الوصول إليها، وإن لم يكن الأب هو المتصرف في عموم أمورها لا يقع عليها الطلاق؛ لأن الوصول إليه حينئذ لا يكون كالوصول إليها. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا أكره الرجل بالحبس والضرب على أن يكتب طلاق امرأته فكتب فلانة بنت فلان طالق لا تطلق لأن الكتاب من الغائب جعل بمنزلة الخطاب من الحاضر باعتبار الحاجة، ولا حاجة ههنا حيث احتيج إلى الضرب والله أعلم. الفصل السابع: في الشركة في الطلاق إذا طلق الرجل امرأته ثم قال لامرأة أخرى له: أشركتك معها في الطلاق وقع على الأخرى مثل ما وقع على الأولى ثلاثاً كانت أو أقل، وهذا لأن الشركة تقتضي المساواة، فإذا قال للأخرى: أشركتك معها في الطلاق، فقد أثبت المساواة بين الأولى وبين الأخرى، والمساواة بينهما في الطلاق إنما يتحقق إما بنقل نصف ما وقع على الأولى إلى

(الأولى) كمن اشترى عبداً فقال لآخر أشركتك فيه يصير نصف العبد منقولاً منه إلى الذي أشركه أو بأن يقع على الأخرى مثل ما وقع على الأولى والأول متعذر لأن الطلاق الواقع مما لا يقبل الرفع والنقل فتعين الثاني، فصار قوله: أشركتك مع فلانة في الطلاق بمنزلة قوله أوقعت عليك مثل ما أوقعت على فلانة، ولو صرح بذلك يقع للأخرى مثل ما وقع على الأولى كذا ههنا. وفي «البقالي» : لو طلق امرأته ثلاثاً ثم قال لامرأة له أخرى: جعلت لك في هذا الطلاق نصيباً، أنه ينوي، فإن نوى واحدة فواحدة وإن نوى نصيباً في كل واحدة من الثلاث قبلت. وفي «المنتقى» : لو طلق امرأته واحدة ثم قال لامرأة له أخرى: قد اشركتك في طلاقها وقعت على الثانية واحدة، فإن قال لثالثة: قد أشركتك في طلاقهما وقعت عليها ثنتان، فإن قال لرابعة: قد أشركتك في طلاقهن وقع عليها ثلاث تطليقات. في «البقالي» : لو طلق ثلاث نسوة له واحدة، واحدة ثم قال لرابعة: أشركتك في طلاقهن وقع عليها ثلاث تطليقات، ولو طلقهن على التفاوت بأن طلق واحدة منهن واحدة وطلق الأخرى ثنتين وطلق الأخرى ثلاثاً، ثم قال للرابعة: أشركتك في طلاق إحداهن فقد قيل: يخير. فروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله في «الإملاء» : لو أن رجلاً طلق امرأته على جُعل ثم قال لامرأة أخرى له: قد أشركتك (246ب1) في طلاقها فقالت: لا أقبل يلزمها، الطلاق وليس عليها من الجعل شيء. ولو أن هذه المرأة التي طلقها الزوج أولاً أقامت البينة على ثلاث قبل الخلع ورجعت بالجعل الذي أعطته، فإن كان الزوج جاحداً للطلقات الثلاث، يعني قبل إقامة البينة وبعدها يقع الطلاق على الثانية بغير شيء. فإن كان مصدقاً لها فيه يعني بعد إقامة البينة لم يقع على الثانية شيء. وفي «القدوري» : لو قال لامرأتين له: أشركت بينكما في تطليقتين فهو بمنزلة قوله: بينكما تطليقتان حتى يقع على كل واحدة واحدة، وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه يقع على كل واحدة تطليقتان. وفي «البقالي» وفي «المنتقى» : إذا طلق امرأة له ثم تزوجها، ثم قال لامرأة أخرى له قد أشركتك في طلاق فلانة طلقت. ولو قال أشركتك في طلاق فلانة ولم يكن طلقها أو كانت فلانة تحت زوج آخر قد طلقها أو لم يطلقها، ففي امرأة الغير لا يلزم امرأته طلاق إن كان طلقها أو لم يطلقها نوى الزوج طلاقاً أو لم ينو، وفي امرأة يملكها لا تطلق الثانية إذا لم يكن طلق تلك ولا يكون هذا إقرار بطلاق تلك. رواه بشر عن أبي يوسف رحمهما الله وأبو سليمان عن محمد رحمهما الله مطلقاً، وزاد في «البقالي» : ولا يكون هذا إقراراً بطلاق تلك إلا أن يقول: أشركتك في طلاق فلانة التي طلقها، وفي «البقالي» أيضاً: أشركها في طلاق امرأة الغير لا يصح إلا أن يقول: أنا أوقع طلاقه الذي أوقع عليها على امرأتي: ولو قال لامرأة له: إذا دخلت هذه الدار فأنت

الفصل الثامن: في الطلاق الذي يكون من غير الزوج فيجيزه الزوج، فيقع أو لا يقع.

طالق، ثم قال لامرأة أخرى له: أشركتك في هذه التطليقة، فإذا دخلت الدار طلقتا. وكذلك لو قال لأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق ثم قال لامرأة له أخرى: قد أشركتك في طلاق هذه، إذا تزوجها طلقتا. وإذا تزوج امرأة نكاحاً فاسداً ثم طلقها ثلاثاً ثم قال لأخرى قد أشركتك في طلاق هذه ولا نيّة له لم تطلق. ولو قال: قد أشركتك في الطلاق الذي تكلمت به طلقتا ثلاثاً. وفي «المنتقى» : إذا قال لامرأته: إن طلقتك، فهذه مثلك لامرأة أخرى له، ولا نية له في الطلاق أو نوى الطلاق، ثم إنه طلق الأولى ثلاثاً تطلق هذه الأخيرة واحدة. وكذلك إذا قال لامرأته حيثما طلقتك، فهذه الأخرى مثلك ينوي الطلاق وطلق الأولى ثلاثاً طلقت الأخرى واحدة إلا أن ينوي ثلاثاً. وإن طلق الأولى واحدة طلقت الأخرى واحدة. وفي «نوادر ابن سماعة» (عن محمد) رحمهما الله: إذا طلق الرجل امرأته ثم قال لامرأة له: أنت مثلها ينوي به الطلاق. إذا قال: أنت نظيرها ينوي بها الطلاق فهي طالق، وكذا لو قال رجل لآخر لامرأته. وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله في أمة أعتقت واختارت نفسها، فقال زوجها لامرأة أخرى قد أشركتك في طلاق هذه لا يقع عليها طلاق، وكذلك كل فرقة بغير طلاق. ولو قال: قد أشركتك في فرقة هذه، أو قال: قد أشركتك في بينونة ما بيني وبينها لزمها تطليقة بائنة، وإن نوى ثلاثاً قبلت. وإن قال: لم أنو الطلاق لم يدين في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله، وروى أبو سليمان عن محمد رحمهما الله أنه لا يقع عليها شيء. وفي «المنتقى» : إذا خلع امرأته على ألف ثم قال لامرأة أخرى له: قد أشركتك في خلع هذه فإن قبلت وقع عليها الخلع بخمس مائة. وعلى قياس ما تقدم ينبغي أن يقع عليها الخلع بألف إذا قبلت؛ لأنه تعذر إثبات المساواة بينهما بنقل الخلع بنصف المال إلى الأخرى، فيتعين إثبات المساواة بإيقاع مثل ذلك إلى الأخرى، والله أعلم بالصواب. الفصل الثامن: في الطلاق الذي يكون من غير الزوج فيجيزه الزوج، فيقع أو لا يقع. إذا قالت المرأة لزوجها: قد طلقت نفسي فقال الزوج: قد أجزت ذلك فهذا جائز، ويقع عليها تطليقة رجعية؛ لأن هذا تصرف فضولي لم يجد نفاذاً عليها؛ لأن المرأة لا تملك إيقاع الطلاق على نفسها وله مجيز حال وقوعه وهو الزوج، فيتوقف على إجازته. وإذا أجاز ينفذ ويقع الطلاق رجعياً لأن الفضولي عند الإجازة كالتوكيل، وقول التوكيل ينتقل إلى الموكل فيما لا ترجع حقوقه إلى الوكيل، فإن قال الزوج لها: طلقتك وهناك

يقع الطلاق رجعياً. ولا يشترط به الطلاق من الزوج عند قوله؛ أجزت لوقوع الطلاق. ولو نوى الزوج الثلاث عند قوله: أجزت لا تصح نيته؛ لأن تقدير هذه المسألة كأن الزوج قال لها: طلقتك، وهناك لا يحتاج إلى نية الزوج، فلا تصح نية الثلاث منه كذا ههنا. وكذلك إذا قالت: أبنت نفسي منك أو حرمت نفسي عليك فقال الزوج: أجزت ذلك وهو يريد الطلاق يقع الطلاق؛ لأن هذا تصرف فضولي لم يجد نفاذاً على الفضولي وله مجيز حال وقوعه وهو الزوج فيقف على إجازة الزوج، فإذا أجازه ينفذ، ويصير تقدير المسألة كأن الزوج قال: أبنتك حرمتك على نفسي، ولهذا يحتاج إلى نية الطلاق عند قوله أجزت، وتصح نية الثلاث عند عدم نية الثلاث وتقع تطليقة بائنة لأن هذه الألفاظ من جملة الكنايات، والواقع بالكنايات بائن وتصح نية الثلاث فيها. ولو قالت: اخترت نفسي (منك، فقال الزوج: أجزت ذلك وهو يريد الطلاق لا يقع الطلاق؛ لأنه لم يكن له) مجيزٌ حال وقوعه؛ لأن الزوج لا يملك إجازة ذلك؛ لأن ملك الإجازة يستفاد من ملك الإنشاء والزوج لا يملك إنشاء الإيقاع بهذا اللفظ فإنه لو قال: اخترتك اخترت نفسك ونوى الطلاق لا يقع لأنه نوى ما لا يحتمله لفظه ولو قالت المرأة: جعلت أمري بيدي، فقال الزوج: أجزت ذلك وهو يريد الطلاق صار أمرها بيدها؛ لأن الزوج يملك جعل أمرها بيدها بهذه اللفظة بأن يقول جعلت أمرك بيدك فكان لهذا التصرف مجيز حال وقوعه فيتوقف على إجازته وينفذ بإجازته وإن اختارت نفسها بعد ذلك في المجلس يقع الطلاق وما لا فلا، وكذلك لو قالت: جعلت الخيار إليّ فقال الزوج: أجزت ذلك وهو يريد الطلاق صار الخيار إليها. ولو قالت: جعلت أمري بيدي واخترت نفسي فقال الزوج: أجزت ذلك صار الأمر بيدها، ولكن لا يقع الطلاق ما لم تختر نفسها بعد إجازة الزوج في مجلسها ذلك لأنها باشرت تصرفين ولأحدهما الزوج مجيز وهو جعل الأمر بيدها ولا مجيز للآخر، وهو الاختيار، فيتوقف الأمر باليد على الإجازة، ولا يتوقف الاختيار بل يبطل. فإذا أجازهما صار الأمر بيدها، فإذا اختارت نفسها بعد ذلك (247 أ1) في مجلسها ذلك طلقت وما لا فلا. ولو قالت: قد كنت جعلت أمس أمري بيدي واخترت نفسي، فقال الزوج: صدقت وقد أجزت ذلك الساعة وهو يريد الطلاق بيدها، ولكنها، لا تطلق إلا إذا اختارت نفسها في ذلك المجلس. ولو كانت قالت: قد كنت قلت أمس: أمري بيدي اليوم كله واخترت نفسي، فقال الزوج: صدقت وقد أجزت ذلك الساعة كان ذلك باطلاً كما لو اختارت نفسها بعد إجازة الزوج لا يقع عليها الطلاق. والفرق: أن في المسألة الأولى ذكرا الأولى ذكر أمس لبيان وقت التفويض على سبيل التاريخ لا لتأقيت التفويض بالأمس، كقوله بعت أمس، أجزت أمس، فبقي الأمر مرسلاً غير مؤقت بالأمس، فيكون قائماً وقت الإجازة، فالإجازة لاقت تفويضاً قائماً وقت الإجازة، فعملت.

أما ذكر أمس في المسألة الثانية لبيان تأقيت التفويض فيه لا لبيان تاريخ التفويض لأنه إن ذكر الأمس مطلقاً أو ذكر بعض الأمس يكفي في التاريخ، فلم يكن لقوله كله فائدة سوى التأقيت به، ألا ترى أن من قال لغيره: أجزت منك هذا العبد اليوم كله كان ذلك اليوم للتأقيت حتى يجوز العقد. وإذا قال: بعت منك هذا العبد اليوم كله، ذكر اليوم للتأقيت حتى يبطل العقد فكذا ههنا. ولما ذكر الأمس لتأقيت التفويض به لا يبقى التفويض بعد، فالإجازة تلاقي تفويضاً منتهياً، فلا تعمل. هذه الجملة من أيمان «الجامع» . وفي طلاق «الجامع» : رجل قال لامرأة رجل: جعلت أمرك بيدك، فقالت قد اخترت نفسي فبلغ الزوج الخبر، فقال: أجزت ذلك كله صار الأمر بيدها، ولكن لا يقع الطلاق ما لم تختر نفسها في مجلس علمها بإجازة الزوج. والمعنى ما ذكرنا في قول المرأة: جعلت أمري بيدي واخترت نفسي. ولو قالت المرأة: جعلت أمري بيدي وطلقت نفسي بذلك، فأجاز الزوج ذلك طلقت واحدة رجعية، وصار الأمر بيدها حتى لو طلقت نفسها بحكم التفويض يقع طلاق آخر بائن؛ لأنها تصرفت تصرفين: الطلاق والتفويض، والزوج مجيز لهما، فيتوقفا على إجازته وينفذا بإجازته. وكان ينبغي أن لا يكون الواقع للحال رجعياً؛ لأنها أوقعت الطلاق بطريق الاختيار، حيث قالت: وطلقت نفسي بذلك، أي بذلك التخيير الذي جعلت في يدي والواقع بالتخيير يكون بائناً، والجواب أن إشارتها لا تصح لأنها؛ لا تملك التطليق قبل التفويض، وقبل الإجازة لم يوجد التفويض إليها، فلغت الإشارة وبقي أصل الطلاق....، كأنها قالت: جعلت أمري بيدي وطلقت نفسي. ولو قالت المرأة لزوجها: قد اخترت نفسي منك كان باطلاً؛ لأن اختيارها نفسها لا يتوقف على الإجازة ولا ينفذ ذلك منها لاختيارها نفسها قبل صيرورة الأمر بيدها فيبطل ضرورة. رجل قال لامرأة رجل: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق فأجاز الزوج ذلك ثم دخلت الدار طلقت. ولو دخلت الدار قبل إجازة الزوج لا تطلق، فإن عادت بعد الإجازة فدخلت الدار طلقت؛ لأن تصرف الفضولي إنما يصير يميناً بإجازة الزوج والأيمان تقتضي شروطاً في المستقبل. ولو أن رجلاً قال لرجل: بلغني أن امرأتي تخرج من منزلها وأنا غائب وأنا أريد أن أحذرها فاكتب في ذلك كتاباً، فكتب الرجل إليها: أما بعد فإن خرجت من منزلك فأنت طالق ثلاثاً، فخرجت المرأة من المنزل بعدما كتب الرجل الكتاب قبل أن يقرأه الكاتب على الزوج ثم قرأه على الزوج فأجازه وبعث بالكتاب إلى المرأة فليس يقع بالخروج الأول شيء، وإنما هذا على خروج يوجد بعد الإجازة؛ لأن قول الزوج للكاتب: اكتب بذلك كتاباً ليس فيه ما يدل على الطلاق، وإنما أمره أن يكتب كتاباً يمنعها عن الخروج بعظة يعظها، وقد يكون ذلك بالطلاق وقد يكون بغيره، فلم يثبت الأمر بكتابة اليمين

الفصل التاسع: في الاستثناء في الطلاق

بالطلاق، فكان فضولياً في كتابة اليمين بالطلاق وإنما ينعقد يميناً إذا أجاز الزوج ولا معتبر فالشروط قبل انعقاد اليمين. وفي «المنتقى» عن ابن سماعة قال: سمعت أبا يوسف رحمهما الله: يقول في رجل قال لامرأة رجل: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق، فقال الزوج: نعم قد حلف الزوج بذلك كله، فإن دخلت بعد قوله نعم فهي طالق. فكذلك قال: ألزمتها ذلك ولو لم يقل الزوج شيئاً حتى دخلت الدار، فقال: قد أجزت هذا الطلاق عليها فهو جائز. وفي أيمان «القدوري» : إذا قال الزوج: امرأة زيد طالق وعبده حر، وعليه المشي إلى بيت الله تعالى إن دخل هذه الدار، فقال زيد: نعم، وقد حلفت بذلك كله، ولو لم يقل نعم ولكن قال: أجزت ذلك، فهذا لم يحلف على شيء، وإنه يخالف مسألة «الجامع» التي تقدم ذكرها. ولو قال: أجزت ذلك عليها إن دخلت الدار، أو قال: ألزمته نفسي إن دخلت الدار لزمه. وفيه أيضاً: لو قال امرأة زيد طالق، فقال زيد: أجزت أو رضيت أو ألزمته نفسي لزمه الطلاق. وفيه أيضاً: إذا قال الرجل: إن بعت هذا المملوك من زيد فهو حر، فقال زيد: نعم، ثم اشتراه زيد لا يعتق عليه. ولو قال: إن اشترى زيد مني هذا العبد فهو حر، فقال زيد: نعم، ثم اشتراه عتق عليه. وفي «المنتقى» : إذا طلق الرجل امرأة رجل أو أعتق عبده أو باعه فقال الزوج أو المولى: رضيت بذلك أو قال: شئت ذلك، فهو إجازة. ولو قال: قد أحببت ذلك، أو قال: هويت، أو أردت، أو قال: أعجبني ذلك، أو قال وافقني ذلك فذلك ليس بإجازة. وفيه أيضاً: إذا قال الرجل لامرأة رجل: اختاري، يعني الطلاق فاختارت نفسها أو قال لها: أمرك بيدك، ينوي الطلاق، فاختارت نفسها، أو قال لها: أنت طالق إن شئت، فقالت: شئت، وقال الزوج: قد أجزت ذلك فهي طالق. ولو قال: أجزت قوله: أمرك بيدك وأجزت قوله: اختاري لم يلزمها الطلاق إلا أن تختار نفسها بعد إجازة الزوج في مجلس علمها بإجازة الزوج. وفيه أيضاً: إذا قالت لنفسها: إذا ولدت ولداً، فأنا طالق فولدت ولداً فقال الزوج: قد أجزت ذلك فهي طالق. ولو قال ألزمت نفسي قولك إذا ولدت ولداً لا تطلق ما لم تلد ولداً آخر. ولو قالت: أنا طالق بألف درهم، فقال الزوج: نعم لزمها (247ب1) تطليقة بألف درهم. الفصل التاسع: في الاستثناء في الطلاق يجب أن يعلم بأن الاستثناء يصح موصولاً ولا يصح مفصولاً. وشرطه أن يتكلم بالحروف سواء كان مسموعاً أو لم يكن عند الشيخ أبي الحسن الكرخي رحمه الله، وكان

الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله يقول: لا بد وأن يسمع نفسه، وبه كان يفتي الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله، قال الكرخي رحمه الله في «كتابه» كلمة إن شاء الله إذا وصلت بالكلام ترفع حكمه، أي: يصرف (أياً) كان. وحكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا قال الرجل: نويت أن أصوم غداً إن شاء الله كانت نيته صحيحة، لو صام غداً بهذه النية يجوز استحساناً. وتخرج المسألة من وجهتين: إحداهما: أن كلمة إن شاء الله في هذه الصورة تستعمل لطلب التوفيق عادة، ولا تستعمل للتعليق، حتى لو استعملها للتعليق لا تصح نيته أيضاً. الثاني: أن الاستثناء عمل اللسان ويرفع حكم كل تصرف يختص باللسان نحوالطلاق والعتاق والبيع، والنية عمل القلب لا تعلق له باللسان، فلا يرفع الاستثناء حكمه. وذكر في «الفتاوى» : المريض إذا قال لورثته: اعتقوا فلاناً عني بعد موتي إن شاء الله صح الإيصاء حتى يجب عليهم الإعتاق. وتخريجه: أن هناك الاستثناء دخل في الأمر، والاستثناء يعمل في الإيجاب لا في الأوامر لعلة أن الإيجاب يقع لازماً فيحتاج فيه إلى الاستثناء حتى لا يلزمه حكمه، وأما الأوامر لا تقع لازمة، فإنه يمكن الرجوع فيها، فلا تقع الحاجة فيها إلى الاستثناء، وصار الحاصل أن كلمة إن شاء الله إذا دخلت على ما يختص باللسان وهو إيجاب يرفع حكمه، وإذا دخلت على ما لا يختص باللسان أو هو أمر، فليس بإيجاب إذا دخلت على الأمر يرفع حكمه. وإذا قال لها: أنت طالق إن شاء الله، فهذا استثناء، وكذلك إذا قال: ما شاء الله فهو استثناء، وكذلك إذا قال: إلا إن شاء الله، ولو قدم الاستثناء فإن ذكر الطلاق بحرف الفاء بأن قال إن شاء الله فأنت طالق، فهذا استثناء صحيح. وكذلك إذا قال: إن شاء الله قوله ... لله لا أدخل الدار، فهذا استثناء صحيح، لو دخلت الدار لا يحنث في يمينه. ألا ترى أنه لو ذكر مكان: إن شاء الله شرطاً آخر بأن قال مثلاً: إن دخلت الدار فأنت طالق كان تطليقاً صحيحاً. وإن ذكر الطلاق بدون حرف الفاء قال: إن شاء الله أنت طالق فهذا استثناء صحيح في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: هذا استثناء منقطع، والطلاق واقع في القضاء ويدين فيها بينه وبين الله تعالى، وإن كان إرادته الاستثناء ذكر الخلاف على هذا الوجه. وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قال: إن شاء الله وأنت طالق فهذا استثناء. وعنه أيضاً: إنه ليس باستثناء. وعنه أيضاً: إذا قال: أنت طالق وإن شاء الله، أو قال: أنت طالق فإن شاء الله، فهذا ليس باستثناء.

وفي «المنتقى» : إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا ما شاء الله إنها تطلق واحدة قال ثمة: وأجعل الاستثناء على الأكثر، وذكر بعد ذلك مسائل أنت طالق ثلاثاً إلا ما شاء الله أنت طالق ثلاثاً إلا أن يشاء الله، وذكر أنه لا يقع الطلاق أصلاً. وإذا قال لها: أنت طالق إن شاء الله ولا يدري أي شيء إن شاء الله لا يقع الطلاق؛ لأن الطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع بعلمه وجهله يكون فيه سواء.r ألا ترى أن سكوت البكر لما جعل قضاء شرعاً استوى فيه الجهل والعلم حتى لو زوجها أبوها فسكتت وهي لا تعلم أن السكوت رضا يجوز النكاح، ولم يعتبر جهلهما ولو قال لها: أنت طالق فجرى على لسانه من غير قصد إن شاء الله، فكان قصده إيقاع الطلاق لا يقع الطلاق؛ لأن الاستثناء قد وجد موصولاً مع الاستثناء لا يكون إيقاعاً فهو كما لو قال لها: أنت طالق فجرى على لسانه أو غير طالق، ولو ضم مع مشيئة الله تعالى مشيئة غيره كان استثناء. كأن قال: أنت طالق إن شاء الله و.... قال: أنت (طالق) إن شاء الله وشاء فلان. ولو شرط مشيئة من لا تعلم مشيئته نحو أن يقول إن شاء جبريل أو الملائكة أو الشياطين كان استثناء من الكلام وهذا وما لو شرط مشيئة الله تعالى سواء. وفي «الجامع» لو قال لرجل: طلق امرأتي إن شاء الله وشئت وطلقها المخاطب لا يقع، وكذلك لو قال: طلق امرأتي ما شاء الله، وشئت، فطلقها المخاطب لا يقع؛ لأن معنى قوله ما شاء الله وشئت العدد الذي شاء الله وشئت ولا يدري إن شاء الله تعالى أي عدد أو شاء شيئاً أو لم يشأ أصلاً. وهذه المسألة ودليل على أن كلمة إن شاء الله إذا دخل على الأمر ترفع حكمه. ولو قال له: طلق امرأتي بما شاء الله، وشئت أو قال: أعتق عبدي بما شاء الله وشئت فطلقها أو أعتقه على مال يجوز؛ لأن ههنا أدخل المشيئة على البدل، لا على الطلاق والعتاق فبطل ذكر البدل وبقي الأمر بالطلاق والعتاق مطلقاً، أما في قوله ما شاء الله أدخل المشيئة في عدد الطلاق ولا يدرى أي عدد شاء الله. وفي «النوازل» : إذا قال لامرأته: أنت طالق اليوم واحدة إن شاء الله وإن لم يشأ فثنتين، فمضى اليوم ولم يطلقها وقع ثنتان؛ لأن الله تعالى لو شاء الواحدة من طلقها لطلقها قبل مضي اليوم، فلما لم يطلقها علم أنه لم يشأ الواحدة، وقد علق بعدم مشيئة الواحدة تطليقتان. ولهذا قال: إذا مضى اليوم ولم يطلقها طلقت تطليقتين وإن طلقها واحدة قبل مضي اليوم لا يقع عليها إلا تلك الواحدة؛ لأن وقوع ما زاد على الواحد متعلق بعدم مشيئة الله تعالى الواحدة اليوم، وقد شاء ذلك حتى طلقها الواحدة قبل مضي اليوم. ولو لم يقيده باليوم وقال لها: أنت طالق واحدة إن شاء الله، وأنت طالق ثنتين إن لم يشأ الله لا يقع شيء لأن قوله: أنت طالق إن شاء الله كلام صحيح فلا يقع به شيء؛ وقوله: فأنت طالق ثنتين إن لم يشأ الله إذا لم يقيده باليوم كان باطلاً، لأنه لو صح لبطل

من حيث صح؛ لأنه لو وقع الطلاق ثبتت مشيئة الله تعالى، ووجود الأشياء كلها مشيئة الله تعالى تخالف ما إذا قيده باليوم وذكر هذه المسألة في «المنتقى» ووصفها في الثنتين والثلاث وقال لها: أنت طالق ثنيتين اليوم إن شاء الله وإن لم يشأ الله تعالى في اليوم، فأنت طالق (248أ1) ثلاثاً فمضى ولم يطلقها طلقت ثلاثاً وإن لم يؤقت في اليمينين جميعاً فهو إلى الموت، فإذا لم يطلقها طلقت قبل الموت، فصل هذه الزيادة في «المنتقى» ، وإنه يخالف ما ذكر في «النوازل» وذكر في «المنتقى» أيضاً قبل هذه المسألة إذا قال لها أنت طالق إن لم يشأ الله طلاقك لا تطلق بهذا اليمين أبداً وإنه يوافق ما ذكر في «النوازل» . وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله إذا قال لها: أنت طالق أمس إن شاء الله إنه لا يقع الطلاق. نوع آخر فيما يقع به الفعل من الإيجاز والاستثناء وفيما لا يقع عن أبي يوسف رحمه الله فيمن حلف بالطلاق واستثنى وتنفس بين الاستثناء وبين الطلاق ووجد من النفس بداً أو لم يجد قال: إذا فصله فهو استثناء. قال في «الجامع» : إذا قال لامرأته يا زانية أنت طالق إن شاء الله كان استثناؤه على الطلاق، ويصير قاذفاً للحال. ولو قال لها: أنت طالق يا زانية بنت الزانية إن شاء الله، فالاستثناء على الكل حتى لا يقع الطلاق ولا يَلزمه حد ولا لعان؛ لأن النسبة إنما تذكر لتعريف المنادى فيصير من جملة النداء، والنداء لا يصير فاصلاً، فكذا ما هو جملة النداء. فإن قيل: التعريف يقع بالنسبة إلى الأب دون الأم، فلم يكن قوله بنت الزانية محتاجاً إليه لتعريف المنادى فيجب أن يصير فاصلاً، قلنا النسبة إلى الأب مما يقع به التعريف، إلا أن الأم لا تذكر في النسبة لا؛ لأن التعريف بها لا يقع لكن لأن الأنساب إلى الآباء، ألا ترى أنه لو قال: أنت طالق يا عمرة بنت فاطمة إن دخلت الدار؛ لا يكون قوله بنت فاطمة فاصلاً كما لو قال يا عمرة بنت عبد الله وطريقه ما قلنا. ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً يا طالق إن شاء الله انصرف الاستثناء إلى الكل حتى لا يقع شيء من الطلاق، وعن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يقع ثلاث تطليقات ويصير قوله يا طالق فاصلاً بين الثلاث. فعلى هذه الرواية فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذه المسألة وبين ما إذا قال لها: أنت طالق يا زانية إن دخلت الدار حيث قوله يا زانية لا يصير فاصلاً بين الطلاق والشرط حتى يتعلق الطلاق بالدخول، وههنا قال: يا طالق يصير فاصلاً. والفرق: أن قوله: يا طالق إن كان نداء بصيغته فهو إيقاع بمعناه، ولهذا إذا قال يا طالق تطلق، كما لو قال لها: أنت طالق ثلاثاً، أنت طالق إن شاء الله. وإذا كان هذا إيقاعاً معنى صار كأنه قال لها: أنت طالق ثلاثاً أنت طالق إن شاء الله، ولو قال هكذا

كان قوله أنت طالق فاصلاً بين الثلاث وبين الاستثناء كذا ههنا. أما قوله: يا زانية إخبار عن صفة قائمة بها وليس بإيقاع فبقي نداء، والنداء لا يصير فاصلاً بين الشرط والجزاء والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية لأن قوله يا طالق نداء بصيغته وليس بإيقاع وإنما يثبت الوقوع بقوله يا طالق بطريق الضرورة لا بموجب الصيغة ليصير اللفظ نداء، بمعنى قائم بالمنادى، وههنا لا ضرورة إلى القول بالوقوع بطريق الاقتضاء ولا يمكن القول به لما كان الاستثناء متصلاً بقوله: يا طالق، فكان نداء بصورته كقوله يا فاطمة، يا عائشة، والنداء لا يصير فاصلاً. وفي «المنتقى» : إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً يا عمرة بنت عبد الله إن شاء الله لا تطلق. ولو قال أنت طالق ثلاثاً يا عَمرة بنت عبد الله بن عبد الرحمن إن شاء الله تطلق، فالنسبة إلى الأبوين، وأكثر من ذلك فاصل بين الإيقاع والاستثناء، والنسبة إلى أب واحد ليس بفاصل. وفي «نوادر بشر بن الوليد» : عن أبي يوسف رحمه الله: قال لها: أنت طالق ثلاثاً يا زانية إن شاء الله. فالاستثناء على الآخر وهو القذف ويقع الطلاق، وكذلك إذا قال لها أنت طالق يا طالق إن شاء الله، ولو قال لها: أنت طالق يا خبيثة إن شاء الله، فالاستثناء على الكل ولا يقع الطلاق كأنه قال يا فلانة، وذكر ثمة أصلاً فقال: المذكور في آخر الكلام إذا كان يقع به طلاق أو يجب به حد فالاستثناء عليه، نحو قوله: يا زانية ويا طالق، وإن كان يجب به حد ولا يقع به طلاق فإنه استثناء على الكل وذكر نحو قوله يا خبيثة. وفي «الجامع» : إذا قال: امرأتي طالق إن دخلت الدار، وعبدي حر إن كلمت فلاناً إن شاء الله، انصرف الاستثناء إلى اليمينين، وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه يقتصر الاستثناء على اليمين الثانية. حكي عن الكرخي رحمه الله كان يقول: حاصل الخلاف في هذه المسألة راجع إلى مسألة أخرى مختلفة، إن قوله إن شاء الله يستعمل لإبطال الكلام، أو يستعمل استعمال الشروط، للتعليق فعلى قول أبي يوسف رحمه الله يستعمل استعمال الشروط، وعلى قولهما يستعمل استعمال الإبطال حتى إن من قال لامرأته: إن شاء الله أنت طالق، فعلى قولهما: لا يقع الطلاق، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: يقع، ولو قال يستعمل عندهما استعمال الشروط للتعليق لكان يقع الطلاق عندهما كما يقع عند أبي يوسف رحمه الله، ألا ترى أنه لو قال: لامرأته: إن دخلت الدار أنت طالق إن دخلت الدار، وأنت طالق يقع الطلاق في الحال عند الكل، لما كان قوله إن دخلت الدار يستعمل استعمال الشروط ذكر الكرخي رحمه الله الخلاف في مسألة المشيئة على هذا الوجه. وقد حكينا عن القدوري الخلاف في مسألة المشيئة على عكس هذا فعلى (ما) ذكره الكرخي، وأبو يوسف رحمه الله يعتبر اللفظ ويقول: اللفظ لفظ شرط، وهما قالا: إنما يعتبر اللفظ عند الإمكان ولا إمكان ههنا؛ لأن معنى الشرط غير موجود ههنا؛ لأن الشرط ما ينتظر وجوده لا ما لا وجوده، ألا ترى أنه لو علق الطلاق بفعل في الماضي لا يكون ذلك شرطاً بالاتفاق لأنه لا يمكن انتظاره.

قلنا: وإنما ينتظر الشيء ليتوصل إلى معرفته، ومشيئة الله تعالى مما لا يتوصل إلى معرفته فلا يصح انتظاره. إذا ثبت أن من مذهب أبي يوسف رحمه الله أن هذا الكلام يستعمل استعمال الشروط يقتصر على الثاني كصريح الشرط، وعندهما لما كان يستعمل استعمال الإبطال ينصرف إليهما؛ لأنه كما مست الحاجة إلى الإبطال الثاني مست الحاجة إلى إبطال الأول، والكلام متصل، فينصرف الاستثناء إليهما بخلاف صريح الشرط؛ لأن اليمين الأول غير محتاج إلى شرط (248ب1) آخر بل هو بدون شرط آخر فانصرف هذا الشرط إلى الثاني لهذا. وغيره من المشايخ تكلموا في المسألة على سبيل الابتداء وإنه يبتني على أصل معروف أن حرف الواو إذا دخل بين جملتين، الأولى ناقصة والأخرى تامة يجعل حرف الواو للعطف حتى يصير خبر الجملة التامة خبراً للجملة الناقصة. وإذا دخل حرف الواو بين جملتين تامتين يجعل حرف الواو للاستئناف لا للعطف، حتى لا يصير خبر إحدى الجملتين خبراً للجملة الأخرى. وجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن حرف الواو دخل ههنا بين جملتين تامتين لأنه دخل بين يمينين تامتين، فيجعل للاستئناف لا للعطف، بخلاف قوله: امرأته طالق، وعبده حر إن شاء الله حيث تنصرف المشيئة هناك إلى الجملة؛ لأن هناك حرف الواو دخل بين جملتين، الأولى منهما ناقصة من حيث التعليق؛ لأنه ذكر شرطاً واحداً، فانصرف الشرط إلى الكل بحكم العطف. وهما يقولان حرف الواو دخل بين جملتين، الأولى منها ناقصة. بيانه: أن اليمين الأولى إن كانت تامة في حق التعليق بمطلق الشرط فهي ناقصة في حق التعليق بمشيئة الله تعالى الذي يخرج الكلام بها من أن يكون إيقاعاً حالاً، وما لا مكان للمشيئة المذكورة في الجملة الأخرى مذكورة في الجملة الأخرى مذكور في الجملة الأولى بحكم العطف، وكذلك الجواب فيما إذا علقه بمشيئة فلان انصرفت المشيئة إلى اليمينين ثم إذا انصرفت المشيئة إلى اليمينين إن كانت مشيئة الله تعالى بطل جميع الكلام، وإن كانت مشيئة فلان توقف الانعقاد على مشيئته، وإن شاء فلان ذلك في مجلس العقد أو تعلق كل جزاء بشرطه كأنه قال: عند مشيئة فلان امرأته طالق إن دخل الدار، وعبده حر إن كلم فلاناً، وإن قال: لا أشاء بطل اليمينان، وكذلك إن شاء إحدى اليمينين بطلا؛ لأن الحالف علق انعقاد اليمينين بمشيئة اليمينين ولم يوجد ذلك في المجلس، فصار ذلك كما لو قال: امرأته طالق، وعبده حر إن شاء فلان فشاء أحدهما لا يقع شيء، وطريقه ما قلنا. وذكر في «المنتقى» إذا قال: عمرة طالق ثلاثاً إن دخلت الدار، وزينب طالق واحدة إن كلمت فلاناً فهما يمينان، فإن استثنى بعد آخرهما ينصرف الاستثناء إلى اليمين الأخيرة، ولو أراد في القضاء والاستثناء على اليمين الأخيرة في القضاء. وفي أيمان «الأصل» : فإذا قال: والله لا أكلم فلاناً والله لا أكلم فلاناً آخر، إنه إن عنى بالاستثناء اليمينين فهو على ما نوى من غير فصل بين القضاء والديانة وإن لم يكن له

نية ولاستثناء على اليمين الأخيرة، لأن الواو في اليمين الثانية واو القسم لا واو العطف. وقد ذكرنا في مسألة «الجامع» أن الاستثناء على اليمينين عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، فإن كان ما ذكر في «المنتقى» قول الكل، صار عن أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله روايتان في المسألة، وفي «المنتقى» أيضاً: إذا قال: عمرة طالق ثلاثاً إن دخلت الدار وزينب طالق إن دخلت الدار، فهما يمين واحد، وإذا دخلت الدار مرة واحدة وقع الطلاق عليهما، وإن ذكر بعده استثناء فلاستثناء عليهما. وفيه أيضاً: لو قال: عمرة طالق إن شاءت وزينب طالق إن شاء الله، كان الاستثناء عليهما ولو قال: عمرة طالق إن شاءت، وزينب طالق إن شاءت فهما أمران مختلفان، فإذا ذكر عقيبهما استثناء ينصرف الاستثناء إلى آخرهما وإنه يخالف المذكور في «الجامع» على ما قلنا. وفي «القدوري» : إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً وثلاثاً إن شاء الله، وقع الثلاث ولغى الاستثناء في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمة الله عليهما: الاستثناء جائز. وعلى هذا الاختلاف إذا قال لها أنت طلق ثلاثاً وواحدة إن شاء الله، ولو قال لها أنت طالق واحدة وثلاثاً إن شاء الله، فالاستثناء صحيح في قولهم جميعاً. وجه قولهما أن الجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع ولو جمع بلفظ الجمع، فقال: أنت طالق ستاً إن شاء الله أو قال: أنت طالق أربعاً إن شاء الله، كان الاستثناء صحيحاً في قولهم جميعاً. وكذا ههنا. وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن العدد الثاني حشو لا يتعلق به حكم، فإن الزوج لا يملك إيقاع أكثر من الثلاث واللغو حشو من الكلام فيصير كالسكوت؛ بخلاف قوله أنت طالق واحدة وثلاثاً إن شاء الله، لأن العدد الثاني تعلق به حكم فلا يصير لغواً، وفاصلاً بين الإيقاع والاستثناء وفي «النوازل» : رجل بلسانه ثقل لا يتم كلامه إلا بعد طول المدة: حلف بالطلاق وأراد الاستثناء التعليق فطال في تردده، إن عُرف أنه هكذا يتكلم يجوز ديانة وقضاء لأنه موصول معنى لمكان العذر. وفي «النوازل» : إذا قال لها أنت طالق ثلاثاً، فأراد أن يقول: إن دخلت الدار فأخذ غيره فمه وإن قال بعدما خلى فمه موصولاً: إن دخلت الدار، لا يقع؛ لأنه سكت لضرورة، فلا يعتبر فاصلاً، كما إذا اعترض له عطاس أو جشاء. ولو قال: لله علي أن أتصدق بدرهم أكر، وهو يريد أن يقول أكر فلان كتم فأخذ إنسان فمه، فلم يتم الكلام، فلما رفع يده عن فمه قال: فلان كاركتم، فالأحوط أن يتصدق، والفرق أن الطلاق محظور فيتكلف لإعدامها وأمكن إعدامها بجعل هذا الانقطاع غير فاصل كما لو حصل الانقطاع بعطاس وأما الصدقة عبادة، فلا يتكلف لإعدامها. وعلى قياس مسألة «النوازل» قالوا: إنما ذكر في الأيمان أن من حلف وأراد أن يقول في آخره: إن شاء الله فشد إنسان فمه إنه يكون استثناء، تأويله إذا ذكر الاستثناء بعد رفع اليد عن فمه متصلاً به. وقد وجدنا في «نوادر هشام» أنه قال سألت محمداً رحمه الله

عمن قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، وهو يريد أن يستثني فأمسكت بفمه، وخلت بينه وبين الاستثناء قال: يلزمه الطلاق في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قال: أنت طالق أستغفر الله إن شاء الله، أو قال سبحان الله إن شاء الله كان استثناء ديانة، ولم يكن استثناء قضاء. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا أراد أن يستحلف رجلاً فخاف أن يستثني في السر، فالوجه في ذلك أن يأمره حتى يقول عقب اليمين كلاماً لا يصلح استثناء أو تعليقاً، لأنه إذا فعل ذلك يمتنع الاستثناء لوجود الفاصل. نوع آخر في دعوى الزوج (249أ1) الاستثناء، وفي إخبار غير الزوج الزوج بالاستثناء إذا ادعى الزوج التكلم بالاستثناء أو التكلم بالشرط في الخلع أوادعى التكلم بالاستثناء أو الشرط في الطلاق، فالقول قول الزوج، فإن شهد الشهود بخلع أو طلاق بغير استثناء لم يقبل قول الزوج بعد ذلك ويقضي القاضي بالطلاق وبالخلع. وإن شهدوا بالخلع أو بالطلاق، وقالوا: لم نسمع منه غير كلمة الخلع والطلاق والزوج يدعي الاستثناء، فالقول قول الزوج ولا يقضى بالطلاق إلا إذا ظهر منه ما هو دليل صحة الخلع من غير قبض البدل أو ما أشبه ذلك، كذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح السير» في باب ما يصدق فيه الرجل من الردة فلا تبين منه امرأته. وفي باب الخلع من «الكافي» ، «مختصرالقصار» : إذا خالع ثم قال: لم أعن به الطلاق إن كان أخذ جُعلاً على الخلع لم يصدق قضاءً. قال مشايخنا رحمهم الله: والمراد من أخذ الجعل ذكر الجعل لا حقيقة الأخذ. فعلى هذا إن ذكر البدل وقت الطلاق والخلع لا يصدق قضاءً في دعوى الاستثناء، وإن لم يذكر البدل يصدق قضاء في دعوى الاستثناء. وذكر نجم الدين النسفي رحمه الله في «فتاويه» عن شيخ الإسلام أبي الحسن رحمه الله أن مشايخنا استحسنوا في دعوى الاستثناء في الطلاق لا يصدق الزوج إلا ببينة؛ لأنه خلاف الظاهر وقد فسدت أحوال الناس فلا يؤمن التلبيس. وحكي عن شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله بأنه كان يقول: إن عرف الطلاق بإقراره تسمع دعوى الاستثناء منه، وإن عرف بالبينة لا تسمع منه دعوى الاستثناء. وكان الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله يقول: لو قال طلقت واستثنيت لا يصدق قضاء. ولو قال: قلت لها أنت طالق واستثنيت يصدق قضاءً. وذكر محمد رحمه الله في كتاب الإقرار في باب الإقرار بالعتق: إذا قال لعبده: أعتقك أمس وقلت إن شاء الله صدق ولا يعتق العبد، وذكر في باب الإقرار بالنكاح: إذا قال الرجل لامرأة: تزوجتك أمس وقلت: إن شاء الله، وقالت المرأة: ما استثنيت،

فالقول قوله. وكذلك العتق والطلاق والفتوى على ما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن دعوى الاستثناء في الطلاق صحيح، وكذا في الخلع إلا إذا ظهر منه ما هو دليل صحة الخلع. وقد وجدت الرواية في «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله أنه لو قال: طلقتها، ولكن كنت نائماً ألزمته الطلاق، ولو قال: طلقتها ثم استثنيت لم يكن مستثنياً في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وبهذه الرواية يتبين أن ما ذكر في «الأصل» قول محمد رحمه الله: وإذا طلق الرجل امرأته فشهد عنده شاهدان أنك استثنيت موصولاً بالطلاق ولا يتذكر هو ذلك ينظر إن كان هو بحال إذا غضب تجرى على لسانه ما لا يحفظ بعده جاز له الاعتماد على قول الشاهدين بناء على الظاهر، وإن لم يكن بهذه الحالة لا يعتمد؛ لأنه بخلاف الظاهر والله أعلم. نوع آخر في إيقاع عدد من الطلاق واستثناء بعضه قال هشام: سألت محمداً رحمهما الله عمن قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة وواحدة، وواحدة قال وقع الثلاث وبطل الاستثناء في قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي قولنا: تطلق ثنتين. وعن أبي يوسف رحمه الله إنها تطلق واحدة. فالأصل: أن استثناء البعض من الكل صحيح قلّ المستثنى أو كثر، وإنما ينظر في هذا إلى اللفظ لا إلى الحكم، ألا ترى أنه لو قال لها: أنت طالق أربعاً إلا ثلاثاً صح الاستثناء، وإن كان هذا استثناء الكل من الكل من حيث الحكم؛ لأن ذكر الأربع ذكر للثلاث لأن الطلاق لا يزيد على الثلاث اعتباراً للفظ. وسيأتي شيء من هذا في آخر هذا النوع. واستثناء الكل من الكل باطل بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله واختلفت ألفاظ المشايخ فيه: بعضهم قالوا: الاستثناء جارٍ مجرى التخصيص، والتخصيص لا يرد على الكل. وبعضهم قالوا: الاستثناء إذا دخل على الكلام يصير تكلماً بالباقي، ولا بُدّ وأن يكون تكلماً بالكل لا باقياً بعد الاستثناء بعد هذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: الكلام يحمل على الصحة ما أمكن ذلك في مسألتنا في اقتصار الاستثناء على الأولى والثانية عند أبي يوسف رحمه الله، وعلى الأولى عند محمد رحمه الله. وعند ذلك لا يتحقق استثاء الكل من الكل. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: أول الكلام يتوقف على آخره إذا وجد في آخره ما يغير حكم أوله، وبذكر الثالثة يتغير الحكم الأولى والثانية؛ لأن الكل إذا اعتبر جملة يلغو الاستثناء لأنه يصير كأنه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً. ولو قال لها: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلا ثلاثاً بطل الاستثناء؛ لأنه استثنى الكل. ولو قال لها: أنت طالق ثنتين وواحدة إلاّ ثنتين فهي ثلاث، وكذلك الجواب فيما إذا بدأ بالواحدة، فقال أنت طالق واحدة وثنتين إلا ثنتين فهي ثلاث، أما إذا بدأ بالواحدة لأن الأصل في الاستثناء أن ينصرف إلى ما يليه، فيصير مستثنياً لكل ما تكلم به نظراً إلى

ما يلي الاستثناء فيلغو. وأما إذا بدأ بالثنتين؛ لأنه لا يمكن صرف الاستثناء إلى الثنتين المذكورتين في صدر الكلام إما لأنه يصير مستثنياً جميع ما تكلم به، وإما لأن الواحدة فاصلة ولا يمكن صرف الاستثناء إلى جملة الكلام لأنه يصير مستثنياً الواحدة المفردة بتمامها.f فيصير مستثنياً جميع ما تكلم به نظراً إلى الواحدة المفردة. ولو قال لها: أنت طالق واحدة وثنتين إلا واحدة تقع ثنتان ويصير مستثنياً الواحدة من الثنتين وإنه استثناء البعض من الكل فيصح. ولو قال: أنت طالق ثنتين (واثنتين) إلا ثنتين صح الاستثناء (و) وقعت ثنتان في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، ويجعل مستثنياً من كل ثنتين تطليقة تصحيحاً لكلام القائل بقدر الممكن. هكذا ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» ، وذكر شيخ الإسلام هذه المسألة في «شرحه» ، وذكر أنه ينوي الزوج، فإن عنى استثناء إحدى الثنتين بكماله إما الأولى وإما الأخرى كان الاستثناء (249ب1) . باطلاً، وإن نوى واحدة من الثنتين الأوليين وواحدة من الثنتين الأخريين الاستثناء صحيح وعندهما فروي عن محمّد رحمه الله، إذا قال لها: أنت طالق ثنتين واثنتين إلا ثلاثاً، قال: هي ثلاث والاستثناء باطل، وكذلك إذا قال لها: أنت طالق ثنتين، وأربعاً إلا خمساً هكذا ذكر في «القدوري» . وفي «المنتقى» إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً وثلاثاً إلا أربعاً فهي ثلاث في قول أبي حنيفة رحمه الله، وهكذا روي عن محمد رحمه الله ويصير قوله ثلاثاً ثانياً فاصلاً بين الأوّل وبين الاستثناء. وقال أبو يوسف رحمه الله: إنّها تطلق ثنتين، وهو الظاهر من قول محمّد رحمه الله، ولا يصير قوله: وثلاثاً ثانياً فاصلاً، وإذا لم يصر الثاني فاصلاً عندهما. ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» أنّه ينوي هذا الرجل إن قال عنيت الثنتين من الثلاث الأول والثنتين من الثلاث الأخر يصحّ الاستثناء، وما لا فلا. ولم يشترط هذه النية في «المنتقى» ، وكذلك لم يشترط شمس الأئمة الحلواني رحمه الله هذه النية على قولهما، فصار حاصل مذهبهما، كأنّه قال لها: أنت طالق ستاً إلا أربعاً، فروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لامرأته؛ أنت طالق ثنتين وثنتين وثنتين إلا أربعاً، فهي طالق ثنتين، من حيث المعنى هذه المسألة والمسألة المتقدمة سواء، وإذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة أو ثنتين، لم تأت قبل أن يختار واحدة أو ثنتين، فهي واحدة، ويجعل الاستثناء على أكثر. ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» : إذا أوقع أكثر من ثلاث، ثم استثنى كان الاستثناء من جملة الكلام، لا من جملة الثلاث التي يحكم بوقوعها نحو أن يقول: أنت طالق عشراً إلا تسعاً وقعت واحدة، ولو قال: إلا ثماناً وقعت ثنتان، ولو قال إلا سبعاً وقع الثلاث، فقد صحّ الاستثناء في هذه الصورة، وإن كان هذا استثناء الكل من الكلّ؛ لأنَّ هذا استثناء البعض من الكل لفظاً، وقد مر شيء من هذا قبل هذا.

ومن هذا الجنس. روي عن محمّد رحمه الله في «النوادر» إذا قال: نسائي طوالق إلا فلانة وفلانة وفلانة ليس له من النسوة سواهن صح الاستثناء، ولو قال: نسائي طوالق إلا نسائي لا يصحّ، وما أقرها إلا باعتبار اللفظ. وفي «البقالي» : إذا قال: كلّ امرأتي لي طالق إلا هذه، وليس له غيرها لم تطلق، ولو قال: نسائي طوالق فلانة وفلانة وفلانة إلا فلانة فالاستثناء جائز؛ لأن قوله: فلانة وفلانة وفلانة تفسير لقوله: نسائي طوالق، فيكون الحكم بقوله: نسائي طوالق. ولو قال نسائي طوالق إلا فلانة يصحّ الاستثناء كذا ها هنا، ولو قال: فلانة طالق وفلانة وفلانة إلا فلانة لا يصح الاستثناء، وكذلك إذا قال: هذه وهذه وهذه إلا هذه كان الاستثناء باطلاً. وفي «المنتقى» : إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة أو لا شيء، فهذا لم يستثن شيئاً وطلقت ثلاثاً، وإذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا نصف تطليقة، فاعلم بأن الطلقة لا تتجزأ في طرف الإيقاع، وهل تتجزأ في طرف الاستثناء. فعلى قول أبي يوسف رحمه الله، لا تتجزأ وعن محمّد رحمه الله، روايتان: حتى إن في هذه المسألة تقع ثنتان عند أبي يوسف، وإحدى الروايتين عن محمد رحمهما الله، ويصير كأنّه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، في رواية أخرى تتجزأ في طرف الاستثناء حتّى إن في هذه المسألة تقع الثلاث على هذه الرواية؛ لأنّه لما صح استثناء النصف، صار تقدير كلامه؛ أنت طالق تطليقتين ونصف فتكاملت التطليقة الثالثة، وعلى هذا إذا قال لها: أنت طالق واحدة ونصف، فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تقع ثنتان، وعن محمّد رحمه الله روايتان، في رواية: تقع ثنتان كما هو قول أبي يوسف رحمه الله، وفي رواية تقع واحدة. نوع آخر وكما يصح الاستثناء من أصل الكلام يصح الاستثناء من الاستثناء، قال الله تعالى: {إِلا ءالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ} (الحجر: 59، 60) استثنى آل لوط من جملة الناس، واستثنى امرأة لوط من آله. بيان هذا: إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا ثنتين إلا واحدة يقع ثنتان، والأصل في جنس هذه المسائل أن المستثنى ثانياً يجعل مستثنياً من الاستثناء الأوّل، ثمِّ ينظر إلى ما بقي من هذا، فيعزل من: الاستثناء الأول فيجعل ذلك مستثنياً من أصل الكلام. إذا ثبت هذا فنقول له: الاستثناء الثاني واحدة، فيجعل ذلك مستثنياً من أصل الكلام، وهو الثلاث يبقى من أصل الكلام ثنتان، فهي الواقع. وعلى هذا إذا قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا واحدة تقع واحدة، ويجعل الواحدة مستثنياً من الاستثناء الثاني، وهو الثلاث يبقى من الاستثناء الثاني ثنتان يجعل ذلك مستثنياً من الاستثناء الثاني وهو الثلاث يبقى من الاستثناء الثاني ثنتان يجعل ذلك مستثنياً من الأصل، وهو الثلاث يبقى واحدة، فهي الواقع. وكذلك إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا ثنتين إلا واحدة وقعت واحدة، والوجه ما ذكرنا. ومن المشايخ من اعتبره بنوع تقريب، فقال: ينبغي أن تعقد العدد الأوّل

بيمينك، والثاني بيسارك، والثالث بيمينك، والرابع بيسارك ثمَّ أسقط ما في يسارك مما في يمينك، فما بقي فهو الواقع. نوع آخرمن الاستثناء ينبني على أصلين: أحدهما: أن المتكلم بكلام مقرون بالاستثناء إذا ذكر عقيبه وصفاً يليق بالمستثنى، ولا يليق بالمستثنى منه يجعل وصفاً للمستثنى حتى يبطل ببطلانه، وإذا ذكر (عقيبه وصفاً) يليق بالمستثنى منه، ولا يليق بالمستثنى فقد اختلفت عبارة المشايخ فيه بعضهم قالوا: يجعل وصفاً للمستثنى منه حتى تثبت بينونة تصحيحاً له بقدر الإمكان، وبعضهم قالوا: يجعل وصفاً للكل تحقيقاً لدخوله على الكل، أو تحقيقاً للمجانسة بين المستثنى والمستثنى منه، فإنَّ المستثنى من جنس المستثنى منه في الظاهر. وإذا ذكر وصفاً يليق بالمستثنى وبالمستثنى منه، فقد اختلفت عبارة المشايخ فيه أيضاً. بعضهم قالوا: يجعل وصفاً للكل تحقيقاً لدخوله على الكل أو تحقيقاً للمجانسة، فيبطل المستثنى بوصفه ويبقى (250أ1) المستثنى منه بوصفه، وبعضهم قالوا: يجعل وصفاً للمستثنى منه لا غير، لأنه لو جعل وصفاً للمستثنى منه اعتبر، ولوجعل وصفاً للمستثنى بطل، والوصف إنما يذكر للاعتبار لا للإبطال، وهذا كلّه إذا ذكر وصفاً زائداً أمّا إذا ذكر وصفاً أصلياً لا يعتبر أصلاً، ويجعل ذكره ولا ذكر سواء. الأصل الثاني: أن الوصف المذكور على سبيل التأكيد لا يصير فاصلاً بين الطلاق والاستثناء، ولا بين الطلاق والشرط، حتّى إنَّ من قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً يا فلانة إلا واحدة يقع ثنتان، ولا يصيّر قوله يا فلانة فاصلاً لما كان لتعريف تأكيد المحل، وإذا قال لامرأته قبل الدخول بها: أنت طالق بائن إن دخلت الدار لا تطلق ما لم تدخل الدار، ولا يصير قوله بائن فاصلاً بين الطلاق والشرط لما ذكره، لتأكيد تعريف الواقع. جئنا إلى المسائل؛ قال محمّد رحمه الله في «الزيادات» : إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة للسنّة، كانت طالقاً ثنتين للسنّة عند كل طهر تطليقة؛ لأن وصف السنّة يليق بالمستثنى منه دون المستثنى؛ لأنّه صفة الواقع، والمستثنى منه واقع، وأمّا المستثنى فغير واقع، فجعلناه صفة للمستثنى منه، وصار كأنّه قال: أنت طالق ثنتين للسنّة أو يقول: يجعل وصفاً للكلّ، ويصير كأنّه قال: أنت طالق ثلاثاً للسنّة إلا واحدة، ألا ترى أنّه لو قال: عليَّ لفلان ألف إلا مائة درهم كانت التسعمائة من الدراهم. فكذلك إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة إذا حضت وطهرت، أو إن كلمت فلاناً أو إن دخلت الدار كانت التطليقتان معلقتين بالحيض وبالطهر في المسألة الأولى، وبالكلام في المسألة الثانية، وبالدخول في المسألة الثالثة، وينصرف الشرط إلى المستثنى؛ لأنّه إنّما يحتاج إلى الشرط فيما يقع والذي وقع منه دون المستثنى؛ لأنّه يليق

بالمستثنى منه، ولا يليق بالمستثنى؛ لأنّه إنّما يحتاج إلى الشرط فيما يقع، والذي يقع المستثنى منه دون المستثنى أو نقول: ينصرف الشرط إلى الكل، ويصير معلقاً الثلاث بالشرط مستثنياً واحدة منها. ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً البتة إلا واحدة أو بائنة إلا واحدة كان طالقاً تطليقتين رجعيتين، ولا يصير قوله البتّة البائنة فاصلاً بين الاستثناء وبين الإيجاب؛ لأنّ كل واحدة منهما صفة أصلية للثلاث لا يوجد الثلاث إلا وأن يكون بتة بائنة، فصار ذكرهما ولا ذكر سواء. فكأنّه قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة، ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة بائنة أو إلا واحدة البتّة طلقت تطليقتين رجعيتين أيضاً. وذكر هشام رحمه الله في «نوادره» عن محمّد رحمه الله أن من قال لامرأته: أنت بائن إلا واحدة ونوى بالبائن الثلاث، قال: هي طلاق واحد؛ لأن نيّة الثلاث إلا واحدة نيّة الثنتين. ومن قال لامرأته: أنت بائن ينوي ثنتين تقع واحدة، وعن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لامرأته: أنت طالق واحدة البتة إلا واحدة، ونوى بالبتة الثلاث يقع تطليقتان بائنتان؛ لأنّه لما نوى بالبتة الثلاث علم أنّه ما جعلها صفة للواحدة؛ لأنَّ الواحدة لا تحتمل نيّة الثلاث، فلمّا ذكر الواحدة، صار كأنّه قال: أنت طالق البتّة إلا واحدة، وقد نوى بالبتّة الثلاث، وهناك الجواب كما قلنا وإنما ألقينا الواحدة؛ لأنا لو لم نلقها يبطل الاستثناء، وهو أصل، فكان إلقاء الواحدة وهي.... أولى. قال في «الزيادات» أيضاً: إذا قال لها أنت طالق اثنتين البتّة إلا واحدة، فهي طالق واحدة بائنة؛ لأنَّ البتة تصلح صفة للثنتين؛ لأنَّ الثنتين لا تكون بتة بنفسها، فيصح وصفهما بالبتّة، وقد استثنى واحدة منهما، فتقع واحدة بتة. وكذلك إذا قال لها: أنت ثنتين إلا واحدة البتة، فهي طالق واحدة بائنة؛ لأنَّ البتة لا تصلح صفة للمستثنى؛ لأنّه لا يصح، فيجعل صفة للمستثنى منه أو يجعل صفة للكل، وصار كأنّه قال: أنت طالق ثنتين البتة إلا واحدة، وهي المسألة المتقدمة. ولو قال لها: أنتِ طالق ثنتين إلا واحدة بائنة أو قال إلا واحدة أمّا بائناً، فهي طالق واحدة رجعية، لأن البائن لا تصلح صفة للمستثنى منه، فإنّه لا يقال: تطليقتان بائن، وإنّما يقال: تطليقتان بائنتان، وتصلح صفة للمستثنى، فتجعل صفة للمستثنى، فيبطل ببطلان المستثنى، بخلاف قوله البتّة؛ لأنّه يصلح صفة للتطليقتين، فإنّه يستقيم أن يقال تطليقتان البتّة، قال في «الكتاب» : إلا أن ينوي أن يكون البائن صفة للثنتين، فحينئذٍ واحدة بائنة؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه فالبتة قد تنعت بنعت الواحدة، قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَوتِ وَالاْرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَهُمَا} (الأنبياء: 30) ولم يقل كانتا رتقين، والله أعلم بالصواب.

الفصل العاشر: في إيقاع الطلاق على امرأة بعينها ثم الرجوع عنها بالإيقاع على أخرى

الفصل العاشر: في إيقاع الطلاق على امرأة بعينها ثمّ الرجوع عنها بالإيقاع على أخرى يجب أن تعلم أنّ كلمة «بل» متى دخلت في الكلام الصادر على الإثبات كانت للرجوع عن الأوّل، ولإقامة الثاني مقام الأوّل على سبيل استدراك الغلط، يقال: جاءني زيد بل عمرو، وكان قوله بل عمرو رجوع عمّا أخبر عن مجيء زيد، وإقامة لمجيء عمرو مقام مجيء زيد على سبيل استدراك الغلط، كأنّه قال كان عزمي أن أخبر عن مجيء عمرو، فغلطت وأخبرت عن مجيء زيد، ثمَّ استدرك ذلك الغلط بقولي بل عمرو. وفي كلام الله تعالى متى دخلت هذه الكلمة على الإثبات كانت لإبطال الأوّل ولإقامة الثاني مقام الأوّل، ولكن لا على سبيل استدراك الغلط؛ لأنَّ الغلط على الله لا يجوز والغلط على العباد يجوز، (.....) وكلمة: «لا بل» نظير كلمة بل، لأنهما يستعملان استعمالاً واحداً، وقوله: «لا» لتأكيد النفي المستفاد بقوله بل، وإذا كانت هذه الكلمة في الإثبات للرجوع عن الأوّل ولإقامة الثاني مقام الأوّل على سبيل استدراك الغلط ينظر: إن كان الأوّل شيئاً يصح الرجوع عنه ينفى الأوّل، ويثبت الثاني مقام الأوّل. وإن كان الأوّل شيئاً لا يصح الرجوع عنه لا ينتفي الأوّل، بل يبقى (250ب1) على حاله ويثبت للثاني إثباتاً لحكم الدليل بقدر الإمكان، إلا أنَّ المتكلم إذا لم يذكر للمذكور عقيب كلمة «لا بل» خبراً على هذه يجعل الخبر المذكور لما قبلها خبراً للمذكور عقيبها، صيانة له عن البطلان، ومتى ذكر للمذكور عقيب هذه الكلمة خبراً لا يجعل الخبر المذكور لما قبلها خبراً؛ لأنّه صحيح بدونه، فلا حاجة إلى جعله خبراً له، ومتى دخلت هذه الكلمة على النفي لا يوجب رجوعاً عن الكلام الأوّل، وإنّما يوجب نفي الفعل عن الاسم الأوّل بإثبات ذلك المنفي للثاني، أو بإثبات فعل آخر للأوّل. نظير الأوّل قول الرجل: ما قام زيد لا بل عمرو، نفي الكلام لزيد وإثباته لعمرو. ومثال الثاني قول الرجل: ما قام زيد بل قعد، نفى القيام عن زيد وإثبات الوجود له، هذا هو الكلام في كلمة بل وحدها أو مع لا. وأما جاء كلمة لا بدون بل متى دخلت على الإثبات كانت لتأكيد ما أثبته الأوّل بنفيه عن الثاني، ومتى دخلت على النفي، كانت لتأكيد ما نفاه عن الأوّل بإثبات ضدّه للثاني. مثال الأوّل: جاءني زيد لا عمرو. كان قوله: لا عمرو لتأكيد إثبات المجيء لزيد بنفي المجيء عن عمرو.

ومثال الثاني: ما جاءني زيد لا عمرو كان قوله: لا عمرو لتأكيد نفي المجيء عن زيد بإثبات المجيء لعمرو. جئنا إلى المسائل: قال محمّد رحمه الله في «الجامع» : وإذا كان للرجل امرأتان، فقال لإحداهما أنت طالق إن دخلت الدّار لا بل هذه، وأشار إلى امرأة أخرى لا تطلق واحدة منهما ما لم تدخل الأولى الدّار لم تطلق. وإذا دخلت الأولى الدار طلقتا، وإن دخلت الأخرى الدار لم تطلق واحدة منهما، قال محمدّ رحمه الله: وقوله: لا بل هذه على الطلاق خاصّة والوجه لما ذكرنا في «الجامع» أنّه علق طلاق الأولى بدخولها الدّار، حيث قال لها: أنت طالق إن دخلت هذه الدّار، وبقوله: لا بل هذه رجع عن تعليق طلاق الأولى بدخولها، وعلق طلاق الأخرى بطريق استدراك الغلط، كأنّه قال: من عزمي أن أعلق طلاق الأخرى، إلا أنّي غلطت، فعلقت طلاق الأولى. إلا أنّه لا يملك الرجوع عن تعليق طلاق الأولى، ويملك تعليق طلاق الأخرى، فبقي طلاق الأولى معلقاً بدخولها الدار، وتعلق طلاق الثانية بالدخول، وإذا تعلق طلاق الثانية بالدخول، يتعلق طلاقهما بدخول الأولى؛ لأن كلمة «لا بل» لإبطال الأوّل، وإقامة الثاني مقام الأوّل على سبيل استدراك الغلط، يجب أن يكون المثبت في حق الثانية مثل المثبت في حق الأولى. وإنّما يكون كذلك إذا تعلق طلاق الثانية بدخول الأولى، كما تعلق طلاق الأولى بدخول الأولى. وقول محمّد رحمه الله في «الكتاب» قوله: «لا بل» هذه على الطلاق خاصّة، معناه أنه للرجوع عن الطلاق لا للرجوع عن الدخول. وإن نوى الرجوع عن الشرط وهو الدخول دون الطلاق صحّت نيّته فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه إلا أنَّ القاضي لا يصدقه؛ لأنّه نوى أمراً بخلاف الظاهر، وفيه تخفيف عليه لأن الثانية لا تطلق بدخول الأولى الدار، فبعد ذلك إذا دخلت الأولى الدار طلقت الأولى في القضاء، وفيما بينه وبين ربّه وتطلق الثانية في القضاء، لا فيما بينه وبين ربّه وإن دخلت الثانية الدار طلقت الأولى في القضاء، وفيما بينه وبين ربه. وكذلك لو قال لإحداهما: أنت طالق إن شئت لا بل هذه؛ لأنّ قوله لا بل هذه على الطلاق خاصة، لا على المشيئة كما في المسألة الأولى، إلا أنَّ فرق ما بين المسألتين أنَّ في هذه المسألة لو شاءت الأولى طلاق نفسها طلقت الأولى (بالنكاح) الأوّل دون الثانية. ولو شاءت الأولى طلاق الثانية طلقت الثانية بالكلام الثاني، دون الأولى. ولو شاءت الأولى طلاقها وطلاق الثانية طلقتا جميعاً. وفي مسألة أوّل الباب إذا دخلت الأولى الدار مرّة واحدة طلقت الأولى والثانية حميعاً. والفرق أنَّ في المسألة الأولى علق طلاق كل واحدة بدخول الأولى الدار مطلقاً غير مقيّد بصفة، فإذا دخلت الأولى الدّار مرّة واحدة، فقد وجد شرط وقوع الطلاق عليها. وفي هذه المسألة ليس الشرط مشيئة مطلقة، فإنَّ الأولى بعد هذا التعليق لو شاءت الجاه أو المال لا تطلق، وإنّما الشرط مشيئة مقيّدة فالشرط في حقّ الأوّل مشيئة الأولى طلاق نفسها. والشرط في حقّ الثانية مشيئة الأولى طلاق الثانية.

وهذا لما ذكرنا أنَّ المسبب في مثل هذه الصورة في حقّ الثانية مثل المسبب في حقّ الأولى، والمسبب في حقّ الأولى تعليق طلاق الأولى بمشيئة الأولى طلاق الأولى، يجب أن يكون المسبب في حقّ الثانية تعلق طلاق الثانية بمشيئة الأولى طلاق الثانية، فإذا شاءت الأولى طلاقها وجد شرط وقوع الطلاق على الأولى دون الثانية وإذا شاءت الأولى طلاق الثانية وجد شرط وقوع الطلاق على الثانية دون الأولى. وإذا شاءت الأولى طلاقهما وجد شرط وقوع الطلاق عليهما. قول محمّد رحمه الله إذا شاءت الأولى طلاقها طلقت الأولى دون الثانية، وإذا شاءت طلاق الثانية طلقت الثانية دون الأولى، كلام محتمل يحتمل أن يكون المراد منه: أنَّ الأولى شاءت طلاق الثانية بعدما شاءت طلاق نفسها، فيكون هذا بياناً أنَّ الأولى إن شاءت طلاق الأخرى بعدما شاءت طلاق نفسها. ويحتمل أن يكون المراد منه: أن الأولى شاءت طلاق الأخرى ابتداءً، فلا يكون بياناً. كذلك حكي عن أبي الحسن الكرخي رحمه الله أنّه إذا شاءت الأولى طلاق نفسها أوّلاً ليس لها أن تشاء طلاق الأخرى بعد ذلك. وإذا شاءت طلاق الأخرى أوّلاً ليس لها أن تشاء طلاق نفسها بعد ذلك، لأن المشيئة واحدة، فإذا شاءت مرّة ووقع الطلاق ارتفع اليمين، فلا يعود بعد ذلك، حتّى لا يؤدي إلى التكرار، إذ ليس في اللفظ ما يوجب التكرار. وعامّة المشايخ على أنَّ لها أن تشاء طلاق الأخرى بعد ما شاءت طلاق نفسها. وأن تشاء طلاق نفسها بعدما شاءت طلاق الأخرى. وأن المشيئة متعدّدة لما ذكرنا أنَّ تقدير المسألة، كأنّه قال للأولى: أنت طالق إن شئت طلاقك لا بل هذه طالق إن شئت أيتها الأولى طلاقها. وإن نوى الرجوع عن المشيئة، صحّت نيّته فيما بينه (251 أ1) وبين ربّه؛ لأنّه نوى ما يحتمله. ولهذا لو صرح به يصح، فإذا شاءت الأولى طلاقها طلقت الأولى فيما بينه وبين ربّه. وإن شاءت الأخرى طلاق الأولى طلقت الأولى بنيته، وإن شاءت الأولى طلاق الأخرى طلقت الأخرى في القضاء، لا فيما بينه وبين الله تعالى. واستشهد محمد رحمه الله لإيضاح مسألة المشيئة أنَّ قوله: لا بل هذه. على الطلاق خاصة، بما لو قال لها أنت طالق إن شاء الله لا بل هذه كان قوله: لا بل هذه على الطلاق خاصة، ويصير تقدير المسألة، كأنّه قال: أنتِ طالق، لا بل هذه إن شاء الله. وفي «المنتقى» : إذا قال لها أنتِ طالق إن كلمت فلاناً لا بل هذه لامرأة أخرى، كان قوله: لا بل هذه على الكلام دون الطلاق، وإذا قال أردت بلا بل الطلاق ألزمته ذلك، فإذا كلمته طلقتا، وهذا يخالف ما ذكر في «الجامع» قال ثمة: ولو قال لها إن كلمت فلاناً، فأنتِ طالق لا بل هذه كان قوله لا بل هذه على الطلاق دون الكلام؛ لأنّه أخّر. فإن قال لم أرد بقولي: لا بل هذه، الطلاق دينته فيما بين الله تعالى وبينه، ولم أدين في القضاء.

وإذا قال لامرأته، أنتِ طالق إن دخلت الدار، لا بل فلانة طالق، قال ذلك لامرأة أخرى له طلقت الأخرى ساعة ما تكلم، وتعلّق طلاق الأولى بدخولها الدار، بخلاف ما لو قال: لا بل فلانة، ولم يقل طالق يتعلق طلاقهما بدخول الدّار؛ لأنّه إذا لم يقل لا بل فلانة طالق لم يذكر لفلانة خبراً فكان جملة ناقصة، فتصير خبر الجملة الأولى، وهو طلاق معلق بدخول الأولى خبر الجملة الثانية، أمّا إذا قال لا بل فلانة طالق، فقد ذكر لفلانة خبراً، فاكتفى به.d وإنّه إرسال، ولهذا قال تطلق الثانية في الحال. وعلى هذا إذا قال لامرأته أنتِ طالق ثلاثاً لا بل هذه. قال ذلك لامرأة أخرى، طلقت كل واحدة منهما ثلاثاً، ولو قال لا بل هذه طالق طلقت الأولى ثلاثاً، والثانية واحدة لأن في الوجه الأوّل لم يذكر لهذه خبراً على حدة. وفي الوجه الثاني ذكر لهذه خبراً على حدة، والتقريب ما ذكرنا. وفي «القدوري» : إذا قال لها إن دخلت الدّار فأنتِ طالق وطالق وطالق لا بل هذه، فدخلت الأولى الدار طلقتا ثلاثاً والتعليق في هذا يخالف التنجيز، فإنّه لو قال لها أنتِ طالق وطالق وطالق لا بل هذه وقع على الأخيرة واحدة، وعلى الأولى الثلاث. ولو قال لها إن دخلت هذه الدار، لا بل هذه الدار الأخرى، فأنتِ طالق تعلق طلاقهما بدخول الدار الأخرى لا غير؛ لأن قوله إن دخلت هذه الدار مجرد الشرط، والرجوع صحيح، وبقوله لا بل هذه رجع عنه وأقام الدّار الثانية مقام الدار الأولى، فلهذا تعلق طلاقهما بدخول الدّار الأخرى. ولو قال لامرأته أنتِ طالق واحدة، لا بل ثلاثاً إن دخلت الدار طلقت واحدة للحال، ووقع طلاقان عند دخول الدار إن كانت المرأة مدخولاً بها؛ لأن بقوله لا بل ثلاثاً إن دخلت الدّار رجع عن إيقاع الواحدة، وأقام الحلف بما بقي من الثلاث مقام الواحدة قد صحت إذا كانت المرأة مدخولاً بها. لو قال لها أنتِ طالق إن دخلت الدّار فأنتِ طالق واحدة، لا بل ثلاثاً، لم تطلق شيئاً حتّى تدخل الدّار. وإذا دخلت الدار طلقت ثلاثاً سواء كانت مدخولاً بها أو لم تكن. فرق بين هذا وبينما إذا قال لها: أنتِ طالق واحدة، لا بل ثلاثاً إن دخلت الدّار. وهي المسألة المتقدمة، والفرق أن في المسألة المتقدمة ذكر لقوله: لا بل خبراً على حدة، فلم يصر خبر الأوّل خبراً له، بل اعتبر لا بل مقطوعاً عنه، فوقعت الواحدة للحال وتعلق الباقي بالدخول، أمّا في المسألة الثانية لم يذكر لقوله: لا بل. خبراً على حدة، فجعل خبر الأول خبراً له، والأول تعليق، فكذا الثاني، فتعلق الكل بالدخول. وفي «المنتقى» : إذا قال لها: أنتِ طالق لا بل طالق، فهي طالق ثنتين، وكذلك لو قال أنتِ طالق واحدة لا بل واحدة، وكذلك لو قال أنتِ طالق واحدة لا بل طالق واحدة. وذكر فيه أيضاً: عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لها أنتِ طالق لا بل أنتِ طالق، فهي طالق واحدة بالكلام الأول، فلا يلزمه بالكلام الثاني شيء إلا أن ينوي.

الفصل الحادي عشر: في إضافة الطلاق إلى الأوقات

ولو قال أنتِ طالق لا بل أنتما لزم من الأولى تطليقتان والأخرى واحدة. وإذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق لا بل عَبدي حرّ، ذكر هذه المسألة في «المنتقى» في موضعين، وقال في موضع: لا يعتق العبد إلا بعد التزوّج، وقال في موضع آخر العبد حرّ الساعة. وإن تزوج فلانة فهي طالق، وذكر عقيبه ما إذا قال إن اشتريت فلاناً فهو حرّ، لا بل فلان بمعنى عبد آخر له في ملكه، لم يعتق عنده حتّى يشتري العبد الذي حلف بعتقه. وأشار إلى المعنى، فقال: لأن هذا شيء واحد، وطلاق المرأة غير عتق العبد. وفي «الأصل» : لو قال لها كنت طلقتك أمس واحدة، لا بل ثنتين وقعت ثنتان؛ لأن كلمة لا بل في الإخبارات تستعمل لتقرير الأقل وإلحاق الزيادة به يقول الرجل: حججت حجّة لا بل حجتين، ويصير كأنّه قال طلقتك ثنتين، ولا كذلك في الإثبات، والله أعلم. الفصل الحادي عشر: في إضافة الطلاق إلى الأوقات يجب أن تعلم: بأن الطلاق إذا أضيف إلى وقت ينصرف إلى وقت في المستقبل، حتّى إنّ من قال لامرأته: أنتِ طالق يوم الجمعة، ينصرف إلى الجمعة الآتية؛ لأن المقصود من الإضافة تأخير الحكم إلى وقت المضاف إليه، وإنّما يتأتى التأخير في المستقبل، لا في الماضي. فإذا وجد أصل الوقت في المستقبل لا في الماضي، وإذا وجد أصل الوقت ولم توجد الصفة التي ذكرها الحالف لا يقع الطلاق، وهذا ظاهر. وإذا وجد الوقت المضاف إليه الطلاق مع الصفة التي ذكرها الحالف، يجعل المضاف كالمرسل، إذا صحت الإضافة كما في المعلق بالشرط يجعل عند وجود الشرط، كالمرسل. فبعد ذلك إن كان المعلق، والمضاف طلاقاً صحيحاً، قابلاً للوقوع كان المرسل طلاقاً صحيحاً، فيقع. فإذا وقع الطلاق يترك عقيب الشرط، وعقيب الوقت المضاف؛ لأنّ الحكم (251أ1) يتأخر عن سببه، وإنّما يوجد السبب بعد الشرط، وبعد الوقت؛ لأن المعلق والمضاف كل واحد منهما ليس بسبب للحال، وإنّما يصير سبباً عند وجود الشرط والوقت، فإذا كانت السببية معلقة بوجود الشرط والوقت، كانت السببية متأخرة عن الشرط، والحكم يتأخر عن السبب، فيكون متأخراً عن الشرط والوقت ضرورة، وإذا أضيف الطلاق إلى وقت سابق على قول مسمى، ووجد الوقت بوصف أنّه سابق على الفعل المسمّى، فالطلاق وقوعه لا يتأخر عن ذلك الفعل ولا يسبقه بل يقارنه، إلا في الموت عند أبي حنيفة رحمه الله على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. بيانه في مسألة ذكرها في «الزيادات» : إذا قال الرجل: إن تزوجت زينب قبل أن أتزوج عمرة بشهر فهما طالقان، فتزوج زينب ثمّ مضى شهر، ثمَّ تزوج عمرة طلقت

زينب، ولا تطلق عمرة، وهذا لأنّ الفعل المذكور ليس بشرط لوقوع الطلاق؛ لأنّ الزوج ما جعله شرطاً بل هو موجه للشرط؛ لأن الطلاق مضاف إلى شهر موصوف بأنّه قبل الفعل المسمّى لا بدّ من وجود الفعل متصلاً بالوقت، ليعلم أن هذا وقت سابق على الفعل المسمّى، فكان الفعل موجداً صفة الفعلية للوقت المسمّى، فكان موجداً للشرط، وموجدُ الشرط ليس بشرط، من حيث إنّه موجود الشرط، فالوقوع لا يسبقه. ومن حيث إنّه ليس بشرط لا يتأخر عنه، فإذاً يقع مقارناً له إلا في الموت عند أبي حنيفة رحمه الله على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. قال في أيمان «الجامع» : إذا قال الرجل لامرأة لا يملكها: أنتِ طالق قبل أن أتزوجك بشهر، فمكث شهراً ثمَّ تزوجها لا تطلق. يجب أن تعلم أن هذه المسألة على وجهين: إضافة من غير تعليق، وإضافة مع التعليق. والتعليق لا يخلو إمّا أن يكون بشرط سابق، أو بشرط لاحق وكل ذلك على وجهين: إمّا أن يكون مؤقتاً، أو غير مؤقت، صورة الإضافة من غير التعليق في المؤقت ما ذكرنا، وإنّما لا تطلق إمّا لأنّه أضاف الطلاق إلى وقت سابق على قول مسمّى، وهو التزوج فيكون الوقوع مقارناً للتزوج، والطلاق لا يقع مقارناً للتزوج، أو لأنّه وصفها بكونها طالقاً قبل التزوج، وهي كذلك؛ لأن الطلاق في الخالي عن القيد وهي خالية عن القيد قبل التزوج، فهو صاد في هذا الوقت، فلا حاجة إلى الإيقاع. وصورة الإضافة من غير تعليق في المطلق، إذا قال لامرأة لا يملكها: أنتِ طالق قبل (أن) أتزوجك، فتزوجها بعد ذلك لا تطلق أيضاً؛ لأنّ هذا إيقاع للحال، فالأصل أن الطلاق إذا أضيف إلى المرأة قبل الفعل المسمّى قبلية مطلقة، يكون إيقاعاً للحال، كما في قوله أنتِ طالق قبل قدوم فلان، فإنّ هناك يقع الطلاق عليها للحال قدم فلان، أو لم يقدم، ولمّا كان هذا إيقاعاً للحال يبطل لعدم الملك. صورة الإضافة مع التعليق والشرط سابق في الموت إذا قال لها: إذا تزوجتك فأنتِ طالق قبل أن أتزوجتك بشهر، فتزوجها بعدما مضى شهر من وقت هذه المقالة طلقت، كذا ذكر في رواية أبي سليمان رحمه الله. وذكر في رواية أبي حفص رحمه الله، وقال طلقت في قول أبي يوسف رحمه الله، فقد إلى الخلاف، ولكن لم ينصّ عليه. وذكر في طلاق الجامع الإضافة مع التعليق في المطلق، وصورتها: إذا (أشاء) قال لامرأة لا يملكها: إن تزوجتك فأنتِ طالق قبل ذلك، ولم يوقّت بأن لم يقل قبل ذلك بشهر ثمَّ تزوجها، فعلى قول أبي حنيفة ومحمّد رحمهما الله لا تطلق، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تطلق، من مشايخنا من قال: الخلاف في المطلق، وأمّا في المؤقت تطلق بلا خلاف، كما ذكر في رواية أبي سليمان رحمه الله، وعامتهم على أنّ الخلاف في المطلق والمؤقت جميعاً، لأبي يوسف رحمه الله أنّه علق الطلاق بشرط التزوّج؛ لأن كلمة «إن» و «إذا» للشرط، ثمَّ أضافه إلى ما قبل الشرط مطلقاً أو موصوفاً بأنّه قبل الشرط

بشهر، فيصحّ من الوقت لما في تصحيحه تصحيح هذا التعليق، ويلغو ما في تصحيحه إبطال هذا التعليق، قلنا: وفي تصحيح القبليّة في المطلقة والمؤقتة إبطال هذا التعليق؛ لأنّه متى تعلق الطلاق بالتزوج يقع الطلاق بعده، ولا يقع قبله، فبقي الإيقاع إبطال هذا التعليق، فأبطلنا ذكر القبلية في المطلقة والموقتة. وليس في اعتبار الشهر في المؤقتة إبطال هذا التعليق، فاعتبرنا الشهّر في المؤقتة، ويصير تقدير المسألة في المطلقة: إذا تزوجتك فأنتِ طالق، وفي المؤقتة: إذا تزوجتك بعد شهر فأنتِ طالق، ولو نصّ على هذا يصحّ التعليق ويقع الطلاق بعدما وجد الشرط، وهو التزوّج في المطلقة في أيّ وقت وجد، والتزوج بعد الشهر في المؤقتة كذا ها هنا، بخلاف مسألة أوّل الباب؛ لأنّ هناك ما جعل التزوج بشرط، بل جعله موجداً للشرط فيكون وقوع الطلاق مقارناً للتزوج. فلأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أنَّ المعلق بالشرط والمضاف إلى وقت بعد وجود الشرط، والوقت بمنزلة المرسل، فيصير بعد التزوّج، كأنه قال: أنتِ طالق قبل أن أتزوجك بشهر، وإنّه باطل لا وقوع له، فكذا إذا كان معلقاً وما قال من المعنى، فهو صحيح إذا صحّ التعليق حتّى يلغو ذكر القبلية ضرورة صحّة التعليق، والتعليق ها هنا لا يصح، فكيف يلغو ذكر القبلية. هذا كلّه على قول عامة المشايخ: إنَّ الخلاف في المطلق والموقت خلاف واحد، وأما على قول بعض المشايخ إنّ الخلاف في المطلق وفي الموقت يقع الطلاق بلا خلاف، يحتاج أبو حنيفة رحمه الله إلى الفرق بين المطلق والمؤقت، والفرق أنّ في المؤقت القبلية صفة الشهر لا صفة الطلاق، وهذا لأنّ الطلاق كما هو مذكور، والشهر أيضاً مذكور والقبلية كما يصلح صفة للطلاق، ومعناه: إذا تزوجتك فالمرأة طالق قبل النكاح بشهر يصلح صفة للشهر، ومعناه: إذا تزوجتك، وقد مضى شهر قبله من وقت هذه المقالة، فجعلناها صفة للشهر حتّى يصلح التعليق (251ب1) بخلاف المطلق؛ لأنّ القبلية صفة الطلاق هناك؛ لأنّ المذكور هناك الطلاق لا غير، وإذا صارت القبلية في المطلق صفة الطلاق بطل التعليق؛ لأنَّ المعلق باطل، وهذا هو الفرق لكن ما قاله عامّة المشايخ أصحّ؛ لأنَّ القبلية لمّا صلحت صفة الطلاق وصفة الشهر وقع الشك في صحّة التعليق، وفي وقوع الطلاق، فلا يصح ولا يقع بالشك. صورة الإضافة مع التعليق والشرط لاحق في المطلق والمؤقت إذا قال لأجنبيّة: أنتِ طالق قبل أن أتزوجك أنتِ طالق قبل أن أتزوجك بشهر إذا تزوجتك، فتزوجها لا نص فيه عن محمّد رحمه الله، وقد اختلف المشايخ فيه: بعضهم قالوا لا فرق بينما إذا كان الشرط لاحقاً، وبينما إذا كان سابقاً، وإليه مال شيخ الإسلام رحمه الله؛ لأنّ أوّل الكلام يتوقف على آخره إذا وجد في آخره ما يقلب حكم أوّله، ويصير كأنّه تكلم بكلمة واحدة، وفي حق هذا المعنى تقديم الشرط، وتأخيره سواء، وبعضهم قالوا ها هنا يقع الطلاق بلا خلاف، وإليه مال فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله.

ووجهه أنّ قوله أنتِ طالق قبل أن أتزوجك موجبه وقوع الطلاق للحال، وقوله: أنتِ طالق قبل أن أتزوجك بشهر موجبه وقوع الطلاق مقارناً للتزوج، فإذا أدخل عليه الشرط أوجب تأخيره، ومن ضرورته بطلان صفة القبلية، فيصير قائلاً عند التزوج أنتِ طالق. فأمَّا إذا قدم الشرط فالشرط ما أوجب تأخير الجزاء، ولكن الجزاء يتأخر عن الشرط؛ لأنّ الحالف تكلّم به بعد الشرط، لا لأنَّ الشرط أوجب تأخيره، وإذا لم يكن تأخير الجزاء بحكم الشرط لم يكن من ضرورته بطلان صفة القبلية، فيصير قائلاً عند التزوج أنتِ طالق، قبل أن أتزوجك أنتِ طالق قبل أن أتزوجك بشهر وهناك لا يقع الطلاق، كذا ههنا. هذا كلّه إذا حصل الإيجاب في غير الملك، وأما إذا حصل الإيجاب في الملك فله صور، من جملة ذلك ما ذكر في «المنتقى» إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنتِ طالق قبل أن أتزوجك، فهي طالق إذا دخلت الدار، وكذلك إذا قال لها إذا جَاء غد فأنتِ طالق قبل أن أتزوجك، أو قال لها أنتِ طالق غداً قبل أن أتزوجك، فهي طالق غداً. وقال في «الجامع الصغير» : إذا قال لامرأته: أنتِ طالق قبل أن أتزوجك، أو قال لها طلقتك قبل أن أتزوجك لا يقع شيء. وفيه أيضاً: إذا قال لها أنتِ طالق أمس، وقد تزوجها اليوم لا يقع الطلاق، ولو تزوجها أوّل من أمس يقع الساعة واحدة. وفي «الجامع الكبير» لو قال لامرأته: أنتِ طالق قبل دخولك الدّار بشهر، أو قال لها أنتِ طالق قبل قدوم فلان بشهر، فدخلت الدار أو قدم فلان قبل تمام الشهر من وقت اليمين لا تطلق؛ لأن الطلاق المضاف إلى وقت موصوف بصفه تنصرف إلى وقت في المستقبل، ولو دخلت الدار بعد تمام الشهر، أو قدم فلان (بعد) إتمام الشهر من وقت اليمين يقع الطلاق؛ لأنّه يصير قائِلاً عند تمام الشهر وعند قدوم فلان أنتِ طالق قبل هذا الشهر، ومن قال لامرأته أنتِ طالق قبل هذا بشهر في الحال تطلق في الحال. ثمَّ عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله يقع الطلاق مقارناً للدخول، ويقتصر الوقوع على وقت القدوم والدخول حتى لو خالعها تطلق في وسط الشهر، ثمَّ دخلت الدار أو قدم فلان لتمام وهي في العدة، لا يظهر بطلان الخلع، خلافاً لزفر رحمه الله. ولو قال لها: أنتِ طالق قبل موت فلان بشهر، فمات فلان لتمام الشهر، فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يقع الطلاق مقارناً للموت، ويقتصر على وقت الموت، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يقع الطلاق في آخر جزء من أجزاء حياته، ويستند إلى أول الشهر، وعلى قول زفر يقع الطلاق بعد الموت، ويستند إلى أول الشهر. وثمرة الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله إنّما تظهر فيما إذا قال لها أنتِ طالق قبل موتي بشهر، أو قال قبل موتك بشهر، فعلى قولهما لا يقع؛ لأنّه لو وقع الطلاق بهذا اليمين وقع مقارناً لموت أحد الزوجين، ولا وجه إليه؛ لأنّه حال زوال الملك والطلاق لا يقع في حال زوال الملك، وعند أبي حنيفة رحمه الله يقع الطلاق؛ لأنّ عنده

الطلاق يقع في آخر جزء من آخر الحياة، وفي تلك الحال الملك قائم. والحاصل أنهما يقولان بمقارنة الوقوع القدومَ والدخول والموت وبالاقتصار في الأفعال كلها، وأبو حنيفة رحمه الله قال بمقارنة الوقوع الدخول والقدوم، وبالاقتصار فيهما ويسبق الوقوع الموت والاستثناء فيه، فهما يقولان: هذه الأفعال للشروط من وجه من حيث إنّها ملفوظة على خطر الوجود، ويقف وقوع الطلاق عليها معرفات من وجه حيث إنَّ الزوج ما ذكرها بحرف الشرط، ولكن أضاف الطلاق إلى زمان موصوف بأنّه قبل هذه الأفعال بشهر، فكانت هذه الأفعال معرّفة إيّانا أن الشهر السابق بهذه الصفة. ولو كانت معرفة من كل وجه لوقع الطلاق من أوّل الشهر من كلّ وجه، كما لو قال لها أنتِ طالق قبل رمضان بشهر، فإنَّ هناك يقع الطلاق في أوّل شعبان من كل وجه، ولو كانت شروطاً من كل لوقع الطلاق بعدها مقصوراً عليها من كلّ وجه، كما لو ذكرها بحرف الشرط صريحاً بأن قال؛ إن قدم فلان، إن مات فلان، إن دخلت الدار، فأنتِ طالق قبل ذلك بشهر، فإذا كانت شروطاً من وجه معرفات من وجه، قلنا بالوقوع بعدها، عملاً بالشرطية. وقلنا بالاستناد عملاً بالمعرفية، ولأبي حنيفة رحمه الله أن الموت ليس بشرط لوقوع الطلاق؛ لأن الموت أمر لا يدخل تحت الأمر والنهي وما لا يدخل تحت الأمر والنهي لا يصلح شرطاً، لوقوع الطلاق؛ لأن المقصود من الأيمان النهي عن إيجاد شرط وقوع الطلاق، فبذكر ما لا يدخل تحت الأمر والنهي يعلم أنّه لم يقصد به النهي عنها، فلا يكون شرطاً. وذكرها لتعريف الوقت المضاف إليه الطلاق، والتعريف حاصل قبله بآخر أجزاء حياته؛ لأنّ آخر أجزاء حياته يتصل بموته بتقدير الله عزّ وجلّ لا يفصل عنه إلا أنّا لا نعرف آخر أجزاء حياته (252أ1) إلا بالموت، فبالموت عرفنا وجود ذلك الجزء قبله، فهو معنى قولنا: إنَّ التعريف حاصل قبل الموت بآخر جزء من أجزاء حياته، فيقع الطلاق في آخر جزء من أجزاء حياته. ويستند إلى أوّل الشهر، بخلاف الدخول والقدوم وما شاكلهما؛ لأن هذه الأشياء تدخل تحت الأمر والنهي، فأمكن جعلها شرطاً، فيقع الطلاق عندها مقصوراً عليها على ما ذكرنا، فهذه النكتة منقولة عن القاضي الإمام الكبير أبي زيد رحمه الله. ولو قال لها: أنتِ طالق قبل موت فلان وفلان بشهر فمات أحدهما قبل تمام الشهر لم تطلق بهذه اليمين أبداً، لانعدام الوقت المضاف إليه الطلاق وهو شهر بعد اليمين موصوف بأنّه قبل موتهما. وإن مضى شهر من وقت اليمين ثمَّ مات أحدهما طلقت، ولا ينتظر موت الآخر؛ لأن بموت أحدهما تيقنا بوجود الوقت المضاف إليه الطلاق، وهو شهر قبل موتهما يتصل بآخره موت أحدهما؛ لأن اتصالهما بآخر الشهر إنّما يكون بوقوعهما معاً، واقتران بالشهر موتهما ممتنع عادة،

فيسقط اعتبار المقارنة وتعلّق وقوع الطلاق بوصف التقدّم على الموتين بشرط اتصال أحدهما به. ولو قال لها أنتِ طالق قبل قدوم فلان وفلان بشهر، فقدم أحدهما لتمام الشهر من وقت اليمين، ثمَّ قدم الآخر بعد ذلك طلقت؛ لأنّ وجود القدومين معاً ممتنع عادة، فيسقط اعتباره، فبقي الطلاق مضافاً إلى شهر بعد اليمين يتصل به قدوم أحدهما، وقدوم الآخر يتصل بمطلق الوقت. وهو نظير ما لو قال لامرأته أنتِ طالق قبل مطلع يوم الأضحى والفطر بشهر، فإنها تطلق إذا أهلَّ هلال رمضان؛ لأن الفطر مع الأضحى لا يوجدان معاً، فتعلق وقوع الطلاق بصفة التقدم، واعتبر اتصال الشهر بأحدهما دون الآخر كذا ها هنا، فصار موتهما وقدومهما من حيث إنّه يكتفى فيهما باتصال الشهر بأحدهما سواء، إلا أنّ فرق ما بينهما أنّه إذا مات أحدهما لتمام الشهر يقع الطلاق، ولا يتوقف وقوعه على موت الآخر، وإذا قدم أحدهما بعد تمام الشهر لا يقع الطلاق، بل يتوقف وقوعه على قدوم الآخر. قال في «الجامع» أيضاً: إذا قال الرجل لامرأته أنتِ طالق قبل أن تحيضي حيضة بشهر، فمكثت بعد هذه المقالة شهراً، ثمَّ رأت الدم يوماً أو يومين في أيام حيضها، فإنّها لا تطلق ما لم يتمادى بها الدم ثلاثة أيام، وإذا تمادى يحكم بوقوع الطلاق من حين ما رأت الدم؛ لأنَّ بمادي الدم ثلاثة أيام تيقنا أنّ المرئي كان حيضاً من وقت الرؤية، فتيقنا بكون هذه الشهر شهراً قبل حيضها، ولا يتوقف وقوع الطلاق على الطهر. وإن ذكر الحيضة مع الهاء أنّها مع الهاء اسم للكامل منها؛ لأنّه ما جعل الحيضة شرطاً بل جعلها معرفة للوقت المضاف إليه الطلاق، وقد حصل التعريف بمضي ثلاثة أيام وإن لم تطهر، ثمَّ إذا وقع الطلاق عليها من حين ما رأت الدم، لا شكَّ أنَّ على قولهما يقتصر استدلالاً بنظائره من الميت والقدوم على ما مرّ. وأمّا على قول أبي حنيفة رحمه الله قد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يستند وألحقوه بالموت، وبعضهم قالوا لا يستند، وألحقوه بالقدوم من حيث إنّ الحيضة ملفوظ بها على خطر الوجود، كالقدوم بخلاف الموت. قال في «الجامع» : وإذا (قال) لامرأته أنتِ طالق ثلاثاً قبل موت فلان بشهر، ثمَّ إنّه خالعها على مال قبل تمام الشهر ثمَّ مات فلان لتمام الشهر، فالمسألة على وجهين: إن لم تكن المرأة في العدّة يوم مات فلان، بأن كانت غير مدخول بها أو كانت مدخولاً بها، إلا أنّه انقضت عدتها بوضع الحمل قبل تمام الشهر، لا يقع شيء عليها شيء من الطلقات المضاف. أمّا عندهما فلأنّ الطلاق يقع عند الموت مقصوراً على حالة الموت، فيشترط قيام الملك عند الموت، ولم يوجد. وعند أبي حنيفة رحمه الله يقع الطلاق في آخر جزء من آخر الحياة ويستند، فلا بد من قيام الملك في آخر جزء من آخر الحياة حتّى يقع ثمّ يستند، وإن كانت في العدة يقع الطلاق غير أنَّ عندهما يقتصر الوقوع على وقت الموت، فلا يتبين بطلان الخلع، وعند أبي حنيفة رحمه الله يستند، فيتبيّن أنّه حين خالعها لم يكن له عليها ملك فيتبيّن بطلان الخلع فكان عليه أن يردّ ما أخذ منها؛ لأنّه تبيّن أنّه أخذ ما أخذ بغير حق، ولم يذكر محمّد رحمه الله في «الكتاب» أنَّ العدة تعتبر من أيِّ وقت ولا شكَّ أن على قولهما تعتبر العدة من وقت الموت؛ لأنَّ عندهما يقع الطلاق مقصوراً على وقت الموت، وأما على

قول أبي حنيفة رحمه الله عند عامّة الشايخ يعتبر من وقت الموت.6 وعند علي الرازي رحمه الله يعتبر من أوّل الشهر، وهذا بناءً على أن عند علي الرازي الطريق في وقوع الطلاق عند أبي حنيفة رحمه الله في هذه الصورة طريق الظهور من كلِّ وجه، ومعناه أنَّ بالموت يظهر أنَّ الطلاق كان واقعاً من أوّل الشهّر من كلِّ وجه، وكان يطعن على محمّد رحمه الله فيما ذكر من اشتراط قيام العدّة وقت الموت، لوقوع الثلاث؛ لأنّ عنده الطلاق يقع من أوّل الشهر من كلِّ وجه، فلا معنى لاشتراط قيام العدّة عند الموت، والدليل على أنَّ طريقه الظهور من كلِّ وجه عند أبي حنيفة أنَّ محمّداً رحمهما الله ذكر بطلان الخلع، على قوله: لو كانت العدة قائمة وقت الموت، ولو كان طريقه طريق الاستناد لما قال ببطلان الخلع؛ لأنَّ الخلع بعد وقوعه. ونفاذه لا يحتمل البطلان. والدليل عليه: أنَّ أبا حنيفة رحمه الله قال: لو وطئها بعد اليمين، ثمَّ مات، فلان لتمام الشهر إنّه يلزمه العقد، ولو كان طريقه طريق الاستناد لما لزمه العقد، لأنَّ الاستناد لا يظهر في حقِّ المستوفى بالوطء، وما ذكرنا من نكتة القاضي الإمام الكبير أبي زيد رحمه الله، يشير إلى ما يقوله علي الرازي رحمه الله، فكأنه يميل إلى ما قاله علي الرازي رحمه الله. وعند عامة المشايخ الطريق عند أبي حنيفة رحمه الله طريق الاستناد، وهو الوقوع للحال من وجه، ومن أوّل الشهر من وجه، ولما كان الطريق عند عامة المشايخ الاستناد يعتبر العدّة من وقت الموت؛ لأنَّ باعتبار الوقوع في الحال يجب العدّة في الحال، وباعتبار الوقوع من أوّل الشهر تجب العدّة من أوّل الشهر (252ب1) ، فتجب في الحال احتياطاً والصحيح ما عليه عامّة المشايخ. وأمّا تخريج مسألة الخلع، فنقول: باعتبار الحال يصح ما مضى من الخلع، وباعتبار أوّل الشهر لا يصح فلا يصح بالشك والاحتمال وبهذا تبيّن أنّا لا نقول ببطلان الخلع بعد صحته ونفاذه، بل لا نقول بصحته. وأمّا مسألة العقد قلنا: الأصل في ضمان منافع البضع العقد لكن يصير إلى المسمّى حال قيام الملك من كل وجه، فإذا ظهر زوال الملك من أوّل الشهر من وجه، بقي مضموناً بالضمان الأصلي. وفي «المنتقى» عن محمّد رحمه الله: إذا قال لامرأته أنتِ طالق قبيل غد أو قبيل قدوم فلان، فهو قبيل ذلك بطرفة عين؛ لأنَّ قبيل وقت. قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله. هذا الجواب في قوله قبيل قدوم فلان غير مستقيم، والصحيح أنّه يقع الطلاق إذا قدم فلان، والله أعلم. نوع آخر في إضافة الطلاق إلى الوقتين وإلى أحدهما وفي تعليق الطلاق بالفعلين وبأحدهما وفي الجمع بين وقت وفعل يجب أن تعلم بأنَّ الطلاق المضاف إلى أحد الوقتين يقع عند آخرهما، إمّا لأنَّ الزوج وصفها بالطلاق في أحد الوقتين، ولو وقع الطلاق في أولهما كانت موصوفة

بالطلاق في الوقتين، أوْ لأنَّ الزوج أوقع الطلاق بأحد وصفين الأخف والأغلظ وهو التعجل والتأخّر فإنَّ المؤخّر أخف من المعجّل. والأصل في مثل هذا أن يتعين للزوج الأخف؛ لأنّه متيقّن ولهذا قالوا: إن من قال لامرأته أنتِ طالق بائن أو رجعي يقع طلاق رجعي، وكذلك قالوا فيمن قال لامرأته أنتِ طالق ثلاثاً أو واحدة يقع واحدة، وطريقه ما قلنا. بيان هذا «الأصل» فيما إذا قال لامرأته: أنتِ طالق غداً أو بعد غد، فإنّها تطلق بعد غد وكذلك إذا قال لها أنتِ طالق غداً أو رأس الشّهر، فإنّه يقع الطلاق عند أحديهما إلا إذا نوى أن يقع بكل وقت تطليقة، فحينئذٍ تقع تطليقة غداً وتطليقة بعد غد؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه بإقامة حرف الواو مقام أو ويصير تقدير المسألة: أنتِ طالق غداً، وبعد غدٍ أو بإضمار كلمة في، ويصير تقدير المسألة أنتِ طالق في غدٍ وفي بعد غدٍ والمضاف إلى الوقتين يقع بأولهما؛ لأنّه وصفها بكونها طالقاً في الوقتين، وإنّما يكون مقصوداً بالطلاق في الوقتين إذا وقع الطلاق بأولهما، وإذا وقع الطلاق عند وجود أوّلهما لا يقع عند وجود آخرهما شيء إذا لم يكن أحد الوقتين كائناً، أو كان أحدهما كائناً وبدأ بالكائن، ففي الحالين جميعاً يقع طلاق واحد عند وجود أوّلهما. بيان هذا «الأصل» : إذا لم يكن أحد الوقتين كائناً أن يقول لها اليوم: أنتِ طالق غداً، وبعد غد. وبيانه فيما إذا كان أحد الوقتين كائناً وبدأ بالكائن بأن يقول لها اليوم أنتِ طالق اليوم وغداً، فإنّه يقع الطلاق ساعة ما تكلّم، ولا يقع عليها في الغد شيء؛ لأنه وصفها بكونها طالقاً في الوقت الكائن والآتي، وهي الطلقة الواقعة في الوقت الكائن يتصف بالطلاق في الوقت الآتي. وعلى هذا إذا قال لها في الليل أنتِ طالق في ليلك ونهارك يقع الطلاق عليها ساعة ما تكلم بهذه المقالة، ثمَّ لا يقع في النهار شيء، وهذا إذا لم يكن لها نية، فإن نوى أن يقع بكل وقت تطليقة كان كما نوى، لما قلنا. وفي «مجموع النوازل» : إذا قال لها: أنتِ طالق اليوم وغداً، يقع واحدة اليوم، وأخرى غداً وأمّا إذا كان أحد الوقتين كائناً وبدأ بالآتي فإنه يقع بكل وقت تطليقة، بأن قال لها اليوم: أنتِ طالق غداً واليوم تقع واحدة ساعة ما تكلم به، وتقع أخرى غداً، وكذلك إذا قال في الليل أنتِ طالق في نهارك وليلك يقع واحدة ساعة ما قال هذه المقالة، ويقع أخرى إذا طلع الفجر؛ لأنّه وصفها بكونها طالقاً في الوقت الآتي ابتداء، وعطف عليه الوقت الكائن، وهي بالطلاق الواقع في الوقت الآتي لا تتصف بكونها طالقاً في الوقت الكائن. ولو قال لها ليلاً أنتِ طالق في ليلك وفي نهارك، أو قال لها نهاراً أنتِ طالق في نهارك، وفي ليلك، طلقت في كلِّ وقت تطليقة؛ لأنّه جعل كلّ وقت ظرفاً على حدة فاستدعى مظروفاً على حدة، وفيما تقدّم جعل الوقتين ظرفاً واحداً، فاكتفى بمظروف واحد.

وعلى هذا إذا قال لها أنتِ طالق ليلاً ونهاراً أو قال في الليل والنهار لم يقع إلا واحدة، ولو قال في الليل وفي النهار، يقع تطليقتان وعلى هذا إذا قال أنتِ طالق في أكلك وشربك، في قيامك وقعودك لم يقع ما لم يوجدا. ولو قال في أكلك وفي شربك، وفي قيامك وفي قعودك فأيهما وجد يقع؛ لأنّه جعل كلَّ فعل شرطاً على حدة فإن نوى طلقة واحدة في قوله في ليلك وفي نهارك ديّن فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه، وذلك بحذف كلمة في. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمّد رحمه الله: إذا قال لامرأته أنتِ طالق بالنهار، والليل إذا قال ذلك نهاراً طلقت واحدة، وإن قال ذلك ليلاً طلقت ثنتين، ولو قال لها ولم يدخل بها أنتِ طالق غداً واليوم طلقت الساعة واحدة، وإن تزوجها اليوم طلقت إذا جاء غد ولو لم يتزوجها اليوم حتى جاء غد ثم تزوجها لا تطلق. وأمّا إذا كان أحد الوقتين كائناً والآخر ماضياً لم يذكر هذه المسألة في الأصول، وإنّما ذكرها في «النوادر» ؛ ووضعها في غير المدخول بها، فقال: إذا قال لها أنتِ طالق أمس واليوم فهي واحدة لأنا لو أوقعنا أمس بها تطليقة ممّا سمى بعد ذلك يكون باطلاً، ولو قال أنتِ طالق اليوم وأمس كانت طالقاً ثنتين، كأنّه قال لها أنتِ طالق ثنتين. وفي «مجموع النوازل» : إذا قال لامرأته أنتِ طالق اليوم فأمس فهي واحدة، هذا هو الكلام في المضاف. جئنا إلى المعلّق، فنقول: المعلق بأحد الفعلين يقع بأولهما لأن الحالف جعل أحد الفعلين شرطاً، وإنّما يكون أحدهما شرطاً إذا وقع الطلاق بأولهما، بيان هذا الأصل: إذا قال لها أنتِ طالق إذا جاء رأس الشهر أو إذا قدم فلان، فأيهما وجد أولاً يقع الطلاق ثمَّ لا يقع عند الآخر شيء؛ لأنَّ المعلق (253أ1) طلاق واحد، إلا أن ينوي بكل فعل تطليقة، فيكون كما نوى؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه؛ لأنه يذكر بمعنى الواو، قال الله تعالى {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاْرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ} (الإسراء: 90، 91) ومعناه وتكون لك ويصير تقدير المسألة أنتِ طالق إذا جاء رأس الشهر، وإذا قدم فلان. وأمّا المعلق بالفعلين، فهو على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون الجزاء مقدماً على الفعلين، وإنّه على وجهين: أمّا (إن) ذكر للثاني حرف الشرط، بأن قال لها: أنتِ طالق إذا قدم فلان وإذا قدم فلان آخر، وفي هذا الوجه أيّهما قدم أوّلاً يقع الطلاق ولا يقع بالثاني شيء إلا إذا نوى ذلك. وأمّا إن لم يذكر للثاني حرف الشرط، بأن قال لها أنتِ طالق إذا قدم فلان وفلان، وفي هذا الوجه لا يقع الطلاق ما لم يقدما، والفرق أنَّ قوله أنتِ طالق إذا قدم فلان وإذا قدم فلان يمين تامّه؛ لأنّه ذكر شرط وجزاء، فإذا ذكر للثاني حرف الشرط، فالثاني تامّ في معنى الشرطية، ناقص في معنى الجزائية، فصار جزاء الشرط الأوّل جزاء له بحكم

العطف إذ العطف يقتضي المشاركة بين المعطوف وبين المعطوف عليه، فيما هو ناقص، ويصير تقدير المسألة؛ كأنّه قال أنتِ طالق إذا قدم فلان، وإذا قدم فلان آخر فأنتِ طالق تلك التطليقة ولو نصَّ على ذلك كان الجواب كما قلنا فها هنا كذلك. وأمّا إذا لم يذكر للثاني حرف الشرط فالثاني ناقص في معنى الشرطية، كما هو ناقص في معنى الجزائية وقد عطفه على الأول بحرف الجمع، والجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع، فصار كأنّه قال: أنتِ طالق إذا قدما. الوجه الثاني: أن يكون الجزاء وسط الفعلين، بأن قال لها إذا قدم فلان، فأنتِ طالق، وإذا قدم فلان فالجواب فيه كالجواب فيما إذا قدّم الجزاء؛ لأنّ قوله إذا قدم فلان، فأنتِ طالق يمين تامّة، فإذا قال وإذا قدم فلان فقد ذكر حرف الشرط ولم يذكر له الجزاء، فصار جزاء الأوّل جزاءً للثاني بحكم العطف. الوجه الثالث: أن يكون الجزاء مؤخراً عن الفعلين، بأن قال: إذا قدم فلان، وإذا قدم فلان فأنتِ طالق، فما لم يقدما لا يقع الطلاق لأنَّ قوله إذا قدم فلان ليس بكلام تامّ، بل هو شرط محض، وإذا قال: وإذا قدم فلان، فهذا أيضاً شرط محض، وقد جمع بينهما، فصار كالمجموع بلفظ الجمع فكأنّه قال: إذا قدما فأنتِ طالق، بخلاف ما إذا قدم الجزاء أو وسط؛ لأن هناك الكلام الأوّل يمين تامة على ما ذكرنا والكلام الثاني تام في معنى الشرطية ناقص في معنى الجزائية على ما مرّ. وإذا جمع بين وقت وفعل وأضاف الطلاق إلى أحدهما، بأن قال لها: أنتِ طالق رأس الشهر أو إذا قدم فلان، فإن وجد الفعل أوّلاً بأن قدم فلان في هذه الصورة أوّلاً يقع الطلاق، ويجعل كأنَّ المضموم إليه فعل آخر، فكان هذا طلاقاً معلقاً بأحد الفعلين فيقع بأولهما، وإن جاء رأس الشهر أوّلاً لا يقع الطلاق ما لم يقدم فلان، ويجعل كأن المضموم إليه وقت آخر كأنّه قال: أنتِ طالق رأس الشهر أو وقت قدوم فلان، فكان الطلاق مضافاً إلى أحد الوقتين، فيقع بآخرهما. واختلفت عبارة المشايخ في بيان العلّة، فعبارة بعضهم: إنَّ الجمع بين قضيّة الفعل وبين قضيّة الوقت متعذر، لما بين الإضافة والتعليق من التضاد وجب القول بالترجيح، فرجحنا السابق؛ لأنّه لا (حكم) له فيعطى له حكمه ويجعل الآخر تبعاً له، فإن وجد الفعل أولاً جعل كأن المضموم إليه فعل آخر وإن وجد الوقت أوّلاً، جعل كأنَّ المضموم إليه وقت آخر. وعبارة القاضي الإمام أبي سعيد البردعي رحمه الله أنَّ من أوقع أحد الطلاقين، إمّا الأخف وإمّا الأغلظ يقع الأخف، وقد أتى بالمضاف إلى الوقت أو بالمعلق بالفعل، والمعلق أخف من المضاف؛ لأن المضاف أقرب إلى المنجّز من المعلق، ألا ترى أنَّ من قال لامرأته: إن حلفت بعتق عبدي، فأنتِ طالق ثمَّ قال لعبده أنت حرّ غداً لا تطلق امرأته، كما لو قال أعتقت للحال. وكذا النذر المضاف إلى الغد يجوز تعجيله قبل مجيء الغد، بأن قال: لله تعالى عليَّ أن أصدّق بدرهم غداً، فتصدق اليوم والنذر المعلق بمجيء

الغد لا يجوز تعجيله قبل مجيء الغد، فعلم أن المضاف قرب المنجز، فكان المعلّق أخف، فيعتبر الأخف ويلغوا الوقت، ولكن هذه العلّة إنّما تتأتى فيما إذا وجد الفعل أوّلاً، ولا تتأتى فيما إذا وجد الوقت أوّلاً، واستشهد محمّد رحمه الله لإيضاح هذه المسألة في «الزيادات» بمسألة أخرى، فقال: ألا ترى أنّه لو قال لها أنتِ طالق غداً، أو إن شئت، فشاءت الساعة أنه يقع الطلاق، ولا ينتظر مجيء الغدّ، ويجعل كأنَّ المضموم إلى المشيئة فعل آخر، فكان الطلاق معلقاً بأحد الفعلين، فكذا في مسألتنا إلا أنَّ بين مسألتنا، وبين مسألة الاستشهاد فرق، فإنَّ في مسألة الاستشهاد إذا قامت عن مجلسها قبل أن تشاء طلقت غداً، وفي مسألتنا هذه إذا جاء رأس الشهر قبل أن يقدم فلان لا تطلق ما لم يقدم فلان. وفي «نوادر ابن سماعة» قال: سمعت أبا يوسف رحمه الله يقول: إذا قال لامرأته أنتِ طالق إن دخلت الدار، أو بعد غد، فدخلت الدار اليوم قال: لا تطلق حتّى يجيء بعد الغد، قال: وهذا بمنزلة وقتين. وقال محمّد رحمه الله: إن دخلت الدار اليوم طلقت قبل مجيء بعد الغد، وهذه الرواية عن أبي يوسف رحمه الله تخالف ما ذكر محّمد رحمه الله في «الزيادات» . وعن أبي يوسف رحمه الله أيضاً أنّه إذا علق الطلاق بوقت وفعل على الشك، فهو بمنزلة فعلين، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: يريد به أن الطلاق يقع بأيهما سبق، وهذه الرواية توافق ما ذكر محمّد رحمه الله في «الزيادات» ، ومتى جمع بين الوقت والفعل وأضاف الطلاق إليهما بأن قال لها: أنتِ طالق غداً، وإذا قدم فلان فهاتان تطليقتان تطلق غداً واحدة، وإذا قدم فلان أخرى؛ لأنّه لا مجانسة بين الوقت وبين الفعل، حتّى يصير جزاء الأوّل جزاء الثاني بحكم العطف إذ المشاركة إنّما تثبت في جنس واحد، لا في جنسين. وقد ذكر للثاني (253ب1) حرف الشرط، ولم يذكر له جزاء، فاستدعى الثاني جزاء آخر، فصار تقدير المسألة كأنّه قال: أنت طالق غداً، وإذا قدم فلان فأنتِ طالق تطليقة أخرى، بخلاف ما إذا ذكر فعلين أو وقتين؛ لأنَّ هناك الثاني من جنس الأوّل، فصار جزاء الأوّل جزاءً للثاني بحكم العطف، فلم يستدعي الثاني جزاء آخر. فروى ابن سماعة عن محمّد رحمهما الله فيمن قال لامرأته: أنتِ طالق السّاعة، وإذا جاء غد وإذا جاء بعد غد، فهي طالق السّاعة واحدة وإذا جاء غد أخرى: ولا تطلق بمجيء ما بعد الغد؛ لأنَّ قوله إذا جاء غد فعل وقوله، وإذا جاء بعد غد فعل آخر، فإنّما يقع بأوّل الفعلين ويسقط اليمين، قال: ألا ترى أنّه لو قال أنتِ طالق إن دخلت هذه الدّار وإن دخلت هذه الدّار فدخلت إحدى الدّارين طلقت، وسقطت اليمين حتّى لا تطلق بدخول الدّار الأخرى، كذا ها هنا. وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله، فيمن قال لامرأته: أنتِ طالق اليوم، وإن دخلت الدّار فهي طالق حين تكلم، وإن دخلت الدار أخرى وهذا وما لو قال لها أنتِ طالق غداً وإذا قدم فلان سواء.

وفي «الجامع الصغير» إذا قال لها أنتِ طالق غداً اليوم أو قال أنتِ طالق اليوم غداً، فهو بأوّل الوقتين تفوه، يريد به أنَّ في الصورة الأولى يقع الطلاق غداً، وفي الصورة الثانية يقع الطلاق اليوم؛ لأنّه أضاف الطلاق إلى وقتين ولم يذكر بينهما حرف العطف، وفي مثل هذا يقع الطلاق بأولهما لفظاً، ويصير الثاني حشواً ولغواً من الكلام. وكذلك إذا قال لها أنتِ طالق الساعة غداً يقع الطلاق عليها في الحال، فإن قال عنيت بهذه الساعة الساعة من الغد فإنّه لا يصدّق في القضاء ويديّن فيما بينه وبين الله تعالى. ولو قال: أنتِ طالق اليوم إذا جاء غد، فهي طالق غداً حين يطلع الفجر لأنَّ قوله أنتِ طالق اليوم إيقاع للحال وقوله إذا جاء غد تعليق، فقد أتى بالإيقاع والتعليق والجمع بينها متعذّر، فلا بدَّ من اعتبار أحدهما وترك الآخر فنقول: اعتبار التعليق أولى، لأنا متى اعتبرنا الإيقاع يلغو قوله إذا جاء غد، وإنها كلمات، ولو اعتبرنا التعليق يلغو قوله اليوم، وإنه كلمة واحدة، فكان اعتبار التعليق أولى، وإذا اعتبرنا التعليق بقي ذكر اليوم فصار كأنّه قال لها: أنتِ طالق إذا جاء غد وهناك لا يقع الطلاق ما لم يجيء الغد كذا ها هنا. وفي «مجموع النوازل» : إذا قال لها أنتِ طالق تطليقة تقع عليك غداً، فإنّه لا تقع إلا غداً ولو قال تطليقة لا يقع عليك إلا غداً وقع السّاعة، قال لأنّه تأجيل في الواقع. وفي «المنتقى» إذا قال لها أنتِ طالق رأس كلِّ شهر، فإنّها تطلق ثلاثاً في رأس كلِّ شهر واحدة، ولو قال لها أنتِ طالق كلّ شهر، فإنّها تطلق واحدة قال لأنَّ في الأوّل ثلثهما فصل في الوقوع، ولا كذلك في الباقي ولو قال لها أنتِ طالق كل جمعة، فإن كان نيته على كلّ يوم جمعة فهي طالق في كل يوم جمعة حتّى تبين بثلاث وإن كان نيته على كلّ جمعة تأتي بأيامها على الدهر فهي طالق واحدة، وإن لم يكن له نيّة طلقت واحدة. وفي «مجموع النوازل» : إذا قال لها أنتِ طالق يوم الجمعة، أو في الجمعة وهو في بعض اليوم، فإنّه يقع الطلاق، فلا يكون على الجمعة الثانية إلا أن ينوي. وفيه يضاً: إذا قال لها أنتِ طالق قبل يوم قبله يوم الجمعة، أو قال بعد يوم بعده يوم الجمعة يقع الطلاق عليها يوم الجمعة في المسألتين جميعاً، ولو قال لها أنتِ طالق واحدة كل يوم، فهي طالق واحدة كلَّ يوم. وكذلك إذا قال لها أنتِ طالق كل يوم واحدة، ولو قال لها أنتِ طالق شهراً، غير هذا اليوم أو سوى هذا اليوم كان كما قال، فكانت طالقاً بعد مضي ذلك اليوم، ولا يشبه هذا قوله إلا هذا اليوم، فإنَّ هناك تطلق حين تكلم، وقوله هذا الشهر إلا هذا اليوم نظير قوله شهراً إلا هذا اليوم. والفرق بين قوله إلا هذا وبين قوله سوى هذا، وغير هذا أنَّ قوله غير هذا اليوم وسوى هذا اليوم قد يكون وقتاً، ألا ترى لو قال الرجل لغيره: والله لا أكلمك ثلاثة أيام غير هذا اليوم، أو سوى هذا اليوم كان حالفاً أن لا يكلمه ثلاثة أيام مستقبلات بعد هذا اليوم. ولو قال: والله لا أكلمك ثلاثة أيام إلا هذا اليوم كان حالفاً أن لا يكلمه يومين بعد يومه ذلك؛ لأنَّ بقوله هذا اليوم استثنى هذا اليوم من الثلاثة. وروى بشر عن أبي يوسف رحمة الله عليهما: إذا قال لامرأته أنتِ طالق بعد أيام

الفصل الثاني عشر: في الرجل يوقع الطلاق على امرأته ثم يقول: لي امرأة أخرى والمطلقة هي الأخرى

فإنّما يقع بعد سبعة أيام. وروى المعلّى عنه إذا قال لها: إذا كان ذو القعدة فأنتِ طالق، وقد مضى بعضه، قال: هي طالق ساعة تكلّم وإذا قال لها أنتِ طالق في مجيء يوم إن قال ذلك ليلاً طلقت كما طلع الفجر من اليوم الثاني وإن قال ذلك في ضحوة من النهار طلقت كما طلع الفجر من اليوم الثاني. ولو قال لها أنتِ طالق في مضي يوم إن قال ذلك ليلاً طلقت إذا غربت الشمس من الغد، وإن قال ذلك في ضحوة من النهار طلقت إذا جاءت الساعة التي حلف فيها من اليوم الثاني، وكان ينبغي أن يشترط في المجيء مجيء يوم كامل، كما يشترط في المضي مضي يوم كامل، كأنّه أضاف المجيء إلى اليوم مطلقاً ولا يوجد مجيء اليوم مطلقاً على الحقيقة إلا المجيء كله. والجواب أن القياس هذا، إلا أنَّا تركنا القياس في المجيء بنوع ضرورة لأنّا لو شرطنا في المجيء مجيء جميع اليوم، وذلك بغروب الشمس يفوت اسم المجيء فإنّه لا يقال بعدما غربت الشمس جاء اليوم، وإنّما يقال مضى اليوم أما في المضي لو شرطنا مضيّ حميع اليوم لا يفوت اسم المضي، فعملنا بالقياس في المضي وتركنا القياس في المجيء، واعتبرنا فيه مجيء أواخر من آخر اليوم، والعرف يشهد لما قلنا، فإنّه تعالى يوم الغد إذا طلع الفجر من يوم الجمعة وجاء شهر رمضان إذا أهلّ الهلال من شهر رمضان. ولو قال لها: أنتِ طالق في مجيء ثلاثة أيام إن قال ذلك ليلاً طلقت كما طلع الفجر من اليوم الثالث لأنّه علق وقوع الطلاق بطلوع ثلاث فجرات، وكما طلع الفجر من اليوم الثالث، فقد تمَّ طلوع ثلاث فجرات. وإن قال ذلك في ضحوة من النهار (254أ1) طلقت إذا طلع الفجر من اليوم الرابع؛ لأنَّ هذا اليوم لم يعتبر داخلاً في اليمين، وإنما يعتبر طلوع ثلاث فجرات بعد هذا اليوم. ولو قال لها أنتِ طالق في مضيّ ثلاثة أيام إن قال ذلك ليلاً طلقت إذا غربت الشمس من اليوم الثالث؛ إذ به يتمّ الشرط، هكذا وقع في بعض نسخ «الجامع» ، ووقع في بعضها: لا يطلق حتّى يجيء مثل تلك الساعة التي حلف فيها من الليل الرابعة، وهكذا ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» ؛ لأنَّ الأيام متى ذكرت باسم الجمع يستتبع ما بإزائها من الليالي فيجب تكميلها من الليلة الرابعة، بخلاف اليوم المفرد، والله أعلم بالصواب. / الفصل الثاني عشر: في الرجل يوقع الطلاق على امرأته ثم يقول: لي امرأة أخرى والمطلقة هي الأخرى قال محمّد رحمه الله في «الجامع» إذا قال الرجل أوّل امرأة أتزوجها طالق، ثمَّ تزوّج امرأة بعد اليمين، وادعت هي الطلاق فقالت: أنا أوّل امرأة تزوجني بعد اليمين، وقال الزوج لا بل تزوجت فلانة بعد اليمين لا يُصدّق الزوج في صرف الطلاق عن

المعروفة، ولو كان قال: إنّ كانت فلانة أول امرأة أتزوجها فهي طالق ثمَّ تزوجها، فادعت هي الطلاق، وقال الزوج؛ تزوجت امرأة قبلها، وهذه ليست بأولى، فالقول قول الزوج. الأصل في جنس هذه المسائل: أن الزوج متى ما أنكر وجود ما هو شرط وقوع الطلاق، فالقول قوله؛ لأنّه ينكر وقوع الطلاق ومتّى أقرّ ما هو شرط وقوع الطلاق، وله امرأة معروفة، فادعت المعروفة أنّها طلقت، وادّعى الزوج أنَّ له امرأة أخرى سوى هذه المعروفة، وهي التي طلقت فالقول قول المعروفة؛ لأنَّ الزوج لما أقرّ بما هو شرط وقوع الطلاق، فقد أقرّ بالإيقاع؛ لأنَّ المعلق بالشرط يصير مرسلاً عند الشرط، فصار كأنّه قال عند إقراره بوجود الشرط: امرأتي طالق. ولو قال لها هكذا، وله امرأة معروفة ينصرف الإيقاع إليها؛ لأنَّ صحّة الإيقاع يعتمد محلا قائماً والمحل المنكوحة والمنكوحة الظاهرة المعروفة، فيصير الزوج مقراً بطلاقها من حيث الظاهر، فإذا ادّعى بعد ذلك الوقوع على امرأة أخرى، فقد ادّعى أمراً بخلاف الظاهر. وإذا ادعت المعروفة الوقوع عليها، فقد ادعت أمراً موافقاً للظاهر قبل فيما قد تمّ اعتبار الظاهر، لإيقاع الطلاق على المعروفة، ولاستحقاق المعروفة نفسها على زوجها، والظاهر يصلح للدفع دون الاستحقاق قلنا.... يعتبر الظاهر لدفع دعوى الزوج، ثمَّ يقع الطلاق على المعروفة بالإيقاع الثالث بإقرار الزوج، فلا يكون في هذا اعتباراً لظاهر حجّته في إيقاع الطلاق على المعروفة. إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسألة، فنقول: في المسألة الأولى الزوج أقر بما هو شرط وقوع الطلاق؛ لأنَّ على ما زعم وعلى ما ظهر الطلاق واقع، وله امرأة معروفة يدعي طلاق نفسها، فيكون القول قولها وفي المسألة الثانية الزوج منكر ما هو شرط وقوع الطلاق؛ لأنَّ شرط وقوع الطلاق كون هذه المرأة موصوفة بصفة الأوّلية في التزوّج، والزوج ينكر ذلك، ألا ترى أنّه لو ثبت ما أقرّ به الزوج، لا يقع الطلاق أصلاً، فيكون القول قول الزوج، وإذا وقع الطلاق على المعروفة في المسألة الأولى ينظر إن كذبت المجهولة الزوج في النكاح لا يقع عليها شيء، وإن صدقته يقع عليها الطلاق بإقرار الزوج، والمعروفة مطلقة بحكم الظاهر. فرّع على المسألة الأولى فقال: لو كان الزوج قال تزوجت هذه وفلانة معها، كان القول قول الزوج، فلا يقع (على) المعروفة؛ لأن الزوج أنكر شرط الوقوع ها هنا إذ الشرط تزوّج امرأة معروفة موصوفة بصفة الأوّلية في التزوج، والأوّل اسم لفرد سابق، فالزوج يدّعي المقارنة (و) ينكر الفردية فينكر الأوّلية فيكون منكر شرط الوقوع، ألا ترى أنّه لو ثبت ما أقرّ به الزوج لا يقع الطلاق أصلاً، فلهذا كان القول قول الزوج، ولا تطلق المجهولة ها هنا وإن صدقت الزوج في دعوى نكاحها، بخلاف المسألة الأولى لأنَّ في المسألة

الأولى المجهولة إنّما تطلق بإقرار الزوج، والزوج ها هنا غير مقرّ بطلاق المجهولة. ولو نظر إلى امرأتين، فقال أوّل امرأة أتزوجها منكما طالق فتزوّج إحداهما، وادعت هي الطلاق، فقالت: تزوجني أوّلاً، وقال الزوج تزوجت الأخرى أوّلاً، فالقول قول المعروفة؛ لأنَّ الزوج أقرّ بوجود شرط وقوع الطلاق ها هنا، وهو تزوّج إحداهما أوّلاً، فلا يصدّق في صرف الطلاق عن المعروفة، ولو كان الزوج قال: تزوجت الأخرى معها فالقول قول الزوج، فلا تطلق المعروفة؛ لأنَّ الزوج منكر شرط وقوع الطلاق عليها ها هنا. وإذا قال الرجل كنت طلقت امرأة تزوجتها أو قال كانت لي امرأة فطلقتها، وادعت المعروفة أنّها هي وقال الزوج كانت لي امرأة أخرى غير المعروفة وإيّاها طلقت، فالقول قول الزوج لأنَّ الزوج لم يقرّ بالإيقاع في الحال في هذه الصورة، حتّى تتعيّن المعروفة لهذا الطلاق بحكم الظاهر، إنّما أقرَّ بالإيقاع فيما مضى في نكاح بما مضى؛ لأنَّ قوله كنت إخبار عن الماضي. فإن قيل هذا التعليل لا يستقيم في قوله فطلقتها؛ لأنَّ قوله طلقتها إيقاع في الحال، فيستدعي محلاً قائماً في الحال وليس ذلك إلا المعروفة، قلنا: قوله: وطلقتها عطف على قوله كانت لي امرأة، وقوله: كانت لي امرأة إخبار عن نكاح ماض فيصير قوله فطلقتها إخباراً عن نكاح ماض بحكم العطف. فإن قيل هذا الشكل بما لو قال كانت لي امرأة، فاشهدوا أنها طالق، فادعت المعروفة أنّها هي، فالقول قول المعروفة حتّى تطلق هي. وقوله إنّها طالق معطوف على نكاح ماض، ولم يجعل إخباراً عن طلاق ماض بحكم العطف قلنا: قوله: إنها طالق معطوف على قوله: فاشهدوا الإشهاد للحال، فقوله إنّما يكون إنشاء الطلاق للحال. ولو قال طلقت امرأة لي فاشهدوا، أو قال امرأة من نسائي طالق، وباقي المسألة على حالها يقع الطلاق على المعروفة في الحكم؛ لأنَّ هذا الكلام، أو قال امرأة لي طالق إيقاع للحال فيستدعي محلا قائماً للحال، والمعروفة تعينت لذلك بحكم الظاهر. وكذلك لو قال (254ب1) قد كنت طلقت امرأتي، قد كنت امرأة لي، قد كنت طلقت إحدى نسائي، وباقي المسألة بحالها يقع الطلاق على المعروفة في الحكم؛ لأنّه وإن أضاف الطلاق إلى الماضي إلا أنّه إنّما أضاف إلى الماضي طلاق امرأة مضافة إليه في الحال، والمرأة المضافة إليها في الحال من حيث الظاهر المعروفة. وكذلك لو قال: طلقت أول امرأة قد كنت تزوّجتها، أو قال: طلقت امرأة كانت لي، وباقي المسألة على حالها تطلق المعروفة؛ لأنَّ قوله طلقت إيقاع في الحال ومحله في الحال المعروفة بحكم الظاهر، وكلّه من أيمان «الجامع» . وفي «المنتقى» ابن سماعة عن محمّد رحمة الله عليهما؛ إذا قال زينب امرأة طالق، فخاصمته زينب إلى القاضي في الطلاق، فقال: لي امرأة أخرى ببلدة كذا اسمها زينب وإياها عنيت، ولم يقم على ذلك بنيّة، فإنَّ القاضي يطلّق هذه المرأة، ويبينها منه إن كان

الطلاق بائناً فإن أحضر.... واسمها زينب وعرفها القاضي بذلك، فإنه يوقع الطلاق عليها ويرد إليه الأولى ويبطل طلاقها وكذلك هذا في العتق. وعن أبي يوسف رحمه الله أنّه يطلقهما جميعاً ويعتقهما جميعاً. وروى هشام عن محمّد رحمة الله عليهما إذا قال الرجل امرأته طالق، فاستقدم عليه امرأته فقال لي امرأة أخرى غائبة وإيّاها عنيت. قال: إن أقام البيّنة أن له امرأة أخرى غائبة سواها وقفت الأمر، ولم أوقع الطلاق حتّى يقدم إليّ الغائب، وعن أبي يوسف رحمه الله، فيمن قال: امرأته طالق وله امرأة معروفة فقال لي امرأة أخرى، وجاءت امرأة أخرى وادّعت أنها امرأته وصدقها الزوج في ذلك، فقال: إيّاها عنيت أو قال: اخترت أن أوقع الطلاق على هذه فإن أقام بيّنة على التزوّج بالمجهولة قبل الطلاق صرف الطلاق عن المعروفة، وإن لم يقم له بيّنة على ذلك، وقضى القاضي ببطلان المعروفة، ثمَّ قامت له بيّنة على التزوّج بالمجهولة قبل الطلاق، أو قبل أن يقضي القاضي ببطلان المعروفة، وقال الزوج عنيت بالطلاق المجهولة، فالقاضي يبطل ما قضى به من طلاق المعروفة ويردها إليه، ويوقع الطلاق على المجهولة. وكذلك لو كانت المعروفة قد تزوجت. وفي «المنتقى» أيضاً: إذا قال لامرأتي عليَّ ألف درهم، وله امرأة معروفة، ثمَّ قال لي امرأة أخرى والدّين لها، فالقول قوله. ولو قال: امرأته طالق على ألف درهم، فالطلاق والمال على امرأته المعروفة، فلا يصدق في صرفها إلى غيرها. ولو قال: امرأتي طالق، ثمَّ قال لامرأتي عليَّ ألف درهم، وله امرأة معروفة، فقال لي امرأة أخرى وإيّاها عنيت صدّق في حقّ المال، ولا يصدّق في حقّ الطلاق. وفي طلاق «الأصل» في باب الشهادة في الطلاق: إذا قال فلانة بنت فلان طالق، سمّى امرأة ونسبها، ثمَّ قال عنيت بذلك امرأة أجنبيّة هي على هذا الاسم والنسب، لم يصدّق قضاء. وإن قال هذه المرأة التي عنيتها امرأتي، وصدقته في ذلك وقع الطلاق عليها بإقراره، ولم يصدق في حقّ صرف الطلاق عن المعروفة إلا أن يشهد الشهود على نكاح هذه المرأة قبل الإيقاع، أو على إقرار الرجل، وهذه المرأة بالنكاح أو على إقرار المرأة المعروفة بذلك، فحينئذٍ يعين الزوج بالبيان أنّه أوقع الطلاق على أيّهما. وفيه أيضاً: إذا تزوّج امرأتين إحداهما نكاحاً صحيحاً، والأخرى نكاحاً فاسداً أو اسمهما واحد، فقال: فلانة طالق ثمَّ (قال) عنيت التي نكاحها فاسداً لم يصدّق قضاء، وكذلك إذا قالك إحدى امرأتي طالق ثم قال: عنيت التي نكاحها فاسد لم يصدق قضاء؛ لأنَّ التي نكاحها فاسد لم تصر امرأة له فكأنّه قال: إحدى امرأتيّ طالق وليس له إلا امرأة واحدة، ولو قال إحداكما طالق ثمَّ تطلق التي صحّ نكاحها، إلا أن يعنيها. ولو قال في

الفصل الثالث عشر: في طلاق الغاية والظرف

يده عبدان قد اشترى أحدهما شراءً صحيحاً، واشترى الآخر شراءً فاسداً فقال أحدكما حر أو قال أحد عبدي حرّ فهما سواء، فالقول في البيان قوله والله أعلم. الفصل الثالث عشر: في طلاق الغاية والظرف إذا قال لها أنتِ طالق من واحدة إلى ثنتين، أو ما بين واحدة إلى ثنتين، فهي واحدة أو من واحدة إلى ثلاث أو ما بين واحدة إلى الثلاث فهي ثنتان وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله إن قال من واحدة إلى ثنتين، أو ما بين واحدة إلى ثنتين يقع ثنتان، وإن قال ما بين واحدة إلى ثلاث أو من واحدة إلى ثلاث فهي ثلاث، وقال زفر رحمه الله: (إن قال من واحدة إلى ما بين لا يقع شيء) ، وإن قال من واحدة إلى ثلاث يقع واحدة. والحاصل أنَّ على قول أبي حنيفة رحمه الله تدخل الغاية الأولى دون الثانية وعلى قولهما تدخل الغايتان، وعلى قول زفر رحمه الله لا تدخل الغايتان وهو القياس. إلا أنَّ أبا حنيفة رحمه الله يقول في إدخال الغاية الأولى ضرورة؛ لأنَّ الثانية لا وجود لها بدون الأولى، وهذه الضرورة معدومة في الثالثة؛ لأنَّ الثانية لها وجود بدون الثالثة، فبقيت الثالثة على أصل القياس، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لو نوى واحدة في قوله من واحدة من ثلاث ديّن فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنّه أخرج الغاية الأولى، فالكلام محتملة إلا أنَّه خلاف الظاهر. وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنّه لو قال أنتِ طالق ما بين واحدة وثلاث، فهي واحدة؛ لأنّه لم يجعل الثلاث غاية لما أوقع ما بين العددين، وذلك واحدة. ولو قال ما بين واحدة إلى أخرى أو من واحدة إلى واحدة، فهي واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله، وقد اختلف المشايخ على قولهما، قال بعضهم: يقع ثنتان، وهكذا ذكر في «تجريد القدوري» ؛ لأنَّ عندهما تدخل الغايتان، وقال بعضهم تقع واحدة؛ لأنّه يحتمل أن يكون معنى قوله: من واحدة إلى واحدة منها وإليها، فلا يقع أكثر من واحدة بالشّك وهكذا ذكر في «شرح القدوري» وهو الصحيح. ولو قال: من واحدة إلى ثنتين وقعت واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما يقع ثنتان هكذا ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» قال: وقياس مذهبهما أن يقع الثلاث؛ لأنّ عندهما تدخل الغايتان، ولكن الوجه فيه أنَّ قوله من واحدة إلى ثنتين مجمل يحتمل أنّه جعل تلك الواحدة من الثنتين، كأنّه قال من واحدة هي من الثنتين، ويحتمل أنّه

جعل الواحدة (255أ1) غير الثنتين فلا تقع الزيادة على الثنتين بالشّك، وهذه المسألة تؤيّد قول من يقول في قوله من واحدة إلى واحدة إنّه تقع واحدة عندهما. وكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله أنّه قال: إذا قال أنتِ طالق ثنتين إلى ثنتين إنّه تقع ثنتان لما قلنا إنّه مجمل يحتمل أنّه جعل الابتداء هو الغاية، كأنّه قال من ثنتين إليهما. ولو قال أنتِ طالق واحدة في ثنتين، إن نوى واحدة وثنتين أو نوى واحدة مع ثنتين يقع الثلاث، وكذلك إذا قال أنتِ طالق واحدة في ثلاث ونوى واحدة وثلاثاً، أو نوى واحدة مع ثلاث تقع الثلاث، وكذلك إذا قال أنتِ طالق ثنتين في ثنتين، ونوى ثنتين وثنتين أو ثنتين مع ثنتين تقع الثلاث، وإن لم يكن له نيّة أو نوى الضرب والحساب، ففي قوله واحدة في ثنتين تقع واحدة، لا غير. وفي قوله واحدة في ثلاث كذلك، وفي قوله ثنتين في ثنتين تقع ثنتان لا غير. والحاصل أنَّ الواقع في جنس هذا المعروف لا غير عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله وهذا لأنَّ بالضرب لا يكبر الشيء في ذاته بل يكبر أجزاؤه ضرورة، فواحدة في ثنتين واحدة لها جزء وواحدة في ثلاث واحدة لها ثلاثة أجزاء، وإذا لم يكثر ذات الطلاق بقيت طلقة واحدة، فتقع طلقة واحدة لهذا. ولو قال لها أنتِ طالق إلى الليل، أو إلى أشهر أو قال إلى سنة، فهو على ثلاثة أوجه إمّا أن ينوي الوقوع للحال ويجعل الوقت للامتداد وفي هذا الوجه يقع الطلاق للحال، وإما أن ينوي الوقوع بعد الوقت المضاف إليه، وفي هذا الوجه يقع الطلاق بعد مضي الوقت المضاف إليه إن لم يكن له نيّة أصلاً لا يقع الطلاق إلا بعد مضي الوقت المضاف إليه، عندنا، خلافاً لزفر رحمه الله، فإنّه يقول بوقوع الطلاق للحال وببطلان الغاية وقاسه على ما إذا جعل الغاية مكاناً، بأن قال لها أنتِ طالق إلى مكة أو إلى بغداد، وإن هناك تبطل الغاية ويقع الطلاق للحال كذا ها هنا. وإنا نقول كلام العاقل لا يلغى ما أمكن العمل به، وقد أمكن العمل ها هنا بمجاز مكة إلى بغداد بحقيقتها. بيانه: وهو أنَّ كلمة إلى كما تذكر ويراد به الغاية يذكر ويراد بها بَعْد كقول الرجل في العرف والعادة أنا خارج من هذا البلد إلى عشرة أيام، ويريد به أنّه خارج بعد عشرة أيام فجعلنا مجازاً عن بَعْد فصار تقدير المسألة، كأنّه قال لها أنتِ طالق بعد شهر أو قال سنة، ولو صرّح بذلك لا يقع الطلاق إلا بعد مضيّ شهر كذا ها هنا، بخلاف قوله: إلى مكان كذا، فإنَّ هناك كما تعذر العمل بحقيقة كلمة إلى تعذر العمل بمجازها بجعلها عبارة عن بعد، لأنّه لو نصّ على البعد ثمة، فإن قال أنتِ طالق بعد مكة، أو بعد بغداد يقع الطلاق في الحال، وفي قوله بعد شهر لا يقع الطلاق في الحال، ولو قال لها أنتِ طالق إلى الصيف أو قال إلى الشتاء، فهذا وما لو قال إلى الليل أو إلى الشهر سواء، وكذلك إذا قال: إلى الربيع أو إلى الخريف. وتكلّموا في معرفة هذه الفصول: قال بعضهم متى اتصل الحرّ على الدوام كان صيفاً، وإذا انكسر الحرّ ولم يتصل البرد كان خريفاً، وإذا اتصل البرد كان شتاءً وإذا

انكسر البرد ولم يتصل الحرّ كان ربيعاً. قال بعضهم: الشتاء ما يحتاج فيه إلى الوقود والثوب المحشو، والصيف ما لا يحتاج فيه إلى البيان، ولا يحتاج فيه إلى الوقود والثوب المحشو. وقال بعضهم: الصيف ما يكون (فيه) على الأشجار الأوراق والثمار، والخريف ما يكون (فيه) على الأشجار الأوراق، ولا يكون عليها الثمار، والشتاء ما لا يكون (فيه) على الأشجار الثمار ولا الأوراق، والربيع ما يخرج (فيه) من الأشجار والأوراق. إذا قال لها أنتِ طالق في الدار أو في مكة طلقت، وإن لم يكن في الدار، ولا في مكة، وكذلك إذا قال لها أنتِ طالق في الشمس وهي في الظلّ كانت طالقاً للحال: لأنه جعل هذه الأشياء ظرفاً للطلاق وإنهاءً وجعل الموجود ظرفاً يوجب الوقوع للحال، كجعل الموجود شرطاً. وكذا إذا قال لها أنتِ طالق في ثوب كذا، وعليها ثوب آخر، فهي طالق وطريقه ما قلنا، ولو قال لها أنتِ طالق في ذهابك إلى مكة أو في دخولك دار فلان، أو في لبسك ثوب كذا لم تطلق حتى تفعل ذلك الفعل؛ لأنّه جعل طرف الطلاق شيئاً معدوماً فيعتبر بما لو جعل شرط وقوع الطلاق شيئاً معدوماً وهناك لا يقع الطلاق ما لم يوجد الشرط، كذا ها هنا. ولو قال عنيت بقولي أنتِ طالق في الدّار أو في مكّة إذا أتيت مكّة إذا دخلت الدّار صدّق ديانة لا قضاء، ولو قال لها أنتِ طالق في صلاتك لم تطلق حتّى تركع وتسجد وقيل حتّى ترفع رأسها من السجدة حتّى توجد القعدة، ولو قال: في حيضتك أو في طهرك، فإن كان موجوداً وقع وإلا يقف على وجوده، ولو قال لها: أنتِ طالق في الغد أو قال غداً، ولا نيّة له يقع الطلاق حتّى يطلع الفجر من الغد، وإن قال نويت به الوقوع في آخر الغد فإنّه يصدّق فيما بينه وبين الله تعالى في الفصلين؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه لأنّه ذكر الكلّ، وأراد به البعض وهل يصدّق قضاءً؟ أجمعوا على أنّه لا يصدّق في قوله غداً. واختلفوا في قوله في الغد قال أبو حنيفة رحمه الله يصدّق وقالا: لا يصدق لأنّه نوى خلاف الظاهر لأنّ الغد اسم من أوّل النهار فنيّة آخر النهار تكون بخلاف، ولأبي حنيفة رحمه الله أنَّ قوله: أنتِ طالق في الغد إيقاع في الغد، والطلاق لا يقع في جميع أجزاء الغد، وإنّما يقع في جزء منه، ففي أيِّ جزء وقع كان الواقع في الغد، فنيّة الجزء الآخر، وهو صالح للوقوع فيه لا يكون نيّة، بخلاف الظاهر بخلاف قوله غداً؛ لأنَّ هناك جعلها طالقاً غداً والغد اسم من أوّل النهار إلى آخره، فما لم يقع الطلاق في الجزء الأوّل لا تكون طالقاً من أوّل النهار إلى آخره، فإذا نوى آخر النهار، فقد نوى خلاف الحقيقة، وخلاف الظاهر. وعلى هذا إذا قال لها أنتِ طالق رمضان أو قال في رمضان، وعلى هذا إذا قال لها أنتِ طالق شهراً أو في الشهر، ولو قال لها أنتِ طالق في رمضان، وهو على أوّل رمضان يأتي، وكذلك إذا قال لها أنتِ طالق في يوم الخميس، فهو على أوّل خميس يأتي، ولو

الفصل الرابع عشر: في الشك في إيقاع الطلاق وفي الشك في عدد ما وقع وفي الإيجاب المبهم

قال عنينا الرمضان الثاني لا يصدّق في القضاء؛ لأنّه خلاف (255ب1) الظاهر ويصدّق فيما بينه وبين الله تعالى، والله أعلم بالصواب. الفصل الرابع عشر: في الشك في إيقاع الطلاق وفي الشك في عدد ما وقع وفي الإيجاب المبهم إذا قال لامرأته أنتِ طالق أو لا شيء، أو قال أنتِ طالق واحدة أو لا شيء أو قال: أو لا، يقع واحدة عند محمّد رحمه الله، وهو قول أبي يوسف رحمه الله أوّلاً، ثمَّ رجع أبو يوسف رحمه الله، فقال: لا يقع شيء، وأمّا إذا قال أنتِ طالق ولم يذكر عدداً ثمَّ قال أو لا أو قال لا شيء، فإنْ قال أو لا، لا يقع شيء باتفاق الروايات. وإن قال: أو لا شيء ذكر في رواية أبي سليمان أنه لا يقع شيء من غير ذكر خلاف، وذكر في رواية أبي حفص رحمه الله أنّه على الاختلاف الذي تقدم، وهكذا ذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «مختلفاته» ذكر شيخ الإسلام رحمه الله هذه الجملة في «شرحه» وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمّد رحمهما الله: إذا شكَّ أنه طلّق واحدة أو ثلاثاً، فهي واحدة حتّى يستيقن، أو يكون أكثر ظنّه على خلافه. وإن قال الزوج عزمت على أنها ثلاث، أو هي عندي على أنّها ثلاث، أضع الأمر على أشدّه، (فأخبره غد وأحضروا) ذلك المجلس، وقالوا كانت واحدة قال إذا كانوا عدولاً صدقهم وأخذ بقولهم. وعن هشام رحمه الله قال: سألت أبا يوسف رحمه الله عن رجل حلف بطلاق امرأته، ولا يدري بثلاث حلف أو بواحدة، قال: يتحرّى الصواب فإن: استوى ظنّه عمل بأشد ذلك عليه. ذكر في «القدوري» : إذا ضمَّ على امرأته ما لا يقع عليه الطلاق مثل الحجر والبهيمة، وقال: إحداكما طالق أو قال هذه طالق، أو هذه طلقت امرأته في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمّد رحمه الله: لا تطلق؛ لأنّ كلمة أو إذا دخلت بين الشيئين توجب الشكّ، فصار في حقّ المرأة كأنّه قال لها أنتِ طالق أو غير طالق. ولهما: أن الشّك إنّما يقع بحكم كلمة أو إذا صحّ ضم غير المنكوحة إلى المنكوحة والضمّ لم يصح ها هنا، لانعدام المحليّة في حقّ المضموم أصلاً فصارت المنكوحة متعينة للإيقاع. ولو جمع بين منكوحته وبين رجل، وقال: إحداكما طالق، أو قال هذه أو هذه يقع الطلاق على منكوحته في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يقع: لأنّ الرجل ليس بمحلَ للطلاق، فكان كالبهيمة، ولأبي حنيفة رحمه الله أنّ الرجل محلّ إضافة الطلاق إليه، ألا ترى أنّه لو أضاف الإبانة إلى نفسه بأن قال لامرأته أنا منك بائن، ونوى الطلاق صحّ، والإبانة طلاق.g وكذلك حكم الطلاق وهو الحرية ثبت في حقّه. وإذا

جاز وصف الرّجل بالطلاق لم يكن الضمّ لغواً من كلِّ وجه، ولو ضمّ إلى امرأته امرأة أجنبيّة وقال إحداكما طالق، أو قال هذه طالق أو هذه لم تطلق امرأته إلا بالثلاثة لأنّ الأجنبيّة محلّ لذلك خبراً إن لم تكن محلاً له إنشاء، وهذه الصيغة حقيقة إخبار، فإذا كانت الأجنبيّة محلاً لما وضعت هذه الصيغة له من طريق الحقيقة صح الضمّ، فوقع الشك ولو قال في هذه الصورة طلقت إحداكما طلقت امرأته من غير نيّة، ذكره في طلاق «الأصل» . وفي «المنتقى» : إذا خاطب الرّجل غيره: امرأتي طالق أو بع عبدي هذا، فباع عبده يسقط الطلاق عن امرأته. وفيه أيضاً؛ إذا قال لامرأته أنتِ طالق أو أنا لست برجل، أو أنا غير رجل، فهي طالق وهو كاذب، ولو قال أنتِ طالق أو أنا رجل فهو صدق ولا تطلق، وفي موضع آخر منه لو قال لها: أنتِ طالق أو ما أنا برجل فهي طالق، وهذا منه على التهديد ولو قال أو هذه الأسطوانة من ذهب، والأسطوانة من ساج، فهي طالق كأنّه قال إن لم تكن من ذهب. وفيه أيضاً: رجل أمَّرَ امرأتين قال لإحداهما أمرك بيدك أو هذه طالق، فأشار إلى الأخرى. فإن اختارت المفوضة إليها الأمر نفسها قبل أن تقوم من مجلسها بطل الطلاق عن الأخرى وإن قامت قبل أن تختار نفسها وقع الطلاق على الأخرى ذكر في «الأصل» فيمن كان له ثلاث نسوة، قال: هذه طالق (و) هذه وهذه طلقت الثالثة في الحال، ويخيّر الزوج بين الأولى والثانية. وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمّد رحمة الله عليهما أنَّ الثالثة لا تطلق للحال، ويخيّر الزوج بين الإيقاع على الأولى وبين الإيقاع على الثانية، والثالثة. وفي «نوادر ابن سماعة» أيضاً: رجل له أربع نسوة، فقال: هذه طالق أو هذه وهذه أو هذه وقع على إحدى الأوليين إحدى والأخريين. ولو قال: هذه طالق أو هذه وهذه وهذه طلقت الثالثة والرابعة، وإليه الخيار في الأوليين، ولو قال هذه طالق وهذه أو هذه وهذه طلقت الأولى والرابعة، وله الخيار في الثانية والثالثة. وذكر هشام في «نوادره» عن محمّد رحمهما الله: إذا قال لامرأته ولأجنبيّة إحداكم طالق واحدة والأخرى ثلاثاً وقعت الواحدة على امرأته. قال محمّد رحمه الله في «الزيادات» : رجل له امرأتان رضيعتان فقال: إحداكما طالق ثلاثاً طلقت إحداهما، والبيان إليه، الأصل في هذا أنَّ إيقاع الطلاق في المجهول صحيح ويتعلّق نفاذه ووقوعه بالبيان، والطلاق يقبل التعليق بسائر الشروط، فيقبل التعليق بالبيان ويقع الموقع بالبيان لأنّ التجهيل كان منه، ولو أنّه لم يبن الطلاق في إحداهما حتّى جاءت امرأته وأرضعتهما معاً أو على التعاقب بانتا جميعاً، وهذه المسألة دليل على أنَّ الطلاق المبهم غير نازل في المحل أصلاً، إذ لو كان نازلاً كانت الأجنبيّة طارئة بعد بينونة إحداهما، وإنّها لا توجب الحرمة. وذكر محمّد رحمه الله في «الأصل» ما يدلُّ على أنَّ الطلاق المبهم نازل في

المحلّ، فإنّه ذكر أنَّ رجلاً تحته أربع نسوة من الكوفيات لم يدخل بهنّ، فقال إحداكن طالق ثم تزوج مكيّة جاز نكاحها ولو لم يكن الطلاق المبهم نازلاً في حقّ المحلّ كان هذا تزوجاً بالخامسة، والتزوّج بالخامسة حرام. واختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا في المسألة روايتان، ورواية «الأصل» الطلاق المبهم نازل في المحل وعلى رواية «الزيادات» غير نازل في المحل، فعلى قول هذا القائل على رواية «الأصل» لا تقع الفرقة في مسألة الرضاع، وعلى رواية «الزيادات» تقع، وفي مسألة النكاح على رواية «الزيادات» : لا يجوز التزوّج بالمكيّة، وعلى رواية «الأصل» يجوز (256أ1) وبعض مشايخنا قالوا: ما ذكر في «الزيادات» قول أبي حنيفة رحمه الله فإنَّ الطلاق المبهم عنده غير نازل في المحل أصلاً كالعتاق المبهم، وما ذكر في «الأصل» قولهما فإنَّ الطلاق المبهم عندهما نازل في المحلّ، كالعتاق المبهم وعلى قول هذا القائل لا يجوز التزوّج بالمكيّة على قول أبي حنيفة رحمة الله عليه ولا تقع الفرقة في مسألة الرضاع على قول محمّد رحمه الله. وبعض مشايخنا رحمهم الله: قالوا الطلاق المبهم والعتاق المبهم لا ينزلان أصلاً بالاتفاق إلا أنْ يوجد من الموقع فعلاً يصير به موقعاً في العين، كما في العبدين لو باع أحدهما أو وهب أو تصدّق بالاتفاق. وكما في الجاريتين إذا وطىء إحداهما عند أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله، فإنَّ في هذه الصورة يصير موقعاً العتق في المعين بصيغته إذا أثبت هذا، فنقول في مسألة النكاح وجد من الزوج فعل يستدل به على إيقاع الطلاق في المعين، وهو إقدامه على نكاح المكيّة، فإنَّ الظاهر من حال العاقل أن يقصد صحّة النكاح، ولا صحّة لنكاح المكيّة إلا بعد إيقاع الطلاق في إحدى الكوفيات فيصير موقعاً في إحدى الكوفيات. أمّا في مسألة الرضاع لم يوجد من الزوج بعد قوله: إحداكما طالق فعل يستدل به على إيقاع الطلاق في إحداهما، فكان النكاح بائناً فيهما من كلِّ وجه، وبعضهم قالوا الطلاق المبهم نازل في المحل في حقّ معنى يرجع إلى الموقع ويختص به، غير نازل في المحلّ في حقّ معنى يرجع إلى المحل ويختص به، والعتاق المبهم كذلك وهو الأصح، وهذا لأنّه لا تنكير من جانب الموقع، وإنّما التنكير من جانب المحل فكل حكم يختص بالموقع فالطلاق واقع فيه. إذا ثبت هذا فنقول: حلّ التزوّج بالمكيّة حكم يختص وكل حكم يختص بالمحل فالطلاق غير واقع فيه إذا ثبت هذا فنقول حلّ التزوّج بالمكيّة حكم يختص بالموقع، فكان الطلاق المبهم نازلاً فيه، فهذا تزوّج بالرابعة لا بالخامسة، وأمّا جهة الأختين جمعاً حكم يختص بهما لأنّه إنّما حرم الجمع بين الأختين صيانة لهما عن قطيعة الرحم، والطلاق المبهم غير نازل في حقهما، فيصير جامعاً بين الأختين وعن (هذا) قلنا إن العدّة في الطلاق المبهم تعتبر من وقت البيان، حتّى إنّه إذا كانت له امرأتان دخل بهما أو أكثر من ذلك، فطلق إحداهما بغير عينها ثم إنه عين الطلاق في إحداهما فإنّه تعتبر العدّة من وقت

التعيين؛ لأنَّ العدّة حكم يختص بالمحل، والطلاق المبهم غير نازل في حقّ حكم يختصّ بالمحل. قال في «الزيادات» : رجل تحته حرّة وأمة قد دخل بهما، فقال إحداكما طالق ثنتين ثمّ عتقت الأمة، ثمَّ بيّن الزوج الطلاق والمعتقة قال تحرم حرمة غليظة، ولا يبطل ميراثها إذا كان الإعتاق في حالة الصحّة، والبيان في حالة المرض. واعلم بأنَّ البيان في الإيجاب المبهم إنشاء من وجه إظهار من وجه إنشاء في حقّ حكم يرجع إلى المحلّ ويختص به؛ لأنَّ الإيجاب المبهم غير نازل في حقّ المحلّ أصلاً على أصح الأقوال، فكان البيان إظهاراً في حقّه. إذا ثبت هذا، فنقول: الميراث حكم يختص بالمرأة، فاعتبر البيان فيه إنشاءً فصار الزوج فارّاً فأمّا حرمة الغليظة حكم يختصّ بالزوج، فاعتبر البيان فيه إظهار إمكان الطلاق واقعاً على الأمة، والأمة تحرم حرمة غليظة بتطليقتين ثمَّ إذا قربت المعتقة كان لها ربع الميراث، وللحرة الأصلية ثلاثة أرباع الميراث لأنّ البيان من الزوج في حقّ الميراث لم يصح، فيحال كأنّه لم يكن، ولو عدم البيان كان الميراث ها هنا أرباعاً؛ لأنّه إن وقع الطلاق على الحرة الأصلية كان للحرة الأصلية نصف الميراث، لأنها لا تبين بالطلقتين فيكون نصف الميراث لها والنصف للمعتقة وإن وقع على المعتقة كان للحرّة الأصلية كلّ الميراث، فنصف الميراث ثابت لها بيقين، والنصف الآخر يثبت في حال دون حال فينتصف، فصار للحرّة الأصلية ثلاثة أرباع الميراث لهذا، وعلى الحرّة الأصلية عدّة الوفاة لا يعتبر فيها الحيض، وعلى المعتقة أربعة أشهر وعشر يستحمل فيها ثلاث حيض، وهما عند أبي حنيفة ومحمّد رحمهما الله بناء على أنَّ امرأة الفار تعتد بأبعد الأجلين عندهما. وأمّا عند أبي يوسف رحمه الله امرأة الفار تعتد بعدّة الطلاق لا غير فتجب على المعتدة عدّة الطلاق لا غير، فكان ينبغي أن لا يعتبر في حقّها ثلاث حيض؛ لأنَّ اعتبار شبه الإظهار عليها حيضتان؛ لأنَّ الطلاق كان في حالة الرّق، وباعتبار شبه الإنشاء عليها عدّة الوفاة، فثلاث حيض من أين تجب. ولو كانتا أمتين فقال الزوج إحداكما طالق ثنتين، ثمَّ أعتقا جميعاً ثمَّ مرض، وبين الطلاق في إحداهما فإنها تحرم حرمة غليظة لما بيّنا، والميراث بينهما نصفان؛ لأنَّ البيان في حق الميراث كالمعدوم، ولو عدم البيان كان الميراث بينهما؛ لأنَّ إحداهما وارثة بيقين وهي التي ارتفع عليها الطلاق، والأخرى ليست وارثة بيقين، وهي التي وقع عليها الطلاق، وليست إحداهما أولى من الأخرى، فتكون بينهما. وعلى المعتقة للطلاق أربعة أشهر وعشراً فيها ثلاث حيض احتياطاً، وعلى الأخرى أربعة أشهر لا حيض فيها؛ لأنَّ زوجها مات عنها، وهي منكوحة. رجل تحته امتان لرجل، فقال المولى إحداكما حرة، ثمَّ قال الزوج التي أعتقها المولى طالق ثنتين كان البيان إلى المولى لا إلى الزوج؛ لأنَّ الأصل في هذا المولى؛ لأنَّ الزوج بيّن إيقاع الطلاق على إعتاق المولى، وإذا بين المولى العتق في إحداهما طلقت

هي ثنتين ويملك الزوج مراجعتها؛ لأنَّ الطلاق إنّما يقع عليها بعد العتق؛ لأنَّ الزوج هكذا أوقع، فصادفها الطلاق هي حرّة والحرّة لا تحرم حرمة غليظة بتطليقتين. ولو كان الزوج هو الذي بدأ، فقال إحداكما طالق ثنتين، ثمَّ قال المولى التي طلقها الزوج حرّة فها هنا خيار البيان إلى الزوج؛ لأنَّ الزوج صاحب أصل وإذا بين الزوج الطلاق في إحداهما عتقت وحرمت حرمة غليظة، لأنَّ الطلاق صادفها وهي أمة فتحرم حرمة غليظة، وتعتد بحيضتين. رجل تحته أمتان لرجل قال المولى إحداكما حرّة، ثمَّ قال الزوج التي أعتقها المولى طالق ثم مات المولى قبل البيان عتق من كلِّ واحدة منهما نصفها؛ لأنَّ بيان العتق قد فات لموت المولى ويشيع العتق فيهما، ثمَّ يخير الزوج في الطلاق يوقعه على أيهما شاء وإن كان الزوج صاحب تبع؛ لأنَّ البيان في حقّ صاحب الأصل مات على وجه لا يرجى وجوده، ولا يمكن إلغاء الطلاق لصدوره من أهله في محلّه، ولا يمكن القول بشيوع الطلاق؛ لأنَّ الطلاق لا يقبل الشيوع، فمسّت (256ب1) الضرورة إلى جعل البيان إلى الزوج. وهذا بخلاف ما لو غاب المولى فإنَّ هناك لا يؤمر الزوج بالبيان لأن هناك لا ضرورة؛ لأنّه لم يقع اليأس عن بيان صاحب الأصل، ولا كذلك فصل الموت، ولو كان الطلاق ثنتين هل يحرم حرمة غليظة؟ لم يذكر هذا الفصل محمّد رحمه الله في «الكتاب» ، وقد اختلف المشايخ فيه، وحكى الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني رحمه الله؛ أنها لا تحرم؛ لأنَّ الطلاق صادفها وهي حرّة؛ لأنَّ العتق سار فيهما لموت المولى، وغيره من المشايخ قال على قول أبي حنيفة رحمه الله ينبغي أن يحرم حرمة غليظة خلافاً لهما؛ لأنَّ العتق وإن شاع فيهما إلا أنّه عتق من كلِّ واحدة منها نصفها والعتق عند أبي حنيفة رحمه الله يتجزأ؛ فكانت كلّ واحدة منهما معتق البعض ويعتق البعض في معنى المكاتب، فصادفها الطلاق وهي كاتبة، والمكاتبة تحرم حرمة غليظة بتطليقتين. قال محمّد رحمه الله في «الجامع» : إذا كان للرجل امرأتان دخل بهما، فقال لهما أنتما طالقان طلقت كل واحدة منهما تطليقة رجعية، فإن لم يراجع واحدة منهما حتّى (قال) لهما إحداكما طالق ثلاثاً كان له البيان، وإن لم يبين حتّى انقضت عدّة إحداهما تعيّنت الثانية للثلاث؛ لأنَّ التي انقضت عدّتها خرجت من أن تكون محلا للبيان؛ لأنَّ البيان إيقاع من وجه، وإظهار للواقع من وجه، وأيُّ الأمرين اعتبرنا يجب أن يشترط لصحّة البيان قصداً ما يشترط لصحة الإيقاع إن اعتبرناه إيقاعاً فظاهر، وإن اعتبرناه إظهاراً للواقع فلأنَّ ولاية الإظهار إنما تستفاد بولاية الإيقاع على ما عرف، والتي انقضت عدتها ليست بمحلّ للإيقاع ابتداء، فلا يكون محلاً للبيان، فتتعيّن الأخرى للثلاث، وإن انقضت عدتهما معاً لم تقع الثلاث على واحدة منها. قالوا: أراد به أن لا تقع الثلاث على واحدة منهما بعينها، وإما يقع الثلاث على واحدة منهما لا بعينها، ثمَّ قال: وليس له أن يوقع الطلاق على واحدة منهما بعينها، قالوا

أراد به ذلك أنّه ليس له أن يوقع على واحدة منهما بعينها مقصوداً بالبيان، أما له ذلك حكماً للنكاح بأن يتزوّج إحداهما بعد انقضاء العدّة، ولو انقضت عدتهما ثمَّ أراد أن يتزوّج بهما معاً لم يجز؛ لأنّ إحداهما مطلقة بالثلاث لا تحل له إلا بعد زوج آخر، وغير المطلقة غير معلوم والنكاح في المجهولة لا يجوز. ولو تزوّج بإحداهما جاز وتتعيّن الأخرى للطلقات الثلاث أمّا جواز نكاحها؛ لأنَّ المقتضي لحلّ المحليّة موجود في حقها وهو كونها أنثى من بنات آدم عليه السلام والمزيل، وهو الطلقات الثلاث لا ندري هل صادفت هذه أم لا. وإذا جاز نكاح هذه تعيّنت الأخرى للثلاث ضرورة؛ لأن من ضرورة صحة نكاح هذه انتفاء الثلاث عن هذه، ومن ضرورة انتفاء الثلاث عن هذه تتعيّن الأخرى للثلاث. وقد ملك البيان ضرورة. وإن كان لا يملكه مقصوداً، ومثل هذا جائز ولو لم يتزوّج واحدة منهما حتّى تزوجت إحداهما زوجاً، ودخل بها ثمَّ فارقها أو مات عنها، وانقضت عدّتها ثمَّ نكحهما الأوّل جميعاً جاز؛ لأنَّ الزوج الثاني عرف محلّلاً بالكتاب، ويحتمل أنّه أصاب محلا ثبتت فيه الحرمة وقع الشك في بقاء ذلك التحريم، ودليل الحلّ موجود قطعاً، فلا يمتنع عمل دليل الحلّ الموجود قطعاً عند وقوع الشكّ في بقاء المانع، وكذلك لو انقضت عدّتها ثمّ ماتت إحداهما، فتزوّج الثانية جاز نكاحها؛ لأنّه لم يوجد في الميتة ما يوجب تعينها للواحدة حتّى تتعيّن الحيّة للثلاث؛ لأنَّ الموت كما يحل المطلقة بالواحدة يحلّ المطلقة بالثلاث، بخلاف ما إذا كانتا حيتين وتزوّج بإحداهما؛ لأن النكاح لا يصحّ إلا في المطلقة بواحدة فتعيّنت المتزوّجة للواحدة. قال في «الزيادات» : رجل تحته أمتان لرجل لم يدخل بها، فقال: إحداكما طالق ثنتين ثمَّ اشترى إحداهما تتعيّن الأخرى للطلاق؛ لأن المشتراة خرجت من أن تكون محلاً لإنشاء الطلاق لزوال ملك النكاح عنها، لوجود ملك اليمين المنافي لملك النكاح فخرجت من أن تكون محلاً للبيان، فتتعيّن الأخرى للطلاق كما لو ماتت إحداهما. ولو اشتراهما معاً يبقى الطلاق منهما مجملاً، ولا يملك الزوج البيان في إحداهما؛ لأنّ كلّ واحدة منهما لم تبق محلا للبيان، ولو وطىء إحداهما بملك اليمين تعينت الأخرى للطلاق؛ لأنَّ حمل أمره على الصلاح واجب، وذلك بحمل وطئه على الحلال وذلك بانتفاء الطلاق عنها لأنَّ الأمة المطلقة بتطليقتين كما لا تحل بملك النكاح لا تحل بملك اليمين، ومن ضرورة انتفاء الطلاق عنها تعيين الأخرى للطلاق، فقد ملك البيان ضرورة وإن لم يملك قصداً، وقدّم نظيره من مسألة «الجامع» . قال في «الزيادات» أيضاً: رجل قال لامرأتين له في صحّته وقد دخل بهما إحداكما طالق ثلاثاً، ثمَّ مرض مرض الموت وبين الطلاق في إحداهما، ثمَّ مات قبل انقضاء عدّة المطلقة، فإنّهما ترثان وهذا لما ذكرنا قبل هذا أنَّ البيان في حقّ حكم الميراث بمنزلة الإنشاء، فيصير الزوج به فارّاً كما لو أنشأ الطلاق في حالة المرض. وإن كانت له امرأة أخرى غيرهما لم يقل لها شيئاً من ذلك كان نصف الميراث

لتلك المرأة؛ لأنّه لا يزاحمها في الميراث من هاتين المرأتين إلا واحدة، والنصف الآخر بين هاتين بالسويّة لعدم الإقدامية، وإن لم يبيّن الزوج الطلاق في إحداهما حتّى ماتت إحداهما والزوج مريض، فإنّه تتعيّن الأخرى للطلاق ضرورة ولا ترث، وإن كان البيان إنشاء في حقّ المحلّ؛ لأنَّ البيان ها هنا حصل حكماً لا بصنع من جهة الزوج، فلا يصير الزوج فارّاً وإن كانت له امرأة أخرى كان لها كلُّ الميراث؛ لأنَّ الميتة صارت محرومة عن الميراث بالموت، والحيّة صارت محرومة بوقوع الطلاق عليها نحو ما قلنا فكان كلّ الميراث للأخرى إن كانت، وإن لم تمت واحدة منهما حتّى عيّن الزوج الطلاق في إحداهما في مرض موته، ثمَّ ماتت إحداها قبل موته ولا زوجة له غيرهما، فإن كانت التي ماتت هي التي أوقع عليها الطلاق كان الميراث كلّه للأخرى. وإن كانت التي ماتت هي الأخرى وتعيّنت التي عين الطلاق فيما كان للمعيّنة نصف الميراث، والفرق أنّ الزوجيّة التي هي (257أ1) سبب الإرث قد انقطعت في حقّ المعينة بحكم البيان، ولهذا حرّم الوطء، ولكن قامت العدّة مقام الزوجيّة في حقّ الميراث بخلاف القياس في القدر الذي كان لها، وذلك النصف أمّا في حقّ غير المعيّنة الزوجيّة قائمة من كلّ وجه، وإنها سبب لاستحقاق جميع الميراث إلا أن بحكم المزاحمة كان لها نصف الميراث، وقد زالت المزاحمة ها هنا فتستحق جميع الميراث، وإن كانت للزوج امرأة أخرى لم يقل لها شيئاً من هذه المقالة ففيما إذا ماتت المعيّنة للطلاق كان الميراث بين الباقيتين نصفين، وفيما إذا بقيت المعينة للطلاق كان للمعينة ربع الميراث، وللأخرى ثلاثة أرباع الميراث. ولو قال لامرأتين له إحداكما طالق، وماتت إحداها قبل البيان حتّى تعيّنت الأخرى للطلاق، قال الزوج: عنيت الميتة بالطلاق لا يقبل قوله في حقّ صرف الطلاق عن الباقية، وقبل قوله في حقّ إبطال حقّه في ميراث الميتة. وكذلك إذا ماتتا جميعاً إحداهما بعد الأخرى، ثمَّ قال عنيت التي ماتت أوّلاً لم يَرث منهما؛ لأنَّ ميراثه عن الثانية سقط لتعيّنها للطلاق حكماً بموت الأولى، وعن الأولى سقط باعترافه، ولو ماتتا معاً أو إحداهما قبل الأخرى ولا يعرف التي ماتت أوّلاً ورث عن كلِّ واحدة نصف ميراثه عنها باعترافه، ويَرث عن الأخرى نص ميراث زوج. ولو قال أردت إحداهما بعينها سقط ميراثه عنها باعترافه ويرث عن الأخرى نصف ميراث زوج. ولو طلق الزوج واحدة بعينها، ثمَّ قال أردت بهذا الطلاق التعيين كان القول قوله لأنّ التعيين والإنشاء في الصيغة واحد، فكان اللفظ محتملاً لما ادعاه، فقبل قوله، ولو قال لامرأتين له، وقد دخل بهما: إحداكما طالق واحدة، والأخرى ثلاثاً، ولا نية له في واحدة منهما، وله أن يوقع الثلاث على أيّهما شاء ما دامتا في العدّة، وإذا انقضت عدتهما ليس له أن يوقع الثلاث في إحداهما بعينها، وإن انقضت عدّة إحداهما بانت هي بواحدة والأخرى طالق ثلاثاً؛ لأنه إنّما يحتاج إلى إثبات ولاية البيان في حقّ الثلاث دون الواحدة، لوقوع الواحدة على كلّ واحدة منهما، فإن المطلقة بالثلاث تكون مطلقة بالواحدة، أمّا المطلقة بالواحدة لا تكون مطلقة بالثلاث صحّ أن الحاجة إلى إثبات ولاية

البيان في حقّ الثلاث دون الواحدة، وإذا انقطعت ولاية البيان في حقّ التي انقضت عدتها تعينت الأخرى للثلاث التي يحتاج إلى إثبات ولاية البيان فيها وإن لم يكن دخل بهما وباقي المسألة على حالها، فليس له أن يوقع الطلاق على إحداهما، فإن تزوّج بإحداهما في هذه الصورة جاز، وليس له أن يتزوّج بالأخرى. قال أبو يوسف رحمه الله: إنّي علمت أنَّ الثلاث وقع على إحداهما، وليس له أن يجمعهما قال: ولا أقول إنَّ التي لم تتزوّج وقع عليها الثلاث. ولو طلّق امرأة من نسائه بعينها ثلاثاً ثمَّ مسها لم يحل له وطء واحدة حتّى يعلم التي طلّق؛ لأنّ كلّ واحدة منهن يحتمل أن تكون هي المحرمة، وكذلك لا يحمل لواحدة منهن التزوج بغيره لأنّ كلّ واحدة منهن يحتمل أن تكون هي المنكوحة، ولو رافعنه إلى القاضي وطلبن منه النفقة، قضي بنفقتهن وحبسه حتى يبيّن التي طلقت منهن. وفي «المنتقى» : القاضي يقول له: أوقع الطلاق على أيّهن شئت، واحتلف للباقيات إن ادعين ذلك، فإن قال: لا أدري ولم يوقع على واحدة حلّفه القاضي لكلّ واحدة منهن بالله ما هي المطلقة ثلاثاً إن ادعت كلّ واحدة منهن أنها هي المطلقة، وإن نكل لهن فرق بينه وبينهنّ بثلاث تطليقات وإن حلف لهنَّ بقي الأمر على ما كان قبل الدعوى؛ لأنّ القاضي يتقي بمجازفته في هذه الأيمان؛ لأنّه عرف وقوع الطلاق على واحدة منهن والطلاق متى وقع لا يرتفع باليمين. وعن محمّد رحمه الله أنه إذا حلف للثلاث منهن تعيّنت الرابعة للثلاث، ولا يحلف لها. وعن محمّد فيما إذا كانتا امرأتين أنّه إذا حلف لإحداهما طلقت التي لم يحلف لها؛ لأنّ يمينه محمولة على الصدق، ومن ضرورة حمل يمينه على الصدق تعيّن الأخرى للثلاث.j ولو لم يحلف للأولى طلقت واحدة منهن، وإن تشاحا على اليمين حلّفته لهما بالله ما طلقت واحدة منهما، وإنّما كانت لهما المشاحة في اليمين؛ لأنّ لهما في ذلك فائدة، فإنّه إذا نكل للأولى تتعيّن الأخرى للطلاق وصارا شيوعاً في السبب، وهو الدعوى فأمكن إبقاء حقّ كلّ واحدة منهما معاً بأن يحلف بالله ما طلق واحدة منهما، فكان لهما في المشاحة فائدة من هذا الوجه، فكان لهما أن يتشاحا على اليمين، وإن حلف لهما يوجب عنهما حتّى يبين لما مرّ، فلو أنّه وطىء إحداهما فيما إذا كانتا امرأتين قبل المرافعة إلى القاضي وقبل العلم بالمطلقة مع أنه ليس له ذلك تتعيّن الأخرى للطلاق. وكذلك إذا وطىء الثلاث فيما إذا كانت له أربع نسوة قبل العلم بالمطلقة تتعين الرابعة للطلاق؛ لأنّ فعل المسلمين محمول على الصلاح وإنّما يكون وطؤه محمولاً على الصلاح إذا كانت الموطوءة منكوحة، ومن ضرورته تعيّن الأخرى للطلاق هذا كلّه بيان حكم القضاء. وأمّا بيان الحكم فيما بينه وبين الله تعالى إنّه ينبغي له أن يطلّق كلّ واحدة منهنّ واحدة ويتركهن؛ لأنّ في إمساكهنّ إضرار بهنّ، لأنّه لا يجوز له قربانهنّ لأنّ إحداهن مطلقة ولو تركهنّ بغير طلاق لم يحل لها التزوّج بزوج آخر؛ لأن إحداهما في مسألة

الفصل الخامس عشر: في إيقاع الطلاق بالمال

المرأتين والثلاث في مسألة الأربع ليست بمطلقة، وبعدما طلقهنّ لا ينبغي له أن يتزوّج واحدة منهنّ، حتّى تعلم المطلقة ثلاثاً، وإن تزوّج واحدة منهما في مسألة المرأتين أو الثلاث في مسألة الأربع تتعين الأخرى والرابعة للطلاق. وإن تزوّج واحدة منهنّ فخاصمته إلى القاضي في الطلاق، أو لم تخاصمه حلّفه القاضي لها، فإن حلف أمسكها، وكذلك لو تزوّج ثنتين أو ثلاثاً، فلو أنّه بعد ما طلقهنّ تزوجن أزواجاً غيره، ودخل بهنّ أزواجهنّ ثمَّ فارقهن نكح أيّهن شاء. وإن تزوجت واحدة منهنّ زوجاً غيره ودخل بها الزوج وفارقها، فأراد الأوّل أن يتزوّج الكلّ له ذلك، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدّم. الفصل الخامس عشر: في إيقاع الطلاق بالمال قال محمّد رحمه الله في «الأصل» : إذا قال الرجل لامرأته أنتِ طالق بألفّ (257ب1) درهم، فقبلت طلقت وعليها ألف درهم لأنّ هذا خطاب مبادلة لأنّ حرف الباء يصحب الأبدال، فقد جعل الألف بدلاً عن الطلاق، وإنّه يصلح بدلاً والطلاق يصلح مبدلاً فهو معنى قولنا إنَّ هذا خطاب مبادلة والمبادلة تتمّ في حقّ وجوب العوضين بالإيجاب والقبول كما في البيع. وكذلك إذا قال لها أنتِ طالق على ألف درهم؛ لأنّ كلمة على تستعمل لإيجاب البدل في المعاوضات بمنزلة حرف الباء يقول الرجل لغيره: بعت منك هذا، وعليك ألف درهم أخذت منك هذا، وعليك درهم وكان معناه بألف درهم، وهذا بخلاف قوله إن أعطيتني ألف درهم فأنتِ طالق، إن جئتني بألف درهم فأنتِ طالق، إن أديت إليّ ألف درهم فأنتِ طالق، إذا أعطيتني ألف درهم فأنتِ طالق، متى أعطيتني ألف درهم فأنتِ طالق، حيث لا يقع الطلاق ما لم يوجد الأداء؛ لأنّ هذا تعليق بالشرط صريحاً والتعليق بالشرط عدم قبل وجود الشرط، بخلاف قوله: على ألف درهم على ما مرّ. وكذلك إذا قال أنتِ طالق على أن تعطيني ألف درهم، فقبلت يقع الطلاق، بمنزلة ما لو قال أنتِ طالق على ألف درهم؛ لأنّ هذا إيجاب الطلاق بجعل، وليس بتعليق بشرط الإعطاء بمنزلة قوله بعت منك هذا العبد على أن تعطيني ألف درهم فيكتفى بقبولها لوقوع الطلاق، فعلى هذا إذا قال بالفارسيّة براطلاق بشرط أنّك فلان خير عن دهي، أو قال بان شرط كي فلان خير عن دهي، فقبلت يقع الطلاق. ثمَّ في قوله: إن أعطيتني ألف درهم، إن جئتني بألف درهم، إنّما يقع الطلاق بالإعطاء إذا وجد الإعطاء في المجلس؛ لأنّ هذا الكلام تعليق صورة، ومعاوضة معنى، لأنّ الطلاق لا يقع إلا بمال، وهذا هو حدّ المعاوضة فاعتبرنا معنى التعليق، فقلنا لا يقع الطلاق إلا بعد وجود الإعطاء اعتبرنا معنى المعاوضة، فقصرنا بالإعطاء على المجلس.

وفي قوله: متى أعطيتني يقع الطلاق إذا وجد الإعطاء في المجلس أو خارج المجلس. وإذا قال لامرأته أنتِ طالق وعليك ألف درهم فقبلت أو قال لعبده أنت حر، وعليك ألف درهم فقبل عتق العبد، وطلقت المرأة، فلا شيء عليهما في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله على كلّ واحد منها ألف درهم؛ لأنّ قوله: وعليك ألف درهم يستعمل في معنى المعاوضة فقال: أحمل هذا المتاع إلى منزلك، وعليك ألف درهم، أخيط هذا الثوب لك، وعليك درهم بعتك هذا الثوب وعليك درهم فكان بمنزلة قوله بدرهم، فصار تقدير مسألتنا أنتِ طالق بألف درهم. ولأبي حنيفة رحمه الله أنّ الواو قد تجيء بمعنى العطف وقد تجيء بمعنى الابتداء، فلو حملناه على العطف يجب المال، ولو حملنا على الابتداء لا (فلا) يجب بالشك، وفي البيع والإجارة حمل على العوض بدلالة العقد فإن كلّ واحد من العقدين معاوضة، فذكرهما يكون ذكر العوض. وقوله: وعليك ألف درهم يكون بياناً لذلك، وفي مسألة الحمّال والخيّاط حمل على العوض؛ لأنَّ مثل هذا العمل عرفاً لا يعمل إلا بعوض وأمّا الطلاق قد يوقع بعوض، وقد يوقع بغير عوض. على هذا الخلاف إذا قالت المرأة للرجل طلقني ولك ألف درهم وطلقها، فلا شيء له في قول أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما ولو قالت: طلقني ولك ألف درهم، فقال الزوج أنتِ طالق على ألف التي سمّيت فإن قبلت لزمها المال ووقع الطلاق، وإن لم تقبل لا يقع الطلاق، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قولهما يقع الطلاق وتجب الألف قبلت أو لم تقبل، ولو قال لها: أنتِ طالق بألف درهم على أنّي بالخيار، أو على أنك بالخيار ثلاثة أيّام فقبلت، فالخيار باطل إذا كان للزوج، وهو جائز إذا كان للمرأة، فإن ردّت المال ارتد الطلاق. وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله: الخيار باطل في الوجهين جميعاً. وإذا قالت المرأة لزوجها: طلقني ثلاثاً بألف درهم، فطلقها واحدة وقعت واحدة بثلث الألف، ولو قالت طلقني ثلاثاً على ألف، فطلقها واحدة وقعت واحدة رجعيّة بغير شيء، وهذا قول أبي حنيفة رحمة الله، وقال أبو يوسف ومحمّد رحمة الله عليهما تقع واحدة بائنة بثلث الألف، فأبو يوسف ومحمّد رحمهما الله قاسا كلمة على حرف الباء حيث إن كلّ واحد منهما يستعمل في المعاوضات استعمالاً واحداً يقول الرّجل لغيره: بعت منك بألف درهم وبعت منك على ألف درهم. وأبو حنيفة رحمه الله يقول كلمة على للشرط في وضع اللغة، وأمكن العمل بحقيقتها في باب الخلع؛ لأنَّ تعليق بدل الطلاق جائز نفياً للطلاق؛ لأنّ البدل يكون تبعاً للبدل في المبادلات، كالثمن تبع للمثمن فإذا صحّ تعليق بدل الخلع تبعاً للطلاق، جعلنا وجود الألف معلّقاً بإيقاع الثلاث فما لم يوجد إيقاع الثلاث، لا يوجد الشرط بكماله فلا ينزل شيء من الجزاء فأمّا في باب البيع والإجارة فالعمل بحقيقة الشرط غير ممكن؛ لأن كل واحد من البدلين في باب البيع والإجارة لا يقبل التعليق فجعل على مجازاً عن حرف

الباء، والبدل ينقسم على المبدل إذا كان متعدّداً. وإذا قالت المرأة لزوجها: طلقني وضرتي على ألف درهم فطلّق ضرتها أو طلقها تجب نصف الألف إذا كان مهر مثلهما على السواء، كما لو قالت طلقني وضرتي بألف درهم، وإن كان مهر مثلهما على التفاوت تجب حصّة المطلقة من الألف. من مشايخنا من قال: هذا على قولهما أمّا على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يجب شيء، ومنهم من قال هذا قول الكل، والأوّل أصح. وأمّا إذا قالت طلقني وضرتي على ألف عليّ فطلق إحداهما، فلا رواية في هذه الصورة ولقائل أن يقول: يلزمها حصّتها من الألف. ولقائل أن يقول: لا يلزمها شيء من الألف ما لم يطلقها على ألف درهم أو بألف، فطلق إحداهما جملة. وإذا كانت للرجل امرأتان سألتاه أن تطلقهما على ألف درهم أو بألف، فطلّق إحداهما لزم المطلقة حصتها من الألف وإن طلّق الأخرى لزمها حصتها أيضاً إذا كان طلقها في المجلس، ثمَّ في قوله: طلقني ثلاثاً بألف درهم إذا طلقها ثلاثاً متفرقاً في مجلس واحدة القياس أن يقع تطليقة بثلث الألف والأخريان بغير شيء، وفي الاستحسان يقع ثلاث تطليقات (258أ1) بألف درهم، وحسب القياس أنّه لمّا طلقها واحدة وقعت واحدة بثلث الألف وبانت منه، فحين طلقها الثانية والثالثة طلقها وهي بائنة، فتقع الثانية والثالثة بغير (شيء) كما لو طلقها الثانية والثالثة بعدما تفرقا عن المجلس. وجه الاستحسان أنَّ إيقاع الثلاث وجد في لفظة واحدة من حيث الحكم، لما عرف أنَّ المجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرقة حكماً، فيعتبر بما لو حصل إيقاع الثلاث في لفظة واحدة من حيث الحقيقة، وهناك جميع الألف فها هنا كذلك. من مشايخنا من قال: ما ذكر من جواب الاستحسان محمول على ما إذا وصل الطلقات بعضها ببعض، أمّا إذا فصل بين كلّ طلقة بسكوت لا تجب جميع الألف وإن حصل الإيقاع في مجلس واحد. واستدل هذا القائل بما ذكر محمّد رحمه الله في باب المشيئة إذا قال لها: أنتِ طالق ثلاثاً إن شئت فقالت: شئت واحدة وواحدة وواحدة موصولاً يقع الثلاث، وتصير كأنها قالت شئت الثلاث، ولو قالت شئت واحدة وسكتت ثمَّ قالت وواحدة وسكتت ثمَّ قالت وواحدة وسكتت فإنه لا يقع وإن كان المجلس واحداً واعتبر مع اتحاد المجلس الوصل، فكذا ها هنا. ومنهم من يقول إذا كان المجلس واحداً لا يشترط الوصل. واستدل هذا القائل بما ذكر محمّد رحمه الله بعد هذه المسألة. إذا قالت المرأة للزوج سألتك أن تطلقني ثلاثاً بألف درهم، فطلقتني واحدة فلك ثلث الألف، وقال الزوج لا بل طلقتك ثلاثاً ولي عليك جميع الألف، فالقول قول الزوج إذا كانا في المجلس يعني في مجلس السؤال فقد اعتبر باتحاد المجلس، ولم يعتبر الوصل في التطليقات وهذا القائل يفرق بين هذه المسألة وبين مسألة المشيئة، وهو الصحيح. ووجه ذلك قولها شئت واحداً إذا سكتت عقيبها لم يصلح جواباً لبعض ما فوّض إليها الزوج،

ألا ترى أنّه لم يقع بها شيء، فجعل ذلك منها إعراضاً عمّا فوّض إليها الزوج، فبطل التفويض أصلاً. أما قول الزوج طلقت واحدة في مسألتنا صلح جواباً لبعض ما طلبت منه، ولهذا وقع تطليقة بثلث الألف، ولم يكن ذلك من الزوج إعراضاً عمّا طلبت منه، فبقي طلب الثانية والثالثة على حاله فصحّت الثانية والثالثة إذا كان المجلس واحداً. وفي قولها: طلقني ثلاثاً على ألف درهم. إذا طلقها ثلاثاً متفرقاً إن طلقها ثلاثاً متفرقاً في مجلس واحد، فالمسألة على قولهما على القياس والاستحسان كما في حرف الباء، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يقع ثلاث تطليقات فما قياساً واستحساناً؛ لأنَّ عنده في هذه الصورة تقع الأولى، والثانية رجعيتان، فتقع الثالثة وهي منكوحة فتستوجب عليها الألف عند وقوع الثالثة قياساً واستحساناً، بخلاف حرف الباء لأنّ هناك تقع الأولى بثلث الألف وتبين منه. فأمّا إذا طلقها ثلاثاً متفرقاً في مجالس مختلفة فعلى قولهما يجب ثلث الألف كما في حرف الباء، وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يستوجب عليها شيئاً، وهذا لأنَّ أبا حنيفة رحمه الله وإن اعتبر كلمة على الشرط في هذه الصورة، حتّى لم يقل بوجوب شيء من الألف بدون إيقاع الثلاث إلا أنَّ معنى المعاوضة فيها ظاهر على ما مرّ، فيجب اعتباره، فاعتبرناه في اشتراط اتحاد المجلس بصحّة الإيجاب والقبول. والجواب في قولها طلقني ثلاثاً علي أنَّ لك على ألف درهم نظير الجواب في قولها طلقني ثلاثاً على ألف درهم. وإذا طلقها واحدة على مال، وقبلت ثمَّ طلقها أخرى على مال إن قبلت يقع عليها أخرى بغير شيء؛ لأنّها لم تملك نفسها من جهة الزوج بهذا الطلاق، فلا يلزمها المال. ابن سماعة في «نوادره» عن محمّد رحمه الله: إذا قال الرجل لامرأته أنتِ طالق عشراً بمائة دينار، فقبلت فهي طالق ثلاثاً بمائة دينار. وعنه أيضاً في رجل قالت له امرأته طلقني سبعين تطليقة بمائة دينار، فقال طلقت فهي طالق ثلاثاً بمائة دينار. وعن أبي يوسف رحمه الله في امرأة قالت لزوجها طلقني أربعاً بألف درهم، فطلقها ثلاثاً قال هي بألف درهم، ولو طلقها واحدة فهي بثلث الألف. وفي «الأصل» في امرأة قد كان طلقها زوجها اثنتين، قالت لزوجها طلقني ثلاثاً على أنَّ لك ألف درهم فطلقها واحدة لزمها الألف كلها، والأصل في هذه المسائل وأجناسها إذا التزمت مالاً بمقابلة طلاق يقع، وبمقابلة طلاق لا يقع يجعل الكلّ بمقابلة طلاق يقع، كما لو قالت له: طلقني وهذا الحمار بألف درهم وطلقها، فإنّه يجب عليه جميع الألف. وفي «القدوري» : إذا قالت المرأة لزوجها طلقني واحدة بألف، فقال لها: أنتِ طالق ثلاثاً ولم يقل بألف وقع الثلاث مجاناً عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما يجب جميع الألف، وهذا بناءً على أنَّ (عند) أبي حنيفة رحمه الله الثلاث لا يصحّ جواباً للواحدة، فكان مبتدئاً بالإيقاع، وعندهما: الزوج أدى ما سألته فيلزمها ما التزمت من الألف.

ولو قالت طلقني واحدة بألف فقال الزوج أنتِ طالق ثلاثاً بألف، وقفت على قبولها على قول أبي حنيفة رحمه الله، فإن قبلت جاز وإلا بطل، وعندهما الثلاث واحدة بألف وثنتان بغير شيء بناءً على الأصل الذي تقدم. وحكى أبو الحسن عن أبي يوسف رحمهما الله أنه رجع إلى قول أبي حنيفة رحمه الله في هذه المسألة. ووجه الرجوع: أنَّ الزوج جعل الألف بمقابلة ثلاث تطليقات، وهذا بخلاف ما سألته بخلاف المسألة المتقدّمة. وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن محمّد رحمة الله عليهما: إذا قالت المرأة لزوجها: طلقني واحدة بألف، فقال لها أنتِ طالق ثلاثاً بألف فإن قبلت فهي ثلاث بألف، وإلا لم يقع شيء، قال الحاكم أبو الفضل وكان محمّد رحمهما الله، يقول: أما في هذه الصورة إنّه يقع واحدة بثلث الألف، وإن لم تقبل المرأة ولا تقع الثنتان إلا إذا قبلت فإذا قبلت وقعتا بغير شيء، وكان يقول هذا بمنزلة رجل قالت له امرأته: طلقني واحدة بألف، ففعل، ثمَّ قال لها أنتِ طالق ثنتين بألف، فلا تقعان حتّى تقبل، وإذا قبلت وقعتا لغير شيء ثمَّ رجع وقال إن قبلت المرأة ما قال الزوج وقع الثلاث بألف، وإن لم تقبل لا يقع شيء كما هو رواية ابن سماعة، فبهذه الجملة ثبت رجوع محمّد رحمه الله إلى قول أبي حنيفة رحمه الله في هذه المسألة أيضاً. وفيه أيضاً: الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمة الله عليهما إذا قال لامرأته أنتِ طالق على ألف درهم إن دخلت الدّار (258ب1) ، فالقول إليها بعد دخول الدّار تقبل ساعة تدخل. وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله إذا قال الرّجل لامرأة لا يملكها: أنتِ طالق على مائة دينار إن تزوجتك يوماً من الدّهر، فقالت قد قبلت ثمَّ تزوّجها على قول أبي حنيفة رحمه الله، لا يقع الطلاق، ولا يلزمها المال، قال: وقال أبو يوسف رحمه الله الطلاق واقع والمال لازم، ولو أنّها قالت حين تزوّجها قبلت الطلاق الذي جعلتها لي بمائة دينار، لزمها الطلاق والمال في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله. قال أبو يوسف: ولا أحفظ في هذا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله، والذي أحفظ عنه من الرواية رجل قال لمملوكه أنت حرٌّ بعد موتي إن شئت، أو قال: إن شئت فأنت حر بعد موتي، قال أبو حنيفة رحمه الله لا يكون مدبراً، إذ لا مشيئة للعبد حتّى يموت المولى، فإن مات المولى فإن شاء العبد فهو حرّ، وقال أبو يوسف رحمه الله إن قدّم المشيئة على العتق بأن قال إن شئت فأنت حرّ بعد موتي، فالمشيئة إليه في الحال وإن قدّم العتق على المشيئة، بأن قال: أنت حرّ إذا متُّ إن شئت أو قال: إن متُّ أو قال أنت حرّ بعد موتي إذا شئت، فله المشيئة بعد الموت. ابن سماعة عن محمّد رحمة الله عليهما: إذا قال الرّجل لامرأته: طلقتك على ألف، فقالت: رضيت أو قالت أجزت فهو قبول، وإن قالت نعم فليس بقبول؛ لأنّ معناه سأقبل.

وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قالت لزوجها طلقني على حكمي فقال نعم فهذا معتاد، ولو قال: قد فعلت وقع، ولو قال لها: طلقتك على حكمك فقالت قبلت أو قالت نعم جاز، ولو قالت أنا طالق على حكمي، فقال الزوج نعم فهو مثل ذلك. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال لامرأته أنتِ طالق ثلاثاً بألف درهم أنتِ طالق ثلاثاً بمائة دينار، فقالت قد قبلت فهو جواب عن الكلام الآخر. وذكر ابن سماعة عن محمّد رحمهما الله أنّه يلزمه المالان، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قالت المرأة لزوجها: طلقني ثلاثاً بألف درهم طلقني ثلاثاً بمائة دينار فقال لها أنتِ طالق ثلاثاً بالجعل الأوّل، أو بالجعل الثاني فهو كما قال وأنت. وإن طلقها ثلاثاً ولم يتعرّض لأحد الجعلين فهو جواز الكلام الآخر، حتّى لو كان الكلام الآخر بغير جعل يقع الثلاث، ولا يلزمها شيء. ولو كان الكلام الأوّل بغير جعل، والثاني بجعل لزمها الجعل. وعنه أيضاً: أنّه فرّق بين جانب الزوج وبين جانب المرأة، فقال: لو كان الإيجاب من جانب المرأة بأن قالت المرأة لزوجها: طلقني ثلاثاً بألف درهم طلقني ثلاثاً بمائة دينار فقال طلقتك بالجعل الأوّل يتوقف على قبولها، ولو كان الإيجاب من جانب الزوج بأن قال لها أنتِ طالق ثلاثاً بمائة دينار بألف درهم أنتِ طالق ثلاثاً بمائة دينار، فقبلت بالجعل الأوّل أو بالجعل الثاني صحّ. والفرق أنَّ الإيجاب إذا كان من جانب المرأة، فقول الزوج طلقتك بالجعل الأوّل ابتداء إيجاب من الزوج، فليس جواباٌ بيانه أنَّ الإيجاب الثاني رجوع عن الإيجاب الأوّل، وإقامة للثاني مقام الأوّل، وقد صحّ رجوعها؛ إذ الإيجاب من جانبها غير لازم؛ لأن الطلاق على مال من جانب المرأة معاوضة والرجوع في المعاوضات قبل قبول الآخر صحيح، بخلاف جانب الزوج لأنَّ الطلاق على مال في جانب الزوج تعليق، فالتعليق يقع لازماً على وجه لا يصحّ الرجوع عنه، فبقي الإيجاب الأوّل، وصحّ الإيجاب الثاني فأيّ ذلك اختارت، فقد اختارت إيجاباً قائماً يصح على هذه الرواية إذا قال لها طلقتك بالمالين يتوقّف على قبولها؛ لأنَّ هذا ابتداء إيجاب في حقّها على ما مرّ. وفي الروايات: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثاً على ألف أو بألف، فقالت فقد قبلت الواحدة لا يقع شيء لأنّه لو وقع واحدة وقع بثلث الألف أو بغير شيء والزوج ما رضي بالوقوع بغير شيء، فلا تثبت الألف، وهذا لأنّه لو وقع واحدة تثلث الألف، وكذلك لو قالت وقع بائناً والزوج ما رضي بالبينونة تثلث الألف، وكذلك لو قالت قبلت الواحدة بألف لا يقع شيء، لأنّ الزوج ما أوجبها كذلك. وذكر في وكالة «الأصل» أن من وكّل رجلاً أن يطلّق امرأته ثلاثاً بألف، فطلقها واحدة بألف جاز، والعرف أن يصرف الوكيل نفاذه، وبطلانه يعتمد الموافقة والمخالفة والوكيل بهذا لا يصير مخالفاً؛ لأنّه خلاف إلى خير والخلاف إلى خير لا يعد خلافاً أما تصرف الزوج مع المرأة صحّته ونفاذه يعتمد المطابقة بين الإيجاب والقبول صورة ومعنى، ولم يوجد ذلك ها هنا.

إذا قال لامرأته: أنتِ طالق واحدة بألف درهم، فقالت؛ قبلت هذه التطليقة طلقت واحدة بألف بلا خلاف، ولو قالت قبلت نصفها بخمسمائة كان باطلاً؛ لأنّ قبولها نصفها بخمسمائة كقبول كلّها بخمسمائة، وذلك باطل لأنّه لم يرض به. ولو قالت المرأة لزوجها: طلقني واحدة بألف درهم، فقال الزوج: أنتِ طالق نصف تطليقة طلقت تطليقة بألف درهم، ولو قال أنتِ طالق نصف تطليقة بخمسمائة طلقت واحدة بخمسمائة؛ لأن إيقاع النصف بخمس مائة إيقاع الكلّ بخمسمائة وذلك من الزوج صحيح؛ لأنّ المرأة التمست تطليقة بألف، فتكون راضية بها بخمسمائة من طريق الأولى. إذا قال لامرأته وقد دخل بها: أنتِ طالق السّاعة على أنّك طالق أخرى غداً بألف درهم، فقبلت وقعت واحدة للحال بنصف الألف؛ لأنّ تقدير هذه المسألة أنتِ طالق السّاعة واحدة، وغداً أخرى بألف درهم. بيانه: أنَّ كلمة «على» وإن كانت حقيقة للشرط، لكن يقدّر العمل بالشرط ها هنا لأنَّ الطلقة الواقعة في الحال لا يمكن تعليقها بتطليقة، تقع في الغدّ فيحمل على العطف لأنّ حروف الصلات يقام بعضها مقام البعض، فصار تقدير المسألة ما قلنا من هذا الوجه، وهناك تقع واحدة للحال بألف درهم فالأصل أنَّ الزوج متى عطف إحدى التطليقتين على الأخرى، وذكر عقيبها مالاً ولم يخصّ إحداهما بوصف ما في البدل ولا بوصف يلائم البدل، فالبدل ينصرف إليهما لاستوائهما (259أ1) وعدم الأوّليّة، ثمَّ إذا جاء غد يقع عليها تطليقة أخرى، وهل يلزمها المال؟ ينظر إن كان قد تزوّجها قبل مجيء الغد، يلزمها خمس مائة وإن لم يتزوّجها قبل مجيء الغد لا يلزمه شيء؛ لأنّ وجوب البدل يعتمد زوال الملك به، وهو نظير ما لو قال لامرأته: أنتِ طالق ثلاثاً للسنة بألف درهم يقع عليها واحدة للحال بثلث الألف إذا كان الزمان زمان السنة، ثمَّ إذا حاضت وطهرت يقع عليها أخرى، ثمَّ إذا حاضت وطهرت يقع عليها أخرى، ولا يلزمها المال بالطلاق الثاني والثالث إلا بواسطة سبق الزوج، كذا ها هنا.m ولو قال لها أنتِ طالق الساعة واحدة أملك الرجعة على أنّك طالق غداً أخرى بألف درهم، فقبلت وقع عليها واحدة للحال بغير شيء؛ لأنّه قرن بالطلقة الأولى مانعاً في وجوب البدل به، وهو قول أملك الرجعة فإن الطلاق ببدل لا يكون رجعياً فانصرف البدل إلى الطلقة الأخرى، وهذا هو الأصل في كلّ طلاقين عطف أحدها على الآخر، وقرن بالأوّل وصف ينافي البدل، البدل ينصرف إلى الطلاق الثاني فإن جاء الغد يقع عليها تطليقة أخرى بألف درهم؛ لأنّ البدل مقابل بها وأمكن إيجاب البدل بها لزوال الملك لها لأنّ الملك لم يزل بالأولى؛ لكونها رجعيّة. ولو قال لها: أنتِ طالق اليوم تطليقة بائنة على أنّك طالق غداً أخرى بألف درهم وقعت للحال واحدة بغير شيء؛ لأنّه قرن بالطلقة الأولى مانعاً في وجوب البدل بها وهو قوله بائنة؛ لأنّه إنّما يحتاج إلى وصف الطلاق بصريح الإبانة إذا لم يكن بمقابلته شيء،

ثمَّ إذا جاء الغد تقع عليها تطليقة أخرى بغير شيء؛ لأنّ الملك لا يزول بالطلقة البائنة، لزواله بالطلقة الأولى لكونها بائنة، وإن كان تزوّجها قبل مجيء الغد ثمَّ جاء الغد يقع عليها تطليقة أخرى بألف درهم؛ لأنّ الملك يزول بها في هذه الصورة، والألف مقابل بها. ولو قال لها: أنتِ طالق اليوم تطليقة بغير شيء على أنّك طالق غداً أخرى بألف درهم وقع في الحال تطليقة رجعيّة؛ لأنه قرن بالأولى ما ينافي كون البدل بمقابلته، وهو قوله بغير شيء فصار كلّ الألف بمقابلة الطلقة الثانية فإذا جاء الغد تقع تطليقة أخرى بألف درهم؛ لأنّ الملك يزول بها لكون الأولى رجعيّة. ولو قال لها: أنتِ طالق واحدة وأنتِ طالق أخرى بألف درهم فقبلت وقعت الطلقتان بألف درهم، وانصرف البدل إليهما. وكذلك لو قال: أنتِ طالق اليوم واحدة وغداً أخرى بألف درهم، فقبلت وقعت في اليوم واحدة بنصف الألف وغداً أخرى بنصف الألف إن تخلّل التزوّج؛ لأنَّ البدل انصرف إليهما. ولو قال لها أنتِ طالق السّاعة واحدة أملك الرجعة وغداً أخرى أملك الرجعة بألف درهم، أو قال أنتِ طالق الساعة واحدة بائنة وغداً أخرى بائنة بألف درهم، أو قال أنتِ طالق الساعة واحدة بغير شيء وغداً أخرى بغير شيء صحّ بألف درهم، فالبدل ينصرف إليهما وتكون كلّ تطليقة بنصف الألف، فتقع واحدة في الحال بنصف الألف، وغداً أخرى مجاناً إلا أن يتزوّجها قبل مجيء الغد، ثمَّ جاء الغد فحينئذٍ تقع أخرى بنصف الألف وإنّما انصرف البدل إليهما في هذه الصورة؛ لأنّه قرن بكلّ تطليقة وصفاً ينافي البدل. والأصل في كلّ طلاقين عطف أحدهما على الآخر، وقرن بكلَ منهما ما ينافي البدل أو قرن بالطلقة الثانية ما ينافي البدل، والبدل ينصرف إليهما جميعاً؛ لأنّه لا بدّ من إلغاء إحداهما، إمّا المنافي وإمّا البدل، وإلغاء المنافي أولى لأنّه ذكر المنافي أوّلاً، وذكر البدل آخراً وإبداء الآخر يكون ناسخاً للأوّل. ولو قال لها: أنتِ طالق السّاعة واحدة أملك الرجعة أو قال بائنة أو قال بغير شيء وغداً أخرى بألف درهم، والبدل ينصرف إلى التطليقة الثانية. ولو قال أنتِ طالق اليوم واحدة وغداً أخرى أملك الرجعة ينصرف البدل إليهما؛ لأنّه قرن بالطلقة الثانية ما ينافي وجوب البدل بها، وفي مثل هذا ينصرف البدل إلى الطلقتين، وعلى هذا يخرج جنس هذه المسائل. وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: رجل قال لآخر طلق امرأتك فلانة واحدة ولك ألف درهم، ففعل وقع الطلاق في الحال في قول أبي حنيفة رحمه الله بغير مال، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يقع حتّى تقبل المرأة، فإنّ قامت عن المجلس الذي يبلغها فيه الخبر قبل أن تقبل بطل الطلاق. وذكر ابن سماعة عنه أيضاً: رجل قال لزوج ابنته الصغيرة: طلقها ولك ألف درهم

فقال نعم فعلت، قال أبو حنيفة رحمه الله: هي طالق السّاعة بغير شيء، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يقع الطلاق ما لم تقبل الصغيرة، فإذا قبلت وقع الطلاق فلا يلزمها المال. وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمة الله عليهما أيضاً: رجل جعل لرجل ألف درهم على طلاق امرأته، فقبل وطلّق فالطلاق بائن والذي جعل الألف ضامن للألف وهي عليه للزوج، ولو كان له دين على الزوج فقال له أنت بريء على أن تطلق امرأتك، فقبل وفعل فالطلاق جائز وهو بريء من المال. قال: ولو كانت هاتين المسألتين في العتاق، فالعتق جائز والبراءة من الدّين جائزة، والجعل الذي جعل له باطل؛ لأنّه لو لزمه لزمه بغير عوض؛ لأنَّ العتاق من المولى، فالعتق لا يكون له، والمال لا يجب على الإنسان من غير عوض بقضيّة الأصل بخلاف البراءة؛ لأنَّ البراءة تجوز بغير عوض. وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا أمر الرجل رجلاً أن يطلّق امرأتيه بألف درهم، وطلّق إحداهما بألف أو بأقلّ إلا أنّه إذا قسم الألف على مهرها كان ذلك حصتها، فهو جائز. وروى أبو سليمان عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال الرجل لغيره طلّق إمرأتي بما شئت أو قال بما رأيت، أو قال على كم شئت أو قال على كم رأيت، فهو على المجلس وغيره، قال: لأنَّ المشيئة في الجعل ليس في الطلاق. وفي «الأصل» : إذا قال الرجل لامرأته طلقتك أمس بألف درهم، فلم تقبل فقالت المرأة لا بل قبلت فالقول قول الزوج. فرق بين هذا وبينما إذا قال لغيره بعتك أمس بكذا فلم يقبل، وقال الآخر لا بل قبلت، فالقول قول المشتري، وكذلك إذا قال (259ب1) لغيره أجرت منك أمس كذا بكذا فلم تقبل، فقال الآخر لا بل قبلت، والقول قول المتأخّر. والفرق أنَّ البيع معاوضة، والمعاوضة لا تتم إلا بالإيجاب والقبول فإذا أقر بالبيع والإتمام له لا بالقبول صار مقراً بالقبول دلالة راجعاً عنه بقوله، فلم تقبل، فلا يقبل ذلك منه، فأمّا الطلاق على مال كما هو معاوضة فهو تعليق أيضاً، والمعاوضة إن كانت لا تبنى إلا بالقبول فالتعليق بني بدون القبول، فبإقراره بالطلاق على المال إن صار مقراً بالقبول من حيث إنّه معاوضة لا يصير مقراً بالقبول من حيث إنّه تعليق، فلا يثبت الإقرار بالقبول بالشك بقيّت المرأة مدّعية والزوج منكر دعواها، فيكون القول قول الزوج. وعلى هذا إذا قال لها قد كنت بعتك طلاقك أمس بألف، ولم تقبلني، وقالت المرأة لا بل قبلت فالقول قولها. ولو قال: طلقتها ثلاثاً بألف درهم فقالت المرأة هذا منك إقرار ماض، وقد كنت قبلته منك، وقال الزوج كان هذا مني إقراراً مستقبلاً حين تكلمت فلم تقبلي، فالقول قول الزوج وإن أقاما البيّنة أخذت بيّنة المرأة، ذكره في «المنتقى» . وفي «البقالي» : أنتِ طالق غداً على عبدك هذا، فقبلت وباعت العبد ثم جاء الغد

يقع الطلاق وعليها قيمة العبد، ولو طلقها ثلاثاً في يومه، ثمَّ جاء الغد فلا شيء له. وفيه أيضاً إذا قال لها أنتِ طالق بعد غد على ألف درهم وغداً على ألف، واليوم على ألف، فقبلت اليوم بألف، والباقي بغير شيء هكذا ذكر وعلى قياس ما تقدم إذا تزوّجها قبل مجيء الغد، ثمَّ جاء الغد يقع طلاق آخر بألف، وإذا تزوّجها في الغد ثم جاء بعد الغد يقع طلاق آخر بألف. وفيه أيضاً: إذا قال لامرأتيه إحداكما طالق بألف درهم، والأخرى بمائة دينار فقبلتا طلقتا بغير شيء. وفيه أيضاً؛ روى ابن سماعة عن محمّد رحمهما الله في العتاق: إذا قال لامرأتيه إحداكما طالق بألف، فقبلتا ومات فعلى كلّ واحد منهما خمسمائة وبانتا، ولا ميراث. وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال الرّجل لامرأته أنتِ طالق على حكمك من الجعل فقبلت ثمَّ حكمت مالاً ولم يرض به الزوج فإن كان ما حكمت مثل مهرها الذي أخذت، أو أكثر من ذلك لم يكن للزوج إلا ذلك، وإن كان أوّل تممّنا له مهرها الذي أخذت، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمة الله عليهما. وعلى هذا إذا قالت المرأة لزوجها اجعلني طالقاً على حكمك من الجعل، فطلقها على ذلك ثمّ حكم بحكم له فرضه، فإن حكم بمهرها أو أقل لزمها الطلاق على الفعل ثمَّ ينظر إلى الفعل فإن كان جعلاً، فهو على ما صيّرت ذلك فإن كان غير جعل، فقد مضى الطلاق. بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا طلّق امرأته على أن تهب عنه لفلان ألف درهم أجبرتها على إنفاذ الألف، والزوج هو الواهب وإن لم يقل عنه لا تجبر على الهبة وعليهما أن ترد المهر والطلاق بائن، فإن وهبت فالهبة عنها والطلاق بائن ولا شيء عليها غير الهبة التي وهبت، ولا رجوع لأحد في هذه الهبة. وعن محمّد رحمه الله في امرأة قالت لزوجها: طلقني على أن أهب مهري من ولدك ففعل، فأبت أن تهبه فالطلاق رجعي فلا شيء عليها. أبو سليمان عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا أبرأت المرأة زوجها عمّا لها عليه على أن يطلقها، فقد جاز ذلك و (حارت) المرأة فكان الطلاق بائناً وكذلك لو جعلت له مالاً على ذلك، ولو قالت لزوجها طلقني على أن أؤخّر مالي عليك وطلقها على ذلك، فإن كان للتأخير غاية معلومة صحّ التأخير، وإن لم يكن له غاية معلومة لا يصح التأخير، والطلاق رجعي على كلّ حال. وكذلك لو طلقها على أن تبرئه عن كفالة نفس فلان، فأبت أن تبرىء فالطلاق رجعي، ولو طلقها على أن تبرّئه عن الألف التي كفل بها لها عن فلان، فالطلاق بائن، والله أعلم.

الفصل السادس عشر: في الخلع

الفصل السادس عشر: في الخلع هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه في بيان صفته وكيفيته قال علماؤنا رحمهم الله: الخلع طلاق بائن ينتقص به من عدد الطلاق، به ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم. وقال الشافعي رحمه الله: هو فسخ لا ينتقص به من عدد الطلاق، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه، وتكلّم أصحابنا رحمهم الله فيما إذا قضى قاضٍ بكونه فسخاً، هل ينفذ قضاؤه؟ منهم من قال ينفذ، ومنهم من قال لا ينفذ، وتكلّم المشايخ في لفظة البيع والشراء هل لابن عباس رضي الله عنه فيه قول كما في الخلع، قال بعضهم ليس له فيه قول وهو طلاق بائن بالاتفاق، وقال بعضهم خلافه في كل موضع عدم فيه لفظة الطلاق، وإنّه من جملة الكنايات حتّى لا يقع به الطلاق بدون النيّة، وتصح نيّة الثلاث فيه، وإذا قال الزوج لم أنوِ به الطلاق، فإن لم يذكر بدلاً صدّق ديانة وقضاء وإن ذكر بدلاً بأن قال لها مثلاً، خالعتك على ألف درهم، ثمَّ قال لم أعن به الطلاق لا يصدّق وقدم هذا فيما تقدّم، ويعتبر من جانب الزوج يميناً وتعليقاً للطلاق بقبولها حتّى لو قال لها خالعتك على كذا، ثمَّ رجع قبل قبول المرأة لا يصح رجوعه، وكذلك لا يبطل بقيامه عن المجلس قبل قبول المرأة، وكذلك لا يتوقف على حضورها، بل يجوز إذا كانت غائبة، فإذا بلغها فلها خيار القبول في مجلسها، ويصحّ التعليق بالشرط والإضافة إلى الأوقات، نحو أن يقول: إذا جاء غد فقد خالعتك على ألف درهم، فإذا قدم فلان فقد خالعتك كان القبول إليها بعد مجيء الوقت وقدوم فلان. ومن (جار) المرأة تعتبر بالإيجاب والقبول كما في باب البيع حتّى إنّه إذا كانت البداية من جانب الزوج، فقامت عن المجلس قبل القبول يبطل الإيجاب، وإن كانت البداية من جانب المرأة بأن قالت له اخلعني على كذا، صحّ رجوعها قبل قبوله ويبطل بقيامها عن المجلس وبقيامه ولا يتوقف حال غيبة الزوج، ولا يجوز التعليق منها بشرط، ولا إضافة إلى وقت وقدّم الفرق من الجانبين قبل هذا. وينبني على هذا ما قال أبو حنيفة (260أ1) رحمه الله إذا خالعها وشرطت المرأة لنفسها الخيار جاز، وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله: لا يجوز ولو شرط الزوج الخيار لنفسه لا يجوز إجماعاً فهما قاسا جانبها بجانبه، وأبو حنيفة رحمه الله فرّق بينهما بما قلنا إنَّ الخلع من جانب الزوج يمين، واليمين غير قابلة للخيار، ومن جانب المرأة معاوضة، والمعاوضة قابلة للخيار.

وإذا قال لامرأته كلّ امرأة أتزوجها، فقد بعت طلاقها منك بكذا، ثمَّ تزوّج امرأة فالقبول إليها بعد التزوّج، فإن قالت بعد التزوّج قبلت أو قالت اشتريت طلاقها أو قالت طلّقها يقع الطلاق عليها، وإن قالت قبل التزوّج قبلت فهذا ليس بشيء؛ لأنَّ هذا الكلام من الزوج خلع بعد التزوّج، فإنّما يشترط القبول بعده. نوع آخرمنه ذكر في «فتاوى سمرقند» بأن صورة الخلع بالفارسيّة تقال: أن تقول المرأة لزوجها: «خوشتن رااز تونهر كاينن كرم أست وبهر هريبة عدة كي اجب مرابد توسيس طلاق أختم بيك طلاق فيقول الزوج» «اهتحيدم برااز خوشتن بائن شرطها» وإذا أمر الرجل امرأته بالخلع، فهو على أربعة أوجه: إمّا أن يقول اخلعي نفسك بكذا من المال سمّى مالاً مقداراً معلوماً مثلاً ألف درهم. أو يقول؛ اخلعي نفسك بمال ولم يسمه ولم يقدّره، أو يقول: اخلعي نفسك بغير شيء. أو يقول: اخلعي نفسك ولم يزد على هذا، وأمّا إذا قال: اخلعي نفسك بألف درهم أو على ألف درهم، فخلعت نفسها على ذلك، ولم يقل الزوج بعد ذلك خلعت هل يتمّ الخلع فيه روايتان عن أصحابنا، والمختار أنّه يتمّ بناءً على أنّ الواحد هل يتولّى طرفي الخلع؟ إذا كان البدل مقدّراً معلوماً، وفي رواية يتولى وهو المختار وتصير المرأة وكيلة من جانب الزوج؛ لأنّه يمكنها الامتثال بما أمرت، وحقوق العقد لا ترجع إليها حتّى يقال تؤدّي إلى التضاد في حقّ الأحكام، أمّا إذا قال لها: اخلعي نفسك بمال، ولم يقدّر المال فقالت: خلعت نفسي على كذا في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله لا يتمّ الخلع ما لم يقل الزوج بعد ذلك خلعت. وروى ابن سماعة عن محمّد رحمهما الله: أنه يتمّ وإن لم يقل الزوج بعد ذلك خلعت، وكثير من مشايخنا أخذوا برواية ابن سماعة. ووجه ظاهر الرواية: أنّه لا بدَّ من التسمية في الخلع لأنَّ المال بدون التسمية لا يجب في الخلع، وإذا لم يكن البدل مقدراً لا تدري هي أي قدر تسمّي فعجزت عن الامتثال، فلا يصحّ الأمر فلا تصير وكيلة من جهة الزوج فلا يتمّ الخلع بمجرّد قولهما اختلعت، وأمّا إذا قال لها اخلعي نفسك بغير مال، فقالت: خلعت يتم الخلع بقولها؛ لأنَّ الخلع بغير مال والطلاق البائن سواء، فكأنّه قال لها: طلقي نفسك تطليقة بائنة فقالت طلقت. وأمّا إذا قال لها اخلعي نفسك، ولم يزد على هذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن يتمّ الخلع بقول المرأة اختلعت للمعنى الذي ذكرنا في قوله اخلعي نفسك بغير مال، وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمّد بن الفضل البخاري رحمه الله أنّه كان يقول: روي عن محمّد رحمه الله أنّ هذا بمنزلة قوله: اخلعي نفسك بمال، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنّ هذا بمنزلة قوله اخلعي نفسك بغير شيء. وإذا سألت المرأة من زوجها أن يخلعها، فهو على أربعة أوجه أيضاً: أما إن قالت له اخلعني على كذا سمّت ألف درهم مثلاً، وفي هذا الوجه إذا خلعها على ذلك يتمّ

الخلع بقول الزوج ولا يحتاج إلى قول المرأة اختلعت قبلت في رواية، هو المختار. وعلى هذا إذا وكّل الرّجل رجلاً أن يخلع امرأته على ألف درهم، ووكّلت المرأة ذلك الرجل أن يختلعها من زوجها على ألف درهم، فقال الوكيل: اختلعت فلانة من زوجها فلان بألف درهم يتم الخلع بقوله في رواية، وهو المختار، وأمّا إن قالت اخلعني على مال ولم يسمه، ولم يقدّره، فقال الزوج خلعتها على كذا، وفي هذا الوجه لا يتمّ الخلع بقول الزوج خلعت ما لم تقل المرأة قبلت، أو اختلعت في ظاهر رواية أصحابنا. وعلى رواية ابن سماعة يتمّ. ومعنى قولنا لا يتمّ الخلع على ظاهر الرواية أنّه لا يجب عليها بدل الخلع، وهل يقع الطلاق؟ اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يقع، به كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، وبعضهم قالوا لا يقع، وهو الأظهر والأشبه. وأمّا إن قالت اخلعني بغير مال، وفي هذا الوجه إذا قال الزوج خلعت يقع الطلاق؛ لأنّ تقدير المسألة كأنّ المرأة قالت طلقني طلاقاً بائناً، فقال الزوج طلقت، وأمّا إن قالت اخلعني ولم يزد على هذا، وفي هذا الوجه ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أنّه يقع الطلاق بقول الزوج خلعت، وعلى قياس ما حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمّد بن الفضل رحمه الله فيما إذا أمر الزوج المرأة بالخلع يجب أن يكون في المسألة روايتان. وإذا قال لها: «خوشتن أزمن بحز» فقالت: «خريدم» ، ولم يقل الزوج «فروحتم» لا تطلق، وهذا بخلاف ما لو قال لها اخلعي نفسك منّي، فقالت: اختلعت ولم يقل الزوج قبلت، وكذلك لو قال لها بالعربية اشتري نفسك منّي، فقالت الزوجة اشتريت، ولم يقل الزوج بعت لا يقع الطلاق، بخلاف قوله: اخلعي، هكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله. والفرق أنَّ قوله: اخلعي نفسك أمر الطلاق بلفظ الخلع والزوج يملك أمرها بذلك ببدل وبغير بدل، فصحّ الأمر وإن لم يكن البدل مذكوراً، أمّا قوله: «خوشتن بحر» أو اشتري نفسك أمر بالمعاوضة، والأمر بالمعاوضة لا يصحّ إذا لم يكن البدل مقدّراً معلوماً، وحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمّد بن الفضل رحمه الله، بخلاف ما ذكره الصدر الشهيد في قوله اشتر نفسك منّي، على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله. ولو قال: «خوشتن بخر بكذا» ذكر مالاً مقدّراً، أو قال بالعربية اشترِ نفسك بكذا، فقالت «خريدم» أو قالت؛ «اشتريت» ، ولم يقل الزوج بعت أو «فروختم» يتمّ الخلع في رواية، وهو المختار على ما بيّنا، وكذا في هذه الصورة إذا قال الزوج من لي «فروختم» بعد قول المرأة «خريد» يتمّ الخلع على الرواية (260ب1) المختارة. وعن هذا قيل: إذا قال لها: «خوشتن بخراز من بكايين ونفقة عدّة» ، فقالت: فقال الزوج: «من يك طلاق دادم» يقع عليها طلاقان أحدهما بالخلع، والثاني بالتطليق وأمّا إذا قال لها: «خوشتن بخر عدى أزمن» أو قال: «بحامة» ذكر بدلاً مجهولاً، فقالت «خريدم على كذا» لا يتمّ الخلع ما لم يقل الزوج «فروحتم» ، ولا يقع طلاق أيضاً، وهذا يجب أن يكون على ظاهر الرواية، أمّا إذا قال لها «خوشتن بخر» بغير شيء أو قال: اشتر نفسك

منّي بغير شيء لم يذكر الصدر الشهيد رحمه الله هذا الفصل في «واقعاته» . ورأيت مكتوباً بخطّ الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله عقب ذكر مسألة أمر الزوج المرأة بالخلع عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمّد بن الفضل، وكذلك لو تلفظ بلفظة البيع والشراء في الفصول كلّها فهو على ما وصفنا، وهذا إشارة إلى أنّ في هذا الفصل، يقع الطلاق بقولها «خريدم» كما في قوله: اخلعي نفسك بغير شيء وإشارة إلى أنَّ في قوله؛ اشترِ نفسك منّي روايتان: كما في قوله اخلعي نفسك وإذا قال لها «خوشتن خريدي أزمن» بمهرك، ونفقة عدتك، فقالت «خريدم» ولم يقل الزوج «فروحتم» ، قال بعض مشايخنا يتمّ الخلع، وقال بعضهم لا يتمّ. وقال الفقيه أبو جعفر نسأل الزوج أنّه أراد بقوله «خريدى» التحقيق أو السوم، فإن قال: أردت السوم لا يتمّ الخلع، وإن قال أردت التحقيق يتمّ، وعن الفقيه أبي الليث رحمه الله ما هو قريب عن هذا، فإنّه قال: لا يتمّ الخلع إلا إذا أراد بقوله «خريدي» التحقيق. وحكي عن شمس الإسلام الأوزجندي عن شمس الأئمة السرخسي رحمهما الله أنّه كان يقول: يتمّ الخلع وإن لم يقل الزوج «فروحتم» ، وقد رأيت في «فتاويه» هكذا. وصورة ما رأيت في «فتاويه» إذا قال لها: «خوشتن أزمن بهمّه حقّها خريدي» ، أو قال: «بجندين درم خريدي» فقالت «خريدم» ولم يقل الزوج «فروحتم» إن الخلع تام، ولو قال «خريدي» ولم يقل «بهمه حقها» ولا قال «بجندين درم» ، فقالت لا يتم الخلع ما لم يقل الزوج «فروحتم» ، والمعنى في ذلك أنّ تقدير كلامه «خوشتن خريدي كي من فروختم» وإذا، قال لها: اشتريت منّي ثلاث تطليقات بمهرك ونفقة عدّتك فقالت اشتريت أو قال لها خلعت نفسك منّي بكذا، فقالت: خلعت، والجواب فيها كالجواب في قوله: «خريدي» ، ولو قال لها «خوشين مي خريد بكذا» فقالت «خريدم» لا يتمّ الخلع ما لم يقل الزوج «فروحتم» ، وهذا باتفاق الأقول لأنَّ هذا للسوم خاصة ولا يحتمل التحقيق، وكذا إذا قالت: «خوشتن ميحزم» فقال الزوج «فروحتم» لا يتم الخلع.r وفي «فتاوى الفضليّ» : امرأة قالت لزوجها اشتريت نفسي منك لما أعطيت، أو قالت: اشتر وأرادت الإيجاب دون العدّة، فقال الزوج أعاطيك كذا يقع الطلاق لأنَّ هذا يصلح جواباً ولو قالت بالفارسيّة، قالت: «إنَّ حرمي» وباقي المسألة بحالها تصح لا تنوي أنّها أرادت العدّة أو الإيجاب. وإن قال حرم لا يصح ولا ينوي لأنَّ في الفارسيّة للإيجاب لفظاً، وهو قولها «حرمى» وللعدّة لفظ وهو قولها «حرم» ولا ينوي، فأمّا في العربية لفظهما واحد وهو قولها اشتري فينوي. وفيها أيضاً إذا قالت: «خوشتن حرمي ان تو بمهري، ونفقة عدتي دأدى» فقال الزوج أرى وقعت الفرقة؛ لأنَّ قولها بالفارسية خرمي الإيجاب، وقول الزوج أرى جواب، فصار كأنّه قال «دادم» ولو قال أرى تتم لا تقع الفرقة.

وفي «فتاوى النسفي» : إنَّ قولها «خرمي» ليس بإيجاب حتّى إنّها لو قالت «خوشتن خرمى» فقال الزوج «فروحتم» لا يتمّ الخلع ذكر الجهل أو لم يذكر؛ لأنّه للاستفهام إذا قالت لزوجها: «مر حقي مرابد تواست خوشتن خريدم» ، فقال الزوج «فروختم» لا يكون خلعاً بذلك المال، ولو قالت «به حقي» كان خلعاً ولو جرت العادة فيما بين النّاس أنّهم يريدون بقوله «صر حقي نهر حقي» يجب أن يصح الخلع والفتوى على أنه لا يصح إلا أن يكتب في الفتوى، كذا جرت العادة فحينئذٍ يفتى بالصحّة، وفي موضح آخر لو قالت «هر حقي» ك «مرااز تومى بايد خوشتن خريدم ازتو» ، أو قالت: «ميروين خوشتن خريدم ازتوا» فقال الزوج «فروختم» يكون خلعاً، ويلغوا قولها «حر حقي كه مرا ازنومى يايد وتصير كأنها ابتدأت فقالت: خويشتن خريدم ازتوا» أو قالت «سمرين خوشتن خريدم ازتو» . وإذا قالت المرأة اختلعت نفسي بمهري ونفقة عدتي ولم تقل منك، فقال الزوج خلعت، ولم يقل خلعتك لا يكون هذا خلعاً صحيحاً كذلك إذا قال بالفارسيّة: «خوشتن خريدم» ، فقال الزوج «فروختم» لا يكون خلعاً صحيحاً ولو قال «فروخمت» فهو خلع صحيح، هكذا ذكر في «مجموع النوازل» عن شيخ الإسلام السغدي رحمه الله. قال لا بدّ من ذكر الإضافة من أحد الزوجين، وقاسه على ما إذا قال لها اختاري، فقالت: اخترت لا يقع شيء، ولو قال اختاري، فقالت اخترت نفسي أو قال اختاري نفسك فقالت اخترت وقع الطلاق. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا جرت مقدّمات الخلع بين الزوجين، فقالت المرأة بعد ذلك «خوشتن خريدم بعدت وكايين» فقالت الزوج «فروختم» تصح، وإن لم يقل منك، وعلى هذا البيع والنكاح، وحكي عن عمر النسفي أنّه قال: اتفق المشايخ في زماننا: أنَّ الخلع صحيح بغير الإضافة إلى أحدهما لكثرة الاستعمال من العامّة، وعدّهم هذا خلعاً صحيحاً فصار بمنزلة قولهم «مرجه بدست كيرم برمن حرام» ، وبمنزلة البيع والشراء إذا قال البائع بعت هذا، وقال المشتري اشتريت هذا، فإنَّ هناك يتمّ البيع كذا ها هنا. وذكر في «المنتقى» : عن محمّد رحمه الله: إذا قالت المرأة لزوجها خلعت نفسي منك بألف درهم قالت ذلك ثلاث مرّات، فقال الزوج قد رضيت وأجزت كان ثلاثاً بثلاثة آلاف درهم، ولو قال الزوج للمرأة قد خلعتك على ما لك عليَّ من المال، قال ذلك ثلاث مرّات ولم يسمّ شيئاً فقالت المرأة قبلت ورضيت طلقت ثلاثاً، قال لأنّه لم يقع شيء إلا بقبولها (261أ1) . وفيه أيضاً: إذا قال الرجل لامرأته: أخلعك، فقالت قد فعلت فهذا باطل حتّى يقول الزوج: قبلت، قال ثمّة: والخلع في هذا من جانب الرجل لا يشبه التزوّيج، يريد به أن الرجل إذا قال لامرأة: أتزوجك على مائة درهم، فقالت: فعلت فإنه ينعقد النكاح بينهما وإن لم يقل الزوج بعد ذلك قبلت.

وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمّد رحمه الله: امرأة قالت لزوجها اخلعني، فقال قد خلعتك بألف درهم لم يقع الخلع حتّى قبلت المرأة قال ثمّة: النكاح والخلع سواء إلا في قول الرّجل لامرأة زوجيني نفسك، فقالت زوجتك نفسي ولم يذكرا مالاً، فهذا الجواز في النكاح ولا يجوز في الخلع؛ لأنَّ النكاح يجوز بلا تسمية مال، بخلاف الخلع إذا قالت «خوشتن خريدم بكيين» ونفقة عدّة، فقال الزوج «يدر فيم» ، فقد قيل لا يقع الخلع لأنَّ كلام الزوج لا يصلح جواباً لكلامها، فكان ابتداء رجل قال لامرأته «من خوشتن بازتو بعدت وكايين خريدم» ونوى الطلاق فقالت المرأة «فروختم» ، فقد قيل صحّ الخلع كمن قال لامرأته أنا منك بائن ونوى الطلاق إنَّ هناك تطلق المرأة، وأكثر المشايخ على أنّه لا يصح الخلع؛ لأنّه ليس للزوج مهر ولا نفقة حتّى يصحّ قوله «فريدم بكايين» . وهو نظير ما لو قال لعبده «خويشتن ازتو خريدم» فقال العبد «فروختم» ، فإنّه لا يعتق العبد، هكذا قالوا والمعنى الصحيح لمن يقول بعدم الصحّة أنّه أضاف الشراء إلى غير محلّه؛ لأنَّ الشراء لإثبات الملك فإنّما تصح إضافته إلى محلّ لا ملك فيه للمشتري، والزوج مالك نفسه فكيف يصح منه شراء نفسه. نوع آخرمنه إذا قال لها خالعتك، ولم يذكر المال أصلاً قالت قبلت لا يسقط شيء من المهر هذا جواب ظاهر الرواية. وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في أوّل إقرار «الكافي» ؛ إذا قال لها خالعتك، فقالت قبلت يقع الطلاق وتقع البراءة للزوج عن المهر إن كان عليه مهر، وإن لم يكن عليه مهر يجب عليها ردّ ما ساق إليها من المهر؛ لأنَّ المال مذكور عرفاً بذكر الخلع. وإذا قالت بالفارسيّة: «خويشتن خريدم ارتو» ، فقال الزوج: «فروحتم» تقع تطليقة بائنة ولا ترد ما قبضت من المهر، وإن لم تقبض برىء الزوج من المهر لأنَّ الخلع أوجب البراءة، هكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» ، ورأيت في بعض الكتب أنَّ في براءة الزوج عن المهر إذا لم يذكر في الخلع شيئاً روايتان عن أبي حنيفة رحمه الله، والأصح هو البراءة، وفي «شرح الكافي» : أنَّ الزوج يبرأ عن المهر عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن ما يذكر في الخلع شيئاً، ولا تسقط نفقة العدّة إلا بالذكر، وإذا قال لها خالعتك ونوى الطلاق يقع الطلاق، ولا يبرأ الزوج عن المهر بالاتفاق. وإذا قال لها بالعربية: بعت لا يقع الطلاق ما لم يقل اشتريت، وإذا قالت اشتريت حتّى يقع الطلاق، فحكم المهر ما ذكرنا فيما إذا قال لها بالفارسية «مروحيمت» هذا إذا خالعها، ولم يذكر المال أصلاً. وأمّا إذا خالعها على جميع مهرها والمهر مقبوض وذلك ألف درهم والمرأة مدخول بها كان عليها ردّ ما قبضت من المهر، أو ردّ مثله وإن كان غير مقبوض سقط عن الزوج جميع المهر؛ لأنّه وجب للزوج عليها ألف درهم لأنه خالعها على مهرها ومهرها ألف

درهم، وكان للمرأة على الزوج مثل ذلك فيلتقيان قصاصاً، ولا يتبع أحدهما صاحبه بشيء من المهر بسبب الطلاق في الفصلين جميعاً، وإن لم يكن الزوج دخل بها فخالعها والمهر مقبوض، فالقياس أن يرجع الزوج عليها بألف وخمسمائة، ألف بدل الخلع وخمسمائة نصف المهر بالطلاق قبل الدخول، وفي الاستحسان يرجع عليها بألف درهم لا غير خمس مائة بدل الخلع وخمس مائة بالطلاق قبل الدخول، وإن كان المهر غير مقبوض فالقياس أن يرجع الزوج عليها بخمسمائة. وفي الاستحسان لا يرجع عليها بشيء ويبرأ عن جميع المهر، وبيان وجه الاستحسان أنّه أضاف الخلع إلى مهرها ومهرها ما يجب لها بالنكاح والواجب لها بالنكاح متى ورد الطلاق قبل الدخول نصف المهر، وذلك خمس مائة، فكأنّه خالعها على ذمّة الزوج خمس مائة بعد الطلاق قبل الدخول فالتقيا قصاصاً، وإن كان مقبوضاً يرجع الزوج عليها بألف لا غير خمس مائة بدل الخلع، وخمس مائة بالطلاق قبل الدخول، كذا ها هنا هذا إذا خالعها على جميع مهرها. وإن خالعها على بعض مهرها بأن خالعها على عشر مهرها مثلاً والمهر مقبوض، وذلك ألف درهم والمرأة مدخول بها فللزوج عليها من المهر مائة بدل الخلع، والباقي سالم لها وإن كان غير مقبوض سقط عن الزوج عشر الألف بدل الخلَع للاختلاف، وتسقط التسعة المائة الباقية بسبب أي المهر الخلع عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنَّ الخلع عنده يوجب براءة كل واحد منها عن صاحبه عن حقوق النكاح، سمّى ذلك في الخلع أو لم يسمّ وعندهما لا يسقط والتسعمائة الباقية؛ لأنَّ عندهما لا تسقط بالخلع إلا ما سمّيا فيه وإن لم يكن الزوج دخل بها والمهر مقبوض، فالقياس أن يرجع الزوج عليها أنَّ الستمائة بدل الخلع وخمس مائة بالطلاق قبل الدخول بها. وفي الاستحسان: يرجع عليها بخمس مائة وخمسين درهماً؛ لأنّه أضاف الخلع إلى عشر مهرها وبالطلاق قبل الدخول تبيّن أنَّ مهرها خمس مائة، وأنَّ عشرها خمسون وكأنّه خالعها على خمسين، وإن كان المهر غير مقبوض فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله على حقّ أنَّ الاستحسان لا يرجع المرأة على الزوج بشيء وعلى قولهما على جواب الاستحسان، سقط عن الزوج خمسون درهماً بسبب الخلع ويرجع عليه بأربعمائة وخمسين بناءً على الأصل الذي مرّ، وعلى هذا القياس يخرج جنس هذه المسائل هذا إذا خالعها على جميع مهرها أو على بعض مهرها. وإن بارأها على جميع مهرها، أو على بعض مهرها، فعند محمّد رحمه الله الجواب فيه، كالجواب في الخلع لا يسقط إلا ما سميّا فيها، وعندهما (261ب1) الجواب فيها، كالجواب في الخلع على قول أبي حنيفة رحمه الله حتّى برىء كل واحد منهما عن صاحبه عن جميع حقوق النكاح. وأمّا إذا خالعها على مال مسمّى معروف سوى الصداق؛ فإن كانت المرأة مدخولاً بها والمهر مقبوض، فإنّها تسلم إلى الزوج بدل الخلع ولا يتبع أحدهما صاحبه بعد ذلك

بشيء، وإن كان المهر غير مقبوض فالمرأة تسلّم إلى الزوج بدل الخلع، ولا ترجع على الزوج بشيء من المهر عند أبي حنيفة رحمه الله طلاقاً لهما على الأصل الذي قلنا، وأمّا إذا كانت المرأة غير مدخول بها والمهر مقبوض فإن الزوج يأخذ منها بدل الخلع، ولا يرجع عليها بنصف المهر بسبب الطلاق قبل الدخول عند أبي حنيفة رحمه الله، وبهذا الفصل تبيّن أنَّ ما ذكر من جواب الاستحسان فيما إذا خالعها على مهرها والمرأة غير مدخول بها والمهر مقبوض قول أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله، وإن لم يكن المهر مقبوضاً يأخذ الزوج منها بدل الخلع، وهي لا ترجع على زوجها بنصف المهر عند أبي حنيفة خلافاً لهما. وأمّا إذا بارأها بمال معلوم سوى المهر فالجواب فيه عند محمّد كالجواب في الخلع عنده، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف الجواب فيه كالجواب في الخلع عند أبي حنيفة. وأمّا نفقة العدّة ومؤنة السكنى إن شرط ذلك في الخلع فالمبارأة تقع البراءة عليهما للزوج بلا خلاف، وإن لم يشترط ذلك في الخلع فالمبارأة لا تقع للمرأة بالإجماع، أمّا على قولهما فلا مشكل، وأمّا على قول أبي حنيفة فلأنَّ الخلع عنده إنّما يوجب البراءة عن حقوق قائمة وقت الخلع ونفقة العدّة تجب شيئاً فشيئاً، والخلع لا يمنع ثبوت حقّ بعده، وإن شرطا البراءة عن السكنى في الخلع لا يصح؛ لأنَّ السكنى في بيت العدّة حقّ الله تعالى وإسقاطها لا يعمل في حقّ الله. وأمّا نفقة الولد وهي مؤنة الرضاع فلا تقع البراءة عنها إن لم يشترط ذلك في الخلع والمبارأة بالإجماع، وإن شرطا إن وقتا لذلك وقتاً بأن قال: إلى سنة، أو ما أشبه ذلك جاز، وإن لم يوقتا لا يجوز ولا تقع البراءة عنها، وأمّا دين آخر سوى المهر فلا تقع البراءة عنها في الخلع، والمبارأة بدون الشرط في «ظاهر الرواية» عن أبي حنيفة رحمه الله، وفي رواية الحسن عنه تقع البراءة عنه بدون الشرط. وإذ قالت: «خويشتن خيدم بهر حقي كي مرا بد توايت» لا تقع البراءة عن نفقة العدّة؛ لأنَّ نفقة العدّة ليست لها عليها في الحال، وأمّا إذا طلقها بمال آخر سوى المهر فالجواب فيه عندهما كالجواب في الخلع، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فقد روى الحسن عنه أن كل واحد منهما يبرأ عن حقوق النكاح، وبه أخذ الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله. وفي «ظاهر الرواية» عنه لا يبرأ، وبه أخذ عامّة المشايخ. وأمّا إذا كان العقد بلفظة البيع بالعربية، أو الفارسيّة فعلى قولهما الجواب فيه كالجواب في الخلع. وأمّا عند أبي حنيفة رحمه الله فقد اختلفت المشايخ فيه، وإذا خالعها بما لها عليه من المهر وقع الطلاق، ظنّاً منه أنَّ لها عليه بقيّة المهر ثمَّ علم أنه لم يبق لها عليه من المهر وقع الطلاق على مهرها، فيجب عليها أن ترد المهر؛ لأنّه طلّقها بطمعٍ خالصٍ عليه، فلا يقع الخلع مجاناً. ونظير هذا ما لو خالعها على عبدك الذي لك عبدي أو على متاعك الذي في يدي

فإذا ليس في يديه شيء وقع الخلع على مهرها، إن لم تقبض المهر برىء الزوج عنه، وإن قبضت ردّت المهر عليه، فأمّا إذا علم الزوج أن لا مهر عليه وباقي المسألة بحالها يصح الخلع، ولا يرد على الزوج شيئاً، بمنزلة ما لو خالعها على ما في هذا البيت من المتاع والزوج يعلم أنّه لا متاع فيه، ذكره الصدر الشهيد رحمه الله في الباب الأوّل من «الواقعات» . وعلى هذا إذا قال لها: بعتك تطليقة بمهرك والزوج يعلم أنّه لم يبقَ لها عليه شيء من المهر، فاشترت هي يقع الطلاق رجعياً مجاناً، وإذا تزوّج امرأة على مهر مسمّى، ثمَّ طلقها بائناً ثمَّ تزوجها ثانياً على مهر آخر ثمَّ اختلعت من زوجها على مهرها يبرأ عن المهر الثاني دون الأوّل؛ لأنَّ الخلع وقع في هذا النكاح فينصرف إلى مهر هذا النكاح. وكذلك لو قالت بالفارسيّة: «خويشتن خريدم آزتو بكايين ويهمه حقها كحرابرتواست» لا تبرأ عن المهر الأوّل، والله أعلم بالصواب. تمَّ هذا الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه في يوم الخميس في شهر ذي القعدة سنة أربعين وثمانمائة الهجرية على يد العبد الفقير الحقير، على ابن حمشيد بن حسن......... في مدينة الكرمان يتلوا في الدفتر الآخر. نوع آخر منه إذا اختلعت المرأة من زوجها على شيء آخر سوى المهر مهر بين ما فيه من كتاب الطلاق،.... الأوّل: في بيان أنواعه. الثاني: في بيان شرط صحّته وحكمه. الثالث: في بيان من يقع طلاقه ومن لا يقع. الرابع: فيما يرجع إلى صريح الطلاق. الخامس: في الكنايات والمشيئة والتفويض. ويتصل به إيقاع الطلاق على المبانة، وعلى المطلقة بصريح الطلاق. السادس: في الإيقاع بالكتاب، والصلاة والسلام على خير خلقه محمّد وآله أجمعين الطيبين الطاهرين. نوع آخر منه إذا اختلعت المرأة من مهرها عن شيء آخر سوى المهر فهذا على وجوه: الأوّل: أن يسمّي في الخلع شيئاً لا قيمة له أصلاً نحو الخمر والخنزير والميتة والدّم، وفي هذا الوجه الخلع واقع، ولا شيء للزوج على المرأة؛ لأنّ الزائل بالخلع عن الزوج منافع البضع، ومنافع البضع غير متقوّمة في الأصل لعدم المماثلة، ولا تصير متقوّمة بنفس الخلع؛ لأنَّ الخلع بغير مال جائز، وإنّما تصير متقوّمة إذا سمّى في الخلع ما هو مال من كل وجه، والخمر وما أشبهها مال من وجه دون وجه؛ لأنّها إن كانت مالاً عند غيرنا فليس بمال عندنا، ولا يثبت التقوّم بتسميتها فوقع الخلع مجّاناً لهذا الوجه. الوجه الثاني: أن يُسمّى في الخلع مالٌ احتمل أن يكون مالاً، وأن لا يكون (262أ1)

مالاً بأن اختلعت على ما في بيتها، أو على ما في يدها من شيء، فإن اسم الشيء كما يتناول المال يتناول غير المال، وفي هذا الوجه ينظر إن كان في يدها أو في بيتها في تلك السّاعة شيء فذلك للزوج، وإن لم يكن في بيتها ولا في يدها شيء فلا شيء للزوج، وهذا لأنَّ البدل في العقود لا يثبت إلا بالتسمية أو بمقتضى العقد، أو بالإشارة، ولم يوجد ها هنا تسمية المال ... ، وهذا ظاهر، ولا مقتضى العقد فإنَّ الخلع بغير مال صحيح، وكذلك لم توجد الإشارة إلى المال، فلم يثبت ذكر المال أصلاً، فلهذا يقع الخلع مجّاناً، وكذلك إذا اختلعت على ما في بطون غنمها أو جاريتها ولم ينصّ على الولد؛ فإن ما في البطن قد يكون مالاً، وقد لا يكون بأن تكون ريحاً. الوجه الثالث: إذا سمّت في الخلع ما هو مال، إلا أنّه ليس بموجود في الحال، وإنّما توجد في الثاني بأن اختلعت على نمو نخيلها العام أو على ما تلد أغنامها العام، أو على ما تكسب العام، وفي هذا الوجه وجب عليها ردّ ما قبضت من المهر وجد ذلك أم لا؛ لأنَّ المعدوم لا يصح ذكره عوضاً في شيء من العقود فيبقى مجرّد تسمية ما هو مال متقوّم، وذلك يوجب ردّ ما قبضت من المهر على الزوج لما نُبَيِّن بعد هذا إن شاء الله. الوجه الرّابع: إذا سمّت في الخلع ما هو مال لا يتعلق وجوده بالزمان إلا أنّه مجهول لا يقف على قدره، بأن اختلعت على ما في بيّتها أو يدها من المتاع، أو اختلعت على ما في نخيلها من الثمار، أو اختلعت على ما في بطون غنمها من ولد، أو على ما في ضرع غنمها من لبن، وفي هذا الوجه إن كان هناك ما سمّت في الخلع فللزوج ذلك، وإن لم يكن هناك شيء لزمها ردّ ما قبضت من المهر؛ لأنّه صار مغروراً من جهتها تسمية ما هو مال، ولا يمكن الرجوع إلى قيمة هذه الأشياء بجهالتها نفسها، ولا يمكن الرجوع إلى قيمة البضع عند الخروج عن ملك الزوج فوجب الرجوع إلى ما قام على الزوج، وذلك ما أعطاها من المهر. الوجه الخامس: إذا سمّت في المتاع ما هو مال، وله مقدار معلوم بأن اختلعت على ما في يدها من دراهم، أو دنانير، أو فلوس، فإنَّ أوّل ما يطلق عليه اسم الدراهم ثلاثة، فإن كان مقداره معلوماً، وفي هذا الوجه ينظر إن كانت في يدها ثلاثة دراهم فصاعداً فللزوج ذلك، وإن لم يكن في يدها شيء من ذلك فله ثلاثة......... من الدراهم والدنانير وعدداً من الفلوس، وإنّما أوجبنا أوّل ما يطلق عليه اسم الدراهم والدنانير؛ لأنّها تلتزم بمقابلة ما ليس بمال ولا متقوّم، فكان هذا في حقّها.... الإقرار والوصيّة. ومن أقرّ لغيره بدراهم أو أوصى له بدراهم، فإنّه يلزمه ثلاثة دراهم، وإن كان في يده درهمان يؤمر بإتمام ثلاثة دراهم؛ لأنها ذكرت ما التزمت باسم الجمع والمثنى إن كان فيه معنى الجمع فليس بجمع مطلق، فإنّ التثنية غير الجمع.

فإن قيل: قد ذكرت في كلامها كلمة (من) وإنّها للتبعيض والدرهمان بعض الجمع، ولا تلزمها الزيادة عليها. قلنا: كلمة من إنها تذكر للتبعيض في كل موضع كان الكلام صحيحاً بدونها، أمّا في كلّ موضع كان الكلام مختلاً بدونها فكلمة من تكون صلة تصحيحاً للكلام، وها هنا الكلام يختلّ بدون كلمة من، فإنّها تصير قائلة: اخلعني على ما في يدي دراهم، وهذا كلام مختل فجعلناها صلة فبقي لفظ الجمع في الدراهم معتبراً. جواب آخر: أنَّ كلمة من في مسألتنا عملت مرّة في التمييز؛ لأنّها دخلت على ما هو عام وهو قولها على ما بدىء فبقولها من الدراهم ميّزت الدراهم من غيرها، وإذا عملت في التمييز مرّة لا تعمل في التبعيض مرّة أخرى، وإذا لم تعمل هذه الكلمة في تبعيض الدراهم صار ذكرها في حقّ الدراهم ولا ذكر بمنزلة، ولو لم تذكر كلمة من وقالت: اخلعني على ما في الدارهم التي في يدي لزمها ثلاثة دراهم؛ لأنّه أقل ما يطلق عليه هذا الاسم. الوجه السادس: إذا سمّت في الخلع ما هو مال، وأشارت إلى ما ليس بمال بأن اختلعت على هذا الدن من الخلّ فإذا هو خمر، وفي هذا الوجه: إن علم الزوج بكونه خمراً فلا شيء له، وإن لم يعلم رجع عليها بالمهر الذي أعطاها، وعندهما له مثل ذلك الدن من الخلّ، كما في الطلاق. نوع آخر فيما يصلح جواباً، وما لا يصلح جواباً رجل قالت له امرأته: اخلعني أو قالت: «خويشتن خريدم آزتو بعدت وكايين» وقال الرجل: أنتِ طالق، أو قال: طلقتك، يقع تطليقة بائنة؛ لأنَّ هذا خرج مخرج الجواب وإنّه يصلح جواباً فيجعل جواباً. في «فتاوى أبي الليث» ، وفي «مجموع النوازل» عن شيخ الإسلام أبي الحسن رحمه الله: أنّه تقع تطليقة رجعيّة، ولم يجعله جواباً والصحيح هو الأوّل، وهكذا كان يُفتي شيخ الإسلام الأوزجندي رحمه الله، وكذلك إذا قال لها: بعت منك طلاقك بمهرك التي لك عليّ، فقالت: طلقت نفسي، يقع طلاق بائن بمهرها، بمنزلة قولها: اشتريت، لأنَّ هذا يصلح جواباً فيجعل جواباً.h وفي «فتاوى النسفي» إذا قالت المرأة لزوجها: «خويشتن خريدم آزتو بكايين ونفقة عدة» ، وقال الزوج: «من دست كوتاه كردم» أنّه لا يكون جواباً، وقيل ينبغي أن يكون جواباً إذا نوى الجواب أو نوى الطلاق. قال لها: بعت منك تطليقة بمهرك ونفقة عدتك، فقالت المرأة: «بحان خريدم» يصحّ الخلع، ويقع الطلاق؛ لأنَّ هذا جواب على سبيل المبالغة، كقولها: «بارز وخريدم المتوسطون» . إذا قالوا للمرأة «بهر حقّي كه ربان راد ركردن شوبان بود بيك طلاق خويشتن خريدي» فقالت: «خريدم» ، فقال الزوج: «من يك

طلاق نسيت داوم» والمرأة مدخولة بها يقع تطليقة رجعية؛ لأنّه لو وقع تطليقة بائنة لا يكون سنة، فيكون هذا ابتداء كلام من الزوج، لا جواب سؤالها. هكذا ذكر في «فتاوى سمرقند» : ... إلا أنَّ هذا الجواب إنّما يستقيم على رواية «الأصل» ؛ لأنَّ على رواية «الأصل» : الثاني ليس بشيء، وأمّا على رواية زيادات «الزيادات» : البائن شيء، ولا يستقيم هذا الجواب على تلك الرواية، إذا قال لامرأته «بهر حقي كه زنان رادر كردن شوعان بود خويشتن آزمن خريدي» فقالت: «خريدم» ، فقال الزوج: (262ب1) «روا كنون» لا يقع الطلاق؛ لأنّ قوله «رواكنون» لا يحتمل الخلع؛ لأنّه يحتمل إظهار النفرة عنها لما علم بمقالتها، ولا يقع الطلاق إلا بالنيّة في هذا الموضع أيضاً، وهذا الجواب إنّما يستقيم على قول من يقول في قوله «خويشتن خريدي» ، فقالت «خريدم» فإنّه لا يتمّ الخلع أيّضاً، وعلى قول من يقول يتمّ الخلع لا يستقيم هذا الجواب، وكذلك إذا قالت: «خويشتن خريدم آزتو بكايين ونفقة عدة» ، فقال الزوج: «رو» لا يقع الخلع ولا يكون قوله «رو» جواباً إلا بالنيّة. امرأة قالت لزوجها «خويشتن خريدم» ، فقال الزوج بطريق الاستهزاء: «دارهان فرو حيت» ، فقد قيل: الخلع صحيح. والجدّ والهزل والقصد وغير القصد فيه سواء. وإذا قالت لزوجها «هويشتن خريدم بعدت كايين» ، فقال الزوج «فروختم بسه طلاق» فهذا ابتداء كلام من الزوج وليس بجواب فيتوقف على قبولها، فإن قبلت يقع الثلاث وإلا لا يقع شيء، إلا إذا كانت المرأة نوت الشراء بثلاث تطليقات، فحينئذٍ يصحّ الخلع، ويكون كلام الزوج جواباً فتقع الثلاث وكانت واقعة الفتوى. امرأة قالت لزوجها «خويشتن خريدم آزتو سكى حانادى» ، فقال الزوج «زمن سكى كرده فروحتم» فقيل: إن كانت الكردة مثل الحانادي أو أصغر منه يكون جواباً، وإن كان أزيد منه لا يكون جواباً بل يكون ابتداءً، فيحتاج فيه إلى قبول المرأة، وإن كانت الكردات مختلفة يسأل الزوج: «كدام كرده خواشتي» ، ويبق الحكم عليه، وإن قال: لم أرد نوعاً منها بعينه إن قيل: لا يجعل جواباً فله وجه، وإن قيل: يجعل جواباً يصرف كلامه إلى أصغر الأنواع فله وجه أيضاً، قال له: «خويشتن بخر بعدت وكايين» فقالت: «خريدم بكايين» لا يقع الخلع ما لم يقل الزوج بعت؛ لأنّ هذا الكلام من المرأة ليس بجواب؛ لأنّها زادت حرف الجواب، فإنّه يكفيها أن تقول: «خريدم» ولو قالت: «خريدم بعدت وكايين» يقع الخلع، فإن لم يقل الزوج بعت، فيجعل ذلك منها جواباً وإن زادت على حرف الجواب إلا أنّها ما قصدت على التمام بل أعادت جميع ما في السؤال، والزيادة على حرف الجواب إنّما يمنع الجواب إذاً، فيصير المجيب عن التمام بأن لم يعد جميع ما في السؤال، وأمّا إذا عاد جميع ما في السؤال لا يمنع الجواب، وهذا أصل معروف. في «الجامع» : امرأة قالت لزوجها: «خو يشتن خريدم قروش» ، فقال الزوج: فعلت، يكون خلعاً، ولو لم يقل: «قروش» لا يكون خلعاً، هكذا قيل وفيه نظر، وفي «فتاوى الأصل» : امرأة قالت لزوجها: اختلعت منك بكذا، وهو ينسج كرباس فجعل ينسج ويخاصم ثمَّ قال: خلعتك، إن لم يطل، فهذا جواب، وقيل: هو جواب وإن طال إذا كانت كلماتهم تتعلّق بالخلع، وحكي عن شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: أنّه سئل عن امرأة قالت لزوجها: اشتريت رأسي بكذا، فقال الزوج بعد اشتغال بكلمات: بعت، قال: إن كان كلامهم يتعلّق بالخلع، لا يتبدّل المجلس. وفي «مجموع النوازل» : إذا قالت المرأة «خويشتن خريدم بعدت وكايين» ، فقال الزوج «بيك آند» فهذا ليس بجواب، وفيه أيضاً: «خويشتن خريدم آزتو بكايين ونفقة عدت» ، فقال الزوج «فروختم باين وبسه عطريف ديكر» ، فقالت المرأة: «آند» ، فهذا خلع تام؛ لأنَّ كلامهما الأوّل وقع معتبراً، كلام الزوج جواب شرط الزيادة، وقوله: «آند» دليل الرضا بالزيادة، فلهذا تمّ الخلع، قالت: «خويشتن خيدم بمهري ونفقة عدتي» ، فقال الزوج: «فروحتم بحكم خويشن» فهذا خلع تامّ. إذا قالت: «خويشتن خريدم بعدت وكايين» ، وقال الزوج «فروحته كير» ، فهذا خلع تام، وهذا إذا أراد به الزوج التحقيق، وقد مرّت المسألة من قبل. امرأة قالت لزوجها «خويشتن خريدم آزتو سكى حانادى» ، فقال الزوج «زمن سكى كرده فروحتم» فقيل: إن كانت الكردة مثل الحانادي أو أصغر منه يكون جواباً، وإن كان أزيد منه لا يكون جواباً بل يكون ابتداءً، فيحتاج فيه إلى قبول المرأة، وإن كانت الكردات مختلفة يسأل الزوج: «كدام كرده خواشتي» ، ويبق الحكم عليه، وإن قال: لم أرد نوعاً منها بعينه إن قيل: لا يجعل جواباً فله وجه، وإن قيل: يجعل جواباً يصرف كلامه إلى أصغر الأنواع فله وجه أيضاً، قال له: «خويشتن بخر بعدت وكايين» فقالت: «خريدم بكايين» لا يقع الخلع ما لم يقل الزوج بعت؛ لأنّ هذا الكلام من المرأة ليس بجواب؛ لأنّها زادت حرف الجواب، فإنّه يكفيها أن تقول: «خريدم» ولو قالت: «خريدم بعدت وكايين» يقع الخلع، فإن لم يقل الزوج بعت، فيجعل ذلك منها جواباً وإن زادت على حرف الجواب إلا أنّها ما قصدت على التمام بل أعادت جميع ما في السؤال، والزيادة على حرف الجواب إنّما يمنع الجواب إذاً، فيصير المجيب عن التمام بأن لم يعد جميع ما في السؤال، وأمّا إذا عاد جميع ما في السؤال لا يمنع الجواب، وهذا أصل معروف. في «الجامع» : امرأة قالت لزوجها: «خو يشتن خريدم قروش» ، فقال الزوج:

فعلت، يكون خلعاً، ولو لم يقل: «قروش» لا يكون خلعاً، هكذا قيل وفيه نظر، وفي «فتاوى الأصل» : امرأة قالت لزوجها: اختلعت منك بكذا، وهو ينسج كرباس فجعل ينسج ويخاصم ثمَّ قال: خلعتك، إن لم يطل، فهذا جواب، وقيل: هو جواب وإن طال إذا كانت كلماتهم تتعلّق بالخلع، وحكي عن شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: أنّه سئل عن امرأة قالت لزوجها: اشتريت رأسي بكذا، فقال الزوج بعد اشتغال بكلمات: بعت، قال: إن كان كلامهم يتعلّق بالخلع، لا يتبدّل المجلس. وفي «مجموع النوازل» : إذا قالت المرأة «خويشتن خريدم بعدت وكايين» ، فقال الزوج «بيك آند» فهذا ليس بجواب، وفيه أيضاً: «خويشتن خريدم آزتو بكايين ونفقة عدت» ، فقال الزوج «فروختم باين وبسه عطريف ديكر» ، فقالت المرأة: «آند» ، فهذا خلع تام؛ لأنَّ كلامهما الأوّل وقع معتبراً، كلام الزوج جواب شرط الزيادة، وقوله: «آند» دليل الرضا بالزيادة، فلهذا تمّ الخلع، قالت: «خويشتن خيدم بمهري ونفقة عدتي» ، فقال الزوج: «فروحتم بحكم خويشن» فهذا خلع تامّ. إذا قالت: «خويشتن خريدم بعدت وكايين» ، وقال الزوج «فروحته كير» ، فهذا خلع تام، وهذا إذا أراد به الزوج التحقيق، وقد مرّت المسألة من قبل. نوع آخر رجل قال لامرأته: كلّ شيء سألني الله تعالى من أجلك سبب المهر وغيره «ترفرو ختم بان طلاق كيه آن توست» ، فقالت المرأة: اشتريت مرّة يقع الطلاق؛ لأنّه باع منها ما هو حقّها ولا يصحّ، كما لو قال لغيره: بعت منك خادمك هذا بعبدي هذا. في «فتاوى أبي الليث» : ولو قالت: بعت منك مهري، ونفقة عدّتي اشتريت، فقال اشتريت «خيزورو» فقامت المرأة وذهبت فالظاهر أنّها لا تطلق؛ لأنّه ما باع نفسها ولا طلاقها منها، وإنّما اشترى مهرها، وهذا لا يكون طلاقاً في هذا الموضع أيضاً، وهذا إذا لم ينوِ الزوج بقوله «خيزورو» الطلاق. إذا قال الرّجل لامرأته: بعت منك ثلاث تطليقات بمهرك ونفقة العدّة، فقالت المرأة مجيبة له: بعت، ولم تقل اشتريت، أو كان كأنّها بالفارسية فقال الزوج: «فروحتم سنه طلاق بكايين ونفقة عدّت تو» فقالت: «فروحتم» ولم تقل: «خريدم» ، قال الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله: «أنت بهمه» ، كأنّها قالت: بعت مهري ونفقة عدتي بهذه التطليقة، وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله لا يقع؛ لأنّ كلامها لا يصح جواباً فكان ابتداء، وقول الفقيه أبي بكر أحب إلينا. إذا قال لها: بعت منك تطليقة، فقالت: اشتريت، تقع تطليقة رجعية مجّاناً، ولو قال: بعت منك نفسك، فقالت: اشتريت، تقع تطليقة بائنة؛ لأنَّ قوله بعت نفسك من كنايات الطلاق، وقوله بعتك تطليقة صريح. وإذا قالت: بعت منك مهري بتطليقة، فقال الزوج: اشتريت، تقع تطليقة بائنة. امرأة قالت لزوجها: «سيح روز ينست كه از خويشتن نمي حرم» ، فقال الزوج: «من ينومي فروشم» لا يصحّ الخلع. ولو قالت: «مردوز خويشتن في خرم» فقال الزوج «من ينومي فروشم» يصحّ الخلع،

وقد قيل: لا يصح الخلع في الوجهين وهو الأصح. قالت لزوجها: «خويشتن خريدم آزتو ناوندي درهم فعلان سبه ناره جاه» ، فقال الزوج: «فروختم تران كه ناده روزان حامها بمن وده روز كدشت ونداد» هل يصحّ الخلع؟ فقد قيل: لا يصحّ. وقال نجم الدين رحمه الله: الخلع صحيح تامّ؛ لأنَّ الشرط هو القبول دون الإعطاء منها وهو الصحيح، وقد مرّ جنس هذا في الفصل المتقدّم. رجل قال لامرأته: «فروختي آين رزو سراي (263أ1) بدان طلاق كه ترا سوى منست» ، فقالت: «فروختم» ، فقال الزوج «خريدم» طلقت ثلاثاً، لأنَّ الطلاق الذي لها عنده الثلاث. قال: ألا يرى أنّه لو قال لها: مالك عندي من الوديعة دخل كل وديعة لها عنده؟ كذا ها هنا. هكذا ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» قالوا: إنّما يقع الثلاث إذا نوى الزوج والمرأة الثلاث، قال لها: بعت منك تطليقة بجميع مهرك، وبجميع ما في البيت غير ما عليك من القميص، فاشترت المرأة وكان عليها سوار وخلخال، فالخلع واقع، وما عليها من كسوتها وحليتها ما استثنى، وما لم يستثني فهو لها؛ لأنّ ما في البيت لا يراد به ما عليها. إذا قال الرّجل لامرأته: اخلعي نفسك منّي بمهرك ونفقة عدّتك، ولغتها بالعربيّة حتّى قالت: اختلَعت منك بالمهر ونفقة العدّة وأبرأتك عن المهر ونفقة العدّة وهي لا تعلم بذلك. ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» أنّه إن قبل الزوج صحّ، وإن لم يقبل لا يصحّ؛ لأنَّ قوله اخلعي نفسك بالمهر ونفقة العدّة توكيل، والتوكيل لا يعمل بدون العلم من الوكيل، فإذا قالت اختلعت نفسي منك بالمهر ونفقة العدة كان هذا ابتداء إيجاب منه فيصحّ وإن لم يعلم بذلك، كمن طلّق أو أعتق أو دبّر وهو لا يعلم، وإذا صحّ الإيجاب يتوقف عمله على قبول الزوج، فإن قبل صحّ، ويبرأ عن المهر والنفقة فيما مضى بالإبراء صريحاً. وبعض مشايخنا على أنّه لا يصح الخلع، ولا يبرأ الزوج عن المهر إذا لم تعلم المرأة بذلك وهو الصحيح؛ لأنَّ الخلع معاوضة فصار بمنزلة البيع، والعوامّ لو قالوا: بعنا واشترينا ولا يعلمون ذلك لا يصح، بخلاف الطلاق والعتاق؛ لأن كل واحد منها إسقاط محض، والخلع ليس بإسقاط محض بل فيه معنى المعاوضة فكان.... البيع، ولا.... الطلاق والعتاق فلا يصحّ من غير علم لهذه. رجل قال لامرأته: بعت منك تطليقة بثلاثة آلاف درهم، ثمَّ قال لها ثالثاً مثل ذلك، فقالت: اشتريت، والزوج يقول: أردت بذلك التكرار، لا يصدّق، ويقع ثلاث تطليقات، ولا يجب عليها إلا ثلاثة آلاف درهم، لأنَّ الأوّل وإن كان ثانياً أو الثاني والثالث صريح ولا يجب البدل بهما لانعدام شرط وجوب البدل بهما، وهو زوال الملك بهما لزواله بالطلاق الأوّل، وصريح الطلاق إذا لم يجب به المال يلحق الثاني بلا خلاف. ولو قال لها: بعت منك هذا الثوب بمهرك ونفقة عدّتك، فقالت اشتريت ثمَّ طلقها،

فبيع الثوب باطل بجهالة نفقة العدّة، ويقع الطلاق رجعيّاً؛ لأنَّه أتى بصريح الطلاق. وفي «الأصل» : إذا قالت بعني طلاقي كلّه بألف درهم، فقال: بعت، وقع ثلاث تطليقات، وله ألف درهم سواء قبلت المرأة بعد ذلك أو لم تقبل وهو الصحيح؛ لأنَّ معنا قولها: بعني طلاقي كلّه بألف درهم، طلقني ثلاثاً بألف درهم، ولو قالت: طلقني ثلاثاً بألف درهم، فقال: طلقت، لا يحتاج إلى قبول المرأة بعد ذلك، كذا ها هنا، والله أعلم. نوع آخر في العوارض بعد وقوع الخلع ذكر في «فتاوى أبي الليث» : أنَّ من خلع امرأته على مال، ثمَّ زادت في بدل الخلع أنَّ الزيادة باطلة، لأنَّ هذه زيادة بعد هلاك المعقود عليه، وبهذا الطريق لم تصح الزيادة في بدل الصلح عن دم العمد. وفي «فتاوى النسفي» : سئل نجم الدين رحمه الله عمّن خلع امرأته ثمَّ قال في العدّة: «دادمت سه» ، ولم يزد على هذا هل تطلق ثلاثاً؟ قال: إن نوى الطلقات الثلاث تطلق ثلاثاً، وإلا فلا. قال: لأنّه لم يتلفّظ بالطلاق فصار كأنّه قال لها: أنت واحدة، وهناك لا يقع الطلاق بغير نيّة فهنا كذلك، قيل: ينبغي أن لا يقع الطلاق مع النيّة؛ لأنَّ قوله «دادمت سه» ليس بصريح بل هو من جملة الكنايات، ولهذا شرطت النيّة، والكنايات لا تلحق المختلعة. قال: الكنايات التي تقع بائناً لا تلحق المختلعة، وأمّا الكنايات التي تقع رجعيّاً، نحو قوله: اعتدي، اسبرئي رحمك وأنت واحدة لمجيئها، وهذا لأنَّ صحّة هذا اللفظ بالإضمار، فإنَّ معنى قوله: «دادمت سه» «دادمت سه» طلاق كأنّه صرّح بالطلاق، وصريح الطلاق يلحق البائن، والخلع قبل الواقع. قوله «دادمت سه» مع النيّة الثلاث والثلاث تكون بائن، والمختلعة لا يلحقها البوائن، قال: المضمر صريح الطلاق، وصريح الطلاق لا يكون بائناً، وإنّما تثبت البينونة لا لأنَّ اللفظ للبينونة، لكن لأنَّ الواقع الثلاث.... إلا نوى أنّه لو طلقها مرتين ثمَّ قال لها أنتِ طالق صحّ، فإن كان يصير به ثلاثاً لما أنّه صريح كذا ها هنا. هكذا حكي عنه رحمه الله، وأظنُّ أنّه لا حاجة إلى هذا التكلّف، لأنّ الواقع بقوله «دادمت سه» مع نيّة الثلاث إذا سبقه الخلع تطليقتان، وأنهما لا تكونان بائنتان. رجل خلع امرأته فقال لها بالفارسيّة «ديكر يده» ، فقال الزوج.... قال أبو بكر رحمه الله: تقع الثلاث وصار كأنّه قال طلّق الباقي، وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وعندي أنّه يقع تطليقة أخرى لا غير؛ لأنَّ قوله «ديكر يده» بمنزلة قولها طلقها أخرى. إذا باع من إمرأته تطليقة بمهرها ونفقة عدّتها واشترت هي كذلك، ثمَّ قال الزوج من

ساعته «هرسه هرسه» ، فخاف أن يقع عليه الثلاث. هكذا ذكر في «النوازل» ؛ لأنَّ قوله «هرسه هرسه» ينصرف إلى الطلاق؛ لأنّه السابق ذكره فصار كأنّه قال: «أوقعت هرسه طلاق» ، وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذ خلع إمرأته بتطليقة واحدة، فقال له رفقاؤه لِمَ فعلت هكذا؟ فقال بالفارسيّة «روسه باد» لا يقع بهذا الكلام شيء؛ لأنَّ هذا ليس بإيجاب. وفي «فتاوى الفضلي» : إذا خالع إمرأته فقيل له: كم نويت؟ فقال شاءت، فإن لم يؤكد الزوج طلقت واحدة؛ لأنَّ تفويض المشيئة إليها ليس بشيء. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا قالت لزوجها اخلعني، وقالت بالفارسيّة «سه خوام» ، فقال الزوج «سه باد» ، ثمَّ خالعها بعد ذلك تطليقة تقع واحدة؛ لأنّه لم يقع بقول «سه باد» شيء، يعني الحكم للخلع وأنّه وقع بالواحدة، والله أعلم (263ب1) . نوع آخر منه ذكر ابن سماعة عن محمّد رحمه الله في امرأة اختلعت من زوجها بِمَالَها على الزوج من المهر والرضاع للولد التي هي حامل به إذا ولدته لسنتين، وذلك جائز، فإن ولدته فمات أو لم يكن في بطنها ولد منه، فإنّها تردّ قيمة الرضاع، قال بعد هذا ولو مات الولد أو ماتت بعد بيّنة، عليها قيمة رضاع ببيّنة، ولو شرطت أنّها إن ولدته ثمَّ مات قبل الحولين، فهي ترثه من قيمة الرضاع، فذلك جائز وهذا ممّا يجوز في الخلع. قال بعد هذا: وكذلك لو قالت: على أن أحملك على دابتي هذه إلى مكّة، فإن بدا لك أن تخرج، ولا.... على فهو جائز. وروى أبو سليمان عن محمّد عن أبي حنيفة رحمهم الله في المرأة تختلع من زوجها بنفقة ولد له منها ما عاشوا، فإنَّ عليها أن تردّ المهر الذي أخذت منه. وروى هشام عن محمّد فيمن خلع امرأته على رضاع ابنه، ولم يسمّ لذلك وقتاً قال هو جائز وهو على سنتين. ولو خلعها على رضاع ابنه سنتين، وعلى نفقة ابنه هذا عشر سنين يعني بعد الفطام. قال: فهو قبل السن هذا مجهول، قال: هذا يجوز في الطلاق. وعلى هذا إذا خلعها على أن تمسك الولد سنتين وعلى أن تكسوه من مالها في هاتين السنتين، فالخلع جائز بهذا الشرط وإن كانت مجهولة لما ذكرنا، وإذا جاز الخلع بهذا الشرط فطلبت من الزوج كسوة الولد لم يكن لها ذلك، وإن لم تشترط ذلك في الخلع فلها أن تطالبه بكسوة الولد. ولو خلعها على مهر وعلى أن ترضع الصبي في الحولين كلّ شهر بدرهم جاز، وتجبر المرأة على الرضاع يعني تجبر لأنّه لو لم تذكر للرضاع بدلاً معلوماً جاز، فهذا أولى.

وفي «النوازل» : اختلعت من زوجها على مهرها ونفقة عدّتها، وعلى أن تمسك ولدها منه ستَّ سنين بنفقتها، فلما مضى عليها أيّام ردّت الولد على الزوج، أجبرت هي على إمساك الولد؛ لأنَّ الخلع بهذا الشرط قد صحّ فيجب عليها الوفاء بالشرط، وإن تركته على الزوج وتوارت وهربت فللزوج أن يأخذ قيمة النفقة منها؛ لأنها امتنعت عن إبقاء بدل الخلع، فيجب عليها قيمة البدل، كما لو اختلعت على عبد ومات العبد كان عليها قيمة العبد، كذا ها هنا. وإذا طلّقها على أن تمسك ولده إلى وقت الإدراك ثمَّ إنّها أبت إمساك الولد أجبرت عليه، وإن أبت فعليها آخر مثل إمساكه إلى وقت الإدراك، وبعض مشايخنا قالوا: إذا وقع الخلع على إمساك الولد، وهو رضيع إن بيّن المدّة يصح وإن لم يبيّن المدّة لا يصح، وإنّه يخالف رواية هشام عن محمّد رحمهما الله على ما ذكرنا. وكذلك قالوا: إذا وقع الخلع على إمساك الولد وهو فطيم بنفقتها لا يجوز وإن بيّن المدّة، وإنّه يخالف رواية هشام عن محمّد، ويخالف المذكور في «مجموع النوازل» . وإذا اختلعت من زوجها على أن تترك ولدها عند الزوج، فالخلع جائز والشرط باطل في باب الولد عند من يكون في الفرقة. نوع آخر رجل خلع ابنته الصغيرة عن زوجها على مالها لم يجز؛ لأنَّ الخلع على مالها بمنزلة التبرّع بمالها؛ لأنّه يُقابل ما لها بما ليس بمتقوّم؛ لأنَّ منافع البضع لا قيمة لها عند الخروج على ملك الزوج، والأب لا يملك التبرّع بمال الصغير والصغيرة، ثمَّ قول محمّد رحمه الله في «الكتاب» إذا خالعها على مالها لا يجوز محتمل يحتمل أن لا يصحّ الخلع أصلاً، ولا يقع الطلاق، ويحتمل أن لا يصح جعل مالها بدلاً ويقع الطلاق، وقد اختلف المشايخ فيه، وقيل عن أصحابنا رحمهم الله: فيه روايتان: في رواية يقع الطلاق، وبه أخذ بعض المشايخ؛ لأنّه علّق الطلاق بقبول الأب، ولو علّق بشرط آخر هو فعل الأب كدخول الدار يقع الطلاق إذا وجد الشرط، كذا ها هنا. ولكن لا يجب المال؛ لأنَّ بدل الخلع تبرّع ومال الصغير لا يقبل التبرّع، ومنهم من قال لا يقع الطلاق إلا إذا قبلت الصغيرة عند الخلع؛ لأنَّ الأب إذا لم يضمن بدل الخلع كان هذا خلعاً مع....، كأنّه خاطب الأثبت بذلك، فيتوقّف على قبولها والأوّل أصحّ، ولو خالعها على ألف وهي صغيرة على أنَّ الأب ضامن الألف، فالخلع واقع والألف واجب على الأب؛ لأن الأب لا يكون أدنى حالاً من الأجنبي، واشتراط بدل الخلع على الأجنبي صحيح، فكذا على الأب من طريق الأولى. ولو خالعها على ألف درهم وقبل الأب الخلع، ولكن لم يضمن بدل الخلع لا رواية في هذا الفصل عن محمّد، وقد اختلف فيه المشايخ، قال بعضهم: لا يقع الطلاق

ما لم تقبل الصغيرة، وقال بعضهم: يقع الطلاق بقبول الأب، ويجب المال على الأب؛ لأن عبارة الأب عنها في صغرها كعبارتها في كبرها، ولو قبلت بعدما كبرت وقع الطلاق ولزمها المال، فكذا إذا قبل الأب، وقال بعضهم: يقع الطلاق بقبول الأب، ولا يجب المال على الأب أصلاً لعدم الضمان وعلى الصغيرة؛ لأنَّ الصغيرة لا تحتمل التبرّع، وإذا خلعها الزوج على مهرها وهي صغيرة وقبل الأب وضمن ذلك يتمّ الخلع بقبول الأب، ويقع الطلاق ويجب بدل الخلع على الأب كما لو كانت بالغة، فبعد ذلك ينظر إن لم يدخل بها الزوج كان لها على الزوج نصف الصداق، تأخذ ذلك منه إذا بلغت ثمَّ يرجع الزوج على الأب بذلك، وإن دخل بها الزوج كان لها على الزوج جميع الصداق، ثمَّ يرجع الزوج على الأب، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أو يرجع الأثبت على الأب بنصف الصداق في الفصل الأوّل، وتملك الصداق في الفصل الثاني، ولا يرجع على الزوج. قال رحمه الله أيضاً من مشايخنا من قال: تأويل المسألة (264أ1) إذا خالعها على مال مثل صداقها، وأمّا إذا خالعها على الصداق لا يجوز الخلع أصلاً، قال رحمه الله: والأصح أنَّ الخلع على صداقها، وعلى مال مثل صداقها سواء، وكتبت في كتاب الجعل إذا وقع الخلع على صداقها، وله يضمن المخالع للصداق للزوج لا شكَّ أنّه لا يسقط صداقها بهذا الخلع، وهل تقع البينونة يُنْظَر إن قبلت الصغيرة عند الخلع وكانت من أهل ذلك بأن كانت تقبل العقد وتعتبر يقع الطلاق بالاتفاق، وإن لم تقبل الصغيرة عقد الخلع ينظر إن كان العاقد أجنبياً لا يقع الخلع والبينونة بالاتفاق، ولكن تكلمّوا أنّه هل يتوقف لأنَّ هذا عقد لا يحتمله ذلك على إجازتها إذا بلغت، قال بعضهم: لا يتوقف؛ لأنَّ هذا عقد لا يحتمله في الحال وقال بعضهم: يتوقف. وهكذا ذكر الخصّاف في شروطه في باب الخلع، وإليه أشار في حيل «الأصل» وهذا لأنَّ لهذا العقد يجيز حال وقوعه، فإنَّ الأب أو الأجنبي الآخر لو قال للزوج: اضمن لكن بدل الخلع للحال يجوز، فجاز أن يتوقّف. وأمّا إذا كان العاقد أباً ولم يضمن الصداق هل يقع الطلاق؟ فقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في شرح كتاب «الطلاق» أنَّ فيه اختلاف المشايخ، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنَّ فيه روايتين: على رواية الشروط يقع الطلاق ولا يسقط صداقها، وعلى رواية الحيل: لا يقع الطلاق، قال شيخ الإسلام رحمه الله: ما ذكر في الشروط محمول على ما إذا ضمن الأب بدل الخلع توفيقاً بين رواية الشروط وبين رواية الحيل. ولو خلع ابنته الكبيرة على صداقها وضمن الأب الصداق أو كان مكان الأب أجنبياً، وضمن الصداق للزوج يقع الطلاق، ثمَّ ينظر إن أجازت أنَّ صداقها بدل الخلع عمل إجازتها، وإن لم يجز كان لها أن ترجع بالصداق على الزوج، ثمَّ الزوج يرجع على الأب، وهذا لأنَّ الخلع مضاف إلى مالها فيتوقف نفاذه على إجازتها، فإن أجازت نفذ الخلع عليها، وإن لم تجز كان الخلع على الأب، كأنّه لم يضف إلى مالها، وصار تقدير

الكلام من الأب خالعاً على إن أجازت، وإن لم تجز فعلى مقدار ذلك، وإن لم يضمن الأب ذلك فالخلع يقف على قبولها، فإن قبلت يتمّ الخلع يعني في حقّ المال وما لا فلا، وهذا لأنّ الإيجاب إذا كان مطلقاً كان إيجاباً على المرأة فيتوقف على قبولها لهذا، ثمَّ قوله: إن قبلت تمَّ الخلع في حق المال يشير إلى أن الطلاق واقع، وقد كتبت في شرح الحيل أن في هذه لا يقع الطلاق إلا بإجازتها.j اختلعت الصبيّة من زوجها وزوجها كبير، فالطلاق واقع والمال لا يجب؛ لأنَّ بدل الخلع بمنزلة التبرع، والصبية ليست من أهل التبرّع. وذكر المسألة في «الأصل» مطلقة وقيّدها في حيل «الأصل» بما إذا كانت تعقد العقد وتعبّر عن نفسها. وكذلك الأمة إذا اختلعت من زوجها أو طلاقها على جعل، فإنه يقع الطلاق، ولا يؤاخذ بالجعل في الحال، وإنّما يؤاخذ به بعد العتق. وإن اختلعت بإذن المولى تؤاخذ به للحال، وتباع فيه إلا أن يقوّمها المولى كما في سائر الديون، والأمة تفارق الصغيرة، والعاقلة إذا اختلعت من زوجها، فإنّها لا تؤاخذ ببدل الخلع بعد البلوغ كما لا تؤاخذ به في الحال. والمدبرة وأم الولد في ذلك كالأمة، إلا أنّها لا تحتمل البيع فتؤدي البدل من كسبها إذا التزمت بإذن المولى. والمكاتبة لا تؤاخذ ببدل الخلع إلا بعد العتق سواء اختلعت بإذن المولى أو بغير إذنه. وإذا اختلعت الأمة من زوجها بمهرها بغير إذن مولاها يقع الطلاق، ولكن لا يسقط المهر لأنَّ مهرها حقّ المولى ولا يسقط إلا برضا المولى. وإذا وكلت الصغيرة رجلاً بالخلع، فخلعها الوكيل بصداقها أن يضمن للزوج ذلك تقع البينونة بالاتفاق، وإن لم يضمن ذكر في كتاب الوكالة أنها تبين من زوجها. وذكر في «النوادر» : أنّها تبين من زوجها. نوع آخر ينبني على أصل أن خطاب الخلع متى جرى بين الزوج وبين المرأة، كان القبول إلى المرأة، سواء كان البدل مرسلاً أو مضافاً إلى المرأة أو إلى الأجنبي إضافة ملك أو إضافة ضمان، وأمّا إذا كانت البدل مرسلاً، فكان هذا الخطاب لو جرى بين الزوج وبين أجنبي وكان البدل مرسلاً كان القبول إلى المرأة، فإذا جرى بين الزوج وبين المرأة أولى، وأمّا إذا كان البدل مضافاً إلى الأجنبي ولأن شروع المرأة في الخلع والمبدل سلّم لها بسبب الخلع بمنزلة اشتراط الضمان على نفسها دلالة؛ لأنَّ البدل بقضيّة «الأصل» إنّما يجب على من يُسلّم له المبدل، فقد وجد من المرأة اشتراط الضمان على نفسها دلالة بقضيّة «الأصل» ، ووجود إضافة البدل إلى الأجنبي أيضاً صريحاً ذلك واحد منهما يجوز أن يكون عاقداً في باب الخلع، فأمّا المرأة فظاهر، وأمّا الأجنبي بدليل أنّه يجب عليه بدل الخلع بحكم العقد على ما تبيّن، وإذا صلح كلّ واحد منهما عاقداً كان جعل المرأة عاقدة، حتّى يشترط قبول المرأة أولى؛ لأنّا إذا جعلنا الأجنبي عاقداً يحتاج إلى إثبات عقد جديد من جهة، مع أنّه لم يوجد منه العقد حقيقة، ولو جعلنا المرأة عاقدة لا تحتاج

إلى إثبات عقد جديد، فإنَّ العقد وجد منها حقيقة فجعلنا المرأة عاقدة وشرطنا قبولها وجعلنا الأجنبي كتب لا عنها، حتّى تبطل إضافة الضمان إليه، وصار تقدير المسألة كأنَّ الزوج قال لها: خالعتك على ألف درهم على أنَّ فلاناً كتب لاعنك بذلك، ولو نصّ على هذا كان القبول إلى المرأة، كذا هنا. وأمّا إذا جرى خطاب الخلع من الأجنبي ومن الزوج؛ فإن كان البدل مرسلاً فالقبول إلى المرأة. وصورته أن يقول أجنبي للزوج: اخلع امرأتك فلانة على ألف درهم، فالقبول إلى المرأة؛ لأنَّ الأجنبي يجوز أن يكون هو العاقد بأن أراد أن يقوله بألف على المرأة، فكان جعل المرأة عادة، والنفقة تحصل لها (264ب1) أولى. فإن كان البدل مضافاً إلى الأجنبي إضافة ملك أو إضافة ضمان لا يشترط قبول المرأة ولا تجعل المرأة عاقدة. وصورته: أن يقول أجنبي للزوج: خالع إمرأتك على ألف درهم عليَّ، أو على ألف على أنّي ضامن، أو يقول: خالع إمرأتك على ألفي أو على ألف من مالي، وهذا لأنا لو جعلنا المرأة عاقدة نحتاج إلى إثبات عقد جديد من جهة المرأة، والعقد لم يوجد منها حقيقة، ولو جعلنا الأجنبي عاقداً لا نحتاج إلى إثبات عقد جديد، فجعلنا الأجنبي عاقداً. وصار تقدير هذا الخلع كأن الأجنبي قال للزوج: خالع إمرأتك على ألفٍ تجب عليَّ لا على المرأة. ولو صرّح بهذا لا يشترط قبول المرأة؛ لأن القبول إنّما يشترط ممّن عليه البدل لا ممّن يقع عليه الطلاق؛ لأنَّ القبول إنّما يشترط بوجود البدل لا لوقوع الطلاق. بيان هذا الأصل من المسائل ما ذكر محمّد رحمه الله في نكاح الجامع: رجل قال لغيره اخلع امرأتك على هذا العبد، أو على هذا الدّار، أو على هذا الألف فالقبول إلى المرأة؛ لأنَّ خطاب الخلع وإن جرى بين الأجنبي وبين الزوج ولكنّ البدل مرسل. وفي مثل هذه الصورة العاقد المرأة وتطلق، هذا إذا قال الرّجل لغيره: بع عبدك هذا من فلان بألف درهم، أو قال بهذا العبد، يتوقف على قبوله ولأنَّ في هذا المجلس ... ، ولا يقف على قبوله في المجلس، والخلع هو على مجلس علم المرأة، والفرق معروف. ثمَّ إذا قبلت المرأة الخلع كان عليها أن تسلّم للزوج ما سمى في عقد الخلع إن قدرت على تسليمه؛ لأنّها هي العاقدة، وإن عجزت عن تسليم ذلك بالاستحقاق أو بسبب آخر فعليها تسليم المثل في المثلي، وتسليم القيمة في غير المثلي. والبيع في هذا يخالف الخلع؛ لأنَّ البيع ينفسخ بالاستحقاق، ولا ينفي السبب الموجب للتسليم ليصار إلى المثل أو إلى القيمة، وأمّا الخلع لا ينفسخ بالاستحقاق فيبقى السبب الموجب للتسليم. ولو كان قال للزوج: خالع إمرأتك على عبدي هذا، أو على داري هذه، أو على ألفي هذه ففعل فالخلع واقع ولا يحتاج إلى قبول المرأة؛ لأنَّ عاقد الخلع في هذه الصورة

الأجنبي لأنَّ خطاب الخلع جرى منه، والبدل مضاف إليه إضافة ملك، ثمَّ يتمّ الخلع بقول الزوج: فعلت، ولا يحتاج إلى قبول الأجنبي؛ لأنَّ الواحد يصلح عاقداً في باب الخلع من الجانبين، والعاقد من الجانبين إذا كان واحداً يتمّ العقد بقوله: فعلت، كالأب إذا باع مال ابنه من نفسه، فإنّه يتمّ العقد بقوله: بعت. ثمَّ إذا وقع الخلع وجب على الأجنبي تسليم ما يسمّى في الخلع؛ لالتزامه ذلك. ولو قالت المرأة لزوجها: اخلعني على عبد فلان، أو قالت: على دار فلان، ففعل تمَّ الخلع، ولا يحتاج في هذا إلى قبول صاحب العبد والدّار؛ لأنَّ العاقد في هذه الصورة المرأة؛ لأن خطاب الخلع جرى منها، ولم يشترط في «الكتاب» قبول المرأة لتمام الخلع، وكذلك لم يشترط قبول المرأة في هذه الصورة في كتاب الوكالة. وفي «نوادر ابن سماعة» : يشترط قبول المرأة، فعلى رواية هذا الكتاب يحتاج إلى الفرق بينما إذا كانت البداية من المرأة وبينما إذا كانت البداية من الزوج بأن قال لامرأته: خالعتك على دار فلان، أو قال: على عبد فلان، فإنَّ هناك يشترط قبول المرأة لتمام الخلع. والفرق: أنَّ الخطاب إذا كان من جانب المرأة فالزوج مأمور بالخلع من جهة المرأة، فيجعل عاقداً من جهة نفسه بطريق الأصالة، ومن جهة المرأة بطريق النيابة عنها يتمّ الخلع بالزوج، ولا يشترط قبولها بائناً، فأمّا الخطاب إذا كان من جهة الزوج، فالزوج غير مأمور من جهة المرأة بشيء، فكان عاقداً من جهة نفسه لا من جهة المرأة، فلهذا يشترط قبول المرأة. قال: وعلى المرأة تسليم الدّار والعبد إن أجاز ذلك صاحب الدار والعبد، وإن لم يجز فعليها تسليم القيمة هذا إذا ابتدأت المرأة بالخطاب، وأمّا إذا ابتدأ الزوج بالخطاب بأن قال لها: طلقتك على عبد فلان أو قال: خالعتك على عبد فلان كان القبول إلى المرأة؛ لأنّها عاقدة. ولو أنَّ الزوج خاطب صاحب العبد والمرأة حاضرة، فقال: أنا وفلان قد خلعت امرأتي بعبدك، فالقبول إلى صاحب العبد إن قبل هو تمّ الخلع وما فلا فلا؛ لأنَّ العاقد في هذه الصورة صاحب العبد؛ لأنَّ خطاب الخلع جرى بين الزوج وبين صاحب العبد والبدل يضاف إلى صاحب العبد. ولو أنَّ أجنبيّاً قال للزوج: خالع امرأتك على عبد فلان هذا فالقبول إلى صاحب العبد. وكذلك لو قال الأجنبي للزوج: خالع امرأتك بألف على أنَّ فلان ضامن لها، فالقبول إلى فلان لما ذكرنا ولو قالت المرأة لزوجها خالعني على ألف درهم، على أنَّ فلاناً ضامن لها ففعل تمَّ الخلع، ولا يلتفت إلى قبول الضمين، وبعد ذلك ينظر إن قبل فلان المال كان للزوج الخيار إن شاء أخذ المرأة بذلك، بحكم الأصالة، وإن شاء أخذ الضمين بحكم الكفالة، وإن لم يقبل الضمين من ذلك لا شيء عليه ولا يبطل الخلع. نوع آخر قال في الخالع: امرأة وكّلت رجلاً بأن يخلعها من زوجها بألف درهم، ففعل الوكيل، فهذا على وجهين:

أما إن أرسل الوكيل البدل بأن قال: خالع امرأتك على ألف درهم، أو على هذه الألف أو أضاف البدل إلى نفسه إضافة ملك، أو إضافة ضمان، بأن قال: خالع إمرأتك على ألف درهم من مالي، أو على ألف على أنيّ ضامن. وفي الوجهين جميعاً يتمّ الخلع بقبول الوكيل؛ لأنَّ الوكيل نائب عن المرأة، فيكون قبوله كقبولها، فبعد ذلك ينظر إن كان البدل مرسلاً فالبدل عليها وهي المطالب به؛ لأنَّ الوكيل في باب الخلع سفير، وحقوق العقد ترجع إلى من وقع العقد له لا إلى السفير ولا لكونه سفيراً أنّه لا يستغني عن إضافة العقد إلى المرأة، لا بدّ وأن يقول للزوج خالع امرأتك، وفي مثل هذا الوكيل سفير كما في النكاح. وإن كان (265أ1) البدل مضافاً إلى الوكيل إضافة ملك أو إضافة ضمان فالوكيل هو المطالب بالبدل دون المرأة، ويرجع الوكيل بما أدّى على المرأة، وإنّما كان كذلك؛ لأن ما يجب على الوكيل بالخلع متى كان مضافاً إليه إضافة ملك وضمان يجب ابتداءً بحكم العقد لا بحكم الكفالة عن المرأة؛ لأنَّ ما يملك الوكيل من الخلع قبل الوكالة نوعان: نوع يوجب البدل على المرأة بأن يرسل الوكيل البدل إرسالاً، ونوع يوجب البدل على الأجنبي ابتداءً بحكم الخلع، لا بحكم الكفالة عن المرأة بأن يخاطب الأجنبي الزوج بالخلع ونصف البدل إلى نفسه إضافة ملك أو إضافة ضمان. وإذا كان ما يملكه الوكيل من الخلع قبل الوكالة نوعان وقد أمرا به بالخلع مطلقاً، والأمر المطلق انصرف إلى النوعين، فكان فائدة الأمر وإن كان مالكاً لهذا قبل الوكالة الرجوع بما ضمن على الموكل، كما في الوكيل بالشراء، وإذا كان ما يلزم الوكيل من الضمان متى كان البدل مضافاً إليه إضافة ملك أو إضافة ضمان يلزمه ابتداءً بالخلع، لا بحكم الكفالة، وقد دخل هذا الخلع تحت الأمر كان له أن يرجع بما ضمن على موكلته، وكانت المطالبة على الوكيل خاصّة، كما في الوكيل بالشراء، ولهذا كان له الرجوع على المرأة قبل الأداء، كالوكيل بالشراء؛ لأنّه يرجع بحكم الخلع ابتداء لا بحكم الكفالة. وإذا وكلت رجلاً بأن يخعلها من زوجها، فخلعها على عَرَضٍ له يعني للوكيل، وهلك العرض في يد الوكيل قبل التسليم إلى الزوج فإن الوكيل يضمن فيه ذلك للزوج؛ لما ذكرنا أنَّ ما يجب على الوكيل بدل الخلع إذا كان البدل مضافاً إليه يجب ابتداءً بحكم الخلع لا بحكم الكفالة، فصار الوكيل في هذا بمنزلة المرأة. والمرأة لو اختلعت من زوجها على عرض لها وهلك العرض، كان عليها تسليم قيمة العرض كذا ها هنا. قال في «الزيادات» : إذا وكلت المرأة رجلاً بالخلع، ثمَّ رجعت من غير علم الوكيل لا يعمل رجوعها، فرّق بين هذا وبينما إذا قالت: خلعت نفسي من زوجي بألف درهم، فاذهب يا فلان إلى زوجي وأخبره بذلك، فلما ذهب الرسول إلى الزوج أشهدت على أنّها قد رجعت عن ذلك، ثمَّ بلّغ الرسول الزوج ذلك فقبل كان قبوله باطلاً، حتّى لا يقع عن الخلع علم الرسول بالرجوع أو لم يعلم، والفرق وهو أنَّ التوكيل إثبات الحكم في حقّ الوكيل، فإنَّ التوكيل إطلاق التصرّف، والعزل منع له عن التصرّف، ولو صحّ من غير علم الوكيل كان غروراً في حق الوكيل وإنّه حرام.

وأمّا الرسالة فليست إثبات شيء للرسول؛ لأنّ الرسول ينقل عبارة المرسل، كأنَّ المرسل بنفسه حضر بنفسه وقال ذلك، ولو صحّ الرجوع من غير علمه لا يكون ذلك غروراً في حقّ نفسه، وكذلك لو رجعت بعد تبليغ الرسالة قبل قبول الزوج صحّ رجوعها أيضاً وإن لم يعلم الرسول بذلك، وكذلك هذا الجواب في البيع والعتق والنكاح والإجارة إذا رجع المرسل قبل قبول المرسل إليه صح رجوعه، وإن لم يعلم الرسول به. وإذا قالت المرأة لزوجها: اخلعني على ألف درهم، ثمَّ رجعت من غير علم الزوج لا يصحّ رجوعها؛ لأنَّ هذا توكيل منها للزوج والتوكيل لا يقبل الرجوع من غير علم الوكيل. أمر رجلاً أن يخلع امرأته، فليس للمأمور أن يخلعها إلا بمال، رواه بشر عن أبي يوسف رحمه الله. وروى ابن سماعة عن محمّد رحمه الله: أنّه لو خلعها بغير مال كان طلاقاً بائناً بلا مال، وَكّل رجلين بالخلع بألف درهم فخالعها أحدهما بألف درهم وأجاز الآخر ذلك لم يجز، وإن قال أحدهما: قد خلعها وقال الآخر: قد خلعها، فهو جائز. هشام عن محمّد: إذا وكّل الزوج رجلاً بأن يخلع إمرأته إن تركت مهرها، فتركت فقال الوكيل: طلقتك ثلاثاً لا يقع شيء في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله. قال محمّد رحمه الله: ونحن نرى أنّه يقع واحدة بجميع المهر. وفي «الأصل» أيضاً: إذا قال لغيره إخلع امرأتي، فإن أتت فطلقها بانت المرأة بالخلع، فطلقها الوكيل، ثمَّ قالت: أنا أختلع، فخالعها جاز إن كان الطلاق رجعياً، وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رسول المرأة إلى زوجها إذا قال لها: طلقها أو أمسكها، فقال الزوجة أمسكها ولكن أطلقها، فقال الرسول: أبرأتك على جميع مالَها عليك، فطلقها الزوج، ثمَّ أنَّ المرأة أنكرت أن تكون أمرت رسولها بالإبراء والرسول يدّعي، فإن ادّعى الزوج توكيلها للرسول بذلك فالطلاق واقع وهي على حقّها لأنَّ إقرار الزوج يصح فيما يملك لا فيما لا يملك. وإن لم يدّع الزوج توكيلها للرسول بذلك فهو على قسمين: إن كان الرسول قال للزوج أبرأتك عن حقّها عليك على أن تطلقها على ما ذكرنا، والطلاق غير واقع فهي على حقّها؛ لأنَّ إيقاع الطلاق بالمهر يتوقّف على إجازتها، وإن لم يكن قال الرسول على أن تطلقها، أو فطلقها، فالطلاق واقع وهي على حقّها؛ لأنّ.... ولو أنَّ قوماً جاؤوا إلى رجل وزعموا أنَّ امرأته وكّلتهم باختلاعها منه، فخالعها معهم على ألف درهم وأنكرت التوكيل، إن ضمنوا بدل الخلع للزوج فالطلاق واقع؛ لأنّ خطاب الخلع جرى بين الزوج وبين الأجنبي وضمن الأجنبي بدل الخلع، وفي مثل هذا يشترط قبول الأجنبي على ما مرّ، وإن لم يضمنوا فهذا على وجهين، إمّا أن يدعي الزوج أنّها وكلتهم أو لم يدع إلى آخر ما ذكرنا في المسألة المتقدّمة، هذا إذا خالع الزوج

معهم. وأمّا إذا باع منهم تطليقة بألف درهم، قال الفقيه أبو القاسم الصفّار رحمه الله: وقع الطلاق وجد منهم الضمان أو لم يوجد؛ لأنّ لفظ الشراء لفظ الضمان، قال الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله: هذا والأوّل سواء وعليه الفتوى. وإذا وكّل الرجل رجلاً بطلاق امرأته، فطلقها بمهرها ونفقة عدّتها أو خالعها على ذلك، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: يجوز ذلك كانت مدخولاً بها أو غير مدخول؛ لأنَّ الغالب من عادات النّاس أنّهم يريدون بالتوكيل بالطلاق (265ب1) الطلاق بجعل، لكن هذا الوجه غير مختار؛ لأنَّ هذا يقتضي أنَّ الوكيل بالطلاق إذا طلّق مطلقاً أنّه لا يجوز، وهذا بعيد، وقال الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله مرّة: لا يجوز من غير تفصيل بين المدخول بها وغير المدخول؛ لأنه وكلّه بالتنجيز وقد أتى بالتعليق، وهذا التعليل يوجب التسوية بين المدخول بها وغير المدخول بها، وبه كان يفتي الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، وهو اختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله. وقال الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله مرّة أخرى: إن كانت المرأة مدخولاً بها لا يجوز وإن لم يكن مدخولاً بها يجوز، وهكذا حكي عن الفقيه أبي القاسم الصفّار، وهو اختيار الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» . والوجه في ذلك أنَّ المرأة إذا لم تكن مدخولاً بها، فهذا من الوكيل خلافٌ إلى خير؛ لأنّه وكّله بطلاق يقطع النكاح مجاناً، وقد أتى بطلاق قطع النكاح بعوض ولا يعدّ ذلك خلافاً وإذا كانت مدخولاً بها. هذا من الوكيل خلاف إلى شرَ؛ لأنّه وكله بطلاق بغير عوض، والطلاق بغير عوض في المدخول بها لا يقطع النكاح، وقد أتى بطلاق قطع النكاح، فكان هذا خلافاً إلى شرَ فاعتبر خلافاً. وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل قال لغيره: طلّق امرأتي على أن تخرج من البيت، ولا تُخرِجْ منه شيئاً ففعل ثمَّ اختلفا، فقال الزوج: أخرجت، وقالت: المرأة لم أُخْرِج، فالقول قول الزوج؛ لأنّه ينكر شرط وقوع الطلاق. قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : في المسألة نوعان إيهام أنه أراد بقوله طلّق امرأتي على شرط أن لا تخرج من البيت، علّق طلاقها بشرط أن تخرج من البيت ولا تخرج منه شيئاً، فهذا صحيح؛ لأنَّ المعلّق بالشرط عُدِمَ قبل وجود الشرط، فالزوج بقوله: أخرجتَ شيئاً من البيت أنكر شرط وقوع الطلاق فالقول قوله، وإن أراد بقوله: طلقها على شرط أن لا تخرج من البيت شيئاً. قل لها: أنتِ طالق على أن لا تخرجي من البيت شيئاً، فهذا الجواب غير صحيح، لأنها إذا قبلت ينبغي أن يقع الطلاق للحال أخرجت شيئاً أو لم تخرج، فإنَّ الرواية محفوظة فيما إذا قال: أنتِ طالق على أن تعطيني ألف درهم ففعلت تطلق وإن لم تعط الألف، وكذلك إذا قال لها: أنتِ طالق على دخولك الدّار، يقع الطلاق إذا قبلت دخلت أو لم تدخل؛ لأنّه استعمل الدخول استعمال العوض فكان الشرط قبوله لا وجوده. قال محمّد رحمه الله في «الأصل» : إذا وكلت المرأة صبيّاً أو معتوهاً أن يخالعها من زوجها كان التوكيل صحيحاً؛ والصبيِّ والمعتوه في هذا كالبالغ، وفيه نوع إشكال؛ لأنّ الصبي لا يملك هذا العقد لنفسه، فكيف يملك لغيره، والجواب: إنّما لا يملك

الخلع لنفسه؛ لأنّه يلزم حكم الخلع فيتضرّر به، ومتى كان وكيلاً عن غيره لا يلزمه حكم الخلع، ولا ترجع إليه الحقوق ولا يتضرّر. نوع آخر في اختلاف الواقع بين الزوج والمرأة، في صحّة الخلع وفساده في الشهادة في ذلك إذا خلع امرأته بالفارسيّة «خريدم وفروحتم» ، وقال الزوج: كان في ضميري أني بعت رأس الشاة، أو قال: قلت: «فروحتم من الانفاذ» أو قال: قلت: «فروحتم» بالفاء، فقد قيل القول في ذلك قوله مع اليمين، إلا إذا كان قبض بدل الخلع، فحينئذٍ لا يقبل قوله؛ لأنَّ الظاهر يكذبّه. وقد قيل: لا يقبل قوله قضاءً، وإن كان لم يقبض بدل الخلع؛ لأنَّ كلامه خرج جواباً، والجواب يتقيد بالسؤال، والسؤال عن تملك النفس: التوكيل، فيكون الجواب منصرفاً إليه، وعلى هذا إذا قال: كان في ضميري أنّي بعت «بيد فياي» لا يقبل قوله قضاء عند بعض المشايخ، وعليه الفتوى. ولو أشار الزوج عند قوله «فروحت» إلى رأس شاة، أو إلى «بيد فياي» فعلى قول هؤلاء فهذا ليس بشيء، والخلع هذا صحيح، إلا إذا صرّح وقال: «بيد فناي فروحتم» فحينئذٍ لا يصح الخلع، هذا لأنّ بالإشارة لا يخرج كلامه من أن يكون خارجاً مخرج الجواب والسؤال عن تمليك النفس، فينصرف الجواب إليه. ولو أقام الزوج بيّنة (على) الشاة قبلت بينته، وكذلك إذا قالت: إنّه باع رأس الشاة، وشهدت بيّنته أو أنه قال: بعت رأس الشاة قبلت بيّنته، وكذلك إذا قامت بيّنة أنّه قال: «فروحتم من الانفاذ» قبلت بيّنته. ولو أقامت المشتراة البيّنة بمعارضته أنّه باع نفسها، أو أنّه باعها فبيّنتها أولى، هكذا قيل وفيه نظر عندي، وينبغي أن تكون بيّنة الزوج أولى. وفي «فتاوى النسفي» : لو أشهد الزوج شاهدين عدلين أنّ امرأتي إذا قالت: «من خويشتن خريدم» أقول: «فروختم» بالفاء، ثمَّ اجتمعوا عند القاضي لأجل الخلع واختلعا فقال الزوج بعد ذلك قد قلت: «فروختم» بالفاء وشهد شاهداه على ذلك، فإن كان القاضي قد سمع أنّه قال «فروحتم» بالحاء يقضى بالخلع، ولا يلتفت إلى شهادة شهوده فإني إذا لم تسمع القاضي ذلك، وقال: لم أتيقّن أنّه قال بالحاء أو بالفاء وشهد شاهداه أنّه قال بالفاء قبل شهادتهما، وقضى ببطلان الخلع، ولو شهد شاهداه أنّه قال بالفاء، وشهد بعض أهل المجلس أنّه قال بالحاء قضي بصحّة الخلع شهادة من شهد بالحاء. وإذا وقع الخلع على بدل مسمّى ودفعت المرأة إليه مقدار المسمّى وقالت: إنّه بدل الخلع، وقال الزوج: قبضت بجهة كذا غير جهة الخلع، فقد قيل: القول قول الزوج، وبه

كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، وقيل: القول قول المرأة؛ لأنّ التمليك يصير من المرأة فيكون القول قولها في بيان جهة التمليك.l وهذا أصل كبير في الشرع فيما إذا اختلعت الزوج والمرأة في الخلع فقال أحدهما اختلعا بألف وأقام على ذلك بيّنة،.... أحد الشاهدين أنّهم اختلعا بألف، وشهد الآخر أنّهما اختلعا بخمس مائة، فإن كان مدّعي الخلع الزوج فالجواب فيه كالجواب في دعوى مجرّد المال بلا سبب؛ لأنّ المدّعي إذا كان هو الزوج فالحاجة إلى إثبات المال لا إلى إثبات الطلاق؛ لأنَّ الطلاق وقع بإقرار الزوج. ولو وقع الدعوى في الألف المجرّد وشهد أحد الشاهدين بألف والآخر بخمس مائة فعلى (266أ1) قول أبي حنيفة رحمه الله لا تقبل الشهادة أصلاً، وعلى قولهما تقبل الشهادة على خمس مائة، كذا ها هنا، وإذا كان مدّعي الخلع المرأة لا تقبل هذه الشهادة بلا خلاف؛ لأنَّ الحاجة ها هنا إلى إثبات الطلاق؛ لأنّ الطلاق لا يثبت بمجرّد دعوى المرأة، والطلاق بألفٍ غير الطلاق بخمس مائة؛ لأنَّ شرط وقوع الطلاق بألف قبول الألف، وشرط وقوع الطلاق بخمس مائة قبول خمس مائة وهما شرطان مختلفان، وليس على كل واحد منهما إلا شاهد واحد. نوع آخر في الخلع الواقع في المرض قال محمّد رحمه الله في «الأصل» : إذا اختلعت المرأة من زوجها في مرضها بالمهر الذي كان تزوّجها عليه فهذا على وجهين: أمّا إن كان الزوج قريباً منها بأن كان ابن عم لها أو كان أجنبياً عنها، فإن كان الزوج أجنبيّاً فهو على وجهين: أما إن كانت المرأة مدخولاً بها، أو غير مدخول بها، ومتى كانت مدخولاً بها، أمّا إن ماتت هي في العدّة، أو ماتت بعد انقضاء العدّة، فإن كانت مدخولاً بها وماتت هي بعد انقضاء العدّة، وأنّه ينظر إلى المسمّى في بدل الخلع، وإلى ثلث مالها. فإن كان المسمّى ثلث مالها أو أقلّ فللزوج ذلك. وإن كان أكثر من ثلث مالها فليس للزوج الزيادة على الثلث إلا برضا باقي الورثة، وهذا إذا كان لها مال آخر سوى المهر يخرج المسمّى من الثلث، وإن لم يكن لها مال آخر سوى المهر الذي تزوّجها عليه يعتبر الثلث من المهر وهذا لأنَّ الخلع منها بمنزلة التبرّع؛ لأنّها تبدل مالاً بإزاء مال يتعلّق به حقّ الورثة، وهو منافع بضعها. ومن غير حاجتها إلى ذلك فإنّها غير محتاجة إلى الخلع حاجة أصلية، والتبرّع من المريض إذا حصل مع الأجنبي يصحّ بقدر الثلث من غير إجازة الورثة، ويقف فيما زاد على الثلث على إجازة الورثة، والتبرع حصل ها هنا مع الأجنبي لما ماتت بعد انقضاء العدّة؛ لأنّه لم يبق لها وارثٌ في هذه الحالة، لانقطاع بيّنة الورثة، وهو النكاح بعد انقضاء العدّة من كلِّ وجه.

وإن ماتت قبل انقضاء العدّة فإنّه ينظر إلى المسمّى في بدل الخلع وإلى قدر ميراثه منها، فإن كان المسمّى مثل ميراثه منها أو أقلّ سلّم للزوج ذلك، فإن كان الخلع بمنزلة التبرّع، والمريض محجور عن التبرّع على الوارث؛ لأنّ المريض إنّما حجر عن التبرّع مع الوارث لما فيه من إبطال حقّ الباقين عن الزيادة على ميراثه، وليس في قدر ميراث الزوج إبطال حقّ على الباقين، فلم تصر محجورة عن هذا التبرّع مع الزوج، وإن كان المسمّى أكثر من ميراثه فيها، فإنّه لا تسلم له الزيادة على ميراثه إلا بإجازة بقيّة الورثة؛ لأنَّ حقّ الباقين يبطل عند الزيادة على قدر الميراث، وقد حجرت عن ذلك في حالة المرض بسب النكاح، والنكاح وإن ارتفع بالخلع فالعدّة باقية، وكلّ حجر يثبت بالنكاح يبقى ما بقيت العدّة على ما عرف أنَّ العدّة من آثار النكاح بخلاف ما بعد انقضاء العدّة؛ لأنّ بعد انقضاء العدّة ارتفع النكاح بأثره، فزوال المانع من التبرّع فيما زاد على قدر حقّه في الميراث إلى تمام الثلث، وصار حاصل التفاوت بينهما قبل انقضاء العدّة، وبينهما بعد انقضاء العدّة أن بعد انقضاء العدّة لا ينظر إلى قدر حقّ الزوج في الميراث، وإنّما ينظر إلى الثلث يُسلّم للزوج قدر الثلث من بدل الخلع. وإن كان أكثر من حقّه في الميراث فسلّم للزوج قدر حقّه في الميراث من بدل الخلع، ولا تسلم له قدر ثلث مالها إذا كان ثلث مالها أكثر من حقّه في الميراث. والفرق ما مرّ. وإن كانت المرأة غير مدخولٍ بها وقد اختلف من زوجها بمهرها فإن النصف يعود إلى الزوج بحكم الطلاق لا بحكم التبرّع، ألا ترى إنْ طلقها قبل الدخول بها ولم يختلع منها عاد إلى الزوج ذلك، فلا يعتبر ذلك النصف أصلاً إلى الزوج من جهة المرأة حتّى يكون تبرّعاً من جهتها، وأمّا النصف الآخر وصل إليه من جهة المرأة فتعتبر متبرعة في ذلك، وقد حصل التبرّع على الأجنبي؛ لأنّ النكاح انقطع بأثره فسلم للزوج ذلك النصف من الثلث، وإن لم يكن لها مال سوى المهر سلّم للزوج ثلث ذلك النصف. وإن كان الزوج ابن عمّ لها، والمرأة مدخول بها فإن كان لا يرث منها بحقّ القرابة بأن كان لها عصبة أخرى أقرب منه، فهذا وما لو كان الزوج (أجنبيّاً) أو إن كان يرث منها بحكم القرابة، وقد جاءت بعد انقضاء العدّة فإنّه ينظر إلى بدل الخلع وإلى قدر ميراثه منها بحقّ القرابة، فإن كان بدل الخلع قدر ميراثه أو أقلّ سلّم للزوج ذلك، فإن كان أكثر فالزيادة على قدر ميراثه منها لا تسلم له إلا بإجازة باقي الورثة. وإن كانت المرأة غير مدخول بها، فإنَّ نصف المهر سلّم للزوج بالطلاق قبل الدخول، فلم تعتبر المرأة متبرعة في ذلك النصف، وإنّما تعتبر متبرعة في النصف الآخر، وقد صارت متبرّعة على الوارث، فينظر إلى ذلك النصف وإلى قدر ميراثه منها، فتسلّم للزوج الأقلّ منهما، وهذا إذا ماتت من مرضها، وإن برأت منه تسلم للزوج جميع ما سمّت، بمنزلة ما لو وهبت له شيئاً ثمَّ برأت من مرضها. ولو اختلعت من زوجها وهي صحيحة والزوج مريض فالخلع جائز بالمسمّى قلَّ ذلك أو كثر؛ لأنّها وإن صارت متبرّعة إلا أنّها صحيحة، والتبرّع من الصحيح نافذ، ولا ميراث بينهما سواء مات بعد انقضاء

الفصل السابع عشر: في الأيمان في الطلاق

العدّة أو قبل ذلك بوجود الرضا من كلّ واحد ببطلان حقّه. وإن تبرّع أجنبي باختلاعها من الزوج بمال ضمنته للزوج، وكان ذلك من الأجنبي في مرض الموت، فالخلع جائز والطلاق واقع، ويُعتبر بدل الخلع من ثلث مال الأجنبي؛ لأنَّ الخلع عندنا تبرع من المرأة مع أنّه يحصل لها بالخلع نوع فائدة، فَلأَنْ يُعَدُّ تبرعاً من الأجنبي أولى، وإن كان الزوج مريضاً (266ب1) حين تبرّع الأجنبي باختلاعها فلها الميراث إن مات الزوج من مرضه ذلك وهي في العدّة؛ لأنها لم ترض بهذا الطلاق، فيعتبر الزّوج فارّاً، والله أعلم بالصواب. الفصل السابع عشر: في الأيمان في الطلاق هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع في بيان معرفة اليمين بغير الله وبيان شرائط صحّته. يجب أن تعلم بأنَّ اليمين بغير الله تعالى ذكر شرط وجزاء يحلف به عادة؛ لأنَّ اليمين بغير الله تعالى إنّما يعرف الجزاء، فإذا كان الجزاء ممّا لا يحلف به لم يكن هذا التعليق يميناً، وتعليق الجزاء بالشرط على الشرط الحقيقة وطريقه ما قلنا، والشرط يصحّ في الملك وفي غير الملك، والجزاء لا يصح إلا بالملك أو في أثره أو مضافاً إلى الملك، أو إلى أثره أو إلى سببه، وهذا لأنّ الشرط أمر حسّي، فصحته تكون بوجوده حسّاً، وأمّا الجزاء فأمر شرعي فصحته إنّما تكون بالشرائط التي اعتبرها الشرع للصحّة، والشرع اعتبر بصحته الجزاء الشرائط التي قلنا تحقيقاً بما هو المقصود من اليمين، وهو تقوي الحالف على تحصيل الشرط والامتناع عنه؛ لأنَّ الحالف إنّما يتقوّى على ذلك خوفاً لزوال الجزاء، والخوف إنّما يحصل إذا كان الجزاء غالب النزول عند الشرط، أو متيقن النزول عند الشرط، وعليه النزول عند الشرط لقيام الملك، أو أثره للحال وتيقّن النزول عند الشرط بالإضافة إلى الملك، أو إلى سبب الملك، ثمَّ الشرط إن كان متأخّراً عن الجزاء فالتعليق صحيح وإن لم يذكر حرف الفاء إذا لم يتخلّل بين الجزاء وبين الشرط سكوت. ألا ترى أنَّ من قال لامرأته: أنتِ طالق إن دخلت الدّار، أو قال: لعبده أنت حرّ إن دخلت الدّار يتعلّق الطلاق بالدخول والعتاق بالدخول؟ وإن لم يذكر حرف الفاء لما لم يتخلل بينهما سكوت، وإن كان الشرط مقدّماً على الجزاء فإن كان الجزاء اسماً قائماً يتعلّق بالشرط إذا ذكر الجزاء بحرف الفاء؛ لأنّ الاستعمال بمثله ورد، قال الله تعالى: {إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة: 118) حتّى إنَّ من قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنتِ طالق يتعلق الطلاق بالدخول. ولو قال إن دخلت الدّار فأنتِ طالق يقع الطلاق للحال إلا إذا قال: عنيت به

التعليق، فحينئذٍ يديّن فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يديّن في القضاء، وإن كان الجزاء فعلاً، إمّا فعلاً مستقبلاً أو فعلاً ماضياً فالجزاء يتعلق بالشرط بدون حرف الفاء، به ورد الاستعمال، قال الله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَنِيّكُمْ وَلآ أَمَانِىّ أَهْلِ الْكِتَبِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} (النساء: 123) ويقول الرجل لغيره إن زرتني زرتك أو أزورك، ويبنى على هذا الأصل ما إذا قال لها: إن دخلت الدّار فأنتِ طالق، فإنها تطلق للحال لأنَّ الشرط سابق والجزاء اسم ولا يتعلّق بدون حرف الفاء، وإن قال: عنيت التعليق يديّن أصلاً، هكذا ذكر في «الجامع» ، وبعض مشايخنا قالوا: نسأل الزوج كيف نويت التعليق؟ إن قال بإضمار حرف الفاء لا تصحّ نيّته أصلاً، وإن قال بالتقديم والتأخير تصح نيّته فيما بينه وبين الله تعالى ولا يصحّ في القضاء. وكذلك إذا قال لها: أنتِ وإن دخلت الدّار أنتِ طالق تطلّق للحال، وإن عنى التعليق ديّن فيما بينه وبين الله تعالى، وكذلك إذا قال لها: أنتِ طالق وإن دخلت الدار، فإنّها تطلق للحال؛ لأنَّ الواو في مثل هذا التحقيق بقول الرّجل لغيره أحسن إلى فلان وإن أساء إليك، ومعناه: أحسن إلى فلان على كلّ حال أساء إليك أو لم يسء فكذا ها هنا. معنى كلام الزوج أنتِ طالق على كلّ حال، وإن عنى التعليق لا يديّن أصلاً، لا في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى، ولم يذكر محمّد رحمه الله ما إذا نوى به بيان الحال، ومعناه أنتِ طالق في حال دخولك الدّار. وحكي عن أبي الحسن الكرخي رحمه الله أنّه قال: يجب أن تصحّ نيّته؛ لأنّ الواو في مثل هذا يذكر الحال بقول الرجل لامرأته: أنتِ طالق راكبة، ومعناه: أنتِ طالق في حال ركوبك، وقد نوى ما يحتمله لفظه، ولو قال لها: أنتِ طالق ولم يذكر بعده حالاً لم يذكر محمّد رحمه الله هذه في الكتب الظاهرة، وفي «النوادر» المسألة مذكورة على الخلاف، على قول محمّد رحمه الله يقع الطلاق لا يخلو من ثلاثة أوجه: أمّا إن كان مضافاً ولم توجد الإضافة ها هنا، وإمّا أن يكون معلّقاً ولا تعليق ها هنا إذ لم يذكر عقيب الشرط فعلاً يتعلّق به، فيتعيّن تنجيزاً أو إيقاعاً للحال، وعلى قول أبي يوسف: لا يقع الطلاق إلا إذا ذكر عقيب الشرط فعلاً أنها لا يقع الطلاق في الحال؛ لأن بذكر الشرط يتبيّن أنَّ ما أراد به الإرسال، وهذا المعنى ينبىء عن ذكر الشرط، لا عن ذكر الفعل عقيب الشرط، والكلام مع ذكر الشرط لا يكون إرسالاً أصلاً. ولو قال لها أنتِ طالق، ثمَّ إن دخلت الدّار فإنّه يقع الطلاق عليها للحال، ولو نوى التعليق لا يصحّ بيَّتَهُ أصلاً، وأمّا إذا نوى المقارنة بأن نوى وقوع الطلاق مقارناً لدخول الدار، لم يذكر محمّد رحمه الله هذه المسألة في شيء من الكتب، وكان القاضي الإمام أبو الهيثم يحكي عن القضاة الثلاثة: أنّه تصحّ نيته فيما بينه وبين ربّه؛ لأنّه نوى ما يحتمله لأنَّ كلمة ثمَّ تذكر ويراد بها الجمع والمقارنة بين الشيئين مجازاً قال الله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ فَادْخُلِى أَحَدٌ النَّفْسُ الإِنسَنُ الإِنسَنُ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ فَادْخُلِى أَحَدٌ الْمُطْمَئِنَّةُ الإِنسَنُ الإِنسَنُ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ فَادْخُلِى أَحَدٌ ارْجِعِى الإِنسَنُ الإِنسَنُ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ فَادْخُلِى أَحَدٌ إِلَى الإِنسَنُ الإِنسَنُ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ جَلَّهَا نَارٌ تَلهَا الَّذِينَ الَّذِينَ} (البلد: 13 * 17) ، وكان المراد من ذلك

الجمع والمقارنة، فإنّ فك الرقبة إنّما ينفع إذا كان معه إيمان، وعامّة مشايخنا على أنّه لا صحّ نيته؛ لأنَّ كلمة ثمَّ لغة للترتيب على سبيل التراخي لا للمقارنة، ولا للجمع، وفي الآية ما ثبت الجمع والقِرَان بكلمة ثمَّ وإنّما ثبت بكلام كان بقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ} (البلد: 17) ؛ لأنَّ كلمة كان يعبّر بها عن الماضي يعني مع وجود هذه الأفعال كان من قبل مؤمناً، والله أعلم. نوع آخر: في بيان حروف الشرط يجب أن تعلم أن حروف الشرط أن، وإذا وما، ومتى، وبينما ومَنْ، وما، وكل، وكلّما، هذا هو المذكور في كتب عامة المشايخ، وذكر القدوري رحمه الله أن شروط الإيمان ستة: إذا، وإذا ما، وإن، ومتى، ومهما، وكلما والأصل كلمة إن فهي شرط محض، وما سواها ففيها معنى الوقت، قال: وهذه حروف تتعلّق بالأفعال المستقبلة دون الماضي؛ لأنَّ الشرط ما يكون على خط الوجود، وذلك يكون في المستقبل دون (267أ1) الماضي وتختصّ بالأفعال دون الأسماء؛ لأن الآخرية تختص بالأفعال دون الأسماء، من قال وبهذا قيل: إنَّ كلمة كل ليست بشرط على الحقيقة؛ لأنّ الذي يليه اسم على ما نبيّن بعد هذا إن شاء الله تعالى، لكن جعل بمعنى الشرط إذا وصف الاسم بفعل كقوله: كلّ امرأة أتزوجها، وكلّ عبد أشتريه، فأخذ معنى الشرط من حيث وصف الاسم بالفعل، كأنّه قال: إن تزوجت، إن اشتريت. قال: ويستوي إن دخل على فعله أو فعل غيره لأنَّ الشرط علم على نزول الجزاء، وفي حقّ العلميّة لا فرق بين فعله وبين فعل غيره، أما لفظ «كه» ، قال امرأته طالق ثلاثاً «كه آين كاريكى» ، فإن لم يتعارفوا التعريف بقوله «كه» يقع للحال؛ لأنّه تحقيق، وإن لم يتعارفوا التعليق إلا به لا تطلق ما لم يوجد الشرط؛ لأنّ المعروف كالمشروط، وإن تعارفوا التعليق بهذا وبصريح الشرط؛ ذكر الفضلي في فتاويه؛ أنّه يقع الطلاق للحال وبعض مشايخنا قالوا لا يقع وهو الأصح. وقد روى ابن سماعة عن أبي يوسف أنّه إذا قال لامرأته: أنتِ طالق لدخلت الدار، فإن لم يكن دخل الدار تطلق، وإن كان دخل الدار لا تطلق، وهذا وما لو قال أنتِ طالق إن لم أكن دخلت الدّار سواء، فقد اعتبر قوله لدخلت الدار شرطاً ولفظ «كه» ترجمة قولهم لدخلت، والله أعلم. نوع آخر إذا علّق طلاق امرأته بفعل إن حصل التعليق بكلمة إن وإذا وإذا ما ومتى ومهما، فهذا على مرّة واحدة، حتّى لو فعلت ذاك الفعل مرّة وقع الطلاق، ولو فعلت ذلك الفعل مرّة أخرى لا يقع الطلاق، وإن حصل التعليق بكلمة كلّما فكلّما تكرّر ذلك الفعل يتكرّر الطلاق حتّى يستوفي طلاق الملك الذي حَلف عليه، ثمَّ يبطل اليمين حتّى لو تزوّجت

بزوج آخر وعادت إلى الزوج الأوّل وفعلت ذلك الفعل لا يقع الطلاق، أمّا تكرّر الطلاق؛ لأنَّ كلمة كلّما تقتضي تكرار ما دخلت عليه من الأفعال لما تبيّن، وأمّا بطلاق اليمين باستيفاء طلقات هذا الملك؛ لأنّ اليمين انعقدت على الملك القائم لا يملك إلا ثلاث تطليقات، فإذا استوفاها تبطل اليمين؛ لأنّ اليمين إنّما تنعقد على ما تملك إيقاعه، لا على ما لا يملك إيقاعه، ولو كان أضاف الطلاق إلى ملك الثاني أو إلى كلّ ملك يملكه بكلمة كلّما بأن قال لامرأته: كلّما تزوجتك فأنتِ طالق فتزوّجها مرّة بعد مرّة حتّى وقع عليها ثلاث تطليقات وتزوجت بزوج آخر، ثمَّ تزوّجها الزوج الأوّل تطلق أيضاً؛ لأنَّ في هذه المسألة أضاف الطلاق إلى كلّ ملك يوجد منه، وطلاق الملك الأوّل وإن ذهب فطلاق الملك الثاني والثالث لم يذهب فيه من اليمين على الملك الثاني والثالث. ولو قال: كلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق فتزوّج نسوة طلقن، ولو تزوّج امرأة واحدة مراراً لم تطلق إلا مرّة واحدة، وقرب بين قوله كل امرأة أتزوّجها، وبين قوله كلّما تزوجت امرأة، فإنَّ هناك لو تزوّج امرأة مراراً طلقت في كلِّ مرّة. والفرق: أنَّ كلمة كلّما وكلّ توجبان التعميم لأنّ كل موضوعة للتعميم؛ لأنَّ ضد البعض، والبعض للخصوص وضدّه وهو لكلّ يكون العموم ... غير أنَّ كلمة كلّما توجد عموم الأفعال نصّاً ووضعاً، وعموم الأسماء ضرورة عموم الأفعال؛ لأنّها تصحب الأفعال، ولا تصحب الأسماء، ألا ترى أنّه يقال: كلّما ذهب وكلّما قام، ولا يقال كلّما رجل وكلّما امرأة والأصل فيه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء: 56) ، وقوله تعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} (الملك: 8) فإذا أوجبت عموم الأفعال دخل تحت اليمين كلّ تزوّج يوجد منه، فيجب بكلّ تزوّج منه، أمّا كلمة كل توجب عموم الأسماء لأنها تصحب الأسماء، قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَوةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَعُ الْغُرُورِ} (آل عمران: 185) وبكل يقال: كل رجل وامرأة، ولا يوجب عموم الأفعال؛ لأنّها لا تصحب الأفعال، ألا ترى أنّه لا يقال كلٌّ قام وكلٌّ ذهب وإذا ثبت أنها توجب عموم الأسماء دون الأفعال ... عموم النساء، لا عموم التزوّج، ويكون شرط الحنث في كلّ امرأة التزوّج مرّة واحدة. وعن أبي يوسف في «المنتقى» : إذا قال: كلما تزوّجت امرأة فهي طالق، فتزوّج امرأة حتّى طلقت لو تزوّجها ثانياً لا تطلق ولا يحنث في هذا مرتين، قال: وهذا بمنزلة قوله: كلّ امرأة أتزوجها فهي طالق، قال أبو يوسف رحمه الله: وليس هذا كقوله: كلما تزوّجت إذا خاطبها، فإنّ هناك يقع عليه الطلاق كلّما تزوجها، أشار إلى أنَّ كلمة كلّما إذا دخلت على المغير، أو على المخاطب تقتضي التكرار، وإذا دخلت على غير المغيّر لا

تقتضي التكرار، وأوضح هذا بما إذا قال: كلّما اشتريت هذا الثوب فهو صدقة، وكلّما ركبت هذه الدابة فعليّ صدقة كذا، فإنّه يلزمه في كلّ دفعة ما التزمه، ولو قال كلّما اشتريت ثوباً كلّما ركبت دابّة لا يلزمه ما التزم إلا مرّة واحدة، وكذلك قال في حقّ رجل قال: كلّما كلمت رجلاً فعليَّ أن أتصدّق بدرهم، فكلّم رجلاً واحداً مرتين في موطنين فإنّما عليه أن يتصدّق بدرهم واحد. ولو قال لرجل بعينه: كلّما كلمتك فعليّ أن أتصدّق بدرهم، فكلّمة مرتين في موطنين فعليه أن يتصدق بدرهمين، قال لأجنبيّة بالفارسيّة «آك حزاز توزن كنم» ، أو قال: «آكر مراجز آز تون باشد» فهي طالق، فتزوّج امرأة ثمَّ أخرى طلقت الأولى دون الثانية؛ لأنّه لما لم يقل «هررني» كان اللفظ حاصلاً، ولا يتناول إلا مرّة واحدة وقد حنث بالأولى، ولا تبقى اليمين إذا قال «آكر مرايد ين جهان زن بودان بسه طلاق» فتزوّج امرأة تطلق، ولو تزوّج الأخرى لا تطلق، ولو قال لامرأة بالفارسيّة «آكر باين خانة آندر ايتي ترا طلاق» . قال الناطقي رحمه الله: ها هنا ستة ألفاظ «آكرو ميمي وميمشة وهركاه وهرز بان وميربار» ، والأوّل فارسيّة قوله «ان» ولا يحنث إلا مرّة واحدة، وقوله: «ميمي» ، معناه: قوله: متى وقوله: «ميمشة» معناه قوله.... (267ب1) ، فلا يحنث فيهما إلا مرّة واحدة، وأمّا قوله: «هركاه وحرزمان» ، قال الناطفي: رحمه الله في «واقعاته» : هذه الألفاظ تشبه كلمة كل، ولا يقع الحنث فيها إلا مرّة واحدة، وتشبّه بكلمة كلّما فيتكرّر الحنث فيها، ورجّح المشابهة وكلمة كلّما فيتكرّر الحنث فيها.6 قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : المختار أنَّ في قوله «ميركاه وميرزمان» لا يقع الحنث إلا مرّة واحدة، وفي قوله «مربار» ، يتكرّر الحنث، ولو قال: أيُّ امرأة أتزوّجها فهي طالق يقع على امرأة واحدة إلا إن نوى العموم، هكذا قيل، وكان ينبغي أن لا تصحّ نيّة العموم فيه؛ لأنَّ هذه الكلمة لا تحتمل العموم، قال أهل اللغة والنحو: كلمة أَن تتناول جزءاً في جملة ما أضيفت إليه هذه الكلمة غير عين، ألا ترى أنّه لا يستقيم قران فعل الجماعة بها لا يستقيم أن يقال: أيُّ الرجال أبوك، ويستقيم قران فعل الواحد بما يستقيم أن يقال: أيَّ الرّجل أباك، غير أنّه صحّ بنيّة العموم باعتبار أنَّ عرف بعض المواضع هذه الكلمة لجميع النساء فيقع على امرأة واحدة باعتبار المواضع، وتصح نيّة العموم فيه، باعتبار عرف البعض. وذكر في «المنتقى» : أنَّ كلمة أي تتناول كل امرأة. وصورة ما ذكر في «المنتقى» : إذا قال: أيّ امرأة أتزوجها فهي طالق وعمرة امرأة الحالف، فتزوّج امرأة طلقت هي وعمرة فإن تزوّج امرأة أخرى بعد ذلك طلقت هي، ولا تطلق عمرة ولا يعود.... في عمرة مرتين. ولو قال: «هر كدام زني كه ترى كنم» ، فهذا يقع على كلّ امرأة مرّة واحدة، هكذا ذكر الفضليّ رحمه الله في «فتاويه» ، وذكر

الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : أنّه يقع على امرأة واحدة مرّة واحدة، وقيل يقع على كل امرأة مرّة واحدة، ولو قال أيَّةُ امرأة زوجت نفسها مني، فهذا على كلّ امرأة؛ لأنَّ النكرة وضعت بصفة عامّة فتعم، بخلاف قوله: أيّة امرأة أتزوّجها، وقوله: أَيّة امرأة زوّجت نفسها مني، بمنزلة قوله: أي عبيدي ضربَك يا فلان. وقوله: أَيّة امرأة أتزوّجها بمنزلة قوله أيُّ عبيدي ضربته يا فلان، وبيان مسألة الضرب في كتاب الأيمان. نوع آخر في لو ولولا إذا جعل شرطاً إذا قال لامرأته: أنتِ طالق لو دخلت الدّار، لم تطلق حتّى تدخل الدّار؛ لأنَّ لو بمعنى الشرط، فإنّه يستعمل لأمر مترقب، فصار بمعنى الشرط الذي هو مترقب الثبوت، فيتوقّف عليه. وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لها: أنتِ طالق لو دخلت الدّار لطلقتك، فهذا رجل حلف بطلاق امرأته ليطلقها إن دخلت الدّار، وهو بمنزلة قوله: عبدي حرٌّ لو دخلت الدّار وضربتك، وهذا رجل حلف بعتق عبده ليضربها إن دخلت الدّار، فإن دخلت الدّار في مسألة الطلاق لزمه الطلاق إن طلقها، فإن ماتت أو مات هو فقد فات الشرط في آخر جزء من آخر الحياة فيقع الطلاق، كما في قوله: إن لم آتِ فأنتِ طالق فمات قبل أن يأتيها طلقت في آخر جزء من أجزاء حياته، قال محمّد رحمه الله: إذا قال لامرأته: أنتِ طالق لولا دخولك الدّار، فهذا استثناء ولا يقع الطلاق عليها، وكذلك لو قال: لولا مهرك عليّ، والأصل في جنس هذه المسائل أنَّ لولا تستعمل لامتناع الشيء بوجود غيره، قال الله تعالى: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَكَ} (هود: 91) فيصير تقدير كلامه: امتناع وقوع الطلاق عليك لمكان مهرك عليَّ، ولمكان دخولك الدّار. وقول محمّد رحمه الله في «الكتاب» : هذا استثناء معناه: أنَّ هذا بمعنى الاستثناء، فإنّه يمنع ثبوت موجب الكلام كالاستثناء. نوع آخر في حرف الباء إذا جعل شرطاً إذا قال لامرأته: أنتِ طالق إن خرجت من هذه الدّار إلا بإذني، أو قال: إلا برضاي، أو قال: إلا بعلمي أو قال لها: أنتِ طالق إن خرجت من هذه الدّار بغير إذني، فهما سواء؛ لأنّ كلمة إلا وغير للاستثناء، والجواب فيهما أن بالإذن مرّة لا ينتهي اليمين حتّى لو أذن لها بالخروج مرّة وخرجت، ثمَّ خرجت بعد ذلك بغير إذنه طلقت، وإنّما كان كذلك؛ لأنّ كلمة الاستثناء دخلت على الخروج لا على الحرمة البائنة باليمين؛ لأن محلّ الاستثناء ما هو متعدّد؛ لأنَّ الاستثناء موضوع لاستخراج البعض، وذلك إنّما يتحقّق فيما هو متعدّد والخروج متعدّد، وأمّا الحرمة البائنة باليمين غير متعدّدة، فإذا قال لها: إن خرجت، فقد منعها عن جميع الخروجات، واستثنى خروجاً موضوعاً بإذن، فإذا وجد الخروج بإذن كان مستثنياً عن اليمين فلا تطلق، وإن وجد الخروج بغير إذن لم يكن مستثناً عن اليمين، فتطلق.

وهو نظير ما لو قال لها: إن خرجت من هذه الدّار إلا بملحفة، فخرجت بغير ملحفة طلقت فطريقه ما قلنا. والحيلة للزوج في ذلك أن يقول لها: كلّما شئت الخروج فقد أذنت لك، فإن أذن لها بالخروج في كلِّ مرّة ثمَّ نهاها عن الخروج؛ قال محمّد رحمه الله: يُعمل نهيه، وقال أبو يوسف: لا يعمل، وأجمعوا على أنّه لو أذن لها بالخروج مرّة ثمَّ نهاها يعمل نهيه. ولو قال لها: أنتِ طالق إن خرجت من هذه الدّار حتّى آذن لك، فأذن لها بالخروج مرة بينهنّ اليمين، حتّى لو خرجت بعد ذلك بغير إذن لا تطلق؛ لأنَّ كلمة حتّى كلمة غاية، وقد دخلت على ما يقبل التأقيت، فإن اليمين يقبل التأقيت بوقت، ألا ترى أنَّ من قال لامرأته: أنتِ طالق إن خرج فلان من هذه الدّار حتّى الليلة، أو قال: إلى الليلة كانت اليمين مؤقتة. إذا ثبت هذا فنقول: الزوج جعل ليمينه غاية، وهو إذن، فإذا وجد الإذن مرّة فقد وجدت الغاية فتنتهي اليمين فلا تطلق بعد ذلك وإن خرجت بغير إذنه، وإن عنى بقوله حتّى آذن إلا بإذني صحّت نيته فيما بينه وبين الله تعالى وفي القضاء؛ لأنّه نوى ما يحتمله كلامه وفيه تغليظ عليه، وإن عنى بقوله: إلا بإذني حتّى آذن صحّت نيته فيما بينه وبين الله تعالى، ولا تصحّ نيته في القضاء، وفي إحدى الروايتين عن أبي يوسف في القضاء. ذكر المسألة في «الجامع» من غير ذكر خلاف، وذكر القدوري أنّ على قول أبي حنيفة ومحمّد، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمهم الله، وفي رواية عن أبي يوسف: لا تصحّ نيته في القضاء، والوجه لهم: أنَّ (268أ1) أنَّ التكرار ما ثبت بصريح اللفظ، بل بدلالة حرف الباء، فإذا نوى مرّة واحدة فقد نوى صريح لفظه، فيصدّقه القاضي في ذلك. ولو قال لها: أنتِ طالق إن خرجت من هذه الدّار إلا أن آذن لك، فهذا وما لو قال: حتّى آذن لك سواء حتّى ينتهي اليمين بالإذن مرّة. إذا قال لها: إن خرجت من هذه الدّار من غير إذني فأنتِ طالق، فأذن لها بالعربية فخرجت تطلق؛ لأنَّ العلم شرط تحقق الإذن، ولم يوجد. ونظير هذا ما لو أذن لها وهي نائمة أو غائبة، هكذا ذكر في «النوازل» وفي «أيمان القدوري» إذا أذن لها وهي نائمة فهو إذن. وفي أيمان «الأصل» : إذا أذن لها من حيث لا تسمع لم يكن إذناً، إن خرجت بعد ذلك طلقت في قول أبي حنيفة ومحمّد، وقال أبو يوسف رحمهما الله: هو إذن، ولو خرجت بعد ذلك لم تطلق، أبو يوسف يقول: الإذن يقوم بالإذن وحده وقد وجد، فهو بمنزلة ما لو أذن لها وهي نائمة، وهما قالا: الإذن مشتق من الأذان، وهو الإعلام، ومعنى الإعلام لا يحصل إلا بوصول الكلام إلى سمعها، بخلاف ما إذا أذن لها وهي نائمة؛ لأنَّ هناك وصل الكلام إلى سمعها إلا أنّه لم يحصل لها لمانع، فهو بمنزلة ما لو أذن لها وهي عاقلة، وحكي عن أبي شجاع: أنّه لا خلاف في هذه المسألة، وإنّما الخلاف في الأمر، إلا أنّ أبا سليمان حكى الخلاف في الإذن.

وفي «المنتقى» : إذا قال لها أنتِ طالق إن خرجت إلا بأمري، فالأمر أن يسمعها الأمر بنفسه أو رسوله، وإذا أشهد قوماً على ذلك لم يكن أمراً قال ثمّة، وهذا الخلاف الإذن على أصله؛ لأنَّ حكم الأمر لا يثبت إلا بعد علم المأمور، كأوامر الشرع بخلاف الإذن؛ لأنَّ المقصود من الإذن أن لا يكون الخروج مع كراهية، وانعدام الكراهية لا يتوقف على علمها، ولو أنَّ هؤلاء الذين أشهدهم الزوج على الأمر بلغوها أنَّ الزوج قد أمرها بالجواب، وإن لم يأمرهم أن يبلغوها فخرجت، فهي طالق وإن أمرهم أن يبلغوها، فخرجت بعد ذلك لا تطلق. وفي الإرادات والهواء والرضاء لا يشترط رضاه، وأراد به حتّى لو خرجت بعدما قال رضيت أردت هديت لا تطلق، وإن لم تسمع هي ذلك، فلا خلاف إنّما الخلاف في الإذن والأمر، وفي هذا الموضع أيضاً إذا قال لها إن خرجت من هذه إلا بإذني، فأنتِ طالق ثمَّ سمع سائلاً، فقال لها: أعطِ هذه السائل هذه الكسوة، فإن كان السائل بحيث لا تقدر المرأة على دفع ذلك إليه إلا بالخروج، فهو إذن لها بالخروج وإن كان بحيث تقدر المرأة على دفع ذلك إليه من غير خروج، ثمَّ خرج السائل إلى الطريق فخرجت إليه وأعطته طلقت، ولو دعته فجاء حتّى صار بحال تقدر المرأة على دفع ذلك إليه من غير خروج، فلم تدفع إليه حتّى انصرف، فخرجت إليه ودفعت ذلك إليه طلقت أيضاً. ولو حلف بطلاق امرأته على جاريته أن لا تخرج من الدّار إلا بإذنه، وهي تشتري لها الحوائج، فقال لها: اشتري بهذه الدراهم لحماً، فهو إذن لها بالخروج، وإذا خرجت بعد ذلك لا تطلق امرأته. وفيه أيضاً: إذا قال لامرأته: إن خرجت إلا بإذني فأنتِ طالق، فاستأذنيه بالخروج إلى أبيها، فأذن لها فخرجت إلى منزل أخيها لا تطلق من قبل أنّه إذن لها بالخروج ولا..... ذهبت إلى الذي أمرها به أو إلى غيره من قبيل أنَّ اليمين ها هنا على الإذن في الخروج إلى أبيها، فأذن لها فخرجت إلى أخيها طلقت. وفي «النوازل» إذا قال لها: إن خرجت بغير إذني فأنتِ طالق، فاستأذنه نية للخروج إلى بعض أهلها فأذن لها، فلم تخرج إلى ذلك لكنّها كانت تكنس الدّار فخرجت إلى باب الدّار لتكنس الباب وقع الطلاق؛ لأنّها خرجت بغير إذن؛ لأنّه إنّما أذن لها في الخروج إلى بعض أهلها ولم تخرج إلى بعض أهلها، فإن تركت الخروج ثمَّ خرجت في وقت آخر إلى بعض أهلها الذي أذن لها في الخروج؛ قال: أخاف أن يقع الطلاق عليها؛ لأنَّ هذا إذن في الخروج في هذا الوقت عادة. وفي «المنتقى» : إذا قالت المرأة لزوجها: ائذن لي في الخروج إلى بيت أبي فقال: إن أذنت لك في ذلك فأنت طالق ثمَّ قال لها: أذنت لك في الخروج، ولم يقل إلى أين لا يحنث في يمينه، وهذا بخلاف ما لو استأذن الغلام مولاه في تزوّج أمة رجل، فقال له المولى: إن أذنت لك في تزوّجها فامرأته طالق، ثمَّ قال بعد ذلك: قد أذنت لك في تزوّج

النساء، أو قال: أذنت لك في التزوّج حنث (في) يمينه، وعلّل ثمّة في الفرق فقال: لأنّه لا يكون متزوّجاً غير امرأة، وقد تكون خارجة من الدّار إلى غير منزل أحد. ومعنى هذا: أن التزوّج إذا كان لا يكون إلا بالمرأة فإذا أذن له في التزوّج مطلقاً يثبت الإطلاق في النسوة ضرورة ثبوت التزوّج الإطلاق في التزوّج، فكان نكاح هذه المرأة داخلاً تحت الإذن، وأمّا الخروج قد يكون لا إلى منزل أحد، فلم تكن من ضرورة الإطلاق في الخروج الإطلاق في جهة الخروج، فلا يكون الخروج إلى منزل أبيه داخلاً تحت الإذن فلهذا لا يحنث، وإذا قال لعبده: إن اشتريت هذا العبد بإذني فامرأتي طالق، ثمَّ أذن له في التجارة، فاشترى هذا العبد طلقت امرأة المولى، ولو قال: أذنت لك في شراء البُرّ، فاشترى هذا العبد لا تطلق امرأة المولى؛ لأنَّ الأوّل إذن عام أو مطلق، فتناول شراء العبد بعمومه أو بإطلاقه، فأمّا الثاني إذن خاص يتقيد بالبرّ، ولا يتناول بالدّقيق بحقيقته، ولكن صار مأذوناً في التجارات كلّها حكماً لا بإذن ظهر منه حقيقة، ولا يتحقق شرط الحنث نظراً إلى الحقيقة المعلى عن أبي يوسف رحمه الله: رجل حلف بطلاق امرأته أن لا تشرب نبيذاً إلا بإذن فلان، ولا تأكل طعاماً إلا بإذن فلان، قائماً هذا الإذن على شربة واحدة، وعلى لقمة واحدة. رجل قال: امرأتي طالق إن (268ب1) دخلت هذه الدّار، إلا أنَّ يأمرني فلان، فهذا على الأمر مرّة واحدة، ولو قال إلا أن يأمرني به فلان فلا بدّ من الأمر في كلِّ مرّة. وعلى هذا إذا قال لغيره: إن عملت لك كذا إلا أن يأمرني فلان فهذا على الأمر مرّة، ولو قال: إلا أن يأمرني به فلان لا بدّ من الأمر في كلِّ مرّة، والأصل أنَّ الحالف إذا وصل الأمر بالفعل المحلوف عليه بحرف الفاء يشترط الأمر في كلِّ مرّة، وإذا ذكر الأمر مطلقاً يكتفي بالأمر مرّة واحدة. ولو قال لامرأته: إن خرجت من هذه الدّار إلا بإذني فأنتِ طالق، ثمَّ قال لها أطيعي فلاناً في جميع ما أمرك به، فأمرها فلان بالخروج فخرجت طلقت من قبل أن الزوج لم يأذن لها بالخروج. وكذلك لو قال الزوج لرجل: ائذن لها في الخروج، فأذن لها فخرجت طلقت، وكذلك لو قال ذلك الرجل: إنَّ زوجك قد أذن لك، وكذلك لو قال لها الزوج: ما أمرك به فلان فقد أمرتك (به) ، ثمَّ أذن لها بالخروج فبلغها ذلك ثمَّ خرجت طلقت، ولو قال الزوج لرجل: قد أذنت لها بالخروج، فبلغها ذلك ثمَّ خرجت لم تطلق. قال لامرأته: إن خرجت من هذا الدّار إلا بعلمي أو بغير علمي فأنتِ طالق، فخرجت وهو يراها فمنعها أو لم يمنعها لم تطلق؛ لأنَّها خرجت بعلمه. وفي «المنتقى» : إذا قال: إن خرجت من هذه الدّار بغير علمي فأنتِ طالق، فأذن لها بالخروج فخرجت بغير علمه لا تطلق؛ لأنَّ غرضه أن لا تخرج بغير رضاه، وفي «القدوري» : إذا قال لامرأته إن خرجت من هذه الدّار إلا بإذني فأنتِ طالق، ثمَّ قال لها: إن فعلت كذا فقد أذنت لك لا يكون إذناً، ولو قال لها أذنت لك أبداً، أو الدّهر، أو

كلّما شئت فهو إذن لها في كلِّ مرّة، ولو قال لها: أذنت لك عشرة أيّام، كان لها أن تخرج في العشرة ما شاءت، ولو عصبت وتهيّأت للخروج فقال الزوج: دعوها تخرج ولا نيّة له لم يكن إذناً إلا إذا نوى الإذن، ولو قال لها في غضبه: اُخرجي ولا نيّة له كان على الإذن، إلا إذا نوى اخرجي حتّى تطلق؛ لأنَّ الأمر قد يقصد به التهديد وقد نوى ما يحتمله لفظه، وفيه تشديد عليه. ولو حلف على امرأته بطلاقها أن لا تخرج من الدّار إلا بإذنه، أو حَلّف السلطان رجلاً بطلاق امرأته أن لا يخرج من البلدة إلا بإذنه، أو حَلَّف صاحب الدّين مديونه أن لا يخرج من البلدة إلا بإذنه فاليمين.... بحال قيام الزوجيّة والسلطنة والدّين، فإن بانت المرأة، وعزل السلطان، وسقط الدّين يسقط اليمين ثمَّ لا يعود أبداً وإن عادت الولاية للسلطان والزوج وعاد الدّين. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف: سلطان حَلَّف رجلاً لا تدخل من هذا المسجد إلا بإذنه، ثمَّ عُزِل السلطان فقد سقط اليمين، وإن مات فاليمين على حالها. رجل خرج مع الوالي فحلف أن لا يرجع إلا بإذنه وقد سقط منه شيء فرجع كذلك لا تطلق؛ لأنَّ هذا الرجوع لا يراد باليمين عرفاً. وعن أبي يوسف فيمن حلف الطلاق على امرأته أن لا تخرج من بغداد إلا بإذنه، فقال الرجل: لم آذن لك، فادّعت المرأة الإذن فالقول قول الزوج، ولو قال لامرأته: أنتِ طالق إن خرجت من هذه الدّار إلا بإذن فلان، فمات فلان قبل الإذن بطلت اليمين في قول أبي حنيفة رحمه الله ومحمّد خلافاً لأبي يوسف. والأصل عندهما: أنَّ اليمين إذا انعقدت على فعل في المستقبل ومات المعقود عليه أنّ اليمين تبطل، وعند أبي يوسف لا تبطل. وسيأتي الكلام فيه في كتاب الأيمان إن شاء الله. وفي «الفتاوى» : إذا قال إن خرجتِ من هذه الدّار بغير إذني فأنتِ طالق، فقالت المرأة للزوج تريد أن أخرج حتّى أصير مطلقة، فقال الزوج: نعم، فخرجت تطلق؛ لأنَّ هذا تهديد وليس بإذن. نوع آخر في ذكر مسائل الشرط بكلمة إن ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب «الحيّل» : إذا وهب الرجل لرجل مالاً، ثمَّ إنّ الواهب قال للموهوب له: امرأتي طالق إن أنفقت هذا المال الذي وهبت لك إلا على أهلك، ثمَّ إنَّ الموهوب له أنفق بعض الهبة على أهله وقضى بالباقي ديناً عليه أو حجّ لا تطلق امرأة الواهب. علّل فقال: شرط برِّه إنفاق جميع الهبة على أهله، فيكون شرط حنثه ضدّ ذلك وهو إنفاق جميع الهبة على غير أهله، ولم يوجد ذلك ها هنا. قال: وهو نظير ما لو حلف لا يأخذ ماله على فلان إلا الجميع، فأخذ البعض دون البعض لا يحنث؛ لأنَّ شرط برّه أخذ جميع الدّين جملة، فيكون شرط حنثه ضدّه، وهو أخذ جميع الدّين

متفرّقاً، وستأتي مسألة الاستشهاد في كتاب الأيمان مع أجناسها إن شاء الله. إذا قال لامرأته: إن أكلت من القِدر الذي تطبخي أنتِ فأنتِ طالق، فإن أوقدت هي النّار فهي طابخة سواء حصل الإيقاد بعدما وضعت القدِر على الكانون أو في التّنّور أو قبل ذلك، وسواء حصل وضع القِدر على الكانون منها أو من غيرها، فإن أوقدت النّار غيرها، فليست بطابخة حصل الإيقاد بعدما وضعت القِدر على الكانون أو قبل ذلك، وإليه أشار في «القدوري» حيث قال: الطابخة توقد النّار دون التي تنصب القِدر ونصب القِدر ونصب الماء، وتَلَقّي الأباريق، واختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله: أنّها تكون طابخة إذا وضعت القِدر في التنور، أو على الكانون بعد إيقاد النّار وإن حصل الإيقاد من غيرها قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : وعليه الفتوى. قال: ألا ترى في العادة التنّور إذا كان في سكّة توقد النّار فيه امرأة واحدة ثمَّ تضع كلّ امرأة قدرها في التنور؟ وبعد ذلك من كلّ واحدة منهنّ طبخاً. وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا أراد الرّجل أن يجامع امرأته، فقال لها: إن لم تدخلي معي في البيت فأنتِ طالق، فدخلت بعدما سكنت شهوته وقع الطلاق عليها، وإن دخلت قبل ذلك لم تطلق؛ لأنَّ شرط الحنث عدم الدخول لقضاء شهوته فيها، وقد تحقّق ذلك في الصورة الأولى دون الثانية في الباب الأوّل من طلاق «الواقعات» . رجل خرج من بخارى إلى سمرقند وقال لامرأته: «آكر سيس من بيرون بياثي» مع فلانة، فأنتِ طالق ثلاثاً، فلم تخرج المرأة حتّى رجع الزوج من سمرقند، ينظر إن كانت فلانة خرجت ولم (269أ1) تخرج امرأته معها وقع الطلاق على امرأته، وإن كانت فلانة لم تخرج أيضاً فإن أراد الزوج بقوله: أن تخرجي مع فلانة أن يكون عدم خروجها شرطها لوقوع الطلاق، فإذا لم يخرجا وقع الطلاق على امرأته، وإن أراد الزوج بذلك: إن خرجت فلانة ولم تخرجي معها على إثري، فإذا رجع الزوج قبل خروج فلانة لا يقع الطلاق، وتسقط اليمين. قال لامرأته: إن ذهبت إلى قرية كذا فأنتِ طالق، فذهبت المرأة إلى قرية أخرى، ومرّت بضياع تلك القرية ولم تدخل عمران تلك القرية لا تطلق؛ لأنَّ القرية اسم للعمران وهو الدّور والبيوت خاصّة. نصّ عليه في «شرح القدوري» في كتاب «البيع» ، هذا إذا عقد يمينه على الذهاب، وإن عقدت يمينه على الخروج بأن قال: لها إن خرجت إلى قرية كذا فأنتِ طالق فخرجت إلى قرية أخرى ومرّت بضياع تلك القرية فإن كانت حين خرجت نوت أن تمرّ بتلك القرية طلقت، وإن كان من نيّتها أنّها لا تمرّ بتلك القرية، ثمَّ بدا لها بعد ذلك فمرّت بها لا تطلق. قال لامرأته: إن تركتُ أو قال إن تركتُ صلاةً فامرأتي طالق، فترك صلاة أو تركت وقضاها هل يقع الطلاق؟ اختلف فيه المشايخ، قال بعضهم: لا يقع الطلاق، وبه كان يفتي الشيخ الإمام سيف الدّين عبد الرحيم الكرميني رحمه الله، لأنَّ ترك الصلاة أن يتركها ولا يقضيها، وبعضهم قالوا: يقع الطلاق، وبه كان يفتي القاضي الإمام ركن الإسلام

عليّ السغدي رحمه الله، وهو الأشبه والأظهر؛ لأنَّ ترك الصّلاة أن يتركها عن وقتها،..... قال محمّد رحمه الله: إذا قضى المتروكة، وقال أيضاً: من ترك صلاة يوم وليلة وقضاها من الغد. وفي «الفتاوى» : سيّد أبو القاسم رحمه الله: قالت المرأة لزوجها: لا طاقة لي بالكون معك جائعة، فقال لها: إن كنت جائعة في بيتي فأنتِ طالق قال: إذا لم يكن كذلك في غير الصّوم لا تطلق، وسئل هو أيضاً عن امرأة خرجت إلى ضيافة فقال الزوج لها: إن سكنت هناك أكثر من ثلاثة أيّام فأنتِ طالق فرجعت في اليوم الثالث إلى قرية زوجها، ثمَّ رجعت ومكثت هناك أيّاماً، قال: لا أفتي بالطلاق غير أنَّ الاحتياط فيه أولى، وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: إن دخلت عمران قرية الزوج ثمَّ رجعت لا تطلق، وإن لم تدخل ينبغي أن لا تطلق؛ لأنَّ شرط الحنث المكث هناك بأكثر من ثلاثة أيّام في هذا الخروج من هذه القرية بدلالة الحال، ففيما إذا دخلت عمران قرية الزوج ثمَّ رجعت فهذا مكث في خروج آخر، وفيما إذا رجعت قبل أن تدخل عمران قرية الزوج فهذا مكث في الخروج الأوّل. وفي «الفتاوى» أيضاً: رجل خرجت امرأته إلى قرية، فقال لها بالفارسيّة «آكربيش أزسه روز باشي» فأنتِ طالق، فانصرفت المرأة في اليوم الثالث إلى قرية أخرى، ثمَّ انصرفت إليها وأقامت بها أياماً، فإن كان انصرافها من تلك القرية على أن لا تعود ثمَّ عادت لا تطلق، وإن كان انصرافها على أن تعود ثمَّ عادت تطلق؛ لأنَّ شرط الحنث الكينونة في تلك القرية أكثر من ثلاثة أيّام في هذه الخرجة، فهي خرجت من تلك القرية على أن لا تعود لم تبق الكينونة في تلك القرية، ومتى خرجت من تلك القرية على أن تعود إليها فالكينونة الأولى نافية، وفي المسألة الأولى لم يذكر مثل هذا التفصيل.h وسئل أيضاً: عمّن قال لامرأته: إن لم أشبعك من الجماع فأنتِ طالق، قال: لا يعرف ذلك إلا بقولها، وقال الفقيه أبو الليث والشيخ الإمام أبو حفص البخاري رحمهما الله: أنه إذا جامعها ودام على ذلك حتّى أنزلت فقد أشبعها ولا تطلق. قال الفقيه وبه نأخذ في فتاوى الفضلي إن لم أطأك كالدّر فأنتِ طالق ثلاثاً، فهذا على المبالغة في الجماع، وإن بالغ لم تطلق وإلا تطلق، وفي «الجامع الأصغر» : إنَّ الجماع كالدّر أن ينزلا جميعاً في ذلك الجماع إذا قال لها: إن لم أطأك مع هذه المقنعة فأنتِ طالق ثلاثاً، ثمَّ قال لها: إن وطئتك مع هذه المقنعة فأنتِ طالق ثلاثاً، والحيلة في ذلك: أن يطأها بغير مقنعة، ولا يقع الطلاق ما دامت المقنعة قائمة وهما حيّان؛ لأنَّ شرط وقوع الطلاق في الحال يتحقّق، وهو وجود الوطىء مع المقنعة، وكذلك العدم لا يتحقق أيضاً للحال، فإن مات أحدهما أو هلكت المقنعة وقع الطلاق؛ لأنَّ العدم قد تحقّق. إذا قال لها: إن لم أجامعك على رأس هذا الرّمح فأنتِ طالق، فالحيلة في ذلك:....

أن يثقب السقف، ويخرج رأس الرمح من السطح فيجامعها عليه، ولو قال لها: إن لم أجامعك وسط النهار وسط السوق فأنتِ طالق، فالحيلة في ذلك: أن يحملها في عمارى ويدخل السوق ويفعل ذلك الفعل. إذا قال لامرأته: إن بتِ الليلة إلا في حجري فأنتِ طالق، فباتت في فراشه ولم يأخذها في حجره حقيقة، قال الله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّتِى فِى حُجُورِكُمْ} ولو قال بالفارسيّة «بكنار من آندر» ، وباقي المسألة بحالها يجب أن تطلق. وفي «أيمان فتاوى أهل سمرقند» : إذا قال لها: إن لم أبت معك الليلة مع قميصك هذا فأنتِ طالق ثلاثاً، فقالت المرأة: إن بتّ معك مع قميصي هذا فجاريتي حرّة، فالحيلة في ذلك: أن يلبس الرّجل ذلك القميص فيبيتان ولا يجيبان؛ لأنَّ قصد الرّجل أن يبيت معها ومعه هذا القميص، وقصد المرأة أن لا تبيت لابسة قميصها. إذا قال لامرأته: إن لم يكن ذكري أشدّ من الحديد فأنتِ طالق ثلاثاً، حكي عن شمس الأئمة الحلواني أنّها لا تطلق بهذه اليمين أبداً؛ لأنَّ الحديد يذوب بالنّار وينتقص بالاستعمال، وذكره لا يذوب بشيء، ولا ينتقص بالاستعمال. وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا قال لها: إن شتمتني فأنتِ طالق وإن لعنتني فأنتِ طالق فلعنته. قال محمّد بن سلمة رحمه الله: يقع تطليقتان؛ لأنَّ في كلِّ لعنة شتمة، ألا ترى أنَّ من قال لامرأته: إن شتمتني فأنتِ طالق فلعنته طلقت امرأته، وقال نصر رحمه الله يقع طلقة واحدة لأنَّ الزوج عَبّر عن الشتم وعن اللعن، فدلّ تعبيره على أنّه أراد بقوله: إن شتمتني غير اللعن وإن (269ب1) كان في اللعن شتماً. ولو قالت له: لا بارك الله فيك لا تطلق؛ لأنَّ هذا ليس بشتم بل دعاء سوء، وكذلك لو قالت له: يا جاهل يا حمار يا أبله لا تطلق؛ لأنَّ هذا ليس بشتم. ولو قال لها: إن شتمتك فأنتِ طالق فقال: أيُّ عراى ساحه، فهذا شتم عرفاً وإن كان لا يجب به الجدّ فتطلق بحكم العرف، ولو قال لها: إن شتمتني فأنتِ طالق، فقالت المرأة لولدها الصغير منه: «أي بلاه يحه» ينظر إن قالت ذلك لكراهة عن الولد لا يقع الطلاق؛ لأنّها شتمت الولد دون الوالد، وإن قالت ذلك لكراهة عن الولد تطلق لأنَّ هذا شتم للوالد، وهذا لأنَّ هذا اللفظ يصلح لشتم الولد ولشتم الوالد ويرجّح جانب شتم الولد في الفصل الأوّل، وجانب شتم الوالد في الفصل الثاني. قال لامرأته إن أغضبتك فأنتِ طالق، فضرب صبيّاً لها فغضبت، ينظر إن ضربه في شيء ينبغي أن يضرب ويورث عليه لا تطلق؛ لأنَّ هذا ليس موضع الغضب، وإن ضربه في شيء لا ينبغي أن يُضرب ويورث عليه تطلق؛ لأنَّ هذا موضع الغضب. إذا قال لامرأته (إن لم أقل عند الآن هذا موضع أحبك تلك قبيح في الدنيا عوك غداً) ، فأنتِ طالق، فهذا اليمين لا يقع على جميع أنواع القبيح؛ لأنّه لا يتصوّر عادة، وإنّما يقع على ثلاث من أنواع القبيح والفواحش، فإذا قال ثلاثاً من أنواع القبيح

والفواحش عند اجتماع أشباهها يقع البر. قال لها: إن لم تكوني عليّ أهون من التراب فأنتِ طالق، إن استهان بها استهانة يُعَدُّ إفراطاً منها لا يحنث؛ لأنّها أهون عليه من التراب عادة. دعا امرأته إلى الفراش فقالت المرأة: ما تصنع بي ويكفيك، ولأنّه لامرأته أحببته فقال الزوّج: إن كنت أحبُها فأنتِ طالق، تكلموا فيه، قال الصدر الشهيد رحمه الله: والمختار: أنّه لا يقع الطلاق وإن كان يحبّها ما لم يقل الزوج أحبّها؛ لأنَّ الطلاق معلّق بالإخبار على المحبّة. رجل هدّد رجلاً بالسلطان، فقال المهدّد: إن كنت أخاف من السلطان فامرأتي طالق، إن لم يكن ساعة حلف على خوف من السلطان ولا كان سبيل من الخوف بحياته حياها يخاف من مثلها السلطان، رجوت أن لا تطلق امرأته إن لأنَّ الأمر كما زعم. إذا قال لامرأته «آكر ترانير رود حياتك تا آكنون رفت» فأنتِ طالق ثلاثاً، فقيل هذا الكلام، ولا بدّ من قرينة يصير بها معلوماً، فإن كان له متقدّمة يرجع بها ويتقيّد بها، وإلا يرجع إلى نيته، فإن نوى أنّي كنت أتجاوز عنكِ والساعة لا تجاوز عنها وقع الطلاق؛ لأن شرط الحنث قد وجد. قيل لسكران هذا يقول من السّكر، فقال امرأتي طالق إن قلت هذا من السّكر، وليست بسكران فتسميه على ما يسميّه الناس سكراناً، فإذا بعد كلامه ومعاملته والنّاس يسمّونه سكراناً، فتطلق امرأته. سئل أبو القاسم عن النساء يجتمعن يغزلن لأنفسهنَّ، ولغيرهن أيضاً على وجه القرض، فقصّ زوج امرأة وقال لها: إن غزلت لأحد أو غزل لك أحد فأنتِ طالق، ثمَّ إن امرأةً منهن وجهت إلى بيت هذه المرأة قطناً لتغزله، فغزلته أمّها قال: إن كان من عادة أولئك النسوة أنَّ كلّ واحدةٍ تغزل لنفسها لا تطلق ما لم تغزل هي بنفسها. وسئل أبو القاسم رحمه الله عمّن قال لامرأته: إن تكوني امرأتي فأنتِ طالق ثلاثاً، أنّه إن لم يطلّقها تطليقة ثانية عند فراغه من اليمين، طلقت ثلاثاً. إذا قال لامرأته: إن لم أطلقك اليوم ثلاثاً فأنتِ طالق ثلاثاً، فالحيلة في ذلك: أن يقول لها: أنتِ طالق ثلاثاً على ألف، فتقول المرأة: لا أقبل، فإنَّ في هذه الصورة لا يقع الطلاق في رواية أبي حنيفة رحمه الله، وبه أخذ كثير من المشايخ؛ لأنّه أتى بالتطليق، ولكن على ألف وكان تطليقاً مقيداً، والمقيد يدخل في المطلق، فيتقدّم شرط وقوع الطلاق وقيل هذه الرواية لا تصلح حيلة ويقع الطلاق؛ لأنَّ شرط وقوع الطلاق عدم التطليق، وما أتى به ليس بتطليق، بل هو تطليق والتطليق غير التطليق. ولو قال لها: إن لم أطلقك اليوم ثلاثاً على ألف درهم، فكذا، فهو على ما قال، فإن قال لها: أنتِ طالق ثلاثاً

على ألف درهم فقالت: لا أقبل، لا يلزمه الحنث، وهذا الجواب يجب أن يكون على الروايات كلّها. إذا قال لامرأته «آكر بحانة آندر ايش باشد برا طلاق» فإذا في البيت سراج، قال الفقيه أبي الليث: إن كان يمينه لأجل إيقاد النّار تطلق امرأته، وإن كانت يمينه لأجل الاصطلاء ونحوه لا تطلق امرأته، وإن لم يكن له نيّة لا تطلق امرأته؛ لأنّ هذا ممّا لا يسمّى ناراً على الإطلاق. وفي «فتاوى الفضلي» إذا قال لها: إن سألتني الليلة طلاقك فلم أطلقك فأنتِ طالق فأنتِ طالق ثلاثاً، فقالت المرأة: إن لم أسألك الليلة طلاقي فجميع مالي صدقة في المساكين، فسألت المرأة الطلاق، فقال لها الزوج: أنتِ طالق إن شئتِ، فقالت: لا أشاء ومضت الليلة لا تطلق، ولو قال لها: إن دخلت الدّار فأنتِ طالق، فمضت الليلة طلقت ثلاثاً. والفرق: أنَّ قوله: أنتِ طالق إن شئت إيقاع؛ لأنّه تقدّر جعله تعليقاً بدلالة اقتصاره على المجلس، وقوله: إن دخلت الدّار تعليق فلم يكن إثباتاً لتطليق. وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا قال لها بالفارسيّة «آكر توفر دازن من باشي» فأنتِ طالق ثلاثاً، فخالعها بعد ما طلع الفجر من الغد، ينظر إن كان مراد الزوج من كلامه السابق منع كونها امرأة له في شيء من الغد، فإذا أخّر الخلع إلى ما بعد طلوع الفجر طلقت ثلاثاً؛ لأنَّ شرط وقوع الثلاث قد وجد وهو كونها امرأة له في شيء من الغد، وإن لم يكن له نيّة إذا خالعها قبل غروب الشمس من الغد لا تطلق بحكم اليمين؛ لأنَّ البر إنما يتحقّق في آخر النّهار، وهي ليست امرأته في آخر النّهار، وإن خالعها قبل غروب الشمس من الغد ثمَّ تزوجها قبل غروب الشمس طلقت بحكم اليمين؛ لأنها امرأته قبل غروب الشمس، ولو خالعها قبل غروب الشمس ثمَّ تزوّجها في اليوم الجائي، لا تطلق بحكم اليمين؛ لأنّها لم تكن امرأته قبل غروب الشمس من الغد. وفي «فتاوى سمرقند» : إذا قال لها بالفارسيّة ليلاً: «آكر تراجزا مشب دارم» فأنتِ طالق ثلاثاً، فطلقها في الليلة تطليقة بائنة ومضت الليلة، ثم تزوّجها في الغد (270أ1) لا تطلق، وكذلك إذا قال لها نهاراً: «آكر جزا مروز ترادام» فطلقها تطليقة بائنة في هذا اليوم، ومضى اليوم لا تطلق؛ لأنَّ شرط الحنث في المسألة الأولى أن يديم نكاحها بعد مضي هذه الليلة. وفي المسألة الثانية أن يديم نكاحها بعد مضي هذا اليوم ولم يوجد، وهذا نكاح جديد، فلهذا لا تطلق بحكم اليمين. وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل طلّق امرأته ثلاثاً، فتزوّجت بزوج آخر ودخل بها الزوج الثاني وفارقها، وقيل للزوج الأوّل: لمَ لا تتزوّجها، فقال بالفارسيّة: «آكر كار من با أو بيكوشود آكرا رحبايب ميخ مردسر شتست» ، فهي طالق ثلاثاً ثمَّ تزوّجها قال: إن كان أراد بقوله «بيكو شود» أن يتزوّجها طلقت ثلاثاً؛ لأن شرط وقوع الطلاق قد تحقّق، وهو التزوّج. وإن كان أراد بقوله «بيكو شود» أن تصير حلالاً له لا تطلق؛ لأنها صارت حلالاً له قبل اليمين حال ما انقضت عدّتها من الزوج الثاني، فلم تنعقد اليمين؛ لأنّها

عقدت على شرط موجود، فتكون إيقاعاً في الحال لا يميناً، أو هي في الحال ليست بمنكوحة له، وليست في عدّته. وهذا الجواب يستقيم فيما إذا أراد بقوله: «حلال شود» حلّ التزوّج، وأمّا إذا أراد به حلّ الوطء بالتزوّج ينبغي أن تطلق؛ لأنَّ اليمين حينئذٍ يكون مضافاً إلى التزوّج، فينعقد وينحلّ عند التزوّج. وفيه أيضاً: إذا قال لها: إن تزوجت عليك ما عشت فحلال الله عليّ حرام، ثمَّ قال لها: إن تزوجت عليك فالطلاق عليَّ واجب، ثمَّ تزوّج عليها امرأة، قال: يقع على كلِّ واحدة تطليقة، ويقع تطليقة أخرى يصرفها إلى أيّهما شاء؛ لأنَّ اليمين الأولى انصرفت إلى الطلاق عرفاً فينصرف إلى طلاق كل واحدة منهما، واليمين الثانية يمين بطلاق الواحدة منهما، وإذا تزوّج امرأة انحلّت اليمينان، فيقع باليمين الأولى على كلِّ واحدة تطليقة، ويقع باليمين الثانية طلاق آخر، فيصرفه الزوج إلى أيهما شاء؛ لأنَّ اليمين الأولى لما انصرف إلى الطلاق فصار كأنّه قال «دون وراء» طلاق. ومن قال «زن وراء» وله امرأتان يقع الطلاق على إحداها على ما اخترناه قبل هذا، فها هنا يجب أن يكون كذلك. إذا قال لامرأته في حالة الغضب: إن فعلت كذا إلى خمسين سنة تصيري منّي مطلقة، وأراد بذلك تخويفها، ففعلت ذلك الفعل قبل انقضاء المدّة التي ذكرها، فإنّه يسأل الزوج: هل كان حلف بطلاقها؟ فإن أخبر أنّه كان حلف بعمل يخبره بحكم يقع الطلاق عليها، وإن أخبر أنّه لم يحلف قُبِلَ قوله؛ لأن قوله: تصيري مطلقة بإيقاع مبتدأ يكون مني. معناه: وإن فعلت كذا أطلقك لا محالة، فيقبل قوله في قوله ذلك. في «فتاوى شمس الأئمّة الأوزجندي» رحمه الله: إذا قال لامرأته: إن دخلت الدّار صرت مطلقة، فدخلت، فقال الزوج: أردت تخويفها لا يصدّق، وإذا قال لامرأته: إذا طلقتك فأنتِ طالق، وإذا لم أطلقك فأنتِ طالق، فلم يطلّقها حتّى مات طلقت ثنتين؛ لأنّه إذا لم يطلّقها حتّى مات فقد تحقّق شرط وقوع الطلاق باليمين الثانية، وعند ذلك يتحقق شرط وقوع الطلاق باليمين الأولى أيضاً، فلهذا قال طلقت تطليقتين، ولو بدأ فقال: إذا لم أطلقك فأنتِ طالق، وإذا طلقتك فأنتِ طالق، فمات قبل أن تطلق فهي طالق واحدة. وفي «جامع إسماعيل بن حمّاد» : إذا قال لها أنتِ طالق إذا لم أطلقك، وإذا طلقتك فأنتِ طالق فهي امرأته حتّى يموت، فإن طلقها طلقت ثنتين، وإن لم يطلقها طلقت واحدة إذا مات أو ماتت، إذا قال لامرأته ولم يدخل بها: إن خلوت بك أنت فأنتِ طالق، فخلا بها طلقت وعليه نصف المهر، هكذا روي عن محمّد رحمه الله؛ لأنّه صار مطلّقاً لها في أوّل الخلوة في حال لا يقدر على وطئها إلا بعد الطلاق. وإذا قال: إن خطبت فلانة، أو قال كلّ امرأة أخطبها فهي طالق فاليمين لا تنعقد، حتّى لو تزوّج فلانة في الصورة الأولى، أو تزوّج امرأة في الصورة الثانية لا تطلق؛ لأنَّ الخطبة غير العقد، وهي تسبق العقد فلا يكون هو بهذا اللفظ مضيفاً الطلاق إلى الملك، ولا تنعقد اليمين وهذا في لسان العربية، أمّا بالفارسيّة: إذا قال: «آكر فلا نرا نحواهم» ،

أو قال «مرزني كه نحواهم» ، فعن كلّ موضع يكون هذا اللفظ مبهم تفسيراً للخطبة لا تنعقد اليمين أيضاً، وفي كل موضع يريدون بهذا اللفظ التزوّج تنعقد اليمين إذا كان مراده هذا........ وإذا تزوجها هذه الجملة مذكورة في شرح «كتاب الحيل» لشمس الأئمة السرخسي رحمه الله، في عرف ديارنا قوله «نحواهم» تفسير قوله: نكحت أو تزوّجت فتنعقد اليمين. ولو قال: «آكر فلان هكواهم يدكر كنم» فهذا تفسير الخطبة في عرفنا، ولا تنعقد اليمين بهذه اللفظة، حتّى لو تزوّجها لا يقع الطلاق. ولو قال بالفارسيّة «آكرد حتر فلان مراد هندورا طلاق» فتزوجها لا تطلق؛ لأنّه لم يذكر النكاح، ولو قال: «يرني دهند» وباقي المسألة بحالها إذا تزوّجها طلقت، هكذا ذكر الفضلي رحمه الله في «فتاويه» ، ومن المشايخ من قال: لا تطلق في الوجهين؛ لأنَّ اليمين عقدت على التزوّيج فتنحلّ اليمين بالتزوّيج قبل الدخول في نكاحه. وهو نظير ما لو قال لامرأته: إن جلست في نكاحك فأنتِ طالق، فجلس ثمَّ تزوّجها لا تطلق؛ لأن اليمين انحلّت قبل الدخول في نكاحه، وقيل: ينبغي أن تطلق في الوجهين جميعاً؛ لأنَّ شرط الحنث وإن كان هو التزويج إلا إن قام التزويج بتزوّجه، وعند ذلك هي في نكاحه، وسيأتي بعد هذا مسألة ذكرها محمّد رحمه الله في كتاب «الحيل» تؤيّد هذا القول. والجواب في قوله: «آكرد حتر فلان بمن برني داده شود ورا طلاق» نظير الجواب في قوله «آكرد حتى فلان يرني بمن وهند» . إذا قال: إن ضرطتُ فامرأتي طالق، فخرج منه الضراط من غير قصده لا تطلق امرأته؛ لأنَّ يمينه وقعت على العمد، وهو نظير ما لو حلف أن لا يدخل، فأدخل مكرهاً، أو حلف لا يخرج فأخرج مكرهاً. قال لامرأته: إن اشتريت جارية فدخلت عليك الغيرة فأنتِ طالق، فهذا على وجود الغيرة وقت الشراء (270ب1) لا بعده، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله، ويشترط لوقوع الطلاق أن تظهر الغيرة بلسانها، وأمّا لو دخلت في قلبها غيرة ولم تظهر بلسانها لا تطلق. وعن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لامرأته: إن سررتك فأنتِ طالق، فضربها فقالت سرني ذلك، قال هذا لا يكون على الضرب، وإنّما على ما يسرّها، قيل: فإن أعطاها ألف درهم فقالت: لم أُسرّ قال القول قولها، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله؛ لأنّه يحتمل أنّها كانت تطلب الألفين، فلم تسرها الألف. وفي «المنتقى» : رجل قال لامرأته: أنتِ طالق إن كلمتك إلى سنة، اذهبي يا عدو لله فقد كلمها، ولو قال: فاذهبي أو قال: واذهبي لا تطلق ما لم يكلمها بكلام آخر، ولو قال اذهبي طلقت؛ لأن هذا كلام منقطع عن الأوّل والأوّل متصل باليمين فكان له حكم اليمين، ولا بدّ من كلام آخر بعد ذلك للحنث.

وفيه أيضاً: إذا قال لأجنبية: إن تزوجت عليك فأنتما طالقان، أو قال فأنت وهي طالقان، فتزوّجها ثمَّ تزوّج عليها طلقت. سئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن ترمذي تزوّج ببلخ امرأة بلخيّة ثمَّ إنها ذهبت إلى ترمذ بحيث لا يعرف زوجها، ثمَّ قيل له: إن لك بترمذ امرأة، فقال: إن كان لي بترمذ امرأة فهي طالق ثلاثاً. قال: قال أبو نصر رحمه الله لا تطلق وبه قال أبو يوسف، وقال غيره: تطلق، وبه قال محمّد قال وهذا....... إن أحد يقول أبو نصر فعلى هذا إذ....... امرأة، فقيل لرجل: هذه امرأتك ثمَّ قيل له احلف بالطلقات الثلاث إن كان لك امرأة سواها، فحلف فإذا....... أجنبيّة، هل تطلق امرأته؟ فالمسألة تكون على الخلاف. قال الصدر الشهيد رحمه الله: المختار للفتوى أنّها تطلق في الفصلين قضاء لا ديانة، وهو نظيرها لو لقيت المرأة زوجها طلاقها، فطلقها وهو لا يعلم به. وفي «فتاوى ما وراء النّهر» : إذا قال الرجل لامرأته: إن اشتريت بالخبز ما من السقّاء إلى.... فاشترت من الماء بالخبز تطلق، ولو كانت دفعت الخبز إلى السقاء أوّلاً ليحمل إليها الماء بهذا لا تطلق، وقيل تطلق لأنّه سواء عرفاً، سئل أبو نصر الدبوسي رحمه الله عمّن قال: إن تزوجت فلانة أبداً فهي طالق، فتزوجها مرّة حتّى طلقت أو تزوّجها مرّة أخرى لا تطلق. نوع آخر في ذكر مسائل الشرط بكلمة كل وكلّما إذا قال: كلّ امرأة تكون لي ببخارى فهي طالق، فتزوّج امرأة ببخارى طلقت، ولو تزوّج امرأة في غير بخارى ونقلها إلى بخارى لا تطلق؛ لأن في العرف يراد بقولهم يكون التزوّج قائماً عقد اليمين على امرأة ببخارى، فالمرأة التي تزوّجها في غير بخارى ليست بداخلة تحت اليمين في «فتاوى أبي الليث» . وفيه أيضاً: إذا قال: كلّ امرأة أتزوّجها في قرية كذا فهي طالق، فتزوّج امرأة في تلك القرية، إن كانت من أهل تلك القرية لا شكّ أنها تطلق، وإن كانت من غير أهل تلك القرية لم يذكر هذا الفصل ثمّة وينبغي أن تطلق؛ لأنّه تزوّجها في تلك القرية. ولو قال كلُّ امرأة أتزوّجها من تلك القرية فهي طالق، فتزوّج امرأة من أهل تلك القرية حيث ما تزوّجها تطلق. إذا قال: «هرزني كه مرا بودتاسي سال» فهي طالق، وإن لم ينوِ شيئاً يقع الطلاق على التي يتزوّجها، ولا يقع على التي كانت عنده وقت اليمين؛ لأنّ قوله؛ «هرزني كه مرا بود» صار عبارة عن قوله «هرزني كه بزني كندا ورا» عرفاً فانصرف المطلق إليه، وذلك

الجواب فيما إذا نوى ما...... هكذا اختاره الفقيه أبو الليث رحمه الله. وحكي عن بعض مشايخ بخارى أنَّ قوله «بود» يقع على المرأة التي تحته للحال، وإن نوى الحالية وما يستعيد ينصرف إليهما؛ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه، فإنّه جعل قوله «بود» عبارة عن الكائنة في هذه المدّة، وعند الشرط إن علّق الطلاق بالشرط والحاليّة كائنة والذي يستعيدها كذلك، وإن نوى الحاليّة غير ما يستعيد لم ينقل عن المتقدّمين في هذا الفصل شيءٌ، هكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» قال رحمه الله: والظاهر أنّه يقع عليها، وقد ذكرنا عن بعض مشايخ بخارى أنَّ قوله: «بود» من غير نيّة يقع على امرأته التي تحته للحال، ولا يقع على التي يتزوّجها فها هنا أولى. وأمّا إذا قال «هرزني كه ورا بائد» فهذا وما لو قال «هرزني كه ورا بود» سواء، وأمّا إذا قال «هرزني كه ورا بود وباشد» حكي عن الشيخ الإمام شيخ الإسلام أبي الحسن عطاء بن حمزة رحمه الله أنّه قال: كان المتقدّمين من مشايخ سمرقند يقولون بأنَّ هذه اليمين لا تنعقد على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنَّ قوله: «بود باشد» بمعنى واحد، فيصير أحدهما آخراً فاصلاً بين الشرط والجزاء كما في قول الرّجل لعبده: أنت حرّ وحرّاً إن شاء الله، صار أحد اللفظين فاصلاً بين الجزاء والاستثناء عند أبي حنيفة رحمه الله، فها هنا يجب أن يكون كذلك. قال رحمه الله: فأمّا مشايخنا وأساتيذنا من أهل سمرقند كانوا يقولون بصحّة هذه اليمين...... هكذا ذكر عن مشايخ بلخ، وعن مشايخ بخارى أنّهم كانوا يقولون بصحّة هذه اليمين وانعقادها، غير أنَّ بعض مشايخ بخارا كانوا يقولون بأنَّ قوله «بود» يقع على المرأة التي تحته للحال، وقوله: «باشد» يقع على المرأة التي يستعيدها، ويقع الطلاق عليهما من غير نية. وبعضهم كانوا يقولون بأن هذه المسألة والمسألة الأولى سواء لا يقع الطلاق على المرأة التي تحته في الحال إلا بالنيّة. وفي «فتاوى النسفي» : إذا قال: «آكر فلان كركنم هرزني كه نجواهم خواستن آزمن بطلاق» ، ففعل ذلك ثمَّ تزوّج امرأة لا تطلق؛ لأنّه ما (أضاف) الطلاق إلى الملك، وإنّما أضاف إلى إرادة التزوّج. قال في «الرقيات» : إذا قال الرجل لرجلين: كلّما أكلت عندكما طعاماً فامرأته طالق، فتغدَّى عند أحدهما اليوم، وتغدَّى عند الآخر غداً طلقت امرأته ثلاثاً؛ لأنه لما تغدى صفة الأوّل، فأكل ثلاثة لقم أو أكثر فكأنّه أكل عنده ثلث مرات، فإذا تغدّى عند الآخر فأكل عنده ثلاثة لقم فكأنّه أكل عنده أيضاً ثلاث مرات، فقد وجد الأكل عندهما ثلاث مرات، والأكل عندهما (271أ1) في كلِّ مرّة شرط وقوع طلاق تطليقة، ولذا إذا قال لأحدهما: كلّما أكلت عندك ثم أكلت عند هذا فامرأته طالق كان الجواب كما قيل. قلنا: المعلى عن أبي يوسف: إذا قال الرّجل لامرأته: كلّما امرأة أتزوّجها من

أقرانك أو قال من أنسابك فهي طالق، أو قال: فأنتِ طالق، فكلُّ امرأة ولدت معها في سنها فما دونه فهي من أقرانها وأنسابها ابن..... عن أبي يوسف إذا قال كلما تزوجت امرأتين فإحداهما طالق، فتزوّج أربعاً طلقت ثنتين منهنّ، والخيار إليه. عن محمّد رحمه الله: إذا قال الرجل لامرأته: كل امرأة أتزوّجها من أهل بيتك فهي طالق، ولها ابنة فإن كان نوى ابنتها دخلت تحت اليمين، وإن لم يكن نواها لم تدخل تحت اليمين؛ لأنّها من أهل بيت زوجها؛ لأنَّ المراد من أهل البيت بنت النسب، والنسب من الآباء دون الأمهات، وإنّما أهل بيت المرأة من كانت من قبل أنّها أخواتها وعمّاتها وبنات أخيها. وفي «الأصل» : إذا قال لامرأته وقد دخل بها: إذا طلقتك فأنتِ طالق، فطلقها واحدة يقع عليها ثنتان؛ لأنّه حلف بطلاقها وجعل شرط وقوع الطلاق عليها تطليقها، فإذا قال لها: أنتِ طالق فقد طلقها فيقع عليها تطليقة بالإيقاع وتطليقة بالحنث، فإن قال: عنيت به الإخبار عن كونها طالقاً إذا طلقها، فإنّه لا يصدّق في القضاء ويصدّق فيما بينه وبين الله تعالى. كما لو قال لها: أنتِ طالق أنتِ طالق وقال: عنيت بالثانية الإخبار عن كونها طالقاً أن يُطلقها، فإنّه لا يصدّق في القضاء ويصدّق فيما بينه وبين الله تعالى، وكذلك إذا قال: متى طلقتك فأنتِ طالق فإنّه يقع عليه ثنتان لما قلنا، وإذا قال لها: كلّما طلقتك فأنتِ طالق، ثمَّ طلقها واحدة فإنّه يقع عليها ثلاث تطليقات. والفرق: أنَّ في قوله كلّما وقع عليك طلاق شرط الحنث وقوع الطلاق عليها، وقد تكرّر الوقوع، فإنّه يقع عليه تطليقتان بالإيقاع وتطليقة بالحنث، وفي قوله: كلّما طلقتك شرط الحنث تطليقها، ولم يطلّقها إلا مرّة واحدة فإنّه لم يقل لها: أنتِ طالق إلا مرّة واحدة. وفي «الجامع» : رجل قال لامرأتين له وقد دخل بهما: كلّما حلفت بطلاق كلّ واحدة منكما فكل واحدة منكما طالق، قال ذلك مرّتين يقع على كلّ واحدة منهما تطليقة بالحنث في اليمين الأولى، ولو قال: كلّما حلفت بطلاق واحدة منكما، فكلّ واحدة منكما طالق وباقي المسألة بحالها يقع على كلّ واحدة منكما تطليقتان، ولو قال: كلّما حلفت بطلاق واحدة منكما فهي طالق، قال ذلك مرّتين وقع على كلّ واحدة منهما تطليقة، وكذلك إذا قال: كلّما حلفت بطلاق واحدة منكما طالق أو قال: وإحداكما طالق، قال: يقع تطليقة واحدة على إحداهما بغير عينها، والخيار إليه. وفي «الجامع» أيضاً: رجل له امرأتان دخل بواحدة منهما دون الأخرى، فقال كلّما حلفت بطلاق واحدة منكما فأنتما طالقان، قال ذلك مرّات طلقت المدخولة ثلاثاً، وغير المدخولة ثنتان، والله أعلم.

نوع آخر في عطف الشروط بعضها على البعض يجب أن تعلم بأنَّ الحالف إذا ذكر شرطين وذكر بينهما جزاء يقدّر كلّ شرط في موضعه يعتبر الشرط الأوّل شرطاً لانعقاد اليمين، والشرط الثاني شرطاً لانحلال اليمين ويزول الجزاء؛ لأنّ الشرط الأوّل إذا ذكر يتحقق الجزاء؛ لأنّ الشرط بدون الجزاء لا يعتبر لأنّه لا يعتد، وإنما يصير معتداً بالجزاء، والجزاء ما يذكر عقيب حرف الفاء، والمذكور عقيب حرف الفاء يمين عامّة، وهي الشرط والجزاء، فيجعل جزاء الشرط الأوّل، إذ اليمين الثانية تصلح جزاءً للشرط، وإذا صارت جزاءً للشرط الأوّل يوجب وجود اليمين وانعقادها على وجود الشرط الأوّل، فإذا وجد الشرط لأوّل انعقدت اليمين وتعلّق الجزاء بالشرط الثاني حتّى يزول بوجوده، فهو معنى قولنا: إن الشرط الأوّل يعتبر شرطاً لانعقاد اليمين، والشرط الثاني يعتبر شرطاً لانحلال اليمين ويزول الجزاءان. هذا الأصل فيما إذا قال: كل امرأة أتزوّجها فهي طالق إن كلمت فلاناً، فتزوّج امرأة قبل الكلام وامرأة بعد الكلام تطلق المتزوّجة قبل الكلام، ولا تطلق المتزوّجة بعد الكلام عند أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله، هكذا ذكر المسألة في «الجامع» وروى أصحاب «الأمالي» عن أبي يوسف: أنّه تطلق المتزوّجة بعد الكلام، ولا تطلق المتزوّجة قبل الكلام. بعض مشايخنا قالوا: ذكر في «الإملاء» قول أبي يوسف رحمه الله أوّلاً، وما ذكر في «الجامع» قول أبي يوسف آخراً، وبعضهم قالوا في المسألة روايتان عن أبي يوسف، وهذا إذا لم يوقّت لذلك وقتاً. وأمّا إذا وقّت لذلك وقتاً بأن قال: كلّ امرأة أتزوّجها أبداً، أو إلى ثلاثين سنة تطلق المتزوّجة قبل الكلام والمتزوّجة بعد الكلام، وهذا إذا قدم ذكر الوقت، وأمّا لو قدّم ذكر الكلام بأن قال: إن كلّمت فلاناً فكلُّ امرأة أتزوّجها أبداً أو إلى ثلاثين سنة فهي طالق، تطلق المتزوّجة بعد الكلام ولا تطلق المتزوّجة قبل الكلام، وإنّما وقع الفرق بين تقديم ذكر الوقت وتأخيره؛ لأنّه إذا قدّم ذكر الوقت فقد أوقع الطلاق على كلّ امرأة يتزوّجها في ذلك الوقت، إلا وأن يجعل الكلام شرطاً ليزول الجزاء في حقّ المتزوّجة قبل الكلام وحقّ شرط الانعقاد لليمين في حقّ المتزوّجة بعد الكلام. وإذا قدّم ذكر الكلام فقد أوقع الطلاق على كلّ امرأة يتزوّجها بعد الكلام أبداً، وأمكن القول بوقوع الطلاق على كلّ امرأة يتزوّجها بعد الكلام أبداً من غير تعيين ومن غير أن يعتبر الشرط الواحد شرطاً لانعقاد اليمين، وليزول الجزاء، فاعتبرنا الكلام شرطاً لانعقاد اليمين لا غير، وصار كأنّه قال عند الكلام: كلّ امرأة أتزوّجها أبداً فهي طالق، فيقع الطلاق على كلّ امرأة يتزوّجها بعد الكلام (271ب1) ، ثمَّ إذا لم يذكر الوقت حتّى لم تطلق المتزوّجة بعد الكلام. لو كلّم فلاناً مرة أخرى هل تطلق؟ ذكر في «الجامع» أنها لا تطلق؛ لأنّها لو طلقت؛ أمّا إن طلقت بالكلام الأوّل ولا وجه له؛ لأنّه وجد قبل انعقاد اليمين، وأمّا إن طلقت بالكلام الثاني ولا وجه إليه؛ لأنّ الكلام حينئذٍ يصير شرطاً متكرّراً

ولا وجه إليه؛ لأنّه ذكر الكلام بكلمة إن، وإنّها لا توجب التكرار، وزعم بعض مشايخنا أنّ المذكور في «الجامع» يخالف المذكور في «القدوري» . فقد ذكر في «القدوري» أنّ من قال: كلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق إن دخلتِ الدّار، فدخلت الدّار ثمَّ تزوّج امرأة لا يقع الطلاق عليهما، فإن دخل الدّار ثانياً وقع عليها الطلاق. قال الصدر الشهيد: قال والدي تاج الدين تغمّده الله بالرحمة والرضوان. وليس الأمر كما زعموا؛ لأنّ موضع المذكور في «القدوري» أنّه دخل الدّار بالتزوّج أصلاً، والدخول قبل التزوّج لم تنعقد اليمين عليه، ولم يصر شرطاً في اليمين أصلاً، فصار أن يقع الطلاق بدخول آخر يوجد بعد التزوّج، أو الدخول حينئذٍ لا يصير شرطاً متكرّراً، وموضوع المذكور في «الجامع» أنّه يتزوّج امرأة قبل الكلام وامرأة بعد الكلام، ثمَّ كلّم فلاناً مرّة أخرى والكلام الأوّل انعقد عليه اليمين، واعتبر شرطاً في حقّ اليمين المتزوّجة قبل الكلام، حتّى يقع الطلاق على المتزوّجة قبل الكلام بالكلام الأوّل بحكم اليمين، وإذا صار الكلام الأوّل شرطاً بحكم هذا اليمين لا يصير الثاني شرطاً؛ لأنّ الكلام بحكم هذا اليمين غير مكرّر حتّى إن في مسألة الجامع لو لم يصر الكلام الأوّل شرطاً فإن لم يتزوّج امرأة أصلاً حتّى كلّم فلاناً ثمَّ تزوّج امرأة يقع الطلاق عليها إذا كلّم فلاناً. وفي «مسألة القدوري» : لو صار الدخول الأوّل شرطاً بأن تزوّج امرأة، ثمَّ دخل الدار، ثمَّ تزوّج امرأة لا تطلق المتزوّجة بعد الدخول، وإن دخل الدّار بعد ذلك مرّة أخرى، فإذاً لا مخالفة بينما ذكر في «الجامع» وبينما ذكر «القدوري» من حيث المعنى، وإنّما المخالفة من حيث الصورة لاختلاف الوضع، ولو قال: إن كلمت فلاناً فكلُّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، ففي هذه الصورة تطلق المتزوّجة بعد الكلام، ولا تطلق المتزوّجة قبل الكلام. هذا كلّه إذا ذكر الحالف شرطين وذكر بينهما جزاء، وأمّا ذكر شرطين ولم يذكر بينها جزاءه وإنّما ذكر الجزاء عقيبها، فإن ذَكَرَ بين الشرطين حرفَ العطف يتعلّق الجزاء بهما، ويصيران في معنى شرط واحد. بيانه: فيما إذا قال لها: إن دخلت هذه الدّار وهذه الدّار فأنتِ طالق فإنّها لا تطلق ما لم تدخل الدّارين، وإن لم يذكر بينهما حرف العطف يجعل الشرط الأوّل شرط الجزاء، وانحلّ اليمين، ويجعل الشرط الثاني شرط انعقاد اليمين. بيانة: في قوله: كلّ امرأة أتزوّجها إن دخلت الدّار فهي طالق، فتزوّج امرأة قبل الدخول وامرأة بعد الدخول تطلق المتزوّجة بعد الدخول، ولا تطلق المتزوّجة قبل الدخول، ويصير تقدير المسألة: إن دخلت الدّار فكلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، وهو معنى قول محمّد رحمه الله في الكتب: الشرط إذا اعترض على الشرط قبل مجازاة الأوّل بشيء يجعل المقدم هو جزاء، والمؤخّر مقدّماً. وإن ذكر شرطين وقدّم الجزاء عليهما إن جمع بينهما بحرف الجمع يتعلّق الجزاء بهما أيضاً. بيانه: فيما إذا قال لها: أنتِ طالق إن دخلت هذه الدّار وهذه الدّار، فإنّها لا تطلق

ما لم تدخل الدارين، وإن لم يجمع بينهما بحرف الجمع يجعل الشرط الثاني شرط انعقاد اليمين. بيانه: فيما إذا قال لأجنبيّة: أنتِ طالق إن تزوجتك إن كلمت فلاناً، ثمَّ تزوجها تطلق، ولو تزوّجها أوّلاً ثمَّ كلّم فلاناً لا تطلق. هذا إذا لم يذكر كلّ شرط بصريح حرف الشرط، فإن ذكر الجزاء بينهما يقدر كلّ شرط في موضعه، ويعتبر الأوّل شرطاً لانعقاد اليمين، ويعتبر الشرط الثاني شرطاً لانحلال اليمين ويزول الجزاء. بيانه: فيما إذا قال لها: إن دخلت هذه الدّار فأنتِ طالق إن كلّمت فلاناً، فدخلت الدّار ثمَّ كلمت فلاناً تطلق، ولو كلمت فلاناً أوّلاً ثمَّ دخلت الدّار لم تطلق، وإن ذكر الجزاء أوّلاً فإنْ جمع بين الشرطين بحرف الجمع فإنّه يعتبر كلُّ شرط شرطاً ليزول الجزاء أوْ لا يشترط اجتماعهما، وإذا وجد إحداهما ويزول الجزاء فيبطل اليمين. بيانه: فيما ذكر «القدوري» : إذا قال لها: أنتِ طالق إن دخلت هذه الدّار وإن دخلت هذه الدّار الأخرى. فدخلت إحدى الدّارين طلقت وبطلت اليمين؛ لأنّه لمّا أعاد حرف الشرط لم يكن عطفاً على الأوّل في الشرطية، بل كان شرطاً على حدة وصار جزاء الأوّل مضمراً فيه. كأنّه قال: أنتِ طالق إن دخلت هذه الدّار أنتِ طالق إن دخلت هذه الدّار الأخرى تلك التطليقة، وهناك يقع الطلاق بدخول إحدى الدّارين وتبطل اليمين؛ لأنّ جزاء الثاني لم يبق كذا ها هنا. وكذلك الجواب فيما إذا قال لها: أنتِ طالق إن دخلت هذه الدّار وإن كلمت فلاناً، أمّا إذا لم يجمع بينهما بحرف الجمع يجعل الشرط الآخر مقدّماً على الجزاء، حتّى يصير الجزاء بين الشرطين، ويصير الشرط الآخر شرطاً لانعقاد اليمين، ويصير الأوّل شرطاً لانحلال اليمين. بيانه فيما ذكر في «الجامع» إذا قال: عبدي حرّ إن دخلت هذه الدّار إن كلّمت فلاناً، فدخل الدّار أوّلاً ثمَّ كلّم فلاناً لا يعتق عبده، ولو كلّم فلاناً أوّلاً ثمَّ دخل الدّار عتق؛ لأنّ الشرط الثاني وهو الكلام صار مقدّماً على الجزاء، وصار تقدير المسألة: إن كلّمت فلاناً فعبدي حرّ إن دخلت الدّار، وهناك كان الجواب كما قلنا، وها هنا كذلك. وإن ذكر الجزاء آخراً إن جمع بين الشرطين بحرف الجمع ففي قول محمّد رحمه الله يعتبر كلامهما شرطاً واحداً ويشترط وجودهما لزوال الجزاء، وفي قول أبي يوسف يعتبر كلُّ شرط شرطاً ليزول الجزاء ولا يشترط وجودهما ليزول الجزاء. بيانه فيما ذكر «القدوري» : إذا قال لها: إن دخلت هذه الدّار وإن دخلت هذه الدّار الأخرى فأنتِ طالق، فعلى قول محمّد رحمه الله لا تطلق إلا بدخول (272أ1) الدارين، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: تطلق بدخول إحدى الدارين، أبو يوسف يقول: لا فرق في الأيمان بين تقديم الجزاء أو تأخيره، ومحمّد فرّق بينهما، وإن لم يجمع بين الشرطين بحرف الجمع يجعل الشرط الأوّل مؤخّراً عن الجزاء، حتّى يصير الجزاء بين الشرطين، ويصير الشرط الأوّل شرط انحلال اليمين والشرط الآخر شرط انعقاد اليمين.

بيانه فيما ذكر في «الجامع» إذا قال: إن دخلت الدّار إن كلّمت فلاناً فعبدي حرّ، ودخل الدّار أوّلاً ثمَّ كلّم فلاناً لا يعتق عبده، ولو كلّم فلاناً أوّلاً ثمَّ دخل الدّار عتق عبده؛ لأن الشرط الأوّل وهو الدخول صار مؤخّراً عن الجزاء، وصار تقدير المسألة: إن كلّمت فلاناً فعبدي حرّ إن دخلت الدّار، وهناك لا يعتق العبد ما لم يوجد الكلام قبل الدخول كذا ها هنا، وروي عن محمّد رحمه الله في غير رواية الأصول أنّه رجع عن التقديم والتأخير في الشرط المعترض على الشرط، بل قدّر كلّ شرط في موضعه وأضمر حرف العطف، حتّى صار تقدير المسألة فيما إذا قدّم الجزاء: عبدي حرّ إن دخلت الدّار وإن كلّمت فلاناً، وصار تقدير المسألة فيما إذا أجرى الجزاء: إن دخلت الدّار وإن كلّمت فلاناً فعبدي حرّ، وصار تقدير المسألة في قوله: كلُّ امرأة أتزوّجها إن دخلت الدّار فهي طالق، كلُّ امرأة أتزوّجها فإن دخلت الدّار فهي طالق، فتطلق المتزوّجة قبل الدخول، ولا تطلق المتزوّجة بعد الدخول. وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله: أن الحالف إذا ذكر شرطين مرتبين فعلاً من حيث العرف نحو قوله: إن دعوتني إن أجبتك فعبدي حرّ، إن أكلت إن شربت فعبدي حرّ، فإنّه يعتبر هذا الترتيب الظاهر، وقدر كلّ شرط في موضعه حتّى إذا شرب أوّلاً ثمَّ أكل لا يعتق عبده، ولو أكل أولاً ثمَّ شرب عتق عبده؛ لأنّ الأكل يتقدّم على الشرب فعلاً من حيث العرف. وأما إذا ذكر شرطين غير مرتبين فعلاً من حيث العرف نحو قوله: إن أكلت إن كلّمت فلاناً، ونحو قوله: إن شربت إن أكلت، يجعل المقدّم مؤخراً أو المؤخّر مقدّماً، كما هو ظاهر مذهب محمّد رحمه الله. ولو قال لها: إن دخلت هذه الدّار فأنتِ طالق وهذه الدار، فإنّها لا تطلق ما لم تدخل الدُّارين؛ لأنّ قوله: وهذه لا يصلح عطفاً على الجزاء، فيجعل عطفاً على الشرط، وتخلّلُ الجزاء بينهما لا يمنع صحّة العطف، هكذا ذكر «القدوري» : رحمه الله في كتابه. قال في «الجامع» : وإذا قال الرجل: كلُّ امرأة أملكها فهي طالق إن دخلت الدّار، أو قال: إن دخلت الدّار فكل امرأة أملكها فهي طالق، وفي ملكه يوم اليمين امرأة ثمَّ تزوّج امرأة قبل الدخول وامرأة بعد الدخول طلقت التي كانت في ملكه يوم اليمين، ولا تطلق التي استعادها بعد اليمين، وهذا الاستحسان، والقياس: أن تطلق التي يملكها في المستقبل، ولا تطلق التي كانت في ملكه يوم اليمين. وجه القياس: وهو أنَّ كلمة أفعل للاستقبال، كقوله أسافر وأتزوّج، فكأنّه صرّح الاستقبال. وجه الاستسحان أنَّ صفة أفعل للاستقبال حقيقة، وللحال حقيقة؛ لأنها مستعملة فيهما في الاستقبال كقول الرّجل: أسافر وأتزوّج وفي الحال كقول الرّجل بين يدي القاضي: أشهد. بعد هذا اختلف عبارة المشايخ، بعضهم قالوا: إنّها للحال أحقّ إذ ليس للحال صفة

أخرى، وللاستقبال صفة أخرى وهي سأفعل، سوف أفعل، فإذا كانت هذه الصفة للحال أحقّ فعند الإطلاق ينصرف إليه، فكأنّه مضى على الحال. وبعضهم قالوا: لمّا كانت هذه الصفة حقيقة لهما يتعيّن لإحداهما بحكم العرف، وعليه الاستعمال كما تعيّن للاستقبال، كما في قوله: أسافر وكما تعيّن للحال كما في قول الشاهد: أشهد. قلنا وفي الأملاك استعمال هذه الكلمة للحال بقول الرّجل: أنا أملك كذا، وفلان يملك كذا يريدون الحال. فإذا علمت استعمال هذه الكلمة للحال كالمنصوص عليه فانصرف يمينه إلى الحال لهذا، ولو عطف أحد الشرطين على الآخر بحرف الياء بأن قال: إن دخلت هذه الدّار فهذه الدّار، يُشترط لوقوع الطلاق دخول الدّارين كما لو عطف بحرف الواو، إلا أنَّ في هذه المسألة يجب أن يكون دخول الدّار الثانية بعد دخول الدّار الأولى، وكذلك إذا عطف بكلمة ثمَّ بأن قال: إن دخلت هذه الدّار ثمَّ هذه الدّار؛ لأنّ كلمة ثمَّ للتراخي، فاقتضى أن يكون دخول الدّار الثانية متراخياً عن دخول الدّار الأولى. ولو قال: إن دخلت هذه الدّار ودخلت هذه الدّار أو قال: فدخلت هذه الدّار يشترط دخول الدارين في الحرفين جميعاً، إلا أنَّ في حرف الواو لا يعتبر الترتيب، وفي حرف الفاء يعتبر لما مرّ. وروي عن محمّد رحمه الله إذا قال لها: إن دخلت هذه الدّار فدخلت هذه الدّار، فأتى بها فدخلت الدّار الأولى ثمَّ تزوّجها فدخلت الثانية لم تطلق، كأنّه جعل دخول الدّار الأولى شرط انعقاد اليمين الثانية، بخلاف قوله: إن دخلت هذه الدّار وهذه الدّار، وروي عن أبي يوسف رحمه الله مثل ذلك في مسألة أخرى أنّه إذا قال لامرأتين له: إن غشيت هذه، فغشيت هذه الأخرى فليس الحلف على الأولى، ويكون مولياً من الثانية إذا غشى الأولى فقد جعل غشيان الأولى شرط انعقاد اليمين في حقّ الثانية، ثمَّ قال: والفاء في هذه الموضع لا تشبه الواو. قال في «الجامع» : إذا قال: إن دخلت هذه الدّار إن دخلت هذه الدّار فعبدي حرّ والدّار واحدة فالقياس أن لا يحنث حتّى يدخل دخلتين. وفي الاستحسان يحنث بدخلة واحدة، وكذلك إذا قال: إن كلّمت فلاناً إن كلمت فلاناً، وفلان واحد، كانت المسألة على القياس، والاستحسان على نحو ما ذكرنا في الدخول، ثمَّ على جواب الاستحسان علّق العتق بالدخول في المسألة الأولى، وبالكلام في المسألة الثانية من غير ذكر خلاف، وكان الكرخي من أصحابنا رحمهم الله يقول على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله: ينبغي أن يثبت العتق في الحال ولا يتعلّق، وجعل هذه المسألة فرعاً لمسألة أخرى ذكرت في كتاب الإقرار، وهو ما إذا قال لعبده: أنت حرٌّ و (272ب1) حرٌّ إن شاء الله فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يعمل الاستثناء، ويقع العتق للحال؛ لأنّ قوله وحرٌّ في المرة الثانية تكرار، فصار فاصلاً بين الجزاء والاستثناء، فيمنع تحمّل الاستثناء، فكذا ها هنا. قوله في المرّة الثانية: إن دخلت هذه الدّار تكرار للأوّل، فيصير فاصلاً بين العتق

وبين الدخول، وغيره من المشايخ قالوا: لا بل ما ذكر من الجواب صحيح على قول الكلّ، وفرّقوا بين هذه المسألة وبين مسألة كتاب الإقرار. والفرق: أنّ في مسألة الإقرار قوله: وحرٌّ في المرّة الثانية، إن كان تكراراً من حيث المعنى والاعتبار؛ لأن حرٌّ بيان لا يتصوّر (أن) ينويهما في عبد واحد، فمن حيث اللفظ ليس بتكرار؛ لأنّه عطف الثاني على الأوّل والشيء لا يعطف على نفسه إنّما يعطف على غيره، والعبرة في هذا الباب اللفظ، وباعتبار اللفظ هذا ليس بتكرار، وإذا لم يكن تكراراً كان حشواً من الكلام فاعتبر فاصلاً. أمّا في مسألتنا لم يعطف أحد الشرطين على الآخر؛ لأنّه لم يذكر بينهما حرف العطف، فأمكن جعل الثاني تكراراً، فإذا جعلنا الثاني تكراراً كانا شيئاً واحداً من حيث المعنى والاعتبار، فلا يعتبر فاصلاً، وإن تلك المسألة من مسألتنا ما لو قال: عبدي حرٌّ حرٌّ إن شاء الله، ولو كان هكذا لا يعتق العبد عند أبي حنيفة رحمه الله أيضاً، ولا يصير قوله حرٌّ ثانياً فاصلاً، ولا رواية في هذه المسألة عن أبي حنيفة رحمه الله. قلنا إنما يمنع على قياس مسألة «الجامع» ووزان مسألتنا من تلك المسألة ما لو قال لها: إن دخلت هذه الدّار، وإن دخلت هذه الدّار فعبدي حرّ، ولو قال هكذا يعتق العبد للحال على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله ويصير قوله: وإن دخلت هذه الدّار ثانياً فاصلاً.v قال في «الجامع» أيضاً: رجل له امرأة لم يدخل بها فقال: كلُّ امرأة لي، وكل امرأة أتزوجها إلى ثلاثين سنة فهي طالق إن دخلت الدّار، فتزوّج امرأة وطلّقها وطلّق التي كانت عنده ثمَّ تزوّجها في الثلاثين سنة، ثمَّ دخلت الدّار طلقت القديمة تطليقتين باليمين سوى التطليقة التي أوقع عليها بالتنجيز، فتطلق ثلاثاً؛ لأنّه انعقد عليها يمين الكون بقوله: كلُّ امرأة لي، ولم يبطل بالبينونة بتطليقة واحدة، والعقد في حقها يمين التزوّج أيضاً بقوله: كلُّ امرأة أتزوّجها إلى ثلاثين سنة، وشرط الحنث فيهما دخول الدّار، فإذا دخل الدار والشرط الواحد يكفي شرطاً في أيمان كثيرة وقع عليها تطليقتان بحكم اليمينين، وأمّا الجديدة فتطلق واحدة باليمين سوى ما أوقع عليها بالتنجيز، فتطلق تطليقتان؛ لأنّ المنعقد في حقّهما بيمين واحدة وهي يمين التزوّج. ولو أنَّ الزوج حين طلّقها أوّل مرّة لم يتزوّجها حتّى تدخل الدّار ثمَّ تزوّجها طلقت القديمة واحدة بالحنث في يمين التزوّج بنفس التزوّج، وإن كان المنعقد في حقهما يمينان يمين التزوّج ويمين الكون؛ لأنّه حين دخل الدّار قبل أن يتزوّج القديمة فقد وجد شرط الحنث في يمين الكون، وهي ليست في نكاحه ولا عدّته، وأنّه يوجب انحلال اليمين، لا إلى جزاء، وأما الجديدة فلا يقع عليها بالحنث شيء؛ لأنّ المنعقد في حقّها يمين التزوّج، ووقوع الطلاق فيها معلّق بالدخول، وحين دخل الزوج الدّار لم تكن هي في نكاحه ولا عدّته فانحلت اليمين في حقها لا إلى حنث، وحين تزوّجها من أخرى لم تنعقد عليها يمين أخرى؛ لأن عقد اليمين بكلمة كل، وإنها لا توجب تكرار الفعل في المرأة الواحدة، فلا يتكرّر انعقاد اليمين عليها.

ولو قال: كلُّ امرأة لي وكلّما تزوّجت امرأة إلى ثلاثين سنة فهي طالق، إن دخلت في ملكه امرأة ثمَّ تزوج امرأة أخرى ثمَّ طلقهما جميعاً، ثمَّ تزوّجهما ثانياً، ثمَّ دخل الدّار طلقت كلُّ واحدة منها ثلاثاً، واحدة بالإيقاع وثنتان بالحنث، وأمَّا القديمة فلما ذكرنا، وأمّا الجديدة فلأن المنعقد عليها يمينان في هذه الصورة؛ لأنَّ الزوج جعل التزوّج شرط انعقاد اليمين بكلمة تقتضي التكرار، وهي كلمة كلّما، فحين يتزوّج الجديدة ثانياً انعقد عليها يمين التزوّج ثانياً، واليمين الأولى باقية، والدخول شرط الحنث فيهما، والحنث فيهما يوجب الطلاقين، ولو كان حين طلقهما لم يتزوّجهما حتّى دخل الدّار ثمَّ تزوّجها طلقت كلُّ واحدةٍ واحدةً بالحنث. وفي «القدوري» : إذا قال: كلّما دخلت هذه الدّار وكلّمت فلاناً، أو فكلّمت فلاناً فامرأة من نسائي طالق، فدخل الدّار دخلات وكلّم فلاناً مرّة واحدة، لم تطلق إلا امرأة واحدة؛ لأنّ الشرط هو الدخول والكلام والدخول، إن تكرّر لم يتكرّر الكلام وإن تكرر بعض الشرط لا يتكرّر الجزاء. ولو قال: كلّما دخلت هذه الدّار فإن كلّمت فلاناً فأنتِ طالق، فدخل الدّار ثلاثاً وكلّم فلاناً بأمره طلقت ثلاثاً؛ لأنّ قوله: فإن كلّمت فلاناً فأنتِ طالق يمين تامّة هو جزء الدخول، والجزاء يتكرّر بتكرار الشرط، والشرط وهو الدخول تكرّر، فيصير قائلاً عند كلّ دخول: أنتِ طالق إن كلّمت فلاناً، فإذا كلم فلاناً مرّة والشرط الواحد يصلح شرطاً في أيمان كثيرة طلقت ثلاثاً. وفي «القدوري» : إذا قال: كلّما دخلت هذه الدّار وكلّمت فلاناً، أو فكلّمت فلاناً فامرأة من نسائي طالق، فدخل الدّار دخلات وكلّم فلاناً مرّة واحدة، لم تطلق إلا امرأة واحدة؛ لأنّ الشرط هو الدخول والكلام والدخول، إن تكرّر لم يتكرّر الكلام وإن تكرر بعض الشرط لا يتكرّر الجزاء. ولو قال: كلّما دخلت هذه الدّار فإن كلّمت فلاناً فأنتِ طالق، فدخل الدّار ثلاثاً وكلّم فلاناً بأمره طلقت ثلاثاً؛ لأنّ قوله: فإن كلّمت فلاناً فأنتِ طالق يمين تامّة هو جزء الدخول، والجزاء يتكرّر بتكرار الشرط، والشرط وهو الدخول تكرّر، فيصير قائلاً عند كلّ دخول: أنتِ طالق إن كلّمت فلاناً، فإذا كلم فلاناً مرّة والشرط الواحد يصلح شرطاً في أيمان كثيرة طلقت ثلاثاً. نوع آخر قال في «القدوري» : إذا قال الرّجل: كل امرأة أتزوّجها فهي طالق وفلانة وفلانة امرأته طلقت فلانة السّاعة، ولا ينتظر التزوّج؛ لأنّ قوله كلّ امرأة ليس بشرط على الحقيقة، ولكن أخذ معنى الشرط لأمر أن الفعل له، فصار قوله: وفلانة معطوفة على المذكور في الطلاق لا على المذكور في الشرط، فوقع الطلاق على فلانة السّاعة لهذا، ولو قال لامرأته: أنتِ طالق وفلانة، إن تزوّجها لم يقع الطلاق على امرأته حتّى يتزوّج بالأخرى؛ لأنّه صريح بحرف الشرط، فصار طلاقهما متعلّقاً بالتزوّج بخلاف المسألة الأولى، ولو قال: كلُّ امرأة من نسائي تدخل الدّار فهي طالق وفلانة طلقت فلانة للحال، وإن دخلت الدّار وهي في العدّة طلقت الأخرى. وقال في «الجامع» إذا قال: كلُّ امرأة لي تدخل الدّار فهي طالق وعبد من عبيدي حرٌّ، فدخلت امرأتان الدّار طلقتا وعتق عبد من عبيده، وأمّا (273أ1) طلاقهما فظاهر، وأمّا عتق عبده فلأنَّ قوله: وعبد اسم منكر ذكر في موضع الإثبات والنكرة في موضع الإثبات تخص ولا تتناول إلا عبداً واحداً، ولهذا لو قال ابتداءً: عبد من عبيدي حر لا يعتق إلا عبد واحد، لو ثبت العموم في العبد إنّما يثبت ضرورة العطف على المرأة التي دخل عليها كلمة كل من حيث أنَّ حكم المعطوف حكم المعطوف عليه، والعموم ثابت في حقّ المعطوف عليه ولا وجه إليه؛ لأنّ قوله وعبد غير معطوف عليه المرأة، ألا يرى

أنّهما اختلفا في الإعراب، فإن إعراب المرأة كسر وإعراب العبد رفع، فبعد ذلك إما أن يعتبر معطوفاً على قوله «فهي» ؛ لأنّ محلّه من الإعراب الرفع؛ لأنّه مبتدأ، أو على قوله طالق؛ لأنّه مرفوع، والأوّل لأنَّ قوله وعبد اسم فرد لا يتصل بالفعل، وقوله فهنّ كناية عن فرد لا يتصل بالفعل، وقوله: طالق اسم فرد يتصل بالفعل، والأحسن في العطف عطف الاسم المفرد عن الفعل على الاسم المفرد عن الفعل، فكان عطفه على قوله فهي أولى. وإذا صار قوله: وعبد معطوفاً على قوله فهي مفعول لا يجوز أن يثبت العموم في العبد لكونه معطوفاً على هي؛ لأنّ هن فرد يضعه، وإنّما يثبت العموم فيه ضرورة كونه كناية عن المرأة الداخلة عليها كلمة كل؛ لأنَّ الكناية لا تستقل بنفسها، فأخذنا حكمها من المكنّى عنه وهو المرأة، وإذا كانت المرأة عامّة كانت الكناية عامّة ضرورة، ولا ضرورة في قوله: وعبده لأنّه ليس بكناية بل هو كلام مستقل بنفسه، ولهذا لو قال ابتداء: وعبد من عبيدي حرٌّ كان كلاماً مستقيماً مفهوماً، ويكون له حكم نفسه وحكمه الخصوص؛ لأنّه فرد صفة. فإن قيل: إن لم يثبت من وجه آخر من حيث العبد من الوجه الذي منهم يثبت من وجه آخر من حيث أنَّ كلمة كلّما وقعت على جماعة النساء، وقعت على جماعة الدخول في حقهن، ألا يرى أنّه لو دخلت أربعة الدّار طلّقهن جميعاً والعتق معلّق بالدخول، فإذا تعدّد الدخول تعدّد العتق، ألا يرى أنّه لو كان مكان كلمة كلّ كلمة كلّما بأن قال: كلّما دخلت امرأة هذه الدّار فهي طالق وعبد من عبيدي حرٌّ، فدخلت امرأتان عتق عبدان وطريقة ما قلنا. قلنا: كلمة كل تقع على جماعة الأسماء مقصوراً، وأمّا على جماعة الأفعال إذا كان الفعل مقروناً بالاسم يقع ضرورة تعميم الفعل الاسم، فما لم يثبت تعميم الاسم مقصوراً لا يثبت تعميم الفعل. إذا ثبت هذا فنقول: تعميم الاسم في حقّ البنوّة يثبت مقصوداً، فيثبت تعميم الفعل وهو الدخول في حقّ كلهنّ تبعاً، وأمّا في حقّ العبيد تعميم الاسم لم (يكن) مقصودا، فلا يثبت تعميم الفعل في حقّهن مقصود، فبقي الشرط في حقّهم دخول واحد من واحدة من نسائه، كأنّه قال: إن دخلت واحدة من نسائي الدّار فعبد من عبيدي حرٌّ، ولو نصّ على هذا كان الجواب كما قلنا، وأمّا كلمة كلّما تعم الأفعال مقصوداً، أو صار كلُّ دخول من جماعة....... أو من امرأة واحدة شرطاً، وعتق العبد معلّق بالدخول، فإن كان الدخول متكرراً كان العتق متكرراً. نوع آخر في الشرط الذي يحتمل الحال والاستقبال إذا قال لامرأته وهي حائض: إن حضت أو قال لها وهي مريضة: إن مرضت فأنتِ طالق، فهذا على الخصوص والمرض في المستقبل، فإن نوى ما يحدث من هذا الحيض، أو من هذا المرض فهو على ما نوى؛ لأنّ الحيض داء أجزاء والمرض كذلك.

وإذا نوى الجزء الذي يكون في المستقبل، فقد نوى ما يحتمله لفظه فصحت نيته، ولو قال: إن حضت غداً فأنتِ طالق، وهو يعلم أنها حائض فهذا على هذه الحيضة، فإذا دام حتّى انشقّ الفجر من الغد طلقت بعد أن تكون تلك الساعة تمام الثلاث أو زائداً على الثلاث؛ وهذا لأنّه إذا كان عالماً بحيضها لا يكون من قصده تعليق الطلاق بدون حيضة أخرى؛ لأنّ ذلك مستحيل، فكان قصده تعليق الطلاق باستمرار ذلك، وإنّما اعتبرنا تمام الثلاث؛ لأنّ الدّم إذا انقطع فيما دون الثلاث لا يكون حيضاً، وإن كان لا يعلم بحيضها فهذا على حدوث الحيض في الغد. وكذلك إذا قال لها إن حممت وهي محمومة، أو قال إن صدعت وهي مصدوعة، فهذا على التفصيل الذي قلنا في الحيض والمرض. ولو قال وهي صحيحة: إن صححت فأنتِ طالق وقع الطلاق حين سكت يعني في الحال، وكذلك إذا قال لها: إن أبصرت أو سمعت فهي طالق وهي سمعة بصرة وقع للحال؛ لأنّ هذا ليس بمعنى حادث فيتعلّق اليمين بوجودها. قال: وأمّا القيام والقعود والركوب والسكنى فهو على أن يمكث ساعة بعد اليمين، وأمّا الدخول فلا يكون من داخل إلى خارج وهذا المعنى لا يبقى، وكذلك الحبل هو ابتداء العلوق، وكذلك الشرب والأكل على الحادث بعد اليمين، ولو قال: أنتِ طالق ما لم تحيضي أو ما لم تحبلي وهي حائض أو حبلى، فهي طالق حين سكت إلا أن يكون ذلك منها حين سكوته، فإن نوى ما بقي فيه من الحيض والحبل ديّن في الحيض فيما بينه وبين الله تعالى، ولم يديّن في الحبل؛ لأنّ الحيض داء آخر وما يزداد يسمّى حيضاً، والحبل لا يزداد، وهذه الجملة من «القدوري» . وفي «الأصل» : إذا قال لها: إذا حضت حيضة فأنتِ طالق، وإذا حضت حيضتين فأنتِ طالق، فحاضت حيضة وقع عليها تطليقتان، وكانت الحيضة الأولى كمال الشرط في اليمين الأولى وبعض الشرط في اليمين الثانية، ولو قال: إذا حضت حيضة فأنتِ طالق ثمَّ إذا حضت حيضتين فأنتِ طالق، فحاضت حيضة حتّى وقع الطلاق باليمين الأولى، لا يقع الطلاق باليمين الثانية ما لم تحض بعد ذلك به حيضتين أخراوين عملاً بكلمة ثمَّ، فإن قال: عنيت به الأوّل صدّق ديانة لا قضاء؛ لأنّ ثمَّ لا تكون للتعقيب، فكان ناوياً ما يحتمله لفظه إلا أنّه خلاف الظاهر. وفي «البقالي» : إذا قال لها: إذا حضت فأنتِ طالق، ثمَّ قال كلّما حضت حيضتين فأنتِ طالق وقع بأوّل الحيضة طلاق وبانقضائها، وحيضة أخرى بعدها تقع تطليقة أخرى. وفي «الجامع» : إذا قال لها: إذا حضت حيضة، فأنتِ طالق لا تطلق ما لم تحض وتطهر؛ لأنّ الحيضة مع الهاء اسم للكامل منها وكمالها (273ب1) بالطهر. ولو قال لها: إذا حضت نصف حيضة، فكذلك الجواب لا تطلق ما لم تحض وتطهر؛ لأنَّ الزوج ذكر النصف مطلقاً، واسم النصف عند الطلاق يقع على الشائع، وذلك لا يوجد حتّى بينهنّ، ولو قال لها: إذا حضت نصف حيضة فأنتِ طالق، وإذا حضت نصفها الأخرى فأنتِ طالق، فحاضت حيضة طلقت ثنتان؛ لأنّه وجد كلا النصفين سابقاً.

نوع آخر في الشرط يكون على الفور أو على التراخي عن محمّد رحمه الله فيمن قال لغيره: إن ضربتني ولم أضربك فامرأته طالق، هذا على الفور قال: ولم تكون على وجهين: على قبل وبعد، فإذا كان على بعد فهو على الفور، وإذا كان على قبل فهو على ذلك، قال وقوله: إن ضربتني ولم أضربك فهذا على الماضي عندنا، كأنّه قال: ضربتني، ولم أكن ضربتك قبل ضربك إياي فكذا وإن نوى بعد فهو على (ما) نوى، ومعناه: إن ضربتني ابتداء فلم أضربك بعد ذلك فكذا، فهو على ما نوى، ويكون على الفور، والحاصل: أنّ كلمة «لم» قد تقع على الأبد كقوله: إن أتيتني ولم آتك إن زرتني ولم أزرك، فهذا على الأبد وقد يقع على الفور، والمعتبر في حمله على أحدهما معاني كلام النّاس، وكذلك قد تقع هذه الجملة على قبل وقد تقع على بعد، والمعتبر في حمله على أحدهم معاني كلام النّاس، أو يوجد منطق يستدل به عليه، وما كان شبيهاً نحو قوله: إن كلمتك ولم تكلمي، فهذا على قبل وبعد، فإن نوى شيئاً فهو على ما نوى، وإن لم يكن له نيّة فإنَّه إنْ فعل فقد برَّ في يمينه، ولو قال: إن كلمتني ولم أكلمك فهو على المستقبل والفور؛ لأنّ الجواب لا يصحّ إلا بتقديم الكلام، وإنّما حمل على الفور باعتبار العادة. وعن محمّد رحمه الله فيمن قال: كلُّ جارية أشتريها فلا أطؤها فكذا، فهو على الوطء ساعة يشتري، فإن قال: فإن لم أطأها فهذا على ما بينه وبين الموت، ومتى وطئها برَّ في يمينه؛ لأن إنْ شرط لا يقتضي التعجيل، وعن أبي يوسف رحمه الله: فيمن قال لغلامه: إن لم تأتني حتّى أضربك فكذا، فأتى قال متى ضربه برّ في يمينه، إلا أن ينوي أن يضربه ساعة ما يأتي، وكذا إذا لم يأتِ ساعة ما أمره وأتاه في وقت آخر؛ لأنّه ليس في لفظه ما ينبىء عن التعجيل فلا يحمل على الفور إلا بدلالة. وعن محمّد رحمه الله فيمن قال: إن لم أشترِ اليوم عبداً فأعتقه فامرأته طالق، فاشترى عبداً ووهبه ثمَّ اشترى آخر فأعتقه، قال: اليمين على العبد الأوّل وتطلق امرأته؛ لأنّ تقدير كلامه: أشتري اليوم عبداً فأعتقه، فإن لم أعتقه فكذا، فحين اشترى عبداً فقد انعقد عليه اليمين إذ لا مزاحم له فلا يدخل غيره تحت اليمين. وعن محمّد رحمه الله: قال لغيره: إن بعثت إليك فلم تأتني فكذا، فبعث إليه فأتاه ثمَّ بعث إليه فلم يأته حنث في يمينه؛ لأنّ اليمين لم تسقط بإتيانه، وكذلك إذا قال: إن بعثت إليَّ فلم آتك، فبعث إليه، فأتاه ثمَّ بعث إليه فلم يأته حنث في يمينه. وروى المعلّى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله: إذا قال لغيره: إذا فعلت كذا فلم أفعل كذا فامرأته طالق، فلم يفعل ما قال على إثر المحلوف عليه طلقت امرأته. ولو قالت: إن فعلت كذا ثمَّ لم أفعل كذا فهو على الأبد، قال أبو يوسف رحمه الله: هما سواء وهو على الفور. وعن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال: إن أحدّث فلاناً لأضربنّه مائة سوط، فحدّثه

وضربه سوطاً أو سوطين، قال: هو على الأبد. ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمّد رحمه الله: إذا قال الرّجل: إن رأيت فلاناً لم آتك به فامرأته طالق، فرآه الحالف في أوّل ما رآه مع هذا الرجل الذي قال له فلم آتك به، قال: الحالف حانث الساعة؛ لأنه لا يستطيع أن يأتيه به. ولو قال: إن رأيت فلاناً، فلم أعلمك به فكذا، فرآه أوّل ما رآه مع هذا الرجل الذي قال له: فلم أعلمك به لم يحنث في قول أبي حنيفة ومحمّد رحمهما الله؛ لأنه ليس هاهنا موضع إعلام، وفي قياس قول أبي يوسف رحمه الله يحنث، وهو بمنزلة قوله: إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز غداً، فانصبّ الماء قبل مجيء الغد ولم ينضح. ولنا وجه الفرق بين المسألتين على قول أبي حنيفة رحمه الله. وروى إبراهيم عن محمّد رحمهما الله: في رجل خرج إلى الصيد، فأعجب رجلاً فقال له: اخرج معي إلى الصيد، فقال: نعم، اذهب بما معي إلى البيت فأضعه وأتيك، فقال له: احلف بالطلاق، فحلف بالطلاق ليأتينّه ولم يقل اليوم فأتاه بعدما رجع عن الصيد، قال هو حانث. وفي «المنتقى» : إذا قال الرجل لغيره: ادخل هذه الدّار اليوم فقال: إن دخلت اليوم فكذا، فهو على تلك الدّار دون غيرها، وكذلك إذا قال له: كلّم هذا الرجل، فقال: إن كلمت فكذا، فهو على كلام ذلك الرجل، ولو قال لغيره: تزوّج فلانة، فقال: إن تزوّجت فلانة أبداً فكذا، فتزوّج غير فلانة حنث في يمينه، ومسألة التزوّج يخالف مسألة الدخول وإنّها مشكلة. نوع آخر في تعليق الطلاق بالفعلين صورة وبفعل أحدٍ معنى قال محمّد رحمه الله في «الجامع» : إذا قال الرّجل لامرأتين: إذا ولدتما ولداً، إن ولدتما ولداً فأنتما طالقتان، فولدت إحداهما ولداً فإنهما تطلقان وهذا استحسان، والقياس أن لا تطلق واحدة منهما، وعلى هذا القياس إذا قال لهما: إذا حضتما حيضة إن حضتما حيضة، فأنتما طالقتان، فحاضت إحداهما حيضة فإنّهما تطلقان استحساناً، والقياس أن لا تطلق واحدة منهما أبداً. وجه القياس في ذلك: أنّه علّق الطلاق بفعلهما فلا يقع بفعل إحداهما؛ لأنّه بعض الشرط، وبوجود بعض الشرط لا يترك الجزاء. وجه الاستحسان في ذلك: أنّه علّق الطلاق بفعل إحداهما، فإذا ولدت إحداهما أو حاضت إحداهما فقد وجد شرط وقوع الطلاق عليها، فيقع. بيانه: وهو أنَّ الزوج وإن ذكر فعلهما إلا أنّه تعذّر العمل بحقيقته؛ لأنّ ولادتهما ولداً واحداً وحيضهما حيضة واحدة مستحيل، وأمكن جعله مجازاً عن فعل إحداهما، فإن ذكر المثنّى وإرادة الواحد شائع في اللغة مستعمل فيما بين أهل الشرع، قال الله تعالى في

قصّة موسى عليه السلام: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً} (الكهف: 61) أضاف النسيان (274أ1) إلى الاثنين، والنسيان كان من أحدهما، وهو يوشع بن نون بدليل قوله: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَنُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا} (الكهف: 63) والمعنى في ذلك: وهو أنّه ليس في ذكر الاثنين، فإرادة الواحد إرادة الخصوص من العموم، وإرادة الخصوص من العموم شائع في اللغة والشرع، فإذا جاز ذلك جعلنا ذكر الاثنين ههنا مجازاً عن ذكر الواحد، وصار تقدير هذه اليمين: إذا ولدت إحداكما ولداً إذا حاضت إحداكما حيضة. وبهذا يتبيّن أن الطلاق معلّق بفعل إحداهما لا بفعلهما. لو قال لهما: إذا ولدتما ولدين فأنتما طالقان، فولدت إحداهما ولداً لا تطلق واحدة منهما ما لم تلد كلُّ واحدة منهما ولداً بخلاف الصورة الأولى؛ لأنّ الشرط في الصورة الأولى ولادتهما مطلقاً لا ولادتهما ولداً واحداً وولادتهما مقصورةً، والشرط في الصورة الثانية: ولادتهما ولدين، وولادتهما ولدين مقصور بأن تلد كلُّ واحدة منهما ولداً، فالعمل بحقيقة الكلام هناك ممكن، فلا يصار إلى المجاز، وكذلك في قوله: إن حضتما حيضتين العمل بحقيقة الكلام ممكن على نحو ما قلنا في الولادة، فصار الشرط فعلهما، أمّا ههنا بخلافه، فإذا قال لهما: إذا ولدتما ولدين فأنتما طالقتان، فولدت إحداهما ولدين، أو قال: إذا حضتما فأنتما طالقتان فحاضت إحداهما حيضتين لا تطلق واحدة منهما، ولو حاضت كلُّ واحدة منها حيضة أو ولدت كلُّ واحدة منهما ولداً طلقتا، ولا يشترط ولادة كلِّ واحدة منهما ولدين. وهو نظير ما لو قال لهما: إن دخلتما بين الدارين فأنتما طالقتان، فدخلت إحداهما داراً ودخلت الأخرى الدّار الأخرى طلقت كلُّ واحدة منها استحساناً، وكذلك إذا قال لهما: إن دخلتما هذه الدّار وهذه الدّار الأخرى فأنتما طالقتان، فدخلت إحداهما داراً ودخلت الأخرى الدّار الأخرى، وهذا استحسان، والقياس في المسألتين أن لا تطلق واحدة منهما حتّى يدخلا هذه الدّار، ويدخلا هذه الدّار الأخرى، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله في «الأمالي» . ولو قال لهما: إن دخلتما هذه الدّار، ودخلتما هذه الدّار الأخرى فأنتما طالقتان لا تطلق واحدة منهما ما لم يدخلا هذه الدّار ويدخلا هذه الدّار الأخرى قياساً واستحساناً، والأصل في جنس هذه المسائل: أنّ الجمع المضاف إلى الواحد يعتبر جمعاً في حقّ الواحد المضاف إليه، ولا يعتبر واحداً. ألا ترى أنّ من قال لامرأته: إن لبست ثيابك فأنتِ طالق، فلبست ثوباً واحداً لا تطلق، وهذا لأنّ المتكلّم أضاف الجمع إلى الواحد، فالواحد إبطال القيد الذي ذكره الحالف، وفيه إبطال غرضه وأنّه لا يجوز فيجب اعتبار الجمع في حقّ الآخر إلا إذا لم يمكن اعتبار الجمع في حقّ الواحد، فحينئذٍ يعتبر الواحد. بيانه في قوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا

لِوَلِيّهِ سُلْطَناً فَلاَ يُسْرِف فّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (الإسراء: 33) هذا جمع أضيف إلى الواحد ولم يعتبر معاً في حقّ الواحد حتى لا يشترط التحريم ثمَّ اجتماع النّاس على زنا واحد، بل إذا وجد الزنا من واحد كان حراماً؛ لأنَّ اجتماع الناس على زنا واحد غير ممكن، وأمّا الجمع المضاف إلى الجمع يعتبر واحداً في حقّ الواحد استحساناً، ولا يعتبر جمعاً في حقّ الواحد؛ لأنَّ في اعتباره جمعاً في حقّ الواحد إبطال القيد الذي ذكره الحالف، وهو إضافة الجمع إلى الجمع، ولكن إنّما يعتبر واحداً في حقّ الواحد إذا كان شيئاً يقبل الخصوص، بأن كان عاماً كل. ......؛ لأنّ العام يذكر ويراد به الخصوص، أمّا إذا لم يكن قابلاً للخصوص لا يعتبر آحاداً في حقّ الآحاد، بل يعتبر جمعاً في حقّ الآحاد؛ لأنّه يكون في ذلك إثبات الخصوص فيما لا يقبل الخصوص، ألا ترى أنَّ من قال لثلاث نسوة: أنتنّ طوالق ثلاثاً طلقت كلُّ واحدة ثلاث تطليقات، وهذا جمع مضاف إلى الجمع، ولم يعتبر آحاداً في حقّ الآحاد؛ لأنّ الثلاث لا تحتمل الخصوص؛ لأنّه اسم عدد، واسم العدد لا يحتمل الخصوص إلا بالاستثناء، فإن من سمّى عشرة وقال: أردت التسعة والثمانية لا يصح. وإذا لم يكن الثلاث قابلاً للخصوص لم يعتبر آحاداً في حقّ الآحاد، بل اعتبر جمعاً في حقّ الآحاد، فيقع على كلّ واحدة منهنّ ثلاث تطليقات، وهذا بخلاف ما لو قال إن دخلتما هذه الدّار، ودخلتما هذه الدّار الأخرى؛ لأنّ هناك الجمع مضاف إلى الواحد في كلّ كلام، فيعتبر الجمع بالواحد في كلّ كلام. لو قال لهما: إذا أكلتما هذا الرغيف فأنتما طالقتان، لا يقع الطلاق على واحدة منهما ما لم يأكلا جميعاً؛ لأنّه على الطلاق بفعل يكون منهما، وهو اجتماعهما على الأكل فلا يقع الطلاق ما لم يوجد الأكل منهما، كما لو قال لهما: إن ولدتما إن حضتما، وإن أكلا جميعاً يقع الطلاق عليها، وإن أكلت إحداهما أكثر من الأخرى، لأنّ الشرط أكل كلّ واحدة بعض الرغيف بعضاً مطلقاً، لا بعضاً مقيَّداً، والتي أكلت أقلّ فقد أكلت بعض الرغيف؛ لأنّ اسم البعض كما ينطلق على الكثير ينطلق على القليل، حتّى قالوا: لو أكلت إحداهما مقداراً لا ينطلق عليه اسم البعض بأن أكلت كسرة خبز لا تطلق واحدة منهما لانعدام الشرط، وهو أكل كل واحدة منهما بعض الرغيف في دخول الواحد تحت الشرطين. قال محمّد رحمه الله في «الجامع» : إذا قال الرجل لامرأته وهي حامل: إذا ولدت ولداً فأنتِ طالق ثنتين، ثمَّ قال لها: إن كان الولد الذي تلدينه غلاماً فأنتِ طالق واحدة، فولدت المرأة غلاماً طلقت ثلاثاً، لأن المنعقد ههنا يمينان؛ لأنّه ذكر شرطين وجزاءين أحد الشرطين ولادة ولد مطلق وجزاؤه تطليقتان، والشرط الآخر ولادة الغلام وجزاؤه طلقة واحدة، وإذا ولدت غلاماً والغلام ولد كما أنّه غلام يقع الحنث في اليمينين جميعاً.

وهو نظير ما لو قال: إن دخل رجل داري هذه فعبدي حرٌّ، ثمَّ قال: إن دخل زيد داري هذه فامرأته طالق، فدخل زيد الدّار عتق العبد وطلقت المرأة، وطريقه ما قلنا. ولو كان قال لها: إذا ولدت ولداً فأنتِ طالق ثنتين، ثمَّ قال لها: إن كان الولد الذي في بطنك غلاماً فأنتِ طالق واحدة فولدت غلاماً، فإنّها تطلق واحدة بخلاف المسألة المتقدّمة، فإنَّ هناك قال: إذا ولدت غلاماً تطلق ثلاثاً. والفرق: أنَّ في هذه المسألة وقوع (274أ1) الواحدة سابق على الولادة؛ لأنَّ وقوعها معلّق بكون ما في البطن غلاماً بولادة الغلام، وبولادة غلام تبيّن أنَّ ما في بطنها كان غلاماً، وأنَّ الواحدة كانت واقعة قبل الولادة إذ تبيّن أنَّ شرط وقوعها كان موجوداً، وتبين أنها صارت معتدة قبل الولادة، فبالولادة وقع على الأجنبيّة، أمّا في المسألة المتقدّمة وقوع الواحدة لا يسبق الولادة؛ لأنَّ هناك الواحدة معلّقة بالولادة صريحاً كالثنتين؛ إلا أنَّ الواحدة تعلقت بولادة الغلام، والثنتان تعلقتا بولادة ولد مطلق، فإذا ولدت غلاماً فقد وجد شرط الحنث في اليمنين في ساعة واحدة، فنزلت الطلقات الثلاث في ساعة واحدة. ونظير هذه المسألة: ما قال محمّد بن الحسن رحمه الله في رجل قال: إن كان الذي في هذه الدّار اليوم رجلاً فامرأته طالق، ثمَّ تبيّن في آخر النّهار أنّه كان فيها رجل طلقت المرأة، وحنث حين تكلم به، إذا تبيّن أنّ الشرط الذي علّق به الطلاق كان موجوداً، ولو قال: إن كان الذي يدخل في هذه الدّار اليوم رجلاً فامرأته طالق، فدخل في آخر النّهار رجل طلقت المرأة حين دخل؛ لأنَّ التعليق حصل بدخول الدّار، ودخول الدّار كان معدوماً حالة التعليق، فكان تعليقاً على الحقيقة، فوقع الطلاق عند الدخول فكذا فيما تقدّم. فإن قيل: كون ما في البطن غلاماً إنّما يعرف بالولادة، فينبغي أن يجعل الولادة شرطاً في المسألة الثانية، حتّى لا تقع الواحدة سابقاً على الولادة كما في المسألة المتقدمة، ألا يُرى أن من قال لامرأته: أنتِ طالق قبل قدوم فلان بشهر، فقدم فلان لتمام الشهر فإنّه يقع الطلاق عليها بعد القدوم، أو مقارناً للقدوم على حسب ما اختلفوا، وبقدوم فلان لتمام الشهر، (فإنْ) ظهر أنَّ هذا شهر قبل قدوم فلان فينبغي أن يقع الطلاق من أوّل الشهر، ولكن قبل بأن الوقت الموصوف بأنّه قبل قدوم فلان بشهر إنّما يعرف بالقدوم، فيجعل القدوم شرطاً. والجواب: أنَّ في القدوم أمكن جعل القدوم شرطاً؛ لأنّ القدوم ملفوظة به، وهي على خطر الوجود، وفي مسألتنا لا يمكن أن يجعل الولادة شرطاً؛ لأنّها غير ملفوظ بها إن كانت على خطر الوجود، فلم يجعل شرطاً بل كان معرفاً محضاً وكان بمنزلة ما لو قال لامرأته: إن كان في هذا الجوالق حنطة فأنتِ طالق، فحلَّ الجوالق فإذا فيها حنطة وقع الطلاق من حين تكلّم، وإنّما عرف كون ما في الجوالق حنطة بالحلّ، ومع هذا لم يجعل الحلّ شرطاً؛ لأنّ الحلّ غير ملفوظ به. وفي «الأصل» : إذا قال لها: كلّما ولدت ولداً فأنتِ طالق، وقال لها أيضاً: إذا

ولدت غلاماً فأنتِ طالق، فولدت ولداً فصارت ولادتها شرطاً لانحلال اليمينين جميعاً. وهو نظير ما لو قال لها: إن كلّمت فلاناً فأنتِ طالق وقال لها أيضاً: إن كلَّمت أنا فأنتِ طالق، فكلّم فلاناً طلقت تطليقتين؛ لأنّه فلان وإنسان. وكذلك إذا قال لامرأته: إذا تزوّجتُ فلانة فهي طالق، ثمَّ قال: كل امرأة أتزوّجها فهي طالق، ثمَّ تزوّج فلانة طلقت تطليقتين؛ لأنها امرأة وفلانة، إذا حصل تعليق الطلاق بشرطين ووجد الشرط الأوّل وهي في نكاحه ووجد الشرط الثاني وهي ليست في نكاحه ولا عدّته بأن أبانها بواحدة بعدما وجد الشرط الأوّل وانقضت عدتها، ثمَّ وجد الشرط الثاني لا يقع الطلاق، ولو وجد الشرط الأوّل في غير ملكه وعدّته ووجد الشرط الثاني في ملكه بأن تزوّجها بعد ما وجد الشرط الأوّل ثمَّ وجد الشرط الثاني يقع الطلاق. مثال الأوّل: إذا قال لامرأته: إن كلمت زيداً وعمراً فأنتِ طالق، فكلمت أحدهما، ثمَّ إنَّ الزوج أبانها بواحدة وانقضت عدتها، ثمَّ كلمت الآخر فإنّه لا يقع الطلاق. ومثال الثاني: إذا قال لها: إن كلمت زيداً وعمراً فأنتِ طالق، فأبانها بواحدة وانقضت عدتها، ثمَّ كلّمت أحدهما، ثمَّ تزوّجها، ثمَّ كلّمت الآخر وقع الطلاق عندنا، خلافاً لزفر، وزفر يقول: قيام الملك وقت دخول الشرط شرط وقوع الطلاق، والشرط ههنا كلامهما، فيعتبر قيام الملك وقت دخول الكلامين، وإنّا نقول: قيام الكل وقت وجود الشرط إنّما يعتبر ليَزول الجزاء، لا لوجود الشرط نفسه، ووقت يزول الجزاء عند وجود آخر الشرطين، فيعتبر قيام الملك عندهما، وإذا حصل التعليق بشرط واحد، ووجد بعض الشرط في ملكه والبعض في غير ملكه وعدّته؛ إن وجد أوّل الشرط في ملكه وآخره في غير ملكه لا يقع الطلاق، وإن وجد أوّل الشرط في غير ملكه ووجد آخر الشرط في ملكه وقع الطلاق. مثال هذا: قال الرجل لامرأته: إن أكلت هذا الرغيف فأنتِ طالق، فأبانها وانقضت عدّتها فأكلت بعض الرغيف، ثمَّ تزوّجها بعد ذلك، ثمَّ أكلت الباقي طلقت عندنا، ولو أكلت بعض الرغيف وهي في نكاحه ثمَّ أبانها وانقضت عدّتها، فأكلت الباقي لا تطلق، فعلى هذا القياس تخرج جنس هذه المسائل. وفي «الأصل» : إذا قال لها: كلّما حضت حيضتين فأنتِ طالق، فحاضت حيضة في ملكه ثمَّ أبانها وانقضت عدّتها، فحاضت حيضة أخرى لا يبقى اليمين، حتّى لو تزوّجها ثمَّ حاضت حيضتين لا يقع الطلاق. قال الحاكم الشهيد رحمه الله: هذا جواب قوله: إذا حضت إن حضت لا جواب. قوله: كلّما حضت وفي قوله: كلّما حضت إذا تزوّجها ثمِّ حاضت حيضتين يقع عليها الطلاق، وإليه أشار محمّد رحمه الله في «الجامع» ، إلا أن محمداً رحمه الله في «الأصل» ذكر كلمة إذا وكلّما وإن، وأجاب في الكلّ بجواب إن وإذا، كأنّه ذهب عليه لينقل خاطره، وهذا لما عرف أنَّ كلمة كلّما توجب التكرار بخلاف كلمة إن وإذا. ومن المشايخ رحمهم الله من قال: ما ذكر في «الأصل» جواب كلّما، وهذا القائل

يقول: في المسألة روايتان، على رواية «الجامع» يقع الطلاق إذا حاضت حيضتين بعدما تزوّجها، وعلى رواية «الأصل» لا يقع، وهذا القائل يقول بأنَّ الثابت بكلمة كلّما في الحال يمين واحدة (274ب1) على رواية «الأصل» ، ويتجدّد انعقادها مرّة بعد مرّة كلّما حنث يتجدّد بيمين أخرى، فإذا لم يكن في ملكه ولا تجدّد به حال تمام الشرط الأوّل الذي هو حال انعقاد اليمين الأخرى لم تنعقد الأخرى؛ لأنّ اليمين لا تنعقد في غير الملك إذا لم يكن مضافاً إلى الملك، وعلى رواية «الجامع» : الثابت بكلمة كلّما في الحال أيمان منعقدة يقع الحنث في البعض بوجود شرط الحنث فيها ويبقى الباقي، فصار حال تمام الشرط الأوّل حال بقاء اليمين الثانية، فلا يشترط قيام الملك في تلك الحالة في تعليق الطلاق بأحد الشرطين صورة ومعنى. إذا قال الرجل: إن خطبت فلانة وتزوّجها فهي طالق، فخطبها ثمَّ تزوّجها لا تطلق؛ لأنَّ الشرط حيث أحد الشيئين الخطبة أو التزوّج، فإن خطبها فقد وجد شرط الحنث والمرأة ليست في نكاحه فتنحلّ اليمين لا إلى جزاء، فإذا تزوّجها بعد ذلك فإنما تزوّجها واليمين منحلة، فلا يحنث. ذكر المسألة في «الأصل» . قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : وهو بمنزلة ما لو قال: إن قبلت فلانة أو تزوّجتها فهي طالق، فقبّلها ثمَّ تزوّجها لم تطلق؛ لأنَّ اليمين انحلت بالتقبيل، فإن تزوّجها قبل الخطبة بأن زوجها منه، وقولي: فبلغها فأجازت طلقت، بمنزلة ما لو قال: إن قبّلت فلانة أو تزوّجتها فهي طالق، فتزوّجها قبل أن يقبّلها فإنّها تطلق وكان ينبغي أن لا تطلق؛ لأنَّ شرط وقوع الطلاق التزوّج وقد حصل قبل دخولها في نكاحه فينبغي أن ينحلّ اليمين لا إلى حنث، قلنا: نعم شرط الحنث التزوّج، إلا أنَّ التزوّج إنّما بإجازتها، وعند ذلك هي في نكاحه، وهذه المسألة تؤيّد قول من يقول «آكمر وختر فلان مراد هند» ، أو قال «بزني وهند» فهي طالق، فتزوّجها تطلق في الوجهين؛ لأنّ شرط الحنث وإن كان هو التزويج إلا أنَّ تمام التزويج بتزوّجه، وعند ذلك هي في نكاحه، (ألا ترى أنَّ محمداً رحمه الله في هذه المسألة) . وفي «المنتقى» : إذا قال: إن تزوجت فلانة أو أمرت إنساناً بتزوّجها فهي طالق، فأمر إنساناً بذلك فزوّجها منه أو تزوّجها بنفسه بعد ذلك لا تطلق؛ لأن اليمين انحلّت بالأمر لا إلى جزاء. لو قال: إن تزوّجت فلانة فهي طالق، وإن أمرت إنساناً بتزوّجها فهي طالق، فأمر إنساناً فزوّجها منه طلقت؛ لأنَّ ههنا يمينان إحداهما انعقدت على الأمر، والثانية على التزوّج؛ فبالأمران انحلت اليمين المنعقدة على الأمر، ثمَّ تنحل اليمين المنعقدة على التزوّج، وكذا لو تزوّجها بنفسه طلقت لما ذكرنا. لو قال: إن تزوجت فلانة وإن أمرت من يتزوّجها فهي طالق، فأمر إنساناً فزوّجها

منه طلقت واليمين واحدة، والشرط إثبات الأمر والتزوّج، فلمجرّد الأمر لا تنحل اليمين، وهو بمنزلة قوله: إن دخلت هذه الدّار، وإن دخلت هذه الدّار فأنتِ طالق، وإن تزوّج فلانة من غير أن يأمر أحداً بذلك لا تطلق؛ لأنّه بعض الشرط، فإن أمر بعد ذلك رجلاً فقال: زوجني فلانة، وهي امرأته على حالها طلقت لامرأته ... كمل الشرط، فقد تزوّج وقد أمر. وعن ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال الرّجل: إن تزوجت فلانة فهي طالق، إذا أمرت فلاناً فزوّجها فهي طالق، فأمر فلاناً فزوّجها إيّاه قال تطلق ثنتين وإن نوى واحدة فهي واحدة. وروي عن أبي يوسف رحمه الله في رجل قال لامرأتين لا يملكهما: إن خطبتكما، أو تزوجتكما فأنتما طالقتان، فخطبهما ثمَّ تزوّجهما لم تطلقا، وقد مرّ مثل هذا في الواحدة، ولو تزوّجهما عن غير خطبة في عقدة أو في عقدتين طلقتا، ولو خطب واحدة وتزوّجها ثمَّ خطب الأخرى وتزوّجها لم تطلقا، ولو خطب واحدة وتزوّجهما طلقتا، ولو تزوّج واحدة وطلقها ثمَّ تزوّجهما طلقتا. ولو قال: إن خطبتكما أو تزوجت هذه وأشار إلى امرأة أخرى غير المخاطبتين فأنتنّ طوالق، فتزوّج المنفردة ثمَّ خطب الأخريين وتزوّجهما لم يقع الطلاق. إذا قال لامرأته: أنت طالق إذا أكل كذا أو شرب كذا وكلّم فلاناً، أو قال إذا أكلت كذا وشربت كذا وكلّم فلاناً، وامرأته طالق ما لم تجتمع هذه الأمور لا يقع الطلاق إلا أن ينوي شيئاً آخر، هكذا حكي عن الفقيه أبي القاسم الصفّار رحمه الله. وإن كرّر حرف الشرط فقال: إن أكل وإن شرب وإن كلّم فلاناً، إن قدّم الجزاء فأي شرط وجد من هذه الأشياء يقع الطلاق ويرتفع اليمين، وإن أخّر الجزاء لا يقع الطلاق ما لم توجد الأمور كلّها، وهذا يجب أن يكون قول محمّد رحمه الله، فأمّا على قول أبي يوسف رحمه الله: إذا وجد واحد من هذه الأشياء يقع الطلاق وترتفع اليمين. وذكرنا الخلاف على هذا الوجه في قوله: إن دخلت هذه الدّار الأخرى، وقد مرّت المسألة من قبل ... به طلاق «سكند خورد كه بزمين فلان آندر بياتم وينبّه ني جينم» ، فدخل الأرض ولم يلتقط القطن طلقت لأنَّ كل واحد منهما منتفٍ فيبقى على حدة، فصار كلّ واحد منهما شرطاً على حدة. وإذا حَلف بطلاق امرأته أن لا تذوق طعاماً ولا شراباً، فذاقت إحداهما طلقت امرأته، وكذلك إذا حلف أن لا تكلّم فلاناً ولا فلاناً فكلّمت أحدهما، وكذلك إذا حلف أن لا يأكل كذا ولا كذا فأكل أحدهما. وأمّا إذا قال: لا أذوق طعاماً وشراباً، فذاق أحدهما لا يحنث، هكذا ذكر محمّد رحمه الله في أيمان «الأصل» . وعن الفقيه أبي القاسم الصفّار رحمه الله أنّه يحنث اعتباراً للعرف، وفي العرف يراد

به نفي كلّ واحد منهما، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمّد بن الفضل رحمه الله يقول: ينوي الزوج، فإن لم يكن له نيّة فالجواب كما قال في «الكتاب» : إذا قال: «رن آوى بطلاق آكر سيكي خورد ومقامري كندو كبو تردارد» ، حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمّد بن الفضل رحمه الله أنّه قال: كلُّ واحد من هذه الأشياء شرط على حدة، وغيره من المشايخ قالوا: الكلّ شرط واحد، ولو قال: «سيكي ني خورد ومقامري بكند وكبوتر ني دارد» ، فكلُّ واحد شرط على حدة بلا خلاف. إذا علّق الطلاق بعدم الفعل في مجلس في وقت معيّن بأن (275أ1) قال: إن لم أدخل هاتين الدّارين اليوم، أو قال: إن لم أضرب فلاناً سوطين اليوم، فدخل إحدى الدارين دون الأخرى، أو ضرب أحد السوطين اليوم، ومضى اليوم حنث في يمينه؛ لأنّ شرط برّه دخول الدارين وضرب السوطين ولم يوجد، وفات شرط البرّ، وعند فوات شرط البرّ يتعين الحنث. وكذلك إذا قال: إن لم أكلّم فلاناً وفلاناً اليوم فامرأته طالق، فكلّم أحدهما ولم يكلّم الآخر حتّى مضى اليوم طلقت امرأته. وصار الأصل أنَّ اليمين متى عقدت على عدم الفعل في مجلس ينظر فيها إلى شرط، وعند فوات شرط البرّ يتعيّن الحنث في أيمان «الجامع» في باب الأيمان، مما يوجب الرجل على نفسه. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: فيمن قال لامرأته: إن لم أدخل الليلة المدينة ولم ألق فلاناً فأنتِ طالق، فدخل فلم يصادفه في منزله ولم يلقه حتى أصبح، قال: إن كان حين حلف كان عالماً أنّه غائب عن منزله يحنث، وإن كان لا يعلم بغيبته لا يحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله ومحمّد رحمه الله خلافاً لأبي يوسف رحمه الله. وهو نظير ما لو حلف ليقتلن فلان وفلان ميّت. وعلى قياس المسألة المتقدمة ينبغي أن تطلق على كلّ حال وينظر إلى شرط البرّ، وشرط البرّ شيئان: دخول المدينة ورؤية فلان ولم يوجد رؤية فلان، وإن شرط البرّ فيتعيّن الحنث. يبنى على أصل أنَّ المعرّف من كلّ وجه لا يدخل تحت اسم النكرة، وهو قول أحد وما أشبهه، والمعرّف من وجه يدخل اسم النكرة، والمعرّف من كلّ وجه ما لا يشاركه غيره وفي ذلك كالمشار إليه، وكالمضاف بالكناية والمشار إليه، نحو قولك: هذه الدّار وهذا العبد، فإنّه لا يدخل تحت قوله: هذه الدّار وهذا العبد غير المشار إليه، والمضاف بالكناية نحو قولك: داري وعبدي، فإنّه لا يدخل تحت قوله: داري وعبدي دار غيره وعبد غيره، فأمّا المعرّف بالاسم نحو قولك: محمّد بن عبد الله، والمضاف إلى الاسم نحو قولك: دار محمّد بن عبد الله يدخل تحت اسم النكرة؛ لأنّه معرّف من وجه؛ لأنَّ التعريف بالاسم والإضافة إلى الاسم لا يقطع الشركة من كلِّ وجه؛ لأنَّ المسمّى بمحمّد بن عبد الله كثير، ولهذا يحسن الاستفهام فيقال: من محمّد بن عبد الله، فيحتاج إلى زيادة تعريف، فيبقى فيه نوع تنكير إن صار معرّفاً من وجه بالاسم من حيث أنَّ الأسامي في الأصل وضعت للتعريف، فمن حيث أنّه معرفة إن كان يخرج عن اسم النكرة

فمن حيث أنّه نكرة لا يخرج، فلا يخرج بالشكّ والاحتمال. بيان هذا الأصل في مسائل ذكرها محمّد بن الحسن في «الجامع» : إذا قال الرّجل: إن دخل داري هذه أحد، فامرأته طالق، فدخلها الحالف بنفسه لا تطلق امرأته إذا لم يكن له نيّة وقت اليمين؛ لأنَّ شرط وقوع الطلاق دخول شخص منكّر، والحالف صار معرّفاً من كلِّ وجه بإضافة الدّار إليه بالكناية، وإن نوى الحالف نفسه صحّت نيَّتُهُ لأنّه نوى ما يحتمله لفظه؛ لأنَّ أحد اسم شخص من بني آدم نكرة، فإذا نوى نفسه فقد نوى شخصاً من بني آدم معرفة، فقد وجد بعض معاني الحقيقة فكان، وبالمجاز من كلامه، وفيه تغليظ عليه؛ لأنّه يحنث بدخوله بإرادته ويحنث بدخول غيره بالظّاهر في القضاء. قال: رجل اسمه محمّد بن عبد الله وله غلام قال: إن كلّم غلام محمداً بن عبد الله هذا أحد فامرأته طالق أشار الحالف إلى الغلام لا إلى نفسه، فإن الحالف كلمه بنفسه، أو كلّم غيره تطلق امرأته، وإنّما وقع الطلاق بكلام الحالف وإن صار معرّفاً بالاسم؛ لأنّه صار معرّفاً من وجه لما ذكرنا أنَّ التعريف بالاسم تعريف من وجه دون وجه، وقد ذكرنا أنَّ المعرّف من وجه يدخل تحت اسم النكرة، فإن قيل: لا بل التعريف بالاسم تعريف من كلّ وجه، بدليل أنَّ من قال: فلانة بنت فلان التي أتزوّجها طالق لا يتعلق بالتزوّج؛ لأنّها صارت معرفة بالاسم فلغت الصفة إذاً بالإشارة في هذه الصفة فههنا يجب أن يكون كذلك، ولو عرف الحالف نفسه بالإشارة إلى نفسه لا يدخل تحت اليمين، فكذا إذا عرف نفسه بالاسم. والجواب عن هذا الإشكال من وجهين. أحدهما: لا بل التعريف بالاسم تعريف من وجه على ما مرّ، فصار الحالف معرّفاً من وجه دون وجه وحاجتنا إلى إخراجه عن قوله: أحد، فمن حيث أنّه معرّف إن كان يخرج من حيث أنّه منكر لا يخرج، فلا يخرج بالشك والاحتمال، وفي مسألة الطلاق الحاجة إلى إيقاع الطلاق عند التزوّج، فلا يقع بالشكّ والاحتمال. فإن قيل: ما ذكرتم يشكل كما لو قال: كل امرأة أتزوّجها ما دامت عمرة حيّة، أو قال متى يموت عمرة معرّفة بالاسم فينبغي أن يدخل تحت اسم النكرة وهو قوله كل امرأة، حتّى تطلق إذا تزوّجها، ومع هذا لا تطلق. قلنا: عامّة المشايخ على أن تأويل المسألة أنَّ عمرة كانت مشاراً إليها، فإن قال: ما دامت عمرة هذه حيّة، فأمّا إذا لم تكن مشاراً إليها تطلق وتدخل تحت اسم النكرة. الجواب الثاني: أنَّ الاسم والنسبة وضعا لتعريف الغائب، لا لتعريف الحاضر، بل لتعريف الحاضر الإشارة كما في الشهادة فإنّها (إن) قامت على غائب أو ميّت يشترط الاسم والنسب، وإذا قامت على حاضر تشترط الإشارة. إذا ثبت هذا فنقول: الحالف ها هنا حاضر يشترط لتعريفه الإشارة أو الإضافة بالكناية ولم يوجد، فلم يصير معرّفاً بل بقي منكّراً، فتدخل تحت اسم النكرة، وفي مسألة الطلاق الاسم والنسب في الغائب لا في الحاضر، فيحصل بهما التعريف وتلغوا الصفة، حتّى لو كانا في الخاص بأن كانت فلانة

حاضرة لا يحصل لهما التعريف، ولا تلغوا الصفة ويتعلّق الطلاق بالتزوّج، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله. ولو قال لنسائه: المرأة التي تدخل منكنّ الدّار طالق، فدخلت امرأة من نسائه (275ب1) الدّار طلقت ولا تطلق واحدة منهن قبل الدخول، ولو قال: امرأته فلانة التي تدخل الدّار طالق طلقت فلانة للحال، ولا يتعلق طلاقها بدخول الدّار؛ لأنّ في المسألة الأولى المسماة غير معرفة، فتعلق الحكم بالصفة المذكورة وصارت بمعنى الشرط، كأنّه قال: إن دخلت امرأة من نسائي الدّار فهي طالق.g وفي المسألة الثانية المسمّاة معرفة بالنسبة، فلغى ذكر الصفة فيها والتحقت بالعدم كأنّه قال: فلانة طالق، وعلى قياس مسألة عمرة ينبغي أن يقال على قول عامّة المشايخ: إنّما تطلق فلانة للحال إذا كانت فلانة مشاراً إليها؛ لأنَّ التعريف لا يحصل بالاسم من كلِّ وجه، فلا يلغوا ذكر الصفة فيها، وعلى ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله يجب أن يقال: لو كانت فلانة حاضرة لا تطلق فلانة للحال؛ لأنّها إذا كانت حاضرة فتعريفها بالإشارة فلا تصير معرفة بالاسم، فلا يلغوا ذكر الصفة فيها، ولو قال: فلانة بنت فلان طالق إن دخلت الدّار لم تطلق حتّى تدخل، بخلاف ما لو قال: فلانة بنت فلان التي تدخل الدّار طالق، والفرق: أنَّ قوله: إن دخلت صريح في الشرط وإنَّ حكم الشرط أنَّ المعلّق به لا يزال إلا عند وجوده، وفي حقّ هذا المعنى المعرّف والمنكّر سواء، فأمّا النسبة أو الصفة ليس بصريح في الشرط ولكن يعتبر النسب والصفة شرطاً إذا صحّ ذكرهما، وإنّما يصح ذكرهما في المنكر دون المعرفة. إذا قال: المرأة التي أتزوّجها طالق فتزوّج امرأة تطلق، ولو قال: هذه المرأة التي أتزوّجها طالق فتزوّجها لا تطلق؛ لأنَّ في المسألة الأولى المسمّاة غير معرفة أصلاً، فتعلّق الحكم بالصفة المذكورة وصارت شرطاً كأنّه قال: إن تزوّجت امرأة، وفي المسألة الثانية المسمّاة معرفة بالإشارة فلغت الصفة المذكورة، والتعريف بالعدم كأنّه قال: هذه طالق، ومن قال لأجنبيّة: هذه طالق ثمَّ تزوّجها لا تطلق. وإذا قال: إن دخلت الدّار فكل امرأة أتزوّجها فهي طالق وله امرأة، فدخل الدّار وطلق امرأته ثمَّ تزوّجها طلقت؛ لأنّ المعلّق بالشرط كالمرسل عند الشرط فيصير قائلاً عند دخول الدّار: كلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، ولو قال: كلّ امرأة أتزوّجها طالق وله امرأة، فطلّقها ثمَّ تزوّجها تطلق. ولو قال لامرأته: إن دخلت الدّار فكلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، فدخلت الدّار وطلّقها زوجها ثمَّ تزوّجها تطلق أيضاً. وروى هشام عن أبي يوسف رحمهما الله؛ لأنّها لا تطلق، وروي عنه أيضاً: إذا قال لامرأته: إن طلقت فكلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، فطلقها ثمَّ تزوّجها لا تطلق وعلّل فقال: لأنّ اليمين إنّما وقعت بفعل فيها بالنكاح على غيرها. وروي عنه أيضاً: إذا قال: إن طلقت فلانة فكلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، فهذا على غير وجه ما روي عن أبي يوسف رحمه الله: أنّها صارت معرفة بالإضافة بالكناية، ويذكر الاسم ولا يدخل تحت اسم النكرة، كما لو قال لامرأته: كلّ امرأة أتزوّجها ما

دمت حيّة فهي طالق، فطلق امرأة ثمَّ تزوّجها لا تطلق؛ لأنّها صارت معرفة بالإضافة بالكناية، فلم تدخل تحت اسم النكرة. وجه ما ذكر أنّها تطلق: أنَّ قوله لامرأته: إن دخلت الدّار فكلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق يمينان معنى إن كانت يميناً واحدة؛ لأنّ قوله: إن دخلت الدّار شرط وجزاؤه قوله: فكلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، وقوله: كل امرأة أتزوّجها فهي طالق عين تامة، فعلم أنّه يمينان معنى بصيرورتها معرفة في اليمين الأولى، لا يمنع دخولها تحت اسم النكرة في اليمين الثانية، ألا ترى أنَّ الرّجل إذا قال: إن دخلت الدّار فكلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق وفلانة هذه وأشار إلى المرأة التي في نكاحه فدخل الدّار حتّى وقع الطلاق على فلانة، ثمَّ تزوّج فلانة طلقت، وهل لأحد أن يقول بأنَّ فلانة صارت معرفة بالإشارة إليها؟ فلا تدخل تحت اسم النكرة، ولكن قبل الدخول ههنا يمينان بصيرورتها معرفة في إحديهما لا يمنع دخولها تحت اسم النكرة في الأخرى. والدليل على صحة ما قلنا: ما ذكر الفضلي في «فتاواه» فقال: إذا قال الرجل: إن فعلت كذا ما لم أتزوّج فاطمة فكلُّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، ففعل ذلك الفعل ثمَّ تزوّج فاطمة تطلق؛ لأنّ عند ذلك الفعل يصير قائلاً: كلُّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، فيقع الطلاق على فاطمة، وإن صارت معرفة بقوله: ما لم أتزوّج فاطمة، ولكن قيل هذان يمينان معنى فصيرورتها معرفة في اليمين الأولى لا يمنع دخولها تحت اسم النكرة في اليمين الثانية. وحكي عن شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله أنّه سئل عمّن قال: امرأته «آكر ترا ترنم زني كه مرابو دو باشد آزمن بطلاق» ، فضربها وطلقها وتزوّجها بعد ذلك إنها لا تطلق؛ لأنّه أوقع الطلاق على امرأة منكرة وهي صارت معرفة بالخطاب، وفتواه توافق.... وصار الحاصل: أنّ في كلّ موضع كان الموجود يمينان بالمعرّف في شرط إحديهما تدخل تحت اسم النكرة في اليمين الأخرى، وإن كانت يميناً واحدة؛ والمعرّفة في الجزاء تدخل تحت اسم الشرط إن إذا كان الشرط باسم النكرة، كما لو قال لامرأته: إن دخل داري هذه أحد فأنتِ طالق، فدخلت المرأة الدّار طلقت، وإن صارت معرفة في الجزاء ولم يمنع ذلك دخولها تحت الشرط المذكور باسم النكرة، والمعرفة في الشرط تدخل تحت الجزاء إذا كان الجزاء باسم النكرة. بيانه فيما ذكر في «النوادر» : إذا قال لامرأته: إن فعلت كذا فنسائي طوالق، ففعلت ذلك الفعل وقع الطلاق عليها وعلى غيرها. وذكر في «المنتقى» : عن محمّد رحمه الله إذا قال لامرأته: إن وطئتك فكل امرأة لي طالق، ثمَّ وطئها طلقت هي، ولو قال: إن وطئتك فأنتِ طالق وكلّ امرأة لي طالق فوطئها

وقع الطلاق عليها تطليقتان، ولو كانت له امرأة أخرى وقع عليها تطليقة، والمعرّف في الشرط لا يدخل تحت اسم النكرة المذكورة في الشرط. بيانه: فيما إذا قال: إن دخل داري هذه أحد فامرأتي طالق، فدخلها الحالف لا تطلق امرأته؛ لأنّه صار معرّفاً في الشرط بإضافة الدّار فلا تدخل تحت اسم النكرة، وهو قوله: أحد، فعلى هذا يخرّج جنس هذه المسائل. قال محمّد رحمه الله في «الجامع» : إذا قالت المرأة لزوجها: إنّك تزوّجت عليّ، فقال الرّجل: كلّ امرأة لي طالق ثلاثاً طلقت (276أ1) المخاطبة. وروي عن أبي يوسف رحمة الله عليه: أنّها لا تطلق؛ لأنَّ غرض الزوج من هذه اليمين تطييب نفسها وتسكين قلبها من كلّ وجه، وذلك إنّما يحصل إذا أراد الزوج إيقاع الطلاق على امرأة أخرى، فإنّما نقول يحتمل أن يكون غرض الزوج ما قاله، ويحتمل أن يكون غرضه مغايظتها بإيقاع الطلاق عليها لما أنّها بالغت في الخصومة والمشاجرة، فأغضبه كلامها، فأراد أن يطلّقها مع غيرها مغايظة لها....... الدلالتان تثبت العبرة لعموم اللفظ. وحكي من بعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله: أنّه ينبغي أن يحكم الحال في هذا، فإن كان قد جرى بينهما قبل ذلك مشاجرة وخصومة فدلَّ على أنَّ ذلك أغضب الزوج وأنّ الزوج قد قال ذلك على سبيل الغضب يقع الطلاق عليها، وإن لم يجر بينهما قبل ذلك خصومة ومشاجرة تدلّ على أن ذلك أغضب الزوج لا يقع الطلاق عليها، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وهذا القول حسن عندي، وكذلك إذا قالت: إنك تريد أن تتزوّج عليّ فقال الزوج: كلّ امرأة أتزوّجها فهي طالق، فطلّق المخاطبة ثمَّ تزوّجها تطلق، ولو قيل لرجل: أكلُّ امرأة غير هذه المرأة، فقال: كلُّ امرأة لي فهي طالق لا تطلق هذه، هكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله. فرق بين هذا وبينما إذا قالت المرأة لزوجها: إنك تزوّجت عليَّ امرأة، فقال: كلُّ امرأة لي فهي طالق حيث تطلق المخاطبة. والفرق أنّ كلام الزوج في المسألتين بناءً على سؤال السائل، فإنّما يدخل تحت كلام الزوج ما يجوز أن يكون داخلاً في سؤال السائل، والمذكور في قول المرأة: إنّك تزوجت عليّ امرأة، واسم المرأة يتناولها كما يتناول غيرها، فجاز أن يدخل تحت قول الزوج، أمّا المذكور في المسألة الأخرى في سؤال السائل غير هذه، وقوله غير هذه المرأة لا يحتمل هذه المرأة، فلا تدخل تحت قول الزوج. قال لامرأته كلّ امرأة أتزوّجها باسمك فهي طالق هذه المرأة، ثمَّ تزوّجها لا تطلق وإن نواها عند اليمين.

الفصل الثامن عشر: في الطلاق الذي يقع بقوله أول امرأة أتزوجها وبقوله آخر امرأة أتزوجها

الفصل الثامن عشر: في الطلاق الذي يقع بقوله أوّل امرأة أتزوّجها وبقوله آخر امرأة أتزوّجها قال حسن رحمه الله في «الأصل» : إذا قال الرجل: أوّل امرأة أتزوّجها فهي طالق، فتزوّج امرأتين في عقدة واحدة، وواحدة في عقدة لم تطلق واحدة منهنّ؛ لأنّه أوقع الطلاق على أوّل امرأة يتزوّجها؛ والأوّل اسم مفرد سابق، وفي المرأتين إذا وجد السبق لم توجد الفرديّة، وفي الواحدة؛ لأنّ وحدة الفردية لم توجد السبق، فإن كان قال مع هذا: وآخر امرأة أتزوّجها فهي طالق لا تطلق الثانية ما لم يثبت الزوج، فإذا مات يقع الطلاق عند أبي حنيفة رحمه الله مستنداً إلى وقت التزوّج وعندهما مقيض. أو لو: قال آخر امرأة أتزوّجها فهي طالق، فتزوّج أم لم يتزوّج قبلها ولا بعدها حتّى مات لم تطلق؛ لأنّها موصوفة بالأوليّة، فلا تتصف بالآخرية ليستا بينهما. ولو قال: أوّل امرأة أتزوّجها فهي طالق، فتزوّج امرأة طلقت تزوّج بعدها أخرى أو لم يتزوّج. ولو قال: أوّل امرأة أتزوّجها فهي طالق، فتزوّج امرأتين إحداهما معتدّة الغير وقع الطلاق على التي صحّ نكاحها، وكذلك لو تزوّج امرأة نكاحها فاسدة ثمَّ تزوّجها بعدها أخرى نكاحاً صحيحاً يقع الطلاق على الأخرى، وهذا بناءً على أن ذكر التزوّج في المستقبل ينصرف إلى النكاح الصحيح دون الفاسد، فكأنّه قال: أوّل امرأة أتزوّجها نكاحاً صحيحاً، فهي طالق، والتي صحّ نكاحها أوّل امرأة تزوجها نكاحاً صحيحاً. قال في «الجامع» : إذا قال الرّجل: آخر امرأة أتزوّجها فهي طالق، فتزوّج عمرة ثانياً ثمَّ مات الحالف طلقت زينب، ولا تطلق عمرة؛ لأنّ الحالف جعل الآخرية صفة للعين وزينب هي الموصوفة بذلك لا عمرة؛ لأنّ عمرة موصوفة بكونها أوّلاً في النكاح الأوّل، وكلّ ذات اتصفت بالأوليّة في نكاح لا يتصف بالآخرية في نكاح الآخر؛ لأن الذات لا تختلف باختلاف النكاح، والذات الواحدة في الشاهد لا يجوز أن تتصف بالأوّلية والآخرية. ولو نظر إلى عشر نسوة وقال: آخر امرأة أتزوّجها منكنَّ طالق، فتزوّج واحدة منهن، ثمَّ تزوّج أخرى ثمَّ طلق الأولى، ثمَّ تزوّجها ثمَّ مات فالطلاق واقع على التي تزوّجها مرّة دون التي تزوّجها مرتين، وهذه المسألة والمسألة الأولى سواء فيما إذا مات الزوّج بعد تزوّج الثانية، وإنّما يفترقان فيما إذا لم يمت الزوج حتى تزوّج العاشرة بأن تزوّج مثلاً أربعاً وفارقهنَّ، ثمَّ تزوّج أربعاً أخرى وفارقهن، ثمَّ تزوّج التاسعة، ثم تزوّج العاشرة فإنّ العاشرة تطلق كما تزوّجها مات الزوج أو لم يمت. وفي المسألة الأولى: لو تزوّج عشر نسوة على التفاريق، فالعاشرة لا تطلق ما لم يمت الزوج، والفرق أنَّ في المسألة الأولى أوقع الطلاق على آخر امرأة تزوّجها من نساء

العالم، وما دام الزوج حيّاً لا ينبغي أن تكون العاشرة آخر امرأة يتزوجها من نساء العالم. وفي المسألة الثانية: أوقع الطلاق على آخر امرأة يتزوّجها من العشرة، وكما تزوّج العاشرة فقد ... ... آخر امرأة تزوّجها من العشرة؛ لأنّه لا يحتمل ثبوت هذه الصفة الأخرى منهنّ لإنصاف الأولى بالأوليّة والثانية والثالثة وغيرهما بالوسطى، فتعيّن العاشرة الآخريّة مات الزوج أو لم يمت. قال في «الكتاب» : ألا ترى أنّه لو نظر إلى امرأتين وقال: آخر امرأة أتزوّجها منكما فهي طالق، فتزوّج إحداهما ثمَّ تزوّج الأخرى طلقت الثانية حين تزوّجها وإن لم يمت الزوّج وهو إشارة إلى ما قلنا، ولو قال: آخر امرأة أتزوّجها فهي طالق، فتزوّج امرأة وطلقها ثمَّ تزوّجها ثانياً لم تطلق، وهو إشارة إلى ما قلنا: أن المرأة إذا اتصفت بالأوّلية في نكاحَ لا يتصوّر إتصافها بالآخرية في نكاح آخر. ولو قال: آخرُ تزوّيج أتزوّجه فالتي أتزوّجها طالق، فتزوّج امرأة وطلقها ثمَّ أخرى ثمَّ تزوّج التي طلقها ثانياً ومات الزوج طلقت التي تزوّجها مرتين لا التي تزوّجها مرّة؛ لأنّه جعل الآخرية ها هنا صفة للتزوّج، وآخر تزوّج باشره نكاح التي تزوّجها مرتين أكثرها في الباب (276ب1) أنّه تزوّجها أوّلاً، إلا أن النكاح الثاني غير الأوّل حقيقة، فجاز أن يتصف بكونه آخراً بخلاف ما تقدّم؛ لأنَّ هناك جعل الآخرية صفة للمرأة وغير هذه المرأة قد اتصف بالأوليّة، فلا يتصوّر اتصافها بالآخرية. وكذلك لو نظر إلى عشر نسوة وقال: آخر تزوّج أتزوّجه منكن فالتي أتزوّج طالق، فتزوّج واحدة وطلقها، ثم تزوّج أخرى ثمَّ تزوّج التي طلقها، ثمَّ مات الزوج طلقت التي تزوّجها مرتين لما قلنا. ولو تزوّج العاشرة لم تطلق العاشرة حتّى يموت الزوج، فرق بين هذا وبين ما إذا قال: آخر امرأة أتزوّجها منكن طالق، حيث تطلق العاشرة كما تزوّجها وإن لم يمت الزوج، الفرق أنَّ في هذه المسألة حصلت الآخرية صفة للزوج، وقبل موت الزوّج لم تثبت هذه الصفة للعاشرة، فإنّه إذا تزوّج واحدة أخرى من العشرة، ثمَّ مات الزوج كأنْ تزوّجها آخراً وفيما تقدّم جعل الآخرية صفة للمرأة، وقبل موت الزوج صفة الآخرية للعاشرة. قال في «الكتاب» : ألا ترى أنّه لو نظر إلى امرأتين وقال: آخر تزويج أتزوّجه منكما فالتي أتزوّج طالق، فتزوّج واحدة ثمَّ الثانية لا تطلق الثانية ما لم يمت الزوج، وبمثله لو قال: آخر امرأة أتزوّجها منكما طالق، فتزوّج إحداهما ثمَّ تزوّج الأخرى طلقت الأخرى، وقع الفرق بينما إذا جعل الآخرية صفة للمرأة وبينما إذا جعل الآخرية صفة للزوج، فكذا فيما تقدّم.

الفصل التاسع عشر: في الشهادة في الطلاق والدعوى والخصومة

الفصل التاسع عشر: في الشهادة في الطلاق والدعوى والخصومة إذا قال محمّد رحمه الله في «الأصل» : إذا شهد شاهدان على رجل أنّه طلّق إحدى امرأتيه ثلاثاً، ولم يسم لنا، فالقياس أن لا تقبل شهادتهما، وفي الاستحسان تقبل ويجبر الزوج على البيان، وبه أخذ علمائنا رحمهم الله. وحاصل المسألة راجع إلى أنَّ الدعوى هل هي شرط لقبول الشهادة على الطلاق فعلى جواب القياس: شرط والدعوى من المجهول لا تتحقّق، وعلى جواب الاستحسان الدعوى ليس بشرط؛ لأنّها قامت على تحريم الفرج وحرمة الفرج حقّ الله تعالى، بدليل أنّه لا تزول الحرمة بإباحتها وبذلها، والشهادة على حقّ الله تعالى تقبل بدون الدعوى، كالشهادة على الزنا، وإذا لم تكن الدعوى شرطاً لقبول الشهادة على الطلاق استحساناً لم يكن جهالة المطلقة مانعة قبول الشهادة؛ لأنّه ليس في قبول جهالة المطلقة إلا عدم الدعوى، والدعوى ليس بشرط على جواب الاستحسان. وإذا شهد الشهود على رجل أنّه طلق فلانة، فقالت امرأته: ما طلقني وقال الزوج: ليس اسمها فلانة، وشهد الشهود أنَّ اسمها فلانة والطلاق ثلاث، فإنّه ينبغي للقاضي أن يفرق بينهما بناءً على ما قلنا: أنّ الشهادة على الطلاق تقبل من غير الدعوى استحساناً، فإذا قبلت الشهادة وقد ثبت أنّ له امرأة بالاسم الذي سمّاها به وقع الطلاق عليها، وكذلك هذا في عتق الأمة. إذا شهد الشهود أنّه أعتق فلانة وشهد الشهود أنّ اسم مملوكته فلانة، وقالت فلانة لم يعتقني، فإنَّ القاضي يقضي بالعتق، وإذا شهد شاهدان على تطليقة وشهد آخر على تطليقتين أو على ثلاث تطليقات لم تقبل هذه الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله تقبل الشهادة على تطليقة واحدة، وهو نظير ما لو شهد أحد الشاهدين بألف وآخر شهد بالألفين والمدعي يدعي الألفين لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله أصلاً، على ما يأتي بيانه في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى. وإذا شهد أحدهما أنّه طلقها إن دخلت الدّار وقد دخلت، وشهد الآخر أنّه طلقها إن كلّمت فلاناً وقد كلّمت فشهادتهما باطلة؛ لأنهما شهدا بيمينين مختلفين، وكذا إذا شهد أحدهما أنه طلقها ثلاثاً، وشهد الآخر أنّه قال لها: أنتِ عليّ حرام ينوي الطلاق، فشهادتهما باطلة أيضاً. وكذا إذا شهد أحدهما بالخليّة، والآخر بالبريّة، أو شهد أحدهما بنيّة، وشهد الآخر بالبائن فشهادتهما باطلة، وكذا لو شهد أحدهما أنّه قال: إن دخلت فلانة وفلانة الدّار فهما طالقتان، وشهد الآخر أنّه قال: إن دخلت فلانة الدّار فهي طالق فشهادتهما باطلة. ولو شهد أحدهما أنّه قال لامرأته: إن دخلت الدّار فأنتِ طالق وفلانة معك، وشهد الآخر أنّه قال لها: إن دخلت الدّار فأنتِ طالق، فإنّه تقبل الشهادة على طلاقها ولا تقبل

على طلاق فلانة؛ لأنّ ههنا اتفقا على أن شرط الحنث واحد وهو دخولها الدّار؛ لأنّ أحدهما شهد أنّه على هذا الشرط طلاقها، وطلاق الأخرى بلفظة الجمع، فهذا لا يمنع قبول الشهادة في التنجيز بأن شهد أحدهما أنّه طلّق زينب، وشهد الآخر أنّه طلق زينب وعمرة، فإنّه تقبل شهادتهما على طلاق زينب، فكذا في التعليق بخلاف المسألة الأولى؛ لأنّ هناك اختلفا في شرط الحنث، وليس على كلّ واحد منهما إلا شاهد واحد. وكذلك إذا شهد أحدهما أنّه قال: فلانة طالق، لا بل فلانة، وشهد الآخر أنّه قال: فلانة طالق سمّى الأولى لا غير، تقبل شهادتهما على طلاق فلانة لاتفاقهما على طلاقها لفظاً ومعنى، وإذا اختلفا في مقدار الشروط التي علّق بها الطلاق أو في التعليق والإرسال أو في مقدار الأجعال أو في صفاتها أو في أشراطها وحذفها، فكذلك كل اختلاف في المشهود به فيمنع قبول الشهادة. وإذا شهد الرجل على طلاق أمّه، إن كانت الأم تدّعي الطلاق لا تقبل شهادته، وإن كانت تجحد تقبل شهادته؛ لأنّ الأمّ في طلاق نفسها منفعة ومضرّة، فتعيين الشهادة لها إذا ادّعت، وعليها إذا جحدت. وهذا بخلاف ما لو شهد على طلاق ضرّة أمّه حيث لا تقبل شهادته ادّعت الأمّ ذلك أو جحدت؛ لأنّ للأمّ في طلاق ضرّتها منفعة من كلّ وجه لا يشوبه ضرر، فإنّه يخلص لها الفراش، فاعتبرت الشهادة واقعة للأمّ وإن جحدت. وإن شهد على طلاق (277أ1) أخته قبلت شهادته، ادعت الأخت ذلك أو جحدت؛ لأنّه إمّا أن تعتبر هذه الشهادة واقعة للأخت، أو عليها وكلُّ ذلك مقبولة. وإذا شهد أحد الشاهدين على تطليقة واحدة بائنة، وشهد الآخر على تطليقة رجعيّة قبلت شهادتهما، على تطليقة رجعيّة؛ لأنّهما اتفقا على أصل الطلاق وتفرّد أحدهما بزيادة صفة. وإذا شهد أحدهما بتطليقة والآخر بنصف تطليقة لا تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة رحمه الله كما لو شهد أحدهما بتطليقة والآخر بتطليقتين، وهذا لأنّ النصف من الواحدة كالواحدة من الثنتين. وإذا اختلفا الإنشاء والإقرار شهد أحدهما بالإنشاء، وشهد الآخر بالإقرار، واختلفا في الزمان أو في المكان، بأن شهد أحدهما أنه طلقها يوم الجمعة، وشهد الآخر أنّه طلقها يوم السبت، أو شهد أحدهما أنّه طلقها في بلدة كذا، وشهد الآخر أنّه طلقها في بلدة كذا تقبل شهادتهما. ولو شهد أحدهما أنّه طلّقها يوم النحر بمكّة، وشهد الآخر أنّه طلقها في ذلك اليوم بكوفة، لا تقبل شهادتهما لا لاختلاف المكان، بل لأنّ القاضي تيقّن بكذب أحدهما. ولو كانا شهدا بذلك على يومين متفرقين بينهما من الأيام على قدر ما يسير الراكب من كوفة إلى مكّة جازت شهادتهما؛ لأنّا لم نتيقّن بكذب أحدهما في هذه الصورة لم يبق الاختلاف المكان، وباختلاف المكان لا يختلف المشهود به وهو الطلاق، ثمَّ في الوجه

الأوّل لو كان أحد الفريقين شهد أوّلاً، وقضى القاضي بشهادتهم، ثمَّ شهد الفريق الآخر فالقاضي لا يقضي بشهادة الفريق الثاني، ولا يبطل قضاؤه بشهادة الفريق الأوّل؛ لأنّ في هذا الوجه بعد قضاء القاضي من حيث الظاهر وقع الشكّ في بطلان شهادة الفريق الثاني، إن كانوا صَدَقَةً يبطل، وإن كانوا كَذَبَةً لا يبطل، فلا يبطل القضاء بالشك، وفي الوجه الأوّل وقع الشك في جواز القضاء. ونظير هذه المسألة ما لو قال لامرأتين له: أيتكما أكلت هذه الرغيف فهي طالق، فجاءت كلُّ امرأة بالبينة أنّها هي التي أكلته لا تقبل شهادتهما؛ لأنّ القاضي تيقن بكذب إحدى البينتين؛ لأنّ الشرط أكل كل الرغيف، واستحال أن تكون كلّ واحدة منهما أكلت كلّ الرغيف، وإن جاءت إحدى البينتين قبل الأخرى وقضى القاضي بها، ثمَّ جاءت الأخرى فالقاضي لا يلتفت إليها وطريقة ما قلنا. وفي «نوادر هشام» عن محمّد بن الحسن رحمه الله: في رجل ادعت عليه امرأته أنه طلّقها ثلاثاً وهو يجحد، ثمَّ مات الزوج، فجاءت المرأة تطلب الميراث، قال: إن صدّقته المرأة قبل أن يموت وقالت: صدقت، لم تطلقني وَرِثته، وإن لم ترجع إلى تصديقه حتّى مات لم ترثه.H مرت امرأة بين يدي رجل، فقال الرجل: هي طالق، وسمع ذلك قوم ثمَّ رأوها معه بعد ذلك، فقال: هذه امرأتي فشهدوا عليه أنّه طلّقها، فقال الزوج: طلقتها أمس وهي ليست لي بامرأة وتزوّجتها اليوم، وقال القوم: طلّقها أمس ولا ندري أكانت امرأته أم لا لا تطلق حتىّ يشهدوا عليه أنّه طلقها وهي امرأته. ابن سماعة في «نوادره» عن محمّد رحمه الله في رجل شهد عليه شاهد أنّه طلّق امرأته واحدة بائنة، وشهد آخر عليه أنّه طلّقها ثلاثاً فهي واحدة يملك الرجعة. وفي «المنتقى» : روي عن محمّد في رجل قال: امرأته طالق ثلاثاً إن كان دخل الدار اليوم، فشهد شاهدان أنّه دخل، فقال: امرأته طالق، فإن قال الزوج: عبده حرٌّ إن كانا رأياني دخلت الدّار، معناه: إن كان الشاهدان رأياني لا يحكم بعتق العبد بقولهما، حتّى شهد شاهدان غير الأولين أنّ الأولين رأياه قد دخل، وكذلك لو كان الزوج قال: عبدي حرٌّ إن لم يكونا شهدا علي الزور لا يحكم بعتق عبده؛ لأنه يمكن للذي حلف أن يقول: إنَّ الشاهدين لم يرياني قد دخلت وقد شهدوا بزور. بشر عن أبي يوسف رحمه الله: شاهدان شهدا على رجل أنّه طلّق امرأته وشهد آخران في ذلك أنّه قال: إن دخلت الدّار، والمجلس واحد والكلام واحد، فإني أجد ببيّنة الثبات، ولو لم تدع المرأة ذلك فرقت بينهما؛ لأنّهما شهدا بالتحريم. داود بن رسرد عن محمّد رحمه الله: شهد شاهدان على رجل أنّه طلّقها واحدة

قبل أن يدخلها، وشهد آخران أنّه طلقها ثلاثاً ولا ... أيهما أوّل، قال أجعلها ثلاثاً من قبل أن شهادتهم أنّه طلقها ثلاثاً إقرار منه أنّه طلّقها وهي امرأته. وكذلك لو شهد كل فريق منهما بطلاق معلّق بدخول الدّار. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمّد رحمه الله: إذا شهد شاهد على رجل أنّه طلّق امرأته واحدة، وشهد آخر أنّه طلّقها ثنتين، وشهد آخر أنّه طلّقها ثلاثاً، وكانت المرأة مدخولاً بها قال: هي طالق ثلاثاً، وإن لم يكن دخل بها فهي طالق ثنتين. قال في تعليل وقوع الثلاث: قيل إنَّ صاحب الثلاث وصاحب الثنتين قد أجمعا على الثنتين، وصاحب الثلاث مع صاحب الواحدة أجمعا على الواحدة فطلقت ثلاثاً لهذا. وفي شهادات «المنتقى» : رجل حلف بطلاق امرأته أو بعتاق عبده أنّه...... عن فلان خصم له به عليه حقّاً، فشهدت عليه بنته أنّه قد خرج من المصر خروج هَرَبٍ من المدعي، ولم يشهدوا على إقرار الخارج أنّه هرب من الخصم، قال أبو يوسف رحمه الله: إذا شهدوا عليه أنّه خرج خروج هرب منه، ... عنه قبلت الشهادة وطلقت المرأة وعتق العبد قال: وهذا عندي بمنزلة الشهادة على الإباق. رجل جعل أمر امرأته بيدها، ثمَّ قال لرجلين: أخبراها أني جعلت أمرها بيدها، فقالا: نشهد أنّا أخبرناها أنَّ زوجها قد جعل أمرها بيدها، وطلّقت نفسها والزوج يجحد ذلك أجزت شهادتهما. ولو قال: لهما طلِّقاها، اجعلا أمرها بيدها، فقالا: نشهد أنّا جعلنا أمرها بيدها وأنّها اختارت نفسها لم أقبل شهادتهما؛ لأنّه فعلهما فلا يستقيم أن يصير الأمر بيدها إلا بقولهما: جعلنا أمرك بيدك، أمّا في الفصل الأوّل لم يشهدا على فعل منهما مثل ذلك، ألا ترى أنّه لو قال: خيراها فلم يفعلا وأخبرها غيرهما أنّ الأمر يصير في يدها. ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: إذا اختلف شاهدان في الطلاق (279أ1) ، فشهد أحدهما بالنبطية أو بالفارسيّة أو بلسان آخر غير ذلك، وشهد آخر أنّه طلّقها بالعربية لا تقبل شهادتهما، قال: ولو كان هذا في الإقرار بمال أجزته، قال: وليس الطلاق كذلك؛ لأنّي أنويه في الطلاق في وجوه، وقال فيما إذا شهد شاهد على رجل أنه قال له: أنت حرٌّ، وشهد الآخر أنّه قال له بالفارسيّة: «بوارادي» تقبل شهادتهما، قال: لأنّه ليس له وجه آخر غير العتق. ابن سماعة عن أبي يوسف في «نوادره» : إذا قال لامرأته: إن قلت لك أنتِ طالق فعبدي حرٌّ، فشهد عليه شاهد أنّه قال لها يوم الجمعة غدوة: أنتِ طالق، وشهد عليه شاهد آخر أنّه قال لها يوم الجمعة عشيّة: أنتِ طالق قبلت شهادتهما. وعنه أيضاً في...... أخرى: إذا قال لامرأته: إن كلّمت فلاناً فأنتِ طالق، فشهد أحد الشاهدين أنّها كلّمته غدوة، وشهد الآخر أنّها كلّمته عشيّة طلقت امرأته، وعنه في

فصل العتق بخلاف هذا، فإنّه قال فيمن قال لعبده: إن كلّمت فلاناً فأنت حرٌّ، فشهد شاهد أنّه كلّمه اليوم وشهد الآخر أنّه كلّمه أمس لا تقبل هذه الشهادة. وعنه أيضاً: إذا قال لامرأته: إن ذكرت طلاقك سميت طلاقك إن تكلّمت به فعبدي حرّ، فشهد أحدهما أنّه طلّقها اليوم، وشهد الآخر أنّه طلقها أمس يقع الطلاق ولا يقع العتق. وعنه أيضاً: إذا قال لها: إن دخلت الدّار فأنتِ طالق، فشهد أحد الشاهدين أنّه دخلها غدوة وشهد الآخر أنّه دخلها عشيّة لم تقبل. وعنه أيضاً: لو جعل أمر امرأته بيدها شهراً، فشهد شاهد أنّها اختارت نفسها يوم الجمعة وشهد الآخر أنّها اختارت نفسها يوم الخميس لا تقبل شهادتهما. وفي «نوادر هشام» قال: سمعت محمّداً رحمه الله يقول في رجل تحته أمة أعتقت، فشهد شاهد عليه أنّه طلّقها * وهي أمة * ثنتين، وشهد آخر أنّه طلقها بعدما أعتقت ثلاثاً، فهما تطليقتان يملك الرجعة. قال هشام: وسمعته يقول في الشاهد شهد أنَّ فلاناً طلّق امرأته ثلاثاً ألبتة، وشهد آخر أنَّ فلاناً طلّقها ثنتين ألبتّة، قال: هي تطليقتان يملك الرجعة. وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف (في) «نوادره» : إذا شهد شاهد أنّه قال: إن دخلت هذه الدّار فامرأتي طالق، وشهد آخر أنّه قال: إن دخلت هذه الدّار وهذه الدر فامرأتي طالق، فالشهادة باطلة؛ لأنّ الذي شهد بهذه أو هذه، وشهد أنّه إذا دخل غير الدّار التي شهد عليها صاحبه أنّه يقع الحنث، ثمَّ لا يقع الحنث بعد ذلك بدخول الدّار الأخرى التي شهد عليها صاحبه. وفي كتاب الأقضية من «المنتقى» : إذا شهد شاهدان على رجل أنّه قال لامرأته: إن كلّمت فلاناً فأنتِ طالق ثلاثاً، فالقاضي يسأل المرأة هل كلّمت فلاناً بعد ذلك اليمين، فإن قالت: نعم سمع من الشاهدين شهادتها، وإن قالت: لا، لا يسمع شهادتهما، وإن قالت: لا أدري وهناك شهود يشهدون كلامها سمع القاضي شهادتهم، فإذا شهد الشاهدان على اليمين وشهد آخران على الكلام بعد ذلك فرق بينهما، فإن كان حلف في ذلك بطلاق كلّ امرأة وله امرأة أخرى غائبة وحضرت بعدما نفذ الحكم فإنَّ القاضي يطلّقها في قول أبي يوسف، ولا يطلّقها في قول أبي حنيفة رحمهما الله حتّى يعيد الشهود الشهادة على اليمين والشهادة على الكلام. وإذا شهد شاهدان عند المرأة بطلاقها، فهذا على وجهين: إن كان الزوج غائباً وسعها أن تتزوّج، وإن كان الزوج حاضر....... الطلاق لا يسعها أن تتزوّج، لكن لا يسعها أن تمكّن منه؛ لأنَّ في الوجه الأوّل لا يمكنها السؤال عن الزوج ... على أنّه في الوجه الثاني السؤال ممكن، فإذا جحد احتيج إلى القضاء بالفرقة، والقضاء بالفرقة إنّما يكون من القاضي بحضرة الخصمين.

الفصل العشرون: في طلاق المريض

وفي «فتاوى النسفي» : رحمه الله: إذا شهد الشهود على رجل أنَّ امرأته هذه محرّمة عليه بثلاث تطليقات، أو قالوا: حرام عليه بثلاث تطليقات ولم يقولوا: طلّقها ثلاثاً، قال: في الشهادة قصور، ولا بدّ من إضافة الطلاق إليه، وقال: لا قصور في الشهادة ولا حاجة إلى إضافة الطلاق إليه، وقال: لا، وهو الأشبه والأصوب. وفيه أيضاً: إذا شهد شاهدان على رجل أنّه حلف بالطلاق أن لا يفعل كذا، وقد فعل وحنث في يمينه، فقيل: ينبغي أن لا تقبل الشهادة بدون لفظ اليمين؛ لأنّ الشاهد قد يظنّ الحنث في اليمين ولا حنث فيه. وفيه أيضاً: إذا شهد الشهود أنَّ هذه المرأة حرام على زوجها هذا لا تقبل شهادتهم؛ لأنّ الحرمة أنواع، حرمة بالإيلاء، وحرمة بالظهار، وحرمة بالطلاق، وأحكامه مختلفة، فلا بدّ من البيان، والله أعلم بالصواب. الفصل العشرون: في طلاق المريض إذا طلّق المريض امرأته طلاقاً رجعيّاً ورثت ما دامت في العدّة، ولو طلّقها طلاقاً بائناً أو ثلاثاً ثمَّ مات وهي في العدّة، فلو طلّقها فكذلك عندنا ترث، ولو انقضت عدّتها ثمَّ مات لم ترث. والحاصل: أنّ الزوج بالطلاق في حالة المرض قصد إبطال حقّها؛ لأنّه قصد إبطال الزوجيّة، والزوجيّة من الوجه الذي هي متعلّق الإرث حقّها، فيرد عليه إبطاله، وذلك بإبقاء الزوجيّة من الوجه الذي هي متعلّق الإرث ما دام في إمكان الإبقاء ثابتاً، وما دامت العدّة باقية الإمكان ثابت؛ لأنّ الشرع ورد بتأخير عمل الطلاق إلى وقت انقضاء العدّة في كثير من الأحكام، فكذا في حقّ هذا الحكم، أمّا بعد انقضاء العدّة فالإمكان غير ثابت؛ لأنّ الشرع لم يرد بتأخير عمل الطلاق بعد انقضاء العدّة في حق حكم ما يعمل الطلاق عمله، وارتفع النكاح من كلّ وجه، فلهذا لا ترث، وهذا إذا طلقها من غير سؤالها. فأمّا إذا طلّقها بسؤالها فلا ميراث لها. وكذلك إذا وقعت الفرقة بمعنى من قبلها فلا ميراث لها؛ لأنّا إنّما أبقينا النكاح في حقّ الإرث مع وجوب القاطع ديانة لحقّها، وقد رضيت ببطلان حقّها بسؤالها الطلاق وبّما يسرته بسبب الفرقة، فعمل القاطع عمله، وعن هذا قلنا: إنَّ امرأة العنين إذا (277ب1) اختارت نفسها في مرض الزوج فلا ميراث لها، وإذا جامعها ابن المريض مكرهة لم ترث؛ لأنّ الفرقة غير مضافة إلى الزوج، وبقاء الإرث بعد الفرقة بسبب الفرار، وذلك عند إضافة الفعل إليه، فإذا لم يوجد لا يبقى الميراث. قال في «الأصل» : إلا أن يكون الأب أمر الابن بذلك ونقل فعل الابن إلى الأب في حقّ الفرقة، كأنّه باشر بنفسه فيصير فارّاً. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قالت

لزوجها: طلقني، فطلقها ثلاثاً ثمَّ مات وهي في العدّة ورثت استحساناً؛ لأنّها سألت الواحدة، وهو طلّقها ثلاثاً، فقد طلّقها بغير رضاها. وحدُّ مرض الموت الذي يصير الزوج بالطلاق فيه فارّاً ولا يصحّ من المريض تبرعاً به: أن يكون صاحب فراش قد أضناه المرض، فأمّا الذي يجيء ويذهب في حوائجه فليس بمريض ولا فار، وإن كان يشتكي مع ذلك ويحم، هكذا ذكر محمّد رحمه الله، وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» فقد شرط أن يكون صاحب فراش، وبه أخذ بعض مشايخ بلخ، وبعض مشايخ ما وراء النّهر رحمهم الله حتى إنَّ على قول هؤلاء: من أخذه وجع البطن لا يكون مريضاً مرض الموت. واختلفوا فيما بينهم في معنى قوله: فأما الذي يجيء ويذهب في حوائجه، قال مشايخ بلخ رحمهم الله: أراد به الذهاب إلى حوائجه في البيت من مشيه إلى الخلاء، وأشباه ذلك. وقال مشايخنا رحمهم الله: أراد به الذهاب إلى حوائجه خارج البيت، حتّى إنَّ على قول مشايخنا رحمهم الله إذا أمكنه الذهاب إلى حوائجه في البيت ولكن لا يمكنه الذهاب إلى حوائجه خارج البيت فهو مريض وهو الصحيح. فأمّا المرأة لا تحتاج إلى الخروج في حوائجها، فلا يعتبر هذا الجزء في حقّها، ولكن إذا كانت بحيث لا يمكنها الصعود على السطح فهي مريضة، وقد ذكر محمّد رحمه الله في «الأصل» مسائل تدلُّ على الشرط الذي هو خوف الهلاك على طريق الغلبة، لا كونه صاحب فراش، فإنّه قال: إذا أخرج الرّجل للقصاص أو للرجم فهو في حكم المرض، وكذا قال: إذا بارز وخرج عن الصفّ فهو في حكم المريض. ولو كان محصوراً ومحبوساً في جزاء وقصاص أو واقعاً في صفّ القتال فهو في حكم الصحيح؛ لأنّ الهلاك غالب في الذي أخرج للقتل، أو أُخرج للبراز، وليس بغالب في المحبوس والواقف في صفّ القتال، والمرأة في حالة الطلاق في حكم المريض وإن لم تكن صاحبة فراش؛ لأنّ التلف في هذه الحالة غالب، ذكره «القدوري» ، وإذا نزل في مسبعة أو ركب سفينة فهو في حكم الصحيح؛ لأنّ الهلاك في حقّها ليس بغالب، وإذا أخذه السبع بفمه، أو انكسرت سفينته وبقيت على لوح واحد فهو في حكم المريض؛ لأنَّ الهلاك في حقّه غالب. وفي «الجامع الصغير» أيضاً ما يدلّ على أنّ الشرط خوف الهلاك على طريق الغلبة، فإنّه قال في المشلول والمقعد والمفلوج: ما دام يزداد منه فهو في حكم المريض؛ لأنّه ما دام يزداد منه من العلّة فالغالب أن آخره الموت، فإن صار قديماً لا يزداد فهو بمنزلة الصحيح؛ لأنّه لا يخلف عنه الهلاك غالباً، كذلك الموقوف على هذا، وبه أخذ بعض المشايخ رحمهم الله، وبه كان يفتي الصدر الكبير برهان الأئمة والصدر الشهيد حسام ... رحمهما الله، ومن المشايخ من قال: إذا خرج للرجم فهو في حكم المريض

، وإذا خرج للقصاص فهو في حكم الصحيح. وفي «المنتقى» : أبو سليمان عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله: أنَّ البارز طلاقه كطلاق الصحيح، وهذا خلاف ما ذكرنا في مسائل «الأصل» ، ثمَّ في كلِّ موضع صار في حكم المريض وطلّقها ومات وهي في العدّة ورثت كان بهذه الجهة أو بجهة أخرى، هكذا ذكر في «الجامع الصغير» ؛ لأنّه لمّا ثبت له حكم مرض الموت صار الموت الواقع عقيبه وعقيب سبب آخر مضافاً إليها، كالموت الواقع عقيب جرحين صالحين.... وإن كان التعاقب والترادف، ولهذا قال في «الأصل» : المريض الذي هو صاحب فراش إذا طلّق امرأته ثلاثاً ثمَّ قتل إنّها ترث. ولو طلّقها ثلاثاً وهو مريض وهما لا يتوارثان ثمَّ صار الحال يتوارثان، نحو أن يكون أحدهما عبداً فيعتق، أو تكون المرأة كتابيّة فتسلم لم ترثه؛ لأنّ حكم الفرار لم يثبت بالإيقاع إذ النكاح لم يكن سبب الميراث في ذلك الوقت ولا شرطه، فلا يثبت حكم الفرار بعد ذلك. ولو طلّقها ثلاثاً وهو مريض ثمَّ قبّلت ابن زوجها ثمَّ مات وهي في العدّة فلها الميراث. ولو ارتدت في عدّتها ثمَّ أسلمت فلا ميراث لها. والفرق: أنَّ بالارتداد خرجت من أن تكون أهلاً لاستحقاق الإرث، فبطل حقّها في الإرث فلا يعود بالإسلام، فأمّا التقبيل لم تخرج عن أهلية الوراثة؛ لأنّ أثر التقبيل في إثبات المحرميّة والمحرميّة لا تنافي الإرث، فلا تنافي بقاء النكاح في حقّ الإرث. وإذا علّق الزوج طلاق امرأته بفعل نفسه ففعل ذلك الفعل وهو مريض، فهو فارّ، سواء كان التعليق في حالة الصحّة والشرط في حالة المرض، أو كان التعليق والشرط في حالة المرض، فلأنّه لمّا باشر الشرط مع علمه بوقوع الطلاق عنده لا محالة، وببطلان حقّها في الإرث صار كأنّه أوقع الطلاق في حالة المرض، ويستوي أن يكون فعلاً للزوج منه بُدٌّ كدخول الدّار، ولا بدّ له منه كالصلاة والكلام مع الأبوين؛ لأنَّ الفعل الذي لا بدَّ للزوج منه إن لم يكن جناية في حقّه فهو جناية في حقّها حيث إنّه يضرُّ بها ويبطل حقّها، وحقّها معصوم محترم في حقّ الزوج فيجعل اضطرار الزوج عدماً في حقّها، كتناول مال الغير عند الضرورة. وإن حصل التعليق بفعل أجنبي إن حصل التعليق ومباشرة الشرط في مرض الزوج ورثت، وإن حصل التعليق في حالة الصحة لا ترث؛ لأنّه لم يوجد من الزوج حال تعلّق حقّها بماله لا مباشرة العلّة، ولا مباشرة الشرط، وكذلك الجواب إذا حصل التعليق بفعل سماوي كمجيء رأس الشهر وما أشبهه. وإن حصل التعليق بفعلها إن كان فعلاً لها منه بدّ فإنّها لا ترث على كلّ حال؛ لأنّ مباشرة الشرط منها بلا ضرورة دلالة (الدّار) الرضا بوقوع الطلاق فنفذ الطلاق (277ب1) في

حقّها، كما لو طلّقها بسؤالها. وإن كان فعلاً لا بدّ لها منه إن كان التعليق في حالة المرض ترث بالإجماع؛ لأنَّ مباشرة العلة وجدت في حالة المرض بغير رضاها، ومباشرة الشرط منها لا يدلّ على الرضا بحكم هذه العلّة؛ لأنها مضطرّة في مباشرة هذا الشرط، فقد ابتليت بين بليتين فاختارت أهونهما، والعاقل يكون مضطراً باختيار أدون السوءين لدفع أعلاهما، فلا يثبت به الرضا بوقوع الطلاق. وإن كان التعليق في حالة الصحّة والشرط في حالة المرض فإنها ترث في قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله لا ترث؛ لأنّه لم يوجد من الزوج مباشرة العلّة في حالة المرض ولا مباشرة الشرط فلا يكون فارّاً كما لو حصل التعليق بفعل أجنبي. ولهما: أنّ الشرط وجد من الزوج حالة المرض معنى. بيانه: أنّها محمولة من جهة الزوج على مباشرة هذا الشرط، فإنّها بسبب تعليقه ابتليت بين بليتين: أن تفعل هذا الفعل فيقع الطلاق عليها، وبين أن لا تفعل فتتضرّر بسبب الامتناع عن الفعل، إمّا في الدنيا بأن كان استيفاء مال، أو في الآخرة بأن كانت مبلوة......، أو كلام الأبوين، والمبتلى بين الشرّين يكون محمولاً على تحمّل أدناهما ودفع أعلاهما بحكم الطبيعة والعادة كالمبتلى بين قتل نفسه وبين قتل غيره يكون محمولاً على قتل الغير لهذا، وفعل المحمول مضاف إلى الحامل كما في الإكراه، وإذا أضيف فعل المرأة إلى الزوج صار كأن الزوج علق الطلاق في حالة الصحّة بفعل نفسه، وفعل ذلك في مرضه. وإذا جعل طلاق امرأته إلى أجنبي في الصحّة فطلّقها في المرض، فإن كان التفويض على وجه لا يملك عزله، نحو أن يملكه لم ترث، وإن ملك عزله ورثت؛ لأنّه إذا ملك عزله لا يكون التفويض لازماً، وما لا يكون لازماً من التصرّف كان لبقائه حكم الإنشاء، فكأنّه أنشأ التفويض في المرض، وإذا لم يملك عزله كان التفويض لازماً، فلا يكون لدوامه حكم الإنشاء فلم يوجد في مرض الموت لا مباشرة نفس الطلاق ولا التفويض لا حقيقة ولا حكماً، فلا يثبت حكم الفرار. وفي «المنتقى» : يقول: إذا أمر رجلاً في صحّته أن يطلّق امرأته ثلاثاً، فانطلق الوكيل إلى خراسان وطلّق امرأة الآمر، ووافق ذلك مرض الآمر فلا ميراث لها إذا كان الآمر في حال لا يستطيع أن يخرج الوكيل، وإن قدر على إخراجه فلم يخرجه فلها الميراث، قلت: وإخراج الوكيل عن الوكالة إنّما يصح إذا علم الوكيل بالإخراج والوكيل ها هنا غائب، فإنّما يثبت........ على الإخراج إذا كان الآمر بحال يخرجه ويعلمه بالإخراج.

وإذا قال: إن لم أفعل كذا فأنتِ طالق ثلاثاً، فلم يفعل حتّى مات ورثت إن كان دخل بها؛ لأنَّ الطلاق إنّما وقع في آخر جزء من آخر حياته؛ لأنّ عدم الفعل عنده يتحقّق وهو مريض في تلك الحالة، فيصير فارّاً، وإن ماتت هي ورثها؛ لأنّ شرط وقوع الطلاق عدم الفعل من الزوج، فإنّه لا يتحقّق بموتها فيَرث منها لبقاء النكاح. ولو قال: إذا مرضت فأنتِ طالق ثلاثاً، مرض ثمَّ مات ورثته؛ لأنّ المتعلّق بالشرط كالمرسل عند وجود الشرط، فكأنّه قال بعدما مرض: أنتِ طالق ثلاثاً. وكان الفقيه أبو القاسم الصفّار رحمه الله يقول: ينبغي أن لا ترث؛ لأنّ الطلاق إنّما يقع أوّل المرض، وهو في تلك الحالة لا يكون صاحب فراش، والمرض الذي يوجب تعلّق حقّها بماله المرض الذي يصيبه ويجعله صاحب فراش. إذا ارتدت المرأة وهي مريضة وماتت في العدّة فلزوجها الميراث، ولو ارتدت وهي صحيحة لم يرثها الزوج. والفرق: أنّ الردّة منها متى كانت في حالة المرض فالفرقة جاءت من قبلها بعدما تعلّق حقّ الزوج بمالها، فصارت قاصدة إبطال حقّه فارّة عن الميراث، فيردّ عليها قصدها ما أمكن، فأمّا إذا كانت الردّة منها في حالة الصحّة فالفرقة جاءت من قبلها في حال لم يتعلّق حقّ الزوج بمالها فلا تصير فارة قاصدة إبطال حقّه. وإذا ارتدّ الزوج ورثت ما دامت في العدّة وإن كان الزوج صحيحاً؛ لأنّ ردّة الزوج توجب القتل فيصير الزوج بها على شرف الهلاك، فيصير كالمريض بسبب الرّدة، والفرقة موجبة الردّة، فحصلت الفرقة في حالة المرض معنى، فيصير الزوج بمباشرتها فارّاً، بخلاف ردّة المرأة؛ لأنّها لا توجب القتل، فلا تصير بمعنى المريضة إذا آلى منها وهو صحيح ثمَّ بانت بالإيلاء وهو مريض لم ترثه؛ لأنّه لم يباشر في مرض موته لا نفس الطلاق ولا شرطه، فلا يصير فارّاً. ولو كان الإيلاء في المرض ورثت لمباشرته سبب الطلاق؛ لأنّ الإيلاء طلاق مؤجّل؛ لأنّ المولى في المعنى كأنّه قال: إنَّ مضى أربعة أشهر ولم أقربك فأنتِ طالق، أو قال لامرأته في مرضه: قد كنت طلقتك ثلاثاً في صحّتي، أو قال: جامعت أمَّ امرأتي أو أتيت امرأتي، أو قال: تزوّجها بغير شهود، أو قال: كان بيننا رضاع قبل النكاح، أو قال: تزوّجها في العدّة ونكرت المرأة ذلك بانت منه ولها الميراث إن مات وهي في العدّة. إذا قال: طلقتك في صحتي فلأنه أقرّ بالطلاق في المرض، وادّعى الإسناد إلى حالة الصحّة، ولم يصدّق في دعوى الإسناد صيانة لحقّها في الميراث، بقي الإقرار بالطلاق في المرض، وأمّا إذا قال: جامعت أمّ امرأتي أو أتيت امرأتي، أمّا إذا قال: فعلت ذلك في المرض فظاهر؛ لأنّه باشر سبب الفرقة في المرض، وأمّا إذا قال فعلت في الصحّة فلأنّه لم يصدّق في دعوى الإسناد لما ذكرنا.v بقي الإقرار بمباشرة بسبب الفرقة في المرض، فأمّا إذا قال: كان بيننا رضاع، أو قال: تزوّجتها في العدّة فلأنّه أقرّ بفساد النكاح من الأصل، والإقرار بفساد النكاح من الأصل من الزوج جعل إنشاء للحرمة في

الحال، على ما عرف في كتاب النكاح. المحيط البرهانى وإذا مات الرّجل فقالت المرأة: فإنّه كان طلقني ثلاثاً في مرض موته ومات وأنا في العدة ولي الميراث، وقالت الورثة: طلقك في صحّته ولا ميراث لك فالقول قولها؛ لأنّ (278أ1) الظاهر شاهد لها؛ لأنّها تدّعي بقاء النكاح بعد الموت في حقّ الميراث، والنكاح كان ثابتاً، والظاهر في الثبات البقاء، فكان الظاهر شاهداً لها. وهذا بخلاف ما إذا قالت امرأة الرّجل بعد موته: قد كنت أعتقت قبل أن يموت زوجي ولي الميراث، وقالت الورثة: لا بل أعتقت بعد موته. أو قالت امرأة مسلمة * وهي يهوديّة أو نصرانيّة بعد موته: أسلمت قبل موته، وقالت الورثة بعد موته فالقول قول الورثة؛ لأنّ هناك الظاهر شاهد للورثة، العتق عارض والإسلام كذلك، والأصل في العوراض: أن يحال حدوثها على أقرب ما ظهر، أمّا ها هنا بخلافه. وإذا طلّق امرأته ثلاثاً في مرض موته ومات وهي تقول: لم تنقضِ عدّتي قُبِلَ قولها مع اليمين وإن تطاولت المدّة؛ لأنّها أمينة أخبرت عما هو محتمل؛ لأنّ مدة العدة قد تطول، فإذا حلفت أخذت الميراث، وإن نلكت فلا ميراث له كما لو أقرت بانقضاء العدّة، ثمَّ أنكرت الانقضاء وإن لم تقل شيئاً ولكنها تزوّجت بزوج آخر في مدّة تنقضي في مثلها العدّة، ثمَّ قالت: لم تنقضِ عدّتي من الأوّل، فإنّها لا تصدّق على الثاني، وهي امرأة الثاني، ولا ميراث لها من الأوّل وجعل إقدامها على التزوّج إقراراً منها بانقضاء عدتها دلالة، ولو لم يتزوّج ولكن قالت: أيست من المحيض، وَاعْتَدَتُّ بثلاثة أشهر ثمَّ مات الزوج وحرمت عن الميراث ثمَّ تزوجت بعد ذلك بزوج وجاءت بولد أو حاضت فلها الميراث من الأوّل ونكاح الآخر فاسد. ولو جاءت الفرقة من المرأة في مرضها أو في حال طلّقها ترث، ويرث الزوج منها؛ لأن حقّ الزوج يتعلّق بمالها في مرضها، كما أنَّ حقّ المرأة يتعلّق بما في مرضه، فكما يمنع الزوج عن إبطال حقّها، وتردّ عليه إبطاله في حقّها فكذا يردّ على المرأة إبطالها حقّ الزوج، ويبقى النكاح في حقّ ميراثه عنها. فإنْ قيل: كيف يمكن إبقاء النكاح مع الردّة، والردّة تنافي النكاح. قلنا: الردّة تنافي الحلّ أما لا تنافي الميراث، فإنَّ المسلم يرث من المرتدّ فيمكن إبقاء النكاح في حقّ الميراث إن كان لا يمكن إبقاؤه في حقّ الحلّ. قال محمّد رحمه الله في «الجامع» : رجل قال لامرأتين له في مرض موته وقد.......: طلّقا أنفسكما ثلاثاً، فطلقت إحداهما نفسها وصاحبتها في المجلس ثلاثاً ثمَّ طلقت الأخرى نفسها، وصاحبتها في المجلس ثلاثاً طلقتا ثلاثاً وترث التي طلقت أخيراً، ولا ترث التي طلقت أوّلاً. هذا الجنس من المسائل ينبني على أصول:

أحدها: أنّ المرأة إذا باشرت علّة الفرقة أو شرط الفرقة لا ترث، وكذلك إذا باشرت أحد وصفي العلّة وهو آخرهما أو باشرت إحدى العلتين لا ترث، وهذا لأنّ الحكم يضاف إلى العلّة ثبوتاً بها وإلى الشرط وجوداً عنده، فتصير المرأة بمباشرة أحدهما راضية بوقوع الطلاق عليها مقروناً بسبب الطلاق، فلا ترث، وكذا إذا باشرت أحد وصفي العلّة وهو آخرهما وجوداً، وباشرت إحدى العلتين لما عرف أنّ الحكم يضاف إلى أحد الوصفين، وعند اجتماع العلل يضاف الحكم إلى كلّ علّة كأنّه ليس معها علّة أخرى كالقتل العمد الموجود من القاتلين وما أشبه ذلك، فتصير المرأة أيضاً راضية بالطلاق، ومتى باشرت بعض الشرط أو بعض العلَّة أو أحد وصفي العلّة * وهو ليس آخرهما وجوداً * ترث؛ لأنَّ الحكم لا يضاف إليه ثبوتاً به، ولا وجوداً عنده فيما باشرته، ولا تصير المرأة راضية بالفرقة. وأصل آخر: أنّ الأمر بالطلاق في حقّ المرأة المأمورة بطلاق نفسها تمليك وتفويض حتّى يقتصر على المجلس، وقد مرّ بيان هذا فيما تقدّم. وأصل آخر: أنّ المأمورين بالطلاق بغير بدل إذا لم يكن الأمر معلّقاً بمسببهما، أو ما أشبهه ذلك يتفرّد أحدهما به؛ لأنّه تصرّف لا يحتاج فيه إلى الرأي والتدبير، فيكون الواحد والمثنى فيه سواء. إذا عرفنا الأصول جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: إذا طلقت الأولى نفسها وصاحبتها ثلاثاً في المجلس طلقتا؛ لأنّهما أمرتا بالطلاق بغير بدل ولم يعلّق الأمر بشرط، فتنفرد إحداهما بالإيقاع، ومتى طلقت كلُّ واحدة ثلاثاً بإيقاع الأولى لغى إيقاع الثانية؛ لأنّ الطلاق لا يزيد على الثلاث ولا ترث التي طلقت أوّلاً؛ لأنها لم تباشر علّة الفرقة في حقّها، وترث التي طلقت آخراً؛ لأنّها لم تباشر علة الفرقة ولا شرط الفرقة ولا أحد وصفي علّة الفرقة وهو آخرها، أكثر ما فيه أنَّ قول الآخرة: طلقت نفسي ثلاثاً رضاً منها بوقوع الفرقة، إلا أنَّ هذا رضاً لا يقترن بوقوع الفرقة بل تأخّر عنه، ومثل هذا الرضا لا يبطل حقّها عن الإرث كما لو طلّق الزوج امرأته في مرضه بغير سؤالها، فسألته الطلاق بعد ذلك لا يبطل حقّها عن الإرث بهذا السؤال كذا هذا. ولو خرج كلامهما معاً بأن قالت كلُّ واحدة منهما ... ؛ لأن وقوع الطلاق على كلّ واحد منهما بإيقاعها على نفسها؛ لأنّ كلّ واحدة منهما مطلقة نفسها بحكم الملك وصاحبها بحكم الوكالة، فاجتمع في حقّ كلِّ واحدة منهما تطليقها وتطليق صاحبتها ولا يمكن الجمع بينهما؛ لأنّ الطلاق لا يزيد على الثلاث، فلا بدَّ من تنفيذ إحداهما، فنقول: تنفيذ تطليق المالك أولى؛ لأنّ تطليق المالك أسبق لأنّ في التوكيل يحتاج إلى نقل عبارة الوكيل إلى الموكّل، وفي تصرّف المالك لا يحتاج إلى النقل، بل يتقيّد بنفسه فكان تطليق المالك أسبق من هذا الوجه، ولما كان وقوع الطلاق على كلّ واحدة منهما بإيقاع نفسها صارت كلّ واحدة منهما مباشرة علّة الفرقة، فلم يرثا لهذا.

وإن قالت كلُّ واحدة منهما: طلقت صاحبتي ونفسي، لم يذكر محمّد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» وحكي عن أبي الحسن الجقمي رحمه الله أنّهما يرثان، لأنّ كلَّ واحدة منهما إنّما طلقت بفعل صاحبتها، وفعل صاحبتها لا أثر له في حرمانها، وعامّة المشايخ رحمهم الله على أنّهما لا يرثان؛ لأنّ كلّ واحدة منهما إنّما طلقت بفعل نفسها. بيانه: أنَّ أوّل الكلام يتوقف على آخره إذا وجد في آخره ما يغيّر حكم أوّله، وقد وجد في آخر كلام كلّ واحدة منهما ما (278ب1) تغيير حكم أوله؛ لأنّ كلّ واحدة لو اقتصرت على قولها: طلقت صاحبتي تطلق كلّ واحدة بتطليق صاحبتها وترثان، فإذا.... قولها: ونفسي فإنما تطلق كلَّ واحدة منهما بتطليق نفسها لما مرَّ، فتوقّف أوّل الكلام من كلّ واحدة على آخره، فصار هذا وما لو قالت: كل واحدة: طلّقت نفسي وصاحبتي سواء. ولو طلّقتها إحداهما بأن قالت إحداهما: طلّقت نفسي، وقالت الأخرى: طلقتك، طلقت هي ولا ترث؛ لأنها إنما طلقت بفعل نفسها، فقد باشرت علّة الفرقة وورثت الأخرى؛ لأنّها لم تطلق، بل بقيت منكوحة. وإن طلقتهما إحداهما بأن قالت إحداهما: طلّقت نفسي وصاحبي طلقتا ولم ترث هي؛ لأنّها حرّمت بفعلها وورثت الأخرى؛ لأنّها حرمت بفعل غيرها، فإن قالت إحداهما: طلّقت صاحبتي ثلاثاً ثمَّ قالت صاحبتها بعد ذلك: طلّقت نفسي ثلاثاً ورثتا؛ لأنّ التي تكلّمت أوّلاً لم تطلق أصلاً والتي تكلّمت آخراً حرمت بفعل غيرها، وإن طلقت كلّ واحدة صاحبتها ورثتا؛ لأنّ كلَّ واحدة طلقت بفعل غيرها. وهذا كلّه إذا كانتا في المجلس. فأمّا إذا قامتا عن المجلس ثمَّ طلقت كلّ واحدة منهما نفسها وصاحبتها ثلاثاً وخرج الكلامان منهما معاً أو على التعاقب طلقتا وورثتا؛ لأنّ الأمر والتفويض خرج من يد كل واحدة منهما بالقيام عن المجلس، وبقيت الوكالة فصار وقوع الطلاق على كلّ واحدة منهما مضافاً إلى صاحبتها على كلّ حال، فلذلك ورثتا، وكذلك لو طلقت كلّ واحدة منهما صاحبتها، ولو طلقت كلّ واحدة منها نفسها لا يقع الطلاق؛ لأنّ الأمر خرج من يد كلّ واحدة منهما في حقّ نفسها، وإذا لم يقع الطلاق بقيتا منكوحتين فترثان. ولو قال لهما في مرضه: طلّقا أنفسكما ثلاثاً إن شئتما، وقد دخل بهما فطلقت إحداهما نفسها وصاحبتها ثلاثاً لم تطلق واحدة منهما، بخلاف ما إذا قال: طلّقا أنفسكما ثلاثاً ولم يقل: إن شئتما، فطلقت إحداهما نفسها وصاحبتها حيث تطلقان؛ لأنّ في هذه المسألة علّق التفويض بمشيئتهما، ولم يذكر لذلك سبباً، فانصرف السّابق ذكره وهو طلاقهما كأنه قال: طلّقا أنفسكما إن شئتما طلاقكما، وما شاءتا طلاقهما إنّما شاءت إحداهما ذلك. أمّا في المسألة الأولى التفويض غير معلّق بالشرط، وفي هذا ينفرد أحد

المأمورين بالإيقاع، فلو أنّ في هذه المسألة طلقت الأخرى بعد ذلك نفسها وصاحبتها ثلاثاً قبل القيام عن المجلس طلقتا؛ لأنّهما شاءتا طلاقهما وورثت الأولى دون الأخرى، بخلاف المسألة الأولى، فإنَّ في المسألة الأولى ورثت الآخرة دون الأولى؛ لأنّ في المسألة الأولى الأولى ثابت بفعل نفسها، والآخرة ثابت بفعل الأولى، أمّا في هذه المسألة الأولى والآخرة ثابتان بفعل الآخرة؛ لأنّها باشرت أحد وصفي العلّة، فكان حريتهما مضافة إلى الآخرة فلهذا ورثت الأولى دون الآخرة. ولو خرج كلامهما معاً وباقي المسألة بحالها طلقتا وورثتا؛ لأنّ كلّ واحدة منهما باشرت بعض العلّة ولم يوجد شيء من ذلك آخراً لينسب إليه، فلا يضاف الوقوع إلى واحدة منهما على سبيل الانفراد. ولو طلقتا إحداهما لم تطلق، ولو قامتا عن المجلس وطلقت كلُّ واحدة منهما نفسها وصاحبتها معاً أو على التعاقب لم يقع الطلاق على واحدة منهما؛ لأنّ الأمر كلّه معلق بالمشيئة فكان كلّه تمليكاً، فيبطل بالقيام عن المجلس. رجل قال في مرض موته لامرأتين له وقد دخل بهما: أَمْرُكُمَا بيدكما، يريد به: الطلاق، فطلقت إحداهما نفسها وصاحبتها في المجلس ثمَّ طلقت الأخرى بعد ذلك نفسها وصاحبتها في المجلس طلقتا، وورثت الأولى إن مات الزوج وهي في العدّة، ولا ترث الآخرة؛ لما مر في مسألة المشيئة في إضافة الحكم إلى الوصف الأخير، وذلك موجود في الآخرة. وإن طلقتا إحداهما طلقت بخلاف مسألة المشيئة، فإنّ هناك إذا طلقتا إحداهما لا تطلق؛ لأنّ هناك فوّض الطلاق إليهما معلّقاً بشرط مشيئتهما طلاقهما، ولا يوجد هذا الشرط باجتماعهما على طلاق إحداهما، أمّا في هذه المسألة التفويض مطلق غير معلّق، لكن طلب الرأي والتدبير منها، فإذا اجتمعتا على طلاق إحداهما فقد وجد رأيهما، بعد هذا ينظر إن تكلمتا معاً ورثت المطلقة؛ لأنّ البينونة مضافة إليهما لا إلى المطلقة وحدها، وكذلك إن بدأت المطلقة بطلاق نفسها ثمَّ طلقتها الأخرى ترث أيضاً؛ لأنّ البينونة مضافة إلى صاحبتها لمباشرتها الوصف الأخير، وإن بدلت الأخرى ثمَّ المطلقة لم ترث المطلقة، وإن طلقتهما إحداهما لم يقع، فإن قامتا عن المجلس بطل ذلك كلّه يقع بعد ذلك طلاق بحال....... هذا الأمر. ولو قال في مرضه لامرأتين له، وقد دخل بهما: طلّقا أنفسكما بألف درهم، فالأصل في هذا ما مر أنَّ الأمر بالطلاق في حقّ المأمورة بالطلاق تفويض، وفي حقّ صاحبتها توكيل، إلا أنَّ في هذه المسألة لا تنفرد إحداهما بالإيقاع؛ لأن الأمر بالطلاق على مال بالمعاوضة، والأصل في المأمورين بالمعاوضة أن لا ينفرد أحدهما بها على ما عرف.

إذا ثبت هذا فنقول: لو طلقت كلُّ واحدة منهما نفسها وصاحبتها وخرج الكلامان معاً طلقتا لاجتماعهما على تطليق كلُّ واحدة منهما، ولا ترثان؛ لأنّ كلّ واحدة منهما إنما تلتزم البدل بمقابلة طلاق نفسها، لا بمقابلة طلاق صاحبتها، والتزام البدل بمقابلة طلاق نفسها يكون رضاً منها بطلاقها، والرضا بالطلاق مقارناً للطلاق يوجب حرمان الإرث، بخلاف الفصل الثاني والثالث؛ لأنّ هناك الرضا لم يثبت باعتبار وجوب البدل. لو ثبت إنّما يثبت باعتبار أنّها ثابت بفعلها، وكلُّ واحدة ثابت بفعلها وفعل صاحبتها فلا يثبت الرضا من كلّ وجه. وكذلك إذا خرج كلامهما على التعاقب لا يرثان أيضاً؛ لأنّ امتناع الإرث ها هنا بسبب الرضا الثابت مقتضى البدل، وفي حقّ هذا المعنى لا تفاوت بينهما إذا خرج الكلامان معاً أو على التعاقب. وإن طلقتا إحداهما جاز ولم ترث المطلقة تكلمتا معاً أو على التعاقب، وإن قامتا عن المجلس قبل أن قولا شيئاً ثمَّ طلقتا (279ب1) أنفسها لم يقع شيء وورثتا. قال في «الجامع الصغير» : إذا قال: طلقتك ثلاثاً في حجّتي، وانقضت عدّتك وصدّقته المرأة، ثمَّ أقرّ لها بدين أو أوصى لها بوصيّة فلها الأوّل من ذلك ومن الميراث. وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله: إقراره ووصيّته جائزة؛ لأن بتصادقهما ثبت الطلاق، وثبت انقضاء العدّة والتحقت هي بالأجنبيّات، ولهذا ثبت أحكام الأجنبيات في حقّها حتّى لو تزوّجت آخر يجوز، ويبطل حقّها في النفقة والسكنى، ويجوز وضع الزكاة فيها، وتقبل شهادته لها، والإقرار للأجنبي صحيح، والوصيّة له صحيحة. ولأبي حنيفة رحمه الله: أنّه تمكنت التهمّة في هذا التصادق، وشبهة الظلم في هذه الوصية يجوز أنهما تصادقا على ذلك ليبطل الميراث، فيصحّ الإقرار والوصيّة فيزداد حقّها، والنكاح سبب التهمة، فيعتبر تصادفهما في حقّهما ولا يعتبر تصادقهما في حقّ غيرهما؛ لأنّ التهمة تتأتى في حقّ غيرهما. إذا ثبت هذا فنقول: إذا كان الميراث أكثر من الوصيّة والمقرّ به فلا تهمة؛ إذ ليس فيه إبطال حقّ على الغير، فيعتبر تصادقهما فيه، وإذا كانت الوصية والمقرّ به أكثر ففي حقّ الزيادة تهمة، فلا يعتبر تصادقهما في حقّ الزيادة، وبدون تصديقها إيّاه لا يرتفع النكاح فيما يرجع إلى الطلاق حقّها في الإرث، فبقي الإرث، ومع بقاء الإرث لا يصحّ الإقرار والوصيّة، وأمّا ما ذكر من الأحكام قلنا: تلك الأحكام ثبتت بتصادقهما؛ لأنه لا تهمة فيها إذ ليس فيها ضرر على أحد بخلاف الإقرار والوصية. فإن طلّقها في مرضه بأمرها ثمَّ أقرّ لها بدين أو أوصى لها بوصيّة فلها الأقلّ من الميراث ومن الوصية في قول علمائنا الثلاثة، وفي قول زفر: الإقرار والوصيّة لها جائز؛ لأنّ المانع من جوازهما الميراث، وقد بطل الميراث بسؤالها الطلاق، ولنا ما بيّنا من التهمة من حيث إنّه يجوز أنّها قصدت بالسؤال تصحيح الإقرار والوصيّة، فرددنا سؤالها لهذه التهمة، وأقيمت العدّة مقام النكاح في حقّ الحجر عن الوصية والإقرار، بخلاف المسألة

الفصل الحادي عشر: في التعليقات التي هي إيقاع في الحال معنى بطريق المجازات

الأولى على قولها؛ لأنّ ثمّة ثبت وقوع الطلاق في حالة الصحّة بتصادقهما، وثبت انقضاء العدّة محال، وما أقرّ سبب التهمة لم يوجد، وهو النكاح والعدّة، أمّا ها هنا بخلافه، وأبو حنيفة رحمه الله يجيب عن كلامهما في تلك المسألة، ويقول: الزوج متهم في إقراره بالطلاق في حالة الصحّة، فرددنا إقرارها في حقّ صحّة الإقرار والوصية بالزيادة. الفصل الحادي عشر: في التعليقات التي هي إيقاع في الحال معنى بطريق المجازات إذا قالت المرأة لزوجها: «بامه» ،.... أو قالت ما «قلينان» ، فقال الزوج: إن كنت أنا ... ، فقال أو قال: إن كنت أنا «قلينان» فأنتِ طالق، فحاصل الجواب في هذه المسألة وأجناسها أنّ الزوج ينوي، إن أراد التعليق لا يقع الطلاق ما لم يكن كذلك، وإن أراد المكافأة والمجاراة «وفارسيّة حشم رادن» يقع الطلاق وإن لم يكن الزوج كذلك، ومعنى المجاراة بالعربيّة: أني طلقتك مجاراة على مقالتك هذه، ومعنى «خشم رايدن» بالفارسيّة: إنك أغضبتني بهذه المقالة «خشم فيويش باين طريق راندم كه طلاق دادمت» ، وإن لم يكن للزوج نيّة تكلم المشايخ فيه والمختار للفتوى: أنّه إن كان في حالة الغضب يحمل على المكافأة والمجاراة، وإن لم يكن في حالة الغضب يحمل على التعليق وتكلّموا في تفسير القلينان فقيل: أن يكون عالماً بفجور امرأته راضياً به، وقيل أن يكون التلميذ الكبير إلى امرأته، وقيل أن يخلّيها مع الغلام البالغ. ولو قال لها: إن علمت أنّي قلينان فأنتِ طالق، لا يقع الطلاق ما لم يقل: علمت أنّك «فرطبان» ؛ لأنّه علق الطلاق بمعنى في قلبها، فيتعلّق بالإخبار عنه، كما في قوله: إن كنت تحبينني وأشباه ذلك، فإذا قالت لزوجها: يا سفلة، فقال الزوج: إن كنت أنا سفلة فأنتِ طالق وأراد به التعليق لا يقع الطلاق ما لم تكن سفلة. وتكلّموا في معنى السفلة، قال أبو حنيفة رحمه الله: الموت لا يكون سفلة بل السفلة هو الكافر، وعن أبي يوسف أنّ السفلة الذي لا يبالي ما قال وما قيل له، وعن محمّد بن الحسن رحمه الله: أنَّ السفلة الذي يلعب بالحمام، ويقال عن خلف بن الأيّوب رحمه الله: أنّ السفلة الذي يرفع الدلّة من الدعوة، وقيل: هو الذي لا يعطي النائبة في قُوّتِهِ، وعن أبي عبد الله البلخي: هو الذي يشتم أباه وأمّه ويقرأ القرآن في الطريق، وعن ابن المبارك: هو الذي يتسفّل لتعجرفه، وقيل هو الطفيلي، وقيل: هو الذي يختلف باب القضاة، وقيل: هو الذي يطعم أهله مع الإمكان خبز الشعير ولحم البقر في موضع لا يعتاد ذلك.

الفصل الثاني والعشرون: في مسائل الرجعة

وفي «المنتقى» : رواية مجهولة أنّ السفلة الخسيس في عقله ودينه، والساقط قد يكون على الحسب، وعلى ما وصفت لك من الخسيس في العقل والدّين، وقيل في تفسير «بي حميت» : أن لا يمنع امرأته عن كشف الوجه عن غير المحارم، وهكذا حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله أيضاً: أنّ الموت لا يكون بأحد أمور، ألا ترى أنّه يأتي بكلمة الشهادة، ويدعو في صلاته للمؤمنين والمؤمنات، وإذا قال لها: «آكرمن دوزجي أم ترا طلاق» لا تطلق؛ لأنه لا يدري هل هو «دوزخي» أم لا، فإن قيل: أليس أن كل أحد يدخل النّار، قلنا: المسلم بدخول النار لا يسمّى دورخيا، وإنَّ وطئه فيها مستعار. إذا قالت المرأة لولدها: «أي ثلاثة زاده» ، فقال الزوج: إن كان هو ثلاثة زاده فأنتِ طالق وأراد به التعليق لا تطلق في الحكم؛ لأنّه لا يعرف كونه ثلاثة زاده فيما بين النّاس، وإن علمت المرأة أنّه ربا طلقت ولا يسعها المقام معه، وقيل في تفسير الكرخي: أن يشهر به، ويضحك عليه، وهو ضعيف في رأيه، وقال الكرخي: من له امرأة عفيفة صالحة أراد أن يتزوّج عليها أخرى، قيل في تفسير (أبله ريش) : أن تكون له لحية طويلة جاوزت عن الحدّ حتّى صارت عاراً، وقيل في تفسير «رغباريس» أن يكون له مع اللحيّة صدغان، والتامس: الذي لا يهتدي إلى الخير، ولا يسترشده. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنّه سئل عن الكوسج فقال: بعد أسنانه، فإن (280أ1) كانت اثنتين وثلاثين، فهو ليس بكوسج؛ لأنّه إذا كان بهذه الصفة كان وافر الخدين، فإن كانت أسنانه ثمانية وعشرين فهو كوسج؛ لأنّه إذا كان بهذه الصفة كان ينضم الخدين، وقيل: إذا كنت لحيته خفيفة فهو كوسج؛ لأنّ الناس تعارفوا إطلاق اسم الكوسج على مثل هذا. وقيل في تفسير الكشحان: هو الذي لا يبالي عمّا اتهمت زوجته بأجنبي، ومعناه: أنّه إذا سمع ذلك لا يغضب، ولا يتغيّر عن حاله، ولا يضربها ولا يلومها على ذلك، فأمّا إذا ضربها على ذلك فهو ليس بكشحان. امرأة قالت لزوجها: إنّك تقنت ولا تجلب إليّ النفقة، فغضب الزوج وقصد ضربها، فقالت: ليس هذا بكلام عظيم، فقال الزوج: إن لم يكن عظيماً فأنتِ طالق وأراد التعليق، فقيل في الجواب: إنّ الزوج إن كان إذا قدر بحيث تكون هذه الشكاية إهانة به لا يقع الطلاق؛ لأنّ هذه الشكاية من قبل هذا الشخص تكون كلاماً عظيماً فأبت، وإن كان دون ذلك يقع الطلاق؛ لأنّ هذه الشكاية من مثل هذا الشخص لا تكون كلاماً عظيماً. الفصل الثاني والعشرون: في مسائل الرجعة إذا أراد الزوج أن يرجع امرأته فالأحسن أن يراجعها بالقول لا بالفعل؛ لأنّ صحّة المراجعة بالقول متفق عليها، وصحّة المراجعة بالفعل مختلف فيها، ويستحب أن يُعلمها

بالرجعة، وإن لم تعلم جازت الرجعة عندنا استدامة للعلم وليست......، فكان الزوج بالرجعة متصرّفاً من خالص حقّه، وتصرّف الإنسان في خالص حقّه لا يتوقف على علم الغير، ولكن استحب الإعلام كيلا تقع في المعصية، فإنّها ربما تتزوّج إذا انقضت عدّتها بناءً على زعمها فتقع في المعصية.f والجماع في العدّة رجعة، وكذلك التقبيل واللمس بشهوة، وكذلك النظر إلى الفرج بشهوة، وهذا لأنّه لو لم يجعل ذلك رجعة تظهر في الآخرة أنّه وطئها حراماً؛ لأنّها تبين عند انقضاء العدّة من وقت الطلاق، والتحرّز عنه ممكن بأن يجعل ذلك من الزوج دليل استدامة الملك بهذا الطريق، قلنا: إنّ البائع يشترط الخيار له إذا وطىء الجارية المبيعة في مدة الخيار كان ذلك منه استدامة ملكه، وإذا ظهر الكلام في الوطء ظهر في التقبيل واللمس والنظر إلى الفرج؛ لأنّ هذه الأشياء دواعي الوطء فيعطى لها حكم الوطء، وقيّد شيخ الإسلام النظر بالنظر إلى داخل الفرج، وأمّا النظر إلى دبرها موضع الجماع........ بغير شهوة لم يكن رجعة في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله، هكذا ذكر القدوري؛ لأنّ هذا السبيل عنده لا يجري مجرى الفرج، ألا ترى أنّ الوطء فيه لا يوجب الحدّ عنده، فكان النظر إلى هذا الموضع والنظر إلى سائر الأعضاء سواء. في «نوادر ابن رستم» عن محمّد رحمه الله: لا يصير النظر إلى الدّبر رجعة، ولا يصير رجعة إلا النظر إلى الفرج من داخل، ويكره أن يراها متجرّدة إذا لم يرد الرجعة، وكذلك يكره التقبيل واللمس بغير شهوة؛ لأنّه لا يأمن أن يشتهي، فيصير مراجعاً لها، وإذا لم يكن من قصده الرجعة يطلّقها من ساعته، فيؤدّي إلى تطويل العدّة عليها، وذلك منهيّ. وإن كانت المرأة قبّلته بشهوة أو لمسته بشهوة، أو نظرت إلى فرجه بشهوة، فإن كان ذلك بتمكين من الزوج فهو رجعة، ومعنى تمكين الزوج ههنا: أنّ الزوج علم ذلك منها، فتركها حتّى فعلت ذلك، وإن فعلت ذلك اختلاساً لا بتمكين من الزوج ذكر شمس الأئمة السرخسي وشيخ الإسلام خواهر زاده أنّ قول أبي حنيفة ومحمّد رحمهما الله: يصير مراجعاً، خلافاً لأبي يوسف رحمه الله، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنّ على قول أبي حنيفة رحمه الله يصير مراجعاً، وعن محمّد رحمه الله فيه روايتان، والظاهر من قول أبي يوسف أنّه مع أبي حنيفة رحمه الله تماماً تثبت الرجعة بفعلها إذا أقرّ الزوج أنّها فعلت ذلك بشهوة، فأمّا إذا أنكر الزوج الشهوة والمرأة ادّعت ذلك لا تثبت الرجعة، وكذلك لو شهد شهود أنّها فعلت ذلك بشهوة لا تثبت الرجعة؛ لأنّ بالرجعة الشهود لا يعرفون الشهوة إلا بقولها، وقولها غير مقبول إذا أنكر الزوج ذلك. قال محمّد بن سماعة في «نوادره» عن محمّد رحمهما الله: لو شهد الشهود على القبلة واللمس بشهوة لا أقبل شهادتهم، فالشهوة غيب لا تجوز الشهادة عليها، وذكر في

نكاح «الجامع» : أنّ الشهادة على اللمس والتقبيل بشهوة جائزة، وفي «القدوري» : أنّ فعل المرأة لا تثبت به الرجعة عند محمّد رحمه الله، وفي رواية ابن سماعة: أن فعلها رجعة إذا صدّقها الزوج في الشهوة، أو مات الزوج وصدّقها ورثة الزوج، فصار عن محمّد رحمه الله روايتان كما ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. قال في «نوادر ابن سماعة» : وكذلك لو قبلته وهو نائم أو معتوه، ثمَّ مات وصدّقها الورثة في الشهوة، وعن أبي يوسف رحمه الله في «الأمالي» : أنّ المرأة إذا لمسته بشهوة، وأقرّ الزوج أنّها فعلت بشهوة فإنَّ أبا حنيفة رحمه الله قال: هذه رجعة، وإن نظرت إلى فرجه بشهوة فإنّي لا أحفظ فيها قولاً، وهو في القياس مثل ذلك، ولكن هذا فاحش قبيح لا يكون رجعة. وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا لمس أو قبّل في الصلاة بشهوة فهو رجعة، ولا تفسد صلاته. ولو كان الرّجل وإن نظر إلى الفرج من شهوة فهو رجعة، ولا تفسد صلاته، ولو كان الرّجل في الصلاة وما فعلت ذلك فالقياس على الرجعة أن تنقض صلاته، قال: والصلاة وما....... سواء يعني الرجعة، وهو في الصلاة أقبح، وقال أبو يوسف: إذا تركها تقبّله وتباشره فهذه رجعة في الطلاق ونقض للصلاة، وإن فعلته اختلاساً وهو........ لم يكن رجعة ولا نقضاً للصلاة، ولو ... أنّه وهو مكره ثمَّ تركها دائمة عليه، فهو رجعة لا نقضاً. وفي «نوادر هشام» عن محمّد رحمهما الله: إذا قال لامرأته: إذا جامعتك فأنتِ طالق، فجامعها قال: قال أبو يوسف: إذا أخرج ذكره ثمَّ أدخله فهو رجعة، وكذلك إذا قال لها: إن لمستك فأنتِ طالق، فلمسها فإذا رفع يده عنها ثمَّ أعادها فلمسها ثانياً فهو رجعة، فقال محمّد رحمه الله: إذا مكث هنيهة بعد ما جامع وإن لم يخرج ذكره فهو رجعة، وكذلك في اللمس (280ب1) إذا لم يرفع يده هنيهة. والخلوة بالمعتدة ليست برجعة، لأنَّها لا تختص بالملك، وكلّ فعل لا يختص بالملك بالمعتدة إذا فعل الزوج لا يكون رجعة، وتعليق الرجعة بالشرط باطل؛ لأنّ الرجعة استدامة ملك النكاح فيعتبر بابتدائه، وليس في الرجعة مهر ولا عوض لما ذكرنا أنّ الرجعة استدامة الملك. والعوض يقابل ثبوت الملك لا استدامته، والمعتدة من الطلاق الرّجعي تتزين لزوجها إذا كانت المراجعة مرجوة، فأما إذا كانت المرأة تعلم أنّها لا يراجعها لشدة غضبه عليها فإنّها لا تفعل ذلك، وإذا كان من شأنه أن لا يراجعها فالأحسن أن يعلمها بدخوله عليها إمّا بالتنحنح أو تحقق الفعل؛ لأنّ الدخول عليها ليس بمباح ولكن لأنّ المرأة في بيتها تكون في ثياب مهنتها فربّما يراها متجرّدة، ويكره له أن يراها متجرّدة إذا لم يكن من شأنه الرجعة. وإذا كان الطلاق بعد الخلوة والزوج يقول: لم أدخلها فلا رجعة له عليها، فالخلوة

ما أقيمت مقام الوطء في حقّ المراجعة؛ لأنّ ذلك حقّ الزوج. ادّعى الزوج الدخول بها وقد خلا بها، فله الرّجعة، وإن لم يكن خلا بها فلا رجعة له. وإذا قال لمعتدته: راجعتك أمس، وكذبت فالقول قوله، ولو كان ذلك بعد انقضاء العدّة، فالقول قولها؛ لأنّ في الفصل الأول. .... تملك استئنافه في الحال، فلا يتهم بالكذب، ولا كذلك في الفصل الثاني ولا يمين عليها في قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله: عليها اليمين. ولو قال لها: راجعتك فقالت مجيبة له: قد انقضت عدّتي، فالقول قول الزوج عندهما، والقول قولها عند أبي حنيفة رحمه الله مع اليمين وإنّما وجبت اليمين عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن كان الاستحسان لأجل النكول، والنكول بدل عند أبي حنيفة رحمه الله والبدل لا يجرىء في الانقضاء؛ لأنّها أمينة في الإخبار عمّا في رحمها، والأمينة تستحلف لنفي التهمة، فإذا نكلت عن اليمين فقد حقّقت التهمة فلم يبق قولها حجة مكان التهمة، فبقي حقّ الرجعة لانعدام دليل الانقضاء، لا بسبب النكول الذي هو بدل عند أبي حنيفة رحمه الله، فأمّا إذ قال لها: طلقتك، فقالت مجيبة له: قد انقضت عدّتي، فقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه، منهم من قال: القول قولها عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: القول قول الزوج كما في تلك المسألة، ومنهم من قال: القول قولها بالاتفاق في هذه المسألة، ولا يقع الطلاق، ومنهم من قال: القول قول الزوج بالاتفاق، ويحكم بوقوع الطلاق، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وهو الأصح. إذا قال لمنكوحته: إن راجعتك فأنتِ طالق، ينصرف يمينه إلى الرجعة الحقيقيّة لا إلى العقد حتى (إن) طلّقها ثمَّ تزوجها لا تطلق ولو راجعها تطلق. ولو قال لأجنبيّة: إن راجعتك فعبدي حرٌّ ينصرف يمينه إلى العقد؛ لأنّ في الأجنبيّة العمل بالحقيقة غير ممكن فينصرف يمينه إلى المجاز، وفي المنكوحة العمل بالحقيقة ممكن فلا ينصرف يمينه إلى المجاز. إذا تزوّج المطلقة طلاقاً رجعيّاً يصير مراجعاً لها، وقال الصدر الشهيد رحمه الله في الباب الأوّل من «واقعاته» : هو المختار؛ لأنّ العمل بحقيقة الرجوع إن لم يكن أمكن العمل بمجازه بأن يجعل مجازاً عن الرجعة. وكتبت في «المستزاد» أنَّ على قول محمّد رحمه الله يصير مراجعاً، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يصير مراجعاً. قال لمطلقته طلاقاً رجعيّاً: أنت عندي كما كنت، أو قال: أنت امرأتي، فإن نوى الرجعة يصير مراجعاً، وإن نوى في حكم الميراث وغيره أو لم تكن له نيّة لا يصير مراجعاً في هذا الموضع أيضاً. قال لمطلقته طلاقاً رجعياً: إن راجعتك فأنتِ طالق ثلاثاً، فانقضت عدّتها ثمَّ تزوّجها لا تطلق ولو كان الطلاق بائناً تطلق، لأنّ في الوجه الأوّل: المحلّ يقبل حقيقة

الرجعة فانصرفت إليه ولم يوجد، وفي الوجه الثاني: لا تقبل فانصرفت إلى الرجعة مجازاً وهو النكاح. رجل طلّق امرأته طلاقاً رجعيّاً، فذهب إلى بيت أبيها، فقال الزوج: «إن رقية بارا وردمت» إن عنى به الرجعة يصحّ. وفي «فتاوى الأصل» : إذا طلّق امرأته طلاقاً رجعيّاً ثمَّ راجعها وقال: زدّت في مهرك لا يصحّ لأن الزيادة مجهولة، ولو قال: راجعتك بهذا ألف درهم إن قبلت المرأة ذلك صحّ وما لا فلا؛ لأنّ هذه زيادة في المهر فيشترط قبولها، وهذا بمنزلة ما لو جدّد في النكاح، وإذا انقضت العدّة فقد بطل حقّ المراجعة، وإنّما يعرف انقضاء العدّة: إذا كانت المرأة من ذوات الأشهر، بأن كانت آيسة أو صغيرة بمعنى ثلاثة أشهر، وإن كانت من ذوات الأقراء فإن كان حيضها عشراً فجرى انقطاع الدّم، وإن كان أيّام حيضها أقلّ من عشرة فحين تغتسل أو يمضي عليها وقت صلاة كامل، بل تيمّمت بأن كانت مسافرة لم تنقطع الرجعة لمجرّد التيمم في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إلا إذا صلّت به، وقال محمّد وزفر رحمهما الله: تنقطع الرجعة بمجرّد التيّمم، فإن شرعت في الصلاة لا يحكم بانقطاع الرجعة عندهما ما لم تفرغ من الصلاة، هو الصحيح من مذهبها، وإن تيّممت وقرأت القرآن أو مسّت المصحف أو دخلت المسجد ففيه اختلاف المشايخ رحمهم الله، وفي «القدوري» : وأمّا...... فالرجعة في حقّها تنقطع بمجرّد انقطاع الدّم وإن كان أيّام حيضها دون العشرة. ولو اغتسلت المعتدة وبقي عضو واحد لم يصبها الماء فالرجعة قائمة استحساناً ثمَّ قال في بعض النسخ: سواء كان الباقي يداً أو رجلاً أو شعراً، فقد سوّى بين الشعر وغيره، قال بعض مشايخنا رحمهم الله: المراد منه منابت الشعر وأصله لا أطراف الشعر. وقال بعضهم رحمهم الله: المرادكلّ الشّعر بناءً على أنَّ الجنب أو الحائض إذا اغتسل وأصاب الماء منابت الشعر وأصله إلا أنّه لم يصل أطرافه هل يكفها ذلك من الاغتسال؟ ففيه اختلاف المشايخ، وعن أبي حنيفة رحمهم الله فيه روايتان، وإن كان أقلّ من ذلك يعني أقلّ من العضو، وذلك نحو الأصبع واللمعة فلا رجعة استحساناً. والفرق: أنَّ انقطاع الرجعة معلّق بالاغتسال، ولم يتمّ الاغتسال في الفصل الأوّل بيقين؛ لأنّ العضو الكامل لا يتسارع إليه الجفاف من الأعضاء، ولا يغفل الإنسان عن معرفة حاله عادة، فدلّ الجفاف على عدم وصول الماء إليه، فلا يتمّ الاغتسال؛ لأنّ اللمعة يتسارع إليها الجفاف قبل سائر الأعضاء، فيحتمل أنّ الماء وصل إليها فتنقطع الرجعة، ويحتمل أنّه لم يصل فلا تنقطع الرجعة، فيعتبر الماء واصلاً إليها في حقّ انقطاع الرجعة دون إباحة الصلاة، وإباحة تزوّج آخر احتياطاً حتّى لو تيقّنت هي بعدم وصول الماء إليها بأن منعت عنها قصداً لا تنقطع الرجعة، بخلاف العضو الكامل على ما مرّ، ولو تركت المضمضة

والاستنشاق فالرجعة قائمة عند أبي حنيفة، وقالا: تنقطع الرجعة ولا تحل للأزواج، فإن كان الباقي أحد المنجزين فالرجعة باقية بالاتفاق. وفي «القدوري» : لو اغتسلت بسؤر الحمار فقد انقطعت الرجعة، ولا تحلّ للأزواج، وإذا طلّق امرأته طلاقاً رجعيّاً فليس له أن يسافر بها، والسفر بها ليس برجعة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأنّه لا يختص بالملك، وليس لها أن تخرج بنفسها أيضاً لسفر وما دونه سواء؛ لأنّ النصّ المحرّم بخروجها مطلق غير مقيّد بالسفر، قال الله تعالى: {يأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَآء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} (الطلاق: 1) والمراد من النصّ الطلاق الرجعي، بدليل ساقه وهو قوله تعالى: {يأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النّسَآء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} (الطلاق: 1) إلى قوله: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} . قال في «الجامع الصغير» : وإذا طلّق امرأته وهي حامل أو ولدت منه، وقال لمّا جامعها فله عليها الرجعة لأنّا قضينا ببيان النسب منه وبيان النسب منه دليل وجود الوطء منه، فيثبت الوطء منه حكماً بدليل شرعي، فإذا وجد الوطء منه تأكّد الملك في الرجعي، والملك المتأكّد في الرجعي لا يبطل بنفس الطلاق، فتثبت الرجعة، وقول محمّد رحمه الله في «الكتاب» : أو ولدت منه معناه ولدت منه قبل الطلاق، أمّا إذا ولدت منه بعد الطلاق تنقضي العدّة بالولادة فلا تتصوّر الرجعة. وفيه أيضاً: إذا قال لامرأته: إذا ولدت فأنتِ طالق، فولدت ثم أتت بولد آخر لأكثر من سنتين من ولادة الولد الأوّل ولم تقرّ بانقضاء العدّة فهو رجعة، وكذلك إذا جاءت به لأقل من سنتين من ولادة الولد الأول ولكن لأكثر من سنتين أو لستة أشهر فهو رجعة، أما الفصل الأول لأنها لما جاءت بولد آخر لأكثر من سنتين ولم تقر بانقضاء العدة يجعل الزوج واطئاً إيّاها في العدّة؛ لأنها مسلمة، والظاهر أنّ المسلمة العاقلة لا تزني، فلا يجعل ولد الزنا من زوج آخر؛ لأنّها لم تقرّ بانقضاء العدّة، وأمكن أن يجعل منه بوطء في العدّة، فيجعل كذلك، ويصير بذلك الوطء مراجعاً. وأمّا الفصل الثاني: فلأنّه لا يمكن أن يجعل هذا الولد من علوق سابق على الطلاق؛ لأنّا متى جعلنا هكذا صار مع الولد الأوّل بطناً واحداً، وفي ثبوت اتحاد البطن شكّ إذا كان بين الولدين ستة أشهر فصاعداً، ولا يثبت الاتحاد بالشك، فصار الولد الثاني من علوق حادث بعد الطلاق فيكون رجعة. وذكر في كتاب الدعوى: أنّ المطلقة طلاقاً رجعيّاً إذا جاءت بولد لأكثر من سنتين كان رجعة، فإن جاءت به لأقلّ من سنتين لا تكون رجعة؛ لأنها إذا جاء بالولد لأقلّ من سنتين احتمل العلوق بعد الطلاق فيكون رجعة، واحتمل العلوق قبل الطلاق فلا يكون

الفصل الثالث والعشرون: في مسائل الظهار وكفارته

رجعة فلا تثبت الرجعة بالشك، فأمّا في مسألتنا هذه: هذا الاحتمال ساقط الاعتبار، لأنّ في مسألتنا ولدت ولدين، فلو لم يجعل الثاني وعلوق حادث صار مع الولد الأوّل بطناً واحداً، وفي اتحاد البطن شك على ما مر، فصار العلوق الثاني من وطء حادث بعد الطلاق فيكون رجعة. وفي «الأصل» : إذا قالت المطلقة طلاقاً رجعيّاً: أسقطت سقطاً مستبين الخلق أو بعض الخلق صدقت، ولا رجعة عليها. ولو قالت: ولدت لا يقبل قولها إلا ببيّنة، فإن طلب الزوج يمينها بالله لقد أسقطت سقطاً بهذه الصفة تحلف بالاتفاق، هو الصحيح؛ لأنّ هذا ليس استحلافاً على الرجعة. إذا قال بعد مضي شهرين: قد انقضت عدّتي بالحيض، فقال الزوج أخبرتني أمس أنّها لم تحض، فإن صدّقته ملك الزوج الرجعة، وإن كذبته فالقول قولها مع اليمين، والله أعلم بالصواب. الفصل الثالث والعشرون: في مسائل الظهار وكفارته يجب أن تعلم بأنّ ركن الظهار تشبيه منكوحته بظهر أمّه، بأن يقول لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمّي، فإنه لا يصح الظاهر؛ لأنّ حكم الظاهر ثبت بالنصّ والنصّ خاص في حقّ المنكوحات، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُظَهِرُونَ مِنكُمْ مّن نّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَتِهِمْ إِنْ أُمَّهَتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (المجادلة: 2) وأن تكون المشبه بها محرّمة حرمة مؤبدة، حتّى لو شبّهها بالمحرمة حرمة مؤقتة كالمطلقة ثلاثاً لا يصحّ الظهار؛ لأنّ الأصل في هذا الباب التشبيه بالأم، وحرمة الأمّ ثابتة على سبيل التأبيد، وإذا شبّهها بذوات محارمة كالعمّة والخالة والأخت أو أشبّاههن ممن حرمت عليه برضاع أو صهرية، كأم المرأة وامرأة الأب كان مظاهراً لأن حرمة هؤلاء مؤبّدة. ولو شبّهها بأخت امرأته أو بامرأةٍ لها زوج أو مجوسيّة أو مرتدة لم يكن مظاهراً؛ لأن حرمة هؤلاء غير مؤبدة. ولو شبهها بامرأةٍ زنى بها أبوه أو ابنه فهو مظاهر في قول أبي يوسف رحمه الله، وقال محمد: لا يكون مظاهراً، وهذا بناءً على أنّ حاكماً لو حكم بجواز نكاحها لم ينفذ في قول أبي يوسف، وقال محمّد رحمه الله: ينفذ. وجه البيان: أنّ عند أبي يوسف لمّا لم ينفذ حكم الحاكم علم أنَّ الحرمة مؤبدة نظير حرمة الأم، وعند محمّد لمّا نفذ حكم الحاكم علم أنّ الحرمة مؤقتة، فلا يكون نظير حرمة الأمّ قول أبي يوسف: أنّ الحكم بجواز نكاح هذه حكم بخلاف النصّ، قال الله تعالى {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النّسَآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآء سَبِيلاً} (النساء: 22) والنكاح عبارة عن الوطء. وجه قول محمّد رحمه الله: أنّ

العلماء اختلفوا في حرمة هذه المرأة فكان الحكم بجواز نكاحها حكماً في محلّ مجتهد فيه، والنكاح كما يذكر ويراد به الوطء يذكر ويراد به العقد بل إرادة العقد فيه أغلب في العرف، فلم يكن هذا حكماً بخلاف النصّ. ولو قبّل أجنبيّة بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة ثمَّ شبّه زوجته بابنتها لم يكن هذا مظاهراً في قول أبي حنيفة رحمه الله، ولا يشبه هذا الوطء وقال أبو يوسف رحمه الله: يكون مظاهراً (281أ1) ، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الحرمة بالوطء ثابتة بالنصّ كما قال أبو يوسف رحمه الله في المسألة المتقدّمة، وبالتقبيل والنظر يثبت باعتبار الإلحاق بالمنصوص عليه لكون هذه الأشياء وسيلة إلى الوطء، فكانت هذه الحرمة أضعف من تلك الحرمة بالنّظر إلى الفرج منصوص عليه قال عليه السلام: «ملعون من نظر إلى الفرج.... امرأة، وابنتها» ، فكانت هذه الحرمة نظير الحرمة الثانية بالوطء، وعلى هذا الاختلاف رجل مسّ جاريته ثمَّ قال أبوه لامرأته: أنتِ عليّ كظهر هذه الجارية. وإن كان الرجل قد جامعها وباقي المسألة بحالها فهو مظاهر بلا خلاف، وحكم الظهار حرمة مؤقتة إلى غاية الكفارة مع بقاء أصل الملك، عرف ذلك بقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَهِرُونَ مِنكُمْ مّن نّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَتِهِمْ إِنْ أُمَّهَتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} (المجادلة: 2) وبقوله عليه السلام لسلمة بن محمد حين ظاهر من امرأته، ثمَّ واقعها قبل الكفارة «استغفر الله ولا تعد حتّى تكفّر» . وأهل الظهار من كان من أهل التحريم والكفارة حتّى لا يصحّ ظهار الصبي والمجنون (لأنهما) ليسا من أهل التحريم كما في الطلاق، وكذلك ليسا من أهل وجوب الكفارة عليهما. والذمي ليس من أهل وجوب الكفارة عليه إن كان من أهل التحريم؛ لأنّ الكفارة عبادة بدليل أنّها تُفادى بالصوم عبادة، والذمي ليس من أهل العبادة. ولا تكون المرأة مظاهرة من زوجها؛ لأنّ موجب الظهار التحريم كالطلاق، والطلاق يختص بالزوج وكذا الظهار، وعن أبي يوسف رحمه الله: أنّه يلزمها الظهار كفارة؛ لأنّ المعنى في جانب الرجل تشبيه المحلّلة بالمحرّمة، وهذا المعنى موجود في جانب المرأة؛ لأنّ الحل مشترك بينهما، وقال الحسن: تلزمها كفارة اليمين؛ لأنّ هذا من المرأة بمنزلة تحريم الزوج على نفسها، وتحريم الحلال يمين، وذكر في بعض المواضع الخلاف بين أبي يوسف والحسن رحمهما الله على عكس هذا. وإذا قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمّي لم يكن إلا ظهاراً ونوى الطلاق، أو لم ينوِ

شيئاً، وأمّا إذا لم ينوِ شيئاً أو نوى الظهار فكأنّه صرح في الظهار، وأمّا إذا نوى الطلاق فلأنّ حكم الطلاق منسوخ في هذا الباب، ونيّة المنسوخ باطلة.A ولو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمّي فهو مظاهر، ولو قال: كظهر ابنتك فلانة يريد به ابنتها من غيره، وإن كان دخل بامرأته فهو مظاهر، وهذا بناءً على ما عرف في كتاب النكاح أن الأمّ تحرم بمجرّد عقد البنت و (البنت) لا تحرم بمجرّد عقد الأم. ولو قال: أنتِ عليّ كأمّي أو قال: أنتِ عليّ مثل أمّي، فإن نوى ظهاراً أو طلاقاً فهو على ما نوى؛ لأنّه ليس بصريح في الظهار ولا في الطلاق، ولكن يحتمل الظهار بأن قصد تشبيهها بالأمّ في الحرمة كذباً، ويحتمل الطلاق بأن قصد إيجاب الحرمة دون الكذب، فأيّ ذلك نوى حجب بيّنته، فإن أراد به اليد والكرامة لا تلزمه؛ لأنّ ما نواه محتمل، ومعناه: أنتِ عندي في استحقاق البرو الكرامة كأمّي، وإن لم يكن له نيّة فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله هو ليس بشيء؛ لأنّ هذا الكلام يحتمل معنى البرّ والكرامة، وهو أولى فيحمل عليه أخذاً...... وقال محمّد رحمه الله هو ظهار؛ لأنّ في التشبيه بجميع الأم تشبيه بظهارها وزيادة، ثمَّ ذاك ظهار بلا نيّة، فهذا كذلك. وعن أبي يوسف رحمه الله أنّه قال: إذا كان في غضب فهو يمين، إن تركها أربعة أشهر ولم يقربها بانت منه بتطليقة؛ لأنّ في حمل كلامه على الطلاق حمله على الصدق، وفي حمله على الظهار حمله على الكذب، فكان الأوّل أولى، وعنه رواية أخرى: أنّه إذا كان في غضب فهو على الظهار. وعن محمّد رحمه الله إذا قال: أنت مثل أمّي يريد به التحريم، فهو ظهار وإن لم يكن له نيّة فهو باطل، وفرق بين هذا وبينما إذا قال لها: أنتِ عليّ مثل أمّي. وعنه أيضاً: إذا قال لها أنتِ أمّي يريد الطلاق فهو باطل؛ لأنّه كذب، وكذلك إذا قال لها: إن فعلت كذا فأنتِ أمّي يريد به التحريم ثمَّ يفعل ذلك وهو باطل، ولو قال لها: أنتِ عليّ حرام كأمّي، فإن نوى الطلاق كان طلاقاً، وإن نوى الظهار أو نوى التحريم لا غير أو لم تكن نيّة فهو ظهار؛ لأنّ معنى البرّ انتفى بقران التحريم بحرف التشبيه، فبقي احتمال الظهار والطلاق، فأيُّ ذلك ينوي صحت نيّته، وعند عدم النيّة يحمل على الظهار؛ لأنّه أدنى. ولو قال لها: أنتِ عليّ حرام كظهر أمّي فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: ظهار على كلّ حال، وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله: إذا نوى الطلاق أو نوى الإيلاء فهو على ما نوى؛ لأنّ لفظة التحريم يشترك فيه الإيلاء والطلاق، فأيّهما نوى صح وصار قوله: كظهر أمّي مؤكداً لما نوى، ولأبي حنيفة رحمه الله: أنّ التشبيه بظهر الأم محكم في الظهار، وقوله: أنتِ عليّ حرام يحتمل في نفسه، والجملة واحد وردّ المحتمل إلى المحكم في الكلام الواحد أولى من ردّ المحكم إلى المحتمل.

وعن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لها: أنتِ عليّ حرام كظهر أمّي، فأراد بالحرام الطلاق أَلْزَمْتُهُ الطلاق ولا أصدّقه في إبطال الظهار؛ لأنّ هذا الكلام صريح في الظهار فهو بنيته يريد حرف الكلام عن ظاهره، وليس له هذه الولاية فيلزم به، وكذلك إذا أراد بالحرام اليمين ألزمه اليمين ولا أصدّقه في إبطال الظهار، فيكون مولياً ومظاهراً. ولو قال لامرأته: أنتِ عليّ كفرج أمّي ولا نيّة له فهو ظهار. وهكذا ذكر في «الجامع الصغير» ، لأنّ هذا التشبيه فوق التشبيه بظهر الأم يلزمه لفرجها على ظهرها في الحرمة، وهذا دليل على أنّ حكم الظهار لا يختص بالتشبيه بظهر الأم، وهكذا ذكر القدوري، والمذكور في «القدوري» : إذا شبّه امرأته بعضو في أمّه إن كان لا يجوز النظر إليه كالبطن والفخذ والفرج فهو ظاهر، وفي موضع آخر قال: ويشترط أن يكون ذلك العضو يعبّر به عن جميع البدن؛ لأن الأصل في الظهار التشبيه كظهر الأم، وظهر الأم عضو لا يجوز النظر إليه، ويعبّر به عن جميع البدن بكلّ عضو لا يجوز النظر إليه، ويعبّر عن جميع البدن كان ملحقاً بالظّهر في حقّ هذا الحكم وما لا فلا. ولو شبّه عضواً في امرأته بظهر أمّه فإن شبّه عضواً يعبّر به عن جميع البدن بظهر أمّه، أو شبّه جزءاً شائعاً من امرأته بظهر امرأته فهو مظاهر، وإن شبّه عضواً من امرأته لا (281ب1) يعبّر به عن جميع البدن كاليد والرجل لا يصير مظاهراً عندنا، والكلام فيه نظير الكلام في الطلاق. وفي القدوري: إذا قال لها: أنا منك مظاهر أو ظاهرت منك وعنى الإيجاب، فهو مظاهر، وروى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: لو قال لها: أنتِ منّي مظاهر، فهو باطل. ولو قال لها: أنتِ منّي كظهر أمّي أو عندي أو معي فهو مظاهر؛ لأنّ هذه الحروف يُقام بعضها مقام البعض. ولو ظاهر مدّة معلومة يوماً أو شهراً عن مضي الوقت سقط الظهار عندنا، فالأصل عندنا: أنّ الظهار كما يصحّ مطلقاً يصح مؤقتاً؛ لأنّ حكم الظهار حرمة مؤقتة إلى غاية الكفارة شرعاً، وكذلك دليل على قبول التأقيت من قبل الزوج وبه فارق الطلاق. وفي «المنتقى» : إذا قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمّي غداً، أو بعد غدٍ فهو ظاهر واحدة، ولو قال: أنتِ عليّ كظهر أمّي غداً ولها إذا جاء بعد غد فهما ظهاران، إن كفّر اليوم لم يجز عن الظهار الذي يقع بعد الغد. وفيه أيضاً: إذا قال لها أنتِ عليّ كظهر أمّي رمضان كلّه ورجب كلّه، فكفّر في رجب سقط عنه ظهار رجب وظهار رمضان استحساناً والظهار واحد، وإن كفّر في شعبان لم يجزه؛ لأنّه كفّر وهو غير مظاهر. قال أرأيت لو قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمّي أبداً إلا يوم الجمعة ثمَّ كفّر، إن كفّر عن يوم الاستثناء لم يجزه، وإن كفّر في اليوم الذي هو مظاهر فيه أجزأه عن الكل، وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال لها أنتِ عليّ كظهر أمّي إلى شهر، قال: لا يكون مظاهراً قبل مضيّ الشهر وإذا مضى صار مظاهراً.

ومما يُحرِّم الوطء على المظاهر إلى غاية الكفارة، فكذا تحرم الدواعي نحو المسّ، والتقبيل وما أشبه ذلك، وروى ابن رستم عن محمّد رحمهما الله: إذ قال: يقبّل المظاهر امرأته بغير شهوة إذا قدم من السفر كما يقبّل أمّه، ويصحّ تعليق الظهار بالشرط؛ لأنّ الظهار يسبّب الحرمة فكان نظير الطلاق، فيصحّ تعليقه بالشرط كما يصح تعليق الطلاق بالشرط. وروى بشر عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمّي رأس الشهر، ولو علّق الطلاق بشرط ثمَّ أبانها ثمَّ وجد الشرط لا يثبت الظهار؛ لأنَّ المعلّق بالشرط عند وجود الشرط كالمرسل. ولو أرسل الظهار بعد البينونة لا يصحّ؛ لأنّ حكم الظهار حرمة مؤقتة، وسببه تشبيه المحلّلة بالمحرّمة، وكل ذلك لا يتصوّر بعد ثبوت الحرمة بالبينونة، وهذا بخلاف ما لو علّق البينونة بالشرط ثمَّ أبانها، ثمَّ وجد الشرط حيث يقع الطلاق؛ لأنّ البينونة إذا صحّ تعليقها بالشرط صار تقديره: كأنّه علّق الطلاق الثاني بالشرط فينزل الشرط طلاق بائن، وإيقاع الطلاق على المبانة صحيح، وإذا قال لها: إن ... فأنتِ عليّ كظهر أمّي، فبان ذلك في محلته لها لزمها الظهار، وهذا والطلاق سواء، ذكر في «الأصل» . وفيه أيضاً: إذا ظاهر هو من امرأته، ثمَّ قال لامرأة أخرى له: أنتِ عليّ مثل هذه ينوي الظهار فهو مظاهر، وكذلك إذا ظاهر الرّجل من امرأته: ثمَّ قال رجل لامرأته أنتِ عليّ مثل امرأة فلان فهو مظاهر منها، وكذلك إذا ظاهر من امرأته ثمَّ قال لامرأة أخرى: أشركتك في ظهارها كان مظاهراً منها، وإذا ظاهر من أربع نسوة فعليه لكلّ واحدة كفّارة؛ لأنّ حكم الظهار حرمة مؤقتة إلى غاية الكفّارة، فإذا أضاف الظهار إلى محال مختلفة يثبت في كلّ محلّ حرمة على حدة فيحتاج إلى الغاية، وهي الكفّارة في كلّ محلّ على حدة. وإذا ظاهر من امرأته مراراً في مجالس مختلفة، أو مجلس واحد فعليه لكلّ ظهار كفّارة، هكذا روي عن علي رضي الله عنه؛ ولأنّ الظهار سبب الحرمة، فاجتماع أسباب الحرمة في محلّ واحد جائز، ألا ترى أنَّ صيد الحرم حرام على المحرم لإحرامه، ولكون الصيد في الحرم، وألا ترى أنَّ الخمر على الصائم حرام لعينه، ولصومه، وليمينه إذا حلف لا يشربها، فلهذا وجب بكلّ ظهار كفّارة، قال إلا أن يكون عنى بالثانية والثالثة الأولى، فحينئذٍ لا يلزمه أكثر من كفارة واحدة؛ لأنّ صفة الإخبار والإنشاء في الظهار واحد والكلام يحتمل الإعادة والتكرار، فلا يلزمه إلا ما لزمه بالأوّل. بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال لها: أنتِ عليّ كظهر أمّي مائة مرّة، فعليه كفّارة بكلّ مرّة كفّارة، أو إذا وطء المظاهر فينبغي له أن يستغفر الله لا يلزمه سوى الاستغفار شيء؛ لأنُّ النبي عليه السلام لم يوجب على مسلمة بن حجر سوى

الاستغفار، ولا ينبغي للمرأة التي ظاهر منها زوجها أن تدعه يقربها حتّى يكفّر؛ لأنّ الوطء حرام عليه إلى غاية الكفّارة، والتمكين في الحرام لا يجوز ولها أن تطالبه بالكفّارة، وإذا أخبرت الحاكم بذلك أجبره الحاكم على أن يكفّر، وروى هشام عن محمّد رحمهما الله أنّه قال: أجبر المظاهر على أنّ يكفّر ليقربها، فإن لم يفعل حبسته، فإن لم يفعل ضربته وأحبسه في الدَّين ولا أضربه. وإذا أجبر الزوج عن التكفير قبل ولا يمين عليه، ويسعها أن تصدّقه ما لم تعلم خلاف ما قال، أو تعرفه بالصدق والكذب. وتكلّم العلماء في سبب وجوب هذه الكفّارة، قال عامّة العلماء: سبب وجوب هذه الكفّارة: الظهار والعود؛ لأنّ الله تعالى أعطف العود على الظهار في بيان سبب الكفّارة، وحكم المعطوف عليه واحد، والمحققون من أصحابنا قالوا سبب وجوبها: العود وحده، وهذا القول أقرب إلى الفقه؛ لأنّ الكفّارة عبادة، والظهار منكر من القول وزور فكان كبيرة، والكبيرة لا تصح سبباً للعبادة، وأمّا العود مباح بل مندوب إليه فيصلح سبباً لوجود العبادة، والعود عندنا هو العزيمة على أن يطأها، وهذا لأنّ العود هو الرجوع عمّا أوجب كلامه، ليكون نقضاً لما صنع كالعود في الهبة رجوع عمّا أَوْجَبَتْهُ الهبة بالبعض، وقد وجب عليه بالظهار أن يعزم على ترك الوطء؛ لأنّ الظهار مشروع لتحريم الوطء وحرمة الفعل توجب العزم على تركة فمتى عزم على الوطء فقد رجع عمّا أوجبه بالبعض فكان عوداً. ولو عاد ثمَّ بدا له أن لا يطأها سقطت الكفّارة، فكأنّها تجب عندنا غير مستقرّة، ولهذا تسقط بموته وموتها؛ لأنّ الكفّارة تجب بالعزم عندنا، وما يجب بالعزم ما يجب مستقرّة؛ لأنّ العزم يرد عليه البعض والفسخ. وكفّارته ما ذكر الله تعالى في كتابه، {وَالَّذِينَ يُظَهِرُونَ مِن نّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (المجادلة: 3، 4) (282أ1) فوجب على هذا الترتيب ويجب تقديمها على الميتين. قال عليه السلام لسلمة بن حجر «استغفر الله ولا تعد حتّى تكفّر» . ولو أعتق بعض الرقبة ثمَّ وطىء فعليه أن يستقبل عتق الرقبة في قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنّ الشرط في الإعتاق تقديمه على المسيس، ومن ضرورته إخلاء الإعتاق عن المسيس فلم يوجد الإخلاء عنده؛ لأنّ الإعتاق عنده يتجزأ وعندهما لا يتجزأ فكما أعتق البعض عتق الكلّ، فيعتق أجلا الإعتاق عن المسيس. ولو جامعها في خلال الصوم

بعد الصوم استقبل الصوم، لوجهين: أحدهما: أنّ الواجب صوم شهرين متتابعين، وقد فات التتابع لما قبل بعض الصوم، والثاني: أنّ الشرط تقديم الصوم على المسيس ومن ضرورته إخلاء الصوم عن الجماع، ولم يوجد الإخلاء. ولو جامعها ليلاً أو نهاراً ناسياً لصومه استقبل في قول أبي حنيفة ومحمّد، وقال أبو يوسف رحمهم الله: يمضي فيه، فأبو يوسف رحمه الله اعتبر معنى الأوّل، وهما اعتبرا المعنى الثاني، ولو جامعها في خلال الإطعام لا يلزمه الاستقبال؛ لأنّ تقديم الطعام على المسيس ليس بشرط في كتاب الله تعالى حتّى يثبت شرط إخلاء الإطعام عن المسيس، ولا كذلك الإعتاق والصوم ولا يتجزأ في كفّارة الرقبة العمياء، ولا مقطوعة اليدين ولا مقطوعة الرجلين، ولا مقطوعة اليد والرجل من جانب واحد. والحاصل: أنّ المأمور به رقبة مطلقة، والمطلقة من........ يتناول الكامل والقائم من كلّ واحد، وكل واحد ممّن سمّيْنا....... من وجه أن جنس منفعته، وأمّا العمياء ومقطوعة اليدين ومقطوعة الرجلين فظاهر، وكذا مقطوعة اليد والرجل من جانب واحد؛ لأنّه لا يمكنه المشي بالعصا، بخلاف مقطوع اليد والرجل من جانبين حيث يجوز؛ لأنه يمكنه المشي بالعصا، ويمكنه البطش بأحد اليدين، فلم يغب في حقّه جنس منفعة، وكذلك لا تجوز الخرساء لفوات جنس منفعته، وهو البطش، وتجوز الصمَّاء استحساناً. وذكر في «النوادر» : أنّ الصمّاء لا تجور وهو القياس، وقيل: رواية «النوادر» محمولة على الصمّ الأجلي؛ لأنّه لا يخلو عن الخرس؛ لأنّه لم يسمع الكلام ليتعلّم، وظاهر الحوار محمول على الصمّ العارضي؛ لأنّه يخلق عن الخرس ويسمع عند المبالغة في رفع الصوت. ويجوز مقطوعة الأذنين، وذاهب الحاجبين وشعر اللحية، وكذا يجوز مقطوع الشفتين إذا كان يقدر على الأكل؛ لأنّ الفائت بفوات هذه الأشياء الريبة لا غير، وبه لا تصير الرقبة مستهلكة. ولا يجوز ساقط الأسنان لفوات جنس منفعته في حقّها وهو منفعة المضغ، ولا يجوز المدبّر وأم الولد، ويجوز المكاتب إذا لم يؤدّ شيئاً من بدل الكتابة عندنا، وإن أدّى شيئاً من بدل الكتابة لا يجوز في «ظاهر الرواية» ، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنّه يجوز، ولا يجوز مقطوع الإبهامين، ولا ثلاثة أصابع من سواهما، ولا يجوز الختين، ويُجزىء الرضيع. وكذا لا يجوز المجنون والمعتوه، وإن كان يجنّ ويفيق يجوز، يريد به: إذا أعتقه في حال إفاقته، والمريض الذي في حدِّ مرض الموت لا يجزىء، وإذا كان يجزىء ويخاف عليه يجوز والمرتد يجوز عند بعض المشايخ وعند بعضهم لا يجوز؛ لأنّ بالردّة

صار حربيّاً، ولهذا أحلّ قتله، فقد صرف الكفّارة إلى الحربي فلا يجوز، والمرتدة يجوز بلا خلاف ولو أعتق عبداً حربياً في دار الحرب إن لم يخلّ سبيله لا يجوز، فإن خلّى سبيله ففيه اختلاف المشايخ بعضهم قال لا يجوز؛ لأنّه صرف الكفّارة إلى الحربي. وروى إبراهيم عن محمّد رحمهما الله: إذا أعتق عبداً حلال الدّم قد قضي بدمه عن ظهاره، ثمَّ عفي عنه لم يجز. وفي «البقالي» رواية مجهولة إذا أعتق عبداً حلال الدّم قد قضي بدمه ثمَّ عفي عنه، أو كان أبيض العينين فزال البياض، أو كان مرتداً وأسلم أنّه يجزئه، وإذا أعتق عبداً على جعل بنيّة الكفّارة لم يجزءه عن الكفّارة وإذا سقط الجعل، ويجوز إعتاق الآبق إذا علم أنّه حيّ. في «المنتقى» : ولو أعتق نصف عبد مشترك بينه وبين غيره عن ظهاره ثمَّ أدّى الضمان وأعتق الباقي عن ذلك الظهار لم يجزء في قول أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما يجوز إذا كان موسراً؛ لأنّ الإعتاق عندهما لا يتجزىء، فبإعتاق النصف يصير معتقاً للكلّ، لكن يشترط أن يكون المعتق موسراً؛ لأنّه إذا كان معسراً كان على العبد السعاية في نصيب شريكه، فيكون هذا إعتاقاً بعوض، فلا تتأدّى به الكفّارة، وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز. وفرّق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبينما إذا أعتق نصف عبده عن ظهاره، ثمَّ أعتق النصف الباقي عن ذلك الظهار حيث يجوز، ولا فرق بينهما من حيث الصورة؛ لأنّ الإعتاق عند أبي حنيفة رحمه الله يتجزأ، فإذا أعتق النصف اقتصر الإعتاق على نصيبه، وتمكن النقصان في النصف الباقي بسببه؛ لأنّ النصف الباقي خرج من أن يكون محلاً للتمليك والتملّك، وصار في معنى المرتد وأمّ الولد، وبإعتاقهما لا تسقط كفّارة، وفي حقّ هذا.... على السواء. والفرق: وهو أنّ في الفصلين على النقصان في النصف الباقي بسبب إعتاق النصف الأوّل عن الكفارة، إلا أنَّ العبد إذا كان كلّه له أمكن أن يجعل ذلك النقصان مصروفاً إلى الكفارة؛ لأنّ النصف الآخر في المدّة الثانية أعتق ما بقي فيجزؤه. أمّا إذا كان العبد مشتركاً لا يمكن أن يجعل النقصان الحاصل في النصف الباقي مصروفاً إلى الكفّارة؛ لانعدام الملك له في ذلك النصف، فيبطل قدر النقصان ولم يقع عن الكفّارة، فإذا ضمن قيمة النصف الباقي وأعتقه فقد صرفه إلى الكفّارة وهو ناقص، وصار في الحاصل كأنّه أعتق عبداً لا ... النقصان. ولو أعتق عبداً عن ظهاره عن امرأتين أجزأه أن يجعله عن أحدهما عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأنّ الجنس متحدّ ونية التعيين في الجمع والجنس الواحد لغو، وهذا لأنّ في الجنس الواحد الواجب عليه الكفارات مطلقاً بعدد الواجب؛ لأنّ التغيير

(282ب1) كما في قضاء رمضان، فإن من عليه قضاء يومين من رمضان لا يجب عليه التغيير عند القضاء، بل يجب عليه الصوم مطلقاً بعدد الواجب، كذا ههنا، وإذا ثبت أنَّ نيّة التغيير ههنا لغوٌ صار وجه ردّها وعدمها بمنزلة، فكأنّه أعتق عن ظهاره ولم يعتبر أصلاً، وهناك يجوز الإعتاق عن أحدهما كذا ههنا. وإذا وجب عليه كفارتان أو ثلاث عن الظهار، فأعتق ثلاث رقاب ينوي عند إعتاق كل رقبة أن يكون عن كفّارة، وإن لم ينوِ رقبة بعينها عن كفّارة بعينها جاز عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأن عند اتحاد الجنس لو نوى عند إعتاق كل رقبة أن يكون عن الكفارات كلّها جاز فههنا أولى، ومن ملك رقبة لزمه العتق وإن كان يحتاج إليها، وكذلك من ملك ثمن الرقبة من التقدير ولا اعتبار بالمشكل، وما فيه من اليسار...... منهما أنّها يعتبر الفصل. وعن أبي يوسف رحمه الله أنّه قال: أنّها يعتبر الفصل إذا بلغ نصاباً، وعن محمّد رحمه الله أنّه قال: يحبس الذي يعمل أي..... قوت يومه والذي لا يعمل قوت شهر. وإذا قال لعبد: إن اشتريتك فأنت حرّ، فاشتراه ينوي الكفّارة عن الظهار لا يجوز عن الظهار، ولو قال عند اليمين عن كفّارة ظهاره جاز، ولو قال لعبد: إن اشتريتك فأنت حرّ عن كفّارة يمين أو قال تطوّعاً، ثمَّ اشتراه ناوياً عن ظهاره لم يكن عن ظهار. وكذلك إن قال إن اشتريته فهو حرّ تطوّعاً، ثمَّ قال: إن اشتريته فهو حرّ عن ظهاريّ ثمَّ اشتراه يقع العتق عن الجهة التي عيّنها أوّلاً، ولا يلحقها الفسخ. وعلى هذا إذا قال: إن اشتريت هذا العبد فهو حرّ عن ظهاري، ثمَّ قال إن اشتريته فهو حرّ عن يمين ثمَّ اشتراه، فهو حرّ عن الظهار، وكذلك إذا قال: إن اشتريته فهو حرّ عن ظهاري من فلانة، ثمَّ قال لامرأة أخرى ذلك ثمَّ، اشتراه فهو حرّ عن ظهار الأولى. وإذا لم يملك رقبة ولا ثمن رقبة بصوم شهرين متتابعين، فإن صام شهرين بالأهلة جاز وإن كان كلّ شهر تسعة وعشرين يوماً، وإن صام لغير الأهلة ثمانية (ثم) فطر لتمام تسعة وخمسين يوماً فعليه الاستقبال. وإن عجز عن الصيام يطعم ستين مسكيناً ويجزىء فيه طعام التمليك وطعام الإباحة، وتفسير طعام الإباحة: أن يعدّ منهم ويعيّنهم، وتفسير طعام التمليك ظاهر، فإن أراد أن يطعم طعام التمليك يطعم لكلّ مسكين نصف صاع من برّ، أو صاع من تمر أو شعير كما في صدقة الفطر، به ورد الأثر عن عمر رضي الله عنه عن الحنطة تختلف أجناسها، فإنَّ من الحنطة ما يبلغ منوين، منها نصف صاع، ومنها ما يبلغ أكثر من منوين نصف صاع، فلا بدّ من التقدير بأحدهما، أمّا الصاع أو المنّ قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وقد اختلف المشايخ رحمهم الله في هذا الفصل، قال بعضهم: يعتبر الصّاع، كما في صدقة الفطر، فإنَّ رسول الله عليه السلام اعتبر الصّاع في صدقة الفطر من غير فصل،

وعمر رضي الله عنه اعتبر الصّاع في غير هذه الصورة من غير فصل، ومنهم من قال يختلط فيه، فيعطي أكثر من منوين، ومنهم من قال: يعتبر الوزن. ولو أدّى نصف صاع من تمر جيّد يبلغ نصف صاع من حنطة لا يجوز، وكذلك لو أدّى أقلّ من نصف صاع من حنطة يبلغ صاعاً من تمر أو شعير لا يجوز، والأخذ فيه أنّ كلّ جنس هو منصوص عليه من الطعام لا يكون بدلاً عن جنس آخر هو منصوص عليه، وإن كان في القيمة أكثر.k ولو أدّى ثلاثة أمناء من الذرة تبلغ قيمتها منوين من الحنطة جاز، قال هشام: إنّها تجوز إذا أراد أن يجعل الذرة لا عن الحنطة، وأمّا إذا أراد أن يجعل الحنطة بدلاً عن الذرة لا يجوز؛ لأنّه أراد أن يجعل المنصوص عليه بدلاً عن عين المنصوص عليه. ولو أدّى الدقيق والسويق أجزأه، واختلف المشايخ في طريق الجواز. قال بعضهم: يجوز باعتبار العين فيعتبر فيه عام الكيل وذلك نصف صاع من دقيق الحنطة، وإليه قال الكرخي والقدوري رحمهما الله، وقال بعضهم: يجوز باعتبار القيمة ولا يجوز فيه اعتبار عام الكيل، وقد ذكرنا هذا الفصل مع أجناسها في باب صدقة الفطر. ولو أراد أن يطعمهم قيمة الطعام أعطى كلّ مسكين قيمة نصف صاع من حنطة أو قيمة صاع من تمر أو قيمة صاع من شعير، وإن أراد أن يطعمهم طعام الإباحة غدّاهم وعشّاهم، وإن غدّاهم لا غير أو عشّاهم لا غير لا يجوز عندنا، يريد به: أنّ الغداء بدون العشاء لا يجوز، وكذلك العشاء بدون الغداء لا يجوز، هكذا ذكر في أيمان «الأصل» . وفي القدوري: في حقّه طعام الإباحة أن يغدّيهم ويغشّيهم، فيحصل له الكيان، إمّا غداءين أو عشاءين أو يعشّيهم ويجزهم وهذا بيان الغداء بدون العشاء بدون الغداء يجوز، قال ثمة: قال أيضاً: ولو غدّى إنساناً وعشّى آخر لم يجز وفي المجرّد عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا غدّى ستين، وعشّى آخرين لم يجز ولو غدّى رجلاً ستيّن يوماً وعشّى امرأة ستين يوماً جاز، وكذلك إذا غدّى ثلاثين يوماً، وعشّى ثلاثين يوماً، وعن الحسن بن زياد إذا غدّى في الظهار مسكيناً، وآخر عشرين ومائة يوم أجزأه، وعن الحسن بن أبي مالك، عن أبي يوسف رحمهما الله لو غدّى مسكيناً واحد، وعشّاه في ستّين يوماً لا يجوز به قال هذا قوله الآخر، وإذا غدّاهم وعشّاهم، فالمعتبر فيه الكيان......، ولا غيره فيه بمقدار الطعام حتّى روي عن أبي حنيفة رحمه الله في كفارة اليمين لو قدم أربعة أرغفة أو ثلاثة بين يدي عشرين وشبعوا أجزأه وإن لم يبلغ ذلك إلا صاعاً أو نصف صاعٍ، وإن كان أحدهم شبعان هل يجوز؟ اختلف المشايخ رحمهم الله فيه، قال بعضهم: يجوز لأنّه وجد الطعام العشرة، وقد شبعوا، وقال بعضهم لا يجوز؛ لأنّ المأجور عليه إشباع العشرة وهو ما أشبع العشرة إنّما أشبع التسعة، وإلى هذا القول مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، والمستحب أن

يغدّيهم ويعشّيهم خبز معه إدام، ولو أعطاهم خبزاً قفّازاً بغير إدام جاز، وإذا غدّاهم وعشّاهم خبز الشعير لم يذكر خبز رحمه الله في «الأصل» ، وقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه قال بعضهم يعتبر محمد رحمه الله في «الأصل» بخبز البرّ. في «الزيادات» : دليل أنه لا يجوز (283أ1) خبز الشعير، وبعضهم جوزوا ذلك وإليه مال الكرخي رحمه الله، ثمَّ على قول من جوّز خبز الشعير لا بدّ وأن يكون معه إدام، وإذا غدّاهم وأعطاهم قيمة العشاء لو عشاهم وأعطاهم قيمة الغداء يجوز، هكذا ذكر في «الأصل» . وفي «البقالي» : إذا غدّاهم مداً فيه روايتان، وكذلك الغداء وقيمة العشاء وكذلك إذا أعطى كلّ مسكين نصف صاع من تمر أو شعير ومدّاً من برّ، وذكر في «الأصل» أنّه لا يجوز، وإذا دعا مساكين وأحدهم.... ذلك سنّاً وغدّاهم وعشّاهم لا يجزؤه، كذا ذكر في «الأصل» . وفي «المجرّد» إذا كانوا علماءنا يعتمدون مثلهم يجوز وإذا أعطاهم ستّين مسكيناً، كل مسكين مدّاً من حنطة لم يجز، فعليه أن يعيد مدّاً آخر على كل مسكين فإذا لم يجز الأوّلين فأعطى ستّيناً آخرين كلّ مسكين مدّاً لا يجوز، لأنّ المأخوذ عليه في باب الكفارة مراعاة عدد المساكين ومراعاة وظيفة كلّ مسكين، وقد أخذ بمقدار وظيفة كلّ مسكين فلا يجزئه، وإن أعطى مسكيناً واحداً طعام ستين مسكين في يوم واحد بدفعة واحدة لا يجوز، ولو صرف إليه طعام ستّين مسكيناً في ستّين يوماً جاز عندنا، وقد ذكرنا قول أبي يوسف رحمه الله أجزأ في المسكين الواحد في طعام الإباحة، بخلاف هذا، ولو صرف طعام ستين مسكيناً إلى مسكين واحد في يوم واحد بدفعات متفرقات، اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنّه لا يجوز في طعام الإباحة ولا يجوز في يوم واحد وإن فرّق بلا خلاف بين المشايخ. وإن أطعم عن ظهارين ستّين مسكيناً في يوم واحد كلّ مسكين صاعاً من حنطة جاز عنهما عند محمّد، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله يجوز عن واحد منهما، فمحمّد يقول.... وفاءً بالوظيفتين وزيادة، والمصرف محلّ الكفّارتين، فيجزئه، وهما يقولان الانقسام لغو؛ لأنّها حصلت في غير محله لأنّ محلّها شيئان، والكفّارتان من جنس واحد كأنّها كفّارة واحدة لاتحاد الجنس، والشيء الواحد لا يكون محلا للانقسام، فالتحقت نيّة الانقسام بالعدم، وصار كأنّه نوى الكفّارة لا غير، وهناك يقع عن الواحدة؛ لأنّ النقدين في هذا الباب بنصف الصّاع من الحنطة لمنع النقصان لا لمنع الزيادة، فيقع عن الواحدة احتياطاً كذا ها هنا.

الفصل الرابع والعشرون في مسائل الإيلاء

الفصل الرابع والعشرون في مسائل الإيلاء الإيلاء: هو اليمين على ترك وطء المنكوحة أربعة أشهر فصاعداً؛ لأنّ كتاب الله تعالى قيّده بأربعة أشهر، حتّى لو عقد يمينه على ترك وطء المنكوحة أقلّ من ذلك أربعة أشهر لا يكون إيلاءً، بل يكون يميناً، وإنّه على نوعين: أحدهما: أن يكون اسم الله أنّه يمين بالله تعالى؛ لأنّ صورة اليمين بالله تعالى قوله: والله لا أفعل كذا، وصورة الإيلاء إذا كان الإيلاء باسم من أسماء الله تعالى أن يقول لامرأته: والله لا أقربك أربعة أشهر. والثاني: أن يكون بطلاق أو عتاق أو ما أشبه وأنّه غير الطلاق والعتاق؛ لأنّ صورة اليمين بالطلاق أو العتاق إن فعلت كذا فامرأته طالق، إن فعلت كذا فعبدي حرٌّ، وصورة الإيلاء إذا كان الإيلاء بطلاق أو عتاق أن يقول لامرأته: إن قربتك فعبدي فلان حرّ، إن قربتك، فامرأتي فلانة طالق. وحكم الإيلاء اثنان: أحدهما: يتعلق بالحنث بأن يقربها في مدّة الإيلاء، وهو لزوم الكفّارة إن كان الإيلاء باسم من أسماء الله تعالى، ولزوم ما جعل حرّاً إن كان الإيلاء بغير الله تعالى. والثاني: يتعلّق بالبرّ بأن لم يقربها حتّى مضت مدّة الإيلاء، وهو وقوع تطليقة بائنة، فالإيلاء يوافق سائر الأيمان في حقّ حكم الحنث، وهو وجوب الكفّارة بوجود المحلوف عليه، وهو القربان إن كان الإيلاء بالله ولزوم ما صار جزاءً على المحلوف عليه وهو الطلاق أو العتاق إن كان الإيلاء بالطلاق أو العتاق، ويخالف سائر الأيمان في حقّ حكم البرّ فإنَّ في سائر الأيمان لا يلزمه بالبرّ شيء، وفي الإيلاء بالبرّ تلزمه تطليقة بائنة. وصار تقدير الإيلاء في حقّ حكم البرّ، كأنّه قال إن مضت أربعة أشهر ولم أقربك فأنتِ طالق تطليقة بائنة عرف ذلك بقوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 227) جاء عن رسول الله عليه السلام أنّه قال: «عزيمة الطلاق مضيّ أربعة أشهر» ، وهكذا نقل عن ابن مسعود وابن عباس وابن عمر، وعائشة رضوان الله عليهم أجمعين، أنّهم قالوا: «عزيمة الطلاق مضي أربعة أشهر» ، ولأنّ الإيلاء كان طلاقاً في الابتداء وجب النظر في قدر ما يعتبر بالشرع، وذلك بما أوجب الله تعالى له من التربّص أربعة أشهر فبقي بعد مضي المدّة طلاقاً كما كان. وأمّا مدّة إيلاء الأمة شهران، وإذا مضت هذه المدّة فالحكم فيها كالحكم في الحرة لأنّ هذه المدّة شرعت أصلاً للبينونة، فتشابه مدّة العدّة فيثبت جرء بالرّق كما في العدّة،

قال القدوري: لا يكون الإيلاء إلا بالحلف على الجماع في الفرج خاصة؛ لأنّ الإيلاء إنّما صار طلاقاً بواسطة الظلم بمنع حقّها المستحقّ، وحقّها في الجماع في الفرج. وروي عن محمّد رحمه الله: إذا قال: لا يمسّ جلدي جلدك لا يكون إيلاءً؛ لأنّه يخبر بغير الجماع، وكذلك إذا قال والإيلاء ما يوقف الخبر فيه على الجماع، زاد في «البقالي» إلا أن ينوي الجماع، وكذلك إذا قال: والله لا أمسك لا يكون إلا أن ينوي الجماع. وفي «الفتاوى» : إذا قال والله لا يمسّ فرجي فرجك فهو مولى، وقال محمّد رحمه الله: إن اجتمع رأسي ورأسك وعنى به الجماع فهو مولى، فإن لم يعنى الجماع، فليس بمولى وله أن يجامعها بغير اجتماع على فراش، ولا شيء يجتمع رأسهما عليه، ولو اجتمعا على شيء واجتمع رأسهما عليه من غير جماع حنث في يمينه، ولو قال: والله لا يجمع رأسي ورأسك وسادة أو لا يؤويني وإياك بيت، ولا أبيت معك على فراش فإن عنى الجماع فهو مولى وإن لم يكن له نيّة فهو على الإيواء، والبيات على الفراش ولا يجتمعا على وسادة وسواء كان على البواري والأرض، ولو حلف لا يجامعها فهو مولى مع أنّ هذا اللفظ يتناول الجماع فيما دون الفرج، لأنّه مأخوذ من الاجتماع أما كان كذلك؛ لأنّ هذا اللفظ عند الإطلاق يراد به الاجتماع الخاص، وهو التقاء الختانين، ولهذا فهم رسول الله عليه السلام من قول: جامعت امرأتي في نهار رمضان الجماع في الفرج، حتّى أوجب الكفّارة عليه من غير استفسار وانصرف (283ب1) مطلق اللفظ إلى الجماع في الفرج لهذا. وكذلك إذا حلف لا يقربها لأنّ القربان المضاف إلى المرأة يراد به عادة الوطء، وكذلك لا ينام معها؛ لأنّ المضاجعة...... من البضع، وذلك بالتقاء الختانين وكذلك لا يغتسل منها؛ لأنّ الاغتسال إنّما يكون بالإيلاج في الفرج، وإذا قال لم أعن الجماع في هذه الصورة صدّق ديانة لا قضاء. ولو قال إن أتيتك أو أخبرتك وإن نوى الجماع، فهو مولى وإنّما شرط نيّة الجماع ههنا؛ لأنّ الرجل قد يأتي المرأة لشغل، وقد يصب منها مالاً ونفقة ولم يتعيّن الجماع مراد فهذين اللفظين عادة، فلا بدّ من التعيين بالبنية وإذا قال لم أعن الجماع في هذين اللفظين صدّق ديانة وقضاء. وإذا قال إن وطئتك أو افتضضتك، وهي بكر فهو مولى وإذا حلف لا يدخل عليها لا يصير مولياً بدون نيّة الجماع، وإذا قال: لم أعن الجماع صدّق قضاء، وإذا حلف لا يدخل بها، فعلى قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا يصير مولياً بدون نيّة الجماع. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قال لامرأته آكرنا بخسم فأنتِ طالق، فإن لم يكن له نيّة، فهو مولى؛ لأنّ اليمين على الجماع وقعت عرفاً وإن نوى اليوم فهو ليس

بمولى، ويمينه على المضاجعة إن جامعها حنث في يمينه، وإن لم يجامعها، وبدون المضاجعة لا يحنث ولو قال: آكر من دست فراكنم رن كنم بايك سال فكذا، فهو مولى حتّى لو تركها أربعة أشهر، ولو جامعها بانت بالإيلاء لأنّه يراد بهذا الجماع عادة يا آكرد ست فراروي كندا وجامعها فيما دون الفرج لا يحنث في يمينه، وإن كان ذلك في السنّة. ولو قال لها: إن اغتسلت من جنابتي ما دمت امرأتي، فأنتِ طالق ثلاثاً، فهو مولى منها حتّى لو تركها أربعة أشهر، ولم يجامعها بانت منه بتطليقة، لأنّ هذا اللفظ صار عبارة عن الجماع عادة. امرأة قالت لزوجها: من انتمارعي داري وحامة عنكنى مرااز مهر مسواك رن مي داري، فقال الزوج: آكرارا كيون بايك سال مسواك رنم فكذى، فإن أراد به الجماع فهو مولى، وبدون النيّة لا يكون مولياً؛ لأنّ هذا ليس بصريح، فلا بدّ من النيّة. إذا قال: لها إن قربتك، فعليّ كفّارة يمين فهو مولي، وكذلك إذا قال لها إن قربتك فعليّ يمين؛ لأنّ اليمين سبب الكفّارة، فهذا رجل ذكر السبب وأراد به المسبب. ولو قال: إن قربتك فعليّ حجّة أو عمرة أو هدي أو صدقة أو اعتكاف أو صيام، فهو مولى؛ لأنّ الإيلاء بألية إنما صار إيلاءً باعتبار أنّ حرمة اسم الله تعالى، يمنعه عن القربان لما فيه من هتك حرمة اسم الله تعالى، فيتحقّق الظلم بمنع حقّها المستحق وهو الوطء، هذا المعنى موجود ها هنا فإنّ ما التزم عند القربان من الحج والعمرة، وغير ذلك يمنعه من القربان. ولو قال: إن قربتك فعليّ أن أصلّي ركعتين فهو ليس بمولى لأنّ قوام الركعتين من الصلاة لا يمنعه عن القربان، إذ لا يلحقه مشقّة بأدائها ولا خسران في ماله؛ بخلاف ما لو التزم بالقربان عتق عبد أو حجّة وعمرة وعن أبي يوسف رحمه الله فيما إذا قال: لها إن قربتك، فعبدي حرٌّ أن لا يكون مولياً؛ لأنّ له أن يبيع العبد بقربانها قبل أربعة أشهر من غير شيء يلزمه. وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله إذ قال لامرأته: إن قربتك فلانة طالق بعد سنة، والله لأطلّقنّ فلانة أراد بفلانة امرأة أخرى له فإنّه لا يكون مولياً، ولو قال: إن قربتك فلانة طالق بعد سنة فهو مولى، وذكر هشام عن محمّد رحمه الله إذا قال: إن قربت امرأتي فمالي هبة في المساكين قال: إن نوى الصدقة، فهو مولى، وإن لم ينوِ صدقة فهو ليس بمولى، والقول في ذلك قوله. وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله على إن أعتق عبدي هذا عن ظهاري إن قربت امرأتي فلانة، وهو مظاهر أو ليس بمظاهر لا يكون مولياً، ولو قال: عبدي هذا حرٌّ عن ظهاري إن قربت امرأتي، فهو مولى مظاهراً كان أو غير مظاهر، ويجزىء عن ظهاره يريد به إذا كان مظاهراً، وقد قربها ثمَّ قال: كلّ شيء يعتق إذا قرب امرأة فهو مولى، وكل شيء لا يعتق إلا بفعل آخر لا يكون مولياً، وعلى هذا إذا قال لله تعالى عليّ أن أصوم شهرين عن ظهاري إن قربتك، أو قال: لله تعالى عليّ أن أتصدّق على ستّين

مسكيناً، فإنّه لا يكون مولياً سواء كان مظاهراً أو لم يكن. وروى بشر عنه في هذه المسألة أنّه إن كان مظاهراً فهو مولى ولو قال لها: إن قربتك، فكلّ مملوك أملكه فيما استقبل فهو حرٌّ أو قال: كلُّ امرأة أتزوجها فهي طالق، فهو مولى في قول أبي حنيفة رحمه الله ومحمّد، وقال أبو يوسف رحمهما الله: لا يكون مولياً؛ لأنّه لا يلزم بالقربان شيء وبعد القربان يمكنه دفع الطلاق والعتاق عن نفسه، بأن لا يتملك مملوكاً، ولا يتزوّج امرأة. وجه قولهما: أنّه يلزمه اليمين بالقربان فيصير مولياً كما لو قال لها: إن قربتك، فهذا العبد حرّ إن دخل الدّار، وهذا لأنّ لزوم اليمين يصلح مانعاً عن القربان؛ لأنّه يلزمه الامتناع عن تحصيل الشرط خوفاً عن نزول الجزاء. وروى هشام عن محمّد رحمهما الله: إذا قال لها: إن قربتك، فإن اشتريت، فهو حرّ قال ذلك لعبد بعينه فهو ليس بمولى، قال: وليس هذا كعموم قوله: وكلّ مملوك اشتريته فهو حرّ، وكذلك على هذا إذا قال لها: إن قربتك ففلانة طالق، إن تزوجها لم يكن مولياً من امرأته بخلاف ما إذا أعلم فقال: فكل امرأة أتزوجها، فهي طالق رواه ابن سماعة عن محمّد رحمه الله وكذلك قال أبو حنيفة رحمه الله. وروى هشام عن محمّد رحمه الله إذا قال لها: إن قربتك فعليّ صوم شهر كذا بأن قال مثلاً، فعليّ صوم شهر رجب أو قال فعليّ أن أحج العام، فإن كان رجب يمضي قبل الأربعة الأشهر أو كان الحج في العام يمضي قبل الأربعة الأشهر، فليس بمولى لأنّه يمكنه القربان في المدّة، وذلك بعد رجب والحج من غير شيء يلزمه فإن مضى الوقت المضاف إليه النذر يبطل النذر، وإن كان لا يمضي إلا بعد الأربعة الأشهر، فهو مولى؛ لأنّه لا يمكنه القربان من غير شيء يلزمه. وروى هشام عن محمّد رحمه الله أيضاً: إذا قال لها: إن قربتك فعليّ أن أعتق هذا العبد غداً، فهو مولى، وقوله غداً فضل وعليه أن يعتقه إن قربها وهو بمنزلة (284أ1) . قوله: إن قربتك فعليّ أن أعتق عبدي هذا الأمس، فقوله: أمسِ فضل، وعليه أن يعتقه إن قربها. ولو قال لها: إن قربتك فأنت عليّ حرام، ينوي به الطلاق فهو مولي؛ لأنه لا يمكنه القربان إلا بطلاق يلزمه، وإن نوى اليمين فهو مولي أيضاً في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما: الله لا يكون مولياً حتى يقربها؛ لأن قوله: أنت عليّ حرام عند إرادة اليمين يمين، فصار الإيلاء معلقاً بالقربان، فكأنه قال لها: إن قربتك، وقوله: فوالله لا أقربك، وعداً لها يصير مولياً فهاهنا للحال كذا هاهنا. ولأبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يمكنه القربان إلا بشيء يلزمه، وهذا هو حد المولي كان القياس في قوله: إن قربتك فوالله لا أقربك أن يصير مولياً للحال، لكن تركنا القياس في هذه الصورة؛ لأنه علّق الإيلاء بالقربان لفظاً ومعنى ولو صار مولياً للحال تفوت فائدة التعليق من كل وجه. وقوله: أنت عليّ حرام، ليس يمين لفظاً ولو كان يميناً كان يميناً معنى، فلو صار

مولياً للحال تفوت فائدة التعليق من وجهٍ، وليس إذا ترك القياس لضمانه فائدة التعليق من كل وجه ما يدل على تركه لضمانه فائدة التعليق من وجه. ولو قال لامرأته: إن قربتك فأنت عليَّ مثل امرأة فلان، وقد كان فلان آلى من امرأته، فإن نوى الإيلاء كان مولياً، وإن لم ينو لا يكون مولياً؛ لأن النسبة لا تقتضي الاستواء في كل الأشياء. ولو آلى من امرأته ثم قال لامرأةٍ أخرى له: قد أشركتك في إيلائها، كان باطلاً لأن الاشتراك يغير حكم الإيلاء؛ لأن قبل الاشتراك كان يحنث بقربان الأولى وحدها، وبعد الاشتراك لا يحنث إلا بعد إتيانهما، كما لو قال: والله لا أقربكما، وهو لا يملك تغيير حكم اليمين. ولو قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، ثم قال لامرأةٍ له أخرى: أشركتك معها كان مولياً منهما؛ لأن الاشتراك ههنا لا يغير موجب اليمين، فإنه لو قال لهما: أنتما عليَّ حرام يصير مولياً من كل واحدة منهما، ويلزمه الكفارة بوطىء كل واحدةٍ منهما، بخلاف قوله: والله لا أقربكما. والفقه فيه: أن قوله: والله لا أقربكما إنما صار يميناً موجباً للكفارة باعبتار هتك حرمة اسم الله تعالى بمباشرة الشرط، وذلك لا يتحقق إلا بقربانهما. أما قوله: أنتما عليّ حرام إنما صار إيلاء باعتبار معنى التحريم وذلك موجودٌ في حق كل واحد منهما على حدة. ولو الله قال: والله لا أقربك سنةً إلا يوماً لم يكن مولياً؛ لأنه استثنى يوماً منكراً فما من يومٍ بعد يمينه إلا ويمكنه أن يجعل مستثنياً عن يمينه فيقربها من غير شيء يلزمه، والمولي من لا يمكنه قربان امرأته إلا بشيء يلزمه؛ فإن قربها وقد بقي من السنة أربعة أشهر الآن يصير مولياً؛ لأنه صار بحال لا يمكنه قربانها في الأربعة الأشهر إلا بشيء يلزمه. قال في «الجامع» : إذا قال لامرأتين له: والله أقربكما إلا يوم الخميس، لا يكون مولياً حتى يمضي خميس ثاني عليه بعد اليمين؛ لأن أول خميس يأتي عليه بعد اليمين فهو مستثنى عن اليمين، فيمكنه القربان فيه من غير شيء يلزمه. فإذا مضى أول خميس أتى عليه من وقت اليمين الآن صار مولياً؛ لأن بمضي أول الخميس يمضي يوم الاستثناء وبقيت اليمين بالاستثناء. ولو قال: والله أقربكما إلا يوم الخميس لا يصير مولياً بهذه الغير إيلاءً؛ لأن المستثنى في هذه الصورة كل خميس يأتي عليه؛ لأنه أضاف النكرة وهو يوم إلى حقه عامة وهو الخميس، والنكرة إذا أحدثت إلى حقه عامة عمّت؛ لأن الإضافة بمنزلة الصفة، فكل يوم اتصف بكونه خميساً يدخل تحت الاستثناء، فيمكنه القربان في كل خميس يأتي عليه من غير شيء يلزمه، فلهذا لم يصر مولياً. قال في «الجامع الصغير» : إذا قال لامرأته: والله لا أقربك شهرين، وشهرين فهو

مولي؛ لأنه جمع بينهما بحرف الجمع فيعتبر بما لو جمع بينهما بلفظ الجمع بأن قال: والله لا أقربك أربعة أشهر. وكذلك إذا قال: والله لا أقربك شهرين فمكث يوماً ثم قال: والله لا أقربك شهرين بعد شهرين فهو مولي منه لما قلنا. ولو قال: والله لا أقربك شهرين، فمكث يوماً ثم قال: والله لا أقربك شهرين بعد هذين الشهرين الأوليين لا يكون مولياً. وأراد بقوله: لا يكون مولياً في حق الطلاق، حتى لو تركها أربعة أشهر ولم يقربها لا تبين منه؛ لأن بالكلام الأول لم يصر مولياً في حق الطلاق؛ لأن الإيلاء في حق الطلاق لا ينعقد على أقل من أربعة أشهر. فإذا قال بعدما مكث يوماً: والله لا أقربك شهرين بعد هذين الشهرين صار مولياً في حق الطلاق صار مولياً الآن تعذر جعله مولياً الآن؛ لأنه يمنع نفسه عن قربان امرأته في أقل من أربعة أشهرٍ بيوم؛ لأنه مضى من الشهرين الأوليين يوم، حتى لو قال المقالة الثانية عقيب المقالة الأولى يصير مولياً، نص عليه في «المنتقى» . إذا قال لها: والله لا أطأك شهراً بعد سنة فإنما حلف على شهرٍ بعد سنة تمضي فلا يحنث إن وطىء في السنة. وكذلك لو قال: والله (لا) أطأك يوماً بعد شهر فإنما حلف على يومٍ بعد شهر يمضي. ولو قال: والله لا أقربك شهرين قبل شهرين فهو مولي. ذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله في رجل قال لامرأته: والله لا أقربك أربعة أشهر إلا يوماً، ثم قال في ساعته: والله لا أقربك هذا اليوم فهو مولي. قال في «الجامع» : إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً قبل أن أقربك بشهرٍ لا يصير مولياً للحال ما لم يمضي شهر بعد اليمين؛ لأن المولي من لا يمكنه قربان امرأته من غير شيء يلزمه؛ لأن الملتزم ههنا الطلقات الثلاث مضافاً إلى شهر موصوف بأنه قبل القربان. والمراد شهرٌ بعد اليمين فما لم يمض بعد اليمين شهر قبل القربان لا يوجد الوقت المضاف إليه الطلاق فلا يلزمه الطلاق، فإن مضى شهرٌ بعد اليمين ولم يقربها فقد وجد الوقت المضاف إليه الطلاق وصار بحيث لا يمكنه قربانها إلا بطلاق يلزمه فيصير مولياً الآن. ولو قال: إن قربتك فأنت طالق ثلاثاً قبل أن أقربك شهر، فهاهنا يشترط لصيرورته مولياً (284أ1) . بيان القربان ومضي أربعة أشهر بعد القربان لا بقربان فيه؛ لأن عند القربان يصير قائلاً: أنت طالق قبل أن أقربك شهر. ولو قال لامرأتين له: أنتما طالقتان ثلاثاً قبل أن أقربكما بشهر لم يصر مولياً للحال لما مرّ. فإذا مضى شهر ولم يقربهما فيه يصير مولياً منهما. والقياس أن لا يصير مولياً ما لم يقرب إحداهما؛ لأن المولي من لا يمكنه القربان من غير شيء يلزمه وأمكنه قربان إحداهما من غير طلاق يلزمه؛ لأن قربان إحداهما نصف الشرط وبنصف الشرط لا يتبين أن الجزاء (واقع) . فإذا قرب إحداهما الآن صار الحال لا يمكنه قربان الأخرى إلا بطلاق يلزمه،

فحينئذ يصير مولياً استحساناً، وقلنا: (لا) بأنه يصير مولياً إلا بقربان إحداهما إن كان لا يلزمه الطلاق إلا أنه يقربه إلى الطلاق، وقبله كان لا يلزمه الطلاق بقربان الأخرى وحدها، وهذا نوع ضرر. فإن قرب إحداهما في مسكنها بعد مضي شهر لم يقربهما فيه لم يحنث؛ لأنه نصف الشرط، وسقط الإيلاء عنها لوجود الملغي إليها بعد انعقاد الإيلاء، وبقي مولياً من الثانية لو تركها أربعة أشهر من غير قربان، بانت بالإيلاء، وإن قربها في الأربعة الأشهر بانت بالحنث. إذا قال لامرأته: أنت طالق قبل أن أقربك، ولم يؤقت لذلك وقتاً مقدّراً طلقت ثلاثاً للحال. ولو قال: قبيل أن أقربك، لا تطلق ما لم يقربها؛ لأن قبيل الشيء ينبىء عن التداني والتقارب إلى ذلك الشيء. وصار تقدير المسألة: أنت طالق قبل أن أقربك بوقت قريب من القربان فإنما يتصف الوقت بالقرب من القربان إذا وجد القربان، أما قبل الشيء لا ينبىء عن التداني والتقارب، وإنما ينبىء عن وقت مطلق، وليس من ضرورة اتصاف الوقت المطلق بالقَبْليَّة عن الشيء وجود ذلك الشيء بعده، كما في قوله تعالى: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا} (المجادلة: 3) وكما في قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسّوهُنّ} (البقرة: 237) وإذا لم يكن هذا شرطاً فقد وجد الوقت المضاف إليه الطلاق فيقع الطلاق. فهذا هو الفرق. ولو آلى من امرأته المدخول بها ولم يقربها حتى مضت أربعة أشهر، وبانت منه بتطليقة ووجبت عليها العدة، ثم مضت أربعة أشهر أخرى، ولم يقربها وهي في العدة بانت ابتداءً طهرها لا تقع عليها تطليقة أخرى عند عامة المشايخ. وإليه مال الكرخي رحمه الله، وإليه أشار محمد رحمه الله في «الجامع» في باب اليمين في الإيلاء على إحداهما دون الأخرى. وقال بعض مشايخنا يقع عليها تطليقة أخرى. وأجمعوا على أنه لو تزوجها بعده بانت بمضي أربعة أشهر ثم مضت أربعة أشهر أخرى من غير قربان أنه يقع عليها تطليقة أخرى. وكذلك في الكرّة الثانية، وأجمعوا على أنها لو عادت إليه بعد الزوج الثاني ومضت أربعة أشهر من غير قربان أنه لا يقع عليها تطليقة أخرى. وجه قول بعض المشايخ: أن بعد وقوع الطلاق بحكم الإيلاء، والإيلاء باقي، ألا ترى أنه لو تزوجها ثم مضت أربعة أشهر من غير قربان أنه يقع عليها تطليقة أخرى بحكم الإيلاء بالإجماع. فإذا مضت أربعة أشهر بعد ذلك فقد مضت مدة الإيلاء حال قيام الإيلاء، وأنه يوجب وقوع الطلاق لو لم يقع الطلاق. وإنما لا يقع الطلاق لقيام البينونة في المحل إلا أن قيام البينونة لا يمنع وقوع الطلاق بحكم الإيلاء، ألا ترى أنه لو آلى منها ثم أبانها بتطليقة ثم مضت مدة الإيلاء وهي معتدة يقع عليها تطليقة بحكم الإيلاء. وجه قول عامة المشايخ: أنها لما بانت بالإيلاء مرّة تحتاج إلى استئناف مدة الإيلاء عليها والمبانة ليست بمحل لابتداء الإيلاء فلا يكون محلاً لاستئناف المدة؛ لأن استثناء

مدة الإيلاء معتبرة باستئناف الإيلاء؛ لأن للمدة أثر في إيقاع الطلاق كما لابتداء الإيلاء، بخلاف ما إذا آلى منها ثم أبانها؛ لأن هناك انعقدت المدة من وقت الإيلاء، وقع الشك في إبطالها بالبينونة إن أمكن من حيث إن النكاح بقي من وجهٍ فلا يبطل بالشك، على أن المدة إنما تستأنف ليقع الطلاق بمضيها دفعاً لظلم الزوج بمنع حقّها في الجماع في هذه المدة.h وبعد البينونة لم يبق لها حق (من) قبل الزوج في الجماع، فلا يتحقق الظلم، فلا حاجة إلى استئناف المدة، فلم تنعقد المدة الثانية فلا يقع الطلاق. وإذا قال الرجل لأمتِهِ وامرأته: والله (لا) أقربكما لا يصير موليا من امرأتيه للحال؛ لأن المولى من لا يمكنه قربان امرأته إلا بشيء يلزمه، وقبل قربان الأمة يمكنه قربان المرأة من غير شيء يلزمه؛ لأنه إنما يحسب بقربانهما لا بقربان المرأة وحدها. وبهذه المسألة يستدل زفر رحمه الله عليه في رجل قال لأربع نسوةٍ له: والله لا أقربكن، فعلى قول علمائنا الثلاثة رحمهم يصير مولياً منهن جميعاً استحساناً، حتى لو تركهن أربعة أشهر ولم يجامعهن جميعاً، وعند زفر رحمه الله: لا يصير مولياً حتى يجامع ثلاثاً منهن. فإذا جامع ثلاثاً منهن يصير مولياً من الرابعة. وكذلك إذا قال لامرأتين له: والله لا أقربكما صار مولياً منهما استحساناً عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله. وعلى قول زفر رحمه الله لا يصير مولياً ما لم يقرب واحدة منهما، قال: لأنه يمكنه قربان الثلاثة في المسألة الأولى وقربان إحداهما في المسألة الثانية من غير شيء يلزمه، ونحن فرّقنا. ووجه الفرق: أن في تلك المسألتين لا يمكنه قربان واحدة إلا بشيء يلزمه؛ لأن قربان الواحدة إن كان لا يوجب عليه الكفارة ولكن يوجب عليه قربان الباقيات، لأن قربان الواحدة يهيج الباقيات على مطالبة حقهن في الجماع ومتى طالبته بالجماع يجب عليه إبقاؤها ديانةً، فيصير قربان الواحدة، سبباً لوجوب قربان الباقيات من هذا الوجه، والمولى من لا يمكنه القربان إلا بشيء يلزمه. أما في مسألتنا بقربان الحرة قبل قربان الأمة لا تلزمه الكفارة ولا يلزمه جماع الأمة، وإن كان جماع الحرة يهيّج الأمة على مطالبة حقها إلا أن بطلبها لا يجب على المولى قربانها فيمكنه قربان الحرة من غير شيء يلزمه، فلهذا لا يصير مولياً من الحرة. وفي «عيون المسائل» : إذا قال لها: (285أ1) والله لا أقربك سنة فمضت أربعة أشهر ولم يقربها حتى بانت منه ثم تزوجها، ثم مضت أربعة أشهر أخرى بانت أيضاً. فإن تزوجها ثانياً لا يقع شيء؛ لأنه لم يبق من السنة بعد التزوج أربعة أشهر. ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا قال لامرأتين له: والله لا أقرب إحداكما يصير مولياً من إحداهما، حتى لو قرب إحداهما يلزمه الكفارة، ولو لم يقربهما حتى مضت أربعة أشهر بانت إحداهما بالإيلاء، وكان البيان إليه وتقدير كلامه: إن قربت أحدهما فعليَّ كفارة يمين، وإن لم أقرب إحداكما حتى مضت أربعة أشهر وإحديكما....

ولو قال: هكذا، كان الجواب على نحو ما ذكرنا، فجعل هذا الإيلاء خاصاً في حق الكفارة والطلاق جميعاً. وفرق بين هذه المسألة وبين مسألة ذكرها بعد هذه المسألة، وهذا ما إذا قال لامرأتين له: والله لا أقرب واحدة منكما، فقرب واحدة منهما تلزمه الكفارة. ولو لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانتا، وجعل الإيلاء خاصاً في حق الكفّارة عاماً في حق الطلاق. وذكر القدوري في «شرحه» هاتين المسألتين، وذكر في قوله: والله (لا) أقرب واحدة منكما، خلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله. وقال: على قول محمد رحمه الله: يصير مولياً من واحدة منهما في حق الكفارة والطلاق حتى قال: لو لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانت إحداهما والبيان إليه والقياس (أن) تبين بها. ذكر القدوري رحمه الله أن ما ذكر في «الجامع» قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وأنه استحساناً، وإن كان ما ذكر في «الجامع» قول الكل كان لمحمد رحمه الله قولان في المسألة. ثم الفرق على جواب الاستحسان في المسألتين: أن قوله واحد إن كانت خاصة لفظاً فهو عام معنى؛ لأنها نكرة في محل النفي والنكرة في موضع النفي تَعُمُّ، فاعتبرنا معنى العموم في حق الطلاق. ومعنى الخصوص في حق الكفارة، وإنما أظهرنا معنى العموم في حق الطلاق؛ لأن حكم الطلاق أعم من حكم الكفارة، ألا ترى أنه لو قال لها: والله لا أقربك، وبانت بمضي أربعة أشهر وتزوجها ومضت أربعة أشهر بانت بتطليقة أخرى. وكذا في الكرة الثالثة، ولو قربها في النكاح الأول حتى حنث ولزمته الكفارة لو قربها مرة أخرى لا تلزمه كفارة أخرى، فعلم أن حكم الطلاق أعم. فأظهرنا معنى العموم في حق الطلاق لهذا. ثم في المسألة الأولى هو ما إذا قال: والله لا أقرب إحداكما حتى صار مولياً من إحدهما لو أراد أن يعتبر الإيلاء؛ لأن الإيلاء في إحدهما قبل مضي أربعة أشهر لا يقدر عليه؛ لأن فيه يعتبر الإيلاء؛ لأن الإيلاء انعقد على واحدة بغير عينها في حكم الحنث والبرّ جميعاً، وهو يرى أن يجعله منعقد على المعينة في الحكمين جميعاً ولكن إذا مضت المدة ووقع الطلاق على إحداهما يجبر على البيان، هكذا ذكر المسألة في «الجامع» . وذكر في «المنتقى» هذه المسألة في موضعين، وذكر في أحد الموضعين خلافاً بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فقال: إذا وقع الطلاق على إحديهما تعليقاً مضت أربعة أشهر، ثم مضت أربعة أشهر أخرى بانت الأخرى في قول محمد رحمه الله. وفي قول أبي يوسف رحمه الله: لا تبين الأخرى، وفي الموضع الآخر قول أبي يوسف رحمه الله، أو يكون في المسألة عن محمد رحمه الله روايتان. وفي «المنتقى» إذا قال لامرأته: إن قربتك فعبدي هذا حر، فمكث أربعة أشهر ولم يقربها فرافقته إلى القاضي، فأقرّ أن هذا العبد عبده وأنه قال لها: إن قربتك فعبدي هذا حرّ، وإنه قد مضى أربعة أشهر من غير قربان ففرق القاضي بينهما، الإيلاء وجعلها طلاقاً

بائناً، ثم إن العبد أقام البينة أنه حرّ الأصل وقضى القاضي بحريته، فإنه يبطل الإيلاء والطلاق، وتردّ المرأة على زوجها؛ لأنه تبين أنه لم يكن مولياً، ولو لم يُقم العبد بينة على أنه حر الأصل ولكن أقام رجل بينة أن العبد عبده، وقضى القاضي بالعبد للمستحق، وقال الزوج: العبد عبدي وشهوده زور فإن هذا في (القياس) والعتق سواء، ألا ترى إلى..... في هذا على ما قضاؤه بائعه بالثمن، وكذلك أبطل الإيلاء فيه، وقال: تعد هذه المسائل قضاؤه بالإيلاء، وفرق ما قضى على الزوج بإقراره أن العبد عبده وأن ما قضى به لازم ثم قال متصلاً به، والعتاق والاستحقاق سواء في جميع ذلك ما لم يكن في العتاق بسبب معروف أو أمرٍ مشهور. فإذا جاء الأمر على ذلك أُبطل قضاء القاضي الإيلاء، وقال في هذا الموضع أيضاً: إن كان الاستحقاق في الأربعة الأشهر أو بعدها قبل أن يقضي القاضي بالفرقة، فإن القاضي يبطل الإيلاء قِبَل أنه قضى بالعبد للغير. نوع آخر في الإيلاء في الغاية الإيلاء المعقود إلى غاية له حكمان: أحدهما: حال قيام الغاية، والثاني: بعد فوات الغاية. فأما حكمه حال قيام الغاية: أن الغاية إذا كانت شيئاً يحلف بها أو يلتزم بالنذر ويتوهم بقاؤها إلى تمام مدة الإيلاء ينعقد الإيلاء، وإن كان يتوهم وجودها في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته، وذلك كالعتق والطلاق والصوم لا يَنْعَقِدْ بالإيلاء. وإن كانت الغاية شيئاً لا يحلف بها ولا تلتزم بالنذر؛ إن كان يتوهم وجودها في مدة الإيلاء حال قيام النكاح عتق عبده، ودخول الدار، لا ينعقد الإيلاء، وإن كان لا يتوهم وجودها في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته، وإنما يتوهم وجودها حال انقطاع النكاح وفساده كقتله أو قتلها فإنه ينعقد الإيلاء. وهذا كله قول أبي حنيفة رحمه الله ومحمد رحمه الله، فأما على قول أبي يوسف رحمه الله: إن كانت الغاية شيئاً يتوهم وجودها في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته، لا ينعقد الإيلاء، سواء كانت الغاية مما يُحلف بها أو لا يحلف بها يتوهم بقاؤها إلى مدة الإيلاء أو لا يتوهم. وإن كانت الغاية شيئاً لا يتوهم وجودها في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته، وإنما يتوهم وجودها حال انقطاع النكاح وفساده ينعقد الإيلاء على كل حال (285ب1) . بيانه: إذا قال لامرأته: والله لا أقربك حتى أعتق عبدي فلان، أو حتى أطلق امرأتي فلانة، أو حتى أصوم شهراً، فإنه يصير مولياً عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن الغاية شيء يُحلف بها غالباً، قد تلتزم بالنذر، ويتوهم بقاؤها إلى تمام مدة الإيلاء، وعند

أبي يوسف رحمه الله لا يكون مولياً؛ لأن الغاية يتوهم وجودها في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته. وإذا قال: والله لا أقربك حتى أقتل عبدي فلاناً، أو حتى أضرب عبدي فلاناً، فإنه لا يصير مولياً بلا خلاف. أما عندهما؛ لأن الغاية لا يحلف بها ولا تلتزم بالنذر، وأما عند أبي يوسف رحمه الله: فلأنه يتوهم وجود الغاية في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته. وإذا قال: والله لا أقربك حتى أقتلك أو قال: حتى تقتليني، أو قال: حتى أُقْتَل أو حتى تُقْتَلي كان مولياً عندهم جميعاً. أما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: فلأن الغاية وإن كانت شيئاً لا يحلف بها إلا أنه لا يتوهم وجودها في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته. وأما على قول أبي يوسف رحمه الله: فلأنه لا يتوهم وجود الغاية في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته. أو نقول بأن قتلها أو قتله لا يصلح غاية؛ لأن الغاية في اليمين إنما تذكر لإخراج ما وراء الغاية بحيث لولا الغاية لتناول اليمين كلها، واليمين لا تتناول ما وراء قتل أحدهما؛ لأن النكاح لا يبقى بعد موت أحدهما، والقربان لا يتصور، فلم تصح هذه الأشياء غاية، فصار ذكرها والعدم بمنزلة، ولو لم يذكر الغاية كان مولياً كذا هاهنا. ولو قال لامرأته وهي أمة لغيره. والله لا أقربك حتى استبرئك، لا يكون مولياً عندهم جميعاً؛ لأن ما جعله غاية يتوهم وجوده في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته، بأن استبرأها لغيره. ولو قال: لا أقربك حتى أملكك أو...... منك فهو مولي عندهم جميعاً؛ لأنه لا يتوهم وجود الغاية في مدة الإيلاء مع بقاء النكاح وبيانه. هذا بيان حكمه حال بقاء الغاية. أما بيان حكمه بعد فوات الغاية فنقول: فإذا فاتت الغاية وصارت مستحيلة الكون بحيث لا توجد على ما عليه الغالب فإنه يسقط الإيلاء، سواء كانت الغاية مما يلزم مثلها ديناً في الذمة حال فواتها متى كان منذوراً بها كالصوم، أو لا يلزم مثلها ديناً في الذمة حال فواتها، بأن كان منذوراً بها كالطلاق والعتاق، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا يسقط الإيلاء بفوات الغاية أي شيء ما كانت الغاية، وتصير اليمين مرسلة فيصير مولياً حين فاتت الغاية عنده، وعلى قول محمد رحمه الله بأن كانت الغاية مما يلزم مثلها ديناً في الذمة عند فواتها لو كان المنذور بها كالطلاق والعتاق يبطل الإيلاء بفواتها، وإن كانت الغاية مما يلزم مثلها ديناً في الذمة عند فواتها لو كان منذوراً بها كالصوم المضاف إلى وقتٍ بعينه وقد فات، فإنه لا يبطل الإيلاء بفوات مثل هذه الغاية.

بيان هذا: إذا قال لها: والله لا أقربك حتى أقتل فلاناً فإنه لا يكون مولياً قبل موت فلان بالإجماع؛ لأنه يتوهم وجود الغاية في مدة الإيلاء حال قيام النكاح وثباته، وإنه مما لا يحلف به ولا يلتزم بالنذر عادةً، فإذا مات بطلت اليمين عندهما؛ لأن الغاية فاتت على سبيل التأبيد، وعند أبي يوسف رحمه الله: متى مات فلان صارت اليمين مرسلة، ولو قال لها: لا أقربك حتى يأذن لي فلان لا يصير مولياً؛ لأن الغاية مما لا يحلف بها ولا يلتزم بالنذر، ويتوهم وجودها في المدة مع قيام النكاح وثباته، ولكن اليمين منعقدة، فإن مات فلان قبل الإذن سقطت اليمين عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف رحمهم الله: تصير اليمين مرسلة، ويصير مولياً من حيث مات حتى لو قربها قبل مضي أربعة أشهر تلزمه الكفارة، ولو لم يقربها حتى مضت أربعة أشهرٍ بانت منه بالإيلاء. ولو قال لها: والله لا أقربك حتى أصوم شعبان، قال ذلك في رجب لا يصير مولياً في قولهم جميعاً. أما على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فلأنه لا يتوهم بقاء الغاية إلى تمام مدة الإيلاء، فيمكنه قربانها بعد الغاية في مدة الإيلاء من غير شيء يلزمه. وعند أبي يوسف رحمه الله: يتوهم وجود الغاية في مدةٍ تمنع انقعاد الإيلاء فَتَحَقُّقُ الوجود أولى ولكن وجود اليمين منعقدة، فإذا طلع الفجر من أول يوم في شعبان وأكل أو صنع صنيعاً لا يستطيع معه الصوم بطلب اليمين عند أبي حنيفة رحمه الله لضرورة الغاية ما..... الوجود، وعند أبي يوسف رحمه الله بفوات الغاية صارت اليمين مرسلة وصار مولياً من حين أكل، وعند محمد رحمه الله: كما أكل يصير مولياً؛ لأن هذه غاية..... مثلها ديناً في الذمة حال فواتها لو كان منذوراً بها، وإذا قال لامرأته: إن قربتك فعليَّ صوم شعبان. لو قربها بعد مضي شعبان يلزمه صوم شهر آخر بغير عينه، وفوات مثل الغاية لا يوجب بطلان اليمين؛ لأنه يكون فائتاً إذا حلف، وإذا بقيت اليمين عند محمد رحمه الله صار مولياً من حين حلف؛ لأنه من حيث حلف صار بحالٍ لا يمكنه قربانها من غير شيء يلزمه. وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال لامرأته: والله لا أقربك حتى أقرب فلانة، يريد به امرأة أخرى له، ثم قال لفلانة: والله لا أقربك، فهو مولي منها دون الأولى. وذكر ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: إذا قال لامرأته: والله لا أطأك حتى أطأ فلانة يريد امرأة أخرى له، ثم قال لفلانة: والله لا أطأك حتى أطأ فلانة، يريد به المرأة الأولى، لم يكن مولياً من واحدة منهما من قبل أنه لا يكون مولياً من امرأته بحيث يطأها في..... خلف بها على غيره ألا ترى أنه لو قال لامرأته: والله لا أطأك حتى أدخل هذه الدار ثم قال: والله لا أدخلها لا يكون مولياً من امرأته، وعن محمد رحمه الله: فيمن قال لامرأته: إن قربتك ما دمت معي فأنت طالق ثلاثاً، قال: يطلقها تطليقة بائنة ثم يتزوجها من ساعته فيطأها ولا يحنث.

وعلى هذا إذا قال لها: والله لا أقربك ما دمت امرأتي، فأبانها ثم تزوجها لم يكن مولياً، ويقربها ولا يحنث، وهذا بخلاف ما لو قال: والله لا أقربك وأنت امرأتي، فأبانها ثم تزوجها كان مولياً منها. عن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لامرأته: (286أ1) والله لا أقربك ما دام هذا النهر يجري، قال: إن كان هذا مما لا ينقطع فهو مولي، وإن كان ينقطع فليس بمولي. وفي «المنتقى» : إذا قال لها: والله لا أقربك ما دمت حاملاً، أو قال: حتى تضعي، فمضت بعد ذلك أربعة أشهر لا يدخل عليه الإيلاء. نوع آخر في الفيء في باب الإيلاء مشروع عرف شرعه بقوله: {فإن فاءوا} (البقرة: 226) ، له تُعَد عبارة عن الرجوع، يقال: فاء الظلِّ: أي رجع، سمي الفيء في الإيلاء فيئاً لأن المولي بالإيلاء قصد منع حقها في الجماع وبالفيء يرجع عما قصد. وأنه على ضربين: أحدهما: بالوطء والآخر بالقول عند العجز عن الوطء فينظر في حال الزوج حتى آلى من امرأته إيلاءً مرسلاً، فإن كان صحيحاً قادراً على الجماع، وإن كان مريضاً في كل المدة ففيئه باللسان يعتبر في حق أخذ حكمته، حتى أنه إذا فاء إليها بالجماع، ومضت المدة لا تطلق بالإيلاء. وكذلك لو جامعها في المدة وجبت لو جامعها مرة أخرى في المدة لا يحنث، ولا تلزمه كفارة، ولو فاء إليها بلسانه ومضت المدة لا تطلق بالإيلاء، ولكن لو جامعها في المدة يحنث ويلزمها الكفارة. فالحاصل: أن الفيء باللسان يعمل عمل الجماع في حق إبطال الإيلاء في حق الطلاق لا في حق الحنث، ويجوز أن يبطل الإيلاء في حق الطلاق ويبقى في حق الحنث ألا ترى من آلى من امرأته ثم طلقها ثلاثاً يبطل الإيلاء في حق الطلاق ولا يبطل في حق الحنث، حتى لو جامعها تلزمه الكفارة كذا هاهنا. هذا إذا كان مريضاً في كل المدة، ولو كان مريضاً في بعض المدة وصحّ في بعض المدة وقدر على الجماع، وذلك قبل أن يفيء إليها بلسانه ففيئه بالجماع، ولو كان فاء إليها بلسانه وهو مريض ثم زال المرض في المدة وقدر على الجماع بطل الفيء باللسان، وهذا إذا كان الإيلاء مطلقاً. فأما إذا كان معلقاً بالشرط، فإنه يعتبر الصحة والمرض في حق جواز الفيء باللسان وعلقه وقت وجود الشرط ولا وقت وجود الإيلاء، حتى أن من قال لامرأة وهو صحيح: إن تزوجتك فوالله لا أقربك، فلم يتزوجها حتى مرض مرضاً لا يستطيع الجماع معه، ثم تزوجها وهو مريض وفاء إليها بلسانه، كان فيئه صحيحاً، وهذا لأن الفيء إنما يعتبر بعد انعقاد الإيلاء وإذا كان الإيلاء معلقاً بالشرط فإنما ينعقد الإيلاء بعد مباشرة الشرط،

فكانت العبرة لحال وجود الشرط من هذا الوجه، والمعتبر في اعتبار الفيء باللسان: هو العجز الحقيقي دون العجز الحكمي. وفسّر العجز الحقيقي فقال: أن يكون الزوج مريضاً لا يستطيع جماعها، أو كانت مريضة أو صغيرة لا يستطيع جماعها، أو كانت غائبة وبينهما مسافة لا يقدر على قطعها في مدة الإيلاء. هكذا ذكر في «الجامع» ، ذكر في «القدوري» على هذا فقال: أو تكون مباشرة صحيحة في مكان لا يعرفه، أو تكون المرأة رتقاء فالفيء في جميع ذلك بالقول، وذلك بأن يقول:..... إليها أو راجعتها أو ما أشبه ذلك من الألفاظ الدالة على الرجوع عما عزم عليه. وفسّر العجز الحكمي فقال: أن يكون أحدهما محرماً، ولو كان الزوج..... فهو ملحق بالعجز الحكمي على رواية: «الجامع» حتى لا يعتبر فيه باللسان، وعلى رواية «القدوري» : هو ملحق بالعجز الحقيقي حتى يعتبر فيه باللسان إذا كان لا يقدر أن يدخلها عليه. ثم إنما يعتبر الفيء باللسان في حق المريض حال قيام الزوجية لا بعد البينونة، حتى إن المريض إذا لامس المرأة ومضت أربعة أشهر ولم يفء إليها حتى بانت منه بتطليقة ثم فاء إليها بلسانه، بعد ذلك لا يبطل الإيلاء، حتى لو تزوجها وهو مريض على حالة ثم مضت أربعة أشهر ولم يفء إليها بانت بتطليقة أخرى. أما الفيء بالجماع: كما يعتبر حال قيام الزوجية يعتبر بعد البينونة حتى إن الصحيح إذا لامس امرأته ومضت أربعة أشهر وبانت منه بتطليقة ثم جامعها بعد ذلك يبطل الإيلاء، حتى لو تزوجها بعد ذلك ومضت أربعة أشهر أخرى من غير جماع لا يقع عليها طلاق آخر وإنما افترقا؛ لأن الفيء باللسان شرع لاستدامة الملك؛ لأن الملك صار على شرف الزوال بمضي مدة الإيلاء إذا لم يوجد الفيء، والشرع شرع الفيء باللسان لاستدامة الملك، أما ما شرع لإبطال اليمين؛ لأن بطلان اليمين حكم الحنث، والحنث بالجماع وبالفيء باللسان. وإذا كان الفيء باللسان مشروعاً لاستدامة الملك، فإنما يصح في حال بقاء الملك، وأما بعد البينونة ليس حال بقاء الملك، وأما الفيء بالجماع كما شرع لاستدامة الملك شرع لإبطال اليمين؛ لأن الجماع شرط حنث في الإيلاء وبالحنث يبطل اليمين، وبعد البينونة إن تعذر شرعه وتصحيحه استدامة الملك.... تصحيحاً إبطالاً لليمين فصححناه والله أعلم.

الفصل الخامس والعشرون في مسائل اللعان

الفصل الخامس والعشرون في مسائل اللعان يجب أن يعلم بأن اللعان مشروع فيما بين الأزواج ثبت شرعه بقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} (النور: 6) الآية. وبما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمعن بني العجلاني وبين امرأته، وبين هلال بن أمية وبين امرأته. وسببه: قذف الرجل امرأته بالزنا. وصورته: ما قال محمد رحمه الله في «الأصل» : أن يبدأ القاضي بالزوج فيقول له: قم فالتعن، فيقول الرجل أربع مرات: أشهد بالله أني صادق فيما رميتها من الزنا ويقول في المرة الخامسة لعنة الله عليه إن كنت كاذباً فيما رميتها من الزنا. ثم تقول المرأة وتقول أربع مرات: أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني من الزنا، وتقول في المرة الخامسة: غضب الله عليها إن كان صادقاً فيما رماني من الزنا. وهذا الترتيب استفيد من كتاب الله تعالى. ومحمد رحمه الله ذكر قيامهما عند اللعان وأنه ليس بأمرٍ لازم، ألا ترى أن كتاب الله تعالى لم يتعرض له؟ وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يحتاج إلى لفظة المواجهة وهو أن يقول: فيما رميتك من الزنا؛ لأنه إذا ذكر المغايبة ويمين فيه شبهة واحتمال. وقال أبو الحسن الكرخي: إذا ذكر بلفظ المغايبة وأشار (286ب1) كفى؛ لأن بالإشارة ينقطع الاحتمال. وأهله عندنا من كان أهلاً للشاهدة، حتى أنّ اللعان لا يجري بين الزوجين عندنا إذا كانا محدودين في القذف أو أحدهما، أو كانا رقيقين أو أحدهما، أو كافرين أو أحدهما، أو أخرسين أو أحدهما، أو.I ... ، أو مجنونين أو أحدهما، وفيما عدا ذلك يجري اللعان، وهذا بناءً على أن الزنا في باب اللعان عندنا: شهادات مؤكدات بالأيمان من الجانبين من كان باللعن والغصب قائمة مقام حدّ الزنا من وجه، فيشترط أهلية الشهادة من الجانبين، وإحضان المرأة لوجوبها؛ لأن قذف غير المحصنة لا يوجب الحد على القاذف. أما بيان أن الركن في باب اللعان: شهادات مؤكدات بالأيمان، فإن الله تعالى نص على الشهادة وعلى اليمين حيث قال: {فشهادة أحدهم أربع شهادات با} (النور: 6) فقوله: {فشهادة أحدهم} نص على الشهادة، وقوله {با} يمين بعلمنا، فجعلنا الركن شهادات مؤكدات بالأيمان. فإن قيل: العمل بالشهادة واليمين غير ممكن؛ لأن كلَّ واحدٍ من الزوجين يشهد

لنفسه والشهادة شرعت حجة لغير الشهادة لا للشاهد، واليمين شرعت حجة للحالف، ولأن اللعان شرع مكرراً، والتكرار في اليمين غير مشروع في موضعٍ ما. والدليل على أن اللعان ليس بشهادة؛ إنا أجمعنا أن اللعان يجري بين الأعمى وبين امرأته، والأعمى ليس من أهل أداء الشهادة؟ قلنا: أما الأول: العمل بينهما ممكن في الجانبين، أما في جانب الزوج فلأن الزوج يحتاج إلى الشهادة ليدفع ما ثبت عن نفسه حد القذف واحتاج إلى اليمين لتنقطع التهمة عن شهادته؛ لأنه يشهد لنفسه والمرأة كذلك تحتاج إلى الشهادة لتدفع ما ثبت عليها من الزنا بشهادة الزوج، فإن الزنا قد ثبت على المرأة بشهادة الزوج، وإليه وقعت الإشارة في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات با} (النور: 8) أشار إلى أن العذاب قد يوجه عليها بحجةٍ سبقت ويسقط ذلك بلعانها وهو معقول، فإن ما ثبت بالشهادة لا يندفع إلا بالشهادة ويحتاج إلى اليمين أيضاً لتدفع التهمة عن شهادتها. واليمين لدفع التهمة مشروعة كما في المودع. وقوله: بأن الشهادةأن تشرع حجة للشاهد، قلنا: إنما لم تشرع حجة لمكان التهمة، وهاهنا انقطعت باليمين. وقوله: بأن اللعان شرع مكرراً، قلنا: لأن الواجب إقامة أربع شهادات من أربع شهداء، وقد عجز عن إقامة أربع شهود، أما (ما) عجز عن إقامة أربع شهادات. أما فصل الأعمى قلنا: لأنه من أهل الشهادة إلا أنه إنما لا تقبل شهادته لأنه لا يمكنه اليمين بين المشهود له وبين المشهود عليه إلا بالتهمة بشبه التهمة فيتمكن في شهادته بشبهة الغلط، وهذه التهمة هاهنا؛ لأن المشهود له نفسه والمشهود عليه امرأته، ويمكنه التمييز بين نفسه وبين امرأته بحيث لا تمكن فيه تهمة الغلط. وأما بيان أنها قائمة مقام حد القذف من وجه من جانب الزوج، ومن جانب المرأة قائمة مقام حد الزنا من وجه؛ لأن اللعان شهادة من الجانبين إلا أنها شهادة حكماً وليست بشهادةٍ حقيقيةً، فمن حيث إنها ليست بشهادة حقيقيةً لم يندفع حد القذف عن الزوج إذا كانت المرأة محصنة، ومن حيث إنها شهادة حكماً ثبت الزنا على المرأة واندفع حد القذف عن الزوج، فكان حد القذف عن الزوج مندفعاً من وجهٍ دون وجه، فلم يجب الحد بالاحتمال، واكتفى باللعان الموجبة للحرمة في الدنيا، والمؤاخذة في الآخرة حداً من جانبه إن كان كاذباً، وكذلك في جانب المرأة ثبت الزنا بشهادة الزوج عليها ولم تندفع شهادتهما لنفسها من كل وجه، بل اندفعت من وجهٍ دون وجه، فلم يجب الحد عليها أيضاً بالاحتمال، واكتفى باللعان الموجبة للحرمة في الدنيا والمؤاخذة في الآخرة حدّاً في جانبها إن كانت كاذبة. ومعنى العقوبة في اللعان في حرمة المتعة في الدنيا على تبيين بعد هذا ونفي المؤاخذة في الآخرة. فإن قيل: ما ذكرتم من المعنى ليس بصحيح، وإن الزوج لو أكذب نفسه بعد اللعان يقام عليه حد القذف، ولو كان اللعان قائماً مقام حد القذف كان بدلاً عنه، والجمع بين البدل والمبدل لا يجوز.

قلنا: اللعان إنما كان قائماً مقام حد القذف من حيث إنه يوجب حرمة المتعة في الدنيا والمؤاخذة في الآخرة لم..... بعد، والأصل أنه إذا ثبتت القدرة على الأصل قبل حصول المقصود من البدل أن يسقط حكم البدل. وحكمة: حرمة الاستمتاع إذا فرغا من اللعان من غير حكم القاضي، حتى أن بعد التلاعن لا يحل لأحدهما الاستمتاع بصاحبه. نصّ عليه محمد رحمه الله في «المنتقى» إلا أن الفرقة لا تثبت إلا بقضاء القاضي بالفرقة بينهما، وإنما ثبتت هذه الحرمة بنفس اللعان بالحديث، قال عليه السلام «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً» وفي إباحة الاستمتاع اجتماع، فيحرم الاستمتاع، وإنما يوقف وقوع الفرقة بينهما على قضاء القاضي لحديث العجلاني، فإن رسول الله عليه السلام لما لاعن بين العجلاني وبين امرأته، «قال العجلاني: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فهي طالق ثلاثاً، ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّممقالته» ، ولو كانت الفرقة تقع بنفس اللعان لأنكر. وعن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن السُّنّة بين المتلاعنين فقال: التفريق بينهما متى فرغا من اللعان. ثم العلماء اختلفوا في حق الحرمة التي ثبتت بينهما بنفس اللعان. قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: تثبت حرمة مؤقتة إلى غاية تكذيب أحدهما نفسه. وقال أبو يوسف رحمه الله: تثبت حرمة مؤبدة كحرمة الرضاع والصهرية. وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا أكذب الملاعن نفسه بعدما فرق القاضي بينهما ثم إذا أراد أن يتزوجها قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى: أن يتزوجها، وقال أبو يوسف وزفر رحمهما الله: ليس له أن يتزوجها. حجة أبو يوسف وزفر رحمهما الله قوله عليه السلام: «المتلاعنان لا يجتمعان أبداً» . حجة أبي حنيفة رحمه الله: أن الثابت بالنصِّ اللعان بين الزوجين، والثابت (287أ1) بالإجماع على أصل الحرمة، فمتى أثبتت الحرمة المؤبدة فقد أثبتت الزيادة على النص والإجماع، وإنه لا يجوز. والمعنى: أن اللعان غير موضوع للفرقة، وإنما حكم بالفرقة لفوات الإمساك بالمعروف عن جهة الزوج، ويعتبر التسريح بالإحسان، وقيام القاضي مقامه عند امتناعه عن التسريح بالإحسان، ومثل هذا يكون طلاقاً؛ لأن فعل القاضي بثباته كفعله بنفسه، وإذا ثبت أنه طلاق والحرمة الواقعة بالطلاق لا تتأبد والحديث لا حجة له فيه؛ لأن النبي عليه السلام نفى اجتماع المتلاعنين، وحقيقة هذا الاسم لمن يكون مشغولاً

باللعان.... ولمن نفى اللعان في حقه حكماً، وعندنا لا يجتمعان ما بقي اللعان بينهما حكماً، وإنما يجتمعان، إذا زال اللعان حكماً بالإكذاب؛ لأنه وجب عليه حدّ القذف بإكذابه نفسه، ومن ضرورته بطلان اللعان. ولو أكذب نفسه وجب الحد، ولو صدقته المرأة فلا حدّ ولا لعان، وإذا أخطأ الحاكم وفرق بينهما بعد وجود أكثر اللعان من واحدٍ منهما وقعت الفرقة، وإن كان قبله لم تقع. ولو أخطأ الحاكم فبدأ بالمرأة قبل الزوج فإنه يعيد اللعان على المرأة فإن لم يفعل وفرق بينهما وقعت الفرقة. ولو التقيا عند الحاكم ولم يفرق بينهما حتى عُزل، أو مات، فإن الحاكم الثاني يستقبل اللعان بينهما في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد رحمه الله: لا يستقبل. ولو طلقها ثلاثاً أو بائناً بعد القذف فلا حد ولا لعان. وكذا لو تزوجها بعد ذلك ولو كان الطلاق رجعياً لاعن؛ لأن الزوجية قائمة من كل وجهٍ وكان الحال بعد الطلاق الرجعي والحال قبله سواء. وأي الزوجين أبى أن يلتعن حُبِسَ؛ لأن في اللعان معنى اليمين والحد، إن كان فيه معنى الشهادة، والخبر يجري على اليمين والحد، إن (كان) لا يجري على الشهادة. وإذا نفى ولد زوجته بأن قال: هذا الولد ليس مني، يلاعنها بقول الرجل: أشهد بالله أني لصادق فيما رميتك من نفي الولد، وكذا في جانب المرأة. ولو قذفها بالزنا ونفى الولد ذكر في اللعان الأمرين، كما ذكر الزوج في القذف الأمرين، فإذا فرغ من ذلك فرّق القاضي بينهما ولزم الولد أمه، وروى عن أبي يوسف رحمه الله: أن القاضي يفرق بينهما ويقول: التزمته...... فيه من نسب الوالد؛ لأنه ليس من ضرورة اللعان والتفريق به نفي النسب، كما بعد موت الولد يفرق بينهما ولا ينتفي نسب الولد، فلا بد من تصريح القاضي بنفي الولد لهذا. أما إذا ثبت بإقراره أو بطريق الحاكم لا ينتفي بعد ذلك، وأما إذا ثبت بإقراره فلأنَّ الإنكار بعد الإقرار غير مسموع، وأما إذا ثبت من طريق الحاكم. بيانه: فيما روي عن محمدٍ وأبو يوسف رحمه الله في رجلٍ جاءت امرأته بولد فنفاه، فلم يلاعنها حتى قذفها أجنبي بالولد، ثبت نسب الولد ولا ينتفي بعد ذلك؛ لأنه لما حُدَّ قاذفها فقد حكم بكذبه، وذلك حكم بثبات النسب، والنسب المحكوم به لا ينتفي. ولو نفى ولد زوجته فهما ممن لا لعان بينهما لا ينتفي؛ لأن المثبت للنسب وهو الفراش وأتم القطع باللعان، فإذا امتنع انعدم القاطع فيثبت النسب بسببه. وكذلك لو كان العلوق في حالٍ لا لعان بينهما ثم صار الحال يتلاعنان، نحو إن كانت المرأة أَمَةً أو كتابيةً حالة العلوق فأعتقت أو أسلمت، فإنه لا تتلاعن ولا ينتفي

نسب الولد؛ لأن ثبات النسب وقت العلوق. فإذا كان العلوق على وجهٍ لا يمكن قطعه وإبطاله فلا يعتبر هذا الحكم بعد ذلك. ولو نفى ولد الحرة فصدقته فلا حدّ على الزوج ولا لعان، وهو أنهما لا يصدقان على النفي، أما لا حدّ ولا لعان لمكان التصديق، وأما يصدقان على نفي نسب.... الولد فلأن نسب الولد قد ثبت بحكم الفراش والقاطع هو اللعان، واللعان ممتنع. ولو جاءت بولدين في بطنٍ واحد فأقرّ بالأول ونفى الثاني لزمه الولدان ويلاعنها. ولو نفى الأول وأقرّ بالثاني حدّ؛ لأن في المسألة الثانية بنفي الأول صار قاذفاً لها بالزنا، وبالإقرار للثاني صار مكذباً نفسه ذلك النفي؛ لأن الإقرار بنسب أحدهما إقرار بنسبتهما؛ لأنهما توأمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر في حق النسب، وهذا التكذيب (إن) وجد بعد النفي حقيقة وحكماً فيلزمه الحد، فأما في المسألة الأولى بنفي الثاني صار قاذفاً لها بالزنا، وبالإقرار صار مكذباً نفسه في نفي الثاني حكماً حيث إن الإقرار للأول باقي، ولكن هذا أمر حكمي، أما الإقرار بعد القذف لم يوجد حقيقة. فباعتبار الحكم أن صار مكذباً نفسه، فباعتبار الحقيقة لا يصير مكذباً بنفسه فلا يجب الحد مع الشك. .... نفاهما ثم مات أحدهما أو قتل لزمه الولدان؛ لأنه لزمه نسب الميت على وجهٍ لا يمكن قطعه فيلزمه نسب الآخر ضرورةً وبطل اللعان في قول أبي يوسف، وقال محمد رحمه الله: لا يبطل؛ لأن حكم اللعان ينفصل عن الولد في الجملة، فامتناع قطع نسب الولد لا يمنع اللعان، وأبو يوسف رحمه الله يقول: القذف حال وجوده انعقد موجباً إلغاء ما ينقطع له نسب الولد، فلو بقي بعدما صار نسب الولد بحال لا ينقطع لا يكون البقاء على وقف الثبوت. ولو ولدت أحدهما ميتاً فنفاهما لزمه الولدان ويلاعن، لأن القذف هاهنا انعقد موجباً إلغاء ما لا ينقطع به نسب الولد فيكون البقاء على وقف الثبوت، بخلاف المسألة الأولى على قول أبي يوسف رحمه الله. وإذا نفى حمل امرأته فليس بقاذف ولا لعان في قول أبي حنيفة رحمه الله وزفر، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا جاءت بولد لأقل من ستة أشهر لاعَنَهَا، فإن كان أكثر يلاعن، وأجمع أصحابنا أنه لا ينتفي نسبه وهو حملٌ؛ لأن انتفاخ البطن محتمل، يحتمل أن يكون عن ولدٍ، ويحتمل أن يكون عن ولد ويحتمل أن يكون عن ريح أو علة أخرى، فتمكنت الشبهة، واللعان فيما بين الأزواج أقيم مقام الحد فيما بين الأجانب فلا يقام مع الشبهة. بقي الكلام بين أبي حنيفة وصاحبيه (287ب1) . حجتهما: أنها لما جاءت به لأقل من ستة أشهرٍ يثبتان أن الحبل كان موجوداً حين نفاه عن نفسه فكان هذا ونفيه بعد الولادة سواء، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن انتفاخ البطن لما كان محتملاً لما مرّ لا يصح

الفصل السادس والعشرون في مسائل العدة بالحيض

النفي للحال، فيصير الفرق في معنى المعلق كأنهُ قال: إن كنت حاملاً فأنت بائنة. الفصل السادس والعشرون في مسائل العدة بالحيض يجب على المطلقة، وكذلك بالفرقة عن النكاح الفاسد، وكذلك بالوطء بشبهة النكاح؛ لأن الفاسد معتبر بالجائز في حق الأحكام، والشبهة ملحقة بالحقيقة في موضع الاحتياط، وتعتبر العدة في النكاح الفاسد من وقت التفريق، كذا ذكر الكرخي رحمه الله، والشهور تدل على الحيض فيمن لا تحيض لصغر أو كبر أو فقد حيض. يعني به: الآيسة. والحرة تعتد بثلاث حيض وثلاثة أشهر، والأمة تعتد بحيضتين وبشهرين ونصف، وعدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت حائلاً وهي حرة أربعة أشهرٍ وعشراً، يستوي في ذلك الدخول وعدم الدخول والصغر والكبر. ولا تجب هذه العدة إلا في النكاح الصحيح، حتى أن المنكوحة نكاحاً فاسداً إذا مات عنها زوجها تعتد بثلاث حيض؛ لأن الله تعالى نص على الأزواج مطلقاً بقوله تعالى: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً} (البقرة: 240) ومطلق هذا الاسم لا يثبت إلا بالنكاح الصحيح. وإن كان المتوفى عنها زوجها أمة وهي حائل فعدتها شهران وخمسة أيام. وفي الحامل عدتهما أن تضع حملها، الحرة والأمة والمطلّقة والمتوفى عنها زوجها في ذلك سواء؛ لأن قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} (الطلاق: 4) لا يفصل بين الحرة والأمة والمطلقة والمتوفى عنها زوجها، ولا تقدير في حدّ الآيسة بالسنين في رواية، وإياسها على هذه الرواية أن تبلغ من السن ما لا يحيض مثلها، فإذا بلغت هذا المبلغ وانقطع الدم يحكم بإياسها. وإن رأت بعد ذلك دماً يكون حيضاً على هذه الرواية ويظهر كونها حائضاً في حق بطلان الاعتداد بالأشهر، وفي فساد الأنكحة. وفي رواية فيها تقدير. واختلفت الأقاويل في التقدير. قال الصدر الشهيد رحمه الله: والمختار خمسة وخمسون سنة، وعليه أكثر المشايخ، فإذا بلغت هذا المبلغ وانقطع دمها حكم بإياسها. فإن رأت الدم بعد ذلك هل يكون حيضاً على هذه الرواية؟ فقد اختلف المشايخ فيما بينهم. قال بعضهم: لا يكون حيضاً ولا يبطل به الاعتداد بالأشهر، ولا يظهر فساد الأنكحة، وقال بعضهم: يكون حيضاً ويبطل به الاعتداد بالأشهر؛ لأن الحكم بالإياس بعد خمس وخمسين سنة كان بالاجتهاد و...... بالنص، فإذا رأت الدم فقد وجد النص بخلاف الاجتهاد فيبطل حكم الإياس الثابت بالاجتهاد، ولهذا قال هؤلاء

المشايخ: الدم المرئي بعد هذه المدة إنما يكون حيضاً إذا كان أحمر أو أسود، أما إذا كان أخضر أو أصفر لا يكون حيضاً؛ لأن يكون هذا المرئي ثبت حيضاً بالاجتهاد فلا يبطل حكم الإياس الثابت بالاجتهاد، فعلى قول هؤلاء: يبطل الاعتداد بالأشهر، ويظهر فساد الأنكحة، وقال بعضهم: إن كان القاضي قضى بجواز ذلك النكاح ثم رأت الدم، لا يقصى بفساد ذلك النكاح. وطريق القضاء: أن يدعي أحدهما يعني أحد الزوجين فساد النكاح بسبب قيام العدة فيقضي القاضي بجوازه. وانقضاء العدة بالأشهر. وكان الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله يفتي: بأنها لو رأت الدم بعد ذلك على أي جهة رأت يكون حيضاً، ويفتي ببطلان الاعتداد بالأشهر إن كانت رأت الدم قبل تمام الاعتداد بالأشهر، وبفساد الأنكحة إن كانت (رأت) الدم بعد تمام الاعتداد بالأشهر، قضى القاضي بجواز الأنكحة أَمْ لا. وعدة أم الولد ثلاث حيض، إذا أعتقها مولاها أو مات عنها عندنا، والأصل فيه: ما روي « (أن) مارية القبطية اعتدت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم بثلاثة أقراء فكانت هي أم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلّمولا تعرف المقادير قياساً فالظاهر أنها سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولأن فراش أم الولد بعد العتق ملحق بفراش المنكوحة الحرة في حق حكم يتعلق بقيام الفراش وهو النسب، حتى يثبت نسب ولدها من غير دعوى. ولا ينتفي بمجرد النفي فيلحق بفراش المنكوحة في حق حكم يتعلق بزوال الفراش وهو العدة أيضاً، وإذا وجبت العدة بالشهور في الطلاق و..... وإن اتفق ذلك في عدة الشهر اعتبرت الشهور بالأهلّة، وإن نقص العدد من ثلاثين يوماً، وإن اتفق ذلك في خلال الشهر فإن عند أبي حنيفة رحمه الله وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله يعتبر مائة وثلاثون يوماً، وعند محمد وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمهما الله: يحتسب الشهر الأول بالأيام ويكمل من الشهر الأخير، وباقي الشهور بالأهلة. فإذا كانت المعتدة حاملاً فولدت ولدين انقضت العدة بأحدهما لأن الله تعالى جعل الأجل في حق الحامل وضع الحمل، والحمل اسم للجملة. وقيل في الرجعية: إذا ظهر منها أكثر الولد بانت ولا تحل للأزواج احتياطاً، فمن مشايخنا من قال: ينبغي أن تحل للأزواج؛ لأن الحل للأزواج معلق بانقضاء العدة وقيام حق الرجعة يبتدىء شرط قيام العدة، فإذا انقطعت الرجعة: دلّ ذلك على انقضاء العدة، فتحل للأزواج، ومنهم من فرق بينهما؛ لأن الأكثر إنما يقام مقام الكل في حق انقطاع الرجعة احتياطاً، والاحتياط في أن لا يقام مقام الكل في حق حِلِّها للأزواج. وروى هشام عن محمد رحمهما الله: إذا طلقها وهي حامل فإذا خرج الولد من قِبَلِ

الرجلين أو من قِبَلِ الرأس النصف من البدن سوى الرجلين وسوى الرأس فقد انقضت العدة، قال محمد رحمه الله: والبدن هو من..... إلى منكبيه. ويجب على الكتابية إذا كانت تحت مسلم ما يجب على المسلمة، الحرة كالحرة، والأمة كالأمة. وإن كانت تحت ذمِّي فلا عدة عليها في الموت، ولا فرق في قول أبي حنيفة رحمه الله (288أ1) إذا كان كذلك في دينهم، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: عليها العدة؛ لأنّ في العدة حق الزوج إن كان فيها حق الشرع، والكتابية مخاطبة بحقوق العباد، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن العدة لو وجبت على الكتابية إما أن تجب بحق الشرع، ولا وجه إليه؛ لأنهم لا يخاطبون بحقوق الشرع، وإما أن يجب لحق الزوج ولا وجه إليه أيضاً؛ لأنه لا يعتقد ذلك، بخلاف ما إذا كان الزوج مسلماً؛ لأن العدة هناك تجب حقاً للزوج؛ لأنه يعتقد ذلك. فرع على قول أبي حنيفة رحمه الله فقال: إذا كانت حاملاً تمنع من التزويج إذا كان ذلك في دينهم، هكذا وقع في بعض النسخ. وفي بعض النسخ: بعض إذا كانت حاملاً تمنع من التزويج على قول أبي حنيفة رحمه الله ولم يذكر إذا كان كذلك في دينهم فإن كانت الرواية تمنع عن التزوج من غير ذكر تلك الزيادة فوجهه أن المنع من التزوج على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ما كان لوجوب العدة بل (لكونه) في بطنها ولد ثابت النسب، ألا ترى أن المولى إذا زوّج أم ولده وهي حامل فإنه لا يجوز وإن لم يكن عليها عدة؛ لأن في بطنها ولد ثابت النسب. وإذا كانت الرواية: إذا كان ذلك في دينهم يجوز أن يقال بأنّ المنع عن التزويج لوجوب العدة؛ لأن أبا حنيفة رحمه الله يرى وجوب العدة على (أهل) الذمة لحق زوجها الذمي إذا كان زوجها يدين بذلك. لا عدة على المهاجرة في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال: تجب. معنى المسألة: الحربية إذا هاجرت إلى دار الإسلام مسلمة، فوجه قولهما: أن الفرقة وقعت في دار الإسلام وهي مسلمة، فكانت كسائر المسلمات. ولأبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم المؤمنات} إلى قوله: {ولا جناح عليكم أن تنكحوهن} (الممتحنة: 10) أباح التزوج بالمهاجرات مطلقاً، ولم يشترط انقضاء العدة، فهذا دليل على أن العدة.... ولأن العدة أثر من آثار النكاح وتباين الدارين حقيقة وحكماً، فبقي النكاح على ما عرف في موضعه فينافي أثره وهو العدة. وإن كانت حاملاً فعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان: روى أبو يوسف رحمه الله عنه: أنه يجوز النكاح ولا يطأها حتى تضع وهو اختيار الكرخي رحمه الله وروى محمد

رحمه الله عنه أنه لا يتزوجها وجه رواية أبي يوسف رحمه الله أن المنع عن التزويج في الحامل إذا كانت مسلمة لحق صاحب الفراش، ولا حرمة لحق الحربي. وجه رواية محمد رحمه الله: أن النكاح وضع لإثبات الفراش الذي هو أساس النسب، ولما كان في بطنها ولدٌ ثابت النسب كان عليها فراشاً لصاحب النسب، فلا يستقيم إيراد يثبت الفراش لغيره. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف رحمه الله ما يدل على أنه لا عدة على المهاجرة، فإنه قال: إذا خرجت وتركت زوجها في دار الحرب وهي حامل فتزوجت جاز، وإن جاء الزوج مسلماً وتركها في دار الحرب فلا عدة عليها في قولهم جميعاً، وقد فرقوا بين الذمية والحربية فأوجبوا العدة على الذمية من المسلم، ولم يوجبوها على الحربية.h والفرق: أن الذمية من أهل دار الإسلام قد شاع في دار الإسلام....، فلهم الشيوع مقام البلوغ. فأما الحربية في دار الحرب فلا شيوع في دار الحرب فلا يقام مقام البلوغ. وبدون البلوغ لا يثبت حكم النكاح. وإلحاق (الخلوة) الصحيحة يوجب العدة في النكاح الصحيح دون الفاسد؛ لأن الخلوة إنما أقيمت مقام الوطء لوجود التمكين من الوطء، ولا يمكن في النكاح الفاسد فلا تقام الخلوة مقامه. والخلوة الفاسدة على ضربين. وكل خلوة يتمكن بها من الوطء حقيقة وهو ممنوع لحق الشرع تجب العدة، كما لو كان أحدهما صائماً أو محرماً أو حائضاً. وكل خلوة لا يمكن معها الوطء كخلوة المريض المزمن أو الصغير أو الصغيرة فلا عدّة. هكذا ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» . والخصي كالفحل في حق الولد والعدة، كذا ذكر في «الأصل» ولو خلا بها وهي رتقاء فلا عدة عليها. هكذا ذكر في «القدوري» ، وفي «المنتقى» وفي «الأصل» أن عليها العدة؛ لأن الوطء يتصور بالفتق. ولو خلا بها وهي.... فعليها العدة في قول أبي حنيفة رحمه الله: لأن احتمال يزول...... قائم وفي العدة حق الولد وحق الله تعالى فيحتاط فيها وأما على قولهما ذكر أبو الحسن رحمه الله العدة واجبة وعلى قولهما أيضاً. وقال أبو يوسف رحمه الله: إن كان ينزل فعليها العدة وإن كان لا ينزل فلا عدة عليها. إذا طلق الرجل امرأته وهي صغيرة لم تحض، وقد دخل بها فعليها أن تعتد بثلاثة أشهر. هذا هو جواب «الكتاب» . حكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله: إذا كانت الصغيرة مراهقة يُجامَع مثلها وقد كان دخل بها الزوج فعدتها لا تنقضي بالأشهر بل يوقف حالها إلى أن تظهر أنها هل حبلت بذلك الوطء أم لا، فإن ظهر أنها حبلت كان انقضاء عدتها بوضع الحمل. وإن ظهر أنها لم تحبل كان انقضاء عدتها بثلاثة أشهر.

ولو حاضت في الأشهر الثلاثة تستأنف العدة بالحيض؛ لأنها قدرت على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل. ذكر النسفي رحمه الله في «فتاويه» : اختلف مشايخنا في إطلاق إيجاب العدة على الصغيرة، أكثر مشايخنا: لا يُطْلِقُون لفظ الوجوب، لأنها غير المخاطبة، ولكن ينبغي أن يقال: «عرت باندراتسيت» وفي نكاح «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل تزوج صبيّةً (عمرها) ثلاثة عشر سنة وخلا بها وقال: لم أدخل بها، ثم فارقها. قال الفقيه أبو القاسم رحمه الله: أحبّ إليَّ أن تعتد بثلاثة أشهر؛ قال لأن من النساء من يحتمل الجماع إذا بلغت عشراً، أو أَخَذَ في ذلك بالثقة. وفي «الفتاوى» : امرأة بلغت فرأت يوماً دماً ثم انقطع عنها الدم حتى مضت سنة، ثم طلقها زوجها فعدتها بالأشهر؛ لأنها لم تحض، فدخلت تحت قوله تعالى: {واللائي لم يحضن} (الطلاق: 4) . إذا أقرّ الرجل أنه طلق امرأته منذ خمسين سنة، فإن كذبته المرأة في الإسناد أو قالت: لا أدري تجب العدة من وقت (288ب1) . الإقرار، قالوا: هذا الجواب في حق النفقة والسكنى، أما في حق حل التزوج بأختها وأربع سواها تعتبر العدة من وقت الطلاق، وهكذا ذكر في «الجامع» في باب نكاح المخاطبة. وذكر شيخ الإسلام في شرح إقرار «الأصل» أن في حق التزوج بأختها وأربع سواها تعتبر العدة من وقت الإقرار أيضاً، فيتأمل عند الفتوى. وإن صدقته المرأة في الإسناد، قال محمد رحمه الله في طلاق «الأصل» : تجب العدة من وقت الطلاق، واختيار مشايخ بلخ على أنه تجب العدة من وقت الإقرار عقوبة عليه، جزاءً على كتمانه للطلاق، ولكن لا تجب عليه نفقة العدة ولا مؤنة السكنى؛ لأن ذلك حقها وقد أقرت هي بسقوطه وينبغي على قول هؤلاء أن لا يحل له التزوج بالأخت والأربع سواها ما لم تنقض العدة من وقت الإقرار. وحكي عن شيخ الإسلام أبي الحسن السغدي أنه قال: كان يقول ما ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : أن العدة تعتبر من وقت الطلاق محمول على ما إذا كانا متفرقين من الوقت الذي أسند الطلاق إليه. أما إذا كانا مجتمعين فالكذب في كلامهما ظاهر فلا يصدقان في الإسناد. قال محمد رحمه الله: على هذا إذا فارق الرجل امرأته زماناً ثم قال لها: لقد طلقتك منذ كذا، والمرأة لا تعلم بذلك يصدق وتعتبر عدتها ذلك من الوقت. وإذا طلق امرأته في مرض الموت ثلاثاً أو طلاقاً بائناً ثم مات قبل انقضاء العدة فورثت، اعتدت بأربعة أشهر وعشراً فيها ثلاث حيض في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: عليها ثلاث حيض، وكذلك كل بعيدة ورثت، يريد به: إذا ارتد الزوج فقتل أو مات في الردة ورثت وعليها من العدة ما بيّنّا على الاختلاف. وجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن النكاح انقطع فيما بينهما قبل الموت بالطلاق

الثاني والطلقات الثلاث، ولهذا يجب الحدّ إذا وطئها ولم يدع شبهة فلا تنتهي بالموت. وعدة الوفاة إنما تجب بانتهاء النكاح بالموت. يبقى هذا القدر أنها ترث. قلنا: إنما ترث باعتبار العدة لا باعتبار النكاح لأن الزوج لما قصد الفرار رد الشرع عليه قصده وأقام العدة مقام النكاح في حق الإرث فالإرث باعتبار العدة لا باعتبار النكاح. ولهما: أن الزوجية في حق الإرث باقية، لأن جريان الإرث فيما بين الزوجين عرف بالنص، والنص أوجب الإرث باسم الزوج، فبدا بذلك أن متعلق الإرث الزوجية،..... الإرث دلّ على بقاء الزوجية في حق الإرث، فإذا بقيت الزوجية في حق الإرث تنتهي بالموت في حق الإرث، فتجب عدة الوفاة بانتهاء النكاح، وقد كانت عدة الطلاق واجبة بانقطاع النكاح بينهما في حق أحكام أُخَر، فجمعنا بينهما احتياطاً. وإذا كان الطلاق رجعياً في صحة أو مرض، فعدتها أربعة أشهر وعشراً وقد بطل عنها الحيض في قولهم؛ لأن الطلاق الرجعي لا يقطع النكاح عندنا فكانت الزوجية قائمة لدى الموت، والله تعالى جعل الواجب على المرأة عند موت الزوج التربص بأربعة أشهر وعشراً، فكان من ضرورته سقوط الاعتداد بالحيض. وإذا مات الصبي عن امرأة وهي حامل فعدتها (إلى) أن تضع حملها في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف رحمه الله: عدتها الشهور. وجه قوله: إن ظاهر قوله تعالى: {والذين يتوفون منكم} (البقرة: 234) تقضي وجوب الاعتداد بالأشهر على كل متوفى عنها زوجها من غير فصلٍ بينهما إذا كان الزوج بالغاً أو صبّياً، لكن ترك ظاهر الآية فيما إذا كان الزوج بالغاً بالإجماع، ولا إجماع فيما إذا كان الزوج صغيراً فبقي على ظاهره. وهما يقولان أن ظاهر قوله تعالى: {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعنَ حملهن} (الطلاق: 4) يقتضي انقضاء العدة في حق الحامل بوضع الحمل مطلقاً من غير فصلٍ بينهما إذا كان الزوج صغيراً أو بالغاً، وإن كان الحبل حادثاً بعد الموت فعدتها بالشهور في قولهم؛ لأن العبرة في حق وجوب العدة بحال وجوبها وحال وجوب العدة عند الموت، فإذا لم تكن حاملاً عند الموت وجبت العدّة بالأشهر بالآية فلا تتغير بحدوث الحمل بعد ذلك. قال أبو الحسن: العدة تنقضي بحملها، ظاهراً كان عند الموت أو غير ظاهر. والذي لا تنقضي العدة الحادث وهذا صحيح؛ لأن شرط الدخول تحت قوله تعالى: {وأولات الأحمال} (الطلاق: 4) قيام الحبل، لا كونه ظاهراً عند الناس. قال أبو الحسن: وإن حملت التي عدتها الحيض بعد الطلاق حملاً حادثاً فعدتها أن تضع حملها، وإن كان لأكثر من سنتين إذا علم أنها حبلت بعد لزوم العدة لأن الاعتداد بالحيض إنما شرع لتُعْرَفَ براءَةُ الرحم، ومع قيام الحمل لا يحصل تعرّف براءة الرحم فيشترط براءة الرحم لانقضاء العدة.

وفي نكاح «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: (رجل) طلق امرأته ثلاثاً وكتم طلاقها بين الناس. فلما حاضت حيضتين وطئها فحبلت ثم أقرّ بطلاقها كان لها النفقة ما لم تضع؛ لأن عدتها في هذه الصورة تنقضي بوضع الحمل على ما ذكرنا. وإذا بلغ المرأة طلاق زوجها أو موته فعليها العدة من يوم مات أو طلق؛ لأن العدة ليست إلا مدة ضربت لها لمناجزة عمل الطلاق أو لإنهاء النكاح من كل وجهٍ بالموت، ومضي العدة لا يتوقف على التي لم (تعتد) . وإذا طلق امرأته ثلاثاً، فلما اعتدت بحيضتين أكرهها على الجماع، إن كان ينكر أنه طلقها تستقبل العدة، وإن كان مقرّاً بطلاقها مع هذا جامعها على وجه الزنا لا تستقبل العدة. وكذلك من طلق امرأته ثلاثاً ثم أقام معها زماناً، إن أقام منكراً طلاقها لا تنقضي عدتها، كذا حكي جواب المشايخ وجوباً لهما. وإن أقام مقرّاً بطلاقها انقضت عدتها. ولو وطئها وادعى الشبهة بأن قال: ظننت أنها تحلُّ لي، فإنها تستقبل العدة بكل وطئةٍ وتداخل مع الأولى؛ لأنه لا تنقضي الأولى. فإذا انقضت الأولى وبقيت الثانية أو الثالثة فإنها لا تستحق النفقة في هذه الحالة؛ لأن هذه (289أ1) . عدة الوطء لا عدة النكاح، والمرأة لا تستحق النفقة في عدة الوطء، وإن كان الطلاق بائناً واحداً أو اثنتين، ثم وطئها في العدة من غير دعوى الشبهة، ومع العلم بالحرمة تستأنف العدة، وذكر في «مجموع النوازل» أنها لا تستأنف العدة، والأول أصح. وكذلك لو خالعها بمال أو بغير مال، ثم وطئها في العدة مع العلم بالحرمة تستأنف العدة أيضاً بكل وطئة وتداخل مع الأولى؛ لأن لا تنقضي الأولى، وهذا لأن الخلع من كنايات الطلاق، وفي الكنايات اختلاف الصحابة أنها.... أو رواجع، فعلى قول من يقول: رواجع كان الوطء بعد الطلاق الثاني كالوطء في حال قيام النكاح، فتبطل به العدة، ويجب الاستئناف. فثبت شبهة بطلاق العدة ويجب الاستئناف، وإذا انقضت الأولى بقيت الثانية أو الثالثة كانت الثانية أو الثالثة عدة الوطء حتى لو طلقها الزوج في هذه الحالة لا يقع طلاق آخر. فالأصل أن المعتدة بعدة الطلاق يلحقها الطلاق، والمعتدة بعدة الوطء لا يلحقها الطلاق. وإذا قال زوج المعتدة: أخبرتني أن عدتها قد انقضت، وذلك في عدة لا تنقضي في مثلها العدة لا يقبل قولها إن أخبرت بذلك بنفيها وهذا معروف. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: إلا أن يعتبر ما هو محتمل من إسقاط سقط مستبين الخلق أو نحوه، فحينئذٍ يقبل قولها. وإذا أخبر عن انقضاء العدة في مدة تنقضي في مثلها العدة وكذبت المرأة فهي خلافية معروفة، وإذا أخبر عن انقضاء عدتها، ولم يسند الخبر إليها، فهو على الخلاف أيضاً.

نص عليه شيخ الإسلام رحمه الله في آخر الباب الأول من «شرح كتاب النكاح» . وإذا وجبت العدتان من جنس واحد كالمطلقة إذا تزوجت في عدتها فوطئها الثاني، وفرق بينهما، ومن جنسين كالمتوفى عنها زوجها إذا وطئت بشبهة تداخلت، واعتدت بمارأته في الحيض في الأشهر، وإنما كان كذلك؛ لأن العدة في الأصل إنما وجبت تعرفاً لبراءة الرحم، لحاجة الأزواج إلى صيانة مائهم عن الاختلاط، وهذا المعنى وهو تعرف براءة الرحم يحصل لكل واحد من صاحبي العدة بمدة واحدة على الكمال، فلا حاجة إلى اشتراط مدتين. نوع منها في انتقال العدة الصغيرة إذا اعتدت ببعض الشهور، ثم رأت الدم انتقلت إليه مبتوتة كانت أو رجعية، وكذا الآيسة إذا أعتدت ببعض الشهور ثم رأت الدم انتقلت إليه، هكذا ذكر القدوري رحمه الله في «شرحه» : وهذا على الرواية التي لم يقدر الإياس فيها، وعلى الرواية التي قدر الإياس فيها على قول بعض المشايخ، ولو اعتدت بحيضة أو حيضتين ثم آيست استقبلت العدة بالشهور، ولو طلق الأمة ثم أعتقت، فإن كان الطلاق رجعياً انتقلت إلى عدة الحرائر، وإن كان بائناً لم تنتقل. والفرق أن الطلاق إذا كان رجعياً فالعتق حلها وملك النكاح قائم لما عرف أن بالطلاق الرجعي لا يزول ملك النكاح عندنا فيشرف بالعتق، والملك الشريف لا يزول بعد الطلاق إلا بمضي ثلاثة أقراء أو ثلاثة أشهر كما في العدة الأصلية أما بالطلاق الثاني زال ملك النكاح مطلقاً إلا في حق الفراش فلما زال ملكه لا يتصور تشرفه بالعتق، أما المطلقة إذا مات عنها زوجها، فإن كان الطلاق رجعياً انتقلت إلى عدة الوفاة، وإذا كانت مبتوتة، فإن كانت لا ترث لم تنتقل إلى عدة الوفاة، فإن كانت ترث فقد ذكرنا الاختلاف فلا نعيده. قد ذكرنا أن المطلقة إذا حبلت بعد الطلاق، فعدتها أن تضع حملها، فأما المتوفى عنها زوجها فعدتها الشهور إذا حبلت؛ لأن عدة الطلاق إنما تنتقل بالحبل؛ لأن المقصود منها تعرف براءة الرحم، ووضع الحمل أدل على براءة الرحم، أما المقصود من هذه العدة ليس تعرف براءة الرحم، ألا ترى أنها تجب قبل الدخول؟ وإنما المقصود منها إظهار التأسف على فوات نعمة الزوجية في هذا المقصود لا يتفاوت، وقال محمد رحمه الله: إن حبلت بعد الطلاق، ثم جاءت بولد لا أكثر من سنتين حملنا أمرها على أنها تزوجت بعد انقضاء العدة قبل وضع الحمل لست أشهر؛ حملاً لأمرها على الصلاح. وإذا زوج الرجل أم ولده ثم مات عنها وهي تحت (زوج) أو في عدة من زوج فلا عدة عليها، يعني من المولى؛ لأن العدة إنما تجب من المولى لزوال فراشه، ولا فراش للمولى عليها إذا كانت تحت زوج أو في عدة من زوج، فإن طلقها الزوج بعد الإعتاق فعدتها عدة الحرائر، فإن طلقها أولاً ثم أعتقها المولى فإن كان الطلاق رجعياً انتقلت إلى

عدة الحرائر، وإن كان بائناً لا تنتقل، وإذا انقضت عدتها من الزوج، ثم مات المولى فعليها ثلاث حيض عدة المولى؛ لأنها عادت فراشاً للمولى بانقضاء عدة الزوج. وإذا اشترى الرجل زوجته ولها منه ولد فأعتقها فعليها ثلاث حيض حيضتان من النكاح تجتنب فيهما ما تجتنب المنكوحة، وحيضة في العتق لا تجتنب فيها كما تسرّابها أفسد النكاح ووجبت العدة، ألا ترى أنه لا يجوز أن يزوجها من غيره؟ إلا أنه لم يظهر حكم العدة في حقه لقيام حل الوطء له بملك اليمين، فإذا زال هذا المعنى ظهر حكم العدة في حقه، فتجب حيضتان لفساد النكاح بينهما وهي أمة فيلزمها ثلاث حيض بالإعتاق إلا أن العدتان متداخلتان، فما وجب من الحيضتين لفساد النكاح يعتبر ثان من الإعتاق ولكن يجب الحداد في الحيضتين الأوليين ولا يجب في الحيضة الثالثة لأنها تخص عدة أم الولد ولا حداد في عدة أم الولد. فإن كان أبانها قبل الشراء ثم اشتراها حل له وطؤها؛ لأن ملك اليمين سبب لحل الوطء، والمطلقة الواحدة لا تمنع عمل هذا النسب فإن ثلاث حيض قبل العتق ثم أعتقها فلا عدة عليها من النكاح؛ لأنها صارت معتدة بعد الشراء لفساد النكاح إلا أن أثر العدة لأنه ظهر في حق الزوج، وإنما يظهر في حق غيره، وإذا صارت معتدة انقضت عدتها بمضي المدة وتجب (289ب1) عليها العدة ثلاث حيض، وقوله في «الكتاب» : حاضت ثلاث حيض قبل العتق وقعت اتفاقاً، والصحيح حاضت حيضتين؛ لأن تلك العدة تجب لفساد النكاح وهي أمة، وعدة الأمة إذا وجبت بفساد النكاح مقدرة بحيضتين. نوع آخر في بيان ما يلزمها المعتدة في عدتها المعتدة من الطلاق لا تخرج من بيتها ليلاً ولا نهاراً، أما المتوفى عنها زوجها، فلا بأس بأن تخرج بالنهار لحاجتها، ولا تبيت في غير منزلها. والفرق: أن نفقة المتوفى عنها زوجها عليها، وعسى لا تجد من يسوي أمرها، فتحتاج إلى الخروج لتسوية أمر معيشتها غير أن أمر المعيشة عادة تسوى بالنهار دون الليالي، فأبيح لها الخروج بالنهار دون الليالي. وأما المطلقة فنفقتها في مال الزوج فلا تحتاج إلى الخروج حتى لو كانت مختلف على نفقة لها قيل: يباح لها الخروج نهاراً لمعيشتها كالمتوفى عنها زوجها، وقيل: لا يباح لها الخروج؛ لأنها هي التي اختارت إبطال النفقة فلا يصح هذا الاختيار في إبطال حق الله تعالى، وبهذا يفتي الصدر الشهيد رحمه الله، وهذا بمنزلة ما لو اختارت على أن لا سكنى لها فإنه تبطل مؤنه السكنى عن الزوج ويلزمها أن تكون في بيت الزوج، فأما أن يحل لها خروج فلا. وعن ابن سماعة عن محمد رحمهما الله أنه قال: المتوفى عنها زوجها لا بأس أن تغيب عن بيتها أقل من نصف الليل. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وهذه الرواية

صحيحة؛ لأن المحرم عليها البيتوتة في غير منزلها، والبيتوتة هي الكينونة في جميع الليل أو أكثرها. وتعتد المتعدة في المكان الذي سكنت قبل مفارقة الزوج وقبل موته قال الله تعالى: {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} (الطلاق: 1) والإضافة إليهم باعتبار السكنى في البيوت التي كن يسكن فيها قبل المفارقة، ولو طلقها وهي غائبة كان عليها أن تعود إلى منزلها فتعتد فيه، وإذا طلقها ثلاثاً أو واحدة بائنة، وليس له إلا بيت واحد، فينبغي له أن يجعل بينه وبينها حجاباً حتى لا تقع الخلوة بينه وبين الأجنبية، وإنما اكتفى بالحائل؛ لأن الزوج معترف بالحرمة، فإن كان الزوج فاسقاً يخاف عليها منه فإنها تخرج وتسكن منزلاً آخر احترازاً عن المعصية، وإن خرج الزوج وتركها فهو أولى، وإن أراد القاضي يجعل معها امرأة ثقة تقدر على الحيلولة فهو حسن، وللمعتدة أن تخرج من بيتها إلى صحن الدار وتلبث في أي منزل شاءت إلا أن يكون في الدار منازل لغيرهم فلا تخرج من بيتها إلى تلك المنازل؛ لأن صحن الدار ههنا بمنزلة السكة، وإن كانت المرأة مع زوجها في منزل هو ملك الزوج، فمات الزوج، فإن كان نصيبها يكفيها فإنها تسكن في نصيبها في العدة..... ليس بمحرم لها من ذرية الزوج، وإن كان نصيبها لا يكفي لها، فإن رضي ورثة الزوج، أن تسكن فيه سكنت، وإن أبوا كانت في سعة من التحويل، ويكون ذلك عذراً لها في التحول. قال القدوري رحمه الله في «كتابه» : والمطلقة ثلاثاً أو رجعياً أو بائناً وسائر وجوه الفرق التي توجب العدة من النكاح الصحيح والفاسد سواء، يعني: في حق حرمة الخروج عن بيتها في العدة؛ لأن الله تعالى نهى المطلقة عن الخروج مطلقاً، والمعنى صيانة الماء عن الاختلاط، والنسب من الاشتباه وذلك يتفاوت، فهذه المسألة تقتضي أن المنكوحة نكاحاً فاسداً تعتد في بيت الزوج، وحكى فتوى شيخ الإسلام الأوزجندي رحمه الله: أنها لا تعتد في منزل الزوج؛ لأنه لا ملك للزوج عليها، وإنه يخالف رواية «القدوري» . وإذا أراد الزوج أن يلزم المرأة أن تعتد بجوار القاضي فليس له ذلك وتعتد في مسكنها قبل مفارقة الزوج، وإذا كانت مع زوجها في منزل بأجر فمات عنها زوجها، فأجر المنزل عليها في مالها، فإن مكنها أهل المنزل بالمقام بكراء وهي تجد ذلك فعليها أن تسكن فيه، وإن كانت لا تجد ذلك وهي في سعة من التحول، ولو طلقها زوجها فأجر المنزل على الزوج، فإن كان الزوج غائباً، فأجرها أهل المنزل بالكراء فعليها أن تعطي الكراء وتسكن إذا كانت تقدر على ذلك، هكذا ذكر شيخ الإسلام وشمس الأئمة السرخسي رحمهما الله، وذكر شمس الأئمة الحواني أن المنزل إذا كان بأجره ينظر إن كانت مشاهرة فلها أن تتحول، وإن كانت إجارة طويلة فليس لها أن تتحول، وإن خافت سقوط ذلك المنزل، أو أن ينهار على متاعها فلا بأس بأن تخرج وتسكن منزلاً آخر، ثم

لا تخرج من ذلك المنزل إلا بعذر؛ لأن الانتقال عن الأول كان بعذر، فصار المنتقل إليه في أنه لا يجوز الانتقال عنه إلا بعذر نظير المنتقل عنه وفي «الفتاوى» : وإذا لم يكن مع المعتدة في منزل العدة أحد وهي تخاف بالليل لا من اللصوص..... الجيران بل تخاف بالقلب من أمر الميت والموت، إن كان الخوف شديداً كان لها الانتقال؛ لأنها تخاف ذهاب عقلها، وإن (لم) يكن الخوف شديداً فليس لها الانتقال، وهذا بمنزلة..... وجلت في قلبها، وإذا انعدم قضت العدة، والتدبير واختيار المنزل في الوفاة وفي الطلاق الثاني إذا كان الزوج غائباً إليها، وفي الطلاق الرجعي والطلاق البائن إذا كان الزوج حاضراً إلى الزوج ذكره في «الأصل» . وفي «الأصل» أيضاً: إذا كانت بالسواد وهي تخاف على نفسها،.... من سلطان أو غيره كانت في سعة من التحول إلى المصر. وفي «الفتاوى» : إذا طلق امرأته بالبادية وهي معه في الخيمة والزوج ينتقل إلى موضع آخر في الكلأ والمهال والماء هل يسعه أن ينتقل بها؟ النظر إن كان يدخل عليها ضرر بين في نفسها ومالها بتركها في ذلك الموضع فله أن ينتقل بها، وإن كان لا يدخل عليها ضرر بين في نفسها ومالها بتركها في ذلك الموضع فله أن ينتقل بها وإن كان لا يدخل عليها ضرر بين في نفسها ومالها يتركها في ذلك الموضع فليس له أن ينتقل بها، ولا لها أن تنتقل؛ لأن الاعتداد في موضع الطلاق واجب، والخروج حرام إلا لضرورة وفي الوجه الأول: تحققت الضرورة، وفي الوجه الثاني: لم تتحقق. وإن كانت المعتدة أمة فلها أن تخرج لخدمة المولى، فإن الوفاة والخلع والطلاق، وسواء كان الطلاق (290أ1) رجعياً أو بائناً، أما في الطلاق الرجعي فظاهر؛ لأن النكاح قائم، والحال بعد الطلاق كالحال قبله، وقبل الطلاق يحل لها الخروج لخدمة المولى، وكذلك بعد الطلاق، وإن كان الطلاق بائناً فكذلك؛ لأن بالطلاق لا تثبت حرمة جديدة بل يتأكد ما كان من الحرمة، فإذا لم تكن حرمة الخروج ثابتة قبل الطلاق لا تتأكد بالطلاق، فإن أعتقت في العدة لزمها فيما بقي من العدة ما يلزم الحرة المسلمة. وفي «القدوري» : إذا كان المولى أمر الأمة لا تخرج ما دامت على ذلك إلا أن يخرجها المولى، وروي عن محمد رحمه الله أن لها أن تخرج وإن لم يأمرها المولى، والمدبرة وأم الولد والمكاتبة كالأمة في إباحة الخروج، وهذا الجواب مشكل في المكاتبة؛ لأنها ما كان يباح لها الخروج حال قيام النكاح لخدمة أحد، فينبغي أن لا يباح لها الخروج في العدة كما في الحرة بخلاف الأمة والمدبرة وأم الولد؛ لأنه كان يحل لهن الخروج لخدمة المولى، فيبقى كذلك. والجواب: أن المكاتبة تحتاج إلى الخروج لاكتساب بدل الكتابة؛ لأن ذلك واجب عليها. وأما الكتابية فإنه يحل لها الخروج بإذن الزوج ولا يحل لها الخروج بغير إذن الزوج

سواء كان الطلاق رجعياً أو بائناً أو ثلاثاً. والحرة المسلمة لا تخرج لا بإذن الزوج ولا بغير إذنه، لأن العدة على الحرة المسلمة كما وجبت حقاً للزوج وجبت حقاً لله تعالى، وحق الله تعالى لا يسقط بإذن الزوج، والعدة على الذمية وجبت حقاً للزوج لا غير فجاز أن يسقط بإذن الزوج، وإن أسلمت في العدة لزمها فيما بقي من العدة ما يلزم الحرة المسلمة. وأما الصبية فإن كان الطلاق رجعياً فلها أن تخرج بإذن الزوج، وليس لها أن تخرج بغير إذنه كما قبل الطلاق، وإن كان الطلاق بائناً فلها أن تخرج بإذن الزوج وبغير إذنه إلا إذا كانت مراهقة فحينئذٍ لا تخرج بغير إذن الزوج كذا اختاره المشايخ. والمولى إذا أعتق أم الولد فلها أن تخرج؛ لأن هذه العدة إنما وجبت لزوال الفراش لا لزوال النكاح، وحرمة الخروج تختص بعدة تجب بزوال النكاح. والمجوسية إذا أسلم زوجها، فلا سكنى لها ولا نفقة إلا أن يحتاج الزوج إلى حفظ مائِهِ فيحبسها لصيانة مائِهِ. وعن أبي يوسف رحمه الله في النصراني إذا طلق النصرانية أن لها النفقة ولا سكنى لها؛ لأن من أصله أن العدة تجب على الذمي لحق الذمي إلا أن السكنى لا تلزمها؛ لأن السكنى حق الله تعالى وحق الزوج، وهي غير مخاطبة بحقوق الله تعالى، وحق الزوج لا يجب إلا بطلبه. بخلاف النفقة؛ لأن ذلك حقها على الزوج، فلا يتوقف على طلب الزوج. وإذا قبلت المرأة ابن زوجها فلا نفقة لها، ولها السكنى، وإذا اختارت المعتقة نفسها، أو امرأة العنين الفرقة فلها السكنى والنفقة، أما وجوب السكنى في هذه المسائل؛ لأن في السكنى حق الشرع، وحق الشرع لا يسقط بصنعها. وأما الفرق بين مسألة التقبيل وبين مسألة العنين والمعتقة مع أن الفرقة كانت من قبلها في المسائل كلها؛ لأن في التقبيل الفرقة بغير حق، وفي اختيار امرأة العنين والمعتقة نفسها الفرقة بحق. نوع آخر في الحداد المتوفى عنها زوجها يلزمها الحداد في عدتها، ويعتبر الحداد الاجتناب عن الطيب والدهن والكحل ولبس المطيب والمعصفر وما صبع بزعفران، ولبس القصب والخز ولبس الحلي والتزين والامتشاط. وكذلك المبتوتة يلزمها الحداد في عدتها؛ لأن وجوب الحداد على المتوفى عنها زوجها؛ لإظهار التأسف على فوات نعمة النكاح لما فيها من قضاء الشهوة، وحصول الصيانة، وورود النفقة عليها، وهذا المعنى يقتضي وجوب الحداد على المبتوتة، وإنما يلزمها الاجتناب عن هذه الأشياء حالة الاختيار أما في حالة الاضطرار فلا بأس بها بأن اشتكت رأسها أو عينها فصبت عليه الدهن، أو أكتحلت لأجل المعالجة فلا بأس ولكن لا تقصد به الزينة، وكذلك إن اعتادت الدهن، فخافت وجعاً يحل بها لو لم تفعل فلا

بأس به إذا كان الغالب هذا الحلول؛ لأن الضرر الذي يلحق غالباً بمنزلة المتحقق فيجب الاحتراز عنه لكن لا تقصد به الزينة لما قلنا، وكذلك إذا لم يكن لها إلا ثوب مصبوغ فلا بأس به، لأن ستر العورة واجب، وإذا لم يكن لها ثوب آخر فهذا الثوب متعين لستر العورة، ولكن ينبغي أن لا تقصد بذلك الزينة. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والمراد من الثياب المذكورة ما كان جديداً منها يقع بها الزينة، وأما ما كان خلقاً لا تقع به الزينة فلا بأس بأن تلبسها؛ لأن مقصودها ستر العورة لا التزيين، والأحكام تبنى على المقاصد، ولا حداد على الكتابية إذا كانت بائنة من مسلم أو متوفى عنها زوجها. ولا على الصبية، ويجب على الأمة والمكاتبة ولا يجب على المطلقة الرجعية؛ لأن نعمة النكاح ما فات عنها فلا يحب عليها إظهار التأسف. ولا حداد في عدة أم الولد، وكذلك في العدة من النكاح الفاسد؛ لأن الحداد إنما يجب لإظهار التأسف على فوات نعمة النكاح، والنكاح الفاسد معصية وليس بنعمة، ولا نكاح بين أم الولد وبين المولى أصلاً. وإذا احتاجت المعتدة إلى الامتشاط فإنما تمتشط بالأسنان المنفرجة ولا تمتشط بالطرف الآخر؛ لأن الطرف الآخر للزينة، والطرف المنفرج لدفع الأذى. نوع آخر في المطلقة تسافر في عدتها قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : عن أبي حنيفة رحمه الله: في الرجل يخرج مع امرأته من خراسان إلى الحج فلما نزلا الكوفة مات الزوج أو طلقها ثلاثاً، فإنها لا تخرج من الكوفة إلى خراسان، ولا إلى مكة إذا لم يكن لها ذو رحم محرم، وإن كان لها ذو رحم محرم لم تخرج ما دامت في عدتها، ولا بأس بأن تخرج إذا انقضت العدة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا كان لها ذو رحم محرم فلا بأس بأن تخرج في عدتها؛ لأنها ليس في منزلها. يجب أن يعلم (290ب1) أنه لا خلاف أن الزوج إن مات أو طلقها ثلاثاً، وبينها وبين مصرها ومقصدها أقل من السفر أنها بالخيار إن شاءت مضت وإن شاءت رجعت سواء كانت في المصر أو غيره وسواء كانت معها محرم أو لم يكن؛ لأنه ليس في الحالين جميعاً إنشاء السفر، وخروج المطلقة والمتوفى عنها زوجها ما دون السفر لا بأس به إذا مست الحاجة إليه بمحرم وبغير محرم، إلا أن الرجوع أولى ليكون الاعتداد في منزل الزوج. وإن كان آجلاً لوجهتين سفراً والآخر دونه اختارت ما دون السفر، وهذا ظاهر وإن كان كل واحد منهما سفراً، فإن كانت في المفازة فإن شاءت مضت، وإن شاءت رجعت بمحرم وبغير محرم؛ لأن المفازة ليست موضع القرار والسكون حقيقة، ولا موضع الاعتداد شرعاً، ولكن الرجوع أولى لما مر. وإن كانت في مصر لا تخرج بغير محرم؛ لأن ما يخاف عليها في السفر بلا محرم أعظم مما يخاف عليها في المصر، وإن يكن مصرها فكان المكث في المصر أولى

بخلاف المفازة، وإن كان معها محرم لم تخرج عند أبي حنيفة رحمه الله في العدة، وقالا: تخرج، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله أولاً، وقول أبي حنيفة رحمه الله الآخر أظهر؛ لأن هذا موضع طمأنينة وقرار، وما يخاف عليها من الفساد إذا خرجت مع المحرم أعظم مما يخاف عليها إذا مكثت في هذا المصر بلا محرم؛ لأن المصر موضع أمن وغياث، الأصل فيه الأمن عن الفساد، فإن قصدها إنسان بفساد واستغاثت يلحقها الغوث، والمفازة موضع فساد وهو الغالب فيها، وإذا توجه إليها الفساد عسى يمكن للمحرم والركب دفع ذلك وعسى لا يمكن، فكان المكث أولى لها من الخروج بخلاف المفازة؛ لأن الخوف ثمة في المكث أكثر، ولهذا حل لها إنشاء السفر من غير محرم، وبخلاف ما إذا كان بينها وبين مصرها أقل من مسيرة سفر؛ لأن الفساد في مدة قليلة وفي طريق قصير يندر. وأما إذا كان الطلاق رجعياً ينظر: إن طلقها في المفازة، وبينها وبين مصرها مسيرة سفر، وإلى مكانها مسيرة سفر تمضي مع الزوج أينما ذهب الزوج، وإن كان بينها وبين مصرها مسيرة ما دون سفر، وإلى مكانها مسيرة سفر كان لها الخيار، وإن كان بينها وبين مكانها مسيرة ما دون السفر رجعت إلى مكانها على كل حال. نوع آخر في بيان ما تصدّق فيه المعتدة في انقضاء العدة يجب أن يعلم بأن أول المدة التي تصدق الحرة في انقضاء العدة فيها شهران في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: تسعة وثلاثون يوماً؛ لأنها أمينة في الإخبار عما في رحمها، فيجب قبول قولها إن أخبرت بما هو محتمل، وما قالته محتمل بأن يكون الطلاق في آخر الطهر، وطهرها أقل الأطهار خمسة عشر يوماً، وحيضها أقل الحيض ثلاثة أيام، فيكون انقضاء عدتها بطهرين وذلك ثلاثون يوماً، وبثلاث حيض، وذلك تسعة، فجملته تسعة وثلاثون يوماً. واختلف محمد والحسن بن زياد رحمهما الله في تخريج قول أبي حنيفة رحمه الله، فعلى ما ذكره محمد رحمه الله: يجعل كأن الطلاق كان في أول الطهر تحرزاً عن إيقاع الطلاق في الطهر بعد الجماع، ويجعل طهرها خمسة عشر يوماً، ويجعل حيضها خمسة إذ هي الوسط فتنقضي عدتها بثلاثة أطهار كل طهر خمسة عشر يوماً، وثلاث حيض كل حيض خمسة، فجملة ذلك ستون يوماً. وعلى ما رواه الحسن عنه رحمه الله: يجعل كأن الطلاق كان في آخر الطهر تحرزاً عن تطويل العدة عليها، وطهرها خمسة عشر وحيضها عشرة؛ لأنه وجب تقدير الطهر بأقل الطهر نظراً للمرأة ووجب تقدير الحيض بأكثر الحيض نظراً للزوج، فتنقضي عدتها بطهرين كل طهر خمسة عشر وثلاث حيض كل حيض عشرة، فجملة ذلك ستون يوماً. وأما الأمة فعلى قولهما تصدق في إحدى وعشرين يوماً؛ لأن عدتها تنقضي بحيضتين كل حيضة ثلاثة، وبطهر واحد، وذلك خمسة عشر، فجملة ذلك إحدى

الفصل السابع والعشرون في المتفرقات

وعشرون، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله على الوجه الذي خرجه محمد رحمه الله: تصدق في أربعين؛ لأنه يجعل كأن الطلاق كان في أول الشهر فتحتاج إلى طهرين كل طهر خمسة عشر وإلى حيضتين كل حيضة خمسة، فجملة ذلك أربعون يوماً، وعلى الوجه الذي خرجه الحسن رحمه الله: تصدق في خمسة وثلاثين؛ لأنه يجعل الطلاق واقعاً في آخر الطهر فتحتاج إلى حيضتين كل حيضة عشرة وإلى طهر واحد خمسة عشر فجملة ذلك خمسة وثلاثون. وفي «مجموع النوازل» : المطلقة بثلاث تطليقات إذا جاءت بعد أربعة أشهر، وقد كانت تزوجت فيما بين ذلك بزوج آخر، فقالت: انقضت عدتي من الزوج الثاني، وأرادت أن تعود إلى الزوج الأول هل تصدق؟ عند أبي حنيفة؟ أجاب بعض أئمة سمرقند رحمهم الله أنها تصدق، وأجاب الشيخ الإمام الزاهد نجم الدين عمر النسفي رحمه الله أنها لا تصدق، وهو الصحيح؛ لأن أربعة الأشهر مدة العدتين عند أبي حنيفة رحمه الله، فلا بد من زمان آخر لنكاح الزوج الثاني ووطئه إياها. وفيه أيضاً: معتدة رجل أقرت بعد أربعين يوماً من وقت الطلاق أنها ما حاضت إلا مرة واحدة، ثم قالت بعد عشرة أيام: انقضت عدتي، هل للزوج المطلق أن يخاصمها ويرفع الأمر إلى القاضي؟ قال: نعم، ويأمرها القاضي بإتمام العدة إذا ثبت إقرارها عند القاضي صيانة لماء الزوج عند طلبه ذلك، ولو كانت تزوجت بزوج آخر، فالقاضي يفرق بينها وبين الزوج الثاني إذا ثبت إقرارها بذلك، والله أعلم. الفصل السابع والعشرون في المتفرقات سئل نجم الدين النسفي رحمه الله عن زوجين وقعت بينهما مشاجرة فقالت المرأة: باتوعي اسم مرا طلاق كن، فقال الزوج: طلاق مي كنم طلاق مي كتم طلاق مي كنم؟ أجاب وقال: بأنها تطلق ثلاثاً؛ لأن قوله: طلاق مي كنم للمحض للحال وهو تحقيق بخلاف قوله: كنم؛ لأنه تمحض للاستقبال وهو (291أ1) وعد، وبالعربية قوله: أطلق، لا يكون طلاقاً في أنه دائر بين الحال والاستقبال فلم يكن تحقيقاً مع الشك حتى أن موضع علمت استعماله للحال كان تحقيقاً كقول الكافر: أشهد أن لا إله إلا الله، وكقول الشاهد: أشهد أن لهذا على هذا كذا، وكقول الحالف: بالله لأفعلن كذا، وهذا الاحتمال بالعربية، أما بالفارسية قوله: ميكنم للحال، وقوله: كنم للاستقبال. في «المنتقى» : طلقني إن تزوجت فلانة، أو قالت: إن تزوجت علي، فقال الزوج: أنت طالق وهو ينوي جواباً لكلامها، ومعناه: إن تزوجت، فهذا ليس بجواب قضاءً وفيما بينه وبين الله تعالى وسعه أن يمسكها. وفي «فتاوى الفضلي» رحمه الله: امرأة قالت لزوجها: مرا طلاق ده فقال: دايم

ذكر النامكان الدال فإن كان هذا لغة بلد هذا الزوج لم يصدق أنه لم يرد الجواب ويقع الطلاق؛ لأنه جواب ظاهر لما كان لغة بلده؛ لأن الظاهر أن الإنسان يتكلم بلغة بلده، وكذلك إن كان هذا لغة بلدة من البلدان كان جواباً، وإن لم يكن هذا لغة بلدة من البلدان لم يكن جواباً ولا يقع الطلاق. وفي «فتاوى النسفي» رحمه الله: قيل لرجل: أين زن زن توهست، فقال: هست فصل له أين سه طلاقه هست فقال: هست يقع ثلاث تطليقات ولا يصدق الزوج في قوله: إنها ما سمعت قوله سه طلاقه هست وإنما ظنت أنه يعيد الكلام الأول. امرأة قالت لزوجها: من باتمونمي باشم فقال الزوج: اكربناشم ابس تراطلاق فقالت بعد ذلك: مي باشم اختلف المشايخ فيه، عامتهم على أنه يقع الطلاق؛ لأنه تحقيق لا تعليق؛ لأن مثل هذا إنما يذكر على سبيل المجاراة، وقد مر جنس هذا، وعلى هذا إذا قال الرجل: ابنه لأجل امرأته فقال: مه ابازن توخوش ينست كه اوجنين ميكنذ فقال الابن: اكر تراوي خوش ينسب داد مش سه طلاق فقال الأب بعد ذلك: مراباوي خوش نيست فليست مع الطلاق عند عامة المشايخ رحمهم الله، ولا يشبه المسلمين قوله لامرأته ابتداءً: اكرمرا نجوامي ترا طلاق فقالت ميخواهم حيث لا تطلق، فقيل: إن في الفرق إن قول الزوج: ابتداءً اكرمرا نجوامي لا يمكن حمله على المجازاة وإنه من حيث الصورة تعليق فحمل على التعليق حتى أن المرأة لو بدأت فقالت: برانمي خواهم فقال الزوج: اكر مرانمي خواهي تراطلاق فقالت: ميخواهم تطلق. وفي تلك المسألتين لو قال الزوج لها ابتداءً: اكرا بامي نباشي تراطلاق فقالت: مي باشم أو قال الابن للأب ابتداء: اكر تراباذن من خوش بنست ورا طلاق فقال الأب: خوش است لا يقع الطلاق ويكون تعليقاً. وفي «المنتقى» : رجل قالت له امرأته: إن عصيتك وأعرضت عنك فقال الزوج: إن كنت تعصيني وأعرضت عني فأنت طالق، فسكتت المرأة ولم تقل شيئاً لا تطلق، وهذه المسألة تبطل ما ذكرنا في الفرق وتبطل قول من يقول بعدم الوقوع من تلك المسألتين، وحكي عن نجم الدين النسفي رحمه الله أنه كان يقول في الفرق: في تلك المسألتين: ذكر كلمة بس وإنها كلمة تحقيق حتى لو لم يذكر بس ولكن قال: اكراساشمي تراطلاق. قال وفي المسألة الأخرى اكر ترابادي خوش نيست دادمش سه طلاق يكون تعليقاً ولا يكون تنجيزاً، وفي هذه المسألة لم يذكر بس، وإنما قال اكر مرانجواهي ترا طلاق وهذا تعليق ولو ذكر لس في هذه المسألة بأن قال اكرامرا نجواهي بس ترا طلاق كان تنجيزاً. في «المنتقى» أيضاً: بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: رجل قال لامرأته: إن قلت لك أنت طالق فأنت طالق، ثم قال لها: قد طلقتك فقال: تطلق أخرى قال: وإن عنى أن يكون الطلاق معلقاً باللفظ وهو قوله: أنت طالق لا يدين في القضاء ويدين فيما بينه وبين الله تعالى. رجل قال لامرأته هذه طالق هذه المرأة الأخرى طلقت الأولى لا غير لأن لفظ

الطلاق متصل بالأولى ولم يعطف الثانية على الأولى ليثبت الاتصال بالثانية بحكم العطف، ولو قال: هذه هذه طالق طلقت الأخرى لا غير، ولو قال ذلك لامرأته واحدة لا يقع إلا واحدة في الوجهين هكذا ذكر في «النوازل» ، وذكر في «المنتقى» : إذا قال: هذه طالق هذه لامرأته أخرى طلقتا، وكذلك لو قال: وهذه أو فهذه. وفي «العيون» : إذا قال لامرأته: أنت طالق أنت أو قال: أنت طالق وأنت يقع واحدة؛ لأن هذا يحتمل التكرار كقوله: أنت؛ لأنه كما يقال: أنت أنت، يقال: أنت وأنت ولو قال ذلك لامرأة أخرى يقع على كل حال واحدة تطليقة؛ لأن هذا لا يحتمل التكرار فيكون إيقاع طلاق آخر. وعن محمد رحمه الله فيما إذا قال لامرأة واحدة: فأنت طالق وأنت له، أنه يقع تطليقتان، وما ذكر في «العيون» فيما إذا قال لامرأته: أنت طالق أنت لامرأته أخرى أنه يقع على كل واحدة تطليقة يوافق ما ذكر في «المنتقى» في قوله: هذه طالق هذه لامرأته أخرى، ويخالف ما ذكر في «النوازل» . وذكر في «فتاوى أهل السمرقند» رحمهم الله: في رجل حكى عتق رجل فلما بلغ إلى ذكر الطلاق خطر بباله امرأته إن نوى عند ذكر الطلاق عدم الحكاية واستيفاء الطلاق وكان الكلام موصوفاً موصولاً بحيث يصلح للإيقاع على امرأته طلقت امرأته، وإن لم ينو ذلك لا تطلق امرأته، وهو محمول على الحكاية، وحكي عن القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله في رجل يذكر مسائل الطلاق بين يدي امرأته ويقول: أنت طالق، وهو لا ينوي بذلك طلاق امرأته لا تطلق امرأته. قيل لرجل: ألست طلقت امرأتك؟ قال: بلى، تطلق؛ لأن «بلى» جواب الاستفهام بالإثبات فكأنه قال: طلقت امرأتي، ولو قال: نعم، لا تطلق امرأته؛ لأن «نعم» جواب الاستفهام بالنفي، فكأنه قال: ما طلقت امرأتي، والدليل عليه قوله تعالى: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ} ؟ {قَالُواْ} {بَلَى} (الأعراف: 172) (291ب1) وكانت بلى للإثبات، ومن قرأ في صلاة نعم تفسد صلاته. صاحب برسام طلق امرأته فلم تصح قال: طلقت امرأتي ثم قال بعد ذلك: إنما قلت ذلك لأني توهمت أن الطلاق وقع بأن كان إقراره في غير حال مذاكرة الطلاق الذي كان منه في حال برسامه لا يصدق؛ لأنه صحيح عاقل أقر بالطلاق مرسلاً فيؤاخذ بإقراره، وإن كان في حال مذاكرة الطلاق يصدق؛ لأن مذاكرة ذكر الطلاق. يدل على إرادة ذلك الطلاق إذا قال لامرأته: اكر ترا بذني كنم ترايك طلاق ودو طلاق فتزوجها يقع واحدة على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله، وإن أخر الشرط تقع الثلاث. أصل المسألة ما ذكرها محمد رحمه الله في باب الطلاق: إذا قال لامرأته: إن تزوجتك فأنت طالق وطالق وطالق فتزوجها وقعت واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله، ولو أخر الشرط تقع الثلاث.

إذا قال: اكر فلانة رابزني كنم وي ازمن بيكي ودوسه طلاق فتزوجها تطلق ثلاثاً هكذا حكي عن نجم الدين النسفي رحمه الله، وليس هذا كقوله: اكر فلانة رابزني كنم وي ازمن طلاق ودووسه طلاق فتزوجها، فإن هناك يقع تطليقة واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن قوله: ازمن يكي كلام مبهم محتاج إلى التفسير، وكذلك دو وكذلك سه والتفسير بذكر الطلاق، وعند ذكر الطلاق الأعداد قد اجتمعت فصار كقوله: أنت طالق ثلاثاً، أما قوله: أن من بيكي طلاق كلام مفسر فثبت حكمه ثم ترتب عليه الثاني والثالث فيثبتان عند الشرط كذلك والأول في الملك ويقع دون سائرها. وسئل نجم الدين عمن قال: حلال الله علي حرام، وما أحنث بميني فهو علي حرام إن كنت فعلت كذا وقد كان فعل ذلك الفعل؟ قال: تقع تطليقة واحدة بائنة نوى أو لم ينو دخل بها أو لم يدخل بها؛ لأن كل واحد من اللفظين بائن عندنا وقد تكلم بهما وعلقهما بفعل قد فعله، والتعليق بفعل موجود كائن تنجيز وليس بتعليق فكأنه نجز وما علق فقال حلال الله علي حرام وما أخذت بيمني فهو علي حرام فهناك تقع الأولى وتبطل الثانية كذا ههنا، بخلاف ما إذا علقها بفعل في المستقبل فإن هناك إذا فعل ذلك الفعل تقعان جميعاً؛ لأن هناك اللفظان تعلقا بذلك الفعل جميعاً فيؤاخذان جميعاً عند وجوده. وسئل هو أيضاً عمن خلع امرأته ثم قال لها في العدة: ادادمت سه ولم ترد على هذا قال: إن نوى الطلقات الثلاث طلقت ثلاثاً؛ لأنه لم يتلفظ بالطلاق وقوله دامت سه كلام محتمل فلا بد من النية، قيل له: ينبغي أن لا يقع حتى وإن نوى لأن هذا من كنايات التي الطلاق، والكنايات لا تلحق المختلعة بالإجماع؟ قال: الكنايات التي بوائن لا تلحق المختلعة أما الكنايات التي هي رواجع تلحق المختلعة. ألا ترى لو قال لمختلعة: أنت واحدة ونوى الطلاق يقع عليها تطليقة أخرى، وهذا لأن صحة هذا اللفظ بالإضمار، فإن معنى قوله: أنت واحدة، أنت طالق تطليقة واحدة، فيصير الحكم للصريح، ولكن لا بد من النية ليثبت هذا المضمر قيل له: إذا وقع الطلاق ههنا عند النية تقع الثلاث والثلاث بوائن والمختلعة لا تلحقها البوائن؟ قال: لا تقع الثلاث ههنا بل يقع ما بقي من التطليقتين؛ لأنه وقع طلقة واحدة بالخلع واثنتان رجعيتان إلا أنه تقع البينونة ههنا لأن الثلاث قد تمت لأن الواقع بوائن، وهو نظير ما لو قال لمختلعة بتطليقتين: أنت طالق، يقع الطلاق، وإن كان إذا وقع تثبت البينونة، وطريقه ما قلنا. رجل قال لامرأته: برخيز وبجانه ما عهد دووسه ماه عدت دار من بدار ثم قال: دامت يك طلاق ثم قال: اين سجن آخربن به إن كفتم كه بايدكه معنى سحن أول ندانسته باشي، فقد قيل: يقع عليها ثلاث تطليقات؛ لأن قوله لها: قومي من مدلولات الطلاق وكذلك قوله: اذهبي إلى بيت أمك، وقد عطف هذا على الأول فكل أن اثنان ثم لما خرج بالطلاق بعد ذلك وقال: اين سخن به أن كفتي كه ساندكسه معنى سخن أول بدانسته باشي، فقد بين أنه أراد بما تقدم الطلاق، قد تقدم منه كلام أن كل واحدة تصلح فصارت

التطليقتين والصريح ثالثهما فتقع الثلاث، وقد قيل: تقع تطليقتان إحداهما بقوله: برخيز والثاني بالصريح، ولا يقع بقوله: بخانه ما دردووسي؛ لأن الواقع بقوله: برخيز عند ثلاثة الطلاق الناس والواقع بقوله: بخانه مادر وكذلك والناس لا تلحق الثاني، أما الصريح يلحق الثاني. إذا قال لامرأته: وهبتك أو قال: وهبت لك طلاقك، وقال: نويت أن يكون الطلاق في يدها لا يدين في القضاء؛ لأن الهبة تقتضي زوال ملك الواهب، وذلك بالإيقاع لا يجعل الطلاق إليها، بأن يجعل الطلاق إليها لا يزول ملك الرجل عن المرأة، فإذا نوى غير الإيقاع فقد نوى ما لا يحتمله لفظه، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يقع الطلاق؛ لأنه يحتمل وهبتك لك طلاقك أعرضت عن طلاقك، ولو أراد أن يطلقها فقالت: هب لي طلاقي أي أعرض عنه فقال: وهبت لك طلاقك صدق في القضاء، ولو قال: أعرضت عن طلاقك ينوي الطلاق لا تطلق، ولو قال: تركت طلاقك أو خليت سبيلك سبيل طلاقك ينوي الطلاق يقع، لأن تخلية الطلاق وتركه قد يكون بإخراجه عن ملكه، وذلك إيقاع الطلاق، فأما الإعراض السلبي بتركه التعرض له والإيقاع بعرض الطلاق، فكان ما نوى مخالفاً لما يقتضيه ظاهر كلامه. سئل نجم الدين النسفي رحمه الله: عن امرأة قالت لزوجها: من برتوسه طلاقه أم فقال الرجل هذا، هل تطلق ثلاثاً؟ فقال: لا إلا أن ينويها قال: لأن هذه الكلمة في ديارنا تستعمل لمعنيين: بمعنى الاستعجال هذا روداني كاربكن وتستعمل بمعنى المواقعة، يقول (292أ1) الرجل لغيره: بياي تافلان جاي دويم فنقول: هلا وتريد به إظهار الموافقة، فعلى أحد الاعتبارين يكون الزوج موافقاً ومساعداً لها، وعلى الوجه الآخر لا يكون مساعداً لها فلا بد من النية. قيل له: إن هذه الكلمة في معنى نعم، فكأنه قال أرى قال: ليس إلا طلاق كذلك، فإن نعم يصلح للماضي والمستقبل يقول لغيره: هل ذهبت؟ هل تذهب؟ فيقول: نعم وهلا لا تستعمل للماضي لا يقال هل ذهبت؟ فيقول: هلا ولكن يقال: اذهب فيقول: هلا. وسئل هو أيضاً: عمن قال: اكرد خثر من زرين جند روداز سوى بيون باندما دروى ازمن بطلاق، فأخرت أياماً، ثم اختلعت من زوجها قال: إن كانت اختلعت قبل تمام شهر من وقت مقالة الأب لا يقع الطلاق على أمها. قال: لأن قوله: به أبي جعل دون يستعمل بمعنى العاجل وما دون الشهر في معنى العاجل، والشهر وما فوقه في حكم الآجل، ولهذا قدر أدنى الآجال في السلم بالشهر. سئل نجم الدين عمن قال لامرأته: داست يك طلاق سه خويش كير ودوزي خويش طلب كن، قال: الطلاق الأول رجعي، وإن لم ينو بقوله: سرخويش كير طلاقاً آخر بقي الأول رجعياً ولا يقع بهذا القول شيء، وإن نوى به الطلاق كان طلاقاً بائناً، ويصير الأول مع الثاني بائنين. سئل هو أيضاً: عمن قال لغيره في مجلس الشرب: هو زنى كه بخواسته أم براي

توخواسته أم وواشين ودها كردن دردست توبودست، فقال ذلك الرجل: اكر جنين است اين زن ترادا ولم يك طلاق ودو طلاق وسه طلاق هل تطلق امرأته؟ قال: لا؛ لأن قوله: دردست توبودست إخبار عن كون الأمر في ذلك في يده الزمان الماضي وليس من ضرورة كونه في يده بقاؤه في يده بل الأمر المطلق يقتصر على المجلس وقد تبدل المجلس فيبطل، ولو أنه قال: دردست توست فهذا إقرار منه يكون الأمر في يده في الحال فيصح منه التطليق. وسئل هو أيضاً عمن قال: سباهه مار ترا طلاق، وقال: ما عنيت امرأتي لا تطلق امرأته لانعدام الإضافة إليها، وقد مرجنس هذا. قال لامرأته: طلاق بردانه ورمى بهذا تفويض الطلاق إليها، فإن طلقت نفسها في المجلس طلقت وما لا فلا، ولا قياس قوله لها: خذي طلاقك ينبغي أن يكون هذا إيقاعاً؛ لأن برداستر طلاق يستدعي وجود الطلاق، ووجود الطلاق بالإيقاع كما إذا أخذ الطلاق يستدعي وجوده ووجوده بالإيقاع. امرأة قالت لزوجها: مرا حنين كران نحرينه بقيت باردة فقال الزوج: بازدادم، وهو ينوي الطلاق قال شيخ الإسلام أبو الحسن: لا تطلق، قيل له: إن قال: إن المرأة كران لحريده باردة فقال: دادم، ونوى به الطلاق؟ قال: تطلق ويكون هذا بمنزلة قوله لامرأته: الحقي بأهلك، وهو ينوي الطلاق. إذا قال لامرأته: طالق ثلاثاً وله امرأة معتدة عنه عن طلاق بائن لا تطلق هي إلا إذا أشار إليها بأن قال لامرأته: هذه طالق أو قال بالفارسية: اين زن ورا طلاق. وسئل أبو نصر عمن قال لامرأته: إن اشتريت أمة أو تزوجت عليك فأنت طالق واحدة، فقال: لا أرضى بطلقة واحدة، فقال: أنت طالق ثلاثاً إن لم ترض بواحدة؟ قال: هذا الكلام يراد به الشرط ولا يراد به الابتداء، ولا يقع في الحال شيء. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا قال الرجل: أمر امرأتي بيد فلان شهراً ولم يَسمّ شهراً بعينه، فالشهر من يوم قال ذلك القول، وإن ذكر الشهر منكراً إلا أنا عينا الشهر الذي يلي هذه المقالة بدلالة العرف، فإن العرف الظاهر فيما بين الناس أنهم إذا أطلقوا الشهر إطلاقاً في التفويض يريدون به الشهر الذي يلي التفويض وهذا لأن الحامل على جعل الأمر بيد غيره طلبها وتطييب قلبها أو حاجة الزوج إلى الخلاص والطلب موجود في الحال، والحاجة إلى الخلاص قائمة في الحال؛ ولأن جعل الأمر باليد لا يختص بوقت دون وقت، والأصل في كل ما لا يختص بوقت دون وقت إذا ذكر له وقتاً أن يعتبر ذلك الوقت من وقت الذكر كما في الأجل والإجازة ومدة الإيلاء، فإن مضى شهر من وقت هذه المقالة ولم يعلم فلان أن الأمر جعل إليه خرج الأمر من يده؛ لأن التفويض توقت بالشهر فلا يبقى بعد مضي الشهر لما ذكرنا كان الفقه (في) ذلك لو بقي الأمر بعد مضي الشهر كان فيه إثبات زيادة على ما فوض وإنه لا يجوز. يوضحه: أن لو اقتصر على قوله: أمر امرأتي بيد فلان اقتصر على مجلس علمه بعد اليمين فإذا قال: شهراً بعد مدة إلى الشهر فلا ينبغي بعد مضي الشهر ضرورة، ولو قال:

إذا مضى هذا الشهر فأمر امرأتي بيد فلان فمضى هذا الشهر ولم يعلم به فلان، ثم مضى شهر آخر ثم علم به فلان فله مجلس العلم؛ لأن التفويض ههنا غير مؤقت بالشهر بل التفويض مطلق إلا أن هذا المطلق معلق بمضي الشهر، والمطلق إلا أن هذا المطلق معلق بمضي الشهر، والمعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمرسل ولو أرسل التفويض بعد مضي الشهر مطلقاً كان له مجلس العلم كذا ههنا، بخلاف المسألة الأولى لأن التفويض ثمة مؤقت بالشهر فلا يبقى بعد مضي الشهر. وهو نظير ما قلنا فيمن قال: والله لا أكلم فلاناً شهراً، فكلمه بعد مضي الشهر، لا يحنث لأن اليمين مؤقت بالشهر، فلا يبقى بعد مضي الشهر، ولو قال: إذا مضى هذا الشهر بالله لا أكلم فلاناً، فكلمه بعد مضي الشهر، يحنث لأن اليمين غير مؤقت بالشهر، بل هو مطلق لما فوق الشهر. ولو قال: أمر امرأتي بيد فلان وفلان شهراً، فمضى شهر ثم علم أحدهما بما جعل إليهما ثم مضى شهر آخر ثم علم الآخر بذلك أو علما جميعاً بعد مضي شهر (سقط ذلك منهما، أو قال) فأمر امرأتي بيد فلان وفلان، ثم مضى شهر ثم علم أحدهما فأمرها بيده ما دام في مجلسه ذلك، علق يجوز الأمر بيد فلان وفلان بمضي الشهر، فيعتبر كما لو أرسل ذلك بعد مضي الشهر وهناك الجواب كما قلنا هنا كذلك، فلو أن الذي علم أولاً فرق بينهما كانت فرقته موقوفة في مجلس علمه فإن علم الآخر بعد ذلك وفرق بينهما أيضاً في مجلس على علمه وقعت الفرقة؛ لأن بعد مضي الشهر صار الأمر بيدهما (292ب1) ويؤقت على مجلس علمهما وقد اجتمعا على التفريق في مجلس علمهما فتقع الفرقة، ولو أن الذي علم أولاً لم يفرق بينهما حتى قام عن مجلس علمه، أو اشتغل بعمل آخر يدل عن الرد، بطل الأمر؛ لأن الأمر خرج عن يدي الذي علم أولاً بالقيام عن المجلس فيخرج الأمر من يد الآخر ضرورة لأن الآخر لا ينفرد بالتفويض فيبطل الأمر ضرورة، وإنما لم ينفرد الآخر بالتفويض لوجهين: أحدهما: أن في التفويض تمليك وتعليق الطلاق بمشيئة المفوض إليه ولهذا لا يملك الرجوع، وصار كما لو قال: إذا شاء فهي طالق ولو قال هكذا يشاء أحدهما لا يقع الطلاق كذا ههنا. والثاني: أن هذا تصرف فيه إلى المشورة والرأي وقد رضي برأيهما، والراضي برأي المثنى فيما يحتاج فيه إلى الرأي لا يكون راضياً برأي الواحد، بخلاف الوكيلين بالطلاق المفرد حيث ينفرد أحدهما بالإيقاع؛ لأن الطلاق المفرد لا يحتاج فيه إلى الرأي، والراضي برأي المثنى فيما لا يحتاج فيه إلى الرأي يكون راضياً برأي الواحد فينفرد أحدهما بالإيقاع. وفي «المنتقى» : إذا قال لها: طلقي نفسك إن شئت، وأعتقي عبدي إن شئت، فبدأت بعتق العبد وثنت بتطليق نفسها جاز. وفي «البقالي» : لو قال لها: طلقي نفسك إن شئت وفلانة إن شئت، وقال لها رجل

آخر: أعتقي عبدي إن شئت، فبدأت بالإعتاق خرج الأمر عن يدها. وفي «البقالي» : (لو قال لا:) إن لم تطلقي نفسك فأنت طالق فهذا عليك. وفي «المنتقى» : إذا قال لامرأته: أنت طالق غداً وهذه كانا جميعاً على الغد. ولو قال: هذه طالق غداً وهذه طالق، طلقت الثانية ساعتئذٍ، وكذلك هذا في عتاق العبدين، وكذلك في عتق وطلاق بأن قال لامرأته: أنت طالق غداً وهذه أخرى، وأشار إلى عبد له كان العتق على الغد. وفيه أيضاً: إذا قال لامرأتين له إحداهما زينب والأخرى عمرة: أنت يا عمرة طالق ويا زينب، لم تطلق زينب إلا أن ينويها. وفي «المنتقى» : قال هشام: سألت محمداً * رحمهما الله * عن رجل ادعت عليه امرأته طلقها ثلاثاً وهو يجحد فمات الزوج، وجاءت المرأة وتطلب ميراثها، فقال: إن صدقته المرأة قبل أن يموت، وقالت: صدقتَ لم تطلقني، ورثته، وإن لم ترضخ إلى تصديقه حتى مات لم ترثه. وفيه أيضاً: مرَّت امرأة بين يدي رجل فقال الرجل: هي طالق، وسمع ذلك قوم منه ثم رأوها معه بعد، وهو يقول: هي امرأتي فشهدوا عليه أنه طلقها فقال الرجل: طلقتها أمس وهي ليست أي: بامرأة (لي) وتزوجتها اليوم وقال القوم: طلقها أمس ولا ندري أكانت امرأته؟ فالقاضي لا يقضي بطلاقها حتى يشهدوا عليه أنه طلقها وهي امرأته. وفيه أيضاً: إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة وثلاثاً فإن لم يدخل بانت بواحدة، ولا خيار في الثلاث، وإن كان قد دخل بها فهو بالخيار ما دامت في العدة، فإن انقضت العدة بانت بواحدة، وليس في الثلاث خيار، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله، وعلى قياس ما ذكرنا قبل هذا أن من أوقع أحد الطلاقين إما الأخف أو الأغلظ يقع الأخف، ينبغي أن تقع الواحدة على كل حال، ولا يكون له الخيار. وفي «البقالي» : خيار مختار الرجعي ووقعت أخرى، وكذلك إن خلعها أو طلقها.... ولو قال لها: أنت طالق لم يكن اختياراً، ولو قال: رجعياً وأراد الاستئناف كان مختاراً للرجعي ووقعت أخرى، ولو قال: عنيت الأولى صدق، وكذلك إذا قال: أنت بائن وقال: عنيت الأولى صدق. وقال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : إذا قال الرجل لامرأته ولم يدخل بها: أنت طالق واحدة، فماتت المرأة بعد قوله: طالق قبل قوله: واحدة لم يقع عليها شيء. الأصل في هذه المسألة وأجناسها أن الزوج إذا وصل العدد بقوله: أنت طالق، كان العامل هو العدد لا قوله: أنت طالق، ألا ترى أنه لو قال لها قبل الدخول بها: أنت طالق ثلاثاً، تقع الثلاث؟ وكذلك لو قال لها: أنت طالق ثنتين يقع ثنتان، ولو كان العامل قوله: أنت طالق وقد بانت به لا إلى عدة ينبغي أن لا يقع عليها شيء.

قال في «الجامع الصغير» أيضاً: وكذلك إذا قال لها: أنت طالق ثلاثاً إن شاء الله فماتت بعد قوله: ثلاثاً قبل قوله: إن شاء الله، لا يقع شيء؛ لأن قوله: إن شاء الله، إذا اتصل بالكلام أبطله، وقد اتصلت بالإيقاع ههنا فأخرجه من أن يكون إيقاعاً وإيجاباً، والموت ينافي إيجاب الطلاق وهو يريد أن يقول: ثلاثاً فأمسك على فيه رجل فلم يقل شيئاً أو مات الزوج قبل أن يقول: ثلاثاً فإنه يقع واحدة؛ لأن الزوج ما وصل العدد بالإيقاع هنا فكان العامل قوله: أنت طالق، ونية الثلاث لا تعمل فيه. وفي «الأصل» أيضاً: إذا قال لها: أنت طالق وأنت طالق، فماتت المرأة قبل أن يتكلم بالكلام الثاني تقع واحدة بالكلام الأول، ويبطل الكلام الثاني، لأن كل كلام عامل في الوقوع، فإنما يعمل ما صادفها وهي حية، ولو قال لها: أنت طالق وأنت طالق إن دخلت الدار فماتت عند الأولى أو الثانية لا يقع عليها شيء؛ لأن الكلمات المعطوفة بعضها على البعض إذا اتصل الشرط بآخرها يخرج من أن يكون إيقاعاً، وقد وجد اتصال الشرط بعد الموت. امرأة قالت لزوجها: وهبت لك مهري فعوضني، فقال الزوج: عوضك ثلاث تطليقات طلقت ثلاثاً، لأن العوض هبة، فصار كأنه قال: وهبت لك ثلاث تطليقات. رجل قال لامرأته: بعت منك أمرك بألف درهم، إن اختارت نفسها في مجلسها وقع الطلاق ولزمها المال؛ لأنه ملكها أمرها في الطلاق بالمال، وجواب التمليك يقتصر على المجلس، وإذا اختارت نفسها في المجلس فقد تملكت. وفي «مجموع النوازل» : رجل له امرأتان قالت إحداهما له: خويشتن خريده أم أزتوبكايين وهو بين عدة فقال الزوج: أن ديكورا بجوان الأخرى، فقالت مثل ما قالت الأولى فقال الزوج: خدوختم فقيل للزوج: كدام رترافروختي فقال: هردورا تحرم عامة الأخيرة بالخلع والأولى (293أ1) بالإقرار هكذا حكي عن نجم الدين النسفي رحمه الله، وإذا اختلف الزوج والمرأة كم كان بينهما من الخلع فقال الزوج: كان الخلع ثلاثاً مرتين، وقالت المرأة: لا بل كان ثلاثاً، والقول قول من؟ حكي فتوى شيخ الإسلام علي بن محمد الاسبيجابي رحمه الله أن القول قول الرجل، وحكي عن نجم الدين النسفي رحمه الله أنه كان يقول: إن كان هذا بعد نكاح جرى بينهما فقالت المرأة: النكاح لم يصح؛ لأن النكاح بعد الخلع الثالث، وقال الزوج: لا بل صح النكاح لأنه بعد خلعتين فالقول قول الزوج؛ لأن سبب الحل قد جرى بينهما وهو النكاح، والمرأة تدعي الحرمة مع قيام سبب الحل، والزوج ينكر، وأما إذا اختلفا بعدما انقضت عدتها عن خلع، والزوج يقول هذا الخلع الثاني، ويريد أن يتزوجها، والمرأة تقول: هذا هو الخلع الثالث، وليس لك أن تتزوجني، فالقول قولها، ولا يجوز النكاح بينهما؛ لأنهما اتفقا على الحرمة، وهو يريد أن يعقد عليها ويزعم أن له ذلك وهي تنكر، والأول أقرب إلى الجواب؛ لأنهما ما اتفقا على حرمة المحل بل اختلفا فيه، المرأة تدعي حرمة المحل بادعائها الخلع ثلاث مرات، والزوج ينكر.

وسئل نجم الدين هذا رحمه الله عن رجل خلع امرأته ثم تزوجها بعد ذلك بشهر مستتم ثم قال: توبر من حرامي به إن خلع هل تحرم؟ قال: نعم لأنه أقر أنها حرام عليه في الحال بذلك الحال وأن يكون كذلك إلا إن كان ذلك الخلع ثالثاً وإقراره صحيح عليه فقيل: هل يجب عليه المسمى إن كان قد دخل بها؟ قال: نعم، لأنه لم يصدق عليها في حق فساد النكاح، فصح النكاح في حقها وثبتت الحرمة بإقرارها الآن. وفي «المنتقى» : عن محمد رحمه الله: إذا خالع امرأته على أن جعلت صداقها لولدها أو على أن جعلت صداقها لأجنبي فالخلع جائز، والمهر للزوج ولا شيء للولد. وفي «البقالي» : إذا قالت: اخلعني على أن أهب لفلان كذا، ففعل، فالهبة من جهتها فإن سلمها فلا رجوع، والطلاق بائن وإلا....، فإن قالت: عليك فالهبة عنه. رجل خالع امرأته ثم طلقها بعد الخلع على جعل، يقع الطلاق، ولا يجب الجعل، أما يقع الطلاق؛ لأن هذا طلاق صادف محله، وأما لا يجب الجعل؛ لأن الجعل إنما يجب بإزاء ملك النفس، والمرأة بهذا الطلاق لم تملك النفس. رجل خلع امرأته على أن ترد على الزوج جميع ما قبضت منه، وكانت قد وهبت ما قبضت من إنسان أو باعته منه، ولم ترد على الزوج، فإن عليها أن ترد على الزوج مثل ذلك، إن كان المقبوض من ذوات الأمثال، وقيمته إن لم يكن المقبوض من ذوات الأمثال؛ لأن بدل الخلع مستحق، والحكم في مثله ما قلنا، وإذا جرى بين الزوجين خلع غير صحيح فسأله رجل: بارن هذا كردست فقال: نعم فهذا إقرار منه بالحرمة، وإقراره حجة عليه، ولو كان قال: به خلع حداني كردانم، وذلك الخلع غير صحيح لا يقع الطلاق. قال في «الأصل» : وإذا اختلعت المرأة من زوجها على جعل إلى أجل مسمى، فالخلع جائز والمال إلى أجله، وإذا أعطت كفيلاً أو رهناً ببدل الخلع جاز؛ لأنه دين مضمون عليه، فيصح به الرهن والكفالة كسائر الديون. وإذا اختلعت من زوجها بألف درهم إلى الحصاد والدياس فالخلع جائز والأجل جائز. ولو اختلعت من زوجها بألف درهم إلى موت فلان فالخلع جائز والأجل باطل وكل واحد من الأجلين مجهول إنما كان كذلك؛ لأن الجهالة في مجيء الحصاد والدياس يسيرة؛ لأنه لا يتقدم ولا يتأخر إلا بمقدار شهر أو أقل، والجهالة في موت فلان متفاحشة؛ لأن موت فلان قد يوجد بعد مدة يسيرة وقد لا يوجد إلا بعد مدة طويلة. والأصل: أن الجهالة المتفاحشة في الأجل تمنع صحة التأجيل في الخلع، واليسيرة لا تمنع، فلو ذهب الحصاد في تلك السنة فإنه يعتبر الوقت؛ لأن المقصود من ذكر الحصاد الوقت لا عينه. اختلعت من زوجها على عبد بعينه وهلك العبد قبل التسليم رجع الزوج عليها

بقيمته، وقد مرجنس هذا في فصل الخلع. وإن ظهر أنه كان ميتاً وقت الخلع، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يرجع الزوج عليها إنما رجع إليها من المهر، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يرجع عليها بقيمته أن لو كان حياً، وهذه المسألة فرع ما إذا تزوجها على عبد بعينه فإذا هو حر أو ميت فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لها مهر المثل فعلى الخلع يجب عليها رد ما قبضت من المهر؛ لأن حكم فساد التسمية في النكاح وجوب مهر المثل، وحكم فساد التسمية في الخلع رد ما دفع إليها من المهر. وإذا اختلعت من زوجها على خادم أو وصيف بغير عينه فالخلع جائز وكان للزوج خادم وسط ووصيف وسط؛ لأن الجهالة في الصفة لا في الجنس، وجهالة الصفة لا تمنع صحة التسمية في معاوضة مال بما ليس بمال على ما عرف في النكاح، وإذا خالعها على عبد أو ثوب فإن كان بعينه جاز الخلع، وكان للزوج غير ذلك، وإن كان بغير عينه، فعلى العبد يجوز؛ لأن العبد معلوم الجنس إلا أنه مجهول الصفة لكن جهالة الصفة لا تمنع صحة التسمية في معاوضة مال بما ليس بمال، وفي الثوب لا يجوز؛ لأن الثوب مجهول الجنس، ومثل هذه الجهالة تمنع صحة التسمية كما لو خالعها على حيوان، وإن كان العبد بعينه إلا أنه لم يرد فليس فيه خيار الرؤية؛ لأن العبد ملك بعقد لا يحتمل الفسخ وفي مثل هذا لا يثبت خيار الرؤية لعدم الفائدة، فإن وجد به عيباً إن كان يسيراً لا يرده، وإن كان فاحشاً يرده والخلاف في هذه وفي النكاح سواء والعيب اليسير ما يدخل تحت تقويم المقومين، ومعناه: أنه يقوم صحيحاً بعشرة وقد يقوم مع هذا العيب بعشرة. وقعت في زماننا أن دخل أو كان رجلاً يخلع أمر امرأته وقال بالفارسية: تو وكيل مني بخلع مارن من حون زن من معالي من بتوده، فدفعت المرأة قباءً لرجل إلى الوكيل وجرى الخلع بينهما وكتبت خط البدل كما هو الرسم فيه فنظر الرجل إلى القباء فوجده بلا بطانة فقيل: لا يصح الخلع لأنه لا يسمى قباءً إنما يسمى يك ما هي أو سرتوا، والتوكيل بالخلع بشرط (293ب1) دفع القباء فوجده، ولو كان له بطانة إلا أنه لا كمين لها أو لم يكن له أحد الكمين فقيل: فيما إذا لم يكن له كمان وإنه لا يصح، وفيما إذا لم يكن له أحد الكمين أن الخلع صحيح. وقيل: يصح الخلع وإن لم يكن له كمان، واستدل هذا القائل بما ذكر محمد رحمه الله في أيمان «الأصل» : إذا حلف الرجل لا يلبس ثوباً فلبس ثوباً ليس له كمان يحنث في يمينه؛ لأن الكم للثوب بمنزلة اليد للرجل، ومقطوع اليدين يسمى رجلاً فمقطوع الكمين يسمى ثوباً، فكذا يسمى قباءً، وقد قيل: ينظر إن كان في زعم الرجل أن قباءه مع البطانة ومع الكمين كان التوكيل بشرط دفع القباء الذي لا بطانة له أو لا كم له وقد وجد فيصح الخلع وهو الأظهر والأشبه.d وإذا خالع الرجل امرأته على إن أعطته درهماً قد نظر إليه في يدها فإذا هو زائف أو ستوق فإن له أن يأخذ منها درهماً جيداً أما إذا وجده ستوقاً فلأنه أشار وسمى المشار إليه من خلاف جنس المسمى فتكون العبرة للتسمية، وإذا صارت العبرة للتسمية صار كأنها قالت: خالعني على درهم ولم تشرط، قال: ينصرف إلى الجيد كذا ههنا، وما إذا وجده

زيفاً فلأن المشار إليه وإن كان من جنس المسمى إلا أن الإشارة إلى الدراهم لغو عندنا في المعاوضات، فصار كأنها سمت الدرهم ولم تشر. فإن قيل: الإشارة إلى الدراهم لغو في حق الاستحقاق عنها وأما في حق الصفة والمقدار لها غيره، ألا ترى أنه إذا قال لأخر: بعت منك هذا العبد بهذا الدرهم وهو زيف والبائع يعلم به فإنه لا يقع البيع بالجياد وإنما يقع بالزيف، قلنا: إنما تعتبر الإشارة في حقه إذا كان العاقد الآخر يعلم بصفته أما إذا كان لا يعلم فلا. ألا ترى أن في مسألة البيع لو لم يعلم البائع بكونه زيفاً يقع البيع بالجياد، وتأويل مسألتنا أن الزوج لو لم يعلم بكونه زيفاً حتى لو علم بكونه زيفاً كان له الزيف. وإذا اختلعت منه على ثوب في يدها أصفر فقالت: هذا هروي، فإذا هو مصبوغ كان له ثوب هروي وسط قالوا: وتأويله أن المصبوغ لم يكن هروياً؛ لأنه حتى لم يكن هروياً فقد أشارت وسمت، والمشار إليه ليس من جنس المسمى فتكون العبرة للتسمية وصار تقدير المسألة كأنها قالت: خالعني على ثوب هروي، وأما إذا كان مصنوعاً هروياً فالمشار إليه من جنس المسمى فتكون العبرة للإشارة فيكون له المشار إليه. وفي «فتاوى أبي الليث» : رحمه الله: إن قال لامرأته: إن لم يكن فلان أوسع دبراً منك فأنت طالق قال أبو بكر الإسكاف رحمه الله: هذا شيء غير مفهوم ولا مقدور على معرفته فلا يقع الطلاق. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : كان رجلان قال كل واحد منهما لصاحبه: إن لم يكن رأسي أثقل من رأسك فامرأتي طالق، فطريق معرفة ذلك أنهما إذا أقاما وعاق وأيهما كان الأسرع جواباً كان رأس الآخر أثقل منه. وفي أيمان «العيون» : رجل حلف أن فلاناً ثقيل وهو عنده ثقيل وعند الناس ثقيل، لا يحنث إلا أن ينوي ما عند الناس؛ لأن اليمين يقع على ما عند (الناس) ظاهراً فيحمل عليه ما لم ينو خلافه رجل ... فقدم عليه رجل من قرية أخرى فقال: إن لم أذبح على وجه هذا القادم بقرة من بقري فامرأته طالق ينظر: إن ذبح بقرة قبل أن يرجع هذا القادم وفى بيمينه، وإلا طلقت امرأته، لأن يمينه انعقدت على هذا القدوم عادة، وإن دبح بقرة من بقر امرأته لم يبرأ في يمينه لأن شرط البر ذبح بقرته، فلا يبرأ إلا إذا كان بين هذه المرأة وزوجها من الانبساط ما لا يمنع كل واحد منهما من مال صاحبه، مال ولا يجري بينهما مجادلة فيما بينهما ولكل واحد منهما من مال صاحبه قط فحينئذٍ رجحت أن يبرأ؛ لأن هذا يعد ذبح بقرته عادة، فإن كان هذا الرجل قد ذبح بقرته بنفسه لأجله لكن ما أضافه يلحقها بعد الذبح فإن كانت القرية التي انتقل منها هذا القادم قريبة من هذه القرية بر في يمينه وإن كانت بعيدة مما يعدّ سفراً أخاف (أن) لا يبرأ لأن مثل هذا إذا قدم يتخذون الضيافة لأجله يقع اليمين على الضيافة بعد الذبح.

إذا قال بالفارسية امر هركه من كشت كنم في هذه القرية فامرأته طالق ثلاثاً، فإن زرع شيئاً من الحبوب أو بذر البطيخ أو القطن طلقت امرأته؛ لأنه قد زرع، وإن سقى زرعاً قد زرعه غيره أو حصد لا تطلق امرأته؛ لأنه ما لم يبذر لا يسمى كشت كردن ولو دع إلى غيره مزارعة أو استأجر أجيراً فزرع أجيره لا تطلق امرأته إذا كان بملك الرجل ممن يلي ذلك بنفسه، وإن نوى أن لا يأمر غيره طلقت امرأته لأنه نوى ما يحتمل لفظه وفيه تغليظ، وإن كان قد أجر أجيراً له أو زرع غلامه وقد كان يعمل له قبل ذلك تطلق امرأته؛ لأنه كان يزرع قبل اليمين بهذا الغلام وبهذا الأجير فيدخل هذا النوع تحت اليمين إلا أن يعني نفسه لأنه نوى حقيقة كلامه. إذا قال: إن عمرت في هذا البيت عمارة فامرأته طالق، فخرب حائط بين هذا البيت وبين بيت رجل آخر فعمره، وكان من قصده عمارة البيت الآخر طلقت امرأته. وسئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن هذا فقال: الإرادة مع حقيقة الفعل غير نافذة إرادة أنه لا يعتبر بالإرادة مع حقيقة الفعل. إذا قال الرجل لأصحابه: إن لم أذهب بكم الليلة إلى منزلي فامرأته طالق فذهب منهم بعض الطريق فأخذهم العسر وحبسهم لا تطلق امرأته هكذا حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: هذا الجواب يوافق قولهما في مسألة الكون. وفي أيمان «المنتقى» : إذا قال لامرأته: إن لم تطلقي نفسك فأنت طالق فهذا على المجلس فهو إذن لها في التطليق ويلزمها ذلك إن طلقها. ابن سماعة قال: سمعت أبا يوسف رحمهما الله يقول: فيمن قال: كل امرأة أتزوجها فليس المقصود بعد التزوج إلا أن يكون (294أ1) بينه على ما قبله. «المعلى» : فهي طالق فتزوج امرأة فهذا على أن تشرب السويق وتلبس المقصور بعد التزويج إلا أن تكون بينة على ما قبله. «المعلى» : عن أبي يوسف رحمه الله: رجل قال لامرأته: كل امرأة أتزوجها غيرك إلا أن لا تزوجيني نفسك فهي طالق ثم إن المحلوف عليها زوجت نفسها منه، قال: إذا تزوج هذه طلقت كل امرأة تزوجها بعد اليمين. بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال لامرأة لا يملكها: إذا تزوجتك فأنت طالق، ثم قال لامرأة أخرى لا يملكها: إذا تزوجتك فقد أشركتك في هذه التطليقة، فتزوج الثانية مع الأولى أو بعد الأولى طلقتا ولو تزوج الثانية يقع عليها الطلاق ما لم يتزوج الأولى لأن يقع الطلاق عليها. قال في «الجامع» : إذا قال الرجل: إن دخلت الدار فعبدي حر أو إن كلمت فلاناً فامرأتي طالق فدخلت الدار عتق عبده ولا ينتظر فيه دخول الدار، ولو قال: أنت طالق غداً أو عبدي حر بعد غدٍ لا يقع شيء ما لم يجيء بعد غدٍ، وإذا جاء بعد غد..... يكن أن يختار الطلاق أو يختار العتق.

والفرق: أن في الصورة الأولى كلمة: «أو» دخلت على الشرطين ودخولها على الشرطين لا يكون دخولاً على الحواشي، لأن الشرط تبع للجزاء، لأنه يوجب الجزاء حالاً وهو التأخر، وما لا يوجب بغير..... فهو كالصفة لذلك والصفة تابعة للموصوف وإذا كان الشرط تبعاً للجزاء لا يستتبع الجزاء فانصرفت كلمة أو على الشرطين وبقي كل جزاء للشرط الذي علق به فإذا وجد ذلك الشرط بدل الجزاء المتعلق به وبطل الآخر كيلا يلزمه حكم اليمينين وقد أدخل بينهما حرف «أو» ؛ لأن «أو» وإن كانت تعم في النفي وهو الشرط يخص في الإثبات وهو الجزاء. أما في الصورة الثانية كلمة «أو» دخلت على الجزائين ودخولها على الجزائين يكون دخولاً على الوقتين؛ لأن الوقت كالصفة للجزاء؛ لأنه يوجب صفة التأخر للجزاء والصفة تابعة للموصوف، فما دخل على الأصل يكون داخلاً على البيع فصار الطلاق مضافاً إلى أحد الوقتين، والعتاق كذلك، وصار تقرير المسألة كأنه قال: امرأته طالق أو عبده حر غداً أو بعد غدٍ، فصار ملتزماً أحد الجزائين في أحد الوقتين، والملتزم في آخر الوقتين ملتزم في أحدهما، فيصير عبداً حراً لوقته كأنه قال: عبده حر وامرأته طالق، ولو قال هكذا كان له أن يختار أيهما شاء ويبطل الآخر كذا ههنا. إذا قال الرجل: امرأته طالق، إن لم يكن دخل فلان هذه الدار أمس، ثم قال: عبده حر إن كان فلان دخل هذه الدار أمس، حلف باليمينين على رجل واحد وعلى دار واحدة ولا يدري أدخل فلان هذه الدار أو لم يدخل؟ ذكر في «الجامع» : أنه تطلق امرأته ويعتق عبده. قال ثمة: ومن العلماء من قال: لا يعتق عبده ولا تطلق امرأته، وعن أبي يوسف رحمه الله في «النوادر» : أنه تطلق امرأته ولا يعتق عبده، والوجه «لظاهر الرواية» باليمين بالطلاق أقر أن فلاناً دخل الدار وباليمين بالعتق أقر أن فلان لم يدخل الدار فقد وجد الدار شرط الحنث في اليمين بإقراره فيحنث فيهما، ألا ترى أنه لو أقر بعد اليمين فقال: فلان دخل الدار، ثم قال: لا بل لم يدخل يحنث فيهما جميعاً، وطريقه ما قلنا. وفي «القدوري» : أن أبا يوسف رحمه الله كان يقول أولاً بالحنث في اليمين، كما ذكر في «الجامع» ثم رجع عن هذا، وقال: إذا قال بعد الأول: أو همت أو غلطت حنث في يمينه الأولى ولم تلزمه الثانية. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد رحمه الله: إذا قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار ثنتين قال: هي طالق بدخول ثنتين، وكذلك إذا قال: أنت طالق إن دخلت الدار وكذلك إذا قال: أنت طالق إن دخلت الدار بائن، كانت طالقاً بدخول الدار واحدة بائنة، ولو قال: أنت طالق واحدة إن دخلت الدار ثنتين، كانت طالقاً الساعة ثنتين، وإن دخلت الدار طلقت واحدة أخرى. قال: ألا ترى أنه لو قال لها: أنت طالق واحدة إن دخلت الدار طالق كانت طالقاً الساعة واحدة بقوله: طالق، وكانت الأول على دخول الدار؟.

بشر عن أبي يوسف رحمه الله: فيمن قال: امرأة من نسائي تدخل الدار فهي طالق وفلانة، فسمى بعض نسائه، وقع الطلاق على المسمى قبل الدخول فإن دخلت الدار لزمها أخرى، يريد به إذا كانت في العدة فيقع عليها تطليقتان إحداهما بحكم اليمين المعتدة بقوله: كل امرأة من نسائي، والأخرى بغير يمين، وقد مرت هذه المسألة من قبل، وكذلك إذا قال: كلما دخلت امرأة من نسائي الدار فهي طالق وأنت، قال ذلك لامرأة أخرى أو قال: من دخلت من نسائي الدار فهي طالق وأنت، قال ذلك لامرأة أخرى، لزمها الطلاق ساعة سكت، فإن دخلت لزمها أخرى أيضاً ما دامت هي في العدة، وكذلك لو قال لامرأته: أنت ومن دخل الدار من نسائي طالق تطلق في الحال، فإن دخلت الدار فهي في العدة لزمها أخرى، ولو قال لها: أنت وفلانة طالق إن دخلت الدار، لم تطلق واحدة منهما حتى تدخل فلانة الدار، وكذلك إذا قال لها: أنت وفلانة طالق إن دخلت فلانة الدار، لم تطلق واحدة منهما حتى تدخل فلانة الدار. سئل نجم الدين رحمه الله عمن له: امرأة حلال وامرأة حرمت عليه بثلاث، فدخل الرجل على امرأته الحلال فقالت له: دوبجانه در طلاق دو وقال الزوج: إن كسيست كه إن زن راسه طلاق بيكويد هل تطلق هذه ثلاثاً؟ قال: نعم. وسئل هو أيضاً: عمن قال: كأين خانه اندر جيزى اندرارم أرباب كدخدامي فامرأته طالق. بشر أين مردنجانه بدر آمد ربيما رشد بدر كينرك أورد ... بحب باحمله فورد ند. قال: لو جاء للمريض وحده لا تطلق امرأته، ولو كان بخلافه تطلق. وسئل هو أيضاً: عمن قالت له (294ب1) امرأته «تواز من بيك سو ومن أزتو بيك سو» فقال الزوج: «تيمجنان كير» هل تطلق بهذا؟ قال: لا؛ لأنه لو قال الزوج لها: توازمن بيكسو ومن ازتو بيكو لا تطلق؛ لأن هذا ليس بصريح ولا كناية. وسئل هو أيضاً: عمن قالت له امرأته: طلقني، فقال لها: ترانة طلاق ما ندست ونه نكاح برخين. قال: هذا إقرار أنه قد طلقها ثلاثاً. سئل هو أيضاً: عمن حلف بطلاق امرأته أن لا يشرب الخمر، أو كانت امرأته شدّدت عليه في هذا التحليف، فقال لها: اكنون جون هنتاد طلاق شدى ديكرجه خوامي، قال: هذا إقرار بالطلقات الثلاث. وسئل هو أيضاً: عمن قال: بينه هزار طلاق مرد كنت طلاق دادمت طلاق دادمت امرأته تتمة رنان خويشين ازمردان خريديذ من خويشين ازتومي هرم في فروشي زن كنت اكر طلاق درشكم من است دادمت وميكو يدا فسوس وي خواستم ورد سخن وي قال سه طلاق افته لأن صيغته صيغة التطليق وينبغي أن يقال: إن غيرّ النغمة بحيث يعلم أنه أراد به فسوس زن ورد كردن سخف وي لا تطلق. وقد مرّ شيء من هذا فيما تقدم. وسئل هو أيضاً عمن قال لامرأته: اكراربي سبس شرع داري ترا طلاق من غاية ايكسي ديكردادان زن با ان كش بدارد، قال: إن كانت يمينه للثوب منها في البيت، فإذا أمسكه غيرها في بيته لا تطلق، وإن كانت يمينه لا تبعاً لها بإمساكها وتدبير بعضها وعلقها

تطلق؛ لأن ذلك قابل بإمساك غيرها بأمرها. وسئل هو أيضاً عمن قال: اكر من خرم يا بدست كيرم زن ازوى شه طلاق، فيتناول إناءً من الخمر هل تطلق امرأته؟ قال: نعم. قال: وكذا يكون تناول الخمر باليد فإن عَنَى أن لا يتناول باليد بانفرادها وإنما يتناول في الإناء، فقيل له: إن أَخَذَ الإناء لا للفسق لكن للنقل إلى مكان التخليل هل تطلق امرأته؟ قال: نعم إذا لم يخطر بباله عند اليمين الأخذ للشرب. وسئل هو أيضاً عمن قال: اخر ثمة زن تراجه نام است، فقال: عائشة وكان اسم امرأته فاطمة فقال: ون الدين أن زن كه ترا نجانه است عائشة نام ازتو بطلاق اكر فرداينا هي ومراينيني، قال نعم فردا بيايم هل تطلق امرأته؟ قال لا. وهذا ظاهر. وسئل أيضاً عمن قال لامرأته: اكراز كار كرد تو ومردامكي نجورم توازمن بطلاق فعملت أو رجعت ووهبت لأخرى أن الموهوب له تقديمه إلى الحالف. قال: طلقت امرأته لأنه أكل من أجر كسبها وإرضاعها، لأنه بالهبة لا يخرج عينه من عملها وأجر إرضاعها. وقال: وهذا بخلاف ما لو قال: إن أكلت من مالك وباقي المسألة بحالها حيث لا تطلق؛ لأنه خرج عن ملكها بالهبة والتسليم، فلا يكون مالها. أما هذا بخلافه. وفي «القدوري» : إذا حلف لا يأكل من كسب فلان فانتقل كسبه إلى غيره بشراء أو وصية فأكل الحالف لا يحنث؛ لأنه صار كسباً للثاني، فالمشتري والموصى له لا يملك حكم ملك الأول، فعلى قياس ما ذكر «القدوري» رحمه الله: ينبغي أن لا تطلق فيما إذا قال لها: اكراز كار كردن تو خورم لان الكسب عربيه كاركردن. المعنى فيه: أنه إذا اختلف سبب الملك، واختلاف سبب الملك ينزل منزلة اختلاف سبب العتق. وفي «فتاوى الفضلي» رحمه الله: إذا قال لامرأته: ترا طلاق اكريشمان نشوم، قال: لا يقع الطلاق، سواءٌ ندم في الحال أو لم يندم. أما إذا ندم فلا شك، وأما إذا لم يندم فلأنه عسى يندم في الثاني. إذا قال لها: إن لم أجامعك مع هذه الجبة التي عليك فأنت طالق، فنزعتها فأبت أن تلبسها، فالحيلة في ذلك: أن يلبس الزوج الجبة ويجامعها فلا تطلق؛ لأنه جامعها مع هذه الجبة. إذا قال لها: إن دخلت بيتاً فيه عَبْدَ الله فامرأتي طالق، ثم أراد أن يجتمع مع عبد الله في بيت؛ فالحيلة أن يدخل هو أولاً ثم عبد الله فلا تطلق. فإذا قال لها: إن دخلت عليّ، أو قال: إن دخلت عليه فأنت طالق؛ فالحيلة أن يدخل معها فلا تطلق؛ لأنه لم يدخل عليها، ولم تدخل هي عليه. رجل اشترى مَنَّاً من لحم فقالت له امرأته: هذا أقل مِنْ مَنَ وقد خانوك وحلفت على ذلك بالعتاق، وقال الرجل: إن لم يكن مَنَّاً فأنت طالق ثلاثاً؛ فالحيلة في ذلك: أن تطبخ المرأة اللحم قبل أن يوزن فلا يقع الطلاق ولا العتاق بالشك. مؤذن أذن في يوم غيم، فقال رجل: هو للظهر، وقال الآخر: هو للعصر، وحلف كل واحد منهما بطلاق امرأته على ما يقول، فسألوا المؤذن، فحلف أن لا يخبرهم

بذلك، ولم يعرفوا، فإنه لا يقع الطلاق على امرأة واحد بالشك. رجل قال لامرأته: أنت طالق إن قرأت القرآن اليوم، فحضرت الصلاة؛ فالحيلة في ذلك أن تأتم بزوجها أو بامرأة أخرى. رجل قال لامرأته: إن كلمتك ما دمت في هذه الدار فأنت طالق، فخرجت المرأة عن الدار، ثم عادت وكلمها لا تطلق. ولو قال لها: إن كلمتك ما كنت في هذه الدار، وباقي المسألة بحالها طلقت. قال الإمام إسماعيل الزاهد رحمه الله: في العرف أنه يكون كونٌ بعد كون، ولا يكون ديمومة بعد ديمومة. وتفسير قوله: ما دمت باتويدين ان اندرى، وتفسير قوله: ما كنت بابوايدي سراى اندراباشِ. قال الفقه أبو حامد رحمه الله: ما كنت أعرف الفرق إلا ببيان الإمام إسماعيل رحمه الله، وستأتي مسألة ما دام في كتاب الأيمان مع تفاصيلها إن شاء الله. إذا قال لها: إن أكلت من هذا الخبر. فأنت طالق فطلقت الحيلة في ذلك حتى تأكل ولا تطلق فالحيلة ما روي عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه ينبغي لها أن تدق ذلك الخبز وتلينها في عصيدة ويطبخ حتى يصير الخبر هالكاً فتأكل العصيدة ولا تطلق. قيل لرجل امرأتك طالق؟ فأشار برأسه: أي نعم، فإن كان له تطلق وعبارة لا تطلق بالإشارة، وإن لم يكن طلقت. رجل قال لامرأته إن.... شيء كلمة الله تعالى فأنت طالق ثلاثاً، قيل: ينبغي أن..... بالنار، فإن الله تعالى كلم النار. قال الله جلت قدرته: {قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً} (الأنبياء: 69) . رجل له أربع نسوة طلق واحدة منهنّ ثم قال لواحدة أخرى من الثلاث الباقيات: ثم أشركتك في طلاق هذه، ثم قال للرابعة: أشركتك في طلاقهن طلقت الأولى والثانية كل واحدة منهما تطليقة، وطلقت الثالثة ثنتين، وطلقت الرابعة ثلاثاً. امرأة ارتدت وبانت من زوجها، فقال الزوج لامرأته الأخرى أشركتك في بينونة هذه (295أ1) فهي بائن أيضاً. قال رجل لامرأته: إن قربتك فأنت طالق ثنتين، فتركها أربعة أشهر ثم قال: قربتها، قال: هي ثلاث تطليقات عند محمد رحمه الله. امرأة قالت لزوجها: طلقتني ثلاثاً فقال الزوج: أنت طالق، طلقت واحدة إلا أن ينوي الثلاث. ولو قال: طلقتك أو قال: فعلت، فهي طالق ثلاثاً. امرأة قالت لزوجها: أنا طالق؟ قال: نعم، فهي طالق. ولو قالت: طلقتني فقال: نعم قال: لا تطلق، وإن نوى الطلاق. رجل قال لامرأته: أمرك بيدك، فقالت: اختلعت منك، أو قال لها: اختاري فقالت: اختلعت منك، فهي طالق. قال لها: أمرك بيدك فقالت: قبلتُ نفسي طالق. (رجل)

خلع امرأته بجميع ما تملك ورضيت به جاز الخلع، وله المهر الذي تزوجها، فإن كان دفع إليها المهر أخذه منها، وإن لم يدفعه برىء منه، ورجع عليها غيلة دخل بها أو (لم) يدخل بها حَلّ. قال لامرأته: أنت طالق إن جاء فلان أو قال: إذا جاء فلان وإذا جاء فلان، أو قال: متى جاء فلان، ومتى جاء فلان طلقت عند وجود أحد الفعلين. ولو قدّم الفعلين بأن قال: إن جاء فلان فأنت طالق لا يقع الطلاق إلا بوجود الفعلين؛ لأن في المسألة الأولى الكلام تام بذكر أحد الفعلين، وفي الفصل الثاني الكلام لا يتم إلا بذكر الفعلين. ولو جعل الجزاء بين الفعلين بأن قال: إن جاء فلان فأنت طالق، وإن جاء فلان فإنهما جاءا أول مرة طلقت واحدة، وإذا جاء الآخر لا تطلق إلا أن ينوي تطليقتين، فيكون على ما نوى. رجل قال لامرأته: أمرك بيدك تطلقي نفسك غداً فلها أن تطلق نفسها للحال. وقوله: فطلقي نفسك غداً مشورة. سئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله عمن ادعى دابّةً في يدي رجل أنها له، والذي في يديه ينكر دعوى المدعي، فحلف المدعي بطلاق امرأته ثلاثاً أن الدابة لي، ولم يكن له نيّة، والمدعي يقول: اعلم يقيناً أن الدابة لي، هل ينبغي لامرأته أن تقيم معه قال: نعم والأحوط أن يحلفه، فإن حلف أقامت معه، وإن نكل رافعته إلى الحاكم، فإن أبى أن يحلف فرق بينهما. سئل أبو نصر بن سلام رحمه الله عن رجل قال لامرأته: إن وجهت من هذه الدار إلى تلك الدار شيئاً فأنت طالق، ثم إن هذا الرجل أمر جاريته أن تعطى كلما طلبوا شيئاً من تلك الدار. فجاء إنسان من تلك الدار يطلب شيئاً، فأعطت الأمة ما طلب منها، فلم يرضَ الطالب بذلك الشيء، فقالت امرأة الرجل للجارية: اذهبي فاحملي من الشيء الآخر، فرجعت فجاءت بالأجود وذهبت بذلك إلى تلك الدار. قال: إن قامت دلالة ظاهرة على أنها أطاعت في ذلك مولاتها حقّ عليه الحنث. فإن قامت دلالة على أنها لم تعتمد على قول مولاتها وإنما اعتمدت على قول مولاها رجوت أن لا يكون حانثاً، وإن فقدت الدلالة سألنا الجارية، فأيّ شيء عبرت عن نفسها من طاعتها ومعصيتها رجوت أن يشيع الاعتماد على ما عبرت. وسئل هو أيضاً: عن رجل قال لامرأته: إن رفعت من حنطتي أو من شعيري وبعثت إلى القاضي فأنت طالق ثلاثاً، وكان لهذا الرجل.... المنزل يردون، وكان بين يديه شعير فَضْلٍ من آكله مقدار كف على وجه الحثالة في فنجان، فعمدت المرأة ورفعت الفنجان مع بقيّة الشعير وقالت: إن الفنجان من شعير آخر هو يصير للزوج، وبعثت بالفنجان إلى القاضي، قال: ينظر إلى باقي الشعير وإلى حال الرجل، فإن كان لا يبالي

بتلك المقدار ولا بعدد من شعير نفسه أرجو أن لا يحنث، وإن كان يبالي بذلك القدر وشحّ بقلبه وغصّ به حقّ عليه الحنث. وسئل الشيخ الإمام أبو الحسن المعروف بشيخ الإسلام عن رجل قال لامرأته: إن رفعت من مالي إلى فلان شيئاً فأنت طالق ثلاثاً، فدفعت شيئاً من الملح والحطب أو نحو ذلك هل تطلق امرأته؟ قال إن كان الحالف شاحٌّ في ذلك وتضايق طلقت ثلاثاً، وما لا فلا. ووقعت عين هذه المسألة في زمن محمد رحمه الله، وكانت المرأة دفعت أجرة إلى المحلوف عليه، فسئل محمد رحمه الله، عنها، فقال للسائل: سل أبا يوسف، فسأله فقال: إن كان يجري بينهما المشاحة والمضايقة في ذلك طلقت ثلاثاً، فأخبر السائل محمداً بذلك، ومن يحسن مثل هذا الجواب إلا أبا يوسف رحمه الله. وروي عن محمد بن الحسن رحمه الله عن رجل حلف أن لا يتزوج امرأةً كان لها زوج، ثم إنه طلق امرأته وتزوجها لا يلزمها الطلاق؛ لأن يمينه على غيرها. عن الحسن بن زياد رحمه الله: امرأة قالت لزوجها: تركت مهري عليك على أن تجعل أمري بيدي، ففعل ذلك، فلم تُطلّق المرأة نفسها، قال: المهر قائم ما لم تُطلق نفسها. سئل أبو نصر عمن تشاجر مع امرأته من قِبَلِ أُختٍ له فقال لها: إن تكلمت بين يدي من كلام أختي وسببتها بين يدي فأنت طالق ثلاثاً، ثم إن الزوج دخل بيته، وهي تشاجر أخته وسبّتها، وهو يسمع ذلك، قال: إن كانت سبتها، وهو يراها، وهي تراه، فقد سبتها بين يدي الأخ فتطلق ثلاثاً. وسئل أبو القاسم عمن قال لامرأته بالفارسية: اكر ابن بامه ترين من اندا فأنت طالق، وكان ذلك قميصاً فحمل على عاتقِهِ قال: إنها تقع يمينه على ما يلبس الناس. وسئل أبو القاسم رحمه الله عن رجل قال لامرأته: إن شربتُ شيئاً من المسكر إلى سنة فأنت طالق، فرآه الناس سكران خارج من مجلس الشراب وجحد هو أن يكون شرب، فشهدوا عند الحاكم قال ينبغي للحاكم أن يحتاط لنفسه ولا يقبل بشهادة من لا يعاين الشرب، وينبغي للمرأة أن تحتاط لنفسها في مفارقته بالعدة. وفي أحد حدود «المنتقى» عن محمد رحمه الله: إذا قال الرجل: امرأته طالق إن شرب نبيذاً، أو قال: خمراً حتى سَكِرَ، فشهد شاهدان أنهما وجداه سكران، ووُجِدَ منه رائحة الخمر وجاءوا به إلى الحاكم على تلك (الحالة) قال الحاكم: (295أ1) نحدُّه ونفرق بينه وبين امرأته، ولا يحمل هذا على أنه.... وإنما هذا على أن يشربه، قال ثمة: ألا ترى أنه إذا وجد الرجل سكراناً، أو وُجد منه ريح الخمر أو الشراب أنه يُحدّ. ولا يوضع هذا على أن أكرهه عليه ذلك الحاكم أبو الفضل رحمه الله: يحتمل أن هذا قول محمد رحمه الله. قد ذكر في «الأصل» أنه لا يحدُّ بالريح ولا بالسكر.

وفي هذا الموضع أيضاً قال محمد رحمه الله: إذا قال: امرأتي طالق إن شربت نبيذاً حتى سكرت، فشهِدَ عليه شاهدان أنه سكر وقالا: لم نجد منه الشرب ولا ندري من أي شيء سكر، فأمضى القاضي الحكم عليه بالطلاق، ثم رُفع إليَّ لم أنقض قضاءَه. سئل محمد بن سلمة رحمه الله عن رجل حلف بطلاق امرأته إن غسلت ثيابه، فغسلت لُفافته قال لا تطلق إلا أن ينوي ذلك. ولو أوصى لرجل بثيابه دخلت اللفافة في الوصية. وسئل أبو القاسم رحمه الله عمن قال: لامرأته: إن غسلت ثيابي فأنت طالق، فغسلت كُمَّهُ أو ذَيْلَه، قال: إن كانت تغسل ذلك القدر لا تُسمى غاسلة الثياب في إرسال الكلام لا يلزمه الحنث. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وروي عن محمد بن سلمة رحمه الله: لا يقع الطلاق بغسل هذا القدر، ولم يشترط هذا الشرط، وبه نأخذ. حلف بالطلاق أن لا يأكل من مال (أخيه) شيئاً، فجعل خميرة الخبز في دقيق الحالف وَخَبَزهُ وأكل قال الحسن بن زياد رحمه الله: لا يلزمه الطلاق؛ لأن الخمير قد ذهب. سئل نصر عمن قال لامرأته: إن فارقتك فكلّ امرأةٍ أضع رأسي مع رأسها فأنت طالق، أو قال: كل جارية أضع رأسي مع رأسها، أو قال: كل جارية أطؤها فهي حرة. ففارقها ثم تزوج امرأةً، ووضع رأسه مع رأسها، أو اشترى جارية ووطئها لا يلزمه الحنث؛ لأنه حَلَفَ في ما لا يملكه وما أضاف الحلف إلى الملك، حتى لو كان في نكاحه امرأة أخرى وقت الحلف، أو كانت في ملكه جارية وقت الحلف ووطىء تلك الجارية، أو وضع رأسه مع رأس تلك الجارية يلزمه الحنث. وسئل نصر عمن قال لامرأته: إن لم تقومي الساعة وتجيئي إلى دار والديّ فأنت طالق، فلبست الثياب وخرجت من الدار ثم رجعت وجلست، ثم ذهبت إلى دار والديه قال: لا تطلق ما دامت في نهي الذهاب ورجوعها وجلوسها ما دامت في نهي الذهاب لا يكون تركاً للفوت. وكذلك أَخْذُهَا الثوب، فقالت مثل لبس الثياب، ثم لبست الثياب لا تطلق. قال: ألا ترى أن رجلاً قال لامرأته: إن لم تجيئي هذه الساعة إلى الفراش فأنت طالق، وهما في تشاجر ذلك الأمر حتى طال غيابها أنها لا تطلق، ولا تنقطع الصور قبل الدار أنت إن خافت ذهاب وقت الصلاة فعلت، قال: الصلاة عمل آخر. فهي قطعٌ للصور. وروى ابن زياد رحمه الله في رجل قال لامرأته: أنت طالق إن أكلت أو شربت، فإن أكلت أو شربت طلقت واحدة، ولو قال: إن أكلتِ أو شربتِ فأنت طالق لا تطلق ما لا تأكل وتشرب. وقد ذكرنا مثل هذا في قوله: إن سببت أو إن بتُّ سكران. تشاجر مع غيره، فقال له ذلك الغير: تقول هذا من السكر فقال: أنا لست بسكران، ولا أقول هذا من السكر، وحلف على ذلك بطلاق امرأته، قال أبو القاسم رحمه الله: يمينه على ما سمعه الناس سكراناً إذاً بغير كلامه ومقالته، وهذامما سمعه الناس سكراناً، فتطلق امرأته.

سئل أبو القاسم رحمه الله عن رجل حلف بطلاق امرأته إن لم يجامع فلاناً ألف مرة، قال: يمينه على كثرة العدد لا على كمالٍ بالألف ولا يُقدّر فيه تقديراً، والسبعون كثير، قال الله: {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الهم} (التوبة: 80) . إذا قال لامرأته: أنت طالق كل سنة ثلاثاً تقع الثلاث في ساعته؛ لأن هذه الساعة من السنة. في «فتاوى أهل سمرقند» : إن قال لامرأته في يوم الخميس: أنت طالق يوم الخميس أو في يوم الخميس، فهو على اليوم الخميس القائم. في باب الطلاق. من «الأصل» : أنت طالق اليوم، إذا جاء غد، يقع الطلاق إذاجاء الغد؛ لأن قوله أنت طالق اليوم إيقاع في اليوم، وقوله: إذا جاء غد تعليق، والإيقاع مع التعليق إذا اجتمعا كانت العبرة للتعليق. في هذا الموضع أيضاً: اكرا مسالي زن خواهم فهي طالق ثلاثاً، فهذا يقع على.... ذي الحجة؛ لأن قوله: امسالي، إلى السنة التي هو فيها، فتصير عبارة عما بقي من السنة. في الباب الأول من طلاق «الواقعات» : إذا علّق الطلاق بفعلٍ في وسعها إقامته لا يقع الطلاق بترك الفعل إلا في آخر جزء من آخِر حياتها. وإن جعل التعليق بفعلٍ ليس في وسعها إقامته يقع الطلاق في الحال إلا إذا وقَّت لذلك وقتاً فحينئذ لا يقع الطلاق إلا بعد مضي ذلك الوقت. في باب الطلاق من «الأصل» : سئل الفقيه أبو بكر عن رجل طلق امرأة غيره فقال الزوج: بئس ما صنعت وقال: نِعمَ ما صنعت، قال: كان عبد الله يقول: إن قال: بئس ما صنعت وقع الطلاق، وإن قال: نعم ما صنعت لا يقع الطلاق. قال الفقيه أبو بكر: وأنا أقول على.... هذا. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله فيه نأخذ؛ لأنه هو الظاهر. وسئل هو أيضاً: عن رجلٍ غضب على امرأته لما أنها خرجت من دارها إلى سطحٍ جارٍ لها فقال لها: إن خرجت من الدار إلى سطح الجار فأنت طالق، فخرجت إلى سطح جارٍ آخر قال: إن علم أن مراده سطح جارٍ بعينه لا تطلق، وإن لم يعلم فيمينه على جميع الجيران، وتطلق بالخروج إلى سطح جارٍ آخر. وستأتي هذه المسألة في كتاب الأيمان بخلاف هذا. وسئل أبو القاسم عن رجل اتُّهم بشيء فقال: فلانة طالق أكثر من وقطع الكلام لا يقع الطلاق، ويجب أن تكون المسألة على الخلاف على قياس مالو قال لامرأته: أنت طالق إن ولم يزد، وقد مرت تلك المسألة من قبل. حلف أن لا يطلق امرأته والى منها فمضت أربعة أشهر من غير (296أ1) قربان حتى وقع عليها طلاق بالإيلاء، هل يقع عليها تطليقة أخرى باليمين؟ قال نصر: يقع، وقال غيره: لا يقع. وفي اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله من جهته، وذكر ثمة في العنِّين إذا حلف:

لا (يطأ) امرأته، وفرق القاضي بينهما بحكم العنّة هل يلزمه الحنث؟ على قول زفر لا يلزمه. وعن أبي يوسف رحمه الله فيه روايتان. وستأتي المسألة في كتاب الأيمان إن شاء الله. وسئل أبو بكر عمن قال لامرأة من جيرانه أن تريدي أخلصك من زوجك فقالت: نعم، فذهب الرجل وخلصها من زوجها بمهرها ونفقة عدتها، فبلغها فلم ترضَ به، قال: إن قالت المرأة: لم أُرِدْ بذلك هذا النوع في التخليص فالقول قولها. سئل هو أيضاً عمن قال لامرأته: إن دخل فلان بغير مرادي فأنت طالق ثلاثاً، فأرادت أن يذهب فقال الزوج: توهمي ورو وبر من جه آيد. فقال: هذا وعيد وليس بإذن، فإذا ذهبت ودخلت دار فلان طلقت ثلاثاً. وسئل هو أيضاً عن رجل قال لامرأته: بعت منك أمرك بألف درهم، قال: إن اختارت نفسها في المجلس في المجلس وقع عليها الطلاق، ولزمها المال. وسئل هو أيضاً: عن رجل باع من امرأته بمهرها ونفقة عدتها، واشترت هي ثم قال الزوج من ساعته: هرسنة هرسنة، قال: أخاف أن يقع عليها ثلاث تطليقات. وينبغي أن ينوي الزوج إن أراد بقوله: هرسنة إيقاع الطلاق طلقت ثلاث تطليقات، وما لا فلا. وقد مرّ نظير هذا في مسائل الخلع. وسئل هو أيضاً: عن رجل قال لامرأته: هَبيْ صداقك مني فقالت: لا أهب. قال: أنت طالق ثلاثاً إن لم تهبي وأتى على ذلك أيام، ثم إن المرأة تزعم أنها كانت وهبت منه إلا أنه لم يسمع لا يصدق، وطلقت ثلاثاً، وفيه نظر، وينبغي أن لا تطلق ما دامت حيّة. وسئل أبو القاسم رحمه الله عن رجل قال لامرأته: جعلت إلى ثلاث تطليقات بيدك إن أبرأتيني عن المهر فطلقت نفسها في المجلس، إن طلقت بعدما أبرأته عن المهر يقع الطلاق، وما لا فلا؛ لأن التوكيل على شرط تبرئته عن المهر. وسئل أبو بكر رحمه الله عمن قال: حلال الله عليَّ حرام إن فعلت كذا، ففعل ذلك الفعل، وليست له امرأة يومئذ، فتزوج امرأة، قال: تلزمه كفارة اليمين، ولا تطلق امرأته التي تزوجها، ولو كانت له امرأة وقت اليمين، طلقت. وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: إن تزوج امرأة يقع الطلاق عليها، ويجعل ذلك بمنزلة قوله: كل امرأة أتزوجها. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وأنا أقول بقول أبي بكر. قيل: جواب أبي جعفر رحمه الله لا يستقيم، وإن جعلنا قوله: حلال الله عليَّ حرام بمنزلة قوله: كل امرأة أتزوجها على ما هو موضوع المسألة في «الكتاب» ؛ فإن موضوع المسألة: أن الحالف ذكر الفعل آخراً في اليمين، وتزوج امرأة بعدما باشر ذلك الفعل، وفي هذه الصورة لا يقع الطلاق على اليمين المتزوجة بعد مباشرة الفعل، وإنما يقع على المتزوجة قبل مباشرة الفعل، وإنما يستقيم هذا الجواب فيما إذا ذكر الفعل أولاً بأن قال: إن فعلت كذا فحلال الله عليَّ حرام. وسئل أبو بكر أيضاً عمن قال لامرأته: هرار بار هشته به يك طلاق، قال: طلقت ثلاثاً.

وسئل هو أيضاً عمن قال لامرأته: إن صعدت هذا السطح فأنت طالق، فارتقت.... أو ثلاثة، قال: يجب أن يكون في المسألة اختلاف بين نصر ومحمد بن سلمة رحمهما الله بناءً على أن من قال لامرأته: إن ذهبت إلى قرية كذا فأنت طالق، فخرجت إليها، قال أحدهما: يحنث بنفس الخروج، وقال الآخر: لا يحنث بنفس الخروج ما لم تنتهِ إليها فهاهنا يجب أن يكون كذلك. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وعندي أنه يقع الحنث هاهنا بالاتفاق؛ لأنه لا يقال: صعد السطح ما لم يرتفع. ويقال اذهب إلى موضع كذا وإن لم ينتهِ إليه. وسئل هو أيضاً: عمن قال لامرأته: إن ارتقيت هذا السلم أو وضعت رجلك عليه فأنت طالق فوضعت رجلها عليها فتذكرت الحلف فرجعت، قال: أخاف أنها تطلق. قيل له: أليس هذا اللفظ صار كناية عن الصعود، كما أنّ وضْع القدم في الدار صار كناية عن الرجل؟ قال: إن استقضى في هذا اليمين حنث. قال: إن ارتقيت أو وضعت رجلك عليه والصعود يستفاد بقوله: إن ارتقيت عليها أنه أراد بوضع الرجل نفس الوضع، فهو بمنزلة ما لو قال لامرأته: إن خرجت من هذه الدار ووضعت رجلك في السكة فأنت طالق، وهناك إذا وضعت رجلها في السكة تطلق، وإن لم تخرج والمعنى: ما ذكرنا كذا هاهنا. وسئل هو أيضاً: عمن قال لامرأته: كابتن وهرينة عدة توتبو فروخم شيه طلاق تو فقالت: اشتريت لا يقع وهي امرأته؛ لأنه باع مالها منها، فهو بمنزلة ما لو قال لها: بعت منك عبدك هذا بكذا، وذلك لا يصح كذا هذا. وسئل هو أيضاً: عن رجل حلّفه السلطان بطلاق امرأته أن يضع مئتي درهم على كف خليفته فلان، فجاء الرجل بالدراهم ليضع على كفّ الخليفة فأمره الخليفة أن يدفع الدراهم إلى خادم له، ولم يضعها على كف الخليفة قال: أرجو أن لا تطلق امرأته. سئل أبو القاسم عمن قال لامرأته: اكم ما در توا زجر من نجورد فأنت طالق ثلاثاً، فحملت المرأة من دقيق زوجها ودفعت إلى أخيها، فدفع الأخ إلى امرأته، فخبزت، ثم وضع الأخ الخبز بين يدي أمه فأكلت، قال: إن دفعت الأخت الدقيق إلى الأخ على وجه الهبة لم تطلق، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وعندي أنها لا تطلق على كل حال؛ لأن الأخ لما خبز الدقيق صار الدقيق ملكاً، له وهو ضامنٌ للدقيق. وسئل أبو نصر رحمه الله عمن قال لامرأته: إن فعلت كذا فأنت طالق واحدة، فقالت: لا أرضى بالواحدة فقال الزوج: أنت طالق ثلاثاً إن لم ترض بالواحدة. قال: هذا الكلام يراد به الشرط ولا يراد به الإيقاع، فلا يقع في الحال شيء. سئل علي بن أحمد رحمه الله عن رجل تشاجر مع امرأته فقالت المرأة: وهبت حقي جنك ازمن بدار، فقال: جنك بازد اشتم، قال ذلك ثلاثاً. قال: خفت (296ب1) أن يقع عليهما ثلاث تطليقات. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وعندي أنه يقع عليها واحدة؛ لأن

قوله: جنك بازد اشتم فارسية، وقوله: خليت سبيلك وذلك ثاني، والثاني لا يلحق. إذا قال لامرأته: إن لم تصومي غداً فأنت طالق، فأصبحت من الغد صائمة، فلما مضى ساعة حاضت، ومضى اليوم طلقت، هكذا ذكر في «الفتاوى» . قال الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله: هذا الجواب يستقيم على قول أبي يوسف، غير مستقيم على قول محمد رحمه الله بناءً على ما إذا عقد يمينه على شرب الماء الذي في الكوز اليوم، وفيه ماء، فانصبّ قبل مضي اليوم. والصحيح أنها تطلق عند الكل، وإليه أشار محمد رحمه الله في «أيمان الجامع» كتبته في «واقعات» بخارى بعد الرجوع من سمرقند. سئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله عمن قال: اكر مرا مركز جزار فلان زن باشد وشما ازمن مهر از طلاق، ثم أراد أن يتزوج امرأة غيرها قال: ينبغي أن يبدأ ويتزوج امرأة سوى التي يريد نكاحها بمهر قليل، فتطلق ثلاثاً، ويلزمه نصف مهرها، ثم تزوج بالتي يريد نكاحاً بما أحب فلا تطلق إن لم يكن للحالف نية كل امرأة يتزوجها. وهذه المسألة تشير إلى أن اليمين بهذا اللفظ ينعقد على امرأة واحدة. سئل أبو نصر عن رجلٍ أتهم امرأته برفع شيء من الدراهم فأنكرت، فقال الزوج: تواز من بسيه طلاق هشته اكر تيو داشيه، ثم ظهر أنها لم ترفعه قال: طلقت ثلاثاً، وهذا ظاهر؛ لأن الزوج علق طلاقها به.......، وكذلك لو قال: تواز من به طلاق هشته كه برداسته وظهر أنها لم ترفع طلقت ثلاثاً لأن الزوج أخبر عن دفعها وأكدّ ذلك باليمين، فكان شرط وقوع الطلاق عليها عدم الدفع وهو نظير ما روي عن أبي يوسف رحمه الله في «النوادر» : إذا قال لامرأته: أنت طالق إن دخلتُ الدار ولم يكن دخل طلقت؛ لأنه أخبر عن الدخول وأكَّدَهُ باليمين، فكان شرط الحنث عدم الدخول. سئل نصر عمن قال لامرأته: طلاق ترادام خريدي، فقالت: خريدم وخويشين راشين بارهشتم اززني، فقال لها الزوج: رستي، قال: إن أراد بقوله: رستي الإجازة وقع الثلاث، وإن لم يرد به الإجازة لا يقع إلا واحدة رجعية. سئل أبو القاسم عن سكران ذهب إلى دار.... فقال: إني حلفت بطلاق امرأتي أن ألتقي بها الليلة فأبوا ذلك عليه، فلما صح قال: إني أردت بذلك تخويفهم ولم أكن حلفت بالطلاق، قال: طلقت امرأته. وسئل هو أيضاً عمن قال لامرأته: إن تكوني امرأتي عند غدٍ فأنت طالق ثلاثاً، قال: طلقها واحدة بائنة في يومه ذلك أو في الغد ثم مضى الغد سقطت اليمين وله أن يتزوجها بعد ذلك في العدة وبعد مضي العدة. ولا تطلق. سئل أبو نصر عمن قال لامرأته: اكر تو باكسي حرام اكشي فأنت طالق ثلاثاً، ثم إن الزوج طلقها واحدة بائنة وجامعها في عدتها هل تطلق ثلاثاً؟ قال: لا وبيمينه على غيره. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وعندي أن المسألة يجب أن تكون على الخلاف

على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تطلق، وتقع يمينه عليه وعلى غيره. وعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا تطلق. أصل المسألة: إذا قالت لزوجها: إنك تزوجت عليّ امرأة فقال الزوج: كل امرأة لي فهي طالق. وسئل أبو نصر رحمه الله عن رجل قال لامرأته: إن أعطيتك دراهم تشتري بها شيئاً فأنت طالق، فدفع إليها دراهم، وأمرها أن تعطي فلانة تشتري بها شيئاً، ثم تذكر يمينه واستردّ الدراهم منها هل تطلق امرأته؟ قال: إن كانت امرأته هي التي تشتري الأشياء بنفسها لا تطلق، وإن كانت لا تتولى شراءها بنفسها أخاف أن يقع الطلاق عليها. قال صاحب «مجموع النوازل» سألت نجم الدين رحمه الله عن معنى هذا الجواب فقال: لأنها إذا كانت تشتري بنفسها وقعت يمينه على حقيقة فعلها فما لم تشترِ لا يحنث، وهذا الجواب مستقيم فيما إذا دفع إليها الدراهم ولم يأمرها أن تدفع إلى فلانة تشتربها، فأما إذا أمرها أن تدفع إلى فلانة تشتري بها فلانة ينبغي أن لا تطلق امرأته على كل حال. إذا قال الرجل: إن فعلت كذا فكل امرأة لي طالق، وليس له امرأة، وكان من نيّته كل امرأة يتزوجها بعد هذا هل تصح نيته؟ كان شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله يقول: تصح نيته. ويصير تقدير المسألة: كل امرأة تكون لي، فهذا من باب نيته الإضمان وأنها صحيحة، وكان نجم الدين النسفي رحمه الله يُفتي بأنه لا تصح نيته. ولو قال: إن فعلت كذا هرج بدست راست كيرم برمن حرام، وليست له امرأة وقت الحلف، ولم ينوِ امرأة يتزوجها كان شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله يقول: يكون يميناً وعليه الكفارة، وبه كان يفتي شيخ الإسلام أبو الحسن رحمه الله، وقد مرّ نظير هذا في قوله: حلال الله عليَّ حرام. وكان نجم الدين النسفي رحمه الله يفتي بأنه لا شيء عليه. ولو نوى امرأة يتزوجها تصح نيته بلا خلاف. قال نجم الدين: وإنما صحت نيّة كل امرأة يتزوجها في هذه الصورة لأن قوله: هرج بدست راست كيرم صيغته صيغة استقبال فتصح نيّة الاستقبال لاحتمال اللفظ، بخلاف قوله: كل امرأة لي؛ لأنه للحال، فلا يحتمل الاستقبال، فلا تصح نية الاستقبال فيه، وقد مرّ جنس هذا في مسائل الكنايات. سئل نجم الدين رحمه الله عمن قال: امرأته تجدد النكاح بيننا احتياطاً فقالت: بيّن وجه الحرمة حتى أعرف وبارعته في ذلك وقالت: لم تكتم الحرمة، فغضب الزوج فقال: سراني اني ريكان است كه معجنين بداري هل يكون هذا إقراراً بالحرمة؟ قال: نعم؛ لأنه أشار إليها مرتين بقوله: اين ريكان وبقوله: معجنين وهو تحقيق لصفة الحرمة فيها. ولو قال: سراي اين تكان انست كه حرام بداري لا يكون إقراراً بالحرمة. هذا إذا قال لغيره: خوامي تازنت طلاق كنم فقال: دادمش شيه طلاق. وفي هذه المسألة تقع تطليقة واحدة، والثانية يقول: دادمش شيه طلاق وفي هذه المسألة (297أ1) لا تطلق أصلاً، وهو فتوى قول أبي حنيفة رحمه الله.

سألت المرأة زوجها أن يطلقها واحدة فقال: دا دم يكي ودوست فقالت: جه يكي وجه دو وجه شه، فلم يجبها بشيء فقد قيل: إنها تطلق ثلاثاً. وظهر بسبق سؤال العدد في الطلاق أنه أراد به عدد الطلقات. قال الرجل لغيره: استعدت امرأة حليلةً فقال الزوج: بده ترهم تجديد سي فقال ذلك الرجل: مرابسيد درم فروختى فقال: فروحنم، فقد قيل: لا تحرم وهي على زوجها بهذه المقالات؛ لأن الأجنبي ما أخرج الكلام مخرج الاختلاع، فإنه لم يقل: سروي فروختي سد درم يجعل ذلك خلعاً، بل طلب شراءها لنفسه، وهي ليست بمحل لشرائه إياها لنفسه، فبطل ضرورة.r رجل له امرأتان فقال لإحداهما: سيه طلاق أن زن ديكرترا دادم. أو قال: يتوا دادام تواين نيت طلاقه وي ده ابن زن كنت من اين شيه طلاق بوي دادم لا تطلق واحدة منهما؛ لأن كلام الزوج تفويض، وكلام المرأة أيضاً تفويض، ولم يوجد التطليق من المفوض إليها، ولهذا لا تطلق واحدة منهما. إذا طلق امرأته تطليقة، ثم قال بعد ذلك: زن برمن حرام رست، يُسألُ الزوج: عنيت بقولك: زن فرض حرام است الحرمة بتلك التطليقة أو هذا الكلام، إن قال: عنيت بتلك التطليقة، فقد جعل الطلاق الرجعي بائناً، فلا تقع تطليقة أُخرى. وإن قال هذا الكلام مثلاً، فهو طلاق آخر ثاني. قال لامرأته: تواز من جنان دوري جون مكة از مدينة لا تطلق إلا بنية الطلاق. قال لها: سرم نمي داوي كه حرام كرد كيار منكر دي، فهذا إقرار بحرمتها. سئل شيخ الإسلام أبو الحسن السغدي رحمه الله عمن قال لامرأته: اذهبي إلى فلان واستردي منه كذا واحمليه إليّ السّاعة، فإن لم تحمليه فأنت طالق ثلاثاً، فذهبت ولم تقدر على الاسترداد، فرجعت ثم استردته في يوم آخر فحملته فقال: قد وقع عليها ثلاث تطليقات؛ لأن قوله: فإن لم تحمليه كان مطلقاً، إلا أنه بناءً على قوله: واحمليه إليَّ الساعة فيكون على الفور، وينبغي أن لا يقع الطلاق، ويكون عجزها عن الاسترداد بمنع فلان إياها عن ذلك عذراً كما في المسألة التي تقدم ذكرها وهو ما إذا حلف بالفارسية: اكرا شيت بدين شهر اندر باشم، فكذا فتوجه للخروج فأخذ وجلس فإنه لا يلزمه الحنث، وجعل عجزه عن الخروج بمنعهم إياه عن الخروج عذراً. سئل هو أيضاً عمن قال لامرأته: دست بازدا شتمت بيك طلاق فقالت المرأة: باكوي باكويان تشوند، فقال: دست بازدا شتمت بيك طلاق، ثم تفرَّقا، فقال رجل للزوج: دست بازداستي زن را، فقال: دست بازداشية أم بيك طلاق، أو قال: بازدا شتم فهذا إخبار عن الأول فلا يقع بهذا طلاق آخر، ولو قال: بازدا شتم بيك طلاق، فهذا طلاق آخر، فتقع الثلاث إلا إذا قال: عنيت بالثاني والثالث الإخبار، فيصدق ديانة لا قضاءً. وهو نظير ما قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا قال لها: أنت طالق أنت طالق، أو قد طلقتك، وقال: عنيت بالثاني الإخبار، فإنه يصدق ديانة لا قضاءً كذا هنا، وأشار في

«القدوري» إلى أنه تقع واحدة أيضاً في الفصل الثاني. وقد مرّ هذا في صدر الكتاب. وسئل هو أيضاً عن سكران يضرب امرأته، فهربت منه فقال: إن لم تَعُدْ هي إليَّ فهي طالق ثلاثاً، وكان ذلك عند العصر، فعادت إليه عند العشاء الآخر قال: هي طالق ثلاثاً؛ لأن هذا يمين فور فقيل له: هل يصدق في أنه لم يرد الفور؟ قال: لا قيل: بماذا تُقدِّر مدة الفور؟ قال: ساعة، واستدل بما ذكر في «الجامع الصغير» . إذا قال الرجل لامرأته حين أرادت الخروج: إن خرجت فأنت طالق، فعادت وجلست، ثم خرجت بعد ذلك ساعة لا تطلق. وسئل أيضاً عمن قال: إن فعلت كذا فامرأته طالق ففعل ذلك، وله امرأة معتدة من طلاق بائن هل تطلق؟ فقال: لا إلا إذا أشار إليها بقوله: اين زن مرارز من بطلاق، فحينئذ تطلق، هذا الجواب صحيح ظاهر؛ لأن اسم امرأته وإن كان لا يقع على معتدته عن طلاق بائن إلا أنه إذا أشار إليها يقع الطلاق عليها بحكم الإشارة لا بالاسم، وهذا لما عرف أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعا، والمشار إليه من جنس المسمى، فالعبرة للإشارة. إذا قالت المرأة لزوجها: خويشين خريدم ازتو بعدت وكاتين، فقال الزوج: دست كوتاه كردم، لا يقع الخلع بنيّة الطلاق في الخلع والمبادات شرط لصحة الخلع و.... إلا أن مشايخنا لم يشترطوا نية الطلاق في الخلع، قالوا: لأن العرف جرى فيما بين الناس في الطلاق على مال بهذه الألفاظ: نويشين خريدم ازتو بكذا فيقول الزوج: فروختم خويشين تحورا من بكذا، فتقول المرأة: خريدم. وصار ذلك ظاهراً معروفاً فيما بينهم لا صريح فيما بينهم فبحكم غلبة الاستعمال وقع الاستغناء عن النيّة، وإن كان هذا من كنايات الطلاق فبقيت النية مشروطة في المبادات وسائر الكنايات على ما هو قضية «الأصل» . إذا قال لها: اكرتو قلتباكي كه تراشيه طلاق، وكان الزوج يخادن امرأة وكانت تلك المرأة من معارف هذين الزوجين، وكانت تأتي دراهم مظهرة زيارتها وغرضها تجارة هذا الرجل فاجتمع هو الحالف وتلك المرأة يوماً في هذه الدار وتمازحا وتصافحا وتعلق كل واحدٍ منهما بالآخر وامرأة الحالف تنظر إليهما وتراهما ولا تمنعهما عن ذلك هل تطلق امرأته؟ قيل: إن كان الناس يعدون هذا نية تطلق وما لا فلا. سئل شيخ الإسلام أبو الحسن رحمه الله عمن له امرأتان طلقت إحداهما من الزوج قبل أن يطلق صاحبتها، وضعت الأمر عليه وهو يتخلص عنها وليس من رأيه أن يفارق صاحبتها، ما الوجه في ذلك؟ قال: يتزوج امرأة أخرى باسم صاحبتها ثم يقول: طلقت امرأتي فلانة ويعني التي تزوجها؛ لأنه وجه آخر أن يكتب اسم تلك المرأة واسم أبيها على كفّه اليسرى ويشير بيده اليمن إلى المكتوب وهو يقول: طلقت فلانه (297ب1) هذه بنت فلان فيوهم الطالبة أنه يطلق التي تطلب منه طلاقها.

قال وسمعت نحو هذا من القاضي الإمام الحسن الماتريدي رحمه الله أنه فعل مثل ذلك في تحليف الخاقان إياه، ومشايخ عصره أنهم لا يخالفونه ولا يخرجون عليه، فكتب على كفه اليسرى اسم الخاقان وكان يقول: التحليف لا أخالف هذا الخاقان ولا أخرج عليه وكان يشير بيمينه إلى يساره. سكران قال: إن كان لي ولد سوى عمر فامرأته طالق، وله ولد مسمى عمر، وامرأته حامل بولد آخر، قال: إن كان عنى بهذا الكلام الولد المولود لا تطلق امرأته، وإلا فطلقت؛ لأن الولد في البطن ولد في حق جميع الأحكام، وإنما يعرف كون الولد في البطن يوم الحلف إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر. وسئل نجم الدين عمن قال لامرأته: ابن تيراهن كه ساخته اكر من ابن عبد ببوشتم تراشيه طلاق وليس بعد العيد بعشرة ايام هل تطلق امرأته؟ قال: لا لأن قوله العيد فلا يقطع فقيل: ما لي اين وقت بعد أيام العيد قال: إلى تسعة أيام، فإن ثلاثة أيام لزيادة العادة، وبعد ذلك إلى تمام الأسبوع الأقارب يجتمعون في هذه الأيام ويسمون ذلك: مبارك بالعيد، وأهل السوق لا يفتحون الأبواب للصناعة، والتجارة، وكذلك أهل المدارس لا يجتمعون هذه الأيام للتدريس، ويسمون ذلك اليوم «فارعى» . عبد رجل اتهم بفعل قد فعله وأرادوا أن يحلفوه بثلاث تطليقات امرأته، وهو يريد أن يحلف ولا تطلق امرأته ما الحيلة في ذلك؟ فقيل: الحيلة أن يطلق امرأته تطليقة بائنة، ثم يقول: كل امرأة لي فهي طالق ثلاثاً إن فعلت كذا، ولا ينوي امرأته المطلقة فلا تطلق هي. ووجه آخر إن كان له أم تجيء إليها تعانقها قبل أن يذهب المحلف ثم يذهب هو ويقول: منذ فارقت بطن أمي ما فعلت هذا الفعل، ولو كنت فعلت هذا الفعل فامرأته طالق ثلاثاً، وينوي بذلك المفارقة للحال دون الولادة، وإن لم يكن له أم تعانق امرأته التي له منها ولد أو لها ولد من غيره فهي أم ذلك الولد لا محالة، ثم يحلف ويقول: منذ فارقت بطن أمي ما فعلت هذا الفعل. رجل قال: إن فعلت كذا فعليَّ صوم سنة وسه طلاق أندروي بفعل ذلك الفعل لا تطلق امرأته، إما لأن صوم السنة لا يكون فيه الطلاق، أو لأن الرجل لم يضف الطلاق إلى المرأة. رجل قال لامرأته: إن لم تهبي صداقك مني اليوم فأنت طالق ثلاثاً، فاستأذنت أباها في ذلك فقال الأب: إن وهبت صداقك فأمك طالق ثلاثاً، فالحيلة في ذلك أن تشتري من زوجها ثوباً ملفوفاً في شيء بمهرها وبعض ذلك الشيء من الزوج، فإذا مضى اليوم فقد مضى وقت اليمين فلا مهر لها في ذمة الزوج، فتسقط اليمين، ولا يحنث الزوج بترك الهبة، ثم تكشف عن الثوب المشترى، فترده بخيار الشرط، ويعود المهر على الزوج، ولا تطلق أمها أيضاً؛ لأنها ما وهبت المهر، إنما اشترت به. قال لامرأته: اكر ترا نجا اندرني كنم بيروت باسدى ترا طلاق ومرادس ازتو وكه

جهان برتوبيك وعيش برتو تلخ كنم وبحق لوجفاها اكراين جيزها بكندا طلاق بيفيد. قال لامرأته: إن لم أتزوج عليك وآتيك بها حتى تنظري إليها فأنت طالق، فأتى بها فلم تنظر إليها قال: لا تطلق؛ لأن النظر ليس بغاية. وكذلك إن قال لها: إن لم آتيك بثوب أو لبسة فأنت طالق، فأتاها غداً فلم تلبسه لم تطلق؛ لأن اللبس ليس بغاية لبسته غداً أو لم تلبسه لم تطلق. رجل قال لامرأته: إن لم تغزلي كل جمعة قطناً بدرهم فأنت طالق فاشترى قطناً بدرهم وغزلته ثم رخص القطن حتى يوجد بدرهم أضعاف ذلك أو غدا حتى يوجد بدرهم نصف ذلك أو ثلث ذلك. قال محمد رحمه الله: هو على غزل قدر ذلك القطن. معناه: أن يمينه على غزل قدر قطن يوجد بدرهم يوم الحلف، ولا ينظر إلى الغلاء والرخص بعد ذلك، وإن أعطاها قطناً وهب له أو ورثه فهو على ما يساوي درهماً وقت اليمين قال بعد ثمة: أكرمن شانكاه سم توراست اي كنم رن طلاق لا تطلق امرأته قبل غيبوبة الشفق. قال: ألا ترى أن الرجل يقول لغيره في العادة شانكاه بنزد ما باش تابا ما سرام حورهم وربما يكون غيباً وهم عند غيبوبة الشفق هكذا ذكر في «مجمع النوازل» . وفي «القدوري» المساء مساءان أحدهما إذا زالت الشمس والآخر إذا غربت الشمس، وإذا حلف بعد الزوال لا يفعل حتى يمسي فهذا على غيبوبة الشمس، قال لامرأته: إن تركت هذا الصبي حتى يخرج من الدار فأنت طالق، فأفلت منها وخرج، أو قامت تصلي فخرج فإنها لم تتركه ولم تطلق، قال لقوم: اكرنجانه من مهمان ترويت فامرأته طالق، فذهبوا ولم يعطهم شيئاً لا تطلق امرأته. قال لامرأته بعد أن أصبح: إن لم أجامعك هذه الليلة فأنت طالق، فإن كان يعلم أنه أصبح فيمينه على الليلة القابلة، وإن كان لا يعلم وهو ينوي تلك الليلة لم تطلق عند أبي حنيفة رحمه الله ومحمد رحمه الله خلافاً لأبي يوسف رحمه الله، وهي مسألة الكوز. رجل قال لامرأته: أنت طالق تطليقتين تطليقة بألف وقبلت المرأة، إن كانت المرأة غير مدخول بها تقع واحدة بغير شيء، وإن كانت مدخولاً بها يقع تطليقتان بألف درهم، ووجه ذلك: أن إحدى التطليقتين للعَجَل؛ لأنها بغير بدل لا يحتاج لوقوعها إلى القَبول، والأخرى تقف على القبول، فإذا كانت غير مدخول بها تبين بالمعجلة ولا تقع الثانية. وإذا كانت مدخولاً بها لا تبين بالمعجلة، وتجب العدّة فيصح قبول الثانية ويقع لما دفعها المعتدة. رجل قال: كلما وطئت امرأة فهي طالق، فتزوج امرأة ووطئها لا تطلق؛ لأن اليمين في حق هذه المرأة لم تنعقد؛ لأنها ما حصلت في الملك، ولا مضافاً إلى الملك. حلف بطلاق امرأته أن لا يجامعها، فأتاها في دبرها، وهذه المسألة في «مجموع النوازل» في موضعين، وأجاب في أحد الموضعين بالحنث، وفي أحدهما بعدم الحنث، ولو كان حلف بطلاق امرأته أن لا يزني (298أ1) فأتاها في دبرها أو أتى امرأة أجنبيّة في دبرها، حكي عن الفقيه أبي القاسم رحمه الله أنه قال: يمينه على الجماع في الفرج.

وسئل محمد بن مقاتل عن رجل قال لامرأته: إن لم تجيئي غداً المتاع كذا فأنت طالق، فبعثت به مع إنسان غداً، ولم تجىء هي، قال: يسأل عن نيته ومراده، فإن كان مراده دخول عين المتاع إليه لا غير لا تطلق، وإن كان مراده أن تحمل هي بنفسها تطلق، وإن لم يكن له نيّة فلا جواب له عندي، وأما عند علمائنا رحمهم الله فهو على ما لفظ به. سئل الفقيه أبو حفص رحمه الله عمن قال لجاره: إن امرأتي كانت عندك البارحة، فقال الجار: إن كانت امرأتك عندي البارحة فامرأته طالق، ثم قال بعدما سكت: ولا غيرها، ثم تبيّن أنه كانت أخرى عنده، قال اختلف نصر بن يحيى ومحمد بن سلمة رحمهما الله في كل يمين يلحقها شرط آخر بعد الفراغ من اليمين والسكون قال نصر: إن كان الشرط على الحالف يلتحق باليمين، وإن كان الشرط له لا يلتحق، وقال محمد بن سلمة: لا يلتحق باليمين في الحالين، قال ويقول محمد بن سلمة: أخذ أبو نصر بن سلام وبه نأخذ، وستأتي هذه المسألة ومع زوائد في كتاب الأيمان إن شاء الله تعالى. وسئل أبو بكر عن جماعة كانوا على سطح، فأراد أحدهم أن يذهب فمنعوه فقال إن بتّ الليلة هاهنا فامرأته طالق، وقال: أردت به البيتوتة في موضع قدمي، فنام على غير ذلك الموضع من السطح، قال: طلقت امرأته قضاءً لا ديانة. وسئل نصر عمن قال لامرأته: إن شكوت مني إلى أخيك فأنت طالق فجاء أخوها وعندها صبي لا يعقل فقالت المرأة: إن زوجي فعل كذا وكذا خاطب الصبي بذلك حتى يسمع أخوها قال: لا تطلق، قيل له: فإن كان قال لها: إن شكوت بين يدي أخيك قال: هذا أشد. وسئل شيخ الإسلام أبو الحسن عمن قال: امرأته اكر حبري ازمال من برسين دهي فأنت طالق ثلاثاً، فأمرت المرأة امرأة حتى غزلتها وجعل أجرتها ثوب خَلِق كان ملكاً لها، وقبضت الثوب الخلق ثم باعت هذا الثوب من المرأة بشيء من دقيق الحالف، ورفعت الدقيق إليها ثمناً للثوب قال: تطلق امرأته ثلاثاً؛ لأن غرض الزوج أن لا تعطي شيئاً من ماله، وقد أعطت، وقد قيل: ينبغي أن تطلق؛ لأن اللفظ في باب اليمين مراعىً عند الإمكان والإمكان ثابت هاهنا. وسئل هو أيضاً عمن لغيره: اكر من يك درم نومكان يوم رن ازمن بطلاق فدفع ذلك الغير إلى الحالف درهماً، وأمره أن يشتري به الأخباز ليتصدق بها على المساكين فاشترى هل تطلق امرأته؟ قال: نعم لأنه وجد الشرط وهو بكار بردن، واليمين مطلقة فتعمل بإطلاقها، وقيل: ينبغي أن لا تطلق؛ لأنه إنما يراد بمثل هذا في المتعارف بكار بردني بحوايح خويشين وهو الأشبه والأظهر. وسئل هو أيضاً عن رجل يضر الناس بالجنايات والسعايات وغير ذلك من وجوه المضرات فأخذ وحلف: اكرنيس كشي داريادت ده درم دكان كنم فامرأته طالق ثلاثاً زن خويشين زازيادت ده درهان كرد لا تطلق امرأته هكذا أجاب، والصحيح أنها تطلق، وقد ذكرنا جنس هذه المسألة فيما تقدم.

وسئل نجم الدين عمن قال لآخر في حال سكره: حلال خداي بومن حرام اكراين اين زن براير توتك رورما ثم وحيد رور دريد تيران كداست وسواست بيرون آوردن، قال: حو دربيس سوكنديك روز فاند زن بروي حرام وفيه نظر. وسئل هو أيضاً عمن حلف بطلاق امرأته أن يعطيها كل يوم درهماً فربما دفع إليها عند المغرب وربما دفع إليها عند العشاء قال: إذا لم يخل يوم وليلة عن دفع درهم بَرَّ؛ لأنه ذكر اليوم على سبيل العموم واسم اليوم على العموم: ستتبع ما بإزائها من المعاني فصار من حيث التقدير كأنه قال: أعطيتك كل يوم وليلة درهماً وفيه نظر. وسئل أيضاً عمن قالت له امرأته: مرابرك باتو باشيدن نيست مر طلاق ده فقال الزوج: جون تورقتي طلاق داده شدة وقال: لم أنو الطلاق هل يصدق؟ قال: نعم، ووافقه في هذا الجواب بعض الأئمة. وسئل أيضاً عمن قال: اكراز خدنحست بيرون زن ازمن شيه طلاق قال: هذا على أن يجاوز قراها، ولو قال: اكرار شهر نحست بيرون روم فهذا على أن يجاوز عمران المصر. وسئل هو أيضاً عمن حلف بالفارسية وقال: اكرر من سربر بالين تونهم تواز من شية طلاق، ثم إن الحالف نام على فراش، وجاءت امرأته ووضعت رأسها على وسادته قال: إن كان الزوج عَنَى بهذه المقالة الجماع إيلاء إن قربها في الأربعة الأشهر طلقت ثلاثاً. وإن لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر طلقت واحدة بائنة بالإيلاء، وإن لم ينوِ فاليمين على أن يضع رأسه على وسادتها سواء كان معها أو وحده، وإن وضع رأسه على وسادتها سواء كان معها أو وحده. وسئل أيضاً عمن تزوج امرأته، وحلف قبل أن يحملها إلى بيته: اكرورا بخان ارم فهي طالق، فحملها غيره إلى بيته بغير أمره ورضاه، قال: إن عنى حقيقة الحمل بنفسه لا تطلق، وإن عنى الإمساك في بيته، فأدخلها في بيته، ولم يخرجها، ولم يمنعها لم تطلق. وسئل أيضاً عمن قال لامرأته: اكربي دستوري تواز شهر تروم ازمن شيه طلاق، ثم أشار إليها فقالت: دستوري دادمت كه بروي دوروردا ريارن لانى، فذهبت ولم تجىء أكثر من عشرة أيام لا تطلق امرأته، وهذا ظاهر؛ لأن اليمين انعقدت على الذهاب بغير إذن، والذهاب هاهنا كان بإذن إلا أن المكث هناك أكثر من عشرة أيام لم يكن بإذن ولكن اليمين ما انعقدت عليه. وعنه أيضاً: إذا قال لها: اذهبي إلى أبويك، فقالت: طلقني حتى اذهب فقال: تور من طلاق دما دم فرستم قال: لا تطلق بهذا القدر؛ لأن هذا وعد الفعل (298ب1) وليس بفعل. وعنه أيضاً: إذا قالت المرأة لزوجها، أو قال رجل لرجل: حلال خداي برتوا حرام، فقال: آرى، حَرُمَتْ عليه هي بتطليقه؛ لأن ارى يتضمن إعادة كلام السائل، فكأنه قال: حلال خداي بر من حرام وقد ذكرنا جنس هذا فيما تقدم.

وعنه أيضاً إذا قال الرجل: اكر برينه اي مرني جانه اندر ايد مكرا من ارست كيرم واندرارم فامرأته طالق ثلاثاً دست بكى كرفت ابن مردواندر آورد بكيارار بعد اذان بار ديكرامكس بي وي اقدامد، قال: زن يروى طلاق في شود؛ لأنه عيّن شخصاً موصوفاً بصفة، فإذا صار مستثيناً مرة لم يدخل في اليمين قط، ولو كان قال: اكرونين دنن خان اندرايدم من دست كيرم واندارم ودست بكى كروفت واندرا ورديك بارواكريار ديكر همين مرددرايد بي وي زن بروى طلاق شود؛ لأن في هذه الصورة لم يستثن شخصاً، بل استثنى دخولاً موصوفاً بصفة، وهذا الدخول الثاني ليس بتلك الصفة. وعنه أيضاً: فيمن حلف بطلاق امرأته لا يدخل بيت صهره، وصهره مستأجر بيتاً في خان، فدخل الخان ولم يدخل البيت الذي فيه صهره أو دخل بيت جار له يسكنه بإجارة لا تطلق امرأته، ولو جلس على دكان متخذ على باب بيتٍ استأجره الصهر مع البيت فإن كان الدكان تبعاً للبيت ينتفع به مستأجر البيت تطلق امرأته، هكذا حكي عنه وإنه مشكل، ألا ترى أن من حلف لا يدخل دار فلان فقام على اسكفه الباب، وإن كان هذا الباب إذا أغلق كانت الأسكفة خارج البيت لا يحنث وإن كان داخل الباب يحنث ولا شك أن تبعية الأسكبة للدار فوق تبعية الدكان المتخذ على باب الدار، ثم لا يقع الحنث بالقيام على أسكبة الباب إذا كانت الأسكفة تبقى خارج الدار إذا أغلق الباب فهاهنا أولى. وعنه أيضاً إذا قال لغيره: اكر يكنم امروز باتوابخه بايدكرد فامرأته طالق ثلاثاً، فمضى اليوم ولم يعمل معه شيئاً لا إحساناً ولا إساءة، فإن الزوج يُسأل عن مراده ونيته، فإن كان مراده أنه لم يفعل به ما ينبغي أن يفعل مع الناس من ترك الأذى والجفاء لا تطلق امرأته؛ لأنه قد ترك الأذى والجفاء، وإن كان مراده أنه لم يُسىء إليه بضرب أو عمن جزاء على مستأجره، فإن لم يفعل ذلك تطلق امرأته، فإن لم يكن له نية لم تطلق امرأته. وسئل هو أيضاً عمن قال لامرأته: اتيك شيه طلاق بانت كسادة كردم قال: قوله أنك شية طلاق ليس بإيقاع بنفس قوله بانت كشاده كردم، إيقاع طلاق واحد؛ لأن هذا صريح الطلاق بالفارسية بحكم العرف والعادة، فإن عَنَى وصل هذا الكلام بالكلام الأول، فهو إيقاع الثلث وإلا فهو إيقاع الواحدة. حَلَفَ الرجل بطلاق امرأته لغيره: كه عيب توباكسي نفته ام وقد كان قال مع امرأته فلان: سيكي فروش بود وشيكي خوارة وكارهاي باوي كردو اكنون توبه كردست قال: تطلق امرأته؛ لأنه تكلم بعينه أولاً ثم توجه بالتوبة. وسئل هو أيضاً عن رجل كان يضرب امرأته، فأراد جماعة من النساء منعه فقال: اكر ترا باردارت ازردن فري فهي طالق ثلاثاً إن منعنه ولم يمتنع هو بمنعهن قال: طلقت هي ثلاثاً وإنه صحيح لأن المنع ممن لا ولاية له على المنع يتحقق بالقدر الذي وجد منهن. قال: صاع في دار رجل فحلفوا كل واحد ممن كان من أهل الدار بطلاق امرأته أنه لم يأخذه ولم يخرجه من الدار، فحلفوا واحداً بعد واحد، ثم ظهر أن واحداً ممن حَلَفَ قد أخرجه مع رجل آخر هل تطلق امرأة هذا الحالف؟ ينظر إن كان ذلك شيئاً لا تطلق،

وإن كان هو جملة واحدة طلقت امرأته، وإن كان شيئاً تطلق وإن كان هو جملة واحدة لا تطلق امرأته. وهو نظير مسألة جملة الخشبة المذكورة في «الجامع» . وسئل هو أيضاً دهقان جرى بينه وبين أكاره كلام فحلف الأكار بهذا اللفظ اكرا متيالي اين زمين اين دهقان رابكروي دارم زن ازمن شية طلاق فباع الدهقان هذه الأرض من رجل ممن إن الأكار أخذ الأرض من المشتري بكذا لا تطلق امرأته على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله بناءً على من جمع بين النسبة والإشارة في غير مملوك للغير في اليمين يعتبر قيام النسبة وقت وجود الفعل المحلوف عليه للحنث فلم توجد النسبة هاهنا وقت وجود الفعل المحلوف عليه.6 ولو قال وقت الحلف: امتيال ابن زمين بكد نورى دارم ولم يقل: زمين اين دهقان را وباقي المسألة بحالها تطلق امرأته، ثم إ ذا أخذ مزارعة من المشتري فرفعت امرأته الأمر إلى القاضي فقالت: إن هذا الرجل حَلَفَ بطلاقي كه امساك اين رايكد تورى بي دارد وداشت ومن بطلاق شدم، وأنكر الزوج الطلاق وقال: من سوكيد حين خورده ام كه امتيال رمين ابن دهقان رابكد تورى بي دارم ويدين سوكند طلاق فرونمي ايدوزن في كويد كه تو سكوند حنين خورده كه من امساك اين زمين رابكد تورى بدارم وبدين سوكند طلاق فرودمي ايد فأقام كل واحد بينة على وفق دعواه قال: يقضي بشهادة شهود المرأة، وهذا لأن شهود الزوج، وإن أثبتوا زيادة لفظ وهو يقوله: اين دهقان إلا أنهم ينفون الحنث تبعاً، وشرطاً وشهود المرأة يثبون الحنث، والمقصود من الدعوى هو الحنث، والخلاف فيه، فكانت بينة المرأة أولى بالقبول من هذا الوجه. وسئل هو أيضاً عن امرأة كانت بينة المرأة كان من زوجها أن يسافر فقالت لزوجها: ايدل لي عند الصكاك خطاً باليمين بطلقاتي أن لا يخرج مسافراً إلا بأذني فقال: نعم فذهبا إلى الصكاك، فقال الزوج للصكاك اكتب لها: خطاكه هركه كي مرازين شهر بسفر رودلي دستوري وي ازمن بيك طلاق، فقالت: لا أرضى بالواحدة وأريد الحلف بالطلقات الثلاث، فلم يتفقا على مرادها وخرجاً من عند الصكاك (ولم يكتبا) شيئاً هل يثبت اليمين بالواحدة، حتى لو سافر بغير إذنها يقع الطلاق عليها؟ قال: نعم؛ لأن الأمر بكتابة خط اليمين لا يكون إلا بعد ثبوت اليمين. وهو نظير قوله: أخبر امرأتي أنها طالق نبئها أنها طالق، بشرها أنها طالق، فإن هناك يقع الطلاق لا يكون إلا بعد وجود الطلاق ووقوعه. قال محمد رحمه الله (299أ1) وهكذا فيما إذا قال للصكاك: اكتب لهذا خطاً بإقراري بمئة درهم، وكذلك إذا قال للصكاك: اكتب بهذا صكاً ببيعي دار كذا منه بألف درهم كان إقراراً منه بالبيع. قيل له: فإن قال الزوج للصكاك قال: هي يمين واحدة.

اكتب كتاب الطلاق على نحو ما بينا فلم يكتب الصكاك حتى قال الزوج للصكاك ثانياً: اكتب لها كتاب الطلاق هل يكون هذا يمين، أو كانت يميناً واحدة أو يجعله كلامه الثاني ناقضاً لما طلب منه بالكلام الأول لا يميناً مبتدأ. وسئل هو أيضاً عمن له مطلقة قد انقضت عدتها فحلف وقال: اكرورا برني كنم حلال ايزد بروي حرام ثم تزوجها قال: لا تطلق هي، وإنما تطلق امرأة كانت في نكاحه وقت اليمين، وهذا صحيح. وسئل هو أيضاً عمن أخذ حق رجل فقال: سوما بكس روم وكونم زن بطلاق وتجه آوردم هل تطلق امرأة المتكلم بهذا الكلام؟ (قال) لا وإنه ظاهر، وسئل هو أيضاً عمن دفع بكعب غيره حصة ودفعه إلى غيره فقال صاحب المكعب لدافعه كفش توبرد اشيه بازده، فقال الزوج: من نه برداشتين ام فقال صاحب المكعب: زن توازتو بطلاق كي بردا تحنة ونمي داني كه كي بردا شية است وباكيست، فقال الدافع: بمحنتين قال: تطلق امرأته؛ لأنه تعليق عندنا، وهو حانث بشرطيه، وأنه يعلم من دفعه، ويعلم أنه في الحال باكيست. وعنه أيضاً في سكران أنشد بيتاً فقال: بيت كنته منست اكر جزا زمن كشي اين بيت كنتست وامرأته طالق لا تطلق امرأته إلا إذا علم أنه من إنشاء غيره أو يقر هو أنه من إنشاء غيره. وعنه أيضاً: فيمن حلف فقال: حلال ايزد برمن حرام كرم بفلان خريدم درم دارني تينت شمازكر دند دودرم ودودانك امد قال: لا تطلق امرأته، ولو كان قال: مرا بفلان درهم درم دادني است شماركر دنددو درم ودودانك امد، تطلق امرأته؛ لأن في الوجه الأول نفى الزيادة على درهمين ونصف وهي كذلك. وفي الوجه الثاني أثبت درهمين ونصف، ولم يكن كذلك. ونظير هذه المسألة مسألة ذكرها في «الجامع» تأتي في كتاب الأيمان وصورتها: إذا قال الرجل لعبده: (أنت) حر إن كنت أملك إلا خمسين درهماً فإذا هو لا يملك إلا عشرة دراهم لا يحنث في يمينه؛ لأن العشرة بعض الخمسين، والخمسون مستثنى عن اليمين، فكذا بعضها وفيما إذا قال: مرا بفلان خردوينم درم دادني نيست دوينم درم مستثنى عن اليمين فيما دونه يكون مستثنى أيضاً. وعنه أيضاً: فيمن حلف بطلاق امرأته: كربدان زق اندرتيابدتا انكور بدر روند نقص درويدا رجهت ترورا اندرامد، قال اين درودن بوقت معهود درودن است، وهو عند الخريف النقل إلى البيوت طلاق يتقيد، فإن المتعارف فيما بين الناس من هذا الكلام ما قلنا، والأفهام تتسارع إليه. وعنه أيضاً فيمن أراد أن يتزوج امرأة فقيل له: إن لك زوجة فلِمَ تتزوج بهذه التي تريد فتزوجها قال: هي تطلق، ولا تطلق التي في نكاحه، وهذا لما كانت ثلاثاً أن معنى قوله: هزني كه مرابود باشد هرزني كه يتزوجها. وعنه أيضاً فيمن حلف وقال بالفارسية: تادرين رزيك عرب انكور مائدة است ارك

من بوي اندرانم ازمن شية طلاق انكور درويد توقت حويش ونجانه بردند لكن لا بُدّ أن يبقى على العرائش حبّات عناقيد أو حبّات واقعات على الأرض لا يمكن نقلها ثم الكرم قال: لا تطلق امرأته استحساناً. وعنه أيضاً: فيمن لازم غريمه يطالبه بدينه فواعده غداً، فقال الطالب: إني أخاف أن تخلف الوعد، فقال الغريم: لا أفعل، فقال الطالب: احلف فقال الغريم: أكر فردانيا هم وترانه تينم فامرأتي طالق ثلاثاً فردا غريم آمد، وطالب راز دور ديد أما طلب ورانديد، قال: بَرّ في يمينه. قال رحمه الله: وهكذا أجاب السيد الإمام الأجل أشرف بن محمد رحمه الله وفيه نظر. وعنه أيضاً: في امرأة أجرت دارها من رجل فغصب الزوج فقال: تا ان فلان درين خان است وقباله درست وي است من يدين خانه اندرينا نم واكدا ندرايم تواز من شية طلاق، ثم إن الآجرة مع المستأجر تفاسخا العقد وخرج ذلك، ودخل الحالف الدار لا تطلق امرأته؛ لأن المراد من قوله: قبالة دردست وي است قيام العقد أصالة لا قيام نفس القالة. وعنه أيضاً: إذا قرأت فقال الزوج: كردم كردم كردم طلقت ثلاثاً، وهكذا حكى فتوى السيد الإمام الأجل أشرف رحمه الله وقيل: تطلق واحدة والأول أصح. وعنه أيضاً: فيمن رأى امرأته تكلم أجنبيّاً فغاظه فقال ذلك: اكر كوبيش بامردبيكان سخن كوهي ازمن شيه طلاق فكلمت بعد هذا..... لزوجها ليس من محرمها، أو رجلٍ يسكن في دارها، بينهما معرفة إلا أنه لا حرمة بينهما، أو كلمت رجلاً من ذوي رحمهما أو ليس من محارمها قال: تطلق. وعنه أيضاً: فيمن حلف بطلاق امرأته لا يأكل من خبز حيّه فسافر حينه وخلّف لأهله وأولاده النفقة، وهي حنطة ودقيق، فاتخذت امرأته الأخباز وأكل منها الحالف طلقت امرأته؛ لأن ما حلف الحين باق على ملكه، والأخباز اتخذت بإذنه، فكانت الأخباز له قيل هذا الجواب مستقيم فيما إذا قال لها: بقي الخبز قال: كلي من حنطتي ودقيقي ما يكفيك ولم يقدر لها مقداراً معيناً من ذلك، ولم يقدر لها ذلك من حنطته ودقيقه، فأما إذا قدّر لها مقداراً معلوماً وقدر لها ذلك من حنطته لا يحنث؛ لأن القدر يصير ملكاً لها بالدفع إليها. وعنه أيضاً: رجل قال لغيره: زن تورتو مهر ارطلا است فقال ذلك الغير: أن تونيز برتو منجمنن است، فهذا منه إقرار بتطليق امرأته، وعنه إذا قال: اكرتايك سال كرباس كيرم وبافيم فامرأته معجز كرافت وبافت لا تطلق امرأته؛ لأنه اختص باسم على حدة. وعنه أيضاً: فيمن قالت له امرأته: باتونمي باشم فقال الزوج اينك شية طلاق توداينك شيه طلاق أنه لا تطلق امرأته في هذا القدر. وعنه أيضاً في امرأةٍ لها ابن ولها بقرلبون وكان الابن يشرب (299ب1) من لبن

هذه البقرة، فوقع بينهما وبين الابن.... فقال الابن للأم: اكرمن أن ستريو بحروم زن ازمن شيه طلاق، ولم يقل شيركاوتو، ثم شرب من لبن بقرتها قال: تطلق امرأته؛ لأن يمينه وقعت على لبن مملوك للأم بدلالة الحال لا على لبن يتولد منها وقد شرب لبناً مملوكاً لها. وعنه أيضاً فيمن حلف وقال: اكر فلان راماهم ما ماي بدين درايد مهذ فامرأته طالق ثلاثاً، ثم إن الحالف رآه في الكرم ولم يره حال ما دخل فيه ولم يخرجه، وتركه فيه قال: تطلق امرأته. ومن هذا الجنس إذا قال: زن ازمن شيه طلاق اكر فلان بدين خانة خويش اندراه دهنم، فدخل فلان عليه وهو في داره، أفتى شيخ الإسلام علي بن الإسبيجابي رحمه الله: أنه لا تطلق امرأتُه. اكرني همرا ستاني ومي درا مده باشد، أفتى نجم الدين النسفي رحمه الله: أن لا تطلق امرأته اكرهمان ساعت كه در بيرون كردش فشيخ الإسلام جعل قوله: داه دهم عبارة عن قوله: اندرايم، ونجم الدين جعل قوله: راه دهم عبارة عن تركه فيها، وما قاله نجم الدين رحمه الله الأظهر هكذا قيل. وعنه إذا حلف الرجل وقال: اكر برا درخوش رامز ما يتم ليعمل عملاً به فامرأته طالق ثلاثاً، ثم إن الحالف دفع مكعبه إلى امرأته لتأمر أخاه أن يصلحه فأمرته، قال: إن كان الحالف أرسلها إليه بهذا الأمر طلقت امرأته. وعنه أيضاً فيمن قال: اكرمي خورم بان مكتم حلال خداي برمن حرام ومرجد بدست راست كيرم برمن حرام في خورد، ولكن زنا بكرد، قال: تطلق تطليقتين؛ لأن الشرط أحد الشبهتين والحر أنجز يمينين فيتنزلان عند وجوده. وعنه أيضاً: خالع امرأته، ثم خطبها فأبت إلا أن يحلف أن لا يشرب الخمر فحلف بهذه اللفظة: حلال خداي برمن حرام اكر فاشش ماه هي خورم، ثم إنه تزوجها وبيش أزشش ماه في خورد، قال: لا تطلق هذه؛ لأن اليمين في حقها ما حصلت في الملك ولا مضافاً إلى الملك قيل: أليس إنها كانت في العدة؟ قال: نعم، ولكن في عدة الخلع، والخلع طلاق بائن، واليمين حصلت بلفظة التحريم لا بلفظة صريح الطلاق، والواقع بلفظة التحريم الثاني، والثاني لا يلحق البائن، فلا يصح. وعنه أيضاً: فيمن قال لامرأته: اكر رها كتمت بخان فلان روى توازمن بهذار طلاق ما استأذنته للذهاب إلى خانة فلان فأذن لها، فذهبت طلقت وابن رها كردن بود. وعنه أيضاً فيمن قال لامرأته: اكر باتو حنان تكتم كرشيك ما ايتارا رد كندا شية طلاق أنه ينبغي له أن يحرق بعض ثيابها ويجرها ويلقها على الإذن ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك لا تطلق امرأته عنه. فيمن يسكن سكة كوزني، وهذه السكة في سكة عمور، حلف بطلاق امرأته أن لا

يسكن في هذه السكة، فانتقل من ساعته من سكة كوزني إلى شارع سكة عمور بأهله وثقله فقد برّ في يمينه، قيل له: أليس أن سكة كوزني من أزقة سكة عمور ومن توابعها، فقوله في هذه السكة لم لا ينصرف إلى سكة عمور بأزقتها، قال: سكة كوزني ليست من الزقاق الصغار حتى تكون تبعاً لسكة عمور بل هي سكة مفردة معتبرة، وسكة عمور كالمحلة لها فتقتصر يمينه على سكة كورني، قال رحمه الله: سألت السيد الإمام أشرف بن محمد رحمه الله عن ذلك، فأجاب على نحو ما أجبت. وعنه أيضاً: فيمن حلف بطلاق امرأته لا يدخل سكة كذا، وفي آخر هذه السكة دار ظهرها إلى هذه السكة، وبابها في سكة أخرى، فدخل في تلك الدار من السكة التي بابها فيها، ثم خرج من ذلك الباب لا يحنث، وهذا ظاهر؛ لأن باب الدار إذا لم يكن في السكة المحلوف عليها لا تكون الدار من جملة السكة المحلوف عليها، فلا يصير داخلاً في السكة المحلوف عليها. فإن كان لهذه الدار باب آخر في السكة المحلوف عليها، فدخل الدار من الباب الذي في سكة غير المحلوف عليها يحنث؛ لأنه إذا كان للدار باب في السكة المحلوف عليها يصير داخلاً في السكة المحلوف عليها بدخوله في تلك الدار فأرصد الباب الذي في السكة المحلوف عليها فلم يبق لها باب إلا من تلك السكة، فدخلها من باب تلك السكة لزمه الحنث؛ لأن طريقها عن هذه السكة لا يرتفع بسدّ هذا الباب، وله أن يفتح ذلك الباب متى شاء فسدّ هذا الباب لا يخرج من أن يكون في هذه السكة، فإن لم يكن لهذه الدار باب في السكة المحلوف عليها في الأصل ففتح لها باباً إلى السكة المحلوف عليها، فدخل من باب السكة الأخرى، ولم يخرج من الباب المحدث في السكة المحلوف عليها لا تطلق؛ لأن بفتح الباب المحدث في السكة المحلوف عليها لا تصير الدار من السكة المحلوف عليها. وعنه فيمن قال لامرأته: اكرباي بتشير توفروكتم ترا طلاق وإن لم ينو الجماع لا يصير مولياً؛ لأن هذا اللفظ غير مستعمل في إرادة الجماع، وله حقيقة، حتى لو جامعها من غير أن يدخل في فراشها لا تطلق، وإن نوى بالطلاق القربان صدق في حق تعليق طلاقها بقربانها، ولا يصدق في حق صرف الطلاق عن دخوله في فراشها، وهي ليست في الفراش، ويتقيد اليمين بدخوله في فراشها وهي في الفراش قال: إن كان الحامل له على اليمين كراهة استعمال فراشها تطلق بدخوله في فراشها بدونها. وإن كان الحامل كراهة مضاجعتها لا يحنث إلا بدخوله في فراشها وهي فيها. وعنه أيضاً فيمن حلف بطلاق امرأته: كه هرما هي جهل درم سو دستم مي دهم، وقد أخذ مال إنسان قرضاً، والتزم لذلك كل شهر أربعين درهماً في المستقبل على ما هو العادة، ولكن لم يعطِ لذلك شيئاً إلى الآن هل تطلق؟ قال: نعم، وهذا ظاهر، فإن كان أعطى لشهر وهو يطالب بذلك في المستقبل على العادة برّ في يمينه. ولا بُدّ من تقديم وظيفة شهر؛ لأن قوله: مي دهم صيغة حال. وعنه أيضاً فيمن قال لامرأته: اكر روى بهيج نا محرم تمالى تراشية طلاق، وبعد

اليمين يراها الناس إلا أنها لا تقصد رؤية الناس إياها، قال: إن تسترت في الكم واطلع عليها الناس لا تطلق، وإن تكشفت بحيث يراها الناس لكن لم يكن من قصدها رؤية الناس إياها، تطلق؛ لأنها أرت نفسها الناس لما تكشفت حيث يراها الناس. وعنه في رجل قال له رجل آخر: فلان راترديك توزرهما وديهها است، فقال: اكركشي بترد (300أ1) من زرها وديهها است أن ازمن شية طلاقه، ولم يكن لفلان عنده شيء لكن كان لرجل عنده ذهبٌ وديباج قال: تطلق امرأته، هكذا أجاب، وهذا يجب أن يكون على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وأما على قول أبي يوسف رحمه الله ينبغي أن لا تطلق. أصل المسألة المعروفة في «الجامع» : إذا قالت المرأة لزوجها: إنك تزوجت عليَّ امرأة، فقال: كل امرأة لي طالق. وعنه أيضاً فيمن استحلف غيره بهذه اللفظة: زن ازتوشيه طلاق كي فلان درخانة تونست، فقال: نجانه من اندرست ولم يزد على هذا قال: لا تطلق امرأته؛ لأنه لم يحلف. وعنه فيمن قال لامرأته: إن ضربتك بغير جناية فأنت طالق ثلاثاً، فأتاها بخبز قد اشتراه فقالت: باتى أوزدى جون كون بارك شياه بكير وبفلان خويش اندرفشار، فضربها بهذا لا تطلق امرأته، وهكذا حكى فتوى الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله. وفي غيره هذه الصورة: لو جاءت المرأة بقصعة مَرَقٍ لتضعها على المائدة الموضوعة بين يدي الزوج فمالت القصعة وانصبّ بعض المَرَقِ على رجل الزوج وهي حارّة فآذته فضربها لا تطلق؛ لأن هذا جناية منها، ألا ترى أن في هذه الصورة لو انصبّ بعض المرقة على شيء وأفسده يجب الضمان، وسقوط الإثم إذا لم تكن قاصدة لا يوجب خروجه من أن يكون جناية. وعنه أيضاً فيمن قال: إن أكلت شيئاً من مالك فأنت طالق، فجعلت شيئاً من ملحها في طعام وأكله الزوج قال: لا تطلق امرأته إلا أن يأكل منه مع الخبز، أو كان الطعام مالحاً جدّاً، فيكون ظاهراً بطعمه فحينئذ تطلق، وستأتي هذه المسألة في كتاب الأيمان، واختار الفقيه أبو الليث رحمه الله بخلاف ما ذكر هاهنا. وعنه في رجل (له) ابنان صغير وكبير، وقد عزم أن يتخذ وليمة بعرس الولد الأكبر، وخيار الولد الأصغر ثم حلف فقال: اكبر بس كلان ترراسوركنم حلال خداي برمن هم، أنه اتخذ وليمة لخيار الابن الأصغر وحمل زوجة الأكبر إلى داره بهذه الوليمة، قال: تطلق امرأته، وفيه نظر. وعنه أيضاً فيمن قال لامرأته: اكر بخانه توارندرايم هر زنى كه بزنى كنم ورا طلاق فدخل داراً لها ثم أنها حرمت عليه بعد ذلك بزمان فتزوجها هل تطلق؟ قال: لا؛ لأنها صارت معرفة في هذه اليمين بقوله: خانة تدوتو فلا يدخل تحت اسم النكرة وهو قوله: هر زنى؛ لأن اليمين عقد على عدمٍ في محلين، في هذا ننظر إلى شرط الترجيح، وهذا ليس بصحيح إلا على رواية أبي يوسف رحمه الله؛ لأن الموجود هاهنا يمينان، فيصير وزنها

معروفة في شرط إحداها لا يمنع دخولها تحت اسم النكرة في اليمين الأخرى وقد ذكرنا هذه المسألة، ورواية أبي يوسف رحمه الله مع أجناسها فيما تقدم. وعنه أيضاً فيمن قال لرجل: اكرمن ترا امشب نجانه فلان هي وفي ني دهم زن ازمن شيه طلاق، فذهب به إلى دار فلان ولم يسقه الخمر قال: تطلق امرأته؛ لأن شرط البرّ شيئان وقد وجد أحدهما، وفات البرّ، ومن ضرورته وقوع الحنث، وإنما نظرنا إلى شرط البر؛ لأن اليمين عقد على عدم الفعل في محلين، وفي هذا ننظر إلى شرط البرّ. وعنه أيضاً فيمن حلّف رجلاً وهما بالكيسانية بهذه اللفظة: زن تواز توشيه طلاق كه مي تحورى ما انكاه كه تار من بكسانى بتايم وترامى نده، وحلف ذلك الرجل على هذا الوجه ذهب المستحلف إلى سمرقند واتبعه الحالف فسقاه الخمر بسمرقند فشرب قال: تطلق امرأته ثلاثاً؛ لأنه شرب الخمر واليمين باقية، لأن شرط انتهاء اليمين شيئان: عود المستحلف إلى كيسانية وسقيه الحالف الخمر، وهاهنا إن وجد المستحلف إياه الخمر لم يوجد عود المستحلف إلى الكيسانية، فهو معنى قولنا: إنه شرب الخمر، واليمين باقية، فلهذا طلقت امرأته. وعنه أيضاً في رجل قال لامرأته: إن غبت عنك ولم آتك إلى أربعة أشهر فأنت طالق ثلاثاً فلما كان قبل تمام الأربعة أشهر بأيام ذهبت المرأة إليها فتمت أربعة أشهر، ولم يأت إليها تطلق وهذا ظاهر، وليس هذا كمسألة الكوز؛ لأن ثمة بصب الماء يصير شرب ما فيه بحيث لا يتصور وجوده، وهاهنا يتصور رجوعها إلى موضعها، وبعد ذلك يتصور إتيانه إياها، فإن أتى الزوج مع المرأة جميعاً المكان الذي كان فيه الحلف قبل تمام أربعة أشهر، ثم تمت الأربعة الأشهر طلقت؛ لأنه لم يأتها إنما أتيا جملة. وعنه أيضاً فيمن قال لامرأته: هو جاد ران خان است اكرن جودن زن ازمن بطلاق فيمينه على أكل ما كان موجوداً في البيت وقت اليمين على ما يدخل فيه بعد ذلك، ولو قال: هو جه دران خان جودم زن ازمن بطلاق فيمينه على أكل ما يكون في البيت وقت الأكل سواء كان موجوداً في البيت وقت اليمين، أو أدخل بعد ذلك. وعنه أيضاً فيمن قال لامرأته: إن كلمت فلانة فأنت طالق، ثم إن المرأة المحلوف بطلاقها اغتسلت يوماً بثيابها فقالت لها فلانةٌ: ما بده سدى وهي تعلم أنها فلانة أو لم تعلم فقالت حُبست أو قالت: نعم، أو قالت: أرى فهذا كله كلام تام، وتطلق امرأته. وعنه أيضاً: فيمن اشترى ثلاث شياه بثلاثين درهماً، ثم حلف بطلاق امرأته على واحدة منها بعينها أنه اشترى هذه بعشرة دراهم، قال: هذا مطلق بطلاق امرأته؛ لأنه ما اشترى هذه بعشرة دراهم، إنما اشترى الكل بثلاثين، وذلك ينقسم عليهن بمقدار قيمتهن فلا يصير هذا القدر من هذه الواحدة بعينها. وعنه فيمن قال لامرأته: اكركس توب دين خان اندرايد تراسته طلاق فدخلها إنسان هو قريب الزوج والمرأة جميعاً، قال: إن قيل تَطْلُق وله وجه، وإن قيل لا تطلق فله وجه. وإن قيل إن كان الداخل حله المرأة تطلق، وإن كان الداخل حله للزوج لا تطلق وله وجه. قال: وعليه الاعتماد.

وعنه أيضاً فيمن قال لامرأته: اكرتو ما يحتمر روى سي دستوري من توشية طلاق تدوك رسين (300ب1) . رفت به دستورى شوى، قال: اكرنجان منحسابة رفنست ودرانجا جندن جمع شده اندريان ومركس دوك حويش مي ريسند لا تطلق إما اكرخد أو ندخانه دمان ديكور اخوانده است تادوك خدتوندخانه ريسند تطلق. رجل حلف بالطلاق أنه لا يذهب إلى وليمة فلان وللحالف غريم، فلما كان يوم الوليمة ذهب الغريم إلى دار الوليمة واتبعه الطالب ودخل دار الوليمة ليخرجه، فمنع صاحب الوليمة الغريم من الخروج فمكث الطالب هناك ليحفظ الغريم، فكتب شيخ الإسلام علي بن الإسبيجابي رحمه الله على الفتوى، زن حالف بطلاق نشود حوز حالف بخانه سور ارجهة سور اندر ما مدست، وعنه أنه لا تطلق امرأة الحالف. وكتب نجم الدين رحمه الله على الفتوى، زن حالف بطلاق نشود خور حالف نخانه سور ارجهه سور اندرما مدست. وعنه فيمن قال لامرأته: اكرسيه حرندن روى فأنت طالق ثلاثاً، فذهبت هي مع امرأته أخرى إلى القطّان وخبأت هي شيئاً من ذلك واشترت المرأة الأخرى هل تطلق هي إذا لم تشتر بنفسها، قال: نعم لأن اليمين انعقدت على ذهابها لشراء القطن لا على شرائها. وعنه أيضاً: فيمن قال لامرأته: أكر من به دستورى توفلان حاى روم فأنت طالق فاستأذنها وألح عليها في ذلك فقالت: خر كجا خواهى روكه من دستورى نمى دهم فذهب إلى ذلك الموضع قال: لا تطلق؛ لأن قولها هر كجا خواهى ادن، وقولها كه من دستورى نميدهم تعليل باطل، لأنها قالت اذنت له. وقيل: تطلق لأن قولها هركجا خواهى روو مقروناً بقولها: كه من دستورى نمى دهم ليس بإذن بل هو تخويف وتهديد. وعنه أيضاً: في رجل كان يأخذ أموال جباية السكة مجرى ثلاثة، وبين أهل السكة كلام فحلف بهذه اللفظة اكرنبش ستم جباية ندست كيرم حلال خداى برمن حرام ودفع ما كان في جيبه إلى واحد من أهل السكة وهي شيء قليل، كان وضعه في بيته فذهب وأخذ ذلك من بيته وجاء به على يده ودفعه إليهم، قال: تطلق امرأته لأنه أطلق أخذ الجباية بيده وقد أخذه، وقيل: هذا بعيد لأن يمينه ينعقد على جبايته، يدفع في المستقبل لا على جباية ماضية، هذا هو المتعارف والمتفاهم. الدليل على حجة ما قلنا أنه إذا أخرج ما كان في جيبه وقت الحلف ليدفع إلى أهل السكة لا تطلق امرأته بذلك، وإن وجد الأخذ ما كان الطريق إلا ما قلنا. وعنه أيضاً: في رجلين بينهما ألفة ومودة، قيل: لأحدهما إن صاحبك يتبع امرأتك فقال: اكرمن بازن خويش دريكى تسير تنيسم جدول بنا ندمراواكر بنايد زن أزمن بشيه طلاق ثم رآها مع هذا الرجل قال: إن قال جدوك نمى اندم لا تطلق لأنه علق الطلاق بصفة من صفات قلبه، فيتعلق بالأخبار عنه على ما عرف. وعنه أيضاً: فيمن قال: اكرامش بروم وخواهرم شتيم فامرأته طالق، ثم ركب إليها

في الليل وانفجر الصبح قبل أن يأتيها ويراها قال: تطلق امرأته، لأن يمينه انعقدت على الذهاب والرؤية في الليل، وقيل: لا تطلق لأن يمينه انعقدت على الذهاب ليلاً وعلى الرؤية مطلقاً. وعنه أيضاً: فيمن قال: أين كه زن منت اكرم ابكنارايد فهي طالق ثلاثاً قال: هذا على الوطىء، قيل: إن قال الزوج مرادمن أن بودكه اكرم ايكنارايد يكد ما نوى هل يصدق قال: يصدق في حق تعليق طلاق ما فقال: يسمى كد ما نوى ولا يصدق في حق حرف الطلاق عن القربان لأن الوطء هو المراد بمثل هذا الكلام في العرف بقول الرجل: جندين كاه كه مرازن كارنيا مدو است ويريد به الوطء ويقول: هدس مرازن بكارمى ايد، ويفهم منه الوطء، فإذا قال: ما أردت الوطء فقد أراد صرف الكلام عن ظاهره فلا يصدقه القاضي في ذلك. وعنه أيضاً: إذا قال الرجل: إن فعلت كذا فامرأتي طالق وله امرأتان سارة وسعادة، فطلق سارة ثم فعل ذلك الفعل تطلق ساره أم سعادة قال: إن طلق سارة طلاقاً بائناً طلقت سعادة. وكذلك إن طلق سارة طلاقاً رجعياً ولم تنقض عدتها حتى فعل ذلك الفعل طلقت إحداهما والخيار إليه، وهذا لما عرف أن المعلق بالشرط عند مباشرة الشرط كالمنجز فيصير قائلاً عند التزوج امرأته طالق. ومن قال: امرأته طالق وله امرأة مطلقة طلاقاً بائناً أو رجعياً قبل انقضاء عدتها لا يقع الطلاق عليها فكذا ههنا. وإذا لم تكن سارة محلاً لوقوع الطلاق عليها في هذين الوجهين تعينت سعادة لوقوع الطلاق عليها. وعنه أيضاً: فيمن له امرأتان أعطته إحداهما دراهم ليشتري بها حنطة لأهل البيت فاشترى بها حنطة، وأعطت تلك الدراهم في ثمن الحنطة إلا درهماً واحداً فإن صرف تلك الدراهم إلى حاجة أخرى، ثم دفع ذلك درهماً من مال نفسه في ثمن الحنطة عوضاً عن الدرهم الذي صرفه إلى حاجة أخرى، فقالت له المرأة الأخرى: إنك اشتريت لتلك المرأة الحنطة فاشترى مثلها فقال الزوج: اشتريتها بدراهمها وحلف على ذلك بالطلاق قال: لا يقع الطلاق لأنه اشتراها بدراهمها. وكذلك لو قال: أعطيت في شراء هذه الحنطة دراهمها وحلف له كل اليمين لا يقع الطلاق أيضاً، واراد ادنه كه جيزى ازسيم خويش دربهاى كندم نداده لم تطلق امرأته. وعنه أيضاً: فيمن قال لغيره: إن لم أفعل كذا غداً بدايك ايكه مرانجانه است بطلاق است ولم يفعل ذلك الفعل غداً فهي طالق ولا فرق بين قوله بدايك طلاق است وبين قوله فهي طاق. وعنه أيضاً: فيمن قال لامرأته: بخانه فلان اندراى تراسه طلاق، أو قال: توازمن بشه طلاق ولم يقل جون ولا اكر طلقت الساعة، نظيره بالعربية في «النوادر» . وعنه أيضاً: فيمن جاء بهدية يدعى غلات إلى غيره وقال له: اطع في متايك فقال:

نعم برامناى دهم بدين غلاب واكر ندهم حلال برمن حرام ثم قال المهدي إليه: بعد ذلك بأيام، قال للمهدي: أصالحك على عشرة دراهم ورضي به المهدي وقبض العشرة وانصرف هل تطلق امرأته قال نعم، قيل (301أ1) له: أن اليمين عقدت على العدم، والعدم لا يتحقق قبل الموت قال: نعم عقدت على العدم، إلا أنه تحقق العدم ههنا لما اصطلحا عن القباء على الدراهم وقبض المهدي الدراهم وتركه وانصرف عنه. وعنه أيضاً: فيمن قال: ان بدس وسعد بي ابن باع تخورم واكربخورم زن ازمن بطلاق فأكل من حصرمه وعنبه تطلق امرأته، ولو قال: ارشتر ين اين زرنخورم فأكل من عنبه لا تطلق، وإنما تطلق إذا شرب من الشراب الذي يتخذ من ماء العنب. وعنه أيضاً: فيمن قال: أكر مشكاره خورم باكل شرح بنتيم فارمرأته طالق وكان الحلف بالشتاء ورأى بعد ذلك ورداً أحمراً وهو في الشتاء بعد فشرب الخمر قال: تطلق امرأته، لأن يمينه انعقدت على الورد الأحمر الذي يظهر في وقته المعهود من الربيع بحكم العرف والعادة. وعنه أيضاً: فيمن حلف بطلاق امرأته أن لا يشتم أباها، ثم لامرأته أي عد زن بدر، هل تطلق امرأته قال: نعم وهذا شتم لأبيها. وعنه أيضاً: فيمن حلفه أقرباء امرأته بطلاقها كه يروى فرم شي وورانى جيري تهمه يكنى، فحلف على ذلك ثم قال لها بعد ذلك: خداى داتدنا توجد كرده هل تطلق بهذا قال: لا. رجل له فاليز، أمر رجلاً أن يحفظ هذا الفاليز وأباح له أن يأكل منه ما شاء، فحلف هذا الحافظ بطلاق امرأته أن لا يأكل من فاليزه وليس له فاليز ملك ولا مستأجر ولا مستعار فأكل من هذا الفاليز الذي أمر بحفظه هل تطلق امرأته قال: لا، إلا إذا كان يضاف إليه هذا الفاليز عرفاً وعادة، أو ينويه أما بدون ذلك لا يحنث. وقيل: يحنث على كل حال، لأن الإضافة للاختصاص وله نوع اختصاص بهذا الفاليز من حيث الحفظ ومنع غيره عن الدخول فيه، فإذا لم يكن له فاليز آخر هو يختص به اختصاصاً، أو نوى من هذا علمنا أنه أراد بيمينه هذا القدر من الاختصاص. وعنه أيضاً: في مريض قالت له امرأته: فلان تراعبادت تكردوبرتونيا مد وقال: بنرحور برديدم بنرديك وي نروم وبادوى سحن بكوتم واكربروم وباوى سحن سموتم توازمن بطلاق ثم إن فلاناً عاده في مرضه وأهدى له هدايا فكلمه حين عاده وهو مريض على حاله لا تطلق امرأته لأن يمينه انعقدت على الكلام معه بعد ما قام عن مرضه حتى لو صح ثم كلمه تطلق امرأته، لأنه قال: واكر بروم وسحن كويم. وعنه أيضاً: وينبغي أن يقال: إذا صح مرضه وذهب إليه وكلمه تطلق امرأته، لأنه قال: واكر بروم وسمن كويم.

وعنه أيضاً: في رجلين لهما على رجل دين غير مشترك فحلفَّاه بالطلاق بهذه اللفظة، اكر روى ازمانوس زن ازتوشه طلاق فحلف على ذلك ما حكمه، فقال: إذا طلباه وعلم بالطلب ولم يظهر نفسه عليهما طلقت امرأته، وإن دخل السوق مختفياً عنهما لا تطلق امرأته لأنه لا يراد بهذه أن لا يخفي نفسه في كل ساعة وزمان عرفاً وعادة، وإنما يراد بهذا أن لا يخفي نفسه عن الطلب وعلمه بالطلب، وإن طلباه أو طلبه أحدهما في داره أو سوقه أو كرمه فهو غائب ولم يعلم بالطلب لا تطلق امرأته أيضاً، وإن أدى دين أحدهما لا يبقى اليمين في حقه، لأن اليمين مؤقتة بحال قيام الدين معنى. وعنه أيضاً: فيمن قال: هرج بدست راست كرفتم بدمن حرام كه فلان كارنكنم وكردة لا تطلق امرأته، لأن العرف في قوله هرج بدست راست هرج كرفتم لا في قوله: بدست راست هرج كرفتم. وعنه أيضاً: فيمن حلف بالفارسية من أين بنن ماه ابن ايكورها ابن رزرامي كتم وما بازن هم ابنجاي كورم ونجانة بيرم واكرنجانة برم زن ازمن بسته طلاق فجعل كلها خمراً وشرب بعضها مع أصحابه ههنا، وحمل غيره بغير امرأة نفسها إلى بيته قال: إن كان مراده أن لا يحمل كلها بيته بنفسه لا يحنث، بحمل البعض ولا يحمل غيره بغير امرأة وإن (كان) مراده، أن يشرب الكل ههنا ولا يترك شيئاً للحمل إلى بيته يحنث، وإن لم يكن له نية فكذلك يحنث قبل وينبغي أن لا تطلق في هذين الوجهين أيضاً؛ لأن يحمل البعض إلى بيته لا يقع الناس عن الشرب، لأنه يمكن إعادة ما حمل إلى الشرب ههنا فلا تطلق ما دام الخمر دائماً وهو الصحيح. وعنه أيضاً: فيمن حلف بطلاق امرأته لأن لا يؤذيها فتنجس ثوبه يوماً، فأمرها أن تغسله فأتت فقال: زهده ودلت بدرد نايد ستر هل يكون إيذاء، وهل تطلق امرأته قال: لا؛ لأن من اليمين الإيذاء ابتداءً من غير سبب أو يقال: سبب مثل هذا لا يعد إيذاءً فيما بين الناس إذا كان بناء على عصائها في مثل هذه الأمور. وعنه أيضاً: فيمن حلف غريمه بهذه اللفظة كه اكرسيم من ناداه ازشهر بروى زن ازتو شين طلاق، فحلف على ذلك وأعطاه بعض حقه وذهب قال: تطلق امرأته، لأن معنى قوله سيم من بدهى تمه سيم، لأنه اسم جنس ولفظة واحد ومعناه الجمع وهو جميع دراهمه التي له عليه. وعنه أيضاً: فيمن قال لامرأته: اكرمدا جواب دهى توازمن بطلاق، فبعد ذلك بأزمنة قال رجل للحالف: توبازن خويش بفلان جاي رويت فقال الزوج: وي شهرة كيست كه من باوى بحال روم فقالت المرأة: شهرة يزار توام قال: لا تطلق بهذا لأن الجواب إنما يكون بعد الخطاب وإنه لم يخاطبها فلا يكون جواباً وفيه نظر، فإن الجواب لا يتوقف على الخطاب لا محالة عرفاً وعادة، فإن العرف والعادة فيما بين الناس، أن من ذكر غيره حال غيبته بسوء فإذا بلغ ذلك الغير مقالته يعارضه بنيله ويقول: جوابش دارم. وعنه أيضاً: فيمن قال لامرأته: اكر ازين خانه دستورى من بيرون اي توازمن من

بشه طلاق وكانت ذهبت تجدود إليها رجلاً بمال وتحتاج إلى أن تخرج إليه وتقضي دينه وتفك رهنها فطلبت الإذن من الزوج بذلك فقال لها برووسيم بده وكروبير ون آر، فذهبت ولم تجده واحتاجت (301ب1) إلى الخروج مراراً حتى تم الأمر وخرجت كل مرة بغير إذن قال: لا تطلق، ووافقه بعض مشايخ عصره. وعنه أيضاً: في امرأة قالت لزوجها: اكر زير من زن يزني كنى ارزتو بطلاق قال: يده طالق فتزوج امرأة قال: تطلق ثلاثاً. وعنه أيضاً: قال لامرأته: اكرمن سمن طلاق تو برزبان دائم فأنت طالق ثلاثاً، ثم قال لها: اكر فلان كاركنى توارمن يشبه طلاق قال: طلقت ثلاثاً باليمين السابقة لأنها انعقدت بروايدن طلاق اوبرزبان راند فقد تحقق الشرط. وعنه أيضاً: فيمن قال لامرأته: اكر فلان يحشم حتايب بتواندر يكرد وتوبا من نكويتي تراشه طلاق قال: إنما يعرف النظر بالخيانة إذا يضم إلى النظر كلام أو عمل يدل عليه وهو أن يمازحها أو يشير إليها بيد أو شيء، أو طلاق هو دوزن دربسترى بمفتند سرا بالى اين مرد امرويان اجعت كه درحق وى سو كند نجورده بو دوان ديكر درميمن بستر بودارروى بايان قال: لم تطلق إن لم يمسها وصلاً، وإن وضع يده على رجل آخر لتخرجها من الستر وصلاً لا تطلق أيضاً؛ لأن الإخراج لم يدخل تحت اليمين والمس لأجل الإخراج لا يكون داخلاً تحت اليمين. وعنه أيضاً: في جميع الأجزاء اعتادوا الاجتماع في موضع معلوم كل سبت للمشاورة في أمورهم فحلف واحد منهم بهذا اللفظ أكر من بايك سأل يا ابن جمع كردايم زن من شه طلاق، فاجتمع مع ثلاثة منهم يوم السبت. قال: لا تطلق امرأته، وإن اجتمع مع جملهم في غير يوم السبت، فإن كان اجتماعهم في غير يوم السبت للأمر الذي يجتمعون له يوم السبت تطلق امرأته، وإن اجتمع معهم يوم السبت لأمر آخر سوى ما كانوا يجتمعون له يوم قبل هذا بأن كان اجتماعهم قبل هذا يوم السبت لأجل المشاورة فاجتمع معهم في سبت آخر للضيافة لا تطلق امرأته، فإذا طلق امرأته طلاقاً رجعياً ثم قال: جعلته بائناً أو ثلاثاً فهو بائن وثلاث عند أبو حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف رحمه الله يكون بائناً ولا يكون ثلاثاً، وعند محمد رحمه الله لا يصير بائناً ولا ثلاثاً ذكر المسألة في آخر دعوى «الأصل» . وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف رحمه الله، وأنه أحرى أن يكون ثلاثاً. قال في «المنتقى» : عن أبي يوسف رحمه الله، وهذا إذا قال ذلك في العدة أما بعد انقضاء العدة إذا قال: يجعلها بائناً أو ثلاثاً لا يلزمه، وأشار أبو يوسف رحمه الله إلى الفرق بينما إذا قال: جعلته ثلاثاً، وبينما إذا قال: بائناً على ظاهر الرواية فقال: العدة إذا انقضت كانت التطليقة بائنة بغير كلام ولا يكون ثلاثاً هذا كلام أبي يوسف رحمه الله. وفي «المنتقى» أيضاً: إذا قال لها: إن طلقتك واحدة فهي بائن أو ثلاث، فطلقها واحدة لم يكن بائناً ولا ثلثاً من قبل أنه قدم القول قبل نزول الطلاق، وكذلك إذا قال

لها: إذا دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال: جعلت هذه التطليقة بائناً أو ثلاثاً، وكان ذلك قبل أن تدخل الدار، وروى أبو سليمان عن أبي يوسف رحمه إذا قال لها: أنت طالق تطليقة يكون ثلاثاً فهي ثلاث. وفي «المنتقى» أيضاً: إذا طلق امرأته واحدة، ثم قال في العدة: قد ألزمت امرأتي ثلاث تطليقات بتلك التطليقة، أو قال: ألزمتها تطليقتين بتلك التطليقة فإنه يقع عليها تطليقتان وفي الصورة الثانية يقع عليها تطليقة سوى الأولى فتقع تطليقتان. وروى أبو سليمان عن أبي يوسف رحمهما الله في رجل طلق امرأته واحدة، ثم قال: قد جعلتها بائناً رأس الشهر قال: إن لم يراجعها فهو بائن، وإن راجعها فيما بين ذلك لا تتحول إلى البينونة، ولو طلقها تطليقة رجعية ثم قال: جعلتها ثلاثاً رأس الشهر ثم راجعها قال: تكون ثلاثاً رأس الشهر، وليس يشبه قوله جعلتها بائناً قوله جعلتها ثلاثاً، وقال أبو يوسف رحمه الله بعد ذلك: لا تكون ثلاثاً وتكون واحدة بائنة والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

كتاب النفقات

كتاب النفقات هذا الكتاب يشتمل على فصول: 1 * في نفقة الزوجات. 2 * في نفقة المطلقات. 3 * في نفقة ذوي الأرحام. 4 * في نفقات أهل الكفر. 5 * من نفقات المماليك.

الفصل الأول في نفقة الزوجات

الفصل الأول في نفقة الزوجات الأصل في نفقة الزوجات قوله تعالى: {اسكنوهن من حيت سكنتم من وجدكم} (الطلاق: 6) وفي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: {اسكنوهن من حيث سكنتم وانفقوا عليهن من وجدكم} وقراءته لا بد وأن يكون مسموعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمفذل ذلك على وجوب النفقة، وقال عليه السلام: «أوصيكم بالنساء خيراً» إلى أن قال: «وإن لهن عليكم نفقتهن وكسوتهن بالمعروف» وقال عليه السلام لهند امرأة أبي سفيان: «خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف» والمعنى فيه أن المرأة محبوسة عند الزوج لمنفعة تعود إلى الزوج فيكون كفايتها في مال الزوج كالقاضي لما حبس نفسه لأعمال المسلمين كانت نفقته في بيت مال المسلمين، وكعامل الصدقات لما حبس نفسه لعمل المساكين استوجب كفايته في مالهم كذا ههنا. ثم هذا الفصل يشتمل على أنواع: النوع الأول في بيان من يستحق النفقة من الزوجات ومن لا يستحق قال: إذا تزوج الرجل امرأة كبيرة فطلبت النفقة وهي في بيت الأب بعد، فلها ذلك إذا لم يطالبها الزوج بالنقلة، لأن النفقة مستحقة لها على الزوج لما ذكرنا من الدلائل، ولكل أحد يتمكن من المطالبة بحقه، وهذا لأن النفقة حق المرأة، والانتقال حق الزوج، فإذا لم يطالبها بالنقلة فقد ترك حقه وهذا لا يوجب بطلان حقها. وقال بعض المتأخرين من أئمة بلخ: لا تستحق النفقة إذا لم تزف إلى بيت زوجها والفتوى على جواب «الكتاب» ، فإن كان الزوج قد طالبها بالنقلة فإن لم تمتنع عن الانتقال إلى بيت الزوج لها النفقة أيضاً، وأما إذا امتنعت عن الانتقال، فإن كان الامتناع لحق بأن امتنعت لتستوفي مهرها فلها النفقة لأن إيفاء المهر واجب على الزوج، ولها حق حبس نفسها عن الزوج إلى أن تستوفي المهر فإنما حبست نفسها بسبب فوات مهرها

فيكون فوات الاحتباس محالاً على الزوج فلا يسقط حقها (302أ1) في النفقة كالفرقة إذا جاءت من قبل الزوج قبل الدخول بها لا يسقط حقها عن المهر كذا ههنا. فأما إذا كان الامتناع بغير حق بأن كان أوفاها المهر أو كان المهر موجلاً، أو وهبته منه فلا نفقة لها لأن فوات الاحتباس ههنا لمعنى من جهتها، والنفقة بأن الاحتباس على تبين، فتجازى بمنع بيان أداء الاحتباس وهي النفقة، ألا ترى أن الفرقة إذا جاءت من قبلها قبل الدخول تجازى بمنع جميع البدل وهو المهر كذا ههنا. قال: وإن كانت المرأة صغيرة، فإن كانت مثلها توطأ وتصلح للجماع فلها النفقة، وإن كانت مثلها لا توطأ ولا تصلح للجماع فلا نفقة لها عندنا حتى تصير إلى الحالة التي تطيق الجماع سواء كانت في بيت الزوج، أو في بيت الأب. فرق بين نفقة الزوج وبين نفقة المملوك، فإن نفقة المملوك تجب على المالك، وإن كانت صغيرة لا تصلح للجماع. والفرق: وهو أن نفقة النكاح إنما تجب بسبب الاحتباس المستحق بعد النكاح، فإنما تجب إذا حصل للزوج منفعة من منافع النكاح على سبيل الخصوص وهذا لأن الاحتباس ما كان مطلوباً لعينه، وإنما كان مطلوباً لغيره وهو منافع النكاح وكان المعتبر حصول منافع النكاح على الخصوص، ومنافع النكاح على الخصوص هو الجماع، والدواعي إلى الجماع، والصغيرة التي لا تصلح للجماع لا تصلح لدواعي الجماع، فكان فوات منفعة الاحتباس لمعنى خاص بجهتها فصار كما لو نشزت بخلاف ما إذا كانت تصلح للجماع. فأما نفقة المملوك تجب لأجل الملك فقط وذلك لا يختلف بالصغر والكبر. قال: وإن كانت المرأة تصلح للجماع، والزوج لا يطيق الجماع فلها النفقة إذا لم تكن مانعة نفسها، لأن منفعة الاحتباس ههنا إنما فاتت لمعنى من جهة الزوج فلا يسقط حقها في النفقة، كما لو حبست نفسها من المهر. قال: ولو كانا صغيرين لا يطيقان الجماع لا نفقة لها حتى تصير المرأة إلى الحالة التي تطيق الجماع، لأن المنع جاء لمعنى من جهتها فأكثر ما في الباب أن يجعل المنع من جهته كلاً منع، والمنع من قبلها قائم ومنع قيام المنفعة من قبلها لا يستحق النفقة. والحاصل في جنس هذه المسائل: أنه ينظر إلى المرأة إن كانت لا تصلح للجماع لا نفقة لها سواء كان الزوج يطيق الجماع أو لا يطيق، وإن كانت المرأة تطيق الجماع فلها النفقة سواء كان الزوج يطيق الجماع أو لا يطيق. وعن هذا قلنا: إن المجبوب إذا تزوج امرأة صغيرة لا تصلح للجماع لا يفرض لها النفقة، ولو تزوج امرأة تصلح للجماع فلها النفقة، وإن كان الزوج لا يقدر على الجماع في الوجهين جميعاً، لهذا المعنى أن المرأة في الفصل الأول لا تصلح للجماع وفي الفصل الثاني تصلح فعلم أن العبرة لما قلنا. ثم الأصل أن المرأة إذا كانت كبيرة وهي غير مانعة نفسها عن الزوج بغير حق تستحق النفقة على الزوج.

وإن تعذر وطؤها بعارض أمر نحو الرتق والقرن والحيض والمرض سواء حصل هذا العارض في بيت الأب قبل الانتقال إلى بيت الزوج أو حصل بعدما انتقلت إلى بيت الزوج حتى إن المرأة الكبيرة إذا مرضت في بيت الزوج مرضاً لا يقدر الزوج على جماعها تستحق النفقة استحساناً، وكذلك الكبيرة إذا مرضت في بيت الأب مرضاً لا يقدر الزوج على جماعها، وزفت إلى بيت الزوج كذلك، أو لم تزف إلى بيت الزوج إلا أنها غير مانعة نفسها من الزوج بغير حق تستحق النفقة. وكذلك المرأة إذا كانت رتقاء أو قرناء، أو صارت مجنونة أو أصابها بلاء يمنعه عن الجماع أو كبرت حتى لا يمكن وطؤها بحكم كبرها كان لها النفقة سواء أصابتها هذه العوارض بعدما انتقلت إلى بيت الزوج، أو قبل ذلك إذا لم تكن مانعة نفسها من الزوج بغير حق، وهذا الذي ذكرنا في هذه المسائل جواب ظاهر الرواية. والوجه من هذه المسائل ما ذكرنا: أن المعتبر في إيجاب النفقة احتباس ينتفع به الزوج انتفاعاً مقصوداً بالنكاح وهو الجماع أو الدواعي إلى الجماع، والانتفاع من حيث الدواعي في هذه المسائل حاصل. وروي عن أبي يوسف رحمه الله في الرتقاء والمريضة التي لا يمكن وطؤها أنه لا نفقة لها قبل أن ينقلها الزوج إلى بيت نفسه وإن انتقلت إلى بيت الزوج من غير رضا الزوج فللزوج أن يردها إلى أهلها، وأما إذا نقلها الزوج بنفسه مع علمه بذلك فليس له أن يردها بعد ذلك ولها النفقة. ووجه ذلك: أن التسليم الذي اقتضاه العقد تسليم من غير مانع يمنع من الوطء وذلك غير موجود ههنا فكان في التسليم نوع قصور وخلل فلا تستحق النفقة، فإذا نقلها الزوج إلى بيته مع علمه بذلك فقد رضي بالخلل فكان عليه النفقة فلا يجوز ردها لرضاه بالتسليم القاصر بخلاف الصغيرة التي لا تصلح للجماع، لأن هناك المنفعة فائنة أصلاً فكان له أن يردها ولا تجب نفقتها. أما ههنا بخلافه حتى لو كانت الصغيرة بحال تصلح لمنفعة الخدمة والاستئناس فنقلها الزوج إلى بيت نفسه ليس له أن يردها وتستحق النفقة عند أبي يوسف رحمه الله فكأنه اعتبر منفعة الاستئناس على هذه الرواية، وروي عن محمد رحمه الله في الرتقاء: أنه لا يلزم الزوج نفقتها قبل أن ينقلها الزوج بنفسه إلى بيته كما هو قول أبي يوسف رحمه الله ثم فرق أبو يوسف رحمه الله بينما إذا جاءت إلى بيت الزوج مريضة وبينما إذا مرضت في بيت الزوج فقال: إذا جاءت إلى بيت الزوج مريضة فللزوج أن يردها ولا نفقة عليه، وإذا مرضت في بيت الزوج بعدما جاءت إليه صحيحة فليس له أن يردها بل ينفق عليها إلا إن تطاول قال: لأن النكاح يعقد للصحبة والإلفة، وليس من الإلفة أن يمتنع عن الإنفاق أو يردها بقليل مرض فإذا تطاول ذلك فهو بمنزلة الرتق الذي لا يزول عادة قضاء، كما لو كانت صغيرة لا تجامع مثلها فتسقط نفقتها. قال: وإذا احتبست المرأة في دين قبل النقلة، فإن كانت تقدر (302ب1) . أن

تخلي بينه وبين نفسها فلها النفقة، وإن كانت في موضع لا يقدر الزوج على الوصول إليها فلا نفقه لها، وهذا لأنها إذا قدرت على أن توصل الزوج إلى نفسها فقدر الزوج على الاستمتاع بها وفوات الاحتباس في بيت الزوج ما كان من جهتها فلا يسقط حقها، وأما إذا لم تقدر أن توصله إلى نفسها لم يتمكن الزوج من الاستمتاع بها فلا تستحق النفقة. وأما إذا حبست بعد النقلة وبعدما فرض القاضي لها النفقة لا تبطل نفقتها، لأن التسليم قد وجد والمنع حصل بعارض أمر غير مضاف إليها فلا يؤثر في إسقاط حقها كالحيض، وهذا كله إذا كانت محبوسة في دين لا تقدر على الأداء، فإن قدرت على الأداء فلم تفعل فلا نفقة لحصول المنع مضافاً إليها، وهذا كله قول أبي يوسف رحمه الله، وهو اختيار القاضي الإمام علي السغدي رحمه الله. وذكر محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» وفي «الأصل» : أنها إذا حبست فلا نفقة لها من غير تفصيل، وذكر الخصاف في «أدب القاضي» أنها إذا حبست فكانت قادرة على أداء الدين أو لم تكن، أو حبست ظلماً بغير حق فلا نفقة لها، وكذلك لو هرب بها هارب لم تستحق النفقة على رواية «الأصل» و «الجامع» رواية الخصاف، وعلى رواية أبي يوسف رحمه الله وهو اختيار القاضي الإمام علي السغدي رحمه الله لها النفقة. فالحاصل: أن على رواية أبي يوسف رحمه الله وهو اختيار القاضي الإمام المعتبر افوات النفقة فوات الاحتباس من جهتها ولم يوجد ذلك ههنا، وعلى رواية «الأصل» و «الجامع» رواية الخصاف المعتبر لسقوط النفقة فوات الاحتباس لا من جهة الزوج وقد فات الاحتباس ههنا لا من جهة الزوج وهذا هو الصحيح. والمعنى في ذلك أن النفقة إنما تجب عوضاً عن الاحتباس في بيت الزوج، فإذا كان الفوات لمعنى من جهة الزوج أمكن أن يجعل ذلك الاحتباس باقياً تقديراً، أما إذا كان الفوات بمعنى من جهة الزوجة لا يمكن أن يجعل ذلك الاحتباس باقياً تقديراً وبدونه لا يمكن إيجاب النفقة وهو نظير ما قلنا في الغاصب. إذا غصب المستأجر من يد المستأجر لا يجب الأخذ على المستأجر بهذا إن فات التمكن من الانتفاع لا من جهة المستأجر كذا ههنا. قال: وإن حبس الزوج وهو يقدر على الأداء أو لا يقدر أو حبس ظلماً أو هرب أو...... كان لها النفقة لأن الاحتباس ههنا فات لمعنى من جهة الزوج. قال: ولو حجّت المرأة حجة الإسلام فإن كان قبل أن تسلم نفسها فلا نفقة لها، ولو كان الزوج (دخل) بها ثم حجت المرأة مع محرم فلها النفقة في قول أبي يوسف رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: لا نفقة لها هكذا ذكر في «القدوري» : وذكر الخصاف رحمه الله، أنه لا نفقة لها ولم يذكر فيه خلافاً فيحمل أن يكون ما ذكر الخصاف قول محمد رحمه الله.

فوجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن الزوج لما بنى بها فقد وجد التسليم، والمانع أداء الفرض وهي مضطرة في ذلك بخلاف ما لو لم يبنى بها لأن هناك لم يوجد التسليم أصلاً. وجه قول محمد رحمه الله: أن منفعة الاحتباس فات لمعنى من جهة المرأة فتوجب سقوط النفقة لما قلنا قبل هذا بخلاف ما لو صلت أو صامت عن رمضان فرفع على قول أبي يوسف رحمه الله فقال: تفرض لها نفقة الإقامة دون السفر بعين تعتبر ما كان قيمته للطعام في الحصر لا ما كان قيمة له في السفر لأن هذه الزيادة لحقها بأداء منفعة تحصل لها فلا يكون ذلك على الزوج أن يكتري لها؛ لأن هذا ليس من ... كالمريضة لا تستحق المداواة على الزوج وليس على الزوج أن يكتري لها لأن هذا ليس من نفقة الحضر فيكون في مالها، ولو أقامت هناك مدة لا يحتاج إليها بطلت نفقتها لأنها غير مضطرة في ذلك فصارت كالناشزة، ولو طلبت من الزوج نفقة مدة الذهاب والمجيء لم يكن لها ذلك، ولكن يعطيها نفقة شهر، لأن الواجب لها نفقة الإقامة دون السفر، ونفقة الإقامة تفرض لها شهراً فشهراً. ثم قال: فإذا عادت أخذت ما بقي، هكذا ذكر في «القدوري» وفيه نظر، فإنَّ نفقة الزوجات لا تصير ديناً إلا بالقضاء أو بالتراضي كل ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى. ولم يذكر القضاء والرضا فكانت المسألة، وله قال: فإن حج الزوج معها فلها النفقة على الزوج بالاتفاق، لكن تجب نفقة الحضر، ولا تجب على السفر، ولا مؤنة السفر لما قلنا، وروي عن أبي يوسف رحمها الله تعالى أن المرأة إذا أرادت حجة الإسلام يؤمر الزوج أن يخرج معها في حجتها وينفق عليها، قال: وإذا تزوج الحر أو العبد أو المكاتب أو المدبر بأمة رجل كان لها على الزوج النفقة بقدر ما يكفيها.... بعدما توالها بيتاً أما بدون البيتوتة لا تستحق، وتفسير البيتوتة أن يخلي المولى بين الأمة وزوجها في منزل الزوج ولا يستخدمها، وهذا لأن المعتبر في استحقاق تفريفها نفسها للقيام بمصالح الزوج، وذلك يحصّل....، قلنا قال في «الكتاب» : وكذلك العبد، أو المكاتب أو المدبر إذا تزوج امرأة حرة قد يفرض عليه نفقتها فقد شرط البيتوتة في الحرة أيضاً، وهذا.... يصح لأن الحرة مهيأة للقيام بمصالح الزوج، إذ ليس ههنا من يستخدمها ويمنعها من التزوج بخلاف الأمة، فينبغي أن تستحق الحرة النفقة، في هذه المسائل لم تكن مانعة نفسها من الزوج وإن لم توجد البيتوتة، ألا ترى أن الحر إذا تزوج بحرة تستحق النفقة وإذا لم توجد البينونة، إذ لم تكن مانعة نفسها من الزوج كذا ههنا، قال: والمدبرة وأم الولد نظير الأمة، إذ المعنى لا يوجب الفصل بينهن، ثم قال: والبيتوتة غير واجبة على المولى، لأن حق المولى في الاستخدام باقي، فلو كاتبها المولى على البيتوتة فقد أبطلا حقه في الاستخدام، وهذا مما لا وجه ولا سبيل إليه، قال: ولو برأها المولى ثم

بدا له أن (203أ1) يستخدمها فله ذلك، لما ذكرنا أن حق المولى في الاستخدام باقي فلا تسقط بالبيتوة، كما لا تسقط بالإنكاح، ثم إذا استخدمها المولى بعد ذلك ولم يحل بينها وبين الزوج فلا نفقة لها، لأنه فات ما كان تجب به نفقتها وهو البيتوتة من جهة من له الحق، فشابهت الحرة الناشزة، قال: ولو بوأها المولى فكانت إلى المولى في بعض الأوقات تخدمهُ من غير أن يستخدمها لم تسقط نفقتها، لأن البيتوتة من جهة المولى، والنفقة إنما تجب حقاً للمولى فلا يسقط بصنع يوجد من عند المولى. بخلاف ما إذا استخدمها المولى على ما مر، قال: ولو جاءت إلى بيت المولى في وقت، والمولى ليس في البيت واستخدمها أهل المولى ومنعوها من الرجوع إلى بيته، فلا نفقة لها لأن استخدام أهل المولى إياها بمنزلة استخدام المولى، وفيه تفويت البيتوتة، قال: وإذا تزوجت المكاتبة بإذن المولى، فهي كالحره فلا تحتاج إلى البيتوتة لاستحقاق النفقة لأن منافعها على ملكها لضره وريها أخص بنفسها ومنافعها بعقد الكتابة، ولهذا لم يبق للمولى، ولأن الاستخدام مكانه فكانت كالحرة فلا يحتاج في حقها إلى البيتوتة، وهذه المسألة تزيد ما ذكرنا في الحرة إذا قامت تحت عبد أو مكاتب أو مدبر، ثم فرع على مسألة العبد فقال: إذا تزوج العبد بإذن المولى، وفرض القاضي عليه النفقة، فالنفقة تتعلق بمالية الرقبة، لأن دين النفقة ظهر في حق المولى لأنه سببه وهو النكاح كان برضا المولى، وإذا اجتمع عليه من النفقة ما يعجزه عن الأداء يباع فيه إلا أن يفديه المولى، ثم إذا اجتمع عليه النفقة مرة أخرى يباع العبد ثانياً. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وليس في شيء من ديون العبد ما يباع فيه مرة بعد مرة إلا النفقة، وهذا لأن النفقة تتجدد وجوبها بمضي الزمان، فكذلك في حكم دين حادث، ولا كذلك سائر الديون. قال: وإن مات العبد بطل ما اجتمع عليه من النفقة لا يؤاخذ المولى بشيء لأن محل الاستيفاء قد فات، قال: وإن قتل العبد كانت النفقة في قيمته، قال الشيخ أبو الحسن القدوري رحمه الله في «شرحه» : هذا ليس بصحيح، وإنما الصحيح أن تسقط النفقة بالموت، لأن النفقة في معنى الحر على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله، والصِّلات تبطل بالموت قبل القبض، والقيمة إنما تقام مقام الرقبة في دين لا يسقط بالموت، لا في دين سقط بالموت، هذا الذي ذكرنا في العبد، أما المدبر إذا تزوج بإذن المولى، فالنفقة تتعلق بكسبه، لأن الاستيفاء من الرقبة ههنا متعذر لعدم جواز بيعه، فيتعلق بكسبه كسائر الديون، وكذلك نفقة امرأة المكاتب تتعلق بكسبه ما دام مكاتباً لتعذر الاستيفاء من الرقبة، فإذا عجز بيع فيها لإمكان الاستيفاء من الرقبة بعد العجز، فهذا الذي ذكرنا، إذا تزوج العبد أو المكاتب أو المدبر بإذن المولى. وإذا تزوجوا بغير إذن المولى فلا نفقة عليهم ولا مهر، لأن وجوب النفقة والمهر يعتمد صحة العقد، ونكاح هؤلاء بغير إذن المولى لا يصح، فإن عتق واحد منهم جاز نكاحه حين عتق، لسقوط حق المولى، ويجب عليه المهر والنفقة في المستقبل.

وقال: ومعتق البعض عند أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة المكاتب وعندهما بمنزلة من عليه دين بناءً على أن الإعتاق عندهما لا يتجزأ وعند أبي حنيفة رحمه الله يتجزأ فكان بمنزلة المكاتب، إلا أن الرد في الرق بالعجز ههنا لا يتصور، وفي المكاتب يتصور، أما قبل العجز خالعها وأخذ (العوض) قال: وإذا تزوج الرجل أمته من عبده بوأها بيتاً أو لم يبوىء فنفقتها على المولى، لأنهما جميعاً ملك المولى، ونفقة المماليك بعد هذا إن شاء الله تعالى. قال: وإذا زوج الرجل ابنته من عبده، وطلبت النفقة كان لها النفقة على العبد لأن النفقة في معنى سائر الديون من وجه والابنة تستحق الدين على الأب، فكذلك على عبد الأب. قال: وإذا (كان) للرجل نسوة بعضهن حرائر مسلمات، وبعضهن إماء وذميات باختلاف الدين والرق والحرية، إلا أن الحرة تستحق نفقة خادمها على ما يأتي بعدها إن شاء الله، والأمة لا لأن الحرة تستخدم الأمة، فأما الأمة خادمة في نفسها فلا تستحق نفقة الخادم. قال: ولا نفقة في النكاح الفاسد، ولا في العدة منه لأنه لم يحصل للزوج بهذا الاحتباس منفعة من منافع النكاح وهو الوطء أو الدواعي لأنه ممنوع شرعاً، فصار بمنزلة الصغيرة لا يجامع مثلها. قال: ولو كان النكاح صحيحاً من حيث الظاهر، ففرض القاضي لها النفقة وأخذت ذلك أشهراً، ثم ظهر فساد النكاح بأن شهد الشهود أنها أخته من الرضاعة، وفرق القاضي بينهما رجع الزوج على المرأة بما أخذت، لأنه تبين أنها أخذت بغير حق، وهذا إذا فرض القاضي لها النفقة، أما إذا أنفق الزوج عليها مسامحة من غير فرض القاضي لم يرجع عليها بشيء، كذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «شرح القاضي» . وذكر في «الحاوي في الفتاوي» ، أن الرجل إذا اتهم بامرأة وظهر بها حبل فزوجت من هذا الرجل، فإن لم يقر هذا الرجل بأن هذا الحبل منه، فإن النكاح فاسد عند أبي يوسف رحمه الله فلا تستحق النفقة، وعندهما النكاح صحيح فتستحق النفقة، وذكر في موضع آخر أن على قولهما لا تستحق النفقة أيضاً، لأن النكاح وإن كان صحيحاً عندهما إلا أن الزوج ممنوع عن وطئها، فأما إذا أقر الرجل أن الحبل منه فالنكاح صحيح بالاتفاق وهو غير ممنوع عن وطئها فتستحق النفقة عند الكل. في «فتاوى النسفي» رحمه الله في منكوحة تزوجت بزوج آخر ودخل بها الزوج الثاني وفرق بينهما حتى وجبت العدة، ففي الحالة التي تعتد لا نفقة لها لا على الزوج الأول، ولا على الزوج الثاني أما على الزوج الثاني فالنكاح الثاني فاسد، وأما على الزوج الأول فلأنها صارت ناشزة عن الأول ولا تستحق النفقة عليه. وقال: ولا نفقة للناشزة (303ب1) ما دامت على تلك الحالة، لأنها إنما تستحق النفقة بتسليمها بنفسها إلى الزوج وتفريقها نفسها لمصالح الزوج فإذا امتنعت عن ذلك

ظالمة، فقد فوتت ما كانت تستحق النفقة باعتباره فلا تجب لها النفقة، وقد صح أن شريحاً رحمة الله عليه سئل أن الناشزة هل تستحق النفقة: فقال: نعم.... فقال: جوالق من تراب، بين لا نفقة لها، ثم بين الخصاف رحمه الله الناشزة فقال: الناشزة هي الخارجة عن منزله زوجها المانعة نفسها منه، لأنها إذا كانت مقيمة مع الزوج في منزله فالظاهر أن الزوج يقدر على تحصيل المقصود منها فلا يوجب ذلك بطلان نفقتها، وتستوي المرأة في حق الناشزة أن تكون النفقة مفروضة أو لم تكن لا نفقة للمرأة مفروضة كانت، أو غير مفروضة بأن الاحتباس في بيت الزوج، فإذا فات الاحتباس في بيت الزوج فات ما تأدى به النفقة فتفوت النفقة ضرورة في حق هذا المعنى المفروضة وغير المفروضة على السواء، إليه أشار محمد رحمه الله في «الجامع» ، في الباب الثاني من كتاب القضاء في مسألة ذكرها على سبيل الاستشهاد عبيد. وكذلك لو كان وصورتها إذا قضى القاضي بالفرقة بشهادة الشهود، ثم ظهر أن الشهود عبيد، وكذلك لو كان المنزل ملكاً للمرأة والزوج يسكن معها في بيتها فمنعته من الدخول عليها لم يكن لها نفقة ما دامت على تلك الحالة، لأنها لما منعته عن الدخول عليها فقد حبست نفسها منه فصار كأنها نشزت إلى موضع آخر. قال في «الكتاب» : إلا أن تكون سألته أن يحولها إلى منزله أو يكتري لها منزلاً آخر فيه وتقول: إني أحتاج إلى منزل، ومنعته من الدخول عليه فلها ذلك، وعليه النفقة، لأن منفعة الاحتباس ههنا، إنما فات لمعنى من جهة الزوج فلا يوجب بطلان المنفعة، ثم في كل موضع تسقط نفقة المرأة لأجل النشوز، لو تركت النشوز كان لها النفقة، لأن المسقط للنفقة هو النشوز. فإذا تركت النشوز ارتفع المسقط فصار الحال بعد ترك النشوز كالحال قبل النشوز، وذكر في «الفتاوى» عمن أوفى مهر امرأته وهو يسكنها في أرض الغصب وامتنعت هي منه قال: لها النفقة لأنها محقة وليست بناشزة قال: وإذا بقيت المرأة مع زوجها، أو أبت أن تتحول معه إلى منزله أو حيث تريد من البلدان وقد أوفى مهرها فلا نفقة لها عليه، لأنها مبطلة في هذا المنع فكانت ناشزة، وإن كان لم يعطها مهرها وباقي المسألة بحالها فلها النفقة لأنها محقة في هذا المنع، هذا إذا لم يدخل بها، فإن دخل بها فكذلك الجواب في قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي قولهما لا نفقة لها سواء أوفاها المهر، أم لا وهذا بناءً على أن بعدما دخل الزوج بها ليس لها أن تمنع حتى يوفيها الزوج المهر عندهما، وعند أبي حنيفة رحمه الله لها ذلك فكانت مبطلة في هذا المنع عندهما فلا نفقة لها قال الفقيه أبو القاسم الصفار رحمه الله: هذا كان في زمانهم، أما في زماننا لا يملك الزوج أن يسافر بها، وإن أوفى صداقها، لأن في زمانهم الغالب من حال الناس الصلاح، أما في زماننا فسد الناس، والمرأة إذا كانت بين عشيرتها فالزوج لا يقدر على أن يظلمها، ومتى

نقلها إلى بلد آخر ظلمها، فقيل له أن يخرجها من البلد إلى القرية، أو على العكس قال: ذلك ليس سفر، وإخراجها إلى بلد آخر سفر. النوع الثاني في كسوة المرأة «الأصل» : في ذلك قوله تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 233) والمعنى الذي أوجب النفقة للمرأة على الزوج وهو كونها محبوسة في بيت الزوج لمنفعة تعود إلى الزوج توجب الكسوة أيضاً على الزوج إذا عرفنا هذا. قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : الكسوة للمرأة على المعسر في اليسار درع يهودي وملحفة كأرخص ما يكون مما يدفنها، وعلى الموسر في اليسار درع يهودي أو هروي، وملحفة وخمار إبريسم، وكساء ولها في الصيف درع سامريّ وملحفة كتان، أو خمار إبريسم فقال: أوجب لها في الستار أكثر مما أوجب في الصيف لدفع أذى الحر، وتحتاج لدفع البرد ما لا تحتاج لدفع أذى الحر، فقد ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : للمرأة الدرع، والخصاف ذكر القميص وهما سواء غير أن الدرع ما يلبسه النساء، وهو أن يكون مجبباً من قبل أن الصدر والقميص ما يكون مجبباً من قبل الكتف فتوسع الخصاف وأجاز ذلك للنساء، وذكر الملحفة وتكلموا في تفسيرها قال بعضهم: غطاء الليل يلبس في الليل، وقال بعضهم: التي تلبس المرأة عند الخروج. وقال الخصاف رحمه الله في «كتابه» : الملحفة تشبه الرداء، غير أن الملحفة أعرض من الرداء فتكون أستر للمرأة ثم لم يوجب للمرأة الإزار، والخصاف أوجب الإزار لها في كسوة الشتاء لا في كسوة الصيف. ومحمد رحمه الله لم يوجب لها الإزار أصلاً قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: إنما لم يوجب محمد رحمه الله ذلك باعتبار أن الإزار إنما يحتاج إليه للخروج، والمرأة منهية عن الخروج ومأمورة بأن تكون مهيأة لبساط الزوج، فلا يكون على الزوج أن يتخذ ما يحول بينه وبين حقه، فهذا التعليل إشارة إلى أنه لا يفرض للمرأة الإزار في ديارنا أيضاً، وقال غيره من المشايخ: هذا بناء على عرف ديارهم، فإن في عرف ديار محمد رحمه المرأة تمكث في بيت الزوج بلا سراويل، وتلبس درعاً طويلاً، وفي عرف ديار الخصاف وهو ديار عراق تمكث المرأة مع السراويل لكن في الصيف لا يمكنهن ذلك لشدة الحر، وفي الشتاء يمكنهن فهذا في عرف ديارهم، أما في عرف ديارنا يجب لها الإزار، وثياب أخر تحتاج إليها في الشتاء نحو الجبة وما أشبه ذلك، ولم يوجب للمرأة الملقب والخف لأن كل واحد منهما يحتاج إليه للخروج، والمرأة لا تحتاج إلى الخروج والبروز. قال: ويجب لها في الشتاء لحاف، أو قطيف إن لم تكن تحتمل لحافاً، وكذلك يجب لها فراش تنام عليه، لأن النوم على الأرض ربما يؤذيها ويمرضها، وهو منهي عن إلحاق الضرر والأذى بها قال في «الكتاب» : (304أ1) يجعل لها القاضي ما ينام عليه

مثل الفراش أو المضربة أو المرفقة، وفي الشتاء لحاف تتغطى به، ذكر لها فراشاً على حدة ولم يكتف لها بفراش واحد، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «الفراش ثلاثة، فراش لك وفراش لأهلك والثالث للشيطان» . ثم ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» من القياب فهو بناء على عاداتهم وذلك يختلف باختلاف الأمكنة في شدة الحر والبرد، وباختلاف العادات فيما يلبسه الناس في كل وقت فيجب على القاضي اعتبار الكناية بالمعروف فيما يعرض في كل وقت، ومكان النوع الثالث في فرض القاضي نفقة المرأة وكسوتها. قال: وإذا طالبت المرأة زوجها بالنفقة وهي امرأة على حالها، وقالت أنه يصرف عليّ ويضربني فالقاضي يأمر بالنفقة عليها لأن الله تعالى أمر الزوج بالإمساك بالمعروف قال الله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف} (الطلاق: 2) وليس من المعروف ترك التوسع في النفقة والزوج هو الذي يلي الإنفاق، إلا أن يظهر للقاضي مطلب أنه يضربها ولا ينفق عليها حينئذٍ يفرض القاضي لها نفقة عليه في كل شهر وأمره أن يعطيها لتنفق هي على نفسها نظراً لها، فإذا لم يعطها وقدمته مراراً ولم يقبل نُصح القاضي ولم ينجح فيه وعظه وحبسه القاضي لظهور مطله وظلمه وسيأتي الكلام في الجنس بعد هذا إن شاء الله تعالى.v قال: وإذا طلبت المرأة من القاضي أن يفرض لها نفقة على الزوج، فالمسألة على وجهين: أما إذا كان الزوج حاضراً أو غائباً، فإن كان حاضراً أو كان الزوج صاحب مائدة فالقاضي لا يفرض لها النفقة وإن طلبت لأنها متعينة في طلب النفقة لأن الرجل إذا كان بهذه الصفة ينفق على من ليس عليه نفقته فلا يمنع في الإنفاق على من عليه نفقتها فلا يفرض القاضي لها النفقة إلا إذا ظهر للقاضي أنه يضربها ولا ينفق عليها فحينئذٍ يفرض لها النفقة. وإن لم يكن الزوج صاحب مائدة فالقاضي يفرض نفقة لها كل شهر، وأمر بأن يعطيها هكذا ذكر في «الكتاب» ، وعلى قياس المسألة الأولى ينبغي أن يكون الزوج هو الذي يلي الإنفاق إذا ظهر للقاضي مطل الزوج وظلمه على ما ذكرنا فحينئذٍ يفرض. قال: وليس في النفقة عندنا التقدير لازم، لأن المقصود من النفقة الكفاية وذلك مما يختلف فيه طباع الناس وأحوالهم، ويختلف باختلاف الأوقات أيضاً، وفي التقدير بمقدار.... بأحديهما، والذي قال في «الكتاب» : (إن) كان الزوج معسراً فرض لها القاضي من النفقة كل شهر أربعة دراهم فهذا ليس تقدير لازم لأن هذا يختلف باختلاف الأسعار في الغلاء والرخص، واختلاف المواضع، واختلاف الأوقات فكان في التقدير بالدراهم إضرار بأحدههما فلا يعتبر ذلك إلا أن محمداً رحمه الله ذكر التقدير بالدراهم بناءً على ما بينا، هذا في زمانه الذي يحق على القاضي (أما) في زمننا اعتبار الكفاية

بالمعروف فيما يفرض في كل وقت ومكان، و «الأصل» فيه قوله عليه السلام لهند: «خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك ولولدك بالمعروف فيما يفرض» والمعنى في ذلك أن في النفقة معنى الصلة، والصلات شرعت على وجه يكون فيه نظر من الجانبين والنظر للجانبين أن يتقيد بالمعروف بلا سرف ولا تقتير، قال: وكما يفرض القاضي لها قدر الكفاية من الطعام، وكذا من الإدام والدهن، أما الإدام فلأن الخبز لا يتناول عادة إلا....، وأما الدهن فلأنه لا يستغنى عنه خصوصاً في ديار الحر من أصول الحوائج. قال: والجواب في الكسوة كالجواب في النفقة يريد به أن القاضي يفرض لها من الكسوة للشتاء والصيف ما يكفيها بالمعروف بقوله تعالى: {رزقهن وكسوتهن بالمعروف} (البقرة: 233) والمعنى فيه أن بقاء النفس عادة بهما، والحاجة إلى ذلك تختلف باختلاف الأوقات فيقضي لها في كل وقت ما تحتاج إليه بالمعروف غير أن الكسوة تفرض عليها في كل ستة أشهر، لأن حاجتها إلى الكسوة مما يختلف باختلاف الشتاء والصيف فيقضي لها في كل فصل بقدر الحاجة، والنفقة تفرض في كل شهر ويدفع إليها؛ لأنه متعذر على القاضي أن (يفرض) لها النفقة في كل ساعة، وتعذر عليه أن يفرض لها في جميع مدة النكاح لأن ذلك مجهول فقدرناه بكل شهر لأنه أقل الآجال المعتاد فيها بين الناس. فرع على هذه الأفعال إذا فرض القاضي لها نفقة شهر فلم يدفع الزوج ذلك فأرادت المرأة أن تطلب كل يوم فإنما تطلب عند المساء لأن حصة كل يوم معلوم فيمكنها المطالبة بذلك، ولا كذلك ما دون اليوم لأنه مقدر بالساعات فلا يمكن اعتبارها قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : ما ذكر محمد رحمه الله: أن النفقة تفرض لها شهراً فشهراً ليس بتقدير لازم، إنما ذلك بناء على عاداتهم وبعض المتأخرين من مشايخنا قالوا: يعتبر في ذلك حال الرجل، فإن كان محترفاً تفرض عليه النفقة يوماً فيوماً، فإن كان من التجار تفرض عليه النفقة شهراً فشهراً، وإن كان من الدهاقين تفرض عليه النفقة سنة فسنة لأن تيسير الأداء على الدهاقين عند إدراك الغلة في كل سنة وتيسير الأداء على التجار عند حال غلة الحوانيت وغيرها في كل شهر، وتيسير الأداء على المحترف بالاكتساب كل يوم هو، ثم في ظاهر رواية «الأصل» : المعتبر في فرض النفقة (على) حال الزوج في اليسار والإعسار، وهكذا ذكر في «شرح القدوري» : وهذا بقوله تعالى: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} (البقرة: 236) وقال الله تعالى: {فلينفق مما أتاه الا يكلف انفسا إلا ما أتاها} (الطلاق: 7) وذكر الخصاف في «النفقات» أنه يعتبر حالهما في اليسار والإعسار حتى

لو كانا موسرين كان لها نفقة الموسرين، ولو كانا معسرين فلها نفقة المعسرين، وإن كانت موسرة فيقال له: تكلف إلى أن يطعمها ما يأكل بنفسه، ولا ما كانت المرأة تأكل في بيت أهلها، ولكن يطعمها فيما بين ذلك يطعمها خبز البر وناخة أو ناختين فهذا، فهو معنى..... (304ب1) . وإشارة الخصاف في «أدب (القاضي) » :...... في بعضها يسير إلى أن يعتبر حال الزوج وفي بعضها يسير إلى أنه يعتبر حالهما، قال مشايخنا رحمهم الله: والمستحب للزوج إذا كان موسراً مقراً اليسار، والمرأة فقيرة أن يأكل معها ما يأكل بنفسه لأنه مأمور بحسن العشرة معها وذلك في أن يؤاكلها لتكون نفقته ونفقتها سواء. قال في «الكتاب» : وكل جواب عرفته في فرض النفقة من اعتبار حال الزوج أو اعتبار حالها فهو الجواب في الكسوة؛ إذ المعنى لا يختلف قال: وإذا فرض القاضي للمرأة ما تحتاج إليه من الدقيق وسائر المؤن فقالت: أنا لا أعمل ولا أخبز ولا أطبخ ولا أعالج شيئاً معها فإنها لا تجبر على ذلك، وعلى الزوج أن يأتيها بمن يكفيها عمل الطبخ والخبز وما أشبهه، وهذا لأن الواجب لها على الزوج الطعام قال الله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} (المائدة: 89) والطعام ما يمكن تناوله، والدقيق والحنطة مما لا يمكن تناولها ويجب على الزوج أن يجعل الحنطة والدقيق مهيأة، وذلك بالخبز والطبخ هكذا ذكر الخصاف في «آداب القاضي والنفقات» قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: في نكاح «الفتاوى» هذا إذا كانت المرأة بها علة لا تقدر على هذه الأعمال، وهي ممن تخدم بنفسها لا يجب على الزوج أن يأتيها من يعمل هذه الأعمال، لأنها متعينة في ذلك. وقال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: إذا امتنعت المرأة من الخبز والطبخ وأعمال البيت كان للزوج أن يمتنع من الإدام أيضاً، ويعطيها خبز البر ما يمكن أكلها من وجه ويقول: هو طعام وليس علي سوى الطعام، وكذلك إذا طلبت الفواكه كان للزوج أن يمتنع عن بعض الفواكه، وإن أعطاها خبز الشعير لا بد من الإدام لأنه لا يمكن تناوله ولكن لا يجبر على ذلك في الحكم ومتى أقامت الأعمال في البيت فالزوج يؤدي هذه الأشياء إليها ويوصي بذلك ديانة لا جبراً أو حكماً، ثم على ظاهر الرواية فرق بين نفقة المرأة وبين نفقة خادمتها، فإن خادمتها إذا امتنعت عن هذه الأعمال لا تستحق النفقة على زوج مولاها. والفرق: وهو أن نفقة الخادم إنما تجب بإزاء الخدمة، فإذا امتنعت عن هذه الأعمال ثم يوجد ما تستحق هي النفقة بمقابلها، وأما نفقة المرأة أنها تجب بإزاء التمكن وقد مكثت فلا يجب عليها هذه الأعمال، هذا الذي ذكرنا، كله إذا كان الزوج حاضراً، فإما إذا كان الزوج غائباً وله مال حاضر في بيته فطلبت من القاضي أن يفرض لها النفقة فإن كان القاضي يعلم بالنكاح بينهما، فرض لها النفقة في ذلك المال، لأن هذا إبقاء لحق

المرأة وليس بقضاء على الزوج بالنفقة، لأن النفقة واجبة على الزوج بحكم الزوجية قبل قضاء القاضي، والقاضي عرف قيام الزوجية ههنا، إنما الحاجة إلى الإبقاء والإبقاء لا يمتنع بسبب الغيبة ألا ترى أن من أقر بدين ثم غاب وله مال حاضر من جنس الدين، فطلب صاحب الدين من القاضي الإنفاق أجابه القاضي إلى ذلك فههنا كذلك. و «الأصل» في ذلك حديث هند على ما عرف، ولكن ينبغي للقاضي أن ينظر للغائب، وذلك: في أن يخلعها إن لم يعطيها النفقة، لجواز أن يكون أعطاها النفقة قبل أن يغيب وهو يلتبس على القاضي ليأخذ نائباً فإذا خلعت أعطاها النفقة وأخذ منهما كفيلاً هكذا، ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» ، وذكر في «أدب القاضي» للخصاف أن القاضي إذا استوفى منها بكفيل فحسن، وإن لم يأخذ كان جائزاً، والصحيح ما ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، لأن القاضي نصب ناظراً لكل من عجز عن النظر لنفسه بنفسه، والغائب هنا عجز عن النظر بنفسه فيجب على القاضي أن ينظر له، ونظره ههنا في أخذ الكفيل لجواز أن يخص ويقيم بينة أنه كان أوفاها النفقة، أو يقيم بينة أنه أرسل إليها بالنفقة..... الزوج وقال: كنت أوجبت النفقة أو أرسلت إليها بالنفقة، فالقاضي يقول له: أقم البينة، فإن أقام البينة عنده أمرها القاضي بردها أخذت لأنه ظهر عند القاضي أنها أخذت بغير حق، وللزوج الخيار إن شاء أخذها بذلك، وإن شاء أخذ من الكفيل وإن لم يكن للزوج بينة وحلفت المرأة على ذلك فلا شيء على الكفيل، وإن نكلت عن اليمين ونكل الكفيل لزمها وللزوج الخيار على ما قلنا، هذا إذا كان النكاح منهما معلوماً للقاضي، أما إذا لم يكن النكاح بينهما معلوماً للقاضي وأرادت المرأة أن تقيم البينة على النكاح لم يقبل القاضي ذلك منها ولا يعطيها النفقة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، لأن هذا قضاء على الغائب، لأن دفع ماله إليها لتنفق هي على نفسها لا يكون إلا بعد القضاء بالنكاح والزوجية فيكون قضاء على الغائب فلا يجوز عند زفر رحمه الله، (أن) يسمع القاضي البينة منها ولا يقضي بالنكاح ويعطيها القاضي النفقة من مال الزوج، وإن لم يكن للزوج مال يأمرها بالاستدانة..... الزوج وأقر بالنكاح أمره بقضاء الدين، وإن أنكر ذلك كلفها القاضي بإعادة البينة فإن لم تقدر أمرها بردها ما أخذت ولم يقضي لها بشيء بما استدانت على الزوج فهذا قول زفر رحمه الله، وهو قول أبي يوسف رحمه الله ذكر الخصاف قول أبي يوسف رحمهما الله وفي «النفقات» فيحتمل أن ما ذكره الخصاف في «النفقات» ، فعن أبي يوسف رحمه الله الأول كما نص عليه في «مختصر الكافي» ، وكان أبو حنيفة رحمه الله أولاً يقول يقضي بالنفقة على الغائب، وهو قول إبراهيم ثم رجع إلى قول شريح فقال: لا يقضي قولاً واحداً، وما يفعله القضاة في زماننا من قبول البينة من المرأة وفرض النفقة على الغائب، إما ينفذ لأنه قول علمائنا الثلاث

رحمهم الله في ظاهر الرواية لك لكونه مختلفاً فيه إما مع زفر أو مع أبي يوسف رحمهما الله على ما ذكر الخصاف رحمه الله فينفذ لكونه قضاء في فصل مجتهد فيه وهو أرفق بالناس ثم على قول من يقول بفرض النفقة في هذه المسألة لا تحتاج المرأة إلى إقامة البينة أن الزوج لم يخلفه النفقة، الدليل عليه الخصاف ذكر في «أدب القاضي» أنها إذا ادعت أنها زوجة فلان ولم نحلفها (305أ1) نفقه، ثم قال: إن أقامت بينة أنها زوجة فلان، القاضي يفرض لها عند أبي يوسف رحمه الله، ولم يقل إقامة البينة أن الزوج لم يخلفها نفقة، هذا الذي ذكرنا كله كأن المال في بيت الغائب، فإن احضرت المرأة غريماً للزوج أو مودعاً في يديه مال الزوج فإن كان القاضي يعلم بالنكاح وبالوديعة والدين يقضى لها بالنفقة لما قلنا، فإن أنفق المودع أو المديون على والد المودع أو ولده، أو امرأته بغير أمره يضمن الآمر والمديون لكن لا يرجع المنفق على من انفق، وإن لم يكن الحال معلوماً، وإن كان المودع والمديون مقرين بالزوجية وبالمال أمرهما القاضي بإعطاء النفقة من ذلك، لأنه ثبت النكاح والمال للغائب بتصادقهما جميعاً فوجب على القاضي إبقاء حقها من ذلك المال كما لو كان هذا المال في بيت الزوج. وهذا بخلاف دين آخر على الغائب فإن صاحب الدين لو أحضر غريماً أو مودعاً للغائب لم يأمره القاضي بقضاء الدين، وإن كان مقراً بالمال وبدينه. والفرق: وهو أن القاضي إنما يأمر في حق الغائب بما يكون نظراً له وحفظاً لملكه عليه، وفي الإنفاق على زوجته من ماله حفظ ملكه عليه، وليس في قضاء الدين من ماله حفظ ملكه عليه يد فيه قضاء عليه بقوله الغير هذا لا يجوز، وإن جحد المال للغائب، أو جحدالنكاح أو جحدت كلاهما لم يقبل منهما على شيء من ذلك، أما على المال فلأنها بهذه البينة بينت الملك للغائب، وليس بخصم في إثبات الملك للغائب، وأما على الزوجية فما ذكر في «الكتاب» أنه لا يقبل منهما، قول محمد رحمه الله وهو قول أبي حنيفة رحمه الله الآخر وأبي يوسف رحمه الله الأول الآخر، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله الأول وهو قول أبي يوسف رحمه الله الأول يقبل منهما بالبينة، ولكن على قول أبي حنيفة رحمه الله يقضي بينهما بالنكاح، وعلى قول أبي يوسف الأول يقضي، هكذا ذكر الخصاف في «نفقاته» . وذكر في «القدوري» : قول أبي حنيفة الأول رحمه الله والآخر كما ذكر الخصاف ولم يتعرض لقول أبي يوسف رحمه الله وإنما لم يقبل منها هذه البينة على النكاح لأنها بهذه البينة بينت النكاح على الغائب والمودع والمديون ليسا بخصم في إثبات النكاح على الغائب هذا الذي ذكرنا إذا كان للزوج مال خاص، فإذا لم يكن للزوج مال خاص فطلبت من القاضي أن يسمع بينتها على النكاح ويفرض لها ذلك، لأن هذا قضاء على الغائب، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله النفقة على الغائب ويأمرها بالاستدانة لم يجيبها إلى شيء من ذلك، لأن هذا قضاء على الغائب وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله الآخر، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله، أما على قول أبي حنيفة الأول رحمه الله وهو قول زفر

رحمه الله: يجيبها إلى ذلك، ذكر قول أبي حنيفة الأول رحمه الله في «السير الكبير» فكان لأبي حنيفة رحمه الله في جواز القضاء على الغائب روايتان فكان هذا فصلاً مجتهداً فيه، فكان للقضاء محلاً فيه. وذكر في «أدب القاضي» : للخصاف إذا لم يكن للزوج مال خاص والقاضي يعلم بالنكاح فطلبت من القاضي أن يفرض لها النفقة ويأمرها بالاستدانة لا يجيبها إلى ذلك خلافاً لزفر رحمه الله فكان هذا فصلاً مجتهداً فيه فكان للقضاء فيه مجالاً، والذي ذكرنا في النفقة كذلك في الكسوة، وهذا الذي ذكرنا كله إذا كان مال الغائب في ملكه، وما كان وديعة عندإنسان من جنس كسوتها، أو كان طعاماً له، فأما إذا كانت الوديعة والمال الذي في بيت الزوج من خلاف جنس حقها ليس لها أن تبيع شيئاً من ذلك في نفقة نفسها، وكذلك القاضي لا يبيع ذلك في نفقتها عند الكل أما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأن البيع إنما يكون على طريق الحجر، والحجر عند أبي حنيفة رحمه الله على الحر العاقل البالغ لا يصح، وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فكذلك الجواب، لأن عندهما إنما يبيع القاضي على الحاضر الممتنع فأما الغائب فلا يعلم امتناعه فلا يبيع القاضي قال: وينفق القاضي عليها من غلة الدار والعبد الذي هو للغائب على الوجه الذي قلنا قبل هذا. قال في «الكتاب» عقيب هذه المسائل، وفي كل موضع كان للقاضي أن يقضي لها بالنفقة في مال الزوج فلها أن تأخذ من مال الزوج ما يكفيها بالمعروف وبغير قضاء، قال عليه السلام لهند امرأة أبي سفيان: «خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف» قال: وإذا طلبت المرأة من القاضي أن يفرض لها النفقة وعلى زوجها وكان للزوج على المرأة دين فقال الزوج: احسبوا لها نفقتها منه كان له ذلك، لأن الدينين من جنس واحد فتقع المقاصة كما في سائر الديون، إلا أن في سائر الديون تقع المقاصة تقاصا أو لم يتقاصا، وههنا تحتاج إلى رضا الزوج لوقوع المقاصة، وإنما كان هكذا لأن دين النفقة أنقص من سائر الديون، فإن سائر الديون لا تسقط بالموت، ودين النفقة يسقط كما يتبين بعد هذا إن شاء الله تعالى فكان دين الزوج أقوى فلا تقع المقاصة إلا بنصاب الزوج كما لو كان أحد الدينين جيداً والآخر رديئاً، فإذا قال الزوج: احسبوا لها نفقتها منه فقد رضي بوقوع المقاصة فتقع المقاصة قال: وإذا فرض القاضي للمرأة الكسوة فهلكت أو سرقت منها أو صرفتها قبل الوقت فليس عليه أن يكسوها حتى يمضي الوقت الذي لا تبقى إليه الكسوة هكذا قال في الكتاب. و «الأصل» في هذه المسألة، بل إن القاضي متى ظهر له الخطأ في التقدير يعني التقدير معتبراً فيما لم يمض الوقت الذي قدره القاضي لا يقضي لها بكسوة أخرى أما إذا ظهر الخطأ في التقدير جعل وجود هذا التقدير وعدمه بمنزلة القاضي (إذا) قضى لها بالكسوة

ولم يؤقت لها وقتاً فتخرقت من غير إسراف، وهناك يقضيلها بكسوة أخرى كذا ههنا إذا ثبت هذا فنقول، إذا هلكت الكسوة أو سرقت قبل الوقت لم يبين خطأه.... فلا يقضي بكسوة أخرى حتى تمضي تلك المدة وإن تمزقت الكسوة بالاستعمال قبل مضي الوقت ينظر إن تخرقت لخرق استعمالها لم يتبين الخطأ في التقدير..... فلا يقضي بكسوة أخرى حتى يمضي ذلك الوقت، أو إن تمزقت بالاستعمال المعتاد تبين الخطأ وفي التقدير لأنه وقت (305ب1) وقتاً لا تبقى الكسوة إلى ذلك الوقت فيقضي لها بكسوة أخرى، وكذلك الجواب في النفقة إذا أساءت أو سرقت أو أكلت أو أسرفت أو لم تسرف وكان ذلك قبل مضي الوقت فهو على ما قلنا في الكسوة. فرق بين كسوة الزوجات ونفقتهن وبين كسوة الأقارب ونفقتهن فإن القاضي إذا فرض للأقارب الكسوة أو النفقة فضاعت من أيديهم قبل مضي الوقت، وإن القاضي يفرض لهم مرة أخرى. والفرق وهو: أن نفقة الأقارب إنما تستحق باعتبار الجماعة ولهذا لا تستحق مع الغنى، ومتى ضاعت الكسوة والنفقة قبل الوقت فقد تجددت الحاجة، أما نفقة المرأة لا تستحق النفقة باعتبار الحاجة ولهذا تستحق المرأة النفقة مع الغنى وإنما تستحق كتابة وبالضياع قبل مضي المدة لا يتبين أنها لم تكن كافية لتلك المرأة، فأما إذا مضت المدة وكسوة المرأة ما..... فإن لم تستعمل تلك الكسوة أصلاً حتى مضى الوقت يفرض القاضي لها كسوة أخرى إذا لم يظهر خطأ القاضي في التقدير، فإن استعملت تلك الكسوة، فإن استعملت معها كسوة أخرى في تلك المرة يفرض لها كسوة أخرى لأنها لما استعملت مع هذه الكسوة كسوة أخرى في تلك المدة لم يظهر قضاء القاضي في التقدير، وإن لم تستعمل مع هذه الكسوة كسوة أخرى لا يفرض لها كسوة أخرى لأنه ظهر خطأ القاضي في التقدير حيث وقَّت وقتاً تبقى الكسوة وراء ذلك الوقت، فرق بين هذا وبينما إذا فرض لها القاضي عشرة دراهم نفقة شهر بمضي الشهر وقد بقي من العشرة شيء حيث يقضي لها القاضي بعشرة أخرى. والفرق: أن في باب النفقة لم يظهر خطأ القاضي في التقدير يتعين بجواز أنه إنما بقي من العشرة شيء...... وحرمتها في الإنفاق على نفسها فبقي التقدير معتبراً فيقضي القاضي لها بعشرة أخرى. أما في باب الكسوة إذا لُبِسَت جميع المدة ولم يتخرق فقد ظهر خطأ القاضي في التقدير فيتعين لانتفاء أنه لم يوجد منها التغير في اللبس. فرق بينه وبين نفقة الزوجات وكسوتهن، وبين نفقة المحارم وكسوتهم، فإن في الأقارب إذا مضى الوقت وبقي شيء من الدراهم وبقيت الكسوة، فالقاضي لا يقضي بأخرى في الأحوال كلها.

والفرق ما ذكرنا أن نفقة الأقارب وكسوتهم إنما تستحق باعتبار الحاجة فما بقي شيء من الدراهم، أو بقيت الكسوة لا حاجة إلى الأخرى أما نفقة المرأة إنما تستحق عوضاً عن الاحتباس في بيت الزوج من وجه، القاضي إنما جعل هذا المال عوضاً عن احتباس مقدر، فإذا لم يظهر خطأ القاضي في التقدير بتعين...... حيناً آخر لم يأخذ...... عرضاً فيقضي لها بإخرى، فهذا هو الفرق بينهما قال: وإذا قضى القاضي لها ما لا يكفيها. فلها أن ترجع عن ذلك لأنه ظهر خطأ القاضي حين قضى بما لا يكفيها فعليه أن يتدارك الخطأ بالقضاء لها بما يكفيها، وكذلك إذا فرض القاضي على الزوج زيادة على ما يكفيها فله أن يمنع عن الزيادة لأنه ظهر خطأ القاضي حيث فرض لها زيادة على ما يكفيها، وذكر في «الحاوي في الفتاوي» : أن القاضي إذا فرض لها بالأقل من الدراهم لو خص الطعام فعلاً، أو كان على العكس كان لها أن تطالب بالزيادة وله أن يمتنع عن الزيادة. قال: وإذا فرض على المعسر نفقة المعسرين ثم أيسر تفرض عليه نفقة الموسرين عند طلبها لأن النفقة تجب شيئاً فشيئاً على ما يأتي بعد هذا، فتعتبر حاله في كل وقت فكما لا يستأنف القضاء بنفقة المعسرين بعدالنسيان لا يستديم ذلك القضاء أيضاً. النوع الرابع في نفقة خادم الزوجة قال في «الكتاب» : وإذا كان زوج المرأة موسراً وللمرأة خادم واحد فرض على الزوج نفقة ذلك الخادم، لأنه لا بد لها من خادم واحد يقوم بخدمتها، ويلي أمور بيتها حتى تتفرغ المرأة لحوائج الزوج فكان ذلك من حوائج المرأة منفعة تعود إلى الزوج فيكون ذلك على الزوج ألا ترى أنه كما يفرض للقاضي كفاية في مال بيت المال، نفرض كفاية خادمة أيضاً كذا ههنا، وهذا إذا كانت المرأة حرة، وإن كانت أمة لا تستحق نفقة الخادم على زوجها لأن الأمة خادمة في نفسها لا تستحق نفقة الخادم.r فإن كان لها خادمان أو أكثر على قول أبي حنيفة ومحمد رحمه الله: لا يفرض لأكثر من خادم وقال أبو يوسف رحمه الله يفرض لخادمين، لأنها تحتاج إلى خادمين، أحدهما مأمور داخل البيت، والآخر مأمور خارج. ولهما: أن حاجة المرأة ترتفع بخادم واحد عادة، وما زاد على ذلك الزينة والتجمل، ووجوب النفقة على الزوج للكفاية دون الزينة والتجمل. فرق أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله بين الزوجة والأولاد، فإنه إذا كان للرجل

الموسر أولاد لا يكفيهم خادم واحد عادة في الزيادة على الواحد غير محتاج إليه عادة، وأما الأولاد إذا كثروا لا يكفيهم خادم واحد يجاز أن يفرض عليه نفقة خادمين أو أكثر مقدار ما يكفيهم، والاختلاف في هذه المسألة نظير اختلافهم في العادة إذا...... قوسين لا يسهم له إلا بفرض واحد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله بسهم قوسين. وذكر في «فتاوى أهل سمرقند» : رحمهم الله قيل: إن المرأة إذا كانت من بنات الأشراف ولها خدام كثر، خيّر الزوج على نفقة خادمين، لأن مثل هذه المرأة تحتاج إلى خادمين ليقوم أحديهما بأمور داخل البيت، والأخر بأمور خارج البيت من الرسالة وغيرها، وعن أبي يوسف رحمه الله في رواية أخرى أن المرأة إذا كانت بنت زفت إلى زوجها مع خدم كثير استحقت نفقة الخدم كلها على الزوج، فإن قال الزوج لامرأته: لا أنفق على أحد من خدمك، ولكن أعطي خادماً من استخدمك فأبت المرأة لم يكن للزوج ذلك ويخير على نفقة خادم واحد من خدم المرأة لأن المرأة عسى لايتهيأ لها الاستخدام من خدم الزوج قال: وإن لم يكن للمرأة خادم لا تفرض نفقة الخادم على الزوج في ظاهر الرواية عن أصحابنا الثلاثة رحهمهم الله لأن استحقاقها نفقة الخادم باعتبار ملك الخادم فإذا لم يكن لها خادم كيف تستوجب نفقة الخادم وهو نظر القاضي إذا لم يكن له خادم لا تستحق كفاية الخادم من مال بيت المال كذا هذا الذي ذكرنا كله إذا كان الزوج موسراً فإذا كان معسراً لم يفرض (306أ1) عليه نفقة الخادم في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله وإن كان لها خادم، وقال محمد رحمه الله: يفرض إذا كان لها خادم. وجه قول محمد رحمه الله: أنه إذا كان لها خادم وهذه المرأة لم تكتف بخدمة نفسها، فيجب على الزوج نفقة خادمها كما في حالة اليسار. وجه رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أن المرأة قد تكتفي بخدمة نفسها، واستعمال الخادم لزيادة الترفيه، وذلك معتبر في حالة اليسار دون حالة العسار؛ لأن المعيشين يلزمه أدنى الكتابات ولا يلزمه الزيادة على ذلك. ثم اختلف مشايخنا في الخادم إن..... خادم المرأة تستحق المرأة النفقة على (زوجها) ، منهم من قال: المملوكة لها حتى لو كانت حرة أو لم يكن لها مملوكة لا تستحق، ومنهم من قال: كل من يخدمها حرّةً كانت أو مملوكةً لها أو لغيره تستحق النفقة. قال: ولا تقدّر نفقة الخادم بالدراهم على ما ذكرنا في نفقة المرأة بل يفرض لها ما يكفيها بالمعروف، ولكن لا تبلغ نفقة خادمها نفقتها لأن الخادم تبعٌ للمرأة فتنقص نفقة الخادم عن نفقتها حتى يظهر مؤنتها على الخادم. قال: فإن كان للمرأة مماليك كثيرة حتى وجب على الزوج نفقة خادم واحد عند أبي

حنيفة ومحمد رحمهما الله فقالت المرأة للزوج: أنفق عليهم من مهري ففعل، فقالت هي: لا، أحتسب من مهري لأنك استخدمتهم. قال في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: ما أنفق عليهم بالمعروف فهو محسوب عنه؛ لأنه أدنى ما وجب على المرأة بأمر المرأة للمرأة على الزوج المهر، فبقدر ما أنفق عليهم بالمعروف يكون محسوباً عليه. قال في «الكتاب» : وفي كل موضع يفرض القاضي نفقة الخادم على الزوج، يفرض الكسوة للخادم أيضاً، والكسوة للخادم على المعسرة في الشتاء قميصان وإزاراً..... كأرخص ما يكون. وفي الصيف قميص مثل ذلك وإزار. وعلى الموسر في الشتاء: قميص قطني وإزار..... كأرخص ما يكون وفي الصيف قميص مثل ذلك وإزار فقد أوجب لها في الشتاء من الكسوة أكثر مما أوجب في الصيف، وإنما فعل كذلك كما قلنا في المرأة ثم لم يفرض لخادمها الخمار. وقد ذكرنا في كسوة المرأة الخمار، وإنما كان هكذا؛ لأن الحاجة إلى الخمار ليستر الرأس، ورأس المرأة عورة، أما رأس الخادمة ليس بعورة، وفرض لها الإزار؛ لأن الخادمة تحتاج إلى الخروج لتهيء أمور خارج البيت، فتحتاج إلى الإزار، وقد ذكرنا اختلاف المشايخ في إزار المرأة. قال في «الكتاب» : ولخادم المرأة المكعب والخف بحسب ما يكفيها، وقد فرض للخادم المكعب والخف ولم يفرض للمرأة ذلك، لأنه لا حاجة للمرأة إلى ذلك، فإنها لا تحتاج إلى الخروج والتزور، والخادم يحتاج خادم. قال مشايخنا رحمهم الله: وما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : من بيان الخادم فهو بناءً على عاداتهم، وذلك يختلف باختلاف الأمكنة في شدة الحرّ والبرد باختلاف العادات في كل وقت. فعلى القاضي اعتبار الكفاية في كسوة الخادم، وكسوة المرأة لما ذكرنا في النفقة. النوع الخامس في الخصومة في نفقة الأزمنة الماضية قال: وإذا خاصمت المرأة زوجها في نفقة مضى من الزمان قبل أن يفرض القاضي لها النفقة وقبل أن يتراضيا على شيء، فإن القاضي لا يقضي لها بنفقة مضى عندنا، وعند الشافعي رحمه الله: يقضِ، وأجمعوا أن بعد فرض القاضي لها النفقة أو بعد تراضيهما على شيء نفقة كل شهر لو غاب الزوج عنها شهراً أو حُبس، أو كان حاضراً وامتنع من الإنفاق، وقد استدانت على الزوج أو أكلت من مال نفسها كان لها أن تأخذ (من) الزوج بنفقة ما مضى.

وأصل المسألة: أن نفقة الزوجات تصير ديناً بقضاء القاضي أو بتراضيهما على شيء معلوم لكل شهر بالإنفاق أما قبل قضاء القاضي وقبل تراضيهما لا يصير ديناً عليه عندنا. وعندالشافعي رحمه الله يصير ديناً. وجه قول الشافعي رحمه الله: أن النفقة عوض عن الاحتباس في بيت الزوج والمنفعة تعود إلى الزوج، بدليل أنه إذا فات الاحتباس بأن تسترت لا تستحق النفقة، والأعواض تصير ديناً من غير قضاء ولا رضاء متى دخل سببه كما في الأجرة والثمن. وإنا نقول: بأنّ النفقة عوض في وجه صلة من وجه؛ لأن النفقة بأداء الاحتباس، وفي الاحتباس: إن كان حق الزوج من حيث الاستمتاع وقضاء الشهوة منها وإصلاح أمر المعيشة ففيه حق التبرع من حيث يحصل الولد وصيانة كل واحد منهما عن الزنا من حيث إن الاحتباس حق الزوج إن أمكن جعل النفقة عوضاً عنه، فمن حيث إنه حق الشرع...... حق الشرع ملحقة على كل إنسان لا يصلح أن يكون عوضاً عنه، فكان عوضاً من وجه صلة من وجه، فمن حيث إنها صلة لا تصير ديناً عن غير قضاء ولا رضاء، كنفقة الأقارب، ومن حيث إنها عوض تصير ديناً إذا وجد القضاء أو التراضي عملاً بالدليلين بقدر الإمكان. وكذلك لو استدانت المرأة على زوجها نفقة مثلها قبل فرض القاضي وقبل التراضي منهما على شيء فإنها لا ترجع بذلك على الزوج؛ لأنها لو رجعت إما أن ترجع بحكم أنها صارت مستدينة على الزوج، ولا وجه إلى ذلك؛ لأنه ليس لها ولاية إيجاب الدين على الزوج. وإما أن ترجع بحكم أن نفقتها صارت ديناً في ذمته، ولا وجه إليه أيضاً؛ لما ذكرنا أن نفقة الزوجة لا تصير ديناً إلا بقضاء القاضي أو التراضي ولم يوجد شيء من تلك النفقة في الطلاق. وإن هذا الجواب قول أبي حنيفة الآخر رحمه الله، وأما على قوله الأول: كان لها أن ترجع بنفقة مثلها على الزوج، فكان على قول أبي حنيفة الأول رحمه الله نفقة الزوجة تصير ديناً على الزوج قبل قضاء القاضي وقبل التراضي منهما، كما هو قول الشافعي رحمه الله. قال: وإذا فرض القاضي لها على الزوج كل شيء......، أو تراضيا على نفقة كل شهر فمضت أشهر ولم يعطها شيئاً من النفقة وقد كانت استدانت فأنفقت من مال نفسها ثم بان الزوج أو ماتت المرأة سقط ذلك كله عندنا، وعند الشافعي رحمه الله لا يسقط بناءً على أن النفقة عندنا (306ب1) تستحق استحقاق الصلات من وجه الصلات فتسقط بالموت قبل القبض، وعند الشافعي رحمه الله: تستحق استحقاق العوض من كل وجه، والعوض لا يسقط بالموت قبل القبض، وشبه هذا في «الكتاب» لمن وجبت عليه الحرمة ثم مات، وهناك لا تستوفي الحرمة من تركته كذا ههنا. وكذلك لو طلقها الزوج في هذا الوجه يسقط ما اجتمع عليه من النفقات بعد فرض

القاضي، كذا ذكر عن القاضي الإمام أبي الحسن علي بن الحسن بن الخضر النسفي رحمه الله، وكان يقول: وجدنا رواية هذه المسألة في كتاب الطلاق. وذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا وقعت المخاصمة بين الزوجين في أمر النفقة فيو سطان الزوج وأعطاها شيئاً ثم طلقها الزوج ليس لها استرداد ما تطوع به، وشبهه بالذمي إذا اجتمع عليه جراح رأسه ثم أسلم يسقط ما كان اجتمع عليه. ووجه التشبيه به: أن الذمي إنما كان يوجد منه جراح الرأس لإصراره على الدين الباطل وقد زال ذلك المعنى بالإسلام فتسقط الحرية كذا ههنا المرأة تستحق النفقة بالوصلة التي كانت بينهما، وتلك الوصلة قد انقطعت بالطلاق، هذا الذي ذكرنا إذا فرض لها القاضي النفقة ولم يأمرها بالاستدانة. فأما إذا أمرها بالاستدانة على الزوج فاستدانت ثم مات أحدهما لا يبطل ذلك. هكذا ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في «المختصر» وذكر الخصاف رحمه الله: أنه يبطل أيضاً، والصحيح ما ذكر في «المختصر» : لأن استدانتها بأمر القاضي وللقاضي ولاية عليهما بمنزلة استدانة الزوج بنفسه ولو أن الزوج استدان بنفسه لا يسقط ذلك الدين بموت أحدهما كذا ههنا، وكذلك في مسألة الطلاق يجب أن يكون الجواب هكذا. ومما يتصل بهذا النوع ما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : لو عجل الزوج لها نفقة مدّة ثم مات أحدهما قبل مضي الموت لم يرجع عليها ولا في تركتها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: يدفع عنها بحصة ما مضى ويجب رد الباقي إن كان قائماً، وقيمة الباقي إن كان مستهلكاً. وجه قول محمد رحمه الله: أنها أحدثت ذلك من مال الزوج لمقصود، ولم يحصل ذلك المقصود له، وكان له أن يستردها منها كما لو عجل لها نفقة لزوجها فماتت قبل أن يتزوجها. ولأبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: أنها صلةٌ من وجهٍ على ما ذكرنا، وحق الاستراد في الصلات ينقطع بالموت، كالرجوع في الهبة. وروي عن محمد رحمه الله: أنها إذا قبضت نفقتها شهراً فما دونه لم يرجع عليها بشيء. وكذلك إذا قبضت نفقة أشهرٍ كثيرةٍ فمات أحدهما قبل مضي المدة والباقي من المدة شهراً أو دونه لا يرجع عليها ولا في تركتها بشيء؛ لأن الشهر وما دونه في حكم التيسير فصار كنفقة الحال، وهذا استحسان قال محمد رحمه الله: وإن كان أكثر من الشهر فعلى ما بيّنّا من الاختلاف والله أعلم بالصواب.

النوع السادس في الاختلاف الواقع بين الزوجين في دعوى اليسار والعسار قال في «الكتاب» : روي أن امرأة اختصمت مع زوجها في نفقتها، فقال الزوج: ليس عندي نفقة. فقال لها أبو يوسف رحمه الله: خذي عمامته وانفقيها على نفسك قال الفقيه أبو يوسف رحمه الله: يحتمل أن أبا يوسف رحمه الله عرف أن له عمامة أخرى، وأما لو لم يكن له عمامة أخرى لا يجب عليه أن يبيع هذه العمامة في النفقة ولا في سائر الديون وفي «شرح أدب القاضي للخصاف» إنه لا يجب عليه أن يبيع مسكنه وخادمه لأن هذا من أصول حوائجه وحاجته مقدمة على سائر الديون ويبيع ما سوى ذلك. ومن المشايخ من قال: لا يجب عليه بيع الإزارات به حاجة إلى الإزار وهي الحاجة إلى ستر العورة. وأما ما سوى الإزار يجب عليه أن يبيع الإزار إذا كان موضع برد، فحينئذٍ يترك لنفسه ما يدفع ضرر البرد، ويبيع ما سوى ذلك. ومن المشايخ من قال: يترك لنفسه دستاً من الثياب ويبيع ما سوى ذلك. وإليه مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. ومن المشايخ من قال: يترك لنفسه دستين ويبيع ما سوى ذلك وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وهذا لأن الحاجة ماسّة إلى دستين فإنه إذا غسل أحدهما يحتاج إلى الآخر، وأما إذا كان له ثياب خشنة يمكنه الاكتفاء بما دون ذلك يبيع ثيابه ويشتري بالبعض ثوباً يكفيه وبالباقي يقضي الديون وينفق على زوجته به ورد الأثر هكذا ذكر في «شرح أدب القاضي» : للخصاف في باب الملازمة. قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : وإذا فرض القاضي نفقة المرأة على الزوج فامتنع الزوج من الإنفاق فقال: أنا معسرٌ، وقالت: لا بل هو موسرٌ وطلبت المرأة من القاضي أن يحبسه بالنفقة لا يحبسه القاضي أول مرة؛ لأن الحبس عقوبة لا يستوجبها إلا الظالم ولم يظهر ظلمه في أول مرة فلا يحبسه، ولكن يأمره بالإنفاق ويخبره أنه يحبسه إن عادت. فإذا عادت إليه مرتين أو ثلاثة حبسه لظهور ظلمه. وإذا حبسه لا تسقط عنه النفقة ويؤمر بالاستدانة حتى يرجع على الزوج، إذا ظهر له قال: وإنما كان هكذا؛ لأن هذا حبسٌ بحق وجد، وحد المنع من جهته فتلزمه النفقة لما يستقبل وهو في الحبس. فإن قال الزوج للقاضي: احبسها معي فإن لي موضعاً في الحبس خالصاً فالقاضي لا يحبسها معه، ولكنها تصير في منزل الزوج. ويحبس الزوج لها، ثم إذا حبسه القاضي إن علم أنه محتاج خلى سبيله؛ لأنه مستحق للنظر إلى ميسرة بالنص. قال: وينبغي للقاضي إذا حبس الرجل شهرين أو ثلاثة في نفقةٍ أو دينٍ أن يسأل عنه. وفي بعض المواضع ذكر أربعة أشهر. وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أشهر. والحاصل: أنه ليس فيه تقدير لازم؛ لأن الحبس للإنزجار وذلك مما تختلف فيه أحوال الناس فيكون ذلك مفوضاً إلى رأي القاضي، فإن وقع في رأي القاضي أن هذا الرجل يضجر بهذه المدة ويظهِر المال إن كان له مال، سأل عنه بعد ذلك، وذكر (307أ1)

هشام في «نوادره» عن محمد رحمه الله أن للقاضي أن يسأله عن ماله ولم يعتبر في ذلك مدة، فإذا سأل عنه فقامت البينة على عسرته أخرجه القاضي من الحبس ولا يحتاج إلى لفظة الشهادة بل إذا أخبر بذلك يكفي، قال الشيخ الإمام خواهر زاده رحمه الله: هذا السؤال من القاضي بعد حبسه احتياط وليس بواجب؛ لأن الشهادة بالفقر شهادة بالنفي والشهادة بالنفي وليست بحجة فكان للقاضي أن لا يسأل ويعمل برأيه ولكن لو سأل مع هذا كان أحوط وأنفى للتهمه عن القاضي، ثم إذا أخبر أنه معسر وخلّى سبيله لا يحول بين الطالب وبين ملازمته عندنا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّمأنه قال: «لصاحب الحق يد ولسان» والمراد باليد الملازمة فإن أقام المحبوس بينة على عسرته وأقام صاحب الحق بينة على يساره أخذ ببنية صاحب الحق؛ لأن بينته ثبتت أمراً عارضاً ليس بثابت، وبينة المحبوس ثبتت أمراً أصلياً وهو الفقر فكانت بنية صاحب الحق أكثر ثبتت إثباتاً فكانت أولى بالقبول. وإن قامت البينة على عسرته قبل الحبس هل يقبل القاضي ذلك؟ فيه روايتان. في إحدى الروايتين تقبل وبه كان يفتي الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله. وفي رواية أخرى لا تقبل وبه كان يفتي عامة المشايخ وهو الصحيح. قال وإن كان المحبوس....... أدام القاضي حبسه حتى يودي النفقه والدين فبعد ذلك إن كان ماله من جنس النفقة والدين؛ أدى القاضي ذلك من ماله، وإن كان ماله عروضاً وعقاراً فالقاضي لا يبيع شيئاً من ذلك لا في النفقة ولا في الدين إلا برضاه وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قولهما يبيع عروضه في النفقة والدين رواية واحدة. ويبيع العقار أيضاً في أظهر الروايتين عنهما ذكر قولهما في العروض في ظاهر الرواية وفي العقار وجميع الأموال في «أدب القاضي» للخصاف في باب الحبس في الدين، ثم إذا ثبت للقاضي ولاية البيع عندهما يبدأ بالعروض، فإذا لم يف ثمن العروض بالدين والنفقة يشتغل حينئذ ببيع العقار وترتيب الأموال في قضاء الدين وذكره في «الجامع» على سبيل الاستقصاء. ثم قال خواهر زاده رحمه الله في «شرحه» : فيما ذكر في ابتداء هذه المسألة إشارة إلى أن قول الزوج أنه عاجز لكان لا يحبسه، لأن القول قول المرأة في أنه قادر على الإنفاق، فإنه لو كان القول قول الزوج أنه عاجز لكان يحبسه القاضي وإن عادت إليه مراراً، وذكر في كتاب الحوالة والكفالة أنه إذا أوجب المهر على إنسان ولم يوجب دواعي أنه معسر وادعت المرأة أنه قادر فالقول قول المرأة حتى يحبسه القاضي. إذا عادت به إليه مرتين أو ثلاث فقد سوى في «ظاهر الرواية» بين النفقة والمهر والقرض وثمن البيع.

وذكر الخصاف في «أدب القاضي» عن أصحابنا رحمهم الله: أن في النفقة والمهر القول قول الزوج حتى لا يحبس الزوج ما لم تثبت المرأة يساره فصار في النفقة والمهر روايتان. فعلى ظاهر الرواية والمهر وعلى رواية الخصاف لم يجعل هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله. وذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا وقع الاختلاف بين المرأة والزوج، فقال الزوج: أنا معسر وعليّ نفقة المعسرين، وقالت المرأة: لا بل أنت موسر وعليك نفقة الموسرين فالقول قول الزوج مع يمينه وعلى المرأة البينة؛ لأن الفقر في الناس أصل، فالزوج يتمسك بما هو الأصل فيكون القول قوله مع يمينه. وهكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» ولم يذكر أن هذه المسألة على الروايتين، وإنما كان هكذا؛ لأن الإقدام على النكاح يمكن أن يجعل إقراراً بالقدرة على أصل النفقة، أما لا يمكن أن يُجعل إقراراً بالقدرة على نفقة الموسرين فلهذا كانت هذه المسألة على رواية واحدة. ومن المتأخرين...... في المسألة الثانية يحكم فيه وبه. وإن كان عليه دين للأغنياء لم يقبل قوله أنه معسر، لأن الدين علامة على غناه وما ظهر من العلامة يجعل حكماً عند انعدام دليل قوله، قال الله تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة} (التوبة: 46) وقال الله تعالى: في قصة يوسف عليه السلام {إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين} (يوسف: 26) ففي هذا دليل على أن ما ظهر من العلامة يُجعل حكماً فيجعل الدين حكماً إلا في النفقات، فإنهم يتكلفون في الدين مع العسرة لتعطيهم الناس، ولا يُجعل الدين في حقهم حكماً، لظهور العادة بخلافه. فعلى هذا القول إن كان على الزوج دين للفقراء (قالت) المرأة إن هذا غرر به وكان عليه دين الأغنياء قبل أن يحضر مجلس القاضي فإن القاضي يسألها البينة، فإن أقامت البينة على ذلك يسمع القاضي ويجعل القول قولها، وإن لم يمكنها إقامة البينة للحال (يحكم) بحكم الله تعالى في الحال ويجعل القول قول الزوج. ثم فرع على المسألة الثانية فقال على «ظاهر الرواية» إذا لم يكن للمرأة بينة على يساره فسألت القاضي أن يسأل عن يسار الزوج في السر وليس على القاضي ذلك؛ لأن القاضي وجد دليلاً آخر، فإن يعتمد لفصل الحكم وهو التمسك بالأصل فليس عليه أن يطلب دليلاً آخر. فإن سأل فأتاه عنه أنه موسر لا يفرض القاضي عليه نفقة الموسرين، إلا أن يخبره رجلان عدلان أنه موسر ويكونان بمنزلة الشاهدان يشهدان على يساره، ولا يحتاج لفظة الشهادة لأن في النفقة حق الله تعالى وحق المرأة؛ لأنها وجبت بالاحتباس وفي الاحتباس حق الله تعالى وحق الزوج على ما ذكرنا فما وجب بمقابلة الاحتباس يكون حق الله تعالى وحق الله (وحق) المرأة وحق الله تعالى يثبت بقول الواحد شهد بذلك

أو أخبر وحق العبد لا يثبت إلا بقول اثنين بلفظ الشهادة، فإذا كان بين حق الله تعالى وحق العبد علمنا بها وشرطنا العدد من حيث إنه حق المرأة، ولم تشترط لفظة الشهادة من حيث إنه حق الله تعالى عدلاً (307ب1) بالدليلين بقدر الإمكان. وإن قالا: بلغنا أنه موسر وسمعنا أنه موسر لا يثبت اليسار بذلك لأنهما ما قالا علمنا وإنما: قالا: بلغنا أو سمعنا وقد يبلُغ الإنسان الباطل كما يبلغه الحق، وكذلك يسمع الكذب كما يسمع الصدق فلا يثبت اليسار بمثل هذا الخبر. هذا الذي ذكرنا إذا لم يكن حال الزوج في المعسره معلوماً للقاضي أما إذا كان معلوماً للقاضي فالقاضي لا يحبسه لأن الحبس جزء الظلم ولم يظهر الظلم ههنا ولا نفرق بينهما أيضاً عندنا خلافاً للشافعي رحمه الله والمسألة معروفة.g ثم إذا لم يفرق القاضي بينهما عندنا ولم يحبس الزوج فأدى بفعل يأمر المرأة بالاستدانة على الزوج حتى يرجع عليه إذا أيسر. فرق بين هذا وبين سائر الديون، فإن في سائر الديون من عليه الدين إذا عجز عن قضاء الدين لا يؤمر صاحب الدين بالاستدانة عليه، وههنا بعد ما فرض لها النفقة يؤمر بالاستدانة على الزوج. ووجه الفرق بينهما: هو أن المرأة لو لم تؤمر بالاستدانة على الزوج بعد فرض القاضي عسى تموت هي أو بموت الزوج فتسقط نفقتها على ما مر. وإذا اسقط لا يعيد القضاء بالنفقة لها شيئاً فتؤمر هي بالاستدانة حتى لا يبطل حقها بموت أحدهما فكان الأمر بالاستدانة من القاضي بعد فرض النفقة لها ليأخذ حقها في النفقة، وهذا المعنى معدوم في سائر الديون فلهذا افترقا. وأما إذا أمرها القاضي بالاستدانة على الزوج يرجع بذلك على الزوج إذا أيسر؛ لأن استدانتها بأمر القاضي على الزوج وللقاضي ولاية عليهما كاملة كاستدانتها بأمر الزوج. فقد ذكر محمد رحمه الله الاستدانة على الزوج ولم يبين تفسيرها. وذكر في «أدب القاضي» للخصاف أن تفسير الاستدانة على الزوج الشراء بالنسبة ليقتضي الثمن من مال الزوج. قال مشايخنا رحمهم الله: وليس فائدة الأمر بالاستدانة بعد فرض القاضي إثبات حق الرجوع للمرأة على الزوج، لأن بعد فرض القاضي صارت النفقة ديناً للمرأة على الزوج وثبت لها حق الرجوع بالنفقة على الزوج سواء أكلت من مال نفسها أو استدانت بأمر القاضي أو بغير أمر القاضي، ولكن فائدة الأمر بالاستدانة أنها إذا استدانة على الزوج بأمر القاضي كان لرب الدين أن يرجع بذلك على الزوج ولكن يرجع رب الدين على المرأة ثم المرأة ترجع بما فرض لها القاضي على الزوج؛ وهذا لأن الاستدانة على الزوج إيجاب الدين في ذمة الزوج، فإذا حصل بأمر القاضي فقد حصل ممن له ولاية عامة على الزوج. أما إذا حصل بأمر القاضي فقد حصل إيجاب الدين في ذمة الزوج من المرأة وليس لها على الزوج هذه الولاية وذكر في «تجريد القدوري» أن فائدة الأمر بالاستدانة أن يجعل المرأة الغريم على الزوج وإن لم يرض الزوج بذلك وبدون الأمر بالاستدانة ليس لها ذلك

إلا برضى الزوج. وذكر الحافظ الشهيد في «المختصر» : أن فائدة الأمر بالاستدانة أنه يرجع بذلك على الزوج، وفي ما له وبدون الأمر بالاستدانة لا يرجع على ما مر قبل هذا. ومما يتصل بهذاالنوع إذا فرضت النفقة للمرأة على الزوج ولها على الزوج بقدر المهر فأعطاهما الزوج شيئاً ثم اختلفا فقال الزوج: هو من المهر، وقالت المرأة: لا بل هو من النفقة، فالقول قول الزوج لأن التمليك وجد من جهة الزوج والقول في ثبات جهة التمليك، قول المملك وكذلك هذا في جميع قضاء الديون إذا كان من وجوه مختلفة. قال شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله: هذا إذا كان المؤدي شيئاً يعطى في المهر عادة، وأما إذا كان شيئاً لا يعطى في المهر عادة كقصعة ثريد ورغيف وطبق فاكهة وما أشبهه ذلك لا يقبل قول الزوج؛ لأن الظاهر يكذبه وكذلك إذا بعث إليها دراهم، فقال: هي نفقة، وقالت المرأة: هدية. فالقول قول الزوج لما بينا. وكذلك إذا بعث إليها ثوباً وقالت هو: هدية، وقال الزوج: هو من الكسوة. فالقول قول الزوج مع يمينه لما قلنا، إلا أن تقيم المرأة البينة على ما ادعت، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الزوج؛ لأن البينتين استويتا في بيان جهة الملك للمرأة. إلا أن بينة الزوج ترجحت بزيادة الإثبات لأن بينة الزوج مع إثبات جهة الملك أثبتت المرأة للزوج عما وجب عليه من النفقة والكسوة وبينة المرأة تنفي ذلك فكانت بينة الزوج أكثر إثباتاً، فكانت أولى بالقول. وكذلك إن أقام كل واحد منهما بينة على إقرار الآخر بما ادعى، لأن الزوج هو المدعي للقضاء فيما عليه من الحق فمعنى الإثبات في بينة الزوج أكثر فكانت أولى بالقول، وكذلك لو اصطلحا على أن يعطها الزوج كل شهر خمسة عشر درهم والزوج يدفع على فتوى أنها مهرها مضى على ذلك زمان، ثم اختلفا فالقول قول الزوج لما قلنا. وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: ومتى جعلنا القول قول الزوج أن المدفوع من المهر كان للمرأة أن تأخذ من الزوج قدر ما فرض لها القاضي وقدر ما اصطلحا عليه من وقت الغرض والاصطلاح إلى هذا الوقت الذي اختلفا فيه؛ لأن باصطلاحهما وبقضاء القاضي صارت النفقة ديناً في الذمة فكان لها أن تطالبه بذلك الدين. قال: وإذا وقع الاختلاف بين المرأة والزوج فيما وقع الصلح عليه أو فيما وقع الحكم من النفقة في الحبس أو القدر فالقول قول الزوج والبينة بينة المرأة لأنها مدعية الزيادة فيحتاج إلى إثباتها بالبينة والزوج مثلها لذلك فيكون القول قوله مع يمينه بعد هذا ينظر، إن كان ما أقر به الزوج وحلف عليه......... وأن لا يكفها يبلغ الكفاية في..... كما لو ثبت الصلح أو الحكم بذلك القدر تابعاً..... وقد مر هذا من قبل. قال: وإذا وقع الاختلاف بين الزوج والمرأة فيما مضى من المدة من وقت الفرض

أو من وقت الصلح فالقول قول الزوج والبينة بينة المرأة؛ لأنها تدعي زيادة والزوج ينكر فيكون القول قوله مع يمينه. قال وإذا ادعى الزوج (308أ1) الإنفاق وأنكرت المرأة فالقول قولها مع اليمين لأنها أنكرت وصول حقها إليها فيكون القول قولها مع اليمين كما في سائر الديون والله أعلم بالصواب. النوع السابع في الكفاية بالنفقة قال: ولا يوجد من الزوج كفيل بالنفقة، ومعناه أن الزوج لا يجبر على إعطاء الكفيل بالنفقة لا قبل ضرورة النفقة ديناً على الزوج ولا بعد ذلك. هكذا ذكر الحاكم في «المختصر» وذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أن المرأة إذا أخذت زوجها بنفقتها وهو يريد أن يغيب، فقالت أقم لي كفيلاً بنفقتي شهراً فشهراً، على قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يجبر على اعطاء الكفيل، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: يجبر على إعطاء الكفيل نفقة شهر واحد. وذكر الخصاف في النفقات أن على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: يجبر على إعطاء الكفيل نفقة شهر واحد ولم يذكر الخصاف في «المختصر» بل ذكره مطلقاً أنه لا يجبر وإنما لا يجبر لأن إعطاء الكفيل تبرع والمرأة لا تجبر على التبرعات وصار كالدين المؤجل إذا أراد صاحب الدين يأخذ منه كفيلاً قبل حلول الأجل مخافة أن يغيب عنه عند حلول الأجل فإنه لا يجبر على ذلك. كذا ههنا قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب النكاح. وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: إذا قالت المرأة إنه يريد أن يغيب ولا يترك لي نفقة أمره القاضي أن يعجل لها نفقة شهر أو يعطيها كفيلاً بنفقة شهر، وذكر الخصاف عن أبي يوسف رحمه الله أيضاً: أن القاضي يسأل الزوج أنك كم تغيب؟ فإن قال: شهراً يأخذ منه كفيلاً بنفقة شهرين، وهكذا قال: وإن أعطاها الزوج كفيلاً بالنفقة كل شهر عشرة، قال أبو حنيفة رحمه الله: يقع على شهر واحد، وقال أبو يوسف رحمه الله: يقع ذلك على الأبد ما داما زوجين هكذا ذكر الخصاف في النفقات وهكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح نكاحه. وذكر الحاكم رحمه الله في «المختصر» : أن الكفالة تنصرف إلى شهر واحد من غير ذكر خلاف فيحتمل أن يكون المذكور في «المختصر» قول أبي حنيفة رحمه الله. وجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن المطلق فيما يحتمل التأبيد ينصرف إلى الأبد فكأنه نص عليه، ولو نص على الأول فقال: كفلت لك بنفقة كل شهر عشرة أبداً أو ما

دمتما زوجين تقع على الأبد ما داما زوجين. وتصح الكفالة كذا ههنا. وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: أن العمل بكلمة كل متعذر في الكفالة لأن كلمة متى أضيفت إلى جملة من الأعداد قائماً يتناول كل عدد من تلك الجملة على سبيل الانفراد. ألا ترى أنه لو قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق يجب بنكاح كل امرأة تزوجها كأنه عقد اليمين عليها لا غير، ولا يشترط نكاح الجماعة لوقوع الحنث كان يتناول كل عدد من الجملة على سبيل الانفراد لو صححنا الكفالة في الشهر الثاني والثالث فقد تناولت الكفالة الشهر الثاني والثالث كما تناولت الشهر الأول لا يبنيان بلفظ واحد عقدين مختلفين، أحدهما مرسل والآخر مضاف وبين المرسل والمضاف تصادق ينافي، وإذا تعذر العمل بكلمة كل..... كلفة كل فصار كأنه قال: كفلت بنفقة شهر. ونظيره الإجارة إذا أجر داره كل شهر بعشرة تنصرف الإجارة إلى شهر واحد كأنه قال: أجرتك شهراً ولهذا كان لصاحب الدار أن يخرجه متى حازا بين الشهر الثاني. كذا ههنا: بخلاف ما لو قال: كفلت لك بنفقة كل شهر عشرة أبداً ما عاشت كان الضمان صحيحاً كما قال؛ لأن هناك المذكور وقت واحد وهو العمر فيكون الثابت عقداً واحداً فصحت الكفالة بنفقة جميع العمر فكان ذكر العمر وإنه اسم لوقت واحد بمنزلة، ذكر السنه مما أشبه ذلك. ولو قال كفلت كل بنفقة...... عشرة أشهر صحت الكفالة وانصرفت إلى الوقت المذكور لكون الوقت واحد، كذا ههنا. أما في قوله كل شهر المذكورة أوقات مختلفة فكان الثبوت عقوداً مختلفة، وإن كفل لها بنفقتها على زوجها أبداً أو ما داما زوجين، فإن ذلك جائز وأراد بالأبد ما داما على النكاح؛ لأن لفظة الأبد فيما بين الزوجين تقع على أنهما على النكاح حتى لو مات أحدهما أو انقطع النكاح بينهما والنفقة لها على النكاح الكفيل. هكذا ذكر في «أدب القاضي» للخصاف وذكر الخصاف في نفقاته أن هذا يتناول زمان العدد أيضاً وهذا لأنه كفيل بنفقتها ما دام النكاح باقياً والنكاح ههنا باقي من وجه وإنما صحت الكفالة في هذه المسألة إلى وقت إنهاء النكاح وكل وجه لأن الوقت ههنا واحد فكان العقد واحد. ثم فرق بين هذه المسألة، وبينما إذا كفل لها بنفقة ولدها أبداً ومطلقاً كان باطلاً وكان الوقت واحداً لأن نفقة الأولاد لا تجب على التأبيد ما دام حياً، فإنه أوسع تسقط النفقة عن الأب وكذلك إذا أيسر أما نفقة المرأة تجب على التأبيد ما دام النكاح موسرة كانت أو معسرة فلهذا افترقا. وذكر في «الفتاوى» : في امرأة قالت لزوجها: أنت بريء من نفقتي أبداً ما كنت أمرأتك لا يصح هذا الإبراء؛ لأن صحة الإبراء يعتمد الوجود أو قيام سبب الوجوب ولم يوجد شيء من ذلك ههنا على ما يأتي في نوع الصلح عن النفقة إن شاء الله تعالى.

وبعدما فرض لها القاضي النفقة كل شهر أو قالت ذلك، إن قالت قبل أن يمضي زمان من وقت الفرض برىء من نفقة الشهر الأول لا غير ولو قال: بعدمامضى أشهر صحت البراءة لما مضى دون ما بقي واعتبره ما لا...... آخره انعدام الذي أخره سنة ومضى على ذلك بعض السنة صح الإبراء لما مضى دون ما بقي، وكذلك لو أخره كل شهر بكذا أو كل سنة بكذا ثم آبرأه عن الآخر صح للشهر الأول وللسنة الأولى كذا ههنا والله أعلم بالصواب. النوع الثامن في الصلح عن النفقة قال: وإذا (308ب1) صالحت المرأة زوجها من نفقتها من ثلاثة دراهم من كل شهر فهو جائز وكان ينبغي أن لا يجوز لأن الصلح من نفقتها إبراء بعوض فيعتبر بالإبراء بغير العوض، وذلك لا يصح لما أن النفقة للحال ليست بواجبة وإنما تجب شيئاً فشيء. والجواب: هذا إنما يستقيم إذ لو كان جواز الصلح عن النفقة بطريق المعاوضة وجواز هذا الصلح ليس بطريق المعاوضة إنما يكون بطريق أنه تقدير لنفقتها كل شهر بشيء معلوم وتقدير النفقة كل شهر بشيء معلوم جائز. وهذا بخلاف الأجر أو إبراء المستأجر عن الأجر قبل استيفاء المنفعة حيث يجوز لأن هناك سبب الوجوب وهو العقد موجود فقام مقام حقيقة الوجوب في حق صحة الإبراء فكان إبراءً بعد الوجوب، أما ههنا فسبب الوجوب النفقة في المستقبل وهو الاحتباس في المستقبل، وأنه غير موجود للحال ثم الأصل في جنس مسائل الصلح عن النفقة أن الصلح عن النفقة من الزوجين متى حصل شيء يجوز للقاضي أن يفرض على الزوج في نفقتها بحال يعتبر الصلح منها تقدير للنفقة ولا يعتبر معاوضة، سواء كان هذا الصلح قبل فرض القاضي النفقة وقبل تراضي الزوجين على شيء لكل شهر، أو كان هذا الصلح بعد فرض القاضي لها النفقة، أو بعد تراضيهما على شيء لكل شهر، وإن وقع الصلح على شيء لا يجوز للقاضي أن يفرض على الزوج في نفقتها بحال، كما لو وقع الصلح على عبد أو ثوب. ينظر إن كان الصلح بينهما قبل قضاء القاضي لها بالنفقة، وقبل تراضيهما على شيء لكل شهر يعتبر الصلح منها تقدير للنفقة أيضاً، وإن كان الصلح بعد فرض القاضي لها النفقة أو بعد تراضيهما على شيء لكل شهر يعتبر هذا الصلح منها معاوضة. وفائدة اعتبار التقدير أن تجوز الزيادة على ذلك والنقصان عنه، وفائدة اعتبار المعاوضة أن تجوز الزيادة على ذلك ولا يجوز النقصان عنه، وعلى هذا الأصل يخرج جنس هذه المسائل. قال: وإذا صالحت المرأة زوجها على ثلاثة دراهم لكل شهر، فقالت المرأة: لا يكفيني بهذا القدر.

كان لها أن تخاصمه حتى يزيدها مقدار ما يكفيها إذا كان الزوج موسراً، وإنما كان هكذا لأن صلحها لا يكون أقوى من قضاء القاضي، والقاضي لو قدر لها نفقتها في كل شهر مقدار ما لا يكفيها كان لها أن تطالبه بما لها.....، فهاهنا أولى. قال: وإذا صالحت المرأة زوجها عن نفقة كل شهر على ثلاثة دراهم، ثم قال الزوج: لا أطيق ذلك فإنه لا يصدق في ذلك، لأنه التزم باختياره، وذلك دلالة على كونه قادراً على أداء ما التزمه. فإذا قال: لا أطيق فقد ادعى خلاف ما كان ثابتاً فلا يصدق ويلزمه جميع ذلك. قال في «الكتاب» : إلا أن تبرئه عند القاضي يريد به إلا أن يتعرف عن حاله بالسؤال من الناس، فإذا أخبروه أنه لا يطيق ذلك فعفي عنه وأوجب على قدر طاقته. ألا ترى أن في الابتداء لو علم القاضي أن الزوج لا يطيق هذا المقدار لا يفرض عليه ذلك المقدار، ويفرض بقدر طاقته، فإذا علم في الانتهاء رفع عنه الزيادة على قدر طاقته أيضاً، أو تبرئه المرأة بنفسها لأن النفقة حق المرأة فكان لها أن ترضى بدون حقها، أو يرخص السعر فيكفيها دون ذلك والقاضي يرفع عنه قدر الزيادة وهذا لما ذكرنا أن المعتبر في النفقة مقدار الكفاية، والكفاية داخلة بدون الزيادة فترفع عنه الزيادة. قال: فإن لم يمض شيء من الشهر حتى صالحها من هذه الثلاثة الدراهم على شيء إن كان شيئاً يجوز للقاضي أن يفرض لها في نفقتها بحال، نحو ما إذا صالح من هذه الثلاثة دراهم على ثلاثة مخاتم دقيق بعينه أو بغير عينه يعتبر هذا الصلح تقديراً للنفقة، فإن كان شيئاً لا يجوز للقاضي أن يفرض في نفقتها بحال يعتبر الصلح الثاني معاوضه، وأما اعتبار التقدير والمعاوضة قد ذكرنا قبل هذا. قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : عقيب هذه المسألة ولا شبيه من الدراهم على ثلاث مخاتم دقيق يعتبر عينها لا يجوز الصلح. والفرق: أن في سائر الديون والصلح منهما معاوضة لأن الدين كان واجباً وقت الصلح فاعتبر الصلح معاوضة فكان هذا بيع دين بدين فلا يجوز إلا أن يدفع الدقيق في المجلس، فأما ههنا قبل مضي الشهر، فالنفقة لا تعتبر ديناً فلم يكن الصلح الثاني معاوضة بل كان تقدير النفقة حتى لو مضى الشهر وصارت الثلاثة الدراهم ديناً، ثم صالحها على ثلاثة مخاتم دقيق بغير عينها، لا يجوز الصلح أيضاً لما قلنا. قال: وإذا صالحت المرأة زوجها على ثلاث دراهم نفقة كل شهر، ثم إن الزوج أعطاها كفيلاً ببدل الصلح جاز، لأن الكفالة ببدل الصلح والصلح منهما تقديراً للنفقة إن لم تكن واجبة للحال تجب في الثاني والكفارة بدين تجب في الثاني جائزة على ما عرف في موضعه وكذلك الصلح عن نفقة الأقارب على هذا لأن النفقة تستحق بالزوجية مرة وبالقرابة أخرى فكان الجواب في نفقة الأقارب كالجواب في نفقة الزوجة.

قال في «الكتاب والذي ذكرنا من الجواب والصلح عن النفقة فكذلك في الصلح عن الكسوة لأن الكسوة للحاجة والمعتبر فيها الكفاية في النفقة. قال: وإذا صالح الرجل امرأته من كسوتها على درع يهودي ويلحقه..... وحمار..... ولم يسم طوله وعرضه ورفعته جاز لأن الثوب غير حقها لأن حقها في المطعوم والملبوس وإنه يجب بدلاً عما ليس بمال وهو الاحتباس المستحق عليهما بسبب النكاح، والثوب إذ كان معلوم الجنس يجوز أن يجب ديناً في الذمة مجهول الوصف بدلاً عما ليس بمال كما في الخلع والنكاح. قال وإذا صالح امرأته من نفقة سنة على ثوب دفعه إليها فهو جائز على ما ذكرنا، فإن استُحق الثوب بعد ذلك ينظر، إن وقع الصلح على الثوب بعد ما فرض القاضي لها النفقة أو بعدما اصطلحا على شيء بنفقة كل شهر ثم وقع الصلع عن ذلك على هذا الثوب فإنها ترجع (309ب1) بما فرض لها القاضي من النفقة وبما وقع الصلح عليه أول مرة، لأن النفقة صارت ديناً على الزوج بمضي المدة، فإذا أحدث ثوباً بمقابلة النفقة صارت مشترية لهذا الثوب ما وجب لها على الزوج من المال وشراء الثوب مما ينفسخ باستحقاق الثوب وبالرد بالعيب فثبت لها الرجوع بثمنه وذلك ما فرض لها، وأما إذا وقع فاسداً الصلح فإنها ترجع بقيمته أي بقيمة الثوب لأن ابتداء الصلح إذا وقع على الثوب فالثوب إنما ملك ما داما ليس بمال وهو الاحتياس المستحق عليها بعقد النكاح والثوب إذا ملك ما داما ليس بمال وهو الاحتباس المستحق عليها بعقد النكاح، والثوب إذا ملك ما داما ليس بمال فعقد الإستحقاق يثبت الرجوع بقيمة الثوب كما في النكاح والخلع. وهو نظير ما ولو وقع الصلح عن نفقة المرأة على وصف وسط ولم يجعل له أجلاً أو جعل له أجلاً وإن كان قبل فرض القاضي وقبل اصطلاحها جاز؛ لأن النفقة غير واجبة في هذه الحالة فيكون الوصف بدلاً عن الاحتباس الذي ليس بمال، والحيوان يثبت ديناً في الذمة بدلاً عما ليس بمال حالاً ومؤجلاً، وإن كان هذا الصلح بعد فرض القاضي بعد اصطلاحهما لا يجوز لأن الحيوان ههنا بدلٌ عن النفقة والنفقة مال والحيوان لا يجب ديناً في الذمة بدلاً عما هو مال. قال وإذا كان للرجل امرأتان إحداهما حرة والأخرى أمة بوأها المولى بيتاً فصالحها عن النفقة وقد شرط للأمة أكثر مما شرط للحرة جاز لأن المعتبر في النفقة مقدار الكفاية وقد يكفي للحرة ما لا يكفي للأمة. فرع في الكتاب على مسألة الأمة فقال: إذا بوأها المولى بيتاً فكما يجوز صلح الأمة عن النفقة فكذا يجوز صلح مولى الأمة، وهذا لأن كل واحد منهما ذواحطٍ عن النفقة، أما الأمة فظاهر وأما

المولى فلأن في النفقة إحياء مال المولى فكان كل واحد منهما ذوا حط عن النفقة، فإنهما صلح فإنما صلح عن حقه فيجوز بخلاف ما لو صالحت الأمة زوجها عن المهر، حيث لا يجوز لأن مهرها حق المولى من كل وجه وصلح الإنسان عن حق غيره من كل وجه لا يجوز بخلاف النفقة على ما مرّ. وإن كان المولى لم يبوءها بيتاً ولم يجز هذا الصلح وكان له أن يرجع عن ذلك؛ لأنها صالحت عما ليس بحق لها فإنه لا نفقة لها متى لم المولى بيتاً. وكذلك إذا صالح الرجل امرأته عن نفقتها ونكاحها فاسد لا يجوز؛ لأنه صالحها عما ليس بحق لها، فإن النفقة لا تستحق بالنكاح الفاسد. والحاصل: أن الصلح عن النفقة في كل موضع لا نفقة ثمة باطل. قال: وإذا صالحت المرأة زوجها عن نفقتها كل شهر على أكثر من نفقتها زيادة لا يتغابن الناس في مثله، فإن الزوج تلزمه نفقة مثلها ولا يلزمها الزيادة على ذلك، لأن الزوج في الزيادة على نفقة مثلها متبرع فإن شاء أمضى تبرعه وإن شاء لم يُمضِ. قال: وإذا كانت المرأة مكاتبة بوأها المولى بيتاً صالحت زوجها عن نفقتها أو مهرها جاز لأنها صالحت عما هو حقها وكذلك العبد المحجور إذا صالح عن نفقة امرأته وقد تزوج بإذن المولى جاز؛ لأن الإذن بالنكاح إذن بالإنفاق، لأنه لا بد منه، فإذا كان له الإنفاق كان له الصلح عن النفقة لأن في الصلح إبقاء النفقة. وكذلك المكاتب إذا صالح امرأته عن نفقة كل شهر جاز كما جاز عن العبد المحجوز من طريق الأولى والله أعلم. النوع التاسع في إيجاب النفقة في كتاب النكاح الذي لم يعرف ثبوته قال: رجل ادعى نكاح امرأة وهي تجحد وأقام عليها شهوداً لم يكن لها على الزوج النفقة لأنه تبين أنها منكوحة ممنوعة عن الزوج لا بفعل الزوج.h وإن ادعت امرأة على تزوج رجل أنه تزوجها وهو يحجد ذلك فأقامت عليه بينة والقاضي لا يعرف الشهود واحتاج إلى المسألة لا تُجعل لها النفقة لم تكن واجبه لها بيقين فلا تحب بالشك. فرّق بين هذا وبينها إذا شهد شاهدان على رجل أنه طلّق امرأته ثلاثاً وقد كان دخل بها وهي تدعي الطلاق أو تنكره والقاضي لا يعرف الشهود منع القاضي الزوج عن الدخول على المرأة على ما عرف ويقضي القاضي لها على الزوج بالنفقة إذا طلبت ذلك؛ لأن النفقة كانت مستحقة لها على الزوج بيقين والآن وقع الشك في السقوط إن كانت مطلقة لا يسقط، وإن كانت منكوحة يسقط لأنها ممنوعة لا بفعل الزوج فلا يسقط بالشك. فرع على مسألة النكاح فقال: إن رأى القاضي أن يقضي لها بالنفقة لما رأى من المصلحة ينبغي أن يقول

لها: إن كنت امرأةً فقد فرضت لك نفقة كل شهر كذا، ويشهد على ذلك. فإذا مضى شهراً فقد استدانت على الزوج إن عُدّلت تلك البينة أخذ ثمة بنفقة تلك الأشهر منذ فرض لها: لأنه إذا عُدّلت الشهود تبين أنها كانت منكوحة ممنوعة عن الزوج بفعل الزوج، وهو الجحود. وإن لم يُعدّل الشهود لم يكن لها عليه شيء قال: ولو أنّ أختين ادعت كل واحدةٍ منهما أن هذا الرجل زوجها وهو يجحد ذلك فأقامت كل واحدة منهما شاهدين على ذلك النكاح ولم تؤقت البينتان وقت النكاح لكن أقامت على إحداهما بينةً على إقراره أنه تزوجها على ألف درهم وأنه دخل بها، وأقامت الأخرى بينة على إقراره أنه تزوجها على مائة دينار وأنه دخل بها والقاضي في مسألة الشهود فطلبتا النفقة جعل القاضي لهما نفقة امرأة واحدة. هكذا ذكر في «الكتاب» ، وعلى قياس المسألة الأولى، ينبغي أن لا يفرض لأنه وقع الشك في وجوب نفقة كل واحدة منهما مع هذا فرض لهما نفقة امرأة واحدة منهما. إنما كان كذلك لأن إحدى البينتين تعدل غالباً فكان نكاح إحداهما ثابتاً غالباً فلا يقع الشك بالوجوب بخلاف المسألة الأولى. وإذا قضى القاضي بنفقة امرأة واحدة وليست إحداهما بأولى من الأخرى كان ذلك بينهما. قال: فإن عُدِّلَت البينتان حكم لكل واحدةٍ منهما بنصف المال. (309ب1) الذي قامت عليه البينة وبالأقل من نصف المال الذي قامت عليه البينة على إقراره بالدخول بها دون الآخرى، قضى للمدخول بها بالمهر الذي قامت عليه البينة. ولو لم تدع كل واحدة الدخول أصلاً، والشهود لم يتعرفوا إقرار الزوج بذلك يفرق بينه وبينها ويكون لهما نصف المالين بينهما. قال في «الكتاب» : وفي كل موضع وجبت النفقة وجبت السكنى مع ذلك وهو النوع العاشر من هذا الفصل، وهذا لأن الله تعالى أوجب السكنى مقروناً بالنفقة. قال تعالى: {اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم} (الطلاق: 6) وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: {من حيث سكنتم وانفقوا عليهن من وجدكم} ، ولأنها محتاجة إلى السكنى كحاجتها إلى النفقة. قال: وللزوج أن يسكنها حيث يسكن ولكن بين جيران صالحين، فإذا كان.... لأن الزوج لو كان أرملاً ينبغي له أن يسكن بين قوم صالحين فإذا كان..... كان أحوج إلى جيران صالحين قال: فإن أراد الزوج أن يسكنها مع أحد من أقربائه فطلبت المرأة منزلاً على حده، فلها ذلك لأن حق السكنى للمرأة إنما كان بمعنيين: أحدهما: أن يقاس مع الزوج. والثاني: أن تأمن على متاعها. وإذا كان معها ثالث

تستحي من المعاشرة مع زوجها وتخاف على متاعها، هذا إذا كان البيت واحد، وأما إذا كان داراً فيها بيوت وأعطى لها بيتاً تغلق عليها وتفتح، لا يكون لها أن تطالبه بمنزل آخر، لأنه متى كان لها بيت في الدار تغلق عليها، كان هذا بمنزلة، المنازل....... عليها حقها ولا تثبت لها المطالبة بشيء آخر. وكذلك إذا كانت له امرأتان يسكنهما في بيت واحد، فطلبت إحداهما بيتاً على حدة فلها ذلك، لأن في اجتماعهما في بيت واحد ضررتهما والزوج مأمور بإزالة الضرر عن المرأة. هكذا حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله، وهذا التعليل....... إلى أن الدار وإن كانت مشتملة على بيوت سكنى، كل واحدة من المرأتين في بيت على حدة تغلق عليها وتفتح، كان لها أن تطالب بمسكن...... قال: فإن اسكنها في منزل ليس معها أحد، فشكت إلى القاضي أن الزوج يضر بها ويؤذيها وسألت من القاضي أن يأمره بأن يسكنها بين قوم صالحين يعرفون إحسانه وإساءته، فإن علم القاضي أن الأمر كما قالت المرأة زجره عن ذلك ومنعه عن التعدي؛ لأنه علم أنه ارتكب ما لا يحل وإن لم يعلم، ينظر إن كان جيران هذه الدار قوماً صالحين أقرهما هناك، لأنه لو أمره بنقلها من هذه الدار لنقلها إلى قوم آخرين مثلهم فلا..... فلا يأمر لكن يسأل الجيران عن صنيعه بها، وإن ذكروا مثل ذلك الذي ذكرت زجره عن ذلك ومنعه عن التعدي في حقها، وإن ذكروا أنه لا يؤذيها فالقاضي يتركها ثمة، لأنه علم أنها منعته. وإن لم يكن في جوارها من يوثق به أو كانوا يميلون إلى الزوج، فالقاضي يأمر الزوج أن يسكنها بين قوم صالحين ويسأل عنهم ويبين الأمر على خبرهم كما قلنا. ومما يتصل بهذه المسائل إذا أراد الرجل أن يمنع أم..... أتاها أو واحد من أهلها من الدخول عليها في منزله فله ذلك لأن المنزل ملكه فله أن يمنع من الدخول فيه من يشاء، وهذا لأنهم متى دخلوا في منزله يتكلمون بما هو من إذاءه فيؤدي إلى الإضرار بالزوج، وكذلك يمنعها عن الخروج إلى بيت الأبوين لما قلنا، ولكن لا يمنعهم من النظر إليها ومن تعاهدها والتكلم معها فيقفون على باب الدار والمرأة داخل الدار لأنه لو منعهم عن ذلك كان ذلك قطيعة الرحم وإنه حرام وهذا في حق الأبوين ومن كان ذو رحم محرم من المرأة ومن لا يتهمه الزوج. وأما إذا لم يكن يحرم لها ويتهمه الزوج ولم يكن له أن يمنعه من النظر إليها أيضاً، فإذا كان للمرأة ولد من غير هذا الزوج لم يكن له أن يمنعها ولا أن يمنعهن أن ينظر بعضهم إلى بعض كما قلنا من المعنى. هكذا ذكر الخصاف في «النفقات» وفي «أدب القاضي» في أبواب النفقة. وروي عن أبي يوسف رحمه الله: أن الزوج لا يملك أن يمنع أبوي المرأة من

الفصل الثاني في نفقة المطلقات

الدخول عليها للزيارة كل شهر مرتين، وإنما يمنعهما من الكسوة. وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «فتاويه» . عن أبي بكر الإسكاف رحمهما الله: أن الزوج لا يمنع أبوي المرأة عن الدخول عليها للزيارة في كل جمعة، وإنما يمنعهما من الكسوة لأن الزيارة في كل جمعة هي الزيارة المعتادة وهذا لأن التكلم معهما على ما هو مرادها إنما يحصل بالكسوة لا بالزيادة فلا يمنعهما عن الدخول عليها في كل جمعة، وعليه الفتوى. وأما غير الأبوين من المحارم فقد ذكر الخصاف في «أدب القاضي» وفي «النفقات» أنه يمنعهم من الدخول عليها ولا يمنعهم من النظر إليها. وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «فتاويه» عن أبي بكر الإسكاف رحمه الله: للزوج أن يغلق الباب عليها من الزوار غير الأبوين، وقال محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله: لا يمنع المحرم من الزيارة في كل شهر وهو الأرفق بالباقي. وقال مشايخ بلخ: في كل سنة. وكذلك المرأة إذا أرادت الخروج إلى زيارة الأبوين أو إلى زيارة المحارم فأراد الزوج أن يمنعها من ذلك فهو على الاختلاف الذي قلنا. الفصل الثاني في نفقة المطلقات هذا الفصل يشتمل على أنواع: النوع الأول في بيان من يستحق النفقة من المطلقات اجتمع على المطلقة طلاقاً رجعياً تستحق النفقة والسكنى ما دامت العدة قائمة سواء كانت حاملاً أو حائلاً، وهذا لأن بعد الطلاق الرجعي النكاح قائم وإنما أشرف على الزوال عند انقضاء العدة وذلك غير مسقط للنفقة، كما إذا أو علق طلاقها بمضي شهر، وأما المبتوتة فلها النفقة والسكنى أيضاً ما دامت في العدة حائلاً كانت أو حاملاً، وهذا مذهبنا. وقال الشافعي رحمه الله لها السكنى ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً والمبتوتة هي التي طلقها الزوج ثلاثاً، أو طلقها بعوض حتى وقع الطلاق (310أ1) بائناً عندهم جميعاً. حجة الشافعي رحمه الله في ذلك ما روي عن فاطمة بنت قيس قالت: طلقني زوجي ثلاثاً ولم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلّمنفقة ولا سكنى، قال: ولو كنت حاملاً كانت لك النفقة إلا أنا تركنا ظاهر الحديث في حق السكنى بالإجماع ولا إجماع في النفقة فبقي على ظاهره.

وحجتنا في ذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: للمطلقة ثلاثاً النفقة والسكنى وهذا نص في الباب، وما روي من الحديث قد طعن الكبار من الصحابة والتابعين فلا يكون حجة. والمعنى في ذلك أن المرأة ما دامت في العدة فهي محبوسة بحق الزوج، فإن منفعة الحبس تعود إليه وهو صيانة مائه فكانت محبوسة بحقه فتكون نفقتها عليه، كما في حال قيام النكاح. ثم فرق بين المطلقة وبين المتوفي عنها زوجها. فإن المتوفى عنها زوجها لا تستحق النفقة في تركة زوجها، والمطلقة تستحق النفقة على الزوج، وموضع الفرق: شرح الطلاق المبسوط. قال في «الكتاب» : والنفقة واجبة للمعتدة طالت المدة أو قصرت فيكون القول في العدة إنها لم ينقض قولها مع عينها، لأنها اثبتته في الأخبار عما في رحمها، وقول الأمين مقبول وإليه أشار أبي بن كعب رضي الله عنه في قوله: من الأمانة أن تؤمن المرأة على ما في رحمها فإن أقام الزوج بينة على إقرارها بانقضاء العدة بريء من النفقة، لأن ثبوت إقرارها بالبينة كثبوته بالمعاينة، فإن ادعت حملاً أنفق عليها ما بينها وبين سنتين، فعد يوم طلاقها لأن عدة الحامل إنما تنقضي بوضع الحمل والولد يبقى في البطن إلى سنتين. وإن مضت سنتان ولم تلد انقطعت النفقة لأن الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين. فإن قالت: كنت أظن أني حامل ولم أحض إلى هذه الغاية، وأظن أن هذا الذي فيَّ ريح، وأنا أريد النفقة حتى تنقضي عدتي. وقال الزوج: قد ادعت الحمل وأكثر مدة الحمل سنتان فالقاضي لا يلتفت إلى قوله ويلزمه النفقة ما لم تنقض العدة، لأن هذا أمر قد يسببه، لأن معرفة ما في الرحم حقيقة إلى الله تعالى، قال تعالى {ويعلم ما في الأرحام} (لقمان: 34) فتكون معذورة في ذلك فكان لها النفقة حتى تنقضي عدتها، وعدتها تنقضي بثلاث حيض أو بدخولها في حد الإياس ومضي ثلاثة أشهر بعد ذلك، فإن حاضت في هذه الأشهر الثلاثة استقبلت العدة بالحيض، لأنه تبين أنها لم تكن اثبتته والنفقة واجبة لها في جميع ذلك ما لم يحكم بانقضاء العدة، لأنها محتبسة بعدتها منه. وسئل أبو بكر رحمه الله: عمن طلق امرأته وكتم عن الناس، فلما حاضت حيضتين وطئها فحبلت ثم أقر بطلاقهاوقال: لها النفقة ما لم تضع، لأن انقضاء عدتها بوضع الحمل. قال: وإن طلق الزوج امرأته وهي صغيرة لم تحض بعد وقد دخل بها ومثلها يجامع فعدتها ثلاثة أشهر على ما عرف في كتاب الطلاق، وينفق عليها ما دامت العدة قائمة لما ذكرنا وهذا إذا لم تكن المرأة مراهقة، وأما إذا كانت مراهقة فعدتها لا تنقضي بثلاثة أشهر بل يتوقف في حالها إلى أن تظهر أنها هل حبلت بذلك الوطء أم لا، فينبغي أن يدر عليها النفقة ما لم يظهر فراغ رحمهما.

هكذا حُكِيَ عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله، فلو أنها حاضت في هذه الأشهر الثلاثة تستأنف العدة بالحيض وتكون لها حاضت النفقة حتى تنقضي عدتها لما ذكرنا ويعتبر في هذه النفقة ما يكفيها وهو الوسط من الكفاية وهي غير مقدرة، لأن هذه النفقة نظير نفقة النكاح فيعتبر فيها ما يعتبر في نفقة النكاح ثم نفقة العدة إنما لنفقة النكاح وليست شيء آخر. حتى قلنا: إن كل امرأة تستحق النفقة حال قيام النكاح تستحق النفقة حال قيام العدة لكل أمر لا تستحق النفقة حال قيام النكاح لا تستحق النفقة حال قيام العدة فإن المولى إذا بوأ الأمة بيتاً لما استحقت النفقة حال قيام النكاح استحقت أيضاً بعد الفرقة ومتى لم يبوئها المولى بيتاً لما لم تستحق النفقة حال قيام النكاح لا تستحق النفقة بعد الفرقة أيضاً. إذا ثبت هذا فتقول المعتدة: إذا لم تخاصم في نفقتها ولم يفرض القاضي لها شيئاً حتى انقضت العدة فلا نفقة لها، لأن النفقة في حال قيام النكاح لا تصير ديناً إلا بقضاء أو برضاء فكذا في حالة العدة، وإن كان الزوج غائباً فاستدانت عليه ثم قدم بعد انقضاء العدة يقضي عليها بنفقة مثلها، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله الأول، ثم رجع وقال: لا يقضي، كما في نفقة النكاح. وإذا فرض لها النفقة في حال العدة وقد استدانت على الزوج أو لم تستدن.... إن انقضت عدتها قبل أن تبعض شيئاً من الزوج، وإن استدانت بأمر القاضي كان لها أن ترجع بذلك على الزوج بذلك، لأنها استدانت المرأة بأمر القاضي، وللقاضي ولاية متكاملة بمنزلة (أنها) أستدانت (من) الزوج بنفسه، وأما إذا استدانت بغير أمر القاضي أو لم تستدين أصلاً، هذا يرجع على الزوج بذلك أم لا. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرح أدب القاضي» فيه كذا. قال الصدر الإمام الشهيد رحمه الله: فالظاهر عندي أنه لا يرجع. وأشار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله إلى أن لا يرجع حيث علل فقال: ليست استحقاق هذه النفقة والمستحق بهذا السبب في حكم الصلة ولا بد من قيام السبب لاستحقاق المطالبة، ألا ترى أن الذمي إذا أسلم وعليه خراج رأسه لم يطالب بشيء منه، فكذا ههنا وهو الصحيح. قال الخصاف في نفقاته: وكل نكاح كان الزوجان يتوارثان عليه لو مات أحدهما فطلقها الزوج وقد دخل بها، فإن لها فيه النفقة والمهر بدخوله بها. قال رحمه الله: في «شرحه» : وهذا الأصل غير سديد على قول أبي حنيفة رحمه الله، فإن الذمي إذا تزوج أمة فإنها تستحق النفقة عنده ولا يتوارثان لو مات أحدهما فكما تستحق المعتدة النفقة الكسوة تستحق الكسوة لأن المعنى يجمعهما وهو (310ب1) الحاجة غير أن في «الكتاب» لم يذكر كسوتها؛ لأنها لا تبقى في العدة مدة تحتاج إلى

الكسوة غالباً، حتى لو احتاجت يفرض لها ذلك أيضاً. الدليل على أن المعتدة تستحق الكسوة أنها تستحق النفقة واسم النفقة كما يتناول الطعام يتناول الكسوة. قال هشام في «نوادره» : قلت لمحمد رحمه الله: النفقة هي الطعام وحده قال: لا لكن الطعام والكسوة. قال في «الكتاب» : وفي كل موضع وجبت على الزوج نفقة العدة يجب عليه مؤنة السكنى كما في حال قيام النكاح. فبعد هذا ينظر إن كان للزوج منزل مملوك فعليه أن يُسكنها فيه، وإن لم يكن للزوج منزل مملوك فعليه أن يكتري منزلاً لها ويكون لكن على الزوج، لأن الإسكان عليه. وإن كان الزوج معسراً تؤمر المرأة أن تستدين لكن أو تؤدي ثم ترجع على الزوج إذا أيسر كما هو الحكم في النفقة حال قيام النكاح، ثم الأصل لما بعد هذا. إن نفقة الفرقة متى وقعت بين الزوجين ينظر، إن كانت الفرقة من جهة الزوج فلها النفقة سواء كانت الفرقة بمعصية أو بغير معصية. وإن كانت الفرقة من جهة المرأة، إن كانت (من غير معصية) تجوز لها النفقة. وإن كانت بمعصية فلا نفقة لها، وإن كانت الفرقة بمعنى من جهة غيرها فلها النفقة. وهذا لأن النفقة صلة وعصار من يستحق عليه الصلة لا تؤثر فيه بطلان الصلة. أما عصار من يستحق الصلة تؤثر في ذلك، واعتبر هذا بالوارث إذا قتل المورث، إن كان بحق لا يحرم عن الميراث وإن كان بغير حق يحرم، كذا ههنا إذا عرف هذا الأصل فنقول للملاعنة: لها النفقة والسكنى، لأن الفرقة باللعان فرقة بطلان فكانت خيانة من قبل الزوج. وكذلك الثانية بالخلع، والإيلاء، وردة الزوج، ومجامعة الزوج أمها تستحق النفقة لأن هذه الفرقات كلها من جهة الزوج بعد إن كانت مستحقة للنفقة في أصل النكاح فينبغي هذا الحق تبعاً للعدة. فامرأة العنين إذا اختارت الفرقة فلها النفقة والسكنى، وكذلك المدبرة وأم الولد إذا اعتقتا. ومما عند الزوج قد يواليهما المولى بيتاً فلهما النفقة والسكنى، وكذلك الصغيرة إذا أدركت فاختارت نفسها فلها النفقة والسكنى وإن جاءت الفرقة من قبل المرأة في هذه المسائل إلا أن الفرقة ما جاءت بسبب هي معصيه، وكذلك إذا وقعت الفرقة بسبب عدم الكفاءة بعد الدخول، فلها النفقة لأن الفرقة جاءت بحق تُستحق. والمنكوحة إذا ارتدت أو طاوعت ابن الزوج حتى وقعت الفرقة لا نفقة لها، لأن الفرقة جاءت من قبلها بسبب هو معصية. وإن جامعها ابن الزوج مكرهة تقع الفرقة ولا..... لأن الفرقة جاءت من غيرها،

ثم فرق بين النفقة وبين المهر فإن الفرقة إذا جاءت من قبل المرأة قبل الدخول يسقط المهر سواء كانت عاصية في ذلك أو بحقه. والفرق: إن المهر عوض من كل وجه ولهذا لا يسقط بموت أحدهما فإذا فات المعوض بمعنى ما من جهة من له العوض يسقط حقه في العوض إذ العوض لا يستحق بدون المعوض كاليمين في باب البيع، أما نفقة الزوجات عوض من وجه صلة من وجه فإذا كان بين العوض والصلة اعتبرناه عوضاً متى حاءت الفرقة بسبب هي في ذلك عاصية، والعوض يسقط متى فات المعوض من جهة من له الحق في العوض كما في المهر، ومن حيث إنها صلة لا تسقط، فإن فات العوض من جهتها وإن كانت في ذلك محقة فالصلات تحبب فلا عوض، كنفقة الأقارب. ثم قال في «الكتاب» : والمنكوحة إذا ارتدت حتى وقعت الفرقة لا نفقة لها اجبرت على ذلك أو رجعت عن الردة وتابت. فرق بين هذا، وبينما إذا نشزت فطلقها الزوج ثم تركت النشوز فإنها تستحق النفقة ما دامت العدة باقية. وههنا قال: إذا اسلمت والعدة باقية لا تستحق النفقة والفرق وهو: أن في الردة المسقط للنفقة فرقة جاءت من قبلها بسبب هو معصية، وهذا لا يرتفع بالإسلام فلا يرتفع السقوط، وأما في المسألة تلك المسألة المسقط هو النشوز دون الفرقة الجائية من قبلها، لأن الفرقة لا تقع لنشوز فإذا عادت إلى بيت الزوج ارتفع النشوز فارتفع المسقط فعاد حقها في النفقة، ثم ما ذكر في «الكتاب» أن المختلف تستحق النفقة فذلك إنما يكون وقع الخلع مطلقاً. فأما إذا شرط في الخلع أن لا سكنى لها ولا نفقة فلها السكنى ولا نفقة لها لأنها بهذا الشرط اسقطت النفقة والسكن والنفقة حق المرأة والسكنى في بيت العدة كما هو حقها فهو حق الشرع فأسقاطها إن عمل في حقها لا يعمل في حق الشرع حتى لو شرط الزوج في الخلع أن لا يكون عليه مؤنة السكنى من مالها، بأن كانا يسكنان في بيت صح، ويجب الأجر، ورفضت المرأة أن تسكن في بيت نفسها أو تلتزم مؤنة السكنى من مالها بأن كانا يسكنان في بيت..... صح ويجب الأجر عليها، لأن ذلك محض حقها. ثم فرق بين هذا وبينما إذا أبرأت المرأة زوجها عن النفقة قبل أن تصير النفقة ديناً في الذمة، فإنه لا يصح ذلك بالاتفاق. وإذا شرط في عقد الخلع براءة الزوج عن النفقة صح، والفرقة وهو أن الإبراء إذا شرط في الخلع كان إبراء بعوض والإبراء بعوض يكون استيفاء لما وقعت البراءة عنه، لأن العوض قائم مقام ما وقعت البراءة عنه، والاستيفاء قبل الوجوب جائز، فإنها إذا أخذت نفقة شهر جملة جاز.

وأما في غير الخلع الإبراء إنما حصل بغير عوض فيكون إسقاطاً لحقها، وإسقاط الشيء قبل الوجوب لا يصح بالاتفاق، وكذلك الجواب في نفقة الولد وهو مؤنة الرضاع لا يسقط بسبب الخلع أن لا يسقط إن لم يشترط ذلك في الخلع، وإن شرط في الخلع إن وقت، بأن قال: إلى سنة أو سنتين أو ثلاث جاز، وما لا فلا. وإذا وقت جاز إن مات الولد قبل تمام المدة فالزوج يرفع عليها بما بقى من آجر، مثل الرضاع إلى تمام المدة. هكذا ذكر في «الكتاب» والحيلة في ذلك حتى لا يرجع أن تقول المرأة للزوج حتى يقول لها الزوج: عليَّ (311أ1) هذا الوجه خالعتك على أني بري من نفقة الولد إلى سنتين، إن مات في بعض السنة فلا رجوع لي عليك. قال في «الكتاب» : وفي فصل الخلع في كل موضع لم يصح الإبراء عن السكنى ينظر إن (كان) المنزل ملكاً للزوج ينبغي أن يخرج الزوج من المنزل ويعتزل عنها ويتركها في ذلك المنزل إلى أن تقضي عدتها، وكذلك إذا كان المنزل.. ..... وإن استكرى لها منزلاً...... يجوز لكن الأفضل أن يتركها في المنزل الذي كانا يسكنانه قبل الطلاق، هذا هو الكلام في الطلاق الثاني. أما إذا كان الطلاق رجعياً فقد ذكر الخصاف في نفقاته: أنه يسكنها في المنزل الذي كانا يسكنان فيه قبل الطلاق، لأنه لا يجب على الزوج أن يعتزل عنها فكان له أن يُسكنها في ذلك المنزل وهو فيه، وفي الطلاق الثاني يسكنها أيضاً في ذلك المنزل، لكن الزوج يخرج عن ذلك المنزل أو يعتزل عنها في ناحية. قال: وإذا طلق الرجل امرأته طلاقاً بائناً وهي أمة، وقد كان بوأها المولى بيتاً فعلى الزوج النفقة، فإن أخرجها المولى لخدمته وكانت في العدة لا نفقة لها وإن أعادها إلى بيت زوجها وترك استخدامها فلها النفقة، وهذا لأن نفقة العدة معتبرة بنفقة النكاح. والجواب في نفقة النكاح على هذه التفاصيل. فكذا في نفقة العدة، فإما إذا كانت قبل الطلاق في بيت الزوج ولم تعد إلى بيت الزوج حتى طلقها الزوج، ثم عادت إلى بيت الزوج بعد الطلاق فلا نفقة لها عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله. فرق بين هذا وبين الحرة إذا كانت ناشزة وقت الطلاق ثم عادت إلى بيت الزوج، فإنها تستحق النفقة. والفرق: أن في حق الأمة النكاح حالة الطلاق لم يكن سبباً لوجوب النفقة؛ لأنه لم يكن سبباً لوجوب الاحتباس، ولهذا لو أراد الزوج أن يعيدها إلى منزله من غير رضا المولى لم يكن له في ذلك. وبالطلاق زال النكاح وبقي (من وجه) من وجه، فإذا عادت إلى بيت الزوج وتحقق الاحتباس إن صار النكاح سبباً من الوجه الذي هو باقي، فمن الوجه الذي هو زائل لا يصير سبباً فلا يصير سبباً بالشك والاحتمال.

أما في الحرة النكاح حالة الطلاق كان سبباً لوجوب النفقة، لأنه كان سبباً لوجوب الاحتباس ولهذا أراد الزوج أن يعيدها إلى بيته كان له ذلك شاءت أو أبت إلا أنها بالنشوز وجب الاستيفاء على الزوج يجوز...... بالمنع من الاستيفاء ما عليها فتمكنت المرأة من استيفاء ما عليه أيضاً. فرق بين هذا وبينما لو أخرجها المولى من بيت الزوج بعد الطلاق ثم أعادها كان لها النفقة لأن النكاح حالة الطلاق كان سبباً لوجوب النفقة لكن السقوط كان يعارض أمراً. فإذا زال العارض ارتفع المسقط فيرتفع السقوط، أما ههنا بخلافه على ما مر. قال: ولو أن رجلاً تزوج أمة رجل بأذن مولاها ولم يبوئها المولى بيتاً حتى لو طلقها الزوج طلاقاً رجعياً فإن للسيد أن يأخذ الزوج حتى يبوئها بيتاً يعني، للمولى أن يخلي بينها وبين الزوج في بيت واحد وينفق الزوج عليها حتى تنقضي العدة، لأن الطلاق الرجعي لا يقطع النكاح، فإن كان الطلاق بائناً فليس للسيد أن يأخذ الزوج حتى يبوئها بيتاً بمعنى لا يخلي بينها وبين الزوج في بيت واحد، لأن الطلاق الثاني يحرم الوطء، وهل للمولى أن يطالب الزوج بالنفقة ما دامت معتدة؟ ذكر الخصاف في نفقاته: أن له ذلك. قال الصدر الشهيد برهان الأئمة رحمه الله: أنه ليس لها النفقة وما ذكرنا من المسألة قبل هذه المسألة يصير رواية لما قاله رحمه الله، وهذا لأنه لا يستحق النفقة حال قيام النكاح قبل البيتوتة، وكل من لا يستحق النفقة حالة النكاح لا يستحق بعد الطلاق، وقد ذكرنا هذا الأصل قبل هذا. فرع على هذه المسألة فقال: لو طلقها الزوج طلاقاً رجعياً ثم أعتقها المولى كان لها أن تطالب من الزوج حتى يبوئها بيتاً وينفق عليها لأنها ملكت أمر نفسها، وإن كان الطلاق بائناً فالزوج لا يخلو بها في بيت واحد لما قلنا. وهي لا تأخذه بالسكنى، وهل لها أن تأخذه بالنفقة؟ ذكر الخصاف أن لها ذلك. والصحيح أنه ليس لها ذلك لما قلنا. قال: وإذا أعتق أم ولده لا نفقة لها في العدة لأنه ما به يستحق النفقة وهو ملك اليمين، وقد زال كله فسقطت النفقة الواجبة قبل العدة لو وجبت النفقة وجبت ابتداءً والعدة لا تصلح لإيجاب نفقة لم تكن وكذلك لو فات المولى حصة عتق أم الولد بموته لا نفقة لها في تركة الميت، ولكن إن كان لها ولد فنفقتها تكون في نصيب الولد، لأن الأم إذا كانت معسرة معتده فنفقتها على الولد، وإن كان الولد صغيراً على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : وإذا أقر الزوج بحرمة امرأته وقد دخل بها وفرق بينهما فلهذا المسمى من المهر ونفقة العدة. ومعنى هذه المسألة أن الزوج أدعى فساد النكاح الأصل، أو أقر بالحرمة وأسند الحرمة إلى الزمان الماضي، وهذا لأن الزوج أقر على نفسه بالحرمة وعليها يسقط المسمى، والنفقة فيصدق في حق نفسه لا في حقها والله أعلم. النوع الثاني في الأسباب المسقطة لهذه النفقة قال محمد رحمه الله: المعتدة إذا وجبت لها النفقة كانت لها في العدة بمنزلة الزوجة التي لم تطلق، فما وجب للزوجة التي لم تطلق من النفقة فكذلك للمعتدة ما دامت في العدة، وما حرمت به من النفقة وهي زوجة تحرم به إذا كانت في العدة، والمرأة فيه إذا ارتدت عن الإسلام في عدتها فحلست حتى تفوت، أو حبست المعتدة في الدين، أو خرجت للحج، لأنه لما فات حقيقة الاحتباس لهذه الأسباب فإن منفعته صيانة ماء الزوج فلا يستحق النفقة. فأما إذا لم يجب الإحتباس في العدة بأن ارتدت في العدة ولكن لم تحبس بعد، إنما هي في بيت الزوج أو قبّلت ابن الزوج أو ما (311ب1) أشبه ذلك فإنه لا تسقط نفقتها متى حصلت في العدة وإن كانت تسقط النفقة حال قيام النكاح، وإنما كان كذلك لأن في حال قيام العدة إذا لم يجب الاحتباس بسبب هذه الأفعال كان منفعته وهو صيانة الماء حاصل للزوج فكان ما هو المقصود خاصة للزوج فتستحق النفقة أما في حال قيام النكاح فوجب الاحتباس الذي هو مطلوب بالنكاح وهو الاحتباس لمنفعة الوطء ودواعيه فجوزيت بالحرمان. فرع على ما إذا ارتدت وحبست حتى سقطت النفقة فقال لو رجعت إلى الإسلام فلها النفقة والسكنى لأن الاستحقاق النفقة كان ثابتاً لها لكن السقوط كان قد تعارض وهو الحبس بالردة حتى تتوب فإن اسلمت زال العارض فيعود الاستحقاق كما لو نشزت ثم عادت إلى بيت العدة. فرق بين هذا وبينما لو ارتدت وهي منكوحة حتى وقعت الفرقة وسقطت النفقة ثم أسلمت بعد ذلك، فإن النفقة لا تعود. والفرق: أن الفرقة في ارتداد المنكوحة إنما وقعت بمعنى مضاف إليها وهو معصية فسقطت النفقة أصلاً فلا يعود بعد ذلك، أما إذا ارتدت وهي معتدة فسبب الوجوب قد تعدد لكن امتنع الوجوب في بعض المدة تعارض أمر وقد زال ذلك فيزول المنع كما في النشوز قال وإن كاتب المعتدة حتى ارتدت التحقت بدار الحرب ثم أسلمت بعد ذلك أو سبيت وأعتقت فلا نفقة لها لأنها لما لحقت بدار الحرب مرتدة فسقطت العدة حكم الانقطاع العصمة بتباين الدارين فكان بمنزلة ما لو سقطت العدة بمضي المدة، وهذا الذي

ذكرنا كله في الطلاق الثاني والطلقات الثلاث. جئنا إلى الطلاق الرجعي فنقول: المعتدة بالطلاق الرجعي إذا وطئها ابن الزوج أو قبلها بشهوة وهي مطاوعة وارتدت فحبست أو لم تحبس فلا نفقة لها، لأن في الطلاق الرجعي الفرقة ما وقعت بالطلاق فيكون وقوع الفرقة بسبب وجد منها وهو معصية فيوجب ذلك سقوط النفقة ولا كذلك في الطلاق الثاني والطلقات الثلاث. قال: المعتدة إذا خرجت من بيت العدة سقطت نفقتها. هكذا روي عن الضحاك مطلقاً، وهذا عندنا ما دامت على النشوز، وإن عادت إلى بيت الزوج كان لها النفقة والسكنى كما في حال قيام النكاح، ثم الخروج من بيت العدة على سبيل الدوم ليس بشرط لسقوط النفقة، فإنها إذا خرجت زماناً وسكنت زماناً لا تستحق النفقة. هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «أدب القاضي» للخصاف في شرح أحاديث باب إثبات الوكالة. قال: وكذلك إن كانت ناشزة وقت الطلاق ثم عادت إلى بيت الزوج بعد الطلاق تستحق النفقة، وهذا لما ذكرنا أن نفقة العدة تبعاً لنفقة النكاح، فتكون هذه الحالة معتبرة بحال قيام النكاح. والجواب: حال قيام النكاح على هذا الوجه، فكذا حال قيام العدة. وفي «فتاوى النسفي» : في المعتدة عن طلاق بائن إذا تزوجت في العدة ووجد الدخول وفرق بينهما ووجبت عليها العدة منهما لا نفقة لها على الزوج الثاني؛ لأن النكاح مع الزوج الثاني فاسد وإنما نفقتها على الزوج الأول؛ لأنها لا توصف بالنشوز بمنعها نفسها منه ههنا، لأن الطلاق الخل وزال هكذا ذكر ههنا. وتأويل هذه المسألة ما إذا تزوجت وهي في بيت العدة لم تخرج من بيت العدة، أما إذا خرجت من بيت العدة لا تستحق النفقة لما قلنا والله أعلم. النوع الثالث في الصلح عن نفقة العدة قال: وإذا صالح الرجل امرأته عن نفقتها ما دامت في العدة على دراهم مسماة لا يزيد عليه حتى تنقضي العدة ينظر إن كانت عدتها بالحيض لا يجوز الصلح، وإن كانت بالأشهر جاز، وإنما كان هكذا لأن العدة إذا كانت بالحيض فمدة النفقة مجهولة فلا يدري حيضة كل يوم من المصلح عليه، وإنما يحتاج إلى استيفاء حصة كل يوم بعد الصلح، لأن كل يوم مضى فنفقة ذلك اليوم تصير ديناً لها على الزوج فيكون لها استيفاء ذلك لا محالة. فأما إذا لم يكن حصة كل يوم معلومة تقع بينهما منازعة مانعة من التسليم، والتسليم مثل هذه الجهالة تمنع جواز الصلح كما لو صالحت عن نفقتها مع الزوج، وما دامت زوجة له على مال معلوم كان صلح الطلاق باطلاً، فكذا ههنا بخلاف ما إذا كانت عدتهما بالأشهر، لأن مدة النفقة معلومة وهي ثلاثة أشهر فتكون حصة كل يوم من النفقة معلومة فيمكنها استيفاء حصة كل يوم يمضي من وقت الصلح، فكان الصلح جائز.

قال: وإذا خلع الزوج امرأته أو طلقها طلاقاً بائناً ثم صالحها من السكنى على دراهم فإن هذا لا يجوز، لأن السكنى حال قيام العدة، وإن كان حقوق الزوجة ففيه حق الله تعالى أيضاً، فلو جاز هذا الصلح أدى إلى إبطال حق الله تعالى فلا يجوز وإن صالحها من النفقة على دراهم، إن لم يشترط في الخلع أبرأته عن النفقة لا يجوز الصلح لأن البراءة عن النفقة متى كانت مشروطة في الخلع الصحيح فهي إنما صالحت عما ليس بحق لها فلا يجوز. استشهد في «الكتاب» فقال: ألا ترى أن المنكوحة نكاحاً فاسداً (إذا) صالحت من النفقة على دراهم لا يجوز؛ لأنها صالحت عما ليس بحق لها فكذا ههنا. النوع الرابع في اختلاف الزوجين في وقوع الطلاق وبيان حكم النفقة فيه قال الخصاف رحمه الله في نفقاته: ولو أن رجلاً قدمته امرأة إلى القاضي وطالبته بالنفقة، فقال الرجل للقاضي: كنت طلقتها منذ سنة وانقضت عدتها في هذه المدة وجحدت المرأة الطلاق فإن القاضي لا يقبل قوله، لأن الطلاق ظهر بقوله في الحال وهو بالإسناد يريد إسقاط النفقة عن نفسه فلا يصدق إلا ببينة، فإن شهد له شاهدان بذلك والقاضي لا يعرفهما فإنه يأمره بالنفقة عليها؛ لأن وقوع الطلاق في ذلك الوقت لم يظهر بعد، فإن عدلت الشهود وأقرت أنها قد حاضت ثلاث حيض في هذه السنة فلا نفقة (312أ1) لها عليه، وإن كانت أخذت منه شيئاً ردت عليه؛ لأنه ظهر أنها أخذت مال الغير بغير حق مال. ولو شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته ثلاثاً وهي تدعي الطلاق أو تنكر فإنه ينبغي للقاضي أن يمنع الزوج عن الدخول عليها والخلوة معها ما دام القاضي من...... يتركه الشهود، لأن الشهود يحتمل أن يكون صدقة، وعلى هذا التقدير كانت المرأة أجنبية، ويحتمل أن يكونوا كذبة فعلى هذا التقدير كانت منكوحة بوجوب المنع احتياطاً، ولا يخرجها القاضي من هذا الوجه من منزل زوجها. نص عليه في «الجامع» ولكن يجعل معها امرأة أمينة تمنع الزوج من الدخول عليها. وإن كان الزوج عدلاً فرق بين هذا وبينما إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً ومنزله.....، يجعل بينهما ستراً حائلاً، فإنه يكفي ولا يحتاج إلى امرأة أمينة إذا كان الزوج عدلاً والفرق عرف في موضعه. ونفقة الأمنية ههنا في بيت المال لأنها مشغولة بمنع الزوج عن الدخول عليها حقاً لله تعالى. احتياطاً لأمن الفرج فكانت عاملة لله تعالى فتكون نفقتها في مال الله تعالى وهو مال بيت المال.

وإن طلبت المرأة من القاضي النفقة وهي تقول: طلقني أو تقول: لا يطلقني، أو تقول: لا أدري أطلقني أم لم يطلقني فهذا على وجهين: إن لم يكن الزوج دخل بها فالقاضي لا يقضي لها بالنفقة، لأنه إن وقع الطلاق عليها فهي....... من غير عدة، فلا تجب لها النفقة. فإن لم يقع الطلاق عليها فهي محبوسة عن الزوج. والمنكوحة متى حبست عن الزوج لا تستحق النفقة، وإن كان قد دخل بها فالقاضي يقضي لها بمقدار نفقة العدة إلى أن يسأل عن الشهود؛ لأنه إن وقع الطلاق عليها فلها نفقة العدة، وإن لم يقع لا نفقة لها لأنها منكوحة محبوسة عن الزوج، وإذا احتمل يقضي لها بنفقة العدة إلى أن يسأل عن الشهود، وإن تطاولت المسألة عن الشهود حتى انقضت العدة لم يردها القاضي على نفقة العدة شيئاً لأنا تيقنا أنه لا نفقة لها بعد مضي مدة العدة، لأنه إن وقع الطلاق عليها فقد انقضت عدتها، وإن لم يقع الطلاق عليها فهي ممنوعة عن الزوج، بعد هذا إن كتب الشهود فرق بينهما وسلم لها ما أخذت من النفقة؛ لأنها تتبين أنها منكوحة محبوسة عن الزوج لا يفعل الزوج فلم يكن لها نفقة النكاح فكان أخذها بغير حق فيجب عليها الرد. استشهد في «الكتاب» لا تصح هذه المسألة، فقال: ألا ترى أن القاضي لو فرق بينهما شهادة شهود فمكث زماناً، وقد كانت للمرأة على الزوج فريضة نفقة معلومة لكل شهر فكانت المرأة تأخذ ذلك حالة العدة، ثم علم أن الشهود كانوا عبيداً أو محدودين في المقذف فردت شهادتهم وردت المرأة على زوجها ويجب عليها رد ما أخذت في هذه المدة لأنه يتبين أنها منكوحة في هذه المدة ممنوعة عن الزوج، لا بمعنى من جهة الزوج. كذا ههنا. ومما يتصل بهذا الفصل المعتدة إذا أنفق عليها إنسان ليتزوجها، ثم لما انقضت العدة إنسان تزوج نفسها منه، فهذا على وجهين: الأول أن يشترط الزوج وقت الإنفاق بأن يقول لها: أنفق عليك ما دمت في العدة على أن تزوجي نفسكِ مني إذا مضت عدتك ففي هذا الوجه للزوج أن يرجع عليها بها إذا أنفق، سواءً زوجت نفسها أو لم تزوج، لأنه أنفق عليها بشرط فاسد. وذكر في «فتاوى الفضلي» رحمه الله: في هذا الوجه أن الزوج إن كان أعطاها دراهم فله أن يرجع عليها إذا أبت أن تزوج نفسها منه. إلا أن يكون أعطاها على وجه الصلة. الوجه الثاني: أن ينفق عليها من غير شرط التزويج لكن علم عرفاً أنه يتفق بشرط أن تزوج المرأة نفسها منه، ثم لم ترجع. وفي هذا الوجه اختلف المشايخ بعضهم، قالوا: يرجع لأن المعروف كالمشروط، وبعضهم قالوا: لا يرجع وهو الصحيح؛ لأنه أنفق على قصد التزوج لا على شرط التزويج الفضل.

الفصل الثالث في نفقة ذوي الأرحام

الفصل الثالث في نفقة ذوي الأرحام هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضاً: النوع الأول فيما يحب على الأب والأم في رضاع الصغير ونفقته. والأصل في ذلك قول الله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} (البقرة: 233) الآية ولأهل العلم في معنى أول الآية إلى آخرها كلام، وأما قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن} اختلفوا فيه: قال بعضهم: هذا مجرد...... الوالدات، كذا يفعلن في العام الغالب. وليس فيه إيجاب الإرضاع على الأمهات. وقال بعضهم: فيه إيجاب الإرضاع على الأمهات، وإن كان بصيغة الخبر كقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} (البقرة: 228) وعن هذا ثلاث، إن حال قيام النكاح لا يجوز لها أن تأخذ الأجر بالإرضاع، لأنه يجب عليها الإرضاع ديانة، وإن كانت لا تجبر على ذلك في الحكم واحد الأجرة إذا ما يجب عليها من الدين لا يجوز. ألا ترى أنه لا يجوز لها أخذ الأجر من الزوج بسبب أعمال داخل البيت ولهذا أن أعمال داخل البيت واجبة عليها ديانة، كذا ههنا. وفي الجبر على الإرضاع كلام، واختلاف يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى. وأما قوله تعالى: {حولين كاملين} فيه اختلاف ظاهر: أن هذه مدة الرضاع في حق التحريم بأدنى (المدة) قال أبو حنيفة رحمه الله: شهراً إن وجد الرضاع في هذه المدة ثبتت الحرمة وفُطِم على رأس الحولين، أو لم يفطم، وإن وجد بعد هذه المدة تثبت الحرمة وفطم على رأس هذه المدة، أو لم يفطم. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: حولين، وهو قول الشافعي رحمه الله. وقال زفر رحمه الله: ثلاث سنين والحجج معروفة في «المبسوط» ثم مدة الرضاع ثلاث أوقات: أدنى، وأوسط، وأقصى. فالأدنى: حول ونصف. والأوسط: حولان. والأقصى: حولين ونصف، حتى لو نقص عن الحولين لا يكون شططا، ولو زاد على الحولين لا يكون مقدراً، والوسط: هو الحولان فلو كان الولد يستغني عنها دون الحولين تفطمه في حول ونصف بالإجماع يحل ولا تأثم، ولو لم يستغن عنها بحولين يحل لها أن ترضعه بعد ذلك (312ب1) . عند عامة العلماء إلا عند خلف بن أيوب

رحمه الله، إنما الكلام في ثبوت الحرمة واستحقاق الأجر عند أبي حنيفة رحمه الله ثبتت حرمة الرضاع في ثلاثين شهراً، وعندهما إلى حولين. أما الكلام في استحقاق الأجر قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله هو على هذا الخلاف حتى أن من طلّق امرأته فأرضعت بعد الحولين فطلبت الأجر عند أبي حنيفة رحمه الله: استحق الأجر إلى تمام حولين ونصف وعند أبي يوسف ومحمد رحمها الله: لا يستحق الأجرة فيما عدا الحولين، وأكثر المشايخ أن على مدة الرضاع في حق استحقاق الأجر على الأب فقدره بحولين عند الكل حتى لا تستحق المطلقة أجرة الرضاع بعد الحولين بالإجماع، وتستحق في الحولين بالإجماع. وأما قوله تعالى: {لمن أراد أن يتم الرضاعة} (البقرة: 233) هي من إرادة تمام الرضاع ترضع حولين كاملين لا ينقص عن ذلك، ولكن إذا نقص عن ذلك، وكان الولد يستغني عن ذلك يجوز، وقد مرّ جنس هذا، وأما قوله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} (البقرة: 233) سنبّين معناه بعد هذا إن شاء الله. قال أصحابنا رحمهم الله، ولا تجبر الأم على إرضاع ولدها؛ لأن الإرضاع بمنزلة النفقة ونفقة الأولاد تجب على الآباء لا على الأمهات فكذا الإرضاع. وإن كان الصبي لا يأخذ لبن غريها ولا يوجد من ترضعه هل تجبر الأم على الإرضاع؟. ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرحه» : أن القاضي الخصاف في باب نفقة الصبيان أن في «ظاهر الرواية» عن أصحابنا رحمهم الله: لا تجبر. وروي عن أبي يوسف وأبي حنيفة رحمهما الله في «النوادر» أنها تُجبر، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح «أدب القاضي» للخصاف أيضاً أنها تجبر من غيره بلا خلاف. وهكذا ذكر في «شرح القدوري» ، وهذا لأنها لو لم تجبر والولد لا يأخذ لبن غيرها...... الولد وهي ممنوعة عن إتلاف الولد. وجه ما ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أن الولد تغذى بالدهن وغيره من المائعات لا يؤدي هذا إلى إتلاف الولد. قال الضحاك: إذا لم يكن للصبي أو للأب مال أجبرت الأم على الإرضاع وهو الصحيح، لأنها..... في اللبن، فصار هذا قياس ما قال أصحابنا رحمهم الله في الأب إذا غاب وليس له مال، وترك امرأة وصغيراً وللمرأة مال فالمرأة تجبر على الإنفاق على الصبي، ثم هي ترجع عليه، كذا ههنا. ثم إرضاع الصغير إذا كان يوجد من يرضعه إنما يجب على الأب إذا لم يكن للصغير مال. أما إذا كان له مال بأن ماتت أمه فورث مالاً أو استفاد مالاً بسببٍ آخر يكون مؤنة الرضاع في مال الصغير، وكذلك نفقة الصبي بعد الفطام إذا كان له مال لا يجب على الأب. فرق بين نفقة الولد وبين نفقة الزوجات، فإن المرأة وإن كانت موسرة فنفقتها على الزوج.

والفرق وهو: أن نفقة الزوجة إنما تجب إذا تمكن من الاستمتاع، فكان سببه البدل، والبدل يجب وإن كان من يستحقهُ غيناً. فأما نفقة الولد لا تجب إذا تمكن من الانتفاع، وإنما تجب لأجل الحاجة فلا تجب بدون الحاجة، كنفقة المحارم. فإن كان للصغير عقاراً....... ذلك للنفقة كان للأب أن يبيع ذلك كله وينفق عليه؛ لأنه غني بهذه الأشياء، ونفقة الصبي تكون في ماله إذا كان غنياً.6 وإن كان مال الصغير غائباً توجب على الأم أن تنفق من مال الولد إذا حضر ماله، ولكن إن أشهد على ذلك فله أن يرجع في الحكم، وإن أنفق بغير إشهاد على نية الرجوع ليس له أن يرجع في الحكم؛ لأن الظاهر أن الأب قصد فيما ينفق على ولده التبرع والقاضي لا يطلع إلا على الظاهر، أما الله تعالى فمطلع على الضمائر والظواهر، فكان له أن يرجع إذا كان قصده عند الإنفاق الرجوع. وأما إذا لم يكن قصده عند الإنفاق الرجوع. وأما إذا لم يكن للصبي مال فالنفقة على والده لا يشاركه أحد في ذلك؛ لأنه إنما يستحق النفقة على الوالد لكونه........ إليه غيره لا يشاركه في هذا المعنى فلا يشاركه في النفقة عليه. وروي عن أبي حنيفة رحمه الله: أن النفقة على الأب والأم أثلاثاً على حسب ميراثهما إلا أن في «ظاهر الرواية» جعل الكل على الأب لأن النفقة نظير الإرضاع، فكما لا يشارك الأب في مؤنة الإرضاع أحدٌ فكذا في النفقة. قال: وإن كان الأب معسراً والأم موسرة أمرت أن تنفق من مالها على الولد ويكون ديناً على الأب ترجع عليه إذا أيسر، لأن نفقة الولد الصغير على الأب وإن كان معسراً كنفقة نفسه فكانت الأم صاحبة حق واجب عليه يأمرها القاضي فترجع عليه إذا أيسر كما إذا أدت بأمره ثم جعل الأم أولى بالتحمل من سائر الأوقات، حتى لوكان الأب معسراً والأم موسرة، وللصغير جدٌّ موسر تؤمر الأم بالإنفاق من مال نفسها ثم ترجع على الأب، ولا يُؤمر الجد بذلك؛ لأنه وقعت الحاجة إلى الاستدانة من مالها وهي أقرب إلى الصغير وأولى. قال: رجل له ولد صغير وأمه في نكاحه، فطلبت من زوجها أجرة الرضاع لا تستحق وإن استأجرها على ذلك لما ذكرنا من المعنى، ومعنى آخر: أن نفقة النكاح واجب على الزوج كما وجب على الزوج، فلو أوجبنا عليه أجرة الرضاع يجتمع أجرة الرضاع مع نفقة النكاح في مالٍ واحد وهذا لا يجوز هذا إذا لم يكن للصغير مال. أما إذا كان له مال هل يجوز أن يقرض أجرة الرضاع من ماله؟ ذكر رحمه الله في أول «شرح النفقات» للخصاف رحمه الله: أنه روى عن محمد رحمه الله أنه يقرض من مال الصبي، وهكذا ذكر في إجارات القدوري. قال محمد رحمه الله في أول «شرح النفقات» : وليس فيه اختلاف الروايتين ولكن ما روي عن محمد رحمه الله أنه يقرض من مال الصغير تأويله إذا لم يكن للأب مال، وما

ذكر أن الزوج إذا استأجرها على إرضاع ولده لا يجوز تأويله إذا فرض أجرة الرضاع في ماله نفسه ولا يستحق ذلك كيلا تجتمع أجرة الرضاع مع نفقة النكاح في مال واحد، وهذا (313أ1) المعنى لا يتحقق إذا فرض لها في مال الصغير فقلنا إنها تستحق ذلك المال، وإن كانت الأم معتدة عن طلاق رجعي لا تستحق أجرة الرضاع على الزوج أيضاً، لأن بالطلاق الرجعي النكاح لم يزل، فصارت هذه الحالة حال قيام النكاح، فأما إذا كانت الأم معتدة عن طلاق بائن أو طلقات ثلاث هل تستحق أجرة الرضاع؟ فيه روايتان: وجه الرواية التي قال: لا تستحق بالطلقات الثلاث والطلاق البائن التحقت بسائر الأجنبيات والأجنبية تستحق الأجرة للرضاع فكذا هذه المرأة. وجه الرواية الأخرى: أن العدة من أحكام النكاح فلهذا تجب النفقة ما ثبتت العدة. والدليل عليه: أن الرجل إذا...... زكاة ماله إلى معتدته عن طلاق ثاني أو ثالث أو شهد لمعتدته عن طلاق ثاني أو ثالث لا يجوز رواية واحدة فعلم أن هذه الحالة معتبرة بحال قيام النكاح، فلا تستحق أجرة الرضاع كما في حال قيام النكاح أما بعد انقضاء العدة تستحق أجرة الرضاع باتفاق الروايات؛ لأن هذه الحالة ليست بحالة قيام النكاح أصلاً، فكانت في هذه الحالة ملحقة بالأجنبيات من كل وجه. فرع على هذه المسائل في كتاب الصلح فقال: لو صالحت المرأة زوجها عن أجرة الرضاع على شيء إن كان الصلح حال قيام النكاح أو في العدة عن طلاق رجعي لا يجوز، وإن كان الصلح في العدة عن طلاق ثاني أو طلقات ثلاث جاز على إحدى الروايتين؛ لأن الصلح على أن يعطيها شيئاً لترضع ولدها استئجار لها على إرضاع ولده منها وذلك على هذا التفصيل على ما ذكرنا، كذا هنا. وإذا جاز الصلح بعد الطلاق الثاني على إحدى الروايتين كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا استأجرها على عمل آخر من الأعمال ولو استأجرها على عمل أخر من الأعمال على دراهم أو صالحها عن تلك الدراهم بعينه جازو إن صالح عن تلك الدراهم على شيء بغير عينه لا يجوز إلا أن يدفع ذلك في المجلس حتى لا يكون هذا بيع دين بدين كذا ههنا. وفي كل موضع جاز الاستئجار ووجبت النفقة لا يسقط بموت الزوج؛ لأنها أجرة ليست بنفقة، ثم إذا لم تحب أجرة الإرضاع حال قيام النكاح من كل وجه، وفي العدة عن طلاق رجعي في العدة، عن طلاق ثاني أو ثالث على إحدى الروايتين كان لها أن تمنع عن الإرضاع ولا تجبر على ذلك ولكن بالشرائط التي ذكرنا قبل هذا وإذا لم يجبرو لم يكن للصبي مال كان على الأب أن يكتري امرأة ترضعه عند الأم ولا تبرع على الأم؛ لأن

الأم أجمعت على أن الجحد لها، لكن لا يجب على...... تمكث في بيت الأم إذا لم يشترط ذلك عليها عند العقد، وكان الولد يستغني عن الظئر في تلك الحالة، بل لها أن ترضع وتعود إلى منزلها. وإذا لم يشترط عند العقد أن ترجع عند الأم كان لها أن تحمل الصبي إلى منزلها أو يقول: أخرجوه وأرجعوه عند فناء الدار، ثم يدخل الولد على الوالدة إلا أن يكون شرط عند العقد أن الظئر تكون عند الأم، فحينئذ يلزمها الوفاء بذلك الشرط، فإذا قالت: أنا أرضع الولد بمثل ذلك الأجرة، ففي كل موضع تستحق هي أجرة الرضاع كما في العدة عن طلاق ثاني أو ثالث على إحدى الروايتين أو بعد انقضاء العدة على الروايات كلها كانت هي أولى، بخلاف ما إذا كانت تطلب زيادة على ما ترضعه غيرها حيث لا تكون هي أولى. والفرق: وهو أن إرضاع الأم للصغير، فإذا كانت ترضعه بما يرضعه غيرها فالأب في انتزاع الولد منها متعنت محض مأخذ الإضرار بالولد فكانت الأم أولى: أما إذا طلبت الزيادة على ما يرضعه غيرها لم يكن الزوج في انتزاع الولد منها متعنتاً، فكان للزوج ذلك، وإلى هذا وقعت الإشارة في الكتاب. قال الله تعالى: {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} (الطلاق: 6) جاء في التفسير: أن التعاسر أن يجرى بينهما المكس في الأجرة. قال: ولو.... أولاد صغار، بعضهم رضيع وبعضهم فطيم وأمهم زوجية وليس للأولاد مال، فخاصمته أمهم في نفقتهم فالقاضي يفرض لهم النفقة على الأب ما داموا صغاراً للأب نفقة الأولاد الصغار ويكون على الأب بالإجماع. وإن شكت الأم..... في النفقة عليهم، فينبغي للقاضي أن يسمع..... ويدفع بعض نفقة الأولاد إليها؛ لأن الأب إذا كان..... عليهم ربما يموتوا جوعاً فيدفع بعض نفقة الأولاد إليها لأنها أرفق بالأولاد فلا..... عليهم. فإن قال الأب: إنها تدخل..... نفقة الأولاد ولا ينفق ذلك على الأولاد وتجمعهم لا يقبل قوله عليها؛ لأنها أمينة، ودعوى الجناية على الأمين لا تسمع من غير حجة. فإن قال للقاضي: سَلْ جارتها عنها، فإن القاضي يسأل عن جيرانها احتياطاً، وإنما يسأل عن كل من تداخلها؛ لأنه إنما يعرف حالها من تداخلها فإن جيرانها مثل الذي ادعى الأب...... القاضي ومنعها عن ذلك لأنه نصب ناظراً للمسلمين، ونظر الصغار في هذا. ومن مشايخنا رحمهم الله من قال: إذا وقعت المنازعة بين الزوجين في هذا الباب وظهر قدر النفقة فالقاضي بالخيار؛ إن شاء دفعها إلى نفقتها يدفعها إليها صباحاً ومساءً، ولا يدفعها إليها جملة، وإن شاء أمر غيرها أن تنفق على الأولاد. قال: وإن صالحت المرأة زوجها عن نفقة الأولاد الصغار صحّ سواء كان الأب

معسراً أو موسراً؛ لأن نفقة الصغار من الأولاد لا يسقط بعسرة الأب، ثم اختلفت عبارة المشايخ....... جاز هذا الصلح. قال بعضهم: إنما جاز لأن الأب هو العاقد من الجانبين، والأب يصلح أن يكون عاقداً من الجانبين. ألا ترى أن الأب يبيع مال نفسه من الصغير ويشتري مال الصغير لنفسه فيكون هذا العاقد من الجانبين. وقال بعضهم: إنما جاز؛ لأن العاقد من جانب الأب ومن جانب الصغار الأم، ونفقة الصغير من أسباب التربية والحضانة فكان للأم في ذلك ولاية قائمة (313ب1) جاز هذا الصلح بولاية الأب وولايتها. فبعد هذا ينظر؛ إن كان وما وقع الصلح عليه أكثر من نفقتهم، فإن كانت الزيادة مما يتغابن الناس فيه بأن كانت الزيادة زيادة تدخل تحت تقدير المقدرين في مقدار كفايتهم فإنه يكون عفواً؛ لأنه لا يمكن التحرز عنه. وإن كانت الزيادة بحيث لا ندخل تحت تقدير المقدرين يطرح عنه لأن الواجب مقدار الكفاية، فما زاد على قدر الكفاية لا ينسب له فيبطل، وإن كان المصالح عليه أقل من نفقتهم بأن كان لا يكفيهم يبلغ إلى مقدار كفايتهم؛ لأن الواجب على الأب مقدار ما يكفيها. فرق بين نفقة الأولاد وبين نفقة الأقارب، فإن المعسر إذا صالح قريبه عن النفقة لا يجوز الصلح؛ لأن النفقة للأقارب لا تجب إلا على الموسر على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى. فهذا الصلح إنما وقع عما ليس بحق القريب فلا يصح. أما نفقة الأولاد واجبة على الأب. وإن كان الأب معسراً فالصلح إنما وقع عمّا هو حق الأولاد فصح. قال: رجلٌ له أولاد صغار لا مال له ولا مال للصغار هل أيضاً يفرض عليه؟ فيكتسب وينفق عليهم؛ لأن نفقة الأولاد الصغار لا تسقط بعسرة الأب. قال الله تعالى: {وعلى الموسع قدره وعلى المقتر قدره} (البقرة: 236) ثم قال الله تعالى: {من وجدكم} (الطلاق: 6) والوجد: هو الطاقة. علم أن هذه النفقة لا تسقط بالعسار ولكن يفرض عليه مقدار طاقته لما تلونا من النص. وإن أبى الأب أن يكتسب وينفق عليهم يجبر على ذلك ويحبس، بخلاف سائر الديون، فإن الوالدين وإن عَلَو لا يحبسون بديون الأولاد وفي هذا الدين، قال يحبس. والفرق: وهو أن في الامتناع عن الإنفاق ههنا إتلاف النفس، والأب لا يستوجب العقوبة عن قصده إتلاف الولد كما لوعدا على ابنه بالسيف كان للابن أن يقتله، بخلاف سائر الديون. ولو كان الأب عاجزاً عن الكسب لماله من السعاية أو كان مقعداً يتكفف الناس وينفق عليهم. هكذا ذكر في نفقات الخصاف رحمه الله، ومن المتأخرين من قال تكون نفقة الأولاد في هذه الصورة في بيت المال؛ لأنه إذا كان بهذه الصفة تكون نفقته في بيت المال فكذا نفقة أولاده.

وذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أن في هذه الصورة يفرض القاضي النفقة على الأب ويأْمُرُ المرأة بالاستدانة على الزوج سواء التمست المرأة ذلك من القاضي أو لم تلتمس، فإذا أيسر وقدر عليه طالبته المرأة بما استدانت. وكذلك لو كان الأب في أخذ النفقة لكنه امتنع عن النفقة على الصغير يفرض القاضي على الأب نفقة الأولاد فامتنع الأب عن (النفقة) على الأولاد فالقاضي يأمرها أن تستدين عليه وتنفق على الصغير لترجع بذلك على الأب. قال: وكذلك إن فرض القاضي النفقة على الأب ومات الأب فتركهم بلا نفقة فاستدانت بأمر القاضي وأنفقت عليهم فإنها ترجع على الأب بذلك الإنفاق على الصغير بأمر القاضي كالإنفاق عليهم بأمر الأب، وكذلك هذا الحكم في مؤنة الرضاع إذاكان الأب معسراً فالقاضي يأمر المرأة بالاستدانة فإذا أيسر رجعت عليه بالقدر الذي أمرها القاضي بالاستدانة لما قلنا. وإن لم تكن المرأة استدانت بعد الفرض لكنهم كانوا يأكلون من مسألة الناس لم ترجع على الأب بشيء، لأنهم إذا سألوا وأُعطوا صار ذلك ملكاً لهم، فوقع الاستغناء عن نفقة الأب، واستحقاق هذه النفقة باعتبار الحاجة. فإذا وقع الاستغناء لهم ارتفعت الحاجة فتسقط النفقة عن الأب، فإن كانوا أُعطوا مقدار نصف الغاية سقط نصف النفقة عن الأب، وتصح الاستدانة في النصف بعد ذلك. وعلى هذا القياس فافهم. وليس هذا في حق الأولاد خاصة بل في نفقة جميع المحارم إذا أكلوا من مسألة الناس لا يكون لهم حق الرجوع على الذي فرضت نفقتهم عليه واجب المسألة أن نفقة الأقارب لا تصير ديناً، بقضاء القاضي بل تسقط بمضي المدة، بخلاف نفقة الزوجات والفرق قد مرّ قبل هذا. وذكر في أبواب «زكاة الجامع» : أن نفقة الأقارب تصير ديناً بقضاء القاضي. واختلف المشايخ فيه: قال بعضهم، إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضع، فموضوع المحارم ما ذكر في «الجامع» إذا استدان المقضي له بالنفقة وأنفق من ذلك فتكون الحاجة قائمة لقيام الدين. وموضوع ما ذكر في سائر المواضع: إذا أنفق مال صدقة تُصُدِّقَ بها عليها فلا تُنفى الحاجة بعد مضي المدة، وإلى هذا مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح كتاب النكاح. وقال بعضهم: ما ذكر في سائر المواضع محمول على ما إذا طالت المدة. وما ذكر في «الجامع» محمول على ما إذا قصرت المدة، ونفقة الأقارب، إنما لا يصير ديناً بقضاء القاضي إذا طالت المدة، أمّا إذا قصرت يصير ديناً فكيف لا يصير ديناً؟ فإن القاضي مأمور بالقضاء بالنفقة، ولو لم يصير ديناً أصلاً لم يكن للأمر بالقضاء بالنفقة معنى وفائدة، لكن لا بد من حلَ فاصلٍ بين القصر والمزيد، فقدَّروا القصر ما دون الشهر، وذكر في «الحاوي» في «الفتاوى» هذه المسألة. وفرق بين نفقة الصبي وبين نفقة سائر المحارم فقال: نفقة الصبي تصير ديناً على الأب بقضاء القاضي، ونفقة سائر الأقارب لا تصير ديناً بقضاء القاضي، قال: فإن كان

القاضي بعدما فرض نفقة الأولاد أمرها بالاستدانة فاستدانت حتى يتثبت لها حق الرجوع على الأب فمات الأب قبل أن يؤدي إليها هذه النفقة هل لها أن تأخذ من ماله إن ترك مالاً؟ ذكر الخصاف في «نفقاته» : أنه ليس لها ذلك، وذكر في «الأصل» : أن لها ذلك وهو الصحيح؛ لأن استدانة المرأة بأمر القاضي، وللقاضي ولاية كاملة بمنزلة استدانة الزوج بنفسه، ولو استدان الزوج بنفسه ثم مات لا يسقط عنه الدين كذا ههنا. هذا إذا استدانت بأمر القاضي، فأما إذا فرض القاضي نفقة الأولاد ولكن يأمرها بالاستدانة فاستدانت ثم مات الزوج قبل أن يُؤدي ذلك إليها ليس لها أن تأخذ من ماله إن ترك مالاً بالإنفاق، وقد مرّ جنس (314أ1) هذه الفصول في باب نفقة الزوجات، ثم قدّر محمد رحمه الله نفقة الصغير وكسوته على المعتبر بالدراهم، وهذا ليس بتقدير لازم، إنما المعتبر ما يحصل به الكفاية لكن إن موسراً يؤمر بأن يوسع على الأولاد في النفقة والكسوة على حسبه لما يرى الحاكم، وقد مرّ نظائره في نفقة الزوجات أيضاً. قال: وأما الذكور من الأولاد إذا بلغوا أحد الكسب ولم يبلغوا في أنفسهم، فأراد الأب أن يشغلهم في عمل ليكسبواوينفق عليهم من ذلك فله ذلك. وكذلك لو أراد الأب أن يؤاجره في عمل أو حرفةٍ فله ذلك؛ لأن فيه منفعة للصغير؛ لأن يتعلم الكسب. أما قبل أن يتعلم أو بعدما تعلّم ولكنه لا يحسن العمل فنفقته على الأب؛ لأنه إذا كان لا يحسن العمل لا يستعمل في الأعمال غالباً وظاهراً، فكأنه لم يتعلم أصلاً. وأما إذاكان الولد من الإناث فليس للأب أن يؤاجرها في عملٍ أو حرفة لأن المستأجر لحلاوتها وذلك منهيٌ في الشرع، ثم في الذكور إذا أشغلهم في عمل واكتسبوا أموالاً فالأب يأخذ كسبهم وينفق عليهم من كسبهم؛ لأن ذلك ملكهم، ونفقة الولد في ماله إذا كان له مال وما فضل من نفقتها فالأب يحفظ ذلك عليهم إلى وقت بلوغهم كسائر أموالهم. فإن كان الأب مبذراً لا يؤمر على ذلك، فالقاضي يخرج ذلك من يده ويجعله في يد أمين ليحفظه لهم، فإذا بلغوا سلم إليهم، وهذا لا يختص بهذا المال، بل هذا الحكم في جميع أموال الصبيان. قال: وإذا جاءت الأمة المشتركة بولد فادعاه الموليان فنفقة الولد عليهما، إذا كبر نفقة كل واحد منهما، وهذا يشكل على أصل أبي حنيفة رحمه الله ومحمد رحمه الله، فإنهما يقولان: الأب أحدهما حتى قالا: لا ينفرد أحدهما بالتصرف، مع هذا استحق كل واحد منهما نفقته أب كامل، إنما كان كذلك؛ لأنا لو أوجبنا نفقة أب واحد ما يصرف إليهما، ولا وجه إليه، إذ الأصل إلى الأب كفايته. وأما أن يُصرف إلى أحدهما ولا وجه إليه، إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر، فلم يبق ههنا وجهاً سوى ما قلنا، ولهذا قلنا: لا ينفرد أحدهما بالتصرف حتى لا يكون المتصرف غير الأب يشيء. ومما يتصل بهذا الفصل الكبار الذين أُلحقوا بالصغار.

قال: الرجل البالغ إذا كان ذمياً أو مقعداً أو أشلَّ اليدين لا ينتفع بهما، أو معتوهاً أو مفلوجاً، فإن كان له مال يجب النفقة في ماله، وإن لم يكن له مال وكان له (ابنة) موسرة أو أب موسر يجب النفقة على الأب لأن الله تعالى أوجب النفقة على الوالد مطلقاً. قال الله تعالى: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن} (البقرة: 233) إلا أنه خصّ عن هذا النص من كان له أو من كان قادراً على الكسب، فبقي ما عداه على ظاهر النص. وإذا طلب من القاضي أن يفرض له النفقة فعلى الأب إجابة القاضي إلى ذلك، ويدفع ما فَرَض لهم إليهم؛ لأن ذلك حقهم، ولهم ولاية استيفاء حقوقهم، وكذلك الإناث من الأولاد نفقتهن بعد البلوغ على الأب ما لم يُزوجن إذا لم يكن لهن مال؛ لأن بهن عجز ظاهر عن الاكتساب فتكن بمنزلة الزمنى من الذكور، ثم ما ذكر أن نفقة البالغين من الذكور الزمنى ومن الإناث على الأب فذلك جواب «المبسوط» . وأما على ما ذكر الخصاف في «نفقاته» : يجب على الأب والأم أثلاثاً، ثلثاها على الأب وثلثها على الأم. وجه ما ذكرنا في «المبسوط» : أن البالغ إذا لم يكن من أهل أن ينفق على نفسه صار هو والصغير سواء. وجه ما ذكر الخصاف وهو الفرق بين البالغ الزَّمِنْ والصغير؛ وهو أن للأب على الصغير ولاية كماله على نفسه ولاية، فكان الصغير بمنزلة نفسه. وغير الأب لا يشارك الأب في النفقة على نفسه فكذا في النفقة على الصغير. وأما البالغ فليس للأب عليه ولاية ليصير معني بنفسه فاعتبر كسائر المحارم فتكون نفقته باعتبار ميراثه، وميراثه يكون بينهما أثلاثاً فكذا النفقة. ثم ذكر في «الكتاب» : ما إذا كان الابن البالغ عاجزاً عن الكسب وأراد موسر وأم موسرة وأوجب جميع النفقة على الأب على رواية «المبسوط» ولم يذكر ما إذا كان الأب معسراً إلا أنه قادر على الكسب، والابن الكبير عاجز عن الكسب وله أم موسرة هل تؤمر الأم بالإنفاق على أن ترجع بذلك على الأب؟ فمن مشايخنا من قال على قياس ما ذكر في «الكتاب» : تؤمر الأم بذلك حتى ترجع على الأب فإنه قال في الولد الكبير: إذا كان عاجزاً عن الكسب فهو بمنزلة الصغير. والصغير إذا كان له أب معسرٌ قادرٌ على الكسب وله أم موسرة تؤمر الأم بالإنفاق على أن ترجع على الأب إذا أيسر فكذا ههنا. ومن المشايخ من قال: لا ترجع الأم على الأب ههنا بما أنفقت. وفرّق هذا القائل بين الصغير والكبير الذي لا يقدر على الكسب. هكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله. ووجه الفرق: وهو أن نفقة الولد الصغير على الأب وإن كان معسراً، إلا أنه لا يمكن جبر الأب على الكسب فتؤمر الأم بالتحمل عنه فكانت الأم قاضية ديناً واجباً على الأب، فترجع بذلك على الأب. فأما نفقة الابن الكبير فليس على الأب إذا كان معسراً فلم تَصِرْ الأم مؤديةً حقاً واجباً على الأب فلا يرجع بذلك على الأب فلهذا افترقا.

قال: والصحيح الذي به قوة العمل إلا أنه لا يُحْسِنْ العمل فنفقته على الأب إذا كان لا يحسن العمل، والناس لا يأمروه بالعمل، فصار هو كالعاجز عن الكسب. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: الرجل الصحيح قد لا يقدر على الكسب لحرفة أو لكونه من أهل البيوتات فيكون عاجزاً عن الكسب. فإذا كان هكذا كان نفقته على الأب وهكذا قالوا في طالب العلم: إذا كان لا يهتدي إلى الكسب لا تسقط نفقته على الأب بمنزلة الزَّمِنْ والأنثى، هذا الذي ذكرنا كلّه إن كان الأب حاضراً. وإن كان الأب غائباً أو مفقوداً فقد قال في «الكتاب» لا يقضى بالنفقة في مال أحد إذا كان رب المال غائباً إلا للوالدين والوالد (314ب1) والزوجة إذا كان المتروك من جنس حقهم، وهذا يبنى على أصل معروف أن القضاء على الغائب باطل، وإبقاء حق وجب على الغائب من ماله جائز والقضاء بنفقة الوالدين والمولودين والزوجة..... لما وجب على الغائب، وليس بقضاء على الغائب لأن القضاء إيجاب ما لم يكن واجباً قبل القضاء، ونفقة الوالدين والمولودين والزوجة واجبة قبل القضاء حتى إذا طعن واحد من هؤلاء يحبس حقهم كان لهم الأخذ من غيرقضاء ولا رضا. فأما نفقه سائر الأقارب لا تجب إلا بالقضاء والرضا حتى لو طعن واحد من الأقارب يحبس حقهم لم يكن لهم الأخذ إلا بقضاء أو برضا فلما كان نفقة الوالدين والمولودين والزوجة واجبة قبل القضاء كان القضاء من القاضي أيضاً لما وجب عليه الإيجاب مبتدأً فأما نفقة سائر الأقارب لما لم تكن واجبة كان القضاء إيجاباً مبتدأ أو القضاء على الغائب باطل. قال في كتاب المفقود: القاضي متى أعطى النفقة لهؤلاء من مال الغائب إن استوثق من الأخذ فحسن لجواز أن هؤلاء أخذوا النفقة من الغائب حال حضرته أو تغيب الغائب بالنفقة إليهم فينظر القاضي للغائب حال عجز الغائب عن النظر لنفسه بنفسه، وإن لم يأخذ منه كفيلاً فهو مستقيم أيضاً، إذا ليس ههنا..... يطلب من القاضي أخذ الكفيل وإنما يجب على القاضي أخذ الكفيل عند طلب الخصم ذلك. ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب النكاح: أن زوجة الغائب إذا طلبت النفقة من القاقضي وللغائب مال حاضر والقاضي يعلم بذلك كلّه فرض لها القاضي النفقة بعد أن يُحلّفها أنه لم يعطيها النفقة. فإذا حلفت أعطاها النفقة وآخذ منها كفيلاً وهو الصحيح، وقد ذكرنا وجه ذلك في باب نفقة الزوجات. فرع على هذه (المسألة) قال إن كان للغائب عند الوالدين أو الوالد أو الزوجة قال: هو من جنس حقوقهم فأنفقوا على أنفسهم جاز ولم يضمنوا لأنهم ظفروا بجنس حقهم فكان لهم ولاية الأخذ بمقدار حقهم فإن كان عند غيرهم فأعطاهم بأمر القاضي حتى أنفقوا على أنفسهم لم

يضمن صاحب اليد وإن كان أعطاهم بغير أمر القاضي كان ضامناً له؛ لأن صاحب اليد مأمور بالحفظ ودفعه إلى غيره لينفق على نفسه ليس من الحفظ في شيء فيصير به مخالفاً ضامناً، وهو نظير المودع إذا قضى دين المودع بالوديعة كان ضامناً كذا ههنا، وكان الحاكم الإمام أبي إسحاق..... رحمه الله يقول في المودع: إذا قضى دين المودع بالوديعة أنه لا يضمن. والصحيح أنه يضمن، وأشار إليه محمد رحمه الله في كتاب الوديعة، هذا إذا كان ما تركه الغائب من جنس حقهم. فأما إذا لم يكن من جنس حقهم فأرادوا أن يبيعوا شيئاً من مال الغائب بنفقتهم أجمعوا على أن سوى الوالد بمحتاج لا يملك بيع عقار الغائب ولا يبيع عروضه بالنفقة. وأما الأب المحتاج يمنع بيع المنقول بالنفقة استحساناً ولا يملك بيع العقار إلا إذا كان الولد الغائب صغيراً، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله في كتاب المفقود. وكذلك قياس قوله في المفقود. والقياس: أن لا يملك الأب البيع على ابنه الكبير الغائب في العقار ونحوه كما لا يملك غير الأب، وأجمعوا على أن حال حضرة من يجب عليه النفقة ليس لأحد ممن يستحق النفقة بيعُ العروض والعقار. وجه القياس في ذلك: وهو أن ولاية الأب تنقطع ببلوغ الصبي رشيداً إلا فيما يبيعه تحصيناً لولده الغائب، فإن الابن إذا بلغ وهو غائب فللأب ولوصي الأب بيع عروضه تحصيناً على الغائب، وههنا هو لا يبيع تحصيناً على الغائب، إنما يمنع لنفسه وليس له هذه الولاية. وجه الاستحسان: وهو أن ولاية الأب وإن دلّ بالبلوغ ولكن بقي أثره، ولهذا صح منه الاستيلاد في جارية الابن فلبقاء أثر الولاية أثبتنا له ولاية بيع العروض؛ لأن بيع العروض من الحفظ؛ لأنه يخشى عليه التلف وحفظ الثمن أيسر، وولاية الحفظ ثبتت لمن لا يثبت له ولاية التصرف كما قلنا في الوطء في حق الوارث الكبير الغائب، فكذلك الأب فيعُدُّ بيع بيع الثمن من جنس حقه، فله أن يأخذ منه مقدار النفقة، فأما العقار محصنة بنفسها فلم يكن بيعها بحق الحفظ لو كان بحق الولاية وقد زالت الولاية بالبلوغ عن عقدٍ بخلاف الأم وسائر الأقارب؛ لأنه لم يكن لهم ولاية التصرف حالة الصغر ليبقى أثر تلك الولاية بعد البلوغ فلم يجز بيعهم، أما ههنا بخلافه. فأما إذا أراد القاضي أن يتولى البيع في هذه الصورة بنفسه ليس له ذلك عند الكل لا في العروض ولا في العقار ولا في النفقة ولا في سائر الديون. وقد ذكرنا هذا في نفقة الزوجات. هذا الذي ذكرنا إذا كان الحال معلوماً للقاضي، فأما إذا لم يكن فالقاضي ماذا يصنع فوجوه ذلك قد مرّ في نفقة الزوجات أيضاً. هذا الذي ذكرنا حالة حياة الأب، فإن كان الأب قد مات وترك أموالاً وأولاداً

صغاراً كان نفقة الأولاد من أنصبائهم لأنهم أغنياء وكذلك كل ما يكون وارثاً فنفقته في نصيبه، وكذلك امرأة الميت تكون نفقتها في حصتها من الميراث حائلاً كانت أو حاملاً. بعد هذا ينظر إن كان الميت قد أوصى إلى رجلٍ، قالوا: ينفق على الصغار من أنصبائهم. فإن كان الميت لم يؤمن إلى أحد فالقاضي يفرض لكل واحد من الصغار في نصيبه بقدر ما يحتاج إليه من النفقة على قدر سعة أموالهم وضعفها، ويشتري للصغير خادماً إن كان يحتاج إلى الخادم؛ لأنه من جملة مصالحه. والقاضي نصب لأقامة مصالح كل من عجز عن الإقامة بنفسه. فكذا كل من كان من المصالح فالقاضي يشتري ذلك للصغير من نصيبه، ولم يذكر في هذه المسألة أن القاضي ينصب لهم وصياً إذا لم يكن الميت أوصى إلى أحدٍ وذكر في المسألة التي تلي هذه المسألة. وذكره في تلك المسألة يكون (315أ1) ذكراً في هذه المسألة قال: وإن كان الميت لم يوصِ إلى أحد وله أولاد كبار وصغار فنفقة كل واحد منهم يكون في نصيبه لما ذكرنا، وينصب القاضي وصيّاً في ماله، لأن للقاضي أن ينصب الوصي في مال الميت في ثلاث مواضع: أحدها: أن يكون على الميت دين. والثاني: أن يكون الميت أوصى...... والثالث: أن يكون الورثة صغاراً، وههنا في الورثة الصغار. فكان للقاضي أن ينصب وصياً، فإن لم يكن في البلد قاض فأنفق الكبار على الصغار، وأيضاً: الصغار كانوا متطوعين في هذه النفقة لأنه لا ولاية لهم على الصغار في مالهم، وهذا في الحكم، أما فيما بينهم وبين الله تعالى لا ضمان عليهم لأنهم احتسبوا فيما فعلوا. ونظير هذا ما ذكر في كتاب الوديعة: أن للمودع إذا باع اللبن من غير استطلاق رأي القاضي وفي المصر قاضي ضمن، وإن كان..... وذكر في «النوادر» : إذا لم يكن في الموضع يمكنه استطلاق رأي القاضي لا يضمن استحساناً. وكذلك قال مشايخنا في الرجلين في سفر فأغمي على أحدهما، فأنفق الآخر على المغمى عليه من مال المغمى عليه لم يضمن استحساناً. وكذا إذا مات فجهزه صاحبه من ماله لم يضمن استحساناً. وكذا العبيد المأذونون في التجارة إذا كانوا في البلاد فمات مواليهم فأنفقوا في الطريق لم يضموا استحساناً. وكذا روي عن مشايخ بلخ أنهم قالوا: إذا كان للمسجد أوقاف ولم يكن لها متولي فقام واحد من أهل المحلة في جميع غلة الأوقاف وأنفق على المسجد فيما يحتاج إليه من الحصير والحشيش لا يضمن استحساناً فيما بينه وبين الله تعالى. وحكى عن محمد بن الحسن رحمه الله أنه مات واحد من تلامذته فباع محمد رحمه الله كتبه وأنفق في تجهيزه، فقيل له: ألم..... بذلك فتلا محمد رحمه الله

قول الله تعالى: {وا يعلم المفسد من المصلح} (البقرة: 220) فكان على قياس هذا فلا ضمان عليه فيما بينه وبين الله تعالى استحساناً. أما في الحكم ضامن لما قلنا. قال: لو كان الكبار أنفقوا على الصغار ثم لم يقروا بذلك ببيعه نصيبهم وسعهم ذلك، ولو اختلفوا على ذلك؛ قال في «الكتاب» : رجوت أن لا يكون عليهم شيء. نظير هذا إذا عرف الوصي الدين على الميت فقضاه ولم يقرّ بذلك ولم يعرفه القاضي ولا الورثة لا يأثم فيما فعل وكذلك إذا كان لرجل عند رجل وديعة وعلى المودع مثل تلك الوديعة، والمودع يعلم أنه مات ولم يقبض دينه ليسمح للمودع أن يقضي ذلك الدين بماله ولا يقربه. وكذلك إذا كان على زيد لعمروٍ دين، وعلى عمرو مثل ذلك دين لرجل آخر فمات عمرو، وزيد يعرف أن عمرو لم يقض ليسع لزيد أن يقضي دين عمرو، وبما لعمرو على زيد، ولا تجبر ورثته بذلك. وكذلك إذا مات الرجل ولم يوصِ إلى أحد وله أولاد صغار، وله مال وديعة عند رجل ليس للمودع في الحكم أن ينفق عليهم، ويحتسب بذلك من مال الميت، ولكن إذا فعل وحلف أنه ليس لهم عليه حق رجوت أن لا يكون عليه شيء إن شاء الله؛ لأنه لم يرد بهذا إلا الإصلاح، وإنه موافق لما روينا عن محمد رحمه الله. النوع الثاني فيما لا يجب على الآباء من نفقة الأولاد قال: وإذا تزوج العبد أو المدبر أو المكاتب امرأة بإذن المولى فولدت امرأته أولاداً لا يجبر على نفقة الأولاد سواء كانت أمهم حرة أو أمة أو مدبرة أو أم ولد أو مكاتبة؛ لأن ما يستحق الولد من النفقة صلة محضة، وما كان صلة محضة لا يستحق على هؤلاء، وهذا بخلاف نفقة المرأة؛ لأنها صلة من وجه، عوض من وجه، وما كان صلة من وجه عوضاً من وجه جاز أن يستحق على هؤلاء من حيث إنه عوض. فرّععلى هذا في الكتاب فقال: إذا لم يجب على الأب نفقة الأولاد، على من يجب؟ ففيما إذا كانت المرأة مكاتبة فنفقة الأولاد عليها؛ لأن الولد تابع للأم في كتابتها، فكان كالمملوك لها، ألا ترى أن كسبه لها وأرش الجنابة عليه لها، وميراثه إن مات لها. فإذا كان كالمملوك لها كان نفقته..... عليها إذا كانت المرأة مدبرة أو أم ولد فأولاد..... وتكون نفقتهم على مولاهما وهو مولى أم الولد، والمدبرة فيما إذا كانت أَمَةُ رجل آخر فنفقة الأولاد على مولى الأمة؛ لأن أولادها أَرِقّاء لمولى الأمة، فتكون نفقتهم على مولى الأمة.

وفيما إذا كانت المرأة حرة فنفقة الأولاد على الأم إن كان للأم مال، وإن لم يكن لها مال فنفقة الأولاد على من يرث الأولاد الأقرب فالأقرب. وكذلك الحر إذا تزوج أمة أو مكاتبة أو أم ولد فالجواب فيه كالجواب في العبد والمدبر والمكاتب على ما ذكرنا. فرع على مسألة الحر فقال: إن كان مولى الأمة وأم الولد والمدبرة، وأب الأولاد غنيٌّ هل يؤمر الأب بالإنفاق، فإن كان الولد من الأمة لا يؤمر الأب بذلك لأن ابنه مملوك مولى الجارية، فأما أن يبيعه مولاه أن ينفق عليه على ما يأتي بعد هذا في موضعه إن شاء الله تعالى. وإن كان الولد من أم ولد أو مدبرة فإن ههنا يؤمر الأب بالإنفاق عليهم؛ لأن ههنا لا يمكن أن يجبر المولى على بيعهم، فتعين طريق إيصال النفقة إليهم، أمر الأب بذلك. قال: رجل كاتب عبده وأمته فزوجها منه، فولدت ولداً فنفقة الولد على الأم دون الأب؛ لما ذكرنا: أن ولدها كالمملوك لها. هذا بخلاف ما لو وطىء المكاتب أمة نفسه فولدت له ولداً، فإن نفقة ذلك الولد على المكاتب لأنه داخل في كتابته حتى كان كسبه له، وأرش الجنابة عليه له أيضاً، ليس للأم، فكان الولد كالمملوك للمكاتب، فتكون نفقته على المكاتب. قال: وإذا تزوج المكاتب أمة رجل فولدت منه ولداً أو لم تلد حتى اشتراها المكاتب فولدت ولداً فنفقة الأولاد على المكاتب؛ لأن الأمة صارت كسباً للمكاتب، وأولاده من كسبه مكاتبون عليه فصاروا بمنزلة أرقائه. النوع الثالث فيما يجب من نفقات الوالدين قال: ويجبر الرجل الموسر على نفقة أبيه وعلى نفقة أمه. وإذا كانا محتاجين لقوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حسناً} . (العنكبوت: 8) فقد أوجب على الولد الإحسان لوالديه، ورأس الإحسان بوالديه إحيائهما، وذلك بالإنفاق عليهما، وقال عليه السلام: «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده لمن (315ب1) كسبه، كلوا من كسب أولادكم إذا احتجتم إليه بالمعروف» ولأن للأب في مال الابن حق الملك، قال عليه السلام: «أنت ومالك لأبيك» وله كان له فيه حقيقة الملك كانت نفقته في ماله، فكذا إذا كان له حق الملك، إلا أنه إنما يجب عليه إنفاقهما إذا كان موسراً؛ لأن نفقة الأقارب صلة محضة

والصلات المالية ما شرعت إلا على أهل الثروة واليسار، واعتبره بصدقة الفطر والأضاحي. هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله وشمس الأئمة السرخسي رحمه الله، والخصاف رحمه الله في «كتابه» اعتبر القدرة على الإنفاق ولم يعتبر اليسار، حتى إذا كان في كسب الابن فضلٌ عن قوته يجبر الابن على أن ينفق على أبيه من ذلك الفضل وهو موافق (لقوله) عليه السلام: «كلوا من كسب أولادكم» . قال: فإن كان الأولاد ذكوراً وإناثاً موسرين فنفقة الأبوين عليهم بالسوية في أظهر الروايتين، وروى الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله أن النفقة بين الذكور والإناث أثلاثاً قياساً على الميراث واعتبره بنفقة ذوي الأرحام. وجه الرواية الأخرى وهو الأصح: أن استحقاق الأبوين باعتبار حق الملك لهما في مال الولد لما روينا من الحديث. وفي هذا الذكور والإناث سواء، ولهذا ثبت لهما هذا الاستحقاق مع اختلاف المسألة عندنا وإن انعدم التوارث بسبب اختلاف المسألة، ثم يفرض على الابن نفقة الأب إذا كان محتاجاً والابن موسراً سواء كان الأب قادراً على الكسب أو لم يكن. هكذا ذكر خواهر زاده في «شرح المبسوط» . وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح أدب القاضي» للخصاف أن الأب إذا كان كسوباً والابن أيضاً كسوب يجد الابن على الكسب والنفقة على الأب. وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «أدب القاضي» للخصاف أنه لا يجبر الابن على نفقة الأب إذا كان الأب قادراً على الكسب فاعتبره بذي الرحم المحرم، فإنه لا يستحق النفقة في كسب قريبه ولا على قريبه الموسر إذا كان هو كسوباً، وهذا لأن استحقاق النفقة على الأقارب عندنا: الفقر والحاجة، فإذا كان قادراً على الكسب كان غنياً باعتبار الكسب، فلا ضرورة إلى إيجاب النفقة على الغير ثم على ما ذكر خواهر زاده وشمس الأئمة السرخسي رحمهما الله يحتاج إلى الفرق بين نفقة الولد وبين نفقة الوالد، فإن الولد إذا كان ذكراً بالغاً وهو قادر على الكسب لا يجب على الأب نفقته. والفرق: وهو أن استحقاق نفقة الأقارب باعتبار الحاجة، وللأب زيادة فضلة على الولد في الاستحقاق باعتبار الحاجة، فإنه يستحق مال ولده بالحاجة الضرورية، وهي الحاجة إلى النفقة. وبغير الحاجة الضرورية كالاستيلاد، والولد لا يستحق مال الوالد إلا بالحاجة الضرورية وهي الحاجة إلى النفقة. فلو شرط عجز الأب عن الكسب لاستحقاق النفقة على الابن كما شرح في حق الابن لوقعت المساواة بينهما في الاستحقاق بسبب الحاجة. وهذا مما لا وجه له ولا سبيل إليه. فالحاصل: أن في نفقة الوالدين يعتبر الفقر لا غير على ما هو «ظاهر الرواية» إلا على قول شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.

قال: رجل، وله ابنان أحدهما موسر مكثر والآخر متوسط الحال كانت نفقة الأب عليهما، يجعل على الموسر المكثر من ذلك أكثر مما يجعل على الآخر هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» وفي «نفقاته» ، وذكر محمد رحمه الله في «المبسوط» وقال: يكون بينهما على السواء لأن العبرة لليسار، وكل واحد منهما موسر، فكانت النفقة عليهما على السواء. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا رحمهم الله: إنما تكون النفقة عليهما على السواء إذا تفاوتا في اليسار تفاوتاً يسيراً. أما إذا تفاوتا فاحشاً يجب أن يتفاوتا في قدر النفقة. ثم إذا قضى القاضي بالنفقة عليهما فيأمر أحدهما أن يعطي الأب ما يجب عليه، فالقاضي يأمر الآخر بأن يعطي كلّ النفقة ثم يرجع على الآخر بحصته لأنه لو لم يكن إلا هو كان كل النفقة عليه. فإذا وقع العجز عنها من جهة الأخ يؤخذ كل ذلك منه ثم هو يرجع على الأخ بحصته. قال: وإذا كان للرجل المعسر زوجة ليست أم ابنه الكبير لم يجبر الابن على أن ينفق على امرأة أبيه. وكذلك أم ولده وأمته فلا يجبر الابن على نفقة هؤلاء، وهذا لأن نفقة الأب إنماوجبت بسبب القرابة ولا قرابة بينه وبين امرأة أبيه وبين أم ولده وأمته، فلا يجبر على النفقة عليهما إلا أن يكون بالأب علة لا يقدر على خدمة نفسه، فيحتاج إلى خادم يقوم بشأنه ويخدمه فحينئذ يجبر الابن على نفقة خادمة الأب منكوحة كانت أو أمة؛ لأن الأب لا يستغني عنها فصار ذلك من فروض حاجة الأب، فصار كنفقة الأب، فجاز أن يستحق بقرابة الأب. هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» فعلى هذا لا يحتاج إلى الفرق بين امرأة الأب وبين امرأة الابن، فإن الابن إذا كان معسراً وكان عاجزاً عن خدمة نفسه بأن كان زَمِنَاً أو صغيراً بحيث لا يأكل وحده ولا يشرب وحده يفرض نقد خادمة على الأب، وإن كان صحيح اليدين يمكنه خدمة نفسه لا يفرض كما في الأب. وذكر هشام في «نوادره» عن أبي يوسف رحمهما الله أنه يفرض نفقة امرأة الأب على ابنه إذا كانت المرأة عنده مطلقاً، فعلى هذا يحتاج إلى الفرق بين امرأة الأب وبين امرأة الابن. ووجه الفرق بينهما: وهو أن نفقة الأب تشبه نفقة المرأة من وجه حتى يستحق مع ضرب غنيه بأن كان الأب قادراً على الكسب ثم يفرض نفقة خادم المرأة على الزوج على كل حال، فكذا نفقة خادم الأب. أما نفقة الابن صلة محضة لا تشبه نفقة المرأة بوجهٍ ما، حتى لا يستحق مع ضرب عينيه بأن كان الابن قادراً على الكسب فكانت نفقة الولد نظير نفقة سائر الأقارب، تجب نفقة القريب ولا تجب نفقة الخادم كذا ههنا. قال: ولو أن امرأة معسرة لها ابن موسر ولها زوج معسر، وليس هو أب الابن كان نفقتها على زوجها، ونفقة الزوجة لا تسقط بالعسار على ما مرّ في نفقات الزوجات (316أ1) إلا أن ههنا يؤمر الابن أن يقرضها على زوجها، فإذا أيسر الزوج رجع عليها

بما أقرضها؛ لأن الزوجية تسقط النفقة عن ذوي المحارم، ألا ترى أن الأب يفرض عليه نفقة ابنته المراهقة، فإذا زوجها سقطت عنه نفقتها إلا أنه تعذر إيصال النفقة إليها من جهة الزوج بعسرته وتعذر فرض النفقة على الابن كما ذكرنا، فيؤمر الابن بالإقراض؛ لأنه أقرب إليها، وهي محتاجة إلى الاستدانة فيستدين من أقرب الناس إليها. فإن لابن الابن أن يقرضها النفقة. قال الخصاف في «أدب القاضي» : قال الحسن بن زياد رحمه الله فرضت على الابن نفقتها وأخذته بذلك. والمراد منه أبى من القرض المذكور هنا هو الجبر على الإقراض لا القرض بطريق الإيجاب كما ذكرنا: أن الزوجية تسقط النفقة عن المحارم، وإنما ذكرنا قول الحسن؛ لأنه لم يحفظ في هذا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله، وذكر الخصاف هذه المسألة في «نفقاته» إلا أن هناك وضع المسألة في الزوج مع الأخ، وفي الزوج مع الأب. وذكر هناك أن الأخ الموسر أو الأب الموسر إذا امتنع عن الإقراض يحبس؛ لأن هذا من المعروف؛ لأن كل نفقة معروف وصلة فيجوز أن يحبس في الأمر بالمعروف. وفي «القدوري» : وضع المسألة في الزوج مع الأخ، وقال أجبرت الأخ على نفقتها، ويرجع على الزوج، ثم الأصل في نفقة الوالدين والمولودين أنه يعتبر القرب والجزئية ولا يعتبر الميراث. وإذا استويا في القرب يجب على من له نوع رحجان، وإذا لم يكن لأحدهما رجحان فحينئذ تجب النفقة بقدر الميراث. بيان هذا الأصل: إذا كان للفقير والد وابنُ ابنٍ موسرين فالنفقة على الوالد لأنه أقرب. وإذا كان له بنت وابنُ ابنٍ فالنفقة على البنت خاصة وإن كان الميراث بينهما لأن البنت أقرب. وإن كان له بنت بنت أو ابن بنت وله أخ لأب وأم فالنفقة على ولد الابنة ذكراً كان أو أنثى وإن كان الميراث للأخ لا لولد الابنة فعلم أن العبرة لقرب القرابة والجزئية وإن سفل، ولد الولد وبنت الولد أو ولد ابن فهم سواء في النفقة عليهم دون الأخ لما قلنا. ولو كان له والد وولد وهما موسران فالنفقة على ولده وإن استويا في القرب الابن يرجح باعتبار تأويل الثالث له في مال ولده، ولو كان جد وابن ابن فالنفقة عليهما على قدر ميراثهما، على الجد السدس والباقي على ابن الابن. ثم استشهد في «الكتاب» لبيان أن العبرة في نفقة الوالدين والمولودين للقرب والجزئية دون الإرث بمسائل: منها إن المعسر المسلم إذا كان له ابنان موسران أحدهما مسلم والآخر ذمي فنفقته عليهما جميعاً بالسوية وإن كان الإرث لا يجري بين المسلم والكافر. وكذلك إذا كان للرجل الفقير ابنة وأخت لأب وأم وهما موسران فالنفقة على البنت وإن كانا تستويان في الميراث.m وإذا كان للفقير ابن نصراني وله أخ مسلم وهما موسران فالنفقة على الابن، وإن كان الميراث للأخ. وكذا إذا كان للفقير ابنة ومولى عتاقه وهما موسران فالنفقة على الابنة وإن كانا يستويان في الميراث. وكذا المعسرة إذا كانت لها ابنة وأخت لأب وأم فالنفقة على ابنتها. وإن كانتا تشتركان في الميراث. قال: الرجل إذا كان محتاجاً وله ابن كبير فطلب الأب منه النفقة ونازعه في ذلك

إلى القاضي فإن القاضي لا يجبر الابن على نفقة الأب إلا أن يعلم أنه يطيق. وفي بعض النسخ إلى أن يعلم أنه مصطلح لذلك أي قادر عليه. وهذا لأن شرط وجوب الإنفاق والقدرة على الإنفاق فالأب يدعي على الابن النفقة بواسطة شرطه، وهو ينكر، فعلى الأب أن يثبت الشرط بالحجة، فإن قال الأب: إنه يكسب ما يقدر على أن ينفق منه فإن القاضي ينظر في كسب الابن، فإن كان فيه فضل عن قوته يجبر الابن على أن ينفق على أبيه من ذلك الفضل لأن شرط وجوب النفقة على الولد القدرة على الإنفاق وقد وجد، وإن لم يكن في ذلك فضل عنه فلا شيء عليه في الحكم، لكن يؤمر من حيث الديانة أن لا يضيع والده. وقال بعض العلماء يجبر الابن على أن يدخل الأب في قوته إذا كان ما نصب الابن من ذلك القوت يقوم معه بدنه ولا يضره إضراراً يمنعه من الكسب، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أن على الابن في هذه الصورة أن يضمن الأب إلى نفسه لأنه لو لم يفعل ضاع الأب. ولو فعل لا يخشى الهلاك على الولد والأب إذ لا يملك على نصف يطلبه إلا أن في ظاهر الرواية عن أصحابنا رحمهم الله: لا يجبر على ذلك. لقوله عليه السلام: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» هذا الذي ذكرنا إذاكان الابن وحده. أمّا إذا كان للابن زوجة وأولاد صغار وباقي المسألة بحالها فالقاضي يجبر الابن على أن يدخل الأب في كسبه ويجعله كأحد العيال الذين ينفق عليهم ولا يجبره أن يعطي له شيئاً على حدة. فرق بين هذا وبينما إذا كان الابن وحده، والفرق: هو أن الابن إذا كان يكتسب مقدار ما يكفي له ولزوجته وأولاده الصغار فإذا دخل الأب في طعامهم يقل الضرر؛ لأن طعام الأربعة إذا فرق على الخمسة لا يتضرر كل واحد منهم إضراراً فاحشاً. أما إذا دخل الواحد في طعام الواحد يتفاحش الضرر. فإن قال الأب: إن ولدي هذا كسوب يقدر على أن يكسب مقدار ما يكفيه ويكفيني، لكنه ذرع العمل عمداً كيلا يفضل منه ما يعطيني شيئاً منه، يريد بذلك عقوقي نظر القاضي فيما قال. وطريق النظر: أن يسأل من أهل حرفته لأن لهم نظراً في هذا الباب فإن ظهر للقاضي أن الأمر على ما قاله الأب أجبر الابن على نفقة أبيه وأخذ بذلك لأنه فضل الإضرار بالأب. وهذا كله إذا لم يكن الأب كسوباً. وأما إذا كان الأب كسوباً هل يجبر الابن على الكسب والنفقة فقد ذكرنا فيه الاختلاف قبل هذا فلا نعيد، فإن كان للأب مسكن أو دابة فالمذهب عندنا أن يفرض النفقة على الابن إلا أن يكون في المسكن فضل عران يكفيه أو يسكن ناحية منه فحينئذ يؤمر الأب ببيع لفضل والإنفاق (316ب1) على نفسه فإذا آل الأمر إلى الناحية التي يسكنها الأب يفرض نفقته حينئذ على الابن، وكذا إذا كانت للأب دابة نفيسه يؤمر أن يبيع الفضل ويشتري الأَوْكَس وينفق الفضل على نفسه،

فإذا آل الأمر إلى الأوكس يفرض النفقة على الابن ويستوي في هذا الوالدين والمولودين وسائر المحارم هو الصحيح من المذهب. فإن فرض القاضي نفقة الأب على الابن الموسر كل شهر كذا أو فرض الكسوة للأب على الابن كل سنة فتخرقت الكسوة ولم تبق النفقة قبل مضي الوقت أو بقيت الكسوة وشيء من النفقة بعد مضي الوقت. وقد مرّ هذا في الفرق بين نفقة الأقارب وكسوتهم وبين نفقة الزوجات وكسوتهن في باب نفقة الزوجات فلا نعيد. قال فإن طلب الأب النفقة من ولده فقال الابن: هو غني، وقال الأب: أنا فقير. قال في «المنتقى» روى بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: أنه يسأل عن حال الأب، فإن أخبر أنه فقير يجعل عليه النفقة، وإن قالوا: لا ندري لا يجعل على الابن النفقة ما لم يقم الأب البينة أنه فقير فلم يحكم بقبول قول الأب أنه فقير، وإن كان الظاهر شاهداً للأب؛ لأن الأصل في الأدمي هو الفقر إلا أن الأب بهذا الظاهر يريد إثبات الاستحقاق على الابن، والظاهر لا يصلح حجة لإثبات الاستحقاق، وإن أقاما جميعاً البينة فالبينة بينة الأب؛ لأن بينة الأب ثبتت الاستحقاق على الابن وبينة الابن تنفي ذلك، فكانت بينة الأب أولى بالقبول. وذكر في «شرح القدوري» في الأب إذا أنفق من مال الابن حال غيبة الابن ثم خصّ الابن فقال الابن للأب: كنت موسراً وقت الإنفاق من مالي، وقال الأب: كنت معسراً نظر إلى حال الأب وقت الخصومة؛ لأن الحال يصلح دليلاً على الماضي وله أمثلة في الشرع، كمسألة الطاحونة وغيرها. فإن أقاما البينة فالبينة بينة الابن؛ لأن شهود الابن يثبتون الرجوع على الأب بما أنفق، وشهود الأب ينفون ذلك، والإثبات أولى من النفي في باب البينات. النوع الرابع في حق استحقاق النفقة عليه إذا كان الأب ميتاً أو كان الأب حياً فقيراً لأن الفقير يلحق بالميت في حق استحقاق النفقة على الموسر، وفيه كلمات: أنّ من يلحق بالميت ومن لا يلحق سيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى. ويعتبر في حق الحد لاستحقاقه النفقة الفقر لا غير على ما هو ظاهر الرواية كما في حق الأب والجد من قِبَل الأم كالجد من قبل الأب، وكذا يفرض نفقة الجدات من قِبَلِ الأم ونفقة الجدات من قبل الأب، ويعتبر في حق الجدات ما يعتبر في حق الأجداد أيضاً. قال: فإن مات الأب فالنفقة على الجد؛ لأنه قائم مقام الأب فإن كان للصغير أم وجد فالنفقة على الأم والجد على قدر ميراثهما أثلاثاً بخلاف الأب في «ظاهر الرواية» . والفرق: وهو أن إيصال النافلة بالجد بواسطة الأب كاتصاله بالأخ، ثم في الأخ

والأم النفقة عليهما على قدر ميراثهما أثلاثاً فكذا في الجد والأم، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أن النفقة كلها على الجد، وهذا أليق بمذهب أبي حنيفة رحمه الله في الميراث فإنه يلحق الجد بالأب مطلقاً حتى قال: الجد أولى من الأخوة والأخوات. قال: وإن كان للفقير أولاد صغار وجد موسر لم تفرض النفقة على الجد؛ لأن النفقة لا تجب على الجد حال قيام الأب، ولكن يؤمر الجد بالإنفاق صيانة لولد الولد، ويكون ديناً على والد الصغار كأن والد الصغار أمره بذلك كذا ذكَرَ هذه المسألة في «القدوري» . فلم يجعل النفقة على الجد حال عسرة الأب. وقد ذكرنا في أول هذا النوع أب الأب الفقير يلحق بالميت في حق استحقاق النفقة على الجد، وهذا هو الصحيح من المذهب، وما ذكر في «القدوري» فذاك قول الحسن بن صالح. هكذا ذكر رحمه الله في شرح «أدب القاضي» للخصاف، قال: وإن كان الأب زَمِنَاً قضى بنفقة الصغار على الجد ولم يرجع على أحد بالإنفاق؛ لأن نفقة الأب في هذه الحالة على الجد، فكذا نفقة الصغار. وروي عن أبي يوسف رحمه الله: في صغير له والد محتاج وهو زَمِنٌ فرضت نفقته على قرابته من قبل أبيه دون أمه، فكل من يجبر على نفقة الأب يجبر على نفقة الغلام، فإن لم يكن له قرابة من قبل أبيه قضيت بالنفقة على أبيه، وأمرت قرابة الأم بالإنفاق فيكون ذلك ديناً على الأب، هذا لأنّ قرابة الأم لا يجوز أن تجب عليهم نفقة الولد؛ لما عرف أن الأب لا يشاركه غيره في نفقة الصغير، فإن لم يكن للأب قرابة لم يبق ههنا وجهاً سوى أن يقضى بالنفقة على قرابة الأم ويكون ذلك ديناً على الأب كيلاً يشاركه الأب غيره في نفقة الولد، فأما قرابة الأم فما يلزمهم نفقة الأب فجاز أن يلزمهم نفقة الغلام لكون نفقة ولده جارياً مجرى نفقته. هكذا ذكر هذه المسألة في «شرح القدوري» : وهذا الجواب إنما يستقيم إذا لم يكن في قرابة الأم من يكون محرماً للصغير، ويكون أهلاً للإرث، لأن شرط وجوب النفقة في غير قرابة الأولاد المحرمية وأهلية الإرث على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، فأما إذاكان في قرابة الأم من كان محرماً للصغير وهو أهل للإرث، تجب عليه النفقة ويلحق الأب المعسر بالميت لما ذكرنا قبل هذا. النوع الخامسنفقة من سوى الوالدين والمولودين من ذوي الأرحام والأصل فيه قول الله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} (البقرة: 233) المراد: الوارث الذي هو ذو رحم محرم، وهو قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهكذا كان يقرأ، وبه أخذ أصحابنا رحمهم الله حتى لا تجب النفقة على ابن العم وإن كان وارثاً؛ لأنه ليس بمحرم للصغير، والمراد من الوارث المذكور في هذه الآية كونه أهلاً للإرث لا كونه وارثاً حقيقاً، وبه أخذ أصحابنا رحمهم الله حتى إنه إذا اجتمع الخال وابن العم فالنفقة على الخال عند علمائنا رحمهم الله وإن كان الميراث لابن العم؛ لأن الخال ذو رحم محرم وهو أهل

للإرث، وابن العم وإن كان وارثاً فهو ليس بمحرم للصغير. والحاصل: أن هذه النفقة لا تجب إلا على ذي رحم محرم هو أهل للإرث سواء كان وارثاً في هذه الحالة أو لم يكن، وعندالاستواء في المحرمية وأهلية (317أ1) الإرث يترجح من كان وارثاً حقيقة في هذه الحالة، حتى إنه إذا كان له عم وخال فالنفقة على العم لأنهما استويا في المحرمية، وترجح العم على الخال في هذه الحالة لكونه وارثاً حقيقة. وكذلك إذا كان له عم وعمة وخالة فالنفقة على العم الموسر لا غير؛ لأنه ساواهما في المحرمية، والعم هو الوارث دونهما فتكون النفقة عليه، ولوكان العم معسراً فالنفقة على العمة والخالة أثلاثاً على قدر ميراثهما، ويجعل العم كالميت. إذا ثبتت هذه الجملة فنقول: هذه النفقة لا تجب إلا على الموسر ولا تجب على الفقير لا قليل ولا كثير؛ لأن هذه النفقة تجب بطريق الصلة، والصلات تجب على الأغنياء، ودون الفقراء لمكان التعارض. ثم لا بد من معرفة حدّ اليسار الذي تعلق به وجوب هذه النفقة. ذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله: أنه اعتبر نصاب الزكاة، وروى هشام عن محمد رحمهما الله إذا كان له نفقة شهر لنفسه وعياله وفضل على ذلك يجبر على نفقة الأقارب، وإن لم يكن له شيء واكتسب كل يوم درهماً ويكفيه أربعة دوانيق ينفق الفضل عليهم. وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله: أن المعتبر بسائر (ما) يحرم الصدقة بأن يملك ما فضل عن حاجته ما يبلغ مائتي درهم فصاعداً وهو الصحيح، وهذا لأنه لم يشترط بوجوب صدقة الفطر غنىً موجباً للزكاة، وإنما شرط غنىً يحرم الصدقة، فكذا في حق إيجاب النفقة لأن النفقة بصدقة الفطر أشبه منه بالزكاة؛ لأن في صدقة الفطر معنى المؤنة، ومعنى الصدقة. فإذا لم يشترط لصدقة الفطر غنىً موجباً للزكاة وهي صدقة من وجد مؤنة من وجه فلأن لا يشترط لوجوب النفقة غنىً موجباً للزكاة وإنها مؤنة من كل وجه كان أولى. قال ولا يقضى بنفقة أحد من ذوي الأرحام إذا كان غنياً والكبار الأصحاء، فلا يقضى لهم بنفقتهم على غيرهم وإن كانوا فقراء إلا الأبوين والجد والجدة مع عدمهما. وقد ذكر هذا فيما تقدم. وتجب نفقة الإناث الكبار من ذوي الأرحام وإن كُنَّ صحيحات البدن إذا كان بهن حاجة إلى النفقة. وقد ذكرنا مثل هذا في نفقة الأولاد. ثم الأصل في نفقته من سوى الوالدين من ذوي الرحم المحرم أنه ينقسم على الميراث؛ لأن الله تعالى أوجب النفقة باسم الوارث. قال الله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} (البقرة: 233) فقد أوجب باسم الوارث فيجب التقدير به. ولهذا قلنا: إن الرجل إذا أوصى لورثة بني فلان وله بنون وبنات كانت الوصية لهم على قدر الميراث ولو أوصى لولد فلان كان الذكور والأنثى فيه على السواء، على هذا تخرج جنس هذه المسائل. قال: إذا كان للصغير أم وعم أو أم وأخ لأب وأم كل واحد منهما موسر فالنفقة عليهما على قدر الميراث، وكذلك الرضاع عليهما أثلاثاً فالنفقة عليهما؛ لأن الرضاع نفقة

الولد فتكون عليهما على قدر الميراث كنفقة الولد بعد الفطام. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله: أن في النفقة بعد الفطام الجواب هكذا، وكذلك فيما يحتاج إليه من النفقة قبل الفطام. فأما الرضاع كله على الأم؛ لأنها موسرة باللبن، والعم معسر في ذلك، ولكن في «ظاهر الرواية» قال: قدرة العم على تحصيل ذلك بماله يجعله موسراً فيه، فلهذا كان عليهما أثلاثاً، وإن كان العم فقيراً والأم غنية فالرضاع والنفقة على الأم؛ لما ذكرنا أن المعسر يجعل كالمعدوم في حق إيجاب النفقة على الموسر. وإن كانت له أم وأخ لأب وأم، أو أخ لأب وعم أغنياء فالرضاع على الأم والأخ أثلاثاً بحسب الميراث، لأن العم ليس بوارث في هذه الحالة، فترجح الأخ على العم لكونه وارثاً حقيقة. قال: وإذا كان للفقير الزمن ابن صغير معسر أو كبير زمن، ولهذا المعسر ثلاثة أخوة متفرقون أهل يسار. فنفقة الرجل على الأخ من الأب والأم وللأخ من الأب أسداساً؛ لأن الابن الصغير أو المعسر يجعل كالعدم في حق إيجاب النفقة على الغير لما ذكرنا: أن نفقة ما عدا الوالدين والمولدين تجب على وارث ذي رحم محرم ولم يجعل الابن كالمعدوم، فلا يصير الأخوة ورثة فينعدم إيجاب النفقة عليهم حال قيام الابن، فيجعل الابن كالمعدوم، وبعد الميراث بين الأخ لأب وأم وبين الأخ لأم أسداساً، فكذا النفقة. ولو كانت مكان الابن ثلاث فنفقة الأب على الأخ لأب وأم خاصة؛ لأنا نحتاج إلى أن نجعل الابنة كالمعدوم في حق إيجاب النفقة على الإخوة؛ لأنه يرث مع الابنة لأخ لأب وأم، لكن تعتبر صفة الوارثة مع بقائها وبعد تعذر إيجاب النفقة على الابنة فتجب على الأخ لأب وأم. فأما نفقة الصغير فعلى العم لأب وأم خاصة، لأن الأب المعسر في حق النفقة جعل كالمعدوم، وبعد الأب ميراث الولد للعم لأب وأم خاصة، فكذا نفقة الولد تجب على العم لأب وأم. قال: فإن كان مكان الإخوة أخوات متفرقات فإن كان الولد ذكراً فنفقة الأب على الأخوات أخماساً؛ لأن أحداًمن الأخوات لا يرث مع الابن لا بُدّ وأن يجعل الابن كالمعدوم لتمكن إيجاب النفقة على الأخوات، وبعد الابن ميراث الأب بين الأخوات أخماساً ثلاثة أخماسه للأخت لأب وأم وخمسه للأخت فرضاً وردّاً فالنفقة عليهم بحساب ذلك، ونفقة الولد على الأخت لأب وأم خاصة عندنا؛ لأن الولد المعسر جعل كالمعدوم، وعند عدم الولد ميراث الولد للعمة لأب وأم عندنا، فالنفقة تكون عليها أيضاً، وإن كان الولد ابنة فنفقة الأب على الأخت لأب وأم خاصة؛ لأنها وارثة مع الابنة، فإن الأخوات مع البنات عصبة فلا تجعل الابنة كالمعدومة ههنا ولكن لو مات الأب كان نصف ميراثه للابنة والباقي للأخت للأب وأم، فكذا النفقة على الأخت لأب وأم ونفقة الابنة على العمة لأب وأم خاصة عندنا؛ لأن الأب المحتاج جعل كالمعذور

الفصل الرابع في نفقات أهل الكفر

عند انعدام الولد، فميراث الابنة يكون للعمة لأب وأم خاصة عندنا، فكذا النفقة أيضاً عليها عندنا. وصار الأصل في إيجاب نفقة من سوى الوالدين والمولودين من ذوي الأرحام أنه إذا اجتمع الموسرون والمعسرون من قبل أبيه ينظر إلى المعسر، فإن كان بحال يحرز كل الميراث ولا يرث معه أحد من الموسرين (317ب1) كالإخوة والأخوات مع الابن يجعل هذا المعسر كالميت، ثم ينظر إلى الموسرين فتجب النفقة عليهم على قدر مواريثهم، فإن كان هذا المعسر لا يحرز كلّ الميراث كالابنة مع الإخوة والأخوات لا يلحق هو لميت بل يعتبر هو حيّاً، ويقسم الميراث بينهم على سهامهم، ثم تجب كل النفقة على الموسرين، ولكن على السهام التي كان نصيبهم من الميراث. بيان هذا الأصل: إذا كان للصغير أم وثلاث أخوات متفرقات، والأخت من الأب والأخت من الأم معسرتان والأم والأخت لأب وأم موسرتان فكلّ النفقة تجب على الأم والأخت لأب وأم، لكن على أربعة أسهم، ثلاثة أسهم على الأخت لأب وأم وسهم على الأم، ميراث الصغير بينهم ينقسم على ستة أسهم، ثلاثة أسهم للأخت لأب وأم وسهم للأخت لأب وسهم للأخت، وسهم للأم من ميراث الصغير سهم وللأخت لأب وأم ثلاثة، فتكون النفقة عليهما أرباعاً. ولو كانت الأخت لأب والأخت لأم ملحقتان بالأموات كان ميراث الصغير بين الأم والأخت أخماساً فرضاً وردّاً فينبغي أن تكون النفقة عليهما أخماساً أيضاً، على أن المعتبر ما قلنا. فعلى هذا الأصل تخرج جنس هذه المسائل. الفصل الرابع في نفقات أهل الكفر في هذا الفصل نوع واحد، ولا يجبر المسلم على نفقة الكفار من قرابته، ولا الكفار على نفقة المسلمين من قرابتهِ لأن استحقاق النفقة متعلقة بصفة القرابة قال الله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} (البقرة: 233) . واختلاف الدينين يمنع الوراثة فيمنع القضاء بالنفقة إلا الزوجة والوالدين والوالد. أما الزوجة فلأن استحقاق الزوجة النفقة بحكم العقد وذلك متحقق مع اختلاف الدينين، وأما الوالدان والولد، فالقياس أن لا يثبت لهم استحقاق النفقة مع اختلاف الدين؛ لأن استحقاق الوالدين والولد النفقة بطريق الصلة، كما في سائر الأقارب، ولكن في الاستحسان يثبت الاستحقاق إذا كان أحدهما مسلماً والآخر ذمياً لقوله تعالى: {وَصَحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} (لقمان: 15) وليس من المصاحبة بالمعروف أن يتقلب في نعمِ الله تعالى ويتركهما يموتان جوعاً؛ ولأن الاستحقاق فيما بين الوالدين والمولودين متعلق بالولاد وذلك لا يختلف باختلاف الدين.

وفي سائر الأقارب الاستحقاق تعلق بالوراثة وذلك يختلف باختلاف الدين، قال: والنوافل بمنزلة الأولاد والأجداد الجدات من قبل الأب. والأم بمنزلة الوالدين؛ لأن استحقاق هؤلاء باعتبار الولاد كاستحقاق الأبوين. قال: ولا يجبر المسلم والذمي على نفقة والديه وولدهِ من أهل الحرب وإن كانا مستأمنين في دار الإسلام؛ لأنها صلة وقد نهينا عن صلة الحربي قال الله تعالى: {إنما ينهاكم اعن الذين قاتلوكم في الدين} (الممتحنة: 9) الآية وكذلك الجدين الذي دخل علينا بأمان لا يجبر على نفقة والديه وولدهِ إن كانا مسلمين، أو كانا من أهل الذمة. قال: ولا يجبر أهل الذمة على أن ينفقوا على أحد من ذوي أرحامهم إذا كانوا على غير دينهم، يُريد به ديناً هو غير دين الإسلام إلا على الوالدين والأجداد والأولاد، هكذا ذكر الخصاف في «نفقاته» . قال الصدر الشهيد رحمه الله في «شرح النفقات» : ما ذكر الحصاف إن كان محمولاً ما إذا كان من دارين مختلفين، يعني إذا كان للذمي ذو رحم محرم هو من أهل الحرب فهذا الجواب صحيح لما ذكرنا قبل هذا. فأما إذا كان هذا الجواب يجري على الإطلاق فالصحيح ما ذكر في «المبسوط» : أنهم يجبرون لأن الكفر كلهُ ملة واحدة ولهذا يتوارثون فيما بينهم إذا كانوا من أهل دار الإسلام وتقبل شهادة بعضهم على البعض. فأما نفقة المرأة فيجب وإن كانت على غير دينه لما ذكرنا أنها تستحق النفقة بالعقد، وذلك لا يختلف باختلاف الدين. قال: ولو أن مستأمناً في دارنا تزوج ذمية ودخل بها ثم طلقها فلها النفقة، في قول من يوجب على الذمي العدة، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله. وقد عرف هذا في نكاح «المبسوط» ، في باب نكاح أهل الحرب نفقة النكاح، فعلى قياس قول أبي حنيفة رحمه الله: نعرض لها نفقة النكاح. وعلى قياس قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: لا نفرض بناء على أن لهذا النكاح حكم الصحة عند أبي حنيفة رحمه الله. حتى قال: إذا طلب أحدهما النفقة فالقاضي لا يفرق بينهما ما لم يطلب الآخر، والمرأة تستحق النفقة في النكاح الصحيح. وعندهما لهذا النكاح حكم الفاسد حتى قالا: يفرق بينهما إذا طلب أحدهما. وفي النكاح الفاسد لا يثبت استحقاق النفقة، وأجمعوا على أن في النكاح بغير شهود تستحق هي النفقة لأن هذا النكاح محكوم بالصحة فيما بينهم عند الكل. ويستحق النفقة لهذا. قال: وإذا أسلم الذمي وامرأته من غير أهل الكتاب فأبت الإسلام ففرق بينهما، فلا نفقة لها في العدة؛ لأن منفعة الاحتباس فاتت من جهتها، ولهذا سقط جميع المهر متى كان قبل الدخول بها. ومنفعة الاحتباس متى فاتت من جهتها توجب سقوط النفقة. كما لو نشزت. وأما إذا أسلمت المرأة وأبى الزوج الإسلام يُفرق بينهما، سواء كان الزوج كتابياً أو غير كتابي، على ما عرف في نكاح «المبسوط» : فكان لها النفقة والسكنى، إذا كان بعد الدخول بها، لأن منفعة الاحتباس إنما فاتت بمعنى من جهة الزوج فيكون محسوباً عليه، كما لو طلقها بعد الدخول بها.

الفصل الخامس في نفقات المماليك

قال: وإذا خرج الحربي وامرأتهُ إلينا بأمان فطلبت النفقة فالقاضي لا يفرض لها ذلك. هكذا ذكرهُ الخصاف في «نفقاتهِ» : وعلل فقال: لأن هذا من أحكامنا إلا أن يصيرا ذميين فحينئذٍ القاضي يفرض لها النفقة لأنهم رضوا بأحكامنا. قال: وإذا خرج أحد الزوجين مسلماً ثم خرج الآخر بعدهُ فلا نفقة لها عليه، لأن الزوج إن كان هو الخارج أولاً فلا عدة عليها بالاتفاق. وإن كانت المرأة هي الخارجة فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله لا عدة عليها. وعندهما وإن كانت عليها العدة إلا أن وجوب نفقة العدة باعتبار ملك الحبس (318أ1) الثابث للزوج عليها في حاله العدة. وبيان الوالدين كما ينقطع عصمة النكاح يقطع ملك ... الحبس الثابث بالنكاح أيضاً. قال في «السير الكبير» : لو فرض القاضي نفقة الزوجة والوالدين والوالد في مال مسلم أسير في دار الحرب ثم قامت بينة على ردة الأسير قبل فرض القاضي نفقة المرأة ضمنت ما أخذت من النفقة؛ لأنه يتبين أنها أخذت بغير حق فإن قالت: حاسبوني من نفقة عدتي يقول لها الحاكم: لا نفقة لك؛ لأن ردة الزوج حصلت في دار الحرب فكانت بمنزلة الموت. ولو مات الزوج لا نفقة لها كذا ههنا. ولو قبضت نفقة شهر ثم قامت بينة على ردة الزوج بعد مضي عشرة أيام من الشهر كان كل ذلك للمرأة في قياس قول أبي يوسف رحمه الله، وفي قياس قول محمد رحمه الله: لها مقدار ما وجب لها قبل الردة، وهذا بناء على ما لو أعطى الزوج امرأة نفقة شهر ثم مات أحدهما قبل مضي المدة لم يرجع عليها ولا في تركتها في قول أبي يوسف، وفي قول محمد رحمهما الله: يرجع عليها بحساب ما مضى ويجب رد الباقي. ووجه البناء: وهو أن الردة حصلت في دار الحرب وكان بمنزلة الموت. الفصل الخامس في نفقات المماليك هذا الفصل يشتمل على أنواع: النوع الأولفي بيان استحقاق نفقة المماليك قال في «الكتاب» : ظاهر مذهب أصحابنا رحمهم الله: أن الإنسان لا يجبر على إنفاق ملكه سوى الرقيق كالدابة والدرع والخيل، وأما في سائر الحيوانات يفتى فيما بينهُ وبين الله تعالى بالاتفاق، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنهُ يجبر على الإنفاق على البهائم أيضاً هو قول الشافعي رحمه الله، وأما في غير الحيوانات كالدور والعقار فلا

يجبر على النفقة، ولا يفتى بهُ أيضاً، إلا أنهُ إذا كانت فيه تضييع المال يكون مكروهاً. وأبو يوسف والشافعي رحمهما الله احتجا، وقالا بأن في عدم الجبر بالإنفاق على البهائم تعذيب الحيوانات بلا فائدة، وذلك منهيٌ وقاساه على الرقيق وإنما يفرق بينهما. ووجه الفرق: أن إجْبار القاضي المولى على الإنفاق على مملوكة نوع قضاء، والقضاء لا بد له من مقضي لهُ هو من أهل الاستحقاق، وهذا يوجد في الرقيق؛ لأن الرقيق من أهل أن يستحق حقوقاً على المولى، وعلى غيره في الجملة ألا ترى أن بالكتابة يستحق حقوقاً على المولى، وإن مملوكاً فأما غير الرقيق لا يستحق حقوقاً على المولى فلا يصلح مقضياً له، فانعدم شرط القضاء فينعدم القضاء. ثم الأصل في نفقة الرقيق: أن من كان مملوك المنافع والمكاسب يجبر المولى على نفقته، ومن كان غير مملوكة المنافع لا يجبر المولى على إنفاقه. إذا ثبت هذا فنقول: رجل له عبد أو أمة أو مدبرة أو أم ولد يجبر المولى على نفقتهم، فإن أبى المولى الإنفاق فكل من يصلح للإجارة يؤاجر وينفق عليه من أجرته، وكل من لا يصلح لذلك لعذر الصغر أو ما أشبهه ففي العبد والأمة يؤمر المولى لينفق عليهما أو يبيعهما. وفي المدَّبر وأم الولد يجبر المولى على الإنفاق لا غير، لأنهُ لا يمكن بيعهما، وأما المكاتب فالمولى لا يجبر على نفقتهِ لأنهُ غير مملوك المنافع والمكاسب. ثم فرق بين نفقة الرقيق وبين نفقة الزوجة من وجهين: أحدهما: أن الرقيق وإن كان صغيراً تجب النفقة على المولى، والزوجة إذا كانت صغيرة لا تُشتهى لا تحب النفقة على (الزوج) . والثاني: أن المولى إذا أبى الإنفاق على الرقيق يجبر (على) البيع، والزوج إذا عجز عن الإنفاق على المرأة لا يفرق بينهما. أما الفرق الأول: فقد ذكرناه في أول نفقات الزوجات. وأما الفرق الثاني: وهو أن المولى إذا أجْبِرَ على البيع دفعاً للظلم عن المملوك يزول ملكه إلى خلف وهو الثمن، ولو لم يجبر يفوت حق المملوك في النفقة لا إلى خلف لأن نفقة المملوك لا يصير ديناً على المولى بحال من الأحوال، فكان الجبْر على البيع أقل ضرراً. أما في باب النكاح: لو أمر الزوج بالتفريق دفعاً للظلم عن المرأة ثفوت ملك الزوج بغير خلف ولو لم يجبر يفوت حق المرأة في الحال إلى خلف فإن نفقة الزوجة تصير ديناً بقضاء القاضي، فكان ما يلحق الزوج من الضرر أكثر، فكان أولى بالدفع. قال: أمةٌ أو عبد في يدي رجلين تنازعا فيه وكل واحد منهما يدعي أنه له فإنهما يجبران على النفقة عليه لأنهُ لما كان في أيديهما، فالظاهر أنهُ ملكهما، ولو كان مكان العبد والأمة دابة لا يجبران؛ لأنها لو كانت ملكهما لا يجبران فكذا إذا كان في أيديهما. قال: ولا تحب نفقة المعتق على المعتق وإن كان المعتق عاجزاً عن الاكتساب لصغرٍ أو زَمَانَةٍ أو ما أشبههُ، ولكن عليه من بيت المال؛ لأنهُ مسلم ليس له قرابة غنى ومال بيت المال معد ذلك.

قال: ولو أنّ رجلاً في يديه صغير قال لآخر: هذا عبدك أودعتني وجحد الآخر يستحلف بالله ما أودعهُ. وإذا حلف قُضي بالنفقة على صاحب اليد؛ لأن الغلام إذا كان صغيراً لا يكون في يد نفسه، فكان القول في رِقّهِ وحرّيتهِ قول من هو في يدهِ وقد اعترف ذو اليد برقهِ، فصح اعترافهُ. ثم أَقرَّ أن ذلك الرق لغيرهِ فبقي على حكم ملكه ما لم يصدقهُ ذلك الغير، ولو كان الغلام كبيراً لم يستحلف المدعى عليه؛ لأن الكبير في يد نفسهِ، فكان القول في الرق والحرية قوله فيكون الإنفاق واجباً على من يدعي الغلام أنهُ عبده إذا أثبت هذا دون من يعدله ذو اليد ذلك الأصل لما بعد هذا: أنّ النفقة إنما تجب على من تحصل لهُ المنفعة فكل من حصّل المنفعة كانت النفقة عليه سواء كان هو مالك رقبة أو لم يكن. إذا أثبت هذا فنقول: إذا أوصى أَمَتَهُ لرجل وبما في بطنها لآخر، فإن نفقة الجارية على الموصى له برقبتها؛ لأن منفعتها تحصل له ولو أوصى بداره لرجل وسكناها لآخر وهو يخرج من الثلث فالنفقة على صاحب السكنى لأن النفقة تحصل له. فرع على مسألة السكنى فقال: لو انهدمت الدار كلها قبل (318ب1) أن يقبضها، فقال صاحب السكنى: أنا أبنيها وأسكنها كان له ذلك ولا يصير متطوعاً؛ لأنهُ لا يصل إلى حقه إلا بهذا، وهو مضطر فيه، فصار كصاحب العلو مع صاحب السفل إذا..... صاحب السفل، فامتنع صاحب السفل عن بنائه فبناه صاحب العلو لا يصير متطوعاً ويرجع على صاحب السفل لكن بماذا يرجع؟ فيه كلام يأتي بعد هذا إن شاء اللَّهُ تعالى، كذا ههنا لا يصير متطوعاً. فإن انقسمت السكنى ينظر، إن اجتمعا على أن يكون البناء لصاحب الرقبة ويعطيه قيمتها يجوز؛ لأن البناء ملك صاحب السكنى فإذا باعهُ من صاحب الرقبة يجوز، وإن لم يجتمعا كان لهُ أن ينقض بناءه، كما في المشتري إذا بنى ثم جاء الشفيع كان الجواب على هذا الترتيب يثبت كذا ههنا. قال: ولو أوصى الرجل بنخل ولآخر بثمرته أبداً فإن الوصية جائزة فتكون النفقة على صاحب الثمرة؛ لأن المنفعة تحصل له. ومن هذا الجنس إذا أوصى الرجل بتبن هذهِ الحنطة، وأوصى للآخر بالحنطة فإن بقي من الثلث شيء فالتخليص يكون في ذلك المال وإن لم يبق فالتخليص عليهما؛ لأن المنفعة تحصل لهما. فرق بين هذا وبينما إذا أوصى لرجل بدهن هذا السمسم وأوصى لآخر بكسبه فإن أجر التخليص على صاحب الدهن.

والفرق: وهو أن الدهن ههنا خفي وقعت الحاجة إلى إظهاره فأما الكسب فظاهر فكان التخليص عملاً لصاحب الدهن، فيكون أجره عليه. فأما الحنطة فحاصلة غير أنها مستورة، فكان التخليص عملاً لهما فكان الأجر عليهما. وكذلك الزيت والزيتون على هذا القياس. قال محمد رحمه الله: لو أن رجلاً ذبح شاة ثم أوصى لرجل بلحمها وللآخر بجلدها فالتخليص عليهما إذا لم يبق من الثلث شيء كما في الحنطة والتبن، فإن كانت الشاة حيّة وباقي المسألة بحالها فأجر الذبح على صاحب اللحم؛ لأن اللحم لا يحصل إلا بالذبح، فأما الجلد حاصل من غير ذبح؛ لأنها وإن كانت ميتة يحصل الجلد ثم أجر السلخ عليهما؛ لأن منفعة السلخ يحصل لهما. النوع الثاني في إيجاب النفقة في الملك الموقوف قال: ولو شهد شاهدان على رجل في يديه أمة أن هذهِ الأمة حرة قبل القاضي هذه الشهادة ادعت الأمة ذلك أو جحدت ويضع القاضي الأمة على يدي عدل، ما دام في مسألة الشهود هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : وذكر محمد رحمه الله في «الجامع» : أن القاضي يضعها على يدي امرأة ثقة ويستوي فيه أن يكون المولى عدلاً كما في طلاق المرأة على مامر قبل هذا، فإن طلبت النفقة بعدما وضعها القاضي على يدي عدل، فرض لها القاضي النفقة على الذي كانت في يديهِ وهو المولى الظاهر، لأن نفقتها كانت واجبة عليه قبل قيام البينة، فإن كانت البينة صدقة يسقط نفقتها عنه؛ وإن كانت كذبة لا يسقط. وإن صارت ممنوعة عن المولى؛ لأن نفقة المملوك لا يسقط عن المولى؛ وإن كان ممنوعاً عن المولى على ما يأتي بعدما أوقع الشك في سقوط النفقة فلا يسقط بالشك. وقول محمد رحمه الله: في «الكتاب» : إن القاضي. يفرض لها النفقة، ليس المراد منه الفرض حقيقة، لأن مولاها ظاهر ونفقة المملوك لا يصير ديناً على المولى فيما مضى. وإن أفصل بها القضاء أداء المملوك لا يستوجب على مولاه ديناً ولكن المراد منه أن القاضي يقدر لها نفقة ويجبره على أدائها فالفرض هو التقدير. قال الله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} (البقرة: 237) أي: قدرتم. فإن أخذت نفقتها شهراً، ثم لم يذكر الشهود ورُدَّتْ الأمة على مولاها لا يرجع المولى عليها بما أنفق. وفي المنكوحة إذا كانت مدخولاً بها وفرض القاضي لها النفقة، ولم تزك الشهود، وُرُدَّتْ المرأة على الزوج. فالزوج يرجع عليهما بما أنفق وفي المسألتين جميعاً تَبَّينَ أن كل واحد منهما منكوحة ومملوكة منعتا عن الزوج والمولى لا لمعنى من جهة الزوج والمولى إلا أن المنكوحة إذا امتنعت من الزوج لا لمعنى من جهة الزوج تسقط نفقتها عن الزوج لما مرَّ قبل هذا. والمملوكة إذا امتنعت عن المولى لا لمعنى من جهة المولى لا تبطل نفقتها؛ لأن نفقة المملوك بعلة الملك؛ والملك باقٍ في هذه الحالة.

وإن زكت المشهود فإن أنفق المولى عليها على وجه التبرع أو أكلت في بيت المولى بإذن المولى فلا رجوع له عليها كما في سائر التبرعات. وإن أجبر القاضي المولى على ذلك أو أكلت في بيت المال بغير إذن المولى، رجع عليها بخلاف الطلاق. والفرق وهو: أن الاستحقاق ههنا بحكم الملك وتبين أنه لا ملك في ذلك الوقت. إذ القاضي إنما يقضي بحريتها من الوقت الذي شهد به الشهود. فتبين أنهما أخذت بغير حق وثمة الاستحقاق باعتبار كونها محبوسة بحق الزوج، وتبين أنها محبوسة بحق الزوج في العدة. ويستوي في جميع ما ذكرنا إن شهد الشهود بحريتها من «الأصل» : أو بحريتها بإعتاق وجد من المولى، إذ المعنى لا يوجب الفصل. قال: أمة في يدي رجل ادعى رجل أنها لهُ. وأقام شاهدين فالقاضي يضعها في يدي عدل ما دام في مسألة الشهود لما قلنا: طلبت النفقة وفرض لها القاضي النفقة، ثم لم تزك الشهود وردت الجارية على المولى فالمولى لا يرجع بما أنفق على أحد لما قلنا، و (لو) زكيت الشهود وقضى القاضي بالجارية للمدعي، لم يكن للشهود عليه أن يرجع على المدعي؛ لأنه أنفق على جارية الغير بغير إذن ذلك الغير وهل يرجع بذلك على الجارية؟ على قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يرجع وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: يرجع ويكون ذلك ديناً في ذمة الجارية تباع فيه إلا أن يقرّبه المقضي له؛ لأن القاضي لما قضى بالجارية للمدعي ظهر أن المدعى عليه كان عاصياً في حال ما أنفق عليها؛ لأنها في يد العدل ويد العدل يد المدعى عليه. ولهذا لو هلكت في يد العدل ضمن المدعى (319أ1) عليه قيمتها فتبين أن الجارية استهلكت شيئاً من مال الغاصب ومن أصل أبي حنيفة رحمه الله أن جناية المغصُوب على مال الغاصب هَدَرٌ كجناية المملوك على مال المالك، وعندهما معتبر كالجناية على مال الأجنبي وهي من مسائل «الزيادات» ، ثم عندهما إذا بيعت أو فداها المقضي له يرجع على المقضي عليه بالأقل من قيمتها ومن الفداء. وكذلك لو رافعتهُ وهي في يده ففرض لها النفقة وأكلت شيئاً من ماله بغير إذنه؛ ثم استحقت فهذا والأول سواء يعني لم يصير ديناً في رقبتها عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما. قال: وإن كان مكان الجارية عبد وباقي المسألة بحالها؛ لا يوضع العبد على يدي العدل إلا إذا كان المدعى عليه لا يحل كفيلاً بنفسهِ وكفيلاً بالعبد وكان المدعي لا يقدر على ملازمته. وكان المدعى عليه مخوفاً على ما في يدهِ بالإتلاف فحينذٍ يضعهُ القاضي على يدي عدل بخلاف الأمة، والفرق عرف في موضعه. وكذا إذا كان المدعى عليه فاسقاً معروفاً بالفجور مع الغلمان، فالقاضي يضعه على يدي العدل وهذا لا يختص بالدعوى والبينة بل في كل موضع كان صاحب الغلام معروفاً بالفجور مع الغلمان فالقاضي يخرج الغلام عن يده ويضعهُ على يدي عدل بطريق الأمر

بالمعروف والنهي عن المنكر. وإذا وضع القاضي العبد على يدي العدل أمره أن يكتسب وينفق على نفسهِ إذا كان قادراً على الكسب كما قبل الوضع على يدي العدل؛ بخلاف الأمة لأنها عاجزة عن الكسب عادة، حتى لو كانت الأمة قادرة على الكسب معروفة بذلك بأن كانت خبازة وأو غسالة تؤمر بالكسب أيضاً. هكذا قال الفقيه أبو بكر البلخي والفقيه أبو إسحاق الحافظ رحمهما الله. وإن كان العبد عاجزاً عن الكسب لمرضه أو صغره يؤمر المدعى عليه بالنفقة لأنهُ الآن بمنزلة الأمة. قال: وإن كان مكان العبد دابة والمدعى عليه لا يجد كفيلاً؛ وهو مخوف على ما في يده، والمدعي لا يقدر على ملازمته، فالقاضي يقول للمدعي أنا لا أجبر المدعى عليه على الإنفاق لكن إن شئت أن أضعها على يدي عدل فأنفق عليها. ولا يضع على يدي عدل بخلاف العبد والأمة؛ وهذا لأن المقصود من الوضع على يدي العدل صيانة حق المدعي. وهو القضاء له بالمدعى به متى زكت الشهود وهذا المقصود يفوت في الدابة متى أبى المدعي الإنفاق لأن المدعى عليه لا يُجبَرُ على إنفاقهِ وإن كان هو المالك ظاهراً على ما عليه ظاهر الرواية عن أصحابنا رحمهم الله ولو لم ينفق المدعي على الداية تتلف الدابة ولا يحصل ما هو المقصود للمدعي من وضع الدابة على يدي العدل بخلاف العبد والأمة لأن المدعى عليه يجبر على إنفاقهما وإن وضعا على العدل فلا ضرورة إلى أمر المدعي بالإنفاق. النوع الثالث في الإنفاق على الغير المشتري قال: دابةٌ بين رجلين امتنع أحدهما عن الإنفاق عليها؛ وطلب الآخر من القاضي أن يأمره بالنفقة حتى تأخر لا يصير متطوعاً. فالقاضي يقول للآبي: إما أن تبيع نصيبك أو تنفق عليه هكذا ذكر الخصاف في «نفقاتهِ» : وقد فرق بين هذا وبينما إذا كانت الدابة كلها له: فإن هناك إذا امتنع عن الإنفاق عليها لا يجبر على ذلك وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح كتاب المزارعة» : أن ههنا لا يجبر الآبي على الإنفاق أيضاً. والفرق على رواية الخصاف: أن الدابة كلها إذا كانت لرجل فليس في ترك الإنفاق إتلاف ملك الغير بل فيه إتلاف ملك نفسهِ. فلو وجب الإنفاق لوجب بملك نفسهِ وملك دابتهِ وإنها ليست من أهل الاستحقاق. أما ههنا في ترك الإنفاق إتلافُ ملك الغير وهو ملكُ صاحبه وصاحبه من أهل الاستحقاق فجاز الجبر للغير وهو ملك. قال: بهو مشترك بين قوم وهو شربٌ لهم ولأراضيهم احتاج هذا النهر إلى الكَرِيّ فأبى بعض أهل النهر الكراء. والكلام ههنا في مواضع. أحدها: في النهر الأعظم فنقول: النهر الأعظم إذا احتاج إلى الكرايّ فالسلطان يكريه من مال بيت المال. وكذلك إذا احتيج إلى إصلاح مسنناته ويصرف في هذا الكراء

قال: الخراج والجري وما يجري مجراهما ولا يصرف فيه الصدقات والعشر وإن لم يكن في بيت المال شيء فالإمام يجبر الناس على الكراء إلا أنهُ يخرج لكراء من كان يطيق الكراء منهم. ثم يجعل مؤنتهم على الأغنياء بالمياسير الذين لا يطيقون الكراء بأنفسهم. فأما النهر الذي دخل تحت القسمة إلا أن الشركة فيها عامة كالكلم وما أشبههُ. فكذا هذا النهر على أهلها، وأن ابن بعضهم الكراء يجبر الآبي على الكرا. وأما النهر الخاص بين قوم من كل وجه فكريه على أهل النهر وإن أبى بعضهم الكراء هل يجبر الآبي على الكراء؟ اختلف فيه المشايخ رحمهم الله. بعضهم قالوا: يجبر وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وقال بعضهم: لا يجبر وبه أخذ الفقيه أبو جعفر رحمه الله بل يرفع الأمر إلى الإمام حتى إن الإمام يأمر الباقين بكراء نصيب الآبي على أن يستوفى مؤنة الكراء من نصيبه من الشرب بأن يستوفى نصيب الآبي من الشرب مقدار ما يبلغ قيمة ما انفق، وباقي نصيبه للكراء هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله هذه المسألة في «كتاب الشرب» وبه تبين أن ما ذكر الخصاف في «نفقاته» : أن النهر الخاص بين قوم يجبر الممتنع على الكراء فذلك قول بعض المشايخ. ثم على قول بعض المشايخ: الذين يرون الكراء إذا لم يدفعوا إلى القاضي يرجعون على الآبي تسقط من النفقة. وهل يُمنعُ الآبي من الشرب حتى يؤدي ما عليه من النفقة؟ ذكر رحمه الله في «شرح نفقات الخصاف» : أن فيه اختلاف المشايخ رحمهم الله، وذكر في «عيون المسائل» أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: يمنع ولم يأخذ بهذا شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وأما إذا خيفَ أن ينشف النهرُ الخاصُ وأرادوا أن يحصوه فامتنع بعضهم فإن كان في هذا ضررٌ عام، بأن كان الماءُ يخرج إلى طريق المسلمين وإلى أراضيهم لو لم يصلحوا يُجبر الآبي على ذلك، وإن لم يكن فيه ضرر عام لا يجبر على الإنفاق، وأما إذا اتفق أهل النهر (319ب1) الخاص على ترك الكراء في هذا النهر لا يجبر. يضمن الإمام على ذلك في ظاهر المذهب. وقال بعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله: يجبرهم الإمام على ذلك لحقِ أصحاب الشفعة في النهر هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في «شرح كتاب الشرب» وبه تبين أن ما ذكر الخصاف في «نفقاتهِ» أن صاحب النهر الخاص وصاحب البئر يجر على كراء النهر وعلى إصلاح البئر لحق أصحاب الشفعة قول بعض المتأخرين من المشايخ، وليس بجواب ظاهر الرواية. فرع على هذه المسائل في كتاب الشرب فقال: إذا أنفق أهل النهر الخاص على الكراء. قال: أبو حنيفة رحمه الله: عليهم مؤنة الكراء من أعلى النهر: فإذا جاوزوا أرض رجل يرفع عنه مؤنة الكراء. وقال: أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: الكراء عليهم جميعاً من أول النهر إلى أخره يخصص للشرب

والأرضين. فأما إذا جاوزوا فوهة أحدث رجل هل يرفع مؤنة الكراء عند أبي حنيفة رحمه الله؟ والصحيح: أنه لا يرفع ما لم يجاوزوا أرضه وعلى هذا الاختلاف إذا احتاجوا إلى إصلاح حافني هذا النهر. وأما إذا كان النهر عظيماً عليه قرى يشربون فيها، وهي التي تدعي بالفارسية «كام» فأنفقوا على كراء هذا النهر فبلغوا فوهة نهر قرية هل يرفع عنهم مؤنة الكراء لا رواية لهذه المسألة في «المسبوط» . قال خواهر زاده رحمه الله: ذكر هذه المسألة في «النوادر» أنه يرفع بالاتفاق وعلى قياس المسألة الأولى ينبغي أن يشترط لدفع مؤنة الكراء مجاورة إذا وصل هذه القرية. قال: زرع بين رجلين أبى أحدهما أن ينفق عليه لا يجبر على ذلك لما قلنا، لكن يقال للآخر أنفق أنت وارجع بنصف القيمة في حصة شريكك؛ وكذلك الحمام إذا كان بين رجلين..... القدر أو أحرض أو شيء من الحمام فأبى أحدهما بالإنفاق لا يجبر عليه.l ولكن يؤمر الآخر بالإنفاق ثم يرجع بحصة صاحبه في الغلة أما إذا ولاية انهدم الحمام كلهُ فأراد أحدهما أن يبني وأبى الآخر يقسم أرض الحمام، لأنه إن كان لا يمنكهُ أن يبني الحمام فيه: يمكنهُ أن يبني شيئاً آخر. قال: البئر إذا كان بين رجلين وهو شرب مواشيهم فامتنع أحدهما عن إصلاحه وقال: أنا لا أسقي ماشيتي منها لا يجبر على ذلك لما قلنا، وإذا أصلح الآخر لا يكون له أن يرجع على الآبي، ولم يذكر الرجوع ههنا على الآبي وذكر الرجوع في المسائل المتقدمة فيحتمل أن الذي أصلح البئر أصلح بغير أمر القاضي في تلك المسائل إذا كان الإنفاق بغير أمر القاضي، لا يكون للمنفق ولاية الرجوع أيضاً على الآبي، ويحتمل أن يكون أصلح بأمر القاضي. فعلى هذا يحتاج إلى الفرق بين هذه المسألة وبين المسائل المتقدمة. والفرق: وهو أن النفقة ههنا إنما تجب بأداء المنفعة. فإذا امتنع من الانتفاع لم يكن عليه شيء أما فيما تقدم إن تعذر الإيجاب بأداء المنفعة أمكن الإيجاب بأداء ملك الرقبة لهم. قال: دار وحانوت بين رجلين لا يمكن قسمتهما تشاجرا فيه فقال أحدهما: لا أكري ولا أنتفع وقال الآخر: أريد أن أنتفع فإن القاضي يأمره بالمهايأة ثم يقال للذي يريد الانتفاع به في مدتهِ إن شئت فانتفع بها وإن شئت فأغلق الباب، لأن في امتناعهُ من المهايأة إلحاق الضرر بصاحبهِ. وقال العبد: إذا كان مشتركاً بين رجلين غاب أحدهما فأنفق الآخر بغير أمر القاضي وبغير أمر صاحبه، فهو متطوع في النفقة. وكذا الذرع إذا كان مشتركاً بين رجلين أو النخل إذا كان مشتركاً بين رجلين غاب

أحدهما فأنفق الآخر بغير أمر القاضي وبغير أمر صاحبه فهو متطوع في النفقة، لأنه أنفق على ملكه وملك الغير بغير أمره وبغير أمر من يلي عليه وهو غير مضطر في ذلك. يمكنهُ الإنفاق بأمر القاضي حتى يرجع بما أنفق في حصتهِ، ويحيي ملك نفسهِ. فكان بمزلة المودع إذا أنفق على الوديعة، أو الملتقط على اللقطة بغير أمر القاضي وكان كالأجنبي إذا قضى دين غيره بغير أمر من عليه الدين وهناك كان متبرعاً كذا ههنا،. وكذلك الدار المشتركة إذا اشتريت فأنفق أحدهما في مؤنتها بغير أمر القاضي وبغير أمر صاحبه فهو متطوع. وهذا بخلاف ما لو أوصى برقبة نخلة لإنسان وبثمرتهِ لآخر ثم غاب صاحب الثمرة فأنفق صاحب الرقبة على النخيل بغير أمر القاضي لم يكن متبرعاً حتى كان له أن يستوفي مال أنفق من الغلة. وموضع الفرق بان العذر في المزارعة. في «شرح خواهر زاده» رحمه الله فرع على هذه المسألة فقال: إن لم يخرج النخيل من الغلة فيما يستقبل مثل ما أنفق لا يكون لصاحب النخيل أن يرجع بما بقي من نفقته على صاحب الغلة ولكن يبيع الخارج في السنة الأخرى حتى يستوفي تمام نفقته. فرق بين هذا وبين الزرع المشترك بين رجلين، إذا أنفق أحدهما بأمر القاضي حتى كان للمنفق ولايةُ اتباع الخارج دون المزارع إذا استوفى حصة المزارع من الخارج وبقي من نفقتهِ شيء لا يكون له أن يتبع الخارج في السنة الأخرى بما بقي من النفقة. وإن كان الإنفاق بأمرِ صاحبه في مسألة الزرع أو بأمر صاحب الغلة في مسألة النخيل كان له أن يرجع على صاحبه وعلى صاحب الغلة بجميع ما أتفق ولا يعتبر الخارج والفرق في هذا الباب أيضاً. ثم الأصل في النفقة على المشترك، وهو أن كل نفقة يجري الجبَر عليها إذا امتنع أحد الشريكين من الإنفاق وأنفق الآخر بأمر القاضي أو بأمر الآبي، فالمنفق يرجع بنصف النفقة على الآبي بالغاً ما بلغ سواء بقي نصيب الآبي سالماً له أو هلك كالعبد الصغير إذا كان بين شريكين ولم يعد أحدهما على الإنفاق فأنفق الآخر بأمر القاضي أو بأمر صاحبه رجع المنفق على صاحبهِ بحصتهِ من النفقة بالغاً ما بلغ سواء بقي الصبي أو هلك وكل نفقة لا يجري الجبر عليها كما في نفقة الدابة المشتركة إذا أنفق أحدهما بأمر القاضي لم يكن للمنفق أن يرجع على شريكه فيما زاد على قيمة نصيبهِ، ولا بعد هلاك الدابة، وكل نفقة لا يجري الجبر عليها إذا أنفق أحدهما بأمر صاحبه يرجع على صاحبه بجميع حصتهِ بالغاً ما بلغ في ذلك الشيء (320أ1) أو هلك فعلى هذا الأصل يخرج جنس هذه المسائل من الزرع المشترك وغير ذلك. وذكر في «كتاب المزارعة» : إذا مات ربُّ الأرض في وسط المدة وقال المزارع: أنا أقلع الزرع، وأنفق ورثة رب الأرض بأمر القاضي رجع على المزارع بجميع النفقة. قدراً بحصته ولو انقضت مدة المزارعة وأنفق ربّ الأرض بأمر القاضي فإنه يرجع بنصف القيمة مقدراً بحصته.

ولو كانت المزارعة قائمة وعجز المزارع عن الإنفاق عليه لعسرته فأنفق صاحب الأرض على الزرع بأمر القاضي حتى بلغ الزرع، فإن صاحب الأرض يرجع على المزارع بما أنفق بالغةً ما بلغت غير مقدرة بالحصة ولهذه المسائل تفاصيل تفريعات في المزارعة الكبيرة في باب العذر في المزارعة بعضها في «شرح خواهر زاده» رحمه الله وبعضها في «شرح شمس الأئمة السرخسي» رحمه الله. ومما (يتصل) بهذا الفصل رجل أخذ عبداً آبقاً فطلب صاحبه. فلم يقدر عليه فجاء إلى القاضي وأخبره بالقصة وطلب من القاضي أن يأمره بالإنفاق عليه فالقاضي لا يلتفت إلى قوله. قبل إقامة البينة وبعد ما أقام البينة، كان للقاضي الخيار إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل كما في اللقيط واللقطة. وبعدما قبل القاضي البينة، إن كان (البيع) أصلح بأن خاف أن تأكلها النفقة أمره ببيعها، وإمساك الثمن. وتمام هذه المسائل في اللقيط واللقطة والإباق. وكذلك الحكم، فيما إذا ادعى هذا بأن هذا الشيء وديعة وأقام البينة أو لم يقم فهو على ما قلنا، والله أعلم بالصواب. وتم الكتاب بعون الله وحسن توفيقه.

كتاب العتاق

كتاب العتاق هذا الكتاب يشتمل على أحد عشر فصلاً: 1 * في الألفاظ التي يقع بها العتق. 2 * في الألفاظ التي لا يقع بها العتق. 3 * في تعليق العتق وإضافته وما هو بمعناهما. 4 * في العتق المبهم. 5 * في إعتاق بعض الرقيق. 6 * في عتق ما في البطن. 7 * في الخصومات أربعة في الرق والحرية والشهادة على ذلك. 8 * في تفويض العتق إلى غيره. 9 * في التدبير. 10 * في أمهات الأولاد. 11 * في المتفرقات.

الفصل الأول في الألفاظ التي يقع بها العتق

الفصل الأول في الألفاظ التي يقع بها العتق نوعان: صريح وكناية، فالصريح لفظ العتق والحرية، وهما لغتان أي لفظان.....: لا يعتبر فيهما النية؛ لأن النية إنما تعتبر فيما إذا كان مراد المتكلم مشتبهاً والاشتباه في..... فإن استعمال اللفظ لما وضع أصل ويثبت العتق بهذين اللفظين سواء ذكرهما على سبيل الصفة نحو قوله: أنت حر أنت عتيق أو على سبيل وحررتك الإخبار نحو قوله: أعتقتك وحررتك أو على سبيل الصفة نحو قوله: أنت حر أنت عتيق أو على سبيل النداء. نحو قوله: يا حر يا عتيق أو على الإشارة نحو قوله: هذا حر وهذا عتيق. قال محمد رحمه الله: في «الأصل» : وإذا قال لعبده: أنت حر لوجه الله تعالى عتق قال مشايخنا رحمهم الله: ذكر وجه الله ليس على سبيل الشرط بدليل أن محمداً رحمه الله ذكر في «الكتاب» : إذا قال لعبده: أنت حر لوجه الشيطان إنه يعتقد. والأصل فيه قول عمر رضي الله عنه من تكلم بطلاق أو عتاق فهو جائز عليه من غير فصل لكن ذكر وجه الله لبيان أُنه قصد بالعتق القربة. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: أن من أشهد أن اسم عبده حر ثم ناداه يا حر لا يعتق ولو دعاه بالفارسية يا اداد يعتق لأن في الوجه الأول دعاهُ باسمه، وفي الوجه الثاني دعاه بغير اسمه وعلى هذا لو سماه اداد ثم دعاه باداد لا يعتق ولو سماه يا حر يعتق. وذكر في بعض نسخ «الأصل» إذا قال له: يا عتق يعتق نوى أو لم ينو، لأن العتق مصدر والمصدر يقوم مقام الاسم: ولو قال لعبده: يا حر أو قال لأمتهِ يا حرة وقال: أردت به اللعب يعتق ديانة وقضاء؛ لأن الجد واللعب في العتق على السواء. ولو قال: أردت به الكذب لا يتعلق ديانة لأن الكذب لا يتعلق به حكم إلا أن القاضي لا يصدقه في دعوى الكذب، لأنه دعوى أمر بخلاف الظاهر لأن الظاهر في الخبر الصادر عن عقل ودين أن يكون صدقاً أما الله تعالى مطلع على الضمائر والظواهر جميعاً. والخبر في نفسه محتمل للصدق والكذب ويصدق ديانة لهذا إلا أن احتمال الكذب إنما يتأتى في الإخبار لا في إيجاب ولا يصدق في دعوى الكذب في الإيجاب. ولو جرى لفظة التحرير على لسانه خطأ بأن أراد أن يقول لعبده: اسقني فقال له: أنت حر أو جرى لفظة أنت طلالق على لسانه خطأ بأن أراد أن يقول لها: افعلي كذا فقال

لها: أنت طالق فالطلاق وقع باتفاق الروايات، وفي العتاق روي عن أبي حنيفة: لا يقع. وفي «المنتقى» : ابن سماعة في رجل جالس مع قوم وأمته كانت قائمة بين يديه فسألها رجل أمة أنت أو حرة فأراد المولى أن يقول ما سؤالك عنها أنها أمة أو حرة فعجل في القول وقال: هي حرة إنه يعتق في القضاء ولا يعتق فيما بينه وبين الله تعالى. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا بعث الرجل غلامه إلى بلدة وقال له: إذا استقبلك رجل فقل: إني حر فذهب الحر فاستقبله رجل فسأله فأجاب بما قال المولى فإن كان قال له المولى: سميتك حراً فقل إني حر لا يعتق أصلاً، لأن قوله بأمر المولى إني حر كقول المولى هو حر والمولى لو قال بغلامه بعدما سماه حراً هذا حر لا يعتق وإن لم (يقل) المولى سميتك حراً يعتق قضاء لا ديانة. كما لو قال المولى: هو حر وأراد به الكذب دون التحقيق وعلى هذا إذا قال لجماعة تذهبون مع غلامه إذا استقبلكم أحد فقال لو قال آرادست. وفي «المنتقى» : إذا قال لعبده: إذا مررت على التي أشر فسألك فقل: أنا حر فهو عليه فسأله فقال: أنا حر عتق ولا يعتق قبل ذلك ألا ترى لو قال لعبده ابتداء قل أنا حر عتق ولا يعتق ما لم يقل أنا حر وإذا قال ذلك يعتق كذا ههنا. وفي «واقعات الناطقي» إذا قيل: عبيد أهل بلخ أحرار وهو من أهل بلخ ولم ينو عبده أو قال كل عبد أهل بغداد أحرار وقال كل عبد أهل بلخ أحرار ولم ينو عبده قال أبو يوسف: لا يعتق عبده. وكذلك إذا قال: كل مملوك ببغداد حر لا يعتق عبده وإن كان عبده ببغداد إلا أن ينويه عند أبي يوسف قال: لأن هذا أمر عام وبقوله أخذ عصام بن يوسف. وذكر ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أنه يعتق عبده في هذه الصور كلها وبقوله أحد شداد ببغداد هذا بخلاف الطلاق. وعلى هذا الخلاف إذا قال كل عبد في هذا المسجد يعني المسجد الجامع يوم الجمعة فهو حر وعبده في المسجد إلا أنه لم ينو عبده أو قال كل امرأة في هذا (320ب1) . المسجد يعني المسجد الجامع يوم الجمعة طالق وامرأتهُ في المسجد الجامع إلا أن ينويها. ولو قال: كل عبد في هذه السكة حر أو قال: كل عبد في هذه الدار حر وعبده في الدار والسكة عتق وإن لم ينو بلا خلاف. ولو قال: ولد آدم كلهم أحرار لا يعتق عبده إلا بالبينة بالاتفاق. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد رحمه الله أيضاً: إذا قال: كل عبد يدخل هذه الدار فهو حر أو قال كل عبد يملكني بشيء فهو حر فدخل الدار عبد له أو كلمه عبد له عتق.

وكذلك إذا قال: كل عبد في الأرض حر عتق عبده ولم يرو عن أبي يوسف في هذين الفصلين شيء. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد رحمه الله أيضاً: رجل قال: قد أعتق كل رجل عبده ثم اشترى عبداً لم أعتق العبد الذي اشتراه منه بهذا القول منه لأني أعلم أنه قيمة كاذب قال: وأما المسائل المتقدمة فيمن أوقع بها العتق فأوقع بها ما أوقعه منه على عبده. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قال لعبده: أنت حر أو قال لأمته: أنت حرة عتق ولو قال لرجل يا زانية لا يحد. وفي «الأصل» : إذا قال لعبده: أنت حر من عمل كذا أو قال: أنت حر اليوم من هذا العمل عتق في القضاء؛ لأنه وصفهُ بالحرية وتخصيصه وقتاً أو عملاً لا يعتبر حكم ما وصفه به فأما فيما بينه وبين الله تعالى إن كان لم يرد به العتق فهو عبده؛ لأنه يحتمل أن يكون مراده لا أكلفك اليوم هذا العمل والله تعالى مطلع على ما في ضميره كنه خلاف الظاهر فإنه جعل الحرية صفة له في الظاهر فلا يصدقه القاضي. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: إذا قال لأمتهِ: أنت حرة من هذا العمل يعني به قد أعتقتك منه فهي حرة في القضاء. قال: ولا يشبهه قوله لامرأته: أنت طالق من وثاق. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف رحمه الله: رجل قال: لأمتهِ فرجك حر عن الجماع قال: تعتق في القضاء. وفي «المنتقى» أيضاً: رجل له عبد فدخل له دمه بالقصاص فقال له: قد أعتقتك ثم قال: عنيت العتق عن الدم، فإنه في القضاء على الرق ويلزمه العفو بإقراره أنه عناه ولو لم يقل عنيت العتق عن القتل لم يلزمه العفو. ألا ترى أنه لو قال: عنيت العتق عن الرق كان له أن يقتله لأن وجه الكلام على ذلك كذا ههنا ولو اعتقه لوجه الله عن القصاص بالدم كان كما قال. ولو كان له على رجل قصاص فقال قد أعتقتك فهو عفو استحساناً. ولو قال له أعتقتك من القصاص أو من القتل فهو عفو قياساً واستحساناً. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله سئل أبو بكر الإسكاف رحمه الله: (عن) رجل قال لعبده نواراد توارمني قال: لا يعتق لأنه يراد به التشبيه ألا ترى أنه لو قال لآخر أنت أزنى الناس لا يكون قاذفاً قال الفقيه أبو الليث رحمه الله هذا إذا لم ينو العتق. فأما إذا نوى العتق يعتق؛ لأنه نوى ما يحتمله لفظهُ. ألا ترى أنه لو قال لامرأته: أنت أطلق من فلانة وفلانة مطلقة ونوى الطلاق تطلق كذا ههنا، وقيل: يجب أن يعتق بدون النية. وفي «المنتقى» : إذا قال لعبده: أنت أعتق من فلان يعني به عبداً آخر له وعنى به أنت أقدم في ملكي دين فيما بينه وبين الله تعالى ولم يدين في القضاء ويعتق. ولو قال: أنت أعتق من هذا في ملكي أو قال: في السر لم يعتق أصلاً، وكذلك إذا قال

الفصل الثاني في الألفاظ التي لا يقع بها العتق

له: أنت عتيق السن، ولو قال له: أنت حر النفس يعني في أخلاقك وأفعالك لم يعتق أصلاً. وفيه أيضاً: إذا قال الرجل لغيره قل: لغلامي إنك حر أو قال: قل له إنه حر عتق في القضاء ساعة تكلم. ولو قال له: أنت حر لم يعتق حتى يقول له أنت حر، وهذا على الوكالة كأنه وكله بعتقهُ. هشام قال: سمعت أبا يوسف قال: في رجل قال لثوب خاطه مملوكة هذه خياطة حر بالإضافة أو قال: له إنه مملوكة هذه وإنه حر قال: لا يعتق في شيء من هذه أو قال في رجل قال لمملوكه أنت مولى فلان أو أنت عتيق فلان فهو حر، ولو قال أعتقتك فلان فليس بشيء. والفرق: أن في الفصل الأول أخبر عن عتقه ولا يتحقق العتق فيه إلا بإعتاقهِ إياه فيصير مقراً بإعتاقهِ إياهِ وإقرارهُ حجة عليه. وفي الفصل الثاني: أخبر عن إعتاق فلان وقد يتحقق إعتاق فلان من غير إعتاقه فلا يصير مقراً بإعتاقه والله (أعلم) بالصواب. الفصل الثاني في الألفاظ التي لا يقع بها العتق في «المنتقى» : إذا قال لأمته أنت مثل هذه وأشار إلى امرأة حرة لم يعتق إلا أن يقول أردت أنها حرة مثل هذه. وكذا إذا قال لامرأة حرة أنت مثل هذه الأمة وأشار إلى أمته لا تعتق أمته إلا أن ههنا لو أراد التشبيه في الحرية لا تعتق أمته بخلاف الفصلين المتقدمين. وفيه أيضاً: إذا قال: كل مال لي حر وله رقيق لا يعتق واحد منهم لأن محل الرقيق لا مطلق المال فهذا الكلام لم يلاق محله فلا يصح، وفيه إذا قال لعبده نسبك حر أو قال أصلك حر فإن كان يعلم أنه سبي لم يعتق وإن كان لا يعلم أنه فهو حر؛ لأن في الوجه الأول ما أقر بحريته لا نصاً ولا ضرورة الإقرار بحرية إذ ليس من ضرورة حرية الأصل المسبي حريته فالكفار كلهم أحرار قبل الظهور عليهم ويثبت حكم الرق في أولادهم بالاستيلاء على الأولاد وهو معنى قولنا: إنه ما أقرَّ بحريته وفي الفصل الثاني صار مقراً بحريته ضرورة الإقرار بحرية أصله فإن من ضرورة حرية أصل غير المسبي حريتهُ والثابت ضرورة والثابت صريحاً سواء. أو نقول في الوجه الأول هو صادق في مقالته لأن المسمى نسبه حر وأصله حر فلا ضرورة إلى الحكم بحرية الولد أما غير المسمى لا يكون نسبه حراً إلا أن يكون هو حر لأن حرية الأبوين تقتضي حرية الولد إلا أن يجري السبي على الولد فإذا لم يجر تثبت هذه اللفظة موجبة حرية الولد.

ولو قال له: أبواك حران لم يعتق على كل حال؛ لأنه يجوز أن يكون الأبوان حرينن ويكون رقيقهُ بأن عتق أبواه بعد ولادتهِ إذا قال لعبدهِ عتقك عليّ واجب لا يعتق بخلاف ما لو قال طلاقك علي واجب (321أ1) . هكذا ذكر في «الفتاوى للفضلي» : والفرق: أن العتق قد يجب في الجملة فلم يقتضِ هذا اللفظ وقوع العتق بخلاف الطلاق لأن الطلاق لا يجب بحال وإنما يجب حكمهُ بعد وقوعه فاقتضى هذا وقوع الطلاق. وقد ذكر القدوري في «شرحه» في مسألة الطلاق عن أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله بخلاف ما ذكر ههنا، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الطلاق. وإذا قال لعبده رأسك حر أو قال بدنُكَ حر فالكلام في العتق نظير الكلام في الطلاق ففي كل ما يقع به الطلاق بالإضافة إليه لا يقع العتق بالإضافة إليه قد مر فصل الطلاق في كتاب الطلاق، وعن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لغلامه: ركبك حر إنه يعتق كما لو قال فرجك حر. إذا قال لعبده: رأسك رأس حر، أو قال بدنك بدن حر قال: لا يعتق بالإضافة عنده؛ لأن معناهُ مثل رأس حر، مثل بدن حر، وإنه تشبيه والتشبيه لا يقتضي المساواة من كل وجه. ولو قال: رأسك رأس حر بدنك بدن حر عتق، لأن هذه صفة وليس بتشبيه، ولو قال: ما أنت إلا مثل الحر لا يعتق لأن هذا تأكيد في التشبيه والتشبيه لا يوجب العتق. ولو قال ما أنت إلا حر عتق لأن كلامه اشتمل على النفي والإثبات وهذا أكذ ما يكون في الإثبات فكان هذا وقوله: أنت حر سواء، ولو أن عبداً قال لمولاه: إرادي من يبداكن فقال المولى: إرادي يو كردم لا يعتق العبد؛ لأنه يحتمل أنه أظهر بالتعليق لا بالتنجيز. رجل قال لعبده انت..... مملوك فهذا الا يكون عتقاً منه ولكن ليس له أن يدعيه وإن مات لا يرثه بالولاء وإن قال المملوك بعد ذلك إني مملوك له فصدقه كان مملوكاً رواه إبراهيم عن محمد رحمه الله. وفي «الفتاوى» عبد أخذ منديل مولاه ووصفهُ بحسنه فقال المولى: بارخداي مرادساد من مي باين بارندحود بير لا يغير العبد بهذا اللفظ لأن معناه أين يدرك مرا وبهذا لا يثبت العتق، لأنه استهزاء. إذا قال لعبده باسدا، وقال: باسدين أو قال لأمته باسده أو قال لها: يا سيدف أو قال له: بالواد مردا أو قال: بامرادمرد من أو قال لها: يا ازادون أو قال: يا ارادرن من أو قال لها: يا كدبا نواياكد ترى من، فإن نوى العتق في هذه المسائل يثبت العتق بلا خلاف وإن لم ينو العتق اختلف المشايخ فيه. واختيار الفقيه أبي الليث أنه لا يعتق لأنه يراد ببعض هذه الألفاظ اللفظ وببعضها الإنشائية وليس فيه ذكر ما يختص بإعتاقه إياه ولو قال لغلامه: يا ازاد مرد بدون حرف

الألف لا يعتق وإن نوى العتق هكذا حكي عن الفقيه أبي بكر ولو قال لغلامه: أنت مولاي أو قال له: يا مولاي اختلف المشايخ فيه وذكر الكرخي أنه يعتق ولا يحتاج فيه إلى النية. وقال هشام: سألت محمداً رحمه الله عمن قال لغلامه: يا مولاي أو قال لأمته: يا مولاتي قال: يعتق. قلت: وإن قال: يا سيدي يا سيدتي قال: لا يعتق وهذا ليس بشيء. وقال إبراهيم بن رستم سمعت محمداً رحمه الله يقول: لا يعتق في النداء إلا في خصلتين يا حر ويا حرة يا مولاي ويا مولاتي قال: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وهذا لأن لفظ المولى وإن كان لفظاً مشتركاً فإنه يذكر بمعنى الناصر قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ} (محمد: 11) ويذكر بمعنى ابن العم قال الله تعالى: {وإني خفت الموالي من ورائي} ويذكر بمعنى المولى الأعلى ويذكر بمعنى المولى الأسفل إلا أنه يعتق مولى الأسفل ههنا لأن المولى لا يستنصر بعبده عادة وليست العبد معروف ما ينفي معنى الناصر، ومعنى ابن العم وكذلك المولى الأعلى منتف وإنه ظاهر فتعين معنى مولى الأسفل وإنما لا يحتاج إلى النية لأن اللفظة المشترك إذا تعين فيه بعض وجوهه كان الحكم في ذلك الوجه ثابتاً بطريق الحقيقة فلا يحتاج فيه إلى النية.h إذا قال اين كوجه من است ذلك قال: لغلامه أو لأمته يعتق هل يعتق فيه اختلاف المشايخ واختيار الصدر الشهيد الكبير برهان الأئمة رحمه الله أنه لا يعتق لأنه لا يراد به التحقيق. ألا ترى أنه يقال في العرق ابن كو مكان امن ديدايد ولا يراد به التحقيق وإذا قال لغلامه: أي جاف بدر لا يعتق في باب بنيته..... وإذا قال لغلامه بالفارسية: تاتو بسنده من بودي بعد ابستواند ربودم واكنوكي ينستي بعداب توازرم فقد قيل: إنه يعتق في القضاء لأنه أقرب بالعتق. وقيل: لا يعتق بدون النية عند أبي حنيفة رحمه الله كما في قوله لامرأته: لست لي بامرأة وأشباه ذلك وهذا لأنهُ ليس من ضرورة أن لا يكون عبده أن يكون حراً لجواز أن يكون عبد غيره وسيأتي بعد هذا ما يؤكد هذا القول. قال: لجارية: وجهك أضوأ من الشمس ... عندك لم تعتق لأن هذا للطف لا للتحقيق رجل قال لعبدهُ: وهبت لك نفسك، بعت منك نفسك عتق قبل أو لم يقبل نوى أو لم ينوِ. وكذلك إذا قال له وهبت لك رقبتك فقال: لا أريد عتقاً وذكر مسألة هبة الرقبة في موضع آخر وقال يعتق والأول أصح لأن الهبة والبيع يقتضيان زوال الملك إلا أنه أوجبه لا....... يكون من...... الملك إليه فيشترط قبوله. وإذا أوجبه العبد يكون مزيلاً للملك بطريق الإسقاط فلا يشترط القبول وإذا قال لعبده لا سبيل لي عليك فإن نوى العتق يعتق وإن لم ينو لا يعتق؛ لأن هذا اللفظ يحتمل وجوهاً شتى: يحتمل لا سبيل لي عليك عقوبة ولوماً لأنك وفيت بما أمرتك به ويحتمل لا

سبيل لي عليك لأني بعتك ويحتمل لأني أعتقتك. وكذلك إذا قال: لا ملك لي عليك لا يعتق ما لم ينو، لأنه يحتمل وجهاً آخر سوى العتق، يحتمل لا ملك لي عليك لأني بعتك؛ لأني وهبتك. وكذلك إذا قال: خرجت عن ملكي، خليت سبيلك لا يعتق ما لم ينوِ؛ لأنه يحتمل وجهاً آخر سوى (هذا) وهذه المسائل تؤكد القول الثاني في المسألة الثانية التي تقدم ذكرها. وروي عن محمد رحمه الله أنه إذا قال له: لا سبيل لي عليك إلا سبيل الولاء فهو حر في القضاء ولا يصدق أنه لم يرده لأنه لما استثنى سبيل الولاء فقد عين في نفي السبيل جهة الحرية، ولا ولاء إلا بعد الحرية (321ب1) . ولو قال إلا سبيل الموالاة دين في القضاء لأن الطلاق الموالاة ينصرف إلى الموالاة في الدين، وإن جاز أن يعبر بها عن ولاء العتق، ولو قال له اذهب حيث شئت توجه أينما شئت في بلاد الله لا يعتق وإن نوى؛ لأن هذا يستدعي زوال يد المولى عنه وزوال يد المولى عن العبد لا يوجب العتق. ولو قال له لا سلطان لي عليك فنوى به العتق لا يعتق، بخلاف ما إذا قال لا سبيل لي عليك ونوى به العتق، والفرق: أن السبيل في اللغة عبارة عن الطريق المسلوك؛ لأن العمل بحقيقته غير ممكن إذا أضيف إلى العبد؛ لأن العبد ليس بطريق المسلوك، فيجعل كناية عن الملك؛ لأن الملك في العبد لمعنى الطريق، لأن الطريق ما يتوصل به إلى غيره والملك في العبد مما يتوصل به في التصرفات شرعاً، فكأنه قال لا ملك لي عليك. ولو قال لا ملك لي عليك ونوى به بالعتق يعتق، كذا ههنا، فأما السلطان في اللغة: يذكر ويراد به الحجة، ويذكر ويراد به الاستيلاء واليد، فكأنه قال لا حجة لي عليك لا يد لي عليك، ولو نص على هذا لا يعتق وإن نوى، كذا ههنا. فرق بين قول لا ملك لي عليك من كنايات العتق، ولم يجعل قوله لا يد لي لا حجة لي عليك من كنايات العتق، والفرق أن قوله لا يد لي عليك يتعرض لنفي اليد، لا لنفي الملك واليد تنتفي من غير انتفاء الملك كما في الإجارة والكناية، ولو جعل كناية عن العتق وفيه إزالة اليد والملك يؤدي إلى أن يثبت باللفظ أكثر مما وضع له اللفظ وإنه يجوز، وكذا قوله: لا حجة لي، يتعرض لنفي الحجة لا لنفي الملك، والتقريب ما مر. قوله لا ملك لي عليك يتعرض لنفي الملك مطلقاً الرقبة واليد فيه سواء، ولو جعل كناية عن العتق، وفيه إزالة ملك الرقبة واليد، لا يؤدي إلى أن يثبت باللفظ أكثر مما وضع له اللفظة، فلهذا افترقا. وإذا قال لأمته أنتِ طالق، أو ذكر شيئاً من كنايات الطلاق، نحو قوله: بنت مني أو حرمتك أو أنت خلية، أو ما أشبه ذلك وهو ينوي العتق لا يعتق في جميع ذلك عندنا، وعند أبي يوسف إذا قال لأمته اللفظ ونوى العتق عتقت؛ لأن الإطلاق يقتضي زوال اليد فهو بمنزلة قوله خليت سبيلك، ولو قال فرجك علي حرام يريد به العتق، لا يعتق لأنه جزء من المنفعة على نفسه، وتحريم المنفعة بجامع الرق، ألا ترى لو اشترى أخته من

الرضاعة، أو اشترى جارية وطىء أمها صح وإن كانت المتعة حراماً عليه. وعن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لأمته: ألف نون تاء حاء راء أو قال لامرأته ألف نون تاء طاء ألف لام قاف إنه إن نوى الطلاق والعتاق تطلق المرأة، وتعتق الأمة، هذا بمنزلة الكناية؛ لأن هذه الحروف يفهم منها ما عدا المفهوم من صريح الكلام، إلا أنها لا تستعمل لذلك، فصار كالكناية في حق الافتقار إلى النية. وإذا قال لعبده: هذا ابني ومثله يولد لمثله عتق العبد، سواء كان معروف النسب أو كان مجهول النسب وإن كان مثله لا يولد لمثله عتق العبد عند أبي حنيفة رحمه الله، خلافاً لهما، فاحتج محمّد رحمه الله على أبي حنيفة رحمه الله، فقال: ألا ترى أنه لو قال لغلامه هذه ابنتي أو قال لجاريته هذا ابني، فإنه لا يعتق، من مشايخنا رحمهم الله من قال: هذه المسألة على الخلاف أيضاً ومحمّد رحمه الله كثيراً ما يستشهد بالمختلف على المختلف، ويكون غرضه نقل الكلام إلى ما هو أوضح. ومنهم من قال لا بل تلك المسألة على الوفاق وهو الأظهر. وإذا قال لعبده يا أبي ذكر في «النوادر» أنه يعتق وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يعتق، وهو الصحيح. فعلى ما ذكر في «النوادر» لا يحتاج إلى الفرق، والفرق وهو أن النداء لاستحضار المنادى وذلك بذكر ما هو وصف تعضية الأصل حتى يعلم أنه هو المقصود بالنداء، فإذا ناداه بوصف يملك إيجابه فيه كما في قوله يا حرّ يجعل ذلك بمنزلة الإيجاب، ليكون النداء بما هو وصف له، وإذا ناداه بوصف لا يملك إيجابه فيه كما في قوله: يا أبي لا يمكن أن يجعل ذلك بمنزلة الإيجاب ليكون النداء بما وصف له، فيكون الاستحضار لصورة اللفظ ووقوع العتق بقوله ابني باعتبار معنى هذا اللفظ، وهو البنوة لا باعتبار الصورة فلهذا لا يقع الإعتاق، ولو قال لغلامه يا أخي يا عمي أو قال لأمته يا أختي يا عمتي يا خالتي لا يعتق وهو بناء على ما قلنا. ولو قال لغلامه: هذا عمي ذكر في بعض النسخ أنه لا يعتق ومن مشايخنا من قال: يعتق هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» وفي «مجموع النوازل» لو قال لغلامه هذا عمي، وقال هذا خالي أو قال لأمته هذه عمتي هذه خالتي يعتق. ولو قال هذا أخي، أو قال هذه أختي، لا يعتق لأن الأخ اسم مشترك، يذكر ويراد به الأخ من حيث الدين، ويذكر ويراد به الأخ من حيث القبيلة، ويذكر ويراد به الأخ من حيث النسب، والمشترك لا يكون حجة بدون البيان حتى لو قال هذا أخي لأبي، أو قال لأمي يعتق عليه ولا كذلك اسم العم، واسم الخال، وروى الحسن عن أبي حنيفة في قوله هذا أخي، هذه أختي أنه يعتق. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إن قال لغلامه هذا ولدي الأكبر عتق في القضاء؛ لأنه أقر بالبنوة والإقرار بالعتق، ولا يعتق ديانة؛ لأن هذه الكلمة تستعمل للعتاق والتشبيه. عبد في يدي رجل (حتى) له أهذا ابنك، فأشار برأسه أي نعم ثبت النسب منه،

الفصل الثالث في تعليق العتق وإضافته وما هو بمعناهما

والفرق: هو أن العتق يتعلق ثبوته بالعبارة، (والإشارة) لا تقوم مقام العبارة عند القدرة عليها، أما النسب لا يتعلق ثبوته بالعبارة ألا ترى أن الولد المولود على الفراش ثابت النسب من صاحب الفراش، وإن لم يصرح به، فجاز أن يثبت بالإشارة إذا قال لعبده أنت لله، لم يعتق في قول أبي حنيفة رحمه الله وإن نوى؛ لأنه وصفه بوصف هو ثابت قبل وصفه فإن جميع الأشياء لله تعالى، والعتق لا يثبت إلا ثابتاً من وصف لا يوصف به المملوك قبل العتق، وقال أبو يوسف يقع العتق إذا نوى؛ لأن العتق يقع لله تعالى غالباً، فإذا نوى العتق بهذا اللفظ فكأنه قال أنت حرٌّ لله تعالى، وهكذا روي عن محمّد رحمه الله وقال هشام سألت أبا يوسف عن رجل قال في صحته أو مرضه جعلتك لله تعالى، قال إن نوى العتق عتق، وإن لم (322أ1) ينوِ العتق أو مات ولم يبين لم يعتق لأنه يحتمل أنه أراد به النذر، ويحتمل أنه أراد به العتق فلا يتعين لأحدهما إلا بالنيّة وإذا مات لم يلزموا الورثة بشيء؛ لأن النذر يسقط بالموت، ولو قال له أنت عبد الله لا يعتق بالإجماع. وفي «العيون» : إذا قال لأمته الحامل أنت حرة وقد خرج منها بعض الولد، إن كان الخارج أقل يعتق، وإن كان الخارج أكثر لا يعتق؛ لأن للأكثر حكم الكل لا لما دونه، وذكر هشام والمعلى عن أبي يوسف فيمن قال لأمته الحبلى وقد خرج نصف بدن الولد أنت حرة، إن كان الخارج النصف سوى الرأس، فهو مملوك فإن كان النصف من جانب الرأس ومعناه أن يكون الخارج من البدن مع الرأس بصفاته الولد حر، والله أعلم بالصواب. الفصل الثالث في تعليق العتق وإضافته وما هو بمعناهما ذكر في «المنتقى» إذا قال لمملوكه إن ملكتك فأنت حر، عتق حين سكت، والملك الحادث بعد اليمين ملك، وهذا..... صححت وهي صحيحة. في «مجموع النوازل» إذا قال لعبده إذا سقيت الحمار فأنت حر، فذهب العبد بالحمار إلى الماء ولم يشرب الماء عتق العبد لأنه قد سقاه. في «المنتقى» رجل قال إن اشتريت عبد فلان، فقد صار حراً، أو قال فقد جرى فيه العتق فاشتراه عتق، ولو قال إن اشتريت عبد فلان عتق، أو قال جرى فيه عتق فاشترى لا عتق روى خالد بن صبح عن أبي يوسف في رجل قال: كلما دخلت هذه الدار، فعبدي حر، وله عبيد فدخلها أربع مرات وجب عليه بكل دخلة عتق يوقعه على أيّهم شاء واحداً بعد واحد. إبراهيم بن رستم عن محمّد رحمه الله: رجل قال لعبده أنت حر على أن تدخل

الدار فهو حر دخل أو لم يدخل، وعنه أيضاً: إذا قال لعبده أنت حر على أنه إن بدا لي رددتك جاز العتق وبطل الشرط، وقال إذا كان شرطه في شيء يجب عليه، أي على العبد فلا شيء عليه ولا تثبت الحرية ما لم يقبل. وإذا كان الشرط في شيء لا يجب عليه، فهو حر قبل أو لم يقبل. إذا قال لعبده إن شتمتك فأنت حر ثم قال لا بارك الله فيه، لا يعتق؛ لأن هذا ليس بشتم بل دعاء عليه. رجل قال لمكاتبه إن أنت عبدي، فأنت حر لا يعتق؛ لأن في كونه عبداً له قصور، وهو نظير ما لو قال لمطلقته طلاقاً بائناً: إن أنت امرأتي فأنتِ طالق لا تطلق لأن في كونها امرأة له قصور. رجل قال لعبد على رجل إن وهبك مولاك مني فأنت حر، فوهبه منه فهذا على وجهين: أما إن كان العبد في يد الواهب وفي هذا الوجه لا يعتق العبد قبل أو لم يقبل سُلِّم إليه، أو لم يُسلَّم؛ لأنه انحلت اليمين بنفس الهبة ولا ملك، وأما إن كان العبد وديعة في يد الموهوب له، وهو الحالف، فإنه على وجهين: إن بدأ الواهب، فقال: وهبته منك لا يعتق قبل الموهوب له أو لم يقبل؛ لأن اليمين انحلت بنفس الإيجاب، ولا ملك وإن بدأ الموهوب له وهو الحالف، فقال: هبه مني فقال صاحب العبد وهبته منك عتق العبد؛ لأن القبول لما سبق والعبد معتق منه يثبت الملك كما وهبه منه، فتنحل اليمين بالهبة والملك ثابت، فهذا عتق ذكره الصدر الشهيد رحمه الله في باب العتق. وفي «النوازل» إذا قال الرجل كل عبد أشتريه فهو حر، فاشترى عبداً شراءً فاسداً ثم اشتراه ثانياً شراءً صحيحاً لا يعتق؛ لأن اليمين انحلت بالشراء الفاسد، لأن الشراء الفاسد شراء حقيقة لكن لم يعتق العبد لانعدام الملك، لانعدام شرطه وهو القبض فلا تنحل بالشراء الصحيح، وهذا بخلاف ما لو قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق، فتزوج امرأة نكاحاً فاسداً، ثم تزوجها ثانياً نكاحاً صحيحاً تطلق؛ لأن هناك باليمين لا تنحل بالنكاح الفاسد؛ لأن النكاح الفاسد ليس بنكاح على الحقيقة وإذا لم تنحل اليمين بالنكاح الفاسد تنحل بالنكاح الصحيح، فلهذا افترقا. وفي «الروايات» عبد بين رجلين قال أحدهما للعبد: أنت حر على ألف درهم، فقبل العبد ذلك، عتق نصيبه لا غير عند أبي حنيفة رحمه الله، ولا يلزمه إلا خمسمائة؛ لأن الألف مقابل بجميع الرقبة، ولم يعتق من جهته إلا نصف الرقبة ويرجع الشريك الآخر على المعتق بنصف ما قبض من العبد؛ لأنه كسب شخص نصفه مملوك للساكت، ثم يرجع المعتق على العبد بنصف ما أخذ منه لأن المأخوذ من العبد نصف الرقبة، وقد سلم للعبد نصف الرقبة ولم يسلم للمولى إلا نصف البدل، فرجع عليه بالنصف الآخر، ولو كان قال: نصيبي منك حر على ألف درهم، فقبل العبد ذلك عتق نصفه لا غير عند أبي حنيفة رحمه الله وكان على العبد ألف درهم ههنا للمعتق، بخلاف الفصل الأول. والفرق في هذا الفصل الألف تجزيه نصيبه وقد سلم له ذلك، فيلزمه كل الألف،

ولا كذلك في الفصل الأول، ويرجع الساكت على المعتق بنصف ما قبض من العبد، ثم المعتق يرجع بذلك على العبد لما مر. وهذا كله قول أبي حنيفة رحمه الله، وأما قول أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله إذا أعتقه أحدهما، أو أعتق نصيبه عتق الكل؛ لأن الإعتاق عندهما لا يتجزأ، فكان على العبد ألف درهم في الوجهين؛ لأن الألف مقابل بجميع الرقبة وقد سلم للعبد جميع الرقبة من جهته، ويرجع الساكت على المعتق بنصف ما أخذ من العبد، ثم المعتق يرجع بذلك على العبد، هكذا وقع في بعض النسخ، ووقع في بعض النسخ: ولا يرجع الساكت على المعتق بما أخذ من العبد، قالوا: تأويل ما ذكرنا أن الساكت يرجع على المعتق بأن يكون المؤدى كسب الرق، فيكون كسب عبد مشترك، وتأويل ما ذكرنا أن الساكت لا يرجع أن المؤدى كسب ما بعد الإعتاق، وعندهما الإعتاق لا يتجزأ وكان هذا كسب حر عندهما. وفي أبواب البيوع من «الزيادات» إذا قال لعبده: أنت حر بألف درهم، أو قال على ألف درهم، فقال العبد: قبلت العتق في نصفي لا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله، ولا يعتق، ولا يلزمه شيء وعندهما يعتق ويلزمه الألف؛ لأن الإعتاق عندهما (322ب1) لا يتجزأ، فصار قبول العتق في النصف قبولاً في الكل. وعند أبي حنيفة رحمه الله: الإعتاق متجزىء فإن صح قبوله في النصف، يعتق نصفه بخمسمائة، ويخرج النصف الآخر إلى الحرية بالسعاية، فتقصر يد المولى عن العبد بإيجاب الدين في ذمته، وإنه مفلس والدين في ذمة المفلس.... فيتضرر به المولى، وإن قال العبد قبلت العتق في نصفي بخمسمائة فهو باطل بالإجماع، أما عند أبي حنيفة رحمه الله فظاهر وأما عندهما؛ فلأن قبول العتق في نصفه لما كان قبولاً في الكل عندها، صار كأنه قبل العتق في الكل بخمسمائة، ولو قبل العتق في الكل بخمسمائة لا يجوز ولا يعتق، لأن المولى ما وصى به كذا ههنا. ولو قال العبد لمولاه أعتقني على ألف درهم أو قال بألف درهم، فقال المولى؛ أعتقت نصفك فعلى قولهما عتق كله وعليه الألف، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله إن كان العبد قال أعتقني من فلان بألف، فقال المولى أعتقت نصفك عتق نصفه بخمسمائة، ويجب عليه السعاية في النصف الباقي، وإن كان قال أعتقني على ألف درهم فقال المولى أعتقت نصفك عتق نصفه بغير شيء. وفي «مجموع النوازل» رجل قال لعبده أنت حر (بعد) موتي إن لم تشرب الخمر، فأقام أشهراً ثم شرب الخمر قبل أن يعتق بطل عتقه، وإن رفع الأمر إلى القاضي بعد موت المولى قبل أن يشرب الخمر فأمضى فيه العتق ثم شرب الخمر بعد ذلك لم يرد إلى الرق. ولو قال لعبده أنت حر على أن تشرب الخمر، فهو حر شرب الخمر أو لم يشرب. وفي «المنتقى» الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله،

وهو قول أبي يوسف: إذا أشكل أمر الغلام في الاحتلام فقال قد احتلمت صدق فيما له، وفيما عليه كما تصدق الجارية على الحيض، فعلى فهذا إذا قال لغلامه إذا احتلمت فأنت حر، فقال: احتلمت عتق. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمّد رحمه الله إذا قال الرجل أول غلامين أشتريهما حران، فاشترى غلاماً ثم اشترى غلامين لم يعتق واحد منهم، ولو اشترى أولاً غلاماً، ثم اشترى غلاماً وأمه عتق الغلامان أما الفصل الأول، فلأن المشترى أولاً ليس بغلامين، والغلامان ليسا بأول لأن الأول اسم لعدد سابق لم يسبقه مثله. وأما الفصل الثاني فلأن الغلامين أول غلامين اشتراهما؛ لأنه لم يسبقهما شراء غلام وفي «الجامع» إذا قال: أول عبد أملكه فهو حر، فملك عبدين، ثم عبداً لم يعتق واحد منهم؛ لأنه وجب العتق لأول عبد يملكه والاسم لفرد سابق. وفي العبدين إن وجد السبق لم يوجد الفردية، وفي العبد إن وجد الفردية لم يوجد السبق. وهذا بخلاف ما لو قال أول عبدين أملكهما حران فملك عبدين عتقا؛ لأن هناك أضاف العتق إلى أول عبدين يملكهما فيعتبر الأولية في العبدين، وقد وجد، وههنا أضاف العتق إلى أول عبد يملكه فتعتبر الأولية في العبد الواحد ولم يوجد. وكذلك إذا قال أول عبد أملكه واحداً فهو حر، فملك عبدين ثم ملك عبداً لم يعتق واحد منهم؛ لأن قوله واحداً ذكره ولا ذكره سواء لأنه لا يفيد إلا ما قاله صدر الكلام؛ لأن قوله واحداً صفة للعبد بالتفرد وقد استعدنا تفرد العبد؛ بقوله أول عبد أملكه؛ لأن الأول اسم لفرد سابق. ولو قال أول عبد أملكه وحده فهو حر، فاشترى عبدين، ثم اشترى عبداً عتق الثالث؛ بخلاف قوله أول عبد أملكه واحداً. والفرق أن قوله وحده يقتضي الانفراد في الفعل المقرون به، ولا يقتضي الانفراد في الذات، وقوله واحد يقتضي الانفراد في الذات، ألا ترى أنه لا يستقيم أن يقال عبد وحده ويستقيم أن يقال عبد أملكه وحده. وكذلك إذا قلت في الدار رجل وحده يفيد ذلك صفة التفرد للرجل في الفعل المقرون به، وهو الكينونة في الدار حتى لو كان في الدار صبي أو امرأة مع الرجل يكون كاذباً، وإذا قلت في الدار رجل واحد يقتضي ذلك صفة التفرد للرجل في ذاته، حتى لو كان في الدار مع الرجل صبي أو امرأة لا يكون كاذباً. إذا ثبت هذا فنقول: قوله أملكه وحده يقتضي التفرد في الفعل المقرون به، وهو التملك فيصير مضيفاً العتق إلى أول عبد موصوف بصفة التفرد في التملك، والعبد الثالث بهذه الصفة، وصار كما لو قال أول عبد أسود عتق؛ لأنه أضاف العتق إلى أول عبد موصوف بصفة التفرد في السواد وهذا العبد بهذه الصفة. أما قوله: أملكه واحداً يقتضي التفرد في الذات فيصير مضيفاً العتق إلى أول عبد موصوف بصفة التفرد في الذات والثالث ليس بهذه الصفة. وفي «فتاوى أبي الليث» إذا قال: إن اشتريت عبدين فهما حران، فاشترى ثلاثة أعبد

في صفقة واحدة عتق اثنان منهم والخيار إلى المولى، وكذلك إذا اشترى عبداً ثم عبدين عتق اثنان منهم والخيار إلى المولى؛ لأنه لما اشترى ثلاثة أعبد، فقد اشترى عبدين. ولو اشترى عبداً وأعتقه، ثم اشترى عبدين عتق العبدان أيضاً، فيعتقون جملة لأن العبد الأول خرج من أن يكون مراداً بقوله فهما حران؛ لأنه أنشأ العتق، والأول بعد ما أعتقه المولى لم يبق محلاً للإنشاء، فيعتق العبدان الآخران لقوله فهما حران. وإذا قال: آخر غلام أشتريه حر، فهذا على المنفرد الذي تأخر عن غيره في الزمان؛ فإذا اشترى غلاماً ثم غلاماً ثم مات الحالف عتق الآخر مستنداً إلى حين الشراء ويعتبر عتقه من جميع المال إذا كان الشراء في حالة الصحة، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله يعتق مقصوراً على الحال. وإذا قال: آخر غلام أشتريه، فاشترى غلاماً ثم اشترى آخر ثم باع الثاني ثم اشتراه ثم مات فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يعتق العبد الثاني بالشراء الأول والملك الأول، وينتقض بيعه الثاني، وقال محمّد رحمه الله يعتق في الملك الثاني بالشراء الثاني، ولا ينتقض ذلك البيع، ولو كان اشترى ثلاثة أعبدٍ واحداً بعد واحد، ثم باع الآخر منهم ثم مات الرجل فبيع الآخر ينتقض ويعتق في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال محمّد رحمه الله لا يعتق؛ لأنه إنما يقع اليمين..... فوقعت (323أ1) اليمين وليس في ملكه، ألا ترى أنه لو قال لعبده إن لم أشترِ بعدك عبداً فأنت حر، ثم باع عبده ولم يشترِ غيره حتى مات، فإنه لم يعتق. وإذا نظر الرجل إلى عشرة أعبد وقال آخركم تزوجاً حر، فتزوج عبد ثم تزوج عبد، ثم تزوج العبد الأول امرأة أخرى ذلك كله بأمر المولى، ثم مات المولى لم يعتق واحد منهم؛ لأنه بموت المولى لايتبين آخرهم تزوجاً لجواز أن يتزوج الباقون بعد موته، بخلاف قوله آخر عبد أشتريه حر؛ لأن هناك بموت الحالف يتبين الآخر؛ إذ لا يمكنه الشراء بعد موته.g ولو وقت وقتاً، فقال آخركم تزوجاً اليوم حر، فتزوج واحد منهم بأمره، ثم تزوج آخر بأمره ثم تزوج الأول بأمره، ثم غربت الشمس عتق العبد الثاني دون الذي تزوج مرتين لوقوع التيقن بصفة ثبوت صفة الآخرية للثاني دون الذي تزوج مرتين؛ لأن الذي تزوج مرتين اتصف بالأولية في النكاح الأول، ولا يتصور اتصافه بالآخرية. ولو قال آخر تزوج يوجد من أحدكم اليوم، فالذي تزوج حر، فتزوج عبد، ثم عبد ثم تزوج الأول أخرى ثم غابت الشمس عتق الذي تزوج مرتين، بخلاف الفصل الأول وهو قوله آخركم تزوجاً. والفرق: أن في قوله آخركم تزوجاً جعل الآخرية صفة للعتق، وهو التزوّج، فتراعى الآخرية في فعل وههنا جعل الآخرية صفة للفعل وهو التزوّج، فتراعى الآخرية في الفعل اعتباراً للتصرف على الوجه المار به في الفصلين جميعاً.

وإذا قال أوسط عبد أشتريه حر، فاعلم بأن الأوسط لغة اسم بمعنى الوسط، والوسط اسم لفرد متخلل بين عددين متساويين لا يشاركه غيره في اسمه ومعناه، فبعد ذلك ينظر إن كان الذي وسط فرداً الا يتصور وجوده على هذه الهيئة إلا في الأعداد المفردة، وإن كان الذي جعله وسطاً زوجاً لا يتصور وجوده على هذه الهيئة إلا في الأعداد الزوجية. مثال الأول: الواحد لا يتصور أن يكون وسطاً إلا في الأعداد الفرد لأن أقل ذلك أن يتقدمه واحد، ويتأخر عنهما واحد، فيصير أربعة وعلى هذا الاعتبار في جميع ذلك زاد ونقص، فإذا أوجب العتق للعبد الأوسط، فكل من يتفق أنه ليس بأوسط لا يحكم بعتقه، وكل من يتفق بكونه أوسطاً يحكم بعتقه، فإذا مات الحالف وكان الذي اشتراهم شفعاً، فليس فيهم أوسط، إن كانوا خمساً أو تسعاً مثلاً كان الأوسط الفرد المتخلل بين شفعين، وكل من دخل في النصف الأول من الحساب خرج من أن يكون أوسطاً. قال في «الجامع» : إذا قال الرجل لعبيده أيّكم حمل هذه الخشبة فهو حر، فحملوها جميعاً ينظر إن كانت الخشبة خفيفة يقدر الواحد على حملها، لا يعتقون حتى يحملها واحد بعد واحد، وإن كانت الخشبة ثقيلة لا يقدر الواحد على حملها، وإنما يقدر على (حملها) اثنان أو أكثر عتقوا، والوجه في ذلك أن كلمة (أي) تتناول واحداً منكراً من جملة ما أضيف إليهما هذه الكلمة، وقد وصف ذلك المنكر ههنا بصفة غاية، وهي الحمل؛ لأن الحمل أضيف إلى جميع العبيد الذين أضيف إليهم كلمة أي، فأوجب عموم العبيد سواء كانت الخشبة ثقيلة أو خفيفة. بعد ذلك الكلام في أن النكرة صارت موصوفة بحمل جميع الخشبة أو بحمل بعضها، فنقول إذا كانت الخشبة خفيفة بحيث يقدر الواحد على حملها صارت النكرة موصوفة بحمل جميع الخشبة؛ لأن الخشبة اسم لجميعها، وقد أضاف حملها إلى كل واحد، والعمل بالحقيقة ممكن؛ بأن يجعل شرط العتق في حق كل واحد حمل جميع الخشبة، أو يتأتى ذلك من كل واحد، فنجعل ذلك شرطاً في حق كل واحد عملاً بحقيقة الكلام، فلا يعتق واحد منهم ما لم يحمل كل الخشبة.

وهو نظير ما لو قال لعبيده أيكم أكل هذه الرغيف فهو حر فأكله اثنان أو أكثر من ذلك لا يعتق واحد منهم، سواء كان يقدر الواحد على أكله بدفعة واحدة أو بدفعتين أو بدفعات؛ لأن أكل الرغيف من كل واحد متصور إما بدفعة أو بدفعات، فصار الداخل تحت كلمة أي موصوفاً بأكل جميع الرغيف، فلا يعتق بأكل بعض الرغيف، وستأتي مسألة الرغيف في المسائل المتفرقات، وما فيها من اختلاف المشايخ. فأما إذا كانت الخشبة ثقيلة بحيث لا يقدر الواحد على حملها، فالنكرة صارت موصوفة بحمل بعض الخشبة؛ لأن العمل بحقيقة الكلام متعذر لأن حمل جميع الخشبة لا يأتي من كل واحد في هذه الصورة فيعمل بمجازه، ويجعل الشرط من كل واحد منهم حمل بعض هذه الخشبة. وهو نظير ما لو قال لعبيده أيُّكم شرب ماء هذا البحر فهو حر فشرب كل واحد منهم قطرة عتقوا؛ لأن العمل بحقيقة هذا الكلام متعذر فيعمل بمجازه، وجعل الشرط في حق كل واحد من العبيد بشرب بعض الماء. ثم إن محمّداً رحمه الله يقول في «الكتاب» إذا كانت الخشبة ثقيلة يقدر على حملها اثنان، فحملوها جميعاً عتقوا لأن الشرط في هذه الصورة حمل بعض الخشبة، والبعض من حيث إنه بعض لا يفصل فيه بين قدر وقدر. يقول أيضاً إذا كانت الخشبة حفيفة، بحيث يقدر الواحد على حملها إذا حملها واحد عتق، وإذا حملها واحد بعد واحد عتقوا. وفيه نوع إشكال؛ لأن هذا اللفظ إن كان خاصاً ينبغي أنه إذا حملها الواحد، وحكم بعتقه، أنه لو حملها آخر بعد ذلك إنه لا يعتق، وإن كان عاماً ينبغي أن لا يعتق واحد منهم ما لم يحملوها جميعاً واحد بعد واحد، كما لو قال إن حملتم هذه الخشبة فأنتم أحرار. والجواب هذا اللفظ خاص بصورته عام من حيث المعنى، فإذا حملها واحد عتقوا عملاً بعموم المعنى، بخلاف قوله إن حملتم هذه الخشبة، لأنه عامة صورة ومعنى؛ فما لم يحملوها لا يعتقون. وفي «الفتاوى» : رجل قال كل جارية أشتريها ما لم أشترِ فلانة * لجارية سماها * فهي حرة ثم إن الجارية المحلوف عليها غابت، أو ماتت فاشترى جارية أخرى ففي الموت لا تعتق عند أبي حنيفة ومحمّد رحمهما الله؛ لأنه وجد الشرط واليمين ساقط على قولهما لفوت الغاية، وفي الغيبة يعتق ما لم يظهر موتها بلا خلاف لأن بمجرد الغيبة لا يبطل اليمين، بلا خلاف. وإذا قال لعبيده أيُّكم بشرني بقدوم (فلان) فهو حر، فبشروه معاً عتقوا ولو بشروه واحد بعد واحد عتق الأول خاصة (323ب1) . ولو أمر واحد منهم عبداً آخر أن يذهب إلى مولاه برسالته، فإن أضاف الرسول الخبر إلى المرسل، بأن قال: إن فلاناً يقول لك أبشرك بقدوم فلان أو قال فلان أرسلني إليك، ويقول أبشرك بقدوم فلان أعتق المرسل دون الرسول، وإن قال الرسول أبشرك بقدوم فلان وأرسلني فلان إليك عتق الرسول دون المرسل. رجل قال لعبده أنت حر قبل الفطر والأضحى بشهر، فإنه يعتق في أول رمضان؛ لأن أول رمضان وقت قبل الفطر والأضحى بشهر، وهو نظير ما لو قال لعبده أنت (حرٌّ) قبل موت فلان وفلان بشهر، فمات أحدهما لتمام شهر من وقت هذه المقالة عتق العبد؛ لأن هذا وقت قبل موت فلان وفلان بشهر. وفي «نوادر» : المعلى عن أبي يوسف رحمه الله رجل (قال) : إن اشتريت فلاناً، فهو حر وادعاه رجل أنه ابنه ثم اشترياه جميعاً، فهو حر، ونصف ولائه للذي حلف بعتقه وهو ابن الذي ادعاه. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل قال إن اشتريت من هذا

العبد شيئاً، فهو حر ثم اشتراه هو وأبوه فإنه يعتق بالقرابة ولا يقع عتق الحالف عليه؛ لأن النسب قد تقدم الملك، وتقدم عتق الحالف. وفي «المنتقى» رجل قال لعبده إن اشتريتك أنا وأبوك، فأنت حر، فاشترياه عتق على الأب بالقرابة عند أبي يوسف وعتق باليمين عند أبي حنيفة. وفي «نوادر داود بن رشيد» عن محمّد رحمه الله: رجل قال لغلام في يدي رجل إن اشتريته فهو حر، ثم أقر أنه لفلان ثم اشتراه كان للمقر له، ولا يعتق. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمّد رحمه الله: إذا قال: كل مملوك اشتراه، فهو حر إلى سنة فاشترى عبداً قال لا يعتق (حتى) يأتي عليه سنة من يوم اشترى. ولو قال كل مملوك أشتريه إلى سنة فهو حر وكل عبد اشتراه في السنة فهو حر ساعة اشتراه. وإذا قال كل مملوك أملكه فهو حر يعتق ما كان في ملكه يوم حلف، ولا يعتق ما يستفيده إلا إذا عناه؛ لأن قوله أفعل وإن كان للحال وللاستقبال حقيقة إلا أنه للحال أحق لأن الحال مقصود كالماضي، والمستقبل يجب أن يكون له صفة على الخصوص، وهو قوله سوف أفعل، فكانت هذه الكلمة أحق للحال من هذا الوجه، فانصرف إليه، وإن عنى ما يستفيده صحت نيته في حق وجود ما يستفيده تحت اليمين لا في حق الخروج الحالية عن اليمين، فيعتقان جملة. وفي «الجامع» إذا قال العبد المأذون أو المكاتب كل مملوك أملكه فيما استقبل، فهو حر، فملك مملوكاً بعدما عتق، عند أبي حنيفة، وعندهما يعتق، وعلى هذا الخلاف إذا قال كل مملوك أشتريه فهو حر، فاشترى مملوكاً بعد ما عتق. وأجمعوا على أنه إذا قال إذا أعتقت فكل مملوك أملكه فهو حر، أو قال إذا أعتقت فكل مملوك أشتريه فهو (حرّ) فملك مملوكاً بعد العتق أو اشترى مملوكاً بعد العتق إنه يعتق. وأجمعوا على أنه إذا قال كل مملوك لي فهو حر أو قال كل مملوك أملكه فهو حر، فملك مملوكاً بعد العتق إنه لا يعتق، فمن مشايخنا من قال: ما ذكر من الخلاف يجب أن يكون على العكس، وينبغي أن يكون ما يملكه بعد العتق عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما. وردُّوا هذه المسألة إلى مسألة أخرى، وهو ما إذا قال الرجل لأمته أول ولدٍ تلدينه فهو حر، أو قال لها إن ولدت ولداً فهو حرّ، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تنصرف نيته إلى الولد الحي تصحيحاً للجزاء، فههنا يجب أن ينصرف يمينه إلى ما يملكه بعد العتق، تصحيحاً للجزاء وعلى قولهما في تلك المسألة ينصرف يمينه إلى ما يملكه في الحال، وإلى ما يملكه بعد العتق، وعامتهم على أن الخلاف في هذه المسألة على الوجه الذي ذكر في «الجامع» ، فوجه قولهما أنه ذكر الملك فيما يستقبل مطلقاً، فينصرف إلى الملك الثابت من كل وجه، لما عرف أن المطلق من الأسامي ينصرف إلى الكامل، وهو الثابت من كل وجه، وإنما يثبت الملك لهما من كل وجه بعد العتق، فينصرف يمينه إلى ما يملكه بعد العتق بخلاف قوله أول ولد تلدينه فهو حر على مذهبهما؛ لأن الولد الميت ولد من

كل وجه، فيتناوله مطلق اسم الولد فلا ضرورة إلى صرفه إلى الولد الحي، أما ههنا بخلافه. ولأبي حنيفة رحمه الله أن قوله أملك للحال على ما مر، وقوله فيما استقبل يجوز أن يكون يعتق بقوله أملك فيصرف للاستقبال، ويجوز أن يكون ولد ملك للحال فيصير كأنه شرط عتق هذا الملك الموجود للحال فيما يستقبل، فلما احتمل هذا، واحتمل ذاك، وليس على أحد الاحتمالين دليل لم يصلح قوله فيما استقبل صارفاً قوله أملك إلى الاستقبال فبقي للحال، فكان موجباً للعتق كما هو مملوك للحال كان نص على الحال ولو نص على الحال لا يعتق ما يملكه بعد العتق فههنا كذلك. وقوله ذلك للملك مطلقاً، فنصرف إلى الثابت من كل وجه وهو الملك بعد العتق، قلنا ما ذكر الملك مطلقاً بل يكون ذكره مقيداً بالحال عرف ذلك بقوله أملك، فلا يمكن صرفه إلى ما بعد العتق كما لو ذكره مقيداً بالحال صريحاً. وفي «المنتقى» رواية عمرو بن أبي عمرو عن محمّد رحمه الله في «الإملاء» أنه جعل قوله: كل مملوك أملكه هذا الشهر وهذه السنة فهو حر، بمنزلة قوله كل مملوك أملكه هذا اليوم من حيث إنه عتق ما كان في ملكه وما يستفيده في الوقت الذي سماه، إن قيل في هذا جمع بين الحال والاستقبال وهما لا يرادان بلفظ واحد، قلنا ليس كذلك، إن قوله أملكه اليوم يتناول القائم في ملكه للحال؛ لأن اليوم اسم للوقت من حين طلوع الشمس إلى وقت غروب الشمس، والبعض منه قد مضى والبعض منه قائم، واسم اليوم يتناول القائم، فيتناول القائم في ملكه بحكم الحال ثم الحال المسند إلى غروب الشمس، فيتناول الكل باعتبار امتداد الحال؛ لأنه جمع بين الحال والاستقبال. وإن قال كل مملوك أملكه الساعة فهو حر فهو على ما في ملكه دون ما يستفيده. وإن قال كل مملوك أملكه رأس الشهر فهو حر، فكل مملوك جاء رأس الشهر وهو يملكه، أو يملكه في ليلة رأس الشهر ويومها، فهو حر في قول محمّد، وقال أبو يوسف هو على ما يستفيده في تلك الليلة ويومها. وعلى هذا الاختلاف إذا قال كل مملوك أملكه غداً فهو حر ولا نية له عتق ما اجتمع في ملكه في الغد، ومن هو في ملكه للحال ومن يملكه غداً في قول محمّد، وعلى قول أبي يوسف يعتق ما يستفيده في الغد لا غير. فوجه قول (324أ1) محمّد أن قوله: أملكه يتناول الحال حقيقة، فلا يترك حقيقة ما أمكن اعتبار حقيقة الحال وإن امتد إلى الغد؛ لأن المرء قد يستقبل بأمر ويمتد ذلك إلى الغد، فصار الغد في امتداد الحال بمنزلة اليوم، فصار هذا وما لو قال كل مملوك أملكه اليوم سواء. ولأبي يوسف أن الغد من الأوقات المقابلة بلا شك، ألا ترى أنك تقول سأفعل ذلك غداً وحرف السين لا يدخل إلا على المستقبل، فصار الاستقبال مراداً بهذا اللفظ، فخرج الحال من أن يكون مراداً بخلاف قوله كل جارية أملكها اليوم؛ لأن اسم اليوم

يتناول القائم بحكم الحال ثم الحال الممتد إلى غروب الشمس، فيتناول الكل باعتبار امتداد الحال. وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: أي رجل مملوك أملكه يوم الجمعة فهو حر، فهذا على ما يملكه يوم الجمعة، ولو قال كل مملوك لي حر يوم الجمعة، والفرق أن في المسألة الأولى الوقت دخل على الملك، فانصرف إلى المملوك في ذلك الوقت، وفي المسألة الثانية الوقت دخل على العتق، فبقي قوله أملكه ههنا ولا للحال، ويصير عتقه مضافاً إلى ذلك الوقت. ولو قال إذا دخلت الدار فكل مملوك لي يومئذٍ حر، فهذا على ما كان في ملكه يوم دخول البيت، سواء كان مملوكاً له يوم اليمين أو اشتراه بعد اليمين؛ لأن قوله يومئذٍ ينصرف إلى يوم الدخول، فإنما أثبت العتق لكل من كان في ملكه يوم الدخول، ولو لم يقل يومئذٍ وباقي المسألة بحالها فما ملكه بعد اليمين لا يعتق؛ لأن قوله كل مملوك لي يتناول الحال، والمضاف إلى الدخول الحرية دون الملك، وقد أثبت عند الدخول الحرية ممن هو مملوك له للحال. ولو قال كل مملوك أملكه، فهو حر إذا جاء غد، فهذا على ما في ملكه في الحال في قولهم، بخلاف قوله كل مملوك أملكه غداً. ولو قال كل مملوك أملكه إلى ثلاثين سنة، فهذا على ما يستقبل في الثلاثين بلا خلاف، ولم يدخل ما كان في ملكه يوم اليمين؛ لأن الاستقبال ههنا صار مراداً؛ لأن الحال لا يمتد إلى هذه المدة بيقين فتعين للاستقبال، مراداً بهذا اللفظ، فلا يبقى الحال مراداً، وعلى هذا إذا قال إلى سنة وعلى هذا إذا قال إلى ثلاثين سنة، أو قال سنة أو قال أبداً، أو قال إلى أن أموت، فهذا باب واحد يدخل في اليمين ما يستفيده دون ما كان في ملكه. ولو قال عنيت بقوله ثلاثين سنة وبقولي سنة أن يدوم ما في ملكي في الحال هذه المدة، دين فيما بينه وبين الله، ولم يدين في القضاء؛ لأن الظاهر أنه ذكر الوقت لاستفادة الملك فيما لا استفراد للملك فيها، فكان مدعياً بخلاف الظاهر، فلا يصدق في الفصل. إذا قال كل مملوك أملكه إن دخلت الدّار، أو قدّم الشرط، فقال: إن دخلت الدّار، فكل مملوك أملكه فهو حر فهما سواء، يتعلق بالدخول عتق ما كان في ملكه؛ لأن قوله أملكه لما كان منصرفاً إلى الحال لا يختلف الجواب بين تقديم الشرط وتأخيره. ولو قال كل مملوك لي، أو قال: كل مملوك أملكه حر بعد غدٍ، وله مملوك، فاشترى آخر ثم جاء بعد غد عتق الذي كان في ملكه يوم حلف؛ لأن قوله كل مملوك لي وقوله كل مملوك أملكه يتناول المملوك القائم للحال بحقيقة، وقوله بعد غد دخل على قوله حر، لا على قوله أملكه، فبقي قوله أملكه على حقيقته. وفي «الأمالي» عن أبي يوسف إذا قال كل مملوك يولد لي، فهو حر إن دخلت الدار فولد له مملوك من أمة كانت له يوم الحلف، ثم دخل الدّار عتق ولو اشترى أمة بعد الحلف وولدت له ولداً، ثم دخل الدار لم يعتق، والله أعلم.

نوع آخر من هذا الفصل إذا قال المولى لعبده إن أديت إليّ ألفاً فأنت حر، فجاء العبد بالمال وخلى بينه وبين المولى يجبر المولى على القبول وليس معناه الإكراه بالسيف، وإنما معناه أن العبد إذا أخص المال بحيث يتمكن المولى من قبضه، وخلى بينه وبين المولى (يعد المولى) قابلاً ويحكم بعتق العبد، وهذا استحسان أخذ به علماؤنا الثلاثة رحمهم الله. يجب أن يعلم بأن هذا التصرف يمين ابتداءً، وينقلب كتابة عند الأداء، أما يمين ابتداءً؛ فلأن صورته صورة اليمين؛ لأن اليمين ذكر شرط وجزاء وهذا التصرف بهذه المثابة، وأما كتابة معنى عند الأداء؛ لأن معنى الكتابة أن يعتق العبد بمال يؤديه إلى المولى، وقد وجد هذا الحد عند الأداء فوفرنا على الشبهين حظهما، فجعلناه يميناً ابتداء عملاً بالصورة، فقلنا إنه يتم المولى وحده، ولا يحتمل الفسخ، ولا يمنع جواز البيع، ولا يصير للعبد حق بأكسابه للحال، حتى كان للمولى أن يأخذ منه بغير رضاه، وجعلناه كتابة معنى عند الأداء، فقلنا إذا أدى العبد المال يجبر المولى على القبول كما في فصل الكتابة، وهذا لأن المولى رضي بالعتق عند دخول العوض إليه والعبد ما رضي في اكتساب المال إلا ليصل إلى العتق، فلو لم يجبر المولى على القبول على التفسير الذي قلنا فيتضرر به العبد، ولو أجبر المولى على القبول لا يتضرر فهو بهذا الطريق أجبر المولى على القبول في الكتابة وإذا أجبر المولى على القبول صار القبول موجوداً تقديراً واعتباراً، فيتحقق الشرط وهو الأداء إلى المولى. وذكر محمّد رحمه الله في «الأصل» إذ قال لعبده إن أديت إلى ألفاً فأنت حر، فهذا إذن منه له في التجارة والعمل؛ لأن هذا التصرف وإن كان يميناً ابتداء فهو سبب لثبوت الكتابة لأنه ينقلب كتابة عند الأداء، والإذن في التجارة يثبت بالكتابة، فكذا بما هو سبب الكتابة يوضحه أنه لو لم يثبت الإذن لم يصل العبد إلى العتق أصلاً. وفي «الأصل» أيضاً إذا قال لعبده: إن أديت إليّ ألف درهم فأنت حر، فهذا على المجلس، وروى بشر عن أبي يوسف: لأنه لا يتوقف على المجلس كما في الكتابة وكما في قوله إن أديت: إليّ، وجه ظاهر الرواية أن الأداء ههنا بمنزلة القبول في الكتابة من حيث إن حكم الكتابة، * وهو المعاوضة * يثبت عند الأداء ههنا، ثم القبول في الكتابة يعتبر في المجلس كذا الأول ههنا يعتبر في المجلس إذا لم يكن في لفظه ما يدل على الوقت، بخلاف قوله متى وإذا؛ لأن ذلك الوقت يعم الأوقات كلها. وإذا مات المولى قبل أداء العبد بطل التعليق؛ لأن العبد يصير ميراثاً فلا يتوهم وجود الشرط بعد هذا على ملك المولى ليعتق به، فلا يكون في إيفاء الثمن فائدة، بخلاف الكتابة؛ لأن المكاتب لا يصير ميراثاً بل يبقى على حكم ملك الميت، فيوجد به الشرط على ملك المولى، وهو الأداء فيعتق وكان في إيفاء الكتابة فائدة. ولو أدى العبد في مال اكتسبه قبل (324ب1) هذا القول عتق لوجود الشرط، وهو الأداء، ألا ترى أنه لو أدّى من مال غصبه من إنسان يعتق فطريقه ما قلنا، ورجع المولى

عليه بمثله؛ لأن مقصود المولى جر العبد على الاكتساب ليؤدى من كسبه بعد هذا القول، فيملك ما لم يكن مملوكاً له قبل هذا القول، وهذا المقصود لا يحصل متى أدّى من كسب اكتسبه قبل هذا القول، و (لو) أدّى من كسب اكتسبه بعد هذا القول لم يرجع المولى على العبد بشيء لحصول مقصوده وهو ملك ما لم يكن مملوكاً له قبل هذه المقالة. ولو قال له إن أديت إليّ ألف درهم فأنت حر، فاكتسب بعد هذه القالة أربعة آلاف درهم، وأدى منها ألفاً، كان للمولى أن يأخذ الثلاثة الآلاف الباقية؛ لأنه إنما يصير مكاتباً، عند الأداء (كاتبتك على نفسك وعلى ألف) ، فيصير أحق بمكاتبته عند الأداء بقدر المؤدى، كأنه قال له عند الأداء: كاتبتك على نفسك وعلى ألف من كسبك بألف درهم، ولو صرح بذلك دخل تحت الكتابة ألف واحدة وصار هو أحق بألف واحدة، ويكون الباقي للمولى كذا ههنا. ولو جاء العبد ببعض الألف يجبر على القبول لأنه لا يحصل به العتق، وجه الاستحسان: أن المولى لا يقصد بهذا الكلام أداء العبد الألف جملة، وإنما يقصد أداؤه إليه على التفاريق، وكيف يوجد أداؤه إليه جملة، وإن العبد مفلس ولإن كان لا يحصل به العتق، هذا لا يدل على أنه لا يجبر على قبوله إذا كان ذلك مقصوداً للمولى، ألا ترى أن المولى إذا قال لعبده إن أديت إلي اليوم خمسمائة، وإذا قدم فلان خمسمائة فأنت حر، فأدى اليوم خمسمائة أجبر المولى على القبول، وإن كان لا يعتق بأدائه لأن المولى قصد كذلك كذا ههنا. ولو كان قال لأمته هذه المقالة، فولدت ثم أدّت لم يعتق ولدها؛ لأن هذا التصرف تعليق ويمين ابتداء، وإنما يثبت حكم المعاوضة عند الأداء، فقيل: الأداء هو تعليق فلا يتعدى إلى الولد كسائر التعليقات.x ولو حط المولى شيئاً من المال المشروط لم يعتق بأداء الباقي، لأن هذا التصرف في المال تعليق والتعليق لا يحتمل حط بعض الشرط، فيبقى الشرط أداء الألف بتمامه، ولم يوجد بخلاف الكتابة؛ لأنها معاوضة للحال، فكان بدل الكتابة واجباً شرعاً، والواجب شرعاً يحتمل الإسقاط ألا ترى أنه لو أبرأ المكاتب عن كل بدل الكتابة يصح، فكذا إذا حط البعض، أما ههنا المال مشروط غير واجب ليصح حط بعضه، ولكن أداؤه شرط العتق وشرط العتق لا يحتمل الحط فلهذا لا يعتق، ولو باعه ثم اشتراه فأدّى المال المشروط إليه عتق، ويجبر على القبول في قول أبي يوسف، وقال محمّد رحمه الله في «الزيادات» لا يجبر على القبول ولكن إن قبل يعتق. وإذا قال لعبده أنت حر على ألف أو بألف أو على أن لي عليك ألفاً، أو على ألف تؤديها، أو على أن تعطيني ألفاً، أو على أن...... بألف فقبل العبد، فهو حر ساعة قبل، وما شرط دين عليه؛ لأن المولى أعتقه على المال، والإعتاق على مال إثبات للعتق عند التزام المال، وقد وجد ذلك بقبوله فيقع العتق بقبوله كما في البيع بخلاف قوله: إن

أديت إليَّ ألف درهم؛ لأن هناك المولى علق العتق بأداء الألف فلا يثبت العتق قبل الأداء. وكذلك لو أعتقه على طعام موصوف في الذمة أو شيء من الكيل أو الموزون معلوم الجنس والوصف والقدر في الذمة؛ لأن هذا يصلح عوضاً في البيع، ففي القبول أولى، وإن كان العوض شيئاً بعينه صحت التسمية وإن كان المسمى ملك المعتق؛ لأن العبد ليس من أهل الملك، إلا أن تسمية ملك الغير عوضاً صحيح، فإن من اشترى شيئاً بعبد مملوك للغير صح العقد وصحت التسمية، وعليه العبد إلا أن ثمة إذا يجيز يفسخ المالك أن يفسخ العقد وههنا لا يفسخ العقد وعلى العبد قيمته، وإنما كان كذلك لأن تعذر التسليم بعد صحة التسمية يوجب المصير إلى القيمة، ولا تدخل القيمة في باب البيع فلهذا يفسخ العقد والقيمة تدخل في باب العتق بطريق الأصالة، فإن من أعتق عبداً على حيوان وجاء العبد بالقيمة جُبر المولى على القبول. وإذا قال لعبده: إن أديت إليّ ألفاً فأنت حر فقال العبد للمولى خذ مني مكانها مائة دينار، وأخذها المولى لا يعتق لأنه استبدال بشرط اليمين وإنه لا يصح؛ لأنه يتضمن فسخ اليمين، واليمين لا يحتمل الفسخ، إلا أن يقول للعبد عند طلبه ذلك: إن أديت إلي هذا فأنت حر، فحينئذٍ يعتق باليمين الثانية. كما لو قال له إن أديت إليّ ألف درهم فأنت حر، ثم قال له: إن أديت إليّ خمسمائة، فأنت حر فأدى إليه خمسمائة يعتق باليمين الثانية كذ ههنا. قال في «الزيادات» : وإذا قال له: إذا أديت إليَّ عبداً فأنت حر ولم يضف العبد إلى قيمة ولا إلى جنس، فهو جائز؛ لأن هذا الكلام يمين ابتداء، معاوضة المال بما ليس بمال انتهاء، واليمين صحيحة، وإن كان الشرط مجهولاً، ومعاوضة المال بما ليس بمال صحيحة، وإن لم يكن العوض الذي هو قاله معلوماً كما في النكاح، وأقرته الكتابة، وإذا وجد القبول يثبت العبد ديناً في ذمته، فإن أتى العبد بعد ذلك بعبد وسط يجبر المولى على القبول؛ لأن مطلق اسم العبد في مثل هذه المعاوضة ينصرف إلى الوسط، ويصير كأن المولى قال له: إن أديت إليّ عبداً وسطاً فأنت حر، وكذلك إن أتى بعبد هو أرفع يجبر على القبول لأنه أتى بالمشروط وزيادة، وإن أتى بعبد رديء لا يجبر على القبول، ولكن إن قبل يعتق لأن العبد في هذا التصرف ذكر مطلقاً، وإنما عينَّا الوسط نظراً للمولى، فإذا رضي بالرديء ينظر لنفسه فلم يظهر تعيين الوسط. قال مشايخ ما وراء النهر: الأرفع في ديارنا أعزّ الأتراك وأحسنهم، والوسط أفضل الهنود وأخس الأتراك، والرديء أحسن الهنود. ولو جاء العبد بقيمة عبد وسط لا يجبر المولى على القبول وإذا رضي بها وقبلها لا يعتق العبد بخلاف ما إذا رضي بالعبد الرديء وقبله، والفرق وهو أن اسم العبد عند الإطلاق يتناول الرديء، إلا أنه لا يجبر المولى على قبول الرديء نظراً له فإذا رضي بالرديء لم ينظر لنفسه، والاسم قد يتناوله، فيتحقق شرط العتق، فأما اسم العبد لا

يتناول القيمة فلا يتحقق الشرط بقبول القيمة، فلا يعتق، والجواب في قوله إن أديت إليّ كرّ حنطة نظير الجواب في قوله: إن أديت إليّ عبداً إن جاء بكرَ وسط أو مرتفع يجبر المولى على القبول، وإن جاء بكرِّ رديء لا يجبر. ولو قال: له إن أديت إليّ عبداً وسطاً (325أ1) ، أو قال إذا أديت إلي كرّ حنطة وسط فأنت حر، فجاء بعبد مرتفع أو بكر مرتفع لا يجبر المولى على القبول، وإذا قبل لا يعتق بخلاف قوله: إذا أديت إليَّ عبداً أو أديت كراً، والفرق أن في هذه المسألة شرط الوساطة نصاً، واسم الوسط لا يتناول المرتفع، فبأدائه لا يتحقق شرط العتق وشروط الحالف مما يجب عامها، ألا ترى أنه لو قال لعبده إذا أديت إليّ ألف درهم في كيس أبيض، فأداه في كيس أسود لا يعتق أما في تقدم ما شرط الوساطة نصَّاً، بل ذكر العبد مطلقاً والكر مطلقاً، وهذا الاسم صالح لتناول الأرفع، وإذا أتى به فقد تحقق شرط العتق فلهذا افترقا. ولو قال له إذا أديت إليّ دراهم فأنت حر، فأدى إليه ثلاثة دراهم فصاعداً لا يجبر على القبول، وكذا إذا قبل يعتق لأن الجبر على القبول باعتبار المعاوضة والمعاوضة ههنا لم تثبت لمكان الجهالة، أما التعليق قد ثبت؛ لأن جهالة الشرط لا تمنع صحة التعليق، ومن حكم التعليق نزول الجزاء عند مباشرة الشرط. وكذلك إذا قال إن أديت إلي ثوباً فأنت حر، فأدى إليه ثوباً لا يجبر على القبول، ولو قبل يعتق. ولو قال إن أديت إلي وزني دراهم، أو قال ثوباً فأنت حر كان هذا باطلاً، حتى لو أدى إليهم ثلاثة دراهم فصاعداً أو أدى إليهم ثوباً، وقبلوا لا يعتق؛ لأن معنى المعاوضة لا يسع في هذا اللفظ، ومعنى التعليق قد بطل بموت الحالف. ولو قال في وصفه إذا أدّى إليكم عبدي هذا عبداً، أو قال كر حنطة، فهو حر فهذا على الوسط، فلو أنه أتى بالرديء وقبل الوارث لا يستحق العتق بخلاف ما إذا قال إذا أديت إليّ عبداً، أو قال: كر حنطة، ولو أتى بالوسط لا يعتق ولكن يستحق العتق لأن هذا عتق تأخر عن الموت، وكل عتق تأخر عن الموت لا ينفذ إلا بتنفيذ الورثة، عرف ذلك في موضعه. وفي «المنتقى» إذا قال لعبده: إن أديت إليّ ألفاً فأنت حر، فاستقرض العبد من رجل ألف درهم ودفعها إلى مولاه، فإنه يعتق العبد ويرجع غريم العبد على المولى، فيأخذ منه ألف درهم؛ لأنه أحق بها من المولى من قبل أنه عبد مأذون في التجارة وغرماء العبد المأذون أحق بماله، حتى يستوفوا ديونهم. ولو كان العبد استقرض من رجل ألفي درهم، وقيمته ألفا درهم، فدفع أحد الألفين المستقرضة إلى مولاه، وعتق بها. وقد كان أكل ألفاً منها قبل ذلك، فإن للمقرض أن يأخذ من المولى الألف التي دفعها العبد إليه، ويضمن المولى للمقرض أيضاً ألف درهم أخرى؛ لأن المولى منع العبد بالعتق من أن يباع بما عليه من الدين، وإن شاء المقرض

اتبع العبد بجميع ديونه، ولو أن المولى أخذ من العبد ما اكتسبه العبد بعد هذا القول من غير أن يؤديه العبد إليه جاز ذلك؛ لأنه ماله، ولا يعتق العبد لانعدام الشرط، والله أعلم. نوع آخر يتصل بهذا الفصل إذا قال لعبدين له: إن أديتما إليّ ألف درهم، فأنتما حران، يعتبر أداؤهما، ولو أداها أحدهما من عند نفسه فإن قال خمسمائة عني وخمسمائة أتبرع بها عن صاحبي لا يعتقان؛ لأن شرط عتقهما أداؤهما ولم يوجد الأداء منهما لا حقيقة ولا اعتباراً، إلا أن يقول خمسمائة من عندي وخمسمائة بعث بها (عن) صاحبي، فحينئذٍ يعتقان، لأنه وجد الأداء منهما، من أحدها حقيقة ومن الآخر اعتباراً؛ لأن فعل الرسول منقول إلى المرسل ولو أداها أجنبي لم يعتقا إلا أن يقول أؤدّي الألف ليعتقهما، أو قال على أنهما حران، فإذا قبل عتقا لا بحكم اليمين الأولى؛ بل لأن الأداء من الأجنبي حصل مقابلاً بعتقهما، وقد رضي المولى به بالقبول، وكان للمؤدي أن يأخذ المال من المولى، لأنه أدى ذلك بغير حق؛ لأن بدل العتق لا يجب على غير العبد بالضمان بخلاف بدل الطلاق. وفي «الزيادات» عبد بين رجلين قال أحدهما للعبد إن أديت إليّ ألفاً، فأنت حر فأدّى إليه ألف درهم عتق نصيبه عند أبي حنيفة رحمه الله لا غير، وللشريك الساكت أن يأخذ من المعتق نصف ما أخذ من العبد، ولا يرجع المعتِق (على) العبد بشيء، ولو كان قال إن أديت إليّ ألفاً فنصيبي منك حر، فأدى إليه ألف درهم عتق نصيبه لا غير عند أبي حنيفة رحمه الله، ويأخذ الساكت من المعتق نصف ما أخذ من العبد، ويرجع المعتق على العبد بذلك بخلاف الفصل الأول. والفرق أن في الفصل الثاني المعتق قابل الألف بنصيبه، وقد سلم للعبد نصيبه، فيلزمه كل الألف، وفي الفصل الأول قابل الألف بكل العبد ولم يسلم للعبد جميعه من جهة المعتق، فلا يلزمه كل الألف وهذا كله قول أبي حنيفة رحمه الله. وأما على قولهما عتق العبد كله في الفصلين؛ لأن الإعتاق عندهما لا يتجزأ ويرجع الساكت على المعتق على العبد بذلك، إن كان المعتق موسراً يرجع، وإن كان معسراً لا يرجع؛ لأنه إذا كان موسراً، فجميع الرقبة سلم للعبد من جهته، فكان له أن يرجع على العبد بجميع الألف، فأما إذا كان معسراً لم يسلم للعبد من جهته إلا نصف الرقبة معنى، لما استسعاه الساكت في نصيبه، فلا يسلم للمعتق جميع الألف أيضاً والله أعلم. نوع آخر يتصل بهذا الفصل إذا قال لعبده في صحته: إن أعتقت عني عبداً، فأنت حر، فإن العبد يصير مأذوناً في التجارة؛ لأن تعليق العتق بالإعتاق إطلاق في الإعتاق، وإنه يقتضي الإذن في التجارة، وينصرف إلى العبد الوسط، وهذا وقوله: إن أديت إلي عبداً سواء. بيانه أن المولى علق عتق العبد بتمليك العبد عبداً من المولى، فإن معنى قوله إن أعتقت عني عبداً: إن ملكت عبداً مني وأعتقته بنيابتي فأنت حر، فهو معنى قولنا: إن هذا

وقوله: إن أديت إلي عبداً سواء وذلك ينصرف إلى الوسط، كذا ههنا، فإن اشترى هذا العبد عبداً وسطاً، أو وهب له عبد وسط، فأعتقه عن مولاه جاز؛ لأنه أعتقه بطريق النيابة عن المولى، فكأن المولى أعتقه بنفسه وعتق هذا العبد أيضاً لوجود شرطه. ولو اشترى عبداً مرتفعاً أو عبداً دون الوسط وأعتقه عن مولاه لم يجز إعتاقه؛ لأن إعتاق العبد عبداً من كسبه، إنما يصح بطريق النيابة عن المولى، لا نيابة في إعتاق هذا العبد، ولا يعتق هذا العبد أيضاً لانعدام الشرط. وكذلك إذا قال: أعتق عني عبداً وأنت حر، فهذا وما لو قال: إن أعتقت عني عبداً فأنت (325ب1) حر، فهذا وما لو قال إن أعتقت عني عبداً سواء؛ لأن جواب الأمر بحرف الواو وجواب الشرط بحرف الواو سواء ولو كان قال إن أعتقت عبداً فأنت حر؛ أو قال أعتق عبداً وأنت حر ولم يقل عني، فأعتق عبداً وسطاً، فالقياس أن لا يصح إعتاقه ولا يعتق هو؛ لأنه لما لم يقل عني كان هذا تعليق عتقه بإعتاق عبد عن نفسه. وهذا الشرط لا يكون. وفي «الاستحسان» : يصح ويعتق هو أيضاً، ويدرج كلمة عني تصحيحاً للأمر بالإعتاق، وإن كان المولى قال ذلك في مرضه فأعتق المأمور عبداً وسطاً عن المولى صح إعتاقه استحساناً، وعتق المأمور لوجود الشرط لما بينا. وإذا مات المولى من بعد ذلك من مرضه ذلك ينظر إلى قيمة العبد المأمور، وإلى قيمة العبد الذي أعتقه، فإن كان قيمة العبد الذي أعتقه مثل قيمة المأمور أو أكثر فلا سعاية على العبد المأمور؛ لأن عتقه حصل بعوض يعدله أو يزيد عليه؛ لأن تقدير كلامه ملكني عبداً وأعتقه عني، وعلى العبد الذي أعتقه السعاية في ثلثي قيمته إذا لم (يكن) للمولى مال آخر؛ لأنه إنما عتق من جهة المولى؛ لأن المأمور أعتقه بنيابة المولى فكأن المولى أعتقه بنفسه والإعتاق في مرض الموت إذا كان بغير عوض يعتبر من الثلث. ولو كان قيمة العبد الذي أعتقه دون قيمة العبد المأمور فنقدر قيمة العبد الذي أعتقه من العبد المأمور عتق بعوض يعدله، فلا يعتبر فيه حكم الوصية، وما زاد على ذلك عتق بغير عوض، فيعتبر فيه حكم الوصية، والعبد الذي أعتقه عتق كله بغير عوض، فيعتبر فيه حكم الوصية، حتى إنه إذا كان قيمة العبد المأمور مثلاً ستون وقيمة العبد الذي أعتقه أربعون، ولا مال له غيرهما، فنقدر ثلثي المأمور عتق بعوض فلا وصية فيه، وثلث المأمور عتق بغير عوض، فتعتبر فيه الوصية، والمعتق عتق كله بغير بدل، فيعتبر فيه الوصية، فينظر إلى مال الميت، وينفذ وصيها من ثلثه، ومال الميت ثلث العبد المأمور وقيمته عشرون، وجميع العبد المعتق وقيمته أربعون، فجملته ستون ثلثه عشرون، يقسم ذلك بينهما على قدر وصيتهما، ووصية المأمور بقدر عشرين، ووصية المعتق بقدر أربعين، فيقسم الثلث * وذلك عشرون ثلثها * أثلاثاً ثلثه للعبد المأمور وثلثاه للعبد المعتق، فيعتق من العبد المأمور بحكم الوصية ستة وثلثان ويسعى فيما بقي من ثلاثة عشر وثلث ويعتق العبد المعتق بحكم الوصية ثلاثة عشر وثلث، ويسعى فيما بقي من رقبته،

وذلك ستة و (عشرون) ثلثان، فيسلم لهما بحكم الوصية عشرون، ويسلم للورثة بطريق السعاية أربعون، فيستقيم الثلث والثلثان. ولو قال له أعتق عني عبداً بعد موتي وأنت حر، فهذا والذي في حال الحياة في المسألة الأولى سواء، إلا في خصلة وهي: أنه إذا أعتق المأمور عبداً وسطاً عن المولى بعد موت المولى لا يعتق العبد المأمور إلا بإعتاق الورثة أو الوصي أو القاضي، وفي حال الحياة إذا أعتق المأمور عبداً وسطاً عن المولى، يعتق المأمور من غير أن يحتاج فيه إلى إعتاق أحد. والفرق أن العبد المأمور بموت المولى ينتقل إلى ورثته؛ لأن الثابت في حقه للحال مجرد التعليق، ومجرد التعليق لا يمنع الإرث وبعد ما صار مملوكاً للوارث لا يمكن تنفيذ العتق فيه بإعتاق المولى، لكن يثبث للمولى المأمور بهذا التصرف استحقاق العتق عند إعتاقه عبداً عن المولى كما أمره المولى به، فينتقل إلى الوارث بهذه الصفة كالعبد المرهون ينتقل إلى الورثة على الصفة التي كان في ملك الراهن مشغولاً بحق المرتهن، فإذا بقي استحقاقه وجب على من قام مقامه من وارث أو وصي أو قاضٍ إعتاقه عبداً عن المولى أما في حالة الحياة أمكن تنفيذ العتق من جهة المولى لبقاء ملكه فلا حاجة إلى إلغاء العتق عند وجود الشرط من جهة أحد. فإن قالت الورثة للمأمور أعتق عبداً وإلا بعناك لا يلتفت إلى ذلك؛ لأنه ثبت للعبد استحقاق العتق عند إعتاقه عبداً عن الميت، وليس للورثة ولاية إبطال حق العبد. وفرق بين الورثة وبين المولى، فإن المولى في حاله حياته يملك بيعه، والورثة لا يملكون ذلك بعد وفاته، والفرق أن هذا الحق لم يظهر في حق المولى؛ لأن الحقيقة ثابتة للمولى مطلقاً، فلو ظهر أثر هذا الحق في حق المولى يبطل أثر حقيقته، وإنه لا يجوز، أما في حق الورثة لو ظهر أثر هذا الحق لا يؤدي إلى إبطال أثر الحقيقة؛ لأن الحقيقة قد ثبتت للورثة بهذه الصفة، ولكن يرفعون الأمر إلى القاضي، فيمهله القاضي ثلاثة أيام، وذلك على حسب ما ترى؛ لأن تركه مؤيداً كذلك يبطل حق الورثة، والتعجيل للحال يبطل حق العبد؛ لأنه عسى لا يقدر على الإعتاق في الحال فيجب على القاضي مراعاة الحقين، وذلك فيما قلنا، فإن أعتق المأمور عبداً وسطاً في المدة التي أمهله القاضي أعتقه، وإلا رده إلى الورثة وأمرهم ببيعه، وقضى بإبطال وصيته. ولو كان المولى قال لورثته: إذا أعتق عبدي عني عبداً بعد موتي فأعتقوه فهذا وما لو قال لعبده أعتق عني عبداً بعد موتي وأنت حر سواء؛ لأن في الموضعين جميعاً لا يعتق العبد بإيجاد الشرط ما لم يعتقه من قام مقام الميت، هذه الجملة من «الديانات» . وفي «الأصل» إذا قال المولى لعبده أنت حر على أن تخدمني سنة فقبل العبد ذلك عتق، كما لو قال له أنت حر على ألف درهم فقبل، وإن مات المولى في نصف السنة فللورثة أن يأخذوا العبد بما بقي من السنة من قيمة العبد، وهذا قول أبي يوسف وهو قول أبي حنيفة آخراً وقال محمّد وهو قول أبي حنيفة رحمهم الله أولاً يرجع بما بقي من قيمة

الخدمة، وفائدة هذا الخلاف إنما يظهر إذا اختلف قيمة العبد وقيمة الخدمة بأن كانت قيمة العبد ألف درهم، وقيمة الخدمة سنةً خمسمائة فمن قال يرجع بما بقي من قيمة العبد نقول يرجع بخمسمائة، ومن قال يرجع بقيمة الخدمة نقول يرجع بمئتين وخمسين. وإذا قال لعبده اخدم ولدي سنة ثم أنت حر، وقال إذا خدمتني وإياهم سنة فأنت حر فخدمهم سنة عتق لوجود الشرط، فإن مات المولى قبل السنة لم يعتق لفوات بعض (الشرط) (326أ1) وهو خدمة المولى، ولو شرط المولى خدمة نفسه ومات بطل اليمين. وفي «المنتقى» إذا قال لجارية: أنت حرة على أن تخدمي فلانة، فقبلت فهي حرة وعليها أن ترد قيمتها لأن الخدمة مجهولة، ولو قال: على أن تخدمي فلانة شهراً فقبلت حتى عتقت ثم لم تخدم فلانة قال أبو يوسف رحمه الله ترد قيمتها، وقال محمّد رحمه الله ترد قيمة خدمتها شهراً. وروي بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا قال الرجل لعبده: أنت حر على أن تخدم فلاناً سنة، فالقبول إلى فلان، فإن قبل عتق، فإن لم يخدمه رد قيمته، وروى بشر عنه أيضاً إذا قال له: اخدمني سنة وأنت حر قال أبو حنيفة رحمه الله: يعتق الساعة ولا شيء عليه وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يعتق إلا بالخدمة، قبل أو لم يقبل ولو لم يقل سنة فخدمه شيئاً يسمى خدمة عتق عند أبي يوسف رحمه الله. وفي «المنتقى» : لو قال: أنت حر واخدمني أو قال: أنت حر وأعطني ألفاً، فإن قبل ذلك فهو حر الساعة وعليه أن يخدمه سنة إن كان العتق على الخدمة، وإن كان العتق على الألف فعليه أن يعطيه الألف. وفي «مجموع النوازل» : إذا قال لعبده: أنت حر، وأدّ إليّ ألف درهم فهو حر ولا شيء عليه ولو قال أد إليّ (ألف) درهم وأنت حر لا يعتق ما لم يؤد ألف درهم، وهكذا ذكر الفصل الثاني في «الزيادات» . إذا قال لأمته عند وصيته: إذا خدمت ابني وابنتي حتى يستغنيا، فأنت حرة، فإن كانا صغيرين تخدمهما حتى يدركا؛ لأن استغناء الصغر بهذا، وإن أدرك أحدهما دون الآخر تخدمهما جميعاً وإن كانا كبيرين تخدم البنت حتى تتزوج لابن حتى الابن ثم جارية لأن استغناء الكبيرين بهذا، وإذا زوجت الابنة وبقي الابن يخدمهما جميعاً؛ لأن الشرط خدمتهما حتى يستغنيا، وإن مات أحدهما وهما كبيران أو صغيران بطلت الوصية لانعدام الشرط، وهو خدمتهما حتى يستغنيا وعن الحسن أبي مطيع في رجل قال لمملوكه: اخدم ورثتي سنة بعد موتي، ثم أنت حر فمات بعض الورثة قال: العبد يعتق (في) الوقت الذي قال الميت؛ لأن خدمة الورثة ليست بوصية صحيحة لهم إنما هذا شيء استلباه من هذا العبد وهذا الجواب يخالف ما ذكرنا من الجواب في قول المولى للعبد، أو قال: اخدمني وولدي سنة وأنت حر.

الفصل الرابع في العتق المبهم

وسئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن رجل قال لعبده: صم عني يوماً وأنت حر، أو قال: صلّ عني ركعتين وأنت حر قال: يعتق العبد صام أو لم يصم صلى أو لم يصلِ. ولو قال: حج عني حجة وأنت حر، لا يعتق حتى يحج عنه، وأشار نجم الدين النسفي رحمه الله إلى الفرق فقال: الصوم والصلوة لا مؤنة فيهما فلا يدل على اشتراطه ذلك بدلاً، والحج فيه مؤنة فيدل على اشتراطه ذلك بدلاً عنه كما في قوله: خِط هذا الثوب ولك درهم وفي «المنتقى» إذا قال لعبده: أنت حر على أن تحج عني حجة، فلم يحج فعليه قيمة حجة وسط. وفي شرح «الزيادات» : إذا قال له حج عني في.... وأنت حر، أو قال: إذا حججت عني في حياتي فأنت حر لا يصح هذا التعليق أصلاً، وإذا قال له: أدِ إليّ ألفاً أحج بها وأنت حر، أو قال إذ أديت إليّ ألفاً أحج بها، فأنت حر فأدى الألف يجبر المولى على القبول وإذا قبل عتق حج أو لم يحج وإذا قال: إن أديت إليّ ألفاً، فحججت بها فأنت حر فأدى الألف لا يجبر المولى على القبول، وإذا قبل لا يعتق حتى يحج بها، ولو قال له: حج عني بعد موتي جحة وأنت حر فعليه أن يحج حجة وسطاً من منزل المولى، فإذا حج لا يعتق ما لم يعتقه الورثة أو الوصي أو القاضي، ولو قال: ادفع إلى وصيي بعد موتي قيمة حج يحج بها عني وأنت حر، ينصرف هذا إلى قيمة حجة وسط من منزل الميت، فإذا دفع العبد ذلك إلى الوصي عتق العبد حج بها الوصي أو لم يحج.g ولو قال: إذا دفعت إلى وصيي بعد موتي قيمة حج يحج بها عني، فأنت حر فأداها إلى الوصي لا يجب إعتاقه حتى يحج بها الوصي والله أعلم. الفصل الرابع في العتق المبهم يجب أن يعلم بأن إعتاق المولى أحد عبديه لا بعينه صحيح؛ لأن الإعتاق مما يقبل التعليق بالشرط، وما يقبل التعليق بالشرط يصح إيجابه في المبهم والمجهول؛ لأن الإيجاب في المجهول في حق المعتق بمنزلة التعليق بالنسيان، ويثبت للمولى خيار التعيين؛ لأن الإبهام كائن من جهته وسواء قال: أحدهما حر أو قال: هذا حر وهذا لأن كلمة أو إذا دخلت بين إسمين تناولت أحدهما، فكان هذا وقوله أحدكما حر سواء إذا خاصم العبدان المولى إلى الحاكم أجبره الحاكم على أن يتوقع العتق على أحدهما؛ لأن كل واحد منهما تردد حاله بين الحرية والرق، فصار المولى غير متمكن من استرقاقهما فإذا اختار أحدهما وقع العتق عليه حين اختار. قال محمّد رحمه الله: وهما قبل ذلك بمنزلة العبدين ليشير إلى أن العتق المبهم غير

نازك، واعلم بأن المشايخ رحمهم الله اختلفوا أن الإيجاب المبهم في الطلاق والعتاق هل هو نازل في المحل أم لا، وأن البيان فيهما متغير بالإنشاء أو بالإظهار، وإنما اختلفوا لاختلاف ألفاظ محمّد رحمه الله في الكتب ولتعارض الأحكام فبان اختلاف الألفاظ، فإن في بعض المواضع يأمر الموجب بالإيقاع فنقول يقال له: أوقع هذا إشارة إلى أن الإيجاب المبهم غير نازل، وإن البيان إيقاع وفي بعض المواضع يأمره بالبيان، فنقول: يقال له: بين، وهذا إشارة إلى أن الإيجاب المبهم نازل، وأن البيان إظهار والأحكام متعارضة فقد ذكر في «نكاح الأصل» فيمن كان تحته أربع نسوة كو فيات لم يدخل بواحدة منهن، فقال: أحداكن طالق ثم تزوج مكية جاز، وهذا إشارة إلى أن الطلاق المبهم نازل أو لم يكن نازلاً كان المكية الخامسة ينبغي أن لا يجوز نكاحها. وذكر في «الزيادات» : رجل له امرأتان رضيعتان قال أحداهما طالق ثلاثاً، ولم يبين الطلاق في أحديهما حتى جاءت امرأة وأرضعتهم بانتا، وهذا إشارة إلى أن الإيجاب المبهم غير نازل إذ لو كانت نازلاً كانت الأختية طارئة بعد بينونية إحديهما وأنها لا توجب حرمة الثانية بعد هذا قال بعض مشايخنا في المسألة زوايتان، على رواية الزيادات: الإيجاب المبهم غير نازل في المحل وعلى رواية الأصل نازل، وبعضهم قالوا: المذكور في «الزيادات» قول أبي حنيفة رحمه الله، والمذكور في «الأصل» قولهما، وبعض المشايخ قالوا: الإيجاب المبهم في الطلاق والطلاق لا ينزل في المحل أصلاً بالإنفاق، إلا أن يوجد من الموقع فعل يصير به موقعاً في العتق كما في العبدين لو باع أحدهما أو وهب أو تصدق. وفي الجاريتين إذا وطىء أحديهما عند أبي يوسف (326ب1) ومحمّد رحمهما الله. إذا ثبت هذا فيقول في مسألة النكاح وجد من الزوج فعل مستدل به على إيقاع الطلاق في العين، وهو إقدامه على نكاح المكية، فإن الظاهر من حال العاقل المسلم أن يقصد بتصرفه الصحة، ولا صحة لنكاح المكية دون وقوع الطلاق على إحدى الكوفيات بفعله، أما في مسألة «الزيادات» لم يوجد من الزوج بعد قوله: إحداكما طالق فعل مستدل به على البيان فكان النكاح باقياً فيها من كل وجه، فوجد الرضاع بعده، وهما منكوحتان له قياساً. وعامتهم على أن الإيجاب المبهم نازل من وجه دون وجه؛ لأن قوله إحداكما طالق نكرة في الأصل، فإن قوله: إحدى إسم نكرة معرفة باعتبار الإضافة فإنه أضاف إليهما وهما معروفان، والمضاف إلى المعرفة معرفة فكان معرفة من وجه دون وجه فكان البيان إنشاء من وجه إظهاراً من وجه. بعد هذا اختلفوا فيما بينهم، بعضهم قالوا: يعتبر جهة الإنشاء في محل التهمة، وجهة الإظهار في غير محل التهمة، وبعضهم قالوا: يعتبر جهة الإظهار في حق حكم يختص بالموقع، وجهة الإنشاء في حق حكم يختص بالمحل وهو الأصح؛ لأن الإيجاب المبهم نازل في حق الموقع غير نازل في حق المحل وكل حكم يختص بالموقع فالإطلاق والعتاق يكون نازلاً فيه، فيعتبر البيان فيه إظهاراً. وكل حكم يختص بالمحل فالطلاق

والعتاق لا يكون نازلاً فيه، فيعتبر فيه إنشاء، إذا ثبت هذا فنقول: حرمة الجمع بين الخمس لمعنى يرجع إلى الزوج، وهو أن حقه لا يسع للخمس، والإيجاب المبهم واقع في حقه، فلم يكن جامعاً بين الخمس، فأما حرمة الجمع بين الأختين لمعنى يرجع إليهما وهو صيانتهما عن قطيعة الرحم، والإيجاب المبهم غير واقع في حقهما فيصير جامعاً بينهما. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قال لأمتيه: إحداكما حرة، فسئل عن إحديهما بعينها، فقال: لم أعن هذه تعتق الأخرى، ولو سئل عن الأخرى فقال: لم أعن هذه عتقت الأولى أيضاً، فيعتقان جميعاً، وذكر هذه المسألة في «العيون» ووصفها في العبدين، وأجاب بما أجاب في «النوازل» : قال في «النوازل» : وكذلك هذا في الطلاق، فرق بين الطلاق والعتاق والإقرار، فإن من قال لآخر: لهذين رجلين علي ألف درهم، فقيل له: أهو هذا لأحدهما بعينه، فقال: لا، لا يجب للآخر شيء، وأشار الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» إلى الفرق، فقال: البيان في الطلاق والعتاق مستحق عليه، ولهذا يجبر عليه، فجعلنا نفي أحدهما تعييناً للآخر ضرورة إخراجه عن عهدة الواجب، أما البيان في الأقرار غير مستحق عليه، ولهذا لا يجبر عليه. ولا ضرورة إلى أن يجعل نفي أحدهما تعييناً للآخر. وفيما ذكر من الجواب في فصل الطلاق والعتاق نوع إشكال؛ لأن العتق المبهم صورة أن لا يعين واحداً منهما بعينه. فقوله: لم أعن هذا بعينه بيان صورة العتق المبهم، فكيف يقع به الطلاق والعتاق. في «العين» وفي «فتاوى أهل سمرقند» إذا قال: أمة وعبد من رقيقي حران، ولم يبين حتى مات وله عبدان وأمة عتقت الأمة، ومن كل واحد من العبدين نصفه، ويسعى كل واحد في نصفه. ولو كان له ثلاثة، أعبد وأمة عتقت الأمة، ومن كل واحد من العبيد ثلثه، ويسعى كل واحد منهم في ثلثيه، ولو كان له ثلاثة أعبد وثلاث إماء عتق من كل واحد من العبيد والإماء الثلاث ويسعون في الباقي، ولو كان له ثلاثه أعبد وأمتان، عتق من كل أمةٍ نصفها وسعت في النصف وعتق من كل عبد ثلثه، ويسعى في الثلثين. وعلى هذا القياس يخرج جنس هذه المسائل. قال محمّد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل قال لعبديه: أحدكما حر، ثم باع أحدهما أو مات أحدهما عتق الآخر، أما إذا مات أحدهما؛ لأن بالموت لم يبق محلاً لإنشاء العتق فلا يبقى محلاً للبيان؛ لأن البيان إنشاء في حق محل العتق. وإذا لم يبق الميت محلاً للبيان تعين الحي ضرورة، وروي عن محمّد رحمه الله فيمن قال: أحد هذين التي أو أحدهما بين أم ولدي، فمات أحدهما لم يتعين القائم للحرية وللاستيلاد عدا إخباره عن أمر سابق، والإخبار يصح في الحي والميت جميعاً، بخلاف البيان؛ لأنه في حكم الإنشاء، فلا يصح إلا في الحي والميت. ولو مات المولى قبل البيان عتق كل واحد نصفه ولا خيار للوارث؛ لأن خيار التعيين يعرف في اللفظ، والوارث لا يقوم مقامه فيما يرجع إلى التصرف في اللفظ،

بخلاف خيار التعيين في باب البيع، فإنه إذا اشترى أحد الثوبين على أنه بالخيار بأحدهما شيئاً يأخذ برد الأخر ثم مات قبل التعيين كان الخيار للوارث؛ لأن هناك الإرث يجري من علة الخيار، وهو ملك أحدهما مجهولاً؛ فإن الوارث يقوم مقام المورث في الملك، ثم الخيار يثبت له ابتداء بناء على هذه العلة، أما ههنا تعيين الخيار لا يورث وعليه إيجاب العتق في المجهول، وهذا أيضاً لا يجري فيه الإرث، فإذا بطل له ولاية الخيار فاتت ولاية البيان، وإبطال العتق لا وجه له وليس أحد العبدين بأولى من الآخر، فلم يبق ها هنا وجهاً سوى الشيوع. وأما إذا باع أحدهما، أو رهنه، أو كاتبه، أو دبره، أو استولد أحدهما، أو باع بشرط الخيار لنفسه، أو للمشتري، أو باع بيعاً فاسداً، ولم يسلم أو سلم أو ساوم أو..... به آو أجر، أو زوج أحديهما، أو حلف على أحديهما بالحرية، إن فعل شيئاً فهذا كله اختيار للعتق في الآخر. والأصل: أن التعيين كما يثبت بالصريح يثبت بالدلالة، وقد وجدها هنا دلالة التعيين لأن هذه التصرفات بياناً فيه دلالة لا يصح إلا في المملوك ملك اليمين، فصار الإقدام على هذه التصرفات بياناً فيه دلالة أن هذا المحل مملوك ملك يمين، ومن ضرورة تعين الأخرى للحرية، ولهذا سوى في البيع الفاسد بين التسليم وعدم التسليم؛ لأن انتقاء العتق عنه ما كان ضرورة ثبوت الحكم، وإنما كان دلالة الإقدام على تصرف يختص بالملك. وروي عن محمّد رحمه الله أن اليمين إذا كانت سابقة على الحرية المجهولة فعتق أحدهما بوجود الشرط يعتق الآخر؛ لأن الذي عتق بوجود الشرط لم يبق...... البيان فصار كما لو مات، وذكر محمّد رحمه الله في «الإملاء» : إذا وهب أحدهما أو تصدق به وسلم عتق الآخر، ذكر التسليم وإنه...... لا أنه شرط، فإن التعيين دلالة يقع بالإقدام على تصرف يختص بالملك، فلا يتوقف على القبض. وقال أبو يوسف ومحمّد رحمه الله (327ب1) إذا وطىء أحديهما كان وطؤه بياناً للعتق في الأخرى وإنه معروف، وعن أبو يوسف رحمه الله: أن التقبيل والنظر إلى الفرج بشهوة كالوطء؛ لأنهما يختصان بملك المتعة كالوطء، ولو استخدم أحديهما لم يكن اختياراً في قولهم جميعاً؛ لأن الاستخدام لا يختص بالملك، ولو أعتق أحدهما بعينه ثم قال: أردت به ذلك العتق، فالقول قوله؛ لأن الأول في حق العتق معلق بالبيان، فكان البيان إعتاقاً، ولهذا يقال له: أوقع العتق على أيهما شئت. فإذا قال: أردت بذلك العتق السابق كان مدعياً حقيقة كلامه، فكان مصدقاً في القضاء ولو باعهما صفقه واحدة فسد البيع فيهما؛ لأن العتق نزل في أحديهما نكرة، والمنكر فيهما، فيصير جامعاً بين الحر والعبد في صفقة واحدة من غير بيان اليمين فيفسد البيع بالاتفاق وإذا وهبهما أو تصدق بهما أو تزوج عليهما فإنه يجبر على البيان في

أحديهما وتجوز الهبة والصدقة والإمهار في الآخر؛ لأن ضم الحر إلى العبد في هذه العقود لا يوجب بطلان هذه العقود؛ لأن ضم الحر إلى العبد يجري مجرى الشرط الفاسد، وهذه العقود لا تبطل بالشروط الفاسدة، بخلاف البيع، ولو لم يعين حتى مات بطلت هذه التصرفات؛ لأن الحرية شاعت فيهما، ومعتق البعض لا يقبل النقل من ملك إلى ملك، وهذا لأن الملك فيما هو مملوك لا يثبت بهذه التصرفات قبل التعيين؛ لمكان الجهالة، فيتوقف عمل هذه التصرفات في إفادة الملك على التعيين، فقبل ذلك كانا على حكم ملك المولى فيشيع العتق فيها بموته، وتبطل هذه التصرفات. ولو باعهما من رجل صفقة واحدة وسلمهما إليه، فأعتقهما المشتري أجبر البائع على البيان؛ لأن خيار البائع في البيان لم يبطل ببيعهما ولا بإعتاق المشتري إياهما؛ لأن المشتري قبضهما بحكم عقد فاسد وأحدهما حر والآخر عبد، فملك العبد منها بالقيمة إذ الجهالة لا تمنع الملك الفاسد بالبيع، فإذا عين البائع العتق في أحدهما تعين الملك الفاسد في الآخر، وعتق الآخر على المشتري بالقيمة، فإن مات البائع قبل البيان يقال للورثة بينوا، وإذا بينوا عتق الآخر على المشتري، ولا يشيع العتق فيهما، وآخر الملك دال عن العبد منهما بالبيع الفاسد، فتعذر القول بالشيوع وبقي الخيار وقام الوارث مقام المورث، وليس يثبت الخيار للوارث في هذه الصورة بطريق الإرث، وإنما يثبت الخيار له ابتداء؛ لأنه استحق قيمة أحد العبدين فكان منهم التعيين كما قلنا فيمن باع أحد عبديه على أنه بالخيار، وقبضهما المشتري فماتا في يده ثم مات البائع كان لورثة البائع خيار التعيين، فإن لم يعتقهما المشتري ولكن مات البائع لم يشع العتق فيهما؛ لأن الملك دال عن العبد منهما بالبيع الفاسد، فلا يمكن القول بالشيوع، إلا أن العتق الفاسد يستحق بعضه، فبعد البعض يعود العبد إلى قديم ملك البائع ويشيع العتق فيهما بموت البائع قبل البيان، فأما قبل القبض يبقى العبد على ملك المشتري، فلا يمكن القول بشيوع العتق. ولو قتلهما رجل معاً فعلى القاتل نصف قيمة كل واحد منهما للمولى، ونصف دية كل واحدة منهما لورثتهما، هكذا ذكر في بعض الكتب، وذكر في «الأصل» : عليه نصف قيمة كل واحد منهما ودية حر وعبد؛ لأن العتق ترك في المنكر، والمنكر فيهم، افقد قتل حراً وعبداً، إلا أن محمّداً رحمه الله أضاف القيمة إلى كل واحد، ولم يضف الدية إلى كل واحد؛ لأن دية الحر لا تتفاوت، فأما القيمة متفاوتة، فلو قال: عليه دية حر وقيمة عبد.... يدفع أقل القيمتين، والمولى يطالبه بأكثرهما وأوجب من قيمة كل واحد منهما قطعاً للمنازعة، إلا أن القيمة تجب للمولى؛ لأنها وجبت بإزاء العبد، والدية بدل الحر فتكون لورثتهما. وإن قتل أحدهما بعد الآخر فعلى القاتل قيمة الأول ودية الثاني؛ لأن الأول بالقتل خرج من أن يكون..... من الثاني فتعين دية الثاني؛ لأن للأول بالقتل الحرية،

فحصلت الجناية عليه بعد الحرية، فيجب ديته. وإن قتل كل واحد منهما رجل معاً فعلى كل واحد من القاتلين قيمة عبد؛ لأن قتل كل واحد صادف المعتق، والمعتق في حق المعين معلق بالبيان، بخلاف ما إذا قتلهما رجل واحد منهما بعينه، فإذا قتلهما رجل واحد صار قاتلاً حراً وعبداً. وإذا قتل كل واحد منهما رجل واحد كان كل واحد منهما قاتلاً عبداً فيجب على كل واحد منهما قيمة عبد، ويكون نصف ذلك للورثة والنصف للمولى؛ لأن في حق المولى الحرية بدله، فلا يستحق بدلهما، فيتوزع ذلك نصفين. ولو قتل كل واحد منهما رجل على التعاقب، فعلى الأول قيمة المقتول الأول لمولاه، وعلى الثاني قيمة المقتول الثاني لورثته، ولو قطع رجل يد كل واحد منهما معاً أو أحدهما بعد الآخر كان عليه أن يبين العبد منهما جميعاً، بخلاف ما إذا قتلهما رجل واحد، فقد جعل الواحد في القتل إذا قتلهما معاً قاتلاً لما..... للمجهول الذي هو حر، ولم يجعل الواحد في القطع إذا قطع يدهما قطعاً للمجهول الذي هو حر. والفرق: أن المقطوع يده بالقطع لم يخرج من أن يكون محلاً للبيان، فيجبر المولى على البيان ومتى بين العتق في أحدهما يصح بيانه في حق الأصل؛ لأنه قائم، وفي حق اليد بطريق التبعية والأطراف تبع، ولا يراعى البيع بشرائط الأصل، وإذا صح البيان في اليد والأصل جميعاً والبيان في حكم الإنسان من وجه، وفي حكم الإظهار من وجه لا يجب في الذي تبين العتق فيه زيادة على نصف القيمة بالشك، وبقي الآخر عبداً ابتداءً وانتهاءً، فلم يصر القاطع قاطعاً يد حر مجهول، وفي القتل لما لم يبق، ولأنه البيان، بقي الحر مجهولاً كذلك، وقد صار قاتلاً كذلك المجهول متى قتلهما معاً، فكان دية حر ونصف قيمة كل واحد منها من اكتسب من المال قبل التعيين، فهو للمولى؛ لأن الكسب يجوز أن يملكه من لا يملك الأصل، والأرش لا يملكه إلا مالك الأصل، فإذا..... المولى الأرش؛ لأن بملك الكسب كان أولى. وإن كانتا أمتين، وولدت كل واحدة ولداً أو ولدت إحداهما فإنه يعتق ولد الذي اختار المولى إيقاع العتق عليها؛ لأن كل واحدة منهما تردد حالها بين الرق (327ب1) والحرية، فصارت في معنى المكاتبة، وبالمكاتبة يعتق ولدها بعتقها. ولو ماتت الأمتان معاً أو قتلتا معاً خير المولى على أن يوقع العتق على أي الولدين شاءَ؛ لأن الولدين جزء الأمتين، فقاما مقام الأمتين، ولا يرث الابن المعتق...... أن للابن الذي عينه للعتق بعد قتل الأمتين معاً لا يرث من بدل الأم شيئاً لأن هذا الولد إنما عتق بالتعيين، وذلك مؤخر عن قتل الأم، فلهذا لا يرث شيئاً. وإن مات أحد الولدين حال حياة الأمتين لم يلتفت إلى ذلك؛ لأن الأمتان لما كانتا قائمتين كان خيار التعيين باقياً تبعاً للأصلين، ولا يؤثر موت أحد الولدين في تعيين الأحد للحرية، بخلاف ما إذا مات أحد الولدين بعد

موت الأمتين؛ لأن بعد موت الأمتين الخيار إنما بقي باعتبار الولدين، فصار موت أحدهما في هذه الحالة كموت إحدى الجارتين حال بقائهما، وهناك يتعين الآخر للعتق، وكذا إذا مات أحد الولدين بعد موت الجارتين بخلاف ما إذا مات أحد الولدين بعد موت الجاريتين والجاريتان قائمتان. وفي «الجامع» إذا قال الرجل لعبدين له: إذا جاء غد فأحدكما حر ثم مات أحدهما اليوم أو أعتقه، أو باعه أو وهبه وقبضه الموهوب له، ثم جاء الغد يعتق الباقي وكان ينبغي أن لا يعتق الباقي ها هنا من غير نية؛ لأن المعلق بالشرط عند وجوب الشرط كالمرسل، ولو أرسل بعد ضحى الغد وقال: أحدكما حر وقد مات أحدهما أو زال عن ملكه بما ذكرنا من الأسباب لا يعتق الباقي من غير نية، كذا ها هنا. والجواب: أن الإيجاب ها هنا قد صح لكون العبدين في ملكه وقعت الحاجة إلى بقاء الإيجاب، والبقاء يستدعي قيام محل الحكم، فأحدهما بعينه يصلح محلاً له، ألا ترى أن هذا الاسم قد نطلق عليه، وأنه يصح صرف الإيجاب إليه فاستقام القول ببقاء الإيجاب، وإذا بقي الإيجاب...... صح للباقي يتعين الباقي. فصار تقدير المسألة: إذا جاء غد وأحدكما في ملكي فهو حر. أما ابتداء الإيجاب بعد ما مات أحدهما أو زال عن ملكه لا يصح لعدم شرطه، وهو مزاحمة الآخر؛ لأن الإبهام لا يصح إلا بمزاحم، وهو نظير ما لو قال للمختلعة: أنت ثاني ونوى الطلاق لا يقع به شيء، ولو علق الإبانة بالشرط ثم خالعها، ثم وجد الشرط وقع عليها تطليقة بائنة والمعنى ما ذكرنا. فإن قال المولى قبل مجيء الغد: اخترت أن يقع العتق إذا جاء غد على هذا العبد بعينه كان باطلاً؛ لأن في تعيين أحدهما قبل مجيء الغد تغيير اليمين؛ لأن اليمين انعقدت على أن يعتق عند مجيء الغد أحدهما لا يعينه ولو صح هذا التعيين عتق عند مجيء الغد أحدهما بعينه والحالف لا يملك تغيير موجب اليمين كما لا يملك إبطاله، وكان بمنزلة ما لو حلف لا يكلم أحد هذين الرجلين ثم عين أحدهما لليمين لا يصح، حتى لو كلم الذي لم يعينه يحنث في يمينه والمعنى ما ذكرنا، وكان القياس فيما إذا كان العتق على هذا الوجه مرسلاً أن لا يملك تعيين العتق في أحدهما بعينه لما فيه من تعيين موجب الإيجاب، لكن تركنا القياس ثمة ضرورة لمكان العمل بالعتق الواقع من ولاية الشهادة والقضاء والحمل، فلا يقبل التنصيف من الحدود. وغير ذلك؛ لأن العمل بهذه الأحكام لا يمكن إلا بعد تعيين أحدهما، وهذه الضرورة معدومة المعلق لأن العتق المعلق؛ غير نازل قتل وجود الشرط فإن قيل: أليس إن قبل مجيء الغد ملك التعيين بالبيع، فإنه إذا باع أحدهما يتعين الآخر للعتق وإن كان فيه تعيين موجبه اليمين. قلنا: هناك إنما ثبت التعيين حكماً لنفاذ البيع في أحدهما، إذ الموجب للنفاذ قائم وهو الملك، والشيء قد يثبت حكماً لغيره وإن كان لا يثبت مقصوداً على ما عرف.

وفي «الجامع» أيضاً: إذا قال الرجل لعبدين له: إذا جاء غد فأحدكما حر، ثم باع أحدهما ثم اشتراه قبل مجيء الغد، أو باعهما ثم اشتراهما قبل مجيء، الغد ثم جاء الغد، ثم باع الآخر ولم يشتره حتى جاء الغد عتق الذي في ملكه عند مجيء الغد ولا يبطل اليمين بالبيع؛ لأنه لو بطل بطل من حيث أن بالبيع يزول الملك جميعاً فلا يبطل بزوال أحدهما وهو الملك، أو لأن قيام الملك إنما يشترط حال انعقاد اليمين وحال نزول الجزاء؛ إلا فيما بين ذلك. وإذا لم يبطل اليمين ينظر إلى حال وجود الشرط فإن كانا في ملكه عتق أحدهما غد لقيام المزاحمة ومحلية البيان. وإن كان أحدهما في ملكه يتعين هو للعتق لانعدام المزاحم، ولو باع نصف أحدهما ثم جاء الغد عتق الكامل؛ لأنه لا مزاحم له؛ لأن نصف العبد لا يزاحم العبد الكامل في استحقاق اسم الأحد. ولو باع نصف كل واحد منهما إذا جاء الغد عتق أحدهما، والبيان إليه؛ لأنهما استويا من حيث أن اسم الأحد لا ينطلق على كل واحد منهما من طريق الحقيقة، واستويا من حيث أن كل واحد منهما بعض الأحد، واسم الأحد إن كان لا ينطلق على النصف من طريق الحقيقة، ينطلق عليه من طريق المجاز بطريق إطلاق اسم الكل على البعض، وإذا لم يبق ما في ملكه ما ينطلق عليه هذا الاسم من طريق الحقيقة وقع على المجاز وهما في ذلك على السواء، فيعتق أحدهما فيكون البيان إليه. فإن قيل: ينبغي أن يبطل اليمين ها هنا لأن المعقود عليه قد فات؛ لأن اليمين انعقدت موجبة عتق أحدها ولم يبق ها هنا من يستحق هذا الاسم وفوات المعقود عليه يوجب بطلان اليمين.r قلنا: ما فات كل المعقود عليه إنما فات بعضه فوات العقد ضرورة فوات المحل فيتعذر بقدر فوات المحل. ألا ترى أن من قال لعبدين له: إذا جاء غد فأنتما حران، ثم باع أحدهما، ثم جاء الغد عتق الباقي، ومعلوم أن العقد عقد على الإثنين وبعد بيع أحدهما لم يبق من ينطلق عليه هذا الاسم وفوات المعقود عليه، لكن قيل: فإن بعض المعقود عليه، لا يوجب بطلان العقد في الكل كذا ها هنا، وألا ترى أن من قال: هذان العبدان الأبيضان حران أو هذان الأسودان، فمات أحدهما أي أحد الأسودين عتق الأبيضان من غير خيار، ولو مات أحد الأسودين وأحد الأبيضين كان له الخيار، وإن فات المعقود عليه مع هذا لم يبطل اليمين لما ذكرنا أنه فات (328أ1) بعض المعقود. وفي «البقالي» : إذا قال: هذا حر هذا..... عتقا. ولو قال: هذا حر عتق الثاني، ولو قال: هذا حر هذا إن دخل الدار، عتق الأول في الحال والثاني عند الشرط، ولو قال: هذا حر إن دخل الدار هذا حر إن كلم فلاناً، فكما قال يعني: يعتق الأول إذا دخل ويعتق الثاني إذا كلم فلاناً. ولو قال: أحدكما حر إن شاء ثم قال: أحدكما حر،

الفصل الخامس في إعتاق بعض الرقيق

فشاء أحدهما عتقا، وإذا جمع بين عبده وبين من لا يعتق عليه العتق، كالبهيمة والحائط وقال: عبدي حر أو وهذا أو قال: أحدهما حر عتق عبده عند أبي حنيفة، وقالا: لا يعتق عبده، كذا ذكر في بعض المواضع، وذكر في بعض المواضع قول أبي يوسف مع أبي حنيفة، وجه قول من قال إنه لا يعتق العبد إن كلمّهُ، وإذا دخلت بين شيئين أوجبت الشك فصار في حق العبد، كأنه قال: أنت حر أولاً، ولو نص عليه هذا لا يعتق العبد كذا ها هنا. واعتبره بما إذا جمع بين عبيده، وبين عبد غيره، وقال: ذلك وجه قول أبي حنيفة رحمه الله إن الشك إنما يقع بحكم كلمة، أو إذا صح الضم وإنما يصح الضم إذا كان كل واحد منهما قائلاً بحكم ما أضيف إليهما، والمضموم ها هنا لا يقبل الحرية فلغى الضم فصار العبد هو المعتق، وجاز إيقاع العتق على المعتق بهذا اللفظ كما نوى الإيقاع عبده. وذكر محمّد رحمه الله في عتاق «الأصل» إذا قال: أحد عبيدي حر ولا يعلم له إلا عبد واحد عتق عبده، وهذا بخلاف ما لوجمع بين عبده وبين عبد غيره؛ لأن عبد الغير محل للعتق، ولهذا جاز عتقه بإجازة مولاه فصح الضم، أما ها هنا بخلافه وروى ابن سماعة محمّد رحمه الله أنه إذا جمع بين عبده وبين مالا يقع عليه العتق وقال: هذا حر أو هذا لا يعتق عبده، ولو قال: أحدكما حر عتق عبده. والفرق: أنه إذا قال: هذا حر هذا فقد أدخل كلمة الشك فصار في حق عبده كأنه قال أنت حر أو لست بحر، وإذا قال: أحدكما حر فهنا أدخل كلمة الشك بل وصف أحدهما بالحرية والعبد متعين لذلك، فانصرف إليه. ولو جمع بين أمة حية وبين ميتة وقال: أحدكما حرة لا تعتق الحية؛ لأن الميتة توصف بالحرية إخباراً. يقال: فلانة ماتت حرة فلا تتعين الحية لهذا الوصف والله أعلم. الفصل الخامس في إعتاق بعض الرقيق وإذا أعتق الرجل بعض العبد بأن أعتق نصفه أو ثلثه أو ربعه فهذا على وجهين: أما إن كان العبد كله له أو كان العبد مشتركاً بينه وبين غيره؛ فإن كان العبد كله له فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يعتق قدر ما أعتقه ويبقى الباقي رقيقاً، إن شاء أعتقه وإن شاء استسعاه. وقال أبو يوسف ومحمّد رحمهما الله: يعتق كله، ولا سبيل له على العبد، وإن كان العبد مشتركاً بينه وبين غيره فأعتق نصيبه فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله يعتق نصيبه لا غير، سواء كان المعتق موسراً أو معسراً؛ إلا أنه إن كان موسراً فللساكت في نصيبه خيارات. ثلاثة: إن شاء أعتق نصيبه، وإن شاء ضمن شريكه قيمة نصيبه، وإن شاء استسعى العبد في نصيبه. وإن كان معسراً فله خياران: إن شاء أعتق، وإن شاء استسعى. ومن أعتق أو استسعى قالوا بينهما نصفان، وإذا ضمن المعتق بأن كان المعتق موسراً رجع المعتق بما ضمن على العبد عند أبي حنيفة رحمه الله، فالعبد لا يختص له عن السعاية على قول أبي حنيفة رحمه الله.

وفي «المنتقى» إذا اختار الساكت تضمين المعتق فله أن يستسمي العبد في ذلك قبل أن يؤدي، وإذا أخذ المعتق ذلك من العبد كان الولاء كله له، وعلى قول أبي يوسف عتق كل العبد في الحالين إلا أن المعتق إن كان موسراً ضمن قيمة نصيب الساكت، وإن كان معسراً فالعبد يسعى في نصيب الساكت والولاء كلّه للمعتق في الحالين، والمسألة بحججها معروفة في «الأصل» ، ولهذه المسألة فروع، فمن جملتها: معرفة قدر اليسار في ضمان الإعتاق، والمروي فيه عن محمّد رحمه الله: أنه إذا كان مالكاً مقدار قيمة نصيب الساكت من المال والعروض سوى ملبوسه وقوت يومه فهو موسر وعليه عامة المشايخ. ومن المشايخ من اعتبر اليسار..... للصدقة، وبنحوه روي عن أبي حنيفة رحمه الله، فقد روى الحسن بن زياد عنه أنه قال: الموسر الذي له نصف القيمة سوى المنزل والخادم ومتاع البيت..... والصحيح ما روي عن محمّد رحمه الله؛ لأن الحاجة إلى..... العبد عن السعاية أو إلى دفع الضرر عن الشريك الساكت ضرر الإفساد فتتعين المقدرة عليه ولا يعتبر ضرورة. ومن جملة ذلك ما روي عن أبي يوسف أن المعتق إذا كان معسراً وجبت السعاية على العبد، فلم يسع، فهو بمنزلة حر عليه دين إلى أن يقضيه. والحكم في حر هذا حاله أنه إن كان ممن يعمل بيده أو له عمل معروف أنه مؤاجر من رجل ويؤاجره فيقضيانه دينه فها هنا كذلك، وإن كان العبد صغيراً والمعتق معسراً فأراد الآخر أن يؤاجره فإن كان الغلام يفعل ورضي بذلك جاز عليه وكان الآخر للذي لم يعتق قضاء من حقه، ومن جملة ذلك: أن قيمة العبد في الضمان والسعاية يعتبر يوم الإعتاق؛ لأن سبب الضمان الإعتاق فتعتبر القيمة في ذلك الوقت كما في الغصب، ومن جملة ذلك: أن حال المعتق في اليسار والعسار يعتبر يوم الإعتاق؛ لأن النسب ينعقد في ذلك الوقت، فإذا كان موسراً وقت الإعتاق وجب الضمان لوجود السبب وهو موسر، فلا يسقط بالعسار الطارىء. وإذا كان معسراً وقت الإعتاق ثم أيسر من بعد فالإعتاق حال وجوده لم ينعقد موجباً للضمان فلا يجب الضمان بعد ذلك. ومن جملة ذلك: إذا اختار الساكت ضمان المعتق إذا كان المعتق موسراً ثم أراد أن يرجع عن ذلك، واستسعى العبد، فله ذلك ما لم يقبل المعتق الضمان أو يحكم به الحاكم، وهذه رواية ابن سماعة عن محمّد عن أبي حنيفة رحمهم الله، وذكر في «الأصل» : إذا اختار التضمين لم يكن له اختيار السعاية من غير تفصيل، ولو اختار استسعاء العبد لم يكن له اختيار التضمين بعد ذلك رضي العبد بالسعاية أو لم يرض باتفاق الروايات، وهذا إنما يأتي على قول أبي حنيفة رحمه الله. فأما على قول أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله: للساكت الضمان إذا كان المعتق موسراً ليس له غير ذلك وله السعاية، إذا كان المعتق معسراً ليس له غير ذلك، فمن مشايخنا من قال: ما ذكر

(328ب1) في «الأصل» مجهول على تفصل ابن سماعة؛ لأن سقوط حقه في الاستسعاء بناءً على تعذر حقه في الضمان، وحقه في الضمان لا يتعذر ما لم يتم تمليك نفسه من المعتق، وذلك إنما يكون بالقضاء أو بالرضا. وكان الفقيه أبو بكر الرازي رحمه الله هكذا يقول في العاجب مع عاجب العاجب إذا اختار المالك تضمين أحدهما، فقبل القضاء والرضا إذا أراد أن يرجع عن ذلك ويضمن الآخر كان له ذلك، بخلاف ما إذا اختار استسعاء العبد؛ لأنه ليس فيه تمليك من أحد بل فيه تقدير لملكه وإبراء المعتق عن الضمان، وهذا لا يتوقف على القضاء والرضا. ومن المشايخ من قال: في المسألة روايتان: وجه رواية ابن سماعة ما مر وجه ما ذكرنا في «الأصل» : أن اختياره تضمين المعتق يتضمن إبراء العبد عن الضمان، وتمليك المضمون من المعتق، والملك في المضمون إن كان يتوقف على القضاء والرضا فإبراء العبد عن السعاية يتم للمشتري، فلا يبقى له حق في السعاية بعد ذلك. ومن جملة ذلك إذا مات العبد قبل أن يختار الساكت شيئاً والمعتق موسر، فأراد تضمين المعتق فله ذلك في المشهور عن أبي حنيفة، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية الأصول: أنه ليس له ذلك، وجه تلك الرواية أن شرط التضمين أن يصير نصيب الساكت مملوكاً للمعتق بالضمان والميت لا يحتمل التمليك والتملك. وجه المشهور: إن وجوب الضمان والإعتاق لأن الفساد به يتحقق في وقت الإعتاق كان محلاً للتمليك، فلا يمتنع الضمان بسبب الموت كما في العبد المحجور. ذكر هذا الفصل على هذا الوجه في شرح «القدوري» . وذكر شيخ الإسلام في شرحه: إذا مات العبد وترك كسباً اكتسبه بعد العتق فللساكت تضمين المعتق بلا خلاف. وهل له أن يأخذ السعاية من كسب العبد؟ اختلف المشايخ فيه منهم (من) قال: له ذلك، وإليه مال الحاكم أبو نصر رحمه الله في «الأصل» (هذا إذا مات العبد قبل أن) ، وعامة المشايخ على أنه ليس له ذلك. قال: وإليه أشار محمّد رحمه الله في «الأصل» هذا إذا مات العبد قبل أن يختار الساكت شيئاً والمعتق موسر، فأما إذا كان المعتق معسراً وباقي المسألة بحالها فللساكت أن يأخذ السعاية من كسب العبد إن ترك العبد كسباً اكتسبه بعد العتق بلا خلاف، وإن لم يترك العبد كسباً اكتسبه بعد العتق بقيت السعاية ديناً على العبد إلى أن يظهر له مال، أو يتبرع عنه متبرع باذل ما عليه إن..... الساكت، وإن كان العبد قد ترك مالاً اكتسب بعضه قبل العتق وبعضه بعد العتق فما كان الكسب قبل العتق فهو بين الموليين، وما كان الكسب بعد العتق فهو للعبد، وإن كان لا يعلم متى اكتسبه فهو بمنزلة ما لو اكتسبه بعد العتق؛ لأنه اكتسبه حادثاً فيحال لحدوثه على أقرب ما ظهر وذلك ما بعد العتق. ومن جملة ذلك: أن الشرط.... الساكت إذا مات فلورثته ما كان له من العتق

والسعاية ويضمن المعتق إن كان موسراً عند أبي حنيفة رحمه الله يختارون أي ذلك شاؤوا، وليس معنى قوله لورثته من العتق ما كان له حقيقة العتق؛ لأن حقيقة العتق لا يصح من الورثة عند أبي حنيفة؛ لأن معتق البعض عند أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة المكاتب، والمكاتب لا تورث رقبته وإنما يورث ما عليه من بدل الكتابة. وإذا لم تصر رقبة المكاتب ميراثاً لورثة الساكت لا يصح منهم حقيقة العتق، وإنما أراد به الإبراء عن السعاية، والعتق يصلح كناية ومجازاً عن الإبراء عن السعاية؛ لأن بدل الكتابة يورث، فكذا ما وجب على معتق بعض المال؛ لأنه في معنى الكتابة. فصار تقدير المسألة: فلورثة الساكت ما للمورث من الإبراء عن السعاية، واستقبالها وتضمين المعتق. ومن جملة ذلك: العبد إذا كان بين جماعة أعتق أحدهم نصيبه، واختار بعض الساكتين السعاية في نصيبه، وبعضهم الإعتاق، وبعضهم الضمان فلكل واحد ما اختار عند أبي حنيفة رحمه الله. وإن مات بعض الساكتين بعد ذلك، ووقع الاختلاف بين ورثته، فاختار بعضهم الضمان، وبعضهم السعاية، وبعضهم العتق. روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه ليس للورثة بمنزلة، إلا أن يضمنوا جميعاً ويعتقوا أو يختاروا السعاية؛ لأن الورثة بمنزلة المورث وما كان للمورث..... الاختيار، بل إن شاء ضمن الكل أو أعتق الكل أو استسعى فكذلك لورثته، وروى محمّد عن أبي حنيفة رحمه الله أن لهم ذلك؛ لأن نصيب الميت انتقل إليهم حكماً فصاروا....... في «الأصل» . ومن جملة ذلك: أن المعتق مع الساكت إذا اختلفا في قيمة العبد يوم الإعتاق، فهذه المسألة على وجوه، إن اتفقا حصل في الحال ولكن اختلفا في قيمته في الحال وأنه على وجهين: إن كان العبد قائماً لا يلتفت إلى قولهما، ولكن يقوم العبد للحال وبعض على المعتق بنصف قيمته في الحال؛ لأنه أمكن اعتبار ما وقع فيه الدعوى بالإعتاق، فلا يلتفت إلى قولهما. وإن كان العبد هالكاً فالقول قول

المعتق؛ لأنه تعذر معرفة ما وقع فيه الدعوى بالمعاينة فيعتبر الدعوة والإنكار، فالساكت يدعي زيادة على المعتق، والمعتق ينكر. والوجه الثاني: إذا اتفقا على أن الإعتاق كان قبل هذا الوقت بأيام، واختلفا في مقدار قيمته يوم الإعتاق ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : أن القول قول المعتق، سواء كان العبد قائماً أو هالكاً. فإن كان هالكاً فلا إشكال، وإن كان قائماً؛ لأن قيمة الشيء فيما يزداد، وينتقص بمضي الوقت فلا يمكن بحكم الحال فتعتبر الدعوى والإنكار. قال محمّد رحمه الله: وكتبت في «شرح السير» : إذا كانت المدة من وقت الإعتاق قريبة ننظر إلى حال العبد، فنعرف قيمته من حاله، وإن كانت المدة بعيدة فالقول قول المعتق ولا نحكم الحال؛ لأن المعتبر في المدة القريبة ليس بظاهر، فيمكن بحكم الحال، والمعتبر في المدة البعيدة ظاهر فلا يمكن بحكم الحال، فنجعل القول قول المعتق لإنكاره الزيادة. الوجه الثالث: إذا اختلفا في وقت الإعتاق وفي قيمته فقال المعتق: أعتقته قبل هذا بسنة، وكان قيمته يوم أعتقته مائة، وقال الساكت: لا بل أعتقته في الحال وقيمته في الحال ألف درهم، فهذا وما لو تصادقا أن العتق حصل في الحال سواء؛ لأن العتق حادث فيحل حدوثه على أقرب ما ظهر، فالذي بدأ الحدوث في الحال فيمسك بالأصل، فيجعل القول قوله، فصار كأن العتق ثبت بتصادقهما في الحال. والجواب فيما إذا وقع الاختلاف في حال المعتق يوم الإعتاق في اليسار والعسار بظهور الجواب فيما إذا وقع الاختلاف في قيمة العبد، هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» في «المنتقى» أنه ينظر إلى حالة المعتق يوم الخصومة، فإن كان موسراً ضمن وإن كان معسراً سعى العبد. وكتبت في «السير» : إذا كانت المدة قريبة بحكم الحال، وإن كانت بعيدة يجعل القول قول المعتق؛ لأنه ينكر حق الرجوع عليه بالتضمين، والجواب فيما إذا وقع الاختلاف بين الساكت والعبد في قيمة العبد أيضاً يظهر الجواب فيما إذا وقع الاختلاف بين الساكت والمعتق في قيمة العبد. هكذا ذكر شيخ الإسلام أيضاً. ومن جملة ذلك: إذا صالح الساكت مع المعتق، وإنه على وجهين: أما إن صالح على أقل من نصف قيمة العبد ودراهم أو دنانير فإنه جائز. فرق بين التصالح وبين البيع فإن الساكت لو قال للعبد: بعت مالي عليك من نصف القيمة بأقل من نصف القيمة، فإن ذلك لا يجوز. والفرق: وهو أن الصلح في موضوعه لاستيفاء بعض الحق وإسقاط البعض، فإذا كان بلفظة الصلح أمكن تجويزه بطريق استيفاء بعض الحق وإسقاط البعض إن تعذر تجويزه بطريق المعاوضة، فأما البيع معاوضة من كل وجه وليس فيه معنى الإسقاط بعض الحق واستيفاء البعض، فإذا كان بلفظة البيع لا يمكن تجويزه إسقاطاً واستيفاءً تعذر تجويزه معاوضة لمكان.....، فبطل ضرورة. الوجه الثاني: إذا صالح على أكثر من نصف قيمة العبد دراهم أو دنانير وإنه على وجهين: إن كانت الزيادة بحيث يتغابن الناس في مثلها يجوز، وإن كانت الزيادة بحيث لا يتغابن الناس في مثلها فالزيادة على نصف القيمة باطلة، فقد أبطل الفضل وما صالح الصلح على قدر نصف قيمة العبدين. فرق بين هذا وبينما إذا حصل هذا بلفظ البيع، فكان البيع يبطل في الأصل والزيادة جميعاً. والفرق: أن البيع لغة ينبىء عن المعاوضة، والمعاوضة إذا تمكَّن فيها الربا أبطل كلها بخلاف الصلح؛ لأن في الصلح معنى استيفاء بعض الحق ومعنى المعاوضة، ففي

حق نصف إن تعذر تصحيحه بطريق المعاوضة أمكن تصحيحه بطريق استيفاء الحق، كأنه استوفى عين حقه وزيادة، فيكون الاستيفاء بقدر الحق صحيحاً وتبطل الزيادة، وإن كان الصلح على عوض هو أكثر قيمةً من نصف قيمة العبد جاز؛ لأنه لا يتمكن الربا (فيه) . ومن جملة ذلك أن العبد المعتق إذا كان مريضاً مرض الموت وهو موسر فمات يسقط عنه ضمان المعتق ولا يستوفي ذلك من تركته، بل يسعى العبد للمولى عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يسقط ضمان العتق بل يستوفي ذلك من تركته، وجه قولهما: أن ضمان العتق ضمان الإتلاف، فلا يسقط بالموت، وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: ضمان العتق في حكم الصلة من المولى والصلات تسقط بالموت قبل القبض، وإذا كان العبد بين رجلين أعتق أحدهما نصيبه وهو موسر، ثم إن الآخر باع نصيبه من الذي أعتق أو وهبه له على عوض أُخِذَ منه. ذكر محمّد رحمه الله في «الأصل» : أن هذا واختياره في الضمان في القياس سواء، غير أن هذا أقبحهما وأفحشهما، وفي «الاستحسان» : لا يجوز البيع لأن البيع يوجه الملك للحال ومعتق النصف في الحال يقابل للتمليك، فأما الضمان يفيد الملك من وقت العتق، فإنه كان قابلاً للتمليك وقت الإعتاق فجاز تمليك نصيبه منه بالضان ولم يجز بالبيع لهذا، وإذا لم يجز البيع صار الحال بعده والحال قبله سواء، وقبل البيع كان له.... أن المعتق، وإن يستسعي العبد فكذا بعد البيع، قالوا: ويجب أن يكون بيع المغصوب من الغاصب بعد الهلاك على هذا القياس والاستحسان. القياس: أن يجوز، وفي الاستحسان: لا يجوز. وإذا كان العبد بين اثنين أحدهما صغير والآخر كبير فأعتقه الكبير وهو موسر فليس للصبي في هذا قول لا في العتق، ولا في التضمين، ولا في اختيار السعاية. يريد بقوله لا قول للصبي، وهذا لأن هذه التصرفات لا تصح من الصبي، وأنه ظاهر، فبعد ذلك ينظر إن كان له أب كان لأبيه الخيار إن شاء ضمّن المعتق، وإن شاء استسعى العبد؛ لأن تضمين المعتق بيع نصيبه بمثل القيمة معنًى، وغلات ذلك في مال الصغير، واختيار السعاية بمنزلة مباشرة عقد الكتابة، وللأب ذلك في عبد الصغير. ووصي الأب في هذا بمنزلة الأب، وإن لم يكن للصغير أب ولا وصي للأب وله وصي للأم وكان العبد.......... الصغير عن الأم، لم يذكر محمّد رحمه الله أنه قال: سألت أستاذي الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله عن ذلك، فقال: إذا كان له وصي أم وليس له وصي غيره فله أن يضمن المعتق؛ لأن التضمين بمنزلة البيع، ولوصي الأم البيع فيما ورثه الصغير عن الأم وله استسعاء العبد أيضاً، وإن كان الاستسعاء في معنى الكتابة وليس لوصي الأم أن يكاتب إلا أن هذه كتابة حكمية، فجاز من وصي الأم، وإن لم يكن له واحد من هؤلاء..... وبلوغه للخيار إما الضمان أو الإعتاق، والاستسعاء قبل هذا

إذا كان في موضع لا قاضي فيه، فأما إذا كان في موضع فيه قاضي نصب له القاضي قيماً حتى يختار التضمين، أو السعاية؛ لأن ذلك أنفع في حق الصبي؛ لأنه يتعذر له التصرف في نصيب الصبي بعد العتق. وإذا كان العبد بين اثنين أعتق أحدهما نصيبه وهو موسر، ثم إن الآخر دبره فالتدبير جائز؛ لأنه تعليق عتق نصيبه بالموت، وتعليق عتق نصيبه بسائر الشروط منه جائز فكذا بالموت. وإذا صح التدبير برىء المعتق من الضمان وكان إقدامه على التدبير إبراءً للمعتق عن الضمان، إما لأن إقدامه على التدبير استيفاءً لنصيبه على ملكه، وإما لأن ولاية تضمين المعتق بشرط أن يملك نصيبه من المعتق بالضمان، وبالتدبير أخرجه من أن يكون قابلاً للتمليك. فإن قيل: بالتدبير اختيار استيفاء ما بقي بعد العتق على ملكه، فأما ما فات لم يصر..... له على ملكه، فينبغي أن يكون له حق التضمين بذلك القدر. قلنا: تعذر تضمين ما فات بدون الباقي؛ لأن الفائت مجرد المنفعة ومجرد المنفعة لا تضمن بالإتلاف، وكان للمدبر إن يستسعي العبد في نصف قيمته، ولكن نستسعيه في نصف قيمته مدبراً؛ لأن ما فات بالتدبير لاحقاً فأما إن كان بالتدبير سابقاً ثم ورد العتق بعد ذلك فإن المدبر على خياره؛ لأن في هذا الفصل لم يوجد من المدبر ما يدل على إبراء المعتق عن الضمان فبقي خياره كما كان، فإن شاء استسعى العبد في نصيبه مدبراً وإن شاء ضمن المعتق نصيبه مدبراً، وإنما ثبت له الخيار؛ لأنه بالإعتاق فوت عليه منفعه الخدمة إن لم يفوت عليه منفعة البيع. وإن كان ذلك منها جميعاً ولا يعلم أيهما أول فإنه ينبغي في القياس أن لا يضمن المعتق شيئاً وإن كان حتى يعلم أنه أعتق بعد التدبير. وفي «الاستحسان» : يضمن المعتق ربع قيمته مدبراً، وجه القياس ظاهر، وجه الاستحسان: أن إعتاق المعتق سبب الضمان، سواء كان قبل التدبير أو بعد التدبير؛ لأنه فوت على صاحبه منفعة الخدمة والبيع وإن كان بعد التدبير إن كان قبل التدبير؛ لأنه فوت على صاحبه منفعه الخدمة وإن كان بعد التدبير؛ لأنه فوّت على صاحبه منفعة الخدمة إلا أن صاحبه بالتدبير بعد الإعتاق يبرئه عن الضمان، فقد تيقنا سبب الضمان وشككنا في المبرىء، وأنه ثبت في حال دون حال فيثبت نصفه، ويبرىء عن الضمان النصف، ويبقي ضمان النصف (329ب1) فابتداءً قال: يضمن المعتق ربع القيمة مدبَّراً، والله أعلم.

الفصل السادس في عتق ما في البطن

الفصل السادس في عتق ما في البطن قال محمّد رحمه الله: إذا قال الرجل لجاريته: كل ولد تلدينه فهو حر، فهذا على كل ولد تلده، ولا يعتق شيء من الأولاد قبل الولادة؛ لأن الولادة شرط وقوع العتق، كالدخول في قوله: كل امرأة لي تدخل الدار طالق، حتى لو ضرب ضارب بطن هذه الجارية وألقت جنيناً ميتاً كان على الضارب نصف عشر قيمته إن كان غلاماً، أو عشر قيمته إن كان جارية؛ لأن الولد إن كان رقيقاً قبل الولادة كان الضارب متلفاً جنيناً رقيقاً، والحكم في جنينٍ هذا حاله ما ذكرنا، ولو مات المولى وهي حامل فولدت بعد ذلك لا يعتق الولد وكذلك لو باعها المولى وهي حامل فولدت عند المشتري لا يعتق الولد؛ لأن شرط الحنث قد وجد والمحلوف بعتقه ليس في ملكه...... اليمين لا إلى جزاء، ولو قال: كل ولد تحبلين به أو قال: تحملين به فهو حر، فكلما حبلت يعتق الولد، فلا تشترط الولادة ها هنا؛ لأن شرط وقوع العتق ها هنا حدوث الحبل لا الولادة، وإنما يعلم حدوث الحبل بعد اليمين إذا ولدت لأكثر من سنتين من وقت اليمين؛ لأن الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين، وإن ولدت لسنتين أو أقل فإنه لا يعتق الولد؛ لأنا لم نتيقن بحدوثه بعد اليمين؛ لأن الولد يبقى البطن إلى سنتين فيجوز أنه كان موجوداً في البطن وقت اليمين، وإن ضرب ضارب بطن هذه الجارية فألقت جنيناً ميتاً فعلى الضارب أرش جنين حر إذا جاءت به لأكثر من سنتين؛ لأنا تيقناً بحدوث الحبل بعد اليمين وهو شرط العتق، فكلما حدث الحبل وقع العتق، فصار الضارب متلفاً جنيناً حراً فعليه أرش جنين حر. وإن جاءت بالولد لسنتين أو أقل من وقت اليمين فعلى الضارب أرش جنين حر. إن باعها المولى فولدت عند المشتري، فهذه المسألة على وجهين: الأول: إذا ولدت عند المشتري لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء، وأنه على وجهين أيضاً: إن ولدت لأكثر من سنتين من وقت اليمين، فالبيع فاسد؛ لأنا تيقنا بعتق هذا الولد؛ لأنا تيقنا بحدوثه بعد اليمين في ملك الحالف فيتبين أنه باع الأمة وفي بطنها ولد حر فيفسد البيع. وإن جاءت (به) لسنتين أو أقل من وقت اليمين فالبيع جائز؛ لأنا لم نتيقن بحرية هذا الولد؛ لأنا لم نتيقن بحدوثه في ملك البائع بعد اليمين. الوجه الثاني: إذا جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً من وقت الشراء، وفي هذا الوجه البيع جائز سواء جاءت بالولد لأكثر من سنتين من وقت اليمين أو أقل؛ لأنا لم نتيقن بحرية هذا الولد إذا لم نتيقن بحدوث الحبل في ملك البائع، لجواز أنه حدث في ملك المشتري بعد الشرط. وشرط العتق إنما يوجب العتق إذا وجد الشرط في ملك

الحالف، والجواب فيما إذا مات المولى وتركها كالجواب فيما إذا باعها المولى. إذا قال لأمته: ما في بطنك حر، فولدت ولداً لأقل من ستة أشهر من وقت هذه المقالة يعتق. ولو ولدت ولداً لستة أشهر فصاعداً من وقت هذه المقالة لا يعتق؛ لأن العتق أضيف إلى الموجود في البطن فإنما يعتق من كان موجوداً في البطن وقت الإضافة، وإنما يثبت الوجود في البطن وقت الإضافة إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر. فإن قيل: ينبغي أن يعتق نصف الذي ولدته لستة أشهر فصاعداً؛ لأنه يعتق في حال وهو أن يكون موجوداً وقت هذه المقالة، ولا يعتق في حال وهو أن لا يكون موجوداً وقت هذه المقالة وجدت بعد ذلك، واعتبار الأحوال أصل من أصول الشرع. قلنا: اعتبار الأحوال إنما يكون في موضع تيقن بوقوع العتق واشتبه علينا من وقع عليه العتق، وها هنا وقع الشك في العتق، وفي مثله لا تعتبر الأحوال كما لوجمع بين عبده وبين عبد غيره، وقال: أحدكما حرٌّ ومات قبل البيان. وإن ولدت ولدين أحدهما لأقل من ستة أشهر، والآخر بعد الستة أشهر من وقت هذه المقالة إلا أن المدة المتخللة بين الولادتين أقل من ستة أشهر عتقا جميعاً؛ لأن المدة المتخللة إذا كانت أقل من ستة أشهر كانا توأمين، والتوأمان يكونان من بطن واحد، فتيقنا بوجودهما وقت الإعتاق. إذا قال الرجل لأمته: إن كنت حبلى فأنت حرة، فولدت لأقل من ستة أشهر من هذه المقالة، فالجارية حرة وولدها حرٌّ، فإن ولدت لستة أشهر فصاعداً من وقت هذه المقالة لا تعتق الجارية؛ لأن تقدير يمينه إذا كنت حبلى للحال؛ لأن قوله: إن كنت حبلى تستعمل للحال، فصار معتقاً حبلاً موجوداً، وإنما يعرف وجود الحبل في الحال بالولادة لأقل من ستة أشهر، فإن ضرب ضارب بطن هذه الجارية بعد هذه المقالة لأقل من ستة أشهر فألقت جنيناً ميتاً فعلى الضارب أرش جنين حر، وإن كان الضرب بعد هذه المقالة لأكثر من ستة أشهر فعلى الضارب أرش جنين قن، ولو وقع حياً ثم مات كان فيه الدية كاملة؛ لأنه صار قاتلاً له بعد الولادة بالضرب السابق. وإذا قال الرجل لأمته: إن كان أول ولد تلدين غلاماً ثم جارية فأنتِ حرة، فإن كانت جارية ثم غلاماً فالغلام حر، فولدت جارية وغلاماً في بطن واحد لا يعلم أيهما أول عتق نصف الأم، وسعت في نصف قيمتها؛ لأنها تعتق في حال وترق في حال، وعَتَقَ نصف الغلام أيضاً وسعى في نصف قيمته لهذا المعنى، والجارية رقيقة؛ لأنا تيقنا برقها ليس لها حال عتق. وإذا قال لها: أول ولد تلدينه فهو حر، فجاءت بولد وقالت: ولدت هذا، وأنكر المولى ذلك؛ القياس: أن لا يصدق، وفي الاستحسان: يصدق، وبالقياس نأخذ وهذا هو القياس. والاستحسان الذي ذكر في كتاب الطلاق فيما إذا قال لامرأته: إذا ولدت ولداً فأنتِ طالق ولم يكن الحبل ظاهراً، ولا أقر الزوج بالحبل فقالت: ولدت، القياس: أن

لا تصدق. وفي الاستحسان تصدق وبالقياس نأخذ، فإن جاءت بامرأة فشهدت على الولادة فإن الولادة عند أبي حنيفة لا تثبت، حتى يقع الطلاق والعتاق. ولو كان الزوج مقراً بالحبل وقال لها: إذا ولدت فأنتِ حرة فقالت: ولدت، وأنكر المولى فإنها تصدق وتثبت الولادة بمجرد قولها، وتعتق عند أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قولهما لا يعتق ما لم تشهد لها القابلة، والخلاف في هذا نظير الخلاف في الطلاق. وإذا قال الرجل لأمتين له: ما في بطن أحدكما حر، فله أن يوقع العتق على أيهما شاء كما بعد الانفصال. إذا قال: أحدكما حر، فإن ضرب بطن أحدهما رجل فألقت جنيناً ميتاً؛ لأن الأقل من ستة أشهر منذ تكلم بالعتق فهو رقيق، ويتعين الآخر للعتق كما بعد الانفصال. إذا قال أحدكما حر ثم جاء إنسان وقتل أحدهما، فإنه يتعين الآخر للعتق كذا ها هنا. ولو ضرب رجلان كل واحد منهما بطن أحدهما، وألقت كل واحدة جنيناً ميتاً؛ لأن من ستة أشهر منذ تكلم بالعتق (330م1) كان في كل واحد منها مثل ما في جنين الأمة كما بعد الانفصال. والحاصل: أن الجنين في حق قبول الإعتاق والمنفصل سواء. وإذا قال الرجل لأمته: وهي حامل قد أعتقت ما في بطنك على ألف درهم فقالت: قد قبلت ذلك، ثم وضعت غلاماً لأقل من ستة أشهر فإن الغلام يعتق؛ لأنه علق عتق ولد موجود في البطن بقبولها الألف، فيعتبر بما لو علق عتقه بشرط آخر، وهناك إذا وجد الشرط يقع العتق كذا ها هنا، وإن عتق الجنين لا يجب المال على الجنين، ولا على الجارية لا يجب على الجنين؛ لأن الأب لا يلي هذا العقد على الجنين مع أنه يلي عليه بعد الانفصال فلأن لا تلي الأم عليه هذا العقد وهي لا تلي عليه بعد الانفصال أولى. ولا يجب على الجارية؛ لأن العتق ما لا يجب على غير المعتق بحال. وإذا قال لأمته: ما في بطنك حرّ متى أدى إليّ ألفاً أو إذا أدى إليّ ألفاً، فوضعت لأقل من ستة أشهر فهو حر متى أدى إليه ألف درهم، وهذا لما ذكرنا أن الجنين في حق قبول الإعتاق والمنفصل سواء. ولو قال له بعد الانفصال: متى أديت إليّ ألفاً إذا أديت إليّ ألفاً فأنت حر، فأدى إليه ألف درهم في أي وقت ما أدى يعتق كذا ها هنا. وإذا كانت الأمة بين رجلين، فأعتق أحدهما ما في بطنها وهو غني فولدت بعد ذلك غلاماً ميتاً بيوم، فلا ضمان على المعتق إما لأنه وقع الشك في إيجاب الضمان لوقوع الشك في حياته، أو لأن العتق لا يصح إلا في الحي ولا تظهر الحياة في حقها إلا بالولادة، فصار العتق المضاف إلى ما بعد الولادة كأنه قال: الولد الذي تلدينه حر. ولو قال: هكذا وولدت ولداً ميتاً لا يعتق كذا ها هنا. فإن ضرب رجل بطنها فألقت جنيناً ميتاً فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: يضمن الضارب ما يضمن في جنين الأمة، وعلى قولهما: يضمن في جنين الحرة، وهذا لأنا حكمنا بحياة جنين أوجبنا الضمان حكمنا بصحة الإعتاق، إلا أن الإعتاق عندها لا يتجزىء فعتق كله فصار الضارب متلفاً جنيناً حراً، وعند أبي حنيفة رحمه الله: الإعتاق متجزىء فاقتضى الإعتاق

الفصل السابع في الحضومات أربعة في الرق والحرية والشهادة على ذلك

على نصيب المعتق، وصار في معنى المكاتب، فكان الضارب متلفاً جنيناً مكاتباً، فيضمن عشر قيمته مكاتباً إن كان ذكراً، أو نصف عشر قيمته مكاتباً إن كان أنثى، والله أعلم. الفصل السابع في الحضومات أربعة في الرق والحرية والشهادة على ذلك ذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله في شرح كتاب الصلح: رجل ادعى أمة، وقال: هذه أمتي وقالت الأمة: لا بل أنا حرة، فصالحها المدعي من ذلك على مائة تدفعها إلى المدعي فهو جائر، فإن أقامت بعد ذلك بينة أنها حرة الأصل، أو أنها كانت لهذا المدعي أعتقها عام أول تريد الرجوع بالمائة على المدعي قبلت بيّنتها وبطل الصلح، وإن أقامت بينة أنها كانت لفلان عام أول أعتقها في ذلك الوقت لا تقبل بينتها، ولو كان مكان الأمة عبداً وأقام بينة على حرية الأصل أو على أن المصالح أعتقه عام أول، وهو يملكه، إن كان الصلح من العبد مع إرادة الرق للمدعي قبلت بينته ورجع بالمئة على المولى؛ لأنه غير متناقص فيما ادعى. وإن كان الصلح مع إقرار العبد بالرق على نفسه فكذلك الجواب عندهما تقبل بينة العبد على ذلك؛ لأن العبد وإن صار متناقصاً وبطل دعواه لمكان التناقص إلا أن البينة على عتق العبد عندهما مقبولة بدون الدعوى، فأما عند أبي حنيفة رحمه الله فلا تقبل بينة العبد على ذلك؛ لأن عند الدعوى من العبد شرط قبول بينته على عتقه، وقد بطل الدعوى ها هنا لمكان التناقض. وفي الأمة تقبل البينة على كل حال عند الكل، وإن بطل دعواها في فصل الإقرار لمكان التناقص، إلا أن دعواها ليست بشرط لقبول البينة على عتقها، هذا من جملة ما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في شرح كتاب الصلح، ثم إنه رحمه الله سوّى في هذه المسألة بين (العتق) الأصلي، وبين العتق العارضي عند أبي حنيفة رحمه الله، وجعل دعوى العبد فيما شرطا لقبول البينة، وجعل التناقص مانعاً صحة الدعوى، وهذا فصل اختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة رحمه الله. بعضهم قالوا: دعوى العبد في حرية الأصل ليس بشرط لقبول الشهادة عليها، والتناقص فيها ليس بمانع صحة الدعوى، وقبول الشهادة عليها كما هو قولها، وإنما الخلاف في العتق العارضي. وبعضهم قالوا: دعوى العبد عند أبي حنيفة رحمه الله شرط في العتق الأصلي والعارضي جميعاً، إلا أن التناقص لا يمنع صحة دعوى العتق الأصلي، فلا يمنع قبول الشهادة ويمنع صحة دعوى العتق العارضي، فيمنع قبول الشهادة. وبعضهم قالوا: دعوى العبد شرط في العتق الأصلي والعارضي جميعاً، والتناقص فيها مانع صحة الدعوى وقبول الشهادة، وإليه ذهب شيخ الإسلام في شرح كتاب «الصلح» على ما ذكرنا.

والأصح: أن دعوى العبد عند أبي حنيفة رحمه الله شرطهما، والتناقض لا يمنع صحة الدعوى فيهما؛ لأن طريقهما طريق الخفاء والتناقص فيما طريقه طريق الخفاء لا يمنع صحة الدعوى، إلا أن المرأة إذا اختلعت من زوجها على مهرها ونفقة عدتها، ثم أقامت بعد ذلك بينة أن الزوج قد كان طلقها ثلاثاً قبل الخلع قبلت بينتها، وإن صارت متناقضة في دعوى الطلقات الثلاث بالإقدام على الخلع، إنما كان كذلك؛ لأن الزوج ينفرد بإيقاع الطلاق الثلاث، ولا يتوقف ذلك على علم المرأة فكان طريقه طريق الخفاء، فجعل التناقض فيه عفواً، أو نقول: التناقض إنما يؤثر فيما يحتمل البعض بعد ثبوته، والعتق الأصلي والعارضي لا يحتمل البعض بعد ثبوته. ألا ترى أن التناقض في باب النسب لا يمنع صحة الدعوى وأن الملاعن إذا كذب نفسه ثبت النسب منه، فطريقه ما قلنا. أمة بين رجلين شهد رجلان على أحدهما بعينه أنه أعتقها، وكذبته الأمة وادعت على الآخر الإعتاق وجحد الآخر، وحلف عند القاضي أنه ما أعتقها، فإنها تعتق بشهادة الشهود وإن لم يوجد منها الدعوى لما شهد به الشهود، فقد عرف أن الشهادة القائمة على عتق الأمة تقبل بدون الدعوى. ألا ترى أن الأمة إذا كانت كلها للمشهود عليه كانت تعتق بالشهادة بدون الدعوى. فإن قيل: الأمة إذا كانت كلها للمشهود عليه إنما تقبل الشهادة بدون الدعوى؛ لأنها توجب حرمة الفرج، وهذه الشهادة لا توجب حرمة الفرج. قيل: الشهادة ثابته ههنا، قلنا: لا بل هذه الشهادة توجب حرمة الفرج؛ لأن قبل هذه الشهادة لم يكن فرجها حراماً على المعتق حرمة توجب الحد لو وطئها، وبعد هذه الشهادة حرم فرجها عليه حرمة توجب الحد لو وطئها، فكانت هذه الشهادة قائمة على تحريم الفرج من هذا الوجه. وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن محمّد رحمه الله في رجل قال: كل مملوك أمكله أو اشتريته إلى سنة فهو حر، وحاجّه عبد له في ملكه يعني في ملك يوم اليمين أقام البينة على هذه اليمين (332ب1) وقضى القاضي ثم اشترى الحالف عبداً في تلك البينة فخاصمه العبد المشتري إلى القاضي، فالقاضي يأمره بإعادة البينة، وهذا بلا خلاف، والمعنى ما أشار إليه ثمة أن البينة ما كانت للأول على قول: كل عبد أملكه. ولم أقبل البينة على غير ذلك. ولو خاصمه عبد آخر كان في ملكه وقت اليمين فالقاضي لا يقضي بعتقه عند أبي حنيفة حتى (يقيم) العبد البينة، وعلى قول محمد يقضي بعتقه ولا يكلف إعادة البينة. وعلى هذا إذا قال: كل مملوك لي حر، وخاصمه عبد له في ملك ذلك، وأقام البينة على اليمين فقضى القاضي بعتقه، ثم خاصمه عبد آخر له فالقاضي هل يكلف إعادة الشهود؟ فهو على هذا الخلاف. وكذا لو قال كل عبد أملكه إلى سنة فهو حر فاشترى عبداً في السنة، وخاصمه العبد عند القاضي، وأقام عليه بينة بهذه اليمين وقضى القاضي بعتقه، ثم اشترى عبداً آخر

وخاصمه إلى القاضي فالقاضي يعتقه، ولا يكلفه إعادة البينة عند محمّد رحمه الله، علل فقال: لأني قضيت على الحالف بتلك اليمين فالبينة لهما، أشار إلى أن اليمين واحدة لفظاً، وقد ثنتت بينته الأولى، فيظهر ذلك في حق الثاني فلا حاجة له إلى إعادة البينة. وعلى قول أبي يوسف يكلف الثاني إعادة البينة، هذه الجملة مذكورة في عتاق «المنتقى» وذكر في أقضية «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف رجل شهد عليه شاهدان أنه قال كل عبد أشتريه فهو حر، فاشترى عبداً وخاصمه في العتق إلى القاضي وأعتقه القاضي بشهادتهما، ثم اشترى عبداً آخر، وخاصمه في العتق، فإن أبا حنيفة قال لا أعتقه حتى بعد البينة، وقال أبو يوسف أعتقه، ولا أعيد البينة، ذكر قول أبي يوسف في الأقضية بخلاف ما ذكر في العتاق، وذكر قول أبي حنيفة في الأقضية ولم يذكر في العتاق، وذكر قول محمّد رحمه الله في العتاق ولم يذكر في الأقضية. وذكر في كتاب الأقضية في «المنتقى» مسألة أخرى من هذا الجنس وصورتها: إذا قال الرجل: إن دخل هذه الدار فكل مملوك أشتريه إلى سنة فهو حر، فدخل الدار ثم اشترى عبداً فأقام البينة بيمينه ودخوله وشرائه، وهو يجحده، قضى القاضي عليه بالعتق، ثم اشترى عبداً فأقام البينة بيمينه ودخوله وشرائه، وهو يجحده، قضى القاضي عليه بالعتق، ثم اشترى عبداً آخر وخاصمه العبد الآخر في العتق، معنى قول أبي حنيفة رحمه الله القاضي لا يقضي بعتقه حتى يعود الشهود فيشهدون للثاني بمثل ما شهدوا للأول، وقال أبو يوسف: أعتقه بالشهادة الأولى. وفي عتاق «المنتقى» قال محمّد رحمه الله: لو قال المولى سالم ويرجع وميمون أحرار، فأقام أحدهم البينة على مقالته، ثم جاء الآخران لم يكلفا إعادة البينة؛ لأنه عتاق واحد. ولو قال: سالم حر ويرجع وميمون حر وأقام أحدهم البينة على ذلك، ثم جاء الآخران كلفا إعادة البينة؛ لأنه عتاق مختلف. وفيه أيضاً إبراهيم عن محمّد رحمه الله في عبد أقر أنه عبد هذا، ثم قال هذا العبد للقاضي: استحلفه ما أعتقني، فالقاضي يستحلفه. ولو قال: استحلفه ما يعلم أني حق الأجل فالقاضي لا يستحلفه؛ لأنه أقر أنه عبده. رجل في يديه صبي صغير لم يستمع منه أنه عبده يعني لم يستمع من صاحب اليد أنة عبده، ولم يستمع من الصبي أيضاً أنه عبده حتى كبر، فقال: أنا حر فالقول قوله، قال هشام سألت أبا يوسف رحمه الله عن رجل قال لرجل: أنا مولى أبيك أعتقني، وجحد ذلك الرجل أن يكون له أباً أعتقه، قال: هو مملوك، وإن قال: أنا مولى أبيك ولم يقل أعتقني قال هو حر؛ لأنه قد يكون مولاه من قبل جده، وإن قال أنا مولى أبيك أعتق أبوك أبي وأمي فهو حر. قال هشام: سمعت محمّداً يقول في رجل أعتق جارية له وهي تسمع، ثم جحدها وقضى القاضي عليها بالرق بعدما حلف الرجل، قال أتتزوج منه؟ قلنا: يسعها أن تتزوج قال: قلت، فإن مات أبوها عرفاً........ فلا.

سمع قوم من رجل أنه قال لعبده: هذا حر لوجه الله، ثم رأه معه بعد ذلك يقول: هو عبدي، فشهد أولئك القوم عليه أنه أعتقه أمس، فقال المشهود عليه أعتقه أمس، وأنا لا أملكه وإنما اشتريته اليوم، فالشهود يقولون: إنه أعتقه أمس، ولكن لا ندري أكان له أم لا، فالقاضي لا يقضي بعتق العبد حتى يشهدوا عليه أنه أعتقه وهو يملكه، قال: وكذلك الطلاق. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل أعتق أمة ثم اختصما عند القاضي وفي حجرها ولد وفي يدها كسب اكتسبته فقال المولى: أعتقتك بعد الولادة والكسب، وقالت المرأة: لا بل أعتقتني قبل الولادة والكسب فالقول قول المرأة. ولو قال: الكسب في يد المولى فالقول قول المولى، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وفي دعوى «الجامع» : ادعى رجل على رجل أنه عبده وجحد المدعى عليه، وقال: أنا حر الأصل لم أُمْلَكْ قط فالقول قوله وهذا معروف، فإن أقام المدعي بينة أن نصف العبد له قضى القاضي بنصف العبد له والنصف الآخر يكون موقوفاً لا يقضى فيه برق ولا حرية، لا..... يقضي بالرق؛ لأنه لا بد للقضاء من المقضي له ولا مقضي له ها هنا، وأما لا يقضي بالحرية إما بحرية الأصل؛ لأن القاضي لما قضى بالرق في النصف للمدعي فقد أبطل حرية الأصل في النصف الباقي؛ لأن الشخص لا يجوز أن يكون نصفه رقيقاً ونصفه حر الأصل، وإما بالحرية العارضة فلأن العارضة تبنى على الرق والملك، وتعذر القضاء بالرق، فالملك في النصف الباقي؛ لأن القضاء لا بد له من مقضي عليه معلوم، فلم يوجد، فإن جنى العبد جناية بأن قتل رجلاً خطأ قيل لولي القتيل: أعبد هو أم حر. فإن قال: هو عبد قيل للمقضي له بنصفه ادفع هذا النصف وأمره بنصف الدية، ويوقف النصف الباقي فلا يقضى فيه بشيء؛ لأنه لا يدري أنه رقيق أو حر. وإن قال: هو حر لا يقضي بشيء لا على المقضي له بنصفه ولا على العبد. أما على المقضي له؛ لأنه لما قال: هو حر فقد أبرأ المقضي له، وأما على العبد فلأن الحرية لا تثبت بمجرد قوله، وفي القتيل بعدما قضى القاضي..... يأتي بالبينة، فإن أقام ولي القتيل بينة على الحرية كانت (بينة) الحرية أولى من بينة الرق، وينقضي بها الحكم للأول ولو. ولم يجن هذا الشخص ولكن جنى عليه فيما دون النفس يقضى على الجاني بأرش العبد، وهو في شهادته وحدوده وجميع أموره بمنزلة الرق؛ لأنه جرى الحكم برقه من النصف، والنصف الآخر حاله موقوف أنه رقيق أو حر فلا يمكن إيجاب شيء من أحكام الحرية من كل وجه. وإذا شهد الشهود أنه أعتق عبده سالماً، ولا يعرفون سالماً وله عبد اسمه سالم، ولا عبد له غيره فإنه تقبل هذه الشهادة وقضي بعتقه؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت عياناً، ولو عَايَنَا أنه أعتق عبده سالماً ولا يعرف له عبد بهذا الاسم إلا هذا قُضي بعتقه، كذا ها هنا، ثم إن كان سالم يدعي العتق فالمسألة على الوفاق، فإن كان لا يدعي فالمسألة على الخلاف.

وإن كان له عبدان اسم كل واحد منهما سالم، فهذا وما لو شهدا أنه أعتق أحد عبديه سواء هي المسألة التي تلي هذه المسألة، ولو شهدا أنه أعتق أحد عبديه فهذا على وجهين: إما إن شهدا أنه أعتق في حال حياة المولى بذلك والمولى يجحد، وفي هذا الوجه لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة، وعندهما تقبل ويقال للمولى من (أردت) ، وهذا بناءً على ما قلنا أن عند أبي حنيفة رحمه الله دعوى العتق من العبد بشرط، والدعوى من المجهول لا تتحقق.6 فإن قيل: كيف يجعل هذه المسألة بناءً على ذلك، فقد ذكر محمّد رحمه الله أنهما لو شهدا عليه أنه أعتق إحدى أمتيه لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله (337أ1) ودعوى الأمة ليس بشرط بلا خلاف، قلنا: دعوى الأمة إنما لا تشترط عنده إذا قامت البينة على عتق أمةٍ بعينها؛ لأن المحلية في عتق أمة بعينها حق الله تعالى لما فيه من تحريم الفرج، فأما إذا قامت البينة على عتق إحدى الأمتين فليس فيه تحريم الفرج على قوله، فقد عرف من أصله أن العتق المبهم لا يحرم وطأها بل يحل له وطأها، وبعد ما وطىء إحداهما يكون له حق البيان في الموطوءة، وإذا لم يوجد هذا العتق تحريم الفرج لم تكن الشهادة قائمة على أن المحلية فيه حق الله تعالى فكانت بمنزلة ما لو قامت على عتق أحد العبدين. وإن شهدا بعد وفاة المولى أنه أعتق أحد عبديه في حال صحته فهو على وجهين: أما إن شهدا أنه أعتق أحد عبديه في حال صحته، وفي هذا الوجه لا تقبل هذه الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله، فإن شهدا أنه أعتق أحد عبديه في مرض موته فالقياس: أن لا تقبل هذه الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله، وفي الاستحسان: تقبل. ذكر القياس والاستحسان فيما إذا كانت الشهادة على إعتاق أحدهما في مرض موت المولى، ولم يذكر القياس والاستحسان فيما إذا كانت الشهادة في حال صحة المولى. ولو شهدا بعد موت المولى أنه دبر أحد عبديه في حال الصحة، أو قالا: في حالة المرض تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة رحمه الله قياساً واستحساناً، وجه القياس في فصل المرض: أن هذه الشهادة قامت على عتق أحد العبدين حالة الحياة، فلا تقبل قياساً على ما إذا شهد أنه أعتق (أحد) عبديه في حالة الصحة. وجه الاستحسان: أن المانع من قبول الشهادة على عتق أحد العبدين في حال حياة المولى خلوها عن الدعوى، وقد جدت الدعوى بعد الموت، إلا أن المشايخ اختلفوا في أن المدعي بعد موت الوصي أو العبدان فمنهم من قال: المدعي هو الوصي، وأنه عين والدعوى من المعين صحيحة، ومنهم من قال: المدعي هو العبدان وأنهما معينان وهو الصحيح وعليه عامة المشايخ، وإنما صحت دعوى العبدين بعد موت المولى إذا كان الإعتاق في حالة المرض؛ لأن الإعتاق في المرض وصية حكماً إن لم تكن وصية حقيقة، ولهذا يعتبر من الثلث، والثالث حكماً معتبر بالثالث حقيقة، ولو كانت الوصية بالعتق ثابتة حقيقة فالدعوى منهما صحيحة، وإنما يوجب الحق لأحدهما؛ لأن إيجاب الحق

لأحدهما بعد الموت إيجاب فيهما معنى؛ لأنه أوجب الحق لأحدهما في حال لا يتصور ثبوته لأحدهما؛ لأنه إنما يثبت لأحدهما إذا حصل في وقت كان للمولى حق البيان، ولا يتصور للمولى حق البيان بعد الموت؛ فكان إيجاب الحق لأحدهما إيجاباً لهما، ولو أوجب لهما صحت دعواهما كذا ها هنا. وهذا الخلاف ما لو شهدا على إعتاق أحد العبدين في حالة الصحة، فإن هناك لم توجد الدعوى؛ لأن دعوى العبدين في تلك الصورة غير صحيحة، وإن كان العتق الواقع في حالة الصحة يشيع فيهما بعد موت المولى فيثبت الحق لهما، إنما كان كذلك؛ لأن الحق لم يثبت للعبدين في هذه الصورة من المولى، لا نصاً ولا من حيث المعنى؛ لأنه أوجب الحق في وقت يتصور موته لأحدهما فلا يكون إيجاباً لهما، وإنما يشيع فيهما بعد الموت ضرورة تنفيذ العتق، فيظهر ثبوت الحق لهما في حق تنفيذ العتق لا في حق صحة الدعوى؛ لأن تنفيذ الواقع لا يخلو عن الدعوى في الجملة بأن لم يقع ثمة لحاجة، وإذا لم يظهر ثبوت الحق لهما في حق صحة الدعوى كان الحق في حق الدعوى ثابتاً لأحدهما والدعوى من أحدهما لا تتصور. وإذا شهدا على رجل أنه أعتق عبده هذا واختلفا في الزمان بأن شهد أحدهما أنه أعتقه في يوم الخميس، وشهد الآخر أنه أعتقه يوم الجمعة واختلفا في المكان، قبل القاضي شهادتهما؛ لأن العتق تصرف قولي، والقول مما يعاد ويكرر فيكون الثاني غير الأول فقد اتفقا على عتق واحد. وكذلك إذا شهد أحدهما..... العتق والآخر على إقرار المولى بالإعتاق بأن شهد أحدهما أن المولى (قال له:) له أعتقتك، وشهد الآخر أن المولى قال: قد كنت أعتقته لأنهما اتفقا على قوله: أعتقت إلا أن أحدهما تفرد بالزيادة، غير أن التفرد بالزيادة إذا كان لا يغير الحكم لا يمنع القبول. وكذلك إذا شهد أحدهما أنه أعتقه وشهد الآخر أنه حرره أو شهد أحدهما أنه قال له: أنت حر وشهد الآخر أنه قال له: أعتقتك؛ لأنهما اتفقا معنى؛ لأن معنى العتق والحرية واحد، إلا أنهما اختلفا لفظاً والاختلاف لفظاً مع الاتفاق معنى لا يمنع قبول الشهادة فيما يثبت مع الشبهات، كما لو شهد أحدهما بالنكاح وشهد الآخر بالتزويج، وكذلك إذا شهد أحدهما أنه أعتقه بالفارسية وشهد الآخر أنه أعتقه (بالفارسية) تقبل شهادتهم؛ لأنهما اتفقا معنى، هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» . وذكر في «المنتقى» عن أبي يوسف إذا شهد شاهد أنه قال لعبده: أنت حر وشهد آخر أنه قال له: توزاداي تقبل قال: لأنه ليس وجه عتق وذكر فصل الطلاق ثمة للقضاء، وقال: إذا اختلف شاهدا الطلاق وشهد أحدهما بالنبطية أو بالفارسية أو بلسان آخر، وشهد الآخر أنه طلقها بالعربية لم تجز شهادتها، ولو كان هذا في الإحراز بمال آخر به

قال: وليس الطلاق كذلك؛ لأني أنويه في الطلاق في وجوه كثيرة. وفي «الأصل» : وإذا اختلفا في الشرط الذي علق به العتق بأن شهد أحدهما أنه قال له: إن دخلت الدار فأنت حر وشهد الآخر أنه قال له: إن كلمت فلاناً فأنت حر وأشباه ذلك لم تجز الشهادة؛ لأنهما شهدا بيمينين مختلفين؛ لأن الثاني لا يصلح تكرارً للأول، فهما مختلفان وليس على كل واحد منهما إلا شاهد واحد، بخلاف ما لو شهدا بعتق منجز في يومين؛ لأن هناك يمكن أن يجعل الثاني تكراراً للأول فيجعل اتفاقهما على شيء واحد. وفي «المنتقى» : إذا قال الرجل لعبده: إن كلمت فلاناً فأنت حر فشهد عليه شاهد أنه كلمه اليوم، وشهد الآخر أنه كلمه أمس لا تقبل الشهادة، وذكر ثمة أيضاً أنه إذا قال لامرأته: إن كلمت فلاناً فأنت طالق، فشهد عليه شاهد أنه كلمه غدوة والآخر عشية أنه تقبل الشهادة. وعن إبراهيم عن محمّد رحمهما الله: إذا شهد رجل على رجل أنه أعتق أمته هذه وتزوجها وشاهد آخر على إقراره أنه أعتقه وتزوجها قال: تعتق ولا يثبت النكاح. وفي «الأصل» : إذا شهد شاهدان على رجل أنه قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، وقال المولى: إنما قلت له إن كلمت فلاناً فأنت حر فأيهما ما فعل فهو حر، وقد ثبت اليمينان إحداهما بالشهادة، والأخرى بالإقرار. ولو شهد أحدهما أنه أعتقه (على) جعل وشهد الآخر أنه أعتقه بغير جعل لا تقبل الشهادة؛ لأن أحدهما شهد بعتق معلق بالقبول والآخر شهد بعتق منجز، وهما متاغيران فلا يمكن أن يجعل الثاني تكرار الأول. ولو اتفقا على العتق بجعل واختلفا في مقدار الجعل بأن شهد أحدهما أنه أعتقه بألف، وشهد الآخر أنه أعتقه بألف وخمسمائة فهذه المسألة على وجهين: أما إن كان العبد يدعي العتق والمولى يجحد، وفي هذا الوجه لا تقبل شهادتهما سواء كان العبد يدعي العتق بأقل المالين أو بأكثر المالين..... حاجة العبد إلى إثبات العتق إذا كان المولى منكراً له والعتق بألف غير العتق بألف وخمسمائة، وأما إن كان المولى يدعي العتق والعبد (331ب1) ينكر، وفي هذا الوجه: إن كان المولى يدعي العتق بألف وخمسمائة تقبل الشهادة على الألف، وإن كان يدعيه (بألف) لا تقبل الشهادة أصلاً؛ لأن العتق ثبت بإقرار المولى لا حاجة لإثباته بالشهادة وإنما الحاجة إلى إثبات المال فكأن الدعوى وقعت في مطلق المال وشهد أحد الشاهدين بألف والآخر بألف وخمسمائة وهو يدعي الألف والخمسمائة، وهناك تقبل الشهادة على الألف ولو كان يدعي الألف لا تقبل الشهادة أصلاً. وإذا ادعى العبد أن المولى أعتقه بألف وأقام عليه شاهدين، وادعى المولى أنه أعتقه بألفين وأقام عليه شاهدين فالبينة بينة المولى؛ لأن العمل بالبينتين متعذر لتعذر إثبات العتق بالمالين؛ لأن المولى متى أعتقه على ألف وقبل لا يمكنه أن يعتقه على ألفين بعد

ذلك فلا بد من العمل بإحدى البينتين فكان العمل ببينة المولى أولى؛ لأن بينة المولى تثبت لزيادة وتثبت الحق لصاحبها، والعبد بينته تثبت الحق لغيره فكان المولى أشبه بالمدعيتين. وهذا، بخلاف ما إذا أقام العبد بينة أن المولى قال له: إذا أديت إليّ ألفاً فأنت حر، فأقام المولى بينة أنه قال له: إن أديت إلىّ ألفين فأنت حر، فإذا (أدى) العبد إليه ألف درهم فإنه يعتق ولا شيء عليه؛ لأن هناك العمل بالبينتين في إثبات اليمينين ممكن لجواب أن المولى قال له: إن أديت إليّ ألفين فأنت حر فقبل، ثم قال له: إن أديت إليّ ألفاً فأنت حر، فقبل وهناك لو أدى إليه ألف درهم عتق ولا شيء عليه كذا ها هنا. ولو شهد شاهدان أنه باع نفس العبد منه بألف درهم، وشهد آخران أنه باع نفس العبد منه بألفي درهم، هذا وما (إذا) شهدا أنه أعتقه على ألف وعلى ألفين سواء فإذا شهد أنه أعتق عبداً قد سماه لنا إلا أنا نسيناه والمولى يجحد ذلك لا تقبل شهادتهما. وكذلك إذا شهدا على رجلين أن أحدهما أعتق عبده، ولا ندري أيهما كان لا تقبل شهادتهما لمكان العقل والنسيان. وإذا شهد أحدهما أنه أعتق عبده هذا، وشهد الآخر أنه وهب نفسه منه فالقاضي لا يقبل شهادتهما؛ لأنهما اختلفا لفظاً ومعنى؛ لأن العتق موضوع للإسقاط ليس فيه معنى التمليك، والهبة تمليك وليس فيها معنى الإسقاط بوجه. ولو شهدا جميعاً أنه وهب نفس العبد منه وجب القضاء بالعتق؛ لأنهما اتفقا على لفظة الهبة فتثبت لفظة الهبة بشهادتهما، وصار كالثابت عياناً. ولو عاينا أنه وهب نفس العبد من العبد فإن العبد يعتق، فكذا إذا ثبت ذلك بالبينة. وإن قال المولى: لم أنوِ العتق لا يصدق قضاءً ويصدق فيها بينه وبين ربه. ولو شهدا أنه أوصى بنفس العبد للعبد وجب القضاء بالعتق؛ لأن الوصية عقد تمليك كالهبة، فإنهما شهدا أنه وهب نفس العبد منه إلا أنه كان قال أضيف لك بنفسك للحال، فإنه يعتق للحال وإن أطلق الوصية إطلاقاً يعتق بعد الموت على قياس ما روي عن محمّد رحمه الله في النكاح. إذا قال الرجل لغيره: أوصيت لك ببضع ابنتي للحال ثبت النكاح للحال، فإذا أطلق ينصرف إلى ما بعد الموت فلا يصح النكاح فكذا ها هنا. وإذا قال الرجل لعبدين له: أيكما أكل هذا الرغيف فهو حر، فأكلاه جميعاً لا يعتق واحد منهما. أطلق محمّد رحمه الله المسألة في «الأصل» إطلاقاً. من مشايخنا من قال: هذا إذا كان الرغيف بحال يمكن ذلك لواحد منهما أكل جميعه، أما إذا كان بحال لا يمكن لواحد منهما أكل جميعه ينبغي أن يعتقان، ومنهم من قال: لا يعتقان على كل حال وهو الأصح. وإطلاق محمّد رحمه الله في «الأصل» يدل عليه، والرغيف في هذا يخالف مسألة الخشبة إذا علق العتق بحملها وقد بينا ذلك في الفصل الثالث من هذا الكتاب. فإن أقام أحد العبدين بينة أنه أكل الرغيف وحده وقضى القاضي بعتقه ثم أقام الآخر بعد ذلك

بينة أنه هو الذي أكل الرغيف وحده فالقاضي لا يقضي بعتقه ولا ينقض قضاءه الأول. فرق بين هذا وبينما إذا جاء الغلامان معاً، وأقام كل واحد منهما البينة أنه أكل الرغيف كله فالقاضي لا يقضي لكل واحد منهما. والفرق: أن إحدى البينتين كاذبة بيقين وكل واحدة يجوز أن تكون هي الكاذبة، وعلى هذا التقدير لا يجوز القضاء بها، فإذا جاءا معاً وكل واحدة يجوز أن تكون هي الكاذبة فقد وقع الشك في جواب القضاء بكل واحدة منهما ولا يجوز القضاء بالشك، فأما إذا أقام أحدهما بينة أولاً نفذ بعد القضاء ظاهراً وليس هناك ظاهر يمنع نفاذ القضاء وهو قيام دليل الكذب في البينة الأولى، فإذا أقام الآخر بعد ذلك البينة فقد وقع الشك في نقض القضاء، إن كانت الكاذبة هي الأولى ينقض القضاء للأول، وإن كانت الكاذبة هي الثانية لا ينقض القضاء للأول، والقضاء لا ينقض بالشك كما لا ينقض بالشك. فرع على ما إذا جاء الغلامان معاً وأقام كل واحد منهما بينة أنه هو الذي أكل الرغيف فقال: إذا لم يقبل القاضي بينة الغلامين وردهما فأتت بينة أحدهما، ثم أعاد الغلام الآخر بينة على القاضي على ما شهدت له به أولاً فإن القاضي لا يقبل شهادتهم؛ لأنه رد شهادتهم مرة لتهمة الكذب، ولو لم تمت واحدة من البنتين حتى مات أحد الغلامين..... بشهادين آخرين يشهدان له بما شهدت به الشهود الأول، وجاء الغلام بالشهود الذين شهدوا أول مرة حتى يشهدوا له بمثل ما شهدوا له به أول مرة فإن القاضي يقضي للغلام الذي جاء بشاهدين آخرين. بخلاف ما إذا جاء الغلام الآخر بشاهدين آخرين فإن القاضي لا يقضي لواحد منها والفرق: أنه إذا أقام كل واحد منهما بينة أخرى فليست إحدهما أن تجعل كاذبة بأولى من الأخرى فيتهاتران جميعاً لمكان التعارض، أما ها هنا البينة ردها القاضي لتهمة الكذب بقيت كاذبة بقضاء القاضي، ولم تبق معارضة للأخرى فيمت القضاء بالأخرى. وإذا كان العبد مشتركاً بين رجلين، فشهد أحدهما على صاحبه أنه أعتق نصيبه لا تقبل شهادته موسراً كان المشهود عليه أو معسراً، إن كان موسراً فلأنه يثبت لنفسه بهذه الشهادة حق تضمين صاحبه، ولأنه شهد بعبده فإنه يملك بعضه، وإن كان معسراً فللمعتق الثاني، وإذا لم يقبل شهادته بقي معسراً أن صاحبه أعتق نصيبه. وأحد الشريكين إذا أقر على صاحبه أنه أعتق نصيبه وصاحبه يجحد فالعبد لا يترك رقيقاً بل يعتق ويسعى في جميع قيمته بينهما نصفان عند أبي حنيفة رحمه الله سواء كانا موسرين أو كانا معسرين أو كان أحدهما موسراً والآخر معسراً، وعندهما يسعى للمشهود عليه في نصف قيمته إن كان المشهود عليه معسراً، ولا يسعى له في شيء إن كان المشهود عليه موسراً. فرع على قول أبي حنيفة رحمه الله، فقال: إذا وجبت السعاية لهما لو شهد أحدهما على صاحبه أنه استوفى السعاية من العبد لا تقبل شهادته؛ لأنه يشهد لنفسه لأنه يثبت

لنفسه حق المشاركة مع صاحبه فيما استوفاه من السعاية، لأن ما من حر يستوفيه أحدهما من هذه السعاية إلا وللآخر حق المشاركة معه. وكذلك إذا استوفى أحدهما نصيبه من السعاية، ثم شهد على صاحبه باستيفاء نصيبه لا تقبل لأنه يشهد لنفسه، فالمقبوض يسليم له إذا قبض صاحبه نصيبه بعد ذلك. وإذا كان العبد بين ثلاثة نفر، شهد اثنان منهم على صاحبه أنه أعتق نصيبه، وأنكر المشهود عليه فالعبد يسعى بينهم أثلاثاً، وإذا استوفى أحدهم شيئاً من السعاية، كان (332أ1) للآخرين أن يأخذا منه ثلثي ما أخذ، وإذا شهد اثنان منهم على الآخر أنه يستوفي نصيبه من السعاية لا يقبل. والجواب في هذه المسألة والجواب في المسألة الأولى سواء إلا أن هناك الاختيار.....؛ لأن الشريك اثنان وها هنا الحساب بالمثالثة، لأن الشريك ثلاثه. وإذا كان العبد بين ثلاثة غاب أحدهم فشهد الحاضران على الغائب أنه أعتق نصيبه من هذا العبد فإنه يحال بين العبد وبين الحاضرين؛ فإذا حضر الغائب فقال للعبد: أعد البينة فأعاد البينة عليه فقضى عليه يعتق نصيبه وهو قول أبي حنيفة، وعلى قولهما القاضي يقبل هذه الشهادة في الحال ويقضي بعتقه، وإذا حضر الغائب لا يؤمر العبد إعادة البينة عليه. والحاصل: أن هذه الشهادة على العتق مقبولة على الغائب عند أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله، وعند أبي حنيفة رحمه الله هذه الشهادة لا تقبل على العتق على الغائب، أما تقبل في حق قصر الحاضرين وهذا بناءً على أن عند أبي حنيفة رحمه الله الإعتاق يتجزىء، فإنهما شهدا بعتق نصيب الغائب لا غير، فالشهادة على العتق قامت على غائب ليس عنه خصم حاضر فلا تقبل، فأما في حق قصر يد الحاضرين قامت على الحاضر فقبلت، وعندهما الإعتاق لا يتجزىء، فالشهادة على العتق قامت على الحاضر كما قامت على الغائب فقبلت على العتق، وصار الحاضر في إنكار العتق خصماً عن الغائب. وإذا شهد أحد الشركاء في العبد على أحد شريكيه أنه أعتق نصيبه وشهد الشريك الآخر على الشاهد الأول أنه أعتق نصيبه فالقاضي لا يقضي على واحد منهما بالعتق؛ لأنه لم يشهد على كل واحد منهما إلا شاهد واحد. وإذا كان العبد بين مسلم ونصراني شهد نصرانيان على المسلم أنه أعتق نصيبه لا يقبل. ولو شهد نصرانيان على النصراني أنه أعتق نصيبه قبلت بينته، فإن قيل: ينبغي أن لا تقبل شهادتهما على النصراني؛ لأن شهادتهما كما قامت على النصراني بالعتق قامت على المسلم بقصر اليد، قلنا: شهادتهما قامت على النصراني مقصوداً وما يثبت من قصر يد المسلم فذاك يثبت حكماً ومثل هذا جائز. ألا ترى أن المسلم إذا كان له عبد نصراني مأذون في التجارة شهد نصرانيان على العبد بالدين فإنه يقبل شهادتهما وطريقه ما قلنا.

فإن شهد نصرانيان على شهادة مسلمين أن النصراني أعتق العبد لا تقبل شهادتها؛ لأنهما يثبتان فعلاً على المسلم، وشهادة النصراني على ذلك لا تقبل. ألا ترى أنه لو شهد نصرانيان أن قاضياً من قضاة المسلمين قضى لهذا النصراني على هذا النصراني فكذا فالقاضي لا يقبل شهادتهما، وإن كانا يشهدان للكافر على الكافر؛ لأنهما يثبتان فعلاً على المسلم أولاً وهو القاضي. وإذا شهد أبناء العبد أن المولى أعتقه على مال أو بغير مال والمولى يجحد، والعبد يدعي لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما يشهدان لأبيهما، ولو كان المولى يدعي العتق بالمال والعبد يجحد فشهد أبناء العبد تقبل شهادتهما؛ لأن العتق يثبت بإقرار المولى فلا حاجة إلى إثباته بالشهادة، وإنما الحاجة إلى إثبات المال، والشهادة بالمال شهادة على الأب، وإذا شهد أبناء العبد على المولى أنه قال: يوم يدخل أبوكما الدار فهو حر، وشهد آخران بالدخول لا تقبل شهادة الاثنين؛ لأن العتق يجب بالحلف فصارا شاهدين للأب بالعتق. ولو شهد الأجنبيان باليمين وشهد أبناء العبد بالشرط لا تقبل شهادتهما أيضاً استحساناً؛ لأن العتق إن كان لا يثبت بالشرط يثبت عنده، فصارا في هذا الوجه كالشاهدين للأب. وإذا كان العبد بين ثلاثة نفر ادعى أحدهم أنه أعتق نصيبه على كذا، فقال العبد: أعتقتني بغير شيء، فشهد الشريكان أنه أعتقه على كذا فشهادتهما جائزة؛ لأن العتق قد ثبت بإقرار المولى المنازعة في المال وفيما يرجع إلى المال..... هذه شهادة منهما على عبدهما، وكذلك إن شهد آباء الشريكين أو أبناؤهما بذلك؛ لأنهما يشهدان على عبد أبويهما أو على عبد ابنيهما وكل ذلك جائز. وإذا أعتق بعض الشركاء العبد وفي يد العبد أموال اكتسبها ولا يدرى متى اكتسبها، واختلف فيه الشركاء، والعبد قال: اكتسبته بعد العتق فالقول قوله؛ لأن الكسب حادث فيحال بحدوثهما على أقرب ما ظهر، وإنما ظهر الكسب للحال فيجعل القول قول من يدعي حدوثه في الحال، وهو العبد، ولأن العبد بعتق البعض صار مكاتباً حكماً عند أبي حنيفة رحمه الله فيعتبر بما لو كان مكاتباً حقيقة، والمكاتب الحقيقي فيما في هذه بمنزلة الحر والقول قول الحر فيما في يده أنه له عند منازعة غيره إياه كذا ها هنا. وإذا كان العبد بين رجلين، شهد شاهدان على أحدهما أنه أقر أنه أعتقه وهو موسر فالقاضي يقضي بعتقه، وكان لشريكه أن يضمنه وكان ولاء العبد له، وإن جحد ذلك إلا أن القاضي لما قضى عليه بالعتق فقد كذبه في جحوده، فالتحق جحوده بالعدم. ولو شهدوا عليه أنه أقر أنه حر الأصل فالقاضي يقضي بحريته ولا ولاء له عليه وليس لشريكه أن يضمنه، بخلاف المسألة الأولى. والفرق: أنا نعتبر إقراره الثابت بالبينة بالثابت معاينة، ولو عاينا إقراره بالإعتاق كان

ولاؤه له وكان لشريكه أن يضمن لأنه أقر بسبب الضمان وليس الولاء، ولو عاينا إقراره أنه حر الأصل لم يكن له عليه ولاء، ولم يكن لصاحبه حق التضمين؛ لأنه ما أقر..... لأن سببها على اليقين إعتاقه إياه وهو لم يقر بذلك. ولو شهدا على إقراره أن الذي باعه قد كان أعتقه قبل أن يبيعه عتق من مال المشهود عليه؛ لأنا لو عاينا إقراره بذلك لكان يعتق عليه العبد؛ لأنه يجب إقراره بثبات فساد البيع وبطلان حق البائع في الثمن، وهذا إقرار على الغير وحرية العبد وفساد ملكه، وهذا إقرار منه على نفسه، وإقرار الإنسان على نفسه صحيح، فكذا إذا ثبت إقراره بالبينة.n وإن شهدا على إقراره أن الذي باعه قد كان دبره قبل أن يبيعه أو كانت أمة شهدوا على إقراره أنها ولدت من البائع قبل البيع، فإنه يحال بين المشتري وبينهما؛ لأنه لو ثبت إقراره بذلك معاينة كان الجواب كما قلنا؛ لأنه أقر على نفسه بقصر يده عنها وبحرية استرقاقه إياها وهذا من غلته، فيصح إقراره بذلك، فكذا إذا ثبت إقراره بالبينة، ولا يعتق واحد منهما حتى يموت البائع فإذا مات عتقا؛ لأنه لو عتق بإقرار المشتري والمشتري ما أقر بالعتق إلا بعد موت البائع، ولا تسعى لواحد منهما لأن السعاية بدل الملك وكل واحد منهما يتبرأ عن ملكهما، فيكون متبرئاً عن سعايته. ذكر البقالي في «فتاويه» عن أبي يوسف فيمن شهد عليه رجل أنه قال سنة ست كل مملوك لي حر بعد موتي، وشهد آخر أنه قال بذلك سنة سبع، وشهد آخر أنه قال ذلك سنة ثمان ومات فيها، يعني: في سنة ثمان، وقالوا: لا ندري رقيقه، قال: من أقام من رقيقه بينة أنه كان له سنة ست عتق بشهادة الآخرين يعني الأوسط، هكذا ذكر، ومعناه أن شهود هذا الرقيق شهدوا أنه كان له سنة ست مطلقاً ولم يقولوا كان له سنة ست وقت مقالته ذلك، أما لو قالوا: إنه كان له سنة ست وقت مقالته ذلك بشهادة الأوسط، والآخر لم يعتق، ولا يعتق من كان له سنة ثمان قال ثمة، قال ذلك أيام....... وفي آخر عتاق (332ب1) «الأصل» : إذا قال الرجل لعبده: إن دخلت دار فلان، فأنت حر فشهد فلان وآخر أنه دخل الدار تقبل شهادتهما. فرق بين هذا وبينما إذا قال له: إن كلمت فلاناً فأنت حر، فشهد فلان وآخر أنه كلمه لا تقبل شهادتهما، والفرق أن الذي شهد أنه كلمه شاهد على فعل نفسه؛ لأن كلام العبد معه لا يتحقق إلا بحضرته وسماعه، وذلك فعل. وشهادة الإنسان على فعل نفسه لا تقبل، فخرج هو من البين فلم يبق إلا شاهد واحد، فأما صاحب (الدار) ما شهد على فعل نفسه إنما شهد على فعل العبد لا غير، لأنه لا يحتاج في دخول العبد داره إلى فعل من جهته، فكان شاهداً على فعل الغير من كل وجه ولهذا افترقا. إن شهد ابنا فلان أن العبد قد كلم أباهما، فإن كان الأب يدعي ذلك لا تقبل شهادتهما، وإن كان يجحد فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا تقبل شهادتهما، وعلى

الفصل الثامن في تفويض العتق إلى غيره

قول محمّد تقبل، والأصل أن شهادة الابن على فعل أبيه إذا كان للأب فيه منفعة لا تقبل بلا خلاف، وإذا لم يكن للأب فيه منفعة فهو على الخلاف، وستأتي المسألة مع أجناسها في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى، والله أعلم. الفصل الثامن في تفويض العتق إلى غيره إذا (قال) لأمته: أمرك بيدك ينوي العتق، فهذا على المجلس، وكذلك إذا قال لأجنبي: أمر أمتي فلانة بيدك ينوي العتق، فهذا على المجلس. ولو قال لأمته: أعتقي نفسك، فهو على المجلس ولو قال لأجنبي: أعتق أمتي فلانة فهذا على المجلس وما بعده، والجواب في العتاق في هذا نظير الجواب في الطلاق، وكذلك إذا قال لأمته: أنتِ حرة إن شئت، تعتبر مشيئتها في المجلس حتى لو شاءت بعدما قامت عن المجلس لا يعتق، ولو قال لأمة من أمائة: أنتِ حرة وفلانة إن شئت، فقالت قد شئت نفسي لا تعتق؛ لأن قوله: إن شئت، كلام لا يستقل بنفسه فينصرف إلى ما سبق ذكره، والسابق ذكره عتقها، فصار شرط وقوع العتق مشيئتها عتقهما كأنه قال لها: إن شئت عتقك وعتق فلانة فأنتما حران، فإذا شاءت عتقت نفسها فقد أتت ببعض الشرط فلا ينزل شيء من الجزاء. قال محمّد رحمه الله في «الجامع» : إذا قال الرجل لغيره: من شئت عتقه من عبيدي فأعتقه، فشاء المخاطب عتقهم جميعاً معاً عتقوا جميعاً إلا واحداً منهم عند أبي حنيفة رحمه الله، والخيار إلى المولى، وعندهما يعتقون جميعاً، هكذا ذكر المسألة في رواية أبي سليمان. وذكر محمّد في رواية أبي حفص: فأعتقهم المأمور جميعاً معاً عتقوا إلا واحد منهم عند أبي حنيفة رحمه الله، والصحيح رواية أبي حفص؛ لأن المعلق بمشيئة المأمور الإعتاق دون العتق، وعلى هذا الاختلاف إذا قال: من شئت عتقه من عبيدي فهو حر، فأعتقهم جميعاً عتقوا عندهما. وعند أبي حنيفة رحمه الله: يعتق الكل إلا واحد منهم، وأجمعوا على أنه لو قال: من شاء عتقه من عبيدي فأعتقه، فأعتقهم جميعاً، عتقوا جميعاً، والخلاف فيما إذا كانت المشيئة مضافة إلى المخاطب لا إلى العبيد. وجه قولهما: أن كلمة من كلمة عامة وهي محكمة في إفادة العموم، وكلمة من كما تحتمل التبعيض تحتمل الجنس، قال الله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} (الحج: 30) ويقال: باب من حديد والمراد هو الجنس فنعمل بالمحكم ونرد المحتمل عليه، ولأبي حنيفة رحمه الله: أنه وجد ههنا ما يوجب العموم وهو كلمة من وما يوجب الخصوص وهو كلمة من فإن كلمة من للتبعيض لغة، والعمل هنا ممكن بأن يدخل جميع العبيد تحت الأمر إلا واحداً منهم، وإنما اكتفينا بالواحد منهم في حق العمل بكلمة من؛ لأن كلمة من ههنا مذكورة لإخراج بعض العبيد عن الجملة لأن من تتناول الكل، فكانت من لإخراج بعض ما

دخل تحت الأمر، والواحد متيقن، وما زاد عليه مشكوك، فلا يخرج بالشك والاحتمال، وفي قوله: من شاء عتقه من عبيدي فأعتقه بما يوجب الخصوص غير ممكن؛ لأنا لو عملنا بما يوجب الخصوص ابتداء وجعلنا الداخل تحت الأمر بعض العبيد يلزمنا العمل بما يوجب العموم انتهاء؛ لأن البعض الداخل تحت الأمر يصير عاماً لأنه موصوف بصفة عامة، وهي المشيئة فتعم فقلنا بالعموم ابتداء قصراً للمسافة. أما في مسألتنا: العمل بما يوجب الخصوص في الابتداء لا يوجب العمل في الانتهاء؛ لأن الداخل تحت الأمر مطلق عن الصفة، والخارج كذلك، فلا يعم في الانتهاء فعملنا بها لهذا. ولو قال لأمتين له: أنتما حران إن شئتما، فشاءت إحداهما فهو باطل؛ لأن معنى كلامه: إن شئتما حريتكما، فلا يتم الشرط بمشيئة إحديهما. ولو قال لهما: أيتكما شاءت العتق فهي حرة، فشاءتا جميعاً عتقا؛ لأن كلمة أي تتناول كل واحدة على الانفراد، ولو شاءت إحداهما عتقت التي شاءت، ولو شاءتا فقال المولى: أردت أحديهما صدق ديانة لا قضاء والجواب في العتق نظير الجواب في الطلاق. وفي «المنتقى» : بشرعن أبي يوسف: إذا قال لأحد: أعتق أي عبيدي شئت، فأعتق المامور كلهم جاز. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قال لغيره: أعتق أي عبيدي شئت، فليس له أن يعتق أكثر من واحد، ولو أعتق أكثر من واحد منهم لم يقع إلا على واحد منهم. ولو قال: كل أي هذا الطعام شئت، فله أن يأكل كله. وفرق بين العبيد والطعام على رواية ابن سماعة. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمه الله: الذين يشاؤون العتق منهم فهم أحرار فشاء واحد لا يعتق، وإن شاء اثنان فصاعداً عتقوا، كأنه قال: إن شاء عبدان من عبيدي العتق فهم أحرار، وكذلك لو قال: إن دخل عبيد من عبيدي الدار فهم أحرار فدخل واحد لا يعتق، وإن دخل اثنان فصاعداً عتقوا ... وفي «الأصل» عن محمّد: رجل قال لغيره: جعلت عتق عبدي إليك فليس له أن ينهاه، وهو إليه في المجلس كذلك لو قال: أعتق أي عبدي هذين شئت، وكذلك العتاق مما يجعل. ابن سماعة عن محمّد رحمه الله في رجل قال لعبده: افعل في نفسك ما شئت، قال: إن أعتق نفسه قبل أن يقوم من مجلسه عتق وإن قام قبل أن يعتق نفسه لم يكن له أن يعتق نفسه بعد ذلك، وله أن يبيع نفسه وأن يهب نفسه، وأن يتصدق بنفسه على ما شاء. هشام قال: سمعت محمّداً يقول في رجل عاينته امرأته في جاريته، فقال لها: هو بيدك فأعتقتها المرأة، قال: إن نوى المولى العتق عتقت وإلا فلا فإن هذا على البيع، فإن

الفصل التاسع في التدبير

قال: أمرك فيها جائز، فهذا على العتق وغيره، وفي وكالة «الأصل» الوكيل بالإعتاق بمال لا يملك أن يقبض المال إذا أعتق. وفيه أيضاً: الوكيل بالإعتاق المطلق لا يملك التدبير والكتابة والإعتاق وعلى مال، وكذا لا يملك التعليق بالشروط والإضافة إلى الأوقات. وإذا قال لعبد: أعتق نفسك بما شئت، فأعتقه على دراهم فهو جائز إذا رضي المولى، وعلى هذا الخلع والطلاق، وهذا لأن الواحد لا يصلح وكيلاً من الجانبين في هذه العقود ما لم يكن ببدل مسمى، فصار وجود هذا التوكيل والعدم بمنزلة، ولو عدم التوكيل فقال العبد: أعتقت نفسي على كذا، أو قالت المرأة: خلعت بكذا طلقت نفسي بكذا إذا رضي به الزوج والمولى جاز وإلا فلا، كذا ها هنا، ولو كان البدل مسمى في هذه العقود، فقال العبد: أعتقت نفسي على كذا، فقالت المرأة خلعت نفسي على كذا جاز، ولا يشترط رضا المولى بعد ذلك، هكذا ذكر في «ظاهر الرواية» ، فعلى ظاهر الرواية جوز توكيل الواحد من الجانبين إذا كان البدل مسمى، ولم يجوز ذلك (333أ1) إذا لم يكن البدل مسمى. وروى ابن سماعة عن محمّد رحمه الله في «نوادره» : أنه جوز توكيل الواحد من الجانبين (في) هذه العقود وإن لم يكن البدل مسمى، وبعض مشايخنا رجحوا رواية ابن سماعة عن محمّد رحمه الله. وفي «الأصل» : إذا قال لعبده: أنت حر فيما شئت، أو إذا شئت، أو كلما شئت، فقال العبد: لا أشاء ثم باعه ثم اشتراه شاء العتق، فهو حر. والجواب في العتق نظير الجواب في الطلاق. ولو قال: أنت حر حيث شئت، فقام من ذلك المجلس بطل العتق؛ لأن حيث لتعميم المكان لا لتعميم الزمان فبقيت المشيئة مطلقة عن الوقت، والمشيئة المطلقة عن الوقت تقتصر على المجلس، ولو قال له: أنت حر كيف شئت، فعلى قول أبي حنيفة يعتق من غير مشيئة، وعلى قولهما لا يعتق من غير مشيئة، والجواب في العتاق في هذا نظير الجواب في الطلاق، والله أعلم بالصواب. الفصل التاسع في التدبير هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوعفي بيان صورته وصفته وحكمه فنقول: التدير نوعان مطلق ومقيد، أما المطلق فصورته: أن يقول المولى لعبده: إذا مت فأنت حر ويقول..... فأنت حراً ويقول أنت حر بعد موتي أو يقول دبرتك أو يقول أنت مدبر، والحاصل أن المدبر المطلق من تعلق عتقه بمطلق موت المولى، ومن حكمه

أنه لا يجوز بيعه عند علمائنا رحمهم الله، وإنما لا نجوز بيعه؛ لأن التدبير المطلق انعقد سبباً للحرية للمال وإن تراخى حكمه إلى ما بعد الموت. وبيان ذلك: أن العتق يثبت عند الموت، والمعتق لا بد له من الإعتاق لو لم يجعله إعتاقاً للحال يحتاج إلى جعله إعتاقاً بعد الموت، والإعتاق فعل والميت ليس من أهل الفعل، فمست الضرورة إلى جعله إعتاقاً للحال، وذلك لا يمكن إلا بجعل الشرط دليلاً على حكم السبب، ومتى جعل ذلك يبقى قوله: أنت حر بلا شرط، فينعقد سبباً للحرية وإن تراخى حكمه. إذا ثبت هذا فنقول: انعقاد سبب الحرية حق الدبر، فلو جاز بيعه لبطل هذا الحق، وإنه لا يحوز. ولو قضى قاضٍ بجواز بيعه ينفذ؛ لأن المسألة مختلفة، والموضع موضع الاشتباه. وأما التدبير المقيد فصورته: أن يقول الرجل لعبده: إن مت من مرضي هذا فأنت حر، أو يقول: إن مت من مرض كذا أو يقول: إن مت من..... كذا، فأنت حر، وله صور كثيرة تأتي بعد هذا. والحاصل: أن المدبر المقيد من لا يكون عتقه معلقاً بمطلق موت المولى، وهذا التدبير لا يمنع جواز بيعه، ولكن إذ لم (يكن) يبعه ووجد الشرط يعتق. وإذا قال لعبده أنت حر يوم أموت؛ إن لم ينو النهار دون الليل كان مدبراً مطلقاً، لأن اليوم إذا كان مضافاً إلى ما لا يتقيد بالنهار يكون عبارة عن مطلق الوقت، فكأنه قال: أنت حر وقت ما أموت. وإن نوى النهار دون الليل كان مدبراً مقيداً؛ لأن موته بالنهار قد يوجب وقد لا يوجد فكان بمنزلة ما لو قال: إن مت من مرضي هذا. ولو قال لها: أنت حر بعد موتي وموت فلان، أو قال بعد موت فلان وموتي فهذا لا يكون مدبراً في الحال، لأن المدبر المطلق من تعلق عتقه بمطلق موت المولى وعتق هذا العبد ما تعلق بمطلق موت المولى، إنما تعلق بموته وموت فلان، فإن مات فلان أولاً والغلام في ملك المولى إلى أن يصير مدبراً مطلقاً؛ لأن بعد موت فلان يصير عتقه مطلقاً بمطلق موت المولى، فإن مات المولى قبل موت فلان لا يصير مدبراً، وكان للورثة أن يبيعوه؛ لأن بعد موت المولى يصير عتقه معلقاً بموت الأجنبي، فيعتبر بما لو علق عتقه بموت الأجنبي ابتداء، وهناك لا يصير مدبراً. وإذا مات المولى قبل الأجنبي يصير..... لورثته، كذا ها هنا.. ولو قال: إذا كلمت فلاناً فأنت حر بعد موتي فكلم فلاناً يصير مدبراً بناءً على ما قلنا. وفي «المنتقى» : قال محمّد رحمه الله: عبد بين رجلين قال أحدها للعبد: إن مت أنا وفلان يعني شريكه * فأنت حر لم يكن مدبراً، وكذلك لو قال الآخر مثل ذلك فمات أحدهما صار العبد مدبراً من الآخر.

وفي «الأصل» : إذا قال له أنت حر بعد موتي إن شئت، فإن المولى ينوي في ذلك؛ لأن قوله: إن شئت يجوز أن يكون المراد منه المشيئة في الحال، ويجوز أن يكون المراد منه المشيئة بعد الموت، فإن كان المراد منه الساعة صحت نيته؛ لأنه نوى ما يحتمله لفظه. وإذا قال العبد ساعتئذ شئت يصير مدبراً، ويصير تقدير المسألة: أنت حر بعد موتي إن شئت الساعة، وهناك إذا شاء الساعة يصير مدبراً؛ لأن بعد المشيئة يصير عتقه معلقاً بمطلق موت المولى، وإن كان أراد مشيئته بعد الموت صحت نيته أيضاً، وتكون له المشيئة بعد الموت، وكذا إذا لم يكن له نية. ويكون له المشيئة بعد الموت، لأنه لم يذكر للموت وقتاً من حيث التصرف ولا للمشيئة من وقت، فكأنه جعل وقتها بعد الموت؛ وأيهما ذكرت بعد الموت أولى. وإذا كان له المشيئة بعد الموت في هذين الفصلين ذكر أنه لا يكون مدبراً؛ لأنه ما تعلق عتقه بمطلق موت المولى بل بموته وبمشيئة العبد ذلك بعد ذلك، والمدبر من تعلق عتقه بمطلق موت المولى، بل بموته وبمشيئة العبد بعد ذلك، والمدبر من تعلق عتقه بمطلق موت المولى أو نقول المدبر من تعلق عتقه بمطلق موت المولى، وها هنا المتعلق بموت المولى الإيصاء بالعتق لا وقوع العتق، وهذا اللفظ يشير إلى أن هذا العبد لا يعتق، وإن شاء العتق بعد موت المولى ما لم يعتقه الوصي، وهو اختيار الفقيه أبي بكر الرازي، هكذا ذكر شيخ الإسلام المعروف بخوهر زاده رحمه الله. وجه ذلك أنه تعذر: تعليق وقوع العتق بمشيئة توجد بعد الموت؛ لأن العتق لو وقع بمشيئة توجد بعد موت المولى إما أن يقع بحكم التدبير ولا وجه إليه؛ لأن العتق في التدبير يقع بمجرد موت المولى، وأما أن يقع بحكم اليمين ولا وجه إليه أيضاً؛ لأن العتق حينئذٍ يكون مضافاً إلى حال زوال المعلق وإنه لا يصح، وإذا تعذر تصحيح التدبير واليمين جعلناه إيصاء بالعتق إن شاء العبد؛ لأن في التدبير وصية بالعتق. فصار كأنه قال: أعتقوا عبيدي بعد موتي إن شاء، ولو صرح به يصح، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» أنه إذا مات المولى فشاء العبد عتقه فهو حر من ثلثه لوجود الشرط لا بالتدبير، وهذا تنصيص على أن المعلق بمشيئة العبد بعد موت العتق لا الإيصاء بالعتق. وفي «المنتقى» ابن سماعة عن محمّد رحمه الله: إذا قال لعبده: إذا مت فأنت حر إن شئت، فالمشيئة بعد الموت، وقال أبو حنيفة رحمه الله: المشيئة على المجلس الساعة. قال محمّد رحمه الله: وكذلك إذا قال: إن شئت فأنت حر بعد موتي، فالمشيئة بعد الموت، قال: ألا ترى أنه لو قال: إذا جاء غدٍ، فأنت حر إن شئت اكتسب المشيئة إليه بعد طلوع الفجر من الغد فكذا في الموت، وسوى بين تقديم المشيئة وتأخيرها. وذكر المعلى عن أبي يوسف رحمهما الله في «الإملاء» رجل قال لعبده: أنت حر بعد موتي إن شئت، أو قال: إن شئت فأنت بعد موتي فالمشيئة للعبد فيهما جميعاً بعد الموت في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا قدم المشيئة فالمشيئة للعبد الساعة، وإذا أخر فالمشيئة له بعد الموت. وفي «المنتقى» أيضاً عن محمّد رحمه الله إذا قال لعبده: أنت حر بعد موتي إن

شئت ذلك بعد موتي، فقام عن مجلسه الذي علم بموت المولى فيه لم يبطل ما جعله إليه حتى يقول قد أبطلت الوصية والمشيئة في ذلك، وإن نهاه عن ذلك في حياته بطل. وفي «الأصل» : لو قال له: أنت حر بعد موتي إن دخلت الدار، لا يصلح هذا التصرف عندنا أصلاً، بخلاف ما إذا قال: أنت حر بعد موتي إن شئت. والفرق أن في فصل المشيئة صححنا تصرفه بطريق الوصية، وتعليق الوصية (333ب1) بالمشيئة صحيح، وتعذر تصحيح هذا التصرف بطريق الوصية لأن تعلق الوصية بدخول الموصى له الدار باطل. وإذا قال لعبده: أنت حر بعد موتي بيوم أو قال: شهر فهذا لا يكون مدبراً، وهذا التصرف إيصاء بالعتق، حتى لا يعتق بعد موت المولى بمضي يوم أو مضي شهر ما لم يعتقه الوصي، وإذا قال: أنت حر إن مت إلى مئتي سنة فهذا مدبر مقيد يجوز بيعه؛ لأنه يتصور أن لا يموت إلى مئتي سنة. ولو قال لعبده: أنت مدبر على ألف درهم فقبل، فهو مدبر والمال ساقط. أما هو مدبر؛ لأن التدبير على المال شرط لزومه قبول المال كالعتق على المال شرط لزومه قبول المال، وأما المال ساقط؛ لأنه لو وجبت وجبت على المدبر، ولا يجب للمولى على المدبر شيء لأن المدبر ملكه بخلاف الإعتاق على المال لأن هناك المال يجب على المعتق. وفي «المنتقى» بشر عن أبي يوسف رجل قال لعبده: أنت مدبر على الألف درهم، قال أبو حنيفة رحمه الله: القبول إليه بعد الموت، وللمولى أن يبيعه قبل الساعة، أوْ لم يقبل. فإذا مات وهو في ملكه.....، فإن قال قد قبلت أداء الألف، وعتق كأنه قال: أنت حر بعد موتي بالألف، وقال أبو يوسف: إن لم يقبل الساعة فليس له أن يقبل بعد ذلك، وإن قبل الساعة كان مدبراً وعليه ألف درهم إذا مات سيده، وإن لم يكن له مال غيره سعى في الأكثر من الألف ومن ثلثي القيمة وعتق المدبر يعتبر من ثلث المال مطلقاً كان أو مقيداً، وهو مذهب عليّ وسعيد بن المسيب وشريح والحسن وابن سيرين، وقد صح برواية ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام جعل المدبر من الثلث، وقوله: وعتق المدبر يعتبر من ثلث المال أراد به بعد الدين، حتى إذا كان على الميت دين مستغرق لماله أو قيمة المدبر فالمدبر يسعى في جميع قيمته للعرف؛ لأن عتقه بطريق الوصيه والوصية..... فيجب رد عتقه، وذلك بإيجاب السعاية عليه، وإن لم يكن على الميت دين فهو حر من ثلث ماله، حتى إذا لم يكن له مال آخر سوى المدبر يسعى في ثلثي قيمته مدبراً للورثة، فمعرفة قيمة المدبر يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.

وإذا (قال) لعبده: إن مت فلا سبيل لأحد عليك يصير مدبراً، وإذا قال لعبده أوصيت لك برقبتك، فقال: لا أقبل فهو مدبر، ورده ليس بشيء، رواه ابن رستم عن محمّد رحمه الله. نوع آخر من هذا الفصل قال محمّد رحمه الله في «الأصل» : إذا قال الرجل: (كل) مملوك لي حر بعد موتي، أو قال: مملوك أملكه، فهو حر بعد موتي، قال: ما كان في ملكه يوم قال هذه المقالة فهو مدبر لا يجوز بيعه وما يملكه بعد ذلك لا يصير مدبراً، ويجوز بيعه، ولكن إذا بقي في ملكه إلى وقت الموت يعتق من ثلث ماله مع المدبرين، وقال أبو يوسف رحمه الله: ما يملكه بعد هذه المقالة لا يعتق بموته، ووجهه ظاهر. إن قوله كل مملوك لي للحال بحكم الموضع، وقوله أملكه للحال بحكم العرف، فقد أضاف عتق ما يملكه في المال إلى ما بعد الموت، فإنما يعتق ما يملكه في الحال لا ما يملكه بعد ذلك، ألا ترى أنه لو نجز فقال: كل مملوك لي حر، أو قال: كل مملوك أملكه، فهو حر، فإنما يعتق ما هو في ملكه في الحال، ولا يعتق ما يملكه بعد ذلك، ومحمّد رحمه الله يقول: باب التدبير ما صح من حيث إنه عتق مضاف إلى وقت في المستقبل؛ لأن الإضافة حصلت إلى حال زوال الملك، وإنما صحت بطريق الوصية؛ لأن إضافة الوصية إلى حال زوال الملك جائزة شرعاً نظراً للعباد، وإذا كان جواز هذا التصرف بطريق الوصية يجب اعتبارها بالوصية. ومن قال..... لفلان بكل مملوك لي، أو قال: بكل مملوك أملكه، ولم ينص على الحال يتناول ذلك ما يملكه للحال وما يملكه بعد ذلك كذا ها هنا، إلا أن ما يملكه في الحال يصير مدبراً؛ لأن السبب في حقه وهو الوصية انعقد للحال، وما يملكه بعد ذلك لا يصير مدبراً؛ لأن السبب هو الوصية لا ينعقد في حقه للحال، وإنما ينعقد عند الموت كما في المدبر المقيد.H وعن أبي يوسف برواية ابن سماعة أن الحالف لو قال: نويت كل مملوك لي يومئذٍ يدخل فيه ما يستفيده، ولم يصدق على ما في يده وهم مدبرون، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: هذا خلاف الأصل، وإذا قال: كل مملوك لي حر بعد موتي لا يدخل تحته كل مملوك بينه وبين غيره؛ لأن هذا التصرف إما أن يعتبر بالعتق المنجز أو بالوصية، وبأي ذلك اعتبرنا لا يدخل تحته عبد بينه وبين غيره؛ لأن اسم المملوك لا ينطلق (على) ...... نوع آخر (من) هذا الفصل وتدبير الصبي عنده لا يصح؛ لأنه مما يضره، ويستوي فيه التنجيز والتعليق ببلوغه حتى إذا قال للصبي بقيده: إذا أدركت فأنت حر بعد موتي لا يصح، وكذلك المجنون

والمعتوه الغالب لا يصح تدبيرهما، ويصح تدبير السكران، وكذا المكره على التدبير إذا دبر يصح تدبيره، وإنما يصح باعتبار العتق لا من حيث إنه وصية، فإن الوصية من المكره لا تصح، والمكاتب إذا دبر مملوكاً من كسبه لا يصح، وكذا العبد المأذون له في التجارة إذا دبر لا يصح تدبيره. وإذا قال لغيره: دبر عبدي، فأعتقه المأمور لا يصح، لأنه أمره بعتق معلق وقد أتى بعتق منجز، وهما مختلفان. وإذا جعل الرجل أمر عبده إلى صبي، فقال: دبره إن شئت فدبره، فهو جائز سواء كان الصبي يعقل أو لا يعقل، إن كان يعقل فظاهر، وإن كان لا يعقل فطريقه: أن يجعل كلام الصبي شرطاً لوقوع التدبير، كأنه قال لصبي لا يعقل: إن قلت إنك مدبر فهو مدبر، وقول الصبي يصلح لشرط وقوع التدبير كما يصلح شرط وقوع الحرية، وإذا جعل أمر عبده في التدبير إلى رجلين فدبره أحدهما لا يصح. وإذا دبر عبده، ثم ذهب عقله ومات فالتدبير على حاله وإن كان فيه معنى الوصية، بخلاف ما إذا أوصى برقبته لإنسان ثم جن، ثم مات حيث تبطل الوصية. والفرق أن الوصية بالرقبة لا تقع لازمة حتى يملك الوصي فسخها قصداً بالرجوع، وحكماً بالبيع، فيكون لولد..... حكم للابتداء مما يمنع ابتداء الوصية يمنع بقاؤها. أما التدبير يجب له ذمةً حتى لا يملك المولى فسخه، فلا يكون لدوامه حكم الابتداء حتى يقال ما يمنع ابتداؤه يمنع بقاه. ولو قال: يوم أدخل الدار فعبدي هذا حر بعد موتي، فذهب عقله ثم دخل الدار كان مدبراً، وكان ينبغي أن لا يصير مدبراً؛ لأن المعلق بالشرط عند الشرط كالمرسل، وعند الشرط هو معتق، قلنا: المعلق بالشرط كالمرسل عند الشرط، ولكن على الوجه الذي تعلق بالشرط، وقد تعلق بالشرط تدبير صحيح، فينزل عند الشرط تدبيراً صحيحاً أيضاً. وفي اختلاف زفر ويعقوب إذا قال لعبده: إن مت أو قتلت فأنت حر، فعل قول زفر هو مدبر؛ لأن عتقه تعلق بمطلق موت المولى حتى يعتق إذا مات على أي وجه مات، وعلى قول أبي يوسف: لا يكون مدبراً؛ لأنه علق عتقه بأحد شيئين، فالقتل إن كان موتاً فالموت ليس بقتل، والتعليق بأحد الشيئين يمنع أن يكون..... في أحدهما خاصة، فلا يصير مدبراً حتى يجوز بيعه، والله أعلم. نوع آخر من هذا الفصل كل تصرف يقع في الحر بحال الإجارة والاستخدام والتزويج لا يمتنع في المدبر

حتى أن المولى يملك إجارة المدبر والمدبرة، واستخدامهما وتزويجهما، وكل تصرف لا يقع لحر نحو البيع والإمهار يمتنع في المدبر حتى إن المولى لا يملك بيعهما وإمهارها، وهذا لأن المدبر باق على حكم ملك المولى إلا أنه انعقد سبب الحرية في حقه، وكل (نفس) تصرف يبطل هذا السبب فالتدبير يمنع المولى عنه صيانة لحق المدبر عن البطلان، وكل تصرف لا يبطل هذا السبب فالمولى يكون مطلقاً فيه بحكم ملك الرقبة. إذا بثت هذا فنقول: الإجارة والنكاح والاستخدام لا يبطل هذا السبب، فلا يمنع على المولى بحكم التدبير، ويجوز كتابته أيضاً؛ لأن بالكتابة لا يبطل (334أ1) السبب المنعقد حقاً للمدبر، بل بالكتابة يتعجل عند أداء بدل الكتابة ما كان مؤخراً إلى يوم الموت ويجوز رهنه؛ لأن موجب الرهن هو..... بدار استيفاء، واستيفاء الدين من مالية المدبر غير ممكن، لأن استيفاء الدين من المالية يكون بطريق البيع، وبيع المدبر لا يجوز، وإذا تعذر حقيقة الاستيفاء من مالية المدبر لا يثبت به الاستيفاء واكتساب المدبر والمدبرة للمولى، وكذلك إن بيعهما ومهرهما للمولى؛ لأنهما بقيا على حكم ملك المولى كالأمة، وولاؤهما للذي دبر لا ينتقل عنه حتى إن المدبر إذا كان بين اثنين أعتقه أحدهما وهو موسر وضمن قيمته (في) نصيب شريكه عتق المدبر، ولم يتغير المولى؛ لأن العتق ها هنا ثبت من جهة المدبر في الحقيقة لا من جهة الذي أعتقه؛ لأن المعتق بأداء الضمان لا يملك نصيب الشريك ها هنا؛ لأن المدبر لا يقبل الانتقال من ملك إلى ملك، وإنما وجب الضمان لإيثار الحيلولة بين المدبر والمولى إبراء أن يقال بأن المعتق يتملك نصيب صاحبه من المدبر ولاء، ولما كان الطريق هذا كان العتق في نصيب المدبر من جهته لا من جهة المعتق، فيكون الولاء للمدبر بهذا، والله أعلم. نوع آخر من هذا الفصل عبد بين رجلين دبره أحدهما، فعلى قول أبي يوسف ومحمّد رحمهما الله: يصير الكل مدبراً؛ لأن التدبير عندها لا يتجزأ، وعند أبي حنيفة رحمه الله يقتصر التدبير على نصيب المدبر؛ لأن التدبير عنده متجزىء، والشريك الساكت في نصيبه خيارات خمسة، فعند أبي حنيفة: إن كان المدبر موسراً إن شاء دبر نصيبه، وإن شاء أعتق، وإن شاء استسعاه ليعتق، وإن شاء تركه كذلك، وإن شاء ضمن المدبر قيمة نصيبه. وخيارات أربعة إن كان المدبر معسراً: ليس له حق تضمين المدبر في هذه الصورة، كذا ذكر المسألة في عتاق «الأصل» ، وذكر هذه المسألة في «الجامع الكبير» ، ولم يذكر خيار العتق. حكي عن الفقيه أبي بكر البلخي رحمه الله أنه كان يقول: في المسألة روايتان: على رواية «الجامع» ليس للساكت أن يعتق نصيبه، وكان يأخذ بهذه الرواية ويقول بأن الساكت بإعتاق نصيبه يضر بالمدبر بتفويت منفعة الحرمة من غير حاجة إليه، ولا يجوز للإنسان أن

يضر بغيره من غير حاجة، بخلاف ما لو عتق الأول نصيبه، فإن للساكت أن يعتق إذ ليس في تلك الصورة في إعتاق نصيبه إبطال حق الحرمة على صاحبه؛ إذ ليس لصاحبه حق الخدمة بعد ما أعتق نصيبه، فالخلاف ما إذا أراد الساكت أن يدبر نصيبه؛ لأنه لا يفوت على صاحبه منفعة الخدمة، بل يبقى حق الخدمة كما كان، وبخلاف ما إذا أراد استسعاء العبد فإن له ذلك، وإن كان يعتق نصيبه ويفوت حق صاحبه في الخدمة؛ لأن الاستسعاء محتاج إليه ليصل إلى بدل ملكه، فإنه تعذر عليه الوصول إلى بدل ملكه بالبيع، فكان محتاجاً إلى الاستسعاء، وإنما احتاج إليه من جهة المدبر فكأن المدبر أعتق نصيبه. وجه رواية كتاب العتاق: أنا لو منعناه عن الإعتاق فقد أبطلنا عليه ملكه من غير عوض، فمتى أطلقنا له الإعتاق إن كان يبطل حق صاحبه في الخدمة لكن بعوض، ولا شك أن الإبطال بعوض أولى من الإبطال بغير عوض، فإن اختار الساكت التدبير في نصيبه صارت الجارية مدبرة بينهما، وكان لكل واحد منهما أن يستسعيها، وأن يستخدمها بجهة الرق. وإن أعتق نصيبه كان للمدبر خيارات ثلاثة في نصيبه إذا (كان) المعتق موسراً إن شاء أعتق نصيبه وإن شاء ضمن المعتق قيمة نصيبه مدبراً، وإن شاء استسعى العبد في قيمة نصيبه مدبراً. وإن اختار الساكت استسعاء العبد، واستسعاه في قيمة نصيبه عتق نصيبه بأداء السعاية، و (إن كان المعتق معسراً) فللمدبر في نصيبه خيارات (إن) شاء (الله) أعتق نصيبه وإن شاء استسعى العبد في نصيبه، وليس له أن يضمن المعتق نصيبه. وإن كان موسراً فرق بين الاستسعاء وبين الإعتاق، فإن الساكت إذا أعتق نصيبه كان للمدبر أن يضمنه قيمة نصيبه إذا كان موسراً، وفي الفصلين جميعاً عتق نصيبه من جهته، وإن اختار الساكت أن يترك نصيبه على حاله فله ذلك؛ لأنه استيفاء ملك، وليس فيه إبطال حق على أحد، وإن اختار الساكت تضمين المدبر وضمنه قيمة نصيبه صار نصيبَ الساكت فهو كالمدبر، ويكون نصف العبد رقيقاً ونصفه مدبراً وكان للمدبر في النصف الذي ملكه من جهة صاحبه خيارات أربعة إن (شاء) أعتقه، وإن شاء استسعاه وإن شاء تركه على حاله؛ لأنه استفاد الملك فيه من جهة الساكت فيكون فيه مثل ما كان للساكت، والله أعلم. قد ذكرنا أن الساكت إذا أعتق نصيبه فللمدبر أن يضمنه قيمة نصيبه مدبراً فلا بد من معرفة قيمة المدبر، وتكلم المشايخ فيه، بعضهم قالوا: ينظر بكم تستخدم هذه مدة عمره؛ لأن الباقي بعد التدبير ملك الخدمة لا غير، وبعضهم قالوا: يقوّم فائت المنافع التي تقوم بالتدبير، قالوا: وإلى هذا أشار محمّد رحمه الله في بعض الكتب. وبعضهم قالوا: يعتبر نصف قيمته لو كان قناً؛ لأن الانتفاع بالمملوك نوعان: انتفاع

بعينه وانتفاع ببدله وهو الثمن، والانتفاع بالعين قائم وبالبدل وهو الثمن لا، فكان الباقي نصف قيمة القن، وإلى هذا مال الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله، وبعضهم قالوا: يعتبر ثلثا قيمته لو كان قناً؛ لأن المملوك ثلث منافع الاستخدام والاسترباح بواسطة البيع، وقضاء الدين بعد موت المولى وبالتدبير يفوت الاسترباح، أما لا يفوت الاستخدام، ولا قضاء الدين بعد موت المولى لأن المدبر يسعى بعد موت السيد. وبعضهم قالوا: يسأل عن..... أن العلماء لو اتفقوا على جواز بيع المدبر بكم تشتري هذا على أن المشتري أحق بمتابعته، دون رقبته وعلى أن يعتق بموته، قالوا بمئة يجب ذلك القدر. وإذا كانت الأمة بين رجلين قالا لها جميعاً: أنت حرة بعد موتنا، فإن هذه لا تكون مدبرة؛ لأن كل واحد منهما بما علق عتق نصيبه بموته وموت صاحبه، فيعتبر في حق كل واحد منهما، إنما لو كان الكل له وقد علق عتقه بموته وموت الأجنبي فهناك لا يصير مدبراً للحال كذا ها هنا. فإن مات أحدهما بعد هذه المقالة، فإن نصيب الآخر يصير مدبراً؛ لأن عتق نصيب الآخر بقي متعلقاً بموته، وإذا صار نصيبه مدبراً كان لورثة الميت من الخيار عند أبي حنيفة رحمه الله ما كان له لو كان حياً؛ لأن نصيب الحي إنما يصير مدبراً بعدما يصير ملك الميت ميراثاً لورثته؛ لأن شرط عتقه لا يتم بموته. مدبرة بين رجلين مات أحدهما عتق نصيبه منها، وسعت للآخر في قيمة نصيبه، ولا ضمان له في تركة الميت؛ لأن الميت لو ضمن لصاحبه إما أن يضمن بالموت ولا وجه إليه أيضاً؛ لأن صاحبه..... به لما ساعده على التدبير، ولكن الجارية تسعى للحي من نصيبه؛ لأن نصيب الحي بقي مالاً متقوماً بعد التدبير، وقد..... عند المدبر لما عتق نصيب الميت، والله أعلم. نوع آخر من هذا الفصل وإذا دبر الرجل ما في بطن جاريته فهو جائز؛ لأنه لو أعتقه يجوز فكذا إذا دبره، فإن ولدت بعد ذلك ولداً لأقل من ستة أشهر فهو مدبر، وإن ولدت لأكثر (من) ستة أشهر لا يكون مدبراً؛ لأنا لم نتيقن بوجوده حين دبر، و (متى) وقع الشك لا يثبت التدبير ألا ترى لو أعتقه ثم ولدت بعد ذلك، لأقل من ستة أشهر كان حراً، وإن ولدت لأكثر من ستة أشهر لا يكون حراً، فكذا في فصل التدبير. وإذا دبر الرجل ما في أمته فليس له أن يبيع الأمة بعد ذلك وأن يرهنها، وإن مَهَرَهَا ذكر في مسألة الهبة في بعض روايات كتاب العتاق، وسوّى بينهما وبين البيع، ولم يذكر مسألة الهبة في بعض روايات كتاب العتاق، وإنما ذكر البيع والإمهار والرهن، وذكر في كتاب الهبة (334أ1) إذا أعتق (ما) في بطن جارية ثم باع الجارية لا يجوز، ولو وهبها

يجوز، وفرق في الإعتاق بين الهبة والبيع، فمن مشايخنا من قال: في المسألة روايتان، والأصح هو الفرق بين الإعتاق والتدبير، فنقول: بعدما دبر ما في بطن الجارية كما لا يجوز البيع لا يجوز الهبة، وبعد ما أعتق ما في بطن الجارية يجوز الهبة، ولا يجوز البيع. والفرق ظاهر أن بالتدبير لا يزول الولد عن ملك المولى قبل موت المولى، وإنه متصل بالأم، والموهوب إذا كان متصلاً بما ليس بموهوب من ملك الواهب اتصالاً يقبل الفضل يمنع جواز الهبة؛ لأنه يكون بمعنى هبة المشاع، فأمّا الإعتاق يزول الولد عن ملك المولى، فالموهوب غير متصل بما ليس بموهوب من ملك الواهب، فهو كما لو وهب دار..... أن الواهب وسلمها إلى الموهوب له وهناك تتم الهبة في الدار كذا ها هنا. فإن قيل: في فصل الإعتاق..... إن كان لا تفسد الهبة في الجارية من الوجه الذي قلتم لم لا تفسد من حيث إن الولد مستثنى شرعاً، قلنا: استثناء الولد شرعاً لا يمنع جواز الهبة، ألا ترى أنه لو استثناه شرطاً كانت الهبة جائزة في الأم. ولو دبر ما في بطن أمته ثم كاتب الأمة يجوز؛ لأن الكتابة تعود للعتق، وثبوت حق العتق للولد لا يمنع عقد العتق في الأم، فإن وضعت بعد هذا القول ولداً لأقل من ستة أشهر فهو مدبر مقصود بالتدبير من جهة المولى، ومكاتب تبعاً للأم، فإن أدت الأمة بدل الكتابة إلى المولى عتقا بالكتابة، وإن لم تؤد حتى مات المولى عتق الولد بالتدبير، وتبقى الأم مكاتبة على حالها، وإن لم يمت المولى ولكن ماتت الأمة يبقى الولد فيما على الأم على نجوم الأم، فإن مات المولى بعد ذلك فإن كان الولد يخرج من ثلث ماله يعتق بحكم التدبير دبراً عن بدل الكتابة؛ لأنه مكاتب استفاد عتقاً من جهة المولى، فإن كان لا يخرج من ثلث ماله يعتق منه بقدر ما يخرج من ثلث ماله بغير سعاية بجهة التدبير، ويلزمه السعاية في الباقي من رقبته بجهة التدبير، بعد هذا يخير إن شاء مضى في الكتابة، وإن شاء مضى في السعاية بجهة التدبير، وإن كان بدل الكتابة أكثر إلا أنه نجم، والسعاية ... التدبير حال، فقد..... له جهتا حرية، فيختار الأنفع في حقه. وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله. وإذا كانت الأمة بين اثنين دبر أحدهما ما في بطنها فهو جائز وإن ولدت بعد حمل لأقل من ستة أشهر صار نصيبه مدبراً عند أبي حنيفة، ويكون للساكت في نصيبه خيارات خمسة إن كان المدبر موسراً. وإن جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر لا يصير نصيبه مدبراً، والنصف في هذه المسألة نظير الكل فيما إذا كانت الجارية كلها له. وإذا كانت الأمة بين اثنين قال أحدهما لها: ما في بطنك حر بعد موتي، وقال الآخر للأمة أنت حرة بعد موتي، فولدت بعد هذه المقالة لأقل من ستة أشهر، فالولد كله يصير مدبراً بينهما؛ لأنها اجتمعا على تدبيره الأول دبر نصيبه منه تدبير مقصود، والثاني

دبر نصيبه منه مع تدبير الأم ولا ضمان لواحد منهما على صاحبه في الولد؛ لأن كل واحد منهما فعل في الولد مثل ما فعل صاحبه، وأما في الأم فللذي لم يدبر الأم في نصيبه خيارات خمسة، عند أبي حنيفة رحمه الله: إن كان المدبر موسراً، وإن ولدت لأكثر من ستة أشهر من وقت هذه المقالة فالولد مدبر للذي دبر الأم؛ لأن كلام الأول قد لغا؛ لأنها لم تتيقن بوجود الولد وقت تدبيره فكانت العبرة بكلام الثاني، وصار..... كأن أحدهما دبر الجارية، وهناك إذا جاءت بالولد كان الولد مدبراً، فبعد ذلك التدبير عندهما لا يتجزأ فصار كل الجارية مدبرة للذي دبرها، فصار جميع الولد مدبراً له أيضاً تبعاً للأم. وعند أبي حنيفة رحمه الله: التدبير يتجزىء فيصير نصف الجارية مدبر للذي دبرها، ويصير نصف الولد مدبراً له تبعاً للحال الجارية فإن اختار الساكت بعد ذلك، فيضمن المدبر قيمة نصيبه من الجارية فلا ضمان له على المدبر بسبب الولد؛ لأن المدبر يتملك نصف الساكت من الجارية من وقت التدبير، ولهذا يعتبر قيمتها يوم التدبير واليوم التدبير ولد.... كان جزءاً من أجزاء الجارية، فيملك المدبر نصيب صاحبه من الولد بضمان الجارية كما لو اشترى، وإن اختار الساكت استسعى الجارية في نصف قيمتها ليس له أن يستسعي الولد بعد ذلك، وإن صار نصف الولد مدبراً إلا أنه صار مدبراً تبعاً وإذا كان تبعاً في التدبير يكون تبعاً، في السعاية أيضاً والله أعلم. نوع آخر من هذا الفصل شهد شاهد على رجل أنه دبر هذا العبد، وشهد عليه آخر أنه أعتق هذا العبد لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما شهدا بأمرين مختلفين، وكذلك إذا شهد أحدهما أنه أعتق بعد موته خاصة، وشهد الآخر أنه أعتقه بعد موته وموت فلان لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما شهدا بأمرين مختلفين؛ لأن أحدهما شهد بعتق معلق بشرطين، والآخر شهد بعتق معلق بشرط واحد، وكذلك لو شهد أحدهما أنه دبر أحد عبديه، وشهد الآخر أنه دبر هذا العبد بعينه لا يقبل. ولو شهدا أنه دبر أحد عبديه بغير عينه إن كانت الشهود في حال حياة المولى لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما يقبل. وإن شهدا بذلك بعد موت المولى، ينظر إن لم توجد المرافعة إلى القاضي في حال حياة المولى قبلت الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله استحساناً، والقياس أن لا يقبل، وإن وجدت المرافعة إلى القاضي في حال حياة المولى وأبطل القاضي شهادة الشهود ثم شهدا بذلك بعد موت المولى لا يقبل القاضي شهادتهما عند أبي حنيفة رحمه الله قياساً واستحساناً؛ لأن القاضي إنما أبطل شهادتهما لتهمة الكذب لأنهما شهدا قبل الدعوى؛ لأن الدعوى من المجهول لا تتصور، والشهادة قبل الدعوى علامة الكذب في الشرع، وكل شهادة ردت بتهمة الكذب لا تقبل لهذا بعد ذلك أبداً.

الفصل العاشر في أمهات الأولاد

ولو شهد شاهدان على رجل أنه قال: هذا حر بعد موتي لا بل هذا قبلت الشهادة، وعتقا جميعاً من ثلثه إذا وجد الدعوى منهما بالإجماع؛ لأن الشهادة في حق كل واحد منهما قامت على إثبات الحق لمعلوم؛ لأنها قامت على تدبير الأول بعينه وقامت على تدبير الثاني بعينه، والرجوع عن الأول فهو قولنا: إن الشهادة في كل واحد منهما قامت على إثبات الحق لمعلوم، وكذلك لو شهدا أنه قال: هذا حر ألبتة، لا بل هذا مدبراً قبلت الشهادة في حق الأول والثاني لما قلنا. ولو شهدا أنه قال: هو حر ألبتة، أو هذا مدبر فإنه لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنها قامت للمجهول في العتق والتدبير ودعوى العتق، والتدبير شرط عنده، وإنه لا يتصور من المجهول. ولو شهدا أنه قال: هذا مدبر وهذا وهذا، فشهادتهما للأول جائزة عندهم؛ لأنها وقعت للمعلوم وشهادتها للآخرين باطلة عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنها وقعت للمجهول، فإن أقر المولى بذلك قيل له: بين التدبير في أي الآخرين ثبت؛ لأن جهالة الخصم لا تمنع صحة الإقرار؛ لأن الإقرار صحيح وغير دعوى....... ولو شهدا أنه قال: أحد هذين العبدين مدبر لا بل هذا لأحدهما بعينه؛ فإن شهادتهما للذي عيناه مقبولة بالإجماع، وشهادتهما للأولين لا تقبل عند أبي حنيفة رحمه الله، ولكن يحلف للآخر بالله ما أراد غيره بالكلام الأول؛ فإذا حلف كان عبداً له على حاله، وإن إقرار المولى بمقالته تلك صار للذي عينه مدبراً من غير بيان بالكلام الآخر، ويتعين العبد الآخر للكلام الأول إن عنى بالكلام الآخر تدبيراً مستقبلاً له ولم يكن له، وإن عنى بالكلام الآخر بيان ما ثبت الكلام الأول فإن العبد الآخر لا يصير مدبراً، والله أعلم. الفصل العاشر في أمهات الأولاد يجب أن يعلم بأن جواز بيع (أم) الولد كان مختلفاً في الصدر الأول، فعمر وعلي رضي الله عنهما كانا لا تجواز بيعها، ثم رجع علي رضي الله عنه عن قوله، وقال بجواز بيعها ثم أجمع (335أ1) المتأخرون على أنه لا يجوز بيعها، وترك قول علي رضي الله عنه آخراً، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمأنه قضى بتعليق عتق أمهات الأولاد، وأن لا يبعن، والمعنى في ذلك: أنه ثبت لها بالاستيلاد حق أن تعتق بموت المولى، قال عليه السلام: «أيما أمة ولدت من سيدها، فهي معتقة عن دبر» فقد أثبت لها رسول الله عليه السلام الاستيلاد وحقَّ أن تعتق بموت سيدها، وفي البيع إبطال هذا الحق عليها.

أو تقول بالاستيلاد ثبت لها حق العتق في الحال، قال عليه السلام لمارية القبطية حين ولدت: إبراهيم «أعتقها» ولدها، وهذا يوجب حقيقة العتق للحال، فإن لم يثبت حقيقة العتق في المال، لا أقل من أن يثبت حق العتق، وفي البيع إبطال هذا الحق عليها، ولو قضى قاضى بجواز بيعها لا ينفذ قضاؤه بل يتوقف على قضاء قاضى آخر إمضاءً وإبطالاً، وهذا لأن العلماء اختلفوا في جواز بيع أمهات الأولاد هل هو على الخلاف، بعضهم قالوا: ليس مختلفاً فيه، وهذا لأن الصحابة وإن اختلفوا فيه ولكن أجمع من بعدهم على أنه لا يجوز بيعهن، والإجماع المستأخر يرفع الخلاف المتقدم، فلم تبق المسألة مختلفاً فيها.d وبعضهم قالوا: بل هو مختلف فيه، وهذا القائل يقول: الإجماع المستأخر لا يرفع الخلاف المتقدم، فبقيت المسألة مختلفاً فيها، والعلماء إذا اختلفوا في جارية أنها على الخلاف أو على الوفاق يتوقف فيها القضاء على قضاء قاضى آخر إمضاءً وإبطالاً. ثم اختلف مشايخنا بعد هذا الخلاف أن الإجماع المستأخر هل يرفع الخلاف المتقدم بزمن، قال بعضهم: بين علمائنا رحمهم الله (خلاف) على قول محمد رحمه الله يرفع الخلاف المتقدم، وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا يرفع، وإلى هذا مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وبعضهم قالوا: لا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله بأن الإجماع المستأخر يرفع الخلاف المتقدم، وإلى هذا مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وإنما ينفذ قضاء القاضي ببيع أمهات الأولاد بإمضاء قضاء قاضى آخر على قول هذا القائل على قول علماءنا رحمهم الله، لا لأن المسألة مختلفة بين علماءنا رحمهم الله، بل لأن بعض العلماء مخالف علمائنا رحمهم الله في انعقاد الإجماع من المتأخرين مع الاختلاف في الصدر الأول، فبعد الإمضاء لشبهة اختلاف غيرهم إياهم في انعقاد هذا الإجماع لا بمكان الاختلاف بين علمائنا رحمهم الله. وأم الولد لا يجوز بيعها (وكذلك) الجارية التي استولدها الرجل بملك اليمين، أو بملك النكاح أو بشبهة ثم يشتريها بعد ذلك أو يملكها بسبب آخر، وهذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: إذا استولدها بحكم النكاح، ثم اشتراها لا تصير أم ولد. وإذا استولدها بالزنا ثم تملكها فالقياس أن تصير أم ولد وهو قول زفر، وفي الاستحسان لا تصير أم ولد له، وهو قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله. كذلك لو قال: تزوجت بهذه الجارية وولدت مني ولا يعلم ذلك إلا بقوله، وأنكر ذلك المولى الذي هي له، فإذا ملكها الذي أقر بهذا فإنها تصير أم ولد عند علمائنا رحمهم الله. وإذا أسقطت أمة الرجل سقطاً استبان خلقه أو بعض خلقه صارت أم ولد له، وإن

لم يستبن شيء من خلقه لا تصير أم ولد، وهذا مذهبنا، وقال إبراهيم البلخي رحمه الله: تصير أم ولد في الفصلين جميعاً. وفي «المنتقى» : قال أبو يوسف رحمه الله: وإذا أقر الرجل أن جاريته هذه قد أسقطت منه، فهذا إقرار أنها أم ولده، قال: إنما يقع اسم السقط على ما تبين خلقه، أما إذا لم يتبين خلقه فلا يسمى سقطاً؛ لأنه لا يدرى ما هو. وإذا كان جارية الرجل حاملاً فأقر أن حملها منه فإنها تكون أم ولد له. وكذلك إذا قال الرجل: إن كانت أمتي حبلى فهو مني، ثم ولدت ولداً أو أسقطت سقطاً استبان خلقه، أو بعض خلقه وأقر به فإنها تصير أم ولد له إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر، وإن أنكر المولى الولادة وشهدت عليه امرأة جاز ذلك ويثبت النسب وتصير الجارية أم ولده لا بشهادة القابلة، بل بإقرار المولى. وفي «المنتقى» بشر عن ابن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله: رجل قال لأمته: قد حملت مني حملاً أو قد حبلت مني بحمل، فلا تصير أم ولد له ولا يصدق بعد ذلك أنه كان ريحاً وكذلك لو صدقته الأمة أنه كان ريحاً لم تبطل مقالته الأولى، وهي بمنزلة أم الولد، وهذا بمنزلة الرجل أعتق أمته ثم قال: لم أعتقها وصدقته الأمة لم يبطل عتقها. وفيه أيضاً: رجل أقر أن ما في بطن جاريته منه، أو قال: الذي في بطنها مني ولم يتبين ذلك إلى حبل ولا إلى ولد، ثم قال بعد ذلك إنها كانت ريحاً وصدقته الجارية فهي أمة تباع، وإن كذبته في مقالته الأخيرة وادعت أن ذلك كان حبلاً، وأنها قد أسقطت سقطاً مستبين الخلق فالقول قولها وهي أم ولد له؛ لأن هذه المقالة على وجهين: أوجههما أنه على الحبل إذا ادعته، ألا ترى أنها لو جاءت بولد بعد مقالته بشهر وامرأة تشهد على ولادته ثبت نسبه لم يكن له أن يبيعه، ولو لم (تكن) المقالة الأولى إقراراً بالحبل كان له أن يبيعه. رجل أقر أن أمته حبلى ثم جاءت بولد لأكثر من سنتين، وشهدت امرأة على الولادة، وقالت الأمة: هذا الولد من ذلك الحبل وجحد المولى أن يكون هذا (من) ذلك الحبل فالأمة أم ولد له، ولا يثبت نسب الولد منه وهو بمنزلة أمته، وإن أقر المولى أنه ذلك الحبل وأنه منه وقد جاءت به بعد ذلك بعشر سنين فهو ابنه، وقوله من ذلك الحبل باطل، ولو شهد عليه شاهدان في أمته، فشهد أحدهما أنه قال: قد ولدت مني، وشهد الآخر أنه قال: هي حبلى مني فهي أم ولد، فقد أجمعا عليه، وكذلك لو شهد أحدهما أنه أقر أنها ولدت غلاماً وشهد الآخر أنه أقر أنها ولدت جارية. وعتق أم الولد يعتبر من جميع المال، بخلاف عتق المدبر يعتبر من الثلث، وفي كل ذلك اتبعنا الأثر، والمعنى في ذلك أن التدبير إضافة العتق إلى ما بعد الموت بجزء إن جعلناه سبباً للحال لضرورة أنه لا يمكن اعتباره إعتاقاً بعد الموت، إلا أن المعتق تأخر إلى ما بعد الموت فكان المدبر مملوكاً للمولى من كل وجه وقت الموت، فيعتبر عتقه من الثلث بخلاف أم الولد؛ لأن الأصل في الاستيلاد أن يوجب العتق للحال لا نسيئة، وقد

صح بلا تعليق فيه فما ينبغي أن يكون حكمه معلقاً إلا في حق ما انعقد الإجماع عليه، والإجماع انعقد على تعلق الحرية في حق الاستمتاع والاستخدام دون غيره من الأحكام فلا يظهر (كونها، فهو له وقت للمولى موت فيما) عدا الاستمتاع والاستخدام، فلا يعتبر عتقها من الثلث، وإذا أقر في صحته أن أمته قد ولدت منه فإنها تصير أم ولد له فيكون عتقها من جميع المال، سواء كان معها ولد أو لم (يكن) وإن أقر ذلك في مرضه إن كان معها ولد فكذلك الجواب تصير الجارية أم ولد له، وتعتق من جميع المال، وإن لم يكن معها ولد لم يصح الإقرار بالاستيلاد، بل تعتبر وصية حتى تعتق من ثلث المال. وإذا استولد الرجل مدبرته صح الاستيلاد وبطل التدبير. ومعنى قوله: بطل التدبير أنه لا يظهر حكم التدبير بعد ذلك؛ لأن حكم التدبير أن يعتق من الثلث، وهذا يعتق من جميع المال، فكان في الاستيلاد ما في التدبير وزيادة، فلا يظهر حكم التدبير، وإذا لم يظهر حكم التدبير فكأنه بطل وإذا زوج أمة ولده من رجل جاز. يجب أن يعلم بأن المولى من الاستمتاع والتصرف في أم الولد ما يكون له في المدبرة؛ لأن الثابت لها في الحال حق الحرية والثابت للمدبرة سبب الحرية، فأما الملك في الحال فغير زائل، والملك مطلق في التصرف وصيانة حقهم واجب، فكل تصرف يؤدي إلى إبطال حقهما كالبيع والهبة وما أشبه ذلك يمنع منه وما لا فلا، والتزويج لا يبطل هذا الحق، فلا يمنع عنه، وما ولدت من الأولاد من الزوج يكون بمنزلتها يعتق بموت السيد بمنزلتها. وإذا (335ب1) استولد الرجل جارية بالنكاح، ثم فارقها فزوجها المولى من غيره فولدت من زوجها الثاني، ثم اشترى الزوج الأول الجارية مع ولدها من الزوج الثاني تصير الجارية أم ولد له حتى لا يجوز بيعها. وفي بيع ولدها خلاف، على قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله: يبيعها، وعلى قول زفر: لا يبيعها، ولو ملك ولدها منه يعتق بلا خلاف. والوجه لعلمائنا الثلاثة رحمهم الله في ذلك: أن الملك شرط ثبوت حق الحرية لها، والسبب لا يفيد الحكم قبل وجود الشرط، فلم يثبت لها حق الحرية قبل أن يملكها وكل ولد ينفصل قبل يوم الحرية للأم لا يثبت له حق الحرية؛ لأن ثبوته في الحكم للولد بحكم السراية عن الأم، فلا يتصور ثبوته في الولد قبل ثبوته في الأم، بخلاف ما لو ملكها فولدت ولداً؛ لأن هناك الحق ثابت في الأم حال ولادتها من غيره فيسري إلى الولد، أما ها هنا بخلافه. نوع آخر من هذا الفصل أمة بين رجلين جاءت بولد، فادعاه أحدهما يثبت نسب الولد، وصارت الجارية كلها أم ولد له بلا خلاف، أما على قولهما: فلأن الاستيلاد عندهما لا يتجزأ، فإذا ثبت حكمه في نصيب المستولد يثبت في نصيب الآخر. وعند أبي حنيفة رحمه الله الاستيلاد متجزىء لأن حكمه ثبوت حق الحرية بالعتق للحال، وثبوت حقيقة العتق بعد الموت، فكان كالتدبير والتدبير عنده متجزىء، فكذا الاستيلاد فيصير نصيب المستولد أولاً أم ولد

له، ثم يملك نصيب صاحبه بالضمان بعد الاستيلاد، فيصير نصيب صاحبه أم ولد له بعدما يملك عليه نصيبه لا بنفس الاستيلاد على ما مر قبل هذا: أن من ملك جارية ولد منها ولد ثابت النسب صارت الجارية أم ولد له، فيصير نصيب الساكت أم ولد له بهذا الطريق، حتى قال أبو حنيفة رحمه الله في المدبرة بين رجلين استولدها أحدهما يبقى نصيب الساكت مدبراً كما كان، ونصيب المستولد يصير أم ولد حتى إذا مات المستولد يعتق نصيبه من جميع المال. وإذا مات الساكت يعتق نصيبه من الثلث؛ لأن بعد ما صح الاستيلاد ولم يملك نصيب شريكه بالضمان، فبقي حكم الاستيلاد مقصوراً على نصيبه، إلا أنه فرّق بين الاستيلاد والتدبير والإعتاق بأن أحد الشريكين إذا أعتق الجارية أو دبر لا يملك نصيب الساكت إلا برضاه، فإن الساكت إذا لم يرض يتضمين المدبر، ولكن أراد أن يترك نصيبه في التدبير كذلك، أو يعتق فله ذلك، وإذا استولده أحد الشريكين الجارية يملك نصيب الساكت بعد ما صح الاستيلاد في نصيب المستولد رضي الساكت بذلك أو سخط. وإذا كانت الجارية بين رجلين جاءت بولد فادعياه حتى يثبت النسب منهما وصارت الجارية أم ولد لهما تخدم كل واحد منهما يوماً كما كانت تفعل قبل، فإذا مات أحدهما عتقت، ولا ضمان للشريك في تركة الميت بالاتفاق، ولا سعاية عليها في نصيب الشريك عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما تسعى في نصيب الشريك. ولو أعتقها أحدهما في حياته عتقت، ولا ضمان على المعتق للشريك ولا سعاية عليها في قول أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: ضمن نصف قيمتها أم ولد للشريك إن كان موسراً، وإن كان معسراً يسعى في نصف قيمتها أم ولد للشريك، وهذه المسألة في الحاصل بناء على أن أم الولد مال متقوم عندهما، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله، وعن هذا قال أبو حنيفة رحمه الله: أم الولد لا تضمن بالغصب، وقالا: تضمن بالغصب؛ لأن ضمان الغصب يختص بمال متقوم بخلاف ضمان العقل، فإنه لا يختص بمال متقوم، ألا ترى أن........من بالقتل. وعن محمد رحمه الله في «الرقيات» أن أم الولد تضمن بالغصب على نحو ما يضمن به الصبي الحر حتى لو مات حتف أنفه لم يضمن الغاصب شيئاً، ولو مر بها إلى مسبعة فافترسها سبع، فإن هذا يضمن؛ لأن هذا يضمن جناية لا ضمان الغصب، ألا ترى أن الصبي الحر يضمن بمثله. ولا خلاف لأحد أن المدبر مال حتى يضمن بالغصب والإعتاق بلا خلاف، هما يقولان بأن التقوم حق الملك، والملك باقٍ بعد الاستيلاد، فتبقى حقيته وهو التقوم، ولأبي حنيفة رحمه الله أن المالية والتقوم يثبت بالإحراز، ألا ترى أن الصيد وسائر الأشياء المباحة لا تكون مالاً متقوماً قبل الإحراز، وبعد الإحراز تصير مالاً

متقوماً.....، باعتبار الأصل ليس بمال، ولكن يعطى له حكم المال، والتقوم إذا صار............، ولأصل المالية فإذا حصنها واستولدها فقد أظهر أن إحرازه لها لملك المنفعة، لا لأصل المالية، وملك المتعة ينفك عن ملك المالية، ألا ترى أن للزوج على المنكوحة ملك المتعة لا ملك المالية، فصار في حق المالية والتقوم كأنه لا إحراز بخلاف فصل المدبر؛ لأن إحرازها للمالية إذا لم يظهر منه ما يدل على إحرازها بملك المتعة أو لمعنى آخر؛ ولأن الباقي للمولى على أم ولده ملك الحرمة والمنفعة، وكل ذلك لا يضمن بالغصب والإتلاف، والباقي له على مدبرته ملك المالية، فإنه يقضي دينه من ماليتها بعد موت المولى، فإنها تسعى والمال يضمن بالإتلاف. ثم في هذا المقام يحتاج إلى معرفة قيمة أم الولد وقد اختلفوا فيه، بعض مشايخنا قالوا: نصف قيمتها فيه، وقال بعضهم: ثلث قيمتها فيه؛ لأنه فات في حقها من المنافع الثلثان منفعة الاسترباح، ومنفعة قضاء الدين بعد الموت، فإنها لا تسعى، وبقي منفعة واحدة وهي منفعة الاستفراش، وقال بعضهم: ينظر....... مدة عمرها على نحو ما ذكرنا في المدبرة. وإذا كانت الأمة بين رجلين فقال أحدهما: إن كان في بطنها غلام فهو مني، وإن كانت جارية فليست مني، وقال الآخر: إن كان في بطنها جارية فهو (مني) وإن كان غلاماً فليس مني، فهذا على وجهين: الأول: أن يخرج الكلامان منهما معاً، وفي هذا الوجه ما ولدت من ولد في ذلك البطن فهو لهما جميعاً سواء ولدت جارية أو غلاماً؛ لأن كليهما ادعيا الحبل، وليس إليهما تعيين صفة الحبل، وهذا لأن الدعوة إخبار عن نسب ثابت وليس بإثبات نسب مبتدأ؛ لأنه إخبار أن العلوق حصل من..... فإنما يصح بقدر ما بهما من العلم، ولهما علم بأصل الحبل.... يدل عليه، أما لا علم لهما بصفة الحمل فيصح منهما الإخبار عن أصل الحمل، ولا يصح منهما تعيين صفته فكأنهما قالا: ما في بطن هذه الجارية مني ولو قالا هكذا وخرج الكلامات معاً ثبت نسب الولد منهما وصارت الجارية أم ولد لهما كذا ها هنا، بخلاف قوله: إن كان في بطنها غلام فهو حر وولدت جارية حيث لا يعتق؛ لأن قوله فهو حر إيقاع عتق مبتدأ، فإنما يقع حسب ما أوقعه أو إنما أوقعه هو على الغلام دون الجارية، هذا إذا خرج الكلامان منهما معاً. وإن سبق أحدهما بمقالته ثم ولدت ولداً غلاماً أو جارية لأقل من ستة أشهر من وقت المقالتين جميعاً، فهو ولد الذي سبق بهذه المقالة غلاماً كان أو جارية؛ لأن..... كل واحد منهما صادفت حملاً موجوداً وإحداهما سابقة فتكون هي أولى كما بعد الانفصال. وإن مات الولد لستة أشهر من وقت المقالة الأولى، ولأقل من ستة أشهر من وقت

الفصل الحادي عشر في المتفرقات

المقالة الثانية فهو ولد الثاني، وإن جاءت به لستة أشهر من وقت المقالتين لم يثبت نسبه من واحد منهما إلا أن يجدد الدعوى؛ لأن دعوة كل واحد منهما معلقه بالخطر، فإنها معلقة بحبل حادث، وتعليق الدعوة بالخطر باطلة. وإذا كاتب الرجل أم ولده فجاءت بولد في مكاتبتها ثم مات (المولى) قبل أن يقر به، ينظر إن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر (336أ1) منذ كاتبها ثبت نسبه من المولى، وإن جاءت به لستة أشهر فصاعداً منذ كاتبها لا يثبت نسبه من المولى؛ لأن فراش المولى زال عنها بالكتابة لا إلى عدّة فإنه لم يجب عليها عدة بالكتابة، والفراش متى زال لا إلى عدة ثم جاءت بالولد إن جاءت لأقل من ستة أشهر منذ زال الفراش يثبت النسب من صاحب الفراش من غير دعوى، وإن جاءت به لستة أشهر فصاعداً لا يثبت النسب من صاحب الفراش إلا بالدعوى، كما لو طلق امرأته قبل الدخول بها، والله أعلم. الفصل الحادي عشر في المتفرقات قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا قال الرجل لأمته: أمرك بيدك ينوي به العتق يصير العتق في يدها، حتى لو أعتقت نفسها في المجلس عتقت، ولو قال لها: اختاري ينوي العتق لا يصير العتق في يدها فقد فرق بين الأمر باليد، وبين قوله اختاري في باب العتق وسوى بينهما في الطلاق. وفي «الأصل» أيضاً: إذا ادعى العبد أو الأمة العتق على مولاه، وليس لها بينة حاضرة فإنه يدفعه إلى مولاه، ولا يحال بينه وبين المولى حتى لا تزال يد المولى عنه لمجرد الدعوى، وإن أقام شاهداً واحداً، فإنه ينظر إن كان الشاهد، فالدعوى وإن أقام فاسقاً لا يحال بينهما العبد والأمة في ذلك على السواء وإن كان غلاماً، فكذلك لا يحال بينهما، هكذا ذكر محمّد رحمه الله في «الكتاب» . قالوا: وهذا الجواب مستقيم في العبد غير مستقيم في الأمة، فقد ذكر محمّد رحمه الله أن المرأة إذا ادعت طلاقاً على زوجها، لأن..... في الطلاق حق الله تعالى وهذا المعنى موجود في الأمة فيجب الحيلولة اعتباراً بحق الله تعالى، ولا يجب القضاء لأن فيه حق العبد كما في الطلاق، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وهذا إذا دعت أن شاهدها الآخر الحاضر بخلاف العبد؛ لأن..... في عتق العبد حق العباد ولا يجب الحيلولة كما لا يجب القضاء. وإن أقام شاهدين، فإن كانا مستورين فهو على وجهين إن كان المولى فاسقاً مخوفاً عليه يحال بينهما في العبد والأمة جميعاً، فإن لم يكن المولى فاسقاً مخوفاً عليه ففي

الأمة يحال، وفي العبد لا يحال. وإن كان الشاهدان فاسقين، مع الأمة يحال على كل حال، وأما في العبد اختلاف الروايتين، ذكر في رواية أنه لا يحال، وذكر في رواية أخرى أنه يحال إذا كان المولى مخوفاً على العبد. وفي «البقالي» إذا قال لعبده أنت حق إليه ومات قبل قبوله الهبة مات عبداً لأنه حقه. وفي «الأصل» : إذا قال إن اشتريت عبداً أو قال: كل مملوك أملكه فهو حر فاشترى عبداً مع آخر، فإنه لا يعتق فإن اشترى نصيب صاحبه بعد ذلك عتق عليه، فإن اشترى نصف عبد وباعه ثم اشترى النصف الأخير هل يعتق النصف الآخر؟ ففيما إذا عقد يمينه بلفظة الملك بأن قال إن ملكت إن عنى العبد بأن قال: ملكت هذا العبد يعتق النصف الآخر، فإن لم يعتق بأن قال: إن ملكت عبداً إن ملكت مملوكاً القياس أن يعتق النصف بالآخر. وفي الاستحسان لا يعتق. وفيما إذا عقد يمينه بلفظة الشراء يعتق النصف الآخر سواء عين المملوك بأن قال: إن اشتريت هذا العبد إن اشتريت هذا المملوك، أو لم يعين بأن قال إن اشتريت عبداً إن اشتريت مملوكاً. وجه القياس في فصل الملك: أن الحالف جعل شرط الحنث مطلق ملك العبد لا ملكاً مقيداً بصفة الاجتماع، وقد ملك العبد وإن ملكه متفرقاً، لكن تعذر إنزال العتق في النصف الذي زال ملكه، فيجب إنزاله في النصف الذي هو على ملكه. وجه الاستحسان: وهو الفرق بين الشراء والملك وبين المعين وغير المعين في الملك في العرف، ووجه ذلك أن قبل الاجتماع في فصل الملك إذا لم يكن المملوك معيناً ثابتاً، فالفرق أن الرجل يستجيز من نفسه أن يقول: ما ملكت مملوكاً ما ملكت عبداً، إذا لم يجتمع في ملكه مملوكاً، وإن ملك مملوكاً على التفاريق، وكذلك يستجيز من نفسه أن يقول: ما ملكت ألف درهم إذا لم يجتمع في ملكه ألف درهم، وإن ملك ألوفاً على التفاريق، ومثل هذا الفرق لم يوجد في المعين بل العرف في المعين بخلافه، فإن الإنسان لا يستجيز من نفسه أن يقول: ما ملكت هذا العبد إذا ملكه على التفاريق، وكذلك في فصل الشراء العرف بخلافه، فإن الإنسان لا يستجيز من نفسه أن يقول: فما اشتريت عبداً، ما اشتريت هذا العبد، إذا كان اشترى على سبيل التفاريق، وإذا انعدم العرف المقيد بقيد الاجتماع في فصل الملك عند التعيين وفي فصل الشراء على الإطلاق يحمل فيها بقضية القياس. وفي «الأصل» أيضاً: إذا قال إن اشتريت فلاناً فهو حر، فاشتراه شراءً فاسداً لم يعتق إذا كان العبد في يد البائع وقت الشراء، وهذا لأن الشراء الفاسد منعقد عندنا قبل القبض إلا أنه لا يفيد الملك قبل القبض فينحل اليمين بنفس الشراء وفي تلك الحالة لا يحنث، فلهذا لا يعتق. ولو كان في يد المشترى وقت الشراء، فإن كان مضموناً عليه بضمان القيمة كالمغصوب ونحوه يعتق، ويصير قابضاً له بنفس الشراء، فإن مثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء فيصير مملوكاً له بنفس الشراء فيعتق، فأما إذا لم يكن مضموناً عليه أصلاً

كالوديعة والعارية أو كان مضموناً عليه إلا أنه لم يكن مضموناً عليه بالقيمة، كالرهن لا يعتق؛ لأن مثل هذا القبض لا ينوب عن قبض الشراء فتنحل اليمين بالشراء ولا ملك في تلك الحال فلا يعتق. وعن محمّد رحمه الله: إذا قال لعبده نسيت عتقك أو رضيت جاز قال ابن رستم يعتق، وروى بشر عن أبي يوسف قوله نسيب عتقك وشرط النية فيه لوقوع العتق. وفي «البقالي» إذا قال لعبده أنت حر أمس وإنما يملكه اليوم فهو حر قضاء أو ديانة، إلا أن ينوي عتقاً من جهته فيدين، وكذلك قبل أن أشتريك بخلاف قوله أعتقتك قبل اشتريتك. وفي طلاق «المنتقى» عن أبي يوسف: إذا قال لعبده أنت حر أمس، وقد اشتراه اليوم إنه يعتق، قال: ولا يشبه هذا الطلاق قال فصار تقدير مسألة العتاق، كأنه قال: أنت حر الأصل. وإذا قال: كل مملوك لي حر وله عبيد وأمهات أولاد، ومدبرون ومكاتبون عتقوا جميعاً (من) غير نية إلا المكاتبين فإنهم لا يعتقون إلا بالنية، أما لا يعتق المكاتبون من غير نية إما لأن في ملكهم قصوراً، فإنهم أحرار يداً أو لأن في نسبهم إلى المولى قصور. ولو قال: كل مملوك لي حر فنوى الرجال دون النساء، أو نوى النساء دون الرجال صدق ديانة لا قضاء؛ لأنه أراد الخصوص من العموم، ومن نوى الخصوص من العموم لا يصدق قضاء؛ لأنه خلاف الظاهر ويصدق فيما بينه وبين الله، لأنه نوى ما يحتمله لفظه، فالعام يحتمل الخصوص.f ولو قال: مماليكي كلهم أحرار فنوى الرجال دون النساء أو النساء دون الرجال لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» ، قالوا: ينبغي أن لا يصدق ديانة ها هنا، فإن نوى الخصوص من العموم، والأصل في هذا: أن كلمة كل إذا ذكر بعد اسم العام بنعت الخصوص كما في قوله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} (الحجر: 30) وإذا ذكر قبل الاسم العام لا يمنع الخصوص، كما في قوله جلت قدرته {تدمر كل شيء بأمر ربها} (الاحقاف: 25) ، وكان قابلاً للتخصيص؛ لأنه لم يذكر كثيراً من الأشياء، فإنه لم يبدأ من السموات والأرض، والمعنى في ذلك أن بعد الاسم العام كلمة كل لا تذكر للتعميم، فإن التعميم ثابت بالاسم، وإنما يذكر للتأكيد ويمنع الخصوص، فأما قبل الاسم العام لا يذكر للتأكيد، لأن التأكيد صفة للاسم، ولا يتصور قبل ذكر الموصوف، فيكون اسماً عاماً كغيرها من الأسماء، فيكون قابلاً للتخصيص. إذا ثبت هذا فنقول: في قوله مماليكي أحرار كلمة كل ذكرت بعد الاسم العام فمنعت الخصوص، فيكون ناوياً الخصوص في لفظ لا يحتمل الخصوص فلا يصدق ديانة كما لا يصدق قضاءً، بخلاف قوله كل مملوك لي حر؛ لأن هناك كلمة كل ذكرت قبل الاسم العام، فلا يمنع الخصوص فقد نوى الخصوص في لفظ يحتمله فيصدق ديانة. ثم إن محمّداً رحمه الله يقول في هذه المسألة في عتاق «الأصل» : إذا نوى الرجال

دون النساء أو نوى النساء دون الرجال صدق ديانة لا قضاء، وفي أيمان «الأصل» (336ب1) قال: إذا نوى الرجال دون النساء وأجاب بما أجاب في العتاق ولم يذكر ما إذا نوى النساء دون الرجال. حكي عن الفقيه أبي بكر البلخي رحمه الله أنه كان يجعل في المسألة روايتان، وكان يقول: إذا نوى النساء دون الرجال لا يصدق ديانة على رواية الأيمان وعلى رواية العتاق يصدق، وإذا نوى الرجال دون النساء يصدق ديانة على الروايات كلها. وجه ما ذكر في العتاق ظاهر: أنه نوى الخصوص من العموم فيصدق ديانة كما نوى الرجال دون النساء، وجه ما ذكر في الأيمان أن كلمة كل دخلت على المملوك، والمملوك اسم للذكر يقال للأنثى مملوكة إلا أن الأنثى تدخل في هذا الاسم تبعاً؛ إلا أنا لو صححنا نية النساء فقد جعلنا ما هو الثابت باللفظ تبعاً أصلاً، والتبع في الشيء لا يصير أصلاً في ذلك الشيء وبه فارق ما إذا قال: نويت الرجال دون النساء، والصحيح أن لا يجعل في المسألة روايتان، لكن أشبع محمّد رحمه الله الجواب في العتاق وأوجز في الإيمان، ووجه ذلك: ما ذكرنا أنه نوى الخصوص من العموم وما قال من المعنى فاسد؛ لأن المملوك مشتق من ملك يملك لا من الذكورة والأنوثة. ألا ترى أن هذا الاسم يقع على الدار والخشب والثوب لوجود الملك، وإن كان لا يوجد الذكورة والأنوثة قلنا والملك لا يختلف بالذكورة والأنوثة، فكان كاسم الآدمي يقع على الذكر والأنثى، لأنه اسم مشتق من كونه ولد آدم والذكر والأنثى في هذا سواء، وعلى هذا لا يتأتى ما ذكر معنى الاستحالة، وإن قال أعني المدبرين ذكر في عتاق «الأصل» أنه لا يصدق قضاءً ولم يتعرض للديانة وذكر في أيمان «الأصل» الأصل أنه لا يصدق قضاءً وديانة، فمن مشايخنا من لم يجعل في المسألة روايتين، وإليه مال شيخ الإسلام رحمه الله ومنهم من جعل في المسألة روايتين وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، والأول أظهر ووجه ذلك: أنه نوى تخصيص ما ليس في لفظه؛ لأنه نوى تخصيص الوصف، فإن التدبير في المماليك حقه وبهذا يقال: مملوك مدبر ومملوك غير مدبر، وصفة المملوك غير ملفوظ بها وإنما يثبت اقتضاء، ضرورة أن المسمى لا ينفك عن الصفة فتكون نية التخصيص فيما ثبت اقتضاء، والمقتضى غير ملفوظ فهو معنى قولنا: إنه نوى تخصيص ما ليس في لفظه ونية التخصيص فيما ليس بملفوظ، فهو معنى غير صحيحة قضاءً وديانةً كان القياس أن لا يصح تخصيص الأنوثة والذكورة من هذا اللفظ؛ لأن الذكورة والأنوثة حق المماليك لا ذكر لها لفظاً وإنما يثبت اقتضاءً إلا أنا تركنا القياس ثمة لضرورة، وبيان الضرورة: أن العام قابل للخصوص..... النية، ولا يمكن التخصيص إلا باعتبار الوصف فإن المخصوص لا يمتاز عن الاسم العام إلا باعتبار الوصف، فلو لم تصح نية التخصيص في الوصف أصلاً ما أمكن تخصيص عام أبداً وهو

وضع قابل للتخصيص، فيعود إلى موضعه عنها بالنقض، وإنه لا يجوز، وهذه الضرورة تندفع متى صححنا نية التخصيص باعتبار الأوصاف الأصلية التي لا يخلو المسمى عنهافي أصل الخلقة، فبقي التخصيص باعتبار الأوصاف العارضية على أصل القياس. إذا ثبت هذا فنقول الذكورة والأنوثة من الصفات الأصلية وأما التدبير من الصفات العارضية وعلى قول ما ذكر ما يجب أن يصح فيه التخصيص في السواد والبياض لأن السواد والبياض من الأوصاف الأصلية التي لا يخلو المسمى عنها في أصل الخلقة وعلى قياس ما روي عن محمد رحمه الله في غير رواية الأصول أنه لا يصح نية التخصيص في السواد والبياض يجب أن لا تصح نية التخصيص في الذكورة والأنوثة فيصير في تصحيح نية التخصيص باعتبار الوصف الأصلي روايتان. وإذا قال الرجل لعبيده: أنتم أحرار إلا فلان كان فلان عبداً وعتق من سواه؛ لأن الكلام المقيد بالاستثناء تكلم بما وراء الثنيا، وكذلك لو قال لعبدين له: أنتما حران إلا سالماً، واسم أحدهما سالم صح الاستثناء حتى كان سالم عبداً لما قلنا، ثم الأصل أن استثناء البعض من الكل صحيح واستثناء الكل من الكل باطل، وهذا لما ذكرنا: أن الكلام المقيد بالاستثناء تكلم بما وراء المستثنى لا بد وأن يبقى بعد الاستثناء شيء ليتحقق التكلم بما وراءه. إذا ثبت هذا فنقول: خرجت المسألتان؛ لأنه استثناء البعض عن الجملة فيها وقال: سالم حر ومرزوق حر إلا سالماً عتقاد بطل الاستثناء؛ لأنه تكلم بكلامين كل واحد منها تام، ومستقل بنفسه حيث ذكر بكل كلام خبراً فلا يصير أحدهما مضموماً إلى الآخر بل يبقى كل واحد منفرداً، كأنه ليس معه غيره وكان قوله إلا سالماً متأولاً يجتمع ما تناوله أحد كلاميه، وكان باطلاً كأنه قال سالم حر إلا سالماً وهذا بخلاف قوله سالم ومرزوق حران إلا سالماً؛ لأن هناك الكلام الأول ناقص لأنه لم يذكر له خبراً فيصير مضموماً إلى الثاني ويصير الكل كلاماً واحداً، وكان قوله: إلا سالماً استثناء البعض من الجملة فصح. وإذا دعى الرجل عبداً له يقال له سالم فأجابه عبد آخر له يقال له مرزوق فقال: أنت حر عتق مرزوق؛ لأنه أتبع الإيقاع الجواب فينصرف إلى المجيب فإن قال: عنيت سالماً عتق سالم بنيته؛ لأن المنوي من محتملات كلامه ولكنه لا يصدق في حرف العتاق وغير مرزوق قضاءً، ولو أشار إلى عبد له سالم فقال: يا سالم أنت حر فإذا هو مرزوق عبده إلا أنه لم يجبه مرزوق عتق سالم؛ لأنه أتبع الإيقاع النداء فيقع على المنادى ولو أشار إلى شخص ظن أنه سالم لما قلنا. ولو أن رجلاً أعتق عبداً له أو جارية له ثم جحد العتق وأخذ من العبد غلته، أو استخدمه ووطىء الأمة ثم أقر بذلك العتق أو قامت عليه البينة، فإنه يرد على العبد ما أخذ من الغلة وضمن للجارية مهر مثلها ولا يضمن للعبد بسبب الخدمة شيئاً. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : ما ذكر من الجواب في الغلة، فذلك مستقيم فيما إذا كان العبد هو الذي أجر نفسه أو اكتسب (لأنه متى أنه كان حراً ما

لكسبها) إما إذا كان المولى هو الذي أجره فما أخذ المولى من الأجرة يكون مملوكاً له؛ لأنه وجب بعقده ولا يلزمه الرد على العبد ولكن لا يطيب للمولى ذلك؛ لأنه حصل له بسسب كسب خبيث. وإذا قال: أحد عبيدي حر وليس (له) إلا عبد واحد عتق ذلك العبد، وإذا قال الصبي: كل مملوك أملكه إذا احتمل، فهو حر لا يصح هذا اليمين أصلاً. فرق بين هذا وبين العبد إذا قال: كل مملوك أملكه إذا أعتقت فهو حر، فإنه يصح هذا اليمين إذا كان العبد بالغاً، ولا فرق بينهما من حيث الظاهر لأن كل واحد منهما لا يملك الإعتاق للحال ثم لم يصح اليمين بالعتق من الصبي، وصح من العبد. والفرق: أن الإعتاق من العبد إذا كان بالغاً إنما لم يصح لعدم ملكه لا لفساد عبارته، فإذا أضافه إلى ما بعد العتق، فقد أضافه إلى الملك أما الإعتاق من الصبي إنما لا يصح لفساد عبارته فيما يتضرر به لا لعدم الملك وفيما يرجع إلى فساد العبارة العتق المنجز، والعتق المضاف على السواء. وذكر في «عيون المسائل» إذا قال الرجل لعبيده: أنتم أحرار إلا فلاناً، وفلاناً وفلاناً سماهم جملة عبيده في الاستثناء، هل يعتقون؟ لم يذكر هذا الفصل في «العيون» ، فعلى قياس ما ذكرنا في «الزيادات» إذا قال: كل جارية لي حرة إلا جارية هي ثيب ثم قال: هذه ثيب، وهذه ثيب لا يعتقن وإن قلن أبكار عتقن لا بقولهن ولكن بإيجاب العتق على طريق العموم عند عدم ثبوت الوصف المستثنى، وهو الثيابة فقد صح محمّد رحمه الله الاستثناء في هذه المسألة، وإن كان مستغرقاً للكل إنما فعل هكذا؛ لأن الاستثناء تصرف في اللفظ (337أ1) والصفة لا في الحكم وباعتبار النظر إلى الصيغة، هذا استثناء البعض من الكل فإن قوله: كل جارية لي كما يتناول الصيغة المستثاة من يتناول غيرهن أو كن في ملكه، فكان هذا استثناء البعض من الكل باعتبار النظر إلى الصيغة فصح. ألا ترى أنه لو قال: نسائي طالق إلا نسائي لا يصح الاستثناء. وإذا قال نسائي طوالق إلا فلانة وفلانة وفلانة وليس له من النسوة سواهن، فإنه يصح الاستثناء وإن كان هذا استثناء الكل من الكل من حيث الكلم؛ لأن هذا استثناء البعض من الكل من حيث الصيغة. وكذلك إذا قال في وصيته: ثلث مالي لفلان إلا ثلث مالي لا يصح الاستثناء، ولو قال: ثلث مالي لفلان إلا ألف درهم وثلث ماله ألف درهم لا غير صح الاستثناء، وطريقه ما قلنا. وإذا قال الرجل في وصيته: أعتقوا عبدي الذي هو قديم الصحبة فقديم الصحبة تكلموا فيه، روي عن محمّد رحمه الله أنه قال من صحبته ثلاث سنين، واختار الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله أن يكون صحبته سنة وهو قول بعض العلماء، وبه كان يفتي محمّد بن مقاتل.

مريض قال لورثته إن بيد كان مرابنده مما بنت فهذا وصية بالعتق معنى، فينبغي أن يعتقوهم. مريض قال لورثته: أعتقوا فلاناً بعد موتي إن شاء الله صح الإيصاء، وبطل الاستثناء ولو قال: هو حر بعد موتي إن شاء الله بطل الإيجاب، وهذا استحسان وبه أخذ محمّد رحمه الله والحاصل: أن الاستثناء في الأمور باطل إن من قال لغيره بع عبدي إن شاء الله كان الاستثناء باطلاً، وكان للمأمور أن يبيعه والاستثناء في الإيجاب صحيح، والفرق: أن الإيجاب يقع ملازماً من حيث لا يقدر على المطالبة بعد ذلك، فيحتاج إلى الاستثناء فيه حتى لا يلزمه حكم الإيجاب والأمر لا يقع؛ لأن ما فاته يقدر على إبطاله بعزل المأمور فلا يحتاج إلى الاستثناء فيه، وفي «القدوري» : وأما كلمه إن شاء الله إذا دخلت فالكلام رفع حكمه أي تصرف كان. إذا قال لمولاه: أعتقني حتى أعطيك ما تريد، فأعتقه وجب على العبد قيمته لأن هذا سؤال العتق على بدل مجهول، وفي مثل هذا تجب قيمته العبد لأن المولى....... فتعذر إيجاب البدل، فيجب رد العبد على العبد وتعذر رده صورة فيجب رده معنى بإيجاب قيمة العبد عليه. رجل قال لغيره: جاريتي هذه لك على أن تعتق عني عبدك فلاناً فرضي بذلك ودفع الجارية إليه لا تكون الجارية له حتى يعتق العبد، كذا روى خلف بن أيوب عن محمّد رحمه الله؛ لأنه طلب منه تمليك العبد مقتضى طلب الإعتاق مقابلاً بتمليك الجارية فما لم يوجد إعتاق العبد لا يوجد تمليك العبد فلا يتملك الجارية، وفيه نظر، وينبغي أن يكتفي بمجرد القبول كما في قوله لامرأته: أنتِ طالق على أن تعطيني ألف درهم وأجابته. رجل اشترى من آخر عبداً شراءً فاسداً ثم إن المشتري أمر البائع بالعتق قبل القبض فأعتقه جاز، ولو أعتقه المشتري بنفسه لا يجوز لأنه لما أمر البائع بالعتق فقد طلب منه أن يسلطه على القبض فإذا أعتقه فقد سلطه على القبض فقبضناه سابقاً عليه وصار المشتري قابضاً أيضاً فقبضناه سابقاً عليه. رجل قال في وصيته أعتقوا خير عبيدي أو قال: أفضل عبيدي أو قال: بيعوا أفضل عبيدي وتصدقوا بثمنه على المساكين أو خير فهذا على أفضلهم في القيمة، ولو قال: أوصيت لأفضل عبيدي فهو لأفضلهم في الدين. في «مجموع النوازل» عن محمّد رحمه الله: في رجل قال مماليكي الخبازون أحرار وله خبازون وخبازات عتقوا. وفي «مجموع النوازل» إذا قال لعبده أنت حر الساعة بعد موتي، يعتق بعد الموت. ولو قال لعبده في صحته: أنت حر من ثلث مالي من جميع المال. وفيه أيضاً: إذا قال لغيره أعتق مدبرك هذا عني على أن لك عليّ ألف درهم أو على أني ضامن لك ألف درهم، فأعتقه لا شيء عليه قال خلف بن أيوب: سألت محمّداً رحمه الله عن رجل قال لعبديه: أحدكما حر بعد موتي وله وصية مائة درهم ثم مات قال يعتقان جميعاً، والمائة بينهما نصفين لأن بالموت شاع العتق فيهما وتشيع الوصية أيضاً،

قلت: فإن قال، ولكل واحد منهما مائة درهم قال تبطل مائة واحدة لأنها وقعت لعبد. وسئل أبو بكر عمن قال لعبده بانتم أراد أو قال بانتم أزاد قال: يعتق كأنه قال له نصفك حر. العبد المأذون إذا اشترى جارية وأخبر المولى بذلك فقال له المولى اصنع ما شئت، فأعتقها العبد لا يجوز عتقه لأنه لا يراد بمثل هذا الكلام الإعتاق ولا يجوز عتقه ما لم يأمره بالإعتاق نصاً. قال في أيمان «الجامع» إذا قال الرجل لامرأة حرة إذا ملكتك فأنت حرة أو قال: إذا اشتريتك فأنت حرة، ثم إنها ارتدت ولحقت بدار الحرب وسبيت فملكها الحالف عتقت عندهما، وعلى قياس قول أبي حنيفة لا تعتق فهما يجعلان الردة والحالف، والسبي مذكور في هذه المسألة تصحيحاً لإيجاب الحرية، وأبو حنيفة رحمه الله يقول غير المذكور إنما يجعل مذكوراً تصحيحاً للمذكور إذا لم يكن للمذكور صحة بدونه بحال، وللمذكور صحة بدون هذه الأشياء في الجملة بالصرف إلى ما يليق بظاهر حالها، وهو ملك النكاح والحرية عنه بالطلاق فلا ضرورة إلى جعل غير المذكور مذكوراً يوضحه: أنه أضاف الملك إلى الحرة، وأضاف الشراء إلى الحرة وملك الحرة ملك نكاح، وشراء الحرة نكاح، ولهذا لو اشترى الحرة منها كان نكاحاً فالنكاح ينعقد بلفظ الشراء والبيع على عرف، فما يصرف يمينه إليه فلا يدخل تحته الملك الحقيقي. ألا ترى أنه لو قال لمنكوحته نكاحاً فاسداً: إن طلقتك فعبدي حر ينصرف يمينه إلى طلاق مثلها، كذا ها هنا. ولو قال لها: إذا ارتدتت ولحقت بدار الحرب وسبيت، فملكتك فأنت حرة كان كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله أيضاً إلا أنه لما خرج بهذه الوسائط علم أنه لما أراد به ما يليق بظاهر حالها، وإنما أراد به الملك الحقيقي فانصرف يمينه إليه ثم هذه المسألة دليل على أن المعنى اليمين بالعتق ينعقد على الحرة، فأولى أن يبقى على الحرة فلا يبطل قول من قال ببطلان اليمين بالعتق لبطلان المحلية بثبوت الحرية إذا أعتق أحد عبديه لا بعينه، ثم أعتق أحدهما بعينه إن لم يكن له نية أو نوى عتقاً مستقبلاً، فإن الآخر يتعين بالكلام الأول وإن نوى بالكلام الثاني بيان ما ثبت بالإيجاب الأول، وحلف على ذلك لا يعتق الآخر، وصدق فيما ادعاه ذكره شيخ الإسلام في آخر باب المدبر. إذا قال لعبده يوم أملكك فأنت حر بعد موتي وهو يعني النهار دون الليل ثم ملكه ليلاً لم يبق مدبراً. والجواب في التدبير نظير الجواب في العتق. إذا قال لعبده: يوم أملكك ملكاً غير هذا.. أو يوم أشتريتك بعد هذا الملك فأنت حر بعد موتي، ثم ملكه بسبب آخر وبعد هذا الملك صار مدبراً وإذا قال لأمتين لغيره إذا ملكتكما، فأنتما حران بعد موتي فملك إحداهما دون الأخرى لا تصير مدبرة ما لم يملكهما جميعاً. وسئل الفقيه أبو بكر رحمه الله عن أمة قالت لمولاها أعتقني وقال لها بالفارسية ابدون كنيزكه أنا ذكر دم لا قال: لا يعتق، قال: وكذلك لو باع من امرأته تطليقة واحدة فقالت حر هذه كنز لا كون منها إجابة. وكذلك لو باع عبداً. وسئل أبو القاسم عمن قال

لله عليّ أن أعتق عبداً، فأعتق عبداً آبقاً قال لا يجوز كما لا يجوز في الأعمى قال الفقيه: في قياس قول علمائنا رحمهم الله يجوز، ذكره في كتاب جعل الآبق إذا أعتق عبداً آبقاً عن كفارته لا يجوز إن كان حياً وقت الإعتاق. وسئل إبراهيم بن يوسف عن عبد أجبر مولاه في موضع خال، وقال: إن أنت أعتقني وإلا قتلتك فأعتقه مخافة القتل قال يعتق، ويسعى (في) قيمته. إذا قال الرجل لغيره: أعتق عبدك هذا بألف درهم، فأعتقه لا يجب على الآمر شيء؛ لأن هذا كلام محتمل يحتمل عن نفسك (337ب1) . ويحتمل عني فلا يقع عن الأمر بالشك، وإذا لم يقع العتق عن الآمر لا يجب عليه المال. ولو قال: أعتق عبدك عني بألف درهم فأعتق، فإنه يعتق عن الآمر ويلزمه المال عن الآمراستحساناً. ولو قال: كاتب عبدك عني بألف درهم، فكاتب لا تقع الكتابة عن الآمر، والوجه في ذلك أن العتق والكتابة يعتمدان الملك، وفي فصل العتق أمكن إثبات الملك مقتضياً الإعتاق تبعاً له لأن العتق أقوى من الملك، ألا ترى أن الملك من ثبوته يحتمل البعض والرفع، والعتق لا يحتمل ذلك، فأما الملك والكتابة مستويان من حيث إن كل واحد يقبل القبض، وللملك زيادة قوة من حيث إنه يملك بحقيقة الملك من التبرعات ما لا يملك بالكتابة، فكان الملك أقوى فلا يمكن إثباته تبعاً للكتابة. ولو قال: أعتق عبدك على ألف علي فأعتق، يلزمه المال ويقع الملك العتق عنه، ويدرج قوله عني لأن قوله على ألف درهم علي يدل عليه، فإن المال لا يلزمه لو لم يقع العتق عنه. ولو قال: أعتق عبدك عن نفسك بألف علي فأعتق لا يلزمه المال؛ لأن العتقد ههنا لا يقع عن الأمر وبدونه لا يلزمه المال، والطلاق في هذا يخالف العتاق، فإن من قال لغيره: طلق امرأتك بألف عليّ فإنه يصح، وقوله طلق امرأتك بألف علي بمنزلة قوله: طلق عن نفسك، لأنه لا يتصور أن يكون الطلاق واقعاً عن الأمر، فإن من قال لغيره: طلق امرأتك عني فطلق، يقع الطلاق عن المأمور دون الآمر، ثم قال في الطلاق يلزمه المال، وفي العتاق قال: لا يلزمه المال. وكذلك إذا قال أعتق عبدك على ألف درهم أضمنها لك ففعل، لم يكن العتق عن الآمر. إذا قال الرجل لغيره: أعتق عبدك عن ولدي الصغير بألف درهم فأعتقه المأمور، فإن العتق يقع عن المأمور وتكون الولاية (له) لأن الآمر بالإعتاق عن الصغير من الأب لا يصح، فالتحق هذا الأمر بالعدم فصار صاحب العبد معتقاً عبده عن الصغير بغير أمر أحد فيقع عنه. ولو كان للصبي عبد فقال رجل لأبيه: أعتق عبد ابنك هذا عني على ألف درهم فأعتقه الأب يقع العتق عن الآمر وعليه ألف درهم للصبي يقبضها الأب منه لأنه طلب من الأب يقع هذا العبد منه بألف درهم، والإعتاق عنه والأب يملك ذلك فإنه يملك بيع عبد ابنه الصغير من الأجنبي ويملك إعتاقه عن الأجنبي فيصح الأمر به، ويقع العتق عن الآمر وفي طلاق «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لعبده: أنت حر أمس، وقد اشتراه اليوم إنه يعتق. قال: ولا يشبه هذا الطلاق، قال: وصار تقدير مسألة العتاق كأنه قال: أنت حر الأصل، والله أعلم بالصواب وتم كتاب العتاق بعون الله وحسن توفيقه.

كتاب المكاتب

كتاب المكاتب هذا الكتاب على ثمانية عشر فصلاً الأول في بيان: 1 * تفسير الكتابة وركنها. 2 * في بيان ما يصح في الكتابة وما لا يصح. 3 * في الشروط والخيار في الكتابة. 4 * في عجز المكاتب. 5 * فيما يملكه المكاتب وما لا يملكه. 6 * في كتابة الحر على عبد وكتابة العبد على نفسه وعلى عبد آخر وكتابة المملوك على نفسه وأولاده. 7 * في ملك المكاتب ولده أو بعض ذي رحم محرم أو امرأته وفي المكاتب يموت عنه وفاء في الأولاد. 8 * في دعوة المولى ولد أمة المكاتب وفي دعوته ولد مكاتبة المكاتب. 9 * في دعوى المكاتب الولد. 10 * في بيان المكاتبين إن كانت مكاتبتهما واحدة أو متفرقة. 11 * في العبد يكون بين رجلين فيكاتباه أو يكاتبه أحدهما. 12 * في الرجل يكاتب بشقص مملوكه. 13 * في الاختلاف الواقع بين المولى والمكاتب. 14 * في مكاتبة المريض وإقراره بقبض يدل الكتابة. 15 * في الكتابة الموقوفة. 16 * في مكاتبة الصغير. 17 * في عزور المكاتب وما يلزمه من العقد. 18 * في المتفرقات.

الفصل الأول تفسير الكتابةوركنها وشرط جوازها وحكمها

الفصل الأول تفسير الكتابةوركنها وشرط جوازها وحكمها يجب أن يعلم بأن تفسير الكتابة لغة: الضم والجمع أي ضم كان وأي جمع كان، ومنه فعل الكتابة لما فيه من الجمع والضم بين الحروف، وسمى الجنس كتبته لانضمام البعض إلى البعض، إلا أن في عرف لسان الشرع إذا أطلق هذا الاسم مضافاً إلى المملوك يراد منه: جمع بخصوص وضم بخصوص وذلك لما ضم حرية اليد إلى حرية الرقبة، بأن العبد يصير حراً يداً للحال ثم ينضم إلى هذه الحرية الرقبة عند أداء بدل الكتابة. وأما ضم المولى العبد إلى نفسه في إثبات صفة المالكية له يداً، فإن العبد بعقد الكتابة يصير مالكاً نفسه وكسبه يداً حتى يختص بالتصرف في نفسه وكسبه. وركنها: الإيجاب والقبول، لأنها عقد معاوضة من الجانبين فيكون الركن فيها الإيجاب والقبول كما في سائر المعاوضات. وشرط جوازها على الخصوص: قيام الرق في المحل، وكون المسمى معلوم القدر والجنس فأما كونها مؤجلاً منجماً فليس بشرط وهذا مذهبنا. ولقب المسألة أن الكتابة حالّة هل يجوز؟ فعند علمائنا رحمهم الله يجوز، والأصل فيه قبول الله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} (النور: 33) أمر بالكتابة مطلقاً من غير فصل بقراء تكون مؤجلة أو حالة، والمعنى في ذلك أن البدل في الكتابة معقود به وليس بمعقود عليه كالثمن في باب البيع، ولهذا أجاز الاستبدال قبل القبض ولو كان معقوداً عليه لما جاز الاستبدال به قبل القبض، قلنا: والمعقود به يثبت في الذمة حالاً ومؤجلاً. جئنا إلى بيان حكمها، أما من جانب العبد فحكمها في الحال ثبوت حرية اليد حتى يصير العبد أمضى لمنافعه ورقبته ومكاسبه ينصرف إلى منافعه ومكاسبه ويذهب للتجارة حيث شاء، ولهذا لا يملك المولى منعه عن السفر، ولو شرط عليه أن لا يخرج من البلدة كان باطلاً. وحكمها في الثاني: ثبوت حرية الرقبة أو بدل الكتابة، وأما من جانب المولى فحكمها في الثاني: حقيقة الملك في البدل إذا قبضه، ثم المكاتب يعتق عند أداء إذا بدل الكتابة: سواء قال له المولى في عقد الكتابة: على أنك إن أديت إلى ألفاً فأنت حر، أو لم يقل ذلك، واقتصر على قوله: كاتبتك على ألف درهم، وهذا مذهبنا. وقال الشافعي رحمه الله: لا بد أن يقول على أنك إن أديت إلي كذا فأنت حر، وهذه المسألة في الحاصل بناء على معرفة معنى الكتابة، فيقول معنى الكتابة شرعاً ضم

الفصل الثاني في بيان ما يصح في الكتابة وما لا يصح

حرية اليد للحال إلى حرية الرقبة عند أداء بدل الكتابة فيجعل هذا كالمنصوص عليه عند العقد، ولو نص على هذا الشيء أنه يعتق عند الأداء فكذا إذا لم ينص عليه، وصار معناه هذا. ثم الكتابة إن كانت حالة فللمولى أن يطالب المكاتب بالبدل كما فرغ من العقد، كما ذكرنا أن البدل في الكتابة معقود به كالثمن في باب البيع، ثم الثمن في باب البيع إذا كان حالاً كان للبائع مطالبة المشتري كما فرغ من العقد فكذا هاهنا، وإن كانت مؤجلة منجمة فإما يطالبه بحصة كل نجم بحل ذلك النجم. ومما يتصل بهذا الفصلالألفاظ التي تقع بها الكتابة قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل قال: لعبده قل جعلت عليك ألفاً تؤديها إلي نجوماً أول النجم كذا وآخر النجم كذا فإذا أديتها إلي فأنت حر وإن عجزت فأنت رقيق، فهو مكاتب لأنه إن لم يصرح بلفظة الكتابة فقد أتى بتفسير الكتابة ومعناها والعبرة في القعود لمعانيها لا لألفاظها. وفي الوصايا إذا قال لعبده: أد إلي ألف درهم كل شهر مائة فأنت حر، قال هذا مكاتب وهو جائز. وفي «نوادر» ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله في «الإملاء» : إذا قال لعبده: إذا أديت إلي ألف درهم كل شهر مائة درهم فأنت حر أول النجم كذا أو آخره كذا فقبل ذلك، قال أبو حنيفة رحمه الله: هذه مكاتبة، قال هذا وقوله: إذا أديت إلي ألف درهم ولم يسم الشهور سواء ينبغي أن يكون مكاتبة كله، ولا تكون مكاتبة حتى يقوم اسم الكتابة يعني حتى يأتي بلفظ الكتابة، قال: ولكنه أخذ بالاستحسان والله أعلم. الفصل الثاني في بيان ما يصح في الكتابة وما لا يصح ما يجب اعتباره في هذا الفصل أن جهالة البدل متى كاتب * جهالة جنس * منعت صحة التسمية في العقود كلها سواء كان عقداً هو معاوضة مال بمال كالبيع والإجارة وأمثالها، أو عقداً هو معاوضة مال بمال كالكتابة والخلع وأشباههما، وجهالة البدل إذا كانت جهالة وصف منعت صحة التسمية في عقد هو معاوضة مال بمال ولا يمنع صحة التسمية في عقد هو معاوضة مال بما ليس بمال، فرق بين معاوضة المال بالمال، وبما بين معارضة المال بما ليس بمال، فيما إذا كان جهالة البدل جهالة وصف. والفرق أن في معاوضة المال بما ليس بمال، نفس المال ليس بمقصود وباختلاف الوصف إنما تختلف المالية، فإذا لم تكن المالية مقصودة فهذا بالجهالة لا يخل بالمقصود، فصار وجودها والعدم بمنزلة، أما في معاوضة المال بالمال: المالية مقصودة، وباختلاف الوصف تختلف المالية فيخل بالمقصود، فيجب اعتبارها.

بيان هذا الأصل ما ذكر في «الزيادات» : رجل قال لعبده: كاتبتك على عبد فقبل، جازت الكتابة لأن الكتابة معاوضة المال بما ليس بمال وقد ذكرنا أن جهالة وصف البدل في مبادلة المال بما ليس بما لا يمنع (338أ) صحة التسمية، قال: ينصرف إلى العبد الوسط، لأنه إذا صحت التسمية وجب العبد ديناً في الذمة، والأصل في الحيوان المجهول إذا ثبت ديناً في الذمة، أنه ينصرف إلى الوصف كما في الزكاة والوصية والدية، والمعنى أن في صرفه إلى الوسط عمل بالوصفين، لأن الوسط بين الجيد والرديء نظر للجانين، والوسط عند أبي حنيفة رحمه الله قيمته أربعون ديناراً، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله على قدر غلاء السعر والرخص والمسألة معروفة. قال: ولا ينظر في قيمة الوسط إلى قيمة المكاتب، لأن عقد الكتابة عقد إرفاق، فالظاهر أن يكون البدل على أقل من قيمته فقد جعل العبد هاهنا جنساً واحداً. وقد ذكر في كتاب الوكالة: فيما إذا وكل رجلاً بشراء عبد وجعله أجناساً مختلفة وكأنه عمل بالشبيهين فألحقه بالجنس الواحد إذا سمي في عقد هو معاوضة المال بما ليس بمال، والأجناس المختلفة إذا سمى في عقد هو معاوضة المال بالمال. وكذلك لو كاتبه على حنطة أو شعيرة وسمى مقداراً معلوماً إن وصف ذلك بصفة بأن شرط الجيد أو الرديء أو الوسط لما ذكرنا في العبد. ولو كاتبه على ثوب ولم يبين هروياً أو مروياً كانت التسمية فاسدة، لأن الثياب أجناس مختلفة، ولهذا لو وكل رجلاً بأن يشتري له ثوباً لا يجوز. ولو كاتبه على درهم فقبله العبد كانت التسمية فاسدة لأن المسمى مجهول القدر جهالة متفاحشة لاوسط القدر هاهنا حتى ينصرف إليه. والصرف إلى الأقل والأكثر متعذر، لأن الإيجاب قيمة المبدل ممكن، لأن العبد متقوم في نفسه والأصل في الأشياء قيمتها وإنما يعدل عنها عند التسمية، ولم تصح التسمية، فبقي حكم الأصل فهو معنى قولنا يقدر الصرف إلى الأقل والأكثر فيبقى مجهول القدر جهالة متفاحشة، وجهالة القدر نظير جهالة الجنس وجهالة الجنس مانعة لصحت التسمية في العقود كلها. قال في «الأصل» في مسألة الثوب وإذا حدث فسدت الكتابة فإذا أدى إلى المولى ثوباً لا يعتق، ولو كاتبه على قيمتها كانت الكتابة فاسدة، لأن البدل مجهول القدر، لأن القيمة إنما تعرف بالحزر والظن، فرب مقوم يقومه بألف، ورب مقوم يقومه بألف إلا عشرة، وإذا كانت القيمة تحتمله لهذه المقادير فإذا كاتبه على قيمته فكأنه كاتبه على آخر هذه المقادير، وهناك تعذرت الكتابة بجهالة البدل كذا هاهنا. فرق بين هذا وبينما إذا كاتبه على عبد فإنه يجوز، وإذا كانت تجب بهذه التسمية قيمة عبد وسط، ولهذا لو أتى بقيمة العبد يجبر المولى على القبول وهي بجهالة القدر، والفرق أن القيمة بتسمية العبد تجب حكماً لا قصداً فإنه نص على تسميته العبد، وهاهنا قيمته القيمة تثبت قصداً، فإنه نص على تسمية القيمة فكانت مقصودة، وقد ثبت الشيء

حكماً بغيره، وإن كان لا يثبت قصداً، فإذا أدى قيمته إلى المولى وقبل المولى يعتق. فرق بين هذا وبينما إذا كاتبه على ثوب وإذا آتى المولى ثوباً حيث لا يعتق، وفي الموضعين جميعاً الكتابة قد فسدت. والفرق أن في الكتابة مسميان: معاوضة وتعليق عتق، فإذاً العوض إما معاوضة فلوجوده العوض من الجانبين وإما تعليق عتق بأداء العوض فإن وجد التعليق أن يتعلق بنزول الحر الشرط يوجد في المستقبل وفي الكتابة تعليق وقوع العتق بأداء ما صار عوضاً، قلنا: والقيمة تصح عوضاً لأنها معلوم الجنس ويصير معلوم القدر عند الأداء، وإذا صلح عوضاً وهو ملفوظ به تعلق العتق بأدائه فأما الثوب لا يصح عوضاً لأنه مجهول الجنس والقدر، وما لا يصلح عوضاً في المعاوضات لا يتعلق العتق بأدائه في الكتابة، لأن عتق المكاتب معلق بأداء العوض فلا يعتق بأداء الثوب. ثم فيما إذا كاتبه على قيمته ذكر أنه يعتق بأداء القيمة، ولم يذكر أن أداء القيمة..... يثبت، قالوا: أداء القيمة إنما يثبت بأحد أمرين إما أن يتصادقا على إيفاء أداء قيمته فيثبت كون المؤدى قيمته بتصادقهما لأن الحق فيما بينهما لا يعدوهما وصار كضمان الغصب البيع الفاسد. وإن اختلفا يرجع إلى تقويم المقومين فإذا تفق اثنان على قدر يجعل ذلك قيمته له وإن اختلفا قوم أحداهما بألف والأخرى بألف وعشرة لا يعتق ما لم يؤد أقصى قيمته. ثم في فصل الثوب فرق بين الكتابة وبينهما إذاقال: له إن أديت إلي ثوباً فأنت حر فأدى إليه ثوباً يعتق، وإذاكاتبه على ثوب فأدى إليه ثوباً لا يعتق والكتابة تعليق العتق بأداء المسمى كقوله: إذا أديت إلي، والفرق أن التعليق في الكتابة إنما يثبت بعقد المعاوضة فإنما يثبت التعليق بأداء ما يصلح عوضاً والثوب لا يصلح عوضاً لكونه مجهول الجنس والقدر فلم يتعلق العتق بأدائه. فأما في قوله: إن أديت التعليق فانتقضا لأنها معاوضة فيتعلق بما سمى لأنها تصلح عوضاً وقد سمى ثوباً يتعلق العتق بأدائه، ولم يذكر محمد رحمه الله فيما إذا كاتبه على ثوب أنه أدّى قيمة نفسه هل يعتق أم (لا) ؟ وذكر فيما إذا كاتبه على حكمه أو على حكم العبد أنه لا تجوز الكتابة وإذا أدى قيمته لا يعتق. قال شيخ الإسلام رحمه الله لا فرق بين المسألتين، لأن في المسألتين جميعاً ما سمي لا يصلح عوضاً لأنه مجهول القدر والجنس، ثم قال في تلك المسألة: أنه لا يعتق بأداء القيمة فكذلك في مسألة الثوب. قال رحمه الله: وهذا الذي ذكر قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله، فإن على قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله متى كان المسمى لا يصلح عوضاً بجهالة القدر أو بجهالة

الجنس، فإنه لا يعتق العبد بأداء القيمة ولا تنعقد هذه الكتابة أصلاً لا على المسمى ولا على القيمة، وكذلك لو قال له: كاتبتك وسكت عن ذكر البدل، لا تنعقد الكتابة أصلاً عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله. وهذا لأن في الكتابة شأن معاوضة وتعليق عتق بأداء ما يصلح عوضاً واعتبار معنى المعاوضة إن كان يوجب انعقادها على القيمة، وإن لم تكن القيمة ملفوظاً بها كما في البيع الفاسد، فمعنى التعليق يمنع انعقادها على القيمة إذا لم تكن القيمة ملفوظاً بها لأن التعليق بالشرط لا يثبت في موضع ما مر غير لفظ فإن أدى حد الشرط أن يكون ملفوظاً بها فاعتبار أحد المعنيين يوجب الانعقاد والآخر يمنع، والانعقاد لم يكن ثابتاً فلا يثبت بالشك، بخلاف البيع لأن البيع معاوضة من كل وجه، والعوض مما يثبت في المعاوضات من غير شرط كما في الغصب، وكما لو أكل طعام غيره حالة المخمصة. فأما شرط العتق في موضع لا يثبت من غير لفظ متى كان ليثبت التعليق واللفظ، ولا يقال على هذا بأن التعليق في باب الكتابة يثبت تبعاً للمعاوضة، ولهذا قبل الفسخ فلا يشترط لصحة شرائط التعليق، ولو كان التعليق يثبت نصاً، لأنا نقول: لا يسلم بأن التعليق في الكتابة بيع، وهذا لأن تعليق العتق بأداء ما يصلح عوضاً من حكم الكتابة لأن الحكم الكتابة للحال حرية اليد، وفي الثاني: تعلق عتقه بأداء العوض، وإذا كان تعلق العتق بأداء العوض من حكم الكتابة ثابتاً مقصوداً لا بيعاً، ألا ترى أن ملك المشتري لما كان حكماً للمشتري لأن الشراء موضع الملك المشترى كان ملك المشتري ثابتاً بالشراء مقصوداً، فكذلك الكتابة موضوعة لإثبات حرية اليد للحال ولتعلق حرية الرقبه بالأداء في الثاني فيكون التعليق ثابتاً بالكتابة مقصوداً لا بيعاً، ولهذا لم ينفك عقد الكتابة عن هذا الحكم كما لم ينفك عن إثبات حرية اليد. وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح كتاب المكاتب» : أن المسمى في الكتابة إذا لم يكن مالاً متقوماً، لا تنعقد الكتابة أصلاً كما إذا كاتبهما على حكمه أو حكم العبد (338ب1) . فإن حكمه قد يكون بغير المال، أو كاتبها على ميتة لا تنعقد الكتابة أصلاً على المسمى ولا على القيمة فلا يعتق بأداء القيمة. وإذا كان المسمى في الكتابة مالاً متقوماً إلا أنه مجهول الجنس أو القدر ينعقد العقد على القيمة، ويعتق بأداء قيمته. وفي «المنتقى» رواية إبراهيم عن محمد رحمه الله: إذا كانت عنده خمسة أثواب يهودية جاز، وله خمسة أثواب فيهما، وإن جاءت بقيمتها أجبر المولى على الآخذ، وإن كان قد سمى رفعها وجنسها وطولها وعرضها وأصلها لم يجبر على قبول القيمة؛ لأن بذكر الأخذ صار في معنى التسليم. وفيه أيضاً: إذا كاتب عبداً له على وصف ولم يسمِّ له قيمة فهو جائز، ويؤخذ قيمة أعلى الوصف، أو أوسطها، أو أوكسها فيعطى له ثلث الجملة، ولو أدى الأعلى من الوصف أو الوسط قُبل منه ولو أدى الأوكس لا يجوز إلا أن يتجوز به المولى.

وفي «البقالي» : إذا كاتبه بكذا، فإن عجز فبكذا لم يجز، وقيل: معناه لا تجوز الثانية. إذا قال: فإن عجزت فقد كاتبتك بكذا، وإنما لا يجوز الكل إذا أشار في الثانية إلى الأولى فيقول: قال إن عجزت فبكذا، ولم يقل: فقد كاتبتك بكذا حتى يصير البدل مجهولاً. وفيه أيضاً: إذا كاتبه على ألف على أن يؤدي منها كل شهر كذا أو ثوباً صفته كذا جاز. وفيه أيضاً: إذا كاتب بألف درهم على أن يرد المولى عليه وصفاً وسطاً لم يجزء. وعن أبي يوسف: أنه يقسم الألف على قيمتها فيسقط حق الوصف، وعلى هذا الاختلاف مسألة ذكرها في «الجامع الصغير» . وصورتها: رجل كاتب عبداً له على مائة دينار على أن يردّ المولى عليه عبداً بغير عينه، فالمكاتبة فاسدة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: تقسم المائة دينار على قيمة المكاتب وعلى قيمة عبد وسط فيبطل حصة العبد، ويكون مكاتباً بما بقي، فوجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن الكتابة لو فسدت إنما تفسد لمكان اشتراط العبد، غير أن اشتراط العبد في الكتابة لا يفسدها، ألا ترى أنه لو كاتب عبده على عبد يجوز وينصرف إلى عبد وسط. وجه قولهما: أن هذا عقداً يشتمل على بيع وكتابة؛ لأن ما كان من الدنانير بأن العبد الذي يرده المولى فهو بيع، وما كان منها بإزاء رقبة المكاتبة فهو كتابته، والبيع قد حصل بجهالة الثمن والمعقود عليه، فلو جازت الكتابة إنما تجوز بما يخصها من المائة دينار، والكتابة بما يخصها من البدل لا يجوز، فإنه لو كاتب عبداً له بما يخصه من الألف لو قسم الألف عليه وعلى عبد آخر له لا تجوز الكتابة فكذا ههنا. وإذا كاتبه على مالٍ معينٍ أقر المكاتب بأن كاتبه مثلاً على عبدٍ بعينه أو على عرض بعينه فهو بعين المكاتب فقد ذكر في «الجامع الصغير» مطلقاً أنه لا يجوز. وفي الحاصل: المسألة على وجهين إما إن لم يجز صاحب العين، أو أجازه. إن لم يجزه لا تجوز الكتابة؛ لأن الكتابة من حيث أنها عقد يقال ويفسخ نظير البيع، ولو اشترى شيئاً بِعَرَضِ لغيره ولم يجزه صاحب العرض، فإن الشراء لا يصح وكل تلك الكتابة، وهذا بخلاف ما لو تزوج امرأة على عرض لغيره ولم يجزه صاحب العرض، فإن النكاح يجوز، وكان للمرأة أن ترجع على الزوج بقيمة العرض، والكتابة لا تجوز وذلك لأن النكاح مما لا ينفسخ بهلاك الصداق قبل القبض، فكذلك بالإلحاق لا ينفسخ. وإذا لم ينفسخ النكاح بقي السبب الموجب لتسليم العرض والزوج عاجز عن ذلك، وكان عليه تسليم قيمته. فأما الكتابة مما يحتمل الفسخ بالإقالة، فكان كأنه بيع. وفي باب البيع: إذا لم يجز صاحب العرض لا يجوز فكذا الكتابة، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية «الأصول» وأصحاب «الأمالي» عن أبي يوسف رحمه الله أنه يجوز، حتى أنه إن

ملك وذلك العين فأداه إلى المولى عتق، وإن عجز عن أدائه رَدّهُ المولى في الرق؛ لأن المسمى مالٌ متقوم، وقدرته على التسليم بما يحدث له فيه من الملك موهوم فتصح التسمية كما في الصداق إذا سمى عبد غيره فإنه تصح التسمية بهذا الطريق. وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله: إذا ملك ذلك العين فأدى لا يعتق إلا أن يكون المولى قال له: إذا أديت إليَّ فأنت حر، فحينئذ بحكم التعليق تعلّق؛ لأن ملك الغير لم يصر بدلاً في هذا العقد بتسميته لأنه غير مقدور التسليم به. وإذا لم يُسَمِّ شيئاً آخر معه لم ينعقد العقد أصلاً، فلا يكون العتق بحكم العقد، وإنما يكون باعتبار التعليق بالشرط، فإذا لم يصرح بالتعليق. قلنا: إنه لا يعتق كما لو كاتبه على ثوب أو ميتة، وأما إذا أجازه صاحب العرض؛ قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: يجب أن تكون المسألة على روايتين: في رواية يجوز وفي رواية لا يجوز؛ لأنه متى أجازه صاحب العرض صار صاحب العرض مقبوضاً من العبد كما في البيع فيصير العرض من كسبه، والمولى متى كاتب عبده على عين في يده وهو من كسبه بأن كان عبداً مأذوناً في التجارة في يده عين من كسبه هل تصح الكتابة أم لا؟ قالوا: فيه روايتان: في رواية يجوز وهو رواية كتاب الشرب، فقد ذكر في كتاب الشرب: إذا كاتب عبده على أرض في يده جازت الكتابة، وفي رواية: وأنه لا يجوز. بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: وقفنا في رواية الجواز في كتاب الشرب ولم نقف على رواية الفساد وهي في آخر كتاب المكاتب في «الأصل» وقيل: أشار في نكاح «الأصل» إلى هذه الرواية وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله نصّاً أنه لا يجوز، فصار في المسألة روايتان، واتفقت الروايات: أنه لو كاتب على دراهم في يد العبد من كسبه أن الكتابة جائزة. وجه الرواية التي قال: لا يجوز وهو أنا متى جوزنا الكتابة على العين لا يخلو إما أن يجعل العبد أحق بهذه العين أولاً ثم يجعله بدل الكتابة بعدما صار أحق به أو لا يجعله أحق به، فإن لم يجعله أحق به لم نجز هذه الكتابة؛ لأنها لا تفيد شيئاً. قال: العين قبل الكتابة مملوك للمولى رقبة ويداً، فهو بقي كذلك بعد الكتابة فلم يصر العبد أحق به لم يستفد المولى، بهذه الكتابة شيئاً، لا ملك الرقبة، ولا ملك التصرف، فكان بمنزلة ما لو اشترى شيئاً من العبد المأذون ولا دين عليه، وإن جعلناه أحق به لا يجوز أيضاً. وإن كان لو جاز لأفاد أن المولى يستفيد به ملك التصرف، وذلك لأنا متى جوزنا الكتابة على العين بهذه الطريق لا يتحقق معنى الكتابة، وذلك لأن تغيير الكتابة شرعاً إيجاب حريتين على سبيل التعاقب والترادف، وهو إثبات حرية اليد ثم حرية الرقبة على ما بيّنا، ومتى جوزنا الكتابة على العين تثبت الحريتان معاً لا على سبيل التعاقب فيكون إعتاقاً على مال ولا يكون كتابة. بيانه: أن العبد إذا صار أحق بالعرض أولاً يصير العرض مملوكاً للمولى على الحقيقة بنفس العقد، كما لو اشترى منه بعد الكتابة عرضاً يصير مملوكاً للمولى حقيقة بنفس الشراء، حتى لو اشترى امرأته من المكاتب فسد النكاح بنفس الشراء وإذا ملكه بنفس العقد يعتق العبد كما فرغا من العقد، فتثبت حرية اليد والرقبة معاً لا على سبيل الترادق فيكون إعتاقاً على مالٍ حينئذ لا كتابة.g فإذا دُبِّرَ تجويز الكتابة على العين متعذر ما لو كاتب على الدراهم التي في يده لأنا لو جوزنا الكتابة على هذه الدراهم، وجعلنا العبد أحق به، فإن العقد لا يتعلق بعينه حتى يملك المولى حقيقة بنفس العقد، وإنما (339أ1) يتعلق العقد بمثله ديناً في الذمة؛ لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في عقود المعاوضات عندنا، وما ثبت ديناً في ذمة العبد للمولى، فإنما يملك المولى على الحقيقة بالقبض، ولهذا لم تصح الكفالة بها. وإذا توقفت حقيقة الملك في الدين على القبض يتحقق معنى الكتابة، فإنه يثبت حرية اليد للحال، وحرية الرقبة في الثاني إذا صار بدل الكتابة فهو كالمولى على الحقيقة، فأما إذا كان عيناً فإن المولى يملكه على الحقيقة بنفس العقد، كما لو اشترى منه. ووجه الرواية التي قال بأنه تجوز الكتابة على دراهم في يد العبد يجوز، ويصير العبد أحق به، ومتى صار أحق به أفادت الكتابة فائدتها، فيجوز قوله، وإن صار أحق به لا تجوز الكتابة على العين؛ لأنه ثبتت الحريتان معاً، ويكون عتقاً على مال الكتابة. وجه الرواية التي قال: لا يجوز وهو أنا متى جوزنا الكتابة على العين لا يخلو إما أن يجعل العبد أحق بهذه العين أولاً ثم يجعله بدل الكتابة بعدما صار أحق به أو لا يجعله أحق به، فإن لم يجعله أحق به لم نجز هذه الكتابة؛ لأنها لا تفيد شيئاً. قال: العين قبل الكتابة مملوك للمولى رقبة ويداً، فهو بقي كذلك بعد الكتابة فلم يصر العبد أحق به لم يستفد المولى، بهذه الكتابة شيئاً، لا ملك الرقبة، ولا ملك التصرف، فكان بمنزلة ما لو اشترى شيئاً من العبد المأذون ولا دين عليه، وإن جعلناه أحق به لا يجوز أيضاً. وإن كان لو جاز لأفاد أن المولى يستفيد به ملك التصرف، وذلك لأنا متى جوزنا الكتابة على العين بهذه الطريق لا يتحقق معنى الكتابة، وذلك لأن تغيير الكتابة شرعاً إيجاب حريتين على سبيل التعاقب والترادف، وهو إثبات حرية اليد ثم حرية الرقبة على ما بيّنا، ومتى جوزنا الكتابة على العين تثبت الحريتان معاً لا على سبيل التعاقب فيكون إعتاقاً على مال ولا يكون كتابة. بيانه: أن العبد إذا صار أحق بالعرض أولاً يصير العرض مملوكاً للمولى على

الحقيقة بنفس العقد، كما لو اشترى منه بعد الكتابة عرضاً يصير مملوكاً للمولى حقيقة بنفس الشراء، حتى لو اشترى امرأته من المكاتب فسد النكاح بنفس الشراء وإذا ملكه بنفس العقد يعتق العبد كما فرغا من العقد، فتثبت حرية اليد والرقبة معاً لا على سبيل الترادق فيكون إعتاقاً على مالٍ حينئذ لا كتابة.g فإذا دُبِّرَ تجويز الكتابة على العين متعذر ما لو كاتب على الدراهم التي في يده لأنا لو جوزنا الكتابة على هذه الدراهم، وجعلنا العبد أحق به، فإن العقد لا يتعلق بعينه حتى يملك المولى حقيقة بنفس العقد، وإنما (339أ1) يتعلق العقد بمثله ديناً في الذمة؛ لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في عقود المعاوضات عندنا، وما ثبت ديناً في ذمة العبد للمولى، فإنما يملك المولى على الحقيقة بالقبض، ولهذا لم تصح الكفالة بها. وإذا توقفت حقيقة الملك في الدين على القبض يتحقق معنى الكتابة، فإنه يثبت حرية اليد للحال، وحرية الرقبة في الثاني إذا صار بدل الكتابة فهو كالمولى على الحقيقة، فأما إذا كان عيناً فإن المولى يملكه على الحقيقة بنفس العقد، كما لو اشترى منه. ووجه الرواية التي قال بأنه تجوز الكتابة على دراهم في يد العبد يجوز، ويصير العبد أحق به، ومتى صار أحق به أفادت الكتابة فائدتها، فيجوز قوله، وإن صار أحق به لا تجوز الكتابة على العين؛ لأنه ثبتت الحريتان معاً، ويكون عتقاً على مال الكتابة. قلنا: هكذا أن لو جعلنا قبل الكتابة رقبة العَرَض فيقال: ثبت الملك للمولى في رقبة العرض بنفس العقد، كما لو اشترى فتثبت الحريتان معاً لا على سبيل التعاقب والترادف بحدَ لا يجعل الكتابة رقبة العرض بل يجعل بدل الكتابة ملك التصرف في العرض، فثبت للمولى بعقد الكتابة، فكل التصرف في العَرَض وملك الرقبة كما يصلح عوضاً في المعاوضات، فملك التصرف يصلح عوضاً، ألا ترى أنه إذا اشترى ربُّ المال من المضارب ولا ربح في مال المضاربة صح الشراء باعتبار ملك اليد والتصرف. وإذا صلح ملك اليد والتصرف عوضاً كما يصلح ملك الرقبة عوضاً جعلنا بدل الكتابة ملك التصرف لا ملك الرقبة، بل تبقى الرقبة على ملك المولى. إنما جعلناه هكذا تصحيحاً للكتابة، وهذا لأنا متى جعلنا البدل ملك الرقبة لا تصلح الكتابة؛ لأنه يثبت الحريتان معاً لا على سبيل الترادف؛ لأن ملك التصرف إنما يصير للمولى بعد العتق فيثبت للمكاتب بحرية اليد بنفس العقد، وتثبت حرية الرقبة بعدما ثبت ملك الرقبة للمولى بالقبض، فتثبت الحريتان على سبيل الترادف، فجعلناه كذلك تصحيحاً للكتابة بقدر الممكن بخلاف البيع، وذلك لأنا إذا جعلنا هذا كملك الرقبة معقوداً عليه مع ملك التصرف لا يؤدي إلى الفساد فجعلنا كلا الأمرين معقوداً عليه، كما لو اشترى من الحرّ. وكذلك لو قال: كاتبتك على كُرِّ فلان بعينه أو طعام فلان بعينه؛ لأن ما سوى الدراهم والدنانير من المكيلات والموزونات مما يتعين بالتعيين في المعاوضات. وإذا تعيّنا بالتعيين كان الجواب في المكيل والموزون كالجواب في العروض سواء. فإن قال: كاتبتك على ألف فلان هذه فإن الكتابة تجوز، وذلك لأن الدراهم

والدنانير مما لا يتعينان بالتعيين في عقود المعاوضات عندنا، حتى لا يتعلق العقد بعين ما أضيف إليه، وإنما يتعلق بمثله ديناً في الذمة، وإذا لم يتعينا بالتعيين. صار وجود هذا التعيين وعدمه بمنزلة. ولو عُدم التعيين بأن قال: كاتبتك على ألف درهم جاز، فكذا إذا وجد ولم يكن لها غيره، فإن أدى إليه تلك الألف بعينها لا شك أنه يعتق، وإن أدى ألفاً غيرها فكذلك. فرق بين هذا وبينما إذا قال لعبده: إن أديت إليّ ألف فلان هذه فأنت حر، فأدى غيرها فإنه لا يعتق وفي الكتابة تعليق عتق، كما في قوله: إن أديت إليَّ ألفاً فأنت حر، والفرق ما ذكرنا أن التعليق في باب الكتابة ثابت بالمعاوضة فيتعلق الأداء بما هو عوض، والتعيين هاهنا دخل على ما هو عوض. والتعيين متى دخل على العوض وهي الدراهم أو الدنانير كان التعيين لغواً كما في سائر المعاوضات، وإذا أُلغي صار هذا التعيين وعدمه بمنزلة، فأما التعليق بقوله: إن أديت إليّ ألفاً فأنت (....) في المعاوضة؛ لأن هذا ينعقد يميناً للحال، والتعيين دخل هاهنا على الشرط لا على العوض. والتعيين إذا دخل على الشرط يكون معتبراً. قال: وإذا كاتب المسلم عبده على خمر أو خنزير فالكتابة فاسدة؛ لأن لخمر والخنزير كل واحد منهما ليس بمال متقوم في حق المسلم. وتسمية ما ليس بمال متقوم في عقد يحتاج فيه إلى التسليم يوجب فساد العقد كالبيع. فإن أدى ذلك قبل أن يترافعا إلى القاضي عتق، وعليه قيمة نفسه؛ لأن الكتابة قد فسدت، والمعقود عليه في العقود الفاسدة مضمون بالقيمة. وذكر في اختلاف زفر ويعقوب أن عند زفر رحمه الله لا يتعلق إلا بأداء قيمة نفسه؛ لأن البدل في الكتابة الفاسدة هي القيمة، وإنما يعتق المكاتب بأداء البدل. وعند أبي يوسف رحمه الله أدى المشروط أو قيمة نفسه فإنه يعتق؛ لأن البدل صورةً هو المشروط، والعتق يتعلق بأدائه، ومن حيث المعنى البدل هو القيمة فإن هو أدى يعتق. وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد رحمه الله في الكتابة إذا كانت فاسدة بأن حصلت على ألف رطل من خمس أو على عبد لرجل أو ما أشبه ذلك. وأداء المكاتب إلى المولى ما شرط في عقد الكتابة عتق، ويسعى في تمام قيمته. قال: وقال أبو يوسف وأبي حنيفة رحمه الله أنه قال المولى في عقد الكتابة: إن أديت إليّ فأنت حر عتق عبده بالأداء، وعليه تمام قيمته. وإذا لم يقل ذلك في عقد الكتابة لم يعتق. وقال أبو يوسف رحمه الله ينبغي أن في قول أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا قال: إن أديت إليّ فأنت حر أنه إذا أدى عتق ولا شيء عليه. وإن كاتب الرجل عليه وهو خياط أو صباغ على عبد مثله يعمل عمل القياس أن لا تصح هذه الكتابة. وفي الاستحسان: يصح. وجه القياس: أنه جعل بدل الكتابة ما لا

يمكنه التسليم؛ لأنه جعل بدل الكتابة عبداً موصوفاً بصفة، وقد يكون عبدان على تلك الصفة ويتفاوتان في القيمة تفاوتاً فاحشاً، فالمولى يطالبه بأكثرها قيمة، وهو سلّم أدناهما قيمة بخلاف ما لو ذكر العبد مطلقاً لأن المستحق بهذا عبد وسط، فأما هاهنا المستحق عبد على الصفة التي ذكره المولى وعلى هذه الصفة يتفاوتان. وجه الاستحسان: أن العبدين على الصفة الذي وصفه المولى إن كانا يتفاوتان في القيمة إلا أن المولى يجبر على قبول أقلهما قيمة كما في الوسط، فإن القيمة بين وسط ووسط مما يتفاوت، ولم يمنع ذلك جواز الكتابة لأن المولى يجبر على قبول أقلهما قيمة فكذلك هذا. وإذا كاتب الرجل إلى الحصاد أو إلى الدياس، القياس أن لا يجوز، وفي الاستحسان يجوز. وجه القياس أن الجهالة دخلت في قدر الأجل فيعتبر بجهالة دخلت في قدر الرجل والبدل، والجهالة في قدر البدل يوجب الفساد قلّ أو أكثر بأن كاتبه على قيمته، فكذلك في قدر الأجل. ودليله: ما لو كاتبه بألف درهم إلى وقت هبوب الريح، بخلاف ما لو كاتبه على وصف أو إشاره لأن الجهالة في الوصف لا في القدر. وفي الاستحسان يجوز؛ لأن الجهالة وإن دخلت في قدر الأجل إلا أن حال الأجل أضعف من حال البدل؛ لأن البدل دين في باب العقد لا يجوز العقد بدونه. والأجل شرط زائد يجوز العقد بدونه فكان حال الأجل دون حال البدل، فقيل بأن الجهالة في قدر البدل يمنع حجة العقد قلّ أو كثر ليظهر مؤنة حاله والجهالة في قدر الأجل إن كان قليلاً لا يوجب الفساد ويكون بمنزلة جهالة يتمكن في صفة البدل، وإن كانت فاحشة كما في هبوب الريح يوجب الفساد، ويُعتبر بجهالة قدر يتمكن في البدل ليظهر نقصان حال الأجل من حال البدل. وإن كاتب الرجل عبده على ألف درهم، وفي يد العبد ألف درهم أو أقلّ أو أكثر كانت الكتابة جائزة وكانت ينبغي أن لا يجوز إذا كان في يده أكثر (339ب1) من ألف أو أقل لأنه ربا، ألا ترى أنه إذا اشترى منه ألفاً بألفين بعد الكتابة فإنه لا يجوز، وإنما لا يجوز لمكان الربا. والفرق: أن حكم هذا الربا أخف من حكمه بعد الكتابة؛ لأن العقد هنا يوجد مع العبد فلا ربا بين المولى وبين العبد، وحكمه يقع هاهنا بعد الكتابة والربا يجري بين المولى ومكاتبه، فباعتبار العقد لا يكون هذا ربا، وباعتبار الحكم يكون ربا فكان ربا من وجه دون وجه، فيشبه هذا الوجه الاعتياض عن الأقل؛ لأن ذلك ربا عند بعض الفقهاء فليس بربا عند البعض فكان ربا من وجه دون وجه فجاز، فكذاكم بخلاف ما لو وجد هذا العقد بعد الكتابة لأنه ربا باعتبار العقد والحكم جميعاً، فكان ربا من وجه دون وجه ملحق بالعبد المأذون؛ لأن المكاتب بين الحر والعبد والله أعلم.

الفصل الثالث في الشروط والخيار في الكتابة

الفصل الثالث في الشروط والخيار في الكتابة قال محمد رحمه الله: إذا كاتب الرجل عبده على أن يخدمه شهراً، القياس: أن لا يجوز، وفي الاستحسان: يجوز. وجه القياس: أن الخدمة مجهولة الجنس قد تكون في البيت وإنها مختلفة قد تكون طبخاً وقد تكون كنساً وقد تكون خارج البيت وإنها مختلفة أيضاً، وقد تكون سعياً وقد يكون تكسير حطب وشراء شيء والتفاوت الكبير يوجب اختلاف الجنس وجهالة الجنس توجب فساد الكتابة. قال مشايخنا رحمهم الله: ذِكْرُ القياس في الكتابة يكون ذكرَ في الإجارة فيقال فيما إذا استأجر رجلاً ليخدمه شهراً: أنه لا يجوز قياساً من طريق الأولى؛ لأن الكتابة أسرع جوازاً من الإجارة. وجه الاستحسان: أن أعمال الخدمة معلومة فيما بين الناس عرفاً، والمعروف فيما بين الناس كالمشروط، وبهذا جازت الإجارة وإن لم يبين نوع الخدمة، وينصرف مطلق اسم الخدمة إلى ما يعتاد خدمة فيما بين الناس في البيت وخارج البيت فكذا هاهنا قيل أولى؛ لأن الكتابة أسرع جوازاً من الإجارة. وكذلك إذا كاتبه على أن يخدم فلاناً شهراً صح استحساناً لا قياساً. ولو كاتب عبده على ألف درهم على أن يؤديها المكاتب إلى غريم له كانت الكتابة جائزة، فرق بين الكتابة وبين البيع، فإنه إذا باع عبده بألف درهم على أن يؤدي المشتري إلى غريم البائع كان البيع فاسداً، وقد شرط في الموضعين شرطاً لا يقتضي العقد؛ لأن العقد في الموضعين لا يقتضي الأداء إلى غير العاقد، وللمولى والبائع في هذا الشرط فائدة، فإنه يسقط عن نفسه مؤنة القضاء إلى غريمه، والناس يتفاوتون في الاستيفاء أيضاً مع هذا حكم بفساد البيع ولم يحكم بفساد الكتابة. والوجه في ذلك: أن البيع بمثل هذا الشرط إنما يفسد ليست بالربا لأنه شرط على المشتري لنفسه منفعة ليس بأدائها عوض، والربا ما ملك بالبيع وخلا عن العوض، والربا يفسد البيع، وفي الكتابة لا يصير ربا؛ لأنه خالٍ ما تشترط عليه هذه الزيادة المكاتب عبده؛ لأن العقد يجري بينهما وهو عبد، وحكمه ثبت وهو مكاتب فكان ربا من وجه باعتبار الحكم، ولو لم يكن ربا باعتبار العقد ومثل هذا لا يفسد الكتابة، كما لو كاتب عبداً له على نفسه مما في يده من المال بألف درهم، وفي يد العبد ثلاثة آلاف درهم. وكذلك لو كاتبه على ألف درهم على أن يضمها لرجل على من سيده فالكتابة جائزة، ولو كان مكان الكتابة بيعاً بأن باع عبداً له من رجل بألف درهم على أن يضمن المشتري الثمن عنه لغريم البائع فالبيع فاسد والفرق ما ذكرنا. قال: والضمان جائز

أيضاً، وهذا الاستحسان والقياس أن لا يجوز. قال: ولو قال العبد للمولى: كاتبني على ألف درهم على أن أعطيها من مال فلان فلا تجوز هذه الكتابة، وطريقه أنهما وإن شرطا في الكتابة شرطاً لا تقتضيه المكاتبة إلا أنه لا منفعة للمولى في هذا الشرط؛ لأن الألف من ماله ومن مال فلان في حق المولى على السواء، واشتراط ما لا يقتضيه العقد إذا لم يكن للمشروط فيه منفعة لا يوجب فساد العقد من ذلك في كتاب البيوع. قال في «الجامع الصغير» : إذا شرط المولى على المكاتب أن لا يخرج من البلدة إلا بإذنه فهذا الشرط باطل والكتابة جائزة، وإنما كان الشرط باطلاً لأنه تخصيص لما دخل تحت الكتابة من حيث المكان؛ لأن إبطال الإطلاق إلى الأماكن كلها للتجارة دخلت تحت الكتابة؛ لأنه طريق التجارة واكتساب المال. قال الله تعالى: {فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل ا} (الجمعة: 10) وما كان طريقاً للتجارة. واكتساب المال يجب أن يكون داخلاً تحت الكتابة وثباتاً على المصر قياساً على البيع والشراء والاحتطاب والاصطياد. قلنا: وتخصيص ما دخل تحت الكتابة يوجب فساد الكتابة، كما لو خص عليه التصرف في نوع دون نوع، إلا أن فساد هذا الشرط لا يوجب فساد الكتابة؛ لأن الكتابة تشبه النكاح من حيث أن أصل مبادلة المال بما ليس بمال في الكتابة تقابل الرق، والرق ليس بمال، ولهذا أوجب الحيوان ديناً في الذمة بدلاً عن الرق ونسبة البيع من حيث أنها تقال وتفسخ فكانت بين البيع والنكاح فألحقناها بالنكاح فلم تفسد، هذا شرط لا يقتضيه إذا كان شرطاً يمكن الوفاء به وإن كان لأحدهما فيه منفعة وألحقناها بالبيع وأفسدناها بشرط لا يقتضيه إذا كاتب عاجزاً عن الوفاء به، ولأحدهما فيه منفعة عملاً بالشبهين جميعاً. إذا ثبت هذا فنقول: إن الشرط يخرج المكاتب إن كان شرطاً لا تقتضيه الكتابة وللمولى فيه منفعة حتى يمكنه المطالبة والمطالعة كل ساعة، ويمكن للمكاتب الوفاء به فألحقناها بالنكاح فلم يفسدها به. وفي «نوادر» المعلا عن أبي يوسف: إذ كاتب عبده على أنه إن خرج من البلدة فهو عبد والكتابة فاسدة. ولو كاتب أمته على ألف درهم على أن يطأها ما دامت مكاتبة فالكتابة فاسدة؛ لأن شرط الوطء لا تقتضيه الكتابه، وللمولى فيه منفعة ولا يمكن للمكاتب الوفاء به. فلو أدت الألف عتقت؛ لأن الوطىء لا يصلح بدلاً، فصار البدل هو الألف لا غير. وإذا عتقت فإن كان الألف مثل قيمتها لم يجب شيء آخر وإن كان أقلّ من قيمتها فعليها تمام قيمتها؛ لأنه إنما رضي بزوال ملكه عنها بأقل من قيمتها رغبة في الشرط، فإذا لم يسلم له المشروط كان عليها تمام القيمة، فإن وطئها قبل أداء الكتابة فعليه عقرها إذا أدت وعتقت، وهذا بخلاف ما لو باع جارية بيعاً فاسداً ووطئها البائع قبل التسليم ثم سلمها فإنه لا عقر على البائع لأن هناك الملك ثبت للمشتري بالقبض، فكان البائع واطئاً

ملك نفسه، وهاهنا حكم الكتابة يثبت من وقت العقد. ولهذا لو وطئها غير المولى ضمن العقر لها القيمة إلا أن في الكتابة الفاسدة لا يجب العقر للحال لأنها يفسخ بحكم الفاسد، فإذا أدت وعتقت بغير حكم الكتابة، فيجب العقر، ويجوز من اشتراط الخيار في الكتابة ما يجوز في البيع؛ لأنها عقد يحتمل الفسخ والإقالة، فيحتمل الخيار كالبيع، وعن أبي يوسف أنه لا يجوز اشتراط الخيار في الكتابة لا للمولى ولا للمكاتب. وعن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يجوز اشتراط الخيار للمولى ويجوز اشتراطه للمكاتب. وفي «ظاهر الرواية» : يجوز على نحو ما بينا. وإن شرط الخيار أكثر من ثلاثة أيام لم يجز عند أبي حنيفة رحمه الله كما في البيع، فإن أجاز صاحب الخيار في الثلاث جاز، وإن لم يمضها حتى مضت الثلاث بطلت الكتابة عنده كما في البيع بشرط الخيار أكثر من ثلاثة أيام إذا لم يمض من له الخيار حتى مضت الثلاث فإنه يبطل البيع عند أبي حنيفة رحمه الله كذا ههنا. ولو اشترط المولى بالخيار لنفسه ثلاثاً فاكتسب العبد كسباً أو كاتب جاز فوطئت بشبهة ووجب العقر أو ولدت ولداً أو قتل الولد وجبت القيمة (340أ1) . ثم أجاز المولى الكتابة فكذلك، ولو باع المولى الولد أو وهبه وسلم أو أعتقه جاز تصرفاته وبطلت الكتابة كما في البيع، فإن الجارية المبيعة بشرط الخيار للبائع إذا ولدت في هذا الخيار فأعتق البائع الولد أو ردّه وكان ذلك ردّ البيع. والمعنى في الكلّ أن الولد حرّ ومنها ولو باشر هذه التصرفات منها كان رد الكتابة فكذا في حرف منها وإذا كاتب عبده على نفسه وأولاده صغار على أنه بالخيار ثلاثة أيام فمات بعض ولده ثم أجاز الكتابة لا يسقط شيء عنه من البدل كله عليه دون الولد إذ لا ولاية له على ولده في إلزامه إياه شيئاً وكذلك لو كاتب عيدين له كتابة واحدة على أنه بالخيار فمات أحدهما ثم أجاز الكتابة جاز ولا يسقط شيء من المكاتبة. ولو كاتب (أمته) أنها بالخيار فأعتق السيد الولد فهي على خيارها لأن إعتاق السيد الولد بجامع بقاء الكتابة فيها، ألا ترى أن بعد لزوم الكتابة لو أعتق المولى ولدها تبقى الكتابة فيها على حالها كذا هاهنا. فإن أجازت الكتابة بعدهن ولكن لا يسقط شيء من البدل لأن في هذا تحصيل بعض مقصودها. ألا ترى أنها لو ولدت بعد نفوذ الكتابة فأعتق المولى الولد لم يحط عنها شيء من البدل، فكذا إذا أعتق الولد قبل تمام النكاح للكتابة، بخلاف ما إذا كان الخيار للمولى فأعتق الولد لأن هناك ينفسخ العقد بإعتاق الولد، أما هاهنا بخلافه. ولو كان الخيار للمولى فأعتق المولى لا يعتق معها، بخلاف ما إذاكان الخيار لها وأعتقها المولى، فإن هناك يعتق الولد معها. والفرق أن بإعتاق المولى إياها تنفسخ الكتابة فيها، ويثبت العتق فيها بالإعتاق لا بالكتابة، والولد منفصل عنها، فأما إذا كان الخيار لها وأعتقها المولى، فبإعتاقها في هذه الصورة لا تنفسخ الكتابة فيها، فكان العتق حاصلاً بجهة الكتابة فيبيعها الولد فيه.

الفصل الرابع في عجز المكاتب (و) فسخ الكتابة ليثبت عجزه

ولو كان الخيار للمولى فولدت ثم ماتت في مدة الخيار لا تبطل الكتابة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وله أن يجيزها. وإذا جاز يسعى الولد على نجوم الأم، فإذا أدى عتقت الأم في آخر جزء من أجزاء حياتها. وعند محمد رحمه الله تبطل الكتابة ولا تصح إجازة المولى. وجه قول محمد رحمه الله: أن المعقود عليه مَات في مدة الخيار فيبطل العقد، كما لو باع أمةً على أن البائع بالخيار فولدت ثم ماتت. والمعنى في ذلك أن لزوم العقد عند سقوط الخيار فلا بد من بقاء من هو الأصل، والمعقود بالعقد عند ذلك. وجه قولهما: إن ألف لزم ومنها فيجعل قائماً مقامها في تنفيذ العقد عند الإجازة باعتبار حاجتها وحاجته إلى تحصيل العقد عند الأداء، ألا ترى أن بعد لزوم العقد لو مات يجعل الولد قائماً مقامها في السعاية على النجوم للمعنى الذي ذكرنا فكذا هاهنا. وإذا كان الخيار للمولى فاشترت وباعت في مدة الخيار ثم رد المولى الكتابة فإذا لم تثبت الكتابة، لم يثبت الإذن فلا تنفذ تصرفاتها، إلا أن يراها تبيع وتشتري ويسكت فحينئذ يكون ذلك من المولى إجازة المكاتبة وتنفذ تصرفاتها وإن كان الخيار للمكاتب فتصرفه يكون إجازة للكتابة. ولو كاتبها وشرط الخيار لنفسه فولدت ولداً ثم أسقط صاحب الخيار خياره فالولد مكاتب معها لأن حكم الكتابة عند سقوط الخيار تثبت من وقت العقد كما في البيع، فتبين أن هذا ولد المكاتبة فيصير مكاتباً والله أعلم. الفصل الرابع في عجز المكاتب (و) فسخ الكتابة ليثبت عجزه وإذا عجز المكاتب عن أداء بدل الكتابة، وأراد المولى أن يفسخ عقد الكتابة ويردّه في الرق إن رضي المكاتب بالفسخ لا شك أنه ينفسخ العقد بفسخهما؛ لأنه تم بهما، فينفسخ بفسخهما أيضاً كالبيع والإجازة وأشباههما، وإن لم يرض المكاتب بالفسخ ففسخ المولى العقد بنفسه ففيه روايتان: في رواية لا يصح فسخه، ويحتاج فيه إلى قضاء القاضي، وإنما كان للمولى حق فسخ الكتابة عند عجز المكاتب إما لأنه تمكن الخلل (في) مقصود المولى فتمكن الخلل في مقصود العاقد لعدم تمام الرضا، وعدم تمام الرضا في العقد المحتمل للفسخ يمنع لزومه، وكل عقد هو ليس باللزوم فللعاقد فسخه بشرائط، ولأن هذا بمنزلة العيب من حيث أنه يوجب تمكن الخلل في مقصود العاقد، وبالعيب يفسخ كل عقد يحتمل الفسخ فهذا أمر متفق عليه. بعد هذا اختلفت الروايات في اشتراط قضاء القاضي لصحة هذا الفسخ. وجه الرواية التي قال القاضي: ليس بشرط أن هذا تمكن في أحد العوضين قبل تمام العقد لأن تمام الكتابة بالأداء؛ لأن تمام العقد لوقوع الفراغ عن استيفاء أحكامه، فيشبه من ذلك

الوجه لو وجد المشتري بالمشترى عَيْبَاً قبل القبض، وهناك ينفرد المشتري بالفسخ ولا يحتاج فيه إلى قضاء القاضي فهاهنا كذلك. وجه الرواية الأخرى: أن هذا عيب تمكن في أحد العوضين بعد القبض؛ لأن المكاتب يعقد الكتابة فصار في يده، فأشبه من هذا الوجه ما لو وجد المشتري بالمشترى عيباً بعد القبض، وهناك المشتري لا ينفرد بالفسخ كذا هاهنا.f وإن أراد المكاتب أن يعجز عن نفسه فقال المولى: لا أعجزك هل تنفسخ الكتابة؟ روي عن الفقيه أبي بكر البلخي رحمه الله أنه قال: سمعت أبا نصر محمد بن محمد بن سلمة عن ابنه محمد بن سلمه أنه قال: إذا رأى المولى أن يعجزه فله ذلك ولا تنفسخ الكتابة بتعجيزه، وكان يقول المولى يقول له: إذا أعجزتك على أن أستكسبك وأشغلك بالكسب فلي أن لا أعجزك واستكسبك فيكون الكسب لي، ولذلك قال الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله: وإنه خلاف ما ذكر أصحابنا رحمهم الله في كتبهم فإنهم قالوا: للعبد أن يعجز نفسه، وذلك لأن النفقة بعد التعجيز وفسخ الكتابة تكون على المولى، وكذلك جنايته على المولى، وفي حالة الكتابة كل ذلك على العبد. وللعبد أن يعجز نفسه ويفسخ الكتابة حتى يلزمه ذلك. فالحاصل: أن الكتابة في جانب المكاتب على قول محمد بن سلمة لازمة، وعلى ما يقوله أصحابنا رحمهم الله في كتبهم غير لازمة وإن كانت الكتابة مؤجلة منجمة فكسب المكاتب نجماً واحداً قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: يرد في الرق، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يردّ في الرق ما لم يكسب نجمين. فوجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن النجم الثاني جعل وقتاً لأداء ما وجب بالأول فلا يتم عجزه عن النجم الأول إلا بالثاني، ولهما ذكرنا من وجهين: أنه تمكن الخلل في المعقود عليه، وأن هذا معنى العيب، ومعنى آخر: أن النجم الأول لما مضى صار ذلك القدر حالاً فلا يوجد ثانياً بعد حلوله وفي التأخير إلى الثاني تأجيل له إلا أنه يوجد يومين أو ثلاثة إذا كان له مال حاضر أو غائب يرجى قدومه، ثم إذا كبر نجماً أو نجمين يرد في الرق وإن لم يشترط المولى ذلك العقد، لأن الفسخ والرد في الرق عند العجز من قضية عقد الكتابة شرعاً لما ذكرنا، وما يقتضيه العقد شرعاً يثبت من غير شرط. قال: رجل كاتب عبدين له مكاتبة واحدةً ثم إن أحدهما عجز ورده المولى أو قدمه إلى القاضي ورده القاضي ولا يعلم القاضي بمكاتبة الآخر معه فإنه يصح ردّه، وذلك لأن العبدين في حق المولى جعلا كعبد واحد على ما يأتي من حيث الحكم؛ لأن الانقسام في حقه غير ثابت كما في العبد الواحد على ما يأتي بيانه بعد هذا. ولو كان العبد واحداً يفسخ المولى أو القاضي الكتابة في نصفه أو في كلّه حالة القدرة على الآن فإنه يكون الرد باطلاً؛ لأن شرط الرد إذا لم يوجد الرضا من العبد يفسخ الكتابة بالعجز عن أداء بدل الكتابة، ولا يتحقق عجز هذا (339ب1) ما دام الآخر قادراً لأنه يعتق بأدائه، ولهذا قلنا: لو مات أحدهما عاجزاً، فإن الكتابة لا تنفسخ؛ لأن القدرة

على الأداء ثابته من جهة صاحبه، فكذلك هذا. فإن عاد هذا الذي رد في العتق ليثبت عجزه، وجاء الآخر واستسعاه المولى في نجم أو نجمين منجز، فأراد أن يرده القاضي، فليس له ذلك، وذلك لأن رد الأول لم يصح، لأن عجزه لم يثبت من حيث الاعتبار، فبقي قادراً، وإذا بقي الأول قادراً لم يثبت عجزه؛ لأن قدرة الأول قدرة هذا، فما لم يعجزا معاً لا يثبت عجز. ولو ان رجلين كاتبا عبداً مكاتبة واحد، ة فغاب أحدهما وقدم الشاهد العبد إلى القاضي وقد عجز لا يرده في الرق حتى يجتمع الموليان جميعاً، وهذا الجواب على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يشكل؛ لأن فسخ الكتابة في نصيب الشاهد دون نصيب الغائب غير ممكن على مذهبنا؛ لأن الكتابة عندهما لا تتجزأ ثبوتاً فكذا لا تتجزأ بقاء، وإذا لم يكن فسخ الكتابة في نصيبه إلا بعد الفسخ في نصيب صاحبه، والفسخ في نصيب الغائب متعذر حال غيبته لأن لا ولاية للحاضر على صاحبه تعذر الفسخ في نصيب الحاضر. وإنما لا إشكال على قول أبي حنيفة رحمه الله لأن الكتابة على قول أبي حنيفة رحمه الله تتجزأ ثبوتاً فتتجزأ بقاء، فيمكن فسخ الكتابة في نصيب الشاهد مع بقاء الكتابة في نصيب الغائب، فكان يجب أن يفسخ الكتابة في نصيبه، إذ ليس في هذا فسخ عقدعلى صاحبه وفسخ العقد في نصيبه مقيد، لأن ما اكتسب بعد هذا يكون النصف له، هذا قال: لا يصح لأن فسخ العقد في نصيب الشاهد فسخ عقد على الغائب من وجه، لأن كتابة الحاضر نصيبه ما يؤثر في نصيب الآخر حتى يمتنع بيعه، وإذا كان مؤثرأً في نصيبه وقد حصل ذلك التأثير برضاه جعل كالكاتب من جهته، وإذا صار كالثابت من جهة متى فسخ العقد في نصيبه صار فاسخاً على صاحبه قدر ما انعقد لصاحبه من وجه، كما لا يكون له فسخ عقد على صاخبه إذا اثبت العقد من جهة صاحبه من كل وجه، فكذا لك لا يجوز له فسخ عقد ثبت لصاحبه من وجه دون وجه. وهذا بخلاف رجلين لكل واحد منهما عبد على حدة، كاتباهما كتابة واحدة ثم عجز أحدهما كان لمولاة أن يفسخ الكتابة فيه، وإن كان مولى الآخر غائباً قال: لا يفسخ، وذلك لأن الشاهد من مسألة العبدين لم يصر فاسخاً على صاحبه شئياً؛ لأن كتابة عبده لا يورث في عبد صاحبه حتى لا يمنع على صاحبه بيع عبده وإذا لم يؤثر في عبد صاحبه لم يصر فاسخاً على صاحبه شئياً، فآما هاهنا كتابة هذا الشاهد أثر في نصيب صاحبه، وقد حصل هذا الثابت بإذن صاحبه، فيصير منقولاَ إليه من وجه، فيصير ذلك القدر ثابتا من جهة صاحبه. وإذ كان لرجل عبد وقد كاتبه فمات المولى وترك ورثة، فأراد بعضهم أن يرد المكاتبة قبل أن يجتمعوا جميعاً، قال: له ذلك. فرق بين هذا وبين أحد الشريكين في كتابه العبد إذا أراد أن يفسخ الكتابة حالة غيبة صاحبه ليس له ذلك. والفرق أن الكتابة ههنا حصلت من الميت، وكل واحد من الورثة

الفصل الخامس فيما يملكه المكاتب، وما لا يملكه

يقوم مقام الميت فيما يجب له وعليه، كأنه ليس معه غيره، إلا أنه إذا ادعى على الميت شيئاً، فأقام المدعي البينة على واحد من الورثة ثبت دينه في حق الكل كأنه قام على الميت. وكذلك لو ادعى أحد الورثة ديناً للميت على إنسان وأقام البينة، فإنه يثبت الدين في حق الجميع، فدل أن كل واحد من الورثة يقوم مقام الميت فيما يجب له وعليه، وكأنه ليس معه غيره، وإذا قام مقام الميت صار خصومة الوارث الواحد بمنزلة خصومة الميت، ولو كان الميت حياً وخاصم كان يرد العبد في الرق، فكذلك هذا. فأما أحد الشريكين لا يقوم مقام صاحبه فيما يجب له وعليه فلم (يكن) نائباً عن صاحبه في الفسخ، وفسخ الغير عقد الغير لا يصح وهو غائب إذا لم ينزعه نائب في الفسخ. قال: فلا يرده الوارث إلا بقضاء القاضي؛ لان الميت لو كان حياً وأراد أن يرده في الرق كان لا يرده في الرق إلا بقضاء القاضي في إحدى الرواتيين، فكذلك الوارث. فإن كان المكاتب هو الميت وترك ولدين، ولداً في المكاتبة لم يستطع المولى أن يرد واحداً منهما في الرق والآخر غائب، وذلك لأن المكاتب لما مات وجب عليهما بدل الكتابة معاً، وتعلق عتق كل واحد منهما بأداء جميع الكتابة، فصاربمنزلة عبدين كاتبهما المولى كتابة واحدة وهناك لا يرد أحدهما في الرق دون الآخر؛ لأن أحدهما لا يتحقق بدون الآخر، فكذا هذا، والله أعلم. الفصل الخامس فيما يملكه المكاتب، وما لا يملكه قال محمد رحمه الله: مكاتب كاتب عبداً له من أكسابه فهو جائز، وهذا استحسان أخذ به علماؤنا رحمهم الله، والقياس أن لا يجوز، وهو قول الشافعي رحمه الله. القياس: أن الكتابة تعليق العتق بأداء المال في الحال، وإعتاق في الثاني متى أدى، وأي الأمرين ما اعتبرنا لا يملكه المكاتب، فإنه إذا قال لعبده: إذا أديب إليَّ ألفاً فأنت حر، أو أعتق عبده على مال لا يصح. وجه الاستحسان: أن المكاتب بالكتابة استفاد حرية اليد للحال، ولهذا صار أحق بمكاتبه وحرية الرقبة في الثاني عند الأداء، فيملك إثباته لغيره، ألا ترى أن العبد المأذون يملك إذن عبده في التجارة، وألا ترى أن الحر يملك إيجاب الحرية لعبده؛ لأن حقيقة الحرية ثابتة له للحال بخلاف العتق على مال لأنه لإيجاب حقيقة العتق للحال، وهو غير ثابت للمكاتب للحال، فلا يملك إثباته لغيره. وبخلاف مالو قال لعبده: إن أديت إليَّ ألفاً؛ لأنه تعليق عتق بالشرط مقصوداً، وهذا غير ثابت للمكاتب مقصوداً، وإنما يثبت له ضمناً لثبوت ملك الحجر عن الاكتساب

بالكتابة، فلا يملك إيجابه مقصوداً لغيره لأنه غير ثابت له مقصوداً ويملك إيجابه تبعاً لأنه ثابت له، والإنسان إنما يملك إيجاب الشيء لغيره بقدر ما ثبت له. ثم إذا أجاز كتابة المكاتب لو أدى المكاتب الثاني مكاتبته عتق لأن الكتابة عندنا صحت من المكاتب وما صحت من المكاتب كان المكاتب فيه.....، فإذا عتق الثاني الثاني بأداء مكاتبته ينظر إن كان الأول مكاتباً حال عتق الثاني فإن الولاء يثبت لمولى المكاتب الأعلى. وإن كان حراً قالو: لا يثبت للمكاتب الأعلى إنما لمولاه، وهذا لأن المكاتب الأعلى كما صار مكاتباً للثاني فمولاه صار مكاتباً للثاني من وجه؛ لأن لكل واحد منهما حق الملك من كسب المكاتب فالكتابة داخلة تحت كتابة الأول، فتكون حاصلة بإذن المولى فينعدم ما للمولى من حق الملك من كسبه فيصير منقولا إلى المولى فيصير المولى مكاتباً له من وجه، وبقدر ما للمكاتب الأول يصير مكاتباً له إلا أن حق المكاتب في كسبه أرجح من حق المولى؛ لأن له حق ملك وحق التصرف، وللمولى حق الملك وليس له حق التصرف فإذا أمكن إثباته منهما بأن كان الأول من أهل الولاء حال عتق الثاني كان إثبات الولاء منه أولى لرجحان حقه على حق المولى، وإذا لم يكن الأول من أهل الولاء بأن كان مكاتباً أثبتناه من مولاه ثبت الولاء للمولى. إذا أدى المكاتب الأول بعد ذلك وعتق لا يتحول الولاء إلى المكاتب الأول، وإن عجز الأول ورد في الرق ولم يرد الثاني مكاتبته بعدما بقي الثاني مكاتباً على حاله لأن كتابة القاضي قد صحت من المكاتب وكل تصرف صح من المكاتب لا يبطل بعجز المكاتب. ونظيره العبد المأذون إذا أذن لعبده في التجارة ثم جحد المولى (340أ1) . على الأول يبقى الثاني مأذوناً. وإذا بقي الثاني مكاتباً يصير مملوكاً للمولى على الحقيقة حتى أعتقه بعد عتقه على الحقيقة ولو أن الأول لم يعجز، ولكن مات قبل الأداء ولم يؤد الثاني مكاتبته أيضاً، فهذا على وجهين. إما أن مات الأول وترك أموالاً كثيرةً سوى ما تركه على المكاتب الثاني من بدل الكتابة وبه وفاء ببدل كتابته، وفي هذا الوجه لا تفسخ كتابته على ما يأتى بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، فيؤدي مكاتبته ويحكم بحريته في أجزاء جزء من آخر حياته وما بقي يكون لورثته الأحرار، إن كان له ورثة أحرار، وإن لم يكن يكون لمولاه ويبقى الثاني مكاتباً على حاله يؤدي مكاتبته إلى وارث المكاتب الأول ويعتق. وإذا أدى وعتق كان ولاءه للمكاتب الأعلى يرثه المذكور من ورثتة. الوجه الثاني إذا مات الأول، وترك مالاً سوى ما ترك على المكاتب الثاني من بدل الكتابه وأنه لا يخلو إما أن كان مكاتبة الثاني أقل من مكاتبة الأول وفي هذا الوجه

تنفسخ كتابة الأول فيكون عبداً ويبقى الثاني مكاتباً للمولى، يؤدي إليه مكاتبته ويعتق، وإن كان مكاتبة الثاني مثل مكاتبة الأول أو أكثر منه فلا يخلو إن حلت المكاتبة الثانية وقت موت الأول لا تفسخ كاتبة الأول فيؤدي الثاني إلى المولى قدر مكاتبة الأول فيحكم بحرية الثاني للحال وبحرية الأول في آخر جزء من أجزاء حياته، وما بقي من مكاتبة الثاني يكون لورثة المكاتب الأول الأحرار إن كان ورثة أحرار، ويكون ولاء الثاني للمكاتب الأول لا لمولى المكاتب الأول. وإن لم تحل المكاتبه على الثاني بعد موت المكاتب الأول إن لم يطلب المولى الفسخ حتى حلت فالجواب فيه كالجواب فيما إذا مات الأول، وقد حل ما على الثاني وقت موته، وإن طلب من القاضي الفسخ فالقاضي يفسخ كأنه الأول لأن المكاتبه حلت على الأول وماله على الثاني مؤجل فيتعين، كما لو حل مكاتبة الأول حال حياته وله على الناس ديون مؤجلة، وهناك إذا طلب المولى من القاضي الفسخ يفسخ. كذا هاهنا. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله في مكاتب كاتب عبداً له ثم مات الأعلى وقد ترك وقال: إنه دين على الناس فلم يخرج الدين حتى أدى الأسفل أي ابن الأعلى، فإنه يعتق وماله للمولى. فإن أخرج الدين بعد ذلك ونصيب الكتابة لم يحول الأسفل إلى الأعلى، إنما.... الولاء والميراث إلى يوم أداء المكاتبة ولو زوج له أب جاز لأنه اكتساب فيملك المكاتب كالكتابة وهو استحسان والقياس أن لا يجوز، ذكر القياس والاستحسان في الأصل، ولو كان وكيلاً يجوز أيضاً لأنه يملك المباشرة بنفسه فيملك التفويض إلى غيره، وإن زوج عبداً له فإنه لا يجوز لأن تزويج العبد ليس بتجارة ولا اكتساب. قال: وإنما هو إتلاف مال من غير عوض يحصل له فإن رقبه العبد يصير مشغولاً بالمهر والنفقة من غير مال يحصل له ولا يتوقف هذا العقد أيضاً حتى لو عتق المكاتب وأجازه لا ينفذ لأنه لا يجوز له حال وقوعه، ولو وكل المكاتب بذلك رجلاً لا يجوز أيضاً لأنه لا يملك المباشرة بنفسه فلا يملك التفويض إلى غيره، فإن زوجه الوكيل قبل عتق المكاتب ولم يتوقف لم يجز وإن زوجه بعدما عتق المكاتب، فيتوقف على إجازة المكاتب لأن المكاتب يجوزه بعد العتق، فإن قال المكاتب للوكيل بعدما عتق. أجزت وكالتك رضيت بوكالتك جاز ويكون هذا توكيلاً، فالتوكيل ينفقد بلفظة الإجازة، كأن تزوج المكاتب امرأة بنفسه يتوقف على إجازة لمولاه. وكذلك لو وكل وكيلاً بذلك فزوجه الوكيل يتوقف على إجازة المولى، فإن عتق المكاتب قبل إجازة المولى بعد ذلك النكاح على المكاتب فلا يحتاج إلى إجازته، وإن زوج أمته من عبد له فذلك لا يجوز. وروي عن أبي يوسف رحمه الله في غير رواية «الأصول» أنه يجوز. وجه رواية أبي

يوسف رحمه الله أن تزويج الأمة من عبده اكتساب مال من غير ضرر يلحقه فيكون جائزاً كتزويج الأمة. وإنما قلنا أنه اكتساب مال لأنه اكتساب للولد من غير زيادة ضرر يلحقه وذلك لأن المهر لا يجب على المولى، ونفقتها كان عليه قبل النكاح فليس في هذا النكاح زيادة ضرر لم يكن، وفيه اكتساب مال فيجوز. ووجه ما ذكر في ظاهر الرواية وهو أن الداخل تحت الكتابة تجارة واكتساب مال، وتزويج العبد الأمة ليس تجارة ولا اكتساب مال للحال، إنما يصير اكتساب مال إذا حصل الولد، والولد قد يحصل وقد لا يحصل فليس فيه اكتساب مال للحال، وفيه نوع ضر وذلك لأنه إنما يبيع الأمة فلا يبطل النكاح فيجب على العبد نفقتها وهي أمة الغير، فإن قيل بيعهما جملة حتى لا يلحقه هذا الضرر، قلنا في بيعهما جملة زيادة ضرر يلحقه. وإذا أذن لعبده في التجارة جاز؛ لأنه لو كاتبه جاز فإن استدان العبد ديناً يلزمه لأن الإذن صح من المكاتب وما صح من المكاتب فالمكاتب في ذلك بمنزلة الحر فإن خالف ما يطلقه العبد بالدين يباع بالدين إلا أن يؤدي عنه المولى؛ لأن ما صح من المكاتب فيه بمنزلة الحر فإن أدى المكاتب دينه حتى لا يباع العبد بدينه إن كان ما أدى مثل قيمته فإنه لا شك إنه يجوز عندهم جميعاً وذلك لأن العبد بعد لحوق الدين صار مستحقاً للغرماء فالمولى بالفداء صار كالمشتري منهم وشراء المكاتب بمثل قيمته جائز بلا خلاف فكذلك هنا. فأما إن كان ما فدى عن العبد أكثر من قيمته، إن كانت الزيادة على القيمة زيادة يتغابن الناس في مثلها جاز بلا خلاف. كما لو اشترى فأما إذا كانت الزيادة على قيمة العبد بحيث لا يتغابن الناس في مثلها أشار في «الأصل» إلى أنه يجوز، لأنه لم يفصل بين ما إذا كانت الزيادة على القيمة زيادة يتغابن الناس فيها أو لا يتغابن، فمن مشايخنا من قال ما ذكر في الكتاب قولهم جميعاً، وذلك لأن العبد صار كالمرهون يدين الغرماء ولو كان مرهوناً بدين المكاتب ثم إنه امتلك الرهن بقضاء الدين جاز، فإن كان ما أدى أكثر من قيمته فكذلك هذا. ومنهم من قال ما ذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة رحمه الله. فأما على قولهما لا يجوز لأنه صار كالمشتري لهذا العبد بقضاء الدين ولو اشترى بغبن فاحش كانت المسألة على الاختلاف على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. فكذلك هذا بخلاف الرهن لأن الزيادة على القيمة كان واجباً على المكاتب لا يمكنه التخلص عنه إلا بالقضاء. فأما هاهنا الدين ليس على المكاتب إنما الدين على العبد، ويمكنه التخلص عن الزيادة فيتبع هذا العبد فإذا التزم كان بمعنى الشراء يغبن فاحش لا بمعنى افتكاك الرهن، ولا يجوز هبة المكاتب وصدقته وكفارته؛ لأن هذه التصرفات لم تدخل تحت الكتابة فالحال فيه بعد الكتابة كالحال قبله، وشراؤه وبيعه حياته لأنه تجارة والتجارة داخلة تحت الكتابة، وما دخل تحت الكتابة كان المكاتب في ذلك بمنزلة الحر وإن حابى في ذلك محاباة، إن كانت يسيره بحيث يتعامل الناس في مثله جاز عندهم جميعاً؛ لأن هذا يجوز

من المأذون، فمن المكاتب أولى، وإن كانت بحيث لا يتغابن الناس في مثله فكذلك يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يجوز، والجواب فيه كالجواب في المأذون إذا باع واشترى بغبن فاحش يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يجوز، والمسألة تذكر في المأذون إن شاء الله تعالى. ولو حط عن الثمن بسبب عيب ادعى عليه كان جائزاً لأن الحط يثبت للعبد تجارة وما كانت تجارة (341ب1) كانت داخلة تحت الكتابة إلا أن الحط عن بعض الثمن لسبب العيب جائز من المأذون، فمن المكاتب أولى وإن حط عن بعض الثمن من غير عيب لا يجوز لأنه تبرع، ألا ترى أنه لا يجوز من المأذون فكذا من المكاتب. وكل ما أقر به من دين فهو جائز لأنه من صنع التجار، فإن من اشترى شيئاً ولزمه الثمن لا بد له من الإقرار، ومتى لم يصح إقراره يتحد معه الناس فكان الإقرار من صنيع التجار، وإن لم يكن تجارة حقيقيه فيكون داخلاً تحت الإذن، ألا ترى أن الإقرار بالدين من المأذون صحيح فمن المكاتب أولى، وإن رهن أو أرهن فهو جائز لأن الرهن إبقاء، والارتهان استيفاء، وذلك داخل تحت الكتابة، ألا ترى أن المأذون يملك هذا؟ فالمكاتب أولى. وإن أجر أو استأجر فهو جائز لأن الإجارة تجارة، لأن التجارة مبادلة مال بمال والمنافع مال، ألا ترى أن الحيوان لا يثبت ديناً في الذمة بدلاً عن المنافع، وليس له أن يقرض لأن القرض تبرع والتبرع غير داخل تحت الكتابة، ولهذا لم يملكه الأب والوصي في مال اليتيم، وإنما جعل تبرعاً وإن يستوجب بدلاً لأن ما أقرض يخرج عن ملكه للحال ببدل يجب في ذمة المفلس، لأن الاستقراض لا يكون إلا من المفاليس وما يجب في ذمة المفاليس كالتأدي من وجه في الغالب وإن استقرض جاز لأنه تبرع عليه على المكاتب جائز ألا ترى أن استقراض المأذون جائز فلأن يجوز من المكاتب أولى، وإذا أعار جاز لأن الإعارة وإن لم تكن تجارة إلا أنه من صنيع التجار لا بد للتجار منه وما لا بد للتجار منه، يكون داخلاً تحت الإذن، ألا ترى أن المأذون يملك ذلك، فالمكاتب أولى وإنما قلنا لا بد للتجار منه لأنه إذا باع شيئاً في طرف رمياً لا يمكنه تسليم ما باع إلا بتسليم الطرف فيصير معتبراً للطرف وكذلك من اشترى منه شيئاً لا بد له من أن يحبس على دكانه أو على فسطاطه ويستعار السحاب فهذا مما لا بد للتجار منه. وكذلك إذا أهدى هدية بالمطعوم، أو دعا إلى طعام فلا بأس به وهذا استحسان، والقياس أن لا يجوز لأنه تبرع، وللتجار منه في الجملة، ولكن جوز ذلك بالإنسان وهو مأذون أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قبل هدية بغلمان حال موته مكاتباً. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقبل هدية بريرة وهي مكاتبة، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم

كان يركب الحمار ويجيب دعوة المملوك. وروي عن أبي سعيد مولى (.....) الاستدانة قال: عرست وأنا عبد فدعوت رهطاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّمورضي عنهم وفيهم أبو ذر. فلما حضر وقت الصلاة قدموني فصليت بهم فتركنا القياس بالاّثار، والآثار إنما ورد من المعطوف فيرد غير المعطوف من الدراهم والثبات إلى ما يقتضيه القياس. والجواب في المأذون على هذا. وإذا باع بيعاً ما فأقال جاز لأن الإقالة تجارة، ألا ترى أنه يجوز من المأذون فمن المكاتب أولى، وله أن يدفع المال مضاربة لأنه من التجارة ولا استئجار للمضاف ببعض الربح، وله الاستئجار بأخذ المال مضاربة لأنه تجارة، ألا ترى أن المأذون يملك ذلك، ولأنه يؤاجر نفسه بما شرط من الربح، وله أن يؤاجر نفسه ويتصنع لأنه توكيل لغيره بالبيع والشراء، فله ذلك؛ لأنه من التجارة يستصنع، وإن كان إعانة للغير لأنه من صنع التجارة منه فيكون داخلاً تحت الإذن، ألا ترى أن المأذون يملك هذه الأشياء فالمكاتب أولى.Y وإن أوصى بوصية فلا يخلو إما أن يوصي بعين من أعيان ماله أو بثلث ماله أضاف الوصية إلى حالة الحرية أو لم يضف، أدى حال حياته فيعتق، أو مات عن وفاء فأدي عنه بعد وفاته. فإن أوصى بعين من أعيان ماله، فإن الوصية لا تصح على كل حال أضاف الوصية إلى الحرية أو لم يضف، أدى من حال حياته أم أدى عنه بعد وفاته. وإن أوصى بثلث ماله إن أضاف إلى حال الحرية وأدى حال حياته فعتق جاز عندهم جميعاً، وإن أُدي عنه بعد وفاته فإنه لا يجوز عندهم جميعاً، وإن أوصى بثلث ماله ولم يضفه إلى حالة الحرية، إن مات عن وفاء ثم أديت كتابته فإنه لا يصح عندهم جميعاً، وإن أدى حال حياته، على قول أبي حنيفة رحمه الله لا تصح هذه الوصية، وعلى قولهما تصح هذه الوصية فقد سوى بين الوصية بالعين وبين الوصية بثلث ماله، فيما إذا مات عن وفاء وأديت كتابته بعد الموت فقال: لا تصح الوصية عندهم لأن العتق في حق الوصية لا تستند، وإذا لم تستند صار في حق الوصية كأنه مات عبداً ووصية العبد لا تصح. وفرق بين الوصية بالعين وبين الوصية بثلث ماله فيما إذا أضافه إلى حريته وأدى في حالة حياته فقال: إذا قال: إن مت وأنا حر فثلث مالي وصية لفلان، ثم أدى وعتق تصح الوصية لأنه أضاف الوصية إلى حال تجوز فيه الوصية فصحت الإضافة، كما إذا قال إن ملكت عبداً وأنا حر فهو حر تصح الإضافة لأنه أضاف العتق إلى حالة يصح منه العتق فتصح الإضافة. ولو قال: إذا مت وأنا حر فهذه العين وصية لفلان لا تصح الوصية، والفرق أن الوصية بالعين لو صحت مضافة إلى حالة الحرية أدى إلى أن تصير الوصية مضافاً إلى وقت لا تصح إضافة الوصية إليه،

بيانه: أن الوصية بالعين إذا صحت إن انعقدت على العين كما عتق ولم يتأخر انعقادها إلى ما بعد الموت، كما لو أنشاء الوصية بعد الحرية، فإنما تنعقد للحال إذا جعلت الوصية بالعين وكان العين ملكه إليه وجبت الوصية حتى تبطل الوصية بهلاك المال. وإذا لم تكن العين في ملكه وقت الوصية لا تصح الوصية، فكذلك إذا كانت الوصية مضافة إلى حال الحرية تنعقد الوصية كما عتق إذا كانت العين في ملكه، وإذا انعقدت الوصية كما عتق ولم يتأخر انعقادها إلى وقت الموت لم تصح هذه الوصية؛ لأن من شرط صحة الوصية أن ينعقد حالة الوصية أو حالة الموت، فأما إذا صارت مضافة إلى وقت هو بين الموت وبين التكلم بالوصية فإنه لا يصح، كما إذا قال: أوصيتك بهذا العين غداً فإنه لا يصح. فأما الوصية بثلث المال متى صحت لا تنعقد كما عتق، بل يتأخر الانعقاد إلى حالة الموت، ألا ترى لو أنشأ الوصية بعد الحرية وله أموال، فالوصية لا تتعلق بذلك المال، حتى لا تبطل بهلاك ذلك المال، وإنما تتعلق بمال موجود وقت الموت. وإذا تأخر انعقاد هذه الوصية إلى وقت الموت صحت الوصية، ثم في الموضع الذي لا تجوز وصية المكاتب إذا جاء ورثته ولم يسلم المال قبلهم (....) مع عن ذلك فرق بين هذا وبين الحر إذا أوصى بجميع ماله ثم إن الوارث أجاز لم يكن للوارث أن يرجع سلم المال أو لم يسلمه، وهاهنا ما لم يسلموا المال فإن لهم أن يرجعوا. ووجه الفرق بينهما وهو الحر مالك بجميع ما أوصى على الحقيقة حالة الوصية، وإنما للورثة حق غير لا والمالك متى تصرف فيما يملكه على الحقيقة ولم ينعقد بحق الغير إذا أجاز صاحب الحق ينفذ من جهة المالك، كالراهن إذا باع المرهون ثم أجاز المرتهن ينفذ البيع من جهة الراهن فكذلك هاهنا تنفذ الوصية من جهة الموصي. والوصية توجب الملك للموصى له بعد موت الموصي قبل التسليم، فأما المكاتب متى أوصى لم يكن له حقيقة ملك فيما أوصى به، وإنما كان حق الملك وحق الملك لا يكفي لصحة التبرع فصار (242أ1) وجود حق الملك في حق الوصية وعدمه بمنزلة، فكأنه أوصى بمال غيره ثم مات ثم أجاز صاحب المال، وهناك إن أجاز وسلم جاز وكان هبة من جهة، وإن أجاز ولم يسلم كان له ذلك لأن الهبة لا توجب الملك قيل التسليم. فكذلك هنا فإن أجاز وسلم. ذكر محمد بن الحسن رحمه الله في «الكتاب» قياساً واستحساناً، قال: القياس أن لا يصح وفي الاستحسان يصح، وجه القياس في ذلك وهو أن الوصية تبرع حصل من المكاتب مضافاً إلى ما بعد الموت فيعتبر بما لو تبرع بشيء من حاله حال حياته، ولو تبرع بشيء من ماله حال حياته ثم أجاز المولى وسلم قبل العجز فإنه لا يجوز. فكذا إذا أجاز الوارث بعد وفاته وسلم وجب أن لا يجوز.

الفصل السادس في كتابة الحر على عبد وكتابة العبد على نفسهوعلى عبد آخر وكتابة المملوك على نفسه وأولاده

وجه الاستحسان في ذلك وهو أن الإجازة من الوارث إجازة حصلت من المالك لأن الوارث ملك كسب المكاتب بعد موته، فكانت إجازة من المالك حصلت بخلاف المولى لأنه لا يملك قبل العجز مالك المكاتب على الحقيقة وأنه له حق الملك وأنه لا يكفي بصحة الإجازة فلم تصح الإجازة من المولى قبل العجز والله أعلم. الفصل السادس في كتابة الحر على عبد وكتابة العبد على نفسهوعلى عبد آخر وكتابة المملوك على نفسه وأولاده قال في «الجامع الصغير» في حر مكاتب عن عبد لرجل على ألف درهم فإن أدى الحر عنه عتق، وإن بلغ العبد فقبل عنه مكاتب، صورة هذه المسألة: أن يقول حر لمولى العبد: كاتبت عبدك على ألف درهم على أني إن أديت الألف فهو حر. فأجابه المولى إلى ذلك وكاتبه على هذا الوجه فأدى إليه الحر ألف درهم عتق العبد. وذكر هذه المسألة في «الأصل» وذكر فيها القياس والاستحسان. القياس أن لا يعتق بأداء الحر، وفي الاستحسان يعتق، وكذلك لو قال عبد لمولاه: كاتبت عبدك الغائب فلاناً على ألف درهم على أني إن أديتها فهو حر فأجابه المولى إلى ذلك، وكانت على هذا ثم إن العبد المخاطب إذا أعطى الألف إلى المولى، القياس أن لا يعتق الغائب. وفي الاستحسان يعتق، والحاصل: أن على جواب القياس الكتابة في حق العبد في المسألة الأولى وفي حق الغائب في المسألة الثانية موقوفة على إجازته في حق جميع الأحكام فيما يجب له بعقد الكتابة وفيما يجب عليه، وعلى جواز الاستحسان الكتابة نافذة فيما يجب له بعقد الكتابة من حرية اليد للحال، ومن حرية الرقبة في الثاني، وهو عبد إذ المخاطب البدل لأنه يقع محض في حق العبد والمولى، والمخاطب يملكان إيقاعه، فأما فيما يجب عليه بعقد الكتابه وهو أداء المال فالكتابة موقوفة على إجازته، حتى لا يجب عليه أداء المال لأنه ضرر في حقه، والمولى والمخاطب لا يملكان الإضرار به إذا ثبت أن الكتابه على جواب الاستحسان نافذة في حق ما للعبد فتقول صحة أداء الفضولي حتى يعتق العبد بأدائه عن العبد فيعتبر الكتابه في حق هذا الحكم نافذة كما لو كان حاضراً وقبل، وإذا اعتبرت من نافذة في هذا الحكم يجب العتق عند الأداء. وذكر في «الجامع الكبير» أن الكتابة موقوفة على إجازة العبد الغائب قياساً واستحساناً قال ثمة: ولكن يعتق العبد بأداء الفضولي لأن في الكتابة شيئان تعليق العتق بالأداء، ومعنى المعاوضة فليس يوقف على الإجازة من حيث أنه معاوضة لم يتوقف من حيث أنه تعليق فتعلق العتق بالأداء فنزل عند الأداء وليس للمولى أن يرجع على العبد بشيء فيما أدى سواء ذكر المولى في الكتابة أنه ضامن أو لم يذكر، إن لم يذكر فلانه متبرع، وإن ذكر

فلأن العبد لم يأمره بذلك وهل يرجع المؤدي على المولى بما أدى إليه؟ ذكر في «الجامع الصغير» وفي «الأصل» : إن كان المؤدي والمخاطب عند الآجر. القياس أن يرجع عليه لأنه بدل عتق وقع عن المولى، وكان للمولى أن يرجع عليه، كما لو قال للمولى: اعتق عبدك عن نفسك على ألف درهم، فأعطاه إياه ثم أعتقه كان له أن يرجع عليه وطريقه ما قلنا. ولكن في الاستحسان لا يرجع عليه وذلك لأنا جعلنا الكتابة نافذة في حق ما للعبد، وأن يصح أداء هذا الفضولي حتى يعتق بأدائه له لا عليه فتعتبر الكتابة نافذة في حق الفضولي، وإذا اعتبرناها نافذة في حق أداء الفضولي كان الفضولي واجباً بدل كتابه هي واجب عليه في صحة لقضاء من الفضولي فلا يكون له أن يرجع فيما أدى، كما لو كان حاضراً فقبل ثم جاء فضولي وأدى عنه بدل الكتابة، وهناك ما أدى يسلم للمولى وكذلك هذا. وذكر هذه المسألة في «الجامع الكبير» وقال: إن كان المؤدي أداه بناءً على ضمان ضمنه، بأن كان بشرط المؤدي في الكتابة أنه ضامن للمكاتبة يرجع لأن ما أدى إلى المولى من مكاتبة العبد إياه على ضمان فاسد، لأنه ضمن عن بدل الكتابة لم يجب، ولو ضمن عن بدل كتابة واجبة لا يصح، فهاهنا أولى، وإذا لم يكن الضمان صحيحاً كان كالبائع في البيع الفاسد إذا أسلم المبيع إلى المشتري كان له أن يرجع عليه، وإذا رجع المؤدي على المولى لا يرجع المولى على العبد بشيء؛ لأنه لا يجب للمولى على العبد دين ثبتت الكتابة قبل إجازة العبد ولم يوجد من العبد الإجازة فبقي مجاباً بغير شيء، أما إذا أداه من غير ضمان لم يرجع على المولى بشيء، وكان ينبغي أن يرجع لأنه متبرع بأداء المكاتبة عن العبد قبل الإجازة، فينبغي أن يرجع، كما لو تبرع بقضاء دين غيره ثم ظهر أنه لم يكن على المتبرع عليه دين كان للمتبرع أن يرجع بما يتبرع به. والجواب أن المتبرع إذا حصل مقصوده من التبرع لا يكون له أن يرجع بما يتبرع به كما لو وهب لذي رحم محرماً ووهب الأجنبي فعوضه، وإذا لم يحصل مقصوده من التبرع كان له أن يرجع بما يتبرع به ففي مسألة قضاء الدين مقصود تفريغ ذمة من عليه، وهذا المقصود لم يحصل لأن تفريغ الفارغ محال فكان له أن يرجع، أما في مسئلتنا مقصوده تحصيل عتق العبد، وهذا المقصود قد حصل فلا يكون له أن يرجع. هذا لو أدى المؤدي قبل إجازة المكاتب جميع المكاتبة فإن أدى نصف المكاتبة أو ثلثه قبل إجازة العبد كان له أن يرجع بما أدى، سواء كان بضمان أو بغير ضمان، أما إذا أدى بضمان فلما قلنا، وأما إذا أدى بغير ضمان فلأنه متبرع لم يحصل مقصوده وهو العتق فكان له حق الرجوع بما أدى بخلاف ما لو أدى الكل على ما مر فإن لم يرجع على المولى بمال أدى حتى أجاز العبد الكتابة إن أداه بغير ضمان لا يكون له حق الرجوع بخلاف ما قبل الإجازة، والفرق بينها وهو أن العبد لما أجاز فقد استندت الإجازة إلى وقت العقد فظهر أن بدل الكتابة كان على العبد، وإن أدى بغير ضمان ظهر أن المؤدي تبرع تفضلاً على العبد من الدين فمن تبرع بقضاء دين غيره لا يكون له حق الرجوع لحصول المقصود وهو تفريغ ذمته عن

هذا العدد من الدين بخلاف ما قبل الإجازة، وإن تبين أن بدل الكتابة كان واجباً إلا أن الضمان ببدل الكتابة باطل فهو إنما أدى على ضمان فاسد، فكان له حق الرجوع فكانت المكاتبه على العبد على حالها لأن المؤدي لما استرد من المولى انتقض قبض المولى فصار كأن (342ب1) المولى لم يقبض منه شيئاً حتى أجاز العبد الكتابة. ولو كان كذلك كان جمع المكاتبه على العبد على حالها، كذا هاهنا. وإذا كاتب الرجل عبده على نفسه وعلى عبد آخر له غائب بغير إذن الغائب وأدى عتقا أيضاً ولم يرجع واحد منهما على صاحبه إذا أدى شيئاً. كذا ذكر المسألة في «الجامعين» وذكر هذه المسألة في «الأصل» وذكر فيها القياس والاستحسان، فقال: القياس أن تتوقف الكتابة في حق الغائب بما يخصه، وينفذ في حق الحاضر بما يخصه من بدل الكتابه. وفي الاستحسان تنفذ الكتابة في حق الحاضر بجميع الألف ويتعلق عتق الغائب بأدائه كأن قال للغائب: كاتبتك على ألف درهم على أنك أديت إلى غائب حر وفلان الغائب معك. فيقول: لا بد لمعرفة هذه المسألة من مسألة أخرى لم يذكرها هنا، وهو ما إذا كان العبدان حاضران فكاتبهما المولى على ألف درهم فقبلا، القياس أن يصير كل واحد منهما مكاتباً بحصته يعتق إذا أدى حصته، وبالقياس أخذ زفر رحمه الله، وفي الاستحسان يصير كل واحد منهما مكاتباً بجميع الألف، ويتعلق عتق الآخر بأداءه ويصيران في حق المولى بمنزلة عبدٍ واحد. وجه القياس في ذلك هو أن الكتابة معاوضه وتعليق إلا أن التعليق بيع المعاوضة، ولهذا بقي قابلاً للفسخ فإذا كان بيعاً كانت العبرة للمعاوضة لا للتعليق، فصار من حيث التدبير كأنه معاوضة في كل وجه، وفي المعاوضة المحضة إنما ينعقد العقد على كل واحد منهما بحصته، لا بجميع الألف، كمن باع عبداً من رجلين فإنه ينعقد البيع في حق كل واحد منهما بحصته حتى لم يكن للبائع أن يطالب أحدهما بجميع الألف إذا لم يكن الشرط كفالة كل واحد منهما عن صاحبه، فكذلك هذا، دليله ما لو نص فقال: كاتبتكما بألف درهم على أن يعتق كل واحد منهما بأداء خمسمئة، وجه الإستحسان في الكتابة شيئان معاوضة وتعليق العتق بأداء العوض، فاعتبار معنى المعاوضة إن كان يوجب الانقسام وتعلق عتق كل واحد منهما بأداء حصته، كما لو نص على التعليق فقال: إن أديتما ألفاً فأنتما حران لا يعتق واحد منهما بأداء حصته وباعتبار كلا الأمرين في حق المولى والعبدين متعدد، فيعتبر معنى التعليق في جانب المولى فلا يثبت الانقسام في حقه وتعتبر المعاوضة في جانبهما ونفيا الانقسام فيما بينهما اعتباراً للمعنيين بقدر الإمكان، وإذا لم يثبت الانقسام في حق المولى اعتباراً لجانب التعليق وتعلق عتق كل واحد منهما بأداء جميع الألف لا بأداء حصته، وصار العبدان حكماً بمنزلة عبد واحد في حق المولى، لما لم يثبت الانقسام في حقه وفي حق ما بينهما مكاتباً في ما بحصته، وإذا لم يثبت الانقسام في هذه المسألة في حق ما بينهما وبين المولى صار الجواب فيه كالجواب فيما إذا قال: على أنكما إن أديتما عتقتما، وإن عجزتما رددتما في الرق.

ولو قال هكذا تعلق عتق كل واحد منهما بجميع الألف وجعلا كعبد واحد في حق المولى، ولو كان العبد واحداً لا يعتق شيئاً منه إلا بأداء جميع المكتابه فكذلك هاهنا، إلا أنه لم يذكر القياس والاستحسان فيما إذا زاد على مطلق الكتابه قوله: على أنكما إن أديتما عتقتما لأن التعليق هاهنا ثبت نصاً، لا بالمعاوضة فكان بمنزلة ما لو قال: إن أديتما إلي ألفاً فأنتما حران، وفي نص التعليق لا يعتق أحدهما بأداء حصته فكذلك هذا. وأما إذا لم يذكر هذه الزيادة فالتعليق غير ثابت نصاً وإنما الثابث هي المعاوضة والتعليق حصل حكماً للمعاوضة، فكان القياس أن لا يعتبر التعليق ولكنه في الاستحسان اعتبر مقصوداً لأنه يثبت بسبب موضوع له، فإن الكتابة موضوع لإيجاب حرية اليد للحال، ولتعليق حرية الرقبة بأداء ما صار عوضاً. فإذا عرفنا هذا رجعنا إلى مسألة الحاضر والغائب إذا كاتب عبده الحاضر والغائب على ألف درهم إلى وقت كذا، ولم يزد على هذا فقبل الحاضر، القياس أن ينعقد على الحاضر بحصته وتقف في حق الغائب على إجازته بحصة نصيبه لما ذكرنا. وفي الإستحسان تنعقد الكتابة في حق الحاضر بجميع الألف ويتعلق عتق الغائب بأدائه أما الكتابة في حق الحاضر بجميع الألف فلما ذكرنا أن الانقسام لم يثبت في حق مولاه، وأما تعلق عتق الغائب بأداء الحاضر فلأن الانقسام إذا لم يثبت من الحاضر يثبت العتق في حق المولى، فصارا في حق المولى بمنزلة عبدٍ واحد فعند وجود الاداء من الحاضر ثبت العتق فيهما. يوضح ما قلنا إذ المولى إنما رضي بالعتق بشرط وجود جميع البدل إليه، فلو نفذت الكتابة في حق الحاضر بحصته فبعد ذلك الطريق أحد الشيئين، إما أن يجعل كأن المولى كاتب الحاضر على ألف درهم، وعلق عتق الغائب به، والمولى يتفرد، فهذا التعليق عند وصول بعض البدل إلى المولى فيكون عتق الحاضر حاصلٌ من رضا المولى وذلك لا يجوز فيعذر بتقبل الكتابة في حق الحاضر بحصته، أو يجعل العقد منعقداً في حق الحاضر والغائب بقبول الحاضر في حق الحاضر يجعل العقد منعقداً مطلقاً فيما ينعقد وفيما يضره وفي حق الغائب يجعل العقد منعقداً فيما ينفعه لا فيما يضره على ما مر، وضرر الغائب في حق وجوب المال عليه فلا يظهر انعقاد العقد في حقه، فلا يكون للمولى أن يطالب الغائب بشيء. وإذا أدى الحاضر البدل لا يرجع على الغائب بشيء أما لاضرر الغائب في تعلق عتقه بأداء الحاضر بل له فيه يقع فيظهر انعقاد العقد في حق الغائب في حق هذا الحكم وإذا أدى الحاضر جميع البدل عتقا لهذا فإن مات الغائب لا يرفع عن الحاضر شيء من بدل الكتابة. ولو أعتق الغائب يسقط عن الحاضر حصته لأن العبدين في حق المولى ولم يثبت الانقسام في حقه كعبدٍ واحدٍ من حيث الحكم. ولو كان عبداً واحداً حقيقة وقد كاتبه وأعتق بعضه سقط ما بحصته من بدل الكتابة، وإذا مات عن وفاء لا يسقط شيء من بدل الكتابة، فكذلك هذا إذا مات الغائب، فأما إذا مات الحاضر وقد قدم الغائب فقال: لا أدري شيئاً فله ذلك ويكون رقيقاً، أما له ذلك لما

ذكرنا أن الغائب في حقه لا يجب عليه بمنزلة المحلوف بعتقه كأن المولى علق عتقه بأداء الحاضر ألف درهم، ولو قال المولى هكذا فمات الحاضر فإنه لا يطالب بأداء ألف درهم فكذلك هذا. وأما يكون رقيقاً لأنه إذا لم يخبر الغائب على الأداء صار الحاضر مبتاعاً حراً فتنفسخ الكتابة في حقه، وإذا انفسخ في حقه ينفسخ في حق الغائب كما لو كانا حاضرين فقبلا ومات أحدهما ثم عجز الآخر، وإن حضر الغائب ورضي لا يكون للمولى عليه سبيل ولا يلزمه المال لما ذكرنا أن في حق ما عليه بمنزلة المحلوف بعتقه، وإن أدى الغائب المال يجبر المولى على القبول استحساناً، ويحكم بعتقهما كما ذكرنا أن الكتابة نافذة على الغائب فيما له وأن يخبر المولى على قبول المال منه حتى يحكم بعتقهما أمراً له، فلهذا يجبر على القبول، إلا أنه يقبل المال منه حالاً، ولا يمكن من السعاية على نحو الحاضر ولا يثبت الأجل في حقه، وإن كان الأجل له، لأن الأجل لتأخير المطالبة ولا مطالبة على الغائب فلا يثبت الأجل في حقه. وإن كانا حيين وأراد المولى أن يبيع الغائب فليس له ذلك استحساناً لما ذكرنا أن الكتابة نافذة على الغائب فيما له وأن لا يجوز بيع الغائب (343أ1) بفساد الكتابة في حق الغائب في حق حرمة بيعه ولو لم يكن شيء من ذلك، واكتسب الغائب أكساباً، فأراد المولى أخذها لم يكن له ذلك استحساناً، وكذلك لو أراد الحاضر أخذها لم يكن له ذلك استحساناً، لأن على جواب الاستحسان على أحد الوجهين الكتابة نافذة في حق الغائب فيما ينفعه وأن لا يكون لآخر حق مكاتبة الغائب تقع في حق الغائب فتعتبر الكتابة نافذة في حق الغائب في حق هذا الحكم. ولو قال الغائب: رددت الكتابة ولا أرضى بها ورضي المولى برده لم يلتفت إلى ذلك، لأن على أحد الوجهين الغائب بمنزلة المحلوف بعتقه والحلف لا يقبل الرد. وإن وهب المولى المكاتبة للحاضر عتقا لأنه لا يملك ما في ذمته بالهبة فيعتبر بما لو ملك ما في ذمته بأداء مثله. وهناك الجواب كما قلنا، فهاهنا كذلك ويجعل الكتابة في حق الغائب في حق هذا الحكم بمنزلة تعليق عتق الغائب، بل جعلنا الكتابة نافذة في حق الغائب في حق هذا الحكم وهو حصول العتق بهبة بدل الكتابة للحاضر وجعل الغائب تبعاً للحاضر فيه. وإن وهب المولى المكاتبة للغائب فهبته باطلة لأنه لا شيء على الغائب من المكاتبة وكان هذا تمليك الدين من غير من عليه الدين، وذلك لا يجوز وتعينت المكاتبة على الحاضر لأنه ما وهبها منه. وإن أعتق المولى العبد الحاضر عتق وبطل حصته من المكاتبة وأخذ الغائب بحصته من المكاتبة حالة. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» في أمة كوتبت على نفسها وعلى ابنين لها صغيرين فهو جائز ولهم إذا عتقوا ولم يرجع المولى على صاحبه بشيء، وفي «الأصل» يقول: إذا كاتب الرجل عبداً له على نفسه وولده الصغار بألف درهم مكاتبة واحدة وجعل النجوم واحدة، فإذا أداها عتقوا، وإن عجزوا وردوا في الرق جاز ذلك وتنعقد الكتابة على الأب بما بحصته وتقف في حق الصغيرين إن

كان يعقل الكتابة ما بحصته على إجازته، لأن لها يجبر، وإن كان لا يعقل تبطل لأنه لا يجبر لها وهذا كله قياس، والاستحسان تنعقد الكتابة على الأب بجميع الألف ويتعلق عتق الأولاد بأدائه، كأنه قال للأب: كاتبتك على ألف درهم على أنك إن أديت عتقت وعتق أولادك معك. واعلم بأن الولد الصغير إذا كوتب مع الأب بمنزلة الغائب كوتب مع الحاضرين من كل وجه وبمنزلة الولد المولود في الكتابة من وجه دون وجه. أما بمنزلة الغائب كوتب مع الحاضرين من كل وجه، وذلك لأن في الغائب مع الحاضر العقد أضيف إلى شخصين بألف درهم وليس للمولى ولا للحاضر ولاية إيجاب المال على الغائب هذا المعنى كله وجد في الوجه الولد الصغير كوتب مع الأب بألف درهم لأن العقد أضيف إلى شخصين بألف درهم، وليس للمولى ولا للأب ولاية إيجاب المال على الصغير، ولما وجد في الولد الصغير جميع معاني الغائب مع الحاضر كان الولد الصغير إذا كوتب مع الأب بألف درهم فقبل عنه الأب بمنزلة الغائب كوتب مع الحاضرين من كل وجه.l وأما بمنزلة ولد المولود في الكتابة من وجه دون وجه وذلك لأن جميع معاني الولد المولود في الكتابة لم توجد في ولد الصغير الذي كوتب مع الأب من كل وجه، وإنما وجد من وجه دون وجه وذلك لأن معنى الولد المولود في الكتابة شيئان: الولادة حالة الكتابة، والتبعية للوالد والوالدة من كل وجه، وفي هذه الصغير الذي كوتب مع الأب لم توجد الولادة حالة الكتابة، ولكن وجدت التبعية حالة العقد، لأن الصغير تابع للأبوين، وإن كانا رقيقين من وجه فإنه يسلم بإسلامهما وبإسلام أحدهما، وكذلك في حق الحضانة والتربية يكون مانعاً لهما، وإن كانا رقيقين فالتبيعة (في) هذا الوجه ثابتة بين الصغير وبين الوالدين حالة العقد فقد وجد في الولد الصغير بعض معاني الولد للمولود في الكتابة من وجه، ولم يوجد من وجه، وكان بمنزلة الولد المولود من وجه دون وجه وبمنزلة الغائب من كل وجه، والأصل في الشبهين العمل بهما ما أمكن، وإذا تعدد العمل يعمل بالراجح منهما، والراجح من الشبهين أن يعتبر الولد بالغائب لأن معنى الغائب في الولد الصغير ثابت من كل وجه، ومعنى الولد المولود في الكتابة ثابت من وجه دون وجه، والعمل بالثابت من كل وجه أولى من العمل بالثابت من وجه دون وجه. وإذا أمكن العمل بالشبهين يعمل بها، ولا يصار إلى الترجيح، فإن أدى الأب من المكاتبة قيمة نفسه، أي: إن حصة نفسه من المكاتبة فإنه لا يعتق لما ذكرنا أن الولد الصغير في هذه الصورة بمنزلة الغائب من كل وجه وبمنزلة الولد المولود من وجه، وبأي ذلك اعتبرنا لم يعتق الأب بأداء حصته، فإن عجز الأب ورد في الرق يرد معه ولده، لأن الولد الصغير بمنزلة الغائب من كل وجه وبمنزلة الولد المولود من وجه وبأي ذلك اعتبرنا يصير رقيقاً يرد الأب في الرق كالغائب حقيقة وكالمولود حقيقة فإن الحاضر إذا عجز ورد في الرق تبطل كتابة الغائب وذلك لأن الغائب فيما عليه محلوف بعتقه، وفيما له مكاتب والتعليق يبطل متى رد الحاضر في الرق لفوات شرط العتق في حق الغائب، وإذا فات

التعليق تبطل الكتابة فيما له، لأن القول تبعاً للكتابة فيما له بدون تعليق العتق بالأداء غير ممكن وعتقه لم يبق متعلقاً لا بأدائه ولا بأداء الحاضر بعد فسخ الكتابة على الحاضر. أما بأداء الحاضر لأن الكتابة قد انفسخت في حقه، وأما بأدائه لأن التعليق بأدائه ما ثبت مقصوداً وإنما ثبت تبعاً على أداء الحاضر وإن أدرك أولاده وقالوا: نحن نسعى في الكتابة قال: لا يلتفت إليهم ولا يجبر المولى على القبول لأنه بمنزلة الغائب من وجه وبمنزلة المولود من وجه وبأيهما اعتبرناه لم يلتفت إلى سعايته بعد فسخ الكتابة على الأصل، فإن مات الأب فالأولاد يسعون في المكاتبة على نجوم أبيهم إن كانوا قادرين على السعاية بخلاف الغائب مع الحاضر، فيؤدي المال حالاً بعد موت الحاضر، ولا يرد في الرق وإنما كان كذلك لما ذكرنا أن الولد الصغير بمنزلة الغائب من كل وجه، وبمنزلة الولد المولود من وجه والعمل بالشبيهين ممكن لأن من حكم الغائب أن يجبر المولى على القبول إذا أتى الغائب ببدل الكتاب حالا بعد موت الحاضر، ومن حكم المولود أن يطلب بما على الأب، ويسعى على نجومه ويجبر المولى على القبول فعملنا بالشبيهين جميعاً، فقلنا: يجبر المولى على القبول بشبه الغائب، وله مطالبته بنجوم الأب عملاً بشبه الولد المولود في الكتابة من وجه بخلاف الغائب لأنه ليس للغائب شبه الولد المولود في الكتابة بوجه ما، فلا يتوجه عليه المطالبة ببدل الكتابة بعد موت الحاضر، ولا يكون له السعاية على الحاضر. وهذا لما ذكرنا أن الغائب مكاتب فيما له، محلوف بعتقه فيما عليه، والمطالبة عليه فلا يكون مكاتباً في حق المكاتبة، وبدون وجود المطالبة لا يتصور ثبوت الأجل، فإن كانوا صغاراً لا يقدرون على أن يسعوا ردوا في الرق، لأنهم بمنزلة الغائب من كل وجه وبمنزلة الولد المولود من وجه وبأي ذلك (343ب1) ما اعتبرنا إذ عجز عن السعاية يرد في الرق، فإن كانوا يقدرون على السعاية، فسعى بعضهم في جميع الكتابة، وأداها إلى المولى لا يرجع على إخوته بشيء لما بينّا أنه بمنزلة الغائب من كل وجه، وبمنزلة ولد المولود من وجه. والغائب إذا أدى لا يرجع على أخيه لأنه لم يؤد عن الأخ شيئاً، إنما أدى عن أبيه ومن قضى ديناً عن إنسان لا يرجع بذلك على غير من قضى عنه، ولا يرجع على الأب أيضاً، حتى إذا ظهر للأب مال، فإنه لا يرجع بما أدى في كسب الأب، وإن كان مضطراً في الأداء؛ لأنه لا يعتق ما لم يؤد؛ لأنه بمنزلة الغائب من كل وجه وبمنزلة الولد المولود في الكتابة من وجه. وباعتبار الغائب لا يرجع؛ لأن الغائب في حق صاحبه متبرع؛ لأن المال على صاحبه وليس عليه، وفي حق عتق نفسه يؤدي عن نفسه؛ لأن الكتابة في حق ماله نافلة فيجعل مؤدياً عن نفسه متى اعتاد الأداء، فلا يكون له أن يرجع على غيره، وهذا بخلاف ورثة الحر إذا قضى أحدهم دين أبيه كان له أن يرجع في كسب أبيه لأنه أدى من خالص

الفصل السابع في ملك المكاتب ولده أو بعض ذي رحم محرم، أو امرأته وفي المكاتب يموت عن وفاء في الأولاد

ماله وهو مضطر في الأداء؛ لأنه لا يصل إلى قبض نصيبه من التركة إلا بالأداء. فأما هاهنا من وجه بمنزلة الولد المولود في الكتابة، فيكون مؤدياً بهذا الاعتبار من الأب فيكون له الرجوع كما لو كان مولوداً في الكتابة حقيقة وباعتبار أنه غائب لا يكون له الرجوع فلا يكون له الرجوع بالشك. فإن مات بعضهم لا يرجع بشيءٍ من المكاتبة لما ذكرنا أنه بمنزلة الغائب من كل وجه، وبمنزلة الولد المولود من وجه وبأي ذلك ما اعتبرنا لا يسقط بموته شيء من المكاتبة، وإن كانوا أحياء وقد مات الأب يكون للسيد أن يأخذ أيهم شاء بجميع المكاتبة بخلاف الغائب لما ذكرنا أن الولد بمنزلة الغائب من كل وجه وبمنزلة الولد المولود في الكتابة من وجه وقد أمكننا العمل بشبهين فنقول: لشبهه بالغائب يجبر المولى على القبول متى إحراز الأداء كما في الغائب. ولشبه الولد المولود في الكتابة للسيد أن يطالبه ببدل الكتابة عملاً بالشبهين والله أعلم. الفصل السابع في ملك المكاتب ولده أو بعض ذي رحمٍ محرم، أو امرأته وفي المكاتب يموت عن وفاءٍ في الأولاد المكاتب إذا اشترى ابنه صح شراؤه ويصير مكاتباً بمثل حاله سواء اشتراه بإذن المولى أو بغير إذنه وهذا مذهبنا. وقال الشافعي رحمه الله: يصح شراؤه ولا يصير مكاتباً. وكذلك على هذا إذا اشترى والده أو والدته وأما إذا اشترى أخاه أو أخته أو عمه أو ذا رحم محرم منه سوى الوالدين والمولودين، فالقياس: أن يصيروا مثل حاله مكاتبين حتى كان له بيعهم. كما لو اشترى ابن عمه وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. وجه القياس في ذلك: وهو أنه ملك ذا رحم محرم منه فيصير بمثل حاله كالأب والابن وقياساً على ما لو كان المشتري لهؤلاء حراً فإنهم يصيرون بمثل حاله حراً فكذلك في المكاتب. وأما أبو حنيفة رحمه الله ذهب في ذلك إلى أن علة صيرورة المملوك بمثل حال المالك شيئان: قرابة محرمية النكاح وحقيقة الملك على ما قال صلى الله عليه وسلّم «من ملك ذا رحم محرم منه فهو حر» فقد جعل العلة شيئين القرابة المحرمية للنكاح وحقيقة الملك، وهذه العلة قد وجدت في حق الحر سواء ملك أخاه أو أباه أو ابنه لأن الحر ملك حقيقة وقد

وجدت القرابة المحرمية للنكاح وإذا ثبتت علة العتق من الحر في حق هؤلاء يثبت العتق في حقهم. فأما في المكاتب وجد علة العتق إذا كان المشتري ولداً أو والداً؛ لأنه وجد قرابة محرمية النكاح. من وجد حقيقة الملك من حيث الحكم والاعتبار إن لم يوجد من حيث الحقيقة؛ لأنه انضم إلى حق الملك الولاد وللولاد زيادة أثر في إيجاب الصلة ليس ذلك بمجرد القرابة المحرمة للنكاح حتى إن الأب يستحق النفقة وإن كان كبيراً ويستحق النفقة اختلف الدين أم اتحد فانضم إلى حق الملك ماله أثر في إيجاب زيادة الصلة فالتحق الحق بالحقيقة، ومن حكم حقيقة الملك أن يعتبر (........) ذا رحم محرم وكذلك هذا إذا كان أخاً، فالقرابة المحرمة للنكاح إن وجدت لم توجد حقيقة الملك لا حقيقة ولا اعتباراً حقيقة فلا إشكال ولا اعتباراً (....) ماله زيادة أثر في إيجاب الصلات، وهو الولاد حتى يلتحق الحق بالحقيقة فبقي مجرد الحق لا غير مع القرابة المحرمة للنكاح، فالعلة بصيرورة حال المملوك بمثل حال المالك لم تثبت، فلم يثبت الحكم لنقصان العلة. قال: وإذا اشترى المكاتب امرأته إن لم يكن ولدت منه كان له بيعها؛ لأن الحر إذا اشترى امرأته ولم يكن ولدت منه كان له بيعها، فلأن يكون ذلك للمكاتب أولى، فأما إذا ولدت إن ملكها مع الولد أجمعوا على أنه يمنع من بيعها، فأما إذا ملكها وحدها اختلفوا فيه. قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يمنع من بيعها، وقال أبو يوسف ومحمد رحمه الله: يمنع من بيعها. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: وكان اشترى امرأة، فدخل بها وولدت ولداً بعد الشراء ثم مات المكاتب عن غير وفاء، فالولد يسعى فيما على أبيه من بدل الكتاتبة ويسعى في مهر أمه أيضاً، لأنه دين على الأب ووالد المولود في الكتابة يسعى في ديون الأب على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى. قال محمد رحمه الله: وإذا مات المكاتب عن وفاء، فعلى قول علمائنا رحمهم الله يؤدي مكاتبته ويحكم بعتقه في أخر جزء من آخر حياته ويعتق معه أولاده ويرثه ورثته الأحرار، وهو قول علي (بن) أبي طالب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال الشافعي رحمه الله: تنفسخ الكتابة وما تركه يأخذه المولى كله، لأنه كسب عبده، وهو قول زيد بن ثابت رضي الله عنه، والمسألة معروفة. وإذا اشترى المكاتب ابنه حتى تكاتب عليه لما ذكرنا، ثم مات المكاتب وترك وفاءً يؤدى منه بدل الكتابة، ويحكم بحريته في آخر جزء من أجراء حياته ويرثه ابنه؛ لأنه كما يحكم بحرية المكاتب في أخر جزء من آخر حياته يحكم بحرية ولده في ذلك الوقت أيضاً؛ لأن ولد المكاتب يعتق بعتق المكاتب.

ألا ترى أن المكاتب لو أدى بدل الكاتبة في حياته، وحكم بعتقه عتق الولد أيضاً كذا هاهنا. وإذا اعتق الولد في آخر جزء من آخر حياة المكاتب تبين أن هذا حرٌ مات عن وفاء ابن حر فورثه هذا الذي ذكرنا كله. إذا مات المكاتب وترك وفاءً، فأما إذا مات المكاتب وترك ولداً مولوداً في الكتابة فإنه يسعى على نجوم أبيه، وهذا عند علمائنا رحمهم الله. فأما إذا مات وترك ولداً مشترى أو أباً أو أماً، فكذلك الجواب على قولهما يسعى كل واحد منهما فيما عليه على نجومه ولداً كان أو والداً، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله إن كان والداً لا يقبل منه بدل الكتابة ولكن يباع كسائر أكسابه، وإن كان ولداً فإنه يقال له إما أن تؤدي بدل الكتابة للحال أو ترد في الرق استحساناً ولا يمكن من السعاية على نجومه. أبو يوسف ومحمد رحمهما الله ذهبا في ذلك إلى أن الولد المشتري والد مساوٍ للولد المولود حال حياة المكاتب (حتى من تبعه حال حياة المكاتب كما جزء من بيع الولد المولود) فكذلك بعد موت مكاتب وجب أن يتساويا بالولد المولود في الكتابة والولد المولود في الكتابة يسعى على نجوم الأب، فكذلك الولد المشتري والد والدة والله أعلم بالصواب (344أ1) . وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: إن الكتابة في هؤلاء إنما تثبت بسبب التبعية للمكاتب الأصلي لا مقصوداً؛ لأنه لم يوجد فيهم كتابة مقصودة فيثبت فيهم حكم الكتابة بقدر التبعية؛ لأن الحكم أبداً يثبت بقدر ثبوت السبب والتبعية للوالد المولود أكثر من التبعية للولد المشترى وللولد المشترى أكثر من الأب المشترى فيثبت حكم الكتابة للولد المولود أكثر مما يثبت للولد المشترى أكثر مما يثبت للأب وللأم. وإنما قلنا: بأن التبعية للولد المولود في الكتابة أكثر وذلك أن التبعية للولد المولود في الكتابة ثابت بالملك، وبالبعضية الثابتة حقيقة وقت ثبوت العقد، ووقت ثبوت حكم الكتابة، أما بالملك؛ فلأن الولد المولود في الكتابة كالمملوك للأم حتى كان لها استكتاب الولد كما لو كان مشترى والمملوك تابع للمالك حتى يصير مسافراً بسفره ومقيماً بإقامته والكتابة بالبعضية الثابتة بيهما حقيقة وحكماً، فإن الولد ينفصل من الأم والأم مكاتبة وتبعية الولد المشترى دون تبعية الولد المولود؛ لأن تبعية المشترى ثابتة بالملك وبالبعضية الثابتة بينهما من حيث الحكم والاعتبار لا من حيث الحقيقة، لأن بعد الانفصال لا بعضية بينهما من حيث الحقيقة، وإنما يثبت حكماً تبعاً لسبب حرمة المناكحة، فإنها حكم البعضية، فالتبعية من المشترى ثابت بالملك وبالبعضية الثابتة من حيث الحكم والاعتبار لا من حيث الحقيقة فكانت تبعية المشترى دون تبعية الولد المولود في الكتابة وتبعية الأم والأب دون تبعية الولد المشترى لأب الأم والأب صارا تابعين

لهما لسبب الملك لا لسبب البعضية، فإن الأب ليس ببعض من الابن وكذلك الأم فدل أن تبعية الأم والأب للمكاتب الأصلي دون تبعية الولد المشترى وتبعية الولد المشترى دون الولد المولود في الكتابة ولما كانت تبعية الولد المولود أكثر وحكم الكتابة ثابت لسبب التبعية ثبت فيه جميع أحكام كتابة الأصلي. فقلنا: بحرمة حال حياته وقبول بدل الكتابة منه على نجوم الأم ولما كان الولد المشترى دونه في التبعية ولكن فوق الأب في التبعية. قلنا: يحرم بيعه حال حياة المكاتب وقبل منه بدل المكاتبة بعد موته حالاً، ولم يمكن من السعاية على نجوم الأم حتى يظهر نقصان حاله عن حال المولود في التبعية، ولما كان الأب دون الولد المشترى في التبعية. قلنا: يحرم بيعه حال حياته ولم تقبل منه بدل الكتابة بعد موته لا حالة ولا مؤجلة ليظهر بنقصان...... في التبعية عن الولد المشترك، وعن الولد المولود في الكتابة قد ذكرنا أن الولد المولود في حال الكتابة يدخل في كتابة الوالد تبعاً والأم تدخل في كتابة الوالد تبعاً له، فأما إذا مات المكاتب عن وفاء وأديت مكاتبته وحكم بحرية المكاتب في آخر جزء من أجزاء حياته يحكم (بحرية) الولد والوالدة في ذلك الوقت أيضاً. وإذا مات لاعن وفاء وسعى إلا ولد والده والوالدة في ذلك الوقت أيضاً. وأداء الأم في بدل الكتابة على نجوم يحكم بحرية الولد والأم، ويحكم بحرية المكاتب مقصوراً على الحال. فالحاصل: أن في الوفاء يستند العتق إلى آخر جزء من أجزاء حياة المكاتب وفي سعاية الولد مع الأم وأدائهما لا يستند العتق إلى آخر جزء من أجزاء حياة المكاتب بل يقتصر على وقت الأداء، فإنما جاء الفرق باعتبار، أما إذا مات عن وفاء فقد مات لاعن خلف؛ لأن المال لا يصلح خلفاً عنه، والولد لا يصلح خلفاً حال بقاء المال. ولهذا لا تبقى النجوم بل تنحل الكتابة فلا يعطى للميت حكم الحياة وقت الأداء..... بالضرورة إلى الاستناد، فأما إذا مات لاعن وفاء فقد مات عن خلف؛ لأن الولد يصلح خلفاً عنه حال انعدام المال. ولهذا بقي البدل منجماً، فأعطى للميت حكم الحياة إلى حين الأداء فعتق للحال تبعاً للحي، ولو أعتق المولى ولدها المولود في الكتابة والمشترى، فإنه ينفذ عتقه استحساناً. والقياس: أن لا ينفذ، وجه القياس في ذلك أن ولدها بمنزلة عبد من كسبها بدليل أن لها استكتاب ولدها كما لها استكتاب عبد من أكسابها، فوجب أن لا ينفذ عتقه من ولدها كيلا يبطل عليها حق الاستكتاب كما لا ينفذ عتقه في عبد هو من كسبها. وجه الاستحسان: إن ولدت مملوكاً للمولى رقبة من كل وجه؛ لأنه بعض منها ورقبتها مملوكة للمولى من كل وجه حتى نفذ عتقه في الأم فكذا ولدها يكون فهو كالمولى

رقبة من كل وجه، إنما لها الانتفاع بالولد من حيث الاستكتاب، وقيام حق الغير في المنفعة لا يمنع بفساد عتق الملك كما في المستأجر. وهذا بخلاف عبد آخر من كسبها وذلك لأن كسبها غير مملوك للمولى رقبة من كل وجه إنما له حق ملك كما للمكاتب وحق الملك لا يكفي لفساد العتق كما في المكاتب فامتنع العتق في كسبها في المولى لعدم الملك في رقبته حقيقة لا من حيث إن لها الملك في منفعة هذا الكسب فأما هنا للمولى حقيقة ملك رقبة الولد. ولهذا صار مكاتباً بعقده، فاشترى الأم من هذا الوجه. ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: في مكاتب ورجل أجنبي اشتركا في شراء ابن المكاتب قال في قولنا: المكاتب يضمن نصف قيمته. وأما في قول أبي حنيفة رحمه الله: نصفه لشريك المكاتب والنصف الآخر في مال أبيه على حاله، ولا يحرم واحداً منهما. وإنما هو بمنزلة عبد بين رجلين كاتب أحدهما نصيبه بإذن صاحبه فلا يحرم واحداً منهما، ولكن ما اكتسب من مال يكون بينهما. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمه الله: مكاتب ولد له أولاد من أمته ثم مات عن وفاء فلم تؤدَ مكاتبته حتى مات بعض أولاده من الأمة وترك ميراثاً (فإنه يؤد، إما على المال أنت من تركة فيكون ما بقي ميراثاً فلا يرث الابن الميت بعده منه شيئاً وما تركه الابن الميت، فهو ميراث لأمه....، وكذلك لو كان الولد معه في عقد الكتابة، ثم مات بعد ابنه ثم أديت المكاتبة لم يرث أباه) . وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: مكاتب مات وترك ابنا ولد له في الكتابة فترك ألفي درهم ديناً على رجل وبدل الكتابة ألف درهم فاكتسب الابن ألف درهم وأداها في مكاتبة أبيه ثم خرج ابن الأب وله ابن آخر، فإن الألفين ميراثاً بينهما نصفين ولا يرجع الابن الذي أدى المكاتبة في الألفين بما أدى إلا أن المكاتبة عليه يؤخذ بها كما كان يؤخذ الأب به. وكذلك إن أداها من كسبه بعد خروج الألفين، وإن لم يؤد الابن ذلك من كسبه كان له أن يؤدي من مال الأب، وما اكتسبه بعد موت أبيه يكون له. وكذلك لو كان المكاتب ترك ألف درهم وصية، وبدل الكتابة ألف درهم عليه وأداها ابنه من مال اكتسبه بعد موت الأب كانت الوصية بينه وبين الأخ ميراثاً. وفي «المنتقى» : مكاتب مات وترك ديناً على الناس وله ابن مولود في حالة الكتابة يسعى في كتابته، وله ابنان حران أيضاً ثم أحد الابنين (334ب1) الحرين أخرج ما للمكاتب على الناس فأديت من ذلك مكاتبته فالفاضل يصير ميراثاً بين الابن الحر وبين الولد المولود في الكتابة ويرث الابن الحر من أخيه الذي مات بعد موت الأب. وفي «الأصل» : إذا مات المكاتب عن وفاء وعليه ديون لأجنبي ولمولاه سوى بدل

الفصل الثامن في دعوة المولى ولد أمة المكاتب وفي دعوته ولد مكاتبة المكاتب

الكتابة وله وصايا من تدبير وغير ذلك يبدأ من تركته بدين الأجنبي أقوى أجنبي يسعى عليه بعد العجز ثم بدين المولى ثم ببدل الكتابة فإن بقي بعد ذلك شيء يقسم بين ورثته وبطلت وصاياه وقد ذكرنا مسألة الوصية من قبل، فإن لم تف فالباقي بعد قضاء دين الأجنبي وبدين المولى وببدل الكتابة يبدأ ببدل الكتابة ولا يبدأ بالدين لوجهين: أحدهما: أن في البداية بالدين ابتداء إبطاله انتهاءً؛ لأنه إذا بدأ بالدين والباقي لا يفي ببدل الكتابة بموت عبد أو يبطل دين المولى إذا المولى لا يستوجب على عبده ديناً وليس في البداءة ببدل الكتابة ابتداء إبطاله انتهاء وكانت البداية ببدل الكتابة وأدى. والثاني: أنه (يصل) إذا قبض بجهة الدين لا يصل العبد إلى شرف الحرية وإذا قبض بجهة الكتابة إلى شرف الحرية فكان هذا الوجه أولى، وإن لم يترك مالاً إلا ديناً على إنسان فاستسعى الولد المولود في الكتابة فعجز فقد أيس من الدين أن يخرج، فإن الولد يرد في الرق؛ لأن الدين المأيوس كالتاوي فلا يثبت باعتبار القدرة على الأداء وبدونه قد يتحقق العجز، فإذا خرج الدين بعد ذلك..... كذلك للمولى؛ لأنه كسب عبده، وإذا مات المكاتب عن وفاء وترك ولداً ولد في كتابته فأديت مكاتبة وردت الولد منه. وكذلك إذا مات عن وفاء وترك ولداً كوتب معه كتابة واحدة فأديت مكاتبته ورث الولد منه، وإذا كان الولد منفرداً بكتابته وآداء مكاتبته بعد موت الأب قبل أداء مكاتبة الأب أو بعده لا يرثه؛ لأن عتق هذا الولد يقتصر على وقت أدائه فكان عبداً وقت موت الأب فلا يرثه. وإذا مات الرجل عن مكاتب وله ورثة ذكور وإناث ثم مات المكاتب عن وفاء، فإنه تؤدى من ذلك مكاتبه فيكون ذلك بين جميع ورثة المولى وما فضل منها فهو للذكور من ورثة المولى دون الإناث وإن لم يكن للمكاتب وارث سوى ورثة المولى دون الإناث لأن الفاضل تركة المكاتب وقد صار المولى معتقاً إياه فتكون تركته لورثة المولى بحكم الولاء، والولاء يختص بالعصبات، وكذلك لو لم يمت المكاتب حتى أدى إليهم المكاتبة أو أعتقوه ثم مات فميراثه للذكور من ورثة المولى والله أعلم.h الفصل الثامن في دعوة المولى ولد أمة المكاتب وفي دعوته ولد مكاتبة المكاتب قال محمد رحمه الله: في «الزيادات» : مكاتب اشترى أمة فحبلت في ملكه وولدت فادعى المولى ولدها لا تصح دعوته إلا بتصديق المكاتب، وروي عن أبي يوسف رحمه الله: أنه تصح دعوته من غير تصديق المكاتب وفاته وعلى دعوة الأب ولد جارية ابنه، فإنه يصح من غير تصديق الابن.

ووجهه: أن للمولى في اكتساب مكاتبته حق الملك وهذا الحق أقوى من حق الأب في مال الابن حتى أن المولى لو تزوج بجارية من اكتساب المكاتب لا يجوز والأب إذا تزوج بجارية ابنه يجوز ثم الأب إذا أدعى ولد جارية ابنه تصح دعوته من غير تصديق الابن؛ فلأن تصح دعوة المولى من غير تصديق المكاتب أولى. وجه ظاهر الرواية، وهو الفرق بين دعوة الأب وبين دعوة المولى أن صحة دعوة الأب ما كانت باعتبار حق الملك، فإنه ليس للأب في مال الابن حق الملك عندنا. ولهذا لو تزوج بجارية ابنه يجوز وإنما كان باعتبار للأب ولاية تملك مال الابن عند الحاجة، وقد مست الحاجة إلى التملك هاهنا صيانة لمائه فيثبت التملك مقتضى الاستيلاد سابقاً عليه شرطاً لصحته، فتبين أنه استولد ملك نفسه، فلا تتوقف صحة دعوى على تصديق الابن. أما المولى فليس له تملك شيء من اكتساب المكاتب للحاضر لتصير الجارية ملكاً له مقتضى الاستيلاد فتبين أنه استولد ملك نفسه. آلا ترى أنه لو أراد أن يأخذ شيئاً من اكتسابه لحاجة المأكول والحلوى لا يقدر عليه فبقيت الجارية مملوكة للمكاتب كما لو كانت صحت دعوته إنما صحت باعتبار ماله فيها من حق الملك، ولا وجه إليه أيضاً لأن حقه لا يظهر لمقابلة حق المكاتب، لأن حق المكاتب راجح؛ لأن له حق الملك وحق التصرف وللمولى حق الملك لا غير فلا يظهر حقه إلا بتصديق المكاتب والله أعلم. وفرق بين هذه المسألة وبين البائع، فإن دعوته تصح من تصديق أحد. والفرق: أن دعوته لأقل من ستة أشهر بعد البيع، فإن دعوته، إذا ادعى ولد الجارية المبيعة وقد جاءت به لأقل من ستة أشهر بعد البيع، فإن دعوته تصح من تصديق أحد. والفرق: أن دعوة البائع إنما صحت لحصول العلوق في ملكه حتى لو توهم أن العلوق لم يكن في ملكه بأن جاءت به لستة أشهر فصاعداً من وقت البيع لا تصح دعوته على هذا التقدير، يظهر أنها أم ولده، فإنه باع أم الولد، ولم يصح بيعه فبقيت على ملكه فكان مدعياً، ولد جاريته، فلم يحتج إلى تصديق آخر، أما هاهنا العلوق لم يكن في ملك المولى لتصح دعوته بناءً على ذلك؛ لأن موضوع المسألة فيما إذا اشترى المكاتب أمة وحبلت في ملكه حتى لو كان العلوق في ملك المولى بأن كاتب الجارية من كسب العبد قبل الكتابة كاتبه المولى على رقبته واكتسابه، فجاءت في الولد لأقل من ستة أشهر من وقت الكتابة فادعاه المولى صحت دعوته من غير تصديق أحد فيثبت أنه لا يمكن تصحيح دعوته بناء على كون العلوق في ملكه لو صحت دعوته إنما تصح باعتبار ما له فيها من حق الملك لكن حقه بدون تصديق المكاتب على ما مر، بشرط تصديقه لهذا، فأصدقه المكاتب ثبت النسب منه؛ لأن الحق لها لا يعدوهما فإذا تصادقا على ثبات النسب منه يثبت ما تصادقا عليه فيما بينهما بهذا الطريق. قلنا: إذا ادعى نسب هذا الولد أجنبي وصدق المكاتب الأجنبي على ذلك يثبت

النسب من الأجنبي؛ ولأنه كما صدق المولى في ذلك فقد ثبت الوطء من المولى بتصادقهما، وبعدما ثبت الوطء بتصادقهما تصح الدعوى من المولى ويثبت النسب منه؛ لأنه صار مغروراً لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى. وولد المغرور ثابت النسب منه وعن هذا قال بعض أصحابنا رحمهم الله. إذا كان الوطء ظاهراً من المولى جازت دعوته صدقه المكاتب في ذلك أو كذبه وكان الولد حراً بالقيمة يغرم المولى قيمة الولد للمكاتب ويغرم عقرها للمكاتب أيضاً. فرق بينه وبين الأب إذا ادعى نسب ولد جارية، فإنه لا يغرم قيمته الولد ولا يغرم العقر إلا رواية رواها ابن سماعة أن أخر ما استقر عليه قول أبي يوسف رحمه الله: أن الأب يضمن قيمة الولد ويضمن العقر كما في المكاتب لمعنى جامع وهو الغرور؛ فإن الأب صار مغروراً في هذا الاستيلاد لاعتماده ذلك دليل الملك وهو ظاهر قوله عليه السلام: «أنت ومالك لأبيك» كما أن المولى صار مغروراً لاعتماده دليل الملك في المكاتب وهو ملك الرقبة. وحكم المغرور ما ذكرنا أصله: إذا اشترى جارية واستولدها (345أ1) فاستحقت من يده، ووجه الفرق على ظاهر الرواية: وهو أنه ليس للأب في جارية الابن ما يكفي إثبات..... من حقيقة الملك أو حق الملك أو وكيل الملك..... أي دليل الملك إنما الثابت مجرد تأويل باعتبار ظاهر الإضافة وإنه يكفي لإسقاط الحد، أما لا يكفي لإثبات النسب فلا بد من إثبات الملك في الجارية ليثبت النسب ولا ملك بدون التملك فيثبت التملك مقتضى الاستيلاد سابقاً عليه شرطاً لصحته فتبين أنه وطىء ملك نفسه ففي وطء ملك نفسه فالولد تعلق حر الأصل من غير قيمته ولا يلزمه عقر الجارية فأما المولى، فإنه في جارية المكاتب ما يكفي إثبات النسب وهو حق الملك وقد ظهر ذلك الحق بتصدق المكاتب فلا حاجة إلى إثبات التملك مقتضى الاستيلاد سابقاً عليه بل بقيت الجارية على ملك المكاتب فكان واطئاً ملك المكاتب معتمداً على وجود نسبة الملك ظاناً أنها ملكه، وحكم المغرور ما ذكرنا وتصير الجارية أم ولد للمولى في الحال إلا رواية رواها ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله، بخلاف الأب إذا استولد جارية ابنه، فإنها تصير أم ولد له. والفرق على ظاهر الرواية ما ذكرنا أن الأب يملك الجارية بمقتضى الاستيلاد سابقاً عليه فتبين أنه استولد ملك نفسه فتصير أم ولد له، ولا كذلك المولى، فإنه لا يملك الجارية بل بقيت على ملك المكاتب فلهذا لا تصير أم ولد له للحال وليس من ضرورة ثبات النسب ثبوت أمية الولد للحال. ألا ترى أن النسب يثبت في فصل الغرور والشبهة والنكاح ولا يثبت أمية الولد للحال. قال: ويعتبر قيمة الولد يوم الولادة، فرق بينه وبين ولد المغرور تعتبر القيمة يوم الخصومة.

والفرق: وهو أن في مسألتنا لما صدق المكاتب المولى في دعواه الاستيلاد فقد زعم أن الحرية ثبتت من وقت العلوق؛ لأن للمولى حق الملك في اكتساب المكاتب يظهر ذلك عند تصديق المكاتب وحق الملك كحقيقة الملك في دعوى الاستيلاد فصار المولى متلفاً الولد على المكاتب من وقت العلوق ولكن لا يمكن اعتبار قيمته قبل الولادة أو لا قيمة للولد قبل الولادة فتعتبر قيمته في أول أوقات الإمكان، وذلك وقت الولادة؛ لأنه أول وقت يظهر له قيمة، فأما المستحق لم يصدق المشتري في الدعوى فالولد علق رقيقاً في حق المستحق إلا أن الشرع أثبت للمشتري ولاية المنع بالقيمة فكان وقت المنع وقت تعذر السبب، ووقت المنع وقت الخصومة. وفرق بين ممسألتنا هذه وبين مسألة المغرور من وجه آخر، فإن هناك لو علم المشتري بحال البائع أنه غاضب لا يثبت الغرور لزوال سبب الغرور وهو بفساد الشراء بزعمه. وهاهنا لو علم المولى بحال الجارية أنها لا تحل له يثبت الغرور أيضاً لبقاء سبب الغرور وهو قيام الملك للمولى في رقبة المكاتب هذا الذي ذكرنا إذا جاءت الأمة بالولد لستة أشهر منذ اشتراها المكاتب حتى كان العلوق في ملك المكاتب، فأما إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها المكاتب حتى لم يكن العلوق في ملك المكاتب فادعاه المولى لا تصح دعوته ولا يثبت النسب بدون تصديق المكاتب، وإذا صدقه المكاتب حتى يثبت النسب كان عبداً على حاله. وكذلك إذا اشترى المكاتب غلاماً في السوق وادعى نسب هذا الغلام لا تصح دعوته إلا بتصديق المكاتب وإذا صدقه وثبت النسب كان عبداً للمكاتب على حاله. فرق بين هذا وبين الوجه الأول وهو ما إذا كان العلوق في ملك المكاتب ما كان لأجل ثبوت النسب من المولى؛ لأن العتق بالقرابة كالعتق بالإعتاق. ولو أعتق المولى عبداً من اكتساب مكاتبه لا يعتق فكذا لا يعتق بالقرابة بهذا الطريق قلنا: المكاتب إذا اشترى ابن مولاه وهو معروف النسب منه إنه لا يعتق ولكن حرية الولد باعتبار الغرور، فإنه بنى الاستيلاد على سبب ألحق في الجارية وهو ملك الرقبة في المكاتب وولد المغرور حر بالقيمة أما إذا لم يكن العلوق في ملك المكاتب فالمولى لا يصير مغروراً؛ لأنه ما بنى الاستيلاد على سبب ألحق في الجارية فلهذا لم يعتق الولد. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» أيضاً: رجل اشترى عبداً وكاتبه ثم إن المكاتب كاتب أمة له ثم ولدت المكاتبة ولداً فادعاه مولى المكاتب فالمسألة على وجوه: أما إن كانا صدقاه في ذلك يعني المكاتب والمكاتبة أو كذباه في ذلك أو صدقه أحدهما وكذبه الآخر، وأما إن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ كوتبت أو لأكثر، فإن صدقاه في ذلك أو صدقه المكاتب يثبت النسب منه وإن كذباه في ذلك أو كذبته المكاتبة لا يثبت النسب إنما العبرة في هذا الباب لتصديق المكاتبة لا لتصديق المكاتب دون أمة المكاتب. والفرق: أن ولد المكاتبة من كسبها وقد صارت هي أخص بنفسها وكسبها وصار

المكاتب كالأجنبي عنها فصارت العبرة لتصديقها فأما أمة المكاتب ما صارت أخص بنفسها ومكاتبتها بل المولى أخص بها فكانت العبرة لتصديق المولى لهذا، فإذا صدقته في ذلك يثبت النسب؛ لأن المولى المكاتب لا يكون أدنى حالاً من الأجنبي. ولو ادعى أجنبي نسب هذا الولد وصدقته المكاتبة ثبت النسب منه فيها هذا أولى؛ ولأن المكاتبة قادرة على اكتساب سبب يثبت النسب بأن تزوج نفسها منه فيثبت به النسب، وإن كان النكاح فاسداً أو كان تصديقها إياه اكتساب سبب يثبت به النسب وهي قادرة على ذلك فيثبت به النسب فيجب العقر لها إن ولدت لأكثر من ستة أشهر من وقت مكاتبتها، وإن ولدت لأقل من ستة أشهر فالعقر للمكاتب بحصول العلوق في ملكه ثم هذا الولد يكون مكاتباً مع أمه ولا يكون حراً بخلاف ولد أمة المكاتب. والفرق أن حرية ولد أمة المكاتب إنما كانت أصل الغرور ولا غرور هاهنا؛ وهذا لأن رقبة المكاتب وإن كانت مملوكة للمولى في الفصلين إلا أن ملك الرقبة إنما يكون سبباً لملك الكسب إذا كان اكتسب محلاً للملك والأمة محل للملك، فإذا صح النسب في محله وامتنع الحكم لمانع ثبت الغرور، فأما المكاتبة فليس بمحل للملك فبطل النسب هاهنا لوقوعه في غير محله فلا يثبت الغرور ولو ثبت الغرور هاهنا، إلا أنه لا يمكن القول بحرية الولد هاهنا. بخلاف ولد أمة المكاتب. بيانه: وهو أن حرية ولد المغرور يثبت بالقيمة بإجماع الصحابة وبعد إيجاب القيمة هاهنا؛ لأنها لو وجبت إما أن تجب للمكاتب أو للمكاتبة ولا وجه إلى الأول؛ لأن المكاتب صار كالأجنبي عن اكتساب مكاتبته وولدها من كسبها. ألا ترى أنه لو قتل هذا الولد فالقاتل يصرف القيمة للمكاتبة لا للمكاتب، ولا وجه إلى الثاني؛ لأنه لو وجبت القيمة بها وجبت لأجل العتق فيجب بها ضمان العتق في أولادها والمكاتب لا يجب له ضمان العتق في أولادها؛ لأن المكاتب بعقد الكتابة يسعى لتحصل الحرية لنفسها وولدها فبتحصل الحرية لولدها تحصل مقصودها فكيف (345ب1) يستوجب القيمة لأجلها بخلاف ولد أمة المكاتب؛ لأن هناك لو أوجبنا القيمة للمكاتب لعتق ولد أمته والمكاتب لا يسعى ليحصل العتق لولد أمته. فإن قيل: لا بل إيجاب القيمة للمكاتب ممكن مع تحصيل مقصودها في حرية الولد. ألا ترى أن المكاتبة إذا غرت رجلاً فزوجت نفسها منه على أنها حرة فولدت ولداً كان الولد حراً بالقيمة فكانت القيمة بها. قلنا: هناك ليس في حرية الولد تحصل مقصودها؛ لأن قصدها أن تعتق هي وولدها على وجه تصير هي وولدها مولى لمولاها وهناك إذا وجبت القيمة وحكم بحرية الولد يحكم بحريته في الأصل من غير ولاء فلا يكون الولد مولى لمولاها، فلا يكون فيه تحصيل مقصودها فيمكن إيجاب القيمة لها. فإن قيل: هذا المعنى ليس بصحيح، فإنا إذا أوجبنا القيمة في مسألتنا وحكمنا بحرية الولد حكمنا بحريته من الأصل من غير ولاء فلا يكون فيه تحصيل مقصودها أيضاً.

قلنا: لا بل هو صحيح؛ لأن مولاها هاهنا المكاتب والمكاتب ليس من أهل الولاء فلم تكن هي قاصدة أن يكون ولدها مولى لمولاها بل تقصد عتق الولد لا غير، وإنه حاصل فقد حصل مقصودها فيتعذر إيجاب القيمة بخلاف تلك المسألة؛ لأن هناك مولى المكاتبة من أهل الولاء فكانت قاصدة عتق ولدها على وجه تصير هي وولدها مولى لمولاها وهذا المقصود هناك مما لا يحصل. أما هاهنا فبخلافه، إذا ثبت أن الولد يكون مكاتباً مع الأم فالمسألة بعد ذلك على وجهين: إن أدت الأم بدل الكتابة عتقت وعتق الولد بعتقها تبعاً لها، وإذا عجزت وردت في الرق أخذ المولى ابنه بالقيمة؛ لأنها لما عجزت صارت أمة للمكاتب ودعوى المولى قائمة فيكون مدعياً ولد أمة المكاتب والمكاتب من أهل أن يستحق فيه ولد أمته فتجب القيمة وتثبت الحرية لما مر. غير أن هاهنا لا يحتاج إلى تصديق المكاتب وإن ثبت الحق له لوجود التصديق يوم الدعوة ضمن إليه التصديق وتعتبر قيمة الولد هاهنا يوم عجز المكاتبة؛ لأن قيمة الولد إنما تجب بمنع الولد واستهلاكه وذلك بثبوت الحرية في الولد في (وقت ثبوت الحرية في الولد) وقت عجز المكاتب فيعتبر قيمته يوم عجز المكاتبة. لهذا قال: ولو كذبته المكاتبة وصدقه المكاتب لا يثبت النسب لما بينا أن العبرة في هذا الباب لتصديق المكاتبة ولم توجد ويكون الولد مكاتباً مع أمه إن أدت بدل الكتابة عتقا، وإن عجزت وردت في الرق صارت أمة للمكاتب وقد وجد التصديق من المكاتبة وظهر أن ولاية التصديق والتكذيب له لانفساخ الكتابة من الأصل وكان الولد حراً بالقيمة؛ لأنه لما انفسخت الكتابة من الأصل ظهر تأويل الملك للمولى في إيجاب به وقت العلوق فصار أنه مغروراً غير أنه إن ولدت لأقل من ستة أشهر منذ كوتب تعتبر قيمة الولد يوم الولادة وإن جاز له سابقاً على حق المكاتبة لأن حقها يثبت بالكتابة والعلوق كان قبل الكتابة فبعد ثبوت النسب يصير المولى مستهلك الولد على المكاتب من ذلك الوقت لا أنه لا يمكنه اعتبار قمية الولد حال كونه جنيناً فاعتبرناه في أول أوقات الإمكان وهو بعد الولادة. فأما في الوجه الثاني: حصل العلوق بعد ثبوت حق المكاتبة وبعدما صار المكاتب كالأجنبي عنها فلم يصر المولى مستهلكاً الولد على المكاتب من ذلك الوقت أو لا حق للمكاتب في ذلك الوقت وإنما يصير مستهلكاً عليه وقت ثبتوت حقه، وهو وقت العجز فاعتبر قيمته يوم العجز بهذا وضح الفرق: أن في الوجه الأول لما كان العلوق سابقاً على حق المكاتب كان العلوق في زمان المكاتب غير محجور عن التصرف معها فبعد زوال حق المكاتبة بالعجز يمكن إسناد التصديق إلى وقت العلوق فيثبت النسب وتثبت الحرية من وقت العلوق فصار مستهلكاً الولد من ذلك الوقت. أما في الوجه الثاني لما كان العلوق بعد ثبوت حق المكاتبة كان العلوق في زمان المكاتب محجوراً من التصرف فيها فلا يمكن إسناد التصديق إلى ذلك الوقت بل بقي

مقصوراً على وقت ثبوت حق المكاتب وهو وقت العجز فاعتبرت يوم العجز بهذا، هذا إذا صدق أحدهما دون الآخر وإن كذباه لا يثبت نسب الولد؛ لأن في تكذيبهما تكذيب المكاتبة وزيادة وقد ذكرنا أن المكاتبة لو كذبته بانفرادها لا يثبت النسب منه فهاهنا أولى ويكون الولد مع الأم مكاتبين للمكاتب إن أدت بدل الكتابة عتقا، وإن عجزت صارا للمكاتب ولا يثبت النسب؛ لأنها لما عجزت صارا مملوكين للمكاتب فكان المولى مدعياً ولد أمة المكاتب، فلا يثبت النسب إلا بتصديق المكاتب ولم يوجد هاهنا تصديق من المكاتب أصلاً. وأما إذا صدقاه جميعاً يثبت النسب من المولى؛ لأن في تصديقها إياه تصديق المكاتبة وزيادة، ولو صدقة المكاتب بانفرادها قد ذكرنا أنه يثبت النسب منه فهاهنا أولى بعد هذا ينظر إن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ كاتبها المكاتب حتى كان العلوق في ملك المكاتب كان الولد حراً بالقيمة؛ لأنهم تصادقوا على أن الولد علق حراً بحكم الغرور وتكون قيمة الولد للمكاتب لوجوبها بسبب كان قبل الكتابة الثانية ويعتبر قيمته يوم الولادة لما قلنا: قبل هذا. وإن جاءت لستة أشهر منذ كاتبها المكاتب فالولد مكاتب معها لما مر أنه لا يمكن إثبات الحرية في ولد مكاتبة المكاتبة ما دامت مكاتبة لم تعجز بعد، فإن عجزت حينئذٍ يأخذ المولى الولد بالقيمة وتعتبر القيمة يوم العجز على ما مر. قال في «الزيادات» أيضاً: المكاتب إذا كاتب أمته ثم أدى المكاتب بدل الكتابة وعتق ثم ولدت المكاتبة ولداً فادعاه المولى، فإن ولدت لأقل من ستة أشهر من وقت العتق أو لأكثر من ستة أشهر منذ كوتبت فهذا، وما لو ولدت قبل عتق المكاتب سواء؛ لأنا تيقنا أن العلوق حصل قبل عتق المكاتب، والعبرة لحالة العلوق فصار هذا وما لو ولدت قبل عتق المكاتب سواء، وإن ولدت لأكثر من ستة أشهر من وقت العلوق فادعاه المولى، ينظر إن زعم المولى أنه وطئها بعد العتق فصدقاه أو صدقه أحدهما لا يثبت نسب الولد من المولى أصلاً؛ لأنه استولدها وليس لها فيه حق الملك ولا تأويل الملك؛ إذ ليس للإنسان في مكاتبة معتقه حق الملك ولا تأويل الملك وكان هذا الولد حاصلاً منه، وبالزنا لا يثبت النسب، وإن زعم المولى أنه تزوجها بعد عتق المكاتب فولدت منه على فراشه، فإن صدقاه جميعاً أو صدقته المكاتبة وكذبه المكاتب يثبت النسب، أما إذا صدقاه جميعاً؛ فلأنهما يملكان إثبات الفراش عليها فكان تصديقهما إياه بمنزلة اكتساب سبب الفراش..... عليه فيثبت به النسب، أما إذا صدقته المكاتبة فإنها تملك إثبات الفراش على نفسها بأن تزوج نفسها فيثبت به النسب وإن كان فاسداً فصار تصديقها بمنزلة اكتساب سبب الفراش وهي قادرة عليه فيثبت به النسب ولا يعتق الولد؛ لأنه استولد مكاتبة معتقه بحكم النكاح ومن استولد مكاتبة معتقه بحكم النكاح لا يعتق الولد بل يكون

مكاتباً تبعاً للأم، فإن أدت بدل الكتابة عتقت وعتق ولدها معها، وإن عجزت كانت (346أ1) أمة للمكاتب وولدها عبد المكاتب لا يأخذه المولى بالقيمة كما لو كان النكاح ظاهراً وعجزت المكاتبة، وإن كذبته المكاتبة وصدقه المكاتب لا يثبت النسب؛ لأنه لا يملك إثبات الفراش عليها أصلاً فلا يعتبر تصديقه، وإن عجزت المكاتبة بعد ذلك وردت في الدين صارت أمة للمكاتب المعتق فينفذ إقراره عليها بالنكاح، لأنه يملك النكاح عليها ويثبت النسب ولكن لا يعتق الولد كما لو كان النكاح ظاهراً. وإن زعم المولى أن هذا الولد ابنه بوطىء كان منه قبل عتق المكاتب، فإن صدقاه جميعاً يثبت النسب من المولى فيكون مكاتباً مع أمه؛ لأنهم تصادقوا أن العلوق كان، والمكاتب مكاتب على حاله فالدعوى حصلت في ولد مكاتبة المكاتب واتصل بها التصديق من المكاتب ففي ادعاء ولد مكاتبة المكاتب يثبت النسب فكان الولد مكاتباً مع أمه كذا هاهنا، فإن عجزت بعد ذلك وردت في الرق أخذ المولى الولد بقيمته يوم عجزت؛ لأنها لما عجزت وردت في الرق انفسخت الكتابة من الأصل، وتبين أن الدعوى من ولد أمة المكاتب وقد اتصل بها التصديق من المكاتب وإن صدقه المكاتب ثبت النسب؛ لأن الحق في التصديق لها وقد وجد والولد رقيقاً لما مر. فإن عجزت وردت في الرق كان الولد مع أمه مملوكين للمكاتب؛ لأن المكاتب ذكر كون العلوق سابقاً على عتقه فيكون منكراً كون المولى مغروراً أو بعد العجز صار الملك له في الجارية والولد، فكانت الجارية المكاتبة بتصديق المولى فيما ادعاه مريدة إبطال ملك استحقه المكاتب في الولد وهي لا تملك ذلك وإن كذبته المكاتبة وصدقه المكاتب ثبت النسب لما مر. فإن عجزت المكاتبة وردت في الرق أخذ المولى الولد بالقيمة لأن المكاتب مصدق في حق نفسه وبعد العجز خلص الحق له فيعمل تصديقه فيأخذ المولى الولد بالقيمة وتعتبر قيمته يوم العجز لما مر. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» أيضاً: مكاتب كاتب أمة له ثم اشترت المكاتبة أمة فولدت الأمة ولداً ثم ادعى مولى المكاتب الولد لا يثبت النسب بدون التصديق والمعتبر تصديق المكاتب؛ لأن للجارية مع ولدها اكتساب المكاتبة ولقد صارت هي أحق بنفسها واكتسابها فكانت العبرة لتصديقها، فإذا صدقته في ذلك ثبت النسب منه لما ذكرنا ولا يعتق الولد؛ لأن ولد أمة المكاتبة أبعد عن المولى من ولد المكاتبة ثم الحرية لا تثبت في ولدها قبل العجز على ما مر.x ففي ولد أمتها أولى، وإذا لم يعتق الولد كان عبداً للمكاتبة ولا يكون مكاتباً بخلاف ولد المكاتبة. والفرق: أن ولد المكاتبة إنما كان مكاتباً بسراية كتابتها إلى الولد وكتابتها لا تسري إلى ولد الأمة، فإن عجزت المكاتبة بعد ذلك صارت هي وأمتها مملوكتين فصار المولى مدعياً ولد أمته المكاتب.

الفصل التاسع في دعوى المكاتب الولد

فإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر منذ اشتراها المكاتب أخذ المولى بالقيمة، لأن بالعجز انفسخت الكتابة من الأصل فصار العلوق في التقدير في أمة المكاتبة فكان المولى مدعياً ولد أمة المكاتب، وقد صح تصديقها قبل العجز وصار كتصديق المكاتب بعد العجز. وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ أشتراها المكاتبة فالولد لا يكون حراً؛ لأن العلوق ما كان في ملك المكاتب متعين فانعدم الغرور فلو أن المكاتب لم يعجز حتى أدى المكاتبة بدل الكتابة وعتق ثم عجزت المكاتبة وردت في الرق أو مات المكاتب عن وفاء ثم عجزت المكاتبة. فالجواب ما ذكرنا فيما إذا لم تعتق أنها إن جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر منذ ملكها المكاتب عتق الولد وما لا فلا لما ذكرنا أن الاعتبار للعلوق حالة قيام تأويل الملك ولو لم يكن شيء من ذلك ولكن عجز المكاتب أو مات عاجزاً فقد صار عبداً قناً للمولى وصارت المكاتبة للمولى مكاتبة للمولى وتبين أن المولى ادعى ولد مكاتبته وصدقته المكاتبة وقد مر الكلام فيه والله أعلم. الفصل التاسع في دعوى المكاتب الولد قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : مكاتبان بينهما جارية جاءت بولد فادعياه ثبت نسبه منهما، أما ثبوت النسب؛ فلأن للمكاتب في كسبه حق الملك، وإنه يكفي لإثبات النسب كحقيقة الملك، وأما ثبوته منهما لتساويهما في سبب استحقاق النسب ويصير الولد مكاتباً معهما داخلاً في كتابتهما؛ لأنه ولد في حالة الكتابة والولد المولود في حالة الكتابة يكون مكاتباً تبعاً وتصير الجارية بمنزلة أم الولد وليس معناه أنها تستحق الحرية كأم ولد الحر؛ لأن للمكاتب لا يملك إيجاب حق الحرية في أكسابه ولكن معناه أنه يمتنع بيعها كما يمتنع بيع أم الولد الحر، وهذا لأن حق الأم في الاستيلاد تبع لحق الولد وقد تثبت حرمة البيع في حق الولد وسرى ذلك إلى الأم. فإن أدى أحدهما بدل الكتابة عتق لوجود شرط العتق في حقه وهو الأداء وعتق نصيبه من الولد تبعاً له؛ لأنه داخل في كتابته وبقي نصيب الآخر مكاتباً مع الآخر عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن عند أبي حنيفة رحمه الله الإعتاق متجزىء ولا ضمان في الولد، أما على المكاتب المعتق؛ لأن العتق عند الأداء يقع من جهة المولى لا من جهة المكاتب، وبهذا كان الولاء للمولى، فلا يمكن إيجاب الضمان على المكاتب بسبب عتق يثبت من جهة المولى، وأما على المولى؛ لأن العتق من جهة المولى عند الأداء يثبت بإعتاق حكمي والضمان لا يجب بإعتاق حكمي. كما لو ورث ورثته ولو وجد من المولى بالإعتاق الحقيقي بأن أعتق ولد المكاتب حقيقة لا يجب الضمان أيضاً؛ لأنه لو وجب (وجب) للمكاتب وتعذر إيجابه للمكاتب، لأن المكاتب بعقد الكتابة يبتغي حرية الولد؛

لأنه عقد الكتابة كما يعقد الحرية المكاتب يقصد الحرية ولده فكيف يجب الضمان على المولى للمكاتب بما المكاتبة. وأما على الولد فلهذه العلة وأما الجارية فنصيب الذي عتق منها أم ولده للذي عتق بمنزلة أم ولد الحر؛ لأنه تحقق ملكه فيها فتحققت أميه الولد في نصيبه منها ونصيب الأخر بقي على حاله بمنزلة أم ولد المكاتب عند أبي حنيفة رحمه الله، وكان ينبغي أن تصير الجارية كلها أم ولد للذي عتق بمنزلة ولد الحر؛ لأن الأصل في الاستيلاد التكميل. والجواب هكذا إذا كان المحل فائدة للنقل من ملك إلى ملك أما إذا لم يكن فلا ألا ترى أن المدبرة إذا كانت بين اثنين استولدها أحدهما، فإنه لا يتكامل الاستيلاد بالإجماع، والمكاتبة إذا كانت بين اثنين استولدها أحدهما لا يتكامل الاستيلاد عند أبي حنيفة رحمه الله. إذا ثبت هذا فنقول بأن نصيب الآخر ليس بقابل للنقل من ملك إلى ملك. ألا ترى أنه امتنع بيعه فامتنع القول بتكميل الاستيلاد لهذه الضرورة ولا ضمان على الذي عتق في نصيب صاحبه من الجارية عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه لم يتعين نصيب صاحبه ولم يتملكه المعتق هذا كله قياس قول أبي حنيفة رحمه الله. وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا أدى أحدهما حتى عتق نصيبه من الولد عتق الباقي من الولد أيضاً؛ لأن الإعتاق لا يتجزىء عندهما ولا ضمان ولا سعاية عليه لما مر وصارت الجارية كلها أم ولد للذي عتق؛ لأن امتناع النقل في نصيب صاحبه من الجارية إنما كان تبعاً لامتناع النقل من الولد وامتناع النقل في الولد إنما كان لأجل الكتابة، فإن الولد المولود في حالة الكتابة مكاتب (346ب1) فصار امتناع النقل في نصيب صاحبه من الجارية بهذا الوسط مضافاً إلى الكاتبة فكان نصيب الشريك من الجارية مكاتب وقيام الكتابة في نصيب الشريك لا يمنع تكامل الاستيلاد عندهما؛ لأن الكتابة في نصيب الشريك قابلة للفسخ وما يقولان يتكامل الاستيلاد فيما يقبل الفسخ فانفسخت الكتابة في نصيب صاحبه ويثبت تكامل الاستيلاد وعليه قيمة نصيب صاحبه موسراً كان أو معسراً لأنه ضمان التمليك ولا يختلف باليسار والعسار ولو أنه حين أدى أحدهما عجز الآخر بعد ذلك. فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: عتق نصيب المؤدى من الولد وصار نصيب الآخر عبداً تبعاً له لما مر. وصارت الجارية كلها أم ولد للمولى لزوال المانع من تكميل الاستيلاد وضمن المؤدي نصف قيمة الجارية لمولى العاجز موسراً كان أو معسراً لأنه يملك نصيبه بالاستيلاد ولا ضمان عليه في الولد لما ذكرنا أن العتق ما ثبت من جهته ولكن سعى الولد في نصف قيمته لمولى العاجز؛ لأنه إلى الأيام بها كان لا يسعى؛ لأنه لو سعى سعى لابنه فتعذر إيجاب السعاية للأب لما مر. أما هاهنا لوسعى سعى لمولى الأب ومولى الأب يستحق السعاية عليه وقد احتبس

عنده ملكه لأن بانفساخ كتابة الأب انفسخت الكتابة في حقه تبعاً فكان هذا النصف حق المولى بعد العجز وقد احتبس عند الولد حكماً يعتق نصيب المؤدي وتضمين المؤدي متعذر فتجب السعاية على الولد رعاية لحق المولى وصيانة لملكه. فرق بين هذا وبينما لو كانت جارية بين رجلين حرين فولدت ولداً فادعاه أحدهما صارت الجارية كلها أم ولد له وضمن نصف قيمتها ونصف عقرها لشريكه ولم يسع الولد في شيء لشريكه وإن (كان) معسراً. والفرق: أن الدعوى في المسألتين دعوى استيلاد ودعوى الاستيلاد تستند إلى وقت العلوق وأمكن إسنادها إلى وقت العلوق في تلك المسألة؛ لأنه ليس في إسنادها إبطال لسبب أو عقد فصار ناقلاً لها إلى ملكه فصار مستولداً جارية نفسه ومن استولد جارية نفسه كان ولده حر الأصل حر العلوق ولم يكن عليه سعاية أما في مسألتنا بعد إسنادها إلى وقت العلوق؛ لأن في إسنادها إبطال النسب من العاجز ولا سبيل إلى إبطال النسب بعد ثبوته ودعوى الاستيلاد إذا لم تستند إلى وقت العلوق صارت دعوة تحرير فصار الولد كعبد بين اثنين أعتقه أحدهما وهو معسر فكان عليه أن يسعى. هذا كما لو اشترى رجلان جارية ومعها ولدها فادعى أحدهما ذلك الولد وهو معسر ثبت النسب منه وصارت الجارية أم ولد وكان على الولد أن يسعى في نصف قيمته للساكت؛ لأن دعوته لم تستند إلى وقت العلوق لأن في إسنادها إبطال البيع فصارت دعوة تحرير فصار كعبدين اثنين أعتقه أحدهما وهو معسر، وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: فالجواب ما ذكرنا قبل عجز الآخر إلا أن هنا الولد يسعى في نصف قيمته لمولى العاجز بخلاف ما قبل العجز. والفرق: ما قلنا لأبي حنيفة رحمه الله. ولو لم يعجز الآخر بعد ما أدى أحدهما ولكن أدى وعتق لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» . والجواب: أن على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله: عتق الولد على المكاتبين لأن عنده الإعتاق متجزىء فحين أدى أحدهما أولاً عتق عليه نصيبه من الولد لا غير، فإذا أدى الآخر بعد ذلك عتق عليه نصيبه أيضاً وكانت الجارية أم ولد لهما. وعلى قياس قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: حين أدى أحدهما عتق كل الولد عليه لعدم تجزؤ الإعتاق، ومن غير ضمان ولا سعاية فصارت الجارية كلها أم ولد له فلا يتغير هذا الحكم بعتق الآخر ولو لم يرد واحد منهما شيئاً حتى عتق أحدهما، فإن الولد مكاتب مع الذي لم يعجز عندهما وهو ابنهما كما كان أما هو ابنهما، لأن النسب بعد ثبوته لا يقبل التحويل من موضع إلى موضع فبقي ثابتاً كما كان، وأما هو مكاتب مع الذي لم يعجز؛ لأنه لما عجز أحدهما انفسخت الكتابة في حقه فانفسخت في نصيبه من الولد ونصيب المكاتب من الولد مكاتب والكتابة عندهما غير متجزئة فيصير جميع الولد مكاتباً مع الذي لم يعجز ويضمن المكاتب الذي لم يعجز موسراًكان أو معسراً نصف قيمة الولد للمولى المكاتب الذي عجز؛ لأنه لما صار الولد كله مكاتباً مع الذي لم يعجز صار

مستهكلاً نصيب الآخر وضمان التمليك لا يختلف باليسار والعسار ولم يذكر حكم الأم في هذا الفصل وينبغي على قياس قولهما: أن تصير أم ولد للذي لم يعجز أو لا مانع من تكميل الاستيلاد. وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله: ينبغي أن يكون نصف الولد مكاتباً مع الذي لم يعجز ونصفه يكون رقيقاً لمولى الذي عجز، لأن الكتابة عنده متجزئة. وأما الجارية فمن مشايخنا رحمهم الله من قال: على قياس قول أبي حنيفة: تصير الجارية كلها أم ولد للذي لم يعجز لزوال المانع من تكميل الاستيلاد على ما مر، وذكر علي الرازي في «مسائله» الكرخي: أن على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله: يجب أن يكون نصفها أم ولد للمكاتب ونصفها يكون رقيقاً لمولى الذي عجز؛ لأن الأم تابعة للولد في مثل هذا فالولد نصفه مكاتب ونصفه رقيق لمولى الذي عجز فكذا الأم، ولو لم يرد واحد منهما ولم يعجز ولكن مات أحدهما وترك وفاء ببدل الكتابة وفضلاً، فإن مولى الميت يستوفي بدل الكتابة من تركته ويحكم بعتقه في أخر جزء من أجزاء حياته على ما عرف من أصلنا. ثم عند أبي حنيفة رحمه الله يعتق نصف الولد تبعاً لأبيه والنصف الآخر يبقى مكاتباً ببقاء الأب الآخر؛ لأن العتق عنده متجزىء والكتابة كذلك، فإن أدى الآخر عتق وعتق الابن كله ولا يرث أباه الأول عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه معتق البعض حين مات الأب الأول، ومعتق البعض لا يرث شيئاً وإن لم يرد الآخر ولكن عجز فالابن يسعى في نصف قيمته لمولى العاجز ويحكم بحريته؛ لأنه معتق البعض، ومعتق البعض لا يترك كذلك بل يخرج إلى الحرية بالسعاية. وأما الجارية فقد صار نصفها أم ولد للذي مات عن وفاء حال حياته وحريته وعتقت بموته حراً كما هو الحكم في أم ولد الحر ونصيب الآخر لا يترك رقيقاً فتسعى في نصف قيمتها للمكاتب ويحكم بحريتها. فرق أبو حنيفة رحمه الله بينه وبين أم ولد الحرين يعتقهما أحدهما أو يموت أحدهما حتى عتق نصفها حيث لا تسعى في النصف الباقي. والفرق: أن ثمة ثبتت أميه الولد حقيقة وثبت فيها حق الحرية حقيقة بحيث لا يتوهم عودهما إلى الرق فتسقط ماليتها وتقومها عند أبي حنيفة رحمه الله ولا ضمان ولا سعاية بدون (التقوم) ، أما هاهنا لم تثبت أمية الولد حقيقة ولم يثبت فيها شبهة الحرية، وإنما امتنع بيعها بيعاً للولد ولهذا يتصور عودها إلى الرق بعجز المكاتبين وبدون حق الحرية لا يسقط تقومها وماليتها فكانت صفة المالية والتقوم لنصيب الحي باقية وقد احتبس عبدهما (347أ1) حكماً للعتق في النصف فسعت في نصف قيمتها لهذا، هذا كله قياس قول أبي حنيفة رحمه الله. وأما على قياس قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا حكمنا الميت بحرية الولد في آخر جزء من أجزاء حياته حكمنا بحرية الولد كله؛ لأن العتق عندهما لا يتجزأ

ولا ضمان في الولد ولا سعاية عليه لما قلنا قبل هذا إلا أن يعجز الآخر فحينئذٍ يسعى الولد في نصف قيمته للمولى العاجز لما مر، ولا يرث الابن من المكاتب الميت شيئاً؛ لأن نصفه عتق مع المكاتب الميت في آخر جزء من أجزاء حياته تبعاً له والنصف الآخر عتق بطريق السراية عن ذلك النصف فيقع عتق النصف الباقي مقارناً للموت أو بعده. ومن شرط استحقاق الإرث أن يكون كله حراً وقت الموت. فإن قيل: العتق عندهما لا يتجزأ فإذا ثبت في نصف الولد واستند إلى آخر جزء من أجزاء حياة الميت ثبت في الكل فهذا حر مات عن ولد حر فينبغي أن يرث. والجواب عن هذا (أن) يقال بأن استناد العتق إنما كان بطريق التبعية وفي النصف هو بائع للمكاتب الميت فيستند العتق فيه ضرورة، فأما النصف الآخر ليس ببائع للمكاتب فلا يظهر استناد العتق فيه فكان عتق ذلك النصف مقارناً للموت أو بعده. يوضحه: أن النصف الذي هو تابع للمكاتب الميت يعلق عتقه بكتابة الميت فوجب اعتباره بها ووجب إسناده إلى النسب السابق، فأما النصف الأخر لما لم يكن تابعاً له لم يستحق الحرية بذلك النسب، وإنما استحقه ضرورة عدم التجزؤء فيعتبر حال ما وجبت حريته وهو الآداء الذي يحصل بعد الموت فيكون رقيقاً وقت الموت لمكاتب الميت فلهذا لا يرث. فأما الأم فإنها تصير أم ولد للميت فيعتق بموته ويجب في ماله نصف نصف قيمتها للمكاتب الحي يؤخذ ذلك من تركته بعد أداء بدل الكتابة. ذكر بعد هذا في «الكتاب» سؤالاً فقال: كيف يسعى الولد بنصف قيمته للمولى العاجز عندهما وهما ينقضان العتق؟ ومعنى هذا السؤال أنهما لما كانا لا ينقضان العتق أثبت العتق في كل الولد قبل عجز الآخر وما لم يعجز للآخر لا يثبت حق المولى في ولده فحال ما عتق كل الولد لم يكن حق المولى ثابتاً فيه فلماذا يسعى للمولى العاجز؟ ذكر السؤال ولم يذكر الجواب. ومشايخنا رحمهم الله أجابوا فقالوا بأن حق المولى كان ثابتاً في المكاتب وفي الولد؛ لأن ولد المكاتب يصير مكاتباً على مولى الأب تبعاً للأب، ومن ضرورته دخوله في ملكه إلا أن حق المكاتب كان مقدماً في الولد على حق المولى، فإذا زال حق المكاتب فوجبت السعاية للمولى لاحتباس ملك المولى عنده؛ لأن حق المولى يثبت في الولد. قال: مكاتبة بين اثنين جاءت بولد فادعاه أحدهما صحت دعوته لقيام ملكه في نصفها وثبت نسبه منها وصار نصيبه من الجارية أم ولد له وبقي نصيب الآخر مكاتباً غير أم ولد عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الكتابة في نصيب الشريك مانعة تقبل نصيب الشريك إلى ملك المستولد عنده والاستيلاد متى وقع في محل لا يقبل النقل ينتقص. كما في المدبرة بين اثنين استولدها أحدهما وعندهما صارت الجارية كلها أم للمستولد؛ لأن الكتابة في نصيب الشريك عندهما غير مانعة من تكميل الاستيلاد؛ لأن الاستيلاد أقوى الكتابة؛ لأنه لا يحتمل الفسخ والكتابة تحتمل الفسخ فيتكامل الاستيلاد وتنفسخ الكتابة في نصيب الشريك، فإذاً إن انفسخت الكتابة في نصيب الشريك وتكامل

الفصل العاشر في بيان حكم المكاتبين إن كانت مكاتبتهما واحدة أو متفرقة

الاستيلاد صار المستولد مستهلك نصيب الشريك وعادت الكتابة إلى نصيب الشريك وكملت لبقاء الكتابة في نصيب المستولد وهي غير متجزئة عندهما فتثبت في النصف الذي يملكه المستولد ضرورة عدم التجزؤ ثم يضمن المستولد لشريكه نصف قيمتها موسراً كان أو معسراً؛ لأنه يملك نصيب الشريك وضمان التملك لا يختلف. ثم اختلف المشايخ رحمهم الله في كيفية الضمان، بعضهم قالوا: يضمن المستولد لشريكه نصف قيمتها فيه لانقسام الكتابة عندهما. وبعضهم قالوا: يكاتبه؛ لأن هذا فسخ ضروري فلا يظهر في حق الضمان ثم لها الخيار؛ إن شاءت مضت على الكتابة وأدت بدل الكتابة وعتقت، وإن شاءت أعجزت نفسها وكانت أم ولد للمستولد تعتق بموته؛ لأنه تصدى لها سببا عتق كتابة معجلة ببدل، واستيلاد مؤجل بغير بدل ولها في كل نوع فائدة أخرى فكان لها الخيار لها لهذا، فإن اختارت المضي في الكتابة. ففي رواية هشام في «نوادره» عن محمد رحمه الله: تكون مكاتبة بجميع البدل وذكر الحاكم في «المنتقى» : أنها تكون مكاتبة بنصف البدل. وجه ما ذكر في «المنتقى» : أن الكتابة قد انفسخت في نصيب الشريك ضرورة تكميل الاستيلاد، وإذا انفسخت الكتابة في نصيب الشريك سقط نصف البدل ثم ثبوت الكتابة القائمة في نصيب المستولد إذا فات، فإنما يتسرى بما بقي فيه من البدل. وجه رواية هشام: أن التملك كالاستيلاد أمر حكمي والمكاتب يقبل النقل الحكمي على ما مر، فلا ضرورة إلى القول بانفساخ الكتابة في نصيب الشريك بل يدخل نصيب الشريك في ملك المستولد مكاتباً، وإذا لم تنفسخ الكتابة في نصيب الشريك لم تسقط بشيء من البدل، والدليل على صحة ما قلنا: أنه لو انفسخت الكتابة في نصيب الشريك لانفسخت في نصيب المستولد؛ لأن الكتابة عندهما كما لا تتجزأ ثبوتاً لا تتجزأ انفساخاً فلا يعود بعد ذلك مكاتبة إلا بتجديد العقد وهي مكاتبة بالاتفاق فدل أنه لم تنفسخ الكتابة في شيء منها. وكذلك لو لم مات بالولد ولكن أقر أحد الشريكين أنها أم ولد له فهذا والأول سواء؛ لأن الإقرار بالاستيلاد في الحكم بمنزلة إنشائه والله أعلم. الفصل العاشر في بيان حكم المكاتبين إن كانت مكاتبتهما واحدة أو متفرقة قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : مكاتبان رجلين كل واحد منهما لرجل على حده وبينهما جارية جاءت بولد فادعياه فهو ابنهما، وقد مر هذا، فإن ماتا عن وفاء أو قتلا معاً أو أحدهما قبل الآخر فأديت مكاتبتهما معاً عتقا ويستند عتق كل واحد منهما إلى آخر جزء من أجزاء حياته وعتق الولد تبعاً للأبوين، لأن نصف الولد تابع لهذا الأب داخل في كتابته والنصف الآخر تابع للأب الآخر داخل في كتابته وكان مولى للمكاتبين؛

لأن عتق الولد ثبت من جهة المكاتبين، ولا يرث الابن من واحد من الأبوين؛ لأنه معتق البعض في حق كل واحد منهما وقت موته. بيانه: ما ذكرنا أن نصف الولد تابع لهذا الأب والنصف الآخر تابع للأب الأخر فيستند عتق كل واحد نصف إلى عتق أصله لا إلى عتق الأصل الآخر لأن الاستيلاد من أحكام عقد الأصل، فإنها تظهر في مقدار ما هو تابع له (347ب1) في العقد لا فيما ليس بتابع له وجعل فيما ليس بتابع له كأن عتقه مقصور على الحال، فهو معنى قولنا: إنه معتق البعض في حق كل واحد منهما وقت موته. وكذلك إذا كان المكاتبان لرجل واحد كاتب كل واحد منهما بكتابة على حدة؛ لأن تبعية الولد المكاتب تكون في العقد، فيكون اختلاف العقدين بمنزلة اختلاف المنزلتين فأما إذا كان الرجل واحداً وقد كاتبهما كتابة واحدة، وباقي المسألة بحالها ورث الابن من كل واحد منهما؛ لأن العقد إذا كان واحداً كان يعقد بعتق كل واحد من الأبوين معلقاً بعتق الآخر لا يتصور عتق أحدهما إلا ومعه عتق الآخر، فاستند عتق كل واحد من الأبوين إلى ما استند إليه عتق صاحبه، وإذا استند العتق في كل واحد من الأبوين إلى حال حياتهما وظهر الاستناد في حق صاحبه يظهر استناد العتق في كل الولد في حق كل واحد من الأبوين ضرورة، فلم يحصل عتق كل واحد من الأبوين، والولد حر كله بعتقه يرث ويرث من كل واحد منهما ميراث ابن كامل عندنا خلافاً لزفز، فالمسألة معروفة. قال: ولو كانا لرجلين أو لرجل واحد وبينهما ولد، ولد في حال كتابتهما من جارية مشتركة بينهما إلا أن كتابتهما مختلفة فقتلا معاً أو ماتا معاً أو على التعاقب وترك كل واحد منهما وفاء فأديت مكاتبة أحدهما أولاً ثم أديت مكاتبة الآخر، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: عتق الولد تبعاً للمكاتبين وولاؤه لمولى المكاتبين كما لو أديت مكاتبتهما معاً. وهذا لأن العتق عنده متجزىء، فإنما يعتق كل واحد منهما يعتق نصف الولد الذي هو تابع له لا غير وكذلك الجارية بعتق من جهة المكاتبين، وولاؤها لمولى المكاتبين ولا يرث الابن من واحد من الأبوين لما مر قبل هذا. وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: فالولد يعتق تبعاً للأب الذي أديت مكاتبته أولاً سواء كان هو الذي مات أولاً أو آخراً؛ لأن عندهما العتق لا يتجزأ، فإن أديت مكاتبة أحدهما أولاً وحكم بحريته وبحرية نصف الولد تبعاً له حكم بحرية النصف الآخر ضرورة عدم التجزأ فقد اعتبرنا حالة الأداء في هذه المسائل حتى قالا: إذا أديت كتابتهما معاً عتق الولد تبعاً للمكاتبين، وولاؤه لمولى المكاتبين ماتا معاً أو على التعاقب الولد تبعاً للمكاتبين، وإذا أديت كتابة أحدهما أولاً عتق الولد تبعاً للمكاتب الذي أديت كتابته أولاً، ماتا معاً أو على التعاقب وإنما فعلا هكذا؛ لأن العتق إنما يثبت عند الأداء لكونه معلقاً بالأداء فيجب النظر إلى حالة الأداء ولا يرث الابن واحداً من الأبوين لما ذكرنا أن استناد حرية كل نصف من الولد إنما يظهر في حق الأب الذي هو تابع له في ذلك النصف.

أما في حق الأب الآخر: يجعل كأن حرية الولد مقصورة على الحال، ولا سعاية على الولد في نصيب الذي أديت كأنه آخر مرة؛ لأنه لو سعى سعى لأبيه وقد ذكرنا أن ابن المكاتب لا يسعى لأبيه بحال. وأما أم الولد فقد صارت حرة من قبل المكاتب الذي كتابته أولاً؛ لأن نصفها عتق بموته يكون ذلك النصف أم ولد له، فيعتق النصف الثاني ضرورة عدم التجزؤ ويضمن لورثة المكاتب الذي أديت كتابته آخر مرة نصف قيمتها ويكون ديناً في تركته؛ لأن الاستيلاد تقرر في الكل وصار متملكاً نصيب صاحبه فيضمن نصف قيمتها لورثة المكاتب الذي أديت كتابته آخراً بهذا. لو كاتب الأبوين مكاتبة واحداً فمات قبل صاحبه وترك كل واحد منهما وفاء فأديت المكاتبة من مال أحدهما عتقا وورث الابن منهما؛ لما ذكرنا أن عند اتحاد العقد يستند عتق كل واحد منهما من الأبوين إلى ما استند إليه عتق صاحبه، وعند ذلك يظهر استناد عتق الولد في حق كل واحد من الأبوين ثم يؤخذ من تركة الذي لم يؤد بدل الكتابة من ماله حصة من بدل الكتابة؛ لأن الأداء من تركة أحدهما بعد وفائه بمنزلة أدائه في حال حياته في حق ثبوت حق الرجوع على صاحبه بحصته إن كان حياً، وفي تركته إن كان ميتاً. وقال محمد رحمه الله في «الزيادات» أيضاً: مكاتب لرجلين أو لرجل واحد إلا أن كتابتهما مختلفة وبينهما ولد على تجوز ما ذكرنا، مات أحدهما عن وفاء، ثم قطعت يد الابن ثم أديت مكاتبته، فإن على القاطع أرش العبيد لأنه قطعت يده وهو عبد؛ لأن قبل أداء بدل الكتابة لا يثبت العتق وعند الأداء يثبت العتق مستنداً، ولكن الاستناد لا يظهر في حق المتلاشى والمستوى بالقطع بلا شيء فيكون نصف هذا الأرش بهذا الولد لا يدخل في كسب الميت، وإن كان ذلك للميت حال حياته، ونصفه للمكاتب الحي، أما نصفه للولد؛ لأنا إنما جعلنا ذلك للميت حال حياته لأجل التبعية؛ لأن نصف الولد الذي داخل في كتابته تابع له وقد صار ذلك النصف أصلاً بموته وبهذا يطالب بأداء حصة الميت من بدل الكتابة وقيل: هذا كان لا يطالب وهذا هو علامة الأصالة. وأما النصف الآخر الذي هو داخل في كتابة الحي بقي تبعاً للحي فلهذا كان نصف الأرش للولد والنصف للمكاتب الحي، وكذلك لو اكتسب الولد اكتساباً بعد موت أحدهما أي: أحد الأبوين قبل أداء بدل الكتابة كان نصف الكسب للولد يدخل في كسب الميت وإن كان ذلك الميت حال حياته ونصفه للمكاتب الحي لما قلنا في الأرش، وإن قطعت يده بعدما أديت مكاتبة الميت قدم القاطع أرش الأحرار عندهما؛ لأن العتق عندهما لا يتجزأ، فإذا عتق نصف الولد عند أداء مكاتبة الميت عتق النصف الآخر ضرورة عدم التجزؤ وكان الأرش للولد لكونه حراً وقت القطع. وكذلك الكسب الذي اكتسبه الولد بعدما أديت مكاتبة الميت يكون كله له؛ لأنه اكتسبه وهو حر، فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله يجب على القاطع أرش العبيد لأن

معتق البعض عنده، ومعتق البعض بمنزلة المكاتب فيكون نصف هذا الأرش للولد ونصفه للمكاتب الحي الذي اكتسبه هذا الولد بعدما أديت مكاتبة الميت يكون نصفه للولد ونصفه للمكاتب الحي عند أبي حنيفة رحمه الله. وكان ينبغي أن يكون كل الأرش والكسب للولد في هذا الفصل عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن معتق البعض عنده مكاتب مقصود في جميع الرقبة ومن كان مكاتباً مقصوداً يستحق جميع أرشه وجميع كسبه. والجواب: أن معتق البعض على قول أبي حنيفة رحمه الله: إنما يكون مكاتباً مقصوداً إذا ثبتت الكتابة في الباقي حكماً بعتق البعض وكتابة الباقي ههنا ما ثبت حكماً لعتق البعض إنما يثبت بكتابة الحي فبقي مكاتباً تبعاً للحي فلهذا لا يستوجب كل الأرش وكل الكسب. وإن قطعت يد الأم بعد موت أحدهما عن وفاء فإن كان قبل أداء مكاتبته على القاطع أرش الإماء، وهذا ظاهر ويكون نصف ذلك للمكاتب الميت والنصف للمكاتب الحي أما النصف للمكاتب الحي فظاهر؛ لأن نصفها مملوكة له وأما النصف للمكاتب الميت لأن نصيب الميت منها لم يصر مكاتباً مقصوداً لأن أم الولد لا يكاتب على المكاتب حتى يصير مقصود بموته ما يحرم بيعها لا غير. ألا ترى أن بعد موت المولى لا يطالب بأداء البدل فبقي تبعاً للميت كما كان وكان أرشها بمنزلة المكاتب الميت فيلتحق بتركته (349أ1) ويؤدي مكاتبته من الجملة. وكذلك الجواب في أكساب اكتسبتها قبل أداء بدل الكتابة لكون نصفها للمكاتب الحي والنصف للمكاتب الميت لما قلنا في الأرش، وإن قطعت يدها بعدما أدت مكاتبة الميت فأرشها أرش الأحرار عندهما حكماً بحرية الميت لحرية نصفها لكون ذلك النصف أم ولد له فحكم بحرية النصف الآخر منها ضرورة عدم التجزؤ فيكون ذلك لها. وكذلك الجواب في كسب اكتسب بعد أداء بدل الكتابة لها عندهما؛ وهذا ظاهر. وأما على قول أبي حنيفة: يجب أرش الإماء؛ لأنها معتقة البعض فيكون النصف لها؛ لأن نصفها قد عتق، والنصف للمكاتب الحي لأن نصفها بقيت مملوكة للمكاتب الحي. وكذلك الجواب في كسب الكسب بعد الأداء النصف لها والنصف للمكاتب الحي لما قلنا، وهذا قياس قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنها معتق البعض، ومعتق البعض عنده مكاتب مقصوداً إذا ثبت كتابة الباقي حكماً لعتق البعض وههنا كتابة الباقي تثبت حكماً لعتق البعض فينبغي أن يكون كل الأرش وكل الكسب لها. والجواب: أن معتق البعض على قول أبي حنيفة رحمه الله إنما يكون مكاتباً مقصوداً مستحقاً جميع الكسب والأرش مع أن كتابة الباقي تثبت حكماً لعتق البعض باعتبار أنه ملك اكتسب يثبت بملك الرقبة وفي معتق البعض ملك الساكت قابل للانتقال. ألا ترى أنه ينتقل إلى الشريك بالضمان فجاز أن ينتقل العبد بالسعاية فتملك نفسها

فيملك اكتساب ضرورة أما ملك أم الولد لا يقبل الانتقال. ألا ترى أنه لا ينتقل إلى الشريك فلا ينتقل إليها فلا تملك نفسها ولا يملك الكسب إلا أنه يضرب عليها السعاية لتعذر إيفائها على حكم الرق لا لأنها تملك نفسها بالسعاية. عبد وابنه بين رجلين كاتبهما أحدُهما على ألف درهم كتابة واحدة بغير إذن الشريك، فمات الأب وترك مالاً كثيراً، ثم اكتسب الابن بعد موته اكتساباً أو قطعت يده وأخذ الأرش ثم علم المولى الآخر بالكاتبة، فأراد أن ينقض الكتابة ليس له ذلك؛ لأن البعض إنما يصح إذا بقي العقد بعد موت المكاتب بخلاف القياس لضرورة صحة الأداء وإمكان استناد العتق إلى قبل الموت، فلا يظهر في حق بعض مقصوده ولكن يأخذ نصف ما ترك الأب ونصف ما اكتسب الابن؛ لأنه لو كان الأب حياً كان للمولى الآخر أن يأخذ نصف ذلك. أما على قول أبي حنيفة رحمه الله فظاهر؛ لأنه كسب عبد مشترك؛ لأن الكتابة عنده متجزئة. وأما على قولهما: فلأن الكتابة عندهما وإن كانت لا تتجزأ فللساكت حق الفسخ فحصل نصف الكسب على حقه يعني على حق ملكه له أن يأخذ نصف ذلك. إذا ثبت هذا الحكم حال حياة الأب بقي كذلك بعد موته عن وفاء، ثم ينظر إلى الباقي فيؤدي منها لمكاتبه ويحكم بعتق النصف بينهما عند أبي حنيفة رحمه الله وبعتق الكل عندهما وعلى المكاتب نصف قيمته إن كان موسراً، وإن كان معسراً تجب السعاية عليهما في ذلك غير أن ما كان بحصة الميت يؤخذ من تركته لكونه عاجزاً عن السعاية وما كان بحصة الابن يجب عليه لكونه قادراً على السعاية، فلا يرث الابن أباه؛ لأنه معتق البعض عند موته. وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد رحمه الله: في رجل كاتب غلامين له كتابة واحدة فاستحق أحدهما لا يرجع على الثاني بشيء منهما وإن وجد أحدهما حراً بطلت الكتابة كلها. وعن أبي يوسف: في رجل كاتب عبدين له على ألف درهم كتابة واحدة وكل واحد منهما كفيل ضامن لذلك فاستحق أحدهما، فالثاني بالخيار إن شاء أدى جميع بدل الكتابة فعتق، لا يعتق بدون ذلك، وإن شاء نقض الكتابة. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف رحمه الله: إذا كاتب الرجل عبدين له مكاتبة واحدة على ألف درهم إن أديا عتقا، وإن عجزا ردا في الرق، فإن أدى أحدهما الكتابة رجع على صاحبه، وإن لم يضمن كل واحد منهما عن صاحبه. وفي «المنتقى» : رجل كاتب عبدين له في صحته على ألف درهم كتابة واحدة ثم إن أحدهما زاده مائة درهم في الكتابة والألف على النجوم، وأبى الآخر الزيادة فإنه يلزم (صاحب) الزيادة نصف الزيادة ولا يلزم الآخر شيء منها ويعتقان بأداء الألف وتكون نصف الزيادة على الذي زادها ولا ويكون على النجوم وكذلك لو قبلها صاحبه كانت الزيادة عليهما حالاً.

الفصل الحادي عشر في العبد يكون بين رجلين فيكاتباه أو يكاتبه أحدهما

وهذا بمنزلة رجل باع عبداً بألف درهم إلى سنة، ثم زاده مائة درهم فهذه حالة ولا يكون على الأصل ولا يأخذ المولى كل واحد منهما إلا بحصة الزيادة وإن أداها أحدهما لم يرجع بها على الآخر. وقال محمد رحمه الله: إذا زاد أحدهما مئة وخمسمائة، فإنها كلها عليه يأخذه المولى بها. وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله: إذا كاتب الرجل عبدين له على ألف درهم ولم يجعل كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه، فأدى أحداهما حصته من المكاتبة عتق. الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا كاتب عبدين له على ألف درهم حالة ثم يرد على هذا أخذ كل واحد منهما بحصة من المكاتبة، ولم يكن له أن يأخذ واحداً منهما بما على الآخر، وإنما أدى حصته صار حراً. وإن كاتبهما على الألف ونجمها عليهما وقال: إذا أديتما عتقتما أو لم يقل ذلك كان له أن يأخذ أيهما شاء بجميعهما، وكان ذلك بمنزلة ضمان كل واحد منهما عن صاحبه والله أعلم. الفصل الحادي عشر في العبد يكون بين رجلين فيكاتباه أو يكاتبه أحدهما قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا كان العبد بين رجلين فكاتب أحدهما نصيبه بغير إذن شريكه، صحت الكتابة في نصيبه واقتصرت عليه عند أبي حنيفة؛ لأن في الكتابة معاوضة وتعليق عتق بالأداء، وأي ذلك ما اعتبر صح من أحدهما في نصيبه. فإنه لو باع أحدهما نصيبه جاز، ولو علق عتق نصيبه بأداء المال أيضاً يجوز، وكان للشريك الساكت الخيار إن شاء فسخ هذه الكتابة وإن شاء ضربها عند علمائنا رحمهم الله خلافاً لابن أبي ليلى، وأجمعوا على أنه لو باع أحدهما نصيبه أو أعتق أو دبر، أو علق عتق نصيبه بأداء المال إنه ليس للساكت أن يفسخه. والوجه في ذلك: أن المكاتب بكتابة نصيب نفسه وإن تصرف في خالص ملكه إلا أنه ألحق بغيره وهو الساكت ضرراً فإنه بسبب كتابته يبطل على الساكت حق البيع في نصيبه؛ لأن نصيب المكاتب بالكتابة صار حراً يداً للحال وحرية اليد مانعة جواز البيع كحرية الرقبة. فهو معنى قولنا: أخر بالساكت والكتابة قابل للفسخ وكل تصرف صدر من المالك وقد وقع إضرار بالعين، وإنه يحل الفسخ كان لمن يوجه عليه الضرر فسخه. ألا ترى أن المرأة إذا زوجت نفسها من غير كفء لها كان للأولياء حق الاعتراض وإن تصرفت في خالص ملكها؛ لأنها ألحقت بما تصرفت ضرراً بالأولياء فكذا ههنا بل

أولى لأن الكتابة أقبل للفسخ من النكاح، فإن النكاح (349ب1) لا يفسخ إلا بقصور في ولاية العاقد، والكتابة تفسخ بتراجعها من غير قصور في ولاية العاقد وليس كما (لو) باع أحدهما نصيبه؛ لأنه ليس في بيع أحدهما نصيبه ضرر على صاحبه؛ لأن بسبب هذا البيع لا يبطل على صاحبه حق البيع في نصيبه حتى إن في (أي) موضع كان في بيع أحدهما نصيب ضرر لصاحبه كان لصاحبه حق فسخ بيعه، فإن الدار إذا كانت بين اثنين باع أحدهما نصف ثلث معلوم من رجل كان للآخر حق الفسخ حتى لا يتفرق نصيبه في الدار زيادة تفرق وليس كما لو أعتق أحدهما نصيبه أو دبره؛ لأن كل واحد منهما لا يقبل الفسخ وليس كما لو علق عتق نصيبه بأداء المال لأنه لا يحتمل الفسخ لأنه يمين. ثم إن عامة المشايخ لم يشترطوا لصحة هذا الفسخ القضاء أو الرضا والشيخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله في «شرح الشافي» : شرط القضاء أو الرضا وأشار إلى المعنى، فقال: لأنه تصرف في ملكه، فإن فسخ الساكت الكتابة عاد الأمر إلى ما كان قبل الكتابة وإن لم يفسخ حتى أداء العبد مكاتبته، فإنه يعتق نصيب المكاتب، واقتصر العتق على نصيبه عند أبي حنيفة رحمه الله، وللساكت خيارات ثلاثة إن كان المكاتب موسراً، وإن كان معسراً فله خيارات؛ لأن المكاتب صار معتقاً نصيبه عند الأداء، والحكم في عبد بين شريكين أعتق أحدهما نصيبه عند أبي حنيفة رحمه الله ما ذكرنا ثم يرجع الساكت على شريكه فيأخذ منه نصف ما أخذه من العبد، ويأخذ من العبد نصف ما بقي في يده من الكسب؛ لأن الكتابة لما اقتصرت على نصيب الساكت عند أبي حنيفة رحمه الله كان هذا كسب عند نصفه المكاتب ونصفه للساكت ثم يقع المكاتب عبداً على العبد بما أخذ منه الساكت. فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبين ما إذا كاتب ورجع الساكت على المكاتب وأخذ منه نصف ذلك، لا يكون للمكاتب أن يرجع على العبد بشيء؛ لأن هناك جعل البدل المسمى بإزاء كل العبد فكان بإزاء النصف نصف المسمى وقد سلم له النصف المسمى بكماله، أما ههنا جعل البدل مقابلة نصيبه، وصح ذلك عند أبي حنيفة لاقتصار الكتابة على نصيب عبده فصار جميع المسمى بإزاء نصيبه لا غير، فإذا استحق شيء منه كان له حق الرجوع بذلك القدر فهذا هو الفرق له. جئنا إلى بيان مذهب أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: فنقول إذا أدى المكاتب بدل الكتابة عتق جميع العبد عندهما؛ لأن الإعتاق عندهما لا يتجزأ وكان للساكت حق تضمين المكاتب إن كان موسراً وحق استغناء العبد إن كان معسراً، ويرجع الساكت على المكاتب فيأخذ منه نصف ما أخذ من العبد ويأخذ أيضاً نصف ما بقي في يد العبد بعد أداء بدل الكتابة، وكان ينبغي أن لا يرجع على الساكت بشيء عندهما؛ لأن الكتابة عندهما لا تتجزأ فيصير الكل مكاتباً على المكاتب ويصير المكاتب مستهلكاً على الساكت نصيبه فيكون جميع المؤدى بسبب مكاتبته فينبغي أن يسلم له، ولكن الوجه في هذا أن يقال بأن نصيب الساكت لا يعتبر مملوكاً ومكاتباً للمكاتب في حق الساكت بل يعتبر مأذوناً له في التجارة.

أما في حق المكاتب يعتبر مملوكاً ومكاتباً للمكاتب، والكتابة تخالف العتق والتدبير والاستيلاد عندهما، فإن أحد الشريكين إذا أعتق نصيبه أو دبر أو استولد، يتملك نصيب صاحبه بالضمان ويظهر ذلك في حق الكل. والوجه في ذلك: أن يقال بأن مال الغير لا يتملك إلا بضرورة، ولا تتحقق الضرورة في فصل الكتابة إلا بتملك نصيب الساكت. أما في فصل الإعتاق والتدبير والاستيلاد ضرورة وبيان ذلك: أن في فصل الكتابة لو صار متملكاً نصيب الساكت إنما يصير متملكاً ضرورة أن الكتابة لما نفذت في نصيب المكاتب لا بد من إثبات حكمها فيه وهو حرية اليد في حق الاكتساب والتصرف، فلا يمكن إثبات حرية اليد في نصيب المكاتب إلا بإثبات الحرية في نصيب الساكت؛ لأنها لا تتجزأ ولا يمكن إثبات الحرية في نصيب الساكت إلا وقد تملك نصيب الساكت فيصير متملكاً نصيب الساكت بهذه الوسائط. قلنا: من ضرورة حرية اليد في حق الاكتساب والتصرف في نصيب المكاتب، أما ليس من ضرورة حرية اليد في حق الاكتساب والتصرف في نصيب الساكت يملك نصيب الساكت وجعل نصيب الساكت مملوكاً للمكاتب في حق الساكت لأنه هو المقصود يحصل في نصيب الساكت إذا صار نصيبه مأذوناً في التجارة فجعلنا نصيب الساكت مأذوناً في التجارة في حق الساكت مكاتباً في حق المكاتب، وإذا بقي نصيب الساكت مأذوناً في التجارة في حق الساكت كان هذا كسب عبد مشترك، فكان للساكت أن يأخذ نصفه، أما في الإعتاق والتدبير والاستيلاد تحققت الضرورة إلى تملك نصيب الساكت لأن الإعتاق والتدبير والاستيلاد لما صح في نصيب المباشر لا بد من إثبات حكمها في نصيبه ولا يمكن إثبات حكمها في نصيبه إلا بثبات حكمها في نصيب صاحبه، لأنه لا يتجزأ ولا يمكن إثباته في نصيب الساكت لسبب آخر غير العتق؛ لأن حكم حقيقة العتق لا تثبت بسبب آخر غير العتق. وكذلك حكم التدبير لا يثبت نسب آخر غير التدبير؛ لأنه لإثبات حق العتق للرقبة حتى لا يجوز عن كفارة يمينه، وحكم جعله لعتق لا يثبت لسبب آخر دون العتق، فكذا حكم حق العتق فأثبتنا حقيقة العتق وحكم حق العتق في نصيب الساكت بالعتق والتدبير والعتق والتدبير في نصيب الساكت لا يصح إلا بعد أن يصير مملوكاً له فصار متملكاً نصيب الساكت. فأما الثابت بالكتابة للحال حرية اليد في حق التصرف، لا حقيقة الحرية، ولا حق الحرية وبهذا قبل الفسخ وصار صرفه إلى الكفارة وحرية اليد كما ثبتت بالكتابة تثبت بالإذن فيمكننا إثبات حرية اليد في نصيب الساكت يحصل نصيبه مأذوناً في التجارة. ثم إذا أخذ الساكت من المكاتب نصف المكاتبة لا يرجع المكاتب على العبد بشيء عندهما؛ لأن إضافة الكتابة ألحق إلى البعض، والكتابة عندهما لا تتجزىء في حق المكاتب، بمنزلة الإضافة إلى الكل لو أضاف الكتابة إلى الكل فيعتبر نصيب الساكت

مكاتباً في حق المكاتب لأنه أقر عليه حتى ينقسم البدل على النصيبين فلا يرجع على العبد إذا أخذ منه الساكت بشيء وفي حق الساكت يعتبر مأذوناً (في التجارة) لا مكاتباً كذا ههنا هذه جملة ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله. طريقة أخرى لبيان أن الساكت يأخذ من المكاتب نصف ما أخذ من العبد ويأخذ من العبد نصف ما بقي في يده، وعلى هذه الطريقة يسلم أن نصيب الساكت صار مكاتباً كما هو أصلهما في عدم تجزىء الكتابة. وجه ذلك: أن الكل وإن صار مكاتباً إلا أن للساكت قبل أداء بدل الكتابة أن يفسخ الكتابة ويأخذ نصف الرقبة ونصف الكسب، وبعد الأداء إن تعذر الفسخ في الرقبة ما تعذر في الكسب فيفسخ الساكت العقد في نصيب الاكتساب وعند ذلك يعود نصف الكسب (350أ1) إلى ملكه فيأخذه بطريق فسخ الكتابة، ثم لا يرجع المكاتب عبداً على العبد بشيء وليس للمكاتب أن يحاج العبد، ويقول قد استحق علي بعض ما أديت فإن أرجع عليك بذلك؛ لأن من حجة العبد أن يقول له: قد ضمنت لي سلامة جميع الكسب. عندهما؛ لأن الكتابة لا تتجزىء عندهما، فإذا استحق عليك نصف ما أخذت لو رجعت له علي؛ كان لي أن أرجع عليك بما رجعت علي؛ لأن ذلك كسبي وقد ضمنت لي سلامة كسبي، ولم يسلم فكان لي حق الرجوع عليك بما رجعت علي فلا يعتد الرجوع هذا الذي ذكرنا، إذا كاتب نصيبه من العبد. فأما إذا كاتب جميع العبد بغير إذن شريكه وقد أدى المكاتب جميع المسمى فالجواب فيه عند أبي حنيفة رحمه الله كالجواب فيما إذا كانت نصيبه لا غير إلا في فصل وهو أن الساكت إذا أخذ من المكاتب نصف المؤدى فإن المكاتب لا يرجع على العبد بما أخذ منه الساكت، فأما في عدا ذلك فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كاتب نصيبه وعلى قولهما. الجواب فيه كالجواب فيما إذا كاتب بعينه؛ لأن إضافة الكتابة إلى نصيبه إضافة إلى الكل. وفي «نوادر أبي سليمان» عن أبي يوسف رحمه الله: عبد بين رجلين كاتبه أحدهما بغير إذن شريكه، فلم يرد ذلك الشريك حتى أدى المكاتب وعتق. قال أبو يوسف رحمه الله: لا يرجع الذي لم يكاتب على الذي كاتب بشيء فيما قبض من المكاتبة؛ لأن المكاتبة قد تمت وصار الكسب للمكاتب يوم كاتبه فيما قبض الذي كاتب خالص المكاتب لاحق للذي لم يكاتب فيه فلا يرجع فيه، ولكن يضمن الذي لم يكاتب الذي كاتب نصف قيمته إن شاء، إنه خلاف المذكور في الأصل هذا الذي ذكرنا إذا كاتب نصيبه من العبد أو كله يصير أذن شريكه، فأما إذا كاتب نصيبه بإذن شريكه فهذا على وجهين. إما أن أذن له بالكتابة في نصيبه، ولم يأذن له بقبض المكاتبة من العبد، أو أذن له بالكتابة في نصيبه، وأذن له بقبض المكاتبة، فإن أذن له بالكتابة، ولم يأذن له بالقبض، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: الجواب فيه كالجواب فيما إذا لم يأذن له شريكه بكتابة نصيبه في جميع ما ذكرنا من الأحكام في فصلين:

أحدهما: أنه لا يكون للآذن أن يفسخ الكتابة في نصيب المكاتب؛ لأنه رضي بالكتابة في نصيبه، فلا يكون له حق الفسخ بعد ذلك. كالمرأة إذا وضعت منها في غير كقول ورضي به الأولياء لا يبقى للأولياء حق الفسخ وحتى كاتب نصيبه بغير إذن شريكه كان له الفسخ؛ لأنه لم ينص بكتابة شريكه.g والثاني أنه متى أدى المكاتب المكاتبة إلى المكاتب حتى عتق نصيب المكاتب لا يكون للآذن حق تضمين المكاتب؛ لأن المكاتب صار معتقاً له بالكتابة برضا صاحبه ولكنه يعتقه أو يستسعيه. وأما على قولهما: فقد صار العبد مكاتباً بينهما؛ لأن الإذن من الساكت بكتابة نصيب الكاتبة إذن أَذنَ بكتابة الكل؛ لأنه لا يتجزىء، فكأنه قال: كاتب نصيبك ونصيبي فيصير الكل مكاتباً بينهما لا يعتق بأداء حصة أحدهما ما لم يؤد جميع المكاتبة كما لو كاتباه مكاتبة واحدة، ويكون المقبوض بينهما لأن كسب مكاتبتهما وما بقي من يد العبد يكون سالماً للعبد، فلا يكون لأحد على ذلك سبيل؛ لأنه كسب عبد كله مكاتب، هذا إذا أذن له بالكتابة ولم يأذن له بقبض نصيبه، فأما إذا أذن له بالكتابة في نصيبه وبقبض نصيبه فعلى قولهما: الجواب فيه كالجواب فيما إذا أذن له بكتابة نصيبه لا غير، إلا في فصل واحد وهو أنه متى أدى جميع المكاتبة ههنا إلى المكاتب فإنه يعتق؛ لأن المكاتب صار وكيلاً بالقبض من جهة الآذن فيكون الأداء إليه كالأداء إليهما، فيعتق بالأداء إلى المكاتب، ثم للآذن أن يأخذ منه نصف المكاتبة؛ لأنه كسب مكاتبهما وفيما لم يأذن له بالقبض وصار مكاتباً بينهما إذا أدى إلى المكاتب جميع المكاتبة فإنه لا يعتق لأن الإذن بالكتابة لا يكون إذناً بالقبض، كالوكيل بالكتابة لا يكون وكيلاً بالقبض، فلا يصير المكاتب وكيلاً من جهة الآخر بقبض نصيبه فيكون أداء حصة الآخر إليه والأداء إلى الأجنبي سواء، فأما فيما عدا هذا الحكم فالجواب فيه كالجواب فيما إذا أذن له بكتابة نصيبه ولم يأذن له بالقبض. وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله: فالجواب فيه كالجواب فيما إذا أذن له بكتابة نصيبه، ولم يأذن له بالقبض إلا في فصل هو أن ما قبضه المكاتب من بدل الكتابة نصيبه، ولم يأذن له بالقبض إلا في فصل يكون سالماً له فلا يكون للآذن أن يأخذ منه نصف ما قبض، وذلك لأنه متى أذن بقبض المكاتبة، فكأنه أذن للمكاتب بأداء ما عليه من بدل الكتابة من ماله فيصير أداء المكاتب نصف المكاتبة من ماله بإذنه كأدائه لو شرع بأداء نصف المكاتبة على المكاتب، فإن ما أدى يكون سالماً للمكاتب فكذا هذا، بخلاف ما لو لم يأذن له بالقبض؛ لأنه لم يوجد منه الرضا بأداء المكاتبة من ماله وما قبض المكاتب من المكاتبة نصفه ملك المكاتب فيكون سالماً له ونصفه ملك للساكت فكان (له) أن يأخذ نصيبه.

فأما فيما عدا هذا الحكم فالجواب فيه كالجواب فيما إذا أذن بكتابة نصيبه ولم يأذن له بالقبض. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا كاتب أحدهما نصيبه بغير إذن شريكه لم يكن لشريكه أن يتبع نصيبه على ما ذكرنا، فإن كاتب الساكت نصيبه بعد ذلك جاز وهذا عندهما جميعاً، على قول أبي حنيفة رحمه الله: فلا إشكال؛ لأن الكتابة تتجزأ عنده فلم يصر نصيب الساكت مكاتباً أصلاً، وإذا لم يصر نصيبه مكاتباً صار الحال في حق الساكت بعد كتابة المكاتب كالحال قبل الكتابة وقبل كتابة المكاتب الآخر (له) أن يكاتبه فكذلك هذا، وعلى قولهما: فلما ذكرنا أن نصيب الساكت لم يصر مكاتباً في حق الساكت بل اعتبر نصيبه مأذوناً له وإذا كان نصيب الساكت مأذوناً في حق الساكت لا مكاتباً كان له أن يكاتب نصيبه فيصير العبد مكاتباً بينها كل نصف منه صار مكاتباً بكتابة على حدة من أحدهما متى أدى إلى أحدهما حصته فإنه يعتق، ثم إذا كاتب الساكت نصيبه لا يكون للمكاتب الأول فسخ الكتابة في نصيبه، وذلك لأن الساكت بكتابة نصيبه جعل متصرفاً في خالص ملكه. ولم يلحق بالمكاتب الأول ضرراً فإن ضرر الكتابة من أحد الشريكين امتناع البيع على الآخر، وكان هذا الضرر ثابتاً على الأول بكتابة نفسه، وتصرف الإنسان لا يكون لأحد حق الفسخ عليه فكان كتابة الساكت ولم يلحق لشريكه ضرراً بمنزلة البيع في هذه الحالة، وإن أذن لشريكه بالكتابة في نصيبه وبقبض المكاتبة فأدى العبد إلى المكاتب شيئاً ثم نهاه عن القبض كان له ذلك؛ فإن أذن له بأن يقضي ما عليه من بدل الكتابة من ماله فإن نصف كسبه له، فإذا بدا له أن يمنعه من القضاء كان له ذلك لمن قال لمودعه: اقض الدين الذي عليك من وديعتي فأدى من ذلك شيئاً ثم نهاه عن الباقي كان له ذلك؛ لأن الإذن بالقضاء (350ب1) تبرع وإنما يتم هذا التبرع بالقضاء قبيل القضاء هو غير تام وللمتبرع أن يرجع عما تبرع به قبل التمام، وإن كاتب أحدهما نصفه بغير إذن شريكه وشريكه لا يعلمه ثم إن المكاتب منهما أذن للآخر في كتابة نصيبه فكاتبه ثم علم الثاني بكتابة الأول فأراد الثاني أن يفسخ كتابة الأول ليس له ذلك؛ لأن حق الفسخ للثاني إنما يثبت دفعاً للضرر عن نفسه، والضرر ههنا لا ينبغي بالفسخ فلا يعتد الفسخ بموته، فلا يثبت له حق الفسخ، وإذا لم يثبت له حق الفسخ صار نصيب كل واحد منهما مكاتباً بكتابة على حدة؛ لأن كل واحد منهما كاتب نصيبه بكتابة على حدة. فإن أخذ أحدهما في العبد شيئاً لا يكون للآخر أن يشاركه إلا فيما دفع إلى الأول قبل كتابة الثاني؛ لأن ما دفع الأول قبل كتابة الثاني كسب عبد نصفه مكاتب ونصفه مأذون، فأما ما دفع بعد كتابة الثاني صار الكل مكاتباً فهذا كسب عبد هو مكاتب كله فلا يكون للآخر أن يشاركه بحكم أنه كسب عبده ولا بحكم الكتابة؛ لأن نصيب كل واحد منهما صار مكاتباً بكتابة على حدة، فيعتبر بما لو باع كل واحد منهما نصيبه ببيع على حدة وقبض الثمن، وهناك لا يكون للآخر أن يشاركه فكذلك هذا، وإذا أدى حصة أحدهما

عتق نصيبه؛ لأنه معاوضة وتعليق، وأي ذلك ما اعتبر إذا حصل كتابة كل واحد منهما بعقد على حدة فإنه يعتق نصيبه بخلاف ما كاتباه جملة مكاتبة واحدة حيث لا يعتق نصيب أحدهما إذا أدى إليه حصته إن اعتبرنا معنى المعاوضة؛ لأن المكاتب بمنزلة المشتري والموليان بمنزلة البائعين، والواحد إذا اشترى عبداً من اثنين بألف درهم صفقة واحدة وأدى حصة أحدهما لا يسلم له شيء من المعقود عليه وإن اعتبرنا معنى التعليق؛ فلأن معنى قوله كاتبناك بألف درهم إذا أديت إلينا ألف درهم فأنت حر وهناك إذا أدى أحدهما خمسمائة لا يعتق نصيبه كذا ههنا. قال: عبد بين رجلين كاتب أحدهما جميع العبد بغير إذن شريكه فاستسعى العبد وأدى إليه نصف المكاتبة فإنه لا يعتق؛ لأن الكتابة واحدة فكان شرط وقوع العتق إزاء جميع المكاتبة لا إزاء حصة كما لو كاتباه جملة، فإن وهب المكاتب العبد نصف المكاتبة لا يعتق حصة من العبد ولو وهب له جميع حصته عتق نصفه فقد جعل هبة النصف شائعاً من النصفين حتى قال: تقع البراءة عن جميع حصته، وجعل هبة حصته مصروفاً إلى نصيبه حاجة حتى قال: برأ عن جميع حصته فيعتق. بعض مشايخنا رحمهم الله: يجب أن يكون الجواب فيهما سواء كان كما في سائر الديون، فإنه في الحالين بعد الغريم عن جميع حصته ويكون هبة النصف مصروفاً إلى حصته لا إلى النصيبين، فيجب أن يكون في الكتابة كذلك، ولو وهب حصته يعتق فكذلك إذا وهب نصفه، ومنهم من صح ما ذكرنا في الكتابة، وقال: بأن بدل الكتابة في مسألتنا هذه في حكم دين واحد من وجه وفي حكم دينين من وجه، وهذا لأن الموجب لهذا الدين واحد وهو المكاتبة لم يشاركه في إيجابه أحد فيكون واحداً باعتبار الإيجاب لا دينين. ولكن باعتبار الواجب في حكم دينين؛ لأن الواجب بهذا الإيجاب مشترك بينهما، ولو كان في حكم دين واحد من كل وجه إيجاباً انصرفت هبة النصف إلى نصف شائع أو لم يتصور هبة الحصة منه لأنه لا حصة إذا كان الدين واحداً ولو كان في حكم دينين من كل وجه فإن وجب بإيجابهما انصرف هبة النصف إلى نصيب الواهب خاصة لهبة الحصة كما في سائر الديون المشتركة فإذا حار بين الدين الواحد والدينين عملنا بالدليلين فقلنا: لنسبة بالدين الواحد من وجه إيجاباً انصرف هبة النصف إلى نصف شائع ويشهد بالدينين تنصرف هبة الحصة إلى نصفه خاصة عملاً بالدليلين، وإنما أظهرها نسبه الدين الواحد في هبة النصف لأنا إذا أظهرنا نسبة الدينين في حق هبة النصف فصرفناه إلى نصيب الواجب خاصة وجب أظهر هذا لسنة في حق الحصة بطريق الأولى؛ لأن حصته لا تحتمل إلا نصيبه، وهبة النصف يحتمل النصف من النصيبين فحينئذٍ لا يمكننا العمل بالدليلين، فإن قيل: هذا مشكل بما لو باع أحد الشريكين جميع العبد ثم وهب نصف الثمن، فإنه ينصرف إلى نصيبه خاصة. والإيجاب إيجاب واحد والجواب عن هذا أن الإيجاب واحد إلا أن نصيب شريكه

الفصل الثاني عشر في الرجل يكاتب بشقص مملوكه

من الثمن لم يجب بهذا الإيجاب بدليل أنه لم يتعلق بسلامة حصة المشتري، بإزاء الكل وإذا لم يجب نصيب شريكه بهذا الإيجاب صار وجود هذا الإيجاب في نصيب شريكه وعدمه بمنزلة، فأما ههنا إيجاب جميع المسمى صح في حق هذا المكاتب، حتى تعلق عتق نصيبه بإزاء جميع الألف حتى لو أدى حصة المكاتب لم يسلم له نصيب المكاتب وإذا ثبت جميع الألف بإيجابه في حق حصة تعلق العتق به لزمنا أن نعتبر جانب الإيجاب والواجب جميعاً، فيصح إسقاط النصف شائعاً باعتبار الإيجاب كما لو أسقط الكل باعتبار الشركة في إسقاط نصيبه خاصة بثمن الحصة، وإذا أعتق نصيبه متى وهب حصته كان الشريك الآخر بين خيارات ثلاث عند أبي حنيفة رحمه الله إن كان المكاتب موسراً وبين خيارين إن كان معسراً ويرجع الساكت على المكاتب فيأخذ منه نصف ما قبض ثم لا يرجع المكاتب على العبد بشيء عنده بخلاف ما لو كاتب نصيبه لا غير وعلى قولهما في الحالين لا يرجع على العبد بشيء والله أعلم. الفصل الثاني عشر في الرجل يكاتب بشقص مملوكه قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا كاتب الرجل نصف عبده جاز، فإن أدى عتق نصفه وسعى في قيمته عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن اكتسب أموالاً قبل الأداء فنصفه له؛ لأن نصفه مكاتب ونصفه للمولى، لأن النصف الآخر ليس بمكاتب عنده بل هو مأذون له. وعلى قولهما: إذا أدى عتق كله ولا شيء للمولى من كسب اكتسبه قبل الأداء، لأن كله مكاتب عندهما لأن الكتابة عندهما لا تتجزىء، وما اكتسبه بعد الأداء فكله له؛ لأنه حر عندهما، فيستسعى عند أبي حنيفة رحمه الله، والمستسعى بمنزلة المكاتب وكسب المكاتب له فرع على قول أبي حنيفة رحمه الله في «الأصل» فقال: إذا كاتب نصفه ثم أراد أن يجعل بينه وبين العمل والطلب والكسب والسعاية في مكاتبته ليس له ذلك؛ لأن العبد بكتابة النصف استحق عتق النصف بإزاء بدل الكتابة، ولا يمكنه الأداء إلا بالاكتساب والطلب فمتى منعه عن الاكتساب والطلب فقد (أدان ... ) عليه ما أثبت له من حق العتق بالكتابة فلا يكون له ذلك كما لو كاتب كله ثم أراد أن يحول بينه وبين الكسب والعمل ليس له ذلك كيلا يبطل على العبد حق العتق. فأما لو أراد هذا العبد أن يسافر فأراد المولى أن يمنعه فله (351أ1) ذلك قياساً في قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي الاستحسان ليس له ذلك. وجه القياس وهو أن المكاتب يشتري رقبته من المولى، فإذا كاتب نصفه فقد اشترى

من المولى نصف رقبته فيعتبر بما لو اشترى غيره، ولو اشترى نصف رقبته غيره أو أراد المشتري أن يسافر بالعبد فمنعه البائع كان له ذلك فكذلك هذا. والمعنى في المسألة وهو الفرق بينما إذا منعه عن المسافرة وبينما إذا منعه من أجل الطلب والكسب، فإنه ليس له ذلك قياساً واستحساناً لأن في ذلك إبطال حق العبد في العتق بيقين، وليس في منعه من المسافرة إبطال حقه في العتق لا محالة لأنه يمكنه أداء بدل الكتابة باكتساب بدل الكتابة في المصر. وجه الاستحسان: وهو أنه بالكتابة أثبت للعبد حق أن يعتق بإزاء بدل الكتابة، ولا يمكنه الأداء إلا بالاكتساب وربما لا يمكنه الاكتساب إلا بالمسافرة، فمتى أطلقنا له المنع من المسافرة وربما لا يمكنه أداء ما عليه في بدل الكتابة بدون المسافرة كان في ذلك إبطال حق على العبد عسى، وكما لا يكون للمولى إبطال ما ثبت له من الحق بالكتابة بيقين لا يكون له مباشرة ما يتوهم نسبة إبطال حق العبد عسى. ثم إن محمداً رحمه الله ذكر القياس والاستحسان في المسألة في ثلاث مواضع: أحدهما: في المسافرة. والثاني: في الاستخدام إذا أراد المولى أن يستخدمه يوماً ويخليه للكسب يوماً والقياس: أن يكون له ذلك. وفي الاستحسان لا يكون له ذلك. والثالث: إذا أراد أن يستسعيه لنفسه يوماً ويخليه يوماً القياس أن يكون له ذلك. وفي الاستحسان: لا يكون له ذلك. وجه القياس في ذلك ما ذكرنا أن المكاتب في النصف بمنزلة المشتري نصف بعينه عند أبي حنيفة رحمه الله، ولو اشترى نصف رقبته مشترٍ آخر يثبت للبائع حق التهايؤ مع المشتري فكذلك ههنا، وهذا لأنه ليس في التهايؤ إبطال حق على العبد لأنهما متى تهايأا احتاج المكاتب إلى كسب المسمى ومتى لم يتهايأا احتاج إلى كسب ضعف المسمى ولا فرق في حق العبد بين أن يأخذ المولى نصف منفعته وبين أن يأخذ نصف كسبه، في الاستحسان لا يكون له حق المهايأة؛ وذلك لأن القول بثبوت المهايأة للمولى قد يصير سبباً لفوات حق العبد في نصف المنفعة وجعلنا المكسوب بين العبد والمولى نصفين لا يصير ذلك سبباً لإبطال حق المولى بغير عوض في نصف منفعة العبد لأنه يأخذ نصف الكسب مكان نصف المنفعة وبالمهايأة قد يبطل حق العبد. بيان ذلك: أن الأسواق تكون رائجة في بعض فصول السنة، وكاسدة في بعض الفصول على هذا عادة الأسواق في حق كل تجارة وصناعة، فمتى لم يثبت للمولى حق المهايأة أمكن للعبد كسب ضعف المسمى في جميع السنة، وقد لا يمكنه كسب مثل المسمى في نصف السنة ومتى لم يمكنه كسب المسمى في نصف السنة يرد في الرق، فيفوت حق العبد عن العتق أصلاً بالمهايأة وفي القول بترك المهايأة لا يتوهم بنفي فوات حق المولى عند المنفعة بغير عوض أصلاً فكان النصر في الجانبين في ترك المهايأة وفي قسمة المكسوب وليس كما لو اشترى نصف العبد غير العبد، وذلك لأنه ليس في المهايأة

توهم فوات حق على أحد الشريكين، فوجب القول بقسمة المنفعة بالمهايأة فأما القول بقسمة المنفعة ههنا بالمهايأة قد تصير سبباً لفوات حق العبد، والقول بقسمة المكسوب لا يصير سبباً لفوات المولى بغير عوض أصلاً فكان القول بقسمة المكسوب أولى من القول بقسمة حقيقة المنفعة بالمهايأة. ولو كانت نصف جارية فولدت ولداً فولدها بمنزلتها، ويكون نصف كسب الولد للمولى لأن نصف الولد مملوكه كنصف ونصفه كسبه للأم لأنه داخل في كتابة الأم فإن أذن عتق نصفها وعتق نصف الولد معها وسعى كل واحد من نصف قيمته؛ لأن كل واحد منهما معتق البعض، وكل واحد منهما مقصود في هذه السعاية وأما كسب الولد بعد ذلك فهو له دون أمه ومولاه، لأنه صار كالمكاتب بما لزمه من السعاية في نصف قيمته مقصوداً. وإن ماتت الأم قبل أن تؤدي شيئاً في مكاتبتها سعى الولد في المكاتبة؛ لأن نصفه تابع للأم في الكتابة فيقوم مقامها بعدها في السعاية في المكاتبة، فإذا أداها عتق نصف الأم في آخر جزء من أجزاء حياتها ونصف وعتق نصف الولد أيضاً كما لو أدت في حياتها، وسعى بعد ذلك في نصف قيمته ولا يسعى في نصف قيمة أمه لأن في السعاية في نصف قيمة كل واحد منهما مقصود فلا يجب عليه ما كان عليها في السعاية؛ لأن ذلك إنما يكون بحكم التبعية ولا تبعية بينهما في ذلك النصف. وهو بمنزلة رجل أعتق نصف جاريته ونصف ولدها ثم ماتت الأم فلا سعاية على الولد من قبل الأم ولو كان أعتق نصف أمته وهي حبلى فولدت بعد ذلك أو حبلت بعد العتق فهذا الولد يسعى فيما على أمه إذا ماتت؛ لأن جميع الولد تبع لها إلا أنه ليس عليه شيء من السعاية مقصوداً فسعى فيما عليها بعد موتها. وإن كاتب نصف أمة فولدت ولداً ثم ماتت الأم وترك أموالاً وعليها دين قضى الدين من جميع تركتها أولاً، ثم يكون للمولى نصف ما بقي؛ لأن نصفه باق عليه على ملكه عند أبي حنيفة رحمه الله وهو ذلك النصف بمنزلة المأذون له في التجارة بعد الفراغ من الدين للمولى، ونصف الكسب لها، ويؤدي من ذلك مكاتبتها، فإن بقي شيء أخذ المولى من ذلك نصف قيمتها لأنه كان يستسعيها في نصف القيمة بعد أداء المكاتبة لو كانت حية، فيأخذ ذلك من تركتها بعد موتها؛ لأنا حكمنا بموتها حرة ولا يرث هذا الولد، لأن إسناد الحرية في الولد إلى حال حياتها كان في النصف الذي هو تبع لها وفي النصف الباقي الولد مقصود فإن عليه أن يسعى في نصف قيمته ولا يعتق إلا بعد أداء سعايته، فكان بمنزلة المملوك عند موت أمه فإن لم تدع الأم شيئاً يسعى الولد في الدين كله؛ لأن في حكم الدين الولد قائم مقام الأم، كقوله المأذون وولد المكاتبة، ويسعى في الكتابة أيضاً لهذا المعنى ثم يسعى في نصف قيمة نفسه، لأنه معتق البعض بعد أداء الكتابة ولا يسعى في نصف قيمته لأم لأنه ليس بتبع لها في ذلك النصف، فإن أدى الكتابة قبل أن يؤدي دين الغرماء على المولى بما أخذ ولكنهم يتبعون الولد بالدين، لأنه قائم

الفصل الثالث عشر في الاختلاف الواقع بين المولى والمكاتب

مقام الأم فأخذ المولى بدل الكتابة منه بمنزلة أخذه منها، ولو أخذ المولى بدل الكتابة من الأم كان المأخذ سالماً للمولى، والغرماء يتبعون المكاتبة بديونهم فكذا في الولد وإن اكتسب الولد أموالاً (351ب1) قبل أداء المكاتبة فنصف الكسب للمولى بعد الدين؛ لأن الولد بمنزلتها، وقد بينا أن نصف كسبها للمولى بعد الدين فكذا في الولد وإذا كاتب أمته فاستدانت سعت في جمعه لأن نصفها مكاتب ونصفها مأذون له والحكم في دين المكاتب والمأذون ما ذكرنا والله أعلم. الفصل الثالث عشر في الاختلاف الواقع بين المولى والمكاتب وإذا كاتب الرجل عبده ثم اختلف المولى والعبد في بدل الكتابة فقال العبد: كاتبني على ألف درهم وقال المولى: كاتبتك على ألفين. أو اختلفا في جنس المال كان أبو حنيفة رحمه الله أولاً يقول: يتحالفان وهو قولهما؛ لأنهما اختلفا في بدل عقد فقال؛ ويفسخ فصار كالبيع والإجارة ثم رجع وقال: القول قول العبد مع يمينه، وعلى المولى البينة؛ لأن التحالف في باب البيع عرف بالنص، والكتابة ليست في معنى البيع فالنص الوارد في البيع لا يكون وارداً في الكتابة ثم إذا جعل القاضي القول قول المكاتب مع يمينه والذمة ألف درهم أقام المولى بعد ذلك بينة على أنه كاتبته على ألفين لزمه ألفان وسعى فيهما لأنه لا قوام لليمين إذا جاءت البينة بخلافها، وإن لم يقم المولى بينة على ذلك وأدى العبد ألف درهم وقضى القاضي بعتقه ثم أقام السيد البينة بعد ذلك على أنه كاتبه على ألفين فالقياس أن لا يعتق ما لم يؤد ألفين؛ لأنه ظهر بالحجة أن عتقه معلق بإزاء الألفين. وفي الاستحسان هو حر وعليه ألف درهم أخرى؛ لأن قضاء القاضي يعد ظاهراً؛ لأنه صدر عن دليل شرعي وهو اليمين، وقد وقع الشك في نقضه؛ لأن شهود المولى شهدوا بكتابة العبد على ألفين لا غير، ومن الجائز أنه كاتبه على ألفين على أنه حر متى أدى ألفاً والألف الأخرى عليه بعد العتق، وعلى هذا الاعتبار لا يجوز بعد القضاء، ومن الجائز أنه لم يقل على أنه حر متى أدى ألف درهم، وعلى هذا الاعتبار يجوز نقض القضاء، ومطلق الشهادة بالكتابة يحتمل الأمرين فهو معنى قولنا: وقع الشك في نقض القضاء فلا ينقض بالشك بخلاف ما لو أقام البينة قبل قضاء القاضي بالعتق إن كاتبه على ألفين على أنه متى أدى ألفاً فهو حر والألف الأخرى عليه بعد العتق يجب القضاء بالعتق. وإن لم يقل على أنه متى أدى ألف درهم فهو حر لا يجب القضاء بالعتق فلا يجب القضاء بالعتق بالشك والاحتمال ولو قال المولى: كاتبتك على ألفين، وأقام البينة على ذلك، وأقام العبد بينة على أنك كاتبتني على ألف درهم إن أديتها فأنا حر، فالقاضي يقضي على العبد بألف درهم، وإن أدى ألف درهم، فإنه يعتق وعليه ألف أخرى بعد العتق.

ولو أقام العبد بينة أن المولى كاتبه بألف درهم ولم يقل: إن أديتها فأنا حر وباقي المسألة بحالها وقضى القاضي على العبد بألفي درهم، فلم يقل بألف لا يعتق ما لم يؤد ألفي درهم، ويجب أن يعتق في الفصل الثاني بالأداء الألف أيضاً، لأنه لما كاتبه على ألف درهم فقد قال له إذا أديتها فأنا حر، لأن معنى الكتابة وحكمها هذا. والجواب وهو الفرق بين المسألتين أن في المسألة بينة العبد ما قبلت على الكتابة بألف درهم، لأنا لو قبلناها على الكتابة بألف درهم احتجنا إلى إثبات عقدين كتابة بألف درهم ببينة العبد وكتابة بألف درهم ببينة المولى، ولا وجه إليه لأن الكتابة الثانية تفسخ الأولى لا محالة، وإذا تعذر القضاء بالعقدين وجب القضاء بأحدهما فقضينا بالعقد الذي ادعاه المولى ببينته لأن بينته أكثر إثباتاً، وأثبتنا ببينة العبد قول المولى: إذا أديت إلي ألفاً فأنت حر لا أصل العقد فجعلنا كأن المولى كاتبه على ألفي درهم وقال له: إن أديت ألف درهم فأنت حر، وعليك ألف أخرى بعد العتق.t وفي المسألة الثانية لا يمكن إثبات قول المولى إذا أديت إلي ألفاً فأنت حر ببينة العبد؛ لأن شهود العبد لم يشهدوا بذلك صريحاً، لو ثبت ذلك إنما يثبت مقتضى ثبوت العقد بألف درهم ببينته، ولا وجه إليه لأن بينة العبد على أصل العقد مقبول على ما ذكرنا. وإذا كاتب الرجل عبداً له واختلفا في المعقود عليه فقال العبد: المولى كاتبني على نفسي ومالي على ألف درهم، وقال السيد: بل كاتبتك على نفسك دون مالك فالقول قول السيد عندهم جميعاً، ولا يتحالفان ههنا بالإجماع لأنهما اختلفا في هذا أن المعقود عليه وللقضاء على البدل. ولو اختلفا على هذا الوجه في باب البيع بأن قال البائع: بعت منك هذا العبد بألف درهم. وقال المشتري: لا بل اشتريت منك هذا العبد وهذا الحانة بألف درهم لا يتحالفان ويكون القول قول البائع مع يمينه، وعلى المشتري البينة فالبينة بينة المكاتب لأنها أكثر إثباتاً، ولو قال المولى: كاتبتك يوم كاتبتك وهذا المال في يدك وهو مالي وقال المكاتب: بل هو لي أصبته بعد ما كاتبتني، قال القول قول المكاتب لأنه صاحب يد فهو مستحقه ظاهراً، والمولى مدعيه فكان على المولى البينة، فإن أقام البينة فالبينة بينة المولى؛ لأن الدعوى في مطلق الملك والخارج، والمولى خارج حتى لو كان المال في يد المولى كانت بينة العبد أولى؛ لأن الخارج هو العبد في هذه الصورة ولو اختلفا في أصل الأجل فالقول قول المولى فرق بينه وبين السلم. والفرق أن في السلم الأصل شرط جواز العقد فالذي يدعي الأصل يدعي حجة العقد والظاهر يشهد له، أما ههنا الأجل لشرط جواز العقد ليصير مدعي الأجل مدعياً جواز العقد وإنما يدعي شرطاً زائداً والمولى ينكره فالقول قول المنكر، ولو اختلفا في مقدار الأجل فالقول قول المولى لأنه ينكر زيادة الأجل، ولو اتفقا على أصل الأجل ومقداره ولكن اختلفا في المضي فالقول قول العبد لأن المولى يدعي على العبد أيضاً حقه

الفصل الرابع عشر في مكاتبة المريض وإقراره بقبض بدل الكتابةوإقرار المكاتب بالدين لمولاه ولأجنبي ولولده

بعدما أقر له بالحق والعبد ينكر الاستيفاء فيكون القول قول العبد. ولو ادعى المكاتب أنه كاتبه على ألف درهم ونجم عليه كل شهر مائه، وقال المولى: لا بل نجمت عليك كل شهر مائتان فالقول قول المولى لأن حاصل اختلافهما في مقدار الأجل، فالمولى يقول خمسة أشهر والعبد يقول له عشرة أشهر. وإذا وقع الاختلاف بين المولى وبين المكاتبة في ولدها فقال المولى ولدت قبل أن كاتبتك وقالت المكاتبة: بل ولدته بعدما كاتبتني، قال كان الولد في يد المولى فالقول قول المولى، وإن كان الولد في يد المكاتبة ولا يعلم متى ولدت فالقول قولها اعتبار السيد في الفصلين جميعاً ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ما إذا كان الولد في أيديهما. وروى بشر عن أبي يوسف رحمه الله أن القول قول المولى، وإن أقاما البينة فالبينة بينة المكاتبة لأن في بنيتها زيادة إثبات حرية ليست في بينة المولى، وهي حرية الولد عند أداء بدل الكتابة، فهو نظير ما لو ادعت أمة على مولاها أنه أعتقها وولدها والمولى يقول أعتقتها وحدها. وأقاما البينة وهناك البينة بينة الجارية؛ لأن فيها زيادة إثبات عتق كذا ههنا والله أعلم بالصواب (352أ1) . الفصل الرابع عشر في مكاتبة المريض وإقراره بقبض بدل الكتابةوإقرار المكاتب بالدين لمولاه ولأجنبي ولولده قال محمد رحمه الله: مريض كاتب عبده على ألف درهم نجوماً وقيمته ألف درهم وهو لا يخرخ من ثلثه فإن العبد يخير إن شاء عجل ما زاد من قيمته على ثلث مال الميت، وإن شاء رد في الرق، وهذا لأن المريض بالتأجيل أخر حق الورثة إلى مضي الأجل، وضرر التأجيل عليهم كضرر الإبطال من حيث إنه تقع الحيلولة بين الورثة وبين حقهم عقيب موت المورث، ولو أبطل حقهم عن بدل الكتابة بأن أبرأ المكاتب عن بدل الكتابة أليس أنه يعتبر من الثلث فكذا إذا أخر. ألا ترى لو أجل المريض في دين له على أجنبي يعتبر ذلك من الثلث كما لو أبرأ فإن عجل ما زاد على الثلث حسب ذلك من كل نجم بحصته أو ليس بعض النجوم بأن يجعل المعجل عنه بأولى من الآخر. وإن كاتبه على ألفين نجوماً وقيمته ألف لا مال له غيره قيل له عجل ثلثي الألفين وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وعلى قول محمد رحمهما الله يقال له: عجل ثلثي قيمتك وهذا لأن من أصلهما أن مال المولى بدل الكتابة فلا يصح تأجيل إلا في قدر الثلث ومن «أصل» محمد رحمه الله أن ما زاد على ثلثي القيمة كان المريض متمكناً منه إذ لا يتملكه أصلاً، فإذا ملكه إلى أجل لا يثبت للورثة حق الاعتراض على الأجل فيه،

وذكر في هذه المسألة في «المنتقى» عن غير ذكر خلاف، وذكر أنه يأمر أن يعجل ثلثي قيمته والباقي إلى الأجل من قبل أنه لم يخرج من ملك المولى بعد. قال ثمة: ولو قال كان أعتقه على هذا المال أمر بتعجيل ثلثي المال لأنه خرج من ملك المولى ووجب المال للمولى، ولو كان كاتبه على ألف درهم وقيمته ألفا درهم لا مال له غيره قيل له عجل ثلثي قيمتك وأنت حر وإلا رددناك في الرق، لأنه حاباه بنصف المال والمحاباة في مرض الميت وصية فلا تجوز إلا بقدر ثلث، فإذا استوجب للمحاباة الثلث لا يمكن تصحيح التأجيل في شيء، فلهذا يؤمر أن يعجل ثلثي قيمته أو يرد في الرق. ولو كاتب عبده في صحته على ألف درهم وقيمته خمسمائة فلما حضره الموت أعتقه ثم مات ولم يقبض شيئاً، يسعى العبد في ثلثي قيمته وتبطل الكتابة، لأن مقدار قيمته مال المريض بيقين، فأما ما زاد عليه فغير متيقن أنه مال الميت، ألا ترى أنه يتمكن من أن يعجز نفسه فيعتبر الثلث والثلثان في القيمة، ولأن إعتاقه إياه إبطال للكتابة، لأن الإعتاق المبتدأ في حق المولى غير العتق بجهة الكتابة وإذا كان هذا إبطالاً للكتابة صار كأنه لم يكاتب جميع بدل الكتابة في مرضه، يسعى في ثلثي قيمته لما ذكرنا أن ماله بيقين قدر قيمته، فيعتبر الثلث والثلثان فيها. قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا كاتبه في صحته ثم أعتقه في مرضه فهو بالخيار، إن شاء سعى في ثلثي قيمته، وإن شاء سعى في ثلثي ما عليه من بدل الكتابة، وإن المولى قد قبض منه قبل ذلك خمسمائة ثم أعتقه في مرضه يسعى في ثلثي قيمته ولم يحسب شيء فما أدى بالإعتاق المبتدأ بطلب الكتابة في حق المولى، فما قبض فهو كسب عبده فلا يكون محسوباً مما يلزمه من السعاية بسبب الإعتاق وهذا عندهما، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله إذا اختار فسخ الكتابة والسعاية في ثلثي قيمته. وإن كان العبد بين رجلين مرض أحدهما وكاتبه الصحيح بإذنه جاز ذلك وليس للوارث إبطاله، لأنه قائم مقام مورثه وليس للمورث إبطاله فكذلك لوارثه، وكذا إن أذن له في القبض فقبض بعض بدل الكتابة ثم مات المريض لم يكن للوارث أن يأخذ منه شيئاً. وفي «المنتقى» : مريض كاتب عبده وقيمته ألف درهم على خمسمائة ولا مال له غير العبد ثم مات، يقال للمكاتب: عجل ستمائة وستة وثلاثين والا رددناك في الرق، فإذا أدى خمسمائة وقبضها الوارث على الكتابة عتق بها المكاتب وصار الفضل ديناً عليه يؤخذ منه، وإن شاء الوارث أن لا يقبل الخمسمائة إلا من جميع ما للوارث عليه وذلك ستمائة وستة وستون وثلثان فله ذلك، ولا يعتق العبد في هذا الوجه إلا بأداء الجميع؛ لأنه لا يصير موفياً الخمسمائة التي هي مكاتبة إلا بأداء الجميع إذا جعلنا ما أدى من المالين جميعاً والله أعلم. وإذا كاتب الرجل عبده في مرض موته بألف درهم وقيمته ألف درهم ولا مال له غيره، ثم أقر في مرضه أنه استوفى بدل الكتابة جاز إقراره من الثلث ويعتق المكاتب ويسعى في ثلثي قيمته.

فرق بين هذا وبينما إذا باع المريض من أجنبي شيئاً وأقر باستيفاء ثمنه فإنه يجوز إقراره من جميع المال، والفرق أن الإقرار باستيفاء بدل الكتابة إقرار بما يقع ثمة العتق ولو أقر المريض بعتقه يعتبر من الثلث فكذا إذا أقر بما يقع به العتق، فأما الإقرار باستيفاء الثمن إقرار بما يؤكد الملك للأجنبي في الغير، ولو أقر بعتق في يده لأجنبي يصح إقراره من جميع المال فكذا إذا أقر باستيفاء ما يؤكد الملك للأجنبي من العتق، وفرق بين هذا أيضاً وبينما إذا كاتبه في صحته ثم أقر باستيفاء بدل الكتابة في مرضه فإنه يجوز من جميع المال، والفرق أن الكتابة إذا كاتب في حالة الصحة استحق المكاتب البراءة عن بدل الكتابة عند إقرار المولى باستيفاء بدل الكتابة لعدم تعلق حق الغير..... هذا تعلق حق الورثة بمال المريض استبق حق المكاتب فصار في حكم الصحيح في حق هذا الإقرار، فأما إذاكاتب الكتابة في حالة المريض فحق الورثة تعلق برقبة المكاتب في أول المرض، فأوجب ذلك تعلقه بالبدل ومنع ذلك ثبوت هذا الحق للمكاتب فاعتبر إقراره من الثلث لهذا، ولو لم يقر باستيفاء بدل الكتابة كأنه أقر في يده أنها وديعة لهذا المكاتب أودعها إياه بعد الكتابة والألف الوديعة من جنس بدل الكتابة ثم مات جاز إقراره من الثلث يريد به إذا كاتب الكتابة في المرض، لأن ذلك إقرار باستيفاء بدل الكتابة، فالإقرار من رب الدين بالوديعة للمديون إذا كاتب الوديعة من جنس الوديعة الدين إقرار باستيفاء الدين، فإن مال المديون متى وقع في يد صاحب الدين وديعة وهو مثل الدين يصير قصاصاً ويصير رب الدين مستوفياً دينه به، فكان هذا إقراراً بالاستيفاء من هذا الوجه فيعتبر من ثلث المال إذا كاتب الكتابة في حال المرض، وإن كاتب الكتابة في حالة الصحة وباقي المسألة بحالها يعتبر إقراره من جميع المال. ولو أقر بألف أجود من بدل الكتابة وكاتب الكتابة في حال الصحة يعتبر إقراره من جميع المال لأنه أقر بوديعة ما هو مثل الدين وزيادة حقه، فصح الإقرار بما هو مثل الدين؛ لأنه يتعلق به الاستيفاء ولم يصح في حق الزيادة لأنه يتعلق به الاستيفاء، فإن قال المكاتب إليَّ أسترد الخيار وأعطي مثل حقي لم يكن له ذلك لعدم صحة الإقرار بالزيادة، ولو أقر بألف ذيوفاً في يده أنها وديعة لمكاتبه وبدل الكتابة ألف جياد، لم يصح إقراره إذا كان عليه دين الصحة ويقسم هذه الألف بين غرماء الصحة ويؤاخذ المكاتب بما عليه، لأن الإقرار بالوديعة من المريض إذا كان عليه دين الصحة إنما يصح إذا تضمن معنى الاستيفاء والخيار (352ب1) لا يحتمل الاستيفاء بالديون إذ الجودة صارت حقاً للغرماء وفي استيفاء الرديء مكان الجيد إبطال حقهم في الجودة وإنه لا يجوز، فلم يكن هذا الإقرار متضمناً معنى الاستيفاء. يبقى إقرار الوديعة قصداً وذلك من المريض باطل إذا كان عليه دين الصحة. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : مكاتب أقر لمولاه بألف درهم في صحته، وقد كان المولى كاتبه على ألف درهم وأقر المكاتب لأجنبي بألف درهم ثم مرض المكاتب

وفي يده ألف درهم فقضاها المولى من المكاتبة ثم مات من ذلك المرض وليس له مال غيرها فالألف تقسم بين المولى والأجنبي على ثلاثة أسهم سهمان للمولى وسهم للأجنبي لأنه حرّمان وعليه ثلاثة آلاف درهم دين ألفان للمولى وألف للأجنبي. و (لو) ترك ألف درهم فيقسم بينهما على قدر حقوقهما لأسبق الديون في القوة. وإنما قلنا إنه حر لأن الحرية معلقة بأداء بدل الكتابة وقد تحقق لأداء، أكثر ما في الباب أن ذلك الأداء مستحق البعض لما أنه آثر بعض الغرماء على البعض، إلا أن الشرط وجود الأداء لا دوامه، ألا ترى أن المكاتب لو أدى مالاً مغعصوباً فإنه يصح الأداء ويثبت العتق مع أن ذلك ليس بكسبه فهاهنا لأن يصح الأداء والمؤدى كسب العبد كان أولى، فإذا صح الأداء ثبت العتق والعتق بعد تحققه لا يحتمل الانتقاض قضاء مال الكتابة ديناً مستحقاً، كذا على الحر لا يحتمل السقوط، وكذا الدين الآخر للمولى لا يحتمل السقوط وكذا دين الأجنبي فاستوت الديون في القوة، فلهذا يقسم الإرث بينهما على قدر حقوقهما أثلاثاً. ولو أن المكاتب أدى الألف إلى المولى من الدين الذي أقر به المولى في صحته ثم مات، قال: الأجنبي أحق بهذه الألف وبطل دين المولى ومكاتبته لأن تعيين من عليه في الأداء صحيح، وإذا صح التعيين من ذلك الدين لم يقع المؤدى عن المكاتبة، فإذا مات مات عن غير وفاء فرد في الرق فمات على ملك المولى على عبده دين لا يبقى أيضاً، وبقي دين للأجنبي فكان الألف له، فكذلك لو لم يقضها للمولى ومات وتركها فهي للأجنبي لما تبين بعد هذا. ولو ترك المكاتب ابناً ولد في كتابته فالأجنبي أحق بهذا الألف من المولى، لأنه ما لم يقبض المولى عن المكاتبة (لم) يعتق ولم يصر دين المولى مستأكداً، ودين الأجنبي متأكد لا يحتمل السقوط بحال فكان دين الأجنبي أقوى فيبدأ به ويبتع المولى ابن المكاتب بالمكاتبة والدين لقيامه مقام الأب. ولو كان المكاتب قد قضاه المولى من المقر به قبل الموت ثم مات ترك ابناً مولوداً كتابته كان الأجنبي أحق بالألف أيضاً لأنه آثر بعض غرمائه بالقضاء في حالة المرض فوجب بعض الإيثار، ومتى وجب بعضه صار الأجنبي أحق بالألف لكون دينه أقوى، ويتبع المولى ابن المكاتب بالدين والمكاتبة استأمن الولد مقام الولد الأب في حق السعاية فيما على الأب، وإذا أدى الابن المكاتبة والدين الذي على الأب لا ينقض القضاء إلى الأجنبي، فإن صارت الديون مستوية في القوة لما حكم بعتق المكاتب بأداء ولده إلا أن الاستواء إنما يعتبر حالة الميت التي هي حالة المزاحمة وقد يعتقه في ذلك الوقت، ولأن الاستواء إنما يثبت باعتبار الحرية، والحرية هاهنا إنما تثبت بعد وصول الدينين إلى المولى وفي هذا الوقت لا فائدة في نقض القضاء إلى الأجنبي لأن فائدته ليس إلا وصول المولى إلى شيء من دينه ويعتقا وصل الدينان إلى المولى بإكمالهما لا يتصور هذا النوع من الفائدة. ولو أن رجلاً كاتب عبداً له على ألف درهم في صحة المكاتب، وأقرضه رجل

أجنبي ألفاً في صحته ثم مرض المكاتب، فأقرضه المولى ألفاً بمعاينة الشهود فسرقت من المكاتب وفي يد المكاتب ألف أخرى فقضاها من الألف القرض ثم مات المكاتب من مرضه ذلك وليس له مال سوى الألف التي قضاها المولى فالمولى أحق بها من الأجنبي، لأن القرض إن كان معاوضة حقيقة من حيث إنه يعطي مالاً ويأخذ مثله إلا أنه اعتبر عارية حكماً، وبهذا لا يصح فيه التأجيل ولا يملكه المكاتب والعبد المأذون، ولا يشترط قبض بدله في المجلس إذا كان القبض دراهم أو دنانير، ولو اعتبر معاوضة حقيقة كان هذا صرفاً فيجب قبض بدله في المجلس، ولما لم يشترط علم أنه إعارة حكماً، فيعتبر هو بالعارية الحقيقية بأن أعارهُ المولى من المكاتبة عيناً لينتفع به بمعاينة الشهود، ثم استرده من مكاتبته في مرضه ثم مات عاجزاً وعليه دين الأجنبي، وهناك كان ما استرده المولى سالماً للمولى، وهناك كذلك. بخلاف ما لو اشترى المكاتب في مرضه عبداً من المولى بألف وقيمة العبد ألف، ولرجل أجنبي على المكاتب ألف فهلك العبد في يد المكاتب، وفي يد المكاتب ألف درهم لا غير، فقضاها المولى من ثمن العبد ثم مات المكاتب من مرضه ذلك ولم يترك وفاء، فإن ما قبض المولى من ثمن العبد لا يسلم للمولى وإن كان البيع وقبض الثمن بمعاينة الشهود، لأن للبيع معاوضة حقيقة وحكماً فكان المأخوذ من المكاتب ديناً حقيقة وحكماً، ثم لما مات من غير وفاء وانفسخت الكتابة يسقط دين المولى فيسترد منه الألف ويدفع إلى الأجنبي. قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : ألا ترى أنه لو كان مكان المولى أجنبياً كان أحق بها من صاحب الدين في حالة الصحة؟ وقال: ألا ترى أنه لو قضى مولاه وهو صحيح ولم يدفع إلى الغرماء شيئاً ثم عجز بعد ذلك كان جائزاً؟ كذا هاهنا. مكاتب له على مولاه دين في حالة الصحة فأقر في مرضه أنه قد استوفى ماله على مولاه وعليه دين الصحة ثم مات ولم يدع مالاً، لم يصدق على ذلك لأنه لما مات لا عن وفاء فقد مات عبداً، وصار المولى أقرب الناس إليه بمنزلة الوارث الحر من مورثه، وإقرار المريض باستيفاء الدين من وارثه باطل لتهمة الإيثار فها هنا كذلك. رجل كاتب عبداً له على ألف درهم في صحته، ثم إن المكاتب أقر في مرضه لأجنبي بألف درهم ثم مات المكاتب ولم يترك الألف درهم، فالأجنبي أحق بالألف من المولى، فإن كان دين المولى دين الصحة ودين الأجنبي دين المرض بخلاف ما إذا كان دين الصحة لغير المولى حيث كان أولى بالقضاء من دين المرض. والفرق بينهما أن دين المولى في حالة الصحة لا يمنع ثبوت دين المرض على العبد ليست من الأسباب لأن المولى بعقد الكتابة يسلط المكاتب على ذلك، لأنه يسلطه على التصرفات، والإقرار بالدين من توابعه، فكان فيه إبطال حقه بتسليطه، ولما لم يمنع دين المولى في حالة الصحة دين المرض على (ما) صار هاهنا صار دين المولى ودين الأجنبي في حق المولى بمنزلة دين الصحة أو دين المرض ولو كانا في الصحة أو في المرض يبدأ بدين الأجنبي لكونه أقوى فهاهنا كذلك. أما دين الأجنبي في حالة الصحة يمنع ثبوت دين على العبد

في حالة المرض بإقرار العبد لما فيه من إبطال حقه من غير تسليطه فلا يقدر العبد على ذلك فلهذا افترقا. وكذلك الجواب فيما إذا مات المكاتب وترك سبعمائة درهم بل هذا أولى؛ لأنه لا وفاء هنا ببدل الكتابة حقيقة وحكماً. رجل كاتب عبداً له على (353أ1) ألف درهم ثم مرض المكاتب فأقر لمولاه بقرض ألف درهم وأقر لرجل أجنبي بقرض ألف درهم بعد ذلك أو بدأ بالإقرار للأجنبي ثم للمولى ثم مات وترك ألفي درهم يبدأ بدين الأجنبي؛ لأن دينه أقوى على ما مر فواجد الأجنبي دينه والألف الآخر يعطى للمولى عن الكتابة دون الإقرار، لوجهين أحدهما: أن في صرفه إلى الكتابة احتيال لإثبات العتق والعتق ورثة يجب الاحتيال لإثباته ما أمكن، والثاني: أنا لو صرفناه إلى الإقرار ابتداء أبطلناه انتهاء. وبيانه: أنه إذا صرف إلى الإقرار يظهر موت المكاتب عاجزاً فيظهر أنه مات عبداً فيبطل دين المولى عنه وبه يظهر أن الأداء كان باطلاً، فكان في الصرف إلى الإقرار ابتداء إبطاله انتهاء أما لو صرفناه إلى بدل الكتابة لا يبطل الأداء في الأجرة، فكان الصرف إلى بدل الكتابة أولى. فإن ترك المكاتب فضلاً على ألف درهم أخذ المولى الفضل على الألفين من الألف التي أقر المكاتب له بها إذا لم يكن المولى فإن كان للمكاتب ابن أو عصبة أما إذا كان المولى وارثاً كان المكاتب مقراً لبعض ورثته في مرضه وذلك باطل ولكن الفضل يكون ميراثاً بين المولى وبين ورثة المكاتب إن كان له ورثة، وإن لم يكن فالفضل كله للمولى بالعصوبة كما لو لم يقر للمولى. وكذلك لو كان في يد المكاتب حين مرض مائة دينار فأقر بأنها وديعة عنده للمولى ثم أقر للأجنبي بدين ألف درهم ثم مات وترك ألف درهم والمائة دينار التي أقر بها لمولاه فإنه يبدأ بدين الأجنبي لما مر فينصرف الألف إليه والدنانير تباع فيقضي من ذلك أولاً بدل الكتابة لما مر فإن فضل شيء، كان الفضل للمولى بحكم الإقرار لأن بكون المولى من ورثة المولى المكاتب فحنيئذ يكون الفضل ميراثاً على ما مر. رجل كاتب عبده على ألف درهم فأقرضه المولى ألف درهم وذلك في صحة المكاتب ثم مات وترك ألف درهم وله أولاد أحرار من امرأة، فإن القاضي يقضي بالألف للمولى من المكاتبة وليس للمولى أن يجعلها من الدين لما مر من الوجهين، فإن كان له أولاد من امرأة هي معتقه غيره، فالأب حر والأم لأولاد إلى مواليه لأن الولاء لحمة كلحمة النسب، فههنا أمكن إثباته من الأب لا يثبت من الأم، إلا أنه ما دام الأب عبداً كان إثبات الولاء إلى مواليه من الأب متعذراً، فإذا عتق الأم أمكن إثباته من الأب نحو الأب إلا ولاء إلى مواليه. ولو ترك أكثر من ألف درهم أخذ المولى الفضل حتى يستوفي الألف التي قبضه لأنه لما مات حراً وترك أولاداً أحراراً وفيهم ذكر، ظهر أن المكاتب أقر للمولى بألف والمولى أجنبي منه، والإقرار للأجنبي صحيح، فإن بقي شيء بعد ذلك دين لمولى الأب يصرف إلى الورثة لأن الميراث هو حر عن الدين على ما عرف.

الفصل الخامس عشر في الكتابة الموقوفة

رجل كاتب عبده على ألف درهم وللمكاتب ابنان حران هما وارثاه، فمرض المكاتب وأقر لأحد الابنين بدين ألف درهم، وأقر للمولى بدين ألف درهم، ثم مات وترك ألف درهم فالمولى أحق بالألفين، يستوفي أحدهما من مكاتبه والآخر من دينه، وكان ينبغي أن يبدأ بدين الابن لأنه أقوى فإنه لا يسقط بعجزه كدين الأجنبي إلا أنا لولد بدين الابن يبقى من المولى ألف درهم يأخذها المولى من مكاتبته لا من دينه لما مر قبل هذا، وإذا أخذها المولى بجهة الكتابة يحكم بعتقه وصار الابن وارثاً له فتبين أنه حر أقر لوارثه في مرض موته فكان. .... فكان في الصرف إلى الابن ابتداءً ابطاله انتهاءً أما لو صرف أولاً إلى بدل الكتابة يعتق، وتبين أنه مقر بالألف للمولى والمولى ليس وارثاً عنه فيصح إقراره له،...... بدأنا بالصرف إلى المولى وإن ترك أقل من ألفين يبدأ بدين الابن لأن دين الابن أقوى والبداية بالأقوى أولى، إلا أن في الفصل الأول إنما يبدأ بدين الابن؛ لأن في البداية به ابتداءً إبطاله انتهاءً وهذا المعنى هاهنا معدوم، لأنه إذا صرف إلى الابن ألف يبقى الباقي أقل من بدل الكتابة، فيتحقق موته عاجزاً فلا يصير الابن وارثاً له فلا يتأتى ذلك المعنى، وما فضل من الألف يكون للمولى لأنه لما مات عاجزاً رُدَّ في الرق فكان هذا كسب عبده وقد فرغ عن حاجة العبد فيكون للمولى والله أعلم. الفصل الخامس عشر في الكتابة الموقوفة ذكر في «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله في رجل قال لغيره: كاتب عبدك على ألف درهم، فقال: قد فعلت، فالكتابة موقوفة، فإن بلغ العبد فقبل لزمه وإن (قال) : لا أقبل بطلت، فإن أدى الرجل الألف إلى المولى قبل أن يبلغ الكتابة العبد عتق، فإن أدى الرجل الألف، وإن بلغه وقال لا أقبل ثم أداها الرجل عن العبد لا يعتق. ولو قال: كاتب عبدك على ألف درهم وأنا ضامن لها، فقال: قد فعلت كانت الكتابة موقوفة على إجازة العبد، والضمان باطل، فإن أدى على ذلك الضمان عتق العبد وللرجل أن يرجع بذلك على المولى ولا سبيل للمولى على العبد وكذلك لو كان العبد قبل الكتابة ورضي بها ثم ضمن الرجل المال عنه وأداه على ذلك الضمان كان للرجل أن يرجع بذلك على العبد. وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد رحمه الله: رجل كاتب عبد الغير بغير أمر صاحب العبد على ألف درهم ثم حط عنه خمسمائة فبلغ المولي فأجاز، قال: فالكتابة بالألف. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل كاتب عبد غيره بغير إذنه على ألف درهم فإن (أدى) العبد الألف إليه يعني إلى الذي كاتبه ثم بلغ المولى فأجاز

الفصل السادس عشر في مكاتبة الصغير

الكتابة جازت الكتابة ولا يجوز دفع المكاتب إلى الذي كاتبه ولا يعتق بذلك الدفع فإن أجاز المولي الكتابة والدفع فذلك جائز في قول أبي يوسف ويعتق المكاتب بأدائه إليه. ولا تجوز إجازه القبض في قول أبي حنيفة رحمه الله، قال لأن أبا حنيفة رحمه الله كان يقول: لو كان لرجل على آخر دين فاقتضاه منه رجل بغير أمر صاحبه فأجاز رب الدين لم يجز وما اكتسبه بعد الكتابة قبل الإجازة فذلك للمولى للمكاتب على كل حال والله أعلم. الفصل السادس عشر في مكاتبة الصغير قال محمد رحمه الله: رجل كاتب عبداً صغيراً لا يعقل لا يجوز لأن الكتابة لا تنعقد بدون القبول والذي لا يعقل ليس من أهل القبول، فإن أدى عنه رجل لم يعتق لأن الكتابة لم تنعقد في حقه ويسترد ما أدى إلى المولى لأنه أخذ ما أخذ بغير حق وإن كان يعقل جاز لأنه من أهل القبول فإذا جازت الكتابة كان هو بمنزلة الكبير في حق جميع الأحكام. وإذا كاتب عبدين صغيرين له كتابة واحدة وهما يعتقدان ذلك فهما في ذلك بمنزلة الكبيرين وقد مرت مسألة الكبيرين. رجل كوتب عن عبد رضيع ورضي به المولى لا يجوز، ولكن إذا أدى الرجل بدل الكتابة يعتق العبد استحساناً، قال في «الكتاب» لوجه الاستحسان (353ب1) جعل هذا بمنزلة قول القائل إذا أديت إليَّ كذا فعبدي حر ولا يشبه هذا حال أخاطب صغيراً لا يعقل بالكتابة وأدى عنه رجل أجنبي حيث لا يعتق العبد، لأن ههنا خاطب الأجنبي بالعقد فيمكن أن يجعل معلقاً عتقه بأداء الأجنبي، وهناك ما خاطب الأجنبي فلا يمكن أن يجعل معلقاً عتقه بأداء الأجنبي والله أعلم. الفصل السابع عشر في غرور المكاتب وما يلزمه من العقد مكاتب أذن له مولاه في النكاح فأتته امرأة تزعم أنها حرة فتزوجها على أنها حرة فولدت الأولاد، ثم استحقها رجل بالبينة، وظهر أنها مملوكة، فأولاده مماليك لا يأخذهم المكاتب بالقيمة عند أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف، وعند محمد رحمه الله وزفرهم أحرار بالقيمة يؤديها المكاتب إذا عتق. صحة محمد رحمه الله في ذلك ما روي أن الصحابة جعلوا أولاد المغرور أحراراً بالقيمة ولم يفصلوا بين الحر والمملوك فهو عليها ولا شك أن هذا ولد المغرور كان

الغرور في حق الحر يثبت بالإجماع، وإنما يثبت الغرور في حق الحر باشتراط الحرية لا بحرية المستولد، ألا ترى أن بدون الشرط لا يثبت الغرور وقد وجد اشتراط الحرية في حق المكاتب حسب وجوده في حق الحر. ولهما أن هذا ولد حدث بين أبوين رقيقين يجب أن يكون رقيقاً كما لو لم يوجد هذا الشرط، بيانه أن قصد القياس أن يكون ولد الأمة رقيقاً وإن كان المستولد إذا كان حراً فإنما يثبت الغرور في حقه بشرط الحرية كيلا يرق ماؤه من غير رضاه فيضرب به، وهذا المعنى لا يتأتى إذا كان المستولد رقيقاً لأنه لا يرق ماؤه بل يبقى على الحالة الأولى، وبقاؤه على الحالة الأولى لا يكون ضرراً في حقه فيعمل فيه بقضية القياس، ومن وجه آخر إن المستولد إذاكان حراً فإنما يثبت الغرور في حقه مع مراعاة حق المستحق في حال إيجاب القيمة له في الحال، وهاهنا لو أثبتنا الغرور تثبته من غير مراعاة حق المستحق للأجنبي وكان ضرر المستحق هاهنا فوق ضرر المستحق ثمة فترك القياس ثمة لا يدل على ترك القياس هاهنا، ولو كان المكاتب عالماً بحال المرأة لا يصير المكاتب مغروراً بالإجماع. مكاتب وطىء أمة على وجه الملك بغير اليد، ثم استحقها رجل فعليه العقر يؤاخذ به للحال، يريد بقوله وطئها على وجه الملك أنه اشترى جارية فوطئها ثم استحقها رجل وبمثله لو تزوج امرأة بغير إذن المولى حتى فسد النكاح ثم وطئها حتى وجب عليه العقر يؤاخذ للحال. والفرق أنه إذا وطئها بحكم الملك فما يلزمه من الضمان مسند إلى الشراء فإنه لولا الشراء لكان هذا الوطء موجباً للحد، وإنما وجب المال دون الحد نسبة للشراء من حيث إن الشراء سبب للملك فأورث شبهة بسبب الشراء فكان وجوب المال إلى الشراء والشراء داخل تحت الكتابة، فما يكون مسنداً إليه يكون داخلاً فيها بطريق التبعية أما إذا وطئها بحكم النكاح فما يلزمه من الضمان مستنداً إلى الضمان النكاح والنكاح ليس بداخل تحت الكتابة فلا يكون مسنداً فافترقا. وكذلك إذا وطىء المكاتب أمة اشتراها شراء فاسداً ثم ردت على البائع أخذ المكاتب بعقورها في الحال هذه الجملة من «الجامع الصغير» . وفي «الأصل» إذا وقع المكاتب على امرأة فافتضها كان عليه الحد وهذا ظاهر، فإن ادعى شبهة بأن قال تزوجتها، أو كانت أمة فقال اشتريتها، وأنكرت المرأة والمولى ذلك، يدرأ عنه الحد، ألا ترى أن الحر لو ادعى مثل هذا يدرأ عنه الحدود، وإذا سقط الحد وجب المهر كما في الحر ثم مثل يؤاخذ بهذا المهر للحال، قال إن كاتب المرأة مكرهة على ذلك فإنه يؤاخذ بالمهر للحال ولا يتأخر إلى بعد العتق، لأن هذا ضمان بإتلاف لا ضمان عقد، لأن العقر لم يثبت لإنكارها. والعبد المحجور يؤاخذ بالضمان بالإتلاف للحال وإن كان ضمان الإتلاف لما لم يثبت العقد لإنكارها، وذلك لأنه لو أخذ منه المهر كان للمولى أن يرجع عليها لأنها

الفصل الثامن عشر في المتفرقات

استعملت عبده بغير إذنه فالاستيفاء للحال لا يقبل ولا يشتغل به، ويظهر هذا ما قالوا في المجنون إذا وقع على امرأة فوطئها إن كانت مكرهة فإنه يجب عليه المهر لأنه ضمان إتلاف لأنه وطئها من غير عقد والمجنون يؤاخذ بضمان الإتلاف كما لو أتلف مال إنسان، وإن كانت مطاوعة لا يجب عليه المهر؛ لأنه لو وجب عليه المهر كان أولى المجنون إذا كانت مطاوعته وما يلحقه من الضمان بسبب هذا الاستعمال يكون قرار ذلك عليها فلم يكن الاستيفاء مفيداً ولم يشتغل به فكذلك هذا إذا ادعى نكاحاً وأنكرت المرأة ذلك فأما إذا صدقته فإنه لا يؤاخذ بالمهر للحال سواء كانت مكرهة أو مطاوعة لأن العقد يثبت في حقهما بتصادقهما وإذا ثبت العقد في حقهما بتصادقهما لأن الضمان ضمان عقد الضمان إتلاف والمحجور لا يؤاخذ بضمان العقد للحال وإنما (يؤاخذ) به بعد الإذن والله أعلم بالصواب. الفصل الثامن عشر في المتفرقات قال محمد رحمه الله في «الزيادات» مكاتب له ابن حر ولد من امرأة حرة، ماتت الحرة وورثها الابن عقاراً وضياعاً وصنوفاً من الأموال ثم مات المكاتب عن وفاء ولم يدع ولداً سوى هذا الولد، وقد كان أوصى إلى رجل حر، فإن الوصي يقضي مكاتبة المكاتب من تركته إن ترك عيناً يقضيهما من العين. وإن لم يترك عيناً يبيع عقاره وعروضه فيها؛ لأن الوصي قائم مقام المكاتب وقد كان المكاتب في حال حياته قضاء المكاتبة من العين ومن العروض والعقار فكذا لمن قام مقامه. وإذا قضى المكاتبة صار المكاتب حراً في آخر جزء من حياته وما بقي من مال المكاتب يكون ميراثاً لابنه، والوصي في ذلك بمنزلة وصي الحر على ابنه الكبير الغائب، وبمنزلة وصي الأم والأخ والعم يملك الحفظ، وما كان من باب الحفظ نحو بيع العروض والمنقول. وشراء الصغير ما لا بد له من الطعام والكسوة والمنقول ولا يكون له عليه ولاية ولا يملك ما كان من باب الولاية نحو بيع العقار وبيع الدراهم والدنانير وما أشبههما. وذكر محمد رحمه الله في كتاب القسمة: أن وصي المكاتب إذا قاسم الأولاد الكبار صحت قسمته، فقد أثبت لوصي المكاتب حق القسمة مطلقاً وبذلك يدل على حق البيع مطلقاً؛ لأن القسمة حكم البيع حتى إن من صح بيعه صحت قسمته، فمن مشايخنا من قال: ليس في المسألة اختلاف الروايتين، ولكن ما ذكر في كتاب القسمة محمول على قسمة العروض والمنقول، ولكن هذا ليس بصحيح بدليل أنه ذكر في كتاب القسمة عقيب جواب المسألة، وهو في ذلك بمنزلة وصي الحر على ابنه الصغير ووصي الحر على ابنه الصغير، يملك التصرف في الكل، وكذا هذا الوصي. ومنهم من قال: في المسألة روايتان.

وجه رواية كتاب القسمة أوان عمل الإيصاء ما بعد الموت، وهو في تلك الحالة حر لأن عند أداء بدل الكتابة حكم بحريته في أخر جزء من آخر حياته، فكان وصيه بمنزلة وصي الحر على ابنه الصغير من هذا الوجه. وجه ما ذكر هاهنا أن الحرية معلقة بشرط (354أ1) الأداء والأداء وجد بعد الموت والحكم.......... على الشرط لا يكون أمراً أولياً وإنما يصار إليه بضرورة، ولا ضرورة في الإيصاء، ولا يظهر الحكم بحريته في أخر جزء من أجزاء حياته في حق الإيصاء، فلم يكن يلزمه وصي الحر ولو ظهر حرية المكاتب في حق الأصل أداءً إلا أن هذا حر لا ولاية له، وقد اختلفت عبارة المشايخ في ذلك، حكي عن الحاكم أبي نصر محمد بن مردويه رحمه الله أنه كان يقول: بأن للولاية حكم الحرية وحكم الشيء يثبت عقيبه والحرية تثبت في آخر جزء من أجزاء حياة المكاتب، فيكون أوان ثبوت الولاية ما بعدها وما بعدها زمان الموت وزمان الموت ليس زمان الولاية. وحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله أنه كان يقول: بأن الحرية إنما تثبت في آخر جزء من أجزاء حياته في ساعة حياته لطيفة لا تسع للتصرفات فلا تتسع للولاية، لأن الولاية ليس هي إلا ملك التصرفات، فلا تثبت في زمان لا يتسع للتصرف، ولهذا قلنا لو قدمه قاذف لا يحد، لأن الحرية تثبت في وقت لا يتسع للقذف، بخلاف فساد النكاح؛ لأن ذلك حكم شيء عجب لا تشرط له القدرة فالساعة اليسيرة وإن قلت تكفي. وعبارة عامة المشايخ أن الحرية تثبت في آخر جزء من أجزاء حياته، وتلك الحالة حالة انقطاع الولاية، ولا يمكن القول بثبوت الولاية في حال انقطاع الولاية، وإذا لم تثبت الولاية للمكاتب لا تثبت لمن قام مقامه وهو الوصي، هذا وجه التقريب على العبارات كلها. وإنما ملك الحفظ لأنه كان للمكاتب حق الحفظ في اكتسابه، فكذا لمن قام مقامه، وإذا ملك الحفظ ملك بيع العروض والمنقول من تركة المكاتب؛ لأن بيعهما من الحفظ إذا خشي عليهما التردي والتلف فأما العقار محصنة بنفسها، وكذا الدراهم والدنانير فلم يكن بيعها من الحفظ فتخص ولاية، ولم يكن للمكاتب على ولده الحر ولاية فكذا لوصيه، وفيما تركت أم هذا الصغير لا يملك الوصي شيئاً من التصرفات لما ذكرنا أن الوصي قائم مقام الموصي، والموصي حال حياته كان لا يملك شيئاً من التصرف في تركة أم هذا الصغير، العقار والعروض فيه سواء، فكذا من قام مقامه عند موته. وكذلك لو ترك المكاتب ولداً ولد في مكاتبته أو ولد كوتب معه فقضى الوصي مكاتبته وحكم بحريته وبحرية ولده تبعاً له كان ما بقي من مال المكاتب ميراثاً لولده، ووصي المكاتب في ذلك بمنزلة وصي الحر على الابن الكبير الغائب على التفسير الذي قلنا يملك حفظ ماله، وما كان من باب الحفظ نحو بيع العروض وشراء ما لا بد للصغير

منه ولا يكون له عليه ولاية ولا يمكن ما كان من باب الولاية نحو بيع العقار وما أشبهه، وهذا مشكل لما ذكرنا أن الوصي قائم مقام الموصي، وقد كان المكاتب يلي على ولده المولى في الكتابة والذي كوتب معه وينصرف في اكتسابهما ما شاء، العقار والعروض فيه سواء، فيجب أن يملك وصية ذلك أيضاً. والجواب أن رقبة الولد المولود في كتابة المكاتب والذي كوتب مع المكاتب اعتبر ملكاً للمكاتب حكماً فلهذا عتقا بعتقه ومكاسبهما بمنزلة مكاتب المكاتب، التصرف فيما وفي مكاتبيهما بحكم الملك لا بملك الولاية، ألا ترى أن المكاتب لو زوج هذا الولد امرأة لا يجوز؟ ولو كان له عليه ولاية جاز كالحر إذا زوج ابنه الحر الصغير امرأة، وألا ترى أن المكاتب إذا أقر على هذا الولد بالدين صح وصرف كسبه إلى الدين الذي أقربه؟ ولو كان يصرفه عليه بحق الولاية لما صح إقراره بالدين عليه كإقرار الحر على ابنه الصغير صح أن يصرف المكاتب على هذا الولد بحكم الملك لا بحكم الولاية، وما لو صانه لا ينتقل الملك إلى الوصي إنما تنتقل الولاية فإذا لم يكن للمكاتب ولاية كيف تثبت لوصيته، وإن كان المكاتب أدى بدل الكتابة قبل أن يموت ثم مات وباقي المسألة بحالها: كان وصيته كامل الولاية على ولده كوصي الحر على ابنه الصغير الحر؛ لأن بالأداء عتق وكل حاله وثبتت ولايته لأنه لم يعتق عتقاً ضرورياً بل يثبت العتق بالأداء على الإطلاق، وإذا جاء الموت وهو حال عمل الإيصاء وحال نقل الولاية، وهو في هذه الحالة كامل الولاية ثبت لوصيه كذلك أيضاً، فقد اعتبر في حق الوصي حالة الموت لا حالة الإيصاء إذ لو كان المعتبر حالة الإيصاء لما ثبت الولاية لوصيه إذا لم يكن للمكاتب ولاية وقت الإيصاء. واستشهد محمد رحمه الله في «الكتاب» لإيضاح ذلك بمسائل منها: أن النصراني إذا أوصى إلى رجل مسلم وله ابن مسلم صغير فمات النصراني، فوصيه لا يكون وصياً لابنه المسلم، وبمثله لو أسلم ثم مات فوصيه يكون وصياً اعتباراً لحالة الموت. ومنها العبد المحجور إذا أوصى إلى رجل وله ابن حر صغير فوهبه لا يكون وصياً لابنه، وبمثله لو أعتق العبد ثم مات كان وصيه وصياً. ومنها أن من أوصى إلى رجل ثم أوصى إلى هذا الموصى رجل ثم مات الموصي الثاني ثم مات الموصي الأول فوصي الموصي الأول يملك التصرف في تركتين، وإن لم يكن للموصي الأول ولاية التصرف في تركة الموصي الثاني يوم الإيصاء لما كان له ولاية يوم الموت، فقد اعتبر حالة الموت في فائدة المسائل فكذا فيما تقدم. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل زوج ابنته البالغة برضاها من مكاتبه جاز لأنه لو زوجها من عبد يجوز فمن مكاتبه أولى والمعنى فيه أنه ليس بينهما قرابة محرمة للنكاح ولا محرمية ولا ملك ولا حق ملك فيجوز، وإن كانت البنت الصغيرة جاز عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يجوز لعدم الكفاءة، والمسألة معروفة فإن مات المولى

ولم يدع مالاً سوى هذا المكاتب وتركة ابنته هذه ومولاه الذي أعتقه يريد به معتق مولى المكاتب لم يفسد النكاح لأن المكاتب لا يملك بسائر أسباب الملك حقاً للمكاتب، فكذا لأن لا يملك بالإرث فلم تملك المرأة شيئاً من رقبة زوجها إنما ملكت بدل الكتابة، حتى جعل إعتاق الوارث مجازاً عن الإبراء عن بدل الكتابة حتى كان الولاء للميت وثبت لها حق ملك الرقبة عند العجز وكل ذلك لا يمنع بقاء النكاح، فإن طلقها المكاتب فإن كان طلاقاً رجعياً، كان له أن يراجعها، لأن الطلاق الرجعي لا يزيل ملك النكاح والرجعة في حكم استدامة الملك عندنا وحق الملك لا ينافي استدامة ملك النكاح، وإ كان الطلاق بائناً فأراد أن يتزوجها ليس له ذلك، لأنه ثبت لها في رقبة الزوج حق الملك ألا ترى أنه لا يملك المكاتب التزوج إلا برضاها، والطلاق البائن يزيل ملك النكاح، فهذا حال ابتداء النكاح، وحق الملك يمنع ابتداء النكاح. ولو لم يكن شيء من ذلك ولكن مات المكاتب بعد موت المولى وتركته ثلاثة آلاف درهم ومهرها على المكاتب ألف درهم، وبدل الكتابة ألف درهم فإنه يبدأ بالمهر لأنه أقوى من بدل الكتابة، لأنه دين من كل وجه حقيقة وحكماً، وبدل الكتابة دين تسمية لا حكماً ولأن ثبوت دين المكاتبة للمولى مع المنافي وثبوت دين الطلاق بلا منافٍ لهذا جازت الكتابة بدين الصداق ولم يجز بيبدل (354ب1) الكتابة، ويعلم أن دين الصداق أقوى والبداية بالأقوى أولى ثم يستوفى بدل الكتابة لأنه دين، والدين وإن ضعف فهو مقدم على الميراث ويحكم بعتقه في آخر جزء من أجزاء حياته، ويكون ذلك الميراث من مولى المكاتب النصف للبنت والنصف لمعتق مولى المكاتب بحكم العصوبة لأنه مال الميت فيقسم بين بنيه وعصبته يعني هاهنا ألف أخرى يكون ميراثاً عن المكاتب لورثته كانا حكماً بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته، فيكون للبنت الربع بحكم الزوجية والباقي لمعتق مولى المكاتب بحكم العصوبة. وإن لم تكن البنت في نكاحه فلا شيء لها من هذه الألف وهي لمعتق مولى المكاتب؛ لأنها لو ورثت (ورثت) بحكم الولاء، وليس للنساء منّ الولاء إلا من ما أعتقن أو أعتق من أعتقن، هكذا ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليها عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً دخل بها، أو لم يدخل بها لأنا حكمنا بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته فانتهى النكاح بينهما بالموت، فلهذا وجب عدة الوفاة. ولو لم يمت المكاتب ولكنه عجز فسد النكاح، لأنها ملكت نصف رقبة زوجها، بيانه: وهو أن بالعجز يعود رقيقاً وينفسخ عقد الكتابة وهو المانع من الإرث، فصار نصفه للبنت بحكم عقد الكتابة بحكم الميراث ونصفه للعصبة فملكت نصف رقبة زوجها، فتوجب فساد النكاح ويسقط كل الصداق إن لم يكن دخل بها، لأن الفرقة جاءت لمعنى

من قبلها قبل الدخول وهو تملكها شيئاً من رقبة زوجها، ومثل هذه الفرقة توجب سقوط الصداق. فإن قيل: لا بل الفرقة جاءت من قبل الزوج لأن الفرقة إنما وقعت بحكم العجز والعجز معنى من جهة الزوج، قلنا: هذا فاسد لأن العجز لا يوجب الفرقة ألا ترى أن المولى لو كان حياً وعجز لا تقع الفرقة، ولكن عند العجز يرد في الرق، فتملك حينئذ شيئاً من رقبة زوجها فتقع الفرقة والتملك معاً في حقها. وكذلك إن كان قد دخل بها ولم يكن معها وارث آخر سقط كل الصداق والفرقة الجائية من قبلها فإن الفرقة الجائية من قبلها بعد الدخول بها لا توجب سقوط شيء من الصداق لكن لأنها ملكت جميع رقبة زوجها والمولى لا يستوجب على عبده ديناً. وإن كان معها وارث آخر مولى الأب يسقط نصف المهر لأن سقوط الصداق بعد الدخول بها باعتبار ملكها رقبة الزوج فإنما يسقط بقدر ما تملك وإذا كان معها مولى الأب فإنما تملك نصف الرقبة وسقط نصف المهر الذي هو في نصيبها ويبقى نصف الذي هو نصيب العصبة، ويقال للوارث الآخر: إما أن تبيع نصيبك بدينهما وهو نصف المهر وتقضي دينها وليس للوارث الآخر أن يحتج عليها ويقول: بأنك ملكت نصفاً فارغاً وأنا ملكت نصفاً مشغولاً فلا مساواة بيننا ولا معادلة؛ لأن من حقها أن تقول بأني ملكت النصف مشغولاً (فلا مساواة بيننا) كالوارث الآخر إلا أنه حال الشغل حكم بتمام ملكي وبهذا لا يتبين أن المعادلة والمساواة لم تكن وقت الدخول في ملكهما..... جواز القسمة المعادلة وللمساواة وقت الدخول في الملك لأن الفرقة وقعت بعد الدخول حال حياة الزوج فلم تصر فتوفى عنها زوجها. وكذلك الجواب فيما إذا كان في يدي المكاتب أقل من بدل الكتابة، فهذا والأول سواء في حق تحقيق عجزه فتكون رقبته مع ما في يده بينهما وبين مولى الأب نصفين، وإن كان في يد المكاتب ألف درهم مثل بدل الكتابة أو أكثر لا يقضي بعجزه ويؤخذ المال فصار المكاتبة ويحكم بالعتق وتبيعه المرأة.f ..... ولو لم يعجز المكاتب لكنه مات وترك ألف درهم فإن كان لم يدخل بها يصرف إنما يزول إلى بدل الكتابة سواء معها وارث آخر أو لا، وكذلك إن كان قد دخل بها وليس معها وارث آخر وإن كان هكذا لأن دين المهر أقوى والبداية بالأقوى أولى، إلا أن الفصل الأول والثاني بدأ بالأدنى وهو بدل الكتابة لأنا لو بدأنا بالأقوى وهو المهر، بطل كله بعد ذلك لأنه لم يظهر موته عاجزاً، وموته عاجزاً يوجب بطلان كل المهر لأنه يرد في الرق في آخر جزء من أجزاء حياته، ويجزأ فيه الإرث، فتملك البنت زوجها في الفصل الثاني، وكذلك في الفصل الأول على أحد الاعتبارين، وعلى الاعتبار الآخر تملك شيئاً من زوجها فيفسد النكاح ويسقط كل المهر، أما في الفصل الأول فإن الفرقة من قبلها قبل

الدخول بها، وفي الفصل الثاني يملكها جميع رقبة زوجها فثبت أن في البداية بالمهر إبطال كله فبدأنا ببدل الكتابة للموت حراً فيتقدر المهر ويتأكد ويستوفى إن ظهر للمكاتب مال آخر، أما في الفصل الثالث لو بدأنا بالأقوى وهو المهر لا يبطل كله بعد ذلك لأنها لا تملك إلا نصف رقبة زوجها وسقوط الصداق بعد الدخول، فوجب تملكها رقبة للزوج فإذا لم تملك إلا النصف لا يسقط إلا نصف المهر، فإن بالبداية بالأقوى إبطال كله فبدأ بالمهر وظهر أنه مات عاجزاً وصار رقبته بينهما وبين مولى أبيها نصفين، كسبه كذلك فيسقط ما في هذا النصف من دين الصداق وهو نصفه، ويبقى النصف الآخر في نصيب الوارث الآخر فتأخذ هي نصف الألف ميراثاً من الدب والنصف الآخر نصيب مولى الأب إلا أنه مشغول بدينها لأن لها في نصيب مولى الأب نصف المهر خمسمائة والدين مقدم على الميراث فتأخذ النصف الآخر بمهرها، فيصير كل الألف لها، ونصف رقبة المكاتب لها والنصف لمولى الأب. وإن كان المكاتب مات وترك أقل من ألف درهم وقد دخل بها أو لم يدخل بها ومعها وارث آخر مولى الأب أو لم يكن، فهاهنا سواء بدأنا ببدل الكتابة، أو بالمهر يظهر موته عبداً عاجزاً فبعد ذلك، إن لم يدخل بها يسقط كل الصداق سواء كان معها مولى الأب أو لم يكن لما مر، وما ترك فهو بينهما وبين مولى الأب نصفان ميراثاً عن الميت لأنه كسب عبده وإن كان قد دخل بها فإن لم يكن معها وارث آخر يسقط كل الصداق أيضاً لما قلنا، ويكون جميع ما ترك بالميراث لها، وإن كان معها وارث آخر يسقط نصف الصداق وتعقد بثلاث لما مر قبل هذا. ولو كان المكاتب ترك ألفاً وزيادة ما بينها وبين ألفي درهم، فإن لم يدخل بها أو دخل بها ولكن ليس معها وارث آخر يبدأ ببدل الكتابة، ويحكم بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته لما مر ويأخذ ما بقي بصداقها وتعتد بثلاث حيض لما مر، وإن كان قد دخل بها ومعها وارث يبدأ بصداقها لما مر، ثم ليس فيما بقي وفاء ببدل الكتابة، فيظهر أنه مات عبداً عاجزاً، فكان ما بقي بينها وبين مولى الأب نصفين ميراثاً عن الأب، لأنه كسب عبده. ولو كان المكاتب ترك ألفي درهم يبدأ بدين الصداق فتأخذ هي الصداق أولاً ثم يصرف الباقي إلى بدل الكتابة لأن به وفاء ببدل الكتابة ويحكم بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته ويكون ذلك بينهما وبين (355أ1) مولى أبيها نصفين ميراثاً عن الأم فعليها عدة الأب الولاء الوفاة، لأن النكاح بينهما قد انتهى بالموت حين حكمنا بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته فصارت متوفى عنها زوجها. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» أم ولد كاتبها مولاها صحت الكتابة، لأن الكتابة في حقها مفيدة لأنها بالكتابة تستفيد العتق في الحال، وبالاستيلاد لا تستفيد العتق في الحال إنما استفادت عتقاً مؤجلاً إلى ما بعد الموت فإن مات مولاها عتقت بالاستيلاد؛ لأنها أم ولد مات عنها مولاها، وبطلت الكتابة لأنها عقلت وسيلة إلى الحرية

وقد حصلت الحرية بسبب آخر فتسقط الوسيلة فيسقط بدل الكتابة وفيه نوع إشكال فينبغي أن لا يسقط لأن هذا المعقود عليه عقد كتابة وصل إليها، ولهذا عتق أولادها معها وسلم لها أكسابها، فوجب أن يتأكد ما وجب عليها بالكتابة كما في سائر المعاوضات، والجواب أن الكتابة عقد معاوضة من وجه، وتعليق عتق بالأداء من وجه، فاعتبار معنى المعاوضة يوجب تأكد العمل لما وصل إليها ما هو المعقود عليه عقد الكتابة، واعتبار معنى التعليق بالشرط يوجب الانقسام متى وجد العتق قبل الأداء، إلا أن المعلق بالشرط متى وجد قبل الشرط ينفسخ التعليق، والعمل بالاعتبارين جميعاً في حقهما متعذر فاعتبر نابه المعاوضة في حق أم الولد حتى لا يبطل حقها في أولادها وأكسابها وأمرها من جهة المولى ونسبة التعليق في حق المولى، فقسمنا الكتابة بالإعتاق في حق المولى لأن الفسخ جاء من جهته ليكون عملاً بالشبهين بقدر الإمكان. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» في مكاتب أدى إلى مولاه من الصدقات التي أخذها من الناس ثم عجز وصار ذلك للمولى فهو طيب للمولى، واختلفت عبارة المشايخ رحمهم الله في تخريج المسألة، بعضهم قالوا لأنه تبدل الملك فإن الصدقة كانت ملكاً للمكاتب يداً وتصرفاً ولم يكن ملك المولى ظاهراً فيه، وبالأداء صارت للمولى فيه يد الملك وبدل الملك بمنزلة تبدل العين فصار كعين آخر. والأصل في ذلك ما روي أن بريرة كانت تهدي إلى الرسول صلى الله عليه وسلّموهي مكاتبة ما كان يتصدق به عليها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّميقبل هديتها ويأكل وكان يقول «لها هي صدقة ولنا هدية» فقد جعل تبدل الملك بمنزلة تبدل العين فعلى قول هذا التعليل إذا أباح الفقير..... غير ما أخذ من مال الزكاة من الطعام لا يحل له لأن الملك لم يتبدل حتى يجعل ذلك بمنزلة تبدل العين. وبعضهم قالوا: لأن الصدقة حين وقعت لا..... فصحت، فصارت لله تعالى، لأن الصدقة إخراج المال إلى الله تعالى على ما عرف من موضعه ثم صارت ملكاً للفقير من الله تعالى قضاء لحقه بالرزق الموعود، وإذا صارت ملكاً للفقير من الله تعالى يرزقه تجدد للفقير سبب ملك بعد ما صارت صدقة، وصارت لله تعالى فأخص ذلك تبدل العين حكماً. فعلى فرد هذا التعليل: الفقر إذا أباح للمعين عين ما أخذ من مال الزكاة من الطعام يحل؛ لأنه تبدل العين حكماً، وإليه مال الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله، هذا إذا عجز المكاتب بعد ما أدى ما أخذ من الصدقات إلى المولى. وأما إذا عجز والصدقات قائمة في يد المكاتب لم يردها إلى المولى هل يحل

للمولى؟ لم يذكر هذا الفصل هاهنا، وذكر في «الأصل» : أنه يحل، بعض مشايخنا قالوا: هذا الجواب لا يشكل على قول محمد رحمه الله لأن عنده تبدل الملك فإنها كانت ملكاً للمكاتب والآن صار لمولاه، ولهذا قال المكاتب إذا أجر أمته ظهيراً ثم عجز يطلب الإجارة، لأنه تبدل الملك فصار كأن المؤاجر مات وصار العتق المستأخر للورثة، فتبطل الإجارة، فإذا تبدل الملك عنده يحل له الصدقة، أما مشكل على قول أبي يوسف فإن عنده لم يتبدل الملك بالعجز، ولكن كسب المكاتب كان مشتملاً على قول المولى وحق المكاتب، فحق المولى يتقرر بالعجز، وحق المكاتب يتقرر بالعتق، فإذا عجز بقدر ما كان للمولى لا أنه تحول من المكاتب إليه. ولهذا قال إذا أجر أمته ظهيراً ثم عجز لا تبطل الإجارة وإذا لم يتبدل الملك عنده يجب أن لا يحل له الصدقة لكونه عيناً. والجواب أنه لا خبث في نفس الصدقة لتحرم عليه، وإنما لم يحل للغني وإنها شيء أخذ الزكاة لأن فيه نوع استدلال به لأن بأخذ الصدقة تسقط الذنوب عن المتصدق فيصير المتصدق عليه كالآلة للمتصدق في تطهيره عن الذنوب، فحرم على الهاشمي لطريق التعظيم، وأما الغني فليس له أن يذل نفسه إلا عند الحاجة والضرورة، ولا حاجة فحرم على الغني والهاشمي لهذا، وهذا المعنى معدوم هاهنا فيحل، ولهذا قلنا إن ابن السبيل إذا تصدق عليه ثم وصل إلى ماله وأهله والصدقة قائمة لا بأس بأن يتناول من تلك الصدقة، وكذلك الفقير إذا تصدق عليه ثم استغنى والصدقة قائمة لا بأس بأن يتناول من الصدقة لانعدام المعنى الذي ذكرنا. وبعضهم قالوا المولى يخلف المكاتب في أكسابه خلافة الوارث للمورث في أملاكه، والفقير إذا مات والصدقة قائمة فورثها له غني حل له أكل ذلك، وإنما لم يملكها بسبب جديد فكذا هاهنا. والوجه ما ذكرنا أن الصدقة صارت للفقير بعدما صارت لله تعالى بجهة الرزق فيخلى للفقير سبب الملك على مامر وترك ذلك بمنزلة تبدل العتق فيحل له التناول بقي فقيراً أو غنياً ويحل لغيره التناول، ثبت للفقير فيها ملك بسبب جديد بأن اشتراها أو وهب له أو لم يثبت له بأن ورثه أو أباح له هذا الفقير، تم الكتاب والله أعلم.

كتاب الولاء

كتاب الولاء هذا الكتاب يشتمل على خمس فصول: 1 * في ولاء العتاقة. 2 * في ولاء المولاة. 3 * في الإقرار بالولاء. 4 * في دعوى الولاء والخصومة واليمين فيه. 5 * في المتفرقات.

الفصل الأول في ولاء العتاقة

الفصل الأول في ولاء العتاقة وإنه يسمى ولاء النعمة وإنما سمي هذا الاسم اقتداءً بكتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {وإذ تقول للذي أنعم اعليه وأنعمت عليه} (الأحزاب: 37) قوله أنعم الله عليه أي بالإسلام، وقوله أنعمت عليه بالعتق، نزلت الآية في زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّموتكلموا في سبب هذا الولاء، بعض المشايخ رحمهم الله قالوا: سببه الإعتاق واستدلوا بقوله عليه السلام: «إنما الولاء لمن أعتق» وأكثرهم على أن سببه العتق على الملك وهو الصحيح ألا ترى أن من ورث قريبه حتى عتق على الملك فتقول: كل من حصل له العتق من جهة إنسان يثبت ولاء العتق منه سواء شرط الولاء أو لم يشترط أو برىء عنه، وسواء كان الإعتاق ببدل أو بغير بدل، وسواء حصل العتق بالإعتاق (355ب1) أو بالقرابة أو بالكتابة عند الأداء أو بالتدبير أو بالاستيلاد بعد الموت، وسواء كان العتق حاصلاً ابتداءً بجهة واجب ككفارة اليمين وما أشبهها لأن ظاهر قوله عليه السلام: «الولاء لمن أعتق» يتناول مطلق الإعتاق، وسواء كان المعتق رجلاً أو امرأة، لأن ظاهر قوله عليه السلام: «الولاء لمن أعتق» عام لأنه ذكر بكلمة «من» ويتعلق هذا الولاء أحكام من جملتها الإرث فنقول: مولى العتاق من جملة الورثة عرف ذلك بالآثار والمعنى يدل عليه، ووجه ذلك أن المعتق بالإعتاق يحيي المعتق حكماً لأن الرقيق هالك حكماً ألا ترى أنه ليس بأصل الأحكام كثيرة تعلقت بالإحياء نحو القضاء والشهادة ووجوب الجمعة وأشباهها، وألا ترى أن الإمام في الكافر المقهور بالخيار إن شاء قتله وإن شاء استرقه، ولما كان الرقيق هالكاً حكماً كان الإعتاق إحياءً له حكماً، فكان المعتق بمنزلة الأم له حكماً فترث منه كما يرث الأب الحقيقي ولأجل هذا المعنى سوينا في ولاء العتاقة بين الرجل والمرأة لأن معنى الإحياء يعم الكل، وإنه مؤخر عن سائر العصبات، مقدم على ذوي الأرحام، والولاء لا يورث فيكون لأقرب الناس عصبة من المعتق، حتى لو مات مولى العتاقة وترك ابنة وابناً ثم مات المعتق فالميراث لابن المولى ولا يكون للابنة شيء. والأصل فيه قوله

عليه السلام: «الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ولا يورث» . وعن هذا قال أصحابنا رحمهم الله: إذا مات مولى العتاقة وترك ابنين ثم مات أحد الابنين وترك ابناً ثم مات المعتق فميراثه لابن المعتق لا لابن ابن المعتق، وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: إذا مات مولى العتاقة وترك ابناً وأباً ثم مات المعتق ميراثه لابن مولى العتاقة، لأنه أقرب العصبات إلى المعتق. والحاصل أن الولاء نفسه لا يورث بل هو للمعتق على حاله، ألا ترى أن المعتق هو الذي ينسب بالولاء إلى المعتق دون أولاده، فيكون استحقاق الإرث بالولاء لمن هو منسوب إليه حقيقة، ثم يخلفه فيه أقرب عصبة كما يخلفه في ماله. فرع في الأصل على ما إذا مات المعتق عن ابنين، فقال: لو مات الابنان ولأحدهما ابن وللآخر ابنان ثم مات المعتق فميراث المعتق بينهم؛ لأن الولاء لم يصر ميراثاً بين ابن المعتق بل هو باق في المعتق على حاله، ثم يخلفه فيه أقرب عصبة على ما ذكرنا، وهؤلاء في القرب إليه على السواء. وقد طول محمد رحمه الله هذا الكلام في «الأصل» وحاصله أن وارث المعتق من هو أقرب الناس عصبة لمولى العتاقة فينظر عند موت المعتق أن مولى العتاقة لو كان حياً في هذه الحالة ومات من يومه من عصابته؟ ومن هو أقرب الناس إليه عصبة؟ فيرث ذلك الشخص من المعتق. وكما يثبت للمعتق ولاء معتقه، يثبت له ولاء معتق (معتقه) حتى إن من أعتق عبداً، ثم إن العبد المعتق أعتق أمة ثم مات العبد ثم ماتت الأمة فميراث الأمة لمعتق العبد. وكذلك لو مات معتق العبد وترك ابناً عن..... فميراث الأمة لابن معتق العبد، لأن ولاء الأمة قد ثبت لمعتق العبد، فيكون لأقرب الناس عصبة إليه بعد موته. والمرأة في ذلك كالرجل، يريد به أنه كما ثبت للمرأة ولاء معتقها يثبت لها ولاء معتق من الولاء معتقها، قال عليه السلام: «ليس للنساء من الولاء إلا ما اعتقن أو أعتق من أعتقن» ولو أن امرأة اشترت أباها حتى أعتق عليها ثم مات الأب عن هذه الابنة المشترية وابنه أخرى له فالثلثان لهما بحكم الفرض والباقي للمشترية بحكم الولاء ولو كان الأب أعتق عبداً بعدما عتق هو على ابنتها ثم مات الأب ثم مات معتق الأب وبقيت الابنة المشترية كان الميراث للمشترية لأنها معتقة بعتق هذا المعتق، ويرث ابن المعتق من ولد المعتق لأنه عصبة معتق ابنه، فيرث منه كما يرث من ابنه المعتق، وإذا مات المعتق عن صاحب فرض وعن معتق أو عن عصبة المعتق، فإنه يعطى لصاحب الفرض أولاً فرضه ويكون الباقي للمعتق أو عصبته والله أعلم..

نوع آخرمن هذا الفصل قال النبي صلى الله عليه وسلّم «ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن وأعتق من أعتقن أو كاتبن أو كاتب من كاتبن أو جررن ولاء معتقهن أو معتقن معتقهن» وبهذا كله أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى. وصورة جر ولاء المعتق: امرأة اشترت عبداً فتزوج العبد بمعتقة قوم بإذن المرأة وحدث لهما أولاد فولاء الولد يكون لمولى الأم؛ لأنه تعذر إثباته لجانب الأب لكون الأب عبداً فشدته من جانب الأم، فلو أن هذه المرأة أعتقت هذا العبد جر العبد ولاء الولد إلى نفسه، وجرّت هي ذلك إلى نفسها وهذا لأن الأصل في ولاء الولد الأب لأن الولاء لحمة كلحمة النسب، وإنما ثبت الولاء للولد في هذه الصورة من موالي الأم لعجزنا عن إثباته من الأب لكونه عبداً، فإذا أعتق الأب ارتفع العجز فيجب إثباته من الأب، كما في حقيقة النسب إذا أكذب الملاعن نفسه. وصورة جر ولاء معتق المعتق: رجل اشترى عبداً وأعتقه ثم إن هذا العبد المعتق اشترى عبداً ثانٍ، العبد الثاني تزوج بمعتقه قوم بإذن مولاه وحدث له منها أولاد، فإن ولاء ولده. ثم جر المعتق الأول ذلك إلى نفسه ثم جرت المرأة ذلك إلى نفسها فلأن يجر ولاء الولد بلا خلاف. وأما الجد فهل يجر ولاء حافده ففي ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله تعالى لا يجر سواء كان الأب حياً أو ميتاً، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يجر وصورة ذلك: عبد تزوج معتقة قوم وحدث له منها أولاد ولهذا العبد أب حي فأعتق الأب بعد ذلك وبقي العبد عبداً على حاله ثم مات العبد وهو أب هذا الولد ثم مات الولد ولم يترك وارثاً يجر ميراثه، كان ميراثه لموالي الأم ولو حتى كان عقله على موالي الأم عند علمائنا رحمهم الله، ولم يجر الجد ولاء حافده إلى مواليه، وإنما كان كذلك لأن تعذر إثبات الولاء من الجد لما ذكرنا أن الولاء ألحق بالنسب شرعاً، والنسب إنما يثبت من الجد إذا ثبت من الأب، ألا ترى أن نسب ولد الزنا إذا لم يثبت من الزاني لا يثبت من الجد؟ وهاهنا لا يثبت ولاء الولد من الأب لكونه عبداً فلا يثبت من الجد. ثم الأب إذا أعتق إنما يجر ولاء الولد إلى نفسه إذا لم يجر على الولد عتق مقصود أما إذا جرى عليه عتق مقصود ولاء. ولهذه المسألة صور كثيرة منها. عبد تزوج بأمة قوم فحدث له منها ولد فأعتق الولد كان (356أ1)) ولاؤه لموالي الأم فإن أعتق الأب بعد ذلك فالأب لا يجر ولاء الولد إلى نفسه بل يكون الأم على حاله. ومنها عبد تزوج بأمة رجل وولد له منها ولد ثم إن مولى الأمة أعتق الأمة والولد، ثم إن مولى العبد، أعتق العبد. ففيها: إذا كانت الأمة حبلى (حين أعتق مولى ثم إن مولى العبد الأمة الأمة والولد) ولم يكن بها حبل ظاهر ولكن جاءت بالولد لأقل من ستة

أشهر حين أعتق المولى، وهذا لأن الجنين بإعتاقه يصير معتقاً مقصوداً، لأنه في حكم العتق كشخص على حدة فهو والمنفصل سواء. وإذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر، فقد تيقنا بوجوده في البطن وقت الإعتاق، فهذا وما لوكان الحبل ظاهراً سواء، وهذا لأنه متى جرى، على الولد عتق مقصود فقد صار الولد أصلاً في الولاء، وبعدما صار أصلاً في الولاء لا يمكنها أن تجعله تابعاً لغيره في الولاء إلا بعد أن يفسخ ما نبدله من الولاء لأنه لا يتصور أصلاً وتبعاً في الولاء والفسخ متعذر لأن فسخه يفسخ سعيه وهو العتاق، وفسخ العتاق متعذر، لما تعذر فسخ ما ثبت له من الولاء تعذر جعله تابعاً لابنه في الولاء. وهذا بخلاف ما لو لم يجر على الولد عتق مقصود حيث عتق الأب، فإنه يجر ولاء الولد إلى نفسه وقد ثبت ولاؤه من الأم بسبب حرية الأم والحرية لا تقبل الفسخ لأن هناك لم يثبت للولد ولاء نفسه بل كان تابعاً في الولاء للأم فاحتجنا إلى نقل ذلك الولاء إلى الأب، وبعد ما نقل ذلك الولاء إلى الأب يكون تابعاً في الولاء أيضاً أما إذا ثبت له ولاء نفسه مقصوداً لا يمكن إثباته لغيره إلا بعد فسخ ما ثبت له، وفسخ ما ثبت له متعذر، فلهذا افترقا. فرع على ما إذا تزوج العبد بأمة الغير فقال إذا طلقها زوجها أو مات عنها ثم إن مولاها أعتقها ثم جاءت بولد مستبين ولم تقر هي بانقضاء العدة بل ادعت الحبل، ثم إن مولى العبد أعتق العبد فالولد مولى مولى الأم لأن هذا الولد صار معتقاً بإعتاق الأم مقصوداً، لأن وجوده في البطن وقت إعتاق الأم ثابت من حيث الحكم، لأن إعتاق الأم إتحاد وجد بعد الموت وبعد الطلاق الثاني وقد حكمنا بوجود هذا الولد قبل الموت وقبل الطلاق الثاني حتى حكمنا..... من نسبة هذا الولد؛ وهذا لأن الحبل ليس بقائم في العبد عن موت أو طلاق ثان فيحال بالعلوق إلى أبعد الأوقات، ليمكننا إثبات النسب، وذلك ما قبل الموت والطلاق فهو معنى قولنا إن وجود هذا الولد في البطن وقت إعتاق الأم ثابت من حيث الحكم، بخلاف ما إذا أعتق الأم حال قيام النكاح ثم جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً وباقي المسألة بحالها، فإن هناك نجعل الولد مولى لموالي الأب، وإن كان من الجائز أن يكون هذا الولد موجوداً قبل الإعتاق، لأن هناك لم يوجد دليل يدل على وجوده قبل الإعتاق، فلم يصر معتقاً بإعتاق نفسه مقصوداً أما هاهنا بخلافه. وكذلك إن كانت معتدة عن طلاق رجعي، وقد جاءت بالولد إلى سنتين وباقي المسألة بحالها كان الولد مولى لمولى الأم، لأنا حكمنا بوجود هذا الولد قبل الطلاق، لأنا لو لم نجعل كذلك لا يمكننا إثبات النسب إلا بعد إثبات المراجعة، ولا يمكن إثبات المراجعة بالشك، فحكمنا بوجوده قبل الطلاق ليمكننا إثبات النسب من غير أن تثبت المراجعة بالشك، حتى لو جاءت بالولد في هذه الصورة لأكثر من سنتين كان الولد مولى

لموالي الأب، وتثبت المراجعة لأنا تيقنا أن العلوق به حصل قبل الطلاق، وهذا الذي ذكرنا إذا لم تقر المرأة بانقضاء العدة. وإن أقرت بانقضاء العدة ثم جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر بعد الإقرار بانقضاء العدة ولتمام سنتين منذ يوم طلق، فإن ولاء الولد لموالي الأم، لأن الإقرار بانقضاء العدة لم يصح لأنها أقرت به وهي حامل فصار وجود هذا الإقرار والعدم بمنزلة. وإن جاءت به لأكثر من سنتين منذ يوم طلق كان ولاء الولد لموالي الأم لأنا لم نتيقن بوجوده في البطن يوم أعتقت، ولم يصر مقصوداً بالإعتاق مع الشك. ولو أن عبداً تزوج بأمة رجل ثم إن مولى الأمة أعتق الأمة ثم ولدت بولد فإن ولاء الولد لموالي الأم، فإن أعتق هذا الولد أمه فولاء هذه الأمة لموالي الأم، لأنه ثبت ولاء تتخذه الأمة للولد، وما ثبت للولد يثبت لمواليه، وموالي الولد موالي الأم، فإن أعتق الأب بعد ذلك جر ولاء كلهم حتى يكونوا موالي لموالي الأب لأنه جرّ ولاء الولد فيجرّ ما يثبت للولد بطريق التبعية، لأنه بناء عليه.d نوع آخر إذا مات الرجل وترك مالاً ولا وارث له، فادعى رجل أنه وارثه بالولاء وشهد شاهدان أن الميت كان مولاه ووارثه، القاضي لا يقضي بشهادتهما حتى يفسر المولى لأن المولى اسم مشترك قد يجيء بمعنى الناصر قال الله تعالى: {وأن الكافرين لا مولى لهم} (محمد: 11) أي لا ناصر لهم، وقد يجيء بمعنى ابن العم قال الله تعالى: {وألحقت الموالي من ورائي} (مريم: 5) ، وقد يكون بالعتق، وقد يكون بالموالاة، فلا يثبت عند القاضي كون المدعي وارثاً. وكذلك إذا شهد أن هذا مولاه مولى عتاقه، لأن اسم مولى العتاقة كما يتناول الأعلى يتناول الأسفل، والأسفل لا يرث من الأعلى إلا على مذهب الحسن بن زياد رحمه الله، وبعد الشاهدان اعتقدا مذهب الجر وشهدا لوارثه بناء على ذلك، فلا يثبت عند القاضي كونه معتقاً ووارثاه بهذه الشهادة وإن شهدا أن هذا الحي أعتق الميت وهو يملكه وأنه وارثه لا يعلمون له وارثاً غيره تقبل شهادتهما، وقضي بالميراث للمدعي لأنهما فسرا (ما) يثبت كون المدعي معتقاً ووارثاً، فقد شرط لقبول الشهادة أن يقولوا: أعتقه وهو يملكه، وإنه شرط لازم، لأن الإعتاق بدون الملك لا حكم له أصلاً، وشرط أن يقولوا وهو وارثه وإنه شرط لازم، لأن مولى العتاقة يصير محجوباً بعضه من جهة النسب.....، وشهادتهم أنه أعتقه لا يثبت عند القاضي كونه وارثاً. وكذلك لو شهد أن الميت كان مقراً لهذا المدعي بالملك والمدعي أعتقه، لأنه لو ثبت إقرار الميت بالرق للمدعي عند القاضي وثبت إعتاق المدعي إياه عنده معاينة كان يقضي له بميراث الميت، فكذا إذا ثبت ذلك بالبينة.

ولو شهدا أن أب المدعي هذا أعتق أب الميت هذا وهو يملكه ثم مات المعتق وترك ابنه هذا، وهو المدعي ثم مات المعتق، وترك ابنه هذا الميت، وقد ولد من امرأة حرة قضى بالميراث للمدعي، لأن المعتق لو كان حياً ميراث ابن معتقه له، فإذا كان ميتاً كان ميراثه لأقرب العصبات إلى المعتق وهو ابنه المدعي هذا ويشترط في «الكتاب» أن يكون ابن المعتق من امرأة حرة لأنه لو كان من أمة، وقد أعتقه من مولى الأمة يكون ميراثاً لموالي الأمة، على ما مر قبل هذا، يشترط أن يكون من امرأة حرة ليكون ميراثه لموالي (356ب1) الأب ولو شهدا بهذا ولكن ولاء لم يدرك أب هذا المدعي المعتق ولكن قد علمنا ذلك فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة لأنهما شهدا على الولاء بالسامع، والشهادة على الولاء بالسامع لا تقبل عند أبي حنيفة رحمه الله ومحمد رحمه الله، خلافاً لأبي يوسف رحمه الله ولو مات رجل فادعا رجل ميراثه فأقام شاهدين شهدا أنه أعتق أم هذا الميت وأنها ولدته بعد ذلك بمدة من عبد فلان، وأن أباه مات عبداً وماتت أمه، ومات هو، ولا يعلم له وارث سوى معتق أمه هذا المدعي قبل القاضي شهادتهما وقضى له بالميراث، فإن جاء مولى الأب وأقام البنية أنه أعتق الأب قبل أن يموت هذا الولد وهو يملكه، وأنه وارثه لا يعلم له وارث غيره قضى القاضي بالميراث لمولى الأب لأن مولى الأب أثبت جر الولاء إليه بإعتاق الأب بعد إعتاق الأم وتبين أن القاضي أخطأ في القضاء بالميراث لوالي الأم. ولو مات رجل واختصم رجلان في ميراثه، وأقام كل واحد بينة أنه أعتق الميت، وهو يملكه وأنه وارثه لا وارث له غيره ولم توقت البينتان وقتاً قضى بالميراث بينهما لأنهما استويا في الدعوى والحجة ولم يتيقن القاضي بكذب إحدى البينتين لجواز أن كل واحد من الفريقين عاين سبباً مطلق به أو الشهادة وهو التصرف في العبد وإعتاق العبد بعد ذلك، والمشهود بهما يحتمل الاشتراك فيقضى بينهما نصفان كما في الأملاك، هذا إذا لم توقت البينتان فإن وقتا وقت إحداهما يسبق قضى لأسبقهما وقتاً اعتباراً للثابت بالبينة بالثابت عياناً، ولوكان جاء أحد المدعيين أولاً وأقام البينة أنه أعتق الميت وهو يملكه وقضى القاضي ببينة ثم جاء المدعي الآخر وأقام البينة أنه أعتق الميت فالقاضي لا يقضي للثاني ولو جاءا معاً وادعيا وأقاما البينة على دعواهما قضى بالولاء بينهما، والفرق أنه إذا قضى بالعتق من أحدهما وبالولاء له، فلا ينفذ قضاؤه ظاهراً فلو قضى للثاني بعد ذلك يحتاج إلى فسخ العتق عن الأول في النصف، والعتق النافذ لا يحتمل الفسخ، وأما إذا جاءا معاً لا يحتاج إلى فسخ العتق في شيء لأنه لم يقض بالعتق بعد، وإنما يحتاج إلى القضاء بالعتق والولاء بينهما، وأنه متصور بأن يكون العبد بينهما أعتقاه. وإذا ادعى رجل أن أباه كان أعتق هذا الميت وهو يملكه وأنه لا وارث لأبيه ولا لهذا الميت غيره وجاء بابني أخيه شهدا لا تقبل شهادتهما على ذلك، لأنهما يستفيدان بجديهما، لما بينا أن الولاء للمعتق على حاله وللرق له بطريق العصوبة على أن يخلفه فيه أقرب عصبة وشهادة النافلة للجد لا تقبل، وكذلك شهادة بني المعتق لا تقبل لأنهما يشهدان لأبيهما، وكذلك شهادة زوجة المعتق لا تقبل لأنها تشهد لزوجها، وإذا مات الرجل عن بنين وبنات فادعى رجل أن أباه أعتق هذا الميت وهو يملكه، وشهد ابنا الميت بذلك وادعى رجل آخر أن أباه أعتقه وهو يملك وأقرت ابنته بذلك فإنه يقضى بالولاء لصاحب الشهادة لأن في جانبه البينة وإنها حجة في حق الناس كافة وفي جانب الآخر إقرار الفرد والإقرار حجة في حق المقر دون غيره، وإن شهد للآخر ابن آخر للميت وابنان له قضى بالولاء بينهما نصفان لأن في جانب كل واحد منهما البينة. ولو ادعى رجل من الموالي على رجل من العرب أنه مولى هذا العربي وأن أب هذا العربي أعتق أباه وجاء المدعي بأخويه لأبيه يشهدان بذلك والعربي ينكر، فإن شهادة الابنين لا تجوز لأنهما يشهدان لأبيهما ولأنفسهما لأن لهما في هذه الشهادة منفعة، فإنه متى ثبت ولاء أبيهم من العربي يثبت ولاؤهم من العربي أيضاً، وفي إثباتهم إلى العرب شرف لهم، فصارا شاهدين لأبيهما ولأنفسهما من هذا الوجه وإن شهد بذلك أجنبييان قبلت شهادتهما، لأنها شهادة أجنبي قامت على أجنبي، وللمشهود له في إثبات ما ادعاه فائدة لأن في الإثبات إلى العرب شرف بهم، ولو كان العربي يدعي الولاء في هذه الصورة والابن ينكر قبلت شهادة أخويه، لأن إنكار الابن كإنكار الأب لو كان حياً، ولو كان الآخر حياً وأنكر تقبل شهادة ابنيه بذلك؛ لأنهما

يشهدان على أبيهما بالولاء للعربي ولا تهمة في هذه الشهادة فتقبل. وإذا مات رجل فأخذ رجل ماله وادعا أنه وارثه لا وارث له غيره، وأن لا آخذ المال من يده، ولا أضعه في بيت المال، وهذا لأن اليد للمدعي من حيث الظاهر إذا لم ينازعه أحد حين ما أخذ من الآخذ (.....) إلى نقضه واليد لا تنقض إلا بحجة ألا ترى لو كان الإمام أخذه أولاً ووضعه في بيت المال، ثم جاء غداً وادعى أنه وارثه لا يقضي له بالمال إلا بالبينة، لأن اليد لبيت المال من حيث الظاهر، وهذا المدعي يريد نقض يد بيت المال، فلا ينتقض إلا بحجة كذا هاهنا. فإن جاء رجل آخر وادعى أنه أعتق الميت وهو يملكه وأنه لا وارث له غيره، وأقام على ذلك بينة وأقام الذي في يديه بينة لمثل ذلك قضى بالمال بينهما نصفان، وكان ينبغي أن يقضي بالمال بينهما لأن أحدهما جاء ببينة في المال والآخر صاحب اليد، فإما أن يجعل هذا كبينة ذي اليد مع الخارج في الملك المطلق، فيقضي ببنية الخارج أو يجعل هذه كبينة ذي اليد مع الخارج في دعوى باقي الملك من الواحد فيقضي ببينة ذي اليد أما القضاء بينهما نصفان فلا وجه له، والجواب عن هذا أن يقال بأن كل واحد منهما ببينة يثبت الولاء لأنه هو المقصود في هذه الدعوى واستحقاق المال ينبني عليه، وهذا لأن الولاء حق مقصود يمكن إثباته بالبينة وإن لم يكن ثمة، قال: وإنما يثبتان الولاء على الميت وهما في إثبات ذلك على السواء، والولاء ليس شيئاً يرد على (من) عليه اليد لتغيير

أحدهما خارجاً فيه، والآخر صاحب يد، بل هو كلاهما خارجاً فيه فيقضي به بينهما، ولئن سلمنا أن المال مقصود في هذه الدعوى إلا أنهما ادعيا تلقي الملك فيه، ومن جهة الواحد وهو الميت وهما في دعوى التلقي على السواء ولا رجحان لأحدهما على الآخر، بخلاف ما لو ادعى تلقي الملك من جهة واحدة بالشراء، وأحدهما صاحب اليد لأن هناك لصاحب اليد رحجاناً على الخارج، لأن يده تدل على سبق شرائه الذي هو السبب المتعين للملك أما هاهنا يد صاحب اليد لا تدل على إعتاقه فضلاً من سبقه وكان السبب هناك يتأكد بالقبض فذو اليد يثبت شراءاً متأكد بالقبض فكانت بينته أكثر إثباتاً، أما هاهنا السبب وهو الإعتاق ولا يتأكد ولا تأثير لليد على المال، في تأكيد الإعتاق فلم تكن بينة ذي اليد أكثر إثباتاً فلهذا قضي بينهما. (357أ1) وإذا مات رجل وترك مالاً ولا يُعلم له وارث، فادعى رجل من المسلمين أنه أعتق الميت وهو يملكه وأنه مات مسلماً وأنه وارثه لا وارث له غيره وأقام على ذلك شاهدين مسلمين، وادعى رجل من أهل الذمة أنه أعتق الميت وهو يملكه، وأنه مات كافراً وأنه وارثه لا وارث له غيره، وأقام على ذلك شاهدين مسلمين، قضى القاضي بالولاء بينهما نصفين لأنهما استويا في الدعوى والحجة، فإن أقام كل واحد منهما من الشهود حجة على صاحبه فيجب القضاء بالولاء بينهما لكن نصف الميراث يكون للمسلم ونصفه يكون لأقرب الناس عصبة إلى الذمي، لأنا حكما بإسلامه ببينة المسلم، وهذا لأن بينه المسلم توجب إسلام الميت، وبينة الذمي توجب كفره، والعمل بهما متعذر فلا (بد) من العمل بإحداهما فكان العلم بما يوجب الإسلام أولى. وإذا عملنا ببينة المسلم في إسلامه صار.... إسلامه وغائباً إعتاقهما، وهناك يقضى بالولاء بينهما، وإذا مات يكون نصف الميراث للمسلم، والنصف الآخر لأقرب الناس إلى الذمي عصبه لأن الإرث يجب بالنسب، ولكل واحد منهما نصف ولاية فيكون لكل واحد نصف ميراثه إلا أن الذمي لا يرث المسلم فيجعل كالميت فيكون نصيبه لأقرب الناس إليه عصبته. وإن كان الشهود من الجانبين من أهل الذمة فإنه يقضي بولائه وميراثه للمسلم ويحكم بإسلامه لأن بينة الذمي ليس بحجة على المسلم، وبينة المسلم حجة على الذمي فكأن الذمي لم يقم البينة. فإن قبل ينبغي أن لا يقضي ببينة المسلم أيضاً، لأن بينته من أهل الذمة، وقد قامت على المسلم وهو الميت باستحقاق الميراث وشهادة أهل الذمة على المسلم ليس بحجة. قلنا: الاستحقاق بشهادة المسلم يقع على الذمي المدعي لا على المسلم الميت، وذلك لأن الميت بالموت استغنى عن ماله وصار ماله بحيث يستحقه الذمي ببينته لولا بينة المسلم فيجعل المسلم، بهذه البينة مستحقاً على الذمي المدعي لا على المسلم الميت. وإذا اختصم مسلم وذمي في ولاء رجل قد ادعى كل واحد منهما أنه أعتقه وهو

يملكه وأيضاً تاريخ إحداهما أسبق، وأقاما على ذلك شهوداً من المسلمين، قضى لأسبقهما تاريخاً، لأنه أثبت عتقه في وقت لا منازع له فيه فلا بد من القضاء بالملك له، وبالعتق منه، في ذلك الوقت ولا يتصور ملك الآخر وعتقه بعد ذلك. وإن كان شهود الذمي من أهل الذمة، والعبد المعتق كافر قضى ببينة المسلم وإن كان الذمي أسبقهما تاريخاً؛ لأن بينة الذمي ليست بحجة على المسلم فكأن الذمي لم يقم البينة أصلاً. عبد في يد رجل من أهل الذمة أعتقه هذا الذمي فادعاه مسلم أنه عبده وأقام على ذلك بينة من المسلمين، أو أقام الذمي بينة من المسلمين أنه أعتقه وهو يملكه قضيت ببينة الذمي، لأن دعوى العتق بمعنى دعوى النتاج، لأن العتق لا يحتمل الفسخ بعد وقوعه كالنتاج، وذو اليد متى ادعى النتاج، والخارج يدعي الملك المطلق يقضي ببينة ذي اليد، كذا هاهنا. ولو كان شهود الذمي قوماً من أهل الذمة وشهود المسلم اثنين مسلمين قضيت بكونه عبداً للمسلم وأبطلت العتق؛ لأن بينة الذمي ليست بحجة على المسلم فكأن الذمي لم يقم البينة أصلاً، وإن كان شهود المسلم من أهل الذمة والعبد مسلم، وشهود الذمي من أهل الذمة أيضاً فإنه يقضي بعتق العبد من جهة الذمي ولا يقضي بكونه عبداً للمسلم، لأن شهادة المسلم قامت على إثبات الملك والرق على العبد المسلم. وشهادة الذمي قامت على إثبات العتق للعبد المسلم فالعتق مما ينتفع به المسلم، والرق يتضرر به. وشهادة أهل الذمة مقبولة فيما ينتفع به المسلم إنما لا يقبل فيما يتضرر به المسلم والله أعلم. نوع آخر في وقف الولاء رجل اشترى عبداً من رجل ثم إن المشتري شهد أن البائع كان أعتقه قبل أن يبيعه، فالعبد حر وولاؤه موقوف إذا كان البائع يجحد ذلك؛ لأن المشتري يقر بالولاء لبائعه وبائعه تبرأ منه، فإن صدق البائع المشتري بعد ذلك لزمه الولاء ورد الثمن على المشتري، وهذا ظاهر. وكذلك إن صدق المشتري ورثة البائع بعد موت البائع، فهذا وما لو صدق البائع المشتري ورثه البائع في حياته سواء. وهذا استحسان، والقياس أن لا يعتبر تصديقهم في الإقرار بالولاء، لأنهم يلزمون الميت ولاء ليس لهم من الولاية، وفي حق رد الثمن يعتبر تصديقهم لأن رد الثمن يجب من التركة، والتركة حقهم. ولكن استحسن واعتبر تصديقهم في جميع ذلك لأنهم قائمون مقام الموروث فكان تصديقهم كتصديق المورث. وإن أقر المشتري أن البائع قد كان دبره فهو موقوف، فإن مات البائع بعد ذلك عتق العبد؛ لأن المشتري مالكه ظاهراً أو قد أقر أن عتقه معلق بموت البائع ويكون ولاؤه موقوفاً، فإن صدق ورثة البائع المشتري، يعتبر تصديقهم في حق لزوم الولاء للبائع، وفي حق رد الثمن استحساناً على نحو ما بينا في العتق.

عبد بين رجلين شهد كل واحد منهما على صاحبه بالعتق، فالعبد يخرج إلى الحرية بالسعادية ويسعى لها موسرين كانا أو معسرين، أو كان أحدهما معسراً والآخر موسراً أو يكون الولاء بينهما لأن العبد عتق عليهما فيكون الولاء بينهما، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قولهما العبد حر وولاؤه موقوف بينهما؛ لأن كل واحد منهما يعد أن العبد كله عتق على صاحبه، وجميع الولاء له، وصاحبه ينكر. أمة بين رجلين شهد كل واحد منهما أنها ولدت من صاحبه، وصاحبه ينكر فإن الجارية تكون أم ولد له موقوفة لأنهما تصادقا على كونها أم ولد، فإن في زعم كل واحد منهما أن نصيبه من الجارية صار لصاحبه وصارت أم ولد له وهذا أقر عليه، وزعم كل إثبات فيما عليه معتبر وتكون موقوفة لأن كل واحد منهما يقر لصاحبه، وصاحبه يتبرأ عنها فتكون موقوفة إلى أن يموت أحدهما، فإذا مات أحدهما عتقت ويكون ولاؤها موقوفاً بلا خلاف. وإذا كانت أمة لرجل معروفة أنها له فولدت عند غيره ولداً فقال رب الأمة للمستولد: بعتكها بألف درهم، وقال المستولد: لا بل زوجتنيها بمائة فإن الجارية تصير أم ولد موقوفة لأن المولى يقول: بعتها من المستولد والمستولد استولد ملك نفسه فيثبت لها حق العتق والمستولد يقول: ما اشتريتها وهي ملك المولى وقد أقر لها المولى بحق الحرية ونفذ إقراره فقد تصادقا على ثبوت حق الحرية لها فصارت بمنزلة أم الولد وتكون موقوفة لا يستخدمها أحد ولا يطؤها ولا يبيعها (357ب1) لأن أب الولد تبرأ عنها بإنكارها الشراء، والمولى تبرأ عنها بادعائه البيع على المستولد، والولد حر لأنهما اتفقا على حريته، فإن مات المستولد عتقت الجارية، لأن مولاها قد أقر بعتقها عند موت المستولد، والمستولد إن كان مقراً تبعاً وإقراره فقد تصادقا على عتقها عند موت المستولد وولاؤها موقوف لأب كل واحد منهما يبيعه عن نفسه ويأخذ البائع العقر من أب الولد قصاصاً بالثمن؛ لأنهما تصادقا على وجوب هذا المقدار. وإذا أقر الرجل أن أباه أعتق عبده في مرضه أو صحته ولا وارث له غيره فولاؤه موقوف في القياس ولا يصدق على الأب؛ لأن الولاء بمنزلة النسب، ثم النسب لا يثبت من الميت بإقرار أحد الورثة، فكذا الولاء، في الاستحسان الولاء يكون للابن فلا يكون موقوفاً لأنه لا يخلو، إما أن كان الابن صادقاً فيما قال، أو كان كاذباً، إن كان صادقاً كان الولاء له لأن ما كان له ابن تصير له بعد موت الأب، وإن كان كاذباً يعتبر هذا إنشاء عتق في حق العبد ويكون ولاؤه له فكيف مادله من.... يكون ولاؤه له، حتى لو مات العبد فإن الابن يرثه. ولم يذكر محمد رحمه الله في كتاب الولاء أن عاقلة الأب هل تعقل عنه ومشايخنا رحمهم الله فصار الجواب فيه تفصيلاً فقالوا: إن كان عصبة الابن وعصبة الأب واحداً

بأن أعتقها رجل واحد وقوفهما من حي واحد كان عقله على عاقلة ابنه لأنه يملك إلزام العقل عليهم بإنشاء العتق، فإنه لو أعتق عبداً كان عقل معتقه عليهم فيملك ذلك بالإقرار أيضاً، فأما إذا كان عصبة الابن غير عصبة الأب بأن أعتق الأب رجل وأعتق الابن رجل آخر لا يكون عقله على عاقلة الأب لأنه لا يملك إلزام الولاء عليهم بإنشاء العتق فلا يملك بالإقرار أيضاً فيكون العقل موقوفاً، فصار الجواب في حق العقل على التفصيل في الميراث لا يفصل بل الميراث للابن على كل حال هذا إذا لم يكن مع الابن مقر وارث آخر. فأما إذا كان معه وارث آخر وقد كذبه في هذا الإقرار كان للمكذب أن يستسعي العبد في حصته، لأن إقرار أحدهما يعتق ابنه كإقراره يعتق صاحبه، ولو أقر أن صاحبه أعتق العبد وصاحبه ينكر فالعبد يسعى للمنكر والعبد يسعى للمشهود عليه بلا خلاف، فإنما الخلاف في حق الشاهد، وهنا المكذب مشهود عليه ويسعى في حصته ثم عند أبي حنيفة رحمه الله. ولأهل النصف الذي هو حصة المستسعى للمستسعي لأنه يدعيه عنه ويزعم أنه عتق على ملكه بأداء السعاية وولاء النصف الذي هو حصة المقر للميت، كما لو كان الكل له وأقر أن الأب أقر، وعندهما ولاء النصف الذي هو حصة المقر للميت وولاء النصف الذي هو حصة المستسعى موقوف؛ لأن عندهما العتق لا يتجزأ فقد زعم المستسعي أن كل العبد عتق على المقر بإقراره والولاء للمقر والمقر..... عنه فيكون موقوفاً على قولهما لهذا. فإن قيل: على قولهما لما أقر المستسعي بولاء نصيبه لصاحبه وصاحبه مقر بأن الولاء للميت ينبغي أن يثبت كل الولاء من الميت ولا يكون نصيب المستسعي موقوفاً. قلنا: لو أثبتنا كل الولاء من الميت فقد حكمنا أن كله عتق من جهة الميت وذلك يسقط حق المستسعي في السعاية فلإبقاء حقه في السعاية جعلنا هذا النصف موقوفاً، وفي موضع قلنا: يتوقف الولاء إذا مات المعتق فميراثه يوضع في بيت المال؛ لأن هذا مال له مستحق إلا أنه غير معلوم، وكل مال هذا حاله يوضع في بيت المال إلى أن يظهر له مستحقه كاللقطة وعقله على نفسه لا يعقل منه بيت المال، لأن بيت المال ليس عاقلة؛ لأنه لا يرث منه، وهذا لأن بيت المال إنما يرث إذا لم يكن الميت مولى أحد، وقد تيقنا أن هذا الميت مولى أحد، وإذا لم يرثه بيت المال لا يعقل عنه أيضاً. نوع آخر في (رجل) أعتق عبداً ذميااً أو مسلماً فولاء العبد له، فإن مات المعتق إن مات على الكفر فميراثه للذمي المعتق لأن الذمي يرث من الذمي بالنسب، فكذا بالولاء الذي هو لحمة كلحمة النسب، وسواء كان المعتق يهودياً والمعتق كذلك أو كان أحدهما يهودياً والآخر نصرانياً أو مجوسياً وإن كان المعتق مسلماً أو كان كافراً إلا أنه أسلم ثم مات

فميراثه لبيت المال، وهذا إذا لم يكن للذمي المعتق عصبة من المسلمين. قال: وعقله على نفسه لأنه تعذر إيجابه على بيت المال لأن بيت المال ليس عاقلة مولاه فلا يكون عاقلته، وتعذر إيجابه على المعتق وعاقلته؛ لأن العقل إنما يكون بالتناصر والتناصر في غير العرق إنما يكون باتفاق المسألة، فيتعين أن يكون عليه، وإن كان للذمي المعتق عصبة من المسلمين كان ميراث المعتق له. نصراني من بني تغلب أعتق عبداً مسلماً له ثم مات العبد ميراث العبد لأقرب العصبات إلى المعتق من المسلمين وعقله على مسألة المعتق وإن كان المعتق كافراً. فرق بين هذا وبينما إذا كان المعتق رجلاً من الموالي وهو كافر والعبد مسلم كان عقل العبد على نفسه. والفرق: أن العقل إنما يجب بالتناصر إلا أن التناصر فيما بين العرب بالقبيلة لا باتفاق المسألة، والمعتق بالإعتاق صار من قبيلة المعتق؛ لأن الولاء بمنزلة النسب فصار المعتق ناصراً له باعتبار القبيلة فيصير عاقلة له، ويصير عاقلة المعتق عاقلة له أيضاً فأمكن إيجاب العقل على عاقلته. وفيما أمكن إيجاب العقل على العاقلة لا يجب على الجاني فأما التناصر فيما بين غير العرب باتفاق المسألة لا بالقبيلة.u هكذا جرت العادة فيما بينهم، فإذا لم يكن بين المعتق والمعتق اتفاق المسألة لا يصير المعتق ناصراً له فلا يصير عاقلة له فلا يصير عاقلة المعتق عاقلة أيضاً؛ لأن عاقلة المعتق إنما تصير عاقلة للمعتق بواسطة المعتق، فتعذر العقل على العاقلة فيجب في مال الجاني وكل معتق يجزىء عليه الرق بعد العتق، فإن الولاء للأول فبطل وكان حكم الولاء للعتق الذي نجد من بعده وهذا لأن بالاسترقاق يتقدم نسب الولاء وهو العتق والمالكية ولا بقاء للحكم بعد بطلان السبب. ولو أن رجلاً من أهل الحرب خرج إلى دار الإسلام بأمان فاشترى عبداً في دار الإسلام وأعتقه صح إعتاقه وثبت له الولاء، فإن رجع المولى إلى دار الحرب، وأُسر وجرى عليه السبي فإنه يكون عبداً. وولاء المعتق على حاله لأن ولاءه ثبت بسبب عتقه، وإنه باق بعد شيء. فإن قيل أليس إن المعتق من اشترط أن يكون أهلاً للولاء فكان أن يبطل الولاء لا يخرج (358أ1) من أن يكون أهلاً للولاء لأن الولاء بمنزلة النسب، والعبد من ثبات النسب والولاء بعد الثبوت يلحق بالنسب والعبد أهل لذلك، فإن مات المعتق فإن ميراثه لبيت المال وعقد على نفسه وقد مر نظير هذا فيما تقدم. حربي اشترى عبداً في دار الإسلام وأعتقه ثم رجع إلى دار الحرب وسبي ثم اشتراه ذلك العبد المعتق واعتقه فولاء، كل واحد منهما لصاحبه لأنه وجد من كل واحد منهما اكتساب نسبة الولاء وهو الاعتاق، ولا منافاة بين الولاءين، ألا ترى أنه يجوز مثل هذا في النسب حتى إن الأخوين ينسب كل واحد منهما إلى صاحبه بالأخوة، فكذا في الولاء لما بينا أن الولاء بمنزلة النسب والله أعلم.

الفصل الثاني في ولاء الموالاة

الفصل الثاني في ولاء الموالاة تفسير ولاء الموالاة أن يسلم الرجل على يدي رجل فيقول للذي أسلم على يديه أو لغيره واليتك على أني إن مت فميراثي لك وإن جنيت فعقلي عليك وعلى عاقلتك وقبل الآخر منه فهذا هو نفس ولاء الموالاة، وإذا جنى الأسفل جناية فعقله على عقلة المولى الأعلى. وإن مات الأسفل يرثه الأعلى، وإن مات الأعلى لا يرث الأسفل منه ولا تثبت هذه الأحكام بمجرد الإسلام بدون عقد الموالاة إلا على قول الروافض. ومولى الموالاة مؤخر عن العصبات وعن ذوي الأرحام بخلاف مولى العتاقة، فإنه مقدم على ذوي الأرحام، والقياس أن يكون مولى العتاقة مؤخر عن ذوي الأرحام، كما هو مذهب علي رضي الله عنه لأن المعتق بمنزلة الغريب وبمنزلة الأجنبي من وجه من حيث إنه أحياه حكماً لا حقيقة، وذو الأرحام قريب له من كل وجه فينبغي أن يكون القريب من كل وجه مقدم، لكن تركنا القياس في مولى العتاق بالنص؛ والنص الوارد في مولى العتاقة لا يكون وارداً في مولى الموالاة؛ لأن مولى الموالاة دون مولى العتاقة لأنه وجد من مولى العتاقة واجباً من حيث الحكم إن لم يوجد من حيث الحقيقة ولم يوجد من الذي قبل عقد الولاء الإحياء أصلاً، ولأن ولاء العتاقة لا يحتمل الفسخ، وولاء الموالاة يحتمل الفسخ. وإذا مات الأسفل والأعلى ميت فميراث الأسفل لأقرب الناس عصبة إلى الأعلى، كما في ولاء العتاقة ولكل واحد منهما أن ينقض عقد الموالاة بمحضر صاحبه وليس له ذلك بغير محضر من صاحبه وإنما كان كذلك لأن فسخ أحدهما هذا العقد بغير محضر من صاحبه يؤدي إلى الضرر لصاحبه، أما إذا كان الفسخ من الأسفل فلأنه ربما يموت الأسفل فيجب الأعلى أن ماله صار ميراثاً له فيتصرف فيه فيصير مضموناً عليه، وأما إذا كان الفسخ من الأعلى فلأنه ربما يعتق عبيداً على حياته عقل عبيده على مولاه. ولو صح الفسخ يجب العقل عليه فينصرف لأجل هذا العبد المعنى. شرط أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله في المشروط له الخيار حضرة صاحبه لصحة الفسخ. وأبو يوسف فرق بين مسألتنا وبين المشروط له الخيار فإن في المشروط له الخيار لم يشترط حضرة صاحبه لصحة الفسخ. وهاهنا شرط حضرة صاحبه لصحة الفسخ، والفرق له أن المشروط له الخيار بحكم الخيار صار متسلطاً من جهة صاحبه على الفسخ فما يلحقه من الضرر يصير راضياً. وهاهنا لم يوجد من كل واحد منهما تسليط لصاحبه على الفسخ إذ الموجود ليس إلا عقد الموالاة، والعقد يمنع الفسخ فكيف يوجب التسليط على الفسخ، وإذا لم يصر على كل واحد منهما مسلطاً على الفسخ من جهة صاحبه فما يلحقه من الضرر لسبب فسخ صاحبه لا يكون راضياً به، فلهذا افترقا.

وللمولى الأعلى أن ينقض عقد الموالاة وليس له أن يتحول بالولاء إلى غيره فإنه لو قال: جعلت ولائي لفلان يصير له بجعله وللأسفل أن يتحول بالولاء إلى غيره كما له أن ينقض الولاء قصداً، فإن له أن يوالي مع آخر وينقض العقد مع الأول إذا والى مع آخر غير أن النقض من الأسفل إن وجد مقصوداً يشترط لصحته حضرة الأعلى، وإن والى مع غيره ينتقض الأول، وإن كانت الموالاة مع غيره يعينه الأعلى، وإنما يكون للأسفل أن يتحول بالولاء إلى غير المولى الأعلى إذا لم يعقل عنه المولى الأعلى، أما إذا عقل عنه المولى الأعلى فلا. وهذا لأن الموالاة عقد تبرع فكان بمنزلة الهبة وللواهب الرجوع قبل حصول العوض لا بعد حصول العوض، وقبل العقل لم يحصل العوض وبعد العقل حصل العوض فلا يجوز بيع ولاء الموالاة الأسفل والأعلى في ذلك على السواء غير أن البيع إذا كان من الأعلى لا يكون بيعه بيعاً للولاء إذا كان بغير محضير من صاحبه، وإذا كان البيع من الأسفل يجعل بيعه نقضاً للولاء، وإن كان بغير محضر من صاحبه. والفرق أن المولى الأعلى لا يملك تحويل ماله من الولاء إلى غيره، وإنما إليه فسخه ونقضه، فإذا باع يجعل البيع منه عبارة عما يملك وهو الفسخ مقصوداً إلا أنه لو فسخ نصاً إن كان بمحضر من الأسفل يجوز. وإن لم يكن بمحضر منه لا يجوز، فكذا هاهنا. فأما المولى الأسفل كما يملك نقض الولاء قصداً يملك النقض حكماً لتحويله إلى غيره فيجعل البيع عبارة عن التحويل إلى غيره كيلاً يلغو، فلهذا افترقا. نوع آخر من هذا الفصل إذا أسلم الرجل على يدي رجل وعاقده عقد الولاء ثم ولد له ابن من أمة أسلمت على يدي آخر ووالت فولاء الولد لمولى الأب؛ لأن الولد في جانب الأب وهو يساوي الولاء الذي في جانب الأم، والأب هو الأصل في الولاء فيترجح جانبه كما في ولاء العتق، وكذلك إن كانت أسلمت ووالت وهي حبلى ثم ولدت بعد ذلك فإن ولاء الولد لمولى الأب، وهذا بخلاف ولاء العتاقة فإنها إذا عتقت وهي حبلى فإن ولاء الولد يكون لمولى الأم، والفرق أن في العتق يصير الجنين مقصوداً بالإعتاق وبالولاء. فإنه محل لإضافة العتق إليه وبعد ما صار مقصوداً بالولاء لا يمكن أن يجعل تابعاً في الولاء لغيره إلا بعد فسخ ما ثبت له، وفسخ ذلك متعذر. أما هاهنا لا يثبت للجنين ولاء بنفسه، وإن كان موجوداً في البطن؛ لأنه ليس بمحل العقل بالموالاة عليه، فإن تمام عقد الموالاة بالإيجاب والعتق والقبول وليس لأحد ولاية الإيجاب والقبول على الجنين فكان تابعاً في الولاء فالأب أولى. ولو كان لهما أولاد صغار ولدوا قبل الإسلام فأسلم الأب على يدي رجل ووالاه ثم أسلمت المرأة على يدي رجل آخر ووالته فإن ولاء الأولاد لمولى الأب بالإجماع؛ لأن الأب حين عقد الولاء على نفسه فقد عقده على ولده الصغير تبعاً له وله ولاية مباشرة

العقد على ولده الصغير فينفذ عقده على الصغير. (358ب1) وصار الصغير مولى لموالي الأب بطريق التبعية، فإذا أسلمت الأم بعد ذلك ووالت رجلاً آخر يبقى ولاء الأولاد كذلك. أما عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله فلأنه ليس للأم ولاية عقد الولاء على الولد الصغير لما يأتي بيانه بعد إن شاء الله تعالى فصار وجود هذا العقد من الأم في حق الولد والعدم بمنزلة، وأما على قول أبي حنيفة فلأن الأم إن كانت تملك عقد الولاء على الولد الصغير إلا أن الولد إذا كان ثابتاً للصغير بعقد الأم أولاً بأن أسلمت الأم أولاً ووالت رجلاً يتخذ ولاؤه إلى الأب إذا أسلم بعد ذلك ووالى رجلاً آخر فإذا كان ولاء الولد ثابتاً من الأب أولاً؛ لأن لا يثبت ولاؤه لموالي الأم أولى. قال: وإذا أسلمت امرأة من أهل الذمة على يدي رجل ولها ولد صغير ووالته، فإن ولاءها وولاء ولدها لمولاها عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما ولاؤها لمولاها، أما ولاء ولدها ليس لمولاها، فمن مشايخنا رحمهم الله من قال: هذه فرع مسألة ولاية الإنكاح، فإن عند أبي حنيفة: للأم أن تنكح ولدها الصغير، فكذا أن يكون لها أن يقول عليه عقد الولاء، وعندهما ليس للأم أن تنكح ولدها الصغير، فكذا لا يكون لها أن تعقد عليه عقد الولاء وهذا القائل يقول يجب أن يكون (عند) أبي يوسف رحمه الله في هذه المسألة قول أول، وقول آخر ويكون قوله الآخر مع أبي حنيفة رحمه الله كما في مسألة النكاح، وإلى هذا القول مال شيخ الإسلام رحمه الله ومنهم من قال هذه المسألة مبتدأة وإلى هذا القول مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، فأبو حنيفة رحمه الله قاس ولاء الموالاة على ولاء العتاقة وولاء العتاقة يثبت للولد من جهة الأم إذا لم يكن له ولاء من جهة الأب، وهما يقولان: عقد الموالاة عقد تردد بين الضرر والنفع وليس للأم ولاية مباشرة مثل هذا العقد على الولد الصغير وإذا أسلم وليس للأم ولاية مباشرة مثل هذا العقد على الولد الصغير. وإذا أسلم الرجل على يدي رجل ووالاه، وله ابن كبير أسلم الابن على يدي رجل آخر ووالاه أيضاً فولاء كل لا يحل واحد منهما للذي والاه، لأن كل واحد منهما مقصود بالكتاب بسبب الولاء فهو كاذب، وإن أعتق الأب رجل وأعتق الابن رجل آخر، فإن أسلم الابن ولم يوال أحداً فولاؤه موقوف ولا يكون مولى لمولى الأب، ولا يكون عقد الأب على نفسه عقداً على الابن، بخلاف ما إذاكان الابن صغيراً، والفرق أن الابن الصغير تابع الأب فأمكن أن يجعل عقد الأب عقداً عليه بطريق التبعية ولا كذلك الابن الكبير. ولو أن رجلاً أسلم على يدي صبي ووالاه لم يجز، وكذلك الصبية، وكذلك إذا والى عبداً لم يجز. فإن كان الأب قد أذن للصبي بذلك، أو كان المولى أذن للعبد بذلك جاز، إلا أن في فصل الصبي يصير مولى للصبي. وفي فصل العبد يصير مولى لمولاه لا للعبد؛ لأن العبد ليس من أهل أن يثبت له الولاء لأن حكم الولاء الإرث والعقل، والعبد ليس من أهل ذلك، وإذا لم يكن العبد من أهل الولاء لأقرب الناس إليه وهو مولاه،

بخلاف الصبي لأن الصبي من أهل أن يثبت له الولاء لأنه من أهل حكمه. ألا ترى كيف ثبت له (ولاء) العتاقة فكذا ولاء الموالاة والله أعلم. نوع آخر من هذا الفصل حربي دخل دار الإسلام بأمان وأسلم على يدي رجل ووالاه ثم دخل أبوه بأمان وأسلم على يدي رجل ووالاه فإن ولاء كل واحد منهما للذي والاه ولا يجر الأب ولاء الولد إلى نفسه. فرق بين هذا وبينما إذا دخل حربي دار الإسلام بأمان وأسلم ووالى رجلاً ثم أسر ابن هذا الحربي الذي أسلم وأعتق فإنه يجر ولاء الولد إلى نفسه حتى كان ولاء الولد لمعتق الأب وفي الموضعين جميعاً يثبت للولد ولاء نفسه، والوجه في ذلك أنه متى ثبت للولد ولاء نفسه لا يمكن أن يجعل تابعاً لغيره في الولاء إلا بعد فسخ ما ثبت للولد من الولاء وفسخ ما ثبت للولد من ولاء الموالاة ليصير تابعاً للأب في ولاء العتاقة مقيد لأن ولاء العتاقة فوق ولاء الموالاة. ألا ترى أن ولاء الموالاة يحتمل الفسخ وولاء العتاقة لا يحتمل الفسخ فقلنا كذلك تحصيلا لزيادة الفائدة، أما فسخ ما ثبت من ولاء الموالاة للولد ليصير تبعاً للأب في ولاء الموالاة لا يفيد، لأنه لا يثبت للولد إلا ما كان ثابتاً له وما لا يفيد لا يشتغل به. وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبين المرأة الذمية إذا أسلمت ووالت رجلاً، ولها ولد صغير ثم إن الأب أسلم بعد ذلك ووالى رجلاً، فإنهُ يصير ولاءُ الولد لمولى الأب، لأن هناك لا حاجة إلى فسخ ما ثبت للولد من الولاء؛ لأن الولد دخل الولاء تبعاً للأم، إنما حاجة إلى نقل ما ثبت لهُ تبعاً للأم إلى الأب، وولاء الموالاة قابلٌ للتحويل. أما ههنا الولد دخل في الولاء مقصوداً فالحاجة إلى فسخ ما ثبت لهُ موالاة ولا فائدة فيه فلا يشتغل به. وإذا أسلم حربي في دار الحرب على يدي رجلٍ مسلم ووالاهُ هناك أو ولاهُ في دار الإسلام فهو موالاة. فإن سبي ابنهُ وأعتق لم يجز ولاء الأب إلى نفسهِ، وإن سبي أبوه وأعتق جر ولاء الابن إلى نفسهِ، ولو أن رجلاً من أهل الذمة أعتق عبداً ثم إن الذمي نقض العهد ولحق بدار الحرب فأخذ اسيراً فصار عبد الرجل وأراد معتقه أنه يوالي رجلاً لم يكن له ذلك لأنه مولى عتاقة وليس لمولى العتاقة أن يوالي أحداً فإن أعتق مولاه يوماً من الدهر، فإنه يريد إن مات لأنه مولاه إلا أنه كان لا يرث بسبب الرق والكفر، وإذا زالا ورث. وإن جنى جناية بعد ذلك عقل عن نفسه ولا يعقل عنه مولاه هكذا ذكر في عامة الروايات، وفي بعض الروايات قال: يرثه ويعقل عنه وهو الصحيح؛ لأنه زال المانع عن العقل والميراث جميعاً والله أعلم.

الفصل الثالث في الإقرار بالولاء

الفصل الثالث في الإقرار بالولاء إذا أقر الرجل أن مولى عتاقه لفلان بن فلان من فوقك وتحت وصدقه فلان في ذلك فإنه يصير مولى له يعقل عنه ويرثه. ألا ترى أنه لو أقر أنه ابن فلان أو أب فلان وصدقه فلان في ذلك ثبت النسب منه. هكذا إذا أقر بالولاء لأن الولاء بمعنى النسب، وكذا إذا أقر أنه مولى موالاة لفلان وصدقة فلان في ذلك وكان للمقر أولاد كبار كذبوا الأب فيما أقر، وقالوا: أبونا مولى فلان آخر فالأب مصدق على نفسه والأولاد مصدقون على أنفسهم؛ لأن الأولاد إذا كانوا كباراً فالأب لا يملك مباشرة عقد الولاء عليهم فلا يملك الإقرار به عليهم وبه فارق ما إذا كان الأولاد صغاراً. (359أ1) لأن الأب يملك مباشرة عقد الولاء عليهم إذا كانوا صغاراً فيملك الإقرار به عليهم، وإن كان له امرأة أب الأولاد فقالت: أنا مولاة عتاقة لفلان وقال الأب: أنا مولى عتاقة لفلان آخر، فإن كل واحد منهما يكون مصدقاً فيما أقربه ويكون ولاء الولد لموالي الأب. لأن الثابت بتصادقهما كالثابت عياناً ولو عاينا أن كل واحد منهما مولى عتاقة للذي أقر له أو حدث بينهما أولاد كان الأولاد موالي لموالي الأب. كذا هاهنا. ولو أن امرأة مولاة عتاقة معروفة لها زوج مولى عتاقة ولدت المرأة ولداً فقالت المرأة: ولدته بعد عتقي بخمسة أشهر وولاؤه لموالي وقال الزوج: ولدته بعد عتقك بستة أشهر وولاؤه لموالي فالقول قول الزوج لأن ولاء الولد ثبت من جانب الزوج ظاهراً لحدوث الولد حال حريتهما فالمرأة بدعواها تريد إبطال هذا الظاهر لأنها تقول: إنه كان موجوداً في البطن وصار مقصوداً بالعتق والولاء. وإذا كان الرجل من العرب له زوجة لا تعرف ولدت منه أولاد ثم ادعت أنها مولاة فلان اعتقها وصدقها فلان في ذلك فإنها مصدقة على نفسها ولا تصدق على ولدها، لأن الولد بماله من النسب مستغنى عن الولاء، واعتبار قولهما عليه باعتبار منفعة الولد، فإذا انعدمت المنفعة هاهنا لا يعتبر قولهما عليه، وإن كذبها فلان في العتق وقال: هي أمتي ما أعتقتها فهي أمته لأنها أقرت له بالرق ثم ادعت الحرية عليه وتصدق فيما أقرت ولا تصدق فيما ادعت ولا تصدق على الولد الموجود في البطن وقت الإقرار تعرف به إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار، وأما الولد الذي يحدث بعد ذلك فإنها تصدق عليه عند أبي يوسف رحمه الله حتى يحدث رقيقاً ولا تصدق عند محمد حتى يحدث حراً. امرأة في يديها ولد لا يعرف أبوه أقرت أنها معتقة فلان وصدقها فلان في ذلك لم تصدق على الابن عند محمد رحمه الله، وهو قول أبي يوسف رحمه الله أولاً. وعند أبي يوسف آخراً وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تصدق على الابن لأن عند أبي حنيفة رحمه الله

الأم تملك مباشرة عقد الولاء على الابن فيصح إقرارها به عليه، وعند محمد رحمه الله لا تملك مباشرة عقد الولاء على الابن فلا تملك الإقرار به عليه إنما فارق هذه المسألة المسألة المتقدمة على قول أبي حنيفة رحمه الله لأن موضوع هذه المسألة في أنه ليس للولد سبب معروف فلم يصير مستغنياً عن الولاء فاعتبر قولها عليه وموضوع المسألة المتقدمة في أن للولد أب معروف من العرب فصار مستغنياً بماله من النسب على الولاء فلم يعتبر قولها عند أبي حنيفة رحمه الله. وإذا أقر الرجل فقال: أنا مولى فلان وفلان قد أعتقاني فأقر به أحدهما وأنكر الآخر فهو بمنزلة عبد بين شريكين يعتقه أحدهما، وإذا قال: أنا مولى فلان أعتقني ثم قال: لا بل أنا مولى فلان الآخر أعتقني هو وادعياه جميعاً فهو مولى الأول، وإن قال اعتقني فلان أو فلان وادعى كل واحد منهما أنه هو المعتق لا يلزم العبد شيء لأنه لو لزمه إنما يلزمه بحكم إقراره لا بدعواهما وهذا الإقرار وقع باطلاً لأنه أقر للمجهول فإن أقر لأحدهما بعينه بعد ذلك ولغيرهما فهو جائز. ويصير مولى للمقر له لأن هذا الإقرار لما وقع باطلاً صار وجوده كعدمه فكان له أن يقر بعد ذلك لمن شاء. من مشايخنا من قال: ما ذكر في «الكتاب» أنه إذا أقر لغيرهما يجوز إقراره يجب أن يكون قولهما، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز إقراره لأن الإقرار بالولاء إقرار بالنسب ومن أقر بالنسب لإنسان ثم أقر بعد ذلك بالنسب لآخر لا يصح إقراره للثاني عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن لم يثبت النسب من الأول بأن كذبه الأول، فكذا إذا أقر بالولاء. ومنهم من قال: هذا قول الكل لأن الإقرار هاهنا وقع لمعلوم فلا يقع باطلاً لكونه واقعاً للمجهول، أما في تلك المسألة الإقرار وقع لمعلوم فلا يقع باطلاً. وإذا أقر الرجل أنه مولى امرأة أعتقته وقالت المرأة: لم أعتقك ولكن أسلمت على يدي وواليتني فهو مولاها؛ لأنهما اتفقا على ثبوت الولاء إلا أنهما اختلفا في سببه. والاختلاف في سبب ثبوت الحق لا يمنع ثبوت الحق على ما عرف في كتاب الإقرار، فإن أراد التحويل عنها إلى غيرها ففي قياس قول أبي حنيفة رحمه الله: ليس له ذلك. وعلى قياس قولهما له ذلك، وهذا بناء فادعى عندهما الثابت ولاء الموالاة وولاء الموالاه يقبل النقل والتحويل. وعند أبي حنيفة رحمه الله الثابت ولاء العتاقة وولاء العتاقة لا يقبل النقل والتحويل، فوجه قولهما أن الولاء هاهنا يثبت بتصديق المرأة فإنما يثبت بقدر ما وجد منهما من التصديق. ولأبي حنيفة رحمه الله أن المقر يعامل في إقراره كأن ما أقر به هو حق وفي زعمه أن عليه ولاء العتاقه. وإن أقر أنه أسلم على يديها ووالاها وقالت هي: بل أعتقتك فهو مولاها وله أن يتحول بالولاء إلى غيرها، لأن الثابت هاهنا ولاء الموالاه بلا خلاف، لأن الثابت عند تصديق المقر له مقدار ما أقر به المقر والمُقَر ولاء الموالاة وذلك لا يمنع التحول ما لم

الفصل الرابع في دعوى الولاء والخصومة واليمين فيه

يتأكد بالعقل. وإذا أقر له الرجل أن فلاناً أعتقه وأنكر فلان ذلك وقال: ما أعتقتك ولا أعرفك ثم إن المقر أقر أن فلاناً الآخر أعتقه فإنه لا يصح إقراره عند أبي حنيفة رحمه الله ولا يصير مولى للثاني، وعندهما يصح إقراره للثاني إذا صدقه الثاني في ذلك. أصل المسألة: إذا أقر بالنسب للإنسان وكذبه المقر له في إقراره وأقر به لإنسان آخر أو ادعى رجل على ولد رجل بعد موته أني أعتقت أباك. وصدقه الولد في ذلك ثبت الولاء له. ولو كان للميت أولاد كبار وصدقه بعض الأولاد فالذين صدقوه يكونون موالي له، وإن كان المدعي اثنين فصدق بعض الأولاد أحدهما وصدق الباقون الآخر فكل فريق منهم يكون مولى للذي صدقه. الفصل الرابع في دعوى الولاء والخصومة واليمين فيه وإذا ادعى رجل على رجل أني كنت عبداً له وأنه أعتقني وقال المدعى عليه: أنت عبدي كما كنت وما أعتقتك فالقول قول المولى، فإن أراد العبد أن يحلفه فله ذلك؛ لأن الدعوى هاهنا وقع في العتق والاستحلاف يجري في العتق بلا خلاف. وإن قال المدعى عليه: أنت حر الأصل وما كنت عبداً لي قط، وما أعتقتك وأراد استحلافه لا يستحلف عند أبي حنيفة رحمه الله لأن الاختلاف هاهنا في الولاء لا في العتق لأنهما تصادقا على العتق، والاستحلاف لا يجري في الولاء عند أبي حنيفة رحمه الله. وكذلك إذا ادعى على ورثة ميت حر مات وترك ابنة ومالاً أني كنت أعتقت الميت ولي نصف الميراث معك أيتها البنت فالبنت لا تستحلف على الولاء وتستحلف (359ب1) على المال بالله ما تعلمين لهذا في ميراث أبيك حقاً. وهو نظير ما لو ادعى رجل على الابنة أنه ابن الميت، وادعى الميراث (تستحلف) بالله ما تعلمين لهذا حقاً في ميراث أبيك وولاء الموالاة في هذا كولاء العتاقة لا تستحلف عليه عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما، فإن عاد المدعى عليه إلى تصديق المدعي بعد ما أنكر دعواه فهو مولاه ولا يكون إنكاره نقضاً للولاء لأن النقض تصرف في العقد بالرفع بعد الثبوت وإنكار أصل الشيء لا يكون تصرفاً فيه.f وإذا ادعى رجل من الموالي على عربي أنه مولاه أعتقه والعربي غائب ثم بدا للمدعي فادعى ذلك على آخر وأراد استحلافه لا يستحلف عند أبي حنيفة رحمه الله لوجهين: أحدهما: أن الدعوى على الآخر لم تصح لأنه أقر به للأول. والثاني: أن الدعوى وقعت في الولاء وهو لا يرى الاستحلاف في الولاء. ولو أقر المدعى عليه الثاني للمدعي فيما ادعاه لم يكن الولاء للمدعى عليه الثاني عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما الأمر موقوف إن قدم الغائب وصدق المدعي فيما

الفصل الخامس في المتفرقات

ادعاه لا يثبت الولاء من الثاني. وإن كذبه يثبت الولاء من الثاني. ولو أن رجلاً من الموالي قتل رجلاً خطأ، فجاء ورثة المقتول وادعوا على رجل من قبيلته أنه أعتق وأراد استحلافه، فإنه لا يمين عليه لا في حق المال ولا في حق الولاء، أما في حق الولاء فلا إشكال فيه عند أبي حنيفة رحمه الله، وأما في حق المال فلأن ورثة المقتول لا يدعون عليه شيئاً، لأن الدية تجب على عاقلة المعتق ولا يجب شيء منها على المعتق. ألا ترى أن محمداً رحمه الله ذكر في «الكتاب» أن المعتق إذا أقر بعد الجناية بالولاء كانت الدية على القاتل، ولو كان يجب شيء منها على المعتق فكان يجب بعضها عليه بإقراره قال: فإن أقر المعتق بذلك لم يصدق على العاقلة إذا جحدوا وكانت الدية على القاتل في ماله. فرق بين هذا وبينما إذا ادعوا الولاء قبل الجناية وأقر المدعى عليه بذلك، ثم جنى المولى جناية فإن الدية تجب على عاقلة المعتق، والعتق في الموضعين جميعاً يثبت بإقراره، والفرق أن العتق إنما يجب على عاقلة المعتق بالولاء والجناية، فيضاف الوجوب إلى آخر الأمرين وجوداً الولاء والولاء ثبت بإقراره، وإقراره ليس بحجة على غيره. وإذا كانت الدعوى قبل الجناية فآخر الأمرين وجوداً الجناية، والجناية تثبت معاينة لا بإقراره فتكون ثابتةً في حق العاقلة. وإن كان المقتول من الموالي فادعى رجل من العرب أنه أعتق المقتول قبل القتل وأنه وارثه لا وارث له غيره، وأراد استحلاف القاتل على ذلك، والقاتل مقر بالقتل منكر الولاء، فإنه يستحلف على المال بالله ما يعلم لهذا المدعي حقاً في دية فلان التي عليك؛ لأنه ادعى على القاتل شيئين: المال، والولاء لأن القاتل يجب عليه المال لأنه واحد من العاقلة عندنا والمال مما يجري فيه الاستحلاف فيستحلف على المال لهذا، بخلاف ما لو ادعى وارث المقتول على رجل أنه أعتق القاتل فإنه لا يستحلف في المال كما لا يستحلف في الولاء؛ لأن ورثة المقتول لا يدعون على المعتق شيئاً من المال على ما مر أما هاهنا بخلافه والله أعلم. الفصل الخامس في المتفرقات معتقة قوم تزوجت رجلاً وحدث بينهما أولاد، فهذا على وجوه: أما إن زوجت نفسها من عبد أو مكاتب رجل، وفي هذا الوجه ولاء الأولاد لموالى الأب فإن أعتق الأب جر ولاء الولد إلى مواليه، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم، وإن كانت عاقلة الأم قد عقلوا عن الولد ثم عتق الأب لا يرجعون على عاقلة الأب بذلك لأن الولاء وإن جر إلى الأب فإنما يجر في الحال، ولا يتبين أن حال ما عقل عنه عاقلة الأم لم تكن عاقلة الأم عاقلة له.

وأما إن زوجت نفسها من معتق قوم وفي هذا الوجه ولاء الولد لموالي الأب لأنه استوى الجنايتان في الولاء لأن في كل جانب ولاء عتاقة، والأب هو الأصل في الولاء فكان إثباته من جنب الأب ولاء، وقد مر هذا. وأما إن زوجت نفسها من عربي وفي هذا الوجه ولاء الولد لموالي الأب لأن الجنايتين لم تستويا لأن في جانب الأم شرف ولاء العتاقة وفي جانب الأب شرف نسب العرب فوق شرف نسب ولاء العتاقة حتى لا يكون مولى العتاقة كفواً للعربي، ولو استوى الجنايتان في الشرف كان إثبات الولاء أحق في جانب الأب وأولى فكيف لا يترجح جانب الأب. وأما إن زوجت نفسها من رجل أسلم من أهل الحرب ووالى رجلاً أو لم يوال، وفي هذا الوجه قال أبو حنيفة ومحمد رحمه الله: ولاء الولد يكون لموالي الأم. وقال أبو يوسف رحمه الله: إن كان للأب موالى فولاء الولد لموالي الأب، وإن لم يكن للأب موالي فولاء الولد للأب. وأما إن زوجت نفسها ممن له آباء في الإسلام، وفي هذا الوجه ولاء الولد لقوم الأب عند أبي حنيفة رحمه الله. لأن في المسألة المتقدمة: رجح جانب الأب عنده شرف حرية الأصل فلأن يترجح جانب الأب هاهنا وقد انضم إلى شرف حرية الأصل شرف إسلام الآباء أولى. وأما على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله فقد اختلف مشايخنا رحمهم الله. حكي عن الفقيه أبي بكر الأعمش وأبي القاسم الصفار رحمهما الله: أن ولاء الولد لمولى الأب على قولهما أيضاً، وغيرهما قالوا: الموالي لأم. رجل له أمة زوجها من عبد أخيه لأب وأم أو لأب ثم إن مولى الأمة أعتق الأمة فجاءت بعد ذلك بولد لستة أشهر من حين أعتقها كان ولاء هذا الولد لمعتق الأمة لأنه تعذر إثبات ولاء الولد من جهة الأب لأن الأب عبد، والعبد ليس من أهل الولاء، وإذا تعذر إثبات الولاء من جانب الأب أثبتناه من جانب الأم، كما في النسب متى تعذر إثباته من جانب الأب يثبت من جانب الأم كما في ولد الملاعنة فكذا في الولاء. فلو أن مولى مولى العبد بعد ذلك أعتق العبد وهو أخ معتق الأمة لأب وأم أو لأب ثم مات معتق العبد ولم يترك وارثاً عصبة سوى أخيه الذي أعتق الأم ثم مات الولد ولم يترك وارثاً فإن ميراث الولد يكون لمعتق الأب لأنه عصبة معتق العبد، وولاء الولد كان لمعتق العبد بسبب الحرية لأنه إنما كان الولاء لمعتق الأم لأن الأب كان عبداً، فحين أعتقه مولاه فقد جر ولاء ولده إلى نفسه فيكون الولاء لمعتق العبد فيكون لعصبة معتق العبد إذا كان معتق العبد بنتاً وعصبة أخوة لأب أو أم أو لأب وهو معتق الأم فيكون ميراث الولد لمعتق الأم بولاء لأب لا بولاء الأم هذا إذا جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً، فأما إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر فميراث الولد لمعتق لأم أيضاً لا بالولاء لأب ولكن لأنه معتق الولد لأنه جرى منه في الولد عتق مقصود تبين لما ولدت لأقل من ستة أشهر لأن هذه مدة لا يحدث في مثلها الحبل. تم بعون الله وحسن توفيقه، ويتلوه كتاب الأيمان والنذور. (360أ1) .

كتاب الأيمان والنذور

كتاب الأيمان والنذور هذا الكتاب مشتمل على (سبعة وعشرين) فصلاً: 1 * في بيان ركن اليمين وحكمها وشرط انعقادها ومحلها. 2 * في ألفاظ اليمين. 3 * في بيان أنواع اليمين وأحكامها. 4 * في اليمين إذا جعل لها غاية. 5 * في الأيمان التي يقع فيها التخيير والتي لا يقع فيها التخيير. 6 * في الرجل يحلف فينوي التخصيص. 7 * في الأيمان ما يقع على البعض وما يقع على الجماعة. 8 * في الشروط التي تحمل على معناها. 9 * في العطف على اليمين بعد سكوت الحالف. 10 * في الحلف على الأقوال. 11 * في الحلف على العقود. 12 * في الحلف على الأفعال. 13 * فيمن حلف على شيء فقال آخر عليّ مثل ذلك. 14 * في اليمين على الأفعال في المكان. 15 * في تعليق الأجزئة المختلفة بالشرط. 16 * في الحلف ما يقع على الملك القائم. 17 * فيما يفعله الرجل لغيره. 18 * في الرجل يحلف لا يفعل الشيء فيأمر به غيره. 19 * في الأيمان التي يكون فيها استثناء. 20 * في الأوقات.

21 * في الحلف يتغير عن حاله. 22 * في اليمين التي تكون على الحياة دون الموت. 23 * في الحنث ما يقع على الأبد وما يقع على الساعة. 24 * في الحلف على الباطن. 25 * في النذور. 26 * في المتفرقات.

(الفصل الأول) في بيان ركن اليمين، وحكمها، وشرط انعقادها، ومحلها

(الفصل الأول) في بيان ركن اليمين، وحكمها، وشرط انعقادها، ومحلها وركن اليمن بالله ذكر اسم الله تعالى مقروناً بالجزاء؛ لأن ركن الشيء ما يعقد به ذلك الشيء، واليمين يعقد بالقسم به والمقسم به اسم الله تعالى في ظاهر مذهب أصحابنا رضي الله عنهم بلا خلاف (و) في صفاته على الاختلاف (على) ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى. وحكم اليمين وضعاً وجوب البر والخير لما فيه من تعظيم اسم الله تعالى وحرمة الحنث لما فيه من هتك حرمة اسم الله تعالى، ثم الكفارة تجب عند الحنث خلفاً عن البر الواجب باليمين استدراكاً له. وشرط انقعادها تصور البر عند أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما، والإضافة إلى المستقبل بدون تصور البر لا يكفي لانعقادها، وعند أبي يوسف رحمه الله الإضافة إلى فعل في المستقبل بدون التصور كاف لانعقادها على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. ومحل اليمين خبر يحتمل الصدق لأن محل التصرف ما يقبل حكم التصرف. وحكم اليمين وجوب البر والوجوب يستدعي خبراً يتصور فيه البر حتى يحتمل الصدق. (الفصل الثاني) في ألفاظ اليمين وإنه أنواع الأول في الحلف بأسماء الله تعالى يجب أن تعلم بأن الحلف باسم من أسماء الله تعالى يمين، جميع أسامي الله في ذلك على السواء تعارف الناس الحلف به أو لم يتعارفوا، هو الظاهر من مذهب أصحابنا رحمهم الله، ومن أصحابنا من يقول كل اسم لا يسمى به غير الله كقوله: الله، الرحمن فهو يمين وما يسمى به غير الله كالحكيم والعالم فإن أراد به اليمين كان يميناً وإن لم يرد به اليمين لا يكون يميناً وكان.... يقول: إذا قال والرحمن إن أراد به اسم الله فهو يمين، وإن أراد به سورة الرحمن لا يكون يميناً، وهكذا ذكره الفقيه أبو الليث رحمه الله في «فتاويه» لأنه إذا أراد به سورة الرحمن فقد حلف بالقرآن، ولو قال: والقرآن لا يكون يميناً.

والصحيح ظاهر مذهب أصحابنا رحمهم الله؛ لأن اليمين باسم الله تعالى ثابت نصاً، قال الله تعالى: {يحلفون با لكم ليرضوكم} (التوبة: 62) وقال عليه السلام: «فمن كان منكم حالفاً فليحلف بالله أو ليذر» . وإذا كان اليمين باسم الله ثابتاً بالنص، كان اليمين بأسماء أخر ثابتاً بدلالة النص وما (ثبت) بالنص وبدلالة النص لا يراعى في العرف. ولو قال: بالله لأفعل كذا كسر الهاء في الله أو رفعه أو نصبه فهو يمين في «فتاوى النسفي» رحمه الله. ولو قال: الله يكون يميناً اتفق على هذا أهل اللغة والنحو وتأيد ذلك بالشرع، فإنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حلف ابن ركانة البنه الله ما أردت به إلا واحداً. إلا أن أهل اللغة اختلفوا في إعرابه فعند أهل البصرة إعرابه حذف حرف القسم النصب، وعند أهل الكوفة إعرابه الخفض. ولو قال: الله يكون يميناً، قال ابن عباس رضي الله عنهما: دخل آدم الجنة فالله ما غربت الشمس حتى خرج. ولو قال: بالله العظيم كي يدر كرين نام حداب كه افعل كذا، أو قال: لا أفعل كذا إنه يكون يميناً ويتعلق بالفعل فلا يصير قوله: يدركه يداني نام است فاصلاً، وكذلك إذا قال: يدركن أزن سوكن ثبتت، وسئل شمس الإسلام الأوزجندي عمن قال: بالله أكراني كاركنم، قال: اختيار أستاذي أنه لا يكون يميناً، ثم رجع وقال: يكون يميناً وفي «الأجناس» إذا قال: والله إن دخلت الدار، كان يميناً، ولو قال: والحق لا أفعل كذا فهو يمين لأن الحق من أسماء الله تعالى، قال الله تعالى: {ويعلمون أن اهو الحق المبين} . (النور: 25) . ولو قال: وحق الله لا أفعل كذا، لم يكن يميناً في قول أبي حنيفة ومحمد، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمهم الله. هكذا ذكر القدوري في «شرحه» وهو الصحيح؛ لأن الحق إذا ذكر غير مقرون بالألف واللام مضافاً إلى الله تعالى يراد به ما ثبت بحق الله على عباده في العبادات. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما حق الله تعالى على عباده. قال: «أن لا تشركوا به شيئاً وتعبدوه وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة» فقد فسر حق الله تعالى بما يستحقه الله على

عباده من العبادات فصار كأنه قال: والعبادات لا أفعل كذا لا يكون يميناً. ولو قال: وحقاً لا أفعل كذا لا يكون يميناً. وقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه بعضهم قالوا: يكون يميناً وبعضهم قالوا: لا يكون يميناً لأنه ذكره منكراً، وأسماء الله تعالى كلها معرفة، ومن له لا بدلالة التنكير إنه لم يرد به اسم الله تعالى وإنما أراد به تحقيق الوعد معناه أفعل هذا لا محالة. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وإذا قال وحرمة الله لا أفعل كذا فهذا نظير قوله: وحق الله لا أفعل كذا. وفي «فتاوى النسفي» إذا قال:..... شهد الله ولا إله إلا الله أن لا أفعل كذا في تعليل قوله والحق أنه يكون يميناً، ولو قال: بسم الله ذكر الصدر الشهيد في «واقعاته» اختلاف المشايخ فيه، قال رحمه الله: والمختار أنه لا يكون يميناً، وفي «القدوري» إذا قال: بسم الله فهو ليس بيمين إلا أن ينويه، وفي «المنتقى» رواية ابن رستم عن محمد رحمهما الله إنه يمين مطلقاً فيتأمل عند الفتوى. ولو قال الطالب الغالب (360ب1) بالاسم، وإن لم يتصل به تعارف الناس بقيت الجهتان على السواء وأحدها يوجب أن يكون يميناً، والأخرى توجب أن لا يكون يميناً فلا يكون يميناً بالاحتمال. إذا عرفنا هذه الجملة جئنا إلى تخريج المسألة إذا قال: ورحمة الله لا أفعل كذا لا يكون يميناً، وكذلك إذا قال: وغضب الله، أو قال: وعذاب الله لا يكون، أو قال: وسخط الله، أو قال: ورضا الله، أو قال: وثواب الله لا يكون يميناً، ولو قال: وقدرة الله يكون يميناً، ولو قال: وسلطان، ذكر في «القدوري» أنه إن أراد به القدرة كان يميناً، وإن أراد به المقدور لا يكون يميناً. نوع آخر إذا قال: ودين الله لا أفعل كذا فهذا ليس بيمين، وكذلك إذا قال: وطاعة الله، أو قال: وشرائعه، أو قال: وحدوده، أو قال: وعبادته أو قال: بأنبيائه، أو قال: وملائكته، أو عرش الله، أو قال: وبيت الله، أو قال: والكعبة، أو قال: بالصفا والمروة، أو قال: بالصلاة، أو قال: بالصيام، أو قال: بالقرآن، أو قال: بالمصحف أو سورة من القرآن، فليس ذلك بمين لأن الأصل هو الحلف بأسماء الله تعالى، والحلف بصفاته أطلق بالحلف بأسمائه بالشرط الذي ذكرنا، والحلف بهذه الأشياء الذي يحلف بالله ولا بصفاته فلهذا لا يكون يميناً فعلى هذا تخريج جنس هذه المسائل. نوع آخر إذا قال: هو يهودي أو نصراني أو مجوسي إن فعل كذا أو قال: هو بري من الله

تعالى، أو قال: هو بريء من الإسلام إن فعل كذا فهذا يمين عندنا، حتى لو فعل ذلك الفعل تلزمه الكفارة، به ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمعنى فيه أن هذا التعليق لو صح حقيقة حرم الدخول من حيث إنه صار تسبيباً للكفر بالتعليق، والكفر حرام فما يكون سبباً له يحرم، فإذا لم يبح التعليق من حيث الحقيقة يجعل كناية عن حكمه لو صح التعليق وهو حرم الدخول فصار قوله: هو يهودي إن دخل الدار نظير قوله دخول الدار علي حرام، ومن قال: دخول الدار علي حرام كان يميناً؛ لأنه حرم الحلال على نفسه، وتحريم الحلال يمين عندنا. قال الله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الك} . (التحريم: 1) قال بعض المفسرين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلّمحرم العسل على نفسه، وقال بعضهم: حرم مارية القبطية على نفسه، وكان ذلك يميناً بدليل قوله تعالى: {قد فرض الكم تحلة إيمانكم} (التحريم: 2) ولأن حرمة الحلال تسبب اليمين فالنص عليه يجعل كالتنصيص على السبب مجازاً، فكأنه قال: والله لا أفعل كذا. وفي «العيون» إنه إذا قال: هذا الرغيف حرام عليّ كان يميناً، وكذلك إذا قال: كلام فلان عليّ حرام كان يميناً، فعلى هذا إذا قال بالفارسية: حرام آنست ياتوسبي كغين كان يميناً. وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله إذا قال: كلام فلان وفلان عليَّ حرام فكلم أحدهما يحنث. ولو قال: هذا الخمر حرام عليَّ ثم شربها اختلف أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله فيما بينهما، قال أحدهما: فهو ليس بيمين ولا تلزمه الكفارة، وقال الآخر: هو يمين وتلزمه الكفارة قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : المختار للفتوى أنه إن أراد به التحريم تجب الكفارة وإن أراد به الإخبار أو لم يكن له نية لا تلزمه الكفارة. وإذا كان في يده دراهم فقال: هذه الدراهم حرام عليَّ ينظر، إن اشترى بها شيئاً يحنث في يمينه وإن وهبها أو تصدق بها لا يحنث في يمينه لأن تحريم الحلال وإن كان يميناً إلا أنه لا بد أن يشهد التحريم تحريم الهبة والصدقة، وإنما يراد به تحريم الشراء، كمن قال: كل حل عليَّ حرام لأنه أراد به تحريم كل حلال ولم ينصرف يميناً إلى كل حلال وإنما ينصرف إلى الطعام والشراب خاصة، حتى لو أكل طعاماً أو شرب شراباً حنث في يمينه. كذا ولو وطىء امرأته أو جاريته أو لبس ثوباً أو ركب دابة لا يحنث في يمينه، كذا هاهنا، وعن أبي يوسف رحمه الله في هذه المسألة أنه إذا أنفقها بوجه من الوجوه بأن اشترى بها شيئاً أو وهبها أو تصدق بها أو أعطاها في أجرة بيت، أو ما أشبه ذلك فعليه كفارة يمين، رواه بشر بن الوليد قال: والمخرج منه إن يجيء ذلك رجل من أهله فينفقها. وفي «البقالي» لو حرم طعاماً أو نحوه فهو يمين على تناول المعتاد أكلاً في المأكول ولبساً في الملبوس إلا أن يعني غيره. قال: وكذلك سائر التصرفات في الأشياء. قال: ولا يعتبر استيفاء من الطعام بالأكل. ولو قال: لا يحل لي أن أفعل كذا فإن نوى تحريمه عليه فهو يمين.

وفيه أيضاً إذا قال: الخنزير حرام فهو ليس بيمين إلا أن يقول حرام علي إن أكلته. وعلى فتاوى مسألة الخمر يجب أن يكون فيه خلافاً بين أبي حنيفة وأبي يوسف، وعلى ما اختاره الصدر الشهيد رحمهم الله في مسألة الخمر يجب أن تكون مسألة الخنزير كذلك. وفي «البقالي» أيضاً إذا قال: إن أكلت هذا الطعام فهو عليَّ حرام فهذا ليس بيمين حتى لو أكله لا تلزمه الكفارة، ولو قال: والله لا آكل هذا الطعام فإن أكلته فهو علي حرام، فأكل منه لزمه الكفارة. وفي «المنتقى» إذا قال لغيره: كل طعام أكلته في منزلك فهو علي حرام، وفي القياس: لا يحنث إذا أكله، وهكذا روى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله لانه حرمه بعدما أكله. وفي الاستحسان يحنث ويكون هذا على معاني كلام الناس والناس يريدون بهذا إن أكله حرام. وفي «الحيل» إن أكلت عندك طعاماً أبداً فهو علي حرام فأكل لم يحنث، ولو قال: هذا الثوب عليَّ حرام إن لبسته فلبسه ولم ينزعه حنث في يمينه. امرأة قالت لزوجها: أنت عليَّ حرام أو قالت: حرمتك على نفسي. فهذا يمين، حتى لو طاوعته في الجماع كان عليها الكفارة، وكذلك لو أكرهها على الجماع يلزمها الكفارة بخلاف ما إذا حلف لا يدخل دار فلان فأدخل، جئت إلى أصل المسألة وهو قوله يهودي أو نصراني إن فعل كذا إذاكان يميناً وفعل ذلك الفعل (361أ1) لا أفعل كذا فهو يمين وهو متعارف أهل بغداد، ولو قال: ووجه الله فهو يمين لأن الوجه يذكر ويراد به الذات قال الله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} . (القصص: 88) معناه: إلا هو. فروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنها ليست بيمين، وتأويله إذا قصد بذلك الجارحة، ولو قال: لعمر الله فهو يمين لأنه حلف ببقاء الله سبحانه وتعالى، ولو قال: أقسم أو أقسم بالله أو أشهد أو اشهد بالله أو أعزم أو أعزم بالله فهو يمين، ولو قال: عليَّ يمين أو يمين الله فهو يمين، أما إذا قال: عليَّ يمين الله، فلأن معناه عليَّ موجب يمين الله، وأما إذا قال: عليَّ يمين لأن اليمين بغير الله حرام، فكأنه قال: عليَّ يمين الله. وفي «المنتقى» إذا قال: علي يمين لا كفارة لها يريد به الإيجاب فعليه يمين لها كفارة. رواه عن أبي حنيفة رحمه الله. وفيه أيضاً عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ يمين وهو يريد أن يوجبها على نفسه ولم يقل: إن فعلت فليس عليه شيء، وكذلك إذا قال: لله على يمين غداً وهو مثل قوله: والله ولم يقل شيئاً، ولو قال: لله علي يمين إن جاء غد فهذا مثل قوله: إن فعلت، ولو قال: إن فعلت كذا فعلي يمين إن شاء فلان ففعل كل ذلك الفعل وشاء فلان لزمته كما قال، ولو قال: إن كلمت فلاناً فعلي من الأيمان ما شاء فلان، أو شاء الرجل من يلزمه من الأيمان ثلاثة أو أقل أو أكثر لم يلزمه ذلك ولا يشبه هذا تسمية الحالف الأيمان، وأشار إلى العرف فقال: إذا سمى الحالف الأيمان فقد جعلها على نفسه وجعل حنثه في مشيئة فلان، وإذا قال: فعلي من الأيمان ما شاء فلان فليس هذا حنثاً بمشيئة فلان، فهذا يمين له رجل، وقال الآخر: عليَّ من الأيمان ما شئت، فقال الآخر شئت يمينان وهناك لا تلزمه

ولو قال: عليَّ يمين إن شئت، فقال: قد شئت لزمه. هذا مثل قوله: عليَّ يمين إن كلمت فلاناً، وكذلك إذا قال: عليَّ عهد الله أو ميثاقه أو ذمته فهو يمين، وإذا قال: لله فتم يأخذاي كي إن جرية كه يو بيارى ني خورم فقد قيل إنه يكون يميناً إذا نوى اليمين، والأصح أنه يمين بدون النيّة، فإن قوله بدرفتم وعهد كردم سواء وذاك يمين فهذا كذلك، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرحه» أورد في غير رواية الأصول إذا قال: عليَّ يمين محلوفه وبغيره «سوكند خورده كه ابن كاد في كنم» فهو يمين. قال رحمه الله: وإذا قال: «سوكند خوردم» لا يكون يميناً، ولو قال: مي خودم، ولو قال: حرفي يكون؛ لأن الأول عِدَة، والثاني: إيجاب، ألا ترى أن قول الشاهد بين يدي القاضي كواني دهم لا تكون شهادة، وإذا قال: ني دهم يكون شهادة، وقيل «سوكند خورم» يمين أيضاً لأنه بغير قوله: أحلف وذلك يمين فكذا هذا، مذكور في «فتاوى النسفي» رحمه الله وكذلك إذا قال: «سوكند خوردم» يكون يميناً، ولو قال: «سوكند خورده أم» إن كان صادقاً كان يميناً، وإن كان كاذباً فلا شيء. وفي «الواقعات» في باب: السير إذا قال: «سوكند خوردام يحذاي» إن فعلت كذا فهو يمين لأن الناس تعارفوه يميناً، ولو قال: «ومن سوكند است كي ابن كاريكنم» فهو يمين وهو معنى قوله: عليَّ يمين، ولو قال: «مرا سوكند بطلاق است كي شراب تخورم» فشرب طلقت امرأته، وإن لم يكن حلف ولكن قال: قلت هذا لدفع تعرضهم لا بصدق قضاء وإذا قال: «مراسوكند خانه است كشراب نخورم» وشرب طلقت امرأته؛ لأن أوهام الناس تنصرف. ذكره في «فتاوى النسفي» ولم يشترط فيه نية المرأة، والشيخ الإمام الأجل ظهير الدين المرغيناني رحمه الله كان يشترط النية لوقوع الطلاق، والأصح أنه لا يشترط. وفي «فتاوى الأصل» إذا قال لامرأته: لا تخرجي من الدار بغير إذني فإني قد حلفت بالطلاق فخرجت بغير إذنه لا تطلق لأنه ما أضاف الطلاق إليها، وروي عن محمد رحمه الله إذا قال: آليت لا أفعل كذا فهو يمين لأن الألية هي اليمين فكأنه قال: أحلف، ولو قال: لا إله إلا الله أفعل كذا أو سبحان الله أفعل كذا فليس بيمين إلا أن ينويه والله أعلم. نوع آخر في الحلف به ذات الله تعالى قال مشايخ العراق رحمهم الله: إذا حلف بصفة من صفات الله تعالى فهو يمين، وإن حلف بصفة من صفات الفعل فليس بيمين، وجعلوا للتفاضل بين صفات الذات، وبين صفات الفعل علامة فقالوا: كل صفة يوصف الله تعالى بها وبضدها فهي من صفات الفعل كأوصاف الغضب والرحمة والسخط فهذه الصفات مما يوصف الله تعالى بها وبضدها كما يقال: الله تعالى يرحم المؤمنين ولا يرحم الكفار، ويرضى عن المتقين ويغضب عن المنافقين، وكل صفة يوصف الله تعالى حمداً ولا يوصف بضدها فهي من صفات الذات كالعظمة والعزة، قالوا: والقياس أن يكون قوله: وعلم الله يميناً لأن العلم من صفات الذات يوصف الله تعالى به ولا توصف (بضده) ، إلا أنا تركنا القياس فيه لأنه

كثير الاستعمال بهذا اللفظ فيما بين الناس للمعلوم يقول الرجل في دعائه: اللهم اغفر لنا علمك فينا أي معلومك، ويقال: علم أبي حنيفة رحمه الله فانصرف مطلق اللفظ إليه وصار كأنه قال: ومعلوم الله، ولو قال هكذا لا يكون يميناً، كذا هاهنا. ومشايخ ما وراء النهر رحمهم الله قالوا: إن حلف بصفة تعارف الناس الحلف بها فهو يمين، وإن حلف بصفة لم يتعارف الناس الحلف لا يكون يميناً، بهذا لأن الحلف بالله تعالى إنما عرف يميناً بالشرع والشرع جعل الحلف بالله تعالى يميناً إذا جعل الحلف باسم من أسماء الله تعالى؛ لأن الشرع ورد بالحلف بالله وإنه اسم من أسماء الله تعالى فأما الصفة بين الاسم وغيره على ما قيل صفات الله تعالى لا هو ولا غيره يكون يميناً فكان بين الاسم وغيره فإذا اتصل به تعارف الناس في الحلف به يترجح جانب الاسم فيصير ملحقاً بالاسم فيصير حالفاً (361ب1) حتى حنث ولزمه الكفارة هل يصير كافراً اختلف المشايخ فيه قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، والمختار للفتوى أنه إن كان عنده أنه يكذب حتى أتى بهذا الشرط ومع هذا أتى به يصير كافراً لرضاه بالكفر، وكفارته أن يقول: لا إله إلا الله، وإن كان عنده أنه أتى بالشرط لا يصير كافراً لأنه يكفر، لأن هذه الألفاظ صارت كناية عن اليمين بالله فكأنه قال: والله إن فعلت كذا، ولو قال: والله إن فعلت كذا وفعل لا يصير كافراً كذا هاهنا، وهذا إذا حلف بهذه الألفاظ على أمر في المستقبل. أما إذا حلف بهذه الألفاظ على أمر في الماضي بأن قال: يهودي أو نصراني أو مجوسي، إن كان فعل كذا أمس وهو يعلم أنه قد كان فعل لا شك أنه لا يلزمه الكفارة عندنا لأنه يمين غموس، وهل: يصير كافراً؟ اختلف المشايخ رحمهم الله فيه، بعضهم قالوا: يصير كافراً لأنه علق الكفر بما هو موجود والتعليق بما هو موجود للخبر فكأنه قال: هو يهودي. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والمختار للفتوى أنه إن كان عنده أن هذا يمين ولا يكفر متى حلف به لا يكفر، وإن كان عنده أنه يكفر متى حلف بذلك يكفر لرضاه بالكفر. وأما إذا قال: لعلم الله أنه فعل كذا وهو يعلم أنه لم يفعل، أو قال: بعلم الله أنه لم يفعل كذا وقد علم أنه فعل. اختلف المشايخ رحمهم الله فيه (عامتهم) أنه يصير كافراً لأنه وصف الله تعالى بما لا يجوز أن يوصف به لأنه وصف بكونه عالماً بوجود الفعل منه في الماضي ولم يوجد منه ذلك الفعل والعلم موجود..... من لم يوجد لا يكون فقد وصف الله تعالى بما لا يوصف به فيكون كفراً كما لو وصف بالجهل أو بالعجز. ولو قال: هو يأكل الميتة إن فعل كذا لا يكون يميناً. وكذلك إذا قال: هو مستحل الميتة أو يستحل الخمر أو الخنزير لا يكون يميناً، وكان يجب أن يكون يميناً لأن

استحلال الحرام كفر فقد علق الكفر بالشرط وتعليق الكفر بالشرط يمين، كما لو قال: هو يهودي إن دخل الدار قلت: استحلال هذه الأشياء ليس بكفر لا محالة، فإن في حالة الضرورة تصير هذه الأشياء حلالاً ولا يكون كفراً، أو إذا احتمل أن يكون استحلال هذه الأشياء كفراً كما في غير حال الضرورة فيكون يميناً، واحتمل أن لا يكون كفراً كما في حالة الضرورة فلا يكون يميناً لا يصير يميناً بالشرك بخلاف قوله: هو يهودي إن فعل كذا لأن اليهودي من أنكر رسالة محمد عليه السلام وإنكار رسالة محمد عليه السلام كفر على كل حال. والحاصل أن كل شيء هو حرام حرمة مؤبدة بحيث لا تسقط حرمته بحال من الأحوال كالكفر، وأشباهه فاستحلاله معلقاً بالشرط يكون يميناً، وكل شيء هو حرام بحيث تسقط حرمته بحال كالميته والدم والخمر وأشباه ذلك فاستحلاله معلقاً بالشرط لا يكون يميناً. ولو قال: إن فعلت كذا فاشهدوا عليَّ بالنصرانية فهو يمين. ذكره الفقيه أبو الليث رحمه الله في «فتاويه» لأن هذه بمنزلة قوله هو نصراني إن فعل كذا. وفي «مجموع النوازل» إذا قال: أنا شر من المجوسي إن فعلت كذا أزهر ارفع وتو تبرم إن فعلت كذا كان يميناً، وكذلك إذا قال: أنا شريك النصارى، أو قال: أنا شريك الكفار إن فعلت كذا كان يميناً، ولو قال «اكد من اين ذن نحوا ميم موامغ خوانيد وجمعود خوانيد، وسنك ساركنيد» ثم تزوجها لا يلزمه شيء لأنه أمرهم بالقتل والشتم وما وصف نفسه به. في «فتاوى النسفي» : ولو قال: «هرج مغان مغى كرده اندو جهودان جهودي كرده اند دركردن من كه من كاربكه دام» وقد كان فعل، وكذلك لا يلزمه شيء، ولو قال: «هرحه سلماني كردام وكافران دادام» إن فعلت كذا لا يكون يميناً، ولو قال: «سلماني نكرادم اكر فلان كاركتم» فهذا ليس بيمين لأنه لغو، إلا إذا عنى إذا ما صام وصلى لم يكن حقاً إن فعلت كذا أو إن ما عملت لم يكن حقاً، إن فعلت كذا فحينئذ يكون يميناً لأن هذا كفر وصار كما لو قال: هو كافر إن فعل كذا فعلى هذا القياس إذا قال بالفارسية: ما قال الله تعالى كذب إن دخلت الدار كان يميناً. في آخر الباب الأول من أيمان «الواقعات» : إذا قال بالفارسية: «هذا ميدى كه إذ خداى تعالى دادم يومئذم» إن فعلت كذا فهذا يمين لأن اليأس من الله تعالى كفر فهو بمنزلة قوله: هو كافر إن فعل، كذا في أيمان «النوازل» والله أعلم. نوع آخر إذا قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من الله تعالى فهو يمين لأن البراءه من الله تعالى كفر وتعليق الكفر بالشرط يمين، ولو قال: إن فعلت فأنا بريء من الله ورسوله فهو يمين واحدة، وإذا قال ذلك الفعل يكفيه كفارة واحدة، ولو قال: فأن بريء من الله وبريء من رسوله إن فعلت فقد لزمه كفارتان لأنهما يمينان. هكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله.

وفي «فتاوى أهل سمرقند» إذا قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من الله ورسوله والله ورسوله بريئان منه ففعل فعليه أربع كفارات؛ لأنهما أربعة أيمان قيل ما ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» ليس بصحيح، وإنما الصحيح ما ذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله لأنه لا بد وأن يقول: وبريء من رسوله حتى يتعدد اليمين. ولو قال: أنا بريء من الله إن كنت فعلت كذا أمس، وقد كان فعل وهو يعلم. اختلف المشايخ رحمهم الله فيه والمختار للفتوى ما ذكرنا في قوله: هو يهودي إن كنت فعلت كذا إنه إن كان في زعمه أن مثل هذا الحلف كفر يكفر، ولو قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من القرآن فهو يمين. ولو قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من المصحف فهذا ليس يمين بخلاف ما إذا قال: فأنا بريء مما في المصحف حتى يكون يميناً لأن الذي في المصحف القرآن. وصار كأنه قال: فأنا بريء من القرآن. ولو قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من كل آية في المصحف فهو يمين واحد. في «العيون» وكذلك إذا قال: «إن ستعد شبست أنه قرآن يزارام» فهو يمين واحدة، ولو قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من الكتب الأربعة فهو يمين واحدة، وكذلك إذا قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من القرآن والزبور والتوراة والإنجيل فحنث لزمه الكفارة واحدة لأنهما يمين (362أ1) واحدة. ولو قال: فأنا بريء من القرآن وبريء من الزبور وبريء من التوراة وبريء من الإنجيل فهو أربعة أيمان إذا حنث يلزمه أربع كفارات، ولو قال: إن كنت فعلت كذا أمس فأنا بريء من القرآن، وقد كان فعل وعلم به، فالجواب المختار فيه كالجواب فيما إذا قال: فهو بريء من الله تعالى. ولو دفع كتاب الفقه أو دفتر الحساب فيه مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم، وقال: أنا بريء مما فيه إن فعلت كذا فهذا يمين. إذا قال: «إن خداى تعالى بيزادم وأن لا إله إلا الله تزارم وان شهد الله تزارم» إن فعلت كذا ففعل فعليه ثلاث كفارات، إذا قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من صوم رمضان أو من الصلاة فهو يمين لأن البراءة عن هذه الأشياء كفر. ولو قال: أنا بريء الثلاثين يوماً يعني شهر رمضان إن فعلت كذا إن نوى البراءة عن فرضيتها يكون يميناً كما لو قال: أنا بريء منه الإيمان إن فعلت كذا وإن نوى البراءة عن آخرهما لا يكون يميناً لأنه غيب، وإن لم يكن له نية لا يكون يميناً في الحكم لمكان الشك، وفي الاحتياط يكون ولو قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من حجي التي حججت أو من صلاتي التي صليت فهذا لا يكون يميناً بخلاف ما إذا قال: إن فعلت كذا بريء من القرآن الذي تعلمت حيث يكون يميناً. والفرق: أن في المسألة الأولى تبرأ عن فعله الذي فعل لا عن الحجة المشروعة والصلاة المشروعة والتبرؤ عن فعله لا يكون كفراً، أما في المسألة الثانية: تبرأ عن القرآن الذي تعلمه والقرآن قرآن قبل أن يعلمه فيكون التبرؤ منه كفراً حتى إن في المسألة الأولى لو قال: أنا بريء من الحجة، أو قال: من الصلاة كان يميناً، ولو قال: إن فعلت كذا فأنا

بريء من القبلة ذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله أنه يمين. وذكر في «فتاوى أهل سمرقند» أنه ليس بيمين والصحيح أنه يمين لأن البراءة عن القبلة كفر. ولو قال أنا بريء المغلظة إن فعلت كذا ليس بيمين. ولو قال: عما في المغلظة فقد قيل: إنه ليس بيمين لأن في المغلظة أيمان وهي تعرف بها فكأنه قال: أنا بريء من الإيمان، وقيل: فإنه يمين لأن في المغلظة اسم الله تعالى فيكون هذا براءة من اسم الله تعالى، والبراءة عن أسماء الله تعالى يمين وصار كدفتر الحساب أو الفقه المكتوب فيه اسم الله تعالى. ولو قال: إن فعلت كذا فأنا بريء من الشفاعة، ذكر في «مجمع النوازل» أنه يمين وقد قيل: هو ليس بيمين وهو الأصح لأن الشفاعة إن كانت حقاً فمنكره مبتدع، وليس بكافر. وفي «فتاوى ما وراء النهر» إذا قال: إن فعلت كذا لا إله لي في السماء، قال أبو الأسد وعبد الله الكرمنسي أنه يمين عندان ولا يكفر والله أعلم. نوع خرفي تحليف الغير ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» : سلطان أخذ رجلاً وحلفه: ما يزد، فقال الرجل مثل ذلك، ثم قال: «كه دوزادنه يناى» فقال الرجل مثل ذلك فلم يأت هذا الرجل يوم الجمعة لا يلزمه شيء لأنه لما قال: ما يزد وسكت ولم يقل قل يا برو إن لم أفعل كذا لم ينعقد اليمين: ويتشعب عن هذه المسألة كثير من المسائل. وفي هذا الموضع: رجل فأراد المرور عليه أن يقوم للمار فقال له المار بالفارسية: «بالله اكرجه في فقام» لا يلزم المار كفارة لأن هذا لغو من كلام. ذكر عن إبراهيم النخعي رضي الله عنه أنه قال: اليمين على نية الحالف إن كان مظلوماً، وإن كان ظالماً فعلى نية المستحلف وبه أخذ أصحابنا رحمهم الله. مثال الأول: إذا أكره الرجل على بيع عين في يديه فحلف المكره بالله أنه رفع إلي هذا الشيء فلان يعني به بائعه حتى وقع عنده أن ما في يده ملك غيره فلا يكرهه على بيعه ويكون كما نوى ولا يكون ما حلف يمين غموس لا حقيقة ولا معنى، أما حقيقة فلأنه نوى ما يحتمله لفظه فيجعل ما نوى كالمصرح به، ولو صرح بما نوى كان صادقاً. فكذا إذا أضمر ذلك فعليه دل ما معنى، ولأن يمين الغموس ما ينقطع بها حق أمرىء مسلم ولم يوجد ذلك هاهنا لأن الحالف لم يقطع حق غيره إنما دفع الظلم عن نفسه. ومثال الثاني: إذا ادعى عيناً في يدي رجل أني اشتريت منك هذا العين بكذا وأنكر الذي في يده الشراء فأراد المدعي أن يُحلّف المدعى عليه بالله ما وجب عليك تسليم هذا العين إلى هذا المدعي فيحلف المدعى عليه على هذا الوجه ويعني التسليم إلى هذا المدعي بالهبة والصدقة لا بالبيع، وهذا إن كان صادقاً فيما حلف فلم يكن بما حلف يمين غموس حقيقة؛ لأنه نوى ما يحتمله لفظه فهو يمين غموس معنى؛ لأنه قطع بهذا اليمين حق امرىء مسلم فلا تعتبر نيته، لهذا كان المعنى في ذلك أن المدعى عليه إذا كان ظالماً فاليمين مشروعة لحق المدعي لمنع المدعى عليه عن اليمين فيصير المدعي إلى حقه، وإن

حلف كاذباً يهلك بسبب اليمين الكاذبة كما أهلك حقه فيكون إهلاكاً، فإذا أهلك كالقصاص وإن يحصل هذا المعنى إذا اعتبر بنية الحالف المستحلف، أما إذا لم يكن المدعى عليه ظالماً فاليمين مشروعة لحق المدعى عليه حتى ينقطع منازعة المدعى معه من غير حجة فيعتبر نية الحالف في ذلك ولهذا يعتبر في اليمين على الحالف على ما قال عليه السلام «من حلف على يمين لا يستثني فالبر والإثم فهما على علمه» يعني إذا حلف وعنده أن الأمر كما حلف عليه ثم تبين خلافه لم يكن، آثما في يمينه ويعتبر فيه ما عند صاحب الحق. قال الشيخ الإمام الزاهد شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: وهذا الذي ذكرنا في اليمين بالله، فأما إذا استحلف بالطلاق والعتاق فهو ظالم أو مظلوم فنوى خلاف الظاهر بأن نوى الطلاق عن الوثاق أو نوى العتاق عن عمل كذب أو نوى الإخبار فيه كاذباً فإنه يصدق فيما بينه وبين ربه حتى لا يقع الطلاق ولا العتاق فيما بينه وبين ربه لأنه نوى ما يحتمله لفظه فالله مطلع عليه إلا أنه إن كان مظلوماً لا يأثم الغموس لأنه ما قطع بهذا اليمين حق امرىء مسلم، واذا كان يأثم الغموس، وإن كان ما نوى صدقاً حقيقة لأن هذه اليمين غموس معنى لأنه قطع بها حق امرىء مسلم. قال القدوري في «كتابه» ما نقل عن إبراهيم أن اليمين على نية المستحلف إن كان الحالف ظالماً فهو صحيح في الاستحلاف على الماض؛ لأن الواجب باليمين كاذباً الإثم فمتى كان ظالماً فهو آثم في يمينه وإن ما يحتمله لفظه لأنه توصل بهذه اليمين إلى ظلم غيره هذا المعنى (362ب1) لا يتأتى في اليمين على أمر في المستقبل فيعتبر فيه نية الحالف على كل حال، رجل قال لآخر: والله لا آتي إلى ضيافتك، فقال رجل آخر للحالف ولا تجىء إلى ضيافتي أيضاً، قال: نعم يصير حالفاً في حق الثاني بقوله: نعم حتى لو ذهب إلى آخر ضيافة الأول وإلى ضيافة الثاني حنث في يمينه. في «مجموع النوازل» إذا قال لآخر: الله لتفعلن كذا، أو قال: والله لتفعلن كذا، فقال الآخر: نعم، وأراد كل واحد منهما أن يكون حالفاً فكل واحد منهما حالف لأن قوله: نعم جواب. والجواب يتضمن إعادة ما في السؤال فكأنه قال: والله لأفعلن كذا فكان يميناً، وإن أراد المبتدىء أن يكون مستحلفاً، وأراد المجيب أن لا يكون عليه يمين وأن يكون قوله نعم على ميعاد من غير يمين فهو كما نوى ولا يمين على واحد منهما لأن المبتدىء والمجيب كل واحد نوى من كلامه ما يحتمله لفظه، وإن لم يكن لواحد منهما نية ففي قوله: الله، الحالف هو المجيب، وفي قوله: والله الحالف هو المبتدىء. وفي «المنتقى» إذا قال: الله لتفعلن كذا ولا نية له أن يكون هذا حلفاً ولا استحلافاً فهو على الاستحلاف ولا شيء على واحد منهما إن لم ينو المجيب الحلف، وإن نوى القائل بذلك الحلف فهو حلف منه، وإن قال: والله لتفعلن كذا ولا نية له فهذا حلف من

القابل وإن نوى استحلافاً فهو استحلاف، ولو قال: والله لتفعلن كذا وكذا غداً فقال الآخر: نعم ولا نية لواحد منهما فالحالف هو المجيب. نوع آخر في تكرار الاسم ما يكون يميناً واحدة أو يمينين قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» إن قال الرجل: والله والرحمن لا أفعل كذا كان يمينين حتى إذا حنث بأن فعل ذلك الفعل كان عليه كفارتان في ظاهر الرواية. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنها يمين واحدة، والأصل في جنس هذه المسائل أن الحالف بالله تعالى إذا ذكر اسمين وبنى عليهما الحالف فإن كان الاسم الثاني صلح نعتاً للاسم الأول ولم يذكر بينهما حرف العطف كانا يميناً واحدة باتفاق الروايات كلها كما في قوله: والله الرحمن لا أفعل كذا؛ لأن الثاني لما صلح نعتاً للأول لا بد وأن يجعل نعتاً كما في قوله مررت بالزيد الصالح كان الصالح نعتاً للزيد. قلنا والنعت مع المنعوت شيء واحد، وإن كان الاسم الثاني يصلح نعتاً للاسم الأول، وذكر بينهما حرف العطف كانا يمينين في ظاهر الرواية. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنها يمين واحدة بيانه في قوله: والرحمن والرحيم لا أفعل كذا. وجه هذه الرواية أن هذه الواو يجوز أن يكون واو العطف فيكون الخبر المذكور للاسم الثاني خبر الأول فيكون يمينين على هذا الاعتبار، ويَجوز (أن يكون) واو القسم لا واو العطف لأن واو القسم غير واو العطف فإن واو القسم مما يبتدأ به وحرف العطف مما لا يبتدأ به، وعلى هذا التقدير يصير تاركاً القسم بالاسم الأول مبتدئاً القسم بالاسم الثاني كأنه قال: والله وسكت، ثم قال: والرحيم لا أفعل كذا فيكون يميناً واحدة وقع الشك في ثبوت ما زاد على اليمين الواحدة فلا تثبت الزيادة بالشك. وجه ظاهر الرواية أن هذا الواو إذا احتمل أن يكون واو العطف (و) أن يكون واو القسم حمل على واو العطف عند الإطلاق لأن الواو يحتاج إليه للعطف إذ العطف بدونه لا يصح غير محتاج إليه للقسم لأن القسم بدون الواو صحيح فكان جملة ما يحتاج إليه أولى، وإذا حملنا على واو العطف صار الخبر المذكور للاسم الثاني مذكوراً للاسم الأول، فكانا يمينين. هذا إذا كان الاسم الثاني يصلح نعتاً للأول. فأما إذا كان الاسم الثاني لا يصلح نعتاً للأول إن ذكر بينهما حرف العطف كما في قوله: والله والله لأفعل كذا، كانا يمينين في ظاهر الرواية، وروى ابن سماعة عن محمد أنها يمين واحدة، وهكذا روي عن أبي يوسف في «المنتقى» ، والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية لما قلنا في قوله: والله والرحمن وإن لم يذكر بينهما حرف العطف كانت يميناً واحدة باتفاق الروايات. هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه الجامع» بيانه في قوله: والله والله ويكون ذكر الاسم الثاني على سبيل التكرار والإعادة للأول. وفي «المنتقى» إذا قال: والله والله والله لا أفعل كذا. قال محمد رحمه الله فذلك ثلاثة أيمان في القياس بمنزلة قوله: والله والرحمن والرحيم لا أفعل كذا، وفي

(الفصل الثالث) في بيان أنواع اليمين وأحكامها

الاستحسان يكون يميناً واحدة، ولو قال: والله ووالله لا أفعل كذا. القياس أن يكون يمينين، وفي الاستحسان يكون يميناً واحدة، قال: على هذا معاني كلام الناس ومعنى هذا الكلام أن الناس في عرفهم وعاداتهم يريدون بذلك يميناً واحدة إلا أنهم يكررون ذلك للتأكيد. وفيه أيضاً إذا قال: والله (لا) أفعل كذا، الله لا أفعل كذا، فهما يمينان، وكذلك إذا قال: والله أفعل كذا الله لا أفعل كذا فهما يمينان. وكذلك إذا قال: هو يهودي إن فعل كذا، وهو نصراني إن فعل كذا فهو يمين واحدة. وعن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله في «القدوري» في من حلف في مقعد واحد بأيمان قال: عليه بكل يمين كفارة والمجلس والمجالس في ذلك سواء. وإن عنى باليمين الثانية الأولى لم يستقم ذلك في اليمين بالله تعالى، لأن وجوب الكفارة في اليمين بالله بذكر الاسم والثاني غير الأول في الذكر، وهو ليس بإخبار عن الأول. قال: وإن كان حلفاً بحج أو عمرة فهذا يستقيم لأن الصفة صفة إخبار فيستقيم إرادته الإخبار عن الأول وفي أيمان «الأصل» في باب من الأيمان إذا حلف الرجل على أمر لا يفعله أبداً ثم حلف في ذلك المجلس أو في مجلس آخر لا يفعله أبداً إن نوى بالثانية يميناً مبتدأ أو نوى التغليظ والتشديد على نفسه أو لم ينو شيئاً كانتا يمينين حتى إذا حنث كان عليه كفارة يمينين وإن نوى بالثانية الأولى كان عليه كفارة يمين واحدة. وفي «البقالي» عن ابن سلام: إذا قال: أنا أعقد الزنار على نفسي كما يعقده النصارى، وأنا بريء مما أتى به جبريل صلوات الله وسلامه عليه إنهما يمينان والله أعلم. (الفصل الثالث) في بيان أنواع اليمين وأحكامها يجب أن يعلم أن اليمين بالله تعالى (363أ1) على نوعين: 1 * نوع في الإثبات. 2 * نوع في النفي. وكل نوع من ذلك على وجهين: إما أن يكون مطلقاً أو مؤقتاً. فأما المطلق في الإثبات بأن قال مثلاً: والله لآكلن هذا الطعام والله لأشرب هذا الماء أو هذا الشراب ولم يقل اليوم وما أشبهه فالبر فيه إنما يكون بتحصيل الأكل أو الشرب في العمر، و (يفوت) البر بهلاك الحالف أو المحلوف عليه، حتى إن في هذه المسألة إذا هلك الطعام بأن احترق أو أكله غيره أو ما أشبه ذلك أو مات الحالف يقع الحنث وتلزمه الكفارة؛ لأن شرط الحنث قد وجد واليمين باقية لأن شرط الحنث في هذه المسألة فوات أكل أو شرب غير مقدر بالوقت لأنه لم يذكر ليمينه وقتاً. ألا ترى أنه لو هلك الطعام في ساعته يحنث في يمينه. وهاهنا بهلاك الطعام أو

الماء فات الأكل والشرب واليمين قائمة لأنها لم تنحل قبل ذلك، وكذلك يهلك الحالف بفوت الأكل واليمين قائمة لأن الأكل يفوت إذا وقع اليأس عن فعله في آخر جزء في آخر حياته، واليمين قائمة فيمكن القول بالحنث وإيجاب الكفارة. وأما إذا وقت لذلك وقتاً بأن قال مثلاً: والله لآكلن هذا الطعام اليوم، والله لأشربن هذا الشراب اليوم، فالبر فيه إنما يكون بتحصيل الأكل والشرب في اليوم، (ويفوت) البر بمضي اليوم مع بقاء الطعام والشراب، وبقاء الحالف ولا يفوت البر بموت الحالف قبل مضي اليوم حتى لا يحنث في يمينه بالاتفاق، وهل يفوت البر بهلاك الطعام والشراب قبل مضي اليوم؟ أجمعوا على أنه لا يفوت قبل مضي اليوم، حتى لا يلزمه الكفارة قبل مضي اليوم، واختلفوا فيما إذا مضى اليوم. قال أبو يوسف يفوت وتجب الكفارة، وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: يفوت ولا تحب الكفارة. وعلى هذا لاختلاف إذا قال: والله لأقضين حق فلان غداً فقضاه اليوم أو أبرأه الطالب اليوم، ثم جاء الغد فمضى فالمسألة على هذا الاختلاف. وعلى هذا الخلاف إذا حلف ليقضين حق فلان يوم الجمعة، أو قال: إن لم أدفع إليك حقك يوم الجمعة فكذا فمات فلان قبل يوم الجمعة بطلت اليمين عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وحاصل الخلاف راجع إلى حرف أن بهلاك المحلوف عليه قبل مضي اليوم أو بهلاك الحالف قبل مضي اليوم هل تنحل اليمين؟ عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تنحل لأن بهلاكها يفوت محل اليمين وهو محتمل للصدق والكذب فيحل اليمين عندهما خبر محتمل للصدق والكذب. ألا ترى أن عندهما لا ينعقد اليمين ابتداءً إذا لم يكن الخبر محتملاً للصدق حتى إن من حلف وقال: والله لأشربن الماء الذي في هذا الكوز ولا ماء فيه لا ينعقد اليمين عندهما، وإنما قلنا بأن هلاك الحالف أو المحلوف عليه يفوت الجزاء الذي هو محتمل للصدق لأن تحقيق الصدق فيما أخبر بعد هلاكها لا يتصور، وإذا انحلت اليمين هلاك أحدهما بشرط الحنث وهو عدم الأكل وجد واليمين منحلة فلا يقع الحنث، وعند أبي يوسف بهلاكها لا تنحل اليمين لأن بهلاكها قبل مضي اليوم لا يقوم محل اليمين عنده لأن محل اليمين عنده خبر في المستقبل وكونه محتملاً للصدق. فصل في الباب. ألا ترى أن كون الخبر في المستقبل محتملاً للصدق ليس بشرط لانعقاد اليمين ابتداءً حتى إن في مسألة الكوز ينعقد اليمين عنده، فكذا كون الخبر محتملاً للصدق لا يكون شرطاً لبقاء اليمين فيوجد شرط الحنث واليمين باقية فيقع الحنث.... الكلام إلى الابتداء. وجه قول أبي يوسف: أن القدرة على تحقيق الصدق ليست بشرط لانعقاد اليمين استدلالاً بمسألة مس السماء وتحويل الحجر ذهباً فإن من حلف فقال: والله لأمسن السماء لأحولن الحجر ذهباً فإنه ينعقد يمينه، وكذلك إذا حلف ليقتلن فلاناً وفلان ميت

وهو يعلم بموته فإنه ينعقد يمينه إن كان عاجزاً عن تحقيق الصدق، وإذا لم تكن القدرة على تحقيق الصدق فيما أخبر شرطاً الانعقاد اليمين لا يكون كون الخبر محتملاً للصدق شرطاً أيضاً لأن المقصود من كون الخبر محتملاً للصدق هو تحقيق الصدق فيما أخبر، لأن البر به يقع وهو المقصود من اليمين. وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: اليمين في الأصل شرعت لإيجاب الصدق في الخبر فيكون محله بحيث يحتمل الصدق لأن محل العقد ما يتصور فيه حكم العقد كمحل البيع فإن محل البيع ما يتصور فيه حكم البيع هو عين هو قال: لأن البيع شرع لإيجاب المال. فكذا اليمين شرع لتحقيق الصدق فيما أخبر وتحقيق الصدق فيما أخبر إنما يكون في خبر يحتمل الصدق، والصدق إنما يتحقق فيما أخبر بالأكل والشرب، والأكل والشرب لا يتحقق، والمأكول والمشروب معدومان فالفعل بدون محله لا بتصور والصدق إنما يتصور بتصور الفعل. وأما إذا حلف ليقتلن فلاناً وفلان ميت قلنا ذكر محمد رحمه الله مسألة القتل. في «الأصل» على التفصيل فقال: إذا كان الحالف يعلم بموته وقت الحلف يحنث بالإجماع. وإذا كان لا يعلم بموته فعلى قول أبي حنيفة ومحمد لا ينعقد يمينه، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله ينعقد، وفي مسألة الكوز لم يفصل بينما إذا علم الحالف وقت الحلف ليس في الكوز ماء وبينما إذا لم يعلم، فمن مشايخنا من قال مسألة الكوز على التفصيل أيضاً لأن المعنى لا يوجب الفصل بينهم من فرق بينهما، وإطلاق محمد رحمه الله في مسألة الكوز يدل على التفريق، والفرق وهو أن في شأن إزالة الروح والتضييع والجرح فمتى لم يعلم الحالف بموت فلان فقد عقد يمينه على الأمرين على الجرح وانزهاق الروح القائم وقت الحلف وانزهاق الروح القائم وهو ميت مستحيل الكون فلم ينعقد يمينه، وإذا علم موته فقد عقد بيمينه على ما يتأتى فيه وهو الجرح، فإن جرحه فقد بر في يمينه وما لا فلا. وفي مسألة الكوز ينعقد يمينه على إيجاد الشرب في الماء المشار إليه وإيجاد الشرب في ماء مشار إليه بدون الماء مستحيل الكون، وقد عقد يمينه على ما هو مستحيل الكون فلا ينعقد فلهذا افترقا. وذكر في طلاق «المنتقى» مسألة القتل على خلاف ما ذكر في «الأصل» . قال: إذا قال الرجل: عبده حر إن لم أقتل فلاناً وفلان ميت، فإن كان يعلم بموته حين حلف فهو بمنزلة يمينه على شرب الماء الذي في هذا الكوز لا ماء فيه فلا يحنث عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله (363ب1) لأنه لم يحلف على شيء، فإن كان لا يعلم بموته حين حلف فهو حانث، وقال أبو يوسف: يحنث في الوجهين. ولو قال: إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز فعبده حر، أو قال: فامرأته طالق فأريق الماء أو مات الحالف إن لم يؤقت لذلك وقتاً لزمه الحنث وطلقت المرأة وعتق العبد، وإن وقت لذلك وقتاً بأن قال: اليوم إن أُريق الماء قبل مضي اليوم لا يلزمه الحنث قبل مضي اليوم بالإجماع وهل يلزمه الحنث بعد مضي اليوم؟ على قول أبي حنيفة ومحمد

(الفصل الرابع) في اليمين إذا جعل لها غاية

رحمهما الله: لا يلزمه الحنث. وعلى قول أبي يوسف: يلزمه. وإن مات الحالف قبل مضي اليوم لا يلزمه الحنث بالإجماع، وإن لم يكن في الكوز ماء فهو على الخلاف الذي مر. وإذا قال: لأفعلن كذا وذكر لذلك وقتاً فإن قال: شهر، أو يوم أو ما أشبه ذلك أو لم يذكر له وقتاً فله أن يفعل ذلك الفعل متى شاء ولا يلزمه الفعل من وقت اليمين وإذا قال: لا أفعل فهو من وقت اليمين. (الفصل الرابع) في اليمين إذا جعل لها غاية إذا جعل الحالف ليمينه غاية وفاتت الغاية بطلت اليمين عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى إذا قال لغيره: والله لا أكلمك حتى يأذن لي فلان، أو قال لغريمه: والله لا أفارقك حتى تقضي حقي فمات فلان قبل الإذن برىء من غير المال فاليمين ساقطة في قول أبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف رحمهم الله، وعلى هذا إذا حلف ليوفين فلاناً ماله اليوم فأبرأه الطالب. وعلى هذا يخرج جنس هذه المسائل. إذا قال: إن فعلت كذا ما دمت ببخارى فكذا فخرج من بخارى ثم رجع وفعل ذلك يجب أن يعلم بأن كلمة ما زال وما دام وما كان غاية ينتهي اليمين بها، فإذا حلف لا يفعل كذا ما دام ببخارى فخرج تنتهي يمينه بالخروج، فإذا عاد عاد واليمين منتهية فإذا فعل ذلك الفعل لا يحنث. في «القدوري» وكذلك إذا حلف لا يشرب النبيذ ما دام ببخارى فخرج وعاد وشرب لا يحنث في يمينه. في «فتاوى الفضلى» . وعلى هذا إذا حلف لا يصطاد ما دام فلان في هذه البلدة وفلان أمير هذه البلدة فخرج الأمير إلى بلدة أخرى لأمر فاصطاد الحالف قبل رجوعه أو بعد رجوعه لا يحنث في يمينه لأن اليمين انتهى بخروج الأمير. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: وعلى هذا إذا حلف لا يدخل دار فلان ما دام فلان فيها فخرج فلان بأهله ثم عاد ودخل الحالف لا يحنث في يمينه لأن اليمين انتهت بخروجه. في «العيون» : وعلى هذا إذا حلف لا يكلم فلاناً ما دام في هذه الدار فخرج بمتاعه وأثاثه ثم عاد وكلمه لا يحنث في «القدوري» والمعنى ما ذكرنا. ثم في بعض هذه المسائل ذكر خروجه بأهله ومتاعه، وفي بعضها ذكر خروجه ولم يذكر إخراج أهله وعياله، ونص في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله في مسألة أخرى أن إخراج أهله ومتاعه شرط فإنه قال: إذا قال الآخر: والله لا أكلمك ما دمت في هذه الدار فهو على ما كان ساكناً فيها ولا يسقط يمينه إلا بانتقال يبطل السكنى لأن قوله ما دمت في

هذه الدار عبارة عن قوله ما سكنت فإنما ينتهي اليمين ببطلان السكنى وذلك بانتقال أهله ومتاعه وأثاثه على ما يأتي بيانه في فصل السكنى إن شاء الله تعالى. ونص الفضلي في «فتاويه» أن نقل أهله ومتاعه ليس بشرط وخروج المحلوف عليه بنفسه يكفي لانتهاء اليمين فإنه قال في مسألة الشرب: لو خرج من بخارى بنفسه لا غير، ثم شرب لا يحنث إلا إذا عنى بقوله: ما دمت ببخارى أن تكون بخارى وطناً له. وفي «القدوري» إذا قال: والله لا أكلم فلاناً ما دام عليه هذا الثوب أو ما كان عليه أو ما زال عليه فنزعه ثم لبسه فكلمه لا يحنث. ولو قال: لا أكلمه وعليه هذا الثوب فنزعه ثم لبسه وكلمه حنث لأن في هذه الصورة ما جعل اليمين مؤقتاً بوقت بل قيده بصفة فيبقى اليمين ما بقيت تلك الصفة. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا قال لأبويه: إن تزوجت ما دمتما حيين فكذا، فتزوج امرأة في حياتهما وحنث، لو تزوج امرأة أخرى في حياتهما لا يلزمه الحنث، ولو قال: لكل امرأة أتزوجها ما دمتما حيين، وقال بالفارسية: «هررنى» يلزمه الحنث بكل امرأة يتزوجها ما داما حيين فإن مات أحدهما. روي عن محمد رحمه الله أنه سقط اليمين حتى لو تزوج امرأة بعد ذلك لا يلزمه حكم الحنث لأن شرط الحنث التزوج ما داما حيين ولا يتصور ذلك بعد موت أحدهما فيسقط اليمين ضرورة. وفي «المنتقى» رواية مجهولة إذا قال لأبويه: كل امرأة أتزوجها فهي طالق حتى تموتا فمات أحدهما لا يسقط اليمين، ولو قال: كل امرأة أتزوجها ما دمتما حيين فمات أحدهما لا يسقط اليمين حتى لو تزوج امرأة بعد ذلك لا يلزمه الحنث. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا قال لامرأته: والله لا أكلمك ما دام أبواك حيين فكلمها بعد (ما) مات أحدهما لا يحنث لأن اليمين قد سقط بموت أحدهما وفي هذا الموضع إذا حلف لا يأكل هذا الطعام ما دام في ملك فلان، فباع فلان بعضه ثم أكل الحالف الباقي لا يحنث لأن اليمين قد انتهى ببيع البعض. وإذا قال لغيره: إن لم أخبر فلاناً بما صنعت حتى يضربك فعبدي حر أو قال: امرأتي طالق، فأخبر فلاناً بما صنع فلم يضربه حتى مات لا يحنث في يمينه الأصل أن كلمة حتى تجيء في كلام العرب بمعنى الغاية، قال الله تعالى: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} (البقرة: 187) وتجيء بمعنى لام السبب قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام ا} (التوبة: 6) معناه ليسمع كلام الله. وتجيء بمعنى العطف يقال: جاءني القوم حتى زيد، أي: وزيد معهم غير أنها في الأصل للغاية فيحمل على الغاية ما أمكن، وشرط إمكان حملها على الغاية أن يكون ما دخل عليه كلمة حتى قابلاً للامتداد، وأن يكون ما دخل عليه كلمة حتى مقصوداً.... في أنها المحلوف عليه، وفي تركه، فإن تعذر حملها على الغاية تحمل على لام السبب، وشرط

إمكان حملها على لام السبب أن يكون العقد معقوداً على فعلين أحدهما من جهته والآخر من جهة غيره ليصلح أحدهما خبراً للآخر فإن تعذر حملها على لام السبب تحمل على العطف، ومن حكمة الغاية أن يشترط وجودها للبر، فإن أقلع عن الفعل قبل الغاية يحنث في يمينه، ومن حكم لام السبب أن يشترط وجود ما يصلح سبباً لا وجود المسبب، ومن حكم العطف أن يشترط وجودها للبر. وإن ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: شرط البر في هذه المسألة إخبار مطلقاً إخبار ينتهي بالضرب، لأن الإخبار مما لا يمتد، ولهذا يضرب له مدة فلا يقال: أخبر به يوماً أو شهراً أو ما أشبه ذلك فلا يمكن (364أ1) حمل حتى على الغاية فيحمل على لام السبب ما أمكن ذلك لأن الإخبار يصلح سبباً للضرب لأنه بالإخبار بما صنع أعداه على الضرب فحمل عليه كأنه قال: إن لم أخبر فلاناً بما صنعت ليضربك. وهذا وقوله: إن لم أسبب لضربك ليضربك سواء، فإذا أخبر قد سبب لضربه فيبر في يمينه. وهو نظير ما لو حلف ليهبن فلاناً ثوباً حتى يلبسه، أو دابة حتى يركبها فوهبه برّ في يمينه لبسه فلان أو لم يلبس، ركبها فلان أو لم يركب، وكذلك لو حلف ليشهدن عليه بكذا بين يدي القاضي حتى يقضي به عليه فشهد عليه، ولم يقض القاضي به بر من يمينه، ولو قال: إن لم أضربك حتى يضربني فكذا، فضربه الحالف بر من يمينه ضرب المحلوف عليه الحالف لا يصلح غاية لما ذكرنا أن غاية الشيء مما يؤثر في إنهائه، وضرب المحلوف عليه الحالف يدعوه إلى زيادة الضرب لا إلى تركه وإنهائه فلا يصلح غاية، أما يصلح خبراً فيحمل عليه. ولو قال: إن لم أضربك حتى يدخل الليل أو حتى يشفع لك فلان أو حتى يصلح، أو حتى يشتكي فأقلع عن الضرب قبل هذه الأشياء يحنث في يمينه؛ لأن هذه الأشياء تصلح غاية للضرب؛ لأن الإنسان يمتنع عن الضرب بهذه الأمور فصار شرط النية الضرب الممتد إلى هذه الأشياء، فإذا أقلع قبل هذه الأشياء لم يوجد شرط البر يقع الحنث ضرورة. وكذلك إذا قال لغريمه: إن لم آتك حتى تعطيني حقي فتركه قبل أن يقضيه حنث؛ لأن الملازمة مما يمتد وإنما ينتهي عند وجود القضاء عادة فحمل كلمة (حتى) على الغايه وصار شرط البر ملازمة ممتدة إلى وقت الاستيفاء. ولو قال: عبده حر إن لم آتك اليوم حتى أتغذى عندك، أو قال: إن لم تأتني اليوم حتى تتفدى عندي، أو قال: إن لم آتك اليوم حتى أعذبك، أو قال: إن لم تأتني اليوم حتى تعذبني، أو قال: إن لم آتك اليوم حتى أجربك كان وجودها شرطاً للبر لأنه لا يمكن حمل حتى على الغاية لأن الإثبات مما لا يمتد، وإنه ظاهر، ولا على لام السبب لأنه عقد اليمين على فعلين من جهة واحدة، وفعل الإنسان لا يصلح حداً لفعله فحمل على العطف وصار تقدير يمينه إن لم آتك فأتغدى عندك، ولو نص على هذا كان وجودهما شرطاً للبر، كذا هاهنا.

وإن أطلق الكلام إطلاقاً فقال: إن لم آتك حتى أتغدى عندك فكذا فأتاه ولم يتغد عنده ثم تغدى عنده في يوم آخر من غير أن يأتيه بر في يمينه لأنه لما أطلق الكلام إطلاقاً كان شرطاً لبر وجودهما في الجملة سواء اتصل أحدهما بالآخر أو انفصل عنه لتحقق البر أولاً، فرق بين وجود شرطي البر معاً وبين وجودهما على التعاقب هذه الجملة من «الزيادات» . في «المنتقى» عن ابن سماعة قال: سمعت أبا يوسف رحمه الله يقول في رجل قال لغريمه: والله لا أفارقك حتى تعطيني حقي اليوم، ونيته أن لا يترك لزومه حتى يعطيه حقه فمضى اليوم ولم يفارقه ولم يعطه حقه لا يحنث، فإن فارقه بعد مضي اليوم يحنث. كذلك إذا قال: لا أفارقك حتى أقدمك إلى السلطان اليوم، أو حتى يخلصك السلطان مني فمضى اليوم ولم يفارقه ولم يقدمه إلى السلطان ولم يخلصه السلطان فهو سواء لا يحنث إلا بتركه. ولو قدم اليوم فقال: لا أفارقك اليوم حتى تعطيني حقي بمضي اليوم ولم يفارقه ولم يعطه حقه لم يحنث، وإن فارقه بعد مضي اليوم لا يحنث لأنه وقت للفراق ذلك اليوم. في «المنتقى» ابن سماعة عن محمد رحمه الله إذا قال: والله لا أحج حتى أعتمر. فأحرم بعمرة في حجة وقضى بينهما حتى أنهما لا يحنث في يمينه، قال لأنه اعتمر قبل الحج وإنما يكون حاجاً حين تقف. وفيه أيضاً: إذا حلف لا يعطي فلاناً ماله حتى يقضي عليه قاض، فقضى القاضي بذلك على وكيله، فهذا قضاء عليه لو أعطاه بعد ذلك لا يحنث. وفي «نوادر هشام» عن أبي يوسف رحمه الله في رجل دعا جاريته إلى فراشه فأبت عليه فقال: إن لم تجيئيء الليل حتى أجامعك مرتين فأنت حرة فجاءته من ساعتها فجامعها مرة لم يزد عليها قال: تعتق. وروى عيسى بن أبان عن محمد رحمه الله إذا قال لامرأته: إن لم تجيئي الليل حتى أغشاك فأتت في تلك الليلة فلم يغشاها قال لا حنث عليه، قال: وإنما كانت اليمين على مجيئها إليه، ولم يكن على عشيانه لها، فإذا أتته فقد بر في يمينه، فإن شاء غشاها وإن شاء تركها. قال الفقيه أبو العباس رحمه الله قال أبو يوسف في مسألة الجارية إنما تعتق فيحتمل أن يكون في المسألة خلاف بينهما ويحتمل أن هناك مع ذكر الجماع ذكر عدد وليس هناك ذكر عدد. في «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال الرجل: إن خرجت من هذه الدار حتى أكلم الذي فيه فكذا، وليس فيها أحد فخرج حنث في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قول أبي يوسف لا يحنث وهذا الجواب مشكل على القرائن جميعاً. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا حلف الرجل لا يكلم فلاناً إلى قدوم الحاج فقدم واحد منهم انتهت اليمين، وكذلك لو حلف لا يكلم فلاناً إلى الحصاد فحصد واحد من أهل بلده انتهت اليمين، وعلى هذا القياس.... هذه المسائل.

إذا حلف لا يكلم فلاناً.... يتقيد هذا على وجهين، أما إن نوى حقيقة وقوع الثلج أو نوى وقت وقوع الثلج ففي الوجه الأول لا يقع الحنث ما لم يقع الثلج حقيقة على الأرض وشرطه الوقوع على الأرض وشرط الوقوع على الأرض في البلد الذي الحالف فيه لا في بلد آخر، حتى لو كان الحالف في بلدة لا يقع الثلج هناك كانت اليمين باقية، وإذا نوى وقوع الثلج حقيقة فحقيقته أن يحتاج إلى كبه ولا تعتبروا ظاهر في الهواء فقالا: يستبين على الأرض إلا على لبن حائط أو حشيش وإن نوى وقت وقوع الثلج لا يقع الحنث ما لم يدخل وقت وقوع الثلج وهو أول الشهر الذي يقال له، وإنما ذكره في مسألة أخرى، وقال: يمينه على وقت الوقوع لأنه هو المراد من اليمين عادة، وإذ حلف لا يكلم فلاناً إلى الموسم قال محمد يكلمه إذا أصبح يوم النحر، وقال أبو يوسف: يكلمه إذا زالت الشمس يوم عرفة.m وفي «فتاوى أهل سمرقند» إذا قال الغريم للطالب: والله لأقضين دينك إلى يوم الخميس فلم يقضه حتى طلع الفجر من يوم الخميس حنث. ولو قال: إلى خمسة أيام وباقي المسألة بحالها لا يحنث حتى تغرب الشمس من يوم الخامس لأن الغاية في الصورة الأولى يوم الخميس وقد وجد ما طلع الفجر من يوم الخميس، وفي الصورة الثانية الغاية خمسة أيام ولا توجد الأيام الخمسة إلا بغروب الشمس من يوم الخامس. ولو حلف (لا) يكلم فلاناً عشرة أيام فدخل اليوم العاشر في اليمين. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا قال الرجل: إن تزوجت امرأة إلى خمس سنين فتزوج في السنة الخامسة (364ب1) تطلق لأن السنة الخامسة داخلة في اليمين على ما ذكرنا. ألا ترى أنه لو استأجر داراً إلى خمس سنين دخلت تحت الإجارة السنة الخامسة كذا هاهنا. وفي «فتاوى الفضلي» إذا قال: إن أكلت من خبز والدي ما لم أتزوج فاطمة، وكل امرأة أتزوجها فهي طالق، فأكل ثم تزوج فاطمة طلقت لأن عند الأكل قبل التزوج يصير قائلاً: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، ولو قال هكذا وتزوج فاطمة طلقت. كذا هاهنا والله أعلم. ومما يتصل بهذا الفصل: إذا أرادت المرأة الخروج من الدار فقال لها الزوج: إن خرجت فأنت طالق فجلست ساعة ثم خرجت لا تطلق، وكذلك لو أراد رجل أن يضرب عبده فحلف رجل أن (لا) ضربه فهذا على تلك الضربة، حتى لو مكث ساعة ثم ضربه لا يحنث وسمى هذا يمين الفور، وهذا لأن الخرجة التي قصدت والضربة التي قصدت هي المقصود بالمنع عنها عرفاً وعادة فيتعين ذلك بالعرف والعادة. وإذا دخل على رجل فقال له: تعال تغدّ معي فقال: والله لا أتغدى فذهب إلى بيته وتغدى مع أهله لا يحنث، وكذلك إذا قال الرجل لغيره: كل مع فلان فقال لا آكل. ووجه ذلك أن يمينه عقدت على غداء معين وهو الغداء الذي دعى لأن قوله: والله لا

(الفصل الخامس) في الأيمان التي يقع فيها التخيير والتي لا يقع فيها التخيير

أتغدى خرج جواباً لسؤال المخاطب وأمكن جعله جواباً لأنه لم يزد على حرف الجواب فيجعل جواباً، والجواب يتضمن إعادة ما في السؤال والسؤال وقع عن غداء بعينه بدلالة قوله: تغد معي أي هذا الغداء فيجعل ذلك كالمصرح به في السؤال كأنه قال: تغد معي هذا الغداء، وإذا ثبت هذا في السؤال بدلالة الحال ثبت في جواب لأن الجواب يتضمن إعادة ما في السؤال، وليس كما لو ابتدأ اليمين لأن كلامه لم يخرج جواباً حتى يتقيد بل خرج ابتداءً وهو مطلق عن القيد فينصرف إلى كل غداء، بخلاف مالو قال: والله لا أتغدى معك لأنه زاد على حرف الجواب ومع الزيادة على حرف الجواب لا يمكن أن يجعل جواباً فجعل ابتداءً ولا قيد فيه، وإذا قال لغيره: كلم لي زيداً اليوم في كذا فقال: والله لا أكلمه فهذا التخصيص باليوم لأنه خرج جواباً عن الكلام السابق فتضمن إعادة ذلك. وعلى هذا إذا قال: ائتني اليوم فقال امرأته طالق إن أتاك، قال القدوري في «شرحه» إلا إذا تخلل بين السؤال والجواب ما يقطع الجواب عنه والله أعلم. (الفصل الخامس) في الأيمان التي يقع فيها التخيير والتي لا يقع فيها التخيير قال محمد رحمه الله في «الجامع» إذا قال الرجل: والله لا أدخل هذه الدار (أو هذه) فأي الدارين دخلها يحنث. الأصل في جنس هذه المسائل أن كلمة (أو) إذا دخلت بين اسمين في النفي كانت بمعنى ولا، قال الله تعالى: {فلا تطع منهم آثماً أو كفوراً} (الإنسان: 24) معناه: ولا كفوراً، وكذلك إذا دخلت بين اسم وفعل في النفي كانت لمعنى ولا، قال بعض أهل التفسير: معنى الآية ولا تطع منهم آثماً ولا تطع منهم كفوراً بحكم العطف وكلمة أو من حيث الصورة والظاهر دخلت بين الاسمين وهو الآثم والكفور، ومن حيث المعنى دخلت بين الاسم وهو الآثم والفعل وهو الطاعة ومتى دخل كلمة أو بين إثباتين يكون للتخيير قال الله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين} (المائدة: 89) الآية ومتى دخلت بين إثبات ونفي، إن كان المذكور الثاني تصلح غاية للمذكور أولاً كانت للغاية، وإنما تعرف صلاحيته لكونه غاية للأول إذا لو صرح بكلمة حتى مكان أو يستقيم الكلام ولا يخيل بقول الرجل لغريمه لا أبرح من بابك أو تعطيني حقي، معناه: حتى تعطيني حقي، وإن كان المذكور الثاني لا يصلح للمذكور الأول غاية كانت للتخيير فكان بهذا القائل خير نفسه بين اختيار المذكور الأول وبين اختيار المذكور الثاني. إذا عرفنا هذا جئنا إلى تخريج المسألة وهي ما إذا قال: والله لا أدخل هذه الدار أو لا أدخل هذه، فنقول كلمة أو دخلت بين اسم وهو الدار وبين فعل وهو الدخول في النفي فكانت لمعنى ولا، كأنه قال: لا أدخل هذه الدار ولا هذه الدار، ولو صرح بذلك إذا دخل في أحدهما يحنث في يمينه. كذا هاهنا.

ولو قال: والله لأدخلن هذه الدار اليوم أو لأدخلن هذه الدار الأخرى فأيهما دخل بر في يمينه؛ لأن كلمة أو دخلت بين إثباتين فكان للخبر فصار غايتها دخول إحدى الدارين مخيراً نفسه بين دخول هذه أو هذه فإذا دخل إحديهما فقد أتى بما التزم فقد بر في يمينه. وتسقط اليمين ضرورة ولو لم يدخل واحدة منهما حتى مضى اليوم حنث في يمينه. ولو قال: والله لا أدخل هذه الدار أبداً أو لأدخلن هذه الدار الأخرى اليوم، فإن دخل الأولى حنث في يمينه وإن لم يدخل الأولى ولم يدخل الأخرى حتى مضى اليوم حنث في يمينه، ولكن إنما يحنث في هذا الوجه في يمين الإثبات، وإنما كان هكذا لا بكلمة، أو دخلت بين نفي وإثبات، والمذكور، ثانياً لا يصلح غاية للمذكور أولاً لأن ذكر الأبد في النفي ذكر اليوم في الإثبات، واليوم لا يصلح غاية للأبد؛ لأن غاية الشيء ما ينتهي بها ذلك الشيء، والأبد لا ينتهي بشيء فجعل هاهنا للتخير فقد خير نفسه بين أن يلزم يمين النفي وبين أن يلزم يمين الإثبات، فإن شاء دخل الدار الأخرى حين يسقط يمين الإثبات وإن شاء لم يدخل الدار الأخرى اليوم حتى يسقط يمين النفي. ولو قال: والله لا أدخل هذه الدار أو أدخل هذه الدار الأخرى فدخل الأولى حنث في يمينه، وإن لم يدخل الأولى ودخل الأخرى بر في يمينه لأن كلمة أو دخلت بين نفي بين إثبات. والمذكور ثانياً يصلح غاية للمذكور أولاً؛ لأنه لم يذكر في النفي والإثبات ثانياً في الغاية، فجعلنا المذكور غاية المذكور أولاً، وجعلنا المنعقد يميناً واحدة وهي يمين النفي وغايتها دخول الدار الأخرى ألا ترى أنه لو صرح بالغاية بأن قال: والله لا أدخل هذه الدار حتى أدخل هذه الدار الأخرى كان الكلام صحيحاً مستقيماً، فإن دخل الدار الأخرى فقد وجدت الغاية فيسقط يمين النفي، وإن دخل الدار الأولى ولم يدخل الدار الأخرى فقد وجد شرط الحنث في اليمين الأولى قبل وجود الغاية وقبل انتهائها فيجب في اليمين الأولى، ولو قال: والله لا أدخل هذه الدار أو أدخل هذه الدار الأخرى فالمنعقد هاهنا يمين النفي وحدها وغايتها دخول إحدى الدارين (365أ1) الأخريين فإن دخل الدار الأولى حنث في يمين النفي، وإن لم يدخل الأولى ودخل إحدى الأخريين بر في يمينه وروي عن محمد رحمه الله فمن قال: عبده حر إن لم يدخل هذه الدار اليوم فإن لم يدخل اليوم دخل هذه قال هذا ليس باستثناء واليمين على حالها لأنه لم يوجد لفظ الخبر ههنا ولم تتغير الأولى فإذا لم يدخل الأولى اليوم حنث في يمينه. وفي «القدوري» عن أبي يوسف: إذا قال لامرأته أنت طالق أو والله لأضربن هذا الخادم اليوم، فضربه في يومه فقد بر في يمينه ولم يقع الطلاق؛ لأن الثابت أحدهما فإذا وجد الضرب ينفي الطلاق وإن مضى اليوم قبل الضرب حنث فالخبر يبرأ ومع الطلاق فيلزم بعد اليمين لأن الثابت بأحدهما والإجمال كان منه وكان التعيين إليه. ولو قال في ذلك اليوم اخترت أن أوقع الطلاق لزمه وبطلت اليمين ضرورة، ولو قال في ذلك: اخترت التزام اليمين وإبطال الطلاق، فإن الطلاق لا يبطل لأن اليمين لا يلزم الإنسان بالتزامه فلا يتعين بالاختيار، يوضحه: أن الاختيار مما يلزمه من الحكم

الفصل السادس في الرجل يحلف فينوي التخصيص

وبعد الحنث الكفارة تلزمه وقبله لا فلا يصح تعيين اليمين قبله. عاد إلى أول المسألة، فقال: لو مات الخادم قبل الضرب فهو يخير بين الكفارة والطلاق؛ لأن الحنث ثبت في إحدى اليمينين، ولو كان الرجل هو الميت فقد وقع الحنث أو الطلاق وقد مات قبل أن يبين فلا يقع الطلاق ولها الميراث قال: وهذا التخيير من حيث التدين، يعني: فيما إذا مات الخادم ولا يجبره القاضي على ذلك لأنه لما كان مخيراً بين الكفارة والطلاق وأحدهما لا يدخل في الحكم لم يلزمه القاضي بذلك، حتى لو كان مكان الكفارة طلاق امرأة أخرى يخيره القاضي حتى يتبين لأن الواقع طلاق لا محالة وأنه يدخل في الحكم، ولو قال: أنت طالق أو عليَّ حجة لم يخيره القاضي لأن الحج لا يدخل في الحكم ولو قال: أنت طالق ثلاثاً أو فلانة عليّ حرام يعني اليمين لم يجبره القاضي حتى تمضي أربعة أشهر فإذا مضت قبل أن يقربها أجبره القاضي على أن يوقع الطلاق أو الذي تكلم به؛ لأن قبل مضي أربعة أشهر أمكنه أن يسقط ذلك عن نفسه بأن كفر بواسطة القربان فلا كذلك بعد مضي أربعة أشهر. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: إذا قال والله لا أكلمك اليوم أو غداً حنث في الحال؛ لأنه كلمه بعد اليمين بقوله أو غداً، ولو قال: والله لأتركن كلامه اليوم فترك كلامه اليوم وكلمه غداً لا يحنث. وروى ابن رستم عن محمد رحمه الله إذا قال: إن كلمت فلاناً فهذا حر وهذه مكاتبة قال هو مخير في إيقاعه على أيهما شاء لأن هذا معرفة. ولو قال: إن كلمت فلاناً فكل عبد أملكه أو أمة حر، فكلمه قال: هو عليهما يعتق كل عبد يملكه وكل أمة يملكها لأن هذا نكرة. وكذلك قوله: إن كلمت فلاناً فكل مملوك أملكه يوم الجمعة أو يوم الخميس حر، فهو على ما يملكه في اليومين جميعاً. ولو قال: إن كلمت فلاناً فعلي حجة أو عمرة فهو مخير لأنه معرفة والله أعلم. الفصل السادس في الرجل يحلف فينوي التخصيص قال محمد في «الجامع الصغير» : إذا قال إن لبست فامرأتي طالق ونوى ثوباً دون ثوب لا تصح نيته في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى وهو قول الشافعي رحمه الله وبه أخذ الخصاف من أصحابنا رحمهم الله وقال: هذا إذا قال: إن شربت فنوى شراباً دون شراب، أو قال: إن أكلت ونوى طعاماً دون طعام لم تصح نيته في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى في ظاهر مذهب أصحابنا رحمهم الله إلا روايه عن أبي يوسف رحمه الله وأخذ بها الخصاف ولو قال: إن لبست ثوباً، أو قال: إن شربت شراباً، إن أكلت طعاماً، فنوى ثوباً بعينه أو شراباً بعينه أو طعاماً بعينه دُّين فيما بينه وبين الله تعالى بلا خلاف. ووجه رواية أبي يوسف رحمه الله: أنه نوى تخصيص ما ثبت فيقتضي لفظه لأنه

نوى تخصيص الملبوس أو المشروب أو المأكول وهذه الأشياء مذكورة تقتضي لفظه؛ لأن ذكر الأكل والشرب واللبس ولا وجود بهذه الأفعال إلا بالمشروب والملبوس والمأكول ذكر لهذه الأشياء، فهو معنى قولنا: نوى تخصيص ما هو مذكور مقتضى لفظه والثابت اقتضاء كالثابت نصاً، ولو ثبت ذكر هذه الأشياء نصاً بأن قال: إن لبست ثوباً وكذلك في نظائره رجح نسبة التخصيص فكذا إذا ثبت ذكرها اقتضاء بهذا الطريق قلنا: إذا قال إن خرجت فعبدي حر فنوى خروجاً دون خروج تصح نيته فيما بينه وبين الله تعالى ولظاهر رواية علمائنا رحمهم الله عبارتان. فإن الأولى: أن النية إنما تعمل في المذكور والملفوظ لأن النية كتعيين ما يحتمله اللفظ مراد باللفظ وبعدما تبين فالحكم يثبت باللفظ فمتى لم يكن اللفظ محتملاً لما نوى لا يتعين ما نوى بلفظ لو تغير تعين نيته، ومجرد النية لا أثر لها في إثبات الحكم. إذا ثبت هذا فنقول: الملبوس والمشروب والمأكول غير مذكور لا نصاً وهذا ظاهر ولا مقتضى لفظه لأن مقتضى اللفظة ما لا صحة للملفوظ بدونه والملفوظ ههنا صحيح بدون ذكر هذه الأشياء؛ لأن اليمين إنما عقدت لمنع فعل الأكل والشرب واللبس، ولا حاجة عند منع نفسه عن هذه الأفعال إلى وجود هذه الأشياء، إنما يحتاج إلى وجود هذه الأشياء عند مباشرة هذه الأفعال، وإذا لم تصر هذه الأشياء مذكورة أصلاً لو صحت منه التخصيص صحت في غير الملفوظ ولا وجه إليه، ولئن سلمنا أن هذه الأشياء صارت مذكورة اقتضاء، ولكن إنما صارت مذكورة بطريق الضرورة من حيث إن هذه الأفعال لا بد لها من هذه المحال إلا أن الثابت بالضرورة لا يعد واقع منع الضرورة ولا ضرورة في حق التعميم لأن بهذه الأفعال مر التعميم فلم يثبت ذكر هذه الأشياء في حق التعميم فلا يصح نيه التخصيص فيما لا عموم له بأكله. العبارة الثانية (365ب1) : أن نيته لو صحت إما أن تصح في الملفوظ وهو قوله: إن لبست أو شربت أو أكلت، أو فيما ثبت مقتضى الملفوظ وهو الملبوس والمشروب والمأكول لا وجه إلى الأول لأنه لو صحت نيته في قوله: إن لبست إما أن تصح من حيث أنه نوى بخصوص عن العموم ولا وجه إليه؛ لأن قوله إن لبست فعل والفعل لا عموم له إنما العموم للأسماء هكذا حكي عن سيبويه وهذا لأن الاسم مشتمل على أعيان كثيرة فيكون له عموم فأما الفعل إنما يقع على معنى واحد ولا يكون له عموم ولأن الفعل وجوده بالمباشرة فتتغلب بقدر المباشرة وإما أن يصح من حيث أنه أحد نوعي الفعل ولا وجه إليه أيضاً؛ لأن اللبس غير متنوع لغة وإنما التنوع في محل اللبس ولا وجه أن تصح نيته فيما ثبت مقتضى الملفوظ وهو الملبوس بوجهين على ما بينا في العبارة الأولى وفيما إذا قال: إن لبست ثوباً إن شربت شراباً إن أكلت طعاماً إنما صحت نيته فيما بينه وبين الله تعالى لأن الثوب والطعام والشراب مذكور نصاً على سبيل النكرة في موضع الشرط الذي هو موضع النفي، والنكرة في موضع النفي تعم فإذا نوى شيئاً دون شيء فقد نوى الخصوص من اللفظ العام، وإرادة الخصوص من اللفظ العام جائر، ولكنه خلاف الظاهر

فلأجل الجواز يدين فيما بينه وبين الله تعالى ولمكان أنه خلاف الظاهر لا يصدقه القاضي. ومن هذا الجنس ذكر في «الجامع الكبير» وصورتها: قال إن اغتسلت الليلة فعبدي حر، ثم قال: عنيت به الاغتسال عن جنابة لا يصدق ديانة، وعن أبي يوسف يصدق ديانة وإنما لا يصح قضاء وديانة على ظاهر الرواية؛ لأنه لو صحت نيته إما أن تصح في الملفوظ وهو قوله: إن اغتسلت ولا وجه إليه من حيث أنه نوى الخصوص عن العموم؛ لأن قوله: إن اغتسلت فعل والفعل لا عموم له ولا موجب أنه نوى أحد نوعي الفعل لأن الاغتسال غير متنوع لغة لأنه عبارة عن إهدار وإنما التنوع للأسباب التي يقع بها الاغتسال، وإما أن تصح نيته فيما ثبت مقتضى الملفوظ وهو الاغتسال ولا وجه إليه لأن الاغتسال ههنا إنما يثبت ضرورة صحة الفعل؛ لأن الفعل لا بد له من المصدر وهو الفعل ولا ضرورة في حق التعميم، لأن الفعل له بد في التعميم فكان ذكره المصدر عدماً في حق التعميم فلا يصح نية التخصيص فيه. وفي قوله: إن اغتسلت اغتسالاً، نيته صحت في الاغتسال الذي هو مصدر والاغتسال مذكور نصاً، والمصدر قائم مقام الاسم، والاسم له عموم فتصح نية التخصيص فيه. وإذا قال: إن خرجت، فقد ذكر هذه المسألة في «الجامع» : وجعلها على وجهين أحدهما: أن يقول: إن خرجت خروجاً، والثاني. أن يقول: إن خرجت (.....) من ذلك على وجوه: إما إن لم ينو شيئاً وفي هذا الوجه يمينه على السفر وما دونه في الوجهين جميعاً لأن الخروج ذكر مطلقاً غير مقيد بالسفر وما دونه وإن نوى السفر إلى مكان كأن نوى السفر إلى بغداد والذي لا تصح نيته لا قضاء ولا ديانة وإن نوى السفر أو ما دون السفر صدق ديانة ولا يصدق قضاء ذكر الجواب هكذا في الوجهين. وهذا الجواب ظاهر فيما إذا قال: إن خرجت خروجاً لأنه نوى الخصوص عن العموم فيما هو ملفوظه وهو الخروج، فإن قال: خروجاً والخروج مصدر والمصدر يقام مقام الاسم والاسم له عموم ونية الخصوص عن العموم مما هو ملفوظ به صحيحاً ديانة لا قضاء مشكل فيما إذا قال إن خرجت ولم يقل خروجاً؛ لأن الخروج إذا لم يكن مذكوراً قبله خروج دون خروج يكون نية تخصيص ما ليس ملفوظ وذلك لا يصح كما لو قال: إن اغتسلت ونوى اغتسالاً دون اغتسال حكي عن القاضي أبي القاسم رحمه الله عن القضاة الثلاثة أنهم كانوا يقولون لا تصح نيته في هذه الصورة وكانوا يقولون ما ذكر محمد من الجواب، جواب قوله إن خرجت خروجاً لا جواب قوله إن خرجت. ومن المشايخ من قال: ما ذكر من الجواب جواب قوله إن خرجت أيضاً وهذا القائل يفرق بين قوله إن خرجت وبين قوله: إن اغتسلت.

والفرق: أن الخروج في نفسه متنوع لغة، خروج مديد يسمى سفراً، وخروج قصير (لا) يسمى سفراً (بل) خروجاً فتصح نيته في قوله إن خرجت من حيث أنه نوى أحد نوعي الفعل فأما الاغتسال في نفسه ليس بمتنوع على ما مر. وفي هذا الجنس إذا قال إن اغتسلت الليلة في هذه الدار فعبدي حر وقال عنيت فلاناً لا تصح نيته لأنه نوى تخصيص الفاعل والفاعل ليس بمذكور. ولو قال: إن اغتسل هذه الليلة في هذه الدار أحد وقال عنيت فلاناً صحت نيته فيما بينه وبين الله لأن الفاعل مذكور وأنه عام فقد نوى تخصيص العام المذكور فتصح نيته وفي «الأصل» إذا حلف لا يسكن داراً لفلان وهو يعني بأجْر ولم يكن قبل ذلك كلام فسكنها بغير أجر فإنه يحنث ولا تصح نيته لأنه نوى تخصيص السكنى والسكنى الذي هو اسم غير مذكور وإنما المذكور هو الفعل وهو قوله: لا يسكن، فلا تصح نية التخصيص في الاسم، كما لو حلف لا يأكل ثم قال: عنيت طعاماً دون طعام، فإنه لا تصح نيته؛ لأن الطعام غير مذكور إنما المذكور هو فعل الأكل، فرق بين هذا وبين ما إذا حلف لا يسكن داراً يشتريها فلان ثم قال: عنيت داراً يشتريها لنفسه فإنه يكون مصدقاً وقد نوى تخصيص الشراء والشراء ليس في لفظه؛ لأنه ذكر فعل الشراء ولم يذكر الاسم وهذا قال: لا تصح نية التخصيص في السكنى؛ لأن السكنى غير ملفوظ، إنما الملفوظ هو الفعل. ووجه الفرق بينهما أن نية الشراء ما صحت من حيث إنه نوى التخصيص وإنما صحت من حيث إنه نوى أحد نوعي الشراء فإن الشراء نوعان: ما يوجب الملك له، وما يوجب الملك لغيره، وهما يختلفان حكماً، ولا بد أن يكونا نوعين وبيان النوع جائز، وإن لم يذكر اسم ذلك النوع وإنما ذكر الفعل لا غير كما لو حلف لا يخرج ولم يقل خروجاً ثم قال: عنيت الخروج إلى السفر أو إلى ما دون السفر فإنه يصح وإن لم يذكر اسم هذا الفعل وإنما ذكر الفعل غير لأنه بيان نوع لابيان تخصيص بخلاف السكنى؛ لأن السكنى كله جنس واحد لأن حكم الكل واحدة وهو كينونته في الدار إنما تختلف الصفة لا غير يكون بأجر وبغير أجر، وباختلاف الصفة لا يصير البيت نوعاً آخر وجنساً آخر كالتركي مع الهندي فيكون الجنس واحداً فيكون هذا نية التخصيص ونية التخصيص لا تصح إن لم يكن الاسم ملفوظاً فإن قيل (366أ1) لو صحت نية الشراء لنفسه من حيث إنه بيان نوع لا بيان تخصيص كان يجب أن يصدق في القضاء كما في الخروج. وفي قوله أنت بائن قلنا: نية الشراء لنفسه بيان نوع من وجه وتخصيص عام من وجه في حق الحقوق تخصيص عام؛ لأن الشراء لنفسه ولغيره في حق الحقوق على السواء فيكون من هذا الوجه شيئاً واحداً له عموم، فإذا نوى أحدهما كان تخصيصاً ولكن في حق الملك بيان نوع لأنهما مختلفان في حق الملك توفيراً على الشبهين حظهما فقلنا من حيث إنه بيان نوع يصح هذا البيان فيما بينه وبين الله تعالى وإن لم يكن الاسم ملفوظاً، ومن حيث إنه تخصيص لم يصح في القضاء توفيراً على الشبهين حظهما بخلاف الخروج؛ لأنه بيان نوع من كل وجه وإن كان قبل هذا كلام يدل عليه بأن استأجرها منه أو استعارها

الفصل الثامن في الأيمان ما يقع على البعض وما يقع على الجماعة

فأبى فحلف وهو ينوي السكنى بالإجارة فسكن بالعارية أو كان على العكس لا يحنث. وعن أبي يوسف فيمن قال لرجل قائم: والله لا أكلم هذا الرجل، ينوي ما دام قائماً ولم يتكلم بالقيام، كانت نيته باطلة؛ لأنه ليس في لفظه ولو حلف لا يكلم هذا القائم يعني ما دام قائماً دين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه خص ما في لفظه. وكذلك لو قال: والله لأضربن فلاناً (.....) وهو ينوي سوطاً بعينه لم تصح نيته ولو قال إن تزوجت فعبدي حر وقال: عنيت به فلانة أو امرأة من أهل الكوفة لا تصح نيته؛ لأن المرأة غير مذكورة. ولو قال: إن تزوجت امرأة وقال: عنيت فلانة صحت نيته فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن المرأة مذكورة، وقد ذكرت في موضع الشرط الذي هو موضوع النفي فكانت عامة فقد نوى تخصيص المذكور العام فتصح نيته فيما بينه وبين الله تعالى. وروي عن محمد رحمه الله فيمن حلف لا يتزوج امرأة ونوى فيه أمراة مصرية لم تصح نيته وإن نوى عربية أو حبشية صحت نيته فجوز تخصيص الجنس ولم يجوز تخصيص الوصف وأجرى العربية والحبشية مجرى الجنس. ولو قال: والله لا أتزوج امرأة على وجه الأرض ينوي امرأة بعينها جرى فيما بينه وبين الله تعالى ولو قال لا اشتري جارية وعنى مولدة أو عنى ومغنية أو حلف لا يشتري عبداً وعنى آبقاً فنيته باطلة لأنها تخصيص وصف لا تخصيص جنس والله أعلم. وفي أيمان «فتاوى أهل سمرقند» : إذا قال لامرأته إن أعطيت من حنطتي أحداً فأنت طالق وعنى بها أمها صحت نيته ديانة لا قضاء. ولو قال بالفارسية: كركسي وادهي وعنى أمها خاصة لا تصح نيته أصلاً لأن إرادة الخاص من العام بالعربية لا بالفارسية. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله في كتاب الطلاق إذا قال لامرأته: اكركس دا أراد من بدمي فنوى أمها خاصة صحت نيته فيما بينه وبين الله تعالى ولو قال: اكرهيح كر أدمتي لا تصح نيته لأن في الوجه الأول ذكر الركس وأنه لفظة خاصة يتناول كل واحد بإطلاقه فإذا نوى الأم فقد نوى الخاص من لفظة الخاص فتصح نيته فيما بينه وبين الله تعالى، وفي الوجه الثاني ذكر هنج وأنه لفظة عام فإذا نوى الأم فقد نوى الخاص من العام ونية الخاص من العام بالفارسية غير صحيحة. الفصل الثامن في الأيمان ما يقع على البعض وما يقع على الجماعة قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا حلف الرجل فقال: طالق أو قال: عبده حر إن تزوج النساء واشترى العبد فتزوج امرأة واحدة واشترى عبداً واحداً حنث في يمينه. وكذلك إذا قال: إن كلم الرجال وكلم رجلاً واحداً حنث في يمينه. الأصل في جنس هذه

المسائل أن الحكم إذا علق بجمع يتعرف بالألف واللام كما قلنا: العبد والرجال والنساء يتعلق وقوعه بأدنى ما ينطلق عليه ذلك الاسم عند عامة المشايخ إذا لم يكن ثمة معهود؛ لأنه مع الألف واللام يصير للجنس ولا يبقى للجموع، والحكم المتعلق باسم الجنس يتعين وقوعه بأدنى ما ينطلق عليه ذلك الاسم عند عامة المشايخ رحمهم الله إذا لم يكن ثمة معهود وهذا لأن الألف واللام إنما يدخلان في الكلام للتعريف (.......) للجمع حقيقة ولم يصر للجنس يبطل معنى التعريف من كل وجه إذ ليس للجمع معهود تعرفة ولو صار للجنس ولم يبق للجمع لا يبطل معنى الجمعية من كل وجه، فإن كان من حكم الجنس أن ينصرف إلى الأدنى وهو الواحد عند عامة المشايخ رحمهم الله. ومن حكم الجمع أن ينصرف إلى الثلاثة على ما يأتي بيانه لأن الواحد من الثلاثة بعضه فكان حمله على (.....) وليس فيه إبطال معنى الجمعية من كل وجه أولى من حمله على الجمع وفيه إبطال معنى التعريف من كل وجه. وإذا ثبت أن الجمع المعرف بالألف واللام للجنس فنقول: اسم الجنس اسم ينصرف إلى المعهود إذا كان ثمة معهود؛ لأن الصرف إلى المعهود أبلغ في تحصيل ما وضع له الألف واللام، وهو التعريف فإن لم يكن به معهود ينصرف إلى كل الجنس فينصرف إليه إلا إذا تغلب فحينئذ ينصرف إلى الأدنى وعند عامة المشايخ رحمهم الله صرف إلى أدنى ما ينطلق عليه الاسم؛ لأن اسم الجنس كما هو حقيقة الكل فهو حقيقة للأدنى. ألا ترى لو عدم ما وراء الأدنى من ذلك الجنس كان الأدنى كل الجنس. ألا ترى أن آدم صلوات الله عليه حين لم يكن إلا هو كل الجنس وإنما صار بعضاً بمزاحمة أمثاله لامن حيث الحقيقة، فعلم أن الاسم حقيقة لها فلأن اسم الجنس اسم فرد فإنه اسم معنى يقوم بالذات به من بين سائر الأجناس، كاسم الرجل، فإن اسم الرجل معنى قام بالذات باعتبار يقع التبيين بينه وبين سائر الأجناس وذلك المعنى واحد وأنه موجود في الواحد وفي الكل فكان اسم الجنس حقيقة للواحد وللكل باعتبار المعنى غير أنه عند الإطلاق ينصرف إلى الأدنى وهو الواحد: أما على العبارة الأولى: فلأنه مثنى، وأما على العبارة الثانية: فلأن الواحد فرد من حيث الذات والمعنى، ولكل فرد من حيث المعنى لا من حيث الذات وهذا الاسم اسم فرد فكان للفرد ذاتاً ومعنى أحق به هذا هو الكلام جمع المعرف بالألف واللام وإنما للنكرة نحو قولنا: عبيد ورجال ونساء فالحكم المعلق به يتعلق وقوعه بأدنى الجمع الصحيح هو الثلاث دون المثنى، لأن الثلاث هو الجمع الصحيح؛ لأن الجمع الصحيح ما يوجد فيه الوحدان والتثنية وأقل ذلك الثلاث. إذا عرفنا هذه الجملة جئنا إلى تخريج قوله عبده حر إن تزوج النساء فتزوج امرأة واحدة حنث في يمينه بلا خلاف، لأن النساء جمع معرف بالألف واللام فيصير جنساً ولا

معهود ههنا حتى يصرف إليه، فينصرف إلى أدنى ما ينطلق عليه هذا الاسم وهي الواحدة عند عامة المشايخ رحمهم الله، وإنه ظاهر وكذلك على قول الباقين؛ لأنهم يقولون بصرفه إلى الأدنى عند تعذر صرفه إلى الكل، وههنا تعذر؛ لأن الإنسان إنما يمنع نفسه منعاً مؤكداً باليمين عما في وسعه مباشرته لا عما ليس في وسعه مباشرته وليس في وسعه تزوج نساء العالم بأجمعهن، ولا مكالمة رجال العالم فانصرف إلى واحد لكونه في وسعه وصار تقدير يمينه كأنه قال: لا أتزوج بواحدة من النساء، لا أكلم واحداً من الرجال. وكذلك إذا حلف لا يكلم بني آدم فكلم واحداً منهم يحنث في يمينه لأن الإضافة للتعريف (366ب1) كحرف اللام وكل جواب عرفته في حرف اللام فهو الجواب ههنا وفتوى في هذا إن ذكر الأبد أو لم يذكر الأبد لأن الأبد يذكر لتأكيد ما دخل تحت اليمين ههنا الواحدة فكأنه قال: إن تزوجت امرأة وهنا ذكر الأبد ولا ذكر سواء. ولو قال: عبده حر إن تزوج نساء إن اشترى عبيداً إن كلم رجالاً لا يحنث في يمينه ما لم يفعل بأشياء ثلاثة من بينها لأن هذا جمع منكر فينصرف إلى نيته لما مر. وإن قال: عنيت جميع نساء العالم وجميع الرجال وجميع العبيد في المسألة الأولى فتزوج امرأة واحدة وكلم رجلاً واحداً أو اشترى عبداً واحداً لا يحنث في يمينه فقد صحت هذه النية وصدقه فيها أو لم يذكر أنه مصدق في القضاء أو فيما بينه وبين ربه أو فيما وذكر محمد رحمه الله هذا النوع من المسائل في «الجامع» وفي «الأصل» وذكر في بعضها أنه يصدق من غير تفصيل، فإنه ذكر فيمن حلف لا يضع قدمه في دار فلان لا يلبس غزل فلان، وعنى به حقيقة وضع القدم ولبس من الغزل وذكر أنه يصدق ولم يقيد، وذكر محمد رحمه الله في بعضها أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى دون القضاء، فإنه ذكر فيمن حلف لا يأكل طعاماً أو شراباً دون شراب، وذكر أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى دون القضاء، وذكر في بعضها أنه يدين فيما بينه وبين الله وفي القضاء، فإنه ذكر فيمن قال: عبدي حر يوم أدخل دار فلان، عبدي حر يوم يقدم فلان، وقال: عنيت بياض النهار يدين فيما بينه وبين الله تعالى وفي القضاء وقال في تعليل هذه المسألة: لأنه نوى مفيد كلامه ففي هذا التعليل أنه يصدق في القضاء في مسألتنا أيضاً؛ لأنه نوى حقيقة كلامه. وإطلاق محمد رحمه الله الجواب في الكتاب يدل عليه وكان الفقيه أبو القاسم الصفار البلخي رحمه الله يقول في هذه المسألة: إن القاضي لا يصدقه وإن نوى حقيقة كلامه إلا أن هذه حقيقة لا تثبت إلا بالنية، والقاضي لا يقف على نيته، فإذا كان فيما نوى تحقيقاً عليه فالقاضي لا يصدقه. ألا ترى أن من قال لامرأته: أنت طالق، وقال: عنيت به الطلاق من الوثاق لا يصدقه القاضي وإن نوى حقيقة كلامه؛ لأن هذه حقيقة لا تثبت إلا بالنية وفيه تحقيق. وجه ما ذكر محمد رحمه الله: أن المنوي إذا كان حقيقة كلامه لو صدقه القاضي في نيته كان عاملاً بظاهر لفظه لأن ما نوى يدل عليه لفظه حقيقة والقاضي يقف على ظاهر

لفظه بخلاف مسألة الطلاق لأن ثمة نوى المجاز من كلامه؛ لأن الحقيقة في إزالة قيد الوثاق أطلقه إطلاقاً أنا في إزالة قيد النكاح طلق يطلق تطليقاً وطلاقاً، فإذا قال: عنيت الطلاق عن قيد الوثاق، فكأنه عنى يطلق أطلق وأنه مجاز، وفي نية المجاز القاضي لا يصدقه إذا كان فيه تحقيقاً لأن المجاز إنما يثبت بالنية والإرادة، والقاضي لا يقف على إرادته إلا بخبره فإذا كان فيه تحقيقاً كان متهماً في خبره فلا يصدقه القاضي هذا المعنى في بيان فيما إذا نوى حقيقة كلامه فإن قال عنيت ما زاد على الثلاث في المسألة الثانية هل يصدق قضاء؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذه الفصل وعلى قياس ما ذكر في المسألة الأولى وينبغي أن يصدق لأنه نوى حقيقة كلامه لأن اسم الجمع لما زاد على الثلاث حقيقة. وعلى قول أبي القاسم الصفار ينبغي أن لا يصدق لأن هذه حقيقة لا تثبت إلا بالنية، وإن قال: عنيت الواحدة في المسألة الثانية ينبغي أن يصدقه القاضي في نيته لأن هذا اسم جمع وليس باسم عدد، فإذا نوى الواحدة فقد نوى الخصوص من اسم العام وأنه جائز لغة وشرعاً أكثر ما فيه أنه مجاز إلا أن دعوى المجاز صحيحة قضاء إذا كان فيه تغليطاً وههنا فيما نوى تغليط فجاز أن يصدقه القاضي. وإذا قال الرجل: لعبيده أيكم حمل هذه الخشبة فهو حر فحملوها جميعاً ينظر إن كانت الخشبة حقيقة يقدر الواحد على حملها لا يعتقون حتى يحملها واحد بعد واحد وإن كانت الخشبة ثقيلة لا يقدر الواحد على حملها وأما يقدر عليها اثنان أو ثلاثة عتقوا هكذا ذكر المسألة في «الجامع» . والوجه في ذلك: أن الخشبة اسم بجميعها وقد أضاف حملها إلى كل واحد؛ لأن كلمة أي وإن كانت تتناول واحداً منكراً من جملة ما أضيف إليها هذه الكلمة، إلا أنه وصف ذلك المنكر بصفة عامة وهي الحمل أضيف إلى جميع العبيد الذي أضيف إليهم كلمة أي فأوجبت عموم العبيد سواء كانت الخشبة حقيقة صار المنكر موصوفاً بحمل جميع الخشبة أو بحمل بعضها، فنقول: إذا كانت الخشبة حقيقة لأن العمل حقيقة اسم الخشبة ممكن بأن يجعل شرط العتق في حق كل واحد حمل جميع الخشبة أو يتأتى ذلك من كل واحد وإذا اختار حمل جميع الخشبة شرطاً في حق كل واحد فإذا حملوها حملة لم يوجد الشرط بكماله في حق كل واحد فلا يعتقون. وهو نظير ما إذا قال لعبيده: أيكم أكل هذا الرغيف فهو حر فأكله اثنان أو أكثر من ذلك لا يعتق واحد منهم سواء كان يقدر الواحد على أكله بدفعة واحدة أو بدفعتين أو بدفعات؛ لأن أكل الرغيف من كل واحد متصور إما بدفعة واحدة أو بدفعات وصار الداخل تحت كلمة أي موصوفاً بأكل جميع الرغيف فإذا أكله اثنان أو ثلاثة لم يوجد من كل واحد أكل جميع الرغيف لا يحنث ذكر مسألة الرغيف في «الجامع» على هذا الوجه. وذكر في «الأصل» إذا قال لنسائه: أيتكن أكلت من هذا الطعام شيئاً فهي طالق، فأكلن جميعاً طلقن ولو قال: أيتكن أكلت هذا الطعام ولم يقل من الطعام هذا فأكلن ينظر إن كان الطعام كثيراً بحيث لا يقدر الواحد على أكله طلقن، وإن كان الطعام قليلاً بحيث

يقدر على أكله الواحد لا يقع الطلاق عليهن إذا أكلن فأما إذا كانت الخشبة ثقيلة لا يقدر الواحد على حملها، فالنكرة صارت موصوفة بحمل بعض الخشبة؛ لأن العمل بحقيقة اسم الخشبة متعذر؛ لأن حمل جميع الخشبة في هذه الصورة لا يتأتى من الواحد فيعمل بمجازه ويجعل شرط الحنث في حق كل واحد منهم حمل بعض الخشبة؛ لأنه ذكر الكل، وإرادة البعض بطريق المجاز جائز وصار البعض كالمصرح به كأنه قال: أيكم حمل بعض هذه الخشبة فهو حر فإذا حملوها وقد وجد من كل واحد حمل (367أ1) البعض فعتقوا. وهو نظير ما لو قال لعبيده: أيكم يشرب ماء هذا البحر فهو حر فشرب كل واحد منهم قطرة عتقوا؛ لأن شرب جميع ماء البحر من كل واحد غير متصور العمل بحقيقة هذا الكلام فيعمل بمجازه. ثم إن محمداً رحمه الله يقول في «الكتاب» : إذا كانت الخشبة ثقيلة يقدر على حملها اثنان فحملوها جملة عتقوا؛ لأن الشرط في هذه الصورة حمل بعض الخشبة والبعض من حيث إنه بعض لا يفصل فيه بين قدر وقدر ونقول أيضاً: إذا كانت الخشبة خفيفة يقدر الواحد على حملها إذا حملها واحد عتق وإذا حملها واحد بعد واحد عتقوا، وفيه نوع إشكال؛ لأن هذا اللفظ إن (كان خاصاً) ينبغي أنه إذا حمل الواحد وحكم بعتقه لو حملها آخر بعد ذلك أنه لا يعتق، وإن كان عاماً ينبغي أن لا يعتق واحد منهم ما لم يحملوها جميعاً واحد بعد واحد كما لو قال: إن حملهم هذه الخشبة فأنتم أحرار والجواب: هذا اللفظ خاص بصورته عام معنى فإذا حمل الواحد عتق عملاً بخصوص اللفظ صورة وإذا حمل واحد بعد واحد عتقوا عملاً بالعموم بخلاف قوله إن حملتم هذه الخشبة لأنه عام لفظاً ومعنى فما لم يحملوها لم يعتقوا أما ههنا بخلافه. ولو قال: إن تغديت برغيفين فعبدي حر فتغدى اليوم برغيف والغد برغيف القياس: أن يحنث عملاً بإطلاق اللفظة كما في المعنيين بأن قال: إن تغديت بهذين الرغيفين وهناك: إن تغدى اليوم بإحدى الرغيفين والغد بالرغيف الآخر يحنث في يمينه وفي الاستحسان لا يحنث في يمينه بمكان العرف فإن الإنسان يستحي من بعد أن يقول ما تغديت برغيفين في عمري وإن تغدى بأرغفة كثيرة في أيام متفرقة ولا يعد كاذباً ومثل هذا الفرق لم يوجد في المعنيين فيعمل فيه بإطلاق اللفظ، فإن نوى التفرق في هذا كان كما نوى؛ لأنه نوى حقيقة كلامه وفيه تغليظ عليه. ولو قال: إن أكلت رغيفين أو قال: إن أكلت هذين الرغيفين فعبدي حر فأكلهما معاً أو متفرقاً حنث في يمينه قياساً أو استحساناً، فعلى جواب الاستحسان يحتاج إلى الفرق بين التغدي والأكل في غير المعنيين. والفرق: أن التقيد بالاجتماع في غير المعنيين في فصل بالعرف ولم يوجد مثل ذلك العرف في المعنيين في فعل الأكل بل العرف في فعل والأكل بخلافه فإن الإنسان لا يستحي من نفسه أن يقول ما أكلت رغيفين منذ خلقت إذا أكلهما متفرقاً يعمل بإطلاق اللفظ.

وفي «الزيادات» إذا حلف الرجل لا يشتري ذهباً ولا فضة فاشترى دراهم بدنانير ودنانير بدراهم لا يحنث في يمينه وعن أبي يوسف أنه يحنث؛ لأنه ذهب وفضة حقيقة ولهذا المعنى يجري فيه الفضل وربا النساء وجه ظاهر الرواية: أنه منع نفسه عن شراء الذهب والفضة وهو لا يوجد إلا ببيع الذهب والفضة، وبائع الدراهم والدنانير لا يسمى بائع الذهب والفضة في العرف، وإنما يسمى صرفياً ولهذا يباع في سوق الصيارفة فمشتريها يكون كذلك فقد جعل عدم الحنث في «الزيادات» جواب ظاهر الرواية. وفي «القدوري» ذكر أن عدم الحنث قول محمد رحمه الله والحنث قول أبي يوسف رحمه الله، قال: وهو نظير ما لو حلف أن لا يشتري طعاماً فإنه ينصرف إلى الحنطة ودقيقها؛ لأن بائعها يسمى بائع الطعام فمشتريها يكون كذلك، وصار الأصل عند محمد رحمه الله أن الشراء يعتبر بالبيع لأنه يتم به ويبنى عليه، لأنه قبول البيع ولا يتصور قبول البائع إلا بالبيع فيعتبر بالبيع لهذا فكل من يسمى بائعه بائعاً لذلك الشيء فمشتريه يسمى مشترياً لذلك الشيء. وكذلك لو اشترى داراً وفي سقوفها ذهب وفضة فإنه لا يحنث في يمينه، لأن بائعه لا يسمى بائع الذهب والفضة وإنما يسمى بائع الدار فمشتريه أيضاً كذلك. يوضحه: أن الذهب أو الفضة التي في سقف الدار تبع للدار والبيع لا يضاف إلى التبع فلا يكون هذا بيع الذهب والفضة وإنما يكون بيع الدار فكذا الشراء ولو اشترى نقرة فضة أو سبيكة ذهب أو (.....) مصنوعاً أو طوقاً مصنوعاً أو تبراً فإنه يحنث في يمينه؛ لأن بائع هذه الأشياء يسمى بائع الذهب والفضة فمشتريها أيضاً يكون كذلك. ولو حلف أن لا يشتري حديداً ولا نية له فاشترى درعاً أو سيفاً أو سكيناً أو رمحاً فإنه لا يحنث في يمينه؛ لأن بائع هذه الأشياء لا يسمى حداداً وإنما يسمى بائع السلاح ولهذا يباع في سوق السلاح فمشتريه يكون كذلك وهذا قول محمد رحمه الله. وعند أبي يوسف رحمه الله يحنث لأنه يعتبر الحقيقة والأشياء حديد حقيقة وذكر في «الأمالي» أنه لو اشترى درعاً أو نصل سيف أو سكين يحنث؛ وهذا محمول على قول أبي يوسف أو على اختلاف العرف باختلاف البلدان عند محمد رحمه الله. ولو اشترى حديداً غير مضروب أو إناء من الحديد أو كانوناً أو أقفالاً فإنه يحنث في يمينه؛ لأن بائع هذه الأشياء يسمى حداداً فمشتريه أيضاً كذلك قال مشايخنا رحمهم الله: يجب أن لا يحنث في الأقفال في بلادنا؛ لأن بائع الأقفال لا يسمى بائع الحديد، وبهذا لا يباع في سوق للحدادين فلا يحنث في يمينه إلا إذا نوى ذلك كله؛ لأنه نوى حقيقة ما تكلم به وفيه تغليظة عليه فيحنث في يمينه والشيخ الإمام الأجل السرخسي حجج ما ذكر في «الكتاب» والصدر الشهيد برهان الأئمة رحمه الله حجج قول أولئك المشايخ. ولو حلف لا يشتري صفراً أو (....) أو نحاساً واشترى آنية من أواني الصفر أو

النحاس أو أشبه فإنه يحنث في يمينه وهذا بلا خلاف أما عند أبي يوسف فلأنه يعتبر الحقيقة وأما عند محمد رحمه الله؛ لأن بائع هذه الأشياء يسمى صفاراً فمشتريها أيضاً يسمى صفاراً. وإن اشترى فلوساً لا يحنث في يمينه وإن كانت هي صفراً حقيقة أو نحاساً أو (....) لأن بائعها لا يسمى صفاراً فكذا مشتريها أيضاً إلا إذا نوى ذلك فحينئذ يحنث في يمينه لأنه نوى حقيقة ما تكلم به وفيه تغليظ عليه وهذا قول محمد رحمه الله، وعند أبي يوسف يحنث بشراء الفلوس فكذلك إذا كسرت الفلوس ثم أشتراها يحنث في يمينه؛ لأن بائعها الآن يسمى بائع الصفر فمشتريها يكون كذلك. ولو حلف لا يشتري خزاً ولا نية له فاشترى جلوداً من جلود الخز عليه خز يحنث في يمينه واعلم بأن الخز اسم لدابة في البحر على ظهرها خز فإذا اشترى جلد خز عليها خز أو اشترى ثوباً من خز فإنه يحنث في يمينه وإن لم يكن ذلك خزاً خالصاً لأن بائع هذه الأشياء يسمى خزازاً فمشتريها يكون كذلك أيضاً ولو حلف (367ب1) لا يشتري قطناً وكتاناً فاشترى ثوباً من قطن أو من كتان لا يحنث في يمينه لأن بائعهما لا يسمى بائع الكتان والقطن في عرفهم وإنما يسمى كتانياً فمشتريها يكون كذلك أيضاً ولو اشترى غير المعمول من الكتان يحنث في يمينه لأن بائعه يسمى بائع الكتان فمشتريه يكون كذلك أيضاً. ولو حلف لا يشتري طيناً فاشترى لبناً، أو داراً مبنية بطين فإنه لا يحنث في يمينه، لأن بائعه لا يسمى بائع الطين وإنما يسمى بائع اللبن والدار، فمشتريه كذلك أيضاً ولو حلف لا يشتري لبناً فاشترى شاة في ضرعها لبن، أو حلف لا يشتري صوفاً فاشترى شاة على ظهرها صوف لا يحنث في يمينه؛ لأن بائعها لا يسمى حلاباً ولا يسمى بائع اللبن والصوف وكيف سمي بهذا الاسم وأنه لو باع الصوف على ظهر الشاة أو باع اللبن في ضرع الشاة فإنه لا يجوز العقد فمشتريه كذلك أيضاً. وكذلك لو اشترى شاة على ظهرها صوف بصوف منفصل أكثر مما على ظهر الشاة لا يحنث في يمينه، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يحنث في يمينه؛ لأن الصوف ههنا صار مقصوداً بالبيع ولهذا شرط الاعتبار ههنا وهو: أن يكون الصوف المنفصل أكثر من الصوف الذي على ظهر الشاة لجواز هذا البيع. وجه ظاهر الرواية: أن الصوف ههنا غيره مقصود بالبيع وبهذا وباع الصوف على ظهر الشاة فإنه لا يجوز إلا أنه إنما يشترط الاعتبار باعتبار صورة المعاملة فإن الشبهة ملحقة بالحقيقة في باب الربا، وهذا المعنى معدوم في باب الحنث فلا يحنث في يمينه. ولو حلف لا يشتري رطباً فاشترى كناسة يبس فيها شيء من الرطب فإنه لا يحنث في يمينه لأن بائعها لا يسمى بائع الرطب وإنما يسمى بائع يبس فمشتريها أيضاً كذلك لا يسمى مشتري الرطب.

ونظير هذا ما إذا حلف لا يشتري شعيراً فاشترى حنطة فيها حبات شعير لا يحنث في يمينه لما ذكرنا ولو كان عقد اليمين على الأكل يحنث في يمينه لأن الأكل يتناول كل واحد منهم مقصوداً فيصير متناولاً للرطب كما يصير متناولاً لليبس مقصوداً، أما البيع فإنه يتناول الجملة وباعتبار النظر إلى الجملة لا يسمى بائعها بائع الرطب فمشتريها يكون كذلك أيضاً. ولو حلف لا يشتري قصباً فاشترى بواري من قصب لا يحنث في يمينه لأن بائعه لا يسمى بائع القصب وإنما يسمى حصيرياً فمشتريه كذلك أيضاً، ولو حلف لا يشتري شعراً فاشترى نسجاً أو جوالق من شعر لا يحنث في يمينه لأن بائعه يسمى جوالقياً ولا يسمى بائع الشعر فكذا مشتريه أيضاً، ولو كان عقد يمينه على المس حنث في ذلك لأن المس يتم به وحده وقد وجد مس ما يتناوله الاسم حقيقة لأن فيما يتم به وبغيره وهو البيع والشراء تركت هذه الحقيقة لوجود العرف بخلافه أما فيما يتم به وحده وهو المس لم يوجد العرف فيحب العمل بالحقيقة فيحنث في الفصول كلها إلا في القطن والكتان فإنه لو مس المعمول فإنه لا يحنث في يمينه لأنه بالصيغة التي خلت مما صار به شيئاً آخر وبهذا لا يتصور عودهما إلى الحالة الأولى بالنقض، أما ما عداهما من هذه الأشياء يتصور عودهما كل واحد منهم إلى الحالة الأولى بالنقض فيحنث في يمينه ولأن المسمى يتناول جزءاً واحداً وذلك الجزء يسمى اسم الذي عقد يمينه عليه، أما البيع والشراء يتناول الجملة والجملة غير مسمى باسم الذي عقد يمينه عليه ولهذا لا يحنث في يمينه والله أعلم d في الشروط التي تحمل على معناها دون اللفظ التي يعتبر فيها اللفظ امرأة إذا حملت إلى بيت زوجها وقراً من حطب أو حساء اللحم فقال الزوج، الزمن إراقة ده نواد أنه تخوزم فأنت طالق ثلاثاً فأكل شيئاً من ذلك اللحم تطلق المرأة وإن لم يأكل دانه أزاورده ولم يتقيد اليمين باللفظ واعتبر الغرض. والأصل في جنس هذه المسائل: اعتبار اللفظ ما أمكن وعند اعتبار اللفظ يعتبر الغرض والمقصود الدليل عليه. ذكر في «فتاوى الفضلي» رحمه الله إذا قال لامرأته: أكركس أدنى خانة سدي أدين ديدان يرسي برون تردير إطلاق فاخرج من ذلك شيئا غير ما سمى لا تطلق المرأة، وكذلك إذا قال لامرأته: أكرترايبكي تي خيري خرم بر إطلاق فاشترى لها شيئاً بالدراهم لا يحنث، واعتبر اللفظ ممكن بينهما فإن الشراء بعلة واحد ممكن وكذلك واخراج ريدان أرين ممكن وكذلك ذكر في باب الخروج من أيمان «الأصل» إذا حلف لا تخرج امرأته من باب هذا الدار فخرجت من غير الباب لا يحنث وكذلك إذا حلف على باب بعينه

فخرجت من باب آخر لا يحنث، وغرض الحالف المنع عن الخروج وعن الدار وذلك لا يتفاوت واعتبر اللفظ لأن اعتبار اللفظ ممكن وفيما إذا قال أكرد أنه أرااورده بو تخوزم إنما اعتبر الغرض ولم يعتبر اللفظ؛ لأن اعتبار اللفظ غير ممكن لأن اللحم لا يكون له دانة فاعتبر الغرض والمقصود وغرضه المبالغة في امتناعه عن تناول ما أوردته وحملته قليلاً كان أو كثيراً. وإذا قال: كفلت أحداً بدرهم عدلي أو قال بنصف درهم عدلي فكذا يكفل رجلاً بعشرة دراهم عن طريقته لا يحنث ولم يعتبر الغرض لأن اعتبار اللفظ ممكن وفيما صار اللفظ مجازاً عن غيره لا يعتبر اللفظ. بحقيقته وينصرف إلى المجاز كما وضع القدم في الدار وكما وضع اليد على الدوك إلا إذا وجد دليل يدل على عدم إرادته المجاز فحينئذ تعتبر الحقيقة. ألا ترى إلى ما ذكر في طلاق «الفتاوى» إذا قال الرجل لامرأته: إن ارتقيت هذا السلم أو وضعت رجلك عليه فأنت كذا فوضعت رجلها عليه ولم ترتق فإنه لا يقع الحنث، وإن صار وضع الرجل على السلم مجازاً عن الارتقاء عرفاً ولم ينصرف إلى المجاز لأنه دليل على عدم إرادته المجاز وهو عطف الوضع على الارتقاء؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه فعملنا بدلالة العطف أن الزوج لم يرد به المجاز وإنما أراد به الحقيقة ولو قال: أكر حسم من برزن افتريا فلان كاريكند فكذا وكلم معها ونام في الليل بحيث لم يقع بصره عليها لا تطلق؛ لأن اعتبار اللفظ ممكن ههنا وهذا اللفظ لم يصر مجازاً عن التكلم والنوم معها. وإذا قال لامرأته: إن لم أبعث نفقتك من كوهته إلى عشرة أيام فكذا فبعث النفقة قبل مضي عشرة أيام (368أ1) ولكن من موضع آخر حنث في يمينه لم يعتبر الغرض وهو وصول النفقة إليها لأن اعتبار اللفظ ممكن. قال في «القدوري» : إذا حلف الرجل ليضربن امرأته حتى يقتلها أو ترفع ميتة فهذا على أشد الضرب. وفيه أيضاً: عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لامرأته إن لم أضربك حتى أتركك لا حياً وميتاً فهذا على الضرب الوجيع. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا قال لامرأته: إن لم أضرب اليوم ولدك على الأرض حتى ينشق نصفين فأنت طالق ثلاثاً، فضربه على الأرض ولم ينشق طلقت امرأته لانعدام شرطه البر وأنه يخالف رواية القدوري في قوله حتى يقتلها أو ترفع ميتة. وفي «البقالي» عن محمد رحمه الله إذا قال: لأقتلنك يريد أن يوجعه ضرباً صح وهذا قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وفي «المنتقى» إذا قال لها: والله لأضربنك بالسياط حتى أقتلك فهذا على الضرب الوجيع ولو قال: لأضربنك بالسيف ضربة حتى تموت فهذا على الموت عرف مراده لقران السيف بالضرب. ولو حلف ليضربنها حتى يغش عليها أو تبول أو حتى تبكي أو تستغيث فهو على ما قال وعن محمد رحمه الله وفي قوله حتى تبول ونحوه أنه وقف ولو حلف ليقتلن فلاناً ألف مرة وقال عنيت به أن آتي على نفسه بالقتل وفي القضاء:

الفصل التاسع في العطف على اليمين بعد السكوت

ولو حلف أنه سمع فلاناً طلق امرأته ألف مرة وقد سمعه طلقها ثلاثاً دين فيما بينه وبين الله لأن حكم الثلاث وحكم الألف واحد، وكذلك لو حلف أنه لقي فلاناً ألف مرة وقد لقيه مرات وأراد كثرة اللقاء دون العدد وبه حلف على امرأته أنها قبلته البارحة ألف مرة ذكر في «مجموع النوازل» أن هذا على المبالغة عرفاً فإن كانت قد قست وأصابه أذى كثير بحيث لم يمكنه الصبر حتى نام على الأرض لا يحنث في يمينه، وعن أبي يوسف فيمن قال لأدقن يد غلامي على رجله إنه على الضرب إلا أن ينوي الكسر وإذا قال دخل لأهل سكة أكر مرد امن أين لويّ تيمارى تركيستان فامرأته طالق ثلاثاً فسلط على أهل السكة عدلاً تراكاً كثيرة فقد يرمي بيمينه على هذا معد في كلام الناس وإذا قال لامرأته أكر لف بأي توبوسة يدهم أين ساعت فأنت طالق ثلاثاً فقبلت باطن كفها وقعد فيها في المكفر تطلق اعتباراً للفظه عند الإمكان. رجل يستأجر مع أخيه وأخته وقال: أكر شمار احرار موري كينم فامرأته طالق ثلاثاً اختلف المشايخ رحمهم الله فيه قال بعضهم: تطلق امرأته ما عاشا لأنه متصور فلا يتحقق شرط الحنث إلا بالموت فمنهم من قال تطلق امرأته؛ لأن العجز متحقق عادة إلا إذا نوى القهر والغلبة والتضعيف عليها فتصح نيته فلا يقع الطلاق ما لم يمت الحالف والمحلوف عليها قبل أن يفعل بهما ما نوى وبه كان يفتي الصدر الشهيد رحمه الله. إذا قال لامرأته أكر ترا بحوت أتدري كنم فكذا ضر بها على أنفها حتى خرح الدم ويطلع (.....) فإن كان مراده هذا القدر ولم يكن له نية فلا يحنث؛ لأن الظاهر أنه لا يراد بهذا الكمال والله (أعلم) . الفصل التاسع في العطف على اليمين بعد السكوت الحالف إذا ألحق باليمين المعقودة بعد سكوته شرطاً إن كان الشرط له لا يلتحق بالإجماع وإن كان الشرط عليه هل يلتحق قال محمد بن سلمة لا يلتحق، وبه أخذ الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» وقال نصر بن يحيى: يلحق وهو المروي عن أبي يوسف. الرجل إذا عطف على يمينه بعد سكوته ما يوسع على نفسه لم يصح كالاستثناء وإن كان فيه تشديد صح وبيان الأول: إذا قال لامرأته إن دخلت هذه الدار فأنت طالق فسكت سكتة ثم قال: وهذه الدار الأخرى لم تدخل الدار الثانية في اليمين فإن بدون قوله وهذه الدار الأخرى إذا دخلت الدار الأولى تطلق ومتى دخلت الدار الثانية في اليمين لا تطلق بدخول الدار الأولى وحدها وهو لا يملك تغيير اليمين. ومثال الثاني إذا قال لها: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق فسكت سكتة ثم قال

الفصل العاشر في الحلف على الأقوال

وهذه لا امرأتي أخرى دخلت الثانية في اليمين وكذلك إذا قال: وإن دخلت هذه الدار الأخرى دخلت الدار الأخرى في اليمين حتى إن في المسألة الأولى لو دخلت المرأة الأولى الدار طلقتا. وفي المسألة الثانية: لو دخلت المرأة الدار الأولى أو الدار الأخرى أيتهما دخلت طلقت على رواية أبي يوسف وهو اختيار نصر بن يحيى إذ ليس فيه تغيير اليمين فإن بدون قوله وهذه لامرأة أخرى في المسألة الأولى ولو دخلت المرأة الأولى تطلق وبعد وقوعه وهذه طلقت أيضاً، وفي المسألة الثانية بدون قوله وإن دخلت الدار الأخرى لو دخلت الدار الأولى طلقت، وبعد قوله: إن دخلت هذه الدار الأخرى لو دخلت الدار الأولى طلقت أيضاً ولو نجز فقال: هذه طالق ثم قال: وهذه بعدما سكت طلقت الثانية وكذلك العتق والله أعلم بالصواب. الفصل العاشر في الحلف على الأقوال هذا الفصل مشتمل على أنواع: نوع منه في الكلام: إذا حلف لا يكلم فلاناً أبداً أو لم يقل أبداً فهذا على الأبد أي وقت كلمه حنث وإن نوى شيئاً دون شيء بأن نوى يوماً أو يومين أو ثلاثاً أو نوى بلداً أو منزلاً أو ما أشبه ذلك، لم يدين في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه نوى تخصيص ما ليس بملفوظ ونية التخصيص فيما ليس بملفوظ لا تصح لا في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يحنث حتى يكلم بكلام مستأنف بعد اليمين منقطع عنها، وإن كان موصولاً لم يحنث نحو أن يقول إن كلمتك فأنت طالق فاذهبي أو فقومي هكذا ذكر القدوري؛ لأن هذا من تمام الكلام الأول فلا يكون مقصوداً باليمين. وكذلك إذا قال: وإن هي إلا أن يريد فهذا كلام مستأنف وفي «مجموع النوازل» إذا قال لامرأته إن كلمتك إلى سنة فأنت طالق إذهبي يا عدو الله طلقت لأنه كلمها بعد اليمين فقد ذكر المسألة على هذا التفصيل في كتاب الطلاق من هذا الكتاب. وإن كان في الحال ما يدل على التخصيص كان خاصاً نحو أن يقول: كلم محمداً هذا اليوم في كذا فقال والله لا أكلمه فهذا تخصيص اليوم (36801) . ولو حلف لا يكلم فلاناً شهراً تعتبر المدة من وقت الحلف؛ لأن الحاصل على اليمين غبطة لحق الحالف من جهة المحلوف عليه في الحال، فيمنع نفسه عن الكلام معه في الحال ولو حلف لا يتكلم ولا نية له فصلى وقرأ فيها أو سبح أو هلل، لم يحنث استحساناً لأن ما في الصلاة من القراءة والتسبيح والتهليل وإن كان كلاماً حقيقة؛ لأن كلامنا اسم لحروف منظومة بصوت مسموع وقد وجد هذا الحد في التسبيح والتهليل والقراءة إلا أنه ليس بكلام حكماً حتى لا تفسد به الصلاة فكان ما وصى في معنى الكلام

فلا يدخل تحت مطلق الاسم أو نقول: إن كان هذا كلاماً حقيقة فليس بكلام عرفاً ألا ترى أن الرجل يقول ما كلمت فلاناً اليوم فإن كان قد صلى وقرأ وسبح وهلل فيها وأما إذا قرأ خارج الصلاة وسبح وهلل يحنث في يمينه عند علمائنا رحمهم الله وأنه يخرج على العبارة الأولى دون العبارة الثانية. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: هذا إذا كان عقد يمينه بالعربية فأما إذا عقد يمينه بالفارسية لا يحنث بالقراءة والتسبيح والتهليل خارج الصلاة كما لا يحنث بها في الصلاة لأن العرف أهل الفارسية لا يسمون القارىء والمسبح والمهلل متكلماً. ولو حلف لا يكلم فلاناً فسلم الحالف على قوم والمحلوف عليه فيهم حنث في يمينه لأنه لما سلم عليهم فقد كلم المحلوف عليه وكلم غيره والزيادة على شرط الحنث لا تمنع وقوع الحنث قال: إلا أن لا يفصل بالسلام فيصدق ديانة ولا يصدق قضاء حتى لا يحنث ديانة ويحنث قضاء عنى التخصيص من كلامه؛ لأنه خاطب الكل وإذا أراد به البعض ونية تخصيص بعض الكلام تصح ديانة لا قضاء. وفي «مجموع النوازل» إذا سلم على قوم والمحلوف عليه فيهم فقال السلام عليكم إلا على واحد لا يحنث في يمينه، هذا إذا سلم خارج الصلاة فأما إذا سلم وهما في الصلاة يعني الحالف والمحلوف عليه في الصلاة فهذا على وجهين: إن كان الحالف إماماً والمحلوف عليه على يمينه لا يحنث في يمينه؛ لأن التسليمة الأولى كلام حصل في الصلاة لأنه بها يخرج عن الصلاة والكلام في الصلاة مما لا يقع به الحنث وإن كان الحالف على يساره فقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه. منهم من قال: يحنث لأنه تكلم معه خارج الصلاة والكلام خارج الصلاة مما يقع به الحنث ومنهم من قال: لا يحنث لأن التسليمة الثانية كلام حصل في الصلاة من وجه. ألا ترى أنه يأتي بسجود السهو بعد التسليمة الثانية، ولو كانت التسليمة الثانية بمنزلة الكلام خارج الصلاة من كل وجه ما أمكنه الإتيان بها بعد التسليمة الثانية فإذا كانت التسليمة الثانية في الصلاة من وجه لا يقع الحنث بها. وفي «شرح القدوري» : فيما إذا كان الحالف إماماً وسلم لا يحنث من غير تفصيل وفي «فتاوى شمس الإسلام الأوزجندي» فيما إذا كان الحالف إماماً أنه يحنث بالسلام إذا نواه وإن كان على يمينه وفي «الشافي» في هذه الصورة أنه يحنث إلا أن ينوي وقت مره من غير فصل بين جانب اليمين واليسار وأما إذا كان الحالف مؤتماً فالجواب عند أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله كالجواب في الإمام لأن سلام الإمام لا يخرج المؤتم عن الصلاة وعندهما قد ذكرنا في الإمام إذا كان هو الحالف والمؤتم على يمينه لا يحنث بلا خلاف وإن كان على يساره فعلى الخلاف فكذا في حق المؤتم، وعلى قول محمد يحنث في يمينه على كل حال لأنه صار خارجاً عن الصلاة بسلام الإمام عنده فقد تكلم مع المحلوف عليه خارج (الصلاة) فيحنث في يمينه. ولو كتب إليه كتاباً أو أرسل إليه رسولاً لا يحنث في يمينه لأن الكلام على

المشافهة.... ألا ترى أن موسى عليه السلام كليم الله ولم يسم غيره من الأنبياء بهذا الاسم؛ لأن الكلام مع موسى صلوات الله عليه كان لا بواسطة ومع غيره من الأنبياء كان بواسطة وكذلك إذا أشار إليه بإشارة أو أومأ إليه لم يحنث لأن الكلام عبارة عن حروف منظومة بصوت مسموع ولم يوجد شيء منه في تلك الإشارة والإيماء. ولو حلف لا يكلم فلاناً فناداه من بعيد فإن سمع صوته لو أصغى إليه أذنه يحنث وإن لم يسمع بعارض أو كان مشغولاً بشيء أو كان أصماً وإن كان بحيث لا يسمع لو أصغى إليه أذنه لشدة البعد لا يحنث في يمينه؛ لأن تكليم فلان عبارة عن إسماع نفسه إلا أن إسماع غيره أمر باطن لا يوقف عليه فسقط اعتباره واعتبر السبب الظاهر المؤدي إليه مقامه وهو أن يكون بحيث لو أصغى إليه أذنه ولم يكن مانع سمع كلامه وقد وجد ذلك في الوجه الأول دون الثاني فأما إذا ناداه وهو نائم فأيقظه لا شك أنه يحنث في يمينه لأنه لما أيقظه فقد أسمعه وإن لم ينتبه فعنه روايتان. وقد ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» : إذا نادى المسلم أهل الحرب بالأمان في موضع يسمعون صوته إلا أن غالب الرأي أنهم لم يسمعوا بأن كانوا نياماً أو كانوا مشغولين بالحرب فذلك أمان، فقد شرط لثبوت الأمان أن يكون النداء بالأمان من موضع يسمع منه الصوت لا حقيقة السماع وما ذكر في «السير» هو أن الصحيح في مسألة الأيمان الحنث وإن لم يوقظه. ومن المشايخ رحمهم الله من قال: على قياس قول أبي حنيفة يحنث وعلى قياس قولهما لا يحنث؛ لأن أبا حنيفة يجعل النائم كالمنتبه وهما (لا) يجعلانه كالمتنبه على ما عرف في مسألة الصدر والخلوة. ولو حلف لا يكلم فلاناً فدق فلان عليه الباب فقال من هذا أو قال من أنت حنث؛ لأنه مكلم له بالاستفهام هكذا القدوري في «شرحه» . وفي «النوازل» : إذا دق المحلوف عليه باب الحالف فقال الحالف بالفارسية: كيست لا يحنث في يمينه ولو قال كنى بوا يحنث وبه أخذا الفقيه أبو الليث رحمه الله إذا حلف لا يكلم فلانا ثم إن المحلوف عليه ناداه فقال لبيك أو قال لبي يحنث في يمينه لأنه أجابه باللفظين جميعاً فصار متكلماً معه. وفي «القدوري» : إذا حلف لا يكلم امرأته فدخل الدار وليس فيه غيرها فقال: (.........) حنث لأنه تكلم لها بالاستفهام إذا لم يكن هناك غيرها فإن كان في الدار غيرها لم يحنث لأنه يحتمل أن يكون (396أ1) استفهم لمن سواها ولو قال: ليت شعري من فعل كذا لا يحنث لأنه وإن لم يكن في الدار غيرها لأن هذا للمخاطب نفسه ولا يكلم امرأته وفي «مجموع النوازل» إذا حلف لا يتكلم فجاءته امرأته وهو يأكل الطعام فقال: ها حنث في يمينه فقال لامرأته اكراس سحن يا فلان بكوى فأنت طالق ثم إن

المرأة اين سجن بأن فلان لفت ولكن تصارني كني أن فلان بدا نست طلقت امرأته كمن حلف لا يكلم فلاناً فكلمه بعبارة لم يعرفه فلان وهناك يلزمه الحنث كذا ههنا. حلف لا يكلم فلاناً ثم إن المحلوف عليه أراد أن يشتم إنساناً فأراد الحالف أن يقول: لا تفعل فقال له الحالف بالفارسية بلن ودكه يمينه فلم يقل بعد ذلك شيئاً آخر. فقد قيل لا يحنث في يمينه لأن هذا القدر ليس بكلام مفهوم إلا أن الصلاة تفسد بها لأنه كلام حقيقة وإن لم يكن مفهوماً وفساد الصلاة معلق بمطلق الكلام فأما الداخل تحت اليمين كلام مفهوم. وقيل يحنث في يمينه لأنه كلام حقيقة وإن لم يكن مفهوماً والداخل تحت اليمين مطلق الكلام والدليل عليه مسألة «مجموع النوازل» التي تقدم ذكرها وحكي عن القاضي الإمام أبي سعيد البردعي ما يدل على القول الأول فإنه يقول في الباب الأول من الأيمان: الجامع في تعليل المسألة الأولى الكلام المطلق ينصرف إلى ما يفيد لا إلى ما لا يفيد قلنا وغير المفهوم لا يفيد إذا حلف لا يكلم فلاناً فمر المحلوف عليه بالحالف فقال الحالف اصنع كذا يا حافظ كان كذا لأمر قد وقع وقصد إسماع المحلوف عليه لا يحنث في يمينه. وروي عن عبد الرحمن بن عوف أنه حلف لا يكلم عثمان فكان إذا مربه فقال يا حافظ كان كذا ويا حافظ اسمع كذا حلف لا يكلم المساكين أو الفقراء فكلم واحداً منهم يحنث في يمينه بخلاف ما إذا حلف لا يكلم مساكيناً أو فقراء فإنه لا يحنث ما لم يكلم ثلاثة منهم والكلام فيه نظير الكلام فيما إذا حلف أن لا يتزوج النساء وإذا حلف أن لا يتزوج نساء وقد مرت المسألة من قبل. إذا حلف لا يكلم فلاناً فاقتدى الحالف بالمحلوف عليه فسبح له الحالف أو فتح عليه بالقراءة لم يحنث وعلى ما اختاره الفقيه أبو الليث رحمه الله فيما إذا حلف أن لا يتكلم بالفارسية فقرأ القرآن خارج الصلاة أن لا يحنث ينبغي أنه إذا عقد اليمين بالفارسية ههنا أن لا يحنث. إذا حلف الرجل لا يكلم فلاناً وفلاناً وكلم أحدهما لا يحنث في يمينه فهذا هو المذكور في «الأصل» وفي «القدوري» : وذكر الصدر الشهيد رحمه الله هذه المسألة في باب الأول من أيمان «الواقعات» وجعلها على ثلاثة أوجه إما أن ينوي أن يحنث بكلام كل واحد منهما وفي هذا الوجه يحنث بكلام كل واحد منهما وإما أن ينوي أن لا يحنث حتى يكلمهما وفي هذا الوجه لا يحنث ما لم يكلمهما وإما إن لم تكن له نية وفي هذا الوجه اختلف المشايخ رحمهم الله، قال رحمه الله والمعتد أنه لا يحنث حتى يكلمهما أما من قال: يحنث قال: المتعارف أن لا يراد بهذا الجمع وأما من قال: لا قال: الجمع متعارف أيضاً إلا أنه دون الأول فلا تترك حقيقة اللفظ وحقيقة الجمع. وعلى هذا إذا حلف لا يكلم هذا وهذا ولو حلف لا يكلمهما أو حلف بالفارسية ابن دوس سمن نكويم ونوى الحنث بكلام واحد منهما لا تصح نيته وإذا كلم واحداً منهما لا يحنث؛ لأن في قوله فلاناً وفلاناً هذا وهذا أمكن تصحيح نيته بإدخال حرف النفي

بينهما فيصير تقدير المسألة كأنه قال: لا أكلم فلاناً ولا فلاناً وعند ذلك يحنث بكلام كل واحد منهما لأن كل واحد منهما صار منفياً يبقى على حدة وهذا المعنى لا يمكن تحقيقه فيما إذا قال: لا أكلمهما فلهذا لا تصح نيته. ولو قال: إن كلمت فلاناً وإن كلمت فلاناً فعبدي حر فكلم أحدهما لا يعتق عبده ما لم يكلمهما. ولو قال: عبدي حر إن كلمت فلاناً وإن كلمت فلاناً فكلم أحدهما عتق عبده وهذا قول محمد رحمه الله، وقال أبو يوسف تقديم الجزاء وتأخيره سواء، وإذا كلم أحدهما يعتق عبده في الوجهين جميعاً. وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الطلاق إلا أن هناك وضع المسألة في دخول الدارين وههنا وضعها في كلام الرجلين. ولو قال إن كلمت فلاناً أو فلاناً وكلم أحدهما يحنث في يمينه لأن كلمة أو إذا دخلت بين الاسمين في الأيمان تناول أحدهما وقد مر هذا فيما تقدم. قال في «الجامع» : ولو قال: والله لا أكلم فلاناً أو فلاناً وفلاناً فكلم الأول يحنث في يمينه، ولو كلم الثاني أو الثالث لا يحنث في يمينه ما لم يكلمهما لأنه جمع بين الثاني والثالث بحرف الجمع فتعين بما لو جمع بينهما بلفظ الجمع بأن قال: والله لا أكلم فلاناً ولا هذين وهناك كان الجواب كما قلنا. ولو قال: والله لا أكلم فلاناً أو فلاناً أو فلاناً وكلم الثالث يحنث في يمينه، ولو كلم الأول والثاني لا يحنث ما لم يكلمهما وتقدير هذه المسألة: كأن قال: لا أكلم هذين ولا هذا وهناك الجواب كما قلنا، وذكر في كتاب الطلاق فيمن كان له ثلاث نسوة فقال: هذه طالق وهذه وهذه طلقت الثالثة ويخير الزوج بين الأولى والثانية وعلى قياس ما ذكر في الجامع ينبغي أن يخير الزوج الأولى والثانية. والثالثة وذكر في كتاب الإقرار فيمن قال لفلان عليّ ألف درهم أو لفلان وفلان، فللثالث نصف الأول ويخير المقر في النصف الآخر بين أن يجعله للأول وبين أن يجعله للثاني، وعلى قياس ما ذكر في «الجامع» ينبغي أن يخير بين أن يجعل الألف للأول وبين أن يجعلها للثاني والثالث وذكر في كتاب العتاق: فيمن له ثلاثة أعبد قال: هذا حر وهذا وهذا عتق الثالث للحال، ويخير المولى بين الأول والثاني وعلى قياس ما ذكر في «الجامع» : ينبغي أن يخير المولى بين الأول وبين الثاني وبين الثالث. قال مشايخنا رحمهم الله روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله في «النوادر» المدار في هذه المسائل الثلاث على قياس ما ذكر ههنا فقال لا تطلق الثالثة ولا يعتق الثالث للحال ويخير الزوج والمولى بين الإيقاع على الأول وبين الإيقاع على الثاني والثالث وقال في فصل الإقرار: يخير المقر بين أن يجعل الألف للأول وبين أن يجعلها للثاني ولثالث فعلى هذه الرواية لا يحتاج إلى الفرق وعلى ظاهر الرواية يحتاج. ووجه الفرق: أن في هذه المسائل الثلاث كلمة أو دخلت بين الأول والثاني في الإثبات فيتناول أحدهما والآخر يكون خارجاً عن اليمين والثالث معطوف على الثابت لا على الخارج وصار كأنه قال للأول والثاني: أحدكما حر وهذه (369ب1) الثالث

أحداكما طالق وهذه للثالثة ولو نص على هذا ثبت الحكم في حق الثالث للحال فههنا كذلك أما في مسألة الجامع كلمة أو دخلت بين الأول والثاني في النفي فصارت معنى ولا وصار تقدير كلامه لا أكلم فلاناً ولا فلاناً فيتناول الأول والثاني وثبت فيهما حكم النفي والثالث معطوف على أحدهما، وكل واحد منهما ثابت ويستقيم العطف على كل واحد منهما، غير أن العطف على الثاني أولى لأنه متصل بالثاني وصار تقدير المسألة كأنه قال: لا أكلم فلاناً ولا هذين. إذا قال لآخر والله لا أكلمك اليوم ولا غداً ولا بعد غد فله أن يكلمه في الليلتين المتخللتين لأن هذه ثلاثة أيمان كل يمين معقودة على يوم واحد كأنه قال والله لا أكلمك اليوم والله لا أكلمك اليوم وغداً وبعد غد لأن ذاك يمين واحد عقدت على ثلاثة أيام كأنه قال: والله لا أكلمك ثلاثة أيام والأيام باسم الجمع مستتبع ما بإزائها من الليالي فدخلت الليلتان المتخللتان في اليمين كما دخلت الأيام فيها. وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا تدخل الليلتان في اليمين في هذه الصورة أيضاً؛ لأن اليمين عقدت على بياض النهار ولا ضرورة إلى إدخال الليل فيها. ولو قال: والله لا أكلمك يوماً ويوماً فهذا وما لو قال لا أكلمك يومين سواء فتدخل فيه الليلة المتخللة ولو قال: لا أكلمك يوماً ويومين تقديره لا أكلمك ثلاثة أيام فتنقضي اليمين بمضي اليوم الثالث. ولو قال لا أكلمك يوماً ولا يومين فهذه على يومين إن كلمه في اليوم الثالث لم يحنث في رواية «الجامع الكبير» ، والرواية في باب الدور، وذكر القدوري عن أبي يوسف رحمه الله أن هذا بمنزلة قوله لا أكلمك ثلاثة أيام حتى لو كلمه في اليوم الثالث يحنث في يمينه على قول أبي يوسف رحمه الله فأبو يوسف سوى بين قوله: لا أكلمك يوماً ويومين، وبين قوله: لا أكلمك يوماً ولا يومين من حيث إنه في الصورة جميعاً عطف اليومين على اليوم والمعطوف غير المعطوف (عليه) ، وعلى هذا رواية «الجامع» . فرق بين الصورتين، والفرق أن في الصورة الثانية نفا المسألة الثانية بنفي على حده فحنث. قال: ولا يومين ولا يحتاج في صحة الكلام الثاني إلى عطفه على الأول بل يجعل قائماً بنفسه في حكم النفي، كأنه أفرد اليمين على كل واحد من اليومين، فقال والله لا أكلم فلاناً يوماً والله لا أكلم فلاناً يومين ألا ترى أن من قال والله لا أكلم زيداً ولا عمراً تقديره: والله لا أكلم زيداً، والله لا أكلم عمراً حتى لو كلم زيداً أو عمراً يحنث في يمينه، والمدة تعتبر من وقت اليمين على ما عرف، فصار اليوم الأول مشتركاً محسوباً من المدتين، واليوم الثاني لليمين الثانية خاصة فينتهي اليمينان بمضي اليوم الثاني، أما في الصورة الثانية ما نفا المدة الثانية بنفي على حدة فمست الضرورة إلى جعلها معطوفة على المدة الأولى ليصير نفي الكلام في المسألة الأولى نفياً له في المدة الثانية تصحيحاً للمدة الثانية، والمعطوف غير المعطوف عليه فقوله: ويومين لا يتناول اليوم الأول، وإنما يتناول يومين بعده، وكأنه قال والله لا أكلمك ثلاثة أيام فالصورة الأولى بالفارسية سحن يكويم

يا فلان بك دوزود روز، والصورة الثانية بالفارسية: فسحن يكوير يا فلان في بك دوزوني جوروز. ولو قال والله لا أكلم فلاناً يوماً، والله لا أكلمه يومين والله لا أكلمه ثلاثة أيام في اليمين الأولى من حين فرغ وانعقدت على اليوم الأول ثلاثة أيمان، وانعقدت على اليوم الثاني يمينان واليوم الثالث عليه يمين واحدة. وعن محمد رحمه الله فيمن قال: لا أكلم فلاناً يوماً بين يومين ولا نية له فهذا بمنزلة قوله والله لا أكلمه يوماً لأن كل يوم بين يومين فيكون على يوم من ساعة حلف. وإذا قال الرجل لغيره في بعض النهار: والله لا أكلمك يوماً لم يكلمه ساعة ما حلف حتى تجيء تلك الساعة من الغد، وإن كلمه في شيء من ذلك ليلاً أو نهاراً حنث في يمينه، لأن اليوم اسم لاثنى عشر ساعة من بياض النهار أو أقل أو أكثر على حسب اختلاف الفصول، فيصير كأنه نص على اثني عشر ساعة من بياض النهار، وهذا العدد إنما يتم إذا جاءت تلك الساعة من الغد وتدخل الليلة هكذا ذكر في «الجامع» : وفي «النوازل» إنما لا يدخل؛ لأن الليل لو ههنا إنما يدخل بذكر اليوم ولا وجه؛ إليه لأنه ذكر اليوم مفرداً واليوم المفرد لا يستتبع ما وراءه من الليل. وجه ما ذكر في «الجامع» أنه لو اقتصر على قوله والله لا أكلم فلاناً وقع يمينه على الأبد فيكون ذكر الوقت لإخراج ما وراءه عن اليمين، فينبغي (أن يكون) الليل داخلاً بمطلق اليمين لأبد اليوم، ولو قال ذلك ليلاً لم يكلمه حتى تغيب الشمس من يوم تلك الليلة لا يذكر اليوم. ولو قال ذلك ليلاً لم يكلمه حتى تغيب الشمس من يوم تلك الليلة لأن اليوم الكامل موجود هنا، فلا حاجة إلى إدخال شيء من اليوم الآخر. واختلف مشايخنا رحمهم الله أنه لو كلمه بعد اليمين قبل طلوع الفجر والصبح إنه يحنث، وإليه أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» حيث قال: لم يكلمه حتى تغيب الشمس من الغد معناه لم يكلمه بعد اليمين حتى تغيب الشمس من الغد. وفي «المنتقى» نص عليه، فقال: إذا قال في نصف الليل والله لا أكلمك يوماً ترك كلامه من ساعته بقية الليل والغد حتى تغرب الشمس ولو قال: لا أكلمك يومين، فعليه أن لا يكلمه يومين بليلتيهما؛ لأن بذكر اليومين يدخل ما بإزائهما من الليل. وفي «المنتقى» إذا قال في نصف النهار: والله لا أكلمك ليلتين ترك كلامه إلى تلك الساعة من بعد الغد. ولو قال: يوم أكلم فلاناً وامرأته طالق فيمينه على النهار والليل جميعاً، يريد أنه لو كلم فلاناً فامرأته طالق فيمينه على النهار والليل جميعاً يريد به أنه لو كلم فلاناً ليلاً أو نهاراً تطلق امرأته، وهذا لما عرف أن اليوم إذا ذكر مقروناً بفعل لا تختص صحته بالنهار، فجعل عبارة عن الوقت عرفاً وشرعاً إلا أن يريد به التقدير، فحينئذ جعل عبارة عن بياض النهار، وإن كان ما قرن به الفعل لا تختص صحته بالنهار كما لو حلف لا يكلم فلاناً يوماً، فإن اليوم في هذه الصورة يحمل على بياض (370أ1) . وإن ذكر مقروناً بالكلام، والكلام تختص صحته ببياض النهار، لأنه ذكر اليوم لتقدير الحرمة الثابتة باليمين؛ فإنه متى لم يذكر اليوم ثبتت الحرمة، على سبيل التأبيد،

والتقدير لا يحصل متى صار عبارة عن الوقت، لأن الوقت بنفسه غير مقدّر. وبياض النهار مقدّر، فصار عبارة عن بياض النهار بدلالة التقدير. فأما متى لم يذكر اليوم للتقدير، فإنه يصير عبارة عن الوقت. متى ذكر مقروناً بفعل لا يختص بالنهار؛ وههنا اليوم لم يمكن للتقدير. وقد ذكر مقروناً بفعل لا تختص صحته بالنهار، فصار عبارة عن الوقت. وصار تقدير هذه اليمين وقت أفعل كذا امرأته طالق، ولو خرج بذلك تطلق امرأته، فعل ذلك الفعل ليلاً أو نهاراً، كذا ههنا. وإن قال: عنيت بياض النهار، ففعل ذلك ليلاً لا يحنث في يمينه، ويصدق قضاء هكذا ذكر في كتاب الأيمان. وذكر في كتاب الطلاق أنه لا يصدق قضاء، فعلى رواية كتاب الطلاق جعله بادئاً للتخصيص، وعلى رواية كتاب الأيمان جعله بادئاً حقيقة كلامه، ولو قال: ليلة أفعل كذا، فهذا على سواد الليل خاصة، حتى لو فعل ذلك نهاراً لم يلزمه الحنث، لأن الليل في حقيقة اللغة عبارة عن سواد الليل، ولم يصر عبارة عن مطلق الوقت. وفي «المنتقى» في باب الحلف على الكلام: إذا حلف لا يكلم فلاناً ثلاثين يوماً، وكان الحلف ليلاً ترك كلامه من تلك الساعة إلى أن تغيب الشمس من اليوم الثلاثين ولو حلف ليلاً لا يكلم هذا اليوم، فإنه يحنث بالكلام من تلك الليلة إلى أن تغيب الشمس في اليوم، وروي عن محمد رحمه الله خلافه، ولو حلف نهاراً لا يكلّم هذه الليلة لم يدخل ما بقي من اليوم في يمينه، إنما حلفه على الليل خاصة. وذكر هذه المسألة في «المنتقى» في موضع آخر، وذكر فيها تفصيلاً. فقال: إذا قال في أول الليل: لا أكلمك اليوم ولا نيّة له فهذا باطل ولو قال ذلك في آخر الليل، فهو على اليوم المستقبل، وكذلك إذا قال آخر النهار فهو على الليل المستقبل. وفي «الجامع» إذا قال: والله لا أكلمك في اليوم الذي يقدم فيه فلان، فكلمه في أول يوم قدم فلان في آخر ذلك اليوم حنث في يمينه. ولو قدم فلان في أول يوم وكلمه في آخر ذلك اليوم، وقع في بعض نسخ الزعفراني أنه يحنث، وعامة المشايخ على أنه لا يحنث ولا ذكر لهذه المسألة في «الكتاب» عن محمد رحمه الله، والوجه في ذلك أن القدوم وإن كان في معنى الشرط من حيث إنه ملفوظ على خطر الوجود إلا أنه ليس بشرط حقيقة وصورة، لأن الحالف ما جعله شرطاً لأنه ما قرنه بحرف الشرط وما عطفه على الشرط بل جعله معرفاً بشرط الحنث وهو الكلام، وإنما يكون معرفاً للشرط إذ وجد الشرط قبله؛ لأن من شرط المعرف للشيء أن يكون ذلك الشيء سابقاً عليه، حتى يحصل التعريف بوجود نفس المعرف، ولم يوجد ذلك ههنا، فعملنا بالمعرفة، فقلنا: إذا وجد القدوم قبل الكلام لا يحنث في يمينه، وعملنا بالشرطية فقلنا: إذا وجد القدوم بعد الكلام وقع الحنث مقصوداً عليه عملاً بالمعنيين جميعاً بقدر الإمكان. ولو قال: لا أكلم فلاناً في الشهر الذي قبل قدومه، فكلامه في أول الشهر وقدم فلان لتمام الشهر حنث في يمينه، لأن شرط الحنث كلام المحلوف عليه في شهر قبل

قدوم فلان، وقد وجد فيحنث في يمينه، وإنما يحنث وتجب الكفارة بعد القدوم، لأن قدوم فلان في معنى الشرط على ما ذكرنا، وإذا كان القدوم في معنى الشرط كان كوقوع الحنث ووجوب الكفارة بعد القدوم لا محالة. ولو قال: والله لا أكلمك شهراً قبل قدوم فلان وشهراً قبل قدوم فلان، فكلّم فلاناً بعد اليمين ثم قدم فلان بعد خمسة أيام لا يحنث في يمينه، لأن شرط الحنث وجود الكلام بعد اليمين في شهر قبل قدوم فلان لم يوجد بعد اليمين، فلم يوجد شرط الحنث، قال في «الكتاب» : ألا ترى أنه لو قال لعبده: أنت حر قبل قدوم فلان بشهر فقدم فلان بعد خمسة أيام وقت لا يعتق العبد، لأن العتق يضاف إلى شهر قبل قدوم فلان ولم يوجد بعد اليمين شهراً قبل القدوم، كذا في مسألتنا. وإذا حلف لا يكلم فلاناً أبداً، فكلمه بعدما مات لا يحنث في يمينه؛ لأن معنى الكلام لم يوجد وإن وجد صورته؛ لأن معنى الكلام الإفهام يعني به إفهام الغرض وذلك بالإسماع، وإنه لا يتحقق بعد الموت، وهذه المسألة تدل على من حلف لا يكلم فلاناً فكلمه بعبارة لا يعرفها لا يحنث؛ لأن معنى الكلام هو إفهام الغرض ولم يوجد. إذا حلف الرجل فقال: والله لأكلمن فلاناً أحد يومي أو قال: لأخرجن أحد يومي أو أحد اليومين أو أحد أيامي، فهذا على أقل من عشرة أيام فدخل ذلك الليلُ والنهار، حتى لو كلمه أو خرج قبل مضي العشرة ليلاً أو نهاراً أبرّ في يمينه وإن لم يكلمه أو لم يخرج حتى مضت العشرة يحنث في يمينه، ولو قال: أحد يومي هذين فهذا على يومه ذلك وعلى الغد. سئل شمس الإسلام الأوزجندي عمن حلف لا يكلم أحداً فجاء كافر يريد الإسلام، قال:.... صفة الإسلام مسلماً ولا يكلمه ولا يحنث في يمينه. رجل قال لامرأته: اكر غانه فلان روم وباوى سخن كويم فأنت طالق فلم يذهب إلى بيته ولكن كلمه في موضع آخر لا يحنث في يمينه، ولو قال اكريه فانه فلان بني روم وباري سخن بني مويم فأنت طالق وباقي المسألة بحالها حنث في يمينه وطلقت امرأته، هكذا حكى فتوى شمس الأئمة الحلواني وفتوى ركن الإسلام علي السغدي رحمهما الله، لأن في الوجه الأول شرط الحنث شيئان الدعاء إلى بيته والكلام معه، وقد وجد أحدهما دون الآخر فلا يقع الحنث، وفي الوجه الثاني شرط البر شيئان، أن يذهب إلى بيته وأن يكلمه وقد وجد أحدهما فانعدم شرط البر فغاب البر ومن...... بغير الحنث، وقد ذكرنا قبل هذا أن اليمين إذا عقدت على عدم الفعل في مجلس ينظر فيه إلى شرط البر، فهذا بناء على ذلك. رجل قال لامرأته وقد كانت ذكرت إنساناً بين يديه: إن عدت على ذكر فلان فأنت طالق، فقالت: لا أعيد عليك ذكر فلان لا يحنثُ؛ لأنها ما ذكرت فلاناً إنما وضعت أنها

منهية عما أمرها أن تنتهي عنه، وكذلك إذا قالت: نهيتني عن ذكر فلان فقد ذكرته فيحنث في «المنتقى» . وفيه أيضاً: إذا (قال) : لا يكلم رجلاً، فكلم رجلاً فقال عنيت غيره لا يحنث بخلاف ما إذا حلف لا يكلم الرجل. رجل قال لامرأته: إن لم تكلميني الليلة فأنت طالق فأبت (370ب1) المرأة الكلام وخاف الزوج وقوع الطلاق فالحيلة له أن يذكر أباها وأمها؟ وأقاربها بين يديه بسوء فيهم فيصير ذلك حاملاً لها على جوابه، وعند ذلك لا يقع الحنث ولا يقع الطلاق. إذا حلف لا يكلم امرأة فكلّم صبية، فقد حكي عن المشايخ رحمهم الله أنه يحنث، وهذا الجواب بخلاف الرواية، والرواية في «المنتقى» . وفي «المنتقى» لو قال: والله لا أكلمك شهراً بعد شهر فهو بمنزلة قوله شهرين، وكذلك إذا قال: والله لا أكلمك سنة بعد سنة فهو بمنزلة قوله سنتين. ولو قال: والله لا أكلمك شهراً بعد هذا الشهر فله أن يكلمه في هذا الشهر. وفيه: إذا قال لقومه: كلامكم علي حرام، فأيهم كلم حنث في يمينه، ولو حلف لا يكلمهم لم يحنث حتى يكلمهم جميعاً. في «الجامع» : إذا قال الرجل لغيره: إن ابتدأتك بالكلام فعبدي حر، فالتقيا وسلم كل واحد منهما على صاحبه لم يحنث الحالف فيه، لأن شرط الحنث كلام موصوف بصفة البداية، والبداية بالسبق، والحالف إن كلمه بالسلام إلا أنه لم يسبقه، قال: ويسقط اليمين عن الحالف بهذا الكلام حتى لا يحنث أبداً بحكم هذا اليمين لوقوع الناس عن كلامه بصفة البداية؛ لأن كل كلام يوجد من الحالف بعد هذا فإنما يوجد بعد كلام المحلوف عليه، وعن هذه المسألة قلنا: إن الرجل إذا قال لامرأته: إن ابتدأتك بكلام فأنت طالق، وقالت المرأة: إن ابتدأتك بكلام فجاريتي حرة، ثم إن الزوج كلمها بعد ذلك لا يحنث في يمينه، لأن المرأة كلمته بعد يمينه فحنث. قالت: إن ابتدأتك بكلام فلا يكون الزوج متبدئاً لها بالكلام ثم تكلمه المرأة، ولا تحنث في يمينها قضاء، لأنها ما ابتدأت بالكلام، وإن كانت اليمين منهما معاً ينبغي أن يكلم كل واحد منهما صاحبه معاً، ولا يحنث واحد منهما. وكذلك إذا قال لغيره: إن كلمتك قبل أن تكلمني فعبده حرُ فالتقيا فسلّم كل واحد منهما على صاحبه، وخرج الكلامان معاً لا يحنث في يمينه لأن شرط الحنث كلام موصوف بصفة السبق وكلام الحالف ليس بسابق. ولو قال: إن كلمتك إلا تكلميني أو حتى تكلمني فتكلما معاً حنث في يمينه، ذكر في «الجامع» هكذا، وذكر القدوري في «شرحه» أن على قول أبي يوسف لا يحنث، وعلى قول محمد رحمه، الله: يحنث بما ذكر القدوري أن ما ذكر في «الجامع» قول محمد رحمه الله، قال في «القدوري» : وعلى هذا سائر الأعمال نحو: أن يحلف لا يدخل هذه الدار حتى يدخلها فلان فدخلا معاً، وكلام محمد رحمه الله في المسألة ظاهر؛ لأن شرط الحنث كلام مطلق ههنا إلا أن الحالف عقد يمينه إلى غاية، وهو كلام المحلوف عليه،

فقيل: كلام المحلوف عليه معه اليمين باقية وإذا كلم الحالف فقد وجد شرط الحنث حال بقاء اليمين فيحنث في يمينه. إذا حلف الرجل فقال: إن كلمت فلاناً حتى يقدم فلان، أو قال: إلا أن يقدم فلان، أو قال: حتى يأذن لي فلان، أو قال: إلا أن يأذن لي فلان فعبدي حر، أو قال: فامرأتي طالق، وكلمه قبل القدوم أو قبل الإذن يحنث في يمينه؛ ولو كلمهُ بعد ذلك لا يحنث في يمينه لأنه جعل الإذن والقدوم غاية ليمينه؛ لأن كلمة حتى للغاية وكذلك كلمة الآن، فقد جعلَ غاية يمينهِ القدوم والإذن، وقيل: الإذن والقدوم يكون باليمين قائمة فإذا كلمهُ قبل القدوم والإذن فقد وجد شرط الحنث حال قيام اليمين فيحنث في يمينه، وإذا كلمهُ بعد القدوم والإذن فقد وجد شرط الحنث واليمين منتهية فلا يحنث، والله أعلم. نوع آخرمن هذا الفصل في القراءة إذا حلف لا يقرأ القرآن فقرأ القرآن في الصلاة أو خارج الصلاة يحنث في يمينهِ، وإذا (حلف) على هذا الوجه فالحيلة لهُ أن يصلي الفرائض بالجماعة ولا يحنث في يمينهِ، وإذا فاتهُ فلا حيلة في ذلك، وإذا قضاها قضاها بقراءة وحنث في يمينهِ. وفي الوتر ينبغي أن يقتدي بمن يوتر أيضاً، والمرأة إذا حلفت على ذلك تقتدي بزوجها أو بغيره من محارمها، ولو حلف لا يقرأ القرآن فنظر فيه من أوله إلى أخره لا يحنث في يمينهِ بالاتفاق، ولو حلف لا يقرأ كتاباً فنظر فيه حتى أتى إلى آخرهِ لم يحنث عند أبي يوسف، وقال محمد رحمهُ الله: يحنث، فأبو يوسف رحمه الله اعتبر الحقيقة فقال: القراءة عمل اللسان وذلك في التفكر والنظر لا يوجد، ومحمد رحمه الله اعتبر المقصود فقال: المقصود من قراءة الكتاب فهم ما فيه، وهذا المقصود يحصل بالتفكر والنظر بخلاف ما إذا حلف لا يقرأ القرآن فنظر فيه، لأن المقصود من قراءة القرآن الثواب، والثواب لا يحصل بمجرد التفكر. وعن محمد رحمه الله أنه توقف فيه بعد ذلك. ولو حلف لا يقرأ لفلان كتاباً فقرأه حتى أتى على المعاني التي يحتاج إليها وكأنه قرأه فيحنثُ في يمينه، هكذا روي عن محمد رحمه الله إذا..... يحنث. ولو حلف لا يقرأ القرآن لا يحنث بالتسمية إلا أن ينوي التي في السورة النمل، وعن محمد رحمه الله أنه يحنث إلا أن تذّكر بعد شيء أصابه ولو حلف لا يقرأ سورة من القرآن فترك حرفاً منها حنث، ولو ترك آية طويلة لم يحنث، والله أعلم. ومما يتصل بهذا النوع إذا حلف (لا) يتمثل شعراً فتمثل نصف البيت لا يحنث، وإن كان نصف البيت بيتاً من شعر آخر، وعن محمد في رجل فارسي حلف أن لا يقرأ سورة الحمد بالعربية فقرأها

لا يحنث، ولو كان رجلاً فصيحاً حنث لأن العجمي يريد به موضوع اللغة، وذلك في المعرب، والعربي يريد به اللغة العربية والملحون بعدم العربية، وفي «المنتقى» إذا حلف لا يقرأ كتاباً فهذا على كتاب يتبين في بياض أو غير ذلك، وإن نوى كتاب الناس في القرطاس دين فيما بينه وبين الله تعالى ولم يدين في القضاء، والله أعلم بالصواب. نوع آخرمن هذا الفصلفي البشارة والخبر والحديث وما يتصل بها قال في «الجامع» : إذا قال الرجل لغيره إن أخبرتني أن فلاناً قدم فامرأتي طالق أو قال: فعبدي حر، فأخبره بذلك كاذباً حنث في يمينيه وعتق العبد، لأن شرط الحنث مطلق الخبر، ومطلقه يتحقق بالصدق والكذب، ألا ترى أن الناس في عرفهم وفي عاداتهم يقولون: أخبرنا فلان كاذباً، كما يقولون: أخبرنا فلان، وهذا بخلاف ما لو قال: إن أخبرتني بقدوم فلان، وأخبره بذلك كاذباً (لم) يحنث ولا يعتق عبده، لأن شرط الحنث في تلك المسألة إخبار ملصق (371أ1) بقدومه، لأن حرف الباء لغة للإلصاق، والخبر إذا كان كاذباً لا يكون ملصقاً بالقدوم، فلا يتحقق شرط الحنث. واستشهد في «الكتاب» ، فقال: ألا ترى أنه قال لغيره: إن أخبرتني أن امرأتي في الدار فكذا، فأخبره بذلك كاذباً يحنث في يمينه. ولو قال: إن أخبرتني بمكان امرأتي في الدار لا يحنث في يمينه والفرق ما أشرنا إليه. ولو قال: إن بشرتني أن فلاناً قد قدم، إذا قال: إن بشرتني بقدوم فلان فكذا، فبشره بذلك كذباً لا يحنث في يمينه، لأن البشارة لغة اسم لخبر سار صرف، وليس عند المبشر له علمه، لأنها مأخوذة من البشرى، وهو ما يظهر في بشرة الوجه من فرح أو حزن، لكن كثر استعماله فيما يظهر في بشرة الوجه في فرح، فصار الاسم لما يظهر في بشرة الوجه من الفرح، حكم عليه الاستعمال كالحقيقة والكلام بحقيقته يقتضيه الأصل، وإنما يظهر الفرح في بشرة الوجه إذا كان الخبر صادقاً، ولا يكون المبشر له علم به.Y ولو قال: إن علمتني أن فلاناً قد قدم، أو قال: إن أعلمتني بقدوم فلان فكذا، فأخبره بذلك كاذباً لا يحنث لأن شرط الحنث الإعلام، والإعلام إيقاع العلم المنافي للجهل للعبد، وبالخبر الكذب لا يحصل العلم، فلا يتحقق شرط الحنث. وإن أخبره بذلك صادقاً ولكن بعدما علم الحالف إنه لا يحنث أيضاً، لأن العلم لم يحصل للحالف بهذا الخبر فلا يكون هذا الخبر إعلاماً، بخلاف ما لو قال: إن أخبرتني، فأخبره بعدما علم الحالف به، فإنه يحنث في يمينه، لأن مطلق الإخبار يتحقق وإن كان للمخبر له علم بالمخبر به. وإن عنى بقوله: أعلمني أخبرني حنث الحالف وإن كان الإخبار بعد ما حصل العلم للحالف بما أخبر له، لأنه نوى ما يحتمله كلامه، الإعلام إخبار وزيادة فيجوز إطلاق اسم الإعلام على الإخبار بطريق المجاز. فهو معنى قولنا: نوى ما يحتمله لفظه، وينبغي أن تصح نيته ديانة وقضاءً، لأن فيما نوى تغليظ عليه.

ولو قال له: إن كتبت إلي أن فلان قد قدم فكذا، فكتب إليه كاذباً يحنث، لأن شرط الحنث ههنا كتابة ملصقة بالقدوم، وذلك لا يكون إلا بعد القدوم، ولو كتب إليه في هذه الصورة أن فلاناً قد قدم وقد كان فلان قدم قبل الكتابة، إلا أن الكتابة لم تعلم بذلك حنث الحالف في يمينه، لأن شرط الحنث في هذه الصورة كتابة ملصقة بالقدوم، لا علم «الكتاب» بالقدوم، وقد وجد ههنا كتابة ملصقة بالقدوم، فتحقق شرط الحنث. قال في «الزيادات» : إذا حلف الرجل لا يظهر سِرّ فلان لفلان أبداً، فأخبر به بكتاب كتبه إليه أو بكلام أو سأله فلان أكان سرّ فلان كذا، فأشار برأسه أي نعم حنث في يمينه. لأن الإظهار عبارة عن فعل يحصل به الظهور، وقد حصل الظهور بهذه الأشياء، وكذلك لو حلف لا يفشي سر فلان إلى فلان وحلف لا يعلم فلاناً بسرّ فلان أو بمكان فلان ففعل شيئاً مما ذكرنا حنث في يمينه، لوجود شرط الحنث وهو الإفشاء، فإن الإفشاء والإعلام يحصل بهذه الأشياء. وكذلك لو حلف ليكتمن سره أو أخفينه أو أستر به ففعل شيئاً من ذلك حنث في يمينه، لأن شرط البر الإخفاء والكتمان والستر. فكان شرط الحنث ضد ذلك، وهو الإظهار، وقد تحقق الإظهار بما فعل بتحقق شرط الحنث. وكذلك إذا حلف لا يدُلّ على فلان ففعل شيئاً من ذلك حنث في يمينه؛ لأن الدلالة بمعنى الإظهار والإعلام. وإن عنى في هذه الوجوه كلها الإخبار بالكلام والكتابة والرسالة دون الإشارة، ذكر في «الكتاب» أنه يدين، ولم يزد على هذا ولا شك أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى. لأن الإظهار والإفشاء والإعلام وإن كان يحصل بالإشارة فهي بالكلام والكتابة. فإذا نوى ذلك فقد نوى ما هو أحد الوجوه من محتملات لفظه، والله تعالى مطلع على ما في ضميره. وهل يصدق في القضاء؟ ذكر عن الحاكم أبي نصر محمد بن مهرونة أنه يصدق، وعامة المشايخ رحمهم الله على أنه لا يصدق. ثم إذا حلف بهذه الأشياء وطلب الحيلة والمخرج عن ذلك، فالحيلة أن يقال: إنا نذكر أماكن وأشياء من التهمة مما ليس بمكان فلا تستره فقل: لا، فإذا تكلمنا بسره أو مكانه فاسكت، فإذا فعل ذلك واستدلوا على سره ومكانه لا يحنث في يمينه، لأن هذا ليس بإظهار ولا إفشاء ولا إعلام ولا دلالة لأن هذه لا بد لها من قول، ولم يوجد منه إلا السكوت وإنه ليس بقول ولا فعل بل هو ترك الفعل، إلا أنهم استدلوا بسكوته على مرادهم واستدلالهم بفعل منهم ولا يصلح سبباً للحنث. وإذا حلف لا (يستحلف) فلانة فأومأ لها بخدمة فقد استخدم، والاستخدام بالإشارة متعارف خصوصاً في الملوك والأكابر، ويستوي إن خدمته فلانة أو لم تخدمه، لأن اليمين

عقدت على الاستخدام، والاستخدام طلب الخدمة وقد تحقق طلب الخدمة، وإن لم تخدمه فلانة. وإذا حلف الحر فلان السر فلاناً أو بمكاني ففعل ذلك بكتاب أو رسالة حنث في يمينه، لوجود الشرط فإن الإخبار كما يكون بالكلام يكون بالكتابة والرسالة. وكذلك لو حلف لا يبشر فلاناً بكذا، ففعل ذلك بكتاب أو رسالة يحنث في يمينه، ولو قيل له: أكان الأمر كذا؟ فلان في موضع كذا؟ فأومأ برأسه أي نعم فهذا ليس بإخبار ولا بشارة ولا يحنث في يمينه. ألا ترى أن بعد هذه الإشارة يتحرر ذلك الرجل أن يقول: ما أخبرنا فلان ولا تسرر به وإنما أشار برأسه. وإن عَبَّر بالإخبار والبشارة الإشارة بالرأس، وغير ذلك صدق ديانة وقضاء. لأنه معنى الإخبار والبشارة وفيه تغليظ وتشديد عليه فيصدق. وإذا حلف لا يقّر لفلان بمال فقيل له: لفلان عليك كذا وكذا، فأشار برأسه أي نعم لا يحنث في يمينه، لأن الإقرار لا يتحقق (371ب1) بالإشارة؛ ولأنه إخبار عن كائن سيأتي. وقد ذكر أن الإخبار لا يفصل بالإشارة، ألا ترى أنه لو قرىء عليه حكي إقرار وقيل أهو هكذا؟ فأشار برأسه أي نعم لا يكون إقراراً حتى لا يحل للشهود أن يشهدوا عليه بذلك المال كذا ههنا. فإن قيل أليس أن الأخرس إذا أقر بالإشارة فإنه يصح ويقضي القاضي به، ولو كان الإقرار مما لا يحصل بالإشارة ينبغي أن لا يصح. قلنا من وجهين: أحدهما: أن شرط جواز القضاء ليس هو الإقرار ولا الإشارة، وإنما الشرط علم القاضي بوجوب الحق، فالعلم حاصل بالإشارة وإن لم يكن إقراراً، أما شرط الحنث غير الإقرار، والإقرار لا يحصل بالإشارة. والثاني: أن (في) حق الأخرس قامت الإشارة بحكم العجز مقام الإقرار، وجاء القضاء لوجود ما قام مقام الإقرار لا وجود الإقرار، فأما شرط الحنث الإقرار لا ما قام مقام الإقرار، وإن قال: عنيت أن لا أقر بالإشارة فهو كما عنى، لأنه نوى معنى الإقرار، وفيه تغليظ وتشديد عليه، وإذا حلف أن لا يتكلم بسرّ فلان لا يحنث بالكتابة والرسالة والإشارة، لأن الكلام ما يكون مشافهة ببيان يسمى متكلماً، ألا ترى أن موسى صلوات الله وسلامه عليه، كان مخصوصاً من الرسل بكلام الله تعالى مع استوائهم في الكتابة والرسالة. ولو قيل له: أكان سر فلان كذا، أو قيل له: أفلان بمكان كذا. فقال: نعم يحنث في يمينه، لأن نعم جواب لما سبق من السؤال، والجواب يتضمن إعادة ما في السؤال، فكأنه قال: نعم سر فلان كذا، فلان في مكان كذا، ولو صرح بهذا ليس إنه يحنث فكذا ههنا، والجواب في قوله: سر فلان نظير الجواب في قوله لا يتكلم سر فلان. ولو حلف على هذه الأيمان كلها ثم خرس الحالف وصار بحيث لا يقدر على

التكلم كانت يمينه على الإشارة والكتابة؛ إلا في خصلة واحدة؛ إنه إذا حلف لا يتكلم بسر فلان أو حلف لا يحدث بسرّ فلان لم يحنث بالإشارة والكتابة، وإن كانت الإشارة والكتابة بعد الخرس، وهذا لأن الخرس ينافي الكلام والحديث، ولا ينافي ما سوى ذلك من الإقرار والإخبار والبشارة على حسب ما يليق بحاله، وكل ما ذكرنا أنه يحنث بالإشارة. إذا قال: اشربوا ماء لا لزيد الذي حلفت عليه. فإن كات جواباً لشيء سئل عنه لم يصدق في القضاء، ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى، لأن ما يقوله محتمل بأن أراد بالإشارة الابتداء، إلا أنه خلاف الظاهر؛ لأن الجواب يتقيد بالسؤال فلما كان الاحتمال يدين فيما بينه وبين الله تعالى، ولما أنه خلاف الظاهر لا يصدق في القضاء، وإذا قال: لا أقول لفلان كذا، لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في «الجامع» ، ولا في «الزيادات» . وروي عنه في «النوادر» : أنه مثل الخبر والبشارة، حتى الحنث بالكتاب والرسالة قال: ألا ترى أنك تقول: قال الله لنا كذا. ولا تقول: كلمنا، ولو حلف لا يدعو فلاناً فدعاهُ بكتابة أو رسالة روى هشام عن أبي يوسف أنه لا يحنث، وفي ظاهر الرواية يحنث، لأن في العرف الدعاء بالرسالة والكتابة كالدعاء بالمشافهة، يقال: دعا السلطان أمير بلدة كذا إلى بابه، وإن كتب إليه كتاباً أو أرسل إليه رسولاً. والرسول صلى الله عليه وسلّمبعث داعياً للكل إلى الله تعالى، وقد دعا البعض بالمشافهة والبعض بالكتابة والرسالة، وكان داعياً في حق الكل. وروي عن محمد رحمه الله في «النوادر» : أن التبليغ بمنزلة الإخبار يحصل بالكتابة والرسول، وكذلك الذكر يحصل بالكتابة والرسول. ولو قال: أي عبد بشرني بكذا فهو حر فبشروهُ معاً عتقوا، ولو بشره واحد بعد واحد عتق الأول خاصة، ولو أرسل إليه أحدٌ منهم رسولاً فإن أضاف الرسول الخبر إلى المرسل عتق المرسل، ولو أخبره الرسول ولم يضف إلى العبد لم يعتق. نوع آخر من هذا الفصل فيالشتم والسب وأشباهما قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا قال الرجل لغيره: إن شتمتك في المسجد فعبدي حر، فشتمهُ والشاتم في المسجد والمشتوم خارج المسجد يحنث، ولو كان على العكس لا يحنث، لأن غرض الحالف من هذه اليمين صيانة نفسه عن مباشرة ما لا يحل مباشرتهُ في المسجد، وهو الفحش واللغو، وهذا المقصود إنما يحصل بما قلنا. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل جرى بينه وبين والدته تشاجر، وقال الرجل لوالدتهِ: اكر مرأ تركي فامرأتي طالق وخرج من المنزل، وقالت والدتهُ مه بوتاش ومردون بو فسمع الرجل هذه المقالة طلقت امرأتهُ. قال لأن هذا....كبدل.

وفيه أيضاً: إذا حلف لا يشتم أحداً. فقذف أو شتم مثنى يحنث في يمينهِ، لأنه قذف وشتم. قال لامرأتهِ: إن شتمت أمي أو ذكرت سرها فأنت طالق، فقالت له: كانت أمك..... طلقت. وفي عتاق «فتاوى أبي الليث» رحمه الله، إذا قال لعبده: إن شتمتك فأنت حر، قال له: لا بارك الله فيه لا يعتق؛ لأن هذا ليس بشتم بل هذا دعاء عليه، وهكذا ذكر في أيمان «الجامع الصغير» . فيه أيضاً: إذا قال لغيره: لا أنت ولا أهلك ولا مالك إن هذا شتم، وعلل فقال: لأن هذا لعن، واللعن شتم فيما بين الناس (372أ1) . وإذا حلف لا يقذف فلاناً. ثم قال له:..... في المشايخ رحمهم فيه. قال الصدر الشهيد رحمه الله: والمختار أنه يحنث لأن هذا قذف له في حكم العرف والعادة. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل قال لامرأته: إن لم.... أو قال: إن لم أسرك فأنت طالق ثلاثاً، فغاب عنها أشهراً لم ينفق عليها وتزوج عليها، قال لها أهلها: قد أساءك زوجك..... فقالت ما ساءني وما.... . فالقول قول المرأة ولا يحنث، وعليه لو قال إن ضاررتك ولو قال: إن أسأتك فأنت طالق ففعل ذلك فأضر لإضررارها ... لإضرارها حنث. امرأة كانت تمن على زوجها بشيء صنعت في حقه فقال الزوج: اكرموايتس يسرزني فامتنعت عن ذلك في وجه الزواج، ولكن كانت تركد عند غيبته مع غيره فلا حنث إذا كان مراده وكرها ذلك بين يديه هكذا حكى فتوى نجم الدين النسفي. رجل لامرأته: بابراده دشنام ندهي مرامن يكي دشنام نذهم ترا، وحلف عليه ثم إنها شتمت زوجها عشر مرات، وهو لم يشتمها أو شتمها، ثم إن الزوج شتمها في وقت آخر، لم تشتمه في ذلك الوقت لم يحنث في يمينه، لأنه جعل ليمينه على شتمها غاية، وهو شتمها إياه عشر مرات حنث. قال: يا توده وشنام ندهي مرا، فإذا شتمته عشر مرات فقد انتهت يمينه، فلا يحنث متى شتمها بعد ذلك، ولو قال: ميركاه كي تومرا دثنام وهي من ترايك وشنام ندهم فكذا مع أي وقت شتمها ولم تكن هي شتمته سابقاً على شتمه عشر مرات طلقت، لأن هذه الصورة ما فعل ليمينه غاية بل جعل شرط الحنث في يمينه شتمه في عموم الأوقات قبل شتمها إياه. ولو قال: هركاه تراب صحاح سود باتو امراده شنام ندهي من ترابك وشنام ندهم فههنا لا ينتهي يمين الزوج بوجود الشتم منها مرة، وإن ذكر حرف الغاية وهو قوله بالآية، إنما ذكر الغاية بكل وقت ومع فيه إلحاح فينتهي اليمين في كل وقت وقع فيه اللجاج بوجود الشرط فيها، ويبقى اليمين على وقت آخر يقع اللجاج فيه لعموم اللفظ. هكذا حكى فتوى نجم الدين النسفي رحمه الله، وهذا إشارة إلى أن قوله: هركاه يقع على كل مرة وقد ذكرنا اختيار الصدر الشهيد رحمه الله، فيه أنه يقع على مرة واحدة، والله أعلم.

الفصل الحادي عشر في الحلف على العقود

الفصل الحادي عشر في الحلف على العقود هذا الفصل مشتمل على أنواع. نوع منه في النكاح بعض مسائل هذا النوع قد تقدم ذكره في آخر كتابه، وبعضها تقدم ذكره في كتاب الطلاق، جملة ما لم يتقدم ذكره ثمة ما قال في «الجامع» : إذا حلف الرجل أن لا يتزوج اليوم امرأة، فتزوج امرأة نكاحاً فاسداً لم يحنث في يمينه، لأن مطلق الاسم ينصرف إلى الكامل والتام. وتمام السبب في الوكالة وكماله بإفادته الحكم المختص به المقصود منه، والحكم المقصود المختص بالنكاح الحل، والنكاح الفاسد لا يفيد الحل ما لم يكن تاماً، فلا يوجد شرط الحنث، ولأن السبب إنما ينعقد بصفة التمام إذا لم يكن في المحل ما ينافيه، وفي المحل ما ينافي النكاح من وجه، لأن النكاح نقيض المملوكية، والحرية تنافي المملوكية فلا يكون محلاً، وكان محلاً من وجه دون وجه، وإنما سقط باعتبار المنافي باعتبار الحاجة تندفع بالجائز، فلا حاجة إلى الفاسد كيف وإنّ الحاجة لا تُدْفع بالفاسد..... لأنه لا يفيد الحل، ثم هذا التعليل إشارة إلى أن النكاح الفاسد منعقد ولكن لا بصفة التمام. وهذا فصل اختلف فيه المشايخ رحمهم الله، قالوا بعضهم: ينعقد ولكن لا بصفة التمام، وبعضهم قال: لا ينعقد أصلاً؛ لأن في المحل ما ينافيه. وإنما سقط اعتبار المنافي لحاجة ولا حاجة إلى النكاح الفاسد، أو لا تندفع الحاجة بالنكاح الفاسد فلا يسقط اعتبار المنافي في حق النكاح الفاسد، والنكاح الفاسد لم يصادف محله فلم ينعقد أصلاً. ومنهم من قال: ينعقد مقتضى الإقدام على الوطء ضرورة أن لا يمتنع ما للزوج ولا ضرورة في حق الحنث فلا يظهر الانعقاد في حق الحنث، هذا إذا عقد يمينه على المستقبل، ولو عقد يمينه على الماضي بأن قال: إن كنت تزوجت أمس فكذا، وكان تزوج امرأة نكاحاً فاسداً حنث، واسم النكاح مطلقاً في المستقبل ينصرف إلى الجائز دون الفاسد، وفي الماضي ينصرف إلى الجائز والفاسد جميعاً، والقياس في الماضي أن ينصرف إلى الجائز أيضاً لما ذكرنا أن مطلق الاسم ينصرف إلى الكامل والتام، لكن تركنا القياس في الماضي بحكم العرف، فإن في العرف يراد بالإخبار عن أمر ماضى الحكاية عن الموجود ولا يراد به الحكم ولا المقصود الذي شرع له. قلنا: والصحيح والفاسد في حق صحة الحكاية عنه سواء، ومثل هذا العرف لم

يوجد في المستقبل فيعمل فيه بقضية القياس، ولأن مطلق الاسم لما انصرف إلى الجائز بالدليل الذي قلنا صار الجواز كالمنصوص عليه في الماضي والمستقبل، إلا أنه لو صرّح بالجواز الماضي يحنث بالفاسد، لأن النكاح في الماضي صار عيناً بالأداء، والصفة في العتق لغو، ولو صرح في الجواز في المستقبل لا يحنث بالفاسد، لأن النكاح في المستقبل لم يصر عيناً، والصفة في غير المعين معتبرة، وإن نوى الجائز في الماضي، أو نوى الفاسد في المستقبل دين فيما بينه وبين الله تعالى وفي القضاء. وروى ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال: إن كنت تزوجت اليوم امرأة فعبدي حر، وقد كان تزوجها نكاحاً فاسداً لا يحنث في يمينه، ولو حلف لا يتزوج امرأة فتزوج امرأة بغير أمرها بأن زوجها منه فضولي لا يحنث في يمينه. فرق بين نكاح (372با) الفضولي وبين بيع الفضولي ولا فرق بينهما من حيث الصورة، لأن نكاح الفضولي يفيد الحكم في الجملة، فإنه يفيد الحل عند إجازة المرأة، كما أن بيع الفضولي يفيد الحكم وهو الملك عند إجازة المالك، وكان كاملاً كالبيع فيتناول مطلق اسم الزواج، ومع هذا فرق بينهما فقال: في النكاح لا يحنث. وقال: في البيع يحنث. والفرق أن نكاح الفضولي ليس بمنعقد على سبيل التمام، لأن في المحل ما ينافيه على ما مرّ فلا يكون تاماً، فلا يتناول مطلق الاسم إلا أن الشرع أسقط اعتبار المنافي في حالة مخصوصة، وهي حالة رضاها، في باب النكاح، وفيما عدا هذه الحالة لا يسقط اعتباره فلا يتم الانعقاد والتقريب ما مرّ، بخلاف بيع الفضولي؛ لأن بيع الفضولي تام؛ إذ ليس في المحل ما ينافيه. فإن قيل: الحكم في حق الأمة نظير الحكم في حق الحرة، وليس في الأمة ما ينافي الانعقاد، قلنا: لا بل في الأمة ما ينافي الانعقاد، لأن بالرق ذهب نصف وبقي النصف، كما كان قبل الرق بقي الباقي الجواز باعتبار الحرية، وبهذا استحق القسم كما قبل الرق، فلو أن المرأة أجازت النكاح حنث في يمينه، لأن بالإجازة ينعقد العقد بصفة التمام فتم السبب، ولذلك إن أجازت في العقد يحنث في يمينه، وكان ينبغي أن لا يحنث، لأن النكاح إنما تم في العقد وشرط الحنث نكاح تام اليوم، والجواب: النكاح وإن تم في الغد إلا أن التمام صفة النكاح، والصفة تقوم بالموصوف وتستند إلى وقت النكاح ولهذا شرطت الشهادة وقت النكاح لا وقت الإجازة، وإذا استند التمام إلى وقت النكاح كان النكاح تاماً في اليوم، فلهذا حنث في يمينه. قال في «الكتاب» : ألا ترى أن من حلف أن لا يتزوج امرأة بالكوفة، فتزوج امرأة بغير رضاها فبلغها الخبر وهي بالبصرة، فأجازت نكاحها حنث في يمينه، وإن كان تمام النكاح بالإجازة، والإجازة وجدت بالبصرة، ولكن قيل: بأن التمام مستند إلى وقت العقد، والعقد وجد بالكوفة وبهاتين المسألتين يستدل بعض مشايخنا رحمهم الله فيمن حلف بطلاق امرأة أتزوجها، فزوجه رجل تلك المرأة بغير أمره، وأجاز قولاً أو فعلاً إنها لا تطلق؛ لأنه عقد يمينه على التزوج، والإجازة ليست بتزوج ولا بتزويج ألا ترى أن

محمداً رحمه الله، لم يجعل الإجازة تزويجاً في هاتين المسألتين؛ إذ لو جعلها تزويجاً كان لا يحنث، إذا أجازت في الغد وإذا أجازت بالبصرة كما لو تزوجها، وكما لو تزوجها في الغد وكما لو تزوجها بالبصرة، فعرفنا أن الإجازة ليست بتزويج ولا تزوج، فهذا فصل اختلف المشايخ فيه، وقد ذكرنا اختلاف المشايخ رحمهم الله في تلك المسألة أنها تطلق أجاز الزوج نكاحها قولاً أو فعلاً يصدر عن هاتين المسألتين. ويقول: بأن طريق الحنث في تلك المسألة أن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء من حيث إن العاقد بالإجازة يصير نائباً عنه من ذلك الوقت ويعد النائب كفعل المنوب عنه فيصير متزوجاً من ذلك الوقت. إذا ثبت هذا فنقول: المرأة بالإجازة في هاتين المسألتين صارت من وجه..... من ذلك الوقت الذي عقد الفضولي العقد عليها بفعل الفضولي، كما لو أذنت بذلك في الابتداء، فلهذا حنث في المسألتين. وفي «المنتقى» : إذا قال الرجل: لأتزوجن بالكوفة فزوجه رجل وليته الكبيرة ببغداد وبلغها الخبر فأجازت وهي بالكوفة، فقد بر في يمينه قال: لأنه إنما صار متزوجاً يوم أجازت النكاح، وعلى هذا إذا قال: لأتزوجن يوم الجمعة، فزوجه رجل ابنته يوم الخميس وأجازت يوم الجمعة وعلى قياس المسألة المتقدمة ينبغي أن لا يبر ههنا لأن عمل الإجازة في إتمام النكاح، والتمام مستند إلى وقت المباشرة فيصير متزوجاً ببغداد ويوم الخميس فلا يبر. وفي «العيون» : إذا حلف الرجل لأتزوجن سراً فأشهد بشاهدين فهو يبرُّ في يمينه؛ لأن النكاح لا تصور له بدون الشاهدين. ولو أشهد ثلاثاً يحنث، لأن هذا علانية لأن النكاح يتصور بدون الثلاث فيصير علانية. إذا حلف بالفارسية اكرزن كنم أو قال: اكرزن خواتيم أو قال: اكرزن لدام، فقوله: اكرزن كنم، وقوله اكرزن لدام، فقوله: اكرزن كنم، قوله إن تزوجت فيقع يمينه على العقد. وقوله اكرزن لدام، فقوله: اكرزن كنم، اختلف المشايخ رحمهم الله فيه، بعضهم قالوا: هو على العقد وقال بعضهم هو على الفعل ... وهو الأظهر وأشبه، وإذا حلف لا أتزوج امرأة فوكل رجلاً حتى يزوجها منه، فزوجها منه حنث في يمينه. وكذلك إذا وكل رجلاً أن يزوج له امرأة ثم حلف أن لا يتزوج فزوجه الوكيل تلك المرأة يحنث في يمينه، لأن الوكيل في باب النكاح، سفير ومفسر فتصير عبارته إلى الموكل وكأن الموكل تزوجها بعد اليمين، ولأجل هذا المعنى كانت العهدة على الموكل دون الوكيل ذكره في «الزيادات» .

وفي «المنتقى» : إذا حلف لا يتزوج امرأة فتزوج خنثى حنث. وفيه أيضاً إذا حلف الرجل وهو ببغداد أن لا يتزوج من نساء بغداد فبعث إلى واسطية بواسط ليتزوجها، فحضرت الواسطية بغداد وتزوجها.d قال: إن كانت الواسطية حين دخلت بغداد وطئت بغداد ثم تزوجها الحالف يحنث، لأنها صارت من نساء بغداد وإن كانت حين دخلت بغداد. قالت: إن تزوجني فلان أقمت ببغداد وإلا انصرفت إلى واسط فهذه ليست من نساء بغداد فلا يحنث بتزوجها. قال: ألا ترى أنها تصلي صلاة المسافرين في هذه الصورة، وفي الصورة الأولى تصلي صلاة المقيمين، إذا حلف الرجل أن (373أ1) لا يتزوج بجن فزوجه لبؤه لا يحنث، هكذا ذكر في «الفتاوى» . وفي «القدوري» : إذا حلف لا يتزوج امرأة فصار معتوهاً فزوجه أبوه امرأة يحنث في يمينه، قال: لأن الحقوق تعود إليه فكان هو المتزوج. عبد حلف أن لا يتزوج امرأة فزوجه المولى امرأة على كره منه لا يحنث في يمينه، لأنه لم يتزوج ولو أكرهه المولى حتى تزوج بنفسه يحنث، لأنه قد تزوج. وفي «العيون» : إذا حلف الرجل لا يتزوج من نساء أهل البصرة، فتزوج جارية قد ولدت بالبصرة ونشأت بالكوفة وأوطنت بها يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه يعتبر الولادة، فبهذه المسألة تبين أن ما تقدم من مسألة الواسطية، إذا وطنت ببغداد قولهما، لا قول أبي حنيفة رحمه الله وإذا حلف لا يزوج قروية فقد قيل: من كان خارج المصر فهو قروي، وهذا الجواب لا يستقيم فيمن سكن في المصر. ألا ترى أن من سكن ببخارى في بكستان قوط أو في رباط وليان لا يسمى قروياً. ولو ذهبت امرأة مِصرية إلى قرية فولدت ثمة ولداً فالولد قروي على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله. وإن ذهبت إلى كرم وولدت ثمة ولداً فالولد لا يكون قروياً. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا حلف لا يتزوج من بنات فلان فتزوج ابنه ابنته حنث. ولو قال: من أهل بيته فتزوج ابنة ابنته يحنث، لأن البنت من..... ما ليست من أهل بيته. لأن المراد من هذا البيت بيت ابنته والبنت...... إذا قال لامرأة: إن جلست في نكاحك فامرأته طالق فتزوجها لا تطلق، لأن المفهوم من هذا الكلام، جلوسه في نكاهما مع غيره لا مع نفسه. إذا قال لامرأة: إن تزوجتك فأنت طالق إن تزوجتك فتزوجها لا تطلق لأن المعلق بتزوجها طلاق معلّق بتزوجها فعند تزوجها يصير قائلاً لها أنت طالق إن تزوجتك، فإن طلقها ثم تزوجها ثانياً فقد تحقق الشرط، فيقع الطلاق فحينئذ يحكم اليمين. وما لا فلا، وعن أبي يوسف رحمه الله؛ فيمن حلف لا يزوج ابنته الصغيرة فأمر رجلاً فتزوجها فهو حانث، وكذلك لو زوجها فضولي فأجاز فهو حانث لأن حقوق العقد لا تتعلق بالعاقد فانصرفت اليمين إلى الإجازة، ويتقيد الحكم، وقد وجد عن أبي يوسف أيضاً في الرجل

حلف لا يزوج عبده امرأة فتزوجها فضولي غيره، وأجاز هو أنه حنث. وعن محمد رحمه الله في فصل الفضولي أنه لا يحنث على الأب، لأن الإجازة ليست بتزويج، وإذا حلف لا يزوج ابناً له كبيراً فأمر رجلاً فزوجه وأجاز الابن لا يحنث، لأنه لم يوجد منه العقد ولا الإجازة. وعن محمد رحمه الله في امرأة حلفت لا تزوج نفسها فزوجها رجل بأمرها أو بغير أمرها فأجازت حنثت. وهذه الرواية في الإجازة مخالفة للرواية المتقدمة، وكذلك البكر إذا حلفت لا تزوج نفسها فزوجها رجل بغير أمرها فبلغها الخبر فسكتت فهي حانثه. ولو حلفت البكر لا تأذن أحداً حتى يزوجها فزوجها رجل وبلغها الخبر فسكتت فلا رواية في هذا الفصل عن محمد رحمه الله، وأما الرواية في الرجل حلف لا يأذن لعبده في التجارة فرآه يبيع ويشتري فسكت فهو حانث. وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يحنث في المسألتين، لأن الإذن تصرف قولي لا يوجد إلا باللسان. وذكر في «النوادر» عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يحنث. إذا حلف لا يتزوج فلانة، فأمر رجلاً فزوجه يحنث. رجل تزوج امرأة وقد دخل بها ثم قال: قد كنت حلفت بطلاق كل امرأة ثيب أتزوجها، فتزوجت بهذه ولم أعلم كونها ثيباً حتى دخلت بها فوجدتها ثيباً وقع الطلاق عليه للحال، لأنه أقر بطلاقها ومالك إنشاء الطلاق فيملك إقراره به، بعد ذلك المسألة على وجهين إن صدقته المرأة فيما قال، فلها مهر ونصف المهر، نصف المهر بالطلاق قبل الدخول، ومهر آخر بالدخول بها بعدما وقع الطلاق عليها، وعليها العدة وليس لها نفقة العدة ولا السكنى ولا يجب عليها الحداد؟ وإن كذبته المرأة فيما قال فلها مهر واحد، وعليها العدة ولها نفقة العدة والسكنى، وعليها الحداد قيل: إنما يقع الطلاق في الصورة إذا صارت ثيباً بالإصابة، فأما إذا صارت ثيبتاً بالوثبة أو بالطفرة..... السلام لا يقع. رجل قال: إن تزوجت امرأة كان لها زوج فهي طالق، وطلق امرأته بطلقة بائنة ثم تزوجها لا تطلق، لأن اليمين وقعت على غيرها ولاية، وكذلك إذا قال: إن تزوجت امرأة ثيباً، أو قال: بالفارسية اكرزن روى شحاده تطلق امرأته التي دخل بها تطليقة بائنة، ثم تزوجها لا تطلق، لأن اليمين وقعت على غيرها، لأن غرضه الامتناع عن نكاح ممسوسة الغير، وقد قيل: وقوع الطلاق في هذه الفصول كلها، فالقول الأول راجع إلى اعتبار اللفظ. وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ومحمد رحمه الله، وأصل المسألة في «الجامع» : امرأة قالت لزوجها: إن تزوجت عليّ امرأة فهي طالق ثلاثاً. فقال الزوج: بره طلاق فتزوج تطلق، لأن كلامه خرج جواباً، والجواب يتضمن إعادة ما في السؤال فكأنه قال: إن تزوجت عليك امرأة فهي طالق عشر تطليقات. إذا حلف لا يتزوج بالزيادة على دينار فتزوج على فضة هي أكثر من دينار قيمته فلا

حنث عليه، لأن الزيادة إنما تكون من جنس المزيد عليه ولم يوجد، ولو حلف ليتزوجن هذه المرأة اليوم ولها زوج فهذا على النكاح الفاسد، إذ لا يتصور العقد الصحيح فيها، اليوم فينصرف يمينه إلى النكاح الفاسد (373ب1) حتى لو أطلق الكلام ولم يقيده باليوم فحلف ليتزوجن هذه المرأة كانت يمينه على النكاح الصحيح، لأنه إذا لم يقيد يمينه باليوم كان يمينه على الزواج في العمر، والتزوج الصحيح فيها في العمر متصور فلا ينصرف يمينه إلى النكاح الفاسد. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا قال الرجل لأجنبية: إن نكحتك فأنت طالق، ينصرف يمينه إلى العقد، ولو قال ذلك لامرأته أو لجاريته ينصرف إلى الوطء، حتى لو طلق امرأته وأعتق جاريته ثم تزوجها لا يحنث في يمينه، والفرق أن النكاح للوطء حقيقة وللعقد مجازاً لهما إذ أمكن العمل بالحقيقة لا يصار إلى المجاز وفي الأجنبية العمل بالحقيقة غير ممكن فينصرف يمينه إلى المجاز، وهو نظيره لو قال: إن راجعتك فكذا كانت يمينه على العقد، ولو قال لمنكوحته: إن راجعتك فكذا. كان يمينه على المراجعة الحقيقية، حتى لو طلقها ثم راجعها يحنث في يمينه، ولو تزوجها لا يحنث لأن في الأجنبيّة العمل بحقيقة المراجعة غير ممكن فانصرف يمينه إلى المجاز، وفي المنكوحة العمل بحقيقة المراجعة ممكن فلا ضرورة إلى صرف يمينه إلى المجاز. قال في أيمان «الجامع» : إذا قال لامرأة لا تحل له وهو يعرف ذلك: إن نكحتك فعبدي حر، وهذا على صورة النكاح، وهو النكاح اللغوي لأنه هو المتصور، ولو قال: إن تزوجت الجدار أو تزوجت الحمار فعبدي حر. لا ينعقد اليمين، لا أصلاً لأن هناك لا تصور للزوج أصلاً لا لغة ولا شرعاً، ولا يسمى ذلك تزوجاً لغةً، ولهذا لا تصح إضافة التزوج إلى الجدار والحمار لغة، والتعليق بما لا يكون نصاً للحكم، أما في المرأة التي لا يحلّ التزوج متصور لغة وبهذا صح إضافة التزوج إليه فانعقد اليمين عليه والله أعلم. نوع آخرمن هذا الفصل في البيع والشراء قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا حلف الرجل أن لا يبيع، فباع بيعاً فاسداً يحنث في يمينه، هكذا ذكر في «ظاهر الرواية» ، وفي «النوادر» عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يحنث، والصحيح ما ذكر في «ظاهر الرواية» ، ووجه ذلك أن البيع الفاسد بيع تام؛ إذ ليس في المحل ما ينافي انعقاده، إلا أنه ينافي حكمهُ وهو الملك، وأنه لا يدل على نقصان فيه، كالبيع بشرط الخيار، يبقى هذا القدر لا يفيده الحل لا في الحال ولا في الثاني، قلنا: نعم إلا أن الحل ليس بحكم مقصود من البيع وإنما المقصود منه والمختص به الملك، والبيع الفاسد يفيد الملك في الجملة، وكمال السبب بإفادة الحكم المختص به، والمقصود منهُ لا بإفادته الحكم الزائد، فلو حلف لا يشتري اليوم فاشترى خمراً أو خنزير يحنث في يمينهِ، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يحنث، هكذا ذكر المسألة في «الجامع» .

وذكر مسألة الشراء في موضع آخر، وذكر فيها القياس والاستحسان، وذكر القياس والاستحسان في مسألة الشراء، ذكر في مسألة البيع: ولو اشترى بميتةٍ أو دم لا يحنث، لأن الشراء مبادلة المال بالمال والميتة والدم ليسا بمال، وكذلك إذا حلف لا يبيع وباع بالميتة أو الدم لا يحنث لما ذكرنا، ولو حلف لا يشتري فاشترى مكاتباً أو مدبراً أو أم ولد لا يحنث في يمينهِ، وكان ينبغي أن يحنث، لأن يشتري هو لا يفيد الملك في الجملة بأن يجبر المكاتب ببيع نفسه، والقاضي يقضي بجواز بيع المدبر وأم الولد في رواية فيكون نظير البيع الفاسد، والبيع بشرط الخيار للمشتري، والبيع من الفضولي. والجواب: السبب إنما ينعقد بصفة التمام إذا لم يكن في المحل ما ينافي الانعقاد كما في المسائل التي هو ذكرها، فإن في تلك المسائل ليس في المحل ما ينافي انعقاد البيع، لأن المحل مال متقوم من كل وجه فانعقد البيع بصفة التمام، وإن تراخى حكمهُ إلى القبض والإجازة هناك في ثبوت الحكم لا في إزالة المنافي عن السبب، وفي المكاتب والمدبر وأم الولد ما ينافي انعقاد السبب وهو الحرية من والوجه الذي يعبرُ عنها حق الحرية، فلم يكن الإنعقاد ثابتاً بصفة التمام إن سلَّمنا إن بيعهُ يجوز برضاه في إزالة المنافي عن السبب لا في إثبات الحكم وإذا وجدت الإجازة والقضاء زال المنافي عن السبب فينعقد بصفة التمام، ويقع الحنث حينئذ، أما قبل ذلك فلا يحنث، فإن قيل: أليس محمد رحمه الله ذكر في كتاب البيوع إذا جمع الرجل بين مدبر وقن في البيع، والبيع ينعقد في حق القن صحيحاً، ولو لم ينعقد العقد في حق المدبر لما انعقد العقد في حق القن، لأن بيع القن حينئذ يكون بيعاً بالحصة. قلنا: نحن لا ننكر انعقاد العقد في حق هؤلاء أصلاً، وإنما ننكر انعقاده في حقهم بصفة التمام، وهذا لأن امتناع العقد في حق المدبر سببٌ منافي وهو الحرية، والحريه في حقه ثابتةٌ من وجه دون وجه فكان المنافي قائماً من وجه دون وجه فيمتنع الانعقاد من وجه دون وجه، والانعقاد من وجه في حق المدبر يكفي للانعقاد في حق القن بصفة الصحة، لأن الانعقاد في حق القن حينئذ لا يكون بالحصة، هذا إن اشترى هذه الأشياء. ولو اشترى (3741) شيئاً بهذه الأشياء، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل. وحكي عن بعض مشايخنا رحمهم الله أنه يحنث، كما لو اشترى بالخمر والخنزير، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في شرح كتاب المأذون: أن من حلف لا يبيع فباع المدبر لا يحنث في يمينه، علّل فقال: لأن بيعه غير منعقد. ولو اشترى عبداً من رجل قد علم المشتري أن العبد لغير البائع وأنه فضولي في البيع لم يأمره صاحب العبد به حنث في يمينهِ لوجود شرط الحنث وهو الشراء بصفة التمام. فإن الشراء من الفضولي منعقد بصفة التمام، إذ ليس في المحل ما ينافي انعقاده، وأنه يفيد الحكم في الجملة، فصار بمنزلة الشراء الفاسد. فإن كان عقد يمينه على المنافي بأن قالت: إن كنت اشتريت اليوم، أو قال: إن كنت بعت اليوم، وقد كان اشترى شراءً فاسداً، وباع بيعاً فاسداً يحنث في يمينه أيضاً. لأنه لما وقع الحنث بالفاسد والمستقبل، فلأن يقع الحنث في الماضي أولى.

قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : إذا قال: إن لم أبع هذا العبد فكذا. فاعتقه أو دبره حنث في يمنيه، لأن الحنث معلق بترك البيع. وقد ثبت الترك بالإعتاق والتدبير فصار كموت الحالف أو موت العبد قبل البيع، ولو كانت هذهِ المقاله للجارية، وباقي المسألة بحالها فمن مشايخنا رحمهم الله من قال: لا يحنث لأن احتمال البيع قائم بأن يرتد ويلتجىء بدار الحرب فيبرّ فلا يحنث في يمينه، والصحيح أنه يحنث لأنه عقد يمينه على البيع باعتبار الملك، وقد امتنع ذلك بالإعتاق والتدبير، وفي «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال لأمته: إن لم أبعك فأنت حرّة، عتقت في قول أبي حنيفة رحمه الله، وكان أبو يوسف رحمه الله يقول أولاً: لا يعتق لأني (لا) أدري لعلّه يعتقها ثم يرتد وينسى فيسريها ويبيعها، ثم رجع وقال بقول أبي حنيفة رحمه الله. وفي «القدوري» : إذا حلف الرجل ليبيعن أم ولد أو هذه المرأة الحرة المسلمة فباعهم برّ في يمينه عند أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف: في الحر المسلم كذلك، فأما في أم الولد والحرة فاليمين على الحقيقة أن يريد أو يسبا فيبيع، وقول محمد رحمه الله يجب أن يكون كقول أبي يوسف. وهذه المسألة فرع لمسألة أخرى ذكرها محمد رحمه الله في «الجامع» إذا قال لحرة: إذا ملكتك فأنت حرة، أو قال لها: إذا اشتريتك فأنت حرّة، فارتدت ولحقت بدار الحرب وسُبيت فملكها الحالف عتقت عندهما، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا تعتق، وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله جعلا الردة واللحاق والسبي مذكوراً صحيحاً لا يجاب الحرية. وأبو حنيفة يقول تصرف العاقل إنما يصح بطريق العلم إن وجد الصحة بذلك الطريق، ونحن نعلم ببديهة العقل أن العاقل لا يقصد الصحة بالطريق الذي قلتم؟ وبدونه لا يمكن تصحيح تصرفه؛ لأن تعليق العقد إنما يصح إذا حصل في الملك، أو مضافاً إلى ملك يوجب تيقن الجزاء عند وجوده، ولم يوجد كلاهما. أما التعليق بالملك فظاهر، وأما مضافاً إلى ملك يوجب تيقن الجزاء عند وجوده؛ لأنه أضافها إلى ملكها مطلقاً، وهو تملكها بالإجازة والنكاح. وهذا النوع من الملك لا يفيد العتق، ويملكها بعد وجود الوسائط التي ذكرتم، وإنه يفيد العتق وهو ما غير هذا النوع فلا يمكن تصحيح هذا اليمين إذا بينّه هذا. جئناً إلى مسألتنا فنقول في مسألتنا: إذا عقد يمينه على أم ولده أو على الحرة أمكن حمله على البيع حقيقة بواسطة من الوسائط التي ذكرنا، فلا يحمل على البيع صورة وفيه لا يمكن جعله على الحقيقة، لأن الرجل لا يسبى فيحمل على البيع صورة، وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يلتفت إلى هذه الوسائط، وبدونها لا يمكن جعله على البيع حقيقة فيحمل على البيع صورة. وإذا حلف لا يشتري حمّاً فاشترى رأساً لا يحنث في يمينه، وهذا بناءً على ما قلنا قبل هذا إذ الشراء معتبر بالبيع، وبائع الرأس لا يسمى بائع اللحم، فمشتريه أيضاً لا يكون مشتري اللحم، وهذا الخلاف ما لو حلف أن يأكل لحماً فأكل رأساً حنث في يمينه، لأن

الأكل يصادف ما على الرأس، وما على الرأس لحم حقيقة، فأما البيع والشراء يتناول الجملة، وباعتبار الجملة بائع الرأس لا يسمى بائع اللحم فمشتريه أيضاً لا يسمى مشتري اللحم. ولو حلف لا يشتري رأساً فهو على رأس البقر والغنم عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما على رؤوس الغنم، وهذا اختلاف عصر وزمان فكان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولاً هذا على رؤس البقر والغنم والإبل، لما أنه رأى عادة أهل الكوفة أنهم كانوا يبيعون الرؤوس في الأسواق، ثم لما تركوا ذلك في رؤوس الإبل رجع عن ذلك فقال: يمينه على رؤوس البقر والغنم خاصة، ثم إنهما لما شاهدا عادة أهل بغداد وسائر البلدان أنهم يبيعون في الأسواق رأس الغنم خاصة، وهذا إذا لم يكن له نيّة فإن نوى الرؤوس جميعاً فهو على ما نوى، لأنه ما نوى حقيقة كلامه وفيه تشديد عليه. وإذا حلف لا يشتري شحماً واشترى شحم البطن يحنث، ولو اشترى شحم الظهر فهو الشحم الذي يخالطه اللحم لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في الأصل، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنه لا يحنث، ومن المشايخ رحمهم الله من ذكر في «شرح الجامع الصغير» رحمه الله، أنه على الخلاف الذي في قصد الأكل..... حقيقة وصاحبته، على قول أبي حنيفة رحمه الله يحنث بأكل شحم البطن، وعلى قولهما لا يحنث، ويحنث بأكل شحم بلا خلاف. وفي «المنتقى» : إذا حلف لا يشتري امرأة، فاشترى عجوزاً أو مرضعة يحنث، وفيه أيضاً إذا حلف لا يشتري غلاماً من نرويه أو من الهند فهو على ذلك الجنس حيث ما اشتراه، ولو قال غلاماً من خراسان. فاشترى غلاماً خراسانياً بغير خراسان لا يحنث. متى اشتراه من خراسان، روى المعلالى عن أبي يوسف رحمه الله إذا حلف الرجل لا يبيع صاعه إلا ببائع كثير فباعه ببائع فسأل التجار الذين يعالجون ذلك المتاع عنه فإن قالوا: هذا البائع في هذا المتاع كثير لا يحنثُ، وإن قالوا: كثير قليل يحنث. وفي «المنتقى» أيضاً قال في «الجامع (374ب1) الصغير» : وإذا قال الرجل: هذا العبد حر إن بعته فباعه على أنه بالخيار عتق العبد؛ لأن البيع قد وجد بصفة التمام، لوجود حدّه وهو الإيجاب والقبول مضافاً إلى الجمل قابلاً للملك، إلا أن الملك غير بائن ولكن الملك حكم بالبيع وشرط الحنث نفس البيع لا حكمه، فإذا وجد البيع وجد شرط الحنث، والعبد في ملكه والمعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمرسل. فصار كأنه قال بعد البيع: هذا العبد حر، ومن باع عبداً بشرط الخيار لنفسه ثم أعتق يعتق العبد وينفسخ البيع كذا ههنا. وكذلك لو قال المشتري: إن اشتريته فهو حر، فاشتراه على أنه بالخيار ثلاثة أيام فإنه يعتق، ولو كان المشتري قال: إن اشتريته فهو حر ثم اشتراه على أن البائع بالخيار لا

يعتق العبد؛ لأن شرط العتق وإن وجد إلا أن العبد ليس في ملكه، وليس له ولاية اسقاط الخيار ليسقطه الخيار ويثبت الملك له مقتضى بزوال العتق، بخلاف ما إذا اشترى بشرط الخيار لنفسه. وذكر القدوري في «شرحه» أن من حلف أن لا يبيع فباع بيعاً فيه خيار البائع أو المشتري حنث في قول محمد رحمه الله ولم يحنث في قول أبي يوسف رحمه الله، لأن شرط الحنث البيع المطلق والبيع بشرط الخيار بيع مقيد، وتبين مما ذكر القدوري أن ثمّ ذكر في «الجامع الصغير» قول محمد رحمه الله وإذا حلف لا يشتري صوفاً فاشترى شاة على ظهرها صوف لم يحنث. الأصل في جنس هذه المسائل أن المحلوف عليه إذا دخل في الشراء تبعاً بغير المحلوف عليه لا يقع له الحنث، وإن دخل مقصوداً يقع الحنث، وإن دخل مقصوداً خرج على هذا مسألة الشاة لأن الصوف الذي على ظهرها يدخل في البيع تبعاً لأجل. ولو اشترى شاة حيّة على ظهرها صوف بصوف يحنث، لأن الصوف الذي على ظهر الشاة؛ في هذه الصورة مقصوداً بالبيع ويأخذ قسطاً من اليمين، ولهذا شرط الاعتبار في هذا العقد هكذا ذكر من روى «ورق أرمن جاه ذكر است ما اتجاه كه ديكر ورق است غلط اقتاده است أرجهت فسعت» أصلٌ لأجل الخبر وزوج هو إليه الخبر وقال: لا يحنث. وذكر (في) شهادات «القدوري» ما يؤكد ما ذكر في «مجموع النوازل» ، فقال: لا يبيع لمن عاين ذلك إن شهد على البيع بل يشهد على التعاطي. باع من رجل عبداً وسلمه إليه، ثم حلف البائع أن لا يشتري منه، ثم أقاله المشتري قيل لا يحنث في يمينه، ولو أقاله بمائة دينار وقد اشتراه بألف يحنث في يمينه وهو الجواب إنما يتأتى على قول أبي يوسف رحمه الله ومحمد، لا على قول أبي حنيفة رحمه الله، يعرف بالتأمّل. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : في باب المساومة، رجل ساوم رجلاً بثوب وأبى البائع أن ينقصه من اثني عشر، فقال المشتري: عبده حر إن اشتراه باثني عشر، ثم اشتراه بعد ذلك بثلاثة عشر يحنث في يمينه، وإنه مشكل من وجهين «أحدهما» : لأن شرط الحنث الشراء باثني عشر والثاني باثني عشر لما اشترى الكل بثلاثة عشر، قلنا: أما الأول قوله إن اشتريت باثني عشر جعل مجازاً عن قوله إن التزمت اثنا عشر لسبب هذا الشراء حتى ينقضه البائع لا نفس الشراء، ولكن أن يجعل الشراء مجاز عن الالتزام لأن في الشراء شيئان: عقد والتزام الثمن، فإذا جعلنا الشراء مجازاً عن التزام الثمن فقد خصصنا منه العقد وبعثنا الالتزام داخلاً تحت اليمين، ويكون هذا إثبات التخصيص فيما يلفظ بدلالة العرف، وذلك جائز وصار تقدير يمينه إن التزمت اثني عشر درهماً بسبب هذا الشراء فعبدي حر، وهناك إذا اشتراه بثلاثة عشر يحنث في يمينه، كذا ههنا. وأما «الاشكال الثاني» قلنا: المشتري اليوم اثنا عشر درهماً بأداء كل الثوب لا بأداء بعض الثوب لأنه قابل ثلاثة عشر بالثوب، واسم الثوب اسم للكل فيصير كل جزء من

أجزاء الثمن بمقابلة جميع الثوب، وإنها تظهر الإيقام عند استحقاق بعض الأجزاء بطريق الضرورة حتى لا يلزم المشتري جميع الثمن بأداء بعض الثوب وهو لم يرض به، أما في غير حالة الاستحقاق لا ضرورة تحصل كل جزء من أجزاء الثمن مقابلاً بجميع البيع. وكذلك لو اشتراه باثني عشر درهماً وديناراً، أو اشتراه بإثني عشر درهماً وثوباً يحنث في يمينه لما قلنا، ولو اشتراه بأحد عشر درهماً وديناراً لا يحنث في يمينه، وإنه أيضاً؛ لأن قوله: إن اشتريته بإثني عشر درهماً جعل مجازاً عن قوله: إن التزمت بسبب هدا الشراء اثني عشر درهماً أو ما يبلغ قيمته اثنا عشر درهماً عرفاً وعادة لا نفس الشراء على حسب ما قلتم في المسألة المتقدمة، وقد التزم بسبب هذا الشراء اثنا عشر درهماً وزيادة، قلنا ما ذكر من الجواب جواب القياس أما على جواب الاستحسان ينبغي أن يحنث لأن الدراهم والدنانير جعلا جنساً واحداً فيما عدا حكم الربا استحساناً. ذكر في «المنتقى» في موضع، وذكر في موضع آخر: إذا حلف لا يشتري صوفاً فاشترى إهاباً عليه صوف لم يحنث، وكذلك اشترى شاة بصوف، وصار في مسألة بيع الشاة التي على ظهرها صوف بالصوف المنفصل روايتان. وفي «المنتقى» أيضاً: إذا حلف لا يشتري لبناً فاشترى شاة في ضرعها لبن لا يحنث، ولو اشتراه بلبن آخر قال أبو يوسف رحمه الله: كان أبو حنيفة رحمه الله يقول: اللبن والصوف سواء. (375أ1) وقال أبو يوسف: لو باع القياس في اللبن ولا أجعل له حصة من الثمن لأنه مغيب ولا يحنث في يمينه. ولو حلف لا يشتري آجرّاً أو حلف لا يشتري جصاً فاشترى دار مبنية بذلك لا يحنث في يمينه، لأن هذه الأشياء دخلت في البيع تبعاً. ولو حلف لا يشتري تمرة، فاشترى نخلة فيها تمر وشرط التمر يحنث، ولذلك لو حلف لا يشتري بقلاً فاشترى أرضاً فيها بقل وشرط البقل يحنث في يمينه؛ لأن التمر والبقل دخلا في البيع في هذه الصورة مقصوداً بالذكر لا تبعاً، ألا ترى أن بدون الذكر لا يدخلان في البيع. وإذا حلف لا يشتري لحماً فاشترى شاة حيّه لا يحنث، وكذلك إذا حلف لا يشتري زيتاً فاشترى زيتوناً، أو حلف لا يشتري قصباً فاشترى بواري أو حلف لا يشتري جدياً فاشترى شاة حاملاً، أو حلف لا يشتري شعيراً فاشترى حنطة فيها حبّات الشعير لم يحنث، وعلى هذا جميع ما يدخل في البيع تبعاً، هذه الجملة من القدوري. وفي «المنتقى» إذا حلف لا يشتري فضة فاشترى خاتماً فيه فضة يحنث في يمينه. ولو اشترى سيفاً مفضضاً لا يحنث في يمينه، ولو حلف لا يشتري فصّاً فاشترى خاتماً فيه فصّ يحنث في القياس في المنتقى. وذكر في «المنتقى» المسألة تماثل إذا حلف لا يشتري فصاً فاشترى خاتماً فيه فص يحنث بإمكان ما ذكر بعد هذه المسألة..... الاستحسان، قال ثمة يحنث وإن كان ثمن

الفصّ أقل من ثمن الحلقة. وفيه أيضاً إذا قال: إن بعت غلامي هذا أحداً من الناس فكذا، فباعه من رجلين يحنث، وكذلك إذا قال: إن أكل هذا الرغيف أحد فأكله اثنان حنث في يمينه، وفي «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله: فيمن حلف لا يشتري قميصاً فاشترى قميصاً مقطّعاً غير مخيط لا يحنث، لأنه اشترى خرقاً. وفي «المنتقى» : إذا حلف لا يشتري حديداً فاشترى باباً فيه ساتر حديد لا يحنث، ولو اشترى بابه بحديد منفصل إن كان الحديد المنفصل أقل لم يحنث، وإن كان أكثر جاز الشراء ويقع به الحنث. إذا حلف وقال: والله ما اشتريت اليوم شيئاً وقد كان اشترى أشياء في ذلك اليوم بالتعاطي فقد قيل: يحنث في يمينه. وفي مجموع «النوازل» وضّح المسألة في طرق البيع فقال: إذا حلف الرجل أن لا يبيع الخبز فجاء رجل وأعطاه دراهم لأجل الخبز وهذه مكتوبة قبل هذه الورق بثلاثة أوجه أوراق. فصار كأنه باع باثني عشر درهماً وزيادة، ذكر القياس والاستحسان في مثل هذه المسألة في آخر الباب. وصورتها: إذا قال: صاحب عبده حر إن باعه بعشرة دراهم إلا بأكثر أو قال: إلا بأزيد فباعه بتسع ودينار لا يحنث في يمينه استحساناً، لأن الدراهم والدينار جعلا جنساً واحداً فيما عدا حكم الربا استحساناً، فتكثر الدراهم بالدينار فكان هذا بيعاً بأكثر من عشرة. قال مشايخنا رحمهم الله: ذكر القياس والاستحسان في آخر الباب، ذكر ههنا، قال: ولو كان صاحب الثوب حلف فقال: عبده حرّ إن باع هذا الثوب بعشرة دراهم فباعه بأحد عشر درهماً أو بعشرة دراهم ودينار أو ثوب لا يحنث في يمينه، وكان ينبغي أن يحنث ويجعل البيع بأحد عشر عدّ بيعاً بعشرة وهو شرط الحنث، ألا ترى في جانب المشتري جعلنا الشراء بثلاثة عشر شراء باثني عشر، وجعلنا الشراء باثني عشر وثوباً باثني عشر. قلنا: في الفرق بين جانب البائع وبين جانب المشتري: أن حقيقة البيع والشراء للعقد، وفي جانب البائع العبرة للحقيقة وهو العقد لا للمجاز وهو التزام؛ إذ ليس في..... العقد التزام من حصة البائع، وباعتبار الحقيقة البيع بأحد عشر غير البيع بعشرة فلم يكن بشرط الحنث. أما في جانب المشتري العين للالتزام على ما مرّ في الملتزم لأحد عشر ملتزم للعشرة في......، فلهذا افترقا. ولو كان صاحب الثوب باعه بتسعة دراهم لا يحنث في يمينه، كان ينبغي أن يحنث لأن البائع إنما منع نفسه عن البيع بعشرة لما فيه من النقصان، والنقصان في التسعة أكثر فصار البيع بتسعة شرط الحنث كالبيع بعشرة، قلنا: لو حنث في يمينه بالبيع بتسعة إنما يحنث إذا أراد ما في يمينه أو بتسعة، ولو لمجرد العرف إلا بلفظه، لأن لفظه لا يحتمل تسعة لأن لفظه عشرة واسم

العشرة لا يتناول ما دونهما، والزيادة على لفظ الحالف بالعرف لا تجوز لأن العرف ليس لإيراد الجملة، واليمين لا يثبت لمجرد إرادة الحالف لا تزاد على اليمين، لأن العرف ولو حلف لا يبيعه منه بعشرة حتى يزيده فباعه بأحد عشر أو بعشرة ودينار لا يحنث في يمينه، لأن البائع بيمينه أثبت بيعاً مؤقتاً إلى غاية. وهو أن يزيد المشتري على العشرة، فإذا أزاد فقد وجدت الغاية فلا يبقى اليمين فكيف يحنث بعد ذلك؟ ولو باعه بتسعة لا يحنث أيضاً، لأن البيع بتسعة ليس بشرط الحنث على ما ورد. ولو قال: عبده حر إن اشتراه بعشرة إلا بأقل فباعه بتسعة ودينار حنث استحساناً، لأن الدراهم والدنانير فيما عدا ذلك حكم الربا جنس واحد استحساناً فتكثر الدراهم بالدنانير ويصير ميسّر بالعشرة أو أكثر. وإذا ساوم الرجل رجلاً بعبد فأراد البائع (375ب1) ألفاً وسأله المشتري بخمسمائة. فقال البائع: هو حر إن حططت عنك من الألف شيئاً، ثم قال بعد ذلك: بعتك العبد بخمسمائة فقبل المشتري البيع ولم يقبل حنث البائع، وعتق العبد، وإنه مشكل لأن شرط الحنث الحط، والحط الاسقاط وإنه يعتمد سامعه الوجوب. والجواب عنه: أن البائع وإن ذكر الحط إلا أنه ما أراد به الاسقاط، وإنما أراد به التبعيض الذي يشتمل عليه الحط، لأنه ذكر الحط معرفاً بالألف واللام لتعريف المعهود، والألف المذكور عند المساومة والحط عن الألف المذكور عند المساومة لا يكون إلا بطريق التبعيض فانصرف يمينه إليه، فإذا باعه بخمسمائة فقد نقص عن الألف المسمى عند المساومة، وإن حططت عن يمينه شيئاً فهو حر، وباقي المسألة بحالها لا يعتق العبد. لأن الثمن اسم للواجب بالعقد، ولم يحط عن الواجب بالعقد شيء، ولو حط عن يمينه شيئاً بعد ذلك انحلت اليمين لوجود شرطه، ولكن لا يعتق العبد لأنه زائل عن ملكه حتى لو كان المعلق طلاق امرأته أو عتق عبدا آخر، تطلق المرأة ويعتق العبد. وكذلك لو وهب له بعض الثمن في هذه الصورة قبل قبض الثمن أو بعده حنث في يمينه، لأن هنا نقص الثمن والحط سواء وهذا الجواب مشكل في هذه، الثمن بعد القبض، لأن بعد القبض الثمن لا يبقى في ذمة المشري فلا يتصور اسقاط. والجواب أن الثمن باق في ذمة المشتري بعد القبض، لأن ما قبصه البائع من المشتري ليس غير حقه، إلا أنه لا يظهر في حق المطالبة، لأنه لا يفيد لأن البائع إن طالبه به فللمشتري أن يطالب البائع بما قبض منه، فأما إظهاره في حق الهبة مقيّد «ما طهرياه ولو حط عنه جميع الثمن ووهب منه جميع الثمن لا يحنث، لأن هذه اليمين ليس بحط، ولو أبرأه عن بعض الثمن إن كان قبل قبض الثمن حنث في يمينه، وإن كان بعد قبض الثمن لا يحنث في يمينه. والإبراء قبل القبض لا يفارق الحط والهبة، والإبراء بعد القبض يفارق الحط والهبة. حلف الرجل لا يبيع داره فإن أعطاها في صداق امرأته حنث في يمينه، هكذا ذكر في «النوازل» قال الصدر الشهيد رحمه الله: يجب أن يكون الجواب فيه على التفصيل إن

تزوجها على الدار لا يحنث في يمينه لأن هذا ليس ببيع وإن تزوجها على دراهم أو دنانير وأعطاها الدار عوضاً عن الدراهم والدنانير حنث، لأن هذا بيع. رجل حلف بعتق جاريته على بيعها بهذا اللفظ: إن لم أبع هذه الجارية اليوم فهي حرّة فباعها على أنه بالخيار، ثم فسخ البيع لم يحنث في يمينه، ولم تعتق الجارية لأن شرطها الحنث، وهو عدم البيع في اليوم لم يتحقق لأن البيع شرط الخيار لأن شرطها الحنث بيعٌ في «النوازل» أيضاً، وفيه أيضاً: إذا وكل الرجل رجلاً أن يبيع عبده فباعه، ثم إن الآمر خاصم المشتري وقدم إلى القاضي وطالبه بالثمن وسع المشتري أن يحلف بالله ما له عليه كذا ويريد به ليس عليه تسليم كذا، ويكون صادقاً فيه لأنه لا يجب على المشتري تسليم الثمن إلى الوكيل. حلف الرجل أن لا يشتري لفلان ثوباً فأمره فلان أن يشتري لابنه الصغير ثوباً فاشتراه لا يحنث، وكذا لعبده فاشتراه لا يحنث. إذا قال: إن اشتريت هذا العبد بإذني فهو حر، ثم أذن له في التجارة، فاشترى هذا العبد يحنث؛ لأن الإذن بالتجارة مطلقاً إذن شراء هذا العبد وغيره، ولو كان إذن له بشراء الطعام فاشترى هذا العبد لا يلزمه الحنث، لأنه ما أمره بشراء هذا العبد لا نصاً ولا حكماً لإطلاق اللفظ أكثر ما في الباب أن الأذن في نوع أذن في الأنواع كلها إلا أن ذلك أمر حكمي بخلاف فريضة اللفظ فلا يظهر في حقه وقوع الحنث. نوع آخر في الهبة والصدقة والإجارة والاستئجار والعاريةوالشركة والقبض والاستقراض والكفالة والوصية قال محمد رحمه الله في «الجامع» : حلف لا يهب لفلان شيئاً فوهبه شيئاً حنث في يمينهِ استحساناً، وهو قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وعلى هذا الصدقة والهبة والتخلي. ووجه ذلك وهو أن الهبه عبارة عن التملك بغير شيء لأنه لا تمليك فيه إلا من الواهب، وذلك في قولهِ وهبت لا يعلق به بالقبول، وإنما القبول لثبوت الملك والملك حكم الهبة، وشرط الحنث بغير الهبة لا حكمها، ولأن غرض الواهب من هذه اليمين منع النفس عن إظهار الجود وبنفس الإيجاب يحصل إظهار الجود فكان الحنث متعلقاً بالإيجاب من هذا الوجه. إذا ثبت هذا في الهبة ثبت في التخلي والصدقة، لأن كل ذلك في معنى الهبة لأنه تمليك بغير شيء كالهبة ويبنى على هذا. أما إذا قال: وهب لي فلان ألف درهم فسكت، ثم قال: لم أقبل الهبة صدق لأن الهبة إذا كانت هبة بدون القبول لا يكون الإقرار بالهبة إقراراً بالقبول فيصح منه دعوى عدم القبول، والعارية بدون القبول عارية، فإذا حلف لا يعير فلاناً شيئاً فأعاره ولم يقبل منه حنث عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله. وأما القرض فليس بقرض بدون القبول، في قول محمد رحمه الله، وإحدى

الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله لأنه تمليك بعوض يجب في الثاني، فصار نظير البيع. وفي رواية أخرى عن أبي يوسف رحمه الله أن القبول فيه ليس بشرط، فإذا حلف لا يقرض فأقرض ولم يقبل المقرض لا يحنث عند محمد رحمه الله، واحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله، وفي رواية أخرى عنه أنه يحنث. والاستقراض بدون الإقراض استقراض، فإذا حلف لا يستقرض من فلان شيئاً فاستقرض ولم يقرضه فلان يحنث في يمينه. والإجارة بدون القبول ليس بإجارة في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إجارة. والحاصل: أن كل عقد فيه بدل مالي، فالحلف عليه لا يوجب الحنث بدون القبول وما لا بدل فيه...... فالحلف عليه يوجب الحنث بدون القبول، وما ليس فيه بدل ما لي فالحلف عليه يوجب الحنث بدون القبول في قول محمد رحمه الله، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله، وفي رواية أخرى (376أ1) عنه لا يوجب. والرهن بدون القبول ليس برهن وإذا قال: اقرضني فلان ولم أقبل لا يصدق، وهذا إنما يتأتى على قول من يقول بأن القرض بدون القبول ليس بقرض. وإذا حلف لا يهب عنده من فلان فوهب رجلاً عند الحالف من ذلك الرجل بغير أمره، وأجاز الحالف ذلك حنث في يمينه، هكذا رواه ابن سماعة عن محمد رحمه الله. ولو حلف لا يهب عبده لفلان، ثم وهب له على عوض حنث في يمينه، وفي نوادر بشر عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال الرجل: إن وهب لي فلان هذا العبد فهو حر، فقال فلان: وهبته لك قال بثلاثة وقبضت لم يعتق. رجل أكره أمرأته على مهرها فوهبهُ منها ثم ادعى الزوج عليها الهبة هل يسعها أن تحلف بالله ما وهبت. قال الصدر الشهيد رحمه الله: المختار ما قال الفقيه أبو الليث رحمهُ الله، أنه ينبغي لها أن تقول للقاضي: سله يدعي هبته بالطوع أو بالكره. فإن قال: ادعى هبته بالطوع كان لها أن تحلف بالله ما وهبته لأنها صادقة فيه. رجل قال لآخر: والله لأهبنك هذا اليوم مائة درهم فوهبه، كان له على رجل وأمره بقبضها في يمينها، ولو مات الواهب ولم يقبض الموهوب له المائة لا يتمكن من أحدها لأنها صارت ملك الورثة. في «مجموع النوازل» ، وفي «نوادر» بشر عن أبي يوسف، إذا حلف يأخذ ما في الدار من فلان، وقد كان آخرها قبل الثمن في يده وجعل بيعاً آخر كل شهر قد سكنها لا يحنث. لأنها على الإجارة التي كانت قبل اليمين لأن بحكم الإجازة الأولى لا يملك مطالبته بآخر شهر لم يسكنه فتكون هذه إجازة مسداة. سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل له مستقلاً إن حلف بطلاق امرأته «كي من

مستقلها دايعد نده ما حرترا» امرأته المستقلان وقبضت الأجرة وأنفقتها أو أعطت زوجها لا يحنث، لأن شرط الحنث عقد الإجارة، وهو لم يعقد الإجارة قبل. أليس إنه موضع المسألة في المستقلان والمستقل ما يكون معداً للاستقلال فتركه في أيديهم لما رأى لا يقع الحنث، قال: لأن اليمين عقدت على العقد ولم يوجد منه العقد، بأن كان الزوج قال للمستأجرين: يقعدوا في هذه المنازل فهذا الفصل لم يُنقل عن شيخ الإسلام. وقيل: ينبغي أن تكون هذه إجارة ويحنث في يمينه، ولذلك إذا تقاضيا منهم أجرة شهر قد سكنوا فيها فهذا ليس بإجارة فلا يحنث في يمينه. رجل حلف لا يستعير من فلان شيئاً فأردفه على دابته لا يحنث، وإذا حلف لا يعير ثوبه من فلان فبعث المحلوف عليه وكيلاً المستعار فأعاره، اختلف زفر رحمهما الله على قول أحدهما يحنث. قال الصدر الشهيد رحمه الله: وعليه الفتوى، لأن الوكيل في باب الاستعارة رسول وهذا إذا خرج الوكيل لكلامه تخرج الرسالة بأن قال: إن فلاناً يستعير منك كذا فأما إذا لم يقل ذلك لا يحنث. وإذا حلف لا يستدين ديناً وتزوج امرأة وإن أخّر دراهم في سلم يحنث. وسئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عمن وهب من آخر شيئاً في حالة السكر، وحلف أن لا يرجع في هذه الهبة ولا يأخذ منه، ثم إن كان الموهوب له وهب ذلك الشيء من آخر فأخذه الواهب الحالف منه، قال: لا يحنث في يمينه، وإنما كان كذلك لأن شرط الحنث الرجوع والأخذ بطريق الرجوع وبعدما وهب الموهوب له الموهوب لا يبقى للواهب حق الرجوع، فلا يكون هذا الأخذ بطريق الرجوع بل يكون بطريق التعصيب فلا يحنث في يمينه. إذا حلف لا يستعير من فلان شيئاً ينصرف إلى كل موجود تصح إعارته، وذلك عين ينتفع به مع بقاء عينه فإن دخل دار المحلوف عليه ليبقى في سره فاستعار منه الرشاء والدلو. واختلف المشايخ رحمهم الله فيه: منهم من قال: يحنث، ومنهم من قال: لا يحنثُ، لأنه لم تثبت يده عليها، لأنهما في يد صاحب الدار فلا يكون مستعيراً، وهذا إشارة إلى أنّ الإعارة لا تتم إلا بالتسليم، وهذا هو الطريق فيما إذا أردفه على دابته فعلى قياس هذا التعليل إذا استعار منه الرشاء والدلو من بئر ليس في ملك المحلوف عليه يحنث. ذكره الصدر الشهيد رحمه الله في «شرح الكافي» في باب اليمين في الأكل: إذا حلف لا يشاركه فلان ثم إن الحالف شاركه بمال لابنه الصغير، قال:..... هو الابن دون الأب لأنه لا ربح للأب في المال. إذا حلف الرجل: والله لا يشاركه فلان فهذا على ما عليه كلام الناس من الشركة في التجارة، فإن اشتريا عبداً لم يحنث، ولو قال: والله لا يكون بيني وبينه شركة في شيء فاشتريا عبداً لم يحنث، ولو قال: والله لا يكون بيني وبينه شركة في شيء فاشتريا عبداً أو ما أشبهه حنث، وكذلك إذا قال: والله لا يشاركه فلان في شيء ثم اشتريا داراً أو عبداً بينهما حنث، وإن.... وقد حلف لا يشاركه في شيء لم يحنث، لأنه لم يشاركه إنما

ألزمه هذا أحب أو كره هذه الجملة في أيمان «المنتقى» . إذا حلف لا يشاركه فلان في هذه البلدة فخرجا عن حدِّ البلدة وتشاركا ثم دخلا البلدة وعملا فإن أراد باليمين عقد الشركة لا يحنث، وإن أراد به العمل بشركته يحنث، وإذا وقع أحدهما صاحبه مالاً مضاربة فكذلك لأن المضاربة نوع من أنوع الشركة في الباب الأول من أيمان الواقعات. وإذا حلف لا يعمل مع فلان شيئاً في القصارة أو غيرها فعمل مع شريكه يحنث، ولو عمل مع عبده المأذون لا يحنث، ولو حلف لا يشاركه أخاه ثم بدا له فالحيلة في ذلك إذا كان للحالف أب كبير أن يدفع الحالف ماله إلى أبيه مضاربة بنصيب (376ب1) قليل ويأذن له بعمل فيه بداية. ثم أن لا يشارك..... عملاً كان الربح للابن على ما اشترطا لأن الحالف لم يشاركه أخاه فلا يحنث، ويحصل مقصود الحالف وهو الربح. رجل حلف لا يوصي بوصية فوهب في..... المؤمن شيئاً لا يحنث؛ لأن ذلك ليس بوصية، لكن أعطى الشرع لها حكم الوصية فلا يظهر في حق حكم الميّت. رجل قال: «أكرمن ابن جيرر ان كس دمم يعني تعاريت» فكذا أعطى بعض الناس ومنع البعض لا تطلق امرأته، لأنه ما أعطى هركسي. رجل حلف أن يكفل أو نذر، وقال: إن كفلت بمال أو نفس فللَّه علي أن أتصدق بفلس وكفل لزمه الوفاء به؛ لأن هذا النذر معلق بالشرط فيصير مرسلاً عند الشرط وهذا هو الحيلة. من أراد أن لا يكفل إن تعلق النذر بشيء يسير بالكفالة. ويقول: إني..... لا أكفل رمز بالنذر ولا يلحقه كبير. صدر في «النوازل» المكفول له بالمال إذا حلف الكفيل به. ابن لقطة «كي رن نواربون كي روى» فحلف ثم إن الكفيل أو الأصيل أدى الدين، بطل اليمين في «فتاوى النسفي» رحمه الله. وذكر في أيمان الأصل إذا حلف زيد أن لا يكفل عن عمرو وأحمد وعلى زيد دين فاحتال عمرو وبذاك خالداً على زيد وقبل زيد الحوالة، إن كان لخالد على عمرو، وهو المحلوف عليه دين حنث زيد لأنه لمّا قبل الحوالة عن عمرو وعلى عمرو دين صار كفيلاً عن عمرو وزيادة لأن في الحوالة ما في الكفالة وزيادة، لأن التزام مال عن: المحيل وهو عمرو.....، وإن لم يكن لخالد على عمرو دين لم يحنث زيد لأنه ما كفل عن عمرو، والله أعلم. نوع آخر في اليمين على اليمين قال محمد رحمه الله: وإذا حلف الرجل أن لا يحلف بيمين أبداً ثم قال لامرأته: إن قمت أو قعدت فكذا، إن أكلت أو شربت فكذا، وأضاف ذلك إلى نفسه. فقال: إن

قمت أو قعدت فكذا حنث في يمينه، وعتق عبده. وعلم أن مطلق اسم اليمين بغير الله تعالى يقع على جزاء مطلق، ويعني به أن يكون..... للمنع وعلى شرط مطلق ويعني به ما يصلح شرطاً في حق جميع الأشخاص في جميع الأفعال، وهذا لأن مطلق الاسم ينصرف إلى الثابت من كل وجه وما يصلح شرطاً في بعض الأشخاص، وفي بعض الأوقات فهو شرط من وجه دون وجه، فلا يتناول مطلق اسم اليمين، ويشترط مع ذلك أن لا يكون الشرط سبباً لزوال الجزاء من غير تعليق الجزاء به لأن التعليق بالشرط يمنع بزوال الجزاء قبل الشرط فما يكون سبباً لزوال الجزاء بدون التعليق، كيف يصلح مانعاً بزواله قبل وجوده؟ ويشترط مع ذلك كلّه أن لا يكون الشرط مع الحدّ لمجموعها بغير الجملة لو أرسلها لا يكون يميناً، لأن ذكر التفسير كذلك المفسّر.p فإذا كان المفسر لا يكون يميناً، فكذا إذا ذكر التفسير جئنا إلى تخريج المسألة. فنقول: قوله لامرأته أنت طالق إن قمت أو قعدت وأشباه ذلك يمين، لأنه شرط في جزاء مطلق، أما الجزاء فلأنه يصلح مانعاً، وأما الشرط فلأن شرط من يشرط في حق جميع الأشخاص، فإنه إن أضاف القعود إلى المرأة أو إلى الأخير أو إلى نفسه كان شرطاً، أو يصلح شرطاً في الأوقات كلها في المجلس وبعد قيامه عن المجلس إذا كانت اليمين مطلقة عن الوقت، ولا يصلح سبباً للوقوع بغير تعليق، وكان شرطاً مطلقاً فالجزاء مع الشرط بمجموعها ليس بتفسير الجملة لو أرسلها لا يكون يميناً فقد وجد الحلف فيحنث في يمينه. ولو قال لها: أنت طالق إن شئت أو هويت أو أحببت أو رضيت أو أردت؛ أضاف هذه الأشياء إلى المرأة أو إلى نفسه فهو سواء ولا يكون يميناً ولا يحنث في يمينه الأولى، لأن هذه الأشياء ليست بشرط مطلق لأنه ليست بشرط في حق جميع الأشخاص. أما المشيئة فلأن المشيئة في حق المرأة تفويض وتخيير، ولهذا تقتصر على المجلس وكذلك لا يصلح شرطاً في الأوقات كلها، فإن المشيئة إذا أضيفت إلى المرأة وشاءت بعد القيام عن المجلس لا يكون ذلك شرطاً حتى لا يقع الطلاق، ويصلح سبباً لوقوع الطلاق أيضاً، فإن الزوج لو قال لها: شئت طلاقك يقع الطلاق نصّ عليه في «الأصل» وصح أن المشيئة ليست بشرط مطلق فهو تفسير جملة، أو أرسلها لا يكون يميناً، فإن قوله: إن شئت تفسير لقوله اختاري؛ وقوله اختاري ليس بيمين، فقد باشره رسول الله صلى الله عليه وسلّممباشرة المكروه، ولو كان يمنياً ما باشره، فالحلف بالطلاق مكروه ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلّممباشرة المكروه، وإذا عرفت الكلام في شئت، فكذلك في قوله: إن هويت وأشباهه لأنها بمعنى المشيئة فإنها صفة من صفات القلب كالمشيئة.

ولو قال لها: أنت طالق غداً فهذا ليس بيمين لأنه لم يذكر الشرط والجزاء. ولو قال: إذا جاء غد فأنت طالق فهذا يمين، لأنه ذكر الشرط والجزاء فإن قيل مجيء الغد كيف يكون شرطاً وإنه متيقن، والشرط ما في وجوده خطر، قلنا: مجيء الغد وإن كان منتظما فكونه شرطاً ليس بمتيقن، فإنهما إذا ماتا قبل مجيء الغد لا يكون مجيء الغد شرطاً، لأن الشرط شرط لكونه علماً على نزول الجزاء أو إنه لا يتصور بدون نزول الجزاء. ولو قال لها: أنت طالق للسنة فهذا ليس بيمين. وكذلك إذا قال لها: إن حضت حيضة، أو قال لها: إذا حضت وطهرت فهذا ليس بيمين بل هو تفسير الطلاق السني ولو قال: إذا حضت فأنت طالق فهذا يمين حتى يحنث في يمينه الأولى لأنه ذكر الشرط والجزاء إلا عدلنا عن لفظة الصيغة في الفعلين الأولين؛ لأن معناها (377أ1) إيقاع الطلاق على السنّة، وهذا المعنى لا يمكن تحقيقه ههنا، فإن الطلاق في حال الحيض يقع لا على وجه السنة. ولو قال لها: أنت طالق إذا حضت حيضتين فهذا ليس بيمين؛ لأنه لا يمكن أن يجعل هذا تفسير الطلاق السنّي، لأن ما بعد الحيضتين وقت وقوع الطلاق السنّي. ولو قال لها: إذا حضت ثلاث حيضات فأنت طالق لم يذكر هذا الفصل في.... من الكتب. قال مشايخنا رحمهم الله: ينبغي أن لا يكون يميناً، لأن بعد الحيضة الثالثة وقت وقوع الطلاق السني، فأمكن أن يجعل هذا تفسيراً لقوله: أنت طالق للسنة. ولو قال لها: إذا حضت أربع حيض لم يذكر هذا الفصل في الكتب أيضاً، وحكى الجصاص عن الكرخي رحمه الله أنه يمين ويحنث في يمينه الأولى (لأن) ما بعد الحيضة الرابعة ليس وقت وقوع الطلاق السنّي، فلا يمكن أن يجعل تفسيراً للطلاق السنّي، فتعتبر الصيغة والصيغة صيغة يمين، وغيره من المشايخ رحمهم الله قالوا: هذا ليس بيمين ولا يحنث في يمينه الأولى لأن ما بعد أربع حيض وقت وقوع الطلاق السنّي في الجملة، فإن من قال لامرأته: أنت طالق للسنة هي طاهرة من غير جماع يقع عليها واحدة للحال، ولو راجعها ثم حاضت بعد ذلك أربع حيض أو عشر حيض ثم قال لها: أنت طالق للسنّة يقع تطليقة أخرى للسنة فما بعد الحيضة الرابعة والعاشرة يحل وقوع الطلاق السنّي، فأمكن أن يجعل تفسيراً للطلاق السنّي، فلا يكون يميناً. ولو قال لها وطلاق سنتها بالشهور بأن كانت آيسة أو صغيرة: أنت طالق إذا أهلّ الهلال، أو قال لها: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق، فهذا ليس بيمين، وهو تفسير

الطلاق السني في حقها. ولو كانت من ذوات الحيض، فقال لها: أنت طالق رأس الشهر فهذا ليس بيمين، ولو قال لها: أنت طالق إذا جاء رأس الشهر فهو يمين. والكلام فيه نظير الكلام في قوله: أنت طالق غداً أنت طالق إذا جاء الغد. وروي عن أبي يوسف. إذا قال لها: أنت طالق في نفير الحاج أو..... الناس كان يميناً. ولو قال: في الأضحى لا يكون يميناً لأن في الصورة الأولى دخل حرف الظرف على الفعل فصار بمعنى الشرط إذ الفعل يصلح شرطاً، في الصورة الثانية دخل حرف على الوقت، والوقت لا يصلح شرطاً فكان إضافة لا تعليقاً. و «في المنتقى» : عن محمد رحمه الله برواية ابن سماعة: إذا قال: يوم طريق فأنت طالق فهذا يمين، وتعليق القيد. وفيه أيضاً: إذا حلف أن لا يطلق امرأته، ثم أراد أن يفارقها فالحيلة أن يتزوج رضيعة فترضعها المحلوف بطلاقها فتبين منه، ولا يحنث في يمين الزوج، لأنه لم يطلقها. وفيه أيضاً: إذا قال: إن حلفت بالعتق فكذا، ثم قال لأمته: إن مت فأنت حرة، فهذا تدبير وليس بحلف فلا يحنث في يمينه، ولو قال: كل مملوك أملكه فهو حر فقد حلف بالعتق. قال أبو الفضل رحمه الله: يحتمل أن يكون تأويله على ملك في مستقبل، هذا الماضي قبل هذا، لأن قوله: أملكه للحال، وإيجاب العتق في الملك القائم لا يكون تعليقاً ويميناً بما ذكره من التأويل فهو صحيح. وفي «الجامع: إذا قال لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق وكرر ثلاثاً وقعت تطليقتان، إن كانت مدخولاً بها. وإن أعاد القول مرة أخرى وقعت الثالثة وقد ذكرنا جنس هذه المسائل في كتاب الطلاق، والله أعلم. نوع آخر في الطلاق والعتاق من حق هذا النوع أن يقدم على فصل العقود؛ لأنه من جملة الأقوال لا من جملة العقود. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إن تزوج الرجل امرأة لا تحل له، ثم قال إن طلقتك فعبدي حر، فهذا على التكلم بالطلاق، ولو قال لامرأت لا تحل له: إن طلقتك فعبدي حر، فقال لها في الحال: أنت طالق لا يعتق عبده عند أبي حنيفة رحمه الله. وإنما يعتق إذا تزوجها ثم طلقها، لأن عند أبي حنيفة رحمه الله النكاح ينعقد على المحارم على سبيل الشبهة، فيتصور في هذا المحل طلاق يقطع النكاح على سبيل الشبهة، ولا ضرورة إلى صرفه إلى التكلم بالطلاق. ولو قال لامرأة تحل له: إذا طلقتك فعبدي حر لا يحنث في يمينه ما لم يتزوجها

نكاحاً صحيحاً ثم يطلقها؛ لأن عنده حقيقة الطلاق ههنا متصور لغة وشرعاً بأن تزوجها نكاحاً صحيحاً ثم طلقها فانصرف يمينه إليه عملاً بالحقيقة، وصار تقدير يمينه: إن تزوجتك وطلقتك فعبدي حر. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : إذا حلف الرجل أن لا يطلق امرأته ولا يعتق عبده، فوكل رجلاً بالطلاق أو العتاق فطلق الوكيل أو أعتق يحنث في يمينه، وكذلك لو وكل رجلاً أن يعتق عبده أو يطلق امرأته، ثم حلف أن لا يطلق ولا يعتق ثم طلق الوكيل أو أعتق حنث في يمينه، لأن عبارة الوكيل في هذه العقود منقولة إلى الموكل. لكونه سفيراً فكأن الموكل أعتق بنفسه أو طلق بنفسه فتحقق شرط الحنث، فلهذا حنث في يمينه. ولو قال: عبده حر إن دخلت هذه الدار، أو قال: امرأتهُ طالق إن دخل هذه الدار، ثم حلف أن لا يطلق ولا يعتق، ثم دخل عبده أو امرأتهُ الدار حتى وقع الطلاق والعتاق حنث في يمينه قياساً، وفي الاستحسان لا يحنث لأن شرط الحنث تطليق وإعتاق بعد اليمين لما عرف أن الأيمان تقتضي شروطاً في المستقبل، والتطليق والإعتاق ههنا وجدا قبل اليمين لوجود كلمة الإيجاب قبل اليمين، وهذا لأن الإعتاق ليس إلا التلفظ بلفظ يقع به العتق، والتطليق ليس إلا التلفظ بلفظ يقع به الطلاق وهو قوله: أنت حر، وقوله: أنت طالق، وقد وجد هذا اللفظ من الحالف قبل اليمين، فلا يصح شرطاً للحنث. ولو وجد الإعتاق والتطليق بعد اليمين، ولكن بكلام أنشأه قبل اليمين وشرط الحنث تطليق وإعتاق نفذ اليمين بكلام أنشأه بعد اليمين لتمكنه الامتناع عنه، فلهذا لم يحنث في يمينه. ولو حلف ألا يطلق امرأته ولا يعتق عبده. ثم قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر أو قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم دخل العبد أو المرأة الدار حتى وقع العتق أو الطلاق يحنث في يمينه (377ب1) ، لوجود الإعتاق والتطليق بعد اليمين لوجود كلمة الإيجاب بعد اليمين على العبارة الأولى، ولوجود التطليق والإعتاق بعد اليمين بكلام أنشأه بعد اليمين على العبارة الثانية. ولو قال لامرأتهِ: طلقي نفسك، أو قال لعبده: أعتق نفسك، ثم حلف ألا يطلق ولا يعتق ثم إنها طلقت نفسها في المجلس أو أعتق العبد في المجلس نفسه حنث الحالف في يمينه. وروي عن محمد رحمه الله أنه لا يحنث، والصحيح ظاهر الرواية؛ لأن شرط الحنث التطليق والإعتاق بعد اليمين وقد وجد لوجود كلمة الإيجاب من الزوج والمولى بعد اليمين. بيانه: أن وقوع الطلاق والعتاق ههنا ليس بقوله: طلقي نفسك، أعتق نفسك، لأن ذلك تفويض وبمجرد التفويض لا يثبت الوقوع، وإنما الوقوع بطريق أن المفوض يصير متكلماً بكلام المفوض إليه إذا تكلم المفوض إليه وجد بعد اليمين، فصار الحالف متكلماً بذلك الكلام بعد اليمين، فصار معتقاً ومطلقاً بعد اليمين فحنث. بخلاف المسألة المتقدمة لأن وقوع الطلاق والعتاق هناك بغير الكلام السابق الذي أنشأه قبل اليمين، وهذا لا يصلح داخلاً تحت اليمين.

وفي «المنتقى» أن محمداَ رحمه الله كان يقول أولاً في هذه المسألة: إنه لا يحنث، ثم رجع فقال: يحنث. وكذلك لو قال لامرأتهِ: أمرك بيدك في الطلاق، أو قال لعبده: أمرك بيدك في العتاق ثم حلف أن لا يطلق ولا يعتق، فطلقت المرأة نفسها أو أعتق العبد نفسه حنث في يمينه، لوجود التطليق والإعتاق بعد اليمين، لوجود كلمة الإيجاب بعد اليمين. ولو قال لامرأتهِ: أنت طالق إن شئت، أو قال لعبده: أنت حر إن شئت، ثم حلف أن لا يطلق ولا يعتق، ثم شاءا فعل إليها حتى الطلاق والعتاق وحنث؛ لأن كلمة الإيقاع وجدت قبل اليمين إلا أن الوقوع تعلق بالمشيئة، فعند المشيئة يثبت الوقوع بالإيقاع السابق، ولهذا يثبت الوقوع بالإيقاع السابق، ولهذا يثبت عند المشيئة من غير أن يلتفظا بلفظة الإيقاع. إذا حلف الرجل لا يعتق في هذه السنة، فأدى مكاتب إليه مكاتبة وعتق، فإن كانت المكاتبة قبل اليمين لا يحنث، وإن كانت الكتابة بعد اليمين حنث. رجل قال لامرأتهِ: إن طلقتك فكذا فآلى منها فمضت مدة الإيلاء من غير..... حتى وقع عليها تطليقة بحكم الإيلاء حنث الزوج في يمينهِ، ولو حلف وهو عنين وفرق القاضي بينهما بحكم العنة لا يحنث في يمينه، والعرف أن في فصل الايلاء الزوج صار مطلقاً بعد اليمين؛ لأن تقدير الإيلاء: ان لم أقربك أربعة أشهر فأنت طالق، وفي العنين لم يصر مطلقاً وقوع الطلاق ما كان بفعل الزوج بل القاضي ألزمه حكم الطلاق وجعله مطلقاً حكماً، هكذا ذكر في «النوازل» . وفي «المنتقى» : إذا آلى منها وبانت بالإيلاء لو كان عنيناً فخاصمته إلى القاضي، وفرق بينهما وكل شيء من ذلك يكون طلاقاً، فإنه يحنث به الزوج الحالف، فهذا إلى.... فصل العنة يقع الحنث أيضاً. فإن الفرقة في فصل العنين طلاق وقد عرفت المسألة في كتاب الطلاق في فصل المتفرقات. رجل قال لامرأتهِ: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله لا يحنث في يمينه، لأن الاستثناء أبطل الجزاء فأبطل اليمين، ألا ترى أنه لو قال: إن أقررت لفلان بعشرة دراهم فامرأته طالق، ثم قال: لفلان عليَّ عشرة دراهم إلا درهم لا يحنث، وطريقه ما قلنا. حلف أن لا يطلق امرأته فطلقها عنه رجل لغير أمره وعلمه فبلغهُ الخبر فأجاز فقد قيل: يحنث على كل حال، وقد قيل: لا يحنث على كل حال، وقيل: إن أجاز القول يحنث وإن أجاز الفعل بأن أخذ بدل الخلع لا يحنث، وهذا ومسألة النكاح سواء. وفي عتاق «النوازل» إذا قال لامرأته: إن تكلمت بطلاقك فعبدي حر، ثم قال لها: إن شئت فأنت طالق، فقالت لا أشاء ثمة لا تعتق، لأنه لم تتكلم بالإيقاع. إذا قال لها:

الفصل الثاني عشر في الحلف على الأفعال

إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال لها: أنت طالق إن شاء الله، فعلى قول أبي يوسف تطلق، لأنه لا توقف على مشيئة الله تعالى. الفصل الثاني عشر في الحلف على الأفعال المحيط البرهانى هذا الفصل يشتمل على أنواع منه أيضاً في الصلاة والصوم والحج: إذا حلف لا يصلي فصلى صلاة فاسدة بأن صلى بغير طهارة مثلاً لا يحنث في يمينه استحساناً، لأن مطلق الاسم ينصرف إلى الكامل، والكامل من التصرفات والأفعال ما يفيد حكمها. وحكم الصلاة سقوط الفرض وحصول الثواب، وكل ذلك لا يحصل بالصلاة الفاسدة، ولو نوى الفاسد صدق ديانة وقضاء؛ لأن الصلاة الفاسدة صلاة صورة لا معنى. وإطلاق الشيء على صورته جائز مجازاً، فقد نوى ما يحتملهُ لفظهُ وفيه تغليظ عليه؛ لأن مع هذه النية يحنث بالجائز والفاسد جميعاً. في هذه الصورة الجمع بين الحقيقة والمجاز، وإنما طريقه أنه وجد في الصحيح ما في الفاسد وزيادة، والزيادة على شرط الحنث لا يمنع الحنث. ولو كان عقد يمينه على الماضي بأن قال: إن كنت صليت فهذا على الجائز والفاسد جميعاً، وإن نوى الجائز في الماضي خاصة صحت نيته فيما بينه وبين الله تعالى وفي القضاء. ولو قال: عبده حر إن صلى اليوم صلاة، فصلى ركعة قطعها (378ب1) لا يحنث في يمينه، لأن المنفي باليمين فعل الصلاة وأن يكون المفعول صلاة فمطلق الاسم ينصرف إلى الكامل، والركعة الواحدة ليست بصلاة كاملة، لأنها لا تفيد حكم الصلاة لأنها بترة فإن «النبي صلى الله عليه وسلّمنهى عن البتيراء والبتيراء ركعة واحدة» . ولو قال: عبده حر إن صلى اليوم، ولم يقل: صلاة فصلى ركعة واحدة حنث في يمينه؛ لأن المنفي باليمين ههنا فعل الصلاة وكون المفعول صلاة، وإذا صلى ركعة واحدة فقد فَعَلَ فِعْلَ الصلاة فوجد شرط الحنث فيحنث، إلا أنه إذا قطعها بعد ذلك فقد انتقض فعل الصلاة ولكن بعد صحته، والانتقاض إنما يظهر في حق حكم يفيد الانتقاض، والحنث بعد تحققه لا يفيد الانتقاض. فإن قيل: شرط الحنث فعل الصلاة وبالركعة الواحدة لا يصير فاعلاً فعل الصلاة؛ لأن الصلاة اسم لأفعال مجموعة من جملة ذلك القعدة، ولا قعدة في الركعة الأولى. قلنا: لا بدّ فيه (من) قعدة فإن بعد ما رفع رأسه من السجدة الأخيرة يقعد لا محالة إلا أن هذه القعدة لا تجزىء عن فعل الصلاة، لكن المنفي باليمين الإتيان بفعل الصلاة لا الإتيان بفعل يجزىء عن فعل الصلاة.

فإن قيل: هذا المعنى ليس بصحيح فإن بنفس السجود يقع الحنث وإن لم يرفع رأسه، قلنا: لا رواية في هذا الفصل عن أصحابنا رحمهم الله، وقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه بعضهم قالوا: لا بدّ للحنث من رفع الرأس من السجود ليصير إتياناً بالقعود، فيصير إتياناً بجميع أفعال الصلاة. وقال بعضهم: لا يشترط رفع الرأس؛ لأن الساجد ساجد وقاعد والسجود سجدة وقعدة، ولكن بصفة أخرى. فقد اتفق المشايخ على اشتراط القعدة، وإن اختلفوا في كيفيته. ولو كان حلف أن لا يصلي ولم يقل صلاة فإنما يحنث إذا قيّد الركعة، حتى إنه إذا افتتح الصلاة وركع ولم يسجد لا يحنثُ في يمينه؛ لأن ما دون ... ... ولهذا لا يقال: صلى قياماً صلى ركوعاً صلى سجوداً هذه الجملة من «الجامع» . وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله إذا قال الرجل لعبده: إن صليت ركعة فأنت حر فصلى ركعة بسجود ثم تكلم قال: لا يعتق، لأنها ليست بصلاة، وإن صلى ركعتين وقعد مقدار التشهد عتق بتمام الركعة، وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» . فأبو يوسف لم يجعل الركعة بانفرادها صلاة، وتبين برواية ابن سماعة أن المذكور في «الجامع» قول محمد رحمه الله. وفي «المنتقى» : إذا حلف لا يصلي خلف فلان فأم فلان وقام الحالف عن يمينيه فهو حانث إن لم يكن له نية، وإن نوى أن يكون خلفه لم يدين في القضاء. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل قال: والله لا أصلي معك فصليا خلف إمام لم يحنث إلا أن يكون نوى أن يصلي معه ليس معهما غيره، وإذا حلف لا يصلي صلاة فصلى ركعتين ولم يقعد قدر التشهد فقد قيل: يحنث في يمينهِ، وقد قيل: لا يحنث، لأن المنفي فعل الصلاة وكون المفعول صلاة ومطلق الاسم ينصرف إلى الكامل، والركعتان بدون القعدة ليست بصلاة كاملة على ما ذكرنا في الركعة الواحدة. وقيل: إن عقد يمينه على فعل لا يحنث في يمينهِ، وإن عقد يمينه على الفرض وهي من ذوات المثنى فكذلك، وإن عقد يمينه على الفرض وهي من ذوات الأربع يحنث في يمينه، وهو الأظهر والأشهر. ولو حلف لا يصلي فقام وركع وسجد ولم يقرأ فقد قيل: لا يحنث، وقد قيل يحنث. وهكذا ذكر في «المنتقى» . ولو حلف لا يصلي الظهر لم يحنث حتى يتشهد بعد الأربع، وكذلك إذا حلف لا يصلي الفجر لم يحنث حتى يتشهد بعد الركعتين، وكذلك إذا حلف لا يصلي المغرب لم يحنث (إلا) بتشهد بعد الثلث. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله في رجل قال: والله ما صليت اليوم صلاة يعني بجماعة، وإن الصلاة بغير جماعة ليست بصلاة كانت بنية على هذا، قال: يسعه فيما بينهم وبين الله تعالى، وكذلك إذا قال: ما صليت اليوم ظهراً يعني ظهر أمس، أو أول من أمس فإنه يسعهُ فيما بينه وبين الله تعالى، ولو قال: والله ما

صليت الظهر يعني في جماعة لم تسعهُ النية عندي في هذا، ولو على الظهر في السفر، ثم قال: والله ما صليت ظهراً يعني ظهر مقيم، فان النية تسعه في هذا فيما بينهُ وبين الله تعالى. وروى المعلى عن محمد رحمه الله إذا قال: ما صليت الظهر يعني وحده، وقد صلاها في جماعة لم يدين. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف إذا قال الرجل لغيره: إن لم أصل الظهر معك اليوم فامرأتي طالق، فأدرك منهما ثلاث ركعات وسبقه بركعة لزمه الطلاق، ولو كان قال: إن صليت الظهر اليوم إلا معك لم يحنث، وإنما يحنث إذا صلى كلها وحده. ولو حلف لا يصلي الظهر خلف فلان أو معه، فأدرك معه أول الصلاة فأحدث وذهب وتوضأ ورجع وقد فرغ الإمام فصلاها بعده لا يحنث. ولو كان حلف أن لا يصلي الظهر صلاة فلان حنث، ولو حلف لا يصلي معه أو خلفه وكبر معه ثم نعس في الركعة الأولى حتى فرغ الإمام منها ثم أتبعهُ فيها وصلى ما بقي معه حنث في يمينه. ولو حلف لا يصلي معه الجمعة ثم إن الإمام أحدث وقدم الحالف وصلى بهم الجمعة لا يحنث، ولو كان حلف لا يصلي بصلاته وباقي المسألة بحالها حنث في يمينه، لأنه صلى بصلاته أما لم يصلي معه. وعن أبي يوسف رواية مجهولة إذا حلف الرجل لا يؤم أحداً فافتتح الصلاة بنفسه لا يريد أن يؤم واحداً (378ب1) ، فجاء قوم واقتدوا به ولم ينو أن يؤمهم حنث قضاءً ولا يحنث ديانة، لأنه أمهم ظاهراً إلا أنه لم يقصد، (و) ذلك أمر بينهُ وبين ربه، فيلزمه الحنث قضاء لا ديانة. فإن كان هذا الذي حلف أشهد قبل الدخول أنه لا يؤم أحداً، فجاؤوا وائتموا لا يحنث قضاءً وديانة. لأن على صدق نيته علامة يقف القاضي عليها وهي الإشهاد. ولو كان هذا الحالف شرع في صلاة غيره فأحدث الإمام بعد ما صلى الرابعة وتشهد وقدّم الحالفَ وانصرف فسلم بهم الحالف فهو إمام لهم فيما بقي عليهم. ولو كان صلى هذا الحالف بالناس الجمعة فنوى أن يصلي لنفسه الجمعة ولا يؤم، لم يحنث فيما بينه وبين الله تعالى، ويحنث في القضاء. قال: وكان ينبغي أن تكون الجمعة فاسدة، ولكني أستحسن مؤداها تامة له ولهم، ولو أمهم في صلاة جنازة أو سجدة تلاوة لا يحنث في يمينه إنما يمينه على الصلاة المعهودة المكتوبة والنافلة، إذا حلف الرجل لا يصلي بهم لم يحنث حتى يركع ويسجد. قال أبو يوسف: هكذا قال أبو حنيفة. قال أبو يوسف رحمهُ الله: وأما الذي حلف أن لا يصلي فلا أحفظ عنه فيه. وإذا قال: عبده حر إن صليت الجمعة مع الإمام وقد كان أدرك الإمام في الركعة الثانية وصلاها مع الإمام، فلما فرغ الإمام قام وقضى الركعة الأولى (لم) يحنث في يمينه؛ لأنه ما صلى الجمعة مع الإمام لأن المسبوق فيما يقضي منفرد، ولو كان أدرك الإمام في الركعة الأولى وصلى معه حنث في يمينه.g ولو افتتح الصلاة مع الإمام ثم قام حتى سلم الإمام، ثم قام فصلى حنث في يمينه؛ لأنه صلى معهُ لأنه خلف الإمام حكماً وكلمة معه وإن كان للمقارنة ولم تقع أفعال صلاته

مقارنة لأفعال صلاة الإمام إلا أن العمل بحقيقة القرآن وأفعال الصلاة بحيث لا يتقدم ولا يتأخر متعذر فسقط اعتبار حقيقة القران وحمل على الاقتداء والمتابعة عرفاً. وقد وجدها هنا فإن من سبقه الحدث مقتد بالإمام متابعة له على ما عرف قال إلا أن يعني شيئاً فهو على ما عنى يريد به إذا نوى المتابعة والاقتداء به على سبيل المقارنة لا غير، أو نوى المتابعة والاقتداء على سبيل المقارنة لا غير فإنه بدون النية ينصرف إلى الاقتداء والمتابعة المطلقة سواء كان على سبيل المقارنة، أو لا على سبيل المقارنة، فإذا نوى أحدهما على الخصوص يدين فيها بينهُ وبين الله تعالى. وهل يدين قضاء؟ لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» ، ولا شك أنه لا يصدق فيما إذا نوى المتابعة لا على سبيل المقارنة، فإذا نوى المتابعة على سبيل المقارنة فقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه بعضهم قالوا: يصدق وإن كان فيه تخفيفاً لأنه نوى حقيقة كلامه، وبعضهم قالوا: لا يصدق لأن هذه الحقيقة مهجورة في مسألتنا، ألا ترى أن هذه الحقيقة لم تتعين لصرف اليمين إليها من غير نية، فكانت بمنزلة المجاز وفيه تخفيف فلا يصدق. ولو حلف لا يصلي الظهر خلف فلان أو معه، فأدرك معه أول الصلاة فأحدث وذهب وتوضأ ورجع وقد فرغ الإمام فصلاها بعده لا يحنث. ولو كان حلف أن لا يصلي الظهر صلاة فلان حنث، ولو حلف لا يصلي معه أو خلفه وكبر معه ثم نعس في الركعة الأولى حتى فرغ الإمام منها ثم أتبعهُ فيها وصلى ما بقي معه حنث في يمينه. ولو حلف لا يصلي معه الجمعة ثم إن الإمام أحدث وقدم الحالف وصلى بهم الجمعة لا يحنث، ولو كان حلف لا يصلي بصلاته وباقي المسألة بحالها حنث في يمينه، لأنه صلى بصلاته أما لم يصلي معه. وعن أبي يوسف رواية مجهولة إذا حلف الرجل لا يؤم أحداً فافتتح الصلاة بنفسه لا يريد أن يؤم واحداً (378ب1) ، فجاء قوم واقتدوا به ولم ينو أن يؤمهم حنث قضاءً ولا يحنث ديانة، لأنه أمهم ظاهراً إلا أنه لم يقصد، (و) ذلك أمر بينهُ وبين ربه، فيلزمه الحنث قضاء لا ديانة. فإن كان هذا الذي حلف أشهد قبل الدخول أنه لا يؤم أحداً، فجاؤوا وائتموا لا يحنث قضاءً وديانة. لأن على صدق نيته علامة يقف القاضي عليها وهي الإشهاد. ولو كان هذا الحالف شرع في صلاة غيره فأحدث الإمام بعد ما صلى الرابعة وتشهد وقدّم الحالفَ وانصرف فسلم بهم الحالف فهو إمام لهم فيما بقي عليهم. ولو كان صلى هذا الحالف بالناس الجمعة فنوى أن يصلي لنفسه الجمعة ولا يؤم، لم يحنث فيما بينه وبين الله تعالى، ويحنث في القضاء. قال: وكان ينبغي أن تكون الجمعة فاسدة، ولكني أستحسن مؤداها تامة له ولهم، ولو أمهم في صلاة جنازة أو سجدة تلاوة لا يحنث في يمينه إنما يمينه على الصلاة المعهودة المكتوبة والنافلة، إذا حلف الرجل لا يصلي بهم لم يحنث حتى يركع ويسجد. قال أبو يوسف: هكذا قال أبو حنيفة. قال أبو يوسف رحمهُ الله: وأما الذي حلف أن لا يصلي فلا أحفظ عنه فيه. وإذا قال: عبده حر إن صليت الجمعة مع الإمام وقد كان أدرك الإمام في الركعة الثانية وصلاها مع الإمام، فلما فرغ الإمام قام وقضى الركعة الأولى (لم) يحنث في يمينه؛ لأنه ما صلى الجمعة مع الإمام لأن المسبوق فيما يقضي منفرد، ولو كان أدرك الإمام في الركعة الأولى وصلى معه حنث في يمينه.g ولو افتتح الصلاة مع الإمام ثم قام حتى سلم الإمام، ثم قام فصلى حنث في يمينه؛ لأنه صلى معهُ لأنه خلف الإمام حكماً وكلمة معه وإن كان للمقارنة ولم تقع أفعال صلاته مقارنة لأفعال صلاة الإمام إلا أن العمل بحقيقة القرآن وأفعال الصلاة بحيث لا يتقدم ولا يتأخر متعذر فسقط اعتبار حقيقة القران وحمل على الاقتداء والمتابعة عرفاً. وقد وجدها هنا فإن من سبقه الحدث مقتد بالإمام متابعة له على ما عرف قال إلا أن يعني شيئاً فهو على ما عنى يريد به إذا نوى المتابعة والاقتداء به على سبيل المقارنة لا غير، أو نوى المتابعة والاقتداء على سبيل المقارنة لا غير فإنه بدون النية ينصرف إلى الاقتداء والمتابعة المطلقة سواء كان على سبيل المقارنة، أو لا على سبيل المقارنة، فإذا نوى أحدهما على الخصوص يدين فيها بينهُ وبين الله تعالى. وهل يدين قضاء؟ لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» ، ولا شك أنه لا يصدق فيما إذا نوى المتابعة لا على سبيل المقارنة، فإذا نوى المتابعة على سبيل المقارنة فقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه بعضهم قالوا: يصدق وإن كان فيه تخفيفاً لأنه نوى حقيقة كلامه، وبعضهم قالوا: لا يصدق لأن هذه الحقيقة مهجورة في مسألتنا، ألا ترى أن هذه الحقيقة لم تتعين لصرف اليمين إليها من غير نية، فكانت بمنزلة المجاز وفيه تخفيف فلا يصدق. ولو قال: عبده حر إن أدرك الظهر مع الإمام اليوم فأدركهُ في التشهد ودخل معهُ حنث، لأن إدراك الشيء بإدراك آخره وبلحوق الجزء الآخر منهُ فقال: فلان أدرك من رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويراد به لحوقه آخر وقد لحق بآخره. رجل حلف ليصلين هذا اليوم خمس صلوات بالجماعة، ويجامع امرأته فلا يغتسل ينبغي أن يصلي الفجر والظهر والعصر بالجماعة ثم يجامع امرأتهُ ثم يغتسل لما غربت الشمس ويصلي المغرب والعشاء بالجماعة ولا يحنث. وإذا حلف الرجل فقال: والله ما أخرج صلاة عن وقتها، وقد كان نام عن صلاة حتى خرج وقتها وصلاها فقد قيل يحنث، وقيل: لا يحنث لأن ذلك وقتها «قال رسول الله صلى الله عليه وسلّممن نام عن صلاة أو نسيها فليصها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها» . وإن حلف لا يصلي بأهل هذا المبنى ما دام فلان يصلي فيه فمرض فلان ثلاثة أيام ولم يصلِّ فيه إن كان فلان صحيحاً فلم يصل فيه فصلى الحالف بعد ذلك فيه لا يحنث. حلف لا يصلي في هذا المسجد فزيد فيه فصلى في موضع الزيادة لا يحنث، ولو حلف لا يدخل مسجد بني فلان فزيد فيه فصلى في موضع الزيادة حنث هكذا قيل. وقيس هذه المسألة على ما إذا حلف لا يدخل هذا المسجد فريد فيه فدخل في موضع الزيادة لا يحنث. ولو حلف لا يدخل مسجد بني فلان فريد فيه فدخل في موضع الزيادة حنث ومسألة الدخول في «القدوري» . رجل قال لامرأته: إن لم تصل الساعة ركعتين فأنت وطالق، فقامت وكبرت فحاضت أو قال لها: أن لم تصومي غداً، فأنت طالق، فصامت من الغد فحاضت حنث

في يمينهِ، قيل: هذا الجواب مستقيم وعلى قول أبي يوسف رحمه الله غير مستقيم، على قولهما كما في مسألة الكوز، وقيل: لا.... هذا الجواب مستقيم على قول الكل لأن شرع الصوم مع الحيض متصور، فصار كمسألة مس السماء. رجل قال لامرأتهِ: إن لم تصبحي غداً ولم تصلي فأنت طالق، فأصبحت وشرعت في الصلاة فطلعت الشمس أفتى شمس الأئمة الحلواني رحمه الله بعدم الوقوع، وأفتى ركن الإسلام السغدي رحمه الله بالوقوع، وقول ركن الإسلام أظهر، لأن هذا طلاق معلق بعدم الفصل في مجلس، فينظر فيه إلى شرط البر وشرط البر أن تصلب وتصلي وقد أصبحت ولم تصل ففات شرط البر فيتعين الحنث، وقد ذكرنا هذا الفصل بتمامه في كتاب الطلاق. وإذا حلف لا يصوم اليوم، يعني: اليوم..... فأصبح صائماً ثم أفطر لا يحنث في يمينه، لأن الصوم فعل ممتد وقد أضيف إلى وقت الفعل الممتد إذا أضيف إلى وقت كان الوقت معياراً له، وإنما اليوم معيار للصوم إذا وجد الصوم في جميع اليوم أما إذا وجد الصوم في بعض اليوم كان المعيار بعض اليوم، فصار شرط الحنث الصوم الموجود في جميع اليوم ولم يوجد الصوم في جميع اليوم. وكذلك إذا حلف أن لا يصوم يوماً فأصبح صائماً ثم أفطر لا يحنث في يمينه، لأن شرط الحنث صومه ولم يوجد صومه، ولو حلف لا يصوم يوماً فأصبح صائماً ثم أفطر لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في كتبهِ، وذكر الكرخي رحمه الله في «كتابهِ» : أنه لا يحنث (379أ1) في يمينه لأنه ذكر الصوم مطلقاً فينصرف إلى الكامل وهو الصوم المفيد لحكمه وهو الصوم في أول اليوم إلى آخره. وحُكي عن القاضي أبي الهاشم رحمه الله: أنه إذا نوى المصدر يحنث في يمينه، وإن لم ينو المصدر (يحنث أيضاً) لأن صوم ساعة مما يتقرب به إلى الله تعالى في الجملة، ألا ترى أن العلماء قالوا: لا يستحب للرجل أن يصوم يوم العيد حتى يصلي صلاة العيد، فكان صوماً كاملاً فينطلق عليه مطلق اسم الصوم. ولو حلف لا يصوم فأصبح صائماً ثم أفطر يحنث في يمينه، لأن شرط الحنث ههنا فعل الصوم، فبهذا القدر يصير فاعلاً فعل الصوم؛ لأن الصوم في اللغة عبارة عن الإمساك المجرّد، وفي الشرع عبارة عن الإمساك مع النية. وكما شرع في الصوم بنيّة الصوم فقد وجد ذلك، وما زاد عليه تكرار للمحلوف عليه، وتكرار المحلوف عليه ليس بشرط لوقوع الحنث، وإذا حلف لا يحج فحمد على الصحيح دون الفاسد، وإذا حلف لا يحج ولا يحج حجه فأحرم بالحج لم يحنث حتى يقف عرفة، رواه ابن سماعة عن محمد رحمه الله، وروى بشر عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يحنث حتى يطوف أكثر طواف الزيارة. ولو حلف لا يعتمر أو لا يعتمر عمرة لم يحنث حتى يُحْرِم بالعمرة ويطوف أربعة أشواط رواه بشر عن أبي يوسف رحمه الله، والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

نوعمنه في الوضوء والغسل إذا حلف لا يتوضأ من الرعاف فرعف ثم بال ثم توضأ أو بال ثم رعف وتوضأ. فالوضوء منهما جميعاً ويحنث في يمينه، هكذا ذكر في «المنتقى» . وفيه أيضاً: إذا حلف الرجل لا يغتسل من امرأته هذه من جنابة فأصابها ثم أصاب امرأة أخرى له أوأصاب امرأة أخرى له ثم أصاب المحلوف عليها واغتسل، فهذا اغتسال منها يحنث في يمينه، وكذلك المرأة إذا حلفت أن لا تغتسل من جنابة أو من حيض فأصابها زوجها وحاضت، واغتسلت فهو اغتسال منهما فتحنث في يمينها. هذه الجملة من «المنتقى» ، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله فيمن قال: إن اغتسلت من زينب فهي طالق أو اغتسلت من عمرة فهي طالق، فجامع زينب ثم جامع عمرة واغتسل فهذا الاغتسال منهما ويقع الطلاق عليهما. وذكر الشيخ الإمام الزاهد عبد الرحيم الكرميني في «شرح كتاب الصلاة» في باب الغسل والجنابة: أن الحائض إذا أجنبت لا يجب عليها الغسل حتى تطهر من الحيض، وإذا طهرت واغتسلت فظاهر الجواب أنّ الاغتسال منهما. وقال أبو عبد الله الجرجاني: يكون من الأول دون الثاني، وكذلك الرجل إذا رعف ثم بال فالوضوء يكون من الأول عند أبي عبد الله الجرجاني. فالحاصل: أنّ على قول أبي عبد الله الجرجاني إذا اجتمع الحدثان فالوضوء بعدهما يكون (من) الأول اتحد الجنس أو اختلف. وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: إن اتحد الجنس بأن بال ثم بال أو رعف ثم رعف وأشباه ذلك فالوضوء من الأوّل وإن اختلف الجنس بأن بال ثم رعف فالوضوء يكون منهما. وقال الشيخ الإمام الزاهد عبد الرحيم: ... أن الوضوء من الحدثين إذا استويا في الغلظة والخفة، وإذا كان أحدهما أغلظ فالوضوء من أغلظهما كما إذا رعف أو بال ثم أجنب وقد وجدنا الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله أن الوضوء يكون منهما، ورجعنا إلى قوله. وفائدة هذه الاختلاف إنما تظهر في مسألة الحلف التي ذكرناها، فإذا حلف أن لا يتوضأ من الرعاف ورعف ثم بال وتوضأ حنث في يمينه بلا خلاف، أمّا على قول أبي عبد الله الجرجاني فلأنه يعتبر الوضوء من أول الحدثين، والأول الرعاف، وعلى قول أبي جعفر الوضوء منهما عند اختلاف الجنس، وقد اختلف الجنس، وعلى ظاهر الجواب الوضوء من الحدثين جميعاً في الأحوال كلها ينصرف، فيصير متوضئأ من الرعاف وهو شرط الحنث، وإن بال أولاً ثم رعف وتوضأ، فعلى قول أبي عبد الله لا يحنث في يمينه، لأن الوضوء عنده وقع عن البول لا عن الرعاف؛ لأن البول أولهما، وعلى ظاهر الجواب

يحنث في يمينه، لأن الوضوء عنهما، وكذلك على قول الفقيه يحنث لأن الوضوء عنهما لما اختلف الجنس. وإذا حلف لا يغتسل من امرأته هذه فأصابها ثم أصاب امرأة أخرى ثم اغتسل حنث بلا خلاف، أما على قول الفقيه أبي عبد الله الجرجاني رحمه الله لأن الاغتسال عن المرأة المحلوف عليها عنده أيضاً لأن الجنس متحد وأما على ظاهر الرواية الجواب فلأن الاغتسال وقع عنهما فوجد شرط الحنث وزيادة وعلى هذا الأصل يخرج جنس هذه المسائل. نوع آخر منه فى الأكل إذا حلف الرجل لا يأكل والأكل أن يوصل إلى جوفه ... في فيه المضغ.. سواء مضغه ثم.... غير ممنوع حتى.... حلف أن لا يأكل هذه البيضة أو هذه الجوزة فابتلعها كذلك حنث في يمينه. لأن المضغ ليس بشرط وإنما الشرط أن يكون بحيث ينافي فيه المضغ. ولو حلف على أكل شيء لا ينافي فيه المضغ بنفسه فأكل مع غيره فإن كان مما يؤكل كذلك حنث في يمينه. وإن حلف أن لا يأكل هذا اللبن فأكله سمن أو ... حلف لا يأكل هذا العسل فأكله كذلك يحنث في يمينه لأن هذا يسمى آكلاً في العادة وإن.... على ذلك ماء فشرب لا يحنث في يمينه لأن هذا شرب، وليس كذلك لو حلف (379ب1) لا يأكل هذا السويق فشربه شرباً لا يحنث، لأن هذا ليس بأكل، وإذا عقد يمينه على أكل ما هو مأكول بعينه ينصرف يمينه إلى أكل عينه، وإذا عقد يمينه على أكل ما هو ليس بمأكول بعينه، أو عقد يمينه إلى ما يتخذ منه مجازاً والأصل في جنس هذه المسائل العمل بالحقيقة عند الإمكان، وعند تعذر العمل بالحقيقة أو عند وجود العرف بخلاف الحقيقة ترك الحقيقة، ألا ترى إن باع شيئاً بدراهم ينصرف إلى نقد البلد بدلالة العرف، وفي الصرف إلى نقد البلد ترك حقيقية اسم الدراهم من وجه يعلم أنه كما ترك الحقيقة للتعذر تركه لأجل العرف إذا ثبت هذا فنقول فيما إذا عقد يمينه على أكل ما هو مأكول بعينه العمل بالحقيقة ممكن فينصرف يمينه إلى أكل عينه وإذا عقد يمينه على ما ليس بمأكول بعينه إلا أنه لا يؤكل لذلك عادة فالعمل بالحقيقة غير ممكن فينصرف يمينه إلى ما يتخذ منه مجازاً. بيان هذا الأصل الأصل من المسائل. إذا حلف لا يأكل من هذه الشاة شيئاً فأكل من لبنها وسمنها لا يحنث، لأنه أكل غير الشاة فتنعقد اليمين بالعين لا بما يتولد من العين، وكذلك إذا حلف لا يأكل من هذا العنب فأكل من ذبيبه أو عصيره لا يحنث، لأن العنب مأكول ما يعقد يمينه على أكل منه باسمه. ولذلك لو حلف لا يأكل من هذا اللبن فأكل من شيرازه لا يحنث، لأنّ عينه مأكول فلا ينعقد اليمين على ما يتخذ منه، ولذلك

إذا جعل اللبن جبناً أو أقِطَاً وأكل منه لا يحنث لما قلنا. وكذلك إذا حلف لا يذوق من هذا الخمر فذاقه بعد ما صار خلاً لا يحنث، وكذلك لو حلف لا يأكل من هذه الحنطة فزرعها فأكل مما خرج منها لا يحنث، والمعنى في الكل ما ذكرنا. وقال في «الجامع» : إذا حلف لا يأكل من هذه النخل شيئاً، فأكل التمر أو طلعها أو بسرها أو دبسها حنث؛ لأن عين النخلة غير مأكول فينصرف يمينه إلى ما يخرج منه مجازاً وأراد بالدبس ما يُسْتَلّ من الرطب وإن اتخذ من الدبس ناطفاً أو نبيذاً لا يحنث في يمينه، لأن يمينه انصرف إلى ما يخرج من النخلة، والنبيذ والناطف لم يخرجا من النخلة كذلك فلا يحنث بأكله. وكذلك إذا حلف لا يأكل من هذا الكرم شيئاً فأكل من عنبه أو زبيبه أو عصيره حنث في يمينه، لأن عين الكرم ليس بمأكول لأنه شجرة العنب فينصرف يمينه إلى ما يخرج منه، كما في النخلة. وهذه الأشياء خارج من النخلة. أمّا العنب والزبيب فظاهر، وأما العصير فلأنه ماء العنب إلا أنه كان متمكناً بالعصر، ولو أكل من خله لا يحنث لأنه ليس بخارج منه بهذه الصفة. وإذا حلف لا يأكل من هذا الدقيق فأكل من خبزه يحنث، لأن الدقيق وإن كان مأكولاً بعينه إلا أنه لا يؤكل كذلك عادة، فينصرف يمينه إلى ما يتخذ منه مجازاً. وفي «النوادر» : لو اتخذ منه أن يحنث، يكون كذلك وإن أكل عين الدقيق هذا، يحنث ولم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في شيء من الكتب. وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: لا يحنث لأن المجاز وهو ما يتخذ منه صار مراداً فلا تبقى الحقيقة مرادة ولو كان حين حلف غيرته عين الدقيق لا يحنث، بأكل لأنه نوى غير ما يقتضيه حقيقة كلامه وظاهره، فيتقيد اليمين. وإذا حلف أن لا يأكل من هذه الحنطة وهو ينوي أن لا يأكلها حبة حبة صحت نيّتُه حتى لو أكل من خبزها لا يحنث في يمينه، لأنه نوى حقيقة كلامه والعمل بالحقيقة ممكن لأن الحنطة مأكول عينها فتتقيد اليمين بالحقيقة، وإن نوى أن لا يأكل مما يتخذ منها صحت نيتُه أيضاً حتى لا يحنث بأكل عينها، وإن لم تكن له نيّة فأكل من خبزها لم يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يحنث، ولو أكل عينها يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله، وأمّا عندهما هل يحنث؟ أشار في أيمان «الأصل» : إلى أنه لا يحنث، فإنه قال: في «أيمان الأصل» : إذا أكل من خبزها حنث، إلا أن ينوي الخبز بعينه فإنما صرف يمينه إلى العين بالنية، فدلّ على أنه من غير النية ينصرف إلى الخبز. وأشار في «الجامع الصغير» : إلى أنه يحنث فإن قال ثمة إذا حلف لا يأكل من هذه الحنطة فأكل من خبزها لا يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله. وإن قضمها حبة حبة حنث في يمينه، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يحنث إذا أكل من خبزها أيضاً، فهذه إشارة

إلى أنه متى أكل الخبز يحنث، وأما آكل العين يحنث والصحيح ما ذكر في أيمان «الأصل» . فوجه قولهما أن الحنطة متى ذكرت مقرونة بالأكل يراد به في عرف الاستعمال خبزها، يقال: فلان يأكل الحنطة وأهل بلد كذا يأكلون الحنطة، ويريدون خبزها ومطلق الاسم من غير نيّة ينصرف إلى المتعارف وصار تقدير يمينه لا أكل من خبز هذه الحنطة. ولو قال هكذا إذا أكل خبزها يحنث، وإذا أكل من غيرها لا يحنثُ كذا ههنا. وعند أبي حنيفة رحمه الله أن الحنطة عينها مأكول ... فيؤكل ويتخذ منها الهريسة فقد عقد يمينه على ما هو مأكول، فلا ينصرف يمينه إلى ما يتخذ منه وما يقول بأن الحنطة إذا ذكرت مقرونة بالأكل يراد بها ما يتخذ منها في العرف، قلنا: هذا العرف موجود في الحنطة بغير عينها لا في حنطة بعينها، والخلاف في «أيمان الأصل» وفي «الجامع الصغير» ،.....في حنطة بعينها، وإذا كان غير الحنطة مأكولاً أمكن العمل بالحقيقة فلا يُعدل عنها إلا بالنية أو بالعرف ولم يوجد فعلى قوّة هذا (380أ1) التعليل. إذا حلف على أكل حنطة لا بعينها يجب أن يكون الجواب فيه عند أبي حنيفة كالجواب عندهما هكذا ذكر شيخ الإسلام في «أيمان الأصل» . وإذا أكل من سويقها ذكر في بعض الروايات أنه لا يحنث في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وذكر في بعض الروايات أنه لا يحنث ولم يذكر فيه خلافاً. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف أنه يحنث بأكل السويق. وإذا حلف لا يأكل خبزاً ولا نية له فهذا على خبز الحنطة والشعير، وعلى ما يتعارف في ذلك البلد.... الخبز منه وإنما يقع اليمين على خبز الحنطة والشعير لأن الذي يُعتاد أكله من الخبز في جميع البلدان خبز الحنطة والشعير في مطلق اليمين، ينصرف إلى المعتاد حتى لو تصور موضعاً لا يأكل أهله خبز الشعير لا يحنث بأكله غير الشعير أيضاً، ولو أكل خبز الأرز فإن كان من أهل بلد خبزهم ذلك ينصرف يمينه إليه وما لا فلا، وإذا حلف لا يأكل خبزاً ولا نية له فأكل كليجة أو حورية.... أو توالية....، قال محمد بن سلمة رحمه الله: لا يحنث في الوجوه كلها، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: المختار أنه يحنث إذا أكل الكليجة أو التوالة المقطوعة، أما الكليجة فلأنها خبز حقيقة وعرفاً واختصاصها باسمها خاص للزيادة لأنها النقصان فلا يمنع دخولها تحت مطلق الاسم، وأما التوالة المقطوعة فلأنها خبز انضم إليه أشياء أخر، وأما الحور.... فلا يحنث بأكله لأنه لا يسمى خبزاً مطلقاً بل يسمى خبزاً مقيداً وكذا لو أكل القطايف لا يحنث لا يسمى خبزاً يسمى بل قطايفاً ويقال لا يسمى خبزاً مطلقاً بل يسمى خبزاً مقيداً، يقال خبز الحورينج كما يقال بالفارسية باى رد الودانا. حلف لا يأكل هذا الخبز فخفقه ودقه ثم شربه بالماء لم يحنث، لأن هذا شرب

وليس بأكل ولو أكله مبلولاً حنث لأنه وُجد الأكل حقيقة. ولو حلف لا يأكل لحماً ولا نية له فأكل لحم سمك لا يحنث في يمينه، هكذا ذكر في «الأصل» وفي «الجامع الصغير» ، والأصل في خبز هذه المسائل أن مطلق الاسم ينصرف إلى الكامل من المسمى الاسم صورة ومعنى ولا ينصرف إلى الناقص منه معنى إلا بالدليل وإنما كان كذلك لأن الكامل من المسمى معنى مع الناقص من المسمى معنى بدل من له المجاز مع الحقيقة؛ لأن حد المجاز أن يوجد فيه بعض معاني الحقيقة. قلنا: ومطلق الاسم ينصرف إلى الحقيقة ولا ينصرف إلى المجاز إلا بدليل، إذا ثبت هذا فنقول بأن لحم السمك ناقص في معنى اللحمية، ألا ترى أنه لا يستعمل استعمال اللحم وألا ترى أنه لا يجنى منه المرق كما يُجنى من سائر اللحوم، وهذا لأن اللحم يتولد من الدم والسمك يتولد من الماء والدم في إتيان القوة فوق الماء. فكذا المتولد منه فكان ناقصاً في معنى اللحمية وهو التقوي والتعذي، ولو أكل لحم خنزير أو لحم.... يحنث في يمينه، لأنه لحم حقيقة لأنه ينشأ من الدم لا أنه حرم أكله ولكن الحل والحرمة من أحكام الشرع والاسم حقيقة لا يتغير بأحكام الشرع وكذلك لو أكل لحم البقر أو لحم الغنم أو لحم الإبل يحنث في يمينه. لأن جميع ذلك لحم حقيقة. والحاصل: أن اسم اللحم اسم جنس فيتناول اللحوم كلها وإذا كانت اللحوم أجناساً مختلفة. وفي «القدوري» : إذا حلف لا يأكل لحماً فهذا على الحيوان الذي يعيش في البر محرمة كانت أو غير محرمة، وهو إشارة إلى ما قلنا أنّ الحل والحرمة أحكام الشرع فلا يتغير به الاسم حقيقة. ألا ترى أن من حلف لا يشرب شراباً ولا نية له فشرب الخمر إنه يحنث في يمينه، لأنه شراب حقيقة وإن كان حراماً كذا ههنا. قال في «القدوري» : وأما لحم ما يعيش في الماء كالسمك وغيره فإنه لا يحنث بأكله ثم ينوي إن أكل هذه اللحوم مطبوخاً أو مشوياً أو قديداً ولو أكل.... لم يذكر هذا الفصل في شيء من الكتب نصاً. قال شيخ الإسلام: في «شرح الأيمان» الأصل ينبغي أن لا يحنث في يمينه. قال وأشار إليه محمد رحمه الله في «الأصل» فقد ذكر في «الأصل» ، إذا حلف لا يأكل لحماً ولا نية له فأي لحم أكل بقر أو لحم غنم أو لحم طير مشوّياً كان أو طبيخاً أو قديداً يحنث في يمينه، فهذا من محمد رحمه الله إشارة إلى أنه لا يحنث بأكل النيء. وذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله عن أبي بكر الإسكاف: أنه لا يحنث في يمينه. وقال الفقيه أبو الليث: عندي إنه يحنث والأشهر والأظهر أنه لا يحنث لأنه عقد يمينه على ما لا يؤكل كذلك عادة فينصرف يمينه إلى الأكل المعتاد، والأكل المعتاد لحم الأكل بعد الطبخ ولو أكل ما يكون في الجوف من الكرش والكبد والطحال يحنث في

يمينه. وهذا بناء على عرف أهل الكوفة فإن هذه الأشياء في عرفهم كانت تباع مع اللحم وتستعمل استعمال اللحم فأما في عرفنا لا يحنث في يمينه، لأن هذه الأشياء لا تسمى لحماً ولا تباع مع اللحم ولا تستعمل استعمال اللحم ولو أكل شحم البطن لا يحنث، لأنه لا يسمى لحماً فلا يستعمل استعمال اللحم وكذلك إذا أكل الألية لا يحنث، فهذه العلة. ولو أكل شحم الظهر يحنث في يمينه، لأنه يسمى لحماً يقال لحم سمين ويستعمل استعمال اللحم ويباع مع اللحم ولا كذلك شحم البطن والآلية. ولو أكل رؤوس الحيوان يحنث في يمينه، لأن ما على رؤوس الحيوان لحم حقيقة ولو حلف لا يأكل لحم شاة فأكل لحم عنز يحنث في يمينه. هكذا ذكر في «الجامع» ، وعن بعض مشايخ بلخ إذا كان الحالف مصرياً لا يحنث لأنهم يفرقون بينهما وإن كان قروياً يحنث لأنهم لا يفرقون بينهما. وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «فتاويه» : أنه لا يحنث سواء كان الحالف قروياً أو مصرياً، قال الصدر الشهيد رحمه الله: وعليه الفتوى لأنهم يفرقون بينهما عادة.a ولو حلف لا يأكل شحمة فأكل شحم البطن حنث في يمينه بلا خلاف، ولو أكل شحم الظهر وهو الذي يخالطه لحم على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يحنث في يمينه، وعلى قولهما يحنث والصحيح مذهب أبي حنيفة رحمه الله لأن شحم الظهر ليس بشحم بل هو لحم، ألا ترى أن من حلف لا يأكل لحماً فأكل شحم الظهر يحنث في يمينه، وإذا كان لحماً لا يكون شحماً لأنهما اسمان مختلفان لا يتناولان مسمى واحداً ولو عزل شحم الظهر وأكله لا رواية في (380ب1) هذا عن أبي حنيفة رحمه الله. ولقائل أن يقول لا يحنث عنده. ولو حلف لا يأكل طعاماً مَلِحَاً أو خلاً أو...... أو زيتاً يحنث في يمينه. هكذا رواه ابن رستم عن محمد رحمهما الله وقال: كل شيء يؤكل فهو طعام فقد جعل محمد رحمه الله الخل طعاماً، وقال أبو يوسف رحمه الله: الخل ليس بطعام وكذلك النبيذ ليس بطعام. قال القدوري في «كتابه» : وحقيقة الطعام ما يستطعم ولكن يختص في العرف ببعض الأشياء فإن السقمونيا وما أشبه ذلك لا تسمى طعاماً. وفي «فتاوى أبي الليث» إذا حلف لا يأكل طعاماً وأكل دواء من الدواء الذي يكون..... ولا يكون.... ولا يصير غذاءً لا يحنث وإن كان له حلاوة ويصير غذاءً يحنث. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا حلف الرجل لا يأكل لحم دجاج فأكل لحم الديك يحنث في يمينه.

الأصل في جنس هذه المسائل أن اليمين إذا أضيف إلى اسم جنس يدخل تحت اليمين الذكر والأنثى من ذلك الجنس، ومتى أضيف إلى ذكر على الخصوص لا يدخل تحت اليمين الأنثى، ولذلك إذا أضيف إلى اسم أنثى على الخصوص لا يدخل تحت اليمين الذكر، وكون الاسم خاصاً للأنثى لا تعرف بعلامة الهاء لا محالة لأن ذلك مشترك، قد تكون الهاء للتأنيث وقد تكون الهاء للإفراد وإنما يعتبر فيه الوضع وإنه ينتفي من قبل النقل ومحمد رحمه الله إمام مقلّد مقبول القول في اللغات إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: الدجاج اسم جنس فيدخل تحت اليمين الذكر والأنثى ولو حلف لا يأكل لحم دجاجة فأكل لحم ديك لا يحنث، لأن الدجاجة مع الهاء للأنثى خاصة وكذلك إذا حلف لا يأكل لحم ديك فأكل لحم دجاجة لا يحنث، لأن اسم الديك اسم الذكر خاصة. قال: وإذا حلف لا يأكل لحم جَمَلٍ أو حلف لا يأكل لحم بعير أو حلف لا يأكل لحم إبل أو حلف لا يأكل لحم جزور دخل تحت اليمين الذكر والأنثى لأن هذه الأشياء من أسماء الأجناس، وكذلك يدخل تحت اليمين البختي وهو ما تكون أمه عربياً وأبوه غير العربي، ويدخل تحت اليمين أيضاً العربي لما ذكرنا أن هذه الأشياء في أسماء الأجناس فيدخل تحتها الأنواع كلها. ولو حلف لا يأكل لحم بختي فأكل لحم عربي أو حلف لا يأكل لحم عربي فأكل لحم بختي لا يحنث في يمينه، ولأن كل واحد من هذين الاسمين اسم خاص لصنف خاص فلا يدخل تحته الصنف الأخرى. ولو حلف لا يأكل لحم ناقة فأكل لحم الذكر من العراب أو البخت لا يحنث، لأن الناقة اسم خاص للأنثى والهاء فيها للتأنيث فلا يتناول الذكر. ولو حلف لا يأكل لحم بقر فأكل لحم الأثنى منه أو أكل لحم الذكر يحنث في يمينه، لأن البقر اسم جنس وكذلك إذا حلف لا يأكل لحم بقرة فأكل لحم بقر يحنث في يمينه، لأن البقرة اسم جنس والهاء فيها للأفراد الدليل عليه أن البقرة المذكورة في قصة موسى صلوات وسلامه عليه كان ذكراً ألا ترى أن الله تعالى قال في شأنها {لا ذلول تثير الأرض} (البقرة: 71) والثور هو الذي يوصف به. ولو حلف لا يأكل لحم ثور فأكل لحم جاموس لا يحنث في يمينه، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» ، وفي «الحاوي» : أنه يحنث بخلاف ما لو حلف لا يأكل لحم جاموس فأكل لحم البقر لا يحنث، لأن البقر اسم جنس والجاموس اسم نوع والصحيح ما ذكر في «الجامع» ؛ لأن الجاموس، وإن كان نوع ثور إلا أنه لا يكون يؤكل عادة، وهو إنما ذكر البقر مقروناً بالأكل فيتناول نوعاً يؤكل عادة. ألا ترى أن من حلف لا يشتري رأساً فاشترى رأس طير لا يحنث، وإن كان رأساً حقيقة لأن لا يُشترى عادة، وهو إنما ذكر الرأس مقروناً بالشراء فيتناول رأساً يشترى عادة. كذا في مسألتنا والشاة اسم جنس فيدخل تحتها الذكر والأنثى، والكبش اسم خاص للذكر فلا يدخل تحته الأنثى، والنعجة اسم خاص للأنثى فلا يدخل تحته الذكر والله أعلم.

ولو حلف لا يأكل من هذا الحم شيئاً فأكل من هو فيه لا يحنث، إذا لم يكن له نيّة المرقة لأنه لم يأكل شيئاً من اللحم. وإذا حلف الرجل لا يأكل فاكهة، ولا نيّة له أجمعوا على أنه إذا أكل تيناً ومشمشاً أو خوخاً أو سفرجلاً أو إجاصاً أو كمثرى أو تفاحاً يحنث في يمينه، وأجمعوا على أنه ما أكل خياراً أو قثاء أو جزراً إنه لا يحنث في يمينه.... وأما إذا أكل عنباً أو.... أو رطباً فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يخنث في يمينه وعلى قولهما يحنث. وفي «القدوري» : ثمرة الشجر كلها فاكهة إلا الرمّان والعنب والرطب في قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله، كل ذلك فاكهة فمن المشايخ رحمهما الله من قال رحمه الله، هذا اختلاف عصر وزمان كان الناس في زمن أبي حنيفة رحمه الله لا يتفكهون بهذه الأشياء ويعدون بهذه الأشياء من الفواكه فأفتى كل واحد منهم على حسب ما شاهد في زمانهم، ومنهم من قال: هذا اختلاف حجة فوجد قولهما أن الفاكهة اسم لما يتفكه به أي يؤكل على سبيل التلهي وذهاب الملالة وهذه الأشياء بهذه المثابة فكانت فاكهة والدليل عليه إذا نوى هذه الأشياء صحت نيته بلا خلاف، وتدخل هذه الأشياء تحت اليمين، ولولا أنها فاكهة وإلا لما دخلت تحت اليمين. ولأبي حنيفة رحمه الله أن الفاكهة اسم لما يؤكل على سبيل التهلي والذهاب للملالة وهذه الأشياء كما في كل على سبيل التلهي تؤكل لغرض آخر فالعنب والرطب يؤكلان للشبع وقد يكتي فيها في بعض الأماكن، وفي بعض الأزمنة والرمان تؤكل للتداوي فكان هذه الأشياء ناقصاً في معنى التفكه بها فلا تدخل تحت مطلق اسم الفاكهة، والدليل عليه أنه إذا أكل الناس من هذه الأشياء لا يحنث، لأنه ناقص في معنى التفكة فلا تدخل تحت مطلق الاسم كذا ههنا. وإذا أكل خياراً أو جزراً أو قثاءً إنما لا يحنث (381أ1) في يمينه، لأن هذه الأشياء ليست بفاكهة إنها هي من البقول والتوابل بعضها يوضع على المائدة مع البقول وبعضها يجعل في القدر مع التوابل. قال محمد رحمه الله، في «الأصل» : والتوت فاكهة، وهكذا ذكر الكرخي رحمه الله في «كتابه» لأنه يسمى فاكهة في العرف ويؤكل على سبيل التلهي وذهاب الملالة لا لغرض آخر، وعن أبي يوسف رحمه الله أن اللوز والعناب فاكهة وكل ذلك مستفاداً من قول القدوري رحمه الله ثمر الشجرة كلها فاكهة إلا الرمان والعنب والرطب، فإنما استثنى الأشياء الثلاثة لا غير على قول أبي حنيفة رحمه الله وعن محمد رحمه الله أن الجوز اليابس ليس بفاكهة، وهو لطر العنب والرمان والرطب، وإن رطب هذه الأشياء فاكهة واليابس منهما ليس بفاكهة، والبطيخ من الفواكه. هكذا ذكر القدوري ورواه الحاكم الشهيد رحمه الله في «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله. وذكر شمس الأئمة السرخي

رحمه الله في شرحه أن البطيخ ليس من الفواكه، فإنه ذكر أن ما لا يكون من فاكهة.... ورطبه لا يكون فاكهة كالبطيخ، وهذا القياس غير مستقيم فإن الرطب من العنب والرمان فاكهة عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، واليابس منهما ليس بفاكهة. والرطب من الجوز فاكهة بلا خلاف، واليابس منه ليس بفاكهة..... فاكهة أيضاً. قيل: كل ما يكون نضيجة فاكهة منه إنما يكون فاكهة. وفي «المنتقى» : وقال أبي حنيفة رحمه الله: ليس الباقلى ولا السمسم من الثمار، والحاصل أن العبرة، في جميع ذلك العرف والعادة، فما يؤكل على سبيل التفكه عادة ويعد فاكهة في العرف يدخل تحت اليمين، وما لا فلا. وعن محمد رحمه الله إذا حلف لا يأكل من فاكهة العام أو ثمار العام فإن كان في أيام الفاكهة الرطبة فهذا على الرطب وإن أكل اليابس لم يحنث، وإن كان في غير وقتها، فهذا على اليابس وهذا استحسان المتعارف وهذا لما ذكرنا أن اليمين ينصرف إلى المتعارف والمعتاد والمعتاد التفكه. فالرطب في أيام الرطب والتفكه باليابس في أيام اليابس فمطلق اليمين ينصرف إليه. ولو حلف لا يأكل بقلاً.... من أكل فما سمي بقلاً يحنث، وإن أكل بصلاً لم يحنث. هكذا ذكر القدوري وذكر فصل البصل في «المنتقى» . وقال: لا يحنث إلا أن يكون بقلاً عندهم أشار إلى أن العبرة في ذلك للعرف. ولو حلف بالفارسية لرهاع خورد محه خورد أو على العكس فقد قيل يحنث وقد قيل لا يحنث، وقد قيل: إن قال كرم لى خورد محه خورد يحنث وإن قال: كرمحه في خورد ولو خورد لا يحنث، لأن كرمحه كرم مقيد والمقيد يدخل تحت اسم المطلق وأما المطلق، لا يدخل تحت اسم المقيد وإذا حلف لانا ندم ولا نية له لإدام يأتي في فصل الاستثناء إن شاء الله تعالى. واختلف المشايخ في البقل فقيل: إنه ليس بإدام بلا خلاف، وقيل: إنه إدام عند محمد رحمه الله واحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله، والأول أصح فقد ذكر هشام في «نوادره» عن محمد رحمه الله أن البقل ليس بإدام. قال محمد رحمه الله: الخبر إنما أبرم الذي يتردد في المرق وغيره حتى يصير مائعاً له، وأن يرد في الماء فليس بادوم. وإذا حلف لا يأكل ثمراً فأي نوع من الثمر أكله حنث لأنه الثمر اسم جنس يتناول الأنواع كلها ولو أكل حيساً يحنث لأن الحيس اسم لثمر يلقي في اللبن حتى ينفسخ فيؤكل، وإنما حنث بأكلهُ لأنه هو الثمر بعينه، ولم يقلد عليه غيره ولذلك إذا أكل عصيرة الحرب من التمر يحنث، وكان ينبغي أن لا يحنث بأكل العصيرة لأن اسم الثمر مدرا.... منه فبطل اليمين، ألا ترى أنه لو حلف لا يأكل هذا الرطب فأكله بعدما صار تمراً لا يحنث في يمينه، وإنما لا يحنث لما قلنا والجواب الاسم الأول لم يراه إنما حدث اسم أخر مع بقاء اسم الأول ألا ترى يقال عصيره وما بخلاف بها إذا حلف لا

يأكل هذا الرطب فأكله بعدما صار تمراً، لأن هناك الاسم الأول دال من كل وجه، ألا ترى أنه لا يقال: رطب تمر والاسم إذا زال يزول اليمين. وفي «المنتقى» رواية هشام عن محمد رحمه الله فيما إذا حلف لا يأكل هذا الثمر فأكله بعدما جعله عصيرة أنه لا يحنث في يمينه، وإذا حلف لا يأكل شواءً فإن كان ينوي كل شواء فهو ما نوى ويحنث بأكل شواء كل مشوي لأنه نوى حقيقة كلامه، وإن لم يكن له نية ينصرف يمينه إلى اللحم المشوي ولا يدخل فيه السمك المشوي لأن الشواء في العرف إذا أطلق يراد به اللحم المشوي ولا يراد به كل مشوي فينصرف بمطلق اليمين إليه. وإذا حلف..... فقد ذكرنا تفسير الطائحة في كتاب الطلاق، ولم يذكر تفسير الجابرة والجابرة هي التي ينصرف الخبز في النقور دون التي يعجنه ويهيهُ. وإذا حلف لا يأكل طبيخاً وهو ينوي كل مطبوخ فهو كما نوى، وإن لم يكن له نية فهو على اللحم خاصة. هكذا ذكر في «الأصل» ، وذكر في «القدوري» : أنه هذا الاسم ينطلق على اللحم الذي يجعل في الماء ويطبخ ليسهل أكله ولا ينطلق على غيره إلا إذا نوى ولو أكل طينة يابسة ولو.... الألوان لا مرق فيه فليس بطبخ، ولو طبخ اللحم في الماء وأكل من المرقه يحنث في يمينه، لأن أجزاء اللحم قائمة في مرقه. ولو طبخ أرزاً أو عدساً بودك فهو طبيخ وإن كان بسمن أو زيت فليس بطبخ. وقال ابن سماعة رحمه الله: الطبخ على الشحم أيضاً. ولو حلف لا يأكل من طبخ فلان فيستحب له قدر طبخها غيرها لم يحنث، وإذا حلف بالفارسية الراودبك محبه نخورم فكذا ماسكان جوشيده خودر هكذا لا يحنث لأنه في العرف لا يسمى هذا ديث بحه ولو قال اكراردتك مرده نونخورم فكذا فيستحب قداراً اطبخها غيرها لا يحنث لأن قوله كرده يفرادبه عرفاً تحته. وإذا حلف لا يأكل شيئاً من الحلوى فأي شيء من الحلوى أكله من عسل أو سكر أو خبيص أو ناطف يحنث في يمينه، واعلم بأن الحلوى عندهم كل حلو ليس في جنسه حامض كالخبيص والعسل والسكر والفانيد والناطف. وأما (381ب1) العنب والرمان والإجاص فليس بحلوى وهذا لأن الحلو مشتق من الحلاوة، وكل ما يوجد في جنسه غير حلو لا يخلص معنى الحلو فيه. قال محمد رحمه الله: لو اشترى بدرهم غصبه طعاماً وأكله لم يحنث. و «في واقعات الناطفي» ولو أكل خبزاً أو لحماً غصبه يحنث ولو باع الخبز المغصوب بشيء وأكل ذلك الشيء لا يحنث، لأن الأول حرام مطلقاً، والثاني لا لأنه ملكه ولو غصب برّاً أو طحينه إن أعطى مثله قبل أن يأكله لم يحنث بأكله، وإن أكله قبل أن يعطي مثله يحنث لأنه وإنّ ملكه بكسب خبيث والخبيث باقي من كل وجه قبل أداء البدل وإذا أدى البدل يزول الخبث أو بعد. وهذه المسائل بتمامها تأتي في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى.

قال القدوري رحمه الله، في «كتابه» : والحرام ما كان محرماً لعينه لا لحق الآدمي وفي أيمان «الجامع الأصغر» قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: كل شيء في أكله اختلاف لا يحنث بأكله. قال صاحب «الجامع الأصغر» : ما أحسن ما قاله أبو الليث رحمه الله لأن ما في أكله اختلاف فليس بحرام مطلق فلا يحنث له لا بالنية لأن الحالف ذكر في يمينه الحرام مطلقاً ولو حلف بأكل هذا العنب أو هذه الرمانة وجعل يمصه ويرمي بتفله ويبتلع ماءه ويبتلع لم يحنث، لأن هذا لا يسمى أكلاً وإنما سمّى مصّاً. ولو عصر ماء العنب أو ماء الرمان ولم يشربه وأكل..... وحصرمه حنث في يمينه، لأن العنب نفسه مأكول والرمان كذلك لو مضغه وابتلعه كذلك يصير أكلاً، وإنما يصير أكلاً ثانياً العنبة والحصرم لا باتباع الماء. ذكر القدوري رحمه الله المسألة على هذا الوجه في شرحه، وإنه مشكل لأن العنب اسم للكل فإذا أكل العنبة والحصرم دون الماء إنما أكل بعض ما عقد عليه اليمين فينبغي أن لا يحنث، ألا ترى أنه لو حلف أن لا يأكل هذا العنب فأكل بعدما صار زبيباً، أو حلف لا يأكل هذا الرطب فأكل بعدما صار تمراً لا يحنث في يمينه، وإنما لا يحنثُ لما قلنا. وفي «العيون» ذكر هذه المسألة بصورة أخرى، فقال: إذا حلف لا يأكل هذا العنب فلاكَهُ ورمى قشره وحبّه وابتلع ماؤه لم يحنث، ولو رمى بقشره وابتلع ماءه وحبه حنث، وعلل الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» فقال: لأن العنب اسم لهذه الأشياء الثلاثة ففي الوجه الأوّل أكل الأقل فلا يكون أكلاً للعنب، وفي الوجه الثاني أكل الأكثر وللأكثر حكم الكل. وعن محمد رحمه الله فيمن حلف لا يأكل رمّانة فمصّ رمّانة لم يحنث، وكذلك إذا حلف لا يأكل سكّراً ففعل في فيه حتى ذاب وابتلع ماؤه لم يحنث، لأن هذا ليس بأكل فقد أوصل إلى جوفه ماءً لا يتأتى فيه المضغ وإذا حلف لا يأكل هذه الرمانة فأكلها إلا حبة أو حبتين حنث استحساناً، لأن ما أكل الرمانة هكذا يكون لأنه لا يمكن أكلها على وجه لا تسقط بشيء منها، ولأن العادة فيما بين الناس إن عند أكل الرمان من كون الحبة والحبتين وإن ترك أكثر من ذلك مما لم يجر العرف أن يتركه الأكل لم يحنث. وهكذا لو حلف لا يأكل هذا السويق فأكله إلا حبة أو حبتين تركهما يحنث في يمينه لما ذكرنا في الرمانة. ولو حلف لا يأكل لحم هذا الجزور فهذا على بعضه لو أكل بعضه يحنث في يمينه بخلاف ما إذا حلف لا يبيع لحم هذا الجزور فباع بعضه حيث، لا يحنث لأن الأكل لا يتأتى على الكل بدفعة واحدة فينعقد اليمين على بعضه، فأما البيع يتأتى على الكل بدفعة واحدة فينعقد اليمين على كله. وإذا حلف لا يأكل هذا الطعام فإن كان يقدر على أكله بدفعة واحدة لم يحنث بأكله

بعضه، وكذلك إذا عقد يمينه على شرب مشروب بعينه وهو يقدر على شربه بدفعة واحدة لم يحنث بشرب بعضه، وإن كان لا يقدر على شربه بدفعة واحدة فيمينه على شرب بعضه لأن المقصود من اليمين في الصورة الأولى الامتناع عن جميعه، والمقصود منها في الصورة الثانية الامتناع عن أصله، لا عن جميعه لأن ما يمتنع فعله في العادة والغالب لا يقصد في اليمين. وفي «المنتقى» : إذا قال: ليأكلن هذا التمر اليوم فأكل بعضه، وإن كان التمر لا يستطاع أكل كله في يوم بر بأكل بعضه وما لا فلا، فلو حلف لا يأكل هذه البيضة لا يحنث بأكل بعضها، لأنه لو أكل كلها بدفعة واحدة فينعقد اليمين على الكل وكذلك، لو حلف لا يأكل هاتين البيضتين لم يحنث حتى يأكلهما جميعاً. وفي «المنتقى» : لو حلف لا يأكل من هذه الخابية من الزيت فأكل بعضه يحنث لأنه لا يؤكل كلة بدفعة واحدة فينعقد اليمين على البعض ولو كان مكان الأكل يباع فباع بعض الخابية لا يحنث، لأنه تباع كلها فلا ينعقد اليمين على البعض. وفي «المنتقى» أيضاً: إذا حلف لا يشرب لبن هذه الشاة فشرب شيئاً منه يحنث في يمينه. ولو قال: لا آكل من لبن هاتين الشاتين، أو من ثمر هاتين النخلتين، أو من هذين الرغيفين فأكل من أحدهما يحنث. وكذلك لو حلف لا يأكل من لبن هذا الغنم فأكل من لبن شاة واحدة وكذلك لو حلف لا يشرب من ماء هذه الأنهار فشرب من ماء نهر واحد يحنث، لأن من للتبعيض فكانت اليمين متناولة بعض المذكور وقد وجد. ولو قال: لا أشرب لبن هاتين الشاتين لم يحنث حتى يشرب من لبن كل شاة، لأن عقد اليمين عليهما فلا يحنث بشرب أحدهما، ولو كان اللبن.... بالحلف لا يشربه فهذا على بعضه إذا كان لا يقدر على شربه بدفعة واحدة وقد مرّ هذا. ولو قال: لا يشتري من هذين الرجلين لم يحنث حتى يشتري منهما ولا يشبه قوله لا أكل من هذين الرغيفين لأن في مسألة الأكل أمكن باعتبار حقيقة كلمة من في التبعيض، وفي مسألة الشراء لا يمكن لأن البائع لا يتبعّض فكان كلمة من في وصل الشراء أصله من الكلام. وإذا حلف لا يأكل هذا الرغيف فأكل الكل للأشياء قليلاً يحنث في يمينه. وإن نوى أكل الكل دُيِّن فيما بينه وبين الله تعالى، وهل يصدق قضاء فيه روايتان. ولو قال إن أكلت هذا الرغيف فامرأته طالق، ثم قال: إن لم آكله فعبده حر فالحيلة في ذلك حتى لا يعتق عبده ولا تطلق امرأته أن يأكل النصف ويترك النصف. وإذا حلف لا يأكل سمناً وأكل سويقاً ملتوتاً بالسمن فإن كان يُرى فيه لون السمن ويوجد طمعه يحنث، وكذلك كل شيء (382أ1) أكله وفيه سمن وإن كان لا يوجد طمعه ولا يُرى لونه لا يحنث، وكذلك إذا كان يوجد طعمه ولا يُرى لونه لا يحنث. وصار الأصل متى أكل المحلوف عليه بعدما خلطه بخلاف جنسه ينظر إن صار المحلوف

عليه هالكاً من كل وجه أو من وجه لا يحنث في يمينه، وإن لم يصير هالكاً أصلاً وكان قائماً من كل وجه يحنث، إلا أنه أثبت القيام في السمن.... دون اللون وأثبت الهلاك بزوال دون اللون. وإذا حلف على حنطهٍ لا يأكلها فأكلها مع غيرها من الحبّات، أو حلف على شعير لا يأكله فأكله مع غيره من الحبات إن أكل.... فإن كانت الغلبة للمحلوف عليه يحنث، وإن كانت الغلبة لغير المحلوف عليه يحنث، وإن كان سواء القياس أن يحنث وفي الاستحسان لا يحنث، وإن أكل حبة حنث على كلِّ حال وذكر مسألة السمن. وفي «النوادر» ويشترط للحنث شرطان ... على ما ذكرنا فقال: إن كان يرى لون السمن ويوجد طعمه وكان لو عصر سال السمن يحنث في يمينه. وفي «المنتقى» رواية هشام عن محمد رحمه الله: إذا حلف لا يأكل هذا السمن فجعله خبيصاً إلا أنه يرى فيه لون السمن ويوجد طعمه إنه يحنث في يمينه، فإذا حلف لا يأكل ملحاً وأكل طعاماً فيه ملح إن لم يكن بالحساء، ويقال بالفارسية سور لا يحنث في يمينه، وإن كان مالحاً يحنث في يمينه. وصار كما لو حلف لا يأكل فلفلاً وأكل طعاماً فيه فلفل إن كان يوجد فيه طعم الفلفل يحنث في يمينه، وإن كان لا يوجد لا يحنث هكذا ذكر المسألة في «العيون» ، وكان الفقيه أبو الليث رحمه الله يقول: في الملح لا يحنث في يمينه ما لم يأكل عينه مع الخبز أو مع شيء أخر إلا إذا كان وقّت اليمين دلالة على ذلك، لأن غير الملح مأكول وغير الفلفل لا، وكان الصدر الشهيد رحمه الله يختار هذا القول. وإذا حلف على لبن لا يأكله فطبخ اللبن مع الأرز وأكله لا يحنث، وإن لم يجعل فيه الماء ويرى عين اللبن، وهو نظير ما لو حلف على خل لا يأكله فاتخذ منه.... لا يحنث في يمينه، وعلى قياس ما إذا حلف على تمر لا يأكله فاتخذ منه عصيره وأكلها يحنث في يمينه ينبغي أن يحنث في يمينه، في مسألة اللبن إذا طبخ مع الأرز لأن اسم اللبن بهذا الصنع لم يزل، إنما حدث له اسم آخر مع بقاء الاسم الأول ألا ترى أنه يقال بالفارسية سته كرمح وخرج على هذا مسألة الخل لأن هناك اسم الخل يزول.f .... أما ههنا بخلافه. وإذا حلف بالفارسية عفران نخودر بان كاك كي يردوى أي عفران است كنجد خوده يحنث في يمينه لأن عين المحلوف عليه قائم فإنه يرى ويوجد طعمه، حلف بالفارسية كل ى خورم كل فحى خوده كندا نكردى حلف لا يأكل هذا الرغيف فأكل بعضه لا يحنث إذا كان بحال يؤكل الكل في مجلس واحد، ولو قال هذا الرغيف حرام عليّ وأكل لقمة منه يحنث، حلف لا يأكل دهناً فأكل دهن الكراع يحنث في يمينه، ولو قال: كلّما أكلت لحماً فعبد من عبيدي حر فأكل لزمه بكل لقمة عتق عبد، وإذا قال: إن أكلت من بُرَ لهذه.... فعبدي حر فأكل من مجمعها ويقال: بالفارسية دوغ زده يحنث لأنه من.... ولو اتخذ منه مرقة ويقال بالفارسية دوغ ما لا يحنث والأول مشكل وبليغ أن

لا يحنث لأنه لم يخرج من..... كذلك. وعن أبي يوسف رحمه الله فيمن حلف لا يأكل هذه الدراهم فاشترى بها طعاماً وأكله حنث لأن الدراهم لا تؤكل عينها فينصرف يمينه إلى ما يشتري منه، ولو أبدلها بغيرها واشترى بالبدل طعاماً وأكله لا يحنث، وعلى هذا إذا حلف لا يأكل من ثمر هذا العبد. وروى هشام عن محمد رحمه الله في رجل له دراهم، فحلف أن لا يأكلها فاشترى بها دنانيراً وفلوساً ثم اشترى بالدنانير والفلوس فاكهة وأكل حنث، ولو اشترى بالدراهم غرضاً واشترى بذلك الغرض طعاماً وأكل لا يحنث في يمينه، كذلك لو اشترى بالدراهم شعيراً ثم اشترى بذلك الشعير طعاماً وأكله لا يحنث في يمينه. وفي «المنتقى» : إذا حلف على ما يؤكل أن لا يأكله ثم اشترى ما يؤكل وأكله لم يحنث في يمينه، بخلاف ما لو حلف على ما لا يؤكل لا يأكله فاشترى به ما يؤكل وأكله حنث في يمينه. إذا حلف لا يأكل من ميراث أبيه شيئاً فاشترى بما ورث طعاماً وأكله حنث، ولو اشترى بالميراث شيئاً واشترى بذلك الشيء طعاماً وأكله لم يحنث، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا لم.... الميراث. لو قال: لا آكل ميراثاً يكون لفلان...... وأكله يحنث؛ لأنه في العادة يقال لما في أيدي الإنسان إنه ميراثاً وإن غيرّه. روى ابن سماعة هذه الرواية مفسرة فقال: إذا حلف والله لا آكل من ميراثك شيئاً فورَّثه دراهم فاشترى بالدراهم طعاماً وأكله يحنث، وكذلك لو اشترى بالدراهم متاعاً فباع المتاع بالدراهم واشترى بالدراهم متاعاً وأكله حنث، وفي رواية أخرى عنه في هذه الصورة أنه لا يحنث. عن أبي يوسف رحمه الله أيضاً فيمن حلف لا يطعم فلاناً بما ورث من أبيه فورث دراهم واشترى بها طعاماً فأطعمه يحنث، فإن ورث طعاماً فأطعمه حنث وإن اشترى به طعاماً فأطعمه لا يحنث، لأنه أمكن اعتبار الحقيقة فيه وهذا الذي اشترى ليس بمورث حقيقة. ولو حلف لا يأكل من كسب فلان فأُعلم أن الكسب ما صار له بفعله فأخذ المباحات أو في القعود وأما الميراث فلا يكون كسباً لأن الملك في الميراث يثبت حكماً من غير منع فلا يضاف إلى كسبه. وإذا حلف لا يأكل من كسب فلان فورث المحلوف عليه شيئاً وأكله الحالف لا يحنث، ولو اشترى شيئاً أو وهب...... وتصدق عليه بشيء وقبل وأكله الحالف حنث في يمينه، ولو حلف لا يأكل من كسب فلان فاشترى الحالف شيئاً من (382ب1) المحلوف عليه بما اكتسبه المحلوف عليه أو وهب المحلوف عليه ذلك من الحالف وأكل

لا يحنث في يمينه؛ لأن شرط الحنث أكل مكسوب فلان، وهذا أكل مكسوب نفسه فلا يحنث. رواه إبراهيم عن محمد رحمه الله. وقال هشام: سمعت محمداً رحمه الله يقول فيمن خلف لا يأكل من كسب فلان فوهب المحلوف عليه شيئاً من كسبه من الحالف أو تصدق عليه وأكل حنث في يمينه، ولو حلف من كسب فلان فاكتسب المحلوف عليه مالاً، ومات وورثه رجل وأكله الحالف يحنث في يمينه، لأن الثابت للوارث غير ما كان ثابتاً للمورث وكذلك لو ورثه الحالف وأكل يحنث في يمينه، بخلاف ما لو ينقل إلى غيره بغير الميراث بشراء أو وصية حيث لا يحنث لأنه صار كسباً للثاني، لأن المشتري والموصى له لا يملك على حكم ملك الأول، وقد مرّ شيء من هذا الجنس في كتاب الطلاق. وإذا حلف لا يأكل من ملك فلان، أو مما يملك فلان يخرج شيء من ملكه إلى ملك غيره وأكله الحالف لا يحنث، لأن شرط الحنث أكل ما هو مضاف إلى فلان بالملك وقت ولو يوجد. وكذلك على هذا إذا حلف لا يأكل طعام فلان ولو حلف لا يأكل ميراث فلان فمات المحلوف عليه ثم مات وارثه وورثه غيره وأكله الحالف لم يحنث، لأن بالإرث الثاني ينفسخ حكم الإرث الأول فلا يصير أكلاً من ميراث المحلوف عليه. وإذا حلف لا يأكل مما اشترى فلان فاشترى لنفسه أو لغيره وأكله الحالف يحنث، ولو أن المحلوف عليه باع ما اشترى لنفسه أو باع ما اشترى لغيره بأمر المشتري له ثم أكل الحالف لا يحنث، لأن الشراء الثاني نسخ الشراء الأول. ولو حلف لا يأكل مما زرع فلان وباع فلان زرعه وأكله الحالف يحنث؛ لأن الزراعة لا ينسخها الشراء فإن بذر المشتري وزرعه الحالف، فأكل الحالف من ذلك الزرع يحنث؛ لأن الأول قد انعدم بالثاني. وكذلك إذا حلف لا يأكل من طعام يصنعه فلان أو من خبز يخبزه فلان وصنعه وباعه وأكل الحالف منه يحنث في يمينه. وكذلك إذا حلف لا يلبس ثوباً نسجه فلان فنسجه ثم باعه لم ينسخ نسجه بالبيع إلا إذا أُنقض وغُزل ثانياً. وكذلك إذا حلف لا يلبس ثوباً مسّه فلان فلبس ثوباً قد مسّه فلان وباعه يحنث في يمينه. ولو حلف لا يأكل من طعام فلان، وفلان باع الطعام فاشترى وأكل حنث. ولو قال: لا آكل طعامك هذا وأهداه له وأكله لم يحنث في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله يحنث، وهذه المسألة فرع مسألة أخرى تأتي بعد هذا؛ وهو ما إذا حلف لا يدخل دار فلان هذه فباعها فلان فدخلها الحالف. وإذا حلف لا يأكل من غلة أرض فلان فأكل من ثمن الغلة حنث لأن هذا في العرف يسمى أكل غلة أرضه، وإن نوى أكل نفس ما يخرج منها دين في القضاء وفيما بينه

وبين الله تعالى، لأنه نوى حقيقة كلامه، وإذا حلف الرجل لا يأكل لحماً اشتراه فلان فاشترى فلان سخلة فذبحها فأكل الحالف لم يحنث لأنه لم يأكل لحماً اشتراه فلان، وإذا حلف لا يأكل من طعام يشتريه فلان فأكل من طعام اشتراه فلان وآخر يحنث في يمينه. فرّق بين هذا وبين ما إذا حلف لا يدخل داراً اشتراه فلان وغيره فإنه لا يحنث، أو حلف لا يلبس ثوباً اشتراه فلان، فاقترض ثوباً اشتراه فلان وغيره لا يحنث في يمينه، والفرق أن اسم الطعام ينطلق على القليل والكثير فالقدر الذي اشتراه فلان يسمى طعاماً فقد أكل طعاماً اشتراه فلان، أما اسم الدار واسم الثوب لا يقع على البعض فإذا دخلها أو لبسه فما دخل داراً. أما (إذا) لبس ثوباً اشتراه فلان فلا يحنث في يمينه، وعلى هذا إذا حلف لا يأكل من طعام فلان فأكل من طعام مشترك بينه وبين غيره حنث في يمينه. ولو حلف لا يأكل من خبز فلان فأكل من خبز بينه وبين آخر يحنث في يمينه، بخلاف ما إذا حلف لا يأكل من رغيف فلان فأكل من رغيف بينه وبين آخر لا يحنث في يمينه، لأن اسم الخبز ينطلق على القليل والكثير ولا كذلك اسم الرغيف. ولو حلف لا يأكل من طعام فلان فأكل من طعام مشترك بين الحالف وبين فلان لا يحنث في يمينه، لأن ما أكل الحالف هو من حصته، ألا ترى أن يأخذ حصته هكذا ذكر في «المنتقى» . وإذا حلف لا يزرع أرض فلان فزرع أرضاً بينه وبين غيره حنث لأن كل جزء من الأرض يسمى أرضاً، ولا كذلك الدار والثوب، فإن كل جزء من الدار لا يسمى داراً وكذلك كل جزء من الثوب لا يسمى ثوباً. إذا حلف لا يأكل من هذه الشجرة فأخذ غصناً من أغصانها وركبها على شجرة أخرى فأدرك ذلك الغصن وأثمر وأكل من ذلك الثمرة رأيت هذه المسألة في «شرح السير الكبير» فيه اختلاف المشايخ، قال بعضهم: يحنث لأن هذا غصن الشجرة المحلوف عليها لو كان على تلك الشجرة وأثمر وأكل منه يحنث هكذا إذا ركبه على غيرها، وقال بعضهم: لا يحنث لأنه لمّا ركب على الشجرة الأخرى واتصل بها صار تبعاً للشجرة الأخرى، ألا ترى أنه يحيى بحياة أصل تلك الشجرة وييبس إذا يبس أصل تلك الشجرة. ولو حلف لا يأكل من هذه الشجرة فوصل بها غصن شجرة أخرى بأن حلف على شجرة التفاح فوصل بها غصن شجرة الكمثرى، ينظر إن سمى الشجرة باسم ثمرها الإشارة في اليمين بأن قال: لا آكل من هذه لشجرة التفاح، أو قال بالفارسية: اذين درخت سيب نخورم لا يحنث في يمينه، وإن اقتصر على الإشارة (383أ1) وتسمية الشجرة ولم يسم الشجرة باسم ثمرها بأن قال: لا آكل من هذه الشجرة وباقي المسألة بحالها يحنث، هكذا سمعت من.... وهو يقول الرواية هكذا، وعلى قياس مسألة الأولى ينبغي أن يكون فيه اختلاف لأن تلك المسألة ذكرت مطلقة من غير فصل بينهما إذا

اتحد الثمر، واختلف على قياس هذه المسألة..... يكون تأويل تلك المسألة أن تكون الثمرة تتخذ. إذا حلف لا يأكل من مال فلان.... وفارسيته سحريراخكن وحذى مريرير وحورند لا يحنث في يمينه، لأن في العرف يسمى آكلاً مال نفسه هكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله وفيه نظر. وإذا حلف لا يأكل من مال أبيه وكان بين الابن وبين الحالف..... فأكل منه يحنث لأنه أكل من مال الابن وهذه المسألة تخالف مسألة الطعام التي تقدم ذكرها. وفيه أيضاً إذا قال لوالديه: إن أكلت من مالكما فأكل بعد موتهما لم يحنث من مالهما، ولو قال: إن أكلت من مالكما بعد موتكما وباقي المسألة بحالها يحنث في يمينه، لأنه لمّا نصّ على ما بعد موتهما علمنا أنه أراد به الميراث وأراد بالنسبة المجاز. وفي «فتاوى الفضلي» إذا قال: إن أكلت شيئاً من مال والدي فكذا ثم وجد كسيرة خبز في بيت والده وأكلها.... لا يحنث لأن اليمين يعقد للمنع والإنسان لا يمنع نفسه عن مثل هذا. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا حلف بالفارسية لا يأكل من خبز فلان فتناول من..... فلان لا يحنث، لأن أوهام الناس لا تسبق إلى هذا، ألا ترى أنه لو أكل من قشر بطيخة أو أكل من كسرة خبزة وجدها على باب داره لا يحنث في يمينه، وفيه أيضاً إذا حلف لا يأكل من كسب فلان فشرب من الذي وضعه على الطريق ليشرب الناس أخاف أن يحنث، ولو أكل كسرة مطروحة في بيت المحلوف عليه فإن كانت الكسرة بحال لا يُعطى مثلها الفقير لا يحنث. وإن كان بحال يُعطى مثلها الفقير يحنث، وفيه أيضاً إذا حلف أن..... وفلان فأكل من.... حمله فلان ينبغي أن يحنث، لأن الأوهام تسبق إلى هذا إذا كانت اليمين معقودة على أورده. في «واقعات الناطفي» : إذا اغترف الرجل من قدر في وصفه ثم حلف لا يأكل من هذا القدر فأكل من ماء القصعة لا يحنث، لأن يمينه على ما بقي في القدر. رجلٌ قال لامرأته: إن أكلتْ والدتك من مالي فأنت طالق ثلاثاً فطبخت امرأته قدراً فجاءها وجعلت فيه شيئاً من الحوائج من مال الزوج فأكلت والدة المرأة من ذلك فقد قيل: إن فعلت المرأة ذلك برضا صاحب القدر في هذه الصورة، وقد قيل لا يحنث على كل حال، لأن الحوائج صارت ملكاً للمرأة لجعلها إياه في القدر فكانت الوالدة أكلت من مال ابنتها، لا من مال زوجها. إذا قال: إن أكلت من مال والدي قبل أن أتزوج فاطمة كل امرأة أتزوجها فهي طالق فالحالُّ من مال والده قبل أن يتزوج فاطمة، ثم تزوج فاطمة طلقت هي لأن عند الأكل يصير قائلاً كل امرأة أتزوجها فهي طالق.

إذا حلفت المرأة أن لا تأكل من أطعمة ابنها وقد كان الابن بعث إليها من الأطعمة قبل اليمين فأكلت ذلك لا يلزمها الحنث لأنها أكلت طعام نفسها قبل هذا إذا لم يكن له نيّة، فإن نوى ذلك الطعام الذي بعثه قبل اليمين يحنث بأكله، لأنه نوى الإضافة باعتبار ما قد كان حلف لعيره، وقال: لاطعمتك غداً حتى تشبع فاطمة ولم تشبع حنث في يمينه، حلف لا يأكل من طعام امرأته فأدخلت عليه الطعام، وقالت له: داروكو فأكل لا يحنث، ولو لم يقل داروكو وباقي المسألة بحالها يحنث، لأن بقولها داروكور يصير الطعام ملكاً للزوج وقبل ذلك هو ملك للمرأة. وإذا حلف لا يأكل من طعام صهره فبعث الصهر ابنه الذي في عياله في أمر ودفع إليه شيئاً من الأطعمة فأكل الحالف من ذلك فقد قيل: يحنث، وقيل: لا يحنث، لأن بالدفع إلى الابن يصير الطعام ملكاً للابن فلا يكون آكلاً طعام الصهر. وإذا حلف لا يأكل مع فلان طعاماً فأكل هذا من إناء وفلان من إناء آخر في ذلك المجلس لا يحنث، هكذا ذكر في «شرح مختصر عاصم» في باب كفارة اليمين في الشراب. وفي «شرح الكافي» للصدر الشهيد رحمه الله في باب اليمين في الشراب أنهما إذا أكلا من مائدة واحدة حنث. وإذا اختلف..... وطعامهما فيتأمل عند الفتوى. إذا حلف لا يأكل بُسراً فأكل بسراً قريباً وهو الذي عامته بُسر حنث بالإجماع، ولذلك إذا حلف لا يأكل رطباً فأكل رطباً فيه بُسر يسير حنث بالإجماع، ولو حلف لا يأكل رطباً فيه بسر يسير حنث في قول أبي حنيفة رحمه الله ومحمد رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله لا يحنث، لأن ما عقد يمينه عليه مغلوب بغيره فلم يظهر بمقابلته، وهما يقولان الحر والذي يتناوله اليمين لو أكله بانفراده يحنث فكذلك إذا أكل مع غيره. نوع آخرمن هذا الفصل في الشرب قال القدوري في «شرحه» : الشرب بأن يوصل إلى جوفه ما لا ينافي فيه.... في حال، وقوله مثل الماء والنبيذ واللبن، فإذا حلف لا يشرب من هذا اللبن فأكله لا يحنث ولو شربه يحنث، وأكل اللبن أن يرد فيه الخبز ويؤكل، وشربه أن يشرب كما هو. ولو حلف لا يشرب هذا العسل فأكله كذلك لا يحنث، لأنه يسمى أكلاً ويسمى شرباً، ولو صب عليه ماءً وشربه حنث، لأنه يشرب حقيقة. إذا حلف أن لا يشرب من دار فلان فأكل منها شيئاً قال محمد بن سلمة رحمه الله: يحنث في يمينه لأنه قصده المنع حداً عن جميع المأكولات. يقال بالفارسية من اب نجورم ان خاته. قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : المختار عندي أنه لا يحنث إلا أن

ينوي جميع المأكولات، لأن اللفظ في باب الأيمان مراعى، وإذا نوى (383ب1) جميع المأكولات حينئذ لأنه نوى ما يراد به في العرف فتصح نيته، وقد قيل: إن كانت اليمين بالعربية لا يحنث بأكل المأكولات، وإن كانت اليمين بالفارسية يحنث؛ لأن فارسية الأكل والشرب واحد وهو نظيرما قيل فيما إذا حلف لا يأكل هذا السويق فشربه شرباً إنه إن كانت اليمين بالعربية لا يحنث، وإن كانت اليمين بالفارسية يحنث، وطريقه ما قلنا. ولو حلف لا يشرب مع فلان فشربا في مجلس واحد حنث في يمينه، وإن كان الإناء الذي يشربان منه مختلفاً، وكذا إن شرب الحالف من شراب والآخر من شراب، وإذا حلف لا يشرب شراباً ولا نية له فأي شراب يشرب من ماء أو غيره يحنث هكذا ذكر في أيمان «الأصل» . وفي «الأصل» : إذا حلف لا يشرب الشراب، ولا نيه له فهو على الخمر. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: فإذا في المسألة روايتان، وفي «فتاوى أهل سمرقند» أنه لا يحنث بشرب الماء لأنه لا يسمى شراباً عرفاً، وحكي عن شمس الأئمة السرخسي رحمه الله ما هو قريب من هذا، فإنه قال: في عرف الفارسية من حلف شراب نمن خمرم لا يقع ذلك على الماء واللبن. وإذا حلف لا يشرب لبناً فصب الماء في اللبن فالأصل في هذه المسألة، وأجناسها أن الحالف إذا عقد يمينه على ما يقع فاختلط بمائع آخر من خلاف جنسه إن كانت الغلبة لغير المحلوف عليه لا يحنث، وإن كان سواء فالقياس أن يحنث، وفي الاستحسان لا يحنث، وفسر أبو يوسف رحمه الله الغلبة فقال: أن يستبين لون المحلوف عليه ويوجد طعمهُ. وقال محمد رحمه الله: تعتبر الغلبة من حيث القلة والكثرة بالأجزاء. وإذا حلف لا يشرب اللبن فصب فيه الماء وإن كان يوجد طعم اللبن ويرى لونه فهو غالب فيحنث عند أبي يوسف رحمه الله، وبدون ذلك لا يحنث. وأما إذا اختلط بمائع آخر من جنسه كاللبن إذا اختلط بلبن آخر فعند أبي يوسف رحمه الله هذا والأول سواء يعني يعتبر الغالب غير أن الغلبة من حيث اللون والطعم لا يمكنه اعتبارها ههنا فيعتبر بالقدر، وعند محمد رحمه الله يحنث ههنا لكل حال؛ لأن الشيء لا يصير مستهلكاً بجنسه وإنما يصير مستهلكاً خلاف الجنس، فإذا لم يصر مستهلكاً..... يلزمه الحنث، قالوا: وهذا الاختلاف فيما يمتزج ويختلط بالمزج والخلط أما ما لا يمتزج بالخلط كالدهن وكان الحلف على الدهن يحنث بالاتفاق لأن الدهن يكون منفصلاً فيصير بشرب المخلوط شارباً المحلوف عليه على كل حال فيحنث في يمينه. وفي «القدوري» : إذا حلف على قدر من ماء زمزم لا يشرب منه شيئاً وصبه في ماء آخر حتى صار مغلوباً وشرب منه يحنث عند محمد رحمه الله لما بيننا في «أصله» ، أن الشي لا يصير مستهلكاً بجنسه، ولو صبه في بئر أو حوض عظيم وشرب منه لا يحنث

لأنه لا يدري لعل البئر تغور بما صب، والحوض إذا عظم ولعل ذلك القدر من الماء يختلط بالكل. ولو حلف لا يشرب هذا الماء العذب فصبه في ماء مالح فغلب عليه وشرب لم يحنث. لأنه قيده بوصف ولم يبق ذلك الوصف بعد الخلط فعلم أنه صار مستهلكاً بالخلط. وكذلك لو حلف لا يشرب لبن ضأن فخلط بلبن معز. ولو حلف لا يشرب لبن هذه الشاة وهي ضأن فخلطها بلبن معز حنث، ولا يعتبر لأن في هذه المسألة اليمين وقعت على لبن الضأن. وإذا حلف شراب نحووم فشرب البكي للأخس أولاد فعلى قياس ما ذكر في الحيل لا يحنث في يمينه، وهو موافق للعرف وإذا حلف لا يشرب نبيذاً فاعلم أن النبيذ اسم لما ألقي فيه التمر أو الزبيب أو السكر أو الفانيد وغلى واشتد ولو شرب العصير الذي صار خمراً أو السكر لا يحنث هكذا ذكر في «الأصل» . وفي «فتاوى الفضلي» : أن يمينه على النيء من ماء العنب قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : المختار للفتوى أن يمينه على المسكر من ماء العنب ماء كان أو مطبوخاً لأن اسم النبيذ في العرف يقع على هذا ويسمى لمن شرب هذا نبيذ حرارة، ولا يسمى بهذا الاسم غيره، وكان شمس الأئمة السرخسي رحمه الله يقول: اسم النبيذ بالفارسية يقع على كل مسكر، وإذا حلف سكبي مخورد فيمينه على كل مسكر لكن من ماء العنب. سبكي خورد وفي «فتاوى النسفي» أن اسم السبكي يقع على كل مسكر سواء كان من ماء العنب أو غيره كاليكني والأجسمه ونحوهما. قال: أو كبه حلالاً كان ذلك أو حراماً حتى لو شرب المثلث الذي يجوز شربه يحنث في يمينه، والصحيح أن اسم السيكي يقع على المسكر من ماء العنب لا غير نيئاً كان أو مطبوخاً، وأما اسم الخمر وفارسيته حى وبعض مشايخ سمرقند رحمهم الله جعل هذا بمنزلة اسم قول السبكي. وبعضهم قالوا: إن نوى المسكر فيمينه على النيء والمطبوخ جميعاً، والصحيح أن هذا على النيء من ماء العنب لا غير وإذا قال: مسكره تخوزم فقد قيل إن يمينه لا تقع على المتخذ من الحبوب لأن شرب ذلك حلال عند أبي حنيفة رحمه الله والسكر منه ليس بسكر حقيقية بمنزلة السكر في البنج ولبن الرمكة وأشباه ذلك ولهذا لو سكر منه لا يحل ولو طلق في السكر منه لا يقع طلاقه هكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله فصل الحد والطلاق. فعلى قياس ما ذكر في عدم وجوب الحد وعن عدم وقوع الطلاق بناء على أن السكر الحاصل من هذه الأشربة ليس بسكر على الحقيقة ينبغي أن لا يحنث في يمينه، وقوله مسكره أي خورم، وبعض المشايخ قالوا: يحنث في يمينه، والصحيح أنه يعتبر فيه العرف إن كان في العرف يسمى الشراب المتخذ في هذه الأشياء مسكرة يحنث في يمينه، ومالا فلا. إذا حلف لا يشرب نبيذ زبيب فشرب نبيذ كشمش يحنث في يمينه لأن الكشمش نوع من الزبيب.

وإذا حلف بالفارسية يران كه كيبتي را نبيذ بني دهم فسقى رجلاً نبيذاً إن كان له نية وقت الحلف فهو على ما نوى إن نوى السقي لا يحنث (384أ1) بالإهداء، وإن نوى الإهداء لا يحنث بالسقي لأنه نوى ما يحتمل لفظة، وإن لم يكن له نية فيمينه على السقي والإهداء جميعاً لأنه يتحقق شرط الحنث في كل واحدة منهما، وهو إعطاء النبيذ. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: وإذا حلف لا يشرب شراباً يسكر منه فصب شراباً سكر منه في شراب لا يسكر منه فشرب منه ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» رحمهم الله أن هذا المحلوف عليه إن كان بحال لو شرب منه الكثير لسكر يحنث، لأنه شراباً مسكراً. وإذا عقد يمينه على شرب ما لا يشرب ويخرج منه ما يشرب فيمينه على شرب ما يخرج. بيانه: فيما ذكر في «المنتقى» : إذا حلف لا يشرب من هذا التمر فشرب من نبيذه يحنث في يمينه، وهذا هو الأصل في مخرج جنس هذه المسائل. وإذا حلف لا يشرب المسكر فصب المسكر في حلقه فإن دخل حلقه بغير فعله لا يحنث، ولو شرب، ذلك يحنث؛ لأن اليمين لم تنحل بعد، ولو دخل حلقه بفعله يحنث في يمينه، لأنه قد شرب هكذا قيل، وعلى قياس ما ذكر الرستغفني في طلاقه: أن الأكل والشرب عبارة عن عمل الشفاه حتى قال: من حلف لا يأكل وفي فمه شيء ما فبلعه لا يحنث، لأنه لم تعمل الشفاه في ذلك ينبغي أن لا يحنث، وفي هذه المسألة وإن دخل المسكر حلقه بفعله لأنه لم يعمل الشفاه فيه، وكذلك إذا حلف لا يشرب وفي فمه رمانة فمضغها وابتلع ماءها لم يحنث، لأنه لم يعمل الشفاه في ذلك فعلى قياس هذه المسألة ينبغي أن لا يحنث في مسألة المسكر، وإن وصل إلى حلقه بفعله. حلف لا يشرب من قدح فلان فصب الحالف الماء من قدح فلان على يده وشرب لم يحنث، لأنه لم يشرب من قدح فلان. حلف لا يشرب من ماء فلان فكان الحالف في مجلس في حانوت المحلوف عليه فاشترى الحالف كوزاً ووضعه في حانوت المحلوف عليه واستسقى أجير المحلوف عليه الماء من النهر بذلك الكوز ووضعه في حانوت المحلوف عليه ليلاً، فلما أصبح الحالف دعا بالكوز وشرب الماء، فإن كان الحالف اشترى الكوز لهذا حتيالاً منه كيلا يحنث أن لا يحنث لأنه حينئذ يصير الأجير عاملاً للحالف، فيصير الحالف شارباً ماء نفسه. ذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: حلف لا يشرب في هذه القرية فشرب في كرومها لا يحنث في «فتاوى الأصل» ، وفي «فتاوى شمس الإسلام» ، لأن القرية اسم للعمران وقد ذكرنا في كتاب الطلاق، مسائل شتى على أن القرية اسم للعمران حتى لو كانت الكروم في العمران يحنث أيضاً. إذا قال: إن شربت الخمر قبل أن أرى الورد الأحمر فكذا، ورأى ورد الأحمر في الشتاء، فقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الطلاق إذا حلف بالفارسية خمر تخو ردويدست

نكيرد الشرب يحنث، لوجود شرط الحنث وهو الأخذ حقيقة، وقد قيل: لا يحنث، لأن الشرط هو الأخذ والشرب فلا يحنث بأحدهما، والصحيح أن يحنث؛ لأن كل واحد منهما يبقى على حدة فصار كل واحد شرطاً على حدة، وقد مر جنس هذا في كتاب الطلاق. وفي أيمان «المنتقى» : رجل عوتب على شرب الخمر فحلف أن لا يشرب ما يخرج في هذا الكرم فشرب من خمره يحنث، لأنه معاني كلام الناس. رجل قال: إن شربت المسكر تصير امرأتي مطلقة يصير عبدي حراً، فشرب المسكر بعد ذلك تطلق امرأتهُ وعتق عبده، ولا يصدق بأنه لم يرد به الطلاق والعتاق، وإنما أراد منع أصحابه عن نفسه. حلف أن لا يشرب المسكر ثلاثة أشهر، فقالت له امرأته: أربعة أشهر، فقال: الزوج أربعة أشهر كثير فقد قيل: تصير المدة أربعة أشهر، وقد قيل: لا تصير المدة أربعة أشهر، وهذا بناء على أن الحالف إذا عطف على يمينه بعد سكوته ما يشدد على نفسه أنه يلتحق بيمينه عند أبي يوسف رحمه الله. وإذا عطف على يمينه بعد سكوته ما يوسع على نفسه لا تلتحق بيمينه ثم اختلف المشايخ رحمهم الله في هذة الصورة، أن في ذكر المدة الثانية تشديد عليه أو توسعة عليه فقيل: تشديد من حيث إنه يقع الطلاق بالشرب في الشهر الرابع وهو الأصح. قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : إذا حلف الرجل أن لا يشرب من الفرات أبداً فشرب منه اغترافاً أو من إناء لا يحنث في يمينه عند أبي حنيفة رحمه الله حتى يكرع في الفرات كرعاً، وعندهما يحنث والوجه في ذلك: أن الشرب من الفرات حقيقة هو الشرب منه كرعاً، فإن الشرب من الشيء حقيقة أن يضع فاه عليه فيشرب منه بغير واسطة وهذه حقيقة مستعملة في العرف مقدرة في الشرع فإنه روي أن رسول صلى الله عليه وسلّممر بفناء قوم، وقال: «هل عندكم ماء فإن في شن وإلا كرعنا في الوادي كرعاً» إلا أن في الغالب يراد به الشرب باليد أو الإناء وأنه مجاز فالحقيقة في هذا الباب مستعمل، والمجاز إنما يستعمل إلا إن المجاز أغلب استعمالاً. والأصل أن الحقيقة إذا كانت مستعملة والمجاز غير مستعمل، أو كان المجاز مستعملاً أيضاً إلا أن الحقيقة أغلب استعمالاً، أو كانا في الاستعمال على السواء فالعبرة للحقيقة، وإن كان المجاز أغلب استعمالاً، فعند أبي حنيفة رحمه الله العبرة للحقيقة، وعندهما العبرة للمجاز فانصرف يمينه إلى الكرع عن أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الكرع حقيقة مستعملة، وعندهما انصرف يمينه إلى الشرب باليد أو بالإناء، وإن كان مجازاً لأنه أغلب استعمالاً (348ب1) ثم على قولهما إذا شرب كرعاً هل يحنث في يمينه؟ لم يذكر هذه المسألة في «الكتاب» ، وقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه بعضهم قالوا: لا يحنث

لأن المجاز صار مراداً ههنا بالإجماع فلا تبقى الحقيقة مراداً لتعذر والجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد. وبعضهم قالوا: يحنث في يمينه، وهذا القائل ظن جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز عندهما، وليس الأمر كما ظن وليس طريق الحنث عندهما في هذه الصورة لو صح من مذهبهما الحنث الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد، وإنما الطريق العمل بعموم المجاز. بيانه: وهو أن المنصوص عليه الشرب من الفرات والشرب من الفرات لا يتصور لأنه اسم المكان يجري فيه الماء فيُجعل مجازاً عن شرب الماء الذي يجري في الفرات لكون الفرات محلاً له، ولقيام المجاورة بينهما حال كونه فيه غالباً، ولشرب الماء الذي يجري في الفرات، ومجاورة الفرات طريقان أحدهما: الكرع، والثاني: الاغتراف باليد أو بالإناء فبأي طريق شرب حنث في يمينه، لعموم معنى المجاز لا للجمع بين الحقيقة والمجاز، وهذا كله إذا لم يكن له نيّة فإن نوى الكرع صحت نيته على قولهما في القضاء، وفيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى حقيقة كلام، وإن نوى الاغتراف صحت نيته على قول أبي حنيفة رحمه الله فيما بينه وبين ربه، ولكن لا يصدقه القاضي لأنه نوى المجاز من كلامه، هذا إذا شرب من الفرات كرعاً أو اغترافاً فأما إذا شرب من نهر آخر يأخذ الماء من الفرات كرعاً أو اغترافاً لا يحنث في يمينه عندهم جميعاً. أما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ فلأن يمينه انصرف إلى الحقيقة وهو الشرب من الفرات كرعاً، وأما عندهما فلأنهما إنما عدلا عن الحقيقة لمكان العرف فإن الشرب من الفرات يراد به في العرف الاغتراف من الفرات، أما لا يراد به الشرب من نهر مُتخذ من الفرات فلا يكون الشرب من نهر آخر داخلاً في اليمين. ولو حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من الفرات كرعاً أو اغترافاً بيد أو آنية يحنث في يمينه عندهم جميعاً، وكذلك لو شرب من نهر آخر يأخذ الماء من الفرات يحنث عندهم جميعاً في ظاهر الرواية. وروي عن أبي يوسف رحمه الله في غير رواية الأصول أنه إذا شرب من نهر آخر يأخذ الماء من الفرات لا يحنث، فإن كان نوى في قوله لا يشرب من الفرات لا أشرب من ماء الفرات هل تصح نيته حتى لو شرب من نهر آخر يأخذ الماء من الفرات يحنث. لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل. وحكي عن الفقيه أبي بكر الأعمش أنه قال: تصح نيته لأنه نوى ما يحتمله لفظه وغيره من المشايخ قالوا: لا تصح نيته لأن الماء غير مذكور نصاً، بهذا الطريق لم تصح نية الثلاث في قوله: أنت طالق وإن صار الطلاق مذكوراً لأنه غير مذكور نصاً. وإذا حلف لا يشرب من ماء الفرات فصب ماء الفرات في واد لم يتخذ من الفرات إن كان ماء الفرات غالباً يحنث، وإن كان ماء الفرات مغلوباً لم يحنث. هكذا ذكر المسألة في «الجامع» من غير ذكر خلاف، وذكرنا في أول هذا النوع أن المحلوف عليه إذا اختلط بجنسه فعلى قول أبي يوسف رحمه الله هو كالجنس يعتبر الغالب في ذلك، وقد

قال محمد رحمه الله: يحنث وإن كان مغلوباً فيحمل ما ذكرنا في «الجامع» على أنه قول أبي يوسف رحمه الله، أو على رجوع محمد إلى قول أبي يوسف رحمهما الله. ولو حلف لا يشرب من ماء فرات أو حلف لا يشرب ماءً فراتاً فأي ماء عذب شرب حنث في يمينه، لأنه جعل الماء صفة للفرات ههنا حيث ذكر الفرات منكراً كما ذكر الماء منكراً والفرات إذا صار صفة للماء يراد به العذب، قال الله تعالى {وأسقيناكم ماء فراتاً} (المرسلات: 27) أي: ماءً عذباً. فصار كأنه نص، قال: لا أشرب ماء عذباً بخلاف قوله لا أشرب من ماء الفرات؛ لأن هناك ما جعل الفرات صفة للماء، ألا ترى أنه ذكر الفرات مورياً بالكلام، وذكر الماء منكراً بل أضاف الماء إلى نهر مسمى بالفرات، فإن الفرات إذا ذكر مع الألف واللام يراد به نهر الفرات فقد عقد يمينه على شرب ماء نهر الفرات فلا يحنث بشرب ماء نهر آخر. ولو حلف لا يشرب من هذا الكوز أبداً، وصب الماء الذي في الكوز في كوز آخر وشرب منه لا يحنث في يمينه بالإجماع. ولو قال: لا أشرب من هذا الكوز وصب الماء الذي في الكوز في كوز آخر فشرب منه يحنث في يمينه، لأنه عقد يمينه على الماء الذي في الكوز وإن صب في كوز آخر لا يخرج من أن يكون ذلك الماء بخلاف قوله لا أشرب في هذا الكوز؛ لأن هناك عقد يمينه على الشرب من الكوز ولم يشرب من ذلك الكوز. وفي «القدوري» : ولو حلف لا يشرب من ماء دجلة لم يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله حتى يكرع منه كرعاً بمنزلة قوله: لا أشرب من الدجلة. لأنه نصّ على الشرب من النهر، لأن قوله من دجلة، قوله لا أشرب. ولو حلف لا يشرب من هذا الجُب وفي هذا البئر. ذكر في القدوري مسألة الجب وذكر أنه لا يحنث عند أبي حنيفة رحمه الله حتى يكرع منه كرعاً، أو ذكر مسألة البئر وذكر أنه إذا استسقى وشرب يحنث. وحكي عن أبي سهل.... رحمه الله أنه كان يقول: إن كان الجب والبئر ملآناً يمكن الكرع منه فيمينه على الكرع، وعند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما على الاغتراف، وفي الكرع اختلاف المشايخ رحمهم الله على قولهما على حسب ما ذكرنا في الفرات. قال: وإن لم يكن ملآناً فيمينه على الاغتراف، أما عندهما فظاهر، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله فلأن العمل بالحقيقة غير ممكن ههنا بوجه من الوجوه فكانت الحقيقة مهجورة فينصرف يمينه إلى المجاز، فإنه لو نزل في هذه الصورة وكرع في أسفل البئر أو من أسفل الجب، اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه لا يحنث؛ لأن الحقيقة إنما كانت مهجورة وقت اليمين فانصرف يمينه إلى المجاز (385أ1) وقت وجودها، فلا ينصرف إلى الحقيقة بعد ذلك، لو حلف من ماء المطر.... الرحلة من ماء المطر فشرب لا يحنث، وإذا حلف لا يشرب من ماء وادي سال المطر لم يكن فيه ماء قبل ذلك، وشرب من ماء المطر.... يحنث.

وإذا حلف لا يشرب بغير إذن فلان فأعطاه فلان بيده ناول، ولم يأذن له باللسان وشرب ينبغي أن يحنث، وهذا ليس بإذن بل هو دليل الرضا. نوع آخر في الذوق إذا حلف الرجل لا يذوق طعاماً فأكل شيئاً من الطعام يحنث، وكذلك إذا حلف لا يذوق شراباً، فشرب شيئاً من ذلك يحنث، ولو حلف لا يأكل طعام أو حلف يشرب شراباً فذاق شيئاً من ذلك لا يحنث، والفرق أن في الفصل الأول عقد يمينه على الذوق، وفي الأكل والشرب ذزق وزيادة، وفي الفصل الثاني: عقد يمينه على الأكل والشرب، ولا يتحقق بالذوق بيانه: أن الأكل والشرب لا يتحقق إلا بالإيصال إلى الجوف، والذوق يتحقق بدون الإيصال إلى الجوف، لأن الذوق إدخال الشيء في فمه لاستبانة طعمه، والإدخال في الجوف لازم فيه. وإذا حلف لا يذوق طعاماً وعنى بالذوق الطعام، وحلف لا يذوق شراباً وعنى بالذوق الشرب ذكر في «الأصل» أنه لا يحنث حتى يأكل أو يشرب، وذكر «القدوري» أنه تصح نيته فيما بينه وبين ربه ولا تصح نيته في القضاء؛ لأنه نوى خلاف الحقيقة. وروى هشام عن محمد رحمه الله: أن من حلف لا يذوق.... طعاماً ولا شراباً فذاق منه شيئاً أدخله فمه ولم يصل إلى جوفه حنث في يمينه على الذوق حقيقة لا أن.... كلام. وتفسير ذلك: أن يقول له غيره تعال تغدى عندي اليوم فحلف لا يذوق في منزله طعاماً ولا شراباً فهذا على الأكل والشرب. وعن محمد فيمن حلف لا يذوق الماء فمضمض للصلاة لا يحنث، وهذا لما ذكرنا أن الذوق إدخال الشيء في فيه لاستبانة طعمه، والمضمضة إدخال الماء في الماء للتطهير لا لاستبانة طعمه. وإذا قال: لا أذوق طعاماً ولا شراباً فذاق أحدهما حنث، وكذلك إذا قال: لا آكل كذا وكذا فأكل أحدهما، وكذلك إذا قال: لا أشرب كذا وكذا فشرب أحدهما. ولو قال: لا أذوق طعاماً ولا شراباً فذاق أحدهما لم يحنث، وكان أبو القاسم الصفار يقول: يحنث إذا ذاق أحدهما، وكان يقول: يعتبر العرف في هذا، وفي العرف يراد به نفي كل واحد منهما، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله بنية الحالف، وإن لم تكن له نية فالجواب كما في الكتاب وعد من جنس هذا فيما تقدم. نوع آخر في الغداء والعشاء والسحور إذا حلف لا يتغدى فاعلم بأن التغدي عبارة عن الأكل الذي يقصد به إذا الشبع،

والتعشي كذلك، والمعتبر في ذلك العادة في كل بلد، حتى أن المصري في العادة إذا حلف على ترك الغداء فشرب اللبن لا يحنث، والبدوي بخلافه؛ لأنه غداء في البادية. قال في «القدوري» : ولو أكل غير الخبز من أرز وتمر حتى سبع لم يحنث، وقال أبو يوسف رحمه الله ومحمد رحمه الله: الغداء في مثل الكوفة والبصرة على الخبز، وكذلك والهرشة والفالوذج تعتبر في ذلك عادة الحالف. والغداء من طلوع الفجر إلى الزوال، والعشاء من الزوال إلى نصف الليل، والسحور ما بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر. فإذا حلف لا يتغدى فأكل بعد الزوال لا يحنث، وإذا حلف لا يتعشى فأكل بعد نصف الليل لا يحنث؛ لأنه تسحر وما تعشى، ومقدار الغداء والعشاء أن يأكل أكثر من نصف الشبع، فإذا حلف أنه لم يتغدَ، قد كان أكل شيئاً يسيراً أقل من نصف الشبع لا يحنث. وإذا حلف ليغدينه بألف درهم فاشترى رغيفاً بأف درهم وغداه به فقد برّ في يمينه، وهو نظير ما لو حلف أن يعتق عبداً بألف درهماً فأعتق عبداً قليل القيمة وقد اشتراه بألف درهم فقد برّ في يمينه. وإذا حلف لا يذوق من هذا التمر فشرب من نبيذه لا يحنث. لا التمس عقدت على ما.... فيه الذوق تعينه فلا ينصرف إلى ما يتخذ منه، وقد ذكرنا نظير هذا في الأكل والشرب. نوع آخر في الجماع وما يتصل به في المضاجعة وغيرها إذا حلف الرجل لا يقرب امرأته فاستلقى على قفاه، فجاءت المرأة وفضت ... منه لا يحنث في يمينه هكذا ذكر في أيمان «النوازل» في حدود «النوازل» أنه يحنث في يمينه، قال الصدر الشهيد رحمه الله: والفتوى على الحنث، ولو كان نائماً فلا يحنث. وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف رحمه الله: إذا حلف الرجل لا يغشى هذه المرأة وهو يغشاها، فإن أقام على حاله فلا يحنث، وإن أخرج الميل ثم أدخله يحنث. وفي «النوازل» إذا قال الرجل: امرأته طالق إن لم يكن جامع فلانة ألف مرة فهذا على كثرة العدد لا على كمال الألف؛ لأن الألف يذكر ويراد به الكثرة ولا تقدير فيه، قالوا أو استغفر كثيراً، قال تعالى: {أن تستغفر لهم مرة} وأراد به الكثرة. وفي كتاب «الحيل» : المقيم إن حلف على امرأته في شهر رمضان أن يجامعها في يومه ذلك، فالحيلة في ذلك أن يخرج الزوج مع امرأته من البلدة يقصدان مسيرة ثلاثة أيام، فإذا خرجا جامعها، ثم يرجعان ولا يضره الرجوع، وإذا كان حين خرج قصد مسيرة سفر.

وفي آخر «القدوري» : إذا حلف لا يرتكب حراماً فهذا على الروايات كان الحالف خصياً أو محبوباً فهو على القبلة الحرام وما أشبهها دخل ... أمر امرأته بالحرام فقال الزوج: أكثر ما (385ب1) مكسال حرام كنم فأنت طالق فلها أن تُمكِّن نفسها منه ما لم تعاني نفس الجماع بتداخل الفرجين، ويعرف أنها ليست بزوجة له، ولا مملوكة له بملك اليمين أو يشهد عندهما أربعة من العدول على ذلك؛ لأن في العرف يراد بهذا الزنا، والزنا لا يثبت إلا بأحد هذين الأمرين وإن اتهمته بأن وقع عندهما ريبة حلفته عند الحاكم فإن حلف وسعها المقام معه، ولو أقرّ بالزنا مرة يلزمه الحنث ولا يسعها المقام معه. قال لا مرأته: أكربا لسي خرام كنى بر اطلاق ثم إن هذا الرجل طلقها واحدة بائنة وجامعها في عدتها فعلى قياس قول أبي حنيفة رحمه الله لا يقع بناء على أن عند أبي يوسف رحمه الله العبرة في باب الأيمان للغرض والغرض من هذه اليمين فعلها مع غيره، والحامل عليه هذا وهما يعتبران عموم اللفظ قيل: وينبغي أن لا يقع الطلاق في هذه الصورة بالاتفاق؛ لأن الطلاق معلّق بالحرام، والحرام إذا ذكر مطلقاً ينصرف إلى الزنا، ووطء الزوج في العدة ليس بزنا. وفي «عيون المسائل» : امرأة اتهمت زوجها بالغلمان فحلفته أن لا يأتي حراماً فقبل غلاماً له أو لمسه بشهوة لا يحنث، ولو جامعه فيما دون الفرج يحنث وإن لم ينزل لأنه يراد بالحرام ههنا الجماع عرفاً في الفرج، وقيل: ينبغي أن لا يحنث ههنا، لأن مثل هذه الأفعال مع غلامه مباح عند مالك فتتمكن الشبهة ومع الشبهة لا يتمحض حراماً. وفي «فتاوى الفضلي» : إذا قال لامرأته: أكر حرام كرده وتراسه طلاق وقد كانت قبلّت رجلاً غير محرم أو جامعها فيما دون الفرج لا تطلق امرأته، لأنه يراد بهذا الجماع في الفرج عادة، وهذه الرواية بخلاف رواية «العيون» . وإذا قال لامرأته: إن جامعتك فكذا فيمينه على الجماع في الفرج، حتى لو جامعها فيما دون الفرج لا يحنث في يمينه، هكذا ذكر في أيمان «الجامع» ، وهذا لأنه غلب استعمال الجماع المضاف إلى المرأة في الجماع في الفرج فصار الجماع المضاف إلى المرأة بحكم غلبة الاستعمال صريحاً في الجماع في الفرج، فمطلقه ينصرف إليه. وإن قال: عنيت الجماع فيما دون الفرج صدقه القاضي في إدخال الجماع فيما دون الفرج بحنث اليمين ولا يصدقه في إخراج (الجماع) في الفرج عن اليمين، وكان ينبغي أن يصدقه القاضي في خروج الجماع في الفرج عن اليمين، لأنه نوى حقيقة كلامه لأن الجماع مأخوذ من الجمع، وقد وجد معنى الجمع في الجماع فيما دون الفرج، ومن نوى حقيقة كلامه يصدق ديانة وقضاءً، وإن كان ما نوى خلاف الظاهر. ألا ترى أن من قال لعبده: أنت حرّ يوم يقدم فلان وعنى ببياض النهار صدق قضاءً، وطريقه ما قلنا.

والجواب وهو الأصل في جنس هذه المسائل: أن الكلام إذا كان له حقيقة ومجاز، وهو ينصرف إلى المجاز عند الاطلاق بحكم غلبة الاستعمال فنوى المتكلم حقيقته فالقاضي يصدقه كما في مسألة القدوم. فإن اليوم في حقيقة اللغة لبياض النهار وللوقت مجاز يعرف الاستعمال متى ذكر مقروناً بفعل لا يتقيد باليوم فإذا نوى بياض النهار فقد نوى حقيقة كلامه فيصدقه القاضي. فأما إذا كان الكلام حقيقتين وهو ينصرف إلى أحديهما بحكم غلبة الاستعمال، فنوى المتكلم الحقيقة الأخرى فالقاضي لا يصدقه؛ لأن الحقيقة التي انصرف إليها الكلام عند الإطلاق ترجحت على الأخرى بحكم غلبة الاستعمال يسقط اعتبار الأخرى وصارت الأخرى، كالمجاز من حيث الاعتبار، ولو كان مجازاً حقيقة لا يصدقه القاضي في دعواه فكذا إذا صار مجازاً من حيث الاعتبار. وفي آخر أيمان «القدوري» : إذا حلف لا يطأ امرأة وطئاً حراماً فوطىء امرأته وهي حائض، أو كان ظاهر منها لم يحنث إلا أن ينوي ذلك؛ لأن الوطىء في نفسه ليس بحرام، وإنما ثبتت الحرمة بعارض وفي أيمان «المنتقى» رواية مجهولة إذا حلف لا يرتكب من فلانة محرماً فجامعها أو قبلها بشهوة أو غير شهوة إنه يحنث في يمينه، وإن لمسها إن كان بشهوة يحنث، وإن كان بغير شهوة لا يحنث. إذا قال لها: إن حللت الليلة بالحرام..... امرأتي فأنت طالق وقد كان أخذها رجل قبل ذلك ووطئها على كره منها. قال: إن كان الإكراه بحال لا تقدر على الامتناع منه تطلق لأنه وجد منها الفعل، هكذا روي في «النوازل» . وفيه أيضاً: إذا حلف المرأة بهذه العبارة بالله كه حرام ني كرد ستم وعيب إنها لم تحرم الزنا إنما الله هو الذي حرم الزنا، وقد كانت فعلت ذلك لا يحنث لأنه نوى ما يحتمله. وإن كان الحالف رجلاً وحلفت بالله فكذلك الجواب، وإن حلف بالطلاق والعتاق صدق ديانة لا قضاء. وفي «فتاوى الفضلي» رحمه الله: إذا قال لها: إن فعلت حراماً فأنت طالق، ثم إنها أجرت كلمة الكفر بلسانها ولم يعلما بوقوع الفرقة حتى أقاما على ذلك لم يحنث الزوج لأن يمينه انصرف إلى الزنا وهما أقاما على تأويل النكاح فلم يكن زنا.r وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا قال: إن اغتسلتُ من الحرام فامرأته طالق فعانق أجنبية وأنزل لا يحنث، لأن هذا يقع على الجماع. وفي «العيون» : إذا قال لامرأته: إن اغتسلت منك من جنابة فأنت طالق، فجامعها وقع الطلاق، وإن لم يغتسل لأن هذا اللفظ صار كناية عن الجماع حكاية. قال: إن جامعتك فأنت طالق، وفي موضع آخر إذا قال لها: إن اغتسلت منك إلى شهر فكذا جامعها في المفازة فحينئذ يمينه يقع على الجماع. وفي «النوازل» : سكران دعا (امرأته) إلى فراشه فقال: السكران إن امتثلت أمري

وساعدتني وإلا فكانت طالق ثلاثاً فإن ساعدته بعد أن دعاها في المستقبل لم يحنث، وإن لم تساعده بعد أن دعاها في المستقبل حنث، لأن قوله إن امتثلت (386أ1) أمري يمين واليمين يقتضي شرطاً في المستقبل، فكان شرط وقوع الطلاق ترك الامتثال لأمر يوجد منه في المستقبل. قال لامرأته بالفارسية: أكر من بامكسال ديب حرار كنم ينو فكذا لم يجامعها فيما دون الفرج لا يحنث لأنه يراد بهذا الجماع عادة، وقد مرّت هذه المسألة في كتاب الطلاق في فصل الإيلاء. وفي «فتاوى الفضلي» رحمه الله: إذا حلف لا يفتح السراويل على امرأته، فإن أراد الجماع فيمينه على الجماع، وإن لم يرد الجماع، إن فتح السراويل لأجل البول فجامعها لا يحنث، لأنه لم يفتح السراويل عليها لأن فتح السراويل عليها أن يفتح ليجامعها. إذا قال لامرأته وهي في بيت أمها: إن لم تجيئي بيتي الليلة حتى أجامعك فكذا، فجاءت بيته ولم يجامعها، قال أبو يوسف رحمه الله: يحنث، وقال محمد رحمه الله، لا يحنث: وقد مرّ جنس هذه المسائل في كتاب الطلاق. حلف أن لا يحل التكة في....... فجامع من غير حل التكة ينظر إن نوى غير حل التكة لا يحنث، ويصدق ديانة وقضاءً لأنه نوى حقيقة كلامه. وإن نوى الجماع يحنث...... وفي «فتاوى أهل سمرقند» رحمهم الله: دخل إليهم بصبي فقال بالفارسية، أكر من با أربا حفاضي فامرأته كذا وقد كان قبله طلقت امرأته. حلف أن لا يفعل حراماً فتزوج امرأة نكاحاً فاسداً ودخل بها لا يحنث. لأنه ليس بحرام مطلق. وفي «العيون» : إذا حلف بطلاق امرأته أن لا ينظر إلى حرام فنظر إلى وجه امرأة أجنبية لا يحنث، لأن النظر إلى وجه الأجنبية ليس بحرام. ولو قال: إن أتيت حراماً فكذا، فأتى بهيمة فلا حنث عليه، إلا أن يكون ثمة دليل يدل على إرادته ذلك. إذا حلف لا يقبل فلاناً فقبل يدهُ أو رجلهُ، فقد اختلف المشايخ رحمهم الله فيه منهم من قال: لا يحنث، وهو على الوجه خاصة، ومنهم من فصّل بين الملتحي وغير الملتحي فقال: إن عقد يمينه على ملتحي يحنث، وإن عقد يمينه على غير الملتحي لا يحنث، ومنهم من قال: إن عقد يمينه بالفارسية لا يحنث، إلا بالتقبيل على الوجه؛ لأنه لا يتفاهم منه الناس بالفارسية إلا التقبيل على الوجه، وإن عقد يمينه على العربية فهو على التفصيل بين الملتحي وغير الملتحي، والأول أظهر وأصح؛ لأن من قبّل يد إنسان لا يقال قبلَّه. قال لامرأته: إن قبلت أحداً فأنت طالق فقبلته تطلق. رجل حلف رجلاً أن يطعه في كل ما يأمره وينهاه نهى ذلك عن جماع امرأته فجامع لم يحنث، إذا لم يكن هناك سبب يدل عليه؛ لأن الجماع لا يراد هذا اليمين عادةً.

رجل قال لامرأته: أكر من انحبرار نفر أرتواكس بكارا مدة باشد فأنت طالق ثلاثاً فهذا على الوطء حلالاً كان أو حراماً حتى لو كان زنى بامرأة أو وطئها بنكاح طلقت امرأته. رجل قال لآخر أكر بخايد ان توايد دخنانت كنم فكذا ثم إن ذلك الرجل طلقت امرأته، ثم إن الحالف. فارقها حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: إن فعل ذلك قبل انقضاء العدّة يحنث، وإن فعل ذلك بعد انقضاء العدة لا يحنث، سئل شمس الإسلام هذا رحمه الله عن رجل دعا امرأته إلى الفراش فأبت فقال الزوج إن نمت معك إلى الخريف فأنت طالق فنام معها قبل الخريف، قال: إن نام معها وجامعها طلقت، وإن لم يجامعها لا تطلق، وهذا بناء على أن يمينه وقعت على الجماع عرفاً فإن عاد فقد ذكرنا في مسائل الإيلاء: أنّ من قال لامرأته: أكرنا بوا حسم فأنت طالق ثلاثاً ولم ينو نفس اليوم أنه مولى حلف أنه لم يلط وقد كان لاط في صغيرة يحنث في يمينه قيل إنك تفعل بامرأة فلان كذا وكذا وكانت امرأة فلان على السطح وامرأة أخرى على سطح آخر والسطوح متصلة بعضها ببعض، فقال الرجل: إن فعلت بتلك المرأة كذا وكذا فامرأته طالق وأشار بأصبعه إلى المرأة الأخرى، وكان ذلك في ليلة مظلمة فلم ير أصحابه ذلك وقد كان الحالف فعل بامرأة فلان ذلك الفعل طلقت امرأته قضاءً؛ لأن كلامه انصرف إلى تلك المرأة ظاهراً لخروجه عقيب ذكر تلك المرأة. وبعض مسائل هذا النوع مذكورة في كتاب الطلاق، وسيأتي شيء منه في المتفرقات. نوع آخر في اللبس وفيه مسائل الغزل والنسج والكسوة والخياطة والقطع: إذا حلف الرجل لا يلبس ثوباً أو حلف لا يشتري ثوباً فيمينه على كل ملبوس يستر العورة وتجوز الصلاة فيه، وهذا لأن الثوب لغة اسم لما يلبس، إلا أنه إذا أطلق هذا الاسم يراد به ملبوس يستر العورة وتجوز الصلاة معه، وكل ملبوس هو بهذه الصفة كان داخلاً تحت اليمين حتى لو اشترى منسجاً أو بساطاً أو طنفسة ولبسها لا يحنث في يمينه لأن البساط والمنسج يُفرش ولا يُلبس فلا يدخل تحت اسم الثوب. ولو اشترى..... أو طيلسان ولبسهما يحنث في يمينه لأنه مما يلبس فيدخل تحت اسم الثوب هكذا ذكر المسألة في «الأصل» . وذكر في «المنتقى» : إذا حلف لا يشتري ثوباً أو حلف لا يلبس ثوباً فاشترى منسجاً أو طنفسة أو وسادة ولبسها يحنث في المشترى ولا يحنث في اللبس ورواية «المنتقى» في فصل الشراء تخالف رواية «الأصل» . ولو اشترى فرواً أو لبس فرواً يحنث في يمينه فاسم الثوب ينطلق على الفرو ذكره في «الأصل» .

وفي «السّير الكبير» في باب الاستثناء في النقل ولو اشترى قلنسوة أو لبس قلنسوة لا يحنث في يمينه لأن اسم الثوب لا ينطلق عليه، ولو اشترى ثوباً..... يحنث في يمينه هكذا ذكر في «الأصل» . قالوا: إن أراد بهذا أن يكون يستر العورة أو لا تستر وتجوز الصلاة، وكذا إذا اشترى خرقة ولا تكون نصف ثوب لا يحنث، لأنه لا يستر العورة وإن اشترى أكثر من نصف الثوب يحنث لأن اسم الثوب ينطلق على أكثر من نصف الثوب ولأنه يستر به العورة. وفي «القدوري» : إذا حلف الرجل لا يلبس ثوباً من غزل فلانة فقطع بعضه وإن بلغ ما قطع إزاراً أو رداءً أو سراويلاً حنث في يمينه بلبسه، وإن كان بخلافه فلا حنث والمعنى (386ب1) ما ذكرنا. قال ثمة: وكذلك المرأة إذا حلفت أن لا تلبس ثوباً فلبست خماراً أو مقنعة لم تحنث إذا لم يبلغ مقدار الإزار وإن بلغ حنثت وإن لم يستر به العورة. وعلى هذا: إذا حلف لا يشتري لامرأته ثوباً أو حلف بالفارسية دن حاقة تجر فاشترى لها خماراً أو مقنعة لا يحنث في يمينه. وإذا حلف لا يلبس ثوباً فلبس لفافة لا يحنث في يمينه لأن اللفافة لا تسمى ثوباً، وعلى قياس الخمار ينبغي أن يحنث إذا كانت اللفافة تباع مقدار الإزار. وإن لبس عمامة روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله أنه لا يحنث، ولا يجري في الكفارة، وروى بشر عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يحنث إلا أن تكون عمامة إن فلتها كانت إزاراً أو رداءً أو يقطع من مثلها سراويلاً فهذا يحنث ويجري في الكفارة، وهكذا ذكر القدوري في «كتابه» . وروى هشام عن أبي يوسف رحمه الله الحنث في العمامة من غير فصل، ويجوز أن تكون رواية هشام محمولة على عمامة تبلغ إزاراً ورداءً أو رواية ابن سماعة عن محمد رحمه الله محمولة على عمامة لا تبلغ إزاراً ورداءً. وفي «السير الكبير» في باب الاستثناء في النقل أن اسم الثوب لا ينطلق على العمامة والقلنسوة والخف، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» أن هذا الجواب في العمائم في عمائم العرب لأنها متغيرة لا يجيء منها ثوب كامل، فأما في عمامتنا فبخلافه. إذا حلف لا يلبس قميصاً فاتزر بقميص أو ارتدى بقميص لا يحنث في يمينه. الأصل في جنس هذه المسائل أن من حلف على لبس ثوب لا بعينه لا يحنث ما لم يوجد منه اللبس المعتاد فيه، وإن حلف على لبس ثوب بعينه فعلى أي حال لبسهُ يحنث في يمينه، وهذا بناءً على أصل معروف يأتي في مسائل بعد هذا أن الوصف في غير المعين معتبر وفي المعين غير معتبر ولبس القميص بصفة مخصوصة متعارف والمتعارف كالمنصوص عليه، فإذا لم يعين قميصاً انصرف يمينه إلى اللبس المعتاد اعتباراً للصفة في غير المعين، فما لم يوجد اللبس المعتاد لا يحنث في يمينه، وإذا عين القميص انصرف يمينه إلى اللبس المطلق إلغاء للوصف في المعين فعلى أي حال لبسه يحنث في يمينه. وعلى هذا إذا حلف لا يلبس هذه العمامة فألقاها على عاتقه يحنث، ولو كانت

العمامة بغير عينها لا يحنث ذكر مسألة العمامة والقميص في «الجامع» . وفي «الأصل» : إذا حلف لا يلبس ثوباً فوضعه على عاتقه يريد حمله لا يحنث لأنه حامل وليس بلابس، وهذه المسألة تخالف رواية «الجامع» في مسألة القميص. وإذا حلف لا يلبس خباء أو هذا الخباء فوضعه على كتفه ولم يدخل يديه فيه: ففي الوجه الأول اختلف المشايخ بعضهم قالوا: لا يحنث على قياس ما ذكر في المناسك أن المحرم إذا فعل هكذا لا كفارة عليه. ووجه الاستدلال به: أن محمد رحمه الله لم يجعلهُ لابساً إذ لو جعله لابساً لأوجب عليه الكفارة وبعضهم قالوا: يحنث في يمينه، لأن الخباء هكذا يلبس أيضاً. وفي الوجة الثاني: يحنث بلا خلاف لأن اللبس المعتاد في المشار إليه غير معتبر على ما مرَّ. وإذا حلف لا يلبس خباء أو حلف لا يلبس هذا الخباء فوضعه على اللحاف حالة النوم لا يحنث هكذا حكى ظهير الدين رحمه الله فتوى عمه شمس الإسلام رحمه الله وروايته في المعين يخالف الرواية. وإذا حلف لا يلبس ثوباً جديداً فالمروي عن محمد رحمه الله أن الجديد مالم ينكسر حتى يصير يشبه الخلق. وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : أن الثوب مثل العسل يحب أن يكون جديداً وبعده لا اعتبار للعرف. وإذا حلف لا يلبس قميصاً يلبس قميصاً ليس له كمان ولم تكن له نية حين حلف فإنه يحنث في يمينه، وكان يجب أن لا يحنث لأن الكم صفة من أوصاف القميص والصفة في الفائت معتبرة حتى أن من حلف لا يدخل داراً فدخل داراً مهدومة لا يحنث في يمينه؛ لأن البناء صفة من أوصاف الدار. ووجه الفرق بينهما: أن اسم القميص يثبت للثوب وإن لم يكن له كمان الأصل بأن يقال: قميص ذو كمين، وقميص لا كم له، ويقال: اشترى للقميص كماً يسميه قميصاً وإن لم يكن له كم من الأصل فإذا لم يكن وجود الكم في القميص شرطاً لثبوت هذا الاسم في الابتداء فزواله لا يوجب زوال الاسم بوجه ما كان الاسم بدون الكم قائماً من كل وجه فيحنث في يمينه بخلاف الدار، وذلك لأن اسم الدار للأرض لا يثبت بدون البناء فإن الأرض الذي لم يكن عليه بناء الدار في الأصل لا يسمى داراً وإنما يسمى أرضاً، فإذا كان وجود البناء شرطاً لثبوت اسم الدار فزواله يوجب نقصاناً في الاسم فلا يدخل فلا يجب بحسب مطلق الاسم. فإذا حلف لا يلبس من غزل فلانة ولا نية له فلبس ثوباً نسج من غزل فلانة يحنث في يمينه؛ لأنه عقد يمينه باللبس على عين غير ملبوس فينصرف يمينه إلى ما يصنع منه مجازاً، فإن كان نوى عين الغزل لا يحنث بلبس الثوب لأنه نوى حقيقة كلامه فصحت نيته وصارت الحقيقة مراداً فلا يبقى المجاز مراداً ولبس غير الغزل لا يحنث إلا أن يعينه لأن اليمين انصرف إلى غزل منسوج إذا لم يكن له نية. وعلى هذا إذا حلف لا يلبس قطناً ولا نيّة له فلبس ثوب قطن يحنث في يمينه، ولو

لبس قباء ليس بقطن وحشوه قطن لم يحنث إلا أن ينويه لأن اليمين انصرف إلى قطن منسوج (387ب1) وما في الكتاب ليس بمنسوج، فلا يحنث به؛ إلا أن ينوي عين القطن، فحينئذ يحنث كما في مسألة الغزل. ولو حلف لا يلبس (ثوباً من) غزل فلانة، فلبس ثوباً من غزل فلانة وغزل غيرها حيث لا يحنث في يمينه. والفرق: أن في قوله: لا ألبس غزل فلانة شرط الحنث أن يلبس من غزلها، وقد لبس من غزلها؛ لأن اسم الغزل ينطلق على القليل، كما ينطلق على الكثير، وفي قوله: لا ألبس ثوباً من غزل فلانة، شرط الحنث لبس ثوب من غزل فلانة، ولم يلبس ثوباً من غزل فلانة إنما يلبس ثوباً بعضه من غزل فلانة، فلهذا لم يحنث. وفي «المنتقى» : بالغ في بيان هاتين المسألتين، فروي عن محمد رحمه الله: أنه إذا حلف لا يلبس من غزل فلانة، فخلط غزلها بغزل غيرها في ثوب ولبسه قال: يحنث وإن لم يكن فيه من غزلها جزء من مائة جزء. ولو قال: لا ألبس ثوباً من غزل فلانة لم يحنث، وإن كان فيه من غزل غيرها. وعن أبي يوسف رحمه الله: إذا حلف لا يلبس ثوباً من غزل فلانة، فلبس ثوباً من غزل فلانة فيه رقعة من غزل غيرها حنث، وكذلك لو لبس قميصاً من غزل فلانة فيه لبة من غزل غيرها أو أزراره من غزل غيرها، وكذلك لو لبس ثوباً من غزلها، وعليه علم من غزل غيرها، ولم يُنسج ثوب من غزلها وغزل غيرها إلا أن غزل غيرها في آخر الثوب وفي.... فقطع غزلها من ذلك، ولبس القطعة التي من غزل المحلوف عليها فإن كانت تباع إزاراً أورداء حنث، وإن كانت لا تباع ذلك لا يحنث وإن قطعه سراويلاً ولبسه يحنث، وإن لبس ذلك الثوب قبل أن يقطع منه ما نسج من غزل غيرها، فإنه لا يحنث، قال: ولا يشبه هذا العلم، وإذا حلف لا يلبس من غزل فلانة، فلبس ثوباً خيطه من غزل فلانة، لا يحنث في يمينه، وكذلك لو لبس ثوباً فيه مسلكة من غزل فلانة، لا يحنث في يمينه. ولو لبس تكّة من غزلها، لم يحنث عند محمد رحمه الله، وعند أبي يوسف رحمه الله يحنث، قال الصدر الشهيد رحمه الله: وبقول محمد رحمه الله يفتى لأنه لا يُعد لابساً بلبس التكة، ورأيت في «المنتقى» رواية إبراهيم عن محمد رحمه الله: أنه يحنث في يمينه في التكة، وفي الزود والعروة ويقال بالفارسية ازكه وسا مكحه، لا يحنث، وكذلك في الزيق واللبة ويقال بالفارسية حشك وره كدينار، لا يحنث، هكذا في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله. وذكر القدوري رحمه الله فصل اللبة، كما ذكره الفقيه أبو الليث رحمه الله، ورواه عن محمد رحمه الله، وذكر في «المنتقى» رواية مجهولة أن في اللبة يحنث، وفي الزيق لا

يحنث، وروي عن محمد رحمه الله..... ويقال بالفارسية نشنان أنه، إذا كان من غزلها يحنث في يمينه، والصدر الشهيد رحمه في «واقعاته» اختار الحنث في الزيق واللبة لأنه لابس لهما، قاسه على مسألة الرقعة. وذكر شيخ الإسلام رحمهم الله في شرح أيمان «الأصل» أن في، الدخريص واللبة يحنث في يمينه لأن في الدخريص يصير ملبوساً بلبس القميص، واللبة كذلك فأما الزر والعروة لا يصير ملبوساً بلبس القميص، فلهذا افترقا، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا رقع في ثوبه من غزل فلانة شبراً في شبر حنث. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا أخذ الحالف من غزل فلانة خرقة، قدر شبرين، ووضع على عورته لا يحنث؛ لأنه بهذا الاسم لا يسمى لابساً، ولو لبس قلنسوة يحنث، لأنه يُسَّمى لابساً لهما. إذا حلف لا يلبس من غزل فلانة، فلبس ثوباً من غزلها فباع الذيل إلى السرة، ولم يدخل يديه في كُميه، ورجلاً تحت اللحاف حنث في يمينه. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: وإذا حلف الرجل لا يلبس خزاً، أو حلف لا يلبس ثوباً من خز، فلبس ثوباًمن هذا الذي يسميه الناس خزاً يريد به ثوباً لحمتة خز سداه ليس بخز، أو على العكس، يحنث في يمينه، وهذا الجواب ظاهر في قوله لا ألبس خزاً مُشكل في قوله لا ألبس ثوباً من خز، لأن شرط الحنث في هذه الصورة، لبس ثوب من خز، وإذا لم يكن خزاً خالصاً، فإنما لبس ثوباً بعضه من خز، ألا ترى لو حلف لا يلبس ثوباً من كتّان، فلبس ثوباً من قطن وكتان، لا يحنث في يمينه، وإنما لا يحنث لما قلنا، والوجه في ذلك: أن الحنث في مسألة الخز لمكان العرف، فإن هذا الثوب يسمى خزّاً في العرف، وإن كان بعضه غير خز، ولا عُرف في مسألة الكتّان بأن الثوب الذي بعضه من قطن في العرف لا يسمى كتاناً، فالفارق بين الفصلين. وإذا حلف لا يلبس حريراً، فلبس قميصاً فالعبرة للحمة دون السدى. وإذا حلف لا يلبس كتاناً، فلبس ثوباً من قطن وكتان يحنث، لأن شرط الحنث لبس الكتان، وقد وجد ويستوي أن يكون الكتان سدى أو لحمة، فرق بين هذا وبينما إذا حلف لا يلبس إبريسماً، فلبس ثوباً لحمته خز، وسداه إبريسم، فإنه لا يحنث في يمينه. والفرق: أن الكتان لا يصير مستهلكاً بالقطن، ولا القطن بالكتان، فإن كان أحدهما سدى والآخر لحمة، لأنه لا يصير السدى عديم الرؤية، إذا كان السدى كتاناً واللحمة قطناً، لأنهما في الدقة سواء، فأما الإبريسم يصير مستمسكاً بالخز، إذا كان الإبريسم سدى، والخز لحمته لأن الإبريسم دقيق والخز ثخين، فيصير الإبريسم عديم الرؤية. ولو حلف لا يلبس ثوب كتان فلبس ثوباً من قطن وكتان، لا يحنث في يمينه سواء كان الكتان سدى أو لحمه، فرّق بين هذا وبينما إذا حلف لا يلبس ثوب إبريسم، فلبس ثوباً من إبريسم وقطن، فإنه يحنث في يمينه إذا كان لحمته إبريسم، والفرق أنّ في

الإبريسم مع القطن الثوب ينسب إلى الإبريسم لا القطن فغلب (387ب1) الإبريسم على القطن في نسبة الثوب إليه، فصار وجود القطن في ذلك المسألة وعدمه بمنزلة، فأما في القطن مع الكتان، ينسب الثوب إليهما يقال: ثوب قطن وكتان، وإذا نسب إليهما، صار لابساً ثوباً بعضه من قطن وبعضه من كتان، والبعض من الثوب لا يسمى ثوباً. وفي «المنتقى» : إذا حلف لا يلبس ثوباً من غزل فلانة فلبس كساءً من غزلها حنث، ولو حلف لا يلبس ثوباً من غزل فلانة، فلبس كساءً من غزلها، سداه قطن من غزل غيرها، فإن كان هذا الثوب ينسب إلى غزلها يحنث، كالخز. وفيه أيضاً: إبراهيم عن محمد رحمه الله: إذا حلف لا يلبس من ثياب فلان، وفلان يبيع الثياب فاشترى منه ثوباً ولبس يحنث في يمينه. وإذا حلف الرجل لا يلبس ثوب كذا وهو لابسه، ولا نية له، فتركهُ بعد الحلف ساعة أو يوماً حنث في يمينه، لأن اللبس مستدام، وما يستدام فدوامه يسمى باسم الابتداء، وإذا حلف لا يلبس هذا الثوب، فألقي عليه وهو نائم قال محمد رحمه الله: أخشى أن يحنث. قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» والمختار أنه لا يحنث لا بلبس، واللبس ملابس، وهو نظير ما لو حلف لا يدخل دار فلان فدخل وهو نائم انتبه فوجد جداره الثوب إن ألقاه كما انتبه لا يحنث في يمينه وإن تركه فاستقر عليه بعد الانتباه حنث علم أنه الثوب المحلوف عليه أو لم يعلم، وكذا ألقي عليه وهو منتبه إن القاه عن نفسه، كما ألقي عليه، لا يحنث، وإن تركه يحنث، علم أنه الثوب المحلوف، أو لم يعلم، وإذا حلف لا يلبس السروايل، أو حلف لا يلبس الخفين، فأدخل إحدى رجليه في الخف أو في السراويل لا يحنث، لأنه لا يسمى لابس الخفين، ولا لابس السراويل بإدخال إحدى الرجلين فيه. في «الجامع الصغير» : إذا قال لامرأته: كل ثوب ألبسه من غزلك فهو هدي، فاشترى قطناً فغزلته ثم نسجته فلبسه فعليه أن يهديه، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: ليس عليه أن يهديه إلا أن يكون من قطن كان يملكهُ يوم حلف، ولا خلاف أن القطن والغزل إذا كان في ملكهِ يوم اليمين أنه يحنث، وإذا لم يكن في ملكه وقت اليمين، وإنما اشتراه بعد ذلك ففيه خلاف. ووجه قولهما: أن..... إنما يصح إما في الملك أو مضافاً إلى سبب الملك، ولم يوجد ههنا ملك، ولا إضافة إلى سبب الملك، لأن الغزل واللبن ليسا من أسباب الملك، ولأبي حنيفة رحمه الله: إن النذر أضيف إلى سبب الملك، لأن الغزل سبب لوقوع الملك للزوج، لأن العادة أن المرأة تغزل من قطن زوجها، وما تغزل المرأة من قطن الزوج يصير ملكاً للزوج، ومطلق اليمين ينصرف إلى المعتاد، فهو معنى قولنا إن النذر أضيف إلى سبب ملك الزوج.

سئل نجم الدين النسفي عمن قال: عمن قال: الردشية زن خوشن بوشم زن آر من بطلاق بيدة زن زابو سربست قال: إن فعل ذلك على وجه العمامة حنث؛ لأنه ليس غزلها فقد قيل: لا يحنث لأن لبس الغزل على هذا الوجه ليس بمعتاد واليمين عقدت على غزل غير مشار إليه فينصرف إلى اللبس المعتاد.l إذا قال لامرأته بالفارسية: الحوشية نوبية من أيد رايد وقال سر من جرائد فكذا فوضع يده على غزلها أو خاط به ثوباً لا يحنث في يمينه. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قال لامرأته بالفارسية الردر ابو شايم أركار كرد خويش فأنت طالق، ثم أن المرأة رقعت كرباساً إلى زوجها لينسجها بآخر فنسج ولبست المرأة لا يحنث؛ لأن اليمين وقعت على مكسوب الزوج وهذا مكسوب المرأة، وكذلك لو كان القطن من جهة الزوج وقد لبست بغير أمر لا يحنث؛ لأنه شرط الإلباس وهو لم يلبسها ولم يأمرها باللبس إنما لبست بنفسها في غير أمره. وفي «المنتقى» : إذا حلف لا يلبس من نسج فلان فلبس ثوباً نسجهُ فلان مع غيره يحنث، ولو قال: ثوباً من نسج فلان ولبس ثوباً نسجه فلان مع غيره لا يحنث، إذا كان الثوب مما نسجه واحد فإن كان لا ينسجه إلا اثنان يحنث. وفيه أيضاً: ولو حلف لا يلبس ثوباً من نسج فلان فلبس ثوباً نسجه غلمانه وفلان هذا هو..... عليهم، فإن كان فلان يعمل بيده لا يحنث إلا أن يلبس من عمله، وإن كان فلان لا يعمل بيده يحنث وكذلك هذه الأعمال كلها، ووقعت في زماننا أن رجلاً حلف أن لا يلبس من غزل فلان، فلبس من غزل وامرأة أخرى أمرها فلان بالغزل فأفتى بعض مشايخنا بالحنث مطلقاً، وأفتى البعض بالحنث على التفصيل الذي في مسألة النسج وهو الصحيح، وما ذكر في «المنتقى» عقيب مسألة النسج، وكذلك على الأعمال كلها يدل عليه إذا حلف بالفارسية أكرر رسمان يومه كار يوم بايكارأ بدمر فكذا فاستبدل غزلها بغزل آخر لا يحنث، ولو لبس ثوباً من غزلها إن كان قال: الرز سمان نورا كاريوم كينث وإن قال: أكرر بسمان يوما زايد فرا يحنث. في طلاق «فتاوى أبي الليث» رحمه الله. ولو قال: أكرحامه تويكارايد مر ذكر الإمام النسفي رحمه الله، أنه على اللبس وعلى الانتفاع بقيمته، ومن المشايخ من قال: ينوي الزوج إن قال يوم اللبس فيمينه على اللبس، وإن قال: نويت الانتفاع بثمنيه فيمينه على ذلك. وفي «فتاوى الفضلي» : إذا قال لها بالفارسية، أكرربسمان يؤمر إيكاد إيديانه سود وريان من أندزايد فكذا فباعت غزلها واشترت بثمنها المتاع من غير علم الزوج،..... الزوج لا يحنث لأنه لم يدخل عين الغزل في سودت مائة ولا يدله عين الغزل بكارنيا مدرواً الرمكا أمر بدل بكار أمر فلا يحنث فكذا في جميع هذا (388أ1) النوع من المسائل.

وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قال إنها بالفارسية أكورشته ماكا ركرد يويسور وريان من أندرايه فكذا فغزلت المرأة، ولبست نفسها في مسائها لا يحنث، لأن الدخول في سودريان، الدخول في الملك، ولم يوجد وإن قضت ديناً، على الزوج لا تطلق أيضاً لأنه لم يدخل في ملك الزوج أيضاً. وإذا حلف لا يدخل لمن غزلها في سود ريان، فباع ثوباً لها، فاشترى بثمنه كسوة لابنته الصغيرة، إن اشترى ثوباً يقضي بذلك حقاً عليه حنث، سواء اشترى الثوب بإذنها، أو بغير إذنها لأن شراءه كان واجباً عليه وصار كأنه اشترى لنفسه والمشترى عوض عن الثوب الأول معنى لأنه عوض عن عوضه وإن اشترى فضل من كسوة مثله فإن اشترى بإذنها لا يحنث؛ لأن الشراء يقع للمرأة حقيقة وتقديراً، وإن اشترى بغير إذنها حنث، لأن الشراء يقع لنفسه حقيقة ومعنى ذلك المسألة هكذا في «فتاوى الفضلي» رحمه الله. قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : وفي المسألة إشكال إذا حلف لا يأكل من غزل فلانة، فباعت غزلها ووهبت الثمن لابنها، ثم إن الابن وهبه للحالف، فاشترى به الحالف شيئاً، وأكل لا يحنث، وإن اشترى شيء قبل أن تمت فأكل الحالف ثمة يحنث. في «فتاوى أهل سمرقند» رحمهم الله امرأة تريد أن تقطع خباء لزوجها، فقال الزوج: بالفارسية الراين فباي كه برى يوسم فكذا فقطعت هذا ألبسه ولبس الحالف لزمه الحنث، لأن هذا لبس ما دامت في بيتي كونها في بيته، فإذا خرجت عن البيت سقطت اليمين وإن أراد بقوله ما دامت في بيتي كونها في نكاحه فما لم تقع الفرقة بينهما لا يرتفع اليمين. حلفت المرأة أن لا تلبس المكعب، فلبست اللالك، فقد قيل: إن كان يسمى اللالك في العرف والعادة مكعباً يلزمها الحنث، وما لا. حلف لا تلبس من ثوبها، ثم إن الزوج اشترى قطناً وغزلت المرأة القطن، ودفع الزوج الغزل إلى النساج حتى ينسجه بأجر، أعطاه الزوج ثم لبسه الزوج، فقد قيل: ينوى الزوج إن كان أراد بقوله من ثوبها من ثوب رشيه وي وساحيه وي يلزمه الحنث، وما لا فلا. وفي «فتاوى ما وراء النهر» إذا حلف الرجل لا يلبس من غزل امرأته فلبس قماطها رقه من غزلها وبطانية من غزل غيرها يحنث في يمينه وهذا ظاهر. وفي «مجموع النوازل» : إذا حلف مراكندرن بريفكند فرا كنررا بنفسا نديد واشرفرا كندبرا فنكبلى إبره وبي حشو سوكند بكردن نيا بدو في «الجامع» إذا قال: إن لبستُ قميصين فكذا ولا نية له فلبس قميصاً فنزعه ثم لبس قميصاً آخر لا يحنث في يمينه، وهذا استحسان والقياس: أن يحنث، عملاً بإطلاق اللفظ، ألا ترى أنهما لو كان معينين يقع الحنث بما فعل، فكذا ههنا وجه الاستحسان: أن اللفظ وإن كان مطلقاً، إلا أنه تقيد بالعرف فإن العرف فيما بين الناس أن اللبس إذا أضيف إلى قميصين بغير أعيانهما أن يراد به المظاهرة بينها ولبسهما معاً لا مفترقاً، ألا ترى أن الرجل من نفسه أن يقول: ما لبست

قميصين منذ حلفت، وإن كان قد لبس قميص كثير، فإذا لم يظاهر بينهما لصورة أو لمعنى من المعاني، ومثل هذا العرف لم يوجد في المعين، لأن لا يستجيز من نفسه أن يقول ما لبست هذين القميصين منذ خلقت، إذا كان لبسهما على التعاقب، فنعمل في المعينين بإطلاق اللفظ. وفي «المنتقى» : إذا حلف لا يلبس هذا الثوب، فاتخذها قلنسوة ولبسها لا يحنث في يمينه، لأن اسم الثوب لا يبقى، ولو قطع منه قميصاً ففضل منه فضلة غير القميص قدر لبسه، ولبس القميص يحنث لأن اسم الثوب باق، وما بقي لا يقيد به، فكان لابساً جميع الثوب، وصار كما لو حلف لا يأكل رُمّانة فأكلها إلا حبة أو حبتين حنث استحساناً، وطريقه ما قلنا. وفي «القدوري» ذكر هذه المسألة فزاد عليها فقال: ولو اتخذه جوارب ولبسها لا يحنث، لأن اسم الثوب ليس بباق، وإذا قال لامرأته رسته ثوبه بوشم وله ثيابٌ اتخذ من غزلها قبل الحلف، وثياب اتخذ من غزلها بعد الحلف فيمينه عليهما الإطلاق اللفظ. وفي «الزيادات» إذا قال عبده حر إن لا يجعل من هذا الثوب خباء وسراويلاً، وجعله خباء ثم نقضه وجعله سراويلاً بر؛ لأن شرط البر أن يجعل من هذا الثوب خباء وسراويلاً مطلقاً غير مقيد بالدفعة والجمع والتفريق وقد وجد؛ لأن اسم الثوب لا يزول بجعله خباءً، ألا ترى أنه لو حلف لا يلبس هذا الثوب فخاطه خباء ولبسه يحنث، وإذا لم يزل اسم الثوب بجعله خباء فإنما جعل السراويل من ذلك الثوب وجعل الخباء منه أيضاً، فوجد شرط البر إلا أن يعني أن يجعل من بعضه الخباء ومن بعضه السراويل فحينئذ إذا فعل كما قلنا يحنث في يمينه، لأنه نوى أن يجعل ذلك بدفعة واحدة، فكان ناوياً المقيد من المطلق وإنه جائز، وفيه تغليظ عليه فيصدق في ذلك. وحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله أنه قال: ينظر إلى سابقة كلامه، إن دلت سابقة كلامه على أنه أراد بهذا أن يجعلهما معاً بأن ذكر حذاقة الخياطة، أو سعة الثوب، فهو أن يجعلهما دفعة واحدة، وإن لم يدل فهو على الجملة والتعاقب. وكان أبو القاسم الصفار يقول: إذا لم يجعل من بعضه خباء، ومن بعضه سراويلاً يحنث على كل حال، لأنه ذكر بكلمة من وكلمة من للتبعيض، إلا أنا نقول من تذكر للتمييز يقال: هذا الخاتم من الحديد، والمراد تمييز هذا الثوب من سائر الثياب. ولو قال: إن لم يجعل من هذه الملحفة، أو من هذا الإزار أو من هذا الرداء سراويلاً وخباء فكذا فجعلها خباء ثم نقضها فجعلها سراويلاً حنث في يمينه، لأن اسم الملحفة زال بجعلها خباء، فإنما جعل السراويل من الخباء لا من الملحفة، وشرط بره أن يجعله من الملحفة ولم يوجد، وإن كانت الملحفة (388ب1) . لا تسع لهما حنث للحال؛ لأن البر مأيوس الوجود. وإذا حلف ليقطعنّ من هذا الثوب قميصين، فقطعه قميصاً وخاطه ثم فتقه وقطعه

قميصاً آخر على غير ذلك التقطيع، وعن محمد رحمه الله فيه روايتان، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يحنث. ولو حلف ليخيطنّ من هذا الثوب قميصين فقطعه وخاطه قميصاً ثم فتقه وخاطه قميصاً آخر لا يحنث بلا خلاف. وعن محمد رحمه الله فيمن حلف لا يلبس هذا الثوب فقطعه سراويلاً فلبس سراويلاً بعد سراويل لا يحنث في يمينه. وإذا حلف لا يلبس حُليّاً فلبس خاتم فضة لا يحنث في يمينه. علل في الكتاب فقال: لأنه ليس بحلي معناه ليس بحلي كامل أو ما هو حُلي ناقص؛ لأن الحلي ما يستعمل للتزين لا محالة والخاتم إذا كان من فضة كما يستعمل للتزين يستعمل لغيره، وهو إقامة السَّنة وإذا كان يستعمل للتزين وغيره كان ناقصاً في معنى الحلي، فلا يدخل تحت مطلق اسم الحلي ولو لبس خاتم ذهب يحنث، لأنه لا يستعمل إلا للتزين، فكان كاملاً في معنى الحلي. وكذلك لو حلفت المرأة أن لا تلبس حُلياً فلبست خاتماً من ذهب تحنث، ولو لبست خاتم فضة لم تحنث هذا هو ظاهر الرواية قالوا: وهذا إذا كان مصنوعاً على هيئة خاتم الرجال، أما إذا كان مصنوعاً على هيئة خاتم النساء مما له فصّ يحنث، وقال بعضهم: لا يحنث على كل حال. قال: والأول أصح. وفي «البقالي» عن محمد رحمه الله أن خاتم الفضة حلي مطلقاً. وفي «المنتقى» : رواية إبراهيم عن محمد رحمه الله أن المنطقة المفضضة والسيف المحلى ليس بحلي. قال: والحلي ما تلبسه النساء. والخلخال والد ملوج والسوالت حلي، لأنه لا يستعمل إلا للتزين، وإذا حلفت امرأة أن لا تلبس حليّاً، فلبست عقد لؤلؤة لا تحنث في قول أبي حنيفة رحمه الله إلا أن يكون معه ذهب، وقال أبو يوسف رحمه الله ومحمد رحمه الله تحنث ولا خلاف بينهم أنه إذا كان مُرصعاً بشيء من الذهب والفضة إنه تحنث لأن ذلك حلي. وإنما الخلاف فيما إذا لم يكن مرصعاً. وعلى هذا الخلاف إذا لبست عقد زبرجد أو زمرد غير مرصع هما يقولان اسم الحلي يتناول اللؤلؤ الخالص، قال الله تعالى: {تستخرجون حلية تلبسونها} (النحل: 14، فاطر: 12) ولا يستخرج من البحر المرصع إنما يستخرج اللؤلؤ الخالص. ولأبي حنيفة رحمه الله أن العادة لم تجر بالحلي إلا مرصعاً بذهب أو فضة فأمّا وحده فلا. قال بعض مشايخنا: على قول أبي حنيفة رحمه الله: لا بأس بأن يلبس الغلمان اللؤلؤ، وكذلك الرجال وكذلك قياس قوله في اللؤلؤ أن الذهب والفضة لا يكون حلياً إلا أن يصاغ، كما أن اللؤلؤ لا يكون حلياً إلا (أن) يصاغ ولا يصاغ اللؤلؤ إلا بالترصيع، حتى إن المرأة إذا علقت في عنقها شيئاً من الذهب والفضة غير مصنوع يجب أن لا تحنث على قياس قوله، وقد قيل الاختلاف في هذه المسألة اختلاف عصر وزمان، ففي زمان أبي حنيفة رحمه الله لم يتعارف النساء لبس اللؤلؤ على الانفراد، ولم يعده الناس حلياً، فأفتى

بما عاين في زمانه، وفي زمن أبي يوسف رحمه الله ومحمد رحمه الله تعارف النساء لبسه على الانفراد، وكان الناس يعدون ذلك حلياً فأفتيا بما عاينا في زمانهما، وقولهما أقرب إلى عرف ديارنا. وإذا حلف الرجل لا يلبس شيئاً من السواد فلبس قلنسوة سوداء وخفين أسودين أو نعلين أسودين أو فرواً أسود حنث في يمينه. ولو قال: لا ألبس السواد فهذا على الثياب، ولا يحنث في الخفين والنعلين والفرو. روى بشر عن أبي يوسف رحمه الله في هذه المجلدة......... رحمه الله. وإذا حلف لا يلبس سلاحاً فتقلّد سيفاً أو.... قوساً أو فرساً لم يحنث، قال: إذا كانت اليمين بالفارسية بأن قال سلاح في توشم يحنث بهذه الأشياء، ولو لبس درعاً من حديد يحنث، ولو حلف لا يلبس شيئاً فلبس درعاً من حديد أو خفين أو قلنسوة يحنث في يمينه. وأن لا يكسو فلاناً شيئاً ولا نية له فأعطاه دراهم يشتري بها ثوباً لا يحنث، ولو أرسل إليه بثوب كسوة حنث، ولو كساه قلنسوة أو خفين أو جوربين حنث. وعن محمد رحمه الله أن الكسوة عبارة عما يجري في كفارة اليمين. ولو حلف لا يكسو فلاناً فكساه قلنسوة أو خفين لا يحنث بلا خلاف. نوع آخر في الدخول بسم الله الرحمن الرحيم: رجل قال: إن دخلت هذه الدار فكذا وهو داخل فيها فدام على ذلك لم يحنث استحساناً، والقياس أن يحنث، لأن اسم الدخول يقع على دوامه، ألا ترى أنه لو نوى بالدخول الدوام صحت نيتّه، عليه محمد رحمه الله في «الأصل» . وجه الاستحسان: أن الدخول فعل لا يمتد فلا يُعطى لدوامه حكم الابتداء، وهذا هو الأصل في جنس الأفعال: أن ما لا يمتد من الأفعال لا يُعطى لدوامه حكم الابتداء، وما يمتد من الأفعال يعطى لدوامه حكم الابتداء. والفارق بين الممتد وغير الممتد من الأفعال صحة قرار المدة وعدم صحته. فكل فعل يصح قرار المدة به فهو مما يمتد وذلك كالسكنى والركوب واللبس والنظر والقيام والعقود، فإنه يصح أن يقال: سكن في الدار يوماً ونظر إلى فلان يوماً، وقعد في مكان كذا يوماً، وقام يوماً فكل فعل لا يصح قرار المدة به فهو مما لا يمتد. وذلك كالدخول والخروج فإنه لا يستقيم أن يقال: خرج يوماً من الدار ودخل يوماً في الدار، والدليل عليه أنه لا يستقيم أن يقال للداخل في الدار: ادخل، ولا يستقيم أن يقال للخارج منها اخرج منها. وإذا حلف لا يدخل هذه الدار فأدخل إحدى رجليه في الدار ولم يُدخل الأخرى لا يحنث في يمينه، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» . بعض مشايخنا قالوا هذا إذا

كان الجانبان مستويين فأما إذا كان (389أ1) الداخل أسفل يحنث في يمينه، وبعضهم قالوا: العبرة للاعتماد إن كان الاعتماد على الرجل الداخلة، وإن كان الاعتماد على الرجل الخارجة لا يحنث. إلا أن في ظاهر رواية أصحابنا لا يصير داخلاً بإدخال أحد الرجلين، وبه (أفتى) الحلواني رحمه الله وشمس الأئمة السرخسي رحمه الله، هذا إذا كان يدخل قائماً. وأما إذا كان مستلقياً على ظهره أو بطنه أو جنبه فقد خرج حتى صار بعض بدنه داخل الدار، إن صار الأكثر داخل، الدار يصير داخلاً وإن كان ساقاه خارج الدار هكذا روي عن محمد رحمه الله. ولو أدخل رأسه دون قدميه لم يحنث. وكذلك لو تناول شيئاً بيده. وإذا حلف لا يدخل دار فلان فاحتمله إنسان وأدخله وهو كاره لم يحنث. قالوا: وهذا على وجهين: إما أن يكون بحال لا يمكنه الامتناع عنه، أو يمكنه الامتناع، فإن كان لا يمكنه الامتناع عنه لا يحنث في يمينه، لأن شرط الحنث وهو دخوله لم يوجد لا حقيقة ولا اعتباراً، وإن كان يمكنه الامتناع فقد اختلف المشايخ فيه، وينبغي على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يحنث لما نبين بعد هذا إن شاء الله. هذا إذا احتمله إنسان فأدخله مكرهاً. فأما إذا هدده بالدخول فدخل بقدميه فقد اختلف المشايخ فيه أيضاً، بعضهم قالوا: لا يحنث، وبعضهم قالوا: يحنث، وبعضهم قالوا: إن أمكنه الامتناع عن الدخول مع هذا دخل يحنث، وإن لم يمكنه الامتناع عنه لا يحنث، ولو احتمله إنسان وأدخله وهو راض عليه إلا أنه لم يأمره بذلك فقد اختلف المشايخ فيه، ووجدت في «المنتقى» عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه لا يحنث، فعلى قياس هذه المسألة فحينئذ يجب أن يكون قولهما فيما إذا دخل مكرهاً أن لا يحنث. وإن كان أمره بذلك يحنث، لأنه وجد الدخول فيه اعتباراً وإن كان يمر بين يدي الدار فزلق رجله فحصل في الدار لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في شيء من الكتب. وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يحنث لأن حصوله في الدار مضاف إلى فعله، وقال بعضهم: لا يحنث لأنه حصل في الدار مكرهاً لا باختياره، وصار كما لو احتمله إنسان وأدخله في الدار مكرهاً. وإن دخلها على دابة حنث، إلا أن تكون الدابة قد انقلبت وهو راكبها ولا يستطيع إمساكها فدخلت الدار فإنه لا يحنث في يمينه، لأنه صار مسلوب الاختيار لما انقلبت ولم يمكنه إمساكها. وإذا حلف لا يدخل بيتاً فدخل المسجد أو الكعبة لا يحنث، وإن سمى الله تعالى الكعبة بيتاً في قوله: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة} (آل عمران: 96) وتُسمى سائر المساجد بيوتاً في قوله: {في بيوت أذن اأن ترفع} (النور: 36) لأن اسم البيت للمساجد مجاز، لأن البيت اسم لما اتخذ للبيتوتة، والمسجد ناقص في معنى للبيتوتة فإنه لا يبات (فيه) ، ومطلق الاسم ينصرف إلى الحقيقة. ولذلك لو دخل بيعة أو كنيسة لم يحنث، لأن الكفار إنما بنوا البيعة والكنيسة للصلاة، لا للبيتوتة فلا يكون بيتاً مطلقاً، وإن دخل دهليزاً لم يحنث لأن الدهليز ما بني للبيتوتة فيه.

قال مشايخنا: هذا إذا كان الدهليز بحال لو أغلق الباب يبقى خارج البيت، فأمّا إذا بقي داخل البيت وهو مسقف يجب أن يحنث في يمينه، لأنه يصلح للبيتوتة، وإن دخل صفة يحنث وهذا على عرف أهل الكوفة، لأن صفتهم على هيأة البيوت؛ لأنها ذات حوائط أربعة عندهم، فيكون بيتاً. وفي عرفنا الصفة لا تكون على هيأة البيوت، لأنها ذات حوائط ثلاثة فلا تكون بيتاً، ولو دخل ظلة على باب الدار ولا يكون فوقه بناء إلا أن مفتحه إلى الطريق الأعظم أو إلى السكة لا يحنث إذا كان عقد يمينه على بيت شخص بعينه، لأنه ليس من جملة بيته. وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا قال الرجل: إن دخلت دار فلان فكذا فمات فلان فدخل داره، فهذا على وجهين إن لم يكن على صاحب الدار دين أصلاً أو كان عليه دين مستغرق فإنه لا يحنث بلا خلاف، لأن الدار تصير ملكاً للوارث بلا خلاف، وإن كان عليه دين مستغرق، قال محمد بن سلمة: يحنث، وقال الفقيه أبو الليث: لا يحنث. قال الصدر الشهيد: والفتوى على قول أبي الليث؛ لأن التركة المستغرقة بالدين إن لم تملكها الورثة لا تبقى على ملك الميت حقيقة، لأن الميت ليس من أهل الملك، لو بقي على ملكه يبقى حكماً فلم يدخل دار فلان مطلقاً فلم يتحقق شرط الحنث. إذا قال: إن وضعت قدمي في دار فلان فكذا، فوضع إحدى رجليه في داره لا يحنث على ما هو جواب ظاهر الرواية، لأن وضع القدم في هذه الصورة صار مجازاً عن الدخول، فكأنه قال: إن دخلت دار فلان فكذا، وهناك إذا أدخل إحدى رجليه في دار فلان لا يحنث في يمينه كذا ها هنا. وإذا حلف لا يدخل دار فلانة، فدخل دارها وزوجها ساكن فيها لا يحنث لأن الدار تنسب إلى الساكن، والساكن هو..... في «فتاوى أهل سمرقند» . وفي «المنتقى» : إذا قال: والله لا أدخل دار فلان، فدخل دار فلان، (وفلان) ساكن فيها مع امرأته والدار لها حنث. وكذلك لو قال: والله لا أدخل دار فلانة فدخل عليها وهي في دار زوجها ساكنة معه يحنث. فهذه الرواية تخالف ما ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» . وفي «فتاوى الفضلي» : إذا حلف لا يدخل دار فلان فدخل دار فلان (وفلان) فيها ساكن والدار لامرأته، وذكر فيها تفصيلاً فقال: إن لم تكن لفلان دار تُنسب إليه سوى هذه الدار يحنث؛ لأن الحالف (389ب1) أراد هذه الدار. وإن كان له دار أخرى تنسب إليه لا يحنث، وهذا الجواب بخلاف ما ذكر في «المنتقى» ، فإنه ذكر المسألة في «المنتقى» من غير تفصيل، ورأيت في موضع آخر إذا حلف لا يدخل داراً لفلانة فدخل داراً لزوج فلانة وهي ساكنة معه إنه إن لم تكن لفلانة دار أخرى تنسب إليها يحنث، وإلا فلا يحنث، ولم يذكر هذا التفصيل في «المنتقى» .

وإذا حلف لا يدخل دار فلان وفلان يسكن مع أبيه في الدار بالعلية. والأب هو الذي استأجر الدار، فقد قيل: إنه لا يحنث، وعلى قياس ما ذكر في «المنتقى» ينبغي أن يحنث بلا تفصيل، وعلى قياس ما ذكر في «فتاوى الفضلي» يجب أن تكون المسألة على التفصيل، إن كان للابن دار أخرى تنسب إليه سوى هذه لا يحنث، وإلا فيحنث. ولو حلف لا يدخل من باب هذه الدار فدخل من غير الباب لم يحنث؛ لأن اليمين انعقدت على دخول موصوف بصفة، ولا يحنث ما لم توجد تلك الصفة، وإن ثقب باباً آخر فدخله حنث، لأن اليمين انعقدت على الباب المنسوب إلى الدار، فيستوي فيه القديم والحديث، ولو عيّن ذلك الباب في اليمين لم يحنث في غيره وهذا ظاهر.m ولو لم يعينه ولكن نوى ذلك لا يُدين في القضاء لأنه خلاف الظاهر. وإذا حلف لا يدخل بيتاً لفلان، ولم يسمّ بيتاً بعينه، ولم ينوه فدخل بيتاً يسكنه فلان بإجارة أو عارية فيحنث في يمينه عند علمائنا رحمهم الله، خلافاً للشافعي. وإذا حلف لا يركب دابة فلان أو حلف لا يستخدم عبد فلان فركب دابة أو استخدم عبداً هو في يد فلان بإجارة أو عارية لا يحنث في يمينه بلا خلاف. والوجه لعلمائنا أنه عقد يمينه على بيت مضاف إلى فلان إضافة مطلقة فينصرف يمينه إلى الدار المضافة إلى فلان بملك الرقبة وبملك المنفعة جميعاً إذ إضافة العقار بملك المنفعة حقيقة، كما أن إضافته بملك الرقبة حقيقة لأن إضافة العقار بملك المنفعة ثابتة شرعاً وعرفاً. فأما شرعاً فلما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّممر..... فأعجبه فقال «لمن هذا» ؟ فقال رافع * يريد (ابن) خديج * لي استأجرته، فرافع أضاف إلى نفسه ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأما عرفاً فإن في العُرف يقال: هذا منزل فلان، وإن كان فلان يسكن فيها بإجارة أو عارية، وإذا كان إضافة العقار بملك ثابتة شرعاً وعرفاً كانت حقيقة كالاسم، متى ثبت الشيء عرفاً وشرعاً كان حقيقة كاسم الصلاة فثبت أن هذه الإضافة في العقار فينصرف اليمين إليها ولا كذلك العبد والدابة؛ لأن إضافة العبد والدابة بملك المنفعة ليست بحقيقة بل هي مجاز لأنها غير ثابتة شرعاً وعرفاً. ولو حلف لا يدخل بيتاً لفلان فدخل بيتاً قد آجره من غيره، ذكر بعض مشايخنا في «شرحه» أن فيه اختلاف المشايخ، وذكر بعضهم أن عن أصحابنا فيه روايتين، في رواية يحنث من غير نيّة، وفي رواية لا يحنث (إلا) بالنيّة. فقيل: ما روي أنه لا يحنث إلا بالنّية قول أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله، وما روي أنه يحنث من غير نيّة قول محمد، وذكر في «القدوري» روايتان عن محمد رحمه الله، ولم يذكر قول غيره. ولو كان للمحلوف عليه (دار) يسكنها ودار غلة، فدخل دار الغلة لا يحنث، إذا لم يدل الدليل على دار الغلة؛ لأن داره مطلقاً دار يسكنها.

في «فتاوى أبي الليث» : وإذا حلف الرجل لا يسكن حانوتاً لفلان فسكن حانوتاً قد أجره من غيره، فإن كان المحلوف عليه ممن يسكن حانوتاً لم يحنث بسكنى هذا الحانوت على إحدى الروايتين كما في البيت، وإن كان ممن لا يسكن حانوتاً لما عرف من مقصود الحالف، فإنّ من حلف لا يسكن حانوت الأمير يعلم كل واحد مراده حانوت هو ملك الأمير. وفي «القدوري» : إذا حلف لا يدخل دار فلان فدخل داراً مشتركاً بينه وبين غيره، فإن كان المحلوف عليه ممن يسكن الدار يحنث، وإن كان لا يسكنها لا يحنث؛ لأنه إذا كان لا يسكنها فالإضافة باعتبار الملك، والملك في الكل غير.....إليه، وإن كان الدار مشتركاً بين المحلوف عليه وبين غيره، وكل واحد منهما يسكن بيتاً منها على حدة فدخل الحالف صحن الدار أو دهليزاً لا يحنث في يمينه، هكذا قيل. وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: إذا قال لغيره: والله لا أدخل دارك، وللمحلوف عليه دار ملك يسكنها، والحالف لم ينوِ هذه الدار بعينها، ثم إن المحلوف عليه تحول من هذه الدار إلى دار أخرى وسكنها بإجارة أو عارية فدخل الحالف عليه يحنث. وإن كان نية الحالف على دار هي ملك المحلوف عليه وباقي المسألة بحالها لا يحنث. وفيه عن أبي يوسف إذا قال لغيره: لا أدخل منزلك فهذا على المنزل الذي هو فيه، فإن تحوّل إلى منزل آخر فدخل عليه لم يحنث. وإذا دخل داراً للمحلوف عليه غير الدار التي المحلوف ساكن فيها يوم حلف لم يحنث. وفيه أيضاً: إذا حلف الرجل لا يدخل منزل فلان، ثم إن الحالف مع المحلوف عليه اكتريا منزلاً فيها أبيات، والحالف في أبيات منها على حدة، والمحلوف عليه في أبيات منها على حدة، والساحة واحدة، فالحالف حانث وكل واحد منهما داخل في منزل صاحبه؛ لأن الساحة بينهما، وهذا بخلاف مسألة الدار المشتركة التي تقدّم ذكرها، وهي ما إذا دخل الحالف صحن الدار المشتركة التي يسكن الحالف في بيت منها، وشريكه في بيت منها؛ لأن هناك عقد اليمين باسم الدار واسم الدار لا ينطلق على بعضه، ها هنا عقد اليمين باسم المنزل والمنزل مشتق من النزول والنزول يأتي في البعض كما يأتي في الكل. سُئِل الفقيه أبو القاسم عمن حلف (390أ1) وقال: إن أدخلت فلاناً بيتي فهذا على أن يدخل فلان بيته بأمره، وبغير أمره، بعلمه وبغير علمه، ولو قال: إن تركت فلاناً يدخل بيتي فهذا (على) أن يدخل بعلمه، ولا يمنعه. وسئل أبو نصر عمن قال لامرأته: إن دخل فلان دارك ودخلت دار فلان فأنت طالق، فدخلت دار فلان ولم يدخل فلان دارها، ولم تدخل هي دار فلان، قال: طلقت امرأته لأنه لا يراد بهذا الجمع وإنما يراد به أن لا يفعل ذلك واحد منهما، لأن الغرض هو المنع عن المخالطة بالكلية.

حلف لا يدخل دار امرأته فباعت المرأة الدار من رجل واستأجرها الحالف من المشتري ثم دخلها؛ فإن كان كراهة الدخول لأجل الدار يحنث، لأن اليمين انعقدت على عين الدار، وذكر المرأة للتعريف، وإن (كان) كراهة الدخول لأجل المرأة لا يحنث، لأن اليمين انعقدت لأجل النسبة، وقد انقطعت النسبة، وستأتي هذه المسألة بعد هذا في فصل الحلف ما يقع على الملك القائم وما يقع على الملك الحادث. إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار فنسائي طوالق، فدخلت الدار طلقت هي وغيرها، لأن عند الدخول يصير قائلاً نسائي طوالق، وإذا قال: إن وضعت قدمي دار فلان فكذا فدخلها راكباً أو ماشياً بحذاء أو بغير حذاء يحنث في يمينه لأن وضع القدم في عرف الاستعمال صار عبارة عن الدخول مجازاً، وإذا صار عبارة عن الدخول مجازاً، كأَنه قال: والله لا أدخل فهناك بأي طريق دخل يحنث في يمينه، كذا ههنا. وإن نوى حين حلف أن لا يضع قدمه فيها ماشياً صحت نيّته، وإذا دخلها راكباً لا يحنث في يمينه لأنه نوى حقيقة كلامه، ومن نوى حقيقة كلامه يصدق ديانة وقضاءً. وإذا حلف (لا يدخل) دار فلان، فقام على حائط من حيطانها حنث في يمينه، لأن الحائط من الدار ألا ترى أنه يصير مبيعاً ببيع الدار. قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: وهذا إذا كان الحائط كله لصاحب (الدار) ، فأما إذاكان مشتركاً بينه وبين الجار لا يحنث في يمينه، كما لو دخل داراً مشتركاً قال الفقيه أبو الليث: ما ذكر من الجواب فيما إذا كان الحالف من بلاد العرب، فأما إذا كان من بلاد العجم لا يحنث في يمينه بالقيام على حيطان الدار وعليه الفتوى. وكذلك لو حلف لا يدخل هذه الدار فقام على سطحها فجواب «الكتاب» أنه يحنث، واختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله فيما إذا كان الحالف من بلاد العجم أنه لا يحنث وعليه الفتوى. ولو قام على إسكفة الباب فإن كان الباب إذا أغلق كانت الإسكفة خارجة منه لم يحنث، وإن كان داخل الباب حنث. وإذا حلف لا يدخل بيت فلان ولا نيّة له فدخل في صحن داره لا يحنث حتى يدخل البيت، لأن شرط الحنث الدخول في البيت، وهو لم يدخل البيت هكذا ذكر في «الأصل» . قالوا: وهذا على عرف ديارهم فأما في عرف ديارنا الدار والبيت واحدة، فإذا دخل صحن الدار يحنث وعليه الفتوى. وفي «فتاوى الفضلي» : إذا حلف الرجل وهو جالس في بيت من المنزل إن دخلت هذا البيت فكذا، فاليمين على دخول البيت حتى لو دخل في صحن الدار وفي صحن المنزل لا يحنث، قال: وهذا إذا كان اليمين بالعربية، فأما إذا كان في يمينه بالفارسية بأن قال: اكرمن به ابن خانة ايدراتم فكذا فاليمين على دخول المنزل، فإن قال: عنيت دخول ذلك البيت صدق ديانة لا قضاءً، لأن اسم خانة بالفارسية لجميع المنزل وكذلك البيت اسم خاص، أما كان بيانه وانا رمستاني وهذا كله إذا لم يشر إلى بيت بعينه، فإن أشار فالحكم كذلك. وفي «فتاوى أبي الليث» : شجرة أغصانها في دار رجل فحلف رجل أن لا يدخل

دار ذلك الرجل فارتقى تلك الشجرة، فإن ارتقى غصناً لو سقط، سقط في الدار يحنث إذا كان الحالف من بلاد العرب، وإن كان من بلاد العجم لا يحنث، بمنزلة ما لو قام على سطح الدار أو على حائط من حيطانها وعليها الفتوى. إذا حلف لا يدخل في هذه السكة، فدخل داراً في تلك السكة من طريق السطح ولم يخرج إلى السكة، قال الفقيه أبو بكر الإسكاف: هذا إلى عدم الحنث أقرب. وإذا حلف لا يدخل سكة فلان فدخل مسجداً في السكة ولم يدخل السكة ذكر هذه المسألة في «فتاوى أبي الليث» ، وقال: لا يحنث، ولم يذكر فيها الخلاف كما ذكر في المسألة الأولى، وهكذا ذكر المسألة من غير ذكر الخلاف في «فتاوى الفضلي» ، وذكرنا في متفرقات كتاب الطلاق أنه إذا كان للدار التي دخل فيها باب في السكة المحلوف عليها إنه يحنث في يمينه. وذكر في «واقعات الناطقين» مسألة تؤيد ما ذكرنا في متفرقات الطلاق، وصورة ما ذكر ثمة إذا حلف لا يدخل محلة أردان فدخل داراً لها بابان أحد بابيها مفتوح إلى محلة أردان والباب الآخر مفتوح إلى محلة رود يحنث في يمينه لأن الدار تنسب إلى المجلس جميعاً، ولمسألة السكة تفريعات تنظر في متفرقات الطلاق. إذا حلف لا يدع فلاناً يدخل هذه الدار، فإن كان يملك هذه الدار، فمنعه بالقول والفعل، وإن كان لا يملك فمنعه بالقول لا غير، في الباب الأول من أيمان «الواقعات» ، وقد ذكرنا من هذا الجنس في آخر فصل المتفرقات من كتاب الطلاق. وفي «نوادر (ابن) سماعة» عن محمد إذا حلف لا يدخل هذا المسجد فزيد فيه طائفة من دار الحصبة فدخل الموضع الذي زيد فيه لا يحنث. ولو حلف لا يدخل مسجد بني فلان وباقي المسألة بحالها فدخل الموضع الذي زيد فيه يحنث، قال: وكذلك في الدار إذا قال: هذه الدار، أو قال: دار فلان، إذا قال: لا يدخل دار فلان إلا خبري سكفني إن نزلت بهم بلية أو قتل أو موت فدخل لا يحنث، لأنه يراد بقوله سكفني هذه الأشياء. في «النوازل» وفيه أيضاً: إذا حلف لا يدخل رياً أو مدينة ري أو حلف لا يدخل بلخ أو قال مدينة بلخاً أو حلف لا يدخل قرية كذا فهذا على العمران، وكذلك إذا حلف لا يشرب الخمر في هذه القرية، فهو على العمران حتى لو شرب في ضياعها أو في كرومها لا يحنث في يمينه. قال ثمة: وهذا بخلاف ما لو حلف لا يدخل كورة كذا، أو رستاق كذا فدخل في أراضيها حيث يحنث. وقد قيل: بأن الكورة (390ب1) اسم للعمران أيضاً، وهو الأظهر فالبلدة اسم للعمران أيضاً، واختلف المشايخ في بخارى والفتوى في زماننا على أنه اسم العمران. وأما شام اسم للولاية وكذلك اسم خراسان وكذلك الأرمينية حتى لو حلف على واحد من هذه المواضع لا يدخلها فدخل قرية من قراها يحنث، وكذلك فرغانة وسعد وتركستان فهو اسم للولاية. وفي «القدوري» : لو حلف لا يدخل دار فلان وهي من الدور المشهورة بأربابها مثل دار عمرو بن حريب فدخلها؛ لأن الإضافة إلى الأرباب على طريق النسبة دون الملك،

والنسبة قائمة. وفيه أيضاً: لو حلف لا يدخل هذه الحجرة فدخلها بعد ما كسرت لا يحنث، وليست الحجرة كالدار لأن الحجرة اسم لما حجر بالبناء فصار نظير البيت. وفيه أيضاً لو حلف لا يدخل هذه الدار إلا مجتازاً فدخلها وهو لا يريد الجلوس لا يحنث، لأنه دخل على الوصف المستثنى، ولو دخل يعود مريضاً ومن رأيه الجلوس عنده حنث؛ لأنه دخل على غير الوصف المستثنى، وإن دخل لا يريد الجلوس ثم بدا له بعد ما دخل فجلس لم يحنث أيضاً؛ لأن الدخول وجد على الوصف المستثنى وبعد ذلك هو مُكث والمكث ليس من الدخول. قال: وكذلك لو حلف لا يدخل هذه الدار إلا عابر سبيل إلا أن ينوي لا يدخلها يريد النزول فيها، لأنه يقال: رجل عابر سبيل إذا لم يستقر. وفي «المنتقى» : من هذا الجنس: إذا حلف لا يدخل السوق إلا مجتازاً، فدخل ومن رأيه أن يشتري شيئاً من غير أن يجلس لم يحنث، وإن بدا له فجلس لا يحنث أيضاً، وإن دخل ومن رأيه الجلوس حنث. ولو حلف لا يدخل دار فلان فأشرع المحلوف عليه بيتاً من داره واتخذه حانوتاً، وليس له باب في الدار، فدخله الحالف يحنث، لأنه من جملة ما أحاطت به الدار. وعن أبي يوسف فيمن حلف لا يدخل دار فلان فدخل بيتاً من هذه الدار قد أشرع إلى الطريق وليس له باب إلى الدار لا يحنث. ولو حفر تحت تلك الدار شرباً أو قناة فدخلها الحالف لم يحنث، إلا أن يكون من هذه القناة مكان مكشوف إلى الدار يستقي منه أهل الدار، فإذا بلغ ذلك المكان المكشوف حنث، وإن لم يبلغ ذلك المكان المكشوف لا يحنث. ولو كان المكشوف شيئاً قليلاً لا ينتفع به أهل الدار وإنما هو للضوء، فبلغ الحالف ذلك الموضع لا يحنث. لأن القناة تحت الدار إذا لم يكن لها منفذ لا تعد من الدار، وإن كان لها منفذ تعد من مرافق الدار بمنزلة بئر الماء، ومتى كان للضوء فليس ذلك من مرافق الدار فلا يعد داخله داخلاً في الدار. وفي «القدوري» : إذا قال: عبده حر إن دخل هذه الدار إلا أن ينسى فدخلها ناسياً ثم دخلها ذاكراً لا يحنث في يمينه، لأن كلمة إلا كلمة عامة ككلمة حتى فينتهي اليمين بالدخول ناسياً فإذا دخلها بعد ذلك دخلها واليمين منتهية. ولو قال: عبده حر إن دخل هذه الدار إلا ناسياً، فدخلها ناسياً ثم دخلها ذاكراً يحنث، لأن اليمين مطلق لا غاية لها والمستثنى منها دخول بصفة النسيان، فالدخول متعمداً يكون مستثنىً منه. إذا حلف لا يدخل دار فلان فعمد فلان إلى بيت فسدّ بابه من قبل داره وجعله إلى دار الحالف فدخله الحالف لا يحنث في يمينه، لأنه صار منسوباً إلى الأخرى. ومن هذا الجنس: إذا حلف لا يدخل هذه الدار فاشترى صاحب الدار بيتاً إلى جنبها وفتح باب البيت إلى هذه الدار، وجعل طريقه فيها وسدّ باب البيت الذي كان في الدار الأخرى، فدخل الحالف هذا البيت من غير أن يدخل الدار التي حلف عليها حنث

في يمينه، لأنه لما أضاف البيت إلى الدار صار من جملة الدار. ذكر المسألة في «المنتقى» وقد ذكر رواية ابن سماعة قبل هذا عن محمد في مسألة الزيادة في الدار إنه لا يحنث. وفي «القدوري» : الشرب إذا كان بابه في دار ومحتفره في دار أخرى، فهو من الدار التي مدخله إليها لأنها بيت من بيوتها. إذا حلف لا يدخل بغداد، فمن أي جانب دخلها يحنث، ولو حلف لا يدخل مدينة السلام ذكر في «المنتقى» أن مدينة السلام هي مدينة أبي جعفر خاصة، وهي التي من ناحية الكوفة، والواقعة عن الرفع، فما لم يدخل من ناحية الكوفة لا يحنث، بخلاف ما إذا حلف لا يدخل بغداد؛ لأن اسم بغداد يتناول الجانبين. ولو حلف لا يدخل بغداد فانحدر من موضع في السفينة ومر بالدجلة لم يحنث في قول أبي يوسف وقال محمد يحنث. قال الصدر الشهيد: الفتوى على قول أبي يوسف لأن دجلة وإن كانت من بغداد حتى إن البغدادي إذا جاء من موصل حتى دخل بغداد في السفينة يتم الصلاة إلا أن في باب اليمين يراد ببغداد الحد عرفاً. وإذا حلف لا يدخل الفرات فدخل سفينة في الفرات أو جسراً لا يحنث، حتى يدخل الماء لأن بدون الدخول في الماء؛ لا يسمى داخلاً في الفرات. إذا حلف لا يدخل دار فلان فاستعار المحلوف عليه داراً لاتخاذ الوليمة فيها فدخلها الحالف لا يحنث، إلا أن ينتقل المُعير من تلك الدار ويسلمها إلى المستعير والمستعير ينقل متاعه إليها فإذا دخلها الحالف حينئذ يحنث في يمينه هكذا ذكر في «فتاوى النسفي» . وإذا قال: والله لا أدخل دار فلان فدخل بستان فلان، ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» أنه إذا كان البستان من الدار يحنث، وإن لم يكن من الدار لا يحنث، وأمارة كون البستان من الدار أن يكون بحال إذا ذكرت الدار عرفت ببستانها، ومعناه أن يفهم البستان بذكر الدار، وإذا خرجت المرأة إلى البستان فالزوج لا يكره ذلك فإن وُجد هاتان العلامتان كان البستان من الدار. وفي «نوادر هشام» : قال: سألت أبا يوسف عن رجل حلف بطلاق أو غيره أن لا يدخل دار فلان، فدخل بستاناً في تلك الدار قال لا يحنث، قلت: فإن باع الدار ولم يسمّ البستان قال: البستان منها وإن لم يسم، قلت: فإن كان للبستان بابان أحدهما داخل الدار والآخر خارج، قال: هو منها، قال هشام: وقد سمعت أبا يوسف يقول: البستان ليس من الدار إلا أن يسميه (391أ1) أو يكون وسط الدار. قال هشام: وسألت محمداً عن رجل حلف لا يدخل هذه الدار فدخل بستانها، وباب البستان إلى بيوت في هذه الدار وليس للبستان طريق غيره وعلى الدار والبستان حائط واحد محيط بهما فدخل البستان، قال: يحنث، وكذلك إن كان البستان أصغر من الدار أو أكبر منها، ولو كان البستان وسط الدار ومعناه أن تكون الدار محدقة بالبستان يحنث.

وفي «القدوري» : إذا دخل بستاناً في تلك الدار فإن كان متصلاً بها لا يحنث وإن كان في وسطها حنث، وسيأتي من هذا الجنس في نوع الخروج. وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا حلف لا يدخل الحمام إز نهر شيش فدخل الحمام لا لهذا بل ليسلم على الحمامي ثم غسل رأسه لم يحنث، لأنه لم يدخل لهذا. إذا قال لأخ امرأته: إن لم تدخل بيتي كما كنت تدخل فامرأتي طالق، فإن كان بينهما كلام يدل على الفور، فهو على الفور وإلا فهو على الأبد ويقع اليمين على الدخول المعتاد قبل اليمين حتى لو امتنع الأخ مرّة مما كان معتاداً يحنث، لأن اليمين مطلقة فينصرف إلى الأبد. وإذا حلف لا يدخل هذا الخباء، فالعبرة للعيدان أو اللبد فقد قيل: العبرة للعيدان وقيل العبرة للبد، فعلى القول الأول إذا استبدل اللبد والعيدان على حاله فدخله يحنث، ولو كان على العكس لا يحنث، وعلى القول الثاني إذا استبدل اللبد والعيدان على حاله لا يحنث، ولو كان على العكس يحنث والأول أصح. وفي «فتاوى الصغرى» : إذا قال لامرأته: ادخلي الدار فأنت طالق، فهذا وقوله: إذا دخلت الدار فأنت طالق سواء. رجل قال لامرأته: اكربوكرد بترامن أستانه فلان كردي فأنت طالق، وقال: عنيت به الدخول وهي تحوم حومهما، ولا تدخل طلقت المرأة؛ لأن اللفظ حقيقة لهذا لا للدخول. وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف إذا حلف لا يدخل هذه الدار اليوم وغداً، أو قال: لا أدخلها اليوم ولا غداً فهو كما قال، ولا يدخل الليلة التي بين اليومين. وفيه أيضاً: إذا حلف لا يدخل دار فلان وهما في سفر فهذا على الفسطاط والقبة والخيمة وكل منزل ينزلانه، فإن عنى به واحداً من هذه الثلاثة يُدين فيما بينه وبين الله تعالى، ولا يدين في القضاء. وفيه أيضاً: العلو إذا لم يكن طريقه في سفله. وإنما كان في دار أخرى بجنب بسفله فهو من الدار التي طريقه فيها. وإذا حلف لا يدخل على فلان فقد ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : أن الدخول على فلان متى أُطلق يراد به في العرف الدخول على فلان لأجل الزيارة والتعظيم له في مكان يزار فيه يعني مكان يجلس فيه لدخول الزائرين عليه، وإلى هذا أشار القدوري في «كتابه» فإنه قال: لو دخل عليه في مسجد أو ظلة أو دهليز لم يحنث، وكذلك لو دخل عليه في فسطاط أو خيمة إلا أن يكون من أهل البادية، والمعتبر في ذلك العادة، فأما في عرفنا إذا دخل عليه في مسجد يحنث في يمينه؛ لأنه جرّت العادة في ديارنا بالجلوس في المساجد لدخول الزائرين. ولو دخل ولم يعضده بالدخول أو لم يعلم أنه فيه لم يحنث، لأن شرط حنثه الدخول على وجه الزيارة والتعظيم، والدخول على هذا الوجه لا يتحقق على ما لم يقصد بالدخول مما هو شرط الحنث لا يتحقق فلا يحنث في يمينه. وفي «القدوري» : إذا دخل على قوم وهو فيهم ولم يقصده لم يحنث فيما بينه وبين

الله تعالى، إلا أنه لا يصدق في القضاء؛ لأنه خلاف الظاهر لأن الظاهر دخوله على الجملة. وفيه أيضاً: الدخول عليه أن يقصده بالدخول سواء كان بيته أو بيت غيره. ولو حلف لا يدخل على فلان في هذه الدار فدخل الدار وفلان في بيت منها لا يحنث، وإن كان في صحن الدار حنث، لأنه لا يكون داخلاً عليه إلا إذا شاهده، وكذلك إذا حلف لا يدخل على فلان في هذه القرية لم يحنث، إلا إذا دخل بيته، وهذا لأن تخصيص القرية لنفي اليمين عن غير القرية، وكثير من مسائل الدخول قد مرّ في كتاب الطلاق.

كتاب الاستحسان والكراهية

كتاب الاستحسان والكراهية هذا الكتاب يشتمل على اثنين وثلاثين فصلاً: 1 * في العمل بخبر الواحد 2 * في العمل بغالب الرأي 3 * في الرجل رأى رجلاً يقتل أباه، وما يتصل به 4 * في الصلاة، والتسبيح، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء ورفع الصوت عند قراءة القرآن والذكر والدعاء 5 * في المسجد والقبلة والمصحف وما كتب فيه شيء من القرآن، نحو الدراهم والقرطاس، أو كتب فيه ذكر الله تعالى 6 * في سجدة الشكر 7 * في المسابقة 8 * في السلام، وتشميت العاطس 9 * فيما يحل للرجل النظر إليه، وما لا يحل، وما يحل له مسه، وما لا يحل 10 * في اللبس؛ ما يكره من ذلك، وما لا يكره 11 * في استعمال الذهب والفضة 12 * في الكراهية في الأكل 13 * في الهبة، ونثر الدراهم، والسكر، وما رماه صاحبه 14 * في الكسب 15 * في نقل الميت 16 * في معاملة أهل الذمة 17 * في الهدايا والضيافات 18 * في الغناء، واللهو، وسائر المعاصي، والأمر بالمعروف

19 * في التداوي والمعالجات، وفيه العزل، وإسقاط الولد 20 * في الختان والخصاء وقلم الأظافير، وقص الشوارب، وحلق المرأة شعرها، ووصلها شعر غيرها بشعرها. 21 * في الزينة، واتخاذ الخادم للخدمة 22 * في قتل المسلم والده المشرك، ومن بمعناه، وقتله سائر محارمه. 23 * فيما يسع من الجراحات في بني آدم والحيوانات، وقتل الحيوانات، وما لا يسع من ذلك. 24 * في تسمية الأولاد وكناهم 25 * في الغيبة والحسد 26 * في دخول النساء الحمام، وفي ركوبهن على السروج 27 * في البيع، والاستيام على سوم الغير 28 * في الرجل يخرج إلى السفر ويمنعه أبواه، أو أحدهما أو غيرهما من الأقارب أو يمنعه الدائن، والعبد يخرج ويمنعه المولى والمرأة 29 * في القرض ما يكره من ذلك، وما لا يكره 30 * في ملاقاة الملوك، والتواضع لهم، وتقبيل أيديهم، أو يد غيرهم، وتقبيل الرجل وجه غيره، وما يتصل بذلك. 31 * في الانتفاع بالأشياء المشتركة 32 * في المتفرقات

الفصل الأول في العمل بخبر الواحد

الفصل الأول في العمل بخبر الواحد هذا الفصل يشتمل على أنواع: الأول: في الإخبار عن أمر ديني؛ نحو الإخبار عن نجاسة الماء وطهارته، والإخبار عن حرمة المحل وإباحته وما يتصل بذلك، قال محمد رحمه الله: وإذا حضر المسافر الصلاة، فلم يجد ماءً إلا في إناء أخبره رجل أنه قذر، وهو عنده مسلم مرضي؛ لم يتوضأ به؛ لأنه أخبر بأمرٍ من أمور الدين، وهو حرمة استعمال الماء، ووجوب التيمم عليه. وخبر الواحد حجة في أمور الدين إذا كان المخبر مسلماً عدلاً بالآثار والمعقول، أما الآثار فمن جملة ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث دحية الكلبي إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام، وعبد الله بن أنيس إلى كسرى، ومع كل واحد منهما كتاب، (لو) لم يكن خبر الواحد حجة لما اكتفى ببعث الواحد، وعن عمر رضي الله عنه أنه حين ورد ماء الحياض قال عمرو بن عاص: ارحل مراد.... أخبرنا عن السباع أترد ماءكم، فقال عمر رضي الله عنه: لا تخبرنا عن شيء منهما....؛ لولا أن هذا ... عده خبره خبراً وإلا ما نهاه عن ذلك. وأما المعقول: وهو أنا لو لم نعمل بالخبر الواحد.... أمور الدين الأخرى الكذب احتجنا إلى أن نعمل باستصحاب الحال متى أخبر بنجاسته، أو بهلال رمضان، أو بالقياس متى روي خبر في أحكام تخالف القياس. والعمل بالخبر الواحد إذا كان مسلماً عدلاً؛ أولى من العمل باستصحاب الحال والقياس، أما استصحاب الحال؛ فلأنه عمل بعدم الدليل، وخبر المسلم العدل حجة من حيث إن الصدق فيه رآه إن لم يكن حجة، من حيث إن احتمال الكذب باق، وأما القياس فلأن ما يدل على الخطأ منه في القياس راجح على ما يدل على الصواب؛ لأنه من الجائز أن يكون الحكم في الأصل معلولاً بعلة أخرى غير ما علله المعلل، ومن الجائز أن يكون مصيباً فيما علل، إلا أنه ورد النص بخلافه لكن لم يبلغه، فكان ذلك الخطأ راجحاً على دليل الصواب، وما يدل على الصدق في الخبر الواحد المسلم العدل راجح على ما يدل على الكذب؛ لأن دليل الكذب ثابت من وجه واحد، وهو أنه غير معصوم عن الكذب، ودليل الصدق ثابت من وجهين؛ أحدهما: عقله ودينه، والثاني: عدالته، فكان العمل

بخبر الواحد أولى، وكذلك إذا كان المخبر عبداً أو أمة، أو امرأة حرة؛ لأن العمل بخبر الواحد إذا كان مسلماً عدلاً؛ إنما وجب لترجيح دليل الصدق على دليل الكذب؛ باعتبار عقله ودينه وعدالته، وهذا المعنى موجود في حق العبد والأمة والمرأة الحرة إذا كانوا عدولاً مسلمين، والدليل عليه أن كثيراً من العبيد رووا أخباراً عن النبي عليه السلام؛ كبلال وغيره رضي الله عنه، وكذلك أزواج النبي عليه السلام روين أخباراً عن النبي عليه السلام؛ حتى عدّت عائشة رضي الله عنها من كبار الصحابة رأياً ورواية، وإذا ثبت هذا في رواية الأخبار من النبي عليه السلام ثبت فيما يخبر من أمور الدين؛ هذا إذا كان المخبر عدلاً. وإن كان المخبر غير ثقة، أو كان لا يدرى أنه ثقة أو غير ثقة، يريد أن المخبر إذا كان فاسقاً أو مستوراً نظر فيه؛ لأنه استوى دليل الصدق والكذب في حقه؛ لأن عقله ودينه إن كانا يدلان على الصدق ففسقه وكونه غير معصوم عن الكذب يدلان على الكذب، فلابد من الترجيح، وليس ههنا دليل على الترجيح سوى التحري، وأكثر الرأي، فإن كان أكثر رأيه أنه صادق تيمم، ولم يتوضأ بترجيح جانب الصدق على جانب الكذب بالتحري، وإن أراقه ثم تيمم بعد ذلك كان أحوط، ولم يذكر مثل هذا في الخبر الواحد إذا كان عدلاً؛ لأن هناك رجحان الصدق بالعدالة ثابت بدليل لا بمجرد الظن؛ لأن العدالة عبارة عن انزجاره عن المعاصي، وإنه دليل ظاهر في نفسه، فسقط اعتبار جري الكذب أصلاً، وأما ههنا رجحان الصدق بالتحري ثابت بمجرد الظن، فبقي شبهة اعتبار جري الكذب، فكان إراقة الماء حتى يصير عارٍ عن الماء الطاهر من كل وجه أحوط، وإن كان أكثر رأيه أنه كاذب توضأ به، ولم يلتفت إلى قوله، وأجزأه ذلك، ولا يتيمم عليه؛ (لأنه) أرجح جهة الكذب بالتحري، فلم تثبت نجاسته، فبقي الماء على الطهارة؛ هذا هو جواب الحكم. فأما في.... والاحتياط: فالأفضل له أن يتيمم بعد الوضوء؛ لأن جانب الكذب إنما ترجح بمجرد الظن، فلم يسقط اعتبار جري الصدق فلا يجب الجمع بينهما بالأخرى؛ لكن يندب إلى ذلك؛ كإراقة الماء في الفصل الأول؛ لا يجب جبراً بل يندب إليه. ثم إن محمداً رحمه الله ألحق المستور بالفاسق، وهذا جواب ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما: أن المستور في هذا الحكم كالعدل، وهذا ظاهر على مذهبه، فإنه يجوز القضاء بشهادة المستورين إذا لم يطعن الخصم، وسيأتي هذا الفصل إن شاء الله تعالى، وهذا إذا كان المخبر مسلماً. فإن كان المخبر بنجاسة الماء ذمياً لا تثبت نجاسة الماء بقوله؛ لأن المخبر لو كان مسلماً فاسقاً لا يثبت نجاسة الماء؛ لأنه فاسق فعلاً، فلأن لا تثبت النجاسة بقول الذمي، وإنه فاسق فعلاً واعتقاداً كان أولى.

فرق بين الذمي وبين الفاسق من وجهين: أحدهما: أن الفاسق أوجب التحري، وفي الذمي لا يوجب التحري، والفرق أن الفاسق استوى دليل الصدق، ودليل الكذب، فوجب الترجيح بالتحري، وفي حق الذمي ترجح جانب الكذب من غير تحر؛ لأن عقله ودينه الذي هو دليل الصدق في حق المسلم يحمله على الكذب في حق المسلم؛ لأنه يعتقده على دين باطل فيقصد الإضرار به بكل ما أمكنه، وإليه وقعت الإشارة، في قوله تعالى: {لا يألونكم خبالاً} (آل عمران:18) أي: إنما يقصدون في إفساد أموركم، فإذا ترجح جانب الكذب في حقه بدون التحري؛ لا يجب التحري؛ لأن التحري إنما يجب لترجيح أحد الدليلين على الآخر، ولكن يستحب التحري؛ لأن احتمال الصدق باق؛ لأن ترجح جانب الكذب في حق الذمي ما كان بدليل يوجب علم اليقين، فيبقى (77أ2) احتمال الصدق، فلبقاء احتمال الصدق يستحب له التحري، ولترجيح جهة الكذب بنوع دليل لم يجب التحري، فإن تحرى ووقع في قلبه أنه صادق فيما يخبر لا يجب عليه التيمم؛ لأن هذا التحري يستحب وليس بواجب، فالعمل به يكون مستحباً لا واجباً، فإن تيمم لا يجزئه ما لم يرق الماء أولاً، بخلاف ما لو أخبره فاسق وتحرى، ووقع تحريه أنه صادق فيما أخبر من نجاسة الماء، فتيمم قبل إراقة الماء، فإنه يجزئه، وهو الفرق الثاني. والوجه في ذلك: أن هذا التحري إذا كان مستحباً لا واجباً ثبتت النجاسة بهذا التحري في الاستحباب دون الحكم، فإذا لم تثبت النجاسة في حق الحكم كان الثابت في حق الحكم الطهارة، فإذا تيمم قبل الإراقة، فقد تيمم مع وجود الماء الطاهر في حق الحكم فلا يجوز، أما في حق الفاسق التحري واجب، فثبتت النجاسة بالتحري من حيث الحكم، فيصير الماء نجساً من حيث الحكم، ولكن احتمال الطهارة من وجه؛ لأن الصدق ترجح بمجرد الظن لا بدليل، فتستحب الإراقة ولا تجب. والذي ذكرنا من الجواب في الذمي: إذا أخبر بنجاسة الماء؛ فهو الجواب في الصبي العاقل والمعتوه؛ لأن دليل الكذب فيها راجح على دليل الصدق؛ لأن الصبي ناقص العقل، والمعتوه كذلك، فيكون عقله دليلاً على الصدق من وجه دون وجه، ودينه كذلك؛ لأن الدين إنما يصير مانعاً بالعقل، وإذا كان عقلهما ودينهما دليلاً على الصدق من وجه دون وجه؛ كان دليلا الصدق والكذب في حقهما على السواء، وترجح جانب الكذب لكونه غير معصوم عن الكذب، فصار الجواب في حقهما كالجواب في حق الذمي من هذا الوجه. رجل اشترى لحماً فلما قبضه أخبره مسلم ثقة أنه ذبيحة المجوسي، لم ينبغ له أن يأكله؛ لأن المشهود به حرمة التناول، وإنه حق الله تعالى، وإثباتها لا يتضمن زوال الملك، فإن حرمة الانتفاع مع قيام الملك يجتمعان في الجملة، والمشهود به إذا كان بهذه الصفة يثبت بقول الواحد، فرق بين هذه المسألة وبين مسألتين: إحداهما: رجل تزوج امرأة، فجاء مسلم ثقة أو امرأة، وأخبر أنهما ارتضعا من

امرأة واحدة، فأحبُّ إليَّ أن يتنزه عنها فيطلقها، ويعطيها نصف الصداق إن لم يكن دخل بها، وإن لم يفعل فذلك له واسع. المسألة الثانية: رجل اشترى جارية، فأخبره مسلم ثقة أنها حرة الأصل، أو أنها أخت المشتري من الرضاعة، فإنه يتنزه عن وطئها، فذلك له أفضل، وإن لم يفعل، فذلك له واسع. والفرق: أن في أبضاع الحرائر؛ لا يمكن إثبات الحرمة في المحل على سبيل التأبيد إلا بزوال الملك، والملك من حقوق العبد، فلا يثبت زواله إلا بما هو حجة في حق العباد، وهي شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، فأما فيما عدا أبضاع الحرائر يمكن إثبات حرمة الانتفاع مع قيام الملك في الجملة، فلم يكن ثبوت الحرمة متضمناً زوال الملك، فكان هذا إخباراً عن محض الحرمة، وإنها حق الله تعالى، فجاز أن يثبت بخبر الواحد. قال في مسألة اللحم: ولا يرده على البائع؛ لأن في الرد على البائع إزالة ملك البائع عن الثمن؛ لأنه استوجب الثمن بالعقد قبل هذا الخبر، وقول الواحد ليس بحجة في إبطال ملك الغير. فإن لم يبعه هذا الرجل، ولكن أذن له في التناول، وأخبره ثقة مسلم أنه ذبيحة مجوسي لم يحل أكله لما قلنا، فإن اشترى بعد ذلك كان على الحالة التي كان عليها قبل الشراء؛ لأن حرمة العين في حقه ثبتت بالخبر الواحد، والبيع لا أثر له في إزالة الحرمة الثابتة في العين، والميراث والوصية والهبة بمنزلة الشراء في الأكل والشرب والوطء وغير ذلك. قال: ولو أن رجلاً اشترى طعاماً أو جارية أو ملك ذلك بميراث فجاء مسلم ثقة، وشهد أن هذا لفلان الفلاني؛ غصبه البائع أو الواهب أو الميت، فأحب إلينا أن يتنزه عن أكله ووطئها، وإن لم يتنزه كان في سعة. فرق بين هذا وبينما إذا اشترى لحماً، فأخبره مسلم أنه ذبيحة المجوسي، فإنه يحرم أكلها، وكذلك لو أخبره مسلم ثقة أن هذا الماء نجس، فإنه يحرم استعماله، والفرق: أن في ذبيحة المجوسي، ونجاسة الماء المشهود به حرمة العين، وإنه من حق الله تعالى؛ لأن حق العبد حق لا يزول بإباحة العين، وقد أمكن إثباتها بدون إزالة الملك لما ذكرنا أنه قد يحرم الانتفاع بالعين مع بقاء الملك، فإن العصير إذا تخمر، والدهن إذا وقعت فيه النجاسة يحرم الانتفاع، ولا يزول العصير والدهن عن ملكه، ولما كان هكذا كان المشهود به حرمته هي خالص حق الله تعالى فجاز أن يثبت بالخبر الواحد، أما ههنا المشهود به حرمة ثبتت حقاً للمالك؛ لأن المشهود به كون ما في يد البائع مغصوباً، وشراء المغصوب حرام حقاً للمالك، وكان المشهود به حقاً من حقوق العباد، وشهادة الواحد في حقوق العباد اعتبر حجة في حق التنزه؛ لا في حق الحكم كما في مسألة الرضاع التي ذكرناها.

وكذلك طعام أو شراب في يدي رجل أذن لغيره في أكله أو شربه أو التوضؤ به، فأخبره مسلم ثقة أن هذا غصب في يديه من فلان، فأحب إلي أن يتنزه، فإن لم يتنزه وأكله أو شربه أو توضأ به، فهو في سعة من ذلك، وإن لم يجد وضوءاً غيره، وهو في سفر توضأ به، ولم يتيمم. نوع آخر في تعارض الخبرين في نجاسة الماء وطهارته، أو في حرمة العين وإباحته رجل دخل على قوم من المسلمين يأكلون طعاماً، ويشربون شراباً، فدعوه إليه، فقال رجل مسلم ثقة قد عرفه: هذا اللحم ذبيحة المجوسي، أو قال: خالط لحم خنزير، وهذا الشراب خالط الخمر، وقال الذين يدعون إلى ذلك: ليس الأمر كما قال؛ بل هو حلال، وبينوا الوجه فيه قال: ينظر في حالهم، فإن كانوا عدولاً ثقات لم يلتفت إلى قول ذلك الرجل الواحد بمقابلة قولهم. فرق بين الخبر وبين الشهادة، فإن المدعيين لعين واحد إذا أقام أحدهما شاهدين، وأقام الآخر جماعة، فإنه لا يترجح الجماعة على المثنى إذا استووا في العدالة، والفرق وهو أن الشهادة إن كانت إخباراً حقيقة فهي من الشاهد لو رجع يضمن، وبدليل أنه شرط لفظة الشهادة والعدد، وإنما شرط ذلك؛ لأنه لما جعل هذا إيجاباً حكماً كان هذا أمراً ثابتاً بخلاف الحقيقة، فوجب مراعاة جميع ما ورد الشرع من الشرائط، قلنا: وما يكون إيجاباً وإثباتاً حقيقة يستوي فيه المثنى والجماعة (77ب2) فأما الإخبار بنجاسة الماء وطهارته، والإخبار عن الحل والحرمة؛ إخبار عن حقيقة ذلك، ولهذا لم يشترط لفظ الشهادة والعدد، والخبر إنما يترجح بزيادة عدد في المخبر؛ لأنهما كرجل في حد العيان، أو يقرب منه. وإن كانوا متهمين، أخذ بقوله ولم يسعه أن يقرب شيئاً من ذلك الطعام والشراب، ولا تقوم زيادة العدد مقام العدالة. فإن قيل: أليس أن الفاسقين إذا شهدا أن فلاناً طلق امرأته واحدة بائنة، أو أعتق أمته، فإن القاضي يحول بين المشهود عليه، وبين المرأة والعبد؛ كما لو شهد بذلك واحد عدل، وأقيم زيادة العدد مقام العدالة، قلنا: في هذه المسألة روايتان فعلى إحدى الروايتين لا يحال، ولا يقام زيادة العدد مقام العدالة، فعلى هذه الرواية يحتاج إلى الفرق، والفرق أن في تلك المسألة ليس لمعارضة قول الفاسقين قول عدل بخلافه فجاز أن يقام العدد مقام العدالة. قال: ويستوي أن يكون المخبر مسلماً أو مسلمة، حراً أو عبداً، ذكراً أو أنثى بعد أن يكون عدلاً ثقة؛ لأن هذا من أمور الدين، فإن كان في القوم رجلان ثقتان أخذ بقولهما؛ لأن الخبر يترجح بزيادة العدد على ما مر، وإن كان فيهم واحد ثقة عمل فيه على أكثر رأيه؛ لأن الخبرين استويا في الحجة، فلابد من الترجيح، وذلك بالتحري، فإن لم يكن له فيه رأي، واستوى الحالان عنده، فلا بأس بأكل ذلك وشربه، وكذلك الوضوء

منه في جميع ذلك، يريد به إذا أخبره واحد بنجاسة الماء، وجماعة بطهارته، وفيهم واحد ثقة، فإنه يتحرى، وإن لم يقع تحريه على شيء فلا بأس بالتوضؤ به. فرق بين هذا وبينما إذا عدّل الشاهد واحد وجرحه واحد، فإنه يؤخذ بقول الجارح، ولايبقى ما كان على ما كان. والفرق: أن الجارح فيما جرح اعتمد العيان بارتكاب المحظور، وارتكاب المحظور مما يعاين، فأما المعدل اعتبر استصحاب الحال؛ لأنه نفى أسباب الحرج ما لم يعلم حقيقة، فكان خبر من اعتمد الدليل أولى، وأما ههنا كل واحد منهما فيما أخبر اعتمد دليلاً؛ لأن طهارة الماء ونجاسته تعلم حقيقة بالدليل في الجملة، وكذلك حل الطعام وحرمته، فإذا وقع التعارض والاستواء، وأحدهما كاذب بيقين، والآخر صادق؛ تساقط الخبران، ووجب التمسك بالأصل. فإن قيل: وجب أن يترجح قول من يخبر بالنجاسة والحرمة كما في رواية الإخبار؛ قلنا: في رواية الإخبار إنما يؤخذ برواية الحرمة؛ لأنه لما جعل التاريخ جعل كأن الخبرين كانا، وصار أحدهما ناسخاً للآخر، وإنه ممكن أو يجوز أن يكون الشيء حلالاً، ثم يصير حراماً، وكذا يجوز أن يكون حراماً، ثم يصير حلالاً، إلا إن جعل الخبر المحرم ناسخاً أولى لما فيه من تعليل النسخ؛ لأنه ينسخ به الإباحة الثانية بالخبر المبيح لا غير، ولو جعل الخبر المبيح ناسخاً بنسخ الحرمة الثانية بالخبر المحرم بعد انتساخ الإباحة الأصلية بالخبر المحرم، وكان جعل الخبر المحرم ناسخاً، وفيه تعليل الفسخ أولى؛ أما ههنا لا يمكننا أن نجعل كلا الأمرين كأنهما كانا، فإنه متى ذبح هذه الشاة مجوسي، أو وقع في الماء نجاسة لا يتصور أن يكون الماء طاهراً، وتكون ذبيحة مسلم، فكان الثابت أحدهما، ولا يدرى ذلك لمكان التعارض فتساقطا. فإن كان الذي أخبره بالحل مملوكين ثقتين، والذي أخبره بالحرمة حر واحد، فلا بأس بأكله؛ لأن في الخبر الديني الحر والمملوك سواء، ولا يقع التعارض بين الواحد وبين الاثنين في الصدق على ما بينا. وإن كان الذي أخبره بأحد الأمرين عبد ثقة، والذي أخبره بالأمر الآخر ثقة؛ عمل بأكثر رأيه؛ لأن الخبرين استويا، فلابد من التحري لإمكان العمل، فإن أخبره بأحد الأمرين مملوكان ثقتان، وبأمر أخر حران ثقتان أخذ بقول الحرين؛ لأن الخبرين استويا في دليل الصدق، فلابد من الترجيح لإمكان العمل، وطريقه إما التحري أو حرية المخبرين، فحرية المخبرين صالحة للترجيح، والترجيح بها أولى؛ لأن خبر الحرين حجة في الأحكام، وخبر المملوكين ليس بحجة في حق الأحكام، والترجيح بما هو حجة في حق الأحكام ترجيح بما هو دليل، والترجيح بالتحري ترجيح بمجرد الظن، ولا شك أن الترجيح بما هو دليل أولى من الترجيح بمجرد الظن. وهذا بخلاف ما إذا كان من أحد الجانبين حران، ومن الجانب الآخر ثلاثة أعبد، فإنه يؤخذ بقول العبيد، والفرق وهو الأصل في جنس هذه المسائل: أن الترجيح أولاً

يطلب من حيث العدد؛ لأنه بالعدد يدخل في حد العيان، أو يقرب منه، وبكونه حجة في حق الأحكام لا يدخل في حد العيان ولا يقرب منه، فكان الترجيح حجة في الأحكام بزيادة العدد أولى، وبعد الاستواء في العدد يطلب الترجيح بكونه حجة في الأحكام لا بالتحري؛ لأنه صار حجة في حق الأحكام بالشرع؛ لا بمجرد الظن، وبعد الاستواء في الحجة في الأحكام يطلب الترجيح بالتحري، فعلى هذا إذا كان المخبر من أحد الجانبين حرين عدلين، ومن الجانب الآخر أربعة، يترجح خبر الأربعة، وكذلك إذا أخبر بأحد الأمرين رجلان، وبالآخر رجل وامرأتان يؤخذ بخبر رجل وامرأتين لما فيه من زيادة العدد، فعلى هذا الأصل يخرج جنس هذه المسائل. وإذا كان في يدي رجل طعام أو شراب أذن لغيره في أكله أو شربه، فأخبره مسلم ثقة أن هذا غصب في يديه من فلان، والذي في يديه يكذبه، ويقول: إنه ملكي، وصاحب اليد متهم غير ثقة، فأحب إلي أن يتنزه، وإن أكله أو شربه أو توضأ به فلا بأس؛ لأن قول الفاسق بمقابلة قول العدل غير معتبر، فصار وجوده والعدم بمنزلة، ولو عدم قوله كان قول الواحد حجة في حق التنزه دون الحكم، وكذا ههنا. ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ما إذا كان صاحب اليد ثقة عدلاً، وقد أخبر أنه ملكه لم يغصبه من أحد، وقد اختلف المشايخ فيه، قال الفقيه أبو جعفر الهندواني: لا يتنزه؛ لأن الخبرين تساقطا بحكم التعارض، فبقيت الإباحة الأصلية بخلاف ما إذا كان فاسقاً، وغيره من المشايخ قال: يتنزه وهو الصحيح؛ لأن صاحب اليد بخبره يشهد لنفسه؛ لأن الغصب في حق التنزه ثبت بقول الواحد، فيمتنع الناس عن شرائه تارة فهو كقوله: أي مالك يرغب الناس في الشراء، فكان في معنى الشاهد لنفسه، فلا يعارض خبر ذي اليد خبر المخبر عن الغصب، فبقي الغصب في حق التنزه (78أ2) ثابتاً كما كان.m ويقع الفرق على قول هؤلاء المشايخ بين هذه المسألة، وبين مسألة ذكرناها قبل هذا أن جماعة يأكلون الطعام ويشربون الشراب، فدخل عليهم مسلم، فدعوه إلى الأكل، فقال له عدل: إنه ذبيحة مجوسي، وقال واحد عدل من الآكلين: إنه حلال، فإنه يتحرى، فإن لم يقع تحريه على شيء لا بأس بأكله، ولم يذكر التنزه. والفرق: أن هناك صاحب اليد بقوله: هذا مباح فكله؛ ليس يجر إلى نفسه منفعة، ولا يدفع عن نفسه مضرة، فكان خبر الخارج وخبر ذي اليد في حق السامع على السواء؛ أما ههنا صاحب اليد بخبره يدفع عن نفسه مضرة؛ لأن الغصب في حق التنزه ثبت بخبر العدل الخارج، وذلك يضر بصاحب اليد؛ لأن السامع يتنزه عن شرائه على ما ذكرها. فعلى هذا إذا أراد أن يشتري لحماً، فقال له خارج عدل: لا تشتره، فإنه ذبيحة مجوسي، وقال القصاب: اشتره فإنه ذبيحة مسلم، والقصاب عدل، فإنه تزول الكراهة بقول القصاب على قول الفقيه أبي جعفر، وعلى قول غيره من المشايخ لا تزول.

نوع آخر في العمل بخبر الواحد في المعاملات يجب أن يعلم بأن قول الواحد العدل حجة في المعاملات استحساناً، والقياس: أن لا يكون حجة؛ لأن المعاملة من حقوق العباد؛ لأنها شرعت لمصالحهم، وما يكون من حقوق العباد لا يثبت بقول الواحد كإثبات الملك وإزالته وغير ذلك، لكن استحسنا ذلك بالآثار وبنوع من الضرورة. أما الآثار: فمنها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكّلَ عروة في شراء الأضحية فجاء عروة، وأخبر بالشراء، فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، ولم يكلفه إقامة البينة على ما أخبر، وروي أن سلمان الفارسي رضي الله عنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رطباً، فقال عليه السلام: «أصدقة أم هدية» ؟ فقال سلمان: لا بل هدية، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل أصحابه، فقد صدق رسول الله عليه السلام سلمان فيما قال: هدية، حتى لم يحلفه عليه، وروي أن بريدة كان يتصدق عليها، وكانت تهدي ذلك إلى رسول الله عليه السلام؛ كان يصدقها فيما تقول وكان يقول: «هي لها صدقة ولنا هدية» ، وكان لا يكلفها إقامة البينة. وأما الضرورة: وهو أن المعاملة لابد للناس منها، ويكثر وقوعها فيما بين الناس، ويتكرر في كل يوم مرة بعد أخرى، فلو أمر المخبر في كل معاملة يباشرها بإقامة البينة لضاق الأمر على الناس، واحتاج كل بائع أن يستصحب مع نفسه شاهدين عدلين أناء الليل والنهار حتى يشهدا أن المبيع ملك البائع، أو أن صاحب العين وكله ببيع هذا العين، وهذا مما لا يمكن أو فيه حرج، وما لا يدخل في إمكاننا، أو فيه حرج فهو موضوع، فلهذه الضرورة صار خبر الواحد حجة في المعاملات، إلا أنه يشترط أن يكون المخبر عدلاً؛ لأنه متى كان فاسقاً يتعارض في خبره دليل الصدق ودليل الكذب، فيقع الشك في زوال ما كان ثابتاً، والثابت لا يزول بالشك، ويجب أن لا ينازع فيما قال؛ لأنه متى نوزع يندفع خبره بخبر المنازع، فيبقى ما كان على ما كان، وإذا ثبت أن خبر الواحد العدل حجة في المعاملات إذا لم ينازع في خبره كالثابت معاينة، ولو ثبت ما أخبره معاينة إن أفاد إباحة المعاملة تثبت الإباحة بخبره، وإن لم تفد إباحة المعاملة؛ لا تثبت الإباحة بإخباره؛ لأن الخبر لا تربو درجته على المعاينة. إذا عرفنا هذا فنقول: إذا كانت الجارية لرجل، فأخذها رجل آخر، وأراد أن

يبيعها، فإنه يكره لمن عرفها للأول أن يشتريها من هذا ما لم يعلم أنه ملكها من جهة المالك بسبب من الأسباب، أو أذن له ببيعها؛ لأنه اجتمع ما يوجب الإباحة، وما يوجب الحظر عليه بأنها كانت مملوكة الغير، يوجب الحظر قبل إذن المالك، وقبل أن يملكه صاحب اليد من جهة ذلك الغير، وكونها في يد ذي اليد، واليد تدل على الملك من حيث الظاهر يدل على الإباحة، فهو معنى قولنا: إنه اجتمع ما يوجب الحظر وما يوجب الإباحة، فثبتت الكراهة؛ لأن حد المكروه ما يجتمع فيه دليل الحظر والإباحة كما في...... وإن اشترى جاز ويكون مكروهاً؛ وهذا لأنا متى حرمنا الشراء عطلنا ما يدل على الإباحة وهو ظاهر اليد، ومتى حكمنا بالجواز مطلقاً من غير كراهة عطلنا سبب الحظر، وهو علمه بأنها ملك الغير، وملك الغير حرام الشراء قبل الإذن فأثبتنا الكراهة عملاً بالأمرين، وإن علم أن المالك أذن له بالبيع، أو ملكه بوجه من الوجوه، فلا بأس بأن يشتريها منه، ويكون الشراء جائزاً من غير كراهة؛ لأنه زال سبب الحظر، فإن ملك الغير سبب الحظر إلى غاية الإذن، أو التملك من جهة ذلك الغير. وإن قال الذي في يديه: إني اشتريتها أو وهبها لي أو تصدق علي بها، أو وكلني ببيعها؛ جاز له أن يشتري منه إذا كان عدلاً مسلماً لما ذكرنا أن قول الواحد العدل حجة في الديانات إذا لم ينازع في قوله، والمخبر هنا لم ينازع في خبره، فصار خبره حجة، وصار الثابت بخبره كالثابت معاينة، ولو عاين ما قال أفاد إباحة المعاملة معه؛ فكذا إذا ثبت بخبره، وهو عدل. ثم إن محمداً رحمه الله شرط في هذه المسألة: أن يكون صاحب اليد مسلماً عدلاً والعدالة شرط، أما الإسلام ليس بشرط، فإن قول الذمي إذا كان عدلاً حجة في المعاملات على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، والحاكم الشهيد ذكر في «مختصر العدالة» ، ولم يذكر الإسلام، وتبين بما ذكر الحاكم أن ذكر الإسلام من محمد رحمه الله اتفاقي لا أن يكون شرطاً. وإن كان الذي في يديه الجارية فاسقاً لا تثبت إباحة المعاملة معه بنفس الخبر؛ بل يتحرى في ذلك، فإن وقع تحريه على أنه صادق حلَّ له الشراء منه، وإن وقع تحريه على أنه كاذب لا يحل له أن يشتريها منه، وإن لم يكن له رأي يبقى ما كان في الديانات. وكذلك لو أن هذا الرجل لم يعرف كون هذه الجارية لغير صاحب اليد حتى أخبره الذي في يديه الجارية أن هذه الجارية ملك فلان، وأن فلاناً وكله ببيعها لا يسعه أن يشتري منه ما لم يعلم أن فلاناً ملكه من صاحب اليد، أو أذن له ببيعها؛ لأن إقرار صاحب اليد لغيره بما في يده حجة شرعاً، والثابت بالحجة الشرعية كالثابت عياناً، ولو عاين المريد للشراء (78ب2) كون الجارية لغير صاحب اليد بالعيان، لا يسعه أن

يشتريها منه ما لم يعلم أن ذلك الغير ملكه من صاحب اليد، أو أذن صاحب اليد بالبيع؛ كذا ههنا، وإن لم يعلم هو أن الجارية ملك الغير، ولم يخبر صاحب اليد بذلك؛ لا بأس بأن يشتري من ذي اليد وإن كان ذو اليد فاسقاً. فرق بين هذا وبينما إذا علم أن ما في يده كان لغيره؛ لا يسعه أن يشتري منه ما لم يعلم أن ذلك الغير ملكها من صاحب اليد، وأذن له ببيعها. والفرق: أن المريد للشراء إذا علم أن الجارية كانت لغير ذي اليد، فإنما يباح له المعاملة مع ذي اليد إذا ثبت الانتقال إلى ذي اليد وتثبت الوكالة، أو لم يثبت ذلك بقول صاحب اليد إذا كان فاسقاً؛ لأن خبر الفاسق محتمل للصدق والكذب، ولم يثبت ذلك أيضاً بظاهر يده؛ لأن يده محتملة بين أن تكون يد ملك أو يد وكالة، وبين أن تكون يد غصب، فلا تثبت يد ملكه، ولا يد وكالته بالاحتمال، وإذا لم يثبت الانتقال ولا الوكالة لم تثبت إباحة المعاملة. فأما إذا لم يعلم المريد للشراء كون الجارية ملك الغير لا بالمعاينة، ولا بإقرار ذي اليد يمكن تجويز هذه المعاملة مع ذي اليد بناءاً على أولية الملك لذي اليد في هذا العين بإثبات يده عليه؛ لأن الانتقال إلى ذي اليد، أو الوكالة من جهة الغير إن تعذر إثباته إذا لم يعلم كون الجارية ملكاً للغير؛ أمكن إثبات أولية الملك له؛ لأن الملك يثبت للفاسق من الابتداء في العين بإثبات اليد علىه كما ثبت للعدل، واستوى فيه العدل والفاسق. قال: إلا أن يكون مثله لا يملك ذلك الشيء في الغالب، وذلك كدرة نفيسة في يد فقير لا يملك قوت يومه؛ يعلم بدلالة الحال أن مثله لا يملك ذلك، وككتاب في يد جاهل لم يكن في آبائه من هو أهل لذلك، فحينئذٍ يستحب له أن يتنزه، ولا يتعرض له بشراء، ولا قبول هدية ولا صدقة؛ لأنه ثبت كون ما في يده لغيره بدلالة الحال، ولو ثبت كون ما في يده لغيره بالعيان، أو بإخبار صاحب اليد يكره الشراء ما لم يثبت الانتقال أو الوكالة، فإذا ثبت ذلك بدلالة الحال إن لم تثبت الكراهية؛ لأن دلالة الحال دون ذلك وجب التنزه. وإن كان الذي أتاه بذلك امرأة حرة؛ كان الجواب فيها كالجواب في الرجل؛ لأن قول الرجل إنما صار حجة في المعاملات للضرورة، والضرورة متحققة في حق المرأة؛ لأن المرأة تحتاج إلى المعاملة كالرجل، فصار قولها حجة كقول الرجل. وإن كان الذي أتى به عبداً أو أمة، فليس ينبغي أن يشتري منه شيئاً، وكذلك لا ينبغي أن يقبل منه هبة، ولا صدقة حتى يسأله عن ذلك؛ لأنه علم يقيناً أن ما في يده ملك غيره، فكان بمنزلة ما لو كان المال في يد حر علم أنه كان لغيره، وهناك كان الجواب على نحو ما ذكرنا. فإن سأله عن ذلك، فأخبر العبد أن مولاه أذن له في بيعه وهبته وصدقته فإن كان العبد ثقة؛ لا بأس بأن يشتري ذلك منه؛ لأن قول العبد في المعاملات إذا كان العبد ثقة كقول المرأة قوله حجة؛ لأن للناس ضرورة في المعاملات مع العبيد، فإن الإذن في

التجارة مشروعة، وكذلك الكتابة مشروعة، فمتى لم يقبل قول العبد على ذلك يحتاج إلى أن يقيم شاهدين على الإذن في التجارة أو على الكتابة وفيه حرج، فصار قول العبد حجة في المعاملات لهذا. وأما إذا كان فاسقاً، فإنه يتحرى في ذلك؛ لأن العبد في المعاملات كالحر، والحر لو كان فاسقاً، وقد أخبر أن صاحب العين ملك العين منه، أو وكله ببيع العين، فإن المريد للشراء يتحرى، فكذلك ههنا، فإن لم يقع تحريه على شيء بقي ما كان على ما كان (عليه) كما في الحر. ولو كان الذي أتى به غلاماً صغيراً، أو جارية صغيرة حراً أو مملوكاً، لم يسعه أن يشتري منه قبل السؤال؛ لأن الحجر ثابت بيقين لوجود سببه وهو الصغر، فما لم يعلم بزوال الحجر لا تجوز المعاملة معه، فإن قال: إنه مأذون له في التجارة فإنه يتحرى، وإن كان الصبي عدلاً، وهذا لأن الصبي وإن كان عدلاً فهو ناقص العقل، ونقصان العقل سبب الإقدام على الكذب لقلة المبالاة، فكان الصغير كالفاسق، فإن لم يقع تحريه على شيء يبقى ما كان على ما كان (عليه) قبل التحري. وكذلك لو أن هذا الصغير أراد أن يهب ما أتى به من رجل، أو يتصدق به عليه، فينبغي لذلك الرجل أن لا يقبل هديته، ولا صدقته حتى يسأل عنه، فإن قال: إنه مأذون له في الهبة والصدقة، فالقابض يتحرى، ويبني الحكم على ما يقع تحريه عليه، وإن لم يقع تحريه على شيء يبقى ما كان على ما كان (عليه) قبل التحري. قال محمد رحمه الله: وإنما يصدق الصغير فيما يخبر بعدما تحرى، ووقع تحريه أنه صادق إذا قال: هذا المال مال أبي أو مال فلان الأجنبي أو مال مولاي، وقد بعث به إليك هبة أو صدقة، فأما إذا قال: هو مالنا، وقد أذن لنا أبونا أن نتصدق به عليك أو نهبه لك؛ لا ينبغي له أن يقبل؛ لأن الثابت بخبره لا يكون أعلى حالاً من الثابت معاينة، ولو عاين السامع أن الأب أذن له أن يهب مال نفسه، أو يتصدق بمال نفسه؛ لا يحل له أن يقبل ذلك منه؛ كذا ههنا. وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: الصبي إذا أتى بقالاً بفلوس يشتري منه شيئاً، وأخبره أن أمه أمرته بذلك، فإن طلب الصابون ونحوه فلا بأس بأن يبيعه منه، وإن طلب الزبيب، وما يأكله الصبيان عادة، فينبغي أن لا يبيعه منه؛ لأن الظاهر أنه كاذب فيما يقول، وقد عثر على فلوس أمه، فأراد أن يشتري بها حاجة نفسه؛ قال: وكذلك الفقير إذا أتاه عبد أو أمة بصدقة من مولاه يتحرى لما قلنا. قال: ولو أن رجلاً قد علم أن جارية لرجل يدعيها، فرآها في يدي رجل يبيعها، وقال للذي في يديه الجارية: قد علمت أنها كانت لفلان يدعيها، فقال الذي في يديه: قد كانت كما ذكرت في يده يدعيها أنها له، إلا أنها كانت لي، وقد كنت أمرته بذلك تلجئة لأمر خفته، وصدقته الجارية في ذلك، فإن كان الرجل مسلماً ثقة، فلا بأس بأن يشتري أمته؛ لأن قول العدل حجة في المعاملات إذا لم ينازعه أحد فيما أخبر، ولا منازع له ههنا من حيث الحقيقة، وهذا ظاهر، وكذلك لم يعرف له منازع بإقراره؛ لأنه أقر بكونه

وديعة عنده لفلان، والمودع لا ينازع المالك فيما كان وديعة عنده. وإن كان الذي في يديه الجارية فاسقاً يتحرى، (فإن تحرى) ووقع تحريه على أنه كاذب (79أ2) لا ينبغي له أن يشتريها منه، وإن وقع تحريه على أنه صادق، فلا بأس بأن يشتريها منه، وإن لم يقع تحريه على شيء يبقى ما كان على ما كان. ولو أن صاحب اليد لم يقل هذا القول الذي وصفت لك ولكن قال: إن فلاناً قد كان ظلمني وغصبني الجارية، فأخذتها منه، فلا ينبغي له أن يشتريها منه وإن كان عدلاً؛ لأنه قد ثبت له المنازعة بإقراره؛ لأنه قد أقر أن صاحب اليد غصبها منه، والغاصب منازع للمالك ما لم يرجع عن غصبه بخلاف الفصل الأول؛ لأن ثمة لم يقر بالمنازع؛ لأنه أقر بالوديعة، والمودع لا ينازع المالك في الوديعة؛ لأنه أخذها للحفظ للمالك لا لنفسه. وإن كان قال: إنه قد ظلمني وغصبني، ثم إنه رجع عن غصبه، وأقر بها لي ودفعها لي، فإن كان ثقة، فلا بأس بأن يشتري منه؛ لأن في هذه الصورة ما أقر بالمنازع، فإنه قال: رجع عن غصبه، وأقر بها لي ودفعها إليَّ، والغاصب بعدما رجع عن الغصب، ودفع المغصوب إلى المغصوب منه لا يبقى منازعاً للمغصوب منه، فلم تثبت المنازع ههنا لا من حيث الحقيقة ولا بإقراره، وقول العدل في المعاملات حجة إذا لم ينازعه فيه أحد، وإن كان الرجل فاسقاً تحرى في ذلك لما قلنا في الفصل الأول. وإن كان قال: لم يقر بها لي، ولكن خاصمته إلى القاضي، فقامت عليه بينة، فقضى القاضي عليه بذلك، أو استحلفته فنكل، فقضي عليه بهذا، فهذا والأول سواء، وإن كان عدلاً يشتري منه، وإن كان فاسقاً يتحرى؛ لأنه ما أقر بالمنازع ههنا لما قال قضى القاضي بالجارية لي؛ لأن الغاصب لا يبقى منازعاً بعد القضاء ما لم يجحد القضاء، ولم يذكر أنه جحد القضاء. وكذلك إذا قال: قضى القاضي لي بالجارية، وأمرني فأخذتها من منزله، أو قال: قضى القاضي بالجارية لي، وأخذها منه ودفعها إليَّ، فلا بأس بأن يشتريها منه إذا كان عدلاً؛ لأنه لم يقر بالمنازع، وإن قال: قضى بها القاضي لي فجحد لي قضاءه، فأخذتها منه، فلا ينبغي له أن يشتريها منه وإن كان عدلاً؛ لأنه أقر بالمنازع لما أقر أنه جحد القضاء، فالجاحد يكون منازعاً لا محالة. قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : وهذا بمنزلة ما لو قال الذي في يديه الجارية: اشتريتها من فلان الذي كان يدعيها، ونقدته الثمن، وأخذتها، فإنه حل له الشراء منه إذا كان عدلاً؛ لأنه لا يقر بالمنازع، وإن قال: جحد لي الشراء؛ لا ينبغي أن يشتريها منه وإن كان عدلاً؛ لأنه أقر بالمنازع ههنا. قال محمد رحمه الله في «الكتاب» أيضاً: وهذا بمنزلة ما لو قال: اشتريتها من فلان، وقبضتها بأمره، ونقدته الثمن، وهو عدل ثقة، فقال له رجل آخر: إن فلاناً جحد هذا الشراء، وزعم أنه لم يبع شيئاً منه، وهذا الثاني عدل ثقة عنده، لا ينبغي له أن يشتريها منه؛ لأنه قد ثبت المنازع بقول الثاني لما كان عدلاً لا فرق بين مسألة

الاستشهاد، وبينما إذا أخبره واحد بنجاسة الماء، وأخبره واحد بطهارة الماء، وهما عدلان، فإن هناك يتحرى وتثبت المعارضة بين الخبرين حتى أمر بالتحري. وكذلك إذا أخبر أحدهما أن هذا اللحم ذبيحة مجوسي، وأخبر الآخر أنه ذبيحة المسلم، وهما عدلان، فإنه يتحرى وتثبت المعارضة بين الخبرين، وفي مسألة الاستشهاد، وما أثبت المعارضة بين الخبرين؛ بل قال: يأخذ بقول الثاني. والفرق: وهو أن التحري إنما يجب حال مساواة الخبرين، وفي مسألة الاستشهاد لا مساواة؛ لأن الخارج فيما أخبر اعتمد دليلاً حادثاً يعرف من حيث الحقيقة والعيان، وهو جحود البائع، وذو اليد فيما أخبر من الشراء، وإقرار البائع بذلك لم يعتمد دليلاً جارياً على عدم الجحود، وإنما اعتمد استصحاب الحال، وهو إقراره بالشراء، وإقراره بالشراء لا يوجب عدم الجحود؛ بل عدم الجحود يكون ثابتاً باستصحاب الحال؛ لأن الأصل هو العدم، وقد ذكرنا أنه لا مساواة بين خبرين أحدهما ثابت بالدليل الحادث، والآخر ثابت بناءً على استصحاب الحال كما في الجرح مع التعديل، فأما في طهارة الماء ونجاسته تتحقق المساواة بين الخبرين؛ لأنه يمكن بناء كل واحد منهما على دليل يوجب العلم بما أخبر خبر النجاسة على معاينة وقوع النجاسة، وخبر الطهارة على معاينة اغتراف الماء من نهر عظيم يكون طاهراً واستصحاب الماء مع نفسه إلى وقت الخبر، وكذلك المخبر عن ذبيحة المسلم، وعن ذبيحة المجوسي؛ لأن كل واحد من الذبيحتين مما يشاهد ويعاين، فيكون كل واحد من الخبرين بناءً على دليل يوجب ما قال لا بناءً على عدم الدليل فاستويا، وعند استواء الخبرين يجب التحري، وإن كان المخبر عن الجحود فاسقاً قال: يتحرى في خبره. فرق بين هذا وبينما إذا أخبره رجل بطهارة الماء، وأخبر آخر بنجاسة الماء وأحدهما فاسق، فإنه يأخذ بقول العدل، وههنا لم يقل: إنه يأخذ بقول العدل؛ بل قال يتحرى. وجه الفرق: أن في مسألتنا الخبرين قد استويا، فإن كان المخبر عن الجحود فاسقاً، وصاحب اليد عدلاً؛ لأن خبر كل واحد منهما حجة من وجه دون وجه، أما خبر صاحب اليد فلأنه اعتمد استصحاب الحال، واستصحاب الحال حجة من وجه دون وجه، فإنه حجة في الدفع لا في إثبات الاستحقاق. وخبر الفاسق حجة من وجه دون وجه أيضاً، لاحتمال الصدق والكذب في خبره احتمالاً على السواء، ولما استويا وجب التحري، فأما في نجاسة الماء وطهارته، فخبر الفاسق لا يساوي خبر العدل؛ لأن خبرهما وإن استويا من حيث إن كل واحد منهما حصل من دليل حادث؛ إلا أن لخبر العدل رجحاناً من وجه آخر من حيث إنه حجة من كل وجه لرجحان الصدق في خبره، وخبر الفاسق حجة من وجه دون وجه لاحتمال الصدق والكذب في خبره احتمالاً على السواء، وإن كانا جميعاً فاسقين، فإن صدق القائل الثاني بقوله وعلى ذلك أكثر رأيه لم يقبل من ذلك شيئاً، فقد أمر بالتحري متى كانا

فاسقين، ويجب أن لا يتحرى؛ لأن (خبر) صاحب اليد لا يساوي خبر الخارج إذا كانا فاسقين؛ لأنهما في الفسق على السواء، والخارج يخبر عن دليل حادث، وذو اليد يخبر عن عدم الدليل، فيترجح خبر الخارج؛ كما لو كانا عدلين، والجواب قد ترجح خبر الخارج على خبر ذي اليد بالطريق الذي (79ب2) قلتم، فلا جرم يسقط اعتبار خبر ذي اليد بمقابلة خبر الخارج، ويلتحق بالعدم، إلا أن الخارج فاسق، وقد أخبر بما يوجب كراهة الشراء فيجب التحري، كما لو أخبر فاسق بنجاسة الماء. وإذا كانت الجارية في يدي رجل يدعي أنه اشتراها من فلان وهو ثقة مسلم، وسع للذي يسمع مقالته أن يشتريها؛ وهذا لأن الإقرار بالشراء إقرار بالملك للبائع دلالة، ولو أقر بالملك للبائع صريحاً، ثم ادعى الانتقال إلى نفسه جاز الشراء منه إذا كان ثقة، وإن كان فاسقاً يتحرى، فههنا كذلك. وكذلك إذا لم تكن الجارية في يده؛ ولكنها كانت في منزل مولاها، فقال: إن فلاناً أمرني ببيعها، ودفعها إلى من اشتراها وهو ثقة، فلا بأس بشرائها منه، والقبض من منزل مولاها من الذي باعها (بأمر مولاها) أو بغير أمره؛ لأن هذا عدل أخبر بما هو من جملة المعاملات، ولم ينازعه في ذلك أحد، فيقبل قوله. وإن كان هذا الذي (في يديه الجارية) فاسقاً يجب التحري، فإن تحرى ووقع في قلبه أنه صادق، فاشتراها وقبضها، ثم وقع تحريه على أنه كاذب فيما قال، فإنه يعتزل عن وطئها حتى يسأل مولاها، أو يخبره بذلك عدل؛ وهذا لأنه إنما اشتراها بغالب الرأي، والعامل بغالب الرأي إذا تحول رأيه إلى شيء آخر يلزمه العمل برأيه الثاني في المستقبل لا في الماضي، فلهذا قال: يعتزل عن وطئها. ثم قال محمد رحمه الله: وهكذا أمر الناس ما لم يجىء التجاحد والتشاجر من الذي كان يملك، فأما إذا جاءت المشاجرة والإنكار من المالك لا يبقى خبر المخبر حجة؛ سواء كان المالك فاسقاً أو عدلاً؛ وهذا لأن قول الواحد إنما جعل حجة في إباحة المعاملات مع الناس للضرورة بخلاف القياس، ففيما وراء إباحة المعاملة من إبطال ملك الغير بغير رضاه؛ لا ضرورة فيه لإباحة المعاملات؛ لأن كل موكل لا ينكر الوكالة، وإذا لم يبق قوله حجة حال منازعة الملك لم يثبت الانتقال إليه ولا الوكالة، فكان بائعاً مال الغير بغير إذنه، فكان للمالك أن يأخذها من المشتري، ويضمن المشتري لمولى الجارية عقر الجارية إن كان قد وطىء الجارية؛ لأنه وطىء ملك الغير، وقد سقط الحد لمكان الشبهة، فيجب العقر. ولو شهد شاهدان عدلان عند البيع أن مولاها قد أمر البائع ببيعها، فاشتراها بقولهما، ونقد الثمن وقبضهما، وحضر مولاها، فأنكر الوكالة؛ كان المشتري في سعة من إمساكها؛ لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي؛ أطلق القاضي للمشتري إمساكها، فكذا إذا شهدا به عند المشتري يحل للمشتري إمساكها بخلاف ما لو كان المخبر واحداً؛ لأن الواحد لو شهد بذلك عند القاضي والمالك منكر، فالقاضي لا يطلق للمشتري الإمساك،

فكذا إذا شهد الواحد بذلك عند المشتري لايسع المشتري إمساكه إذا أنكر المالك الوكالة. قال: إلا أن يكون خاصمه عند القاضي، وقضى القاضي بالملك للمالك، فإن استحلف المالك على الوكالة فحلف، فإنه لا يسعه إمساكها ما لم يجدد الشاهدان الشهادة على الوكالة بين يدي القاضي حتى يقضي القاضي بالوكالة، وإنما لا يسع للمشتري إمساكها قبل تجديد الشاهدين الشهادة لما أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» : أن القضاء أنفذ من الشهادة. ومعنى هذا الكلام: أنه يجمع ما يبيح الإمساك وهو الشهادة، وما يحرم الإمساك وهو قضاء القاضي بالملك للمالك، والرجحان لدليل الحظر وهو القضاء؛ لأن القضاء صدر عن حجة، وهو إقرار المشتري بالملك للموكل، والوكالة بالبيع لم تثبت عند المشتري بما هو حجة؛ لأن الشهادة لا تكون حجة ما لم يتصل بها القضاء، فكان العمل بالقضاء أولى من العمل بالشهادة، فإذا جدد الشاهدان الشهادة على الوكالة عند القاضي؛ وقضى القاضي بالوكالة فحينئذٍ يحل للمشتري إمساكها؛ لأن الوكالة ثبتت بما هو حجة، فصار كالثابت معاينة. نوع آخر في العمل بخبر الواحد بارتداد أحد الزوجين وبالرضاع والطلاق والموت وفساد النكاح قال محمد رحمه الله: ولو أن رجلاً تزوج امرأة، فلم يدخل بها حتى غاب عنها، فأخبره مخبر أنها قد ارتدت عن الإسلام * والعياذ بالله، فإن كان المخبر بذلك عدلاً وسعه أن يصدقه، وأن يتزوج بأختها، أو أربع سواها، وإن كان فاسقاً تحرى في ذلك؛ هكذا ذكر المسألة في كتاب الاستحسان. وذكر في «السير الكبير» : أنه لا يسعه أن يتزوج بأختها أو أربع سواها ما لم يشهد عنده رجلان، أو رجل وامرأتان. وجه ما ذكر في «السير» : أن قول الواحد العدل في إباحة المعاملات إنما يكون حجة إذا لم ينازع في خبره، وقد أقر بالمنازع حين أخبر عن ردتها؛ لأن الظاهر أن المرأة لا ترتد؛ لأنها قد أقرت ببطلانها حين أقرت بالإسلام، فكان الظاهر منها إنكار الردة، والأحكام مبنية على الظاهر، فكان بمنزلة ما لو كانت حاضرة، وأنكرت الردة حقيقة. وجه ما ذكر في الاستحسان: أنه لا منازع لهذا المخبر فيما أخبر من حيث الحقيقة وهذا ظاهر، ولم يثبت المنازع بإقراره؛ لأن إنكارها الردة وإن كان ثابتاً من حيث الظاهر إلا أن المخبر رجع عن هذا الإنكار، وأقر بردتها، فهو بمنزلة ما لو قال ذو اليد: هذا الشيء ملكي لكن قد كان غصبه فلان، ثم رجع عن ظلمه ودفعها إليَّ، وهناك يصدق ذو اليد في إخباره كذا ههنا.

ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في شرح كتاب «الاستحسان» اختلاف الروايتين في ردة المرأة، ولم يذكر ردة الرجل، ذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب الاستحسان اختلاف الروايتين في ردة الرجل، وذكر أن ردة الرجل لا تثبت عند المرأة إلا بشهادة رجلين، أو شهادة رجل وامرأتين على رواية «السير» ، وردة المرأة تثبت عند الزوج بخبر الواحد باتفاق الروايات. قال شمس الأئمة الحلواني: والصحيح في المسألتين روايتان؛ على رواية «السير» : لا تثبت ردة المرأة عند الزوج، ولاردة الزوج عند المرأة إلا بشهادة رجلين، أو شهادة رجل وامرأتين، ثم فرق على رواية كتاب الاستحسان بين هذا وبينما إذا قال للزوج: تزوجتها يوم تزوجتها وهي مرتدة، فإنه لا يسعه أن يأخذ بقوله وإن كان عدلاً، ومتى أخبر عن ردتها بعد النكاح وسعه أن يصدقه فيما قال، ويتزوج بأختها، أو أربع سواها إذا كان عدلاً (80أ2) . والفرق: وهو أنه متى أقر بردة مقارنة للنكاح، فقد أقر بالمنازع فيما أخبر؛ لأن إقدامها على النكاح إنكار منها لا يمنع صحة النكاح دلالة، والردة تمنع صحة النكاح، وإذا ثبت إنكارها صار مقراً بالمنازع، فلا يبقى خبره حجة بخلاف ما لو أخبر عن ردةٍ جاريةٍ بعد صحة النكاح؛ لأنه لم يقر بالمنازع؛ لأن إقدام المرأة على النكاح لا يكون إنكاراً لما يقطع النكاح في المستقبل، فلم يجعل مقراً بالمنازع، ولا كذلك الإقرار بردة مقارنة. وكذلك لو أن رجلاً تزوج جارية رضيعة ثم غاب عنها، فأتاه رجل فأخبره أن أمه أو ابنته أو أخته أرضعت امرأته الصغيرة، فإن كان المخبر عدلاً وسعه أن يصدقه، ويتزوج بأختها أو أربع سواها، وإن كان فاسقاً يتحرى في ذلك لما ذكرنا. قال شيخ الإسلام: فعلى رواية «السير» يحتاج إلى الفرق بين الرضاع وبين الردة. وإن لم يقل هكذا ولكنه قال: كنت تزوجتها وهي أختك من الرضاعة، فإنه لا يسعه أن يتزوج أختها ولا أربعاً سواها، وإن كان المخبر عدلاً؛ لأنه أقر بالمنازع؛ لأن إقدامها على النكاح إنكار منها للرضاع، فقد ثبت المنازع بإقراره، فيعتبر بما لو كان ثابتاً حقيقة بأن كانت المرأة حاضرة، وأنكرت الرضاع؛ بخلاف ما إذا أخبر برضاع طارىء؛ لأن هناك لم يثبت المنازع بإقراره على نحو ما بينا في فصل الردة، أو نقول: أخبر بفساد العقد الذي باشره غيره، وقول الواحد في باب المعاملات إذا كان فيه فساد عقد باشره الغير لا يعقل؛ لأن ذلك الغير ينازعه في فساد العقد؛ لأن الجواز أصل في العقود. وإذا غاب الرجل عن امرأة، فأتاها مسلم عدل، وأخبرها أن زوجها طلقها ثلاثاً أو مات عنها، فلها أن تعتد وتتزوج بزوج آخر؛ لأنه أخبر عن إباحة معاملة، ولم يقر بالمنازع، فثبتت الإباحة. وإن كان المخبر فاسقاً تتحرى. وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا شهد شاهدان عند المرأة بالطلاق، فإن كان الزوج غائباً وسعها أن تعتد وتتزوج بزوج آخر، وإن كان حاضراً ليس لها ذلك، ولكن ليس لها

أن تمكن زوجها (من نفسها) ؛ وهذا لأن المشهود قبل القضاء ثابت من وجه دون وجه، فمن حيث إنه ثابت لا تقيم مع الزوج، ومن حيث إنه ليس بثابت لا يسعها التزوج بزوج آخر، أكثر ما فيه أنها تبقى معلقة مظلومة، ولكن يمكنها دفع الظلم عن نفسها إذا كان الزوج حاضراً بأن تأمر الشاهدين حتى يشهدا عند القاضي، فيقضي القاضي بالفرقة بينهما؛ بخلاف ما إذا كان الزوج غائباً؛ لأن هناك لا يمكنها دفع الظلم عن نفسها بالمرافعة إلى القاضي، فتعين القول بحل تزوج آخر. وكذلك إن سمعته أنه طلقها، وجحد الزوج ذلك وحلف، فردها القاضي لم يسعها المقام معه، وينبغي لها أن تفتدي بمالها أو تهرب منه، وإن لم تقدر على ذلك قتلته، وقد ذكرنا هذا الفصل، وما فيه من اختلاف المشايخ في آخر كتاب النكاح. قال في كتاب «الاستحسان» : وإذا هربت منه لم يسعها أن تعتد، وتتزوج بزوج آخر؛ قال شمس الأئمة السرخسي: ما ذكر أنها إذا هربت ليس لها أن تعتد، وتتزوج بزوج آخر جواب القضاء، أما فيما بينها وبين ربها فلها أن تتزوج بعدما اعتدت، ثم إذا أخبرها عدل مسلم أنه مات زوجها إنما تعتمد على خبره إذا قال: عاينه ميتاً، وقال: شهدت جنازته، أما إذا قال: أخبرني مخبر؛ لا يعتمد على خبره. وإن أخبر واحد بموته، ورجلان آخران أخبرا بحياته، فإن كان الذي أخبرها بموته قال: عاينته ميتاً، أو شهدت جنازته حل لها أن تتزوج، وإن كان اللذان أخبراها بحياته........ لاحقاً فقولهما أولى. في «فتاوى الفضلي» : ولو شهد اثنان بموته أو قتله، وشهد آخران أنه حي، فشهادة الموت أولى، وجنس هذا في آخر باب الشهادة من «وصايا عصام» . ولو أن امرأة قالت لرجل: إن زوجي طلقني ثلاثاً، وانقضت عدتي، فإن كانت عدلة وسعه أن يتزوجها، وإن كانت فاسقة تحرى، وعمل ما وقع تحريه عليه. ولو أخبرت أن أصل نكاحها كان فاسداً، أو أن زوجها أخوها من الرضاعة، فإنه لا يسعه أن يتزوجها، وإن كانت عدلة. قال محمد رحمه الله: وإنما هذه بمنزلة رجل في يديه جارية يدعي رقبتها، وهي تقر له بالملك، فوجدها في يدي رجلٍ، رجلٌ قد علم بحالها، فأراد شراءها، فسأله عنها، فقال: الجارية جاريتي، وقد كان الذي كانت في يديه كاذباً فيما ادعى من ملكها؛ لا ينبغي لهذا الرجل أن يشتريها منه وإن كان عدلاً؛ لأن هذا الرجل عرف للمخبر منازعاً فيما أخبر؛ لأنه سمع من الذي كانت في يديه أنه كان يدعيها لنفسه، فيكون منكراً الملك للثاني، فقد ثبت له المنازع فيما أخبر عند المريد للشراء، فلا ينبغي له أن يشتريها، ولو قال: كنت اشتريتها منه، وسعه أن يشتريها منه؛ لأن دعواه ملك الجارية لا يكون إنكاراً لما يقطع ملكه في المستقبل، فلم يثبت له المنازع فيما أخبر.

وكذلك جارية في يدي رجل تدعي أنها جاريته، وهي صغيرة لا تعبر عن نفسها بجحود ولا إقرار فكبرت، فلقيها رجل.. في بلد آخر، فأراد أن يتزوجها، فقالت له: أنا حرة الأصل، ولم أكن أمة للذي كنت في يديه؛ لا يسعه أن يتزوجها؛ لأنه ثبت المنازع عند المريد للتزوج، فإنه سمع الذي كانت في يديه يدعي ملك رقبتها لنفسه، ولو قالت: كنت أمة للذي كنت في يديه فأعتقني، وسعه أن يتزوجها إن كانت عدلة. ولو أن حرة تزوجت رجلاً، ثم أتت غيره وقالت: إن نكاحها الأول كان فاسداً لما أن الزوج كان على غير الإسلام لا ينبغي لهذا الرجل أن يصدقها وأن يتزوجها. ولو قالت: إنه طلقني بعد ذلك، أو قالت: ارتد عن الإسلام، فبنت منه؛ وسعه أن يصدقها وأن يتزوجها إذا كانت عدلة. قال: وكذلك لو أقرت بعد النكاح أنه كان مرتداً؛ وسع السامع أن يتزوجها إذا كانت عدلة. اعلم بأنه اختلفت الروايات في هذا الفصل؛ ذكر في بعض الروايات لو أقر بعد النكاح أنه كان مرتداً وقت النكاح يعني أقر الزوج بعد النكاح أنه كان مرتداً وقت النكاح، وهكذا (80ب2) أثبت الحاكم الشهيد في «المختصر» ، وإن كان هذا من الزوج إقراراً بردة مقارنة للنكاح، والزوج غير مصدق في ذلك؛ إلا أن الزوج يملك قطع النكاح في المستقبل، والردة قاطعة للنكاح، فجعل هذا إقراراً منه بما يقطع النكاح؛ إلا أن يجعل إقراراً بما يقطع النكاح بعد الصحة؛ كأنه طلقها، ولهذا يجب للمرأة نصف المهر، فإذا جعل هذا إقراراً بالطلاق صار كأن الزوج قال: طلقتها بعدما تزوجها، وهناك يسع السامع أن يتزوجها كذا ههنا. وقد وقع في بعض الروايات لو أقرت بعد النكاح، يعني أقرت المرأة بعد النكاح أن الزوج كان مرتداً، وتأويل هذه الرواية أن المرأة أقرت أن الزوج أقر أنه كان مرتداً يوم تزوجها؛ لأن الثابت من إقرار الزوج بإقرارها؛ كالثابت عياناً، ولو عاينّا إقرار الزوج أنه كان مرتداً وقت النكاح؛ يسع السامع أن يتزوجها. والدليل على أن المراد هذا، فإن محمداً رحمه الله ذكر قبل هذه المسألة إقرار المرأة بكون الزوج مرتداً وقت النكاح، وذكر ثمة أنه لا يسع السامع أن يتزوجها، فهذا يبين لك أن المراد من هذه المسألة ما قلنا. ثم فرق بينما إذا أقر الزوج أنه كان مرتداً وقت النكاح، وبينما إذا أخبر أجنبي أن الزوج كان مرتداً وقت النكاح، فقال في فصل الأجنبي: لا يسع السامع أن يتزوجها، وفي الزوج قال: يسع السامع أن يتزوجها. والفرق: أن الزوج إن كان لا يملك الإقرار بفسخ النكاح من الأصل يملك الإقرار بحرمة طارئة بعد النكاح، فيجعل إقراراً منه بحرمة طارئة، وغير الزوج لا يملك الإقرار بحرمة طارئة، فلا يمكننا أن نجعل هذا من غير الزوج إقراراً بحرمة طارئة، فيجعل إقراراً بفسخ النكاح من الأصل، وإنه غير مصدق في ذلك؛ لأنه إقرار بالمنازع.

الفصل الثاني في العمل بغالب الرأي

وفي «الجامع الصغير» : جارية لرجل قالت لرجل آخر: بعثني إليك مولاي هدية وسعه أن يأخذها بناءً على ما قلنا: إن إقرار الواحد العدل في باب المعاملات حجة؛ حراً كان أو عبداً. الفصل الثاني في العمل بغالب الرأي يجب أن تعلم بأن العمل بغالب الرأي جائز في باب الديانات وفي باب المعاملات، وقد ذكرنا ذلك في الفصل المتقدم، وكذلك العمل بغالب الرأي في الدماء جائز، حتى إن من دخل على رجل منزله شاهراً سيفه، ولا يدري صاحب المنزل ما حاله أهارب هو من اللصوص والتجأ إلى داره، أو لص دخل عليه ليأخذ ماله، ويقتله إن منعه، فإنه يتحرى في ذلك؛ لأنه استوى دليل الحظر، ودليل الإباحة؛ لأن الدخول قد يكون للالتجاء، وإنه يحرم التعرض له، وقد يكون لأخذ المال وقتل صاحب البيت إن منعه، وإنه يفيد إباحة التعرض له، فلابد من ترجيح أحد الدليلين على الآخر، وذلك بالتحري، فتحرى في ذلك، وعمل بتحريه، فإن وقع تحريه؛ أنه دخل منزله للالتجاء لا يقتل، وإن وقع تحريه أنه لص دخل منزله ليأخذ ماله ويقتله وخاف أنه إن زجره، أو صاح به أن يبادر فيقتله، فلا بأس بقتله. وقالوا فيمن استقبل المسلمين جماعة في دار الحرب، فأشكل على المسلمين حالهم أنهم عدو أو مسلمون، فإنهم يتحرون؛ لأنه استوى دليل الحظر والإباحة؛ لأنه قد يكون في دار الحرب أهل الإسلام دخلوا فيها للتجارة، وقد يكون فيها أهل الحرب، فيتحرى. وقد روى الفقيه أبو جعفر الهندواني، والحسن بن زياد عن أبي حنيفة رضي الله عنه فيمن رأى رجلاً في داره شاهراً سيفه، فوقع في غالب رأيه أنه يريد ماله، فإنه يحل له قتله من غير أن يصيح، وإن كان يعلم أنه لا يريد نفسه، فهذه الرواية إشارة إلى أنه متى وقع تحريه على أنه قصد الشر إنه يباح قتله، ولا يلزمه التحري مرة أخرى ليعلم أنه هل يزجر بدون القتل أو لا يزجر، وأشار محمد رحمه الله في كتاب الاستحسان إلى أن بعدما وقع في غالب رأيه أنه دخل للشر؛ أنه يتحرى ثانياً ليعلم أنه يزجر بدون القتل، أو لا يزجر؛ لأنه قال: وخاف إن زجره أو صاح به أن يبادر فيقتله حل له أن يقتله، فإنما أباح له القتل بشرط أن يعلم أنه يبادر بقتله متى صاح به وزجره. وجه ما روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أن قصد الشر قد تحقق منه، فمتى أمرناه بالتحري مرة أخرى ربما لا يمكنه دفع ما قصد من الشر، فيباح قتله. وجه ما ذكره محمد رحمه الله: أن الشر واجب الدفع، فإذا أمكنه الدفع بما دون القتل لا يميل إلى القتل، ولكن بعدما ثبت الشر؛ الحالة محتملة بين أن يدفع الشر بقتل أو بما دونه فيتحرى.

الفصل الثالث في الرجل رأى رجلا يقتل أباه، وما يتصل به

وسئل الفقيه أبو جعفر: عن رجل وجد رجلاً مع امرأته أيحل له قتله؟ قال: إن كان يعلم أنه يزجر عن الزنا بالصياح أو بالصرف بما دون السلاح، فإنه لا يقتله، ولا يقاتل معه بالسلاح، وإن علم أنه لا يزجر إلا بالقتل والمقاتلة معه بالسلاح؛ حل له القتل، فكأنه إنما أخذ هذا من قول محمد رحمه الله، فإن محمداً رحمه الله أمره بالتحري مرة أخرى بعدما تحقق الشر بالتحري ليعلم أنه هل يزجر بما دون القتل، أو لا ينزجر، وقد مر بعض هذه المسائل في كتاب السرقة. الفصل الثالث في الرجل رأى رجلاً يقتل أباه، وما يتصل به قال محمد رحمه الله في كتاب الاستحسان: وإذا رأى الرجل رجلاً يقتل أباه متعمداً، ثم أنكر القاتل أن يكون قتله، أو قال للابن في السر: إني قتلت أباك؛ لأنه قتل فلاناً عمداً، أو قال له: إن أباك ارتد عن الإسلام، فاستحللت قتله لذلك، ولم يعلم الابن شيئاً مما قال، كان الابن في سعة من قتله؛ لأن الوارث عاين السبب المبيح لقتله، وهو قتل الأب عمداً؛ إلا أن القاتل ينكر أو يدعي ما يسقطه، فلا يثبت ما ادعى من السقوط إلا بالبينة، وكان بمنزلة ما لو قال لغيره: أخذت مالك بإذنك، أكلت طعامك بإذنك، فإن دعوى الإذن لا تثبت بالبينة، وكذلك من عاين هذا القتل كان له أن يعين الابن على استيفاء القصاص؛ لأنه علم بوجوب هذا الحق للابن متى عاين قتل وليه، وكان عليه أن يعينه على استيفاء حقه كما في سائر الحقوق، (81أ2) وكذلك إذا لم يعاين الابن القتل، ولكن أقر القاتل بين يديه بالقتل، ثم ادعى ما يسقط القتل؛ لأن الثابت بالإقرار كالثابت معاينة؛ لأن البيّنة منعه عن الإقرار؛ لأن الإنسان لا يقر على نفسه كاذباً بالقتل، فصار الثابت بالإقرار كالثابت معاينة من هذا الوجه، ولو عاين الابن القتل وسعه قتل القاتل؛ كذا ههنا. فرق بين الإقرار وبين الشهادة، فإنه لو شهد عنده عدلان أن فلاناً قتل أباك عمداً، والابن عرفهما بالعدالة، لا يسع الابن قتله ما لم يشهدا بذلك عند القاضي، ويقضي القاضي بشهادتهما، وفي الإقرار بالقتل قال: وسعه أن يقتله. والفرق بينهما: أن الشهادة إنما عرفت حجة بخلاف القياس؛ لأنها إقرار على الغير، والإنسان فيما يقر على غيره قد يكذب، فيجب أن لا يكون حجة كالإقرار؛ إلا أنا جعلناها حجة شرعاً؛ بخلاف القياس عند اتصال القضاء بها، فقبل اتصال القضاء لا تكون حجة أصلاً، فلا يثبت المشهود به قبل القضاء من كل وجه، وإنما يثبت من وجه دون وجه، وبدونه لا يحل الاستيفاء، فأما الإقرار فإنما صار حجة موافقاً للقياس؛ لانتفاء تهمة الكذب عنه؛ لأن الإنسان لا يقر على نفسه كاذباً خصوصاً بالقتل، فإذا انتفت التهمة عن الإقرار التحق الإقرار بالمعاينة.

وفرق بين القتل وبين الطلاق في فصل الشهادة، فإنه إذا شهد شاهدان عند المرأة أن زوجها طلقها ثلاثاً؛ حل لها أن تعتد، وتتزوج بزوج آخر، فقد ألحق الشهادة قبل اتصال القضاء بها بالمعاينة، والإقرار في باب الطلاق، وما ألحقها بالمعاينة، والإقرار في باب القتل والمال، وإنما فعل كذلك؛ لأن في باب القتل دفع الشك في وجوب القصاص من وجهين: أحدهما: من حيث تهمة الكذب وإن كان الشاهد عدلاً؛ لأنه غير معصوم عن الكذب، وباعتبار الكذب لا يكون المشهود به ثابتاً أصلاً. والثاني: من حيث إن القتل قد يكون بحق فلا يوجب القصاص، وقد يكون بغير حق، فيوجب القصاص، فلابد من قضاء القاضي حتى تنتفي تهمة الكذب وشبهة الحقية عن القتل به شرعاً. وكذلك بباب المال يمكن الشك في وجوب الضمان على المشهود عليه من وجهين من حيث تهمة الكذب، ومن حيث إن أخذ مال الغير وإتلافه قد لا يوجب الضمان بأن يكون ذلك بحق، وفي الإقرار الشبهة تمكنت من وجه واحد من حيث إن القتل قد يكون حقاً، وقد يكون غير حق، وإتلاف المال كذلك، أما ما تمكنت فيه الشبهة من حيث الكذب؛ لأن الإنسان لا يقر على نفسه كاذباً، وإذا كان تمكن الشبهة في الإقرار في هذين الفصلين من وجه واحد، وفي الشهادة من وجهين لا يمكن إلحاق الشهادة بالإقرار، وأما في فصل الطلاق تمكنت التهمة في ثبوت الحرمة من وجه، وهو تهمة الكذب، أما ما تمكنت الشبهة من حيث إن الطلاق بعد وقوعه قد يوجب الحرمة وقد لا يوجب، فإن الطلقات الثلاث توجب الحرمة على كل حال، فيمكن إلحاق الشهادة بالإقرار في فصل الطلاق وألحقاها به. وإن عاين الابن رجلاً قتل أباه عمداً، أو كان الرجل مقراً بذلك سراً عند الابن، ثم شهد عند الابن شاهدان أن أباه قد كان قتل أب هذا الرجل القاتل عمداً، فقتله به، فإنه لا ينبغي للابن أن يقتله. الأصل في هذا أن كل شهادة لو قامت عند القاضي بعدما ثبت القصاص عند القاضي؛ يقضي القاضي بسقوط القصاص، فإذا قامت عند القاضي، وقضى القاضي بها ثبتت حقيقة السقوط، فإذا لم يتصل بها القضاء، وقد تمت الحجة ثبتت شبهة السقوط إن لم تثبت حقيقة السقوط وإنها مانعة من الاستيفاء، وكل شهادة لو قامت عند القاضي بعدما ثبت القصاص عنده وسع القاضي أن يطلق ولي القصاص في الاستيفاء، وإن تأنى ولبث كان أفضل، فكذا إذا قامت عند الوارث كان الوارث في سعة من الاستيفاء، وإن تأنى ولبث فهو أفضل؛ لأن القتل مما لا يمكن تداركه وتلافيه متى وقع فيه الخطأ، فقد أثبت المشهود به شهادة شاهدين من وجه حتى قال: لا ينبغي للوارث أن يقتله. وقد قال في كتاب الحدود: إذا شهد أربعة على رجل بالزنا، وهو محصن، والشهود عدول، فقتله رجل قبل القضاء عليه بالرجم كان على القاتل القصاص، ولم يثبت

الفصل الرابع في الصلاة، والتسبيح، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء ورفع الصوت عند قراءة القرآن والذكر والدعاء

المشهود به قبل القضاء بوجه ما، وإنما كان كذلك؛ لأن المشهود به في باب الزنا الحد، والحد مما يدرأ بالشبهات، فلا يمكن إيجابها بوجه دون وجه مع الشبهات، والمشهود به ههنا سقوط القصاص، وإنه مما يثبت مع الشبهات، فإنه يثبت بشهادة رجل وامرأتين، فأمكننا الإثبات من وجه دون وجه.I وكل جواب عرفته في القتل، فهو الجواب في المال في كل موضع يسع الابن استيفاء القصاص إذا عاين الابن القتل، أو أقر القاتل بين يديه، فكذا إذا عاين أخذ المال، أو أقر بين يديه بأخذ المال كان له استيفاء المال. وفي كل موضع لا يكون للابن استيفاء القصاص بأن شهد عنده عدلان بالقتل، فكذا إذا شهد عنده عدلان بأخذ المال لا يكون له ولاية استيفاء المال، وكل من عاين مع الابن ذلك وسعه إعانة الابن إذا امتنع منه، وإن أبى ذلك على نفسه إذا كان في موضع لا يقدر فيه على السلطان يأخذ بحقه؛ لأنه يمنع ماله بغير حق، فيعتبر بما لو أراد أخذ ماله في الابتداء بغير حق، وهناك كان لصاحب الحق، فإن عاين ذلك المقاتلة معه كذا ههنا. الفصل الرابع في الصلاة، والتسبيح، وقراءة القرآن، والذكر، والدعاء ورفع الصوت عند قراءة القرآن والذكر والدعاء الزيادة على الثمان في صلاة الليل بتسليمة مكروهه، والزيادة على الأربع في صلاة النهار بتسليمة مكروهه؛ لأن السنة في صلاة الليل وردت إلى الثمان، وفي صلاة النهار (81ب2) إلى الأربع، وما وردت بالزيادة، فيكره الزيادة لعدم ورود السنة. السنة في ركعتي الفجر: أن يأتي بها الرجل في بيته، فإن لم يفعل فعند باب المسجد إذا كان الإمام يصلي في المسجد، وإن لم يمكنه ففي المسجد الداخل إذا كان الإمام في المسجد الخارج، وفي مسجد الخارج إذا كان الإمام في المسجد الداخل، وإن كان المسجد واحداً فخلف أسطوانة أو نحو ذلك، ويكره أن يصلي خلف الصفوف بلا حائل، وأشدها كراهة أن يصلي في الصف مخالطاً للقوم. وأما السنن التي بعد الفرائض، فلا بأس بالإتيان بها في المسجد، والمكان الذي يصلي الفريضة، والأفضل أن يمشي خطوة أو خطوتين، والإمام يتأخر عن المكان الذي صلى الفريضة فيه لا محالة. وفي «الجامع الأصغر» : إذا صلى الرجل المغرب في المسجد إن كان يخاف أنه لو رجع إلى بيته يشتغل بشيء (فالأفضل أن يصلي في المسجد) ، وإن كان لا يخاف، فالأفضل أن يصلي في بيته لقوله عليه السلام: «خير صلاة الرجل في المنزل إلا المكتوبة» وفي

«شرح الآثار» للطحاوي: إن الركعتين بعد الظهر، والركعتين بعد المغرب يؤتى بهما في المسجد، وأما سواهما فلا ينبغي أن يؤتى بها في المسجد، وهذا قول البعض، وبعضهم قالوا: التطوع في المساجد حسن، وفي البيت أفضل، وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب «الصلاة» : أن من فرغ من الفريضة في المسجد في الظهر والمغرب والعشاء، فإن شاء صلى التطوع في المسجد، وإن شاء رجع، فتطوع في منزله. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وليس قبل العيدين صلاة، وإن شاء تطوع بعد الفراغ من الخطبة، قال القاضي الإمام أبو جعفر.....: كان شيخنا أبو بكر الرازي يقول: معنى قول أصحابنا: وليس قبل العيدين صلاة؛ ليس قبل العيدين صلاة مسنونة؛ لأن الصلاة قبلها مكروهة، وقد نص الكرخي على الكراهة في كتابه، فقال: ويكره إن حضر المصلي يوم العيد التنفل قبل الصلاة. الصلاة على الجنازة في المسجد الذي تقام فيه الجماعة مكروهة، والأصل فيه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له» ، وفي رواية: «لا أجر» ، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى أن يصلى عليه في بيت عائشة رضي الله عنها مع قرب المسجد، ولو لم تكن الصلاة على الجنازة في المسجد مكروهة ما أوصى بالصلاة في بيت عائشة رضي الله عنها؛ ولأن مساجد الجماعة أعدت لأداء المكتوبات، فلا يقام غيرها فيها، وجرى التوارث في الأمصار بإيجاد مكان على حدة لأداء صلاة الجنازة، وإنه دليل على كراهية أداء صلاة الجنازة في مسجد الجماعات، ولأن تنزيه المساجد عن التلوث واجب، وفي إدخال الميت في المسجد احتمال تلويث المسجد بأن يسيل من الميت شيء. ثم هذه المسألة على أربعة أوجه؛ إن كانت الجنازة والإمام والقوم في المسجد فالصلاة مكروهة بالاتفاق. وإن كان الإمام مع بعض القوم، والجنازة خارج المسجد وباقي القوم في المسجد؛ ذكر نجم الدين النسفي في «فتاويه» : أن الصلاة غير مكروهة بالاتفاق، وكثير من مشايخنا ذكروا في هذه الصورة اختلاف المشايخ؛ بعضهم قالوا: يكره، وإليه مال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام الزاهد ركن الإسلام الصفار رحمهما الله، وحكي أن هذه الواقعة وقعت في زمن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، فجلس ولم يصل، وتابعه من كان معه في مسجد الأنباء، ثم زجر الناس على المنبر أشد الزجر، وقال: هذه بدعة، وكان هذا القائل يعتمد المعنى الأول في الوجه الأول. وبعض مشايخنا قالوا: لا تكره الصلاة في هذه الصورة، وكان هذا القائل اعتمد المعنى الثالث في الوجه الأول. وإن كانت الجنازة وحدها خارج المسجد، والقوم مع الإمام في المسجد فمن اعتبر المعنى الأول يقول بالكراهية ههنا، ومن اعتبر المعنى الثالث لا يقول بالكراهية ههنا.

وإن كانت الجنازة وحدها في المسجد والإمام والقوم خارج المسجد، فمن اعتمد المعنى الأول لا يقول بالكراهية ههنا، ومن اعتمد المعنى الثالث يقول بالكراهة ههنا. ويكره للإنسان أن يدخل في الصلاة وبه غائط أو بول؛ لأنه عسى يشغله ذلك عن أفعال الصلاة، فإن دخل في الصلاة مع ذلك وشغله عن الصلاة قطعها؛ لأنه قطع بعذر، وإن مضى في صلاته جاز، وقد أساء؛ وسواء كان ذلك به قبل افتتاح الصلاة، أو حدث بعد افتتاح الصلاة، ففي الحالين جميعاً يقطع الصلاة إذا شغله ذلك عن بعض أفعال صلاته، وإن مضى على صلاته جاز، وقد أساء. الصلاة في الحمام مكروهة: إذا كان هناك تماثيل، وإن لم يكن والموضع الذي يصلى فيه طاهر؛ اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم قالوا: يكره، وأكثرهم على أنه لا يكره، وكثير من أئمة بخارى كانوا يفعلون ذلك، حكي عن الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد رحمه الله: أنه كان يصلي الفريضة في الحمام بالجماعة مع الخادم وغيره. وأما الصلاة في موضع جلوس الحمامي فلا شك أن على قول من يقول بعدم الكراهة داخل الحمام لا يكره في موضع جلوس الحمامي، ومن قال بالكراهية داخل الحمام اختلفوا فيما بينهم في الكراهية في موضع جلوس الحمامي؛ وإنما اختلفوا لاختلافهم في علة الكراهية داخل الحمام. (إذا) صلى وهو مشدود الوسط لا يكره، ذكره في «مجموع النوازل» . ويكره أن يصلي مواجهاً لإنسان؛ لأنه يصير كالمعظم له، ولا بأس بأن يصلي إلى ظهر رجل قاعد يحدث، ومعه قوم يتحدثون؛ لأن الكراهة في الفصل الأول لمعنى التعظيم، ولا تعظيم ههنا، ولأن الناس يصلون الفرائض بالجماعات صفاً صفاً، فتقع صلاة بعض القوم إلى ظهر من قبله، قالوا: وهذا إذا كان حديثهم لا يشوش عليه أمره، فأما إذا كان يشوش فهو مكروه، وعليه يحمل النهي الوارد في هذا الباب. ولا بأس أن يصلي وبين يديه في القبلة مصحف معلق، أو سيف معلق إذ ليس فيه شبهة العبادة، فإن أحداً لا يعبد المصحف والسلاح، وقد صح أن (82أ2) رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى عنزته، ولو كان فيه شبهة العبادة ما صلى إليها. وتكره الصلاة إلى كانون أو تنور فيه (نار) تتوقد؛ لأنه تشبه بالمجوسي، ولا تكره الصلاة إلى قنديل أو سراج أو شمع إذ ليس فيه تشبه بالمجوس؛ لأنهم لا يعبدون إلا ناراً متوقداً. ثم من المشايخ من سوى بين أن يكون التنور مفتوح الرأس أو مخبوء، ومنهم من فرق بينهما. وتكره الصلاة فوق الكعبة؛ قيل: في معنى الكراهة: إن الظهور على سطح الكعبة

استخفاف بالكعبة؛ ألا ترى أنه يكره الظهور على سطح سائر المساجد، وسقوفها فما ظنك بالكعبة. وفي «الجامع الصغير» : لو صلى على بساط وفيه تصاوير، ولم يقع سجوده على الصورة لا يكره، ولو وقع سجوده على الصورة يكره؛ لأنه إذا وقع سجوده على الصورة صار المصلي كالمتعبد للصورة، ولا كذلك ما إذا لم يقع سجوده على الصورة، وذكر هذه المسألة في «الأصل» وذكر الكراهية مطلقاً من غير فصل؛ لأن البساط الذي يصلي عليه معظم من بين سائر البسط، فيؤدي إلى تعظيم الصورة، وإذا كانت التصاوير على السقف أو فوق رأس المصلي، أو بين يديه، أو بحذائه على الحائط، أو على الستر أو على الوسادة، والوسادة قائمة أو معلقة يكره، وإن كان التمثال مقطوع الرأس، فليس بتمثال. يجب أن يعلم بأن الصورة نوعان؛ صورة جماد كالشجر ونحوه، وصورة حيوان، فصورة الجماد لا يكره اتخاذها والصلاة إليها صغيرة كانت أو كبيرة؛ لأن الصلاة إلى مثل هذه الصورة لا تشبه التعبد؛ لأن مثل هذه لا تعبد. وصورة الحيوان إن كانت صغيرة بحيث لا تبدو للناظر من بعيد لا يكره اتخاذها والصلاة إليها؛ لأن هذا مما لا يعبد، وقد صح أنه كان على خاتم أبي هريرة رضي الله عنه ذبابتان، وكان على خاتم أبي موسى الأشعري كركيان، وكان على خاتم دانيال صلوات الله عليه صورة الأسد، وإن كانت الصورة كبيرة بحيث تبدو للناظر من بعد؛ يكره إمساكها والصلاة إليها؛ لأن إمساك الصورة تشبه بمن يعبد الصنم، والصلاة إليها يشبه تعظيمها وعبادتها فتكره، إلا إذا كانت مقطوعة الرأس، فحينئذٍ لا تكره؛ لأن بدون الرأس لا تعبد، وتفيسر قطع الرأس في هذا الباب أن يمحي رأس الصورة بخيط يخاط عليها، بحيث لا يبقي للأصل أثراً أصلاً، أو يطلي على رأسه شيئاً بحيث لا يبقي للرأس أثراً أصلاً. وأما إذا خيط ما بين الرأس والجسد، فلا عبرة له، ولا تخرج الصورة به من أن تكون صورة؛ لأنه يصير شبه الطوق، ومن الطيور ما هو مطوق، فلا يخرج به من أن يكون صورة، واختلف المشايخ في رأس الصورة بلا جثة أنه هل يكره اتخاذه والصلاة عنده؟. ثم الكراهة في الصورة في حق المصلي على التفاوت بعضها فوق بعض، فأشدها كراهة ما يكون على القبلة أمام المصلي، ودونه في الكراهة ما يكون فوق رأس المصلي، ودونه ما يكون خلفه على الحائط، أو على الستر أو على الوسادة، واتخاذ الصورة في البيوت. والنبات في غير حالة الصلاة على نوعين؛ نوع يرجع إلى تعظيمها فيكره، ونوع يرجع إلى تحقيرها فلا يكره، وعن هذا قلنا: إذا كانت الصورة على البساط مفروشاً لا يكره، وإذا كان البساط منصوباً يكره، وقلنا في حق المصلي على البساط الذي فيه صورة؛ إن كانت الصورة في موضع القدم لا تكره، وإن كانت في موضع السجود تكره.

مع هذا إذا صلى في هذه الوجوه لا يحكم بفساد صلاته لاستجماع شرائطها وأركانها، ولكن ينبغي أن يقال: تجب بالإعادة على غير وجه الكراهة، وكذلك الحكم في كل صلاة أديت مع الكراهة؛ هكذا ذكره القاضي الإمام صدر الإسلام رحمه الله، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله نحو ما ذكره صدر الإسلام في مسألة أخرى. وصورتها: إذا صلى خلف إمام يلحن في القراءة؛ ينبغي أن يعيد الصلاة، وكان يروى ذلك عن عمر رضي الله عنه، وكثير من هذا النوع مذكور في كتاب الصلاة، وكان يروى: أنه لو صلى مكشوف الرأس، وهو يجد ما يستر به الرأس؛ إن كان تهاوناً بالصلاة يكره؛ وللتضرع يستحب. مسائل التسبيح رجل ذكر الله تعالى في مجلس الفسق، فإن كان من نيته أن الفساق يشتغلون بالفسق، وأنا أشتغل بالتسبيح، فهو أحسن وأفضل؛ كمن سبح الله تعالى في السوق، فكان من نيته أن الناس يشتغلون بأمر الدنيا، وأنا أسبح الله تعالى في مثل هذا الموضع؛ كان أفضل من أن يسبح الله تعالى وحده في السوق، وإن سبح على وجه الاعتبار كان حسناً، ويؤجر على ذلك أيضاً؛ أما إذا سبح على أنه يعمل عمل الفسق يأثم؛ كمن جاء إلى آخر يشتري منه ثوباً، فلما فتح التاجر الثوب سبح الله تعالى، أو صلى على النبي عليه السلام؛ أراد به إعلام المشتري جودة توبه وذلك مكروه، فهذا كذلك. حارس يقول: لا إله إلا الله، أو قال فقاعي عند فتح الفقاع: لا إله إلا الله، أو قال: صلى الله على محمد يأثم؛ لأنه يأخذ لذلك ثمناً بخلاف العالم إذا قال في مجلس العلم: صلوا على النبي، أو قال الغازي للقوم: كبروا، حيث يثاب. رجل يسمع اسم الله تعالى يجب عليه أن يعظمه، ويقول: سبحان الله، أو تبارك الله؛ لأن تعظيم اسم الله واجب في كل زمان. مسائل قراءة القرآن قال محمد رحمه الله في كتاب «العلل» : لا بأس بقراءة القرآن في الحمام، وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه، وكره النخعي قال مشايخنا: ولا خلاف في الحقيقة؛ لأن النخعي إنما كره ذلك إذا كان يرفع صوته بالقراءة؛ لأنه يقرأ القرآن عند قوم مشاغيل، فلا يسمعون له، فيكون استخفافاً بالقرآن، وعندنا يكره إذا كانت الحالة هذه، وعن هذا كره بعض مشايخنا التصدق على ... الذي يقرأ القرآن في السوق زجراً له عن ذلك؛ لأنه يقرأ عند قوم مشاغيل، فكره التصدق عليه زجراً وتأديباً له، والتسبيح والتحميد نظير القراءة، ورأيت في «فوائد الفقيه أبي جعفر» : أن قراءة القرآن في الحمام، أو في

المغتسل، أو في موضع ينصب فيه الماء الذي غسل به النجاسة مكروه؛ سواء كان خفية أو جهراً؛ لأن هذا يؤدي إلى الاستخفاف بالقرآن؛ أما إذا قرأ القرآن خارج الحمام في موضع ليس فيه غسالة الناس؛ نحو مجلس صاحب الحمام أو الثيابي فقد اختلف علماؤنا فيه قال أبو حنيفة: لا يكره ذلك، وقال محمد: يكره، وليس عن أبي يوسف رواية (82ب2) منصوصة. وفي «الواقعات» : لا يقرأ القرآن في المخرج والمغتسل والحمام إلا حرفاً حرفاً، وفي «النوازل» : أنه يكره حرفاً حرفاً، والأول أصح. وفي «الفتاوى» : قراءة القرآن في القبور عند أبي حنيفة رضي الله عنه تكره، وعند محمد لا تكره، قال الصدر الشهيد رحمه الله: ومشايخنا أخذوا بقول محمد، وحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله: أن القراءة على المقابر إذا أخفى، ولم يجهر لا تكره، ولا بأس به، وإنما كره قراءة القرآن في المقبرة جهراً، وأما المخافتة، فلا بأس به وإن ختم، وقيل إن نوى أن يؤنسه بصوته يقرأ، وكان الفقيه أبو إسحاق الحافظ رحمه الله حكى عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن إبراهيم أنه قال: لا بأس بأن يقرأ على المقابر سورة الملك؛ سواء أخفى أو جهر، وأما غيرها، فإنه لا يقرأ في المقابر، ولم يفرق بين الجهر والخفية؛ لأن الأثر فيه ورد، وحكي عن أبي بكر بن أبي سعيد أنه قال: يستحب عند زيارة القبر قراءة سورة الإخلاص: {قل هو الله أحد} (الإخلاص:1) سبع مرات، فإنه بلغني أنه من قرأها سبع مرات إن كان ذلك غير مغفور له يغفر له، وإن كان مغفوراً له غفر لهذا القارىء، ووهب ذنوبه من الميت. ولا بأس بقراءة القرآن إذا وضع جنبه على الأرض لقوله تعالى: {وعلى جنوبهم} (آل عمران:191) ، ولكن ينبغي أن يضم رجله عند القراءة، ويكره أن يتخذ شيئاً من القرآن حتماً لشيء من الصلاة؛ لا يتجاوز عنه إلى غيره؛ لكن هذا إذا اعتقد أن غيره لا يجوز، أما إذا عرف أنه يجوز لكن هذا أيسر علىه، وقرأ متبركاً بقراءة رسول الله عليه السلام، فلا بأس. في كراهية «شرح الطحاوي» : قراءة القرآن من الأسباع جائزة، والقراءة من المصحف أحب؛ لأن الأسباع محدثة، والصحابة كانوا يقرؤون من المصاحف. رجل يقرأ القرآن كله في يوم واحد، ورجل آخر يقرأ سورة الإخلاص في يوم واحد خمسة آلاف مرة، فإن كان الرجل قارئاً فقراءة القرآن أفضل؛ لأنه جاء في الختم ما لم يجىء في غيره. إذا قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وأراد به قراءة القرآن يتعوذ قبله، وإن أراد به افتتاح القرآن كما يقرأ التلميذ على الأستاذ لا يتعوذ، فعلى هذا لا ينبغي للجنب أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم إذا أراد قراءة القرآن، وإن أراد به التسمية أو افتتاح القراءة لا بأس به. عن محمد بن مقاتل فيمن أراد قراءة سورة أو قراءة آية، فعليه أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويتبع ذلك بسم الله الرحمن الرحيم، فإن استعاذ لسورة الأنفال وسمى،

ومر في قراءته إلى سورة التوبة وقرأها كفاه ما تقدم من الاستعاذة والتسمية، ولا ينبغي له أن يخالف الذين ألفوا وكتبوا المصاحف التي في أيدي الناس، فإن اقتصر على ختم سورة الأنفال، فقطع القراءة، ثم أراد أن يبتدىء سورة التوبة كان كإرادته ابتداء قراءة آية من الأنفال، فيستعيذ ويسمي. وكذلك سائر السور المعلمة في حالة الحيض تعلم الصبيان حرفاً حرفاً، أي: كلمة كلمة، ولا تعلمهم آية تامة؛ لأن الضرورة تندفع بالأول، والمسقط هي الضرورة. قراءة الفاتحة بعد المكتوبة لأجل المهمات مخافته أو جهراً مع الجمع مكروهة، وكذلك قراءة الكافرون مع الجمع مكروهة؛ لأنها بدعة لم ينقل عن الصحابة، وعن التابعين رضوان الله عليهم أجمعين. القارىء إذا سمع النداء، فالأفضل له أن يمسك ويستمع النداء. القارىء إذا سمع اسم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لا تجب عليه الصلاة؛ لأن قراءة القرآن على نظمه وتأليفه أفضل من الصلاة على النبي عليه السلام، فإذا فرغ من قراءته، إن صلى على النبي عليه السلام فحسن، وإن لم يصلِّ فلا شيء عليه. في «فتاوى أهل سمرقند» : ورأيت في «فوائد الفقيه أبي جعفر» : أن الرجل إذا كان يقرأ القرآن ويؤذن المؤذن؛ روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه يرد جواب المؤذن بقلبه، وعن محمد: أنه يمضي على القراءة، ولا يلتفت إليه ولا يشغل قلبه، كما لا يشغل لسانه. مسائل الدعاء روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه قال: يكره للرجل أن يقول في دعائه: اللهم إني أسألك بمقعد العز من عرشك يروى هذا اللفظ بروايتين: بمقعد العز من عرشك عن العقد، وبمقعد العز من عرشك من القعود، فبالرواية الثانية لا شك في الكراهة؛ لأنه وصف الله تعالى بما لا يليق به، وهو القعود والتمكن على العرش، وهو قول المجسمة. وأما في اللفظ الأول؛ فلأنه يوهم تعلق عزه بالعرش، وأن عزه حادث إذا تعلق بالحادث، والله تعالى متعالٍ عن صفة الحدث، وعن أبي يوسف أنه لا يكره؛ قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وبه نأخذ، فقد جاء في الحديث عن رسول الله عليه السلام أنه كان يقول: «اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك، واسمك الأعظم وجدك الأعلى، وكلماتك التامة» . ويكره أيضاً: أن يقول الرجل في دعائه: اللهم إني أسألك بحق أنبيائك ورسلك؛ لأنه لا حق لأحد من المخلوقين على الله تعالى. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. ويكره أن يقول: أدعوك بمقعد العز من

عرشك قال ثمة: والدعاء المأذون فيه، والمأثور به ما استفيد من قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} (الأعراف: 10) ، وإنما كره بمقعد العز من عرشك؛ لأنه لا يدعوه به. قال ثمة أيضاً: وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يصلي أحد على أحد إلا على النبي، وهو قول محمد رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا بأس به، وإن ذكر غير النبي على أثر النبي في الصلاة، فلا بأس به بلا خلاف، ويكره الدعاء عند ختم القرآن في شهر رمضان، وعند ختم القرآن بجماعة؛ لأن هذا لم ينقل عن النبي عليه السلام وأصحابه؛ قال الفقيه أبو القاسم الصفار: لولا أن أهل هذه البلدة قالوا: إنه يمنعنا من الدعاء، وإلا لمنعتهم عنه. المصلي لا يدعو بما يحضره من الدعاء، بل ينبغي أن يدعو في صلاته بدعاء محفوظ؛ لأنه يخاف أن يجري على لسانه ما يشبه كلام الناس، فتفسد به صلاته؛ أما في غير حالة الصلاة ينبغي أن يدعو بما يحضره، ولا يستظهر الدعاء؛ لأن حفظ الدعاء يذهب برقة القلب. رجل يدعو وهو ساه، فإن كان دعاؤه على الرقة، فهو أفضل، وإن لم يمكنه أن يدعو إلا وهو ساه، فالدعاء له أفضل من تركه؛ (83أ2) لأن وسعه ذلك. إذا دعى المذكر على المنبر دعاءً مأثوراً، والقوم يدعون معه كذلك، فإن كان ليعلم القوم فلا بأس، ولو لم يكن ليعلم القوم فهو مكروه؛ لأنه بدعة. الكافر إذا دعا هل يجوز أن يقال يستجاب دعاؤه؟ ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» : فيه اختلاف المشايخ؛ بعضهم قالوا منهم أبو الحسن..... إنه لا يجوز؛ لأنه لا يدعو الله تعالى؛ لأنه لا يعرفه؛ وهذا لأنه وإن أقر به، إلا أنه لما وصفه بما لا يليق به فقد رفض إقراره، والذي روي في الحديث «أن دعوة المظلوم وإن كان كافراً تستجاب» ؛ معناه إن صح: كافر النعمة؛ لا كافر الديانة، هذا كقوله عليه السلام: «من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر» معناه: كفر كفران النعمة؛ لا كفران الديانة، وبعضهم قالوا: منهم أبو القاسم الحكيم، وأبو نصر الدبوسي: يجوز، واستدلوا بقوله تعالى حكاية عن إبليس: {قال رب أنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين} (الأعراف:14 15) وهذه إجابة، قال الصدر الشهيد: وهو الصحيح.9 ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» عن الحسن رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يكره رفع الصوت عند قراءة القرآن وعند الجنائز» ، وعن قيس بن عباد،

ويروي عبادة أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهون رفع الصوت عند الجنائز والذكر، ففي حديث الحسن ذكر قراءة القرآن مقام الذكر، ولا تنافي بينهما، فاسم الذكر اسم عام يتناول الدعاء والتسبيح والتهليل، ويتناول الوعظ وقراءة القرآن فإن قراءة القرآن ذكر، بل هو أشرف الأذكار، قال الله تعالى: {ولذكر الله أكبر} (العنكبوت:45) قال ابن عباس أي: ولتلاوة القرآن أكبر. فأما رفع الصوت عند الجنائز فيحمل: أن المراد منه النوح وتمزيق الثياب، وخشن الوجوه، وذلك مكروه، ويحتمل أن المراد منه: أن يقوم رجلُ، بعدما اجتمع القوم للصلاة، ويدعو للميت، ويرفع صوته، وذلك مكروه؛ لأن السنة في الأدعية الخفية، ويحتمل: أن المراد منه ما كان عليه أهل الجاهلية من الإفراط في مدح الميت عند جنازته حتى كانوا يذكرون ما هو سببه المحال، وأما رفع الصوت عند الذكر، فإن كان المراد من الذكر الدعاء، فإنما كره ذلك؛ لأن الأصل في الأدعية الخفية، ولأن فيه رياء، ولأجل هذا كره رفع الصوت بالتسبيح والتهليل. وإن كان المراد منه الوعظ، فليس المراد رفع الواعظ صوته عند الوعظ، وإنما المراد رفع بعض القوم صوته بالتهليل والصلاة على النبي عند ذكره. وقد صح (أنه) قيل لابن مسعود رضي الله عنه: إن قوماً اجتمعوا في مسجد يهللون ويصلون على النبي عليه السلام، ويرفعون أصواتهم، فذهب إليهم ابن مسعود، وقال: ما عهدنا هذا على عهد رسول الله، وما أراكم إلا مبتدعين، فما زال يذكر ذلك حتى أخرجهم من المسجد. وإن كان المراد قراءة القرآن، فإنما كره رفع الصوت بها؛ لأنه ينافي الخشوع، ولأن فيه رياءً، ولأن فيه منع غيره عن شغله، فإنه يلزمه الاستماع، وقيل: المراد منه المستمع؛ يعني أن المستمع إذا سمع آية فيها ذكر النار، فتعوذ بالله من النار، ورفع صوته، وذلك مكروه، أو القارىء ينقل ذلك، ويرفع بها صوته، وذلك مكروه لما ذكرنا أن السنة في الأدعية الخفية، ومن قال من المشايخ: إن ختم القرآن بالجماعة جهراً يسمى بالفارسية؛ «سي ياره خواندن» مكروه، تمسك بالحديث الذي رواه الحسن، ولما روى قيس عن أصحاب رسول الله عليه السلام؛ إن كان المراد من الذكر قراءة القرآن، والمعنى ما ذكرنا. المسائل المتفرقات من هذا الفصل: إذا أراد أن يصلي أو يقرأ القرآن، ويخاف أن يدخل عليه الرياء؛ لا يترك القراءة والصلاة لأجل ذلك، وكذا في جميع الفرائض، ولو افتتح الصلاة يريد بها وجه الله، ثم دخل الرياء بعد ذلك في قلبه، فالصلاة على ما أسس؛ لأن التحرز عن هذا غير ممكن. ولا بأس للجنب أن يكتب القرآن إذا كانت الصحيفة على الأرض، ولا يضع يده عليها. وقال محمد رحمه الله: أحب إلي أن لا يكتب إن كانت الصحيفة على الأرض، ولا يضع يده عليها، والآية وما دونها في تحريم الكتابة سواء على رواية محمد؛ لأن الكتابة بمنزلة القراءة، والآية وما دونها في تحريم القراءة سواء على رواية محمد، فكذا الكتابة.

رجل تعلم بعض القرآن، ثم وجد فراغاً فتعلم باقي القرآن، أفضل من صلاة التطوع، وتعلم الفقه أفضل من تعلم باقي القرآن. الرجل إذا أمكنه أن يصلي بالليل، وينظر في النهار في العلم فعل ذلك، وإن لم يمكنه، فإن كان له ذهن يعقل الزيادة وتعلم، فالنظر في العلم أفضل، فقد جاء في الحديث عن النبي عليه السلام؛ قال: «مذاكرة العلم ساعة خير من إحياء ليلة» . المرأة إذا أرادت تعلم القرآن من الأعمى جاز، ولكن التعلم من المرأة أولى؛ لأن صوتها عورة. قالوا: من أراد أن يقرأ القرآن ينبغي أن يكون على أحسن أحواله، يلبس أحسن ثيابه ويتعمم، ويستقبل القبلة، تعظيماً للقرآن، وكذا العالم يجب أن يعظم العلم. وسئل شمس الأئمة الأوزجندي رحمه الله؛ أن الاشتغال بالدعاء بعد الفريضة أولى، أو الاشتغال بالسنة؟ قال: الاشتغال بالسنة. رجل يصلي على الأرض، ويسجد على خرقة وضعها بين يديه يتقي به الحر لا بأس به، وقد روي أن أبا حنيفة رضي الله عنه فعل ذلك، فمر به رجل فقال: يا شيخ لا تفعل مثل هذا فإنه مكروه، فقال أبو حنيفة: أفي مساجدكم حشيش قال: نعم، قال: أتجوز السجدة على الحشيش، ولا تجوز على الخرقة. رجل أم قوماً وهم له كارهون؛ إن كانت الكراهية لفساد فيه، أو لأنهم أحق بالإمامة منه كره له أن يؤمهم، هكذا روى الحسن البصري عن أصحاب رسول الله عليه السلام، وإن كان هو أحق بالإمامة منهم ولا فساد فيه، مع هذا يكرهون إمامته لا يكره له أن يؤمهم. الترجيع بقراءة القرآن هل يكره؟ تكلم المشايخ فيه قال بعضهم: لا بأس به لقوله عليه السلام: «زينوا القرآن بأصواتكم» ، وقال عليه السلام: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» ، وقال أكثرهم: هو مكروه، ولا يحل الاستماع إليه؛ لأن فيه تشبهاً بفعل الفسقة في حال فسقهم، ولهذا كره هذا النوع في الأذان. رجل قرأ القرآن ويلحن في قراءته، فسمع إنسان إن علم أنه لو لقنه الصواب لا تدخل عليه الوحشة يلقنه. قالوا: يجب على المولى أن يعلم مملوكه من القرآن قدر ما يحتاج إليه. إذا سال الدم من أنف إنسان، فكتب فاتحة الكتاب (83ب2) . بالدم على أنفه، وجبهته جاز للاستشفاء والمعالجة، و (لو) أراد أن يكتب ذلك بالبول؛ لم ينقل ذلك عن

الفصل الخامس في المسجد والقبلة والمصحف وما كتب فيه شيء من القرآن، نحو الدراهم والقرطاس، أو كتب فيه ذكر الله تعالى

المتقدمين، وقد قيل: لا بأس به إذا علم أن فيه شفاء؛ وهذا لأن الحرمة تسقط عند الاستشفاء على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وإذا أراد المصلي التعوذ، فالذي هو موافق للقرآن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولو قال: أعوذ بالله العظيم، أعوذ بالله السميع العليم؛ لأنه يصير فاصلاً بين التعوذ، وبين القراءة، وينبغي أن تكون القراءة متصلة بالتعوذ. الفصل الخامس في المسجد والقبلة والمصحف وما كتب فيه شيء من القرآن، نحو الدراهم والقرطاس، أو كتب فيه ذكر الله تعالى قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ولا بأس بأن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب؛ قوله لا بأس يدل على (أن) المستحب غيره، وهو الصرف إلى الفقراء؛ إلا أنه إن فعل لا يأثم ولا يزجر عليه، ومن العلماء من قال: إن نقش المسجد قربة حسنة، ومن العلماء من قال: هو مكروه. حجة من قال: إنه مكروه قوله عليه السلام: «من أشراط الساعة نقوش المساجد» ، وعن علي رضي الله عنه أنه مر بمسجد مزخرف، فقال: لمن هذه البيعة. وعن عمر بن عبد العزيز أنه لما رأى مالاً ينقل إلى مسجد المدينة قال: المساكين أحوج إلى هذا من الأساطين. وجه من قال إنه قربة، ما روي أن داود عليه السلام بنى مسجد بيت المقدس، ثم سليمان صلوات الله عليه أتمه بعده وزينه حتى نصب الكبريت الأحمر على رأس القبة، وكان ذلك من أعز ما يوجد في ذلك الوقت، ولأن فيه ترغيب الناس في الاعتكاف والجماعة، وفيه تعظيم بيت الله تعالى. والأصح على قول علمائنا رحمهم الله أنه ليس بقربة؛ إلا أنه لا يكره؛ أما ليس بقربة فإن مسجد رسول الله بالمدينة كان مسقفاً من جريدة النخل حيطانه من الحجر، فقيل لرسول الله: ألا نزيد لك، فقال: «لا بل عريش كعريش موسى صلوات الله عليه» ، وكان يكف إذا حل به المطر، قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: رأيته يسجد في ماء وطين، فدل أنه ليس بقربه، إلا أنه لا بأس به لما روينا من الأحاديث، ولما روي أن عثمان رضي الله عنه رفع بناء مسجد رسول الله عليه السلام، وزاد فيه وزينه، وفرش الحصا فيه على هداية القوم فدل أنه لا بأس به، وكره بعض مشايخنا القوس على المحراب وحائط القبلة؛ لأن ذلك يشغل قلب المصلي إذا نظر فيه، وروي أنه أهدي إلى رسول الله عليه السلام ثوب معلم فصلى فيه، ثم نزعه فقال: «كان يشغلني علمه عن

بعض صلاتي» ، وذكر الفقيه أبو جعفر في «شرح السير الكبير» : أن تنقيش الحيطان مكروه، قل ذلك أو كثر، وأما تنقيش السقف، فالقليل منه يرخص والكثير مكروه. قال محمد رحمه الله: وأكره أن تكون قبلة المسجد إلى المخرج أو الحمام أو القبر. يجب أن تعلم بأن جهة القبلة جهة يجب تعظيمها، والتحرز عن الاستخفاف بها، جاء عن النبي عليه السلام «نهى أن يبزق الرجل في جهة القبلة» ، وإذا كان يقرب القبلة أنجاس وأرجاس فذلك استخفاف بالقبلة، وعن هذا قلنا إن من صلى وقدامه عذرة أو بول يكره. ثم تكلم المشايخ في معنى قول محمد: أكره أن تكون قبلة المسجد إلى الحمام؛ قال بعضهم: لم يرد به حائط الحمام، وإنما أراد به المستحم هو الموضع الذي نصب فيه الحميم، وهو الماء الحار؛ لأن ذلك موضع الأنجاس، واستقبال الأنجاس في الصلاة مكروه على ما تقدم ذكره، فأما إذا استقبل حائط الحمام فلم يستقبل الأنجاس، وإنما استقبل الحجر والمدر، فلا يكره. وكذلك تكلموا في معنى قوله: أكره أن تكون قبلة المسجد إلى المخرج، قال بعضهم: أراد به نفس المخرج، وقال بعضهم: أراد به حائط المخرج، وتكلموا أيضاً في معنى الكراهة إلى القبر، قال بعضهم: لأن فيه تشبهاً باليهود، وقال بعضهم: لأن في المقبرة عظام الموتى، وعظام الموتى أنجاس وأرجاس هذا كله إذا لم يكن بين المصلي وبين هذه المواضع حائط أو سترة، أما إذا كان لا يكره، ويصير الحائط فاصلاً، وإذا لم يكن بين المصلي وبين هذه المواضع سترة، فإنما يكره استقبال هذه المواضع في مسجد الجماعات أما في مساجد البيوت لا يكره إذ ليس لمساجد البيوت حكم المساجد على الإطلاق؛ ألا ترى أنه يدخله الجنب من غير كراهة، ويأتي فيه أهله ويبيع ويشتري من غير كراهة. قال محمد رحمه الله: وتكره المجامعة والبول فوق المسجد؛ لأن لسطح المسجد حكم المسجد، وهذا لما عرف أن حكم المسجد ثابت في الهواء والعرصة جميعاً، ولهذا قلنا: من قام على سطح المسجد مقتدياً بإمام في المسجد، وهو خلف الإمام يجوز، والمعتكف إذا صعد سطح المسجد لا ينتقض اعتكافه، ولا يحل للجنب والحائض والنفساء صعود سطح المسجد، فعلم أن لسطح المسجد حكم المسجد، ثم لا تجوز المجامعة والبول في المسجد، فكذا فوقه. قال محمد رحمه الله: ولا بأس بالبول فوق بيت فيه مسجد، يريد المكان المعد للصلاة؛ وهذا لأن كل مسلم مندوب إلى أن يتخذ في بيته مسجداً، ليصلي فيه النوافل والسنن، وقد فعل رسول الله عليه السلام ذلك في بيت جماعة، وقال الله تعالى في قصة

موسى عليه السلام: {واجعلوا بيوتكم قبلة} (يونس:87) وقال عليه السلام: «لا تتخذوا بيوتكم قبوراً» ، وأراد به أن لا يكون فيه مكان الصلاة، فثبت أن كل مسلم مندوب إلى أن يعد في بيته مكاناً يصلي فيه؛ إلا أن هذا المكان لا يأخذ حكم المسجد على الإطلاق؛ لأنه باق على ملكه له أن يبيعه، فهو كما لو بال على سطح بيت فيه مصحف، وذلك لا يكره، فكذا ههنا. والمجامعة والبول في الموضع المعد لصلاة الجنازة لا ذكر له في الكتب، وقد اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم قالوا: يكره؛ لأنه موضع أعد لإقامة الصلاة فيه بجماعة، فيكره البول والمجامعة فيه، كما في الجامع والمساجد التي على قوارع الطرق عند الحياض، وبعضهم قالوا: لا يكره، وإليه مال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي، ألا ترى أنه لابأس بإدخال الميت، وقد أمرنا بتجنيب المساجد الموتى بخلاف الجامع؛ لأنه أعظم المساجد، والمساجد على القوارع لها حرمة المسجد على الإطلاق. وفي «فتاوى أبي الليث» مصلى الجنازة له حكم المسجد في حق جواز الاقتداء عند انفصال الصفوف، وحرمة دخول الجنب فيه (84أ2) وبعض مشايخنا قالوا: الجواب في حق جواز الاقتداء صحيح، أما في حق دخول الجنب والمرتد فيه لا يعطى له حكم المسجد رفقاً بالناس. قال: ويكره لأهل المسجد أن يغلقوا باب المسجد؛ لأن المسجد أعد لذكر الله تعالى فيه قال الله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع، ويذكر فيها اسمه} (النور:36) ، فإذا أغلقوا باب المسجد فقد منعوا عن الصلاة والذكر فيه، فدخلوا تحت قوله تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه} (البقرة:114) قال مشايخنا: وهذا في زمانهم، أما في زماننا، فلا بأس بإغلاق أبواب المساجد في غير أوان الصلاة؛ لأنه لا يؤمن على متاع المسجد وبنائه وحصره من قبل السارق؛ لأن الغلبة في زماننا لأهل الفسق والحكم يختلف باختلاف أحوال الناس، ألا ترى أن النساء كن يحضرن الجماعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم منعن ذلك لفساد أحوال الناس، وهو الصواب كذا في مسألتنا. وفي «الأجناس» : رجل بنى مسجداً في أرض غصب؛ لا بأس بالصلاة فيه، وفي «أمالي أبي يوسف» : لا ينبغي لأحد أن يصلي فيه، ولو جعله طريقاً لا يمر فيه، ولو بنى حانوتاً أو حماماً لا يستأجر الحمام والحانوت وله أن يدخل فيه لشراء المتاع. الطريق إذا كان واسعاً، فبنى فيه أهل المسجد مسجداً للعامة، ولا يضر ذلك بالطريق، فلا بأس به، وإن أراد أهل المحلة أن يدخلوا في دورهم شيئاً من الطريق ولا يضر ذلك بالعامة ليس لهم ذلك، نص عليه في «العيون» . وفي «فتاوى أبي الليث:» مسجد بني على سور المدينة، فلا ينبغي أن يصلى فيه. علل الصدر الشهيد رحمه الله فقال:؛ لأن السور للعامة، فصار كما لو بنى مسجداً في أرض الغصب، وإنه يخالف ما حكيناه عن «الأجناس» .

وفي «الأجناس:» لا بأس بالنوم في المسجد، وفي «الأصل» : لا بأس للمعتكف أن يبيت في المسجد. وفي صلاة «الأثر» قال: سأل محمداً عن دكان اتخذ للمسجد من المسجد وبينه طريق وهو بادٍ من المسجد اتخذ ليصلى عليه في الحر، أيضاعف الأجر بالصلاة عليه كما يضاعف بالصلاة في المسجد؟ قال: نعم. في «فتاوى أهل سمرقند» : لا بأس بمسح الرجل في التراب الذي في المسجد إذا كان مجتمعاً، وكذا بالحصير المحرق والحشيش المجتمع، وأما إذا كان التراب منبسطاً قال الصدر الشهيد: المختار ما قاله أبو القاسم الصفار؛ لأنه لا.... ذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصلاة في باب الوضوء والغسل بقريب من آخره ما يفعل في زماننا من وضع البواري في المسجد ومسح الأقدام عليها فهو مكروه عند الأئمة أجمع. البزاق في المسجد لا يلقى فوق البواري ولا تحت البواري للحديث: «إن المسجد ... من النخامة» الحديث، وينبغي أن يأخذ النخامة بكمه أو بشيء من ثيابه، وإن اضطر إلى ذلك كان الإلقاء فوق البواري أولى من الإلقاء تحت البواري؛ لأن البواري ليست من المسجد حقيقة، وإن كان لها حكمه، وما تحت البواري من المسجد حقيقة. وفي كراهية «العيون» : إذا كان في المسجد عش الخطاف ويقذر المسجد لا بأس بأن يرمى بما فيه؛ لأن فيه تنقية المسجد. وفي «النوازل» : لا يتخذ في المسجد بئر الماء، وما كان قديماً كبئر زمزم يترك، كذلك إذا ضاق المسجد على أهله، وبجنبه أرض لرجل تؤخذ أرضه منه بالقيمة كرهاً، هكذا روي عن الصحابة أنهم فعلوا بالمسجد الحرام. الخياط إذا كان يخيط الثوب في المسجد يكره ذلك لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه رأى خياطاً يخيط في المسجد، فأمر به فأخرج من المسجد، وكذا الوراق إذا كان يكتب في المسجد بأجر يكره، فعلى هذا الفقهاء إذا كانوا يكتبون الفقه بالأجر في المسجد يكره، وإن كان بغير أجر لا؛ لأنه إذا كان بأجر، فهو عمل العبد، والمسجد ما بني لذلك؛ لأنه بيت الله تعالى، هذه الجملة من «فتاوى أبي الليث» . وفي كراهية «العيون» : معلم جلس في المسجد، أو وراق كتب في المسجد، فإن كان المعلم يعلم بأجر، والوراق يكتب لغيره بأجر يكره إلا أن تقع لهما الضرورة، ويكره أن يجعل.... في كاغد فيه اسم الله تعالى؛ بخلاف الكيس يكتب فيه اسم الله؛ لأن الكيس يعظم أما الكاغد، والقرطاس فيستهان.

معلم معه خريطة فيها كتب من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، أو كتب أبي حنيفة رضي الله عنه أو غيره، فتوسد بالخريطة، إن قصد الحفظ لا يكره، إذ ليس فيه ترك التعظيم، وإن لم يقصد الحفظ يكره؛ لأن فيه ترك التعظيم. روي عن إبراهيم النخعي رضي الله عنه أنه قال: المصحف لا يورث، إنما هو للقارىء من الورثة، وعندنا يورث كسائر الأموال، إلا أنه لا قطع فيه؛ لأن المقصود ما فيه وهو القرآن. سئل الفقيه أبو جعفر عمن كان في كمه كتاب، فجلس يبول؛ أيكره ذلك؟ قال: إن أدخله مع نفسه المخرج يكره، وإن اختار لنفسه مبالاً طاهراً في مكان طاهر؛ لا يكره، وعلى هذا إذا كان في بيته دراهم مكتوب فيها اسم الله تعالى، أو شيء من القرآن، أو كان في هميانه دنانير كتب فيها اسم الله تعالى، أو شيء من القرآن، فأدخلها مع نفسه المخرج يكره، وإن أعد لنفسه مبالاً طاهراً في مكان طاهر لا يكره، وعلى هذا إذا كان عليه خاتم، وعليه شيء من القرآن مكتوب، أو كتب عليه اسم الله تعالى، فدخل المخرج معه أو أعد لنفسه مبالاً في مكان طاهر. وعنه أيضاً: فيمن غرس الأشجار في المسجد؛ إن كان يفعل ذلك للظل؛ لا بأس، وإن كان يفعل ذلك لبيع الأوراق أو لمنفعة أخرى يكره إذا كانت تضيق على الناس مسجدهم لصلاتهم، أو يقع فيه تفريق الصفوف، قال: بلغنا أن عمر رضي الله عنه قطع شجرة كانت في قرب الكعبة، وكانت تضيق على القوم في طوافهم، ورأيت مسألة الأغراس في المسجد في موضع آخر، وكان جواب المسألة ثمة أنه إن كان للمسجد فيها نفع لا بأس به، وما لا فلا، ونفع المسجد أن يكون المسجد إذا ترك وأساطينه لا يستقر، فيغرس الأشجار ليجذب ذلك عروقها، وإن كان كذلك تجوز، وما لا فلا؛ وهذا لأن غرس الأشجار في المسجد تشبيه له بالبيعة، فلا يجوز ذلك إلا لحاجة، قالوا: ومشايخ بخارى إنما جوزوا ذلك في جامع بخارى لهذه الحاجة. ولا يمس الجنب المصحف، ولا اللوح المكتوب عليه آية تامة من القرآن، والحائض كالجنب، والمحدث يساويهما في حكم المسح، ويفارقهما في القراءة. والوجه في ذلك: أن الجنابة تشمل الفم واليد والحيض كذلك، ولهذا يجب إيصال الماء إلى الفم في الغسل عن الحيض والجنابة، فلا يجوز (84ب2) المس له (كما لا) يجوز لهما القراءة، وأما الحدث يحل باليد أما لا يحل بالفم، ولهذا لا يجب إيصال الماء إلى الفم في الوضوء عن الحدث، فيقرأ ولا يمس، فإن غسل الجنب الفم أو اليد، وأراد أن يقرأ القرآن، أو يمس المصحف لا يحل له ذلك، وكذلك المحدث إذا غسل اليد، وأراد أن يأخذ المصحف ليس له ذلك؛ لأن الجنابة لا تتجزأ ثبوتاً وزوالاً، والحدث كذلك. وكما لا يحل لهؤلاء مس الكتابة، لا يحل لهم مس البياض. وإن مس المصحف بغلافه لا بأس به، والغلاف الجلد الذي عليه؛ المتصل به عند بعض المشايخ، وعند بعضهم المنفصل عنه كالخريطة ونحوها؛ لأن المتصل بالمصحف

من المصحف؛ ألا ترى أنه يدخل تحت بيع المصحف من غير ذكر، وإن مس المصحف بكمه أو ذيله لا يجوز عند بعض المشايخ؛ لأن ثيابه تبع لبدنه، ألا ترى أنه لو قام على النجاسة في الصلاة وفي رجليه نعلان أو جوربان لا تجوز صلاته، ولو فرش نعليه، وقام عليهما جاز، وعن هذا قالوا: إذا بسط الرجل كمه على النجاسة، وسجد عليه لا يجوز، وأكثر المشايخ على أنه لا يكره؛ لأن المحرم هو المس، وإنه اسم للمباشرة باليد من غير حائل، ألا ترى أن المرأة إذا وقعت في طين وردغة حل للرجل الأجنبي أن يأخذ بيدها من غير حائل ثوب، وكذا لا تثبت حرمة المصاهرة بالمس بحائل. ويكره للجنب ومن بمنعاه مس كتب التفاسير، وكذا يكره مس كتب الفقه، وما هو من كتب الشريعة؛ لأنها لا تخلو عن آيات القرآن، أو إن لم يكن فيها آيات القرآن فيها معنى القرآن، والمشايخ المتأخرون توسعوا في مس كتب الفقه للمحدث بالحكم للضرورة والبلوى، وكره بعض مشايخنا دفع المصحف واللوح الذي عليه القرآن إلى الصبيان، وعامة المشايخ لم يروا به باساً؛ لأنهم غير مخاطبين بالوضوء، وفي التأخير تضييع حفظ القرآن. وإذا صار المصحف خلقاً بحيث لا يقرأ منه لا يحرق؛ إليه أشار محمد رحمه الله في «السير» في باب ما يوجد من الغنيمة، فيكره قسمته، وبه نأخذ، ولا يكره دفنه، ومن أراد دفنه ينبغي أن يلفه بخرقة طاهرة، ويحفر لها حفرة ويلحد ولا يشق؛ لأنه متى شق ودفن يحتاج إلى إهالة التراب عليه، وفي ذلك نوع تحقير واستخفاف بكتاب الله تعالى، وإن شاء غسله بالماء حتى يذهب ما به، وإن شاء وضعه في موضع طاهر لا تصل إليه يد المحدثين، ولا تصل إليه النجاسة تعظيماً لكلام الله تعالى، تصغير المصحف حجماً وأن يكتب بقلم دقيق مكروه. في كراهية «واقعات الناطفي» : ويكره مد الرجلين إلى القبلة في النوم وغيره عمداً، وكذلك يكره مد الرجلين إلى المصحف، وإلى كتب الفقه لما فيه من ترك تعظيم جهة القبلة، وكلام الله تعالى، ومعاني كلام الله تعالى، وإذا كان للرجل جوالق، وفيها مراسم مكتوب فيها شيء من القرآن، أو كان في الجوالق كتب الفقه، أو كتب التفسير أو المصحف، فجلس عليها أو نام، فإن كان من قصده الحفظ فلا بأس، وقد مر جنس هذا فيما تقدم، وإذا كتب اسم الله تعالى على كاغدة، ووضع تحت.... يجلسون عليها، فقد قيل: يكره، وقد قيل: لا يكره؛ قال: ألا ترى أنه لو وضع في البيت لا بأس بالنوم على سطحه؛ كذا ههنا، وإذا حمل المصحف أو شيء من كتب الشريعة على دابة في جوالق، وركب صاحب الجوالق على الجوالق؛ لا يكره. ومما يتصل بهذا الفصل المجاورة بمكة وقد كرهها أبو حنيفة رضي الله عنه؛ روى هشام عنه: أنه كره الجوار بمكة، قال:؛ لأنها ليست بأرض هجرة، وروى الحسن عنه: أنه كره الجوار بمكة

الفصل السادس في سجدة الشكر

والمقام بها، وكان يقول: هاجر رسول الله عليه السلام منها. ذكر هشام في «نوادره» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رضي الله عنهم؛ قال: أكره إجارة بيوت مكة في أيام الموسم، وأرخص فيها في غير أيام الموسم، وهكذا روى هشام عن محمد عن أبي حنيفة رضي الله عنهم قال: وكان يقول لهم أن ينزلوا عليهم في دورهم إذا كان لهم فضل، وإذا لم يكن فلا، قال هشام: وإنما قال: لهم أن ينزلوا في دورهم لقوله تعالى: {سواء العاكف فيه والباد} (الحج:25) ، وإنما فرق أبو حنيفة رضي الله عنه بين أيام الموسم، وغيرها في كراهية الإجارة؛ لأن في أيام الموسم يزدحم الخلق، وتقع الضرورة في النزول في مساكنهم، فأنزل منازلهم كالمملوك للنازلين من وجه نظراً ومرحمة لهم، وبعد أيام الموسم ترتفع الضرورة، فيعاد إلى الأصل. ثم هذه المسألة دليل على صحة أمر إجارة البناء بدون الأرض؛ لأن الإجارة ههنا لا ترد على الأرض عند أبي حنيفة رضي الله عنه كالبيع، وإنما ترد على البناء، وقد رخص فيها في غير أيام الموسم. الفصل السادس في سجدة الشكر روي عن إبراهيم النخعي رضي الله عنه: أنه كان يكره سجدة الشكر، وعن محمد أن أبا حنيفة كان لا يراها شيئاً، ويستحبها قال محمد: وقد جاء فيها غير حديث، وتكلم المتقدمون في معنى قول محمد، وكان أبو حنيفة رضي الله عنه لا يراها شيئاً؛ بعضهم قالوا: معناه لا يراها قربة، وهكذا ذكر الطحاوي في اختلاف العلماء، وفي «القدوري» معناه كان لا يراها مسنوناً، وهو قريب من الأول، وبعضهم قالوا: معناه لا يراها شكراً تاماً، فتمام الشكر أن يصلي ركعتين كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، ولم يذكر محمد رحمه الله قول أبي يوسف في شيء من الكتب وذكر القاضي الإمام الزاهد ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله في «شرح كتاب السير» قول أبي يوسف رحمه الله مع محمد رحمه الله، احتج بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل به زمانة فسجد، وأمر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فسجدا، وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه لما أتاه فتح اليمامة سجد، وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: السجود ركن من أركان الصلاة مفرداً، فلا يتقرب بها إلى الله تعالى على الانفراد تطوعاً قياساً على القيام المفرد، والركوع المفرد، وأما ما روي من الأحاديث قلنا: يحتمل أن المراد من السجدة المذكورة فيها الصلاة، فأهل الحجاز يسمون الصلاة سجدة، قال الله تعالى: {يا مريم اقنتي لربك واسجدي} (آل عمران:43) أي صلي، وإذا جاز تسمية الصلاة سجدة احتمل أن يكون المراد من الحديث الصلاة، فلا يكون حجة مع الاحتمال. وبعض المتأخرين من مشايخنا قالوا: لم يرد محمد رحمه الله بقوله، وأما أبو حنيفة: فكان لا يراها شيئاً، نفي شرعيتها قربة، وإنما أراد به نفي وجوبه كذا ههنا، فعلى

الفصل السابع في المسابقة

قوله ههنا يرتفع الخلاف. ولو أتى بها إنسان لا يكون مكروهاً. وجه الكراهة على قول النخعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما على ما ذكره «القدوري» : أنه لو فعلها من كان منظوراً إليه، وظن ظان أنه واجب (85أ2) أو سنة متبعة عند حدوث نعمة فقد أدخل في الدين ما ليس منه، وقد قال عليه السلام: «من أدخل في الدين ما ليس منه فهو مكروه» . الفصل السابع في المسابقة قال محمد رحمه الله: ولا بأس بالمسابقة بالأفراس ما لم يبلغ غاية لا يحتملها الفرس؛ جاء في الحديث: تسابق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فسبق رسول الله، وصلى أبو بكر وثلث عمر، معنى قوله صلى أبو بكر: أنه كان راش دابة أبي بكر عند صلاة دابة رسول الله وهو الذنب، وكذلك لا بأس بالمسابقة بالإبل والرمي لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه السلام أنه قال: «لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر» ، والمراد بالحافر الفرس، والمراد بالنصل الرمي، والمراد من الخف الإبل. فإن شرطوا لذلك جعلاً، فإن شرطوا الجعل من الجانبين فهو حرام. وصورة ذلك: أن يقول الرجل لغيره: تعال حتى نتسابق، فإن سبق فرسك، أو قال: إبلك أو قال: سهمك أعطيك كذا، وإن سبق فرسي، أو قال: إبلي، أو قال: سهمي أعطني كذا، وهذا هو القمار بعينه؛ وهذا لأن القمار مشتق من القمر الذي يزداد وينقص، سمي القمار قماراً؛ لأن كل واحد من المقامرين ممن يجوز أن يذهب ماله إلى صاحبه، ويستفيد مال صاحبه، فيزداد مال كل واحد منهما مرة وينتقص أخرى، فإذا كان المال مشروطاً من الجانبين كان قماراً، والقمار حرام، ولأن فيه تعليق تمليك المال بالخطر، وإنه لا يجوز. وإن شرطوا الجعل من أحد الجانبين، وصورته: أن يقول أحدهما لصاحبه إن سبقتني أعطيك كذا، وإن سبقتك فلا شيء لي عليك، فهذا جائز استحساناً، والقياس أن لا يجوز. وجه القياس: أن المال إذا كان مشروطاً من أحد الجانبين؛ إن كان لا يتمكن فيه معنى القمار؛ لأن المشروط له المال لا يذهب ماله بحال من الأحوال، والقمار أن يكون واحد من المقامرين بحال يجوز أن يذهب ماله، ويجوز أن يستفيد مال صاحبه لما ذكرنا

من اشتقاق القمر، إلا أن فيه تعليق تمليك المال بالخطر، وإنه لا يجوز، ألا ترى أن الاستباق فيما عدا هذه الأشياء الثلاثة نحو البغال والحمير لا يجوز، وإن كان المال مشروطاً من أحد الجانبين إنما لم يجز؛ لأن فيه تعليق تمليك المال بالخطر. وجه الاستحسان: ما روينا من حديث أبي هريرة؛ ووجه الاستدلال به: أن النبي عليه السلام نفى السباق عاماً بقوله: «لا سبق» ، واستثنى الأشياء (الثلاثة) بقوله: «إلا في خف أو نصل أو حافر» ، والاستثناء من النفي إثبات، ومن التحريم إباحة، وليس المراد من الحديث ما إذا لم يكن المال مشروطاً أصلاً، فإن الاستباق بدون شرط المال جائز في الأشياء كلها، وليس المراد ما إذا كان المال مشروطاً من الجانبين؛ لأن ذلك قمار، والقمار حرام بالإجماع وبنص التنزيل، فكان المراد ما إذا كان المال مشروطاً من أحد الجانبين، والنص الوارد في الأشياء الثلاثة إذا كان مشروطاً من أحد الجانبين لا يكون وارداً فيما عدا الأشياء الثلاثة؛ لأن فيما عدا الأشياء الثلاثة نص آخر بخلافه، وهو قوله: «لا سبق» نفى السبق عاماً، واستثنى الأشياء الثلاثة ففيما عدا الأشياء الثلاثة ينتفي السبق بالنفي العام، ولأن الأشياء الثلاثة من آلات الحراب، وللناس إلى المخاطرة والرهان (في) حاجة حتى يتعلموا الفروسية والرمي، فأما ما عدا الأشياء الثلاثة فليس من آلات الحراب، ولا حاجة إلى الرهان في ذلك، وكذلك النص الوارد في الأشياء الثلاثة إذا كان المال مشروطاً من أحد الجانبين لا يعتبر وارداً فيما إذا كان المال مشروطاً من الجانبين، فالمانع فيه شيئان: القمار، وتمليك المال بالخطر، وإذا كان المال مشروطاً من أحد الجانبين، فالمانع فيه شيء واحد، وهو تمليك المال بالخطر، والجواز عند قلة المانع لا يدل على الجواز عند كثرة المانع. ثم إذا كان المال مشروطاً من الجانبين، فأدخلا بينهما ثالثاً، وقالا للثالث: إن سبقتنا فالمالان، وإن سبقناك فلا شيء لنا، يجوز استحساناً لانتفاء معنى القمار في حق الثالث، وهو مروي عن سعيد بن المسيب. ثم إذا أدخلا ثالثاً، فإن سبقهما الثالث استحق المالين، وإن سبقا الثالث إن سبقاه معاً فلا شيء لواحد منهما على صاحبه؛ لانعدام شرط وجوب المال فيما بينهما، وهو سبق أحدهما على صاحبه، وإن سبقاه على التعاقب، فالذي سبق صاحبه يستحق المال على صاحبه لوجود الشرط في حقه، وصاحبه لا يستحق المال عليه، لانعدام الشرط في حق صاحبه. قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : إدخال الثالث إنما يكون حيلة للجواز إذا كان الثالث يتوهم أن يكون سابقاً ومسبوقاً، فأما إذا كان يتيقن بأنه يسبقهما لا محالة، أو يتيقن أنه يصير مسبوقاً لا يجوز؛ لأن القياس أن لا يجوز، وإن انتفى معنى القمار في حقه لما فيه من تعليق تمليك المال بالخطر؛ إلا أنا جوزناه بخلاف القياس بالنص، وهو ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «من أدخل فرساً بين فرسين، فإن كان يأمن أن يسبق، فلا خير فيه، وإن كان لا يأمن أن يسبق، فلا بأس به» ، فالحديث أفاد الجواز

الفصل الثامن في السلام، وتشميت العاطس

بشرط أن يتوهم أن يكون الثالث سابقاً ومسبوقاً، وما ثبت نصاً بخلاف القياس يراعى فيه جميع الشرائط التي ورد بها النص. ولم يذكر محمد في «الكتاب» المخاطرة في الاستباق على الأقدام، ولا شك أن المال إذا كان مشروطاً من الجانبين فإنه لا يجوز، وإن كان مشروطاً من أحد الجانبين يجب أن يجوز لحديث الترمذي فإن كانت المسابقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخيل والركاب والأرجل، ولأن الغزاة يحتاجون إلى رياضة الجسم كما يحتاجون إلى رياضة الدواب. وحكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل أنه إذا وقع الاختلاف بين المتفقهين في مسألة، فأراد الرجوع إلى الأستاذ، ويشترط أحدهما لصاحبه إن كان الجواب كما قلت؛ أعطيتك كذا، وإن كان الجواب كما قلت فلا آخذ منك شيئاً؛ ينبغي أن يجوز على قياس الاستباق على الأفراس. وكذلك إذا قال واحد من المتفقهة لمثله: تعال حتى نطارح المسائل، فإذا أصبتَ وأخطأتُ أعطيك كذا، وإن أصبتُ وأخطأتَ، فلا آخذ منك شيئاً يجب أن يجوز؛ لأن في الأفراس إنما جوز ذلك حثاً على تعلم الفروسية، فيجوز ههنا أيضاً حثاً على تعلم الفقه؛ لأن كل ذلك (85ب2) يرجع إلى تقوية الدين وإعلاء كلمة الله تعالى، وبه أخذ الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. الفصل الثامن في السلام، وتشميت العاطس ذكر في «النوازل» : إذا أتى إنسان باب دار غيره، يجب أن يستأذنه، ثم إذا دخل يسلم، والأصل في ذلك قوله تعالى: {لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها} (النور:27) والمراد بالاستئناس الاستئذان (لأمر) الله تعالى به، أما الاستئذان قبل السلام، وهذا في البيوت، أما في الفضاء يسلم أولاً ثم يتكلم لقوله عليه السلام: «من كلم قبل السلام فلا تجيبوه» . وإذا قال السائل على الباب: السلام عليكم لا يجب رد السلام؛ لأن هذا ليس بسلام تحية بل هو شعار لسؤالهم، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: إذا مررت على قوم، فسلم عليهم، وإذا سلمت عليهم وجب عليهم رد السلام، والأصل في وجوب رد السلام قول الله تعالى: {فحيوا بأحسن منها أو ردوها} (النساء:86) . واختلفوا في أن أيهما أفضل أجراً؟ قال بعضهم: الراد أفضل أجراً؛ لأن رد السلام

واجب، والسلام ابتداءً ليس بواجب، ولا شك أن الآتي بالواجب أفضل أجراً، وقال بعضهم: المسلم أفضل أجراً؛ لأنه سابق، فالسابق له فضل السبق، والأفضل للمسلم أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، والمجيب كذلك يرد، ولا ينبغي أن يزاد على البركات شيء، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لكل شيء منتهى، ومنتهى السلام البركات» . ويسلم الماشي على القاعد، والصغير على الكبير، والراكب على الماشي، ويسلم الذي يأتيك من خلفك، وإذا التقى الرجلان ابتدرا بالسلام؛ نقل ذلك عن عطاء رضي الله عنه. قال الحسن: قوم يستقبلون قوماً، يبدأ الأقل بالأكثر، وقد قيل: ابتدروا، وفي حديث يزيد بن وهب عن النبي عليه السلام قال: «يسلم الراكب على الماشي، ويسلم الذي يأتيك من خلفك، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير» . قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: إذا دخل جماعة على قوم، فإن تركوا السلام، فكلهم آثمون في ذلك، وإن سلم واحد منهم جاز عنهم جميعاً، وإن سلم كلهم، فهو أفضل، وإن تركوا الجواب فكلهم آثمون وإن رد واحد منهم أجزأهم، به ورود الأثر، وهو اختيار الفقيه أبو الليث، وإن أجاب كلهم، فهو أفضل، وقال بعض المشايخ: يجب الرد على الكل، ولا نأخذ به، وينبغي للمجيب إذا رد جواب السلام أن يُسمع المسلم؛ حتى لو لم يسمعه لا يكون جواباً، ولا يخرج عن العهدة، ألا ترى أن المسلِّم إذا سلم ولم يسمع لا يكون جواباً، فإن كان المسلم أصم ينبغي أن يريه تحريك شفتيه، وكذلك في جواب العطسة. وينبغي للمسلم إذا سلم على غيره أن يسلم بلفظ الجماعة؛ لأن المخاطب (لا) تكون معه الملائكة، وكذلك المجيب إذا رد الجواب ينبغي أن يذكر بلفظ الجماعة؛ لما قلنا. وفي «النوازل» : رجل جالس مع قوم؛ سلم عليه رجل، وقال: السلام عليك، فرده بعض القوم ينوب ذلك عن الذي سلم عليه المسلم، ويسقط عنه الجواب، يريد به ما إذا أشار ولم يسم؛ علل فقال:؛ لأن قصده التسليم على الكل، ويجوز أن يشار إلى الجماعة بخطاب الواحد؛ هذا إذا لم يسم ذلك الرجل، فأما إذا سماه، فقال: السلام عليك يا زيد، فأجابه غير زيد، لا يسقط الفرض عن زيد، وإن لم يسم، فأشار إلى زيد يسقط؛ لأن قصده التسليم على الكل ولكن يريده زيادة. في «فتاوى أهل سمرقند» : حكي عن الفقيه أبي جعفر أن بعضاً من العلماء من أصحاب أبي يوسف رحمه الله كان إذا مر في السوق لم يقل: السلام عليكم، ولكن قال: سلام الله عليكم، فقيل له في ذلك، فقال: التسليم تحية، وإجابة التحية فرض، قال الله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} (النساء:86) فإذا لم يجيبوني

لزمني الأمر بالمعروف، فأما سلام الله تعالى عليهم دعاء ليس بتسليم فلا يلزمهم شيء، ولا يلزمني الأمر بالمعروف، فأختار سلام الله تعالى، لهذا اختلف المشايخ في التسليم على الصبيان، قال بعضهم: لا يسلم عليهم، وهو قول الحسن؛ وهذا لأن رد السلام فرض، والصبي لا تلزمه الفرائض، فلا يلزمه رد السلام، فلا يسلم عليه لهذا، وقال بعضهم: التسليم عليهم أفضل، وهو قول شريح، قال الفقيه: وبه نأخذ، وقد روي عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: كنت مع الصبيان إذ جاء رسول الله، وسلم علينا. وأما التسليم على أهل الذمة، فقد اختلفوا فيه أيضاً؛ قال بعضهم: لا بأس به لما روي عن أبي إمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال: «أمرنا رسول الله عليه السلام بإفشاء السلام على كل مسلم ومعاهد» ، وقال بعضهم: لا يسلم عليهم لما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالتسليم» ، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: لا يسلم على اليهود والنصارى والمجوس، وهذا إذا لم يكن للمسلم حاجة إلى الذمي، وإن كان له حاجة، فلا بأس بالسلام عليه؛ لأن النهي عن السلام عليه لتوقيره، ولا توقير للذمي إذا كان السلام لحاجة. ويكره مصافحة الذمي؛ لأن فيه توقير الذمي، ولا بأس برد السلام على أهل الذمة، ولكن لا يزاد على قوله: وعليكم، روى ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي عليه السلام أنه قال: «إن اليهود إذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم» ، قال الفقيه أبو الليث: إذا مررت بقوم وفيهم كفار؛ فأنت بالخيار؛ إن شئت قلت: السلام عليكم، وتريد به المسلمين، وإن شئت قلت: السلام على من اتبع الهدى، قال مجاهد: إذا كتبت إلى اليهودي، وإلى النصراني في حاجة، فاكتب: السلام على من اتبع الهدى. وإذا دخل الرجل بيته يسلم على أهل بيته، وإن لم يكن في البيت أحد يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، رواه سعيد عن قتادة. وإذا مر الرجل بالقارىء، فلا ينبغي أن يسلم عليه؛ لأنه يشغله عن قراءة القرآن، فإن سلم مع ذلك تكلموا فيه، واختار الصدر الشهيد رحمه الله أنه يجب عليه الرد، وهكذا حكى اختيار الفقيه أبي الليث؛ بخلاف السلام وقت الخطبة، هكذا ذكر رحمه الله في «واقعاته» ، ورأيت في «فوائد» الفقيه أبي جعفر: إذا سلم رجل على الذي يصلي، أو يقرأ القرآن؛ روي عن أبي حنيفة أنه يرد السلام بقلبه، وعن محمد أنه يمضي على

القراءة، ولا يشغل قلبه كما لا يشتغل لسانه. وفي «الأصل» : لا ينبغي للقوم أن يشمتوا العاطس ولا أن يردوا السلام (86أ2) يعني وقت الخطبة، وفي صلاة «الأثر» روى محمد عن أبي يوسف: أنهم يردون السلام، ويشمتون العاطس، وتبين بما ذكر في صلاة «الأثر» ، أن ما ذكر في «الأصل» قول محمد. قالوا: الخلاف بين أبي يوسف ومحمد في هذا بناءً على أنه إذا لم يرد السلام في الحال؛ هل يرد بعد الفراغ من الخطبة؟ على قول محمد: يرد، وعلى قول أبي يوسف: لا يرد، ولما كان من مذهب محمد الرد بعد الفراغ لو اشتغل برد السلام يفوته الاستماع، ولو اشتغل بالسماع يتأخر رد السلام ولا يفوت، والتأخير أهون من التفويت، وعند أبي يوسف لما كان يمكنه الرد بعد الفراغ لو لم يرد السلام في الحال يفوته الرد أصلاً، ولو رد يفوته الاستماع في البعض، ولا شك أن تفويت البعض أهون من تفويت الكل. وإذا دخل القاضي المسجد، فلا ينبغي له أن يسلم على أحد الخصمين، ولو سلم على الخصوم تسليماً عاماً، فقد اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم قالوا: له ذلك، وبه أخذ الخصاف؛ لأن السلام سنة متبعة، ولا يجوز ترك السنة بسبب تقلد العمل، وهذا القائل يقول بأن الأمير أو الوالي إذا دخل المسجد ينبغي أن يسلم، لا يسعه تركه للمعنى الذي ذكرنا، ومنهم من قال: الأولى أن لا يسلم، وهذا القائل يقول في الوالي والأمير أيضاً: إن الأولى لهما إذا دخلا المسجد أن لا يسلما؛ وهذا لأنهم إذا سلموا ترتفع الهيبة وتقل الخشية، ومبنى أمر هؤلاء على الهيبة والخشية، فلا يسلموا حتى تبقى الهيبة والخشية، هذا هو الكلام في وقت دخول المسجد، فأما إذا دخل القاضي المسجد، وجلس ناحية منه لفصل الخصومات؛ لا ينبغي له أن يسلم على الخصوم، ولا ينبغي للخصوم أن يسلموا عليه، أما القاضي؛ لأنه جلس لفصل الخصومة، فلا يشتغل بغيره، فأما الخصوم لا يسلمون؛ لأن السلام تحية الزائرين، والخصوم ما أتوه لأجل الزيارة، إنما أتوه لأجل الخصومة، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» . بعض مشايخنا قاسوا الولاة والأمراء على القاضي، فقالوا: إذا جلس الوالي والأمير في المسجد أو في بيته، فلا يسلم على الرعية، والرعية لا يسلمون عليه؛ قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي: الصحيح هو الفرق بين القضاة، وبين الأمراء والولاة، فالرعية يسلمون على الأمراء والولاة، والخصوم لا يسلمون على القضاة. والفرق: أن السلام تحية الزائرين، والخصوم ما تقدموا إلى القاضي زائرين، فأما الرعية تقدموا إلى الأمير والوالي زائرين. فعلى قول هذا الفرق لو جلس القاضي للزيارة، فالخصوم يسلمون عليه، ولو جلس الأمير لفصل الخصومة، فالخصوم لا يسلمون عليه، ولو سلم الخصوم على القاضي بعدما جلس ناحية من المسجد للقضاء، فلا بأس بأن يرد عليهم السلام، وهذا إشارة إلى أنه لا يجب عليه رد السلام؛ وهذا لأن الرد جواب السلام، والسلام إنما يستحق الجواب إذا كان في أوانه، أما إذا كان في غير أوانه فلا؛ ألا ترى أن من سلم على المصلي لا

يستحق الجواب؟ وإنما لا يستحق الجواب لما قلنا. حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله أنه كان يقول: من جلس لتعليم تلامذته، فدخل عليه داخل وسلم، وسعه أن لا يرد؛ لأنه جلس للتعليم لا لرد السلام، فلا يكون السلام في أوانه، وكذلك كان يقول فيمن جلس للذكر، أي ذكر كان فدخل عليه داخل وسلم عليه، وسعه أن لا يرد؛ لأنه جلس للذكر لا لرد السلام، فلا يكون السلام في أوانه.Y قال في كتاب «العلل» : ولا بأس بالسلام على أهل الحمام؛ وإن كانوا عراة؛ لأن ظاهر قوله عليه السلام: «وأفشوا السلام» مطلق لا فصل فيه بين شخص وشخص، وإن ترك ذلك بطريق التأديب، والزجر لهم حتى لا يفعلوا مثل ذلك، فلا بأس به. وكذلك على هذا السلام على الذي يلعب بالشطرنج، وهذا إذا كان اللعب بالشطرنج للتلهي؛ أما إذا كان لشحذ الخاطر لا بأس بالتسليم عليه؛ لأن من التابعين من لعب به، وهو الشعبي هكذا قالوا، وكتب في..... لم يرَ أبو حنيفة رضي الله عنه بالتسليم على من يلعب بالشطرنج بأساً ليشغله ذلك عما هو فيه، وكره أبو يوسف ذلك تحقيراً لهم. ذكر محمد رحمه الله في باب الجعائل من «السير» حديثاً يدل على أن من بلغ إنساناً سلاماً عن غائب كان عليه أن يرد الجواب على المبلغ أولاً، ثم على ذلك الغائب؛ وهذا لأن المبلغ هو المسبب لوصول السلام إليه، والمسبب إلى الخير كالمباشر له، ولو أنه باشر السلام عليه استحق الرد، فكذا إذا سبب، أو نقول: الغائب محسن إليه بالسلام، والمبلغ بالتبليغ، فكان عليه أن يجازيهما. وفي «البقالي» عمن قال لآخر: أقرىء فلاناً السلام؛ يجب عليه أن يفعل. تشميت العاطس إذا عطس الرجل خارج (السلام) ، فينبغي أن يحمد الله تعالى، فيقول: الحمد لله رب العالمين، أو يقول: الحمد لله على كل حال، ولا يقول غير ذلك، وينبغي لمن حضره أن يقول: يرحمك الله، ويقول له العاطس: يغفر الله لنا ولكم، أو يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم، ولا يقول غير ذلك، وقد عرف في كتاب الصلاة أن المصلي إذا قال عند عطسة غير المصلي: الحمد لله، لا تفسد صلاته وإن أراد به الجواب، ولو قال: يرحمك الله؛ تفسد صلاته. ولو عطس ثلاث مرات ينبغي أن يحمد الله في كل مرة، ولمن حضره أن يشمته ما بينه وبين ثلاث مرات، فإن زاد على الثلاث فالعاطس يحمد الله؛ أما من حضره، فبالخيار؛ إن شاء شمته، وإن شاء لم يشمته كل ذلك حسن، وعن محمد أن من عطس

الفصل التاسع فيما يحل للرجل النظر إليه، وما لا يحل، وما يحل له مسه، وما لا يحل

مراراً يشمت في كل مرة، فإن أخر يكفيه مرة واحدة، فإذا عطست المرأة فلا بأس بتشميتها؛ إلا أن تكون شابة، وإذا عطس الرجل فشمتته المرأة، فإن كانت عجوزاً يرد الرجل عليها، وإن كانت شابة يرد في نفسه، والجواب في هذا كالجواب في السلام. الفصل التاسع فيما يحل للرجل النظر إليه، وما لا يحل، وما يحل له مسه، وما لا يحل يجب أن تعلم بأن مسائل النظر تنقسم إلى أربعة أقسام: نظر الرجل إلى الرجل، ونظر المرأة إلى المرأة، ونظر المرأة إلى الرجل، ونظر الرجل إلى المرأة (86ب2) . أما بيان القسم الأول فنقول: يجوز أن ينظر الرجل إلى الرجل، إلا إلى عورته، وعورته ما بين سرته حتى يجاوز ركبته، والأصل فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده؛ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عورة الرجل ما دون سرته حتى تجاوز ركبته» ، والتعامل في الحمام في إزار واحد من غير نكير منكر، ومثل هذا التعامل حجة في الشرع. وكان أبو عصمة سعد بن معاذ المروزي يقول: إن السرة عورة؛ لأنها إحدى حدي العورة فتكون عورة كالركبة، بل أولى؛ لأنها في معنى الاشتهاء فوق الركبة، وحجتنا في ذلك حديث عمرو بن شعيب على ما روينا عن عمر رضي الله عنه: أنه كان إذا اتزر أبدى عن سرته، والتعامل الظاهر فيما بين الناس: أنهم إذا دخلوا الحمام، أبدوا عن سرتهم عند الاتزار من غير نكير منكر، ومثل هذا التعامل حجة، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل يقول: ما دون السرة إلى موضع نبات الشعر ليس بعورة، لتعامل بعض الناس في الإبداء عن ذلك الموضع عند الإتزار، ولكن هذا بعيد، فإن التعامل إنما يعتبر فيما لا نص فيه، دون السرة نص على ما روينا، وما جاز النظر إليه جاز مسه؛ لأن ما ليس بعورة فمسه والنظر إليه على السواء، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وأما بيان القسم الثاني: فنقول: نظر المرأة إلى المرأة كنظر الرجل إلى الرجل؛ لأن المرأة لا تشتهي المرأة؛ كما لا يشتهي الرجل الرجل، فكما جاز للرجل النظر إلى الرجل؛ فكذا يجوز للمرأة النظر إلى المرأة. وأما بيان القسم الثالث: فنقول: نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي تنظر إلى جميع جسده إلا ما بين سرته حتى تجاوز ركبته؛ لأن السرة فما فوقها وما تحت الركبة من الرجل ليس بعورة، وما ليس بعورة فالنظر إليه مبلغ الرجال والنساء جميعاً.

وأشار في «الكتاب» إلى أنها لا تنظر إلى ظهره وبطنه؛ لأن لهم النظر عند اختلاف الجنس، ألا ترى أنه لا يحل للمرأة غسل الرجل الأجنبي بعد موته، ويحل للرجل ذلك، وما ذكرنا من الجواب فيما إذا كانت المرأة تعلم يقيناً أنها لو نظرت إلى بعض ما ذكرنا من الرجل لا يقع في قلبها شهوة، فأما إذا علمت أنه يقع في قلبها شهوة أو شكت، ومعنى الشك استواء الظن، فأحب إليَّ أن تغض بصرها منه؛ هكذا ذكر محمد في «الأصل» ؛ وهذا لأن النظر عن شهوة نوع زنا، قال عليه السلام: «العينان تزنيان وزناهما النظر» ، والزنا حرام بجميع أنواعه، فقد ذكر الاستحسان فيما إذا كان الناظر إلى الرجل الأجنبي هي المرأة. وفيما إذا كان الناظر إلى المرأة الأجنبية هو الرجل، قال: يجتنب بجهده على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله، وهو دليل الحرمة، وهو الصحيح في الفعلين جميعاً، ولا تمس شيئاً إذا كان أحدهما شاباً في حد الشهوة، وإن أمنا على أنفسهما الشهوة فقد حرم المس، وإن أمنا على أنفسهما الشهوة إذا كان أحدهما في حد الشهوة، فلم يحرم النظر إذا أمنت على نفسها الشهوة؛ لأن حكم المس أغلظ من حكم النظر حتى إن من مس سائر الأعضاء يوجب حرمة المصاهرة إن كان المس عن شهوة، والنظر إلى سائر الأعضاء سوى عين الفرج لا يوجب حرمة المصاهرة، وإن كان عن شهوة، والصوم يفسد بالمس عن شهوة، إذا اتصل به الإنزال، ولا يفسد بالنظر عن شهوة وإن اتصل به الإنزال والبلوى الذي تتحقق في النظر لا تتحقق في المس، فالرخصة في النظر عند الأمن عن الشهوة لا توجب الرخصة في المس. فأما الأمة فيحل لها النظر إلى جميع أعضاء الرجل الأجنبي سوى ما بين سرته حتى تجاوز ركبته، وتمس جميع ذلك إذا أمنا على أنفسهما الشهوة؛ ألا ترى أنه جرت العادة فيما بين الناس أن الأمة تغمز رجل زوج مولاتها من غير نكير منكر، وإنه يدل على جواز المس. وأما بيان القسم الرابع: فنقول: نظر الرجل إلى المرأة ينقسم أقساماً أربعة؛ نظر الزوج إلى زوجته ومملوكته، ونظر الرجل إلى ذوات محارمه، ونظر الرجل إلى الحرة الأجنبية، ونظر الرجل إلى إماء الغير. أما نظر الرجل إلى زوجته ومملوكته: فهو حلال من فرقها إلى قدمها، عن شهوة وبغير شهوة، وهذا ظاهر؛ إلا أن الأولى أن لا ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه، قالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا رأى مني مع طول صحبتي إياه، وقال عليه السلام: «إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ما استطاع، ولا يتجردان تجرد

البعير» ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: الأولى أن ينظر الرجل إلى فرج امرأته وقت الوقاع ليكون أبلغ في تحصيل معنى اللذة، وعن أبي يوسف في «الأمالي» قال: سألت أبا حنيفة رضي الله عنه عن الرجل يمس فرج امرأته، أو تمس هي فرجه ليتحرك عليها؛ هل ترى بذلك بأساً؟ قال: أرجو أن يعظم الأجر. وأما النظر إلى ذوات محارمه فنقول: يباح النظر إلى موضع زينة الظاهرة والباطنة، والأصل فيه قوله تعالى: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن} (النور:31) الآية، فالاستدلال بالآية أنه ليس المراد من الزينة المذكورة في الآية عين الزينة تباع في الأسواق ويراها الأجانب، وإنما المراد مواضع الزينة، والثاني: أن الله تعالى أباح لهن إبداء الزينة للمحارم، وهي على مواضع الزينة؛ لأن إبداء الزينة، وهي على غير مواضع الزينة تباح للأجانب، وأثر الزينة وهي على موضع الزينة لا يتصور إلا بإبداء موضع الزينة، فيدل ذلك على إباحة إبداء مواضع الزينة. ومواضع الزينة: الرأس والأذن العنق والصدر والعضد والساعد والكف والساق والرجل والوجه، فالرأس موضع التاج والإكليل، والشعر موضع العقاص، والعنق موضع القلادة، والصدر كذلك، فالقلادة قد تنتهي إلى الصدر وكذلك الوشاح، والأذن موضع القرط، والعضد موضع الدملج، والساعد موضع السوار، والكف موضع الخاتم والخضاب، والساق موضع الخلخال والخضاب، والقدم موضع الخضاب، ولأن المحارم يدخل بعضهم على بعض من غير استئذان ولا حشمة، والمرأة في بيتها تكون في ثياب مهنتها، ولا تكون مستترة، فلو أمرناها بالستر من محارمها أدى إلى الحرج. وما يحل النظر إليه حل مسه، وغمزه من غير حائل، (78أ2) والأصل في ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل رأس فاطمة، وأبو بكر رضي الله عنه قبل رأس عائشة رضي الله عنها، وقال عليه السلام: «من قبل رجل أمه، فكأنما قبل عتبة الجنة» ، ولكن إنما يباح النظر إذا كان يأمن على نفسه الشهوة، فأما إذا كان يخاف على نفسه الشهوة، فلا يحل له النظر لما بينا قبل هذا، وكذلك المس إنما يباح له إذا أمن على نفسه وعليها الشهوة؛ أما إذا خاف على نفسه أو عليها الشهوة، فلا يحل المس له، ولا يحل أن ينظر إلى بطنها، ولا إلى ظهرها، ولا إلى جنبها، ولا يمس شيئاً من ذلك، والوجه في ذلك: أن الله تعالى سمى الظهار في كتابه منكراً من القول وزوراً، وصورة الظهار: أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي لولا أن ظهرها محرم عليه نظراً

ومساً، وكل شيء وإلا لما سمى الظهار منكراً من القول وزوراً، وإذا ثبت هذا في الظهر ثبت في البطن والجنبين. وذوات المحارم من (يحرم) عليه نكاحهن بالنسب نحو الأمهات والبنات والجدات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، أو ما يحرم بالرضاع، وقد صح أن عائشة رضي الله عنها سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: إن أفلح يدخل علي وأنا في ثياب فضل، قال عليه السلام: «ليلج عليك أفلح، فإنه عمك من الرضاعة» ، وكذلك الحرمة بالمصاهرة، إذا كانت بالنكاح بلا خلاف. واختلفوا فيما إذا كانت بالزنا فبعض المشايخ؛ قالوا: لا يثبت بها حل النظر والمس؛ لأن ثبوت الحرمة على الزاني بطريق العقوبة لا بطريق النعمة؛ ولأنه قد جرب مرة وظهرت جناية فلا يؤتمن ثانياً، قال شمس الأئمة السرخسي: والأصح أنه لا بأس بذلك، وقاسه على ما إذا كانت هذه الحرمة بسبب النكاح. قال محمد رحمه الله: ويجوز له أن يسافر بها، وأن يخلو بها يعني لمحارمه إذا أمن على نفسه، وهذا لقوله عليه السلام: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا ومعها زوجها، أو ذي رحم محرم» ، فقد أباح للمرأة المسافرة مع ذي الرحم المحرم، وإنه يوجب إباحة المسافرة للمحرم معها، ولأن حرمة المسافرة والخلوة بالأجنبيات لخوف الفتنة بواسطة الشهوة، والإنسان لا يشتهي محارمه غالباً، فصار من هذا الوجه كالخلوة والمسافرة مع الجنس، فإن علم أنه يشتهيها، أو تشتهيه لو سافر بها أو خلا بها، أو كان أكثر رأيه ذلك أو شك، فلا يباح له ذلك لما ذكرنا، وإن احتاج إلى حملها، وإنزالها في السفر، فلا بأس بأن يأخذ ببطنها وظهرها من وراء الثياب؛ لأن المس من فوق الثياب لا يفضي إلى الشهوة غالباً، فصار كالنظر، وقد صح أن ابن عمر رضي الله عنهما: رأى رجلاً حمل أمه على عاتقه يطوف بها، ولم ينكر عليه، فإن خاف الشهوة على نفسه أو عليها، فليجتنب بجهده، وذلك بأن يجتنب أصلاً متى أمكنها الركوب والنزول بنفسها، وإن لم يمكنها ذلك تكلف المحرم في ذلك زيادة تكلف بالثياب حتى لا تصل إليه حرارة بدنها، وإن لم يمكنه ذلك؛ تكلف لدفع الشهوة عن قلبه يعني: لا يقصد بما فعل قضاء الشهوة. وأما النظر إلى إماء الغير، والمدبرات وأمهات الأولاد، فهو كنظر الرجل إلى ذوات محارمه، والأصل في ذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كن جواري عمر رضي الله عنه يخدمن الضيفان كاشفات الرؤوس مظهرات اليدين، ولأن الأمة تحتاج إلى الخروج لحوائج مولاها، وإنما تخرج في ثياب مهنتها، فحالها مع جميع الرجال في معنى

البلوى؛ كحال المرأة مع ذوي محارمها، وكان محمد بن مقاتل الرازي يقول: يجوز النظر إلى بطنها وظهرها وجنبها، ويروى في ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من أراد أن يشتري جارية، فلينظر إليها، إلا إلى موضع المئزر، وهذا القول ليس بصحيح. تأويل الحديث: أن المرأة قد تتزر على الصدر، فهو مراد ابن عباس رضي الله عنه، قال: وكل ما يباح النظر إليه منها يباح مسه إذا أمن الشهوة على نفسه وعليها، والأصل في ذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه مر بجارية تباع، فضرب يده على صدرها، ومس ذراعيها وقال: اشتروا فإنها رخصة، والمعنى أن المسح للنظر الحاجة، وكما مست الحاجة إلى النظر مست الحاجة إلى اللمس ليعرف أن يشتريها. ولم يذكر محمد رحمه الله في شيء من الكتب الخلوة، والمسافرة بإماء الغير، وقد اختلف المشايخ فيه؛ منهم من قال: يحل، وإليه مال الحاكم الشهيد، ومنهم من قال: (لا) يحل، وبه كان يفتي الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي، والذين قالوا بالحل اختلفوا فيما بينهم؛ بعضهم قالوا: ليس له أن يعالجها في الإنزال والإركاب؛ لأنه يشتهيها، وبعضهم قالوا: له ذلك إذا أمن على نفسه الشهوة وعليها؛ وهذا لأن المولى قد يبعثها إلى بلدة أخرى في حاجته، وعسى تحتاج إلى من يركبها وينزلها، ولأجل الحاجة جوز النظر والمس في سائر المواضع. وأما النظر إلى الأجنبيات: فنقول: يجوز النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة منهن، وذلك الوجه والكف في ظاهر الرواية، والأصل فيه قوله تعالى: {ولا يبديين زينتهن إلا ما ظهر منها} (النور:31) قال علي وابن عباس رضي الله عنهم: ما ظهر منها الكف والخاتم، وروي: أن امرأة عرضت نفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى وجهها، فلم يرَ فيها رغبة، ورأى رسول الله عليه السلام كف امرأة غير مخضوبة فقال: «أكف رجل هذا» ؟ ولما ناول فاطمة أحد ولديها بلالاً أو أنساً، قال: «رأيت كفها كأنها فِلْقَة قمر» ؛ ولأنها تحتاج إلى إبداء وجهها في المعاملات لتحل الشهادة عليها، وتحتاج إلى إبداء كفها عند الأخذ والإعطاء. وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما: أنه يجوز النظر إلى قدمها أيضاً؛ لأنها تحتاج إلى إبداء قدمها إذا مشت حافية أو متنعلة، فإنها لا تجد الخف في كل وقت، وفي رواية أخرى عنه قال: لا يجوز النظر إلى قدمها. وفي «جامع البرامكة» عن أبي يوسف: أنه يجوز النظر إلى ذراعيها أيضاً؛ لأنها تصير مبتلياً بإبداء ذراعيها عند الغسل والطبخ، قيل: فكذلك يباح النظر إلى ثناياها؛ لأن ذلك يبدوا منها عند التحدث مع الرجال في المعاملات، وذلك كله إذا لم يكن النظر عن شهوة، فإن كان يعلم أنه لو نظر (87ب2) اشتهى، أو كان أكثر رأيه ذلك، فليجتنب

بجهده ولا يحل له أن يمس وجهها ولا كفها، وإن كان يأمن الشهوة بخلاف النظر؛ وهذا لأن حكم المس أغلظ من حكم النظر، والضرورة في المس قاصرة فلا يلحق المس بالنظر؛ هذا إذا كانت شابة تشتهى. فإن كانت عجوزاً لا تشتهى فلا بأس بمصافحتها، ومس يدها، والأصل في ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصافح العجائز في البيعة، ولا يصافح الشواب، ولأن الحرمة في الشواب لخوف الفتنة، ولا خوف في العجائز، وكذلك إذا كان شيخاً يأمن على نفسه وعليها فلا بأس بأن يصافحها، وإن كان لا يأمن على نفسه أو عليها، فليجتنب لما مر من قبل هذا. ثم إن محمداً رحمه الله أباح المس للرجال إذا كانت المرأة عجوزاً، ولم يشترط كون الرجل بحال لا يجامع مثله فيما إذا كان الماس هي المرأة، قال: إذا كانا كبيرين لا يجامع مثله، ولا يجامع مثلها، فلا بأس بالمصافحة، فليأمل عند الفتوى. وإن كان عليها ثياب، فلا بأس بأن يتأمل جسدها؛ لأن نظره إلى ثيابها لا إلى جسدها، فهو كما لو كانت في بيت فنظر إلى جدارها، وهذا إذا لم تكن ثيابها ملتزقة بها، بحيث تصف ما تحتها،...... .... ولم يكن رقيقاً بحيث يصف ما تحته، وإن كانت بخلاف ذلك فينبغي له أن يغض بصره؛ لأن هذا الثوب من حيث إنه لا يسترها بمنزلة شبكة عليها، والأصل فيه ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا تلبسوا نساءكم الكتان والقباطي، فإنها إن تشف تصف، وهذا إذا كانت في حد الشهوة، وإن كانت صغيرة لا يشتهى مثلها، فلا بأس بالنظر إليها ومن مسها؛ لأنه ليس لبدنها حكم العورة، ولا في النظر والمس معنى خوف الفتنة، والأصل فيه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يقبل زب الحسن والحسين في صغرهما» ، وروي: أنه كان يأخذ ذلك من أحدهما، فيجره والصبي يضحك. ثم النظر إلى الحرة الأجنبية قد يصير مرخصاً عند الضرورة لما عرف: أن مواضع الضرورة مستثناة عن قواعد الشرع، ومن مواضع الضرورة إذا دعي الرجل إلى شهادة يعني أداء الشهادة عليها، وأراد الحاكم أن ينظر إليها ليجيز إقراره عليها، وكان إذا نظر اشتهى، أو كان أكثر رأيه ذلك، فلا بأس بالنظر إليها؛ لأن الشاهد لا يجد بداً من النظر إلى المشهود عليه في أداء الشهادة، ليكون الأداء عن علم، وكذلك القاضي لا يجد بداً من النظر وقت الحكم حتى لا يقع الحكم على غير المستحق عليه. وكذلك لو أراد أن يتزوجها؛ لا بأس بالنظر إليها وإن كان فيه شهوة، قال عليه السلام للمغيرة بن شعبة حين أراد أن يتزوج امرأة: «انظرها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» ، ولكن

عند النظر ينبغي أن لا يقصد قضاء الشهوة، وإنما يقصد أداء الشهادة والحكم عليها. واختلف المشايخ فيما إذا دعي إلى تحمل الشهادة عليها، وهو يعلم أنه لو نظر إليها اشتهى، فمنهم من جوز ذلك، بشرط أن يقصد تحمل الشهادة لا قضاء الشهوة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: والأصح أنه لا يباح ذلك؛ إذ لا ضرورة في تحمل الشهادة، فقد يوجد من لا يشتهيها بالنظر إليها؛ بخلاف حالة الأداء؛ لأن الشاهد التزم تلك الأمانة، وهو متعين لأدائها. وكذلك إذا اشترى جارية، فلا بأس بأن ينظر إلى شعرها وصدرها وساقها وإن اشتهى؛ لأن المالية مطلوبة بالشراء، ولا يصير مقدارها معلوماً إلا بالنظر إلى هذه المواضع، فلأجل الحاجة جاز النظر، ولا يحل له أن يمس شيئاً منها إن اشتهى، أو كان عليه أكثر رأيه، فقد ذكرنا أن حكم المس أغلظ من حكم النظر. قال: ولا يحل النظر إلى العورة، إلا عند الضرورة؛ قال سلمان الفارسي رضي الله عنه:؛ لأن أخرّ من السماء، فأنقطع نصفين؛ أحب إلي من أن أنظر إلى عورة أحد، أو ينظر أحد إلى عورتي، مع هذا إذا جاء العذر، فلا بأس بالنظر إليها، فمن جملة الأعذار الختان، والختان ينظر عند ذلك الفعل، وكذلك الخافضة تنظر؛ وهذا لأن الختان سنة، وهو من جملة الفطرة في حق الرجل لا يمكن تركه، ومن ذلك عند الولادة، والمرأة تنظر إلى موضع الفرج من المرأة وغيره؛ لأنه لابد من قابلة تقبل الولد وتعالجه، وبدونها تخاف الهلاك على الولد، وعند قبول الولد ومعالجته يحتاج إلى النظر فأبيح لأجل الحاجة، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جوز شهادة القابلة على الولادة، فذلك دليل على أنه يباح لها النظر. وكذلك ينظر الرجل من الرجل إلى موضع الاحتقان عند الحاجة إليه؛ بأن كان مريضاً؛ لأن الضرورة قد تحققت، والاحتقان من المداواة، قال عليه السلام: «تداووا عباد الله، فإن الله تعالى لم يخلق داءً إلا وخلق له الدواء، إلا السام والهرم» ، وقد روي عن أبي يوسف: أنه إذا كان به هزال، فاحتقن؛ قيل له: إن الحقنة تزيل ما بك من الهزال، فلا بأس بأن يبدي ذلك الموضع للمحتقن، وهذا صحيح، فإن الهزال الفاحش نوع مرض يكون آخره.... والسل، وحكي عن الشافعي قال: إذا قيل له: إن الحقنة تقويك على المجامعة، فلا بأس بذلك، وهذا ضعيف؛ لأن الضرورة لا تتحقق بهذا. وكشف العورة من غير ضرورة لمعنى الشهوة لا يجوز. وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصوم أن الحقنة إنما تجوز عند الضرورة، وإذا لم يكن ثمة ضرورة، ولكن فيها منفعة ظاهرة بأن كان يتقوى بسببها على

الجماع لا يحل عندنا، وإن كان به هزال، فإن كان هزالاً يخشى منه التلف يحل، وما لا فلا، وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في «فتاويه» في باب الطهارات؛ قال محمد بن مقاتل الرازي: لا بأس بأن يتولى صاحب الحمام عورة إنسان بيده عند التنوير إذا كان يغض بصره كما أنه لا بأس به إذا كان يداوي جرحاً أو قرحاً، قال الفقيه: وهذا في حالة الضرورة لا في غيرها؛ لأن كل موضع لا يجوز النظر إليه لا يجوز مسه، إلا من فوق الثياب، وينبغي لكل أحد أن يتولى عانته بيده إذا تنور، فإنه روي عن النبي عليه السلام كان يتولى ذلك بنفسه.f وإذا أصابت المرأة قرحة في موضع لا يحل للرجل أن ينظر إليه، علم امرأة دواءها لتداويها؛ لأن نظر الجنس إلى الجنس أخف وكذا في امرأة العنين تنظر إليها النساء، فإن قلن: هي بكر (88أ2) فرق القاضي بينهما، وكذا لو اشترى جارية على أنها بكر، فقبضها فقال: وجدتها ثيباً؛ تنظر إليها النساء للحاجة إلى فصل الخصومة، وإن لم يجدوا امرأة تداوي تلك القرحة، ولم يقدروا على امرأة تعلم ذلك، وخافوا أنها تهلك، أو يصيبها بلاء أو وجع، فلا بأس بأن يستر منها كل شيء إلا موضع تلك القرحة، ثم يداويها رجل، ويغض بصره ما استطاع إلا عن ذلك الموضع؛ لأن نظر الجنس إلى غير الجنس أغلظ، فيعتبر فيه تحقق الضرورة، وذلك عند خوف الهلاك، وذوات المحارم والأجنبيات في هذا على السواء؛ لأن النظر إلى العورة لا يحل بسبب المحرمية. والعبد فيما ينظر إلى مولاته كالحر الأجنبي حتى لا يحل له أن ينظر إلا إلى وجهها وكفها، وهذا مذهبنا، وقال مالك: نظره إليها كنظر الرجل إلى ذوات محارمه لقوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانهن} (المؤمنين:6) ، ولا يجوز أن يحل ذلك على الإماء؛ لأن الإماء دخلن في قوله تعالى: {أو نسائهن} (النور:31) ؛ ولأن هذا مما لا يشكل أن الأمة تنظر إلى مولاتها، وإنما يحمل البيان على موضع الإشكال، ولأن إباحة النظر إلى ذوات المحارم لأجل الحاجة، وهو دخول البعض من غير استئذان ولا حشمة، وهذا يتحقق فيما بين العبد ومولاته. حجتنا في ذلك حديث سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير فإنهما قالا: لا تغرنكم سورة النور، فإنها في الإناث دون الذكور، ومرادهما قوله تعالى: {وما ملكت أيمانهن} (المؤمنون: 6) والموضع موضع الإشكال؛ لأن حالة الأمة تقرب من حال الرجال؛ حتى تسافر بغير محرم، فكان يشكل أنه هل يباح لها الكشف بين يدي أمتها؟ ولم يزل هذا الإشكال، بقوله تعالى: {أو نسائهن} (النور: 31) ؛ لأن مطلق هذا اللفظ يتناول الحرائر دون الإماء، والمعنى فيه: أنه ليس بينهما زوجية ولا محرمية. وحل النظر إلى مواضع الزينة الباطنة؛ يبنى على هذا السبب؛ وهذا لأن حرمة النظر إلى مواضع الزينة الباطنة لمعنى خوف الفتنة، وخوف الفتنة ينعدم بالمحرمية؛ لأن الحرمة المؤبدة تقلل الشهوة، فأما الملك لا يقلل الشهوة، بل يحملها على رفع الحشمة، ومعنى البلوى لا يتحقق أيضاً؛ لأن العبد إنما يتخذ لخدمة خارج البيت؛ لا يخدم داخل البيت على ما قيل من الحد عند الخدمة داخل البيت،

فهو كسجّان ويستوي في ذلك الخصي والفحل؛ قالت عائشة رضي الله عنها: الخصي مثله، فلا يبيح ما كان حراماً قبله، ولأن معنى الفتنة لا تنعدم بالخصي، فالخصي قد يجامع، وقيل: هو أشد الناس جماعاً، وكذلك المجبوب الذي لم يجف ماؤه؛ لأنه ينزل بالسحق فلا ينعدم معنى الفتنة، وإن كان مجبوباً قد جف ماؤه، فقد رخص بعض مشايخنا في حقه بالاختلاط بالنساء؛ لوقوع الأمن من الفتنة، والأصح أنه لا يحل ذلك، ومن رخص فيه تأول قول الله تعالى: {أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال} (النور:31) الآية وبين أهل التفسير كلاماً في معنى هذا، فقيل: هو المجبوب الذي جف ماؤه، وقيل: هو المخنث الذي لا يشتهي النساء، والكلام في المخنث عندنا أنه إن كان مخنثاً في الرديء من الأفعال، فهو كغيره من الرجال، هو من.... وينحى عن النساء، فأما إذا كان في أعضائه لين، أو في لسانه تكسر بأصل الخلقة، ولا يشتهي النساء، ولا يكون مخنثاً في الرديء من الأفعال، فقد رخص بعض مشايخنا في ترك مثله مع النساء لما روي أن مخنثاً كان يدخل بعض بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع منه رسول الله عليه السلام كلمة فاحشة، فإنه قال: لعمر بن أبي سلمة: إن فتح الله تعالى على رسوله الطائف لأدلنك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع، وتدبر بثمان فقال: «ما كنت أعلم أنه يعرف مثل هذا، أخرجوه» ، وقيل: المراد بقوله: {أو التابعين غير أولي الإربة} الذي لا يدري ما يصنع بالنساء، إنما همته بطنه، وفي هذا كلام أيضاً عندنا إذا كان شاباً ينحى عن النساء، وإنما ذلك إذا كان شيخاً كبيراً قد ماتت شهوته، فحينئذٍ يرخص في ذلك، والأصح أن يقول قوله تعالى: {أوالتابعين} من المتشابه، وقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} (النور:3) محكم فنأخذ بالمحكم، فنقول: كل من كان من الرجال لا يحل لها أن تبدي موضع الزينة الباطنة بين يديه، ولا يحل له أن ينظر إليها إلا أن يكون صغيراً، فحينئذٍ لا بأس بذلك، بقوله تعالى: {أو الطفل الذين} (النور:31) الآية ولا بأس بدخول الصبي على النسوان ما لم يبلغ حد الحلم، وذلك خمس عشر سنة؛ لأنه لا يحتلم. ومما يتصل بهذا الفصل جماع الحائض في الفرج: وإنه حرام بالنص، يكفر مستحله ويفسق مباشرة لقوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} (البقرة:222) ، وفي قوله تعالى: {ولا تقربوهنَّ حتى يطهرن} (البقرة: 222) ، دليل على أن الحرمة تمتد إلى الطهر، وقال عليه السلام: «من أتى امرأته في غير مأتاها أو أتاها في حالة الحيض، أو أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» ، ولكن لا يلزمه بالوطء سوى الاستغفار والتوبة، ومن العلماء من

يقول: إن وطئها في أول الحيض فعليه أن يتصدق بدينار، وإن وطئها في آخر الحيض فعليه أن يتصدق بنصف دينار، ورووا فيه حديثاً شاذاً، ولكن الكفارة لا تثبت بمثله. وحجتنا في ذلك: ما روي أن رجلاً جاء إلى الصديق رضي الله عنه، فقال: إني رأيت في منامي كأني أبول دماً، فقال: أتصدقني؟ فقال: نعم، فقال: إنك تأتي امرأتك في حالة الحيض، فاعترف بذلك فقال: استغفر الله ولا تعدْ، ولم يلزمه الكفارة. واختلفوا فيما سوى الجماع، فقال أبو حنيفة رضي الله عنه: له أن يستمتع بها فوق المئزر وليس له ما تحته، وقال محمد رحمه الله: يتجنب شفار الدم وله ما سوى ذلك، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنهما، وذكر الطحاوي قول أبي يوسف مع أبي حنيفة، وذكر الكرخي مع محمد. وجه قوله الاستدلال بقوله تعالى: {قل هو أذى} (البقرة:222) ففيه بيان أن الحرمة لمعنى استعمال الأذى، وذلك في محل مخصوص، وروي في «الكتاب» عن الصلت بن دينار، وعن معاوية بن مرة قال: سألت عائشة رضي الله عنها ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض، قالت: يتجنب شفار الدم، وله ما سوى ذلك، وفي حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها قالت: للرجل من امرأته الحائض كل شيء إلا النكاح يعني الجماع، والمعنى فيه أن ملك النكاح باقٍ زمان الحيض، وحرمة الفعل لمعنى استعمال الأذى، وذلك فعل لا يكون فيه معنى استعمال الأذى، فهو حلال مطلق كما كان قبل الحيض، وقاسه بالاستمتاع (88ب2) فوق المئزر. وحجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله تعالى: {فاعتزلوا النساء في المحيض} (البقرة:222) فظاهره يقتضي تحريم الاستمتاع بكل عضو منها فيما اتفق عليه الآثار صار مخصوصاً من هذا الظاهر، وبقي ما سواه على الظاهر، وروي أن وفداً سألوا عمر رضي الله عنه عما يحل للرجل من امرأته الحائض، فقال: سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «للرجل من امرأته الحائض ما فوق المئزر، وليس له ما تحته» ، والمعنى فيه: أن الاستمتاع في موضع الفرج يحرم عليه، وإذا قرب من ذلك الموضع لا يأمن على نفسه أن يقع في الحرام، فليجتنب من ذلك بالاكتفاء بما فوق المئزر. ولا ينبغي أن يعتزل فراشها، فإن ذلك تشبه باليهود، وقد نهينا عن التشبه بهم؛ روي أن ابن عباس رضي الله عنهما فعل ذلك، فبلغ ميمونة رضي الله عنهما، فأنكرت عليه وقالت: أترغب عن سنة رسول الله عليه السلام تضاجعنا في فراش واحد في حالة الحيض. ذكر في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة رضي الله عنه: إذا حاضت الأمة لم تعرض في إزار واحد ترتديه مكشوف البطن والظهر؛ لأنها إذا حاضت فقد بلغت، وثبت لأعضائها حكم العورة، فلا يحل للأجنبي النظر إلى بطنها وظهرها، وإنما يحل النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة والباطنة كما في المحارم.

الفصل العاشر في اللبس؛ ما يكره من ذلك، وما لا يكره

الفصل العاشر في اللبس؛ ما يكره من ذلك، وما لا يكره ذكر محمد رحمه الله في «السير» في باب العمائم حديثاً يدل على أن لبس السواد مستحب، وأن من أراد أن يجدد اللف بعمامته ينبغي أن ينقضها كوراً كوراً، وإن ذلك أحسن من رفعها عن رأسه وإلقائها في الأرض دفعة واحدة، وإن المستحب إرسال ذنب العمامة بين الكتفين، واختلفوا في مقدار ما ينبغي أن من يكون من ذنب العمامة، منهم من قدره بشبر، ومنهم من قال: إلى وسط الظهر، ومنهم من قال: إلى موضع الجلوس. وذكر فيه أيضاً: أنه لا بأس بلبس القلانيس، فقد صح أنه كان لرسول الله عليه السلام قلانيس يلبسها. ذكر في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة: أنه كان يكره لبس الحرير والديباج، وكان لا يرى بالتوسد به والنوم عليه بأساً، وقال محمد رحمه الله: يكره التوسد والنوم كما يكره اللبس، وقول أبي يوسف رحمه الله مثل قول محمد. يجب أن تعلم بأن لبس الحرير وهو ما كان لحمته حريراً وسداه حريراً حرام على الرجال في جميع الأحوال عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يكره في حالة الحرب، ويكره في غير حالة الحرب، ومن العلماء من قال: لا يكره ذلك في الأحوال كلها. وفي «شرح القاضي الإمام الإسبيجابي» رحمه الله: أن عند أبي يوسف ومحمد إنما لا يكره لبس الحرير للرجال في حالة الحرب إذا كان صفيقاً يدفع مضرة السلاح. والكلام في موضعين: في حالة الحرب، وفي غير حالة الحرب: أما في حالة الحرب: فحجة قول من قال بعدم الكراهية ما روى عقبة بن عامر أن النبي عليه السلام صلى وعليه حرير. وجه قول عامة العلماء: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن لبس الحرير والديباج، وقال: «إنما يلبسه من لا خلاق له في الآخرة» ، وعنه عليه السلام أنه نهى عن لبس الحرير والديباج إلا قدر إصبعين، أو ثلاثة، أو أربعة، وأراد به الأعلام،

وعن عمر رضي الله عنه: أنه بعث جيشاً وغنموا غنائم، فلما رجعوا فلبسوا الحرير والديباج، فلما رآهم أعرض عنهم، وقال: انزعوا عنكم ثياب أهل النار، فنزعوا. وما رواه الخصم محمول على ما قبل التحريم؛ الدليل عليه ما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبس جبة حرير، وذلك قبل أن ينهى عنه، ولأن هذا من زي الأعاجم وتشبه بالأكاسرة، وذلك منهي. قال عمر رضي الله عنه: «إياكم وزي الأعاجم» ، وهذا إذا لم تقع الحاجة إليه، فأما إذا وقعت الحاجة إليه فلا بأس بلبسه؛ لما روي عن عبد الرحمن بن عوف، والزبير رضي الله عنهما أنه كان بهما جرب كثيرة، فاستأذنا رسول الله عليه السلام في لبس الحرير فأذن لهما فيه. وكما يكره لبس ما كان لحمته حريراً وسداه حريراً في غير حالة الحرب، فكذلك يكره لبس ما كان لحمته حريراً وسداه غير حرير، وأما ما كان سداه حريراً ولحمته غير حرير فلا بأس بلبسه بلا خلاف بين العلماء، وإنما كان كذلك؛ لأن الثوب إنما يصير ثوباً بالنسج، والنسج إنما يتأتى باللحمة والسدى، واللحمة آخرهما فيضاف صيرورته ثوباً على اللحمة، فإذا كانت اللحمة من الحرير فكأن الكل من الحرير حكماً، وإذا كانت اللحمة غير حرير، فكأن الكل غير حرير، فقد اعتبر اللحمة في هذه المسائل، فقيل: هذا إذا كانت اللحمة غالبة على السدى، وقيل: لا بل العبرة للحمة على كل حال وهو الصحيح، وعليه عامة المشايخ. وذكر شيخ الإسلام في شرح «السير» في باب الثوب: إذا كان لحمته من قطن أو كتان، وسداه من إبريسم، فإن كان الإبريسم يرى كره للرجال لبسه، وإن كان لا يرى لا يكره لهم لبسه، فعلى هذا يكره للرجال لبس العتابي، وإليه أشار محمد رحمه الله في هذا الباب أيضاً؛ هذا هو الكلام في غير الحرب. جئنا إلى حالة الحرب، فنقول: لا شك أن ما كان لحمته غير حرير وسداه حرير يباح لبسه في حالة غير الحرب، فلأن يباح لبسه في حالة الحرب والأمر فيه واسع كان أولى. وأما ما كان لحمته حريراً وسداه غير حرير، فإنه يباح لبسه في حالة الحرب بالإجماع، وإنما يباح لنوع ضرورة وحاجة تختص بحالة الحرب؛ وذلك لأن في لبسه يهيب بصورته، وبريقه، ولمعانه، ولونه، وبمعناه يحصل دفع حضور السلاح كان القز يدفع مضرة السلاح، وقد جاءت السنة في الإطلاق عند الحاجة، فإن النبي عليه السلام أطلق للزبير، وعبد الرحمن بن عوف لبس الحرير على ما روينا، وأما ما كان لحمته حريراً وسداه حريراً، ففي لبسه حالة الحرب خلاف بين علمائنا على ما مر.

حجتهما: حديث الشعبي أن النبي عليه السلام رخص في لبس الحرير والديباج في الحرب، ولأن الحاجة مست إلى ذلك؛ لأن الخالص أدفع لمضرة السلاح، وأهيب في عين الناظرين. واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بعموم النهي، ورد عن الحسن وعكرمة أنهما قالا: التولي عن الحرام في حالة التعرض للشهادة أولى، ولأن الحرام لا يحل إلا عند الضرورة، والضرورة اندفعت بالمخلوط؛ لأن المخلوط ما لحمته حرير أو سداه حرير، والذي سداه حرير ولحمته غير حرير ليس له حكم الحرير بالإجماع، والذي لحمته حرير، وإن كان (89أ2) حريراً في الحكم، ففيه شبهة الغزل؛ لأنه موجود وإن لم ينسب إليه، فصار هذا حريراً ناقصاً، والمهابة تحصل بظاهره، والدفع بمعناه يحصل أيضاً؛ لأنه إن كان للخالص من الحرير مزية الخلوص، فلهذا مزية القوة والثخانة فاستويا، فيجب أن يكتفى بالأدنى عن الأعلى، فيباح الأدنى ويبقى الأعلى على أصل الحرمة، وحديث الزبير وعبد الرحمن بن عوف، فإنما أطلق لهما؛ لأن ضرر الحكة كان لا يندفع إلا بالدقيق الخالص، وأمر الحرب على ضد ذلك، أو نقول: كان ذلك قبل النهي والتحريم. هذا هو الكلام في حق الرجال، بقي الكلام في حق النساء؛ قال عامة العلماء: يحل لهن لبس الحرير الخالص، وبعضهم قالوا: لا يحل، وهذا القائل يحتج بعموم النهي، وعامة العلماء احتجوا بما روى علي وابن عمر وأبو موسى الأشعري، وعقبة بن عامر رضي الله عنهم؛ أن النبي عليه السلام خرج يوماً وبإحدى يديه حرير وبالأخرى ذهب، فقال: «هذان حرام على ذكور أمتي حلّ لإناثهن» . وأعطى رسول الله عليه السلام حريراً لعلي رضي الله عنه فكره ذلك عليه، وأمره أن يقطعه خُمراً للفواطم الأربع، وهي: أمه، وفاطمة الزهراء زوجته، وفاطمة حمزة، وفاطمة أخرى رضي الله عنهن، وأما لبس ما علمه حرير أو مكفوف به فمطلق عند عامة الفقهاء خلافاً لبعض الناس بعموم النهي. ولعامة العلماء حديث عائشة رضي الله عنها في لبس رسول الله عليه السلام قطيفة علمها حرير، وفي حديث أسماء: أن النبي عليه السلام كان يلبس جبة مكفوفة بالحرير؛ لأن القليل من الفضة وهو الخاتم يحل للرجال ترغيباً في نعيم الآخرة، فكذلك العلم. وذكر «القدوري» في «شرحه» :: أن النبي عليه السلام لبس خوذة أطرافها من الديباج، فهذا دليل على أنه لا بأس بمثل هذا الثوب، وعن هشام عن أبي حنيفة

رضي الله عنهما أنه لم يرَ بأساً بالعلم في الثوب قدر أربعة أصابع؛ قال: لأن العلم يكون تابعاً للثوب، فلا يكون لابساً له. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا لبس قميصه حريراً، أو عروة أو إزراراً لم يكن عندي بذلك بأس، وهو كالعلم يكون في الثوب، ومعه غيره (فلا) بأس به، وإن كان وحده كرهه، وأكره تكة الحرير؛ لأنها تلبس وحدها؛ وهذا لأنه إذا كان مع غيره فاللبس لا يكون مضافاً إليه؛ بل يكون هو تبعاً في اللبس، والمحرم لبس الحرير. وفي شرح «الجامع الصغير» لبعض المشايخ؛ لا بأس بتكة الحرير للرجل عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في أيمان «الواقعات» أنه يكره عند أبي يوسف ومحمد، وفي حاشية شرح «الجامع الصغير» للصدر الشهيد مكتوب بخطه أن في تكة الحرير اختلاف بين أصحابنا. ويكره لبس الثوب المعصفر للرجال، روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس المعصفر وقال: «إياكم والحمرة فإنها زي الشيطان» ، وفي «المنتقى» : وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يكره للرجال أن يلبسوا الثوب المصبغ بالمعصفر أو بالورس أو بالزعفران للأثر الوارد فيه، وذكر هشام عن محمد أنه لم يرَ باللباس المرتفع جداً بأساً، وكذا لم يرَ باللبد الأحمر للسرج بأساً. وفي «مجموع النوازل» وسئل عن الزينة والتجمل في الدنيا، قال: خرج رسول الله عليه السلام ذات يوم وعليه رداء قيمته ألف درهم، وربما قام إلى الصلاة وعليه رداء قيمته أربعة آلاف درهم، ودخل عليه رجل يوماً من أصحابه وعليه خز، فقال عليه السلام: «إن الله تعالى إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى آثار نعمته عليه» وأبو حنيفة رضي الله عنه كان يرتدي رداء قيمته أربع مائة دينار، وأباح الله تعالى الزينة لقوله: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} (الأعراف: 32) ، وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول لنا بكوفة: إذا رجعتم إلى أوطانكم فعليكم بالثياب النفيسة، وإياكم والثياب الخسيسة فإن الناس ينظرون إليكم بعين الرحمة، فهو مع زهادته وورعه كان يوصيهم بهذا. ومحمد بن الحسن رحمه الله كان يلبس الثياب النفيسة، فقيل له في ذلك، فقال: لي نساء وجوار فأزين نفسي كيلا ينظرون إلى غيري، ومحمد بن الحسن كان يتعمم بعمامة سوداء، فدخلت عليه يوماً مستغنية وقفت متحيرة تنظر في وجهه، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أتعجب من بياض وجهك تحت سواد عمامتك، فوضعها عن رأسه ولم يتعمم بعمامة سوداء بعد ذلك. قيل للشيخ: أليس روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يلبس قميصاً عليه كذا كذا

رقعة، قال: إنما فعل عمر رضي الله عنه لنوع من الحكمة، وهو أنه كان أمير المؤمنين، فلو لبس ثياباً نفيسة واتخذ لنفسه ألواناً من الأطعمة، فعماله وحشمه يقتدون به، وربما لا يكون لهم مال فيأخذون من المسلمين، فإنما اختار ذلك لهذه المصلحة. وحكي أن حاتم الأصم رحمه الله خرج حاجاً فدخل المدينة، وقصد زيارة مالك بن أنس، فلما انتهى إلى باب داره استأذن فلم يؤذن له، وقيل له: اجلس حتى يخرج إلى الصلاة، فخرج وصلى ودخل عليه حاتم، فرأى داراً مرتفعة مفروشة بألوان الفرش، ورأى خدماً وغلماناً، فسلم عليه حاتم وجلس فقال: أخبرني ماذا يجب على العباد بعد التوحيد؟ فقال: الفرائض، قال: ثم ماذا؟ قال: السنن والآداب، فقال: أخبرني عن دورك هذه، وغلمانك هؤلاء من الفرائض ومن السنن؟ قال: يا حاتم؛ إن الله تعالى قسم هذا قسماً حلالاً، ثم قال: يا حاتم؛ إن لنا رباً يعرف المؤمن تحت الخز والبز كما يعرف الكافر تحت العبادة واللبد، فلما خرج من عنده قال: لو لم أشهد هذا المشهد؛ خفت على نفسي أن أخرج من الدنيا على غير دين الإسلام لكثرة ما أوقع في الفقهاء وأغنى بهم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: اتقوا الشهرتين في اللباس؛ معناه لا ينبغي للإنسان أن يختار لنفسه اللبسة المحصورة التي ترجع إلى الإهانة، ولا اللبسة المشهورة التي تجعل اللابس نفسه أعجوبة للخلق ينظر إليه كل ناظر، بل يختار فيما بين ذلك، فالوسط محمود في كل شيء. ذكر الحاكم في «المنتقى» : لا بأس بلبس الخز، والخز اسم لدابة يكون على جلدها خز، وإنه ليس (من) جملة الحرير، والمحرم على الرجال لبس الحرير لا لبس غيره. قال شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب الكسب: ينبغي أن يلبس عامة الأوقات الغسيل ويلبس أحسن ما يجد في بعض الأوقات إظهاراً لنعم الله، فإن ذلك مندوب إليه، ولا يلبس أحسن ما يجد في جميع الأوقات؛ لأن ذلك يؤذي المحتاجين. وكذلك لا ينبغي في زمن الشتاء أن يظاهر بين جبتين أو ثلاثة إذا كان يكفيه لدفع البرد جبة (89ب2) واحدة؛ لأن ذلك يؤذي المحتاجين، وهو منهي عن اكتساب سبب أذى الغير. وأما التوسد بالحرير والديباج والنوم عليه حرام عند محمد رحمه الله، وهو قول أبي يوسف، وعند أبي حنيفة لا بأس به، وعلى هذا الاختلاف نشر الخز، وتعليقه على الأبواب لحماً لما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: لأن أتوسد على الجمر أحب إلي من أن أتوسد على الحرير.j وعن علي رضي الله عنه: أنه أتي بدابة على سرجها حرير، فقال: هذا لهم في الدنيا ولنا في الآخرة، ولأن التنعم بالجلوس والنوم عليه مثل

اللبس، وذلك من عادة المسرفين، وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: النص ورد بتحريم اللبس، والنوم عليه دون اللبس في الاستعمال فلا يلحق به، ولأنا أجمعنا على أن القليل من الملبوس حلال، وهو ما قلنا من الأعلام فكذلك من اللبس والاستعمال؛ وهذا لأن التوسد والنوم عليه وافتراشه استعمال على سبيل الامتهان، فقصر معنى الاستعمال والتزين فيه، فلم يبعد حكم التحريم من اللبس الذي هو استعمال كامل إليه؛ بل كان تقليل الملبوس أشبه ليصير سبباً للرغبة في الآخرة. وفي «المنتقى» ابن سماعة عن محمد رحمه الله: وليس القعود على الحرير والديباج كاللبس فإن أراد بقوله: ليس القعود على الحرير والديباج كاللبس نفي الكراهة عن القعود أصلاً جاء عن محمد روايتان؛ فإن ظاهر مذهبه أن القعود على الديباج مكروه، وإن أراد به إثبات التفاوت في الكراهة لا يصير في المسألة روايتان؛ بل كل واحد منهما مكروه، إلا أن اللبس أشد كراهة؛ لأن الاستعمال فيه أكثر. وفي «شرح القدوري» عن أبي يوسف: أنه قال: أكره ثوب القز يكون بين الفرو وبين الظهارة، ولا أرى بحشو القز بأساً؛ وذلك لأن الثوب إذا كان بين ثوبين فهو ملبوس، ولبس الحرير لا يجوز للرجال، فأما الحشو ليس بملبوس إذ ليس منه عليه شيء فلا يكره عند أبي حنيفة رضي الله عنه لهذه العلة. وعندهما ليس بملبوس ولا مفروش فلا يكره. وعنه أيضاً: وما كان من الثياب الغالب عليه غير القز كالخز ونحوه فلا بأس بلبسه للرجال، وما كان ظاهره قزاً فهو مكروه، وكذا ما كان خط منه قز وخط منه خز وهو ظاهر فهو مكروه. وفي «شرح القدوري» أيضاً: عن أبي حنيفة: أنه قال: لا بأس بالفراء كلها؛ السباع وغير ذلك الميتة المدبوغة والذكية، وقال: دباغه ذكاته؛ وهذا لأن الجلود كلها تطهر بالدباغ إلا جلد الإنسان والخنزير. والأصل فيه قوله عليه السلام: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يتوضأ من ماء في شن فقيل: إنه جلد حمار ميت، فقال عليه السلام: «أليس في الشب والقرظ ما يطهره، فإنما يلبس عيناً طاهراً أفلا يكون به بأساً» . الجبة إذا كانت كفافها من ديباج هل يكره للرجال لبسها؟ اختلف المشايخ فيه، وذكر الطحاوي في «شرح الآثار» حديثين أحدهما يدل على الكراهة، والآخر يدل على عدم الكراهة، وذكر الشيخ الإمام شيخ الإسلام في شرح «السير الكبير» الصحيح أنه لا

الفصل الحادي عشر في استعمال الذهب والفضة

يكره، وذكر القاضي ركن الإسلام علي السغدي في «شرحه» : أنه لا يكره، ولم يذكر اختلاف المشايخ، وإليه أشار محمد رحمه الله في رواية «السير» . الفصل الحادي عشر في استعمال الذهب والفضة في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه كان يكره الأكل والشرب في آنية الفضة والذهب، والأدهان فيها، والأصل في ذلك ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه نهى عن الشرب في آنية الذهب والفضة وألحق الوعيد بالشارب منها، فإنه قال: «من شرب منها فكأنما يجرجر في بطنه نار جهنم» ، وفي بعض الأخبار: «من أكل أو شرب» ، وروي أن حذيفة رضي الله عنه: نزل عند وفد من العجم، فقدم إليه الشراب في آنية الفضة فردها عليه، وقال: إن رسول الله عليه السلام كان نهانا عن الشرب في أواني الفضة، والمعنى فيه أنه تشبه بالأكاسرة والجبابرة، والتشبه بهم فيما له بدّ منه مكروه، وإذا ثبت الكراهة في الأكل والشرب؛ ثبت الكراهة في الأدهان؛ إما لأن للأدهان منفعة تخص البدن فيكون بمنزلة الأكل والشرب أو لأن كراهة الأكل والشرب في الذهب والفضة لمكان التشبه بالأكاسرة، وذلك موجود في الأدهان. قالوا: وهذا إذا كان يصب الدهن من الآنية على رأسه أو بدنه؛ أما إذا أدخل يده في الإناء وأخرج منها الدهن ثم استعمله لا بأس به، وكذلك إذا أخذ الطعام من القصعة ووضعه على خبز أو ما أشبه ذلك، ثم أكل لا بأس به. قال: ويستوي فيه الرجل والمرأة؛ يعني الأكل والشرب من الذهب والفضة لعموم النهي، فإن كلمة (من) عامة. قال: وكان أبو حنيفة رضي الله عنه لا يرى بالإناء المفضض بأساً إذا وضع فاه على.... وعلى الكوز، وكره أبو يوسف ذلك، وكذلك في الإناء المصبب، وكذلك الكرسي المصبب بالذهب والفضة لا بأس بالجلوس عليه عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وكذلك المداهن والمجامر، والسرير المصبب لا بأس به عنده، وكره أبو يوسف ذلك، وكذا إذا جعل المصحف مذهباً أو مفضضاً لا بأس به عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وكره عند أبي يوسف، وقياس قول أبي حنيفة: أن لا يكره في الباب والسرج واللجام، وقول محمد مثل قول أبي يوسف، هكذا حكاه القاضي الإمام أبو عاصم

العامري المروزي، وهذا كله إذا كان يخلص. فأما التمويه: وهو أن يجعل الدهن ماء بحيث لا يخلعن بعد ذلك لا بأس به بالإجماع، فحدَّ بها العمومات الواردة بالنهي عن استعمال الذهب والفضة، ومن استعمل إناءً كان مستعمل جزء منه فكره؛ وهذا لأن الحرمة في استعمال الذهب والفضة في الإناء وغيره؛ إنما كان لما فيه من التشبه بالأكاسرة والجبابرة، فكل ما كان بهذا المعنى يكره بخلاف خاتم الفضة للرجال، وحلية السيف والمنطقة حيث لا يكره؛ لأن الرخصة جاءت في ذلك نصاً، أما ههنا بخلافه. ولأبي حنيفة رضي الله عنه حرفان: أحدهما: أن الأصل في المخلوقات إباحة الانتفاع بها، والحرمة لعارض، والنص ورد في تحريم الشرب والأكل في آنية الذهب والفضة، فكل ما يشبه المنصوص عليه في الاستعمال يلحق بالمنصوص عليه، وما لا يشبه المنصوص عليه (90أ2) يبقى على أصل الإباحة، وهناك يتصل الذهب والفضة بيده، وههنا لا يتصل بيده، فلم يكن نظير المنصوص عليه في الاستعمال، فالحاصل أن أبا حنيفة على هذا الوجه اعتبر حرمة الاستعمال فيما يتصل بيده صورة. والثاني: أن هذا مانع فلا يكره، كالجبة المكفوفة بالحرير، والعلم في الثوب، وقياساً على الشرب من يده وعلى خنصره خاتم فضة، فإن ذلك لا يكره، وقد قال بعض مشايخنا في الشرب من الفضة الصبة، والصبة الذهب العريض أو الفضة العريضة تجعل على وجه الباب، وما أشبه ذلك أن الصفات على القصعة إذا كانت لتقوم القصعة بها لا للزينة لا بأس بوضع الفم على الصاب، وإن كانت الصاب لأجل الزينة لا لتقوم القصعة بها كره وضع الفم على الصاب. وهذا القائل يستدل بمسألة ذكرها محمد في «السير» في باب الأنفال. وصورتها: إذا قال الأمير للخيل: من أصاب ذهباً أو فضة فهو له، فأصاب رجل قصعة مصببة بالذهب أو الفضة، أو قدراً مصبباً، فإن كانت الصباب لزينة القصعة لا لتقوم القصعة بها كانت الصباب للمنفل له، وإن كانت الصباب لتقوم القصعة بها بحيث لو نزعت الصباب فتبقى القصعة متقومة لم يكن الصباب للمنفل له، ولأن الصباب إذا كانت لتقوم القصعة بها يعتبر من أجزاء القصعة غير الذهب والفضة معنى، ألا ترى أنه لا تجعل الصباب في هذه الصورة للمنفل له، وإنما تجعل؛ لأنها غير الذهب والفضة معنى كذا ههنا، فيجوز وضع الفم عليها. ثم فرق بين التختم بالذهب وبالفضة فإنه حلال، وبين الجلوس على كرسي الفضة فإنه حرام. والفرق: أنه لا بد من إطلاق القليل في الدنيا ليصير نموذجاً لما وعد الله تعالى في الآخرة لمن آمن وعمل صالحاً، ولا يطلق على وجه يصير مقصوداً، والحرير والديباج لباس أهل الجنة، قال الله تعالى: {ولباسهم فيها حرير} (الحج:23) فيجب إطلاق القليل

منه كالعلم، والقليل من لبسه نحو الافتراش ليكون نموذجاً لذلك الكثير الكامل، فأما الفضة فليس منها في دار الآخرة لباس، وإنما يكون منه الكرسي والسرير وما أشبه ذلك، فلو أطلقنا ذلك في الدنيا لصار عين الموعود في دار الآخرة مطلقاً، وعين الموعود لا يصلح نموذجاً، فصار هذا نظير لبس الحرير الخالص، ولبس الحرير الخالص حرام، فكذلك الجلوس على الكرسي من الفضة، وصار لبس الفضة مثل افتراش الحرير. وفي «المنتقى» : روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه كان يكره أن يستجمر بمجمر ذهب أو فضة، كما هو قول أبي يوسف، ولا خير في أن يكتحل بمكحلة من فضة، أو بميل من ذهب أو فضة وكذا المرآة......، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا بأس بحلقة المرأة من الفضة إذا كانت المرآة حريراً، وقال أبو يوسف: لا خير فيه، وذكر الحاكم في «المنتقى» : لا خير في أن يلبس الرجل ثوباً فيه كتابة بذهب أو فضة ولم يذكر أنه قول....، وذكر «القدوري» : أنه قول أبي يوسف قال: وعلى قياس قول أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لا يكره، وأما المرأة فلا بأس بأن تلبسه. وفي «الجامع الصغير» : لا يتختم إلا بالفضة؛ هذا اللفظ بظاهره يقتضي أن التختم بالذهب والحديد والصفر، والشبة وما أشبه ذلك حرام على الرجال؛ أما التختم بالذهب فحرمته على الرجال مذهب عامة العلماء، وقال بعض: لا بأس به لحديث البراء بن عازب أنه لبس خاتم ذهب، وقال: كسانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى ابن طلحة بن عبد الله قد قيل: وعليه خاتم ذهب، وقاس التختم بالذهب على التختم بالفضة، وإنه حلال بلا خلاف. وجه قول عامة العلماء حديث علي، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة رضي الله عنهم أن رسول الله عليه السلام نهى عن ذلك، وقوله عليه السلام: «هذان حرامان على ذكور أمتي حلال لإناثها» . وحديث البراء بن عازب محمول على ما قبل النهي الدليل عليه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من ذهب، فاتخذ الناس خواتم ذهب، ثم رماه رسول الله عليه السلام وقال: «لا ألبسه» فرماه الناس، وحديث طلحة معارض لحديث علي، وابن مسعود، وأبي هريرة. وقياس التختم بالذهب على التختم بالفضة قياس فاسد؛ لأن جواز التختم بالفضة عرف بالحديث، فإنه روي أن رسول الله عليه السلام بعدما رمى بخاتم الذهب اتخذ خاتماً من الفضة، وفي الذهب نص بخلافه، ونوع من المعنى يدل على التزين، فإن التختم بالفضة إنما جاز للحاجة إلى الختم أو ليكون نموذجاً، والحاجة تندفع بالفضة، فيبقى الذهب على أصل الحرمة. فأما التختم بالحديد والرصاص والصفر والشبة فهو حرام على النساء والرجال

جميعاً، والأصل فيه ما روي أن رسول الله عليه السلام؛ رأى على رجل خاتم صفر، فقال: «ما لي أجد منك ريح الأصنام، ورأى رسول الله عليه السلام على رجل خاتماً من حديد، فقال: ما لي أرى عليك حلية أهل النار» ، وإذا ثبت التحريم في حق الحديد والصفر ثبت التحريم في حق الشبة؛ لأنه قد يتخذ منه الصفر فيؤخذ منه ريح الأصنام، وهو المعول عليه في النهي عن التختم بالصفر على ما وقعت الإشارة إليه في الحديث. وأما التختم بالحجر الذي يسمى يشب فقد اختلف المشايخ فيه، وظاهر عموم النهي في الكتاب دل على الحرمة، قال: لا بأس بأن يكون الفص من الحجر، وهذا دليل على أن العبرة في الحظر والإباحة للخدم لا للفص وهو المذهب؛ لأنه إنما يصير مستعملاً للحلقة لا للفص. قال: ولا بأس بمسمار الذهب يجعل في الفص؛ يريد به المسمار ليحفظ به الفص، وإنما لا يكره ذلك؛ لأنه تابع للفص، ولأنه لا يتزين به في العادة؛ لأنه لا يظهر ولا قليل، فصار كالقليل من الحرير، وقد ورد في القليل من الحرير نص، وهو قدر أربعة أصابع. وفي «الفتاوى» : ولا بأس بأن يتخذ خاتم حديد قد سوي عليه فضة، وألبس بفضة حتى لا يرى؛ لأن التزين يقع بالفضة دون الحديد؛ لأن الحديد ليس بظاهر، ذكر في «الجامع الصغير» وينبغي أن يكون قدر فضة الخاتم المثقال ولا يزاد عليه، وقيل: لا يبلغ به المثقال، وبه وردت الآية على ما يأتي بهد هذا إن شاء الله تعالى. ثم التختم سنة، ولكن في حق من يحتاج إلى التختم بأن يكون سلطاناً أو قاضياً، فإن النبي عليه السلام إنما تختم عند حاجته إلى الختم (90ب2) فأما إذا لم يكن محتاجاً إلى الختم فالترك أفضل، وحكي أن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رأى بعض تلامذته قد تختم حالة التعلم، فقال: إذا صرت قاضياً فتختم، وذكر الفقيه أبو الليث في «البستان» كره بعض الناس اتخاذ الخاتم إلا لذي سلطان، وأجازه عامة أهل العلم، وإذا تختم ينبغي أن يجعل الفص إلى بطن الكف لا إلى ظهر الكف؛ هكذا روي عن رسول الله عليه السلام، وهذا في حق الرجال، وأما النسوان فلا يفعلن كذلك يعني لا يجعلن الفص إلى بطن الكف إن شئن؛ لأن التزين مباح لهن، والتزين لا يحصل إلا به. قال في «الفتاوى» : وينبغي أن يلبس الخاتم في خنصره اليسرى دون سائر أصابعه، ودون اليمنى؛ لأن لبسه في اليمنى علامة الرفض، فأما الجواز ثابت في اليمنى والشمال جميعاً، وبكل ذلك ورد الأثر ذكره الفقيه أبو الليث في «البستان» ، وقال عليه السلام لواحد من أصحابه: «اتخذه من ورق ولا يبلغ به مثقالاً وتختم به في يمينك» . قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ولا تشد الأسنان بالذهب وتشد

بالفضة، يريده إذا تحركت الأسنان وخيف سقوطها، فأراد صاحبها أن يشدها شدها بالفضة ولا يشدها بالذهب، وهذا قول أبي حنيفة رضي الله عنه، وقال محمد: يشدها بالذهب أيضاً، ولم يذكر في «الجامع الصغير» قول أبي يوسف؛ قيل: هو مع محمد، وقيل: هو مع أبي حنيفة رضي الله عنه. وعلى هذا الخلاف إذا خلع أنفه أو أذنه فأراد أن يتخذ أنفاً أو أذناً من ذهب أو فضة، فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه: يتخذ ذلك من الفضة دون الذهب، وعند محمد من الذهب أيضاً. وعلى هذا الاختلاف إذا سقط منه فأراد أن يتخذ سناً آخر على قول أبي حنيفة رضي الله عنه يتخذ من الفضة دون الذهب، وعند محمد يتخذ من الذهب أيضاً. حجة محمد رحمه الله: ما روي أن عرفجة أصيب أنفه يوم الكلاب، فأخذ أنفاً من الفضة، فأنتن فأمره رسول الله عليه السلام أن يتخذ أنفاً من ذهب. وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: الشرع حرم استعمال الذهب على الرجال من غير فصل، قال عليه السلام: «هذان حرامان على ذكور أمتي» ، غير أن الاستعمال لحاجة خارج عن التختم، والحاجة تندفع بالفضة وحكمه أقل، فلا يباح الذهب كما في التختم، وأما حديث عرفجة قلنا: الحاجة في حقه لا ندفع بالفضة حيث أنتن، وذكر هذه المسألة في «النوادر» ، وذكر الخلاف فيها على الوجه الذي ذكر في «الجامع الصغير» فقال: على قول محمد يشدها بالذهب أيضاً؛ قال بشر: وهو قول أبي يوسف، قال: ثم رجع أبو يوسف وقال: لا يشدها بالذهب، وهو قول الشافعي رحمه الله. وذكر الحاكم في «المنتقى» : لو تحرك ثنية رجل وخاف سقوطها فشدها بذهب أو فضة، لم يكن به بأس عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه فرق بين السن والأنف، فقال في السن: لا بأس بأن يشدها بالذهب، وفي الأنف كره ذلك، قال:؛ لأن الأنف شيء ظاهر، فكان اتخاذ ذلك راجعاً إلى الزينة، فكان كاستعمال الحرير، واتخاذ الخاتم من الذهب، وأما السن فشيء باطن، فلم يكن اتخاذ ذلك راجعاً إلى الزينة، فصار كمسمار الذهب في فص الخاتم. ومما يتصل بهذا الفصل ما روى بشر عن أبي يوسف في «الأمالي» : أنه إذا سقط ثنية رجل، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه يكره أن يعيدها ويشدها بذهب أو فضة، وكان يقول: هي كسن منه يشدها مكانها؛ قال: ولكن يأخذ سن شاة ذكية ويشد مكانها، وقال أبو يوسف: لا بأس بأن يشد ثنية مكانه؛ قال أبو يوسف: بين سنه وبين سن ميت فرق، وإن لم يحضرني، قال بشر: قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن ذلك في مجلس آخر، فلم يرَ بإعادتها بأساً.

الفصل الثاني عشر في الكراهية في الأكل

الفصل الثاني عشر في الكراهية في الأكل قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وينبغى للرجل أن لا يكثر الأكل، ولا يأكل فوق الشبع، فإن ذلك مذموم عند الله تعالى وعند الناس، وهو مضر بالبدن؛ روي عن بعض الأطباء أنه قيل له: هل نجد الطب في كتاب الله تعالى؟ قال: نعم، قد جمع الله تعالى الطب في هذه الآية، وهو قوله: {كلوا واشربوا ولا تسرفوا} (الأعراف:31) يعني أن الإسراف في الأكل والشرب يتولد منه الأمراض، وقيل: إذا كان الرجل قليل الأكل كان أصح جسماً، وأجود حفظاً، وأذكى فهماً، وأقل نوماً، وأخف نفساً. وذكر محمد رحمه الله في كتاب الكسب؛ وكل واحد منهي عن إفساد الطعام، قال من الإفساد السرف، والسرف في الطعام أنواع، فمن ذلك أن يأكل فوق الشبع فإنه حرام. ومن المتأخرين من استثنى ذلك أنه إذا كان له غرض صحيح في الأكل فوق الشبع فحينئذٍ لا بأس به، وذلك بأن يأتيه ضيف بعدما أكل قدر حاجته، فيأكل لأجل الضيف حتى لا يخجل، أو يريد صوم الغد فيتناول فوق الشبع. ومن الإسراف في الطعام الإكثار في المباحات والألوان، فذلك منهي إلا عند الحاجة؛ بأن قبل حاجة واحدة، فيستكثر من المباحات ليستوفي من كل نوع شيئاً، فيجمع له مقدار ما يتقوى به على الطاعة، وكذلك إذا كان من قصده أن يدعو بالأضياف قوماً بعد قوم إلى أن يأتوا على آخر الطعام، فلا بأس بالاستكثار في هذه الصورة. ومن الإسراف أن يأكل وسط الخبز، ونزع حواشيه، أو يأكل ما انتفخ من الخبز كما يفعله بعض الجهال يزعمون أن ذلك ألذ، ولكن هذا إذا كان غيره لا يتناول ما ترك من حواشيه؛ فأما إذا كان غيره يتناول ذلك فلا بأس بذلك، كما لا بأس بأن يختار لتناوله رغيفاً بعد رغيف. ومن الإسراف التمسح بالخبز عند الفراغ من الطعام من غير أن يأكل ما يتمسح به؛ لأن غيره يستقذره فلا يأكله، فإما إذا أكل ما يتمسح به فلا بأس. ومن الإسراف إذا سقط من يده لقمة أن يتركها؛ بل ينبغي أن يبدأ بتلك اللقمة؛ لأن في تركها استخفاف بالخبز، ونحن أمرنا بإكرام الخبز؛ قال عليه السلام: «أكرموا الخبز فإنها من بركات السماء والأرض» ، (91أ2) وينبغي أن لا ينتظر الإدام إذا حضر الخبز، ويؤخذ في الأكل قبل أن يؤتى بالإدام. ويستحب غسل اليدين قبل الطعام وبعده، فإن فيه بركة، قال سليمان: قرأت في

التوراة الوضوء قبل الطعام وبعده بركة، يعني غسل اليدين، وإذا غسل يديه بالنخالة، أو غسل رأسه بذلك أو أحرقها، فإن لم يبق فيها من الدقيق شيء، وهو بحال يعلف بها الدواب فلا بأس بذلك؛ لأنها بمنزلة التبن. وينبغي أن يصب الماء من الآنية على يده بنفسه ولا يستعين بغيره، وقد حكي عن بعض مشايخنا أنه قال: هذا كالوضوء، ونحن لا نستعين بغيرنا في وضوئنا، ولا يؤكل طعام حار، به ورد الأثر، ولا يشم الطعام فإن ذلك عمل البهائم. ولا ينفخ في الطعام والشراب؛ لأن ذلك يسوء الأدب. ومن السنة أن لا يأكل الطعام من وسطه، يعني في ابتداء الأكل، ومن السنة أن يلعق أصابعه قبل أن يمسحها بالمنديل، وتركه من أمر العجم والجبابرة، ومن السنة أيضاً لعق القصعة، جاء في الحديث أن النبي عليه السلام أمر بلعق الصفحة، ومن السنة أن يأكل ما سقط من المائدة، ومن السنة أن يبدأ بالملح، ويختم بالملح. بيان ما يكره من الحيوانات وما لا يكره يأتي في كتاب الصيد؛ إن شاء الله تعالى. ذكر في «عيون المسائل» : إذا مر الرجل بالثمار في أيام الصيف، وأراد أن يتناول منها، والثمار ساقطة تحت الأشجار، فإن كان ذلك في المصر لا يسعه التناول إلا إذا علم أن صاحبها قد أباح إما نصاً أو دلالة بالعادة، وإن كان في الحائط، فإن كان من الثمار التي تبقى مثل الجوز وغيره لا يسعه إلا إذا علم الإذن، وإن كان من الثمار التي لا تبقى تكلموا. قال الصدر الشهيد: والمختار أنه لا بأس بالأكل ما لم يتعين النهي إما صريحاً أو عادة، فإن كان ذلك في الرساتيق الذي يقال بالفارسية بير استه فإن كان من الثمار التي تبقى لا يسعه الأخذ إلا إذا علم الإذن، وإن كان من الثمار التي لا تبقى، فالمختار أنه لا بأس بالتناول ما لم يبين النهي. وأما إذا كانت الثمار على الأشجار فالأفضل أن لا يأخذ في موضع ما إلا بإذن، إلا أن يكون موضعاً كثير الثمار؛ يعلم أنه لا يشق عليهم أكل ذلك يسعه الأكل، ولا يسعه الحمل، وأما أوراق الشجر إذا سقط على الطريق في أيام العتاق، فأخذ إنسان شيئاً من ذلك بغير إذن صاحب الشجر، فإن كان هذا ورق شجر ينتفع بورقه نحو التوت وما أشبهه؛ ليس له أن يأخذ، ولو أخذ يضمن، وإن كان لا ينتفع به له أن يأخذ، وإذا أخذ لا يضمن.p رفع الكمثرى من نهر جار ورفع التفاح وأكلهما يجوز، وإن كثر. في «فتاوى أهل سمرقند» وفي هذا الموضع: الجوز الذي يلعب به الصبيان في يوم العيد لا بأس بأكله إذا لم يكن لعبهم على وجه القمار، وفي «فتاوى أبي الليث» لا بأس بالأكل متكئاً إذا لم يكن على وجه التكبر. الأكل يوم الأضحى قبل الصلاة فيه روايتان؛ والمختار أنه لا يكره، ولكن يستحب

الفصل الثالث عشر في الهبة، ونثر الدراهم، والسكر، وما رماه صاحبه

الإمساك. أكل الطين مكروه هكذا في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله، وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح....: أنه إذا كان يخاف على نفسه أنه لو أكله أورثه ذلك علة أو آفة؛ لا يباح له التناول، وكذلك هذا في كل شيء سوى الطين، وإن كان يتناول منه قليلاً، وكان يفعل ذلك أحياناً لا بأس به، والمرأة إذا اعتادت أكل الطين تمنع من ذلك إذا كان ذلك يوجب نقصاناً في جمالها في هذا الموضع أيضاً. ومما يتصل بمسائل الأكل ووضع المملحة على الخبز على الخوان، وإنه مكروه؛ لأنه استخفاف بالخبز، ولكن ينبغي أن يوضع الملح وحده على الخبز، هكذا ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» ، وكان الفقيه أبو القاسم الصفار رحمه الله يقول: لا أجد نية الذهاب إلى الضيافة سوى أن آمر برفع المملحة عن الخبز، وأئمة بخارى لم يروا به بأساً، وكذلك تعليق الخبز بالخوان مكروه، وكذلك يكره وضع الخبز تحت القصعة، وفي مسح الإصبع والسكين بالخبز إذا كان يأكل، وكذا الخبز بعد ذلك، ومن مشايخ زماننا من أفتى بكراهة مسح الإصبع والسكين بالخبز، وإن أكل الخبز. بعد ذلك مضغ العلك للنساء لا بأس به بلا خلاف واختلف المشايخ في مضغه للرجال؛ منهم من كره ذلك، ومنهم من قال: إن كان الرجل يمضغ كما تمضغ المرأة، وكان يرى هيئته هيئة النساء يكره، وإن كان يمضغ جلداً كمضغ الرغيف؛ لا يكره. قال شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصوم: والصحيح أنه لا بأس به في حق الرجال والنساء جميعاً إن كان لغرض صحيح. وفي «مختلفات الفقيه أبي الليث» : إذا ماتت دجاجة وخرج منها بيضة؛ جاز أكلها عند أبي حنيفة رضي الله عنه اشتد قشرها أو لم يشتد، ويجوز استعمال.... الميت عند أبي حنيفة مائعة كانت أو جامدة، ومن ظاهره عنده على كل حال، وعندهما إن كانت مائعة فهي نجسة فلا تستعمل، وإن كانت جامدة تغسل وتستعمل. الفصل الثالث عشر في الهبة، ونثر الدراهم، والسكر، وما رماه صاحبه ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» : أن الهبة جائزة إذا أذن صاحبها فيها، والأصل فيه ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه نحر خمس بدنات أو ست بدنات، وقال: «من شاء اقتطع» . إذا عرفنا هذا فنقول: إذا وضع الرجل مقداراً من السكر، أو عدداً من الدراهم بين

قوم، وقال: من شاء أخذ منه شيئاً، أو قال: من أخذ منه شيئاً فهو له، فكل (من أخذ) منه شيئاً يصير ملكاً له، ولا يكون لغيره أن يأخذ ذلك منه؛ لأن هذا بمنزلة الهبة منه. بيانه: أن قول صاحب السكر والدراهم: من أخذ منه شيئاً فهو له؛ تمليك للسكر، والدراهم من الآخر بغير مال، وهو تفسير الهبة، والأخذ من الآخذ قبول لتلك الهبة، فقد جرى بين صاحب الدراهم والسكر وبين الآخذ عقد الهبة، وقد اتصل بها القبض فيصير المقبوض ملكاً للقابض، فهو معنى قولنا: إن هذا بمنزلة الهبة. فإن قيل: هذا التصرف إن كان تمليكاً من الآخذ إلا أنه كما يحتمل الهبة منه؛ يحتمل الإقراض منه، وجعله إقراضاً أولى؛ لأنه أقل، فيكون متيقناً هذا كما قلنا فيمن دفع إلى رجل ألف درهم، وقال: خذ هذه الدراهم فاعمل بها على أن يكون الربح كله لك، كان ذلك إقراضاً ولم يكن هبة؛ لأنه احتمل كلا الأمرين والقرض أقلها، وكذلك إذا دفع الرجل إلى رجل كر حنطة، وقال: ازرعه في أرضي على أن يكون الخارج كله (91ب2) لك؛ كان معيراً للأرض منه، ومقرضاً الكر منه، وإن لم يجعل هبة منه وطريقه ما قلنا، وجواب هذا هكذا في كل موضع لم يترجح احتمال كونه هبة على احتمال كونه قرضاً كما في تلك المسألتين، وههنا احتمال كونه هبة ترجح بحكم العرف، فإن المتعارف والمعتاد فيما بين الناس أنهم يريدون في مثل هذا الهبة دون القرض؛ الدليل عليه أنه كما جرى التعارف بهذا فيما يصح فيه الإقراض، وهو ما كان من ذوات الأمثال؛ جرى فيما لا يصح فيه الإقراض، وهو ما ليس من ذوات الأمثال، فإن التاجر إذا أثقل عليه أمتعته في المفازة وعجز عن حمله يطرحها، ويقول: من أخذ شيئاً فهو له، وههنا لا يمكن حمله على القرض؛ لأن إقراض المتاع لا يصح، فعلمنا أن المتعارف من مثل هذا التصرف الهبة دون القرض، والدليل عليه أن الناس تعارفوا نثر السكر والدراهم في العرس والوليمة، وأحد لم يقل بأن المأخوذ يكون قرضاً على الآخذ؛ مع أنه يصلح للقرض، فعلمنا أن المتعارف في هذا الباب الهبة دون القرض. فإن قيل: كيف يمكن أن يجعل هذا هبة، وإن الموهوب له وقت الهبة مجهول، وجهالة الموهوب له وقت الهبة تمنع جواز الهبة؛ ألا ترى أنه لو قال: وهبت هذا العين لواحد من عرض الناس كانت الهبة فاسدة، وفسادها بجهالة الموهوب له، وكذلك الموهوب مجهول، وجهالة الموهوب تمنع جواز الهبة. والجواب أن الموهوب له والموهوب وإن كانا مجهولين وقت الهبة، إلا أن هذه الجهالة تزول عند القبض، وما يمنع جواز الهبة إذا زال وقت القبض يحكم بجواز الهبة، ويجعل كأنه لم يوجد وقت الهبة؛ ألا ترى أن من وهب من رجل مشاعاً يحتمل القسمة، وقسمه وسلم تجوز الهبة، ويجعل كأن الهبة من الابتداء وردت على المقسوم، وهذا لما عرف أن تمام الهبة بالقبض، فتكون العبرة لحالة القبض، ووقت القبض الهبة معلومة، والموهوب له معلوم، فيجوز كما لو وهبه منه عند الأخذ، وكذلك الموهوب إذا كان غائباً عن مجلس الهبة، وإن الواهب (أمر) الموهوب له بقبضها فقبض جازت الهبة لما ذكرنا أن

العبرة لحالة القبض، وصار من حيث المعنى كأنه قال: اقبضها، ثم أمسكها لنفسك هبة، وكذلك إذا وهب الدين من غير من عليه الدين وأمره بقبضه يجوز؛ لأن الهبة عند القبض تصير عيناً، فكأنه قال: اقبضه ثم اجعله لنفسك هبة، فكذا ههنا عند الأخذ يصير كأن المالك قال له: خذه هبة لك، وعند الأخذ الهبة والموهوب له معلومان، والدليل عليه فصل نثر السكر في العرس وغيره، فإن هناك من أخذ شيئاً يصير ملكاً له؛ لأن صاحب السكر بالنثر ملك السكر ممن ينتهبه؛ لأنه نثره للاتهاب، وصار راضياً بصيرورة المتهب ملكاً للمتهب بالاتهاب، ويصير عند الاتهاب كأنه قال للمتهب: هو لك هبة فجاز لكون الموهوب له معلوماً وقت الأخذ، وإن كان مجهولاً وقت النثر كذا ههنا. اختلف المشايخ في نثر الدراهم والدنانير والفلوس التي كتب عليها اسم الله تعالى، منهم من كره ذلك؛ لأنها بين قوائم الذين ينتهبونها فيطؤوها، وفيه ترك تعظيم اسم الله تعالى، ومنهم من لم يكره ذلك؛ لأنه يقصد بذلك تعظيم الدراهم وإعزازها لا.... لذلك.... وإذا نثر السكر فحضر رجل لم يكن حاضراً وقت النثر قبل أن ينتهب المنثور، وأراد أن يأخذ منه شيئاً هل له ذلك؟ اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضهم: له أن يأخذ، واستدل هذا القائل بقول النبي عليه السلام: «من شاء اقتطع» ، ومعلوم أن هذا يتناول الحاضر، والذي يحضر. وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: ليس له ذلك. وإذا نثر السكر ووقع في ذيل رجل أو كمه وأخذه غيره؛ كان ذلك للآخذ؛ هكذا ذكر في «المنتقى» ، وذكر هذه المسألة في «فتاوى أهل سمرقند» وفصل الجواب تفصيلاً، قال: إن كان بسط ذيله أوكمه، ليقع عليه السكر لا يكون لأحد أخذه، ولو أخذه كان لصاحب الذيل والكم أن يسترده منه، وإن لم يبسط ذيله أو كمه لذلك فالسكر للآخذ، وليس لصاحب الذيل والكم أن يسترده منه. وإذا دخل الرجل مقصورة الجامع، ووجد فيها سكراً جاز له الأخذ؛ إلا على قول الفقيه أبي جعفر؛ لأن السكر إنما يدخل في المقصورة لأجل النثار في العقد غالباً، فصار بقية النثار غالباً إلا أن هذا الرجل لم يكن حاضراً وقت النثر، فلا يملك الأخذ على قول الفقيه أبي جعفر، ولو مر بسوق.... فوجد سكراً ملقى لم يسعه أن يأخذها؛ لأن الغالب أنه سقط من حوانيتهم، والحكم للغالب. وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا دفع الرجل إلى غيره سكراً، أو دراهم لينثره على العروس، فأراد أن يحبس لنفسه شيئاً، ففيما إذا كان المدفوع دراهم ليس له ذلك؛ لأنه مأمور بالنثر لا بالحبس، وكذا ليس له أن يدفع الدراهم إلى الغير لينثر ذلك الغير؛ لأن صاحب الدراهم ائتمنه ... ائتمن غيره، وإذا نثر ليس له أن يلتقط منه شيئاً، وفيما إذا

الفصل الرابع عشر في الكسب

كان المدفوع سكراً، له أن يحبس قدر ما يحبسه الناس في العادة، هكذا اختيار الفقيه أبي الليث قال: لأن أمر السكر على السهولة، وأمر الدراهم على الاستقصاء، وبعض مشايخنا قالوا: ليس له ذلك، قال الفقيه أبو الليث: وله أن يدفع السكر إلى غيره لينثر، وإذا نثر له أن يلتقط، وبعض مشايخنا قالوا: ليس له ذلك كما في الدراهم. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل نفق حماره وألقاه في الطريق فجاء إنسان وسلخه، ثم جاء صاحب الحمار فلا سبيل له على أخذ الجلد، ولو لم يلق الحمار على الطريق فأخذه رجل من منزل صاحبه وسلخه وأخذ جلده، فلصاحب الجلد أن يأخذ الجلد، ويرد ما زاد الدباغ فيه. وعنه أيضاً: في شاة ميتة نبذها أهلها، فأخذ رجل صوفها وجلدها فدبغها فذلك له، فإن جاء صاحبها بعد ذلك أخذ الجلد ورد ما زاد الدباغ فيه، وجوابه في مسألة الشاة يخالف جوابه في مسألة الحمار، فيكون كل واحد من المسألتين نقضاً على الأخرى، فيصير في المسألتين روايتان، ومن هذا الجنس مسائل كثيرة تأتي في كتاب اللقطة إن شاء الله تعالى (92أ2) . الفصل الرابع عشر في الكسب بدأ محمد رحمه الله كتاب «الكسب» الذي صنعه بحديث رواه ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «طلب الكسب فريضة على كل مسلم» ، كما أن طلب العلم فريضة؛ وهذا لأن الله تعالى فرض الفرائض على عباده، ولا يتوصل إلى أداء الفرائض إلا بالكسب، فكان فريضة بمنزلة الطهارة لأداء الصلاة، ولأن ذلك يمكنه من أداء الفرائض بقوة بدنه، ولا حصول لقوة البدن عادة إلا بالقوت، ولا حصول للقوت، وكذلك لا بد للصلاة من ستر العورة، إنما يحصل بالثوب، وطريق تحصيل الثوب الكسب، فهو معنى قولنا: لا يتوصل إلى أداء الفرائض إلا بالكسب فصار فرضاً؛ كيف وإن الله تعالى أمرنا بالتجارة في كتابه، لقوله: {وإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} (الجمعة:10) والمراد منه التجارة والأمر على الوجوب، ولأن الكسب طريق الأنبياء والرسل عليهم السلام، أول من اكتسب أبونا آدم عليه السلام، فلما أهبط إلى الأرض أتاه جبرائيل عليه السلام بالحنطة وأمره أن يزرعها، فزرعها وسقاها وحصدها ودرسها وطحنها وخبزها. وكذلك نوح عليه السلام كان نجاراً يأكل من كسبه، وإدريس عليه السلام كان خياطاً، وإبراهيم عليه السلام كان بزازاً، وداود كان بزازاً حتى روي أن

نبينا عليه الصلاة والسلام، قال: «عليكم بالبز، فإن أباكم إبراهيم كان بزازاً» ، وداود عليه السلام كان يصنع الدرع، وسليمان عليه السلام كان يصنع المكاييل، وزكريا عليه السلام كان نجاراً، وعيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه، وربما كان يلتقط السنابل، فعلم أن الكسب طريق الأنبياء والمرسلين صلاة الله عليهم أجمعين، ونحن أمرنا بالاقتداء بهم قال الله تعالى: {فبهداهم اقتده} (الأنعام:90) . ثم الكسب على مراتب، فمقدار ما لابد لكل أحد منه يعني ما يقيم به صلبه يفترض على كل أحد اكتسابه ههنا؛ وكذلك إذا كان له عيال من زوجة، وأولاد صغار، فإنه يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهم عيناً؛ لأن نفقة الزوجة مستحقة على الزوج، وكذلك نفقة الولد مستحقة على الوالد، ولا يتوصل إليها إلا بالكسب، فصار الكسب مستحقاً عليه، وكذلك إذا كان له أبوان معسران يفترض عليه الكسب بقدر كفايتهما؛ لأن نفقتهما فرض عليه، وما زاد على قدر كفايته وكفاية عياله مباح إذا لم يرد به الفخر والرياء. ثم المذهب عند جمهور الفقهاء: أن جميع أنواع الكسب في الإباحة على السواء فبعض الفقهاء قالوا: الزراعة مذمومة، والصحيح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أزدء بالحرف قال عليه السلام: «اطلبوا الرزق في خبايا الأرض» يعني الزراعة، فكان لابن مسعود والحسن بن علي وأبي هريرة أراض بسواد العراق يزرعونها ويؤدون خراجها. ثم اختلف مشايخنا في التجارة والزراعة أيهما أفضل؛ قال بعضهم: التجارة أفضل، قال عمر رضي الله عنه: لأن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إليَّ من أن أقتل مجاهداً في سبيل الله. وأكثر مشايخنا على أن الزراعة أعم نفعاً؛ لأنه يتناول مما حصل بزرعه هو والدواب. قال: وعلى الناس اتخاذ ... لنقل الماء إلى النساء؛ لأنها تحتاج إلى الماء للشرب، ولا يمكنها الخروج للشرب من الأنهار، والحياض؛ لأنهن أمرن بالقرار في البيوت، فكان على الزوج أن يأتي بذلك إليها؛ لأن الشرع ألزمه ما هو من حوائجها كالنفقة، والماء من حوائجها. قال: ومن امتنع من الأكل حتى مات وجب عليه دخول النار؛ لأنه قتل نفسه قصداً، فهو بمنزلة ما لو قتل نفسه بحديدة. وفي «واقعات الناطفي» : إسكاف أمره إنسان أن يتخذ له خفاً مشهوراً على زي الفسقة أو المجوس، وزاد له في الأجرة له أن يفعل ذلك، وكذلك الخياط إذا أمره إنسان أن يخيط له ثوباً على زي الفساق، وذلك مكعب الرجال مع سرير وقع الزنار من النصارى، وبيع قلنسوة المجوس من المجوسي جائز من

غير كراهة، وقالوا: وبيع مكعب الفصص من الرجال إذا علم أنه ملبوس مكروه، والكلام ههنا أظهر من الكلام في بيع المكعب مع سريره. في «العيون» : إذا استأجره رجل لغسل الميت فلا أجر له، لو استأجره لحمل الميت أو حفر القبر فله الأجر. في «القدوري» ذكر مسألة الغسل وحمل الميت، وقصد الجواز فيهما تفصيلاً، فقال: إن كان في موضع لا يجد من يغسله أو يحمله غير هؤلاء فلا أجر لهم، وإن كان ثم إنسان غيرهم فلهم الأجر، وستأتي هذه المسألة في كتاب «الإجارات» إن شاء الله تعالى. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : استأجر رجلاً لضرب الطبل؛ إن كان للهو لا يجوز؛ لأنه معصية، وإن كان للعدو والقافلة يجوز؛ لأنه طاعة. وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد امرأة نائحة، أو صاحب طبل أو مزمار اكتسب قال: إن كان على شرط رده على أصحابهم إن عرفهم يريد بقوله على شرط إن شرطوا لها أو له مالاً بإزاء النياحة أو بإزاء الغناء؛ وهذا لأنه إذا كان الأخذ على شرط كان المال بمقابلة المعصية، فكان الأجر معصية، والسبيل في المعاصي ردها، ولذلك ههنا يرد المأخوذ إن تمكن من رده بأن عرف صاحبه، وبالتصدق منه إن لم يعرفه ليصل إليه نفع ماله إن كان لا يصل إليه عين ماله؛ أما إذا لم يكن الأخذ على شرط لم يكن الأخذ بمعصية، والرفع حصل عن المالك برضاه فيكون له (92ب2) ويكون حلالاً له. فيه أيضاً عن محمد في «الكسب» : إن قضى به دينه لم يكن لصاحب الدين أن يأخذه؛ لأنه في يده بمنزلة الغصب، وأما في القضاء فهو مخير على الأخذ، وينبغي على قياس المسألة المتقدمة أنهاإذا أخذت ذلك من غير شرط أن يسع رب الدين أن يأخذه. فيه أيضاً عن أبي يوسف: إذا ورث خمراً، وهم مسلمون لا أقسم الخمر بينهم، ولكنها تتخلل ثم تقسم. مات وماله من بيع السارق إن تورع الورثة عن أخذ ذلك كان أولى، ويردوا على أربابها إن عرفوا أربابها؛ لأنه تمكن فيه نوع خبث، وإن لم يعرفوا أربابها، فالميراث حلال لهم في الحكم، ولا يلزمهم التصدق به وفسقا بأخذ هذا بل هو حرام مطلق على الورثة، قال: وإن تورعوا أو تصدقوا كان أولى، وكذا الجواب فيما إذا أخذه برشوة ظلماً إن تورع الورثة كان أولى، وإذا أراد الوارث أن يتصدق بين خصمائه. في «فتاوى أهل سمرقند» : وأما الذي تأخذه النائحة والقوال والمغني فالأمر فيه أيسر؛ لأن فيه إعطاء برضاه من غير عقد، وقد ذكرنا الكلام في كسب المغنية والنائحة قبل هذا، والفتوى على ما ذكرنا قبل هذا. سئل الفقيه أبو جعفر عمن اكتسب ماله من أمر السلطان، وجمع المال من أخذ الغرامات المحرمة وغير ذلك؛ هل يحل لأحد عرف ذلك أن يأكل من طعامه؟ قال: أحب إلي في دينه أن لا يأكل، ويسعه أكلها حكماً إذا كان الطعام لم يقع في يد المطعم غصباً أو رشوة.

الفصل الخامس عشر في نقل الميت

(رجل) يبيع التعويذ في المسجد، ويكتب فيه التوراة والإنجيل، ويأخذ عليه مالاً، ويقول: إني أوقع هذا هدية لا يحل له المأخوذ؛ لأنه نص على الهدية، وأخذ المال لا يجوز. ذكر رحمه الله تعالى في كتاب «الكسب» كسب الخصي حرام لم يرد به ما اكتسبه، وإنما أراد به أن اتخاذه خصياً، وإخصاؤه مكروه؛ نقل عن كتاب «الطحاوي» هكذا، والله أعلم. الفصل الخامس عشر في نقل الميت روى ابن أبي مليكة: أن عبد الرحمن بن أبي بكر مات خارج مكة على اثني عشر ميلاً، فنقل إلى مكة ودفن بمكة، فجاءت حاجة أو معتمرة وزارت قبره، وقالت: أما والله لو شهدتك ما دفنتك إلا في مكانك الذي مت فيه؛ قولها أما والله لو شهدتك ما زرتك تكلم المشايخ في تأويله وفي معناه، بعضهم قالوا: أرادت بهذا بيان أن زيارة القبور ليست بواجبة، وإلى هذا القول مال القاضي الإمام علي السغدي، وبعضهم قالوا: أرادت بهذا بيان عذرها في زيارته، فإن ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: «لعن الله زوارات تمنع النساء عن زيارة القبور» والحديث وإن كان مؤولاً، فلحشمة ظاهرة، قالت ما قالت، ووجه العذر أنه قال: عليها لقاؤه عند الموت فزارت قبره ليكون لقاء قبره قائماً مقام لقائه عند الموت، وإلى هذا مال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي، وبعضهم قالوا: أرادت بهذا بيان أن زيارة القبور مع أنها مكروهة في حق النساء، وإن الحديث الوارد في هذا الباب منسوخ نسخه قوله عليه السلام «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ولا تقولوا هجراً» ولكن الترك أولى إلا أنها قالت: لو شهدتك ما زرتك، وإلى هذا القول مال الشيخ الإمام شيخ الإسلام، وقولها: لو شهدتك ما زرتك إلا في مكانك الذي مت فيه؛ دليل دفن الميت في مكانه الذي مات فيه، وفي مقابر ذلك القوم أفضل. قال محمد رحمه الله في «السير» : أحب إلينا أن ندفن الميت والقتيل في المكان الذي مات فيه في مقابر المسلمين ... وإن نقل ميلاً أو ميلين أو نحو ذلك فلا بأس به، فقد نهى الناس عن النقل ميلاً أو ميلين، فهذا دليل على أن الزيادة على ذلك مكروه، وإنما صار قدر ميلين عفواً؛ لأنه لا بد منه في الأعم الأغلب، فإن الغالب في كل بلد أن تكون مقابرها بفنائها، وربما يكون من المكان الذي مات فيه إلى المقبرة قدر ميلين فصار هذا القدر عفواً، فأما الزيادة على ذلك.... الأعم والأغلب، وفيه تشبه باليهود

الفصل السادس عشر في معاملة أهل الذمة

وحمل الجنائز من غير فائدة فيكره؛ قال شمس الأئمة السرخسي في شرح «السير» : لو لم يكن في نقله إلا تأخير دفنه، لكان كافياً في كراهته، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : أن نقل الميت من بلد إلى بلد لغرض ليس بمكروه. وفي «العيون» : ذكر مطلقاً أن نقل الميت من بلد إلى بلد ليس بمكروه، وحكم قراءة القرآن في المقابر مر قبل هذا فلا نعيده. الفصل السادس عشر في معاملة أهل الذمة ........ التي تعود إليهم يجب أن يعلم بأن أهل الذمة لا يمنعون عن الدخول في سائر المساجد، سوى المسجد الحرام عندنا خلافاً لمالك، وهل يمنعون؛ ذكر في «الجامع» ذكر محمد رحمه الله تعالى في «السير الكبير» في باب دخول الكافر في المسجد: أنهم يمنعون، وذكر في «الجامع الصغير:» أنهم لا يمنعون، وهكذا ذكر الكرخي في «مختصره» ؛ قيل: ما ذكر في «الجامع الصغير» قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وبه كان يقول محمد أولاً ثم رجع وقال: يمنعون، وهو المذكور في «السير» . فوجه قول محمد الآخر قول الله تعالى: {فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} (التوبة:28) أي بعد عام الفتح، فقد خص المسجد الحرام بالنهي عن الدخول، فيدل على حرمة الدخول إليه، واختصار الحرمة عليه.j وجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف: أن القاضي إنما يجلس للقضاء في المسجد الحرام، وأهل الذمة لا يجدون بداً من رفع خلافاتهم إليه، وكذلك المسألة ربما يكون به حق على الذمي فلا يجد بداً من إدخاله المسجد، فلو لم يجز لهم الدخول في المسجد الحرام أدى إلى إبطال حقوقهم، وحقوق المسلمين، وفساد ذلك ما لا يخفى بهذا الطريق؛ جاز الدخول في سائر المساجد، والجواب عن التعليق بالآية ما حكي عن الفقيه أبي جعفر الهنداوي: أنه ليس المراد من القربان المذكور في الآية القربان من جهة الدخول، وإنما المراد القربان من حيث التدبير والاستيلاء، والقيام بالعمارة، فرؤساء قريش كانوا يلون ذلك قبل الفتح، وبعد الفتح منعوا عن ذلك، فإنه روي عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنه لما دخل مكة عام الفتح أخذ مفاتيح المسجد منهم، ودفعها إلى من أراد من المسلمين. وجواب آخر إن كان المراد من القربان المذكور في الآية الدخول، ولكن على الوجه الذي اعتادوا في الجاهلية، وهو الدخول لعبادة غير الله تعالى والطوف لا على الوجه المشروع، فإنه روي أنهم كانوا يطوفون بالبيت عرياناً.

ثم إن أصحابنا رحمهم الله تعالى فرقوا بين الكافر وبين المسلم (93أ2) الجنب، فلم يجوزوا للمسلم الجنب الدخول في المسجد؛ مع أن الكافر جنب، قال: من الكفار (من) لا يغتسل ومنهم من يغتسل، ولكن لا يدري كيفيته، ولهذا يؤمر بالاغتسال إذا أسلم، والفرق: أن المسلم يدين وجوب الاغتسال بالجنابة، ويعتقد كون الجنابة مانعة من دخول المسجد فتعاملنا معه على حسب اعتقاده، وثبتنا الحكم على ما يدينه، فأما الكافر فلا يدين وجوب الاغتسال بالجنابة أو لا يدين كيفيته ولا يعتقد الجنابة مانعة من الدخول في المسجد، فتعاملنا معه على حسب اعتقاده، وثبتنا الحكم في حقه على ما يدينه فلهذا افترقا. وإذا قال الكافر من أهل الحرب، أو من أهل الذمة لمسلم: علمني القرآن فلا بأس بأن يعلمه، ويفقهه في الدين؛ علل فقال: لعله يقبل بقلبه؛ قال الله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه} (التوبة:6) معناه حتى يسمع فيفهم، فيقف على مجلس الإسلام والشريعة، فربما يرغب في الإيمان، وهو معنى قول محمد في «الكتاب» : لعله يقبل قلبه، وروي أن واحداً من الكفار سمع القرآن فأسلم، وقال: وجدت له حلاوة. قال القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي: وتعليم الفقه كذلك أيضاً؛ لأن في الفقه معالم الدين، وسنن الهدى، فربما يصير ذلك سبباً لإسلامه. قال محمد رحمه الله: يكره الأكل والشرب في أواني المشركين قبل الغسل؛ لأن الغالب والظاهر من حال أوانيهم النجاسة، فإنهم يستحلون الخمر والميتة ويشربون ذلك، ويأكلون من قصاعهم وأوانيهم، فكره الأكل والشرب فيها قبل الغسل اعتباراً للظاهر، كما كره التوضؤ بسؤر الدجاجة؛ لأنها لا تتوقى من النجاسات في الغالب، والظاهر مع هذا لو أكل أو شرب فيها قبل الغسل جاز، ولا يكون آكلاً ولا شارباً حراماً؛ لأن الطهارة في الأشياء أصل والنجاسة عارض، فيجري على الأصل حتى يعلم حدوث العارض، وما يقول بأن الظاهر هو النجاسة، قلنا: نعم، ولكن الطهارة كانت ثابتة، واليقين لا يزال إلا بيقين مثله؛ ألا ترى أنه لو أصاب عضو إنسان أو ثوبه سؤر الدجاجة، أو الماء الذي أدخل فيه يده، وصلى مع ذلك جازت صلاته، وطريقه ما قلنا: أن الأصل في الأشياء الطهارة، وقد تيقنا بالطهارة وشككنا في النجاسة فلا تثبت النجاسة بالشك، وهذا إذا لم يعلم بنجاسة الأواني. فأما إذا علم فإنه لا يجوز أن يشرب ويأكل منها قبل الغسل، ولو شرب أو أكل كان شارباً وآكلاً حراماً، وهو نظير سؤر الدجاجة إذا علم أنه كان على منقارها نجاسة، فإنه لا يجوز التوضؤ به. والصلاة في سراويلهم نظير الأكل والشرب من أوانيهم، إن علم أن سراويلهم نجسة لا تجوز الصلاة فيها، وإن لم يعلم تكره الصلاة فيها، ولو صلى يجوز، ولا بأس بطعام اليهود والنصارى كله من الذبائح وغيرها لقوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل

لكم} (المائدة: 5) من غير فصل بين الذبيحة وغيرها، ويستوي الجواب بين أن يكون اليهود والنصارى من بني إسرائيل أو من غيرهم، كنصارى العرب؛ لأن ما تلونا من الآية لم تفصل. ولا بأس بطعام المجوس كله إلا الذبيحة، فإن ذبيحتهم حرام، قال عليه السلام: «سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم» ولم يذكر محمد رحمه الله الأكل مع المجوسي ومع غيره من أهل الشرك أنه هل يحل أم لا، وحكي عن الحاكم عبد الرحمن الكاتب أنه إن ابتلي به المسلم مرة أو مرتين فلا بأس به، فأما الدوام عليه يكره؛ لأنا نهينا عن مخالطتهم وموالاتهم وتكثير سوادهم، وذلك لا يتحقق في الأكل مرة أو مرتين، إنما يتحقق بالدوام عليه. رجل له امرأة ذمية، أو أب ذمي ليس له أن يقوده إلى البيعة، وله أن يقوده من البيعة إلى منزله؛ لأن الذهاب إلى البيعة معصية وإلى المنزل لا، ولا يحمل الخمر إلى الخل ولكن يحمل الخل إليها، وكذلك لا يحمل الجيفة إلى الهرة ويحمل الهرة إلى الجيفة. مسلم له امرأة من أهل الذمة ليس له أن يمنعها من شرب الخمر؛ لأنه حلال عندها، لكن يمنعها من ادخارها في بيته، ولا يجبرها على الغسل من الجنابة؛ لأن ذلك ليس بواجب عليها. وقال في «القدوري» : في النصرانية تحت مسلم لا تنصب في بيته صليباً، وتصلي في بيته حيث شاءت، ومن سأل من أهل الذمة مسلماً عن طريق البيعة فلا ينبغي له أن يدل عليه؛ لأنه أعانه على المعصية، ولا بأس بالذهاب إلى ضيافة أهل الذمة؛ لأنه نوع بر، وإذا آجر المسلم نفسه من ذمي ليعصر له فيتخذ خمراً فهو مكروه، ولو آجر نفسه ليعمل في الكنيسة ويعمرها فلا بأس به؛ إذ ليس في نفس العمل معصية، ولا بأس أن يصل المسلم المشرك قريباً كان أو بعيداً، محارباً كان أو ذمياً، وأراد بالمحارب المستأمن، فأما إذا كان غير مستأمن فلا ينبغي بأن يصله بشيء، والأصل في ذلك قوله تعالى {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلو في الدين} (الممتحنه: 8) الآية إلى آخرها، فالله تعالى بين بأول الآية أنه ما نهانا عن مبرة الذمي، وبين بآخر الآية أنه نهانا عن مبرة أهل الحرب؛ إلا أن المستأمن صار مخصوصاً عن آخر الآية؛ لأن الأمان المؤبد أو المؤقت خلف عن الإسلام في أحكام الدنيا، فكما لا يكون بصلة المسلم بأساً، فلا يكون بصلة المستأمن بأساً؛ بخلاف غير المستأمن؛ لأنه لم يوجد في حقه ما هو خلف عن الإسلام؛ حتى يلحق بالمسلم في حق هذا الحكم، فبقي داخلاً تحت النهي؛ هذا هو الكلام في صلة المسلم المشرك. جئنا إلى صلة المشرك المسلم، فقد روى محمد رحمه الله في «السير الكبير» أخباراً متعارضة في بعضها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هدايا المشرك، وفي بعضها أنه لم يقبل، فلا

بد من التوفيق، واختلفت عبارة المشايخ في وجه التوفيق، فعبارة الفقيه أبي جعفر الهندواني أن ما روي أنه لم يقبلها محمول على أنه لم يقبلها من شخص غلب على ظن رسول الله عليه السلام أنه وقع (93ب2) عند ذلك الشخص أن رسول الله عليه السلام إنما يقاتلهم طمعاً في المال؛ لا لإعلاء كلمة الله، ولا يجوز قبول الهدية من مثل هذا الشخص في زماننا، وما روي أنه قبلها محمول على أنه قبل من شخص غلب على ظن رسول الله أنه وقع عند ذلك الشخص أن رسول الله عليه السلام إنما يقاتلهم لإعزاز الدين، وإعلاء كلمة الله لا لطلب المال، وقبول الهدية من مثل هذا الشخص جائز في زماننا أيضاً؛ لأن قبول الهدية حينئذٍ لا يكون لترك القتال بل للتألف وإنه جائز. ومن المشايخ من وفق من وجه آخر، فقال: لم يقبل من شخص علم أنه لو قبل منه تقل صلابته وعزمه في حقه، وبين له بسبب قبول الهدية على ما قال عليه السلام: «الهدية تذهب وحر الصدر» ومتى كانت الحالة هذه لا يجوز قبول الهدية؛ لأن سبيل المسلم أن يكون غليظاً شديداً على الكفرة، وقبل من شخص علم أنه لا تقل صلابته، وعزمه في حقه، ولا يلين له بسبب قبول الهدية. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ويأمر الإمام أهل الذمة بإظهار الاستنحاب والركوب على السرج الذي هو كهيئة الأكف؛ هذا هو لفظ «الجامع الصغير» ، ولفظ كتاب العشر والخراج من «الأصل» : وينبغي أن لا يترك أحداً من أهل الذمة يتشبه بالمسلمين في ملبوسه ولا في ركوبه، ولا في زيه وهيئته، والأصل فيه ما روي عن عمر رضي الله عنه: أنه كتب إلى أمراء الأمصار أن لا يتركوا أهل الذمة يتشبهون بالمسلمن في لباسهم، ومركبهم، وهيآتهم، فهذا روي عن عمر رضي الله عنه ولم يرو عن غيره خلافه، فحل محل الإجماع. قال: ويمنعون عن ركوب الفرس؛ لأن ركوب الفرس من باب العز والشرف، وما كان من باب العز فأهل الذمة يمنعون عنه؛ لأنهم من أهل الصغار، فيمنعون عنه إلا إذا وقعت الحاجة إلى ذلك؛ بأن استعان الإمام بهم في المحاربة، والذب عن المسلمين، ولا يمنعون عن ركوب البغل؛ لأنه نتيجة الحمار، ولا يمنعون من ركوب الحمار؛ لأن كل أحد لا يقدر على المشي، لكنهم يمنعون من أن يضعوا على الراكب سرجاً كسرج المسلمين، وينبغي أن يكون على قربوس سرجهم مثل الرمانة؛ وهذا لأنهم كما أمروا بالمخالفة في هيئة اللباس، فكذلك أمروا بالمخالفة في هيئة المركب من حديث عمر رضي الله عنه. واختلفوا في قوله وعلى قربوس السرج مثل الرمانة؛ قال الفقيه أبو جعفر: لم يرد بقوله: وعلى قربوس السرج مثل الرمانة أن يكون مقدم سروجهم مثل مقدم سروجنا، ثم تكون عليه رمانة، وإنما أراد به أن يكون مقدم سرجهم مثل مقدم الإكاف، وهو كالرمانة

وغيره. قال: أراد به أن يكون مقدم سروجهم مثل مقدم سروجنا، ثم تكون عليه الرمانة. ويمنعون عن لبس الرداء والعمائم التي يلبسها علماء الدين؛ لأن فيه شرفاً، وكذلك يمنعون أن يكون شراك نعالهم كشراك نعالنا، وكذلك يمنعون أن تكون خفافهم كخفافنا، ونعالهم كنعالنا، وينبغي أن يؤخذوا حتى يأخذ كل واحد منهم مثل الخيط بعقد ليكون ذلك علامة فلا نعظمهم، وينبغي أن يكون ذلك الخيط غليظاً، ولا يكون رقيقاً؛ بحيث لا يقع عليه البصر؛ إلا أن يبالغ في النظر، وينبغي أن لا يكون من الإبريسم؛ لأن ذلك من باب التزين والتجمل. ثم اختلف المشايخ أن المخالفة بينهم وبيننا شرط بعلامة واحدة، أو بعلامتين، أو بثلاث علامات، قال بعضهم: العلامة الواحدة تكفي إما على الرأس كالقلانس الطحال المصرية، أو على الوسط كالنسيج، أو على الرجل كالنعل والمكعب على خلاف نعالنا ومكاعبنا، وبعضهم قالوا: لابد من العلامات الثلاث، وبعضهم قالوا في النصراني: يكتفى بعلامة واحدة، وفي اليهودي: يشترط علامتان، وفي المجوسي: يشترط ثلاث علامات، وذكر شيخ الإسلام أنه يشترط الثلاث في حق كل شخص، وكان الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي يقول: إن كان صالحهم الإمام وأعطاهم الذمة لعلامة واحدة، فلا يزاد على ذلك، فأما إذا فتح بلدة عنوة وقهراً كان للإمام أن يلزمهم العلامات الثلاث، وكذلك في الهيئات من حيث المركب والملبوس وغير ذلك مما ذكرنا من الجواب فيما إذا فتح بلدة عنوة، فأما إذا فتحت صالحاً، وأعطاهم الصلح على بعض ما ذكرنا لا يزاد على ما وقع عليه الصلح وهو الصحيح. ولا ينبغي أن يتركوا أن يحدثوا بيعة وكنيسة في مصر من أمصار المسلمين؛ لأن في إحداث البيع والكنائس إعلان دين الكفر، وقد منعوا من إعلان دينهم، فإنا إنما أعطيناهم الذمة بشرط أن لا يعلنوا ما في دينهم. فإن أرادوا أن يحدثوا ذلك في القرى؛ روى الحسن عن أبي حنيفة: أنهم يمنعون عنه، وفي ظاهر الرواية: لا يمنعون عنه، فإن أحدثوا بيعة في قرية من القرى، ثم بنى فيها أبنية كثيرة فمصرها الإمام، فالإمام ينقض ذلك، وكذلك لو أحدثوا كنيسة بقرب مصر، وبني هناك أبنية حتى اتصل ذلك الموضع بالمصر، وصار كمحلة من محال المصر، فإن الإمام ينقض ذلك كله، ويضمن لهم قيمة ذلك ليشتروا موضعاً ويبنوا فيه مثلها، أو يعوض لهم مكاناً آخر فارغاً حتى يبنوا فيها مثلها، هذا جواب ظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة رضي الله عنه في هاتين الصورتين: أن الإمام لا ينقض ذلك. وجه رواية الحسن قوله عليه السلام: «لا خصاء ولا كنيسة في الإسلام» وأراد الإحداث، فإن القديمة يجوز تركها في القرى، فالنبي عليه السلام نهى عن إحداث

الكنيسة، ولم يفصل بين القرى والأمصار، ولأن في إحداث الكنيسة إعلان دينهم، وهم كما منعوا عن إعلان دينهم في المصر منعوا عنه في القرى؛ ألا ترى أنهم يمنعون عن إظهار بيع الخمور والخنازير، وعقود الربا في القرى كما يمنعون عنها في الأمصار. وجه ظاهر الرواية: أن إحداث الكنيسة والبيعة تصرف مباح بنفسه؛ لأنه بناء وعمارة بمكان، وإنه مباح في الإسلام، ألا ترى أنه لو وجد مثل ذلك من المسلم كان مباحاً، وإنما الحرمة بقصدهم أن هذا البناء للبيعة والكنيسة (94أ2) فكان هذا الفعل مباحاً لعينه حراماً لغيره، وهو قصد الفاعل، فلو كان مباحاً من كل وجه تركوا في الأمصار والقرى كبناء الدار، ولو كان حراماً لعينه كبيع الخمر والخنزير لمنعوا عنه في المواضع كلها، فإذا كان مباحاً لعينه حراماً لغيره منعوا عنها في المصر اعتباراً لجانب الحرمة، ولم يمنعوا عنها في القرى اعتباراً لجانب الإباحة، وكان العمل على هذا الوجه أولى من العمل على العكس؛ لأن للمصر حرمة زائدة ليست للقرى، فإنها إقامة الجمع والأعياد وجلوس المفتي والقضاء بخلاف بيع الخمر؛ لأنه حرام لعينه؛ ألا ترى أنه لو وجد من المسلم كان حراماً ومعصية، وهم منعوا عن إظهار المعاصي في دار الإسلام؛ المصر والقرى في ذلك على السواء ولا كذلك بناء البيعة والكنيسة على ما ذكرنا. فأما الكنائس القديمة والبيع القديمة في الأمصار والقرى ذكر في عامة الكتب أنها تترك على حالها ولا تنقض، وفي كتاب العشر والخراج من «الأصل» : يشير إلى أنها تهدم، وهو قول الحسن، والصحيح ما ذكر

الفصل السابع عشر في الهدايا والضيافات

في عامة الروايات، وهذه الروايات فيما إذا ظهر الإمام عليهم عنوة وقهراً، فأما إذا وقع الصلح بينهم وبين الإمام فالكنائس والبيع تترك على حالها، ولا يتعرض لها باتفاق الروايات. ثم إذا كانت الكنائس قديمة وقد ظهر الإمام عليهم عنوة، حتى لم يكن للإمام نقضها على ظاهر الرواية، انهدمت كنيسة منها كان لهم بناؤها؛ لأن هذا ليس بإحداث؛ بل إعادة للأول، فكأنه غير الأول، فلا يمنعوا عنه إلا إذا أرادوا أن يبنوا أوسع من الأول، فحينئذٍ يمنعون عن الزيادة في حق الزيادة إحداث. ولا ينبغي أن يتركوا حتى يشتري أحد منهم، داراً أو منزلاً في مصر من أمصار المسلمين، ولا ينبغي أن يتركوا بأن يسكنوا في مصر من أمصار المسلمين؛ هكذا ذكر في كتاب العشر والخراج من «الأصل» ، فعلى رواية كتاب العشر والخراج: لم نمكنهم من المقام في أمصار المسلمين، وفي عامة الكتب نمكنهم من المقام في أمصار المسلمين إلا أن يكون المصر من أمصار العرب نحو أرض الحجاز وما أشبهه، فحينئذٍ لا يمكنون من المقام فيها؛ قال عليه السلام: «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان» والصحيح ما ذكر في عامة الكتب، فقد صح أن عمر رضي الله عنه فتح بيت المقدس صلحاً، وترك أهل الذمة فيها، وخالد بن الوليد رضي الله عنه فتح بلدة وترك أهل الذمة فيها، وفتح عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان أرض الشام عنوة وقهراً، وتركوا أهل الذمة فيها، وأبو موسى الأشعري وعثمان بن العاص، وعتبة بن عمرو فتحوا نهاوند وتركوا أهل الذمة، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم جوزوا ترك أهل الذمة في أمصار المسلمين من بلاد العجم، فيصير فعلهم حجة لما ذكرنا في عامة الكتب. إذا قال لذمي: أطال الله تعالى بقاءك، إن كان نيته أن الله تعالى يطيل بقاءه ليسلم أو يؤدي الجزية عن ذل وصغار فلا بأس به، وإن لم ينوِ شيئاً يكره، وفي «فتاوى أهل سمرقند» وفي هذا الموضع أيضاً: مسلم دعاه نصراني إلى دار ضيفاً حل له أن يذهب؛ لأن فيه ضرب من البر، وقد ندبنا إلى بر من لم يقاتلنا في الدين؛ قال الله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم} (الممتحنة: 8) . وفي أضحية «النوازل» : المجوسي أو النصراني إذا دعا رجلاً إلى طعامه يكره الإجابة، فإن قال اشتريت اللحم من السوق؛ لأن المجوسي يبيح المنخنقة والموقوذة، والنصراني لا ذبيحة له، وإنما يأكل ذبيحة المسلم، أو، وإن كان الداعي يهودياً فلا بأس به؛ لأنه لا يأكل إلا من ذبيحة اليهودي، أو من ذبيحة المسلم، وما ذكر في حق النصراني يخالف رواية محمد على ما تقدم ذكرها. وفي «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة رضي الله عنه: ولا بأس بعيادة اليهودي والنصراني؛ لأن العيادة من باب البر والصلة، ولا بأس بالبر في حقهم، وقد صح أن رسول الله عليه السلام عاد يهودياً في جواره قد مرض. الفصل السابع عشر في الهدايا والضيافات هدايا القضاة وتأتي في كتاب أدب القاضي من هذا الكتاب، وأما هدية المستقرض المقرض، فإن كانت مشروطة في الاستقراض فهي حرام، ولا ينبغي للمقرض أن يقبل، وإذا لم تكن مشروطة في العقد، ولم يعلم أنه أهدى إليه لأجل الدين، أو لا لأجل الدين؛ ذكر شيخ الإسلام لا بأس بقبولها، والتورع عنه أولى، وهكذا حكي عن بعض مشايخنا. بعد هذا قالوا: إذا كانت المهاداة تجري بينهما قبل القرض بسبب القرابة أو الصداقة أو كان المستقرض معروفاً بالجود والسخاء، فهذا قائم مقام العلم أنه أهداه لا لأجل الدين، فلا يتورع عنه، وإن لم يكن شيئاً من ذلك، والحالة حالة الإشكال، فيتورع

عنه حتى ينص أنه أهدى لا لأجل الدين، ومحمد رحمه الله لم يرَ به بأساً بلا تفصيل. جئنا إلى فصل الدعوة، قال محمد رحمه الله: ولا بأس بأن يجيب دعوة رجل له عليه دين، قال شيخ الإسلام: هذا هو جواب الحكم، فأما الأفضل أن يتورع عن الإجابة إذا علم أنه لأجل الدين، أو أشكل عليه الحال؛ قال شمس الأئمة الحلواني: حالة الإشكال؛ إنما يتورع إذا كان يدعوه قبل الإقراض في كل عشرين يوماً بعد الإقراض جعل يدعوه في كل عشرة أيام، أو زاد في ... أما إذا كان يدعوه بعد الإقراض في كل عشرين كما كان يدعوه قبل الإقراض، ولا يزيد في ... فلا يتورع إلا إذا نص أنه أضاف لأجل الدين، فإن كان لا يدعوه قبل الإقراض أصلاً، وجعل يدعوه بعد الإقراض يتورع إلا إذا نص أنه أضافه لا لأجل الدين، وههنا زيادة تفريع سيأتي في كتاب أدب القاضي إن شاء الله تعالى. وأما هدايا الأمراء في زماننا؛ حكي (عن) الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أنه سئل عن هدايا الأمراء في زماننا قال: ترد على إبانها والشيخ الإمام الزاهد أبو بكر محمد بن حامد سئل عن هذا، فقال: يوضع في بيت المال، وهكذا ذكر محمد في «السير الكبير» فذكر ذلك الشيخ الإمام الجليل محمد بن الفضل، فقال: كنت أعلم أن المذهب هذا؛ إلا أني لم أجب به مخافة أن يوضع في بيت المال، ثم الأمراء يصرفونها إلى شهواتهم ولهوهم، فقد علمنا أنهم إنما يمسكون (94ب2) بيت المال لشهواتهم؛ لا لجماعة المسلمين، وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يمنع عماله عن قبول الهدايا، وإذا قبلوها ردوهاعلى أصحابها إن قدروا عليهم، وإن لم يقدروا عليهم وضعوها في بيت المال. واختلفت الصحابة ومن بعدهم في جواز قبول الهدية من أمراء الجور، فكان ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم يقبلان هدية المختار، وعن إبراهيم النخعي: أنه كان يجوز ذلك، وأبو ذر وأبو درداء كانا لا يجوزان ذلك، وعن علي رضي الله عنه: أن السلطان يصيب من الحلال والحرام، فإذا أعطاك شيئاً فخذه، فإن ما يعطيك حلال لك، وحاصل المذهب فيه أنه إن كان أكثر ماله من الرشوة والحرام لم يحل قبول الجائزة منه ما لم يعلم أن ذلك له من وجه حلال، وإن كان صاحب تجارة وزرع وأكثر ماله من ذلك، فلا بأس بقبول الجائزة ما لم يعلم أن ذلك له من وجه حرام، وفي قبول رسول الله عليه السلام الهدية من بعض المشركين دليل على ما قلنا. وفي «عيون المسائل» : رجل أهدى إلى إنسان أو أضافه إن كان غالب ماله من حرام لا ينبغي أن يقبل ويأكل من طعامه ما لم يخبر أن ذلك المال حلال استقرضه أو ورثه، وإن كان غالب ماله من حلال فلا بأس بأن يقبل ما لم يتبين له أن ذلك من الحرام؛ وهذا لأن أموال الناس لا تخلو عن قليل حرام وتخلو عن كثيره، فيعتبر الغالب ويبنى الحكم عليه.r

وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل دخل على السلطان فقدم إليه بشيء مأكول، فإن اشتراه بالثمن أو لم يشتر، ولكن هذا الرجل لا يعلم أنه مغصوب بعينه حل له أكله؛ أما إذا اشتراه بالثمن فلأن العقد يقع على مثل الثمن المشار إليه؛ لا على عين المشار إليه، فلا يتمكن الخبث في المشترى هكذا ذكر، وههنا كلمات تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى في مسائل الغصب، وأما إذا لم يشترِ، ولكن لا يعلم الداخل أنه مغصوب بعينه، فلأن الأشياء على أصل الإباحة ما لم يعلم دليل الحرمة، فلا يحرم لو علم دليل الحرمة بأن علم بأن هذا الشيء مغصوب بعينه لا يحل له الأكل هكذا ذكر، والصحيح أنه ينظر إلى غالب مال السلطان، ويبنى الحكم عليه على ما ذكرنا قبل هذا. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : لا يباح اتخاذ الضيافة في المصيبة بعد ثلاثة أيام، ويقال فيما بين الناس «سه ديكر» ، وفي «النوازل» : الضيف إذا أعطى اللقمة بعضهم لبعض يعتبر في ذلك تعامل الناس، ويترك القياس بالاستحسان، ولا يجوز أن يعطي سائلاً؛ لأنه لا تعامل فيه. وفي «العيون» : إذا كان الرجل ضيفاً عند إنسان فناول لقمة من طعامه إلى من كان ضيفاً أيضاً؛ قال بعض مشايخنا: لا يحل للمناول أن يفعل ذلك، ولا يحل له الأكل على فوره؛ بل يضعها على المائدة ويأكل من المائدة، وهكذا روي عن محمد، وكثير من المشايخ جوزوا ذلك استحساناً لوجود الإذن عادة، ولا يجوز للضيف أن يعطي من ذلك إنساناً دخل عليهم لطلب إنسان أو حاجة أخرى؛ لأنه لا تعامل فيه، وكذا لا ينبغي له أن يعطي سائلاً؛ لأنه لا تعامل فيه، ولو ناول من المائدة هرة صاحب الدار، أو هرة غير صاحب الدار شيئاً من الخبز، أو قليلاً من اللحم فلا بأس به؛ لأن فيه تعامل، فكان الإذن به ثابتاً عادة، وإن كان شيئاً من الخبز المحرق أما لشبهة، فهو في سعة منه؛ لأن فيه تعامل، وأما رفع الزلة فهو حرام بكل حال إلا أن يأذن صاحب الضيافة بها نصاً. وفي هبة «العيون» : لو دعا رجل قوماً إلى منزله لضيافة، وفرقهم على الأخونة فليس لأهل إحدى الخوانين أن يتناول من طعام الخوان الآخر؛ لأنه إنما أباح طعام كل خوان لجماعة معينين، فلا تثبت الإباحة في حق غيرهم. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل يأكل خبزاً مع أهله، فاجتمع كسرات الخبز، ولا يشتهيها أهله فله أن يطعم الدجاجة أو البقرة أو الشاة؛ ذكر الشاة والبقر والدجاجة ولم يذكر الكلب والهرة قال: لا ينبغي أن يلقيها في الطريق، أو في النهر إلا إذا وضع لأجل النمل ليأكل، فحينئذٍ يجوزه، هكذا نقل عن السلف. أب الصبي إذا أهدى إلى معلم الصبي أو إلى مؤدبه في العيد إن لم يسأل ولم يلح عليه لا بأس به؛ لأنه بر وبر المعلم مستحب، وأما أجرة المعلم فنقول: لا بأس بها في زماننا، وسيأتي ذلك في كتاب الإجارات مع ما يجانسها. وحكي عن الإمام أبي الليث الحافظ أنه كان يقول: كنت أفتي بثلاثة أشياء، ورجعت عنها؛ كنت أفتي أنه لا يحل للمعلم أخذ الأجر على تعليم القرآن، وكنت أفتي أنه لا ينبغي للعالم أن يدخل على السلطان، وكنت أفتي أن لا ينبغي لصاحب العلم أن

الفصل الثامن عشر في الغناء، واللهو، وسائر المعاصي، والأمر بالمعروف

يخرج إلى القرى فيذكرهم بشيء ليجمعوا له شيئاً، فرجعت عن ذلك كله، وإنما رجع تحرزاً عن ضياع القرآن والحقوق والعلم. الفصل الثامن عشر في الغناء، واللهو، وسائر المعاصي، والأمر بالمعروف ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وهو كان يتغنى، قوله: وهو يتغنى بظاهره حجة لمن قال: لا بأس للإنسان أن يتغنى إذا كان يسمع ويؤنِّس نفسه، وإنما يكره إذا كان يسمع ويؤنس غيره، ومن الناس من يقول: لا بأس به في الأعراس والوليمة، ألا ترى أنه لا بأس بضرب الدفوف في الأعراس والوليمة، وإن كان ذلك نوع لهوٍ وإنما لم يكن به بأس؛ لأن فيه إظهار النكاح وإعلانه، وبه أمر صاحب الشرع حيث قال: «أعلنوا النكاح، ولو بالدف» فكذلك التغني، ومنهم من قال: إن كان يتغنى ليستفيد به نظم القوافي، ويصير فصيح اللسان لا بأس به، ومنهم من قال: إذا كان وحده فغنى لدفع الوحشة عن نفسه فلا بأس به، وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي، وإنما المكروه على قول هذا القائل ما يكون على سبيل اللهو، وذكر شيخ الإسلام أن جميع ذلك مكروه عند علمائنا، ويحتج بظاهر قوله تعالى: {ومن الناس من يشتري لهو الحديث} (لقمان: 6) جاء في التفسير أن المراد منه الغناء، وحديث البراء بن مالك محمول على أنه كان ينشد الشعر المباح، يعني الشعر الذي فيه الوعظ والحكمة؛ وهذا لأن الغناء كما ينطلق على الغناء المعروف ينطلق على غيره، قال عليه السلام: «من لم يتغن بالقرآن (95أ2) فليس منا» . قلنا: وإنشاد ما هو مباح من الأشعار لا بأس به، وإذا كان في الشعر صفة المرأة إن كانت امرأة بعينها، وهي حية يكره، وإن كانت ميتة لا يكره، وإن كانت امرأة وسيمة لا يكره؛ هذه الجملة من شرح «السير الكبير» . وفي «فتاوى أهل سمرقند» استماع صوت الملاهي كالضرب بالقصب، وغير ذلك من الملاهي حرام، وقد قال عليه السلام: «استماع الملاهي معصية والجلوس عليها فسق والتلذذ بها من الكفر» وهكذا خرج على وجه التشديد بعظم الذنب؛ قالوا: إلا أن يسمع نفسه فيكون معذوراً، والواجب على كل أحد أن يجتهد حتى لا يسمع. روى محمد بن الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنه: في الرجل يدعى إلى وليمة أو

طعام، فوجد ثمة لعباً أو غناء، فلا بأس بأن يقعد ويأكل؛ قال أبو حنيفة رضي الله عنه: ابتليت بذلك مرة. واعلم بأن هذه المسألة على وجهين: الأول: أن يكون اللعب والغناء على المائدة، وفي هذا الوجه لا ينبغي له أن يقعد لقوله تعالى: {فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} (الأنعام: 68) ، وكذلك إذا كان على المائدة قوم يشربون الخمر، فلا ينبغي له أن يقعد، فقد صح أن رسول الله عليه السلام نهى أن يتناول الطعام في مجلس يشرب فيه الشراب، وكذلك إذا كان على المائدة قوم يغتابون لا يقعد، والغيبة أشد من اللهو واللعب؛ لأنها أشد من الزنا؛ قال عليه السلام: «الغيبة شر من الزنا» . والوجه الثاني: أن يكون اللعب والغناء في المنزل، وفي هذا الوجه لا بأس بأن يقعد على المائدة ويأكل، وهو المراد من المذكور في «الكتاب» ، قيل: هذا إذا كان الرجل ذا حشمة يتركون ما هم عليه بحشمته، فأما إذا لم يكن بهذه الصفة لا ينبغي أن يقعد ويأكل بل يعرض عنهم، وقول أبي حنيفة رضي الله عنه: ابتليت بهذا مرة يحمل أنه كان بعدما صار ذا حشمة، وعلى قياس هذا القول ينبغي أن يقال في الوجه الأول: إذا كان الرجل ذا حشمة يتركون ما هم عليه لحشمته لا بأس بأن يقعد ويأكل؛ بل القعود أولى ليصير ذلك سبباً لامتناعهم عن المعصية، وقيل أيضاً: ما ذكر في الوجه الثاني أن يقعد محمول على ما إذا كان الرجل خامل الذكر، ولا يقتدى به؛ أما إذا كان عالماً ويقتدى به لا يقعد ولا يأكل حتى لا يصير قدوة للشر، وقول أبي حنيفة رضي الله عنه ابتليت بهذا مرة؛ محمول على أنه كان قبل أن يصير معتداً، وقيل: يقعد في الوجه الثاني على كل حال، وإطلاق محمد رحمه الله في «الكتاب» يدل عليه، وجه ذلك أن التناول من الوليمة والضيافة سنة، واللعب والغناء حرام، يباشره غيره، ولا يجوز ترك سنة لحرام يباشره غيره، إلا إذا كان في المجلس كما في الوجه الأول، ولم يوجد ذلك ههنا، وهذا كله إذا علم بعد الحضور، فإذا علم قبل الحضور لا يحضر أصلاً، وقد قيل: لو كان هذا الرجل بحال يمتنعون عن الفسق لو امتنع هو عن الإجابة يفترض عليه الامتناع عن الإجابة، وإن كان بحال لا يمتنعون عن الفسق لو امتنع عن الإجابة لا بأس بأن يجيب ويطعم منكراً للهو غير مصغ إليه. وفي «النوازل» : قراءة شعر الأدب إذا كان فيه ذكر الخمر والفسق والغلام يكره، وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في أول هذا الفصل، والاعتماد في الغلام على ما ذكرنا في المرأة ثمة.

رجل أظهر الفسق في داره، فقدم إليه الإمام، فإن كف عنه لم يتعرض له، وإن لم يكف عنه فالإمام بالخيار؛ إن شاء حبسه، وإن شاء أدبه بضرب سياط، وإن شاء أزعجه عن داره؛ لأن الكل يصلح للتعزير؛ ذكر في «فتاوى النسفي» : أنه يكسر دنان الخمر، وإن كان قد ألقى فيها الملح، وذكر أن الكاسر لا يضمن الدنان، وستأتي هذه المسألة مع أجناسها في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى. في «النوازل» : رجل رأى منكراً وهذا الرائي يرتكب مثل هذا المنكر يلزم الرائي أن ينهى عنه؛ لأن الواجب عليه ترك المنكر والنهي عنه، فإن ترك أحدهما لا يوجب ذلك ترك الآخر. رجل يعلم أن فلاناً يتعاطى من المناكير، فأراد أن يكتب إلى أبيه بذلك؛ قال: إن وقع في قلبه أنه يمكن للأب أن يغير على ابنه فليكتب؛ لأن الكتابة تفيد، فإن وقع في قلبه أنه لا يمكنه ذلك لا يكتب؛ لأن الكتابة لا تفيد في هذه الصورة سوى وقوع العداوة بين الوالد والولد، وكذلك هذا الحكم بين الزوجين، وبين السلطان والرعية. قال محمد رحمه الله في «السير الكبير» : لا بأس بأن يحمل الرجل وحده على المشركين، وإن كان غالب رأيه أنه يقتل إذا كان في غالب رأيه أنه ينكي فيه نكاية بقتل أو جرح أو هزيمة، وإن كان غالب رأيه أنه لا ينكي فيهم أصلاً، لا بقتل ولا جرح ولا هزيمة ويقتل هو، فإنه لا يباح أن يحمل وحده، والقياس أن يباح له في الأحوال كلها، وإن علم أنه يقتل؛ لأنه يبتغي بما قصد الحياة الدائمة؛ يعني فإن الشهداء أحياء قال الله تعالى: {بل أحياء عند ربهم} (آل عمران: 169) إن كان مهلكاً نفسه صورة، والعبرة للمعنى؛ لكن ترك القياس فيما إذا كان يعلم أنه يقتل، ولا ينكي فيهم نكاية بالإجماع، ولا إجماع فيما إذا كان يعلم أن بخروجه لا ينكي فيهم نكاية، فيعمل فيه بقضية القياس. وأما قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (البقرة: 195) فلأهل التفسير في تأويل الآية ومعناها كلام، فالمحققون فيهم قالوا: معنى الآية أنفقوا أرواحكم في الجهاد، ولا تلقوا بأيديكم إلى الموت المعتاد فراراً عن القتل بالجهاد، وأحسنوا تسليم أنفسكم وأموالكم التي اشتراها الله تعالى منكم بالجنة والنعيم، وبعضهم قالوا: معنى الآية: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} بترك الجهاد، ولها وجوه وعرف ذلك في كتب التفسير. ثم فرقوا بين الحملة على المشركين، وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بين المسلمين، فقالوا: من أراد أن ينهى قوماً من فساق المسلمين عن منكر، وكان من غالب رأيه أنه يقتل لأجل ذلك، ولا ينكي فيه نكاية بضرب أو ما أشبهه، فإنه لا بأس بالإقدام عليه، وهو العزيمة، وإن كان يجوز له أن يترخص بالسكوت، وقالوا في الحملة على المشركين: إذا كان غالب رأيه أنه متى حمل عليهم يقتل من غير أن ينكي فيهم نكاية لا يحل له ذلك، ولا فرق بينهما من حيث المعنى؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينكي فيهم لا محالة. (95ب2) وبيان ذلك من وجهين؛ أحدهما: أن المسلمين يتركون الفساد حال ما يشتغلون

الفصل التاسع عشر في التداوي والمعالجات، وفيه العزل، وإسقاط الولد

بقتاله والمجادلة معه، فيقل الفساد، فيحصل نوع نكاية بالأمر بالمعروف بتقليل الفساد؛ أما الكفار لا يتركون الكفر والحراب حال ما يشغتلون بقتاله؛ بل يحققون ذلك ... لا يؤثر في تقليل الفساد، فتعتبر النكاية من حيث الجرح والضرب فلا يباح. الثاني: أن القوم هناك يعتقدون ما نأمرهم به، فلا بد وأن يكون فعله مؤثراً في باطنهم، وههنا القوم لا يعتقدون ما يدعوهم، فلا يؤثر فعله في باطنهم، فتعتبر الآية حسب الظاهر، فإذاً لا فرق بينهما صورة، إنما الفرق من حيث المعنى؛ هذه الجملة من شرح شيخ الإسلام. وذكر الفقيه أبو الليث في كتاب «البستان» : أن الأمر بالمعروف على وجوه؛ إن كان يعلم بأكثر رأيه أنه لو أمر بالمعروف يعقلون ذلك منهم، ويمتنعون عن المنكر، فالأمر واجب عليه، ولا يسعه تركه، ولو علم بأكثر رأيه أنه لو أمرهم بذلك قذفوه وشتموه فتركه أفضل، وكذلك لو علم أنهم يضربونه، ولا يصبر على ذلك، ويقع بينهم العداوة، وينتج منه القتال فتركه أفضل، ولو علم أنهم لو ضربوه وصبر على ذلك، ولم يشكو إلى أحد فلا بأس به وهو مجاهد، ولو علم أنهم لا يقبلون منه، ولا يخاف منهم ضرباً ولا شتماً فهو بالخيار، والأفضل أن يأمر. الفصل التاسع عشر في التداوي والمعالجات، وفيه العزل، وإسقاط الولد ذكر محمد رحمه الله في «السير» في باب دواء الجراحة عن أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم داوى وجهه بعظم بال في الحديث دليل على أنه لا بأس بالتداوي، وبه نقول ومن الناس من كره ذلك، ويروي آثاراً تدل على كراهيته، ونحن نستدل بما روينا، وبقوله عليه السلام: «تداووا عباد الله، فإن الله تعالى لم يخلق داءً إلا وقد خلق له دواءً إلا السام والهرم» ، ولكن ينبغي لمن يشتغل بالتداوي أن يرى الشفاء من الله لا من الدواء، ويعتقد أن الشافي هو الله دون الدواء. وتأويل ما رووا من الأخبار إذا كان الشفاء من الدواء ويعتقد أنه لو لم يعالج لا يسلم، ونحن نقول: إنه لا يجوز التداوي لمثل هذا؛ قال محمد رحمه الله: ولا بأس بالتداوي بالعظم إذا كان عظم شاة أو بقرة أو بعير أو فرس أو غيره من الدواب؛ إلا عظم الخنزير والآدمي، فإنه يكره التداوي بهما، فقد جوز التداوي بعضم ما سوى الآدمي والخنزير من الحيوانات مطلقاً من غير فصل بينهما إذا كان الحيوان ذكياً أو ميتاً، وبينما

إذا كان العظم رطباً أو يابساً، وما ذكر من الجواب يجري على إطلاقه فيه إذا كان الحيوان ذكياً؛ لأن عظمه طاهر، رطباً كان أو يابساً يجوز الانتفاع به جميع أنواع الانتفاعات رطباً كان أو يابساً، فيجوز التداوي به على كل حال؛ أما إذا كان الحيوان ميتاً، فإنما يجوز الانتفاع بعظمه إذا كان يابساً، ولا يجوز الانتفاع به إذا كان رطباً؛ وهذا لأن اليبس في العظم بمنزلة الدباغ في الجلد من حيث إنه يقع الأمن عن فساد العظم باليبس، كما يقع الأمن عن فساد الجلد بالدباغ، ثم جلد الميتة يطهر بالدباغ، فكذا عظمه يطهر باليبس، فيجوز الانتفاع به، فيجوز التداوي به. وإنما لم يجز الانتفاع بعظم الخنزير والآدمي؛ أما الخنزير فلأنه نجس العين بجميع أجزائه، والانتفاع بالنجس حرام، وأما الآدمي فقد قال بعض مشايخنا: إنه لم يجز الانتفاع بأجزائه لنجاسته، وقال بعضهم: لم يجز الانتفاع به لكرامته وهو الصحيح، فإن الله تعالى كرم بني آدم وفضلهم على سائر الأشياء، وفي الانتفاع بأجزائه نوع إهانة به. امرأة تأكل ... تلتمس السِّمَن لا بأس به إذا لم تأكل فوق الشبع، وإن أكلت فوق الشبع فهو حرام؛ لأن الأكل فوق الشبع حرام، وليس هذا الحكم يختص بهذا الموضع بل هو الحكم في جميع المباحات، فأكل جميع المباحات حرام فوق الشبع، وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إن كانت تسمن نفسها لزوجها لا بأس به؛ لأن هذا فعل مباح لقصد المباح. وفي «النوازل» : الرجل إذا ظهر به داء، فقال له الطبيب: قد غلبك الدم فأخرجه، فلم يخرجه حتى مات لا يكون مأخوذاً؛ لأنه لا يعلم يقيناً أن الشفاء فيه، وفيه أيضاً: استطلق بطنه، أو رمدت عينه، فلم يعالج حتى أضعفه ومات بسببه لا إثم عليه؛ فرق بين هذا وبينما إذا جاع ولم يأكل مع القدرة على الأكل حتى مات فإنه يأثم، والفرق: أن الأكل قدر قوته فيه شفاء يتعين، فإذا تركه صار مهلكاً نفسه، ولا كذلك المعالجة. التداوي بلبن الأتان إذا أشاروا إليه لا بأس به؛ هكذا ذكر هنا. قال الصدر الشهيد رحمه الله: وفيه نظر؛ لأن لبن الأتان حرام، والاستشفاء بالحرام حرام، وما قاله الصدر الشهيد فهو غير مجرىً على إطلاقه، فإن الاستشفاء بالمحرم إنما لا يجوز إذا لم يعلم أن فيه شفاءً؛ أما إذا علم أن فيه شفاء، وليس له دواء آخر غيره فيجوز الاستشفاء به؛ ألا ترى إلى ما ذكر محمد رحمه الله في كتاب الأشربة إذا خاف الرجل على نفسه العطش، ووجد الخمر شربها إن كان يدفع عطشه؛ لكن يشرب بقدر ما يرويه ويدفع عطشه، ولا يشرب للزيادة على الكفاية. وقد حكي عن بعض مشايخ بلخ: أنه سئل عن معنى قول ابن مسعود رضي الله عنه: إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم؛ يجوز أن عبد الله قال ذلك في داء عرف له دواء غير المحرم؛ لأنه حينئذٍ يستغني بالحلال عن الحرام، ويجوز أن يقال: تكشف الحرمة عند الحاجة، فلا يكون الشفاء في الحرام، وإنما يكون في الحلال.

ولو أن مريضاً أشار إليه الطبيب بشرب الخمر؛ روي عن جماعة من أئمة بلخ: أنه ينظر إن كان يعلم يقيناً أنه يصح حل له التناول، وقال الفقيه عبد الملك حاكياً عن أستاذه: أنه لا يحل له التناول. وفي «النوازل» : رجل أدخل مرارة في إصبعه للتداوي قال أبو حنيفة رضي الله عنه: يكره، وقال أبو يوسف: لا يكره، والفقيه أبو الليث أخذ بقول أبي يوسف لمكان الحاجة، وفيه أيضاً: العجين إذا وضع على الجرح إن عرف به الشفاء فلا بأس به، لأنه يكون دواء حينئذٍ. وإذا سال الدم من أنف إنسان، فكتب فاتحة الكتاب على جبهته بالدم وكتب بالبول، فقد ذكرنا قبل هذا في فصل القرآن. جئنا إلى مسائل العزل، وتفسيره: أن يطأ الرجل امرأته أو أمته (96أ2) فيعزل عنها قبل أن يقع الماء في الرحم مخافة الحبل، فنقول: اختلف أصحاب رسول الله عليه السلام في العزل، فعلي رضي الله عنه يكره ذلك، وابن عباس وابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم كانوا لا يكرهون ذلك، إلا أن علماءنا رحمهم الله قالوا في المرأة المنكوحة: يشترط رضا المولى عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وعندهما يشترط رضا الأمة، وفي الأمة المملوكة لا يشترط رضاها بلا خلاف، والمسألة على هذا الوجه مذكورة في «الجامع الصغير» ، وفي «فتاوى أهل سمرقند:» أنه إذا عزل خوفاً من الولد السوء لفساد هذا الزمان فهو جائز من غير رضا المرأة. وبعدما وصل الماء إلى رحمها إذا أرادت الإلقاء هل يباح لها ذلك: إن أرادت ذلك بعد مضي مدة ينفخ فيه الروح، فليس لها ذلك؛ لأنها تصير قاتلة؛ فإنه اعتبر هنا على غلبة الظاهر، فلا يحل لها كما بعد الانفصال، وإن أرادت الإلقاء قبل مضي مدة ينفخ فيه الروح؛ اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضهم: يحل لها ذلك؛ لأن قبل مضي المدة التي ينفخ فيه الروح لا حكم لها، فهذا والعزل سواء. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا أرادت إسقاط الولد فلها ذلك إذا لم يستبن شيء من خلقه؛ لأن ما لا يستبين شيء من خلقه لا يكون ولداً، وكان الفقيه علي بن موسى القمي يقول: يكره لها ذلك، وكان يقول: مآل الماء بعدما وصل إلى الرحم الحياة، فإنه لا يحتاج إلى صنع أحد بعد ذلك، لينفخ فيه الروح، وإذا كان مآل الحياة للحال كما في بيضة الحرم لما كان مآلها أن تصير صيداً يعطى لها حكم الصيد حتى إن من أتلف بيضة صيد الحرم ضمن بخلاف العزل؛ لأن الماء قبل أن يصل إلى الرحم ليس مآله الحياة، فإنه يحتاج إلى صنع بعد ذلك لينفخ فيه الروح، وهو الإلقاء في الرحم، أما هنا بخلافه. وفي نكاح «فتاوى أهل سمرقند» : امرأة مرضعة ظهر بها حبل وانقطع لبنها، وتخاف على ولدها الهلاك، وليس لأب هذا الولد سعة حتى يستأجر الظئر، هل يباح لها أن تعالج في إسقاط الولد؟ قالوا: يباح ما دام نطفة، أو علقة، أو مضغة لم يخلق له عضو؛ لأنه ليس بآدمي.... بالأم؛ ذكرت في «الواقعات» المرتبة في الباب الثالث من

الفصل العشرون في الختان والخصاء وقلم الأظافير، وقص الشوارب، وحلق المرأة شعرها، ووصلها شعر غيرها بشعرها.

النكاح في تعليل المسألة أن خلقه لا يستبين إلا في مائة وعشرين يوماً. الحجامة والفصد وإلقاء العلق على الظهر بعد تحرك الولد لا بأس به، وقبل تحرك الولد، وحال قرب الولادة لا ينبغي أن يفعل ذلك. الفصل العشرون في الختان والخصاء وقلم الأظافير، وقص الشوارب، وحلق المرأة شعرها، ووصلها شعر غيرها بشعرها. أقصى وقت للختان اثنا عشر سنة، وأما أول وقته قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا علم لي به، ولم يرو عن أبي يوسف ومحمد فيه شيء، واختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: أول وقته إذا بلغ سبع سنين، وبعضهم قالوا: إذا بلغ تسع سنين، وبعضهم قالوا: إذا بلغ عشر سنين؛ لأنه أول وقت يجوز إيصال الألم إليه؛ قال عليه السلام: «واضربوهم عليها إذا بلغوا عشراً» وبعضهم لم يؤقتوا في ذلك وقتاً، وقالوا: إذا كان الصبي بحال يطيق ألم الختان يحسن، وإلا فلا. وإنه من جملة السنن حتى قالوا: إذا اجتمع أهل المصر على ترك الختان يحاربهم الإمام؛ لأن الختان سنة، فيحاربهم في تركه، كما يحاربهم في سائر السنن. وفي «العيون» : غلام ختن فلم يقطع الجلدة كلها، فإن قطع أكثر من النصف يكون ختاناً؛ لأن الأكثر يقوم مقام الكل، وإن كان نصفاً أو دونه لا يكون ختاناً لانعدام الختان حقيقة وحكماً. وفي صلاة «النوازل» : الصبي إذا لم يختن، ولا يمكن أن يمد جلده ليقطع إلا بتشديد وحشفته قاصرة، إذا رآه إنسان يراه كأنه اختتن ينظر إليه الثقات، وأهل البصر من الحجامين، فإن قالوا: هو على خلاف ما يمكن الإحسان، فإنه لا يشد عليه ويترك؛ لأن الواجبات تسقط بالأعذار فالسنن أولى، وكذا الشيخ الضعيف من أهل المجوس إذا أسلم، وقال أهل البصر: إنه لا يطيق الختان يترك، وفي فوائد أكثر ... أختن الصبي ثم طال جلدته؛ إن صار بحال يستر حشفته يقطع، وما لا فلا. اختلفت الروايات في ختان النساء؛ ذكر في بعضها أنها سنة، وهكذا حكي عن بعض المشايخ، واستدل هذا القائل بما ذكر محمد رحمه الله في كتاب الخنثى: أن الخنثى يختن، ولو كان مكرمة لا يختن؛ لأنه يحتمل أنه امرأة، وعلى هذا التقدير لا يجوز للمرأة أن تفعل ذلك، فيتعذر الفعل لانعدام الفاعل فيسقط، وذكر شمس الأئمة الحلواني في «أدب القاضي» للخصاف: أن ختان النساء مكرمة. إخصاء الفرس لا بأس به عندنا، ومن الناس من كرهه، وكذلك إخصاء سائر

الحيوانات لا بأس به عندنا، ومن الناس من كرهه، والذي كرهه احتج بما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن إخصاء الإبل والبقر والغنم والخيل، وقوله تعالى: {ولآمرنهم فليغيرن خلق الله} (النساء:119) يشهد لما قالوا أويؤيد ما رووا، وعندنا لا بأس بإخصاء سائر الحيوانات سوى بني آدم، وتأويل الآية إخصاء بني آدم هذه الجملة من شرح «السير» ، وهذا هو التأويل لقوله عليه السلام: «لا خصاء في الإسلام» ، وقيل: تأويل الحديث أن يخصي الرجل نفسه وإنه حرام. وفي إجارات «الأصل» : إن إخصاء بني آدم حرام بالاتفاق، فأما إخصاء الفرس فقد ذكر شمس الأئمة الحلواني في «شرحه» : أنه لا بأس به عند أصحابنا، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : أنه حرام، وقد صح عن عمر رضي الله عنه: أنه نهى عن إخصاء الفرس، وأما غيره من البهائم فلا بأس به إذا كان فيه منفعة، وإذا لم يكن فيه منفعة فهو حرام، وفي أضحية «النوازل» في إخصاء السنور إنه لا بأس به إذا كان فيه منفعة أو دفع ضرره. وفي «الواقعات» : لا بأس بإخصاء البهائم إن كان يراد به إصلاح البهائم، فأما كي البهائم فقد كرهه بعض المشايخ، وبعضهم جوزوه؛ لأن فيه منفعة ظاهرة فإنها علامة، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن كي الحيوان على الوجه، فهذا يشير إلى جوازه على غير الوجه. (96ب2) وفي «النوازل:» إذا وقت يوم الجمعة لقلم الأظفار إن رأى أنه جاوز الحدّ قبل يوم الجمعة ومع هذا يؤخر إلى يوم الجمعة يكره؛ لأن من كان ظفره طويلاً كان رزقه ضيقاً، وإن لم يجاوز الحدود فيه تبركاً بالأخبار فهو مستحب؛ لأن عائشة رضي الله عنها روت عن النبي عليه السلام أنه قال: «من قلم أظافره يوم الجمعة أعاذه الله تعالى من البلايا إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام» . ولو قلم أظفاره أو جز شعره يجب أن يدفن، وإن رمى فلا بأس، وإن رماه في الكنيف والمغتسل فهو مكروه، ويغسل؛ لأنه يورث الدّاء. وينبغى للرجل أن يأخذ من شاربه حتى يصير مثل الحاجب، قال الفقيه رحمه الله تعالى: وقد استدلّ بعض المشايخ من أصحابنا بهذه المسألة أن رجلاً لو توضأ ولم يصل الماء إلى ما تحت شاربه أنه يجوز؛ لأنه رخص في مقدار الحاجب، ثم لو لم يصل الماء تحت الحاجب يجوز، فكذا هذا وبه نأخذ وعليه الفتوى، وهذا الذي ذكرنا كله في حق غير الغازي، فأما الغازي في دار الحرب يندب إلى تطويل الأظفار ليكون سلاحاً له،

الفصل الحادي والعشرون في الزينة، واتخاذ الخادم للخدمة

ويندب إلى تطويل الشارب ليكون أهيب في عين العدو. وإذا حلقت المرأة شعرها؛ فإن حلقت لوجع أصابها فلا بأس به، وإن حلقت تشبهاً بالرجال فهو مكروه، وهي ملعونة على لسان صاحب الشرع، وإذا وصلت المرأة شعر غيرها بشعرها فهو مكروه، قال عليه السلام: «لعن الله الواصلة والمستوصلة» هي التي تصل شعر امرأة بشعر امرأة أخرى، وإنما جاءت الرخصة في شعر غير بني آدم، تتخذه المرأة، ويزيد في قرونها، هكذا ذكر في «النوازل» وهو مروي عن أبي يوسف، قال: وإذا لم يكن للعبد شعر في الجبهة، فلا بأس للتجار أن يعلقوا على جبهته شعراً؛ لأنه يوجب زيادة في الثمن، هذا دليل على أنه إذا كان العبد للخدمة، ولا يريد بيعه أنه لا يفعل ذلك. الفصل الحادي والعشرون في الزينة، واتخاذ الخادم للخدمة اعلم بأن الزينة نوعان: نوع يرجع إلى البدن، ونوع يرجع إلى غيره، نبدأ بالذي يرجع إلى البدن، فنقول اتفق المشايخ أن الخضاب في حق الرجال بالحمرة سنة، وأنه من سير المسلمين وعلاماتهم، والأصل فيه قوله عليه السلام: «غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود» وقال الراوي: رأيت أبا بكر على منبر رسول الله عليه السلام ولحيته كأنها صرام عرفج، والعرفج اسم لبنت في البادية هي أشد حمرة من النار. وأما الخضاب بالسواد: فمن فعل ذلك من الغزاة ليكون أهيب في عين العدو فهو محمود منه، اتفق عليه المشايخ، ومن فعل ذلك ليزين نفسه للنساء، وليحبب نفسه إليهن فذلك مكروه عليه عامة المشايخ. وبنحوه ورد الأثر عن عمر رضي الله عنه، وبعضهم جوزوا ذلك من غير كراهية، روي عن أبي يوسف أنه قال: كما يعجبني أن تتزين لي يعجبها أن أتزين لها، هذه الجملة من شرح «السير الكبير» . اتفق المشايخ على أنه لا بأس بالإثمد للرجل، واتفقوا على أنه يكره الكحل الأسود إذا قصد به الزينة، واختلفوا فيما إذ لم يقصد به الزينة عامتهم على أنه لا يكره في «شرح السير» أيضاً، وفي «فتاوى أهل سمرقند» : لا بأس بالاكتحال يوم عاشوراء، روي أن أم سلمة كحلت رسول الله عليه السلام يوم عاشوراء، وفي «المنتقى» : روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: لا بأس بأن تخضب المرأة يدها ورجلها تتزين بذلك لزوجها، ما لم يكن خضاباً فيه تماثيل، ولا بأس بالخضاب للجارية الصغيرة والكبيرة، وأما الصبي فلا ينبغي أن تخضب يده ولا رجله كالرجل.

وأما الذي يرجع إلى غير البدن قال محمد رحمه الله: ولا بأس بأن يتخذ الرجل في بيته سريراً من ذهب أو فضة، وعليه الفرش من الديباج يتجمل بذلك للناس من غير أن يقعد أو ينام عليه، فإن ذلك منقول عن السلف من الصحابة والتابعين روي أن الحسن أو الحسين لما تزوج امرأة يزدجر، وزينت بيته بالفرش من الديباج والأواني المتخذة من الذهب والفضة، فدخل عليه بعض من بقي من أصحاب رسول الله؛ وقال: ما هذا الذي في بيتك يا ابن رسول الله؟ فقال: هذا امرأة تزوجتها فأتت بهذه الأشياء، فلم أستحسن أن أمنعها من ذلك، عن محمد بن الحنفية أنه زين داره بمثل هذه فعاتبه في ذلك بعض الصحابة، فقال: إنما أتجمل للناس بهذا، ولست أستعمله كيلا ينظر أحد إلي بغير الجميل، وقول محمد من غير أن يقعد أو ينام عليه، فذلك راجع إلى قول محمد؛ لأنه لا يرى القعود والنوم على الديباج على ما مرَّ. فأما على قول أبي حنيفة رضي الله عنه لا يتأتى؛ لأنه يرى النوم والقعود على الديباج على ما مرَّ. ذكر الفقيه أبو جعفر في شرح «السير الكبير» : أنه لا بأس بأن تستر حيطان البيوت باللبود المنقشة إذا كان قصد فاعله دفع البرد، فإن كان قصد فاعله الزينة فهو مكروه، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرح السير» أيضاً: لا بأس بأن تستر حيطان البيت باللبود إذا كان قصد فاعله دفع البرد، وزاد عليها فقال: أو بالخيش إذا كان قصد فاعله دفع الحر؛ لأن مقصود فاعله الانتفاع دون الزينة، وإنما يكره من ذلك ما يكون على قصد الزينة، فقد صح أن عمر رضي الله عنه أمر بنزعه ولما رأى سليمان ذلك، فقال أبو.... بينكم هذا، وتحولت الكعبة في كبده أشار إلى معنى الكراهة وهو تشبيه سائر البيوت بالكعبة، وفي «فتاوى أهل سمرقند» إرخاء الستر على البيت مكروه، قالوا: نص عليه محمد رحمه الله في «السير الكبير» ؛ لأنه زينة وتكبر، ذكر محمد في «السير الكبير» عن ابن أبي جحيفة قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبة حمراء من أدم، يعني يوم فتح مكة، ورأيت بلالاً قد أدخل عليه وجوه لم يحرجه نهر نفسه الحديث إلى أن قال ثم خرج رسول الله عليه السلام وعليه حلة حمراء، في الحديث دليل على أنه لا بأس بالتزين، ألا ترى أنه كان لرسول الله عليه السلام جبة حمراء من أدم، وفيه دليل على أنه لا بأس للإنسان أن يكون معه من يخدمه، ألا ترى أنه كان بلال مع رسول الله عليه السلام، وكان يقوم بخدمة وضوئه وغير ذلك، ولكن ينبغي أن يكلفه الخدمة قدر ما يطيق، وعن هذا قلنا: إنه لا بأس للإنسان أن يذهب راكباً حيث شاء وغلامه يمشي معه بعد أن كان يطيق ذلك، وإن كان لا يطيق ذلك فهو مكروه. بلغنا أن عثمان رضي الله عنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم (97أ2) راكباً، وغلامه يمشي مسرعاً، فكره ذلك رسول الله فقال: أولم تتركه في البيت، فأعتقه عثمان، وتأويله أنه

الفصل الثاني والعشرون في قتل المسلم والده المشرك، ومن بمعناه، وقتله سائر محارمه

كان لا يطيق، وقوله: خرج رسول الله عليه السلام وعليه حلة، إن كان ذلك قبل تحريم الإبريسم على الرجال، فلا حاجة إلى حمله على محمل، وإن كان بعد ذلك فالمراد من الحلة المنسوج من القطن، فإن العرب كانوا يسمون المنسوج من القطن حلة لجودته، وقوله حمراء إن كان قبل تحريم لبس المعصفر والمزعفر على الرجال فلا حاجة إلى تأويله وحمله على محمل، وإن كان بعد ذلك فهو محمول على لون القطن، يعني وعليه جبة منسوجة خير من قطن لونه أحمر. الفصل الثاني والعشرون في قتل المسلم والده المشرك، ومن بمعناه، وقتله سائر محارمه قال محمد رحمه الله: لا بأس بأن يقتل الرجل المسلم كل ذي رحم محرم من المشركين نبذوا به إلا الوالد خاصة، وإنما يكره له أن يترك والده بذلك، والأصل فيه قول الله تعالى: {قاتلوا المشركين كافة} (التوبة: 36) من غير فصل بين كافر وكافر لكن تركنا ظاهره في حق الوالد بالإجماع، وبنص آخر وهو قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف} (الإسراء: 32) ، والنهي عن التأفف نهي عن القتل بطريق الأولى، وتخصيص الوالد عن ظاهر ما تلونا لا يدل على تخصيص غير الوالد من الابن والأخ والعم والخال وأشباههم؛ لأنه اجتمع في حق الوالد حرمتان؛ حرمة القرابة وحرمة الأبوة، فإن للأب زيادة حرمة بسبب الأبوة ليست هي لغيره ممن له قرابة محرمة للنكاح، حتى لا يقتل الوالد بالولد، ولا يحبس بدينه، فخصص بالوالد عن ظاهر ما تلونا وله زيادة حرمة لا يدل على تخصيص غير الوالد، وليس له تلك الزيادة، وإذا ثبت هذا في الوالد ثبت في الوالدة من طريق الأولى؛ لأنه اجتمع في حقها ثلاث حرمات؛ حرمة القرابة، وحرمة الأمية، فإن للأم زيادة حرمة ليست لغيرها، حتى لا تقتل بولدها، ولا تحبس بدين الولد، والأنوثة، فإن الأنوثة مما يحرم القتل فيخصص الأب عن ظاهر الآية، وله حرمتان، فيكون مخصصاً للأم ولها ثلاث حرمات، فإن أثبت في هذا الحكم في حق الوالد والوالدة ثبت في حق الأجداد والجدات من قبل الأب والأم؛ لأنهم بمنزلة الآباء والأمهات، ألا ترى أنهم لا يقتلون بولد الولد، ولا يحبسون بدينه كالأب والأم. وهذا إذا لم يضطره الوالد إلى قتله فلا بأس بقتله إذا لم يمكنه الهرب منه؛ لأن ترك الأب حتى يقتله إهلاك نفسه والمأمور به في حق الابن شرعاً أن لا يتعرض للأب بشيء، ابتداءً لا إهلاك نفسه، وهذا كما نهينا عن قتل الصبي والشيخ الفاني من المشركين ابتداءً، ثم إذا جاء الاضطرار منهم بأن قصد واحد منهم مسلماً بالقتل، كان للمسلم (أن يقتله) وطريقه ما قلنا، وإذا ظفر بوالده في الصف فلا يقصده بالقتل، ولا يمكنه من الرجوع حتى لا يعود حرباً على المسلمين، ولكن يلجئه إلى موضع ويمسك به حتى يجيء غيره ويقتله، قال محمد رحمه الله: وهو أحب إلينا، هذا هو الكلام فيما بين المسلمين والمشركين.

الفصل الثالث والعشرون فيما يسع من الجراحات في بني آدم والحيوانات، وقتل الحيوانات، وما لا يسع من ذلك.

بقي الكلام بين أهل البغي، وبين أهل العدل، فنقول: لا ينبغي للعادل أن يبتدىء كل ذي رحم محرم من أهل البغي بالقتل؛ لأنه اجتمع في حق التناهي حرمتان؛ حرمة الإسلام، وحرمة القرابة، فكان نظير الأب المشرك الذي اجتمع فيه حرمة القرابة، وحرمة الأبوة، وهو نظير ما قالوا: لا ينبغي للمسلم أن يقتل كل ذي رحم محرم في الرحم، والخصومة بالأب لاجتماع الحرمتين، وهو حرمة الإسلام والقرابة. الفصل الثالث والعشرون فيما يسع من الجراحات في بني آدم والحيوانات، وقتل الحيوانات، وما لا يسع من ذلك. في «فتاوى أبي الليث» في امرأة حامل ماتت، وعليه أن ما في بطنها حي، فإنه يشق بطنها من الشق الأيسر، وكذلك إذا كان أكثر رأيهم أنه حي شق بطنها. في «القدوري» وفي نكاح «فتاوى أبي الليث» : البكر إذا جومعت فيما دون الفرج، فحبلت بأن دخل الماء فرجها، ودنا أوان الولادة، تزال عذرتها إما..... أو بطرف درهم؛ لأن بدونه لا يخرج الولد، ولو اعترض الولد في بطن حامل، ولم يوجد سبيل إلى استخراج ذلك إلا بقطع الولد إرباً إرباً، ولو لم يفعل ذلك يخاف الهلاك على الأم، فإن كان الولد ميتاً في البطن فلا بأس به، وإن كان حياً لا معنى لجواز القطع؛ لأن هذا قتل النفس لصيانة نفس آخر، والشرع لم يرد بمثله. وفي «القدوري» و «العيون» : رجل ابتلع درة لرجل، فمات المبتلع ولم يدع مالاً، قال: لا يشق بطنه وعليه القيمة، وذكر في أول الفصل الثاني من كتاب «الحيطان» : أنه يشق بطن المبتلع، وصورة ما ذكر في كتاب «الحيطان» : رجل ابتلع عشر دنانير رجل، ومات المبتلع يشق بطنه، فعلى ما ذكر في «الحيطان» لا يحتاج إلى الفرق بين المبتلع وبين المرأة الحامل إذا ماتت واضطرب في بطنها شيء، وعلى ما ذكر في «العيون» يحتاج إلى الفرق، والفرق الثاني مسألة المبتلع لو جوزنا الشق كان فيه إبطال حرمة الأعلى، وهو الأوفى لصيانة الأدنى وهو المال، ولا كذلك مسألة الحامل. وفي «البقالي» عن أبي يوسف أنه قال: أكره من طلب الصيد ما طلب منه للهو، قال: وأكره تعليم البازي بالطير الحي، يأخذه فيعذبه، وقال: ويعلم بالمذبوح، قال: ولا بأس بالحمار وغيره يكون به الداء ويكون صاحبها معها في.... ويعجز عن.... أن يذبحها، وعنه في الدابة تقطع يدها أو رجلها أنها إن كانت في مما يؤكل يذبحها وإلا عالجها، وعن بعض المتقدمين أنه لا بأس بقطع الألية من الشاة إذا كانت الألية بحالة يمنع بقاءها الشاة أن تلتحق بالقطيع وخيف عليها الذئب، وفي «فتاوى أبي

الليث» : رجل مضطر لا يجد ميتة خاف الهلاك، فقال له رجل: اقطع يدي وكلها، أو اقطع مني قطعة وكلها لا يسعه ذلك؛ لأنه ربما يؤدي إلى إتلافه. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل له كلب عقور في قرية، كل من مرَّ عليه عقره، فلأهل القرية أن يقتلوا هذا الكلب دفعاً لضرره، فإن عقر أحداً هل يجب الضمان على صاحبه؟ إن لم يتقدموا إليه قبل العض فلا ضمان عليه، وإن تقدموا إليه فعليه الضمان، بمنزلة الحائط المائل إذا سقط على إنسان، وفيه نظر. وفي «الواقعات» لا ينبغي للرجل أن يتخذ كلباً (97ب2) في داره إلا كلباً يحرس ماله؛ لأن كل دار فيها كلب لا يدخلها الملائكة، وفي «العيون» : قرية فيها كلاب كثيرة، ولأهل القرية منها ضرر يؤمر أرباب الكلاب بقتل الكلاب دفعاً للضرر عنهم، فإن أبوا رفعوا الأمر إلى الإمام حتى يأمرهم الإمام بذلك. وفي أضحية «النوازل» : رجل له كلاب لا يحتاج إليها ولجيرانه منها ضرر، فإن أمسكها في ملكه فليس لجيرانه منعه؛ لأنه يتصرف في ملكه، وإن أرسلها في السكة فلهم منعه، فإن امتنع رفعوا إلى القاضي أو إلى صاحب الحسبة حتى يمنعه عن ذلك، وكذلك من امتلك دجاجة أو جحشاً أو عجولاً في الرستاق، فهو على هذين الوجهين. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : الهرة إذا كانت مؤذية لا تضرب، ولا تفرك أذنها ولكنها تذبح بسكين حاد، وفي «فتاوى أهل سمرقند» : قتل الجراد يحل؛ لأنه صيد، لا سيما إذا كان فيه ضرر عام، وتكلم المشايخ في النملة، قال الصدر الشهيد: والمختار للفتوى أنها إذا ابتدأت بالأذى فلا بأس بقتلها، وإن لم تبتدىء يكره قتلها، والأصل في ذلك: ما روي أن نملة قرصت نبياً من الأنبياء، فأحرق بيت النملة، فأوحى الله تعالى هلاّ قتلت تلك النملة الواحدة، دليل على جواز قتلها عند الأذى، وعلى عدم الجواز عند انعدام الأذى، واتفقوا على أنه لا يجوز إلقاؤها في الماء، وقتل القملة يجوز على كل حال. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إحراق القمل والعقرب بالنار مكروه، جاء في الحديث: «لا يعذب بالنار إلا ربها» ، وطرحها حية مباح، ولكن يكره من حيث الأدب.... الذي يقال له بالفارسية: «تبله» يلقى في الشمس ليموت.... ولا يكون به بأس؛ لأن في ذلك منفعة للناس، ألا ترى أن السمكة تلقى في اليبس فتموت ولا يكون به بأس، ولا بأس بكيِّ الصبي إذا كان لداء أصابهم؛ لأن ذلك مداواة، ذكر في «واقعات الناطفي» ، وفيه أيضاً: لا بأس بثقب أذن الطفل من النعات، فقد صح أنهم كانوا يفعلون ذلك في زمن رسول الله عليه السلام من غير إنكاره.

الفصل الرابع والعشرون في تسمية الأولاد وكناهم

الفصل الرابع والعشرون في تسمية الأولاد وكناهم روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «سموا أولادكم أسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله تعالى؛ عبد الله، وعبد الرحمن» قال الفقيه أبو الليث: لا أحب للعجم أن يسموا عبد الرحمن عبد الرحيم؛ لأن العجم لا يعرفون تفسيره، فيسمونه بالتصغير، وروي عن النبي عليه السلام: أنه نهى أن يسمى المملوك نافعاً أو بركة، أو ما أشبه ذلك، قال الراوي:؛ لأنه لم يحب أن يقال: ليس ههنا بركة، ليس ههنا نافع إذا طلبه إنسان، وفي الأثر: «لا يقول الرجل عبدي وأمتي، بل يقول: فتاي وفتاتي» . وفي «الفتاوى» : التسمية باسم لم يذكره الله تعالى في كتابه ولا ذكره رسول الله عليه السلام، ولا استعمله المسلمون تكلموا فيه، والأولى أن لا تفعل. وروي إذا ولد لأحدهم ولد فمات، فلا يدفنه حتى يسميه إن كان ذكراً باسم الذكر، وإن كان أنثى فباسم أنثى، وإن كان لم يعرف فباسم يصلح لهما. وأما الكلام في الكنية فكان عادة العرب أنه إذا ولد لأحدهم ولد كان يكنى به، وامرأته كانت تكنى به أيضاً، يقال للزوج: أب فلان، ولامرأته: أم فلان، كما قيل: أبو سلمة، وامرأته أم سلمة، وأبو الدرداء، وامرأته أم الدرداء، وأبو ذر، وامرأته أم ذر، وكان الرجل لا يكنى له ما لم يولد له، ولو كنى ابنه الصغير بأبي بكر، أو غيره كره بعضهم، إذ ليس لهذا الابن ابن اسمه بكر ليكون هو أب بكر، وعامتهم على أنه لا يكره؛ لأن الناس يريدون بهذا التعالي أنه سيصير في ثاني الحال، لا التحقيق في الحال. ولا بأس بأن يكنى بكنية رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «سموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي» ، فقد قيل: إنه منسوخ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه سمى ابنه محمد وهو ابن الحنفية، وكناه أبو القاسم وقد كان استأذن منه. وعن عائشة رضي الله عنها: أن امرأة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني ولدت غلاماً فسميته محمداً وكنيته أبا القاسم، فذكر لي أنك تكره ذلك، فقال: «ما الذي حرم كنيتي وأحل اسمي» أو «ما الذي حلَّ اسمي، وحرم كنيتي» ، وعن محمد: أن من سمي باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكره أن يكنى بكنيته، ذكره في الكشف.

الفصل الخامس والعشرون في الغيبة والحسد

الفصل الخامس والعشرون في الغيبة والحسد ذكر في «العيون» : رجل اغتاب أهل قرية لم يكن غيبة حتى يسمي قوماً يعدون، وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل ذكر مساوىء أخيه المسلم على وجه الاهتمام فلا بأس به؛ لأن هذا ليس بغيبة، الغيبة أن يذكر ذلك مريداً البت والنقص، ولو كان الرجل يصلي ويضر الناس باليد واللسان لاغيبة في ذكره بما فيه لقوله عليه السلام: «اذكروا الفاجر بما فيه» وإن أعلم السلطان لزجره، فلا إثم عليه. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «لا حسد إلا في اثنين؛ رجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه في طاعة الله، ورجل آتاه الله علماً فهو يعلمه الناس ويقضي به» الحديث بظاهره دليل على إباحة الحسد في هذين؛ لأنه استثناء من التحريم إباحة، قال شيخ الإسلام: وليس الأمر كما يقتضيه ظاهر الحديث، والحسد حرام في هذين كما هو حرام في غيرهما، وإنما معنى الحديث؛ لا ينبغي للإنسان أن يحسد غيره، ولو حسد إنما يحسد في هذين لا لكون الحسد فيهما مباحاً، بل لمعنى آخر أن الإنسان إنما يحسد غيره عادة لنعمة يراها عليه، فيتمناها لنفسه، وما عدا هذين من أمور الدنيا ليس بنعمة؛ لأن مآل ذلك سخط الله، والنعمة ما يكون مآله رضا الله تعالى، وهذان مآلهما رضا الله فهما النعمة دون ما سواهما، ثم بعض مشايخنا قالوا: الحسد المذموم أن يرى على غيره نعمة، فيتمنى زوال تلك النعمة عن ذلك الغير، وكينونتها لنفسه، أما لو تمناها لنفسه فذلك لا يسمى حسداً، بل يسمى غبطة، وكان شيخ الإسلام يقول: لو تمنى تلك النعمة بعينها لنفسه يكون حراماً ومذموماً؛ لأنه بمعنى الزوال عن ذلك الغير، والأصل فيه قول الله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} (النساء: 32) ، أما إذا تمنى مثل ذلك لنفسه فلا بأس به، وذكر شمس الأئمة السرخسي في معنى الحديث أن الحسد مذموم (98أ2) بغير الحاسد إلا فيما استثني فهو محمود في ذلك، وإنه ليس بحسد على الحقيقة بل هو غبطة، والحسد أن يتمنى الحاسد أن يذهب بنعمة المحسود عنه، ويتكلف لذلك، ويعتقد أن تلك النعمة في غير موضعها، ومعنى الغبطة أن يتمنى لنفسه مثل ذلك من غير أن يتكلف، ويتمنى ذهاب ذلك عنه، أورد محمد رحمه الله هذا الحديث في «أدب القاضي» .

الفصل السادس والعشرون في دخول النساء الحمام، وفي ركوبهن على السروج

h الفصل السادس والعشرون في دخول النساء الحمام، وفي ركوبهن على السروج ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» عن عمر بن عبد العزيز: أنه كتب أن لا يدخل الحمام امرأة إلا نفساء أو مريضة، ولا تركب امرأة مسلمة على سرج، قوله: لا يدخل الحمام امرأة نهي على سبيل العموم، ولكن بصيغة الخبر، وقوله: إلا نفساء أو مريضة استثناءٌ لحالة العذر، ولا خلاف لأحد في إباحة الدخول لهن بهذه الأعذار. أما بعذر المرض فإن للحمام أثراً في إزالة بعض الأمراض، فكان يشبه التداوي بسائر المداواة، وقد أبيح لها في حالة العذر ما هو أشد من هذا، وهو كشف العورة للتداوي. وأما بعذر النفاس فلأنه نوع مرض، وقاس بعض مشايخنا الحيض على النفاس من حيث إنه مرض كالنفاس. وأما دخولهن الحمام بغير هذه الأعذار، فقد اختلف المشايخ في ذلك؛ بعضهم قالوا: لا يباح، وإليه مال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، ويستدل بهذا القائل بعموم قوله: لا يدخل الحمام امرأة، ويستدل أيضاً بامتناع محمد رحمه الله عن ردّ هذا الحديث عند ذكره، فإنه لم يقل: ولا نأخذ به، فدل أن ذلك قوله، ويؤيد ذلك قوله عليه السلام: «أيما امرأة وضعت جلبابها في غير بيت زوجها، فعليها لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين» ولما دخلت نساء ... على عائشة رضي الله عنها قالت: أنتن من اللاتي يدخلن الحمام؟ فقلن: نعم، فأمرت بإخراجهن وغسل موضع جلوسهن. وبعضهم قالوا: يباح إذا خرجت بإذن زوجها متعففة واتزرت حين دخلت الحمام، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي؛ وهذا لأن دخول الحمام إما لأجل الزينة، وهو بالنساء أليق منه بالرجال، أو للحاجة إلى الاغتسال، وحاجة المرأة إلى الحمام لذلك أشد من حاجة الرجال؛ لأن أسباب الاغتسال في حقهن أكثر، وهي لا تتمكن من الاغتسال في الحياض والأنهار، والرجل يتمكن من ذلك، فالإباحة في حق الرجل تدل على الإباحة في حق المرأة من طريق الأولى، فتأويل الأحاديث في التي تخرج بغير إذن الزوج غير متعففة. وقوله: ولا تركب امرأة مسلمة على سرج بظاهره، نهى النساء عن الركوب على السرج، وبه نقول وإنه خرج موافقاً لقوله عليه السلام: «لعن الله الفروج على السروج»

الفصل السابع والعشرون في البيع، والاستيام على سوم الغير

والمعنى في النهي من وجهين؛ أحدهما: أن هذا تشبه بالرجال، وقد نهين عن ذلك، الثاني: أن فيه إعلان الفتن وإظهارها للرجال، وقد أمرن بالستر، قالوا: وهذا إذا كانت شابة، وقد ركبت السرج والفرج، فأما إذا كانت عجوزاً أو كانت شابة إلا أنها ركبت مع زوجها بعذر بأن ركبت للجهاد، وقد وقعت الحاجة إليهن للجهاد، أو للحج أو للعمرة فلا بأس إن كانت مستترة، فقد صح أن نساء المهاجرين كنَّ يركبن الأفراس، ويخرجن للجهاد، فكان رسول الله عليه السلام يراهن و (لا) ينهاهن، وكذلك بنات خالد بن الوليد كن يركبن، ويخرجن للجهاد يسقين المجاهدين في الصفوف ويداوين الجرحى. الفصل السابع والعشرون في البيع، والاستيام على سوم الغير ذكر محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : أن بيع السرقين جائز عندنا؛ لأن السرقين منتفع به، وإن كان نجساً يجوز بيعه كالثوب النجس، بيان الانتفاع أن الناس اعتادوا إلقاء السرقين في الأراضي لاستكثار الريع من غير تكثير، وإذا ثبت أنه منتفع كان مالاً عرفاً وشرعاً، ولأجل ذلك الناس يحرزونه، ويجري الشح والضنة فيه، وإذا ثبتت المالية جاز البيع. ويكره بيع العذرة الخالصة؛ لأنها غير منتفع بها؛ لأن الناس لا يحرزونها ولا ينتفعون بها، وإنما ينتفعون بالمخلوط بالتراب، فالمخلوط بالتراب منتفع فيجوز البيع، أما غير المخلوط ليس يمنتفع فلا يجوز البيع، وهل يجوز استعمال العذرة الخالصة؟ فعن محمد رحمه الله أنه لا يجوز، وعن أبي حنيفة رضي الله عنه فيه روايتان. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» أيضاً: ولا بأس ببيع من يزيد وهو بيع الفقراء ومن كسدت بضاعته، والأصل فيه ما روي أن النبي عليه السلام باع حلساً وقدحاً ببيع من يزيد، ولأن الناس تعاملوا ببيع المزايدة في الأسواق من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من غير نكير. وإنما أورد هذه المسألة لإشكال، وهو أن الاستيام على سوم الغير منهي، قال عليه السلام: «لا يستام الرجل على سوم أخيه» وإذا أردت أن تعرف الفرق بين الاستيام على سوم الغير، وبين بيع المزايدة، فمعرفة ذلك بحرف، وهو أن صاحب المال إذا كان ينادي عن سلعته، فطلبه إنسان بثمن، فإن لم يكف عن النداء فلا بأس لغيره أن يزيد، ويكون

الفصل الثامن والعشرون في الرجل يخرج إلى السفر ويمنعه أبواه، أو أحدهما أو غيرهمامن الأقارب أو يمنعه الدائن، والعبد يخرج ويمنعه المولى والمرأة

هذا بيع المزايدة، ولا يكون استياماً على سوم الغير. وإن كف عن النداء، ويمكن إلى ما طلب منه ذلك الرجل، فليس للغير أن يزيد في ذلك، ويكون هذا استيام على سوم الغير، وإن كان الدلال هو الذي ينادي على السلعة فطلبه إنسان بثمن، وقال الدلال: حتى أسأل المالك فلا بأس للغير أن يزيد في هذه الحالة، فإن أخبر مالكه بذلك فقال: بعه واقبض الثمن، فليس للغير أن يزيد بعد ذلك، ويكون هذا استياماً على سوم الغير؛ وهذا لأن النهي عن الاستيام على سوم الغير لدفع الدهشة والرحمة، إنما يجعل إذا ركن قلب صاحب السلعة إلى ما طلب منه وعزم على بيعها بذلك أما قبل ذلك فلا. والدليل على صحة ما قلنا ما روي في حديث فاطمة بنت قيس أنها قالت: يا رسول الله عليك السلام إن معاوية وأبا الجهم يخطبانني فما ترى؟ فقال عليه السلام: «أما معاوية فصعلوك (98ب2) لا مال له، وأما أبو الجهم فلا يرفع عصاه عن أهله، انكحي أسامة بن زيد، ففعلت ووجدت منه خيراً كثيراً» ، فثبت بهذا الحديث صحة ما ذهبنا إليه من الفرق. وفي وديعة «العيون» : رجل اشترى جارية وهي لغير البائع، أو اشترى ثوباً وهو لغير البائع، فوطىء المشتري الجارية ولبس الثوب وهو لا يعلم، ثم علم فهل المشتري آثم؟ روي عن محمد أن الجماع واللبس حرام، إلا أنه يوضع عن المشتري الإثم، وقال أبو يوسف: الوطء حلال وهو مأجور في إتيان الجارية، وإذا تزوج امرأة ثم تبين أنها كانت منكوحة الغير، وقد وطئها الزوج الثاني، يجب أن تكون المسألة على الخلاف الذي (ما) ذكرنا. الفصل الثامن والعشرون في الرجل يخرج إلى السفر ويمنعه أبواه، أو أحدهما أو غيرهمامن الأقارب أو يمنعه الدائن، والعبد يخرج ويمنعه المولى والمرأة قال محمد رحمه الله في «السير» : ولا يخرج الرجل إلى الجهاد وله أب أو أم إلا بإذنه، إلا من النفير العام، والأصل في ذلك ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه سئل عن أفضل الأعمال، فقال: «الصلاة لوقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله» فهذا تنصيص على تقديم بر الوالدين على الجهاد، والمعنى أن الجهاد فرض عام ينوب البعض فيه عن البعض، وطاعة الوالدين وبرهما فرض خاص لا ينوب البعض فيه عن البعض، ولا شك أن الاشتغال بالفرض الخاص الذي لا ينوب البعض فيه عن البعض

أولى من الاشتغال بالفرض العام الذي ينوب عنه فيه غيره، وهذا استحسان أن يخرج بغير إذنهما. ولو أراد أن يخرح من بلدة إلى بلدة للتجارة أو للتفقه، وكان الطريق آمناً لا يخاف عليه الهلاك، فله أن يخرج من غير إذنهما قياساً واستحساناً. وجه القياس: أن الجهاد قبل النفير العام إما أن يعتبر فرض كفاية أو يعتبر تطوعاً، فإن اعتبرناه تطوعاً، للولد إقامة التطوعات بحق الصلاة والصوم بغير إذن الوالدين، وإن اعتبرناه فرض كفاية، فكذلك للولد إقامة ما هو فرض كفاية بغير إذن الوالدين كصلاة الجنازة ورد السلام وما أشبهه. وجه الاستحسان في ذلك ما روينا وما روي أن رجلاً قال لرسول الله عليه السلام: إني أريد الجهاد فقال له: «ألك أم» ؟ فقال: نعم، فقال له: «الزم أمك، فإن الجنة عند رجل أمك» يحتمل أن تكون الرواية بالجيم رجل أمك، ويحتمل أن تكون الرواية بالحاء رحل أمك، وروي أن رجلاً جاء إلى النبي عليه السلام وقال: جئت أجاهد معك، وتركت والديَّ يبكيان، فقال: «اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما» وقال عليه السلام: «ليعمل البار ما شاء فلن يدخل النار، وليعمل العاق ما شاء فلن يدخل الجنة» وقال عليه السلام: «من أصبح ووالداه راضيان عنه، فله بابان مفتوحان إلى الجنة» فتركنا القياس في الجهاد بهذه الآثار، وما ثبت بخلاف القياس لا يقاس عليه غيره والنص الوارد لاشتراط إذن الوالدين في حق الجهاد قبل مجيء النفير عاماً، وفي الخروج إلى الجهاد إفجاعهما وإلحاق المشقة بهم لما يخافان عليه من الهلاك بالقتل في الجهاد، لا يعتبر وارداً دلالة في صلاة الجنازة وردِّ السلام ولا في غيرهما من التطوعات، وهما لا يخافان عليه بسبب إقامة هذه العبادات، وإذا لم يعتبر وارداً فيهما دلالة رد صلاة الجنازة ورد السلام إلى مما يقتضيه القياس، ولا يعتبر وارداً أيضاً؛ لأنه بعد مجيء النفير العام؛ لأن الجهاد، حال مجيء النفير العام فرض عين في حق من قدر على الجهاد حتى لو ترك مع القدرة أثم، كما لو ترك الصلاة المفروضة والصوم المفروض، وقبل النفير العام الجهاد فرض كفاية حتى لو ترك مع القدرة لم يأثم كما لو ترك سائر التطوعات، وفرض العين فوق فرض الكفاية، فالنص الوارد باشتراط الإذن قبل النفير العام لا يصير وارداً بعد النفير العام؛ لأن النص يدل على مثله وعلى ما دونه، ولا يدل على ما فوقه، فرد هذه الحالة وهو ما بعد مجيء النفير العام إلى ما يقتضيه القياس، ولأن النفير إذا كان عاماً فكل واحد

من المسلمين مقصود بالقتل، فكان للولد الدفع عن نفسه بغير إذن الوالدين وإن كان في خروجه إفجاعهما، وإلحاق المشقة بهما؛ لأن الولد مضطر في ذلك، وصار كما لو قصد إنسان قتل الولد كان له دفعه عن نفسه بغير إذن الوالدين، فطريقه ما قلنا، فكذلك هذا بخلاف ما إذا لم يصر النفير عاماً؛ لأنه بالخروج إلى الجهاد لا يدفع القتل عن نفسه؛ لأن القتل لم يتجه عليه لا حقيقة ولا اعتباراً، فلا يضطر الولد في هذه الحالة إلى تفجيعهما وإدخال المشقة عليهما، وقد يمنع الولد من تفجيع الأبوين، ولهذا لا يقاد الوالد بقتل الولد، ولا يحبس بدينه ولا يحد حدَّ القذف بقذف الابن لما فيه من تفجيعهما، وإدخال المشقة عليهما، فلا يجوز له تفجيعهما بالخروج إلى الجهاد من غير ضرورة. وإذا خرج للتجارة أو للتفقه بفقه يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، وهكذا الجواب في العبد لا يخرج إلى الجهاد بغير إذن المولى إلا أن يقع النفير عاماً، والنص الوارد في الولد يكون وارداً في العبد دلالة، وذلك؛ لأن حق السيد في عبده أكثر من حق الوالدين في ولدهما؛ لأن للسيد حقيقة ملك في عبده، وليس للوالدين حقيقة ملك في رقبة ولدهما، ولا حق ملك وإنما لهما حق ملك في كسب ولدهما، وكما منع الولد من تفجيع والديه منع العبد من تفجيع مولاه حتى لا يقاد السيد بعبده كما لا يقاد الوالد بولده، فصار الجواب في العبد كالجواب فيما بين الولد والوالدين. فإن قيل: الولد إنما كان له الخروج بغير إذن والديه إذا جاء النفير عاماً؛ لأن منافع الولد غير مملوك للوالدين، فأما منافع العبد مملوك فهذا إنما يقاتل بملك غيره فلا يحل إلا بإذن صاحب المال. قلنا: نعم يقاتل العبد بمنافع مملوك للمولى بغير إذنه، إلا أن القتال بملك الغير بغير إذنه حالة الضرورة مباح، فيباح للعبد ذلك بغير إذن المولى. وإن كان له أبوان، وقد أذنا له بالخروج إلى الجهاد كان له الخروج؛ لأنه إنما منع من الخروج لحقهما، فإذا أذنا له بالخروج إلى الجهاد فقد زال المانع من الخروج فزال المنع، وكان كالعبد لا يخرج إلى الجهاد بغير إذن مولاه، وإذا أذن له مولاه بالخروج كان له الخروج؛ لأن المانع (99أ2) من الخروج قد زال، فكذلك هذا. وإن أذن له أحدهما، ولم يأذن له الآخر، فإنه لا يخرج؛ لأنه كان ممنوعاً من الخروج لحق كل واحد من الأبوين، فإذا أذن له أحدهما في الخروج إلى الجهاد، ولم يأذن الآخر، فالمانع من الخروج لم يزل بعد فيبقى المنع، وكان كعبد بين شريكين أذن له أحدهما في الخروج إلى الجهاد، ولم يأذن له المولى الآخر، لا يباح له الخروج؛ لأنه كان ممنوعاً عن الخروج لحق كل واحد من الموليين، فإذا أذن له أحدهما، ولم يأذن الآخر لم يزل المانع فيبقى المنع، والوالدان في سعة من أن.... إذا كان يدخلهما من ذلك مشقة شديدة؛ لأنهما يحملانه على ما هو الأقوى في حقه، وهو برهما، ثم إن

كره الوالدان أو أحدهما خروجه إلى الجهاد لا فرق بين أن يخاف ضيعة عليهما، بأن كانا معسرين، وكان نفقتهما عليه، أو لا يخاف عليهما الضيعة متى خرج بأن كانا موسرين، ولم تكن نفقتهما عليه، فإنه لا يباح له الخروج في الحالين استحساناً؛ لأنه منع من الخروج قبل إذنهما شرعاً لما يلحقهما من التفجيع بما يخافان عليه من القتل، وهذا المعنى لا يوجب الفصل، بينما إذا كان يخاف الضيعة عليهما أو لا يخاف فهو عليهما. هذا الذي ذكره كله إذا كان أبواه مسلمين، فأما إذا كان أبواه كافرين، أو أحدهما فاستأذنهما في الخروج إلى الجهاد فكرها له ذلك، أو كره الكافر منهما هل له أن يخرج؟ قال: فلينظر في ذلك، يريد بقوله: فلينظر في ذلك، أي فليتحر في ذلك، فإن وقع تحريه على أنه إنما كرها خروجه لما يلحقهما من التفجيع والمشقة لأجل ما يخافان عليه من القتل، فإنه لا يخرج؛ لأنه كما منع الولد عن إلحاق التفجيع لوالديه إذا كانا مسلمين، منع من إلحاق التفجيع بهما إذا كانا كافرين، ألا ترى أن الوالد المسلم كما لا يقاد بولده المسلم، لا يقاد بوالده الكافر، وكما لا يحبس الوالد المسلم بدين ولده المسلم، لا يحبس الوالد الكافر بدين ولده المسلم، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وصاحبهما في الدنيا معروفاً} (لقمان: 15) والوالد الكافر في هذا والمسلم سواء. فأما إذا وقع تحريه على أنه إنما كرها خروجه للجهاد كراهة أن يقاتل مع أهل دينه وملته لا لما يلحقهما من التفجيع والمشقة لأجل ما يخافان عليه من قتله كان له الخروج بغير إذنهما؛ لأنهما نهياه عن مقاتلة أهل الكفر، والنهي عن مقاتلة أهل الكفر معصية، ولا يجب طاعة المخلوق في معصية الخالق، قال الله تعالى: {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} ، وقال عليه السلام: «لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق» فكان له أن يخرج بغير إذنهما إلا أن يخاف الضيعة عليهما، فإذا خاف الضيعة عليهما لا يسعه الخروج؛ لأن صيانتهما عن الضياع فرض عليه عيناً بحيث لا يسعه تركهما وإن كانا كافرين، ألا ترى أنه يلزمه نفقتهما صيانة لهما عن الضياع، والقتال مع الكفرة قبل النفير عاماً مما لا يسعه فإنه مخير في هذه الحالة بين أن يخرج وبين أن لا يخرج، ولا شك أن الاشتغال بما لا يسع تركه أولى من الاشتغال بما يسع تركه. ولم يذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» أنه إذا تحرى، ولم يقع تحريه على شيء بل شك في ذلك، ولم يترجح أحد الظنين على الآخر أنهما كرها خروجه لما لا يلحقهما من التفجيع والمشقة لأجل ما يخافان عليه من قتله أو كرها خروجه لما فيه من القتال مع أهل دينهما، قالوا: وعلى ما ذكر محمد رحمه الله في «السير» في باب طاعة الوالي، يجب أن لا يخرج، فقد ذكر في باب طاعة الوالي أن الأمير إذا أمر الجند بشيء وشكوا أنهم ينتفعون به أو يتضررون به وتساوى الظنان، قال: عليهم أن يطيعوا الأمير ولا يسعهم

خلافه؛ لأن طاعة الأمير واجب عليهم بيقين ووقع الشك في سقوطه، فلا يسقط عنه بالشك، كذا طاعة الولد للوالدين فيما يأمرانه واجبة عليه بيقين ووقع الشك في سقوطه فلا يسقط بالشك، فإن كرها خروجه لكراهة قتاله مع أهل دينه، ولأجل المشقة عليه أيضاً لم يخرج لوجود المعنى المانع عن الخروج، وهو الخوف والمشقة عليه. وإن كان له أبوان مسلمان أو كافران، وأذنا له في الخروج، وله جدان وجدتان؛ فكرها خروجه فليخرج، ولا يلتفت إلى كراهة الجدين والجدتين حال قيام الأبوين؛ لأن الأجداد والجدات حال قيام الأبوين ألحقوا شرعاً بالأخوة والأخوات ولم يلحقوا بالأبوين، ألا ترى أن الجد لا يلي على حافده لا في النفس ولا في المال حال قيام الأب، ولا يكون للجدة حق الحضانة حال قيام الأم، كما لا يكون للأخت..... بالأخ والأخت حال قيام الأبوين، فكما لا يعتبر كراهة الأخوة والأخوات في الخروج إلى الجهاد بعد وجود إذن الأبوين لا يعتبر كراهة الجد والجدة حال قيام الأبوين بعد وجود الإذن منهما. فأما إذا كان الأبوان ميتين، وكان له جد من قبل الأب وجدة من قبل الأم أم الأم، لا يخرج إلا بإذنهما؛ لأن الجد بعد موت الأب بمنزلة الأب لا بمنزلة الأخ، ألا ترى أنه في حق الولاية على حافده قائم مقام الأب، فكذا في حق الإذن بالجهاد، والجدة أم الأم بعد موت الأم بعد موت الأم قامت مقام الأم في حق الحضانة، فكذا في حق الإذن بالجهاد تقوم مقام الأم، وإذا قاما مقام الأبوين لم يخرج إلا بإذنهما، كما لا يخرج إلا بإذن الأبوين. وإن كان له جدان؛ أحدهما من قبل الأب والآخر من قبل الأم أب الأم، وجدتان إحداهما من قبل الأم أم الأم، والأخرى من قبل الأب أم الأب، فالإذن إلى أب الأب وإلى أم الأم، ولا عبرة للآخرين، ألا ترى أن الآخرين صارا محجوبين بأب الأب، وأم الأم في حق الولاية والحضانة بالأخ والأخت لا بالأبوين، كذا في حق الإذن يصيران محجوبين بهما، ويلحقان بالأخ والأخت، فيعتبر إذن أب الأب، وأم الأم وكذا ههنا لهذا، فإن لم يأذن له اللذان ذكرنا وهو الجد من قبل الأب، والجدة من قبل الأم، وأذن له الآخران، قال محمد في «الكتاب» : لا يعجبني أن يخرج، وكان المقام أحب إلي من الخروج، فلم تثبت الكراهة ههنا لحق الجد من قبل الأب، والجدة من قبل الأم، ولكن جعل المقام أحب من الخروج. وفيما إذا كان له أبوان وجدان وجدتان، فلم يأذن له الأبوان، وأذن له الجدان (99ب2) والجدتان أثبت الكراهة، فقال: لا ينبغي أن يخرج، وإنما فعل هكذا؛ لأن الأبوين أقرب من الجدود والجدات، ولارتفاع درجة الأبوين أثبت الكراهة إذا لم يأذنا له في الخروج، ولانحطاط درجة الأجداد والجدات لم نثبت الكراهة إذا لم يأذن له الجد من قبل الأب، والجدة من قبل الأم بعد وجود الإذن من الجد من قبل الأم.

فإن لم يكن له جدة من قبل الأم أب الأم، فإنه لا يخرج للجهاد إلا بإذنهما، وإن أذن له أحدهما، ولم يأذن له الآخر، فإنه لا يخرج، علل محمد رحمه الله في «الكتاب» وقال: لأنهما بمنزلة الوالدين إذا لم يكن له والدين يريد بذلك والله أعلم أن أم الأب حال عدم الأم، والجدة من قبل الأم بمنزلة الأم، وليست بمنزلة الأخت في حق الحضانة حتى كانت أم الأب أولى بالحضانة حال عدم الأم، والجدة من قبل الأم ... من الأخت؛ فكذا في حق الإذن في الجهاد تكون بمنزلة الأم، ولم تكن بمنزلة الأخت، ولا يخرج إلى الجهاد بغير إذن الأم، فكذا لا يخرج بغير إذن أم الأم، والجد من قبل الأم أب الأم حال عدم الأب، والجد من قبل الأب إن لم يكن بمنزلة الأب في حق الولاية عليه بالنفس والمال، فهو بمنزلة الأب لا بمنزلة الأخ في حق الحبس حتى لا يحبس أب الأم بدين وجب لولد البنت عليه، ولا يقتص بقصاص وجب لولد البنت عليه، ولو قذف ولد البنت فإنه لا يحد حد القذف، فكان في هذه الأحكام بمنزلة الأب لا بمنزلة الأخ، فكذا في حق الإذن بالجهاد. فإن كان له جد من قبل أب وأم، ولم يكن له أب، فإنه لا يخرج إلا بإذن الأم، وإذن الجد؛ لأن الجد من قبل الأب حال عدم الأب بمنزلة الأب في حق الولاية حتى كانت الولاية إلى الجد من قبل الأب في حق النفس والمال جميعاً حال عدم الأب، فلا يخرج إلا بإذنهما، كما لا يخرج إلا بإذن الأبوين. وإن لم يكن له أم، وكانت له جدة من قبل الأم، وجدة من قبل الأب فأذنت له الجدة من قبل الأم، ولم تأذن له الجدة من قبل الأب فلا بأس بأن يخرج؛ لأن الجدة من قبل الأب حال قيام الجدة من قبل الأم بمنزلة الأخت في حق الحضانة والتربية حتى كان حق الحضانة إلى الجدة من قبل الأم، ولم يكن للجدة من قبل الأب كما لا يكون للأخت، فكذا في حق الإذن بالجهاد. ولو كان له أم وأخت، فأذنت له الأم بالجهاد، ولم تأذن له الأخت كان له أن يخرج فكذا هذا. فإن كانت له أم وجدات، فأذنت له الأم فلا بأس بأن يخرج؛ لأن الجدات حال قيام الأم بمنزلة الأخوات في حق الحضانة حتى لم يكن لهن حق الحضانة حال وجود الأم، كما لا يكون للأخوات، فكذا في حق الإذن بالجهاد قامت الجدات مع الأم مقام الأخوات.h وكذا إذا كان له أب وأجداد، فأذن له الأب فلا بأس بأن يخرج، ثم قال: وذلك؛ لأن الأجداد حال وجود الأب بمنزلة الإخوة لا بمنزلة الأب في حق الولاية والميراث، فكذا في حق الإذن في الجهاد. قال: وكل سفر أراد الرجل أن يسافر غير الجهاد لتجارة أو لحج أو عمرة، فكره ذلك أبواه له أن يخرج بغير إذنهما، فهذا على وجهين: أما إن كان لا يخاف الضيعة

عليهما، فإن كانا موسرين، ولم تكن نفقتهما عليه، أو كان يخاف الضيعة عليهما بأن كانا معسرين، وكانت نفقتهما عليه، وكان السفر سفراً يخاف على الولد الهلاك فيه؛ كركوب السفينة في البحر، وكاجتياز البادية ماشياً في الحر الشديد، أو كان سفراً لا يخاف على الولد الهلاك فيه، فإن كان يخاف الضيعة عليهما، فإنه لا يخرج بغير إذنهما سواء كان السفر سفراً يخاف على الولد الهلاك فيه، أو لا يخاف، وذلك؛ لأن صيانتهما عن الهلاك بالإنفاق عليهما فرض عليه حتى يجبر على ذلك، والخروج للتجارة وللكسب مباح، والخروج للعمرة تطوّع، وللحج إن كان حجة الإسلام تطوع إذا لم يكن له مال يفي بالزاد والراحلة، ونفقة من يلزمه نفقته إلى أن يذهب إلى الحج ويجيء، وهنا ماله لا يفي بالكل حتى خاف الضياع عليهما فلا يفرض عليه الخروج للحج، ويكون بمنزلة حج التطوع، ولا يجوز الاشتغال بالتطوع والمباح، إذا تضمن ترك فرض. فعلى هذا قالوا: لا يباح له الخروج للتفقه بغير إذن والديه إذا كان يخاف الضيعة عليهما، فأما إذا كان لا يخاف الضيعة عليهما متى خرج هل له أن يخرج بغير إذنهما؟ إن كان السفر سفراً لا يخاف على الولد الهلاك فيه كان له أن يخرج بغير إذنهما؛ لأن القياس أن يخرج في الجهاد بغير إذنهما لقوله تعالى: {اقتلوا المشركين} (النساء: 66) ولقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} (التوبة: 29) إلا أنا تركنا القياس في الجهاد بالنص، والنص الوارد في الجهاد بخلاف القياس، وفيه تفجيعهما وإلحاق المشقة بهما، لأجل ما يخافان الهلاك على ولدهما في الجهاد يعتبر وارداً دلالة في سفر لا يخافان الهلاك عليه، فيرد هذا إلى ما يقتضيه القياس، ولأن الخروج للتجارة خروج للتكسب، ولا بد للولد من التكسب لإصلاح معيشته، فإنه متى ترك ذلك ربما يحوجه ذلك إلى ما فيه مذلة، وهو السؤال من غيره من الناس، أو يلقيه في المهالك بأن يوقعه في السرقة، ألا ترى أن له الخروج إلى ضيعته للزراعة، وإلى سوقه للتجارة وإن لم يأذنا فيه كذا ههنا. وإن كان سفراً يخاف عليه الهلاك، فإنه لا يخرج إلا بإذنهما؛ لأنه إذا كان سفراً يخاف عليه الهلاك كان بمنزلة الجهاد، ولا يخرج في الجهاد إلا بإذنهما، فكذلك هذا، وكذا الجواب فيما إذا خرج للتفقه إلى بلدة أخرى إن كان لا يخاف عليه الهلاك بسبب هذا الخروج كان بمنزلة السفر للتجارة، وإن كان يخاف عليه الهلاك كان بمنزلة الجهاد، وهذا إذا خرج للتجارة إلى مصر من أمصار المسلمين، فأما إذا خرج للتجارة إلى أرض العدو بأمان فكرها خروجه، فإن كان أمراً لا يخاف عليه منه وكانوا قوماً يوفون بالعهد (و) يعرفون بذلك (100أ2) وله في ذلك منفعة فلا بأس بأن يعصيهما؛ لأن أرض الحرب والحالة هذه من حيث الأمن بمنزلة أرض الإسلام، فكان الخروج إليها للتجارة، والخروج إلى مصر من أمصار المسلمين سواء، وإن كان يخرج في تجارة إلى أرض العدو ومع عسكر من عساكر المسلمين، فكره ذلك أبواه أو أحدهما، فإن كان ذلك العسكر عسكراً عظيماً مثل أهل الصائفة ونحوهم لا يخاف عليهم من العدو عليه أكثر الرأي، فلا بأس بأن يخرج؛ لأن الجيش إذا كان عظيماً، فالظاهر أنهم ينتصرون وينتصفون من

عدوهم، ولا يضيع من كان معهم فلا بأس بأن يخرج معهم، ويكون الخروج للتجارة إلى أرض العدو معهم والخروج إلى مصر من أمصار المسلمين سواء. وإن كان يخاف على أهل العسكر من العدو بغالب الرأي كان بمنزلة الجهاد فلا يخرج بغير إذنهما، وكذلك إذا كانت سرية أو جريدة جند ونحوها، فإنه لا يخرج إلا بإذنهما؛ لأن الغالب هو الهلاك في السرايا، فكان بمنزلة الجهاد، هذا الذي ذكرنا في الوالدين والأجداد والجدات. فأما من سواهم من ذي الرحم المحرم كبناته وبنيه، وإخوته وعماته وأخواله وخالاته، وكل ذي رحم محرم منهم إذا كرهوا خروجه للجهاد، وكان يشق ذلك عليهم هل له أن يخرج بغير إذنهم؟ إن كان يخاف عليهم الضيعة بأن كان نفقتهم عليه، بأن لم يكن لهم مال، وكانوا صغاراً أو صغائر، أو كن كبائر إلا أنه لا أزواج لهن، أو كانوا كباراً زمنى لا حرفة لهم، فإنه لا يخرج بغير إذنهم لما ذكرنا في الوالدين، وإن كان لا يخاف عليهم الضيعة بأن لم تكن نفقتهم عليه، بأن كان لهم مال، أو لم يكن لهم مال إلا أنهم كبار أصحاء، أو كبار لهن أزواج، كان له أن يخرج بغير إذنهم؛ لأن القياس في الوالدين أن يخرج بغير إذنهما، إلا أنَّا تركنا القياس في الوالدين بالأثر بخلاف القياس، والنص الوارد في الوالدين بخلاف القياس، ولهما من الحرمة ما ليس لغيرهما من ذي الرحم المحرم حتى لم يحبسوا بدين أولادهم، ولم يقتصوا بقتل أولادهم، ولم يحدوا حد القذف لأولادهم، لا يعتبر وارداً دلالة فيما عدا الوالدين من ذي الرحم المحرم، وليس لهم هذه الحرمة، فيردون إلى ما يقتضيه القياس. وأما امرأته إن كان يخاف الضيعة عليها، فإنه لا يخرج إلا بإذنها؛ لأن عليه نفقتها كما في الوالدين وغيرهما من ذي الرحم المحرم، وإن كان لا يخاف عليها الضيعة كان له الخروج بغير إذنها. وإن شق ذلك عليها، وترك القياس في الوالدين لا يوجب ترك القياس في المرأة، وليس للمرأة من الحرمة ما للوالدين. قال محمد رحمه الله: إذا جاء النفير، فقيل لأهل مدينة أو مصر قريب من العدو، وقد جاء العدو يريدون أنفسكم وذراريكم وأموالكم، فلا بأس بأن يخرج الرجل بغير إذن والديه، وإن نهياه فلا بأس بأن يعصيهما إذا كان ممن يقدر على الجهاد، وقد ذكرنا هذا، وليس للوالدين أن ينهيا الولد عن الخروج في هذه الحالة؛ لأن القتال في هذه الحالة فرض عين، وليس لهما أن ينهيا الولد عما هو فرض عين، وهذا إذا كان بالولد قوة القتال أو يحصل بخروجه قوة للمسلمين. فأما إذا لم يكن له قوة القتال ولا يحصل بخروجه قوة للمسلمين، فإنه لا يخرج إلا بإذنهما؛ لأن الجهاد بعد النفير العام إنما يفترض على القادر، أو على أن يحصل بخروجه قوة للمسلمين إن كان يقدر على القتال، ولا يجب على العاجز؛ لأن العجز مما يسقط الفرائض، فإذا كان لا يفترض عليه حالة العجز كان الجواب في حقه بعد مجيء النفير كالجواب في حق القادر قبل مجيء النفير العام كان لا يخرج القادر إلا بإذنهما، فكذلك هذا. ثم الجهاد بعد مجيء النفير العام لا يفترض على جميع أهل الإسلام شرقاً وغرباً

الفصل التاسع والعشرون في القرض ما يكره من ذلك، وما لا يكره

فرض عين وإن بلغهم النفير، وإنما يفترض فرض عين على من كان يقرب من العدو، وهم يقدرون على الجهاد، فأما على من وراءهم يبعد من العدو، فإنه يفرض عليه فرض كفاية لا فرض عين حتى يسعهم تركه إذا لم يحتج إليه، فأما إذا احتيج إليه بأن عجز من كان يقرب من العدو من المقاومة مع العدو، أو لم يعجزوا عن المقاومة إلا أنهم تكاسلوا ولم يجاهدوا، فإنه يفترض على من يليهم فرض عين كالصوم والصلاة ولا يسعهم تركه، ثم إلى أن يفترض على جميع أهل الإسلام شرقاً وغرباً، على هذا الترتيب والتدريج، ونظيره الصلاة على الميت، فإن من مات في ناحية من نواحي البلدة، فعلى جيرانه وأهل محلته أن يقوموا بأسبابه، وليس على من كان يبعد على الميت أن يقوم بذلك، وإن كان الذي يبعد منه يعلم أن أهل المحلة يضيعون حقوقه، أو يعجزون عنه، فعلى الذين يبعدون منه أن يقوموا به، كذا ههنا. ثم يستوي أن يكون عدلاً أو فاسقاً يقبل خبره في ذلك؛ لأن هذا خبر ينتشر ويشتهر في المسلمين في الحال، وكذا الجواب في منادي السلطان يقبل خبره عدلاً كان أو فاسقاً. ثم استشهد في «الكتاب» لإيضاح ما تقدم فقال: ألا ترى أن رجلاً لو قطع الطريق على رجل ليأخذ ماله، أو ليقتله، أو أراد امرأة ليفجر بها، وقد حضر ذلك رجل يظن أن به قوة عليه أو أنه ينتصف منه، لم يسعه إلا أن يمنع المظلوم ممن يريد الظلم عليه، وإن كان مع الرجل الذي يريد أن يعينه أبواه فنهياه عن ذلك، فليس ينبغي له أن يطيعهما، ولا يسعهما أن يمنعاه إلا أن يكون به قوة عليه، فإن كان كذلك فليطعهما، وإنما ينبغي طاعة الوالدين في التطوع الذي يسع تركه، فنفاذ برهما أفضل من الجهاد التطوع، فإذا جاءت الفريضة والأمر الذي لا يسع الرجل فيه إلا أن ... لم يلتفت في هذا إلى طاعة الوالدين، وكانت طاعة الله تعالى أحقّ أن يؤخذ بها من طاعة الوالدين. ولا تسافر المرأة من غير محرم ثلاثة أيام فما فوقها، واختلفت الروايات فيما دون ذلك، قال أبو يوسف: أكره لها أن تسافر يوماً بغير محرم، وهكذا روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وقال الفقيه أبو جعفر: اتفقت الروايات في الثلاث، فأما ما دون ذلك (100ب2) قال الفقيه أبو جعفر: هو أهون من ذلك، وقال حماد: لا بأس للمرأة أن تسافر بغير محرم مع الصالحين، والصبي والمعتوه ليسا بمحرمين، والكبير الذي يعقل محرم. الفصل التاسع والعشرون في القرض ما يكره من ذلك، وما لا يكره ذكر محمد رحمه الله في كتاب الصرف عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه كان يكره كل قرض فيه جر منفعة، قال الكرخي: هذا إذا كانت المنفعة مشروطة في العقد، وذلك

الفصل الثلاثون في ملاقاة الملوك، والتواضع لهم، وتقبيل أيديهم، أو يدغيرهم، وتقبيل الرجل وجه غيره، وما يتصل بذلك.

بأن أقرضه غلته ليرد غلته صحاحاً أو ما أشبه ذلك، وإن لم يكن مشروطاً فأعطاه المستقرض أجود مما عليه فلا بأس به، وكذلك إذا أقرض رجلاً دراهم أو دنانير ليشتري المستقرض من المقرض متاعاً بثمن غالٍ فهو مكروه، وإن لم يكن شراء المتاع مشروطاً في القرض، ولكن المستقرض اشترى من المقرض بعد القرض متاعاً بثمن غالٍ، فعلى قول الكرخي لا بأس به، وذكر الخصاف في «كتابه» ، وقال: ما أحب له ذلك، وذكر شمس الأئمة الحلواني أنه حرام؛ لأن هذا قرض جر منفعة؛ لأنه يقول: لو لم أشتره منه طالبني بالقرض في الحال. وذكر محمد رحمه الله في كتاب الصرف: أن السلف كانوا يكرهون ذلك، إلا أن الخصاف لم يذكر الكراهة، إنما قال: (ما) أحب له ذلك، فهو قريب من الكراهة، ولكنه دون الكراهة، ومحمد رحمه الله لم يرَ بذلك بأساً، فإنه قال في كتاب الصرف: المستقرض إذا أهدى للمقرض شيئاً لا بأس به من غير فصل، فهذا دليل على أنه رفض قول السلف، قال شيخ الإسلام: ما نقل عن السلف فذاك محمول على ما إذا كانت المنفعة وهو شراء المتاع في مسألتنا بثمن غال مشروط في الاستقراض، وذلك مكروه بلا خلاف، وما ذكر محمد رحمه الله محمول على ما إذا لم تكن المنفعة وهي الإهداء مشروطة في القرض، وذلك لا يكره بلا خلاف، هذا إذا تقدم الإقراض على البيع. فأما إذا تقدم البيع على الإقراض؛ وصورة ذلك: رجل طلب من رجل أن يعامله بمائة دينار، فباع المطلوب منه المعاملة من الطالب ثوباً قيمته عشرون ديناراً، بأربعين ديناراً، ثم أقرضه ستين ديناراً على صار للمقرض على المستقرض مائة دينار، وحصل للمستقرض ثمانون ديناراً، ذكر الخصاف رحمه الله: أن هذا جائز، وهذا مذهب محمد بن سلمة إمام بلخ، فإنه روي أنه كان له سلع، فكان إذا استقرض إنسان منه شيئاً كان يبيعه أولاً سلعة بثمن غالٍ، ثم يقرضه بعض الدنانير إلى تمام حاجته. وكثير من مشايخ بلخ كانوا يكرهون ذلك، وكانوا يقولون: هذا قرض جر منفعة، فإنه لولا ذلك القرض كان لا يتحمل المستقرض غلاء ثمن الثوب، فكان قرضاً جر منفعة، ومن المشايخ من قال: إن كانا في مجلس واحد يكره، وإن كانا في مجلسين مختلفين لا بأس به؛ لأن المجلس الواحد يجمع الكلمات المتفرقة، فكأنهما واحد من المنفعة المشروطة في القرض، وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني يفتي بقول الخصاف، وبقول محمد بن سلمة، ويقول: هذا ليس بقرض جر منفعة، هذا بيع جر منفعة وهو القرض. الفصل الثلاثون في ملاقاة الملوك، والتواضع لهم، وتقبيل أيديهم، أو يدغيرهم، وتقبيل الرجل وجه غيره، وما يتصل بذلك. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: من قبل الأرض بين يدي السلطان أو أمير، أو سجد له، فإن كان على وجه التحية لا يكفر، ولكن يصير آثماً مرتكباً الكبيرة، أما لا

يكفر؛ لأن السجدة على وجه التحية نفسها ليس بكفر، ألا ترى أن السجدة لغير الله تعالى على سبيل التحية كانت مباحة في الابتداء، والكفر لم يبح في زمان، والدليل على صحة ما قلنا أن الله تعالى أمر الملائكة بسجدة آدم عليه السلام، ولا يجوز أن يكون الكفر مأموراً به. ثم تكلم العلماء أن سجدة الملائكة كانت لمن؟ بعضهم قالوا: كانت لله تعالى، ولكن التوجه إلى آدم كان تشريفاً وتكريماً لآدم، ألا ترى أنه تستقبل الكعبة في الصلاة، والصلاة تكون لله تعالى، والتوجه إلى الكعبة لتشريف الكعبة، كذا ههنا، وقال بعضهم: لا بل كانت السجدة لآدم على وجه التحية والإكرام له، ثم نسخ ذلك بقوله عليه السلام: «لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» أما الإثم فلأنه ارتكب ما هو محرم ومنهي عنه، وارتكاب المحرم يوجب الإثم. والدليل على صحة ما قلنا مسألة ذكرها في «واقعات الناطفي» . وصورتها: إذا قال أهل الحرب لمسلم: اسجد للملك وإلا قتلناك، فالأفضل له أن لا يسجد؛ لأن هذا كفر صورة، والأفضل للإنسان أن لا يأتي بما هو كفر صورة إن كان في حالة الإكراه، وإن أراد أن يسجد بنية التحية فالأفضل له أن يسجد؛ لأن هذا ليس بكفر، فهذه المسألة تؤيد ما ذكرنا فيمن سجد للسلطان على وجه التحية أنه لا يكفر، هذا إذا سجد بنية التحية، وإن سجد بنية العادة للسلطان أو لم تحضره النية، فقد كفر هذا هو الكلام في السجدة. جئنا إلى الانحناء للسلطان أو لغيره، وإنه مكروه؛ لأنه تشبه بفعل المجوس. وأما الكلام في تقبيل اليد، فإن (قدم) يد نفسه لغيره فهو مكروه؛ لأن ذلك من فعل الفساق، وإن قبل يد غيره، أو قبل يد عالم أو سلطان عادل لعلمه وعدله لا بأس به، هكذا ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» ، وقد صح أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخذ بركاب زيد بن ثابت رضي الله عنه، فقال زيد: مهلاً يا ابن عم رسول الله، فقال عبد الله: هكذا كنا نصنع بعلمائنا من أكابر أصحاب رسول الله، فلما استوى زيد بن ثابت على بغلته، فقال لابن عباس: ناولني يدك فناوله، فقبل زيد يده، وقال: هكذا نصنع بأهل بيت رسول الله عليه السلام، فهذا يدلك على أنه لا بأس بتقبيل يد غيره لعلمه أو شرفه، وقد حكي عن سفيان أنه سمى تقبيل يد العالم، والسلطان العادل سنة، فقال له عبد الله بن المبارك: ومن يحسن هذا غيرك. وإن قبل يد غير العالم، وغير السلطان العادل أراد به تعظيم المسلم وإكرامه فلا بأس به، وإن أراد به عبادة له أو يسأل منه شيئاً من عرض الدنيا فهو مكروه، وكان الصدر الشهيد يفتي بالكراهة في هذا الفصل من غير تفصيل، وعن علي الرازي أنه قال: كنا

الفصل الحادي والثلاثون في الانتفاع بالأشياء المشتركة

ندخل على المأمون ونقبل يده، وبشر يقول: هذا فسق. وأما الكلام في تقبيل الوجه؛ حكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه قال: لا بأس بأن يقبل الرجل الرجل إذا كان فقيهاً (101أ2) أو عالماً أو زاهداً، يريد بذلك إعزاز الدين، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بين عيني عمران بن مطعوم بعد موته، وقبل أبو بكر رضي الله عنه جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، وذكر في «الجامع الصغير» : ويكره أن يقبل الرجل وجه آخر أو جبهته أو رأسه. رجل يختلف إلى رجل من أهل الباطل والشر ليدفع ظلمه وشره عن نفسه، فإن كان هذا الرجل مشهوراً ممن يقتدى به يكره؛ لأنه إذا كان يختلف إليه يظن أنه يرضى بأمره، فكان فيه مذلة أهل الحق، وإن لم يكن مشهوراً يقتدى به لا بأس به إن شاء الله تعالى؛ لأنه عري عن هذا المعنى. رجل يدعوه الأمير فيسأله عن أشياء، فإن تكلم بما يوافق (الحق) يناله المكروه، لا ينبغي أن يتكلم بخلاف الحق، لقوله عليه السلام: «من تكلم عند ظالم بما يرضيه بغير حق، يغير الله تعالى قلب الطالب عليه، ويسلطه عليه» وهذا إذا لم يخف القتل أو تلف بعض جسده، أو أخذ ماله، فإن خاف ذلك لا بأس بذلك؛ لأنه مكره عليه معنى. الفصل الحادي والثلاثون في الانتفاع بالأشياء المشتركة ذكر في وديعة «العيون» و «الواقعات» : الأرض أو الكرم إذا كان بين حاضر وغائب، أو بين بالغ ويتيم أن الحاضر أو البالغ يرفع الأمر إلى القاضي، ولو لم يرفع الأمر إلى القاضي ففي الأرض يزرع بحصته ويطيب له وفي الكرم يقوم عليه، فإذا أدركت الثمرة يبيعها ويأخذ حصته، ويوقف حصة الغائب وسع له ذلك إن شاء الله تعالى، فإذا قدم الغائب؛ فإن شاء ضمنه القيمة، وإن شاء أجازه، وذكر عن محمد رحمه الله في موضع آخر؛ لو أن الشريك أخذ حصته من الثمرة وأكلها جاز له، ويبيع نصيب الغائب ويحفظ ثمنه، فإن حضر صاحبه وأجاز فعله يجيزه، وإلا ضمنه قيمته، وإن لم يحضر فهو كاللقطة يتصدق بها، قال الفقيه أبو الليث: وهذا استحسان وبه نأخذ. قال: ولو أدى الخراج كان متطوعاً، وذكر محمد في شروط «الأصل» في الدار إذا كانت مشتركة، وأحد الشريكين غائب، فأراد الحاضر أن يسكنها إنسان، أو يؤاجرها

إنساناً، قال: فيما بينه وبين الله تعالى فلا ينبغي له ذلك؛ لأنه يتصرف في نصيبه ونصيب شريكه، والتصرف في ملك الغير حرام حقاً لله تعالى، وحقاً لصاحب الملك، وفي القضاء لا يمنع من ذلك؛ لأن الإنسان لا يمنع عن التصرف فيما بيده إذا لم ينازعه أحد، فإن أجر وأخذ الأجر ينظر إلى حصة نصيب شريكه من الأجر، ويرد ذلك عليه إن قدر، وإلا يتصدق؛ لأنه تمكن فيه خبث لحق شريكه، وكان كالغاصب إذا أجر، وقبض الأجر يتصدق أو يرده على المغصوب منه، أما ما يخص نصيبه يطيب له؛ لأنه لا خبث فيه، هذا إذا أسكن غيره. فأما إذا سكن بنفسه وشريكه غائب، والقياس أن لا يكون له ذلك فيما بينه وبين الله كما لو أسكن غيره، وفي الاستحسان: له ذلك؛ لأن له أن يسكن الدار من غير إذن صاحبه حال حضرة صاحبه؛ لأنه يتعذر الاستئذان في كل مرة، وعلى هذا أمر الدور فيما بين الناس، فكان له أن يسكن حال غيبته، فأما ليس له إسكان غيره حال حضرة صاحبه بغير إذنه فكذا حال غيبته، وإلى هذا المعنى أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» ، فقال: هكذا عامة الدور. وفي «العيون» : لو أن داراً غير مقسومة بين رجلين غاب أحدهما، وسع الحاضر أن يسكن بقدر حصته فيسكن الدار كلها، وكذا خادم بين رجلين غاب أحدهما، فللحاضر أن يستخدم الخادم بحصته، وفي الدابة لا يركبها الحاضر؛ لأن الناس يتفاوتون في الركوب؛ أما لا يتفاوتون في السكنى واستخدام الخادم، فيتضرر الغائب بركوب الدابة، ولا يتضرر بالاستخدام والسكنى. في «إجازات النوازل» عن محمد بن مقاتل: أن للحاضر أن يسكن الدار قدر نصيبه، وعن محمد رحمه الله: أن للحاضر أن يسكن جميع الدار إذا خاف على الدار الخراب إن لم يسكنها. وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رضي الله عنه في الأرض: أنه ليس للحاضر أن يزرع بقدر حصته، وفي الدار له أن يسكنها. وفي «نوادر هشام» له ذلك في الوجهين. فإن أراد الرجل إحداث مظلة في طريق العامة ولا ضرر بالعامة، فالصحيح من مذهب أبي حنيفة: أن لكل واحد من آحاد المسلمين حق المنع وحق الطرح، وقال محمد: له حق المنع من الإحداث وليس له حق الطرح، فإن كان يضر ذلك بالمسلمين، فلكل واحد من آحاد المسلمين حق الطرح والرفع، وإن أراد إحداث الظلة في سكة غير نافذة لا يعتبر فيه الضرر، وعدم الضرر عندنا بل يعتبر فيه الإذن من الشركاء. وهل يباح إحداث الظلة على طريق العامة؟ ذكر أبو جعفر الطحاوي أنه يباح، ولا يأثم قبل أن يخاصمه أحد، وبعدما خاصمه لا يباح الإحداث، ولا يباح الانتفاع ويأثم بترك الظلة، وقال أبو يوسف ومحمد: يباح له الانتفاع إذا كان لا يضر ذلك بالعامة. وفي «المنتقى» قال: إذا أراد أن يبني كنيفاً أو ظلة على طريق العامة، فإني أمنعه من ذلك، وإن بنى ثم اختصموا نظرت في ذلك، فإن كان فيه ضرر أمرته أن يقلع، وإن لم

الفصل الثاني والثلاثون في المتفرقات

يكن فيه ضرر تركته على حاله، وقال محمد: إذا أخرج الكنيف، ولم يدخله في داره، ولم يكن فيه ضرر تركته، وإذا أدخله داره منع عنه؛ لأنه إذا أدخله داره، فالبينة على الذي يخاصم أنه من الطريق.p وقال في رجل له ظلة في سكة غير نافذة، فليس لأصحاب السكة أن يهدموها إذا لم يعلم كيف كان أثرها، وإن علم أنه بناها على السكة هدمت، ولو كانت السكة نافذة هدمت في الوجهين جميعاً، وقال أبو يوسف: إن كان ضرراً هدمتها وما لا فلا. والحاصل أن ما كان على طريق العامة إذا لم يعرف حالها على قول محمد تجعل حديثة حتى كان للإمام رفعها، وما كان في سكة غير نافذة إذا لم يعلم حالها تجعل قديمة حتى لا يكون لأحد رفعها، قال شيخ الإسلام خواهر زاده: وتأويل هذا في سكة غير نافذة أن تكون داراً مشتركة بين قوم، أو أرضاً مشتركة بينهم بنوا فيها مساكن وحجراً ورفعوا بينهم طريقاً حتى يكون الطريق ملكاً لهم، فأما إذا كانت السكة في الأصل ... بأن يبنوا داراً ويتركون هذا الطريق للمرور، فالجواب فيه كالجواب في طريق العامة؛ لأن هذا الطريق بقي على ملك العامة، ألا ترى (101ب2) أن لهم أن يدخلوا هذه السكة عند الزحام، وحكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني أنه كان يقول في حد السكة الخاصة أن يكون فيها قوم يحصون، أما إذا كان فيها (قوم) لا يحصون فهي سكة عامة، والحكم فيها نظير الحكم في طريق العامة. الفصل الثاني والثلاثون في المتفرقات رجل له امرأة لا تصلي يطلقها، حتى لا تصحب امرأة لا تصلي، فإن لم يكن له ما يعطي مهرها فالأولى أن يطلقها، قال الإمام أبو حفص الكبير رحمه الله صاحب محمد بن الحسن رحمة الله عليه: إن لقي الله تعالى ومهرها في ذمته أحب إلي من أن يطأ امرأة لا تصلي. غمز الأعضاء في الحمام من غير ضرورة مكروه في «فتاوى أهل سمرقند» ، قال الفقيه أبو جعفر: سمعت الشيخ أبا بكر يقول: لا بأس بأن يغمز الرجل الرجل إلى الساق، ويكره أن يغمر الفخذ ويلمسه من وراء ثوب أو غيره، قال الفقيه أبو جعفر: ونحن نبيح هذا، ولا بأس به، قال الفقيه أبو جعفر: وكان الشيخ أبو بكر يقول: يغمز الرجل رجل والديه، ولا يغمز فخذ والديه. من أمسك حراماً لأجل غيره كالخمر ونحوه إن أمسك لمن يعتقد حرمته كالخمر يمسكه للمسلم لا يكره، وإن أمسك لمن يعتقد إباحته كما لو أمسك الخمر للكافر يكره.

سئل الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه عن قوم أرادوا الخروج على سلطانهم بجوره، هل يحل لهم ذلك؟ فأجاب، وقال: إن كانوا اثنا عشر ألفاً كلمتهم واحدة وسعهم ذلك، وإن كانوا أقل من اثني عشر ألفاً لا يسعهم ذلك، وكان يستدل بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لن يغلب اثنا عشر ألفاً عن قلة كلمتهم واحدة» ، ونقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر ووعد أن اثني عشر ألفاً لا يغلبون إذا كانت كلمتهم واحدة، ووعد النبي عليه السلام حق، وإذا كانوا لا يغلبون بوعد النبي عليه السلام، والخروج على السلطان لدفع جوره لا يكون سعياً إلى إهلاك أنفسهم فيسعهم ذلك، وإذا كانوا أقل من اثني عشر ألفاً لم يتيقن بغلبتهم، فلو خرجوا ولم يغلبوا يقصدهم السلطان الجائر بالأذى فكانوا ساعين في إهلاك أنفسهم، فلا يسعهم ذلك. سئل الفقيه أبو بكر عن قراءة القرآن أهو أفضل للمنفعة أو دراسة الفقه؟ قال: حكي عن الفقيه أبي مطيع أنه قال: النظر في كتب أصحابنا من غير سماع أفضل من قيام ليلة. في آخر «النوازل» ، وعن أبي عاصم أنه قال: طلب الأحاديث حرفة المفاليس، يعني به إذا طلب الحديث، ولم يطلب فقهه. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : يكره الجلوس في المسجد في المصيبة ثلاثة أيام، وفي غير المسجد جاءت الرخصة ثلاثة أيام للرجال، وتركه أحسن. وفي «النوازل» : لا بأس أن يتخذ في المسجد بيت يوضع فيه البواري لتعامل الناس، وفي كراهية «واقعات الناطفي» : ويكره الوضوء في المسجد إلا أن يكون فيه موضع اتخذ لذلك، ولا يصلى فيه، وفي «القدوري» : كره أبو حنيفة وأبو يوسف الوضوء في المسجد، وقال محمد: لا بأس به إذا لم يكن عليه قذر، وفي «النوازل» : رجل مرَّ في مسجد ويتخذ منه طريقاً، فإن كان بعذر يجوز، وإن كان بغير عذر لا يجوز، ثم إذا جاز يصلي في اليوم مرة واحدة تحية المسجد، ولا يصلي أكثر من ذلك؛ لأن فيه حرج، وإذا تعلق بثياب المصلي بعض ... في المسجد من البواري والحشيش فأخرجه، فليس عليه أن يرجعه إلى المسجد إذا لم يتعمد ذلك؛ لأن ما في المسجد يخرجه خادمه عيسى، فإذا وقع خارج المسجد لا تجب الإعادة إلى المسجد. رجل مات وأجلس ولداه على قبره رجلاً يقرأ القرآن؟ تكلموا فيه؛ بعضهم قالوا: يكره، وبعضهم قالوا: لا يكره، والمسألة في الحقيقة بناءاً على أن قراءة القرآن في المقبرة هل تكره؟ والمختار أنه لا تكره، وهل ينفع الميت؟ تكلموا فيه، والأشبه أنه ينفع؛ لأن الأخبار وردت بقراءة آية الكرسي، وسورة الفاتحة، وسورة الإخلاص وغير ذلك، وحكي عن الفقيه أبي بكر الفياض أنه أوصى موصى عند موته بذلك. وفي «نوادر هشام» قال: سمعت أبا يوسف يقول: رجل اشترى ثوباً بعشرة دراهم، وأرجع له دانقاً، قال: لا يقبله حتى يقول: أنت في حل أو هو لك.

سئل محمد بن المقاتل عن رجل سرق (الماء) ، وساقه إلى أرضه وكرمه أنه يطيب له ما خرج بمنزلة رجل غصب شعيراً أو تبناً، وسمن به دابته، فإنه يجب عليه مثل ما غصب، وما زاد في الدابة يطيب له، قال الفقيه أبو الليث: وقد حكي عن بعض الزاهدين أن الماء وقع في كرمه في غير نوبته، فأمر بقطع كرمه، ونحن لا نقول بقطع كرمه؛ لأن فيه إفساد المال، ولكن لو تصدق بنزله كان حسناً أما لا يجب عليه التصدق في الحكم. سئل الفقيه عن رجل زرع أرض رجل بغير إذنه، فلم يعلم صاحب الزرع حتى استحصد الزرع، فعلم ورضي به، هل يطيب للزارع الزرع؟ قال: نعم، قيل له: فإن قال: لا أرضى، ثم قال: رضيت، هل يطيب له؟ قال: يطيب له أيضاً، قال الفقيه أبو الليث: وهذا استحسان وبه نأخذ. اختلف العلماء في كراهية تعليق الجرس على الدواب، فمنهم من قال بكراهيته في الأسفار كلها الغزو وغيره في ذلك سواء، وهذا القائل يقول بكراهيته في الحضر، كما يقول بكراهيته في السفر، ويقول أيضاً بكراهية اتخاذ الخلاخل في رجل الصغير، والمعنى في ذلك: أن الشيطان يستأنس ويتلهى بصوته، كما يستأنس ويتلهى بصوت المزامير، وقال محمد في «السير الكبير» : إنما يكره اتخاذ الجرس للغزاة في دار الحرب، وهو المذهب عند علمائنا أن تعليق (الجرس) على الدواب إنما يكره في دار الحرب؛ لأن العدو يشعر بمكان المسلمين، فإن كان بالمسلمين قلة يتبادرون إليهم فيقتلونهم، فإن كان بهم كثرة، والكفار يتحرزون عنهم ويتحصنون، فعلى هذا قالوا: إذا كان الراكب في المفازة في دار الإسلام ويخافون من اللصوص يكره لهم تعليق الجرس على الدواب أيضاً حتى لا يشعر بهم اللصوص، فلا يستعدون لقتلهم وأخذ أموالهم، والذي ذكرنا في الجواب في الجرس، فهو الجواب في الخلال، قال محمد رحمه الله في «السير» : فأما ما كان في دار الإسلام فيه منفعة لصاحب الراحلة فلا بأس به، قال: في الجرس منفعة جمة منها؛ إذا ضلّ واحد من القافلة يلتحق بها بصوت الجرس، ومنها أن صوت الجرس يبعد هوام الليل عن القافلة كالذئب وغيره، ومنها أن صوت الجرس يزيد في نشاط الدواب، وهو نظير الحدو، فإنه جوّز؛ لأنه يزيد في نشاط الدواب. اختلف الناس في ضرب الدف في العرس قال بعضهم: لا بأس لما روي عن عائشة رضي الله عنها (102أ2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعلنوا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف» وقال محمد بن سيرين: نبئت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا سمع صوتاً أنكره سأل عنه، فإن قالوا: عرس أو ختان أقره، وقال بعضهم: يكره لقوله عليه السلام: «كل لهو المؤمن باطل إلا ثلاث؛ تأديبه فرسه ورميه عن قوسه وملاعبته مع أهله» قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: الدف الذي يضرب في زماننا هذا مع الصنجات والخلاخلات ينبغي أن يكون مكروهاً، وإنما الخلاف في الذي كان يضرب في الزمن المتقدم.

قال محمد في «الجامع الصغير» : مسلم باع خمراً، وأخذ ثمنه، وعلى بائع الخمر دين لرجل كره لصاحب الدين أن يقتضي دينه من ذلك، وإن كان البائع نصرانياً فلا بأس به، والوجه في ذلك أن الخمر ليست بمتقومة في حق المسلم، فلم يجز بيعه، ولم يملك ثمنها لا بالعقد ولا بالقبض، بل بقي الثمن على ملك مشتري الخمر، فإذا أخذ صاحب الدين ذلك فقد أخذ ملك المشتري بغير إذنه فلا يجوز، فأما الخمر متقوم في حق الذمي فجاز بيعه، وملك ثمنها، فلو أخذ صاحب الدين ذلك فقد أخذ ملك البائع بأمره فيجوز. ولا ينبغي أن يتصدق على السائل في المسجد الجامع؛ لأنه إعانة لهم على أذى الناس، وقد قال خلف بن أيوب: لو كنت قاضياً لم أقبل شهادة من يتصدق في المسجد الجامع، وقال الفقيه أبو بكر بن إسماعيل الواهب بفلس يحتاج إلى سبعين فليساً ليصير كفارة له. الصبرة إذا أصاب طرف منها نجاسة، ولا يعلم ذلك بعينه يعزل منها قفيزاً أو قفزين فعل ذلك، أو أزال ذلك عن ملكه ببيع أو هبة يحكم بطهارة ما بقي من الصبرة لجواز أن المعزول هو الذي أصابته النجاسة، فلا يقضى بنجاسة ما بقي، وقد عرفناه مباح التناول، فلا تثبت الحرمة بالشك. ولا رواية عن أصحابنا في هذه المسألة، ومشايخنا استخرجوها ... من في «السير» ، وصورتها: أن رجلاً من أهل الذمة دخل حصناً من حصون أهل الحرب قد حاصره المسلمون، ثم إن المسلمين فتحوا الحصن، وأخذوا الرجال، وعلموا يقيناً أن الذمي فيهم، إلا أنهم لا يعرفونه بعينه، وكل واحد منهم يدعي أنه الذمي، فإنه لا يحل للمسلمين قتلهم، ولو قتل واحد من أهل الحصن بعدما دخل فيه الذمي أو مات، أو خرج واحد منهم، فإنه يحل للمسلمين قتلهم؛ لأنه بعدما مات واحد منهم أو قتل أو خرج من الحصن لم يتيقن أن فيهم من هو محرم القتل، لجواز أن محرم القتل قتل أو مات أو خرج، وقد عرفناهم مباح الدم في الأصل، فلا تثبت الحرمة بالشك. صبي يسمع الأحاديث، وهو لا يفهم، ثم كبر؛ يجوز له أن يروي عن المحدث، وإذا قرىء صك على صبي وهو لا يفهم، ثم كبر لا يجوز له أن يشهد، ألا ترى أن البالغ إذا قرىء عليه صك وهو لا يفهم ما فيه لا يجوز له أن يشهد بما فيه، ولو سمع الأحاديث ولم يفهم معناه جاز له أن يروي. تعلم علم الكلام والنظر فيه وراء قدر الحاجة منهي. وتعلم علم النجوم قدر ما يعرف القبلة، ومواقيت الصلاة لا بأس به، وفيما عدا ذلك فهو حرام. التمويه في المناظرة والحيلة فيها هل يحل أن يتكلمه متعلم مسترشد أو غيره على الإنصاف بلا تعنت لا يحل، وإن كان يكلمه من يدخل ... ويريد أن يطرحه يحل، بل

يحتال كل حيلة لدفعه عن نفسه؛ لأن دفع.... مشروع بأي طريق يكون الدفع. قال هشام في «نوادره» : رأيت على أبي يوسف نعلين مخصوفتين بمسامير إلى زيد قلت له: أترى بهذا الحديث بأساً، فقال: لا، فقلت: إن سفيان وثور بن يزيد كرها ذلك؛ لأنه تشبه بالرهبان، فقال أبو يوسف: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي بها شعر، وإنها من لباس الرهبان، فقد أشار إلى أن صورة المشابهة فيما يتعلق به صلاح العبد لا يضر، وقد تعلق بهذا النوع من الأحكام صلاح العباد، فإن من الأراضي ما لا يمكن قطع المسافة البعيدة فيها إلا بهذا النوع من الأحكام. قال في «الجامع الصغير» : ويكره هذه الخرقة التي تحمل، ويمسح بها العرق، وهكذا ذكر في «القدوري» ، من أصحابنا من قال: الكراهة في الخرقة التي لها قيمة؛ لأن إعداد ما له قيمة لإزالة العرق فيه تضييع لماله، ومنهم من قال بالكراهة على كل حال، وإطلاق لفظ «الكتاب» دل عليه، وإنما كره؛ لأنه بدعة محدثة لم يفعلها النبي عليه الصلاة والسلام، ولا الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، وإنما كانوا يمسحون العرق بأطراف أثوابهم، ولأن فيه ضرب من التكبر وتشبه بزي الأعاجم، وكذلك الخرقة التي يمخط بها مكروهة، والخرقة التي يمسح بها الوضوء محدثة، ومنهم من طعن في ذلك لتوارث المسلمين ذلك، والحاصل أن من فعل شيئاً من ذلك تكبراً فهو مكروه وبدعة، ومن فعل ذلك لحاجة لا يكره، وهو نظير التربع في الجلوس والاتكاء قد يفعل الرجل نحوه تكبراً فيكره، وقد يفعله لحاجة فلا يكره، وحكي عن الحاكم الإمام أنه كان يكره استعمال الكواغد في وليمة ليمسح بها الأصابع، وكان يشدد فيه، ويزجر عنه زجراً بليغاً، ولا بأس بأن يربط الرجل في إصبعه خاتماً أو خيطاً للحاجة إلى التذكر، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بعض أصحابه بذلك. قال أبو يوسف: قال أبو حنيفة: ولا ينتفع من الخنزير بجلده ولا بغيره إلا الشعر للأساكفة، وقال أبو يوسف: يكره بالشعر أيضاً، وقول أبي حنيفة أظهر؛ لأن حاجة الأساكفة إلى شعرها حاجة ماسة إذ غيرها لا يقوم مقامها في إقامة مصلحة الخرز. قال الفقيه أبو الليث: قد رخص بعض الناس أن يشرب الرجل قائماً، وكرهه بعضهم إلا من عذر وبه نقول. التضحية بالديك أو بالدجاج في أيام التضحية ممن لا أضحية عليه لعسرته تشبهاً بالمضحين مكروه، ذكره الشيخ الإمام الزاهد الصفار في كتاب «بيان التوحيد» بالفارسية، وقال: هذا من رسم المجوس، روى نصر بن يحيى بإسناد له عن محمد بن الحسن رحمه الله أنه ليس للعالم من بيت المال نصيب؛ لأنه وارث الأنبياء، وقد قال الله تعالى في حق الأنبياء: {قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى} (الشورى: 23) وقال تعالى: {إن

أجري إلا على الله} (يونس: 72) قال: والقراء لهم نصيب من بيت المال. المرأة في بيت زوجها، والأمة في بيت مولاها لا تطعم ولا تتصدق بالطعام المدخر كالحنطة ودقيقها، فأما بغير المدخر من الطعام تتصدق على....، وإن لم يأذن الزوج والمولى بذلك صريحاً، ويكون ذلك إذن المولى والزوج (102ب2) باعتبار العرف والعادة. الحطب إذا وجد في نهر جار جاز أخذه والانتفاع، وإن كانت له قيمة وقت الأخذ. الأب إذا احتاج إلى مال ولده، فإن كان في المصر واحتاج لفقره أكل بغير شيء، وإن كان في السفر واحتاج لعدم الطعام لا لفقره، بل هو موسر أكله بالقيمة، وحد اليسار ههنا أن لا تحل له الصدقة. قال محمد رحمه الله: ويفترض على الناس إطعام المحتاج في الوقت الذي يعجز عن الخروج والطلب، وهذه المسألة تشتمل على ثلاثة فصول: أحدها: أن المحتاج إذا عجز عن الخروج يفترض على كل من يعلم حاله أن يطعمه بمقدار ما يتقوى به على الخروج وأداء العبادات، إذا كان قادراً على ذلك حتى إذا مات ولم يعطه أحد ممن يعلم بحاله اشتركوا جميعاً في المأثم، والأصل فيه قوله عليه السلام: «ما آمن بالله من بات شبعان وجاره إلى جنبه طاو» وقال عليه السلام: «أيما رجل مات ضياعاً بين قوم أغنياء فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله» وكذلك إذا لم يكن عند من يعلم بحاله ما يعطيه، ولكنه قادر على أن يخرج إلى الناس ويخبرهم بحاله فيواسوه، يفترض عليه ذلك، فإن امتنعوا من ذلك حتى مات اشتركوا في المأثم، ولكن إذا قام به البعض سقط عن الباقين. الفصل الثاني: إذا كان المحتاج قادراً على الخروج، ولكن لا يقدر على الكسب، فعليه أن يخرج، ومن يعلم بحاله فإن كان عليه شيء من الواجبات فليرده إليه حتماً وإن كان المحتاج يقدر على الكسب فعليه أن يكتسب، ولا يحل له أن يسأل. الفصل الثالث: إذا كان المحتاج عاجزاً عن الكسب، ولكنه قادر على أن يخرج ويطوف على الأبواب، فإنه يفترض عليه ذلك، حتى إذا لم يفعل ذلك وقد هلك كان آثماً عند الله؛ وهذا لأن السؤال في حق من هو قادر على الكسب (لا يحل) ثم قال: المعطي أفضل من الآخذ، وهذه المسألة على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون المعطي مؤدياً للواجب، والآخذ قادراً على الكسب ولكنه محتاج، فههنا المعطي أفضل بالاتفاق، ولأنه في الإعطاء يؤدي الفرض، والآخذ متبرع في الأخذ، فإن له أن لا يأخذ ويكتسب، ولا شك أن درجة المفترض أعلى من درجة المتبرع.

والثاني: أن يكون المعطي والآخذ كل واحد منهما شرع، أما المعطي فظاهر، وأما الآخذ بأن يكون قادراً على الكسب، وفي هذا الوجه المعطي أفضل؛ لأن العبادات مشروعة بطريق الابتلاء، ومعنى الابتلاء في الإعطاء أظهر؛ لأن الابتلاء في العمل الذي لا تميل إليه النفس، والنفس تميل إلى الأخذ، ولا تميل إلى الإعطاء. والثالث: أن يكون المعطي متبرعاً، والآخذ مفترضاً بأن كان عاجزاً عن الكسب، وفي هذا الوجه المعطي أفضل عند أهل الفقه، وقال أهل الحديث؛ أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه الآخذ أفضل ههنا. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إذا كان بالرجل يتلفه ذلك مثل الغدة في العين وغيره، أو كان به حجر فأراد استخراجه، ويخاف منه الموت قال: إن فعل أحد ونجا فلا بأس بأن يفعل. لا بأس بالاستخبار عن الأخبار المحدثة في البلدة هو المختار لما فيه من المصلحة. الغني إن أكل مما يتصدق به على الفقراء؛ إن أباح له الفقير ففي حل التناول اختلاف المشايخ، وإن ملكه من الغني لا بأس به بدليل حديث بريرة: «هي لها صدقة ولنا هدية» . باع الجيران في الحضر أو الرفقة السفر متاع الميت الذي لا وارث له معه، ليصرفوه إلى تجهيزه وتكفينه ودفنه، فلهم ذلك. في وديعة «العيون» وحكي عن نصر بن يحيى قال: سمعت أبا سليمان الجرجاني، قال: مات غريب عند محمد بن الحسن، فباع محمد بن الحسن كتبه، قال نصير: قلت لأبي سليمان: أكان محمد يومئذٍ قاضياً؟ قال: لا، وحكي أنه مات رقيق لوكيع بن الجراح في سفره، فباع وكيع متاعه وكتبه، وقرأ هذه الآية: {والله يعلم المفسد من المصلح} (البقرة: 220) ، وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه قال في ميت في مسجده جمع أهل المحلة دراهم ليشتروا له بها كفناً فاشتروا له الكفن، وكفنوا به، وفضل من الدراهم فضلة، فإن كان ذلك الميت من قرابتهم أو من جيرانهم؛ قاموا بتكفينه لحق الصحبة أو القرابة، فإن ما فضل من المال ردّ عليهم، فإن (لم) يعرف مال كل واحد منهم فهو منهم جميعاً، وإن لم يردوا عليهم رد على ورثته، وإن لم يرد على ورثته فأحب إليّ أن يصرف إلى ميت فقير من أهل تلك المحلة، فيصرف ذلك إلى كفنه، وإن لم يكن بينهم وبين الميت وراثة ولا كان في جيرانهم وإنما هو غريب نزله الموت فيهم، أو أخرج فوضع عندهم ليكفنوه رأيت أن يصرف ما فضل من الدراهم إلى كفن ميت آخر محتاج. التحليف بالطلاق والعتاق والأيمان المغلطة، ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» : أن بعض المشايخ رخصوا في ذلك، واختيار الصدر الشهيد الكبير حسام الدين رحمه الله أنه

يفتى بعدم الجواز، فإن بالغ المستفتي يكتب في الفتوى الرأي في ذلك للقاضي، وللرجل أن يدخل الدار التي آجرها، ويسلمها إلى المستأجر لينظر حالها ويرم ما استمر وبإذن المستأجر وبغير إذنه عند أبي يوسف ومحمد، وعند أبي حنيفة لا يدخل إلا بإذن المستأجر. في سرقة «الأصل:» امرأة لها أب زمن، وليس للأب من يقوم عليه غير الابنة، والزوج يمنعها من تعاهد الأب، جاز لها أن تعصي الزوج، وتطيع الأب مسلماً كان الأب أو كافرا. في نكاح «فتاوى أبي الليث» ابن السبيل: إذا تصدق عليه، ثم وصل إلى ماله، والصدقة قائمة لا بأس بأن يتناول من تلك الصدقة، وكذلك الفقير إذا تصدق عليه ثم استغنى، والصدقة قائمة لا بأس بأن يتناول من تلك الصدقة. لا يجوز حمل تراب ربض المصر؛ لأنه حصن، فكان حق الجماعة، فإن انهدم شيء من الربض ولا يحتاج إليه لا بأس بحمله. في «فتاوى أبي الليث» : الكرع مكروه، ذكر في فوائد الفقيه أبي جعفر لأمر النبي عليه السلام. حكي عن إبراهيم النخعي: أن المصحف يورث، وهو للقارىء من الورثة، والمذهب عندنا أنه يورث كسائر الأموال. سئل الفقيه أبو جعفر عن قوم قرؤوا قراءة ورد وكبروا بعد ذلك جهراً، قال: إن أرادوا بذلك الشكر لا بأس به، قال: وإن كبروا بعد الصلاة على أثر الصلاة فإنه يكره وإنه بدعه، وإذا كبروا في الرباطات لا يكره إذا أرادوا به إظهار القوة (103أ2) والموضع موضع الخوف، وإذا كبروا في مساجد الرباطات، ولم يكن الموضع مخوفاً يكره.u قال الفقيه أبو جعفر: سمعت شيخي أبا بكر يقول: سئل إبراهيم النخعي عن تكبير أيام التشريق على الأسواق والجهر بها، قال: ذلك تكبير الحوكة، وعن أبي يوسف: أنه يجوز، قال الفقيه: وأنا لا أمنعهم عن ذلك. لا غيبة لمن يضر الناس يداً ولساناً، قال عليه السلام: «اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس» روي عن محمد بن الحسن أنه قال في تأويل هذا الحديث: مراد النبي عليه السلام أن يكون قصد الذاكر النصيحة حتى لا يتضرر به أحد، وفي هذه الصورة لا إثم عليه، بل على الذاكر، فإذا أكن في صدره أنفة وهتك ستره صار غيبة، وقال عليه السلام: «الغيبة أشد من الزنا. قال الفقيه أبو نصر: إذا عرض بسط بحر عام لا يضر بالمارة فذلك مباح له، ولمن شاء من المسلمين أن يأخذه برفع ذلك، وإن جعله وقفاً صار وقفاً، فأما على مذهب

أصحابنا ليس له ذلك، وحكي أن محمد بن سلمة كان يدني دكاناً على ما به وارثاً البتة، فقيل للشيخ أبي نصر تقول (ما) به؟ قال: لا أبعده عن الصواب،. وحكي عن أبي نصر أنه قال: كل شيء حازه الإنسان يملكه، كالطعام والماء الذي يحوزه بكوزه، فإن المضطر يقابله بما دون السلاح، وأما في ماء البئر وما أشبهه، فإنه يقابله بالسلاح، وغير السلاح. وعن أبي يوسف في الرجل إذا طين جدار داره، وأشغل هواء المسلمين، فالقياس: أن لا ينقض ذلك، وفي الاستحسان: لا ينقض ويترك على حاله، وروي عن النصر بن محمد المروزي صاحب أبي حنيفة: أنه كان إذا أراد أن يطين داره نحو السكة، حد منه ثم طينه كيلا يأخذ شيئاً من الهواء. سئل نصر بن يحيى عن الجذع إذا كان خارجاً من السكة أو متعلقاً بجدار الشريك، فأراد أن ينقض أو يقطع قال: إن كانت السكة نافذة فله أن ينقض، وإذا أراد نقضه لا يؤمر ببنائه، وليس لصاحب الجذع حق القرار، وإن كانت السكة غير نافذة، فإن كان قديماً فلصاحبه حق القرار، وليس للشريك حق النقض، ولو نقض يؤمر بالبناء ثانياً، وإن كان محدثاً فلصاحبه حق النقض، وإذا نقض لا يؤمر بالبناء ثانياً. غزل الرجل إذا كان على هيئة غزل المرأة يكره. في صوم شمس الأئمة الحلواني، تنحنح المؤذن عند الأذان والإقامة مكروه. في «فتاوى أهل سمرقند» يكره أن يتخذ شيئاً من القرآن حتماً لشيء من الصلوات لا يتجاوز عنه إلى غيره، هكذا ذكر في كراهية «شرح الطحاوي» ، قال ثمة: وهذا إذا اعتقد أن غيره لا يجوز، أما إذا لم يعتقد ذلك وعرف أن غيره يجوز، ولكن هذا أيسر عليه، أو قرأه تبركاً بقراءة رسول الله عليه السلام لا يكره. وتكره الإشارة إلى الهلال عند رؤيتها. في «فتاوى سمرقند» قال: وفي هذا الموضع أيضاً: إذا وجد في المقبرة طريقاً لا بأس أن يمشي فيه إذا لم يقع في قلبه أنه محدث. رجل أخذ من رجل شيئاً وهرب ودخل في داره لا بأس للمأخوذ منه أن يتبعه، ويدخل داره ويأخذ؛ لأنه موضع الضرورة. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله تعالى؛ إذا رفع طيناً أو تراباً من طريق المسلمين ففي أيام الأوحال جاز، بل هو أولى، وفي غير أيام الأوحال إن لم يصر كالأرض، وكذلك وإن كان كالأرض، واحتاج الرافع إلى قلعه؛ لا يسعه ذلك إن كان فيه مضرة بالمارة، وفي هذا الموضع أيضاً: أهل قرية ابتلوا بالدياسة بالخمر فلا بأس به. رجل مشى في الطريق، وكان في الطريق ماء فلم يجد مسلكاً إلا أرض إنسان فلا بأس بالمشي فيه؛ لأن فيه ضرورة، وذكر في «فتاوى أهل سمرقند» : المرور في أرض الغير على التفصيل؛ إن كان لأرض الغير حائط وحائل لا يمر فيها؛ لأن ذلك دليل عدم الرضا من صاحب الأرض بالمرور فيها، وإن لم يكن هناك حائط فلا بأس بالمرور فيها،

فالحاصل أن المعتبر في هذا الباب عادات الناس. وفي «واقعات الناطفي» : نهر لرجل في أرض رجل، أراد صاحب النهر أن يدخل الأرض ليعالج نهره ليس له ذلك؛ لأن الأرض ملك الغير، ولكن ينبغي أن يمشي في بطن النهر، وإن كان النهر ضيقاً لا يمكنه المشي في بطنه؛ لا يدخل في الأرض أيضاً، قيل: هذا الجواب على قول أبي حنيفة؛ لأنه لا حريم للنهر عنده، وأما على قولهما للنهر حريم فله أن يمر على الحريم، وقيل: ما ذكر قول الكل، وتأويل المسألة على قولهما أن صاحب النهر باع الحريم من صاحب الأرض. القيلولة المستحبة هي القيلولة من.... داس الحنطة وداس الشعير. بساط أو مصلى كتب عليه في النسج الملك لله يكره بسطه، والقعود عليه واستعماله، فلو قطع حرف من حروفه وخيط على بعض الحروف حتى لم تبق الكلمة متصلة لا تسقط الكراهة؛ لأنه بقيت الحروف، وللحروف المفردة حرمة؛ لأن نظم القرآن وأخبار النبي عليه السلام بواسطة هذه الحروف، وقد روي أن واحداً من الأئمة رأى الشبان يرمون، وقد كان المكتوب على الهدف: أبو جهل لعنه الله، فمنعهم عن ذلك، ومضى بوجهه، ثم رجع، فوجدهم محوا اسم الله وكانوا يرمون كذلك، فقال: إنما أمنعكم لأجل الحروف. قيل: الأعونة والسعادة والظلمة في أيام العمرة أفتى كثير من مشايخنا بإباحته، وقد حكي عن الشيخ الإمام الزاهد الصفار: أن الجصاص أورد في «أحكام القرآن» أن من ضرب الضرائب على الناس حل ذمته وكان السيد الإمام الأجل أبو شجاع السمرقندي يقول: يثاب قائلهم، وكان يفتي بكفر الأعونة، وكذلك القاضي الإمام عماد الدين بسمرقند يفتي بكفرهم ونحن لا نفتي بكفرهم. إذا أدخل الرجل ذكره فم أمرأته فقد قيل: يكره؛ لأنه موضع قراءة القرآن، فلا يليق به إدخال الذكر فيه، وقد قيل بخلافه. أيضاً السلطان إذا قال للخبازين: بيعوا عشرة أمناء من الخبز بدرهم ومن ينقص عن ذلك فعلت في حقه كذا وكذا، فاشترى رجل من الخباز عشرة أمناء من الخبز بدرهم، ولولا خوف السلطان، فالخباز لا يبيعه عشرة أمناء بدرهم لا يحل للمشتري أكله؛ لأن الخباز في معنى المكره على البيع، فإن أجاز البائع بعد ذلك من اختيار جاز، وحل للمشتري الأكل، فبيع المكره إذا لحقته الإجازة (103ب2) من البائع يخرج من أن يكون بمعنى مكره. في عارية «الواقعات» : رجل أراد أن يستمد عن محبرة غيره فهذا على ثلاثة: أوجه: الأول أن يستأذنه، وفي هذا الوجه له أن يفعل ذلك إلا أن ينهاه، الثاني: أن يعلمه وفي هذا الوجه له ذلك أيضاً إذا لم ينهه؛ لأنه إذا لم ينهه فهو إذن له دلالة، الثالث: إذا

لم يستأذنه ولم يعلمه، وإنه على وجهين: إن كان بينهما انبساط فله أن يفعل ذلك لمكان الإذن عرفاً، وإن لم يكن بينهما انبساط ليس له أن يفعل؛ لأنه في الإذن عرفاً تودُّد. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : طلبة العلم إذا كانوا في مجلس ومعهم محابر فكتب واحد من محبرة غيره بغير إذنه صريحاً لا بأس به؛ لأنه مأذون دلالة، فإنه لو استأذنه يثقل عليه. وفيه أيضاً: استأجر كتاباً ليقرأه، فوجد في الكتاب خطأ إن علم أن صاحب الكتاب يكره إصلاحه لا ينبغي له أن يصلحه؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، وإن علم أنه لا يكره إصلاحه فإن أصلحه جاز؛ لأنه مأذون دلالة، وإن لم يصلحه فلا إثم عليه؛ لأن الصلاح ليس واجب عليه. رجل في داره شجرة فرصاً وقد باع أغصانها، وإذا أبقاه المشتري اطلع على عورات الجيران، فقيل ينبغي للجيران أن يرفعوا الأمر إلى القاضي حتى يمنعه عن ذلك، والمختار أن يخبر المشتري الجيران وقت الإيفاء ليستروا أنفسهم، يفعل ذلك في كل يوم مرة أو مرتين؛ لأن هذا جمع بين الحقوق، فإن لم يفعل ذلك إلا أن يرفع الأمر إلى الحاكم، فإن رأى الحاكم المنع منعه. شوك أو حشيش نبت على القبور؛ إن كان رطباً يكره قلعه، وإن كان يابساً لا يكره؛ لأنه ما دام رطباً يسبح، فربما يكون للميت أنس بتسبيحها، ولا كذلك اليابس منه. ميت دفن في أرض غيره، فإن شاء رب الأرض أمر بإخراجه وإن شاء سوى القبر مع الأرض وزرع عليه، فله أن يستخلص الظاهر والباطن وحده. رجل يعمل أعمال البر، ويقع في قلبه أنه ليس بمؤمن، إن وقع في قلبه.... مؤمن..... أو أعماله لا تنفعه؛ لأنه عصى الله فهو مؤمن صالح، وإن وقع في قلبه أنه ليس بمؤمن ولم يعرف الله، واستقر قلبه على ذلك فهو كافر بالله، وإن خطر هذا بقلبه ووجد إنكار ذلك من نفسه فهو مؤمن؛ لأن التحرز عن هذا غير ممكن. قيل: في الشفقة في الأولاد الشفقة عليهم إذا أراد الأب أن يأمر له بشيء أن يقول: «خوبت أبي بسر فلان كار بشور» ؛ لأنه لو أمره ربما يعلمه الابن فيصير عاقاً، رجل أتى بفاحشة ثم تاب وأناب إلى الله لا ينبغي له أن يخبر الإمام بما صنع لإقامة الحد؛ لأن الستر مندوب.

كتاب التحري

كتاب التحري هذا الكتاب يشتمل على فصول: 1 * في مسائل الصلاة 2 * في مسائل الزكاة 3 * في التحري في الثياب والأواني والمساليخ والموتى 4 * في المتفرقات

الفصل الأول في مسائل الصلاة

الفصل الأول في مسائل الصلاة يجب أن يعلم بأن معرفة جهة الكعبة إما بدليل يدل عليها أو بالتحري عند انعدام الدلالة، فمن الدلائل؛ المحاريب المنصوبة في كل موضع؛ لأن ذلك باتفاق من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، فإن الصحابة فتحوا العراق، وجعلوا القبلة ما بين المشرق والمغرب، ثم فتحوا خراسان، وجعلوا القبلة ما بين المغربين؛ مغرب الشتاء ومغرب الصيف، وكانوا يصلون إليها، ولما ماتوا جعلت قبورهم إليها أيضاً من غير نكير أحد منهم، وكفى بإجماعهم حجة. ومن الدليل السؤال في كل موضع؛ لأن أهل كل موضع أعرف بقبلتهم من غيرهم عادة، ومن الدليل النجوم أيضاً على ما حكي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: إن أهل الكوفة يجعلون الجدي خلف القفا في استقبال القبلة، ونحن نجعل الجدي خلف الأذن اليمنى، وكان الشيخ الإمام الزاهد رئيس أهل السنة إمام الهدى أبو منصور الماتريدي رحمه الله يقول: السبيل في معرفة جهة القبلة أن ينظر إلى مغرب الشمس في أطول أيام السنة فيعينه، ثم ينظر إلى مغرب الشمس في أقصر أيام السنة فيعينه ثم يدع الثلثين على يمينه والثلث على يساره، فيكون مستقبلاً للجهة إذا وجد ذلك الموضع، وعند انقطاع هذه الأدلة فإصابة جهة القبلة بالتحري. وجملة هذا الفصل على أربعة أوجه: أحدها: إذا صلى إلى جهة من غير شك ولا تحر ولم يخطر بباله وقت التكبير أن هذه قبلة وليست بقبلة، وفي هذا الوجه إن علم أنه أصاب أو كان أكثر رأيه ذلك يجزئه؛ لأنه لو لم يعلم أنه أصاب أو لم يصب يجزئه؛ لأن الجواز أصل فيما يفعله المسلم العاقل، فلأن يجزئه إذا علم أنه أصاب أو كان أكثر رأيه ذلك كان أولى. وإن علم أنه أخطأ لا يجزئه؛ لأن الجواز في الوجه الأول بنوع ظاهر من حيث إن الجواز أصل فيما يفعله العاقل المسلم، وهذا نوع ظاهر، والثابت بالدليل فوق الثابت بالظاهر، وكذلك إذا كان أكثر الرأي أنه أخطأ؛ لأن أكثر الرأي أقيم مقام العلم في حق العمل، وهذا كله إذا علم أنه أصاب أو أخطأ بعد الفراغ من الصلاة. فأما إذا علم في خلال الصلاة أنه أصاب القبلة أو كان أكثر رأيه، ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» أنه لا يجوز ويلزمه الاستقبال، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : أن فيه اختلاف المشايخ، كان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل يقول: لا يجزئه ويلزمه الاستقبال؛ لأن ما ظهر من الحالة في الانتهاء فوق الحالة الماضية؛ لأن التوجه إلى القبلة في الحالة الماضية كان ثابتاً بظاهر الحال وبعدما علم أنه أصاب أو كان أكثر رأيه ذلك فالتوجه إلى القبلة ثابت بالدليل، ولا شك أن الثابت بالدليل فوق الثابت باستصحاب الحال، فإذا كان ما ظهر من الحالة في الانتهاء فوق الحالة

الأولى لم يمكنه بناء الباقي على ما مضى؛ لأن الأقوى لا يجوز أن يبنى على الأضعف، ألا ترى أن المؤمن إذا قدر على الركوع والسجود في خلال الصلاة والأمي إذ اصار قادراً لا يبني، وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو بكر بن حامد يقول: يجزئه ولا يلزمه الاستقبال؛ لأن صلاته كانت صحيحة في الابتداء لانعدام الدليل المفسد فالتغيير لا تزداد القوة حكماً بخلاف ما بعد الشك؛ لأن هناك صلاته بنيت صحيحة إلا بالتيقن بالأصلية، فإذا شعر أنه أصاب فقد يقوى حاله حكماً فلزمه الاستقبال (104أ2) . أما ههنا بخلاف الوجه الثاني إذا اشتبهت عليه القبلة، فلم يتحر وصلى إلى جهة إن علم أنه أخطأ، أو أكثر رأيه ذلك أو لم يعلم أنه أخطأ أوأصاب لا يجزئه، وإن علم أنه أصاب بجهته هذا كله قبل الفراغ من الصلاة، أما إذا لم يعلم أنه أخطأ أو أصاب إنما لا يجزئه؛ لأن التحري افترض عليه حالة الاشتباه شرطاً لجواز الصلاة، فإذا ترك التحري فقد ترك شرطاً من شرائط جواز الصلاة فلا يجزئه كما لو ترك شرطاً آخر، وإذا ظهر الكلام فيما إذا لم يعلم أنه أخطأ أو أكثر رأيه ذلك من طريق الأولى. فرق بين هذا وبين المسألة الأولى، فإن في المسألة الأولى: إذا لم يعلم أنه أصاب أو لم يصب، فإنه يجزئه ووجه الفرق: أن في المسألة الأولى لم يصر تاركاً شرطاً من شرائط جواز الصلاة؛ لأن التحري إنما يجب حالة الاشتباه، ولم يشتبه عليه أن القبلة في المسألة الأولى أما ههنا اشتبه عليه أمر القبلة، فافترض عليه التحري شرطاً لجواز الصلاة، فإذا ترك ذلك فقد ترك شرطاً من شرائط جواز الصلاة فإن قيل: لو كان تاركاً شرطاً من شرائط جواز الصلاة لكان لا يجزئه، وإن علم أنه أصاب كما لو تحرى ووقع تحريه على جهة فترك تلك الجهة وصلى إلى جهة أخرى. الجواب: التحري ما افترض لعينه وإنما افترض لغيره، وهو إصابة القبلة؛ لأن التحري طلب، والمقصود من الطلب المطلوب لا عين الطلب، فإذا علم أنه أصاب القبلة تبين أن التحري لم يكن فرضاً عليه؛ لأن ما افترض لغيره لا يبقى فرضاً متى حصل المقصود منه بدونه كالسعي إلى الجمعة لا يبقى فرضاً متى حصل المقصود بدونه؛ بخلاف ما لو تحرى ووقع تحريه على جهة فتوجه إلى جهة أخرى؛ لأن هناك لعينه؛ لأن التوجه إلى الجهة التي وقع عليها التحري افترض لعينه؛ لأن هذه الجهة صارت قبلة له بنص الكتاب كالكعبة حالة العيان، والتوجه إلى الكعبة حالة العيان فرض لعينه فكذا التوجه إلى الجهة التي أدى تحريه. ومن ترك من صلاته ما هو فرض لعينه لا تجوز صلاته، وإن أتى بشيء آخر، كما لو ترك ركوعاً وأتى بثلاث سجدات. فأما إذا كان أكثر رأيه أنه أصاب، وكان ذلك بعد الفراغ من الصلاة هل يجزئه؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا في «الأصل» ، وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يجزئه؛ لأن أكثر الرأي أقيم مقام العلم، ولو علم أنه أصاب يجزئه، فكذا هنا. الدليل عليه: أن محمداً رحمه الله سوى بين العلم وأكثر الرأي قبل الفراغ من الصلاة، فقال: لو كان أكثر رأيه أنه صلى إلى القبلة قبل الفراغ من الصلاة يلزمه

الاستقبال كما لو علم أنه صلى إلى القبلة، ومنهم من قال: لا يجزئه؛ لأن التحري لزمه بيقين، فلا يسقط إلا بيقين مثله، وغالب الرأي لا يوجب علم اليقين فلا يسقط به فرض التحري، وهذا بخلاف ما لو كان أكثر رأيه في الصلاة أنه أصاب، فإنه يلزمه الاستقبال كما لو علم يقيناً؛ لأن أكثر الرأي في الصلاة إما أن يلحق بالعلم أو بالجهل، وبأي ذلك ما ألحقنا يلزمه الاستقبال إن ألحقناه بالعلم، فلأن الحالة الثابتة أقوى من الحالة الماضية، فلا يمكنه البناء على الماضي، وإن ألحقناه بالجهل فلفساد الشروع فأما بعد الفراغ فالتحري كان فرضاً عليه بيقين، فلا يسقط عنه إلا بيقين مثله. الوجه الثالث: إذا شك وتحرى وصلى إلى الجهة التي وقع التحري عليها، وفي هذا الوجه تجزئه صلاته، وإن علم أنه أخطأ القبلة، وقال الشافعي رحمه الله: لا تجزئه صلاته، وإذا علم أنه أخطأ القبلة وجه قوله أنه أدى حكماً عن اجتهاده، وقد ظهر خطؤه بيقين فيلزمه الإعادة، كما لو توضأ بماء على ظن أنه طاهر ثم تبين أنه نجس. وجه قول علمائنا رضي الله عنهم حديث عبد الله بن عامر بن ربيعة وإنه معروف، وإنما مسألة الثوب، وإنا قلنا: القياس في القبلة أن لا يجوز كما في الثوب والماء، إلا أنا تركنا القياس في القبلة بالنص، وماثبت بخلاف القياس لا يقاس عليه غيره، والنص الوارد في القبلة لا يكون وارداً في الماء والثوب دلالة؛ لأن الصلاة إلى غير القبلة أخف من الصلاة بغير وضوء وفي ثوب نجس؛ لأن التطوع إلى غير القبلة يجوز بالعذر الذي لا تجوز بمثله الصلاة بغير وضوء، ولا في ثوب نجس، فإنه تعذر السير فيما دون السفر يجزئه التطوع إلى غير القبلة، ولا يجزئه بغير طهارة، ولا في ثوب نجس، وإذا كان أخف فالنص الوارد في القبلة بخلاف القياس، ويكون وارداً فيهما دلالة فرد فصل الماء والثوب إلى ما يقتضيه القياس والقياس ما قاله، وهذا إذا كان بعد الفراغ من الصلاة. فأما قبل الفراغ من الصلاة إذا علم أنه أصاب القبلة فإنه يمضي في صلاته، ولا يستقبل؛ لأن الحالة الثانية مثل الحالة الأولى؛ لأن الجهة التي وقع عليها التحري صارت قبلة بالنص كالكعبة، وإذا كانت الحالة الثانية مثل الأولى لا فوقه أمكنه البناء على الحالة الأولى، ألا ترى أن أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس، فلما تحولت القبلة إلى الكعبة تحولوا إليها، وهم في الصلاة وأجزأتهم صلاتهم؟ الوجه الرابع: إذا شك وتحرى، وأعرض عن الجهة التي وقع تحريه عليها وصلى إلى جهة أخرى لا يجزئه في ظاهر رواية أصحابنا، وروى أبو سليمان الجوزجاني عن أبي يوسف أنه يجوز، وجه ظاهر الرواية ما ذكرنا، وجه رواية أبي سليمان أن التوجه إلى الجهة التي وقع تحريه عليها لم يفترض لعينه بل إنها كعبة حقيقة، فإذا أصاب الكعبة بجهة أخرى فقد حصل المقصود من التوجه إلى الجهة التي وقع تحريه عليها فيسقط فرضه التوجه إليها. ومما يلحق بهذا الفصل إذا صلى إلى الجهة التي وقع تحريه عليها ركعة أو ركعتين، ثم علم أنه أخطأ فعليه أن يتحول إلى جهة الكعبة، ويبني على صلاته، وإذا وقع تحريه

إلى جهة فصلى إليها ركعة ثم تحول رأيه إلى جهة أخرى؛ يتحول إلى الجهة الثانية، وكذا في الثالثة، والرابعة، والأصل فيه حديث أهل قباء على ما روينا، واختلف المتأخرون فيما إذا صلى ركعة إلى جهة بالتحري، ثم وقع تحريه على جهة أخرى فصلى إليها ركعة، ثم وقع تحريه على الجهة الأولى، فمنهم من قال ينتقل إلى تلك الجهة أيضاً، ومنهم من قال: يلزمه الاستقبال. ومما يتصل بهذا الفصل معرفة مكان التحري ذكر في باب صلاة المريض (104ب2) من الأصل مسألة تدل على أن التحري في باب القبلة كما جوز خارج المصر يجوز في المصر، وصورتها قوم مرضى في بيت بالليل أمهم واحد وصلى بعضهم إلى القبلة، وبعضهم إلى غير القبلة، وهم يظنون أنهم أصابوا يعني تحروا، فصلاتهم جائزة؛ لأنه يجوز ذلك من الأصحاء حالة الاشتباه فمن المرضى أولى، ووجه الاستدلال بها أن محمداً رحمه الله حكم بجواز صلاتهم من غير فصل، بينما إذا كان البيت في المصر أو خارج المصر. وعن أبي يوسف: أن الرجل إذا كان ضيفاً وكان ليلاً، ولم يجد أحداً يسأل فأراد أن يصلي التطوع جاز له التحري، وذكر شمس الأئمة الحلواني في «شرحه» مسألة الضيف، فقال: إذا كان الرجل ضيفاً في بيت إنسان فنام القوم، فأراد الضيف أن يتهجد بالليل، وكره أن يوقظهم، وذكر أن بعض مشايخنا قالوا: لا يجوز له التحري، وبعضهم قالوا: إن كان يريد إقامة المكتوبة لا يجوز له التحري، وإن كان يريد التهجد بالليل؛ يجوز له التحري، قال شمس الأئمة الحلواني عن مشايخه إن الصحيح أنه لا يجوز التحري في المصر؛ لأنه يتوصل إلى إصابة الجهة بالسؤال، ويجد من يسأله غالباً، والحكم يبنى على الغالب، قالوا: وما ذكرنا في باب صلاة المريض محمول على البيت الذي يكون في الرباط، ولا يكون.. في.... والمرضى مسافرون. وفي «فتاوى النسفي» : التحري في المسجد في ليلة مظلمة يجوز حتى لو صلى المغرب في المسجد بالتحري، ثم جيء بالسراج وظهر أنه أخطأ القبلة لا يجب عليه الإعادة سواء كان المسجد له محراب أو لم يكن؛ لأن في مس الحائط لطلب المحراب احتمال الضرر، قال: وهذا جواب السيد الإمام أبي شجاع، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني، وفي النهار لا يجوز. وفي كتاب التحري: رجل دخل مسجداً لا محراب فيه، وقبلته مشكلة، وفيه قوم من أهله فتحرى هذا الرجل القبلة وصلى، ثم تبين أنه أخطأ فعليه أن يعيد الصلاة، وإن علم أنه أصاب جازت صلاته؛ لأن السؤال من أهله ما افترض لعينه، بل لإصابة القبلة، فإذا أصاب فقد حصل المقصود بدونه فيجوز، ألا ترى أنه قد صلى بعد الشك بدون التحري؛ لأن التحري ما افترض بعينه بل لإصابة الكعبة، فإذا أصاب فقد حصل

الفصل الثاني في مسائل الزكاة

المقصود، قال في كتاب التحري عقيب ذكر هذه المسألة: وهو نظير من أتى حياً من الأحياء ولم يجد ماءً فتيمم وصلى، ثم وجد الماء فإن كان في الحي قوم من أهله ولم يسألهم لا يجوز له التيمم، وإن كان في الحي قوم من غير أهله فلم يسألهم، أو سألهم فلم يخبروه، أو لم يكن بحضرته من يسأله جازت صلاته، وذكر القدوري في «شرحه» عن محمد رحمه الله فيمن بان له الخطأ بمكة بأن كان به محبوساً في بيت فاشتبهت عليه القبلة فتحرى، فلم يكن عنده من يسأله أنه لا إعادة عليه قال ثمة: وهو الأقيس؛ لأنه إذا كان محبوساً في بيت وانقطع عنه سائر الأدلة تعين عليه التحري، فقد أتى بما أمر به فيجوز، قال ثمة: وقال أبو بكر الرازي: عليه الإعادة؛ لأنه تيقن بالخطأ بمكة؛ لأن القبلة بمكة مقطوع بها، قال ثمة: وكذلك لو كان بالمدينة؛ لأن القبلة بالمدينة مقطوع بها؛ نصبها رسول الله عليه السلام بالوحي بخلاف سائر البقاع.h الفصل الثاني في مسائل الزكاة وإذا دفع الرجل زكاة ماله إلى رجل، ولم يخطر بباله عند الدفع أنه غني أو فقير؛ جاز الأداء إلا إذا علم أنه غني، وإن دفع إلى رجل ظن أنه فقير من غير أن يستدل على كونه فقيراً بما جعل أمارة على الفقر، فالجواب فيه كالجواب في الفصل الأول، ومعنى المسألة أنه لم يشك في أمر المدفوع إليه، بل كما رآه وقع في قلبه أنه فقير. وإن اشتبه عليه حال المدفوع إليه، فدفع إليه بعدما تحرى، ووقع في أكثر رأيه أنه فقير أو أخبره المدفوع إليه أو أخبره عدل آخر أنه فقير، أو رآه في زي الفقراء، أو رآه جالساً في صف الفقراء، أو رآه يسأل الناس، ووقع في قلبه أنه فقير، وفي هذه الوجوه كلها إن علم أنه فقير أو أكثر رأيه أنه فقير، أو لم يعلم شيئاً، أو علم أنه غني، أو كان أكثر رأيه أنه غني؛ جاز في قول أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما، وعند أبي يوسف الجواب كذلك إلا في وجه واحد؛ وهو ما إذا علم أنه غني؛ فإن في هذه الصورة: لا يجزئه عن زكاة ماله عند أبي يوسف، قال شيخ الإسلام: وله أن يسترد ما دفع إليه، وهو خلاف الرواية، فالرواية منصوصة عن أبي يوسف أنه لا يملك الاسترداد. ثم إن محمد رحمه الله جمع بين فصول خمسة، بينما إذا أخبره المدفوع إليه أو عدل آخر أنه فقير، أو رآه في زي الفقراء أو جالساً في صف الفقراء، أو رآه يسأل الناس، ووقع في قلبه أنه فقير؛ ذكر هذا الشرط، وهو الوقوع في قلبه أنه فقير فيما إذا رآه يسأل الناس، ولم يذكره في الفصول الأخر، وإنه شرط في الفصول الأخر أيضاً، وهكذا ذكر في «النوادر» بعض الفصول الأخر مع هذا الشرط؛ وهذا لأنه إذا وقع في قلبه صدقه كان بمنزلة التحري. ثم على قول أبي حنيفة ومحمد: إذا ظهر أن المدفوع إليه غني، وجازت الصدقة عند أبي حنيفة ومحمد هل يحل للقابض؟ اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضهم: لا يطيب،

الفصل الثالث في التحري في الثياب، والمساليخ، والأواني، والموتى

وقال بعضهم: يطيب، وقال بعضهم: يرد إلى المعطي على وجه التمليك. ثم المعطي هل يثاب على ذلك؟ قال بعضهم: يثاب ثواب المجاملة مع الناس والبر بهم، ولا يثاب ثواب الصدقة، واستشهد في «الكتاب» حجة لأبي يوسف في المسألة المختلفة، قال: هو بمنزلة رجل توضأ بماء وصلى، ثم تبين أنه كان غير طاهر، وذكر أن هذا يجزئه ما لم يعلم، فإذا علم عاد، قال شمس الأئمة الحلواني: وتحت هذا اللفظ فائدة عظيمة، فإنه جعل تلك الصلاة مجزئة ما لم يعلم أنها فاسدة في الحقيقة قال رحمه الله: وكذلك كل صلاة وقعت فاسدة، وهو يظن أنها وقعت جائزة، فمات قبل العلم لم يعاقب، والعبرة لما عنده لا بما عند الله، قال رحمه الله: ونظيره ما روي عن أبي يوسف فيمن اشترى جاريته وطأها مراراً، ثم استحقت إن وطأها حلال له، ولا يسقط إحصانه؛ لأنه وطئها وعنده أنها ملكه فاعتبر ما عنده، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد: الوطء حرام، إلا أنه لا إثم عليه. وإذا شك في حال المدفوع إليه فدفع إليه من غير تحر إن ظهر أنه غني، أو وقع في أكثر رأيه أنه غني، أو لم يعلم شيء لا يجوز، وإن ظهر أنه فقير يجوز، وإن وقع في أكثر (105أ2) رأيه بعد ذلك أنه فقير اختلف المشايخ فيه، أكثرهم على أنه لا يجوز، وأما إذا اشتبه عليه حال المدفوع إليه، وتحرى ووقع في أكثر رأيه أنه غني، فدفع إليه مع ذلك لا يجزئه ما لم يعلم فقره، وإذا علم أنه فقير اختلف المشايخ فيه على ثلاثة أقاويل: بعضهم قالوا: يجوز إجماعاً، وبعضهم قالوا: لا يجوز إجماعاً، وبعضهم قالوا: عند أبي حنيفة ومحمد لا يجوز، وعند أبي يوسف يجوز على عكس ما ذكرنا من الاختلاف، قال شمس الأئمة السرخسي: والأصح هو الجواز. ثم في المسألة المختلفة بين أبي حنيفة ومحمد وبين أبي يوسف، لو ظهر أن المدفوع إليه أب الدافع، أو ابنه كان على الخلاف في ظاهر الرواية، وذكر أبو شجاع عن أبي حنيفة أنه لا يجوز، لو ظهر أن المدفوع إليه هاشمي كان على الخلاف في ظاهر الرواية، وذكر في «جامع البرامكة» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يجوز، وإن ظهر أن المدفوع إليه ذمي، كان على هذا الخلاف في ظاهر الرواية، وذكر أبو يوسف في «الأمالي» عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز، وإن ظهر أنه حربي مستأمن ذكر في «نوادر الزكاة» أنه على هذا الخلاف، وذكر في «جامع البرامكة» عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز، وإن ظهر أنه حربي غير مستأمن لا يجوز عند أبي حنيفة باتفاق الروايات، وإن ظهر أنه عبده لا يجزئه إجماعاً، وإن ظهر أنه مكاتبه فعن أبي حنيفة رضي الله عنه روايتان. الفصل الثالث في التحري في الثياب، والمساليخ، والأواني، والموتى إذا كان مع الرجل ثوبان، أو ثياب، والبعض نجس، والبعض طاهر، فإن أمكن التمييز بالعلامة يميز، وإن تعذر التمييز بالعلامة إن كانت الحالة حالة الاضطرار بأن لا يجد ثوباً طاهراً بيقين، واحتاج إلى الصلاة، وليس معه ما يغسل به أحد الثوبين أو أحد

الأثواب يتحرى، وإن كانت الحالة حالة الاختيار إن كانت الغلبة للنجس أو كانا على السواء لا يتحرى، ثم في حالة الاضطرار إذا وقع تحريه في الثوبين على أحدهما أنه طاهر فصلى فيه الظهر، ثم وقع أكثر رأيه على الآخر أنه هو الطاهر فصلى فيه العصر لم يجزه العصر، فإن لم يحضره تحر أو لم يعلم أن في أحدهما نجاسة حتى صلى في أحدهما الظهر، وفي الآخر العصر، ثم نظر فإذا في أحدهما قذر، ولا يدري أهو الأول أو الآخر، فصلاة الظهر جائزة، وصلاة العصر فاسدة. وفي «النوادر» : إذا كان أحد الثوبين نجساً فصلى في أحدهما الظهر من غير تحر، وصلى في الآخر العصر، ثم وقع تحريه على أن الأول طاهر قال أبو حنيفة رضي الله عنه: هذا لم يصل شيئاً، وقال أبو يوسف: صلاة الظهر جائزة. وأما الثوب الواحد إذا أصاب طرفاً منه نجاسة مانعة جواز الصلاة، وهي غير مرئية، هل يجوز له أن يتحرى طرفاً منه فيغسله؟ بعض المتأخرين من مشايخنا جوزوا ذلك، وبعضهم قالوا: إذا غسل طرفاً منه من غير تحر وصلى فيه لا يحكم بفساد صلاته، وتأولنا للمشايخ خلاف ما ذكره هشام في «نوادره» عن محمد، فقد ذكر ثمة: أنه لا يجوز التحري في ثوب واحد، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي: ونظير هذه المسألة مسألة أخرى لا يحفظ جوابها أن الحنطة التي تدلس بالخمر فيبول ويروث وتصب بعض الحنطة ويخلط ما أصيب منها بغيرها قالوا: لو عزل بعضها وغسل، ثم خلط الكل أبيح تناولها، وكذلك لو عزل بعضها ووهبه من إنسان أو باعه منه أو تصدق به عليه حل له تناول البقية ويباح للموهوب له، والمشتري والمتصدق عليه تناولها أيضاً. ونظير هذا مسألة في «النوادر» : رجلان في السفر معهما ثوبان؛ أحدهما طاهر والآخر نجس، فصلى أحدهما في ثوب بالتحري، وصلى الآخر في الثوب الآخر بالتحري؛ تجوز صلاة كل واحد منهما، ولو أم أحدهما، واقتدى به الآخر، فصلاة الإمام جائزة دون صلاة المقتدي. ونظيره مسألة أخرى: رجلان تلاعبا، فسال من أحدهما قطرة دم، وجحد كل واحد منهما أن ذلك منه، فصلى كل واحد منهما منفرداً، جازت صلاته، ولو اقتدى أحدهما بالآخر لا تجوز صلاة المقتدي. ومن هذا الجنس مسألة أخرى: ثلاثة نفر تلاعبوا، فسال من أحدهم قطرة دم أو فسى أحدهم أو ضرط، ثم تجاحدوا جميعاً، ثم أم أحدهم في الظهر، والثاني في العصر، والثالث في المغرب، فصلاة الظهر جائزة للكل ولا تجوز صلاة المغرب لإمام الظهر والعصر رواية واحدة، وفي إمام المغرب روايتان؛ وقال أبو القاسم الصفار: تجوز الصلوات كلها. وإذا تحرى في الثياب ووقع تحريه على أحدهما أنه طاهر، وصلى فيه، ثم تبين أنه أخطأ؛ تلزمه الإعادة بخلاف أمر القبلة. إذا كان في السفر ومعه أوان بعضها نجسة، وبعضها طاهرة إن كانت الغلبة للطاهرة

الفصل الرابع في المتفرقات

يجوز التحري حالة الاختيار وحالة الاضطرار، للشرب والوضوء جميعاً، وإن كانت الغلبة للنجس أو كانا سواء إن كانت الحالة حالة الاختيار للتحري لا للشرب، ولا للوضوء، وإن كانت الحالة حالة الاضطرار أن يتحرى للشرب بالإجماع، ولا يتحرى للوضوء عندنا، ولكنه يتيمم، فإن توضأ بالماءين إن مسح موضعاً واحداً في المرتين لا يجزئه، وإن مسح موضعين يجزئه. وههنا مسألة أخرى لا ذكر لها في «المبسوط» : إذا اختلط إناؤه بأواني أصحابه في السفر، وهم غيب، قال بعضهم: يتحرى، ويأخذ آنيته ويتوضأ به بمنزلة طعام مشترك بين جماعة غاب أصحابه واحتاج الحاضر إلى نصيبه، رفع قدر نصيبه، وكذلك رغيفه إذا اختلط بأرغفة صاحبه قال بعضهم: يتحرى، وقال بعضهم: لا يتحرى في الأرغفة ولكن يتربص حتى يجيء أصحابه، وهذا كله في حالة الاختيار، أما في حالة الاضطرار جاز التحري في الأحوال كلها. إذا كان للرجال مساليخ؛ بعضها ذبيحة، وبعضها ميتة إن أمكن التمييز بالعلامة يميز في الوجوه كلها، ويباح التناول، وإن تعذر التمييز بالعلامة، فإن كانت الحالة حالة الاضطرار ويعني به أنه لا يجد كسرتيّن واضطر إلى الأكل يتناول بالتحري على كل حال، وإن كانت الحالة حالة الاختيار، فإن كانت الغلبة للحرام أو كانا سواء لم يجز التناول بالتحري، وإن كانت الغلبة للحلال يتناول بالتحري، وليس هذا كالمطلقة ثلاثاً إذا اختلطت بغيرها من الإماء، والغلبة للحلال فإن هناك لا يطأ واحدة منهن بالتحري، ولو متن إلا واحدة لا يطؤها (105ب2) والزيت إذا اختلط به ودك الميتة إن كانت الغلبة للحرام أو كانا على السواء لا يجوز الانتفاع به بوجه من الوجوه، وإن كانت الغلبة للزيت لا يحل الأكل، ويحل ما عداه من الاستعمال، ودبغ الجلد به والبيع شرط أن يبين عنده. إذا اجتمع موتى المسلمين وموتى الكفار، فإن أمكن التمييز بالعلامة تميز، وإن تعذر التمييز بالعلامة؛ إن كانت الغلبة للمسلمين يغسلون ويكفنون، ويدفنون في مقابر المسلمين، وإن كانت الغلبة للكفار لم يصل عليهم ويغسلون ويكفنون ويدفنون في مقابر المشركين، وإن كان سواء فكذلك الجواب لا يصلى عليهم، ويدفنون في مقابر المشركين، قيل: عند أبي يوسف يدفنون في مقابر المسلمين، وقال الفقيه أبو جعفر: تجد لهم مقبرة على حدة. الفصل الرابع في المتفرقات رجل أم قوماً في ليلة مظلمة، فتحرى القبلة، فصلى إلى المشرق، وتحرى من خلفه، وصلى بعضهم إلى القبلة، وبعضهم إلى دبر القبلة، وكلهم خلف الإمام، ولا يعلمون ما صنع الإمام أجزأهم، وهذا إذا كان عند كل واحد منهم أن وجه الإمام إلى هذا

الجانب الذي إليه وجهه، ولم يتقدم على الإمام، أما إذا كان عند واحد منهم أن وجه الإمام إلى جهة أخرى، أو هو تقدم على إمامه لا تجوز صلاته، أما إذا كان عنده أنه تقدم على إمامه فظاهر، وأما إذا كان عنده أن وجه إمامه إلى جانب آخر، فلأنه زعم فساد صلاة إمامه لما أنه زعم أنه ترك القبلة، وهذا بخلاف ما لو صلوا في جوف الكعبة، فإنه تجوز صلاة الكل من كان وجهه إلى الجانب الذي إمامه إليه، ومن كان وجهه إلى جانب آخر؛ لأن هناك أحد لم يزعم فساد صلاة الإمام لما أنه ترك القبلة؛ لأن كل جهة حق بيقين، أما ههنا الجهات كلها ليست بحق بيقين بل الحق جهة واحدة، ولهذا أمر بالتحري، ولو كانت كل جهة حقاً لما احتيج إلى التحري، إنما الحق عند كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده، وما عند صاحبه خطأ، وكثير من مسائل التحري ذكرناها في أول كتاب الاستحسان فلا نعيده. قال محمد رحمه الله في «السير الكبير» : ولا يخرج الرجل إلى الجهاد وله أم أو أب إلا بإذنه؛ إلا في النفير العام، وهذا استحسان، وإن كان أبواه كافرين أو أحدهما، وكرها له ذلك، أو كره الكافر؛ فليتحر في ذلك، فإن وقع تحريه على أنه إنما كره لما يلحقه من المشقة لأجل ما يخاف عليه من القتل، فإنه لا يخرج من غير إذنهما، وإن وقع تحريه على أنه إنما كرهه كراهة أن يقاتل مع أهل دينه وملته يخرج بغير إذنهما، وإن لم يقع تحريه على شيء بل شك في ذلك، ومعناه استواء الظنين، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» ، قالوا: وينبغي أن لا يخرج؛ لأن طاعة الوالدين على الولد واجب بيقين وقع الشك في سقوطها، فلا يسقط بالشك، واستدلوا بما ذكر محمد رحمه الله في «السير» في باب طاعة الوالي: أن الإمام إذا أمر الجند بشيء وشكوا أنهم ينتفعون به أو يتضررون، وتساوى الظنان أن عليهم أن يطيعوا الأمير؛ لأن طاعة الأمير واجب بيقين وقع الشك في سقوطه فلا يسقط بالشك. وفي «مجموع النوازل» : إذا اشتبهت عليه القبلة في مفازة، فتحرى ووقع تحريه على جهة، فأخبره عدلان أن القبلة إلى جهة أخرى، فإن كانا مسافرين لا يلتفت إلى قولهما؛ لأنهما يقولان عن اجتهاد، ولا يجوز للمجتهد ترك اجتهاده باجتهاد غيره، أما إذا كانا من أهل ذلك الموضع لا يجوز له إلا أن يأخذ بقولهما؛ لأن خبرهما فوق اجتهاده. وفيه أيضاً: رجل صلى في مفازة بالتحري، فاقتدى رجل به، ولم يتحرَ المقتدي، ثم ظهر أن الإمام أصاب القبلة؛ جازت صلاتهما، وإن ظهر أنه أخطأ لم تجز صلاة المقتدي، وجازت صلاة الإمام؛ لأن تحري الإمام لا يصير تحرياً للمقتدي، فصار المقتدي مصلياً بغير تحر عند اشتباه القبلة فلا يجوز. وفيه أيضاً: قوم صلوا في مفازة بالتحري؛ وفيهم مسبوق ولاحق، فلما فرغ الإمام من الصلاة قاما يقضيان، فظهر الخطأ في القبلة أمكن للمسبوق إصلاح صلاته دون اللاحق؛ لأن المسبوق فيما يقضي ينفرد، وللمنفرد أن ينتقل إلى ما تحول رأيه إليه بخلاف اللاحق؛ لأنه في الحكم كأنه خلف الإمام، فليس له أن يخالف الإمام في الجهة.

رجلان خرجا إلى المفازة، فجاء أوان الصلاة فتحريا، ووقع تحري كل واحد إلى جهة غير جهة صاحبه، فافتتح كل واحد منهما الصلاة منفرداً بالتحري، ثم بدا لأحدهما في وسط الصلاة أن يتحول إلى جهة صاحبه فتحول واقتدى به، فإن استقبل التكبير جاز، وما لا فلا. في متفرقات شمس الأئمة الحلواني: الأعمى إذا صلى ركعة إلى غير القبلة فجاء رجل وسواه، وأقامه إلى القبلة واقتدى به، إن وجد الأعمى وقت الافتتاح من يسأل عنه لا تجوز صلاة الإمام، ولا صلاة المقتدي، وإن لم يجد من يسأل تجوز صلاة الإمام؛ لأنه معذور، ولا تجوز صلاة المقتدي؛ لأن في زعمه أن أول صلاة الإمام إلى غير القبلة والله أعلم. تم كتاب التحري من المحيط البرهاني بحمد الله تعالى.

كتاب اللقيط

كتاب اللقيط هذا الكتاب يشتمل على خمس فصول: 1 * في بيان حاله، ووصفه وما يستحب فيه وما يفترض 2 * في بيان أحكامه 3 * في بيان من يلي عليه 4 * في دعوى نسب اللقيط ورقه 5 * في تصرفات اللقيط بعد البلوغ

الفصل الأول في بيان حاله، ووصفه وما يستحب فيه وما يفترض

الفصل الأول في بيان حاله، ووصفه وما يستحب فيه وما يفترض الفصل الأول: في بيان حاله، ووصفه وما يستحب فيه وما يفترض، المذهب لعلمائنا رضي الله عنهم في اللقيط أنه حر إما باعتبار الدار؛ لأن الدار دار أحرار، أو باعتبار الأصل، فإن الأصل في الآدمي الحرية، والعبرة في حق الدين على رواية كتاب اللقيط من «الأصل» للمكان لا للواجد حتى لو وجد في مكان الكافرين يحكم بكفره سواء كان الواجد مسلماً أو كافراً، وعلى بعض رواية كتاب الدعوى من «الأصل» العبرة للواجد، وعلى بعض رواية كتاب الدعوى من «الأصل» ، وكتاب العتاق العبرة لما يوجب الإسلام أيما كان، وفي «المنتقى» : يعتبر الزي حتى إنه إذا كان عليه زي أهل الشرك يحكم بكفره وحده يعتبر دين الواحد ونقول الملتقط: إذا كان ذمياً (106أ2) وزي اللقيط مشكل، فادعاه نصراني، فهو ابنه، وهم على دينه ولا ينظر في ذلك إلى الموضع الذي وجده فيه إن كان مسجداً أو غيره، ورفعه أفضل من تركه لما في تركه من ترك الترحم على الصغير، وقد قال عليه السلام: «من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا، فليس منا» قالوا: وهذا إذا كان يخاف عليه لا محالة بأن وجده واقعاً في الماء أو بين يدي سبع يفترض عليه الأخذ، وإذا جاء الملتقط باللقيط إلى القاضي، فطلب من القاضي أن يأخذه منه، فللقاضي أن لا يصدقه في ذلك بدون بينة يقيمها على أنه لقيط؛ لأنه منهم، فلعله ولده أو بعض من يلزمه نفقته، واحتال بهذه الحيلة ليدفع النفقة عن نفسه، وإذا أقام البينة على ذلك، فالقاضي يقبل من غير خصم حاضر، إما لأن هذه بينة قامت لكشف الحال، أو لأنها غير ملزمة، والخصم في مثل هذا ليس بشرط. وإذا قبل القاضي منه إن شاء قبض اللقيط منه، وإن شاء لم يقبضه منه، ولكنه يوليه ما تولى ويقول: قد ألزمت حفظه، فأنت وما ألزمت، وليس لك أن تلزمني ما لم ألتزمه، وهذا إذا لم يعلم القاضي عجزه عن حفظه، والإنفاق عليه، فأما إذا علم فالأولى أن يأخذ منه نظير اللقيط، وإذا أخذ منه يضعه على يدي عدل ليحفظه، فإن جاء الأول بعد ذلك وسأل من القاضي أن يرده عليه، فالقاضي بالخيار؛ إن شاء رده عليه، وإن شاء لم يرد، وهذا بخلاف ما لو التقط لقيطاً فجاء آخر وانتزعه من يده، ثم اختصما، فالقاضي يدفعه إلى الأول؛ لأن في الفصل الأول الملتقط أسقط يده باختياره، وصار حاله كحال غيره من الناس في طلب الرد عليه، ولا كذلك الفصل الثاني. وإذا وجد العبد لقيطاً، ولم يعرف ذلك إلا بقوله، وقال المولى: كذبت بل هو عبدي، فالقول قول المولى إن كان العبد محجوراً، وإن كان مأذوناً فالقول قول العبد؛ لأن العبد بقوله هذا اللقيط في يدي يخبر بسقوط حق مولاه عنه؛ لأنه العبد المحجور لا

الفصل الثاني في بيان أحكامه

قول له في إسقاط حق المولى عما في يده، ألا ترى أنه لو أقرَّ على نفسه بدين لا يسقط به حق المولى عما في يده بخلاف المأذون. الفصل الثاني في بيان أحكامه شهادة اللقيط بعدما أدرك جائز إذا كان عدلاً وحكم جنايته، والجناية عليه كحكم غيره من الأحرار؛ لأنا حكمنا بحريته باعتبار الظاهر، ويحد قاذفه في نفسه، ولا يحد قاذفه في أمه؛ لأن أمه في صورة الزانيات؛ لأن الولد لا يعرف له والد، ولا كذلك نفسه، وميراثه للمسلمين، وعقله ونفقته في بيت مال المسلمين، وإذا وجد مع اللقيط مال فذلك المال له لسبق يده إليه، ونفقته في ذلك بأمر القاضي، وللملتقط أن ينفق عليه منه، وقيل: ينفق بعد أمره أيضاً، وهو مصدق في نفقة مثله، وكذلك إذا وجد على دابة فالدابة له، وعن محمد رحمه الله في «النوادر» أن اللقيط إن كان بحال يستمسك على الدابة، ولا يشد عليها فالدابة له، وإن كان لا يستمسك على الدابة، وشد عليها، فالدابة لا تكون له. الفصل الثالث في بيان من يلي عليه الولاية على اللقيط للإمام: قال عليه السلام: «السلطان ولي من لا ولي له» ولا يجوز للملتقط عليه عقد نكاح ولا عقد بيع ولا شراء؛ لأن هذه التصرفات تعتمد الولاية، ولا ولاية للملتقط على اللقيط، إنما له حق الحفظ والتربية، لكونه منفعة محضة في حق اللقيط، وبهذا السبب لا تثبت الولاية، وإن وجد مع اللقيط مال، وأمر القاضي الملتقط بالإنفاق عليه من ذلك المال فما اشترى له من طعام أو كسوة فذلك جائز؛ لأن القاضي لما أمره أن ينفق عليه من ذلك المال فقد أمره بأن يشتري له ما يحتاج إليه من الطعام والكسوة، والقاضي يملك ذلك بنفسه، فيملك الملتقط أيضاً بأمره، وإذا قتل اللقيط خطأ تجب الدية على عاقلة القاتل، وتكون لبيت المال. وإن قتل هذا فصالح الإمام القاتل على الدية جاز، ولو عفى عن القاتل لا يجوز، ولو أراد أن يقتل القاتل فلا يمكن عند أبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف، وإنما كان له استيفاء القصاص في قولهما؛ لأن القصاص في الأصل شرع بملك الحياة على ما قال الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} (البقرة: 179) وذلك بطريق الزجر، حتى إذا تفكر الرجل

الفصل الرابع في دعوى نسب اللقيط ورقه

في نفسه أنه لو قتل غيره يقتل، ينزجر عن قتله، فيكون حياة لهما جميعاً، وذلك موجود في اللقيط، فكان للإمام أن يستوفي القصاص، وإن شاء مال إلى الدية؛ لأنه مجتهد فيه، وليس له أن يعفو؛ لأنه نصب لاستيفاء حقوق المسلمين لا لإبطالها. وإذا أنفق الملتقط على اللقيط من مال نفسه؛ إن أنفق بغير أمر القاضي فهو في ذلك متطوع، وإن أنفق بأمر القاضي إن كان القاضي أمره بالإنفاق على أن يكون ديناً عليه؛ فإن ظهر له أب كان للملتقط حق الرجوع على أبيه، وإن لم يظهر له أب فله حق الرجوع عليه إذا كبر، وبناءً عليه ذكر شيخ الإسلام أن في المسألة روايتان، وذكر شمس الأئمة السرخسي ووجهه: أن مطلق الأمر بالإنفاق محتمل يحتمل أن يكون للتحبب والترغيب في إتمام ما شرع فيه من التبرع، وإنما ينقطع هذا الاحتمال بالأمر على أن يكون ديناً عليه.d وإذا بلغ اللقيط وصدق الملتقط فيما ادعى من الإنفاق عليه رجع عليه بذلك، وإن كذبه كان القول قول اللقيط، وعلى الملتقط البينة، كأنه يدعي ديناً لنفسه على اللقيط، وهو ينكر، وفي «المنتقى» : لو جعل الإمام ولاء اللقيط للملتقط جاز؛ لأنه قضاء في فصل مجتهد فيه، فإن من العلماء من قال بأن الملتقط يشبه المعتق من حيث أنه اختاره كالمعتق والله أعلم. الفصل الرابع في دعوى نسب اللقيط ورقه إذا ادعى الملتقط نسب اللقيط فالقياس أن لا تصح دعوته لمكان التناقض، فإنه زعم أنه التقط وابنه لا يكون لقيطاً، ولأن هذا إقرار على اللقيط فإنه يلزمه أحكام النسبة، والإقرار على الغير لا يصح، وفي الاستحسان: تصح دعوته؛ لأن هذا إقرار على نفسه من وجه من حيث أنه يلزمه نفقته، ويجب عليه أن يحفظه، أو إن كان إقراراً على اللقيط فهو إقرار عليه (106ب2) بما ينفعه من كل وجه، وبالالتقاط ثبت وبهذه الولاية، وما يقول بأنه متناقض قلنا: نعم، ولكن فيما طريقه طريق الخفاء، فقد يشتبه على الإنسان حال ذلك الصغير، ويظن أنه لقيط، ثم يتبين له بعد ذلك أنه ولده، فإن ادعاه رجل آخر، فالمسألة على القياس والاستحسان أيضاً، وهذا قياس أحق؛ لأن المدعي يريد أن يأخذه من يد اللقيط، ويبطل عليه ما ثبت من الحق. وإذا مات اللقيط، وادعى رجل أنه ابنه لا تصح دعوته، فعلى جواب الاستحسان فرق بين حالة الحياة، وبين ما بعد الموت؛ لأن في حالة الحياة إنما صحت دعوته؛ لأنه أقر بما ينفع اللقيط من كل وجه، وهو النسب، وبالموت استغنى عن النسب، ففي كلامه دعوى الميراث فلا يصدق إلا بحجة، ولو ادعى الملتقط أن اللقيط عبده لم يصدق على ذلك؛ لأنا حكمنا بحريته ظاهراً فلا يبطل ذلك لمجرد قوله. ولو ادعى رجل أنه ابنه من امرأته هذه أو من أمته هذه وصدقته المرأة أو الأمة فهو

ابنهما، فقد شرط تصديق الزوجة والأمة، أما تصديق الزوجة فظاهر؛ لأنه أقر عليها بما يلزمها من حقوق النسب، وإقرار الإنسان على زوجته لا يصح إلا بتصديقها، وأما تصديق الأمة فلأنه وإن أقر على مملوكه ولكن بما يلزمها في الحال وبعد الحرية، فإن حقوق النسب كما يلزمها في الحال، يلزمها بعد الحرية، وإقرار المالك على مملوكه بما يلزمها بعد الحرية لا يصح إلا بتصديق المملوك. ولو ادعاه عبد أنه ابنه من امرأته هذه، وهي أمة وصدقته المرأة، وصدقها المولى وقال: هو عبدي؛ ثبت النسب، وكان اللقيط مملوكاً لولي الأمة، وهذا قول أبي يوسف؛ لأن من ضرورة ثبوت النسب من الأمة أن يكون مملوكاً، وعند محمد رحمه الله هو حر؛ لأنا حكمنا بثبات نسبه؛ لأنه ينفعه، وليس في إبطال الحرية الثانية من حيث الظاهر نفع بل فيه ضرر، فثبت نسبه من الرجل، ولا يجعل ابن امرأته هذه. فلو ادعت امرأة اللقيط أنه ابنها وهي حرة أو أمة لن تصدق على ذلك إلا ببينة، فإن أقامت امرأة واحدة على أنها ولدته قبل ذلك منها إذا كانت عدلة حرة؛ أطلق الجواب ولم يفصل، بينما إذا كان لها زوج؛ لأنها تحمل النسب على فراش الغير، أما إذا لم يكن لها زوج فلا تحتاج إلى البينة، وهي والرجل سواء، ومن المشايخ من أجرى المسألة على إطلاقها، وقال: الحكم في حقها ثبت بحقيقة الولادة وللقابلة وقوف عليها، فلا بد من إقامتها لقبول قولها، فأما في جانب الرجل الحكم منقطع عن الحقيقة، وعلق بالسبب الظاهر، فكان قوله مقبولاً. فلو ادعى اللقيط ذمي فالقياس على الاستحسان الذي ذكرنا في المسألة أنه لا يصدق، وفي الاستحسان يصدق، ويثبت نسبه منه ويكون مسلماً، ووجه ذلك: أن إثبات النسب يقع، وإثبات التبعة في الدين ضرر، فالنفع ينفصل عن الضرر، فحصلنا النفع ونفينا الضرر. وفي «المنتقى» : الحسن عن أبي حنيفة ويقبل على الملتقط المسلم الشهود، النصارى لمسلم أو نصراني في قولهم جميعاً، يريد به إذا كان الملتقط مسلماً، فادعى مسلم أو نصراني أنه ابنه، وأقام على ذلك شهود نصارى يقبل منه، قال أبو الحسن: هذا الجواب مستقيم فيما إذا كان الملتقط ديناً غير مستقيم، فيما إذا كان الملتقط مسلماً؛ لأنها توجب استحقاق الملتقط، وشهادة أهل الذمة لاستحقاق الله على المسلمين لا تقبل، قيل: أيضاً هذا الجواب يأتي على طريق القياس؛ لأن على طريق الاستحسان النسب ثابت بالدعوة بدون الثلاثة فلا حاجة إلى الثلاثة. وإن ادعاه رجلان ثبت النسب منهما، ولو سبق أحدهما بالدعوة فهو للسابق، ولا تقبل دعوى الآخر بعد ذلك، إلا أن يقيم الآخر بعد ذلك بينة أنه ابنه؛ لأن السبق في الدعاوي لا يقاوم البينة، وإن ادعاه امرأتان فعلى قول أبي يوسف ومحمد لا يثبت النسب من واحدة منهما؛ لأن ثبات النسب من جانبهما على حقيقة الولادة، واجتماع المرأتين على ولادة ولد واحد لا يكون بخلاف جانب الرجل؛ لأن الحكم في حقه منقطع عن الحقيقة، مبني على السبب وهو الفراش، وأما على قول أبي حنيفة فالنسب ثبت من

الفصل الخامس في تصرفات اللقيط بعد البلوغ

المرأتين، ولكن لا بد له من حجة عند التعارض والتنازع، والحجة شهادة امرأة واحدة على رواية أبي حفص حتى أنه إذا قامت كل واحدة منهما امرأة ثبت النسب، فهو على رواية أبي حفص وعلى رواية أبي سليمان: الحجة شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، فإن أقاما ذلك ثبت منهما، وما لا فلا. وإذا ادعاه الملتقط ورجل آخر فالملتقط أولى، وإذا ادعا اللقيط رجلان كل واحد منهما يدعي أنه ابنه ووصفه أحدهما بعلامات في جسده، وأصاب النسب الآخر قضي للذي وصف، وجعل إصابة الوصف علامة صدقه في دعوته، وإن لم يصب واحد منهما فهو ابنهما، ولو وصفا فأصاب أحدهما دون الآخر قضي للذي أصاب، وكذلك لو قال أحدهما: هو غلام، وقال الآخر: هو جارية يقضى للذي أصاب، ولو تفرد رجل بالدعوة وقال: هو غلام، فإذا هو جارية، أو قال: هو جارية، فإذا هو غلام لا يقضى له أصلاً. ولو ادعاه رجل أنه ابنه من هذه المرأة الحرة، وادعى آخر أنه جده، وأقاما البينة قضي للذي ادعى البنوة، وإن ادعى أحدهما أنه ابنه من هذه المرأة الحرة، وادعى الآخر أنه ابنه من هذه المرأة الأمة قضي للذي ادعا النسب من المرأة الحرة، ولو أقام كل واحد منهما بينة أنه ابنه من هذه المرأة الحرة عين كل واحد منهما امرأة أخرى؛ قضي بالولد بينهما، وهل يثبت نسب الولد من المرأتين؟ فعلى قول أبي حنيفة يثبت، وعلى قولهما لا يثبت، وإذا ادعى نسبه رجلان وَوَقّتَ بينة كل واحدة منهما، فإن عرف أن الصبي على أحد الوقتين قضي له، وإن كان سن الصبي مشكل يحتمل أن يكون على كل واحد من الوقتين فعلى قول أبي يوسف ومحمد يسقط التاريخ، ويقضى بينهما باتفاق الروايات، فأما على قول أبي حنيفة رضي الله عنه فقد ذكر شيخ الإسلام أنه اختلفت الروايات على قول أبي حنيفة رضي الله عنه، ذكر في رواية أبي حفص رضي الله عنه أنه يقضي بينهما، وذكر في رواية أبي سليمان (107أ2) أنه يقضى لأسبقهما تاريخاً، وذكر شمس الأئمة الحلواني ذكر في عامة الروايات أنه يقضى بينهما، وذكر في بعض الروايات أنه يقضى لأسبقهما تاريخاً، قال محمد رحمه الله: والصحيح ما ذكر في عامة الروايات. وفي «القدوري» : ادعى اللقيط مسلم وذمي؛ قضي للمسلم؛ لأن منفعة الصبي فيه أكثر، وكذلك إذا شهد للمسلم ذميان، وشهد للذمي مسلمان قضي للمسلم؛ لأن شهادة كل واحد من المدعيين حجة على صاحبه واستويا فكان المسلم أولى، وفي «الأصل» : إذا التقطه ذميين وتنازعا في كونه عبداً لأحدهما قضي به للمسلم والله أعلم. الفصل الخامس في تصرفات اللقيط بعد البلوغ اللقيط إذا والى الملتقط أو رجلاً آخر بعدما أدرك جاز، وهذا إذا لم يتأكد ولاؤه أثبت المال، فأما إذا تأكد بأن حق حمايته وغفل عنه ببيت المال لا تجوز موالاته، وإذا

بلغ كافراً وقد وجد في مصر من أمصار المسلمين يجبر على الإسلام.... ولا يفيد استحساناً؛ لأنا حكمنا بإسلامه تبعاً للمكان، وكل من حكم بإسلامه تبعاً للمكان، وكل من حكم بإسلامه تبعاً إذا بلغ كافراً يجبر على الإسلام، ولكن لا يعقل استحساناً كالولد المولود بين المسلمين إذا بلغ كافراً، وإذا أقر بالرق لغيره في ذلك كان عبداً له، قالوا: وهذا إذا لم تتأكد حريته بقضاء القاضي عليه بما لا يقضى به إلا على الأحرار كالحد الكامل أو القصاص في الطرق أو ما أشبه ذلك، أما إذا تأكد حريته بقضاء القاضي لم يقبل إقراره بالرق بعد ذلك. وإذا تزوج امرأة بعدما أدرك أو استدان ديناً أو بايع إنساناً أو كفالة أو وهب هبة أو تصدق بصدقة، أو وهب هبة، أو تصدق بصدقة وسلمها له كانت عنده، أو دبره، أو أعتقه ثم أقر أنه لفلان لم يصدق على إبطال شيء من ذلك، وكذلك في سائر التصرفات، وإذا كان اللقيط امرأة، وتزوجت بزوج، ثم أقرت بالرق لإنسان، وصدقها المقر له فهي أمة للمقر له، ولكن النكاح بينها وبين زوجها على حاله إذ ليس من ضرورة القضاء برقها بطلان النكاح؛ لأن الرق لا ينافي النكاح ابتداءاً وبقاءاً، بخلاف ما إذا أقرت أنها أثبتت أبنة زوجها، وصدقها الأب في ذلك حيث يبطل النكاح؛ لأن الجزئية تنافي النكاح ابتداءاً وبقاءاً، فإذا ثبتت الجزئية انتفى النكاح، ولو أعتقها المقر له لا خيار لها؛ لأن إقرارها بالرق لم يصر في حق الزوج، والأصل في ذلك أن لكل حكم يلحق الزوج فيه ضرر لا يمنكه دفعه عن نفسه، فإنها لا تصدق في إقرارها الرق في حق ذلك الحكم، وفي كل ما يمكنه دفع الضرر عن نفسه يكون مصدقه في حقها، حتى إذا طلقها ثنتين ثم أقرت بالرق يملك مراجعتها ولا يضر طلاقها ثنتين بإقرارها بالرق؛ لأن الزوج يتضرر بذلك على وجه لا يمكنه دفعها عن نفسه، ولو كان طلقها واحدة وأقرت بالرق بعد ذلك؛ صار طلاقها ثنتين؛ لأنه تمكن من دفع الضرر عن نفسه بأن يراجعها ثم يمسكها ولا يطلقها، وعلى هذا القياس يخرج جنس هذه الأحكام، والله أعلم بالصواب. تم كتاب اللقيط من المحيط البرهاني بحمد الله تعالى وحسن توفيقه.

كتاب اللقطة

كتاب اللقطة هذا الكتاب يشتمل على أربعة فصول: 1 * في أخذ اللقطة والانتفاع بها وتملكها 2 * في تعريف اللقطة، وما يصنع بها بعد التعريف 3 * فيما يضمن الملتقط، وفيما لا يضمن إذا هلكت اللقطة في يد الملتقط 4 * في الخصومة في اللقطة، والاختلاف فيها، والشهادة

الفصل الأول في أخذ اللقطة والانتفاع بها وتملكها

الفصل الأول في أخذ اللقطة والانتفاع بها وتملكها يجب أن يعلم بأن التقاط اللقطة على نوعين: نوع من ذلك يفترض وهو ما إذا خاف ضياعها، ونوع من ذلك لا يفترض وهو ما إذا لم يخف ضياعها ذلك ينافي أخذها، أجمع عليه العلماء، فاختلفوا فيما بينهم أن الترك أفضل أو الرفع، ظاهر مذهب أصحابنا أن الرفع أفضل؛ لأنه لو لم يرفع هو ربما تصل إليها يد خائنة، وبعض المتقدمين قالوا: الترك أفضل؛ لأن صاحبها يطلبها في المكان الذي سقطت منه، فإذا تركها وصل إليها يد المالك، ومن العلماء من قال: إن كان..... .... يأمن على نفسه الخيانة، فالرفع أفضل، وإن كان فاسقاً لا يأمن على نفسه الخيانة فالترك أفضل، ثم ما يجده الرجل......... .... أن صاحبه لا يطلبه كالنورة في مواضع مختلفة، وكقشور الرمان في مواضع متفرقة، وفي هذا الوجه له أن يأخذها وينتفع بها................ وجدها في يده بعدما جمعها، فله أن يأخذها، ولا يصير ملكاً للآخذ، هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده، وشمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب اللقطة وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» في المسائل المنثورة من «كتاب الحظر» والإباحة. ووجه ذلك: أن إلقاء هذه الأشياء إذن بالأخذ، وإباحة الانتفاع بها عادة وليس تمليك؛ لأن التمليك من المجهول لا يكون، والإباحة لا تزيل ملك المبيح، والمباح لم ينتفع به على حكم ملكه، فإذا وجدها صاحبها في يده فقد وجد عين ملكه، فكان له الأخذ، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب اللقطة أنه ليس للمالك أن يأخذها من يده بعدما جمعها أو احتجزها وتصير ملكاً للآخذ، وكذلك الجواب في التقاط السنابل، فإن كان الرامي قال حالة الرمي: فليأخذه من يشاء، لا يكون للرامي أن يأخذ بعد ذلك من الأخذ بلا خلاف، وتأويل هذا؛ إذا قال: لأقوام معلومين ذكره الفقيه أبو الليث في فتاويه في كتاب «الهبة والصدقة» أما إذا لم يقل ذلك لأقوام معلومين؛ يكون للرامي أن يأخذه من الآخذ. وذكر في كتاب البيوع من «فتاوى أبي الليث» : رجل رمى ثوبه لا يجوز لأحد أن يأخذه إلا إذا قال وقت الرمي: فليأخذه من أراد، وتأويله ما ذكرنا، وهذا الذي ذكرنا من التأويل في المسألتين اختيار الفقيه أبي الليث، وبعض مشايخنا قالوا: ليس للرامي أن يأخذ بعد ذلك، وإن لم يقل الرامي ذلك لأقوام (107ب2) معلومين، ويستدل هذا القائل بقوله عليه السلام حين نحر بدنة «من يشاء اقتطع» ومعلوم أن هذا لم يختص بقوم معلومين، بل يتناول الكل.

ونوع آخر يعلم أن صاحبه يطلبه كالذهب والفضة، وسائر العروض وأشباهها، وفي هذا الوجه له أن يأخذها ويحفظها، ويعرضها حتى يوصلها إلى صاحبه، وقشور الرمان والنوى إذا كانت مجمعة فهي من النوع الثاني؛ لأن صاحبها لما جمعها فالظاهر أنه ما ألقاها إنما سقطت منه، فكانت من النوع الثاني، وفي «غصب النوازل» إذا وجد جوزة ثم أخرى ثم أخرى؛ حتى بلغت عشراً، وصار لها قيمة، فإن وجدها في موضع واحد فهي من النوع الثاني بلا خلاف، وإن وجدها في مواضع متفرقة، فقد اختلف المشايخ فيه، قال الصدر الشهيد: والمختار أنها من النوع الثاني بخلاف النوى، وقشور الرمان، ورمي هذه الأشياء إباحة للانتفاع، ولا كذلك الجوز، قيل: إلا إذا وجدها تحت أشجار الجوز في الخريف، فقد تركها صاحبها عند اجتناء الثمار وجمعها، صح له أن يأخذ وينتفع بها؛ لأنه تركها تحت الأشجار في هذا الوقت لانتفاع الناس بها معتاد. وفي «فتاوى أهل سمرقند» الحطب الذي يوجد في الماء لا بأس بأخذه والانتفاع به وإن كان له قيمة، وكذلك التفاح والكمثرى إذا وجد في نهر جاري لا بأس بأخذه والانتفاع به وإن كثرت. إذا مر في أيام الصيف بثمار ساقطة تحت الأشجار، فهذه المسألة على وجوه: إن كان ذلك في الأمصار لا يسعه التناول منها إلا أن يعلم أن صاحبها قد أباح ذلك له نصاً أو دلالة بالعادة؛ لأنه لا عادة ههنا في الإباحة، وإن كان في الحائط، والثمار مما يبقى كالجوز ونحوه لا يسعه الأخذ إلا إذا علم الإذن، وإن كانت الثمار مما لا يبقى تكلم المشايخ فيه؛ منهم من قال: لا يسعه أن يأخذ ما لم يعلم أن صاحبها قد أباح ذلك، ومنهم من قال: لا بأس به ما لم يعلم النهي إما صريحاً أو دلالة، وهو المختار، وإن كان ذلك في الرساتيق الذي يقال بالفارسية «مرا ست» ، وكان ذلك من الثمار التي تبقى لا يسعه الأخذ إلا إذا علم الإذن، وإن كان ذلك من الثمار التي لا تبقى يسعه الأخذ بلا خلاف ما لم يعلم الآخذ النهي، وهذا الذي ذكر بأكله إذا كانت الثمار ساقطة تحت الأشجار، أما إذا كانت على الأشجار والأفضل أن لا يأخذ من موضع إلا بالإذن؛ إلا إذا كان موضعاً كثير الثمار يعلم أنه لا يشق عليهم ذلك فيسعه الأكل، ولا يسعه الحمل. في «واقعات الصدر الشهيد» : حمل..... من السقاية إلى منزله يكره ولا يحل، وفي «فتاوى أهل سمرقند» : امرأة رفعت ملاء امرأة، تركت ملائها عوضاً، ثم جاءت المرأة التي أخذت ملائها، وأخذت ملاء المرأة الآخرة ليس لها أن تنتفع بها، وطريق ذلك أن تتصدق بهذه الملاء على ابنتها إن كانت فقيرة على نية أن الثواب لصاحبتها إن رضيت، ثم تهب الابنة الملاءة منها فيسعها الانتفاع بها؛ لأنها بمنزلة اللقطة، ولا يحل الانتفاع ابتداءاً إن كانت غنية، ويحل إن كانت فقيرة، وكذلك الجواب

في المكعب إذا سرق وترك عوضاً، وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا كان في المقبرة حطب يجوز للرجل أن يحتطب منها، هكذا ذكر في «العيون» وهذا إذا كان يابساً، فأما إذا كان رطباً يكره كذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» ؛ لأنه ما دام رطباً يسبّح، وربما يكون للميت أنس بتسبيحها، ولهذا قلنا: بيع الحشيش الرطب بلا حاجة لا يستحب؛ لأنه ما دام رطباً يسبح. في «شرح القدوري» في كتاب الحظر والإباحة عن أبي يوسف: في رجل ألقى شاة ميتة فجاء آخر وأخذ صوفها كان له أن ينتفع به، ولو جاء صاحب الشاة بعد ذلك كان له أن يأخذ الصوف منه، ولو سلخها ودبغ جلدها ثم جاء صاحبها كان له أن يأخذ الجلد، ويرد ما زاد الدباغ فيه. في «واقعات الناطفي» : إذا أسقط في الطريق في أيام الصبغ فيها القز ورق الشجر، إلى أن ينتفع بورقه كالثوب وأشباهه، فليس له أن يأخذه، وإن أخذه ضمنه؛ لأنه مملوك منتفع، وإن كان ورق شجر لا ينتفع به له أن يأخذ، في «فتاوى الفضلي» المزارع إذا التقط السنابل بعدما حصد الزرع وجد، كان له خاصة؛ لأنه لو لم يلتقطها المزارع لم يلتقطها رب الأرض، وكان مباح التملك، فإن كان الأرض لليتامى يجوز، إن ترك السنابل إن كانت السنابل بحيث لو استؤجر على جمع ذلك أمراً يبقى للصبي بعد موت الأجير شيء ظاهر لا يجوز تركه، قال: وهو كثوب خلق رماه صاحبه فرفعه غيره كان له، وقد ذكرنا مسألة الثوب قبل هذا، وفي «مزارعة النوازل» ..... بقيت فيها فانتهبها الناس، قال الفقيه أبو بكر: إذا تركها أهلها ليأخذها من يشاء من ذلك لا بأس به، وهو نظير من يرفع زرعه، ويترك عنه السنابل، فالتقطها غيره لا بأس به كذا ههنا، في «النوازل» ما يجمع لله في................. الذي هو حر من الأوقية هل يطيب لهم؟ إن كان بحال يسيل الدهن من خارج الأوقية لا من داخلها يطيب؛ لأن ما هو خارج الأوقية فليس بمستتر، أو كان الدهن يسيل من داخل الأوقية أو من الداخل والخارج، أو لا يعلم، فإن زاد الدهان لكل واحد من المشتري شيئاً طاب له ما ينظر، وإن لم يزد لا يطيب ويتصدق به، ولا ينتفع به إلا أن يكون محتاجاً؛ لأن سبيله سبيل اللقطة، والحكم في اللقطة هذا على ما يتبين إن شاء الله تعالى. قوم أصابوا بعيراً مذبوحاً في طريق البادية إن لم يكن قريباً من الماء، ووقع في الظن أن صاحبه فعل ذلك؛ لأنه أباحه للناس فلا بأس بالأخذ والأكل، وفي «العيون» وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا أذن فيها صاحبها جاز الأخذ في الأصل، في كراهية «فتاوى أهل سمرقند» رجل له دار يؤاجرها، فجاء إنسان بإبله فأناخ في داره، واجتمع من ذلك بعير كثير، قال: إن ترك صاحب الدار ذلك على وجه الإباحة، ولم يكن من دابة أن.... وكل من أخذ هو أولى، وإن كان من رأي صاحب الدار أن.... فصاحب الدار أولى؛ (108أ2) لأنه أعد الدار للاحتراز.

وفي «نوادر هشام» في سرقين الدابة في الخان إذا ذهب صاحبها فهي لمن أخذها؛ لا لصاحب الخان، وفي «دعوى الفضلي» رجل قاطع داراً شيئاً معلومة، وسكنها، فاجتمع فيها سرقين كثيرة، وقد جمع المقاطع، فهي لمن هذا مكانه، وإن لم يفعل ذلك أحد، فهي لمن سبقت يده إليها بالأخذ والرفع، وكان القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله يقول: هي لمن سبقت يده إليها بالرفع على كل حال، وكان لا يعتبر تمدي المكان حتى قال: إذا ضرب حائطاً، وجعل موضعاً يجتمع فيه الدواب فسرقينها لمن سبقت يده إليها، بخلاف ما إذا.... مكاناً لأجل الصيد؛ لأن هناك ما اعترض على فعله لحل معتبر من غيره؛ لأنه لا عبرة لفعل الصيد، وههنا اعترض على فعله فعل معتبر من غيره، وهو إدخال صاحب الدواب الدواب في هذا المكان. وفي «فتاوى أبي الليث» : سئل أبو نصر عن الغنم يجتمع في مكان فيجمع من ذلك بعر كثير في آخره التقطها قال: إن كان أرباب الغنم جمعوا ذلك، أو نصبوا مرابض لغنمهم ليجتمع بعرها، أو كانوا يشحون على ذلك لا يجوز لأحد أن يأخذ ذلك من غير إذنهم، وإن لم يكن شيء من ذلك فلا بأس بالأخذ منه، وفي «دعوى الفضلي» : ساحة فضاء يطرح فيها أصحاب السكة التراب والسرقين والرماد ونحوه، حتى اجتمع من ذلك شيء كثير، فإن كان أصحاب السكة طرحوها على معنى الرمي بها وكان صاحب الساحة هيأ الساحة لذلك، فهي لصاحب الساحة، وإن لم يكن هيأ الساحة لذلك فهي لمن سبقت يده إليها بالرفع، وكان القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي يفتي لمن سبقت يده إليها على كل حال. وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل له فرخ حمام اختلط بها حمام أهل لغيره لا ينبغي له أن يأخذه، وإن أخذه يطلب صاحبه؛ لأنه في معنى الضالة واللقطة؛ فإن فرخ عنده، فإن كان الأم غريباً لا يتعرض لفرخه، وإن كان الأم لصاحب البرج والغريب ذكر، فالفرخ له؛ لأن الفرخ والبيض متولد من الأم، فيكون لصاحب الأم، فإن لم يعرف أن في برجه غريب لا شيء على صاحب البرج إن شاء الله تعالى، وفي «شرح العبد» لشمس الأئمة السرخسي أن من اتخذ برج حمام، وأوكرت حمامات الناس فيها، فما يأخذ من فراخها لا يحل له؛ إلا إذا كان فقيراً، فيحل له أن يتناول لحاجة، وإن كان غنياً ينبغي أن يتصدق بها على فقير، ثم يشتريها منه بشيء.d وفيه أيضاً: رجل أخذ حمامة في المصر يعلم أن منها لا يكون وحشة فعليه أن يعرفها، وفيه أيضاً ومن أخذ بازياً أوشبهه في سواد أو مصر، وفي رجليه سير، أو خلاخل وهو يعرف أن له أهل، فعليه أن يعرفه، فيرده على أهله، فإنه يتعين ثبوت يد الغير عليه؛ لأنه لا يخرج من القفص مع الخلاخل والسير، فأما إذا انفلت من يد صاحبه، أو أرسله وأياً ما كان لا يزيل ملك صاحبه عنه، فكان بمنزلة اللقطة، وكذلك إذا وجد ظبياً في عنقه قلادة.

الفصل الثاني في تعريف اللقطة، وما يصنع بها بعد التعريف

الفصل الثاني في تعريف اللقطة، وما يصنع بها بعد التعريف قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني: أدنى ما يكون من التعريف أن يشهد عند الأخذ، ويقول: أخذتها لأردها، فإن فعل ذلك ثم لم يعرفها بعد ذلك كفى، ومن المشايخ من قال: يأتي على أبواب المساجد وينادي، وقد ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : يعرفها حولاً، ولم يفصل بين القليل والكثير، عن أبي حنيفة رضي الله عنه روايتان: روى الحسن عنه في «المجرد» : إن كانت مائتي درهم فما فوقها يعرفها حولاً، وإن كان أقل من مائتي درهم إلى عشرة يعرفها شهراً، وإن كانت أقل من عشرة يعرفها ثلاثة أيام، وروى محمد عنه إن كانت عشرة فما فوقها يعرفها حولاً، وإن كانت أقل من عشرة يعرفها على حسب ما يرى، وروى الحسن عن أصحابنا: إن كانت مائتي درهم فصاعداً يعرفها حولاً، وإن كانت عشرة فصاعداً يعرفها شهراً، وإن كانت ثلاثة فصاعداً يعرفها عشرة، وإن كانت درهماً فصاعداً يعرفها ثلاثة، وإن كانت دانقاً يعرفها يوماً، وإن كان دون ذلك نظر ثمنه و....... ونصبها في كف فقير. والفقيه أبو جعفر كان يقول: إذا بلغ مالاً عظيماً بأن كان كيساً فيه ألف درهم أو مائة دينار يعرف ثلاثة أحوال، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يحكي عن الشيخ الإمام أنه كان يروي عن محمد يعرف اللقيطة ثلاث سنين قل أو كثر، كان الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي يقول: شيء من هذا ليس بتقدير لازم، بل يبني الحكم على غالب الرأي، ويعرف القليل والكثير أن يغلب على رأيه أن صاحبه لا يطالب بعد ذلك، وفي «المنتقى» : قدر مدة التعريف في السنور، والطائر بيوم. ثم على قول من قدر مدة التعريف بحول أو أكثر؛ اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم قالوا: يعرفها كل جمعة، وبعضهم قالوا: كل شهر، وبعضهم قالوا: كل ستة أشهر، وهذا كله إذا كانت اللقطة شيئاً يبقى، وأما إذا كانت شيئاً لا يبقى إلى أن ينتهي إلى وقت يخشى عليها الفساد، ثم بعدما مضى مدة التعريف لو لم يظهر لها طالب يدفعها إلى الإمام، هكذا ذكر في «النوازل» ، ولم يذكر في «المبسوط» أن الملتقط يدفعها إلى الإمام، قال في «المنتقى» : قال أبو يوسف والحسن: له أن يأمر غيره ويعطيها حتى يعرفها عنه إذا أعجز عن التعريف بنفسه، وإن مات في يده فلا ضمان على أحد في ذلك، ثم إذا دفعها إلى الإمام كان الإمام بالخيار، إن شاء قبل منه، وإن شاء لم يقبل، فإن قبل فهو بالخيار؛ إن شاء عجل تصدقها على الفقراء، وإن شاء أقرضها من رجل موثوق مليء، وإن شاء دفعها مضاربة، والحاصل أن الإمام نصب ناظم الفعل ما رآه أصلح في حق صاحب اللقطة. وإذا ردها على الملتقط فالملتقط بالخيار إن شاء أمسكها وأدام الحفظ فيها حتى

الفصل الثالث فيما يضمن الملتقط، وفيما لا يضمن إذا هلكت اللقطة في يد الملتقط

يظهر له طالب، وإن شاء تصدق بها على أن يكون الثواب لصاحبها، وإن شاء باعها، وإن لم يكن دراهم أو دنانير، وأمسك ثمنها، فإن تصدق وحضر صاحبها فله الخيار؛ إن شاء بعد التصدق والثواب له، وإجازته الصدقة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء، وإن شاء لم يجز الصدقة، وعند (108ب2) عدم الإجازة إن كانت قائمة في يد الفقير أخذها منه، وإن كانت هالكة كان له الخيار؛ إن شاء ضمن الفقير، وإن شاء ضمن الملتقط، فإن قيل: كيف يضمن الملتقط وقد تصدق بإذن الشرع؟ قلنا: الشرع ما ألزمه التصدق، إنما أذن له في ذلك، ومثل هذا الإذن يسقط الإثم ما لا يسقط عصمةً يثبت حقاً للعبد كالإذن في الرمي إلى الصيد، حتى حكي عن القاضي الإمام أبي جعفر يقول: ما ذكر في «الكتاب» محمول على ما إذا تصدق بغير أمر القاضي، فأما إذا تصدق بأمر القاضي فليس للمالك أن يضمن الملتقط. وإن كان الملتقط محتاجاً له فله أن يصرف اللقطة إلى نفسه بعد التعريف؛ لأن الصرف إلى فقير آخر والصرف إلى نفسه سواء، وإن كان غنياً فليس له أن يصرفها إلى نفسه، وإن باع القاضي اللقطة أو باع الملتقط بأمر القاضي، ثم حضر صاحبها وهي قائمة في يدي المشتري كان لصاحبها الخيار؛ إن شاء أجاز البيع وأخذ الثمن، وإن شاء أبطل البيع وأخذ عين ماله؛ لأن هذا بيع صدر لا عن ولاية، فيتوقف على إجازة المالك، وإن كانت قد هلكت، فالمالك بالخيار؛ إن شاء ضمن البائع، وعند ذلك هذا البيع من جهة البائع في ظاهر الرواية، وبه أخذ المشايخ، وفي رواية أخرى يبطل البيع، وبه أخذ بعض المشايخ. وفي الوديعة: إذا باعها المودع، وسلمها إلى المشتري فهلكت في يد المشتري، ثم إن المالك ضمن البائع لم ينفذ البيع باتفاق الروايات، هكذا ذكر شيخ الإسلام في شرحه، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : أن بيع المودع ينفذ من جهته كبيع الملتقط، وأشار إلى المعنى الجامع فقال: الملتقط حين دفعها ليبيعها بغير إذن القاضي صار ضامناً لها فيستند ملكه إلى تلك الحالة فينفذ بيعه، وإن شاء ضمن المشتري قيمتها، ورجع بالثمن على البائع، وجعل استرداد القيمة من يده بمنزلة استرداد العين من يده، في وديعة «فتاوى أهل سمرقند» : غريب مات في دار رجل، وليس له وارث معروف، وخلف من المال ما يساوى في دراهم، وصاحب الدار فقير، فأراد أن يتصدق بها على نفسه، فله ذلك؛ لأنه في معنى اللقطة. الفصل الثالث فيما يضمن الملتقط، وفيما لا يضمن إذا هلكت اللقطة في يد الملتقط فهذا على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يأخذها ليردها على المالك، ويشهد عند الأخذ شاهدين أنه إنما أخذها ليردها على المالك، وفي هذا الوجه لا ضمان؛ لأن أخذها ليردها على المالك مندوب

إليه شرعاً، فلا يصلح سبباً للضمان. الوجه الثاني: إذا أخذها لنفسه، وأقر بذلك، وفي هذا الوجه هو ضامن؛ لأنه منهي عن الأخذ لنفسه، فيصير غاصباً ضامناً. الوجه الثالث: إذا ادعا أنه أخذها ليردها على المالك إلا أنه لم يشهد على ذلك، ولكن صدقه أنه أخذها ليردها على المالك وضمنها لا ضمان، وإن كذبه المالك في ذلك، وادعى أنه أخذها لنفسه فعند أبي يوسف القول قول الملتقط مع يمينه؛ لأن الظاهر شاهد له؛ لأن الظاهر مباشرة ما هو حلال، والحلال من الأخذ ههنا الأخذ للرد على المالك، وعند أبي حنيفة ومحمد القول قول صاحب اللقطة؛ لأن الأصل في عمل الحر أن يكون لنفسه ما لم يوجد دليل يدل على العمل للغير، وذلك الدليل ههنا الإشهاد، فإذا ترك الإشهاد لم يوجد دليل العمل لغيره، فعمل به يتضمنه الأصل. وإن أشهد أنه التقط لقطة أو ضالة، أو قال: عندي لقطة فمن سمعتموه يطلب لقطة فدلوه عليَّ، فلما جاء صاحبها قال: قد هلكت فهو مصدق، ولا ضمان عليه؛ لأنه تبين بصدر الكلام أنه أخذه للرد، وأنه أمين فيها، وقول الأمين في دعوى الهلاك مقبول، ولا يضره أن يسمي جنسها ولا صنعتها في التعريف؛ لأن ترك تسمية ذلك لتحقيق الحفظ على المالك حتى لا يسمع ذلك إنسان فيدعيها لنفسه، ويرفع الأمر إلى قاضي يرى الاستحلاف لمصيب العامة، وفيه خلاف ظاهر، على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. ولو وجد لقيطان أو ثلاثة وقال: من سمعتموه ينبذ لقطة فدلوه عليَّ، فهذا تعريف للكل ولا ضمان إن هلكت الكل عنده، في «فتاوى أهل سمرقند» وجد لقطة في طريق أو مفازة، ولم يجد أحداً يشهده عليه عند الأخذ، قال: يشهد إذا ظفر بمن يشهده عليه، فإذا فعل ذلك لا يضمن؛ لأنه ليس في وسعه أكثر من هذا، وإن وجد من يشهده ولم يشهد حتى جاوزه ضمن؛ لأنه ترك الإشهاد مع القدرة عليه، وإذا التقط لقطة ليعرضها ثم ردها إلى مكانها الذي وجدها فيه فلا ضمان عليه لصاحبها، وإن هلكت قبل أن يصل إليها صاحبها أو استهلكها غيره؛ لأن الأخذ ليردها على مالكها لا يصلح سبباً للضمان، والرد إلى مكانه لا يصلح سبباً للضمان والرد إلى مكانه لا يصلح سبباً، فامتنع وجوب الضمان. قال الحاكم الشهيد في «إشاراته» : إن ما ذكر في الكل محمول على ما إذا أعادها بعدما حولها ضمن، وإليه ذهب الفقيه أبو جعفر، وروي عن محمد أنه إذا مشى خطوتين، أو ثلاثة خطوات ثم ردها، ووضعها في الموضع الذي أصابها فيه يبرأ من الضمان، فلا يعتبر هذا القدر من التحويل، وإن كان أخذها لنفسه ثم ردها إلى مكانه فهو ضامن لها؛ لأنه صار ضامناً بالأخذ، والضمان متى وجب لا تقع البراءة منه إلا بالرد على المالك، والإعادة إلى موضعه ليس برد على المالك، وهو نظير ما لو غصب من آخر دابة، ثم ردها على مالكها فلم يجده، وربطها على مكانها. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: أنه إذا ردها إلى مكانها من غير أن يذهب بها فلا ضمان من غير فصل، بينما إذا أخذها لنفسه أو أخذها ليعرفها، وإذا ذهب بها؛ ثم ردها

الفصل الرابع في الخصومة في اللقطة، والاختلاف فيها، والشهادة

إلى مكانه ضمن على كل حال، وقيل: إذا اعتمد مع الإشهاد أنه يأخذ لنفسه فهو ضامن فيما بينه وبين الله تعالى، وإذا اعتمد التعريف مع ترك الإشهاد فلا ضمان، وقيل: هذا التفصيل فيما إذا أخذها لنفسه، أما إذا أخذها ليعرفها فلا ضمان من غير تفصيل كما ذكر في «الكتاب» . الفصل الرابع في الخصومة في اللقطة، والاختلاف فيها، والشهادة في «المنتقى» ابن سماعة عن أبي يوسف في رجل التقط لقطة، وضاعت منه ثم وجدها في يد رجل آخر فلا خصومة بينهما، قال: وليس الملتقط في (109أ2) هذا كالمستودع، والفرق وهو: أن المستودع مأمور في الحفظ من جهة المالك نصاً، ولا يتهيأ له الحفظ إلا باسترداد فكان مأموراً من جهة المالك بالاسترداد والخصومة ولا كذلك الملتقط. إذا وجد الرجل لقطة وهي دراهم أو دنانير فجاء رجل وادعى أنها له، وسمى وزنها وعددها ووعاءها وأصابها، فلم يصدقه الملتقط فعلى قول مالك يجبر الملتقط على دفعها إليه، وعلى قول علمائنا لا يجبر، بل يخير إن شاء دفعها، وإن شاء أبى حتى يقيم البينة؛ لأن إصابة العلامة محتمل في نفسه قد يكون جزافاً، وقد يعرف الإنسان ذلك في ملك غيره، وقد يسمع من مالكه عند طلبه، والمحتمل لا يكون حجة للإلزام، فإن دفعها إليه أخذ منه كفيلاً نظراً منه لنفسه، فلعله يأتي مستحقها، فيضمنها إياه، ولا يتمكن من الرجوع على هذا الأخذ؛ لأنه يخفي شخصه فيحتاط بأخذ الكفيل. وإن صدقه دفعها إليه، ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» أنه إذا أبى هل يجبر على الدفع، وقد اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم قالوا: لا يجبر، وقاسه على ما إذا كان في يد رجل وديعة فجاء رجل، وقال: إني وكيل المودع في استرداد الوديعة منك، فصدقه لا يجبر على الدفع إليه؛ لأنه أقر بحق القبض في ملك الغير فكذا هذا، وبعضهم قالوا: يجبر على الدفع بخلاف مسألة الوديعة. والفرق في مسألة الوديعة: الملك لغير الذي حضر ظاهر في الوديعة، فأما في اللقطة ليس لغير الذي حضر ملك ظاهر، ثم إذا دفعها إليه في هذه الصورة في آخر، وأقام بينة أنها له إن كان العين قائماً في يد القابض يقضى بالعين للمدعي، وإن كان هالكاً كان للمدعي خياراً في التضمين، فإن ضمن القابض فالقابض لا يرجع على الملتقط، وإن ضمن الملتقط، فالملتقط هل يرجع على القابض؟ ذكر هذه المسألة في كتاب اللقطة في موضعين، قال في موضع: يرجع، وقال في موضع: لا يرجع، ومن المشايخ من وفق بين الروايتين، والأصح أن في المسألة روايتان؛ والاعتماد على رواية الرجوع. وإذا وجد شاة أو بقرة أو بعيراً وحبسها، وأنفق عليها في مدة التعريف، ثم جاء

رجل وأقام بينة أنها له لم يرجع بما أنفق، إلا إذا كان الإنفاق بأمر القاضي، وإذا رفع الأمر إلى القاضي، فالقاضي لا يأمره بالإنفاق ما لم يقم بينة أنه التقطها نظراً للمالك، وقدمنا نظيره قبل هذا، فإن قال: لا بينة لي، فالقاضي يقول له: أنفق عليها إن كنت صادقاً، فإن كان صادقاً يرجع، وإن كان كاذباً لا يرجع. قالوا: إذا كانت اللقطة شيئاً يخاف عليها الهلاك متى لم ينفق عليها إلا أن يقم البينة فالقاضي يقول له: أنفق عليها إن كنت صادقاً، فإن أقام بينة عند القاضي أمره بالإنفاق يومين أو ثلاثة، بعد هذا إن كانت اللقطة شيئاً يمكن إجارتها مؤاجرة ينفق عليها من أجرها، وإن كانت شيئاً لا يمكن إجارتها باعها القاضي بنفسه، أو أمر الملتقط بالبيع، وأعطى الملتقط من الثمن ما أنفق بأمره، وإن لم يبعها حتى جاء صاحبها، وأقام بينة قضى به القاضي له، وقضى عليه بما أنفق الملتقط، وكان للملتقط أن يحبسها منه حتى يعطيه ما أنفق، وهذا لا يشكل فيما إذا أمر بالإنفاق على أن يكون ديناً على صاحبها إذا لم يشترط ذلك، فظاهر ما ذكر في هذا الكتاب يقتضي الرجوع، قال شيخ الإسلام: يجب أن يكون في المسألة روايتان على نحو ما بينا في اللقيط. في «المنتقى» إذا قال الرجل: وجدت لقطة وضاعت في يدي، وقد كنت أخذتها لأردها على مالكها، وأشهدت بذلك،، وكان الأمر كما قال من الأخذ للرد على المالك والإشهاد بذلك، إلا أن صاحبها يقول: ما كانت لقطة، وإنما وضعتها بنفسي لا يرجع واحد، فإن كان في موضع ليس يقربه أحد، أو كان في طريق، فالقول قول الملتقط إذا حلف أنها ضاعت عنده، وإن كان لا يدري ما قصتها ضمن الملتقط، وإن قال صاحبها: أخذتها من منزلي، فقال الملتقط: أخذتها من الطريق ضمن، وإن وجدها في دار قوم أو في منزلهم أو في نار فارغة ضمن، إذا قال صاحبها: وضعتها لأرجع فآخذها، والأصل في ذلك كله أن أخذ مال الغير سبب لوجوب الضمان، بعضه الأصل إلا إذا كان الأخذ على وجه الحفظ بأن يكون في الطريق، أو يكون في مكان لا يكون يقربه أحد؛ لأنه يعوض التوى، والتلف إذا كان بهذه الصفة، فكان الأخذ للرد على المالك، والحالة هذه من باب الحفظ، فما لم يعلم ذلك أعمل فيه بعض الأصل. وفي «الأصل» إذا قال المالك: أخذت مالي غصباً، وكان الملتقط يقول: كانت لقطتة، وقد أخذتها لك، فالملتقط ضامن من غير تفصيل، وإذا كانت اللقطة في يدي مسلم، فادعاها رجل فأقام عليه الثلاثة وأقر الملتقط بذلك أو لم يقر ولكن قال: لا أردها عليك إلا عند القاضي فله ذلك، وإن مات في يده عند ذلك فلا ضمان، في «المنتقى» : وإذا كانت اللقطة في يد مسلم ادعاها رجل، وأقام على ذلك شاهدين كافرين لا تقبل هذه الشهادة، وإن كانت في يدي كافر، وباقي المسألة بحالها، فكذلك قياساً؛ لأني أدري بعلمها بكل مسلم. وفي الاستحسان: تقبل الشهادة؛ لأن المستحق بهذه الشهادة في الحال اليد وإنها للكافر، وأما الكل فكما يتوهم أن تكون للمسلم يتوهم أن تكون للكافر، فيعارض

الموهومان فيسقط اعتبارهما وتثبت العبرة لليد، وإن كان في يد كافر ومسلم لم تجز شهادتهما على واحد منهما قياساً، وفي الاستحسان جازت الشهادة على الكافر، وقضي بما في يد الكافر لما قال في «المنتقى» بشر عن أبي يوسف رحمه الله: سارق دفع إلى رجل متاعاً فينبغي للمدفوع إليه أن يتصدق به إذا لم يعرف صاحبه، وإن عرف صاحبه ردَّه عليه، ولا يدفعه إلى السارق، ولا ينبغي له ذلك، ألا ترى أنه لو وصل إلى أخذه بقي له أن يأخذه، ويرده على المالك، وهو ما جوز في ذلك، فكيف يدفعه إلى السارق بعدما وصل إليه، والله أعلم بالصواب.

كتاب الإباق

كتاب الإباق هذا الكتاب يشتمل على ست فصول: 1 * في أخذ الولد، وما يصنع به بعد الأخذ 2 * في بيان مقدار الجعل 3 * فيمن يستحق الجعل ومن لا يستحق 4 * في بيان وجوب الضمان على راد الآبق 5 * في الاختلاف الواقع في الإباق 6 * في التصرفات في الآبق

الفصل الأول في أخذ الولد، وما يصنع به بعد الأخذ

الفصل الأول في أخذ الولد، وما يصنع به بعد الأخذ ذكر شمس الأئمة السرخسي في شرحه أنه ينبغي للمراد أن يأتي بالآبق إلى الإمام، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا جاء به القاضي وقال: هذا عبد آبق، هل يصدقه القاضي من غير بينة؟ فقد اختلف المشايخ فيه، ثم إذا صدقه وأخذه منه حبسه إلى أن يحجر له طالب، ويكون هذا الحبس بطريق التعزير، ومن هذا المعنى يقع الفرق بين الأبق وبين الضال والضالة، فإن القاضي لا يحبسهما؛ لأنهما لا يستحقان التعزير ولا كذلك الأبق، وينفق عليه في هذا الحبس من بيت المال؛ لأنه محتاج إلى النفقة عاجز عن الكسب مادام محبوساً. ولو أمره القاضي ليخرج، ويكتسب فأبق ثانياً، فكان النظر في الإنفاق من بيت المال، ثم إذا حبسه الإمام في (بيت) رجل، وأقام بينة أنه عبده قبل القاضي بينته، ولم يذكر محمد رحمه الله أن القاضي هل ينصب له خصماً، قال شمس الأئمة الحلواني: اختلف المشايخ فيه؛ بعضهم قالوا: ينصب خصماً، فلم تقبل هذه البينة، وبعضهم قالوا: يقبل القاضي هذه البينة من غير أن ينصب خصماً، فطريقه ما ذكرنا قبل هذا. قال: ويحلف المدعي بالله ما بعته ولا وهبته ثم يدفع إليه، فإن قيل: كيف يستحلفه وليس ههنا خصم حاضر يدعي ذلك؟ قلنا: يستحلفه لقضائه، أو يستحلفه نظراً لمن هو عاجز عن النظر لنفسه بنفسه من مشتري أو موهوب له، فإذا حلف دفعه إليه، وهل يأخذ منه كفيلاً؟ ذكر في رواية أبي حفص لا أحب له أن يأخذ كفيلاً، ولو أخذ لا يكون مسناً. وذكر في «نوادر ابن سليمان» : أحب إليَّ أن يأخذ منه كفيلاً، ولو لم يأخذ كان في سعة منه، واختلف المشايخ فيه، منهم من قال: ما ذكر في رواية أبي حفص قول أبي حنيفة، وما ذكر في رواية ابن سليمان قولهما؛ بناءاً على أن أبا حنيفة لا يرى الكفيل للمجهول، وهما يريان ذلك، ومنهم من قال: في المسألة روايتان؛ وهو الأصح، ولكن ما ذكر في رواية ابن سليمان أحوط لجواز أن يظهر له مستحق آخر. وإن لم يكن للمدعي بينة، وأقر العبد أنه عبده دفعه إليه، وأخذ منه كفيلاً؛ لأن العبد مع المدعي تصادقا على أنه ملك المدعي ولا منازع لهما، ولم يذكر في «الكتاب» أن القاضي يتحر في الدفع إليه، أو يجب عليه الدفع، إنما ذكر دفعه إليه، وقد اختلف المشايخ فيه، وإنما يأخذ الكفيل ههنا؛ لأن الدفع إليه بما ليس بحجة عند القاضي فلا يلزمه ذلك بدون الكفيل، بخلاف الفصل الأول على إحدى الروايتين، فإن لم يجىء للعبد طالب، وطال ذلك باعه القاضي وأمسك ثمنه، ولا يؤاجره بخلاف العبد الضال إذا حجر به إلى القاضي فالقاضي لا يبيعه بل يؤاجره؛ لأن الآبق لا يؤمن بأن يأبق ثانياً لو آجره ولم يبعه، ربما يأتي بنفقته جميع ثمنه، فكان البيع أنفع في حق المولى، ولا كذلك الضال فإنه يؤمن منه الإباق، فكانت الإجارة، وفيها آبقاً العين على ملك المولى أنفع في

الفصل الثاني في بيان مقدار الجعل

حق المولى ثم القاضي يرجع بما أنفق على الآبق مدة حبسه في ثمنه إن باعه، وإن حضر مولاه يرجع عليه بذلك أخذ الآبق لم يقدر على أخذه أفضل من الترك، وفي حال الضال اختلف المشايخ. الفصل الثاني في بيان مقدار الجعل وإذا أخذ آبقاً ورده على مولاه؛ إن كان أخذه من مسيرة سفر أو أكثر فله أربعون درهماً لا يزاد عليه، وإن كان عليه قيمته أربعين تنقص عن الأربعين درهم عند محمد، وهو قول أبي يوسف الأول، وفي قوله الآخر له الجعل حملاً؛ لأن وجوب الجعل عرف بإيجاب الصحابة رضوان الله عليهم، وهم أوجبوا أربعين درهماً من غير أن يتعرضوا لقيمة العبد. وإن كانت قيمته دون أربعين درهماً، فعلى قول محمد؛ وهو قول أبي يوسف الأول يحط عن قيمته درهم، ويجب الباقي حتى إذا كانت قيمته عشرة دراهم تجب تسعة دراهم، وعلى قول أبي يوسف الآخر يجب الجعل كله، وروي عن أبي يوسف رواية أخرى فيما إذا قيمته أربعون أنه ينقص من الجعل ما يقطع فيه العد، وإن كان أخذه في المصر أو خارجاً منه، ولكن ما دون مسيرة السفر يرضخ له هكذا ذكر في «الأصل» ، وفي «المجرد» عن أبي حنيفة رضي الله عنه: إذا وجده في المصر فلا شيء له، ثم إذا وجب الرضخ إن اصطلح الراد والمردود عليه على شيء فالمراد ذلك، وإن اختصما عند القاضي، فالقاضي يقدر الرضخ على قدر المكان، هكذا قاله بعض مشايخنا.4 وتفسيره: أنه وجب للراد من مسيرة ثلاثة أيام أربعون درهماً، فيكون بإزاء كل يوم ثلاثة عشر درهماً وثلث درهم فيقضى بذلك إن رده من مسيرة يوم، وإليه أشار في «الكتاب» ، وبعضهم يفوض إلى رأي الإمام، وهذا ليس بالاعتبار. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : والحكم في رد الصغير؛ كالحكم في رد الكبير، إن رده من مسيرة السفر فله أربعون درهماً، وإن كان رده مسيرة السفر، فله الرضخ ويرضخ في الكبير أكثر مما يرضخ في الصغير إن كان الكبير أشدهما مؤنة. قالوا: وما ذكر من الجواب في الصغير محمول على ما إذا كان صغيراً يعقل الإباق، أما إذا كان صغيراً لا يعقل الإباق فهو ضال، ورأوا الضال لا يستحق الجعل، وقد نص على هذا التفصيل في «المنتقى» . وإن كان الدين بين رجلين فالجعل عليهما على قدر أنصبائهما، فإن كان أحد المولين حاضراً والآخر غائباً، فليس للآخر أن يأخذه حتى يعطيه جعله كله، وإذا أخطأه لم يكن متطوعاً؛ لأنه مضطر في أداء حصة صاحبه، وهو نظير المشتريين صفقة واحدة إذا أدى أحدهما كل الثمن.

الفصل الثالث فيمن يستحق الجعل ومن لا يستحق

وإن كان الآبق رجل؛ والراد رجلان، فالجعل بينهما على السواء، وإن كان الآبق رهناً فجاء به رجل فهو رهن على حاله، والجعل على المرتهن إن كانت قيمته مثل الدين؛ لأن الجعل للراد يسبب إحياء المالية، والإحياء بقدر الدين حصل للمرتهن، ألا ترى أنه لو لم يرده حتى تحققت.... أسقط دين المرتهن، والجعل يخالف النفقة، فإن نفقة المرهون على الراهن، وجعل المغصوب إذا أبق (110أ2) من يد الغاصب، وإذا كان الآبق خدمته لرجل ورقبته لرجل؛ فالجعل على صاحب الخدمة؛ لأن منفعة الرد في الحال لصاحب الخدمة، فكان هو المخاطب بالجعل في الحال، وإذا انقضت الخدمة رجع صاحب الخدمة بالجعل على صاحب الرقبة أو يباع العبد فيه؛ لأن صاحب الرقبة صاحب أصل. ولمن جاء بالعبد الآبق أن يمسكه حتى يستوفي الجعل؛ لأنه استوجب الجعل بإحياء المالية، فكان بما استوجب تعلقاً بالمالية، فيحبسه به كما يحبس البائع المبيع بثمنه، وإن هلك في يده بعدما قضى القاضي له بالإمساك بالجعل، أو قبل المرافعة إلى القاضي فلا ضمان ولا جعل، وإذا صالح الذي جاء بالآبق مع مولاه من الجعل على عشرين درهماً جاز؛ لأنه يجوز بدون حقه، وإن صالح على خمسين درهماً وهو لا يعلم أن الجعل أربعون جاز بقدر أربعين، وبطل الفضل، وإذا أبقت الأمة ولها صبي رضيع فردهما رجل فله جعل واحد، إلا إذا ارتهن فحينئذ تجب ثمانون درهماً وإذا رجع الواهب في الهبة بعدما رد الموهوب من إباقه، فالجعل على الموهوب له؛ لأن الرد إحياء المالية له بالرد إليه، فزوال ملكه بعد ذلك بالرجوع لزوال ملكه بموت العبد. الفصل الثالث فيمن يستحق الجعل ومن لا يستحق قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا (كان) المكاتب لا يستحق الجعل؛ لأن استحقاق الجعل بالرد لإحياء مالية الرفعة بالردة، وذلك لا يوجد في المكاتب؛ لأن حق المولى في بدل الكتابة في ذمته خاصة، ولم يصر ذلك على شرف الهلاك بإباقه حتى يكون في الرد إحياؤه، ولراد المدبر وأم الولد الجعل، وهذا الجواب مشكل في أم الولد؛ لأن الجعل يستحق بإحياء المالية، والمالية لأم الولد خصوصاً عند أبي حنيفة رضي الله عنه، والجواب أن لها مالية باعتبار الكسب، فإنه أحق بكسبها، وقد أحيا الراد بالرد بخلاف المكاتب؛ لأن كسب المكاتب له لا حق للمولى فيه، فالراد بالرد لا يحيي مالية للمولى لا باعتبار القيمة، ولا باعتبار الكسب، ولو مات المولى قبل أن يصل بها إليه، فلا جعل، وإن كان على المدبر سعاية ورده إلى الورثة فلا جعل؛ لأنه رد حراً عندهما، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه رد مكاتباً، ولا رد بجعل المكاتب، ولا جعل للوصى إذا رد

عبداً لهم، وكذلك كل من يعول صغيراً، ولا جعل للسلطان إذا رد آبقاً؛ لأنه فعل ما هو واجب عليه، وكذلك رآه بأن.... إذا رد المال من المدبر القطاع فلا شيء لهما، ولا جعل للابن إذا رد آبقاً لأبيه، وللأب الجعل إذا رد آبقاً للابن إذا لم يكن الآبق في عيال الابن؛ وهذا لأن رد الآبق على المولى نوع خدمة في حق المولى، وخدمة الأب مستحقة على الابن، وإقامة ما هو مستحق عليه الإنسان لا يقابل بالأجر، فأما خدمة الابن غير مستحقة على الأب، فيجوز أن يقابل بالأجر، إلا أن الأب إذا كان في عيال الابن لا يستحق الجعل؛ لأن أبق الرجل يطلبه من هو في عياله عادة، ولهذا ينفق عليهم فلا يستوجب مع ذلك جعلاً آخر. وفي «البقالي» : روي أن الأب لا يستحق الجعل والابن يستحق، ولأحد الزوجين الجعل على صاحبه برد آبقه، والأخ يستحق الجعل على أخيه وأخته استحساناً إذا لم يكن الراد في عيال المردود عليه، وإذا جاء بالعبد الآبق ليرده على مولاه فوجده قد مات فله الجعل في تركته، وإن لم يكن له مال سوى العبد.... بالجعل، وإن كان الذي جاء به وارث الميت فلا يخلو أما إن كان ولده أو لم يكن ولده ولكن كان في عياله، أو لم يكن ولده ولم يكن في عياله؛ أجمعوا على أنه لو أخذه في حال حياة المورث ورده في حال حياة المورث أن له الجعل، وأجمعوا على أنه لو أخذه بعد وفاة المورث، ورده أنه لا جعل له، وأما إذا أخذه في حال حياة المورث وجاء به إلى المصر في حياته أيضاً إلا أنه سلمه بعد الموت، قال أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما: يجب الجعل له في حصة شركائه، وقال أبو يوسف لا يجب، وإن كان الراد ولداً أو لم يكن ولداً، ولكن كان في عياله لا يستحق الجعل على كل حال. رجل قال لغيره: إن عبدي قد أبق إن وجدته فخذه، فقال المأمور: نعم، فأخذه المأمور، وعلى مسيرة ثلاثة أيام وجاء به إلى المولى فلا جعل له؛ لأن المولى قد استعان منه في رده عليه، وقد وعد له الإعانة، والعين لا يستحق شيئاً، أخذ آبقاً من مسيرة ثلاثة أيام، وجاء به ليرده على مولاه، فلما أدخله المصر أبق منه قبل أن ينتهي إلى مولاه، فأخذه رجل في المصر، ورده على المولى فلا شيء للأول؛ لأن سبب استحقاق الجعل إحياء المالية بالرد على المولى، ولم يوجد من الأول الرد على المولى، ويرضخ للثاني على قدر غيابه على نحو ما بينا. وإن أخذاه بعد ذلك في المصر أو في مسيرة يوم فللأول نصف الجعل تاماً، ورضخ للثاني على قدر غيابه؛ لأنهما هما السبب بالرد على المولى، ويجعل في حق الأول كأنهما رداه في مسيرة السفر، ذكر في «الأصل» وفي «المنتقى» : جاء بالآبق من مسيرة ثلاثة أيام ليرده على المولى، فأخذه منه غاصب، وجاء به الغاصب إلى مولاه، ثم جاء الآخذ الأول، وأقام بينة أنه أخذه من مسيرة ثلاثة أيام أخذ الجعل ثانياً من المولى، ويرجع المولى على الغاصب بما أخذ منه.

الفصل الرابع في بيان وجوب الضمان على راد الآبق

وفيه أيضاً أخذ آبقاً من مسيرة ثلاثة أيام، وجاء به يوماً، ثم أبق العبد منه، وسار يوماً نحو المصر الذي فيه المولى، وهو لا يريد الرجوع إلى المولى، ثم إن ذلك الرجل أخذه ثانياً، وجاء به اليوم الثالث، فدفعه إلى المولى، فله جعل اليوم الأول والثالث، وهو كالجعل، ولو كان حين أبق من الذي أخذه وجده مولاه فلا جعل للذي أخذه، ولو كان العبد فارق الذي أخذه وجاء متوجهاً إلى مولاه لا يريد الإباق فللأول جعل يوم، وفيه أيضاً؛ أخذا عبداً آبقاً ودفعه إلى رجل، وأمر له أن يأتي به مولاه، ويأخذ منه الجعل فيكون له؛ يعني للمأمور، فقدم به ودفعه إلى مولاه أخذ الجعل منه، ويكون لو قال ثمة، وهو بمنزلة دين (110ب2) لرجل على رجل، وهبه من رجل وأمره بقبضه فقبضه. في «الأصل» : عبد أبق إلى بعض البلدان، فأخذه رجل، واشتراه منه رجل آخر وجاء به لا جعل له، إنما رده لنفسه، فإن المشتري يكون غاصباً لملك المشتري فيكون غاصباً في حق المولى لا عاملاً له في الرد، فإن كان حين اشتراه أشهد أنه إنما اشتراه ليرده على صاحبه؛ لأنه لا يقدر عليه إلا بالشراء؛ فله الجعل لأنه بهذا الإشهاد أظهر أنه في الرد عامل للمولى، فلا يرجع على المولى بما أدى من الثمن قل أو كثر، وإن وهب له أو أوصى له به أو ورثه، فالجواب فيه كالجواب في الشراء، ولا يستحق الجعل. أخذ عبداً آبقاً وجاء به ليرده على مولاه، فلما نظر إليه المولى أعتقه، ثم أبق من يد الآخر، كان له الجعل؛ لأن الإعتاق نص معنى؛ لأنه إتلاف للمالية، فقد وصل العبد إلى المولى معنى، ألا ترى أن المشتري لو أعتق المشترى قبل القبض صار قابضاً له كذا ههنا، ولو كان دبره والمسألة بحالها فلا جعل له؛ لأن التدبير ليس بقبض؛ لأنه لا يتلف به المالية، فلم يصل العبد إلى يد المولى أصلاً. ولو كان الآخذ حين سار به ثلاثة أيام أبق منه قبل أن يأتي به إلى المولى، ثم أعتقه المولى فلا جعل؛ لأن المولى لم يصر قابضاً من يد الآخذ؛ لأنه حين أعتقه لم يكن في يد الآخذ، ولو جاء به إلى مولاه فقبضه، ثم وهبه منه فعليه الجعل، ولو وهبه منه قبل أن يقبضه فلا جعل له؛ لأنه لم يصل إلى المولى من جهة لا بصورته ولا بمعناه، ولو باعه منه قبل أن يقبضه فعليه الجعل؛ لأنه وصل إلى المولى عوضه، فصار كما لو وصل إليه عينه بهذه الجملة. وفي «العيون» قال شمس الأئمة الحلواني: الراد إنما يستحق الجعل إذا أشهد عند الأخذ أنه إنما أخذه ليرده على المالك أما إذا ترك الإشهاد لا يستحق الجعل وإن رده على المالك. الفصل الرابع في بيان وجوب الضمان على راد الآبق إذا مات الآبق عند الآخذ أو أبق منه قبل أن يرده على المولى؛ فإن كان حين أخذ أشهد أنه إنما أخذه ليرده على صاحبه لا ضمان عليه، وكذلك إذا قال وقت الأخذ: هذا

الفصل الخامس في الاختلاف الواقع في الإباق

آبق أخذته فمن وجد له طالباً فليدله عليّ فلا ضمان عليه؛ لأنه وجد منه الإشهاد. قال شمس الأئمة الحلواني: وليس من شرط الإشهاد أن يكرر ذلك، والحر يكفي بحيث لا يقدر على أن يكتم إذا سئل، وهكذا في اللقطة. وأما إذا ترك الإشهاد، وكان الإشهاد ممكناً كان عليه الضمان عند أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما، خلافاً لأبي يوسف رحمه الله، وهذا إذا علم كونه آبقاً، وإن أنكر المولى أن يكون عبده آبقاً فالقول قوله، والآخذ ضامن إجماعاً؛ لأن سبب وجوب الضمان قد ظهر من الآخذ، وهو أخذ مال الغير بغير إذنه، فهو يعبر عن المسقط وهو الإذن شرعاً بكون العبد آبقاً، وإذا أخذ عبداً آبقاً فادعاه رجل وأقر له بالعبد فدفعه إليه بغير أمر القاضي فهلك عنده، ثم استحقه آخر بالبينة، فله أن يضمن أيهما شاء، فإن ضمن الدافع رجع به على القابض، وإن كان لم يدفع إلى الأول حتى شهد عنده شاهدان أنه عبده، فدفعه إليه بغير حكم، ثم أقام الآخر البينة أنه له، قضى به للثاني؛ لأن البينة الأولى قامت في غير مجلس الحكم، فلا يكون معارضة للبينة التي قامت في مجلس الحكم. فإن أعاد الأول البينة لم ينفعه أيضاً؛ لأن العبد في يده، وحقه في اليد في الملك المطلق، لا يعارض بينة الخارج، وإذا أخذ عبداً آبقاً وباعه بغير أمر القاضي حتى لم يصح البيع، وهلك العبد في يد المشتري، ثم جاء رجل فادعاه، فأقام البينة أنه عبده، فالمستحق بالخيار؛ إن شاء ضمن المشتري، وعند ذلك يرجع المشتري بالثمن على البائع، وإن شاء ضمن البائع قيمته، وعند ذلك ينفذ البيع من جهة البائع، ويكون الثمن له، ويتصدق بما فضل على القيمة من الثمن؛ لأنه ربح حاصل لا على ملكه بسبب كسب خبيث. الفصل الخامس في الاختلاف الواقع في الإباق إذا أنكر المولى أن يكون عبده آبقاً فلا جعل للراد؛ إلا أن يشهد الشهود أنه أبق من مولاه، أو على إقرار المولى بالإباق، وإذا أبق العبد وذهب بمال المولى، فجاء رجل وقال: ما أخذت منه شيئاً فالقول قوله، ولا شيء عليه، ولا يكون وصول يده إلى العبد دليلاً على وصول يده إلى المال ما لم يعلم كون المال في يد العبد حين أخذ العبد، فالمولى يدعي عليه ذلك، وهو ينكر، فيكون القول قوله، كما لو ادعى عليه أنه غصبه مالاً آخر، وهو ينكر، فإن أقر، فإذا أنكر يستحلف.... ليقوم ذلك مقام إقراره.

الفصل السادس في التصرفات في الآبق

الفصل السادس في التصرفات في الآبق بيع الآبق من الأجنبي أو من ابن صغير له لا يجوز، وبيعه ممن في يده يجوز، وهبته من الأجنبي لا يجوز، وإن وهب من ابن صغير له؛ إن كان مرة أبقى إلى دار الإسلام، وإن أبق إلى دار الحرب؛ اختلف فيه المشايخ، وروى قاضي الحرمين أنه لا يجوز، ويجوز إعتاقه عن كفارة ظهاره، ولو وكل المولى رجلاً يطلب الآبق، فأصابه الوكيل، وهو لا يعلم به، ثم باعه المولى من إنسان، ولا يعلم البائع والمشتري أن الوكيل أصابه فالبيع باطل، حتى يعلم أن الوكيل أصابه، وإن أخذ الآبق رجل، وآجره الآخذ فالأجرة له؛ لأنها وجبت بعقده، ويتصدق بها؛ لأنها حصلت بكسب خبيث، فإن دفعه إلى المولى مع القيد، وقال: هذه غلته عندك، وقد سلمته لك فهي للمولى، ولا يحل للمولى أكلها قياساً؛ لأن حق الفقراء أثبت فيها حين وجب التصدق، فلا يملك الآخذ إسقاطها، ويحل استحساناً؛ لأن الخبث إنما تمكن فيها لعدم رضا المولى، فإنما يظهر ذلك في حق الآخذ؛ لا في حق المولى، فيزول الخبث عند التسليم إلى المولى.

كتاب المفقود

كتاب المفقود هذا الكتاب يشتمل على ثلاثة فصول: (111أ2) 1 * في تفسير المفقود وحكمه 2 * في التصرفات في مال المفقود 3 * في الخصومة في الميراث، وفي الورثة مفقوده

الفصل الأول في تفسير المفقود وحكمه

الفصل الأول في تفسير المفقود وحكمه فأما تفسيره ما ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : الرجل يخرج في بيته فيقصد ولا يعرف موضعه، ولا يستبين أثره، ولا موته إذ باشره العدو فلا يستبين موته، ولا قتله، وأما حكمه: فما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» أنه يعتبر حياً في حق نفسه حتى لا يقسم ماله بين ورثته، ولا تتزوج امرأته، ولا يحكم القاضي في شيء من أمره حتى يثبت موته، أو قتله، ويصير ميتاً في حق غيره، حتى لا يرث أحداً من أقربائه إذا مات. ومعنى قوله: لا يرث أحداً من أقربائه؛ أن نصيبه المقصود من الميراث لا يصير ملكاً للمفقود أما يوقف للمفقود نصيباً من ميراث من مات من أقربائه؛ وهذا لأن حياة المفقود محتملة، والمحتمل يكفي للتوقف كما في الجنين، فإن ظهر حياً ظهر أنه كان مستحقاً، وإن لم يظهر حياً حتى بلغ من السن ما قال في «الكتاب» على ما يتبين بعد هذا إن شاء الله تعالى مما وقف له يرد على ورثة صاحب المال يوم مات صاحب المال بمنزلة الموقوف للجنين إذا انفصل الجنين ميتاً، قال مشايخنا: مدار مسائل المفقود على حرف واحد، أن المفقود يعتبر حياً في ماله، ميتاً في مال غيره، حتى ينقضي من المدة ما يعلم أن مثله لا يعيش إلى تلك المدة أو يموت أقرانه، وبعد ذلك يعتبر ميتاً في ماله يوم تمت المدة أو مات الأقران، وفي مال الغير يعتبر كأنه مات يوم فقد حتى أنه إذا.... المراحل ثم مات ابنه، ولهذا الابن أخ لأمه، والمفقود عصبة في ضم أخ الابن عصبة المفقود؛ ينظر إن كان الابن قد مات قبل أن يموت أقران المفقود، فإن جميع مال المفقود لعصبة المفقود متى مات أقران المفقود لا يكون للابن من ذلك شيء؛ لأنا حكمنا بحياته بعد موت الابن في حق نفسه، ولا يكون للمفقود من ميراث الابن شيء؛ لأنا اعتبرناه ميتاً في حق غيره، ولكن يوقف نصيب المفقود من مال الابن إلى أن يظهر حال المفقود؛ لأنه احتمل أن يكون حياً فيكون له الميراث من أبيه، واحتمل أن يكون ميتاً فلا يكون له الميراث من ابنه بل يكون ميراث الابن لأخيه. فإن ظهر المفقود حياً فما وقف له يكون له، وإن لم يظهر حاله حتى مات أقرانه فما أوقفنا للمفقود من مال الابن يكون ميراثاً لأخ الابن؛ لأنا تيقنا بكون الأخ وارثاً، فثبت موت الابن، وشككنا في كون المفقود وارثاً، فكان جعله ميراثاً لمن كان وارثاً له بيقين أولى، فإن كان أقران المفقود قد ماتوا قبل موت الابن؛ فميراث المفقود صار للابن؛ لأنا حكمنا بموت المفقود والابن حي، فيكون ميراثه للابن، فإذا مات الابن يكون لورثة الابن، فهذا هو حاصل ما يبنى عليه من مسائل المفقود. ثم طريق ثبوت موت المفقود إما البينة أو موت الأقران، وطريق تحوّل هذه إليه أن

الفصل الثاني في التصرفات في مال المفقود

يجعل القاضي من في يديه المال خصماً عنه، أو ينصب عنه قيماً فتقبل عليه البينة، وأما موت الأقران وهو المذكور في «الكتاب» عن محمد رحمه الله: ويشترط موت جميع الأقران ما بقي واحد من أقرانه لا يحكم بموته، ولم يذكر أنه يعتبر موت جميع أقرانه في جميع البلدان، أو في بلد المفقود، وقد اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضهم: يعتبر موت أقرانه من أهل بلده، وهذا القول أرفق بالناس؛ لأن التفحص عن حال أقرانه في جميع البلدان إما غير ممكن أو فيه حرج ظاهر. ولم يعتبر محمد رحمه الله في موت المفقود وحياته السنين، والمشايخ اعتبروا ذلك، فالمتقدمين من المشايخ بعد محمد رحمه الله قدروا عمره بمائة وعشرين سنة، وقالوا: متى مضى من مولده مائة وعشرين سنة فإنه يحكم بموته، وإن بقي بعض أقرانه في الأحياء، ولا يحكم بموته قبل ذلك وإن مات جميع أقرانه، وعن نصير بن يحيى أنه قدر عمره بمائة سنة، وهو المروي عن أبي يوسف والشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل، والشيخ الإمام أبو بكر محمد بن حامد رحمة الله عليهما شهدا به تسعين سنة، قالا: لأن الأعمار قد قصرت في زماننا، قال الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله: وعليه الفتوى. قال شيخ الإسلام في «شرحه» : ما قاله محمد رحمه الله أحوط وأقيس؛ لأن مضي ما قالوا من المدة إن دل على موته، فبقاء من بقي من أقرانه بعد مضي هذه المدة يدل على حياته، فيقع التعارض بين دليل الحياة وبين دليل الموت، فلا يثبت الموت مع التعارض، ومتى اعتبرنا موت أقرانه، فإنما يثبت موته بدليل لا يعارض، وما قال المشايخ أرفق بالناس؛ لأن التفحص عن حال الأقران أنهم ماتوا أو لم يموتوا أمر غير ممكن أو فيه حرج، وإذا أوصى رجل للمفقود بشيء لم أقض بها ولم أبطلها؛ لأن الوصية أخت الميراث، وفي الميراث تحبس حصة المفقود إلى أن يظهر حاله، كذا ههنا. الفصل الثاني في التصرفات في مال المفقود قال محمد رحمه الله: ما كان يخاف عليه الفساد من مال المفقود فالقاضي يبيعه، وما لا يخاف عليه الفساد فحفظه ممكن بدون البيع فلا حاجة إلى البيع، ولا كذلك ما يخاف عليه الفساد، وإن أراد واحد من أقاربه أن يبيع شيئاً من ماله لحاجة النفقة؛ إن كان المال عقاراً فليس له ذلك بالإجماع؛ سواء كان البائع أباً أو غيره، وإن كان منقولاً ليس من جنس حقه كالخادم والدار ونحو ذلك؛ أجمعوا على أن غير الأب لا يملك البيع؛ الأم وغيرها في ذلك على السواء، وأما الأب فلا يملك البيع قياساً، وهو قولهما، وعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه يملك، وهو استحسان، وجه القياس: أن جواز البيع يشهد بالولاية، ولا ولاية للأب في مال ولده الكبير، ألا ترى أنه لا يمكن بيع عقاره. وجه الاستحسان: أن أثر الولاية في حق مال ولده الكبير قائم حتى صح منه

استيلاد جارية الابن لحاجته إلى ذلك، والحاجة إلى النفقة لبقاء نسبه فوق الحاجة إلى الاستيلاد لبقاء نسله، وإذا بقي أثر الولاية؛ لأنه كان حاله كحال الوصي في الوارث الكبير الغائب، وقد ثبت للوصي حق بيع المعروض دون العقار كذا ههنا. وإن كان المفقود وديعة أو دين؛ أنفق القاضي من ذلك على زوجته وولده وأبويه إذا كان المودع مقراً بالوديعة، والمديون مقراً بالدين، وذكر هذه المسألة في كتاب «النكاح» من «الأصل» (111ب2) وشرط إقرارهما بالنكاح والمال، وههنا لم يشترط إقرارهما بالنكاح، وليس في المسألة اختلاف الروايتين، بل إنما اختلف الجواب لاختلاف الوضع، موضوع ما ذكرنا في كتاب «النكاح» : أن النكاح والنسب لم يكن معلوماً للقاضي، فشرط إقرار صاحب اليد لهما. وموضوع ما ذكر ههنا: أن النكاح والنسب كان معلوماً للقاضي فلم يشترط إقرارهما بالنكاح والنسب، فإن أعطاهم الرجل شيئاً بغير أمر القاضي، فالمودع يضمن ولا يبرأ المديون، وإن أعطاهم بأمر القاضي فالمودع لا يضمن، والمديون يبرأ، وللقاضي أن ينصب وكيلاً في جميع غلات المفقود؛ طلب الورثة ذلك أو لم يطلبوا، ولهذا الوكيل أن يتقاص ويقبض، ويخاصم من يجحد حقاً وجب بعقد جرى بينه وبين هذا الوكيل؛ لأن الوكيل في حق الحقوق بمنزلة المالك، أما كل دين كان المفقود تولاه أو نصب كان له في عقار، أو عرض في يدي رجل، أو حق من الحقوق، فإن هذا الوكيل لا يخاصم؛ لأنه ليس بمالك، ولا نائب عن المالك في الخصومة في ذلك؛ لأنه وكيل بالقبض، والوكيل بالقبض من جهة القاضي لا يملك الخصومة بلا خلاف، وإنما الخلاف في الوكيل بالقبض، والوكيل بالقبض من جهة القاضي المالك؛ قال في «الكتاب» : إلا أن يكون القاضي ولاه ذلك ورآه، وأنفذ الخصومة بينهم فإنه يجوز. وعلل فقال: لأن هذا مما اختلف فيه القضاء، وهذا بناءً على أنه ليس للقاضي أن يقضي على الغائب وللغائب إلا إذا كان عنه خصم حاضر عندنا، ولو قضى ينفذ قضاؤه لكونه واقعاً في فصل مجتهد فيه، وكذا لا ينبغي للقاضي أن ينصب وكيلاً عن الغائب وللغائب، ولو فعل ينفذ قضاؤه بالإجماع لما قلنا. ثم أشار ههنا إلى أن القضاء على الغائب وللغائب نفاذه لا يتوقف على إمضاء قاضٍ آخر، وهذا إشارة إلى أن نفس القضاء ليس بمختلف فيه، أما المجتهد بسبب القضاء أن البينة هل هي حجة يثبته الخصم، وفي «شرح الجامع» مما علقته على والدي * تغمده الله بالرحمة * أن نفس القضاء مختلف فيتوقف على إمضاء قاضٍ آخر كما لو كان القاضي محدوداً في قذف. وإن ادعى رجل على المفقود حقاً لم يلتفت إلى دعواه، ولم تقبل منه البينة، ولم يكن هذا الوكيل ولا أحد من الورثة خصماً له، وإن رأى القاضي سماع البينة، وحكم به بعد حكمه بالإجماع، وإذا رجع المفقود حياً لم يرجع في شيء مما أنفق القاضي أو وكيله بأمره على زوجته وولده من ماله ودينه وغلته، وكذلك ما أنفقوا على أنفسهم من دراهم أو

الفصل الثالث في الخصومة في الميراث، وفي الورثة مفقود

دنانير أو تبر في وقت حاجتهم إلى النفقة أو ثياب لبسوها للكسوة، أو طعام أكلوه، أما سوى ذلك من الأموال إذا باعوها لحاجتهم إلى النفقة فقد مرَّ تفاصيل ذلك، وإذا فقد المكاتب، وترك أموالاً لأهله يؤدي مكاتبه من تركته؟ ينظر إن كان ما ترك المكاتب من خلاف جنس ما عليه؛ لا يؤدي، وإن علم القاضي بوجوب الدين عليه؛ لأنه لا يمكنه القضاء إلا بالبيع. وولاية القاضي في مال المفقود مقصورة على الحفظ اتفاقاً عليه، والبيع ليس من قبيل ذلك، وإن كان ترك المكاتب من جنس المكاتبة وعلم القاضي بوجوب الدين عليه؛ فإن كان لهذا المكاتب ابن حرّ مات هذا الابن وترك ورثةً قسم ماله بين ورثته، ولم يحبس للمكاتب شيئاً؛ لأن المكاتب لا يرث شيئاً من ابنه فلا يكون للتوقف فائدة، وإذا كان المفقود قد باع خادماً قبل أن يفقد، فطعن المشتري بعيب، وأراد أن يرد على ولد المفقود فليس له ذلك؛ لأن الولد ليس بمالك ولا عاقد، ولا نائب عمن هو مالك أو عاقد، ولا رد على غير مولاه، وإن استحق هذا الخادم من يد المشتري، فالقاضي هل يوفي عنه من ماله؟ إن كان ماله من جنس الثمن يوفي إذا علم وجوب الثمن عليه؛ لأن الخادم لما استحق من يد المشتري صار الثمن ديناً له على المفقود، فصار الجواب فيه كالجواب في سائر الديون. الفصل الثالث في الخصومة في الميراث، وفي الورثة مفقود إذا مات الرجل وترك ابنتين وابناً مفقوداً، ولهذا الابن المفقود ابن وابنة، والتركة في يد الابنتين، والكل مقرون بأن الابن مفقود، واختصموا إلى القاضي، فإن القاضي لا ينبغي له أن يحرك المال عن موضعه؛ هكذا ذكر في «الأصل» ، ومعنى قوله القاضي لا يحرك المال عن موضعه: لا يشرع القاضي سبباً من يد الابنتين؛ لأن النصف مما في أيديهما صار ميراثاً لهما بموت أبيهما بيقين؛ لأن المفقود إذا كان حياً فلهما هذا القدر، وإن كان ميتاً فلهما الثلثان، فالنصف لهما بيقين والنصف الآخر لا خصم له؛ لأن ورثة المفقود لا يدعون ذلك لأنفسهم ولا يكونون خصماً عن المفقود؛ لأنه لا يدرى أنه حي أو ميت، ولا يزال بصاحب اليد إلا بمحضر من الخصم بخلاف مال المفقود الذي يعلم أنه له؛ لأن حق أولاده ثابت في ذلك المال باعتبار ملكه، فإنهم يستحقون النفقة في ملكه، واستصحاب المال يكفي لإبقاء ما كان على ما كان. وكذلك إذا قال الإنسان: قد مات أخونا، وقال ولد الابن: هو مفقود؛ لأن من في يديه المال إقرار لدى الابن بنقض ذلك وقد رد ولد الابن إقرارهما بقولهما أبونا مفقود، ولو كان مال الميت في يدي ولدي الابن المفقود وطلب الابنان ميراثهما واتفقوا أن الابن مفقود، فإنه يعطي لهما النصف؛ لأنهما يدعيان بنصف ما في يدي ولدي المفقود، وقد صدقا في ذلك فيعطيان النصف لهما من ذلك، والنصف الآخر يترك على يدي ولدي

المفقود من غير أن يقضى به لهما ولا لأبيهما؛ لأنه لا يدري من المستحق لهذا الباقي. ولو كان مال الميت في يد أجنبي، فقالت الابنتان: مات أخونا قبل الأب، وقال ولد الابن: إنه مفقود، فإن أقر الذي في يديه المال أنه مفقود؛ فإنه يعطي الابنتين من ذلك النصف؛ لأنهما تدعيان لأنفسها الثلثان، وذو اليد أقر لهما بالنصف حين قال إنه مفقود، فيعطي لهما النصف، والنصف الآخر يوقف في يديه، ولو قال الذي في يديه المال: إنه مات قبل الأب فإنه يجبر على دفع الثلثين إلى الابنتين؛ لأن صاحب اليد صدقهما فيما ادعتا من ثلثي ما في يديه، ويوقف الثلث الآخر على يديه؛ (112أ2) لأنه لا خصم له، ولو كان الذي في يديه المال أنكر أن يكون هذا المال للميت، فأقامت الابنتان بينة أن أباهم مات، وترك هذا المال ميراثاً لهما ولأخيهما المفقود، فإنه يقبل بينتهما؛ لأن أحداً ليس متهم فيقسم بين جميع الورثة فيما يدعي للميت، وهما يدعيان المال للميت فينصبان خصماً عن جميع الورثة، فقبلت بينتهما، ويعطى لهما النصف، وينزع النصف الآخر من يد ذي اليد، وتوقف على يدي عدل؛ لأنه ظهر خيانة ذي اليد حين جحد المال للميت، ومال الغائب لا يترك في يد الخائن بخلاف ما لو كان أقر بذلك؛ لأنه لم يظهر خيانته، فيترك في يديه إلى أن يظهر حال المفقود، والله أعلم بالصواب، تم كتاب المفقود بحمد الله تعالى.

كتاب الغصب

كتاب الغصب هذا الكتاب يشتمل على خمسة عشر فصلاً: 1 * في نفس الغصب 2 * في حكم الغصب 3 * فيما لا يجب الضمان باستهلاكه 4 * في كيفية الضمان 5 * في خلط الغاصب مال رجلين أو رجل، أو مال غيره بماله، أو اختلط أحد المالين بالآخرين من غير خلط 6 * في استرداد المغصوب من الغاصب، وما يمنع من ذلك، وفيما يبرأ الغاصب به عن الضمان وما لا يبرأ 7 * في التسبب إلى الإتلاف 8 * قي الدعوى الواقع في الغصب، واختلاف الغاصب، والمغصوب منه والشهادة في ذلك 9 * في تملك الغاصب المغصوب، والانتفاع به 10 * في الأمر بالإتلاف 11 * في زراعة الأرض المغصوبة، والبناء فيها 12 * فيما يلحق العبد الغصب، فيجب على الغاصب ضمانه 13 * في غاصب الغاصب ومودع الغاصب 14 * في غصب الحر والمدبر، والمكاتب، وأم الولد 15 * في المتفرقات

الفصل الأول في نفس الغصب

الفصل الأول في نفس الغصب فنقول: الغصب شرعاً: أخذ مال متقوم محرم بغير إذن المالك على وجه ينفي يد المالك إن كان في يده أو تتغير يده إن لم يكن في يده، وإنه نوعان: نوع يتعلق به المأثم، وهو ما وقع عن علم، ونوع لا يتعلق به المأثم، وهو ما وقع عن جهل، والضمان يتعلق بهما جميعاً؛ لأن الضمان لجبر الحق، والحق يفوت في الحالين على نمط واحد، وشرطه عند أبي حنيفة رضي الله عنه: كون المأخوذ منقولاً، وهو قول أبي يوسف آخراً حتى إن غصب العقار عند أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر لا ينعقد موجباً للضمان. استعمال عبد الغير غصب له حتى لو هلك من ذلك العمل ضمن المستعمل قيمته علم المستعمل أنه عبد الغير أو لم يعلم، بأن جاء إليه وقال: أنا حر فاستعمله، وهذا لما بينا أن ضمان الغصب لا يختلف بالعلم وعدم العلم، وهذا إذا استعمله في أمر من أمور نفسه. أما إذا استعمله في أمر نفسه لا يصير غاصباً له، فقد ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» أن من قال لعبد الغير: ارتق شجرة المشمش هذه لتأكل أنت، فوقع من الشجرة ومات لا يضمن الآمر، ولو قال: لآكل أنا وباقي المسألة بحالها يضمن، وما افترقا إلا؛ لأنه في الفصل الأول ما استعمله في أمر نفسه، وفي الفصل الثاني استعمله في أمر نفسه. وسئل شمس الإسلام عمن استعمل عبد الغير أو جارية الغير، فأبق في الاستعمال، فهو ضامن بمنزلة المغصوب إذا أبق من يد الغاصب، ومن استعمل عبداً مشتركاً، أو حماراً مشتركاً بينه وبين غيره بغير إذنه يصير غاصباً نصيب شريكه، وفي «أجناس الناطفي» في أمر الحبس الأول من كتاب «الدعوى» أن في استعمال العبد المشترك بغير إذن شريكه روايتان؛ عن محمد روى هشام عنه أنه يصير غاصباً نصيب صاحبه، وروى ابن رستم عنه: أنه لا يصير غاصباً، وفي الدابة يصير غاصباً نصيب صاحبه في الروايتين ركوباً وحملاً، وورد في زماننا من هذا الجنس فتوى من بعض البلدان. وصورته: رجل كان يكسر الحطب، فجاء غلام رجل وقال: أعطني القدوم والحطب حتى أكسرها، فأبى صاحب الحطب ذلك، فأخذ الغلام القدوم منه، وأخذ الحطب وكسر بعضه، وقال: ائتِ آخر معي أكسر، فأتى صاحب الحطب، بحطب آخر فكسره الغلام، فضرب بعض المكسور من الحطب على عين الغلام، وذهبت عينه، فأفتى مشايخ زماننا أنه لا يكون على صاحب الحطب شيء؛ لأن صاحب الحطب لم يأمر الغلام بكسر الحطب، ولم يستعمله فيه، وإنما فعل العبد ذلك باختياره، فلا يكون على صاحب الحطب شيء. وسئل أبو بكر عمن وجه جاريته إلى النخاس فبعثتها امرأة النخاس في حاجة فهربت، فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه: الضمان على امرأة النخاس لا غير، وعلى

قولهما؛ وإن شاء ضمن النخاس أيضاً كما عرف في أجير المشترك. في «فتاوى أبي الليث» : جارية جاءت إلى النخاس بغير إذن مولاها، وطلبت البيع، ثم ذهبت، ولا يدري أين ذهبت، وقال النخاس: رددتها على المولى، فالقول قول النخاس، ولا ضمان عليه، ومعنى ذلك أن النخاس لم يأخذ الجارية، ومعنى الرد أمره إياها بالذهاب إلى منزل المولى، أما إذا أخذ النخاس الجارية من الطريق، أو ذهب بها من منزل مولاها بغير أمره لا يصدق. ركب دابة رجل في حال غيبته بغير أمره، ثم نزل عنها وتركها في مكانها، ذكر في آخر كتاب «اللقطة» أن عليه الضمان، وذكر الناطفي في «واقعاته» اختلاف الروايات، قال عنه: والصحيح أنه لا يضمن على قول أبي حنيفة؛ لأن غصب الدابة لا يتحقق من غير النقل، وعن أبي يوسف أيضاً في «المنتقى» أنه لا ضمان، وفي اختلاف زفر ويعقوب عن أبي يوسف أنه يضمن. وصورة ما ذكر في «المنتقى» : رجل قعد على ظهر دابة رجل، ولم يحولها عن موضعها، وجاء رجل آخر وعقرها، فالضمان على الذي عقرها دون الذي ركب إذا لم تعطب من ركوبه، وإن كان قد جحدها قبل أن تعقر، ومنعها من صاحبها، ولم يخرجها من موضعها، ثم عقرها هذا الآخر فلصاحبها الخيار؛ يضمن أيهما شاء، وقال: وكذلك من أخذ متاع إنسان في دار صاحب المتاع، ثم حجده فهو ضامن، وإن لم يخرجه من الدار، وإن لم يجحد، فلا ضمان عليه إلا إذا هلك من فعله أو أخرجه من الدار، وهذا استحسان. وفيه عن أبي يوسف أيضاً: رجل دخل منزل رجل وحمل من بيت منه إلى بيت آخر من ذلك المنزل، أو إلى ضمن ذلك المنزل متاعاً، وإنما يسكن المنزل الرجل وغلمانه، فضاع ففي القياس: هو ضامن، وفي الاستحسان: لا ضمان إذا كان هذا الموضع في الحرز مثله، وسئل قاضي القضاة شمس الإسلام الأوزجندي عن إصطبل مشترك بين رجلين لكل واحد منهما فيه بقر، دخل أحدهما الإصطبل وشد بقر صاحبه حتى لا يضرب بقره، فحرن البقر، ويخنق بالحبل ومات قال: لا ضمان عليه إذا لم ينقله من مكان إلى مكان. السلطان (112ب2) إذا أخذ عيناً من أعيان رجل، فرهن عند رجل، فهلك عند المرتهن؛ إن كان المرتهن طائعاً يضمن، ويكون للمالك الخيار بين تضمين السلطان والمرتهن، ويبنى على هذا الحال الذي يقال له جابي كبار إذا أخذ شيئاً رهناً وهو طائع يضمن، وكذا الصراف إذا كان طائعاً يضمن، وصار الصراف والجابي مجروحين في الشهادة؛ ذكر الصدر الشهيد في الباب الأول من «وديعة واقعاته» ؛ وقعت قلنسوة من رأس المصلي، فجاءها رجل، فإن نحاها حيث ينالها المصلي لا يضمن، وإن نحاها أكثر من ذلك يضمن. في «واقعات الناطفي» (و) في «العيون» : رجل دخل منزل رجل بإذنه، وأخذ إناءً من

بيته بغير إذنه لينظر إليه، فوقع من يده وانكسر فلا ضمان إلا إذا كان نهاه صاحب البيت عن الأخذ قبل ذلك؛ لأنه مأذون في أخذه دلالة، ألا ترى أنه لو أخذ كوزماء، وشرب منه فسقط من يده وانكسر فلا ضمان عليه، ولو أتى سوقياً يبيع أواني من زجاج أو غيره، فأخذ آنية بغير إذنه لينظر إليه فسقط من يده وانكسر ضمن؛ لأنه غير مأذون في أخذه لا نصاً ولا دلالة. في «فتاوى أهل سمرقند» قدم إلى بياع الخزف وأخذ منه غضارة بإذنه لينظر فيها، فوقعت الغضارة من يده على غضارة أخرى، فانكسرت الغضارات، فلا ضمان عليه في المأخوذة؛ لأنها مأخوذة بإذن ويجب ضمان الباقيات. شرع في الحمام، وأخذ فنجانه وأعطاها غيره، فوقع من يد الثاني وأنكر فلا ضمان على الأول؛ إما أن يكون مستأجراً، أو مستعيراً، وللمستأجر أن يعير، وكذلك للمستعير أن يعير فيما لا يتفاوت الناس فيه. في «المنتقى» : رجل عنده وديعة لرجل، وهي ثياب، فجعل المودع فيها من ماله، ثم طلبها صاحب الوديعة، فدفع كلها إليه، فضاع ثوب المودع، فصاحب الوديعة ضامن له، قال: ثمة كل من أخذ شيئاً على أنه له، ولم يكن له فهو ضامن. رجل أضاف رجلاً، فنسي الضيف عنده ثوباً، فأتبعه المضيف بالثوب، فغصب الثوب غاصب في الطريق، قال: إن غصب في المدينة فلا ضمان على المضيف، وإن غصب خارج المدينة فهو ضامن. في «نوادر ابن رستم» : ضرب رجلاً حتى سقط ومات، ومع المضروب مال.... قال محمد رحمه الله: الضارب ضامن المال الذي كان مع المضروب، وكذلك يضمن ثيابه التي عليه إذا ضاعت؛ لأنه هو الذي استهلك ذلك كله. تعلق برجل وخاصمه، فسقط عن التعلق به شيء، وضاع ضمنه المتعلق. في «فتاوى أهل سمرقند» : بعث الرجل رجلاً إلى القصار ليأخذ ثوباً له، فدفع القصار إلى الرسول ثوباً، فضاع الثوب من يد الرسول، وظهر أن الثوب لم يكن للمرسل، وإنما كان لغيره؛ قال: ينظر؛ إن كان الثوب للقصار فلا ضمان على الرسول، وإن كان لغير القصار فرب الثوب بالخيار؛ إن شاء ضمن القصار، وإن شاء ضمن الرسول. في غصب «المنتقى» : بعث الرجل غيره إلى ما....، فأخذ المبعوث دابة الآمر وركبها، فهلكت الدابة في الطريق؛ إن كان بين الآمر والمبعوث انبساط في أن يفعل مثل ذلك فلا ضمان، وإلا فهو ضامن، في غصب «فتاوى أبي الليث» : ارتهن خاتماً، وجعله في خنصره، فضاع فهو ضامن؛ لأن هذا ليس معتاد، فيصير به غاصباً. في «العيون» : والخنصر اليمنى واليسرى سواء، وهو الصحيح؛ لأن بعض الناس يجعلونه في اليمنى، والبعض يجعلونه في اليسرى، وإن جعله في البنصر فقد ذكر شمس الأئمة السرخسي أنه لا ضمان؛ لأن هذا ليس بلبس معتاد بل هو للحفظ، فلا يصير به غاصباً، وذكر شيخ

الفصل الثاني في حكم الغصب

الإسلام أنه ضامن، وسوى بين الخنصر والبنصر، والأول أصح، وإن جعله في خنصره فوق خاتم آخر، فالمروي عن محمد في بعض الروايات أنه لا ضمان، فذكر له عن بعض السلاطين أنه يلبس الخاتم فوق الخاتم، فقال محمد رحمه الله: يلبسه للختم، أشار إلى أن هذا اللبس ليس للتزين فلا يكون استعمالاً، فلا يكون غصباً، وفي آخر كتاب «اللقطة» : إن الرجل إذا كان معروفاً بلبس خاتمين للتزين فهو ضامن، وإلا فلا يضمن، وإن (كان) سيفاً فتقلده، صار ضامناً، وكذلك إن كان متقلداً سيفاً فتقلد بهذا، وإن كان متقلداً سيفين فتقلد بهذا لا يضمن بالإجماع. سكران ذاهب العقل دفع ثوبه في الطريق، والسكران نائم في الطريق، جاء رجل وأخذ ثوبه ليحفظه في مكان، فهلك الثوب في يده فلا ضمان، ولو كان الثوب تحت رأسه، والمسألة بحالها ضمن، في «فتاوى سمرقند» : إذا أخذ القلنسوة من رأس رجل فوضعها على رأس رجل آخر، فطرحها الآخر من رأسه فضاعت، فإن كانت القلنسوة بمرأى من غير صاحبها وأمكنه رفعها، وأخذها فلا ضمان على واحد منهما؛ لأنه حصل الرد إلى المالك، وإن كان بخلاف ذلك فصاحب القلنسوة بالخيار؛ إن شاء ضمن الآخذ، وإن شاء ضمن الطارح. زق انفتح فمر به رجل، فإن لم يأخذه، ولم يدن منه فلا ضمان عليه، وإن أخذه ثم تركه، فإن كان المالك غائباً فهو ضامن، وإن كان حاضراً فلا ضمان، وعلى هذا إذا رأى إنسان ما وقع من كم غيره. في «فتاوى أبي الليث» عن خلف بن أيوب، عن محمد بن الحسن رحمهم الله: رجل أدخل دابته في دار رجل، فأخرجها صاحب الدار فضاعت، فلا ضمان عليه، ولو وضع رجل ثوباً في دار رجل، فرمى به صاحب الدار، فضاع فهو ضامن؛ لأن كون الدابة في الدار ضرر لصاحب الدار، فهو بالإخراج يدفع الضرر عن نفسه، ولا كذلك الثوب في الدار. الفصل الثاني في حكم الغصب فنقول: للغصب حكمان: أحدهما: وجوب رد العين ما دام على حاله لم يتغير، قال عليه السلام: «على اليد ما أخذت حتى ترد» والتغير نوعان: قد يكون من حيث الزيادة، وقد يكون من حيث النقصان، وقد يكون بفعل الغاصب، وقد يكون بفعل غيره، وقال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا غصب من آخر ثوباً، فصبغه أحمر أو أصفر فصاحب الثوب بالخيار؛ إن شاء ضمن الغاصب قيمة ثوبه الأبيض، وكان الثوب

للغاصب، وإن شاء أخذ الثوب وضمن للغاصب ما زاد الصبغ فيه؛ لأن الصبغ مال متقوم للغاصب، قائم في الثوب، ويقدر اتصال منفعة كل واحد منهما إلى صاحبه على الانفراد، فلا بد من ترجيح أحد الجانبين، فرجحان جانب صاحب الثوب؛ لأنه صاحب الثوب؛ (113أ2) صاحب أصل، وإن شاء ضمنه قيمة الثوب الأبيض، وترك الثوب عليه حتى لا يلزمه زيادة غرم، وهو قيمة الصبغ، وإن شاء أخذ الثوب، وضمن قيمة ما زاد الصبغ فيه، فيصل إلى مالك الثوب عمن حقه، وإلى صاحب الصبغ مالية حقه، وفيه خيار آخر، وهو أن يترك الثوب على حاله، والصبغ على حاله، ويباع الثوب، ويقسم الثمن بينهما على قدر حقيهما. وإن صبغه أسود، ثم جاء رب الثوب كان له أن يضمن الغاصب، وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه، وقال أبو يوسف ومحمد: السواد بمنزلة العصفر، وهذا اختلاف زمان، وقيل: السواد يزيد في قيمة بعض الثياب، وينقص من قيمة البعض، فإن كان المغصوب شيئاً ينقص بالسواد فالجواب ما قال أبو حنيفة رضي الله عنه، وإن كان يزيد فالجواب ما قالا، ولم يذكر في «الكتاب» ما إذا نقص عصفر الثوب بأن كان قيمة الثوب ثلاثون فعاد قيمته إلى عشرين، وقد يكون لون عصفر نقصاناً في الثوب. وروى هشام عن محمد: أنه ينظر إلى قيمة الصبغ في ثوب يزيد فيه، فإن كان قيمته خمسة فلصاحب الثوب أن يأخذ ثوبه، ويأخذ خمسة دراهم؛ لأن صاحب الثوب استوجب على الغاصب عشرة، والغاصب استوجب عليه قيمة الصبغ خمسة، فصارت الخمسة بالخمسة قصاصاً، بقي نقصان الثوب بقدر خمسة بلا جابر، وكذلك السواد على هذا، ولو غصب من آخر ثوباً وقصره؛ كان لصاحب الثوب أن يأخذ الثوب، ولا يضمن للغاصب شيئاً؛ لأنه لم يتصل بالثوب شيء من مال الغاصب. وإذا غصب سويقاً ولته بسمن ثم حضر المالك فله الخيار؛ إن شاء ترك السويق مع أن السويق من ذوات الأمثال، بعض مشايخنا قالوا: المراد فهو من القيمة المذكورة في «الكتاب» المثل، أو إن كان المراد حقيقة القيمة فهو محمول على ما إذا انقطع السويق، وبعضهم قالوا: إن كان المراد حقيقة القيمة فهو محمول على الرواية التي لا تجوز بيع السويق بمثله، فإن في بيع السويق بمثله روايتان؛ وإن شاء أخذ السويق وضمن سمناً مثل سمن الغاصب. وإذا غصب ثوباً وقطعه قميصاً، ولم يخطه، فله أن يأخذ ثوبه، وضمنه ما نقصه القطع، وإن شاء ترك الثوب عليه وضمنه قيمته، حتى المسألة تبنى على مسألة أخرى أن من خرق ثوباً لغيره إن كان الخرق فاحشاً، فصاحب الثوب بالخيار؛ إن شاء ترك الثوب عليه، وضمنه جميع قيمة الثوب، وإن شاء أخذ الثوب وضمنه النقصان، وإن كان الخرق يسيراً كان المهلك يضمن النقصان لا غير. واختلف المتأخرون في الحد الفاصل بين الخرق اليسير وبين الفاحش؛ بعضهم قالوا: إن أوجب نقصان ربع القيمة فصاعداً فهو فاحش، وإن كان دون ذلك فهو يسير،

وقال بعضهم: إن أوجب نقصان نصف القيمة فهو فاحش وما دونه يسير، وبعضهم قالوا: الفاحش ما لا يصلح لثوب ما، واليسير ما يصلح، قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: قالوا: ما ذكر من التحديد من هذه الوجوه الثلاثة لا يصح بدليل مسألة قطع القميص على الوجه الذي قلنا.w والثوب بعدما قطع قميصاً يصلح للقميص إن كان لا يصلح للفساد أمثاله، والساقط من القيمة أقل من النصف ومن الربع مع هذا اعتبره محمد رحمه الله فاحشاً، والصحيح من الحد على ما قاله محمد رحمه الله أن الخرق الفاحش ما يفوت بهم بعض العين، وبعض المنفعة بأن فات جنس منفعته، وبقي بعض العين وبعض المنفعة، واليسري من الخرق ما يفوت به شيء من المنفعة، وإنما يفوت الجودة، ويدخل يسير نقصان في المالية، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وقد قيل: يرفع في ذلك إلى الخياطين، وأهل الصناعة إن عدوا ذلك نقصاناً فاحشاً فهو فاحش، وإن عدوا ذلك نقصاناً يسيراً (فهو يسير) ، وقال بعضهم: إن كان طولاً فهو فاحش، وإن كان عرضاً فهو يسير؛ قال رحمه الله: والقول الأول أصح. جئنا إلى مسألة قطع القميص فنقول: قطع القميص خرق فاحش؛ لأنه يفوت به بعض المنافع، وفي الخرق الفاحش صاحب الثوب بالخيار؛ لأن استهلاك من وجه دون وجه، فإن شاء مال إلى جهة الاستهلاك وضمنه القيمة، وإن شاء مال إلى جهة القيام وضمنه النقصان. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: القطع أنواع ثلاثة: قطع فاحش غير مستأصل للثوب، وهو باتفاق الحكم فيه ما ذكره، وقطع يسير، وهو أن يقطع طرفاً من أطراف الثوب فلا يثبت فيه الخيار للمالك؛ بل يضمنه النقصان، وقطع فاحش مستأصل للثوب، وهو أن يجعل الثوب قطعاً لا تصلح إلا للخرقة، ولا يرغب في شرائه، وروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه في هذا الفصل أن للمالك الخيار؛ إن شاء ترك القطع عليه وضمنه القيمة، وإن شاء أخذ القطع ولا شيء له، وعندهما: له أن يأخذ الثوب ويضمنه النقصان. وهذه المسألة فرع مسألة الديات؛ إذا قطع يدي عبد إنسان قال الشيخ الإمام السرخسي رحمه الله: والحكم الذي ذكرنا في الخرق في الثوب من تخير المالك إذا كان الخرق فاحشاً، وإمساك الثوب، وأخذ النقصان إذا كان الخرق يسيراً، فهو الحكم في كل عين من الأعيان إلا في الأموال الربوية فإن التعييب هناك فاحشاً كان أو يسيراً، فهو الحكم في كل عين مثلاً كان لصاحبها الخيار بين أن يمسك العين، ولا يرجع على الغاصب بشيء، وبين أن يسلم العين له ويضمنه مثله أو قيمته؛ لأن تضمين النقصان يتعذر؛ لأنه يؤدي إلى الربا، وإذا قطع الثوب قميصاً، أو لم يخطه، فإن خاطه ينقطع حق المالك. وإذا غصب دابة وقطع يدها أو رجلها فلا خيار للمالك فيها، ويضمنه القيمة ويترك

الدابة عليه، وكذلك لو كانت شاة أو بقرة، فذبحها أو قطع يدها، أو رجلها كان الجواب كذلك، قال شمس الأئمة الحلواني: ويستوي أن تكون الشاة للغاصب أو غيره وهو الصحيح، فقد روي في رواية أخرى في مأكول اللحم للمالك الخيار، ولم يذكر محمد رحمه الله في مسألة (113ب2) الشاة ما إذا أراد المالك أن يأخذ الشاة بعد الذبح، ولا يضمنه النقصان هل له ذلك؟ وروى الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن له ذلك، قال شيخ الإسلام: وقد ذكر محمد في كتاب «الغصب» ما يدل على هذا، فإنه قال: ضمن. غصب عصيراً فصار خلاً عنده، ثم جاء المالك كان بالخيار، إن شاء ضمن عصيراً مثل عصيره، وإن شاء أخذ الخل، وبعدما صار خلاً لم يبق فيه شيء من منافع العصير، كالشاة بعد الذبح، ثم أثبت للمالك حق الأخذ إن شاء، فهذا يدل على أن في الشاة المذبوحة له ذلك؛ لأن الذبح والسلخ زيادة، وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والصحيح أنه ليس له ذلك، أشار إلى أن حق المالك ينقطع بمجرد الذبح، وإنه يخالف ظاهر الرواية. وفي «المنتقى» : هشام عن محمد رحمه الله: رجل قطع يد حمار أو رجل حمار وكان لما بقي قيمة فله أن يمسكه، ويأخذ النقصان، ولا يسلم إليه الجلد، فإن كان لجلد الحمار ثمن فله ذلك، وإن كان قتله فليس له ذلك، قال هشام: لأن ذبحه بمنزلة الدباغ. وفي «النوادر» : إذا قطع أذن الدابة أو بعضه يضمن النقصان، وجعل قطع الأذن من الدابة نقصاناً يسيراً، وكذلك لو قطع ذنبها يضمن النقصان، وعن شريح رحمه الله: إن قطع ذنب حمار القاضي يضمن جميع القيمة، وإن كان لغيره يضمنه النقصان لا غير. استهلك قلب فضة إنسان وأحرقه؛ يضمن قيمته مصنوعاً من الذهب؛ لأن الصناعة في مال الربا تضمن مع الأصل بالإتلاف كالجودة، ولا يمكن إيجاب قيمته مصنوعاً من جنسه؛ لأنه ربا ولا يمكن إيجاب مثله مصنوعاً؛ لأنه ليس من ذوات الأمثال، فيتعين إيجاب القيمة مصنوعاً من خلاف الجنس، فإن وجده صاحبه مكسوراً فهو بالخيار؛ لأن الكسر عيب فاحش، وإن رضي به لم يكن له فضل ما بين المكسور والصحيح؛ لأنه ربا، وإذا أراد القاضي أن يضمن الغاصب قيمته ضمنه مصنوعاً من الذهب، وكذلك كل إناء مصنوع كسره رجل إن من فضة فعليه الذهب. وإن كسر درهماً أو ديناراً، فعليه مثله والمكسور للكاسر، قال شيخ الإسلام: قال مشايخنا: هذا إذا كان الكسر ينقص من ضربه، وأما إذا كان الكسر لا ينقص من ضربه ليس له إلا ذلك المكسور؛ لأن ما هو المقصود من الدراهم والدنانير تام بعد الكسر على حاله لم ينقص، وهذا كما قلنا من كسر رغيف إنسان ليس لصاحبه إلا المكسور لما قلنا ههنا، قال شمس الأئمة السرخسي: عليه مثله، وإن شاء صاحبه أخذه، ولم يرجع عليه يشيء، سواء انتقصت ماليته بالكسر أو لم تنتقص. غصب من آخر جارية شابة، فكانت عنده حتى صارت عجوزاً، فإن لصاحبها أن يأخذها وما نقصها، وكذلك لو غصب غلاماً شاباً، فكان عنده حتى هرم أخذه صاحبه

وما نقصه، وهذا إذا كان النقصان يسيراً، فإن كان فاحشاً يخير المالك بين الأخذ والترك، وعليه أكثر المشايخ، ولو غصب صبياً فشب عنده، أو نبت شعر وجهه فصار ملتحياً، أخذه صاحبه، ولا يضمنه شيئاً. ولو غصب جارية ناهدة الثديين، فانكسر ثديها عنده ضمن النقصان. ولو غصب عبداً محترفاً فنسي ذلك عند الغاصب كان ضامناً للنقصان، ولو غصب ثوباً فعفي عنده أو اصفر، أخذه المالك وما نقصه، وهذا إذا كان النقصان يسيراً، فأما إذا كان كثيراً يخير بين الأخذ والترك، وإن كان المغصوب مكيلاً أو موزوناً فعفن عند الغاصب فعليه مثله، وهذا الفاسد للغاصب، وإن شاء أخذ الطعام العفن ولا شيء له، وإنما كان كذلك؛ لأن تضمين النقصان في المكيلات والموزونات يؤدي إلى الربا؛ لأنه يصل إليه مثل وزنه وكيله وزيادة، فتكون الزيادة بإزاء الجودة، والجودة في مال الربا لا قيمة لها بانفرادها، والاعتياض عما لا قيمة له ربا، وفي الثياب لا يكون رباً؛ لأن الزيادة تكون بإزاء الجودة، والاعتياض عن الجودة في الثياب جائز. غصب فضة وضربها دراهم أو صاغها إناءً، أو غصب ذهباً فضربه دنانير، أو صاغه إناءً؛ قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا ينقطع حق المالك بل يأخذ الذهب والفضة، ولا أجر للغاصب، وقال أبو يوسف ومحمد: ينقطع حق المالك، ويعطيه مثل ذهبه، وإن غصب دراهم وسبكها، ولم يضرب منه شيئاً، فإنه لا ينقطع حق المالك بلا خلاف. فوجه قول أبي يوسف ومحمد: أنه أحدث صنعة متقومة، واستهلك المغصوب من وجه، أما إذا ضربها دراهم؛ لأنه كسرها؛ لأن ضرب الدراهم لا يتأتى إلا بعد الكسر، وأما إذا صاغها إناءً، فلأنه أخرجه من الثمنية؛ لأنه قبل هذا لا يتعين بالتعيين، والآن يتعين. وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: الاستهلاك لم يوجد، ومجرد الصنعة بدون الاستهلاك من وجه لا يوجب انقطاع حق المالك، وإنما قلنا: لم يوجد الاستهلاك؛ لأن الاستهلاك من وجه بتفويت بعض الأعيان، أو بتفويت جنس المنفعة، وبضرب الفضة دراهم لم يثبت شيء من العين؛ لأن قيام العين في الذهب والفضة بقيام الوزن، والوزن على حاله، ولم يثبت جنس المنفعة؛ لأن منفعتها الثمنية، والثمنية قد ازدادت بالضرب دراهم، وكذلك بجعلها إناءً لم تفت العين، ولم تفت منفعة الثمينة، بل انتقصت مع الثمنية، وبالنقصان لا ينقطع حق المالك. ولو غصب صفراً وجعل كوزاً انقطع حق المالك، وكان الكرخي رحمه الله يقول: هذا إذا كان بعد الصنعة لا يباع وزناً، أما إذا كان يباع وزناً ينبغي أن لا ينقطع حق المالك عند أبي حنيفة رضي الله عنه كما في النقرة، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والصحيح أن الجواب مطلق؛ بخلاف النقرة عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وإن كسر صاحب الصفر الكوز بعدما ضمن الغاصب قيمة صفرته، أو قبل أن يقضى

له بالقيمة، قال: عليه قيمة الكوز صحيحاً، ويأخذ الكوز، قال شمس الأئمة الحلواني: ولا يقع المقاصة بين الضمانين؛ لأن ما وجب لصاحب الصفر على الغاصب ضمان المثل؛ لأنه يضمنه مثل وزنه من الصفر، وما وجب للغاصب على صاحب الصفر ضمان القيمة، وهو قيمة الكوز، فكانا من جنسين، فلا تقع المقاصة بينهما، قال في «الكتاب» : إلا أنه يحاسب بما عليه بعض مشايخنا قالوا: مراده من هذا (114أ2) إذا اصطلحا على شيء، فيكون استبدالاً فيجوز، أما بدون ذلك لا يجوز، لما بينا أن ما وجب لصاحب الصفر على الغاصب ضمان المثل، وما وجب للغاصب على صاحب الصفر ضمان القيمة، وبعض مشايخنا قالوا: تأويله إذا كان المغصوب صفراً ليس له بديل حتى وجب قيمة الصفر، فتقع المقاصة. غصب من آخر مصحفاً ونقطه فهي زيادة، وصاحبه بالخيار؛ إن شاء أعطاه ما زاد ذلك فيه، وإن شاء ضمنه قيمته غير منقوط، وهذا قول محمد رحمه الله، وروى العلاء عن أبي يوسف أنه يأخذ بغير شيء، كرجل غصب غلاماً، وعلمه الكتاب. في غصب «المنتقى» : غصب من آخر كاغدةً وكتب عليها، ذكر شيخ الإسلام أنه ينقطع حق المالك، وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله فيه اختلاف المشايخ، قال رحمه الله: والصحيح أنه لا ينقطع. غصب من آخر قطناً وغزله ونسجه، أو غصب غزلاً ونسجه، ينقطع حق المالك، ولو غصب قطناً وغزله ولم ينسجه، ففيه اختلاف المشايخ، والصحيح أنه ينقطع. غصب حنطة وطحنها، فقول أبي حنيفة ومحمد فيها معروف، وعن أبي يوسف ثلاث روايات؛ في رواية مثل ما قالا، وفي رواية قال: يزول ملكه، ولكن لا يسقط حقه عنه، وتباع العين في ديّته وهو أحق بذلك من جملة الغرماء إن مات، وفي رواية قال له أن يأخذ الدقيق، ويرأ الغاصب عن الضمان. غصب دقيقاً وخبزه، أو لحماً فشواه، أو سمسماً فعصره، ينقطع حق المالك في ظاهر رواية أصحابنا، وكذلك إذا غصب ساجة، وجعلها باباً، أو حديدة وجعلها سيفاً، ينقطع حق المالك، ويضمن قيمة الحديدة والساجة، وجميع ذلك للغاصب، وكذلك لو غصب ساجة أو خشبة، وأدخلها في بنائه أو غصب آجراً وأدخله في بنائه أو جصاً..... فعليه في ذلك كله القيمة، وليس للمغصوب منه أن ينقض البناء، ويأخذ الساجة والخشبة، والآجر والجص. ولو غصب ساجة وبنى عليها لا ينقطع حق المالك، وكان له أن يأخذها، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يحكي عن الكرخي أنه ذكر في بعض كتبه تفصيلاً فقال: إن كانت قيمة الساجة أقل من قيمة البناء، ليس له أن يأخذها، وإن كانت قيمة الساجة أكثر، فله أن يأخذها، وكذا في الساجة إذا كانت قيمتها أقل من قيمة البناء، لا يأخذ

الساجة، وإذا كانت قيمة الساجة أكثر من قيمة البناء له أن يأخذ الساجة، وقال: المراد بما ذكر في «الكتاب» ما قلنا، وزعم أن هذا هو المذهب، قال مشايخنا: وهذا قريب من مسائل حفظت عن محمد رحمه الله أن من كان في يده لؤلؤة، فسقطت اللؤلؤة، فابتلعتها دجاجة إنسان ينظر إلى قيمة الدجاجة واللؤلؤة، إن كانت قيمة الدجاجة أقل يخير صاحب اللؤلؤة إن شاء أخذ الدجاجة، وضمن قيمتها للمالك، وإن شاء ترك اللؤلؤة، وضمن صاحب الدجاجة قيمة اللؤلؤة، وكذلك لو أودع رجلاً فصيلاً، فكبر الفصيل حتى لا يمكن إخراجه من البيت إلا بنقض البناء ينظر إلى أكثرها قيمة، ويخير صاحب الأكثر، وستأتي مسألة الدجاجة واللؤلؤة، ومسألة الفصيل بعد هذا إن شاء الله تعالى. ولم يذكر في «الأصل» ما إذا أراد الغاصب أن ينقض البناء، ويرد الساجة هل يحل له ذلك؟ وهذا على وجهين: إن كان القاضي قضى عليه بالقيمة لا يحل له نقض البناء، وإذا انتقض لم يستطع رد الساجة، وإن كان القاضي لم يقض عليه بالقيمة؛ اختلف فيه المشايخ؛ بعضهم قالوا: يحل وبعضهم قالوا: لا يحل لما فيه من تضييع المال من غير فائدة. غصب من آخر داراً ونقشها بهذه الأصباغ بعشرة آلاف، ثم جاء صاحب الدار أقول له: إن شئت فخذ الدار، وأعط الغاصب ما زاد الأصباغ فيه، فإن أبى جعلت الدار للغاصب بقيمتها إذا كان يبلغ الأصباغ شيئاً كبيراً، ولم ترتث هكذا روى هشام عن محمد رحمه الله، واستشهد عليه بدجاجة ابتلعت لؤلؤة؛ قال هشام: سمعت أبا يوسف يقول في هذه المسألة: يقال لصاحب الدار: أعطِ الغاصب ما زاد النقش في دارك، فإن أبى أمر به بقلعه، وضمنه ما نقص القلع. وفي «القدوري» : غصب من آخر داراً وجصها ثم ردها، قيل لصاحبها: أعطِ ما زاد الجص فيها إلا أن يرضى صاحب الدار أن يأخذ الغاصب جصه، قال هشام: قلت لمحمد رحمه الله: رجل وثب على باب مقلوع، ونقشه بالأصباغ، قال: سبيله سبيل الدار، قلت: وإن كان نقشه بالنقر وليس بالأصباغ قال: فهذا مستهلك للباب، وعليه قيمته، والباب له، قال: وكذلك لو نقش إناء فضة بالنقر. قال هشام: وسألت محمداً عن رجل غصب أرضاً، وغرس فيها أشجاراً فَغَلُظَ وبلغ، قال: إن كان قلع الأشجار يفسد الأرض، فصاحب الأرض بالخيار؛ إن شاء أعطاه ما زاد الأشجار في أرضه بالغاً (ما بلغ) وإن شاء أخذه فقلعه وضمنه النقصان، وإن كان قلع الأشجار لا يفسد الأرض ولكن ينقصها شيئاً، فإنه يأخذ الأرض، ويقلع الأشجار ويضمنه النقصان، وليس لصاحب الأرض أن يقول: أنا آخذ الأشجار ولا أقلعها، وأعطيه قيمتها، إنما له أن يعطيه قيمتها إذا كان القلع يفسد الأرض. غصب خمر مسلم وخللها، قال في «الكتاب» : لرب الخمر أن يأخذها، واختلف المشايخ فيه قال بعضهم: تأويل المسألة ما إذا خللها بشيء لا قيمة له بأن نقل من الشمس إلى الظل أو من الظل إلى الشمس أو ألقى فيه شيئاً يسيراً من الملح أو الخل،

بحيث لا قيمة له، أما إذا ألقى فيه خلاً أوله قيمة عند أبي حنيفة يصير الخل ملكاً للغاصب، ولا شيء عليه، وأما على قول أبي يوسف ومحمد؛ إن كان ألقى فيه الملح أخذه المالك، وأعطاه ما زاد الملح فيه، وإن كان ألقى فيه الخل فهو بينهما على قدر كيلهما. ويستوي إن صبت من ساعتها أو بعد حين، وبعض مشايخنا قالوا: إن كان الذي صبَّ فيها خل كثير، حتى صار خلاً من ساعته، فهو كله للغاصب، وإن كان قليلاً، وصار خلاً بعد حين، فهو بينهما على مقدار كيلهما، وبعض مشايخنا قالوا: إن خلله بما ليس له قيمة أخذه مجاناً، وإن خلله بما له قيمة أخذه وأعطاه ما زاد الملح والخل فيه. وإذا غصب عصيراً فصار خمراً عنده، فله أن يضمنه مثله إن كان في حينه، وقيمته إن كان في غير حينه، ولو أراد أن يأخذ الخمر، ولا يضمنه؛ هل له ذلك؟ اختلف المشايخ فيه، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. والصحيح أنه ليس له ذلك (114ب2) وقال بعضهم: له ذلك، وهكذا ذكر الكرخي في «كتابه» عن أبي يوسف. ثم إذا كان له حق الأخذ على قول هؤلاء؛ لو أراد أن يضمنه النقصان مع ذلك ليس له ذلك، وذكر في «القدوري» عن أبي يوسف: أن من غصب عصيراً فصار عنده خلاً، أو لبناً حليباً، فصار عنده مخيضاً، أو عنباً فصار زبيباً، فالمغصوب منه بالخيار؛ إن شاء أخذ ذلك بعينه، ولا شيء له غيره، وإن شاء ضمنه مثله وسلم ذلك إليه؛ لأنه قد انتقص في يد الغاصب وتعيب ولا يمكن النقصان مع أخذ العين؛ لأن هذه الأعيان تجري فيها الربا، فلم تكن الجودة بانفرادها متقومة، فإذا أخذ العين سقط حق التضمين، وإن شاء ضمنه المثل. وإذا غصب جلد ميتة ودبغه، إن دبغه بما لا قيمة (له) ، فإنه يأخذه مجاناً، وإن دبغه بما له قيمة أخذه، وأعطاه ما زاد الدباغ فيه. قال القدوري في «كتابه» : هذا إذا أخذ الجلد من ميتة له ودبغه، أما إذا ألقى صاحب الميتةِ الميتةَ في الطريق، فأخذ رجل جلدها، ودبغه بما لا قيمة له، فليس للمالك أن يأخذ الجلد. وللغاصب أن يحبس الجلد حتى يصل إليه قيمة ماله. ولو أراد صاحب الجلد أن يترك الجلد على الغاصب ويضمنه قيمة الجلد ليس له ذلك، ولو كان المغصوب جلد ذكي كان له ذلك. قال مشايخنا: هذا الفرق بين جلد الميتة وبين جلد الذكي ذهب إليه الحاكم الشهيد، والجواب في الميتة وفي الذكي واحد، للمالك أن يترك الجلد عليه، ويضمنه قيمة جلده. وفي «القدوري» : لو أن الغاصب جعل هذا الجلد أديماً أو وقراً أو جراباً لم يكن للمغصوب منه على ذلك سبيل؛ لأنه تبدل الاسم والمعنى بصنع الغاصب، فكان هو أولى. فإن كان الجلد ذكياً، فله قيمته يوم الغصب، وإن كان جلد ميتة فلا شيء له. وفيه أيضاً: لو غصب خمراً وخللها، ثم استهلكها، فعليه خل مثله؛ لأنه صار خلاً

على ملك مالكه. وإذا غصب تراباً ولبّنة، أو جعله آنية، فإن كان له قيمة، فهو مثل الحنطة إذا طحنها، وإن لم يكن له قيمة فهو له، ولا شيء عليه من الضمان؛ لأن الضمان إنما يقام مقام العين عند تقومه، وفي كل موضع ينقطع حق المالك، فالمغصوب منه أحق بذلك الشيء من بين سائر الناس حتى يستوفي حقه، فإن ضاع ذلك ضاع من مال الغاصب، ولا يكون هذا بمنزلة الرهن، هكذا ذكر في «المنتقى» . وفي «القدوري» أن المغصوب منه يكون أسوة للغرماء في الثمن، ولا يكون أخص بشيء من ذلك. وفي «المنتقى» : ابن سماعة في «نوادره» عن محمد: رجل هشم طستاً لرجل، وهو مما يباع وزناً، فرب الطست بالخيار؛ إن شاء أمسك الطست، ولا شيء له، وإن شاء دفعه وأخذ قيمته وكذلك كل إناء مصنوع. وإن كان مما لا يباع وزناً كالسيف، فكسره رجل كان عليه ما نقصه، فإن جاء آخر، واستهلك السيف المكسور كان عليه حديد مثله، قال من قبل أنه يجوز للرجل أن يبيع سيفاً بدراهم وحديد مثل السيف، ولا يجوز أن يبيع طستاً يباع وزناً بدراهم وصفر مثل وزن الطست. قال في «المنتقى» أيضاً: وإذا باع الرجل شيئاً من غيره، ثم إن البائع فعل بعض ما وصفنا كل شيء كان الغاصب فيه مستهلكاً، ولم يكن للمغصوب منه أن يأخذه، فكذا ليس للمشتري أن يأخذه، وكل شيء لم يكن الغاصب فيه مستهلكاً، وكان للمغصوب منه أن يأخذه، فللمشتري أن يأخذه. وفي «العيون» : غصب من آخر عبداً قيمته خمسمائة فخصاه فصار يساوي ألف درهم، نص عن محمد أن صاحب الغلام بالخيار؛ إن شاء ضمنه قيمته يوم الخصاء خمسمائة، وإن شاء أخذ الغلام، ولا شيء له، وقال بعض المشايخ: يقوم الغلام بكم يشترى للعمل قبل الخصاء، ويقوم بعد الخصاء فيرجع بفضل ما ينتهي، قال الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله: وهذان الجوابان خلاف ما حفظنا في المسائل المختلفة، فالمحفوظ فيها أن صاحب الغلام بالخيار؛ إن شاء ترك الغلام على الغاصب، وضمنه قيمته بخمسمائة، وإن أراد أخذ العبد يقوم العبد قبل الخصاء للعمل، ويقوم بعد الخصاء للعمل، فيرجع بنقصان ما بينهما؛ لأن هذه الزيادة حدثت بناء على رغبات فاسدة فيتأمل عند الفتوى، هذا كله بيان أحد حكمي الغصب. جئنا إلى بيان الحكم الآخر، وهو وجوب الضمان حال عجز الغاصب عن رد العين، فنقول: المغصوب نوعان: مثلي الكيل والوزن الذي ليس في تبعيضه ضرر، والعددي المتقارب كالبيض والجوز والفلوس الرائجة، وما أشبه ذلك من العدديات التي لا تتفاوت أفراده وغير مثلي كالذرعيات والحيوان والعدديات المتفاوتة، والوزن الذي يضر تبعيضه، فإن كان غير مثلي فهلك في يد الغاصب بآفة سماوية أو بفعل الغاصب، أو بفعل غيره وجب عليه قيمته يوم الغصب، وإن كان مثلياً وجب عليه مثله إلا إذا وقع العجز عن رد المثل، وذلك بالانقطاع عن أيدي الناس، فحينئذٍ يصار إلى القيمة.

ثم إن عند أبي حنيفة تعتبر القيمة يوم القضاء والخصومة، وعند أبي يوسف تعتبر قيمته يوم الغصب، وعند محمد تعتبر قيمته في آخر يوم كان موجوداً وانقطع، ثم إن مشايخنا استثنوا من الموزونات الناطف المبرز، والدهن المربى فقالوا بضمان القيمة فيهما؛ لأن الناطف يتفاوت بتفاوت البزر، وكذلك الدهن المربى. وإن كان المغصوب مثلياً فلقيه في بلد آخر والمغصوب قائم في يده والقيمة في هذا البلد مثل القيمة في بلد الغصب أو أكثر منها، فالمغصوب منه يأخذ المغصوب، وليس له أن يطالبه بالقيمة، وإن كان سعره في هذه البلد أقل من سعره في بلد الغصب فالمغصوب منه بالخيار؛ إن شاء أخذه في هذا البلد بقيمته في بلد الغصب، وإن شاء انتظر؛ لأنه يأخذ العين.w وإن كان يصل إليه عين حقه ولكن مع ضرر لحقه من قبل الغاصب، فكان له أن لا يلتزم الضرر، ويطالبه بقيمة ذلك البلد، وإن شاء انتظر بخلاف ما إذا وجده في البلد الذي غصب فيه، وقد انتقص السعر حيث لا يكون له الخيار؛ لأن النقصان ما حصل بفعل الغاصب بل هو مضاف إلى قلة رغبات الناس، فأما إذا نقله إلى بلد آخر، فالنقصان مضاف إلى فعل الغاصب. وهذه الجملة في «القدوري» . ومن هذا النوع مذكور في «المنتقى» وصورته: غصب من آخر دواء بالكوفة وردها عليه بخراسان (110أ2) فإن كانت قيمتها بخراسان أقل من قيمتها بالكوفة فالمغصوب منه بالخيار؛ إن شاء أخذها، وإن شاء أخذ قيمتها بالكوفة، وإن كانت قيمتها بخراسان مثل قيمتها بالكوفة أمر المغصوب منه بأخذها؛ قال: وكذلك الخادم، وكل ماله حمل ومؤنة إلى ذلك الموضع قال: وكذلك ما كان..... إلا الدراهم والدنانير، فإنه يأخذها حيث وجدها، وليس له أن يطالبه بالقيمة؛ لأنها الأثمان التي تجري عليها بياعات الناس، ومعناه أن معنى الثمنية لا يختلف باختلاف الأماكن، فلا يطالبه لغيره، وإن شاء أخر المطالبة؛ لأنها حقه. وإن كان المغصوب مثلياً، وقد هلك في يد الغاصب، فإن كان السعر في المكان الذي التقيا مثل السعر في مكان الغصب، أو أكثر يدين برد المثل، وإن كان السعر في هذا المكان أقل، فهو بالخيار؛ إن شاء أخذ قيمة العين حين غصب، وإن شاء انتظر؛ لأنه إذا رد في المكان الذي طالبه به يستضر به، فإن اختلاف القيمة في المكانين لأجل الحمل والمؤنة، فصار كما لو كانت العين قائمة، ونقلها إلى بلدة أخرى، فكان بالخيار؛ إن شاء أخذ القيمة، وإن شاء انتظر، وإن كانت القيمة في مكان الخصومة أكثر، فالغاصب بالخيار؛ إن شاء أعطى مثله، وإن شاء أعطى قيمته حيث غصب؛ لأن المالك لا يستحق إلا الرد في مكان الغصب، فلو ألزمناه تسليم المثل ههنا يستضر الغاصب، فإنه أدركته زيادة قيمة لا يستحق المغصوب منه، وفي التأخير إلى العود إلى مكان الغصب إضرار

بالمغصوب منه، فقلنا: فإنه يسلم القيمة في مكان الغصب إلا أن يرضى المغصوب منه بالتأخير، وإن كانت القيمة في المكانين سواء كان للمغصوب (منه) أن يطالب بالمثل؛ لأنه لا ضرر على واحد منهما، هذه الجملة في «القدوري» . وفي «المنتقى» : غصب من آخر كراً من طعام يساوي مائة، ثم صار يساوي مائة وخمسين، ثم انقطع عن أيدي الناس، وعز وارتفع، وصار لا يقدر على مثله، وصار يساوي مائتين، ثم استهلكه الغاصب، فللمغصوب منه أن يضمنه مائتي درهم قيمته يوم استهلكه؛ لأنه حين انقطع من أيدي الناس صار بمنزلة عرض لا مثل له غصبه رجل فزادت قيمته، ثم استهلكه، فله أن يضمنه قيمته يوم استهلكه إن شاء، ولو كان غصب الكر، وهو يساوي مائتين، ثم صارت قيمته مائة وخمسين، ثم انقطع من أيدي الناس، ثم صارت قيمته مائة، ثم استهلكه الغاصب، فللمغصوب منه أن يضمنه قيمة مائة وخمسين آخر ما كان موجوداً في أيدي الناس، وليس له أن يضمنه أكثر من ذلك. وذكر ابن رستم عن محمد في «نوادره» إذا أحرق كدس رجل إن كان البر إذا كان في السنبل أقل قيمة منه إذا كان خارجاً فعليه القيمة، وإن كان خارجاً أكثر قيمة، فعليه بر مثله وعليه وفي الحل القيمة. وفيه أيضاً: رجل غصب كدساً فداسه، ثم أقام المغصوب منه قال: لا يقضى له بالبر كله، وبقيمة الحل؛ لأنه غيره عن حاله، فهو كبر طحنه. وفيه أيضاً: عن محمد رجل غصب من آخر حنطة، فلا شيء على الغاصب؛ لأنه لا قيمة لها، فقيل: لو أن رجالاً غصبوا حبة حبة، فبلغ ذلك قفيز حنطة، قال أبو يوسف: قوم.... ما له قيمة، ضمنتهم قيمته، فإذا جاء برجل بعد رجل لم أضمنهم شيئاً؛ لأن كل إنسان إنما غصب منه ما لا قيمة له، ولو كانت في حبة حنطة قيمة، ما حل لأحد أن يلتقط النوى، وكان عليه أن يعرفها؛ لأنه لقطة. وإذا استهلك المغصوب، وضمنه القاضي القيمة ينظر؛ إن كان ذلك الشيء يباع في السوق بالدراهم (يقوم بالدراهم) ، وإن كان يباع بالدنانير يقوم بالدنانير، وإن كان يباع بهما، فالقاضي مخير. في شرح كتاب الصرف في باب الغصب الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف: رجل غصب بيضة وأتلفها فعليه مثلها، وهذا آخر قوله، وكان قوله الأول القيمة. في «المنتقى» ، وفيه أيضاً بشر عن أبي يوسف: رجل غصب شاة وحلبها ضمن قيمة لبنها، وإن غصب جارية، فأرضعت ولداً له لا يضمن قيمة اللبن، وحكاه في موضع آخر من هذا الكتاب، عن أبي حنيفة رضي الله عنه. وفيه أيضاً هشام عن محمد رحمهما الله قال أبو حنيفة رضي الله عنه: رجل غصب من آخر لحماً، واستهلكه، فعليه قيمته، وفيه كلمات أخر عرفت في كتاب البيوع، استهلك سرقين إنسان يجب عليه القيمة؛ لأنه ليس بمثلي؛ لأنه لا يكال ولا يورث إنما يحمل أوقاراً فيضمن بالقيمة؛ ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن رد مثل

الفصل الثالث فيما لا يجب الضمان باستهلاكه

المغصوب ومثل المستهلك في الموضع الذي وجب المثل يجب في موضع الغصب والاستهلاك، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن ضمان الجناية لا تجب في موضع الجناية، وإنما يجب في موضع الخصومة. استهلك ثوباً لرجل وجاء بقيمته، فقال رب الثوب: لا أريدها، ولا أجعلك في حل، فللغاصب أن يرفع الأمر إلى القاضي حتى يجبره على القبول، وإن لم يرفع الأمر إلى الحاكم، ووضع القيمة في حجره يبرأ وإن وضعه بين يديه لا يبرأ. الفصل الثالث فيما لا يجب الضمان باستهلاكه كسر بيضة أو جوزة لغيره، فوجد داخلها فاسداً، فلا ضمان عليه؛ لأنه ظهر أنه ما استهلك مالاً، وكذلك لو كسر درهم إنسان، ثم ظهر أنه ستوق، فلا ضمان عليه لما قلنا. إذا أفسد تأليف حصير إنسان، فإن أمكن إعادته كما كان أمرناه بالإعادة؛ لأنه قادر على رده كما أخذ، فصار كمن غصب سلمة إنسان.... ..... ......... يؤمر بإعادة التركيب؛ لأن الإعادة ممكنة فيؤمر بالإعادة، وإن لم يمكنه الإعادة كما كان سلم له المقبوض، وضمن قيمة الحطب صحيحاً؛ لأنه عجز عن الرد كما أخذ فيصار إلى القيمة. وإذا حل شراك نعل غيره، فإن كان النعل من النعال التي يستعملها العامة لا شيء عليه؛ لأنه لا مؤنة في إعادة شراكه، وإن كان النعل غريباً فإن كان لا ينقص سيره، ولا يدخله عيب لو أعيد يؤمر بالإعادة، ولا يضمن شيئاً، وإن كان ينقص سيره، ويدخله عيب لو أعيد يضمن النقصان. وفي «واقعات الناطفي» : نزع باب دار إنسان عن موضعه أو حل سرج إنسان، أو جاء إلى ثوب ... الحائك، نسجه فنشره حتى أعاده إلى الحالة الأولى، فكل ما كان مؤلفاً، فنقض تأليفه، فالجواب فيه على الحق كما ذكرنا (115ب2) في النعلين والحصير. في «النوازل» هدم جدار رجل، ثم بناه الهادم قبل أن يضمن القيمة؛ إن بناه كما كان فلا ضمان عليه؛ لأنه أعاد الأول كلاً، فصار كمن فتق مخيط إنسان، ثم خاطه إذا دخل على صاحب، دكانه بإذنه فعلق بثوبه شيء مما في دكانه، فسقط لا يضمن،

هكذا ذكر في «واقعات الناطفي» وتأويله الصحيح: أن السقوط لم يكن بفعله ويده. دفع إلى خياط كرباساً ليخيط له قميصاً، فخاط قميصاً فاسداً، وعلم صاحب الثوب بالفساد، فلبسه مع ذلك، فلا ضمان؛ لأنه لبسه مع العلم رضاءً بالفساد، ويعلم عن هذه المسألة كثير من المسائل. إذا ذبح شاة إنسان لا يرجى حياتها ضمن، والراعي والبقار في مثل هذا لا يضمن، هكذا ذكر الصدر الشهيد في الباب الأول من شركة «واقعاته» . وجواب محمد رحمه الله في «الأصل:» أن الراعي يضمن، وهو القياس في المسألة في باب إجارة الراعي، فالصدر الشهيد رحمه الله، فرق بين الراعي والبقار وبين الأجنبي، فضمن الأجنبي، ولم يضمن الراعي والبقار، والفقيه أبو الليث رحمه الله سوى بينهما فقال: لا يضمن الأجنبي كما لا يضمن الراعي لوجود الإذن بالذبح في هذه الحالة في حق الكل. وكذلك الجواب في البعير؛ لأن الذبح في هذه الحال لإصلاح اللحم، وأما في الحمار والبغل، فلا يذبح؛ لأن ذبحهما ليس لإصلاح اللحم، وفي الفرس أيضاً لا يذبح؛ لأن ذبحه ليس لإصلاح اللحم عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن كراهته كراهة تحريم عنده وهو الصحيح. إذا رفع التراب من أرض الغير إن لم يكن للتراب قيمة في ذلك الموضع إن انتقص الأرض برفعه ضمن النقصان، وإن لم ينتقص فلا شيء عليه، فلا يؤمر بالكثير، وإن قال به بعض العلماء، وإن كان للتراب قيمة في ذلك الموضع ضمن قيمته تمكن في الأرض أو لم يتمكن. في «أدب القاضي» للخصاف في آخر باب اليمين: الصراف إذا غمز الدراهم وكسرها ضمن، إلا إذا قال المالك: اغمز، في غصب «العيون» ، وكذلك دفع إليه قوساً، وقال له: أده فمده فهده، وانكسر؛ يضمن إلا إذا قال له مدة في هذه الموضع أيضاً. وفي صرف «المنتقى» : عن أبي يوسف في الصيرفي إذا انتقد الدراهم بإذن صاحبها فغمز درهماً فانكسر، قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا ضمان، وقال أبو يوسف: إن كان الناس إنما يعرفون الدراهم بالغمز فلا ضمان. والمختار للفتوى أن صاحب المال إن أمره بالغمز فلا ضمان، وإن لم يأمره بالغمز، فإن كان الناس إنما يعرفون الدراهم بالغمز، فلا ضمان عليه أيضاً، ويثبت الإذن بالغمز دلالة إذا كانت الحالة هذه إذا طبخ لحم غيره بغير إذنه ضمن، ولو جعل صاحب اللحمِ اللحمَ في القدر ووضع القدر على الكانون ووضع تحتها الحطب، فأوقد النار وطبخ، فإنه لا يضمن استحساناً، ومن هذا الجنس مسائل أحدها هذه. المسألة الثانية: إذا طحن حنطة غيره بغير أمره ضمن، ولو أن صاحب الحنطة جعل الحنطة في الدورق، وربط عليه الحمار في آخر، وساق الحمار فطحن لا يضمن. المسألة الثالثة: إذا رفع جرة غيره بغير أمره فانكسر يضمن، ولو أن صاحب الجرة رفع الجرة فأمالها إلى نفسه، فجاء إنسان وأعانه على الرفع فانكسر فيما بين ذلك، لا يضمن. المسألة الرابعة: من حمل على دابة غيره بغير أمره حتى هلكت الدابة يضمن، ولو حمل المالك على دابته شيئاً ثم سقط في الطريق فجاء إنسان وحمل بغير إذنه، فهلكت الدابة لا يضمن.

الفصل الرابع في كيفية الضمان

المسألة الخامسة: إذا ذبح أضحية غيره بغير إذنه؛ إن ذبح في غير أيام الأضحية لا يجوز، ويضمن الذابح، وإن ذبح في أيام الأضحية يجوز، ولا يضمن؛ لأن الإذن ثابت دلالة في هذه المسائل، والدلائل يجب اعتبارها ما لم يوجد الصريح بخلافه، هذه جملة ذكرها الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام رحمه الله في باب ما لا يجزىء في الأضحية. ومن جنس هذه المسائل: ذكر محمد رحمه الله في شرح المزارعة في باب قبل باب المزارعة التي يشترط فيها المعاملة أن من أحضر فعلة لهدم حائط فجاء آخر، وهدم بغير إذنه لا يضمن استحساناً، وصار الأصل في جنس هذه المسائل أن كل عمل لا يتفاوت فيه الناس ثبتت الاستعانة بكل واحد من آحاد الناس دلالة، فأما إذا كان عملاً يتفاوت فيه الناس لا تثبت الاستعانة بكل واحد من آحاد الناس، كما لو علق الشاة بعد الذبح للسلخ فجاء إنسان وسلخ بغير إذنه ضمن، ذكره رحمه الله هذا الأصل. في الباب أيضاً: القصاب إذا اشترى شاة، فجاء إنسان وذبحها، فهذا على وجهين: أما إن ذبحها بعدما أخذه القصاب، وشد رجلها، أو قبل ذلك، ففي الوجه الأول: لا يضمن، وفي الوجه الثاني: يضمن. نزع غريم رجل من يده يعزر لكن لا ضمان عليه. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: دابة لرجل دخلت زرع إنسان، فأخرجها صاحب الزرع، فجاء ذئب وأكلها، إن أخرجها ولم يسقها بعد ذلك، فلا ضمان عليه، عليه أكثر المشايخ، وهو المختار للفتوى، وإن ساقها بعد ذلك أكثر مشايخنا على أنه يضمن سواء ساقها إلى مكان بأن عليها من زرعه، أو أكثر من ذلك، وعليه الفتوى. وكذلك الراعي إذا وجد في بادوكه بقرة لغيره، فطردها قدر ما تخرج من بين بادوكه لا يضمن، وإن ساقها بعد ذلك يضمن، فأما إذا وجد بقرة في زرعه، فأخبر صاحبها، فأخرجها صاحبها، فأفسدت الدابة الزرع إن أمر صاحب الزرع صاحب الدابة بالإخراج لا يضمن صاحب الدابة شيئاً هذه الجملة في الباب الأول من غصب «الواقعات» . المزارع إذا دفع البقر الذي دفعه إليه رب الأرض مع البذر، والأرض مزارعة إلى الراعي، فضاع لا ضمان على أحد. في غصب «فتاوى (أهل) سمرقند» إذا منع صاحب الزرع عن السقي حتى فسد الزرع؛ لم يكن عليه ضمان الزرع في «واقعات الناطفي» . الفصل الرابع في كيفية الضمان في «المنتقى» : بشر بن الوليد عن أبي يوسف في رجل خرق طيلساناً ثم رماه، قال أقومه صحيحاً وأقومه مخروقاً فأضمنه فضل ما بينهما، وعنه أيضاً: رجل حفر بئراً في ملكه، فطمها رجل بترابها، قال: أقومها محفورة، وغير محفورة، فأضمنه فضل ما بينهما، وإن طرح فيها تراباً أجبرته على أن يخرجه، وإن كانت في الصحراء، فإن لم يخرج الماء (116أ2) فليس عليه من طمها شيء، وإن أخرج الماء، فقد استحقها؛ لأنه

بئر عطن، فهو ضامن لفضل ما بينهما. إذا مزق دفاتر حساب إنسان، فاستهلكها ولم يدر ما أخذ وما أعطى، يضمن للمالك قيمة دفاتر الحساب، وهو أن ينظر بكم يشترى ذلك. في غصب «فتاوى أهل سمرقند» وهو نظير ما ذكر في «فتاوى أبي الليث» : أن من حرق صك إنسان، يضمن قيمة الصك مكتوباً على قول أكثر المشايخ، ولا ينظر إلى المال؛ لأن الإتلاف صادف الصك، أما ما صادف المال. في «المنتقى» : هشام عن محمد قال: عند المفتين باطل؛ لأنه لو صبه إنسان لمسلم لم أضمنه، فقيل له: يقول أبو حنيفة فيمن صب سكراً لمسلم أيضمن قيمته أو مثله، قال: قيمته إذا كسر بربط إنسان أو طنبور إنسان أو دفه أو ما أشبه ذلك من الآلات الملاهي فعلى قولنا: لا ضمان عليه، وعلى قول أبي حنيفة: يجب الضمان؛ لأن هذه الأشياء صالحة للانتفاع بجهة أخرى سوى اللهو بأن يجعل ظرف الأشياء، فيضمن قيمتها من هذا الوجه لا من حيث كونه طنبوراً أو بربطاً. وذكر في «الجامع الصغير» : أن على قول أبي حنيفة يضمن؛ إلا إذا فعل بإذن الإمام، قال القاضي الإمام صدر الإسلام في شرح «الجامع الصغير» والفتوى على قولهما لكثرة الفساد فيما بين الناس، وذكر الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزدوي في «الجامع الصغير» أيضاً: أن قول أبي حنيفة قياس، وقولهما استحسان، قال صدر الإسلام ثمة: ثم عند أبي حنيفة: إذا وجب الضمان يجب الضمان على وجه الصلاحية بغير التلهي على أي وجه يمكن الانتفاع بذلك وعلى هذا الخلاف النرد والشطرنج؛ لأنه يمكن أن يجعل هذه الأشياء..... وفي «القدوري» يقول في مسألة الطنبور والبربط أنه يضمن قيمته خشباً منحوتاً، وفي «المنتقى» يقول: يضمن قيمته خشباً ألواحاً. هشام قلت لمحمد رحمه الله: إذا أحرق باباً منحوتاً عليه تماثيل منقوشة، قال: في قولي: يضمن قيمته غير منقوش بتماثيل، فإن كان صاحبه قطع رؤوس التماثيل ضمن قيمته منقوشاً بمنزلة منقوش شجر، قلت: لو أحرق بساطاً فيه صورة رجال، قال: ضمن قيمته مصوراً؛ لأن البساط يوطأ. قلت: إذا هدم بيتاً مصوراً بهذه الأصباغ تماثيل الرجال والطير قال: أضمنه قيمة البيت، والأصباغ غير مصورة، وإن قتل جارية مغنية ضمن قيمتها غير مغنية، إلا أن يكون الغناء نقصاً فأقومها على ذلك سواء وإن كانت الجارية حسن الصوت؛ إلا أنها لا تغني، فهو على حسن الصوت، والحمامة إذا كانت تقرقر، والفاختة إذا كانت تقرقر تعتبر قيمتها مقرقرة، والحمامة إذا كانت تجيء من بعيد، لا تعتبر قيمتها على ذلك. والفرس إذا كان يسبق عليه، فهو على السابق قيمته، وفي الحمامة إذا كانت طائرة تعتبر قيمتها غير طائرة، وكذلك كل شيء يكون بغير تعليم.

الفصل الخامس في خلط الغاصب مال رجلين أو رجل، أو مال غيره بماله، أو اختلط أحد المالين بالآخرين من غير خلط

غصب من آخر أرضاً وزرعها، وانتقصت الأرض بسبب الزراعة، فعلى الغاصب نقصان الأرض، واختلف المشايخ في طريق معرفة النقصان، قال بعضهم: ينظر بكم تؤاجر هذه الأرض قبل الزراعة، وبكم تؤاجر بعد الزراعة، فمقدار التفاوت نقصان الأرض، وقال بعضهم: ينظر بكم تشترى هذه الأرض قبل الزراعة، وبكم تشترى بعد الزراعة فمقدار التفاوت نقصان الأرض، قال شمس الأئمة السرخسي: والقول الأول أقرب إلى الصواب. قطع شجرة من دار رجل بغير أمره، فرب الدار بالخيار؛ إن شاء ترك الشجرة على القاطع، وضمنه قيمة الشجرة قائمة، وطريقة معرفة ذلك أن تقوم الدار مع الشجرة، ويقوم الدار بدون الشجرة، فيضمن فضل ما بينهما. وإن شاء أمسك الشجرة، ويضمنه قيمة النقصان قائماً وطريقة معرفة ذلك: أن يقوم الدار مع الشجرة، وبغير الشجرة أصلاً، فتفاوت ما بينهما قيمة الشجرة، ثم ينظر إلى ذلك وإلى قيمة الشجرة مقطوعة ففضل ما بينهما قيمة نقصان القطع، حتى لو كان قيمة الشجرة مقطوعة وغير مقطوعة على السواء، لا شيء عليه. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله وفي «مجموع النوازل» من قلع شجرة من بستان رجل أو من داره فاستهلكها، فعليه نقصان الدار والبستان، ومن قلع شجرة من أرض رجل، فعليه قيمة الحطب، جاء إلى تنور راش وقد سخنت بقصب فصب فيه الماء، ننظر إلى قيمة التنور كذلك وإلى قيمته غير مسجور فيضمن فضل بينهما، وكذلك بئر الماء إذا بال فيها إنسان على هذا. في «واقعات الناطفي» ، وفي جنايات «فتاوى أهل سمرقند» : فتح رأس تنور إنسان حتى برد، فعليه قيمة الحطب مقدار ما يسجر به التنور، ويمكن أن يقال: ينظر بكم يستأجر التنور المسجور يبيع به من غير أن يسجره، فيضمن ذلك القدر، أو ينظر إلى أجرته مسجوراً أو غير مسجور، فيضمن تفاوت ما بينهما. الفصل الخامس في خلط الغاصب مال رجلين أو رجل، أو مال غيره بماله، أو اختلط أحد المالين بالآخرين من غير خلط قال محمد رحمه الله في «الأصل» : غصب من آخر حنطة، وغصب من آخر شعيراً، وخلطهما؛ ضمن لكل واحد منهما مثل ما غصب منه، ولم يذكر في «الكتاب» أن المخلوط لمن يكون، واعلم بأن الخلط يكون على نوعين: خلط لا يتأتى معه التمييز كخلط اللبن باللبن، والحنطة بالحنطة وفي هذه الصورة يكون المخلوط ملكاً للخالط، ويتقرر حق المالك في المثل عند أبي حنيفة رضي الله عنه، ولكن لا يحل للخالط الانتفاع بالمخلوط، قبل أداء البدل وعلى قول أبي يوسف

ومحمد: للمالك الخيار؛ إن شاء ضمنه مثل حقه، وإن شاء شاركه في المخلوط، وأجمعوا على أنه لو غصب دهن جوز وخلط بدهن بزر أن المخلوط يصير ملكاً للخالط. وخلط يتأتى معه التمييز، وهو على نوعين: نوع يحتاج فيه إلى كلفة، ومشقة للتميز كخلط الحنطة بالشعير، والجواب في هذا النوع عندهما كالجواب في النوع الأول في ظاهر الرواية، وبه أخذ بعض المشايخ، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن قوله في هذا النوع كقولهما، وبه أخذ بعض المشايخ، وإليه أشار في كتاب الغصب في أول كتاب الوديعة فإنه قال: إذا كان الخالط أجنبياً، ولا يظفر به فلهما أن يبيعا، وأن يكون لهما حق البيع إذا كان مشتركاً بينهما. أما إذا كان ملك الخالط لا يمكنهما البيع، من المشايخ من قال: ما ذكر من الجواب في تلك المسألة قول أبي يوسف ومحمد، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة، أما على ظاهر رواية أبي حنيفة رضي الله عنه (116ب2) لا يكون لهما حق البيع، ومنهم من قال: ما ذكر ثمة قول الكل وهو الأصح، والعذر لأبي حنيفة على ظاهر الرواية أن حق البيع لهما في تلك الصورة ما كان باعتبار أن المخلوط لم يصر ملكاً للخالط، بل باعتبار أن المخلوط، وإن صار ملكاً للخالط فحقهما لم ينقطع عنه بل يتوقف تمام الانقطاع على وصول البدل إليهما. ألا ترى أنه لا يحل للخالط الانتفاع بالمخلوط ما لم يؤدِّ البدل إليهما، وإذا بقي حقهما قلنا إنه يباع المخلوط لإبقاء حقهما كالمبيع يباع عند تعذر استيفاء الثمن من المشتري لعينه كذا ههنا. ومن المشايخ من قال على قول أبي حنيفة رضي الله عنه في هذا الخلط قياس واستحسان، القياس: أن يصير المخلوط ملكاً للخالط، وفي الاستحسان: لا يصير. ونوع لا يحتاج إلى التمييز فيه إلى كلفة ومشقة كخلط البيض بالسود، والدراهم بالدنانير، وفي هذا النوع لا يجب الضمان على الخالط، ولا يصير المخلوط ملكاً للخالط بالإجماع. في «المنتقى» : قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن رجل غصب من رجل ألف درهم، وخلطهما درهماً من ماله، قال: مذهب أبي يوسف في هذا أن دراهم الخالط إذا كان أكثر، فهو مستهلك ضامن للدراهم المغصوبة، وإن كان دراهم الخالط أقل، فالمغصوب منه بالخيار إن شاء ضمنه دراهم، وإن شاء شاركه في المخلوط بقدر دراهمه قلت: فإن كانا سواء، فما مذهب أبي يوسف؟ فقال: لا أدري، وأما في قولنا: المغصوب منه بالخيار على كل حال؛ إن شاء ضمن الغاصب دراهمه، وإن شاء كان شريكاً فيها.h وفيه أيضاً هشام عن محمد: إذا كان مع رجل سويق، ومع رجل آخر سمن أو زيت فاصطدما فانصب زيت هذا أو سمنه في سويق هذا، فإن صاحب السويق يضمن لصاحب السمن أو الزيت مثل كيل زيته أو سمنه؛ لأن صاحب السويق استهلك سمن هذا، ولم يستهلك صاحب السمن سويق هذا؛ ولأن هذا زيادة في السويق.

وإن كان مع أحدهما سويق، ومع الآخر نورة، فاصطدما فانصب سويق هذا في نورة هذا، فإن شاء صاحب السويق أخذ سويقه ناقصاً، وأعطى الآخر مثل نورته، وإن شاء ضمن صاحب النورة مثل كيل سويقه، وسلم له سويقه، وضمن صاحب السويق لصاحب النورة مثل كيل نورته؛ لأن كل واحد منهما جانٍ، وإن فعل ذلك غريب وذهب، فليس لصاحب النورة على صاحب السويق شيء؛ لأن النورة لم تزد في سويقه بل نقصه، والسويق لصاحب السويق. وفي «القدوري» صب ماء في طعام فأفسده، وزاد في كيله، فلصاحب الطعام أن يضمنه قيمته قبل أن يصب فيه الماء، وليس له أن يضمنه طعاماً مثله، وكذا لو صب ماء في دهن أو زيت؛ لأن الطعام المبتل والدهن الذي صب في الماء لا مثل له، فيغرم القيمة، ولا يجوز أن يغرم مثل كيله قبل صب الماء؛ لأنه لم يكن منه غصب مقدم؛ حتى لو غصب ثم صب عليه الماء فعليه مثله. وفي «المنتقى:» عن محمد رحمه الله رجل معه دراهم ينظر إليها، فوقع بعضه في دراهم رجل، فاختلط، كان ضامناً لها؛ قال: لأن هذا جناية منه، وإن لم يتعمد. نوع منه ذكر في «فتاوى أبي الليث:» دجاجة ابتلعت لؤلؤة رجل؛ ينظر إلى قيمة اللؤلؤة، وإلى قيمة الدجاجة أيهما أكبر يخير صاحبها؛ إن كانت قيمة اللؤلؤة أكثر يقال لصاحبها: إن شئت فأعط قيمة الدجاجة واذبحها، وإن شئت فتربص إلى أن تخرج اللؤلؤة منها. وإن كانت قيمة الدجاجة أكثر؛ يقال لصاحبها: إن شئت فأعط قيمة اللؤلؤة، وإلا فاذبح الدجاجة، وهكذا الجواب في الأترجة إذا دخلت في قارورة الإنسان وكبرت، ولو أدخل رجل أترجة رجل في قارورة رجل، فكبرت الأترجة فلا خيار لأحد، وضمن الفاعل لصاحب الأترجة قيمة الأترجة، ولصاحب القارورة قيمة القارورة، وتكون الأترجة والقارورة له بالضمان. وفيه أيضاً: شجرة قرع نبتت في أرض رجل، فصارت في حب رجل، وانعقدت فيه حتى عظمت، ولم يتمكن إخراجها إلا بكسر الحب أو القرع؛ ينظر إلى أكثرهما قيمة يقال لصاحبه: أد قيمة الآخر وتملكه وإن باعا الحب والقرع جاز، ويضرب كل واحد منهما من الثمن بقيمة سلعته. وفي كتاب الحيطان: دخل قرن الشاة في قدر ... وتعذر إخراجه، ينظر أيهما كان أكثر قيمة من الآخر، فيؤمر صاحب أكثرهما قيمة بدفع قيمة الآخر إلى صاحبه، ويتملك مال صاحبه، ويكون مخيراً بعد ذلك يتلف أيهما شاء، وكذلك إذا كان للمستأجر حب في الدار المستأجرة لا يمكن إخراجه إلا بهدم شيء من الحائط؛ ينظر أيهما أكثر قيمة، ما ينهدم من الحائط بإخراج الحب، أو الحب.

الفصل السادس في استرداد المغصوب من الغاصب، وما يمنع من ذلك، وفيمايبرأ الغاصب به عن الضمان وما لا يبرأ

وفي «المنتقى» هشام في «نوادره» عن محمد رحمه الله: دجاجة رجل ابتلعت لؤلؤة رجل آخر؛ يقال لصاحب الدجاجة: إن شئت فأعط قيمة اللؤلؤة، فإن أبى صاحب الدجاجة إعطاء قيمة اللؤلؤة، أعطي الدجاجة بقيمتها، وكذلك إن ابتلعها بعير، وقيمة اللؤلؤة كثيرة، وإن كانت قيمة اللؤلؤة شيئاً يسيراً فلا شيء على صاحب البعير. وفيه أيضاً: بشر عن أبي يوسف: في طائر ابتلع لؤلؤة، فأراد صاحب اللؤلؤة أن يأخذ الطائر، قال: لا أجبر صاحب الطائر أن يعطيه الطائر، ويأخذ قيمة الطائر، وكذلك كل شيء يبتلع اللؤلؤة، وقيمة اللؤلؤة خير منه. وفي «العيون» : رجل أودع رجلاً فصيلاً، فأدخله المودع في بيته حتى عظم، فلم يقدر على إخراجه إلا بقلع بابه، فله أن يعطي قيمة الفصيل يوم صار الفصيل في حد لا يستطيع الخروج من الباب، ويتملك الفصيل دفعاً للضرر عن نفسه إن شاء، وإن شاء قطع الباب، ورد الفصيل. قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : ويجب أن يكون تأويل المسألة إذا كان قيمة ما ينهدم من البيت بإخراج الفصيل أكثر من قيمة الفصيل، أما إذا كان قيمة الفصيل أكثر من قيمة ما ينهدم من البيت بإخراج الفصيل؛ يؤمر صاحب الفصيل بدفع قيمة ما ينهدم إليه، وأخرج الفصيل ليكون هذا الجواب مطابقاً لما ذكر في «النوازل» . وفي كتاب «الحيطان» : هذا إذا أدخل المودع الفصيل في بيته. ولو استعار المودع بيتاً وأدخل الفصيل وعظم الفصيل وباقي المسألة بحالها، يقال لرب الفصيل: إن أمكنك إخراج الفصيل، فأخرجه، وإلا (117أ2) فانحره واجعله قطعاً قطعاً، وإن كان حماراً أو بغلاً إن كان ضرر الباب فاحشاً كذلك أيضاً، وإن كان يسيراً له أن يقلع الباب، ويغرم مقدار ما أفسد من الباب، وهذا نوع استحسان؛ لأنه لو لم يجعل كذلك يتضرر صاحب الحمار والبغل بفوات حقه أصلاً. وفي «الواقعات» للناطفي: قصار بسط ثوباً على حبل في الريح، فجاءت وحملته وألقته في صبغ إنسان حتى انصبغ، فليس على القصار ولا على رب الثوب شيء من قيمة الصبغ، قال الصدر الشهيد رحمه الله: وهذا بخلاف ما حفظنا في المسائل الخلافية، فالمحفوظ في الخلافية أن صاحب الثوب يأخذ ثوبه، ويضمن ما زاد الصبغ فيه إلا إذا أبى صاحب الثوب أخذ الثوب فحينئذٍ كان الجواب كما ذكر الناطفي، وذكر «القدوري» في باب الثوب يصبغه الغاصب على نحو ما ذكره الصدر الشهيد رحمه الله. الفصل السادس في استرداد المغصوب من الغاصب، وما يمنع من ذلك، وفيمايبرأ الغاصب به عن الضمان وما لا يبرأ قال الكرخي رحمه الله: إذا أحدث المغصوب منه في الغصب حدثاً يصير به غاصباً لو وقع في ملك الغير صار مسترداً للغصب، وبرىء الغاصب به عن الغصب، وذلك نحو

أن يستخدم المغصوب أو يلبس المغصوب؛ لأن غاصب إثبات اليد على المحل، فإذا أحدث حدثاً يصير به غاصباً، فقد أثبت يده على المغصوب، وثبوت يد المالك يوجب سقوط الضمان عن الغاصب، وسواء عرف ذلك أو لم يعرف؛ لأن الحكم يبنى على السبب دون العلم، ولا يكون الغاصب غاصباً بالغصب الأول لهذا إلا أن يحدث غصباً مستقبلاً. وكذلك لو أن الغاصب كسى الثوب رب الثوب، فلبسه حتى تخرق، وعرفه أو لم يعرفه، وكذلك إذا باعه من صاحبه أو وهبه له، ولم يعرفه حتى لبسه وتخرق، كذلك إذا غصب طعاماً ثم أطعمه، وعرفه أو لم يعرفه. وكذلك إذا جاء المغصوب منه إلى بيت الغاصب، وأكل ذلك الطعام بعينه، وقد عرفه أو لم يعرفه (لم يجب) به شيء من الضمان، وإن كان الغاصب خُبَز الدقيق أو شَوَى اللحم، ثم أطعمه لم يبرأ عن الضمان؛ لأنه ما أثبت يده على المغصوب في هذه الصورة؛ لأنه بالخبز والشي خرج من أن يكون مغصوباً، وصار ملكاً للغاصب. قال: ولو أن المغصوب منه آجر العبد من الغاصب للخدمة أو الثوب للبس برىء من ضمان العبد حتى وجب عليه الأجر بالإجارة؛ لأن الأجر مع الضمان لا يجتمعان، وقد قالوا: إذا استأجر العبد المغصوب من مولاه ليبني له حائطاً معلوماً لا يسقط عنه الضمان حتى يبدأ بالبناء؛ لأن الأجرة في هذه الصورة لا تجب بالتخلية، وإنما تجب بالعمل، وسقوط الضمان معلق بوجوب الأجر، فأما في الاستخدام؛ فالأجر يجب بالتخلية كما وقع عقد الإجارة يبرأ عن الضمان. ولو زوج الجارية المغصوبة من الغاصب، لم يبرأ عن الضمان في قياس قول أبي حنيفة رضي الله عنه، خلافاً لأبي يوسف: وهو فرع اختلافهم في المشتري إذا زوج الجارية المشتراة قبل القبض، فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لا يصير قابضاً لها، وعلى قول أبي يوسف: يصير قابضاً لها، ولو كان المغصوب منه استأجر الغاصب ليعلم المغصوب عملاً من الأعمال، فذلك جائز، وهو في يد الغاصب على ضمانه إن هلك قبل أن يأخذ في ذلك العمل أو بعده ضمن. وكذلك لو استأجر ليفتل الثوب المغصوب؛ لأن الاستئجار على التعليم، وفتل الثوب لا يقتضي ثبوت اليد عليه، فإنه يتصور وقوع العمل فيه مع كونه في يد المالك وداره، فلا يبرأ من الضمان، وإن كان له أجر في عمله إنما يبطل عنه الضمان إذا صار عليه الأجر؛ لأنه لا يتحمل أجر وضمان أما أن يكون له الأجر وهو ضامن، فهذا جائز، بخلاف استئجار الدابة للركوب؛ لأن استيفاء منفعة الدابة لا يكون إلا بعد كونه مسلماً إليه فثبوت بدل الإجارة، يستدعي انتفاء ضمان الغصب. رجل خان رجلاً حنطة، ثم دفعها إليه بعينها إليه، وقال: اطحنها لي، فطحنها، ثم علم أنها كانت حنطته برىء من الضمان، وكذلك لو خانه غزلاً ثم دفع ذلك الغزل بعينه إلى صاحب الغزل، وقال: انسجه لي فنسجه ثم علم به.

وكذلك إذا غصب من رجل دابة، ومات صاحب الدابة، إن ابنه استعار منه دابة فأعارها إياه، وعطبت تحته برىء من الضمان. المعلى في «نوادره» عن أبي يوسف.. عن أبي حنيفة رضي الله عنه: رجل غصب من رجل ثوباً، فأحرقه رجل في يده، ثم أعطى المحرق الغاصب قيمة الثوب برىء، قال أبو يوسف: ليس على المحرق أن يعطي الغاصب قيمته، وإذا أعطى لا يبرأ؛ إلا إذا كان الإعطاء بقضاء القاضي، ولا ينبغي للقاضي أن يجبره على إعطاء القيمة إذا علم أن الطالب غاصب، لكن يضمنها على يدي رجل عدل حتى يحضر رب الثوب، فيختار ضمان أيهما، قال أبو الفضل رحمه الله: هذا الجواب خلاف ما قال في «الأصل» غصب من آخر داراً، ثم إن الغاصب استأجرها من المغصوب منه، والدار ليست بحضرتهما حين استأجرها ينظر إن كان هو ساكنها أو لم يكن هو ساكنها؛ إلا أنه قادر على إسكانها برىء من ضمانها؛ لأني أوجب عليه الأجر حينئذٍ. وفي «الجامع» في باب متصل بباب الطويل من البيوع: إذا أمر المالك الغاصب ببيع المغصوب، فقبل البيع لا يخرج عن ضمان الغاصب، وكذا بعد البيع قبل التسليم لا يخرج من ضمان الغصب حتى لو هلك قبل البيع، أو بعد البيع قبل التسليم بحكم البيع يهلك بالغصب. وكذا المغصوب منه إذا باع بنفسه فقبل التسليم لا يخرج عن ضمان الغاصب، وكذا المغصوب منه إذا أمر الغاصب بأن يضحي الشاة، فقبل أن يضحي بها لا يخرج عن ضمانه، نص عليه شمس الأئمة السرخسي في أول شرح كتاب العارية: إذا رد الغاصب المغصوب على المغصوب منه، فجواب «الكتاب» أنه يبرأ مطلقاً، قال الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده في كتاب الإقرار: والمسألة في الحاصل على وجوه: إن كان المأخوذ منه كبيراً بالغاً؛ فالجواب ما قال في «الكتاب» ، وإن كان صغيراً، إن كان مأذوناً في التجارة فكذلك، وإن كان محجوراً إن كان صبياً لا يعقل القبض والحفظ؛ لا يبرأ عن الضمان إذا رده عليه بعدما أخذ منه، وتحول منه، وإن ردَّ عليه قبل أن يتحول عن مكان الأخذ يبرأ استحساناً، وكان الجواب فيه كالجواب فيما إذا أخذ (117ب2) لقطة، وردها إلى مكانها؛ إن رد بعدما تحولت لا يبرأ، وإن رد قبل التحول برىء استحساناً، وإن كان صبياً يعقل القبض والحفظ، ففيه اختلاف المشايخ. وفي «فتاوى الفضلي» : أنه يبرأ عن الضمان إذا كان الصبي يعقل الأخذ والإعطاء من غير ذكر خلاف، وإن كان لا يعقل الأخذ والإعطاء؛ لا يبرأ من غير تفصيل. وفيه أيضاً: إن كان المغصوب دراهم، وقد استهلكها الغاصب، ثم رد مثل ذلك على الصبي، وهو يعقل يبرأ إذا كان مأذوناً، وإن كان محجوراً عليه لا يبرأ. ذكر في آخر كتاب «اللقطة» : إذا نزع الخاتم من إصبع نائم، ثم أعاده إلى إصبعه

قبل أن يفيق من تلك النومه يبرأ، وإن أعاد إلى إصبعه بعدما تنبه ثم نام لا يبرأ، وذكر الحسن بن زياد في كتاب الاختلاف أخذ من نائم نعله أو خاتماً كان في إصبعه، ثم أعاد إلى مكانه وهو نائم؛ قال أبو يوسف: إن لم يستيقظ حتى رده برىء، وإن استيقظ ثم نام ثم رده، ثم ضاع ضمن إذا لم ينتبه بعد ذلك، وقال محمد رحمه الله: إن أعاد في مجلسه ذلك استحسن أن يبرأ عن الضمان؛ سواء رده في تلك النومة أو نومة أخرى وإلا ضمنته، وكذلك إذا رده إلى إصبع أخرى. إذا لبس ثوب غيره بغير أمره حال غيبته، ثم نزعه، وأعاده إلى مكانه؛ لا يبرأ قال مشايخنا: وهذا إذا لبس كما يلبس ذلك الثوب عادة، فأما إذا كان قميصاً، فوضعه على عاتقه، ثم أعاده إلى مكانه، فلا ضمان؛ لأن هذا حفظ، وليس باستعمال. في آخر كتاب «اللقطة» وفي «المنتقى» ابن سماعة عن محمد: في رجل أخذ ثوب رجل من بيته بغير أمر، فلبسه ثم رده إلى بيته، فوضعه فيه، فهلك؛ لم يضمن استحساناً، وكذلك لو أخذ دابة غيره من آرية بغير أمره، ثم ردها إلى موضعها، فذهبت فلا ضمان استحساناً، وإن أخذ الدابة من غير المالك غصباً ثم ردها، فلم يجد صاحبها، ولا خادمه، فربطها في دار صاحبها على معلفها، فهو ضامن؛ نص عليه شمس الأئمة في شرح كتاب العارية. وفي «المنتقى» الحسن بن زياد عن أبي يوسف: رجل أخذ شيئاً من دار رجل بغير علمه، ثم رده بعد أيام إلى ذلك الموضع؛ لا يبرأ عن الضمان ما لم يرده على صاحبه. وفيه ابن سماعة عن محمد: في رجل أخذ من كيس رجل خمسمائة درهم، وقد كان في الكيس ألف درهم، فذهب، ثم ردها بعد أيام، ووضعها في الكيس الذي أخذها منه، فإنه يضمن الخمسمائة التي كان أخذها، ولا يبرأ منها بردها إلى الكيس. وفي «فتاوى أبي الليث» : غصب من رجل ثوباً، وجاء به إلى المغصوب منه، ووضعه في حجره، والمغصوب منه يعلم بالوضع؛ إلا أنه لا يعلم أنه ثوبه فجاء إنسان، وحمله من حجر المغصوب منه؛ قال: أخاف أن لا يبرأ عن الضمان؛ لأنه يقع عند المغصوب أنه وديعة، ولا يعلم أنه ثوبه ليتابع في الحفظ. في هذا الموضع أيضاً: غصب من آخر سفينة، فلما ركبها وبلغ وسط البحر لحقه صاحبها، فليس له أن يستردها من الغاصب، لكن يؤاجرها من ذلك الموضع إلى الشط مراعاة للجانبين. وكذلك لو غصب دابة، ولحقها صاحبها في المفازة في موضع المهلكة، فليس له أن يستردها، ولكن يؤاجرها منه لما قلنا. وإذا كفن الميت في ثوب غصب، ودفن وأهيل التراب عليه، فإن كان للميت تركة أخذ القيمة من تركته، ولا ينبش الميت، وكذا إذا لم يكن للميت تركة، ولكن تبرع إنسان بأداء القيمة أخذ المالك القيمة من المتبرع، ولا ينبش القبر، وإن لم يكن شيء من ذلك فصاحب الكفن بالخيار؛ إن شاء تركه لآخرته، وهو له فضل، وإن شاء نبش القبر، وأخذ الكفن، قيل: هذا إذا كفن من غير خياطة، فإن نبش القبر، وأخذ

الفصل السابع في التسبب إلى الإتلاف

الكفن، فوجده قد انتقص، فله أن يضمن الذين كفنوه ودفنوه؛ لأنهم صاروا غاصبين. غصب من آخر دابة، أو ثوباً، أو دراهم، وهي قائمة بعينها، فأبرأه المغصوب منه منها صح الإبراء، وتكون العين أمانة في يده، وكذا لو قال: حللته من الغصب، وإن كان المغصوب مستهلكاً برىء من ضمان القيمة، ويكون إبراء عن ضمانها. في «عيون المسائل» وفي «فتاوى النسفي» : غصب من آخر ساجة وأدخلها في ثيابه أو غصب من آخر بالة وغرسها في أرضه، وكبرت حتى انقطع حق المالك، ثم إن المالك قال للغاصب: وهبت منك الساجة، والبالة صح، وهذا إبراء عن الضمان في الحاصل. إذا هشم إبريق فضة إنسان فجاء آخر، وهشمه هشماً برىء الأول عن الضمان، والثاني ضامن، وإنما برىء الأول؛ لأن صاحب الإبريق لا يمكن أن يرد الإبريق على الأول على الحالة الذي هشمه، قال الفقيه أبو الليث: وكذا روي عن محمد بن الحسن في رجل صب ماء على حنطة رجل، فجاء رجل آخر، وصب ماء آخر، وزاده نقصاناً، فالأول يبرأ، والضمان على الثاني قيمتها يوم صب عليها الثاني. وفي صرف «الأصل» : إذا كسر إناء فضة لرجل، واستهلكه صاحبه قبل أن يعطيه إناءه، فلا شيء على الكاسر؛ لأن شرط التضمين تسليم المكسور إليه، وقد فوته بالاستهلاك. الفصل السابع في التسبب إلى الإتلاف قال محمد رحمه الله في كتاب اللقطة: إذا حل دابة مربوطة لرجل، ولم يذهب بها، فذهبت الدابة، فلا ضمان على الذي حلها عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ سواء ذهبت الدابة على الفور أو بعد ذلك بزمان، وعلى قول محمد يجب الضمان. وكذلك إذا فتح باب دار إنسان، وفي الدار دواب، فذهبت الدواب. وكذلك إذا فتح باب قفص إنسان، فطار الطير الذي فيه؛ روي عن محمد رواية أخرى أنه إذا ذهبت الدابة على الفور، أو طار الطير على الفور؛ أنه ضامن، وإذا ذهبت وطار لا على الفور، فلا ضمان، وإنما لم يجب الضمان عندهما؛ لأن الطائر في الطيران مختار، وتركه منه متصور، فلا يحال بالتلف على الفاتح، كما لو حل قيد عبد إنسان حتى ذهب العبد، ومحمد رحمه الله يقول في فصل العبد: العبد له اختيار معتبر شرعاً حتى لو لم يكن كذلك بأن كان العبد مجنوناً؛ ذاهب العقل، فهو والدابة سواء، وعن محمد أيضاً؛ لو كان العبد المجنون مقيداً في بيت مغلق، فحل إنسان قيده، وفتح الآخر الباب، فالضمان على الفاتح لا على الحال؛ قال الفقيه أبو الليث رحمه الله (118أ2) وقد ذكر محمد رحمه الله في «المبسوط» : أنه لا ضمان في ذلك كله، ولم يذكر فيه اختلافاً.

ولو حل رباطاً لزيت فسال الزيت، إن كان الزيت سائلاً، فهو ضامن؛ لأن الفاتح هو المسيل بحل الرباط؛ لأن طبعه كذلك لا يتصور خلافه، ولو كان جامداً وذاب بالشمس، وسال لم يضمن؛ لأنه ليس بمسيل؛ لأن السيلان من طبع المائع، وإنما صار مائعاً من فعل الغير. وذكر في «واقعات الناطفي» فيمن جاء إلى سفينة مشدودة، فحلها، وذلك يوم ريح شديد، فغرقت السفينة، فهذا على وجهين؛ إما أن تثبت بعد الحل ساعة قليل الأوقات، ثم سارت وغرقت، أو كما انحلت لم تقف وسارت وغرقت ففي الوجه الأول لم يضمن وفي الوجه الثاني يضمن. وفي «المنتقى» : إذا كانت الدابة في مربط؛ جاء إنسان وفتح الباب، وذهبت الدابة؛ قال محمد رحمه الله: هو ضامن لها، فإن كانت مشدودة، والباب مغلق فجاء إنسان وحلها، وجاء آخر، وفتح الباب، وذهبت؛ قال: الضمان على الذي فتح الباب، وكذلك الغنم ثقب حائط إنسان بغير إذن صاحب الحائط، ثم غاب الثاقب فدخل سارق من ذلك، وسرق شيئاً يجب أن لا يضمن الثاقب؛ لأن الثاقب مسبب، والسارق مباشر، وصار كما لو فتح باب القفص، وطار الطير، ويجوز أن يكون بين المسألتين فرق، والفتوى في الثاقب أنه لا يضمن مذكورة في «فتاوى سمرقند» . نظر في دن دهن مائع لغيره، فوقعت قطرة دم من أنفه في الدن، وتنجس الدن؛ صار ضامناً إذا كان النظر بغير إذن المالك، ثم ماذا يضمن؟ إن كان الدهن مأكولاً يضمن مثل ذلك قدراً، ووزناً؛ لأن الدهن الذي هو مأكول، فالمقصود الأصلي منه الأكل وفرقات ذلك، فكان إتلافاً له؛ ألا ترى أن من قطع يد دابة هي غير مأكول اللحم، أو رجلها؛ ضمن قيمتها لفوات المنفعة المطلوبة منها من حيث الركوب واللحم، وإن كان الدهن غير مأكول، يضمن النقصان. إذا أوقف دابة في سوق الدواب، فرمحت، فلا ضمان على صاحبها؛ لأن الوالي قد أذن للناس في إيقاف دوابهم في ذلك الموضع، وكل ما كان بإذن الإمام في موضع جاز له الإذن، فهو مباح مطلقاً؛ غير مقيد بشرط السلامة. وكذلك لو كانت سفن واقفة على الشط جاءت سفينة، وأصابت هذه الواقفة؛ فانكسرت الواقفة كان الضمان على الجائية، وإن كسرت الجائية، فلا ضمان على الواقفة؛ لأن الإمام قد أذن لأصحاب السفن على الشط. وفي «فتاوى النسفي» : طحان خرج بالليل من الطاحونة؛ ينظر إلى مبل الماء حين قل الماء، فدخل السارق وسرق أحمال الناس، فالطحان ضامن إن بعد عن الباب بعداً يعد به مضيعاً. وفي «الحاوي» : إذا غصب عجولاً واستهلكه حتى تبين إن.... يضمن قيمة العجول، وما نقص من البقرة.

إذا سعى إلى السلطان بغير ذنب أصلاً، فهو ضامن، وذكر القاضي الإمام صدر الإسلام في آخر شرح اللقطة السعاية على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون بحق بأن يكون يؤذيه، ولا يمكنه دفعه عن نفسه إلا بالدفع إلى السلطان، وفي هذا الوجه لا ضمان، وحكي عن القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي؛ أن المضروب إذا شكى إلى السلطان حتى أخذ السلطان مالاً من الضارب أنه لا ضمان عليه. وكذا إذا كان يفسق ولا يمتنع عنه بالأمر بالمعروف، فرفع إلى السلطان، وأخذ السلطان مالاً، فلا ضمان عليه. الوجه الثاني: أن يقول للسلطان إن فلاناً وجد كنزاً في داره، أو قدر غطارف فإن كان السلطان يغرم الناس جزافاً لا محالة فهو ضامن، وإن كان قد يغرم الناس جزافاً، وقد لا يغرم؛ فلا ضمان.m الوجه الثالث: أن يكون السعاية بغير حق، وفي هذا الوجه لا ضمان على الساعي في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف خلافاً لمحمد رحمه الله، وجعل هذه المسألة فرع مسألة فتح باب القفص؛ قال رحمه الله: والفتوى على قول محمد في زماننا؛ لكثرة السعاية زجراً لهم؛ صيانة لأموال الناس. وذكر في «فتاوى النسفي» أنه سئل عن السعاية بغير ذنب؛ قال: روي عن زفر أنه ضامن، وبه أخذ كثير من مشايخنا. وفيه أيضاً: العبد إذا سعى غيره بغير ذنب إلى السلطان حتى أخذ منه مالاً، إن العبد ضامن، ولكن لا يؤاخذ به إلا بعد العتق؛ لأن العبد ضامن العبد، ولكن لا يؤاخذ به إلا بعد العتق؛ لأن هذا ضمان القول. إذا رش الماء في الطريق، فجاء حمار وزلق به وعطب؛ ذكر في «فتاوى أبي الليث» أن عليه الضمان، ولم يذكر ما إذا زلق به إنسان وعطب وذكر محمد رحمه الله في ديات «الأصل» : أن على عاقلته الضمان من غير فصل، وذكر الشيخ الإمام شيخ الإسلام تأويل المشايخ وأحسن التأويل، إذا رش كل الطريق بحيث لا يجد المار موضعاً يابساً يمر عليه، ففي هذا الوجه: الراش ضامن. وكذلك الجواب في الخشبة الموضوعة في الطريق؛ إن أخذت الطريق كلها، فمر عليها وعثر ومات، فالواضع ضامن، وأما إذا رش بعض الطريق، فمر إنسان على الموضع الذي رش؛ إن لم يعلم بذلك بأن كان ليلاً وعثر ومات من ذلك وجب الضمان على الراش، وإن علم بذلك، ومع ذلك مر على موضع الرش فلا ضمان على الراش. وكذلك الجواب في الخشبة الموضوعة في الطريق إذا أخذت بعض الطريق، فمر عليها إنسان متعمداً، وإلى هذا أشار محمد رحمه الله في مسألة حفر البئر. وصورتها: إذا حفر بئراً على قارعة الطريق، فجاء إنسان، ووثب من إحدى حافتي البئر إلى الآخر خاطر بذلك، فوقع في البئر ومات، فلا ضمان على الحافر، وأما إذا أمر غيره بالرش؛ إن أمره بالرش على فناء الدكان، يعني دكان الآمر؛ فالآمر ضامن، ولا

ضمان على الراش، وإن كان بخلافه فالراش ضامن، والحارس إذا رش هو يضمن كيف ما كان، وإذا رش الماء في الطريق، وجاء رجل بحمارين فيقوم صاحب الحمار إلى أحدهما يقوده، فتبعه الحمار الآخر فزلق فانكسرت رجله، فإن كان صاحب الحمارين سابقاً فلا ضمان على الراش؛ لأن التلف يحال منه على سوقه، وإن لم يكن سابقاً لهما فالراش ضامن (118ب2) إذا ربط حماراً علق على موضع، فجاء آخر، وربط حماره على ذلك الموضع أيضاً، فعض أحد الحمارين الآخر؛ فإن ربطا في موضع كان لهما ولاية الربط بأن لم يكن ذلك الموضع طريقاً، ولا ملكاً لأحد، فلا ضمان؛ لأن الربط على هذا الموضع ليس بجناية، وإن ربطا في موضع ليس لهما ولاية المربط يجب الضمان على صاحب الحمار؛ لأنه ربطه على هذا الموضع جناية منه فما تولد منه يكون مضموناً. في غصب «فتاوى أبي الليث» : زعم بعض مشايخنا أن المسألة مؤولة في باب الضمان، وتأويلها إذا عض حمار الرجل الثاني حمار الرجل الأول؛ أما إذا عض حمار الأول حمار الثاني؛ لا ضمان على الأول؛ لأن فعل الثاني تسبب إلى التلف؛ أما فعل الأول ليس بتسبب، وليس الأمر كما ظنوا؛ بل المسألة مجراة على إطلاقها، والضمان واجب على صاحب العاض أيهما كان. إذا شق راوية الرجل، فهو ضامن لما شق من الراوية، ولما سال منها، ولما عطب بما سال منها؛ ما لم يشقها صاحبها، فإن ساقها صاحبها، وهو يعلم بذلك ضمن صاحبها ما عطبه بما سال منها بعد سوقه إياها، ولا يضمن الشاق ذلك. وكذلك لا يضمن الشاق ما سال منها بعد سوقه إياها، ولا يضمن الشاق ذلك، وكذلك لا يضمن الشاق ما سال منها بعد سوقه إذا كان الشق بحال يمكن لصاحبها دفع ذلك، فإن الضمان على الشاق. وكذلك إذا شق راوية رجل، وسال ما فيها حتى مال الجانب الآخر ووقع وتخرق، وسال ما في الدن الآخر كان ضمان ذلك على الشاق إلا إذا ساقها رب الدابة مع العلم بالشق فحينئذٍ لا ضمان على الشاق. ذكر شيخ الإسلام هذه المسألة على هذا الترتيب في آخر شرح الإجارات، وإذا ساق حماراً عليه وقر حطب، وكان يليه رجل واقف في الطريق أو يسير، فقال السائق بالفارسية: «يرث برث» ، أو قال: «كرست» ولم يسمع الواقف حتى أصابه الحطب، وخرق ثوبه، أو سمع إلا أنه لم يتهيأ له أن يتنحى عن الطريق لضيق المدة ضمن السائق ثوبه؛ لأن التخرق مضاف إلى سوقه، والمرور في الطريق، وحمل الحطب مباح له بشرط السلامة، وإن سمع وتهيأ له التنحي عن الطريق، فلم يتنح فلا ضمان؛ لأنه رضي بخرق ثوبه؛ ذكر المسألة في «فتاوى أهل سمرقند» ولم يذكر ما إذا كان الحمار يمشي، والرجل يأتي أمامه، وضرب عليه الحطب، وتخرق ثوبه. والجواب فيه: أن الرجل الآتي إن لم يكن غافلاً، أمكنه أن يتنحى عن الطريق ولم يتنحَ، فلا ضمان على صاحب الدابة، وإن كان الرجل الآتي غافلاً، وحصل الخرق بذنب

الفصل الثامن في الدعوى الواقع في الغصب، واختلاف الغاصب والمغصوب منه والشهادة في ذلك

الحمار، ومجيء الرجل يجب أن يكون على صاحب الحطب نصف الضمان على قياس مسألة المكعب، وجناسها على ما سيأتي بيانها بعد هذا إن شاء الله. وفي «النوازل» قصار أقام حماراً على الطريق، وعليه ثياب، فجاء راكب، وفرق الثياب، يريد به «كرست زوش» ؛ قال: إن كان الراكب يتضرر الحمار أو الثوب يضمن؛ لأن فعله جناية في هذه الحالة، وإن كان لا يتضرر لا يضمن؛ لأن فعله ليس بجناية، والمرور في الطريق مأذون فيه؛ قال ثمة فعلى هذا لو وضع الثوب على الطريق، فجعل الناس يمرون عليه حتى تخرق؛ وهم لا يبصرون، فلا ضمان عليهم. وكذلك رجل جلس على الطريق، فوقع عليه إنسان، فلم يره، فمات الجالس، فلا ضمان عليه؛ لأن القنن يجمع الكل؛ قال الفقيه أبو الليث، وقد روي عن أصحابنا خلاف ذلك، ولكن لو أفتى مفتٍ بما ذكرنا أولاً لا بأس به. قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : فإذا نص المفتي في هذه المواضع أن الرأي للقاضي، قال: وهكذا يفتى، وعلى قياس مسألة وقر الحطب ينبغي أن يقال في هذه المسألة: إذا كان الراكب تبعه الحمار، والقصار إن لم يقل «برت كوست» أو قال: ولم يسمع القصار قوله، أو سمع، ولكن لم يتهيأ له أن يتنحى؛ ينبغي أن يصير الراكب ضامناً إلى آخر ما ذكرنا. الفصل الثامن في الدعوى الواقع في الغصب، واختلاف الغاصب والمغصوب منه والشهادة في ذلك قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا ادعى رجل على رجل أنه غصب منه جارية له، وأقام على ذلك بينة؛ يحبس المدعى عليه حتى يجيء بها، ويردها على صاحبها؛ قال شمس الأئمة الحلواني: ينبغي أن تحفظ هذه المسألة؛ لأنه قال: أقام بينة أنه غصب جارية له، ولم يتبينوا جنسها وصفتها،.... المشايخ من شرطه بيان الجنس، والصفة والقيمة، وأول ما ذكر في الكتاب على هذا، وحكي عن أبي بكر الأعمش تأويل المسألة أن الشهود شهدوا على إقرار الغاصب أنه غصب منه جارية فثبت غصب الجارية، فإقراره في حق الحبس والقضاء جميعاً. والصحيح: أن هذه البينة تقبل في حق الحبس من غير بيان الجنس والصفة والقيمة، فإذا حبسه القاضي، وأحضر المحبوس جارية، فإن اتفق الغاصب والمغصوب منه أن جاريته هذه يقضى بها للمغصوب منه، وإن أنكر الغاصب أن تكون هذه الجارية جارية المدعي، وادعاها المالك؛ لم يقضَ بها للمغصوب منه ما لم تفد البينة أنها هي الجارية التي غصبها منه.

وإن قال الغاصب: قد ماتت الجارية، أو بعتها، ولا أقدر عليها إن صدقه المغصوب منه في ذلك خلي سبيله، وقضي عليه بالقيمة إن أراد المغصوب منه فإن كذبه يحبس، وينظر ويتلوم، فإذا مضى مدة يقع في غالب رأي القاضي أنه لو كان قادراً لما تحمل مرارة الحبس إلى مثل هذه المدة، فالقاضي يخلي سبيله. قال شمس الأئمة: وهذا التلوم إذا لم يرض المغصوب منه بالقيمة، فإن لم يعرف منه الرضا ومضت هذه المدة فالقاضي يخلي سبيل المدعى عليه بعد هذا القاضي يقول للمغصوب منه: إذا تريد ضمان القيمة أو التلوم إلى أن تظهر الجارية؛ إن قال: ضمان القيمة إن اتفقا على القيمة قضى بتلك البينة، وإن لم يكن، فالقول قول الغاصب مع يمينه، ويحلف بالله ما قيمته إلا عشرين درهماً ذكر هذه الكيفية في غصب «الأصل» قبل مسألة الخلط، فإذا حلف وأدى القيمة، ثم ظهرت الجارية؛ كان للمالك الخيار؛ إن شاء رضي بالقيمة التي أخذها، وإن شاء ردها، وأخذ الجارية؛ قال شيخ الإسلام: قال بعض مشايخنا: إذا كان المأخوذ مثل قيمته أو أكثر؛ لا يكون للمالك الخيار في استرداد الجارية، وذكر شمس الأئمة السرخسي أن هذا القائل هو الكرخي؛ قال شمس الأئمة هذا: والصحيح أن للمالك الخيار على كل حال. وإليه أشار في «الكتاب» حيث أطلق الجواب إطلاقاً، وذكر شمس الأئمة الحلواني: إذا ظهر أن قيمتها (119أ2) مثل ما قال الغاصب..... الجواب فيه؛ قال في موضع: لا خيار للمولى، ولا سبيل له عليها، وقال في موضع آخر: له الخيار، وإن كان ما أخذ أضعاف قيمتها؛ قال شمس الأئمة هذا: والقول الأول أشبه. ولو ادعى الغصب وجاء بشاهدين شهد أحدهما على الغصب، وشهد الآخر على إقرار الغاصب بالغصب؛ لا تقبل الشهادة، وهذا بخلاف ما لو شهد أحدهما بالبيع، وشهد الآخر على الإقرار بالبيع حيث تقبل الشهادة، ولو شهد أحد الشاهدين له بالملك، وشهد الآخر على إقرار الغاصب له بالملك؛ لا تقبل الشهادة؛ لأن المشهود به مختلف؛ لأن الملك المطلق الثابت بالشهادة غير الملك المطلق الثابت بالإقرار حتى يستحق بالأول الزوائد المنفصلة دون الثاني. وإذا ادعى جارية في يدي رجل أنها جاريته غصبها هذا منه، وشهد أحد الشاهدين بذلك، وشهد الآخر أنها جاريته غصبها هذا منه؛ تقبل الشهادة؛ لأنهما اتفقا على الملك، وتفرد أحدهما بالزيادة فتقبل الشهادة على ما اتفقا عليه. ادعى جارية في يدي رجل أنها له غصبها صاحب اليد منه، ولم يشهد شهود المدعي بالغصب، وإنما شهدوا له بالملك، فأراد القاضي أن يقضي بالجارية للذي أقام البينة هل يحلفه بالله ما بعت، ولا أديت له فيه؟ قال: لا، إلا أن يدعي صاحب اليد شيئاً من ذلك، وعن أبي يوسف إنه عدم، وإن لم يطلب الخصم، فيكون أحكم للقضاء وأبرم.

وأجمعوا أن من ادعى ديناً في التركة، فالقاضي يحلفه مع إقامة البينة أنك ما استوفيت الدين، ولا أبرأته وإن لم يدع الخصم ذلك، وهذه المسألة تشهد لأبي يوسف. وإذا ماتت الدابة المغصوبة، ووقع الاختلاف بين الغاصب والمغصوب منه، فقال الغاصب: رددت الدابة عليك، ونفقت عندك، وقال المغصوب منه: لا بل نفقت عندك من ركوبك، ولم يكن لواحد منهما بينة، فالقول قول رب الدابة؛ وذلك لأن الغاصب أقر بالسبب الموجب للضمان، وهو الغصب، وادعى ما يبرئه فيكون القول قول صاحب المال؛ كما لو قال: أكلت مالك بإذنك، أو أخذت مالك بإذنك، وأنكر صاحب المال؛ كان القول قوله لما ذكرنا أنه أقر بالسبب الموجب للضمان، وادعى ما يبرئه فلم يصدق إلا ببينة، فكذلك هذا فإن أقاما جميعاً البينة؛ أقام رب الدابة البينة أنها نفقت عند الغاصب من ركوبه، وأقام الغاصب البينة أنه قد ردها عليه، ثم ماتت في يده، فإن الغاصب يضمن قيمتها. فرق بين هذا وبينما إذا أقام البينة أنه ردها على المالك، وأقام المغصوب منه البينة أنها نفقت عند الغاصب، ولم يشهد أنها نفقت من ركوبه، فلا ضمان على الغاصب، وبين المسألتين فرق من حيث الصورة؛ أما لا فرق بين المسألتين من حيث المعنى، وذلك؛ لأنا نعمل بالبينتين جميعاً في الموضعين، ويجعل كأن الأمرين كانا في المسألتين يجعل في المسألة الأولى كأن الغاصب رد دابته ثم ركب بعد الرد، ونفقت من ركوبه ويجعل في المسألة الثانية كأنه ردها، ثم نفقت عند الغاصب بعد الرد؛ إلا أن العمل بالبينتين جميعاً في مسألة الركوب توجب الضمان؛ لأنه متى ردها على المالك ثم ركب بعد الرد، ونفقت من ركوبه ضمن، ويكون هذا غصباً آخر منه، فصار ضامناً، والعمل بالبينتين في المسألة الأخرى لا يوجب على الغاصب ضماناً؛ لأنه متى رد ثم نفقت الدابة بعد الرد عند الغاصب من غير صنعه بأن انفلتت الدابة بعد الرد ونفقت عنده، لا يكون ضمانها عليه فكذلك هذا، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» الفرق: أن ما ذكر أنه لا ضمان على الغاصب قول محمد، أما على قول أبي يوسف هو ضامن. وإذا اختلف رب الثوب والغاصب في قيمة الثوب، وقد استهلكه الغاصب، فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه منكر الزيادة، والبينة بينة رب الثوب؛ لأنها تثبت الزيادة، وإن لم يكن لرب الثوب بينة، وجاء الغاصب ببينته أن قيمة ثوبه كذا، وكذبه رب الثوب وسأل القاضي يمين الغاصب، فإنه يحلف على دعواه، فلا تقبل بينته؛ لأن بينته تنفي الزيادة، والبينة على النفي لا تقبل؛ قال بعض مشايخنا: ينبغي أن تقبل بينة الغاصب لإسقاط اليمين عن نفسه، وقد تقبل البينة لإسقاط اليمين؛ ألا ترى أن المودع إذا ادعاه رد الوديعة يقبل قوله، ولو أقام البينة على ذلك قبلت بينته، وطريقه ما قلنا. وبعض مشايخنا قالوا: ينبغي أن يكون في كل فصل روايتان، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يقول: هذه المسألة عدت مشكلة، ومن المشايخ من فرق بين مسألة الوديعة وبين هذه المسألة، وهو الصحيح.

ولو شهد لرب الثوب أحد الشاهدين أن قيمة ثوبه كذا، وشهد الآخر على إقرار الغاصب أن قيمة ثوبه كذا؛ لا تقبل هذه البينة؛ لأن المشهود به يختلف، وإن جاء الغاصب بثوب مرتي، فقال: هذا الذي غصبتكه، وقال رب الثوب: بل هو ثوب هروي، فالقول قول الغاصب مع يمينه، ويحلف بالله أن هذا الثوب ثوبه الذي غصبه إياه، وما غصبه ثوباً هروياً قال مشايخنا: والصواب ما ذكره في كتاب الاستحلاف أنه يكفيه أن يقول: بالله ما غصبت هروياً كما يدعيه المالك، وإن جاء بثوب مروي وقال: هذا الذي غصبتك، وهو على حاله، وقال رب الثوب بل كان ثوبي جديداً حين غصب، فالقول قول الغاصب مع يمينه. وإن أقاما البينة فالبينة بينة رب الثوب، فإن لم يقم واحد منهما بينة، وحلف الغاصب، وأخذ رب الثوبِ الثوبَ، ثم أقام بينة أنه غصبه إياه، وهو جديد؛ ضمن الغاصب فضل ما بينهما، هكذا ذكر في «الأصل» قال شمس الأئمة الحلواني: هذا إذا كان النقصان يسيراً، فإن كان فاحشاً، فرب الثوب بالخيار؛ إن شاء أخذ الثوب، وضمنه النقصان، وإن شاء ترك الثوب عليه، وضمنه قيمة الثوب. رجل ادعى ثوباً في يدي رجل أنه له، وأن صاحب اليد غصبه منه، وأقام صاحب اليد البينة أن المدعي وهبه منه أو أقر له، فإنه يقضى به لذي اليد ويجعل كأن صاحب اليد غصب، أو لأنه وهبه المدعي أو باعه منه. ولو ادعى رجل أن الثوب له وأن صاحب اليد غصبه منه، وأقام على ذلك بينة وأقام رجل آخر أن صاحب اليد أقر له بهذا الثوب، فإنه يقضى به للذي أقام البينة أن الثوب له، ويجعل كأن صاحب اليد غصب أولاً حتى يصير الثوب في يده، فيصح الإقرار، وإذا جعل كأن صاحب اليد غصب أولاً جعل مقراً بملك الغير، والإقرار بملك الغير لا يعتبر. إذا قال: غصبتك هذه الجبة ثم قال: البطانة لي، أو قال: الحشو لي، لم يصدق؛ لأنه رجع بعد الإقرار (119ب2) فإن اسم الجبة اسم للكل. ولو قال: غصبتك هذا الخاتم، أو هذه الدار، أو هذه الأرض، ثم قال بعد ذلك:.... الخاتم لي، أو قال: بناء الدار لي، أو شجر الأرض لي، فكذلك الجواب لا يصدق؛ لأن اسم الخاتم اسم للكل، فيصير راجعاً بعد الإقرار، ولو قال: غصبت هذه البقرة من فلان، ثم قال: ولدها لي؛ قبل قوله. فرق بين الإقرار والشهادة، فإنه إذا شهد شاهدان لرجل أن هذه بقرته، ولها ولد، فإن المشهود له يستحق البقرة مع الولد. وفي «القدوري» : وإذا شهد شهود المدعي بغصب العبد، وموته عند الغاصب، وشهد شهود الغاصب أن العبد مات في يد مولاه قبل الغصب؛ لم ينتفع بهذه البينة؛ يعني الغاصب؛ لأن شهود الغاصب عرفوا يد المولى، ولم يعرفوا الغصب، وشهود المدعي عرفوا الغصب، فكانت شهادتهم أولى.

إذ أقام المدعي بينة أن الغاصب غصبه يوم النحر بالكوفة، وأقام الغاصب البينة أنه كان يوم النحر بمكة أو العبد، فالضمان واجب على الغاصب؛ لأن البينة التي أقامها الغاصب على كونه يوم النحر بمكة لا يتعلق بها حكم، فيطلق ضرورة. وقال محمد رحمه الله في «الإملاء» : إذا شهد شهود الغاصب أنه مات في يد المغصوب منه، وشهد شهود المغصوب منه أنه مات في يد الغاصب، فالبينة بينة الغاصب؛ لأن بينة المالك لا تثبت بإقرار الغاصب، فإن الضمان يجب بالغصب لا بالموت، والغاصب قد أقر بالغصب، فخرجت بينة المالك من البين والغاصب ببينته يثبتت الرد حيث أثبت الموت في يد المالك، وسيأتي بعد هذا عن أبي يوسف بخلافه. في «المنتقى» ابن سماعة عن أبي يوسف: في رجل غصب من آخر عبداً، فوجد المغصوب منه عبده فأخذه، وفي يده مال، فقال الغاصب: هو مالي، وقال المغصوب منه: هو مالي، قال: إن كان العبد في منزل الغاصب، والمال في يده فهو للغاصب، وإن لم يكن في منزل الغاصب، فهو للمغصوب منه. بشر عن أبي يوسف: غاصب الثوب إذا قال: صبغته أنا، وقال المغصوب منه: غصبته مصبوغاً، فالقول قول المغصوب منه، وكذلك إذا اختلفا في بناء الدار، وحلية السيف فهو مثل اختلافهما في الصبغ. عمرو بن أبي عمرو عن محمد رحمه الله: إذا وقع الاختلاف في بناء الدار، فالقول قول رب الدار؛ كما قال أبو يوسف، قال: وإن أقاما البينة، فالبينة بينة الغاصب، قال وكذلك النخيل والشجر في الأرض، ولو اختلفا في متاع موضوع في الدار المغصوبة أو في آجر موضوع أو في باب موضوع فالقول قول الغاصب والبينة بينة المغصوب منه. رجل غصب عبد رجل وباعه، وسلم العبد، وقبض الثمن، ومات العبد في يد المشتري، فقال المالك: أنا أمرته بالبيع، فالقول قوله، ولو قال: لم أقره ولكني أجزت البيع حين بلغني؛ لم يلتفت إلى قوله، ولا سبيل له على الثمن إلا أن يقيم البينة أنه أجاز البيع قبل موت العبد. هشام في «نوادره» : سألت محمداً عن رجل أتى سوقاً، وصب لإنسان زيتاً أو سمناً، أو شيئاً من الأدهان أو الخل، وعاينت البينة ذلك، وشهدوا عليه فقال الجاني: صببت، وهو نجس قد ماتت فيه الفأرة، فالقول قوله، فإن (دخل) إلى سوق القصاص، فعمد إلى طواس اللحم، فرمى بها، واستهلكها، والشهود عاينوا ذلك، فشهدوا عليه، فقال الجاني: هي ميتة؛ قال: لا أصدقه على ذلك، ويسع الشهود أن يشهدوا أنها ذكية؛ لأنه لا يباع في السوق لحم ميتة، ويباع فيه زيت وسمن قد ماتت فيه الفأرة. إبراهيم عن محمد: رجل اتخذ من طين لبناً أو جداراً، فهو له، وعليه قيمة الطين، وإن قال رب الطين: أنا أمرته أن يتخذه؛ قال هو لرب الطين. بشر عن أبي يوسف: إذا شهد شهود الغاصب أن رب العبد قبضه منه، فمات عنده، وشهد شهود المغصوب منه أن العبد قد مات عند الغاصب، فالغاصب ضامن لقيمته؛ قال أبو الفضل: وهذا خلاف جواب «الأصل» .

الفصل التاسع في تملك الغاصب المغصوب، والانتفاع به

الفصل التاسع في تملك الغاصب المغصوب، والانتفاع به ذكر في «فتاوى أبي الليث» عن الفقيه أبي بكر الإسكاف فيمن غصب من آخر لحماً وطبخه، وغصب حنطة، وطحنها، وصار المال له، ووجب عليه القيمة فأكله حلال في قول أبي حنيفة رضي الله عنه، وفي قول أبي يوسف أكله حرام قبل أن يرضى صاحبه. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : من غصب من آخر طعاماً فمضغه حتى صار بالمضغ مستهلكاً، فلما ابتلعه حلالاً في قول أبي حنيفة رضي الله عنه خلافاً لأبي يوسف رحمه الله بناء على أن شرط الطيب الملك بالبدل عند أبي حنيفة، وعندهما أداء البدل. حكي عن الشيخ الإمام الزاهد نجم الدين عمر النسفي أنه كان لا يصحح ما ذكر عن أبي حنيفة في هاتين المسألتين، وكان ينكر أن يكون ذلك قول أبي حنيفة، وكان يقول: الصحيح عند المحققين من مشايخنا على قضية مذهب أصحابنا أن الغاصب لا يملك المغصوب إلا عند أداء الضمان، أو قضاء القاضي بالضمان، أو تراضي الخصمين على الضمان. وإذا وجد شيء من هذه الأشياء الثلاثة ثبت الملك، وما لا فلا، وبعد وجود شيء من هذه الأشياء الثلاثة إذا ثبت الملك لا يحل للغاصب تناوله؛ لأنه استفاده بفعل لا يحل، فصار كالمملوك بالبيع الفاسد عند القبض؛ إلا أن يجعله صاحبه في حل فحينئذٍ يباح تناوله لانقطاع ذلك السبب. وفي «القدوري» : غصب حنطة، وزرعها فعليه مثلها، ويتصدق بالفضل، ويكره الانتفاع بها حتى يرضى صاحبها، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وعلى قول أبي يوسف على ما روى عنه بشر؛ لا يكره الانتفاع قبل أداء الضمان، وعلى ما روى عنه هشام؛ يكره الانتفاع. فرق أبو يوسف بين هذه المسألة، وبين إذا غصب من آخر حنطة، وطحنها على رواية بشر، فإن تلك المسألة يكره له الانتفاع قبل أداء الضمان عنده باتفاق الروايات، والفرق: أن الطحن ليس بإتلاف حقيقة، وإنما هو تغير لصفة العين، فجاز أن يبقى حق المالك لقيام المعنى، فأما الحنطة إذا زرعت هلكت، فلم يبق لها عين يتعلق به حق المغصوب منه، فلم يكره الانتفاع به قبل أداء الضمان لهذا، وعلى هذا الأصل قال أبو يوسف: إذا غصب من آخر نواً، وغرسه، واتخذ منه نخلاً، فلا بأس بالانتفاع به قبل أن يرضى صاحبه، ولو غصب بالة، وغرسها حتى صار نخلاً؛ كره الانتفاع بها قبل أن يرضى صاحبه؛ لأن النوى يعفن ويهلك، والبالية تزيد في نفسها وأبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف على رواية هشام؛ إنما كرهوا الانتفاع قبل أداء الضمان؛ حتى لا يصير سبباً لفتح باب تناول أموال الناس بالباطل. وروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه في الشاة المغصوبة: إذا ذبحها وشواها، لم يسع له أن يأكلها، ولا يطعم أحداً حتى يضمن، وإن كان صاحبها غائباً، أو حاضراً

لايرضى بالضمان لا يسع له الأكل، وإذا دفع الغاصب (120أ2) قيمتها حل له الأكل؛ لأن حق المالك صار موفى بالبدل، وكذلك إذا أبرأه أصلاً؛ لأن حقه سقط بالبراءة، وكذلك إذا ضمنه المالك القيمة، أو ضمنه الحاكم؛ لأن الحاكم لا يضمنه إلا بعد طلبه فكان راضياً به. وقال زفر رحمه الله: بعدما طحن الحنطة وشوى اللحم فله أن يأكل، ويطعم من شاء، فلا يعتبر رضا المغصوب منه؛ لأن حق المغصوب منه قد انقطع عن العين، وتقررت في القيمة، فلا يعتبر برضاه. ولو غصب بيضة فحضنه، فخرج فراريخ، فلا بأس بأن ينتفع بها قبل أن يؤدي ضمان النقص؛ لأنه قد تغير عن حال الغصب. ولو غصب من آخر عصفراً، وصبغ به ثوباً، أو غصب من آخر سمناً ولت به سويقاً لم يسع له أن ينتفع حتى برضى صاحبه في «المنتقى» . وفيه أيضاً: كل ما غاب عنه صاحبه من ذلك، ويخاف عليه الفساد، فلا بأس بأن ينتفع به بعدما شهد على نفسه بضمانه، وليس يخرجه ذلك من إثم الغصب. رجل غصب من آخر جارية فعتقها فقال رب الجارية: قيمة جاريتي ألفان، وقال الغاصب: لا بل ألف، وحلف على ذلك، وقضى القاضي على الغاصب بألف لرب الجارية؛ لم يحل للغاصب أن يستخدمها ولا يطأها ولا يبيعها، وليس كلها له إلا أن يعطيه قيمتها بأتمه، وإن أعتقها الغاصب بعد القضاء بالقيمة الناقصة؛ جاز عتقه، وعليه تمام القيمة كالعتق في الشراء الفاسد إذا تملك الغاصب المغصوب بالضمان، ثم نظر إليه فوجده معيباً، فله أن يرده بالعيب، ولكن بعد أن يحلف بالله لقد ضمن القيمة، ولم يعلم بالعيب، وكذلك له أن يرد بخيار الرؤية. وعن أبي يوسف في السيل يذهب بحنطة رجل، فيقع في أرض رجل فنبتت قال: إن كان للحنطة ثمن، فإن جميع ما يخرج منها لصاحب الحنطة، ويتصدق بالفضل، ولا شيء عليه من نقصان الأرض. اشترى جارية بثوب مغصوب؛ لا يحل له وطؤها قبل أداء الضمان؛ لأنه لو استحق الثوب يلزمه رد الجارية. ولو تزوج امرأة بثوب مغصوب؛ حل له وطؤها؛ لأنه لو استحق الثوب لا يبطل النكاح. في أول غصب شمس الأئمة السرخسي، وفي «المنتقى» : ابن سماعة في «نوادره» عن محمد في رجل غصب من آخر ألف درهم؛ وتزوج بها امرأة أو اشترى ثوباً؛ وسعه وطء المرأة، ولبس الثوب، قال من قبل أن العقد جاز على ألف درهم، ولم يقع على تملك الدراهم بعينها، فلا أبالي نقدها، أو غيرها. وفيه أيضاً: لو اشترى بالألف المغصوبة جارية أو ثوباً، ودفع الألف في الثمن إلى البائع، ثم باع الأمة، أو الثوب بفضل طاب له الفضل.

وفيه أيضاً: إبراهيم عن محمد غصب من آخر دراهم، واشترى بها دنانير؛ قال: لا يسعه أن ينفق الدنانير؛ لأن الدراهم إذا استحقت بعدما افترقا انتقض البيع في الدنانير، فإن قضى على غاصب الدراهم بمثلها حلت له الدنانير. اشترى بدراهم مغصوبة أو بدراهم اكتسبها من الحرام شيئاً، فهذا على وجوه؛ أما إن دفع إلى البائع تلك الدراهم، أولاً، ثم اشترى منه بتلك الدراهم. أو اشترى قبل الدفع بتلك الدراهم، ودفعها أو اشترى قبل الدفع بتلك الدراهم، ودفع غير تلك الدراهم، أو اشترى مطلقاً، ودفع تلك الدراهم، أو اشترى بدراهم أخر، ودفع تلك الدراهم، وفي الوجوه كلها لا يطيب له التناول قبل ضمان الدراهم، وبعد الضمان لا يطيب له الربح؛ هكذا ذكر في «الجامع الصغير» قال أبو الحسن الكرخي: هذا الجواب صحيح في الوجه الأول والثاني، وأما في الوجه الثالث والرابع والخامس فلا، واليوم الفتوى على قول أبي الحسن لكثرة الحرام دفعاً للحرج عن الناس، وعلى هذا تقرر رأي الشيخ الإمام الأجل الشهيد. ذكر في الباب الأول من شرح «الواقعات» نهر مغصوب، جاء إنسان وأراد الغوص أو الشرب منه إن حول الغاصب النهر عن موضعه يكره؛ لأنه انتفاع بملك الغير، وصار كالصلاة في الأرض المغصوبة، وإن لم يحول لا يكره؛ لأن الناس شركاء في الماء. رجل غصب طاحونة، وأجرى ماءها في أرض غيره من غير طيب من نفس صاحب الأرض؛ لا يحل للمسلمين الانتفاع بهذه الطاحونة إذا علموا بذلك؛ لا شراء ولا إجارة ولا طحناً بأجر ولا عارية؛ لأنه استعمال لملك الغير. الأكل من أرض الجور، يريد به أرض المملكة، وهي الأض يطيب نصيب الأكل، ولهم إذا أخذوا مزارعة، وإجارة؛ لأنهم ملكوه، وفي الكروم والأشجار إن كان يعرف أربابها لا يطيب للإكراه ولا لغيره؛ لأنه بملك الغير، وإن لم يعرفوا طاب للإكراه نصيبهم؛ لأن التدبير في معاملته إلى السلطان، وصار بمنزلة أرض بيت المال، أما نصيب بيت المال ينبغي للسلطان أن يتصدق به، فإن لم يفعل فلا إثم عليه؛ هذا الذي ذكرنا طريق الحكم، أما طريق الاحتياط، ما روى خلف بن أيوب: أنه كان لا يأكل من طعام بلخ إلا وقت تباح له الميتة وكان لا يملك مدر الشيخ؛ لأن السلطان أخذ ضياع علي بن عيسى لنفسه؛ لكن في هذا الزمان الاختيار عن هذه الشبهات قدر ما يمكن حتى روي عن علي بن إبراهيم أنه سئل عن هذه الشبهات، فقال: ليس هذا زمان الشبهات؛ اتق الحرام عياناً بمعنى إن اجتنبت عن غير الحرام كفاك، وذكر بعد هذا أن الشبهة إلى الحرام أقرب، قيل هكذا قال أبو يوسف؛ لأنه لو لم يكن حقيقة يجعل كذلك احتياطاً، وأما المكروه: تكلموا، والمختار ما قاله أبو حنيفة، وأبو يوسف: إنه إلى الحرام أقرب، وقد روي عن محمد نصاً أن كل مكروه حرام ما لم يقم الدليل بخلافه.

الفصل العاشر في الأمر بالإتلاف

في «فتاوى أهل سمرقند» : غصب حانوتاً وأغل فيه وربح؛ طاب له الربح؛ لأنه حصل بالتجارة. في «فتاوى أبي الليث» : إذا أعلف دود القز من أوراق اتخذها بغير إذن المالك؛ قال أبو النعيم: عليه أن يتصدق بالفضل على قيمة دوده يوم يبيع العلق. في «المنتقى» قال أبو يوسف: إذا غصب رجل أرضاً، وبناها حوانيت وحماماً ومسجداً؛ فلا بأس بالصلاة في ذلك المسجد، فأما الحمام، فلا يدخل، ولا تستأجر الحوانيت؛ قال: ولا بأس بأن يدخل الحوانيت لشراء متاع، قال هشام: وأنا أكره الصلاة فيه حتى تطيب ذلك....، وأكره شراء المتاع في أرض غصب، أو حوانيت غصب، ولا أرى أن يقبل شهادة الذي يبيع في حوانيت الغصب إذا علم أن ذلك غصب. إذا أراد أن يمر في أرض الغير؛ إن كان له طريق آخر ليس له أن يمر في أرض الغير، وإن لم يكن له طريق آخر له أن يمر في أرض الغير ما لم يمنعه عن ذلك صريحاً، وهذا في حق الواحد، فأما الجماعة فليس لهم أن يمروا في أرض الغير إلا برضاه صريحاً؛ لأن مرور الواحد لا يضر بالأرض ضرراً فاحشاً فلم يكن صاحب الأرض راضياً به دلالة، فيشترط الرضاء صريحاً، وإذا أراد المرور في الطريق المحدث إن علم أن صاحب الملك هو الذي جعل ملكه طريقاً أحل له المرور فيه، وإن لم يعلم ذلك، ولكن لا يعلم أيضاً أنه غصب، فكذلك الجواب، هكذا نقل عن بعض مشايخ بلخ رحمهم الله، (120ب2) الفصل العاشر في الأمر بالإتلاف إذا أمر غيره بأخذ مال الغير، فالضمان على الآخذ، ولا رجوع له على الآمر؛ لأن الأمر لم يصح، وفي كل موضع لم يصح الأمر، فالضمان على المأمور من غير رجوع، وأما الجابي إذا أمر العوان بالأخذ؛ قال الصدر الشهيد: فيه نظر باعتبار الظاهر؛ لا ضمان على الجابي، وإنما الضمان على الآخذ، وباعتبار السوائم يجب الضمان على الجايي فيتأمل عند الفتوى، والمختار أنه لا يجب الضمان على الحبابي، فأما الجابي إذا أرى العوان بيت صاحب الملك، ولم يأمره بشيء، أو الشريك إذا أرى العوان بيت الشريك حتى أخذ المال، وأخذ من بيته رهناً بالمال الذي طولب به لأجل ملكه وضاع الرهن، فالشريك والجايي لا يضمنان بلا شبهة، والكلام في هذا الفصل أظهر؛ لأنه لم يوجد منهما أمر ولا عمل، ودفع العوان في الجملة ممكن بطريقته، فأما دفع السلطان غير ممكن.

الفصل الحادي عشر في زراعة الأرض المغصوبة، والبناء فيها

وإذا أخذ الرجل غيره بأن يذبح له هذه الشاة، وكانت الشاة لجاره؛ ضمن الذابح علم أن الشاة لغير الآمر أو لم يعلم، وهل يرجع بالضمان على الآمر؟ إن علم أن الشاة لغير الآمر حتى علم أن الأمر لم يصح لا يكون له حق الرجوع، وإن لم يعلم حتى ظن صحة الأمر رجع، وذكر شيخ الإسلام هذه المسألة مع أجناسها في شرح كتاب الديات. في غصب «فتاوى أبي الليث» : سئل أبو بكر عن رجل جاء بدابة إلى شط نهر ليغسلها، وهناك رجل واقف، فقال الذي جاء بالدابة للرجل الواقف: أدخل هذه الدابة النهر، فأدخلها وغرقت الدابة وماتت الدابة، والآمر سائس الدابة، إن كان الماء بحال يدخل الناس فيه دوابهم للغسل والسقي؛ لا ضمان على أحد؛ لأن للسائس أن يفعل ذلك بيده، ويد غيره، وإن لم يكن الماء بحال يدخل الناس دوابهم فيه، فلصاحب الدابة الخيار؛ إن شاء ضمن السائس، وإن شاء ضمن المأمور، وهكذا ذكر ههنا، وفيه نظر ينبغي أن لا يجب الضمان على الآمر، وهو السائس؛ لأن مجرد الأمر بالإتلاف إنما يوجب الضمان على الآمر إذا كان الآمر هو السلطان، أو من بمعناه؛ فإن ضمن للسائس لا يرجع السائس على المأمور، وإن ضمن المأمور إن كان المأمور لم يعلم أن الآمر ليس له الدابة حتى ظن صحة الأمر رجع على السائس. وفيه أيضاً: رجل قال لغيره: خرق ثوبي هذا، وارم الماء.... ففعل المأمور ذلك، فلا ضمان عليه؛ لأنه فعل بأمره لكنه يأثم؛ لأنه إضاعة المال بلا فائدة. في «العيون» قال لآخر: احفر لي باباً في هذا الحائط، ففعل فإذا الحائط لغيره ضمن الحافر؛ لأنه ملك الغير، ويرجع على الآمر؛ لأن الأمر قد صح بزعمه، فإنه قال: احفر لي، وإنه يدل على كونه مالكاً وكذلك إذا قال: احفره في حائطي أو لم يقل ذلك، ولكن كان ساكناً في ذلك الدار؛ لأنه من علامات الملك أيضاً، ولو لم يقل: لي ولم يقل في حائطي، ولم يكن ساكناً في ذلك الدار؛ لأنه من علامات الملك أيضاً، ولو لم يقل في حائطي، ولم يكن ساكناً في تلك الدار، ولم يستأجره على ذلك، فلا رجوع له على الآمر؛ لأن الأمر لم يصح بزعمه. الفصل الحادي عشر في زراعة الأرض المغصوبة، والبناء فيها في «فتاوى أبي الليث» : غصب من آخر أرضاً، وزرعها ونبتت، فلصاحبها أن يأخذ الأرض، ويأمر الغاصب بقلع الزرع تفريغاً لملكه، فإن أبى أن يفعل، فللمغصوب منه أن يفعل ما لو رفع إلى الحاكم كان يفعله يريد به أن للمغصوب منه أن يقلعه بنفسه. في «العيون» : غصب من آخر أرضاً، وزرعها حنطة، ثم اختصما، وهي بذر لم

ينبت بعد، فصاحب الأرض بالخيار؛ إن شاء تركها حتى ينبت، ثم يقول له: اقلع زرعك، وإن شاء أعطاه ما زاد البذر فيه. وطريق معرفة ذلك ما روى هشام عن محمد رحمه الله أنه تقوم الأرض وليس فيها بذر، وتقوم وفيها بذر، فيضمن فضل ما بينهما. وروى المعلى عن أبي يوسف: أنه يعطيه مثل بذره، والمختار أنه تقوم الأرض غير مبذور، وتقوم وهي مبذور ببذر لغيره حق القلع، ففضل ما بينهما قيمة ما بذر، مبذور في أرض الغير كذلك للغير حق القلع. في «المنتقى» المعلى في «نوادره» عن أبي يوسف: أرض بين رجلين زرعها أحدهما بغير إذن شريكه، وتراضيا على أن يعطي غير الزارع الزارع نصف البذر، ويكون الزرع بينهما نصفين؛ قال: إن كان ذلك منهما بعدما نبت الزرع فهو جائز، وإن كان قبل أن ينبت؛ لا يجوز؛ لأن غير الزارع يصير مشترياً نصف الزرع، وشراء الزرع قبل النبات لا يجوز. وإن كان الزرع قد نبت، فأراد الذي لم يزرع أن يقلع الزرع، فإن الأرض تقسم بينهما نصفين، فما أصاب الذي لم يزرع من الأرض قلع ما فيه من الزرع، ويضمن له الزارع ما دخل أرضه من نقصان القلع. غصب بالة من أرض إنسان، فزرعها في ناحية أخرى من تلك الأرض، فكبرت البالة وصارت شجرة، فالشجرة للغارس، وعليه قيمة البالة لصاحبها يوم غصبها، ويؤمر الغارس بقلع الشجرة. وكذلك لو غرس رجل مال نفسه في أرض غيره، فلصاحب الأرض أن يأمره بقلعها، وإن كان القلع يضر بالأرض أعطاه صاحب الأرض قيمة شجرته، ولكن مقلوعة؛ كذا قيل، وعلى قياس مسألة الزرع التي تقدم ذكرها إنه يمكن بيان إعطاء صاحب الأرض قيمة شجرته لغيرها حق القلع. وفي «فتاوى الفضلي» : رجل زرع أرض نفسه فجاء آخر، وألقى بذره في تلك الأرض، وقلب الأرض قبل أن ينبت بذر صاحب الأرض، أو لم يقلب، وسقى الأرض حتى نبت البذران، فالنابت يكون للثاني عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن خلط الجنس بالجنس عنده استهلاك، وللأول على الثاني قيمة بذره، ولكن مبذوراً في أرض نفسه، فيقوم الأرض ولا بذر فيها، ويقوم وفيها بذر، فيرجع بفضل ما بينهما، فإن جاء الزارع الأول، وهو صاحب الأرض، وألقى فيها بذر نفسه مرة أخرى، وقلب الأرض قبل أن ينبت البذران؛ أو لم يقلب، ولكن سقى الأرض فنبتت البذور كلها، فجميع ما نبت لصاحب الأرض، وعليه للغاصب مثل بذره، ولكن مبذوراً في أرض غيره، هكذا ذكر ولم يشبع الجواب. والجواب المشبع: أن الغاصب يضمن لصاحب الأرض قيمة بذره مبذوراً في أرض نفسه، ثم يضمن صاحب الأرض للغاصب قيمة البذرين لكن مبذوراً في أرض الغير؛ لأن الاختلاف كذلك ورد، هذا كله إذا لم يكن الزرع نابتاً. فأما إذا نبت زرع المالك، فجاء رجل، وألقى بذره وسقى، فإن لم يقلب حتى نبت

الفصل الثاني عشر فيما يلحق العبد الغصب، فيجب على الغاصب ضمانه

الثاني فالجواب كما قلنا، وإن كان لا ينبت مرة أخرى كما ينبت فهو للغاصب، ويضمن الغاصب للمالك قيمة زرعه نابتاً؛ لأن الإتلاف كذا ورد. في «النوازل» : غصب أرضاً، وبنى فيها حائطاً، فجاء صاحب الأرض، وأخذ الأرض، فأراد الغاصب أن يأخذ الحائط، فإن كان الغاصب بنى الحائط من تراب هذه الأرض؛ ليس له، ويكون لصاحب الأرض؛ لأنه لو نقض صار تراباً كما كان، فيكون عليه تركه، فلا يفيد النقض، وإن بنى الحائط لا من تراب هذه الأرض، فله النقض؛ لأنه لو نقض لا يكون عليه تركه؛ بل يكون له النقل فكان (121أ2) النقض مفيداً. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : بنى رجل حائطاً في كرم رجل بغير أمره، فإن لم يكن للتراب قيمة، فالحائط لصاحب الكرم، والباني معين؛ لأنه لم يصر غاصباً التراب، وإن كان للتراب قيمة، فالحائط للباني، وعليه قيمة التراب؛ لأنه صار غاصباً للتراب، فصار ضامناً. الفصل الثاني عشر فيما يلحق العبد الغصب، فيجب على الغاصب ضمانه قال القدوري في «كتابه» : غصب من آخر عبداً أو جارية، فأبق في يد الغاصب، ولم يكن أبق قبل ذلك، أو زنت أو سرقت، ولم تكن فعلت ذلك قبل ذلك، فعلى الغاصب ما انتقص بسبب السرقة والإباق، وعيبة الزنا؛ لأن هذه العيوب لازمة توجب نقصان القيمة، فالواجب على الغاصب أن يرده على الوجه الذي غصبه معنىً. وكذلك كل ما حدث في يد الغاصب مما ينتقص القيمة من عور أو شلل أو ما أشبه ذلك كان مضموناً عليه، فيقوم العبد صحيحاً، ويقوم وبه العيب فيأخذه، ويرجع بفضل المولى بينهما، وإن أصابه عمى في يد الغاصب، أو أصابه بياض في عينه لم يرده على المولى ورد معه الأرش، ثم ذهب العمى وزال البياض، فللغاصب أن يرجع على المولى بالأرش، وإن حبلت عند الغاصب من الزنا فردها على المولى كذلك.... يرد معها النقصان، فينظر إلى أرش عيب الزنا، وإلى ما نقصها الحبل فيضمن الأكثر من ذلك، ويدخل الأقل في الأكثر، وهذا استحسان أخذ به أبو يوسف؛ لأن السبب متحد، وهو الزنا، فتعذر الجمع بين الضمانين، ويدخل الأقل في الأكثر. والقياس: أن يضمن الأمرين جميعاً، وهو قول محمد؛ لأنهما عيبان مختلفان، فإن ولدت في يد المالك، وسلمت من الولادة، فإنه يروى عن أبي يوسف: أنه ينظر إلى أرش الحبل وإلى أرش عيب الزنا، فإن كان عيب الزنا أكثر لا يرد شيئاً، وإن كان أرش الحبل أكثر رد الفضل عن عيب أرش عيب الزنا؛ لأن عيب الزنا ثابت، وقد ذهب عيب الحبل.

الفصل الثالث عشر في غاصب الغاصب ومودع الغاصب

فإن ماتت من الولادة، وبقي ولدها، فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه؛ ضمن الغاصب جميع قيمتها، وعلى قولهما ضمن نقصان الحبل خاصة؛ هكذا ذكر «القدوري» . وفي «المنتقى» عن محمد: أن الجارية تقوم غير حامل ولا زانية، وتقوم وهي حامل وزانية فيرجع بفضل ما بينهما. ولو حبلت عند الغاصب من زوج قد كان لها في يد المولى، فلا ضمان على الغاصب في ذلك بحال؛ لأن ذلك من تسليط المولى الزوج عليه، فأشبه فعل المولى. ولو أحبلها المولى بنفسه في يد الغاصب؛ لا ضمان على الغاصب في ذلك كذلك ههنا، ولو حمت في يد الغاصب ثم ردها على المولى، فماتت في يد المولى من الحمى التي كانت في يد الغاصب؛ لم يضمن إلا ما نقصها الحمى؛ لأن الموت إنما يحصل بزوال القوى، وذلك بترادف الآلام، فلم يكن الموت حاصلاً بسبب كان في ضمان الغاصب، وإنما الحاصل في ضمانه نقصان الحمى، فيضمن قدر نقصان الحمى لهذا. ولو غصب جارية محمومة أو حبلى بها جراح، أو مرض، فماتت من ذلك في يد الغاصب، فهو ضامن قيمتها، وبها ذلك المرض. ولو قتل العبد المغصوب في يد الغاصب قتيلاً، حراً، أو عبداً، أو جنى جناية فيما دون النفس يخير المولى إن شاء دفع أو فداه ويرجع على الغاصب بالأقل من قيمته، ومن أرش الجناية، وإن استهلك مالاً، وخوطب الولي بالبيع أو الفداء رجع بالأقل من قيمته، ومما إذا عمت به من الدين. وإن غصبه، وقيمته ألف درهم، فصار قيمته بعد ذلك ألفي درهم، ثم قتله قاتل في يد الغاصب، فالمولى بالخيار؛ إن شاء ضمن الغاصب قيمته يوم الغصب ألف درهم، فرجع الغاصب على القاتل بألفي درهم، ويتصدق بالألف الزائد، وإن شاء ضمن القاتل قيمته يوم القتل ألفي درهم، ولا يرجع القاتل على الغاصب بشيء. ولو قتل العبد نفسه في هذه الصورة ضمن الغاصب قيمته يوم الغصب ألف درهم، ولا يضمن قيمته يوم القتل؛ لأن قتل الإنسان نفسه لا يتعلق به حكمه، فصار كموته. الفصل الثالث عشر في غاصب الغاصب ومودع الغاصب يخير المالك بين تضمين الغاصب، وبين تضمين غاصب الغاصب، وكذا يخير بين تضمين الغاصب، وبين تضمين مودع الغاصب؛ لأن كل واحد منهما متعدٍ في حقه، فإن أراد المالك أن يضمن كل واحد نصف قيمة المغصوب، فله ذلك؛ ذكر شيخ الإسلام في باب الرهن؛ يوضع على يدي عدل. وإذا ضمن المالك أحدهما إما الغاصب، وإما غاصب الغاصب، أو مودعه يبرأ الآخر عن الضمان، وأما إذا اختار تضمين أحدهما ولم يضمنه بعد، هل يبرأ عن

الضمان؟ فيه روايتان، وفي بعض النسخ برىء الآخر عند أبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف، وإن ضمن الغاصب الثاني، فالغاصب الثاني لا يرجع على الأول، وإن ضمن مودع الغاصب إن لم يعلم المودع بكون المال غصباً؛ رجع بما ضمن على الغاصب المودع، وإن علم ذلك ذكر شيخ الإسلام أنه لا يرجع، وذكر شمس الأئمة الحلواني أن فيه شبهة اختلاف الرواية. في «المنتقى» ابن سماعة عن محمد: إذا اختار المغصوب منه تضمين الغاصب الأول، ورضي به الغاصب الأول، أو لم يرضَ إلا أن القاضي قضى له بالقيمة على الأول، فليس له أن يرجع عن ذلك ويضمن الثاني، فإن اختار تضمين الأول، فلم يعطه الأول شيئاً، وهو معدم، فالقاضي يأمر الأول بقبض ماله من الثاني، ويدفع ذلك إلى المغصوب منه، فإن أبى الأول ذلك، فمولى العبد إذا أحضر مما قبلت منه البينة على الغاصب الثاني للغاصب الأول حتى يوجد ذلك من الثاني فيقبضه المغصوب منه، قال: وهذا بمنزلة رجل له على رجل دين، وللمطلوب على رجل آخر دين.w وفيه أيضاً: ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في رجل غصب من آخر عبداً، فقتله قاتل في يد الغاصب، فاختار المالك تضمين أحدهما لا سبيل على الآخر، وقال أبو يوسف: له أن يضمن الآخر ما لم يقض القيمة من الذي اختار تضمينه؛ قال: فإن أبرأ الغاصب، فهو بريء، ولا يرجع عليه بعد الإبراء بشيء، وإن أبرأ القاتل، فله أن يعود فيما أبرأه منه، ويأخذ منه قيمة عبده؛ لأن ذلك يؤخذ منه على كل حال. ألا ترى أن المولى إذا أبرأ القاتل كان للغاصب أن يضمن القاتل، ولو أبرأ الغاصب على أنه إن لم يأخذ القيمة من القاتل يرجع على الغاصب، فله أن يعود ويضمنه. عن ابن سماعة: أنه كتب إلى محمد رحمه الله في رجل غصب من آخر عبداً، وقتله في يده قاتل خطأ، واختار المولى اتباع الغاصب بنصف قيمة العبد حالاً، واتباع عاقلة القاتل بنصف القيمة مؤجلاً له ذلك. غاصب الغاصب، ومودع الغاصب يبرأان بالرد على المالك، وكذا يبرأان بالرد على الغاصب؛ إلا رواية عن أبي يوسف، وكذلك إن كان المودع صبياً محجوراً. وكذلك إن كان رب الوديعة صبياً أو عبداً؛ لأن المسقط للضمان في حق المودع رده إلى من أخذ منه، وذلك متحقق، وإن كان المستودع رده إلى السابق بأمر الغاصب؛ كان للمغصوب منه أن يضمنه؛ لأن في الفصل الأول إنما برىء عن الضمان؛ لأنه رده إلى من أخذه منه (121ب2) فانفسخ حكم فعله، وههنا ما رده إلى من أخذه منه إنما رده على غيره، وذلك سبب للضمان، فلهذا افترقا. في «فتاوى أبي الليث» : غصب رجل من رجل مالاً، فغصب ذلك المال غريم للمغصوب منه؛ قال أبو نصر: كان نصر يقول يبرأ الغاصب الأول، وكان محمد بن سلمة يقول: المغصوب منه بالخيار؛ قال الصدر الشهيد رحمه الله: وهو المختار على ما يأتي

الفصل الرابع عشر في غصب الحر والمدبر، والمكاتب، وأم الولد

بيانه في المسألة التي تلي هذه المسألة، فإن ضمن الثاني صار قصاصاً بدينه، وبرىء الأول، وإن ضمن الأول لا يبرأ الثاني. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل له على آخر دين، فأخذ من ماله مثل حقه، قال أبو نصر محمد بن سلام: يصير غاصباً، ويصير ما أخذ قصاصاً بما عليه؛ لأنه أخذ بغير إذنه؛ قال الصدر الشهيد رحمه الله: والمختار أنه لا يصير غاصباً؛ لأنه أخذ بإذن الشرع؛ لكن يصير مضموناً عليه؛ لأن طريق قضاء الدين هذا، فلو أخذ ذلك غير صاحب الدين، ودفعه إلى صاحب الدين؛ قال محمد بن سلمة: المغصوب منه بالخيار؛ إن شاء ضمن الآخذ، وإن شاء ضمن صاحب الدين؛ لأن الأول غاصب، والثاني غاصب، أو غير غاصب؛ لكنه مضمون عليه، فإن اختار تضمين الآخذ لم يصر قصاصاً منه بدينه، وإن اختار تضمين صاحب الدين صار قصاصاً بدينه، وقال نصير بن يحيى: لا خيار، ويصير قصاصاً بدينه؛ لأن الآخذ كالمعين لصاحب الدين على أخذ حقه، والله تعالى أعلم. الفصل الرابع عشر في غصب الحر والمدبر، والمكاتب، وأم الولد في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد في رجل خدع امرأة رجل أو ابنته، وهي صغيرة، وأخرجها من منزل أبيها أو زوجها؛ قال: أحبسه حتى يأتي بها، أو يعلم حالها. وفيه أيضاً: عن أبي يوسف؛ رجل سرق صبياً، فسرق من يده، ولم يستبن لهم موته، ولا قتله لم يضمن، ولكنه يحبس حتى يأتي به، أو يعلم حاله. وفي «القدوري» : لو غصب صبياً من أهله، فمرض، ومات في يده، فلا ضمان عليه؛ لأن الحر ليس بمحل للغصب حتى يجب الضمان بصورة هذا الفعل، ولا يضمن بالموت؛ لأنه أمر مجبور لا صنع لأحد فيه، ولو عقره سبع في يده أو نهشته حية، فمات، فعلى عاقلة الغاصب الدية. وكذلك لو وقع عليه حائط، أو وقع في بئر كان على عاقلة الغاصب الدية، ولو قتل هذا الصبي رجل خطأ في يد الغاصب، فلأولياء الصبي أن يتبعوا عاقلة أيهما شاؤوا، فإن ضمنوا عاقلة الغاصب رجعوا على عاقلة القاتل، وإن قتل الصبي نفسه فديته على عاقلة الغاصب، ولا يرجعون بها على عاقلة الصبي، وكذلك لو أتى على شيء من نفسه من اليد والرجل، وما أشبه ذلك. وكذلك لو أركبه دابة، فألقى نفسه منها، وهذا كله قول أبي يوسف، وقال محمد: لا ضمان على الغاصب بجناية الصبي على نفسه، ولو قتل رجل هذا الصبي عمداً في يد الغاصب، فلأوليائه أن يتبعوا القاتل، فيقتلوه، وعند ذلك يبرأ الغاصب، وإن شاؤوا اتبعوا عاقلة الغاصب بالدية، ورجعت عاقلة الغاصب في مال القاتل عمداً.

الفصل الخامس عشر في المتفرقات

ولو قتل هذا الصبي إنساناً في يد الغاصب فرده على الولي، وضمن عاقلة الصبي الدية لم يكن لهم أن يرجعوا على الغاصب؛ لأنهم لو رجعوا على الغاصب لرجعوا بحكم الغصب، والحر لا يضمن بالغصب. ولو غصب مدبراً، ومات في يده ضمن، ولو غصب أم ولد، وماتت في يده لم يضمن في قول أبي حنيفة، وعندهما يضمن، ولو غصب مكاتباً، ومات في يده؛ لم يضمن في قول أبي حنيفة، وعندهما يضمن، ولو غصب مكاتباً، ومات في يده يضمن بلا خلاف؛ كما لو غصب مدبراً. الفصل الخامس عشر في المتفرقات وإذا باع الغاصب المغصوب من رجل، وأجاز المالك بيعه صحت الإجازة؛ إذا استجمعت الإجازة شرائطها، وهي قيام البائع، والمشتري والمعقود عليه، وأن تكون الإجازة قبل الخصومة عند أبي حنيفة، ولا يشترط قيام الثمن في ظاهر الرواية إذا كان البيع بالدراهم أو بالدنانير، وإن كان المالك قد خاصم الغاصب في المغصوب، وطلب من القاضي أن يقضى له بالملك، ثم أجاز البيع، فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لا تصح إجازته؛ هكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني، وشيخ الإسلام خواهر زاده، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» أن الإجازة صحيحة في ظاهر الرواية، وذكر في «النوادر» أنها لا تصح. فوجه قول أبي يوسف ومحمد: أن الإجازة لاقت عقداً موقوفاً، فتصح كما قبل الخصومة بيانه أن الفسخ لم يوجد من المالك نصاً....... الخصومة، والخصومة كما تكون لاستدامة الملك فيما يتخاصم، فيكون ... تكون لإثبات الملك لنفسه حتى يجبر العقد فيه، وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول: بأن الإجازة صحيحة قبل الخصومة، فتكون الخصومة لاستدامة الملك؛ لا لصحة الإجازة، فتثبت استدامة الملك تنتفي الخصومة، فيكون ذلك فسخاً للعقد كما لو ثبتت استدامة الملك نصاً، فإن كان لا يعلم قيام البيع وقت الإجازة بأن كان قد أبق من يد المشتري؛ ذكر في ظاهر الرواية أن الإجازة صحيحة، وروي عن أبي يوسف: أنها لا تصح، فإن كان الغاصب قد قبض الثمن، وهلك في يده، ثم أجاز المالك البيع؛ هلك الثمن على ملك المغصوب منه اعتباراً للإجازة في الانتهاء بالإذن في الابتداء. ذكر شيخ الإسلام في أول صلح «الجامع» إذا قال الرجل لغيره: اسلك هذا الطريق، فإنه آمن فسلك، وأخذه اللصوص؛ لا يضمن، ولو قال: إن كان مخوفاً وأخذ

مالك، فأنا ضامن، وباقي المسألة بحالها يضمن. وصار الأصل في جنس هذه المسائل أن الغرور إنما يثبت حق الرجوع للمغرور على الغار إذا حصل ذلك في ضمن عقد معاوضه، أو ضمن الغار للمغرور صفة السلامة نصاً، وكذلك إذا قال: كل هذا الطعام فإنه طيب، فإذا هو مسموم، فهو على ما قلنا. نخلة لرجل في ملكه خرج سعفها إلى جاره، فأراد جاره أن يقطع ذلك ليفرغ هواءه كان له ذلك، هكذا ذكره محمد رحمه الله، قال الناطفي في «واقعاته» : ظاهر لفظ محمد يفيد ولاية القطع بغير إذن القاضي. وقيل: هذا على وجهين؛ إن كان يمكن تفريغ الهواء بمد السعف إلى النخلة، والشد عليها ليس له أن يقطع، ولو قطع يضمن، ولكن يطلب من صاحبه أن يمد السعف إلى النخلة، ويشد عليها بحبل، ويلزمه القاضي ذلك، وكذلك إذا أمكنه مد بعض السعف إلى النخلة، والشد عليه؛ ليس له أن يقطع ذلك البعض. فأما إذا لم يمكن تفريغ الهواء إلا بالقطع، فالأولى أن يستأذن صاحب النخلة حتى يقطع بنفسه، أو يأذن له بالقطع، فإن استأذن وأبى يرفع الأمر إلى القاضي حتى يجبره على القطع، فإن لم يفعل الجار شيئاً من ذلك، ولكن قطع بنفسه ابتداء، فإن قطع من موضع لا يكون القطع من موضع آخر أعلى منه، أو أسفل أنفع للمالك (122أ2) لا يضمن. هكذا ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلح، وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصلح أيضاً: أنه إذا أراد القطع، فإنما يقطع في ملك نفسه، ولا يكون له أن يدخل بستان جاره حتى يقطعه؛ قال رحمه الله: وقد قال مشايخنا: إنما يكون له أن يقطع من جانب نفسه إذا كان يقطعه من جانب نفسه مثل قطعه من جانب صاحبه في الضرر، أما إذا كان قطعه من جانب صاحبه أقل، فهذا ليس له أن يقطع، ولكن يرفع الأمر إلى القاضي ليأمره بالقطع، فإن لح وإن بعث القاضي نائباً حتى يقطعه من جانب صاحب النخلة، ثم في الموضع الذي لا يضمن إذا قطعه بنفسه؛ لا يرجع على صاحب النخلة بما أنفق في مؤنة القطع؛ لأنه كان يمكنه أن يرافع الأمر إلى القاضي حتى يأمره بذلك، أو يأمر به صاحب النخيل، فإذا لم يقطع صار متبرعاً. أخرج شجرة الجوز صغاراً رطبة فأتلف إنسان تلك الجوزات يضمن نقصان الشجرة؛ لأن تلك الجوزات، وإن لم يكن لها قيمة، وليست بمال حتى لا يضمن بالإتلاف لأعلى الشجرة، فإتلافها ينقص قيمة الشجرة، فينظر: أن هذه الشجرة بغير تلك الجوزات بكم تشترى ومع تلك الجوزات بكم تشترى فيضمن فضل ما بينهما. رجل غصب من آخر ثوباً، فقطعه قميصاً وخاطه، فاستحقه رجل من يد الغاصب؛ رجع المغصوب منه بقيمة الثوب على الغاصب؛ لأن هذا قضاء ما نملك بسبب حادث من جهة المدعى عليه، فلا يظهر أن الغاصب لم يغصب مال المغصوب منه. وكذلك لو غصب لحماً فشواه، فاستحق الشوي، فللمغصوب منه أن يرجع على

الغاصب بقيمة المغصوب، وهو اللحم، ولو كان المستحق أقام البينة أن اللحم كان له قبل أن يشويه، أو كان الثوب له قبل أن يخيطه، أو كانت الحنطة له قبل الطحن؛ لم يرجع المغصوب منه على الغاصب بشيء؛ لأن هذا قضاء بالملك من الأصل، فتبين أن الغاصب لم يغصب مال المغصوب منه؛ هذه المسائل مع أجناسها في الباب الثامن من بيوع «الجامع» . (حمل) على حمار غيره شيئاً بغير أمره، فتورم ظهر الحمار، فشق رب الحمار الورم، فانتقص قيمة الحمار، فإنه يتلوم بالحمار؛ إن اندمل من غير نقصان، فلا ضمان على الذي غصب، وإن اندمل مع النقصان ينظر؛ إن كان النقصان من الورم، فضمان ذلك على الغاصب، وكذا إذا مات كان الجواب كما قلنا، فإن اختلفا، فقال صاحب الحمار الموت كان من الورم، وقال الغاصب: كان من الشق، فالقول قول الغاصب مع يمينه. في غصب «فتاوى أبي الليث» : إذا استهلك رجل أحد مصراعي باب غيره أو أحد زوجي خف غيره، أو ما أشبه ذلك؛ كان للمالك أن يسلم الباقي، ويأخذ قيمتهما منه، في «الجامع» في باب بيع الشيئين المزدوجين كأنهما شيء واحد. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: رجل استهلك فرو نعل لرجل لم يضمن إلا قيمة ما استهلك، ولا يدفع إليه الأخرى، ويضمنهما جميعاً قال: وكذلك لو أحرق مصراعاً لرجل أو أخذ جصه قال: أرأيت لو كسر حلقة خاتم فيها فص قيمته مائة أكنت أضمن الفص والخاتم؟ لا أضمن إلا ما استهلك؛ قال ثمة: وكسر.... بسرج ضمنه ولم يضمن السرج؛ لأن هذا يخلص منه بلا ضرر، وكل شيئين مفردين أو ثني واحد يخلص بعضه عن بعض، فلا ضرر؛ مثل..... السرج..... فإنه يضمن ما جنى عليه من ذلك؛ لا يضمن غيره. إذا جاء الرجل بالحنطة إلى الطحان، ووضعها في صحن الطاحونة، وأمر صاحب الطاحونة أن يدخلها بالليل في بيت الطاحونة، فلم يدخلها في بيت الطاحونة بالليل، وسرقت الحنطة، فإن كان صحن الطاحونة محوطاً بحائط مرتفع مقدار ما لا يرتقى إلا بسلم، فلا ضمان، وإن كان بخلافه وجب الضمان؛ لأنه في هذا الوجه مضيع، وفي الوجه الأول ليس بمضيع. في «فتاوى أبي الليث» : هدم بيت نفسه، وانهدم من ذلك بيت جاره فلا ضمان. في «فتاوى أهل سمرقند» : إذا دفع إلى القصار ثوباً ليقصره فلف القصار في الثوب الخبز وذهب به حيث تقصر الثياب، فسرق الثوب منه، فإن لف الثوب على الخبز كما يلف المنديل على ما جعل منه، وعقده، فهو ضامن؛ لأنه استعمله استعمالاً معتاداً، فصار غاصباً، وإن جعل الثوب تحت إبطه، ودس فيه الخبز، فلا ضمان في هذا الموضع أيضاً.

وفيه أيضاً: الحمال إذا نزل في مفازة، وتهيأ له الانتقال، فلم يفعل حتى فسد المتاع بمطر أو سرق، فهو ضامن؛ هكذا ذكر، قيل هذا إذا كان المطر في ليلة غالباً؛ لأنه حينئذٍ يكون مضيعاً وقيل أيضاً: ويشترط مع ذلك أن لا يكون المالك معه، أما إذا كان المالك معه، فلا ضمان. وفيه أيضاً: إذا دفع حمولة إلى جمال ليحملها إلى بلدة، فجاء الجمال إلى نهر عظيم، وفي النهر جمد كثير يجري كما يكون في الشتاء، فركب الجمال جملاً من الجمال، والجمال الآخر يدخلون الماء على أثر هذا الجمل، وقع جمل من الجمال في الماء من جريان الجمد وسقط الجمل في الماء قال: إن كان الناس يسلكون في مثل هذا، ولا ينكرون هذا، فلا ضمان. جاء إلى قطار إبل وحل بعضها فلا ضمان؛ لأنه لم يغصب إبلاً. غصب بيضتين فحضن إحدهما تحت دجاجة له، أو حضنت دجاجة أخرى على البيضة الأخرى، فالفرختان له، وعليه بيضتان؛ لأنه استهلك الأولى وهلكت الأخرى في ضمانه، ولو كان مكان الغصب وديعة فالتي حضنت الدجاجة لصاحب البيضة؛ لأن الأمانة هلكت. في «العيون» في «مجموع النوازل» : رجل غصب من آخر بقرة، وغصبها آخر من الغاصب، ثم سرقها المالك من الغاصب الثاني لعجزه عن استردادها منه مجاهرة، ثم إن الغاصب الثاني غلب على المالك، وغصب البقرة منه، فلا خصومة لصاحب البقرة على الغاصب الأول؛ لأن عين ما غصب منه الغاصب الأول قد وصل إليه. سئل قاضي القضاة شمس الإسلام محمود الأوزجندي عن رجل دفع إلى آخر غلامه مقيداً بالسلسلة، وقال: اذهب به إلى أبيك، فذهب به بدون السلسلة، فأبق العبد؛ قال: لا ضمان؛ لأنه أمره بشيئين، وقد أتى بأحدهما. جز غنماً بغير إذن صاحبها، وجعل صوفها لبوداً، فاللبود له؛ لأنه حصل بصنعه، فبعد ذلك ينظر؛ إن كان جز الصوف لم ينقص من قيمة الغنم شيئاً، فعليه مثل ذلك الصوف، وإن كان نقص منه فهو بالخيار؛ إن شاء ضمنه مثل ذلك الصوف، وإن شاء ضمنه ما دخل النقصان في الغنم. في «فتاوى أبي الليث» : غصب من آخر عبداً أو جارية، وغاب المغصوب منه فجاء الغاصب إلى القاضي، وطلب منه أن يأخذ المغصوب منه، أو يفرض له النفقة، فحاصل الجواب في هذه المسألة أن القاضي يفعل ما هو الأصلح فيه في حق الغائب، فإن كان الأصلح أن يأخذ منه، فإن كان الغاصب مخوفاً يأخذه، ويبيعه إن رأى المصلحة في البيع، وإن كان الأصلح أن يتركه في يد الغاصب تركه. حريق وقع في محلة، فهدم إنسان دار رجل بغير إذن صاحبها حتى انقطع الحريق من داره، فهو ضامن إذا لم يفعل (122ب2) بإذن السلطان، ولكن لا إثم عليه في ذلك؛ لأنه هدم ملك الغير بغير إذنه، وبغير إذن من يلي عليه، ولكن تعذر فهو نظير المضطر بتناول طعام الغير بغير إذنه.

في «فتاوى أبي الليث» : سفينة حملت عليها حمولات لأقوام، بعض أرباب الحمولات معها، فاستقرت السفينة في جزيرة، فأخرج بعض الحمولات لتخف السفينة، ووضعت في الجزيرة، فضاعت الحمولات، فإن كان لا يخاف الغرق، فالذي أخرج الحمولات ضامن، وإن كان يخاف الغرق، فإن ضاعت الحمولات قبل أن يقع الأمن عن الغرق فلا ضمان، وإن ضاعت بعدما وقع الأمن، فهو ضامن؛ وهذا لأن إخراج بعض الحمولات إذا خيف الغرق على السفينة ليس بجناية، ولكن على الذي أخرج إعادتها إلى السفينة بعدما وقع الأمن عن الغرق، فيصير بترك الإعادة في هذه الحالة جانياً ضامناً. في «فتاوى أهل سمرقند» : إذا سقى أرض نفسه، وتعدى إلى أرض جاره، فلا ضمان على الساقي. وكذلك إذا أحرق الكلأ في أرضه، وذهب النار يميناً وشمالاً، فأحرق شيئاً لغيره، فلا ضمان على الموقد؛ وهذا جواب «الكتاب» . ومن المشايخ من فرق بين إرسال الماء، وبين إيقاد النار، فقال: من طبع النار الخمود، والتعدي بفعل الريح، ونحوه، فلا يضاف إلى فعل الموقد، ومن طبع الماء السيلان، فأضيف السيلان والإتلاف إلى المرسل، وفي المسألة كلمات تأتي في كتاب الشرب والجنايات. العبد المغصوب إذا مات في يد الغاصب، وأقر الغاصب أنه كان غصبه من فلان؛ يؤمر بتسليمه القيمة إلى المقر له، فإن جاء رجل، وأقام البينة أنه عبده غصبه منه، فالقاضي يقضي بالقيمة لصاحب البينة، فإذا قضى بالقيمة لصاحب البينة، وأخذها لا شيء للمقر له على الغاصب، فإن وصلت تلك القسمة بعينها إلى الغاصب من جهة المقضي له، أو بالإرث أو بالوصية أو بالمبايعة؛ يؤمر بردها إلى المقر له، ولو وصل إلى الغاصب ألف آخر من المقضي له سوى المأخوذ منه، فإن وصل بالهبة أو بالمبايعة؛ لا يؤمر بالرد على المقر له، وإن وصل بالميراث أو بالوصية يؤمر. في «الزيادات» في باب الحوالة قبل باب السلسلة: المغصوب إذا اكتسب كسباً، ثم استرده المالك مع الكسب؛ لا يتصدق بالكسب، والغاصب إذا ضمن القيمة عند الهلاك أو الإباق صار الكسب له؛ يتصرف بالكسب. في «الزيادات» في آخر باب الكسب: إذا أقر أنه غصب من فلان شيئاً، ولم يبين، فالقول قوله، ولا بد من أن يعتبر شيء يمانعه الناس ويقصد بالغصب حتى لو لم يكن كذلك، بأن بين بالتراب ونحوه لا يصدق؛ لأنه لا يسمى غاصباً، ولو بين بشيء يقصده الناس، ولا قيمة له؛ نحو أن يقر أنه غصب حراً أو جلد ميتة قبل قوله، وهو اختيار مشايخ عراق، واختيار مشايخ ما وراء النهر؛ لأنه لا بد من أن يفسر بشيء له قيمة. في غصب «القدوري» في أوله ذكر في «أدب القاضي» للخصاف في باب العدوى، عن عثمان رضي الله عنه: إحراق البيت الذي فيه الخمر، ولم يروَ ذلك عن أصحابنا رحمهم الله؛ إنما روي عنهم هدم البيت على صاحب الخمر، فإنهم قالوا: يهدم عليه

بيته، كأنهم أخذوا ذلك من هذا الحديث، وأما كسر الدنان، ذكر في «السير الكبير» : أنه إن فعل ذلك بإذن الإمام، أو فعل الإمام بنفسه، فلا ضمان، وإن فعل غير الإمام بغير إذن الإمام، فعليه الضمان. وفي سير «العيون» مسلم شق زق خمر لمسلم، لا يضمن الخمر، ويضمن الزق؛ إلا أن يكون إماماً يرى ذلك فحينئذٍ لا يضمن؛ لأنه مختلف فيه، وكذلك إذا أظهر بيع الخمر في المصر يمنع منه، فإن أتلف ذلك إنسان يضمن (إلا أن يكون) إماماً يرى ذلك؛ لأنه مختلف فيه. في «المنتقى» قال هشام: قلت لمحمد رحمه الله: رجل في يده ثوب فتشبث رجل بالثوب، فجذب صاحب الثوب من يد المتشبث فانخرق الثوب؛ قال: يضمن المتمسك نصف ذلك، قلت: من أين افترق هذا، واليد؟ قال: لأن.... يده أذى والتشبث ليس بأذى، وإن كان الذي جذب هو المتشبت، فهو ضامن جميعه؛ لأنه لم يكن له الجذب. قال هشام: قلت: جلس رجل إلى جنب رجل، فجلس على ثوبه، وهو لا يعلم، فقام صاحب الثوب، فانشق ثوبه من جلوسه عليه؛ قال: يضمن نصف الشق؛ لأنه لم يكن له أن يجلس على ثوبه، فكان متعدياً في الجلوس، وقد حصل الشق بفعلهما، فيسقط ما كان بفعل المالك، ويجب ما كان بفعل الجالس. وروى إبراهيم بن رستم عن محمد: في رجل قعد على رداء رجل، وهو لا يعلم، فنهض الرجل، فتخرق الرداء؛ قال: يضمن الذي قعد على الثوب؛ أوجب الضمان مطلقاً غير مقدر بالنصف، وإنه يخالف رواية هشام عنه، وعلى هذا المكعب إذا تخرق من وضع رجل غير صاحبه عليه، وصاحبه لم يعلم به، فعلى قياس رواية هشام يضمن الواضع نصف النقصان على نحو ما بينا في مسألة الثوب. وفي «نوادر ابن رستم» : أن الحائك إذا حاك لرجل، فجاء الطالب ليأخذ الثوب، وأبى الحائك أن يدفع حتى يأخذ الأجر ضمن صاحب الثوب الثوب، فتخرق إن تخرق من يد صاحبه لا يضمن الحائك شيئاً، ولو تخرق من يديهما ضمن الحائك نصف قيمة الخرق؛ يعني نصف قيمة النقصان المتمكن بالخرق. دفع عيناً إلى دلال ليبيعه، فعرض الدلال على صاحب دكان، وترك عنده، فهرب صاحب الدكان، وذهب بالمتاع؛ يضمن الدلال؛ لأن الدلال أمين، وليس للأمين أن يودع. وذكر النسفي في «فتاويه» عن شيخ الإسلام أبي الحسن: أنه لا يضمن، وهو الصحيح؛ لأن هذا أمر لا بد منه؛ لأن المستام يعرض المتاع على أهله، أو من أحب لينظر في ذلك، ثم يشتري، فكان هذا أمراً لا بد منه، فلا يضمن الدلال لهذا.

وإذا كان في يد الدلال ثوب يبيعه، فظهر أنه مسروق، وقد كان رده إلى من دفع إليه، فطلب منه المسروق منه الثوب، فقال الدلال: رددته إلى من كان دفع إليّ برىء؛ لأن غاصب الغاصب إذا رد المغصوب على الغاصب يبرأ. في «مجموع النوازل» : جارية دفعت جارية أخرى، فذهبت عذرتها، قال محمد بن الحسن: عليها صداق مثلها، بلغنا ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وفيه أيضاً: عن أبي يوسف في رجل قتل ذئباً، أو أسداً لرجل؛ قال: لا ضمان عليه، وإن قتل قرداً ضمن قيمته؛ لأن القرد بمنزلة الكلب؛ قال الفقيه أبو الليث: القرد يخدم في البيت ويكنس البيت، فتكون له قيمة الكلاب، بخلاف الذئب والأسد. سئل نجم الدين عن أهل مسجد من الصبيان مع المعلم أصابهم برد، وعلى الجدار كوة مفتوحة، قال المعلم لواحد من الصبيان: خذ فوطة هذا الصبي، وسد بها الكوة ليرتفع البرد عنا (1232) ففعل وضاعت الفوطة، فلا ضمان على المعلم، ولا على الصبي الذي أخذ الفوطة وسد بها الكوة؛ لأن جعلها في الكوة وهم حاضرون لا يكون تضييعاً، فلا يضمنان. في «الحاوي» : سئل أبو القاسم عمن تعلق ثوبه بقفل قفله رجل وتخرق، قال: إن مده صاحب الثوب حتى تخرق لم يضمن صاحب القفل، وإن تخرق من غير المد إن فعل المالك في موضع مأذون له لا يضمن وإلا فيضمن. في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد في رجل غصب عبداً، وضمن رجل للمغصوب منه العبد أن يدفعه إليه غداً فإن لم يفعل، فعليه ألف درهم، وقيمة العبد خمسون درهماً، فلم يدفع إليه العبد غداً؛ قال: إذا ثبت العبد للمغصوب منه لزم الضامن قيمة خمسين درهماً، وبطل الفضل، فإن اختلفا في قيمته، فالقول قول المغصوب منه مع يمينه فيما بينه وبين ألف درهم، والقول قول الكفيل فيما زاد، في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رضي الله عنهما. وأما في قولنا، فالقول قول الغاصب في القيمة وضمان الألف باطل؛ لأنه لم ينسبها إلى قيمة العبد، فإن ضمن القيمة وسماها، فينظر في ذلك، فإذا هي أكثر من قيمة العبد بما يتغابن الناس فيه؛ فتلك قيمة العبد قبل منه ذلك، وإن كانت أكثر من قيمة العبد بما لا يتغابن الناس فيه؛ بطل الفضل على ما يتغابن الناس فيه. دابة لرجل دخلت زرع إنسان، فأخرجها صاحب الزرع، فجاء ذئب وأكلها؛ إن أخرجها ولم يسقها بعد ذلك، فلا ضمان، عليه أكثر المشايخ، وعليه الفتوى، وإن ساقها أكثر مشايخنا على أنه يضمن؛ سواء ساقها إلى مكان يأمن عليها من زرعه، أو أكثر من ذلك، وعليه الفتوى. وكذلك الراعي إذا وجد في بادوكه بقرة لغيره، فطردها قدر ما تخرج من بين بادوكه لا يضمن، وإن ساقها بعد ذلك يضمن، فأما إذا وجد في زرعه، فأخبر صاحبها، وأخرجها صاحبها، فأفسدت الدابة الزرع؛ إن أمره صاحب الزرع بالإخراج؛ لا يضمن

صاحب الدابة، وإن لم يأمره يضمن هذه الجملة في الباب الأول من غصب «الواقعات» . رجل أرسل دابة وكان سائقاً لها، فأصابت شيئاً ضمن السائق، ولو أرسلها إلى جهة، ولم يكن سائقاً لها، فأصابت في وجهها ذلك؛ ضمن صاحبها بخلاف ما إذا أرسل كلباً أو بازياً على صيد، فأتلف شيئاً في حرزه ذلك حيث لا يضمن صاحبها إذا لم يكن سائقاً للكلب إلى الصيد وإرسال الكلب إلى الصيد يخالف إرساله إلى إنسان، فإن من أرسل كلبه إلى إنسان، فأصابه؛ ضمن المرسل، وإن لم يكن سائقاً للكلب؛ قال: فلو أن الدابة لم تذهب إلى وجهها؛ بل انعطفت يميناً وشمالاً، وأصابت شيئاً فلا ضمان على صاحبها إذا كان لها طريق في وجهها ذلك، وإن لم يكن لها طريق في وجهها ذلك، وإنما الطريق له يمين، وشمال لا غير، فانعطف وأصابت شيئاً (فيضمن) صاحبها، وإن وقفت ثم سارت فما أصابت بعد ذلك، فلا ضمان على صاحبها؛ لأن حكم إرساله قد انقطع لما وقف ساعة. بخلاف الكلب إذا أرسل على صيد، فوقف ساعة، فإن الإرسال لا ينقطع حتى لو أخذ الصيد بعد ذلك رجل، وكذلك إذا أرسل حماره، فدخل زرع إنسان، فأفسده إن ساقها إلى الزرع ضمن، وإن لم يسق بأن لم يكن خلفه إن لم ينعطف عليه يميناً وشمالاً؛ بل ذهب إلى الوجه الذي أرسلها صاحبها، فأصابت الزرع؛ ضمن صاحبها، وإن انعطفت يميناً وشمالاً، فهو على التفصيل الذي قلنا؛ هذه الجملة في شرح ديات شيخ الإسلام؛ في باب جناية الراكب. وإن وجد الرجل دابة في مربط، فأخرجها، ولم يسقها بعد الإخراج، فأكلها الذئب؛ ضمن قيمتها. فرق بين هذا، وبينما إذا وجدها في كرمه أو زرعه فأخرجها، ولم يسقها بعد الإخراج، فأكلها الذئب حيث لا يضمن قيمتها، والفرق أن الدابة لا تفسد المربط، فكان في إخراجها عن المربط مضيعاً للدابة لا دافعاً شرها عن نفسه، أما الدابة تفسد الزرع والكرم، فكان الإخراج في هذين الوجهين لدفع ضرر الدابة لا تضييعاً لها، وإن وجد دابة في كرمه أو زرعه فحبسها في منزله فهلكت؛ ضمن قيمتها لصاحبها؛ لأنه ليس له ولاية الحبس، فيصير بالحبس غاصباً مضموناً. ذكر في «السير الكبير» على سبيل الاستشهاد أن من أخذ جلود دابة لرجل، فدبغها، وفعلها فرواً؛ ينقطع حق المالك عن الجلود، وكان الفرو للعامل وغرم قيمة الجلود لما ملكها. ولو أخذ جلود ميتة وجعلها فرواً؛ ثم دبغها لا ينقطع حق المالك عن العين، ويقوّم الفرو جلداً غير معمول، ويقوم معمولاً، فإن شاء العامل إعطاء قيمة جلده ذكياً غير معمول، وإن شاء باع الفرو فقسم ثمنه على قيمة الجلد ذكياً غير معمول، وعلى قيمته فرواً معمولاً فما أصاب الجلد كان لصاحبه، وما أصاب العمل كان لصاحب العمل. والفرق بين الجلود الذكية وبين الميتة: أن الصنعة في الذكاة إنما جعلت في جلد يضمن بالغصب والاستهلاك، فأوجبت انقطاع حق صاحب العين عن العين، وفي جلد

الميتة الصنعة جعلت في جلد لا يضمن بالغصب، والاستهلاك، فلم يوجب انقطاع حق صاحب العين عن العين. وهذا هو الأصل: أن الصنعة إنما تجعل المصنوع ملكاً للصانع إذا كان المصنوع قبل الصنعة مما يضمن بالغصب والاستهلاك؛ أما إذا كان مما لا يضمن بالغصب والاستهلاك قبل الصنعة، فبالصنعة لا يصير مملوكاً للصانع. وأصل هذا ما ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» : لو أن رجلاً من أهل الجند وجد في دار الحرب من الخشب المليح، فعمل منه قصاعاً، وأخونة، ثم أخرجها إلى دار الإسلام، فإن للإمام أن يأخذ ذلك منه، ويعطيه قيمة ما زاد الصنعة فيه، وإن شاء باعه، وقسم الخشب على قيمة هذا الخشب غير معمول، وعلى قيمته معمولاً فما أصاب غير المعمول من ذلك، فإنه يرده في القسمة، وما أصاب المعمول حين ذلك، فإنه يرد، ولا يصير المصنوع ملكاً للعامل ولو أخرجت الغنائم إلى دار الإسلام، فأخذ رجل من هذا الخشب المليح، وجعله قصاعاً، وغير ذلك مما وصفنا لك فإنه يضمن قيمة الخشب، وكان المصنوع للذي عمل، لا سبيل للإمام عليه؛ لأن في الفصل الأول الصنعة إنما وجدت في خشب لا يضمن بالغصب والاستهلاك؛ لأن الغنائم لا تضمن بالغصب والاستهلاك في دار الحرب، فلم يوجد انقطاع حق الغزاة عن العين، وفي الوجه الثاني: الصنعة إنما وجدت في خشب يضمن بالغصب والاستهلاك. إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج مسألة الفرو، فنقول: إنما الخيار للعامل في جلد الميتة؛ لا لصاحب الجلد، وإن كان صاحب العمل صاحب تبع (123ب2) وصاحب الجلد صاحب أصل، والخيار ثبت في مثل هذا لصاحب الأصل كما في الثوب االمصبوغ؛ لا لصاحب التبع؛ فذلك لأن صاحب العمل..... كان صاحب تبع ههنا من حيث الحقيقة، فإن الصنعة صارت صفة للجلد، والأوصاف أتباع فمن حيث المعنى صاحب العمل أصل؛ لأن جلد الميتة لم يكن مالاً قبل الصنعة، والدباغة والمالية هي المقصودة من الأعيان لا نفس العين، وإنما صار مالاً بعمله، فصار من حيث المعنى صاحب العمل صاحب أصل، وصاحب الجلد من حيث المعنى صاحب تبع. والعبرة للمعنى، وإنما اعتبر قيمة الجلد ذكياً؛ لأنه متى اعتبره ميتاً، وجلد الميتة لا قيمة له؛ لا يستحق صاحب الجلد شيئاً، فلهذا اعتبرت قيمته ذكياً. قال محمد رحمه الله في كتاب «الأصل» : إذا غصب الرجل ثوباً من غيره ولبسه، ثم جاء صاحب الثوب ومدّ الثوب والغاصب لم يعلم بذلك، ولم يطلب صاحب الثوب الثوب منه فتخرق الثوب من ذلك، فلا شيء على الغاصب، وكان ينبغي أن يقال: بأنه يضمن الغاصب للمغصوب منه نصف قيمة الخرق؛ لأن الخرق حصل بيد صاحب الثوب، وإمساك الغاصب جميعاً، فإنه لولا إمساك الغاصب بعد مد المغصوب منه كان لا يخرق

الثوب من يده، وإذا حصل الخرق من فعلهما يجب أن يكون على الغاصب نصف الضمان، كما لو خرقاه جميعاً، وكما لو طلب صاحب الثوب الثوب من الغاصب، فمنعه فمده المغصوب منه الثوب مثله فتخرق الثوب؛ ذكر أن الغاصب يضمن نصف قيمة ما تخرق؛ لأن الخرق حصل بفعلهما والجواب أن الإمساك من الغاصب إن وجد حقيقة بلبس الثوب لم يوجد معنى؛ لأن الغاصب بلبس الثوب قصد ستر نفسه في إمساكه عن المالك، فلم يوجد الإمساك من الغاصب معنى، فبقي التلف كله مضافاً إلى مد المالك؛ بخلاف ما إذا طلب منه المالك وأمسكه؛ لأن هناك وجد الإمساك من الغاصب حقيقة ومعنى. ولو طلب المغصوب منه الثوب من الغاصب، فمنعه الغاصب عنه، ثم إن المغصوب منه مده مداً شديداً؛ لا يمد مثله، فتخرق الثوب؛ لا ضمان على الغاصب؛ علل فقال: لأنها بمنزلة سكين جاء به وخرقه، فقد أضاف الخرق كله إلى فعل المالك، وهذا مشكل؛ لأنه لولا إمساك الغاصب الثوب لكان لا ينخرق بمد المالك، فكان الخرق مضافاً إلى فعلهما. ألا ترى أنه لو مد مد مثله كان الخرق مضافاً إليهما حتى كان على الغاصب نصف الخرق، فههنا يجب أن يكون كذلك. والجواب أن الإمساك قد يتحقق من الغاصب، ولا يكون سبب خرقه، فإن كان قبل المد، ويكون سبب خرقه بأن كان في حال المد، فكان الإمساك في نفسه سبب الخرق من وجه دون وجه، فاعتبر سبب الخرق إذا كان مد المالك مداً يمد مثله، وأضيف الخرق إلى المد، والإمساك جميعاً، ولم يعتبر سبب الخرق إذا كان مداً لا يمد مثله، وأضيف الخرق إلى المد وحده بخلاف المد حيث يضاف الخرق إليه؛ لأن المد سبب الخرق على كل حال، وقيل: الإمساك إنما لا يحصل الخرق؛ لأن المد لا يؤخذ؛ لأن بدون الإمساك يكون أخذاً، ولا يكون مداً، وإذا كان المد متى تحقق بسبب خرق على كل حال، والإمساك سبب الخرق في حال دون حال أضيف الخرق إلى المد على كل حال دون حال، وأضيف الخرق إلى الإمساك في حال دون حال. ونظير هذا الممسك: الثوب إذا كان (على) صاحب الثوب جاء آخر ومد الثوب مداً (يمد) مثله أو مداً لا يمد مثله ليبديه كان الضمان على الماد، وأضيف الخرق كله إلى المد دون الإمساك، وطريقه ما قلنا. ذكر شيخ الإسلام في شرح «السير» في باب قصور الغنائم؛ قال مشايخنا: الغاصب إذا ندم على ما صنع، ولم يظفر بالمغصوب منه يمسك المغصوب إلى أن ينقطع مجيء صاحبه، فإذا انقطع طمعه في مجيء صاحبه، يتصدق إن شاء بشرط أن يضمن متى لم يجز صاحبه صدقته؛ قال: والأحسن أن يرفع ذلك إلى الإمام؛ لأن الإمام لتدبيره رأي في أموال الغيب، فالأحسن أن لا يقطع عليه رأيه. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل غصب عبداً أو أجر العبد نفسه،

وسلم من العمل صحت الإجارة على ما عرف، فإن أخذ العبد الأجر، وأخذ الغاصب الأجر منه وأتلفه لا ضمان عليه عند أبي حنيفة رضي الله، وقالا: يجب عليه الضمان، وإن كان الأجر قائماً كان للمالك أخذه بالإجماع، هما يقولان: إنه أتلف مال الغير وهو مولى العبد؛ لأنه كسب عبده، وكسب العبد تبع لرقبته فيكون لمالك الرقبة؛ ولأبي حنيفة رحمه الله: أن الكسب مال المالك؛ لكنه لا عصمة لها في حق الغاصب بعد الغصب، فأشبه صاحب السرقة بعد القطع، وبيان عدم العصمة أن العصمة ثبتت بيد حافظة؛ إما بنفسه أو بيد ثانية، ويد المالك لم تثبت على هذا المال، ويد الغاصب ليس يد المالك. فإن قيل: يد العبد يد المولى، والكسب في يد العبد، فيصير كأنه في يد المولى؛ قلنا: العبد في يد الغاصب حتى كان مضموناً عليه، وإذا كان العبد في يد الغاصب لم يكن العبد محرزاً وحافظاً نفسه عن الغاصب، فلا يكون محرزاً وحافظاً ما في يده أيضاً. والجواب أن الإمساك قد يتحقق من الغاصب، ولا يكون سبب خرقه، فإن كان قبل المد، ويكون سبب خرقه بأن كان في حال المد، فكان الإمساك في نفسه سبب الخرق من وجه دون وجه، فاعتبر سبب الخرق إذا كان مد المالك مداً يمد مثله، وأضيف الخرق إلى المد، والإمساك جميعاً، ولم يعتبر سبب الخرق إذا كان مداً لا يمد مثله، وأضيف الخرق إلى المد وحده بخلاف المد حيث يضاف الخرق إليه؛ لأن المد سبب الخرق على كل حال، وقيل: الإمساك إنما لا يحصل الخرق؛ لأن المد لا يؤخذ؛ لأن بدون الإمساك يكون أخذاً، ولا يكون مداً، وإذا كان المد متى تحقق بسبب خرق على كل حال، والإمساك سبب الخرق في حال دون حال أضيف الخرق إلى المد على كل حال دون حال، وأضيف الخرق إلى الإمساك في حال دون حال. ونظير هذا الممسك: الثوب إذا كان (على) صاحب الثوب جاء آخر ومد الثوب مداً (يمد) مثله أو مداً لا يمد مثله ليبديه كان الضمان على الماد، وأضيف الخرق كله إلى المد دون الإمساك، وطريقه ما قلنا. ذكر شيخ الإسلام في شرح «السير» في باب قصور الغنائم؛ قال مشايخنا: الغاصب إذا ندم على ما صنع، ولم يظفر بالمغصوب منه يمسك المغصوب إلى أن ينقطع مجيء صاحبه، فإذا انقطع طمعه في مجيء صاحبه، يتصدق إن شاء بشرط أن يضمن متى لم يجز صاحبه صدقته؛ قال: والأحسن أن يرفع ذلك إلى الإمام؛ لأن الإمام لتدبيره رأي في أموال الغيب، فالأحسن أن لا يقطع عليه رأيه. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل غصب عبداً أو أجر العبد نفسه، وسلم من العمل صحت الإجارة على ما عرف، فإن أخذ العبد الأجر، وأخذ الغاصب الأجر منه وأتلفه لا ضمان عليه عند أبي حنيفة رضي الله، وقالا: يجب عليه الضمان، وإن كان الأجر قائماً كان للمالك أخذه بالإجماع، هما يقولان: إنه أتلف مال الغير وهو مولى العبد؛ لأنه كسب عبده، وكسب العبد تبع لرقبته فيكون لمالك الرقبة؛ ولأبي حنيفة رحمه الله: أن الكسب مال المالك؛ لكنه لا عصمة لها في حق الغاصب بعد الغصب، فأشبه صاحب السرقة بعد القطع، وبيان عدم العصمة أن العصمة ثبتت بيد حافظة؛ إما بنفسه أو بيد ثانية، ويد المالك لم تثبت على هذا المال، ويد الغاصب ليس يد المالك. فإن قيل: يد العبد يد المولى، والكسب في يد العبد، فيصير كأنه في يد المولى؛ قلنا: العبد في يد الغاصب حتى كان مضموناً عليه، وإذا كان العبد في يد الغاصب لم يكن العبد محرزاً وحافظاً نفسه عن الغاصب، فلا يكون محرزاً وحافظاً ما في يده أيضاً. وكذلك قلنا: إن كسب المبيع قبل القبض غير مضمون على البائع بالاتفاق، فكذلك هذا، أو نقول هذا مال الغاصب فيه تأويل الملك، ولا يكون مضموناً عليه، بالإتلاف كمال الابن في حق الأب. بيانه: أن العبد إذا هلك في يد الغاصب وضمن رقبته للمالك فالأحر يسلم للغاصب أو نقول الأجر بدل منفعة العبد، ولو استهلك الغاصب منفعة العبد بأن استعمله في محل من الأعمال لا يضمن، فكذا إذا استهلك بدلها. قال في «الجامع الكبير» : رجل غصب من آخر جارية قيمتها ألف درهم غصب من الغاصب رجل وقيمتها يوم الغصب الثاني أيضاً ألف درهم، فأبقت من الغاصب فللأول أن يضمن الثاني قيمتها، وإن لم يضمن المالك الأول؛ لأن القيمة قائمة مقام العين، ولو كانت الجارية حاضرة، وكان للغاصب الأول أن يسترد الجارية للتمكن من إقامة الفعل الواجب عليه، وهو الرد، فكذلك ما يقوم مقام العين، وهو القيمة. ألا ترى قوله عليه السلام: «ما أخذت حتى ترد» ، والغاصب الثاني إنما أخذها من الغاصب الأول، فوجب عليه الرد على الغاصب الأول، فإذا عجز عن رد العين، وجب رد القيمة التي هي قائمة مقام العين، فإذا أخذ الغاصب الأول القيمة برىء الثاني عن الضمان؛ لأن الثاني برد الجارية على الأول (124أ2) برىء من الضمان، فكذا إذا رد القيمة، تكون القيمة قائمة مقام العين، وتكون القيمة المأخوذة من الثاني مضمونة على الغاصب الأول؛ حتى لو هلكت في يد الغاصب الأول كان للمغصوب منه أن يضمنه قيمتها بالغصب؛ لأن الغاصب الأول لو أخذ الجارية لم تكن أمانة في يده، فكذلك إذا أخذ القيمة، فإذا حضر المالك كان له الخيار؛ إن شاء أخذ من الغاصب الأول القيمة التي أخذها من الغاصب الثاني، وتصير الجارية مملوكة للغاصب الثاني، وإن شاء ضمن

الأول قيمتها ابتداء بالغصب، وتصير الجارية مملوكة للغاصب الأول من جهة المالك، ثم تصير للغاصب الثاني من جعة الغاصب الأول. وإن كانت قيمة الجارية يوم الغصب الأول ألف درهم، ويوم الغصب الثاني ألفي درهم، ثم انفقت من يد الثاني، وأخذ الأول من الثاني ألفي درهم، وهلكت في يد الأول؛ لم يكن للمالك أن يضمن الأول ألفي درهم؛ لأن أخذ الألفين قيمة الزيادة المتصلة؛ الحادثة في يد الغاصب، وإنها أمانة عندنا في يد الغاصب، فكذلك ما قام مقامها. ألا ترى أن الجارية إن كانت حاضرة فاستردها؛ كان الفضل على الألف أمانة عنده، فكذلك إذا أخذ الألف القيمة، فلهذا لا يضمن الفضل، وإنما يضمن قيمتها يوم الغصب ألف درهم، ولو أن المولى حضر والقيمة في يد الغاصب الأول قائمة على حالها، وقد ظهرت الجارية، فالمالك بالخيار؛ إن شاء أخذ جاريته حيث ما وجدت، وإن شاء أخذ القيمة التي أخذها الغاصب الأول من الثاني، وإن شاء ضمن الغاصب الأول قيمتها يوم الغصب، وهذا مشكل من وجهين: أحدهما: أنه جعل للغاصب الأول سبيلاً من تضمين الثاني، ولم يجعله سبيلاً من تمليك الجارية حتى قال: إن للمولى ولاية أخذ الجارية متى ظهرت، وإن كان الملك ثبت في المضمون ضرورة الاستيفاء. والثاني: هو أنه جعل للمولى حق تضمين الغاصب الأول بعد ظهور الجارية، والصورة على الأصل تمنع المصير إلى الخلف. والجواب عن الإشكال الأول أن نقول بأن الغاصب الأول ليس بنائب عن المالك في التضمين حتى يصير نائباً عنه في تمليك الجارية من الثاني، وكيف يكون نائباً عنه، وإنه فوت عليه اليد كلاً إنما كان للأول تضمين الثاني ليتمكن من إقامة ما عليه من الرد، والاستيفاء من ضرورات الرد؛ أما التمليك ليس من ضروراته كما في المدبر؛ إلا أن عند عدم الوقوف لمكان الجارية الحالة حالة الاستيفاء لا غير، وهو السبيل من ذلك أما بعدما ظهرت الجارية الحالة حالة الاستيفاء، وحال تملك الجارية، وهو منقول من الاستيفاء؛ أما ما ليس بسبيل من تملك الجارية، فكان بمنزلة الفضولي فتوقف على إجازة المالك، فإن أجاز أخذ القيمة، وإن رد كان حقه في استرداد الجارية؛ عرف مكانها لا أنها وصلت إلى مكانها. قلنا: والمعرفة بمكان الجارية لا تمنع المصير إلى القيمة، فإن اختار المولى أخذ الجارية رجع الغاصب الثاني على الغاصب الأول بالقيمة التي أخذها؛ لأن المعوض استحق من يده، فإن كانت القيمة هلكت في يد الأول ضمن الغاصب الأول ذلك للغاصب الثاني؛ لأن للأول أخذ القيمة بدلاً عن المعوض، فيكون مضموناً عليه؛ كالثمن على البائع، ولا يرجع الغاصب الأول بذلك على المغصوب منه؛ لأن الغاصب الأول ليس بوكيل عن المالك أصلاً، والرجوع بالعهدة حكم الوكالة، وإن كان أخذ المولى من

الغاصب الأول القيمة التي أخذها من الغاصب الثاني؛ سلمت الجارية للغاصب الثاني لنفاذ التمليك على المالك، وإن ضمن المولى الغاصب الأول قيمة الجارية يوم الغصب الأول سلمت القيمة التي أخذها الغاصب الأول له؛ لأنه تيقن أنه ملكها من وقت الغصب الأول، وإن الثاني غصب ملك الغاصب الأول، فكان الضمان الأول؛ إلا أن الأول يتصدق بأحد الألفين وهو الفضل على القيمة التي أداها إلى المالك، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد؛ أما على قول أبي يوسف؛ لا يتصدق بشيء؛ بل يطيب له؛ لأن شرط الطيب عندهما الملك والضمان، والضمان ههنا، وإن كان واجباً وقت المبادلة فالملك لم يكن، وعند أبي يوسف شرط طلب الضمان لا غير، وقد وجد ذلك ههنا، وأصل المسألة: المودع إذا باع الوديعة، وربح ثم ضمن؛ هل يطيب له الربح؟ فهو على هذا الاختلاف. قال: وليس للغاصب الثاني أن يطأ الجارية حتى يختار المولى أخذ القيمة التي أخذها الغاصب الأول، ويختار ضمان الغصب الأول؛ لأن الملك قبل ذلك موقوف، والحل لا يثبت بالملك الموقوف، فإن كانت الجارية حاضت حيضة بعدما أخذ الأول القيمة من الثاني قبل أن يختار المولى شيئاً من ذلك، ثم اختار شيئاً من ذلك، لا يجزىء بتلك الحيضة؛ لأن الملك موقوف، والحيضة إذا وجدت بعد ثبوت الملك قبل وجود اليد لا تجزىء بها عن الاستبراء، فإذا حصلت قبل ثبوت الملك؛ لأن لا يجزئ بها كان أولى. ولو كان الغاصب الأول أقر بقبض القيمة من الغاصب الثاني، فهذا وما لو ثبت أخذ القيمة بإقامة البينة سواء، غير أن بينهما فرقاً من وجه أن في هذه الصورة كان للمولى أن يضمن الثاني، وفيما إذا ثبت ذلك بالبينة ليس للمولى تضمين الثاني. والفرق: أن حق تضمين الثاني قد ثبت للمالك لكونه غاصب الغاصب؛ إلا أن تضمين الأول الثاني يبطل هذا الحق للمالك، وذلك ههنا إنما ثبت بإقرار الأول، والإقرار حجة قاصرة، فلم يظهر أخذ الأول القيمة من الثاني في حق بطلان حق المالك في تضمين الثاني بخلاف الأول؛ لأن هناك أخذ القيمة ثبت بأمر حجة عامة؛ أما هاهنا بخلافه وكان المعنى فيه، وهو أن الغاصب الأول إنما ملك الاستيفاء ليتمكن من إقامة ما عليه من فعل الرد وصفة الضرورة تندفع بحقيقة الاستيفاء، فلا ضرورة إلى اعتبار الإقرار بالاستيفاء. وكذلك الجواب فيما إذا قضى القاضي بالقيمة، ثم أقر الغاصب بقبض القيمة، وكذلك لو أقر الأول بقبض الجارية من الثاني، وأقر أنها ماتت عنده لم يقبل قوله حتى كان للمالك أن يضمن الغاصب الثاني في هذه الوجوه كلها لما ذكرنا، ويرجع الغاصب الثاني على الغاصب الأول بالقيمة؛ لأن إقراره بالاستيفاء صحيح في حقه إن لم يصح في حق المالك. قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: رجل غصب من آخر عبداً، ثم استأجره من المغصوب منه صح؛ لأنه لو اشتراه من المغصوب منه صح، فالإجارة أولى، ويصير

المستأجر قابضاً له (124ب2) بحكم الإجارة بنفس العقد؛ لأن يد الغاصب يد ضمان بقيمة المضمون، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء؛ فأولى أن يقع عن قبض الإجارة، ويبرأ الغاصب من الضمان؛ لأن يد الغاصب بدلت بيد الإجارة، ويد الإجارة يد أمانة، وضمان الغصب مما يحتمل البطلان. ألا ترى أن المغصوب منه لو أبرأ الغاصب عن الضمان يبرأ، فكذلك إذا أبدلت يد الغصب بيد الأمانة، فإن مات العبد في يد الإجارة مات أمانة لما مر، ويجب على الغاصب الأجر بقدر ما مضى من مدة الإجارة، ويسقط الباقي؛ لأن فيما مضى وجه تسليم المنافع إلى المستأجر بحكم إجارة صحيحة، فإن مضت مدة الإجارة والعبد حي لم يعد مضموناً؛ لأن يد الغصب بدلت بيد الأمانة، فلا يعود إلا بغصب جديد.h وهو الفقه: وهو أن الغصب تفويت يد المالك على وجه التعدي، وبالإجارة فات معنى التعدي، وبمضي مدة الإجارة لا يعود معنى التعدي؛ فلا يعود حكم الغصب. ولو أن المغصوب منه أعار العبد من الغاصب صح؛ لأنه إذا آجره منه يصح، فإذا أعاره منه أولى أن يصح، ولا يصير قابضاً له بحكم العارية بنفس العارية بخلاف الإجارة، والفرق: وهو أن الإجارة أوجبت استحقاق المنافع للمستأجر، فيوجب استحقاق اليد تسليماً للمستحق، ويد الغاصب تصلح نائبة عن يد الإجارة، فقامت مقام يد الإجارة أيضاً للماهية المستأجرة، فأما العارية فلا توجب استحقاق المنافع لما عرف، فلا توجب استحقاق اليد، فلم يجب إيفاؤها، فلا تقوم يد الغاصب مقام يد العارية، فلهذا لا يصير قابضاً بنفس العارية، فإذا انتفع به الآن ثبتت يد العارية، وهي يد أمانة، فبطل بها يد الغاصب، فإذا فرغ من العاريةلم يعد غصباً بخلاف الرهن. والفرق: وهو أن بيد العارية إنما بطلت يد الرهن، وبطل الضمان أيضاً لكون الضمان متعلقاً بحقيقة اليد؛ أما عقد الرهن فهو باق لبقاء حكمه، وهو تمليك اليد والحبس، فإذا بطلت يد العارية عادت يد الرهن، فعاد الضمان المتعلق به، فأما ضمان الغصب يتعلق بقاؤه ببقاء اليد المتعدية، وقد بطل ذلك بيد العارية، فلا يعود، وبالفراغ من العمل، فلا يعود الضمان المتعلق به، ولوأمر المالك الغاصب أن يتبع المغصوب صح، ويصير وكيلاً، ولا يخرج العبد عن ضمانه؛ لأن كونه غاصباً ضامناً لا ينفي كونه وكيلاً. ألا ترى أن الوكيل بالبيع إذا استعمل المبيع حتى صار ضامناً بقي وكيلاً؛ كذا هنا؛ كان المعنى فيه، وهو أن الأمر يقتضي الائتمار، والائتمار لا يقتضي قيام يد الوكيل، فلا يقتضي أيضاً قيام وصفه، وهو كونه يد أمانة، فإن باعه هلك قبل التسليم، انتقض البيع ولزمته قيمة العبد المغصوب؛ لأن الغصب لا يبطل بمجرد البيع. فإن قيل البيع بالمبيع صار مضموناً بالثمن في يد الوكيل، وهذا ينفي كونه مضموناً بضمان القيمة؛ لأن ضمان القيمة مع ضمان الثمن لا يجتمعان في عين واحد؛ قلنا تفسير كونه مضموناً بالثمن ليس إلا كونه بحال لو هلك قبل القبض يسقط الثمن عن المشتري،

وهذا لا ينفي ضمان القيمة على الغاصب، فإن رده المشتري بالعيب إن كان قبل القبض فهو في ضمان الغصب على حاله؛ لأن الغاصب لا يبطل بمجرد البيع، فلا يبطل الضمان المتعلق به، وإن كان الرد بعد القبض لا يعود مضموناً؛ لأن التسليم حصل بأمر المالك؛ لأن الأمر بالبيع أمر بالتسليم، والتسليم إلى المشتري بأمر المالك بمنزلة التسليم من المالك، ولو سلم المالك إلى المشتري برىء الغاصب من الضمان، فكذا إذا سلم الغاصب بأمر المالك، وضمان الغصب متى بطل لا يعود إلا بغصب جديد. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل غصب من رجل جارية، وغصب آخر من رب الجارية عبداً، وتبايعا العبد بالجارية وتقابضا، ثم بلغ المالك فأجازه كان باطلاً؛ لأن الإجازة إنما تلحق العقد الموقوف دون الباطل، وهذا العقد وقع باطلاً؛ لأن البيع تمليك بتملك، وتملك بتمليك، وذلك لا يكون في بيع مال الرجل بماله. يوضحه: أن الإجازة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء، ولو أذن المالك لهما في الابتداء بذلك لا ينعقد فكذا إذا فعلها بغير إذن المالك لا يتوقف. ولو كان مالكهما رجلين فبلغهما فأجازا، كان جائزاً، وصارت الجارية لصاحب الغلام، وعلى غاصب الغلام قيمة الغلام لمولاه، ويصير الغلام لصاحب الجارية، وعلى غاصب الجارية قيمة الجارية لمولاها؛ لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء، ولو أذن كل واحد من المالكين في الابتداء بأن قال صاحب الغلام للذي غصبه: اشتر جارية فلان بغلامي هذا، وقال صاحب الجارية لغاصبها: اشتر غلام فلان بجاريتي هذه؛ كان الجواب كذلك؛ وهذا لأن كل واحد منهما صار مشترياً ما في يد صاحبه بما في يده بإبقاء ما في يد صاحبه بما في يده، ولا يتوقف في الشراء؛ لأن شراء الفضولي لا يتوقف على الإجازة؛ بل يتوقف على المشتري إنما التوقف في البيع، ولما كان هكذا صار شراء كل واحد منهما واقعاً لنفسه؛ كأن كل واحد منهما قال لغاصبه: اشترِ لنفسك مملوك فلان بمملوكي، وإنما احتيج إلى الإجازة لنفاذ البيع، فانعقد تصرف كل واحد منهما على أن يد الملك للمشتري في المشترى، ولكن عند إجازة المالك وصار كل واحد منهما مستقرضاً ما غصب حتى يكون البدل على من ثبت له الملك في المبدل. واستقراض الحيوان، وإن كان لا يجوز إلا أنه إنما لا يجوز إذا حصل قصداً، وههنا حصل في ضمن الشراء، وإنه تصرف مشروع قطعاً فصار هو مشروعاً بشرعيته أيضاً، ولما صار كل واحد منهما مستقرضاً ما غصب والمستقرض فيما ليس من ذوات الأمثال مضمون بالقيمة ووجب على كل واحد من الغاصبين قيمة ما غصب؛ لهذا. قال فيه أيضاً: رجل غصب من آخر مائة دينار، وغصب آخر من ذلك الرجل ألف درهم، ثم تبايع الغاصب الدنانير بالدراهم، وتقابضا، ثم تفرقا، ثم حضر المالك فأجازه جاز. فرق بين هذا، وبين الوجه الأول، والفرق: وهو أن ههنا العقد ما وقع على الدراهم، والدنانير بأعيانهما لما عرف من أصلنا: أن الدراهم والدنانير لا يتعينان في

عقود المعاوضات، وإنما وقع العقد على مثلهما ديناً في الذمة، فلم يقع العقد على ما لا عين لمالك واحد، فيقع البيع بلا توقف. ألا ترى أنه لو لم يجز واحد، ولم يتفرقا حتى نقد كل واحد من ماله يجوز، ولا يفسد العقد، وهذا دليل على أن العقد إنما وقع على مثلهما ديناً في الذمة؛ إلا أن كل واحد منهما صار قاضياً ما وجب في ذمته (1252) بما غصب فإذا أجازه صار معرضاً، فيلزمه ضمانه بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك العقد وقع على العرضين بأعيانهما؛ لأن العرض يتعين في عقد المعاوضة، فإذا كانا لشخص واحد لم ينعقد العقد على ما مر، والفلوس في هذا نظير الدراهم، والدنانير؛ لأنهما لا تتعين بخلاف العرض. وقال فيه أيضاً: رجل غصب من آخر جارية، وغصب رجل آخر من المغصوب منه مائة دينار، فباع غاصب الجارية من غاصب الدنانير الجارية بتلك الدنانير، فبلغ المالك فأجازه صح؛ لأن الجارية وإن تعينت في العقد؛ إلا أن الدينار لم يتعين، فلم يقع العقد على مالين لأحد؛ بل وقع على جارية مغصوبة بدنانير في الذمة، فإذا أجازه صحت الإجازة في حق البيع؛ لأن البيع قد توقف، فإذا لحقته الإجازة صح. وأما نقد الدينار، فلا يصح إما إن كان العقد قبل الإجازة أو بعد الإجازة فإن كان قبل الإجازة عملت الإجازة فيه إذا علم المغصوب منه بأنه نقد من ماله، ويصير هو مقرضاً الدينار من مشتري الجارية، فإن المنقود قائم في يد غاصب الجارية، فهو للمجيز وهو المغصوب منه، وإن هلك في يد غاصب الجارية لا ضمان عليه؛ لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء، فظهر أنه حين قبض الثمن، كان وكيلاً ببيع الجارية؛ أميناً في ثمنها، وهلاك المال في يد الأمين لا يوجب عليه ضماناً. وإن كان النقد بعد الإجازة، فإن لصاحب المال أخذ ماله؛ إن وجده فيبطل النقد، ويلزم المشتري ثمن آخر؛ لأن الإجازة إذا حصلت قبل النقد، فليس ذلك بإذن في النقد؛ لأن النقد لم يكن موجوداً وقت الإجازة، ولا يدري أنه ينقد الدنانير المغصوبة، أو غير ذلك، فلم تعمل الإجازة في حق النقد، وحصل نقد الدنانير بغير إذن صاحبها، فكان له حق القبض إن وجدها قائمة، وإن وجدها هالكة فله الخيار؛ إن شاء ضمن بائع الجارية لكونه غاصب الغاصب، وإن شاء ضمن مشتري الجارية لكونه غاصباً، فإن ضمن المشتري ظهر أنه ملك الدنانير من وقت الغصب السابق، وأنه نقد ملك نفسه، فصح التسليم إلى بائع الجارية، وصار بائع الجارية أميناً في قبض الزيادة وإن اختار تضمين البائع رجع البائع على المشتري؛ لأن ما قبض البائع لم يسلم هنا لما استحق عليه عوضه، فاستوجب الرجوع به على المشتري؛ كما لو كانت الدنانير قائمة بأعيانها، فأخذت من يده، فإذا رجع بها سلم ذلك للبائع. وطعن عيسى بن أبان في هذا فقال: ينبغي أن يردها على المغصوب منه؛ لأن القبض الأول كان موقوفاً، فلما ضمن المغصوب منه البائع، وقبض البدل بمنزلة قبض المبدل؛ بطل القبض الأول، وصار الثمن هو الثاني الذي يقبضه البائع من المشتري،

فينبغي أن لا يسلم للبائع كما لو أخذ العين من يده، ثم رجع على المشتري. والجواب عن هذا: أن يقال المغصوب منه لما ضمن البائع، ورجع البائع على المشتري صار قرار الضمان على المشتري، وظهر أنه كان مالكاً لما نقد؛ إذ الملك في المضمون؛ إنما يثبت لمن كان قرار الضمان عليه، وظهر أن البائع صار وكيلاً، وأن له حق الرجوع على الموكل بما ضمن؛ لأنه أمينه، وما رجع به البائع على المشتري مال الموكل، فقد ظفر بجنس حقه، فيستوفي بحقه على ما عرف. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل غصب عبداً، فباعه من رجل بخمسمائة إلى سنة، والعبد معروف للمغصوب منه، فقال المغصوب منه للغاصب: إنك قد اشتريت مني هذا العبد بألف درهم حالة وقبضته مني، ثم بعته من هذا الرجل بخمسمائة درهم إلى سنة، وقال الغاصب: ما اشتريته منك قط، ولكنك أمرتني فبعته منه بخمسمائة إلى سنة بأمرك فالعبد قائم عند المشتري، فالعبد سالم للمشتري؛ لأنهم اتفقوا على صحة شرائه ولا ضمان على الغاصب بسبب الغصب؛ لأن تعذر الرد على المالك كان لمعنى من جهته، وهو إقراره بالبيع من الغاصب، ويستحلف الغاصب بالله ما اشتريته؛ لأن المغصوب منه يدعي عليه الثمن بسبب صحيح، وهو ينكر، فإن حلف لا شيء عليه وإن نكل كان عليه الثمن الذي ادعاه المغصوب منه، وإن كان العبد قد مات عند المشتري، وباقي المسألة بحالها؛ فههنا يحلف كل واحد منهما، وعلى دعوى صاحبه أما يحلف الغاصب فلما مرَّ، وأما يحلف المالك بخلاف الفصل الأول. والفرق وهو: أن الغاصب لا يدعي على المغصوب منه في الفصلين جميعاً إلا الوكالة، إلا أن الوكالة في هذه المسألة حق يلزم المغصوب منه؛ لأن في دعوى الوكالة في هذا الفصل دعوى البراءة عن ضمان القيمة؛ لأن تعذر الرد على المغصوب منه ههنا ما كان لمعنى من جهته، وهو إقراره بالبيع، وإنما كان لأجل الموت، فإن تسبب موت العبد بعجز الغاصب عن الرد على المغصوب منه؛ سواء سبق من المولى الإقرار بالبيع، أو لم يسبق، فكان ضمان القيمة واجباً على الغاصب، فكان بدعوى الوكالة على المالك مدعياً إبراءه نفسه عن ضمان القيمة، والمالك ينكر، فيحلف؛ أما في الفصل الأول دعوى الوكالة لا تلزم المغصوب منه شيئاً؛ لأن ضمان القيمة هناك غير واجب على الغاصب، على ما مر، فلهذا لا يحلف المغصوب منه ثمة؛ أما ههنا بخلافه على ما مر، فإن كان الغاصب وهب هذا العبد من رجل، وسلمه إليه، ثم ادعى أنه فعل ذلك بأمر المغصوب منه، وقال المغصوب منه: بعته منك بألف، ثم وهبته، فهو على التفاصيل التي قلنا في البيع. ولو كان الغاصب ضرب العبد، فقتله، ثم قال الغاصب: ضربت بأمر المالك، وقال صاحب العبد: لا بل بعته منك فضربت ملك نفسك؛ يحلف الغاصب أولاً، فإن نكل لزمه الثمن، وإن حلف لزمته القيمة لتعذر الرد لمعنى من جهة الغاصب؛ ثم يحلف المالك، فإن نكل بطلت القيمة، وإن حلف، فله قيمته على الغاصب، وهو نظير الهلاك فيما تقدم.

وقال فيه أيضاً: رجل أقر أنه قطع يد عبد رجل خطأ، وكذبته عاقلته في ذلك؛ يعني أن عاقلة المقر كذبت المقر في إقراره، ثم غصبه رجل من مولاه، فمات عنده، فالمولى بالخيار؛ إن شاء ضمن الجاني قيمته في ماله في ثلاث سنين، وإن شاء ضمن الغاصب قيمته أقطع، في ماله حالاً، وضمن الجاني أرش يده، وهو نصف قيمته في ماله، فإن ضمن الجاني قيمته بإقراره، فإنه يرجع الجاني على الغاصب بقيمة العبد أقطع في ماله؛ علل في «الكتاب» فقال: لأن العبد صار للقاطع بجنايته، وهذا دليل على أن (125ب2) ضمان الدم يوجب الملك في المضمون. ووجه ذلك: وهو أن سبب الضمان هو القطع السابق فيستند الضمان إليه، فثبت الملك من ذلك الوقت، وفي تلك الحالة هو قابل للملك كما في ضمان الغصب، فإنه لا يتقرر إلا عند الهلاك؛ ذلك لما كان عند الغصب السابق أسند إليه، ووقع الملك في المضمون؛ كذا ههنا، ومن المحققين من أصحابنا من قال: لا بل ضمان القتل لا يوجب الملك للضامن في المقتول؛ لأن ضمان القتل يجب مقصوراً على وقت القتل، والقطع السابق إنما يصير قتلاً وقت السراية، فيجب الضمان مقصوراً على حالة القتل، وفي حالة القتل هو غير قابل للملك لكن إن تعذر إثبات الملك في ذاته، أمكن إثباته في بدله وهو الضمان الذي على الغاصب كما قلنا في المدبر إذا غصبه من غاصبة، واختار المولى تضمين الأول؛ كان للأول أن يضمن الثاني، وإن لم يملك الأول بالمدبر بأداء الضمان لكن قبل السبب، وإن لم يعمل في حق المدبر لمكان التعذر، يحل في حق بدله، وهو الضمان الواجب على الغاصب؛ كذا ههنا، ثم أوجب الضمان على الجاني ههنا في ماله؛ لأنه وجب بإقراره، والإقرار حجة قاصرة، وإن كانت الجناية ثابتة بالبينة فهذا وما لو ثبتت الجناية بإقرار الجاني سواء، إلا في فعل واحد، وهو أن ما يجب على الجاني في فصل الإقرار يجب على عاقلته في فصل البينة؛ لأن البينة حجة في حق الناس كافة، فثبتت الجناية في حق العاقلة؛ كما ثبتت في حق غيرها. رجل غصب من آخر شيئاً وغيبه، فطلب المغصوب منه من القاضي تضمينه؛ ذكر في بعض الكتب أن القاضي يتلوم في ذلك يومين أو ثلاثة رجاء أن يظهر ولا يقضي بالقيمة في الحال. وذكر في «السير الكبير» : في باب ما لم يبطل فيه سهم الفارس أن القاضي يقضي بالقيمة قبل التلوم؛ قال شيخ الإسلام في شرح «السير» : ما ذكر في «السير» جواب الجواز يعني لو قضى بالقيمة قبل التلوم يجوز، وما ذكر في بعض الكتب جواب الأولوية؛ يعني الأولى أن يتلوم القاضي، ثم يقضي بالقيمة، والله أعلم بالصواب. وقد تم كتاب الغصب من المحيط بحمد الله تعالى.

كتاب الوديعة

كتاب الوديعة هذا الكتاب يشتمل على عشر فصول: 1 * في بيان ركن الإيداع، وشرطه، وما يكون إيداعاً بدون اللفظ 2 * في حفظ الوديعة بيد الغير 3 *.......... 4 * فيما يكون تضييعاً للوديعة، وما لا يكون، وما يضمن به المودع، وما لا يضمن 5 * في تجهيل الوديعة 6 * في طلب الوديعة، والأمر بالدفع إلى الغير 7 * في رد الوديعة 8 * فيما إذا كان صاحب الوديعة أو المستودع غير واحد 9 * في الاختلاف الواقع في الوديعة، والشهادة فيها 10 * في المتفرقات

الفصل الأول في بيان ركن الإيداع، وشرطه، وما يكون إيداعا بدون اللفظ

الفصل الأول في بيان ركن الإيداع، وشرطه، وما يكون إيداعاً بدون اللفظ قال مشايخنا: ركن الإيداع في حق صيرورة العين أمانة عند الغير قول المالك: أودعتك هذا العين. حتى لو قال هذا الغاصب صار العين أمانة عنده، وإن لم يقبل: حتى لو هلك بعد ذلك عنده من غير صنعه لا ضمان عليه، وفي حق وجوب الحفظ على المودع الركن هو الإيجاب، والقبول؛ وهذا لأن صيرورة العين أمانة عند الغير تلزم الملك، فيتم به وحده، فأما وجوب الحفظ حكم يلزم المودع، فلا بد من قبوله، وشرطه كون العين ماثلاً لإثبات اليد عليه؛ لأن الإيداع عقد استحفاظ، وحفظ الشيء لا يتأتى إلا بعد إثبات اليد عليه؛ ألا ترى أن إيداع الآبق، وإيداع الطير الذي في الهواء لا يصح، وإنما لا يصح لأنه لا يتهيأ للمودع إثبات اليد على هذه الأشياء. في «المنتقى» : رجل في يديه ثوب قال له رجل: أعطني هذا الثوب، فأعطاه؛ كان هذا على الوديعة؛ لأن الإعطاء جهات فعند الإطلاق يحمل على أقلها، وهو الوديعة، وذكر في كتاب الهبة من «المنتقى» أن قوله: أعطني أعطيتك على الهبة، رجل جاء بثوب إلى رجل، وقال: هذا الثوب وديعة، ولم يقل الآخر شيئاً بل سكت ثم غاب صاحب الثوب، ثم غاب الآخر بعده وترك الثوب هناك، وضاع الثوب هناك، وضاع الثوب، فهو ضامن؛ لأنه قبل دلالة، وكذلك إذا جاء بالثوب ووضع بين يديه، ولم يقل شيئاً؛ وباقي المسألة بحالها، فهو ضامن؛ لأن صاحب الثوب أودع دلالة، وذلك الرجل قبل دلالة، ولو قال الآخر: أنا لا أقبل الوديعة، وباقي المسألة بحالها، فلا ضمان؛ لأن الدلالة إنما تعتبر إذا لم يوجد الصريح بخلافها. في «فتاوى أهل سمرقند» : رجل دخل بدابته خاناً، وقال لصاحب الخان: أين أربطها؟ فقال: هناك، فربطها، وذهب، ثم رجع، فلم يجد دابته، فقال صاحب الخان: إن صاحبك أخرج الدابة ليسقيها، ولم يكن له صاحب، فصاحب الخان ضامن؛ لأن قول صاحب الدابة لصاحب الخان أين أربطها استحفاظ، وقول صاحب الخان: هناك؛ إجابة إلى الحفظ، فصار مودعاً، فيصير ضامناً بالتضييع. وكذلك إذا دخل رجل الحمام، وقال لصاحب الحمام أين أضع الثياب؟ فقال صاحب الحمام: ثمة، فوضع، ودخل الحمام، ثم خرج رجل آخر، وأخذ ثيابه، وذهب، فصاحب الحمام ضامن لما قلنا، وإن وضع الثياب بمرأى عين صاحب الحمام، ولم يقل شيئاً، وباقي المسألة بحالها، فهذا على وجهين؛ إما أن لا يكون للحمام ثيابي وهو الذي يقال بالفارسية «جانيه دار» أو يكون «له ثيابي وهو حاضر» ، ففي الوجه الأول الضمان على صاحب الحمام، والحالة هذه استحفاظ لصاحب الحمام، ودلالة وفي الوجه الثاني الضمان على الثيابي دون صاحب الحمام؛ لأن هذا استحفاظ للثيابي دلالة فيضمن الثياب

الفصل الثاني في حفظ الوديعة بيد الغير

ما يضمن المودع إلا إذا نص على استحفاظ صاحب الحمام بأن قال لصاحب الحمام: أين أضع الثياب فحينئذٍ يجب الضمان على صاحب الحمام، وإن كان له ثيابي، وهو حاضر، هذه الجملة في الباب الأول في وديعة «الواقعات» . وفي غصب «فتاوى أبي الليث» : رجل دخل الحمام، ووضع ثيابه مرأى عين صاحب الحمام ثم خرج، فوجد صاحب الحمام نائماً، وقد سرق ثيابه، فإن نام قاعداً، فلا ضمان، وإن وضع جثته على الأرض، فهو ضامن؛ لأن هذا مودع ترك الحفظ في الوجه الثاني، وفي الوجه الأول لم يترك. وفيه أيضاً: رجل من أهل المجلس قام وترك كتابه فيه، فذهبوا جملة، وتركوا الكتاب، فضاع الكتاب فالكل ضامنون، (126أ2) وإن قام واحد بعد واحد، فالضمان على آخرهم؛ لأن في الوجه الأول الكل حافظون، وفي الوجه الثاني تعين الأخير حافظاً؛ كمن باع قفيز حنطة من قفيزين ثم هلك قفيز يتعين القفيز الباقي. الفصل الثاني في حفظ الوديعة بيد الغير إذا دفع الوديعة إلى بعض من في عياله نحو المرأة والابن الكبير الذي هو في عياله، والأب إذا كان في عياله، والأجير، فهلكت لم يضمن استحساناً؛ لأن الدفع إلى هؤلاء حصل بإذن صاحب الوديعة دلالة. بيانه: أنه لا بد للمودع من الخروج عن منزله لإقامة مصالحه، ولا يمكنه إخراج الوديعة مع نفسه، فتركها في منزله، فإذا تركها في منزله فقد صارت في يد من هو في عياله، فكان صاحب الوديعة راضياً بيد من في عياله من هذا الوجه، فهو معنى قولنا الدفع إلى هؤلاء حصل بإذن صاحب الوديعة. والمراد من الأجير المذكور في «الكتاب» الأجير الخاص الذي استأجره مشاهرة، أو مشافهة، ويسكن معه. أما الأجير لعمل من الأعمال والذي يجري عليه نفقته كل شهر، ولا يسكن معه، ويقال بالفارسية: «إجراء أخوار» ، فهو وسائر الأجانب سواء فيضمن بالدفع إليه. فأما الابن الكبير إذا لم يكن في عياله، والأب أو الأم إذا لم تكن في عياله، فدفع إليه ضمن، والابن الصغير إذا لم يكن في عياله فدفع إليه لا يضمن؛ لأن تدبيره إلى الأب، وإن لم يكن في عياله، ولكن يشترط أن يكون الصغير قادراً على الحفظ. وفي حق الزوجة لا يشترط المساكنة والنفقة، حتى أن المرأة إذا كانت تسكن في محلة، والزوج يسكن في محلة أخرى، ولا ينفق عليها، فدفع الوديعة إليها، فلا ضمان، والزوجة في حق هذا الحكم بمنزلة الابن الصغير للمعنى الذي ذكرنا، ولو دفعت المرأة الوديعة إلى زوجها فلا ضمان، وإن لم يكن الزوج في عيالها؛ لأنه يسكن معها.

والعبرة في هذا الباب للمساكنة إلا في حق الزوجة والولد الصغير، للمعنى الذي ذكرنا في المسألة المتقدمة؛ لا للنفقة؛ ألا ترى أنه إذا دفع الوديعة إلى ابنه الكبير الذي يسكن معه، ويترك المنزل عليه، فإنه لا يضمن، وإن لم يكن الابن في نفقته.f ولو كان له امرأتان، ولكل واحدة منهما ابن من غيره يسكن معها، فهما في عياله لا يضمن بدفع الوديعة إلى ابنيهما، وإذا دفع الوديعة إلى من ليس في عياله؛ إن كان الدفع لضرورة بأن احترق بيت المودع فأخرجها من بيته، ودفعها إلى جاره، فلا ضمان عليه في هذا، وما يشبه هذا استحساناً. وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصلح: إذا وقع في بيت المودع حريق، فإن أمكنه أن يناولها من في عياله، فناولها أحنبياً ضمن، وإن كان لا يجد بداً من الدفع إلى الأجنبي لا يضمن. وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلح أيضاً: الحريق إذا كان غالباً، وقد أحاط منزل المودع إذا تناول الوديعة جاز أنه لا يضمن استحساناً، وإن لم يكن أحاط بمنزل المودع ضمن هذا إذا كان الدفع لضرورة، وإن كان الدفع لغير ضرورة، فهلك في يد الثاني؛ إن هلك قبل أن يفارق الأول الثاني، فلا ضمان على أحد بلا خلاف، وإن هلك بعدما فارقه الأول، فالأول يضمن بلا خلاف، وأما الثاني ففيه خلاف على قولهما، وعلى قول أبي حنيفة لا يضمن؛ لأن بهذا الدفع صار المال أمانة في يد الثاني؛ لأن للأول أن يحفظ الوديعة بيد الثاني بحضرته، ولهذا لو هلكت في يد الثاني قبل أن يفارقه الأول؛ لا ضمان على واحد منهما، فهو معنى قولنا: إن المال حصل أمانة في يد الثاني، والأمانة لا تضمن بدون التعدي، ولم يوجد من الثاني التعدي، إنما وجد من الأول حيث فارقه. فإن ادعى المودع الضرورة بأن ادعى أنه وقع الحريق في بيته؛ ذكر «القدوري» : أنه لا يصدق إلا ببينته في قول أبي يوسف، وهو قياس قول أبي حنيفة. وذكر في «المنتقى» : أنه إن علم أنه قد احترق بيته قبل قوله، وإن لم يعلم لا يقبل قوله إلا ببينته، وفي «القدوري» يقول: إذا حفظ الوديعة في حرز ليس فيه ماله يضمن، والمراد منه حرز غيره؛ لأن الحرز في يد ذلك الغير، فصار الوضع في الحرز كالتسليم إلى ذلك الغير؛ أما إذا استأجر حرزاً لنفسه، وحفظ فيه لم يضمن، وإن لم يكن فيه ماله؛ لأنه بمنزلة بيته. وسئل نجم الدين: عن خفَّافٍ خرج إلى القرى للاكتساب، فأعطاه رجل خفاً ليصلحه، فوضعه مع رحله في داره، ودخل البلدة، فسرق الخف، قال: إن كان اتخذ داراً ليسكن بأي وجه كان فلا ضمان، وإن كان وضعه في دار رجل لا يسكن هو معه في تلك الدار فهو ضامن؛ لأنه أودع الأمانة أجنبياً من غير ضرورة. وإذا كان عند امرأة وديعة حضرتها الوفاة فدفعتها إلى جارة لها، فهلكت عندها، فإن لم يكن وقت وفاتها بحضرتها أحد من عيالها فلا ضمان؛ لأنها دفعت الوديعة إلى الأجنبية لضرورة.

في «فتاوى أبي الليث» وفي هذا الموضع أيضاً: إذا أجر المودع شيئاً من داره من إنسان، ودفع الوديعة إلى هذا المستأجر، فهذا على وجهين: أما إن كان لكل واحد منهما أعني الآجر والمستأجر غلق على حدة، وفي هذا الوجه عليه الضمان؛ لأنه ليس في عياله، ولا بمنزلة من في عياله، وإن لم يكن لكل واحد منهما غلق على حدة، وكل واحد منهما يدخل على صاحبه بغير حشمة فلا ضمان؛ لأنه بمنزلة من في عياله. وفي هذا الموضع أيضاً: رجل غاب وخلف امرأة، وفي منزله الذي فيه ودائع الناس، ثم رجع وطلب الوديعة، فلم يجدها، فإن كانت المرأة أمينة فلا ضمان على الزوج، وإن كانت غير أمينة، وعلم الزوج بذلك، مع هذا ترك الوديعة فهو ضامن، وعن هذه المسألة قالوا: «ثم بان ثم خونست» فذهب الغلام بودائع الناس، «فالتواكه يتم بأن ضامن شرد» علم أن غلامه سارق، وليس بأمين. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا أودع رجل رجلاً ألف درهم، وقال له: أخبئها في بيتك هذا فخبأها في بيت آخر من داره تلك لا يضمن استحساناً؛ لأنه إنما يراعى من الشروط ما يفيد، وهذا الشرط لا يفيد. ألا ترى أنه لو قال له: أخبئها في هذا الصندوق الذي في بيتك، فخبأها في صندوق آخر في بيته فضاع لا ضمان، وإن قال: أخبئها في هذه الدار، فخبأها في دار أخرى في محلة أخرى، أو في تلك المحلة، فهو ضامن، وإن كانت الثانية أحرز من الأولى هكذا ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الوديعة وذلك إذا قال: أخبئها في هذه الدار، ولا تخبئها في الدار الأخرى، وفي «شرح الطحاوي» إذا كانت الدار التي خبأها فيها في الحرز على السواء (126ب2) أو كانت هي أحرز، فلا ضمان عليه سواء نهاه عن الخباء فيها (أو لم يفعل) وفي «نوادر هشام» عن محمد؛ إن كانت الدار الثانية أحرز فلا ضمان، ولم يذكر محمد في مسألة البيتين ما إذا قال: أخبئها في هذا البيت، ولا تخبئها في هذا البيت، فخبأها في هذا البيت المنهي عنه، وذكر شيخ الإسلام في كتاب الوكالة في باب وكالة الصبي أنه يضمن، وفي «شرح الطحاوي:» إن كان البيت الآخر أحرز من المنهي عنه يضمن، وما لا فلا، والجواب في المصرين نظير الجواب في الدارين. إذا قال للمودع: احفظ الوديعة بيدك، فلا تضعها ليلاً ولا نهاراً، فوضعها وهلكت، فلا ضمان، وإن كان هذا شرطاً مفيداً؛ لأنه لا يمكن اعتباره إذا قال له: احفظ في هذا المصر، أو قال له: لا تخرجها عن هذا المصر، فسافر بها؛ إن كان سفراً له منه بد ضمن، وإن كان سفراً لا بد له منه؛ إن أمكنه حفظ الوديعة في المصر الذي أمر بالحفظ فيها مع السفر بأن كان ترك عبداً له في المصر المأمور به، أو بعض من في عياله، فإذا سافر بها والحالة هذه ضمن؛ لأنه خالف شرطاً مفيداً من غير عذر، وإن لم يمكنه ذلك فسافر، فلا ضمان؛ هذا إذا عين عليه مكان الحفظ، وإن لم يعين عليه مكان الحفظ، ولم ينهه عن الإخراج عن المصر؛ بل أمره بالحفظ مطلقاً، فسافر بها؛ إن كان الطريق مخوفاً يضمن بالإجماع.

وإن كان الطريق أميناً إن كانت الوديعة شيئاً لا حمل لها ولا مؤنة فلا ضمان؛ لأن الطريق إذا كان آمناً كان صالحاً للحفظ فيه قد حفظ الوديعة في مكان صالح للحفظ، والأمر بالحفظ مطلق، فيدخل هذا النوع من الحفظ تحته. فإذا كانت الوديعة شيئاً له حمل ومؤنة، إن كان لا بد له من المسافرة بها، بأن كان عجز عن الحفظ في المصر الذي أودعه فيه، فإنه لا يضمن عندهم جميعاً، فأما إذا كان له بد من المسافرة بها، فعلى قول أبي حنيفة: لا ضمان؛ قربت المسافة أو بعدت، وعند محمد يضمن قربت المسافة أو بعدت؛ لأن الأمر بالحفظ يقبل بمكان الوديعة عرفاً وعادة إذا كانت الوديعة شيئاً لها حمل ومؤنة حتى لا يلزم صاحب الوديعة الحمل والمؤنة، وعلى قول أبي يوسف: إن قربت المسافة فلا ضمان، وإن بعدت فهو ضامن. وإذا دفع الرجل إلى غيره وديعة، وقال له: لا تدفعها إلى امرأتك، فإني أتهمها، أو قال: إلى ابنك، أو قال: إلى عبدك، وما أشبه ذلك، فدفع إليه، فإن كان لا يجد المودع بداً من الدفع إليه بأن لم يكن عيال سواه؛ لم يضمن بالدفع إليه، وإن كان يجد بداً منه فهو ضامن؛ لأنه خالف شرطاً مفيداً؛ لأن من في عياله قد يتفاوتون في الحفظ، ولا ضرورة له في ذلك. المودع إذا وضع الوديعة في حانوته، فقال صاحبها: لا تضعها في الحانوت، فإنه مخوف، فتركها فيه حتى سرق ليلاً، فهذا على وجهين إن لم يكن له موضع آخر أحرز من الحانوت لا يضمن، وإن كان له موضع آخر أحرز من الحانوت فهو ضامن إذا كان قادراً على الملك. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل دفع إلى رجل مرّاً وقال: اسق به أرضي، ولا تسقِ أرض غيري، فسقى الرجل أرض الآمر، ثم سقى أرض غيره، فضاع المرّ، فهذا على وجهين: إما إن ضاع قبل أن يفرغ من السقي الثاني، أو بعدما فرغ، ففي الوجه الأول يضمن؛ لأنه مودع مخالف، وفي الوجه الثاني لا؛ لأن الساقي أجير أو معين، وكيف ما كان فالمر غير مستأجر ولا مستعار، فإنما هو وديعة، فإذا سقى به أرض غيره، وصار مخالفاً، فإذا هلك قبل أن يفرغ من السقي، فقد هلك في حالة الخلاف، وإذا ترك الاستعمال عاد إلى الوفاق، فيخرج عن الضمان، وحكم الرهن كالوديعة، هذه الجملة في «فتاوى الفضلي» . وسئل أبو بكر عن أكار لإمرأة قالت له: لا تطرح أنزالي في منزلك، وهو يطرح في منزله في جناية، فهرب من منزله، فرفع السلطان ما كان في منزله؛ قال: إن كان منزله قريباً من موضع البيدر فلا ضمان عليه؛ لأن حجرها ليس بمعتبر؛ لأن حفظ الكدس وتحصينها كان على الأكار، وقد طرحها في موضع أحسن من البيدر، وأخف مؤنة، فلا يكون ضامناً. سئل الفقيه أبو بكر: إذا قال المضيع للتاجر: ضعها في هذا العدل وأشار إليها،

الفصل الرابع فيما يكون تضييعا للوديعة، وما لا يكون، ومايضمن به المودع، وما لا يضمن

فوضعها في الحقيبة؛ قال: لا يضمن وضع الكتاب في يد متوسط، وأمره بأن يسلم الصك إلى غريمه؛ إن دفع الدراهم إليه قبل مضي ثلاثة أشهر، فلم يدفع إليه إلا بعد مضي سنة فجاء الطالب يريد أن يسترد الصك منه؛ قال: إن علم إيفاء حقه قبل المدة أو بعدها؛ يدفع المتوسط الصك إلى المطلوب دون الطالب. وقال محمد رحمه الله: في ثلاثة نفر أودعوا رجلاً مالاً، وقالوا: لا تدفع إلى أحد منا حتى نجتمع، فدفع نصيب واحد منهم إليه، قال: ضمن قياساً وبه أخذ أبو حنيفة رضي الله عنهم، ولم يضمن استحساناً، وبه أخذ أبو يوسف رحمه الله. الفصل الرابع فيما يكون تضييعاً للوديعة، وما لا يكون، ومايضمن به المودع، وما لا يضمن إذا قال المودع: سقطت الوديعة مني أو قال بالفارسية: «بينتاد ازمز» لا يضمن، ولو قال: أسقطت، أو قال بالفارسية: «بيكندم» يضمن؛ هكذا ذكر الفقيه أبو الليث في «فتاويه» ، وينبغي أن لا يضمن بمجرد قوله: «بيكندم» ، أو أسقطت؛ لأن نفس الإسقاط ليس يصلح موجباً للضمان. ألا ترى أنه لو سقط ثم رفع، أو لم يرفع، ولكن لم يبرح عن ذلك المكان لا يضمن؛ إنما يضمن بالإسقاط، والذهاب عن ذلك الموضع والترك هناك والإسقاط في موضع يضيع كما في الماء، ونحو ذلك يكون ذلك تضييعاً، والذي يؤيد هذا الإشكال أن المودع إذا دفع الوديعة إلى من ليس في عياله، وهلكت الوديعة في يد الثاني قبل أن يفارقه الأول، فإنه لا يضمن الأول بلا خلاف، وإنما يجب عليه الضمان؛ لأن مجرد الإيداع ليس بتضييع، وإنما التضييع الذهاب وترك الحفظ، ولم يوجد بعد. والذي يؤيده أيضاً ما ذكر في «المنتقى» : إذا قال الرجل لقوم: اشهدوا أن فلاناً أودعني كذا وكذا، وإني قد بعت ذلك، وقبضت ثمنه، أو قال له المودع: ما فعلت بوديعتي؟ فقال: بعتها، وقبضت الثمن؛ لا يضمن بذلك ما لم يقل: دفعتها؛ لأن مجرد البيع ليس سبباً للضمان، فكذلك في مسألتنا ينبغي أن لا يجب الضمان بمجرد قوله أسقطت، بل يشترط مع ذلك أن يقول: أسقطت وتركت، أو يقول: أسقطت وذهبت، أو يقول: أسقطت في الماء، أو ما أشبه ذلك. وفي «فتاوى أبي الليث» : سوقي قام من حانوته إلى الصلاة، وفي حانوته ودائع، فضاع شيء منها لا ضمان عليه؛ لأنه غير مضيع لما في حانوته؛ لأن جيرانه يحفظون هذا إيداعاً من الجيران؛ ليقال: ليس للمودع أن يودع؛ لكن بهذا مودع لم يضيع، وذكر الصدر الشهيد في آخر كتاب الغصب مسألة تدل على الضمان ههنا فتأمل عند الفتوى. وفي «فتاوى أبي الليث» ولو أن المودع (127أ2) قال: وضعت الوديعة من يدي،

فقمت ونسيتها فضاعت يضمن؛ لأن نسيانه تضييع، ولو قال: وضعت بين يدي في داري والمسألة بحالها ينظر؛ إن كان مالاً لا يحفظ في عرصة الدار، وعرصة الدار لا تعد حرزاً له كصرة الذهب ونحوه، فكذلك. ولو قال: دفنت في داري، أو في كرمي، ونسيت موضعها؛ لم يضمن إذا كان للدار والكرم باب؛ لأنه ليس بمضيع، وإن قال: دفنت في موضع آخر ونسيت مكانها يضمن؛ لأنه تضييع، وكذلك تبين مكان الدفن؛ لكن سرقت الوديعة من المكان المدفون فيه، وإن كان للدار والكرم باب لم يضمن، وإن لم يكن لها باب يضمن. وفي أول هذا الكتاب إذا وضع الوديعة في مكان حصين فنسي اختلف المشايخ فيه: قال بعضهم: يضمن، وقال بعضهم: لا يضمن؛ قال الصدر الشهيد: والمختار أنه إذا قال: وضعت في داري، فنسيت المكان لا يضمن؛ لأن له أن يضع في داره، وإن قال: لا أدري وضعت في داري أو في موضع آخر يضمن؛ لأنه لا يدري أنه وضع في موضع له ولاية الوضع، وقد قيل: إذا كانت الوديعة مدفونة في الدار، وفي الكرم لا يشترط أن يكون لهما باب. ألا ترى أنه لو سرق المدفون في المغارة يقطع، وإذا لم تكن مدفونة لكن كانت موضوعة؛ إن كانت موضوعة في موضع لا يدخل فيه عليه أحد إلا باستئذان؛ لا يضمن وإن لم يكن له باب. المودع إذا وضع الوديعة في الجبانة، فسرقت الوديعة ضمن؛ لأنه ضيعها، فإن توجهت السراق نحو المودع، فدفن الوديعة في الجبانة حتى لا تؤخذ من يده، وفر من خوفهم، ثم جاء فلم يظفر بالمكان الذي دفن الوديعة فيه؛ إن أمكنه أن يجعل له علامة، فلم يفعل ضمن، وإن لم يمكنه أن يجعل لذلك علامة، وأمكنه العود بأقرب الأوقات بعد زوال الخوف، فلم يعد وأخرّ ثم جاء فلم يجد الوديعة كان ضامناً، وإن كان رب الوديعة معه يذهبان جملة، فلما تواجد السراق قال له رب الوديعة: ادفنها فدفنها، ثم ذهب السراق، وذهبوا أيضاً بعد ذلك، أو ذهبوا أولاً ثم ذهب السراق، ثم حضروا، فلم يجدوا المدفون؛ لا شك أن المودع لا يكون ضامناً في هذه الصور حيث دفن بأمر المالك. وأما إذا كان المودع وحده، والمسألة بحالها فالجواب فيه على التفصيل؛ إن ذهب السراق أولاً وتمكن المودع من دفع الوديعة فلم يدفع، وترك ثمة مع الإمكان، فهو ضامن، وأما إذا مكث االسراق ثمة، ولم يمكنه الفرار ثمة، فذهب ثم جاء فلم يجد، فهذا على وجهين: إن جاء على فور ما أمكنه، وزال الخوف فلم يجد لا يكون ضامناً، وإن أخرّ مع الإمكان كان ضامناً استدلالاً بمسألة ذكرها في كتاب الغصب والضمان. في «فتاوى أهل سمرقند» : أن السفينة إذا خيف غرقها، فرفعوا بعض الحمولات، ووضعوه في ناحية، فضاع شيء من ذلك؛ إن ضاع قبل زوال الخوف لا يكون الرافع ضامناً، وإن ضاع بعد زوال الخوف كان ضامناً؛ لأنه لما زال الخوف وجب عليه إعادتها إلى السفينة، فحيث أخر وقصر كان ضامناً، كذا ههنا.

الوديعة إذا أفسدتها الفأرة، وقد اطلع المودع على ثقب معروف؛ إن كان أخبر صاحب الوديعة أن ههنا ثقب الفأرة فلا ضمان، وإن لم يخبر بعدما اطلع عليه، ولم يسده ضمن؛ لأنه ضيعها. وفي «مجموع النوازل» : سئل نجم الدين عمن دفع خفاً إلى خفَّاف ليصلحه، فتركه الخفاف في حانوته، فسرق ليلاً؛ هل يضمن؟ قال: لا إن كان في الحانوت حافظ، أو في السوق حارس، وكان الشيخ الإمام الأجل ظهير الدين رحمه الله يفتي بعدم الضمان، وإن لم يكن حافظ، ولا حارس، وقد قيل: يعتبر العرف إن كان العرف فيما بين الناس أنهم يتركون الأشياء في الحوانيت من غير حافظ فيها، ومن غير حارس في السوق، فلا ضمان، وإن كان العرف بخلافه يجب الضمان. وكذلك قيل: لو ترك باب الدكان مفتوحاً وكان في موضع ذلك عرفهم وعادتهم لا ضمان، وفي بخارى أجري العرف بترك باب الدكان مفتوحاً باليوم، وتعليق شيء على باب الدكان نحو الشبكة وأشباه ذلك، والرواية محفوظة فيما ترك الحائك الثوب الذي ينسج بعضه، والغزل في بيت الطراز، ولم يكن هناك حافظ، ولا حارس في السوق أنه لا ضمان على الحائك. وفي «فتاوى أبي الليث» : المودع إذا وضع الوديعة في الدار، وخرج والباب مفتوح، فجاء سارق ودخل الدار، وسرق الوديعة، فإن لم يكن في الدار أحد في موضع يسمع الحس؛ لأن هذا.... إذا ربط دابة الوديعة على باب داره وتركها ودخل الدار، فضاعت؛ إن كان بحيث يراها، فلا ضمان، وإن كان بحيث لا يراها ضمن؛ إن كان في المصر، وإن كان في القرى فلا ضمان؛ وهذا لأن العادة في حق أهل القرى أن النسوة يجلسن على باب دورهن فيحفظن ما على باب جارهن، فلم يكن مضيعاً، ولا كذلك في الأمصار، وإن ربطها في الكرم أو على رأس الفالة فذهب، فقد قيل: إن غابت عن بصره، فهو ضامن، وإن لم تغب عن بصره، فلا ضمان. وقد قيل: إذا كان للكرم باب وحيطان فلا ضمان على كل حال، وقد قيل: يعتبر العرف؛ أو قد مر جنس هذا، المودع إذا جعل دراهم الوديعة في خفه، فسقطت عنه قبل أن يجعلها في الخف اليمنى، فهو ضامن، وإن جعلها في الخف اليسرى فلا ضمان، وقيل: لا ضمان على كل حال؛ لأن العادة جرت بجعل الناس أموالهم في خفافهم، ولا يميزون بين اليسرى واليمنى. وكذلك إذا ربط دراهم الوديعة في طرف كمه، أو جعلها في الأذن أو في طرف العمامة فلا ضمان؛ لأن الناس في عاداتهم يفعلون كذلك بأموالهم، ويعدون ذلك حفظاً، وكذلك لو شد دراهم الوديعة على منديل، ووضع في كمه، فسرق منه فلا ضمان.

في «فتاوى أبي الليث» : وإذا جعل الرجل دراهم الوديعة في جيبه، وحضر مجلس الفسق فسرق منه فلا ضمان؛ لأنه يحفظ ماله هكذا، ذكره في «فتاوى النسفي» ، وإن ظن أنه جعلها في جيبه، فإذا هي لم تدخل الجيب، فعليه الضمان. إذا قال المودع: لا أدري أضيعت الوديعة، أو لم أضيع، يضمن، أو قال: لا أدري أضاعت الوديعة أو لم تضع، فلا ضمان؛ لأن في الوجه الأول لو تحقق ما يزعم يجب الضمان، وفي الوجه الثاني لا يجب. في «فتاوى أهل سمرقند» : امرأة أودعت صبية من بنات سنة، واشتغلت بشيء فوقعت الصبية في الماء؛ لا ضمان عليها؛ فرق بين هذا وبين الغصب؛ هكذا ذكر المسألة في «فتاوى أبي الليث» ، وفي هذا الجواب نوع نظر، وينبغي إن لم تغب عن بصرها فلا ضمان، وإن غابت (127ب2) عن بصرها فهي ضامنة. إذا نام المودع وجعل الوديعة تحت رأسه، أو تحت جنبه فضاع، فلا ضمان عليه، وكذلك إذا وضعه بين يديه، وهو الصحيح، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب السرقة قالوا: إنما لا يجب الضمان في الفصل الثاني إذا نام قاعداً، أما إذا نام مضطجعاً فعليه الضمان، وقد مر شيء من هذا فيما تقدم، وهذا إذا كان في الحضر، أما إذا كان في السفر، فلا ضمان نام قاعداً أو مضطجعاً. وفي «فتاوى أبي الليث» : سئل أبو القاسم عمن حمل ثياب الوديعة على دابته، فنزل عن دابته في بعض الطريق، ووضع الثياب تحت جنبه، فسرقت الثياب؛ قال: إن أراد به الترفق فهو ضامن، وإن أراد به الحفظ فلا ضمان، وإن كان مكان الثياب كيس فيه دراهم لم يضمن؛ لأنه لم يجعل ذلك بالدراهم إلا للحفظ. وفيه أيضاً: إذا كانت الوديعة شيئاً يخاف عليه الفساد، وصاحب الوديعة غائب، فإن رفع المودع الأمر إلى القاضي حتى يبيعه جاز، وهو الأولى، وإن لم يرفع حتى فسد لا ضمان عليه؛ لأن حفظ الوديعة على مقدار ما أمر به. وفي «الجامع الأصغر:» سئل أبو القاسم عمن عنده وديعة، فرفعها رجل، فلم يمنعه المودع؛ قال: إن أمكنه منعه ودفعه ولم يفعل فهو ضامن، وإن لم يمكنه ذلك لما أنه يخاف من دعاء وضربه فلا ضمان، وذكر شيخ الإسلام في أول وصايا «الجامع:» المودع إذا دل إنساناً على أخذ الوديعة إنما يضمن المودع إذا لم يمنع المدلول من الأخذ حالة الأخذ؛ أما إذا منعه فلا ضمان عليه. وفي «فتاوى النسفي» : سئل عن مودع ربط سلسلة باب خزانته في الخان بحبل، ولم يقفله، وخرج فسرقت الوديعة؛ قال: إن عد هذا إغفالاً وإهمالاً لا يضمن، وما لا فلا. وفي «فتاوى الفضلي» : سئل عمن خرج إلى الجمعة، وترك باب حانوته مفتوحاً، وأجلس على باب الدكان ابناً صغيراً، وفي الحانوت ودائع الناس، فسرقت الودائع؛ قال: إن كان الصبي ممن يعقل الحفظ، ويحفظ الأشياء لم يضمن، وإلا فهو ضامن. وفيه أيضاً: سئل عن مودع غاب عن بيته، فقال له أجنبي: لي في بيتك شيء،

وأخذ منه المفتاح، فلما رجع إلى بيته لم يجد الوديعة؛ قال: لا ضمان عليه، قيل له: بدفع المفتاح إلى الأجنبي لا يصير عاطياً البيت بما فيه في يده. قال: لا. وسئل أبو جعفر عرفاً في حانوته وديعة رجل أخذ سلطاني الوديعة من حانوته لنائبه ورهنه عند رجل؛ قال: إن كان المرتهن طائعاً في الارتهان فلصاحب الوديعة أن يضمن السلطاني إن شاء، وإن شاء ضمن المرتهن، ولا ضمان على الجابي إن كان لا يقدر على تمنيع السلطاني، وينبني على هذا الجابي الذي يقال بالفارسية: «باي كار» إذا أخذ شيئاً من بيت إنسان رهناً، وهو طائع يضمن، وكذا إذا أخذ الجباية دراهم وهو طائع يضمن، وكذا الصراف إذا كان طائعاً في أخذ الدراهم يضمن، ويصير الجابي والصراف مجروحين في الشهادة.s وسئل نجم الدين: عمن عنده وديعة إنسان، وهي ثياب ملفوفة في لفاف، فوضعها تحت رأس ضيف له بالليل كالوسادة، ثم رمى على صاحبها كان كذا وكذا ثوباً، وقد ذهب بعضها؛ قال: ما لم يثبت أنها كانت كذا وكذا، وقد ضاعت منها كذا تلك الليلة، فوضعها تحت رأس الضيف لا يمكن إيجاب الضمان، وبعدما ثبت ذلك لا يمكن إيجاب الضمان بمجرد الوضع تحت رأس الضيف ما دام المودع حاضراً؛ لأنه إذا كان حاضراً، فهو حافظ لها، وليس بمضيع، فإذا غاب الآن يصير ضامناً؛ لأنه ترك حفظها. وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل أودع رجلاً زنبيلاً فيه آلات النجارين، ثم جاء واسترده، وادعى أنه كان فيه قدوماً قد ذهب منه، فقال المودع: قبضت منك الزنبيل، ولا أدري ما فيه، فلا ضمان على المودع، ولا يمين عليه أيضاً؛ لأنه لا يدعي عليه صنعاً وكذلك إذا كان أودع عند رجل دراهم في كيس، ولم يزن على المودع، ثم ادعى أنه أكثر من ذلك، وقال المودع: قد قبضت الكيس، ولا أدري كم كان فيه فلا ضمان عليه، ولا يمين لما قلنا، قيل: وينبغي أن يحلف، فإن محمداً رحمه الله يقول: القول قول الغاصب، والمودع في المقدار مع يمينه. إذا كانت المرأة تغسل ثياب الناس، فغسلت ثوباً لرجل، وعلقته على حصن سطحها، للتجفيف، فطار الثوب من الجانب الآخر، قيل: هي ضامنة، وقيل على قياس مسألة الطاحونة إذا لم يكن الحصن مرتفعاً تضمن. في «المنتقى» بشر عن أبي يوسف: إذا جحد الوديعة في وجه عدو يخاف عليها التلف؛ إن أقر ثم هلكت لا يضمنها؛ قال: لأن الجحود في هذه الصورة جهة من جهات الحفظ كذا وقع في بعض نسخ «الكتاب» ، ووقع في بعضها، إذا جحد الوديعة ثم أقر بها، ثم هلكت لم يضمنها. وفي هذا الكتاب أيضاً رواية الحسن بن زياد عن أبي يوسف: إذا جحد الوديعة في وجه صاحبها يضمن، وإن جحدها لا في وجهه لا يضمن. وفي «النوادر» عن محمد: أنه لا ضمان إذا لم يواجه صاحبها بالجحود، وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب الوديعة: إذا جحد الوديعة في وجه المالك لا بناء

اً على طلب المالك بأن قال له المالك: ما حال وديعتي ليشكره على الحفظ، فقال: ليس لك عندي وديعة، فلا ضمان في قول أبي يوسف؛ هذا كله في المنقول. وأما إذا جحد الوديعة في العقار ذكر شمس الأئمة هذا في «شرحه» أنه لا ضمان في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف الآخر في جميع الوجوه؛ لأن جحود الوديعة بمنزلة الغصب، ومن المشايخ من قال: العقار يضمن بالجحود بلا خلاف؛ قال شمس الأئمة الحلواني في ضمان الجحود، وفي العقار عن أبي حنيفة روايتان. وفيه أيضاً بشر عن أبي يوسف: رجل استودع رجلاً وديعة فجحدها إياه، ثم أخرجها بعينها، وأقر بها، وقال لصاحبها: اقبضها، فقال صاحبها: دعها وديعة عندك، فضاعت بعد ذلك؛ قال: إن تركها عنده، وهو قادر على أخذها إن شاء فهو بريء، وهي وديعة عنده، وإن كان لا يقدر على أخذها فهو على الضمان الأول؛ يعني به الضمان الثابت بالجحود، فإن الوديعة دخلت في ضمانه، وكذلك إذا قال: اعمل به مضاربة. في «المنتقى» بشر عن أبي يوسف: إذا قال المودع لصاحب الوديعة وهبت مالي الوديعة وأنكر صاحبها ذلك، فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يجحدها، وإن طلبها صاحبها فمنعها عنه؛ ضمن بالمنع. أودع طستاً عند غيره، فوضع المودع الطست على رأس التنور في بيته، فوقع عليه شيء، فانكسر، فالجواب فيه على التفصيل؛ إن كان وضعه على رأس التنور يغطي به التنور يضمن، وإن كان وضعه كما يوضع في العادة لا لأجل التغطية لا يضمن؛ لأن في الوجه الأول مستعمل، وفي الوجه الثاني لا. ومن هذا الجنس أودع عند رجل طبقاً؛ فوضع المودع الطبق على رأس الجب، فضاع؛ إن كان الوضع (لا) على وجه الاستعمال لا يضمن. وطريق معرفة ذلك: أن ينكر أن كان في الجب شيء نحو الماء، والدقيق، أو نحو ذلك مما يغطى رأس الجب لأجله؛ كان استعمالاً، وإن كان خالياً أو كان فيه شيء لا يغطى رأس الجب لأجله لم يكن استعمالاً، وإذا أخذت المرأة ثوب الوديعة، وسترت العجين فهي ضامنة، وهذا استعمال وليس بحفظ. في «العيون» : الدابة المودعة إذا أصابها شيء، فأمر المودع إنساناً أن يعالجها فعطبت من ذلك (128أ2) فصاحب الدابة بالخيار؛ يضمن أيهما شاء، فإن ضمن المستودع لم يرجع هو على الذي عالجها؛ لأنه تبين أنه عالج دابته بأمره، وإن ضمن الذي عالجها هل يرجع هو على المستودع؟. فالمسألة على ثلاثة أوجه: إما أنه علم أنه دابة المودع، أو لم يكن علم أنها لغيره، أو علم أنها لغيره بأن أخبره أنها ليست بدابتي، ولم أؤمر فيها بهذا. ففي الوجه الأول: يرجع؛ لأن الأمر قد صح فانتقل الفعل إليه. وفي الوجه الثاني: كذلك فرق بين هذا، وبين مسألة حفر البئر في الحائط على ما مر ذكرها في كتاب الغصب.

الفصل الخامس في تجهيل الوديعة

والفرق: أن موضوع تلك المسألة في الدار، والدار إذا لم يكن الآمر ساكناً فيها؛ لا يعرف أنها في يده لجواز أنها في يد غيره، وانعدم دليل الملك؛ أما الدابة منقولة، واليد على المنقول لا تثبت إلا بالنقل، وإذا لم يوجد النقل من الغير علم أنها ليست في يد الغير، فكان في يد المستودع واليد دليل الملك. وفي الوجه الثالث: لا يرجع؛ لأن الآمر لا يصح المودع إذا بعث الحمار أو البقر إلى السرح يعتبر في ذلك العرف، والعادة. الفصل الخامس في تجهيل الوديعة إذا مات المودع مجهلاً للوديعة ضمنها؛ إما لأن ما بعد الموت حال أخذ الورثة جميع ما كان في يده؛ لأن ظاهر اليد تدل على الملك إلا إن ثبت خلافه ولم يثبت، والمودع يضمن بمثل هذا التمكين؛ وإما لأنه التزم أداء الأمانة، ومن أداء الأمانة الرد عند طلب المالك يضمن كذلك، والبيان عند الموت، ولو ترك الرد عند طلب المالك يضمن، فكذا إذا ترك البيان عند الموت؛ وإما لأنه خلط الوديعة بماله على وجه لا يمكن التمييز، ومثل هذا الخلط يوجب الضمان كما في حالة الحياة، ثم إن المودع إنما يضمن بالتجهل عند الموت إذا لم يعرف الورثة الوديعة بعينها؛ أما إذا عرفت فلا؛ لأن ما ذكرنا من المعاني لا يتأتى إذا عرفت الورثة الوديعة بعينها. وفي «الأصل» : رجلان جاءا إلى رجل فقال كل واحد منهما: أودعتك هذه الوديعة، فقال المودع: لا أدري أيكما استودعني هذه الوديعة، ولكني أعلم أنها لأحدكما، وليس لواحد منكما على ذلك بينة، فعليه أن يحلف لكل واحد منهما ما أودعه هذه الوديعة بعينها، والمسألة معروفة في كتاب الإقرار، وغرض محمد من إيراد هذه المسألة في كتاب الوديعة بيان حكم الضمان بسبب التجهيل، فقال: إذا أبى أن يحلف لهما، فالقاضي يدفع الوديعة إليهما، ويضمنه قيمة الوديعة بينهما؛ لأنه صار مجهلاً في حق كل واحد منهما، فيصير ضامناً. وفي كتاب «الأجناس» : إن الأمانات بالموت تنقلب مضمونة إذا لم يبينها؛ إلا في ثلاث مواضع: أحدها: متولي الأوقاف إذا مات، ولا يعرف حال عليها التي أخذها ولم يبينها، فلا ضمان عليه، وأحاله إلى وقف حلال. الثاني: السلطان إذا خرج إلى الغزو فغنموا، وأودع بعض الغنيمة إلى بعض الغانمين ومات، ولم يبين عند من أودع لا ضمان عليه، وأحاله إلى «السير الكبير» . الثالث: أحد المتفاوضين إذا مات وفي يده مال الشركة ولم يبين؛ لا ضمان عليه، وأحاله إلى شركة «الأصل» .

وفي «الواقعات» : القاضي إذا قبض أموال اليتامى، ولم يبين، فهذا على وجهين: إن وضعه في بيته، ولا يدري أين المال ضمن؛ لأنه مودع مات مجهلاً، وإن دفعها إلى قوم، ولا يتبينهم ولا يدري إلى من دفعها فلا ضمان؛ لأن القاضي ههنا ليس بمودع؛ إنما المودع غيره، وذلك الغير على حاله لم يمت فضلاً من الموت مجهلاً. وفي «الهاروني» : لو أن المستودع لم يمت، ولكن جن جنوناً مطبقاً، وله أموال، فطلبت الوديعة، فلم توجد، وقد آيسوا أن يرجع إليه عقله؛ كانت ديناً عليه في ماله، ويجعل له القاضي ولياً ليقبضها من ماله، ويأخذ بها قيمة الذي يدفع إليه، فإن أفاق المستودع بعد ذلك وقال: ضاعت الوديعة، أو قال: رددتها عليه، وحلف على ذلك رجع بها على الذي دفعها إليه. وفي «الأجناس» : لو كان المستودع دفع الوديعة إلى امرأته، وقد علم ذلك، ثم مات المستودع أخذت المرأة بها، فإن قالت المرأة: قد ضاعت، أو قالت: قد سرقت، فالقول قولها مع يمينها، ولا ضمان عليها، ولا يصير ديناً على الميت، وإن كان الميت ترك مالاً صارت الألف ديناً فيما ورثت المرأة من الزوج؛ لأنها لما زعمت أنه دفعها إليه، فقد زعمت أنها صارت مضمونة عليه بموته تجهلاً، وزعمها حجة في حقها، وإن لم يعلم أنه دفعها إلى امرأته إلا بقوله بأن قيل له قبل أن يموت: ما فعلت بالألف التي أودعكها فلان، فقال: دفعتها إلى امرأتي، ثم مات، ثم سئلت المرأة فأنكرت أن يكون دفعها إليها، فإنها تحلف ولا شيء عليها، وإن كان الميت ترك مالاً فهي دين فيما ورثت المرأة منها؛ لأنها حين قالت: لم يودعني فقد زعمت أنها عنده على ما ادعى وإنها صارت ديناً عليه، والدين مقدم على الميراث، وزعمها معتبر في حقها. وفيه أيضاً: إذا قال المضارب قبل أن يموت أودعت مال المضاربة فلاناً الصيرفي، ثم مات، فلا شيء عليه، ولا على ورثة الميت، وإن مات الصيرفي قبل أن يقول شيئاً، ولا يعلم أن المضارب دفعها إلى الصيرفي إلا بقوله: ... على الصيرفي، وإن دفعها إلى الصيرفي ببينته، أو إقرار من الصيرفي، ثم مات المضارب، ثم مات الصيرفي، ولم يبينها كانت ديناً في مال الصيرفي، ولا شيء على المستودع، وإن مات المضارب والصيرفي حيٌّ فقال الصيرفي: رددتها عليه في حقوقه كان القول قوله، ويحلف، ولا ضمان عليه، ولا على الميت، وإن أودع جارية فمات المستودع ولم يبينها، ثم رأوها حية بعد موته، فلا ضمان على المستودع، وإن لم يروها بعد موته فقالت ورثته قد رددناه عليه في حياته أو دبر موته، لا يقبل قولهم في شيء من ذلك؛ لأنهم يدفعون عن أنفسهم الضمان، وتصير قيمتها آخر ما رأوها حية عنده ديناً في ماله، وكذلك العارية والإجارة. في «الأجناس» أيضاً وفي «النوازل» : إذا مات المستودع فقالت ورثته: قد رد الوديعة في حياته لم يقبل قولهم، والضمان واجب في مال الميت؛ لأنه مات مجهلاً، فإن

أقام الورثة البينة على إقرار الميت أنه قال في حياته: رددت الوديعة، فلا ضمان؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت عياناً، ولو عاينا إقرار المودع حال حياته بذلك، ثم مات لا ضمان عليه؛ كذا ههنا. وفي «الواقعات» : إذا اختلف الطالب وورثة المودع في الوديعة، فقال الطالب: (128ب2) قد مات ولم يبين، فصار ديناً في ماله، وقالت الورثة: كانت قائمة بعينها، ثم مات المودع، وكانت معروفة ثم هلكت بعد موته، فالقول قول الطالب هو الصحيح؛ لأن الوديعة صارت ديناً في التركة ظاهراً، والورثة يدعون أمراً بخلاف الظاهر، والطالب متمسك بما هو الظاهر. وذكر في «الجامع الكبير» : مستودع قال لصاحب المال: قد قبضت بعض وديعتك ثم مات، وقال صاحب المال: لم أقبض شيئاً؛ قيل لصاحب المال: لا بد أن تقر بقبض شيء، وتحلف على ما بقي بالله ما قبضت منه ما قالت الورثة؛ لأن إقرار المستودع على صاحب الوديعة بالقبض جائز لكونه موقناً من جهته، فصار إقراره كإقرار صاحب الوديعة. ألا ترى أن المستودع لو قال لصاحب الوديعة: قبضت جميع وديعتك جاز؛ كما لو أقر صاحب الوديعة بنفسه، ولو أقر صاحب الوديعة بقبض بعض الوديعة، ثم مات المستودع قيل له: بين؛ لأنه أقر بقبض شيء مجهول، فيرجع في البيان إليه، وإذا بين كان القول قوله في البيان كذلك ههنا، وعليه اليمين فيما يدعي الورثة من الزيادة؛ لأن ورثة المستودع صاروا ضامنين تجهيل المورث، والضامن إذا ادعى على صاحب الضمان زيادة قبض كان القول قول صاحب الضمان كما في الغاصب والمغصوب منه، وكذلك إذا قال رب الوديعة: قد قبضت بعض وديعتي، ثم مات المستودع، فالقول قول رب المال فيما قبض؛ لأنه أقر بقبض شيء مجهول، فيرجع في البيان إليه، ويكون القول قوله فيما وراء ذلك؛ لأنه منكر للقبض، والورثة ضامنون بسبب تجهيل المستودع، فكان القول قوله، وكذلك لو قال ذلك بعد موت المستودع؛ لأن المعنى يجمعهما. في «المنتقى» : رجلان أودعا رجلاً ألف درهم، فمات المستودع، وترك ابناً، فإن ادعى أحد الرجلين أن الابن استهلك الوديعة بعد موت أبيه، وقال الآخر: لا أدري ما حالها، فالذي ادعى على الابن الاستهلاك أبرأ الابن منها حيث زعم أن أباه مات وتركها قائمة بعينها، فاستهلكها ابنه، وادعاء الضمان على الابن يصدق في حق الأب، ولم يصدق في حق الابن حتى لا يقضى له على الابن بشيء، فأما الآخر فله خمسمائة درهم في مال الميت لوجود التجهيل في حقه، ولا يشارك صاحبه فيها. وفي «الجامع الكبير» : صبي ابن اثني عشر سنة يعقل البيع والشراء؛ وقبض الودائع لكنه محجور عليه؛ أودعه رجل ألف درهم فأدرك ومات ولم يدرِ ما حال الوديعة، فلا ضمان في ماله إلا أن يشهد الشهود أنه أدرك وهي في يده، والحكم في المعتوه نظير الحكم في الصبي إذا أفاق ثم مات، ولم يدرَ حال الوديعة؛ لا ضمان في ماله إلا أن يشهد الشهود أنه أفاق وهي في يده، وإن كان الصبي مأذوناً في التجارة والمسألة بحالها،

الفصل السادس في طلب الوديعة، والأمر بالدفع إلى الغير

فهو ضامن الوديعة، وإن لم يشهد الشهود أن الصبي أدرك، وهي في يده، ولو مات الصبي بعد البلوغ، ولا يدرى في أي حال هلكت الوديعة لا يقضى بوجوب الضمان، وكذلك في المعتوه إذا كان مأذوناً في التجارة. ولو أن عبداً محجوراً عليه أودعه رجل، ثم أعتقه المولى، ثم مات ولم يبين الوديعة، فالوديعة دين في ماله، وإن مات وهو عبد فلا شيء على مولاه إلا أن يعرف الوديعة بعينها، فيرد على صاحبها، وإن أذن المولى في التجارة بعدما استودع، ثم مات، فلا ضمان إلا أن يشهد الشهود أنها كانت في يده بعد الإذن، فإذا شهد الشهود بذلك ثم مات وترك مالاً فالوديعة في ذلك المال. في «المنتقى» : رجل أودع رجلاً بطيخاً أو عنباً وغاب، ثم مات المستودع، ثم قدم المودع بعد مدة يعلم أن تلك الوديعة لا تبقى إلى تلك المدة، فهي دين في مال الميت؛ لأنه لا يعلم باستيفائها بعد الميت، وهذا بناء على ما قلنا إن تجهيل الوديعة عند الموت سبب للضمان. الفصل السادس في طلب الوديعة، والأمر بالدفع إلى الغير في «فتاوى الفضلي» : إذا طلب صاحب الوديعة الوديعة، فقال المودع: اطلبها غداً، فلما كان من الغد قال المودع: ضاعت الوديعة، فالقاضي يسأله عن وقت الضياع متى ضاعت قبل قولك: اطلبها غداً، أو بعد ذلك؟ إن قال: قبل ذلك، فهو ضامن؛ لأنه متناقض؛ لأن قوله اطلبها غداً إقرار منه أنه ما ضاع، فإذا قال بعد ذلك: قد كان ضاعت قبل ذلك صار متناقضاً، وإن قال: بعد ذلك فلا ضمان؛ لأنه لا تناقض. في «مجموع النوازل» : إذا جاء المودع إلى المودع يريد استرداد الوديعة، فقال المودع: لا يمكنني أن أحضرها هذه الساعة، فتركها ورجع فهذا ابتداء إيداع، قال ثمة: لما طلب رد الوديعة فقد عزله عن الحفظ، فخرج من أن يكون مودعاً، وبالترك عنده بعد ذلك صار مودعاً ابتداءاً. وفيه أيضاً: إذا قال رب الوديعة للمودع: احمل إليَّ الوديعة اليوم، فقال: أفعل ولم يحملها إليه حتى مضى اليوم، وهلكت عنده بعد ذلك، فلا ضمان؛ لأنه لا يجب على المودع نقل الوديعة إلى صاحبها؛ بل مؤنة الرد على رب الوديعة. وفيه أيضاً: سئل شيخ الإسلام عمن قال لمودعه: إذا جاءك أخي، فادفع إليه وديعتي التي عندك، فجاء أخوه، وطلب الوديعة، فقال المودع: عدْ إليَّ بعد ساعة لأدفعها، فلما عاد إليه قال: إنه قد كان هلك؛ يعني قبل مقالتي: عد إليَّ بعد ساعة، فهو ضامن لمكان التناقض، وهذه المسألة قريبة من المسألة المذكورة في أول هذا الفصل. وفي «النوازل» : قال صاحب الوديعة للمودع في السر: من أخبرك بعلامة كذا،

فادفعها إليه، فجاء رجل، وزعم أنه رسول المودع، وأتى بتلك العلامة، فلم يصدقه المودع، ولم يدفعها إليه حتى هلكت الوديعة، فلا ضمان؛ لأنه يتصور أن يأتي غير رسول المودع بتلك العلامة. رسول المودع إذا جاء إلى المودع، وطلب الوديعة، فقال: لا أدفع إلا إلى الذي جاء بها، فلم يدفعه إليه حتى هلكت؛ ذكر شيخ الإسلام نجم الدين عمر النسفي أنه يضمن، وفيه نظر، فقد ذكر في الكتب في مواضع أن من جاء إلى المودع، وقال: إن فلاناً وكلني بقبض وديعته منك، فصدقه في دعوى الوكالة لا يؤمر بدفع الوديعة إليه، بخلاف ما إذا قال: وكلني بقبض ما له عليك من الدين وصدقه المديون في دعوى الوكالة، فإنه يجبر على دفع الدين إليه. رجل بعث ثوباً إلى القصار على يدي تلميذه، ثم بعث إلى القصار أن لا تدفع الثوب إلى من جاءك، ينظر: إن كان الذي جاء بالثوب إلى القصار لم يقل للقصار: هذا ثوب فلان بعثه إليك؛ لا يضمن القصار بالدفع إليه، وإن قال: هذا ثوب فلان بعثه إليك، فإن كان الذي جاء بالثوب متصرفاً في أموره، فكذا (129أ2) لا يضمن، وإن لم يكن متصرفاً في أموره يضمن بالدفع إليه هكذا قيل، وقد قيل: ينبغي أن يضمن، وإن كان متصرفاً في أموره؛ لأنه لما نهى القصار عن دفع الثوب إليه فقد عزله عن هذا النوع من التصرف، والأول أوجه؛ لأن العزل لا يصح من غير علم المعزول، وليس في وضع المسألة أن الذي جاء بالثوب علم بهذا النهي. في «الأصل» : إذا أمر صاحب الوديعة المودع أن يدفعها إلى رجل بعينه، فقال: دفعتها، وقال ذلك الرجل: لم أقبضها، وقال رب الوديعة: لم يدفعها، فالقول قول المستودع، ولا ضمان على المدفوع إليه، ويعتبر قول المودع في حق براءته عن الضمان؛ لا في حق إيجاب الضمان على المدفوع إليه. وفيه أيضاً: أودع رجل رجلاً دراهم، فجاء رجل وقال: أرسلني إليك صاحب الوديعة لتدفعها إليَّ، فدفعها إليه، فهلكت عنده، ثم جاء صاحبها، وأنكر ذلك، فالمستودع ضامن لها، وهل يرجع على الرسول بما ضمن؟ إن صدقه المودع في كونه رسولاً، ولم يشترط عليه الضمان لا يرجع، وإن كذبه في كونه رسولاً مع هذا دفع؛ لو لم يصدقه، ولم يكذبه مع هذا دفع، أو صدقه، ودفع إليه على الضمان رجع، ومعنى الضمان ههنا أن يقول المودع للرسول: أنا أعلم أنك رسول، ولكن لا آمن أن يحضر المالك، ويجحد الرسالة، ويضمنني، فهل أنت ضامن فيما تأخذ مني، فإذا قال: نعم، حصلت الكفالة بدين مستحب مضافاً إلى سبب الوجوب، وإنه جائز، فيرجع المودع على الرسول بحكم الكفالة. وفي «المنتقى» ابن سماعة عن محمد: رجل أودع رجلاً ألف درهم، ثم قال: إني أمرت فلاناً بقبضها منك، ثم نهيته بمكاني عن ذلك، فقال المودع: فلان أتاني ودفعتها إليه، وقال فلان: لم آته، ولم أقبضها منه، قال المستودع بريء منها.

الفصل السابع في رد الوديعة

وفي «الفتاوى» : سئل أبو بكر عن مودع طلب الوديعة من المستودع، وقد..... فقال المستودع: لا أصل إليها الساعة، فاعتبر على ملك التأخير وقال المستودع: أعتبر علي الوديعة أيضاً، قال: إن لم يقدر المستودع على ردها في تلك الحالة لبعدها أو لضيق الوقت، فلا ضمان، والقول قوله فيه، وإلا ضمن. وفي «فتاوى النسفي» : أتى عبد رجل بوقر من الحنطة، إلى بيت رجل وهو غائب، فسلمها إلى امرأته، وقال: هذا وديعة مولاي بعثه إلى زوجك، وغابت، فلما أخبرت الزوج بذلك لامها على القبول، وأرسل إلى مولى العبد أن ابعث من يحمل هذا الوقر، فإني لا أقبله، فأجاب إنه يكون عندك أياماً، ثم أحمله، فلا تدفع ذلك إلى عبدي، ثم طلبه المولى، فقال: لا أدفعه إلا إلى العبد الذي حمل إلى بيتي ثم سرق الوقر، فقال: إن صدق صاحب البيت العبد بما قاله العبد ضمن بالمنع، وإن لم يصدقه، أو قال: لا أدري أهو لمولاه، أو هو غصب في يدي العبد، أو وديعة من غيره، وتوقف في الرد ليعلم ذلك لم يضمن بالمنع. وفي «الفتاوى» : سئل أبو بكر عمن خاصم آخر بألف درهم، وأنكر الآخر، ثم أخرج المدعى عليه ألف درهم، ووضعه في يد إنسان حتى يأتي المدعي بالبينة، فلم يأتِ بالبينة، فاسترد المدعى عليه، فأبى أن يرد عليه، ثم أغاروا على الناحية، ورهنوا بالألف هل يضمن قال: إن وضع المدعي والمدعى عليه عنده؛ فلا يضمن إذ ليس له أن يدفع إلى أحدهما، وإن كان صاحب المال وضعه يضمن بالمنع عنه؛ لأنه صار غاصباً بمنعه عنه.w الفصل السابع في رد الوديعة إذا رد المودع الوديعة إلى منزل المودع، أو إلى أحد من في عياله، فهلكت فالمودع ضامن. وأشار في «الجامع الكبير» : إلى أنه لا ضمان، وإذا ردها بيد من في عياله، فلا ضمان، وإن ردها بيد ابنه، والابن ليس في عياله، فإن كان الابن بالغاً فهو ضامن؛ لأنه ليس له أن يحفظ الوديعة بيده إذا لم يكن في عياله، فلا يكون له الرد بيده، وإن كان الابن غير بالغ فلا ضمان؛ لأنه إذا كان غير بالغ فتدبيره إلى الأب، وإن لم يكن في عياله، والأب يتصرف فيه كما لو كان في عياله. ألا ترى لو بعث الوديعة على يدي عبده، وقد أمر العبد من غيره؛ لا يضمن. في «النوازل» قالوا: إذا كان الابن غير بالغ إنما لا يضمن بالرد عليه إذا كان يعقل الحفظ، ويحفظ الأشياء؛ أما إذا كان لا يحفظ، فهو ضامن.

إذا قال المستودع لصاحب الوديعة: بعثت بها إليك مع رسولي، وسمى بعض من في عياله؛ بأن قال: مع ابني، أو قال: مع عبدي وما أشبهه؛ كان القول قوله؛ لأن له أن يرد بيد هؤلاء، كما له الرد بنفسه، ولو ادعى الرد بنفسه كان القول قوله، فكذا إذا ادعى الرد بيد هؤلاء، ولو قال: رددتها بيد أجنبي ووصلت إليك، فأنكر ذلك صاحب المال، فهو ضامن إلا أن يقر به رب الوديعة، أو يقيم المودع بينة على ذلك؛ لأنه ليس له الرد بيد الأجنبي، فإذا ادعى ذلك، فقد أقر بسبب الضمان، فقوله: وصل إليك ادعاء يبرئه عن الضمان، فلا يصدق إلا بحجة، والحجة إقرار رب الوديعة، أو البينة، فإن قال: بعثت بها إليك مع هذا الأجنبي، أو قال: استودعتها إياه، ثم ردها عليَّ، فضاعت عندي لا يصدق على ذلك إلا بحجة؛ لأنه أقر بسبب الضمان وادعى ما يبرئه، هذه المسائل في «الأصل» . في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد: في رجل أودع رجلاً ألف درهم، فاشترى بها، ودفعها إليه، ثم استردها بهبة أو شراء وردها إلى موضعها برىء، فقد روى إبراهيم عن محمد إذا قضاها غريمه بأمر صاحب الوديعة، ثم وجدها زيوفاً فردها إليه، فهلكت ضمن حالاً، فقال: لأن له أن يستعملها في الذي يشارك كسائر أملاكه وههنا ليس له صرفها في منافعه، فهي عنده كالوديعة، فالتعليل على هذا الوجه مذكور في «الكتاب» يعني قوله في فصل القضاء من الوديعة صار مقرضاً الدراهم الوديعة منه، وصار المودع قابضاً دين نفسه، وصار مثل تلك الدراهم ديناً لصاحب الوديعة في ذمة المودع، فإذا ردت الدراهم على المودع، فقد عادت الدراهم إلى ملكه، فإذا هلكت؛ هلكت ضمن ماله؛ أما في فصل الشراء الدراهم لم تصر مملوكة للمودع، ووجب ردها بعينها؛ لأنها في حكم المغصوبة، فإذا ردها إلى مكانها فقد أتى بالمستحق عليه، فيبرأ عن الضمان. في «الأصل» : إذا كانت الوديعة دراهم، أو دنانير، أو شيئاً من المكيل، والموزون، فأنفق المودع طائفة منها في حاجة نفسه؛ كان ضامناً لما أنفق منها، ولم يصر ضامناً لما بقي منها، فإن جاء بمثل ما أنفق، وخلطه صار ضامناً لجميع ما أنفق بالإتلاف، وما بقي من الخلط قالوا: وهذا إذا لم يجعل على ماله علامة حين خلط بمال الوديعة، أما إذا جعل لا يضمن إلا ما أنفق، وإن كان قد أخذ بعض الوديعة لينفقه في حاجته، ثم بدا له، فرده في مكانه، فضاع، فلا ضمان عليه. واختلف (129ب2) المشايخ في تخريج المسألة؛ بعضهم قالوا: لا يضمن أصلاً، وقال بعضهم: ضمن، ثم برىء بالرد إلى مكانه، وهو الصحيح؛ وهذا لأن الدفع بنية الإنفاق أخذ لنفسه، وإن أخذ لنفسه بسبب الضمان؛ لأنه خلاف كما لو كان ثوباً فلبسه، أو كان دابة، فركبها. والدليل عليه: أن الدفع بنية البيع سبب الضمان حتى لو دفع ليبيع، وباع، وضمن القيمة نفذ البيع من جهته، وإنما ينفذ البيع إذا استند الملك إلى ما قبل البيع، وإنما لا يستند الملك إلى ما هو سبب الضمان.

الفصل الثامن فيما إذا كان صاحب الوديعة أو المستودع غير واحد

الفصل الثامن فيما إذا كان صاحب الوديعة أو المستودع غير واحد قال في «الأصل» : رجلان أودعا دراهم أو دنانير، أو ثياباً، أو دفاً أو عبيداً، فجاء أحدهما، وطلب حصته، والآخر غائب، قال أبو حنيفة رضي الله عنه: ليس للمودع أن يدفع إليه حصته، وقال أبو يوسف ومحمد: يدفع إليه حصته، ولا تكون قيمته جائزة على الغائب. وضع المسألة في الدفع في «الأصل» وفي «الجامع الصغير» : وضعها في الأخذ فقال: ليس للحاضر أن يأخذ حصته من المودع عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وعندهما له ذلك، فقد جمع في «الكتاب» من المكيل والموزون والعبيد والثياب، وأجاب عقيب الكل بجواب واحد، فقال: ليس للمودع أن يدفع إلى الحاضر حصته عند أبي حنيفة وعندهما يدفع، فمن مشايخنا من قال بأن الخلاف في الكل واحد. ألا ترى أن محمداً لم يفصل في «الكتاب» بين المكيل، والموزون، وغيرهما، ومنهم من قال: الخلاف في المكيل، والموزون خاصة، فأما في الثياب والعبيد فليس للمودع أن يدفع إلى الحاضر حصته بلا خلاف، وهو الأشبه بالصواب؛ وهذا لأنا نعتبر يد المودع بيد المودع، وغير المكيل، والموزون لو كان في يد المودعين، وغاب الآخر لا يكون للحاضر أن يأخذ نصيبه من ذلك بالإجماع، فكذلك إذا كان في يد المودع. في «المنتقى» : لو دفع المودع نصفها، ثم ملك ما بقي، وحضر الغائب؛ قال أبو يوسف: إن كان الدفع بقضاء، فلا ضمان على أحد بكون المسألة مجتهدة، وإن كان بغير قضاء فإن شاء الذي حضر أتبع الدافع بنصف ما دفع، ويرجع به الدافع على القابض، وإن شاء أخذ من القابض نصف ما قبض، ولو أراد أحد الرجلين أن يقيم البينة على المودع، أن الوديعة كلها له لا تسمع بينته، وكذا لو أراد أن يقيم البينة على إقرار صاحبه وقت الإيداع أن الوديعة كلها له؛ لا تسمع بينته، ولو أن المودع في هذه الصورة ادعى هلاك الوديعة، أو أخذ ظالم منه، فقال أحد المودعين: قد بقي في يدك شيء من الوديعة كان له أن يحلفه على ذلك بلا خلاف، فأبو حنيفة رضي الله عنه إن كان لا يرى استرداد الوديعة لأحدهما يرى حق الاستحلاف لأحدهما. في «فتاوى النسفي» : وإذا كانت الوديعة عند رجلين من ثياب أو غير ذلك، فاقتسماها، وجعل كل واحد منهما نصفها في بيته، فهلك أحد النصفين أو كلاهما فلا ضمان، وإن أودعاها عند رجل فهلكت ضمناها، والحكم في المستنصفين والوصيين، والعدلين في الرهن هكذا، وإن ترك أحدهما كل الوديعة عند صاحبه إن كان شيئاً لا يحتمل القسمة لا يضمنان، وإن كان شيئاً يحتمل القسمة أجمعوا على أن المدفوع إليه لا يضمن، فأما الدافع فقد اختلفوا فيه. قال أبو حنيفة رضي الله عنه: يضمن نصف الوديعة وما لا، لا يضمن شيئاً، وذكر

الفصل التاسع في الاختلاف الواقع في الوديعة، والشهادة فيها

شيخ الإسلام في شرح كتاب «الوديعة» بعد هذه المسألة بمسائل، فيما إذا كانت الوديعة شيئاً يحتمل القسمة إذا رضيا أن يكون المال عند أحدهما إلى أن يحضر صاحب المال جاز، ولم يذكر فيها خلافاً، وذكر أيضاً إذا كانت الوديعة شيئاً لا يحتمل القسمة، فإنهما يقسمان من حيث الرهان. في «المنتقى» : رجلان أودعا عند رجل ألف درهم، فقال أحدهما للمودع: ادفع إلى شريكي مائة درهم، فدفعها وضاعت البقية قال: ما أخذ فهو من مال الآخذ حتى لا يرجع عليه شريكه بشيء، وكذلك إذا قال: ادفع إليه مئتين أو ما أشبه ذلك ما لم ينته إلى النصف، ولو قال: ادفع إليه النصف، فهو من الكل؛ حتى لو ضاع الباقي رجع عليه شريكه بنصف ما أخذ، ولو قال: ادفع إليه حصته، فدفع، فهو من حصته حتى لو هلك الباقي لا يرجع عليه شريكه بشيء، أما إذا قال: ادفع إليه مائة، أو ما أشبهها؛ فلأن المائة اسم المفروز المعين فقد أمره بإعطاء شيء مفرز إلى صاحبه، والمفرز ليس حق صاحبه، فيضمن الآمر به أمراً بإفراز نصيب صاحبه، وصاحبه لما أخذه، فقد رضي بذلك الإفراز فتم الإفراز فصار قابضاً حقه من كل وجه، فأما النصف، فهو اسم للشائع؛ لا اسم المفرز، فقد أمره بإعطاء النصف من النصيبين بشرط أن يسلم له النصف الباقي، ولم يسلم لما ضاع الباقي، فكان له أن يرجع عليه بنصفه. وفيه أيضاً: رجلان بينهما ألف درهم وضعاها عند أحدهما، ثم قال أحدهما لصاحبه: خذ نصيبك منها، فأخذ، وضاع النصف الباقي، فالنصف الذي أخذ صاحبه يكون بينهما؛ قال: لأنه لا يكون مقاسماً لنفسه؛ قال: وإن كان ضاع النصف الذي أخذ سلم الباقي للشريك؛ قال: لأنه احتبس عند الأخذ مالية النصف على وجه لا يملك رده، فهو بمنزلة ما لو أكل النصف المأخوذ، وهناك يتعين النصف الباقي للشريك؛ كذا ههنا. الفصل التاسع في الاختلاف الواقع في الوديعة، والشهادة فيها في «المنتقى» بشر عن أبي يوسف: رجل ادعى قبل رجل وديعة، وجحده المودع، فأقام المدعي البينة على دعواه، وأقام المودع بينة على المدعي أنه قال: ما لي على فلان شيء، قال: إن كان مدعي الوديعة يدعي أن الوديعة قائمة بعينها عند المودع، فهذه البراءة لا تبطل حقه؛ لأنها ما دامت عنده، فليس له عليه إنما له عنده. وفيه أيضاً: رجل قال: لفلان عندي ألف درهم وديعة، ثم قال بعد ذلك: قد ضاعت قبل إقراري، فهو ضامن، ولو قال: كان له عندي ألف درهم وضاعت، فالقول قوله، ولا ضمان، ولو قال: له عندي ألف درهم وديعة، فقد ضاعت، ووصل الكلام صدقته استحساناً، وصار تقدير هذه المسألة كانت له عندي ألف درهم وضاعت، إذا قال المودع: ذهبت الوديعة، ولا أدري (130أ2) كيف ذهبت؛ كان القول قوله مع اليمين

فلا ضمان؛ لأنه لو اقتصر على قوله: ذهبت، كان القول قوله مع اليمين؛ لأنه أمين أخبر بما هو محتمل، فكذا إذا قال: ذهبت، ولا أدري كيف ذهبت؛ لأنه عسى ذهبت على وجه لا يعلم بنفسه بأن ذهب، وهو نائم أو غائب؛ قال شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب الوديعة، واختلف المتأخرون فيما إذا قال: ابتداءاً لا أدري كيف ذهبت فمنهم من قال هو ضامن؛ لأنه جهلها بما قال بخلاف ما إذا قال: ذهبت، ولا أدري كيف ذهبت؛ لأنه بقوله ذهبت يخبر بهلاكها وهذا القدر يكفيه، فلا يغيره بعد ذلك، ولا أدري كيف ذهبت، ومنهم من قال: لا يضمن، وهو الأصح؛ لأن أصل الذهاب معلوم من هذا اللفظ لا محالة، وإنما التجهيل في كيفية الذهاب والإخبار بأصل الذهاب يكفي في البراءة عن الضمان. في «النوازل» : إذا قال المودع: ذهبت الوديعة من منزلي، ولم تذهب من مالي هي قبل قوله مع اليمين؛ لأنه أمين أخبر بما يتصدق مع اليمين. إذا أقام رب الوديعة البينة على الإيداع بعدها جحد المودع، وأقام المودع بينة على الضياع، فهذه المسألة على وجهين: الأول: أن يجحد المودع الإيداع بأن يقول للمودع: لم يودعني، وفي هذا الوجه المودع ضامن وبينته على الضياع مردودة، سواء شهد الشهود على الضياع قبل الجحود، أو بعد الجحود، أما إذا شهدوا بالهلاك بعد الجحود؛ لأن بالجحود صار المودع ضامناً، وهلاك المضمون في يد الضامن بقدر الضمان لا أن يسقطه، فأما إذا شهدوا على الهلاك قبل الجحود، فإن البينة إنما تقبل بعد دعوى صحيحة، ودعوى الهلاك من المودع بعدما أنكر أصل الإيداع لا تصح لمكان التناقض. والوجه الثاني: أن لا يجحد الإيداع وإنما يجحد الوديعة بأن قال: ليس لك عندي وديعة، ثم أقام بينة على الضياع؛ إن أقام بينة على الضياع بعد الجحود، فهو ضامن؛ لأن بهذه البينة يثبت هلاك المضمون، وإن أقام بينة على الضياع قبل الجحود، فلا ضمان؛ لأن بهذه البينة يثبت هلاك الأمانة، وإن أقام البينة على الضياع مطلقاً، ولم يتعرضوا لما قبل الجحود، ولما بعد الجحود، فهو ضامن؛ لأنه يحتمل الهلاك بعد الجحود، وعلى هذا التقدير لا يسقط الضمان فلا يسقط الضمان بالشك. وفي «القدوري» : إذا قال المودع للقاضي: حلف المودع ما هلكت قبل جحودي؛ حلفه القاضي؛ لأنه يدعي عليه معنى لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول الذي هو إقرار، ويحلفه على العلم؛ لأن هذا تحليف على أمر وقع في يد الغير، فإذا قال المودع: قد أعطيتكها، ثم قال بعد أيام: لم أعطكها، ولكنها هلكت، فهو ضامن، ولا يصدقه فيما قال؛ إما لأنه لما قال: أعطيتكها فقد أقر أنه ليست عنده وديعة، فإذا قال بعد ذلك: هلكت عندي، فقد أقر أنه كانت عنده وديعة حين قال: ليست عندي، فثبت جحوده بالكلام الثاني، وإنه سبب ضمان؛ أو لأنه تكلم بكلامين، لا يمكن الجمع بينهما، فينتقض كل واحد منهما بصاحبه، فبقي ساكتاً ممتنعاً من الرد بعد الطلب، وإنه سبب

الضمان، وعلى هذا إذا ادعى الهلاك أولاً، ثم قال: أو قد رددتها عليك؛ لا يصدق، وهو ضامن لما ذكرنا من المعنى الثاني. وفي «المنتقى» : رجل أودع عند رجل وديعة، فقال المودع: ضاعت منذ عشرة أيام، وأقام صاحب الوديعة بينة أنها كانت في يده منذ يومين، فقال المودع: وجدتها، فضاعت قبل ذلك منه. رجل قال لغيره: قد استودعتني ألف درهم فضاعت، وقال ذلك الغير: كذبت ما استودعتك إنما غصبتها، أو قال: أخذتها بغير أمري، فلا ضمان عليه بخلاف ما إذا قال: أخذتها وديعة، وقال صاحب المال: لا بل أخذتها بغير أمري، فالقول قول صاحب المال، ومدعي الوديعة ضامن. والفرق: أن في المسألة الثانية أقر بسبب الضمان، وهو الأخذ؛ ثم ادعى ما يبرئه فلا يصدق في دعواه؛ كما لو قال لغيره: أكلت مالك بإذنك، وقال صاحب المال: لا بل أكلت بغير إذني، أما في المسألة الأولى ما أقر بالأخذ؛ لأن الإيداع بدون الأخذ متصور بأن يضع المال بين يديه، ويقول: احفظه، ولو قال صاحب المال: أقرضتكها، وقال ذلك: لا بل أخذتها وديعة، فالقول قول مدعي الوديعة؛ لأنهما اتفقا عل أن الأخذ كان بإذن المالك، والأخذ بإذن المالك لا يكون سبب ضمان إلا باعتبار عقد ضمان، فالمالك يدعي عقد الضمان، ومدعي الوديعة منكر ذلك؛ بخلاف المسألة الأولى؛ لأن هناك ما اتفقا أن الأخذ كان بإذن المالك. رجل له عند رجل ألف درهم وديعة، وله على المودع ألف درهم دين، فدفع المودع إليه ألف درهم، ثم اختلفا بعد ذلك بأيام، فقال رب المال: أخذت الوديعة والدين عليك على حاله، وقال المودع: لا بل أعطيتك القرض، وقد ضاعت الوديعة، فالقول قول المودع؛ لأنه لا عبرة لاختلافهما في الألف المردودة؛ لأنها وصلت إلى المالك أنى كانت، وإنما اختلافهما في الألف الهالكة فالمالك يدعي فيها الأخذ قرضاً، والمدعى عليه يدعي الأخذ وديعة، وفي هذا القول قول مدعي الوديعة لما مر. رجل أودع عند رجل وديعة فغاب رب الوديعة، ثم قدم، وطلب الوديعة، فقال المودع: أمرتني أن أنفقها على أهلك وولدك، وقد أنفقتها عليهم، ورب الوديعة يقول: لم آمرك بذلك، فالقول قول رب الوديعة والمودع ضامن؛ لأنه أقر بسبب الضمان، وادعى ما يبرئه، فلا يصدق في دعواه إلا بحجة. وهذه المسألة دليل على أن من كان له عند آخر ألف درهم وديعة، وعلى رب الوديعة دين ألف درهم، فدفع المودع الألف إلى صاحب الدين بغير أمر صاحب الوديعة أنه يضمن، وهذا أفضل؛ اختلف المشايخ فيه كان الحاكم الإمام أبو إسحاق.... يقول: لا يضمن، وغيره من المشايخ كانوا يقولون بالضمان، وهذه دليل على الضمان؛ لأن نفقة الأصل تصير ديناً بقضاء القاضي، وقد أوجب محمد رحمه الله الضمان على

الفصل العاشر في المتفرقات

المودع بلا تفصيل، إذا مات صاحب الوديعة، فالورثة خصماء المودع في دعوى الوديعة، ويجبر المودع على دفعها إلى الورثة. فرق بين هذا وبين العبد إذا أودع، وغاب لا يكون للمولى أن يأخذ حتى يحضر العبد؛ إلا إذا علم أن الوديعة من أملاك المولى أو من أكساب العبد، وإذا قال رب الوديعة: أودعتك عبداً أو أمة، قال المودع: ما أودعتني إلا أمة، وقد هلكت، فأقام رب الوديعة على ما ادعى بينة ضمن المستودع قيمة العبد، قال شيخ الإسلام: إنما يقبل القاضي شهادتهم (130ب2) ويقضي بقيمة العبد إذا وصفوا، ونعتوا للقاضي، والقاضي يعرف مقدار قيمة مثل ذلك العبد، وإن لم يعرف سأل المدعي حتى يقيم بينة على مقدار قيمة العبد، فأما إذا لم يصفوا العبد، وإنما شهدوا أنه أودعه عبداً، فالقاضي لا يقبل شهادتهم؛ لأنهم شهدوا لمجهول لا يمكن القضاء به، وعلى قياس ما ذكرنا في كتاب الغصب إن المدعي إذا أقام البينة أنه غصب منه جارية تقبل هذه البينة، ويثبت الغصب بها في حق الحبس؛ لا في حق القضاء بالجارية ينبغي أن تقبل هذه البينة، ويثبت الغصب في حق الحبس لا في حق القضاء بالعبد. وإذا ادعى المودع الرد أو الهلاك، وادعى المالك الاستهلاك، فالقول قول المودع، وإن أقاما البينة، فالبينة أيضاً بينة المودع كبينته. في «الجامع» : في باب من الاختلاف في المرابحة، ورأس المال؛ قال الصدر الشهيد رحمه الله: ويجوز أن لا تقبل البينة ههنا أصلاً، وسيظهر الفرق بين المسألتين بالتأمل إن شاء الله تعالى. الفصل العاشر في المتفرقات إذا هلكت الوديعة في يد المودع؛ يستوي فيه الهلاك بأمر يمكن الاحتراز عنه أولا يمكن التحرز؛ لأن الهلاك مما يمكن التحرز عنه يعني العيب في الحفظ وصفة السلامة عن العيب إنما يصير مستحقاً في المعاوضات دون التبرع، والمودع متبرع. إذا كانت الوديعة دراهم، فاختلط بدراهم المودع على وجه تيسر التمييز لا يصير المخلوط مشتركاً بينهما، فإن اختلطت على وجه تعذر التمييز صار المخلوط مشتركاً بينهما، وإن خلطهما بعض من في عيال المودع، وكان الخلط على وجه تعذر التمييز أو كان الخلط على وجه يتعسر التميز بأن خلط حنطة الوديعة بشعير المودع صار الخالط ضامناً، وحكم المخلوط ما في كتاب الغصب، فإن لم يظفر بالخالط، فقال أحدهما آخذ المخلوط، وأغرم لصاحبي مثل ما كان له، فرضي به صاحبه جاز؛ لأن صاحبه لما رضي صار بائعاً نصيبه منه، وهو قادر على تسليمه، فيجوز بخلاف ما لو باع من غيره، وإن اتفقا على البيع يباع المخلوط، ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمة الشعير والحنطة، إلا أن

صاحب الشعير يضرب بشعير غير مخلوط بالحنطة، وإن لم يتفقا على شيء، فالخيار لصاحب الكثير إن كان الشعير أكثر، فالخيار لصاحب الشعير يأخذ المخلوط، ويضمن لصاحب الحنطة قيمة حنطته مخلوطاً بالشعير، وإن كانت الحنطة أكثر، فالخيار لصاحب الحنطة. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف برواية ابن سماعة في رجل عنده ألف درهم وديعة لرجل فأقرضه إياها، أو قال: هي قضاء لما لك علي بأن كان للمودع على صاحب الألف ألف درهم، فلم يرجع إلى منزله ليقبضها حتى ضاعت، فهي من مال المودع، فلم يقبضها. أصل المسألة: أن قبض الوديعة لا ينوب عن قبض الضمان، والقبض بجهة القرض، وبجهة الاقتضاء قبضُ ضمان. استهلك الوديعة إنسان كان للمودع أن يخاصم المستهلك في القيمة؛ ذكره شمس الأئمة السرخسي في كتاب «الوكالة» : في باب الوكالة بقبض الوديعة والعارية: رجل أودع رجلاً صك ضيعة، والصك ليس للمودع، ثم جاء من كان الصك باسمه، وادعى ملك تلك الضيعة والشهود الذين بدلوا خطوطهم أبوا الشهادة حتى رأوا خطوطهم في الصك، فالقاضي يأمر المدعي المودَع حتى يرى الصك من الشهود ليروا خطوطهم، ولا يدفع الصك إلى المدعي، هكذا حكي عن الفقيه أبي جعفر الهنداوي، وعليه الفتوى. ذكر شيخ الإسلام في أول شرح الشفعة: رجل أجلس عبده في حانوته، وفي الحانوت ودائع، فسرقت الودائع، ثم وجد المولى بعضها في يد عبده، وقد أتلف البعض، فباع المولى الغلام، فهذا على وجهين: إما إن كان للمودع بينة على ذلك، أو لم يكن، فإن كان للمودع بينة على ذلك، فهو بالخيار؛ إن شاء أجاز البيع وأخذ الثمن، وإن شاء نقض البيع وباعه في دينه؛ لأنه ظهر أن المولى باع المديون، وإن لم يكن له بينة، فله أن يحلف مولاه على علمه، فإن حلف لم يثبت، وإن نكل فهذا على وجهين: إن أقر المشتري بذلك، أو أنكر؛ إن أقر بذلك فهذا وما لو ثبت بالبينة سواء، وإن أنكر ليس له أن ينقض البيع، ويأخذ الثمن من المولى؛ لأن الدين ظهر في حق المولى أمّا ما ظهر في حق المشتري. في «فتاوى أبي الليث» : استودع رجلاً ألف درهم، ثم غاب رب الوديعة، ولا يدري أحي هو أم ميت، فعليه أن يمسكها حتى يعلم موته، ولا يتصدق بها بخلاف اللقطة. إذا كانت الوديعة إبلاً أو بقراً أو غنماً، وصاحبها غائب، وأنفق عليها المودع بغير أمر القاضي، فهو متطوع؛ لأنه أنفق على دابة الغير بغير أمره، وبغير أمر من يلي عليه، وإن رفع الأمر إلى القاضي سأله البينة على كون العين وديعة عنده، وعلى كون المالك غائب، فإن أقام بينة على ذلك؛ إن كانت الوديعة شيئاً يمكن أن يؤاجر، وينفق عليه من غلتها؛ أمره القاضي بذلك، وإن كانت الوديعة شيئاً لا يمكن أن يؤاجر، فالقاضي يأمره بأن ينفق عليه من ماله يوماً أو يومين أو ثلاثة، رجاء أن يحضر المالك، ولا يأمره

بالإنفاق زيادة على ذلك، بل يأمره بالبيع، وإمساك الثمن. والحاصل: أن القاضي يفعل بالوديعة ما هو أصلح، وأنظر في حق صاحبها، وإن كان القاضي أمره بالبيع في أول الوصاية جاز، وما أنفق المودع على الوديعة بأمر القاضي، فهو دين على صاحبها يرجع عليه إذا حضر؛ غير أن في الدابة يرجع بقدر قيمة الدابة، وفي العبد يرجع بالزيادة على قيمته؛ لأن الإنفاق على العبد كان بحق العبد، وبحق المولى حفظاً للمالية عليه فلئن كان لا يرجع بالزيادة على القيمة بحق المولى؛ لأنه لا حفظ في حق الزيادة يرجع باعتبار حق العبد؛ لأن الأمر باعتبار حق العبد قد صح، ولهذا يجبر المولى على الإنفاق على العبد بحقه، فأما في الدابة الأمر بالإنفاق صح حفظاً للمالية على المولى؛ لا لحق الدابة. ألا ترى أن المولى لا يجبر على الإنفاق على الدابة، وفي الزيادة على القيمة لا حفظ، فلهذا لا يرجع بالزيادة، وإن لم يدفع الوديعة إلى القاضي حتى اجتمع من ألبانها شيء كثير له ثمن، وهو يخاف فساده، أو كانت الوديعة أرضاً فأخرجت ثمرة فخاف فسادها، فباع ذلك بغير أمر القاضي، فإن كان في المصر، أو في موضع يتوصل إلى القاضي قبل أن يفسد ذلك الشيء، فهو ضامن، وإن كان في موضع لا يتوصل إلى القاضي قبل أن يفسد ذلك الشيء، فهو ليس ضامن؛ لأن بيعه في الوجه الأول ليس يحفظ؛ بخلاف الوجه الثاني. (131أ2) ألا ترى أنه لو باع في المفازة ما يتسارع إليه الفساد من مال الغير يجوز بيعه ولا ضمان، وإن لم يكن مأموراً بالحفظ من جهته فلا يجوز بيعه ههنا، وقد أمر بالحفظ أولى، فإن كان في المصر، ولم يرفع الأمر إلى القاضي حتى يبيع، أو كان في المفازة، فلم يبع حتى فسد لا يضمن. في وديعة «فتاوى أبي الليث» في «العيون» : رجل استقرض من رجل خمسين درهماً، فأعطاه ستين، فأخذ العشرة ليردها، فهلكت في الطريق يضمن خمسة أسداس العشرة؛ لأن ذلك القسط قرض، والباقي وديعة. وفيه أيضاً: رجل استقرض من رجل عشرين درهماً، فأعطاه مئة، وقال: خذ منها عشرين قرضاً والباقي عندك وديعة ففعل؛ يعني أخذ العشرين منها، وصرفها إلى حاجته، ثم أعاد العشرين من المائة، ثم دفع إليه رب المال أربعين درهماً، وقال له: اخلطها بتلك الدراهم ففعل، ثم ضاعت الدراهم كلها؛ لا يضمن الأربعين ويضمن نفقتها، أما النفقة؛ فلأن العشرين قرض والقرض مضمون، وما جاء من العشرين ملك المستقرض، وقد خلطها بالوديعة، فصار مستهلكاً للوديعة، فأما الأربعون فقد خلطها بإذن صاحب المال. في غصب «فتاوى أبي الليث» : دفع إلى آخر عشرة دراهم، وقال: خمسة منها هبة لك، وخمسة وديعة عندك، واستهلك القابض منها خمسة، وهلكت الخمسة الباقية يضمن سبعة ونصف؛ لأن الهبة فاسدة؛ لأنها هبة المشاع، والمقبوض بحكم الفاسد مضمونة، فالخمسة التي هلكت نصفها أمانة، ونصفها مضمونة، فيجب ضمان نصفها، وذلك

درهمان ونصف، والخمسة التي استهلكها كلها صارت مضمونة بالاستهلاك، فيضمن سبعة دراهم ونصف لهذا، ولو قال: ثلاثة من هذه العشرة لك، والسبعة الباقية سلمها إلى فلان، فهلكت الدراهم في الطريق يضمن الثلاث؛ لأنها كانت هبة فاسدة، ولو كان ذلك وصية من الميت لم يضمن شيئاً؛ لأن وصية المشاع جائزة، ولا يضمن في المسألتين جميعاً. في «المنتقى» إبراهيم بن رستم عن محمد: رجل له على رجل مائة درهم، فدفع المطلوب إلى الطالب مائتي درهم، وقال: هذا مالك فخذها فأخذها فضاعت، والآخذ لا يعلم كم هي؛ قال أبو حنيفة: لا شيء عليه، وقال أبو يوسف ومحمد: عليه مائة درهم، فالكلام لأبي حنيفة ظاهر، وأما الكلام لهما: أن إحدى المائتين مقبوض بجهة اقتضاء الدين، والمقبوض بجهة الشيء يلحق بحقيقة ذلك الشيء؛ عرف ذلك في موضعه، والمقبوض بحقيقة الاقتضاء مضمون؛ لما عرف أن الديون تقضى بأمثالها، فكذا المقبوض بجهة اقتضاء الدين. وذكر بعد هذه المسائل مسائل هشام عن محمد: رجل له على رجل ألف درهم دين، أعطاه ألفين، وقال: ألف منها قضاء من حقك، وألف تكون وديعة، فقبضها، وضاعت، وقال: هو قابض حقه، ولا يضمن شيئاً؛ لأن في هذه الصورة القبض بجهة الاقتضاء حصل بقدر الألف لا غير. وفيه أيضاً: رجل له على رجل ألف درهم، فقال: ابعث بها مع فلان، فضاع من يد الرسول، فضاع من مال المديون، وهذا بناءاً على أن يد الرسول يد المديون؛ لأن اختيار الرسول إليه؛ لأن يبعث مال نفسه، ويقول رب الدين: ابعث بها على يد فلان؛ لا يلزمه البعث على يديه، فهو معنى قولنا: إن يد الرسول يد المديون، فلهذا كان الهلاك على المديون. في «فتاوى النسفي» : أمة أسرت شيئاً من مال اكتسبته في بيت المولى، وأودعته عند رجل، فهلكت في يده، فللمولى أن يضمن المودع؛ لأنها مال المولى أودعته بغير إذن المولى، فكان المودع مودع الغاصب، فيضمن، والله أعلم بالصواب. تم كتاب الوديعة بحمد الله تعالى.

كتاب العارية

كتاب العارية هذا الكتاب يشمل على عشر فصول: 1 * في بيان شرط جواز الإعارة، وبين نوعها وصفتها 2 * في الألفاظ التي تنعقد بها العارية 3 * في التصرفات التي يملكها المستعير في المستعار والتي لا يملك 4 * في خلاف المستعير 5 * في تضييع العارية ما يضمنه المستعير، وما لا يضمن 6 * في رد العارية 7 * في استرداد العارية، وما يمنع من استردادها 8 * في الاختلاف الواقع في هذا الباب، والشهادة فيه 9 * في المتفرقات

الفصل الأول في بيان شرط جواز الإعارة، وبيان نوعها وصفتها

الفصل الأول في بيان شرط جواز الإعارة، وبيان نوعها وصفتها أما بيان شرطها فنقول: شرط جواز الإعارة كون العين قابلة للانتفاع به مع بقاء العين، وكونه قابلاً لتمليك بمنافعه بعوض بعقد الإجارة حتى كان إعارة الدراهم والدنانير والفلوس قرضاً؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بهذه الأشياء مع بقاء العين، فيقدر العمل بحققة الإجارة في هذه الأشياء؛ لأن الإجارة شرعت لتمليك المنفعة مع بقاء العين على ملكه، فيجعل كناية عن عقد آخر، وأمكن جعله كناية عن القرض؛ لأن العارية متى تحققت كان من حكمها رد العين. والقرض يوجب أداء المثل قائماً مقام العين، وهذا إذا حصل إعارة الدراهم والدنانير مطلقة، أما إذا عين في الإعارة انتفاعاً يتأتى مع بقاء العين لا يكون قرضاً؛ بل يكون عارية، وذلك يجوز أن يعير من صيرفي دراهم ليحمل بها في حانوته وليصير بها ستمئة، ذكر هذه الزيادة شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب العارية، ويجب أن يكون الحكم في إعارة جميع ما يكال أو يوزن هكذا. وقال الفقيه أبو بكر فيمن قال لآخر: أعرتك هذه القصعة من الثريد، فأخذها، وأكلها، فعليه مثلها، أو قيمتها بناءً عل ما قلنا إن الإعارة ما لا يمكن الانتفاع مع بقاء العين قرض، قال الفقيه أبو الليث: الجواب هكذا إذا لم يكن بينهما مباسطة، أو دلالة الإباحة ونحوها. وفي «العيون» : من أخذ رقعة يرقع بها قميصه، أو خشبة يدخلها في بنائه، أو آجرة فهو ضامن؛ لأن هذا ليس بعارية؛ بل هو قرض؛ هذا إذا لم يقل: لأردها عليك؛ أما إذا قال: لأردها عليك فهو عارية، وتصح الإعارة من غير بيان الوقت والمكان، وما يحمل على الدابة؛ لأن جهالة هذه الأشياء في الإعارة لا تفضي إلى المنازعة المانعة من التسليم؛ لأنها لا توجب التسليم، وعند ذلك للمستعير أن ينتفع بالدابة من حيث الحمل والركوب؛ كما ينتفع بدابة نفسه في قليل المدة وكثيرها. وأما بيان نوعها فهي نوعان: مطلقة ومؤقتة؛ نحو أن يقول في الإعارة شهراً، أو يقول: إلى مكان كذا، أو يقول: يحمل عليها كذا، ففيما كانت مطلقة يجب إجراؤها على إطلاقها، أو فيما كانت مقيدة يجب رعاية القيد فيه. وأما بيان صفتها، فنقول: صفتها أنها غير لازمة، وللمعير أن يرجع فيها متى شاء؛ لأن الإعارة تبرع بالمنفعة، فلا تكون لازمة قبل قبضها؛ كالتبرع بالعين، وما لم يستوف من المنفعة في المستقبل لم يتصل بها القبض، ومن صفتها أنها ترتفع لمجرد النهي، ويبطل بموت أحدهما أيهما مات.

الفصل الثاني في الألفاظ التي تنعقد بها العارية

الفصل الثاني في الألفاظ التي تنعقد بها العارية تنعقد العارية بلفظ التمليك؛ حتى أن (131ب2) من قال لغيره: ملكتك منفعة داري هذه شهراً؛ جعلت لك سكنى داري هذه شهراً؛ كانت عارية، وكذلك إذا قال: داري لك سكنى كانت عارية؛ لأن قوله لك: يحتمل تمليك العين، وتمليك المنفعة، وقوله سكنى يكون تفسيراً لذلك المحتمل، وكذلك إذا قال: عمرتي سكنى كانت عارية لما قلنا، وإذا استعار من آخر أرضاً على أن يبني فيها ويسكنها ما بدا له، فإذا خرج فالبناء لصاحب الأرض، فهذا لا يكون إعارة؛ بل يكون إجارة فاسدة؛ وهذا لأن الإعارة تمليك المنافع بغير عوض، ولما شرط البناء لرب الأرض، فقد شرط العوض، وهذا هو معنى الإجارة، والعبرة للمعاني دون الألفاظ؛ ألا ترى أن من قال لغيره: وهبت لك هذه الدار بألف درهم بيعاً، واعتبر المعنى دون اللفظ؛ كذا ههنا. الفصل الثالث في التصرفات التي يملكها المستعير في المستعار والتي لا يملك ليس للمستعير أن يؤاجر المستعار من غيره، وإذا آجر صار ضامناً، وكان الأجر له، ويتصدق به في قول أبي حنيفة ومحمد، وله أن يعير من غيره؛ سواء كان شيئاً يتفاوت الناس في الانتفاع أو لا يتفاوت؛ إذا كانت الإعارة مطلقة، ولم يشترط على المستعير أن ينتفع بنفسه، فأما إذا شرط على المستعير أن ينتفع بنفسه، فله أن يعيرها فيما لا يتفاوت الناس في الانتفاع، وليس له أن يعير فيما يتفاوت الناس في الانتفاع به. هذا إذا استعار من آخر ثوباً ليلبسه المستعير بنفسه، أو دابة ليركبها المستعير بنفسه، فليس له أن يلبس غيره، وأن يركب غيره؛ لأنه شرط لبسه وركوبه، وهذا شرط مفيد في حق المالك؛ لأن الناس يتفاوتون في اللبس والركوب. ولو استعار داراً ليسكنها المستعير بنفسه؛ فله أن يسكنها غيره، وإن شرط سكنى المستعير؛ لأن هذا شرط غير مفيد؛ لأن الناس لا يتفاوتون في السكنى، ولو استعار ثوباً للبس ولم يسم اللابس، أو استعار دابة للركوب ولم يسم الراكب، فله أن يلبس ويركب غيره عملاً بإطلاق العقد، فإن ألبس غيره في هذه الصورة، أو أركب غيره، ثم ركب بنفسه أو لبس بنفسه، أو ركب بنفسه، ثم أركب غيره؛ ظاهر ما ذكر شمس الأئمة السرخسي، وشيخ الإسلام خواهر زاده، أنه لا يضمن. ونص فخر الإسلام علي البزدوي في شرح «الجامع الصغير» : أنه يضمن، وهل له أن يودع؟ اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضهم: ليس له أن يودع، وإليه أشار في كتاب الوديعة، فإنه قال ثمة: إذا رد المستعير الدابة على يدي أجنبي فضاعت ضمن، ولو ملك الإيداع لما ضمن.

الفصل الرابع في خلاف المستعير

وإليه أشار في «السير الكبير» أيضاً في باب من يرضخ له من الأولاد وغيره، وقال بعضهم: له أن يودع، وهو اختيار مشايخ العراق، وبه أخذ الفقيه أبو الليث، والشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل، والصدر الشهيد برهان الأئمة، وإليه أشار محمد في آخر عارية الأجناس هؤلاء قالوا: ما ذكر في كتاب الوديعة تأول، وتأويله أن الإعارة قد انقطعت فبقي المستعير مودعاً، والمودع لا يملك الإيداع بالاتفاق، ولكن هذا التأويل غير صحيح على ما هو موضوع المسألة في «السير الكبير» فينظر ثمة ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الديات في باب قبل باب..... للمستعير أن يربط الدابة في الدار المستعار؛ لأن ذلك من جملة السكنى، فهلكة المستعير كالمستأجر، ذكر الصدر الشهيد في الباب الأول من «واقعاته» : أن من أعار رجلاً شيئاً، وقال له: لا تدفع إلى غيرك، فدفع فهلك عنده فهو ضامن؛ لأنه دفع بغير إذنه، هكذا قاله أبو جعفر، قال الصدر الشهيد: مراده من هذه المسألة مال لا يختلف الناس في الانتفاع به، أما المال الذي يختلف الناس في الانتفاع يضمن بالدفع إلى غيره، وإن لم يقل له المالك لا تدفع إلى غيرك، وما ذكر الصدر الشهيد مستقيم فيما إذا كانت العارية مقيدة بشرط على المستعير أن ينتفع به بنفسه، أما إذا كانت الإعارة مطلقة لا يضمن المستعير بالدفع إلى غيره إذا لم يقل له المالك لا تدفع إلى غيرك، وإن كان مالاً يختلف الناس في الانتفاع به، وقد ذكرنا ذلك في أول الفصل. الفصل الرابع في خلاف المستعير استعار من آخر دابة ليحمل عليها شيئاً، فحمل عليها غير ذلك، فهذه المسألة على أربعة أوجه: الأول: أن يحمل عليها غير ما سماه المالك، إلا أنه مثل ما سماه المالك في الضرر على الدابة من جنسه؛ بأن استعار ليحمل عشرة مخاتم من هذه الحنطة فحمل عليها عشرة مخاتم من حنطة أخرى، أو ليحمل عليها حنطة نفسه، فحمل عليها حنطة غيره، وفي هذا الوجه لا ضمان عليه؛ لأن هذا التقييد لم يعتبر إذ لا فائدة فيه. الثاني: إذا خالف في الجنس بأن استعار ليحمل عليها عشرة أقفزة حنطة، فحمل عليها عشرة أقفزة شعير فهلكت لا ضمان عليه استحساناً؛ لأن هذا أقل ضرراً بالدابة، فأما إذا حمل عليها أكثر من عشرة مخاتم من الشعير؛ إلا أنه في الوزن مثل الحنطة؛ ذكر شمس الأئمة السرخسي أنه يضمن مطلقاً، وذكر الشيخ الإمام الزاهد شيخ الإسلام: أنه لا يضمن استحساناً، وهو الأصح؛ لأن ضرر الشعير مثل ضرر الحنطة في حق الدابة عند

استوائهما وزناً؛ لأنه يأخذ من موضع الحمل من الدابة أكثر مما تأخذه الحنطة، فصار ذلك داخلاً في الإذن. الثالث: إذا خالف إلى ما هو أضر بالدابة؛ بأن استعارها ليحمل عليها حنطة، فحمل عليها آجراً أو حديداً أو لبناً مثل وزن الحنطة فهو ضامن؛ لأن هذا يأخذ من ظهر الدابة أقل، فكان أدق على الدابة، فيكون أضر بالدابة، وكذا إذا حمل عليها في هذه الصورة قطناً أو تبناً أو حطباً أو تمراً؛ لأن هذا يأخذ ما وراء موضع الحمل، وذلك أضعف فيكون أضر بالدابة. الرابع: أن يخالف في أن استعارها ليحمل عليها عشرة مخاتم حنطة، فحمل عليها خمسة عشر مختوماً، فهلكت الدابة، وفي هذا الوجه يضمن ثلث قيمتها، وهذا بخلاف ما إذا استعار ثوراً ليطحن به عشرة مخاتم حنطة، فطحن أحد عشر حيث يضمن جميع قيمة الدابة. وموضع الفرق: أول كتاب العارية من شرح شمس الأئمة السرخسي، وهذا إذا كانت الدابة تطيق حمل خمسة عشر مختوماً، فإن كانت لا تطيق يصير متلفاً لها، فيضمن جميع قيمة الدابة، أخذ المستعير في مكان آخر ضمن، وإن كانا في المسيل مثل الطريق المشروط؛ لأن الطرق متفاوتة في السهولة والصعوبة، في الخشونة واللين، فكان خلافاً إلى شر. استعار دابة ليركبها هو، فحمل مع نفسه (132أ2) رجلاً وهلكت الدابة؛ ضمن النصف، ولا يعتبر الثقل، والخفة كما يعتبر في حق الأحمال؛ قالوا: وهذا إذا كانت الدابة تطيق حمل رجلين، فأما إذا كانت لا تطيق حمل رجلين؛ ضمن الكل. إذا استعار الدابة من آخر ليركبها إلى مكان معلوم، وأخذ بها في طريق آخر، فعطبت؛ هل يضمن؟ فهذا على وجهين: إن ذهب بها إلى ذلك المكان في طريق لا يسلكه الناس، فهو ضامن، وإن كان طريقاً مسلوكاً لا يضمن؛ وذلك لأنه لما استعارها للذهاب إلى المكان المسمى، ولا يمكنه الذهاب إليه إلا بطريق؛ لأنه من إدخال الطريق تحت الإذن، فأدخلنا تحت الإذن الطريق المسلوك باعتبار العرف، والعادة لا غير المسلوك، وإذا أدخل تحته المسلوك صار كأنه نص على ذلك، فقال: اذهب إلى مكان كذا في طريق يسلكه الناس، ولو نص على هذا إذا ذهب بها في طريق لا يسلكه الناس، يصير ضامناً، فإذا ذهب بها في طريق يسلكه الناس لا يضمن، فكذا هذا. وفي «فتاوى» شمس الإسلام محمود الأوزجندي: إذا سلك طريقاً ليس هو طريق الجادة، وهو الذي يقال بالفارسية: يريبه يضمن. استعار دابة ليركبها في حاجة مسماة إلى ناحية من نواحي الكوفة، فأخرجها إلى الفرات ليسقيها، والناحية التي استعارها إليه من غير ذلك المكان، فهلكت، فهو ضامن لها؛ لأنه أخرجها في ناحية لم يؤذن له في الإخراج إليها أصلاً من غير ضرورة؛ لأنه يمكنه سقيها بالإخراج في الناحية التي أذن له بالركوب فيها، فيصير متعدياً ضامناً.

الفصل الخامس في تضييع العارية ما يضمنه المستعير، وما لا يضمن

استعار من آخر ثوراً ليكرب أرضه، وعين الأرض، فكرب أرضاً أخرى غير تلك الأرض، وعطب الثور، فهو ضامن؛ لأنه خالف شرطاً مفيداً؛ لأن الأراضي يتفاوت كرابها من حيث الصعوبة، والسهولة تفاوتاً فاحشاً، وإذا استعار دابة إلى مكان مسمى، فجاوز المستعير ذلك المكان، ثم عاد إليه، فهو ضامن لها حتى يردها على المالك قبل هذا إذا استعارها إلى ذلك المكان ذاهباً لا جائياً، فأما إذا استعارها ذاهباً وجائياً، فإذا أتى ذلك المكان المسمى يبرأ عن الضمان؛ وهذا لأنه إذا استعار ذاهباً لا جائياً، فإذا بلغ ذلك المكان انتهى العقد، فإذا جاوزه دخل العين في ضمانه، فإذا عاد إليه فقد عاد إلى الوفاق. ألا ترى أن المودع إذا خالف، ثم عاد إلى الوفاق، والعقد منتهٍ بأن كان مؤقتاً لا يبرأ عن الضمان إلا بالرد على المالك، فكذا هذا، فأما إذا استعار ذاهباً وجائياً، فإذا عاد إلى ذلك المكان، فقد عاد إلى الوفاق، فالعقد باق، فيبرأ عن الضمان؛ كالمودع إذا عاد إلى الوفاق والعقد باق، فهذا القائل يسوي بين المودع وبين المستعير، وبين المستأجر إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق، ويقول ببراءة الكل عن الضمان. ومن المشايخ من قال في مسألة العارية: لا يبرأ عن الضمان ما لم يردها على أن المالك سواء استعارها ذاهباً وجائياً، أو ذاهباً لا جائياً، وهذا القائل يقول بأن المستعير والمستأجر إذا خالفا، ثم عادا إلى الوفاق لا يبرأان عن الضمان بخلاف المودع إذا خالف، ثم عاد إلى الوفاق، والقول الأول أشبه، والتفصيل الذي ذكرنا في مسألة العارية مذكور في الشروط و «النوادر» ، وإليه أشار محمد في عارية «الأصل» ، وبه أخذ الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله. الفصل الخامس في تضييع العارية ما يضمنه المستعير، وما لا يضمن إذا كان على دابة بإجارة أو عارية، فنزل عنها في السكة، ودخل المسجد ليصلي، فخلى عنها فهلكت، قال: هو ضامن لها، وكذلك إذا أدخل الحمل بيته، وخلى عنها في السكة فهلكت، فهو ضامن لها، من مشايخنا من قال: هذا إذا لم يربطها بشيء، أما إذا ربطها لا يضمن؛ لأنه متعارف، ومنهم من قال: يضمن على كل حال، وإطلاق محمد يدل عليه، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب العارية؛ وهذا لأنه لما دخل المسجد أو البيت، وتركها خارج المسجد أو البيت، ألا ترى أنه لو سرق سارق في هذه الحالة لا يقطع. قال محمد في «الكتاب» : ولو كان يصلي في صحراء، فنزل عن الدابة وأمسكها فانفلتت منه، فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يترك حفظها، فهذه المسألة دليل على أن المعتبر

أن لا يغيبها عن بصره. وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد: استعار دابة، أو استأجرها إلى المقابر يشيع جنازة فركبها ثم رجع، فدفع بها إلى إنسان ليصلي، فسرقت، فلا ضمان على المستعير ولا على المستأجر، وصار الحفظ بنفسه في هذا الوقت مستثنى عن العقد. وفي «فتاوى الفضلي» : عن محمد فيمن استعار دابة فحضرت الصلاة، فدفعها إلى غيره ليمسكها فضاعت، قال: إن كان شرط في العارية ركوب نفسه ضمن، وإلا فلا يضمن؛ لأن في الأول لا يملك الإعارة، وفي الثاني يملك، ومن ملك الإعارة يملك الإيداع. وفيه أيضاً: رجل استعار ذهباً، فقلد صبياً، فسرق، فهذا على وجهين؛ إما إن كان الصبي يضبط ما عليه، أو لا، ففي الأول: لا يضمن؛ لأنه لم يضيع، وفي الوجه الثاني: يضمن؛ لأنه لم يضيع. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : امرأة استعارت من امرأة سراويل لتلبسه، وهي تمشي، فزلقت رجلها، فتخرق السراويل؛ لا ضمان عليها؛ لأنه لا صنع لها فيه. وفيه أيضاً: رجل استعار ثوراً من رجل على أن يعيره ثوره يوماً، ثم جاء ليستعير ثوره وكان الرجل غائباً، فاستعار من امرأته، فدفعت إليه، فذهب به إلى الأرض فضاع ضمن؛ لأنه قبض بغير إذن المالك. وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل استعار من رجل بقراً، فاستعمله، ثم تركه في المرج، فضاع، فهذا على وجهين: إما إن علم أن المعير يرضى بكونه فيها يرعى وحده كما هو عادة بعض أهل الرساتيق، أو لم يعلم ذلك عنه؛ بأن كانت العادة مشتركة، ففي الوجه الأول لا يضمن؛ لأنه تركه في المرج بإذنه، وفي الوجه الثاني يضمن؛ لأنه تركه بغير إذنه. وفيه أيضاً: رجل طلب من رجل ثوراً عارية، فقال له المعير: أعطيك غداً، فلما كان الغد أخذ المستعير الثور بغير إذنه، واستعمله، ومات في يد المستعير؛ ضمن؛ لأنه أخذ بغير إذنه، ولو رده فمات عنده لا ضمان عليه؛ لأنه بالرد برىء عن ضمانه، وفي «مجموع النوازل» : إنه لا ضمان على المستعير، وإن مات في يده قبل الرد على المالك. دخل الحمام واستعمل القصاع، فوقعت من يده وانكسرت، فلا ضمان، وكذا إذا أخذ كوز الفقاع، فسقط وانكسر فلا ضمان؛ لأنه عارية في يده، ولم يوجد منه التعدي. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : امرأة أعارت شيئاً بغير إذن الزوج؛ إن أعارت من متاع البيت مما يكون (132ب2) في أيديهن عادة فضاع فلا ضمان؛ لأنها أعارت بإذن الزوج. وفي «الأصل» : إذا كانت العارية مؤقتة بوقت، فأمسكها بعد الوقت، فهو ضامن لها، ومن مشايخنا من قال: هذا إذا انتفع به بعد مضي المدة، فأما إذا لم ينتفع به فلا ضمان، ومنهم من قال: يضمن على كل حال. وفرق هذا القائل بين العارية، وبين الوديعة، فإن الوديعة إذا كانت مؤقتة بوقت،

فأمسكها المودع بعد مضي الوقت، وهلكت في يده لا يضمن ما لم ينتفع به، وكذلك المستأجر إذا أمسك المستأجر بعد مضي المدة لا يضمن ما لم ينتفع به، والفرق: أن الرد على المستعير، فكأنه قال له صاحب العارية: ردها علي بعد مضي اليوم، فإذا لم يرد صار مانعاً العارية بعد الطلب، فيصير ضامناً؛ بخلاف المودع والمستأجر، ويستوي فيه أن تكون العارية مؤقتة نصاً أو دلالة، حتى قيل: إن من استعار من آخر قدوماً ليكسر به حطباً، فكسر الحطب، وأمسكه حتى هلكت؛ ضمن. إذا ربط المستعير الحمار على الشجر بالحبل الذي عليه، فوقع الحبل في عنقه، ومات؛ لا يضمن المستعير. هكذا حكى فتوى شمس الإسلام محمود الأوزجندي: رجل استعار من رجل دابة، فنام المستعير في المفازة، ومقودها في يده، فجاء إنسان وقطع المقود وذهب بالدابة؛ لا ضمان عليه، ولو مد المقود من يده وأخذ الدابة، وهو لم يشعر بذلك ضمن؛ لأن في الوجه الأول: غير مضيع، وفي الوجه الثاني: مضيع؛ إذا نام بصفة أمكن مد المقود من يده هكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : ويجب أن يكون تأويله إذا نام مضطجعاً؛ أما إذا نام جالساً لا؛ لأنه لو نام جالساً، والمقود ليس في يده لا يعد مضيعاً، فإنه نص أن المودع إذا نام جالساً، فسرقت الوديعة؛ لا ضمان عليه، والمودع والمستعير في هذا الأمر سواء؛ نص على التسوية شمس الأئمة السرخسي في كتاب وديعة السرقة. قالوا: فإنما يجب الضمان بالنوم مضطجعاً إذا كان في الحضر؛ أما إذا كان في السفر، فلا، وعلى هذا إذا وضع المستعار بين يديه، ونام قاعداً؛ لا ضمان عليه، وإن نام مضطجعاً يضمن؛ إذا كان في الحضر. وقد وقعت في زماننا: أن رجلاً استعار مراً ليسقي به أرضه، ففتح النهر ووضع المر تحت رأسه، ونام مضطجعاً كما هو عادة أهل الرستاق، فسرق منه، فأفتوا أنه لا يضمن، ولو وضع المستعار تحت رأسه، أو تحت جنبه، ونام عليه مضطجعاً؛ لا يجب الضمان. في «الأصل» : جاء رجل إلى المستعير، وقال: إني استعرت من فلان هذا الذي هو عارية عندك من جهته، وأمرني أن أقبضه منك، فصدقه المستعير، ودفعه إليه، فضاعت الوديعة في يده، ثم جاء المالك، وأنكر أن يكون أمره بذلك، فالقول قول المالك، والمستعير ضامن؛ لأنه دفع مال المالك إلى غيره، وإنه سبب الضمان يوجبه الأصل، إلا إذا كان بإذن المالك، ولم يثبت الإذن ههنا لما أنكر المالك ذلك. فإن قيل: لماذا لا يجعل هذا إعارة من المستعير الأول من غيره حتى لا يجب عليه الضمان. قلنا: إذا أعار المستعير من غيره إنما لا يضمن؛ لأنه يقيم يده مقام يد نفسه، وههنا تسليمه إلى الثاني لم يكن بهذا الطريق. ألا ترى أن ثمة لو أراد المستعير استرداده من يد الثاني له ذلك، وفي الفصل

الثاني: لو أراد المستعير استرداده من يد الثاني ليس له ذلك، وإذا طلب المعير العارية فمنعها المستعير عنه، فهو ضامن وهذا ظاهر، وإن لم يمنعه منه، ولكن قال لصاحبه: دعه عندي إلى غدٍ ثم أرد عليك فرضي بذلك، ثم ضاع لا ضمان عليه؛ لأنه أعاره مرة أخرى؛ هكذا ذكر المسألة في «الأصل» ، وذكر في «فتاوى أبي الليث» هذه المسألة في صورة أخرى، فقال: إذا قال المستعير: نعم أدفع، وفرط في الدفع حتى مضى شهر، ثم سرق من المستعير؛ جعلها على وجهين: الأول: أن يكون المستعير عاجزاً عن الرد وقت الطلب، وفي هذا الوجه لا ضمان. والوجه الثاني: أن يكون المستعير قادراً على الرد وقت الطلب، وإنه على وجوه ثلاثة؛ إما إن نص المعير على السخط، أو لم ينص على السخط، والرضا، وفي هذين الوجهين يجب الضمان، وإما إن نص على الرضا وقال: لا بأس به، وفي هذا الوجه لا ضمان، ويكون هذا منه ابتداءاً إعارة، وإذا أرسل الرجل رسولاً إلى غيره، وهما ببخارى استعير له دابة منه إلى بيوت سكنه، فذهب الرسول إلى صاحب الدابة، وقال: إن فلاناً يقول: أعرني دابتك إلى سمرقند، فدفعها إليه، فجاء الرسول بالدابة إلى المستعير، ودفعها إليه؛ ثم بدا للمستعير أن يركبها إلى سمرقند، وهو لا يشعر بما كان من قول الرسول، فركبها، وهلكت الدابة تحته، فلا ضمان؛ لأنه ركبها إلى سمرقند بإذن المالك. فإن قيل: المستعير لم يحضر يسمع إذن المالك بالركوب إلى سمرقند، والإذن السماع لا يصح. قلنا: لا بل سمع اعتباراً حيث سمع رسوله، ولو ركبها إلى....... وباقي المسألة بحالها، فهو ضامن؛ لأنه ركبها بغير إذن المعير. رجل استعار من رجل ثوراً يساوي خمسين درهماً، فقرنه مع ثور يساوي مائة، فعطب ثور العارية، فهذا على وجهين: إن كان الناس يفعلون مثل ذلك عادة يعني يقرنون ثوراً يساوي خمسين بثور يساوي مائة، فلا ضمان لوجود الإذن به دلالة عرفاً، وإن كانوا لا يفعلون مثل ذلك، فهو ضامن في «فتاوى أبي الليث» . وفيه أيضاً: رجلان يسكنان في بيت واحد؛ كل واحد منهما زاوية فاستعار واحد منهما من صاحبه شيئاً، فطالبه المعير بالرد، فقال المستعير: وجدتها في الطاق الذي في زاويتك، وأنكر المعير، فإن كان البيت في أيديهما لا ضمان عليه؛ لأنه إن لم يثبت الرد لكن لم يصر المستعير مضيعاً بالوضع في الطاق، فلا يضمن. سئل أبو بكر رضي الله عنه: عن معير الكتاب طلب رد الكتاب عليه، وأنعم له فذهب ثم أخبره بالضياع، قال: إن كان المستعير يرجو وجوده ولم ييأس عنه لم يضمن، وإن كان آيساً عن وجوده، ووعده في رده ثم أخبره أنه كان ضائعاً، فعليه الضمان، وهذا

التفصيل خلاف ما ذكر محمد، فقد ذكر أنه إذا وعد له الرد ثم أخبره بالضياع قبل ذلك، فلا ضمان. وفيه أيضاً: بعث الرجل أجيره إلى رجل ليستعير منه دابته، فأعارها وعليها عنانه فسقطت العنان إن سقطت العنان بعنف الأجير، فهو ضامن، وإلا فلا ضمان. وفيه أيضاً: استعار من آخر ثوباً.... ويقال بالفارسية: «خواره» ، فضاع السير من ... ، فلا ضمان على المستعير إذا لم يترك حفظه. وفيه أيضاً: سئل نصير عمن استعار حماراً إلى الطاحونة، فأدخله في المربط الذي هناك، ووضع على الباب خشباً كيلا يخرج الحمار، فسرق، قال: إن استوثق وثيقه لا يقدر الحمار على الذهاب، فلا ضمان؛ لأنه غير مضيع. وفي «الجامع الأصغر» : امرأة استعارت ملاءة (133أ2) فوضعتها داخل الدار، والباب مفتوح، فصعدت السطح، فلما نزلت لم تجد المرأة الملاءة؛ قيل: لا ضمان عليها، وقيل: هي ضامنة. العبد المحجور إذا استعار من آخر شيئاً واستهلكه، فهذا على الخلاف المعروف فيما إذا كان مودعاً واستهلكه، عبد محجور عليه أعار عبداً محجوراً عليه شيئاً، فاستهلكه المستعير منه (و) استحق المستعار رجل فله الخيار؛ إن شاء يضمن أيهما شاء؛ لأن الأول غاصب، والثاني غاصب الغاصب، فإن ضمن الثاني لا يرجع على الأول؛ لأنه ضمن بسبب القبض، وفي القبض عامل لنفسه. ألا ترى أنه لو كان الثاني حراً لا يرجع على أحد بشيء، وإن ضمن الأول فلمولاه أن يرجع بما ضمن على الثاني بخلاف الحر؛ وذلك لأن الحر بالضمان يملك المستعار؛ حيث إنه أعار ملك نفسه، والعبد إذا ضمن، فالملك يثبت لمولاه، فيصير الأول معيراً ملك مولاه، والعبد إذا أعار ملك مولاه، وهلك في يد المستعير؛ كان للمولى أن يضمن المستعير. وفي «مجموع النوازل» : رجل باع من رجل حصيراً، وأعاره حماره حتى يحمله عليه، وقال له عذاره، ومشية لا يحل عينه فقال: أفعل؛ فلما سار ساعة خلى عن عذاره، وأسرع في المشي فسقط، فانكسر، فعليه ضمان الحمار. وفيه أيضاً: إذا استقرض القروي ثوراً فأعار عليه الأتراك فلا ضمان على المستقرض قال: لأن هذا عارية، فإن من عادة أهل القرى أنهم يستقرضون الثور؛ بعضهم من بعض يوماً أو ما أشبه ذلك، وينتفعون به؛ ثم يردونها، ويدفعون ثور أنفسهم بعد ذلك إلى صاحب الثور لينتفع هو بالثور الثاني حسب انتفاع الأول بالثور الأول؛ ثم يرده على صاحبه، فهذا في معنى العارية فيها. وقول محمد في «الكتاب» : إن استقراض الحيوان يوجب الضمان فذلك فيما دفع

الفصل السادس في رد العارية

إليه حيواناً استهلكه وينتفع به، ثم يدفع إليه حيواناً آخر مكانه، فيأخذه المستقرض للتملك دون الانتفاع، ورد عينه بعد ذلك. الفصل السادس في رد العارية قال محمد في «الأصل» : إذا رد المستعير الدابة مع عبده أو بعض من في عياله، فلا ضمان عليه؛ كما في الوديعة، وهذا هو العرف في الظاهر فيما بين الناس أن المستعير بعدما فرغ من الانتفاع يرد العارية على يدي غلامه أو بعض من في عياله، وإن ردها على عبد صاحب الدابة عبد القوم عليها، وتعاهدها يبرأ عن الضمان، وأراد به ضمان الرد لا ضمان العين؛ لأن ضمان العين لم يجب بعد؛ أما ضمان الرد واجب، فانصرفت البراءة إلى ما كان مضموناً عليه، ولو هلكت الدابة بعد ذلك في يد العبد لا يضمن ضمان العين؛ قال شمس الأئمة السرخسي: وهذا استحسان. والقياس: أن يضمن كما لو رد الوديعة على يدي من في عيال صاحب الوديعة، والفرق على جواب الاستحسان العرف، فإن الظاهر فيما بين الناس أن سائس الدابة هو الذي يسلم الدابة إلى المستعير عند الإعارة، وهو الذي يسترد منه عند الفراغ عن الحاجة، ومثل هذا العرف لا يوجد في الوديعة، فإن صاحب الوديعة يتولى: أخذها، وإنما أودعها؛ لأنه لم يرضَ بكونها في يدي من في عياله؛ قال شيخ الإسلام: وعلى قياس ما ذكر في العارية يجب أن يقال بأن الغاصب إذا رد المغصوب على عبد المغصوب منه عبداً يقوم على الدابة أنه يبرأ عن الضمان، فأما إذا رد المستعير الدابة على عبد لا يقوم عليها، ولا يحفظها؛ هل يبرأ عن ضمان الرد؛ ذكر شيخ الإسلام وقال: يجب أن لا يبرأ كما في الغاصب إذا رد الدابة المغصوبة على عبد لا يقوم عليها، فإنه لا يبرأ عن ضمانها، وهل يضمن ضمان العين إذا ضاع في يده لم يذكر محمد هذه المسألة ههنا صريحاً، وذكر شمس الأئمة السرخسي ما يدل على أنه يضمن. فإنه قال في المستعار: لو كان عقد لؤلؤة، فردها على عبد يقوم على الدواب فهو ضامن ما لم تصل إلى المالك. وهكذا ذكر في «المنتقى» أيضاً: فإنه قال: إذا كانت العارية عقد لؤلؤة فردها على عبدٍ لا يقبض مثله مثلها إنه يضمن، وذكر شيخ الإسلام: أن هذه المسألة تكون على القياس والاستحسان؛ القياس: أن يضمن، وفي الاستحسان: لا يضمن؛ كما لو ردها إلى منزله أو ربطها، وضاع ثمة يضمن قياساً ولا يضمن استحساناً؛ لأن المنزل في يد المولى حكماً، فالرد إلى منزله أو الربط يكون رداً على المالك حكماً، فكذا العبد الذي لا يقوم على الدابة في يد المولى حكماً، فكان الرد عليه كالرد على المولى. وأشار محمد رحمه الله بعد هذه المسألة بمسائل إلى أنه لا يضمن قياساً

الفصل السابع في استرداد العارية، وما يمنع من استردادها

واستحساناً، فقد قال: إذا رد المستعير الدابة، فلم يجد صاحبها ولا خادمه، فربطها في دار صاحبها على معلفها فضاعت؛ لا يضمن استحساناً، فقد شرط الاستحسان عدم صاحبها وخادمه مطلقاً من غير فصل بين خادم يقوم عليها، أو لا يقوم عليها، فهذا إشارة إلى أنه إذا ردها إلى عبد لا يقوم عليها إنه لا يضمن قياساً واستحساناً؛ هذا هو الكلام في العارية. وأما الكلام في الوديعة، فقد ذكرنا في كتاب الوديعة: أن المودع إذا رد الوديعة على عبد صاحبها أنه ضامن من غير فصل، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب العارية: أن الجواب في الوديعة كالجواب في العارية، وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب العارية: أن المودع ضامن على كل حال؛ كما ذكرنا في كتاب الوديعة، وهكذ ذكر القدوري في «شرحه» ، والفقيه أبو الليث في «فتاويه» . الفصل السابع في استرداد العارية، وما يمنع من استردادها ذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» عن محمد؛ فيمن استعار من آخر أرضاً ليزرعها، فأعارها إياه، وأذن له في ذلك إلى أن أدرك زرعه فزرعها ثم أراد صاحبها أن يأخذها قبل أن تستحصد، فالمزارع بالخيار؛ إن شاء قلع الزرع، وإن شاء كانت الأرض عليه بأجر مثلها إلى أن يستحصد الزرع؛ وهذا لأن المزارع محق في الزراعة؛ لأنه زرع بإذن رب الأرض، فيجب مراعاة حقه في الزرع؛ كما يجب مراعاة حق رب الأرض في الأرض، وذلك بترك الأرض في يد صاحب الزرع إلى وقت إدراك الزرع بالإجارة أو أن صاحب الزرع قلع الزرع؛ لأنه فيه قطع حق صاحب الأرض عن منفعة الأرض مدة معلومة بعوض مع مراعاة حق المزارع في الزرع من كل وجه، وذكر محمد هذه المسألة في «المبسوط» ، وذكر فيها القياس والاستحسان. القياس: أن يكون لصاحب الأرض أن يخرج الأرض من يد المستعير؛ سواء كانت العارية مطلقة أو مؤقتة، وفي الاستحسان: أن لا يخرج الأرض من يده. وذكر في «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف فيمن زرع أرض غيره لنفسه بإذن صاحب الأرض، ثم أراد رب (133ب2) الأرض أن يخرج الأرض من يده بعدما زرعها ليس له ذلك حتى يستحصد الزرع؛ لأن التغرير بالمؤمن حرام، فإذا استحصد الزرع ذكر في بعض روايات «المبسوط» أن صاحب الأرض يأخذ الأرض مع الأجر، ولم يذكر هذا في بعض الروايات وكان الفقيه أبو إسحاق الحافظ يقول: إنما يجب الأجر لصاحب الأرض إذا أجر الأرض منه صاحب الأرض أو القاضي، فأما بدون ذلك لايجب الأجر؛ لأن المنافع لا تتقوم إلا بالعقد. وعبارة «المنتقى» وإن شاء المزارع كانت الأرض عليه بأجر مثلها، ولم يشترط إجارة رب الأرض، والقاضي.

وعبارة شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : إنه يترك الأرض في يد المزارع بأجر المثل من غير اشتراط إجارة رب الأرض. أو القاضي، وإن أبى المزارع أن تكون الأرض في يده بأجر المثل وكره قلع الزراع أيضاً، وأراد أن يضمن رب الأرض قيمة الزرع، وقال: زرعي متصل بأرضك، فأشبه الصبغ المتصل بثوبك، فلي أن أضمنك قيمته كما في الصبغ؛ لم يذكر هذه المسألة في «الأصل» ، وذكر في «المنتقى» في موضع أن له ذلك إلا إن رضي رب الأرض أن يترك الزرع في أرضه حتى يستحصد أو يكون ذلك منه وفاءً بالشرط الذي شرط في عقد العارية، فلا يلزمه شيء آخر، وقال في موضع آخر: ليس للمزارع أن يضمن رب الأرض قيمة الزرع. قال في «المنتقى» : وإن أراد رب الأرض أن يعطي المزارع بذره ونفقته ويخرج الأرض من يده، ويكون الزرع له؛ يعني لرب الأرض، ورضي المزارع به، فإن كان لم يطلع من الزرع شيء لا يجوز، وإن كان الزرع قد خرج جاز؛ لأن المزارع يصير بائعاً الزرع، وبيع الزرع قبل أن يخرج لا يجوز بلا خلاف، وبعد أن يخرج فيه كلام، وأشار ههنا إلى الجواز. ولو استعار داراً ليبني فيها بناءً، أو أرضاً ليغرس فيها نخلاً ففعل ثم أراد رب الدار والأرض أن يخرجه، فله ذلك؛ سواء كانت العارية مطلقة، أو مؤقتة ولا يضمن صاحب الدار والأرض قيمة البناء والأشجار؛ إن كانت العارية مطلقة عند علمائنا، ويضمنها إن كانت العارية مؤقتة، وأراد إخراجه قبل الوقت؛ هكذا ذكر المسألة في «الأصل» ، وذكر في «المنتقى» عن أبي حنيفة أن عليه قيمة البناء سواء كانت العارية مطلقة أو مؤقتة، فصار في العارية المطلقة عن أبي حنيفة روايتان. وجه ما ذكر في «المنتقى» : أن البناء للدوام، وقد أذن له في ذلك فبالإخراج يصير غاراً، فلدفع الغرور أوجبنا القيمة. وجه ما ذكرنا في «الأصل» : أن الثاني معير، وليس بغرور؛ لأنه بنى هذا البناء معتمداً على إذنه مع علمه أن البناء بهذا الإذن على الجواز دون اللزوم، وأما إذا كانت العارية مؤقتة، وأراد إخراجه قبل الوقت يغرم قيمة البناء والأشجار قائماً يوم الاسترداد باتفاق الروايات؛ لأن التوقيت غير محتاج إليه لتصحيح العارية، وإنما فائدته ضمان تبعية البناء إلى هذا الوقت، وضمان قيمة البناء إن أخرجه قبل الوقت، وإنما يعتبر قيمة البناء قائماً؛ لأن القلع والنقض غير مستحق عليه قبل الوقت ولهذا يضمن له، وإذا لم يكن القلع مستحقاً عليه كان حقه في بناء قائم بغير الاسترداد، فيعتبر قيمته. كذلك هذا إذا أراد صاحب الأرض إخراجه قبل الوقت، وإن مضى الوقت، فصاحب الأرض يقلع عليه الأشجار والبناء، ولا يضمن شيئاً عندنا؛ لأن القلع بعد الوقت مشروط يقتضي ذكر الوقت فيعتبر بما لو كان مشروطاً نصاً؛ قال: إلا أن يضر القلع بالأرض، فحينئذٍ صاحب الأرض يتملك البناء، والأغراس بالضمان، ويعتبر في الضمان قيمته مقلوعاً؛ لأن القلع مستحق عليه بعد الوقت؛ بخلاف ما لو أراد إخراجه قبل الوقت حيث يضمنه قيمته قائماً؛ لأن النقض والقلع هناك غير مستحق عليه، فكان حق

الفصل الثامن في الاختلاف الواقع في هذا الباب، والشهادة فيه

المستعير في البناء القائم، وفي الأشجار القائمة. في «النوازل» : رجل استعار من رجل داراً، وبنى فيها حائطاً بالتراب، ويقال بالفارسية: باجنره، واستأجر الأجراء بعشرين درهماً، وكان ذلك بغير إذن رب الدار، ثم إن صاحب الدار استرد الدار منه، فليس للمستعير أن يرجع بما أنفق؛ لأنه فعل بغير إذنه، وهل له أن ينقض الحائط؟ إن كان قد بناه من تراب من صاحب الأرض، فليس له ذلك؛ لأنه لا يفيد؛ لأن بالهدم يعود تراباً، والتراب حق صاحب الدار، والله أعلم. الفصل الثامن في الاختلاف الواقع في هذا الباب، والشهادة فيه قال محمد رحمه الله في «الأصل» : رجل استعار من رجل دابة ليركبها إلى حمام أعس فجاوز بها إلى حمام أعس ثم رجع إلى حمام أعس أو إلى الكوفة، والدابة على حالها، ثم عطبت الدابة، فقال رب الدابة: قد خالفت، ولم تردها إلى الموضع الذي أذنت لك، فقال المستعير: قد خالفت فيها، ثم رجعت بها إلى الموضع الذي أذنت لي، فلا ضمان عليَّ، فالقول قول رب الدابة، والمستعير ضامن؛ لأنه أقر بالسبب الموجب للضمان، وهو المجاوزة عن المكان المسمى، ثم ادعى ما يبرئه، وهو العود، فلا يصدق إلا بحجة، فإن أقام البينة أنه قد ردها إلى الكوفة، أو إلى الموضع الذي أخذها إليه، ثم نفقت بعدما ردها، قال: هو ضامن لها حتى يرجعها إلى صاحبها، وتأويله أنه استعارها إلى ذلك المكان ذاهباً جائياً، ومتى كان كذلك كان ضامناً؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة، ولو عاينا أنه عاد إلى المكان المشروط؛ فإنه لا يبرأ؛ لأنه عاد إلى الوفاق، فالعقد منتهٍ، فلا يبرأ عن الضمان، فأما إذا كان ذاهباً وجائياً يبرأ عن الضمان متى أظهر البينة أنه عاد إليه كما لو تمت معاينته، ولو تمت معاينته برىء؛ لأنه عاد إلى الوفاق، والعقد قائم، فيبرأ عن الضمان. إذا قال: أعرتني دابتك وهلكت، وقال المالك: غصبتها مني، فلا ضمان عليه إن لم يكن ركبها، وإن كان قد ركبها، فهو ضامن، ولو قال: أعرتني، وقال المالك: ركبها وهلكت من ركوبه، فالقول قول الراكب، ولا ضمان عليه. وفي «القدوري» : وإن اختلف المعير والمستعير في الأيام أو في المكان أو فيما يحمل عليه، فالقول قول رب الدابة مع يمينه؛ لأن الإذن من جهته مستفاد، فكان القول قوله. وفيه أيضاً: وإذا تصرف المستعير، وادعى أن المعير أذن له وجحد المعير، فهو ضامن؛ إلا بقوم البينة على الإذن؛ لأن سبب الضمان قد تحقق، فإذا ادعى الإذن، فقد ادعى المسقط، فلا يفضل إلا بحجة.H (134أ2) وفي «المنتقى» : رجل قال لغيره: أعرتني هذه الدار، أو هذه الأرض لأبنيها، أو

الفصل التاسع في المتفرقات

أغرس فيها ما بدا لي من النخل أو الشجر، فغرستها هذا النخيل، وبنيتها هذا البناء، وقال المعير: أعرتك الدار والأرض وفيها هذا البناء والأغراس، فالقول قول المعير؛ لأن البناء والأغراس بحكم الاتصال صار وصفاً للأرض بمنزلة أوصاف الحيوان. وإن أقاما البينة، فالبينة بينة المعير أيضاً؛ لأن الإعارة لا تكون إلا بعد سابقة الاستعارة، فالمعير ببينته أثبت استعارته الأرض مع البناء والأغراس، وباستعارة الأرض مع البناء والإغراس يصير مقراً بالبناء والإغراس. الفصل التاسع في المتفرقات رد المستعار على المستعير، ورد المستأجر على الآجر، والعبرة لما يعود ويحصل. فالحاصل للآجر بدل المنفعة، وللمستأجر المنفعة، وبدل المنفعة عين فكان خيراً من المنفعة، فكان مؤنة الرد عليه. والحاصل للمستعير المنفعة، والمعير لا شيء له، فإنما يعود إليه ملكه لا غير، فكان المستعير أسعد حالاً، فكان مؤنة الرد على المستعير ذكره الصدر الشهيد في باب من المسائل المتفرقة من كتاب الإجارة، وفي «الواقعات» نفقة العبد المستعار على المستعير، وكسوته على المعير؛ لأن بقاء المنفعة الحالية بالنفقة، والمنفعة تعود إلى المستعير، ولا كذلك الكسوة. قال أبو نصر: لو أن رجلاً استعار من رجل عبداً فطعام العبد على المستعير، ولو أن مولى العبد أعاد العبد فطعامه على المعير؛ قال الفقيه أبو الليث: يعني إذا قال مولى العبد: خذ عبدي، واستخدمه من غير أن تستعيره، فإن هذا بمنزلة الوديعة، فطعامه على مولاه. في «المنتقى» : إذا قال لغيره: أعرني ثوبك، فإن ضاع فأنا له ضامن، فلا ضمان عليه، وهذا الشرط باطل؛ لأنه يخالف قضية التبرع، وكذلك هذا الحكم في سائر الأمانات؛ نحو الودائع وغيرها. وفيه أيضاً: بشر عن أبي يوسف في المستعير إذا خرج بالدابة، أو الثوب من المصر، فاستعمله، فهو ضامن، وإن خرج به ولم يلبس، ولم يركب؛ ضمن في الدابة، ولم يضمن في الثوب؛ معنى المسألة استعار ثوباً، أو دابة في المصر حتى تقيد الإذن بالاستعمال في (المصر) لما أن الاستعمال خارج المصر يخالف الاستعمال في المصر، ثم خرج بهما عن المصر إن استعمل الثوب والدابة، فهو ضامن، وإن لم يستعملهما ففي الثوب لا ضمان؛ لأنه حافظ له خارج المصر؛ كما هو حافظه في المصر؛ بخلاف الدابة؛ لأنها بمجرد الخروج، صارت عرضة للنفور، فيكون إخراجها إتلافها معنى فيضمن لها.

وفيه أيضاً: ذكر المعلى في «نوادره» عن أبي يوسف: في رجل استعار محملاً أو فسطاطاً، وهو في مصر، فسافر به؛ لا يضمن، وإن استعار سيفاً أو عمامة، وسافر به ضمن، والفرق: أن الاستعارة، وإن وجدت في المصر؛ إلا أن الفسطاط والمحمل يستعملان خارج المصر عادة، فصار عادتهما إذناً بالمسافرة بهما، ولا كذلك السيف، والعمامة. وفيه أيضاً: استعار من رجل فرساً ليغزو عليه أربعة أشهر، ثم لقيه المعير بعد شهرين في بلاد المسلمين، وأراد أخذه، فله ذلك، وإن لقيه في بلاد الشرك في موضع لا يقدر على كراء وعلى شراء ليس له أن يأخذه دفعاً للضرر عن المستعير، ويكون على المستعير، أجر مثل ذلك الفرس من ذلك الموضع الذي طلبه منه صاحبه دفعاً للضرر من الطرفين. ونظير هذه المسألة: رجل استعار من آخر أمة ترضع ابناً له، فلما تعود الصبي وصار لا يرضع إلا منها؛ قال المعير: اردد عليَّ أمتي، فليس له ذلك، وله أجر مثل جاريته إلى أن يفطم الصبي، وكذلك إذا استعار من آخر زقاقاً وجعل فيها زيتاً فأخذه في صحراء، فليس له أن يأخذ الزقاق وله أجر مثلها إلى موضع يجد فيها زقاقاً فيحول زيته. وفيه أيضاً: إبراهيم عن محمد رجل قال لرجل: أعرني دابتك فرسخين، أو قال: إلى فرسخين، قال: له فرسخان ذاهباً وجائياً، فتصير أربعة فراسخ، وكذلك كل عارية تكون في المصر؛ نحو تشييع الجنازة وأشباهها، وهذا استحسان أخذ به علماؤنا لمكان العرف الظاهر فيما بين الناس، والقياس أن يكون هذا على الذهاب خاصة، ولا يكون له أن يرجع عليها. استعار من آخر دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة، فبعث الدابة مع وكيل له ليحمل عليها الحنطة، فحمل الوكيل حنطة نفسه مثلها لا يضمن. في كتاب الشركة في باب خصومة المتفاوضين استعارة الشيء للرهن من غيره جائز، وإنه معروف، والاستعارة ليؤاجر من غيره جائز؛ ذكر شيخ لإسلام في شرح كتاب المزارعة في باب اختلافهما في الزراعة. وذكر في «فتاوى أبي الليث» : أن والد الصغير ليس له أن يعير متاع ولده الصغير، وذكر شمس الأئمة الحلواني في أول شرح الوكالة: أن للأب أن يعير ولده الصغير، وذكر شمس الأئمة الحلواني، وهل له أن يعير مال ولده الصغير؟ بعض المتأخرين من مشايخنا قالوا: له ذلك، وعامة المشايخ على أنه ليس له ذلك. صبي استعار من صبي شيئاً كالقدوم، ونحوه، فأعطاه، وكان الشيء لغير الدافع، فهلك في يده؛ إن كان الصبي الأول مأذوناً لا يجب على الثاني شيء، وإنما يجب على الأول؛ لأنه إذا كان مأذوناً صح الدفع منه، فكان التلف حاصلاً بتسليطه، وإن كان الشيء

للأول لا يضمن الثاني أيضاً لما قلنا، وإن كان الأول محجوراً عليه ضمن هو بالدفع، ويضمن الثاني بالأخذ منه، ويكون الأول غاصباً، والثاني غاصب الغاصب. استعار من آخر شيئاً، فدفع ولده الصغير المحجور عليه المستعار إلى غيره بطريق العارية، فضاع يضمن الصبي الدافع، وكذا المدفوع إليه؛ لأن كل واحد منهما غاصب في حقه. أعار من آخر شيئاً وهلك في يد المستعير، ثم استحقه مستحق فله الخيار؛ يضمن أيهما شاء، فإن ضمن المعير، فليس له أن يرجع على المستعير؛ لأنه تبين أنه أعار ملك نفسه، وإن ضمن المستعير، فكذلك لا يرجع على المعير؛ لأن المستعير في القبض عائد لنفسه، فإنما يضمن بسبب عمل لنفسه، فلا يرجع به على غيره. في «الجامع الأصغر» : أرض بين جماعة؛ أذن واحد منهم للباقين أن يبنوا فيها قصوراً، فبنوا ثم أراد الآذن أن يهدم بناء قصر منها؛ كان لهم منعه، وله أن يأخذهم برفع قصورهم بناء على ما قلنا: إن العارية غير لازمة، والله أعلم. تم كتاب العارية.

كتاب الشركة

كتاب الشركة هذا الكتاب يشتمل على ثمانية فصول 1 * في بيان أنواع الشركات، وشرائطها، وحكمها 2 * في الألفاظ التي تصح الشركة بها والتي لا تصح 3 * في المفاوضة 4 * في العنان 5 * في الشركة بالوجوه 6 * في الشركة بالأعمال 7 * في تصرف أحد الشريكين في الدين المشترك 8 * في المتفرقات

الفصل الأول في بيان أنواع الشركات، وشرائطها، وحكمها

الفصل الأول في بيان أنواع الشركات، وشرائطها، وحكمها فأما بيان أنواعها فنقول: شركة العقود أنواع ثلاثة: شركة بالمال، وشركة بالوجوه، وشركة بالأعمال، وكل ذلك على وجهين؛ مفاوضة وعنان، وشرط جواز هذه الشركات كون المعقود عليه عقد الشركة قابلاً (134ب2) للوكالة؛ لأن المقصود من هذه العقود الشركة في التصرف، والشركة في التصرف إنما تثبت إذا صار كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه في التصرف، فيشترط كون ما عقدا عليه عقد الشركة قابلاً للوكالة لهذا. ثم الشركة إذا كانت بالمال لا تجوز عناناً كان أو مفاوضة؛ إلا إذا كان رأس مالهما من الأثمان التي لا تتعين في عقود المبادلات؛ نحو الدراهم والدنانير، فأما ما يتعين في عقود المبادلات نحو العروض، فلا تصح الشركة بها سواء كان ذلك رأس مالهما أو رأس مال أحدهما، وإنما لا تصح الشركة بالعروض لما أشار إليه في «الكتاب» : أن رأس المال مجهول، ومعناه أن العروض ليست من ذوات الأمثال، وعند القسمة لا بد من تحصيل رأس المال أولاً ليظهر الربح، فإن كان رأس المال عروضاً فتحصيله عند القسمة يكون بطريق الحزر والظن، فلا يثبت اليقين به، ولمعنى آخر أن كل واحد من الشريكين يصير وكيلاً عن صاحبه بالتصرف، فإذا كان رأس المال عروضاً صار كل واحد موكلاً صاحبه ببيع متاعه على أن يكون له بعض ربحه، وذلك لا يجوز؛ لأن الوكيل بالبيع يكون أميناً ليكون هذا ربح ما لم يضمن في حقه، وإنه لا يجوز، وإذا كان رأس المال دراهم أو دنانير؛ صار كل واحد منهما موكلاً صاحبه بالشراء بماله على أن يكون له بعض الربح وذلك جائز؛ لأن الوكيل بالشراء يكون ضامناً للثمن في ذمته، فيكون هذا ربح ما قد ضمن وإنه جائز. ويشترط مع ذلك أن يكون رأس المال عيناً، إما حاضراً في المجلس، أو غائباً عن المجلس؛ مشاراً إلى مكانه؛ حاضراً عند الشراء. وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» ، والشيخ أبو الحسن القدوري: أن من دفع إلى رجل ألف درهم، وقال: أخرج من عندك ألفاً مثل هذه الألف واشتر بها وبع، فما ربحت من شيء فهو بيننا، ففعل المأمور كذلك، فهو جائز، وإن لم يكن المال حاضراً في مجلس العقد، ولا مشاراً إلى مكانه، واكتفي بوجوده عند الشراء. وأما التبر من الذهب والفضة، فقد جعله في كتاب الشركة من «الأصل» بمنزلة العروض، فلم تجز الشركة بها، وفي صرف «الأصل» جعله بمنزلة الأثمان فجوز الشركة بها. قال شمس الأئمة السرخسي: والحاصل: أن المعتبر في هذا العرف، ففي كل بلد

جرى التعامل بالمبايعة بالتبر، فهو بمنزلة الأثمان لا يتعين في العقود، وتجوز الشركة به، وفي كل بلد لم يجز التعامل بالمبايعة بالتبر، فهو بمنزلة العروض يتعين في العقود، ولا تجوز الشركة به. فأما الفلوس فالمشهور من قول أبي حنيفة: أن الشركة والمضاربة بها لا تجوز، وعن محمد وزفر: تجوز، محمد وزفر يقولان: إن الفلوس ما دامت رائجة، فهو بمنزلة النقود، وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا: الرواج من الفلوس عارض باصطلاح الناس، وذلك يتبدل ساعة فساعة، فلو جوز بالشركة بها أدى إلى جهالة رأس المال عند قسمة الربح إذا كسدت تلك الفلوس؛ لأن رأس المال عند قسمة الربح يحصل باعتبار المالية؛ لا باعتبار العدد، ومالية الفلوس تختلف بالرواج والكساد. وأما الشركة بالمكيلات والموزونات فقيل: الخلط في جنس واحد في الجنسين المختلفين قبل الخلط وبعد الخلط لا يجوز بالاتفاق، وأما بعد الخلط في جنس واحد، وفي المعدودين إذا اتفقا في المقدار على قول أبي يوسف: لا تصح الشركة، ويكون المخلوط بينهما شركة ملك حتى لو تصرفا وربحا، فالربح بينهما على قدر الملك، وقال محمد: تصح الشركة والربح بينهما على الشرط، فكلام أبي يوسف ظاهر، إن قبل الخلط إنما لا تجوز الشركة؛ لأنها تتعين بالتعيين، وهذا المعنى لا تبطل بالخلط، وما يتعين بالتعيين لا يصلح أن يكون رأس ماله الشركة. ومحمد رحمه الله يقول: بأن المكيلات والموزونات عرض من وجه، ثمن من وجه، ألا ترى أن الشراء بها ديناً في الذمة يصح، وإنه حكم الثمن ويتعين في العقود بالتعيين، وإنه حكم العروض، فمن حيث إنه عرض لم يجز الشركة بها قبل الخلط في الجنس الواحد، ومن حيث إنه ثمن جوز الشركة بها بعد الخلط؛ وهذا لأن باعتبار الشبهين تحقق إضافة عقد الشركة إليها، فيتوقف ثبوته على ما يفوتها، وهو الخلط؛ لأن بالخلط تثبت شركة الملك لا محالة، فتتأكد شركة العقد أيضاً، وفي الجنسين المختلفين: إنما لا تصح الشركة على قول محمد بعد الخلط؛ لأن عقد الشركة عنده يثبت بعد الخلط باعتبار المخلوط، فعند اختلاف الجنس المخلوط ليس من ذوات الأمثال. ألا ترى أن متلفه يضمن القيمة دون المثل؛ لأنه لا مثل له، فلا يكون الجنس واحداً فالمخلوط من ذوات الأمثال، فيمكن تحصيل رأس مال كل واحد منهما وقت القسمة باعتبار المثل، فأما إذا كان الجنس واحداً فالمخلوط من ذوات الأمثال، فيمكن تحصيل رأس مال كل واحد منهما وقت القسمة باعتبار المثل في الجنس المختلف إذا عملا بذلك؛ إن كانا لم يخلطا أخذ كل واحد رأس ماله كراً مثل كره، وإن كانا قد خلطا، فالثمن يقسم بينهما على قدر قيمة طعام كل واحد منهما يوم خلطاه مخلوطاً، وإنما اعتبر قيمتها يوم الخلط؛ لأن قسمة الثمن بينهما باعتبار الخلط، فيعتبر القيمة يوم الخلط، وإنما اعتبر قيمتها مخلوطاً؛ لأن استحقاق الثمن بمقابلة البيع، والمبيع دخل في البيع مخلوطاً، وإن كان أحدهما يزيده الخلط ضرراً، فإنه يضرب بقيمته يوم يقتسمون غير مخلوط.

ومعنى المسألة: أن قيمة الشعير تزداد إذا خلط بالحنطة، وقيمة الحنطة تنقص إذا اختلطت بالشعير، فصاحب الشعير يضرب بقيمة الشعير غير مخلوط، وصاحب الحنطة يضرب بقيمة الحنطة مخلوطة؛ لأن الزيادة في الشعير حصلت من مال صاحب الحنطة، فلا يستحق صاحب الشعير الضرب بتلك الزيادة، والنقصان في الحنطة حصل بفعل رضي به صاحب الحنطة، وهو الخلط، وقيمة ملكه عند البيع ناقص، فلا يستحق الضرب إلا بذلك القدر، وطعن عيسى بن إبان في الفصلين جميعاً فقال: قول محمد في الفصل الأول: يعتبر قيمة متاع كل واحد منهما يوم خلطاه، وفي الفصل الثاني: يعتبر قيمة متاع كل واحد منهما يوم يقتسمون غلط، والصحيح: أنه يعتبر قيمة متاع كل واحد منهما يوم وقع البيع؛ لأن استحقاق الثمن بالبيع، وهكذا ذكر محمد في «المنتقى» ، ومما ذكر في «المنتقى» : أن في المسألة روايتين. وإن أراد تجويز الشركة بالعروض فالحيلة في ذلك أن يبيع كل واحد منهما نصف عروض نفسه بنصف عروض صاحبه حتى صار مال كل واحد منهما مشتركاً بينهما شركة ملك، ثم يعقدان عقد الشركة بعد ذلك إن شاءا مفاوضة، وإن شاءا عياناً، وتصير العروض رأس مال الشركة، والعروض بعدما صار مشتركاً بينهما شركة ملك يصلح رأس مال الشركة، (135أ2) وإن كان قبل ذلك لا يصلح. وكذلك إذا كان لأحدهما دراهم، وللآخر عروض ينبغي أن يبيع صاحب العروض نصف عروضه بنصف دراهم صاحبه، ويتقابضان به مشتركان؛ إن شاءا مفاوضة، وإن شاءا عياناً؛ هكذا ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الشركة قبل باب بضاعة المفاوض. وفي «المنتقى» هشام عن محمد: عبد بين رجلين اشتركا فيه شركة مفاوضة أو عيان فهو جائز. وفيه أيضاً: رجل له طعام، ورجل له طعام، فاشتركا عليهما، وخلطاهما وأحدهما أجود من الآخر، فالشركة في هذا جائزة والثمن بينهما نصفان؛ قال: من قبل أن هذا أشبه البيع معنىً لخلطهما على أنه بينهما. وقال في موضع آخر في هذا الكتاب: يقسم الثمن بينهما على قدر قيمة الجيد والرديء. ولو كان رأس مال أحدهما دراهم، ورأس مال الآخر دنانير؛ جازت الشركة عند علمائنا الثلاثة عناناً كان أو مفاوضة في المشهور، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن المفاوضة لا تجوز، وهكذا روي عن أبي يوسف، وعند زفر والشافعي لا تجوز الشركة أصلاً عناناً كان أو مفاوضة. وهذا بناءً على أن عند زفر الخليط شرط صحة الشركة، فلا يصح بمالين لا يختلطان، وعندنا الخلط ليس بشرط لصحة الشركة، فيصح بمالين لا يختلطان؛ هذا كله بيان شرائط جواز الشركة بالمال عناناً كان أو مفاوضة. ثم تختص المفاوضة بزيادة شرائط، فمن جملة ذلك التنصيص على المفاوضة حتى إنهما إذا لم يتلفظا بلفظ المفاوضة كانت الشركة عناناً؛ هكذا عن أبي حنيفة؛ قال شمس

الأئمة السرخسي في «شرحه» : تأويل هذا أن أكثر الناس لا يعرفون جميع أحكام المفاوضة قائماً مقام ذلك كله، فإن (كان) المتعاقدان يعرفان أحكام المفاوضة صح العقد بينهما إذا ذكرا معنى المفاوضة وإن لم يصرحا بلفظها؛ لأن العبرة للمعنى دون اللفظ. ومنها: أن تكون عامة في عموم التجارات؛ إليه أشار محمد في «الكتاب» وذكر شيخ الإسلام في آخر باب شركة المفاوضة أنها لا تجوز في نوع خاص أيضاً. ومنها: أن يكون كل واحد منهما من أهل الكفالة؛ بأن كانا بالغين عاقلين حرين؛ لأن حكم هذه الشركة صيرورة كل واحد منهما من أهل الكفالة بأن كانا بالغين عاقلين حرين؛ لأن حكم هذه الشركة صيرورة كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه فيما يلحقه من ضمان التجارات فيهما على ما يتبين بعد هذا إن شاء الله تعالى. ومنها: أن رأس مالهما على السواء من حيث القدر؛ إن كانا من جنس واحد ونوع واحد، وإن كانا من جنسين مختلفين نحو الدراهم والدنانير، أو كانا من جنس واحد؛ إلا أنه اختلف نوعهما؛ نحو المكسور مع الصحاح؛ يشترط مع ذلك التساوي في القيمة، وإنما شرطنا التساوي في رأس المال في هذه الشركة عملاً بقضية لفظ المفاوضة، فإن المفاوضة مشتقة من المساواة، وعن هذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف في رواية: إن المفاوضة لا تجوز إذا كانا من رأس مال أحدهما دراهم، والآخر دنانير؛ لأن المساواة بين الدراهم، والدنانير إنما تكون بالقيمة. وطريق معرفة ذلك بالحزر والظن، وفي ظاهر الرواية يجوز؛ لأن الجنس واحد من حيث المعنى. ولو كان لأحدهما دراهم بيض، وللآخر سود، وبينهما فضل فيه لم تصح المفاوضة في المشهور من الرواية، وعن أبي يوسف أنه يجوز؛ لأنه لا قيمة للجودة في الأموال الربوية عند مقابلتها بجنسها. ومن جملة ذلك: أن يستويا في الربح، وأن لا يكون لكل واحد منهما من المال الذي يجوز عليه عقد الشركة سوى رأس المال الذي شارك به صاحبه ابتداءً، وإنها على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. ثم إذا صحت الشركة بالمال، فإن كان مفاوضة صار كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه فيما يلزمه من ضمان التجارات، وما يجوز أن يكون واجباً بالتجارة، وما يشبه ضمان التجارة، ويصير كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه فيما وليه صاحبه من التجارات، فيكون مخاصماً فيما وليه صاحبه بحكم الوكالة، فيكون مخاصماً منه بحكم الكفالة، ويصيران في جميع أحكام التجارة بمنزلة شخص واحد، وإنما فعلنا هكذا لما ذكرنا أن اللفظ يقتضي التساوي فيجب اعتبار التساوي في جميع ما يجب لهما وعليهما فيما يجوز أن يكون داخلاً تحت الشركة. وإن كانت الشركة عناناً يصير كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه في عقود التجارات، ولا يكون كل واحد وكيلاً عن صاحبه في استيفاء ما وجب بعقد صاحبه.

والحاصل: أن في هذه الشركة حقوق العقد ترجع إلى العاقد لا غير، ولا يصير كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه حتى لا يؤخذ كل واحد منهما بما لزم صاحبه؛ هذا كله بيان شرائط الشركة بالمال وحكمها. جئنا إلى الشركة بالوجوه، فصورتها أن يشترك اثنان ولا مال لهما في نوع خاص، أو في الأنواع كلها على أن يشتريا ويبيعا، وما رزق الله تعالى من شيء فهو بينهما فهذه الشركة جائزة عندنا، وإنما سميت هذه الشركة شركة الوجوه؛ لأنه إنما يشتري بالنسيئة من له وجاهة عند الناس. وطريق جواز هذه الشركة: أن يجعل كل واحد منهما في التصرف من وجهه وكيلاً عن صاحبه فيقع المشترى مشتركاً بينهما؛ ألا ترى أنه قال: اشتر هذه العين على أن تكون بيننا كان ذلك جائزاً؛ كذا ههنا، وهذه الشركة قد تكون مفاوضة، وقد تكون عناناً، فشرط المفاوضة أن يكونا من أهل الكفالة، وأن يكون الملك في المشترى ههنا نصفين، وثمن المشترى عليها نصفان، وأن يتساويا في الربح، وأن تكون عامة إلا على قول شيخ الإسلام، والتلفظ بلفظ المفاوضة على التأويل الذي ذكره شمس الأئمة السرخسي على ما مر، والعنان بينهما يجوز مع اشتراط التفاضل في ملك المشترى، وينبغي أن يشترط الربح في هذه الشركة على قدر اشتراط ما لهما في المشترى؛ حتى لو تفاضلا في ملك المشترى، واشترطا التساوي في الربح بينهما، أو كان على العكس لا يجوز هذا الشرط، ويكون الربح بينهما على قدر ما شرطا الملك بينهما؛ وهذا لأن اشتراط الربح لأحدهما أكثر مما شرط له من نصيبه من الملك اشتراط الربح من غير ملك ولا ضمان، والربح إنما يستحق بالملك؛ كما في رب المال في باب المضاربة، أو بالضمان كالاستلام إذا تقبل العمل وألقاه على تلميذه بأقل من ذلك الأجر الذي يقبل العمل به؛ يطلب له الفضل، وإنما يطلب له الضمان أما بدون ذلك لا يصح الربح؛ ألا ترى أن من قال لغيره: اعمل في مالك على أن لي بعض الربح لا يجوز. فإن قيل: يجوز أن يكون فضل بالربح لفضل العمل والربح يستحق بالعمل، ألا ترى أن المضارب يستحق الربح، وإنما يستحقه بالعمل. قلنا: إنما يستحق الربح بالعمل إذا كان العمل في مال معلوم؛ كذا في المضارب، ولم يوجد ههنا.m في «المنتقى» : إذا أراد الرجلان أن يشتركا شركة مفاوضة، ولأحدهما دار أو خادم أو عرض، وليس للآخر شيء، واشتركا شركة مفاوضة فيعملان ذلك بوجوههما، ولم يسميا شيئاً من العروض التي لأحدهما في شركتهما كانت (135ب2) الشركة جائزة، وهي مفاوضة، والعروض لصاحبها خاصة، وهذه شركة وجوه، وكذلك إذا كان لأحدهما تبر ذهب غير مضروبة، وباقي المسألة بحالها. جئنا إلى الشركة بالأعمال، وهي نوعان: صحيحة، وفاسدة، فالصحيحة منها أن يشترك اثنان على أن يتقبلا الأعمال من الناس، ويعملان بأبدانهما، فما رزق الله تعالى

من شيء فهو بينهما، فهذه الشركة جائزة، وقد تكون هذه الشركة مفاوضة عند استجماع شرائطها على ما ذكرنا، وقد تكون عناناً. وطريق جواز هذه الشركة: أن يجعل كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه بتقبل العمل له، والتوكيل بتقبل العمل له جائز، ولأجل هذا المعنى قلنا: تصح هذه الشركة اتفقت أعمالهما، بأن اشترك قصاران أو خياطان أو اختلفت بأن اشترك خياط وحناط، وقال زفر: إن اختلفت أعمالهما لا تصح؛ لأن كل واحد منهما عاجز عن العمل الذي تقبله صاحبه، فإن ذلك ليس من عمله، فلا يحصل ما هو المقصود من عقد الشركة، ولكننا نقول: جواز هذه الشركة من حيث التوكيل بتقبل العمل، والتوكيل بتقبل العمل صحيح ممن يحسن ذلك العمل، وممن لا يحسن؛ وهذا لأنه لا يتعين على المتقبل إقامة العمل بنفسه بل له أن يقيم بأعوانه وأجرائه، وكل واحد منهما غير عاجز عن ذلك، وفي العنان من هذه الشركة يجوز شرط التفاضل في المال المستفاد بالعمل مع اشتراط التساوي في العمل، وإنما يصح اشتراط التفاضل في المال المستفاد بالعمل إذا شرطا التفاضل في العمل؛ وهذا لأن استحقاق الكسب باشتراط العمل والتقبل دون نفس العمل. ألا ترى أنه لو عمل أحدهما دون الآخر كان الأجر بينهما على ما اشترطا، ويصير العامل كالمعين لصاحبه على إيفاء ما صار مستحقاً عليهما من العمل بعقد الشركة إذا ثبت أن استحقاق الأجر بتقبل العمل، فإنما يستحق كل واحد منهما من الأجر بقدر ما عليه من العمل، ثم في شركة التقبل إذا لم يتفاوضا لكن اشتركا شركة مطلقة، فدفع رجل إلى أحدهما عملاً، فله أن يأخذ بذلك العمل أيهما شاء، ولكل واحد منهما أن يطالب بأجرة العمل، وإلى أيهما دفع برىء بمنزله المتفاوضين عند أبي حنيفة رضي الله عنه استحساناً، قال هشام: أخبرنا محمد بذلك وهو قول محمد، وكذلك قول أبي يوسف. قال أبو الفضل في «المنتقى» وكذا روى بشر بن الوليد عن أبي يوسف من قوله وقول أبي حنيفة، وزاد فيه إذا جنت يد أحدهما، فالضمان عليهما يأخذ صاحب العمل أيهما شاء بجميع ذلك، فقد اعتبرت هذه الشركة مفاوضة في حق هذه الأحكام مع أنهما لم يتفاوضا، وهذا استحسان أخذ به علماؤنا رحمهم الله؛ لأن هذه الشركة مقتضية للضمان، فإن ما يتقبله كل واحد منهما مضمون على الآخر، ولهذا يستحق الأجر بسبب نفاذ تقبله عليه، فأجروها مجرى المفاوضة في حق ضمان العمل واقتضاء البدل، وفيما عدا ذلك لم يثبتوا معنى المفاوضة في حق ضمان العمل حتى قالوا: إذا أقر أحدهما بدين من ثمن صابون، أو أشنان مستهلك، أو أجر أجير، أو أجرة تثبت لمدة مضت لم يصدق على صاحبه إلا ببينته، وسيأتي بيان هذا الأحكام، والفرق بين المفاوضة والعنان فيما بعد هذا إن شاء الله تعالى. وإذا أقعد الصانع معه رجلاً في دكانه يطرح عليه العمل بالنصف جاز استحساناً لتعامل الناس ذلك من غير نكير منكر؛ ولأن بالناس حاجة إلى ذلك، فالعامل قد يدخل بلدة لا يعرفه أهلها، ولا يأمنونه على متاعهم، وإنما يأمنون على متاعهم صاحب الدكان

الفصل الثاني في الألفاظ التي تصح الشركة بها والتي لا تصح

الذي يعرفونه، وصاحب الدكان الذي لا يسرع على العامل بمثل هذا في العادة، ففي تجوز هذا العقد تحصيل غرض الكل، فإن العامل يصل إلى عوض عليه، وصاحب الدكان يصل إلى عوض منفعة دكانه، والناس يصلون إلى منفعة عمل العامل، ويطيب لرب الدكان الفضل؛ لأنه أقعده في دكانه، أو أعاره متاعه وربما يقيم صاحب الدكان بعض العمل كالخياط يتقبل المتاع، ويلي قطعه يدفع إلى آخر بالنصف؛ قال شمس الأئمة السرخسي: هذا العقد نظير عقد السلم من حيث إنه رخص فيه لحاجة الناس كالسلم، وقال الصدر الشهيد في شرح كتاب الشركة: طريق الجواز أن يجعل كأنهما اشتركا في التقبل والعمل، ثم يتقبل أحدهما ويعمل الآخر، فعلى هذا القول لو قال صاحب الدكان أنا أتقبل، ولا تتقبل أنت وأطرح عليك لتعمل بالنصف لا يجوز، وكذلك قال أبو حنيفة في الخياط يتقبل المتاع ويلي قطعه، ثم يدفعه إلى الآخر بالنصف يجوز، وكذا في سائر الصناع، قال: ولو تقبل التلميذ جاز، ولو عمل صاحب الدكان جاز أيضاً. وأما الفاسدة من هذه الشركة: أن يشتركا في الاحتطاب، والاحتشاش وطلب الكنوز، وما أشبه ذلك من الأشياء التي تملك بالأخذ من المباحات وهذا يبنى على الأصل الذي تقدم أن من شرط جواز الشركة أن يكون ما عقد عليه عقد الشركة قابلاً للوكالة، والتوكيل بهذه الأنواع لا يجوز، وبقبول الأعمال من كل صانع يعمل بالأجرة يجوز التوكيل، فلهذا جاز ذلك النوع، ولم يجز هذا النوع، وإنما جاء الفرق بين النوعين في صحة التوكيل وعدم صحته؛ لأن التوكيل أمر بالتصرف، فإنما تصح إذا حصل الأمر فيما هو ملك الموكل كما في بيع شيء من ماله، وكذا في شراء شيء له؛ لأن الشراء إيجاب في ذمته، وذمة خالص ملكه، وفي شركة التقبل كل واحد أمر صاحبه بإيجاب بعض العمل في ذمته، فيضمن الآمر، وفي أخذ المباحات لم يوجد الأمر بالتصرف في ملكه، فلم يصح الأمر. الفصل الثاني في الألفاظ التي تصح الشركة بها والتي لا تصح قال محمد رحمه الله: إذا اشتركا بغير مال على أن ما اشتريا اليوم فهو بينهما، وخصا صنفاً أو لم يخصا فهو جائز، وكذلك إذا قالا هذا أشهر، وكان ينبغي أن لا يجوز إذا لم يبينا جنس ما يشتريانه في الصفة أو مقدار البدل؛ لأن مبنى الشركة على الوكالة، ومن وكل رجلاً بأن يشتري له شيئاً بهذه الدراهم؛ لا يجوز ما لم يبين الجنس والصفة، أو مقدار الثمن. والجواب: أن الشركة في معنى وكالة فوض إلى الوكيل الرأي فيما يشتري بأن يقول له: اشترِ لي اليوم ما شئت وذلك جائز، فكذا الشركة، وإنما قلنا: إن الشركة بهذه الصفة التي ذكرنا؛ لأن المقصود من الشركة طلب الربح، وإنما يحصل بهذا المقصود إذا صار الرأي مفوضاً إلى كل واحد منهما في التصرف، وإذا جازت هذه الشركة هل يتوقت

بالوقت المذكور حتى لا يبقى بعد مضي الوقت؟ لم يذكر محمد هذا الفصل في «الأصل» ، وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه مؤقت، وضعف الطحاوي هذه الرواية. وقال: نص في كتاب وكالة «الأصل» أن من وكل رجلاً ليشتري له عبداً اليوم، أو ليبيع له عبداً اليوم إن الوكالة لا تتوقت باليوم، وغيره من المشايخ صححوا هذه الرواية وقالوا: ما ذكر في الشركة تصير (136أ2) رواية في الوكالة، وما ذكر في الوكالة تصير رواية في الشركة، فصار في المسألة روايتان على قول هؤلاء وهو الصحيح. ولم يذكر محمد في «الأصل» ما إذا لم يذكر لفظة الشركة، ولكن قال أحدهما للآخر: ما اشتريت اليوم من شيء، فهو بيني وبينك ما حكمه وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يصح؛ إلا إذا ذكر لفظة الشركة، أو ما يدل على الشركة؛ بأن قال: ما أشتري اليوم وما اشتريت، فهو بيني وبينك، أما بدون ذلك لا يجوز ما لم يكن الرأي مفوضاً إلى الوكيل بأن قال: إذا اشتريت ما رأيت اليوم، أو ما شئت اليوم، فهو بيننا. وروى أبو سليمان عن محمد أنه يجوز، وتثبت الشركة بهذا القدر؛ لأنهما ذكرا حكم الشركة إن لم يذكرا عقد الشركة، والعقد يصير مذكوراً بذكر حكمه ألا ترى أنهما لو ذكرا الشراء من الجانبين يجوز، وإن لم يذكرا الشركة لما ذكرا حكمة الشركة. وجه ما روي عن أبي حنيفة: أنهما لم يذكرا الشركة، ولم يذكرا حكمة الشركة على الخصوص؛ لأن حكمة الشركة على الخصوص أن يصير كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه، ولم يذكرا ذلك، فلم تثبت الشركة لا نصاً ولا اقتضاء فبقيت وكالة، والوكيل بشراء شيء مجهول الجنس لا يجوز ما لم يكن الرأي مفوضاً إليه بخلاف ما لو ذكرا شراءهما؛ لأنهما ذكرا ما هو حكم الشركة على الخصوص فثبتت الشركة اقتضاءً بذكر الحكم، والشركة جائزة وإن كان المشترى مجهول الجنس. قال: وكذلك إذا لم يذكرا للشركة وقتاً بأن اشتركا على أن ما اشتريا فهو بينهما؛ لأنهما لما جعلا ما يشتريه كل واحد منهما بينهما علم أنهما أرادا الشركة؛ لأن الوكالة في العادة لا تقع من الطرفين، والشركة لا تفتقر إلى تسمية ما يشتريانه، ولا إلى ذكر الوقت بخلاف الوكالة؛ إذا فوض الرأي إلى الوكيل مطلقاً فيما يشتريه منه؛ إلا أن يقول: ما اشتريت من شيء لي فهو جائز حيث لا بد فيها من ذكر الوقت؛ نحو أن يقول: اليوم، أو شهر كذا، ويذكر مبلغ الثمن، أو نوع ما يشتريه كالبر والدقيق؛ لأن هذه الوكالة، وإن جرت مجرى الشركة بتفويض الرأي فيه إلى الوكيل حتى احتملت الجهالة؛ إلا أنها وكالة مطلقه، ومن حكم الوكالة الخصوص حتى إن من قال لغيره: وكلتك في هذا المال؛ كان وكيلاً بالحفظ؛ لأنا لو جوزناها مطلقة من غير تخصيص؛ جعلناها شركة من كل وجه، وإنها ليست بشركة من كل وجه، فقلنا: إذا وقت المدة، أو سمى النوع أو الثمن، فقد ظهر معنى الخصوص من وجه، فيجوز وإن أطلق لا يجوز.

وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: في رجلين قالا: ما اشترينا من شيء فهو بيننا نصفان، فهو جائز وذكر عين هذه المسألة في موضع آخر من «المنتقى» عن أبي يوسف وقال: إذا قالا: أردنا بهذا الكلام الشركة فهو جائز وإلا فهو باطل. وفيه أيضاً: الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رضي الله عنه في رجل قال لآخر: ما اشتريت من أصناف التجارة فهو بيني وبينك فقبل ذلك صاحبه فهو جائز، وكذلك إذا قال: اليوم، وما اشترى ذلك اليوم كان بينهما نصفان، وكذلك لو قال كل واحد منهما لصاحبه ولم يؤقتا، وكذلك إذا قال: ما اشتريت من الدقيق، فهو بيني وبينك، وليس لواحد منهما أن يبيع حصة صاحبه مما اشترى إلا بإذن صاحبه؛ لأنهما اشتركا في الشراء لا في البيع، ولو قال: إن اشتريت اليوم عبداً، فهو بيني وبينك، وليس لواحد منهما أن يبيع حصة صاحبه مما اشترى إلا بإذن صاحبه؛ لأنهما اشتركا في الشراء لا في البيع، ولو قال: إن اشتريت اليوم عبداً، فهو بيني وبينك فالشركة باطلة، ولو قال: عبداً خراسانياً فهو جائز. وفيه أيضاً: بشر بن الوليد عن أبي يوسف: رجل قال لآخر: ما اشتريت من شيء فهو بيني وبينك، فقال: نعم، قال: هذه الشركة غير مسماة ولا معلومة، وإن قال: ما اشتريت اليوم من شيء فهو بيني وبينك فهذا جائز، وكذلك إن وقت سنة، وإن لم يوقت وقتاً إلا أنه وقت من المشترى مقداراً بأن قال: ما اشتريت من الحنطة إلى كذا فهو بيني وبينك، فهذا جائز، وإن سمى صنفاً من البيوع ولم يبين فيه وقتاً من الأيام ولا بين المقدار، فقال: ما اشتريتَ من الحنطة من قليل أو كثير فهو بيني وبينك، ولم يؤقت ثمناً، فإن هذا لا يجوز، وكذلك الدقيق والأشياء كلها، وكذلك إذا قال: ما اشتريتَ في وجهك هذا فبيني وبينك، وقد خرج في وجه، أو قال بالبصرة، فهو باطل حتى يؤقتا ثمناً أو بيعاً أو أياماً. إذا قال الرجل لغيره: اشترِ عبد فلان بيني وبينك، فقال المأمور: نعم، ثم ذهب وأشهد وقت الشراء أنه اشترى لنفسه خاصة، فالعبد بينهما على الشركة؛ لأنه وكيل من جهة الآمر في نصف العبد، والوكيل لا يعزل نفسه بغير علم الموكل، وقال أبو حنيفة في «المجرد» : إذا أمره بشرائه فسكت، ولم يقل: نعم ولا لا، حتى قال عند الشراء: أشترِيه لنفسي يكون له، ولو قال: اشهدوا أني أشتريه لفلان كما أمرني، ثم اشتراه، فإن اشتراه وسكت عند الشراء، ثم قال بعد الشراء: اشتريتها لفلان الآمر؛ كان لفلان إذا كان سالماً، ولو قال ذلك بعدما حدث به عيب لم يقبل قوله إلا أن يصدقه الآمر. ولو أن رجلاً أمر رجلاً أن يشتري له عبد فلان بينه وبينه، فقال المأمور: نعم، ثم لقيه رجل آخر، فقال: اشترِ عبد فلان بيني وبينك، فقال: نعم، ثم اشتراه المأمور، فهو بين الآمرين، ولا شيء للمأمور من العبد؛ لأن الأول أمره بشراء نصف العبد له، وصار المأمور بحال لا يملك شراء ذلك النصف حال عينه الآمر ما بقيت الوكالة، فلا يملك الشراء لغيره من طريق الأولى، فانصرفت الوكالة الثانية إلى النصف الآخر الذي يملك

الوكيل الشراء لنفسه، ولغيره تصحيحاً للوكالة الثانية فصار النصف الآخر مستحقاً للثاني والنصف الأول كان مستحقاً للأول، فخرج المأمور من البين قالوا: وهذا إذا قبل الوكالة من الثاني بغير محضر من الأول، فأما إذا قبل الوكالة بمحضر من الأول؛ يكون العبد بين الآمر الثاني، وبين المأمور نصفين، وهكذا ذكر في «المنتقى» ؛ وهذا لأنه لما قبل الوكالة والوكيل يملك عزل نفسه حال حضرة الموكل، ولا يملك ذلك حال غيبته. ولو لقيه ثالث بعد ذلك، وقال له: اشترِ عبد فلان بيني وبينك فاشتراه؛ كان العبد بين الأولين ولا شيء للثالث؛ قال في «العيون» : وهذا إذا قبل الوكالة من الثالث بغير محضر من الأول والثاني، فإذا قبلها بمحضر من الأول والثاني، فالعبد بين الثالث والمشتري، ولا شيء للأول ولا للثاني. في «المنتقى» : قال هشام: سألت محمداً يقول في رجل أمرتهُ امرأة أن يشتري ثوباً موصوفاً بعشرين درهماً بيني وبينه، على أن انقد بالدراهم، فهو جائز وهو بينهما، والشرط باطل. فيه أيضاً: إبراهيم عن محمد: رجل قال لرجل: اشترِ جارية فلان بيني وبينك على أن أبيعها أنا؛ قال: الشرط فاسد، والشركة جائزة، قال: وكذلك كل شرط فاسد في الشركة، ولو قال: على أن تبيعها؛ كان هذا جائزاً، وهي شركة بينهما يبيعانها على تجارتهما. في «المنتقى» : قال هشام: سمعت أبا يوسف يقول (136ب2) في رجل ليس له شيء تعال معي عشرة آلاف، فخذها شركة تشتري بيني وبينك، قال: هو جائز، والربح والوضيعة عليهما. ومما يتصل بهذا الفصل إذا اشترى الرجل شيئاً، فقال له آخر: أشركني فيه، فأشركه؛ هذا بمنزلة البيع، فإن كان قبل أن يقبض الذي اشترى لم يصح؛ لأن الشركة تقتضي التسوية، فمعنى قوله: أشركك فيه سويتك بنفسي فيه، وذلك تمليك النصف منه معنى قولنا: إنه بمنزلة البيع، وبيع المنقول قبل القبض لا يجوز، وإن كان ذلك بعد القبض، فإن عرف مقدار الثمن جاز، وإن لم يعرف فهو بالخيار؛ إذا عرف من أصحابنا من يقول: البيع فاسد بجهالة الثمن، فإذا صار معلوماً يرتفع الفساد، ومنهم من قال: البيع صحيح؛ لأن الثمن معلوم في نفسه، وإن لم يعرفه المشتري، فهو كشراء ما لم يره يصح؛ لأنه معلوم في نفسه، وإن لم يعرفه المشتري، ولو قبض النصف دون النصف فأشرك فيه رجلاً لم يجز فيما لم يقبض، وجاز فيما قبض، وله الخيار لتفرق الصفقة عليه. رجلان اشتريا عبداً، أو أشركا فيه رجلاً، فهذه المسألة على وجهين؛ إما إن أشركاه على التعاقب بأن قال له أحدهما: أشركتك في العبد، ثم قال له الآخر مثل ذلك، وفي هذا الوجه كان نصف العبد لذلك الرجل، ولكل واحد من الموليين ربعه، وإن أشركاه معاً بأن قالا جملة: أشركناك في هذا العبد كان للرجل ثلث العبد استحساناً، ولو

أشركه أحد الرجلين في نصيبه، ونصيب صاحبه، وأجاز صاحبه كان لذلك النصف، وإن لم يجز، فله نصف نصيب المشترك، وهو الربع؛ لأن اشتراكه في نصيبه نفذ في الحال، وفي نصيب الشريك يوقف على الإجازة، وعند الإجازة يصير مشتركاً في نصيبه، فكان كل واحد منهما أشركه في نصيبه بعقد على حدة. وعن أبي يوسف في «النوازل» : أن للرجل ثلث العبد إن أجاز شريكه، وإن لم يجز، فله سدس العبد من نصيب المشرك. ووجهه: أن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء، ولو أشركه أحدهما في كل العبد بإذن صاحبه كان للرجل ثلث العبد كذا ههنا. رجل اشترى عبداً وقبضه، فقال له رجل: أشركني فيه ففعل، ثم لقيه آخر، فقال مثل ذلك، فإن كان الثاني يعلم بمشاركة الأول، فله ربع العبد، وإن كان لا يعلم، فله نصف العبد، وللأول النصف، وخرج المشتري من البين؛ لأنه إذا لم يعلم بمشاركة الأول يكون طالباً للاشتراك في جميع العبد، وإذا علم يكون طالباً الاشتراك في نصيبه خاصة، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه في «المجرد» : وللثاني ربع العبد علم بمشاركة الأول أو لم يعلم. وإذا اشترى رجل نصف العبد وقبضه، فقال له رجل: أشركني فيه، وهو يرى أنه اشترى الكل ففعل، فله جميع النصف الذي اشتراه المشتري، وإن كان يعلم أنه اشترى النصف فله النصف، وهو بناء على ما قلنا في المسألة المتقدمة. ولو أن رجلاً في يديه حنطة يدعيها، فأشرك رجلاً في نصفها، فلم يقبض حتى احترق نصف الطعام، فإن شاء المشرك أخذ نصف ما بقي، وإن شاء ترك، وكذلك البيع في هذا الوجه؛ لأن الشركة والبيع وقعا على نصف الطعام، فما هلك يهلك على الحقين، وما بقي يبقى على الحقين، وله الخيار؛ إذا كان قبل القبض لتفرق الصفقة عليه، ولو استحق نصف الطعام؛ اختلف الشركة والبيع، وكان البيع على النصف الباقي، وكان الاشتراك في نصف ما لم يستحق، فيكون ذلك النصف بينهما؛ لأن بالاستحقاق تبين أن الطعام كان مشتركاً، والشركة تقتضي التساوي، وإنما يتحقق التساوي إذا كان الباقي بينهما بخلاف البيع؛ لأن البيع لا يقتضي التساوي، فانصرف إلى النصف الباقي. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: أن الشركة والبيع سواء، وله النصف كملاً في الشركة والبيع جميعاً. وقال أبو حنيفة في رجل قال لآخر: اشترِ هذا العبد وأشركني فيه، فقال: نعم، ثم اشتراه فهو بينهما، وكذلك قال أبو يوسف، وهذا استحسان. اشترى عبداً بألف وقبضه، ثم قال لرجل: قد أشركتك، فلم يقل الرجل شيئاً حتى قال لآخر: أشركتك فيه، ثم قالا: قد قبلنا، فالعبد بينهما لكل واحد منهما النصف، وخرج المشتري من البين بمنزلة ما لو قال رجل لرجل: بعتك نصف عبدي هذا بخمسمائة، فلم يقل الرجل شيئاً؛ حتى قال لآخر: بعتك نصف عبدي هذا بخمسمائة، فقالا: قد قبلنا؛ كان لكل واحد منهما نصف العبد بخسمائة. اشترى حنطة، وأعطى على طحنها درهماً، ثم أعطى على خبزها درهماً، فأشرك

الفصل الثالث في المفاوضة

رجلاً في الخبز أعطاه المشترك نصف ثمن الحنطة، ونصف النفقة، وكذلك هذا في القطن وغزله وحياكته وفي السمسم وعصره، ولو كان هو الذي طحن وخبز، أو غزل ونسج، ولم يعطه عليه أجراً، وباقي المسألة بحالها، فعليه نصف الثمن لا غير، ولا شيء عليه لعمله في «المنتقى» . الفصل الثالث في المفاوضة هذا الفصل يشتمل على أنواع نوع منهافيما يوجب بطلانها بعد صحتها إذا اشتريا بأحد المالين شيئاً، ففي القياس تبطل المفاوضة؛ لأن المشترى صار بينهما نصفان، والآخر مختص بملك رأس المال؛ لأن رأس مال كل واحد منهما قبل الخلط باقٍ على ملكه، فتنعدم المساواة. وفي الاستحسان: لا تبطل المفاوضة؛ إما لأن المساواة لم تنعدم؛ لأن الآخر إن ملك نصف المشترى، فقد صار نصف الثمن مستحقاً عليه لصاحبه؛ ولأنه وإن انعدمت المساواة فالتحرز عنه غير ممكن عادة، فإنهما قل ما يجدان شيئاً واحداً يشتريانه بمالهما، فلا بد من أن يكون الشراء بأحد المالين سابقاً كما لو كان رأس مالهما على السواء يوم الشركة حتى صحت المفاوضة؛ صار في أحدهما فضل قبل أن يشتريا بأن ازدادت قيمة أحد النقدين بعد عقد المفاوضة قبل الشراء؛ انتقضت المفاوضة؛ لأن عقد الشركة ليس لازم فلقائه حكم الابتداء إن لم يتم المقصود، وأما لم يتم المقصود، وإنما لم يتم المقصود بالشراء، فتحول الزيادة قبل الزيادة بمنزلة الزيادة وقت العقد. وبهذا الطريق قلنا: لو ورث أحد المتفاوضين ما يصلح أن يكون رأس مال الشركة؛ تبطل المفاوضة. قال محمد رحمه الله: وهذا إذا اشترى بأحد المالين وزاد الآخر؛ لأن المقصود لم يتم فيما لم يشتره، فصار كأن الزيادة كانت موجودة في الابتداء، وإن حصل الفضل بعد الشراء بالمالين، فالمفاوضة على مالهما؛ لأن المقصود قد حصل بالشراء وتأتي عقد الشركة، وكذلك إذا وقع أخذ المشترى بأحد المالين، وزاد الذي وقع الشراء به بعد ذلك لا تنقض المفاوضة لما قلنا. وإذا هلك أحد المالين قبل الشراء انتقضت الشركة؛ لأنه يأتي على ملك صاحبه، فإذا هلك فقد فات محل العقد، فيبطل العقد، فإن اشترى الآخر بعد ذلك بماله ذكر هذه المسألة في «الأصل» : في بعض المواضع أن المشترى له خاصة، وذكر في بعض المواضع أن المشترى مشترك بينهما، وذكر هذه المسألة في شرح القدوري (137أ2)

وجعلها على وجهين: إما أن يشترطا في عقد الشركة أن كل ما يشتريه واحد منا، فهو بيننا، وفي هذا الوجه كان المشترى مشتركاً بينهما، ولكن شركة ملك، فأما إن لم يشترطا في عقد الشركة أن كل ما يشتريه كل واحد منهما فهو بيننا. وفي هذا الوجه كان المشترى لصاحب المال خاصة؛ قال شمس الأئمة السرخسي: في شركة ما ذكر في «الأصل» في بعض المواضع: أن المشترى له خاصة محمول على ما إذا أطلقا عقد الشركة، ولم يشترطا أن ما يشتريه كل واحد منا فهو بيننا، وما ذكر في بعض المواضع أن المشترى مشترك بينهما؛ محمول على ما إذا شرطا في عقد الشركة أن كل ما يشتريه كل واحد منا فهو مشترك بيننا بما ذكره القدوري؛ وهذا لأنهما إذا شرطا في عقد الشركة أن ما يشتريه كل واحد منا فهو بيننا، فهلاك أحد المالين إن بطلت الشركة لم تبطل الوكالة، فيكون المشترى بينهما، ولا كذلك إذا أطلقا عقد الشركة. وإن هلك واحد من المالين حتى اشتريا شيئاً بأحد المالين، ثم هلك الآخر هلك على مال صاحبه، وانتقضت الشركة في الهالك، ويكون المشترى مشتركاً بينهما؛ لأن الشركة كانت قائمة حتى اشتريا بأحد المالين، وصار المشترى مشتركاً بينهما، فلا ينتقض ذلك بهلاك المال الآخر بعد ذلك؛ بعد هذا قال أبو الحسن: المشترى مشترك بينهما شركة ملك حتى لا ينعقد بيع أحدهما في جميعه؛ لأن المشترى مشتركاً بينهما شركة عقد؛ فانتهت الشركة نهائياً فلا يتعين هذا الحكم بهلاك المال الآخر بعد ذلك. وإن أنكر أحد المتفاوضين المفاوضة انفسخت المفاوضة؛ هكذا ذكر شيخ الإسلام في أول باب خصومة المفاوضين المفاوضة انفسخت المفاوضة بينهما، ويجب أن يكون الحكم في جميع الشركات هكذا، فإذا فسخ أحد الشريكين الشركة، ومال الشركة أمتعة صح الفسخ بخلاف المضاربة؛ هكذا ذكر في «الأصل» . وذكر الطحاوي: أنه لا يصح الفسخ، وجعلها بمنزلة المضاربة، وهذا إذا فسخ بحضرة صاحبه، فأما إذا فسخ بغيبة صاحبه، ولم يعلم صاحبه بالفسخ لا يصح الفسخ؛ سواء كان رأس المال أمتعة أو كان دراهم، ولو مات أحد الشريكين انفسخت الشركة علم الشريك بموته أو لم يعلم، ولو كان الشركاء ثلاثة؛ مات واحد منهم حتى انفسخت الشركة في حقه؛ لا ينفسخ في حق الباقين، وإذا قال أحد الشريكين لصاحبه: لا أعمل من كسب الشركة، فهذا بمنزلة قوله: فاسختك الشركة. وفي «المنتقى» : ثلاثة نفر متفاوضين، غاب أحدهم، وأراد الآخران الفسخ، فليس لهما ذلك دون الغائب، ولا ينتقض بنقض العقد دون البعض، وإن ورث أحد المتفاوضين ما تصح به الشركة، كالدراهم والدنانير، وصارت في يده؛ بطلت المفاوضة، وإن ورث عروضاً أو ديوناً لم تبطل المفاوضة ما لم يقبض الديون، وإن أجر أحدهما عبداً له خاصة، أو باع لا تبطل المفاوضة ما لم يقبض الأجر؛ وهذا لأن المفاوضة ليست بملازمة، وما ليس ملازم من العقود، فلدوامه حكم الابتداء، فصارت المفاوضة في حالة الدوام كالمفاوضة في الابتداء المشتركة، ثم المفاضلة في العقود في ابتداء العقد يمنع

انعقاد المفاوضة، فيمنع بقاؤها والمفاضلة في العروض والديون لا يمنع ابتداؤها، فلا يمنع بقاؤها، وفي كل موضع فات فيه شرط من شروط المفاوضة، وذلك ليس بشرط في العنان؛ كانت الشركة شركة عنان؛ لأن المفاوضة أعم من العنان، فيجوز إثبات العنان بلفظ المفاوضة. نوع منه فى تصرف أحد المتفاوضين في مال المفاوضة قال محمد رحمه الله: لكل واحد من المتفاوضين أن يشتري بجنس ما في يده حتى إذا كان في يده مكيلاً أو موزوناً، فما اشترى بذلك الجنس جاز، وإن اشترى بما ليس في يده من ذلك الجنس، فإن اشترى بالدراهم أو بالدنانير، وليس في يده دراهم ولا دنانير؛ كان المشترى خاصاً للمشتري، ولا يجوز شراؤه على الشركة، ولو جاز ذلك صار مستديناً على شريكه، وهو لا يملك ذلك إلا بإذن شريكه إذ لو ملك ذلك يزيد مال الشركة على مال انعقدت به الشركة، والشريك لم يرضَ بذلك، فأما إذا كان في يده من جنس ذلك، فهو ليس باستدانة، وروي عن أبي حنيفة: إذا كان في يده دنانير، فاشترى بدراهم جاز؛ لأنها كالعقد الواحد، فكأنه اشترى بجنس ما في يده. وفي «الأصل» : لأحد المتفاوضين أن يكاتب عبداً من تجارتهما، وله أن يأذن له في التجارة، أو في الغلة، أما الإذن في التجارة وأداء الغلة؛ فلأنه من جملة التجارة، وأما الكتابة فلأنها اكتساب مال، ولهذا ملكه الأب، والوصي في مال اليتيم، واكتساب المال داخل تحت المفاوضة كالتجارة، وليس له أن يعتق عبداً من تجارتهما على مال؛ لأن العتق على مال ليس بتجارة، ولا هو اكتساب مال؛ لأن الملك يزول ببدل في ذمته فيفلس وله أن يزوج أمة من تجارتهما، وليس له أن يزوج عبداً من تجارتهما، على مال؛ لأن العتق على ما ليس بتجارة وبتزويج الأمة اكتساب المال بخلاف تزويج العبد، وإن زوج أمة من تجارتهما عبداً من تجارتهما لا يجوز استحساناً عند علمائنا الثلاثة، وكذلك المكاتب إذا زوج عبداً من كسبه أمة من كسبه؛ لا يجوز استحساناً، وكذلك إذا زوج أمة اليتيم من عبد اليتيم استحساناً، وله أن يشارك رجلاً شركة عنان ببعض مال، ويجوز عليه وعلى شريكه سواء كان بإذن شريكة، أو بغير إذن شريكه. في «المنتقى» عن محمد: إذا شارك شركة مفاوضة بغير محضر من صاحبه؛ كان عناناً لا مفاوضة، وإن فعل ذلك بحضرة شريكه وشريكه لا يرضى فهذه مفاوضة بين الأولين، والذي فاوض منهما مفاوض للذي فاوضه، وإن شاركه شركة مفاوضة، وكانت عناناً، وليس له أن يفاوض؛ هكذا ذكر شيخ الإسلام في أول باب بضاعة المفاوض، وذكر شمس الأئمة السرخسي في هذا الباب، وله أن يفاوض، وذكر بعد هذا، وقال أبو يوسف: لا يجوز للمفاوض أن يفاوض. في «المنتقى» : عن أبي يوسف في متفاوضين شارك أحدهما رجلاً شركة عنان في الرقيق، فهي جائزة، وما اشترى هذا الشريك من الرقيق فنصفه للمشتري، ونصفه بين

المتفاوضين نصفين، ولو أن المفاوض الذي لم يشارك اشترى عبداً كان نصفه لشريك شريكه، ونصفه بين المفاوضين؛ لأن شركة أحد المفاوضين جائز عليهما، ويجوز له أن يرهن مال المفاوضة بدين على المفاوضة إن الرهن إيفاء. وكذلك لو رهن متاعاً من خاصته، مباعاً بدين المفاوضة، ولم يكن متبرعاً، ويرجع على شريكه بنصف الدين؛ إن كان الرهن قد هلك في يد المرتهن، ولو كان الدين على أحد المفاوضين خاصة من مهر امرأته أو أرش جنايته، ورهن بذلك مالاً من تجارتهما؛ كان ذلك جائزاً عليه وعلى شريكه؛ حتى لم يكن لشريكه أن يسترده من يد المرتهن، وإذا هلك الرهن في يد المرتهن؛ رجع عليه شريكه بنصف الدين، ولا يرجع بالزيادة (137ب2) على قدر الدين؛ لأن الزيادة على قدر الدين أمانة، ولأحد المتفاوضين أن يودع، وإن كان الدين من تجارتهما على رجل فارتهن به أحدهما رهناً، فهو جائز سواء كان هو الذي يلي المبايعة أو صاحبه؛ لأن الارتهان استيفاء، وكل واحد من المتفاوضين وكيل عن صاحبه في استيفاء الدين الواجب بتجارته، ولأحد المتفاوضين أن يدين مال المفاوضة، وأن يغذي الطعام التهنئة من مال المفاوضة، وأن يدعوا إليه استحساناً؛ يريد بقوله يدعوا إليه أن يتخذ دعوة، وإنما كان ذلك له؛ لأنه من صنع التجارة، والتجار لا يجدون بداً منه. ألا ترى أن العبد المأذون يملك ذلك، ولا يقدر في الدعوة تقديراً، وقد قال: إن المكاتب يتصدق بما دون الدرهم، فمن مشايخنا من قال: التقدير في الصدقة تقدير في الضيافة، ومنهم من فرق بينهما، فقال: التصدق بما دون الدرهم ممكن، فأما اتخاذ الضيافة والإهداء قد لا يتهيأ بما دون الدرهم ممكن، فقد تقع الحاجة إلى الإهداء إلى جماعة، وإلى اتخاذ الدعوة لجماعة، فكان التقديرمفوضاً إلى العرف فيما يعده التجار فيما بينهم تبرعاً لا يملكه المفاوض، ثم إنما يتملك الإهداء بالمأكول من الفاكهة واللحم والخبز، ولا يملك الإهداء بالذهب والفضة؛ لأنا إنما دخلنا الإهداء في الشركة لعرف التجار، وعرفهم في إهداء المأكول، ثم ذكر اللحم في «الكتاب» ، ولم يفصل بين المشوي والنيء، فمن مشايخنا من قال: أراد به المشوي؛ إلا أن محمداً رحمه الله أطلق، ولم يقيد. وإذا أعار أحد المتفاوضين دابة من المفاوضة من رجل، فركبها المستعير، ثم اختلفا في الوضع الذي ركبها إليه، وقد عطبت الدابة، فقال أحدهما: إما المعير، وإما شريكه: إنه جاوز الوقت، وقال الآخر: إنه لم يتجاوز، وكانت الإعارة إلى هذا المكان، فلا ضمان على المستعير؛ لأن قول أحدهما فيما دخل تحت المفاوضة كقولهما، ولو قالا: إن الإعارة كانت إلى هذا المكان؛ لا ضمان على المستعير؛ كذا ههنا، ولأحد المتفاوضين أن يودع مال المفاوضة؛ لأنه من توابع التجارة، فإذا ادعى المودع أنه قد ردها إليه، أو إلى صاحبه، فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه مسلط على الرد على كل واحد منهما، فإنه كما يقوم أحدهما مقام صاحبه في الإيداع فكذا في الاسترداد، فإن جحد الذي ادعى عليه ذلك لم يضمن لشريكه بقول المودع؛ لأن يقول المودع يثبت الدفع إليه

في حق براءة المودع عن الضمان؛ لا في حق إيجاب الضمان على المدفوع إليه، ولكن يحلف بالله ما قبضه؛ لأن شريكه يدعي عليه ضمان نصيبه بجحوده القبض. قال: ولو مات أحدهما، ثم ادعى المستودع أنه كان دفعها إلى الميت منهما، فلا ضمان على المودع؛ لأنه بقي أميناً، وقول الأمين في رد الأمانة مقبول، وإن ادعى أنه دفعها إلى ورثة الميت منهما فكذبوه، وحلفوا على دعواه، فهو ضامن للنصف حصة الحي من ذلك؛ لأن في نصيب الميت كان له حق الدفع إلى ورثته، فأما ليس له أن يدفع نصيب الحي إلى ورثة الميت؛ لأن ورثة الميت خلفا الميت في حقه خاصة، وليس لأحدها أن يفوض شيئاً من مال المفاوضة في ظاهر الرواية، قالوا: وينبغي أن يكون له الإعراض بما لا خطر للناس فيه. وذكر الحسن أن على قول أبي حنيفة لأحد المتفاوضين أن يقرض مال المفاوضة من رجل من به، وله أن يبضع، وأن يدفع المال، مضاربة؛ روى الحسن عن أبي حنيفة أنه ليس له أن يدفع المال مضاربة، فإن أبضع أحدهما، ثم تفرق المفاوضان أي تقاسما المفاوضات، ثم استحال المستبضع بالبضاعة شيئاً، فإن علم بتفرقهما، فالمشترى للمبضع وحده، فإن لم يعلم بتفرقهما؛ كان المشترى للمبضع ولشريكه؛ لأن الإبضاع توكيل، وصح ذلك من أحدهما عليهما، والافتراق عزل منهما إياه، وحكم العزل قصداً لا يثبت في حق الوكيل قبل علمه. قال القدوري: ولأحد المتفاوضين أن يسافر بالمال بغير إذن شريكه، وهو الصحيح من مذهب أبي حنييفة، ومحمد، وروي عن أبي حنيفة أنه ليس له ذلك، وهو قول أبي يوسف، وروي عن أبي يوسف: أنه يفرق بين ما له حمل ومؤنة وبينما لا حمل له ولا مؤنة، ثم إذا سافر على قول من جوز المسافرة، أو أذن له الشريك بذلك، فله أن ينفق على نفسه في كرائه ونفقته وطعامه، وإدامه من جملة رأس المال، وروى ذلك الحسن عن أبي حنيفة، فإن ربح حسب النفقة في مال الشركة للعرف الظاهر فيما بين التجار في الإنفاق من مال الشركة إذا كان السفر لأخذ مال الشركة. نوع فيتصرف أحد المتفاوضين في عقد صاحبه، وفيما وجب بعقد صاحبه إذا أقال لأحدهما في بيع باعه الآخر جازت الإقالة عليهما، وكذلك إذا أقاله أحدهما في سَلَم باشره صاحبه؛ لأن الإقالة بمعنى البيع في تحصيل الربح، فإن الربح قد يحصل بالعقد مرة، وبالإقالة أخرى، فإذا نفذ عقد أحدهما على صاحبه، فكذا الإقالة. وإذا باع أحد المتفاوضين شيئاً بالنسيئة ومات فليس للآخر أن يطالب المشتري بشيء؛ لأنه لو طالبه بحكم الشركة؛ لأنه ليس بعاقد، والشركة قد انقطعت بالموت، ولكن لو دفع نصف الثمن إليه برىء استحساناً؛ لأنه ملكه، ألا ترى أن المشتري لو دفع الثمن إلى الموكل برىء منه استحساناً، كذا ههنا.

ولو باع أحد المتفاوضين شيئاً من تجارتهما، ثم إن البائع وهب الثمن من المشتري، أو أبرأه منه؛ جازت في قول أبي حنيفة ومحمد، ويضمن نصيب شريكه، وقال أبو يوسف: يصح في حصته خاصة كالوكيل الخاص إذا وهب الثمن من المشتري، أو أبرأه منه جاز في نصيبه، ولم يجز في نصيب صاحبه إجماعاً، وإذا أخرّ أحد المتفاوضين ديناً وجب لهما جاز تأخيره في نصيبه وفي نصيب صاحبه بالإجماع؛ سواء وجب الدين بعقد المؤخر، أو بعقد صاحبه، أو بعقد لها؛ لأن التأخير من توابع التجارة لا تجد التجارة بداً منه، وقد جعل فعل أحدهما في التجارة كفعلهما، فكذا في توابع التجارة. ذكر في «المنتقى» : وإذا كان على أحد المتفاوضين دين إلى أجل، فأبطل أحدهما الأجل بطل وحل المال عليها جميعاً. ولو مات أحدهما حل على الميت حصته، ولم تحل حصة الآخر؛ لأن بموت أحدهما بطلت المفاوضة، فإنما حل المال على الميت بعد انتقاض المفاوضة. وفيه أيضاً: المعلى عن أبي يوسف: إذا كان لرجل على المتفاوضين مال، فأبرأ أحدهما عن صحته، فهما يبرأان جميعاً من المال كله، وإذا اشترى أحدهما شيئاً من تجارتهما، فوجد الآخر به عيباً؛ كان له أن يرده؛ كما وجد الشراء منه حقيقة، وكذلك لو باع أحدهما شيئاً من شركتهما، ثم وجد المشتري به عيباً؛ كان للمشتري أن يردها بالعيب على الشريك الآخر؛ لأن البيع وجد من الآخر حكماً. ولو وكل أحد المتفاوضين رجلاً أن يشتري له جارية بعينها، أو بغير عينها بثمن مسمى، ثم إن الآخر نهى الوكيل عن ذلك فنهيه جائز؛ لأن عزل الوكيل من جميع التجارة كالتوكيل، ثم فعل أحدهما (138أ2) في التوكيل كفعلهما، فكذا في العزل، فإن اشتراها الوكيل بعد ذلك، فهو مشترٍ لنفسه؛ لأن الوكالة قد بطلت بعزل أحدهما إياه، وإن لم ينهه عن ذلك حتى اشتراها كان مشترياً لهما جميعاً ويرجع بالثمن على أيهما شاء، وكذلك لو وكل أحدهما بأدائه فللآخر إخراجه، ولو أجر أحد المتفاوضين عبداً من تجارتهما كان للشريك الآخر أن يطالب المستأجر بالأجر لما ذكرنا أن فعل أحدهما فيما هو تجارة بمنزلة فعلهما، وللمستأجر أن يطالب الشريك الآخر بتسليم العبد؛ لأن التسليم مضمون على الآجر بعقد التجارة، وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه فيما يلزمه بعقد التجارة. وإن آجر أحدهما عبداً له خاصة من الميراث لم يكن للآخر أن يطالب المستأجر بالأجر؛ لأن فعل أحدهما إنما جعل كفعلهما فيما هو من شركتها؛ ألا ترى أنه لو باع هذا العبد لم يكن للآخر أن يأخذ الثمن كذا ههنا؛ إذا باع أحد المتفاوضين شيئاً من متاع المفاوضة، ثم افترقا، ولم يعلم المشتري بافتراقهما؛ كان له أن يدفع جميع الثمن إلى أيهما شاء؛ لأن المشتري صار وكيلاً من جهة العاقد بتسليم جميع ما عليه إلى شريكه حالة المفاوضة، وافتراقهما عن المفاوضة عزل له عن ذلك، فلا يعمل بدون عمله، وإن علم بذلك لم يكن له أن دفع جميع الثمن إلا إلى العاقد، ولو دفع إلى الشريك الآخر برىء عن النصف دون النصف.

ولو وجد المشتري بالعبد عيباً لم يرده إلا على العاقد؛ لأن الرد على الآخر حال قيام المفاوضة، وقد انقطعت المفاوضة، فإن خاصم المشتري البائع في العيب حال قيام المفاوضة، ورد عليه؛ وقضي له بالثمن، أو بنقصان العبد عند تعذر الرد، ثم افترقا؛ كان له أن يأخذ به أيهما شاء؛ لأن هذا دين لزم أحدهما حال قيام الشركة، وصار الآخر مطالباً بحكم الكفالة، فلا يبطل حق صاحب الدين بالمفاوضة، ولو استحق العبد بعد الافتراق، وقد كان بعد الثمن كله قبل الافتراق، فللمشتري أن يرجع بالثمن على أيهما شاء؛ بخلاف الرد، فإن الرد بالعيب إذا حصل بعد المفارقة يرجع المشتري بالثمن على البائع، ولا يرجع على الشريك الآخر. والفرق: أن في الاستحقاق تبين أن الثمن كان واجباً قبل الافتراق؛ لأنه قبض ما ليس له قبضه، وما يجب على أحدهما جعل المفارقة يطالب الآخر به بعد المفارقة أما بالرد لا يتبين أن الثمن كان واجباً قبل المفارقة، وإنما يجب بعد المفارقة على أحدهما، فلا يطالب به الشريك الآخر، والله أعلم. نوع منه فى ما يلزم كل واحد من المتفاوضين بحكم الكفالة عن صاحبه وإذا أقر أحد المتفاوضين بدين التجارة جاز إقراره عليه وعلى شريكه، وللمقر له أن يطالب أيهما شاء المقر بحكم إقراره، والشريك بحكم الكفالة، وكذلك ما يلزم أحدهما من دين في عقد التجارة؛ كالشراء والبيع والاستئجار، ويلزم صاحبه بحكم الكفالة، وكذلك البيوع الفاسدة، فأما ما يلزم أحدهما من دين في عقد التجارة ضمان غصب أو استهلاك أو خلاف في وديعة أو عارية؛ لزم شريكه من قول أبي حنيفة ومحمد وكذا الإقرار بذلك، وقال أبو يوسف: لا يلزم الشريك؛ لأن هذا ضمان وجب بسبب الجناية، فشأنه ضمان الجناية على الآدمي، ثم ما وجب على أحد المتفاوضين من ضمان الجناية على الآدمي عمداً أو خطأً لا يؤاخذ به شريكه، فكذا ههنا. وأبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما يقولان: بأن ضمان الغصب يجري مجرى ضمان التجارات، فإنه يثبت الملك في المضمون ببدل وكذلك ضمان المستهلكات، ومن هذا الوجه صح إقرار العبد المأذون، والصبي المأذون، والمكاتب بذلك، وكل واحد منهما؛ كفيلاً عن صاحبه في ضمان التجارات بخلاف ضمان الجناية؛ لأنه لا يفيد الملك في المضمون، فلم يكن من جنس ضمان التجارة إلا إقرار الضمان على الغاصب، وعلى المستهلك حتى لو أدى شريك الغاصب لك من خالص ملكه، رجع بجميعه على الغاصب، وإن أدى من مال الشركة رجع بنصفه على الغاصب؛ لأن منفعة الغصب حاصلة للغاصب على الخصوص وهو إثبات اليد، والمتمكن من الانتفاع بخلاف الشراء الفاسد، فإن هناك إقرار الضمان لا يكون على المشتري خاصة، بل يكون عليهما؛ لأن منفعة الشراء الفاسد وهو الملك حاصلة لهما. ولوكفل أحدهما بمال من غيره؛ فذلك لازم لشريكه في قول أبي حنيفة، وقال أبو

يوسف ومحمد: لا يلزم الشريك؛ لأن الكفالة تبرع؛ ولهذا لا يصح من المأذون والمكاتب، وإذا حصل من المريض يعتبر من الثلث، وكل واحد منهما ليس بكفيل عن صاحبه في التبرعات، ولأبي حنيفة أن الكفالة تبرع ابتداءً؛ يعني حالة الوقوع؛ إلا أنها متى وقعت وصحت تنقلب مفاوضة. ألا ترى أن الكفيل يرجع بما يؤدي على المكفول عنه؛ إذا كفل بأمره ولكونها تبرعاً وقوعاً لم يصح من العبد والصبي، وإذا وقعت وصحت وقت الفراغ عن اعتبار معنى المفاوضة، فتلزمه بحكم الكفالة، ولوكفل أحدهما بنفس لم يوجد بذلك شريكه في قولهم جميعاً؛ لأنه لا يظهر معنى المفاوضة فيها. وإذا تزوج أحد المتفاوضين امرأة لا يؤاخذ شريكه بالمهر؛ لأن النكاح ليس بتجارة ولا اكتساب، فلا تظهر الكفالة في حقه، وكذلك لو صالحها عن نفقتها لا يلزم الشريك، من ذلك شيء كفل أحد المتفاوضين عن رجل بمهر أو أرش جناية، فهو بمنزلة كفالة بدين آخر؛ لا يؤاخذ به شريكه في قول أبي يوسف ومحمد وفي قول أبي حنيفة؛ يؤاخذ به؛ لأن الواجب على المفاوض في هذه الصورة بسبب الكفالة؛ لا بسبب الجناية والنكاح، والكفالة عنده مفاوضة. ولو أقر أحد المتفاوضين لمن لا تقبل شهادته له بدين؛ بأن أقر لأبيه أو لابنه أو لأمته، أو ما أشبه ذلك، لم يصح إقراره في حق شريكه في قول أبي حنيفة، وعندهما يجوز إقراره لعبده، ومكاتبه على شريكه، وإنما لا يصح لما قلنا من التهمة، وإذا افترق المتفاوضان، ثم قال أحدهما: كنت كاتبت هذا العبد في الشركة؛ لم يصدق على ذلك في حق الشريك؛ لأنه أقر بما لا يملك إنشاءه للحال، ولكن يصدق في حق نصيبه، ويجعل في حق الشريك كأنه أنشأ الكتابة للحال، ولشريكه أن يرده دفعاً للضرر عن نفسه، ولكن بعدما يحلف على علمه؛ لأنه لو أقر بما أقر به شريكه فكاتباً، فإذا أنكر يستحلف، وإن قال: أعتقت هذا في الشركة؛ صح إقراره في نصيبه، ولكن لا يشتغل بتحليف الآخر ههنا؛ لأنه لو أنشأ العتق في حال حق الشريك؛ لا ينفذ إقراره في نصيب شريكه، فكذا إذا أقر بعد الافتراق بخلاف الكتابة. رجل سلم ثوباً إلى خياط ليخيط بنفسه، وللخياط شريك في الخياطة (138ب2) شركة مفاوضة، ثم افترقا؛ لم يكن لرب الثوب أن يأخذ الشريك الآخر بالخياطة؛ لأنه لو أخذ أخذ بحكم الكفالة، والكفالة ههنا لا تصح؛ لأن هذه كفالة بخياطة رجل بعينه، وهذا بخلاف ما لو يشترط عليه أن يخيطه بنفسه، ثم افترقا، فإنه يؤاخذ الشريك الآخر بالخياطة؛ لأن الكفالة بمطلق الخياطة جائزة فلا تستقم مطالبة الآخر بعد الافتراق بحكم الكفالة.Y قال شيخ الإسلام في تعليل المسألة الأولى: ولهذا لم يكن لرب الثوب أن يطالب الشريك الآخر بالخياطة حال قيام المفاوضة، فبعد الافتراق أولى، وذكر شمس الأئمة السرخسي: أن لصاحب الثوب أن يطالب بالعمل منهما كشخص واحد، ولكل واحد

منهما قائم مقام صاحبه؛ لأن المساواة التي هي ركن المفاوضة لا تتحقق إلا به، فلا تظهر معنى الكفالة ما بقيت المفاوضة، وإنما يظهر يوماً يطالب الشريك الآخر بالخياطة؛ لأن الموجب الاتحاد وهي الشركة قد انقطعت، وإنما بقي معنى الكفالة، والكفالة ههنا غير صحيحة.... أن يأخذ أيهما شاء بالأجر، وكذلك إذا استأجر أحدهما أجيراً في شيء من أمره خاصة؛ كان للأجير أن يطالب أيهما شاء. ولو أجر أحد المتفاوضين نفسه بخيط شي له خياطة ثوب فالأجر بينهما، ولو أجر نفسه للخدمة، فالأجر له خاصة، وكذلك إذا أجر عبداً، خالصاً له فإن كان موروثاً، فالأجر له خاصة. والوجه في ذلك: أن في إجازة نفسه للخياطة وما أشبه ذلك من الأعمال، الأجير إنما يستوجب الأجر بنفس ذلك العمل، وإنه صحيح منه في حق صاحبه فما يجب بسببه يكون بينهما، وفي إجارة نفسه للخدمة الآجر يجب بتسليم النفس في نفسه؛ ليس من شركتهما؛ كما أن العبد الموروث له ليس من شركتهما. نوع منه فى استحلاف كل واحد من المتفاوضين بالدعوى على صاحبه إذا ادعى رجل على أحد المتفاوضين أنه باعه كذا بكذا، وجحد المدعى عليه، وحلفه القاضي، ثم إن المدعي أراد استحلاف الشريك الآخر؛ فالقاضي يستخلفه له على علمه؛ لأن كل واحد لو أقر بما ادعاه المدعي؛ كان إقراره ملزماً للآخر فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول الذي هو إقرار؛ لأن المدعى عليه البيع يستحلف على فعل نفسه، فيحلف على النيات والآخر يحلف على الغير، فيحلف على العلم، وأيهما نكل عن الثمن رضي بالمدعي للمشتري بالثمن الذي ادعاه؛ لأن النكول إقرار، وإقرار أحدهما بالمبايعة يلزم أياً منها وكذلك كل ما كان من أعمال التجارة؛ إذا ادعى رجل على أحدهما يحلف القاضي المدعى عليه على ذلك؛ كان للمدعي أن يحلف الآخر؛ لأن فيما كان من أفعال التجارة، ففعل أحدهما كفعلهما، وإذا وكل واحد منهما ويلزم الآخر، فيحلف كل واحد منهما يدعي المدعي رجاء النكول الذي هو إقرار. وأما ما ليس من أعمال التجارة إذا ادعاه رجل على أحدهما؛ لا يحلف الشريك الآخر عليه لأن ما ليس من أعمال التجارة لم يجعل فعل أحدهما كفعلهما، وإقرار أحدهما لا يلزم الآخر، فلا يكون في استحلاف الآخر فائدة، وإن كان أحد المتفاوضين ادعى شيئاً من أعمال التجارة على رجل وجحد المدعى عليه، وحلفه القاضي على ذلك، ثم أراد المفاوض الآخر أن يحلفه على ذلك، فليس له ذلك، فقد جعل استحلاف أحد المتفاوضين كاستحلافهما، ولم يجعل حلف أحد المتفاوضين في المسألة الأولى كحلفهما، والفرق: أن النيابة به تجري في الاستحلاف، ولا تجري في الحلف.

نوع منه فى شراء أحد المتفاوضين شيئاً لحاجة نفسه قال في «الأصل» : وكل ما اشترى أحد المتفاوضين من التجارتين وغيرهما، فهو بينه وبين شريكه؛ لأن شراء أحدهما بحكم المفاوضة كشرائهما إلا أني أستحسن في كسوته، وكسوة عياله، وقوتهم في الطعام، والإدام أن يكون له خاصته دون شريكه؛ لأن هذا مستثنى عن حصة المفاوضة لمكان الضرورة، وللبائع أن يطالب بالثمن أيهما شاء؛ لأن كل واحد بحكم المفاوضة صار كفيلاً عن صاحبه فيما يلزمه بسبب الشراء، وإذا أدى أحدهما ذلك من مال الشركة؛ رجع الشريك الآخر على المشتري بنصفه؛ لأن الثمن كان عليه خاصة، وقد قضى ذلك من مال الشركة. وإن اشترى أحد المتفاوضين جارية لحاجة نفسه ليطأها، فإن كان اشتراها بغير أمر الشريك فهي بينهما، وليس له أن يطأها؛ لأن هذا الشراء غير مستثنى عن عقد الشركة؛ لأنه لا ضرورة فيه، فبقي داخلاً تحت عموم عقد المفاوضة، وإن اشتراها بأمر الشريك، فهي له خاصة استحساناً، وللبائع أن يطالب بالثمن أيهما يشاء؛ كما لو اشترى طعاماً أو كسوة لأهله، ويكون إقرار الثمن على المشتري؛ حتى لو أدى أحدهما الثمن من مال الشركة؛ كان للشريك الآخر أن يرجع بنصف ذلك على المشتري؛ هكذا ذكر في كتاب الشركة ولم يحك خلافاً. وذكر في «الجامع الصغير» : أن على قول أبي حنيفة رضي الله عنه؛ الجارية للمشتري بلا ثمن، وله أن يطأها، وأيهما نقد الثمن من مال الشركة، فلا رجوع على المشتري، وبين ما ذكر في «الجامع الصغير» أن ما ذكر في كتاب الشركة قولهما، فهما يقولان: الشراء وقع له خاصة، والأداء حصل من مال الشركة، فيرجع عليه شريكه نصف ذلك كما في الطعام والكسوة. بيانه: أنه لما اشتراها بإذن صاحبه لنفسه، فقد صارت ملحقة..... وهو الكسوة والطعام؛ وهذا لأن الحاجة إلى الوطىء.... إلى أنها ليست ملازمة، فإذا أذن له في ذلك ألحقاها بالطعام، والكسوة خاصة، فيكون الثمن عليه خاصة في الطعام والكسوة، ولأبي حنيفة رحمه الله أن الشراء وقع على الشركة، والأداء حصل من مال الشركة، فلا يكون للشريك حق الرجوع على المشتري؛ كما لو اشتراها بغير إذن الشريك. بيانه: أن قضية المفاوضة أن كل ما يتصور أن تكون الشركة أن يقع شراؤه عن الشركة إلا فيما ليس الضرورة إليه، ولا ضرورة في الجارية، فوقع شراؤها على الشركة، وإنما شراؤه الجارية خاصاً له، وحل له وطؤها؛ لا لأن الشراء وقع على الخصوص؛ بل لأن المشتري يملك نصيب الشريك بعد الشراء بتمليك من جهته، وهذا يثبت في ضمن

الإذن بالوطء؛ لأنه وقع وقوع الشراء على الشركة؛ لا يحل للمشتري وطؤها إلا بعد تمليك الإذن نصيبه منه بطريق الهبة، فاقتضى الإذن بالوطء شرطاً، وهو الهبة، وتصح الهبة من غير تمليك؛ كما لو ثبت البيع في قوله: أعتق عبدك عني على ألف درهم من غير إيجاب وقبول، وصار تقديره كأن الإذن قال: اشترِ هذه الجارية على الشركة؛ لم تملك نصيبي بالهبة، فإذا اشترى، وقبض تمت الهبة؛ بخلاف الطعام، والكسوة؛ لأن ذلك مستثنى عن قضية الشركة بحكم الضرورة، فكان الملك واقعاً للمشتري خاصة بنفس (139أ2) الشراء، فيكون الثمن عليه، فإن كان اشتراها بإذن شريكه ووطئها، ثم استحقت فللمستحق أن يأخذ بالعقر أيهما شاء؛ لأن العقد دين وجب بسبب التجارة، فإنه لولا الشراء؛ لكان الواجب الحد بخلاف المهر في النكاح الصحيح، والفاسد. وفي «العيون» : إذا قال أحد المتفاوضين: إني أريد أن أشتري هذه الجارية لنفسي خاصة، فسكت شريكه، فاشتراها؛ لا تكون له ما لم يقبل شريكه، ثم فرق بين هذا، وبين الوكيل بشراء جارية بعينها إذا قال للموكل: أنا أريد أن أشتري تلك الجارية لنفسي، فسكت الموكل، فاشتراها الوكيل لنفسه، فإنها تكون له. والفرق: أن أحد المتفاوضن لا يملك تغيير موجب المفاوضة؛ إلا برضا صاحبه، وفي الرضى احتمال، والوكيل بالشراء يملك عزل نفسه بعلم الوكيل رضا الموكل أو سخط، وقد وجد العلم، أو باع أحد المتفاوضين من صاحبه شيئاً من الشركة ليقطعه قميصاً لنفسه؛ جاز بخلاف ما إذا باع أحدهما من صاحبه شيئاً من الشركة لأجل التجارة؛ لا يجوز؛ لأن البيع في الفصل الثاني غير مفيد؛ لأن المبيع قبل هذا البيع كان مشتركاً، وبعد هذا البيع يكون كذلك، وما لا يفيد لا يرد الشرع به؛ أما في الفصل الأول فالبيع مفيد؛ لأن بعد البيع يختص المشتري بملكه، وقبل البيع كان هو على الشركة. وكذلك لو باعه جارية ليطأها، أو طعاماً ليجعله رزقاً لأهله صح البيع؛ لأنه مفيد، ويكون نصف الثمن للبائع، والنصف للمشتري؛ كما لو باع من غيره، ولو كان لأحدهما عبد ميراثاً، فاشتراه الآخر للتجارة؛ كان جائزاً؛ لأنه مفيد، وكذلك لو كان لأحدهما أمة ميراثاً فاشتراها الآخر ليطأها؛ كان الشراء جائزاً؛ لأنه مفيد وهي له خاصة استحساناً، والثمن عليه بخلاف ما إذا اشترى جارية للوطء بإذن شريكه، فإن الثمن يكون عليهما؛ لأن إيجاب الثمن عليهما إذا كان البائع أحدهما متعذر؛ لأنه يصير كالبائع من نفسه، وإنه لا يجوز. نوع منه فى خصومة المتفاوضين، وما يتصل بذلك قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ادعى رجل على رجل أنه شاركه شركة مفاوضة، والمال في يد الجاحد، فالقول قول الجاحد مع يمينه، وعلى المدعي البينة، فإن جاء المدعي ببينة يشهدون على دعواه فهذا على وجوه: إما أن يشهدوا أنه مفاوضة وأن المال الذي في يديه بينهما، أو يشهدوا أنه مفاوضة

وأن المال الذي في يديه من شركتهما، وفي هذين الوجهين تقبل بينته، وقضي بالمال بينهما نصفان وهذا ظاهر. وإما أن يشهدوا أنه مفاوضة، وأن المال للذي في يده في هذا الوجه يقضى بالمال بينهما نصفان سواء شهدوا بذلك مجلس الدعوى، أو بعدما تفرقا عن مجلس الدعوى، إن شهدوا في مجلس الدعوى، فظاهر؛ لأنه ثبتت المعاوضة بشهادتهما، وثبت كون المال في يد الجاحد حال قيام المفاوضة بالمعاينة؛ وهذا لأن المعاوضة، وإن انفسخت بإنكار المدعى عليه؛ إلا أن المال كان في يده قبل الإنكار، وقبل الإنكار الحال حال قيام المفاوضة، وما في يد أحد المتفاوضين حال قيام المفاوضة يكون بينهما نصفان قضية بعقد المفاوضة، وهو التساوي وأما إذا شهدوا بعد الافتراق عن مجلس الدعوى؛ فلأن معنى قولهم: وإن المال في يده حال قيام المفاوضة لا للحال؛ لأن اليد للحال قائمة باقية معاينة لا حاجة إلى إثباتها بالشهادة، وإذا كان معنى قولهم، وإن المال في يده باطناً ثبتت المفاوضة، ويكون المال في يده حال قيام المفاوضة بالشهادة، وما في يد أحد المفاوضين حال قيام المفاوضة يكون بينهما، وأما إذا شهدوا أنه مفاوضة، فلم يزيدوا على هذا في هذا الوجه. ذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : أنه تقبل بينته، ويقضى بالمال بينهما، وإليه أشار محمد في «الكتاب» بعد هذه المسألة، وذكر شيخ الإسلام: أنهم إن شهدوا في مجلس الدعوى تقبل الشهادة، وقضي بالمال بينهما نصفان؛ لأنه يثبت بهذه الشهادة بالمفاوضة دعوى كون المال في يده حال قيام المفاوضة بالمعاينة، وإن شهدوا بعدما تفرقا عن مجلس الدعوى لا يقضى بالمال بينهما ما لم يشهدوا أنه بينهما نصفان، أو يشهدوا أنه من شركتهما، أو بعد الحال أن المال كان في يده يومئذٍ، أو شهد الشهود بذلك؛ وهذا لأن المناصفة لو ثبتت ههنا إنما تثبت إذا ثبت كون المال في يد الجاحد حال قيام المفاوضة لا الشهادة؛ لأن الشهود لم يتعرضوا للمال، ولم يثبت كون المال في يده حال قيام المفاوضة إذا شهدوا بعدما تفرقا عن مجلس الدعوى، لجواز أنه استفاد المال بعدما تفرقا عن مجلس الدعوى. بخلاف ما لو شهدوا بذلك في مجلس الدعوى؛ لأنه ثبت كون المال في يده حال قيام المفاوضة بالمعاينة؛ لأن المفاوضة إنما انفسخت بالإنكار، وقد عاينا المال في يده قبل الإنكار به. إذا قضى القاضي بينهما بالمال نصفين؛ ادعى الذي كان في يده المال ما في يده لنفسه ميراثاً أو هبة، أو صدقة من جهة غير المدعي فهذه المسألة على وجوه. إن كان شهود مدعي المفاوضة شهدوا أنه مفاوضة، فإن المال الذي في يديه بينهما نصفان، أو شهدوا أنه مفاوضة، وأن المال الذي (في يديه) من شركتهما، وفي هذين الوجهين لا تسمع دعواه، ولا تقبل بينته؛ لأنه صار مقضياً عليه بالمناصفة بالبينة، والمقضي عليه بالبينة إذا ادعى المقضي به لنفسه ملكاً مطلقاً الساعي من جهة غير

المدعي؛ لا تسمع دعواه، وإن شهود مدعي المفاوضة شهدوا أنه مفاوضة، وأن المال في يده، أو شهدوا أنه مفاوضة، ولم يزيدوا على هذا سمعت دعواه، وقبلت بينته عند محمد؛ خلافاً لأبي يوسف. وجه قول محمد: أن القضاء بالمال بينهما في هذين الوجهين ما كان بحكم الشهادة؛ لأن الشهود لم يتعرضوا للمال، وإنما كان بحكم الظاهر؛ لأن الظاهر ما في يد أحد المتفاوضين يكون بينهما، والقاضي متى خصه بظاهر المال؛ لا يمنع دعوى المقضي عليه للمقضى به، وإن لم يدع تلقي الملك من جهة، الدليل عليه: مسألة البناء والأشجار، وهي في آخر كتاب الشهادات. والدليل عليه فصل الإقرار؛ إذا أقر المدعى عليه أنه مفاوضة، ولم يزد على هذا؛ ثم ادعى أن يقضى ما في يده ميراثاً له، أو هبة، أو صدقة من جهة غير المدعي، وأقام على ذلك بينة؛ قبلت بينته وطريقه ما قلنا، ولأبي يوسف: أن القضاء بالمناصفة حصل بالبينة؛ لأن الشهود، وإن شهدوا عقد المفاوضة صورة؛ إلا أن الشهادة لعقد المفاوضة في حق القضاء حصلت شهادة بموجب المفاوضة، وهو المفاوضة إذا لم يجعل كذلك لبطلت الشهادة؛ لأن القضاء بالعقد متعذر لانفساخه بالإنكار، ولما جعل الشهادة.... كانت المفاوضة مقضياً بها بالبينة. وأما مسألة البناء والأشجار: فمن مشايخنا (139ب2) من قال: هي على الخلاف، ومنهم من فرق بينهما على قول أبي يوسف، وهو الصحيح. والفرق: أن القضاء بالأشجار والبناء حصل بحكم الظاهر؛ يعني به ظاهر الاتصال لا بالبينة؛ لأن شهادتهم بالأرض لم تجعل كناية عن الشهادة بالبناء؛ لأن العمل بحقيقة ما شهدوا في الأرض ممكن؛ أما ههنا بخلافه، وبخلاف الإقرار؛ لأن الإقرار بالمفاوضة لم يجعل كناية عن موجبها؛ لأن العمل بحقيقة الإقرار بالمفاوضة ممكن، فكان القضاء بالمناصفة هناك بحكم الظاهر. ولو كان المدعى عليه ادعى شيئاً ما بيده بطريق التلقي من المدعي؛ سمعت دعواه وقبلت بينته في الوجوه كلها؛ لأن صيرورته مقضياً عليه لا يمنع دعوى تلقي الملك من جهة المقضي له. وإذا مات أحد المفاوضين، والمال في يد الحي، فادعى ورثة الميت المفاوضة، وجحد الحي ذلك، وأقام ورثة الميت بينة أن أباهم كان شريكه شركة مفاوضة؛ لم يقض لهم شيء ما بيد الحي؛ إلا أن يشهد الشهود أن المال كان في يده حال حياة الميت؛ أو أنه من شركة ما بينهما، وفي حالة الحياة لو شهد شهود المدعي بالمفاوضة في مجلس الدعوى؛ يقضي بالمفاوضة؛ لأن في حالة الحياة عرفنا كون المال في يد المدعى عليه حال قيام المفاوضة بالمعاينة، وبعد الموت لم نعرف كون المال في يد الحي حال قيام

المفاوضة؛ حتى لو عرف ذلك بأن شهد الشهود أن المال كان في يد الحي حال الحياة الآن قضى بالمال بينهما، ثم إذا شهد الشهود أن المال كان في يد المدعى عليه حال حياة الميت؛ أو شهدوا أن هذا من شركة ما بينهما، وقضى القاضي بالمال بين الحي وبين ورثة الميت. لو ادعى الحي شيئاً لنفسه مما في يده بالميراث، أو ما أشبهه، ففيما إذا شهد شهود الورثة أن هذا المال من شركة ما بينهما؛ لا تسمع دعواه بلا خلاف؛ ففيما إذا شهدوا أنه كان في يده حالة حياة أبيهم المسألة على الخلاف بين أبي يوسف ومحمد. وإذا افترق المتفاوضان ثم ادعى أحدهما أن شريكه كان شريكه بالنصف، وادعى الآخر الثلث، وقد اتفقا على المفاوضة، فجميع المال بينهما نصفان؛ لأن الذي يدعي التفاوت متناقض أو راجع عن إقراره بالمناصفة فيقتضي إقراره بالمفاوضة، وإن كان في يد أحدهما..... فذلك...... في يديه، ولا يجعل في الشركة استحساناً؛ لأن هذه الأشياء مستثنى عن عقد المفاوضة، فالإقرار بالمفاوضة لا يكون إقراراً بهذه الأشياء، بقي مجرد الدعوى. وإذا ادعى رجل على غيره أنه شريكه شركة مفاوضة، وأن المال الذي في يده بينهما أثلاثاً، الثلثان لي، والثلث له، والمدعى عليه يجحد المفاوضة أصلاً، فأقام المدعي البينة على نحو ما ادعاه، لا تقبل هذه الشهادة قياساً. وفي الاستحسان: تقبل على أصل المفاوضة، واختلف عامة المشايخ لوجه الاستحسان، فعبارة بعضهم: أن المدعي بدعوى المفاوضة، وإن أكذب شهوده فيما شهدوا من المالية إلى أن قضية المفاوضة التساوي، إلا (أن) هذا إكذاب معنى لا لفظاً، وأنه لا يمنع قبول الشهادة، فعلى قول هذا القائل: لو كان المدعي ادعى المفاوضة، والمناصفة، وشهد الشهود بالمالية؛ لا تقبل الشهادة قياساً واستحساناً، وعبارة بعضهم: أنه لا حاجة للشهود لإتمام الشهادة إلى ما ذكروا من المبالغة فتلغى تلك الزيادة، وتبقى الشهادة على أصل المفاوضة، ولأن من الناس من يقول: المفاوضة مع التفاوت في المال جائزة، فلعل الشهود ممن يعتقدون ذلك، ففسروا الشهادة بناء على ما اعتقدوا، ولكن القاضي يقضي بما ثبت عنده بناء على اعتقاده؛ لا على اعتقاد الشهود، وعلى قدر هذين التعليلين يبقى أن تقبل الشهادة على أصل المفاوضة؛ متى ادعى المدعي المناصفة على جواب الاستحسان. وإن ادعى المفاوضة وأشهد الشهود بالإتلاف، وقال المدعي بعد ذلك: كانت كذلك، فعلى القياس والاستحسان؛ لأن البيان المتأخر عن الكلام عليه وقت الإجمال إذا افترق المتفاوضان، وأقام أحدهما بين أن المال كان كله في يد صاحبه، وأن قاضي كذا وكذا قد قضى بذلك عليه وهو المال، وإنه قضى به بينهما نصفان، وأقام الآخر بينة على

صاحبه بمثل ذلك من ذلك القاضي بعينه أو من غيره، فإن كان ذلك من قاضٍ واحد، وعلمنا التاريخ بين القضاءين أخذنا بالآخر، وهو رجوع عن الأول؛ لأن الجمع بين القضاءين متعذر، فلا بد من القضاء بأحدهما، فقضي بأحدهما، ويجعل إقدامه على القضاء الثاني وهو عالم بقضائه رجوعاً عن القضاء الأول؛ بأن ظهر له الخطأ في القضاء الأول، وإن كان ذلك من قاضيين، وعلم التاريخ بينهما أو لم يعلم؛ لزم كل واحد منهما القضاء الذي أنفذه عليه، ويحاسب كل واحد منهما صاحبه بما عليه، ويترادان الفضل؛ لأن الجمع بين القضاءين، وإن كان متعذراً؛ ليس أحدهما بتعينه للبطلان بأولى من الآخر؛ أما إذا لم يعلم التاريخ بينهما فظاهر، وأما إذا علم؛ فلأن إقدام القاضي الثاني على قضائه لا يمكن أن يجعل إبطالاً لقضاء القاضي الأول؛ إذ ليس له ولاية إبطال قضاء القاضي؛ بخلاف ما إذا كان القاضي واحداً، وعلم التاريخ بين القضاءين، (وكذلك إذا كان القاضي واحداً، وعلم التاريخ بين القضاءين) ؛ وكذلك إذا كان القاضي واحداً ولم يعلم التاريخ بين القضاءين، كان الجواب كالجواب فيما إذا كان ذلك من قاضيين؛ لأنه لا يعلم الباطل من الصحيح؛ ههنا. وإذا مات المتفاوضان، واقتسم الورثة جميع ما تركا ثم وجدوا مالاً كثيراً، فقال أحد الفريقين: هذا لنا وكان في قسمتنا، وكذبه الفريق الآخر وقال: إنه لم يكن في قسمتكم وإنه مشترك بيننا فهذا على وجهين: إن كان المال في المنكرين، فالمال بينهما نصفان، وإن كان في يد المدعين إن أشهدوا بالبراءة، من كل شرك بينهما، فالمال للمدعين؛ لأنهما اتفقا على أن هذا المال كان مشتركاً بينهما، وأحدهما منكر انقطاع الشركة، ولم يظهر سبب انقطاع الشركة، فيكون القول قول المنكر. فأما إذا شهدوا بالبراءة فقد ظهر سبب انقطاع الشركة، فلا يعتبر دعوى الآخر بقاء الشركة؛ هذا الذي ذكرنا إذا اتفقا أن المال كان داخلاً في الشركة؛ لكن ادعى أحدهما أنه دخل في قسمنا، فأما إذا كان المال في أحد الفريقين، فقال الذي في يديه المال: هذا المال كان لأبينا قبل المفاوضة، وكذبهم الفريق الآخر، فالمال بين الفريقين نصفين؛ أشهدوا أو لم يشهدوا بالبراءة؛ فلأن الورثة يقومون مقام المورث. ولو ادعى المورث حال حياته أن شيئاً مما في يده كان له قبل المفاوضة، وأنكر الآخر، وقال: كان من المفاوضة لا يختص به ذو اليد وكان بينهما إذا لم يكونوا أقروا بالبراءة عن كل شرك؛ كذا ههنا، وإن شهدوا فكذلك؛ لأن في رغم المدعين أن هذا المال لم يدخل تحت البراءة؛ لأنه إنما يدخل تحت البراءة ما كان من الشركة، وقد زعموا أن هذا المال لم يكن من الشركة حيث زعموا أنه (140أ2) كان لأبيهم قبل المفاوضة، فكان حكم هذا المال بعد الإشهاد على البراءة، كحكمه قبل الإشهاد عليه. وإذا شهد الشهود على الإقرار بالمفاوضة منذ عشر سنين، وقبل القاضي شهادتهم، ثبتت المفاوضة منذ عشر سنين وقبل ذلك؛ لأن الثابت من الإقرار بالبينة كالثابت عياناً، ولو عاينا إقرار المشهود عليه بالمفاوضة منذ عشر سنين؛ ثبتت المفاوضة منذ عشر سنين، وقبل ذلك بينهما؛ لأن الإقرار يقتضي سبق المخبرية. فكذا إذا ثبت الإقرار بالبينة. وإن

شهدوا على إنشاء المفاوضة منذ عشر سنين قضي بالمفاوضة منذ عشر سنين، ولا يقضى بالمفاوضة قبل ذلك؛ لأن الإنشاء لا يقتضي الوجوب قبله؛ بل يثبت الوجود مقصوراً على الإنشاء، بعد هذا ننظر ما علم بيقين أحدهما قبل المفاوضة يختص هو به وما كان مشكلاً، فهو للمفاوضة. وإذا أبرأ أحد المتفاوضين رجلين إن اشتريا له عبداً، أو سميا بثمن مسمى، فاشتريا ووقع الافتراق بين الشريكين، فقال الآمر: اشترياه بعد التفريق فهو لي خاصة، وقال الشريك الآخر: اشترياه قبل التفريق، فهو للآمر لأن الشراء جاز، فيحال بحدوثه على أقرب الأوقات، وهو ما بعد التفريق، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الآمر؛ لأنه يثبت زيادة في التاريخ، ولا يثبت شهادة الوكيلين في ذلك؛ لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما، وإن قال الآمر: اشترياه قبل الفرقة، وقال: الآخر: اشترياه بعد الفرقة، فالقول قول الآمر، والبينة بينة الآمر لما قلنا. نوع منه فى وجوب الضمان على المفاوض استعار أحد المتفاوضين دابة ليركبها إلى مكان معلوم فركبها شريكه فعطبت، فهما ضامنان، وكان يجب أن لا يضمنا؛ لأن الاستعارة من أحدهما جعلت كالاستعارة منهما؛ ألا ترى لو استعار أحدهما دابة إلى مكان معلوم، ليحمل عليها طعاماً له خاصة، فحمل عليها شريكه مثل ذلك الطعام من خاصة نفسه إلى ذلك المكان وعطبت الدابة فلا ضمان، وجعله كأنه أعار منها، والجواب على الاستعارة من.... وإنه للركوب، وصاحب الدابة قال: أعرتكما ليركب هذا بعينه، فركب الآخر يضمن. ولو استعار دابة لحمل حنطة.....، وقال صاحب الدابة: أعرتكما ليحمل هذا حنطة نفسه، فحمل الآخر من حنطة نفسه مثل تلك الحنطة؛ لا ضمان؛ لأن تخصيص أحدهما بالركوب مفيد، فيجب اعتباره، وكان قياس الركوب من الحمل أنه لو حصلت الإعارة لحمل الحنطة، فحمل عليها حديداً أو شيئاً مثل وزن الحنطة، وهناك يجب الضمان؛ لأن بين الأحمال تفاوت في الضرب بالدابة تفاوتاً فاحشاً. ثم في مسألة الركوب؛ إذا وجب الضمان وأدى الراكب ذلك من مال الشركة هل يرجع عليه شريكه ما أدى؟ ينظر: إن كان قد ركبها لحاجتهما؛ فلا رجوع، وإن كان قد ركبها في حاجة نفسه، فله الرجوع بنصف ما أدى، ولصاحب الدابة أن يطالب بضمان الدابة أيهما شاء؛ لأن الضمان الواجب على الراكب ضمان إتلاف مال، وما يجب على أحدهما بسبب إتلاف مال فصاحبه كفيل عنه بذلك. وإذا مات المفاوض، ومال المفاوضة في يده، ولم يبين، فلا ضمان عليه، بخلاف المودع إذا مات، ولم يبين مال المضاربة يصير ضامناً.

الفصل الرابع في العنان

والوجه في ذلك: أن ترك البيان لا يوجب الضمان بعينه، وإنما يوجب الضمان إذا صارت الأمانة مجهولة بترك البيان؛ بحيث لا يتوصل إليها صاحبها؛ ألا ترى أن الوديعة إذا كانت معروفة إذا مات، ولم يبين لا يضمنها؛ لأنها بترك البيان لا تصير مجهولة، قلنا: وفي المفاوضة لا تصير الأمانة مجهولة بترك البيان؛ لأن ما في يده كله بينهما. في «فتاوى أبي الليث» : أحد الشريكين إذا قال لصاحبه: اخرج إلى نيسابور، ولا تجاوز عنه، فجاوز عنه وهلك المال ضمن حصة شريكه؛ لأنه نقل حصة شريكه بغير إذنه. قال في «الأصل» : وكل وديعة كانت عند أحدهما، فهي عندهما؛ لأن قبول الوديعة لم يكن تجارة، فهي من صنيع التجار؛ لا يجدون بداً منه، وما كان من صنيع التجار ففعل أحدهما فيه كفعلهما، وإن مات المستودع قبل أن يبين، فهو ضامن، ويؤاخذ شريكه؛ لأن ضمان التجهيل ضمان ملك، فيظهر حكم الكفالة فيّه؛ لأن مال الحي ضاعت في يد الميت قبل الموت؛ لم يصدق؛ لأن الحي إنما جعل مودعاً حكماً للمفاوضة، فإذا انفسخت المفاوضة بحكم أحدهما لم يبق مودعاً، وصار هو وأجنبي آخر سواء. ولو أن أجنبياً أخذه بعدما مات المودع مجهلاً ضاع من يد الميت قبل الموت لم يصدق؛ كذا ههنا، ولأن الضمان وجب بالتجهيل، ولو زعم المودع بنفسه أنه كان قد هلكت بعدما لزمه الضمان بالجحود لم يقبل قوله كذا لا يقبل قول الشريك. فعلى قول هذين التعليلين نقول: إذا مات المودع مجهلاً، وادعى الوارث الضياع حال حياته؛ لا يقبل قوله، وإن كان الحي هو المستودع، وقال: ضاعت الوديعة من يد الميت قبل موته قبل قوله؛ لأن الحي صار مودعاً بقبول الإيداع؛ لا حكماً للمفاوضة، فيبقى.... بعد انفساخ المفاوضة؛ يقبل قوله في دعوى الهلاك مع اليمين، وإن قال الحي منهما: قد كنت استهلكت الوديعة حال حياة الميت، فالضمان عليه خاصة، وإن أقام البينة على ذلك فالضمان عليهما؛ لأنه أقر بالدين بعد انقطاع الشركة، وبعد انقطاع الشركة لا يملك إيجاب الدين على صاحبه، وإن أقام بينة على ذلك، فالثابت بالبينة كالثابت معاينة، ثبت الإتلاف حال قيام الشركة، وإنه يلزم صاحبه. الفصل الرابع في العنان هذا الفصل يشتمل على أنواع نوع منه فى شرط الربح والوضيعة وهلاك المال قال علماؤنا رضي الله عنهم: شركة العنان جائزة تساويا في رأس المال أو تفاضلا، ويجوز أن يشترط لأحدهما فضل في الربح إذا شرط العمل عليهما عند علمائنا

الثلاثة، وتكون زيادة الربح بمقابلة العمل، والربح يستحق بالعمل، لأن المضارب يستحق الربح بالعمل، وإذا شرط العمل عليهما، فالربح بينهما على ما شرطا وإن عمل أحدهما دون الآخر وإن شرط العمل على الذي شرطا له فضل الربح جاز، وتكون زيادة الربح بمقابلة العمل. ولو شرط العمل على أقلهما ربحاً خاصة لا يجوز؛ لأن الذي شرط عليه العمل شرط لصاحبه جزءاً من ربح ماله من غير أن يكون له فيه رأس المال، أو عمل. بيان ما ذكرنا فيما ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا ربحا أحدهما بألف درهم، والآخر بألفي درهم، واشترطا على أن الربح بينهما نصفان، والعمل عليهما، فهو جائز، ويصير صاحب الألف في معنى المضارب؛ إلا أن معنى المضاربة تبع لمعنى الشركة، فالعبرة بالأصل دون التبع، فلا يغيرهما اشتراط العمل عليهما، وإن شرط العمل على صاحب الألف، فهو جائز أيضاً، ووجه الجواز ههنا أليق؛ (140ب2) لأن صاحب الألف في معنى المضارب لصاحب الألفين، واشتراط العمل على المضارب تصح المضاربة ولا يبطلها. وإن شرط العمل على صاحب الألفين لا يجوز؛ لأن صاحب الألفين شرط لصاحب الألف جزءاً من ربح ماله من غير أن يكون فيه عمل أو رأس مال، وإن شرط الربح على قدر رأس مالهما أثلاثاً، والعمل من أحدهما كان جائزاً؛ لأن العامل منهما معين لصاحبه في العمل له في ماله؛ حيث لم يشترط لنفسه شيئاً من ربح مال صاحبه، فهو كالمستبضع في مال صاحبه. وإن شرط الوضيعة والربح نصفان، فشرط الوضيعة نصفان فاسد؛ لأن الوضيعة هلاك جزء من المال، فكأن صاحب الألفين شرط ضمان شيء مما هلك من ماله على صاحبه، وشرط الضمان على الأخر فاسد، ولكن بهذا لا تبطل الشركة حتى لو عملا وربحا، فالربح بينهما على ما شرطا، فالشركة مما لا تبطل بالشروط الفاسدة، وإن وصفا بالوضيعة على قدر رأس مالهما، وأي المالين هلك قبل الشراء به هلك على صاحبه، هلك في يده أو في يد صاحبه، وانتقضت الشركة، وقد ذكرنا هذا في شركة المفاوضة. وفي «النوادر» : دفع إلى رجل ألف درهم على أن يعمل بها؛ على أن الربح للعامل، والوضيعة عليه، فهلكت قبل الشراء بها، فالقابض ضامن؛ لأن المال في يده قرض، ولو قال: اعمل بها بيني وبينك، على أن الربح بيننا، والوضيعة بيننا، فهلكت قبل أن يعمل، فهو ضامن نصف المال عند محمد، وعن أبي يوسف لا ضمان عليه، وإن اشترى بالمال، ثم هلكت قبل العقد، فعلى الآمر ضمان نصف المال، وعلى المشتري مثل ذلك، فأبو يوسف يقول: نص على الشركة، فكان القبض واقعاً من المنصوص عليها، والقبض بجهة الشركة لا يستدعي ضماناً إلا إذا اشترى، فحينئذٍ يجب عليه ثمن نصف ما اشترى، ومحمد يقول بأنه نص على الشركة في المشترى، والربح، والوضيعة، وهذا لا يكون إلا بعد وجود رأس مال من جهة القابض، فيضمن القابض؛ ألا ترى أنه لو قال: اشترِ بهذه الألف على أن الربح لك كله، فهذا قرض في الكل، فكذا إذا شرط له البعض، وبه ختم.

نوع منه فى تصرف أحد شريكي العنان في مال الشركة ولكل واحد منهما أن يشتري بجنس ما عنده على نحو ما ذكرنا في المتفاوضين، وليس لأحدهما أن يكاتب عبداً من الشركة بلا خلاف، ولا يدفع الأمة من الشركة عند أبي حنيفة خلافاً لأبي يوسف، والخلاف في أحد شريكي العنان، وفي المضارب والمأذون سواء، وليس له أن يشارك غيره، وإذا لم يقل له الشريك: اعمل برأيك، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن أحد شريكي العنان إذا شارك غيره مفاوضة بمحضر من شريكه؛ تصح المفاوضة، وتبطل شركته مع الأول، وإن كان بغير محضر من شريكه؛ لم تصح المفاوضة. في «المنتقى» : أبو سليمان عن أبي يوسف في شريكي العنان؛ لو أشرك أحدهما رجلاً في الدقيق في الشراء، والبيع بغير إذن شريكه؛ جاز عليه وعلى شريكه، وما اشتراه واحد من الثلاثة، فنصفه للدخيل، ونصفه بين الشريكين الأولين، ولو رهن أحد شريكي العنان شيئاً من الشركة بدين خاصة؛ لم يجز إلا برضا صاحبه. وفي كتاب الرهن يقول: إذا رهن أحد شريكي العنان متاعاً من الشركة بدين عليهما لا يجوز يريد به إذا رهن بدين وجب عليهما بعقدهما؛ لأن الرهن إيفاء كل واحد منهما لا يملك إيفاء الآخر من ماله إلا بأمره، فكذا لا يملك الرهن، وكذلك إذا ارتهن بدين إذا أتاه؛ لأن الارتهان للاستيفاء، وهو لا يملك أن يستوفي ثمن ما وليه صاحبه لنفسه، فإن هلك الرهن في يده، وقيمته والدين سواء وثبت بحصته؛ لأنه يملك استيفاء حصة نفسه، وإن وليه صاحبه، فإذا ارتهن به صار كأنه استوفى كل الدين عند الاستيفاء في حصته، وأما شريكه فهو بالخيار؛ إن شاء رجع بحصته على المطلوب، ويرجع المطلوب بنصف قيمة الرهن على المرتهن، وإن شاء ضمن شريكه حصته من الدين؛ لأن يد المرتهن يد استيفاء فتعتبر بحقيقة الاستيفاء، وأحد شريكي الدين إذا قبض كل الدين؛ كان لصاحبه أن يضمن حصته من الدين، فكذا إذا صار قابضاً بالرهن. وفي كتاب الشركة يقول: إذا ارتهن بدين ولي المتابعة، فهو جائز في نصيبه، وفي نصيب صاحبه قياساً واستحساناً، وإن ارتهن بدين وليا المتابعة، أو يلي الآخر المتابعة؛ ذكر بعض المشايخ في «شرحه» : أنه لا يجوز في حصة صاحبه قياساً واستحساناً، ويجوز في حصته استحساناً؛ اعتباراً للاستيفاء الحكمي بالاستيفاء الحقيقي. وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : أنه لا يجوز أصلاً لا في حصة صاحبه، وهو ظاهر ولا في حصته؛ لأنه لو جاز في حصته كان مشاعاً، والشيوع يمنع صحة الرهن، وهذا إذا فعل بغير أمر صاحبه، فإن فعل بأمر صاحبه جاز الارتهان عليه وعلى صاحبه، وهذا ظاهر به فعل بغير إذن صاحبه، وملك الرهن ثبتت حصته من الدين، أما على قول من قال بجواز الرهن في حصته فظاهر، وأما على قول من قال بعدم الجواز؛ فلأن المقبوض بحكم الرهن الفاسد مضمون كالمقبوض بحكم الرهن الصحيح، ولأنه

المديون عن حصة شريكه، ويكون للمديون الخيار على ما بينا. وإذا أقر أحد شريكي العنان بالرهن؛ إذ الارتهان بعدما تناقضا الشركة؛ لا يصح إقراره إذا كذبه شريكه؛ لأنه حكى أمراً لا يملك استئنافه للحال، وإن أقر به حال قيام الشركة جاز عليه، وعلى شريكه إذا كان المقر هو الذي ولي العقد؛ وإن كان الذي ولي العقد غيره، أو كانا وليا العقد لا يجوز إقراره في حصة شريكه، وهل يجوز في حصة نفسه؟ على ما ذكر قبل هذا. ولكل واحد منهما أن يوكل بالبيع والشراء والاستئجار، وللآخر أن يخرجه من الوكالة، وإن وكل أحدهما بتقاضي ما داين فليس للآخر إخراجه؛ لأن العزل مع التوكيل يجريان مجرى واحد؛ وكل واحد منهما لا يملك التوكيل بتقاضي ما داينه صاحبه، فلا يملك عزل وكيله بتقاضي ما داينه. وفيما سوى هذه التصرفات شريك العنان كأحد شريكي المفاوضة ما يملكه أحد شريكي المفاوضة يملكه أحد شريكي العنان. نوع منه فى تصرف أحد شريكي العنان في عقد صاحبه، وفيما وجب بعقد صاحبه في «القدوري» : إذا قال أحدهما في بيع باعه الآخر؛ جازت الإقالة لما ذكرنا في فصل المفاوض. وفيه أيضاً: لو باع أحدهما متاعاً فرد عليه بعيب، ومثله بغير قضاء جاز عليهما؛ لأنه بمنزلة الإقالة، وكذلك لو حط من ثمنه أو أخر لأجل العيب؛ لأن العيب موجب الرد، ويجوز أن يكون الحط والتأخير أنفع، وإن حط من غيره له تبرع (141أ2) والتبرع غير داخل تحت الشركة، فلم ينفذ في نصيب الشريك، ولو أقر بعيب في متاع باعه؛ جاز عليه وعلى شريكه؛ لأن موجب الإقرار بالرد بالعيب ثبوت حق الرد عليه، ولأحد الشريكين أن يسترد، ويقبل العقد إذا كان لهما على رجل دين، فأخر أحدهما، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون المؤخر هو الذي ولي المتابعة، وفي هذا الوجه يجوز تأخيره في نصيبه، ونصيب صاحبه عند أبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف؛ لأنه في نصيب صاحبه وكيل بالبيع، والوكيل بالبيع إذا أخر الثمن، فهو على هذا الخلاف. الوجه الثاني: إذا وليا المتابعة. الوجه الثالث: إذا ولي الآخر المتابعة، وفي الوجهين جميعاً لا يجوز تأخيره في نصيب صاحبه بالإجماع، وهل: يجوز في نصيب نفسه؟ على قول أبي حنيفة: لا يجوز، وعلى قولهما: يجوز؛ لأن حصته من الدين مملوك له لملك إسقاطه، فيملك تأخيره.

ولأبي حنيفة: أنه لو صح التأخير في نصيبه ثبتت القسمة في الدين، فإن بالتأخير يتغير وصف الدين عما كان، فإنه كان على وصف لو قبض أحدهما نصيبه كان للآخر أن يشاركه فيه، وبعد التأخير لا يبقى له حق المشاركة ما دام الأجل قائماً يتغير نصيب أحدهما على وصف سوى نصيب الآخر فبقيت القسمة، والقسمة في الأعيان تكون لا في الديون، فلم يصح التأجيل. وإن أقر أحدهما بدين في تجارتهما وأنكر الآخر لزم المقر جميع الدين؛ إن كان أقر أنه ولي العقد فإن قال: اشتريت من فلان عبداً بكذا؛ لأن في النصف مشترٍ لنفسه، وفي النصف وكيل عن صاحبه، وحقوق العقد ترجع إلى العاقد، فيصير مقراً على نفسه بجميع الدين، فيؤاخذ بجميع ذلك، فأما إذا أقر أنهما ولياه بأن قال: اشترينا من فلان عبداً بكذا، وأنكر الآخر؛ لزمه نصفه. وإن قال: إن صاحبه وليه بأن قال: اشترى شريكي من فلان عبداً بكذا، وأنكر الآخر؛ ذكر في عامة نسخ كتاب الإقرار أنه لا يلزمه شيء، وذكر في بعض نسخ كتاب الإقرار أنه يلزمه النصف، والصحيح ما ذكر في عامة النسخ؛ لأنه أقر على غيره، ولا ولاية له على الشريك في إلزام الدين عليه بإقراره، فبطل ضرورة. وإن اشترى أحدهما شيئاً من تجارتهما، فوجد به عيباً؛ لم يكن للآخر أن يرده؛ لأن الآخر في النصف أجنبي، وفي النصف موكل، وليس للموكل أن يخاصم في العيب مع البائع؛ فيما اشتراه وكيله، فكذلك لو باع أحدهما شيئاً من تجارتهما لم يكن له أن يرده على الآخر، وإن استأجر أحد شريكي العنان شيئاً ليس للآجر أن يطالب الشريك الآخر بالأجر؛ لأن الشريك الآخر في النصف أجنبي وفي النصف موكل. وكذلك إذا أجر أحدهما شيئاً من تجارتهما، فليس للشريك الآخر أن يطالب المستأجر بالأجر، وما اكتسب أحدهما بتقبل الأعمال، وذلك ليس من شركتهما، فإنه يكون له خاصة؛ لأنه وكيل صاحبه في التصرف في مال الشركة، وتقبل هذا العمل ليس بتصرف منه في مال الشركة، ولو أخذ أحدهما مالاً مضاربة وربح فالربح له خاصة؛ هكذا ذكر في «الأصل» ، وذكر في «القدوري» ؛ لأن المضارب يستحق بسبب العمل، فصار كما لو آجر نفسه فتفرد به، وهذا الجواب صحيح فيما إذا أخذ مالاً مضاربة، فتصرف فيما ليس من تجارتهما، أو فيما هو من تجارتهما، أو مطلقاً حال حضرة صاحبه؛ لأن ما ليس من تجارتهما لم يدخل تحت الشركة، فيكون الحال فيه بعد الشركة كالحال قبل الشركة، وقبل الشركة لو أخذ أحدهما مالاً مضاربة، كان الربح له خاصة؛ لأن كل واحد من الشريكين فيما كان من تجارتهما بمنزلة الوكيل بشراء نصف شيء بعينه، والوكيل بشراء نصف الشيء بعينه إذا قبل الوكالة من الآخر؛ بشراء ذلك الشيء كله بحضرة الموكل الأول يخرج من وكالة الأول ويصير وكيلاً للثاني، كذا ههنا. فأما إذا أخذ ليتصرف فيما هو من تجارتهما، أو مطلقاً حال غيبة صاحبه، فنصف الربح يكون لشريكه، ونصف الربح يكون بين المضارب ورب المال؛ لأنه في النصف

بمنزلة الوكيل بشراء نصف شيء بعينه، فلا يملك إخراج نفسه من الوكالة حال غيبة صاحبه، فإذا قبل الوكالة من آخر بشراء الكل تنصرف الوكالة إلى ما كان يشتريه لنفسه، ولا تنصرف إلى ما يشتريه لصاحبه، فإذا اشترى بعد المضاربة يصير مشترياً نصفه للمضارب ونصفه لشريكه، فإذا ربح؛ كان نصف الربح لشريكه، ونصفه بين المضارب ورب المال على ما شرطا. نوع آخر منه إذا باع أحدهما شيئاً من تجارتهما؛ فليس للشريك الآخر أن يطالب المشتري الثمن، وهذا لما ذكرنا أن هذه الشركة تشتمل على الوكالة في مباشرة عقود التجارات دون الكفالة في استيفاء ما يجب بعقد صاحبه. وفي «المنتقى» : قال هشام عن محمد: إذا دفع المشتري الثمن إلى الشريك الآخر، لا يبرأ عن نصيب البائع إن لم يكونا شهدا حيث اشتركا أن ذلك جائز فيما بينهما، وكذا ما لزم أحدهما من ضمان التجارات لا يطالب الآخر به لما ذكرنا أنه ليس في هذه الشركة معنى الكفالة. نوع منه فى شراء أحدهما، وفي اختلاف رأس المال، وفي اعتبار قيمة رأس المال إذا اشترى أحد شريكي العنان شيئاً من تجارتهما، فهو له خاصة؛ لأن كل واحد منهما في شراء ما ليس من تجارتهما أجنبي عن صاحبه، وليس بوكيل عنه، فالوكالة تقبل التخصيص، وإن اشتركا بالعروض، أو المكيل، واشتريا بذلك، فلكل واحد منهما مما اشترى قدر قيمة متاعه، فإن كانت القيمة سواء، فهو بينهما نصفان، وإن كانت مختلفة فبحساب ذلك؛ لأن الشركة لما وقعت بالعروض والمكيل، وإنها تتعين بالتعيين بتقسيم ما اشتريا على العرض، ويثبت الملك في المشترى بقدر ما كان ثابتاً في العرض. فإن باعا المشترى بعد ذلك، ثم أرادا القسمة، فإن كانت الشركة وقعت بما لا مثيل له من العروض اعتبرت قيمته يوم الشراء؛ لأن حقهما في العرض انتقل إلى المشترى، وصار رأس مالهما فيما اشتريا بالشراء، ولا يجوز أن يثبت مثله في المشترى؛ لأنه لا مثيل له، فثبتت قيمته، وإن كان له مثل من المكيل والموزون والعددي المتقارب، فقد ذكر في «الأصل» : أنه يعتبر القيمة يوم القسمة، وذكر في «الإملاء» : أنه يعتبر القيمة يوم الشراء؛ قال القدوري: وهو الصحيح، وإليه أشار في «شرح الجامع» : فإنه في شركة «الجامع» اعتبر قيمة رأس المال عند اختلاف رأس المال ليحصل الربح يوم الشركة، وليحصل الملك في المشترى يوم الشراء، وليحصل رأس المال يوم القسمة، وإذا كان المعتبر في وقوع الملك في المشترى قيمة رأس المال يوم الشراء، فإنما يملك كل واحد منهما ثمن المشترى بقدر رأس ماله عند الشراء، ثم إذا باعا ذلك ضمن كل واحد منهما؛ يكون له كما في العروض إذا كان رأس مال أحدهما دراهم، أو رأس مال الآخر دنانير

(141ب2) قيمة الدنانير مثل قيمة الدراهم، فاشترى صاحب الدراهم بالدراهم غلاماً، واشترى صاحب الدنانير بالدنانير جارية ونقد المالين، وكان ذلك في صفقتين، فهلك الغلام والجارية في أيديهما يرجع كل واحد منهما على صاحبه بنصف رأس ماله. ولو اشترياهما صفقة واحدة، وباقي المسألة بحالها؛ لا يرجع أحدهما على صاحبه بشيء، وجعل كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه في شراء النصف حال تفرق الصفقة، ولم يجعل كذلك حال اتحاد الصفقة، وإنما كان كذلك؛ لأن الوكالة في هذه الشركة إنما تثبت ضرورة المستفاد بالشراء مشتركاً بينهما، وإذا اشتراهما بصفقة واحدة، فقد انعدمت هذه الضرورة؛ لأن المشترى يصير مشتركاً بينهما بدون الوكالة؛ هذه المسألة مع أجناسها في «الجامع» . في «المنتقى» : قال أبو يوسف في شريكين شركة عنان رأس مالهما سواء، وكل واحد منهما يعمل برأيه، ويبيع ويشتري وحده عليه وعلى صاحبه، فباع أحدهما حصته من متاع، وأشهد على ذلك، فالبيع من حصته، وحصة شريكه، وكذلك لو باع حصة شريكه؛ لأنه لا يستطيع أن يقاسم نفسه، وكذلك المضارب والمبضع إذا خلط ماله بمال الآخر، وقد أذن له أن يعمل فيه برأيه. فيه أيضاً: في شريكي العنان إذا كان أحدهما يلي البيع والشراء فاستدان ديناً، معناه اشترى بالنسيئه، ثم ناقضه صاحب الشركة، وأراد قبض نصف المتاع، وقال: إذا أخذ منك الدين، فارجع علي، فليس له ذلك.l وفيه أيضاً: عن أبي يوسف في المتفاوضين إذا تناقضا المفاوضة، وفي أيديهما متاع، فأراد أحدهما أخذ نصف المتاع فله ذلك؛ لأن للغريم أن يأخذ أيهما شاء بالدين. وفيه أيضاً: إذا قال لغيره: أشركتك فيما أشتري من الرقيق في هذه السنة، ثم أراد أن يشتري عبداً لكفارة ظهاره أو ما أشبه ذلك، وأشهد وقت الشراء أنه يشتريه لنفسه خاصة؛ لم يجز ذلك، وللشريك نصفه إذا أذن له في ذلك، وكذلك لو اشترى طعاماً لنفسه، وقد أشرك غيره فيما يشتري من الطعام. نوع منه مات أحد شريكي العنان، والمال في يده، ولم يبين، فهو ضامن؛ لأن بترك البيان ههنا تصير الأمانة مجهولة بحيث لا يتوصل إليها؛ لأن صاحبها بخلاف المفاوضة على ما مر. استعار أحد شريكي العنان دابة ليحمل عليها طعاماً..... له خاصة، فحمل عليها شريكه مثل ذلك الطعام من خاصة نفسه، وهلكت الدابة ضمن قيمة الدابة، ولو استعار أحد شريكي العنان دابة ليحمل عليها طعاماً من تجارتهما، فحمل عليها شريكه مثل ذلك الطعام من تجارتهما وهلكت الدابة؛ لا ضمان.

الفصل الخامس في الشركة بالوجوه

والحاصل: أن الاستعارة من أحد شريكي العنان إذا كانت منفعة العارية راجعة إلى المستعير خاصة ليس كالاستعارة منهما، والاستعارة من أحد شريكي العنان إذا كانت منفعة العارية راجعة إليهما كالاستعارة منهما، ولم يجعل هكذا في الشراء، فإنه إذا اشترى أحدهما شيئاً من تجارتهما، فليس للبائع أن يطالب الآخر بالثمن، ولم يجعل البيع من أحدهما بمنزلة البيع منهما. الفصل الخامس في الشركة بالوجوه وقدم مررّصورتها، وشرط جوازها في صدر الكتاب. قال محمد رحمه الله: وإذا اشتركا شركة عنان بأموالهما ووجوههما، فاشترى أحدهما متاعاً، فقال الشريك الذي لم يشترِ: المتاع من شركتنا، وقال المشتري: هو لي، وإنما اشتريته بمالي وبنفسي، فإن كان المشتري يدعي الشراء لنفسه بعد الشركة، فهو بينهما على الشركة إذا كان المتاع من جنس تجارتهما، وإن كان يدعي الشراء لنفسه قبل الشركة ينظر إن علم تاريخ الشراء، وتاريخ الشركة ينظر إلى أسبقهما تاريخاً، فإن كان تاريخ الشراء أسبق، فهو للمشتري مع يمينه بالله ما هو من شركتنا، وإن كان تاريخ الشركة أسبق، فهو على الشركة؛ لأن ما اشتراه أحد الشريكين بعد الشركة من جنس تجارتهما لنفسه حال غيبة الشريك الآخر، فهو على الشركة؛ لأنه لا يملك عزل نفسه حال غيبة صاحبه. وإن علم تاريخ الشراء، أنه كان قبل هذه المنازعة بشهر، ولم يعلم تاريخ الشركة، فهو للمشتري خاصة؛ لأنه إذا لم يعلم للشركة تاريخ، وإنها حادثة يحال بحدوثها على أقرب ما ظهر كأنهما عقدا الشركة للحال، فيصير الشراء قبل الشركة. وإن علم تاريخ عقد الشركة أنه كان قبل هذه المنازعة بشهر، ولم يعلم تاريخ الشراء أصلاً، فهو على الشركة، ويجعل كأنه اشتراه للحال لما مرَّ، وإن علم للشركة، والشراء تاريخ، فهو للمشتري مع يمينه بالله ما هو من شركتنا؛ لأنه إذا لم يعلم تاريخهما يجعل كأنهما وقعا معاً، ولو وقعا معاً، فالمشترى لا يكون على الشركة؛ لأن المشترى إنما يكون على الشركة إذا حصل الشراء بعد الشركة. الفصل السادس في الشركة بالأعمال قد ذكرنا أنها نوعان: صحيحة، وفاسدة. فالصحيحة: الشركة في تقبل الأعمال، وقد ذكرنا صورتها وشرائطها وحكمها.

قال القدوري: وإن عمل أحدهما دون الآخر، وهي مفاوضة أو عنان فالأجر بينهما على ما اشترطا؛ لأن الشركة انعقدت على التقبل وذلك نافذ عليهما، والعمل من أحدهما إبقاء لما عليه وعلى صاحبه، فيصير صاحبه كالمستعير بالعامل. في «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف في قصارين شريكين؛ طلب رجل ثوباً في أيديهما أنه دفعه بعمل له بأجر، فأقربه أحدهما وجحد الآخر، وقال: هو لي، فالمقر منهما مصدق في ذلك، فيدفع الثوب، ويأخذ الأجر استحساناً، والقياس: أن لا يصدق على شريكه؛ لأن هذه الشركة بمنزلة شركة العنان، وروي عن محمد أنه أخذ بالقياس، وقال: ينفذ إقراره بالنصف الذي في يده خاصة، وإنا استحسنا في ضمان العمل، والمطالبة بالأجر خاصة وألحقناها في هذين الوجهين بالمفاوضة، وفيما عداهما يبقى على الأصل. وجه الاستحسان: أنه لما ظهر معنى المفاوضة في ضمان العمل ظهر في محل العمل أيضاً، فنفذ إقراره في محل العمل على صاحبه. وكذلك إن كان في الثوب خرق؛ أقر أحدهما أنه من الدق، وجحد الآخر أن يكون الثوب؛ لو طالب وقال: هو لنا؛ صدقت المقر على ذلك؛ لأني أصدقه على الثوب أنه للمقر له. ولو أن المنكر أقر بالثوب لآخر ادعاه بعد إنكاره الأول كان الإقرار للأول في الثوب، ولا يصدق الآخر على الثوب، ويصدق على نفسه بالضمان، ولا يرجع على صاحبه بشيء من ذلك، وأيهما أقر بثبوت مستهلك..... لرجل، والآخر منكر فالضمان على المقر خاصة. وكذلك إذا أقر أحدهما بدين من ثمن صابون، أو أشنان مستهلك، أو أجر أجير أو أجر بيت يثبت لمدة مضت؛ لم يصدق على صاحبه (142أ2) إلا ببينة، ويلزم المقر خاصة، وإن كانت الإجارة لم تمضِ، والبيع لم يستهلك لزمهما، ونفذ إقرار المقر على صاحبه؛ إلا أن يدعي أنهما بغير شراء، فيكون القول قوله، قال: ولا يشبه الشراء الإجارة في هذا الوجه؛ إنما أحدث في الإجارة بالاستحسان. ألا ترى أن البائع يأخذ بالثمن المشترى دون الشريك، ويأخذ في الإجارة بالعمل أيهما شاء استحساناً، وإنما أحدث في الشراء بالقياس؛ كحكم الشريكين غير المفاوضين. وإن قال أحدهما: اشتريت هذا الصابون من هذا وشريكي بدرهم، وقال الآخر مثل ذلك، فعلى كل واحد منهما نصف درهم للذي أقر له والصابون بينهما. ولو قال: اشتريت هذا الصابون من هذا بدرهم، وقال الآخر: لا، بل اشتريته أنا من هذا الآخر بدرهم، فعلى كل واحد منهما درهم للذي أقر له، ولا يرجع واحد منهما على صاحبه بشيء.

ابن سماعة عن محمد في ثلاثة نفر من الكيالين اشتركوا بينهم على أن يقبلوا الطعام ويكيلونه، فما أصابه من شيء كان بينهم فقبلوا طعاماً بأجر معلوم، فمرض رجل منهم وعمل الآخران، قال: الأجر بينهم أثلاثاً. ولو أنه حين مرض أحدهم كره الآخران (أن) يعملا عمله فناقضاه الشركة بمحضر منه، أو قالا: اشهدوا أنا قد ناقضناه الشركة، ثم كالا الطعام كله، فلهما ثلثا الأجر، ولا أجر لهما في الثلث الباقي، وهما متطوعان في كيله، ولا يشركهما الثالث فيما أخذا من الأجر. وكذلك ثلاثة نفر قبلوا من رجل عملاً بينهم، وليسوا بشركاء ثم عمل أحدهم ذلك العمل، فله ثلث الأجر، وهو متطوع في الثلثين من قبل أنه ليس لصاحب العمل أن يأخذ أحدهم بجميع ذلك العمل؛ لأنهم ليسوا بشركاء، إذا كانوا شركاء فلصاحب العمل أن يأخذ من وجد منهم بجميع العمل. في «فتاوى أبي الليث» : رجلان اشتركا لحفظ الصبيان وتعليم القرآن، فعلى ما أخبرنا الجواب في «الفتوى» : أن الاستئجار بتعليم القرآن جائز، تجوز هذه الشركة، فأما الشركة الفاسدة منهما، فلها صور، وقد ذكرنا بعضها في صدر الكتاب، وهي الشركة في أخذ المباح كالحطب، والحشيش، والصيد، وما أشبه ذلك، ولكل واحد منهما ما أخذ وثمنه له، وربحه له، وصنعته عليه؛ لأن الشركة إذا لم تصح كان الحال بعد الشركة كالحال قبل الشركة، وقبل الشركة الحكم ما بينا. وإن أخذ كل واحد منهما على الانفراد شيئاً وخلطاه وباعاه، فإن كان يعلم قدر ما أخذ كل واحد منهما قسم الثمن على قدر الكيل والوزن؛ إن كان ما أخذا مما يكال أو يوزن، وإن كان مما لا يكال، ولا يوزن ضرب كل واحد منهما بقسمته، وإن لم يعرف الكيل والوزن والقسمة، صدق كل واحد منهما فيما يدعي من ذلك إلى النصف؛ لأن المال في أيديهما على السواء ألا ترى أنهما لو أخذاهما كان المأخوذ منهما، وطريقه ما قلنا. فإن احتطب واحتش أحدهما، وأعانه الآخر؛ كان المجموع كله للذي احتطب، وللآخر أجر مثله عندهم جميعاً؛ لأن المحتطب استوفى منفعة المثنى بحكم عقد فاسد. ولا يجاوز به نصف الثمن عند أبي يوسف؛ لأنه قد رضي بنصف المسمى ألا ترى أن ضمان الإجارات الفاسدة لا تزاد على المسمى، وإنما لا يزاد لما قلنا، وعند محمد يجب أجر المثل بالغاً ما بلغ؛ لأن المسمى ههنا مجهول القدر والجنس، فإنما لا يدريان أي شيء يصيبان، وكم يصيبان، والقسمية في الإجارات الفاسدة إذا كانت مجهولة يجب أجر المثل بالغاً ما بلغ، وإذا كانت معلومة وفسدت الإجارة بسبب من الأسباب؛ لا يزاد على المسمى بلا خلاف. وكذلك إذا اشتركا على أن يقلعا الطين من أرض مباح، ويبيعانه، وكذلك إذا اشتركا على أن يبيعا من أرض طين لا يملكانه، ويصبحا أجراء فهذه الشركات كلها فاسدة، وإن كان الطين مملوكاً لرجل، فاشتركا على أن يشتريا من ذلك الطين ويبنيا منه،

فذلك جائز؛ لأنه إن كان لهما رأس مال، فهذه شركة عنان، وإن لم يكن لهما رأس مال، فهذه شركة وجوه، وكلاهما جائزان. وإذا اشتركا في الاصطياد ولهما كلب فأرسلاه، أو نصب شبكة، فالصيد بينهما، وإن كان الكلب لأحدهما، فأرسلاه فما أخذ فهو لصاحب الكلب؛ لأنه منفعة كلية، ومنفعة ملك الإنسان له إلا إذا جعلها لغيره، كما لو أعار كلبه من غيره، فاصطاد به المستعير، وإنما قلنا: إن الصيد منفعة كلية؛ لأن الإصابة بالإرسال والأخذ جميعاً؛ إلا أن الآخذ أخذهما، فكانت الإصابة مضافة إلى الآخذ والآخذ كلباً، فهذا معنى قولنا: إن الصيد منفعة كلب أحدهما. وإن كان لكل واحد منهما كلب، فأرسل كل واحد منهما كلبه، فإن أصاب كل كلب صيداً على حدة، كان ذلك الصيد لصاحبه، وإن أصابا صيداً واحداً، فهو بينهما، وإن أصاب أحدهما صيداً إلا أنه لم يثخنه؛ ثم جاء الكلب الآخر، وأعانه عليه؛ كان بينهما نصفين؛ لأن الأخذ في هذه الصورة مضاف إلى الكلبين، فإنه لولا الثاني ينقلب الصيد عن الأول بخلاف ما أثخنه الأول؛ لأن الأخذ في هذه الصورة مضاف إلى الأول، فإنه لولا الثاني لكان لا ينقلب الصيد عن الأول. ومن صورة الشركة الفاسدة إذا اشتركا، ولأحدهما بغل، وللآخر بعير على أن يؤاجراهما والأجر بينهما، فالشركة فاسدة؛ لأن تقديرها كأن كل واحد منهما قال لصاحبه: آجر دابتك ليكون الأجر بيننا، ولو صرح بذلك كانت الشركة فاسدة. وفي الأعمال بأبدانهم؛ لأن العقد هناك على تقبل العمل، وتقديرها كأنّ كل واحد منهما قال لصاحبه تقبل.... لنعمل، ويكون الأجر بيننا، ولو صرح بذلك كان جائزاً، وإن أجراها له جميعاً بأعيانهما صفقة واحدة، ولم يشترطا في الإجارة عمل أحدهما كان الأجر مقسوماً بينهما على قدر أجر مثل دابتهما كما قبل الشركة. وإن شرط عملهما مع الدابة نحو ... والحمل، وغير ذلك قسم الأجر على أجر مثل دابتهما، وعلى أجر عملهما كما قبل الشركة، وإن تقبلا عمولة معلومة بأجر معلوم، ولم يؤاجر البغل والبعير اللذين أضافا عقد الشركة إليهما، فالأجر بينهما نصفان، ولا يقسم على أجر مثل دابتيهما؛ لأنهما لم يؤاجرا الدابتين؛ بل تقبلا الحمل لا غير ألا ترى أنهما لو حملاه على أعناقهما استحقا الأجر، فالعقد انعقد على التقبل والتقبل منهما وجد على السواء. ولو أن قصارين اشتركا، ولأحدهما أداة القصارين، وللآخر بيت على أن يعملا بأداة هذا في بيت هذا؛ على أن الكسب بينهما نصفان، فهذا جائز؛ لأن الشركة ههنا وقعت على التقبل؛ لا على إجارة البيت والأداة، فإنهما لم يقولا: على أن نؤاجر الأداة، والبيت، والشركة في تقبل الأعمال جائزة.

ومن صور الشركة الفاسدة: اشتركا ولأحدهما دابة، وللآخر إكاف وجوالق على أن يؤاجر الدابة فما أجراها له من (142ب2) شي حملاه بهذه الأداة على (أن) الأجر بينهما نصفان، فهذه شركة فاسدة، فإن أجر الدابة بحمل طعام إلى موضع معلوم، ثم نقلاه بتلك الأداة بأنفسهما؛ كان الأجر كله لصاحب الدابة، ولا يقسم على أجر مثل الدابة، وأجر مثل الإكاف والجوالق؛ لأن الإجارة وقعت على الدابة مقصوداً؛ لأن الحمل على الدابة هو المقصود، والإكاف والجوالق آلة الحمل، فدخولهما في الإجارة بطريق التبعية، فلا يقابلهما شيء من الأجر. ولو كانا اشتركا على أن يتقبلا عمل الطعام على أن يعمل هذا بأداته، وهذا بدابته، فالأجر بينهما نصفان، ولا أجر لدابة هذا ولا لأداة هذا؛ لأن العقد ههنا وقع على التقبل في العمل، وهما في التقبل على السواء. قال أبو حنيفة: ولو أن رجلاً دفع دابة إلى رجل ليؤاجرها؛ على أن ما آجرها من شيء، فهو بينهما نصفان، فهذه الشركة فاسدة، والأجر كله لرب الدابة، وللذي آجرها أجر مثل عمله. ولو دفع دابة إليه يبيع عليها البر والطعام على أن الربح بينهما نصفان، فهذه الشركة فاسدة أيضاً، فكان البر كله لصاحب الثمن والطعام؛ لأنه بدل ملكه، ولصاحب الدابة أجر مثل دابته. في «المنتقى» : اشتركا يعملان على أن لأحدها أجر كل شهر عشرة دراهم، ليس من مال الشركة، فالشركة جائزة والشرط باطل. في «الفتاوى» : أعطى بذر العيلق رجلاً ليقوم معه، ويعلقه بالأوراق على أن ما حصل فهو بينهما، فقام عليه ذلك الرجل حتى أدرك، فالعيلق لصاحب البذر؛ لأنه حدث من بذره، وللرجل الذي قام معه قيمة الأوراق، وأجر مثله على صاحب البذر. وعلى هذا إذا دفع البقرة إلى إنسان بالعلف، ليكون الحادث بينهما نصفان، فما حدث فهو لصاحب البقرة، ولذلك الرجل مثل علفه الذي علفها، وأجر مثل ما قام عليها؛ لأنه غير متبرع في ذلك حيث شرط لنفسه نصف الحادث، وعلى هذا إذا دفع الدجاجة إلى رجل بالعلف ليكون البيض بينهما نصفان. والحيلة أن يبيع نصف البقرة من ذلك الرجل، ونصف الدجاجة ونصف بذر العلق بثمن معلوم حتى تصير البقرة وأجناسها مشتركة بينهما، فيكون الحادث منهما على الشركة.

الفصل السابع في تصرف أحد الشريكين في الدين المشترك

الفصل السابع في تصرف أحد الشريكين في الدين المشترك كل دين وجب في شيء على واحد بسبب واحد حقيقة وحكماً؛ كان الدين مشتركاً بينهما، فإذا قضى أحدهما شيئاً منه؛ كان للآخر أن يشاركه في المقبوض عندنا؛ لا على اعتبار القبض، فبسبب القبض يزداد نصيب القابض، وهذه الزيادة مستندها بها إلى أصل القبض الحق، فإذا كان الحق مشتركاً بينهما، فكذا الزيادة فيه تكون مشتركاً بينهما، كالولد والثمن ويستوي في هذا الحكم أن يكون المقبوض أجود منه أو أردأ؛ لأن حق الشركة إنما يثبت باعتبار الزيادة الحاصلة بسبب القبض، فثبتت الشركة في عين المقبوض سواء كان المقبوض أجود أو أردأ، وكل دين وجب في شيء بسببين مختلفين حقيقة وحكماً أو حكماً لا حقيقة، لا يكون مشتركاً حتى إذا قبض أحدهما شيئاً ليس للآخر أن يشاركه فيما قبض. بيانه من المسائل ما ذكر في «الجامع» : رجلان باعا عبداً بينهما من رجل بثمن معلوم، فقبض أحدهما شيئاً من الثمن من المشتري؛ كان للآخر أن يشاركه فيه؛ لأن هذا دين وجب لهما بسبب واحد؛ حقيقة وحكماً؛ أما حقيقة فظاهر، وأما حكماً؛ فلأن صحة بيع أحدهما منوطة بصحة بيع الآخر؛ حتى لو قبل المشتري نصيب أحدهما دون الآخر لا يجوز، ولو سمى كل واحد لنصيبه ثمناً على حدة، فيقبض أحدهما شيئاً من الثمن لم يكن للآخر أن يشاركه في ظاهر الرواية؛ لأن الصفقة بها تتفرق في ظاهر الرواية، ولهذا كان للمشتري أن يقبل نصيب أحدهما دون الآخر. ولو كان لأحدهما عبد، وللآخر أمة باعاهما بألف درهم، فقبض أحدهما شيئاً من الثمن كان للآخر أن يشاركه؛ لأن السبب متحد حكماً، فكان الواجب به مشتركاً، وإن كان بدلاً عما ليس بمشترك، ولو سمى كل واحد منهما لمملوكه ثمناً؛ لم يكن للآخر أن يشارك القابض في المقبوض في ظاهر الرواية؛ لما قلنا. ولو أجر داراً مشتركاً بينهما من رجل بأجر معلوم؛ اشتركا فيما يقبضان؛ لأنهما باعا منفعة مشتركة بأجر واحد، فيعتبر بما لو باعا عيناً مشتركاً بثمن واحد. ولو أمر رجلاً رجلين أن يشتريا له جارية، فاشترياها، ونقد الثمن من مال مشترك بينهما، أو من مال متفرق، ثم يشتركان مما يقبضان من الآمر؛ لأن سبب وجوب الدين للوكيل على الموكل مختلف حكماً؛ لأن سبب الوجوب على الموكل البيع الحكمي الذي جرى من الوكيل والموكل، كأن الوكيل اشترى لنفسه، ثم باعه من الموكل بما وجب للبائع على الوكيل، وقد وجب على كل واحد من الوكيلين خمسمائة، فصار كل واحد من الوكيلين بائعاً نصفه بخمسمائة، ولو صرحا بذلك؛ كان السبب مختلفاً حكماً في ظاهر الرواية. ولو كان لرجل ألف درهم دين لرجل، فكفل عن الغريم رجلان فأديا، ثم قبض أحد الكفيلين من الغريم شيئاً؛ كان محمد يقول أولاً: لا يكون للآخر حق المشاركة إلا

إذا أديا من مال مشترك بينهما، ثم رجع وقال: يكون للآخر حق المشاركة، وإن أديا من مال مشترك بينهما، وهو قول أبي يوسف. ووجه ذلك: أن ما وجب للكفيلين على الغريم؛ وجب بسببين مختلفين من حيث الحكم؛ لأن كفالتهما مختلفة حكماً؛ لأن كفالة كل واحد منهما صحتها غير منوطة، ومتعلقة بكفالة الآخر؛ ألا ترى أن الطالب لو قبل كفالة أحدهما دون الآخر صح. قال القدوري: ولوأخرج القابض ما قبض من يده بأن وهبه أو قضاه غريماً فليس للشريك الآخر أن يأخذه من يد الذي هو في يده؛ لأن المقبوض في يد القابض خالص حقه؛ لا حق للشريك فيه؛ لأنه حق، وحق الشريك في الدين لكن للشريك حق المشاركة لما ذكرنا فقبل المشاركة هو على حق القابض، فنفذ تصرفه، فلا يكون للآخر حق القبض، ولكن للآخر أن يضمنه مثله. وهو نظير المبيع بيعاً فاسداً إذا أخرجه المشتري عن ملكه؛ لا يكون للبائع حق الأخذ بعد ذلك، ولكن له أن يضمن المشتري قيمته قال ما قبض الشريك من شريكه، كان للقابض ديناً على الغريم؛ لأن قبض القابض، لا ينقض في بعض المقبوض بالاسترداد، فعاد حقه على ما كان. ولو كان الدين ألف درهم فأبرأ أحدهما الغريم عن مئة، ثم خرج من الدين شيء اقتسماه بينهما على قدر حقهما على الغريم، وذلك تسعة أسهم، ولو اشترى أحدهما بنصيبه ثوباً؛ كان لشريكه أن يضمنه نصفاً من الدين، ولا سبيل له على الثوب؛ لأن الثوب إنما صار مملوكاً له بالشراء؛ قال: إلا أن يجمعا على الشركة في الثوب، ويصير كأن (143أ2) مشتري الثوب باع نصف الثوب منه، ولو لم يشترِ، ولكنه صالح من حقه على ثوب، فالمصالح بالخيار؛ إن شاء أعطى مثل نصف حقه، وإن شاء دفع إليه نصف الثوب؛ لأن مبنى الصلح على الإغماض والتجويز بدون الحق، فلو كلفناه أداء نصف الحق لتضرر، ولا كذلك الشراء؛ لأن مبناه على المماكسة، فالظاهر أنه صار مستوفياً كمال حقه، وللذي لم يقبض في هذه الوجوه كلها أن يرجع بكل حقه على الذي عليه الدين، فإن أسلم للقابض ما قبض، ثم توى الدين على الغريم، فله أن يرجع على الشريك؛ لأنه إنما سلم له المقبوض بشرط سلامة الباقي له؛ إلا أن يرجع في غير تلك الدار، وللقابض أن يعطيه مثلها ولو أخر أحدهما نصيبه لم يجز في قول أبي حنيفة، وجاز عند أبي يوسف. ومحمد فرع على قولهما، فقال: إذا قبض الشريك الذي لم يؤخر لم يكن للذي أخر أن يشاركه فيما قبض حتى يحل دينه، فإذا حل شاركه إن كان قائماً، وإن كان مستهلكاً ضمنه حصته. ولو أن الغريم عجل المؤخر مئة درهم؛ كان لشريكه أن يقاسمه، فيكون بينهما نصفين، ثم يرجع هذا القابض على الغريم بما أخذ منه، وذلك..... من حقه الذي

لم يؤخر من قبل أن الذي لم يؤخر إذا أخذ من المؤخر؛ صار للمؤجر من حصته مثل ذلك. ألا ترى أن الغريم لو عجل للمؤخر جميع حقه، وذلك خمسمائة، فأخذ الذي لم يؤخر من ذلك نصفه؛ كان للمؤخر أن يرجع على الغريم بما أخذ منه من حصة شريكه، فإذا أخذها؛ اقتسماها، وشريكه على عشرة أسهم لشريكه تسعة، وله سهم؛ لأنه تصرف فيه بقدر الحق المعجل، وقد بقي لشريكه أربعة وخمسون، فبقي له من ذلك المعجل خمسون، فيجعل كل خمسين سهماً، فتصير الجملة عشرة أسهم. ولو كان الدين مشتركاً بين رجلين على امرأة، فتزوجها أحدهما على حصته، فعن أبي يوسف: فيه روايتان؛ قال في رواية: يرجع بنصف حقه.... ذلك؛ لأن القبض وقع بطريق المقاصة كما في بدل البيع، وقال في رواية: لا يرجع، وهو قول محمد، وعن محمد: أنه لو تزوجها على خمسمائة مرسلة كان لشريكه أن يأخذ منه نصف الخمسمائة.d وفي «القدوري» : لو استهلك أحد الطالبين على المطلوب مالاً، فصارت قيمته قصاصاً، فلشريكه أن يرجع علىه. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف: لو أن أحد ربي الدين أفسد على المطلوب متاعاً، أو قتل عبداً له، أو عقر دابته، وصار ماله قصاصاً بذلك لم يكن لشريكه أن يرجع عليه بشيء، ولو كان للمطلوب على أحد الطالبين دين بسبب قبل أن يجب لهما عليه، فصار قصاصاً، فلا ضمان على الذي سقط عنه الدين لشريكه؛ لأنه قضى ديناً كان عليه، ولم يقبض؛ لأن أحد الدينين يصير قضاءً لأولهما، ولا يصير أولهما قضاءً لآخرهما. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف: لو ضمن أحد الطالبين مالاً عن رجل صارت حصته قصاصاً به، ولا شيء لشريكه عليه، فإن أقتضى عن المكفول عنه ذلك المال لم يكن لشريكه أن يرجع عليه أيضاً فيشاركه في ذلك. ولو أن المطلوب أعطى أحد الشريكين كفيلاً بحصته، أو أحاله بذلك على رجل مما اقتضاه هذا الشريك من الكفيل، أو الجويل فلآخر أن يشاركه فيه. وكذلك لو أن المطلوب أخذها رهناً بحصته فهلك، فلشريكه أن يضمنه؛ لأن الرهن استيفاء حكمي، فيعتبر بالاستيفاء الحقيقي، ولو غصب أحدهما من المطلوب عبداً، ومات، فكذلك لشريكه أن يضمنه؛ لأن الملك في المغصوب يستند إلى أول الغصب، وكذلك لو اشترى شيئاً بشراء فاسد، ومات عبده، أو باعه، أو أعتقه، ولو ذهبت أحد العينين بآفة سماوية في ضمان الغصب، والمرتهن أو المشتري شراءً فاسداً؛ لم يضمن لشريكه شيئاً؛ لأن ما تلف عنده فليس بسالم؛ لأنه لا يمكن القول.... الملك فيه بخلاف نفس العبد. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف؛ رجلان لهما على رجل ألف درهم، فصالح أحدهما المديون عن الألف كلها على مئة درهم..... وأجاز الآخر جميع ما صنع،

الفصل الثامن في المتفرقات

فهو جائز وله نصف المائة، وإن قال القابض: قد هلكت فهو مؤتمن، فلا ضمان عليه، وقد برىء الغريم، وإذا أجاز الصلح،، ولم يقل: أجزت ما صنع، فإنه يرجع على الغريم بخمسين، ويرجع الغريم على القابض بخمسين من قبل أن إجازة الصلح ليس إجازة للقبض. وفيه أيضاً: رجلان لهما في يدي رجل غلام أو دار.. صالحه أحدهما منه على مائة، قال أبو يوسف: إن كان الذي في يديه الغلام مقراً بالغلام، فإنه لا يشاركه في المائة، وإن كان جاحداً له فيشاركه فيها، وقال محمد رحمه الله: هما سواء لا يشاركه فيها؛ إلا إن (كان) الغلام مستهلكاً. وفيه أيضاً: عن أبي يوسف: رجلان اشتريا من رجل جارية؛ اشترى أحدهما نصفها بألف درهم، واشترى الآخر نصفها بألف درهم؛ وجدا بها عيباً ورداها، ثم قبض أحدهما حصته من الثمن لا يشاركه صاحبه فيما قبض، دفعا الثمن مختلطاً في الابتداء، أو دفع كل واحد منهما الثمن على حدة؛ لأنه صفقتان، وكذلك إذا استحقت الجارية، فإن وجدت الجارية حرة، فقد دفعا الثمن مختلطاً كان للآخر أن يشاركه القابض فيما قبض؛ لأنه لم يقع في هذه الجارية بيع، وإنما هذه الألف كانت لهم عند البائع بينهما، وروي عن أبي يوسف أنه رجع عن قوله في فصل الرد بالعيب، فقال: إذا دفعا الثمن مختلطاً، ثم ردا الجارية بالعيب، فاشتركا فيما قبضه أحدهما، وإن ردا بالعيب متفرقاً، لم يشتركا فيه، وإنما في الاستحقاق والحرية يشتركان فيما يقبضه أحدهما يريد به إذا دفعا معاً الثمن مختلطاً. وفيه أيضاً: عن أبي يوسف: أقر أن لهذين عليه ألف درهم من ثمن جارية اشتراها منهما، فقال أحدهما: صدقت، وقال الآخر: كذبت، ولكن هذه الخسمائة التي أقررت بها هي لي عليه من ثمن اشتريته مني، ثم إن الغريم قضى هذا خمسمائة؛ لم يكن لصاحبه أن يشاركه فيما قبض، ولا يصدق الغريم على أنه بينهما، وبه ختم. الفصل الثامن في المتفرقات أحد شريكي العنان إذا أقر أنه استقرض من فلان ألف درهم لتجارتهما لزمه خاصة؛ لأن الاستقراض ليس من تجارتهما، وإن أذن كل واحد منهما صاحبه بالاستدانة عليه لزمه خاصة أيضاً؛ حتى كان للمقرض أن يأخذ منه، وليس له أن يرجع على شريكه هو الصحيح؛ لأن التوكيل بالاستقراض باطل، فصار وجود الإذن والعدم بمنزلة في «عيون المسائل» . وفيه أيضاً: عبد بين رجلين؛ قال أحدهما لرجل مال ثالت: أشركتك في هذا العبد، ولم يجز..... نصيبه بينهما نصفان، ولو كان مكان الشركة بيعاً من أحدهما

بعد البيع في جميع نصيبه ولا يشركه الآخر فيه؛ قال: يصير يهب (143ب2) الغريم إياه خمسمائة درهم، ويقبض ثم يبرئ الغريم من حصته. وقال أبو بكر رحمه الله: يبيع من الغريم كفاً من زبيب مثلاً بمثل بمثل ما له عليه، ويسلم إليه الزبيب، ثم يبرئه مما كان له عليه، ثم يطالبه بثمن الزبيب لا بالدين. بعير بين شريكين حمل عليه أحدهما من الرستاق شيئاً بأمر الشريك.....، فسقط في الطريق، فنحرها هذا الشريك، فلا ضمان عليه؛ إن كان لا يرجى حياة البعير، وإن كان ترجى حياته فهو ضامن؛ لأن كل واحد من الشريكين مأمور بحفظ نصيب شريكه، والحفظ عند التيقن بالموت لا يكون إلا بالذبح، ولو كان الذابح أجنبياً، فهو ضامن على كل حال؛ هكذا ذكر الصدر الشهيد في الباب الأول من «واقعاته» ، وقد ذكرنا مسألة الأجنبي، وما يتصل بها في كتاب الغصب. اشتركا شركة عنان على أن يبيعا بالعقد والنسيئة، ثم نهى أحدهما صاحبه عن بيع النسيئة؛ قال نصير: لا يجوز نهيه كما في العبد المأذون، وقال محمد بن مسلمة: يجوز نهيه؛ لأن في الابتداء؛ لو اشتركا على هذا الشرط يجوز، فكذا في الانتهاء، وفي العبد المأذون هذا الشرط في الابتداء لا يجوز، وكذا في الانتهاء. قال في «الجامع» : رجل دفع إلى رجل مائة دينار قيمتها ألف درهم وخمسمائة على أن يشترك بها وبألف من عنده فيبيع، فما رزق الله تعالى من شيء، فهو بيننا، فهذا جائز، وإنه مضاربة معنى، وإن كان شركة صورة من حيث إنه شرط فيه رأس المال من الجانبين؛ إلا أنه تعذر اعتبارها شركة؛ لأن العمل فيه مشروط على أحدهما، وفي الشركة يكون العمل مشروطاً عليهما، فعلم أنه مضاربة معنى، وصار تقدير هذه المسألة دفعت إليك هذه المائة مضاربة على أن تعمل بها، وبألف من عندك على أن الربح بيننا نصفان، ولو صرح بهذا يجوز، ويصير مشارطاً للمدفوع إليه سدس ربح ماله؛ لأنه لو قال: على أن الربح بيننا، كان الربح بينهما أخماساً على قدر رأس مالهما، فإذا قال: على أن الربح بيننا نصفان، فقد صار شارطاً له خمسين ونصف، فيكون شارطاً له نصف سهم من ثلاثة أسهم من حصته، فيكون سدساً. ولو كانت قيمة المائة الدينار ألف درهم فقال للمدفوع إليه: اعمل بها، وبألف من مالك على أن الربح بيننا نصفان، فهذه بضاعة؛ لأنه تعذر تجويزها شركة؛ لأن العمل مشروط على أحدهما، وتعذر تجويزها مضاربة لأن الدافع لم يشترط له شيئاً من ربح ماله، فكان بضاعة فصار تقدير هذه المسألة: اعمل بمالي على أن الربح كله لي، واعمل بمالك على أن الربح كله لك. ولو كانت قيمة الدنانير ألف، قال للمدفوع إليه: اعمل بها، وبألف وخمسمائة من مالك على أن الربح بيننا نصفان؛ كان هذا بضاعة، والربح بينهما على قدر رأس المال، واشتراط مناصفة الربح باطل؛ لأنهما إذا شرطا مناصفة الربح، فالدافع لم يشترط للعامل

شيئاً من ربح ماله؛ بل شرط لنفسه بعض ربح رأس مال العامل، فصار تقدير هذه المسألة: اعمل بمالي على أن الربح لي، واعمل بمالك على أن بعض ربح مالك لي، فبطل شرط مناصفة الربح، فصار كأنه قال: على أن الربح بيننا. وفي «العيون» : ثلاثة نفر ليسوا بشركاء تقبلوا عملاً من رجل، فعمل واحد منهم كل ذلك العمل، فله ثلث الأجر، ولا شيء للآخرين؛ لأنهم لما لم يكونوا شركاء؛ كان على كل واحد منهم ثلث العمل بثلث الأجر، فإذا عمل واحد منهم الكل؛ كان متطوعاً في الثلثين، فلا يستحق به شيئاً من الآجر. اشترك اثنان في المنزل على أن سدا الكرباس من أحدهما، واللحمة من الآخر فنسجا ثوباً، فالثوب بينهما على قدر السدى واللحمة. في «المنتقى» عن أبي يوسف: مفاوض وهب لرجل هبة لا يجوز، ولصاحبه أن يأخذ من الموهوب له نصف الهبة، فإذا أخذ ذلك كان بينهما نصفان؛ لأنه من مال بينهما نصفين. مفاوض اشترى من رجل عبداً بألف درهم، فلم يقبضه حتى لقي البائع صاحبه، واشتراه منه بألف وخمسمائة، فإنه يكون من الشراء الثاني والأول ينتقض، والمتفاوضان بمنزلة رجل واحد. المعلى في «نوادره» عن أبي يوسف: رجل كان له على متفاوضين مال، وأبرأ أحدهما عن حصته، فهما يبرأان جميعاً. في «الفتاوى» : سئل أبو بكر عن شريكين جن أحدهما، وعمل الآخر بالمال حتى ربح، أو وضع مال الشركة بينهما قائمة إلى أن تم إطباق الجنون عليه، فإذا مضى ذلك الوقت تنفسخ الشركة بينهما، فإذا عمل بعد ذلك، فالربح كله للعامل، والوضيعة عليه، فهو كالغصب لمال المجنون، فيطيب له من الربح حصة ماله، ولا يطيب له ما ربح من مال المجنون، ويتصدق به. قال محمد في «الجامع» : رجل عليه ألف درهم لرجل، فأمر رجلين بأداء الألف عنه فأدياه، ثم رجع أحدهما على الآمر، فقبض منه خمسمائة، فإن أدياه من مال مشترك بينهما كان لصاحبه أن يشاركه فيه، وإن لم يكن ما أدى مشتركاً بينهما؛ بأن كان نصيب كل واحد منهما مختاراً عن نصيب صاحبه حقيقة، إلا أنهما أديا جميعاً معاً فإن أحدهما لا يشارك صاحبه فيما قبض؛ لأن في الأمر بقضاء الدين الرجوع بحكم الأداء، ولهذا لا يرجع قبل الأداء، فيعتبر حال المؤدى، فإذا كان المؤدى يثبت الوجوب مشتركاً، فيكون لكل واحد منهما حق المشاركة مع صاحبه فيما قبض. وفيه أيضاً: شاهدان شهدا على رجل أنه كاتب عبداً بألفي درهم إلى سنة قيمته ألف درهم، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما كان للمولى الخيار، إن شاء ضمن الشاهدين قيمة العبد ألف درهم حالاً؛ لأنهما قصرا يد المولى عنه من غير عوض حصل له للحالب شهادتهما الباطلة، وإن شاء اتبع المكاتب بدل الكتابة ألفي درهم؛ لأن الكتابة تثبت بشهادتهما؛ إما ظاهراً وباطناً، أو ظاهراً لا باطناً على ما اختلفوا فيه، وكان له حق اتباع المكاتب ببدل الكتابة؛ لأن بدل الكتابة قابل لانتقال من ملك إلى ملك.

ألا ترى أنه لو قبل الانتقال من ملك الموروث إلى ملك الورثة أما نفس المكاتب لا تقبل الانتقال، فلهذا أقام الشاهدين مقام المولى في ملك بدل الكتابة، وإذا استوفيا ذلك من المكاتب طاب لهما إحدى الألفين، ولزمهما التصدق بالألف الآخر؛ لأنهما استفاداً بسبب خبيث وهو الشهادة الباطلة،، فكان سبيله التصدق، ويعتق المكاتب؛ لأنه أدى ببدل الكتابة إلى من قام مقام المولى، فيعتق كما لو أدى إلى وارث المولى بعد موت المولى ويكون ولاء المكاتب؛ لأنه نفى حكم ملك المولى لما قلنا: إنه لا يقبل الانتقال من ملك إلى ملك، والشاهدان إنما قاما مقام المولى في ملك البدل لا غير؛ لما نفى المكاتب على المعتق حالياً في حكم ملك المولى، فيكون ولاؤه للمولى، فإذا أدى المكاتب على أحد (144أ2) الشاهدين ألف درهم لا يعتق؛ لأنه بعض البدل، وهل لصاحبه أن يشاركه فيما قبض قال: ليس له ذلك؛ لأن الشاهدين ما يملكان فيه المكاتب إنما قام مقام المولى في ملك البدل باعتبار ما لزمهما من ضمان القيمة؛ ولأن كل واحد منهما ضامن القيمة منفصل عما لزم الآخر؛ لانفصال محل لزوم كل واحد منهما، وهو الذمة، والسبب الموجب على كل واحد منهما تقديراً بالشهادة الباطلة، وشهادة كل واحد منهما لا تتعلق بشهادة الآخر، وإنما تنقلب الشهادة بعدها بالرجوع، ورجوع أحدهما غير رجوع الآخر، فصار السبب مختلفاً، ولا يكون لأحدهما حق الشركة مع الآخر. قال في «الكتاب» : ويستوي في هذا إن أديا القيمة من مال مشترك، أو غير مشترك؛ لأن رجوعهما لا يتوقف على الأداء. ألا ترى أن المولى لو اختار ضمانهما كان لهما حق الرجوع قبل الأداء فكذلك إن تغير المؤدي، وصارت هذه المسألة نظير الوكيلين بالشراء، فإن في تلك المسألة كان للوكيل حق الرجوع بالثمن. وكذلك البيع إذا شهد شاهدان على رجل أنه باع عبده هذا من فلان بألف درهم إلى سنة، وقيمة العبد ألف درهم، والمشتري يدعي ذلك، والبائع يجحد، فقضى القاضي به، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما؛ كان للمولى الخيار؛ إن شاء اتبع المشتري بالثمن إلى أجل، وإن شاء ضمن الشاهدين قيمته حالاً، وإن أدخل الشاهدان في ملك البائع بمقابلة العبد أضعاف قيمته، وذلك ألفي درهم إلا أن ذلك مؤجل والمؤجل بمنزلة التاوي فكان البيع به إتلافاً من وجه فصارا متلفين العبد على البائع من وجه، فوجب المثل لهذا، فإن اختار تضمين الشهود،.... مقام البائع في ملك الثمن؛ لا في ملك العبد؛ إذ العبد خرج عن ملك المولى إلى ملك المشتري، ورجوع الشاهدين في حق المشتري غير معتبر، ويطيب لهما أخذ الألفين، ويتصدقان بالألف الآخر لما مر قبل هذا، فإن قبض أحدهما من الثمن شيئاً لا يشاركه صاحبه فيه لما قلنا في مسألة المكاتب. قال فيه أيضاً: رجلان غصبا عبداً من رجل قيمته ألف درهم، فصارت قيمته ألفي

درهم، ثم جاء رجل، وغصب العبد منهما، فمات في يد الثاني، ثم حضر المولى، فهو بالخيار؛ إن شاء ضمن الغاصبين الأولين قيمته ألف درهم، وإن شاء ضمن الغاصب الثاني قيمته ألفي درهم، وإن ضمن الغاصبين وأخذ منهما ألف درهم، رجعا على الغاصب الثاني بألفي درهم؛ لأنهما بأداء الضمان ملكاه من وقت الغصب، فتبين أن الثاني غصب ملكهما، فيأخذان منه ألفي درهم يطيب لهما أخذ الألفين، ويتصدقان بالألف الزيادة لاستفادتهما ذلك بسبب خبيث؛ ولأن ملك الغاصبين في العبد وقت الغصب الثاني ثابت من وجه دون وجه لما عرف من الأصل في......، فكان هذا ربح ما لم يملكه من وجه، فيكون فيه نوع خبث قالوا: ويجب أن يكون هذا قول أبي حنيفة ومحمد؛ أما على قول أبي يوسف لهما الألف الزائدة بناءً على أن عندهما شرط طيبة الربح الملك والضمان، فإذا كان الملك عدماً من وجه لم يتحقق شرط طيبة الربح وعند أبي يوسف شرط الربح الضمان لا غير، فإن قبض أحدهما من الثاني ألف درهم؛ كان الآخر أن يشاركه فيه؛ لأنهما ملكا العبد بسبب اشتركا فيه، وهو الغصب، واستوجبا القيمة على الثاني بسبب واحد، وهو غصب منهما وكأنهما باعا عبداً من رجل صفقة واحدة، ولم يبين كل واحد منهما بحصته منها على حدة، وهناك كان الثمن مشتركاً بينهما، فكذا ههنا. وفيه أيضاً: رجلان غصبا من رجل عبداً، فباعاه من رجل، فمات العبد في يد المشتري، فالمولى بالخيار؛ إن شاء ضمن الغاصبين، وإن شاء ضمن المشتري، فإن ضمن الغاضبين، ثم لم.....، وكان الثمن لهما؛ لأنهما بأداء الضمان ملكاه من وقت الغصب، وظهر أنهما باعاه، وهو ملكهما، والملك فيما بين الغاصب وأداء الضمان، وإن كان بائناً من وجه ذلك الملك الثابت من وجه كاف لنفاذ البيع.... ملك المكاتب. ولو قبض أحدهما شيئاً من الثمن كان لصاحبه أن يشاركه فيه؛ لأن الدين وجب بسبب واحد حقيقة وحكماً، وهو بيع الغاصبين منه صفقة واحدة من غير أن يبين كل واحد منهما من نصيبه، فكان الدين مشتركاً بينهما، وإن نفى المولى أحد الغاصبين يضمنه نصف قيمته تم البيع في نصيبه، ووجب له نصف الثمن؛ لأنه ثبت الملك له فيما غصب، وهو نصف العبد بأداء الضمان من وقت الغصب، وإن لم يقبض الغاصب الذي أدى نصف القيمة من الثمن حتى ضمن المالك الغاصب الآخر أيضاً نصف القيمة حتى نفذ البيع في النصف الآخر للمعنى الذي مرَّ، ثم قبض أحد الغاصبين من المشتري حصته من الثمن؛ كان للآخرأن يشاركه فيه؛ لأن البيع وجد منهما جملة، وعند نفاذ العقد فملك الثمن مضاف إلى البيع السابق لا إلى النفاذ، فلا تتفرق الصفقة بتفرق النفاذ. ونظير هذا: ما لو باع رجلان من رجل شيئاً على أنهما بالخيار ثلاثة أيام، وأجازه

أحدهما، ثم أجازه الآخر، وأيهما قبض شيئاً كان للآخر أن يشاركه فيه، فلم يؤثر تفرق النفاذ في تفرق الصفقة؛ كذا ههنا، فلو أن الغاصب الذي أدى نصف القيمة أولاً استوفى من المشتري نصف الثمن، ثم إن المالك غصب ضمن الغاصب الآخر نصف القيمة حتى نفذ بيعه، فأراد الثاني أن يشارك الأول فيما قبض؛ لم يكن له ذلك؛ لأن حال ما نفذ بيع الآخر نصيب الأول كان عيناً، ونصيب الآخر كان ديناً في ذمة المشتري، وللنفاذ حكم الابتداء، حتى إن ما يمنع النفاذ لو كان نصيب كل واحد منهما مختاراً وقت العقد لا تثبت الشركة لهما في الثمن؛ كذا ههنا، وإذا لم يكن للثاني أن يشارك الأول فيما قبض؛ كان للثاني أن يبيع المشتري بنصيبه، فإن قبضا جميعاً الثمن على هذا الوجه، ثم إن الأول وهو ما قبض رصاصاً أو ستوقاً؛ كان له الخيار؛ إن شاء اتبع المشتري بنصف الثمن، وإن شاء شارك شريكه فيما قبض، ثم يتبعان المشتري بنصف الثمن؛ لأن الستوقة والرصاص ليسا من جنس الدراهم، فصار كأن القبض لم يوجد، ولو لم يوجد القبض وجبت الشركة بينهما؛ كذلك ههنا. ولو وجد الأول ما قبض نبهرجة أو زيوفاً، فردها على المشتري ليس له أن يشارك الثاني فيما قبض؛ لأن الرد بسبب الزيافة ينقض القبض من الأصل؛ إنما يشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن عنده برد الزيافة ينتقض القبض من الأصل (144ب2) إلا إذا كان المردود شيئاً قليلاً أصله مسألة السلم، على ما عرف. ولما كان عند أبي حنيفة برد الزيادة ينتقض القبض من الأصل؛ صار الزيوف والستوقة سواء، فينبغي أن لا يثبت للأول حق الشركة مع الثاني فيما قبض، فمن مشايخنا قال المذكور في «الكتاب» قولهما لا قول أبي حنيفة رضي الله عنه، ومنهم من قال: لا بل هذا قول الكل. والفرق لأبي حنيفة على قول هذا القائل بين هذا وبين السلم أن الرد بسبب الزيادة نقض القبض من الأصل؛ لكن بعد صحة القبض، فإن اتصل بالقبض حكماً لا يحتمل النقض، فلا يظهر النقض في حقه كما في عتق المكاتب، ونظائره على ما عرف، وإن لم يتصل بالقبض حكماً؛ لا يحتمل الفسخ، فظهر النقض من الأصل في حقه، ففي مسألة السلم لم يفصل بقبض الزيوف إلا سلامة العقد، وهو السلم، والسلم محتمل للنقض، وظهر النقض في حقه أما ههنا اتصل بالقبض ما لا يحتمل النقض، وهو تفرق الصفقة، فإن الأول حين قبض الزيوف، وقبض الزيوف قبض صحيح حكماً فتفترق الصفقة، والصفقة متى افترقت في البيع لا يحتمل الاتحاد مع بقاء العقد، ولم يظهر النقض من الأصل في حقه كما لم يظهر في حق عتق المكاتب. ولو كان الثاني هو الذي وجد ما قبضه ستوقاً، أو رصاصاً، أو زيوفاً، فردها على المشتري؛ لم يكن له أن يشارك الأول فيما قبض؛ لأن أكثر ما في الباب إنما يجعل قبض الثاني كأن لم يكن، ولكن لم يوجد القبض من الثاني لم يكن له على الأول سبيل لما مر قبل هذا، فههنا كذلك.

وفيه أيضاً: عبد بين رجلين غصبه أحدهما من صاحبه، فباعه بألف درهم دفعه إلى المشتري؛ جاز البيع في نصيبه؛ لأنه باع نصيبه، ونصيب صاحبه، فنفذ في نصيبه، وتوقف في نصيب صاحبه على إجازته، وإن لم يقبض الثمن حتى أجاز صاحبه جاز، وللبائع أن يقبض الثمن كله لكونه مالكاً في النصف عاقداً في النصف الآخر، فإن قبض شيئاً كان مشتركاً بينهما حتى لو هلك هلك عليهما بخلاف واحد من الشريكين إذا قبض حصته من الدين المشترك حيث يقع القبض في نصيبه؛ حتى لو هلك قبل مشاركة صاحبه إياه؛ كان الهلاك على القابض. والفرق: أن أحد الشريكين مالك القبض على نصيبه؛ غير مالك على شريكه، فيكون القبض له بحكم الملك، وللآخر حق المشاركة تحقيقاً للتساوي بينهما؛ أما ههنا هو مالك القبض على نفسه، وعلى صاحبه لكونه عاقداً في نصيب صاحبه، فيقع القبض عنهما، وهذه المسألة حجة على محمد رحمه الله في مسألة الوكيل بالسلم إذا أسلم ولم تحضره البينة إنه يصير مباشراً لنفسه عند محمد. والفرق لمحمد: أن الوكيل في باب العقد في حق الحقوق أصيل؛ أما في حق الحكم ليس بأصيل، فاعتبرنا جهة الأصالة في باب السلم، وأما ولاية القبض في باب الحقوق، وهو مالك في حق الحقوق، فلذلك صارا سواء، وإن قبض العاقد نصف الثمن، ثم أجاز الآخر البيع في نصيبه؛ كان ذلك المقبوض بينهما، وكذلك لو كان المقبوض هلك، ثم أجاز كان هالكاً من مالهما؛ لأن الإجازة تستند إلى وقت العقد، فيجعل كأن العقد وقع بإذنه.n قال في «الكتاب» : ألا ترى أن من غصب عبداً، فباعه وقبض الثمن، وهلك الثمن عنده، ثم إن المالك أجاز بيعه يجوز، ويظهر أن الثمن هلك أمانة بخلاف مسألة الغاصبين إذا باعا، ثم لقي المالك أحدهما نصيبه حتى نفذ بيعه، ورجع الضامن على المشتري بنصف الثمن، ثم لقي الآخر، فضمنه إنه لا شركة للثاني فيما قبض الأول، ولم يجعل تضمين الثاني بعد قبض الأول حصته بمنزلة تضمينه قبل القبض، والفرق من وجهين: أحدهما: أن في باب الغصب عند أداء ضمان الملك يثبت من وقت الغصب من وجه دون وجه، ولهذا لا يظهر في حق الأولاد، ولا يظهر في حق نفاذ العتق من الغاصب، فكان الحكم قاصراً؛ أما جواز البيع بالإجازة يثبت من وقت العقد من كل وجه، ولهذا ظهر في حق الزوائد كلها، وفي حق نفاذ العتق من المشتري، فلم يكن الحكم حاصلاً. والفرق الثاني: أن في مسألة الغاصبين البائع اثنان وعند تعدد البائعين يحتمل الافتراق، ولهذا افترقت بافتراق التسمية، فجاز أن يفترق بافتراق المسمى، وهو صيرورة نصيب أحدهما عيناً، وبقاء نصيب الآخر ديناً، وعند الافتراق الصفقة لا تكون الثمن مشتركاً، أما ههنا العاقد من كل جانب واحد، وعند اتحاد العاقد من الجانبين الصفقة لا تحتمل التفريق، ولهذا لا تتفرق بتفرق التسمية وعند اتحاد العقد، والثمن يكون مشتركاً.

وفيه أيضاً: عبد بين رجلين؛ غصب رجل أجنبي نصيب أحدهما، ثم الغاصب باعه مع الشريك الآخر جملة من رجل؛ جاز البيع في نصيب المولى، ولم يجز في المغصوب؛ بل يوقف على إجازة المغصوب منه، فلو أجاز المغصوب منه البيع في نصيبه قبل قبض الشريك حصته من الثمن؛ صار الثمن مشتركاً حتى لو قبض أحدهما شيئاً منه؛ كان لصاحبه أن يشاركه فيه؛ لأنه لما التحقت الإجازة بالعقد صار الغاصب بمنزلة الوكيل عن المالك، وبيع الوكيل بيع الموكل. ولو باعه الوليان معاً بثمن واحد كانا شريكين في الثمن، فههنا كذلك، فإن كان المالك قبض حصته ثم أجاز صاحب البيع؛ لم يكن له أن يشارك الأول فيما قبض، ولم يجعل الإجازة في الانتهاء كما الإذن في الابتداء بخلاف ما إذا كان العاقد واحداً. والفرق: وهو أن الإجازة توجب الجواز بطريق الاستناد؛ لكن على الصفة التي كانت كأن الصفقة بتلك الصفة، وعند تعدد البائعين إذا قبض المالك بعينه قبل إجازة صاحبه الصفقة قد افترق لافتراق صفة المسمى والإجازة التحقت بصفقة متفرقة، فأوجبت الجواز بطريق الاستناد لكن بطريق الافتراق، فلم يجب القول بالشركة، فأما إذا كان الناقد واحداً، فالصفقة متحدة؛ لأنها لا تحتمل الافتراق لما مر، فعند لحوق الإجازة بالصفقة ثبت الجواز بصفة الاتحاد، فوجب القول بالشركة، وكذلك الرجلان إذا باعا عبداً على أنهما بالخيار ثلاثة أيام، فأجازه أحدهما، ثم أجازه الآخر، ثم قبض أحدهما شيئاً من الثمن شاركه صاحبه فيه، ولو أن الذي أجاز أولاً قبض نصفه، ثم أجاز الآخر لم يشاركه فيما قبض والمعنى مامر، والله أعلم بالصواب.

كتاب الصيد

كتاب الصيد هذا الكتاب يشتمل على اثني عشر فصلاً: 1 * في بيان الشرائط، وبيان ما يؤكل من الحيوانات (145أ2) وما لا يؤكل. 2 * في بيان ما يملك (من) الصيد، وما لا يملك. 3 * في شرائط الاصطياد. 4 * في بيان الشرائط في الآلة. 5 * في الشرائط التي في الصيد. 6 * فيما لا يقبل الذكاة من الحيوان وما يقبل. 7 * في صيد السمك. 8 * في الرجل يسمع حس صيد ويرميه ثم يتبين خلافه. 9 * في الأهلي يتوحش. 10 * فيما أبين من الصيد. 11 * في بيع آلة الاصطياد. 12 * في المتفرقات.

الفصل الأول في بيان ما يؤكل من الحيوانات، وما لا يؤكل

الفصل الأول في بيان ما يؤكل من الحيوانات، وما لا يؤكل يجب أن يعلم بأن الحيوانات على أنواع: منها ما لا دم له نحو الذباب والزنبور والسمك والجراد وغير ذلك، ولا يحل تناول شيء منها إلا السمك والجراد، غير أن الجراد يحل مات بعلة أو بغير علة، والسمك إذا مات بغير علة لا يحل، وإذا مات بعلة يحل، وسيأتي بيان ذلك بعد هذا؛ إن شاء الله. وما له دم نوعان: مستأنس ومتوحش، فالذي يحل تناوله من المستأنس بالاتفاق هو الإبل والبقر والغنم والدجاج، وأما الحمار الأهلي، فلحمه حرام، وأما الفرس فلحمه مكروه عند أبي حنيفة كراهة تنزيه عند بعض المشايخ، وكراهة تحريم عند بعضهم هو الصحيح، وعندهما: لا كراهة في لحمه، وأما البغل، فعند أبي حنيفة لحمه مكروه على كل حال، وعندهما كذلك؛ إن كان الفرس نزا على الأتان، وإن كان الحمار نزا على الرمكة، فقد قيل: يكره، وقد قيل: لا يكره، وأما السنور، والكلب، فلحمهما حرام أهلياً كان أو وحشياً. وأما المستوحش فنوعان: صيد البر، وصيد البحر. أما صيد البحر: فلا يحل تناول شيء منها إلا السمك. وأما صيد البر، فالذي لا يؤكل منه كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، والمراد من الناب والمخلب الناب الذي هو سلاح، والمخلب الذي هو سلاح. بيان الأول: الأسد والذئب والنمر والفهد والضبع والثعلب وما أشبه ذلك، وكرهوا أيضاً الفيل والدب والقرد والضب، وكرهوا أيضاً سباع الهوام، نحو اليربوع وابن عرس والسنجاب والسنور والفيل والدنق، وكرهوا أيضاً جميع الهوام الذي سُكناها في الأرض نحو الفأرة والوزغ والقنفذ وسام أبرص والحباب، وجميع هوام الأرض إلا الأرنب، فإنه يحل أكله. وبيان الثاني: الصقر والبازي والشاهين والنسر والعقاب وما أشبه ذلك، وأما العقعق والسوداية وما أشبه ذلك مما لا مخلب له من الطير لا بأس بأكله، وعن محمد في «الرقيات» في العقعق: إذا أكل الجيف يكره أكله، وفإذا كان يلتقط الحب لا يكره، وفي «المنتقى» عن أبي حنيفة أنه قال: لا بأس بأكل العقعق؛ قال: لأنه يخلط الحب مع الجيف، وإنما يكره من الطير ما لا يأكل الجيف، وما له مخلب. وأما الغراب الأبقع والأسود فهو أنواع ثلاثة: زرعي يلتقط الحب ولا يأكل الجيف، وإنه لا يكره، ونوع منه لا يأكل إلا الجيف، وهو مكروه، ونوع منه يخلط الحب بالجيف؛ يأكل الحب مرة ويأكل الجيف أخرى، وإنه غير مكروه عند أبي حنيفة، وعند

الفصل الثاني في بيان ما يملك

أبي يوسف: يكره، و.... تؤكل، وكذلك.... وكذلك الخطاف، وأما الخفاش: فقد ذكر في بعض المواضع أنه لا يؤكل؛ لأن له ناباً. الفصل الثاني في بيان ما يملك يجب أن يعلم بأن الصيد إنما: يملك بالأخذ، قال عليه السلام: «الصيد لمن أخذ» نوعان؛ حقيقي وحكمي، فالحقيقي ظاهر، والحكمي ما هو موضوع الاصطياد؛ قصد به الاصطياد، أو لم يقصد، حتى إن من نصب شبكة، فعُقل بها صيد ملكه صاحب الشبكة؛ قصد بنصب الشبكة الاصطياد، أو لم يقصد؛ لأن صاحب الشبكة صاد الصيد بالشبكة من حيث الاعتبار؛ لأن الشبكة إنما نصبت لأجل الصيد؛ حتى لو نصبها للتجفيف فتعقل بها صيد لا يملكه؛ لأنه لم يصر آخذاً له بالشبكة اعتباراً لما يصيبها بغرض آخر، أو باستعمال ما ليس بموضع للاصطياد؛ إذا قصد به الاصطياد حتى إن نصب فسطاطاً وتعقل به صيد؛ إن قصد بنصب القسطاط الصيد ملكه، وإن لم يقصد به الصيد لا يملكه. ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في «المنتقى» : رجل هيأ موضعاً يخرج منه الماء إلى أرض له ليصيد السمك في أرضه، فخرج الماء من ذلك الموضع إلى أرضه بسمك كبير، ثم ذهب الماء، وبقي السمك في أرضه، أو لم يذهب الماء؛ إلا أنه قلَّ حتى صار السمك يوجد بغير صيد، فلا سبيل لأحد على هذا السمك، وهو لرب الأرض، ومن أخذ منه شيئاً ضمنه، ولو كان الماء كثيراً لا يقدر على السمك الذي فيه لا يصيد فمن اصطاد منه شيئاً فهو له، ولو كان صاحب الأرض حفر بئراً لأمر؛ لا يريد به الصيد لا يصير آخذاً للسمك بوقوعه فيها؛ لا حقيقة ولا حكماً، فيكون لمن أخذه وإذا هيأ موضعاً كذلك، ودخل فيه السمك وصار بحال يوجد من غير صيد؛ صار آخذاً للسمك بدخوله فيه، وصار ملكاً له، فلا يكون لأحد عليه سبيل. وفيه أيضاً: لو أن صيداً بأرض في أرض رجل، أو ... فيها، فجاء آخر وأخذه، فهو له؛ لأن صاحب الأرض لم يصر آخذاً له بأرضه، فيكون للآخذ، وهذا إذا كان صاحب الأرض بعيداً من الصيد بحيث لا يقدر على أخذه، أو مد يده فالصيد لصاحب الأرض؛ لأنه صار آخذاً له تقديراً يمكنه من الأخذ حقيقة إن لم يصر آخذاً له بأرضه، فيكون للآخذ، وعلى هذا إذا كان صاحب الأرض بعيد أمن الصيد بحيث لا يقدر.....

حفر بئراً، ولم يقصد به ... الأرض؛ لأنه صار آخذاً له تقديراً، فيمكنه من الأخذ حقيقة إن لم يصر آخذاً له....... ..... الاصطياد فوقع الصيد فيها، فجاء آخر وأخذه إن دنا صاحب البئر من الصيد بحيث لو مد يده يقدر عليه فهو لصاحب البئر. ...... وإذا دخل الصيد دار إنسان، وأغلق صاحب الدار الباب عليه، وصار بحال يقدر على أخذه أحد ... من غير ذكر في «العيون» : أنه إن أراد إغلاق الباب للصيد، ملكه وإن لم يرد تملكه حتى لو أخذه آخر؛ كان الصيد لصاحب الدار في الوجه (145ب2) الأول وفي الوجه الثاني: يكون للآخذ. وفي «المنتقى» : صيد دخل دار رجل فلما رآه أغلق بابه، وصار الصيد لا يقدر على الخروج، وصاحب الدار يقدر على الأخذ من غير اصطياد، فقد صار صاحب (الدار) آخذاً مالكاً له، ولو أغلق الباب، ولم يعلم به؛ لم يصر أحداً مالكاً له حتى لو خرج الصيد بعد ذلك في الفصل الأول، وأخذه غيره لا يملكه، وفي الفصل الثاني، ولم يشترط إغلاق الباب للصيد. في «المنتقى» : فظن بعض مشايخنا أن رواية «المنتقى» تخالف رواية «العيون» وليس كما ظنوا، فشرط إغلاق الباب، في «المنتقى» ثابت دلالة، فإنه قال في «المنتقى» : فلما رآه أغلق بابه، وإغلاق الباب عند رؤية الصيد لا يكون لأجل الصيد ظاهراً في الأصل. ومن أخذ صيداً، أو فراخ صيد من دار رجل، أو من أرض رجل، فهو للآخذ إلا أن يحرزه صاحب الدار بالقبض أو بإغلاق الباب ليحرزه؛ بحيث يقدر على أخذه من غير صيد، فحينئذٍ يكون لصاحب الدار دون الآخذ؛ قال مشايخنا: وليس معنى قوله: يقدر على أخذه من غير صيد أنه لا يحتاج في أخذه إلى المعالجة، وإنما معناه أنه يمكن أخذه بقليل المعالجة من غير شبكة، ولا سهم. ومن مشايخنا من قال: إذا اتخذ داراً، وشجراً لتفرخ الطير فيها فالفرخ له. في «المنتقى» أيضاً: رجل نصب حباله، فوقع فيها صيد فاضطرب وقطعها، إن فلت فجاء آخر، وأخذ الصيد، فالصيد للآخذ، ولو جاء صاحب الحبال ليأخذه، فلما دنا منه بحيث يقدر على أخذه إن شاء، فاضطرب، وانفلت، فأخذه آخر، فهو لصاحب الحبالة. والفرق: أن في الفصلين جميعاً لصاحب الحبالة، وإن صار آخذاً للصيد إلا أن في الفصل الأول بطل الأخذ قبل تأكده، وفي الفصل الثاني بطل بعد تأكده. وكذلك صيد الكلب، والبازي إذا انفلت على هذا التفصيل، وإذا رمى بالبيت فتعلقت به سمكة، ثم انقطع الخيط في الماء قبل أن يخرج السمك، وذهب السمك فأخذه آخر، فهو للآخذ، ولو رمى صاحب البيت السمك خارج الماء في موضع يقدر على أخذها، فاضطربت ووقعت في الماء؛ وذهبت فأخذها آخر، فهي لصاحب البيت، وهو بناء على ما قلنا، ذكر الصدر الشهيد رحمه الله مسألة البيت في «واقعاته» .

في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد: في رجل رمى صيداً، فصرعه فغشي عليه ساعة من غير حرج، ثم ذهب عنه الغيبة، فمضى أو كان طائراً فطار، فرماه رجل آخر فصرعه وأخذه، فهو للآخر. علل فقال: لأن الأول لم يأخذه حين صرعه، ولما ذهب عنه الغيبة من الرمية الأولى عاد إلى حال الصيد، فقد أخذه الآخر، وهو صيد، وإن أخذه الأول في غشيه ذلك وأخذه الآخر، وهو على تلك الحالة قبل استفلاله وتحامله، فهو للأول منهما الذي رماه، قال: لأنا لا ندري لعله لم يكن يتنقل منها، وإن استقبل قبل أن يأخذه الأول، فقد عاد إلى حاله قبل أن يرميه، وصار صيداً فيكون لمن أخذه، قال: وهو رجل نصب شبكة، فوقع فيها صيد، وصاحب الشبكة غائب، فانفلت الصيد منها، فرماه آخر، فهو للآخر، وإن كان صاحب الشبكة أخذه حين وقع في الشبكة، فهو لصاحب الشبكة. ثم فرق بين هذه المسألة، وبينما إذا رمى إلى صيد، وجرحه جراحة لا يستطيع معها النهوض، فلبث كذلك ما شاء الله، وبرأ، ثم رماه آخر، فالصيد للأول. وفي «الأصل» : إذا رمى صيداً فصرعه، رجل فأخذه، فالصيد للذي رماه؛ لأن الأول لما صرعه صار آخذاً، فصار ملكاً له، وهذا يخالف ما ذكر في «المنتقى» وفي «الأصل» أيضاً: لو رمى صيداً فأصابه وأثخنه بحيث لا يستطيع ثم رماه آخر وقتله، فالصيد للأول، وإن كان يتحامل ويطير مع ما أصابه من السهم الأول، فرماه الثاني فقتله فهو للثاني؛ لأن في الفصل الأول صار آخذاً له، ولا كذلك في الفصل الثاني، ولو رمى رجلان صيداً معاً، فأصابه سهم أحدهما مثل صاحبه وأثخنه، فأخرجه من أن يكون صيداً، ثم أصابه سهم الآخر، فهو للذي أصابه سهمه أولاً، فالعبرة في حق الملك لحالة الأصالة؛ لا لحالة الرمي. وذكر في «المنتقى» : عن محمد لو دخل ظبي دار رجل أو حائطه، أو دخل حمار وحشي دار رجل أو حائطه، فإن كان يؤخذ بغير صيد، فهو لرب الدار، وكذلك الحظيرة للسمك، وهذا الجواب يخالف جواب المسائل المتقدمة، وخالف قول «الأصل» . وفي «الأصل» : لو أرسل كلبه على صيد، فأتبعه الكلب فحتى أدخله في أرض رجل أو داره؛ كان لصاحب الكلب؛ لأن الكلب إنما يرسل للآخذ فيعتبر بما لو أخذه بيده، وكذلك لو أرسله على صيد وأمره حين أدخل دار رجل أو أرضه، فهو له؛ لأنه لما أخرجه واضطره صار آخذاً له. وفي القدوري عن أبي يوسف: في رجل اصطاد طائراً في دار رجل، فإن اتفقا على أنه أصل الإباحة، فهو للصائد؛ سواء اصطاده من الهواء، أو على الشجر إن الصيد إنما يملك بالاستيلاء والأخر، ولا يملك بحصوله على حائطه. وشجره فيكون للآخذ، وإن اختلفا فقال رب الدار: كنت اضطر وأنكر الصياد، فإن كان أخذه من الهواء فهو له؛ لأنه

لا يد لصاحب الدار على الهواء فقد اختلفا فيما لا يد لأحد عليه من قبل، وكان القول قول صاحب الدار، وإن أخذه من داره أو شجره، فالقول قول صاحب الدار؛ لأن يده نائبة على الشجرة، وعلى الحائط، فإذا أخذه من محل هو في يده؛ كان القول قول صاحب اليد، فإن اختلفا في أخذه من الهواء، أو الجدار، فالقول قول صاحب الدار؛ لأن الظاهر أن ما في داره في يده؛ لأن صاحب باعتبار الظاهر. قال في «الأصل» : ومن اصطاد سمكة من نهر جاري لرجل، فهو للذي أخذه؛ لأن صاحب النهر ما صار محرزاً له؛ بل هو صيد في نهره، فالمحرز له من اصطاد، وكذلك إن كانت أجمة لا يقدر على أخذ صيدها إلا بالاصطياد، فصاحب الأجمة ما صار محرزاً بما حصل فيها من السمك، وإنما المحرز الآخذ، فإن كان صاحب الأجمة..... كذلك حتى خرج الماء، وبقي السمك (146أ2) فهو لصاحب الأجمة؛ لأنه صار محرزاً بما صنع، فالسمك على اليبس لا يكون صيداً، فإذا صار بحقله يجب بتمكن من أخذه من غير صيد، فهو محرز، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله من مشايخنا من إلى السمك، وليس قصده السمك، فهو للآخذ، وإن نصب عنه الماء، فإن كان قصده أخذ السمك ينظر؛ إن كان لم يكن أخذه إلا بصيد، فهو للآخذ، وإن أمكن أخذه من غير صيد، فهو لصاحب الحوض، صار آخذاً له. نوع آخرمن خبر هذه المسائل في «المنتقى» : داود بن رشد عن محمد: رجل اتخذ كوارات في أرض رجل، فخرج منها عسل كثير، كان ذلك لصاحب الأرض، ولا سبيل لأحد على أخذه؛ قال: ولا يشبه هذا الصيد، وأشار إلى معنى الفرق فقال: الصيد يجيء ويذهب، والبعض يصير وإنما يشبه الطير في هذا النحل نفسه، أو آخذ النحل أخذ كانت له، فأما العسل، فلم يكن صيداً قط، ولا يصير صيداً قط، وعن أبي يوسف إذا وضع رجل كوارة النحل، فتعسلت فيها، فالعسل لصاحب الكوارة. في «المنتقى» إبراهيم عن محمد: إذا وضع الرجل الشبكة بين يدي قوم، وقال: خذوه، فمن أخذه، فهو جائز لمن أخذه؛ اختلف العلماء في صفته أنه تمليك أو إباحة؛ قال بعضهم: تمليك، ولكن من مجهول يصير معلوماً عند الأخذ، وقال بعضهم: إنه إباحة، قال: وإذا بين فوقع في حجر رجل، أو كم رجل، فأخذه آخر، فهو للذي أخذه؛ هكذا ذكر في «الكتاب» وعلى قياس ما تقدم ينبغي أن يكون الجواب على التفصيل؛ إن بسط هذا الرجل كمه، وذيله ليقع فيه السكر؛ كان السكر له، وليس للآخذ أن يأخذه، ولو أخذه لا يملكه، وإن لم يبسط كذلك، فالسكر لمن أخذه، وهكذا ذكر في المسألة

الفصل الثالث في شرائط الاصطياد

على هذا التفصيل في كراهية «فتاوى أهل سمرقند» ، وفي «الأمالي» : عن محمد رحمه الله؛ رجل سيل ماء في أرضه فلاحة، فمن أخذ من ذلك الماء شيئاً، فلا ضمان عليه فيه، وإذا صار ذلك الماء ملحاً، فلا سبيل لأحد عليه؛ لأنه ما دام ماء، فحكم الشركة فيه ثابت، وبعدما صار ملحاً أيضاً من جنس أرضه واتصل بأرضه أيضاً؛ لا يقدر معه التمييز، فصار محرزاً له. قال: وفي نهر شق في أرض رجل، فتقدم الطين في أرضه، فصار قدر ذراع، وذراعين، فلا سبيل لأحد على ذلك الطين لما بينا في المسألة الأولى ومن أخذ منه شيئاً ضمنه. الفصل الثالث في شرائط الاصطياد يجب أن يعلم أن الاصطياد بثلاثة أشياء؛ الصائد، والآلة، والصيد، وفي كل واحد من هذه الأشياء شرائط. في الصائد فنقول. ينبغي أن يكون الصائد من أهل الذكاة، وذلك بأن يعقل الذبح، والتسمية؛ حتى لا يؤكل صيد الصبي، والمجنون إذا كانا لا يعقلان الذبح، والتسمية، ويؤكل صيدهما إذا كانا يعقلان ذلك، يريد به إذا أرسل كلبه أو بازه، أو رمى، فأصاب الصيد وقتله، وأن يكون له ملة التوحيد دعوى واعتقاداً، كالمسلم، أو دعوى الاعتقاد كالكتابي حتى أن المجوسي إذا أرسل، أو رمى إلى صيد فأصابه وقتله لا يحل أكله؛ وهذا لأن الإرسال والرمي ذبح من المرسل والرامي حكماً، فيعتبر بالذبح حقيقة، والإباحة لا تثبت بذبح المجوسي حقيقة؛ لأنه ليس له ملة التوحيد؛ لأنه مشرك يدعي الاثنين فهكذا لا يثبت بذبحه حكماً، وكذلك لا يؤكل صيد المرتد؛ لأنه لا ملة له. ويشترط مع ذلك أن لا يكون محرماً، وأن لا يكون في الحرم، والتسمية شرط عند الإرسال والرمي لما ذكرنا أن الإرسال ذبح من المرسل والرامي حكماً، والتسمية عند الذبح حقيقة شرط؛ هكذا عند الذبح حكماً، ولا بأس بصيد الأخرس المسلم والكتابي؛ لأن له ملة التوحيد، وملة التوحيد تقام مقام التسمية. ألا ترى أنها أقيمت مقام التسمية في حق الأخرس أولى، ولو أرسل النصراني، أو رمى وسمى باسم المسيح لم يؤكل. وكذلك الإرسال شرط عندنا في الكلب والبازي، حتى أن الكلب المعلم إذا انفلت من صاحبه، فأخذ صيداً وقتله لا يؤكل، فإن صاح صاحب الكلب به صيحة بعدما انفلت، وسمى، فإن لم ينزجر بصاحبه، وإن لم يردد طلباً وحرصاً للأخذ فأخذ الصيد وقتله لا يؤكل؛ لأنه لما لم ينزجر بصاحبه صار وجود الصياح منه والعدم بمنزلة، وأما إذا انزجر بصاحبه، وأخذ الصيد وقتله فالقياس: أن لا يؤكل، وفي الاستحسان: أن يؤكل.

فرق على جواب الاستحسان بين هذه المسألة، وبينما إذا أرسل كلبه، ولم يسم عمداً، ثم زجره وسمى فانزجر وأخذ الصيد لا يحل تناوله. والفرق: إرساله فعل معتبر في نفسه قد تعلق به حكم، فالحاجة إلى التسمية.... لا يصح..... دونه والزجر دون الإرسال، فأما انبعاث الكلب، فغير معتبر؛ لأنه فعل العجماء. ألا ترى أنه لم يتعلق به حكم، فالحاجة إلى ابتداء الفعل ههنا في..... فعل معتبر، فإذا انزجر بزجره جعل ذلك بمنزلة ابتداء الإرسال وقد سمى عند ذلك فيحل وعلى الأصل. ولنا: إذا أرسل المسلم كلبه إلى صيد وسمى، فزجره مجوسي وانزجر، وأخذ الصيد وقتله يؤكل، وبمثله لو أرسل المجوسي أو من بمعناه كلبه، فزجره مسلم، وسمى وانزجر بزجره وقتل الصيد لايؤكل؛ لأن الإرسال دفع معتبر في الفصلين جميعاً حتى تعلق به حكم، فلا يبيح بالانزجار الذي دونه. وقد ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب الصيد في مسألة المسلم إذا أرسل كلبه، وزجره مجوسي أنه إنما يؤكل للصيد إذا زجره المجوسي في ذهابه، فأما إذا وقف الكلب عن سير الإرسال، ثم زجره المجوسي بعد ذلك وانزجر لا يؤكل. ....، وكذلك بشرط أن لا يشارك في الإرسال الذمي الذي لا تحل ذبيحته كالمجوسي وتارك التسمية عمداً؛ لأنه يجمع في الصيد سبب الحرمة وسبب الإباحة، وكذلك يشترط أن لا يشتغل بعمل آخر بعد الرمي والإرسال أثر الصيد. قال في «الكتاب» : إذا توارى الصيد والكلب عن المرسل، ثم وجده بعد وقت، وقد قتله وليس..... عبرة فهذا على وجهين: إما أن لم يترك الطلب حتى وجده ذلك، والكلب عنده وفي هذا الوجه القياس أن لا تؤكل، وفي الاستحسان: تؤكل؛ شرط في «الكتاب» أن يكون الكلب عنده؛ قالوا: وهذا شرط لازم للحل على جواب (146ب2) الاستحسان؛ لأن الكلب إذا كان عنده، فالظاهر أنه قتيل الكلب، فأما إذا وجد الصيد ميتاً، والكلب قد انصرف عليه فلا يؤكل قياساً واستحساناً؛ لأنه يحتمل أن القتل حصل بسبب آخر، وأما إذا اشتغل بعمل آخر بعدما أرسل الكلب حتى إذا كان قريباً من الليل طلبه فوجده ميتاً، والكلب عنده، وبه جراحة لا يدري أن الكلب جرحه أو غيره، فقال في «الكتاب» : كرهت؛ لأنه لو لم يترك طلبه ربما وجده حياً فذكاه، فيصير تاركاً الاختياري فيه مع القدرة عليه؛ ولأنه يحتمل أنه بفعل غيره؛ لكن سقط اعتبار هذا الاحتمال ما دام في طلبه فبقي معتبراً إذا ترك طلبه، ثم ذكر في هذا الفصل كرهت أكله، وأراد به كراهة التحريم. ثم نص عليه شمس الأئمة الحلواني، وشمس الأئمة السرخسي، وذكر في القدوري

الفصل الرابع في بيان الشرائط في الآلة

نصاً: أنه لا يؤكل، وذكر شيخ الإسلام أنه أراد به كراهة التنزيه والأول أصح، وهذا كله إذا وجده وبه جراحة واحدة يعلم أنه جراحة الكلب؛ أما إذا علم بالعلامة أنها جراحة غير الكلب، أو علم أنه جراحة الكلب، وبان بها جراحة أخرى ليست من جراحة الكلب؛ لا يؤكل ترك الطلب أو لم يترك. وكذلك الجواب في البازي، والصقر من أوله إلى آخره، والجواب في الرمي هكذا إذا رمى سهماً إلى الصيد فأصابه، وتوارى عن بصره، ثم وجده ميتاً، وبه جراحة أخرى سوى جراحة السهم لا يؤكل وإن كان في طلبه، وإن وجده وليس به جراحة أخرى إن لم يشتغل بعمل آخر تؤكل استحساناً، وإن اشتغل بعمل آخر لا يؤكل قياساً واستحساناً، والله أعلم. الفصل الرابع في بيان الشرائط في الآلة فنقول: الآلة نوعان: جماد كالمرزاق والسهم والرمح والمعراض وأشباهها. وحيوان كالكلب ونحوه والصقر والبازي ونحوها، فإن كانت الآلة حيواناً، فمن شرطها أن تكون معلمة؛ قال الله تعالى: {وما علمتم من الجوارح} (المائدة 4) ، وقال عليه السلام: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه كل» الحديث، ولا يكون الكلب معلماً إلا بالإمساك علينا، وترك الأكل، وإن كان مجيؤه إذا دعاه، وإذا أرسله على الصيد يصيد. فعلامة تعلم الكلب، وما بمنعاه ترك الأكل من الصيد، وكان أبو حنيفة رحمه الله لا يحد في ذلك حداً، ولا يوقت وقتاً، وكان يقول: إذا كان معلماً، فَكُلْ وربما كان يقول: إذا غلب على ظن الصائد أنه معلم، وربما كان يقول: نرجع في ذلك إلى قول أهل العلم من الصائدين، فإذا قالوا: صار معلماً، فهو معلم، وروى الحسن عنه إذا ترك الأكل ثلاثاً فهو معلم، وهو قول أبي يوسف ومحمد في ظاهر روايتهما؛ لا يحل الثالث ولنا يحل الرابع، وروي عنهما أيضاً أنه يحل الثالث. وأما البازي وما بمنعاه فترك الأكل في حقه ليس علامة تعلمه، وأما علامته أن يجيب صاحبه إذا دعاه حتى أن البازي وما بمعناه إذا أكل من الصيد يؤكل صيده قال بعض مشايخنا في البازي: هذا إذا أجاب صاحبه عند الدعوة العامة من غير أن يطمع في اللحم، فأما إذا كان لا يجيب إلا بطمع في اللحم لا يكون معلماً، ولا يحل صيده. وكذلك الكلب إذا أكل من الصيد خرج من حكم المعلم، وحرم ما عند صاحبه من الصيود قبل ذلك في قول أبي حنييفة، وعندهما لا يحرم الصيود التي أحرزها صاحبها،

ولم يأكل منها قبل هذا إذا كان العهد قريباً بأخذ ملك الصيود، فأما إذا كان بعيداً بأن أمضى شهراً أو نحوه، وقد قدر صاحبه ملك الصيود لم يجز بلا خلاف. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي: وبه ظهر أن الخلاف في الفصلين، وأجمعوا أن ما لم يحرزه المالك من صيوده أنه يحرم؛ هكذا ذكر شيخ الإسلام. فالحاصل: أن أبا حنيفة يحكم بجهله مستنداً فهما يقولان حكمنا بإباحة ما أحرز المالك من صيوده بنوع اجتهاد، فلو نقضنا هذا الحكم نقضناه باجتهاد مثله؛ لأن أكله من الصيد الذي أكل يحتمل أن يكون لجهله، وتركه الأكل فيما مضى كان لسعة لا يعلمه، ويحتمل أن أكله كان لمسألة جوعه، أو لأنه نسي ذلك، وهذا لا يوجب جهله فيما مضى، فرجحنا ما يوجب الحرمة في المستقبل احتياطاً، ولكن لم ينقض ما حكمنا به من الإباحة فيما مضى بالاجتهاد الثاني، بخلاف ما لم يحرزه من الصيود؛ لأنه لم يحكم بإباحة ما لم يحرزه من كل وجه، فأما إنما يحكم بالإباحة بعد خروجه من أن يكون صيداً، وقتل الآخر ليس شيء من؟ من معنى الصيد به باقي وهو أنه في المعلى وأبو حنيفة رحمه الله قال: المقصود من إباحة الأكل وإنه لم يوجد، وظهور اجتهاد آخر قبل حصول ما هو المقصود من الإباحة؛ كظهور اجتهاد آخر للقاضي قبل القضاء، وأما ما باع المالك مما ورد من صيوده فلا شك أن على قولهما: لا ينقض البيع فيه، وأما على قول أبي حنيفة فينبغي أن ينقض البيع إذا تصادق البائع، والمشتري على كون الكلب جاهلاً. قال: ولا يحل صيده بعد ذلك حتى يعلم، وحد تعليمه ما ذكرنا في ابتداء الأمر على الخلاف، وكذلك هذا الخلاف في البازي إذا فر من صاحبه، فدعاه فلم يجبه؛ حتى حكم بكونه جاهلاً إذا أجاب صاحبه ثلاث مرات بعد ذلك على الولاء يحكم بتعلمه عندهما. ولو شرب الكلب من دم الصيد يؤكل، وإن أخذ الرجل الصيد من الكلب، ثم وثب عليه الكلب، فانتهش منه قطعة، أو رمى صاحبه إليه اليد فأكلها، لم يفسده، وهو على تعلمه؛ لأنه انتهى موجب الإمساك لصاحبه بعد التسليم إليه في الأكل بعد ذلك لا في علم الاصطياد، ولو أن الكلب أكل قبل أن يأخذه صاحبه كرهت أكله لما مر، ولو امتنع الكلب الصيد فانتهش منه قطعة فأكلها، ثم أخذ الصيد بعد ذلك، فقتله، ولم يأكل منه ما لم يؤكل؛ لأن الأكل منه قد وجد في حالة الاصطياد، فلم يكن متمسكاً على المالك، ولو أكل ما انتهش بعده أخذ الصيد وقتله صاحبه منه، فإنه منه يؤكل؛ لأنه لو أكل من نفس الصيد في هذه الحالة لم يعتبره، فإذا أكل ما بان (147أ2) على صيد كثير، وسمى مرة واحدة حالة الإرسال، فقيل: الكل حل أكله وكفاه تسمية واحدة في حق الكل في البازي. فرق بين هذا وبينما إذا ذبح شاتين بتسمية واحدة، فإنه لا يحل. والفرق: أن الذبح في باب الكلب يحصل بالإرسال، ولهذا شرط التسمية وقت

الإرسال، ولهذا تشترط التسمية وقت الإرسال، والإرسال واحد، فعليه تسمية واحدة بمنزلة ما لو رمى سهماً إلى صيد فنفذه وأصاب صيداً آخر، بخلاف ما لو ذبح شاة، ثم ذبح أخرى؛ لأن الثاني صار ذبحاً بغير فعل الأول، فلا بد من تسمية أخرى حتى لو أضجع شاتين، وذبحها بمرة واحدة، فإنه يكفيه تسمية واحدة؛ لأن ذبحهما حصل بفعل واحد، وهذا كله ما دام الكلب في وجه إرساله، فإن انحرف يميناً أو شمالاً ثم أخذ صيداً، فإنه لا يحل أكله؛ لأن هذا الأخذ حصل بغير إرسال؛ لأنه أرسله قبل المشرق وهو قد ذهب إلى المغرب. وإذا قتل صيداً، وحتم عليه طويلاً، ثم مر به آخر، فأخذه وقتله لم تؤكل؛ لأنه انقطع فور الإرسال، وإذا كمن الفهد في إرساله حتى استمكن الصيد، ثم وثب عليه وقتله، لم يحرم أكله، وكذلك الكلب إذا فعل مثل ذلك؛ لأن قصده من هذا التمكن من الصيد، وهذه عادة ظاهرة في حق الفهد والكلب، فلا ينقطع به حكم الإرسال، أو إذا أرسل بازيه المعلم فوقع على شيء، ثم اتبع الصيد فأخذه وقتله لا بأس بأكله، وتأويله إذا مكث ساعة الكمين حتى لا ينقطع به فور الإرسال؛ أما إذا مكث زماناً طويلاً يكون الإسراع بحيث ينقطع به فور الإرسال؛ لا يؤكل ومن شرطها أن لا لا يشاركها؟ كلب غير معلم غير مرسل حتى لو أرسل كلبه المعلم وشاركه في قتل الصيد؛ كلب آخر غير معلم، يريد به أن يأخذ معه ويخرج معه، فإنه لا يؤكل؛ لأنه اجتمع في الصيد ما يبيح وما يحرم، والاحتراز غير ممكن، فيرجح جانب الحرمة احتياطاً، وإن رد عليه، ولم يخرج هو معه حتى جرحه أو ورد عليه سبع في حد الكلب المعلم، ومات من جرحه، وذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : أنه يكره أكله؛ قال شيخ الإسلام: لم يرد بهذه الكراهة التحريم، وقال شمس الأئمة الحلواني: أراد بها التحريم، وهو الصحيح. وإن رد عليه مجوسي حتى أخذه لا بأس بأكله؛ بخلاف ما لو مد المجوسي قوساً إلى صيد وأصابه، فإنه لا يحل أكله، والبازي في هذا نظير الكلب، وإن كان غير المعلم اتبع المعلم..... عليه حتى ازداد طلباً لهذا الصيد؛ لا بأس بأكله، وكذا في البازي، ومن شرطها أن لا يوجد منهما بعد الإرسال، بول..... أوجد ذلك منه، أوطال..... لا يؤكل الصيد، كذلك من شرطها أن يكون جارجاً؛ حتى لو قتله من غير جرح؛ لا يحل ذكر في «الزيادات» وفي «المختصر» لعصام، وأشار في «الأصل» إلى أنه يحل، فإنه قال: أخذ ومثله، ولم يفصل بينهما إذا قتله جرحاً، أو خنقاً. وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة، وأبي يوسف في غير رواية «الأصول» : أنه يحل وإن لم يجرحه، من المشايخ من قال: ما ذكر في «الأصل» قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وما ذكر في «الزيادات» قول محمد، وقيل: ما ذكر في «الأصل» إيجاز، وما ذكر في «الزيادات» إشباع، والصحيح ما ذكر في «الزيادات» وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة:

الفصل الخامس في الشرائط التي في الصيد

أنه إذا كسر عضواً وقتله؛ لا بأس بأكله؛ لأن الكسر جراحة في الباطن، فتصير الجراحة في الظاهر. هذا كله إذا كانت الآلة حيواناً. أما إذا كانت الآلة جماداً؛ قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ولا يحل صيد البندقة والحجر والمعراض والعصا وما أشبهه، وإن جرح؛ لأنه لا يخرق؛ إلا أن يكون شيء من ذلك قد حدده، وحلوله كالسهم، وأمكن أن يرمي به، فإن كان كذلك وجرحه حل؛ وهذا لأن المطلوب بالذكاة تسييل الدم، وذلك يحصل بالخرق والتقطيع، فأما الجرح الذي ينزف في الباطن، ولا يخرق في الظاهر، ولا يحصل تسييل الدم به، فهو معنى الموقوذة والموقوذة حرام بالنص، وفعل الحديد، وغير الحديد في ذلك سواء. وكذلك لو رمى الصيد بسكين، فأصابه بحده فجرحه يؤكل، وإن أصابه بعرض السكين، أو بمقبض السيف لم يؤكل، والمزراق كالسهم؛ لأنه يخرق، ويعمل في تسييل الدم ما يعمل السهم، وإن حدد مبردة، ورمى بها صيداً حل لحصول بتسييل الدم بحدة الآلة، ثم في كل موضع وجد القطع.... هل يشترط مع ذلك الأداة؟ اختلف المشايخ فيه. منهم من قال: يشترط، ومنهم من قال: لا يشترط، ومنهم من قال: إذا كانت الجراحة صغيرة يشترط، وإذا كانت كبيرة لا يشترط، ولو رمى صيداً بسهم في سنته وأصاب صيداً آخر، أو أصاب ذلك الصيد، ونفذ منه، وأصاب صيداً آخر وقتله، فذلك كله حلال، وإن عرض السهم ريح أو شجر أو حائط ورده إلى ورائه، أو يمنة أو يسرة، وأصاب صيداً لم يؤكل، وإن لم يرده عن سنته يؤكل، وعن أبي يوسف: أنه وإن رده يمنة أو يسرة يؤكل، ولو عرض للسهم بسهم آخر، فرده عن سنته وأصاب صيداً، وقتله لم يؤكل؛ هكذا ذكر في «الأصل» ، وذكر في «الزيادات» : أنه يؤكل. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: تأويل ما ذكر في «الأصل» : أن الرامي الثاني لم يقصد الرمي إلى الصيد، إنما قصد اللعب، أو تعلم الرمي، أو ترك التسمية عمداً؛ حتى لو قصد الثاني الاصطياد يحل على رواية «الأصل» أيضاً، وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» . ولو كانت الريح شديدة فوقعت السهم في سنته وأصابت الصيد أكل. الفصل الخامس في الشرائط التي في الصيد فمن شرط أن لا يشارك في موته سوى جراحة السهم، أو الكلب، أو ما أشبه ذلك، وذلك نحو الرمي من موضع، والوقوع في الماء، وجراحةٍ أخرى يتوهم موته من تلك الجراحة.

الفصل السادس فيما لا يقبل الذكاة من الحيوان، وفيما يقبل

قال محمد في «الأصل» : إذا أصاب السهم، فوقع على السطح أو على الأرض من الهواء أو مات، فإنه يؤكل، وإذا وقع على السطح أو على الجبل، ثم وقع على الأرض لا يؤكل؛ لأنها متردية، والمتردية حرام لجواز أن يكون (147ب2) التردي قتله، والأصل أنه متى دخل على الصيد لعل وعسى لا يؤكل، وههنا دخل لعل وعسى لجواز أن يكون التردي قتله، ولو وقع على شيء ومات، فإن كان ذلك الشيء قبل الأرض لا يقتل كالسطح، والآجر المبسوطة يؤكل، وإن كان يقتل منه مثل حد الرمح والقصبة المنصوبة وحد الآجر لا يؤكل؛ لأنه يحتمل أنه قتيل الرمح، والآخر، والاحتراز عنه ممكن، فيجب اعتباره بخلاف ما لو سقط على الأرض حيث يؤكل إن احتمل أنه مات بسبب السقوط على الأرض؛ لأن الاحتراز عن السقوط على الأرض غير ممكن، فيسقط اعتباره، وإذا سقط اعتبار السقوط على الأرض سقط اعتبار السقوط على ما هو بمعنى الأرض قالوا: وهذا إذا كانت الجراحة التي أصابت الصيد جراحة يجوز أن يسلم الصيد منها بأن أصاب رجله أو يده؛ أما إذا كانت جراحة لا يجوز أن يسلم منها إن بقي فيه من الحياة مقدار ما يبقى في المذبوح بعد الذبح كالاضطراب ونحوه؛ لا يحرم بالإجماع؛ لأنه يعلم أنه قتيل الجراحة لا قتيل التردي، وإن بقي فيه من الحياة أكثر من ذلك؛ مقدار ما يعيش نصف يوم أو أكثر؛ لا يحرم عند محمد، وعند أبي يوسف يحرم. وإذا رمى طائراً ووقع في الماء؛ إن كان الطير مائياً، والجراحة فوق الماء، يعلم قطعاً أنه قتيل الجراحة لا قتيل الماء؛ لأنه يفلس في الماء، وإن كانت الجراحة تحت الماء، أو في صيد الذي فوق الماء، أو تحته يحتمل أن يكون الموت بسبب الماء هنا في الوجوه التي ذكرنا في فصل التردي من الذي يجوز أن يسلم، ويجوز أن لا يسلم من الاتفاق والاختلاف، وذكر شيخ الرسلام المسألة على هذا الوجه في «شرحه» ، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله تعالى في «شرحه» إن الطير إذا وقع في الماء؛ لا يؤكل برياً كان أو مائياً، فيتأمل عند الفتوى، ومن شرائطه أن يموت قبل أن يصل الصائد إليه؛ حتى يكون حله بلا شبهة وخلاف، فإنه لو وصل إليه الصائد، وهو حي ففيه كلمات على ما يأتي بيانها بعد هذا إن شاء الله. ومن شرائطه أن يكون متنفراً متوحشاً، ولا يكون ألفاً كالدواجن من الوحوش. الفصل السادس فيما لا يقبل الذكاة من الحيوان، وفيما يقبل وإذا أرسل كلبه إلى صيد، فجرحه الكلب؛ ثم وصل إليه صاحبه وهو حي، أو رمى سهماً إلى الصيد فأصابه فوصل إليه صاحبه وهو حي، فهذه المسألة على وجهين: إن لم يتمكن من الذبح؛ إن كان عدم التمكن لفقد الآلة، فلذلك لا يحل إلا بالذبح؛ قال شيخ الإسلام في «شرحه» وقد روي في غير رواية «الأصول» عن أبي حنيفة، وأبي يوسف أنه يحل، وإن كان عدم التمكن لضيق الوقت بأن بقي فيه من الحياة مقدار ما لا يتأتى فيه الذبح.

ذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : أنه لا يحل عندنا، وقال الحسن بن زياد ومحمد بن مقاتل: يحل، وهو قول الشافعي، وبه أخذ الصدر الشهيد في «واقعاته» ، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : أنه إن كان الباقي من الحياة مقدار ما يبقى في المذبوح بعد الذبح يحل؛ قيل: هو قول أبي يوسف ومحمد؛ أما على قول أبي حنيفة لا يحل، وإن كان الباقي من الحياة أكثر مما يكون في المذبوح إلا أنه لا يتأتى فيه الذبح بذلك القدر لا يحل، قيل هذا بلا خلاف. قال محمد في «الأصل» في باب المتردي: وما أدركت ذكاته، والمتردي، وما أكل السبع فذكيتها حل، وتكلموا في إدراك ذكاته. والحاصل: أنه إذا كان يتوهم أن يعيش تقبل الذكاة بلا خلاف حتى لو ذكاه هل يحل، وإن لا يتوهم أن يعيش لكن بقي فيه من الحياة أكثر مما بقي في المذبوح بعد الذبح، قال أبو يوسف رحمه الله: لا تقبل الذكاة، وقال محمد: تقبل، وإذا بقي فيه من الحياة مقدار ما بقي في المذبوح بعد الذبح كالحركة وشبهها؛ قال أبو يوسف: لا تقبل الذكاة، أبي حنيفة اختلف المشايخ؛ ذكر القاضي الإسبيجابي، وشمس الأئمة الحلواني، وشمس الأئمة السرخسي: أنه تقبل، وذكر شيخ الإسلام: أنه لا تقبل، وشيخ الإسلام سوى بين هذا، وبين ما إذا جرحت الكلب أو السهم، وقد بقي فيه من الحياة مقدار ما في المذبوح بعد الذبح، فإنه لا يكون محلاً للذكاة؛ حتى لو أخذه المالك، ولم يذكه حل، وهم فرقوا. والجواب في الشاة إذا مرضت، وبقي فيها من الحياة مقدار ما بقي في المذبوح بعد الذبح وإذا ضرب البازي الصيد بمنقاره أو مخلبه حتى أثخنه أو جرحته الكلب بمرضاة صاحبه ومات الصيد، عامة المشايخ: على أنه لا يحل أكله، وإذا رمى سهماً إلى صيد، فأصابه، وأثخنه حتى لا يستطيع برؤها ثم رماه، بسهم آخر فأصابه ومات لا يحل أكله. قال الشيخ الأجل شمس الأئمة الحلواني: هذا إذا علمت أنه مات من الرمية الأولى، وإن رماه بسهم وأصابه، ثم رماه رجل آخر بسهم وأصابه؛ إن لم.... للأول حل، وإن.... للأول إلى أن يبقى فيه من الحياة مقدار ما بقي في المذبوح بعد الذبح؛ نحو الاضطراب، فإن أبان الأول رأسه، وفي هذا الوجه يحل أيضاً. وإن كان الباقي فيه من الحياة أكثر مما بقي في المذبوح بعد الذبح، فعلى قول أبي يوسف لا يحرم الصيد بالرمي الثاني؛ لأنه لا عبرة لهذه الحياة عنده، وعلى قول محمد يحرم؛ لأن لهذه الحياة عبرة عنده، إذا رمى إلى صيد، وانكسر الصيد بسبب آخر قبل أن يصيبه السهم، ثم أصابه السهم حل؛ لأنه حين رماه كان صيداً، والعبرة في حق الحل لوقت الرمي إلا في مسألة واحدة ذكرها محمد في آخر كتاب الصيد. وصورتها: الحلال إذا رمى صيداً، والرامي والصيد في الحل، فلم يصل السهم

الفصل السابع في صيد السمك

الصيد حتى دخل الصيد في الحرم وبسهم على إثره، فأصابه السهم في الحرم، ومات في الحرم والسهم في الحلال لا يؤكل، واعتبر وقت الإصابة؛ أما فيما عداها، فالعبرة لحالة الرمي. وفي «النوازل» : إذا رمى سهماً إلى صيد، فأصابه، ووقع عند (148أ2) مجوسي مقدار تعذر على ذبحه، فمات لا يحل تناوله؛ لأنه قادر على ذبحه بتقديم الإسلام، وإذا وقع عند نائم والنائم بحال لو كان مستيقظاً تعذر على تذكيته فمات؛ روي عن أبي حنيفة: أنه لا يحل؛ لأن النائم عنده كاليقظان في مسائل معدودة من جملتها هذه المسألة عن محمد أنه يحل؛ لأن النائم عنده كالغائب وكالميت، وإن وقع عند صبي لا يعقل الذبح حل، وإن كان يعقل الذبح لا يحل. في «فتاوى أهل سمرقند» : شق الرجل بطن شاة، وأخرج ولدها، وذبح الولد، ثم ذبح الشاة، فإن كانت الشاة لا تعيش من ذلك يحل؛ لأن في الفصل الأول الشاة مثل الفصل الثاني، وإنه تصح ذكاة شاة ذبحت فلم تتحرك بعد الذبح، ولم يخرج منها الدم، فالمسألة على وجهين: إن علم حياتها وقت الذبح حلت، وذكر الصدر الشهيد المسألة في «واقعاته» من غير ذكر خلاف، وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب الصيد: اختلف المشايخ في هذا الوجه؛ قال: كان الفقيه أبو القاسم الصفار يقول: لا يحل لعدم معنى الذكاة، وهو تسييل الدم النحر، وكان الفقيه أبو بكر الإسكاف يقول: يحل لوجود فعل الذكاة، قال عليه السلام: «الذكاة ما بين اللبة واللحيين» ، وإن لم يعلم حياتها وقت الذبح، فإن لم يتحرك، ولم يخرج منها الدم لا يحل، وإن تحرك ولم يخرج منها الدم لا يحل، وإن تحرك ولم يخرج منها الدم المسفوح، أو خرج منها الدم المسفوح، ولم يتحرك حل، والله أعلم. الفصل السابع في صيد السمك الأصل عندنا في إباحة السمك؛ أن ما مات بآفة يؤكل، وما مات منه بغير آفة لا يؤكل، وإن قتلها شيء من طير الماء أكل؛ لأنها ماتت بآفة، وإن القاها في حب ماء، وماتت؛ فكذلك لأن ضيق المكان آفة، وكذلك إذا جمعها في حظيرة لا يستطيع الخروج منها، وهو يقدر على أخذها بغير صيد فمتن كلهن فلا بأس بأكلهن؛ لأنهن متن لضيق المكان؛ حتى كانت الحالة هذه، وإن كان لا يقدر على أخذهن من غير صيد، فلا خير في أكلهن؛ لأنه لم يظهر لموتهن سبب، ولو ماتت في الشبكة وهي لا تقدر على التخلص

الفصل الثامن في الرجل يسمع حس صيد ويرميه ثم تبين خلافه

منها، وأكلت شيئاً مما يلقى في الماء ليس أكل فمات وذلك معلوم، فلا بأس بأكله، وكذلك لو ربطها في الماء وماتت، وكذلك إن جمد الماء بقي في الجمد وماتت. ولو ماتت بحمى الماء أو برودته ذكر القدوري أنه فيه روايتين، وذكر شيخ الإسلام في غير رواية الأصول: أن على قول أبي حنيفة لا يحل، وعلى قول محمد يحل، وإذا انحسر الماء عنها تؤكل، وإذا انحسر الماء عن بعضها؛ إن كان رأسها في الماء لا تؤكل، وإن كان رأسها خارج الماء تؤكل؛ لأن ذلك سبب موتها، وهكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» . وفي «المنتقى» : إذا كان ما على الأرض النصف أو أقل لا تؤكل، وإذا كان ما على الأرض أكثر من النصف تؤكل، وإذا اصطاد سمكة، فوجد في بطنها أخرى أكلهما؛ لأن الأولى ماتت بالأخذ، والثانية لضيق المكان، وهذه المسألة تدل على أنه إذا وجد في بطن السمكة الطافية سمكة أنها تؤكل، وإن ماتت الطافية لا تؤكل، وعن محمد في السمكة توجد في بطن الكلب أنه لا بأس بأكلها؛ يريد إذا لم تتغير؛ لأنها ماتت بسبب، وإذا أضرب بها ضارب، وقطع بعضها لا بأس بأكل ما قطع منها، وإن كان ما قطع مباناً من الحي، والمبان من الحي ميت إلا أن الميت من السمكة حلال إذا ماتت بآفة والمبان من السمكة ميت بآفة، وكذلك لا بأس بأكل الباقي؛ لأنه مات كالسمك يصيده مجوسي؛ لأنه يحل من غير تسمية، فإن المسلم إذا أخذها السمك، وترك التسمية عليه عمداً يحل بدون التسمية؛ المجوسي، وغير المجوسي فيه سواء. الفصل الثامن في الرجل يسمع حس صيد ويرميه ثم تبين خلافه قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ومن سمع حساً ظن أنه حس صيد، فأرسل كلبه عليه، أو رماه، فأصاب صيداً، فإن كان ذلك الحس حس صيد، فلا بأس بتناول ما أصاب؛ يستوي فيه أن يكون الذي سمع حس مأكول اللحم، أو غير مأكول اللحم، فإن كان ذلك الحس حس إنسان، أو حساً من الأهليات؛ لا يكون تناول ما أصابه حلالاً به رمي إلى الحس، والرمي إلى الآدمي والأهليات لا يكون اصطياداً، وحل الصيود يتوقف على الاصطياد، وإن لم يتبين ما كان ذلك الحس لا يحل تناول ما أصاب. وفي «النوادر» : إذا رمى طائراً، فأصاب طيراً آخر، وذهب ذلك الطير، ولا يدري إن كان أهلياً أو وحشياً، فإنه يحل تناول الطير الذي أصابه، وعن أبي يوسف أنه إذا كان الحس حس خنزير لا يحل تناول ما أصابه؛ بخلاف سائر السباع؛ لأن فعله في الخنزير؛ لا يؤثر شرعاً في جلده، فلا يؤثر فيما أصابه أيضاً؛ بخلاف سائر السباع؛ لأن فعله في سائر السباع يؤثر في طهارة الجلد، فجاز أن يؤثر في إباحة لحم ما أصابه، وإن كان ذلك الحس حس سمكة، فظنه طير الماء، أو كان ذلك الحس حس جلاد فظنه صيداً لم

الفصل التاسع في الأهلي يتوحش

يؤكل؛ لأنه لا يقع عليهما الذكاة، فالنية في آكلها وتركه على السواء وعن أبي يوسف: أنه يؤكل؛ لأن المرمي إليه صيد. وفي «المنتقى» : إذا سمع حساً بالليل، وظن أنه إنسان أو دابة أو حية فرماه، فإذا ذلك الذي سمع حسه صيد، فأصاب سهمه ذلك الصيد الذي سمع حسه، أو أصاب صيداً آخر فقتله لا يؤكل؛ لأنه رماه وهو لا يريد الصيد؛ قال ثمة: ولا يحل الصيد إلا بوجهين: أن يرميه وهو يريد الصيد، وأن يكون ذلك الذي أراده أو سمع حسه، ورمى إليه صيداً؛ سواء كان مما يؤكل أو لا يؤكل، وذكر بعد هذه المسألة في «المنتقى» أيضاً لو سمع حساً، وظنه أنه شيء، فأصاب الحس نفسه، فإذا هو صيد أكل؛ لأن تعيينه في الرمي إليه يسقط حكم قصده، فصار كما لو قصد إلى المجوس (148ب2) قال: ولو نظر إلى بعير ناد فرماه فأصاب صيداً يؤكل، وكذلك إذا سمع حسه ورماه وهو يظن أنه صيد، فأصاب صيداً، ولو نظر إلى ظبي مربوط أو بصيد فرماه، وهو يظن أنه صيد، فأصاب ظبياً آخر لم يؤكل، ولو رماه، فأصاب غيره، وقد ذهب المرمي إليه، فلا يدري ألفاً كان، أو غير ألف، فلا بأس بأكل الصيد الذي أصابه؛ لأن الظبي صيد حتى يعلم أنه غير صيد، وأما البعير إذا رماه، وهو يظن أنه ناد فأصاب صيداً، ثم ذهب البعير، ولا ندري أنه ناد أو غير ناد لم يؤكل؛ لأن البعير غير نادٍ في الأصل، فيبقى على الأصل حتى يعلم خلافه. الفصل التاسع في الأهلي يتوحش الأصل في هذا أن الإنسي إذا توحش، ووقع العجز عن ذكاة الاختيار يحل بذكاة الاضطرار، به ورد الأثر عن رسول الله عليه السلام؛ قال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله في البعير، أو البقرة: إذا ندا، فلا يقدر على أخذه؛ قال: إذا علم أنه لا يقدر على أخذه إلا أن يجتمع كذلك جماعة كثيرة من الناس، فله رميه، وهذا على ما يقع في نفس صاحبه، ويستوي في ذلك أن يكون الند في المصر، أو خارج المصر؛ قال: وأما الشاة فليس هكذا؛ إذا كانت في المصر؛ لأن البعير يصول، والبقر تنطح، فأما الشاة فليست كذلك أشار إلى أن في الشاة القدرة على الذكاة الاختيارية ثابتة بحكم الغلبة ما دامت في المصر، وإن كانت الشاة ندت في الصحراء، فذهبت، وظن صاحبها أنه لا يقدر عليها، فله أن يرميها. وفي «القدوري» : وكل بعير، أو بقرة، أو شاة ندت وصارت كالصيد لا يقدر عليها صاحبها، فإن ذكاتها ذكاة الصيد سواء البعير والبقرة والشاة والصحيح هو الفرق. وفي «النوازل» : دجاجة لرجل تعلقت بشجرة لا يصل إليها صاحبها فرماها، إن كان يخاف فوتها تؤكل، وإن كان لا يخاف فوتها؛ لا تؤكل.

الفصل العاشر فيما أبين من الصيد

وفيه أيضاً: رجل له حمامة طارت منه، فرماها صاحبها أو غيره، فإن كانت لا تهتدي إلى منزلها أصابت الرمية مذبحها، أو موضعاً آخر، وإن كانت تهتدي إن أصابت الرمية المذبح حل أكلها، وإن أصابت موضعاً آخر اختلف المشايخ، ونص محمد رحمه الله في «العيون» : أنه لا يحل أكلها، وهكذا ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» . وكذا ذكر «البقالي في فتاويه» وعلى هذا الظبي؛ إذا علم في البيت فخرج إلى الصحراء، فرماه رجل، فإن أصاب المذبح يحل أكله، وإن أصاب موضعاً آخر؛ لا يحل أكله إلا أن يتوحش، فلا يؤخذ إلا بصيد، وإن أصاب الظلف أو القرن فقتله حل إذا أدماه، وخلصت الرمية إلى اللحم، وكذلك المتردي إليه إذا لم يقدر على إخراجه، ولا على مذبحه، فإن ذكاته ذكاة الصيد. في «المنتقى» : بعير تردى في بئر فوجأه وجأة يعلم أنه لا يموت منها؛ لا يؤكل، وإن كان شاكاً أكل. وفيه أيضاً: رجل حمل عليه بعير غيره ليقتله فقتله أكل لحمه؛ إن كان لا يقدر على أخذه، وأراد بذلك ذكاته، وإن لم يرد به ذكوته لا يؤكل، وجعل الصيال بمنزلة الند. وفي «النوازل» : بقرة تعسر عليها الولادة، فأدخل صاحبها يده وذبح الولد؛ حل أكله، وإن جرحه في غير موضع الذبح إن كان لا يقدر على مذبحه يحل، والله أعلم. الفصل العاشر فيما أبين من الصيد قال: إذا قطع من يد شاة قطعة، أو من فخذها لا يحل، وأهل الجاهلية كانوا يفعلون ذلك، فرد عليهم رسول الله عليه السلام، فقال: « (ما) أبين من الحي، فهو ميتة» ؛ ثم الأصل في جنس هذه المسائل: أنه ينظر إن كان الصيد مما يعيش بدون المبان، فإن المبان منه يؤكل؛ إذا مات من ضربه ورميه والمبان لا يؤكل، وإن كان الصيد لا يعيش بدون المبان يؤكل المبان منه، والمبان جميعاً. مثال الأول: إذا قطع فخذه فأبانها. مثال الثاني: إذا قطع الرأس؛ وهذا لأنا إنما عرفنا حرمة المبان بالحديث الذي روينا، والحديث يتناول المبان الحي المطلق، والمطلق ينصرف إلى الكامل، فتناول الحي صورة ومعنى، فإذا كان المبان الفخذ أو ما أشبه ذلك فيما يعيش الصيد بدونه، فهو مبان من الحي حقيقة، ومعنى. وإذا كان المبان رأس أو ما أشبهه، فهذا مبان من الحي صورة ومن الميت معنى؛ لأنه لا يبقى بعد مثل هذا القطع إلا قدر ما يبقى في المذبوح بعد الذبح، وذلك القدر من

الفصل الحادي عشر في بيع آلة الاصطياد

الحياة غير معتبر شرعاً، وكان مباناً من الميت، فلا يدخل تحت الحديث. قال: ولو ضرب صيداً، وسمى فأبان طائفة من الرأس؛ إن كان المبان يقل عن نصف الرأس؛ لا يؤكل المبان؛ لأنه يتوهم بقاء الصيد حياً بعد قطع هذا المقدار، وإن كان المبان نصف الرأس، وأكثر يؤكل المبان؛ لأنه لا يتوهم بقاؤه حياً بعد قطع هذا المقدار، وإن قطع شيئاً منه من موضع يتوهم أن يعيش الصيد بدون ذلك المقطوع، إلاأنه لم يبينه، فهذا على وجهين: إن كانت الإبانة على وجه تحتمل الإلتئام والإندمال يؤكل كله، وإن كان على وجه لا يحتمل الإلتئام والإندمال بأن تعلق المبان بجلدة كان ذلك بمنزلة ما قد بان منه؛ لأن في الوجه الأول لم توجد الإبانة لا حقيقة ولا حكماً، والميت هو المبان من الحي، وفي الوجه الثاني: وجدت الإبانة معنى، وإن لم توجد صورة والعبرة للمعنى، وعلى هذا يخرج جنس هذه (149أ2) المسائل. في «الواقعات» : رجل ذبح الشاة، وقطع الحلقوم والأوداج؛ إلا أن الحياة فيها، فقطع إنسان بضعة منها يحل أكل تلك البضعة منها؛ لأن هذا ليس بمبان من الحي؛ لأن ما بقي فيها من الحياة غير معتبر أصلاً. الفصل الحادي عشر في بيع آلة الاصطياد قال شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب الصيد: إن الصحيح من المذهب أن المعلَّم، وغير المعلم إذا كان بحيث يقبل التعليم؛ سواء في حكم البيع. حتى قال في «النوازل» : لو باع الجرو جاز بيعه؛ لأنه يقبل التعليم؛ قال: وإنما الذي لا يجوز بيعه العقور الذي لا يقبل التعليم، وذكر شمس الأئمة فصل الكلب الجاهل في موضعين؛ ذكر في أحد الموضعين أن الكلب مع جهالته لو كان عقوراً لا نص فيه، وقد اختلفوا فيه؛ منهم من قال: له قيمة، وذكر في الموضع الآخر أن بيع الجاهل العقور جائز في ظاهر الرواية. وفي «النوادر» : أنه لا يجوز بيعه، وأما كلب المزابل ذكرت في ظاهر الرواية: أنه لا بأس بأكل ثمنه، وعن محمد في «النوادر» أنه قال: لا يحل من الكلب المزابل. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وكذلك الأسد إذا كان يقبل التعليم، ويصطاد به جاز بيعه، وإن كان لا يقبل التعليم؛ لا يجوز بيعه، قال: والفهد والبازي يقبلان التعليم على كل حال، فجاز بيعهما كذلك، فأما بيع السنور الذي ينتفع به، فجائز بالاتفاق، وعبارة شمس الأئمة الحلواني أن السنور له ثمن عندنا إذا تمول، ذكر في باب الصيد أن من قتل كلباً معلماً أو بازياً؛ معلماً لغيره، فعليه قيمته كذلك، وكذلك إذا قتل هرة غيره، وكل ما ذكرنا أنه يجوز بيعه يجب الضمان بإتلافه وهبة المعلم من الكلاب، ووصيته جائزة بالإجماع.

الفصل الثاني عشر في المتفرقات

الفصل الثاني عشر في المتفرقات البازي المعلم إذا أخذ صيداً، وقتله، ولا يدري مآل حال البازي أرسله إنسان أو لا، لا يؤكل، وكذلك الكلب على هذا، ويكره لحم الإبل الجلالة، والعمل عليها، وتلك حالها التي تعتاد أكل الجيف ولا يخلط ويكون ميتاً، وإنما كره الاستعمال كيلا يتأذى الناس بروائحها، فأما ما تخلط فيتناول الجيف وغير الجيف على وجه لا يظهر ذلك في لحمه فلا بأس بأكل لحمه والعمل عليها. ألا ترى إلى ما ذكر محمد رحمه الله في «النوادر» : لو أن جدياً غذي بلبن خنزير، فلا بأس بأكله؛ لأن ذلك لا يؤثر في لحمه، ولا يتغير به، وعلى هذا لا بأس بأكل الدجاج، وإن كان يقع على الجيف؛ لأنها تخلط، فلا يتغير لحمه، ولا ينتن، والحكم يدور على هذا المعنى. وما ذكر في «الكتاب» : أن الدجاج يحبس، فذلك في الذي لا يأكل إلا الجيف، فأما الذي يأكل الجيف وغيره، فالحبس فيه ليس بشرط، ثم قال: يحبس أياماً، وقد اختلفت الروايات عن أصحابنا رحمهم الله؛ منهم من قال: ثلاثون يوماً، ومنهم من قال: عشرون، ومنهم من قال: عشرة. وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن الإبل تحبس أربعون، والبقر عشرون، والشاة عشرة، والدجاج ثلاثة، وهكذا روي عنهم في «النوادر» ، وروي عن أصحابنا في الإبل عشرون، وفي البقر عشرة، وفي الشاة ثلاثة، وفي الدجاج يوم، وقال بعضهم: في كل ذلك أيام. والأصح أنها تحبس إلى أن تزول عنها الرائحة المنتنة، وإليه أشار في «الأصل» حيث قال: حتى تزول عنها الرائحة الكريهة، ثم ذكر في «الأصل» الأكل والعمل عليها، ولم يذكر البيع، وذكر في «النوادر» بيعها، وهبتها ما دام تلك حالها. وعن محمد في الجدي يغذى بلبن الحمار مرة أو مرتين أنه لا يكره، فإذا كثر كره؛ حتى يعلف مدة يحدث فيه مثل هذا السمن، وروي أنه لا يكره؛ لأنه يتغير، ويجب أن تكون مسألة الجدي غذي بلبن الخنزيرعلى الروايتين أيضاً، وذكر الحسن في الشاة تشرب خمر أو ما فيه بول أنه يكره ذبحها ساعته حتى تحبس ثلاثة أيام، وذكر الطحاوي خلافه، الجنين إذا خرج حياً، ولم يكن من الوقت مقدار ما يقدر على ذبحه، فمات؛ يؤكل، هكذا ذكر في الصيد إذا أصابه السهم، وأدركه صاحبه، ولم يتمكن من ذبحه لضيق الوقت؛ عن شمس الأئمة السرخسي: أنه لا يحل عندنا؛ فعلى قياس تلك المسألة ينبغي أن لا يحل هذا أيضاً. في «المنتقى» : قال محمد رحمه الله: في الجنين إذا لم يتم خلقه لا يؤكل، وإن تم

أكل؛ أشعر، أو لم يشعر. وفي «النوازل» أيضاً: رجل له شاة حامل، فأراد ذبحها، فإن تقاربت الولادة يكره ذبحها؛ لأنه تضييع ما في بطنها من غير زيادة فائدة؛ لأنه تقارب الولادة، وهذا التفريع إنما يتأتى على قول أبي حنيفة. في «العيون» : رجل اشترى سمكة في خيط مشدود في ماء قبضها المشتري ثم ناول الخيط البائع، وقال: احفظ لي، فجاءت سمكة أخرى، فابتلعت الجائية المشدودة، والجواب فيها أن الجائية للبائع؛ لأنه هو الذي صادها، وتخرج السمكة المشدودة والمشتراة من بطنها، وتسلم إلى المشتري من غير ضمان، وإن نقصها الابتلاع؛ لأن هذا نقصان حصل بعد القبض؛ حتى لو لم يقبض المشتري والباقي بحاله، فيخير المشتري إن نقصها الابتلاع. المسألة الثانية: إذا ابتلعت المشتراة المشدودة الجائية، وفي هذه المسألة هما جميعاً للمشتري لما قلنا. وفيه أيضاً: أرسل كلبه على صيد فأخطأه، ثم عرض له صيد آخر، فقتله؛ يؤكل، وإن فاته الصيد، فرجع، فعرض له صيد آخر، فقتله؛ لا يؤكل؛ لأن الرجوع نقض الإرسال، والإرسال شرط حل الأكل. في «مجموع النوازل» : وجد حيوان رأسه ووجهه يشبه السبع، وشعره وقوائمه تشبه الشاة هل يؤكل؟ قال: يلقى بين يديه لحم، وكلأً؛ فإن تناول اللحم لا يؤكل، وإن تناول الكلأ يؤكل. ويكره الاصطياد للتسلي، وأن (149ب2) يأخذه حرفة وأخذ الطير بالليل؛ لا بأس، والنهي محمول على الندب، ونحن نقول: الأولى أن لا يفعل، والله أعلم بالصواب.

كتاب الذبائح

كتاب الذبائح هذا الكتاب يشتمل على أربعة فصول: 1 * في بيان أهلية الذابح 2 * في صفة الذكاة 3 * فيما يذكي به 4 * فيما يتعلق بالتسمية على الذبح.

الفصل الأول في بيان أهلية الذابح

الفصل الأول في بيان أهلية الذابح فنقول: أهل الذبح من له ملة التوحيد دعوى واعتقاداً كالمسلم، أو دعوى لا اعتقاداً كالكتابي ويستوي أن يكون الكتابي حربياً، أو ذمياً لعموم قوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} (المائدة: 5) ، وذبيحة الأخرس حلال؛ لأنه عاجز عن التسمية بحكم الخرس، فيعتبر بالعجز بحكم الكتابي، وذبيحة الصبي الذي يعقل ويضبط حلال، وقوله يضبط معناه يضبط شرائط الذبح من فري الأوداج، وقوله يعقل تكلموا في معناه؛ قال بعض مشايخنا معناه يعقل التسمية، وقال بعضهم: معناه أن يعلم أن الحل بقطع الحلقوم، والأوداج. الفصل الثاني في صفة الذكاة اعلم بأن الذكاة نوعان؛ إجباري حالة القدرة، وذلك في اللبلة، وما فوق ذلك إلى اللحيين هذا هو لفظ «القدوري» ، وفي «الجامع الصغير» لا بأس بالذبح في الحلق كله أسفله وأوسطه وأعلاه، وفي «فتاوى أهل سمرقند» : قصاب ذبح الشاة في ليلة مظلمة، فقطع أعلى من الحلقوم، أو أسفل منه يحرم أكلها؛ لأنه ذبح في غير المذبح، هو الحلقوم، فإن قطع البعض، ثم علم يقطع مرة أخرى الحلقوم قبل أن يموت بالأول. فهذا على وجهين: إما إن قطع الأول بتمامه، أو قطع شيئاً منه، ففي الوجه الأول: لا يحل، وفي الوجه الثاني: يحل. وذكاة اضطراري إلى حال عدم القدرة، وهي الحرج في أي مكان كان، ثم في حالة القدرة إذا قطع الحلقوم والمري وأودجين فقد أتم الذكاة، وإن قطع الأكثر من ذلك حل أكله، واختلفت الروايات في تفسير ذلك؛ روى الحسن عن أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف الأول: أنه إذا قطع الثلاث من الأربعة أي ثلث ما قطع فقد قطع الأكثر، رجع أبو يوسف الأول أنه إذا قطع الثلاث من الأربعة أي ثلث ما قطع، فقد قطع الأكثر، رجع أبو يوسف عن هذا، وقال: يشترط قطع الحلقوم والمري، وأحد الودجين، وعن محمد: أنه يعتبر قطع الأكثر عن كل واحد من هذه الأشياء الأربعة. وفيه أيضاً: أنه إذا قطع الحلقوم والمري، والكثير من كل ودجين يحل، وما لا فلا؛ قال مشايخنا: وهو أصح الجوابات، وإذا ذبح الشاة من قبل القفا، فإن قطع الأكثر من هذه الأشياء لا يحل، ويكره هذا الفعل؛ لأنه خلاف السنة، وفيه زيادة إيلام وإن نحر الشاة، أو ذبح الإبل جاز، لحصول ما هو المقصود، وهو تسييل الدم المسفوح، والسنه خلافه.

الفصل الثالث فيما يذكى به

وإذا ضرب شاة بالسيف، وأبان رأسها حلت، وذلك الفعل مكروه، وإذا ذبحها متوجهة إلى غير القبلة حلت، ولكن يكره. الفصل الثالث فيما يذكى به وما ذبح بسن أو ظفر مبروح، فهو ميتة، ولا بأس بأكله إذا كان مبروعاً، ولكن يكره الذبح به، وما أفرى الأوداج وأنهر الدم فلا بأس بالذبح به حديداً كان أو قصباً للحديث المعروف. الفصل الرابع فيما يتعلق بالتسمية على الذبيح إذا سمى على الذبيح بالفارسية يجوز، وإذا قال مكان التسمية: الله أكبر، أو قال: سبحان الله، أو قال: الحمد لله، فإن أراد به التسمية يحل، وإن أراد به التسبيح والتحميد والتكبير؛ لا يحل، وإن قال: اللهم اغفر لي، اللهم تقبل مني؛ لا يحل. قال «البقالي» : والمستحب أن يقول: باسم الله والله أكبر، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح كتاب الصيد المستحب أن يقول: بسم الله؛ الله أكبر بدون الواو؛ قال: ومع الواو يكره؛ لأنه يقطع بغير التسمية، وإذا ذبح شاة وسمى، فهذا على ثلاثة أوجه: إما إن لم يكن له نية أو أراد التسمية على الذبح وفي هذين الوجهين حل الذبح، وإن أراد غير التسمية على الذبيح؛ لأنه لم يأت بالمأمور به والمأمور به التسمية على الذبيح، وإذا ذكر التسمية بدون ذكر الهاء إن أراد به التسمية على الذبيح، ويكون ترك الهاء على سبيل الترخيم، وإنه مسموع من كلام العرب، وإن لم يرد به التسمية لا يحل؛ هاتان المسألتان في «النوازل» . ولو قال: بسم الله وباسم فلان، فقد اختلف المتأخرون فيه؛ قال إبراهيم بن يوسف: يصير ميتة، وبه أخذ الصدر الشهيد في «واقعاته» ، وقال محمد بن سلمة: لا يصير ميتة، فأما إذا ذكر بدون الواو يريد أن يضحي عن فلان لا يصر ميتة وهذا الفصل

منقول عن الفقيه أبي بكر؛ إلا أن المنقول عنه بالفارسية بسم الله يتام فلان، وعلى هذا إذا قال: بسم الله، واسم محمد صلى الله عليه وسلم، ولو قال: بسم الله، ومحمد رسول الله، وقال: بسم الله، أو قال: بسم الله محمد رسول الله؛ إن قال بالرفع يحل، وإن قال بالخفض لا يحل؛ هكذا ذكر في «النوازل» ، وقال بعضهم: هذا إذا كان يلحن النحو ويلحن به في كلامه، وقال بعضهم: على قياس ما روى محمد أنه لا يرى الخطأ في النحو معتبراً في باب الصلاة، ونحوها لا يحرم الذبح. ولو قال: بسم الله، وصلى الله على محمد، أو قال: صلى الله على محمد بدون الواو؛ حل الذبح، ولكن يكره ذلك. وفي «البقالي» : حل الذبح إن رافق التسمية الذبح، وقيل: أراد بذكر محمد صلى الله عليه وسلم الاشتراك في التسمية؛ لا يحل، وإن أراد الشرك بذكر محمد عليه السلام يحل الذبح، ويكره ذلك. ويكره أن يدعو بعد التسمية قبل الذبح بالتقبل وغيره؛ نحو قوله: بسم الله؛ اللهم تقبل مني، أو يقول: من فلان، أو يقول: اللهم اغفر لي؛ لأن الواجب (150أ2) تجريد التسمية، ولم يجرد التسمية، وأما إذا دعا قبل التسمية أو دعا بعد الذبح فلا بأس به، ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإذا أراد أن يذبح عدداً (من) الذبائح لم تجزئه التسمية الأولى عما بعدها، ولوا أرسل كلبه على صيد وسمى أو رمى سهماً وسمى فأصاب صيوداً في فور الإرسال فإنه يحل الأكل، والفرق ما ذكرنا في كتاب الصيد.h وإذا أضجع شاة ليذبحها وأحد السكين وسمى ثم ألقى تلك السكين وأخذ أخرى وذبح بها حل، ولو أخذ سهماً وسمى ثم وضع ذلك السهم ورمى بتلك التسمية. والفرق بينهما أن التسمية في ذكاة الاختيار مشروعة على الذبح لاعلى الآلة والذبح لم يتبدل بما صنع إنما تبدلت الآلة، وأما في ذكاة الاضطرار فالتسمية شرعت على الآلة، فإن النبي عليه السلام قال لعدي بن حاتم: «وإذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل، وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل لأنك سميت على كلبك» . فقد شرط التسمية على الآلة وهو الكلب، وإذا ثبت في الكلب ثبت في السهم؛ لأن السهم نظير الكلب من حيث إنه آلة يعمل منفصلاَ عن صاحبه، وإذا كانت التسمية مشروعة في ذكاة الإضطرار على الآلة والآلة قد تبدلت صار بدل الآلة في ذكاة الإضطرار كبدل الذبح في ذكاة الاختيار فإن أضجع شاة ليذبحها وسمى فلم تقطع السكين فرماها وأخذ أخرى وذبحها بتلك التسمية لا يجوز فهاهنا كذلك. وإذا أضجع شاة ليذبحها وسمي عليها ثم كلم إنساناً أو شرب ماء أو حدَّ سكيناً أو أكل لقمة وما أشبه ذلك من عمل لم يكثر حلت بتلك التسمية، وإن طال الحديث وكثر العمل كرهت أكلها وليس في ذلك يقدير بل ينظر فيه إلى العادة.

إن استكثر الناس في العادة يكون كثيراً وإن كان يعد قليلاً فهو قليل، ثم ذكر في هذا الفصل لفظة الكراهة وقد اختلف المشايخ فيها. وفي «أضاحي الزعفراني» : إذا حدد السكين وقطع بتلك التسمية من غير فصل..... إذا قل أو كثر. وفيه أيضاً: إذا سمى ثم انفلتت الشاة أو نفرت من يده وقمامت من مضجعها ثم أعادها إلى مضجعها انقطعت تلك التسمية. وفيه إذا ذبح الذابح وسمى صاحب الأضحية أو غيره لم يجز.

كتاب الأضحية

كتاب الأضحية هذا الكتاب يشمل على تسعة فصول: 1 * في بيان وجوب الأضحية ومن تجب عليه ومن لاتجب. 2 * في وجوب الأضحية بالنذر وما هو في معناه. 3 * في وقت الأضحية. 4 * فيما يتعلق بالمكان والزمان. 5 * في بيان ما يجوز في الضحايا وما لا يجوز وفي بيان المستحب والأفضل فيها. 6 * في الانتفاع بالأضحية. 7 * في التضحية عن الغير وفي التضحية بشاة الغير عن نفسه. 8 * فيما يتعلق بالشركة في الضحايا 9 * في المتفرقات

الفصل الأول في بيان وجوب الأضحية ومن لا تجب (عليه)

الفصل الأول في بيان وجوب الأضحية ومن لا تجب (عليه) قال القدووي في «شرحه» : الأضحية واجبة عند أصحابنا إلا في إحدى الروايتين عن أبي يوسف فإنها سنة. وشرط وجوبها اليسار عند أصحابنا رحمهم الله، والموسر في ظاهر الرواية من له مائتا درهم، أو عشرون ديناراً، أو شيء يبلغ ذلك سوى مسكنه ومتاع مسكنه ومتاعه ومركوبه وخادمه في حاجته التي لا يستغني عنها، فأما ما عدا ذلك من متاعه أو رقيقه أو ... أو متاع..... أو لغيرها فإنها.... في داره. وفي «الأجناس» إن جاء يوم الأضحى وله مائتا درهم أو أكثر ولا مال غيره فهلك ذلك لم تجب عليه الأضحية، وكذلك لو نقص عن المائتين، ولو جاء يوم الأضحى ولا مال له ثم استفاد مائتي درهم فعليه الأضحية، وإن كان له عقار ومستغلات ملك اختلف فيه: المتأخرون من مشايخنا في اعتبار الدخل أوقيمة العقار مائتي درهم، فالزعفراني والفقيه علي الرازي اعتبرا قيمتها، وأبو علي دقاق وغيره اعتبروا الدخل، واختلفوا فيما بينهم، قال أبو علي الدقاق: إن كان يفضل من ذلك قوت سنة فعليه الأضحية، ومنهم قال قوت شهر فمتى فضل من ذلك قدر مائتي درهم فصاعداً فعليه الأضحية. ومنهم قال: إن كان غلتها تكفيه ويكفي عياله فهو موسر وإن كان لا تكفيه ولا تكفي عياله فهو معسر، وإن كان العسار وقع عليه، ينظر إن قد وجب له في أيام النحر أكثر من مائتي درهم فعليه الأضحية وإلا فلا أضحية عليه، وروى ابن سماعة عن محمد عن أبي حنيفة أنه لا تجب الأضحية إلا على من له مائتا درهم فصاعداً فعلى هذه الرواية سوى بين غنى النصاب وبين غنى الأضحية، وعلى ظاهر الرواية فرق. والمرأة تعتبر موسرة بالمهر إذا كان الزوج مليئاً عندهما، وعلى قول أبي حنيفة الآخر لا تعتبر موسرة بذلك، قيل: هذا الاختلاف بينهم في المعجل الذي يقال بالفارسية دستمان، فأما المؤجل الذي يسمى كابتن فالمرأة لا تعتبر موسرة بذلك بالإجماع. وفي «الأجناس» : وإن كان عنده حنطة قيمتها مائتا درهم يتجر بها، أو ملح قيمتها مائتا درهم، أو قصار عنده صابوت أو أشنان قيمتها مائتا درهم فعليه الأضحية.

وإن كان له مصحف قيمته مائتا درهم وهو ممن يحسن أن يقرأ فيه فلا أضحية عليه سواء كان يقرأ منه أو يتهاون ولا يقرأ ولا يستعمله، وإن كان لا يحسن أن يقرأ فيه فعليه الأضحية. وإن كان له ولد صغير حبس المصحف لتسلمية إلى الأستاذ فعلمه فعليه الأضحية، وكتب المعلم والحديث مثل مصحف القرآن في هذا الحكم، وإن كان الرجل غنياً وله أولاد صغار وليس للأولاد مال فليس عليه أن يضحي عن أولاده في ظاهر الرواية. وروى الحسن عن أبي حنيفة أن عليه ذلك، وقد قيل أيضاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف عليه ذلك وعند محمد وزفر ليس عليه ذلك. وإن كان للأولاد مال فذكر شمس الأئمة السرخسي قال بعض مشايخنا: على الأب والوصي أن يضحي عنه من ماله عند أبي حنيفة (150أ2) قال رحمه الله: والأصح أنه ليس عليه ذلك؛ لأن القربة إنما تقع بإراقة الدم، والتصدق بعده تطوع، وذلك لا يجوز في مال الصغير، والصغير ربما لا يمكنه أن يأكل الجميع، والبيع متعذر فلهذا لم يجب، وذكر شمس الأئمة الحلواني: أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف يجب في ماله، وإن ضحى عنه الأب ضمن؛ قال القدوري في «شرحه» : والصحيح أن يقال بأنه يضحي عنه، ويأكل الصبي منه ما يمكنه، ويباع بالباقي ما ينتفع بعينه على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وذكر الصدر الشهيد في شرح الأضاحي: عليه أن يضحي من ماله، وعند محمد وزفر ليس عليه ذلك، فإن فعل الأب أو الوصي ذلك ضمن، وروى الحسن عن أبي يوسف، وعن أبي حنيفة ضمن الأب أو الوصي ذلك، فعلى قول محمد وزفر على ما رواه الحسن يجب الضمان، وأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: فالأب لا يضمن بلا خلاف على كل حال، وفي الوصي اختلف المشايخ؛ بعضهم قالوا: إن كان الصبي يأكل فلا ضمان على الوصي، وإن كان لا يأكل، فعليه الضمان. وفرق هذا القائل بين الأب والوصي من حيث إن تصرف الوصي إنما ينفذ على الصغير إذا كان للصغير فيه نفع ظاهر، وإنما يكون نفعاً ظاهراً إذا كان الصبي يأكل. أما تصرف الأب، فإنما لا ينفذ إذا كان ضاراً ولا ضرر ههنا. ومنهم من قال: لا ضمان على الوصي على كل حال؛ كما لا ضمان على الأب، قال رحمه الله، وعليه الفتوى. ومن كان موسراً في أحد أيام النحر، فلم يضح حتى افتقر قبل مضي أيام النحر سقطت عنه الأضحية، وكذلك إذا أنفق حتى انتقص النصاب، وإن افتقر بعد مضي أيام النحر لم يسقط عنه التصدق بثمن الشاة. وكذلك لو كان موسراً في أيام النحر، فلم يضح حتى مات قبل مضي أيام النحر؛ سقطت عنه الأضحية حتى لا يجب عليه الإيصاء، ولو مات بعد مضي أيام النحر لم يسقط عنه التصدق بقيمة الشاة؛ حتى لزمه الإيصاء به، أشار إلى أن الوجوب يتعلق بآخر الوقت كما في الصلاة، وعن أبي حنيفة في الموسر: إذا ولد له في أيام النحر يضحي عنه ما لم تمض أيام النحر بناءً على ما قلنا: الوجوب بآخر الوقت، وعلى أهل السواد الأضحية بخلاف الجمعة وصلاة العيد؛ لأن المصر هناك شرط، ولا كذلك في الأضحية.

الفصل الثاني في وجوب الأضحية بالنذر، وما هو في معناه

ولا أضحية على المسافر، وإن كان له أولاد بعضهم معه، وبعضهم في المصر، فليس عليه أن يضحي عن الأولاد الذين معه، وعليه أن يضحي عن المقيمين في المصر، وهذا على الرواية التي توجب الأضحية على الأب عن الولد الصغير، واعتبر حال من يضحى عنه لا حال المضحي في «القدوري» . في «المنتقى» : إذا اشترى شاة، وضحى بها، فسافر في أيام الأضحية قبل أن يضحي بها، فله أن يبيعهاعلل فقال: لأنه صار في حال سقطت عنه الأضحية؛ أشار إلى أن الوجوب بآخر الوقت، وهو في آخر الوقت مسافر، ولا أضحية على المسافرين. الفصل الثاني في وجوب الأضحية بالنذر، وما هو في معناه أجمع أصحابنا رحمهم الله: أن الشاة تصير واجبة الأضحية بالنذر بأن قال: لله علي أن أضحي هذه الشاة، وأجمعوا على أنها لا تصير واجبة الأضحية بمجرد النية، بأن نوى أن يضحي هذه الشاة ولم يذكر بلسانه نيته، وهل تصير واجبة الأضحية بالشراء بنية الأضحية؛ قال: إن كان المشتري غنياً لا تصير واجبة الأضحية باتفاق الروايات كلها؛ حتى لو باعها، واشترى أخرى، والثانية شر من الأولى جاز، ولا يجب عليه شيء. وإن كان المشتري فقيراً ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في شرح كتاب الأضحية أن في ظاهر رواية أصحابنا تصير واجبة للأضحية. وروى الزعفراني عن أصحابنا: أنها لا تصير واجبة وإلى هذا أشار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» ، وذكر شمس الأئمة الحلواني في «شرحه» : أن في ظاهر رواية أصحابنا لا تصير واجبة الأضحية، وذكر الطحاوي في «مختصره» : أنها تصير واجبة، وأما إذا صرح بلسانه وقت الشراء أنه اشتراها ليضحي بها، فقد ذكر شمس الأئمة الحلواني أنها تصير واجبة. ذكر الزعفراني في أضاحيه: رجل اشترى أضحية، فأوجبها للأضحية فضلت عنه، ثم اشترى مثلها، وأوجبها أضحية، ثم وجد الأولى قال: إن كان أوجب الأخرى إيجاباً مستأنفاً، فعليه أن يضحي بهما، وإن كان أوجبها بدلاً عن الأولى، فله أن يذبح أيهما شاء، ولم يفصل بين الغني والفقير. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : الفقير إذا اشترى أضحية، فسرقت، فاشترى أخرى مكانها، ثم وجد الأولى، فعليه أن يضحي بهما، فرق بينه وبينما إذا كان غنياً، والفرق: أن الوجوب على الفقر بالشراء، والشراء يتعدد، فيتعدد الوجوب، والوجوب على الغني بإيجاب الشرع، والشرع لم يوجب الأضحية إلا واحدة. وفيه أيضاً: الفقير إذا اشترى أضحية، فضلت، فليس عليه أن يشتري مكانها أخرى، ولو كان غنياً، فعليه ذلك؛ لأن الوجوب على الفقير بالشراء، والشراء يتناول هذا

الفصل الثالث في وقت الأضحية

العين فوجب التضحية بهذه العين، فسقط الوجوب بهلاكه؛ أما الوجوب على الغني فبإيجاب الشرع، والشرع لم يوجب التضحية بهذه العين، فلا يسقط الوجوب بهلاكه. وإذا اشترى أضحية وباعها حتى جاز البيع في ظاهر رواية أصحابنا، ثم اشترى مثلها، وضحى بها، فإن كانت الثانية مثل الأولى أو خير منها جاز، ولا يلزمه آخر، وإن كانت الثانية شراً من الأولى، فعليه أن يتصدق بفضل الثمنين؛ قال شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : من أصحابنا من قال: هذا إذا كان الرجل فقيراً (151أ2) فأما إذا كان غنياً ممن يجب (عليه) الأضحية، فليس عليه أن يتصدق بفضل القيمة؛ لأن في حق الغني الوجوب عليه بإيجاب الشرع، فلا يتعين بتعينه في هذا المحل. ألا ترى أنها لو هلكت بقيت الأضحية عليه، فإذا كان ما ضحى به محلاً صالحاً لم يلزمه شيء آخر، وأما الفقير، فليس عليه أضحية شرعاً، وإنما لزمه بالتزامه في هذا المحل بعينه، ولهذا لو هلكت لم يلزمه شيء آخر، فإذا استفضل لنفسه شيئاً مما التزمه كان عليه أن يتصدق به؛ قال الشيخ: والأصح عندي أن الجواب فيهما سواء؛ لأن الأضحية، وإن كانت واجبة على الغني في ذمته، فهو متمكن من تعيين الواجب في المحل، فيتعين بتعيينه في هذا المحل من حيث قدر المالية؛ لأنه تعيين، وإن كان لا معنى من حيث فراغ الذمة. رجل أوجب على نفسه عشر أضحيات؛ قالوا: لا يلزمه إلا اثنان؛ لأن الأمر جاء بالاثنين؛ هكذا ذكر في «النوازل» قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : والظاهر أنه يجب؛ لأنه أوجب على نفسه ما لله تعالى من جنسه واجب، في «الحاوي» : ذكر هشام في «نوادره» عن محمد: إذا نذر ذبح شاة لا يأكل منها الناذر، ولو أكل فعليه قيمة ما أكل. وفي «أضاحي» الزعفراني: إذا قال: لله علي أن أضحي شاة في أيام النحر، فإن كان موسراً، فعليه أن يضحي بشاتين؛ إلا أن يعني بالإيجاب، وما يجب عليه؛ لأن النذر إيجاب، والإيجاب ينصرف إلى غير الواجب ظاهراً. ألا ترى أن من قال: لله تعالى عليَّ حجة كان عليه حجتان: حجة الإسلام، وما أوجبه على نفسه إلا إذا عني بالإيجاب ما هو واجب عليه؛ كذا ههنا، فإن كان فقيراً فعليه شاة، فإن أيسر كان عليه شاتان؛ ما أوجب بالنذر وما أوجب عند اليسار كذا ههنا. الفصل الثالث في وقت الأضحية وقت الأضحية ثلاثة أيام؛ اليوم العاشر، والحادي عشر، والثاني عشر من ذي الحجة، فإذا غربت الشمس من اليوم الثاني عشر لا تجوز الأضحية بعد ذلك، وأفضلها أولها.

قال علي: يصح النحر ثلاثة أيام، أفضلها أولها؛ قال في «الأجناس» : أول وقت الأضحية لأهل السواد طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، وفي أهل المصر عند فراغ الإمام من صلاة العيد يوم النحر، وآخر وقت الذبح يستوي فيه أهل السواد وأهل المصر، قال ثمة أيضاً: والوقت المستحب لذبح الأضحية في حق أهل السواد بعد طلوع الشمس، وفي حق أهل المصر، بعد خطبة الإمام، ولو ذبح بعد الصلاة قبل الخطبة جاز، ذكر في «إملاء» محمد بن الحسن عن أبي حنيفة: ولو ذبح بعد أن يتشهد الإمام قبل أن يسلم جاز عن أضحيته وقد أساء، وقيل: إن شهد الإمام قبل أن يسلم جاز عن أضحيته وقد أساء، وقيل: أن يتشهد الإمام لا يجوز، وفي «الحاوي» : لو ذبح بعدما تشهد الإمام قبل أن يسلم لا يجوز، وفي رواية: يجوز وقد أساء؛ قال ثمة: لم يجزئه عندنا، وعند الحسن: يجزئه. وفي «الأجناس» : لو صلى الإمام صلاة العيد على غير وضوء ولم يعلم به حين ذبح الناس جاز من أضحيتهم سواء علموا قبل تفرق الناس أو بعد تفرقهم، ومتى علم الإمام ذلك، ونادى بالصلاة ليعيدها فمن ذبح قبل أن يعلم ذلك * يعني نداء الإمام * أجزأه، ومن ذبح بعد العلم إن ذبح قبل الزوال لا يجوز، وإن ذبح بعد الزوال جاز؛ لأن مضي وقت الإعادة. في «الواقعات» : إذا أخر الإمام يوم العيد الصلاة ينبغي للناس أن يؤخروا التضحية إلى وقت الزوال؛ لأن قبل ذلك الصلاة مرجوة، فإن فاتت الصلاة إما سهواً، وإما عمداً جاز لهم التضحية في هذا اليوم، فإن خرج الإمام إلى الصلاة من ال.... ومن بعد فضحى الناس قبل أن يصلي الإمام أو بعدما صلى جاز؛ لأن الشمس إذا زالت في اليوم الأول فات الوقت المسنون، وإنما يصلي الإمام في اليوم الثاني والثالث على وجه القضاء فلا يظهر ذلك في حق التضحية. في «الأجناس» : أدرك أهل المصر صلاة العيد بتعيين أو بعدم الأمر من قبل السلطان؛ لا تجوز الأضحية إلا بعد الزوال، وفي اليوم الثاني والثالث تجوز قبل الزوال، وفي «الحاوي» قيل: لا تجوز في اليوم الثاني والثالث أيضاً لا بعد الزوال، قال صاحب «الحاوي» : قال القاضي الإمام علي السغدي رحمه الله: القول الأول أشبه جمع بينما إذا كان..... الواحد فيها أنه لا تجوز الأضحية في هذا اليوم إلا بعد الزوال. وفي «الواقعات» : لو أن بلدة وقعت فيها فتن ولم يبق فيها والٍ ليصلي بهم صلاة العيد، فضحوا بعد طلوع الفجر جاز؛ لأن البلدة في هذا الحكم صارت كالسواد. في الأضاحي للزعفراني: إذا وقعت فتنة في المصر، ولم يكن فيها إمام من قبل السلطان يصلي بهم صلاة العيد؛ القياس: أن يكون وقت الأضحية لهم بعد طلوع الفجر، وفي الاستحسان: بعد زوال الشمس.

وفيه أيضاً: لو ذبح أضحيته بعد زوال الشمس من يوم عرفة، فيما يرى أنه يوم عرفة، ثم تبين أنه يوم النحر؛ جازت عن الأضحية؛ لأنه تبين أنه ضحى في وقته، ولو ذبح قبل الصلاة، وهو يرى أنه يوم التحريم تبين أنه اليوم الثاني أجزاه عن الأضحية أيضاً لما ذكرنا، إذا استخلف الإمام من يصلي بالضعفة في المسجد الجامع، وخرج بنفسه إلى الجبانة مع الأقوياء فضحى رجل بعدما انصرف أهل المسجد قبل أن يصلي أهل الجبانة؛ القياس: أنه لا يجوز، وفي الاستحسان في الأصل، وإن ضحى بعدما فرغ أهل الجبانة قيل في هذه الصورة يجوز قياساً، واستحساناً، وقيل: القياس والاستحسان فيهما واحد. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذا إذا ضحى رجل من الفريق الذي صلى، فأما إذا ضحى رجل من الفريق الذي لم يصلِّ، فلم تجز أضحيته قياساً، واستحساناً. وفي الأضاحي للزعفراني: إذا ضحى رجل من الناحية الأخرى جاز، وذكر القدوري: لو استخلف الإمام من يصلي بضعفة الناس في المصر، فصلى بضعفة الناس في المصر (151ب2) فصلى أحد المسجدين أيهما كان؛ جازت الأضحية، ولم يذكر القياس، والاستحسان، ولا تجوز التضحية في الليلة الأولى من أيام النحر، ويجوز في الليلة الثانية والثالثة، فلم تجعل الليلة الأولى ههنا تبعاً للنهار الآتي، إنما فعل كذلك رفقاً بالناس حتى لا يفوتهم الحج لو وقفوا في الليلة الأولى من يوم النحر. في «واقعات الناطفي» : إذا وقع الشك في يوم الأضحى فأحب أنه لا يؤخر الذبح إلى يوم الثالث؛ لأنه يحتمل أن يقع في غير وقته، فإن أخر فأحب إلي أن يتصدق بذلك كله ولا يأكل، ويتصدق بما هو ثمن المذبوح؛ لأنه وقع في غير وقته؛ لا يخرج عن العهدة؛ إلا بذلك، ولو اشترى أضحيته في اليوم الثالث، والمسألة بحالها ليس عليه شيء؛ لأنه وقع للاحتمال في الوجوب. في «النوازل» : الإمام إذا صلى العيد يوم عرفة فضحى الناس، فهذا على وجهين؛ إما أن يشهد عنده شهود على هلال ذي الحجة، أو لم يشهدوا. ففي الوجه الأول: جازت الصلاة والتضحية؛ لأن التحرز عن هذا الخطأ غير ممكن، والتدارك أيضاً غير ممكن غالباً، فحكم بالجواز صيانة لجمع المسلمين، ومتى جازت الصلاة جازت التضحية ضرورة. وفي الوجه الثاني: لا يجوز؛ لأنه لا ضرورة إلى التجريد فيما لم تجز الصلاة لا تجوز التضحية، فمتى لم تجز لو ضحى الناس في اليوم الثاني، وهو أول يوم النحر، فهذا على وجهين: إما أن صلى الإمام في اليوم الثاني أو لم يصلِّ، ففي الوجه الأول: لم يجز؛ لأنه ضحى قبل الصلاة في يوم هو وقت الصلاة، وفي الوجه الثاني: المسألة على قسمين؛ إما أن ضحى قبل الزوال، أو بعد الزوال، فإن ضحى قبل الزوال، فإن كان يرجوا أن الإمام يصلي لا يجزئه، وإن كان لا يرجو يجزئه، وفي الوجه الثاني يجزيه؛ هذا كله إذا تبين أنه يوم عرفة؛ أما إذا لم يتبين لكن شكوا فيه، ففي الوجه الأول، وهو ما إذا شهدوا به عنده

الفصل الرابع فيما يتعلق بالمكان، والزمان

لهم أن يضحوا من الغد؛ من أول الغد؛ لأنه لو تبين كان لهم ذلك، فهذا أحق، وفي الوجه الثاني، وهو ما إذا لم يشهدوا عنده الاحتياط أن يضحوا من الغد بعد الزوال؛ لأن رجاء الصلاة إنما تنقطع من الغد بعد الزوال. الفصل الرابع فيما يتعلق بالمكان، والزمان قال القدوري: لو أن رجلاً من أهل السواد دخل المصر لصلاة الأضحى، وأمر أهله أن يضحوا عنه؛ جاز أن يذبحوا عنه بعد طلوع الفجر؛ قال محمد رحمه الله: أنظر في هذا إلى موضع الذبح دون المذبوح عنه، ولو كان الرجل بالسواد، وأهله بالمصر لم يجز ذبح الأضحية عنه إلا بعد صلاة الإمام، وهكذا روي عن أبي يوسف. وروي فيها أيضاً: أن الرجل إذا كان في مصر، وأهله في مصر آخر، فكتب إليهم أن يضحوا عنه، فإنه يعتبر مكان الذبيحة، فينبغي أن يضحوا بعد صلاة الإمام في المصر الذي يذبح فيه، وروي عن أبي الحسن أنه قال: لا تجوز التضحية حتى يصلى في المصرين جميعاً احتياطاً، وإذا أراد المصري أن يتعجل اللحم في يوم الأضحى ينبغي أن يأمر بإخراج الأضحية إلى بعض هذه.... فيصح هناك قبل الصلاة، فيجوز اعتباراً لمكان الأضحية. ذكر الفضلي في «فتاويه» : وإذا مضى أيام النحر، فقد فاته الذبح؛ لأن الإراقة إنما عرفت في زمان مخصوص، ولكن يلزمه التصدق بقيمة الأضحية، إذا كان ممن يجب عليه الأضحية، فإن كان أوجب شاة بعينها، أو اشترى ليضحي بها، فلم يفعل حتى مضت أيام النحر تصدق بها حية؛ لأنه تعذر إقامة القربة من حيث الذبح لفوات الوقت، والتصدق في باب الأضحية، فإن لم يكن ركناً، ولكن له مدخل فيه، وإنه قربة معقولة، فيجعل أصلاً عند تعذر إقامة القربة بالذبح، فوجب التصدق، ولا يجوز الأكل منها؛ لأن فعل التصدق.d ... أصلاً في هذا الباب، والصدقات للفقراء دون الأغنياء، فإن باعها تصدق بثمنها؛ لأن الثمن بدل عنها، فيلزمه التصدق به عند وقوع العجز عن التصدق بعينها بالبيع. وفي الأضاحي للزعفراني: إذا اشترى أضحية، فأوجبها، ثم باعها، ولم يضح ببدلها حتى مضى أيام النحر؛ تصدق بقيمته التي باع، فإن لم يبعها حتى مضت أيام النحر؛ تصدق بها حية، فإن ذبحها، وتصدق بلحمها جاز، فإن كان قيمتها حية أكثر تصدق بالفضل، ولو أكل منها شيئاً غرم قيمته؛ لأنه فوت المبدل، فيجب عليه البدل، فإن لم يفعل ذلك كله حتى مضت أيام النحر فضحى بها عن العام الأول؛ لم يجزئه؛ لأن

الفصل الخامس في بيان ما يجوز في الضحايا وما لا يجوز، وفي بيان المستحب، والأفضل منها

إراقة الدم عرفت فدية بالنص، والنص شرعاً فدية إذ لا قضاء، وإن كان باعها بعدما مضت أيام النحر تصدق بثمنها، فإن باعها بما يتغابن الناس فيه أجزأه، وإن باعها بما لا تتغابن الناس فيه تصدق بالفضل. الفصل الخامس في بيان ما يجوز في الضحايا وما لا يجوز، وفي بيان المستحب، والأفضل منها ويجزىء في الأضحية الثني فصاعداً من كل شيء، ولا يجزىء ما دون ذلك كل شيء إلا الجذع من الضأن إذا كان عظيماً، ومعناه أنه إذا اختلط مع المثان يظن الناظر إليه أنه ثني. ثم الجذع أتى عليه أكثر السنة، وهو سبعة أسهم، وطعن في الثانية، وهو قول أهل الفقه، والثني من الغنم الذي تم عليه سنة وطعن في الثانية، ومن البقر الذي تم له سنتان وطعن في الثالثة، ومن الإبل الذي تم له خمس سنين، وطعن في السادسة، هذا كله قول أهل الفقه، ولا بأس بالخصي والجماء وهي الشاة التي لا قرن لها ومكسور القرن، والجرباء إذا كانت سمينة، والثولاء وهي التي بها ثؤلول إذا كانت سمينة والتولاء، وهي المجنونة إذا كانت سمينة، والعرجاء إذا كانت تمشي فلا بأس بها، وإذا كانت لا تقوم، ولا تمشي لا يجوز وهو المراد من العرجاء البين عرجها المذكور في الحديث. قال مشايخنا: إذا كانت تمشي بثلاث قوائم، وتجافي الرابع عن الأرض لا يجوز، وإذا كانت تضع الرابع على الأرض تستعين بها لا أنه تتمايل مع ذلك (152أ2) وتضعه وضعاً خفيفاً يجوز، وأما إذا كانت تدفع دفعاً، أو يحمل إذا.... أن يجوز، ولا يجزي العمياء ولا العوراء أو هي ذاهبة إحدى العينين بكماله، ولا التي ليس لها أذنان، أو إحدى الأذنين، ولا مقطوعة الألية، وإن كانت صغيرة الأذن جاز، وروى أسد بن عمرو عن محمد؛ ما لم يخلق لها أذنان يجوز، وفي الضحايا للحسن بن زياد؛ قال أبو حنيفة: جاز إذا خلقت بلا أذنين، وفي «زيادات نوادر هشام» قال أبو حنيفة: إذا كان لها أذنان صغيران يجوز بعد أن تسمى أذناً، وإذا كان لها إلية صغيرة خلقة تشبه الذنب؛ قال محمد: تجزىء، ولم يكن لها ذنب ولا إلية خلقة فقد روي عن أبي يوسف: أنه لا يجوز سواء كان تعتلف أو لا تعتلف. وإن بقي بعض أسنانها إن كانت تعتلف بما بقي من الأسنان جاز، وما لا فلا، ولا تجزىء العجفاء التي لا تبقى، ولا المريضة البين مرضها، ولا الجلالة التي تأكل الجيف، ولا تأكل غيرها، ولا بأس بالشق في الإذن، والكي، والسمة وهي الثقب في

الأذن، وروى أبو سليمان عن محمد لا بأس بالمقابلة، وهي التي شق أذنها من خلفها، ولم يصل الشق إلى قدامها، وبالشرقاء، وهي التي قطع من وسط أذنها، فتعدى الخرق إلى الجانب الآخر، وإذا ذهبت بعض العين الواحدة وبعض الذنب، أو بعض....، فإن كان الذاهب كثيراً منع جواز الأضحية، وإن كان الذاهب قليلاً لا يمنع جواز الأضحية، وتكلموا في حد الفاصل بين القليل والكثير، فالزائد على النصف كثير بالإجماع، وأما النصف وظاهر مذهبهما أنه كثير، وأما ما دون النصف فوق الثلث فهو قليل عندهما، وعند أبي حنيفة في ظاهر مذهبه كثير؛ قال أبو يوسف: ذكرت قولي لأبي حنيفة رحمه الله، فقال: قولي مثل قولك. ولا بأس بالمهذولة إذا بقي لها بعض اللحم، فإن لم يبق شيء من ذلك لا يجوز، ولا تجزىء الجدعاء وهي مقطوع الأنف، ولا التي قطع ضرعها، ولا التي يبس ضرعها، ومن المشايخ من يذكر هذا الفصل أصلاً، ويقول: كل عيب يزيل المنفعة على الكمال، أو الجمال على الكمال يمنع الأضحية، وما لا يكون بهذه الصفة لا يمنع. كل عيب يمنع الأضحية، ففي حق الموسر يستوي أن يشتريها كذلك أو يشتريها وهي سليمة، فصارت معتوهة بذلك العيب، ولا يجوز على كل حال، وفي حق المقتر يجوز على كل حال؛ لأن في حق الموسر الوجوب في الذمة صفة الكمال، فلا يتأدى بالناقص، فأما في حق المقتر لا وجوب في الذمة، وإنما يثبت الحق في العين، فيتأدى بالعين على أي صفة ما كانت، وبه ورد الأثر عن نفيع. وإن أصابها شيء من العيوب في اصطحابها حين اصتحبها للذبح، وذبحها على مكانها جاز استحساناً، وإذا انفلتت ثم أحدق، وذبحت؛ روي عن أبي يوسف في غير رواية «الأصول» : أنها إذا أحدق من فوق ذلك جاز، وإلا فلا وعن محمد: أنه يجوز في الحالين بعد أن تكون التضحية في الأضحية، ولا يجوز شيء من الوحوش، وبقر الوحش وأشباهها، وإن ألفت، وفي المتولد بين الوحشي والأهلي تعتبر الأم إن كانت الأم وحشية لا تجزئ في الأضحية، وإن كانت أهلية تجزئ، وتجزئ في الأضحية؛ لأنه نوع من البقر، والخصي أفضل من الفحل؛ لأنه أطيب لحماً؛ قال الشيخ أبو محمد ... : البقرة أفضل من الشاة في الأضحية إذا استويا في القيمة؛ لأنها أعظم وأكبر، والشاة أفضل من سبع البقرة، وإذا استويا في القيمة، واللحم؛ لأن الشاة أفضل من سبع البقرة، وإن استويا في القيمة، واللحم؛ لأن لحم الشاة أطيب، وإن كان سبع البقرة أكثر لحماً، فسبع البقرة أفضل، والأصل في هذا أنهما إذا استويا في اللحم والقيمة فأطيبهما لحماً أفضل، وإذا اختلفا في القيمة واللحم، والفاضل أولى. إذا ثبت هذا، فنقول العجل بعشرين، وذلك قيمته أفضل من خصي بخمسة عشر، وإن كان الخصي أطيب لحماً؛ لأن الآخر أكثر؛ قلنا: وإن استويا في القيمة، واللحم،

الفصل السادس الانتفاع بالأضحية (152ب/2)

فالكبش أفضل، وكذا الكبش والنعجة إذا استويا في القيمة واللحم، فالكبش أفضل، وإن كانت النعجة أكثر قيمة، فهو أفضل، والذكر من الضأن أفضل إذا استويا؛ لأنه أطيب لحماً، والأنثى من البقر أفضل إذا استويا؛ لأنه أطيب لحماً، والأنثى من البعير كذلك، والبقرة أفضل من سبع شياه إذا استويا، وسبع شياه أفضل من البقرة. في أضاحي الزعفراني: البعير أفضل من البقر؛ لأنه أعظم. وفي «فتاوى أبي الليث» : شراء الأضحية بثلاثين درهماً شاتان أفضل من شراء واحدة؛ قال: وشراء الواحدة بعشرين أفضل من شراء شاتين بعشرين؛ لأن بثلاثين درهماً توجد شاتان على ما يجب من كمال الضحية في السن والكبر، ولا يوجد بعشرين كذلك حتى لو وجد كان شراء الشاتين أفضل، ولو لم يوجد بثلاثين كذلك كان شراء الواحدة أفضل. في «فتاوى أهل سمرقند» : الأفضل أن يضحي الرجل بيده إذا قدر، وإن لم يقدر يوصي إلى غيره، وقد صح أن رسول الله عليه السلام تولى البعض بنفسه، وولى علياً بعض الباقي، وحكي أن أبا حنيفة فعل بنفسه، ويستحب للمضحي أن يأكل من أضحيته، ويطعم منها غيره، وإن أكل الكل أو أطعم الكل جائزاً واسعاً، ويجوز أن يطعم منه الغني والفقير، ويهب منه ما شاء لغني أو فقير، أو مسلم أو ذمي، ولا بأس بأن يحبس المضحي لحماً، ويدخر كم شاء من المدة، والصدقة أفضل؛ إلا أن يكون الرجل ذا عيال، فإن الأفضل أن يدعه لعياله، ويوسع به عليهم، هذه الجملة في أضاحي الزعفراني. روى بشر بن الوليد عن أبي يوسف: في رجل له تسعة من العيال، وهو العاشر، فضحى بعشر من الغنم عن نفسه، وعن عياله، ولا ينوي شاة بعينها؛ لكن ينوي العشرة عنهم وعنه؛ جاز في الاستحسان، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. الفصل السادس الانتفاع بالأضحية (152ب/2) قال: ويكره له أن يحلب الأضحية، ويجز صوفها قبل الذبح، وينتفع به؛ لأن الحلب، والجز يفوّت جزءاً منها، وقد التزم التضحية بجميع أجزائها، فلا يجوز له أن يحبس شيئاً منها، فإن فعل ذلك تصدق بها؛ من أصحابنا من قال بأن هذا في الشاة التي أوجبها، وليست بواجبة كالمقتر إذ اشترى أضحية، فأما الموسر إذا عين أضحية، فلا بأس بالحلب والجز؛ لأن الوجوب لم يتعين بها، وإنما هو واجب في ذمته، ويسقط عنه بالذبح، فقبل الذبح صارت هذه وغيرها سواء. قال: وإذا ذبحها في وقتها جاز له أن يحلب لبنها أو يجز صوفها، وينتفع به؛ لأن القربة أقيمت بالذبح والقربة، ولا انتفاع بعد إقامة القربة مطلقاً؛ كالأكل، وإن كان في

ضرعها لبن، وهو يخاف نضح ضرعها فغسله بالماء البارد ليتقلص اللبن، فلا يتأدى به، إلا أن هذا إنما ينتفع إذا كان بقرب من أيام النحر، فأما إذا كان بالبعد فلا تقيد؛ هذا لأن اللبن ينزل.... .... يتعلق، ولكن ينبغي أن يحلبها. ويتصدق باللبن، كالهدي إذا عطبت قبل أن يبلغ محله، فإن عليه أن يذبحها، ويتصدق بلحمها؛ قال البقالي في «كتابه» : وما أصاب من لبنها تصدق بمثله أو قيمته، وكذا الأرواث إلا أن يعلفها بقدرها، ويجوز الانتفاع بجلد الأضحية، وهدي المتعة والتطوع بأن يتخذها فرواً أو بساطاً، أو حراماً، أو غربالاً أو قطعاً وله أن يشتري به متاع البيت كالغربال، والمنخل، والفرو، والكساء، والخف، وكذلك له أن يشتري به ثوباً يلبسه، ولا يشتري به الخل،.....، وكذلك لا يشتري به اللحم، ولا بأس ببيعه بالدراهم ليتصدق بها، وليس له أن يبيعها بالدراهم لينفقه على نفسه، ولو فعل ذلك تصدق بثمنها. ولو أراد بيع لحم الأضحية ليتصدق بثمنها؛ ليس له ذلك؛ ليس له في اللحم إلا أن يطعم، أو يأكل؛ هكذا ذكر في «الأجناس» . فصار حاصل الجواب في الجلد أنه لو باعه بشيء ينتفع به بعينه، أو باعه بشيء لا ينتفع به إلا بعد استهلاكه، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الأضحية: أن الجواب في اللحم كالجواب في الجلد إن باعه بشيء ينتفع به بعينه، أو باعه بشيء لا ينتفع به إلا بعد استهلاكه. وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الأضحية: أن الجواب في الجلد إن باعه بشيء ينتفع به بعينه يجوز، ويتأيد هذا القول بما روى ابن سماعة في «نوادره» عن محمد: أنه لو اشترى باللحم ثوباً، فلا بأس بلبسه، وإذا اشترى بقراً أو بعيراً، وأوجبه للأضحية كره له ركوبه واستعماله، وإن فصل ذلك، ونقصه يتصدق بأجره في أضاحي الزعفراني، وإذا اشترى بقرة، وأوجبها أضحية، فولدت ولداً ذبحها، وولدها معها؛ لأن حق التضحية ثبت في الأيام حتى يمنع المالك عن الانتفاع به؛ كما يمنع من الانتفاع به لو رهن أو كاتب، والحق متى ثبت في عين الأم سرى إلى الولد، وإذا سرى الحق إلى الولد وجب ذبح الولد ومن المشايخ من قال: لا يجب عليه أن يذبح الولد والأم؛ لأنه لو ذبحه ذبحه بطريق الأضحية، ولا يجوز التضحية بالولد. قلنا: هذا هكذا إذا أراد التضحية بالولد مقصوداً، والتضحية ههنا بالولد تجب تبعاً، ويجوز أن يثبت الشيء تبعاً، وإن كان لا يثبت مقصوداً، ومن أصحابنا من قال: ما ذكر من الجواب في «الكتاب» : أنه يذبح الولد مع الأم محمول على الأضحية التي وجبت بالإيجاب بأن كان صاحبها معسراً، فأما إذا اشتراها موسر، فولدت؛ لا يكره ذبح الولد؛ لأن الحق غير متعلق بهذا العين، (فإذا ذبح الولد) ؛ لأن الحق غير متعلق بهذا العين، فإذا ذبح الولد يوم الأضحى قبل الأم، أو بعدها جاز، وإن لم يذبحه، وتصدق به حياً في يوم الأضحى أجزأه؛ هكذا ذكره الزعفراني.

الفصل السابع في التضحية عن الغير، وفي التضحية بشاة الغير عن نفسه

وعن محمد في «المنتقى» : أنه لو تصدق به حياً في أيام الأضحى فعليه أن يتصدق بقيمته، فإن باع الولد في أيام الأضحى تصدق بثمنه، فإن لم يبعه، ولم يذبحه حتى مضت أيام النحر، فعليه أن يتصدق بالولد مع الأم أكل من الأم، وهل يأكل من الولد؟ ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في الأضاحي: أنه يأكل في ظاهر الرواية؛ كما يأكل من الأم. وروي عن أبي حنيفة: أنه لا يأكل، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في شرح كتاب الأضحية ذكر الزعفراني في هذه المسألة في أضاحيه، وقال في موضع: لا يأكل، وفي «الحاوي» : لا يأكل من الولد؛ بل يتصدق به، وإن أكل منه تصدق بقيمة ما أكل، ويتصدق بولدها حياً أحب إليَّ، والله أعلم. الفصل السابع في التضحية عن الغير، وفي التضحية بشاة الغير عن نفسه في «فتاوى أبي الليث» : وسئل أبو نصر عمن ضحى وتصدق بلحمه عن أبويه فيجوز. رجل ذبح أضحية غيره بغير أمره صريحاً، ففي القياس هو ضامن لها، ولا يجزىء الآمر عن أضحيته. وفي الاستحسان لا ضمان، ويجزىء عن أضحية الأمر، ووجه ذلك: أن المالك لما عينها بجهة الذبح صار مستعيناً بكل أحد في التضحية بها في أيام الأضحية دلالة؛ لأن ذلك قد يفوته بمضي الوقت، واعتراض عارض يمنعه عن إقامتها، والإذن دلالة كالإذن صريحاً أطلق المسألة في «الأصل» ، وقيدها في «الأجناس» بما إذا أضجعها صاحب الأضحية. وعلى هذا لو أن رجلين غلطا، فذبح كل واحد منهما أضحية صاحبه بأمره دلالة، فيجوز عن كل واحد منهما أضحية، ويأخذ كل واحد منهما مسلوخة من صاحبه، فإن كان قد أكلا اللحم علما.... كل واحد منهما صاحبه ويجزئهما، وإن نسياها بعد ذلك؛ ضمن كل واحد منهما (153أ2) لصاحبه قيمة شاته؛ لأن كل واحد منهما إذا لم يجز صنع صاحبه لم يكن إضافة الذبح إليه، فيضمنه الثمن إن شاء، قال: ويتصدق كل واحد بتلك القيمة إن كان قد انقضت أيام النحر؛ لأن العين يجب التصدق بالقيمة، قائماً مقام التصدق بالعين. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل اشترى خمس شياه أيام الأضحية، وأراد أن يضحي بواحدة منها إلا أنه لم يعينها، فذبح رجل واحدة منها يوم الأضحى، بغير أمره بنية أضحية يعني أضحية صاحب الشاة، فهو ضامن؛ لأن صاحبها لم يعينها لما لم يأذن بذبح عينها دلالة.

في «المنتقى» : رجل غصب أضحية غيره، وذبحها عن نفسه، وضمن القيمة لصاحبها أجزأه ما صنع، والذبح يخالف الإعتاق، فإن الغاصب إذا أعتق ثم ملكه بأداء الضمان لا ينفذ. والفرق: أن عند أداء الضمان يثبت للغاصب الملك مستنداً إلى وقت الغصب السابق، والمستند فائت للحال من وجه، ومن ذلك الوقت من وجه، وكان الملك فيما بين الغصب وأداء الضمان ثابتاً من وجه، ومثل هذا الملك لا يكفي لنفاذ العين، ويكفي لنفاذ القرب أصله المكاتب إذا أعتق، وإذا حضر ونصب بهدي من كسبه، وعن أبي يوسف: أنه لا يجزئه الذبح عن نفسه بأداء الضمان، وفاتته بالإعتاق، وهكذا روى ابن رستم عن محمد؛ هذا إذا ضمن الغاصب قيمتها للمالك، وإن اختار المالك أحدها مذبوحة، فعلى الذابح أن يعيد الذبح بلا خلاف. ولو كان مكان الغاصب مستودعاً، والباقي بحاله لا يجزئه عن أضحيته؛ أخذها المالك مذبوحة، أو ضمنه قيمتها، ولو كان العيب استحق، فإن ضمنه صاحبه قيمتها، ذكر الزعفراني في أضاحيه أنه يجزيه بلا خلاف، وذكر الناطفي في «أجناسه» فصل الاستحقاق، ونص أنه يجزئه في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف. وفي الأضاحي للزعفراني أيضاً: إذا غصب الرجل أضحية الغير ذبحها عن نفسه متعمداً لذلك، فصاحب الأضحية بالخيار؛ إن شاء ضمن الذابح قيمتها، وإن شاء أخذها مذبوحة، وإياها اختار لا يجوز عن صاحبها، وقال محمد بن مقاتل الرازي: إن ضمنه لا يجزئه، وإن أخذها مذبوحة يجزئه، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ومحمد، قال: لأنه قد نواه فلا يضره ذبح غيره لها، وعن نصير فيمن دعا قصاباً ليضحي عنه، فضحى القصاب عن نفسه؛ قال: هي للآمر. ابن سماعة عن محمد: أمر رجلاً أن يذبح شاة له، فلم يذبحها المأمور؛ حتى باعها الآمر ثم ذبحها، فالمأمور ضامن، ولا يرجع بما ضمن على الآمر علم بالبيع أو لم يعلم؛ أما إذا علم، فظاهر، وأما إذا لم يعلم؛ فلأنه ما ... لأنه حين أمره بالذبح؛ كانت الشاة له. في «واقعات الناطفي» وفي «الأجناس» ابن سماعة عن أبي يوسف: إذا أمر الرجل غيره بذبح شاة، وقد كان الآمر باعها، فذبحها المأمور، وهو يعلم بالبيع، فإن للمشتري أن يدفع الثمن ويبيع الرابح، فيضمنه قيمتها، وليس للذابح أن يرجع على الآمر؛ قال: ولو كان لا يعلم بالبيع يمكن للمشتري أن يضمنه القيمة؛ علل فقال: لأنه لو ضمنه كان له أن يرجع على الآمر، فكأنه هو فعل ذلك، فينقض البيع. في «النوازل» : أسلم غنمه إلى راعٍ، فذبح شاة منها، فقال: ذبحتها، وهي.... وقال صاحب الغنم: ذبحتها، وهي....، فالقول قول الراعي؛ لأنه أنكر سبب الضمان، ولا يحل أكلها؛ لأنه لم يثبت المبيح، وهو الذكاة.

الفصل الثامن فيما يتعلق بالشركة في الضحايا

وفيه أيضاً: اشترى أضحية، وأمر غيره بذبحها، فذبحها، وقال: تركت التسمية عمداً ضمن الذابح قيمة الشاة؛ لأنه جعلها ميتة، فبعد ذلك ينظر إن كان أيام الذبح قائمة يشتري بقيمتها أخرى، ويضحي بها، ويتصدق بلحمها، ولا يأكل، وإن لم تكن باقية تصدق بالقيمة على المساكين. الفصل الثامن فيما يتعلق بالشركة في الضحايا الشاة لا تجزىء إلا عن واحد، وإن كانت عظيمة، والبقر والبعير كل واحد منهما يجزىء عن سبعة إذا كانوا يريدون بها وجه الله أتفقت جهات القربة (أو) اختلفت، قال زفر: إذا اختلفت جهات القربة لا يجوز، وإن كان أحدهم يريد اللحم؛ لم يجز عن واحد منهم، والتقدير بالسبع يمنع الزيادة، ولا يمنع النقصان. وإذا اشترى الرجل بقرة أو بعيراً يريد أن يضحي بها عن نفسه، ثم أشرك فيها ستة بعد ذلك، القياس: أن لا يجزئهم، ويضمن الكل لحماً، وفي الاستحسان: يجزئهم؛ لأن البقرة قائمة مقام سبع شياه، وكذلك الدابة فصار شراؤها بنية الأضحية كشراء سبع شياه، ومن اشترى سبع شياه بنية الأضحية، ثم باع ستاً منها، وضحى بالسابعة، وضحى المشترون بالست جاز عن الكل؛ كذا ههنا، فإذا صار عنه، وعن شركائه هل يلزمه الذبح من الأسباع التي باعها ما بقي الوقت، والتصدق بقيمتها بعد فوات الوقت لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» . قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده: حكي عن مشايخ بلخ أنهم قالوا: عليه الذبح بنية أسباع بقرة مثل الأولى في القيمة يشتري مع غيره، فذبح أو يشتري ست شياه، ويذبح إن كانت قيمته ست أسباع البقرة غنياً كان أو فقيراً، وهذا لما ذكر بأن شراء البقرة بمنزلة شراء سبع شراء سبع شياه. ولو اشترى شياه بنية الأضحية، ثم باع شاة منها، فإنه يلزمه الذبح لمثل ذلك غنياً كان أو فقيراً، ما بقي الوقت؛ لأن الغني فيما زاد على شاة واحدة والفقير سواء، والفقير إذا اشترى سبع شياه بنية الأضحية، وباع شاة منها، فإنه يشتري شاة مثلها، ويذبحها ما دام الوقت باقياً، وإن مضى الوقت؛ يتصدق بقيمتهن؛ كذا ههنا؛ قال: ولو فعل ذلك قبل الشراء كان أحسن؛ لأن الاشتراك بعد الشراء خلف في الوعد (153ب2) وإنه حرام. في «مناسك الحسن» لا يسعه إن أشركهم فيها بعد الشراء إلا أن يريد حين الشراء أن يشركهم فيها، فلا بأس بذلك، وعن أبي يوسف لا أرى بأساً فيما إذا نوى حين اشترى أن يشركهم، ولا أحفظ فيه رواية عن أبي حنيفة، ولو لم ينوِ أن يشاركهم، فقد كرهه أبو حنيفة، وهو قول أبي يوسف، وإذا كان الشركاء في البدنة والبقرة ثمانية لا يجزئهم؛ لأن نصيب أحدهم أقل من السبع.

وكذلك إذا كان الشركاء أقل من الثمانية إلا أن نصيب واحد منهم أقل من السبع بأن مات الرجل، وترك امرأة وابناً وبقرة فضحيا بها يوم العيد، ثم كان نصيب المرأة أقل السبع، فلم يجزىء نصيبها، ولم يجزىء نصيب الابن أيضاً. وفي الأضاحي للزعفراني: اشترك ثلاثة نفر في بقرة على أن يدفع أحدهم أربع دنانير، والآخر ثلاثة دنانير، والآخر دينار، واشتروا بها بقرة على أن تكون البقرة بينهم على قدر رأس مالهم، وضحوا بها لم يجزىء؛ لأن نصيب أحدهم أقل من السبع، وإن كانت بقرة أو بدنة بين اثنين، فضحيا بها؛ اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضم: لا يجزئهما؛ لأن لكل واحد منهما ثلاثة أسباع، ونصف سبع لا يجوز في الأضحية، فإذا لم يجز البعض لم يجز الثاني، وقال بعضهم: يجوز، وبه أخذ الفقيه أبو الليث، والصدر الشهيد برهان الأئمة رحمهم الله، وهكذا ذكر محمد الجومسي في مسائله. وصورة ما ذكره الفقيه الجومسي: إذا اشترك ثلاثة نفر في بقرة على أن يدفع أحدهم ثلاثة دنانير، ونصفاً، وآخر دينارين ونصفاً وآخر دينارين، فاشتروا بها بقرة على أن تكون البقرة بينهم على قدر رأس مالهم، وضحوا بها جازت الأضحية عنهم، ولأحدهم سبعان ونصف سبع، ووجه ذلك: أن نصف السبع، وإن لم يكن أضحية، فهي قربة تبعاً للأضحية، فلا يصير لحماً. قال في «الأصل» : سبعة اشتركوا في بقرة، أو بدنة ثم مات بعضهم قبل أن ينحروا، فقال ورثته انحروها عنكم، وعن فلان الميت هل يجزئهم؟ القياس: أن لا يجزئهم، وفي الاستحسان: إنه يجزئهم، وعلى هذا القياس والاستحسان أحد الشركاء إذا كان يضحي عن ولده الصغير، أو عن أم ولده. وطريق الجواز: إن ذبح البقرة من سبعة بنية القربة بمنزلة ذبح شاة؛ لأن جواز ذبح البقرة من سبعة من حيث إن البقرة أقيمت مقام سبع شياه، وإراقة دمها أقيمت مقام سبع إراقات؛ لا من حيث إن كل واحد منهم صار مضحياً بجميع البقرة من حيث إن الإراقة لا تجزأ الجواز عن السبعة، لو كان بهذا الطريق لما اقتصر الجواز على السبعة. ألا ترى أن القصاص لما وجب على الجماعة بقتل الواحد من حيث إن كان كل واحد جعل قاتلاً كملاً؛ لأن الإراقة لا تتجزىء وجب القصاص على أكثر من السبعة إذا اشتركوا في القتل، وما لم تجزه البدنة عن أكثر من سبعة علم أن طريق الجواز أن البدنة وإراقة دم أقيمت مقام سبع شياه، وسبع إراقات. ولو اشترى سبعة نفر سبع شياه كل واحد شاة، فضحى أحدهم شاته عن ولده، أو عن أم ولده، أو عن الميت لا يصير الست تطوعاً كذا ههنا، وليس كما لو نوى أحدهم اللحم، أو صار نصيب أحدهم لحماً؛ بأن كان أحد الشركاء كافراً، فإنه لا يجوز عن

الكل، ولا يجعل ذلك بمنزلة سبع شياه؛ لأن البدنة أقيمت مقام سبع شياه، وسبع إراقات شرعاً إذا أوجدت للإراقة من الكل بنية القربة، وفيما عدا ذلك تكون العبرة للحقيقة، وإنما إراقة واحدة من حيث الحقيقة، فإذاً صار البعض لحماً. وذكر الزعفراني هذه المسألة في أضاحيه، وجعلها على وجهين؛ إما إن قال الورثة....... الشركاء ضحوا بها عن الميت، وعن أنفسكم، أو لم يقولوا شيئاً، وفي الوجهين جميعاً يجوز عند محمد؛ إلا أن في الوجه الأول لا خيار للورثة، وفي الوجه الثاني لهم الخيار؛ إن شاؤوا أجازوا نصيبهم عن الميت، وإن شاؤوا ضمنوهم، ويجوز عنهم في الوجهين، وعند أبي يوسف؛ إن كان الميت أوجب على نفسه، فقد وجب شاة الورثة إذا ثبت أن.. ولم يوجب لا يجوز شاة الورثة.......... الأضحية عن الميت ابتداءً من غير أن يكون الميت أوجب على نفسه. سبعة ضحوا بقرة، وأرادوا أن يقسموا اللحم بينهم؛ إن اقتسموها، وزناً يجوز؛ لأن القيمة فيها معنى السبع على هذا الوجه يجوز، وإن اقتسموها جزافاً إن جعلوا مع اللحم شيئاً من السقط نحو الرأس، والأكارع يجوز، وإن لم يجعلوا لا يجوز؛ لأن البيع على هذا الوجه لا يجوز، فإن..... مع هذا، وحللوا الفضل بعضهم لبعض لم يجز. فرق بين هذا وبينما إذا باع رجل درهم بدرهماً، وأحدهما أكثر وزناً، فحلل صاحبه له حيث يجوز، والفرق: أن تحليل الفضل عنه هبة في فضل اللحم حصلت الهبة في مشاع يحتمل القسمة. وفي الفضل الثاني: حصلت الهبة في مشاع لا يحتمل القسمة بأن الدرهم الواحد الصحيح لا يحتمل القسمة، وذكر في مسائل الجومسي، وإذا جعلوا اللحم والشحم سبعة أسهم، وقسموا بينهم جزافاً جازت القسمة. في أضاحي الزعفراني: اشترى سبعة نفر سبع شياه بينهم أن يضحوا بها بينهم، ولم يسم لكل واحد منهم شاة بعينها فضحوا بها؛ كذلك فالقياس: أن لا يجوز. وفي الاستحسان: يجوز؛ فقوله اشترى سبعة نفر سبع شياه بينهم؛ يحتمل شراء كل شاة بينهم، ويحتمل شراء سبع شياه على أن يكون (154أ2) لكل واحد منهم شاة، ولكن لا يعينها، فإن كان المراد هو الثاني، فما ذكر من الجواب باتفاق الروايات؛ لأن كل واحد منهم يصير مضحياً بشاة كاملة، وإن كان المراد هو الأول فما ذكر من الجواب على إحدى الروايتين، فإن الغنم إذا كانت بين رجلين ضحيا بها ذكر في بعض المواضع: أنه لا يجوز. وفي «النوازل» : شاتان بين رجلين ذبحاها عن نسكهما جاز، وهكذا ذكر القدوري في آخر «كتابه» . فرق بين هذا وبين عبدي رجلين أعتقاهما عن كفارتهما حيث لا يجوز؛ لأن الجبر على القيمة يجري في الشاة، فأمكن جمع كل واحد منهما في شاة واحدة، ولا كذلك الرقيق.

الفصل التاسع في المتفرقات

الفصل التاسع في المتفرقات في «النوازل» : رجل ضحى بشاتين قال محمد بن سلمة: لا تكون الأضحية إلا بواحدة، وقال غيره من المشايخ: تكون الأضحية بهما، وبه أخذ الصدر الشهيد في «واقعاته» ، وروى الحسن عن أبي حنيفة لا بأس بالأضحية بالشاة والشاتين، وقد صح أن رسول الله عليه السلام كان يضحي كل سنة بشاتين، وضحى عام الحديبية بمائة بدنة. في «فتاوى الفضلي» : شاة ندت وتوحشت فرماها صاحبها، ونوى الأضحية فأصابها أجزأه عن الأضحية؛ لأنها لم تصر بمنزلة الوحوش بالند، ولو امتنع جواز أضحيته ههنا امتنع لهذه الجهة. اشترى شاتين للأضحية، فضاعت إحديهما، وضحى بالثانية، ثم وجدها في أيام النحر، أو بعد أيام النحر، فلا شيء عليه؛ سواء كانت هي أرفع من التي ضحى بها أو دون منها، ولو اشترى أخرى للأضحية، ثم ضاعت الأولى، فضحى بالثانية، ثم وجد الأولى، فإن كانت مثل الثانية أو دون فلا شيء عليه، وإن كان أفضل تصدق بفضل ما بينهما في «مسائل الخوميني» . وفيها أيضاً: إذا قال: لله عليَّ أن أهدي شاة فأهدى بقرة أو جزوراً وضحى ببقرة أو جزور جاز؛ لأنه أدى أفضل مما لزمه، وفيها أيضاً: رجل ضحى شاة تساوي تسعين، ورجل آخر ضحى ببقرة تساوي سبعين، ورجل آخر تصدق بمائة درهم، فأضحية صاحب الشاة أعلى من أضحية صاحب البقرة؛ لأن قيمة الشاة أكبر، فالذي ضحى بقرة أعظم أجراً من الذي تصدق بمائة درهم. وفيها أيضاً: اشترى شاة للأضحية في أيام النحر وهو فقير، فضحى بها، ثم أيسر في أيام النحر؛ قال الشيخ الفقيه أبو محمد الجوميني: عليه أن يعيد، وغيره من المتأخرين قالوا: لا يعيد وبه نأخذ. وفيه أيضاً: أوصى بأن يضحى عنه، ولم يسم شيئاً، فهو جائز، ويقع ذلك (على) الشاة لأنها هي الأدنى؛ ولأنها هي المتعارف، وإذا أوصى بأن يشترى بجميع ماله، ويضحى بها عنه فمات، ولم يجز الورثة، فالوصية جائزة في قولهم جميعاً، ويشتري بالثلث شاة، ويضحى بها عنه، فلو أوصى بأن يشتري بقرة بعشرين درهماً ويضحى بها عنه، ثم مات وثلث ماله أقل من عشرين، فإنه يضحى عنه على مذهبهما بما أوصى به، وإذا أوصى بأن يشتري له شاة بهذه العشرين درهماً ويضحي عنه، ثم مات فضاع من الدراهم درهم واحد؛ لم تصح عندهما وصحّ عند أبي حنيفة خلافاً لهما. إذا وكل إنساناً بأن يشتري له شاة، واستأجر إنساناً بأن يشتري له شاة، واستأجر إنساناً بأن يقودها بدرهم لم يلزم الآمر من اكتراء شيء.

وكله بأن يشتري له شاة للأضحية، فاعلم بأن الشاة اسم جنس فيتناول الضأن والمعز جميعاً. وإن وكله إنسان يشتري له ضأناً، فاشترى معزاً، أو كان على العكس لا يلزم الآمر؛ لأن كل واحد منهما اسم نوع. فالضأن نوع يشمل على الذكر والأنثى، فالذكر منه يسمى كبشاً، والأنثى منه تسمى نعجة. والمعز نوع آخر يشتمل على الذكر والأنثى، فالذكر منه يسمى تيساً، والأنثى منه تسمى عنزاً، وأحد النوعين لا يدخل تحت اسم النوع الآخر. اشترى شاة وضحى بها، ثم وجد بها عيباً ينقصها، ولكن لا يخرجها عن حد الضحايا، فله أن يرجع بنقصان العيب على البائع، وإذا رجع ليس عليه أن يتصدق به؛ لأن بالشاة المعيوبة جازت الأضحية، فليس عليه رد ذلك، فإن قال البائع: أنا آخذها مذبوحة، فله ذلك، فإذا أخذها ونقد الثمن، فعلى المشتري أن يتصدق بما استرد من البائع لا حصة نقصان العيب، وإن توى الثمن على البائع فلا شيء عليه، وإن توى البعض ووصل البعض يتصدق منه بما كان من حصة الشاة، ولا يتصدق بقدر حصة نقصان العيب؛ حتى لو كان الثمن عشرة، ونقصان العيب درهم؛ يتصدق بتسعة أعشار ما وصل إليه من الثمن. إذا ضحى بشاة، ثم غصبها رجل من المضحي، فعلى الغاصب قيمتها مذبوحة، وعلى المضحي أن يتصدق بما يصل إليه من القيمة، وإن تويت القيمة على الغاصب، فلا شيء على.... من القيمة كلها أو بعضها، وهو غني أو فقير يحتمل أن لا يكون عليه شيء؛ لأن في الابتداء كان له أن يهب الأصل للغاصب، وإذا أخذ القيمة لا يجوز له أن يهبها لغيره؛ لأن بعدما قبض القيمة لزمه التصدق بها، وإن كان ضمن والغاصب على أقل من قيمتها ليس عليه أن يتصدق إلا بالقدر الذي يصل إليه، وإن صالحه على شيء مأكول، أو على شيء من متاع البيت يحتمل أن لا يجب عليه التصدق بذلك؛ بل يأكل المأكول، وينتفع بما كان من متاع البيت. اشترى المعسر شاة، وأوجبها أضحيته، فماتت في أيام النحر وأخرج منها جنين حي فالقياس أن يكون الجنين له يعمل به ما يريد، وفي الاستحسان يتصدق. وإذا وهب لرجل منه وضحى الموهوب له بها، ثم رجع الواهب فيها ففي ظاهر الرواية من أصحابنا صح رجوعه، وروي عن أبي يوسف: أنه لا يصح، وإذا صح الرجوع (216ب2) في ظاهر الرواية جازت الأضحية عن الموهوب له؛ لأن الرجوع من الواهب فيها بمنزلة هبة الموهوب له الشاة المذبوحة من الواهب، وليس على الواهب أن يتصدق بشيء.

(في «مجموع النوازل» : أربعة نفر اشترى كل واحد منهم شاة لونها وهيئتها واحد، فحبسوها في بيت، فلما فتحوا وجدوا واحدة منها ماتت، ولا يدرى لمن هي، فإنه تباع هذه الأغنام جملة، ويشترى بثمنهما أربع شياه كل واحد منهم أمر صاحبه بذبح كل واحد منهم صاحبه أيضاً حتى يجوز عن الأضحية، والله أعلم بالصواب) .

كتاب الوقف

كتاب الوقف هذا الكتاب يشتمل على ستة وعشرين فصلاً: 1 * في الألفاظ التي تجري في الوقف، وما يتم به الوقف وما لا يتم. 2 * فيما يتعلق بجواز الوقف، وصحته، وشرائط صحته. 3 * في بيان ما يجوز من الأوقاف وما لا يجوز وهو أنواع: منها في تعليق بالشروط، ومنها في أوقاف المنقول، ومنها فيما يدخل في الوقف من غير ذكر؛ ومنها في الأوقاف المضافة؛ ومنها وقف المحجور. 4 * فيما يتعلق بالشروط في الوقف وهو أنواع. 5 * في الإقرار بالوقف. 6 * في الولاية في الوقف. 7 * في تصرف القيم في الأوقاف وهو نوعان: أحدهما فيما يرجع إلى عمارة الوقف، والآخر فيما يرجع إلى العقود. 8 * في الوقف على نفسه وما يتصل به. 9 * في الوقف على ولده وولد ولده وبنته ونسله، وما يتصل بذلك. 10 * في الوقف على فقراء قرابته. 11 * في الرجل يقف أرضه على قرابته فيجيء رجل فيدعي أنه من قرابته، وفيه الوقف على أقرب الناس منه أو إليه. 12 * في الوقف على أهل البيت والآل، والجنس والعصب والجيران، وأشباه ذلك. 13 * في الرجل يقف على الفقراء فيحتاج أحد من ولده أو يحتاج هو بنفسه. 14 * في الوقف على الموالي والمدبرات وأمهات الأولاد والمماليك. 15 * في وقف المريض. 16 * في الرجل يقف أرضه على وجوه سماها كيف يقسم الغلة.

17 * في الرجل يقف على قوم فلا يقبلون أو يقبل بعضهم دون بعض، أو يكون بعضهم حياً وبعضهم ميتاً. 18 * في الرجل يقف على جماعة ثم يستثني بعضهم بصفة خاصة، وفي الرجل يقف على جماعة موصوفين بصفة فتزول تلك الصفة عن كلهم أو عن بعضهم. 19 * في المسائل التي تتعلق بالصك وما فيه. 20 * في المسائل المتعلقة بالدعاوي والخصومات والشهادات في باب الوقف وهو أنواع منها، في المسائل العائدة إلى الشهادة في الوقف. 21 * في المساجد، وهو أنواع. 22 * في المسائل العائدة إلى الرباطات والمقابر والخانات والحياًض والطرق والسقايات. 23 * في المسائل العائدة إلى الأشجار التي في المقابر وفي أرض الوقف وغير ذلك. 24 * في المسائل الأوقاف التي يستغنى عنها وما يتصل به من صرف غلة الأوقاف إلى وجوه أخر. 25 * في وقف الكفار. 26 * في المتفرقات.

الفصل الأول: في الألفاظ التي تجري في الوقف وما يتم به الوقف وما لا يتم

الفصل الأول: في الألفاظ التي تجري في الوقف وما يتم به الوقف وما لا يتم إذا قال: أرضي هذه صدقة محررة مؤبدة حال حياًتي وبعد وفاتي، أو قال: أرضي هذه صدقة مؤبدة في حال حياًتي وبعد وفاتي، أو قال: أرضي هذه صدقة محبوسة مؤبدة أو حبسة مؤبدة حال حياًتي وبعد وفاتي، يصير وقفاً جائزاً لازماً على الفقراء عند الكل، ولو لم يقل حال حياًتي وبعد وفاتي، فالمسألة على الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبه على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله. ولو قال: أرضي هذه صدقة محبوسة، أو قال: حبسته ولم يقل: مؤبدة فإنه يصير وقفاً، في قول عامة من يجيز الوقف، وقال الخصاف وأهل البصرة بأنه: لا يصير وقفاً، ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على المساكين يصير وقفاً بالإجماع، وذهبوا في ذلك إلى أن جواز الوقف معلق بالتأبيد لما نبين بعد هذا إن شاء الله، وما يكون معلقاً بالتأبيد لا يكون إلا بذكر التأبيد نصاً وإنما جاز بذكر المساكين ولم ينص على التأبيد؛ لأن ذكر المساكين ذكر التأبيد؛ لأنهم لا يقطعون أبداً وجه قول العائد أن التأييد كما يثبت بذكر الصدقة؛ لأن الصدقة تثبت مؤبدة؛ لأنها لا يحتمل القسم، ولو قال: أرضي هذه موقوفة، أو قال: داري هذه موقوفة أو قال: أرضي هذه، أو قال: داري هذه، فعلى قول أبي يوسف يكون وقفاً، وقال محمد وهلال لا يكون وقفاً، وكذلك على قول الخصاف وأهل البصرة لا يكون وقفاً؛ لأنه لما لم يصير وقفاً في المسألة الأولى عندهم وقد جمع بين الصدقة والموقوفة؛ فلأن لا يصير وقفاً هنا كان أولى. وجه قول محمد أن قوله: وقفت أرضي، يحتمل وقفتها على الفقراء فيكون وقفاً تاماً، ويحتمل وقفتها على الأغنياء، فلا يكون وقفاً بالشك، وأبو يوسف يقول: العرف الظاهر فيما بين الناس إنهم يريدون بهذا الوقف على الفقراء وكان مشايخ بلخ يفتون بقول أبي يوسف، قال: صدر الشهيد في «واقعاته» ونحن نفتي به أيضاً وكذلك إذا قال: أرضي هذه حرمتها أو حبستها أو قال: هي محرمة أو قال: محبوسة أو قال: حبسته فهو على الخلاف أيضاً، وكذلك إذا قال: أرضي هذه موقوفة محرمة حبس، أو قال: موقوفة حبس محرمة لا تباع ولا توهب ولا تورث فهو على الخلاف أيضاً. وكذلك لو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة أو قال: أرضي هذه وقف أو قال: صدقة محبوسة فهي بلا خلاف * هذا إذا لم يعين إنساناً، فأما إذا عين بأن قال: وقفت أرضي هذه على فلان أو قال: داري هذه موقوفة على فلان أو قال: على ولدي أو قال: على قرابتي وهم يحصون * لا يجوز.

فرق أبو يوسف بين هذا وبينما إذا لم يعين إنساناً. والفرق: أنه إذا لم يعين انساناً فالجواز باعتبار أنه وقف على الفقراء ظاهراً بحكم العرف، وإذا عين إنساناً لا يمكن أن يجعل هذا وقفاً على الفقراء هذا إذا عين إنساناً وذكر لفظ الوقف مفرداً، أما إذا ذكر صفة لفظ الصدقة بأن قال: أرضي هذه صدقة على ولدي، كان وقفاً. والغلة لفلان مادام حياً، وإذا مات هو يصرف الغلة إلى الفقراء؛ لأنه لما نص على الصدقة والصدقة لا تكون إلا على الفقراء كان هذا وقفاً على الفقراء، وكان ذكر فلان لتخصيصه بالغلة في الباب الأول من الوقف «الواقعات» ، وعن أبي يوسف أنه إذا عين إنساناً وقال: وقفت أرضي، هي وقف لك، حبستها لك فهو تمليك منه يتم بالتسليم إليه، وفي شروط محمد بن مقاتل رحمه الله قال: أبو يوسف جاز الوقف على رجل بعينه وإذا مات الموقوف عليه يرجع إلى ورثة الوقف، وفي «البرامكة» : عن أبي يوسف يجوز الوقف على رجل بعينه، وإذا مات الموقوف عليه يرجع إلى المساكين، فصار في رجوع الوقف إلى ورثة الموقوف عليه روايتان عنه. وكل ذلك يدل على جواز الوقف على رجل بعينه (2أ3) وفي الوقف الخصاف إذا قال: جعلت هذه الأرض صدقة موقوفة على فلان وولده وولد ولده وأولاد أولادهم، فإذا سمى من ذلك فهو وقف مؤبد إلى يوم القيامة، قال: ثمة أيضاً وقال أبو يوسف، إذا قال: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أبداً على فلان وولده وولد ولده فهو جائز، لقوله: أبداً. وفي «المنتقى» قال: أبو يوسف: إذا جعل أيضاً له صدقة موقوفة على ولده جاز ما داموا أحياًء، فإذا انقرضوا رجعت إلى صاحبها إن كان حياً، وإلى ورثته إن كان ميتاً. قال: وليس هذا نظير قوله: أرضي صدقة موقوفة ينفق من عليها على فلان لأنه إذا قال: هي صدقة موقوفة على فلان فإنما أوجبها له خاصة، وإذا قال: هي صدقة موقوفة ولم يقل على فلان، فإنما أوجبها للفقراء، فإذا استثني أن ينفق من عليها، فإنما استثني من صدقة أمضيت فما ذكر في «الواقعات» وفي وقف «هلال» إذا قال: أرضي هذه موقوفة لله تعالى أبداً، كان وقفاً صحيحاً على المساكين؛ لأن معنى قوله: أرضي صدقة أبداً؛ لأن الوقف لله تعالى لا يكون إلا في وقف الأصل ليتصدق بالغلة، وكذلك إذا قال: موقوفة لله من غير ذكر الأبد، وكذلك إذا قال: موقوفة لرحمة الله أو قال: لطلب ثواب الله إذا قال: أرضي هذه صدقة، أو قال: جعلت أرضي هذه صدقة كان هذا نذراً بالتصدق فينبغي أن يتصدق بنفسها أو يبيعها ويتصدق بثمنها، ذكر هلال في وقفه عن أبي حنيفة إذ قال: جعلت أرضي هذه للفقراء، إن كان هذا في تعارفهم وقفاً، وإن لم يكن في تعارفهم وقفاً، يسأل عنه ماذا أراد بقوله جعلتها للفقراء، إن قال: أردت أن تكون وقفاً على الفقراء، تكون وقفاً على الفقراء؛ لأنه نوى ما يحتمل لفظه، وإن أراد به الصدقة، أو لم يكن له نية

الفصل الثاني: فيما يتعلق بجواز الوقف وصحته وشرائط صحته

فهو نذر بالصدقة، أمّا إذا نوى الصدقة، فلأنه نوى ما يحتمله لفظه، وأما إذا لم ينوِ، فلأن هذا فكان له بيانه أولى عند الاحتمال، ومتى صارت نذراً كان عليه أن يتصدق بقيمتها كما لو نص عليه. وإذا قال: أرضي هذه السبيل ولم يزد على هذا، فيه تفصيل: فإن كان هذا الرجل من قوم هذا اللفظ في متعارفهم: وقف، وإن لم يكن من قوم تعارفهم أن هذا وقف، يسأل عنه إن أراد به الوقف فوقف وإن أراد به الصدقة فهو صدقة فيتصدق بعينها أو بثمنها، وذكرنا في المسألة المتقدمة وهو ما إذا قال: جعلت أرضي هذه للفقراء ولم ينوِ شيئاً أنه يكون نذراً ولا فرق بينهما؛ لأنه إذا صار نذراً، فإذا مات يصير ميراثاً عند هذه الجملة في الباب الأول من «الواقعات» . وفي هذا الموضع أيضاً إذا قال: ضيعتي هذه للسبيل، فلم يزد على هذا لم يصر وقفاً، إلا إذا كان القائل في ناحية يفهم أهل تلك الناحية بها الوقف المؤبد بشرائطه؛ لأن المطلق ينصرف إلى المتفاهم فيصير كالتصريح بالوقف وفي هذا الموضع أيضاً إذا قال: اشتروا من غلة داري هذه كل شهر بعشرة دراهم حراً وفرقوا على المساكين صارت الدار وقفاً؛ لأن هذا لفظ يودي معنى الوقف، فصار كما قال: وقفت داري هذه بعد موتي على المساكين. وفيه أيضاً رجل قال في مرضه: جعلت ترك كرمي وقفاً، وكان فيه تمراً ولم يكن صار الكرم وقفاً وهذا؛ لأن الترك لا يصير وقفاً إلا بوقف الكرم فقال قوله وقفت ترك كرمي منزلة قوله وقفت كرمي بما فيه من الترك، وكذلك لو قال: جعلت غلة كرمي وقفاً وفي «وقف هلال» إذا قال: أوصى بأن يوقف بثلث أرضه بعد وفاته لله تعالى أبداً، كان وصية بالوقف على الفقراء؛ لأن الوقف لله تعالى يكون وقفاً على المساكين فالأمر بالوقف لله يكون أمراً بالوقف على المساكين وفيه أيضاً إذا قال: أرضي هذه موقوفة على وجوه البر أو على وجوه الخير فهو وقف صحيح على المساكين لأن البر عبارة عن الصدقة قال الله تعالى: {أن تبروهم} (الممتحنة: 8) والخير والبر بمعنى واحد، فصار على تقدير كلامه أرضي هذه صدقة موقوفة. الفصل الثاني: فيما يتعلق بجواز الوقف وصحته وشرائط صحته ذكر في «ظاهر الرواية» أن شرط جواز الوقف عند أبي حنيفة الإضافة إلى ما بعد الموت، أو الوصية حتى أو يضيف إلى ما بعد الموت، ولم يوصى به لم يصح. وقال أبو يوسف ومحمد: هذا ليس بشرط، حتى يمنع من بيعه ولا يورث عنه متى مات. وحاصل الخلاف راجع إلى أن تقدير الوقف مادي قال أبو حنيفة: تقديره حبست العين على ملكي، وتصدقت به على المساكين، فلا يصح إذا كانت الثمرة معدومة إلا بطريق الوصية، وعلى قولهما: تقدير الوقف إزالت العين عن ملكي إلى الله تعالى، وجعلته محبوساً في ملكه ومنفعته للعباد، وهذا صحيح، وإن لم يكن موصي، كما في المسجد قال شمس الأئمة السرخي: الإضافة إلى ما بعد الموت أو الوصية عند أبي حنيفة ليست بشرط للجواز، فإن الوقف جائز عنده بدون ذلك، لكنه غير لازم، وإنما يصير لازماً بالإضافة إلى ما بعد الموت، أو بالوصية به وهذا؛ لأن أبا حنيفة يجعل الواقف حابساً العين على ملكه، صارفاً المنفعة إلى الجهة التي سماها، فيكون بمنزلة العارية، والعارية جائزة غير لازمة، ومعنى الجواز جواز صرف الغلة إلى تلك الجهة، وتفسير الوصية به أن يقول: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة مؤبدة وأوصيت به بعد موتي، فإذا قال ذلك يكون لازماً، حتى لا يملك بيعه قبل الموت ولا يورث عنه، وذكر محمد رحمه في «السير الكبير» إذا أضافه إلى ما بعد الموت يصح عند أبي حنيفة بطريق الوصية لغلة داره لإنسان أو غلة أرضه أو يوصي ذلك للفقراء، وهو كالوصية بالعين وذكر الطحاوي أن الوقف المباشر في مرض الموت عند أبي حنيفة كالمضاف إلى ما بعد الموت، حتى أن الوقف المباشر في مرض الموت يقع لازماً جائزاً على ما ذكره الطحاوي قال شمس

الأئمة السرخسي رحمه: الصحيح أن المباشر في مرض الموت عنده كالمباشر في الصحة، حتى لا يجوز في ظاهر الرواية من غير الوصية والإضافة إلى ما بعد الموت، وحتى لا يلزم على ما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه. وذكر شيخ الإسلام أن الوقف المباشر في مرض الموت إذا لم يكن مضافاً إلى ما بعد الموت عن أبي حنيفة روايتان وجه الرواية التي قال (فيها) : لا يجوز أنه لم يوجد الإضافة إلى ما بعد الموت حقيقة فلا يجوز كالوقوف في حالة الصحة ولم يضف إلى ما بعد الموت وجه الرواية الأخرى أن تصرفات المريض كالمضافة إلى ما بعد الموت، ألا ترى أنه يعتبر بتبرعاته من الثلث فوجدت الإضافة إلى ما بعد الموت اعتباراً. قال رحمه الله: التسليم إلى المتولي شرط صحة الوقف حتى إن على قوله لو لم يسلم الوقف إلى المتولي لا يزول عن ملكه وله أن يرجع في ذلك، وإذا مات يورث عنه، وقال أبو يوسف: التسليم إلى المتولي ليس شرط ويكتفي فيه بالإشهاد. وجه قول أبي يوسف: أن الوقف تبرع شرع لإبطال ملك الواقف عن العين (2ب3) لا للتمليك، فيصح من غير قبض قياساً على الاختلاف، بيانه: أن التمليك من الله تعالى، لا يتحقق من جهتنا فقصروا؛ لأن ما في أيدينا ملك الله تعالى على الحقيقة ولنا فيه ملك التصرف جاعلاً إلينا إبطال ملك التصرف، لا التمليك من الله، وتقريب ما مر بخلاف الصدقة المنفذة حيث لا يصح بدون القبض؛ لأن ما يثبت لله تعالى في الصدقة، يثبت في ضمن التمليك من الفقير؛ لأن التمليك منه مقصورة، فما يثبت لله تعالى في ضمنه يثبت على سبيل التمليك، وإن كان التمليك منه لا يتحقق ضرورة أن ما يثبت في ضمن الشيء يكون حكمه حكم ذلك الشيء، فأما في الوقف ما يثبت لله تعالى من الحق مقصوداً، إلا في ضمن التمليك من العباد، فإن العين الموقوف لا يصير ملكاً للعباد والتمليك من الله تعالى مقصوداً من العبد لا يتحقق. وجه قول محمد قوله عليه: لا تجوز الصدقة إلا مقبوضة محوزة من غير فصل،

والمعني فيه أن الوقف إزالة الملك بطريق التبرع، فيما يكون بالتسليم كما في الصدقة، وهذا لأنه لو تم قبل التسليم فيؤدي إلى أن يصير تبرعه سبباً للزوم ما لم يتبرع به، وكذلك التأبيد شرط عند محمد حتى لو وقف على جهة يتوهم انقطاعها بأن وقف على أولاده لم يجعل آخره للفقراء، لا يصح الوقف عند محمد وعلى قول أبي يوسف التأبيد ليس بشرط، حتى إن في هذه المسألة يجوز الوقف عنده، وإذا ماتوا وانقرضوا يعود إلى ملكه إن كان حياً وإلى ملك ورثته إن كان ميتاً، والخلاف على هذا الوجه مذكور في شرح الطحاوي وفي شرح شمس الأئمة السرخسي رحمهما الله، وقد ذكر محمد رحمه في آخر كتاب الوقف: أن الوقف المؤقت باطل، ولم يذكر فيه خلافاً فيحتمل ذلك على أنه قول محمد: وإن كان على الوفاق فهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف، فقد روى الحسن بن مالك عن أبي يوسف: أن الوقف المؤقت باطل، وبعض مشايخنا قالوا: لا خلاف أن التأبيد شرط صحة الوقف، وإنما الخلاف في تلك المسألة في شيء آخر، أن عند أبي يوسف: أن التأبيد يثبت بنفس الوقف من غير اقتران شيء آخر به، وعند محمد لا يثبت التأييد بنفس الوقف ما لم يجعل آخره للمساكين أو الفقراء، ولما كان من مذهب أبي يوسف أن التأبيد يثبت بنفس الوقف، فإذا مات أولاده وانقرض رحمه تصرف الغلة إلى الفقراء. وهذا القائل يقول ما ذكر في «شرح الطحاوي» وفي «شرح شمس الأئمة السرخسي» : أنه إذا مات أولاده يعود إلى ملكه خطأ وفي «المنتقى» بشر عن أبي يوسف: إذا وقف أرض على ذي الحاجة من ولده وولد ولده ما تناسلوا أبداً فذلك جائز، ولوقفها على فقراء ولده ولم يجعلها لفقراء النسل منهم لم يجز قال: ليس يجوز من الوقف إلا الوقف المؤبد، فإذا كان لقوم خاص لا يجوز الوقف عليهم؛ لأنهم فقراء، وأهل بيته ونسلهم ما تناسلوا فهو جائز، فإن انقرضوا ولم يكن استثني أنه لفقراء المسلمين فإنه يرد على فقراء المسلمين قال: من قبيل أن أصلها صدقة على ذوي الحاجة وقد أخرنا أولهما، وكان الوقف في ذلك على الأبد قال: وليس هذا كالوقف على ولده لا يذكر النسل؛ لأن الوقف على الولد ليس بوقف على الأبد وإذا ذكر النسل فهو وقف أبداً، قال: وكذلك لو وقفه على نفس واحدة ونسلها، فالواحدة والجماعة سواء، وعن الحسن عن أبي يوسف: إذا وقف على ولده ونسله، أو على أولاده وأولاد أولاده أبداً ما تناسلوا في الأخرى سواء في ما ذكرنا، وهو أنه إذا أمكن أن ينقرضوا لم يجز الوقف، وإذا وقف نصف أرض على الفقراء فعلى قول أبي يوسف: يجوز، وعلى قول محمد: لا يجوز. واعلم أن الشيوع فيما يحتمل القسمة لا يمنع صحة الوقف، بلا خلاف، ألا ترى أنه لو وقف نصف الحمام يجوز: وإن كان كان مشاعا؛ لأنه لا يحتمل القسمة فصار كمية المشاع فيما لا يحتمل القسمة. وفي الشيوع فيما يحتمل القسمة هل يمنع صحة الوقف؟ ففيه خلاف على قول محمد يمنع، وعلى قول أبي يوسف لا يمنع، وهذه المسالة في الحاصل بناءً، على أن

القسمة فيما تحتمل القسمة من تمام القبض، وأصل القبض عند أبي يوسف فيما يحتمل القسمة ليس بشرط فكذا تمامه لا يكون شرطاً، وعند محمد أصل القبض فيما يحتمل القسمة شرط فكذا ما يتم به القبض، ولو وقف جميع أرضه أو داره ثم استحق نصفه أو ربعه أو ما أشبهه شائعاً، بطل الوقف فيما بقي عند محمد؛ لأن بالاستحقاق تبين أن ما أوقفه الواقف كان مشاعاً، ووقف المشاع فيما يحتمل القسمة عنده باطل، وهذا بخلاف ما لو استحق شيئ منه بعينه، حيث لا يبطل الوقف في الباقي؛ لأن هناك لا يثبت الشيوع في الباقي؛ لأن المستحق مميز ما بقي، فهو بمنزلة ما لو وقف دارين واستحق أحدهما، ومشايخ بلخ أخذوا بقول محمد. ذكر في «فتاوى أبي الليث» تفريعاً على قول أبي يوسف فقال: إذا كان أرض بين شريكين وقف أحدهما نصيبه مشاعاً ثم اقتسما فوقع نصيب الواقف في موضع لأخر لا يجب عليه أن يقف ثانياً؛ لأن بالقسمة يتعين الموقوف، وإن أراد الإخبار عن الخلاف نصفه ثانياً، وإن كان الأرض كلها له فوقف بعضها ثم أرادا القسمة. فالوجه في ذلك: أن يتبع ما بقي ثم يقتسمان؛ لأن القسمة إنما تجري بين اثنين، وإن كان لم يتبع ورفع إلى القاضي ليأمر إنساناً معه جاز؛ لأن هنا القسمة جرت بين اثنين، وإذا قضى القاضي بجواز وقف المشاع ينفذ قضاؤه ويصير متفقاً عليه، كما في سائر المختلفات فإن طلب بعضهم القسمة قال أبو حنيفة: لا يقسم، ويتهاونون، وقال أبو يوسف ومحمد: يقسم وأجمعوا أن الكل لو كان موقوفا على الأرباب فارادوا القسمة لا يقسم في «واقعات الناطفي» وفي «فتاوى أبي الليث» أيضاً. وصورة ما ذكر في «فتاوي أبي الليث» : رجل وقف ضيعة له على بنيه وأرادا أحدهم قسمتها ليدفع نصيبه مزارعة، قال: قسمة الوقف لا تجوز من أحد وليس لأرباب الوقف أن يعقدوا على الوقف عقد مزارعة، وإنما ذلك إلى القيم. وإذا كانت الأرض لرجلين فتصدقا بها صدقة موقوفة على الفقراء ودفعاها إلى والٍ يقوم بها كان ذلك جائز؛ لأن مثله في الصدقة النافذة يجوز ففي الموقوفة أولى، وإن تصدق كل واحد منهما بنصفها مشاعاً على حدة صدقة موقوفة، وسلم كل واحد منهما نصفها إلى والٍ على حدة، لم يجز، وإن تصدق كل واحد منهما بنصفه على حدة صدقة موقوفة وجعل الوالي على ذلك رجلاً واحداً، وسلما إليه جميعاً جاز ولو تصدق الواحد بجميع الدار على واحد وسلم النصف مشاعاً ثم سلم الباقي جاز. وإنما جاء الفرق لأن العبرة في صحة الهبة وفسادها (3أ3) في الشائع ليمكن الشيوع وعدمه في القبض وقت ثبوت الحكم لا في العقد كما في الصدقة المنفذة وفي المسألة الأخيرة لم يتمكن الشيوع في القبض وقت ثبوت الحكم لأن الحكم إنما يثبت بقبض جميع المعقود عليه، وما يقبض بعض المعقود عليه؛ لأن العقد على الكل كان واحداً، فكان تمكين الشيوع في القبض، ولم يكن الحال حال ثبوت الحكم ليمكن الثبوت حالة العقد ليس ذلك بمانع، وفي المسألة المتقدمة يمكن الشيوع في القبض وقت ثبوت الحكم؛ لأن نصيب كل واحد منهما جميع المعقود عليه لأنه يفرق العقد منهما.

وإذا كانت الأرض بين رجلين تصدقا بها على الفقراء صدقة واحدة، وجعل كل واحد منهما والياً فهذا على رجلين إن جعل كل واحد منهما والياً ليقبض نصيبه ونصيب صاحبه بأن قال كل واحد منهما لواليه: وليتك تقبض هذه الأرض، وإن جعل كل واحد منهما والياً ليقبض نصيبه لا غير، لا يجوز؛ لأن في الوجه الأول لم يتمكن الشيوع في القبض حال ثبوت الحكم.p ذكر الخصاف في «وقفه» تفريعاً على قول أبي يوسف فقال: أرض بين رجلين وقف أحدهما حصته منها وهو النصف، فله أن يقاسم شريكه فيقرر حصة الوقف؛ لأن ولاية الوقف إليه فإن كان الواقف قد مات فلوصيه أن يقاسم الشريك ويقرر حصة الوقف؛ لأن ولاية الوقف قد مات ولوصيه أن يقاسم الشريك وتقرر حصته الوقف. وإن رجلين كانت بينهما أرض فوقف كل واحد منهما حصته على قوم معلومين فهو جائز، وإن كانا وقفاها جميعاً على وجوه سمياها ثم أرادا قسمتها فلهما ذلك، ويقرر كل واحد منهما ما وقف ويكون في يده يَتَولاها. ولو أنَّ رجلاً وقف جميع أرضه ثم استحق نصفها شائعاً، وقضى القاضي للمستحق بالنصف وبقي النصف الباقي وقفاً على حاله عند أبي يوسف، كان للواقف أن يقاسم المستحق فيقرر حصة الوقف. ولو وقف من داره أو أرضه ألف ذراع جاز عند أبي يوسف؛ لأنه يجز ذلك في البيع ففي الوقف أولى، ثم يذرع الأرض والدار فإن كانت ألف ذراع أو أقل كان كلها وقفاً، وإن كانت ألفي ذراع كان الوقف منها النصف، وإن كانت ألف وخمسمائة، كان الوقف منها الثلثان، وإن كان في بعضها نخيل وبعضها لا نخيل فيها، يكون للوقف من حصة النخيل. رجلان بينهما أرض ودور، وقف أحدهما نصيبه من الأرضين والدور، ثم أراد الواقف أن يقاسم شريكه فله ذلك ويقسم كل أرض وكل دار على حدة، وقال أبو يوسف: إن كان الأصلح للوقف أن يجمع ذلك، جمع إذا كانت الأرض من أراضي قرية واحدة، وليس للواقف أن يأخذ دراهم من الشريك أفضل ما يصير إليه في القسمة لأنه بيع، وإن أعطى الواقف شريكه دراهم أفضل ما صار في يده، جاز ذلك ويكون حصته ما دفع من الدراهم مطلقاً له. في «فتاوى الفضلي» امرأة وقفت منزلاً في مرضها على بناتها، ثم بعدهن على أولاد من أولادهن أبداً ما تناسلوا فإذا انقرضوا فللفقراء، ثم ماتت من مرضها وخلفت من الورثة ابنتين وأختاً، والأخت لا ترضى بما صنعت، ولا مال لها سوى المنزل، جاز الوقف في الثلث ولم يجز في الثلثين بين الورثة على قدر سهامهم، ويوقف الثلث فما خرج من عليه قسم بين الورثة كلهم على قدر سهامهم يوقف الثلث ما عاشت الابنتان، فإذا ماتتا صرفت الغلة إلى أولادها وأولاد أولادها كما شرطت الواقفة لا حق للورثة في ذلك؛ لأن هذا الوقف وصية بالغلة للابنتين وأولادهما ما تناسلوا، فإذا لم تجز الأخت

الفصل الثالث: في بيان ما جاز من الأوقاف وما لا يجوز

بطلت الوصية للابنتين، وجازت لأولادهما؛ لأن بطلان هذه الوصية من حيث أنها للوارث، إلا أن الوصية لأولادهما بعد موتهما. قال صدر الشهيد في «واقعاته» : هذا التفريع يتأتى على قول أبي يوسف أن وقف المشاع جائز، أما لا يتأتى على قول محمد، وعندي أن هذا التفريع على قول الكل لأن حق الورثة إنما يثبت بعد الموت فإبطالهم في قدر الذي أبطلوا يقتصر على هذه الحالة، ولا يتبين أن ابتدأ الوقف في الجزء الشائع بل يكون هذا شرعاً طارياً وسياتي بيان ذلك في كتاب الهبة إن شاء الله. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل وقف داراً له في مرضه على ثلاث بنات له وليس له وارث غيرهن قال: الثلث من الدار وقف والثلثان مطلق أن يصنعن بهما ما شئن قال الفقيه أبو الليث: هذا إذا لم يجزن الوقف، فأما إذا أجزن صار الكل وقفاً عليهن قال: صدر الشهيد في «واقعاته» : هذا التفريع إنما يتأتى علي قول أبي يوسف بناء علي أن وقف المشاع عنده صحيح وعندي أن هذا التفريع على الكل على ما بينا. الفصل الثالث: في بيان ما جاز من الأوقاف وما لا يجوز قال هلال في «وقفه» : وقف أرض الجور، وتفسير أرض الجور: الأرض التي جرت لبيت المال بأن لا يقدر صاحبها على زراعتها الى الإمام ليكون منافعها حراً للخراج، وإذا عرفت تفسير الجور فنقول: إن كان الإمام وقف هذه الأرض لا يجوز؛ لأنه لا يملكها وإن وقفها صاحب الجور وهو المالك يجوز؛ لأن الجور لا يوجب زوال الملك، ألا ترى أنه متى قدر صاحبها على زراعتها وطلب من الإمام أن يردها عليه ردها عليه؟ ذكر شيخ الإسلام في شرح «كتاب الوقف» : إن الوقف علي أقرباء الرسول (صلى الله عليه وسلّم جائز، وإن كانت الصدقة لا تحل لهم وفي «المنتقى» عن أبي يوسف إنه يجوز صرف صدقات الوقف إلى الهاشمي إذا سمي في الوقف، وهو دليل جواز الوقف وفي «الجامع الأصغر» أن الوقف على أهل رسول الله عليه السلام لا يجوز كالصدّقة قال ثمة: وفي الصدقة، الفريضة والتطوع سواء، وفي «شرح القدوري» أن الصدقة الواجبة كالزكاة والعشور والنذور والكفارات لا يجوز، فأما الصدقة على وجه الصلة والتطوع فلا بأس فصار في الوقف روايتان، وفي صدقة التطوع روايتان أيضاً. ولو قال: ما لي لأهل بيت النبي عليه السلام وهم يحصون، يجوز ويصرف إلي أولاد فاطمة رضي الله عنها. في «فتاوى أبي الليث» : إذا وقف داره على فقراء مكة، أو على فقراء قرية، إن كان

الوقف في حسابه أو صحته والفقراء يحصون، لا يجوز هذا الوقف؛ لأن الوقف لا يجوز إلا مؤبداً وهذا لم يقع مؤبداً، بجواز أنهم يموتون فينقطع الوقف، وإن كان الفقراء لا يحصون جاز الوقف؛ لأنه وَقَفَ مؤبداً، وإن كان الوقف بعد موته يجوز، سواء كانوا يحصون (أو لا) أما إذا كانوا لا يحصون لأنه وقع موبداً، وإما إذا كانوا يحصون فلأنه إن تعذر تجويزه وصيته، والوصية لقوم يحصون يجوز حتى إذا انقرضوا صار ميراثا عنهم. قال الصدر الشهيد في «واقعاته» وينبني علي هذه المسألة مسألة أخرى، رجل قال: وقفت ضيعتي هذه علي فقراء قرابتي، وجعل أجره للمسلمين حتى جاز سواء كانوا يحصون أولا يحصون، فأراد القيم أن يفصل بعضهم على البعض فالمسئلة على ثلاثة أوجه: إما إن كان فقراء قرابته وقريته لا يحصون أو يحصون أو أحد الفريقين يحصون والفريق الآخر لا يحصون (3ب3) . ففي الوجه الأول: للقيم أن يجعل نصف الغلة لفقراء القرابة ونصفها لفقراء القرية ثم يعطي لكل فريق من شاء منهم، ويفضل البعض علي البعض كما شاء؛ لأن قصده الصدقة وفي الصدقة الحكم كذلك. وفي الوجه الثاني: يصرف الغلة إلى الفريقين بعددهم ليس له أن يفضل البعض على البعض؛ لأن قصده الوصية وفي الوصية الحكم كذلك. وفي الوجه الثالث: يحعل الغلة بين الفريقين أولاً: فيصرف إلي الذين يحصون بعددهم وإلى الذين لا يحصون بينهم واحد لأن الذين يحصون لهم وصية والذين لا يحصون لهم صدقة، والمستحق الصدقة واحد ثم يعطي هذا السهم من الذين لا يحصون من شاء ويفضل البعض على البعض في هذا السهم كما شاء، وهذا التفريع يتأتى علي قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الفقراء عندهما اسم جنس أما لا يتأتى على قول محمد: إن الفقراء عنده اسم جمع، أصل هذا الاختلاف كتاب الوصايا ذكر الخصاف في باب الوقف الذي لا يجوز إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أبداً على الناس، فالوقف باطل والأرض على ملك الواقف، وكذلك إذا قال: على بني آدم أو على أهل بغداد، فإذا انقرضوا فهو علي المساكين، فالوقف باطل؛ لأن أهل بغداد لا ينقرضون، وكذلك لو قال: على الزمنى والعميان فالوقف باطل، وذكر الخصاف هذا العميان والزمني في موضع آخر وقال: الغلة تكون للمساكين ولا تكون على العميان والزمنى، وقال لأنه قال: صدقة موقوفة لله تعالى أبداً وكذلك لو قال: وقف على قراء القرآن أو على الفقهاء فهو باطل لأن الغني فيهم والفقير، ولا يحصون، وفي «وقف هلال» : أن الوقف على الزمني والمنقطع صحيح؛ لأنه يتأبدون ويكون للفقراء منهم دون الأغنياء. قال مشايخنا: الوقف على معلم المسجد يعلم الصبيان فيه لا يجوز؛ لأنه مجهول ولا يشترط، يعني: لا يشترط فقره في الوقف وبعض مشايخنا قالوا: يجوز؛ لأن عامتهم الفقراء والفقير منهم غالب فصار بحكم الغلبة الفقير كالمشروط. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: كان القاضي الإمام رحمه الله

يقول: وعلى هذا القياس إذا وقف على طلبة علم كورة كذا أو محلة كذا يجوز، وإن لم يشترط فقرهم لأنه عامتهم الفقراء، والفقير فيهم غالب، فصار الفقير كالمشروط قال: الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح كتاب الوقف» : الحاصل في جنس هذه المسائل أنه متى ذكر مصرفاً فيه تنصيص على الفقر والحاجة، فالوقف صحيح سواء كانوا يحصون أو لا يحصون، قوله سواء كانوا يحصون أو لا يحصون يشير إلى أن التأبيد ليس بشرط وقد ذكرنا قبل هذا بخلافه، ومتى ذكر يستوي فيه الغني والفقير يعني ذكرا بينما ينال الغني والفقير، فإن كانوا يحصون فذلك صحيح باعتبار أعيانهم، يريد به أنه يصح بطريق التمليك، وإن كانوا لا يحصون فهو باطل؛ لأنه لا يمكن تصحيحه وقفاً، لأنه لا يكون قصده الصدقة إذا كان يستوي فيه الغني والفقير، فلو صح صح بطريق التمليك وهم مجهولون؛ ولأن التمليك من المجهول باطل قال: إلا أن يكون في لفظه ما يدل على الحاجة استعمالاً بين الناس لا باعتبار حقيقة اللفظ، كاليتامى فحينئذ إن كانوا يحصون والأغنياء والفقراء فيهم سواء وإن كانوا لا يحصون، فالوقف صحيح ويصرف إلى فقرائهم دون أغنيائهم؛ لأن الاستعمال بمنزلة الحقيقة في جواز تصحيح الكلام باعتباره. قال الخصاف في «وقفه» : إذا قال: أرضي هذه موقوفة على اليتامى، وكذلك إذا قال على الزمنى، ولو قال: على يتامى بني فلان وهم موات يحصون فهذا باطل، يعني لا يكون وقفاً إما يكون تمليكا منهم، وإن كانوا لا يحصون فهو جائز وهي للفقراء منهم دون الأغنياء، وهذا بناء على ما ذكره شمس الأئمة السرخسي في «وقف هلال» إذا قال: أرضي هذه موقوفة علي الجهاد أو الغزو أو في أكفان الموتى أو في حفر القبور أو غير ذلك مما يشبهها فذلك جائز؛ لأن هذه الوجوه مما يتأبد فصار الوقف علي هذه الوجوه بمنزلة الوقف على المساكين. وفي وصايا «المنتقى» ابن سماعة قال: سمعت يقول: إذا أوصى في أكفان موتى المسلمين أو في حفر مقابر المسلمين فهذا باطل، ولو أوصى بثلثه أكفان فقراء المسلمين يجوز، وكذلك في حفر مقابرهم، وذكر ثمة أصلا فقال: الوصية إذا وقفت على الفقراء لا يشترط العينة بخلاف ما إذا وقفت مطلقة. في «وقف هلال» إذا وقف على ابن السبيل صح؛ لأنهم ينقطعون ويكون لفقراء ابن السبيل دون اغنيائهم كما في اليتامى قال الخصاف: إذا قال: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أو على زيد أو على قرابتي فالوقف باطل؛ لأنه جعل ذلك على شك، وكذلك لو قال: جعلتها صدقة موقوفة لله أبداً على زيد أو عمرو ومن بعد ذلك على المساكين فهو أيضا باطل، ولو قال: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أبداً على فلان حال حياتي بعد أن الوقف جائز وتكون الغلة لفلان ما دام حياً، فإذا توفي كانت

الغلة للمساكين؛ لأنه قال: أبداً. وكذلك إذا قال: على فلان ولم يقل حياته، ولو قال: موقوفة على فلان بعد موتي، سنة فإنها تكون على ما قال سنة، ثم ترجع إلى الورثة؛ لأن هذه وصية، إذا قال: جعلت أرض فلان صدقة موقوفة على الفقراء، فبلغ ذلك صاحب الأرض فأجاز، فإنه يكون وقفاً من قبل مالكها وإليه ولايتها. سئل الفقيه أبو بكر أيضاً: عمن وقف أرضاً له على مصاحف موقوفة ان يصلح ما يدرس منه قال: الوقف باطل؛ لأن هذا ليس من أوقاف الناس. في «وقف هلال» : رجل اشترى أرضاً بيعاً جائزاً ووقفها قبل القبض وبعد الثمن فالأمر موقوف، فإن أدى الثمن وقبضها فالوقف جائز، وإن مات ولم يترك مالاً تباع الأرض ويبطل الوقف، قال الفقيه أبو الليث: وبه نأخذ. وهذه بثلاث فصول: العتق والبيع والوقف، فالعتق قبل القبض ينفذ بلا توقف، والوقف بلا خلاف فيه بين أبي يوسف ومحمد، وكان الفقيه أبو نصر محمد بن محمد بن سلام يقول: ينبغي أن يبطل الوقف ولا يتوقف كالبيع، ولكن فرق بينهما هلال. ووجه الفرق: أن الوقف يشبه العتق من حيث إنه لا يبطل بالشروط الفاسدة، ويشبه البيع من وجه وهو أنه يحتمل القبض بعد رجوعه فلشبهه بالعتق لا يبطل ولشبهه بالبيع لا ينفذ، فقلنا بالتوقف، وهذا الجواب على قول من لم يشترط القبض لصحة الوقف ظاهراً، وعلى قول من يشترط القبض، وهو محمد كان الوقف كالهبة وهب المشتري قبل القبض وسلط الموهوب على القبض صح كذا الوقف. نوع (4أ3) من ذلك في تعليق الوقف بالشرط ذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قال أحد إن مت من مرضي هذا فقد وقفت أرضي هذه، لا يصح برأ أو مات، فرق بين هذا وبينما إذا قال: إن مت من مرضي هذا فاجعلوا وقفاً. والفرق: أن في الفصل الأول: علق الوقف بالشرط وتعليق الوقف بالشرط باطل، وفي الفصل الثاني: علق التوكيل بالشرط وتعليق التوكيل بالشرط صحيح وعلى هذا إذا قال: إن دخلت هذه الدار فقد جعلت أرضي هذه وقفاً لا يصح، ولو قال إن دخلت فاجعلوا أرضي هذه وقفاً صح لما مر، ذكر الخصاف في وقفه: إن كان غداً فأرضي هذه صدقة موقوفة فهو باطل قال: لأنه لم يجعلها وقفاً الساعة، ولو قال: إذا قدم فلان، إذا كلمت فلان، فأرضي هذه صدقة فإن هذا يلزمه وهو بمنزلة اليمين والنذر، فإذا وجد الشرط وجب عليه أن يتصدق بالأرض ويكون وقفاً ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة إن شاء فلان، وقال فلان فذهب فهو باطل. في «فتاوى أبي الليث» : رجل ذهب له شيء فقال: إن وجدته فلله علي أن أوقف أرضي على أبناء السبيل، فوجدها يجب عليه أن يوقف؛ لأن هذا نذر والوفاء بالنذر

واجب، فإن وقف فهذا على ثلاثة أوجه، إما إن وقف على الأجانب أو على القرابة التي يجوز إعطاء الزكاة اليها أو على القرابة التي لا يجوز إعطاء الزكاة إليها، في الوجه الأول والثاني، جاز وفي الوجه الثالث، لا؛ لأن صرف الصدقة الواجبة إلى من لا يجوز إعطاء الزكاة إليه لا يجوز، فلو وقف على القرابة التي لا يجوز إعطاء الزكاة إليها فالوقف صحيح، وأما النذر باقي؛ لأنه لم يؤد المنذور، نوع من ذلك في الوقف المنقول يجب أن يعلم أن الوقف المنقول تبعاً للعقار جائز بأن جعل أرضه وقفاً مع العبيد والثيران الذين يعملون فيها ويصير المنقول وقفاً تبعاً للعقار، وأما وقفه مقصوداً، إن كان كراعاً أو سلاحاً يجوز، ونعني بالسلاح السلاح، ونعني بالكراع جنس الخيل والابل، وإن كان ينوي ذلك إن كان شيئاً لم يجز التعارف بوقفه كالنبات والحيوان لا يجوز عندنا، وإن كان يتعارفاً كالفأس والقدوم والحبان ونبات الحبان وما يحتاج إليه من الأواني والقدور في غسل الموتى والمصحف لقراءة القرآن، قال أبو يوسف: لا يجوز، وقال محمد: يجوز وإليه ذهب عامة المشايخ منهم شمس الأئمة السرخسي رحمه الله. وذكر في شرح كتاب الوقف فقال: ما يتعارفه الناس ليس في عينه نص يبطله، فهو جائز كما في الاستصناع وغير ذلك. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا جعل ظهر دابته أو غلة عبده في المساكين لا يصح، في قول علمائنا رحمهم الله، أما على قول أبي يوسف فلأنه لايرى الوقف في المنقول إلا في الكراع، وأما على قول محمد فلأنه يعتبر العرف ولا عرف في هذه الصورة. سئل أبو نصر عمن وقف الكتب قال: كان محمد بن سلمة لا يجيز وبصير كان يخبره وقد وقف كتبه وكان الفقيه أبو جعفر يجيز ذلك وبه أخذ، وسئل عمن وقف بقرة علي رباط على أن ما يخرج من لبنها وسمنها يعطى أبناء السبيل قال كان في موضع تغلب ذلك في أوقاته رجوت أن يكون جائزاً ومن المشايخ من قال: بالجواز مطلقاً، قالوا: لأنه جرى التعارف في ديار المسلمين بذلك. وفي «الواقعات» ذكر هلال البصري في «وقفه» : وقف البناء من غير وقف الأصل وهو الصحيح، وكذلك وقف الكردار بدون وقف الأصل لا يجوز، هو المختار لأن الكردار والبناء منقول ووقفها غير متعارف، وإذا كان الأصل البقعة موقوفة على جهة قرية فبنى عليها أبناؤها على جهة قرية أخرى اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: لا يجوز؛ لأن جهة القرية إذا اختلفت لا يصير البناء تبعاً للبقعة، ما بيّنَهُ ما إذا كانت البقعة له واستيفاؤها لنفسه، وقال بعضهم: يجوز لأن جهات القرية وإن اختلفت فالأصل القرية يجميعها، واختلاف الجهة لا يوجب اختلاف الحكم بعد إثبات الأصل القرية.

هذا كما قلنا: في سبعة نفر نحروا بقرة أو بدنة ونوى بعضهم الأضحية وبعضهم هدي المتعة أو القران، وبعضهم جزاء الصيد وبعضهم التطوع جاز لوجود أصل القربات، وبمثله لو نوي بعضهم اللحم لا يجوز، وكذا ههنا. وأما إذا وقف البناء علي الجهة التي كانت البقعة وقفاً يجوز ويصير تبعاً للبقعة كما لو وقف البناء والعرصة جميعاً على جهة واحدة، فأما إذا غرس شجرة ووقفها إن غرسها في الأرض غير موقوفة فلأن إن وقفها وموضعها من الأرض صح تبعاً للأرض بحكم الاتصال، وإن وقفها دون أصلها لم يصح وإن كانت في أرض موقوفة فوقفها على تلك الجهة جائز. وإن وقفها على جهة أخرى فعلى الاختلاف الذي مر وهذا لأن الشجرة نظير البناء من حيث إن إقامتها بالأرض وهي تبع للأرض بحكم الاتصال كالبناء. ذكر الخصاف في «وقفه» إذا وقف أرضاً ومعها رقيق يعملون فيها، فينبغي أن يسمى الرقيق في الوقف، ويبين عددهم، وكذلك بقر ينبغي أن يسمى البقر ويبين عددهم، وينبغي أن يشترط في الصدقة أن نفقة الرقيق والبقر من غلة الأرض وإن لم يشترط نفقتهم من غلة الأرض فان ضعف بعض الرقيق عن العمل، فان له أن يبيعه ويشتري بثمنه غلاماً فكأنه لم يجد بثمنه غلاماً مكانه، فأراد أن يزيد في ذلك من غلة الأرض فلا بأس بذلك؛ لأن ذلك من عمارة الأرض وكذلك الحكم في الدواب وآلات الزراعة إذا وقف مع الأرض، ولولاة الصدقة أن يعملوا ذلك. وفي «وقف الأنصاري» وكان من أصحاب زفر إذا وقف الدراهم أو الطعام أو ما يكال أو يوزن أنه يجوز ويدفع الدراهم مضاربة ويتصدق بفضلها في الوجه الذي وقف عليه وما يكال ويوزن يباع ويدفع ثمنه مضاربة فعلى هذا القياس إذا قال: هذا الكر من الحنطة وقف على شرط أن يقرض الفقراء الذين لا بذر لهم أن يزرعوها لأنفسهم، ثم وجد منهم بعد إدراك قدر القرض، ثم يقرض لغيرهم من الفقراء أبداً على هذا السبيل فهذا جائز. قال: ومثل هذا كثر في الجبال التي في ناحية رماوند. وفيه أيضاً ان وقف الأكسية جائز، وتدفع الأكسية إلى الفقراء، فينتفعون بها في أوقات لبسها في الشتاء ثم يردونها إلى القيم. وسئل أبو نصر عمن وقف داراً وفيها حمامات يطرن ويرجعن، قال: يدخل في وقفه الحمامات الأهلية. في «فتاوى أبي الليث» وفيه أيضاً: لو وقف برج حمام أرجو أن يكون جائزاً؛ لأن الحمامات وإن كانت منقولة إلا أنها تصير وقفاً تبعاً للبيت، كما لو وقف ضيعة بما فيها من الثيران والعبيد، وكذلك لو وقف بيتاً فيه كوارات العسل يجوز، ويصير النحل وقفاً تبعاً للبيت، ويجب أن يكون تأويل هذه المسألة أن يوقف البيت والبرج بما فيه من النحل والحمام كما في وقف الأرض مع العبيد والثيران.

وقف كراسة على مسجد لقراءة أو على أهل المسجد المسجد جائز، والوقف على أهل المسجد إن كانوا يحصون يجوز أيضاً. وفي «وقف (4ب3) الحسن بن زياد» إذا اشترى مصاحف وجعلها في المسجد الحرام أو في غيره من المساجد وقفاً مؤبداً لأهل ذلك المسجد ولجيرانه ولمارة الطريق ولابن السبيل ليقرؤون فيها جائز في قول أبي يوسف. نوع منه فيما يدخل في الوقف من غير ذكر ذكر الخصاف في «وقفه» : إذا وقف الرجل أرضاً في صحة على وجوه سماها ومن بعدها على الفقراء، فإنه يدخل في الوقف البناء والنخيل والأشجار، وذكر القاضي الإمام شمس الأئمة محمود الأوزجندي رحمه الله في شرح كتاب «الوقف» لهلال: أن الشجر الذي لا ثمرة له ولا غلة ففي دخوله في وقف الأرض روايتان، وأما الثمر هل يدخل في وقف الأشجار؟ ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح كتاب الرهن: ذكر هلال عن محمد أنه يدخل، وعلل فقال: لا صحة للعقد إلا بعد دخوله، فيدخل ضرورة وكما رهن في رهن قال رحمه الله: وأكثر مشايخنا أنه لا يدخل وهكذا ذكر الخصاف. وإن وقف الأرض واستثنى الأشجار التي فيها لا يجوز الوقف؛ لأنه صار مستثنياً الأشجار بمعنى أضيعها، فيصير الداخل تحت الوقف مجهولاً. وأما الزرع هل يدخل في وقف الارض؟ حكي عن الفقيه أبي بكر رحمه الله: إن لم يكن للزرع قيمة يوم الوقف دخل، وإن كان له قيمة لا يدخل مالم يذكر، وذكر هلال: أنه لايدخل من غير فصل، وهكذا ذكر الخصاف قال الفقيه أبو الليث: وبه نأخذ. قال الخصاف: ولو كان فيها بقلٌ أو رياحين لا يدخل في الوقف، فما كان يقطع في كل سنة لا يدخل في الوقف، وما كان يقطع في كل سنتين أو ثلاث يدخل، والشرب لا يدخل إلا إذا ذكر الأرض بحقوقها أو بكل قليل وكثير هو لها. وأما الرطاب فما كان من رطبة قد طلعت فهي للواقف، وما كان يقطع من أصول ذلك فهو داخل في الوقف، وكذلك الباذينجان والقطن إلا أن يكون شجرة القطن يجز في كل سنة، فإن كان كذلك لا يدخل. وبصل العنبر والزعفران يدخل في الوقف، السكّر لا يدخل لأنه يقطع في كل سنة، فهو كالزرع وشجر الورد والياسمين يدخل في وقف الأرض، والرحا في الضيعة، رحاء الماء ورحاء اليد في ذلك على السواء، وكذلك الدواليب يدخل والدالية لا تدخل وفي وقف الدار إذا لم تكن الدار بحقوقها ولا بكل قليل ولا كثير، هو لها فيها ومنها من حقوقها يدخل. ما كان يدخل في بيع الدار وفي وقف الحمام يدخل قدر الحمام، وفي وقف الحوانيت يدخل ما كان يدخل في بيعها. وصواني الدباسين وقدور الدباغين لا يدخل في الوقف سواء كان في البناء أو لم يكن.

الفصل الرابع: فيما يتعلق بالشروط في الوقف

نوع منه في الأوقاف المضافة سئل الخصاف عمن قال: جعلت ضيعتي * وحددها * صدقة موقوفة لله تعالى بعد سنة من هذا الوقت على المساكين هل تكون هذه الضيعة بعد مضي السنة وقفاً؟ قال: لا أحفظ عن أصحابنا في هذا شيئاً، وعندي أنه لا تكون هذه الضيعة وقفاً. وإذا أوصى لرجل بغلة بستانه لرجل عشر سنين، ومات فجعل ابنه هذا البستان وقفاً صحيحاً بعد مضي هذه العشر سنين فهو جائز وهو وقف. وكذلك إن قال للموصي: قد جعلت هذا البستان وقفاً بعد مضي هذه السنتين، وهو يخرج من ثلثه فهو جائز، ولو أن رجلاً آجر ضيعة له سنين، ثم إنه جعلها بعد ذلك صدقة موقوفة لله تعالى أبداً على سبيل سماها، ثم بعد ذلك على المساكين، قال: ليس لصاحب الأرض أن يبطل ما عقد عليه من الإجارة وكانت الضيعة وقفاً على ما جعلها عليه من الوقف الذي وقفها. ولو أن رجلاً رهن ضيعة له من رجل، ثم أنه وقفها وقفاً صحيحاً فإذا افتكها الرهن، فالوقف جائز نافذ، وإن لم يصلها حتى مضى سنة أو سنتين، لا يبطل الوقف، حتى لو افتكها بعد ذلك كان وقفاً، فإن مات صاحب الضيعة في فصل الإجارة والرهن قبل الافتكاك، ففي فصل الرهن: إن كان له مال غير الضيعة أدى الدين من ماله وكانت الضيعة وقفاً، وإن لم يكن له مال غير هذه الضيعة بيعت الضيعة في الدين ويبطل الوقف، وأما في فصل الإجارة، فالإجارة تنتقض بموت الآجر أو المستأجر، وكانت الضيعة وقفاً. وإذا اشترى ضيعة على أن البائع بالخيار، فوقفها ثم أجاز البايع البيع لم يجز الوقف والله أعلم. نوع منه في بيان ما لا يجوز من الأوقاف بلغني في الواقف: رجل حجر عليه القاضي لسفهه أو لدين عليه، فوقف أرضاً له لم يجز لأنه إنما حجر عليه القاضي لئلا يبذر ماله ولا يخرجه عن ملكه، وفي «الفتاوى» صبي محجور عليه وقف أرضاً له، قال الفقيه أبو بكر: وقفه باطل إلا بإذن القاضي، وقال الفقيه أبو القاسم: وقفه باطل وإن أذن له القاضي، لأنه تبرع فصار كالهبة والصدقة. الفصل الرابع: فيما يتعلق بالشروط في الوقف إذا وقف أرضه وشرط الكل لنفسه أو البعض ما دام حياً وبعده للفقراء، فالوقف باطل عند محمد وهلال الرازي، وقال أبو يوسف: الوقف صحيح ذكر الخلاف على هذا الوجه في مواضع كثيرة، فأبو يوسف يعتبر الابتداء بالانتهاء لأنه يجوز الوقف على وجه

يتوهم انقطاعها، وإذا انقطعت عادت الغلة إليه، فكذلك في الابتداء يجوز أن يقدم نفسه على غيره في الغلة، وهذا لأن معنى التقرب لا يزول بهذا، قال: عليه نفقة الرجل على نفسه صدقة، وقد صح برواية زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي عليه السلام: «كان يأكل من صدقته» وأراد به الصدقة الموقوفة. ولا يحل للواقف الأكل من الوقف إلا وأن يشترطه لنفسه شيئاً من ذلك، دل أنه كان يشترط لنفسه شيئاً، وجه قول محمد: أن معنى التقرب في الوقف بإزالة الملك واشتراط كل الغلة أو بعضها لنفسه يمنع زوال الملك فيمنع صحة الوقف ومشايخ بلخ أخذوا بقول أبي يوسف، وعليه الفتوى ترغيباً للناس في الوقف. ذكر الفقيه أبو جعفر: إنه لو شرطه لنفسه أن يأكل من الغلة يجوز عند محمد، وكذلك لو شرط الغلة لإمامه فهو كان كإشراطها لنفسه، ولو شرط بعض الغلة لأمهات أولاده في حال وقفه ومن يحدث منهن بعد ذلك، وسمى لكل واحدة منهن كل سنة شيئاً معلوماً في حال حياًته، وبعد وفاته فهو جائز بلا خلاف، أما على قول أبي يوسف فلأنه لو شرط بعض الغلة لنفسه حال حياًته يجوز فهاهنا أولى، وأما على قول محمد فمشكل لأنه لا يجوز اشتراط الغلة لنفسه حال حياًته واشتراطها لأمهات أولاده حال حياًته بمنزلة اشتراطها، والوجه في ذلك لا بد من (أن يكون) صحيح، هذا الشرط بعد وفاته لأنهن يعتقن بموته فاشتراطها لهن كاشتراطها لسائر الأجانب فيجوز ذلك في حال حياته أيضاً، تبعاً لما بعد الوفاة، وهذا كما قال أبو حنيفة في أصل الوقف إذا كان قال: وقفت أرضي هذه حال حياتي وبعد وفاتي يصير (5أ3) لازما للحال وكان لزومه في الحال تبعاً لما بعد الموت، وكذلك إذا سمي ذلك لمدبريه لأنهم يعتقون بموته كأمهات الأولاد، بخلاف العبيد والإماء على قول محمد. وإذا وقف وقفاً موبداً واستثنى لنفسه أن ينفق من غلة هذا الوقف على نفسه وعياله وجهه ما دام حياً، حتى جاز الوقف والشرط جميعاً عند أبي يوسف، فإذا انقرضوا صارت الغلة للمساكين، ولو وقف وقفاً على فلان أو على أقربائه بأعيانهم، جاز ماداموا أحياًء، فإن انقرضوا رجع اليه إن كان حياً، والى ورثته إن كان ميتاً هكذا في «الأجناس» . وأشار إلى الفرق فقال في المسألة الثانية: أوجب الصدقة لهذا خاصة، فإذا مات لا ينتقل إلى غيره، وفي المسألة الأولى أجعلها صدقة موقوفة على الفقراء فقد مضت المسألة ثم أدخل الاستثناء رجعت إلى المساكين، وإذا وقف وقفاً وشرط لنفسه أن يأكل ويؤكل من أحب ما دام حياً، ثم من بعده على ولده وولد ولده ونسلهم أبداً ما تناسلوا، فإذا انقرضوا فهو على المساكين، فهو جائز عند أبي حنيفة، ولم يكن ذلك وصية للولد؛ لأن الولد يأكل من مال الله، ألا ترى أنه لو وقف على أولاده وأولاد أولاده أبداً ما تناسلوا وجعل آخره للفقراء يجوز ذلك هنا ذكره في «الأجناس» .

وفي «فتاوى أهل سمرقند» إذا وقف وقفاً وشرط لنفسه أن يأكل ما دام حياً، ثم مات وعنده معاليق وزبيب من هذا الوقف لأن المستثني يرد إلى الوقف لأن المستثنى هو الأكل، وقد تعذر، ولو كان عنده حرير ذلك الوقف يكون ميراثاً عنه لورثته ولا يرد إلى الوقف، والفرق: أنه ليس للأوصياء أن يجيزوا ما خرج من البر فإذا خرج فقد فعل ما ليس له ذلك فملكه فيصير ميراثاً لورثته، وللأوصياء أن يتجددوا المعاليق والزبيب، فقد فعل ما له ذلك، فلم يملكه فلم يصير ميراثاً لورثته فيرد إلى الواقف أن يكون هو المتولي، فعلى قول أبي يوسف: الوقف والشرط صحيحان، وعلى قول محمد وهلال: الشرط والوقف باطلان. وهذا بناء على ما تقدم أن التسليم إلى المتولي ليس بشرط لصحة الوقف عند أبي يوسف رحمه الله، وعند محمد شرط. ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : إذا شرط في أصل الوقف أن يستبدل به أرضا أخرى إذا شاء ذلك، فيكون وقفاً مكانها، فهو جائز عند أبي يوسف، يعني الوقف والشرط، وكذلك إذا شرط أن يبيعه ويستبدل بثمنه مكانه، وعند محمد وهلال: الوقف جائز والشرط باطل؛ لأن هذا الشرط لا يؤثر في المبيع من زوال الملك والوقف يتم ذلك ولا يتقدم به معنى التأبيد أصل الوقف فيتم الوقف بشروطه، ويبقى الاستبدال شرطاً فاسداً فيكون باطلاً في نفسه، وإن شرط في الوقف أن له بيع ذلك ولم يشترط الاستبدال بثمنه ما يكون وقفاً مكانه قال محمد: الوقف باطل، وعن أبي يوسف أن الوقف جائز والشرط باطل ذكره الخصاف في وقفه. ولو شرط أن يبيعها ويستبدل بثمنها أرضا فاستبدل بثمنه داراً أو عقاراً، ذكر الخصاف هذه المسألة في باب واحد في موضعين فقال في أوله: ليس له ذلك وفي أخرى قال: له ذلك. ولو اشترط لنفسه أن يبيعها وأن يستبدل بثمنها ولم يقل غير هذا، فهو باطل لأنه لم يقل ويستبدل بثمنه ما يكون وقفاً مكانه، ثم إذا جاز الوقف وشرط البيع والاستبدال بالثمن فباعه ما يتغاين الناس فيه فالبيع باطل، وإذا جاز البيع واشترى بثمنها أرضاً أخرى تكون وقفاً على شروطها، وليس له أن يبيع الثانية إلا إذا شرط ذلك في أصل الوقف، وإن باع الأرض وقبض الثمن وهلك في يده فلا ضمان، ويكون الثمن عنده أمانة، وليس له أن يبيع الأرض إلا بالدارهم في قول أبي يوسف، فإن باعها فردت عليه بعيب بعد القبض بقضاء أو غير قضاء أو بإقالة تعود وقفاً كما كانت وليس له أن يبيع الأرض بعد الإقالة، إلا أن يكون اشترط ذلك في الوقف، وإن باعها واشترى بثمنها مكانها أرضاً أخرى ثم ردت عليه الأولى بيعت بقضاء فإنه تعود كما كانت، وتكون الثانية له يصنع بها ما بدا له، فإن استحقت الأرض التي باعها من يد المشتري فالأرض الثانية لم يصنع بها ما شاء، ولا تكون وقفاً من قبل أن التي استحقت كان وقفه باطل. وسئل شمس الإسلام محمود الأوزجندي عمن وقف على أولاده وقال لهم: إن عجزتم عن أمساكه فبيعوه قال: لو كان هذا شرطاً في الوقف كان الوقف باطلاً، وهذا يجب أن يكون قول محمد، أما على قول أبي يوسف يجوز الوقف ويبطل الشرط على ما ذكرنا قبل هذا.

وإذا شرط الخيار لنفسه في الوقف ثلاثة أيام فعلى قول أبي يوسف بن خالد: الوقف جائز والشرط باطل، محمد يقول: الوقف صحته تعتمد تمام الرضا، ألا ترى أنه لا يصح مع كره؟ واشتراط الخيار يمنع تمام القبض، ألا ترى أن في الصرف والسلم لا يتم القبض مع شرط الخيار؟ وأبو يوسف يقول: الوقف يتعلق به اللزوم ويحتمل الفسخ ببعض الأسباب، واشتراط الخيار للفسخ، فيصح شرط الخيار فيه كما في البيع فان قال: أبطل الخيار، لا ينقلب الوقف جائزاً عند محمد، ذكره هلال في وقفه. إذا شرط الولاية لنفسه في عزل القوام والاستبدال بهم من يده إلى يد المتولي، جاز نص عليه في «السير الكبير» لأن هذا الشرط لا يحل لشرائط. لو وقف ولم يشترط الولاية لنفسه، وأخرجه من يده، قال محمد رحمه الله: الولاية للقيم، وليس للواقف أن يعزله، وكذا لو مات وله وصي فلا ولاية لوصيه، والولاية للقيم قال أبو يوسف: لا ولاية للواقف. وله أن يعزل القيم في حياته، وإذا مات الواقف بطل ولاية القيم عنده صحيح بدون التسليم إلى المتولي، كأن المتولي كالوكيل عنه فينعزل بموته إلا إذا جعله قيماً في حال حياته وبعد وفاته فحينئذٍ يصير وقفاً، وعند محمد التسليم إلى المتولي شرط صحة الوقف فلا يكون المتولي كالوكيل عنه فلا يملك عزله في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: ما هو قريب من هذه المسألة وصورتها: إذا أخرج الوقف من يده وسلمه إلى المتولي، ثم أراد إخراجه من يده إن كان شرط في أصل الوقف أن له الإخراج من يد القيم فله أن يخرجه من يده؛ لأن شرط الوقف مراعى، وإن لم يشترط ذلك في أصل الوقف (ليس له) أن يخرجه من يده عند أبي يوسف خلافاً لمحمد. قلنا: ذكر الخصاف في «وقفه» مسائل: على قول أبي يوسف فقال: إذا كتب في صك الوقف لا يباع ولا يوهب ولا يملك ثم قال في آخر الكتاب: وعلى أن لفلان بيع ذلك، والاستبدال بثمنه ما يكون وقفاً، فله أن يبيع ويستبدل؛ لأن العبرة للآخر والآخر ناسخ للأول، وإن قال في أول الكتاب: على أن لفلان بيع ذلك، فليس له أن يبيع، ألا ترى أن رجلاً لو اشترى داراً بمائة دينار وكتب في أول الشراء الخيار وفي أخره أنه لا خيار لفلان فيما اشترى؟ فما سمى ووصف في هذا الكتاب أن الشراء جائز وقد أبطل الخيار، وإذا شرط في الوقف أن يبيعه وأن يجعل ثمنه في وقف أفضل منه، حتى جاز الشرط والوقف عند أبي يوسف (5ب3) فله أن يبيعه، وذكر الأنصاري في «وقفه» : أنه لا يبيع إلا بإذن الحاكم، قال الأنصاري أيضاً: وينبغي للحاكم إذا رفع إليه ولا منفعة في الوقف أن يأذن له في البيع إذا رآه أحوط لأهل الوقف، فإن باعها واشترى بثمنها أرضاً كان وقفاً، وليس له أن يبيع الأرض إلا أن يشترط ذلك في أصل الوقف ذكره هلال في «وقفه» ، ولو شرط في أصل الوقف أن يبيع الوقف ويجعل ثمنه للمساكين لم يجز هذا الشرط ذكره الأنصاري في «وقفه» ، وذكر الخصاف في وقفه لو شرط أن يبيعها ويصرف ثمنها إلى ما يرى من أبواب الخير فالوقف باطل، وإن شرط في أصل الوقف أن يبيعه ولم

يبعه، لا يجوز لمن ولد بعده أن يبيعه. في «وقف الأنصاري» إذا وقف ضيعته على أن له أن يبيعها ويصرف ثمنها إلى حاجة قال: أبو نصر الوقف جائز والشرط باطل، وعن أبي القاسم نحوه، وقال أبو بكر الإسكاف: الوقف باطل، قال الصدر الشهيد: وهو المختار؛ لأنه ينعدم فيه التأبيد، وكذلك لو حبس فرساً أو سلاحاً وجعله وقفاً عشرين سنة، ثم هي مردودة إلى صاحبها لما قلنا. في «فتاوى أبي الليث «وفي «سر العيون» : حبس فرساً في سبيل الله عشر سنين ثم هي مردودة على صاحبها فهو باطل، وعن أبي يوسف بن خالد السمتي أستاذ هلال أن الوقف جائز والشرط باطل، وكذا في الوقف على شرط أن يبيعه، كما قال أبو القاسم وأبو نصر. وفي «فتاوى أبي الليث» إذا جعل فرسه للسبيل على أن يمسكه مادام حياً إن أراد الإمساك ليجاهد عليه له ذلك؛ لأنه لو لم يشترط ذلك له أن يجعل السبيل إمساكه ليجاهد وإن أراد الإمساك لينتفع به غير الجهاد لم يكن له ذلك، وصح جعله للسبيل. في «فتاوى أبي الليث» . نوع آخر لو أن رجلاً وقف أرضاً على قوم ثم من بعدهم على المساكين وشرط في الوقف أن له أن يزيد من رأى زيادة من أهل هذا الوقف وله أن ينقص من رأى نقصانه منهم وإن يدخل فيهم من رأى إدخاله ويخرج من رأى إخراجه فهو جائز على هذا الشرط فإن يزاد أحدهم منهم شيئاً على ما سمي له وأخرج منهم أحداً أو أدخل أحد أهل له بعد ذلك، أن ينقص من رأى من بعضه أو يخرج من كان أدخله. قال الخصاف في «وقفه» : إذا فعل ذلك مرة فليس له أن يصر بعد ذلك، فإذا أراد أن يكون له ذلك أبداً ما عاش يزيد وينقص ويدخل ويخرج مرة قال: يشترط ذلك ويقول في وقفه ومن زاد فلان شيئاً من غلة هذه الصدقة على ما جعله فله أن ينقصه بعد ذلك ومن نقضه فلأن شيئاً عما جعله من غلة هذه الصدقة فله أن يزيده بعد ذلك، ومن أخرجه عن هذه الصدقة، فله أن يدخل فيها بعد ذلك، ومن أدخل في هذه الصدقة، فلا يخرجه عنها بعد ذلك، هي ما رأى يفعل ذلك كله برأيه وبحصته على شبهه أبداً ما كان حياً رأياً بعد رأي ومشيئه بعد مشيئة، وإن اشترط الواقف هذه الاشياء لإنسان ما دام حياً فله ذلك، وإن اشترط لوالي هذه الصدقة من بعده ولم يشترط لنفسه. قال الخصاف: اشترط ذلك لوالي الصدقة اشتراط لنفسه، وله أن يفعل ذلك ما كان

حياً، فإذا مات كان لوالي هذه الصدقة أن يفعل ما شرط له، وكذلك لو اشترط لوالي هذه الصدقة من بعده أن له أن يبيع هذه الصدقة، وما رأى منها وإن اشترى بثمن ذلك يكون وقفاً على ما سبيله له فهو جائز واشتراط ذلك لوالي الصدقة اشتراط لنفسه ولكل واحد منهما أن يفعل ذلك ولكن الوالي يفعل ذلك بعدما مات الواقف، وإن اشترط لوالي هذه الصدقة ما دام الواقف حياً، فهذا له ولوالي الصدقة ما دام الواقف حياً، فإن مات الواقف فليس للوالي أن يفعل ذلك، وإن اشترط الواقف أن يقضي دين من عليه فذلك جائز، وكذلك إذا قال: إن مت وعلي دين يؤدى من غلة هذه الصدقة بقضاء ما علي من الدين، فإذا قضى كانت غلة هذه الصدقة بعد ذلك جارية على ما سبيلها فذلك جائز، ولو شرط أن له يعني للواقف أن ينفق على نفسه وولده ويقضي دين من عليه، فإذا حدث به حدث الموت كانت غلة هذه الضيعة لفلان بن فلان وولده وولد ولده ونسله وعقبه أو بدأ بما جعل لفلان وآخر ما يجعل لنفسه. قال الخصاف رحمه الله تقديمه وتأخيره سواء على مذهب أبي يوسف، وهو جائز على ما اشترطه. نوع آخر إذا قال: أرضي صدقة موقوفة أبداً على أن أضع عليها حيث شئت جاز، وله أن يضع عليها حيث شاء فإن وضع في المساكين، أو في الحج أو في إنسان بعينه فليس له أن يرجع عنه، وكذلك لو قال: جعلتها لفلان أو أعطيتها فلاناً فلا يرجع عنه، ولو وضعها في فريق بعد فريق جاز؛ لأن المشيئة عامة، ولو وضعها في نفسه بطل الوقف، وهذا إنما لا يتأتى على قول هلال وهذا؛ لأن الوضع قد يكون عند نفسه وقد يكون عند غيره فنفسه محل الوضع كما أن غيره محل الوضع، فإذا وضع في نفسه فهو محل أو التحق بالتعيين في الابتداء وصار كما لو شرط الوضع في ابتداء الوقف وهناك يبطل الوقف على قول هلال فهنا كذلك بخلاف ما لو قال: على أن أعطي عليها من سبب أو أدفع إلى نفسه لا يكون فلم يتناول العقد نفسه فلغى الدفع والاعطاء إلى نفسه لما لم يتناول العقد، وبقي الوقف صحيحا على ما كان. ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على أن لي أن أعطي عليها من شئت من ولدي، فالوقف صحيح وله أن يعطي من شاء من ولده؛ لأن ابتداء الوقف عليهم صحيح، ويجوز إعطاء الوقف أياً منهم. ولو أراد أن يعطي عليها جميع ولده لا يجوز؛ لأن حرف من للتبعيض، فيترك واحداً منهم. وفي الاستحسان: يجوز إذ لا يراد بمثل هذا الكلام التبعيض، وإنما يراد به إثبات الخيار لنفسه بين إعطاء الواحد وبين إعطاء الكل كما في قوله: كل من طعامي ما شئت، قال الفقيه أبو جعفر: القياس المذكور في المسألة قول أبي حنيفة، والاستحسان قولهما بناء على مسألة «الجامع» إذا قال لغيره: أعتق عبيدي من شئت، طلق من نسائي من شئت.

نوع آخر إذا قال: أرضي صدقة موقوفة لله تعالى أبداً على أن أعطي عليها من شئت من الناس، فهو جائز، وليس له أن يعطي نفسه. وإن قال بعد ذلك: جعلت عليها لفلان ما عاش، فذلك جائز ويصير كأنه سماه عند الوقف وشرط له ذلك، فإن قال بعد ذلك: حولتها عن فلان وجعلتها لفلان ليس له ذلك؛ لأن مشيئته قد انقطعت عن غلة هذا الوقف ما دام فلان حياً؛ لأن تعيينه قد صح في هذه الحالة، والتحق بالتعيين في ابتداء العقد. وهو نظير ما لو قال: أوصيت بثلث مالي إلى فلان يعطيه من شاء، فقال: فلان بعد موت الموصي: شئت أن أعطيه فلاناً، ثم قال بعد ذلك: أعطيته فلاناً آخر ليس له ذلك كذا هاهنا، فإن مات من جعل له الغلة ما عاش عادت المشيئة إلى الواقف؛ لأن جعل المشيئة إلى نفسه عاما في جميع ما يخرج الله تعالى من الغلات، وإنما قطع المشيئة في بعض الغلات وهو ما يوجد في حال حياة فلان، فتكون مشيئة باقية فيما وراءه. وإن مات الواقف قبل أن يجعل الغلة لواحد من الناس كانت الغلة للفقراء؛ لأنه لما قال في صدر الكلام: صدقة موقوفة قد جعلها للفقراء، وبقوله: على أن أعطي عليها من شئت، أستثنى عن حق الفقراء وبموته بطل الاستثناء، فعادت إلى الفقراء. ثم يدخل في هذا الوقف (الفقراء) والأغنياء بخلاف ما إذا وقف على الأغنياء، فإن ذلك لا يجوز؛ لأن الأغنياء لا انقراض لهم، فلا يتصور أن للفقراء فيه حقاً بحال وإنهم مجهولون و (هذه) الجهة ليست بقربه، وفي مسألتنا يتصور أن يكون للفقراء حق بأن يعطي الفقراء. ولو جعل غلتها لفلان سنة جاز وله أن يجعلها بعد ذلك لمن شاء، وإن جعل غلتها لرجلين فالغلة بينهما ما شاء، فان مات أحدهما فللحي نصف (6أ3) الغلة ولو قال: جعلت غلتها لولدي صح كما لو وقف عليه في الابتداء. ولو قال: جعلت عليها لأهل الدنيا الفقراء والأغنياء فالقياس أن يكون الوقف باطلاً، وفي الاستحسان: الوقف صحيح والجعل باطل، وله المشيئة على حالها لأن أصل الوقف للفقراء وإنه جائز، إلا أنه استثنى الغلة لمشئية نفسه، فإذا لم تصح المشيئة بقي الوقف على حاله والمشيئة على حالها كأنه لم يشأ أصلاً، ولو أوصى بثلث ماله وقال: فلان يعطي من شاء فذلك جائز، فإن اختار أن يضع عند ابن الميت، فإن أجاز سائر الورثة جاز، وإن أبوا بطل وعاد الثلث إلى الورثة، وليس له المشيئة بعد ذلك؛ لأن تعيين الوصي، وإنه قائم مقام الموصي كتعيين الموصي.n ولو كان الموصي أوصى لوارثه لا يجوز، فكذا إذا عين الوصي وارثه للوصية. ولو وقف في مرضه على أن يعطي فلانٌ غلتها من شاء، فاختار الوصي أن يضع ذلك في ولد الميت لا يجوز؛ لأن الوقف في المرض وصية وتعيين (الوصي كتعيين) الموصى، فكأن الواقف أوصى لولده، ويبطل الوقف قياساً كما في الوصية؛ لأن تعيين الوصي كتعيين الموصي في الوقف، فكأن الموصي وقف على ولده في المرض فهذا

كذلك. وفي الاستحسان: الوقف على الصحة؛ لأن أصله وقع صحيحاً للفقراء إلا أن الواقف جعل لفلان المشيئة، فإن شاء ما يصح به الوقف يصح وإلا يبطل مشيئته. نوع آخر إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على أن لفلان أن يعطي من شاء، فمات الواقف قبل أن يجعل فلان الغلة لأحد بطلت مشيئته قياساً؛ لأنه نائب عن الواقف في المشيئة، وموت المنوب عنه يوجب بطلان النيابة، وفي الاستحسان: له المشيئة ما دام حياً؛ لأن ملك الواقف قد زال بنفس الوقف، فلا يمكن أن يجعل فلان نائباً عنه في المشيئة، وإنما هو يصرف للموقوف عليهم، فموت الواقف لا يبطل ولايته كمن وقف وقفاً نصب قيماً، ثم مات الواقف. فإن قال: فلان أعطيتها ولدي ونسلي جاز، وكذلك لو قال: جعلتها لولد الواقف جاز. ولو وضعها فلان في نفسه لم يجز، ولو أعطاها للواقف بطل الوقف بخلاف ما إذا جعل الواقف المشيئة إلى نفسه في إعطاء الغلة، فأعطى نفسه حيث لا يبطل الوقف؛ لأن ذلك لا يكون إعطاء؛ لأن اللفظ لا يتناوله، وهنا يكون إعطاء؛ لأن اللفظ يتناوله، فيتعين الواقف بتعينه، وصار كأن الواقف وقف على نفسه فيبطل ضرورة. ولو قال فلان: جعلتها للأغنياء بطل الوقف؛ لأن تعيينه كتعيين الواقف، وكأن الواقف وقف على الأغنياء، وكذلك لو قال: جعلتها للواقف سنة ثم بعد ذلك للفقراء بطل الوقف كما لو وقف على نفسه ثم بعد ذلك على الفقراء، فإنه لا يصح؛ لأن في السنة لا يكون وقفاً وبعد السنة يكون تعليقاً بالحظر، وإنه لا يجوز. نوع آخر إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على بني فلان على أن لي (أن) أفضِّل من شئت منهم كان ذلك جائزاً، ويكون له أن يفضل من شاء ولو ردَّ المشيئة فقال: لا أشاء، أو مات كانت الغلة بين بني فلان بالسوية، ولو حرم بعضهم ليس له ذلك؛ لأنه جعل لنفسه المشيئة في تفضيل البعض على البعض لا في حرمان. وكذلك لو وقف على بني فلان على أن لفلان أن يفضل من شاء منهم، ولو كان بنوا فلان ثلاث إخوة، فقال: لأحدهم فضله بنصف الغلة فله ثلثا الغلة، والثلث للآخرين؛ لأنه جعل له نصف الغلة خاصة، ولم يتصرف في النصف الآخر بشيء، فبقي بينهم بالتسوية بأصل الوقف، فكان له من ذلك ثلثه وله النصف خاصة، فجملة ذلك الثلثان والثلث للآخرين. ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على أن لي أن أخص من شئت منهم، فهو كما قال: وله أن يخص من يشاء منهم، ولو دفع الكل إلى الكل، القياس: أن لا يجوز عملاً بكلمة (من) . وفي الاستحسان: أنه يجوز، وقد مر جنس هذا. ولو قال: لا أخص واحداً منهم هذه السنة جاز، وكان بينهم بالتسوية بأصل الوقف. ولو قال: لا أشاء أن أخص واحداً

الفصل الخامس: الإقرار بالوقف

منهم في حولي صار بينهما بالتسوية. ولو قال: على أن لي (أن) أحرم من شئت منهم، فهو كما قال، وله أن يحرم من شاء منهم. ولو حرم الكل لا يعمل تحريمه قياساً (حصته) لكلمة (من) . وفي الاستحسان: يعمل كما مر. وقيل: هو قياس قول أبي يوسف ومحمد كما ذكرنا من مسألة «الجامع» ، وإذا عمل تحريم الكل استحساناً كان الغلة للفقراء؛ لأن قوله: صدقة موقوفة يقتضي أن يكون للفقراء. ولو قال: حرمتهم سنة يكون تلك السنة للفقراء، ثم بعدها يكون لهم. ولو قال: حرمت فلاناً أو فلاناً فالبيان إليه، وإذا مات لا يكون البيان إلى الورثة. قال هلال: ولا يشبه هذا الوصية، يريد به إذا أوصى بثلث ماله لفلان أو فلان ومات الموصي كان البيان للورثة. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: مسألة الوصية على الخلاف: روي عن أبي حنيفة أن الوصية باطلة؛ لأن الموصى له مجهول، وعن أبي يوسف أن الوصية لهما لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، وبهذا الطريق قلنا: إن من أعتق أحد عبديه ومات قبل البيان شاع العتق فيهما. وعند محمد: الوصية صحيحة، والبيان للورثة. وفرق محمد بين الوصية وبين الوقف. والفرق: أن الوقف يزول عن ملك الواقف بنفس الايقاف، فحين مات لم يكن الوقف على ملكه ليخلفه وارثه في الملك، ثم ثبت له البيان بناء عليه. إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أبداً على زيد وعمرو ما عاشا، ومن بعدهما على المساكين على أن يبدأ بزيد، فيعطى من غلته في كل سنة ألف درهم، ويعطى عمرو قوته لسنة، فهو جائز على ما قال، فإن فضل بعد ذلك من الغلة شيء كان بينهما، وإن لم تكن غلته لسنة إلا ألف درهم يعطي ذلك زيداً، إذا كان أقل من ألف، فذلك كلها لزيد، فإن مات زيد ثم جاءت غلة سنة يعطى عمرو قوته لسنة، فإن كان الغلة ثلاثة آلاف درهم، وقوت عمرو لسنة ألف درهم وقع إليه ألف درهم، ويكون له تمام نصف الغلة، وذلك خمسمائة (والباقي) للمساكين، فإن لم يمت زيد، ومات عمرو أعطي زيدٌ ألف درهم الذي سمي له وتمام نصف الغلة، ويكون الباقي للمساكين. ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على زيد وخالد وعمرو، يبدأ بزيد فيكون غلة هذه الصدقة له أبداً ما عاش، ثم لعمرو فيكون غلة هذه الصدقة له أبداً ما عاش ينفد ذلك على ما ذكر من تقديم بعضهم، فإذا انقرضوا كانت الغلة للفقراء والله أعلم. الفصل الخامس: الإقرار بالوقف رجل في يده أرض، أقر في صحته أنها صدقة موقوفة، ولم يزد على ذلك جاز إقراره وهو وقف. ويجب أن يعلم بأن قول من الأرض في يده: هذه الأرض وقف إقرار بالوقف، وليس بابتداء وقف، حتى لا يشترط له شرائط الوقف، وهذا لأن قوله: أرضي

هذه دعوى الأرض (6ب3) لنفسه وإنه من تصرف الملاك، واليد عند تصرف الملك دليل الملك، وإذا ثبت الملك له، كان قوله صدقة موقوفة ابتداء وقف، ولا كذلك هذا الأرض، ألا ترى أن من قال لعبد في يده: عبدي حر، كان ابتداء إعتاق؟ ولو قال: هذا العبد حر، كان إقراراً بالعتق، كذا ههنا، قال هلال البصري في «وقفه» : ولا يجعل المقر هو الواقف لها وغيره، وهكذا ذكر الخصاف في «وقفه» ؛ لأن قوله: هذه الأرض صدقة موقوفة يتعرض لأصل الوقف، أما لا يتعرض للواقف، وكما يجوز أن يكون هو الواقف يجوز أن يكون الواقف غيره، فحكمنا بأصل الوقف؛ لأنه لا احتمال فيه ولم نحكم بكونه واقفاً، ولا يكون غيره واقفاً لمكان الاحتمال، قال هلال: إلا أن يشهد الشهود أن هذه الأرض كانت لهذا المقر حين أقر فيجعل المقر هو الواقف، وهو كرجل في يديه عبد، أقر أنه حر وشهد الشهود أن العبد كان له حين أقر بهذا الإقرار جعلت الولاية له، وإن لم يشهدوا بذلك جعلنا العبد حراً باقراره، ولم أحكم له في الولاء بشيء. ذكر الخصاف الأنصاري في «وقفه» : إذا قال: هذه الأرض التي في يدي صدقة موقوفة ويجعل كأنه هو الذي وقفها، ألا ترى أنه لو قال لعبد في يديه: إنه حر كان ولاؤه للمقر وجنايته على عاقلته؟ قال الشيخ الإمام أبو العباس: فعلى قياس هذا: إذا شهد الشهود أن الأرض في يديه هي وقف على الفقراء، ولم يذكروا من وقفها ينبغي أن يحكم أنها وقف من الذي هي في يديه وأنه هو الواقف. قال بعض مشايخنا: قول هلال إلا أن يشهد الشهود أن هذه الأرض كانت لهذا المقر حين أقر، فيجعل المقر هو الواقف مشكل، وهذا لأن الشهادة لا تقبل إلا بعد خصومة صحيحة، وعلى من يصح الخصومة هذا حتى يشهد الشهود أنها كانت في ملك يوم المقر. والجواب: يحتمل أن الخصومة وقعت بعد وفاته بأن كانت قرابته فقراء، فيقيمون البينة حتى يثبت أنه هو الواقف، فيكون صرف الغلة إليهم أولى، أو يحتمل أن في حال حياته تغلب عليها غيره، وزعم أنه هو الواقف، فيحتاج المقر إلى أن يقيم البينة أنه هو الواقف حتى ينزعها من يده والولاية له استحساناً، حتى يقسم الغلة بين الفقراء، ولكن ليس له أن يوصي إلى غيره، وهذا لأن يد المقر على الأرض حجة ظاهراً، إن كان يده هو الواقف كان يده بحصته، وإن كان الواقف غيره فكذلك لأنا نجعل كأن ذلك العين ولاه أمرها، فإن أمور المسلمين محمولة على الصلاح والسداد، واذا كانت يده محقة من حيث الظاهر، لا يجوز إبطالها عليه الحجة. رجل في يده أرض أقر أنها صدقة موقوفة من قبل فلان فهذا على وجهين: إما يكون الاضافة إلى غيره بحرف من أو بحرف عن، وإما أن يضيفه إلى والده أو إلى رجل أجنبي، وإذا أضافه إلى الأجنبي إما أن يسمي ذلك الرجل بعينه أو لم يسمه بعينه. فأما إذا أضافه إلى والده فإن أضافه إليه بحرف من بأن قال: هذه الأرض صدقة موقوفة من والدي، كان هذا إقراراً بالملك لأبيه لأن كلمة من تستعمل في العرف غالباً

(للملك) ، فقال: ادن مني فقد قرب الأرض الموقوفة إلى أبيه وتقريب عين من الأعيان إلى إنسان يكون للملك حقيقة؛ لأنه هو المقرب الكامل، فهو معنى قولنا: أقر بالملك لأبيه وأقر بالوقف عليه، فينظر إن كان على الأب دين أو أوصى بوصية وليس له مال آخر، فإنه يباع من الأرض قدر الدين والوصية، فيقضي الدين وينفذ الوصية من الثلث؛ لأن إقرار الوارث في حق الغريم أو الموصى له غير معتبر. ثم في الباقي ينظر هل للميت وارث سواه أو لم يكن، فإن لم يكن بعد إقرار الباقي من الأرض وقفها على الفقراء؛ لأنه أقر على نفسه بحق الفقراء ظاهراً؛ لأن الملك له في الظاهر، ثم ينظر إن لم يدع الولاية لنفسه، فلا ولاية له، وللقاضي أن يولي آخر من شاء، وإن ادعى الولاية قبل قوله استحساناً حملاً لأمره على الصلاح، وأما إذا كان معه وارث آخر فإن أقر الآخر بجميع ما أقرَّ به هذا الوارث كان الجواب كما قلنا، وإن أنكر الوقف كان نصيب المنكر ملكاً له يتصرف فيه كما شاء ونصيب المقر وقف. وأما إذا قال: هذه الأرض صدقة موقوفة عن والدي، فإنه يكون هذا إقراراً بالملك في الأرض لوالده ولا (يكون إقراراً) هو الواقف؛ لأن كلمة (عن) استعمل للتبعيد، ويكون معناه: وقفت هذه الأرض بسبب والدي، ولا (أقر) أنه لوالدي كما يقال: فلان تصدق عن والده كذا وفلان أعتق عن والده بكذا، واذا لم يكن هذا إقراراً بالملك لوالده لا يقبل منازعة وارث آخر أياً كان، ولكن صح إقراره أن الأرض وقف على الفقراء؛ لأنه أقر بما في يده أنه حق الفقراء ولا يجعل الواقف هو ولا غيره على ما مر، وكانت الولاية له استحساناً كما ذكرنا قبل هذا. فأما إذا أضاف الوقف إلى رجل أجنبي، فان ذكر رجلاً معروفاً سماه بعينه وكانت الإضافة بحرف (من) فإن كان ذلك الرجل في الأحياء وكان حاضراً يرجع إليه؛ لأنه أقر بالملك له وشهد عليه بالوقف. فإن صدقه في جميع ذلك (يثبت) بتصادقهما، وإن صدقه في الملك، وكذبه (في الوقفية) يثبت (الملك) بتصادقهما ولم تثبت الوقفية لكون الشاهد واحداً. وإن كان ميتاً، فالأمر إلى ورثته في التصديق والتكذيب على ما ذكرنا، فإن صدقه البعض في جميع ذلك وكذبه البعض في الوقفية، فنصيب المصدق وقف ونصيب الجاحد ملك له يتصرف فيه كما شاء. وأما الولاية ففي حال تصديق الورثة له استحساناً، فإذا صدقه البعض في الوقفية، وكذبه البعض، فلا ولاية له قياساً. قال هلال: وبالقياس نأخذ في هذه الصورة، وكذلك إذا صدقوه في الوقف وكذبه البعض في الولاية فلا ولاية له قياساً، قال: هلال آخذ فيه بالقياس؛ لأن حال تصديقهم إنما أثبتنا له الولاية لانعدام المنازع وقد وجد المنازع هاهنا فلا ولاية له لهذا. قال: إلا أن يشهد شاهدان بالولاية على الجاحدين، وشهادة الوارثين في ذلك مقبولة؛ لأنه لا تهمه في شهادتهما؛ لأنهما لا يجران إلى أنفسهما منفعة ولا يدفعان عن أنفسهما غرامة، وإن كانت الإضافة بحرف (عن) فهذا ليس بإقرار بالملك لفلان على نحو ما بينا. وأما إذا كانت الإضافة إلى أجنبي لم يسمه بأن قال: هذه الأرض صدقة موقوفة من

فلان أو عن فلان صار وقفاً؛ لأنه أقر بما في يده للفقراء، فيصح كما لو لم يضفه إلى أحد، فإن سمى بعد ذلك رجلاً لم يصدق إذا كان مفصولاً وكانت الإضافة بحرف (من) ؛ لأنه لو صدق أدى إلى إبطال حق الفقراء بعد ثبوته؛ لأن ذلك الرجل ينكر الوقف ويعتبر إنكاره؛ لأن المقر بالوقف ما أقر له بالملك في هذه الصورة، والولاية له بعد الإقرار الثاني يريد به إذا كانت الإضافة بحرف (من) ؛ لأن الإقرار الثاني كما لم يعتبر جعل كالسكوت، فلا يصير به ما كان قبله. ولو أقر (7أ3) بالوقف وسكت عن ذكر الموقوف عليه ثم ذكره بعد ذلك أن الموقوف عليه فلان وفلان فالقياس أن لايقبل قوله الثاني؛ لأن بالكلام الأول صارت الغلة حقاً للفقراء، فلا يصدق في صرفها إلى غيرهم. وفي الاستحسان يقبل؛ لأن العادة جرت بذكر الأوقاف دون الموقو ف عليه إلا عند الاستثناء وعن الموقوف عليه. ولو أقر أنها صدقة موقوفة على وجه سماها ثم بين بعد ذلك وجهاً آخر لا يقبل قوله الثاني قياساً واستحساناً، ويكون ما بين أولاً لأن في الوجه الأول الحاجة إلى البيان ما بينه، فيقبل قوله في البيان. وفي الوجه الثاني لا حاجة إلى البيان فلا يقبل وهذا أصل كبير في كتاب الإقرار أن البيان إنما يعتبر عند مساس الحاجة إليه. أرض في يدي رجل قال صاحب اليد: هذه الأرض ولايتها للقاضي فلان وهي صدقة موقوفه لم يصح إقراره؛ لأن كما قال: ولايتها للقاضي فلان هذا أقر باليد وبحق التصرف كذلك للقاضي ثم ادعى الانتقال إليه، فلا يثبت ذلك إلا بحجة، ولكن إن كان الوقف العتق يتلوم القاضي في ذلك زماناً، فإن صح أمرها وإلا جوّز إقراره وألزمه قسمة الغلة على نحو ما أقر، قال هلال: أستحسن ذلك حتى لا يؤدي إلى إبطال الوقوف في العتق، ولو قال: هذه الأرض ولايتها (للقاضي والدي) ثم توفي والدي وأوصى إلي وهي صدقة موقوفه على كذا لا يقبل قوله. وكذلك لو قال: هذه الأرض كانت في يد والدي أو قال: كانت في يد فلان، فأوصى بها إليَّ وهي صدقة موقوفة لا يقبل قوله. وكذلك لو قال: كانت في يد فلان وقد أوصى إلي، وكانت في يد فلان آخر قبل ذلك وقد أوصى بها إلى فلان الذي أوصى بها إلي لا يقبل قوله ويؤمر بالتسليم إلى وارث فلان الذي أقر أنها كانت في يده وأوصى إلى ذلك الذي أوصى بها؛ لأنه أقر باليد له ثم شهد بزوال اليد. قال الخصاف في «وقفه» : لو أن رجلاً قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على زيد بن عبد الله وولده وولد ولده ونسله وعقبه أبداً ما تناسلوا ومن بعدهم على المساكين، فقال زيد: إن الواقف جعل هذه الوقف علي وعلى ولدي وولد ولدي وعلى عمرو، فإنه يصدق على نفسه ولا يصدق على غيره، فينظر إلى الغلة عند قسمتها فيقسم على زيد وعلى من كان موجوداً من ولده وولد ولده ونسله، فما أصاب زيداً منها دخل عمرو معه في ذلك، فيكون حصة زيد بين زيد وبين عمرو أبداً ما كان زيد في الأحياًء، فإذا مات زيد بطل إقراره ولم يكن لعمرو حق في هذه الصدقة. وكذلك لو كان الواقف وقفها على زيد ومن بعده على المساكين، فأقر زيد لعمرو على نحو ما بينا كان لعمرو أن يشارك زيداً في غلة

الوقف ما دام زيد في الأحياء فإذا مات كانت الغلة كلها للمساكين. وكذلك لو أن زيداً أقر أن الواقف وقف هذه الأرض كلها على عمرو وحده، فهو على ما أقر، فإذا كانت الغلة كلها للمساكين. وفيه أيضاً: رجل في يديه أرض أو دار ادعاها رجل عند القاضي إنها له، والذي في يديه يقول: هذه الأرض وقف وقفها رجل حر من المسلمين على المساكين، ودفعها إلي، فإن القاضي يجعل الأرض وقفها على ما أقر به، ولكن لا تندفع الخصومة عن صاحب اليد بذلك، حتى أن المدعي لو قال للقاضي: حلفه ما هذه الأرض لي، فإن القاضي يحلفه، فإن نكل عن اليمين أو أقر بها لهذا الرجل، فالقاضي يضمنه قيمة الأرض ولا يبطل ما مضى به من الوقف، فإن كان الذي في يديه الدار قال: هذه الدار وقف، وقفها رجل حر من المسلمين على فلان وفلان وعلى أولادهم ونسلهم أبداً ما تناسلوا ومن بعدهم على المساكين، وقال هؤلاء الذين أقر المقر أنها وقف عليهم: إن هذه الدار لهذا المدعي، وإنها لم تكن للذي وقفها علينا، قبل قولهم على أنفسهم في غلة الدار، فيكون غلتها للمدعي إن لم يكن لهم أولاد وأولاد أولاد، فإن مات هؤلاء المسمون كانت الغلة للمساكين، فلو أن الذي في يديه الدار بعد ما أقر أنها وقف على فلان وفلان وأولادهم ومن بعدهم على المساكين إن أقر أن الدار للمدعي، ثم إن هؤلاء المسمون حضروا وكذبوا صاحب اليد في إقرار وقف لم يكن بينة على المدعي، كان له أن يستحلف هؤلاء المسمين على دعواهم، فإن أقروا بالدار للمدعي ونكلوا عن اليمين، كان إقرارهم جائزاً على أنفسهم دون أولادهم وأولاد أولادهم والمساكين وكذا لا يجوز على الرقبة. في «فتاوي الفضل» سئل عمن أقر بوقف صحيح، وأنه أخرجه من يده، ووارثه أخرجه من يده، ووارثه يعلم أنه لم يكن أخرجه من يده قال: إقراره على نفسه جائز والوقف صحيح. رجل في يديه دار وأقر الذي في يديه الدار أن هذه الدار وقف وقفها رجل من المسلمين في أبواب البر وعلى المساكين ودفعها إليه وولاه القيام بها، ثم جاء رجل وقدم صاحب اليد إلى القاضي، وقال: أنا وقفت هذا الوقف على هذه الوجوه والسبل ودفعتها إلى هذا ووليته القيام بأمرها، وأراد أن يقضيها من يدي الذي هي في يديه، ينظر إن كان الذي في يديه صدقه أنه هو الذي وقفها، فله أن يقضيها منه، وإن كان هذا الرجل الذي جاء قال: أنا مالك هذه الأرض وما وقفتها وإنما دفعتها إليه وديعة، وصاحب اليد يقول: إنها كانت له، إلا أنه وقفها على هذه الوجوه التي ذكرتها، فإن القاضي لا يقبل قول صاحب اليد لأن هذه الأرض لهذا المدعي؛ لأنه لو قبل قوله صار ملكاً لهذا الرجل فيبطل الوقف فيها. ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : أن من مات وترك ابنين وفي يد أحدهما ضيعة يدعي أنه وقف عليه من أبيه والابن الآخر يقول: هي وقف علينا، كان

الفصل السادس: في الولاية في الوقف

القول قوله، وهي وقف عليهما هو المختار؛ لأنهما تصادقا على أنها كانت في يد أبيهما فلا ينفرد أحدهما باستحقاقها إلا بالحجة. الفصل السادس: في الولاية في الوقف ذكر هلال رحمه الله: إذا وقف الرجل أرضه، ولم يشترط الولاية لنفسه ولا لغيره إن الوقف جائز والولاية للواقف، وهكذا ذكر الخصاف في وقفه. قال هلال: وقد قال قوم: إن الواقف لو شرط الولاية لنفسه كانت الولاية له، وإن لم يشترط فلا ولاية له، قال مشايخنا: الأشبه أن يكون هذا قول محمد؛ لأن من أصله أن التسليم إلى القيم شرط صحة الوقف، فإذا سلم لا يبقى له ولاية، وجه هذا القول: أن ولايته كانت بحكم الملك وبالوقف أزال ملكه فتزول ولايته، وجه ما ذكر هلال: أن الواقف أقرب الناس إلى هذا الوقف فيكون أولى بولايته، ألا ترى أن المعتق أولى الناس بالمعتق؛ لأنه أقرب إليه؟ وفي «فتاوي أبي الليث» إذا وقف أرضاً وسلمها (7ب3) إلي المتولي ثم أراد أن يأخذها منه، فإن كان شرط في الوقف أن له العزل والإخراج من يد المتولي فله ذلك، وإن لم يكن شرط ذلك، فعلى قول أبي يوسف: له ذلك، وعلى قول محمد: ليس له ذلك بناء على ما قلنا. واذا كان الوقف على الفقراء وشرط الواقف الولاية لنفسه، وكان هو منهما غير مأمون على الوقف، فللقاضي أن ينزعها من يده؛ لأن القاضي نصب ناظراً للفقراء لكل من عجز عن النظر لنفسه بنفسه، وبالوقف زال ملكه وثبت الحق فيه للفقراء، فإذا كان متهماً كان للقاضي أن يخرجه نظراً للفقراء كما له أن يخرج الوصي نظراً للصغار. وكذلك لو ترك العمارة وفي يده من غلته ما يمكنه أن يعمره فالقاضي يجبره على العمارة، فإن فعل وإلا أخرجه من يده. ولو شرط الواقف ولايتها لنفسه وأن ليس للسلطان ولا للقاضي أن يخرجها من يده ويوليها غيره، فهذا الشرط باطل؛ لأنه مخالف لحكم الشرع؛ لأن الشرع أطلق للقاضي إخراج من كان متهماً دافعاً للضرر عن الفقراء. ولو جعل الواقف ولاية الوقف لرجل، كانت الولاية له كما شرط الواقف، ولو أراد الواقف إخراجه كان له ذلك، ولو شرط الواقف أن ليس له إخراج القيم فهذا الشرط باطل؛ لأنه مخالف لحكم الشرع؛ لأن القوامة وكالة والوكالة ليست بلازمة، ولو جعل إليه الولاية في حال حياته وبعد وفاته كان جائزاً فكان وكيلاً في حال حياته وصياً بعد الموت، ولو قال: وليتك هذا الوقف فإنما له الولاية حال حياته لا بعد وفاته.H ولو قال: وكلتك بصدقتي هذه في حياتي وبعد وفاتي فهو جائز، وهو وكيله في حياًته ووصيه بعد وفاته.

و (إن) لم يشترط الواقف الولاية لأحد وحضره الموت فقال لرجل: أنت وصيي، ولم يزد على هذا فهو وصي في ماله وولده وفيما كان في يده من الوقوف؛ لأنه أطلق الوصاية ولم يخص، ولو أوصي إليه في الوقف خاصة قال محمد: هو وصي في الوقف خاصة على قولنا وقول أبي يوسف، وعلى قول أبي حنيفة: هو وصي في الأشياء كلها، هكذا ذكر هلال، والمشهور أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: هو وصي في الأشياء كلها، وعلى قول محمد: هو وصي فيما خص له، وما ذكر هلال فذاك جواب «النوادر» وهو المذكور في «مختصر الكرخي» ، فأما في «ظاهر الرواية» : فقول أبي يوسف كقول أبي حنيفة، وجه قول محمد: أن الوصي يتصرف بحكم التفويض، فإنما تصرف بقدر ما فوض إليه، ولأبي حنيفة وأبي يوسف: أن تصرف الوصي ليس بحكم التفويض، ألا ترى أنه لو أوصى إليه ولم يبين مقصوده صح؟ ولو كان تصرفه بحكم التفويض يشترط بيان مقصوده كما في التوكيل، ولكن الموصى به خلافه، وأقامه الموصي مقام الموصى والخلف يعمل الأصل على العموم كالجد لما كان خلفاً عن الأب قائماً مقامه عمل على العموم، وعلى هذا لو أوصى إلى رجل في الوقف، وأوصى إلى آخر في ولده أو أوصى إلى رجل في وقف نفسه وأوصى إلى آخر في وقف آخر بعينه كانا وصيين فيهما جميعاً وسيأتي جنس هذه المسائل في كتاب الوصايا. ولو وقف أرضه وجعل ولايتها إلى رجل، ذكر هلال عن محمد: أن الوصي يشارك القيم في أمر الوقف فكأنه جعل ولاية الوقف إليهما، فالأصل عند محمد هو قول هلال وإحدى الروايتين عن أبي يوسف: أن الخاص لا يشارك العام فيما وراء ما خص به والعام يشارك الخاص فيما يخصه وهو مقدر فيما وراءه، وعند أبي حنيفة، وأظهر الروايات عن أبي يوسف الوصاية لا تقبل التخصيص، فالعام والخاص فيه سواء. ولو جعل ولاية الوقف بعد وفاته إلى رجلين أحدهما (قبل) ذلك ولم يقبل الآخر، فينبغي للقاضي أن يجعل مع الذي حل رجلاً يقوم مقام الذي لم يقبل، فإن كان الذي حل موضعاً لذلك عند القاضي ووضع ذلك القاضي إليه فهو جائز. ولو قال الواقف: ولاية هذا الوقف إلى الأفضل فالأفضل من ولدي وإذا فضل القبول فالقياس: أن يقيم القاضي غير الأفضل مقام الأفضل مادام الأفضل حياً، فإذا مات الأفضل صرف الولاية إلى من يليه في الفضل، وفي الاستحسان: الولاية لمن يليه في الفضل؛ لأن إباء الأفضل بمنزلة موته، ولو ولى القاضي أفضلهم ثم صار في ولده من هو أفضل منه، فالولاية إليه اعتباراً لشرط الواقف، وإذا استوى الاثنان في الصلاح، فالأعلم بأمر الوقف أولى، ولو كان أحدهما أميناً ورعاً وصالحاً، والآخر أعلم بأمر الوقف فالأعلم أولى بعد أن يكون بحال يؤمن خيانته. ولو جعل الولاية إلى عبد الله حتى يقدم زيد فهو كما قال، فإذا قدم زيد فكلاهما واليان عند أبي حنيفة؛ لأنه لم يحجر على عبد الله بعد وقد قدم زيد، وعلى قول هلال: تحولت الولاية إلى زيد ولا يبقى عبد الله والياً.

الفصل السابع: في تصرف القيم في الأوقاف

وإذا جعل الولاية إلى رجل ومات ذلك الرجل حال حياة الواقف، فالأمر في نصب القيم إلى الواقف يقيم من أحب؛ لأن العين في الصدقة الموقوفة، وإن زال عن ملكه حقيقة فهو باقٍ على ملكه حكماً، ألا ترى أنه جعل متصدقاً شرعاً بكل ما يحدث من الغلة كأنها حدثت على ملكه، وجعل هو متصدقاً لها صدقة جديدة؟ فدل أنها مبقاة على ملكه حكماً فيعتبر بما لو كانت مبقاة على ملكه حقيقة وهناك التدبير في التصرف وفي نصب المتصرف إليه لا إلى القاضي كذا ههنا، هكذا ذكر المسألة في «أصل الوقف» وفي «السير الكبير» وقال محمد رحمه الله: القاضي أولى بنصب قيم آخر، وإن مات القيم بعدما مات الواقف، فإن كان القيم قد أوصى إلى غيره فوصيه بمنزلته، وإن كان لم يوص إلى غيره فولاية نصب القيم للقاضي، ولا يجعل القيم من الأجانب ما دام يوجد من ولد الواقف وأهل بيته من يصلح لذلك لأنه أشفق على الوقف من الأجنبي به، وإن لم يوجد من ولد الواقف وأهل بيته من يصلح لذلك، جعل القيم من الأجانب في هذه الصورة ثم صار فيهم من يصلح لذلك صرفه إليه، كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب الوقف، وبعض مشايخنا ذكروا في شروحهم: أنه لا يصرف إليه إلا إذا كان الواقف شرط ذلك في الوقف. المتولي إذا أراد أن يفوض إلى غيره عند الموت بالوصية يجوز، بمنزلة الوصي عند الموت، وللوصي أن يوصي إلى غيره، وإذا أراد أن يقيم غيره مقام نفسه (في) وصيته وصحته، لا يجوز إلا إذا كان التفويض إليه على سبيل العموم. الفصل السابع: في تصرف القيم في الأوقاف وهو أنواع: منه (ما) رجع إلى عمارة الوقف: رجل وقف أرضاً له على المساكين وقفاً صحيحاً ولم يذكر عمارتها في غلة هذه الأرض فهذا القيم أو لا من الغلة بعمارتها وما يصلحها (8أ3) وما فضل من ذلك يقسم على الفقراء، وهذا لأن العمارة وإن لم تكن مشروطة في الوقف نصاً فهي مشروطة اقتضاء، لأن مقصود الواقف إدرار الغلة مؤبداً على المساكين، وهذا المقصود إنما يحصل بإصلاحها وعمارتها، فهي معنى قولنا: إن العمارة مشروطة اقتضاء ثابت بطريق الضرورة والضرورة تندفع بشرط العمارة من غلة هذه الأرض، فلهذا كانت العمارة في غلة هذه الأرض، فإن كان في أرض الوقف نخلة فخاف القيم هلاكها كان له أن يشتري من غلتها فصلاً فيغرسه، لأن النخل بنسله على امتداد الزمان فتهلك فينقطع ثمرها فكان إبقاؤها بالغرس مكانها حتى يبقى خلفاً عن سلف، وهو نظير الدار الموقوفة كرم ما استرم منه بإدخال خشبته ولبن ونحوها حتى لا يخرب، فإن كانت قطعة من هذه الأرض سبخة لا تنبت شيئاً فيحتاج الي كشح وجهها وإصلاحها حتى تنبت، كان للقيم أن يبدأ من غلة جملة الأرض بمؤنة إصلاح تلك القطعة؛ لأنها إذا صلحت كبرت الغلة فكان أنفع للفقراء.

قال: إذا أراد القيم أن يبني فيها قرية ليسكن أهلها وحفاظها ويحرز فيها الغلة لحاجته إلى ذلك كان له أن يفعل ذلك، لأن هذا من جملة مصالح الوقف، وهذا كالخان الموقوف على الفقراء إذا احتيج فيه إلى خادم يكشح الخان ويفتح الباب ويسده، فسلم المتولي إلى رجل بعض البيوت بطريق الأجرة له ليقوم بذلك فهو جائز وطريقه ما قلنا كذا ههنا. وإن أراد أن يبني فيها بيوتا يصلها بالإجارة فهذه المسألة في الحاصل على وجهين: إن كانت أرض الوقف متصلة ببيوت المصر يرعب في استئجار بيوتها ويكون غلة ذلك فوق غلة الأرض والنخل كان له ذلك، وإن كان أرض الوقف بعيداً عن المصر، ولا يرغب في استئجار بيوتها بأجرة تزيد منفعتها علي منفعة الزراعة فليس له ذلك والوجه في ذلك أن الواقف ما عين جهة الاستغلال نصاً لكن عين الاستغلال بالزراعة فيجب العمل بهذا الظاهر ما لم يوجد جهة أخرى في حق الفقراء؛ لأنا نعلم قطعاً أن غرض الواقف من الوقف إنفاع الفقراء، ففي الوجه الأول وجدنا جهة أخرى هي أنفع في حق الفقراء من الزراعة، فتركنا هذا الظاهر تحصيلاً لغرض الواقف بأبلغ الوجوه، وقد روي عن محمد ما هو أبعد من هذا، فإنه قال: إذا ضعفت الأرض الموقوفة عن الاستغلال والقيم يجد بثمنها أرضاً أخرى هي أكثر ريعاً كان له أن يبيع هذه الأرض وثم يشتري بثمنها ما هو أكثر ريعاً، فأما في الوجه الثاني لم نجد جهة أخرى هي أنفع في حق الفقراء من الزراعة، فعملنا فيه بالظاهر، فلم يكن القيم في هذه الصورة مأذوناً بالبناء والاستغلال بالإجارة، فلا يكون له أن يفعل ذلك. وإذا قال: داري هذه صدقة موقوفة على الفقراء على أن سكناها لفلان ما عاش، فإذا مات فلان سكانها لفلان آخر ما عاش، فإذا مات فلان فعلى الفقراء، فهذا وقف صحيح، وإذا صح الوقف واحتيج إلى العمارة (فالعمارة) على من يستحق الغلة كما في الباب الأول إلا أن في الباب الأول المستحق للغلة الفقراء، وهم قوم كثر لا يمكن مطالبتهم بالعمارة، فقلنا: بأن القيم يبدأ من الغلة بالعمارة، وههنا المستحق للغلة شخص معين يمكن مطالبته بالعمارة وهو الأول ما عاش وبعده الثاني، فلا يحبس شيء من الغلة لأجل العمارة بل تصرف كل الغلة إلى الأوقاف ويطالب بالعمارة، وله أن يعمرها من أي مال شاء، وإنما المستحق العمارة بقدر ما يبقى الوقت على الصفة التي وقفه المالك، ولا يطالب بالزيادة إلا أن يرضى فلان بالزيادة فحينئذ يكون تبرعا بالزيادة وله ذلك. ولو كانت الغلة مصروفة إلى الفقراء وكان في زيادة العمارة زيادة في الغلة، ورأى القيم أن يزيد في العمارة لتزيد الغلة، اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا له ذلك وقاسوه بمسألة هذا أن أرضي أوقفت على الفقراء إذا كانت متصلة ببيوت المصر، فأراد القيم أن يبني فيها بيوتاً يستغلها بأجر فله ذلك وفيه صرف الغلة إلى زيادة العمارة من غير ضرورة، ومنهم من قال: ليس له ذلك؛ لأن صرف الغلة إلى العمارة ثبت ضرورة في الزيادة فوجب صرف الغلة إلى مصرفها وهو الفقراء، وهذا لأن المستحق على القيم العمارة بقدر ما تبقى

الأرض موقوفة أو الدار على الصفة التي وقفها المالك ولا ينقص لأنها بصفتها صارت غلتها مستحقة الصرف إلى الفقراء، فأما الزيادة على ذلك فليست بمستحقة عليه والغلة مستحقة للفقراء، فلا يجوز صرف غلة مستحقة إلى جهة غير مستحقة، والدليل عليه أن المتولي لو أراد أن يشتري بالغلة داراً أخرى أو أرضاً أخرى ليضمها إلى الأول، فيستغلها للفقراء ليس له ذلك، فأما بناء البيوت للغلة في أرض الوقف فليس ذلك من باب الزيادة إنما ذلك تبديل جهة الاستغلال إلى جهة خير من الأولى، فأما المستغل واحد والجهتان فيه مختلفان، فكان ذلك بمنزلة أصل العمارة لا بمنزلة الزيادة ولكن الإشكال قائم، فإنه لا ضرورة في صرف الغلة إلى تبديل جهة الاستغلال كما لا ضرورة في الزيادة ههنا. قال: فإن احتاج الوقف إلى العمارة في مسألتنا فلأن الذي شرط له الغلة ما عاش إما للأول، وأما الثاني إلى العمارة فإنه لا يجبر على العمارة لأن في العمارة إتلاف ماله ولكن لو أجر هذا الوقف من غيره بقدر ما ينفق من غلتها في العمارة، فإذا حصلت العمارة تصرف الغلة إليه وهذا لأنه لابد من العمارة كما مر، ويقدر خبرة هذا الرجل على العمارة، فحصلت العمارة في الغلة كما في باب الفقراء، وهذا الذي ذكرنا أنه لو أجر الدار من ماله وأبى البعض قال: من أراد العمارة عمر بحصته ومن أخر حصته وصرفت غلته إلى العمارة إلى أن يحصل العمارة ثم يعاد إليه، ويعتبر لكل بعض حكم نفسه فإن كان الواقف حين شرط الغلة لفلان ماعاش بشرطه على فلان مرمتها وإصلاحها فيها كأن لا بدّ لها منه فالوقف جائز مع هذا الشرط لأن هذا الشرط يقتضيه مطلق العقد، وإنما أورد المسألة بهذا الشرط لنوع أشكال أنه لما شرط له السكنى وشرط عليه المرمة كان بمنزلة الإجارة والأجرة مجهولة فينبغي أن يفسد، والجواب أن مع اشتراط المرمة عليه لا يصير إجارة؛ لأن المرمة لا تصير مستحقة عليه بالشرط، فصار وجود هذا الشرط والعدم بمنزلة، فإن خربت الدار الموقوفة ورمها الذي شرط له السكنى من ماله ثم مات فالبناء (8ب3) ميراث لورثته (فيقال لهم) ارفعوا بناءكم، فإن رفعوه ... له أن ملكوه الوقوف عليه بعد ذلك بالقيمة جاز بتراضيهم؛ لأن تمليك مال بمال بالتراضي، وإن أبى أحد الفريقين ذلك لا يجبر عليه؛ لأن الإنسان لا يجبر على البيع والشراء. ونظيره: من غصب ساحة وبنى عليها ثم مات وهناك الجواب كما قلنا فكذا في الوقف، فإن كان المشروط له السكنى أدار حيطان الدار الموقوفة بالآجر وجصصها أو أدخل فيها..... ثم مات ولا يمكن نزع شيء من ذلك إلا بضرر بالبناء، فليس لورثته أخذ شيء من ذلك صيانة لبناء الدار الموقوفة، ولكن يقال للمشروط له السكنى بعده اضمن لورثة الميت قيمة البناء ولك السكنى، فإن أبى أوخرب الدار فصرفت الغلة إلى ورثة الميت فقدر قيمة البناء، فإذا توفر عليه ذلك أعيدت السكنى إلى من له السكنى. واستشهد في «الكتاب» لإيضاح ما ذكرنا بمسألة فقال: ألا ترى أن من عمر داراً

دخل بغير إذنه لا يخلص مرمتها إلا بضرر بالدار فإنه ليس للذي عمر الدار أن يأخذ مرمتها، ويقال لصاحب الدار: ضمن له قيمة مرمته كذا هنا، إلا أنَّهُ فرّق بين المسألتين أن في مسألتنا من له سكنى الدار إذا رضي أن يأخذ ورثة الميت، أماهم لا يصح رضاهم، وفي تلك المسألة إذا رضي صاحب الدار أن يأخذ الثاني مرمته صح رضاه، وقيل للآجر: خذ مرمتك، والفرق بينهما أن صاحب الدار مالك رقبة الدار، فإذا رضي بلحوق الضرر بملكه عمل رضاه، وفي باب الوقف الموقوف عليهم الفقراء وإنما صار السكنى لهؤلاء باستثناء السكنى بهم من سكنى الفقراء فيكون الضرر برفع البناء عائداً إلى الفقراء فلا يصح رضاه، وإن كان ما رم الأول قبل تجصيص أو تطيين سطوح أو ما أشبهه ثم مات الأول، فليس لورثته أن يرجع بشيء من ذلك على الثاني، لأنها مستهلكة لها، ألا ترى أن رجلاً لو اشترى داراً وجصصها أو طين سطوحها ثم استحقت الدار لا يكون للمشتري أن يرجع على البائع بقيمة الجص وإنما يكون له الرجوع على البائع بقيمة ما يمكن أن يهدمه ويسلم إليه. ومن هذا الجنس ذكر في «فتاوي أبي الليث» : حانوت موقوف على الفقراء وله قيم بنى رجل في هذا الحانوت بناء بغير إذن القيم ليس له أن يرجع بذلك على القيم، فبعد ذلك ينظر إن كان أمكنة رفع ما بنى من غير (أن) يضر بالبناء القديم فله رفعه، وإن لم يمكنه رفع ما بنى من غير أن يضر بالبناء القديم فليس له رفعه ولكن يتربص أن يتخلص ماله إن لم يرض هو بتملك القيم البناء للوقف، وإن اصطلح مع الوصي على أن يجعل البناء للوقف ببدل يجوز لكن ينظر إلى قيمته مبنياً وإلى قيمته منزوعاً، فأيهما كان أقل لا يجاوز ذلك، قال المشروط له السكنى لا يؤاجر كالموصى له بالسكنى؛ لأنه ملك المنفعة بغير بدل. وأما المشروط له الغلة والموصى له بالغلة هل له أن يسكن مكان أبو بكر بن سعيد يقول: لا يسكن. وهكذا ذكر الخصاف في «وقفه» ؛ لأن فيه ضرراً بالميت، فربما يظهر على الميت دين، فتصرف هذه الغلة إلى قضائه وبالسكنى يبطل ذلك، وكان أبو بكر الاسكاف يقول: له أنه يسكن، وقال: ما يسقط من البناء فللقيم أن يبيعه لأن الوقفية زالت حكماً بأن فصار منقولاً، وهذا إذا لم يمكن إعادته إلى موضعه. فأما إذا أمكن أعيد إلى موضعه؛ لأنه من رقبة الوقف؛ لأن الثمن بدل ما سقط، وكذلك ما تناثر من البناء من تراب فللقيم بيعه وصرف ثمنه إلى المرمة، ولا يصرف من ثمن ما أسقط إلى الفقراء؛ لأنه بدل البعض والبعض من جملة تربة الوقف ولا حق للفقراء في تربته، وإنما الحق لهم في غلته ولا يصرف شيء من ذلك للفقراء، وإنما يصرف إلى المرمة وما فضل من ذلك عن المرمة يمسكه القيم إلى وقت الحاجة إلى المرمة، وإن كان المشروط له السكنى قبل الفقراء إنما شرطت له غلة سنة، فليس عليه شيء من العمارة؛ لأن العمارة لا تفيد إلا في السنين المستقبلة، فمنفعتها لا تصل إلى صاحب السنة، وكذلك إذا شرط له غلة سنين، فلا شيء عليه من العمارة، وأما المشروط له الغلة في ثلث سنين يؤخذ بالعمارة؛ لأن منفعة العمارة تعود إليه.

قال: ويجوز أن يقال في المشروط له غلة سنين إذا حدث صورتين في الوقف يؤمر بعمارة قليلة مقدار ما تبقى الدار الموقوفة إلى السنة الثانية نحو تطيين الحائط الذي أخذ في الخراب قدر ما يمنع السقوط في السنة الثانية ونحو سدر ما والسطوح والحيطان قدر ما يمنع الخراب في السنة الثانية، وإذا خرب أرض الوقف، وأراد القيم أن يبيع بعضاً منها ليرم الباقي بثمن ما باع ليس له ذلك؛ لأنا لو أطلقنا ذلك له أدى إلى أن يبطل الوقف كله، فإنه كلما خرب شيء منها باع بعض الباقي وعمر الباقي إلى أن لا يبقى الوقف، وليس بيع بعض الوقف كبيع بعضه وكبيع نخلة في أرض الوقف قد سقطت؛ لأن التربة أصل في الوقف، ولا يجوز إبطال أحد الأصلين لأجل الأصل الآخر، فأما البناء والنخل منع سبب الاتصال، فإذا سقط سقوطاً لا يمكن إعادته إليه صار منقولاً وزالت الوقفية إلى بدله، فإن باع عن عينه فاحلنا الوقفية إلى بدله. فإن باع القيم شيئاً من البناء لم ينهدم ليهدم او نخلة حية لتقطع فالبيع باطل؛ لأنه ما دام متصلاً بالأصل فالوقفية ثابته له بحكم الاتصال، فإن هدم المشتري البناء أو حرق النخل ينبغي للقاضي أن يخرج القيم عن هذا الوقف؛ لأنه صار خائناً، ولا ينبغي للقاضي أن يأتمن الخائن بل سبيله أن يعزله ثم القاضي إن شاء ضمن له قيمة ذلك البائع وإن شاء ضمن المشتري؛ لأن كل واحد منهما متعد في استهلاك ما استهلك فيضمن كل واحد منهما، فإن ضمن البائع نفذ بيعه، وإن ضمن المشتري بطل بيعه، وهذا عرف في كتاب الغصب. نوع منه: يرجع إلى العقود وإذا وقف داره على الفقراء فالقيم يؤاجرها؛ لأنه استغلال الوقف ولا بد للوقف منه، ويبدأ من غلتها بعمارتها وما فضل يصرف إلى الفقراء، وليس للقيم أن يسكن فيها أحداً بغير أجر؛ لأنه إتلاف منافع الوقف بغير عوض، وإن مات القيم بعد ما أجر لا تبطل الإجارة، وإن كان الواقف هو الذي أجر ثم مات ففيه قياس واستحسان، القياس أن تبطل الإجارة وبه أخذ أبو بكر الإسكاف؛ لأن الواقف بمنزلة المالك ليس لأحد حجره ومنعه، والمالك لو أجره ومات انتقضت الإجارة، وفي الاستحسان لا تنقض الإجارة؛ لأنه أجرها لغيره وهو الفقراء كالوكيل والقيم (9أ3) إذا أخذ ثم مات، وهذا لأن الإجارة إنما تنقض بموت المالك؛ لأن الملك بالموت ينتقل إلى الوارث، فلو لم يبطل حصل استيفاء المنافع على ملك غير الأجر، وإنه لا يجوز، وهذا المعنى معدوم ههنا بهذا الطريق لم تنتقض الإجارة بموت الوكيل ولم تنتقض بموت الموكل. وبهذا الطريق قلنا: الوصي إذا أجر دار اليتيم ومات الوصي لا تنقض الإجارة. ولو مات الصبي تنتقض، ولم يذكر القياس والاستحسان في الوكيل بالاستئجار إذا مات؛ لأن الوكيل بالاستئجار حاله كحال الوكيل بشراء العين؛ لأن المنافع لها حكم الأعيان؛ فيصير الموكل كأنه يملك من جهة الوكيل فيكون للوكيل حكم المالك، فأما الوكيل

بالإجارة فليس له حكم المالك؛ لأن المنافع إنما تتولد من دار هي للموكل فكان على الوكيل في العقد لا غير، وقد فرغ منه. في «واقعات الناطفي» القاضي إذا أجر الدار الموقوفة ثم عزل قبل انقضاء المدة لا تبطل الإجارة؛ لأنه بمنزلة الوكيل عن الفقراء. وفيه أيضاً دار موقوفة أجرها الوصي مدة معلومة ثم مات بعض الموقوف عليهم قبل تمام المدة لا تبطل الإجارة، فالإجارة لا تبطل بموت الموقوف عليه؛ لأنه ليس بمالك الرقبة، إنما حقهم في الغلة ثم ما وجب من الغلة إن مات هذا الميت تصرف إلى ورثته، وما وجب بعد موته فهو لمن بقي. وكذا لو مات بعضهم بعد موت الأول ثم، فهو على هذا القياس وسيأتي تمام ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى. ولا تجوز الإجارة الطويلة على الوقف، ولو احتيج إليها فالوجه في ذلك أن يعقدوا عقوداً مترادفة كل عقد على سنة فيكتب استأجر فلان بن فلان كذا بثلاثين عقدا كل عقد على سنة فيكون العقد الأول لازماً لأنه ناجز، ويكون العقد الثاني غير لازم لأنه مضاف. وإن أجر متولي الوقف داراً موقوفة أو أرضاً موقوفة أكثر من سنة، فإن كان الواقف شرط أن لا يؤاجر أكثر من سنة والناس لا يرغبون في استئجارها سنة وكانت إجارتها أكثر من سنة أدر على الوقف وأنفع لا يجوز إجارته أكثر من سنة؛ لأن شرط الواقف مراعى، فإن كان قد شرط أن يؤاجر أكثر من سنة إلا إذا كان أنفع للفقراء فحينئذ تجوز إجارته أكثر من سنة إذا رأى ذلك خيراً للفقراء، وإن لم يشترط في الوقف أن لا يؤاجر أكثر من سنة، روي عن الفقيه أبي جعفر أنه كان يقول في الدور: لا تؤاجر أكثر من سنة، وهذا لأن المدة إذا طالت أدت إلى إبطال الوقف عسى أنه متى تصرف فيه بتصرف الملاك على طول الزمان، وكل من لقيه يظن أنه متصرف في ملكه، فمتى أنكر المستأجر الوقف وادعى الملك فهؤلاء الذين لقوه يتصرف ويشهدون له بالملك. وأما في الأرض فإن كانت الأرض تزرع في كل سنة مرة فكذلك، وإن كانت تزرع في كل سنتين مرة أو في كل سنين مرة، فيزرع في كل سنة طائفة منها، فينبغي أن يشترط في المدة ذلك القدر الذي يتمكن به المستأجر من زراعة الكل على العادة؛ لأنه لو آجرها سنة والحالة هذه المستأجر يزرع كل الأرض، فيؤدي إلى تخريب الأرض. وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو جعفر البخاري يجيز في الضياع ثلاث سنين؛ لأن مصلحة الوقف في ذلك؛ لأن المستأجر لا يرغب في أقل من ذلك، وكان لا يجيز في غير الضياع أكثر من سنة واحدة، وكان الفقيه أبو الليث يجيز ذلك في ثلاث سنين في الضياع والدار وغيرها. قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : المختار أن يفتي في الضياع الجواز في ثلاث سنين إلا إذا كانت المصلحة في عدم الجواز، وهذا أمر يختلف باختلاف الموضع واختلاف الزمان، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: لا ينبغي للمتولي أن يؤاجر أكثر من ثلاث سنين، ولو فعل جازت الإجارة وصحت، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الحيلة التي ذكرناها في الإجارة الطويلة.

رجل له دار فيها موضع مقدار بيت هو وقف لا يصل إلى الموقوف عليه شيء من غلته، فأراد صاحب الدار أن يستأجره مدة طويلة، فإن (كان) لهذا الموضع سلك إلى الطريق الأعظم لا يجوز لأنه لو جاز يندرس الوقف، وإن (لم) يكن لهذا الموضع سلك إلى الطريق الأعظم (فإنه يجوز) . إذا استأجر أرض وقف ثلاث سنين بأجرة معلومة، هي أجر المثل حتى جازت الإجارة فرخصت أجرتها لا تفسخ الإجارة، وإن ازداد أجر مثلها بعد مضي بعض المدة على رواية «فتاوى سمرقند» بأن لا يفسخ العقد، وعلى رواية «شرح الطحاوي» يفسخ، ويجدد العقد، وإلى وقت الفسخ يجب المسمى لما مضى، ولو كانت الأرض بحال لا يمكن فسخ الإجارة فيها بأن كان فيها زرع لم يستحصد بعد قال: وقت زيادته يجب المسمى بقدره وبعد الزيادة إلى تمام السنة يجب أجر سنة وزيادة الأجر يقيم إذا نهاه عند الكل. هذه الجملة في مزارعه «شرح الطحاوي» حانوت وقف عمارته لآخر، أبى صاحب الوقف أن يؤجره بأجر مثله فهذا على وجهين، أما إن كانت العمارة لو رفعت يستأجر بأكثر مما يستأجر هو وفي هذا الوجه كلف رفع العمارة ويؤاجر من غيره، لأن النقصان عن أجر المثل من غير ضرورة لا يجوز، وأما إن كانت العمارة إذا رفعت لا يستأجر بأكثر مما يستأجر هو وفي هذا الوجه لا يكلف رفع العمارة ويبقى سنة في يده بذلك الأجر؛ لأن فيه ضرورة. في «فتاوي أبي الليث» في وقف الخصاف: إذا أجر الوقف إجارة طويلة إن كان يخاف على رقبتها التلف بسبب هذه الإجارة، فللحاكم أن يبطلها، وكذلك أجرها من رجل يخاف على رقبتها من المستأجر ينبغي للحاكم أن يبطل الإجارة. في «فتاوي أهل سمرقند» خان أو رباط سبيل، أراد أن يخرب يؤاجر وينفق عليه فإذا صار معموراً لا يؤاجر؛ لأنه لو لم يؤاجر يندرس فيه. وفيه أيضاً: قيم على عمارة وقف استأجر أجيراً بدرهم ودانق، وأجر مثله درهم، فاستعمله في عمارة الوقف ونقد الأجرة من مال الوقف يضمن جميع ما نقد لأن الاجارة وقعت له. متولي الوقف إذا أسكن رجلاً بغير أجر ذكر هلال أنه لا شيء على الساكن، وعامة المتأخرين من المشايخ أن عليه أجر المثل سواء كانت الدار معدة للاستغلال أو لم تكن، صيانة للوقف وعليه الفتوى. وكذلك قالوا فيمن سكن دار الوقف بغير أمر القيم وبغير أمر الواقف كان عليه أجر المثل بالغاً ما بلغ، وكذا قالوا في أهل الجماعة: إذا رمموا الوقف حتى لم يصح أو سكنه المرممون يجب أجر المثل سواء كانت الدار معدة للاستغلال أو لم (9ب3) تكن. وكذلك قالوا في متولي مسجد باع منزلاً موقوفا على المسجد، فسكنه المشتري ثم عزل القاضي هذا المتولي وولى غيره فادعى هذا الثاني على المشتري المنزل أن البيع

باطل وأبطل القاضي البيع وسلم إلى المتولي الثاني، فعلى المشتري أجر مثل هذا المنزل سواء كانت الدار معدة للاستغلال أو لم تكن. وإذا أجر القيم الدار بأقل من أجر المثل قدر ما لا يتغابن الناس فيه حتى لم تجز الإجارة لو سكنه المستأجر كان عليه أجر المثل بالغاً ما بلغ على ما اختاره المتأخرون من المشايخ، وكذلك إذا أجره إجارة فاسدة، إذا أجر القيم دار الوقف من نفسه لا يجوز، كذا ذكر هلال في «وقفه» ، وكذا (لو) أجره من عبده أو مكاتبه لا يجوز كما لو أجره من نفسه على قياس الوكيل إذا أجر من نفسه؛ لأن كل واحد منهما يتصرف بتفويض من جهة غيره. وقيل: ينبغي أن يكون هذا على قياس الوصي إذا باع مال الصبي من نفسه، إن كان فيه منفعة للوقف يجوز عند أبي حنيفة. ولو أجر من ابنه أو أبيه، هو على الاختلاف في الوكيل عند أبي حنيفة لا يجوز، وعندها يجوز، ومن مشايخنا من قال هنا: يجوز وقاسه على المضارب إذا أجر من هؤلاء، فإنه يجوز بلا خلاف، وكذلك الوصي؛ لأنهما عاما التصرف بخلاف الوكيل. ومن مشايخنا من قال: لو فرق إنسان بين المضارب والوصي وبين والي الوقف لأبي حنيفة جاز، فإن والي الوقف ليس بعام الولاية، وإن كان وصياً في الوقف، ألا ترى أنه لا يتجاوز أمر الواقف وشرطه؟ إذا أجر القيم الدار الموقوفة بعرض من العروض جاز عند أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز إلا بالدارهم والدنانير، وذكر هذه المسألة في الإجارات، وأجاب بالجواز من غير ذكر الاختلاف، والمتأخرون من مشايخنا قالوا: إنما لم يذكر محمد رحمه الله الخلاف؛ لأنه لم يكن في الأجرة تعارف في زمنهم، وذكر هلال الخلاف؛ لأنه كان الأجر تعامل كما في الثمن. قال الفقيه أبو جعفر: وفي زماننا في الأجر تعامل كما في الثمن، وبعض مشايخنا قالوا: إنما يجوز في الوقف عند أبي حنيفة رحمه الله ما تعارفه الناس أجرة وثمناً في الاجارات والبياعات مثل الحنطة والشعير، فأما العبيد فلا يجوز بالإجماع. والأب والوصي إذا أجر دار اليتيم بعرض يجوز بلا خلاف؛ لأنهما يملكان شراء العرض له، فأما قيم الوقف فشراؤه العرض على الوقف لا يجوز فكان كالوكيل، ثم إذا جاز إجارة الوقف بالعرض على قول من قال بالجواز فالقيم يبيع العرض الذي هو أجره ويجعل في سبيل الوقف. إذا أجر القيم الوقف وشرط المرمة على المستأجر بطلت الإجارة؛ لأن المرمة مجهولة إلا أن يسمي دراهم معلومة ويأمره بأن يصرفها في المرمة، وإذا كان الوقف على معينين فأجر القيم الوقف من الموقوف عليهم جاز؛ لأنه لا حق لهم في الرقبة إنما حقهم في الغلة، فصار في حق الرقبة كالأجانب إلا أنه يسقط حصة المستأجر من الأجر؛ لأنه لو أخذ منه استرد ثانياً فلا يفيد الأخذ. والموقوف عليهم لو أرادوا أن يؤاجروا لا يجوز لما ذكرنا أنه لا حق لهم في الرقبة ولا ملك قال الفقيه أبو جعفر: إذا كان الأجر كله له بأن كان الواقف لا يحتاج إلى

العمارة كالحوانيت والدور وليس معه شريك في الوقف حينئذ جازت الإجارة، وأما في الأرض إن كان الواقف شرط تقديم العشر والخراج وسائر المؤن وما فضل فللموقوف عليهم فليس لهم إجارته؛ لأن فيه إبطال (لشرط) الواقف البداية بالخراج والمؤن. بيانه: أن إجارة الموقوف عليه إنما تجوز على معنى إجارته ملك نفسه لا على اعتبار إجارته للوقف؛ لأنه ليس بمتول للوقف، وإذا كان جواز إجارته على اعتبار إجارته ملك نفسه لنفسه كان الأجر له ليس فيه خراج ولا شيء فهو على معنى قولنا: إن فيه إبطال شرط الواقف، وأما إذا لم يشترط بداية الخراج والمؤن يجب أن تجوز إجارته ويكون الخراج والمؤنة عليه، وهو نظير ما روي عن أبي يوسف في أرض الوقف إذا كان الموقوف عليهم اثنين أو ثلاثة فتقاسموا وأخذ كل واحد منهم أرضاً يزرعها بنفسه قال أبو يوسف: إن كانت الأرض عشرية جاز منها ما يأتهم، وإن كانت الأرض خراجية لا يجوز قال: لأن العشر صدقة، وما وقف عليهم كالصدقة عليهم، فصارت الجهة في جميع الغلة واحدة فأشبه سكنى الدار. إذا كان الموقوف عليهم نفراً فبدالهم أن يقتسموا وأن يسكن كل واحد منهم ناحية منها على سبيل التهايؤ إذ ليس فيه تعين شرط إذ ليس سبيل العشر أن يبدأ كما يبدأ بالخراج والمؤن، وأما في الأرض الخراجية، فإن عادة الواقفين شرطهم بداية الخراج من الغلات، ونحن لو أخرنا التهايؤ لم يكن الخراج في الغلة، بل يكون في ذمة الموقوف عليهم إذ (الحال) صورة التهايؤ، وأن يخص كل واحد منهم بما يخصه، ولما صار بالمنفعة مختصاً كان المالك، فيكون الخراج في ذمته كالمالك، فيكون فيه تعيين شرط الواقف،؛ لأن الواقف شرط أن يكون الخراج في الغلة. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: وقد احتال بعض الصكاكين في زماننا في الصكوك في إجارة الوقف لما كان الفتوى على أن إجارة الوقف لا تجوز في السنين الكثيرة فذكروا في الصك أن الواقف وكل فلان بإجارة هذه الضيعة من فلان كل سنة بكذا وهي ما أخرجه من الوكالة فهو وكيل. وأرادوا بذلك بقاء الوقف في يد المستأجر أكثر من سنة. قال الفقيه أبو جعفر: إلا أنا نبطل هذه الوكالة في الوقف، وإن كان القياس تجويزه تحرياً بإصلاح الوقف كما تبطل الإجارة. وقد اختلف نصير بن يحيى ومحمد بن سلمة في الوكالة بهذه الصفة قال نصير: يجوز، وقال محمد بن سلمة: لا يجوز، قال الفقيه أبو جعفر: إنما اختلفا لاختلافهما في معنى قولهما: مهما عزلتك فأنت وكيلي، قال محمد بن سلمة: معناه كلما عزلتك فأنت وكيلي بالوكالة السابقة، وهذا مخالف للشريعة؛ لأنهما قصدا أن لا يرد على هذه الوكالة العزل، ومن حكم الشرع أن الوكالة يرد عليها العزل. وقال نصير معناه: كلما عزلتك فأنت وكيلي وكالة مشايعه، ولو صرح بهذا يصح؛ لأن الوكالة يصح تعليقها بالشروط، فيصح تعليقها بشرط العزل قال الفقيه أبو جعفر: ونحن نبطل هذه الوكالة في الوقف؛ لأنه أصلح للوقف.

استأجر أرضاً موقوفة وبنى فيها حانوتاً وسكنها، فأراد غيره أن يزيد في الغلة ويخرجه من الحانوت ينظر إن آجره مشاهرة، فإذا جاء رأس الشهر كان للقيم فسخ الإجارة إذا كانت مشاهرة ينعقد رأس كل شهر، فبعد ذلك ينظر إن كان رفع البناء لا يضر بالوقف رفعه إن شاء؛ لأنه ملكه، وإن كان رفع البناء يضر بالوقف، فبعد ذلك المسئلة على وجهين: إن كان المستأجر يرضى أن يتملك القيم بناء الوقف بقيمته مثبتا أو منزوعاً أيهما كان أقل يملك القيم ذلك، وإن كان لا يرضى (10أ3) لا يتملك؛ لأن تملك ماله بغير رضاه لا يجوز فيبقى إلى أن يتخلص ملكه. في «فتاوى أبي الليث» في «فتاوى الفضلي» : فقير يسكن وقف الفقراء بأجر فترك له بحساب الفقراء ما وجب عليه من الأجر يجوز، فالرواية محفوظة عن علمائنا أن من له حق في مال بيت المال إذا ترك عليه خراج أرضه لمكان حقه في بيت المال جاز، هكذا قال في «فتاوى أبي الليث» . قيم وقف أجر دار الوقف فله أن يحتال بالغلة على مديون المستأجر إذا كان مليئاً، واذا كان أخذ كفيلاً فذاك أولى؛ لانه إذا أخذ كفيلاً فكان المطالب بالأجر اثنان. في آخر إجارات «فتاوى أبي الليث» : إذا باع الأشجار التي في أرض الوقف ثم أجر منه الأرض، فإن باع الأشجار بعروقها دون الأرض يجوز إذا لم تكن الإجارة طويلة؛ لأن الأرض لا تكون مشغولةً بملك الغير فيصح التسليم، وإن باع الأشجار من وجه الأرض لا تجوز إجارة الأرض؛ لأن الأرض مشغولة بملك الغير وهو عروق الأشجار فلا يصح التسليم، وإن كان قد وقع الأشجار منه معاملة سنة أو سنتين أو ما أشبه ذلك، ثم أجر الأرض منه بأجر المثل، فعلى قول أبي حنيفة لا تجوز إجارة الأرض عنده للعاملة غير الجائزة فتبقى الأرض مشغولةً بحق الأجر فلا تجوز الإجارة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله المعاملة جائزة فجازت الإجارة والاحتياط: أن يبيع الأشجار بعروقها ثم يؤاجر الأرض ليكون متفقاً عليه. وإذا أراد أن يستأجر أجراء ليعملوا في أرض الوقف جاز؛ لأن فيه منفعة راجعة إلى الوقف، مزارعة يجوز إذا لم يكن فيه محاباه راجعة إلى الوقف قدر ما لا يتغابن الناس فيها؛ لأنه إن كان البذر من قبل القيم فهو مستأجر العامل ليعمل في الوقف، وإن كان البذر من قبل العامل فقد أجر الأرض منه ببعض الخارج، وكذلك لو دفع ما فيها من النخيل معاملة يجوز، فإن مات القيم قبل انقضاء مدة المزارعة والمعاملة، وإن مات المزارع والمعامل، فإن المزارعة والمعاملة تبطلان. وإن دفع القيم أرض الوقف مزارعة سنين معلومة فهو جائز، إذا كان ذلك أنفع وأصلح في حق الفقراء جوز المزارعة سنين معلومة من غير التقدير بالثلاث، والمعنى الذي لأجله استحسن المشايخ أن لا تجوز الإجارة الطويلة على الوقف هو أن لا يؤدي إلى إبطال الوقف، عسى لا يتأتى في المزارعة يعرف بالتأمل إن شاء الله تعالى. وإذا دفع أرض الوقف مزارعة أو دفع نخيل الوقف معاملة ولا حظّ فيه للواقف لا

يجوز على الوقف ويصير غاصباً الأرض، فإن سلمت الأرض من النقصان فلا ضمان، وإن نقصت فالضمان واجب إن شاء على الآخذ ولا شيء للموقوف عليهم من الخارج من الأرض، وأما الثمار فهي للموقوف عليهم؛ لأنها تخرج من النخيل ولا شيء للمدفوع إليه من الثمار، إنما حقه في آخر عمله على الدافع في ماله خاصة ولا يرجع به على أحد ذكره هلال في «وقفه» . في «فتاوى أهل سمرقند» أرض وقف بدرعم وهي ناحية من نواحي سمرقند، استأجره رجل من حاكم درعم بدراهم معلومة وزرعها، فلما حصلت الغلة طلب المتولي الحصة من الغلة كما جرى العرف بالمزارعة بدرعم على النصف أو على الثلث، فقال الرجل عليَّ الأجر، كان للمتولي أن يأخذ الحصة؛ لأن تولية القاضي لهذا المتولي إن كان قبل تقليد الحاكم ثم دخل ذلك تحت تقليده إن كان بعد تقليده خرج عن ولاية تلك الأرض فلم يصح إجارته، فإذا زرعها وقد جرى العرف بالمزارعة على النصف أو على الثلث صار كأن المتولي دفعها إليه مزارعة على ذلك. في «فتاوى أبي الليث» : وقف ضيعة له على بنيه، فأراد أحدهم قسمتها ليدفع نصيبه مزارعة، قال: قسمة الوقف لا تجوز من أحد، وليس لأرباب الوقف أن يعقدوا على الوقف عقد مزارعه، وإنما ذلك للقيم. قال: أرض الوقف إذا كانت عشرية دفعها القيم مزارعة ومعاملة فعشر جميع الخارج في نصيب الدافع، وهذا على قول أبي حنيفة، فإن عنده في الإجارة بالدراهم العشر على الأجر كالخراج، وعندها: يجب في الخارج فكذلك في المزارعة؛ لأنه إن كان البذر من قبل رب الأرض، فهو مستأجر للعامل، فالعشر كله عليه، وإن كان البذر من قبل الزارع فالقيم يؤاجر الأرض فكان العشر عليه، وكان ينبغي أن لايجب العشر في أرض الوقف في الحاصل على الفقراء إنما وجب؛ لأن الآخذ مختلف؛ لأن حق أخذ العشر للسلطان، وله فيه حق العمالة، وإنما الوقف، فالقيم هو الذي يتصرف فيه. وهو نظير المال المنذور بالتصدق بها إذا حال الحول عليها يجب الزكاة فيها، فيؤدي صاحب المال الخمسة زكاة ويتصدق بالباقي، وإن كان المصرف في كلا الحقين واحداً. وإذا كانت الدار موقوفة على قوم أحدهما القيم فمات بعضهم قد ذكرنا قبل هذان الإجارة لا تنتقض بموت الموقوف عليه وذكرنا أيضاً أن ما وجب من الأجر قبل موت من مات منهم، فذلك ميراث لورثته وما وجب بعد موته فهو كله للباقين، فإن عجلت الأجرة واقتسمها الموقوف عليهم ثم مات أحدهم فالقياس أن تنقض القسمة ويكون للذي مات حصته من الأجرة مقدار ما عاش؛ لأن المنفعة التي تحدث بعد موته لا يتظهر ملكه ولكنا نستحسن، ولا ينقض القسمة؛ لأن القسمة قد صحت ووقع الملك لكل واحد منهم في نصيبه، فما حدث من السبب المغير في القسمة لا يقدح في القسمة الماضية كرجل مات وترك ألف درهم وعليه لرجل ألف درهم ولرجل ألفان فاقتسما الألف أثلاثاً ثم إن صاحب الألف أبرأ الميت لا تبطل القسمة كذا هنا. قال: وكذلك على هذا الشرط

تعجيل الأجرة؛ لأن الأجرة كما تملك بالتعجيل تملك باشتراط التعجيل. قال: إذا أجر الدار الوقف سنة بمائة درهم والموقوف عليهم ثلاثة نفر ثم مات أحدهم بعد مضي ثلث (السنة ثم مات الثاني بعد مضي ثلث) آخر من السنة وبقي الثالث، فإن الثلث الأول من الأجرة بين ورثة الميت الأول وبين ورثة الميت الثاني وبين الباقي أثلاثاً، والثلث الثاني بين ورثة الثاني والباقي نصفان والثلث الثالث كله للباقي، فتخرج المسئلة من ثمانية عشر، قال هلال في «وقفه» : إذا احتاجت الصدقة إلى العمارة وليس في يد القيم ما يعمرها، فليس له أن يستدين عليها،؛ لأن الدين لا يجب ابتداء في الذمة وليس للوقف والفقراء.، وإن كان لهم ذمة إلا أن لكثرتهم لا يتصور مطالبتهم فلا يثبت الدين باستدانة القيم إلا عليه لا يملك قضاؤه من غلة هي للفقراء، وعن الفقيه أبي جعفر رحمه الله أن القياس هذا، لكن يترك القياس فيما فيه ضرورة نحو أن يكون (10ب3) في أرض الوقف زرع يأكله الجراد ويحتاج القيم إلى النفقة بجميع الزروع أو طالبه السلطان بالخراج جاز له الاستدانة؛ لأن القياس يترك بالضرورة. قال: والأحوط في هذه الضرورات أن يستدين بأمر الحاكم؛ لأن ولاية الحكم أعم في مصالح المسلمين من ولايته، فيكون أنفى لشبهة عدم ثبوت الدين، ألا (أن) يكون بعيداً من الحاكم ولا يمكنه الحضور، فلا بأس بأن يستدين بنفسه. وهذا إذا لم تكن السنة غلة، فأما إذا كانت يصرف القيم الغلة على المساكين ولم يمسك للخراج شيئاً، فإنه يضمن حصة الخراج؛ لأن قدر الخراج وما يحتاج إليه الوقف من العمارة والمؤنة مستثنى من حق الفقراء، فإذا دفع القيم ذلك ضمن، وهذا الذي روي عن الفقيه أبي جعفر مشكل؛ لأنه جمع بين أكل الجراد الزرع وبين الخراج ويتصور الاستدانة في أكل الجراد الزرع مال الفقراء، وهذا الدين إنما يستدان لحاجتهم فأمكن إيجاب الدين في مالهم، فأما في باب الخراج فلا يتصور؛ لأنه إن كان في الأرض غلة فلا ضرورة إلى الاستدانة؛ لأن الغلة تباع ويؤدى منه الخراج، وإن لم يكن في الأرض غلة فليس هنا إلا الرقبة، الوقف ليس للفقراء ولا يستقيم إيجاب دين يحتاج إليه الفقراء في مال ليس لهم، فهذا الفصل مشكل من هذا الوجه إلا أن يكون تصوير المسألة فيما إذا كان في الأرض غلة وكان معه متعذراً للحال وقد طولب بالخراج ثم ما روي عن الفقيه أبي جعفر في الخروج يدل على فضل العمارة أن الوقف إذا كان محتاجاً إلى العمارة وصرف القيم الغلة على الفقراء ولم يمسك للعمارة شيئاً ينبغي أن يضمن. وإذا لم يكن للوقف غلة وقد اشتدت حاجة الوقف إلى العمارة وخيف عليه ضرر بين وقد تحقت الضرورة كما في الزرع بأكل الجراد، وكما في الخراج إذا طولب به، قالوا: وليس قيم الوقف في الاستدانة على الوقف كالوصي في الاستدانة على القيم؛ لأن القيم له ذمة صحيحة وهو ملوم فيتصور مطالبته، ألا ترى أن للوصي أن يشتري لليتيم شيئاً نسيئة من غير ضرورة.

وفي «فتاوى أبي الليث» قيم وقف طلب منه الجنايات والخراج وليس في يده من مال الوقف شيء، فإن أراد أن يستدين، فهذا على وجهين: إن أمره الواقف بالاستدانة فله ذلك، وإن لم يأمره بالاستدانة فقال: اختلف المشايخ فيه قال الصدر الشهيد: والمختار ما قاله الفقيه أبو الليث إنه إذا لم يكن من الاستدانة بد يرفع الأمر إلى القاضي حتى يأمره بالاستدانة ثم يرجع في الغلة؛ لأن للقاضي هذه الولاية. وفي «واقعات الناطفي» المتولي إذا أراد أن يستدين على الوقف ليجعل ذلك في ثمن البذر إن أراد ذلك بأمر القاضي فله ذلك بلا خلاف؛ لأن القاضي يملك الاستدانة على الوقف فيملك المتولي ذلك أيضاً بإذن القاضي، وإن أراد ذلك بغير أمر القاضي ففيه روايتان. متولي الوقف إذا رهن الوقف بدين لا يصح؛ لأن فيه تعطيل منافع الرهن، فإن سكن المرتهن فيه فعليه أجر المثل بالغاً ما بلغ سواء كان معداً للاستغلال أو لم يكن نظراً للوقف. وقد ذكرنا جنس هذه المسألة فيما تقدم. في «فتاوي أبي الليث» : أرض موقوفة في يدي أكار وكان فيه قطن فسرق القطن فوجده الأكار في منزل رجل فأخذ صاحب المنزل وخاصمه، فقال صاحب المنزل: ضمنت لك أن أعطيك مائة من القطن أيحل للقيم أن يأخذ ذلك؟ فهذا على ثلاثه أوجه: إما أن يعلم أن صاحب المنزل يعطي خوفاً من هتك الستر، أو أن يعلم أنه سرق ذلك المقدار أو أكثر أو أقر بذلك، أو علم أنه سرق لكن مما يعطي، ففي الوجه الأول: لا يجوز له أن يأخذ؛ لأنها رشوة، وفي الوجه الثاني جاز؛ لأنه أخذ بناء عليه، وفي الوجه الثالث لا يجوز إلا مقدار ما يعلم يقيناً أنه سرق؛ لأن الدين لم يكن فإذا وقع الشك فيه لا يثبت. وفي «فتاوى سمرقنديان» : أكار تناول من مال الوقف فصالحه المتولي على شيء، فهذا على وجهين: أما إن كان الأكار غنياً أو فقيراً، ففي الوجه الأول: لا يجوز الحط من مال الوقف، وفي الوجه الثاني: يجوز إذا لم يكن فيه غبن ظاهر. وفي «فتاوى أبي الليث» : أرض وقف خاف عليها القيم من سلطان أو وارث أن يغلب عليها، يبيعها ويتصدق بثمنها، وكذا كل قيم خاف شيئاً من ذلك فله أن يبيع ويتصدق بالثمن. قال الصدر الشهيد: والفتوى على أن لا يبيع؛ لأن الوقف بعد ما صح بشرائطه لا يحتمل البيع. في «فتاوى أهل سمرقند» : شجرة وقف في دار وقف خربت الدار ليس للمتولي أن يبيع الشجرة ويعمر الدار لكن يكرى الدار ويعمرها ويستعين بالأجر على عمارة الدار لا بالشجرة؛ لأنه إذا باع الشجرة لا تبقى. وإذا أجر الدار نبقى كلها. في «فتاوي الفضلي» : الأشجار الموقوفة إن كانت مثمرة لم يجز بيعها إلا بعد القلع؛

لأنها بمنزلة البناء الموقوف، وبيع بناء الوقف لا يجوز قبل الهدم، ويجوز بعد الهدم، وكذا باب الوقف لا يجوز بيعه إلا بعد الرفع كذا هذا، وإن كانت الأشجار غير مثمرة جاز بيعها قبل القلع؛ لأنها بمنزلة الغلة وقد مر مسألة الشجرة قبل هذا من غير تفصيل. وفي «فتاوى أبي الليث» : قرية وقف على أرباب مسمين في يدي المتولي، باع المتولي ورق أشجار التوت جاز؛ لأنه بمنزلة الغلة، فلو أراد المشتري قطع قوائم الشجرة يمنع؛ لأنها ليست بمبيعة، ولو امتنع المتولي من بيع المشتري عن قطع القوائم كان ذلك حسابه منه. في «فتاوى أبي الليث» : متولي الوقف إذا اشترى بغلة الوقف ثوباً ودفعه إلى المساكين لا يجوز ولكن يعطي الدراهم؛ لأن المشترى وقع للقيم بقي حق المساكين في الدراهم. ومما يتصل بهذا الفصل: ما ذكر الخصاف في «وقفه» قال: قلت في رجل وقف وقفاً صحيحاً وجعل ولايتها إلى رجل وجعل إليه القيام بأمرها في حال حياته، وبعد وفاته (جعل) لهذا الرجل من غلة هذا الوقف في كل سنة مالاً معلوماً، لقيامه بأمر هذا الوقف فما الذي يجب على هذا الرجل القيم من العمل؟ قال: ليس ذلك على ما يتعارفه الناس من القيام عمارة الضيعة واستغلال ذلك وبيع غلاته وينفق ما يجتمع من غلاته في الوجوه التي سبلها فيه، أرأيت إن لم يباشر الرجل هذا بنفسه؟ قال: إنما يكلف من هذا ما يجوز أن يفعله مثله، ولا ينبغي أن يقصر في ذلك، وأما ما كان يفعله الوكلاء والأجراء فليس ذلك عليه، ألا ترى أنه لو جعل ذلك إلى امرأة أكان عليها ما يعمله الوكلاء؟ فإن حدث بهذا القيم علة مثل خرس أو عمى أو ذهاب عقل أو الفالج هل يكون هذا الأجر قائماً له؟ قال: إذا دخل علة من ذلك شيء يمكنه مع ذلك الكلام والأمر والنهي والأخذ فالأجر قائم، فإن تعطل عن الحفظ والتدبير قطع عنه الأجر، قلت: فما تقول إن طعن عليه في الأمانة، فرأى الحاكم أن يدخل معه غيره في الوقف أو رأى الحاكم إخراج الوقف من يده وتسليمه إلى غيره، قال: أما الإخراج (11أ3) من يد هذا الرجل، فليس ينبغي أن يكون ذلك إلا لجناية ظاهرة، فإذا صح ذلك أو استحسن إخراج الوقف من يده قطع عنه ما أجرى له الواقف، وإن رأى أن يدخل معه آخر ويكون له بعض هذا المال فلا بأس بذلك، وإن كان هذا المال الذي سمى قليلاً ضيقاً فرأى الحاكم أن يجعل للرجل الذي أدخل معه رزقاً من غلة الوقف، فلا بأس بذلك.، فإن كان الواقف جعل له للقيام بأمر هذا الوقف مالاً معلوماً في كل سنة، وكان المال الذي سماه الواقف لهذا الرجل أكثر من أجر مثله على القيام به فهو جائز، ولا ينظر في هذا إلى أجر مثله، قلت: وإن كان الواقف جعل لهذا الرجل القيم في كل سنة مالاً، وجعل له أن يوكل بالقيام بأمر هذا الوقف في حياته، ويجعل لمن يوكله من هذا المال في كل سنة....... قال: هذا

الفصل الثامن: في الوقف على نفسه وما يتصل به

جائز، فإن وكل فيه وكيلاً وجعل في ذلك المال شيئاً فله إخراج الوكيل والاستبدال، فإن وكل القيم وكيلاً في حياته، أو جعله وصيه في ذلك بعد وفاته، وجعل المال الذي جُعِل له أو بعضه، ثم إن القيم الذي كان جعله الواقف جن جنوناً مطبقاً، أو ذهب عقله من أذى أو غير ذلك، قال: تبطل الوكالة التي كان جعلها إليه ويبطل المال وكذلك الوصية تبطل إلى من أوصى إليه ويبطل المال ويرجع ذلك إلى غلة الوقف، فإن جعل القيم في كل سنة مالاً ولم يشترط للقيم أن يجعل هذا المال لغيره، قال: وليس لهذا القيم أن يوصي بهذا المال ولا شيء منه إلى غيره أن يوصي بالقيام بأمر هذا الوقف. ولو زال عقله سنة وعجز عن القيام به ثم رجع إليه عقله وصح، يعود إلى ما كان من القيام بأمر هذا الوقف، وإن صح عند الحاكم أن هذا القيم لا يصلح للقيام بأمر هذا الوقف فأخرجه وجعل مكانه آخر ثم جاء حاكم فادعى أن الحاكم الذي كان قبل ذلك، إنما أوصى عن القيام بأمر هذا الوقف حتى له القيام بذلك، فإن صح عند هذا الحاكم أنه موضع لذلك رده، وأجرى ذلك المال له من غلة هذا الوقف. ولو أن القاضي أخرج هذا القيم بوجه من الوجوه وأقام غيره مقامه، فينبغي للقاضي أن يجري لهذا الرجل شيئاً بالمعروف ورد الباقي إلى غلة الوقف، فإن كان الواقف أراد أن يكون هذا المال جارياً لهذا القيم، فإن أخرجه القاضي لم يبطل عنه ذلك المال ينبغي أن يشترط في وقفه أن هذا المال جار لهذا القيم أبداً ولا يقول لقيامه بأمر الوقف، فيكون ذلك كله (له) . في «فتاوي أبي الليث» : رجل وقف على مواليه وقفاً صحيحاً، ومات الواقف (والوقف) في يد القيم، وجعل له عشر غلاته في الوقف. طاحونة في يدي رجل بالمقاطعة، لا حاجة لها إلى القيم وأصحاب الطاحونة يقضون عليها لا يجب عشر غلة الطاحونة؛ لأن بمنزلة الأجير، والأجير مستحق الأجر بإزاء العمل فلا عمل له في الطاحونة. في «مجموع النوازل» : متولي وقف بتقليد القاضي امتنع عن العمل في ذلك بنفسه ولم يرفع الأمر إلى القاضي ليعزله ويقيم غيره مقامه، هل يخرج عن كونه متولياً؟ قال نجم الدين رحمه الله: فإن امتنع عن القاضي ما على المتغلبين زماناً ولم يقبضه هل يأمر بذلك؟ قال نجم الدين: لا، فإن هرب بعض المتغلبين بعدما اجتمع عليه مال كثير من حق القتالة هل يضمن المتولي؟ قال نجم الدين: لا. الفصل الثامن: في الوقف على نفسه وما يتصل به إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على نفسي قال هلال: لا يجوز؛ لأن الواقف لو شرط لنفسه أن يأكل من غلته على قول أبي يوسف: يجوز، على ما مر، وليس عن محمد

رواية ظاهرة في هذه الصورة، واختلف المشايخ على قوله. بعضهم قالوا: لا يجوز عنده؛ لأن عنده الإخراج عن يده والتسليم إلى متولٍ شرط، وإذا كان الوقف على نفسه كان المتولي قابضاً للواقف فكأنه لم يخرج من يده. وبعضهم قالوا على قول محمد يجوز فقد ذكر محمد في آخر كتاب الوقف إذا وقف على أمهات أولاده يجوز، والوقف على أمهات الأولاد كالوقف على نفسه. وكان الفقيه أبو بكر الإسكاف يجيز أن يشترط لنفسه الأكل، فيقول: على أن آكل منها ولا يجيز الوقف على نفسه، وكان يقول: الوقف على نفسه خرج مخرج الفساد فبطل، وشرط الأكل لنفسه خرج بعد خروج الوقف على وجه الصحة، فوجه قول أبي يوسف: أن قوله أرضيَّ صدقة موقوفة وقف صحيح تام على الفقراء فبفوات معنى الصدقة في الاستثناء لا يبطل أصل الوقف كما لو قال: أرضيَّ هذه صدقة موقوفة على فلان، وجه قول هلال: أن الإنسان لا يكون متصدقاً على نفسه كما لا يكون واهباً من نفسه؛ لأن كل واحد منهما تمليك والتمليك من نفسه لا يتصور، فذهب معنى القربة فينبغي الحبس مطلقاً، ومَاْلُه يكون محبوساً عليه قبل الوقف، فلا معنى للاستغلال بالحبس على نفسه بخلاف الغني؛ لأن التمليك منه متصور، وفيه نوع قربة ولكن دون قربة الفقراء؛ فأما هنا فأصل التمليك لا يتصور. وكان ينبغي على قول هلال أن يلغي ذكر نفسه ويجعل وقفاً على الفقراء كما لو قال: أرضي صدقة موقوفة على الموتى، فإنه يكون وقفاً صحيحاً على الفقراء، ويلغوا ذكر الموتى، والفرق بينهما على قول هلال أن الميت في نفسه ليس من أهل التمليك، فلغت الإضافة إليه، أما نفسه من أهل التمليك في الجملة ولكن تمليكه من نفسه لا يتصور، فمن حيث إنه أهل التمليك في الجملة اعتبرت الإضافة، ومن حيث إن تمليكه من نفسه لا يتصور لا تعتبر الإضافة، عند الوقف. فإذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على أمهات أولادي، أو قال: على عبيدي فالوقف باطل، وهذا إنما يتأتى على قول هلال؛ لأن الوقف على أمهات أولاد والعبيد كما (لو) وقف على نفسه، ولو قال: أرضيَّ هذه صدقة موقوفة عليَّ ومن بعدي على فلان كان باطلاً، وكذلك إذا قال: صدقة موقوفة على فلان ثم من بعده عليَّ كان باطلاً على قول هلال، بخلاف ما إذا قال: أرضي صدقة موقوفة عليَّ وعلى فلان حيث يصح نصفه وهو حصة فلان؛ لأن في الفصل الأول أثبت الغلة كلها لفلان في زمان ولنفسه في زمان، وشرط الكل لنفسه في زمان مبطل الوقف، وفي هذه المسألة ما أثبت الغلة كلها لنفسه في زمان بل أثبت الحصة بين نفسه وبين فلان في الغلة في جميع الأزمان. ولو أفرد الوقف على نفسه لا يصح ولو أفرد على غيره يصح، فإذا جمع بينهما كان بينهما وكان لكل واحد حكم نفسه. وكذلك إذا قال: صدقة موقوفة على نفسي وولدي ونسلي كان الوقف كله باطل؛ لأن حصة النسل مجهولة وهذا على قول هلال أيضاً.

الفصل التاسع: في الوقف على ولده وولد ولده ونسله وما يتصل بذاك

الفصل التاسع: في الوقف على ولده وولد ولده ونسله وما يتصل بذاك إذا وقف الرجل أرضه على ولده ومن بعده على المساكين وقفاً صحيحاً، فإنما يدخل تحت الوقف الولد الموجود يوم وجود الغلة سواء كان موجوداً (11ب3) يوم الوقف أو وجد بعد ذلك وهذا قول هلال. وبه أخذ مشايخ بلخ، وقال يوسف بن خالد السمتي: يدخل تحت الوقف الولد الموجود يوم الوقف، وأراد بهذا الوجود: الخلق، على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، قال: لأن الحق إنما يملكه في الوقف يوم الوقف بدلالة أن الواقف لا يقدر على الرجوع منه على قول مجيزي الوقف، ولا يملك إدخال غيرهم عليهم ويعتبر شرط يوم الوقف فصار يوم الوقف كيوم موت الموصي في الوصية. ومن أوصى لولد عبد الله، ننظر إلى ولد عبد الله يوم موت الموصي في الوصية كذلك ههنا. ووجه قول هلال أن الموقوف عليه لا يملك الرقبة، بل يملك الغلة، والغلة معدومة يوم الوقف والمعدوم لا يملك، وإنما يملك الموجود، فصار في حق الموقوف عليه يوم وجود الغلة كيوم موت الموصي في حق الموصى له وفي حق الواقف رقبة الوقف تزول عن ملكه يوم الوقف فروعي شرطه يوم يزول ملكه. ولو قال: على ولدي وعلى من يحدث لي من الولد، فإذا انقرضوا فعلى المساكين، فالجواب عليه كالجواب في الفصل الأول، وهو أنه ينظر إلى ولده يوم وجود الغلة؛ لأن قوله وعلى من يحدث لي من الولد شرط لو لم يذكر لكان معتبراً، فإنه لو حدث له ولد بعد الوقف قبل الغلة يشاركهم، فإذا شرط كان الشرط تأكيداً لمقتضاه لا تغييراً. (ولو) قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على من يحدث لي من الولد وليس له ولد، فإنه يجوز، فإذا أدركت الغلة قسمت على الفقراء، فإن أحدث له ولد بعد ذلك فلاحظ له من هذه الغلة؛ لأن أوان استحقاق هذه الغلة سبق حدوث هذا الولد، ولكن الغلة التي توجد بعد ذلك تصرف إلى هذا الولد ما بقي، فإذا لم يبق له ولد صرفت الغلة إلى الفقراء؛ لأن قوله صدقة موقوفة تكون وقفاً على الفقراء، وذكر الولد لاستثناء الغلة من الفقراء فصار كأنه قال: أرضي موقوفة على الفقراء إلا أنه إن حدث لي ولد فغلتها له ما بقي، فإن ولدت امرأته الحرة أو أم الولد الولد بعد مجيء الغلة لأقل من ستة أشهر يشركهم هذا الولد في هذه الغلة؛ لأنه كان موجوداً وقت مجي الغلة. وإن جاءت لستة أشهر فصاعدا لم يشركهم؛ لأن استحقاقهم ثابت ظاهراً، ووجوده في ذلك الوقت مشكوك فيه لجواز أنه حدث من بعد، فلا تثبت مزاحمته بالشك، ولو كان له أمة فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم وجدت الغلة فادعاه يثبت نسبه منه، ويكون ابنه ولا يدخل في هذه الغلة، ويدخل فيما يأتي بعد ذلك من الغلات، ولا يصدق على هذا الرجل على أن يدخل مع أولاده الذين استحقوا هذه الغلة ولد لا يعرف إلا بقوله، فإن مات الواقف ساعة جاءت الغلة فجاءت امرأته بولد ما بينها وبين سنتين من الساعة

التي جاءت فيها الغلة شرك الأولاد في الغلة؛ لأن المتوفى عنها زوجها إذا جاءت بولد ما بينها وبين سنتين وقت الوفاة يثبت النسب على ما عرف في كتاب الطلاق فإن عاش بعد إدراك الغلة من الوقت ما يمكنه الوصول إلى أهله فمات فجاءت امرأته بولد ما بينها وبين سنتين من وقت إدراك الغلة لاحق لهذا الولد في هذه الغلة لعلمها بوجوده حين مجيء الغلة، ولو كان الموت قبل مجيء الغلة بيوم أو بيومين ثم جاءت بولد ما بينها و (بين) سنتين من وقت الموت كان لهذا الولد حصته، في هذه الغلة؛ لأن الموت لو كان وقت مجيء الغلة كان للولد حصته فإذا كان قبله أولى؛ لأنه أدلُّ على وجود الولد عند الغلة، وكان النسب ثابتاً فلهذا يستحق. ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على ولدي الذين يسكنون البصرة، فالغلة لساكني البصرة من ولده دون غيرهم فيثبت الاستحقاق لولده بصفة أن يكون ساكن البصرة، فتعلق الاستحقاق بالولادة وسكنى البصرة جميعاً، ويعتبر ساكني البصرة يوم وجود الغلة على ما مر من ولده، ولو قال: أرضي صدقه موقوفة على ولدي العور والعميان، فالوقف لهم خاصة دون غيرهم؛ لأنه علق الاستحقاق بصفة العور وصفة العمى فيتعلق بهما. ويعتبر العور والعميان من ولده يوم الوقف لا يوم الغلة. وكذلك إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على أصاغر ولدي، يعني ولدي الصغار، فالوقف للصغار دون الكبار، ويعتبر الاستحقاق من كان صغيراً وقت الوقف لا وقت الغلة، وأما العور والعميان فلأن العور والعمى وصف لازم لا يزول، وقد ذكره لزيادة التعريف، فجرى مجرى اسم العلم، ولو ذكر باسم العلم بأن قال: أرضي صدقة موقوفة على فلان ولدي اختص فلان بالاستحقاق من جملة أولاده، فلو ولد بعد ذلك له ولد آخر وسماه بذلك الاسم لم يشارك الثاني الأول في الاستحقاق، فكذلك في العور والعمى. وأما الصغر، وإن كان مما يزول بالكبر ولكنه يزول زوالاً لا يعود بخلاف الفقراء وساكني البصرة؛ لأن الفقر يزول عن الإنسان ويعود، فتارة يستغني، فلم يكن الثبوت تاماً ولا الزوال. وكذلك السكنى. فصار الحاصل أن الاستحقاق إذا كان ثابتاً بصفة لا تزول أو تزول ولكنها لا تعود بعد الزوال، يعتبر في الاستحقاق قيام تلك الصفة وقت مجي الغلة، فعلى هذا الأصل يدور جنس هذه المسائل. إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على ولد فلان، وليس لفلان ولد لصلبه وله ولد الولد يريد به ولد الابن كانت لولد الابن. ولو كان لفلان ولد لصلبه وولد الولد فلا شيء لولد الولد. وكذلك هذا في ولد الواقف وولد ولده، وهذا؛ لأن اسم الولد عند الاطلاق يتناول ولد الصلب ولا يتناول ولد الولد؛ لأن المطلق من الأسامي يتناول المطلق من المسميات، وولد الانسان مطلقاً ولد لصلبه؛ لأنه يولد منه بلا واسطة، أما ولد الولد يولد منه بواسطة فكان ولداً مقيداً. والمقيد لا يدخل تحت المطلق إلا لدليل، ففيما إذا لم يكن له ولد لصلبه وجد دليل، وهو صيانة تصرفه؛ لأنه إذا لم يكن له ولد لصلبه لو لم يحمل

على ولد الابن يلغوا تصرفه، ومثل هذا الدليل لم يوجد فيما إذا كان له ولد لصلبه. إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على ولدي انصرف إلى البطن الأول يريد به ولد صلبه ولا يشارك البطن الثاني البطن الأول يريد بالبطن الثاني ولد الابن، فما دام واحد من البطن الأول فالغلة له، وإن لم يبق واحد من ذلك البطن فالغلة للفقراء ولا يصرف إلى البطن الثاني، فإن لم يوجد البطن الأول ووجد البطن الثاني وهو ولد الابن، فالغلة للبطن الثاني ولا يشاركه من دونه من البطون، وجعل الحال في حق ما بين البطن الثاني ومن دونه من البطون كالحال في حق ما بين البطن الأول والثاني ولو عدم البطن الأول والثاني ووجد البطن الثالث والرابع ومن دونه اشترك البطن الثالث ومن دونه من البطون، وإن كثرن البطن (12أ3) الثالث قد فحش بعده كالبطن الرابع والخامس، ألا ترى أنك إذا نسبت إلى الأب الأعلى بذكر الوسائط، فتقول ولد ولد ولد فلان فتذكر ثلاثة أباء والثلاث جمع صحيح؟ فثلاث إلى النسبة بعيد والبعيد إذا فحش يتعلق الحكم بنفس الانتساب، كما لو أوصى لبني تميم، أو لبني هاشم، أو لأولاد أبي بكر انصرف إلى منتسبهم، ويستوي فيه من بعدت ولادته ومن قربت كذا ههنا، فأما في البطن الثاني فالبعد غير متفاحش، ألا ترى أنك إذا نسبته إلى الأب الأعلى بذكر واسطتين؟ فتقول هذا ولد ولد فلان فلا يتعلق الحكم بنفس الانتساب؟ وكل جواب عرفته في الوقف على ولده فهو الجواب في الوقف على ولد فلان. ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على ولدي وولد ولدي اختص به البطن الأول، و (لو) لم يذكر غيره اختص به البطن الأول، فإذا ذكرهما اختصا به، لو قال: على ولدي وولد ولدي فالقياس أن يختص به البطون الثلاث كما قلنا في البطنين. وفي الاستحسان إن اشترك البطون كلها، وإن سفلوا، لما ذكرنا أن البعد إذا فحش يعتبر مجرد النسبة ويسقط اعتبار الأقرب. وإذا وقف أرضه على ولده وليس له ولد لصلبه وله ولد الابن صرفت الغلة إلى ولد الابن، فإن وجد له ولد لصلبه بعد ذلك صرفت الغلة المستقبلة إلى الولد لصلبه؛ لأن كل غلة تدرك، فإنما ينظر إلى مستحقها وقت الإدراك، ولا ينظر إلى ما مضى لما مر، فإذا وجد وقت الإدراك من سماه الواقف، صرفت الغلة إليه سواء كان موجوداً يوم الوقف أو حدث بعده. ألا ترى أن من جعل أرضه صدقة موقوفة على ولده وليس له ولد صرفت الغلة إلى الفقراء؟ فإن حدث له بعد ذلك ولد صرفت الغلة المستقبلة إليه كذا ههنا. إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على بني وله ابنان فصاعداً استحقا جميع الغلة، وإن حصل الإيجاب بلفظ الجمع؛ لأن في المثنى معنى الجمع من وجه يضم الواحد إلى الواحد، ألا ترى أن في باب الوصية أعطى المثنى حكم الجمع؟ وكذا في الوقف نظير الوصية، ولو لم يكن له إلا ابن واحد، كان للابن نصف الثلث والنصف الآخر للفقراء، ألا ترى أن من أوصى بثلث ماله لبني فلان وليس لفلان إلا ابن واحد كان للابن نصف الثلث؟ والثلث الآخر يكون لورثة الموصي وليس اسم الابن كاسم الولد، فإنه إذا وقف

على ولده وله ولد واحد كان جميع الغلة له، ولو كان له أولاد قسمت الغلة بينهم؛ لأن الولد بصيغته اسم وجدان وبمعناه اسم جنس؛ لأن معنى الولادة يعم الجنس واحداً كان أو جماعة فيصح صرفه إلى الواحد بصيغته وإلى الجمع بمعناه بخلاف قوله بني؛ لأنه اسم جمع بصيغته وبمعناه حتى لو قال: أرضي صدقة موقوفة على ابني وله ابن واحد كان له جميع الغلة؛ لأن الابن اسم وجدان بصيغته، فإنما أوجب الغلة للواحد. ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على بني وله بنون وبنات قال هلال: هم جميعاً في الوقف سواء؛ لأن البنين والبنات عند الاجتماع تسمى بنين، وهكذا ذكر الحصاف في «وقفه» ، ورواية عن أبي حنيفة وعن يوسف بن خالد السمتي فيمن أوصى بثلث ماله لبني فلان وله بنون وبنات فالثلث لهم جميعاً وهم فيه سواء، فكذا الوقف. قال هلال: وروى يعقوب عن أبي حنيفة أن ذلك للبنين دون البنات، علل فقال: ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال: هذه المرأة من بني فلان؟ بعض مشايخنا على أن مسألة روايتان عن أبي حنيفة وبعضهم وفق بين الروايتين، فقال: ما روي أنه يدخل فيه البنين والبنات مجعول على ما إذا كان فلان أب قبيلة، كبني تميم، وما روى أنه لا يدخل فيه البنات، مجعول على ما إذا كانوا بني أب يحصون، وقد أشار في التعليل إلى ما قلنا، حيث قال: لا يحسن أن يقال: هذه المرأة من بني فلان، وهذا إنما يستقيم فيما إذا كانوا بني أب يحصون صح ذلك، فإنه يستقيم أن يقال: هذه المرأة من بني تميم، ونحوه. روي عن أبي يوسف في الوصي، فإنه قال: الثلث للبنين دون البنات، إلا في كل أب يحسن أن يقال هذه المرأة من بني فلان مثل فخذ أو قبيلة. ولو قال: على بني وليس له بنون وله بنات فالغلة للفقراء ولا شيء للبنات؛ لأن اسم البنين لا يتناول البنات المفردات، وكذلك إذا قال: على بنات وله بنون فالغلة للفقراء ولا شيء للبنين، ولو كان الوقف باسم الولد دخل فيه البنون والبنات؛ لأن الولد اسم مشتق من الولادة، وهذا المعنى يوجد في الفريقين. ولو قال: على ولدي وليس له ولد لصلبه، وإنما له ولد الولد دخل فيه ولد الابن بلا خلاف وقد مر هذا، وهل يدخل فيه ولد البنت؟ ذكر هلال أنه لا يدخل، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» .h وفي شروط «الخصاف» أن ولد البنت يدخل في هذا، الوقف فصار في المسألة روايتان وفي كتاب الحج على أهل المدينة لمحمد بن الحسن رحمه الله في قوله ولد الولد أنه يدخل فيه ولد الابنة عند أصحابنا رحمهم الله، وفي «مسائل علي الرازي» جمعها في الحسابيات: إذا وقف على أولاده وأولادهم دخل فيه ولد الابن وولد الابنة. وفي «السير الكبير» : إذا استأمنوا على أولادهم دخل فيه ولد الابن، وهذا؛ لأن ولد الولد حقيقة اسم لابن ولده وولده، وابنته ولده، فمن ولديه ابنته، يكون ولد ولده حقيقة بخلاف ما لو استأمنوا على أولادهم؛ لأن أولاد الرجل في الحقيقة من ولدهم هو ومن حيث الحكم من يكون منسوباً إليه بالولادة، وذلك أولاد الابن دون أولاد البنات.

وإذا وقف على نسله دخل فيه ولد الابن وهل يدخل فيه ولد الابنة؟ ذكر هلال أن فيه روايتين عن أصحابنا، وإذا وقف على ولده ونسله وله أولاد الصلب وأولاد الأولاد، وإن بعدت ولادتهم، فأولاد الصلب يدخلون تحت اسم الولد وتحت اسم النسل، وأولاد الأولاد يدخلون تحت اسم النسل، ولواقف على ولده ونسله وليس له ولد لصلبه، وإنما له ولد الولد دخل ولد الولد في الوقف باسم الولد والنسل، فإن حدث له ولد لصلبه دخل في الوقف أيضاً باسم الولد والنسل. ولو قال: على ولدي المخلوقين ونسلي، دخل الولد الحادث لصلبه في الاستحقاق بلفظ النسل إلى نفسه والولد الحادث من نسله، بخلاف ما إذا قال: على ولدي المخلوقين ونسلهم حيث لا يدخل في الاستحقاق ما حدث له من ولد الصلب؛ لأنه أضاف الاستحقاق في حق أولاده لصلبه إلى المخلوقين، والمعدوم لا يكون مخلوقاً، وفي حق النسل أضاف الاستحقاق إلى النسل المضاف إلى أولاده. وكذلك إذا قال: على ولدي المخلوقين وعلى أولادهم لا يدخل في الاستحقاق من حدث له (21ب3) ولد لصلبه ولو قال: على ولدي المخلوقين وأولاد أولادهم ونسلهم دخل أولاد المخلوقين فيه وأولادهم أبداً ما تناسلوا، وهذا؛ لأن قوله: أولاد أولادهم، إن كان خاصاً في أولاد الأولاد، فالنسل عام، فيدخل في الاستحقاق أولاد أولاد الأولاد بالنسل، ولو قال: على ولدي المخلوقين وأولاد أولادهم وسكت؛ لم يكن لولد ولده شيء؛ لأنه يثبت الاستحقاق لأولاده القيام ولأولاد أولادهم، فلا يكون لولد الولد شيء. ولو قال: على عبد الله وزيد وعمرو ونسلهم دخل عبد الله في الاستحقاق وزيد وعمرو وأولادهم أبداً ما تناسلوا؛ لأنه نص على الأصول الثلاثة وعلى نسل المضاف إليهم. ولو قال: على عبد الله وزيد وعمرو ونسله دخل في الاستحقاق عبد الله وزيد وعمرو ومن حصل من أولاد عمرو خاصة؛ لأنه ذكر النسل بطريق الكناية عن واحد منهم والكناية تنصرف إلى أقرب المكني ذكراً وأقربهم هنا عمرو. ولو قال: على عبد الله وزيد وعمرو ونسلهما دخل في الاستحقاق عبد الله وزيد وعمرو ودخل أولاد زيد وعمرو؛ لأنه ذكر النسل بطريق الكناية عن اثنين، فينصرف إلى اثنين وهما عمرو وزيد، وعلى هذا القياس يخرج جنس هذه المسائل. ولو قال: على ولد عبد الله وعلى ولد زيد، وليس لزيد ولد كانت الغلة كلها لولد عبد الله، وهو نظير الوصية، فإن من أوصى بثلثه لولد عبد الله ولولد زيد وليس لزيد ولد كان الثلث كله لولد عبد الله. ولو قال: على بني فلان ثم من بعدهم على المساكين وليس لفلان إلا ابن واحد، فله نصف الغلة. ولو قال: على ولد فلان ثم من بعدهم على المساكين، وليس لفلان إلا ولد واحد، فالغلة كلها له، وقد مر جنس هذا فيما تقدم. ولو قال: على ولدي وولد ولدي الذكور، فإنه يدخل في الاستحقاق بنوه وبنو بنيه

وبنو بناته، وهذا على الرواية التي قال: ولد البنت يدخل في هذا الباب، فقد جعل قوله الذكور راجعاً إلى الولد الأول والثاني ذكراً، ولم يجعل راجعاً إلى الولد الآخر ذكراً، وإن كان الولد الآخر ذكراً أقرب إلى لفظ الذكور إذ لو جعل كذلك دخل في الوقف البنون والبنات من صلبه؛ لأن البنين والبنات من ولده، ولم تدخل البنات في هذا الوقف، وإنما كان كذلك؛ لأن المقصود من ذكر الذكور تعريف المستحقين، والمستحقون الولد وولد الولد، فيرجع نعت الذكور إليهم، كأنه قال: على ولدي الذكور وعلى الذكور من ولد ولدي. ولو قال: على ولدي وأولاد الذكور من ولد ولدي كان هذا وقفاً على البنين والبنات من بنيه؛ لأن الذكور هنا مضاف إليهم والمضاف إليهم في أولاد أولادهم إلا ما دون المستحقين. إذا قال في صحته: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى أبداً على ولدي وولد ولدي وأولاد أولادهم ونسلهم أبداً ما تناسلوا، فإنه يدخل في هذه الصدقة كل ولد كان له يوم وقف هذا الوقف، وكل ولد يحدث له بعد هذا الوقف قبل حدوث الغلة وولد الولد أبداً، ومن مات منهم قبل حدوث الغلة سقطت حصته، ومن مات بعد ذلك استحق سهمه ويكون ذلك لورثته، والبطن الأعلى والبطن الأسفل في ذلك على السواء، إلا إذا قال في وقفه: على أن يبدأ في ذلك بالبطن الأعلى منهم، ثم بالبطن الذي يلونهم.، فإن قال على هذا الوجه، فمات البطن الأعلى وبقي ولده كانت الغلة كلها لهذا الباقي وحده دون البطن الذي يليه. المحيط البرهانى وإن قال: على أن يبدأ بالبطن الأعلى من الذين يلونهم على أن ذلك بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، فجاءت الغلة والبطن الأعلى ولا أنثى معهم، أو إناث لا ذكور معهن، فذلك كله بينهم على السواء، وهذا بخلاف الوصية، فإن من أوصى بثلث ماله لولد زيد بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وكان لزيد ثلاث بنين، فالثلث بينهم يقسم عليهم، وعلى بنت لو كانت معهم، فما أصاب الابنة من الثلث يرد على ورثه الموصي؛ لأن ما يبطل من بالوصية يعود إلى التركة ويكون ميراثاً والوقف لا يكون كذلك. وإن قال: على ولدي وولد ولدي أبداً ما تناسلوا ولم يقل بطناً بعد بطن، لكنه قال: كلما مات أحد كان نصيبه من هذه الغلة لولده، فالحكم قبل موت بعضهم ما ذكرنا أن الغلة تكون لجميع ولده وولد ولده ونسله بينهم بالسوية. وإن مات بعض ولد الواقف لصلبه وترك ولدا ثم جاءت الغلة، فالغلة تقسم على عدد القوم على الولد وولد الولد، وإن سفلوا، وعلى الذي مات من ولد الصلب، فما أصاب الميت من الغلة كان ذلك لولده ويصير لولد هذا الميت سهمه الذي جعله له الواقف وسهم والده. وهذا بخلاف الوصية.، فإن قال: أوصيت لفلان بألف درهم، وأوصيت بثلثي لقرابتي وكان الموصى له بألف من قرابته، فإنه ينظر إلى ما يصيبه من الثلث إذا كان من القرابة وما يصيبه من الألف من جملة الثلث، فيعطى الأكثر من ذلك ويعطى من وجه واحد ولا يجمع ذلك له.

ولو قال: على ولدي وولد ولدي ونسلهم وأولادهم أبداً ما تناسلوا على أن يبدؤوا في ذلك بالبطن الأعلى ثم بالبطن الذين يلونهم إلى آخره بطناً بعد بطن، فكلما حدث الموت على واحد منهم وترك ولدا كان نصيبه من الغلة لولده وولد ولده ونسله أبداً ما تناسلوا على أن يقدم الأعلى، وكلما حدث الموت على واحد منهم ولم يترك ولداً ولا ولد ولد ولا نسلاً ولا عقباً كان نصيبه من هذه الصدقة مردودة إلى أصل هذه الصدقة، فقسمت الغلة سنين على البطن الأعلى فمات البعض بعد ذلك وترك ولداً وولد ولد، فإن الغلة تقسم على أولاد الواقف من كان موجوداً وقت الوقف، من حدث بعد ذلك، فما أصاب الأحياء من ذلك أخذوه، وما أصاب الموتى كان لولد من مات منهم على ما شرط الواقف من تقديم البطن الأعلى اعتباراً لشرط الواقف. ولو لم يترك الميت من البطن الأعلى ولداً لصلبه، وإنما ترك ولد ولد، فإن نصيب الميت من الغلة لولد ولده وهو من البطن الثالث، وكذلك إن كان أسفل من الثالث؛ لأن الواقف كذا شرط، وإن كان عدد البطن الأعلى عشرة أنفس، فمات منهم اثنان ولم يتركوا ولدا ولا ولد ولد فتنازعت الأربعة الباقون من البطن الأعلى وولد الابنين الميتين قسمت الغلة يوم يأتي على هؤلاء الأربعة وعلى الميتين الذين تركا أولاداً كان ذلك لأولادهما وسقط سهام الأربعة الموتى الذين تركا أولاداً كان ذلك لأولادهما وسقط سهام الأربعة الموتى الذين لم يتركوا أولاداً هذه المسألة وأجناسها في وقف الخصاف في باب قبل باب الوقف. ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة للمساكين على أن يبدأ ولدي لصلبي فيجري غلة هذا الوقف عليهم، ثم بعدهم على أولادهم ونسلهم، فإنه تكون الغلة لولده وولد ولده على ما شرط، ثم على المساكين. وكذلك إذا قال: غلة صدقتي هذه للمساكين لا تخرج عنهم، وقال مع هذا: وعلى أن يجري غلة هذه (31أ3) الصدقة على قرابتي ما بقي منهم أحد، فإن غلة هذه الصدقة تكون لقرابته أبداً، ثم من بعدهم على المساكين. ولو قال: على أن تكون غلتها لعبد الله بن جعفر ولولد زيد أبداً ما بقي منهم أحد، فإذا انقرضوا، فهي على المساكين، فإن الغلة تقسم على عدد ولد زيد وعلى عبد الله، فإن كان ولد زيد خمسة يقسم على ستة أسهم، وعلى هذا القياس جنس هذه المسائل في هذا الباب أيضاً. إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة بعد وفاتي على ولدي وولد ولدي ونسلي ثم مات، فإن الوقف على ولده لصلبه لا يجوز؛ لأن الوصية للوارث لا تجوز، وعلى ولد ولده تجوز؛ لأنهم لا يرثونه ولا يكون الكل لهم ما دام ولد الصلب حياً؛ لأنه لم يجعل الكل لهم فيقسم الغلة في كل سنة على عدد رؤوس ولد الصلب وعلى عدد رؤوس ولد الولد، فما أصاب ولد الولد فهو لهم وقف، وما أصاب ولد الصلب، فهو ميراث بين جميع الورثة حتى يشاركهم الزوج والزوجة وغيرهما؛ لأن الميراث لا يختص به بعض الورثة دون البعض، فإن مات بعض ولد الصلب، فالغلة تقسم على عدد رؤوس ولد الولد

الفصل العاشر: في الوقف على فقراء قرابته

وعلى الباقي من ولد الصلب، فما أصاب الباقي من ولد الصلب يكون بين جميع ورثة الميت الأحياء والأموات، كل من كان حياً منهم عند موت الواقف لما ذكرنا أن ولد الصلب إنما يستحق ذلك بطريق الإرث، فلا ينصرف ثبوته، بل يكون لكل من كان وارثاً عند موت الواقف، ثم من مات منهم تكون حصته لورثته، فمن كان ولد ولد الصلب للميت يستحق لوجهين ما يصيبه بالقسمة يستحقه بالوقف، وما يصيب أبوه يستحق بالإرث من جهة ابنه الفصل العاشر: في الوقف على فقراء قرابته إذا قال: أرضي هذه صدقة على فقراء قرابتي، أو قال: على فقراء ولدي ثم من بعدهم على المساكين، فهذا الوقف صحيح والمستحق للغلة من كان فقيرا يوم مجيء الغلة عند هلال، وبه نأخذ. ولو قال: على من افتقر من قرابتي، فهذا على من افتقر بعد الغناء، وعند محمد وقال غيره: هذا من كان فقيراً يوم مجيء الغلة سواء كان فقيراً من الأصل أوكان غنياً ثم افتقر كقوله: على من احتاج من قرابتي، فهو على من كان محتاجاً من الأصل أو كان غنياً ثم احتاج، وكقوله: على من يسكن البصرة من قرابتي يعتبر سكناه بالبصرة يوم مجيء الغلة سواء كان ساكناً بالبصرة من الابتداء أو لم يكن ساكناً، وإنما سكن الآن ثم من له المسكن لا غير أو كان له مسكن وخادم، فهو فقير في حق الزكاة والوقف. وكذلك إذا كان له مع ذلك ثياب كفاف لا فضل فيها، وكذلك إذا كان مع ذلك متاع البيت ما لا غنى عنه؛ لأن هذه الأشياء من جملة ما (لا) بد منه، وإن كان له مائتا درهم أو عشرين مثقال ذهب، فلا حظ له من الوقف؛ لأنه غني، ألا ترى أنه وجب عليه الزكاة، وإن كان له فضل من متاع البيت أو الثياب، وذلك الفضل يساوي مائتي درهم فصاعدا فهو غني لا يحل له الزكاة ولا الوقف، وإن كان له مسكنان أو خادمان والمسكن الفاضل والخادم الفاضل يساوي مائتي درهم فهو غني في حق خدمة الزكاة والوقف، وإن لم يكن غنياً في حق وجوب الزكاة، وهذا مذهب أصحابنا رحمهم الله. وإن كان له أرض تساوي مائتي درهم وليس تخرج له ما يكفيه قال أبو يوسف: هو غني لا يعطي من الزكاة والوقف، وهو قول هلال، وقال محمد بن سلمة ومحمد بن مقاتل الرازي: هو فقير، وقال الفقيه أبو جعفر: إذا كان لا يخرج من الغلة ما يكفيه لنقصان في الأرض فهو فقير، وإن كان نقصان الغلة بقاء هذه الأرض وقصوره في القيام عليها فهو غني، فإن كان له مال غائب عنه أو كان على الناس ديون وهو لا يقدر على أخذه حل له الزكاة والوقف، وإن كان يقدر على الاستقراض، فالاستقراض له خير من متولي الزكاة والوقف ومع هذا لوصل الزكاة والوقف والحالة هذه لا يكره؛ لأنا جعلنا

مال الغائب والدين الذي لا يقدر على أخذه كأن لم يكن له مال، وهو يقدر على الاستقراض فلم يستقرض وأخذ الزكاة والوقف أليس انه لا يكره كذا هنا. والفقير الكسوب لا بأس أن يأخذ من غلة الوقف، وإن كان لا يحل له الزكاة؛ لأن باب الوقف واسع، ألا ترى أنه لا يجوز أخذ الزكاة لفقراء بني هاشم، ويجوز لهم أخذ غلة الوقف إذا سموا في الوقف، وإن كان له دين على مفلس فهو فقير، وإن كان على مليء وهو مقر به فهو غني، وإن كان منكراً وله نية فكذلك، وإن لم يكن له نية فهو فقير. ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على فقراء قرابتي وفيهم رجل فقير يوم مجيء الغلة فاستغنى قبل أن يأخذ حصته فهذه حصته؛ لأن الملك قد وجب له يوم مجيء الغلة. ألا ترى أن من مات بعد مجيء الغلة قبل أخذ نصيبه لا يبطل نصيبه، وإنما لا يبطل لما قلنا، فإن ولدت امراة من قرابته ولداً بعد مجيء الغلة لأقل من ستة أشهر فلا حصة لهذا الولد في هذه الغلة؛ لأن الاستحقاق بصفة الفقراء مع صفة القرابة، وصفة الفقر غير ثابتة للحمل؛ لأن الفقر هو الحاجة ولا حاجة للحمل إلى شيء، وإنما يثبت له صفة الفقر بالانفصال عن الأم فهو كواحد من قرابته كان غنياً يوم مجيء الغلة ثم افتقر بعد ذلك لا يستحق من هذه الغلة شيئاً كذا ههنا. ولو قال: على من كان فقيراً من نسل فلان، وليس في نسل فلان إلا فقير واحد، فله جميع الغلة؛ لأن كلمة (من) جهة تصلح كناية عن الجماعة وعن الواحد، قال الله تعالى: {ومنهم من يستمع إليك} (الأنعام: 25) ذكر الاستماع بلفظة الوحدان ثم قال: {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} (الأنعام: 25) يفقهوه بخلاف ما لو قال: على فقراء بني فلان أو قال: على فقراء آل فلان، وليس فيهم إلا فقير واحد، فله نصف الغلة؛ لأنه نص على صيغة الجمع هنا وأقل ما ينطلق عليه اسم الجمع في هذا الباب المثنى، فصار موجباً لهذا الواحد نصف الغلة. إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على فقراء ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقف رجل آخر أرضه على مثل ذلك وفي أولاد عمر فقراء فأي الغلتين أدركت فهي لهم، وإن أدركت إحدى الغلتين فأصاب كل واحد منهم تلك مائتا درهم فصاعداً ثم أدركت الغلة الأخرى وعندهم ذلك فلا حقَّ لهم في الأخرى؛ لأن صفة الفقر قد بطلت قبل مجيء الغلة الأخرى، ولو أدركت الغلتان معاً كانتا لهم، وإن كان يصيب كل واحد رجل منهم من كل غلة ما يصير به غنياً؛ لأن صفة الفقر قائمة عند الغلتين وهو نظير ما (لو) أوصى رجلان كل واحد منهما بثلث ماله لفقراء ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فوقع على الرجلين بيت وماتا قبلت كل واحد منهما لفقراء ولد عمر، وإن كان كل واحد منهما يغنيهم. كذلك لو كان الواقف رجلاً واحداً وقد وقف وقفين أرضين في وقتين كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا كان الوقف من رجلين إخوان الأب والأم وقفا على فقراء قرابتهما، فجاء بفقير واحد من القرابة ينظر إن كانا وقفا أرضاً مشتركاً بينهما (13ب3) يعطى هذا الفقير قوت واحد،؛ لأن هذا وقف واحد.

وإن وقف كل واحد أرضاً على حدة يعطى من كل واحد على حدة، والمراد من القوت في جنس هذه المسائل الكفاية، فإن كان الوقف أرضاً يعطى كفاية سنة بلا إسراف ولا تقتير؛ لأن غلة الأرض إنما يحصل بالسنة، وإن كان الوقف حانوتاً يعطى كفاية شهر،؛ لأن غلة الحانوت يحصل كل شهر، وإذا وقف على فقراء قرابته، فجاء رجل يدعي الغلة ويدعي أنه قريب الواقف، وإنه فقير كلف إقامة البينة على القرابة وعلى أنه فقير محتاج إلى هذا الوقف، وليس له أحد يلزمه نفقته، والقياس أن لا يكلف إقامة البينة على الفقر؛ لأن الأصل الفقر؛ لأنه خلق عديم المال استحساناً. وقلنا: يكلف إقامة البينة على ذلك؛ لأن الاستحقاق بالفقر الأصلي بالظاهر واستصحاب الحال، وإنه لا يصلح حجة للاستحقاق، ثم شرط مع إقامة البينة على الفقر إقامة البينة على أنه ليس له أحد يلزمه نفقته؛ لأنه يعتبر غنياً ببقاء المنفق في حق حكم الوقف، وفيه كلمات كثيرة تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، فإن أقام البينة على أنه فقير محتاج إلى هذا الوقف، وليس له أحد تلزمه نفقته أدخله القاضي في الوقف، واستحسن هلال أن لا يدخله حتى يسأل عنه في السر، قال مشايخنا: وإنه حسن، وقال أيضاً إن الخامسة على ما قلنا، ويسأل القاضي في السر أيضاً، ووافق خبر السر البينة أنه فقير، وليس له أحد تلزمه نفقته، فالقاضي لا يدخله في الوقف حتى يستحلف بالله مالك مال، وأنك فقير. قال مشايخنا: وإنه حسن أيضاً؛ لأن مال الغير لا يقف عليه غيره في الحقيقة وهو يعلم ذلك، فيستحلف عليه، وكذلك يستحلف على قول هلال بالله مالك أحد تلزمه نفقتك، وإنه حسن أيضاً، وهكذا ذكر الخصاف في وقفه. وإن شهد شاهدان على فقره وأخبره عدلان في السر أنه غني، فخبر الغنى أولى؛ لأنه مثبت، ولأن المخبر عن الغني يعلم الآخر قال هلال: والخبر في هذا الباب والشهادة سواء؛ لأن هذا ليس بشهادة على الحقيقة بل هو خبر، وإن شهد الشهود أنا لا نعلم له أحداً تلزمه نفقته يكتفي به ولا يكلف الشاهدان بقطع القول بأنه ليس له أحد ينفق عليه كما في الميراث إذا شهدوا أنا لا نعلم له وارثاً غيره يكتفي به ولا يكلف الشاهدان بقطع القول أنه ليس له وارث غيره. وإذا أراد الرجل إثبات قرابة ولده وفقره في الوقف، فله ذلك إن كان صغيراً؛ لأنه له ولاية عليهم، ووصي الأب في هذا بمنزلة الأب، فإن لم يكن لهم أب ولا وصي الأب ولهم أم أوأخ أو عم أو خال، فلهؤلاء إثبات قرابة الصغير في حجره استحسانا؛ لأن هذا محض منفعة في حق الصغير فصار كقبول الهبة، ولهؤلاء قبول الهبة على الصغير في حجره إلا أن بين قبول الهبة وبين إثبات القرابة نوع فرق، فإن غير الأب يقبل الهبة على الصغير، وإن كان الأب حياً، ولا يثبت قرابة الصغير وفقره إذا كان الأب حياً. والفرق أن الهبة ربما تفوت لو انتظر مجيء الأب بأن يرجع الواهب عما أوجب أو يقوم من يجلسه، فيبطل الهبة لو انتظر حضور الأب، وهنا لو انتظر حضور الأب لا يفوت على الصغير شيء؛ لأن الأب إذا حضر يثبت قرابة الصغير وفقره في الأزمنة الماضية،

فيستحق الغلات الماضية، ثم إن كانت الأم أو العم أو الأخ موضعاً لوضع الغلة في أيديهم فما قبض الصغير من الغلة يدفع إليهم ويؤمرون بالإنفاق عليه، وإن لم يكن موضعاً لذلك يوضع في يدي رجل ثقة يؤمر بالنفقة عليه. في «النوازل» : إذا وقف على فقراء قرابته، فأراد بعض الفقراء من قرابته أن يحلف البعض بأنهم أغنياء إن ادعوا عليهم دعوى صحيحة بأن ادعوا عليهم مالاً يصيرون به أغنياء كان لهم أن يحلفوهم؛ لأنهم ادعوا عليهم معنى لو أقروا بذلك يلزمهم، فإن كان القيم يمثل إليهم، فأراد هؤلاء أن يحلفوا القيم بالله ما يعلم أن هؤلاء أغنياء ليس لهم ذلك؛ لأن القيم لو أقر بذلك لم يلزم أولئك شيء، فإذا أنكروا لا يستحلف. وإذا ثبت الرجل قرابته وفقره عند قاضى ثم جاء يطلب وقفاً آخر لا يكلف إعادة البينة على الفقر؛ لأنه ثبت فقره في وقف، ومن كان فقيراً في وقف كان فقيراً في كل وقف. وكذلك لو أثبت قرابته من الواقف في وقفه ثم جاء يطلب وقف أخيه لا يكلف إعادة البينة على القرابة إذا كان الثاني أخ الأول لأبيه وأمه؛ لأنه إذا كان أقرب أحد الأبوين كان قرب الأخ الآخر ضرورة. وكذلك لو جاء أخ المقضي له لأبيه وأمه لا يكلف إعادة البينة على القرابة من الواقف؛ لأن ذلك ثابت ضرورة بثبوت قرابة الأول، وكذلك لو أثبت رجل في وقف أنه من بني العباس لا يحتاج إلى إثبات نسبه في وقف آخر وكذلك على هذا سائر القرابات. ولو أقام رجل بينة عند القاضي أن القاضي الذي كان قبله قضى بقرابته وفقره قبل هذا ثم استحقت الغلة (قبلت) ، وإن طالت المدة في القياس؛ لأن الفقر قد ثبت فنحن على ذلك حتى يحدث غيره استحسنا، وقلنا: إن القاضي يسأله إعادة البينة إذا طالت المدة على أنه فقير، وهذا لأن الإنسان لا يبقى على حالة واحدة زماناً طويلاً هذا هو الظاهر، وإنما يعتبر الفقر في كل سنة عند حدوث الغلة، فمن كان فقيراً قبله استحق تلك الغلة، ومن افتقر بعد ذلك لا يستحق من تلك الغلة إنما يستحق من غلة أخرى.m فإذا قضى القاضي أنه فقير ثم جاء بعد ذلك بطلت الغلة وهو غني وقال إنما استغنيت بعد حدوث الغلة، وقال شركاؤه: لا، بل استغنى قبل حدوث الغلة، فالقياس أن يكون القول قوله؛ لأنا عرفنا فقره، فكان الغنى في حقه حادثاً فحال به على أقرب الأوقات، وفي الاستحسان: القول قول الشركاء ويجعل المال حكماً على ما مضى على ما عرف في كثير من المسائل. ولو لم يكن القاضي (قضى) بفقره، فجاء بطلت الغلة ويدعي أنه فقير وقال الشركاء: إنه غني وأرادوا استحلافه فلهم ذلك، ويحلفه القاضي بالله ها هو القوم غني عن الدخول في هذا الوقف مع فقرائهم وعن أخذ شيء من عليه، وإذا شهد الشهود على فقره، وكان ذلك بعد حدوث الغلة لم يدخل في تلك الغلة، وإنما يدخل في الغلة الثانية إلا أن يوقنوا فقره وكان الفقر قبل حدوث الغلة فحينئذ ثبت حقه في تلك الغلة. ولو أن رجلاً أثبت فقره عند القاضي في وقف، فجاء رجل وعليه دين وأراد حبسه

عند القاضي، فقال القاضي: إنك قد قضيت لفقري فلا تحبسني، فالقاضي لا يجيبه إلى ذلك؛ لأن فقر الوقف دون إعدام الدين، فإن من كان له سكن وخادم وثياب البدن يستحق الوقف، وفي الدين مثل هذا لا يكون معدماً، ولو ثبت إعدامه في الدين، فجاء يطلب الوقف، فالقاضي لا يكلفه البينة على الفقر؛ لأن الإعدام فوق الفقر وثبوت الأعلى يغني عن إثبات الأدنى، وإذا شهد القرابة بعضهم لبعض في الوقف لا يقبل إذا شهد كل فريق لصاحبه؛ لأنهم يثبتون مالاً مشتركاً، وإن كان الشهود (14أ3) أغنياء شهدوا لرجل من قرابتهم بقرابته وفقره ذكر الخصاف في «وقفه» في باب الوقف على فقراء قرابته أنهم إذا لم يجروا إلى أنفسهم منفعة بشهادتهم، ولم يدفعوا عن أنفسهم بذلك مضرة قبلت شهادتهم في (ذلك) ذكر هو في باب قبل هذا الباب متصل به لو شهد رجلان من صحب قرابتهما لرجل أنه قرابة الواقف وفسروا قرابته أن ذلك جائز، فإن لم يعدل شهادتهما فرد القاضي شهادتهما، فللذي شهدا له بقرابة الواقف أن يدخل معهما فيما يصل إليهما من مال الواقف، ويشاركهما في ذلك. ذكر هلال في «وقفه» : إذا شهد رجلان أجنبيان بقرابة رجل من الواقف، وشهد قومان بفقره قبلت شهادتهما من غير تفصيل. قال هلال رحمه الله في وقفه: لو أقر رجل من القرابة أنه كان غنياً ثم جاء يطلب الوقف. وقال: أنا فقير، وإنما افتقرت قبل حدوث الغلة لا يقبل قوله، وإن كان فقيراً للحال؛ لأنا قد علمنا غناه ولم نعلم فقره بعد ذلك قبل حدوث الغلة مجرد قوله ولا يجعل الحال حكماً؛ لأن تحكيم الحال عمل بنوع ظاهر، والظاهر لا يستحق به شيء. وإن شهد الشهود أنه أتلف ماله قبل حدوث الغلة استحق الغلة، وإن قالوا:.... أو أبهم القاضي بالتلجئة لا يعطيه إذا كان لم تلجئه تصل يده إليه. وإذا كانت امرأة فقيرة ولها زوج غني لا تعطى من الوقف؛ لأن نفقتها على زوجها والزوج إذا كان فقيراً يعطى من الوقف، وإن كانت امرأته غنية لا نفقة للزوج على المرأة، فلا يعد غنياً إذا كان أقربه ولد كبير لا زمانة به وهو فقير، ولهذا الولد أولاد صغار فقراء، فإنه لا يعطي أولاد الولد من الوقف؛ لأن أفرض نفقتهم في مال جدهم، وأما أبوهم وهو ولد القريب لصلبه، فله حظ له في الوقف؛ لأنه لا نفقة على ابنه؛ لأنه كبير لا زمانة به. وإذا كان للرجل ابن غني وهو فقير لا يعطى من الوقف؛ لأن نفقته على ابنه. ثم الأصل في جنس هذه المسائل إن كان من وجبت نفقته على غيره بالإجماع يعد غنياً يعني من وجب عليه نفقته في حكم الوقف كالوالدين والمولودين، وكل من كان في وجوب نفقته اختلاف لا يعد غنياً يعني من وجب عليه نفقته في حكم الوقف هذا هو عبارة بعض المشايخ، وعبارة بعضهم أن كل من وجب نفقته في مال إنسان وله أن يأخذ ذلك من غير قضاء ولا رضا ويقضي القاضي بالنفقة في ماله حال غيبته ومنافع الأملاك متصلة

الفصل الحادي عشر: في الرجل يقف أرضه على قرابته

بينهما حتى لا يقبل شهادة أحدهما لصاحبه يعد غنياً يعني المنفق في حكم الوقف، وذلك كالوالدين والمولودين والأجداد، وكل من وجب نفقته في مال غيره بفرض القاضي ولا يأخذ النفقة من ماله إلا بقضاء أو رضا، والقاضي لا يقضي بالنفقة في ماله في حال غيبته ومنافع الأملاك متميزة حتى يقبل شهادة أحدهما لصاحبه لا يعد غنياً يعني المنفق في حق حكم الوقف، وذلك كالإخوة وسائر المحارم، على هذا الأصل تدور المسائل. الفصل الحادي عشر: في الرجل يقف أرضه على قرابته قسمت الغلة على قرابته على عدد رؤوسهم الصغير والكبير والغني والفقير فيه سواء؛ لأن اسم القرابة يتناولهم على السواء والاستحقاق بهذا الاسم، فإن جاء رجل يدعي أنه من قرابة الواقف، فإن كان الواقف حياً فهو خصمه يثبت عليه قرابته منه؛ لأن الوقف والغلة في يده، فالمدعي يدعي عليه لنفسه حقاً فيما في يده ويمنعه عنه، فينتصب خصماً له، وإن كان الواقف ميتاً فخصمه وصيه الذي الوقف في يده وجعله فيما عليه لما ذكرنا، ولأن القيم قائم مقام الميت بإقامة الميت إياه مقام نفسه، فينتصب خصماً للمدعي كالميت. وإن كان له وصيان أو أكثر فادعى على أحدهم جاز، ولا يشترط اجتماعهم ولا يكون وارث الميت خصماً للمدعي في ذلك إلا أن يكون متولياً، وكذلك أرباب الوقف لا يكون خصماً للمدعي أما أرباب الوقف؛ لأنه لا ملك لهم إنما لهم مجرد الحق؛ ألا ترى أن المرتهن لا ينتصب خصماً لمن يدعي غير الرهن، وإنما لا ينتصب؛ لأنه لا ملك له في غير الرهن، وأما الوارث فلأنه لا ملك له في عين الوقف ليس في يديه، فإن حضر القيم وجاء بشاهدين شهدا على أنه قريب هذا الواقف، فالقاضي لا يقبل شهادتهما حتى شهدا بنسب معلوم، فيشهدا أنه ابنه أو أخوه لأبيه وأمه أو لأبيه أو لأمه، والجواب في هذا نظير الجواب في فصل الميراث إذا شهد الشهود بوراثة رجل، وكذلك على هذا إذا وقف على نسله، فجاء رجل يدعي أنه من نسل الواقف، فأقام على ذلك بينة لا يقبل شهادتهم ما لم يثبتوا أنه ولده لصلبه أو ولد ابنه أو ولد ابنته أو ما أشبه ذلك، فإن فسروا القرابة، وقالوا: لا نعلم له قريباً آخر سوى هذا القريب، فالقاضي يعطيه الغلة، وإن لم يقولوا ذلك فالقاضي يتأنى ويتلوم زماناً، فإن طال ذلك ولم يظهر له قريب آخر قال: أستحسن أن أعطيه الغلة وآخذ منه كفيلاً، وهذا قول أبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: لا يؤخذ منه كفيل كما في الميراث، فإن قال الشهود: له قرابة غيب، فالقاضي يفرز أنصباءهم، فإن قال الشهود: لا ندري عددهم كم هم ينبغي للقاضي أن يقول لهم: احتاطوا ولا تشهدوا إلا بما تتيقنوا به فتقولوا لا نعلم له قرابة أخرى سوى كذا وكذا، وإن أقام يدعي القرابة شاهدين شهدا أن فلانا القاضي قضى أن هذا قريب الواقف، وإنه من قرابته قال هلال: ينبغي للقاضي أن يسألهما عن تفسير القرابة، فإن فسروا قرابة يستحق بها الوقف

أعطاه وإلا فلا يعطيه شيئاً، وإن لم يفسر الشهود وقد ماتوا أو غابوا، فالقاضي يسأل المدعي ويستفسره القرابة، فإن ذكر قرابة لا يستحق بها الغلة لا يعطيه شيئاً، إن ذكر قرابة يستحق بها يعطيه وليس هذا بقضاء للقاضي الأول؛ لأن القاضي الأول قضى بكونه قريب الواقف فقط، ولا ينقض هذا القضاء، ولكن ليس كل قريب يستحق الوقف حتى لو قضى القاضي له بالغلة أو قضى بأنه موقوف عليه، فإن القاضي الثاني يمضية ويعطيه الغلة. وإن لم يفسر المدعي القرابة أيضاً أو كان صبياً قال هلال: القاضي يعطيه الغلة ويحمل قضاء القاضي الأول على الصحة وعلى أنه قضى بقرابة يستحق بها، وقاسه على مسألة ذكرها محمد رحمه الله في «الزيادات» : أن (من) يدعي الميراث إذا أقام بينة عند القاضي أن قاضي بلد كذا قضى بأني وارث فلان الميت، ولم يزد الشهود على هذا، فهذا القاضي يجعله وارث الميت ويحمل قضاء القاضي الأول على الصحة كذا هنا، هذا جملة ما أورد هلال في «وقفه» . وذكر الخصاف في «وقفه» أن شهود المدعي إذا شهدوا أن قاضي بلد كذا قضى أن هذا قريب الواقف أستحسن أن أجيز هذا وأحمله على الصحة ولم يذكر سؤال الشهود ولا سؤال المدعي، قال الفقيه أبو جعفر: وعندي أنه لا يقضي له بالغلة وليس هذا مسألة «الزيادات» ؛ لأن الوراثة متى تثبت يستحق بها الإرث على كل حال، فأما القرابة متى تثبت قد يستحق بها الغلة وقد لا يستحق (14ب3) فلا تكون القرابة نظير الوراثة. رجل أثبت قرابته عند القاضي وقضى القاضي بها ثم جاء آخر وادعى أنه قريب الواقف، فلم يجد الوصي، فأراد أن يخاصم المقضي له الأول، فإن كان الأول قد أخذ شيئاً من الغلة فهو خصم للثاني، وإن لم يكن أخذ شيئاً من الغلة لم يكن خصماً للثاني، سواء قدمه إلى القاضي الذي قضى به للأول أو قدمه إلى قاض آخر، وهذا الاستحسان ذهب إليه هلال. والقياس أنه إذا قدمه إلى القاضي للأول أن يجعل خصماً كما في مسألة الوصية بالثلث إذا أقام شهوداً أن الميت أوصى له بالثلث وقضى القاضي له بذلك، فأعطاه شيئاً من التركة، فجاء رجل وادعى أن الميت أوصى له بثلث ماله فلم يجد الوارث قدم هذا الموصى له، فهو خصم للثاني؛ لأنه يدعي شيئاً فيما في يده، وإن كان الأول لم يأخذ شيئاً من التركة، فإن قدمه الثاني إلى قاض آخر لا يكون خصماً له، وإن قدمه إلى القاضي الأول جعله خصماً له، يجب أن يكون الجواب في القرابة كذلك. استحسن هلال وفرق بين المسألتين، ووجهه أن الموصى له شريك الوارث، فإذا قدمه إلى قاض علم بكونه شريك الوارث صار كما لو قدم الوارث، فأما الموقوف عليه ليس شريك الوارث والثاني لا يدعي على الأول شيئاً إنما يدعي على الواقف أنه قريبه والموقوف عليه ليس بنائب عن الواقف فلهذا لا يكون خصماً. ولو أن رجلاً أثبت قرابته من الواقف وفسر القرابة وقضى القاضي له بالغلة جاء آخر وأقام بينة أنه ابن المقضي له الأول، فإنه يقضي له بالغلة ولا يحتاج أن يفسر قرابته من الواقف؛ لأن الأول أثبت قرابته من الميت، فإذا أثبت الثاني أنه ابن الأول كان ابن

الأول بتلك القرابة ضرورة، وكذلك لو كان المقضي له الأول امرأة وباقي المسألة بحاله. وإن أقام الثاني بينة أنه أخ المقضي له لابنه، فالقاضي إن قضى الأول بقرابته من قبل أبيه قضى للثاني، وإن قضى للأول بقرابته من قبل أمه كان الثاني أجنبياً عن الواقف، وعلى هذا يخرج جنس هذه الشهادة وشهادة ابني الواقف أن هذا الرجل قريب وَالدِنا مع تفسير القرابة مقبولة؛ لأنه لا تهمه في هذه الشهادة. ولو ادعى قوم أنهم قرابة الميت وشهد بالقرابة بعضهم لبعض بأن شهد ابنان لابنين منهم أنهما قرابة الواقف لا يقبل شهادتهم؛ لأن كل فريق شهد للفريق الآخر بما له فيه شركة؛ لأن ما (من) جزء من أجزاء المال يثبت لأحد الفريقين إلا وللفريق الآخر فيه من الشركة، وإن كان القاضي قضى بشهادة الشاهدين الأولين ثم شهد المقضي لهما للشاهدين لا يقبل شهادتهما للشاهدين الأولين؛ لأنها لو قبلت تقع الشركة بين المشهود لهما وبين الشاهدين، وشهادة الشاهدين للأول ماضية على حالهما؛ لأنها تأكدت بالقضاء، فلا تبطل، بخلاف الفصل الأول، وهو ما إذا لم يقض القاضي بشهادة الشاهدين الأولين حيث لا يقبل شهادتهم جملة؛ لأن هناك شهادة واحد أحد الفريقين لم يتأكد، أما هنا بخلافه. وإذا وقف أرضه على قرابته فجاء رجل وادعى أنه من قرابته وأقر الواقف بذلك وفسر القرابة وقال: هذا ممن وقفت عليه، فإن كان للواقف قرابة معروفون لا يصح إقراره؛ لأن الوقف قد ثبت للمعروفين، فهو بهذا الإقرار يريد إبطال حق المعروفين في البعض، فلا يصدق كالمريض إذا أقر أن هذا أخي أو عمي وله ورثة معروفون، فإنه لا يصح إقراره كذا ههنا، وهذا إذا كان الإقرار من الواقف بعد عقد الوقف، فأما إذا أقر بذلك في عقد الوقف بأن قال في عقد الوقف: هذا ممن وقفت عليه قبل ذلك منه؛ لأن حق الغير لم يثبت بعد فلم يكن هذا الإقرار مبطلاً حقاً على أحد بخلاف ما إذا كان الإقرار من الواقف (بعد) عقد الوقف، أما إذا لم يكن له قرابة معروفون فالقياس أن لا يصح إقراره؛ لأن الحق قد ثبت للفقراء فلا يقبل قوله في تنقيص حقهم وفي الاستحسان يقبل قوله؛ لأن الحق لم يثبت لشخص بعينه، وهو نظير المريض إذا لم يكن له ورثة معروفون، فقال لرجل: هذا أخي لأبي وأمي صح إقراره، وإن كان فيه إبطال حق يثبت المال، والمعنى ما ذكرنا أن الحق أثبت لشخص بعينه، وإذا عرفت الجواب في إقرار الوقف بالقرابة ينبني عليه مسألة الشهادة على إقرار الوقف بالقرابة، ففي كل موضع صح إقراره قبلت الشهادة على إقراره. قال: وإذا وقف على ولده ونسله ثم أقر رجل أنه ابنه، فإنه لا يصدق في الغلات الماضية؛ لأنها صارت حقاً للمعروفين ويصدق في الغلات المستأنفة؛ لأن النسب يثبت بإقراره فعند الاستحقاق هو وسائر الورثة على السواء في النسب. وإذا وقف على قرابته وجاء رجل يدعي أنه من قرابته وأقام بينة فشهدوا أن الواقف كان يعطيه مع القرابة في كل سنة شيئاً، لا يستحق بهذه الشهادة شيئاً وكذلك لو شهدوا أن

قاضي فلان كان يدفع إليه مع القرابة في كل سنة شيئاً فلا يكون دفع القاضي حجة يحتمل أن القاضي قضى على بعض قرابة الواقف بإقراره له. ومما يتصل بهذا الفصل معرفة قرابة الواقف الذين يستحقون الوقف: قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: كل من يناسبه إلى أقصى أب له في الإسلام من قبل أبيه، وكل من يناسبه إلى أقصى أب له في الإسلام من قبل أمه المحرم وغير المحرم، والقريب والبعيد، والجمع والفرد في ذلك سواء، فإذا وقف على قرابته أو ذي قرابته أو على أقربائه أو على ذوي قرابته دخل هؤلاء تحت الوقف عندهما. وقال أبو حنيفة: إن حصل الوقف بلفظ الوحدان نحو قوله: على قرابتي على ذي قرابتي دخل تحت الوقف من كان أقرب إلى الواقف من محارمه، وإن حصل الوقف بلفظ الجمع نحو قوله: على ذي قرابتي على أقربائي يعتبر مع ما ذكرنا الجمع حتى ينصرف اللفظ إلى المثنى فصاعداً، وتكلم المشايخ في معنى قوله أقصى أب له في الإسلام قال بعضهم: معناه أقصى أب أسلم وقال بعضهم: معناه أقصى أب أدرك الإسلام أو لم يسلم، وثمرة هذا الاختلاف يظهر في العلوي إذا وقف على قرابته، فعلى قول من يشترط إدراك الاسلام أول أب أدرك الاسلام أبو طالب، فيدخل تحت الوقف أولاد عقيل وأولاد جعفر وأولاد علي، على قول من شرط نفس الإسلام أول أب أسلم علي، فيدخل تحت الوقف أولاد علي ولا يدخل أولاد عقيل وأولاد جعفر. وقال هلال: القرابة إلى ثلاثة آباء، فمن انتسب إلى واحد من الآباء الثلاث يدخل في الوقف وما لا فلا وقال قوم: القرابة إلى أربع آباء، وإنما اعتبر أبو يوسف ومحمد أقصى أب له في الإسلام؛ لأنه لا وجه إلى صرف الوقف إلى القرابة العامة؛ لأنه (15أ3) يدخل تحت الوقف من كان في الجاهلية؛ لأن جميع الناس أقرباؤه؛ لأن الناس كلهم أولاد آدم ونوح عليهما السلام، فلو دخلوا تحت الوقف لا يصيب كل واحد منهم شيئاً منتفعاً، ونحن نعلم أن قصد الواقف إنفاع الموقوف عليه، أما لو اعتبرنا أقصى أب في الإسلام يصيب كل واحد منهم شيئاً منتفعاً، فلهذا اعتبرنا ذلك، وإنما سوينا بين القريب والبعيد والمحرم؛ لأن الاستحقاق باسم القريب وهذا اسم يتناول الكل، وإنما سوينا بين الجمع والفرد؛ لأن الاستحقاق باسم القرابة والقريب، وإنه اسم جنس، واسم الجنس ينصرف إلى الواحد مع احتمال الجمع، وأما أبو حنيفة رحمه الله إنما اعتبر الجمع فيما إذا حصل الإنفاق بلفظه الجمع، عملاً بحقيقة اللفظ، وإنما اعتبر القرابة المحرمة للنكاح؛ لأن مقصود الواقف صلة القرابة، فالظاهر أنه يريد به قرابته بفرض وصلها، وإنما اعتبر الأقرب فالأقرب؛ لأن القرابة سبعة من القرب فمن كان أقرب كان أولى يصرف اللفظ إليه. بيان جملة ما ذكرنا إذا كان للواقف عمان وخالان وقد حصل الإنفاق بلفظ الجمع، فعلى قول أبي حنيفة الغلة للعمين؛ لأنه يعتبر الأقرب فالأقرب، وقرابة العم أقرب من قرابة الخال، ولهذا كان الميراث للعم دون الخال، واسم الجمع ينطلق عليهما، وعندهما: الغلة للعمين والخالين أرباعاً؛ لأنهما لا يعتبران الأقرب لما ذكرنا أن اسم القرابة يتناول الكل.

ولو كان له عم واحد وخالان فعلى قول أبي حنيفة للعم نصف الغلة والنصف بين الخالين نصفين؛ لأن أبا حنيفة يعتبر الأقرب، وقرابة العم أقرب فكأن العم انفرد، إلا أن العم الواحد لا يستحق أكثر من نصف الغلة إذا كان الإنفاق بلفظ الجمع عنده؛ لأن استحقاق الكل عنده في هذه الصورة معلق بوجود الجمع والواحد ليس بجمع لا بد، وأن ينقص من الكل شيئاً، وأعلى ما يستحق الواحد وغيره النصف، وإنما اعتبرنا الأعلى وهو النصف؛ لأنه إنما ينقص حقه عن النصف إذا كثر المزاحم ولا نهاية لما زاد على الواحد، فلا يعتبر المزاحم أكثر من الواحد، وإذا أخذ العم نصف الثلث خرج هو من البين وصار الواقف في النصف الباقي كأنه لا عم له، فيكون بين الخالين، وعلى قول أبي يوسف ومحمد الغلة بين العم والخالين بالسوية لما قلنا: إنهما لا يعتبران الأقرب ولا يعتبران الجمع. ثم اختلف المشايخ على قول أبي يوسف ومحمد، بعضهم قالوا: إنما يصح الوصية لقرابة إذا كان من يجمعه وأقصى أب له في الإسلام لا يخرجون عن حد الإحصاء. وعامة المشايخ على أن الوقف صحيح على كل حال، ولأن هذا وقف أريد به وجه الله تعالى وهو صلة القرابة فيصح على كل حال. فبعد ذلك إن كانوا يحصون، فالغلة بينهم على السوية لا يفضل البعض، وإن كانوا لا يحصون صار كأنه وقف على الفقراء، فعلى قول أبي يوسف جاز صرف جميع الغلة إلى الواحد منهم بناء على أن الفقراء عنده اسم جنس، وعند محمد لا يجوز أن يعطي دون الاثنين بناء على أن عنده الفقراء اسم جمع وأقل الجمع في هذا الباب المثنى أصل هذا الاختلاف في الوصايا: قال الله تعالى: {الوصية للوالدين والأقربين} (البقرة: 180) عطف القريب على الوالد والشيء لا يعطف على نفسه ولأن اسم القريب يبنى عن القرب وبين الوالدين والمولودين بعضه، وإنما يبنى عن الإيجاد دون القرب. ودخل تحت هذا الوقف الجد والجدة وولد الولد؛ لأن اسم القريب ينطلق عليهم. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنهم لا يدخلون، والذي ذكرنا في قوله لأقربائه ولذوي قرابته فكذا في قوله يدخل لأرحامه ولأنسابه ولذوي أنسابه؛ لأن المعنى يجمع الكل. ولو وقف على ذي قرابته أو على قرابته فالقياس أن تكون الغلة لواحد من قرابته حتى إذا كان له عم وخالان، فالغلة كلها للعم؛ لأن اللفظ فرد بصيغته وفي الاستحسان الوقف عليهم؛ لأنه يراد به الجنس، فإنه يراد به التودد، فكأنه عمهم. قال أبو حنيفة رحمه الله: هذه المسألة يجب أن تكون على الخلاف على قياس مسألة الوصية إذا أوصى بثلث ماله لهذا ولهذا أو لأحد من بني فلان، فعلى قول أبي حنيفة الوصية باطلة؛ لأنها وقعت لمجهول وعلى قول محمد الوصية جائزة وللورثة الخيار؛ لأنهم قائمون مقام المورث وعلى قول أبي يوسف الثلث لهما؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، فعلى قياس تلك المسألة يجب أن تكون الغلة للكل على قول أبي

يوسف، وعلى قول محمد يجوز إعطاؤها للواحد، وعلى قول أبي حنيفة يجب أن يكون كقول محمد؛ لأنه جعل الوصية للواحد حتى قال: الوصية وقف للمجهول. ولو كان وقف على ذوي قرابته أو أقربائه أو أنسابه أو أرحامه الأقرب فالأقرب فإنه يدخل تحت الوقف الأقرب، فالأقرب ولا يعتبر الجمع بلا خلاف؛ لأن قوله الأقرب فالأقرب خرج تفسيراً لصدر الكلام، فيكون العبرة له، وإنه اسم فرد، فيتناول الواحد عند أبي حنيفة والأقرب عندهما. ومما يتصل بهذا الفصل أيضاً إذا وقف على أقرب الناس منه أو إليه ومن بعده على المساكين وله ابن وأب دخل تحت الوقف على أقرب الناس من قرابته لا يدخلان تحت الوقف؛ لأن في الفصل الثاني اعتبر الأقرب من قرابته وابنه وأبوه ليسا من قرابته وفي الفصل الأول اعتبر الأقرب إليه والابن أقرب إليه، وإن كان له ابن وأبوان، فالغلة للابن؛ لأن الابن أقرب إليه كذلك الابنة، فإذا مات الابن أو الابنة كانت الغلة للمساكين، ولا يكون للأبوين؛ لأنه جعل ذلك للأقرب ولم يجعل الأقرب فالأقرب، وإن كان له أبوان لا غير كانت الغلة بينهما نصفان، فإن مات أحدهما كان للحي النصف والنصف الآخر للمساكين، وإن كان للواقف أم وأخوة كانت الغلة للأم دون الأخوة.Y وكذلك إذا كان للواقف أم وجد، فالأم أقرب من الجد ومن الأخوة، والأب أيضاً أقرب، وإن كان جد أب وأخوة، فالغلة للجد في قول من يداه بمنزلة الأب وفي قول الآخر للأخوة دون الجد، فإن كان له ثلاثة أخوة متفرقين فالغلة للأخ لأب وأم، فإن كان له أخ لأب وأخ لأم، فالغلة لهما جميعاً، ولا ينظر في ذلك إلى الوارث وعند أبي حنيفة الأخ لأب أولى. ولو كان له أب وابن ابن، فالغلة للأب دون ابن الابن، فإن كانت له بنت بنت وله ابن ابن أسفل من هذه كانت الغلة لبنت البنت، وكذلك الوصية في هذا كله. ولو كان له أخت لأب وأم وبنت بنت فبنت بنت البنتان أولى؛ لأنها من صلبه والأخت من صلب أبيه ولا يعتبر الإرث، ألا ترى أنه لو كان له موالي العتاقة، فبنت البنت أولى في الوقف، وإن كان مولى العتاقة مقدماً على بنت البنت في الميراث. فالحاصل أنه يبدأ بولد الواقف ثم بولد الأب ثم بولد الجد، فإن كان له أب الأم وبنت الأخ له أم ولأب أو لأب وأم، فعند أبي حنيفة الجد أولى، وعندهما بنت (15ب3) الأخ أولى، ولو كان مكان بنت الأخ بنت البنت فهي أولى بالاتفاق، ولو كان له ابن أخ لأب وأم وأخ لأب أو لأم فالغلة للأخ، وإن كان له ابن أخ لأب وابن أخ لأم فعند أبي حنيفة الغلة لابن الأخ، وعندهما الغلة بينهما وجنس هذه المسائل في «وقف الخصاف» في باب الرجل يقف أرضه على قرابته يبدأ بأقربهم. ولو قال: أرضي صدقة في القرابة أو على القرابة ولم يقل قرابتي قال: هما سواء ويكون ذلك لقرابته وكذلك لو قال: للأقارب والأنساب أو لذوي الرحام ولم يضف إلى نفسه يكون ذلك لقرابته لمكان العرف، ولأن معهود كل إنسان قرابته، والألف واللام لتعريف المعهود، ولو كان (قال) على قرابتي من قبل أمي وأبي أو على قرابتي من قبل أمي

فهو على ما قال، وتقسم الغلة عليهم على عدد رؤوسهم يستوي فيه من كان من قبل أبيه ومن كان من قبل أمه، ولا تترجح قرابته من قبل أبيه وأمه. ولو قال: بين قرابتي من قبل أبي وبين قرابتي من قبل أمي، فنصف الغلة تكون لقرابته من قبل أبيه، ونصفها يكون لقرابته من قبل أمه. قال: ألا ترى أن من قال أوصيت بثلث مالي بين زيد وبين عمرو، فاذا أحدهما ميت فللحي منهما نصف الثلث. ولو قال: أوصيت بثلث مالي لزيد وعمرو فإذا أحدهما ميت فللحي منهما كل الثلث. ذكر الخصاف في «وقفه» : إذا وقف على قرابته الأقرب فالأقرب وبعدهم على المساكين، فالغلة كلها لأقرب قرابته منه واحداً كان أقربهم أو أكثر من ذلك ويقسم عليهم على عدد رؤوسهم، فإن قال بعضهم: لا أقبل هذا أو قبل بعضهم كانت الغلة لمن قبل منهم وسقط من لم يقبل منهم، فإن مات هؤلاء الذين كانوا أقرب إليه كانت الغلة لمن يلي هؤلاء بطناً بعد بطن. وكذا لو قال: يعطي غلة هذا الوقف أقرب الناس إلي نسباً ورحماً ثم الأقرب فالأقرب بعد ذلك، وكذلك لو قال: الأولى فالأولى وكذا إذا وقف على فقراء قرابته الأقرب فالأقرب بدئ بالأقرب فالأقرب، هكذا ذكر الخصاف وهلال عن أبي يوسف أن القريب والبعيد في هذا سواء إلا أن يقول: الأقرب ثم الأقرب ثم على ما ذكر هلال والخصاف إذا وجبت البداية بالأقرب يعطي مائتي درهم ولا يعطي أكثر من مائتي درهم، أما إعطاء المائتين؛ لأن المقصود من هذا الوقف الأغنياء عرف ذلك بذكر الفقراء والغناء لا يقع بأقل من المائتين ولا يعطي أكثر من المائتين؛ لأن الإغناء بقدر المائتين، فلا حاجة إلى الزيادة، فإن أعطى مائتي درهم وبقي من الغلة شيء يعطي الذي يليه مائتي درهم، فإن أعطى كل واحد منهم مائتي درهم وبقي من الغلة شيء، فالقياس أن يكون ذلك كله للأقرب فالأقرب، وهناك يعطي الأقرب كل الغلة، فهنا بذلك. وفي الاستحسان: يقسم بينهم بالسوية؛ لأن الأصل كان مقسوماً بالسوية، فكذا الفضل يؤخذ حكمه من الأصل كما قلنا في المواريث ما فضل من السهام يرد عليهم على قدر الأصول، ذكر هلال المسألة على القياس والاستحسان، والخصاف في جنس هذه المسالة لم يذكر القياس والاستحسان، وصورة ما ذكرها الخصاف إذا كان أقربهم إليه جماعة قسمت بينهم بالسوية إذا كان الذي يصيب كل واحد منهم مائتا درهم أو أقل، وإن كان في الغلة ما يصيب كل واحد من البطن الأعلى مائتا درهم وفضل عنهم، قال: يقسم الفاضل بينهم، قال: وكذلك يكون الحال في كل بطن منهم، وقال أيضاً: إذا كان قال: يبدأ بالأقرب فالأقرب مني يعطي من غلة هذه الصدقة ما يصيبه، قال: يبدأ بأقربهم فيعطى مائتا درهم يليه ثم يعطي الذي يليه مثل ذلك حتى ينتهي إلى آخرهم، فإن فضل شيء من غلة هذه الصدقة كان ذلك لهم. ولو قال: على فقراء قرابتي على أن يبدأ، فيعطي جميع الغلة الأقرب فالأقرب يعطي الأقرب كل الغلة؛ لأنه هكذا أوجب، وإنما كنا نعطيه مائتي درهم بدلالة ذلك الفقراء، ولا قوام للدلالة إذا جاء الصريح بخلافها.

الفصل الثاني عشر: في الوقف على أهل البيت والآل والجنس والعصب والجيران وأشباه ذلك

ولو قال: على فقراء قرابتي يعطي منها الأقرب فالأقرب، يعطي الأقرب مائتي درهم ولا يعطي جميع الغلة؛ لأن الهاء في قوله: منها كناية عن الغلة، فقد أوجب بعض الغلة الأقرب فلا يعطي جميعاً. ولو قال: على أن ما أخرج الله تعالى من غلاتها يعطي الأقرب فالأقرب من قرابتي، يعطي الأقرب جميع الغلة؛ لأن (من) هنا راجع إلى الأرض دون الغلة؛ لأن الخارج يكون من الأرض، فلا يوجب تنقيصاً في الغلة. الفصل الثاني عشر: في الوقف على أهل البيت والآل والجنس والعصب والجيران وأشباه ذلك وإذا وقف أرضه على أهل بيته دخل تحت الوقف كل من يتصل به من قبل آبائه إلى أقصى أب له في الإسلام، يستوي فيه المسلم والكافر والذكر والأنثى والمحرم وغير المحرم والقريب والبعيد وهذا لأن المراد من البيت المذكور هنا بيت النسب لا بيت السكنى، فكل من يجمعه وآباؤه بيت نسبه دخل تحت الوقف، ونسب الإنسان من قبل أبيه، فكل من اتصل به من قبل آبائه إلى أقصى أب له في الإسلام، فهو من أهل بيته ولا يدخل تحت الوقف الأب الأقصى لو كان حياً؛ لأنه مضاف إليه لا يدخل تحت الإضافة ويدخل تحت الوقف وكذا الوقف؛ لأن ولد الواقف يضاف إلى أب الواقف الأكبر، وكذلك ولده يدخل تحت هذا الوقف لما قلنا، ولا يدخل تحت هذا الوقف أولاد البنات، وأولاد الأخوات؛ لأنهم لا ينسبون إلى أب الواقف الأكبر إنما ينسبون إلى آبائهم فصاروا من أهل بيت آخر، وكذلك لا يدخل أولاد من سواهن من الإناث لما قلنا. إذا كان زوجها من بني أعمام الوقف وعشيرته فحينئذٍ يدخلون؛ لأنهم من أهل بيت نسبه، والجواب فيما إذا وقف على جنسه كالجواب فيما إذا وقف على أهل بيته؛ لأن الإنسان من جنس قوم أبيه. والجواب فيما إذا وقف على آله كالجواب فيما إذا وقف على أهل بيته؛ لأن الآل وأهل البيت يستعملان استعمالاً واحداً، فإذا وقفت امرأة على أهل بيتها أو على جنسها أو على آلها لا يدخل تحت الوقف والديها؛ لأن والديها لا ينسب إلى أبيها الأكبر الذي هو صاحب بنت نسبها، وكذلك ولدها لا يدخل لهذه العلة. واذا وقف على أهله فالقياس أن يدخل تحته امرأته لا غير، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ثمة، وذكر هلال في وقفه قول أبي حنيفة ولم يذكر القياس، وفي الاستحسان يدخل تحت الوقف كل من في عياله ونفقته....... هذا هو المتعارف، ولا يدخل

تحت الوقف مماليكه؛ لأن مماليكه خدام الأهل، وما يجب لهم فهو للمولى والمولى لم يدخل (16أ3) تحت الوقف. وأما العيال فكل من كان في نفقة إنسان فهو من جملة عياله سواء كان في منزله أو غير منزله. وأما الحشم فقد ذكر هلال أن الحشم بمنزلة الأعيال، ورواه عن أصحابنا وقد قيل: إن الحشم أعم، يقال للسلطان هم كثر؛ لأن صاحب الكتاب وضع المسألة في أواسط الناس وأواساط الناس لا يجمعون الجنوس، فلهذا سوى بين العيال والحشم. وإذا وقف على جيرانه، فعلى قول أبي حنيفة الجار يستحق الشفعة، وشرط هلال والخصاف أن يكون ملازقاً لداره والالتزاق ليس بشرط أنه يستحق الشفعة ملازقاً كان أو غير ملازق، ثم في ظاهر مذهب أبي حنيفة السكنى، مالكاً كان الساكن أو غير مالك، وروى محمد عن أبي حنيفة أن الشرط هو الملك دون السكنى، والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية. وقال أبو يوسف ومحمد: الجار كل من يجمعهم مسجد المحلة، وفي «الزيادات» : أن قول أبي حنيفة قياس، وقولهما استحسان. والصغير والكبير والمسلم والكافر في ذلك على السواء؛ لأنهم في استحقاق اسم الجار على السواء. والعبيد والإماء لا يدخلون في هذا الوقف، بخلاف المكاتبين؛ لأن الجوار بالسكنى وسكنى المكاتب مضاف إليه بخلاف سكنى العبيد والإماء، ألا ترى أن المكاتب يستحق الشفعة، والعبد والأمة لا يستحقان الشفعة؟ قال بعض مشايخنا: اختيار ما ذكر من الجواب في العبيد محمول على ما إذا كانوا مع الموالي، فإذا كانوا منفردين بأن كانوا مأذونين يدخلون تحت الوقف؛ لأن سكناهم في هذه الصورة تضاف إليهم، ألا ترى أن العبد المأذون يستحق الشفعة كالمكاتب، ومن انتقل من جوار الوقف بعد الوقف أو استغنى لم يكن له من الوقف شيء، وإنما ينظر في هذا إلى مكان جار الوقف يوم تقع قسمة الغلة لا يوم حدوث الغلة قال هلال: بخلاف القرابة؛ لأن الجوار يزول وينقطع بخلاف القرابة. ولو وقف على جيرانه، وله دار فيها ساكن، فانتقل منها إلى دار قرابته وسكنها بأجر إلى أن مات، فالغلة لجيران الدار التي انتقل إليها ومات فيها. ولو وقف على جيرانه ثم خرج إلى مكة ومات فيها، قال: إن كان اتخذها داراً، فالغلة لجيرانه بمكة؛ لأن جوار هذه قد انقطع، وإن خرج حاجاً أو معتمراً فالغلة لجيران بلده؛ لأن جوارهم لم ينقطع. ولو كان له داران وهو يسكن في إحداهما والأخرى للغلة، فإن الغلة لجيران الدار التي يسكن فيها، وإن كان له في كل واحد منهما زوجة، فالغلة لجيران الدارين، وكذلك لو كانت إحداها بالبصرة والأخرى بالكوفة وله في كل واحد منهما زوجة. ولا يدخل في هذا الوقف ولد الواقف وإن كان جاراً، وولد الولد يدخل إذا كان جاراً قياساً على القرابة ولا يدخل استحساناً؛ لأنه لا يسمى جاراً عرفاً، وكذلك زوجته لا تدخل، وأما أخوه وعمه وخاله يدخلون؛ لأن اسم الجار يقع عليهم، ولو وقف على فقراء جيرانه ومات، فباع ورثته تلك وانتقلوا إلى ناحية أخرى، فالغلة لجيرانه يوم مات ولا يلتفت إلى بيع الورثة.

ولو وقف على فقراء الجيران ولم يضف الجيران إلى نفسه بأن لم يقل على فقراء جيراني، فهذا وما لو قال: على فقراء جيراني سواء لما قلنا في القرابة، وإن كان حين مرض حوله ابنه إلى محلة أخرى أو قرية ثم مات، فالغلة لجيرانه الأولين وليس هذا بانتقال. ولو أن امرأة كانت تسكن في دار فوقفت على جيرانها وقفاً ثم تزوجت وانتقلت إلى بيت زوجها وماتت فيها، فجيرانها جيران زوجها؛ لأنها تابعة للزوج في السكنى، فانقطع جوارها الأول، قالوا: إن كان متاعه في داره فالغلة للأولين؛ لأن جوارهم لم ينقطع، وإذا وقف على جيرانه، فأعطى الوصي بعضهم دون البعض ضمن؛ لأنهم هنا يخصون، فكانوا متعينين فقد دفع حقاً مستحقاً لقوم معينين إلى غيرهم فيضمن، بخلاف ما إذا وقف على الفقراء؛ لأن هناك المستحق ليس معين. وإذا وقف على فقراء جيرانه، فالأرملة تدخل إذا كانت جاراً، وذات البعل لا تدخل؛ لأن سكنى الأرملة مضاف إليها فكانت جاراً حقيقة بخلاف ذات البعل؛ لأنها تابعة للزوج في السكنى، فلم يكن سكناها مضافاً إليها، فلم يكن جاراً حقيقة. وإذا وقف على أيتام قرابته، فاليتيم صغير أو صغيرة مات أبوه ولم يدرك حياة الأم (لا) يخرجه من أن يكون يتيماً، كذلك حياة الجد لا يخرجه من أن يكون يتيماً، وإذا أدرك الصغير أو الصغيرة فقد خرج أن يكون يتيماً، وإدراك الغلام بالاحتلام وأدرك الجارية بالحبل أو الحيض، وإن لم يكن شيء من ذلك حتى بلغ خمس عشرة سنة، ففي المسألة اختلاف والمسألة معروفة، وإن احتلم الغلام بعد مجيء الغلة وحاضت الجارية بعد مجيء الغلة، فحصته ثابتة له من هذه الغلة؛ لأنه استحقاق قد ثبت حين جاءت الغلة، وهو لم يدرك، فلا يبطل الإدراك بعد ذلك. فإن تنازعوا في ذلك فقال سائر المستحقين: إنما احتلمت قبل مجيء الغلة، وقال هؤلاء: بل احتلمت بعد مجيء الغلة، فالقول قوله. وكذلك إذا وقع الاختلاف في حيض الجارية، وهذا لأن الاحتلام أمر حادث، والحيض كذلك، والأصل في الحوادث أن يحال حدوثها على أقرب الأوقات يوضحه: أن حاصل اختلافهم في خروجه عن الاستحقاق، فيكون القول قوله. وإذا وقف على عقب فلان فاعلم بأن عقب الإنسان كل من يرجع بآبائه إليه، ولا يدخل فيه ولد البنات إلا إذا كان أزواج البنات من ولد فلان، وكذلك أولاد من بنيهن من الإناث لا يدخل في هذا الوقف إلا إذا كان أزواجهن من ولد فلان، ولو وقف على زيد وعقبه ولزيد أولاد وزيد حي لا يكون للأولاد شيء من الوقف؛ لأن ولد الرجل لا يسمى عقبه إلا بعد موته، وإذا وقف على أهل بيته دخل تحت الوقف من كان موجوداً من أهل بيته ومن يأتي بعد هؤلاء من أولادهم، وأولاد أولادهم. ولو أوصى بثلث ماله لأهل بيته، فإن الوصية لمن كان موجوداً وقت موت الموصي ولمن كان يولد من أهل بيته لأقل من ستة أشهر من يوم مات الموصي، والفرق أن الوصية لا تجوز لمن لم يخلق، والوقف يجوز.

الفصل الثالث عشر: في الرجل يقف أرضه على الفقراء، فيحتاج أحدمن ولده أو يحتاج هو في وقف نفسه

ولو قال: وقف على فقراء أهل بيتي أو قال: على من افتقر من أهل بيتي، قال الخصاف: أنظر في هذا إن كان فقيراً يوم تقع القسمة ولا أعتبر وقت طلوع الغلة، وكذلك في كل موضع كان الوقف على الفقراء، فالخصاف لا يعتبر يوم طلوع الغلة، قال: لأن الواقف إذا ذكر الفقراء صار الوقف كالزكاة لا ينظر إلى يوم الوجوب إنما ينظر إلى يوم الأداء، فكذا هذا. وفرق هلال بينما إذا كان الوقف على الفقراء والمساكين، وبينما إذا كان الوقف على فقراء قرابته فقال: إذا كان الوقف على الفقراء (16ب3) والمساكين يعتبر الفقير يوم القسمة لا يوم طلوع الغلة، وفيما إذا كان الوقف على فقراء القرابة يعتبر يوم طلوع الغلة حتى لو استغنى بعد ذلك يعطى نصيبه، وإذا مات يورث نصيبه، ولو كان غنياً يوم طلوع الغلة ثم افتقر لا يعطى شيئاً. والفرق أن في الوقف على الفقراء والمساكين الحق غير ثابت للمعين في الغلة يوم حدوثها. ألا ترى أن للقيم أن يعطي من شاء ويحرم من شاء، وألا ترى أن شهادة الفقيرين على الوقف على الفقراء مقبولة، وإنما يجب الحق بالقسمة فيعتبر يوم القسمة، فأما في الوقف على فقراء قرابته الحق قد وجب لهم بأعيانهم، ألا ترى أن القيم لو منع حصة أحدهم ضمنها له، وألا ترى أنه لا يقبل شهادة الشاهدين من القرابة على هذا الوقف فعلم أن الحق قد ثبت في الغلة يوم حدوثها، فلا يبطل هذا الحق بالموت أو بالاستغناء بعد ذلك. الفصل الثالث عشر: في الرجل يقف أرضه على الفقراء، فيحتاج أحدمن ولده أو يحتاج هو في وقف نفسه إذا جعل أرضه صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين، فاحتاج بعض قرابته وأراد أن يعطى من تلك الغلة بأن هنا مسألتان: إحداهما إذا احتاج الواقف بنفسه والحكم فيها أن لا يعطى من تلك الغلة شيء، هكذا ذكر هلال في وقفه. قال الفقيه أبو بكر الأعمش رحمه الله: هذا الجواب على مذهب هلال صحيح، فإن من مذهبه أن الواقف لو شرط أن يأكل بنفسه مادام حياً لا يصح، ولا يحل له الأكل، فكذا إذا احتاج بعد ذلك لا يحل له الأكل اعتباراً للانتهاء بالابتداء، فأما على قول أبي يوسف يصح؛ لأن على قوله لو شرط في ابتداء الوقف أن يأكل بنفسه صح الشرط له الأكل، فكذا يحل له الأكل في الانتهاء إذا احتاج إليه بعد ذلك، قال الفقيه أبو بكر الإسكاف: هذا الجواب صحيح على قول الكل؛ لأن على قول أبي يوسف إذا شرط في ابتداء الوقف أن يأكل إنما يحل له الأكل؛ لأنه بالشرط استثنى الغلة عن حق الفقراء، فلم يزل الغلة عن ملكه إنما زالت الرخصة عن ملكه، فيصير آكلاً ملك نفسه، أما ههنا الغلة زالت عن ملكه وثبت فيها حق

الفقراء، فلا يصير آكلا ملك نفسه لو حل له الأكل حل بطريق الصدقة، ولا وجه إليه؛ لأنه يصير متصدقاً على نفسه، وقال الفقيه أبو جعفر: يجوز أن يفرق بين الابتداء وبين الانتهاء، فيقال في الابتداء: إنما يستحق بالشرط؛ لأن الشرط خرج على وجه الفساد، وهذا الوقف قد صح بإضافته إلى الفقراء، فيجوز له التناول بحكم فقره، وهذا كما قال محمد في «السير» إذا قال الأمير: إن قتلت هذا الكافر فلي سلبه ثم قتله لا يستحق السلب؛ لأن كلامه خرج على وجه الفساد. وبمثله لو قال: من قتل قتيلاً فله سلبه فقتل الإمام بنفسه كافراً استحق السلب؛ لأن كلامه خرج على الصحة، فيستحق السلب عند وجود نسبته منه. المسألة الثانية: إذا احتاج بعض قرابته، فإن كان الوقف في حالة مرض الموصي لا يعطي؛ لأن هذا في معنى الهبة للوارث في مرض الموت لا يجوز، وكذا إن كان الوقف في حالة الصحة، ولكن يضاف إلى ما بعد الموت بأن قال: أرضي هذه صدقة موقوفة بعد وفاتي على المساكين، وهي تخرج من الثلث؛ لأن هذه الوصية والوصية للوارث باطلة، ويعطي ولد ولده إن لم يكن وارثاً ذكر هلال في وقفه، وذكر الخصاف في «وقفه» أنه إذا أوصى الواقف أن يجعل أرضه صدقة موقوفة لله أبداً بعد وفاته على المساكين، فاحتاج ولده أعطاهم غلة هذه الصدقة، وليس هذا بوصية، وأجاب عن قول هلال؛ لأن هذا وصية، فقال: هذا من طريق الايجاب، وإن كان الوقف في حالة الصحة ولم يكن مضافاً إلى ما بعد الموت، ذكر في «واقعات الناطفي» : أن الصرف إلى ولد الواقف أفضل، ثم إلى قرابة الواقف ثم إلى مولى الواقف ثم إلى أهله حضره أيهم أقرب من الواقف منزلاً، وذكر هلال في وقفه أن يعطي أقل من مائتي درهم، وهو أولى من سائر الفقراء. ولو رأى القيم أن لا يعطيه كان له ذلك وهو قول الفقيه أبي بكر الأعمش رحمه الله مقصود الواقف من الوقف الثواب، والتصدق على فقراء القرابة أكثر ثواباً، وإليه أشار عليه (الصلاة والسلام) في قوله لامرأة عبد الله بن مسعود حين أرادت أن تتصدق على زوجها «لك أجران أجر الصدقة (وأجر القرابة) » والدليل عليه أن في باب الزكاة على قرابته الذين دور الدفع إليهم أولاً ثم إلى جيرانه ثم إلى أهل بلده، ولكن يعطى أقل من مائتي درهم، ولو أعطى مائتي درهم يجوز، ويكره كما في الزكاة، وكان الفقيه أبو بكر الإسكاف يقول: لا يعطي لأحد من قرابة الواقف شيء من هذا الوقف؛ لأنه إن أعطى صيروه ملكاً بمرور الزمان، فيؤدي إلى إبطال الوقف، وكان الفقيه أبو القاسم الصفار رحمه الله يقول: إن طلب وخاصم وباع القيم لا يعطى؛ لأنه إذا خاصمه في ذلك أن قصده التملك وإبطال الوقف بخلاف ما إذا لم يخاصم ولم ينازع، وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: إن خاصم القيم ونازعه لا يعطى، وإن لم يخاصمه ولم ينازعه يعطى وهو أولى، ولكن لا يصرف إليه كل الغلة، فإنما يصرف في بعض الأزمان دون البعض؛

لأن في صرف الكل إليهم على الدوام إبطال الوقف عسر؛ لأنه ربما يقع عند الناس أنه ملكهم فيشهدون له بالملك عند دعواه ذلك لنفسه، هذا إذا وقف على الفقراء أو احتاج إليه بعض قرابته، فأما إذا وقف على فقراء قرابته تصرف جميع الغلة إليهم، وإن كان نصيب كل واحد منهم أكثر من مائتي درهم؛ لأن الواقف أوجب ذلك، وأما إذا وقف على الأفقر فالأفقر من قرابته، فهنا لا يعطي الكل إنما يعطي أقل من مائتي درهم. قال هلال: إذا وقف على الفقراء جاز صرفه إلى ولده إذا احتاج إليه، وفرق بين الوقف وبين الزكاة، فإنه لا يجوز صرف الزكاة إلى ولده، والفرق أن بوجوب الزكاة لم يزل ملك المالك عن قدر الزكاة، فكان الواجب على المالك الإخراج والتمليك من كل وجه، ولا يتحقق ذلك فيما بين الوالدين والمولودين؛ لأن منافع الأملاك بينهما متصلة، أما الوقف قد زال عن ملك الواقف بنفس الإنفاق، فليس عليه الإخراج والتمليك من كل وجه، وإنما عليه إعانة الفقراء على أخذ حقهم، والإعانة على أخذ الحق يتحقق بين الوالدين والمولودين. ولو وقف أرضه على أن نصف غلتها للمساكين ونصفها للفقراء من قرابته فاحتاج قرابته وكان الذي سمي لا يكفيهم يعطيهم (17أ3) ما جعل للفقراء لفقرهم قال هلال: وهو قول أبو يوسف بن خالد السمتي، وقال إبراهيم بن يوسف البلخي: وعلي بن أحمد الفارسي والفقيه أبو جعفر الهندواني يعطون من نصيب الفقراء؛ لأنهم فقراء وفقراء قرابته يستحقون بالجهتين جميعاً كمن وقف أرضاً على قرابته وأرض جيرانه وبعض جيرانه قرابته يستحقون من الوقفين، وجه قول هلال: أنه لما بين نصيب كل فريق فقد قطع الشركة وشرط لكل فريق بعضه فيجب رعاية شرطه.h وعن أبي يوسف أن الواقف إن شرط في الوقف أن لفقراء قرابته كذا وللمساكين والفقراء كذا، يعطي فقراء القرابة من نصيب الفقراء، وبه أخذ محمد بن سلام البلخي رحمه (الله) وجعلا هذا نظير الوصية، فإن أوصى ببعض الثلث لقرابته وببعضه للفقراء استحق القريب من نصيبه الفقراء إذا كان فقيراً، وبمثله لو أوصى ببعض الثلث لقرابته والباقي للفقراء لا يستحق القريب من نصيب الفقراء كذا هنا. لو جعل أرضه صدقة موقوفة على الغارمين وله قرابة محتاجون، فإنهم لا يعطون منها شيئاً إلا أن يكونوا غارمين اعتباراً للشرط، وكذلك إذا قال في ابن السبيل: لا يعطي قرابته منها شيئاً إلا أن يكون في قرابته ابن السبيل، وكذا إذا قال: في سبيل الله قال: وسبيل الله الغزو والجهاد، وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله أنهما قالا: جميع وجوه الخير والبر سبيل الله، ولو جعل أرضه صدقة موقوفة على الفقراء فاحتاج قرابته فرفع ذلك إلى القاضي فأعطاهم منها القوت أيكون هذا حكماً لهم من القاضي بالأقوات؟

قال هلال: لا، وإنما هذا بمنزلة الفتوى وليس بقضاء حجة، حتى لو عزل بطل، وكذا لو رجع بنفسه عمل رجوعه، ولو أعطى القيم غيرهم لم يضمن، ولو قال حكمت أن لا يعطى قرابته نفذ حكمه حتى ليس لقاضٍ آخر أن يبطله، ولو أعطى القيم غير القرابة ضمن، هكذا ذكر هلال في وقفه، وقال الفقيه أبو بكر الأعمش: لا ينفذ حكمه، وجه قوله في ذلك أن هذا حكم بخلاف ما يقتضيه الشرع؛ لأن الواقف ما وقف على القرابة إنما وقف على الفقراء وحال ما وقف لم يكن هؤلاء ليدخلوا تحت الوقف من حيث إنهم فقراء، وجه ما ذكر هلال: أن مقصود الواقف الآخر الثواب، وفي الصرف إلى القرابة أكثر فكان قضاؤه موضع الاجتهاد فينفذ. لو وقف أرضاً له على فقراء قرابته وأرضاً له أخرى على فقراء المساكين ووقف القرابة لا يكفيهم، فإن كان ذلك في عقد واحد لا يعطون كأنه وقف واحد، وقد قطع الشركة حتى يبين كل واحد نصيباً، فأما إذا كان في عقدين فلم يقطع الشركة، فإذا اجتمع الوصفان استحق بهما، ويجب أن يكون ما ذكر من الجواب فيما إذا كان العقد واحداً على قول هلال و (أبي) يوسف بن خالد على نحو ما بينا قبل هذا. وإذا وقف أرضه على الفقراء والمساكين فاحتاج بعض قرابته إلى ذلك فأعطي من الغلة مائتي درهم فأنفقها وصار فقيراً وقد بقي من الغلة شيء، فإن كان يعلم أن إنفاقه في غير فساد وأنه أنفقها فيما لابد منه أوصى من يعطي من النفقة ما يكفيه، وإن علم أنه أسرف أو أنفق في فساد لا يعطى؛ لأنه يكون إعانة على الفساد، وكذلك هذا الجواب في الزكاة ويصير هذا الفصل رواية في أن الفقير إذا كان يعلم أنه ينفق في معصية أو سرف، أنه لا ينبغي. وإذا وقف على فقراء قرابته وله قرابة من غير أهل البلد الذي الواقف إلى تلك البلدة يقسم على فقرائهم في هذه البلدة، وإن بعث القيم إلى تلك البلدة، فلا ضمان وهو بمنزلة الزكاة. ومما يتصل بهذا الفصل، إذا قال: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة أبداً على زيد وولده وولد ولده أبداً ماتناسلوا، ومن بعدهم على المساكين على أنه إن احتاج قرابتي رد عليهم هذا الوقف، فكانت غلته لهم فكانت قرابته جماعة، فاحتاج بعضهم وبعضهم أغنياء رد هذا الوقف على من احتاج من قرابته، وكذلك لو قال: إن احتاج موالي فاحتاج بعضهم، ولو قال: على أن ولد زيد إن ماتوا ردت غلة هذا الوقف على عمرو، فمات بعض ولد زيد وبقي البعض لم ترد الغلة حتى يموت كل ولد زيد، هكذا ذكر الخصاف قال: ولا يشبه هذا الباب الأول؛ لأن في الأول قصد إلى الرد على المحتاجين منهم. قال هلال في «وقفه» : إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة بعد موتي على الفقراء، فمن احتاج من ولدي وولد ولدي أعطي ما يكفيه، كان كما قال فإن احتاج أحد من ولد

الفصل الرابع عشر: في الوقف على الموالي والمدبرات وأمهات الأولاد والمماليك

صلبه ينظر إلى ما يكفيه فيكون ذلك ميراثاً لجميع الورثة؛ لأنه لا يستحق بالوقف؛ لأنه بمنزلة الوصية لا يجوز للوارث، فلا يختص هو به، وإن احتاج بعض ولد الولد أعطي له ما يكفيه، ويكون ذلك بالوقف؛ لأن الوصية له جائزة، فإن احتاج ولد الصلب وولد الولد أعطيا، ثم ما يصيب ولد الصلب يكون بين الورثة وما يصيب ولد الولد يكون له، و (إن) احتاجوا جميعاً يقسم على عدد الرؤوس ثم الحكم ما ذكرنا من الإرث والوقف، وإن استغنى المحتاج لا يعطى له وهذا ظاهر، وإن قصرت الغلة عما يسمى لكل فقير وكان يكفي لأحدهما، فإنه يبدأ بولد الولد؛ لأن حقه قوي يجوز من غير إجازة، وحق ولد الصلب لا يثبت إلا بإجازة الورثة والبداية بالاقوى أولى. الفصل الرابع عشر: في الوقف على الموالي والمدبرات وأمهات الأولاد والمماليك إذا وقف الرجل أرضه على مواليه وهو رجل من العرب، فالغلة لكل من أعتقه هذا الرجل قبل الوقف ولكل من يعتقه بعد الوقف ولكل من يعتق بعد موته من جهته كمدبرته وأمهات أولاده، فرق بين الوقف والوصية، فإن من أوصى بثلث ماله لمواليه وله مدبرون، وأمهات الأولاد فمات الموصي وعتق هؤلاء بموته، فإنه لاحظ لهم من الوقفية، والفرق وهو أن وجوب الوصية يوم يموت الموصي وولاء المدبر وأم الولد يثبت بعد الموت؛ لأنهم يعتقون بعد الموت فوقت وجوب الوصية لا ولاء، فلا يستحقون الوصية وقت وجوب الوقف (و) يوم حدوث الغلة الولاء ثابت فيستحقون ذلك، وروي عن أبي يوسف في «النوادر» : أن أمهات الأولاد والمدبرين وصية أيضاً، وكذلك يدخل في هذا الوقف كل من له أوصي بعتقه بعد موته، وكذلك لو كان أوصي أن يشترى به رقيق بعد وفاته فيعتقون، دخلوا في هذا الوقف، فإن كان لهذا الرجل مولى أعتقهم هذا الرجل وموالي الموالي، فالغلة لمواليه، كما في الولد مع ولد الولد، وهذا لأن مواليه ينسبون إليه بلا واسطة، وموالي الموالي ينسبون إليه بواسطة فكان الاسم لمواليه حقيقة ولموالي الموالي مجازاً، ولو كان له موليان فالغلة لهما بكمالها (17ب3) لأن اسم الموالي ينطلق عليهما، ولو كان له مولى واحد فله نصف الغلة والنصف للفقراء، ولو كان له موال وموليات، فالغلة للكل هكذا ذكر الخصاف وهلال، ومن المشايخ من قال: يجب أن تكون المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة: لا يكون للموليات شيء، كما لو وقف على بنيه وله بنون وبنات ومنهم من قال: هذا بالإجماع، فيحتاج أبو حنيفة على قول هذا القائل إلى الفرق بين مسألة البنين وبين مسألة الموالي، والفرق: أن اسم الموالي ينطلق على الموليات عند الإنفراد، فإنه يقال: إن موالي فلان جاز أن يشركن (ف) عند الاختلاط أولى.

لقد ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» : إذا استأمن الحربي على مواليه وله موالى وموليات دخلوا في الأمان، وكذلك إذا أوصى لمواليه دخلوا جميعاً في الوصية وأولاد الموالي يدخلون في هذا الوقف لأنهم ينسبون إليه بلا واسطة، وأما أولاد الموليات هل يدخلون في هذا الوقف؟ ذكر الخصاف في «وقفه» : أنهم إن كانوا يرجعون بولاء آباءهم إلى الواقف يدخلون، وإن كان ولاء آبائهم إلى قوم آخرين لم يدخلوا فيه، وإن كان له موالي عتاقة فالغلة لموالي العتاق؛ لأن ولاء العتاقة أقوى؛ لأنه متفق عليه وولاء الموالاة مختلف فيه، وسبب ولاء العتاقة لا يحتمل القسم، وسبب ولاء الموالاة يحتمل القسم قبل العقد، وإن لم يكن له إلا موالي موالات، صرفت الغلة إليهم استحساناً لأنه ليس ههنا من هو أولى منهم والضعف والقوة إنما تظهر عند المقابلة، والقياس: أن يكون الغلة للفقراء، وإن كان له موالي ولأبيه موال قد ورث هو ولاءهم عن أبيه، فالغلة لمواليه فلا يكون لموالي ابنه شيء، وكذلك إذا لم يكن له إلا موالي ابنه، لا يكون لهم من هذه الغلة شيء، وهذا قياس وهو قول محمد رحمه الله قول نفسه في «الجامع الكبير» : فيما إذا أوصى لمواليه وله موالي أبيه قد ورث هو ولاءهم عن أبيه، وعن أبي يوسف وهو لهلال: أنه يصرف إلى موالي أبيه وإنه استحسان، ويرجع الاستحسان إلى العرف، فإن الناس في عرفهم وعادتهم يستجيزون إضافة ولاء من أعتقهم أبناؤهم إلى أنفسهم. ولو وقف على مواليه وأولادهم ونسلهم فهو على ما قالوا لا يدخل في الوقف، وأولاد بنات مواليه إذا لم يرجعوا بولاء آبائهم إلى الواقف قال: لأنه أثبت بولاء من جملة مواليه فولد الابنة يكون ولد مواليه فيدخل تحت هذا الوقف، قال هلال: ولو كان الواقف قال في عقد الوقف: ونسلهم الذين يرجع ولاءهم إليّ لا يكون لأولاد البنات شيء، لأنه لا يرجع ولاءهم إلى الواقف. ولو قال: على موالي وموالي موالي وموالي موالي موالي، دخل الفريق الرابع ومن هو أسفل منهم على قياس مسألة الولد، وهي: ما إذا وقف على أولاده وأولاد أولاده وأولاد أولاد أولاده دخل في الوقف الفريق الرابع وهو أسفل. وإذا وقف على مواليه ثم أقر لإنسان بعد ذلك أنه مولاه قد أعتقه وصدقة الرجل في ذلك دخل في الوقف؛ لأنه ثبت ولاؤه بإقراره؛ لأن إقراره صحيح؛ لأنه يملك إثبات الولاء وإنشاءه بأن يعتق عبداً، فيملك الإقرار به. قالوا: وما ذكر من الجواب مستقيم في الغلة الجائية غير مستقيم في الغلات التي حدث قبل هذا الإقرار لأن ذلك صار ملكاً لمواليه المعروفين، فلا يصدق في إقراره في حق إبطال ملكهم عليهم،، فإن كان هذا الرجل من الموالي وله موال اعتقوه وموال أعتقهم، فإنه لا يعطي الفريقين من الغلة شيئاً وتكون الغلة للفقراء، وهكذا روي عن أصحابنا في الوصية إذا أوصى بثلث ماله لمواليه وله موال أعتقوه وموال أعتقهم، فالثلث يرد على الورثة ولا يعطي الفريقين منه شيئاً. واذا وقف على أمهات أولاده وله أمهات أولاد باقيات عنده، وأمهات أولاد قد

الفصل الخامس عشر: في وقف المريض

كان اعتقهن، وأمهات أولاد لم يعتقهن ولكن زوجهن دخل تحت الوقف أمهات أولاد اللاتي لم يعتقهن من كن عنده ومن كان زوجهن، ولا يدخل تحت الوقف من أعتقهن وهو قول محمد، وعن أبي يوسف أنه قال: القياس في هذا على وجهين أحدهما ما قال محمد، والثاني أن الثلث لهن جميعاً من كان أعتقهن ولم يعتقهن؛ لأن الكل أم ولد، وكذلك الجواب فيما إذا وقف على أمهات أولاد زيد ومدبراته دخل تحت الوقف أمهات أولاده ومدبراته اللاتي لم يعتقهن دون من كان أعتقهن. وإن قال على أمهات أولاد زيد وعلى مولياته، ولزيد أمهات أولاد قد كان أعتقهن وأمهات أولاد لم يعتقهن قسمت الغلة بين أمهات أولاده وبين مولياته اللاتي كان أْتقهن ويدخل اللاتي لم يعتقهن. ولو وقف أرضه على سالم غلام زيد ومن بعده على المساكين، فباع زيد سالماً فالغلة لسالم تدور معه كيف دار، فإن ملك الواقف سالماً بطل الوقف عن سالم. ولو قال: على سالم مملوكي ومن بعده على المساكين فالغلة للمساكين ولا يكون لسالم ولا للواقف من ذلك شيء. ثم فرق بينما إذا وقف على مملوكه فلم يجوزه وبينما إذا وقف على أمهات أولاده ومدبراته فجوزه وهن من مماليكه، وأشار محمد إلى الفرق فقال: لأن فيهن ضرباً من العتق. الفصل الخامس عشر: في وقف المريض إذا وقف الرجل أرضه في مرضه على الفقراء والمساكين فالوقف جائز من الثلث؛ لأنه تبرع والتبرع من المريض بمنزله الوصية المضافة إلى ما بعد الموت، فيعتبر من الثلث، كما لو أوصى بأن توقف أرضه بعد وفاته، فإنه يعتبر من الثلث كذا هاهنا، فإن كانت الأرض الموقوفة لا يخرج من الثلث بأن لم يكن له مال يخرج سوى هذه الأرض يجوز الوقف في ثلث الأرض، ويبطل في الثلثين إلا أن يجيز الورثة. وفرق بينه وبين العتق إذا لم يخرج العبد من الثلث لا يرد شيء من العبد إلى الرق ولكن يسعى في الباقي؛ لأن العتق لا يمكن فسخه ورفعه بخلاف الوقف؛ لأنه يمكن فسخه بعد موته، فجاز أن يبطل في الباقي. وإذا جعل أرضه صدقة موقوفة لله تعالى أبداً على ولده وولد ولده ونسله أبداً ما تناسلوا ومن بعدهم على المساكين، فإن كانت هذه الأرض تخرج من الثلث صارت موقوفة تشتغل ثم تقسم غلتها على جميع الورثة على سهام الميراث حتى أنه إذا كان له زوجة وأولاد يعطى لها الثمن، ولو كان له زوجة وأولاد يعطى لهما السدسان،

ويقسم الباقي بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين؛ لأنه استثنى الغلة من الفقراء وجعلها لولده والاستثناء صحيح، أما ما يجعل للولد غير صحيح؛ لأنه لا وصية للوارث إلا بإجازة باقي الورثة، فكان استحقاق الغلة في حقهم بحكم الإرث، فتكون القسمة على سهام الميراث، وهذا إذا كان له أولاد لصلبه ولم يكن معهم أولاد، فإن كان معهم أولاد الأولاد، والباقي (18أ3) بحاله، فإنه يقسم الغلة على عدد رؤوس أولاد الصلب وعلى عدد رؤوس أولاد الأولاد، فما أصاب أولاده لصلبه من ذلك قسم بين ورثته على فرائض الله تعالى نحو ما بينا، وما أصاب أولاد الأولاد يقسم بينهم بالسوية؛ لأنه صح جعله لولد الولد؛ لأن الوصية لهم صحيحة، فيستحقون نصيبهم بحكم الوقف وفي الوقف لا تفضيل للبعض على البعض، فاذا انقرض أولاد الصلب قسمت الغلة على أولاد أولاده ونسله ولا يكون لزوجه ولا لأبويه من ذلك؛ لأنهم يستحقون بحكم الوصية والوقف لا بحكم الإرث، وإن كانت هذه الأرض لا يخرج من الثلث، فإن أجازت الورثة جاز وتكون الغلة بينهم بالسوية لا يفضل الذكر على الأنثى؛ لأن في هذه الصورة صح جعل الوقف للأولاد؛ لأن الوصية للوارث صحيحة إذا أجاز باقي الورثة ذلك فيستحقون الغلة في هذه الصورة بحكم الوقف، فيكون بينهم بالسوية؛ لأنه لا تفضيل في الوقف، ولا يكون للأبوين والزوجة من ذلك شيء؛ لأن الوصية وقعت للأولاد لا غير، وإن لم يجيزوا الوقف جاز الوقف من الثلث وصار ثلث الرقبة وقفاً للفقراء، وتقسم الغلة بين جملة الورثة على فرائض الله؛ لأن جعل الغلة للأولاد لم يصح لما لم يجز الورثة الوقف، أما استثناء الغلة من الفقراء قد صح، فتقسم الغلة بحكم الميراث فتقسم على سهام الميراث، وهذا الذي ذكرنا قول هلال والقاضي أبي بكر الخصاف والفقيه أبي بكر الاعمش والفقيه أبي بكر الإسكاف. وقال محمد بن سلمة ونصير بن يحيى رحمهما الله: إذا لم يُجْيزوا الوقف كانت الغلة للفقراء. ووجه ذلك: أن الأرض صارت وقفا للفقراء، والغلة تبع للأرض إلا أنه آثر بالغلة ولم يصح الإيثار لعدم الإجازة، فصار وجود هذا الإيثار والعدم بمنزلة فيكون للفقراء. وقال علي بن أحمد الفارسي وأبو نصر بن محمد بن سلام رحمهما الله الغلة تكون للفقراء وإن أجازت الورثة الوقف؛ لأن إجازة الورثة إنما يعمل في إبطال حقهم لا في إبطال حق الفقراء وقد صارت الغلة حقاً للفقراء تبعاً للأرض، فلا يعمل إجازتهم في حقهم، ألا ترى أنه لو عدمت الإجازة كانت الغلة للفقراء، فلا يبطل حقهم بإجازة الورثة، ألا ترى أن حق الموصى له لا تبطل بإجازة الورثة حتى إن من أوصى بثلث ماله وأوصى لوارثه مع ذلك وأجازت الورثة لا يعمل إجازتهم في حق الموصي لها بالثلث، فكذا في حق الفقراء. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله إذا أجازوا ينبغي أن يكون ثلث الغلة للفقراء والثلثان للأولاد؛ لأن قدر الثلث حق للفقراء تبعاً للأرض في حق الورثة، والإجازة فيما وراء الثلث لاقت حق الورثة لاحق الفقراء فتعمل إجازتهم فيه، ويكون ذلك للأولاد.

وإن وقف أرضه على قرابته، فإن كانت قرابته ورثة له، فهذا وما لو كان الوقف على الولد سواء، وإن لم يكونوا ورثة لهم جاز الوقف عليهم ويستحقون الغلة بجهة الوصية، وإن وقف على بعض ورثته دون البعض، فإن أجازوا (جاز) لما قلنا، وإن لم يجيزوا صارت الأرض وقفاً للفقراء من الثلث وتكون الغلة على قول هلال ومن تابعه للورثة على قدر مواريثهم، فإن مات الوارث الموقوف عليه، فالغلة للفقراء؛ لأن استثناء الغلة من الفقراء قد بطل بموت الموقوف عليه فعادت الغلة إلى الفقراء تبعاً للأرض، وإن مات بعض ورثة الواقف لأن الوارث الموقوف عليه حي فالغلة لجميع الورثة، ومن مات فنصيبه يصير ميراثاً لورثته. ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على ولدي وولد ولدي ونسلي، وآخره للفقراء، وأوصي بذلك والأرض تخرج من ثلث المال، فإن أجازوا قسمت الغلة بين الولد وبين ولد الولد على عدد رؤوسهم، فما أصاب ولد الولد يقسم بينهم بالسوية، وما أصاب ولد الصلب فهو ميراث بين جميع الورثة لما مر. وإن هلك بعض ولد الصلب وبعض ولد الولد ينظر إلى عددهم يوم تحدث الغلة ما أصاب ولد الصلب يقسم على جميع ورثة الواقف يوم مات الواقف على قدر ميراثهم ثم حصة الميت منهم تكون لورثته؛ لأن الاستحقاق في هذه الصورة في حق أولاد الصلب بحكم الميراث، فينظر إلى من كان موجوداً يوم موت الواقف، فإن انقرض ولد الصلب كلهم، فالغلة لولد الولد والنسل ولا شيء لسائر الورثة؛ لأن الاستحقاق في ولد الولد والنسل بحكم الوقف ولا حصة لسائر الورثة من هذا الوقف. ولو قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على من احتاج من ولدي ونسله ما تناسلوا وأخره للفقراء فهو جائز من الثلث، فإن كانوا جميعاً أغنياء فالغلة للفقراء، وإن كان ولد الولد فقيراً فالغلة له واحداً كان أو اثنين أو أكثر، فإن كان ولد الصلب فقيراً كانت الغلة بين جميع الورثة على فرائض الله، وإن كان بعض ولد الصلب فقيراً وبعض ولد الولد فقيراً قسمت الغلة بينهم على عدد رؤوسهم ثم حصة ولد الصلب تكون ميراثاً بين ورثة الواقف جملة، وحصة ولد الولد تكون له. ولو وقف أرضه في مرض موته وأوصى بوصايا قسمت ثلث ماله بين الوقف وبين سائر الوصايا فيضرب لأهل الوصايا ولأهل الوقف بقيمة هذه الأرض، فما أصاب أهل الوصايا أخذوه وما أصاب قيمة أرض الوقف أخرج من الأرض بذلك المقدار فصار ذلك وقفاً على من وقف عليهم ولا يكون الوقف المبعد أولى. ولو كان مكان الوقف عتقاً موقعاً في مرضه، بأن أعتق عبيداً له في مرضه وأوصى بوصايا أو كان له مدبرون حتى عتقواً بموته، فإنه يبدأ بعتق من أعتق من عبيده ويعتق من كان مدبراً، فيخرج قيمتها من ثلث ماله ويصرف ما بقي من الثلث إلى أصحاب الوصايا. ولو قال: أرضي هذه صدقة على قرابتي بعد وفاتي يكون وصية بغير الأرض لقرابته. ولو قال: موقوفة على قرابتي بعد وفاتي تكون وصية بغلة الأرض لقرابته، والفرق

أن الصدقة توجب زوال ملك الرقبة، والوقف لا يوجب زوال ملك الرقبة. فإذا قال: موقوفة أن قضي أن يكون باقية على ملكه ونصرف عليها إلى القرابة، بخلاف ما إذا قال: صدقة. ولو قال: أرضي هذه تعطى غلتها بعد وفاتي لولد عبد الله ونسله وتكون وصية بالغلة، ولو قال: أرضي بعد وفاتي موقوفة على المساكين أوحبس على المساكين، فهذا الوقف جائز ومن بعدهم جعل الغلة للورثة فالغلة تكون للقوم الذين جعل لهم، فإذا انقرضوا كانت الغلة للورثة على قدر مواريثهم، فإذا ماتوا كانت الغلة للفقراء، هكذا ذكر هلال في «وقفه» ، وكان الفقيه أبو بكر الأعمش يقول: يجب أن تكون الغلة بعد ذلك القوم للفقراء،؛ لأنه قال: ومن بعدهم للورثة ولم يبين أن المراد ورثة القوم أو ورثه نفسه، فوقع الشك (18ب3) في الاستحقاق: للورثة فلا يثبت الاستحقاق والجواب أن الواقف ذكر الورثة بالألف واللام، وإنه لتعريف العهد، ومعهود الواقف ورثته وقد مر جنس هذا. و (لو) قال: أرضي هذه بعد وفاتي صدقة يتصدق بعينها أو يباع ويتصدق بثمنها؛ لأنه نص على الصدقة، والصدقة للفقراء، فلا يكون فيها جهالة. إذا قال: أرضي صدقة موقوفة على الفقراء أوصى بذلك بعد موته والأرض لا يخرج من الثلث حتى جاز في ثلث الأرض وبطل في الثلثين على ما مر، ثم ظهر للميت مال يخرج الأرض من الثلث بأن كان قيمة الأرض ألف درهم وظهر للميت ألفا درهم صار كل الأرض وقفاً، وإن ظهر له ألف درهم صار ثلثا الأرض وقفاً وبطل الثلث؛ لأنه يظهر أن ثلث ماله ثلثا الأرض، وإن كان القاضي حين أبطل الوقف في الثلثين تصرف الورثة؛ لأنه في الثلثين بالبيع أو الهبة ثم ظهر للميت مال ذكر هلال في «وقفه» أن بيع الورثة جائز ولا ينقض، هكذا ذكر الخصاف في «وقفه» ، وعلل فقال: من قبل أن القاضي أطلق لهم (التصرف) بهذين الثلثين وملكهم إياه، فكان تصرفهم بناء على الملك والإطلاق الشرعي، ولكن الورثة يغرمون قيمة الثلثين فيشترى بها أرضٌ أخرى توقف، لا أنهم استهلكوا ذلك بتصرفهم فيضمنون، وكان الفقيه أبو بكر الأعمش يقول: ينبغي أن ينقض بيع الورثة؛ لأنه إنما ينفذ بيعهم في الثلثين على تقدير أنه ملكهم، فإن الوقف فيه لم يصح وقد ظهر أن الوقف قد صح فيه.h واستشهد الخصاف في «وقفه» لإيضاح قوله بمسألة الوصية فقال: ألا ترى أن رجلاً لو أوصى بأرض له لرجل وليس له مال ظاهر غيره هذه الورثة وأبى الورثة أن يجيزوا ذلك فرفعوا إلى القاضي ورد القاضي الثلثين على الورثة، ثم إن الورثة باعوا ذلك ثم ظهر للميت مال يخرج كل الأرض من الثلث، فإنه لا يرد بيعهم ويضمنون للموصى له قيمة ثلثي الأرض كذا هنا، هذا إذا ظهر للميت مال، ولو حصل للميت مال بأن قتل الواقف

عمداً ثم إن الورثة صالحوا القاتل على مال لا ينقض البيع بالإتفاق إذ لا يتبين أن الملك لم يكن للورثة في الثلثين، ولو كان باع بعض الورثة دون البعض فما لم يبع يعود وقفاً وما بيع يشترى بقيمته أرض ويوقف اعتباراً للبعض بالكل، ولو كان على الواقف دين فباع القاضي الأرض بالدين ثم يظهر للميت مال كثير،، فإن بيع القاضي لا يرد ولكن يؤخذ من المال الذي ظهر مقدار الثمن الذي باع القاضي الأرض به، ويشتري بذلك أرضاً أخرى، لقد اعتبر الثمن، ولم يعتبر القيمة حتى لو كانت قيمة الأرض ألف درهم، أو أقل أو أكثر، والقاضي باع الأرض بألف درهم وخمسمائة، يؤخذ من المال الذي ظهر قدر ألف وخمسمائة، وفي حق الورثة اعتبر القيمة ولم يعتبر الثمن. والفرق: أن القاضي لا يلحقه العهدة فلا يمكن إيجاب القيمة؛ لأنه ينقل حق أرباب الوقف عن العين إلى الثمن، بولاية شرعية فصح النقل بخلاف الورثة؛ لأن إيجاب القيمة عليهم ممكن، روى المعلى عن أبي يوسف: أنه يعتبر القيمة في الموضعين جميعاً؛ لأنه ظهر أنه استهلك على الأرباب أرضهم كالورثة إلا أنه تعذر إيجاب ضمان القاضي فيجب في المال الذي ظهر. إذا قال: أرضي هذه صدقة موقوفة على ولدي وولد ولدي ونسلي فمن هلك من ولدي لصلبي فما كان نصيبه بالإرث فهو وقف على ولد ولدي فهو جائز ويقسم الغلة على عدد رؤوس ولد الولد وعلى عدد رؤوس ولد الصلب الأحياء ومن هلك بعد موت الواقف فما أصاب الميت من ولد الصلب يكون وقفاً على ولد الولد؛ لأنه وقف عليهم فالوصية لهم صحيحة ثم ما يصيب الأحياء يقسم بينهم وبين الأموات فما أصاب الأموات يكون لورثتهم بالإرث عنهم، فإن أرادا الواقف أن يجعل ذلك وقفاً على ولد الولد ونسله فقال: وما يصيب الميت منهم من حصة ولدي الأحياء فهو وقف على ولد ولدي فهذا لا يجوز؛ لأنا لوجوزنا ذلك فما يصيبه يصير وقفاً ويخرج من أن يكون ميراثاً وقد بقي في يد الأحياء شيء من الميراث فلا يختصون به فيؤخذ منهم شيء من ذلك ثم يصير ذلك وقفاً فيرجع في الباقي حتى لا يبقى في أيديهم شيء، وذلك لا يجوز. إذا قال في مرضه: أرضي هذه صدقة موقوفة على ابني فلان، فإن مات فهي موقوفة على ولد ولدي فلم يجز الورثة ذلك فهو ميراث بين جميع ورثته ما دام الابن الموقوف عليه حياً،، فإن مات صار كله للنسل؛ لأنه وقف عليهم والوقف عليهم صحيح إلا أنه إنما وقف عليهم بعد موت الابن فلا يستحقون شيئاً حال حياة الابن، إذا وقف أرضه في مرضه على ولده وولد ولده ولا مال له سوى الأرض فثلث الأرض وقف على ولد الولد أجازت الورثة أو لم يجيزوا؛ لأن ولد الولد أهل الوصية والوصية إن هو أهل للوصية صحيحة بقدر الثلث أجازت الورثة أو لم يجيزوا، وإما الثلثان، فإن لم يجز الورثة ذلك فذاك ملك الورثة، وإن أجازوا فذاك بين ولد الصلب وبين ولد الولد. إذا وقف أرضه في مرضه وقفاً صحيحاً، وله مال يخرج هذه الأرض من ثلثه فتلف المال قبل موته ثم مات ولا مال له غير هذه الأرض،، فإن ثلثها وقف وثلثاها لا، وكذلك إن مات الواقف والمال قائم فتلف المال قبل أن يصل إلى الورثة، فإنه يجوز ذلك

الفصل السادس عشر: في الرجل يقف أرضه على وجوه سماها كيف يقسم غلة

من الثلث، والثلثان يكون للورثة قال الخصاف في وقفه: إذا أوصى أن يكون أرضه صدقة موقوفة بعد وفاتي فحدث في الأرض ثمرة قبل وفاته، ثم توفي فإن الثمر تكون ميراثاً والأرض يكون وقفاً، فإن حدثت الثمرة بعد وفاته، فإن كانت الأرض والثمرة يخرجان من الثلث، فذلك كله وقف عليه، ولو وقف الأرض في مرضه وقفاً صحيحاً وحدث فيها ثمرة قبل وفاته، فإن الثمرة يكون وقفاً مع الأرض، ولو كان فيها ثمرة يوم وقفها وهو مريض فالثمرة ميراث لورثته. وإذا قال المريض: جعلت أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى، أبداً على زيد وولده وولد ولده أبداً ما تناسلوا ومن بعدهم على المساكين، فإن احتاج ولدي أو ولد ولدي كانت غلة هذه الأرض لهم دون غيرهم، وكانوا أحق بها ما كانوا محتاجين إليه، فإن احتاج إليه ولد لصلبه بعد وفاته وجميع الغلة إليهم ودخل فيها سائر الورثة فيقسم الغلة عليهم جميعاً، وإن مات بعض ورثة الواقف مثل زوجه أو أمه ثم احتاج ولده لصلبه ردت الغلة إليهم، وقسمت بين المحتاجين من ولده وبين من كان باقياً من الورثة ولا ينظر إلى من مات منهم، فإن كان له مال، فإن احتاج أحد من ولد الصلبي أجري على من احتاج من غلة هذه الصدقة مقسوماً بين أهل الوقف فهو جائز، فإن احتاج خمس أنفس من ولده نظر إلى ما يسعهم لنفقاتهم سنة إلى إدراك (19أ3) الغلة المستقبلة فإن بلغ ذلك مثلاً مائة دينار تقسم هذه المئة بينهم، ومن سائر ورثة الواقف، فإذا قسمنا ذلك أصاب المحتاجين منهم أقل مما يسعهم لنفقة سنة ويرد عليهم من غلة هذا الوقف ما يصيبهم من ذلك مقدار مئة دينار، ثم لا بد من بيان مقدار نفقاتهم قال الخصاف: ينظر إلى ما يحتاج النظر إليه منهم لطعامه وطعام ولده وخادمه وزوجته وإدامهم وكسوتهم لسنة فيجعل ذلك الغلة لهم والله أعلم. الفصل السادس عشر: في الرجل يقف أرضه على وجوه سماها كيف يقسم غلة إذا وقف أرضه صدقة موقوفة على عبد الله وزيد، فالغلة لهما ولو ماتا كانت الغلة كلها للفقراء؛ لأن قوله صدقة موقوفة جعل الأرض للفقراء، وبقوله على عبد الله وزيد استثنى الغلة لهما ما عاشا فإذا ماتا بطل الاستثناء وعادت الغلة إلى الفقراء، وإذا مات أحدهما، فإن النصف للفقراء اعتباراً للبعض بالكل، وإن سمى جماعة قسمت الغلة بينهم على عدد رؤوسهم، فإن مات حصته للفقراء والباقي لمن بقي منهم. ولو قال: على ولد عبد الله ولم يسمي فما بقي من ولد عبد الله أحد لم يكن للفقراء؛ لأن اسم الولد عام يتناول الواحد والجماعة فما بقي أحد فالاسم يتناوله فتكون الغلة له بخلاف ما لو قال: على ولد عبد الله فلان وفلان وفلان فمات أحدهما كان نصف الغلة للفقراء؛ لأن الكلام إذا تعقبه تفسير كان الحكم له فصار كأنه وقف على فلان، ولو قال: على زيد وعمرو لزيد ثلثه كان لزيد الثلث ولعمرو الثلثان؛ لأن في

الابتداء أوجب لهما وأنه يحتمل المثالثة والمناصفة وتأخر الكلام بين أنه أراد المثالثة إذا سمي ثلثه وبين نصيب الاثنين وسكت عن الثالث كان الباقي للثالث، وكذلك إذا سمى جماعة وذكر لبعضهم أرزاقاً معلومة، فإنه يعطي ما سمى إن سمي، والباقي إن لم يسم، ولو سمى زيداً وعمراً وجعل النصف لزيد والثلثان لعمرو، فإنه يقسم على سبعة على طريق العول لزيد ثلاثة ولعمرو أربعة على قياس الفرائض، ولو قال: لزيد النصف ولعمرو الثلث يعطى لكل واحد ما سمى، والباقي بينهما نصفان؛ لأنه في الابتداء أضاف إليهما على السواء فيقتضي التسوية بينهما إلا بقدر ما وجد التفصيل يعتبر الإضافة السابقة فيكون بينهما، وكذلك إن سمى جماعة وسمى لكل واحد منهم شيئا،، فإن زادت الغلة على (ما) سمى كانت الزيادة بينهم على التسوية، وإن نقصت يتضاربون بما سمى لهم. ولو قال: أرضي صدقة موقوفة لعبد الله من غلاتها مئة درهم ولزيد مئتان فزادت الغلة فالغلة الزائدة تكون للفقراء ولا يكون بينهما بخلاف المسألة الأولى؛ لأنه أطلق الوقف حيث قال: أرضي صدقة موقوفة، لو اقتصر عليه كانت الغلة للفقراء فلما قال: لعبد الله من غلاتها مئة درهم ولزيد مئتان فقد استثنى هذ القدر عن حق الفقراء فما بقي يبقى على أصل الوقف، أما في المسألة الأولى جعل الوقف على عبد الله، وزيد ثم فضل أحدهما على الآخر فما بعد التفضيل يصرف إليهما على السواء قضية للإيجاب واعتبر هذا بالوصية، فإن من قال: أوصيه بثلث مالي لزيد وعمرو، ولزيد منه مئة ولعمرو مئتان وثلث ماله خمس مئة يعطي زيداً مئة وعمرو مئتان وما بقي يكون بينهما. ولو قال: أوصيت لزيد بمئة من ثلث مالي ولعمرو بمئتين، وثلث ماله خمس مئة كان الباقي للورثة إلا أن فرق بين الوصية والوقف أن الباقي في الوصية يصرف إلى الورثة وفي الوقف يصرف إلى الفقراء، أما فيما عدا ذلك يستويان، ولو قال: صدقة موقوفة على أن لزيد مئة ولعمرو ما بقي فلم يكن الغلة إلا مئة فلا شيء لعمرو؛ لأن نصيب زيد معلوم ومسمى (ونصيب) عمرو مجهول ولا معارضة بين المعلوم المسمى وبين المجهول. ولو قال: صدقة موقوفة لعبد الله نصفها ولزيد منها مئة يعطى عبد الله نصفها ويعطى زيد من النصف الباقي والفضل للفقراء، ولو لم تكن الغلة كلها لزيد ولا شيء لعبد الله، لو كانت الغلة مئتا درهم فلعبد الله مئة ولزيد مئة ولا شيء للفقراء لو كانت الغلة مئة وخمسين فلزيد مئة وما بقي فلعبد الله؛ لأنه لو قال: على عبد الله وزيد لزيد مئة كان زيد مقدماً على عبد الله؛ لأن نصيب زيد معلوم ونصيب عبد الله مجهول وكما أن الكل مجهول فالنصف أيضا مجهول، فإذا قال لزيد: مئة ولعبد الله نصفها بأن زيداً مقدم أيضاً قال هلال رحمه الله: وفي المسألة قول آخر إذا قال لعبد الله: نصفها ولزيد مئة والغلة مئة فزيد يضرب بمئة وعبد الله بخمسين فيقتسمان كذلك حتى يكون ما يصيب زيداً مئة فحينئذٍ يعطى زيد مئة وعبد الله النصف والفضل يكون للفقراء، ولو قال: أرضي صدقة موقوفة على فقراء قرابتي يعطى كل واحد منهم في طعامه وكسوته ما يكفيه بالمعروف قال: ويتحاصون في ذلك يضرب كل واحد منهم بما يكفيه، وهذا لأن الكفاية في نفسها

مختلفة، من الناس من يكفيه القليل ومنهم يكفيه الكثير، ومنهم من له عيال، فإن وفى الغلة بكفايتهم يعطى كل واحد منهم كفايته، وإن نقصت يتضاربون بذلك، وإن فضلت الغلة على كفايتهم كان الفضل مقسوماً بينهم على عدد رؤوسهم ولو قال: أرضي صدقة موقوفة فما أخرج الله تعالى من غلاتها أعطي من ذلك كل فقير من قرابته في كل سنة ما يكفيه من طعامه وكسوته بالمعروف ففضلت الغلة على ذلك، فالفضل يكون للفقراء بخلاف الفصل الأول؛ لأن الفصل الأول وقف على فقراء قرابتيه، وفي الفصل الثاني أطلق الوقف لو اقتصر على قوله صدقة موقوفة كانت الغلة للفقراء وقد قررنا هذا الفرق في أول هذا الفصل. ولو قال: أرضي صدقة موقوفة فما يخرج من غلاتها فلزيد وعبد الله ألف درهم، لعبد الله من ذلك مئة فخرج من غلاتها ألف درهم كان لعبد الله مئة والباقي لزيد؛ لأنه جعل الألف لهما ثم بين نصيب أحدهما فيكون ذلك بياناً أن الباقي للآخر، فإن خرجت خمس مئة قسمت الخمس مئة بينهم على عشرة أسهم؛ لأنه أوجب الألف لهم على عشرة لما بين لزيد مئة. ولو قال: ما أخرج الله تعالى من غلاتها يخرج منها كل سنة ألف درهم يعطى منها عبد الله مئة ولزيد ما بقي فنقصت الغلة عن ألف يبدأ بعبد الله فيعطى منها مئة، فإن بقي شيء كان لزيد وإن لم يبق شيء لزيد؛ لأنه في هذه الصورة جعل لزيد الباقي بخلاف الفصل الأول، ولو قال: أرضي صدقة موقوفة فما أخرج الله تعالى من غلاتها فهو لعبد الله والفقراء والمساكين فعلى قول أبي يوسف وهو قول هلال النصف لعبد الله (19ب3) والنصف للفقراء والمساكين عندهما جنس واحد، واسم الجنس يقع على الواحد فكأنه وقف على عبد الله وزيد، وأما قول أبي حنيفة يكون ثلث الغلة لعبد الله والثلث للفقراء والثلث للمساكين؛ لأن عنده الفقراء والمساكين جنسان مختلفان واسم الجنس يقع على الواحد، فكأنه وقف على ثلاثة نفر، وأما عند محمد فالغلة تكون على خمسة (أسهم) ، سهم لعبد الله، وسهمان للفقراء وسهمان للمساكين؛ لأن عنده الفقراء والمساكين جنسان كل واحد منهما اسم جمع، وإن قل ما ينطلق عليه اسم الجمع في الوصايا المثنى. والوقف نظير الوصايا أصل المسألة ما ذكر في «الجامع الصغير» : إذا أوصى بثلث ماله لأمهات أولاده ومن ثلثه للفقراء والمساكين فعلى قول أبي حنيفة يقسم ثلث ماله على خمسة (أسهم) ، سهم للفقراء وسهم للمساكين وثلاثة أسهم لأمهات أولاده وعلى قول أبي يوسف يقسم ثلث ماله على أربعة أسهم سهم للفقراء والمساكين وثلاثة أسهم لأمهات أولاده، على قول محمد يقسم ثلث ماله على سبعة أسهم، سهمان للفقراء وسهمان للمساكين وثلاثة أسهم لأمهات أولاده. ثم لا بد من تفسير الفقراء والمساكين على قول من يقول بأنهما جنسان وقد اختلفوا فيه بعضهم قالوا: الفقير الذي يسأل والمسكين الذي لا يسأل وقال بعضهم: على عكس هذا وقال بعضهم: الفقير الذي له شيء والمسكين الذي لا شيء له وقال بعضهم: الفقير

الفصل السابع عشر: في الرجل يقف أرضه على قوم فلا يقبلون أو يقبل بعضهم دون بعض أو يكون بعضهم حيا وبعضهم ميتا

الذي به زمانه والمسكين الذي لا زمانة له ولو قال فما أخرج الله تعالى من الغلة فلقرابتي والمساكين، فعلى قول أصحابنا يضرب كل واحد من القرابة بسهم؛ لأنهم معينون ويضرب المساكين بسهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف وهلال وعند محمد يضرب كل واحد من الجيران من الموات بسهم والمساكين بسهم وعند محمد بسهمين. ولو قال: للفقراء والغارمين وفي سبيل الله وفي الرقاب يضرب كل فريق من هؤلاء بسهمين عند محمد وعند أبي يوسف، ولو قال: صدقة موقوفة في وجوه الصدقات الأصناف المذكورة في كتاب الله تعالى في آية الزكاة إلا أن في الوقف لا يعطى العاملين لا ما يأخذه العامل عمالة ولا عمالة في الوقف والمؤلفة قلوبهم قد ذهبوا فيقتسم الآن على الفقراء والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل وفي الرقاب الفصل السابع عشر: في الرجل يقف أرضه على قوم فلا يقبلون أو يقبل بعضهم دون بعض أو يكون بعضهم حياً وبعضهم ميتا إذا قال: أرضي هذه صدقة على عبد الله فقال عبد الله: لا أقبل فالوقف جائز والغلة للفقراء قد ذكرنا غير مرة أن بقوله: أرضي صدقة جعل الأرض للفقراء، وبقوله على عبد الله جعل الغلة حال حياته بطريق الاستثناء عن مخرج حق الفقراء فإذا لم يقبل عبد الله بطل حقه وبطل الاستثناء فبقية الغلة للفقراء بأصل الوقف. ولو قال: صدقة موقوفة على ولد عبد الله ونسله فأبى رجل من ولد عبد الله أن يقبل فالغلة لمن قبل منهم، ويجعل من لم يقبل بمنزلة الميت هكذا ذكر هلال والخصاف، وذكر الخصاف بعد هذه المسألة مسألة تناقضها من حيث الظاهر فقال: ولو قال: على زيد وعمرو ما عاشا ومن بعدهما على المساكين فقال: زيد قبلت وقال عمرو: لا أقبل قال لزيد: نصف الغلة والنصف الآخر للمساكين وعلى قياس المسألة الأولى ينبغي أن يكون كل الغلة لزيد. ووجه التوفيق: أن في المسألة الأولى سمى ولد عبد الله واسم الولد ينطلق على من قبل فجاز، أن يكون كل الغلة له، وفي المسألة الثانية سمى رجلين واسم الرجلين لا ينطلق على قبله، قال هلال في «وقفه» عقيب المسألة التي ذكرها: فرق بين الوقف وبين الوصية، فإن من أوصى بثلثه لولد عبد الله فمات الموصي وولد عبد الله أربعة فلم يقبل واحد منهم عادت حصته إلى ورثة الموصي قال بعض مشايخنا: ولا فرق بين المسألتين من حيث الحقيقة، وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع، وضع المسألة في الوصية فيما إذا رد واحد منهم بعد الموصي، وبعد موت الموصي وجب الحق لهم لما عرف أن وجوب الحق في باب الوصية يوم موت الموصي فيعمل رد الراد ويبطل حقه ويعود حصته إلى الورثة، ومسألة الوقف محمول على ما إذا رد واحد منهم قبل حدوث الغلة، وقبل

الفصل الثامن عشر: في الرجل يقف على جماعة ثم يستثني بعضهم بصفة خاصة وفي الرجل يقف على جماعة موصوفين فتزول تلك الصفة عن كلهم أو بعضهم

حدوث الغلة حق الموقوف عليه غير ثابت، وإنما يثبت بعد ثبوت الغلة فلا يعمل رد من رد بل يجعل كالميت فتكون الغلة للباقي، فهذا القائل يقول: لو ردَّ بعد حدوث الغلة يكون حصته للفقراء كما في الوصية لو رد بعد موت الموصي يكون حصته للورثة، وهذا القائل يقول: لو رد أحد الموصى لهم الوصية قبل موت الموصي لا يعمل ولا يكون حصته للورثة كما في الوقف إذا رد قبل حدوث الغلة، فإذاً على قول هذا القائل لا فرق بين الوصية وبين الوقف. ومن المشايخ من فرق بين الوصية والوقف فقال في الوقف: وإن رد بعد حدوث الغلة كانت الغلة للذي قبل بكمالها بخلاف الوصية والفرق ما ذكر من وجه التوفيق، ولو قال: صدقة موقوفة على ولد عبد الله ونسله فلم يقبلوا جملة كانت الغلة للفقراء، ولو حدث له ولد بعد ذلك فقبل كانت الغلة له، لأن رد من رد لا يعمل في حقه واسم الولد يقع عليه فتكون الغلة له، فإن أخذ الغلة سنة ثم قال: لا أقبل ليس له ذلك ولا يعمل، رده قال الفقيه أبو جعفر: الجواب صحيح في حق الغلة المأخوذة؛ لأنها صارت ملكا له فلا يملك رده، فأما الغلة التي تحدث بعد هذا فلا ملك له فيها إنما الثابت فيها مجرد الحق، ومجرد الحق يقبل الرد وإن قال: أقبل سنة ولا أقبل فيما سوى ذلك فهو كما قال: ويكون بمنزلة الوصية بالإعتاق إذا قبلها في البعض دون البعض. الفصل الثامن عشر: في الرجل يقف على جماعة ثم يستثني بعضهم بصفة خاصة وفي الرجل يقف على جماعة موصوفين فتزول تلك الصفة عن كلهم أو بعضهم ذكر في «فتاوي أبي الليث» رحمه الله: إذا وقف وقفاً على أمهات أولاده إلا من يتزوج، فإنه لا شيء لها فتزوجت واحدة منهن فلا شيء لها، فإن طلقها زوجها بعد ذلك فلا شيء لها أيضاً؛ لأنه استثنى من تزوج منهن إلا إذا شرط أن من تزوجت فطلقها زوجها فلها أيضاً؛ لأنه استثنى من هذا المستثني والاستثناء من النفي إثبات. وكذلك لو وقف على بني فلان إلا من خرج من هذه البلدة فخرج بعضهم ثم عاد فهو على هذين الوجهين أيضاً وكذلك لو وقف على بني فلان فمن يتعلم العلم فترك بعضهم ثم اشتغل فهو على هذين الوجهين. وفيه ايضاً: رجل وقف أرضه على ساكني مدرسة كذا ولم يقل من طلبة العلم فكذلك الجواب أيضاً؛ لأنه هو المتفاهم حتى لم تكن مدرسة كذا (20أ3) من غير طلبة العلم شيء، فيه أيضاً المتعلم إذا كان لا يختلف إلى الفقهاء فهو على وجهين إما إن كان في المصر أو خرج من المصر، فإن كان في المصر إن اشتغل بكتابة شيء من الفقه لنفسه فيما يحتاج فلا بأس بأن يأخذ الوظيفة؛ لأنه يشتغل بالتعلم؛ لأن هذا من جملة التعلم،

الفصل التاسع عشر: في المسائل التي تتعلق بالصك وما قدره

وإن اشتغل بشيء آخر لا يأخذ الوظيفة، وإن خرج من المصر إن خرج إلى مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً لا يأخذ وظيفة ما مضى وإن خرج إلى بعض القرى دون مسيرة ثلاثة أيام إن أقام ثمة خمسة عشر يوماً فصاعداً لا بأس أن يأخذ لما مضى؛ لأن هذه مدة طويلة، وإن أقام دون ذلك إن كان خروجاً لا بد له منه كالخروج لطلب القوت فله أن يأخذ، وإن كان خروجاً له منه بد، فإنه لا يأخذ ولا يأخذ منه إذا كانت عنده غلة شهرين أو ثلاثة، فإن زاد على ذلك جاز لغيره أن يأخذ منه. في «فتاوي الفضل» : امرأة أخذت نصيبها من الوقف على وجه الحاجة ثم استغنت إن استغنت قبل حدوث الغلة فعليها أن ترد وإن استغنت بعد حدوث الغلة لا ترد وإن كان ذلك قبل الإدراك؛ لأن الحق إنما يثبت عند حدوث الغلة. في «فتاوي أهل سمرقند» : إذا وقف على أقاربه المقيمين في قرية كذا وجعل آخره للفقراء فانتقل أقاربه من تلك القرية إلى قرية أخرى أو انتقل بعضهم،، فإن كانوا يحصون لا ينقطع وظيفتهم بالانتقال؛ لأنهم مستحقون بأعيانهم فصار كما لو قال لهذا الشاب: فشاخ وإن كانوا لا يحصون تنقطع وظيفتهم بالانتقال فبعد ذلك إن انتقل الكل فالغلة للفقراء، (وإن) انتقل البعض فالغلة كلها لمن لم ينتقل، فلو أنهم رجعوا إلى القرية مقيمين تعود وظيفتهم؛ لأنه أثبت الحق للمقيمين من أقاربه مطلقأ وهو بهذه الصفة، وكذلك إذا وقف على أقربائه في قرية كذا ولم يقل المقيمين وجعل آخره للفقراء فتحول بعضهم إن كانوا يحصون لا ينقطع، وإن كانوا لا يحصون انقطع وظيفة من يحول وتكون الغلة لمن لم يتحول، وإن تحولوا فالغلة للفقراء. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: ومن يأخذ الأجرة من طلبة العلم في يوم لا درس فيه أرجو أن يكون جائزاً. وسئل الفقيه أبو بكر عن الوقف العلوية الساكنين ببلخ، فإن من غاب عنهم ولم يبع مسكنه ولم يتخذ مسكناً آخر فهو من سكان بلخ، ولم تبطل وظيفته ولا وقفه. الفصل التاسع عشر: في المسائل التي تتعلق بالصك وما قدره في «مجموع النوازل» سئل شيخ الإسلام: عن رجل وقف داراً له على أولاده وكتب في الصك وقف فلان على أولاد فلان وفلان بكذا وقفه عليهم وتصدق به عليهم في حال حياته وبعد وفاته قال: هذا يوجب إلغاءه؛ لأن هذا وصية للوارث والوصية باطلة قال: وينبغي أن يحتاط في ذلك فيكتب في حياته وصحته قال: وكذا سمعته عن السيد الإمام الأجل الأستاذ أبو شجاع وهذا الجواب صحيح فيما إذا كان له وارث أخر سوى هؤلاء الذين وقف عليهم، غير صحيح إذا لم يكن له وارث آخر لأن الوصية للوارث إنما لا تجوز لحق باقي الورثة ألا ترى أن باقي الورثة إن أجازوا الوصية كانت الوصية صحيحة.

h وسئل أيضاً: عن ذكر وقف كان فيه وقف فلان كذا على مواليه ومدرس مدرسة معلومة، وكان فيه بيان المقادير وشرائط الصحة وجعل آخره للفقراء فأجاب أنه غير صحيح؛ لأنه ذكر الموالي مطلقاً ولم يبين الأعلى والأسفل وكذا لم يبين التركي والهندي والرومي. في «فتاوي أبي الليث» سئل الفقيه أبو بكر عن رجل وقف ضيعة له وكتب صكاً وشهد الشهود على ما في الصك ثم قال الواقف: إني وقفت على أن يكون.... فيه جائزاً وإن لم أعلم أن الكاتب لم يكتب ذلك ولم أعلم ما في الكتاب قال: إن كان الواقف رجلاً فصيحاً يحسن العربية وقرئ عليه الصك وكتب في الصك وقف صحيح وأقر هو بجميع ما فيه لا يقبل قوله والوقف صحيح وإن كان الواقف أعجميا لا يعرف العربية، فإن شهد الشهود أنه قرئ عليه بالفارسية وأقر بجميع ما فيه لا يقبل قوله أيضاً، وإن لم يشهدوا بذلك قبل قوله إذا عرفت هذا في صك الوقف فكذا في صك البيع والإجارة إذا قال الآجر والبايع: ما علمت المكتوب في الصك. وفيه أيضاً: سئل الفقيه أبو جعفر عن امرأة قال لها جيرانها اجعلي هذه الدار وقفاً على أنك متى احتجت إلى بيعها تبيعها فأجابت فكتبوا صكاً بغير هذا الشرط وقالوا: قد فعلنا وأشهدت عليها قال: إن قرأ الصك عليها بالفارسية وهي تسمع وأشهدت على ذلك صارت الدار وقفاً، وإن لم يقرأ عليها لا تصير الدار وقفاً؛ لأنها إنما رضيت بالوقف بشرط البيع والوقف بشرط البيع باطل، وما ذكر من الجواب في المسألتين إنما يتأتى على قول محمد؛ لأن على قول محمد الوقف بشرط أن يبيع باطل، أما لا يتأتى على قول أبي يوسف؛ لأن قوله الوقف بشرط أن يبيع صحيح، وقد ذكرنا المسألة في صدر «الكتاب» في الفصل الرابع. سئل الفقيه أبو بكر عن رجل وقف ضيعة له وكتب بذلك صكاً وأخطأ الكاتب في حدين فكتب حدين كما كانا وكتب حدين بخلاف ذلك قال: إن كان الحدان اللذان غلط في ذكرهما يوجد في ذلك الموضع لكن بين الحدين وبين هذه الضيعة الموقوفة أرض أو كرم أو دار لغير هذا الواقف جاز الوقف ولا يدخل ملك الغير في الوقف؛ لأنه وقف ملكه وملك غيره فصح وقف ملكه ولم يصح وقف ملك غيره، وإن كان الحدان غلط في ذكرهما، لا يوجد في ذلك الموضع أصلاً ولا بالبعد منه فالوقف باطل إلا إذا كانت الضيعة مشهورة مستغنية عن التحديد لشهرتها فيجوز الوقف. وسئل أبو نصر عمن أراد أن يقف جميع ماله من الضيعة في قرية كذا وأمر بكتابة الصك في مرضه فنسي الكاتب أن يكتب بعض أمره من الأرض والكروم ثم قرئ الصك على الواقف فكان في الصك أن فلاناً وقف ماله من الضياع في هذه القرية وهو كذا فرسخاً على وجه كذا وبين الحدود ولم يقرأ عليه الفراسخ الذي نسي الكاتب لم يصر

ذلك وقفاً إلا إذا أخبر الواقف أنه أراد بذلك جميع ماله المذكور وغير المذكور وذلك معلوم فيصير الكل وقفاً. وفي «مجموع النوازل» سئل شيخ الاسلام رحمه الله عن صك المتولي والموصي إذا لم يذكر فيه جهة وصايته وتوليه أنه لا يصح الصك؛ لأن الوصي قد يكون وصي الأب وقد يكون وصي القاضي وأحكامهم مختلفة والمتولي قد يكون من جهة الواقف وقد يكون من جهة القاضي وأحكامهما مختلفة، فإن كتب أنه أوصي من جهة الحكم متولي من جهة الحكم ولم يسم القاضي الذي ولاه جاز؛ لأنه صار جهة توليته معلومة، وكذلك إذا كتب أنه وصي من جهة الحكم قال الصدر الشهيد في «واقعاته» على هذا القياس، إذا احتيج إلى كتابة القضاء في المجتهدات نحو الوقف وإجارة المشاع، ونحو ذلك فكتب وقد قضي بصحته وجوازه فاقتضى من قضاة المسلمين ولم يسم ذلك القاضي جاز، وإن لم يكن قضى بذلك قاضٍ والكاتب كتب كذلك لا شك أنه يكون (20ب3) كذباً ولكن لا بأس به فقد ذكر محمد في آخر كتاب الوقف ما يدل عليه، فإنه ذكر إذا خاف الواقف أن يبطله قاضي، فإنه يكتب، وهذا لأن التصرف صحيح في نفسه ولكن يبطل بقضاء القاضي ببطلانه فالكاتب بهذه الكتابة يمنع القاضي عن الإبطال فلا يكون به بأساً. وذكر الخصاف في «أدب (القاضي) » الشهادة على الحقوق، وإن شاهدين شهدا عند القاضي لرجل فقالا: نشهد أن قاضياً من القضاة أشهدنا أنه قضى لهذا الرجل على هذا الرجل بألف درهم أو بحق من الحقوق وسموه يعني سموا ذلك الحق إن قالوا: نشهد أن قاضي الكوفة أشهدنا بذلك ولم يسموا القاضي لم ينفذ القاضي هذه الشهادة حتى يسموا القاضي الذي حكم وينسبوه لأن القضاء عقد من العقود فلا بد من تسمية العاقد لبيانه، قال الخصاف: وليس هذا في هذا الموضع وحده بل في جميع الأفاعيل إذا شهدوا على فعل ولم يسموا الفاعل لا تقبل الشهادة، واختلف المشايخ فيما إذا شهد الشهود على أن هذا وقف على كذا، ولم ينسبوا الواقف هل تقبل هذه الشهادة؟ بعضهم قالوا: تقبل وإليه أشار الخصاف في كتابه. وصورة ما ذكر الخصاف: إذا قال القاضي المعزول: هذا وقف على كذا، وصدقه ذو اليد أنفذه القاضي المولى ولا يسأل المولى عن المعزول من وقفها، وبعضهم قالوا: لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن الوقف على أصل أبي حنيفة حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالغلة المعدومة، فإذا شهد الشهود بالوقف، فقد شهدوا بملك الواقف، فلا بد من ذكره ليمكن إثبات الملك؛ لأن إثبات الملك للمجهول متعذر، هذا القائل يقول: بأن ما ذكر الخصاف في «أدب القاضي» لا يصح دليلاً؛ لأن ثمة إنما قبل قول القاضي لضرورة مخالفاً للدليل، وهذا لأن (قول) القاضي المعزول: إن هذا وقف وسؤاله عن الواقف ربما يؤدي إلى بطلان الوقف، فإن القاضي المعزول لو قال: وقفها فلان، وجحد ورثة فلان الوقفية، يحتاج إلى إثبات الوقفية وعسى لا يقدر الإثبات، فيؤدي إلى إبطال الوقفية عني، فإنما اكتفي بالإجمال ثمة لهذه الضرورة وهذه الضرورة معدومة في حق

الفصل العشرون: في المسائل التي تتعلق بالدعاوى والخصومات والشهادة في باب الوقف

الشهادة وقد رأيت في حدود «الأصل» عن محمد أن تسمية الفاعل شرط لقبول الشهادة فيتأمل عند الفتوى. في «فتاوي أهل سمرقند» استأجر رجل من المتولي أرضاً هي وقف على أرباب معلومين، وكتب في الصك استأجر فلان بن فلان من فلان بن فلان المتولي في الأوقاف المنسوبة إلى فلان المعروف بكذا ولم يكتب اسم أب الواقف وجده ولم يعرف جاز؛ لأنه لو كتب من فلان بن فلان المتولي في كذا، وهو وقف على أرباب معلومين جاز وإن لم يذكر الواقف فهذا أحق. وسئل الفقيه أبو جعفر عمن في يديه ضيعة، جاء رجل وادعى أنها وقف، وجاء بصك فيه خطوط عدول وحكام قد انقرضوا، وطلب من الحاكم القضاء قال: لا يعتمد الحاكم على الخطوط ولا ينبغي أن يحكم بذلك، وكذلك لو كان لوح مضروب على أرباب دار ينطق بالوقف لا يقضي بها ما لم يشهد الشهود بالوقف. الفصل العشرون: في المسائل التي تتعلق بالدعاوى والخصومات والشهادة في باب الوقف هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه في المسائل التي تعود إلى الاستيلاء على الوقف قال الخصاف في وقفه: إذا أنكر والي الوقف: أي قيم الوقف الوقف فهو غاصب ويخرج من يده، فإن نقص منها بعد الحجر فهو ضامن، ذكر الضمان من غير ذكر الخلاف، بعض مشايخنا قالوا: هذا على قول من يرى ضمان العقار بالغصب، وهو محمد وأبو يوسف أولاً، وبه أخذ الخصاف وهلال بن يحيى، ومنهم من قال: هذا قول الكل لأن أبا حنيفة وأبا يوسف آخراً إن كانا لا يريان ضمان العقار بالغصب يريان ضمانه بالجحود، ومنهم من قال: إنهما كما لا يريان ضمان العقار بالغصب لا يريان ضمانه بالجحود، وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصلح أن: في «المبسوط» و «النوادر» في وجوب ضمان العقار بالجحود، عن أبي حنيفة روايتان، وكذلك إن غصبها رجل أجنبي من القيم أو من الواقف، ثم ردها وقد انتقصت يضمن النقصان، وهذا قول محمد وأبي يوسف أولاً قال: ولا يفرق ذلك على أصل الوقف يعني ما أخذ من الغاصب من ضمان النقصان لا يصرف إلى الموقوف عليهم، وإنما يصرف إلى مرمته؛ لأن حقهم في الغلة لا في المرمة وهذا الضمان بدل الرقبة، فإن زاد الغاصب فيها زيادة من عند نفسه، فإن كان شيئا هو ليس بمال ولا له حكم المال، فإن القيم يأخذها بلا شيء، وإن كان مالاً قائماً نحو الأغراس والبناء أمر الغاصب برفع البناء وقلع الأشجار، إلا إذا كان يضر بالوقف بأن كان يخرب الأرض بقلع الأشجار أو يخرب بناء الوقف بسبب رفع بنائه فحينئذٍ لا يؤمر الغاصب به بل يمنع عنه لو أراد أن يفعل ذلك،

ويضمن القيم قيمته من الوقف،، فإن كان عنده غلة فيه كفاية أدى من ذلك، وإن لم يكن مؤاجراً الوقف ويؤدي أجرته، وإن أراد الغاصب قلع الأشجار من أقصى موضع لا يخرب الأرض، كان له ذلك؛ لأنه ينقض ملك نفسه ولا يضر بغيره، ثم يضمن القيِّم له قيمة ما بقي في الأرض الموقوفة، إن كان الوقف أرضاً فكراها الغاصب وحفر أنهارها لا يرجع بشيء من ذلك ذكره الخصاف في وقفه. وإن غصب الأرض الموقوفة رجل وقيمتها ألف درهم ثم غصبها من الغاصب رجل آخر بعد ما صار قيمتها ألفي درهم فالقيم لا يبيع الغاصب الأول وإنما يبيع الثاني إذا كان الثاني مليئاً يريد به إذا غصبها رجل آخر من الغاصب الثاني وتعذر استردادها من يد الثالث والوقف يفارق الملك في هذا، وإنما كان هكذا؛ لأن إتباع الثاني انفع في حق الوقف ويختار في الوقف ما هو أنفع وأصلح للوقف، وإن كان الأول أملأ من الثاني يبيع الأول؛ لأن إتباع الأول أنفع لا يصل إلى المال في الحال، وإذا اتبع القيم أحدهما بالضمان برئ الآخر كما في الملك، وإذا أخذ القيمة من أحدهما ثم ردت عليه الأرض رد القيمة وكانت الأرض وقفاً على حالها وليس للغاصب حبسها إلى أن تصل إليه القيمة، والأصل أن مالا يجوز رهنه لا يحبس بالدين، ألا ترى أن من غصب مدبراً أو أبق من يده وضمن قيمته للمالك ثم عاد من الإباق رد الغاصب المدبر على المالك واسترد منه القيمة وليس للغاصب أن يحبس المدبر بالقيمة بخلاف ما إذا كان المغصوب قناً وأبق من يد الغاصب وأخذ المالك الضمان بزعم الغاصب ثم عاد من الإباق حتى كان للمالك أن يرد القيمة ويأخذ المغصوب كان للغاصب أن يحبسه حتى يستوفي، القيمة وإن ضاعت القيمة في يد القيم قبل أن يشتري بها أرضاً أخرى ثم ردت الأرض الوقف عليه كانت وقفاً وضمن القيمة التي أخذها من مال نفسه، ثم يرجع القيم بذلك في غلات الوقف استحساناً؛ لأن القيم كان عاملاً لأرباب الوقف في أخذ القيمة فما لحقه من الضمان بسبب ذلك يكون على أرباب الوقف كما في الوكيل (21أ3) إذا باع وقبض الثمن في يده ثم هلك المبيع قبل التسليم حتى انفسخ البيع وضمن الوكيل الثمن للمشتري يرجع بما يضمن على الموكل كذا هنا، ولكن يرجع في غلة الوقف ولا يرجع على الموقوف عليهم في أحوالهم سوى غلة الوقف؛ لأنه إنما جعل أميناً في غلة الوقف لافي سائر أمواله وهو نظير المزارع إذا غاب فأنفق رب الأرض على الزرع في سقيه وما يحتاج إليه يرجع بذلك في نصيب المزارع لا في سائر أمواله كذا هنا، ولو كان القيم حين أخذ القيمة اشترى بها أرضاً أخرى للوقف ثم ردت الأرض الأولى عليه كانت وقفاً على حالها وخرجت الأرض الأخرى عن الوقفية وكان للقيم أن يبيعها ويوفي من ثمنها القيمة التي قبضها، فإن كان فيها نقصان كان ذلك على القيم في ماله ولا يرجع بذلك غلات الوقف قياساً واستحساناً بخلاف ما تقدم؛ لأن في هذا الفصل لما عادت الأرض الأولى إليه وقفاً ظهر أن القيم اشترى الأرض الأخرى لنفسه وقد نقد القيمة في ثمن ما اشترى لنفسه وصار مستهلكاً القيمة في منفعة نفسه فلا يرجع بنقصان ذلك في غلة الوقف، ولو كان الواقف شرط

الاستبدال بها فباعها القيم وقبض الثمن فضاع عنده ثم ردت الدار الأولى عليه بعيب بقضاء قاضٍ ضمن القيم الثمن من مال نفسه ثم يبيع الأرض الوقف التي ردت عليه الثمن الذي غرم؛ لأن الواقف شرط بيعها عند العذر وهذا عذر حيث غرم نسبة بخلاف المسألة الأولى؛ لأن هناك القيم عاجز عن بيعها؛ لأنها وقف لم يشترط بيعها والاستبدال بها. إذا غصب الدار الموقوفة أو الأرض الموقوفة فهدم بناء الدار وباع الأشجار كان للقيم أن يضمنه قيمة الأشجار والنخيل والبناء إذا لم يقدر الغاصب على ردها ويضمن قيمة البناء مبنياً وقيمة الأشجار والنخيل نابتاً في الأرض؛ لأن الغصب ورد هكذا، فإن ضمن الغاصب قيمة ذلك ثم ظهرت الدار والأرض والنقض والأشجار معنى قوله ظهرت الدار قدر الغاصب على رد الدار والنقض والأشجار فالغاصب يرد العرصة على الواقف، وأما النقض والشجر فيكون للغاصب ويرد القيم على الغاصب حصة العرصة ليست بمحل النقل من ملك فلا يملكها الغاصب بالضمان، وأما البناء والأشجار، فإنما لم تكن محلاً للنقل تبعاً للأرض وقد زالت التبعية فعادت محلاً للنقل فيملكها بالضمان، ألا ترى أن البناء لو انهدم ولم يصلح النقض للعمارة كان للقيم أن يبيع النقض ممن رآى بيعه فكذا هنا، وإذا كان في أرض الوقف نخيل وأشجار استغلها الغاصب سنتين يعني الأشجار والنخيل ثم أراد رد الأرض والنخيل والأشجار والغلة معها إن كانت قائمة بعينها، وإن كانت مستهلكة ضمن مثلها وليس هذا كالزرع؛ لأن الزرع ملكه بخلاف غلة النخيل والأشجار وعليه نقصان الأرض وما أخذ من الغاصب من بدل الغلة فرق الوجوه التي سبلها عليه وما أخذ من نقصان الأرض يصرف في عماراتها. غصب أرض الوقف وفيها نخيل وأشجار فقلع الأشجار والنخيل رجل من يد الغاصب فالقيم بالخيار إن شاء ضمن الغاصب قيمة الأشجار والنخيل نابتاً في الأرض، وإن شاء ضمن القالع ذلك،، فإن ضمن الغاصب يرجع بذلك على القالع (وإن ضمن القالع) لم يرجع بذلك على الغاصب، وإن لم يضمن القيمة أحدهما حتى الغاصب القالع وأخذ منه قيمة ما قلع فجاء القيم وأرد تضمين القالع ليس له ذلك، لأن القالع رد القيمة على الذي كانت الأشجار في يده يوم قلعها والله أعلم. في «فتاوي أبي الليث» رجل وقف ضيعة فغصبها منه إنسان فأقام الواقف البينة قبلت بينته وردت الضيعة عليه بالاتفاق، أما على قول أبي حنيفة؛ فلأنه لا يقول بصحة الوقف إلا إذا كان يوصي به، أو كان مضافاً إلى ما بعد الموت ولم يوجد فبقيت على ملكه، وأما على قول أبي يوسف، فلأن الوقف عنده صحيح، وإن لم يخرجه من يده وهو أولى بإصلاحها والتولية فيها. وفيه أيضاً: وقف على نفر ليستولي عليه ظالم ولا يمكن انتزاعه من يده، وادعى بعض الموقوف عليه على واحد منهم أنه باع من هذا الظالم وسلم إليه وأراد تحليف المدعى عليه فلهم ذلك؛ لأنهم ادعوا عليه معنى لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول، فإن نكل قضي عليه قيمتها، وكذلك إذا قامت لهم بينة وهو قول أبي يوسف

ومحمد والفتوى في غصب الموقوف على الضمان نظراً للوقف، كما أن الفتوى في غصب منافع الوقف على الضمان نظراً للوقف، فظن بعض مشايخ ديارنا أن هذه المسألة دليل على أن دعوى الموقوف عليه أن هذا وقف عليه صحيح، وليس الأمر كما ظنوا وهذه المسألة لا تصلح دليلاً؛ لأن الدعوى هنا ما وقع في الوقفية وإنما وقع في غصب الوقف، وإتلافه رجل وقف موضعا في حياته وصحته وأخرجه من يده فاستولى عليه غاصب وحال بينه وبينه، يؤخذ من الغاصب قيمته ويشتري به موضع آخر فيوقف على شرائط؛ لأن الغاصب لمَّا جحد صار مستهلكاً والشيء المسبل إذا صار مستهلكا يجب الاستبدال به كالفرس المسبل في سبيل الله إذا (صار) مستهلكاً فهذا استحسان أخذ به المشايخ. رجل وقف ضيعة له ثم إن الواقف زرعها وأنفق فيها وأخرجت زرعاً والبذر من قبل الواقف فقال: أنا زرعتها لنفسي ببذري وقال أهل الوقف: إنما زرعتها للوقف فالقول قول الواقف الزارع، والزرع من قبل أن البذر له، فإن سأل أهل الوقف من قبل القاضي أن يخرجها من يده، وإذا كان قد زرعها لنفسه ولم يكن له ذلك لايخرجها من يده ولكن يتقدم إليه في زراعتها للوقف، فإن احتج بأنه ليس للوقف عنده مال ولا بذر قال له القاضي: استدن على الوقف واجعل ما تستدين به في البذر والنفقة على الزرع، فإن قال: لا يمكنني ذلك قال لأهل الوقف استدينوها: أنتم ما تشترون به بذراً وما يكون في النفقة على ذلك حتى يأخذوا ذلك مما يجيء من الغلة، فإن قالوا: لا نأمن أن نستدين نحن ونشتري البذر وما صار في يد الواقف جحد ذلك ولكن نحن نزرع، فإنه لا ينبغي أن يطلق؛ لأن الذي وقف أحق بالقيام إلا أن يكون مخوفاً عليه لايؤمن أن يبلغه،، فإن زرع الواقف الأرض وأنفق عليه فأصاب الزرع آفة من غرق أو غير ذلك وذهب الزرع فقال الواقف: استدنت وزرعت هذا الزرع الذي أعطت للوقف وجاءت غلة أخرى فأراد أن يأخذ من هذه الغلة ما ذكر أنه استدانه لذلك، وقال أهل الوقف إنما زرع ذلك لنفسه فالقول في ذلك قول الواقف وأن يأخذ هذه الغلة ما استدان لهذا الزرع، فإن قال الواقف: الزارع استدنت ألف درهم واشتريت بها بذراً وانفقت عليه، وقال أهل الوقف: إنما أنفق من ثمن البذر والنفقة على الزرع خمس مئة قال تصدق الواقف (21ب3) في مقدار ما ينفق على مثل ذلك، فإن اختلف والي الوقف يعني القيم وأهل الوقف في الزرع فقال الوالي: زرعتها لنفسي ببذري ونفقتي وقال أهل الوقف: بل زرعته لنا فالقول قول الوالي والله أعلم. نوع منه في المسائل التي يعود إلى الدعوى في الوقف: رجل باع أرضًا ثم قال: إني كنت وقفتها أو قال: هو وقف علي، فإن لم يكن له بينة وأراد تحليف المدعي عليه ليس له أن يحلفه؛ لأن التحليف يترتب على دعوى صحيحة والدعوى هنا لم تصح لمكان التناقض، وإن أقام البينة قال الفقيه أبو جعفر: قبلت البينة وينقض البيع؛ لأن أكثر ما فيه أن الدعوى لم تصح بقيت الشهادة بلا دعوى إلا أن الشهادة على الوقف مقبولة من غير

دعوى كالشهادة على عتق الأمة وبه أخذ الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وقال بعض الناس: لا تقبل البينة لكنا لا نأخذ به. في «فتاوى النسفي» ادعى مشتري الأرض على بائعه أن هذه الأرض وقف وقد بعتها من بائعه بغير حق قال: ليس له هذه المخاصمة إنما ذلك إلى المتولي وإن لم يكن ثمة متولي فالقاضي ينصب متولياً فيخاصمه ويثبت الوقفية فإذا ثبت ذلك ظهر بطلان البيع فيشتري المشتري الثمن من بائعه. وفيه أيضاً: رجل ادعى ضيعة في يدي رجل أنها وقف على من لم يسمع الدعوى منه، وإنما يسمع من المتولي وهذا؛ لأن الوقف عليه مصرف الغلة ولا حق له في الرقبة فلا تصح منه الدعوى في الرقبة، وأشار الخصاف في «وقفه» في مسائل: أن دعواه صحيحة فمن جملة تلك المسائل قال: إذا كانت الأرض في يد الغاصب أقام أهل الوقف بينة أن فلاناً وقفها عليه وأنه مات وهو مالكها لم أقضِ بأنها وقف وإنما أقضي بأنها ملك، علل فقال: لا يجوز إن ملكها بعد وقفها إذ يجوز أنه وقفها ولم يكن يملكها علل بهذه العلة لبيان أن لا يقضي بأنها وقف لا بعلة أنه ليس له ولاية الدعوى. ومن جملة ذلك قال: قوم ادعوا أرضاً في يدي رجل وقالوا: وقفها فلان علينا والذي في يديه يقول الأرض لي فأقاموا البينة أن فلاناً وقف هذه الأرض عليهم لا يستحقون بهذه البينة شيئاً علّل فقال: لأن الإنسان قد يقف مالا يملك ولم يقل: لأنه ادعى ما ليس له أن يدعي، وكذلك لو أقاموا بينة أنه وقف علينا ومن بعدنا على المساكين وكانت في يده يوم وقفها لا يستحقون بهذا شيئاً، وكذلك لو شهد الشهود أنه أقر عندنا وأشهدنا على نفسه أنه وقف هذه الأرض وقفاً صحيحاً وأنها كانت في يده حتى مات فالقاضي لا يقضي بالوقف، ولو شهد الشهود أن فلانا أقر عندنا أنه وقف هذه الأرض وجددها وإن كان ملكها في وقت ما وقفها، قضينا بأنها وقف من قبل الوقف وأخرجناها من يدي الذي هي في يده، وحلّ المسألة صريح أن الدعوى من الموقوف عليه صحيحة إذا لو لم تكن صحيحة كانت الشهادة في حقوق العباد بدون الدعوى لا تقبل فينبغي أن لا تقبل الشهادة في هذه المسألة. صاحب الأوقاف إذا أراد أن يسمع الدعوى في أمور الأوقاف ويقضي بالنكول وبالبينة أن ولاه السلطان ذلك نصاً أو عرف ذلك دلالة جاز؛ لأنه كالقاضي المولى، وإن لم يكن شيء من ذلك لا يجوز. في «فتاوى أبي الليث» ضيعة في يدي رجل وضيعة أخرى في يدي رجل آخر ادعى رجل أن هاتين الضيعتين وقف عليه حده على أولاده وأولاد أولاده أبداً ماتناسلوا وأحد الرجلين غائب، فأقام المدعي البينة على الحاضر، إن شهد الشهود أنهما ملك الواقف حقهما جميعاً وقفاً واحداً، وذكر شرائط الوقف قضى القاضي الحاضر بكون الضيعتين وقفاً؛ لأن الحاضر هنا ينتصب خصماً عن الغائب فصار كأحد الورثة، وإن شهدوا أنه وقف وقفين متفرقين يقضى بوقفية الضيعة التي في يد الحاضر فحسب لأن الحاضر هنا لا

ينتصب خصما عن الغائب وفي المسألة نوع إشكال وينبغي أن يقضي بوقفية الضيعة التي في يد الحاضر في الوجهين جميعاً؛ لأنه ألحق هذا بآخذ الورثة. وذكر في «الجامع» أن أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الباقين للمدعي في غير في يد ذلك الوارث، حتى أن من ادعى عيناً في تركة الميت وأحضر وارثا واحداً ليس العين المدعى في يده، وأقام بينة على دعواه لا تسمع بينته، وفي مسألتنا هذه إحدى الضيعتين في يد الغائب فكيف يقضي بوقفتيهما على الحاضر؟ وعلى قول من يقول بجواز القضاء بوقفية الضيعتين شرط ذكر حدود الضيعة التي في يد الغائب. ادعى كرماً في يدي رجل وأقر المدعى عليه أنه وقف الكرم وقفاً صحيحاً بشرائطه للمدعي بينة، وأراد تحليف المدعى عليه إن أراد تحليفه ليأخذ الكرم لو نكل عن اليمين لايحلف؛ لأنه لا يصل إلى ذلك فلا يكون في التحليف فائدة وإن أراد أن يأخذ القيمة لو نكل عن اليمين يحلف؛ لأنه يصل إليه لو نكل ففي التحليف فائدة. رجل وقف ضيعة له على الفقراء في صحته ثم مات فجاء إنسان وادعى أن الضيعة له وأقر الورثة بذلك لم يبطل الوقف؛ لأن إقرارهم في حق بطلان الوقف غير صحيح ويضمنون قيمة الضيعة من تركة الميت، وهذا الجواب يجب أن يكون قول الكل لا قول محمد خاصة؛ لأنه لا خلاف في ضمان الضيعة بالإتلاف، وإنما الخلاف في وجوب الضمان بالغصب وهذا إتلاف وليس بغصب، وإن أنكر الورثة ذلك فأراد المدعي أن يحلفهم يقال له: تريد تحليفهم لتأخذ الضيعة إن نكلوا أو ليأخذوا القيمة إن نكلوا، فإن قال لآخذ الضيعة فلا يمين له عليهم؛ لأنه لا يصل إلى الضيعة إن نكلوا لما ذكرنا في فصل الإقرار، وإن قال: لآخذ القيمة فله عليهم اليمين؛ لأنه يصل إلى القيمة إن نكلوا فكان التحليف مقيداً. في «فتاوى الفضل» بيت فوقه بيت وهو متصل بالمسجد يتصل صف المسجد نصف البيت الأسفل ويصلي في البيت الأسفل في الصيف والشتاء، اختلف أهل المسجد وأرباب البيت الذي يسكنون العلو قال الأرباب: إن ذلك ميراث لنا فالقول قولهم؛ لأن العلو في أيديهم والقول قول صاحب اليد فثبت بقولهم أن العلو ملك لهم لا يصير السفل مسجد؛ لأنه لا يتحقق الشرط وهو الخلوص وسيأتي جنس هذه المسألة في موضعه إن شاء الله تعالى. نوع منه فى المسائل التي تعود إلى الشهادة والوقف إذا شهد شاهدان على رجل أنه وقف أرضه ولم يحدها الشاهدان فالشهادة باطلة، وكذلك إن حدها أحدهما دون الآخر كانت الشهادة باطلة، وكذلك لو شهدا أنه وقف أرضه التي في موضع كذا لو قالا: لم يحدها لنا فالشهادة باطلة قال الخصاف: إلا أن تكون أرضاً مشهورة يعني شهرتها عن تحديدها، فإن كان كذلك قضيت بأنها وقف، وإن حداها بحدين فالمشهور عن أصحابنا أنه لا تقبل ومن أصحابنا من قال: إذا ذكر حدين متقابلين

يقبل؛ لأن ما بينهما يصير معروفاً بمعرفتهما إذا كان طرفاها مستويان، وإن حداها بثلاث حدود قبلت الشهادة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله إقامة للأكثر مقام الكل، سئل الخصاف فقيل إذا قبلنا هذه الشهادة (22أ3) بثلاثة حدود كيف يحكم بالحد الرابع؟ قال: أجعل الحد الرابع بإزاء الحد الثالث حتى ينتهي إلى ابتداء الحد الأول أي بإزاء الحد الأول. وإن شهدا أنه وقف أرضه التي في موضع كذا، وحدها لنا إلا أنا نسينا لا يقبل شهادتهما؛ لأنهما شهدا على أنفسهما بالغفلة. وإن قالا: حدها لنا ولكنا (لا) نعرف الحدود ذكر هلال أن القاضي لا يقبل شهادتهما قال: القاضي الإمام الأستاذ الكبير أبو زيد رحمه الله تأويل هذا أنهما لم يبينا للقاضي أما إذا بيناه وعرفاه يقبل، وذكر الخصاف رحمه الله في هذه الصورة أني أجيز الشهادة وأقضي بالدار والأرض بحدودهما وقفاً وأقول للشهود: سموا الحدود فأقضي بما يسموني ويحدوني. قال هلال: وكذلك لو قالا: لم يكن في المصر إلا تلك الأرض لم تقبل، فأما إذا قالا: أشهدنا أنه وقف هذه الأرض وهو فيها ولم يحدها لنا فالشهادة جائزة إذا كانا يعرفانها. قال القاضي الإمام: تأويل هذا إذا بينا للقاضي وعرفاه، فأما إذا لم يبينا لا يقبل شهادتهما. وإن شهدا أنه حدها لنا ولكنا لا نذكر الحدود التي حدها لنا فالشهادة باطلة، وإن كانا يعرفان الحدود لكنهما لا يعرفان الأرض؛ لأنهما كانا غائبين عنها يقبل شهادتهما، ويكلف القاضي مدعي الوقف أن يقيم شاهدين آخرين يشهدان أن هذه الأرض بحدودها هي تلك الأرض التي يشهد الشهود بوقفيتها، فإن شهدا أنه إذا.... حدودها وقفنا عليه ولكن لم يسم لنا حدودها قبلت شهادتهما. وإذا شهد شاهدان على رجل أنه وقف حصته من هذه الأرض أو من هذه الدار ولا يدريان ما حصته، فالشهادة باطلة عند أبي حنيفة على قياس مسألة البيع، وهو ما إذا باع حصته من هذه الدار ومن هذه الأرض ولم يعلم المشتري حصته لا يجوز البيع عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف: يجوز البيع وإن لم يعلما حصته، والهبة لا يجوز إذا لم يعرف حصة الواهب بلا خلاف، فالوقف على قول أبي يوسف: لا يجوز قياساً على الهبة ويجوز استحساناً كالبيع. وجه القياس: أن الوقف إزالة الملك بغير بدل فصار كالهبة. وجه الاستحسان: أن الوقف لو لم يصح إنما لا يصح لعدم التمييز ولا وجه إليه؛ لأن وقف المشاع عنده صحيح. وإن شهدا أنه أقر عندهما أنه جعل حصته من هذه الأرض التي في موضع كذا حدودها كذا صدقة موقوفة لله تعالى وهي ثلث جميع هذه الأرض على كذا وجعل آخره للمساكين، فنظر الحاكم فوجد حصته من هذه الأرض نصفها أو ثلثيها، قال الخصاف: يجعل جميع حصته وقفاً على الوجوه التي سبلها. قال رحمه الله: وقد قال أصحابنا في رجل قال لآخر: بعتك جميع حصتي من هذه

الأرض وهي ثلثها بألف درهم، فإذا حصته نصفها، فليس للمشتري إلا الثلث الذي سماه له. وقالوا فيمن أوصى لرجل فقال: أوصيت لك بثلث مالي وهو ألف درهم، فإذا ثلث ماله أكثر من ألف، فللموصى له جميع الثلث، قال الخصاف: وعندي أن الوقف نظير الوصية؛ لأنه ليس بعقد معاوضة. وإن جعل غلة ذلك على قوم سماهم ومن بعدهم على المساكين، فصدقة القوم الذين وقف عليهم، وقالوا: إنما قصد وقف الثلث علينا، قال: تصديقهم وسكوتهم في ذلك سواء، وأقضي بجميع حقه وقفاً وأجعل للقوم الذين سماهم بأعيانهم غلة الثلث من ذلك، وأجعل فضل ما بين الثلث إلى النصف للمساكين. وإذا شهدا على رجل أنه وقف واختلفا فيما بينهما، فشهد أحدهما أنه وقف أرضه في موضع كذا، وشهد الآخر أنه وقف أرضه في موضع كذا، وسمى موضعاً آخر لا تقبل الشهادة؛ لأنه ما شهد على وقفية كل أرض إلا شاهد واحد. ولو شهد أحدهما أنه وقف تلك الأرض وحدها، وشهد الآخر أنه وقف تلك الأرض وأرضاً أخرى قبلت الشهادة على ما اتفقا عليه. ولو شهد أحدهما أنه وقف هذه الأرض كلها وشهد الآخر أنه وقف نصفها قبلت الشهادة على النصف، وقضي بوقفية هذه الأرض، هكذا ذكر هلال والخصاف، قيل: هذا الجواب مستقيم على مذهبهما غير مستقيم على مذهب أبي حنيفة كما لو شهد أحد الشاهدين على تطليقة وشهد الآخر على نصف تطليقة، فإن هناك لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة، وعندهما لا يقبل على نصف تطليقة، ومنهم من قال: هذا على الإتفاق؛ لأن الأرض حصة، فصار كما لو شهد أحدهما على طلاق امرأة وشهد الآخر على طلاقها وطلاق أخرى. ولو شهد أحدهما أنه جعل له ثلث الغلة وشهد الآخر أنه جعل له نصفها قبلت الشهادة على الثلث عندهما، وإن شهد أحدهما أنه وقف نصفها مشاعاً وشهد الآخر أنه وقف نصفها مقسومة فالشهادة باطلة. ولو شهد أحدهما أنه وقفها يوم الخميس وشهد الآخر أنه وقفها يوم الجمعة قبلت الشهادة؛ لأن الوقف تصرف قولي، والقول يعاد ويكرر، فلا يضره اختلاف الزمان والمكان كالبيع، قيل: هذا على قول أبي يوسف، أما على قول محمد: لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن الوقف وإن كان قولياً إلا أنه يتضمن فعلاً وهو التسليم، فإن التسليم عند محمد شرط صحته وكل قول يتضمن فعلاً كالنكاح، واختلفا فيه في الزمان والمكان لا تقبل الشهادة. ولو شهد أحدهما أنه وقفها وقفاً صحيحاً في صحته وشهد الآخر أنه وقفها بعد موته لا يقبل الشهادة؛ لأن أحدهما شهد بالوقف والآخر بالوصية. ولو شهد أحدهما أنه وقفها صحيحاً في صحته وشهد الآخر أنه وقفها في المرض قبلت الشهادة، وتكون جميع الأرض وقفا إن كان يخرج من الثلث، وإن كان لا يخرج من الثلث يصير ثلثها وقفاً؛ لأنهما اتفقا على وقف الأرض واختلفا في الوقت إن كانت الأرض تخرج من الثلث،

وإن كانت الأرض لا تخرج من الثلث، فقد اختلفا على ثلثها واتفقا فيما وراء ذلك، فيثبت ما اتفقا عليه ولا يثبت ما تفرد به أحدهما. ولو شهد أحدهما أنه جعلها صدقة موقوفة على الفقراء وشهد الآخر أنه جعلها صدقة موقوفة على المساكين قبلت الشهادة؛ لأنهما اتفقا على الفقراء، فإن من قال: أرضي صدقة موقوفة كانت على الفقراء، فقد اتفقا على كونهما وقفاً على الفقراء، فيثبت ذلك ويبطل ما تفرد به أحدهما. والحاصل: أنهما إذا اتفقا على كونهما صدقة موقوفة وتفرد أحدهما بزيادة شيء لا يثبت الزيادة، ويثبت ما اتفقا عليه وكونهما وقفاً على الفقراء. وعن هذا قلنا: إذا شهد أحدهما أنه جعلها صدقة موقوفة على زيد تكون وقفاً على الفقراء؛ لأنهما اتفقا على جعلها صدقة موقوفة. وذكر الخصاف في «وقفه» : إذا شهد أحدهما أنه أقر أنه جعلها صدقة على الفقراء والمساكين وشهد الآخر أنه وقفها على الفقراء حكم عليه بالوقف للفقراء في قول حسن بن زياد من قبل أنه قال للفقراء والمساكين لهم سهم واحد قال: ومن قال: للفقراء والمساكين بينهما أن يجعل نصفها وقفاً للفقراء ويبطل النصف، قال: وهذا القول ما رواه محمد بن الحسن في «الجامع الصغير» . ولو شهد أحدهما أنه جعلها صدقة موقوفة على عبد الله وزيد، وشهد الآخر أنه جعلها على عبد الله خاصة (22ب3) قضيت بالنصف لعبد الله والنصف الآخر للفقراء، أما القضاء لعبد الله؛ لأنهما اتفقا على عبد الله، وأما القضاء بالنصف؛ فلأنهما اتفقا على النصف له واختلفا في النصف الآخر، (ولو) شهد أحدهما به لعبد الله وشهد الآخر به لزيد، فما اتفقا عليه يثبت وما اختلفا فيه لا يثبت ويجعل ذلك كالسكوت عنه ويكون للفقراء بخلاف المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى اتفقا على كونه لعبد الله وزاد أحدهما لولده من بعده، فلم يثبت هذه الزيادة، ويثبت ما اتفقا عليه وهو كونه لعبد الله. قال مشايخنا: وما ذكر من الجواب أنه يقضي لعبد الله بالنصف يجب أن يكون قول الكل؛ لأنهما لم يختلفا في لفظ الشهادة لعبد الله، وإنما زاد أحدهما حصة زيد فلم يثبت ذلك بمجرد قول فيكون للفقراء. وإذا شهد أحدهما أنه جعل لعبد الله مائة درهم في كل سنة من غلات هذه الأرض وشهد الآخر أنه جعل له مئتي درهم لا تقبل هذه الشهادة عند أبي حنيفة، كما لو شهد أحدهما لرجل بمئة درهم وشهد الآخر بمئتي درهم. ولو قال أحدهما جعل له من الغلة في كل سنة مئة درهم، وقال الآخر: في سنة واحدة، فإنه يثبت في السنة الأولى عندهم؛ لأنهما اتفقا عليه. قال الخصاف في «وقفه» : لو شهد أحدهما أنه جعلها صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين وشهد الآخر أنه جعلها صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين وأبواب البر تقبل هذه الشهادة؛ لأن جميع ذلك من أبواب البر الأولى، لو أوصى رجل بثلث ماله في أبواب البر ففرقه القاضي في الفقراء والمساكين إن ذلك جائز.

قال: ولو شهد أحدهما أنه جعل أرضه صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين وفقراء قرابته قال: هذا لا يشبه أبواب البر؛ لأن الذي يشهد لفقراء قرابته لم يشهد بجميع الغلة للفقراء والمساكين. ألا ترى أن رجلاً لو أوصى بثلث ماله للفقراء والمساكين وفقراء قرابته أني أنظر إلى عدة فقراء قرابته يوم مات، فأضرب لهم في الثلث بعددهم وأضرب الفقراء والمساكين بسهمين، فإن كان فقراء قرابته عشرة كان لهم عشرة أسهم وللمساكين سهمان، فكذلك في الوقف أنظر إلى فقراء القرابة وأنظر كم يصيب الفقراء، فأجعل ذلك وقفاً عليهم. إذا شهد شاهدان أنه جعل هذه الأرض صدقة موقوفة علينا يجب أن يبطل قوله: علينا ويبقى قوله: صدقة موقوفة، فيقضى للفقراء كما لو اقتصرا على قولهما صدقة موقوفة، ألا ترى أنا ذكرنا قبل هذا أنهما لو شهدا أنه جعل أرضه صدقة موقوفة، فقال أحدهما: على عبد الله، وقال الآخر: على زيد، يبطل قولهما: على زيد وعبد الله، ويبقى على قولهما: صدقة موقوفة، قلنا: في تلك المسألة الكلام خرج مخرج الصحة؛ لأنه شهادة كله فيثبت ما اتفقا عليه لتمام الحجة ويبطل ما اختلفا فيه لعدم الحجة، وهنا الكلام خرج مخرج الفساد؛ لأنه خرج على وجه الدعوى، فيبطل كله كما لو شهدا أنه أبرأنا وفلاناً عن الدين أو شهدا أنه قذف أمنا وفلاناً بكلام واحد أو خاطب أختين فأجاب أحدهما لم يجز لما قلنا. ولو شهدا أنه وقف أرضه علينا وعلى قوم آخرين فذلك كله باطل ولا يجوز للشركاء سواهم؛ لأن الكلام خرج على وجه الفساد. وكذلك إذا قالا: على قرابته وهما من قرابته، أو قالا: على نسله، أو قالا على آل عباس وهما من آل عباس، ولو قالا: علينا وعلى قوم آخرين معلومين، فأردنا أن لا تبطل شهادتهما، فلم يقبل ذلك قبلت شهادتهما؛ لأنه تمحض كلاً منهما شهادة وانعدمت التهمة وصار كالصغير إذا شهدا بالبيع وقالا: سلمنا الشفعة قبلت شهادتهما، ولو شهدا لقرابة الواقف وهما من قرابته وقالا: لم يقبل ذلك لم يقبل شهادتهما؛ لأن أولادهما من قرابتهما وردهما في حق الأولاد ولا يعمل فصارا شاهدين لأولادهما، وكذلك إذا لم يكن لهما أولاد؛ لأنه ربما يخلق لهما، فيستحقون بهذه الشهادة فصارا شاهدين لأولادهما مؤجلاً والبيع المؤجل والمعجل في منع قبول الشهادة على السواء. إذا وقف الرجل كراستة على مسجد لقراء القرآن أو على أهل مسجد وهم يحصون حتى جاز الوقف، فشهد أهل ذلك المسجد على وقف الكراست فهذه الشهادة نظير مسألة شهادة مدرسته على وقف تلك المدرسة أو شهادة أهل محلة على وقف تلك المحلة والمشايخ فصلوا الجواب فقالوا في شهادة أهل المدرسة: إن كانوا يأخذون الوظيفة من ذلك لا تقبل شهادتهما، وإن كانوا لا يأخذون تقبل وكذلك قالوا في أهل المحلة: من

شهد وهو ممن يأخذ من ذلك لا تقبل شهادته؛ لأنه حينئذ تكون هذه شهادة جار معهم وكذلك الشهادة على وقف مكتب وللشاهد صبي في المكتب. وقيل في هذه المسائل: يقبل الشهادة على كل حال؛ لأن كون الفقيه في المدرسة وكون الرجل في المحلة وكون الصبي في المكتب ليس بأمر لازم بل ينتقل الرجل من مدرسة إلى مدرسة ومن محلة إلى محلة، والصبي من مكتب إلى مكتب، وعن هذا قلنا: إذا شهدا أنه وقف على فقراء جيرانه وهما من فقراء جيرانه أو شهدا أنه وقف على فقراء هذا المسجد أو شهدا أنه وقفها على فقراء أهل السجن بالبصرة أو على فقراء أهل مصر كذا، وهما من ذلك تقبل شهادتهما، بخلاف ما إذا شهدا أنه وقف على فقراء القرابة وهما من فقراء القرابة حيث لا تقبل شهادتهما؛ لأن الجوار لا يدوم بل يتحول وينقطع، فإنما يستحق بالجوار وقت القسمة وذلك غير ثابت وقت الشهادة، فلم يكن شاهداً لنفسه فلا يمنع قبول الشهادة، فأما القرابة فإنها تدوم ولا تنقطع، فإنما يستحق بهذه القرابة ألا ترى أن فقراء القرابة، تعين يوم حدوث الغلة وفي فقراء الجيران، وهذه المسائل تعتبر وقت قسمة الغلة بجوار يثبت الاستحقاق في الجوار وقت القسمة، وذلك ليس بموجود للحال وسبب الاستحقاق في القرابة هو القرابة قبل القسمة وهو موجود في الحال. أرض في يدي رجل يزعم أنها ملكه، فادعى قوم أن هذا الرجل وقف هذه الأرض علينا وقفاً صحيحاً وذو اليد منكر، فأقاموا بينة على ما ادعوا قبلت بينتهم وحكمت عليه بالوقف وأخرجتها من يده، وهذه المسألة تصريح أن الدعوى من الوقف عليه صحيح. وكذلك إذا ادعى رجل على رجل أنه وقف هذه الأرض على المساكين وهو يجحد ذلك، وأقام بينة على إقراره بذلك حكمت عليه بالوقف للمسلمين، وأخرجت الأرض من يده تقبل الشهادة على أهل الوقف بالشهرة وعلى الشرائط لا (تقبل) ، هو المختار ويقبل الشهادة على الشهادة في الوقف، وكذا شهادة النساء مع الرجل. نوع منه: رجل جاء إلى قاضي بلدة (فقال:) إني كنت أميناً للقاضي الذي كان قبلك هنا وفي يدي صدقة كانت لرجل يقال له فلان بن فلان وقفها على قوم معلومين سماهم قبل قوله إذا لم يكن للواقف ورثة ولم يعلم من أمر هذه الصدقة غير ما أقر به هذا الرجل، وإن كان له ورثة، فقال: هو ميراث بيننا، وليس بوقف فالقول قولهم ويكون ميراثاً بينهم (23أ3) وإن قالت الورثة: هي وقف علينا وعلى نسلنا ومن بعد ذلك على المساكين، وقال الذي في يديه الضيعة: هي وقف على الفقراء والمساكين دونكم، فالقول قول الورثة، وقال الذي في يديه الضيعة: هي وقف على الفقراء ولم يقل وقفها فلان، وقال قوم: هو وقف علينا وعلى نسلنا وقفها أبونا، فالقاضي يقضي بالوقفية ولا ينظر إلى قول الورثة هذه الجملة (في) «أجناس الناطفي» الوقف الذي تقادم أمره ومات الشهود الذين يشهدون عليها تنازع فيها قوم، قال فريق: هي وقف علينا وقفها فلان يعني ذلك الرجل الذي ادعى الفريق الأول الوقف من جهته، فهذه المسألة على وجهين: أحدهما: إذا كان للواقف ورثة أحياء وفي هذا الوجه يرجع إلى الورثة؛ لأنهم قائمون مقام الواقف يرجع

إليهم سواء كان لها رسوم في دواوين القضاة يعملون عليها أو لم يكن، فأي فريق عينه الورثة، فالقاضي يجعل الوقف له، وإن لم يكن للواقف ورثة أحياء فهذا على وجهين أيضاً: إن كان لهذه الأوقاف رسوم في دواوين القضاة يعملون، فإذا تنازع فيها أهلها، فإنها تجري على الرسوم الموجودة في دواوينهم؛ لأنهم دليل ظاهر وليس هنا دليل فوقه، وإن لم يكن في دواوين القضاة رسوم يعملون عليها، فالقاضي يجعلها موقوفة فمن أثبت في ذلك حقاً قضى له به؛ لأنه لا دليل هنا أصلاً في «واقعات الناطفي» فإن اصطلح الفريقان على الشجأ فيما بينهم، فالقاضي ينفذ ذلك ويقسم الغلة عليهم بينهم. وإذا كان الأرض في يدي رجل وهو يقول: إنها كانت لفلان وقفها على كذا، وقالت الورثة: بل وقفها الميت علينا وعلى نسلنا ومن بعدنا على المساكين والذي قالت الورثة خلاف ما قاله الرجل، فإن القاضي يمضيه على ما أقر به الورثة إذا لم يجد القاضي في ديوان الحكم الذي قبله كتباً من الصك فيها رسوم الوقف، وإن لم يكن الوقف في يد الأمناء بل وجد أمران من في يده، فأما إذا كان الوقف في يد الأمناء ولها رسوم في ديوان من مثله، فإنه لا يقبل قول الورثة فيما ليس في أيدي (الأمناء) . سئل شيخ الاسلام عن وقف مشهور اشتبهت مصارفه وقدر ما يصرف إلى مستحقيه، قال: ينظر إلى المعهود من حاله فيما سبق من الزمان أن قوّامها كيف يعملون فيه؟ وإلى من يصرفونه؟ وكم يعطون؟ فيبني ذلك (على الظاهر) ؛ لأن الظاهر أنهم كانوا يفعلون ذلك على موافقة شرط الواقف وهم الظنون بحال المسلمين فيعمل على ذلك. في «فتاوى الفضلي» : وقف في يد صاحب الأوقاف فوجد في صك ذلك الوقف أن الفاضل من نفقته يصرف إلى فقراء أهل السكة الموجودين يوم الوقف، يضرب لكل واحد منهم بسهم ولسائر الفقراء بسهم وكل من مات منهم سقط سهمه وقسم بين الباقي منهم على ما وصفت، فإذا انقرض فقراء السكنة الموجودين يوم الوقف كان فقراء أهل السكنة ومن سواهم من فقراء المسلمين في ذلك سواء؛ لأن فقراء السكنة الموجودين يوم الوقف استحقوا بأعيانهم فصار للكل سهم واحد. في وقف «الخصاف» : رجل وقف ضيعة له، فقال: قد جعلت ضيعتي المعروفة بكذا وهي مشهورة مستغنية لشهرتها عن تحديدها صدقة موقوفة على وجوه سماها وجعل آخرها للمساكين جاز، فإن ادعى الواقف أن فراخاً منها لم يدخل في هذا الوقف قال: إن كانت حدود هذه الضيعة مشهورة معروفة وكان هذا الفراخ داخلاً في حدودها فهو داخل في الوقف، وكذا إن كانت هذه الضيعة معروفة عند الصلحاء من جيرانها وكان الفراخ منسوباً إليها معروفاً أنه منها فهو داخل في الوقف، فإن لم يكن الأمر على ما بينا، فالقول قول الواقف ولا يكون هذا الفراخ داخلاً في الوقف وكان القياس أن يقبل قول الواقف فما أقربه كان وقفاً صحيحاً وما جحد كان مشكلاً كان القول فيه قول الواقف. وأما الدار

الفصل الحادي والعشرون: في المساجد وهو أنواع

يقفها الرجل ولها حجر، فقال الواقف: إن بعض الحجر لم يدخل في الوقف قال: ما كان من هذه مما يشتمل عليه حدود الدار، فهي داخلة في الوقف، والدار لا يشبه الضياع من قبل أن جيران الدار والملاصقين بها لا يكاد يشكل عليهم أمرها وحدودها، فإن كان أشكل ذلك على الجيران حتى لا يعرفوها، فالقول قول الواقف.d ولأهل الوقف أن ينازعوه وأن يستحلفوه على ما أنكر من ذلك. فإن لم يكن وقفها على قوم وإنما وقفه على وجوه البر من يكون الخصم فيه؟ قال: من نازعه في ذلك من المسلمين وقدمه إلى الحاكم ينظر، فإن كان المنازع في ذلك رجلاً من أهل الستر والصلاح تطوع بالقيام لذلك ليس ممن يشاكل الناس وما رأى الحاكم أن يجعله خصماً في ذلك فعل ما هو أصلح. وقف في يد الواقف يصرف الأموال على القرابة ومواليه يفضل البعض على البعض ويضع فيمن شاء، ثم مات هذا الواقف، وأوصى إلى آخر ولم يبين كيف كان سبيل الواقف، فالثاني يصرف إلى من يصرف إليه الأول؛ لأن الظاهر أن الأول إلى من كان يصرف الزيادة عرف قراباته ومواليه يصرفه إلى الفقراء. الفصل الحادي والعشرون: في المساجد وهو أنواع نوع منه الإضافة إلى ما بعد الموت أو الوصية ليست بشرط لصيرورة المكان مسجداً صحة ولزوماً عند أبي حنيفة بخلاف سائر الأوقاف على مذهبه، وقول أبي حنيفة في المسجد في أنه لا يشترط الإضافة إلى ما بعد الموت أو الوصية كقولهما، وأما القبض والتسليم شرط لصيرورته مسجداً عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف ليس بشرط حتى إن عنده يصير مسجداً بمجرد البناء، وعندهما لا يصير مسجداً بمجرد البناء ما لم يوجد القبض والتسليم، وبالصلاة بجماعة يقع القبض والتسليم بلا خلاف حتى إنه إذا بنى مسجداً وأذن للناس بالصلاة فيه فصلى فيه جماعة، فإنه يصير مسجداً ويشترط مع ذلك أن تكون الصلاة بأذان وإقامة جهراً لا سراً حتى لو صلى جماعة بغير أذان وإقامة سراً لا جهراً لا يصير مسجداً عندهما ولا يقع القبض والتسليم بالصلاة وحده عند محمد، وعن أبي حنيفة روايتان في رواية الحسن لا يقع القبض والتسليم وفي رواية غيره يقع القبض والتسليم. فإن جعل مؤذناً وإماماً وهو رجل واحد، فأذن وأقام وصلى وحده صار مسجداً بالاتفاق؛ لأن أداء صلاته كالجماعة، ألا ترى أن أصحابنا قالوا: مؤذن مسجد إذا أذن وأقام وصلى وحده ليس لمن يجيء بعد ذلك أن يصلي بالجماعة في ذلك المسجد. في «فتاوي سمرقند» فإن كان هذا الرجل الذي جعل مسجداً صلى فيه بنفسه يصير مسجداً، ذكر هلال في «وقفه» ما يدل على أنه يصير مسجداً، فإنه قال: كان أبو حنيفة

يقول: لا يكون مسجداً حتى يصلى فيه وقوله يصلى فيه على ما لم يسم فاعله، فهذا دليل على أن صلاته وحده وصلاة غيره فيه سواء. وروى (23ب3) الحسن عن أبي حنيفة: أن يشترط صلاة غيره وبقبض المتولي هل يصير مسجداً من غير أن يصلى فيه؟ فقد اختلف المشايخ فيه ويكتفى بصلاة واحدة بالجماعة لصيرورته مسجداً ذكره في «الوقف» للحسن بن زياد. وفي «وقف هلال» البصري والخصاف قال أبو حنيفة: لا يكون مسجداً حتى يصلى فيه جماعة بإذنه. قال في آخر صلاة «الإملاء» : رواية بشر بن الوليد قال أبو حنيفة: لا يصير مسجداً حتى يقول: صلوا فيه جماعة أبداً، ولو أمر القوم أن يصلوا فيه جماعة صلاة أو صلوات يوماً أو شهراً لا يكون مسجداً حتى يقول ما بيناه من القول. وذكر الصدر الشهيد في «واقعاته» في باب العين من كتاب الهبة والصدقة رجل له أرض ساحة لا بناء فيها، أمر قوماً أن يصلوا فيها بجماعة، فهذا على ثلاثة أوجه: أما إن أمرهم بالصلاة فيها أبداً نصاً بأن قال: صلوا فيها أبداً أو أمرهم مطلقاً ونوي الأبد وفي هذين الوجهين صارت الساحة مسجداً لو مات لا يورث عنه، وأما إن وقت الأمر باليوم أو الشهر أو السنة وفي هذا الوجه لا تصير الساحة مسجداً لو مات تورث عنه. في «فتاوي أبي الليث» : سئل الفقيه أبو جعفر عن وقف بجنب المسجد والوقف على المسجد، فأرادوا أن يرفدوا في المسجد من ذلك الوقف قال: يجوز وينبغي أن يفعل ذلك بإذن الحاكم؛ لأن الولاية للحاكم. وسئل أبو القاسم عن أهل مسجد أراد بعضهم أن يجعلوا المسجد رحبة أو الرحبة مسجداً أو نجد موالٍ له باباً أو يحولوا بابه عن موضعه، فأبى البعض ذلك، فإذا اجتمع أكثرهم وأفضلهم على ذلك، فليس للأقل منعهم عنه. وفي قسمة «فتاوي أبي الليث» الطريق إذا كان واسعاً فبنى فيه أهل المحلة مسجداً للعامة ولا يضر ذلك بالطريق فلا بأس به؛ لأن الطريق لهم والمسجد لهم أيضاً، وإن أراد أهل المحلة أن يدخلوا أشياء من الطريق في دورهم نص في «العيون» أنه ليس لهم ذلك، وإن كان لا يضر ذلك بالطريق؛ لأن الطريق للمسلمين والدور لأربابها خاصة. وإن أرادوا أن يجعلوا شيئاً من المسجد طريقاً للمسلمين، فقد قيل: ليس لهم ذلك وإنه صحيح. وفي كراهية «فتاوي أهل سمرقند» قوم بنوا مسجداً واحتاجوا إلى مكان ليتسع وبجنبه طريق المسلمين، فأخذوا شيئاً من الطريق وأدخلوه في المسجد إن كان لا يضر بأصحاب الطريق رجوت أن لا يكون به بأساً، ولو ضاق المسجد على الناس وبجنبه أرض لرجل تؤخذ أرضه بالقيمة كرهاً منه صح عن عمر وكثير من الصحابة وصفهم أنهم أخذوا أرضين بكره من أصحابها، وزادوا في المسجد الحرام حين ضاق بهم. وفي «فتاوي النسفي» : سئل شيخ الإسلام أبو الحسن عن متولي مسجد جعل منزلاً موقوفاً على المسجد مسجداً وصلى فيه الناس سنين ثم ترك الصلاة فيه، فأعيد منزلاً مستعملاً ينفق عليه على ذلك المسجد كما كان، قال: يجوز، قيل: فهل صح جعل المتولي المنزل مسجداً؟ قال: لا.

في «فتاوي أبي الليث» سلطان أذن لأقوام أن يجعلوا أرضاً من أرض الكورة في مسجدهم ويزيدوا فيه ويتخذوا حوانيت موقوفة على مسجدهم، قال الفقيه أبو بكر: إن كانت البلدة فتحت عنوة يجوز أمره إذا كان ذلك لا يضر بالمارة، وإن كانت فتحت صلحاً لم يجز أمره؛ لأنها إذا فتحت عنوة صارت ملكاً للغزاة، وللسلطان فيها تدبير، فإن له الخيار في الأراضي التي فتحت عنوة إن شاء قسمها بين الغانمين، وإن شاء من على أهلها برقابهم وأراضيهم، وإن شاء دفع البعض إلى الغانمين وترك البعض على أهلها، وإذا كان للسلطان تدبير فيها صح أمره فيها. أما الأرض التي فتحت صلحاً بقيت على ملك ملاكها ولا تدبير للإمام فيها، فلم يصح أمر الإمام فيه. وفي «الجامع الصغير» رجل جعل داره مسجداً تحته سرادب وجعل باب المسجد إلى الطريق وعزله، فإنه لا يصير مسجداً حتى لو مات يورث عنه، وله أن يبيعه حال حياته؛ لأن المسجد لا يكون لله تعالى (إلا) خالصاً، وفي هذين الفصلين لا خلاص؛ لأن الأرض أو السطح من هذا المسجد لا يكون لله تعالى. وفي «المنتقى» : اتخذ من داره مسجداً أشرعه وجعل على الظلل منه غرفة ومسكناً، فهذا ملك له وله أن يبيعه، وكذلك الصحن الذي عليه بناء ولا تحته مسكن يريد أنه كما لا يثبت لما تحت المسكن حكم المسجد لا يثبت للباقي، وهو الصحن حكم المسجد لما أشار إليه في «الكتاب» أن هذا مسجد واحد، وعن أبي يوسف أنه أجاز أن يكون الأسفل مسجداً والأعلى ملكاً؛ لأن الأسفل أصل عن محمد أنه حين دخل الري ورأى ضيق الأمكنة جوز ذلك. وإن جعل وسط داره مسجداً وأذن للناس بالدخول فيه فله أن يبيعه، وإن مات يورث عنه. وفي «الأجناس» في «نوادر هشام» : قال سألت محمد بن الحسن عن نهر قرية كثير أهلها لا يحصى عددهم وهو نهر قناة أو نهر وادي لهم خاصة أراد قوم أن يعمروا بعض هذا النهر ويبنوا عليه مسجداً ولا يضر ذلك بالنهر ولا يعرض لهم أحد من أهل النهر، قال محمد رحمه الله: يسعهم أن يبنوا ذلك المسجد للعامة والمحلة. ولو كان مسجد في محلة ضاق على أهله ولا يسعهم أن يزيدوا فيه فسألهم بعض الجيران أن يجعلوا ذلك المسجد له ليدخل هو داره ويعطيهم مكانه عوضاً ما هو خير له فيتسع فيه أهل المحلة، قال محمد: لا يسعهم ذلك. إذا أراد إنسان أن يتخذ تحت المسجد حوانيت غلة يلزمه المسجد أو فوقه ليس له ذلك. في «الحاوي» وفي «المنتقى» : إذا بنى الرجل مسجداً وبنى فوقه غرفة وهو في يده فله ذلك، وإن كان حين بناه خلى بينه وبين الناس ثم جاء بعد ذلك بنى لا يترك. في «الفتاوي» : سئل أبو القاسم عمن أراد أن يهدم مسجداً ويبنيه أحكم من بنائه الأول، قال: ليس له ذلك، تأويل هذه المسألة: إذا لم يكن هذا الرجل من أهل هذه المحلة، فقد ذكر في «الواقعات» عن أبي حنيفة رحمه الله: لأهل المسجد أن يهدموا المسجد ويجددوا بناءه ويضعوا الحباب ويعلقوا القناديل، ولو أصاب من قنديلهم رأس

رجل لا ضمان عليهم، ولو علق أهل محلة أخرى ضمنوا، وهذا إذا أراد أهل المحلة أن يعلقوا ذلك من مال أنفسهم، فأما إذا أرادوا أن يعلقوا ذلك من الوقف ليس لهم ذلك إلا أن يأمر القاضي؛ لأن هذا تصرف بالوقف وليس لهم هذه الولاية. نوع منه إذا جعل أرضاً له مسجداً وشرط من ذلك شيئاً لنفسه لا يصح بالإجماع، فرق بين هذا وبينما إذا وقف أرضاً له على الفقراء وشرط بعض الغلة لنفسه، فإنه يصح، والفرق يخرج على ما ذكرنا في تلك المسألة يعرف ذلك بالتأمل إن شاء الله تعالى، ومعنى آخر للفرق: أن في الوقف يصير شارطاً لنفسه من ملك الغير؛ لأن الغير بالوقف يزول ملكه إلى الله تعالى؛ لأنه لا يشترط لنفسه شيئاً من العين إنما يشترط من الغلة والمنفعة، وإذا زال العين عن ملكه فالمنافع تحدث على ملك الله تعالى فصار شارطاً لنفسه من ملك الغير فيصح، وفي المسجد يصير شارطاً لنفسه بعض ملك نفسه فلا يصح. وفي «وقف الخصاف» : إذا جعل أرضه مسجداً وبناه وأشهد أن له إبطاله وبيعه فهو شرط باطل ويكون مسجداً ولا يشبه الوقف، وأشار إلى الفرق فقال: ألا ترى لو بنى مسجداً لأهل محلة وقال: جعلت هذا المسجد لأهل هذه المحلة خاصة كان (24أ3) لغير أهل تلك المحلة أن يصلي فيه، وفي الوقف لا يرجع إلى غير من شرط له. إذا جعل أرضه مسجداً فخرب ما حول المسجد من المحلة واستغنى أهل المحلة عن ذلك المسجد عاد إلى ملك صاحبه إن كان حياً وإلى ملك ورثته إن كان ميتاً عند محمد رحمه الله. وفي «السير الكبير» : إذا خرب القرية التي فيها المسجد وجعلت مزارع وخرب المسجد فلا يصلي فيه أحد فلا بأس بأن يأخذه صاحبه ويبيعه ممن يجعله مزرعة أو يجعله مزرعة لنفسه، وهو قول محمد، وقال أبو يوسف: لا يعود إلى ملك الثاني إن كان حياً ولا إلى ورثته إن كان ميتاً وهو مسجد أبداً على حاله فمحمد يقول: إنه أزال ملكه بجهة وقد بطلت تلك الجهة لو بقيت الإزالة كانت الإزالة مطلقاً، وبهذا الطريق لو كفن ميتاً ثم افترسه السبع عاد الكفن إلى ملك صاحبه، وكذا إذا علق قنديلاً وبسط حصيراً أو بواري في المسجد ثم خرب المسجد واستغنى عنه عادت هذه الأشياء إلى ملك صاحبها، وأبو يوسف يقول: هو أزال ملكه بجهة ولكن لم يبطل تلك الجهة؛ لأن ما جعلها مسجداً ليصلي فيه أهل هذه المحلة لا غير، وإنما جعلها مسجداً ليصلي فيه العامة؛ لأن للعامة حق إقامة الصلاة في المساجد، والصحيح من مذهب أبي يوسف في فصل الحصير أنه لا يعود إلى ملك صاحبه بخراب المسجد بل يحول إلى آخر ويبيعه قيم المسجد للمسجد. وأما فصل الكفن قلنا: تكفين الميت ليس بإزالة للعين عن ملكه بل هو تبرع بالمنفعة لحاجة الميت، فكان بمنزلة العارية حالة الحياة وقد وقع الاستغناء للمستعير، فتعود المنفعة إلى المعير كما في حالة الحياة، وقال محمد في الفرس: إذا جعله الرجل حبيساً في سبيل الله، فصار لا يستطاع أن يركب أنه يباع ويصير ثمنه لصاحبه أو ورثته على حسب ما قال في المسجد.

ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : أن من جعل جنازة وملأة ومغتسلاً الذي يقال بالفارسية: حوض مسين وقفاً في محلة، فمات أهلها كلها لا يرد إلى الورثة بل يحمل إلى مكان آخر، قال رحمه الله: فرق محمد رحمه الله بين هذا وبين المسجد إذا خرب ما حوله أن يصير ميراثاً، وفي هذه الفصول نوع إشكال، وينبغي أن يعود إلى الوارث على قياس مسألة الحصير والبواري، وإن صح هذا من محمد تصير هذه المسائل رواية في الحصير والبواري أنه لا يعود إلى الوارث. في «المنتقى» : في مسجد يريد أهل المحلة أن يحولوه إلى موضع آخر، فإن ترك هذا حتى لا يصلى فيه، فللناس أن ينتفعوا به ويجعلون المسجد في غير هذا الموضع بمنزلة الخراب، وتأويل هذا إذا لم يعرف للمسجد بانٍ على ما نبينه إن شاء الله، فأما إذا لم يترك كما وصفت لك، فإنه لا يبيعونه ولا يتخذونه مسكناً، وهذه المسألة على هذا التفصيل إنما تتأتى على قول محمد. وفي «الأجناس» : إذا خرب المسجد ولا يعرف بانيه وبنى أهل المسجد مسجداً آخر ثم أجمعوا على بيعه واستعانوا بثمنه في ثمن المسجد الآخر فلا بأس به. قال أبو العباس الناطفي في «الأجناس» : فقياسه في وقف هذا المسجد أنه يجوز صرفه إلى عمارة مسجد آخر إذا لم يعرف الواقف ولا وارثه، فأما إذا عرف للمسجد بان فليس لأهل المسجد أن يبيعوه؛ لأنه لما خرب ووقع الاستغناء عنه عاد إلى ملك بانيه أو ورثته، فلا يكون لأهله أن يبيعوه وما ذكر من الجواب، أما لم يعرف بانيه قول محمد لا قول أبي يوسف هو مسجد أبداً، فلا يكون لأهل المسجد أن يبيعوه، وعن أبي سلمة السهمي، قال محمد: في مسجد إذا خرب فلا يعرف بانيه فحكمه حكم الأرض عامرة لا يعرف لها رب، فيكون أمرها إلى الإمام. قال أبو العباس الناطفي في «الأجناس» : اختلفت الروايات في تولية بيع المسجد والأوقاف إذا خرب ذكر في «نوادر هشام» في باب الوصايا في الوقف إذا صار بحيث لا ينتفع به المساكين، فللقاضي أن يبيعه ويشتري بثمنه آخر، ولا يجوز بيعه إلا للقاضي في قول محمد. وفي «جامع الكيساني» : إذا جعلت امرأة مصحفاً حبيساً في سبيل الله وتحرق المصحف وبقيت الفضة التي عليه دفع ذلك إلى القاضي حتى يبيعه ويشتري مصحفاً مستقبلاً، فيجعله حبيساً، ولو جعل فرساً حبيساً في سبيل الله فأصابه عيب لا يقدر على أن يغزو عليه لا بأس للوكيل أن يبيعه يريد به القيم ثم يشتري بثمنه فرساً آخر يغزو عليه، وبيع الوكيل جائز في ذلك بغير أمر القاضي، وهو بمنزلة المسجد إذا خربت القرية كان لصاحبه أن يأخذه ويبيعه. فرع على مسألة المصحف لو صار المصحف لا يعطي ثمنه مصحفاً يرد ذلك على الورثة، فاقتسموا على فرائض الله تعالى قال الكسائي: وهو قول أبي يوسف ومحمد. وفي وصايا «الإملاء»

رواية بشر بن الوليد: إذا جعل أرضه صدقة موقوفة بما فيه من الرقيق والبقر والآلة فتغير عن حاله حتى لا ينتفع به في الصدقة ليس له بيعه إلا بأمر القاضي. نوع منه في ذكر المسائل التي تعود إلى ما في المسجد في «المنتقى» وفي «الوصايا» لابن سماعة عن محمد رحمهما الله: رجل اشترى بواري المسجد لم يكن له أن يأخذها، ولو اشترى قناديل المسجد وحباباً فوضع في المسجد كان له أن يأخذ ذلك، فقد فرق على هذه الرواية بين البواري وبين القناديل والحباب. ذكر في «المنتقى» أيضاً بعد هذه المسألة بمسائل إبراهيم عن محمد عن أبي حنيفة إذا أخرج الرجل البواري في المسجد فليس بميراث وهو قول محمد. وكذلك قال محمد في القناديل سوى في رواية ابراهيم بين القنديل وبواري المسجد إذا صارت حلقاً واستغنى أهل المسجد عنها وقد طرحها إنسان، فإن كان الذي طرحها حياً فهي له؛ لأنها لم تزل عن ملكه، هكذا ذكر الصدر الشهيد في «واقعاته» وهذا التعليل ليس بصحيح، فإن أحداً من العلماء لم يقل بأن البواري لا يزول عن ملكه، وإنما اختلفوا في عودها إلى ملكه عند وقوع الاستغناء عنها على ما مر قبل هذا، وإن كان الذي قد طرحها ميتاً ولم يدع وارثاً آخر جوابه لا بأس بأن يدفع أهل المسجد إلى فقير وينتفعوا بالثمن في شراء حصير آخر للمسجد. قال الصدر الشهيد: هكذا ذكر الفقيه أبو الليث في فتاويه، قال: والفتوى على أنه لا يجوز إذا فعلوا ذلك من غير أمر القاضي. وفي «المنتقى» بواري المسجد: إذا خلقت فصار لا ينتفع بها، فأراد الذي بسطها أن يأخذها ويتصدق بها ويشتري مكانها فله ذلك، وإن كان هو غائبا، فأراد أهل المحلة أن يأخذوا بواري فيتصدقوا بها بعد ما خلقت لم يكن لهم ذلك إذا كان لها قيمة فلا بأس بها. في «فتاوي أبي الليث» : سئل الفقيه أبو بكر عن حشيش المسجد يخرج عن المسجد أيام الربيع، قال: إن لم يكن له قيمة فلا بأس بطرحه خارج المسجد ولا بأس برفعه والانتفاع به، وفي كراهية «فتاوي أهل سمرقند» قال مثل ذلك، قال في «فتاوي أهل سمرقند» : حشيش المسجد إذا كان له قيمة، فلأهل المسجد أن يبيعوا، وإن رفعوا إلى الحاكم فهو أحب إلي، وكذا الجنازة والنعش إذا فسد فلأهل المسجد أن يبيعوهما، وإن رفعوا إلى الحاكم فهو أحب قال الصدر (24ب3) الشهيد رحمه الله: والمختار للفتوى أنهم لا يبيعون إلا بأمر الحاكم؛ لأن البيع يعتمد الولاية، ولا ولاية لهم. في «فتاوي أبي الليث» رحمه الله: إذا رفع من حشيش المسجد وجعله قطعاً ... فهو ضامن له؛ لأن له قيمة حتى حكي عن الشيخ أبي حفص السنكردري: أنه أوصى في آخر عمره بخمسين درهماً لحشيش المسجد.

في «فتاوي أبي الليث» : سئل أبو بكر عن سراج المسجد هل يجوز أن يتركه في المسجد؟ فاعلم بأن هنا ثلاث مسائل: أحدها: إذا تركوها من وقت المغرب إلى وقت العشاء والحكم فيها أنه لابأس بها. الثانية: إذا تركوها كل الليل وإنه لا يجوز إلا في موضع جرت العادة بذلك المسجد كبيت المقدس والحرم ومسجد رسول الله عليه السلام. المسألة الثالثة: إذا تركوها بعض الليلة وإنه جائز إلى ثلث الليل؛ لأن لهم تأخير العشاء إلى ثلث الليل بل يستحب لهم ذلك، وإنما يسرج في المساجد لأداء الصلاة، ويجوز ترك السراج في المسجد إلى وقت أداء الصلاة إذا كان في الدهن متسع يقبل له الجواز أن يدرس في المسجد لضوء سراج المسجد فقال: إن وضعوا السراج لأجل الصلاة يجوز، وإن وضعوا لا لأجل الصلاة بأن فرغوا من الصلاة وذهبوا وتركوا السراج في المسجد، فإن تركوا إلى ثلث الليل جاز التدريس بضوئه فلا بأس يبطل هذا الحق بالتعجيل، وإن أخذوا أكثر من ثلث الليل لا يجوز التدريس بضوئه إذ ليس لهم تأخير الصلاة إلى هذا الوقت، فلو جاز التدريس بضوئه جاز مقصودا وإنه لا يجوز. سئل أبو القاسم عن شراء الدهن أو الحصير للمسجد أيهما أفضل؟ قال: هما سواء، قال الفقيه (أبو) الليث: إن كان المسجد محتاجا إلى أحدهما فشراؤه أفضل، وإن كانا سواء في الحاجة إليهما كانا في ثواب الآخرة سواء أيضاً، وسئل نصير عن ديباج الكعبة إذا خلق قال: لا يجوز أخذه ولكن للسلطان أن يبيعه ويستعين به على أمر الكعبة. نوع منه فى المسائل التي تعود إلى الوقف على المسجد وما يتصل به سئل الفقيه أبو القاسم عمن أراد أن يقف أرضاً له على المسجد في عمارته وما يحتاج إليه من الدهن وغيره كيف يفعل حتى يكون آمناً عن البطلان، قال: يقول: وقفت أرضي التي في موضع كذا أحد حدودها كذا، والثاني والثالث والرابع كذا بحقوقها وقفاً مؤبداً في حياتي وبعد وفاتي على أن يستغل بوجوه غلاتها ويبدأ من غلاتها بما فيه من عمارتها، وأجر القوام عليها، ويدفع من غلاتها ما يحتاج إليه من الثواب فما فضل من ذلك يصرف إلى عمارة المسجد بموضع كذا ويصرف للمسجد ودهنه وحصيره وما فيه مصلحة المسجد على أن للقيم أن يتصرف على ما يرى فيه، وإذا استغنى هذا المسجد صرفت الغلة إلى فقراء المسلمين، وإن أراد أن يزيد في الاحتياط يرفع بعد ما سلم إلى المتولي حتى يخاصمه عند القاضي، فيقضي القاضي بجواز البيع ولزومه وبطلان رجوعه. إذا وقف الرجل أرضاً له على المسجد ولم يجعل آخره للمساكين كان محمد بن سلمة رحمه الله يقول: يجب أن يكون هذا الفصل على الاختلاف، وعند محمد: لا يصح؛ لأن عنده إذا خرب ما حول المسجد بطل المسجد وعاد ملكاً له أو ميراثاً لورثته، فلا يكون الوقف مؤبداً، وعلى قول أبي يوسف: يصح؛ لأن عنده المسجد لا يبطل بخراب ما حوله، فكان الوقف مؤبداً إن قلنا: إن التأبيد عنده شرط كيف وإن في اشتراط

التأبيد على قوله اختلاف المشايخ على ما مر، وكان أبو بكر الإسكاف يقول: ينبغي أن لا يصح الوقف عندهم جميعاً، أما عند محمد لما ذكرنا، وأما عند أبي يوسف؛ فلأن الوقف على المسجد وقف على عمارته والمسجد اسم للبقعة لا تعلق له بالبناء والصلاة فيها ممكن بدون البناء، فلا يكون بناؤه قربة حقيقة فلا يصح الوقف، وكان أبو بكر بن سعيد يقول: ينبغي أن يصح الوقف بلا خلاف؛ لأن البناء إن لم يكن مسجداً حقيقة ولكن وصل بالمسجد يصير تبعاً له ويصير منه حكماً، ألا ترى أن البناء يستحق بالشفعة، وإذا كان كذلك صار بناء المسجد من طريق الحكم كجزء من المسجد، فيصير الوقف على عمارته بمنزلة جعل الأرض مسجداً أو بمنزلة زيادة في المسجد، فيكون فوقه مسجد وما يتوهم من الانقطاع بخراب ما حوله عند محمد لا يمنع صحة الوقف كما لا يمنع صحة جعل داره مسجداً، وكان الفقيه أبو جعفر يقول: هذا القول أحب إلي، وعلى هذا القياس فقهاء الأمصار، ولو كان الوقف على المساجد صح؛ لأن جنس هذه القربة لا ينقطع ما دام الإسلام باقياً. وفي «الأجناس» وفي «جامع يزيد الطبري» : سمعت محمد بن الحسن يذكر عن أبي حنيفة، لو جعل أرضاً وقفاً على المسجد جاز. في «فتاوي أبي الليث» : سئل الفقيه أبو جعفر رحمهما الله عمن (قال) : جعلت حجري لدهن سراج المسجد، ولم يزد على هذا صارت الحجرة وقفاً على المسجد بما قال ليس له الرجوع ولا له أن يجعل لغيره، وهذا إذا سلمه للمتولي عند محمد وليس للمتولي أن يصرف عليها إلى غير الدهن؛ لأن الواقف وقفها على دهن المسجد. وفيه أيضاً: لو قال: هذه الشجرة للمسجد لا يصير للمسجد حتى يسلم إلى قيم المسجد؛ لأن قوله: هذه الشجرة إن كان هبة لا يعمل إلا بالتسليم عند الكل، فإن كان وقفاً لا يعمل إلا بالتسليم عند محمد وعليه الفتوى. في «الأجناس» وفي «صلاة الإملاء» : لو تصدق بدار على المسجد لا يجوز ويكون ميراثاً؛ لأن المسجد لا يتصدق عليه، وكذلك لو تصدق على طريق المسلمين، وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في باب الواو: إذا تصدق على المسجد وعلى طريق المسلمين تكلموا فيه، والمختار أنه يجوز كالوقف. وفي «الأجناس» أيضاً: إذا وقف أرضه على قرية مسجد كذا وبمن يوارثه ورثته قناديل وقال: إن استغنى عنه المسجد كانت الغلة للمساكين حتى جاز بالإجماع، واجتمعت الغلة والمسجد لا يحتاج إلى مرمة للحال إلا أنهم (إن) خافوا تعطل الغلة وحاجة المسجد إلى المرمة، فلا بأس بأن يحبسوا ذلك إلى أن يحتاج إليه المسجد، قال: إلا أن يكون الغلة داره فيفرق ما يفضل من الغلة على المساكين، ولو انهدم هذا المسجد فاحتاج أهله أن يبنوه، وقد حصل من غلة هذا المسجد ما يكفي لبنائه، فإنه لا يصرف هذه الغلة إلى البناء؛ لأن الواقف جعل الوقف على مرمته نظر سطحه واجماع يدخل في وقفه وما أشبهه، أما ما جعل الوقف على البناء.

وفي «نوادر هشام» إذا قال: أوصيت بثلث مالي للمسجد، قال أبو يوسف: هو باطل إلا أن يقول: ينفق على المسجد، وقال محمد: يجوز ويصرف إلى عمارته، كذلك إذا قال: لبيت المقدس جاز، وينفق على بيت المقدس في سراجه ونحوه، قال الشيخ الإمام أبو العباس الناطفي: فعلى قياس هذا في المسألة الأولى يجوز أن يصرف إلى دهن المسجد. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد إذا قال: أوصيت بثلث مالي بسراج المسجد لا يجوز، وحتى يقول يسرج بها في المسجد، وهو نظير ما لو أوصى بثلث ماله لدواب فلان لا يجوز. ولو أوصى لتعلفة دواب فلان يجوز. وفي «مجموع النوازل» : سئل شيخ الإسلام أبو الحسن عن رجل قال: وقفت داري على مسجد كذا، ولم يزد على هذا وسلمها إلى المتولي صح، ولم يشترط التأبيد ولم يجعل آخره للفقراء، قال: وهذا يكون تمليكاً للمسجد وهبة، فيتم بالقبض (52أ3) وإثبات الملك للمسجد على هذا الوجه يصح، فإن المتولي إذا اشترى من غلة دار المسجد يصح، وكذا من أعطى دراهم في عمارة المسجد ونفقة المسجد أو مصالح المسجد يصح، وكذا إذا اشترى المتولي عبداً لخدمة المسجد يصح كل ذلك، فيصح هذا بطريق التمليك بالهبة، وإن كان لا يصح بطريق الوقف، قال: والمحفوظ من مشايخي وأستاذي أن المريض مرض الموت إذا قال: وقفت داري على مسجد كذا ولم يزد على هذا ولم يسلم الدار يصح ذلك ويكون وصية؛ والوصية بغير قبض يكون تمليكاً، فكذا هنا غير أن فرق ما بينهما أن الحاصل في مرض الموت وصية؛ والوصية تصح بغير تسليم والحاصل في حالة الصحة هبة فلا يتم إلا بالتسليم. في «فتاوي أبي الليث» رحمه الله: سئل أبو القاسم عمن أوصى بشيء من ماله لعمارة المسجد، قال: عمارة المسجد في بنائة دون ترميمه، قيل له: المنارة، قال: ذلك من بناء المسجد، فيجوز أن تبنى به المنارة. في هذا الكتاب أيضاً: سئل أبو بكر عن بناء المنارة من غلة المسجد قال: إن كان البناء مصلحة للمسجد * وتفسير المصلحة أن يكون أسمع للقوم * يجوز، وإن لم يكن في البناء مصلحة للمسجد * وتفسيره أن يكون المسجد في موضع يسمع جميع أهله الأذان من غير المنارة * لا يجوز. وسئل أبو بكر عمن وقف أرضاً له على عمارة المسجد، وشرط أن ما فضل من عمارته يصرف إلى الفقراء، فاجتمعت الغلة والمسجد غير محتاج إلى العمارة في الحال، قال: تحبس الغلة؛ لأنه ربما يحدث حدث بالمسجد والأرض يصير بحال وهكذا كان يقول الفقيه أبو جعفر، وقد ذكرنا هذه المسألة قبل هذه الصحفة، قال الفقيه أبو الليث: والصحيح عندي أنه إذا اجتمع من الغلة مقدار ما لو احتاج المسجد والأرض إلى العمارة يمكن العمارة منها، ويبقى زيادة شيء من الغلة يصرف الزيادة إلى الفقراء على ما شرط الواقف. وسئل أبو نصر (إن) كان الوقف على مرمة المسجد هل للقيم شراء السلم من ذلك إن بقي على السطح وتطيينه؟ وهل يعطي من غلته للذي يخرج السطح

ويكنسه ويخرج ما اجتمع فيه من التراب، قال: للقيم أن يفعل ما في تركه خراب المسجد. وسئل أبو بكر عمن أوصى بثلث ماله لأعمال البر هل يجوز أن يسرج المسجد؟ قال: يجوز، قال: ولا يجوز أن يزاد على سراج المسجد سواء كان في شهر رمضان أو غيره؛ لأن فيه إسراف، قال: ولا يزين به المسجد، وسئل الفقيه أبو جعفر عن مسجد بابه على مهب الريح فيصيب المطر باب المسجد، فيضره ويبتل داخل المسجد وخارجه، ويشق على الناس الدخول في المسجد أيجوز أن يتخذوا من غلة المسجد ظلة؟ قال: إن لم يضر بأهل الطريق يجوز في «وقف الخصاف» . نوع منه في المسائل التي تعود إلى قيم المسجد وما يتصل به في «فتاوي أبي الليث» : سئل الفقيه أبو القاسم عن قيم مسجد جعله القاضي قيماً على غلاتها وجعل له شيئاً معلوماً يأخذ كل سنة حل له الأخذ إن كان مقدار أجر مثله؛ لأن للقاضي أن يستأجر أجيراً بأجر مثله لذلك وإن لم يشترط الواقف. ولو نصب خادماً للمسجد والباقي بحاله إن كان الواقف شرط ذلك في الوقف حل له الأخذ، وإن لم يكن شرط ذلك في الوقف لا يحل له؛ لأنه إذا لم يشترط الواقف ذلك لا يحل للقاضي نصب الخادم بالأجر فلا يحل للخادم القبض أيضاً هكذا ذكر، وفيه نظر يعرف بالتأمل إن شاء الله تعالى، وقد مر نصب الخادم في الخان الموقوف في الفصل السابع من هذا الكتاب. في «فتاوي أبي الليث» أيضاً: مسجد له مستغلات وأوقاف، فأراد المتولي أن يفرش الآجر أو يشتري الحصير والدهن للمسجد أو ما أشبهه، أما فرش الأجر فله ذلك؛ لأنه من باب البناء، وأما شراء الدهن والحصير فلا، فحينئذ من ثلاثة أوجه: أما إن وسع الواقف ذلك على القيم بأن قال: يفعل القيم ما يرى من مصلحة المسجد وبنائه، وفي هذا الوجه له ذلك، وأما إن لم يوسع عليه وجعله لعمارة المسجد وبنائة وفي هذا الوجه ليس له ذلك، وأما إن لم يعرف شرط الواقف وفي هذا الوجه ينظر إلى من قبله إن كانوا يشترون منه الدهن والحصير والخشب له أن يفعل وما لا فلا، وقيل: ذكر المصلحة والعمارة وتركه سواء، ولا يتمكن المتولي من شراء الدهن والحصير. وإذا أراد أن يصرف شيئاً من ذلك إلى إمام المسجد، فليس له ذلك إلا إذا كان الواقف شرط ذلك في الوقف على إمام المسجد يصرف إليها غلتها وقت الإدراك فأخذ الإمام الغلة وقت الإدراك عن تلك القرية هل يسترد منه بعض ما أخذ منه حصته ما بقي من السنة؟ قالوا: لا يسترد وهو نظير موت القاضي في خلال السنة وقد أخذ الرزق، وهل يحل للإمام أكل حصته ما بقي من السنة؟ إن كان فقيراً يحل وكذلك الحكم في طلبة العلم يعطون في كل سنة أشياء مقدراً من الغلة وقت الإدراك، فأخذ واحد منهم قسط وقت الإدراك وتحول عن تلك المدرسة. قال هلال في «وقفه» في باب الرجل: يقف الأرض والدار على قوم معلومين وسقط شيء من بناء الدار؛ ولو أن بناء مسجد إنهار ولم يمكن إعادته بعينه إلى البناء فباع أهل

المسجد البعض يجوز ويصرف ثمنه إلى عمارة المسجد لما ذكرنا، وقوله فباع أهل المسجد يحتمل أن يكون المراد منه باعه قيم المسجد إلا أنه أضيف بيعه إليهم؛ لأن القاضي ولاه ذلك باختيارهم، فصار فعل مختارهم كفعلهم، ويحتمل أن يكون المراد منه أهل الجماعة وهذا هو الظاهر. وروي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله قال: إن كان أصحاب الخطة أحياء، فتدبير ذلك النقص إليهم؛ لأن تدبير المسجد إليهم؛ لأن الظاهر أن أصحاب الخطة يبنون المسجد بأموالهم فما بقي واحد منهم، فالتدبير في المسجد إليهم دون السكان، فإذا انقرضوا ولم يكن لهم ولد بالغ، فالتدبير إلى السكان، واعتبر هذه الفصول بالقسامة. قيم المسجد إذا أراد أن يبني حوانيت في المسجد وفي فنائه لا يجوز، أما المسجد: فلأنه إذا جعل مسكناً يسقط حرمة المسجد، أما الفناء: فلأنه يتبع المسجد. مسجد له أوقاف مختلفة لا بأس للقيم أن يخلط غلتها كلها، أو خرب حانوت منها فلا بأس بعمارته من غلة حانوت آخر؛ لأن الكل سواء، كان الواقف واحداً أو كان مختلفاً؛ لأن المعنى يجمعهما. متول عليه مشرف ليس للمشرف أن يتصرف في الوقف؛ لأن المفوض إلى المشرف الحفظ لا غير. في «فتاوي أبي الليث» : أهل المسجد إذا باعوا غلة المسجد أو نزل المسجد أو أمروا رجلاً ببيعه أو باعوا بعض المسجد إذا استغنى المسجد عن ذلك، أو أمروا رجلاً بالبيع على وجهين: أما إن فعلوا بأمر القاضي أو لا بأمره ففي الوجه الأول يجوز؛ لأن للقاضي هذه الولاية، وفي الوجه الثاني ذكر هنا أنه يرجى أن يجوز، قال الصدر الشهيد: والفتوى على أنه لا يجوز؛ لأنه ليس لهم هذه الولاية. في «فتاوي أبي الليث» : مسجد بجنبه نهر ماء، فانكسر حائط المسجد من ذلك الماء ينبغي لأهل المسجد أن يرفعوا الأمر إلى القاضي ليأمر القاضي أهل النهر بإصلاحه حتى إذا لم يصلحوا انهدم حائط المسجد ضمنوا قيمة ما انهدم؛ لأنهم صاروا متسببين للتلف بترك الإصلاح، وهذا التسبب نفذ لما كان (25ب3) بعد الإشهاد. وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني في نفقاته عن مشايخ بلخ: أن المسجد إذا كان له أوقاف ولم يكن لها متولي، فقام واحد من أهل المحلة في جميع الأوقاف وأنفق على المسجد فيما يحتاج إليه من الحصير والحشيش وغير ذلك لا ضمان عليه فيما فعل استحساناً فيما بينه وبين الله تعالى، فأما إذا أخبر الحاكم بذلك وأمر به عنده ضمنه الحاكم الفاضل من وقف المسجد، وهل يصرف إلى الفقراء؟ قيل: لا يصرف وإنه صحيح ولكن يشتري به مستغلا للمسجد. وفي «الفتاوي الأصغر» : متولي إذا أنفق على قناديل المسجد من وقف المسجد جاز، وقد ذكر قبل هذا بخلافه في الوقف في «الواقعات» للصدر الشهيد وقف صحيح على مصالح مسجد فمات فاجتمع أهل المسجد وجعلوا رجلاً متولياً بغير أمر القاضي، فقام

هذا المتولي مدة ذلك وصرف من غلاته وأنفق على المسجد بالمعروف، فتكلم المشايخ في جواز هذه التولية، قال الصدر الشهيد: المختار أنه لا يجوز؛ لأنه ليس لهم هذه الولاية ولا يضمن هذا المتولي ما أنفق من مال نفسه؛ لأنه لما آجر الدار والدار وقف ولا ولاية له عليها صار بالإجارة غاصباً فتكون الأجرة له. متولي المسجد إذا اشترى بمال المسجد حانوتاً أو داراً ثم باعها جاز إذا كان له ولاية الشراء، وهذه المسألة بناء على مسألة أخرى أن متولي المسجد إذا اشترى من غلة المسجد داراً أو حانوتاً فهذه الدار وهذه الحانوت يلتحق بالحوانيت الموقوفة على المسجد؛ ومعناه أنه هل يصير وقفاً؟. اختلف المشايخ فيه قال الصدر الشهيد: المختار (أن) يلتحق ولكن يصير مستغلاً للمسجد، وهذا لأن صحة الوقف والشرائط التي يتعلق بها لزوم الوقف لا يجوز فسخه ولا بيعه، ولم يوجد شيء من ذلك هنا فلم يصر وقفاً فيجوز بيعه. في «فتاوي الفضلي:» المتولي إذا اشترى منزلاً من الدراهم التي اجتمعت من أوقاف المسجد للمسجد ودفع المنزل إلى المؤذن ليسكن فيه يكره للمؤذن السكنى إذا علم بذلك؛ لأن المنزل صار من مستغلات المسجد، وفي نسخة أخرى إن لم يضف الشراء إلى الدراهم يحل ولا يكره، في «مجموع النوازل:» سئل شيخ الإسلام عن أهل مسجد اتفقوا على نصب رجل متولياً لمصالح مسجدهم فتولي ذلك باتفاقهم هل يصير متولياً مطلق التصرف في مال المسجد على حسب ما لو قلده القاضي؟ قال: نعم قال: ومشايخنا المتقدمون يجيبون عن هذه المسالة ويقولون: نعم الأفضل أن يكون ذلك بإذن القاضي، ثم اتفق مشايخنا المتأخرون وأستاذنا أن الأفضل أن ينصبوه متولياً ولا يعلموا به القاضي في زماننا، لما عرف من تجميع القضاة في أموال الوقف. سئل القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي عن أهل مسجد تصرفوا في أوقاف المسجد، يعني أجروا المستغل وله متولي قال: لا يصح تصرفهم ولكن الحاكم يمضي ما فيه مصلحة المسجد. قيل: هل يفترق الحال بين أن يكون المتصرف واحداً أو اثنين؟ قال: لا بعد أن يكون التصرف من الأماثل رئيس المحلة ومتصرفها. في «فتاوي أبي الليث» : رجل بنى مسجداً في السكة فنازعه في عمارته أو في نصيب الإمام أو المؤذن، ففي العمارة الثاني أولى؛ لأن العمارة من البناء وهو الثاني وفي نصيب الإمام والمؤذن تكلموا، قال الصدر الشهيد: المختار أن الثاني أولى إلا إذا كان القوم يريدون من هو أصلح فمن يريد الثاني فحينئذ هم أولى، وفي آخر كتاب كراهية إملاء أبي يوسف في رجل بنى مسجداً أو جعل له مؤذناً هو فيه وكرهه أهل المسجد وقالوا: يجعل مؤذن غيرك فليس ذلك لهم، إنما الأمر في ذلك إلى الذي بناه قبل إن كان فاسقاً، وكذلك إن أقام لهم إماماً. في «فتاوي النسفي» : استأجر أرضاً موقوفة على مصالح مسجد من متوليه سنة بكذا، ثم دفعها إلى آخر مزارعة بالنصف ففعل، ثم إن أهل المحلة زعموا أن الآجر لم يكن متولياً قال: يثبت المستأجر بالبينة كون الآجر متولياً، فإن لم يجد فالغلة تكون

الفصل الثاني والعشرون: في المسائل التي تعود إلى الرباطات والمقابر والخانات والحياض والطرق والسقايات

للمستأجر وعليه أجر المثل للمسجد. وفيه أيضاً: متولي المسجد استصنع محراب المسجد إلى البحار في حسب معلوم وعمل وصناعة معلومة، قال: لا يصح؛ لأنه لا تعارف في هذا الاستصناع، وكذا في الأبواب والسلاليم والسور، والوجه فيه: أن يوصف له فيعمل ما إذا.... منه بما أنفقوا عليه فيصح. وفيه أيضاً: عن أهل محلة باعوا وقف المسجد لأجل عمارة المسجد قال: لا يجوز بأمر القاضي وغيره قيل: إن كان أهل المسجد اشتروا عقاراً بغلات المسجد للمسجد هل لهم بيعه لعمارة المسجد؟ قال: فيه اختلاف المشايخ؛ لأنه لا ولاية لأهل المحلة في شراء العقار للمسجد فلم يصح شراؤهم أصلاً فلا يصح بيعهم بخلاف مسألة المتولي. الفصل الثاني والعشرون: في المسائل التي تعود إلى الرباطات والمقابر والخانات والحياض والطرق والسقايات قال محمد رحمه الله: إذا جعل أرضه مقبرة للمسلمين جاز وليس له أن يرجع فيها بعد تمامها أن يقبر فيها إنسان واحد بإذنه أو أكثر من ذلك، وهل يتم بالتسليم إلى المتولي؟ فلا رواية عن أصحابنا رحمهم الله، وقد اختلف المشايخ فيه، وكذلك إذا جعلها خانا للمار من المسلمين وخلي بينهم وبينها، فإذا نزلها بإذنه رجل واحد أو أكثر فلا سبيل له بعد ذلك عليها، وإن مات لم يكن شيء من ذلك ميراثاً، وإذا سلمها إلى المتولي يتم القبض، ذكره محمد رحمه الله في «الأصل» فعلى قول من قال في مسألة المقبرة أن القبض لا يتم بالتسليم إلى المتولي يحتاج إلى الفرق بين المقبرة والخان. والفرق: أن المقبرة لا يكون لها متولي في العادة فلا يعتبر قبضه بخلاف الخان، وكذلك السقاية يجعلها في أرضه فيسقون ويشربون ويتوضؤن، فشرب منها إنسان أو سلمها إلى المتولي فليس له أن يرجع بعد ذلك عنه، وكذلك الحوض والبئر يجعله في أرضه قال: ولا بأس بأن يشرب منه ويسقي دابته وبقره ويتوضأ منه، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إنما أجاب عن حياضهم وبئرهم، أما السقاية التي تكون في بلادنا إذا جعلها للشرب فأراد إنسان أن يتوضأ بها اختلف المشايخ فيه وأجمعوا أنه إذا وقف للوضوء أنه لا يجوز الشرب منه، وكذلك إذا جعل داره سكنى للمساكين ودفعها إلي والي يقوم بذلك فليس له أن يرجع فيها، وكذلك الرجل يكون له الدار بمكة فجعلها سكنى للحاج والمعتمرين ودفعها إلى والٍ يقوم عليها ويسكن فيها من رأى ليس له أن يرجع فيها، وكذلك إذا جعل داره في ثغر سكنى للغزاة والمرابطين ودفعها إلى والٍ يقوم عليها فليس له أن يرجع فيها، وإن مات لم يكن ميراثاً عنه، وإن لم يسكنها أحد. والحاصل:

أن التسليم على قول من يشترط التسليم وهو محمد يكون بأحد طريقتين: إما بإثبات اليد للقيم عليها أو بحصول المقصود وذلك بالسكنى في مسألة الدار، وبالنزول في مسألة الخان، وبالدفن في مسألة المقبرة وما أشبهه ذلك. وعند أبي يوسف: التسليم ليس بشرط فلا يشترط إثبات يد القيم في هذه المسائل ولا حصول المقصود بالدفن أو النزول أو الشرب، ويكتفي بالإشهاد على ذلك، وقال أبو حنيفة رحمه الله: وجميع ما ذكرنا فيه يبطل ما صنع فيه، قال محمد عقيب ذكر هذه المسائل: فأما السكنى فلا بأس بأن يسكنها الغني والفقير، يريد به: إذا جعل داره سكنى للغزاة أو سكنى للحاج والمعتمرين يجوز في الغزاة، وللحاج أن يسكنها كما يجوز للفقير، كذلك نزول الخان والدفن في المقبرة يستوي فيه الغني والفقير، فأما غلة الدار والأرض إذا حصلت للعزاة فلا يعجبني أن يأخذ منهما إلا من هو محتاج (26أ3) علل فقال: لأن الغلة مال يملك والتقرب إلى الله تعالى بتمليك المال يكون من المحتاج خاصة دون الغني بخلاف السكنى، وحقيقة الفقه في العرف: أن الغني مستغني عن مال الصدقة بمال نفسه غير مستغني عن النزول في الخان والسكنى في الدار والدفن في المقبرة بماله، ولا يمكنه أن يتخذ ذلك في كل منزل وربما لا يجد ما استأجره، ولأجل المعني سوينا بين الفقير والغني في ماء السقاية والحوض والبئر. قال الخصاف في «وقفه» : إذا جعل الرجل داره سكنى للغزاة فسكن بعض الغزاة بعض الدار والبعض فارغ لا يسكنها أحد ينبغي للقيم بأمر هذا الوقف أن يكون من هذه الدار ما لا يحتاج إلى سكناه ويجعل أجر ذلك في عمارة هذه الدار، فما فضل بعد ذلك فرقه على الفقراء والمساكين. وفي «النوادر» : إذا بنى خاناً واحتاج إلى المرمة، روي عن محمد: أنه يعزل منها ناحية بيتاً أو بيتين فيؤاجر وينفق من غلتها عليها، روي عن محمد رواية أخرى: أنه يؤذن للناس بالنزول سنة ويؤاجر سنة أخرى ويرم من أجره، وهكذا إذا جعل فرسه حبساً فإن كان ترك عليه مجاهد يركبه وينفق عليه، وإن لم يركبه أحد يؤاجر وينفق عليه من أجرته؛ قال الشيخ الإمام أبو العباس الناطفي: قياسه في المسجد أن يجوز إجارة سطحه لمرمته. قال الخصاف في «وقفه» : إذا جعل داره بمكة لسكنى الحاج فليس للمجاورين أن يسكنوها، وإذا مضى أيام الموسم أكريت وينفق عليها في مرمتها، وما فضل بعد ذلك فرق على المساكين والفقراء. وفي «المنتقى» : إذا جعل فرسه حبساً يحبس في الرباط ويغزي عليه، فإذا استغنى عنه يؤاجره الإمام بقدر علفه، فإن لم يوجد من يستأجره يبيعه الإمام ويوقف ثمنه حتى إذا احتيج إلى ظهر يشتري بثمنه فرساً ويغزو عليه. في «فتاوي أبي الليث» : رجل بنى رباطاً للمسلمين على أن يكون في يده مادام حياً فليس لأحد أن يخرجه من يده مالم يظهر منه أمر يستوجب الإخراج من يده كشرب الخمر أو ما أشبه ذلك من الفسوق الذي ليس فيه رضا الله تعالى؛ لأن شروط الواقف يجب اعتبارها ولا يجوز تركها إلا لضرورة، وفيه أيضاً: رباط المختلعة إذا كان فيها سكان فانهدم الرباط فبني أراد الساكنون الذين كانوا فيها أن يسكنوها، وأراد غيرهم ذلك

فهذا على وجهين: أما إن انهدم بعضها وفي هذا الوجه الذين كانوا فيها أحق من غيرهم؛ لأن سكناهم باقي، وكذلك إذا لم ينهدم أصلاً كان زيد فيه أو نقص عنه فالذين كانوا فيها أحق من غيرهم لما ذكرنا، وأما إن انهدم كلها وفي هذا الوجه الذين كانوا فيها وغيرهم في السكنى على السواء، لان سكناهم قد بطل وهذا ابتداء السكنى. وفيه أيضاً: رجل جعل قطعة أرضه مقبرة ودفنوا فيها، ثم أن رجلاً من أهل تلك القرية بنى فيها بناء لوضع اللبن وأدّاه الغير واحتبس فيه رجلاً يحفظ المتاع بغير رضا الباقين من أهل القرية فهذا على وجهين: إن كان في أرض المقبرة سعة لا يحتاج إلى ذلك المكان اليوم لا بأس به، وإن لم يكن في أرض المقبرة سعة واحتاجوا إلى ذلك المكان اليوم يرفع البناء ويدفن، فيه أيضاً: رجل أوصى بأن يخرج ثلث ماله فيعطي ربع الثلث لفلان وثلاثة أرباعه لأقربائه وللفقراء ثم قالوا: لا يتركوا حظ الرباطيين وهم فقراء يسكنون في رباط بعينه، فهذا على وجهين: f إن كان قرابته؛ يجعل كل واحد منهم جزؤاً ويجعل الفقراء جزؤاً ويجعل للرباطيين جزؤاً حتى لو كان قرابته عشرة أسهم للقرابة وسهم للرباطيين؛ لأن القرابة إذا كانوا يحصون كانت الوصية لهم بأعيانهم، وإن كانت قرابته لا يحصون جعل ثلاثة الأرباع على ثلاثة أسهم؛ سهم للقرابة، وسهم للفقراء، وسهم للرباطيين؛ لأن القرابة إذا كانوا لا يحصون كانوا بمنزلة الفقراء. قال هلال في وقفه: إذا اشترى الرجل موضعاً وجعله طريقاً للمسلمين وأشهد عليه فإنه يصح ويشترط لتمامه مرور واحد من المسلمين على قول من يشترط التسليم في الأوقاف، وعلى قول أبي حنيفة: لا يصح ويكون له حق الرجوع، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: أنه لا رجوع في المقبرة في الموضع الذي دفن؛ لأنه يؤدي إلى نبش الميت، وأنه صحيح وله الرجوع فيما بقي. وحكي عن الحاكم الملقب بالمهرون إن قال وحدث في «النوادر» عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه أجازوا وقف المقبرة والطريق، فهذه الرواية استفيدت من جهته، قال هلال: وكذلك القنطرة ينظرون فيها، لا يكون بناؤها ميراثاً للورثة وصار وقفاً، فقد خص بناء القنطرة الميراث فيها، وهذا يدل على أن موضع بناء القنطرة لم يكن ملكاً للثاني وهذا هو الظاهر، فإن الإنسان إنما يحتسب بناء القنطرة على نهر العامة، فتدل هذه الرواية على جواز وقف البناء دون أصل البقعة وقد ذكرنا الكلام فيه فيما تقدم، مقبرة كانت للمشركين أرادوا أن يجعلوها مقبرة للمسلمين فهذا على وجهين: إن كانت آثارهم فقد اندرست فلا بأس بذلك، وإن بقي آثارهم بأن بقي شيء من عظامهم فإنه ينبش ويقبر ثم يجعل مقبرة للمسلمين، ألا ترى أن موضع مسجد رسول الله عليه السلام كان مقبرة للمشركين فتبقى والحد مسجداً. رجل له دار أراد أن يجعلها رباطاً للمسليمن ويبيعها ويتصدق بثمنها أو يبيعها عبداً فيعتقه أيُّ ذلك أفضل؟ حكي عن عليّ بن أحمد رحمه الله: إن جعلها رباطاً أفضل؛ لأن منفعة الرباط أدوم. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: إن جعلها رباطاً وجعل لها وقفاً لعمارتها فجعلها رباطاً أفضل، وإن لم يجعل

لعمارتها وقفاً فالأفضل أن يبيعها ويتصدق بثمنها؛ لأنه إذا لم يكن للرباط وقف يخرب ويصير مأمناً للسراق وفي ذلك ضرر بالمسلمين، فيبيعها ويتصدق بثمنها، ودون ذلك في الفضل أن يشتري بثمنها عبداً فيعتقه. الميت بعد ما دفن لا يخرج من غير عذر، ألا ترى أن كثيراً من الصحابة دفنوا في أرض الحرب ولم يحولوا؛ لأنه لا عذر (في) إخراجه بعذر، والعذر يظهر أن الأرض مغصوبة أو أخذها الشفيع بالشفعة. رباط كبرت دوابه وغلت مؤنتها هل للقيم أن يبيع شيئاً منها وينفق ثمنها في علفها أو مرمة الرباط؟ فهذا على وجهين: إن بلغ سن البعض إلى حد لا يصلح لما ربطت له فله ذلك وما لا فلا، ولكن تمسك في هذا الرباط مقدار ما يحتاج إليها، وربط مازاد على ذلك في أدنى رباط إلى هذا الرباط. سئل القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي عن مسجد لم يبق له قوم وخرب ما حوله واستغنى الناس عنه هل يجوز جعله مقبرة؟ قال: لا، وسئل هو أيضاً عن المقبرة في القرى إذا اندرست ولم يبقَ منها أثر الموتى لا العظم ولا غيره هل يجوز زراعتها واستغلالها؟ قال: لا ولهما حكم المقبرة، وسئل هو أيضاً عن رجل وقف أرضاً على المقبرة أو على صوفي خانة بشرائطه هل يصح؟ قال: لا. في «فتاوي أبي الليث» رحمه الله: امرأة جعلت قطعة أرض لها مقبرة وأخرجتها من يدها ودفن فيها ابنها وتلك القطعة لا تصلح للمقبرة لغلبة الماء عندها فيصيبها فساد فأرادات بيعها، فإن كانت الأرض بحال لا يرغب الناس في دفن الموتى فيها لقلة الفساد ليس لها البيع؛ لأنها صارت مقبرة، وإن كان يرغب الناس عن دفن الموتى فيها لكثرة الفساد فلها البيع؛ لأنها لم تصر مقبرة (26ب3) فإذا باعتها للمشتري أن يأمرها برفع ابنها عنها؛ لأنها صارت ملكاً للمشتري. فيه أيضاً: حفر قبراً في مقبرة وقفاً، فأراد آخر أن يدفن فيها ميتة فإن كان في المكان سعة لا يدفن؛ لأنه يوحش صاحبه الذي حفر، وإن لم يكن فيه سعة يدفن، ونظير هذا من بسطة المصلي في المسجد أو نزل في الرباط فجاء آخر، فإن كان في المكان سعة لا يزاحم الأول، وإن لم يكن فيه سعة يزاحمه، ثم إذا كان في المكان سعة ومع هذا دفن فيه غير الحافر لا يكره، هكذا قال الفقيه أبو الليث قال: لأن الذي حفر لا يدري بأي أرض يموت، في آخر غصب «فتاوي أهل سمرقند» : حفر قبراً فدفن فيه غيره ميته؛ لا ينبش القبر لكن يجب قيمة حفره حتى يحفر آخر فيدفن فيه ولم يزد به؛ لأن الحفر كان في ملك الحافر؛ لأن في هذه الصورة ينبش القبر يصوغ ملك المالك، وإنما أراد به أن الحفر كان في غير ملكه بأن كان في أرض مباح أو في مقبرة يجيء ذكره في آخر كراهية «واقعات الناطفي» فقال: إذا حفر قبراً في غير ملكه ليدفن فيه ميتاً له، فدفن غيره ميته لا ينبش القبر ولكن ضمن قيمة حفره وكان فيه رعاية الحفر. وإن دفن الميت في أرض غيره بغير إذن المالك فالمالك بالخيار إن شاء أمر بالإخراج وإن شاء سوى الأرض وزرع فوقها؛ لأن الأرض ملكه ظاهرها وباطنها، فكان

الفصل الثالث والعشرون: في المسائل التي تعود إلى الأشجار التي في المقابر وفي أرض الوقف وغير ذلك

له أن يستخلص الظاهر والباطن وله أن يترك الباطن وينتفع بالظاهر، في «فتاوي أبي الليث» مواضع موات على شط جيحون عمرها أقوام واستولوا؛ كان للسلطان أن يأخذ العشر من غلاتها، وهذا الجواب مستقيم على قول محمد؛ لأن ماء الجيحون عنده عشري والمؤنة تدور مع الماء، فلو أباح السلطان من ذلك للرباط شيئاً فأراد المتولي أن يصرف من ذلك إلى مؤذن الرباط فله ذلك وإن كان المؤذن فقيراً لا يحل صرفه إلى الرباط، فإن صرف العشر للفقراء وإن أرادوا الحيلة في ذلك أن يصرف إلى الفقراء ثم الفقراء يصرفون إلى الرباط، وكذلك من عليه الزكاة إلى بناء المسجد أو القنطرة لا يجوز وإن أرادوا الحيلة فالحيلة أن يتصدق المتولي على الفقراء ثم الفقير يدفعه إلى المتولي يصرف ذلك. رباط فيه ثمار فإن كان ثماراً لا قيمة لها نحو الثوب وما شاكل ذلك فلا بأس للنازلين أن يتناولوا منها، وإن كانت ثمار لها قيمة فالاحتراز عن ذلك أحوط لدينه؛ لأنه يحتمل أنه جعل ذلك وقفاً للفقراء دون النازلين فيها، وهذا إذا لم يعلم أنه وقف على الفقراء، أما إذا علم ذلك لا يحل لغير الفقير أن يتناولوا منها. في «فتاوي أبي الليث» : رجل دفع إلى خادم دار عمران * وهي دار يسكنها الفقراء * درهماً وأمره أن يشتري بها خبزاً ولحماً وينفق على المقيمين فيها، فلم يحتج الخادم ذلك اليوم إلى الخبز واللحم وقد كان اشترى قبل ذلك الخبز واللحم بالنسيئة، فقضى ذلك الذي بيده الدراهم ضمن لأنه خالف أمره. الفصل الثالث والعشرون: في المسائل التي تعود إلى الأشجار التي في المقابر وفي أرض الوقف وغير ذلك في «فتاوي أبي الليث» : مقبرة فيها أشجار فهذه المسألة على وجهين: أحدهما: أن تكون الأشجار نابتة قبل اتخاذ الأرض مقبرة، وأنه على وجهين أيضاً: إن كانت الأرض مملوكة لها مالك فالاشجار بأصلها على ملك رب الأرض يصنع بالأشجار وأصلها ما شاء؛ لأن موضع الأشجار من الأرض لم يصر مقبرة؛ لأنه مشغول بملك صاحب الشجر، وإن كانت الأرض مواتاً لا مالك لها واتخذها أهل القرية مقبرة؛ فالأشجار بأصلها على حالها القديم. الوجه الثاني: إذا نبتت الأشجار بعد اتخاذ الأرض مقبرة وإنه على وجهين أيضاً: إن علم لها غارس فهي للغارس لأنها ملك، وإن لم يعلم لها غارس فالحكم في ذلك إلى القاضي إن رأى بيعها وصرف ثمنها إلى عمارة المقبرة فله ذلك؛ لأنه إذا لم يعلم لها غارس كانت في حكم الوقف، ألا ترى أن الشجرة إذا نبتت في ملك إنسان ولا يعرف لها غارس كانت الشجرة لصاحب الملك فكذا. فيه أيضاً: إذا غرس شجراً في المسجد فاعلم بأن هذا الجنس أربع مسائل:

إحداها هذه، والحكم فيها أن الشجر للمسجد فإنه بمنزلة البناء للمسجد. المسألة الثانية: إذا غرس شجراً في أرض موقوفةٍ على الرباط، والحكم فيها: أن الغارس إن ولي تعاهد هذه الأرض الموقوفة على الرباط فالشجرة للوقف؛ لأن هذا من جملة التعاهد فيكون غارساً للوقف ظاهراً، وإن لم يلها هذه الأرض فالشجرة له وله رفعها. المسألة الثالثة: إذا غرس شجراً في طريق العامة، والحكم فيها: أن الشجرة للغارس؛ لأنه ليس له ولاية جعل للعامة. المسألة الرابعة: إذا غرس شجراً على شط نهر العامة أو على شط حوض القرية، فالحكم فيها كالحكم في المسألة الثالثة، فيه أيضاً: رجل جعل أرضه مقبرة وفيها أشجار، فأراد ورثته أن يعطوا الأشجار فلهم ذلك؛ لأن موضع الأشجار لم يصر وقفاً؛ لأنه مشغول، وكذلك لو جعل داره مقبرة فموضع البناء لا يدخل فيه؛ لأنه مشغول في «فتاوي أهل سمرقند» : أوقف شجراً على حوض قرية ثم قطعها بعد ذلك فنبت من عروقها أشجار فهي للغارس؛ لأنها نبتت في ملكه. في نوع «فتاوي أبي الليث» : أشجار على حافتي نهر في الشارع اختصم فيها السارية ورجل يجري هذه النهر مقابل داره ولم يعرف الغارس، فإن كان الموضع الذي ينبت فيه الأشجار ملك السارية فالأشجار لهم لأنها تنبت في ملكهم، وإن لم يكن ذلك الموضع ملك السارية وإنما هو للعامة، والسارية في سبيل الماء؛ إن لم يعلم أن صاحب الدار اشترى الدار بعد غرس الأشجار فالأشجار لصاحب الدار؛ لأن الأشجار في حجره، وإن علم أن صاحب الدار اشترى الدار بعد غرس الأشجار لا يكون له؛ لأنه إنما صارت في حجره بعد ما نبتت. قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : يجب أن تكون الأشجار في حجره، رجل وقف شجرة بأصلها، صح سواء كانت الشجرة منتفعة بثمارها أو بأوراقها أو كانت منتفعة بذاتها؛ لأنه وقفها مع الأرض، فبعد ذلك ينظر إن كانت منتفعة بثمارها وأوراقها لا يقطع أصلها إلا إذا فسدت أغصانها، وإن كانت منتفعة بذاتها يقطع أصلها ويتصدق بثمنها؛ لأن طريق الانتفاع بها في هذه الصورة هذا. إذا وقف شجرة بأصلها على مسجد فيبست أو يبس بعضها فيقطع اليابس ويترك الباقي؛ لأن اليابس لا ينتفع به إلا بالقطع بخلاف غير اليابس. أراض موقوفة على الفقراء استأجرها رجل من المتولي وطرح فيها السرقين وغرس الأشجار، ثم مات المستأجر فالأشجار ميراث للورثة؛ لأنها ملك المورث يؤمرون بقلعها؛ لأن الإجارة قد انفسخت بموت المستأجر، فلو أراد الورثة أن يرجعوا في الوقف بما زاد السرقين في الأراضي ليس لهم ذلك، رجل غرس أشجاراً في الشارع ثم مات الغارس وترك ابنين فجعل أحدهما حصته للمسجد لا يكون للمسجد؛ لأن حصته شائعة في المنقول، رجل ميز أشجاراً له في ضيعة وقال لإمراته في صحته: أما إذا مت فبيعي هذه الأشجار واصرفي

الفصل الرابع والعشرون: في الأوقاف التي يستغنى عنها وما يتصل بها من صرف غلة الأوقاف إلى وجوه أخر

ثمنها في كفني وثمن الحر للفقراء، وثمن الدهن لسراج المسجد الذي في كذا، ثم مات وترك امرأته هذه وورثة كبارا فاشترى (27أ3) الورثة الكفن من الميراث وجهزوه، تباع الأشجار ويحط من ثمن الأشجار مقدار الكفن، يعني يدفع من الثمن هذا المقدار وتصرف المرأة الباقي إلى الحر ودهن السراج؛ لأن الزوج أمرها بصرف الثمن في ثلاثة أشياء فيجب قسمته على هذه الأشياء الثلاثة. رجل وقف ضيعة له على بناته وأولادهن أبداً ما تناسلوا وآجر ذلك للفقراء ثم غرس الواقف فيها شجراً، فإن غرس من غلة الوقف فالشجر للواقف، وإن غرس من مال نفسه فإن قال عند الغرس: إنه للوقف فهو للوقف، وإن لم يذكر شيئاً فهو ميراث عنه. قرية وقفت على أرباب مسلمين في يد متولٍ، باع هذا المتولي ورق أشجار التوت جاز؛ لأن هذا بمنزلة الغلة، ولو أراد المشتري قطع قوائم هذه الأشجار يمتنع، في «مجموع النوازل» : سئل نجم الدين عن أشجار في مقبرة هل يجوز صرفها في عمارة المسجد؟ قال: نعم إن لم تكن وقفا على وجه آخر، قيل له: فإن بدا عيب حوائط المقبرة إلى الخراب إنصرف اليها أو إلى المسجد قال: إلى ما وقفت عليه إن عرف وإن لم يكن للمسجد متولي ولا للمقبرة فليس للعامة التصرف فيها بدون إذن القاضي. وسئل هو أيضاً عن رجل غرس بألة في مسجد فكبرت بعد سنين فأراد المتولي أن يصرف هذه الشجرة إلى عمارة بئر في هذه السكنة والغارس يقول: هي لي فإني ما وقفتها على المسجد قال: الظاهر أن الغارس جعلها للمسجد فلا يجوز صرفها إلى البئر ولا يجوز للغارس صرفها إلى حاجة نفسه. في «فتاوي أهل سمرقند» (مسجد) فيه شجر تفاح يباح للقوم ان يفطروا بهذا التفاح، قال الصدر الشهيد والمختار: أنه لا يباح؛ لأنه صار للمسجد فلا يصرف إلا إلى مصالح المسجد. الفصل الرابع والعشرون: في الأوقاف التي يستغنى عنها وما يتصل بها من صرف غلة الأوقاف إلى وجوه أخر في «فتاوي أبي الليث» : بئر بنيت بالآجر في قرية فخربت القرية وانقرض أهلها وعند هذه القرية قرية أخرى فيها حوض يحتاج إلى الآجر يجوز أن يؤخذ الآجر من تلك البئر وينفق في الحوض فهذا على وجهين: إما أن يعرف الثاني وفي هذا الوجه لا يجوز ذلك إلا بإذن الثاني. وأما إن لم يعرف الثاني، وفي هذا الوجه ينبغي أن يتصدق بالآجر على فقير ثم الفقير ينفق في الحوض؛ لأنه بمنزلة اللقطة، قال: ولو أراد القاضي أن ينفق من غير هذا الطريق لا بأس به، وهذا التفصيل الذي ذكرناه يأتي على قول محمد، أما

على قول أبي يوسف على ما ذكرنا. قيل: هذا في مسألة الحصير الملقى في المسجد أنه لا يعود على ملك متخذه بخراب المسجد بل يحول إلى مسجد آخر لا يتأتى، وينبغي للقاضي أن يصرف الآجر في عمارة الحوض على قوله. رباط وعلى باب الرباط قنطرة على نهر لا يمكن الإنتفاع بالرباط إلا بمجاورة القنطرة لكبر النهر خرب القنطرة وليس للقنطرة غلة يمكن عمارة القنطرة بها. هل يجوز عمارة القنطرة من غلة الرباط؟ فهذا على وجهين: إن شرط الواقف في الوقف أن يصرف غلة الرباط إلى الرباط وإلى ما فيه مصلحة الرباط جاز صرف غلة الرباط إلى عمارة القنطرة، وإن لم يشترط ذلك لا يجوز، وهذا إذا كان الرباط بحال لو لم يصرف الغلة إلى عمارة القنطرة لا يخرب الرباط، أما إذا كان بحال لو لم يصرف الغلة إلى عمارة القنطرة بخراب الرباط يستحسن في ذلك؛ لأن الرباط ووقفه حق العامة والقنطرة أيضاً حق العامة، ويجوز التصرف في حق العامة لمنفعة تعود إليهم، ألا ترى إلى ما روي عن محمد في مسجد ضاق عن أهله وعن طريق العامة أنه لا بأس بأن يلحق بالمسجد من الطريق إذا كان لا يضر بأصحاب الطريق؛ لأن كليهما حق عامة المسلمين كذا هنا في «فتاوي أبي الليث» . وفيه أيضاً: قوم جمعوا الدراهم لعمارة قنطرة واشتروا ببعضها الطعام للعمل فاجتمع هناك من لا يعمل، فدعاهم العمال إلى الطعام فهذه المسألة على وجهين: إن حضر هؤلاء لهداية العمال وإرشادهم والبعث على العمل، وفي هذه الوجه وسع للعمال أن يدعوهم ووسع لهؤلاء أن يجيبوهم؛ لأنهم كالعمال، فإن حضروا إلا لما قلنا بل لأجل النظارة، فإن كانوا قليلاً لا يتمكن بأكلهم نقصان فيما جمع للقنطرة فكذلك الجواب أيضاً، وإن كانوا كثيراً لا يسعهم ذلك، ولو فضل من الحسب ونحوه شيء فهو على وجهين: إن كان يقدر على أربابها يشاورهم القيم في ذلك، وإن كان لا يقدر على أربابها فللقيم أن يفعل به ما يرى. أوقاف على قنطرة يبس الوادي وصار الماء إلى جهة أخرى من أرض تلك المحلة، واحتيج إلى عمارة قنطرة للوادي الجديد هل يجوز صرف غلة القنطرة الأولى إلى الثانية للعامة وليس هناك قنطرة أخرى للعامة أقرب إلى القنطرة الأولى؟ جاز لما ذكرنا قبل هذا، سئل شمس الأئمة الحلواني عن مسجد وحوض خرب ولا يحتاج إليه لتفرق الناس، هل للقاضي أن يصرف أوقافه إلى مسجد آخر؟ قال: نعم ولو لم يتفرق الناس ولكن استغنى الحوض عن العمارة وهناك مسجد يحتاج إلى العمارة أو على العكس، هل يجوز للقاضي صرف وقف ما استغني للعمارة إلى ما هو محتاج إلى العمارة؟ قال: لا. رباط استغني عنه وله غلة فإن كان بقربه رباط صرفت الغلة إلى ذلك، وإن لم يكن بقربه رباط يرجع إلى ورثة الذين بنوا الرباط، هكذا ذكر المسألة في «فتاوي أبي الليث» قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : وفيه نظر فيتأمل عند الفتوى، وقيل: إن عرف من بناه فالتصرف له وإن لم يعرف فالتصرف للقاضي.

في «فتاوي النسفي» : سئل شيخ الإسلام عن أهل قرية تفرقوا وتداعى مسجد القرية إلى الخراب وبعض المتغلبة يستولون على حسب المسجد وينقلون إلى ديارهم هل لواحد من أهل القرية ان يبيع الحسب بأمر القاضي ويمسك الثمن ليصرفه إلى بعض المساجد وإلى أهل المسجد؟ قال: نعم، وحكي أنه وقع مثل هذه الواقعة في زمن السيد الإمام الأجل في رباط في بعض طرق سعد، ولا ينتفع المارّ به وله أوقاف عامرة فسئل هل يجوز صرفها إلى رباط آخر ينتفع الناس به؟ قال: نعم؛ لأن الواقف غرضه من ذلك انتفاع المارة ويحصل ذلك من الثاني. رجل (وقف) دابة أو سيفاً في رباط وقفاً على الرباط فخرب الرباط واستغنى الناس عنها، يربط في رباط آخر هو أقرب الرباط إليه، وقد مر جنس هذا فيما تقدم، وإذا اجتمع في يد القيم غلة وقف الفقراء وظهر له وجه من وجوه البر يخاف فواته إن لم يبادر إليه.... الوقف فإنه ينظر إن لم يكن في تأخير مرمة الوقف إلى الغلة الثانية ضرر بيّن بالوقف للخراب فإنه يصرف الغلة إلى وجه ذلك البر ويؤخر العمارة إلى الغلة الثانية؛ لأن الجمع بينهما ممكن، وإن كان في تأخير العمارة ضرر بيّن فإنه يصرف العمارة إلى مرمة الوقف وما فضل صرف إلى ذلك البر؛ لأن عمارة الوقف أهم من إدراك ذلك البر؛ لأن الوقف إذا خرب انقطعت....، وإذا عمر يصير ممكناً إدراك الآخر إن فات هذا البر، وإن المراد من وجه البر هنا ما يكون فيه تصدق بالغلة على نوع من الفقراء نحو فكّ أسارى المسلمين أو إعانة منقطع من الغزاة أو ما أشبه ذلك؛ (27ب3) لأن هذا الوقف على الفقراء والأسراء والمنقطعة فقراء، فكانوا من أهل التصدق عليهم، فأما عمارة مسجد أو رباط ونحو ذلك مما ليس بأهل للتملك فلا يجوز صرف هذه الغلة إليه؛ لأن التصدق عبارة عن التملك فلا يتصدق إلا فيمن هو أهل للملك والله أعلم. في «فتاوي أهل سمرقند» : علو وقف انهدم وليس له من الغلة ما يمكن عمارة العلو؛ بطل الوقف ورجع حق البناء إلى الواقف إن كان حياً وإلى ورثته إن كان ميتاً، هكذا ذكر هنا في هذه المسألة، وجنس هذه المسألة قال الصدر الشهيد رحمه الله: فيه نظر؛ لأن الوقف بعدما صح بشرائطه لا يبطل إلا في مواضع مخصوصة. ومن هذا الجنس قال: حوض في محلة خرب وصار بحيث لا يمكن عمارته واستغنى أهل المحلة عنه، إن كان يعرف واقفه يكون له إن كان حياً ولورثته إن كان ميتاً، وإن كان لا يعرف واقفه كاللقطة في أيديهم يتصدقون على فقير ثم يبيعه الفقير فينتفع بالثمن، ومن هذا الجنس قال: حانوت هو وقف صحيح احترق السوق والحانوت وصار بحال لا ينتفع به ولا يستأجر بشيء إليه يخرج من الوقفية، ومن هذا الجنس قال: الرباط إذا احترق يبطل الوقف ويصير ميراثاً. ومن هذا الجنس قال: منزل موقوف وقفاً صحيحاً على مقبرة معلومة فخرب هذا المنزل وصار بحال لا ينتفع به فجاء رجل وعمره وبنى فيه

بناء من ماله بغير إذن أحد، فالأصل لورثة الواقف، والبناء لورثة الثاني. ومن هذا الجنس قال: وقف صحيح على أقوام مسلمين فخرب ولا ينتفع (به) وهو بعيد من القرية لا يرغب أحد في عمارته بطل الوقف ويجوز بيعه، فهذه الجملة من هذا الجنس، في «فتاوي أبي الليث:» رجل جمع مالاً من الناس لبقعة في بناء المسجد فأنفق في حاجته من تلك الدراهم ثم رد بدلها في نفقة المسجد لا يسعه أن يفعل ذلك، فإن فعل فإن عرف صاحب ذلك المال رد عليه أو سأله تجديد الإذن؛ لأنه دخل في ضمانه فلا يبرأ عنه إلا بالرد إلى المالك وإلى بانيه ولم يوجد، وإن لم يعرف صاحب المال استأمر الحاكم فيما يستعمله، وإن تعذر عليه ذلك رجوت له في الاستحسان أن ينفق مثل ذلك من ماله على المسجد فيجوز ذلك، هذا واستئمار الحاكم يجب أن يكون في دفع الوبال، أما الضمان فواجب، فإنه ذكر في وكالة «المبسوط» أن الوكيل بقضاء الدين إذا صرف مال الموكل إلى قضاء دين نفسه ثم قضى دين الموكل من ماله ضمن وكان متبرعاً في قضاء دينه، ولهذا المعنى فسدت أمور الساعين والسماسرة، ويبنى على هذا مسائل بها أهل العلم والصلحاء، منها: العالم إذا سأل الفقير أشياءً واختلط بعضها ببعض يصير ضامناً بجميع ذلك، وإذا أدى صار مؤدياً من مال نفسه ويصير ضامناً لهم، ولا يخرجهم من غير ركوبهم، فيجب أن يستأذن الفقير ليأذن له بالقبض فيصير خالطاً ماله بماله ومنها مال مرد إذا قام وسأل الفقير بغير أمره فهو أمين، فإن خلط مال البعض بمال البعض يصير مؤدياً من مال نفسه ويصير ضامناً لهم، ولا يخربهم عن ركوبهم فيجب أن يأمر الفقير أولاً بذلك؛ لأنه إذا أمره صار وكيلاً بقبضه وبالتصرف له فيصير خالطاً ماله بماله. في «فتاوي الفضلي» مال موقوف على سبيل الخير والفقراء ومرعياتهم ومال موقوف على المسجد الجامع، فاجتمعت من عليها ثم بانت للإسلام بائنة مثل حادثة اليوم، واحتيج إلى النفقة في تلك الحادثة، أما المال الموقوف على المسجد الجامع إن لم يكن للمسجد حاجة للحال فللقاضي أن يصرف في ذلك على وجه القرض فيكون ديناً في مال الفيء، وأما المال الموقوف على الفقراء فإن صرف إلى المحتاجين أو إلى الأغنياء من أبناء السبيل جاز لا على وجه القرض؛ لأنه صرف إلى المصرف، بخلاف المال الموقوف على المسجد الجامع؛ لأنه صرف إلى غير المصرف فلا يجوز إلا بطريق القرض. وإن صرف إلى الأغنياء من غير أبناء السبيل فإن رأى قاضٍ من قضاة المسملين جواز ذلك جاز الصرف لا بطريق القرض لأن فيه اختلاف العلماء. نحن وإن قلنا: إنه لا يجوز ولكن لما رأى قاض من قضاة المسلمين جواز ذلك وصرف كان قضاء في موضع الخلاف، وإن لم يره قاض من قضاة المسلمين جواز ذلك يصرف على وجه القرض فيصير ديناً في مال الفيء والله أعلم.

الفصل الخامس والعشرون: في وقف الكفار

الفصل الخامس والعشرون: في وقف الكفار في «فتاوي أبي الليث» : نصراني وقف ضيعة له على أولاده وأولاد أولاده ما تناسلوا وجعل آخره للفقراء كما هو الرسم، فأسلم بعض أولاده يعطى له؛ لأن الوقف حصل باسم الأولاد، وهذا الاسم باقي بعد الإسلام، فيه أيضاً: نصراني وقف ضيعة له على أولاده وأولاد أولاده، فإذا انقرضوا فعلى فقراء المسلمين، فهذا الوقف جائز لأن هذا مما يتقرب به أهل الذمة، فالوقف على ما هو قربة عندنا وعندهم جائز، وكذلك إذا قال: فإذا انقرضوا فعلى الفقراء جاز، فإذا انقرضوا صرف إلى المسلمين؛ لأن حق فقراء المسلمين أقوى بشرف الإسلام فيتعينون عند الاطلاق، ولو قال: إذا انقرضوا فعلى فقراء النصارى لا يجوز هذا الوقف؛ لأنه وقف على فقراء النصارى والوقف على فقراء النصارى لا يجوز، أما عند أبي حنيفة؛ فلأنه لا يرى الوقف إلا بطريق الوصية أو مضافاً إلى ما بعد الموت ولم يوجد ذلك هنا، وأما على قولهما؛ فلأن هذا معصية في حقنا. وذكر الخصاف في «وقفه» : إذا وقف الرجل من أهل الذمة نصرانياً كان أو مجوسياً أرضاً له أو داراً له على ولده وولد ولده أبداً ما تناسلوا، ومن بعدهم على المساكين فهو جائز، فإن لم يسم الواقف المساكين؛ فأي المساكين فرق ذلك منهم؛ مساكين المسلمين أو مساكين أهل الذمة جاز، وإن قال: على مساكين أهل الذمة ففرق القيم في مساكين اليهود أو النصارى أو المجوس جاز ذلك، وإن قال: على فقراء النصارى فهو جائز ويفرق على فقراء النصارى، ولو فرق القيم في فقراء المجوس أو اليهود فهو مخالف ضامن، وإن كان الواقف نصرانياً وقال: تجعل غلة هذا الوقف في فقراء اليهود والمجوس فهو جائز وهو على ما قال، فما ذكره الخصاف في هذه المسائل بخلاف المذكور في «الفتاوي» . وقد ذكر في كتاب «الوصايا والزيادات» : أن وصايا أهل الذمة أنواع: نوع هو معصية عندهم قربه عندنا، وأجاب أن الوصية باطلة إلا إذا حصلت لأقوام بأعيانهم ويكون ذلك تمليكاً منهم، ونوع هو قربة عندهم معصية عندنا، وهذا الوصية صحيحة عند أبي حنيفة على كل حال، وعندهما باطلة إلا إذا حصلت الأقوام بأعيانهم، والوقف نظير في الوصية، فما ذكره الخصاف في الوقف يكون قول أبي حنيفة على قياس مسألة الوصية، وما ذكر في الفتاوي يكون قولهما على قياس مسألة الوصية، ولو جعل الذمي داره بيعة (28أ3) أو كنيسة أو بيت نار في صحته ثم مات يصير ميراثاً لورثته، هكذا ذكر الخصاف في «وقفه» ، وهكذا ذكر محمد في «الزيادات» وهذا لا يشكل على قولهما؛ لأنه معصية عندنا، ولهذا لو أوصى به لا يصح فكذا إذا فعل في حياته، وإنما يشكل على أبي حنيفة لا يعامل معهم بناء على اعتقادهم، ألا ترى لو أوصى به صح عند أبي حنيفة رحمه الله.

والفرق: أن البناء ليس بمزيل للملك لو زال الملك، وإنما يزول إذا تعين فيه جهة القربة مطلقاً وهذا الفعل ليس بقربة مطلقاً، خرج على هذا المسلم إذا اتخذ داره مسجداً؛ لأن ذلك قربة مطلقاً، فأما الوصية فمزيلة للملك فلا يشترط جهة القربة فيها مطلقاً للإزالة، بل يكتفي فيها بجهة القربة بناء على زعمهم واعتقادهم. قال الخصاف: إذا جعل الذمي داره مسجداً للمسلمين وبناه كما يبتني المسلم وأذن للمسلمين بالصلاة فيه وصلوا فيه ثم مات؛ يصير ميراثاً لورثته، وهذا على قول الكل؛ لأنه معصية عندهم ألا ترى أنه لو أوصى أن يبني داره مسجداً بعد موته كانت الوصية باطلة، ولو أوصى أن يبني داره مسجداً لقوم بأعيانهم قال الخصاف: أستحسن أن هذا لا هذه وصية لقوم بأعيانهم. قال: ولو وقف الذمي داره على بيعة أو كنيسة أو بيت نار فهو باطل، أما على قول أبي حنيفة؛ فلأنه لم توجد الوصية أو الإضافة إلى ما بعد الموت، ولو قال: يجري غلتها على بيعة كذا فإن خربت هذه البيعة كانت الغلة للفقراء وللمساكين، ولا ينفق على البيعة شيء، قال: فإن وقف ذمي أرضا وقفاً صحيحاً وأن يفرق غلتها في أبواب البر فأبواب البر عندهم عمارة البيع والكنائس والصدقة على المساكين، وإنما يفرق غلة هذه الصدقة على الفقراء والمساكين، وأبطل ما سوى ذلك. وإن قال: تفرق عليها في جيران مسلمين وجيران نصارى ويهود ومجوس، وجعل آخره للفقراء فالوقف جائز ويفرق الوقف في جيرانه المسلمين والنصارى وغيرهم، وإن قال الذمي: يجعل غلتها في أكفان الموتى أو في حفر القبور فهو جائز ويصرف الغلة في أكفان موتاهم وحفر قبور فقرائهم. قال: وسبيل الذمي في الوقف على قرابته وأهل بيته كسبيل المسلمين، وإن قال الذمي: أجعل غلة هذه الصدقة في سراج بيت المقدس وثمنها فهو جائز؛ لأنه قربة عندنا وعندهم. وإذا وقف نصراني وقفاً على ولده وولد ولده أبداً ما تناسلوا ومن بعدهم على المساكين، وشرط أن كل من أسلم من ولده أو ولد ولده أبداً ما تناسلوا فهو خارج عن هذا الوقف فهو جائز وهو على ما شرط والله أعلم. نوع منه: إذا ارتد المسلم ثم وقف وقفاً في حال ردته، فإن مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب وحكم القاضي بلحاقه يبطل وقفه وتكون الأرض ميراثاً. والمحفوظ عن أبي يوسف فيما إذا اشترى شيئاً أو باع أو آجر أو عامل في ماله بشيء أنه جائز، ولم يرو عنه فيما يتقرب (به) إلى الله تعالى، وعلى قول محمد: يجوز منه ما يجوز من القوم الذين انتقل إليهم، وأما إذا وقف وقفاً صحيحاً وجعل أجرته للمساكين ثم ارتد الواقف بعد ذلك فقتل على ردته، أو مات بطل الوقف ويصير ميراثاً لورثته من قبل أن عمله قد حبط، فإن رجع إلى الإسلام؛ فإن وقف بعد ما رجع جاز، وإن لم يفعل لم يجز ذلك. نوع منه: ذمي في يديه أرض أقر في صحته أن هذه الأرض وقفها رجل مسلم وكان يملكها وقفاً صحيحاً على أبواب البر وبناء المسجد أو ما أشبهه ذلك مما يتقرب به المسلمون إلى الله تعالى فإقراره جائز، وكذلك إن أقرَّ به في مرضه وهذه الأرض يخرج

الفصل السادس والعشرون: في المتفرقات

من الثلث فإقراره جائز، وإن كان الذمي أقر بأن هذا المسلم وقف هذه الأرض في الوجوه التي لا يتقرب بها المسلمون إلى الله تعالى نحو الوقف على البيع والكنائس لم يصح إقراره وتخرج الأرض من يد الذمي وتجعل لبيت مال المسلمين، وإن كانت هذه الأرض لا يخرج من ثلث ماله فمقدار الثلث يجوز إقراره فيه فيما يتقرب به المسلمون إلى الله تعالى لا يجوز ويكون لبيت المال. وإن أقر هذا الذمي أن ذمياً كان يملكها جاز إقراره فيما يجوز أوقاف أهل الذمة، وبطل إقراره فيما لا يجوز أوقافهم وتخرج الأرض من يده ويجعل لبيت مال المسلمين؛ لأنه لم يسم مالكها. الفصل السادس والعشرون: في المتفرقات إذا اشترى أرضاً شراءً فاسداً ووقفها المشتري على الفقراء والمساكين بعدما قبضها فهو جائز على ما وقفها عليه، وإن جاء البائع وخاصم المشتري فقيمتها يوم قبضها ولا يرد الوقف، ولو وقفها قبل أن يقبضها لا يجوز، قال: ألا ترى أنه لو باعها بعد القبض يجوز، أشار إلى أن البيع الفاسد لا يفيد الملك قبل القبض ويفيده بعد القبض، فقبل القبض؛ الوقف لم يصادف ملكه وبعد القبض صادف ملكه، ثم إذا وقفها بعد القبض وخاصم البائع المشتري في ذلك ذكر أن المشتري يضمن قيمتها للبائع يوم القبض؛ لأنه أتلفها بالوقف، ألا ترى أن المشتري لو باعها أو وهبها ضمن قيمتها للبائع فكذا إذا وقفها. ولا ينقض الوقف كما لا ينقص البيع إذا باعها المشتري من رجل؛ لأنه بتسليط البائع، ولو اشترى أرضاً شراءً فاسداً فقبضها واتخذها مسجداً وصلى الناس فيه؛ ذكر هلال في وقفه أنه مسجد وعلى المشتري قيمتها ولا يرد إلى البائع، قال هلال: هذا قول أصحابنا في المسجد والوقف على قياسه، وذكر في «كتاب الشفعة:» إذا اشترى أرضاً شراءً فاسداً واتخذها مسجداً وبنى فيها بناء أنه يضمن قيمتها عند أبي حنيفة ويصير مستهلكاً بالبناء، وعندهما: ينقض البناء وترد الأرض على البائع، فاشتراط البناء على رواية كتاب الشفعة دليل على أنه إذا لم يبنَ لا يصير مسجداً بمجرد اتخاذه مسجداً بلا خلاف بدون البناء. قال الحاكم الشهيد: رواية محمد في «كتاب الشفعة» أصح من رواية هلال، ووجه ذلك: أن المسجد ما يكون لله تعالى خالصاً وينقطع عنه حق العباد، وههنا حق العبد وهو البائع باق قبل البناء فلا يصير مسجداً، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: ولقائل أن يقول في الوقف روايتان أيضاً أنه هل يصير وقفاً قبل البناء كما في المسجد؟ ولقائل أن يقول: يصير وقفاً قبل البناء على الروايتين ويفرق هذا القائل بين المسجد وبين الوقف

على رواية «كتاب الشفعة» ووجهه: أن الوقف إيجاب حق العباد فصار نظير المبيع والهبة، ثم قيام حق البائع لا يمنع نفاذ البيع والهبة حتى إن المشتري (اشترى) شراءً فاسداً إذا وهب أو باع يجوز ولا ينقض بعد ذلك، فكذا بخلاف المسجد؛ لأن المسجد ما يكون لله تعالى خالصاً وقيام حق البائع الخلوص لله تعالى. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: ولقائل أن يفرق بين الوقف على الفقراء وبين الوقف على أقوام بأعيانهم ويقول: إذا وقف على الفقراء كان في صيرورته وقفاً قبل البناء باتفاق الروايات؛ لأن الوقف على الفقراء يطلب منه وجه الله تعالى (28ب3) لا إيجاب بالحق للعباد فأشبه المسجد، بخلاف الوقف على قوم بأعيانهم؛ لأنه إيجاب الحق للمعين فصار نظير البيع والهبة، ولو اشترى أرضاً شراء صحيحاً وقبضها ووقفها على الفقراء ثم وجد بها عيباً لا يردها ولكن يرجع بنقصان العيب، بخلاف ما إذا اشترى أرضاً واتخذها مسجداً ثم وجد بها عيباً فإنه لا يرجع بنقصان العيب، وجعل المسجد نظير البيع والوقف نظير العتق، وإذا رجع بنقصان العيب كان النقصان له يصنع به ما شاء؛ لأنه ليس ببدل عن الوقف؛ لأن الفائت بالعيب لم يدخل تحت الوقف، فسلم المشتري من آخر أرضاً بعبد وتقابضا ووقف الأرض ثم استحق العبد فالوقف جائز وعلى مشتري الأرض قيمة الأرض يوم قبضها، وإنما جاز الوقف؛ لأن الأرض بدل المستحق، وبدل المستحق مملوك ملكاً فاسداً فيصح وقفه لما مر، وبمثله لو وجد العبد حر أبطل الوقف؛ لأن بدل الحر ليس بمملوك فلا يصح وقفه. وإذا اشترى أرضاً من رجل ووقفها على المساكين بعد ما قبضها ثم استحقها رجل وأجاز البيع فالبيع جائز والوقف باطل. قيل: هذا على قول من يقول: بأن المشتري من الغاصب إذا أعتق ثم أجاز المالك البيع أن العتق لا ينفذ، وهو قول محمد وزفر وهلال، فأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: ينبغي أن ينفذ الوقف كما ينفذ العتق قبل أيضاً، ويجوز أن يفرق بين العتق والوقف فيقال: العتق من حقوق الملك وأحكامه، بدليل أنه يؤكد الملك ويقرره حتى جعل قبضا، والقبض يؤكد الملك فجاز أن يتوقف بتوقفه وينفذ بنفوذه بخلاف الوقف. قال: ولو أن المستحق ضمن الغاصب وهو البائع القيمة نفذ الوقف كما ينفذ العتق بلا خلاف؛ لأنه ملك بالضمان من وقت الغصب السابق فينفذ بيعه؛ لأنه باع ملكه، وينفذ وقف المشتري كما ينفذ عتقه، قيل: غاصب الدور والعقار لا يضمن عند أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر، فكيف يستقيم هذا التفريع على قولهما؟، وقيل: إن ضمن المشتري القيمة أينقص الوقف كما ينقص العتق لأن الملك حصل له بالضمان، والوقف كان قبل ذلك بهذا الطريق لم ينفذ العتق، وذكر الخصاف في «وقفه» : إذا وقف بيتاً من دار فإن وقفه بطريقه جاز الوقف، وإن لم يقفه بطريقه لم يجز الوقف؛ لأنا إن آجرنا الوقف ماذا يصنع به إذا كان لا يمكن أن يكري ولا يسكن؛ لأنه لا طريق له، وإذا شرط في وقفه أنه ليس لوالي هذه الصدقة أن يؤاجر هذا الوقف لأشياء منه، وإن أجرها واليها أو واحد أن تصير

ولايتها إليه فالإجارة باطلة وهو خارج عن ولاية هذه الصدقة. قال الخصاف: هو على ما شرط من ذلك، وكذلك لو شرط أن لا يدفع بعامله وإن فعل ذلك أخذ من ولاء هذه الصدقة فهو خارج عن ولاية هذه الصدقة لفلان فهو جائز على ما شرط الواقف، وكذلك لو شرط أن من نازع فلاناً وطالبه بحصة من غلة هذه الصدقة فهو خارج عن هذه الصدقة فهذا على ما شرط الواقف. في «فتاوي أبي الليث» : قيم وقف جمع الغلة وقسمها على أربابها وحرم واحداً منهم وصرف نصيبه إلى حاجة نفسه، فلما خرجت الغلة الثانية أراد المحروم أن يأخذ من الغلة الثانية نصيبه في السنة الأولى فهذا على وجهين: إن اختار المحروم تضمين القيم ليس له أن يأخذ من الغلة الثانية ذلك؛ لأنه لما اختار تضمين القيم سلم للشركاء ما أخذوا من جهة القيم ولم يتبين أنهم أخذوا من نصيب هذا المحروم شيئاً، وإن اختار إتباع الشركاء والشركة فيما أخذوا كان له أن يأخذ ذلك من نصيب الشركاء من الغلة الثانية؛ لأنه لما اختار إتباع الشركاء تبين أنهم أخذوا نصيبه فله أن يأخذ من أنصابهم مثل ذلك؛ لأنه جنس حقه، فماذا أخذ رجعوا جميعاً على القيم بما استهلك القيم من حصته المحروم في السنة الأولى؛ لأنه بقي ذلك حقاً للجميع، وفيه أيضاً: رجل أوصى أن يوقف من ماله كذا كذا درهماً لدين يظهر عليه، فالوصية باطلة إن لم يؤقت؛ لأنه لم يؤمن بشيء للحال، وكل مال خلا عن الوصية والدين فهو مال الوارث، فإن قال إن رأى الوصي ذلك الآن توقف ذلك من ثلث ماله؛ لأنه لما قال: إن رأى الوصي ذلك وقفاً فكأنه قال: يعطى الوصي ذلك القدر من شاء، ولو تصح على هذا يصح. رجل في يديه أرض وماء للفقراء ففضل الماء في النهر عن الأرض، لا يعطي أحداً بل يرسله في النهر ليصل إلى الفقراء أو إلى كل من يصل؛ لأن القيم أمر بصرف الماء إلى أرض الفقراء لا غير، فإذا استثنى الأرض أرسل الماء. مريض قال: إني كنت متولي حانوت وقف على الفقراء وكنت استهلكت عليه، أو قال: لم أؤد زكاته فأدوا ذلك من مالي بعد موتي، فإن صدقه الورثة في ذلك يعطى الوقف من جميع المال والزكاة من الثلث؛ لأن في الوقف يؤخذ ذلك من تركته من غير إقراره، فلم يكن الأخذ مضافاً إلى إقراره، وفي الزكاة لا يؤخذ من تركته، وإن كذبه الورثة يعطى الوقف والزكاة من الثلث، وللوصي أن يحلف الورثة على العلم، يريد بالوصي قيم الوقف بالله يعلمون أن من أقرّ به حق؛ لأنه يدعي عليهم معنىً لو أقروا به يلزمهم فإذا أنكروا يستحلفون، فإن حلفوا جعل ذلك كله من الثلث كما قبل الحلف، وإن نكلوا جعل الزكاة من الثلث والوقف من الجميع كما لو أقر به الورثة ابتداءً. قيم الوقف أدخل جذعاً في دار الوقف ليرجع في غلتها فله ذلك، فإن أراد الاحتياط ينبغي أن يبيع الجذع من آخر ثم يشتري منه الرجل الوقف ثم يدخلها في دار الوقف، رجل وقف ضيعة له على الفقراء في صحته وأخرجه من يده ثم قال لوصيه عند الموت: أعطِ من غلة تلك الضيعة كذا لفلان وقد كان قال لوصيه: افعل ما رأيت من

الصواب، فجعل لأولئك باطل؛ لأنه صار حقاً للفقراء فلا يملك تغيير حقهم إلا إذا شرط في الوقف أن يصرف عليها إلى من شاء، رجل وقف ضيعة له على امرأته وأولاده فماتت المرأة لم يكن نصيبها لابنها خاصة إذا لم يكن في الوقف شرط من مات منهم رد إلى أولاده، بل يكون على جميع الورثة. مريض قال: أخرجوا نصيبي من مالي يخرج من الثلث من ماله لأن ذلك نصيبه، قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم» الحديث، حانوت وقف ماله إلى حانوت آخر، ومال الثاني إلى الثالث وتعطلت الحوانيت وأبى قيم الوقف العمارة، فهذا على وجهين: الأول: أن يكون حانوت الوقف غلة يمكن عمارتها منها، والحكم فيه لصاحبي الحانوت أن يأخذ القيم برد ما مال عنه إلى حد الوقف؛ لأنهما تضررا بذلك (29أ3) وإنه هو المتعين لدفع هذا الضرر. الوجه الثاني: أن لا يكون لحانوت الوقف غلة يمكن عمارتها منها وفي هذا الوجه: يرفعان الأمر إلى القاضي ليأمر القيم بالاستدانة على الوقف لإصلاحه؛ لأن الأمر بالاستدانة هنا يعين لدفع الضرر، والقاضي هو المتعين لدفع الضرر. حائط بين دارين أحدهما وقف انهدم ذلك الحائط فبناه صاحب الدار الوقف كان للقيم أن يأخذه ببعضه؛ لأنه يصرف في الدار الموقوفة، فلو أراد القيم أن يعطي قيمة بنائه ليكون المبني للوقف ليس للقيم أن يجبره على ذلك، وقد مر جنس هذا فيما تقدم وسيأتي بعد هذا إن شاء الله. وإن أراد أن يعطيه قيمة البناء برضاه لم يجز أيضاً؛ لأنه لو أجاز لما ضاع ما وراء هذا الحائط من دار الوقف فيكون المتعين هو النقص، رجل وقف أرضاً على حفدته من كان منهم فقيراً وله حفده عنده فرس يساوي مئتي درهم فإن أمسك الفرس للجهاد أو للركوب لما أن به زمانة يعطى من الوقف؛ لأنه فقير، وإن أمسكه مسرفاً لا يعطى إذا لم يكن عليه دين ولا مهر؛ لأنه عفي. رجل عليه ديون وله ضيعة تساوي عشرة آلاف درهم وشرط صرف غلاتها إلى نفسه قصداً منه إلى المماطلة وشهدت الشهود على إفلاسه جاز الوقف وجازت الشهادة، أما جواز الوقف فلمصادفته ملكه، وجواز الوقف مع هذا الشرط قول أبي يوسف على ما مر قبل هذا. أما جواز الشهادة فلأنها صدق؛ لأن الرقبة خرجت عن ملكه، فإن فضل من قوته شيء من هذه الغلات فللغرماء أن يأخذوا منه؛ لأن الغلات بقيت على ملكه. القاضي إذا أطلق بيع وقف غير مسجد هل يكون ذلك منه حكماً ببطلان الوقف؟

ينظر إن أطلق لوارث الواقف يكون حكماً ويجوز البيع، وإن أطلق لغير وارث الواقف لا يكون حكماً ولا يجوز البيع، وهذا لأن الوقف لو بطل يعود إلى ملك وارث الواقف، وبيع مال الغير لا يجوز، سئل شمس الإسلام محمود الأوزجندي عمن باع محدوداً قد وقفه وكتب القاضي الشهادة على الصك لا يكون ذلك قضاءً بصحته، وهذا صحيح ظاهر؛ لأن للقضاء شرائط من الشهادة والدعوى وغير ذلك ولم يوجد ذلك ههنا. سئل شمس الإسلام الحلواني عن أوقاف المسجد إذا تعطلت وتعذر استغلالها هل للمتولي أن يبيعها ويشتري مكانها أخرى؟ قال: نعم، قيل: إذا لم يتعطل ولكن يوجد بثمنها ما هو خير منها هل له أن يبيعها؟ قال: لا، ومن المشايخ من لم يجوز بيع الوقف تعطل أو لم يتعطل، وكذا لم يجوز الاستبدال بالوقف، وهكذا حكى فتوى شمس الأئمة السرخي رحمه الله في فصل العمارة إذا ضعفت الأراضي الموقوفة عن الاستغلال والقيم يجد بثمنها أرضاً أخرى هي أكثر ريعاً أن له أن يبيع هذه الأرض ويشتري بثمنها ما هو أكثر ريعاً. وفي «المنتقى» : قال هشام: سمعت محمداً رحمه الله يقول في الوقف: إذا صار بحيث لا ينتفع به المساكين فللقاضي أن يبيعه ويشتري بثمنه غيره، وليس ذلك إلا للقاضي. في «واقعات الناطفي» : رجل جعل فرساً حبساً في سبيل الله فليس لأحد أن يؤاجره؛ لأنه أعد لأمر آخر إلا إذا احتيج إلى نفقتها فتؤاجر بقدر ما ينفق عليها.m قال الناطفي رحمه الله: هذه المسألة دليل أن المسجد إذا احتاج إلى النفقة يؤاجر قطعة منه بقدر ما ينفق عليه، فيه أيضاً: متولي الوقف إذا أخذ الغلة ومات ولم يبين ماذا صنع لم يضمن، فالإمارة باب ينقلب مضمونه بالموت عن تجهيل إلا في مسائل معدودة، من جملتها هذه المسألة، وقد ذكر مهامها في الوديعة. في «فتاوي الفضلي» : رجل وقف ضيعة بلفظة الصدقة على ولديه، فإذا انقرضا فعلى أولادهما وأولاد أولادهما أبداً ما تنسلوا، فإذا انقرض أحد الولدين وخلف ولداً يصرف نصف الغلة إلى الولد الباقي والنصف إلى الفقراء، فإن مات الولد الثاني من ولدي الواقف صرفت الغلة كلها إلى أولادهما؛ لأن شرط الواقف مراعى في صحته، جعلت داري صدقة موقوفة على المحتاجين من ولدي وليس في ولده إلا محتاج واحد فله النصف من غلة الأرض والنصف الآخر للفقراء عملاً بقوله: صدقة موقوفة، أراد المتولي أن يفرض ما فضل من غلة الوقف. ذكر في «فتاوي أبي الليث» رجوت أن يكون ذلك واسعاً إذا كان أصلح وأحرز للغلة من إمساك الغلة، ولو أراد أن يصرف فضل الغلة إلى حوائجه على أن يرده إذا احتيج إلى العمارة فليس له ذلك، وينبغي أن يتنزه غاية التنزه، فإن فعل مع ذلك ثم أنفق في العمارة رجوت أن يكون ذلك ميراثاً لا له عما وجب عليه. وفي «فتاوي الفضلي» : أنه براء عن الضمان مطلقاً، ولو جاء بمثل ما أنفق في حاجته وخلط بدراهم الوقف صار ضامناً للباقي؛ لأنه صار مستهلكاً، فلو أراد أن يبرأ عن الضمان يفعل أحد الوجهين: إما أن

ينفق ذلك كله في مصلحة المسجد إن كان الوقف على المسجد، وإن كان الوقف على شيء آخر ينفق على ذلك المسجد أو يرفع الأمر إلى القاضي ليأمر القاضي رجلاً بقبض ذلك منه للوقف ثم يدفعه إليه، رجل وقف بعد وفاته وقفاً صحيحاً فله أن يرجع منه؛ لأن الوقف بعد الوفاة وصية وللموصي أن يرجع في وصيته. سئل شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله عن وقف ثم افتقر وأراد أن يرجع فيه قال: يرفع الأمر إلى القاضي حتى يفسخ القاضي الوقف، رجل وقف ضيعة له نصفها على امرأته ونصفها على ولد له بعينه على أنه إن ماتت المراة صرفت نصيبها إلى أولاده، وأجرة للفقراء ثم ماتت المرأة يكون للابن الموقوف عليه من نصيبها نصيب؛ لأن الواقف شرط نصيبها لأولاده، والابن الموقوف عليه من أولاده، وإذا كان الوقف على أرباب معلومين يحصى عددهم فنصب هؤلاء الأرباب متولياً بدون استطلاع رأي القاضي. ذكر في «فتاوي أهل سمرقند» : أنه يصح إذا كانوا من أهل الصلاح، وقاسوا هذه المسالة على ما إذا نصبه أهل المسجد متولياً بغير أمر القاضي، وقد ذكرنا تلك المسألة فيما تقدم. وذكرنا اختيار الصدر الشهيد في تلك المسألة أنه لا يصح إلا بأمر القاضي. ذكر الخصاف في «وقفه» : إذا وقف ضيعة مع رقيق يعملونها فقتل بعضهم وأخذ القيم قيمته من قاتله ينبغي أن يشتري بها عبداً آخر مكان المقتول يعمل في هذه الصدقة، وإن جنى أحدهم جناية ينبغي أن ينظر القيم أيهما أصلح بأمر هذه الصدقة دفع الحال اقتداءً بأرش الجناية، ويعمل بما هو أصلح بأمرها، فإن فداه الوصي بأرش الجناية من غلة هذه الصدقة وكان أرش الجناية أكثر من قيمته فهو متطوع، في الفصل هنا من هو ليس إلى أهل الوقف من الدفع والفداء شيء، فإن فداه أهل الوقف كانوا متطوعين وكانوا خائنين في الصدقة على ما كان عليه، ومسألة الخيانة عند الوقف صارت واقعة في زماننا وأفتى بعض المشايخ أنها (29ب3) في مال الوقف؛ لأنها صارت..... الدفع بفعله فصار كجناية المدبر. متولي الوقف إذا قام إلى عمارة الوقف وأراد أن يأخذ لكل يوم إخراجيتها ليس له ذلك. لرجل جعل أرضه مقبرة أو خاناً للغلة أو مسكيناً؛ سقط عنها الخراج لأن السبب وجوب الخراج الأرض الباقية الصالحة للزراعة والله أعلم بالصواب.

كتاب الهبة والصدقة

كتاب الهبة والصدقة هذا الكتاب يشتمل على اثني عشر فصلاً: 1 * في ألفاظ الهبة، وما يقوم مقامها به. 2 * فيما يجوز من الهبة وما لا يجوز. 3 * فيما يتعلق بالتمليك، وما يتصل به. 4 * في هبة الدين فيمن عليه دين. 5 * في الرجوع في الهبة. 6 * في الهبة من الصغيرة. 7 * في العوض في الهبة. 8 * في حكم الشرط في الهبة. 9 * في اختلاف الواهب والموهوب له، والشهادات في ذلك. 10 * في هبة المريض. 11 * في المتفرقات. 12 * في الصدقة.

الفصل الأول: في ألفاظ الهبة وما يقوم مقامها

الفصل الأول: في ألفاظ الهبة وما يقوم مقامها ذكر الحاكم في «المنتقى» : إذا كان لرجل عبد في يدي رجل قال المودع لمولى العبد هبة فقال: هو لك فقال: لا أقبل فهو هبة، فقد جعل الهبة نظير النكاح لا نظير البيع، إذا قال لغيره هذه الجارية لك فهي هبة جازت، رواه ابن سماعة عن أبي يوسف، وفي هبة إذا قال: هي لك فاقبضها فهي هبة، وفي الأصل جعلت هذه الدار لك فاقبضها فهي هبة؛ لأن معنى كلامه ملكتك هذه الدار، ألا ترى أن في التمليك يعدل لفظ الجعل ولفظ التمليك سواء، فكذا في التمليك يبدل، وفي الفتوى عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله، إذا قال لغيره: أين ترى فهذه هبة لا يجوز إلا بالقبض، ولو قال: (أين تراست) فهذا إقرار، وسئل أبو نصر عمن قال جميع ما أملكه لفلان قال: هذا هبة لا يجوز إلا بالقبض وسئل أبو بكر عن رجل له ابن صغير غرس كرماً وقال: اغرسه باسم ابني فهذا لا يكون هبة، قيل: إن قال: جعلته لابني قال: لا شك في هذا أنه هبة. في «الأصل» إذا قال: عمرتك هذه الدار أعطيتك هذا الثوب عطية كسوتك هذا الثوب فهذا كله هبة. وفي «البقالي» إذا قال: أعطيته وهو في يده فقال: أعطيتك فهذا هبة، وإن كان في يد صاحبه فهو وديعة. في «الأصل» إذا قال: منحتك هذه الدراهم أو هذا الطعام، ولو قال: منحتك هذه الأرض، هذه الجارية فهو عارية فالأصل: أن لفظ المنحة إذا أضيفت إلى ما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه فهو هبة، وإذا اضيفت إلى ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه فهو عارية. وإذا قال: أعطيتك هذه الأرض فهو عارية. ولو قال: أطعمتك هذا الطعام، فإن قال فاقبضه فهو هبة، وإن لم يقل فاقبضه يكون هبة أو عارية؟ فقد اختلف المشايخ في شروحهم. في «الأصل» إذا قال: داري لك عمرى سكنى فهو عارية وليس بهبة. إذا قال: هي لك هبة عارية أو قال: عارية بهبة فهذا كله عارية. ولو قال: داري هذه لك عمرى يسكنها فهو هبة؛ لأن قوله يسكنها ليس بتفسير لقوله عمرى؛ لأن الفعل لا يصلح تفسيراً للاسم بل هو مشورة، فإن شاء قبل مشورته، وإن شاء لم يقبل، بخلاف قوله عمرى سكنى؛ لأن قوله سكنى يصلح تفسيراً لقوله عمرى؛ لأن كل واحد منهما اسم والكلام إليهم إذا تعقبه تفسير فالعبرة للتفسير. إذا قال: هذه الدار هبة لك ولعقبك من بعدك فهي هبة، وذكر العقب لغو. وكذلك

الفصل الثاني: فيما يجوز في الهبة وما لا يجوز

إذا قال: أسكنتك هذه الدار حياتك ولعقبك بعد موته فهذه عارية له حياته ولعقبه بعد موته، وذكر العقب لا يكون لغواً، والفرق: أن قوله هي هبة لك تمليك العين منه، وبعد مالك العين لا يبقى له ولاية الإيجاب لغيره فكان كلامه عارية في حقه وفي حق عقبه بعده، في «المنتقى» عن أبي يوسف إذا قال: لفلان نصف مالي لفلان ربع مالي نصف عبدي هذا فهذا هبة. وفي «فتاوي النسفي» : إذا قال: لغيره هذه الجارية لك حلال فهذا على أنه أحل فرجها له فلا يجوز إلا أن يكون قبله كلام يستدل على أنه وهبها له، ولو قال: وهبت لك فرجها فهو هبة إذا قبضها. الفصل الثاني: فيما يجوز في الهبة وما لا يجوز قال محمد رحمه الله في «الأصل» : لا تجوز الهبة إلا محوزة مقسومة مقبوضة يستوي فيها الأجنبي والولد إذا كان بالغاً، وقوله لا يجوز: لا يتم الحكم، فالجواز ثابت قبل القبض باتفاق الصحابة، والقبض الذي يتعلق به تمام الهبة؛ القبض بإذن الواهب وذلك نوعان: صريح، ودلالة ففيما إذا أذن له بالقبض صريحاً يصح قبضه في المجلس وبعد الافتراق عن المجلس ويملكه قياساً واستحساناً، ولو نهاه عن القبض بعد الهبة لا يصح قبضه لا في المجلس ولا بعد الافتراق عن المجلس ولا يملكه قياساً، ولو لم يكن أذن له بالقبض ولم ينهه عنه إن قبضه في المجلس صح قبضه استحساناً ولم يصح قبضه قياساً، وإن قبضه بعد الافتراق عن المجلس لا يصح قبضه قياساً واستحساناً، ولو كان الموهوب غائباً فذهب وقبض، فالجواب فيه وفيما إذا كان حاضراً وقبضه بعد الافتراق عن المجلس سواء إن كان القبض بإذن الواهب جاز استحساناً لا قياساً، وإن كان بغير إذنه لا يجوز قياساً واستحساناً. وفي «البقالي» عن أبي يوسف إذا قال: اقبضه فقال: قبضت والموهوب حاضر جاز إذا لم يشرح الموهوب قبل قوله فقبضت، ولا يكفي قول قبلت، وإذا لم يقل اقبضه، فإنما القبض أن يقبله، فإذا لم يقل قبلت لم يجز وإن يقل إلا أن تكون الهبة.... في «المنتقى» إبراهيم عن محمد: إذا وهب جارية في البيت وليست بحضرتهما فقالت: قبلت لم يجز إلا أن يكون بحضرتهما، وقد ذكرنا أن الهبة لا تتم إلا بالقبض، والقبض نوعان: حقيقي وأنه ظاهر، وحكمي وذلك بالتخلية؛ لأنها إذا كانت بحضرتهما فقد تمكنت من قبضها حقيقة، وهو تفسير التخلية، وهذا قول محمد خاصة، وعن أبي يوسف: التخلية ليست بقبض في الهبة الصحيحة، فأما في الهبة الفاسدة فالتخلية ليست بقبض بلا خلاف، وفي «المنتقى» أيضاً: إذا وهب غلامه من رجل والغلام بحضرتهما ولم يقل له الواهب، فذهب الواهب وترك الغلام فليس له أن يقبضه حتى يأمره بقبضه.

في «المنتقى» أيضاً: رجل وهب لرجل غلاماً فلم يقبضه الموهوب له حتى وهبه الواهب من رجل آخر ثم أمرهما بالقبض فقبضاه فهو للثاني، وكذلك لو أمره الأول بالقبض فقبضه كان باطلاً؛ لأن الهبة من الثاني أبطلت الهبة من الأول. وفيه أيضاً: وهب لرجل ثوباً في صندوق مقفل عليها ودفع الصندوق إليه قال: هذا ليس بقابض لما وهب له؛ لأن في الفصل الأول لم يصر مخلياً بين الموهوب والموهوب له، بخلاف «الفصل الثاني في المشاع» فيما يحتمل القسمة من رجلين أو من جماعة، عندهما صحيحة، وعند أبي حنيفة رحمه الله فاسدة وليست بباطلة حتى تفيد الملك عند القبض، فالشيوع من الطرفين مانع صحة الهبة وتمامها بالإجماع، ومن طرف الموهوب له مانع عند أبي حنيفة خلافاً لهما؛ لأن الشيوع من طرف الموهوب له لا يلحق ضماناً بالمتبرع، وهو المانع من تمام الهبة في الشيوع من الطرفين، وإنما يشترط كون الموهوب مقسوماً ومفرزاً وقت القبض والتسليم لا وقت الهبة بدليل أنه لو وهب نصف الدار شائعاً وسلم ثم وهب النصف الثاني وسلم لا يجوز، وعلى أصل أبي يوسف ومحمد: إذا وهب الدار من رجلين وسلم إليهما جملة يجوز ولو سلم إلى (30أ3) كل واحد منهما نصف الدار لا يجوز فهذا سر لك أن العبرة بحالة القبض، واختلف المشايخ في بيان معنى ذلك بعضهم قالوا: بأن هبة المشاع عندنا غير فاسدة إلا أنها غير تامة لعدم القبض على وجه التمام بسبب الشيوع، فإذا انعدم الشيوع قبل القبض زال المانع من تمام القبض فعملت الهبة الشائعة عملها، وبعضهم قالوا: إن التسليم في معنى شطر العقد في باب الهبة فإذا زال الشيوع قبل القبض صار كأن العقد وقع على المفرز وعلى المقسوم، ولهذا إذا وهب النصف ولم يسلم حتى وهب النصف الآخر وسلم الكل جاز وجعل كأن العقد واحد ضرورة اتحاد الشطر وهو القبض والتسليم بخلاف ما إذا تفرق التسليم؛ لأن هناك تفرق العقد، وكل عقد ليس بتام لانعدام تمام القبض الذي هو شطر العقد، وفي «المنتقى» ابن سماعة عن أبي يوسف في رجل قال لرجلين: وهبت لكما هذه الدار لهذا نصفها ولهذا نصفها جاز؛ لأنه يحتمل أن يكون هذا تفسير لحكم العقد على هذا التقدير لا يتمكن الشيوع في العقد وهو المانع من تمام الهبة، وهكذا روى ابن سماعة عن محمد، ولو قال لأحدهما: وهبت لك نصفها ولهذا نصفها لم يجز لأنه أثبت الشيوع في العقد، لو قال: وهبت لكما هذه الدار لك ثلثها ولهذا ثلثاها على قول محمد: يجوز، وعلى قول أبي يوسف: لا يجوز؛ لأنه لا يمكن أن يجعل هذا تفسيراً؛ لأن مطلق العقد لا يقتضي المثالثة فكان لإثبات الشيوع في العقد. وعنه أيضاً: في رجل وهب نصف دار غير مقسوم ودفع الدار إليه فباع الموهوب له ما وهب له لا يجوز، قال: بمنزلة من باع هبة لم يقبضها، وهذا بناء على ما قلنا: إن الهبة لا تفيد الملك قبل القبض، والشيوع لا يحتمل القبض بصفة الكمال إلا بالقسمة فلا

يفيد الملك قبل القسمة فهو معنى ما قال: وهو بمنزلة من باع هبة لم يقبضها. ذكر محمد في «الأصل» هبة الدار من رجلين وعطف عليها الصدقة فقال: وكذلك الصدقة وهذا يدل على أنه إذا تصدق ما يقسم على رجلين إنه لا يجوز عند أبي حنيفة كالهبة. وفي «الجامع الصغير» قال: لو تصدق بعشر دراهم على فقيرين يجوز، قال الحاكم الشهيد: يحتمل أن يكون المراد من قوله: وكذلك الصدقة على عسر فيكون ذلك بمنزلة الهبة؛ لأنه جعل الهبة من الفقير صدقة فتكون الصدقة على الغني هبة، والأظهر أن في المسألة روايتين: فعلى رواية «الجامع الصغير» فرق بين الهبة والصدقة، وفي «الجامع الصغير» أيضاً: لو وهب عشرة دراهم من فقيرين جاز وجعل الهبة من الفقير كالصدقة، وأما إذا وهب عشر دراهم من غنيين عند أبي حنيفة لا يجوز؛ لأنه هبة المشاع فيما يحتمل القسمة، وذكر الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي في شرح كتاب الهبة: إذا وهب الرجل لرجل نصف درهم صحيح من الدراهم المعدلة أنه يجوز هو الصحيح، وجعل هذا بمنزلة هبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة. وذكر أصلاً فقال: كل ما يوجب قسمته نقصانا، فإنه مما لا يحتمل القسمة وإذا لم يوجب نقصانا فهو مما يحتمل القسمة، فعلى هذا يقول: إن كان الدرهم الواحد ينتقص بالقسمة يجوز هبة نصفه، وإن كان لا ينتقص لا يجوز هبة نصفه، وذكر الصدر الشهيد في «واقعاته» في باب الباء: إذا وهب لرجلين درهما صحيحا تكلموا فيه، قال بعضهم: لا يجوز؛ لأن تنصف الدرهم لا يضر فكان مشاعا يحتمل القسمة، قال: والصحيح أن يجوز؛ لأن الدرهم الصحيح لا يكسر عادة فكان مشاعا لا يحتمل القسمة. في «المنتقى» ابن مالك عن أبي يوسف في رجل معه درهمان فقال لرجل: وهبت لك درهما منهما قال: إن كانا مشاعاً مستويين لم تجز الهبة إلا أن يفرز له أحدهما؛ لأن الهبة تناولت أحدهما وهو مجهول، وإن كانا مختلفين فالهبة جائزة؛ لأنهما إذا كانا مختلفين فالهبة قدر درهم منهما وهو مشاع لا يحتمل القسمة. قال: وأما في المقطعة لا يجوز ذلك حتى يفرزه، ولو قال: وهبت لك أحد هذين الدرهمين وهما مختلطان وهما مما يميز أو لا يميز فالهبة باطلة؛ لأن الموهوب مجهول وسبب التمليك لا ينعقد في محل مجهول، وفيه أيضاً: عن أبي حنيفة إذا دفع درهمين إلى رجلين فقال أحدهما: لك هبة لم يجز كانا في الوزن سواء أو مختلفين؛ لأن الموهوب مجهول، ولو قال: نصفهما لك، وإن كانا في الجودة والوزن سواء لم يجز، وإن كان أحدهما أدون من الآخر وأردى جاز؛ لأنه إذا قال: نصفها لك صار الموهوب معلوماً وهو النصف لو امتنع عمل الهبة إنما يمتنع لمكان الشيوع، فإذا كان في الوزن والجودة سواء يتمكن الشيوع، وإن كان أحدهما أردأ أو أدون فلا شيوع فيجوز. في «فتاوي أبي الليث» رجل قال لحر: بالفارسية ان رهزترا فذهب وزرعها إن كان قال: الحر عندما قال: هذه المقالة قبلت صارت الأرض له وإن لم يقل قبلت لا شيء له، وقد ذكرنا في أول هذا الفصل ما يخالف هذا، وإذا وهب نصف عبده أو ثلثه وسلم يجوز؛ لأن هذا مما لا يحتمل القسمة.

وكذلك إذا وهب عبده رجلين أو وهب رجلان عبداً لهما من رجل، وكذلك لو وهب رجل لرجلين نصف عبدين أو نصف ثوبين أو نصف عشرة أثواب مختلفة زطي وهروي؛ لأن مثل هذه الهبات لا يقسم قسمة واحدة، فكان واجبا لقضية بنصف كل ثوب، وكل ثوب ليس بمحتمل القسمة في نفسه، وكذلك الدواب المختلفة على هذا، وإن كان ذلك من نوع واحد يقسم قسمة واحدة، وكذلك الدواب المختلفة على هذا، وإن كان من نوع واحد لم يجز هبته إلا مقسوماً؛ لأن الهبات إذا كانت من نوع واحد يقسم واحدة الدواب، كذلك إنما وهب النصف مشاعاً فيما يحتمل القسمة وذلك جائز أو إن وهب نصيباً له في حائط أو طريق أو حمام وسمي وسلط فهو جائز؛ لأنه غير محتمل للقسمة؛ لأنه إذا قسم لا يمكن الانتفاع على الوجه الذي ينتفع به قبل القسمة وهذا هو صفة مالا يحتمل القسمة. نوع منه: رجل وهب لرجل داراً فيها متاع الواهب ودفعها إلى الموهوب له فالهبة باطلة، هكذا ذكر في «الزيادات» ومعناه إنه غير تامة وفي «البقالي» يقول: في الدار متاع الواهب أو إنسان من أهله، الأصل في جنس هذه المسائل أن اشتغال الموهوب بملك الواهب يمنع تمام الهبة، لما ذكرنا: أن القبض شرط تمام الهبة، واشتغال الموهوب بملك الواهب يمنع تمام القبض من الموهوب له، وهذا لأن الموهوب ما دام يملك الواهب كان يد الواهب قائمة على الموهوب لقيامها على ما هو شاغل للموهوب، وقيام يد المواهب.... يمنع تمام الموهوب له، فأما اشتغال ملك الواهب بالموهوب لا يمنع تمام الهبة؛ لأن الموهوب فارغ لا مانع من تمام القبض؛ لأن اشتغال ملك الواهب للموهوب لا يوجب يد للواهب على الموهوب له فلا يمنع تمام الهبة. جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: الموهوب وهو الدار مشغولة بملك الواهب فيمنع تمام القبض وهو المعني من البطلان المذكور. في «الكتاب» ألا ترى أنه لو فرغ الدار وسلمها إليه فارغة تمت الهبة فيها، كذلك لو وهب لرجل آخر جراباً أو جولقاً فيه طعام الواهب فالهبة غير تامة لما ذكرنا، لو وهب مافي الدار من المتاع فالهبة تامة (30ب3) لأن الموهوب ههنا شاغل بملك الواهب وليس بمشغول بملكه وذلك لا يوجب يداً للواهب على الموهوب، أكثر ما فيه أن يد الواهب قائمة على الدار والجوالق والمتاع والطعام فيها إلا أن هذه الأشياء مانعة دالة تحفظ ما فيها، وقيام اليد على البيع لا يوجب قيام اليد على الأصل ولا كذلك المسألة الأولى، نظير هذا: إذا وهب جارية لرجل عليها حلي وهب الجارية وسلمها فالهبة تامة؛ لأن الموهوب شاغل بملك الواهب. وبمثله لو وهب الحلي دون الجارية وسلم الجارية فالهبة تامة، وكذلك إذا وهب دابة وعليها سرج أو لجام وهب الدابة دون السرج واللجام وسلمها إليه فالهبة تامة، ولو وهب السرج واللجام دون الدابة فالهبة غير تامة، والمعنى ما ذكرنا، ولو أن الواهب أودع

المتاع والطعام من الموهوب له ثم وهبه الدار والجوالق منه وسلم الكل إليه أو أودع المتاع والطعام بعدما وهب الدار والجراب والجوالق وسلم الكل إليه تمت الهبة في الدار؛ لأن بالإيداع تثبت يده على المتاع حقيقة، فلا تبقى يد الواهب على الشاغل حقيقة. وفي «فتاوي أبي الليث» : وهبت المرأة دارها من رجل هو زوجها وهي ساكنة فيها ولها أمتعة فيها والزوج ساكن معها يصح؛ لأنها مع ما في يدها من الدار في يد الزوج فكانت الدار في يد الواهب معنى فصحت الهبة. وفي «المنتقى» : رجل وهب عبده من رجل وعلى عنق العبد شيء يحمله جازت الهبة في العبد، ولو وهب حماراً عليه حمل وهب الحمار دون الحمل لا يجوز وهو بناء على ما ذكرنا، وهب رجل أرضاً فيها زرع ونخيل أو نخيلاً فيها تمر أو وهب زرعاً أو نخيلاً في أرض أو تمراً على نخل لم تجز الهبة؛ لأن الموهوب متصل بغير الموهوب اتصال خلقة فكان بمنزلة مشاع يحتمل القسمة. والطرفان في حق هذا المعنى على السواء، وهب داراً وسلمها إلى الموهوب له وفي الدار متاع الواهب، ثم وهب المتاع منه بعد ذلك وسلمه إليه جازت الهبة في المتاع ولا تجوز في الدار. لو وهب المتاع أولاً وسلمه إليه ثم وهب الدار منه وسلمها إليه جازت الهبة فيهما، كذلك إذا وهب الجراب والجوالق ولم يسلم حتى وهب الطعام وسلم جملة جازت الهبة في الكل؛ لأنه مانع من تمام الهبة حالة التسليم. وهب من آخر دار فيها متاع الواهب، وهب الدار والمتاع جملة بعقد واحد وسلمها إلى الموهوب له ثم جاء مستحق المتاع، فالهبة تامة في الدار؛ لأن بالاستحقاق لا يتبين أن الدار كانت مشغولة بملك الواهب وهو المتاع من تمام الهبة في المسألة الأولى، كذلك لو وهب جوالقاً بما فيه من المتاع وسلمها إلى الموهوب له ووهب جراباً بما فيه من الطعام ثم استحق المتاع والطعام كانت الهبة تامة في الجراب والجوالق.v ولو وهب أرضاً بما فيها من الزروع وسلمها أو وهب نخيلاً بما فيها من التمر وسلمها ثم استحق الزرع والتمر بدون النخيل والأرض فالهبة باطلة في الأرض والنخيل؛ لأن باستحقاق الزرع ظهر الشيوع المقارن بالهبة على وجه يحتمل القسمة إنه يبطل الهبة بخلاف مسألة الجوالق والجراب والدار. في «المنتقى» قال لغيره: وهبت لك هذين البيتين وأحدهما مشغول لا تجوز الهبة في واحد منهما، ولو قال: وهبت لك هذا البيت وحصتي من هذا البيت الآخر جازت الهبة في البيت؛ لأن في الفصل الأول العقد في البيتين حصل بلفظين، فبطلان أحدهما لا يوجب بطلان الآخر، وفيه أيضاً: إذا وهب داره من ابنين له أحدهما صغير في عياله والآخر كبير قال: إن قبض الكبير جازت الهبة لهما، وذكر في موضع آخر عن أبي يوسف أن الهبة فاسدة وهو الصحيح، ولا شك في فساد هذه الهبة عند أبي حنيفة، وإنما الشك على مذهبهما، فإنه لو وهب من كبيرين يجوز عندهما، وإذا كان أحدهما صغيراً قال: لا

يجوز، وهكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» والفرق: إنه إذا كان أحدهما صغيراً فالهبة للصغير انعقدت للحال لقيام قبض الأب مقام قبضه، والهبة من الكبير احتاجت إلى قبض الكبير مانعة معنىً ففسدت كلها بالإتفاق. قال «البقالي» : الحيلة أن يسلم الدار إلى ابنه الكبير ثم يهب الدار منهما. الحسن بن زياد عن أبي يوسف: إذا أعطاه نصف داره صدقة عليه ونصفها هبة له وقبل ذلك الرجل وقبضها فهو جائز، وله أن يرجع في نصفها الذي وهبه، وفي المسألة نوع إشكال؛ لأن الهبة مع الصدقة يختلفان حكماً، فإنه لا رجوع في الصدقة، وفي الهبة رجوع، وباختلاف الحكم يتحقق الشيوع فينبغي أن لا تجوز الهبة. نوع منه: إذا وهب الدين من غير من عليه الدين وسلطه على القبض جاز ذلك استحساناً، والقياس: أن لا يجوز وبه أخذ زفر؛ لأن الدين ليس بمال، والهبة وضعت لتمليك المال، فالهبة أضيفت إلى غير محلها فلا يصح، وإنما جاز هبة الدين فيمن عليه الدين بطريق الكناية عن الإبراء والإسقاط، ولنا: أن الواهب لما أمره بالقبض فقد جعله نائباً عن نفسه في القبض فيقع قبض الموهوب للواهب أولاً ثم لنفسه أو أن عمل الهبة ما بعد القبض وبعد القبض هو مال محل للتمليك بخلاف البيع؛ لأن أوان عمله للحال فهو في الحال ليس بمحل التمليك. وإذا وهب ما على ظهر غنمهم من الصوف أو في ضرعها من اللبن لم يجز، فإن أمره بجز الصوف وحلب اللبن ففعل وقبض جاز استحساناً، وعلى هذا زرع الأرض وثمر الأشجار إذا أمره بجزاز وحصاد كذا ذكر في «الأصل» ، وذكر في «الأصل» أيضاً: إذا وهب ما في بطن جاريته لرجل وسلط على قبضه إذا وضعت فوضعت وقبضها الموهوب له لم يجز، وكذا دهن السمسم قبل أن يعصر، والزيت في الزيتون، ودقيق الحنطة. من أصحابنا من يقول: على قياس هبة الدين ينبغي أن يجوز ههنا أيضاً إذا سلطه على القبض، والأصح أن لا يجوز، أما الولد الذي في البطن فلأنه يتيقن بوجوده في البطن، وبعد الوجود لا يتيقن بحياته، ودهن السمسم وزيت الزيتون ودقيق الحنطة لا بد لوجودها في السمسم من العصر، وفي الحنطة من الطحن والعصر والطحن آخرهما وجوداً، فيضاف وجود الدهن والدقيق إلى العصر والسمسم فلم يكن موجوداً وقت الهبة، فلهذا لا يجوز. وفي «فتاوي البقالي» عن محمد: إنه يجوز في الدهن، وكذلك في قوله: إن أدرك التمر وقد طلع أو إذا كان عسر. في «الفتاوي لأبي الليث» : رجل صلب منه لولده فوجهها لرجل وسلطه على قبضها وطلبها فطلبها وقبضها قال أبو يوسف: الهبة باطلة؛ لأن في قيامها وقت الهبة خطر، وقال زفر: الهبة جائزة، ذكر الحاكم في «المنتقى» : إذا وهب المضاربة للمضارب وبعضها على الناس وبعضها في يده جازت الهبة فيما في يدها، وأما ما كان على الناس، فإن قال: اقبضها فهو جائز، وإن كان في يد المال ربح فلا يجوز قال: لأنها هبة غير مقسومة، أما هبة في يد المضارب فهو هبة عين هو أمانة في يد

الفصل الثالث: فيما يتعلق بالتحليل وما يتصل به

المضارب، وأما هبة على الناس فهو هبة الدين من غير من عليه الدين، وهبة الدين من غير من عليه الدين إذا سلطه على القبض وقبض صحيحة استحساناً، وأما الربح فهو هبة المشاع فيما يحتمل القسمة. الفصل الثالث: فيما يتعلق بالتحليل وما يتصل به في «فتاوي أبي الليث» : (31أ3) في رجلٍ قال لآخر: أنت في حلٍ مما أكلت من مالي فله أن يأكله، ولو قال: من أكل من مالي فهو حل لا يحل لأحد أن يأكل، هذا قول ابن زياد حكى عنه نصير قال نصير: وسألت محمد بن سلمة عن ذلك فقال: كل من أكل فهو في حل، قال نصير أيضاً: سألت محمد بن مقاتل عن رجل له شجرة فقال: من أكل منها فهو حل، ولا بأس أن يأكل منها الغني والفقير. إذا قال لآخر: حللني من كل حق لك علي ففعل وأبرأه من غير أن يعلم ما عليه قال أبو يوسف: برئ مما عليه حكما وديانة، وقال: محمد في الحكم كذلك، وفي الديانة لا يطيب له ما لم يعلم صاحب الحق بما عليه. في «فتاوي القاضي» والصحيح قول أبي يوسف؛ لأن الإبراء إسقاط، وجهالة الساقط لا تمنع صحة الإسقاط، وعن نصير قال: سألت الحسن بن زياد عن رجل قال لآخر: أنت في حل مما أكلت من مالي، أو قال: أخذت أو قال: أعطيت قال: لا يحل أن يأخذ وأن يعطي إلا الأكل. وسئل أبو بكر عمن قال لآخر: جعلتك في حل الساعة أو قال في الدنيا، قال نصير في حل الدارين، ولو قال: لا أخاصمك ولا أطلبك فيما لي قبلك قال هذا ليس بشيء وحقه عليه على حاله، وسئل أبو القاسم عمن سيب دابته لعلة فأخذها إنسان وأصلحها لمن تكون قال: إن سيبها وقال: من شاء فليأخذها فأخذها رجل فهي له، قال الفقيد أبو الليث: الجواب هكذا، إذا قال لقوم معينيين عند القبض، وإن لم يقل ذلك لقوم معينيين أو لم يقل ذلك أصلاً فالدابة على ملك صاحبها أين وجدها، وفي «الفتاوي» ذكر المسألة مطلقة من غير فصل بينهما. إذا قال: ذلك القول أو قال مطلقا، وسئل أبو بكر عمن قال أبحت مالي لفلان أن يأكل، والمباح له لا يعلم بذلك يباح له الأكل؛ لأن الإباحة إطلاق والإطلاق لا يعلم قبل العلم، وسئل هو أيضاً عن عبد مأذون دفع من مال مولاه أو من تجارته شيئاً لإنسان هبة هل يسعه أن يقبل منه؟ قال: إن دفع شيئاً أو بلغ مولاه كره ذلك لا يسعه أن يقبل، وإن دفع شيئاً لو بلغ مولاه لا يكره ذلك وسعه أن يقبل منه. إذا وهب للصغير شيء من المأكول هل يباح لوالديه أن يتناولا من ذلك؟ روي عن محمد نصا أنه يباح، رجل اتخذ وليمة للختان وأهدى الناس هدايا ووضعوا بين يدي الولد فهذا على وجهين: إما قال هذا للولد أو لم يقل، والجواب في الوجهين واحد، فنقول: المسألة على

الفصل الرابع: في هبة الدين ممن عليه الدين

قسمين: أما إن كانت الهدية تصلح للصبي كالدراهم والدنانير ومتاع البيت والحيوان ففي القسم الأول الهدية للصبي؛ لأن هذا تمليك من الصبي عادة، وفي القسم الثاني ينظر إلى المهدي، فإن كان من أقرباء الأم أو من معارفها فهي للأم؛ لأن التمليك منها عرفاً، هكذا روي عن الشيخ أبو القاسم عن أبي الليث، فالحاصل: أن التعويل على العرف حتى لو وجد سبب أو وجه يستدل به على غير ما قلنا معتمد على ذلك، وكذلك إذا اتخذ وليمة لزفاف ابنته إلى بيت زوجها فأهدى أقرباء الزوج أو أقرباء المرأة، وهذا كله إذا لم يقل المهدي: أهديت الأب أو الأم في المسألة الأولى، وللزوج أو المرأة في المسألة الثانية؛ بأن تعذر الرجوع إلى قول المهدي، أما إذا قال: فالقول قول المهدي؛ لأنه هو المملك. وفي «فتاوي سمرقند» بأن رجل قدم من السفر وجاء بهدايا إلى من نزل عنده، وقال له: اقسم هذه الأشياء بين امرأتك بين أولادك وبين نفسك، إن كان المهدي قائماً يرجع في البيان إليه، وإن لم يكن فما يصلح للنساء فهو للنساء، وما يصلح للصغار من الإناث فهو لهن، وما يصلح للصغار من الذكور فهو لهم، وما يصلح له فهو له، وإن كان يصلح للرجل وللمرأة جميعا ينظر إلى المهدي بحيث إن كان من أقارب الرجل أو من معارفه فله، وإن كان من أقارب المرأة أو من معارفها فلها، فإذاً التعويل على العادة. وفي «الفتاوي لأبي الليث» : رجل أهدى إليه جاره شيئاً من المأكولات في إناء فأراد أن يأكل في ذلك الإناء هل يباح له ذلك؟ قال: إن كانت الهدية ثريداً ونحوه يباح له التناول من الإناء؛ لأنه مأذون فيه دلالة؛ لأنه لو جعل في إناء آخر ذهبت الذمة، وإن كانت الهدية مثل الفاكهة ونحوها، فإن كان بينهما انبساط مثل هذا يباح له التناول لمكان الإذن، وإن لم يكن بينهما انبساط في مثل هذا لا يباح لانعدام الإذن، سئل أبو مطيع عن رجل قال الآخر: ادخل كرمي وخذ من العنب كم يأخذ؟ قال: عنقوداً واحداً، وإن قال: خذ من البرتقال، يأخذ مقدار منوين؛ لأن المنوين يجوز في كفارة اليمين. قال الفقيه أبو الليث: يجوز له أن يأخذ من العنب مقدار ما يشبع إنسانا؛ لأن هذا أذن بأخذ ما يحتاج إليه في الحال عادة. الفصل الرابع: في هبة الدين ممن عليه الدين ذكر شمس الأئمة السرخي رحمه الله في شرح كتاب الهبة أن هبة الدين ممن عليه لا تتم من غير قبول والإبراء يتم من غير قبول، ولكن للمديون حق الرد قبل موته إن شاء، وعن زفر رحمه الله: أنه سوى بينهما وقال: تتم الهبة والإبراء بدون القبول، وهذا الذي ذكر اختياره، وذكر في بيوع «الواقعات» فصل الهبة كما ذكره شمس الأئمة أنه لا يتم من غير قبول، وذكر عامة المشايخ في شرح كتاب الكفالة وفي شرح كتاب هبة الدين ممن عليه: والإبراء يتم من غير قبول ويريد بالرد وابراؤه يتم من غير قبول ولا يرد، وإن وهب الدين الذي عليه الأصل أو أبرأه فمات قبل الرد فهو بريء؛ لأن البراءة تتم من غير قبول،

الفصل الخامس: في الرجوع في الهبة

فإن رد الوارث هذا الإبراء يعمل ردّه ويقضى المال، وقال محمد: لا يعمل رده والبراءة ماضية على حالها. فوجه قول محمد: أن الإبراء وقع للميت؛ لأن الدين على الميت فلا يعمل رد الوارث، كما لا يعمل رد الكفيل بإبراء الأصيل، وكما لا يعمل رد الوكيل بقضاء الدين إبراء الموكل، ولأبي يوسف أن الإبراء وقع للوارث معنى؛ لأن الدين انتقل إلى الوارث في حق أحكام الدنيا، ألا ترى أن المطالب بالدين هو الوارث بخلاف الوكيل بقضاء الدين والكفيل؛ لأن الإبراء للأصيل؛ لأنه حي يطالب به وينتفع بالإبراء فلا يعمل رد الكفيل ورد الوكيل أما هنا بخلافه. ولو وهب الغريم الدين من الوارث صح بلا خلاف؛ لأن الإبراء وقع له، ولو كان لرجل دين على عبد الغير فوهب الغريم الدين لمولاه صح سواء كان على العبد دين أو لم يكن. في كتاب الهبة: وهب عبداً لتاجر، فإن رده المولى هل يرد برده؟ قيل: هو على الخلاف الذي تقدم في رد الوارث، وقيل: بأن هذا يرد إجماعا. إذا كان الدين بين شريكين فوهب أحدهما نصيبه من المديون صح، ولو وهب نصف الدين مطلقا ينفذ في الربع ويتوقف في الربع كما لو وهب نصف العبد المشترك، من عليه الدين إذا وهب مالا من رب الدين يملكه رب الدين بالهبة لا بالدين. في «الزيادات» في آخر باب الحوالة في «فتاوي أبي الليث» : إذا قال المولى لمكاتبه: وهبت لك ما لي عليك فقال المكاتب: لا أقبل عتق المكاتب والمال دين عليه وهذا بناء على ما قلنا: إن هبة الدين ممن عليه الدين تصح من غير قبول وترد بالرد فلا يظهر انتقاض الهبة في حق انتقاض العتق. وفيه أيضاً: سئل أبو بكر عن شريكين قال أحدهما لصاحبه: وهبت لك حصتي من الربح فرد علي رأس المال فرده عليه، ثم أراد أن يطالبه بالربح قال: إن كان (31ب3) المال قائماً غير مستهلك ولم يقسمها حتى وهبة فالهبة باطلة والله أعلم. الفصل الخامس: في الرجوع في الهبة الهبة أنواع: هبة الأجنبي، وهبة لذي محرم، وهبة لذي رحم ليس بمحرم أو محرم ليس بذي رحم، وفي جميع ذلك للواهب حق الرجوع قبل التسليم؛ لأنه بالرجوع قبل التسليم يمتنع إتمام العقد، وبعد التسليم ليس له حق الرجوع في ذي الرحم المحرم سواء كان أحدهما كافراً، وفيما سوى ذلك له حق الرجوع إلا مانع أخذ العوض، وأن يزداد الموهوب في يديه زيادة متصلة حتى إن زيادة الشعر لا تمنع الرجوع، وكذلك الزيادة المنفصلة لا تمنع الرجوع في الأصل لما يأتي بعد هذا، وأن يخرج الموهوب عن ملك

الموهوب له، وأن يموت الواهب أو الموهوب له، وأن يهلك الموهوب، وأن يتغير الموهوب من جنس إلى جنس الموهوب حكماً بصيرورته شيئاً آخر. ذكر في باب العطية من هبة الأصل: إذا وهب لرجل عبد مريضاً به جرح فداواه الموهوب له حتى برء فليس للواهب أن يرجع فيها الزيادة الصفة الحاصلة عند الموهوب له، وكذلك لو كان أصماً أو أعمى فسمع وأبصر، أما إذا مرض في يد الموهوب له فداواه حتى برء كان للواهب أن يرجع فيه، وإن كان الموهوب داراً أرضاً فبنى في طائفة منها بناء أو غرس شجراً فلا رجوع، وهذا إذا كان ما بني يعدّ زيادة، وإن كان لا يعد زيادة.... أو يعد نقصاناً كالسور في الكاسان لا يمنع الرجوع، فالمانع من الرجوع الزيادة في المالية بزيادة في العين، كذا ذكره شمس الأئمة السرخي رحمه الله، والنقصان في الهبة فعل الموهوب له أو لا بفعله لا يمنع الرجوع. الحسن بن زياد في «المحرر» عن أبي حنيفة، إذا وهب لرجل ثوباً فصبغة فله أن يرجع فيه، قال ابن أبي مالك: كان أبو يوسف أولاً يقول في هذه المسألة بقول أبي حنيفة ثم رجع وقال: ربما أنفق على السواد أكثر مما أنفق على الأصباغ فأدى إلى زيادة فليس له أن يرجع. من المشايخ من رجح قول أبي يوسف لما أشار إليه من المعنى، ومن المشايخ من قال: إن أبا حنيفة ما قال بانقطاع حق الرجوع في سواد يزيد في قيمة الثوب، وإنما قال ذلك في سواد ينقص قيمة الثوب، ومنهم من قال: فتوى أبي حنيفة في مطلق السواد؛ لأن السواد آخر الألوان لا يقبل الثوب لوناً آخر بعده، فصار السواد نقصاناً من حيث إنه لايقبل لوناً آخر. في «المنتقى» : ذكر هشام عن محمد: رجل وهب لرجل جارية أعجمية فعلمها القران والكلام والكتابة، فللواهب أن يرجع فيها في قولهم، وكذلك لو علمها عملاً آخر، ذكره بعد هذا يريد بقوله في قولهم في قول عامة العلماء سوى قوله، قال: لأنهم يقولون: ما أنفق عليها في ذلك لا يضعه على رأس المال في بيع المرابحة، يشير إلى (أن) هذا ليس بزيادة على الحقيقة إذ لو كان زيادة لكان ما أنفق عليها في ذلك مضموماً إلى رأس المال. قال محمد رحمه الله: وله أن يبيعها عليه مرابحة عندنا وقد أشار إلى أن هذا زيادة على الحقيقة فلا تكون للواهب أن يرجع فيها، ثم ذكر محمد لنفسه أصلاً فقال: كل ما زاد صلاحاً في العين فليس للواهب أن يرجع فيها، وما كان بغير فعل أحد أو غلا سوقه فله أن يرجع فيه، وهذا لأن ما زاد صلاحاً بفعل الغير فهو زيادة معنوية تبدل الأعراض بإزائها فيصير نظير الصبع المتصل بالثوب، ولا كذلك ما إذا أراد صلاحاً بغير فعل أحدٍ، وأبو حنيفة وأبو يوسف وغيرهما من العلماء يقولون: حق الرجوع حق أثبته الشرع لفوات عرض وهو العرض فلا يؤثر في قطعه إلا زيادة لها غير قائم متصل بتعذر الفسخ بحكم الرجوع، ويصير المحل لمكان الزيادة في حكم الهالك. وذكر بعد هذا عن الحسن بن زياد عن أبي يوسف إنه لا رجوع فيه. قال: ثمة روى

أبو يوسف عن أبي حنيفة مثل قول أبي يوسف، ذكر الحاكم إذا ولدت الجارية الموهوبة ولداً فله أن يرجع فيها إذا استغنى الولد عنها. في «فتاوي أبي الليث» وهب من آخر كرباساً فقصره الموهوب له فليس أن يرجع فيه فرق بين هذا وبين الغسل، وفيه أيضاً: وهب من آخر عبداً كافراً فأسلم في يد الموهوب له فليس للواهب أن يرجع فيه؛ لأن الإسلام زيادة فيه، وعن محمد أن له أن يرجع. في «فتاوي أبي الليث» : رجل وهب لرجل ثم أسلم فحمل الموهوب له التمر إلى يده ليس للواهب أن يرجع فيها. قال محمد رحمه الله في «السير الكبير» : من وهب لرجل جارية في دار الحرب إلى دار الإسلام ليس للواهب أن يرجع فيها؛ لأنه ازداد زيادة متصلة. وفي «المنتقى» محمد عن أبي حنيفة: في رجل وهب من آخر ثياباً هروية بهراة فحملها إلى العراق ووهب طعاماً في العراق فحمله الموهوب له إلى مكة، فليس للواهب أن يرجع، قال: لأنها زيادة، قالوا: وهذا إذا كان قيمته في المكان المنقول إليه أكثر، فأما إذا كان أقل أو كان على السواء فللواهب أن يرجع. وفي «البقالي» ذكر الزيادة في وضع المسألة فقال: لو حمل الثياب إلى بلد وزاد قيمتها أو كان أنفق في النقل ما لو أبان في الكرا مالاً، وذكر القاضي الإمام علي السغدي في شرح «السير» في باب الأنفال: إذا كانت الهبة شيئاً لا حمل له ولا مؤنة فحمله الموهوب له أي إلى بلدة يعرفها ويعلو سعرها فلا رجوع فيها، ولو حمل إلى بلدة لا يعرفها وكان السعر في البلدتين على السواء ثم عزّ وغلا سعره فللواهب الرجوع كما لو وهب سعره في بلده. ولو نقطه المصحف فأعرب فلا رجوع، وكذا قيل في تحديد السكين. وللواهب أن يرجع في بعض الهبة إن شاء، وكذلك لو وهب عبداً لرجلين أو جعله لإحدهما صدقة، وكذلك لو وهب رجلان لرجل هبة وقبضها الموهوب له ثم أراد أحدهما أن يرجع في هبته فله فلك، وإذا حبلت الجارية الموهوبة، فإن كان الحبل قد ازداد فيها حسناً ليس له أن يرجع فيها، وهذا لأن حال النساء مختلف فمنهن من إذا حبلت سمنت وحسن لونها، ومنهن من إذا حبلت أصفرّ لونها ودق ساقها، والزيادة تمنع الرجوع، والنقصان لا يمنع فينظر في ذلك. في «المنتقى» : رجل وهب لرجل وظيفاً فشب عند الموهوب له وكبر وطال، فأراد الواهب أن يرجع فيه وقيمته الساعة أقل من قيمته حين وهبه فليس له أن يرجع فيه؛ لأنه زاد من وجه وانتقص من وجه آخر، وحين زاد سقط حق الرجوع فلا يعود بعد ذلك، ولو كان طويلاً يوم وهبه فطال عند الموهوب له وكان ذلك الطول نقصان لا زيادة بل كان أسمج له وكان ينقص ثمنه، فهذه الزيادة ليست بزيادة حقيقة فلا يمنع الرجوع، وقد يكون الشيء زيادة ونقصاناً معنى كالإصبع الزايدة، وإذا وهب لرجل حديدة فضربها سيفاً أو وهب دفاتر فكتب فيها لم يكن (له) أن يرجع في ذلك. أما تبدل العين أو الزيادة في العين إذا وهب له جذعاً فكسرها وجعلها حطباً أو وهب له لبنا فجعله طيناً فله أن يرجع فيها وإن أعادها لبنا لم يرجع فيها، ولو وهب له

عنباً فجعله خلاً لم يرجع فيه، ولو وهب له حماماً فجعله مسكناً أو وهب له بيتاً فجعله حماماً، فإن كان البناء على حاله لم يزد فيه شيئاً فله أن يرجع، وإن كان زاد فيه بناء أو علق عليه باباً أو جصصه أو أصلحه أو طينه فليس له أن يرجع فيه؛ لأن هذا كله زيادة في العين، ولو وهب له شاة فله أن يرجع فيها وهذا بلا خلاف، وكذا لو ضحى بها أو ذبحها في هدي المتعة (32أ3) لم يكن له أن يرجع فيها في قول أبي يوسف، وقال محمد: يرجع فيها وتجزئه الأضحية والمتعة ولم يقف على قول أبي حنيفة، واختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: إنه كقول أبي يوسف، وقال بعضهم: إنه كقول محمد وهو الصحيح. وهب لرجل هبة وقبضها الموهوب ثم وهبها الموهوب له لرجل آخر، ثم رجع فيها الواهب الثاني بهبة أو صدقة أو إرثاً أو وصية أو شراء أو ما أشبه ذلك لم يكن للواهب الأول أن يرجع فيه، يجب أن يعلم بأن الرجوع في الهبة على رواية «الجامع» فسخ عند محمد سواء كان الرجوع بقضاء أو بغير قضاء، وكذلك على رواية «الأصل» أن رواية أبي حفص وعلى رواية «الأصل» من رواية أبي سليمان فسخ إذا كان بغير قضاء فهو عقد جديد، وعلى قول أبي يوسف هو فسخ على كل حال، وقد ذكرنا المسألة بتمامها مع ما فيها من اختلاف المشايخ في زكاة «الجامع» ، فما ذكر من الجواب في الفصل الأول فيما إذا كان الرجوع بغير قضاءٍ فهو يوافق رواية أبي حفص ورواية «الجامع» على قول محمد بن سماعة عن أبي يوسف. ويجوز تصرف الموهوب له في الهبة ما لم يحكم القاضي بنقضها، فإذا حكم فلا يجوز تصرفه، وكذلك قول محمد وأبي حنيفة، يجب أن يعلم بأن الرجوع في الهبة لا يصح إلا بقضاء أو برضا، إما لأن الرجوع مختلف فيه بين العلماء فكان في أصل ثبوته نوعها، أو لأن فيه قطع الملك على الموهوب له، وقطع الملك على الإنسان من غير قضاء ولا رضا لا يجوز، فقبل قضاء القاضي، وقبل رد الموهوب له الهبة على الواهب باختياره تصرف الموهوب له حصل في ملك نفسه فيصح، وبعد ما قضى القاضي أو رد الموهوب له الهبة بإختياره صار الموهوب ملكاً للواهب فلا يصح تصرف الموهوب له، وإن مات في يد الموهوب له قبل أن يقبضه الواهب بعد ما قضى القاضي به لم يكن للواهب أن يضمنه؛ لأن أصل القبض لم يكن ضمان، فكذا الدوام عليه إلا أن يكون منعه بعد القضاء وقد طلب منه الواهب، فحينئذ يصير متعيناً فيضمن، ولو لم تزداد الهبة بعد الرجوع ولم يحكم به الحاكم حتى وهب الموهوب له الهبة من الواهب فهو بمنزلة رده أو رد الحاكم؛ لأن الرد بعد الرجوع مستحق على الموهوب له فيقع عن جهة المستحق، وإن دفعه الموقع بجهة أخرى عرف ذلك في موضعه، وإذا قضى القاضي بإبطال الرجوع لمانع ثم زال المانع عاد الرجوع.d بيانه: إذا بنى في الدار الموهوبة له وأبطل القاضي رجوع الواهب بسبب البناء فهدم الموهوب له البناء وعادت كما كانت فله أن يرجع فيها، وهذا بخلاف ما لو اشترى عبداً على أنه بالخيار ثلاثة أيام فحينئذٍ العبد في مدة الخيار وخاصم المشتري البائع في الرد وأبطل حقه بسبب الحمي ثم زال الحمي في مدة الخيار وليس له أن يرد، وهب لامرأة ثم

الفصل السادس: في الهبة من الصغير

تزوجها فله أن يرجع فيها، ولو وهب لامرأته هبة ثم أبانها فليس له أن يرجع فيها؛ لأن في الوجه الأول الهبة انعقدت موجبة للرجوع، وفي الوجه الثاني انعقدت غير موجبة للرجوع، والبقاء يكون على نهج الانعقاد، وهبت لعبد رجل أشياء فالقبول والقبض إلى العبد وبعد القبول والقبض فالملك للمولى، فبعد ذلك ينظر إن كان العبد ومولاه كل واحد منهما أجنبياً عن الواهب فللواهب حق الرجوع، وإن كان العبد ذا رحم محرم من الواهب بأن كان أخاه والمولى أجنبي عن الواهب فللواهب حق الرجوع، وإن كان العبد أجنبياً من الواهب ومولاه ذو رحم محرم من الواهب بأن كان مولى العبد أخاً للواهب فللواهب حق الرجوع فيها عند أبي حنيفة خلافاً لهما، وإن كان العبد ومولاه وواحد منهما ذو رحم محرم من الواهب فعلى قولهما ليس للواهب حق الرجوع، أما على قول أبي حنيفة قال الكرخي: قال محمد: قياس قول أبي حنيفة أن له حق الرجوع، وقال الفقيه أبو جعفر: ليس له حق الرجوع. وإذا كان للرجل دين فوهب المولى العبد من رب الدين وسلمه إليه حتى سقط دينه ثم رجع المولى في العبد قال أبو يوسف: يعود الدين، وقال محمد: لا يعود. هكذا ذكر في «الزيادات» ، وذكر الحاكم في «المنتقى» قول أبي يوسف كقول محمد، حكي عن البلخي أن أبا يوسف استحسن قول محمد فقال: أرأيت لو كان الدين لصبي على عبد رجل وهب مولى العبدِ العبدَ من الصبي وقبله الوصي وقبض العبد وسقط الدين ثم رجع الواهب في الهبة لو قلنا: لا يعود الدين ملك الوصي تصرفاً صار بالصبي وإنه فاحش. في «العيون» صبي له على مملوك وصية دين، وهب الوصي المملوك من الصبي جاز وبطل الدين، فلو أراد الوصي أن يرجع في هبته؛ روى هشام عن محمد أنه ليس له ذلك. قال الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله في «واقعاته» : هذا الجواب خلاف ظاهر الرواية. قيل: ويجوز أن محمداً رحمه الله إنما أبطل حق الرجوع في هذه الصورة دفعاً للضرر عن الصبي، فإن من مذهبه أن الدين الساقط بسبب الهبة لا يعود بفسخ الهبة، المعلى عن أبي يوسف: رجل وهب لرجل شجرة وقطعها وأنفق في قطعها فله الرجوع؛ لأن القطع نقصان، فإنه ينقطع به...... الفصل السادس: في الهبة من الصغير قال محمد رحمه الله في «الأصل» : كل شيء وهبه لابنه الصغير وأشهد عليه وذلك الشيء معلوم في نفسه فهو جائز، والقبض منه أن يعلم ما وهبه له وأشهد عليه، والإشهاد ليس بشرط لازم، فإن الهبة تتم بالإعلام، ولكن ذكر الإشهاد احتياطاً تحرزاً عن الجحود إذا كبر الولد، وإذا أرسل غلامه في حاجته ثم وهبه لابن صغير له صحت الهبة؛ لأن

العبد بعد الإرسال في حاجته في يد المولى حكماً، فلو لم يرجع العبد حتى مات الوالد فالعبد للولد، ولا يصير ميراثاً عن الوالد؛ لأن الأب بنفس الهبة صار قابضاً للابن؛ لأن قبض الهبة قبض أمانة، وقبض الإنسان مال نفسه أيضاً قبض أمانة، فثبوت ما للأب من القبض عن قبض الهبة، وكذلك إذا وهب عبداً آبقا له من ابنه الصغير فما دام متردداً في دار الإسلام جازت الهبة؛ لأنه ما دام متردداً في دار الإسلام فهو في يد المولى حكماً، فيصير قابضاً لابنه بنفس الهبة، في «المنتقى» عن أبي يوسف إذا تصدق بعبد آبق له على ابنه الصغير لا يجوز، وروى المعلى عنه أنه يجوز فحصل عنه روايتان. وإذا كان العبد في يدي رجل رهنا أو غصبا أو شراء فاسداً فوهبه صاحب العبد من ابنه الصغير لا يجوز، ولم يجعل الأب قابضاً لابنه الصغير بقبض هؤلاء، ولو كان العبد وديعة في يدي رجل فوهبه صاحب العبد من ابنه الصغير يجوز، وجعل الأب قابضاً لابنه بيد مودعه، والفرق: أن يد المودع مادام مشتغلاً بالحفظ يد صاحب الوديعة حكماً، فباعتبار اليد الحكمي يصير قابضاً لولده، أما يد هؤلاء ليست يد صاحب العبد فلا يصير الوالد قابضاً عن ولده بيد هؤلاء. فإن قيل: أليس أن المودع إذا وهب الوديعة من المودع يجوز ويصير المودع قابضاً بنفس الهبة، ولو كان يد المودع لم يكن قابضاً لنفسه بحكم ذلك اليد. قلنا: اليد للمودع حقيقة ولكن جعل ذلك اليد يد المودع حكماً لكونه عاملاً له في الحفظ، وذلك يكون قبل التمليك من المودع بالهبة، فأما بعد ذلك فالمودع عامل لنفسه في الإمساك فيصير قابضاً للهبة بيده لا بيد المودع. وفي «فتاوي أبي الليث» رجل وهب لابنه الصغير داراً والدار مشغولة بمتاع الواهب جاز؛ لأن الشرط قبض الواهب، وسيأتي بعد هذا عن أبي (23ب3) حنيفة وأبي يوسف يخالف هذا، وفي «المنتقى» عن محمد: رجل وهب دارا لابنه الصغير وفيها ساكن آخر قال: لا يجوز، ولو كان بغير أجر وكان هو فيها يعني الواهب فالهبة جائزة؛ لأن الساكن إذا كان بأجر بيده على الموهوب بائن بصفة اللزوم فيمنع قبض غيره فيمنع تمام الهبة، بخلاف ما إذا كان ساكنا بغير أجر، وكون الواهب في الدار لا يمنع تمام الهبة؛ لأن الشرط في هذه الصورة قبض الواهب، وكون الواهب فيها يتعذر قبضه ولا ينفيه، وعن أبي يوسف لا يجوز للرجل أن يهب لامرأته، أو أن تهب لزوجها ولأجنبي داراً وهما فيها ساكنان، كذلك الهبة للولد الكبير؛ لأن الواهب إذا كان في الدار فيده بائن على الدار، وذلك يمنع تمام يد الموهوب له، قال: ولو وهبها لابنه الصغير وهو ساكن فيها يعني الواهب جاز وقد مر، وعن أبي يوسف برواية ابن سماعة أن هبته لابنه الصغير في هذه الصورة لا تجوز كهبته لابنه الكبير، وهكذا روي عن أبي حنيفة، وعنه أيضاً في رجل تصدق بأرض قد زرعها على ولده الصغير جاز، وإن كان الزرع لغير الأب فأجازه لا يجوز؛ لأن يد المستأجر بائن على الأرض بصفة اللزوم، وإنها تمنع القبض للصغير بخلاف يد الأب. الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في رجل تصدق بداره على ابنه الصغير وله فيها متاع أو

هو ساكنها أو كان فيها ساكناً بغير أجر جازت الصدقة، وإن كان في يدي رجل بإجازة لم تجز الصدقة، قيل: جوابه في الصدقة فيما إذا كان فيها ساكناً بأجر أو بغير أجر يوافق جوابه في الهبة، وجوابه في الصدقة فيما إذا كان هو الساكن أو كان فيها متاعه بخلاف جوابه في الهبة، والمروي عنه في الهبة إذا كان الواهب في الدار وكان فيها متاع الواهب أنه لا يجوز، وكانت الهبة تفتقر إلى القبض فالصدقة تفتقر إلى القبض فيكون في المسألتين روايتان عنه. قال في «الأصل» : وقبض الأب والجد الهبة على الصغير جائز سواء كان الصغير في عيالهما أو لم يكن، وكذلك قبض وصيهما على الصغير جائز سواء كان الصغير في عياله أو لم يكن، فأما غير الأب والجد نحو الأخ والعم والأم وسائر القرابات؛ القياس: أن لا يجوز وقبض الهبة على الصغير وإن كان الصغير في عيالهم. وفي الاستحسان: يملكون إذا كان الصغير في عيالهم، وكذلك وصي هؤلاء، وكذلك الأجنبي الذي يعول اليتيم وليس لليتيم أحد سواه جاز له قبض الهبة عليه استحساناً، ويستوي في هذه المسائل التي ذكرنا إذا كان الصبي يعقل القبض أو لا يعقل، وهذا كله إذا كان الأب ميتاً أو حياً لكن غائباً غيبة منقطعة، فأما إذا كان حاضراً حياً والصبي في عيال هؤلاء الذين ذكرناهم هل يصح قبض هؤلاء الهبة على الصغير؟ لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» إلا إنه ذكر في الأجنبي إذا كان يعول اليتيم وليس لهذا اليتيم أحد سواه جاز له قبض الهبة عليه، وهذا الشرط يقتضي أن لا يصح قبض هؤلاء إذا كان الأب حاضراً. وذكر في الجد أيضاً: أنه لا يملك القبض على الصغير إذا كان الأب حياً، ولم يفصل بينهما إذا كان الصغير في عياله أو لم يكن، فظاهر ما أطلقه يقتضي أن لا يصح، وذكر في «الأم» إذا وهبت له عبداً أو شهدت على ذلك وأبوه ميت جاز قبضها وهذا الشرط يقتضي أن لا يصح، وذكر في الصغيرة التي يجامع مثلها وهي في عيال الزوج أنه إن قبضت هي أو الزوج جاز القبض، وهذا الإطلاق يقتضي أن يصح القبض من الزوج حال حضرة الأب، فمن المشايخ من سوى بين الزوج والجد والأم والأخ الذي يعوله وقالوا: يصح القبض من هؤلاء على الصغير، وإن كان الأب حاضراً، وما ذكر من الشرط وقع اتفاقاً في الكتب وإليه ذهب الشيخ الإمام الأجل الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي ومنهم من فرق بين الزوج وغيره، وقال: يصح قبض الهبة عليها من الزوج حال حضرة الأب ولا يصح قبض غيره حال حضرة الأب وإن كان الصغير في عياله، وإليه ذهب الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخي، وجه ما ذهب إليه فخر الإسلام: أن الزوج إنما ملك القبض حال حضرة الأب بسبب العول موجود في حق هؤلاء. وجه ما ذهب إليه شمس الأئمة: أن قبض الهبة من باب الحفظ، وولاية حفظ مال الصغير للأب أو لمن أقامه الأب مقام نفسه، والأب أقام الزوج مقام نفسه في حفظها، أو حفظ مالها إذا رماها، أماماً أقام غيره مقام نفسه في ذلك فلا يثبت للغير هذه الولاية، بخلاف ما إذا مات الأب؛ لأن بالموت انقطعت ولايته، وكذلك بالغيبة المنقطعة فجاز أن يثبت الولاية لمن يعوله، ثم شرط في الصغيرة إذا كانت يجامع مثلها فمن أصحابنا من قال: إذا كانت لا بجامع مثلها لم يجز قبض الزوج عليها؛ لأنها إذا كانت بهذه الصفة لا يكون نفقتها على الزوج فلا يعولها، والعول شرط، والصحيح أنه إذا كان يعولها وهي لا يجامع مثلها جاز قبضه عليها، وإنما شرط ذلك لبيان أن العول لا يجب عليه إذا كانت لا

الفصل السابع: في العوض في الهبة

يجامع (مثلها) ، فأما إذا عالها مع ذلك جاز قبضه عليها، والصغيرة إذا لم يبن الزوج بها لا يجوز قبض الزوج الهبة ويجوز قبض الأب الهبة عليها، وإن كانت في عيال الزوج، وإن كان الصغير قد قبض الهبة بنفسه جاز قبضه استحساناً إذا كان يعقل، وهذا قول علمائنا الثلاثة. الفصل السابع: في العوض في الهبة رجل وهب لرجل عبداً على أن يعوضه ثوباً بعينه واتفقا على ذلك فلم يقبض واحد منهما حتى امتنع أحدهما منه فله ذلك، وإن تقابضا جاز بمنزلة البيع، وليس لواحد منهما أن يرجع فيه بعد ذلك، يجب أن يعلم بأن الهبة بشرط العوض تنعقد تبرعاً وتصير معاوضة عند اتصال القبض، وهذا لأن اللفظ لفظ الهبة والمعنى معنى المعاوضة، فإن شرط العوض من خصائص المعاوضات ويجب اعتباراً للفظ كما يجب اعتبار المعنى؛ لأن الألفاظ قوالب المعنى، فاعتبرناه تبرعاً ابتداء عملا با للفظ وقلنا: لا يفيد الملك قبل القبض ولا يصح في المشاع ويرجع كل واحد منهما عنه، واعتبرناه معاوضة عند اتصال القبض عملاً بالمعنى فقلنا: لا يرجع واحد منهما بعد ذلك، وتجب به الشفعة للشفيع، ولكل واحد منهما أن يرد ما في يده بعيب يوجد فيه، ولو استحق ما في يد أحدهما يرجع على صاحبه بما في يده إن كان قائماً، وبقيمته إن كان هالكاً كما هو الحكم في البيع. قال في «الأصل» : إذا عوض الموهوب له الواهب من هبته عوضاً وقبضه الواهب فليس للواهب أن يرجع في هبته بحصول مقصوده، وكذا ليس للموهوب له أن يرجع في عوضه بحصول مقصوده وهو تأكيد الملك في الموهوب، ويشترط أن يضيف الموهوب له العوض إلى الموهوب فيقول: هذا عوض من هبتك أو بدلها أو مكانها وما أشبهه من الألفاظ حتى إن الموهوب له إذا وهب للواهب شيئاً ولم يقل هذا عوض هبتك وما أشبهه من الألفاظ لا يصير عوضاً بل يكون هبة مبتدأة حتى كان لكل واحد منهما أن يرجع في هبته، والملك لا يثبت للواهب في العوض إلا بالقبض بعد القسمة؛ لأن العوض في معنى هبة مبتدأة، فالتعويض من الأجنبي صحيح يبطل به حق الرجوع للواهب في الهبة؛ لأنه تصرّف منه في ملكه ليسقط به حق الواهب في الرجوع، ومثل هذا التصرف يصح من الأجنبي كصلح الأجنبي مع صاحب الدين عن دينه على غيره (33أ3) بمال نفسه، وإذا صح التعويض من الأجنبي لا يكون للواهب حق الرجوع في هبته، ولا يكون للمعوض حق الرجوع لا في العوض ولا في المعوض عنه سواء عوض عنه بأمره أو بغير أمره، وإذا استحقت الهبة كان للمعوض أن يرجع في عوضه إن كان قائماً، وإن كان هالكاً ضمنه قيمته إلا رواية عن أبي يوسف رواها بشر أن العوض لا يضمن إذا استحقت الهبة

الفصل الثامن: في حكم الشرط في الهبة

والعوض مستهلك، وإن استحق العوض كان للواهب أن يرجع في هبته إن كانت قائمة، وإن كانت هالكة فليس له أن يضمن الموهوب له قيمتها، وإن استحق نصف الهبة فللموهوب له أن يرجع بنصف العوض، وإن كان العوض قد هلك رجع بنصف قيمته. فإن قال الموهوب له: أرد ما بقي من الهبة وأرجع بجميع العوض لم يكن له ذلك، وإذا استحق بعض من يد الواهب فأراد الواهب أن يرجع ببعض الهبة ليس له ذلك، ويكون ما بقي عوضاً عن الكل، فإن شاء أمسك الباقي من العوض ولا شيء له غير ذلك، وإن شاء رد ما بقي ورجع بجميع الهبة ألف درهم والعوض نصف ألف منها، أو كانت الهبة داراً والعوض بيت منها لم يكن عوضاً، وكان للواهب أن يرجع في الهبة استحساناً، كذلك إن كانت الهبة دراهم وثوباً فعوضه الدراهم أو الثوب عن كل الهبة لم يكن عوضاً استحساناً. الحاصل: أن عقد الهبة إذا كان واحداً لا يصير بعض الموهوب عوضاً عن البعض، وأما إذا وهب له بيتين في عقدين مختلفين فعوضه أحدهما عن الآخر كان عوضاً. قال في «الكتاب» : أخذ فيه بالقياس، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا يكون عوضاً في الوجهين، ذكر قول أبي يوسف في «المنتقى» قال أبو يوسف: لنفسه أصلاً كل هبة من الواهب يكون له أن يرجع فيها، فإن ما لا يكون عوضاً عن شيء وهبه معها أو قبلها أو بعدها وإن رضي بها، فإن كانت قد تعين بزيادة كانت هبة أي عوضاً لم يكن له أن يرجع فيها، ولو وهب له حنطة وطحن بعضها وعوضه دقيقاً من تلك الحنطة كان عوضاً، وكذلك لو وهب له ثيابا وصنع منها ثوباً معصفراً أو خاطه قميصاً وعوضه إياه كان عوضاً، وكذلك لو وهب له سويقا فلتّ بعضه وعوضه. عبد مأذون له في التجارة وهب لرجل هبة وعوضه الموهوب له من هبته فلكل واحد منهما أن يرجع في الذي له والهبة باطلة، وكذلك والد الصغير إذا وهب من مال الصغير شيئاً وعوضه الموهوب له؛ لأن هذا تعويض عن هبة باطلة، وكذلك إذا وهب رجل للصغير هبة وعوضه الأب من مال الصغير لم يجز العوض وللواهب أن يرجع في هبته؛ لأن الاب ملكه العوض مقابلاً بتأكيد ملك الابن في الهبة لا مقابلاً بأصل الملك فكان العوض في جانب الصغير معاوضة من وجه دون وجه، والأب إنما يملك في مال ابنه ما هو معاوضة من كل وجه لا ما هو معاوضة من وجه دون وجه فبطل التعويض وكان للواهب أن يرجع في هبته. الفصل الثامن: في حكم الشرط في الهبة في «البقالي» عن أبي يوسف إذا قال لغيره: هذه العين لك إن شئت ودفعه إليه فقال: شئت يجوز، وعن محمد في التمر إذا طلع فقال صاحب التمر: أدرك أو قال: إذا كان عشر فهو جائز بخلاف دخول الدار. في «المنتقى» ابن سماعة عن محمد رجل قال

لغيره: وهبت لك هذه الأمة على أن تعوضني ألف درهم فدفع إليه الأمة فوطئها وولدت له قال: آمره أن يدفع العوض الذي شرط أو القيمة، وإنما كان كذلك؛ لأن الجارية صارت مملوكة للموهوب له بالقبض، والواهب لها رضي بتملكه إياها بعوض مقدر، وتعذر الجبر على أداء العوض؛ لأن الجبر على أداء العوض من حكم المعاوضة، والهبة بشرط العوض تنعقد معاوضة في الحال، فبقيت الجارية في يد الموهوب له مملوكة بعوض لا يمكن الجبر عليه فشابه المملوكة بملك فاسد، فإن دفع العوض الذي شرط عليه وإلا قضي عليه بالقيمة. في «فتاوي أبي الليث» : سئل أبو نصر عن رجل قال لآخر: برأتك عن الحق الذي عليك على أني بالخيار جازت الهبة وبطل الخيار، فالبراءة أولى؛ لأن الهبة تحتاج إلى القبول، والبراءة لا يحتاج فيها إلى القبول. في «فتاوي أبي الليث» امرأة قالت لزوجها: وهبت منك مهري على أن كل امرأة تتزوجها تجعل أمرها بيدي فهذا على وجهين: إما أنه لم يقبل أو قبل، ففي الوجه الأول: لا تصح الهبة، وفي الوجه الثاني: تصح، فبعد ذلك المسألة على وجهين: إما أن يجعل أمرها بيدها أو لم يجعل، فإن جعل فالهبة ماضية، وإن لم يجعل فكذلك. ذكر هاهنا الشيخ أبو بكر الإسكاف هكذا في آخر الكتاب. إذا قالت المرأة لزوجها: وهبت مهري منك علي أن لا تظلمني فقبل..... صحت الهبة، فلو ظلمها بعد ذلك فالهبة ماضية، ذكره عن الشيخ أبي بكر الإسكاف والشيخ أبو القاسم الصفار. وفي «المنتقى» : امرأة قالت لزوجها تصدقت عليك بالألف الذي عليك على أن لا تتسرى علي أو قالت: على أن لا تتزوج ففعل ثم تزوج أو تسرى فلا رجوع، وذكر في كتاب النكاح من «فتاوي أبي الليث» أيضاً: إذا قال الرجل لامرأته: أبرئيني عن مهرك حتى أهب لك كذا فأبرأته ثم أبى الزوج أن يهبها يصير يعود المهر عليه كما كان. وكذا في كتاب الحج امرأة تركت مهرها للزوج على أن يحج بها، قال محمد بن مقاتل: مهرها عليه على حاله، فإذا اختلف المشايخ في هذا الفصل قال الصدر الشهيد والمختار: للفتوى ما قاله نصير ومحمد بن مقاتل: إنه يعود؛ لأن الرضا بالهبة كانت بشرط العوض، فإذا انعدم العوض انعدم الرضا، والهبة لا تصح بدون الرضا، وسيأتي ما يؤكد هذا بعد هذا، في هذا الموضع أيضاً امرأة قالت لزوجها: إنك تغيب عني كذا، فإن مكثت معي ولا تغيب فقد وهبت لك الحائط الذي في مكان كذا، فمكث معها زماناً ثم طلقها فالمسألة على وجوه: الوجه الأول: إذا كانت هذه منها لاهبة للحال، وفي هذا الوجه لا يكون الحائط للزوج؛ لأن العدة لا توجب الملك. الوجه الثاني: إذا وهبت له وسلمت إليه ووعدها أن يمكث معها، وفي هذا الوجه الحائط للزوج؛ لأن الهبة مطلقة، وإن لم يسلم الحائط إلى الزوج لا يكون الحائط له. الوجه الثالث: إذا وهبت على شرط أن يمكث معها وسلمت إليه وقبل الزوج، وفي هذا الوجه الحائط للزوج، وهكذا ذكر عن الشيخ أبي القاسم، وعلى قول نصير ومحمد بن مقاتل وهو المختار لا يكون الحائط للزوج. الوجه الرابع: إذا قالت: إن مكثت معي، وفي هذا الوجه لا يكون

الفصل التاسع: في اختلاف الواهب والموهوب له

الحائط للزوج؛ لأن الصلح باطل، وفي «فتاوي الفضلي» : امرأة وهبت مهرها لزوجها لقول زوجها إنه يقطع لها ثوباً كل حول مرتين فقدرها وقد انقضى حولان ولم يفعل، إما أن لا يكون ذلك شرطاً في الهبة أو كان، ففي الوجه الأول: لا يعود مهرها، وفي الوجه الثاني: يعود؛ لأن الهبة حصلت بشرط العوض ولم يحصل، وكذلك المرأة إذا وهبت مهرها لزوجها على أن يحسن كانت الهبة باطلة لما قلنا، وهذا يؤيد ما اختاره الصدر الشهيد حسام الدين من القول في جنس هذه المسألة فيما تقدم، وفي جنس هذا الموضع أيضاً امرأة وهبت لزوجها ضيعة على أن يسكنها ولا يطلقها ثم طلقها بعد ذلك فهذا على وجهين: إما أن تشترط (33ب3) الإمساك وترك الطلاق وقتاً مؤقتاً أو لم تشترط، وفي الوجه الأول إذا طلق قبل مضي الوقت فالهبة باطلة؛ لأنه ما وفى بالشرط، وفي الوجه الثاني الهبة صحيحة؛ لأنه وفى بالشرط. فرق بين هذه المسألة وبين ما إذا تزوج امرأة ونقص من مهرها على أن لا يخرجها من البلدة فأخرجها، فإنه يبلغ تمام مهرها، والفرق هو: أن بين المسألتين لا فرق من حيث المعنى؛ لأن الشرط في هذه المسألة عدم الإخراج ما دام على النكاح ولم يفِ بهذا الشرط، وفي المسألة الإمساك.... هو الإمساك ما دام على النكاح وعدم الطلاق مطلقاً، فإذا أمسك ساعة ثم طلقها فقد وفى بذلك الشرط، وفي «الجامع الأصغر» وهبت مهرها من زوجها على أن يطلقها وفعل الزوج قال خلف: الهبة صحيحة والشرط باطل والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة، سئل الفقيه أبو جعفر عمن منع امرأته عن المسير إلى أبويها وهي مريضة فقال لها: إن وهبت لي مهرك بعثتك إلى أبويك فقالت المرأة: أفعل ثم قدمها إلى الشهود فوهبت بعض مهرها وأوهبت بالبعض على الفقراء وغير ذلك، وبعد ذلك لم يبعثها إلى أبويها ومنعها قال: الهبة باطلة قال الفقيه: لأنها بمنزلة المكرهة. الفصل التاسع: في اختلاف الواهب والموهوب له عين في يدي رجل ادعى أن صاحب اليد وهبه له وسلمه إليه وجحد صاحب اليد ذلك، فجاء المدعي ببينة وشهد على إقرار الواهب بالهبة والقبض، كان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولاً: لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن هذه شهادة خالفت الدعوى؛ لأن المدعي

ادعى معاينة القبض، والشهود شهدوا على إقرار الواهب بذلك الواهب، ثم رجع وقال: يقبل وهو قول أبي يوسف ومحمد، وعلى هذا الخلاف الرهن والصدقة، ولو كان هذا الاختلاف بين الشاهدين يمنع قبول الشهادة بلا خلاف بأن شهد أحد الشاهدين على معاينة القبض، وشهد الآخر على إقرار الواهب بذلك. وجه قوله الآخر: أن هذه الشهادة قامت على بعض ما تناولته الدعوى؛ لأن الموهوب له ادّعى معاينة القبض، وما يدعيه المدعي يعتبر ثانياً في حق قبول الشهادة بنفس الدعوى فيتضمن دعوى معاينة القبض دعوى إقرار الواهب بالقبض؛ لأن الثابت بالإقرار دون الثابت معاينة، فكانت الشهادة قائمة على بعض ما تناولته الدعوى بخلاف ما إذا وقع هذا الاختلاف بين الشاهدين؛ لأن معاينة القبض لا تثبت بشهادة شاهد واحدٍ حتى يثبت ما دونه؛ وهو إقرار الواهب بالقبض؛ لأن المشهود به لا يثبت بشهادة الشاهد الواحد فلم يوجد اجتماع الشاهدين لا على معاينة القبض ولا على إقرار الواهب بالقبض؛ ونظيره ما قال أبو حنيفة رحمه الله في رجل ادعى على آخر ألف درهم وشهد له شاهدان بخمس مئة تقبل شهادتهما ويضمن دعوى الألف دعوى خمس مئة، وبمثله لو شهد أحد الشاهدين بألف والآخر بالألف خمس مئة لا تقبل الشهادة. ولو كان العبد في يد الموهوب له فشهد الشهود على إقرار الواهب بالقبض جازت الشهادة على قوله الأول والآخر، وإن كان الواهب أقر بذلك عند القاضي والعبد في يده أخذ بإقراره، هكذا ذكر المسألة ههنا، ولم يذكر لأبي حنيفة قول أول وآخر، وذكر في «كتاب الإقرار» الأول قال مشايخنا: ما ذكر ههنا أصح؛ لأن أكثر ما في الباب أن إقرار الواهب خالف دعوى المدعي؛ لأن المدعي ادعى معاينة القبض، والواهب أقر بالقبض، إلا أن الإقرار لا يبطل مخالفة دعوى المدعي. على إنسان ألف درهم وأقر له المدعى عليه بمئة دينار صح إقراره، إذا استودع رجل رجلاً وديعة ثم وهبها له وحجد وشهد عليه بذلك شاهدان ولم يشهدا بالقبض فهذا جائز؛ لأن الهبة تثبت بالشهادة، وكون الموهوب في يد الموهوب له ثبت بتصادقها، وهذا كما في إتمام الهبة؛ لأن قبض الوديعة ينوب عن قبض الهبة، فإن حجد الواهب أن يكون في يده.... للمدعي وشهد الشهود على الهبة ولم يشهدوا معاينة القبض ولا على إقراره الواهب بالقبض والهبة في يد الموهوب له يوم خاصم إلى القاضي فإنه يجوز، وإذا كان ميتاً فشهادتهما باطلة، رجل وهب لرجل عبداً وقبضه الموهوب، ثم جاء رجل وأقام بينة أنه كان اشتراه من الواهب قبل القبض والهبة أبطلت الهبة؛ لأن الشراء يوجب الملك بنفسه فتبين أنه وهب وسلم ما لا يملك، وإن لم يشهدوا على الشراء قبل الهبة إنما شهدوا على الشراء لا غير فهو للموهوب له، وكذلك إن أرخ شهود الشراء شهراً أو سنة، وإن كان العبد في يد الواهب فأقام الموهوب له الثلثة أنه وهبه له وقبضه قبل الشراء، وأقام

المشتري البينة أنه اشتراه قبل الهبة وقبض منه فالعبد لصاحب الشراء. رجل وهب لرجل متاعاً ثم قال: إنما كنت استودعتك فالقول لصاحب المتاع مع يمينه، فإذا حلف أخذ المتاع، وإن وجده هالكاً، فإن كان هلك بعد ما ادعى المستودع الهبة فالمستودع ضامن القيمة؛ لأن التملك بالهبة لم يثبت بقوله، فبعد ذلك إن كان المتاع وديعة في يده فجحود الوديعة سبب الضمان، وإن لم يكن وديعة في يده فأخذ مال الغير على وجه التملك سبب للضمان إلا أن يثبت التملك من صاحبه ولم يثبت، وإن كان الهلاك قبل دعوى الهبة فلا ضمان. في «المنتقى» بشر عن أبي يوسف اتفق الواهب والموهوب له أن الهبة كانت بشرط العوض، ولكن اختلفا في مقدار العوض فقال الواهب: ألف وقال الموهوب له: خمس مئة، والعوض لم يقبض بعد والموهوب قائم بعينه فللواهب الخيار إن شاء قبض، وإن شاء رجع في الهبة، وإن كان الموهوب مستهلكاً رجع بقيمته إن شاء، وهذا بناء على أن الهبة من.... موجبة الرجوع والعوض والرضى به من جهة الواهب قاطع حق الرجوع، فإن شاء رضي العوض الذي عينه الموهوب له وترك حقه في الرجوع، وإن شاء لم يرض به ومال إلى الرجوع، وإن كان الموهوب مستهلكاً رجع بقيمته؛ لأن الرضا بالقبض كان بشرط العوض المقدر، ولم يسلم فبقي قبضه قبض ضمان فيرجع بقيمته لهذا. وإن اختلفا في أصل العوض فقال الموهوب له للواهب: ما شرطت لك العوض أصلاً فالقول قوله؛ لأنه ينكر شرطاً زائداً يستغني عنه تمام الهبة، ويكون للواهب الرجوع إذا كان الموهوب قائماً، وإن كان مستهلكاً فلا شيء على الموهوب له؛ لأن العوض لم يثبت لما جعلنا القول فيه قول الموهوب له والحكم في الهبة الخالية عن شرط العوض أن الموهوب ما دام قائماً فللواهب الرجوع، فإذا هلك فلا ضمان ولكن يحلف الموهوب له ههنا على دعوى الواهب بالله ما شرط العوض، يريد به: إذا كان الموهوب مستهلكاً؛ لأن الواهب يدعي القيمة في هذه الصورة فيحلف عليه. في «الأصل» وإذا أراد الواهب الرجوع في الهبة فقال الموهوب له: أنا أخوك أو قال عوضتك، أو إنما تصدقت به عليّ وكذبه الواهب، وكذلك إن كانت الهبة خادمة فقال: وهبتها لي وهي صغيرة فكبرت عندي وازدادت سعراً، وكذبه الواهب فالقول قول الواهب وهذا استحسان، والقياس: أن يكون القول قول الموهوب له. ولو كان الموهوب أرضاً وفيها بناءً أو شجرا أو سويقا وهو ملتوت أو ثوبا وهو مصبوغ أومخيط فقال الموهوب له: وهبتها لي فبنيت فيها وغرست، وهبته لي وهو غير ملتوت وغير مصبوغ فلتُتُه أنا وصبغته وخطته أنا، وقال الواهب: لا بل وهبته كذلك، فالقول قول الموهوب له، وكذلك إذا اختلفا في بناء الدار وحلية السيف. في «المنتقى» إذا أراد الواهب الرجوع في الهبة وادعى الموهوب له أنها هلكت فالقول قول الموهوب له ولا يمين عليه، فإن عين الواهب شيئاً وقال: هذا هو الهبة حلف

الفصل العاشر: في هبته المريض

الموهوب له عليه. في «المنتقى» ابن سماعة عن محمد في رجل وهب جارية من رجل وقبضها الموهوب له (34أ3) وأولادها ثم أقام الواهب بيّنة أنه كان دبرها قبل أن يهبها قال: يأخذها ويأخذ عقرها وقيمة أولادها؛ لأنه تبين أنه وهبها وهي مدبرة، والمدبرة لا تقبل النقل، ويأخذ عقرها؛ لأنه تبين أن الموهوب له وطء ملك الغير وتعذر إيجاب الحد لصورة الهبة....... ويأخذ قيمة الولد؛ لأن الموهوب له صار مغرورا؛ لأنه استولدها بناء على أنها ملكه، وولد المغرور حر بالقيمة فالمغرور بحكم الهبة يساوي المغرور بحكم الشراء في حق هذا الحكم وهو حرية الولد بالقيمة، ويفارقه في حق الرجوع بقيمة الولد على الغار وإنما كان كذلك؛ لأن حرية الولد المغرور بالقيمة؛ لأن المغرور لم يرضَ برق مائه، وفي حق هذا المعنى لا فرق بينهما إذا كان المغرور في عقد الهبة أو في عقد البيع، أما الرجوع على الغار في فصل الشراء؛ لأن البائع ضمن له السلامة؛ لأن عقد المعاوضة يقتضي السلامة؛ لأنه عقد تبرع. وكذلك لو مات الواهب وأقامت الأمة بينة أن الواهب قد كان دبرها قبل أن يهبها من هذا الرجل كان الجواب كما قلنا، في «البقالي» : ويجوز الرجوع فيما وهب للعبد بغيبة المولى إن كان مأذونا له، ويصدق الواهب أنه مأذون ولا يقبل بينة العبد على أنه محجور إلا أن يكون على إقرار الواهب، ويحلف الواهب عند عدم البينة على العلم، ولو مات العبد والهبة في يده فلا خصومة مع المولى، وإن كانت في يده فهو الخصم إذا صدقه أو قامت عليه البينة. الفصل العاشر: في هبته المريض قال في «الأصل» : لا يجوز هبة المريض ولا صدقته إلا مقبوضة، فإذا قبضت جازت من الثلث، وإذا مات الواهب قبل التسليم بطلت. يجب أن يعلم بأن هبة المريض هبة عقد وليست بوصية واعتبارها من الثلث ما كانت؛ لأنها وصية، ولكن لأن حق الورثة يتعلق بمال المريض وقد تبرع بالهبة فيلزم تبرعه بقدر ما جعل الشرع له وهو الثلث، فإذا كان هذا التصرف هبة عقد اشترط له سائر شرائط الهبة، ومن جملة شرائطها قبض الموهوب له قبل موت الواهب. مريض وهب داره من رجل وسلمها إليه ثم مات ولا مال له غير الدار ولم يجز الورثة الهبة ونقصت في الثلثين لم تبطل الهبة في الثلث الباقي، وهذه المسألة تبين أن ملك الورثة واستحقاقهم يثبت بسبب مقصور على حالة الموت ولا يستند إلى أول المرض، إذ لو استند لتبين أن الهبة وجدت وثلثا الدار ملك الورثة، فصار المريض واهبا

بثلث الدار شائعا، وهبته بثلث الدار شائعا لا يجوز، وذكر محمد بن موسى الخوارزمي صاحب كتاب «الجبر والمقابلة» في كتابه: أن المريض إذا وهب جاريته من رجل وسلمها إلى الموهوب له فوطئها الموهوب له ومات الواهب ولا مال له غير الجارية ولم يجز الورثة الهبة ويعصب في الثلثين كان على الموهوب له ثلثا عقر الجارية للورثة، وهذا يشير إلى أن حق الورثة يستند ولا يقتصر على حالة الموت، ذكر جواب المسألة على هذا الوجه ولم يسنده إلى أصحابنا، فإن كان ما ذكر هو صحيحاً لبطلت الهبة في الثلث الباقي في مسألتنا لكن لا يكاد يصح؛ لأنه مخالف لجواب سائر كتب أصحابنا أن حق الورثة وملكهم لا يستند بل يقتصر، وإن العقر لا يجب. قال في «الجامع» : مريض وهب عبداً قيمته ثلثمائة درهم من رجل صحيح على أن يعوضه الموهوب له عبداً يساوي مئة درهم وتقابضا ثم مات المريض من ذلك المرض ولا مال له غير العبد وأبى الورثة أن يجيزوا ما صنع الواهب كان للموهوب له الخيار إن شاء نقض الهبة ورد الموهوب كله وأخذ العوض، وإن شاء رد ثلثي العبد الموهوب على الورثة وسلم ثلثاه له ولم يأخذ (من) العوض شيئاً، فإن قال الموهوب له: أريد في العوض بقدر الزيادة فمن المحاباة على الثلث لم يكن له ذلك، ولو كان المريض وهب كرتمر فارسي يساوي ثلثمائة على أن يعوضه كرتمر يساوي مئة وتقابضا ثم مات المريض ولا مال له سوى ذلك فللموهوب له الخيار إن شاء نقض الهبة ورد الكر الموهوب وأخذ كره، وإن شاء أخذ نصف الكر الموهوب ورد نصفه واسترد نصف الكر الذي هو عوض. في «المنتقى» : رجل وهب عبده من مريض ورجع فيه بغير حكم ورده إليه المريض قال: يجوز من الثلث، ولو رجع فيه بقضاء فأدى جاز ولا شيء لورثة الموهوب له، فيه قد ذكرنا أن الرجوع في الهبة بقضاء فسخ من كل وجه، وذكرنا اختلاف الروايات في الرجوع بغير قضاء عن محمد، فما ذكرنا من الجواب في هذه المسألة يوافق رواية أبي سليمان، فإنه اعتبر الرجوع بغير قضاء عقداً جديداً في حق الورثة. وفيه أيضاً: مريض وهب جاريته لمريض فردها الموهوب له على الواهب بهبته منه فهو جائز بمنزلة ارتجاعه منه هبته، وليس لورثة الموهوب له أن يرجعوا في شيء مما وهب فقد اعتبر الرجوع في هذه المسالة فسخا من كل وجه، وإنه يوافق رواية أبي حفص عن محمد. وفيه أيضاً: مريض وهب عبده لرجل وعليه دين محبط بقيمته ولا مال له غير العبد فأعتقه الموهوب له قبل موت الواهب جاز، ولو أعتقه بعد موته لا يجوز؛ لأن بالموت يتبين أن لهذا المريض مرض الموت، وإن لهذا الاعتاق حكم الوصية والوصية لا تعمل حال قيام الدين. فيه أيضاً: ابن سماعة عن أبي يوسف رجل وهب عبدا له في المرض

الفصل الحادي عشر: في المتفرقات

ولا مال له غيره وأعتقه الموهوب له قبل موت الواهب وهو معسر نفذ عتقه، وإذا مات الواهب بعد ذلك فلا سعاية على العبد. وفي «فتاوي أبي الليث» : مريض وهب لرجل جارية فوطئها الموهوب له ثم مات الواهب وعليه دين مستغرق يرد الهبة ويجب على الموهوب له العقر، قال الصدر الشهيد رحمه: هو المختار قال: لأن الجارية ههنا مضمونة على الموهوب له بالقيمة فجاز أن يكون المستوفي بالوطء مضمونا، أيضاً في «الأصل» مريض وهب لمريض عبدا وسلمه إليه فأعتقه وليس لواحد منهما مال غيره ثم مات الواهب ثم مات الموهوب له، فإن العبد يسعى في ثلثي قيمته لورثة الواهب، ويسعى في ثلثي الباقي لورثة الموهوب له؛ لأن عتق المولى له في مرض الموت بمنزلة الوصية، والوصية مؤخرة عن الدين، وثلثا قيمته دين لورثة الواهب على الموهوب له، فإنه أتلف عليهم حقهم في ثلثي العبد بالاعتاق، فعلى العبد أن يسعى في ذلك لهم، فإنما بقي مال الموهوب له ثلث رقبة العبد، فيسلم العبد بطريق الوصية ثلث هذا الثلث، ويسعى في ثلثي هذا الثلث، فصار العبد على تسعة سلم للعبد منه سهم وسعى في ثمانية أتساعه. الفصل الحادي عشر: في المتفرقات وذكر في «العيون» : إذا قال لغيره: وهبت لك هذه الغرارة الحنطة أو هذا الزق (من) السمن دخل تحت الهبة الحنطة والسمن دون الغرارة والزق، وبمثله لو قال: وهبت لك غرارة الحنطة أو زق السمن دخل تحت الهبة الغرارة والزق دون الحنطة والسمن. في «المنتقى» قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا قال الرجل لغيره: جعلت لك هذه الدار عمرى أو قال: عمرك أو قال: حياتي أو قال: وحياتك فإذا مت فهو رد علي قال: هذه هبة جايزة وهذا الشرط باطل والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة، وروي عن رسول الله عليه السلام أنه أجاز العمرى وأبطل شرط المعمر. في «مجموع النوازل» رجل وهب لرجل شيئاً وقبضه الموهوب له ثم اختلسه منه الواهب واستهلكه غرم قيمته للموهوب له؛ لأن الهبة على ملك الموهوب له ما لم يرجع الواهب وقضى القاضي بالرجوع وردّ الموهوب له الهبة على الواهب باختياره ولم يوجد شيء من ذلك (34ب3) ولو وهب لرجل شاة وقبضها الموهوب له ثم ذبحها الواهب بغير أمره، أو وهب له ثوباً ثم قطعه الواهب بغير أمره، ففي الشاة يأخذ الموهوب له الشاة المذبوحة ولا يغرم الواهب له شيئاً، وفي الثوب يأخذ الموهوب له الثوب ويغرم الواهب له ما بين القطع والصحة،

فسئل عن الفرق فقال: لأنه يكره لحم بلحم وزيادة وفي الثوب لا بأس. في «فتاوي أبي الليث» : إذا قال لغيره على وجه المزاح: هب لي هذا الشيء، وقال الآخر: قبلت وسلم إليه جاز؛ لأن هذه هبة تامة مستحقة شرائطها. في «مجموع النوازل» رجل له على رجل ألف درهم ... وألف درهم غلة فقال: وهبت منك إحدى هذين الألفين يجوز، والبيان إليه قال في «الأصل» : الوكيل في باب الهبة في معنى الرسول حتى يجعل العاقد هو الموكل دون الوكيل، وفيه أيضاً: إذا وكل الواهب رجلا بالتسليم وغاب، ووكل الموهوب له رجلا وغاب جاز، فإن امتنع وكيل الواهب عن التسليم خاصمه وكيل الموهوب له. في «فتاوي النسفي» : سئل نجم الدين عن امرأة أعطت زوجها مالاً.... له ليتوسع بالصرف فيه في المعيشة فظفر بالزوج بعض غرماء الزوج واستولى ذلك المال، للمرأة أن تأخذ ذلك من ذلك الغريم؟ قال: إن كانت وهبته من الزوج أو أقرضته منه فلا؛ لأنه ملك الزوج، وإن كانت أعطته ليتصرف على ملكها فلها ذلك؛ لأنه مالها، وسئل أيضاً عن رجل له ثلاثة بنين كبار وكان دفع لواحدٍ منهم في صحته مالاً ليتصرف فيه، ففعل وكبر ذلك الابن اختص به هذا الابن ويكون ميراثاً عنه بينهم؟ قال: إن أعطاه هبة فالكل له، وإن دفع إليه ليعمل فيه الأب فهو ميراث. في «الحاوي» : قال محمد في «السير الكبير:» رجل قال لقوم: إني قد وهبت جاريتي هذه لأحدكم فليأخذها من شاء وأخذ منهم كانت له. وفيه أيضاً: قال رجل أديب للناس من مر بخيلي فمن أخذ شيئاً فهو له فبلغ الناس فأخذوا منه كان لهم، وفي «فتاوي أبي الليث» : سئل الفقيه أبو بكر عن المرأة أرادت أن تهب مهرها من زوجها ولا يبرأ زوجها عن ذلك ماذا تصنع؟ قال: تصالح عن مهرها مع رجل على لؤلؤة أو على شيء آخر من زوجها، ولا ينظر إلى ذلك الشيء، فإذا فعلت برء زوجها، ثم يهب مهرها من الزوج ثم ينظر إلى اللؤلؤة فيردها....... فيعود المهر على حاله، وسئل هو أيضاً عن امرأة وهبت مهرها الذي لها على زوجها لابن صغير وقبل الأب قال: أنا في هذه المسألة واقف، إذ يحتمل الجواز كمن كان عبده عند رجل وديعة فأبق العبد ووهبه مولاه من أب المودع، فإنه يجوز. وسئل مرة أخرى عن هذه المسألة فقال: لا يجوز؛ لأنها هبة عن مقبوضة؛ لأنها في حكم المستهلكة. قال الفقيه أبو الليث: وبه نأخذ. في «العيون» : رجل دفع ثوبين إلى رجل وقال: أيهما شئت فهو لك أو لآخر أو لأبيك فلان، هذا على وجهين: إما أن يبين الذي له قبل أن يفترقا عن المجلس، أو لم يبين. ففي الوجه الأول: جاز؛ لأن ارتفاع الجهالة في آخر المجلس كارتفاعها في أول المجلس وفي الوجه الثاني: لا يجوز؛ لأن الجهالة لم ترتفع، وعلى هذا لو وهب من آخر غلاما على أن الموهوب له بالخيار ثلاثة أيام، إن اختار الهبة قبل أن يتفرقا جازت الهبة، وإن لم يختر حتى يتفرقا لم تجز. في «فتاوي سمرقند» بأن رجل أقرّ أنه وهب من فلان عبدا، كان هذا إقرار لهبة

صحيحة؛ لأن الصحة أصل، ويكون إقراراً بقبض الموهوب له؛ لأن قبض الموهوب له بمنزلة الركن والإقرار بالركن، وذكر في «العيون» : أن من قال لآخر: وهبت لي ألف درهم ثم قال بعد ما سكت: لم أقبضها فالقول قوله؛ لأن الهبة هبة بدون القبض، والإقرار بالهبة لا يكون إقرارا بالقبض، وهذا الذي ذكر في «العيون» أشبه بالفقه وأقرب إلى ما ذكر في أيمان «الجامع» في «فتاوي سمرقند» بأن عبد بين رجلين وهب أحدهما شيئاً لهذا العبد فهذا على وجهين: إن كان الموهوب شيئاً يحتمل القسمة لا تصح الهبة أصلاً، لما لم تصح في نصيب الواهب حصل في نصيب غير الواهب مشاع يحتمل القسمة، وفي الوجه الثاني: يصح في نصيب صاحبه؛ لأن حصل مشاعا لايحتمل القسمة، اشترى من آخر دارا ووهبها من غيره لم يجز في قول أبي يوسف، وعند محمد: يجوز. فرّق بين الهبة وبين الإجارة والبيع. في القدورى في كتاب البيوع في «الأصل» : وإذا وهب جاريتين فولدت إحداهما فعوضه الولد عنهما لم يكن له أن يرجع في واحد منهما؛ لأنه عوضه ملك نفسه، ولم يرد عليه الهبة أصلاً. وفيه: وهب لمكاتب هبة ثم أراد أن يرجع فيها فله ذلك، وفيه نوع إشكال؛ لأن المكاتب فقير، والهبة من الفقير صدقة لا رجوع فيها، والجواب: المكاتب فقير ملكاً لا إما غني غنياً يداً والهبة لا تنفك عن قصد العوض بمال إما بمنافعه أو كسبه كالهبة من العبد، فإذا لم يحصل له العوض كان له الرجوع، فإن عجز المكاتب أو عتق فله أن يرجع فيها إذا عتق ولا يرجع فيها إذا عجز، وهذا قول محمد، وقال أبو يوسف له: أن يرجع في الوجهين جميعاً. قال في «الأصل» أيضاً: رجل عتق ما في بطن جاريته ثم وهب الجارية من رجل وسلمها إليه جازت الهبة في الأم، ولو باعها لم يجز، قال في «الكتاب» : ألا ترى لو باع جارية حاملا واستثنى ما في بطنها لم يجز البيع، ولو وهبها واستثنى ما في بطنها جازت الهبة في الأم والولد. ووجه الاستشهاد: أن الولد في مسئلتنا صار مستثنيا عن البيع، والهبة شرعاً، فيعتبر ما كان مستثنياً، واستثناء الولد شرط يبطل البيع ولا يبطل الهبة فكذا استثناؤه شرعاً، إذا أودع الرجل رجلا شيئاً من الأشياء لقيه فوهبه إليه، وليس الشيء بحضرتهما فالهبة جائزة. إذا قال الموهوب له: قبلت، ولا يحتاج فيه إلى قبض جديد، وكذلك هذا في العارية والإجارة فقد اعتبر قبض الوديعة نائباً عن قبض الهبة ولم يعتبره نائباً عن قبض المشتري، والأصل فيه: أن القبضين إذا تجانسا ينوب أحدهما عن الآخر، وإذا اختلفا ناب الأعلى عن الأدنى ولا ينوب الأدنى عن الأعلى، قلنا: وقبض الوديعة مع قبض الهبة تجانسا؛ لأن كل واحد منهما قبض أمانة، أما قبض الوديعة مع قبض الشراء تغايرا؛ لأن أحدهما قبض أمانة والآخر قبض ضمان، وقبض العارية والإجارة كل واحد منهما قبض أمانة والله أعلم.

الفصل الثاني عشر: في الصدقة

الفصل الثاني عشر: في الصدقة قال محمد رحمه الله في «الأصل» : والصدقة بمنزلة هبة في المشاع وغير المشاع في حاجتها إلى القبض؛ لأنها تبرع كالهبة، قال: إلا أنه لا رجوع في الصدقة إذا تمت، فقد بقي الرجوع في الصدقة مطلقا من غير فصل بينهما إذا كان المتصدق عليه غنيا أو فقيرا، واختلفا المشايخ فيه، فمنهم من قال: ما ذكر من الجواب محمول على ما إذا كان المصدق عليه فقيرا، أما إذا كان غنيا كان للمتصدق حق الرجوع؛ لأن الصدقة على الغني هبة كما أن الهبة من الفقير صدقة، ومنهم من سوّى بين الفقير والغني. فظاهر الإطلاق في «الكتاب» يدل عليه، وذكر في «المنتقى» أنه لا رجوع في الصدقة سواء كانت الصدقة على فقير أو غني، قال أئمة القياس في الصدقة: على الغني الرجوع استحساناً، وقلنا: بأنه لارجوع؛ لأن التتصيص على الصدقة دليل على أن غرضه الثواب، قال عليه السلام «: الصدقة ما يبتغى به وجه الله» والصدقة على الغني قد تكون شيئاً في الثواب كأن كان له نصاب وعيال لا يكفيه فيكون في الصدقة عليه ثوابان، أما إذا وهب الفقير شيئاً فلا رجوع فيه استحساناً ذكر المسألة في «الأصل» مطلقاً، وذكر في بعضها: إذا وهبها منه وهو محتاج على وجه الصدقة، وذكر في بعضها إذا وهبها من الفقير وهو عالم بحاله قال في «الأصل» وكذا إذا أعطى سائلاً أو محتاجاً على وجه الحاجة (35أ3) ولم ينص على الصدقة، فلا رجوع فيها استحساناً.Y في «المنتقى» : إبراهيم عن محمد: رجل تصدق على رجل بصدقة وسلمها إليه له الصدقة فأقاله لم يجز حتى يقبض؛ لأنها هبة مستقبلة، كذلك الهبة إذا كانت لذي رحم، وقال: كل شيء لا يفسخه القاضي إذا اختصما إليه فهذا حكمه، وكل شيء فسخه القاضي إذا اختصما إليه فأقاله الموهوب فهو مال للواهب، وإن قبض. يجب أن يعلم بأن الصدقة لا تقبل الإقالة والفسخ، فنجعل إقالة الصدقة تمليكاً مبتدءاً وهبة مبتدأة؛ لأن في الإقالة معنى التمليك فيجعل إقالة الصدقة مجازاً عن معناها وهو التمليك المبتدأ عن تعذر العمل بالحقيقة، والهبة ابتداء لا تعمل قبل القبض، وكذلك الوجه في كل هبة لا يفسخها القاضي إذا اختصما إليه، أما كل هبة يفسخها القاضي إذا اختصما فيها إليه فالعمل بحقيقة الإقالة فعملنا بحقيقتها، وفي الإقالات لا حاجة إلى القبض كما في باب البيع، فتعود العين إلى ملك الواهب بنفس الإقالة من غير أن يحتاج فيه إلى القبض. وفيه أيضاً: إذا تصدق بداره على امرأته وعلى ما في بطنها وهي حامل لم يجز شيء من الصدقة. قال: وليس ما في بطنها بمنزلة الربح والحائط والميت ومن لا يملك بوجه من الوجوه لتكون الصدقة كلها للمراة، وكذلك لو قال لها: تصدقت عليك وعلى الرجل الذي في باب البيت، ففتح الباب فإذا ليس فيه أحد إنما هذا بمنزلة رجل قال: تصدقت بهذه الدار على بني الصغار الثلاثة وهو يرى أنهم أحياء وكان بعضهم ميتا قال هذا القائل وهو لا يعلم فالصدقة باطلة، ولو قال: هذا وهو يعلم بموت الميت منهم جازت الصدقة كلها للحي منهم، أشار إلى أن الإيجاب إذا وقع لمن يملك ومن لا يملك بوجه

من الوحوه كان الإيجاب بكماله لمن يملك، وعند ذلك لا يمكن الشيوع أصلا فيجوز الإيجاب، وإذا وقع الإيجاب لشخصين كل واحد منهما ممن يملك بوجه من الوجوه فالإيجاب يكون لهما، وعند ذلك يتمكن من الشيوع من أحد الجانبين، فيمتنع جواز الإيجاب على قول من يرى الشيوع من أحد الجانبين. إذا تصدق على رجل بصدقة وسلمها إليه ثم مات المتصدق عليه، والمتصدق وارثه، فورث تلك الصدقة فلا بأس عليه فيها، كذا في هبة الأصل. وفيها أيضاً: إذا قال: جعلت غلة داري هذه صدقة في المساكين، أو قال: داري هذه صدقة في المساكين، فما دام حيا يؤمر بالتصدق، فأما إذا مات قبل تنفيذ الصدقة فالدار والغلة ميراث عنه؛ لأن هذا منه نذر بالتصدق عرفا، ولو نذر بالتصدق صريحا كان الجواب كما قلنا ههنا. وفيها أيضاً: إذا قال: جميع مالي صدقة في المساكين فهذا على الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومالا زكاة فيه لا يدخل استحساناً، وكذلك جميع ما أملك عند بعض المشايخ، وعند بعضهم يدخل جميع ما يملك قياساً واستحساناً. في «الحاوي» إذا قال: لله علي أن أتصدق بهذا الدرهم فتصدق بغيره أجزأه، وإن لم يتصدق حتى هلك في يده فلا شيء عليه، وفي «الفتاوي» قال الفقيه أبو بكر: إذا كان الرجل محتاجا فالإنفاق على نفسه أفضل من الصدقة، قال الفقيه أبو الليث: إذا كان يعلم أنه لو أنفق يصبر على الشدة فالإنفاق على غيره أفضل. وفيه أيضاً: لا بأس بالتصدق على المكذبين الذين يسألون الناس إلحافاً ويأكلون ما لم يظهر للمتصدق أن ما يتصدّق عليه ينفق في المعصية، وعن الحسن البصري فيمن يخرج كسرة إلى مسكين فلم يجده قال: يضعها حتى يجيء آخر، فإن أكلها أطعم مثلها، وقال إبراهيم النخعي مثله، وقال عامر الشعبي: هو بالخيار إن شاء قضاها وإن شاء لم يقضها، لا تجوز الصدقة إلا بالقبض، وقال مجاهد: من أخرج صدقة فهو بالخيار إن شاء أمضى وإن شاء لم يمض، وعن عطاء مثله. قال الفقيه أبو الليث: وهو المأخوذ، تم كتاب الهبة.

كتاب البيع

كتاب البيع هذا الكتاب يشتمل على ستة وعشرين فصلاً: 1 * فما يرجع إلى انعقاد البيع به. 2 * وفي الاختلاف الواقع بين الإيجاب والقبول، وفي الحوادث التي تمنع صحة قبول المشتري. 3 * في قبض البيع بإذن البائع وبغير إذنه، وفي تصرف أحد العاقدين في البيع قبل القبض، وفيما يلزم المتعاقدين من المؤنة في تسليم البيع، وفي تسليم الثمن. 4 * في المسائل التي تتعلق بالثمن. 5 * فيما لا يدخل تحت البيع من غير ذكره صريحاً، وفيما يدخل تحته من غير ذكره. 6 * وفيما يجوز بيعه وما لا يجوز. 7 * وفي الشروط التي تفسد البيع والتي لا يفسد. 8 * وفي بيان أحكام الشراء الفاسد والتصرف في المملوك بالعقد الفاسدز 9 * وفي شراء الفضولي وبيعه وبيع أحد الشريكين في شيء كله أو بعضه، وما يكون إجازة في ذلك وما لا يكون، وفي اجتماع الفضولين على التصرف في محل واحد، ويدخل فيه بعض مسائل بيع الغصب. 10 * وفي الاختلاف الواقع بين البائع والمشتري. 11 * وفي الزيادة في الثمن والمثمن وازديادها، وفي الحط والإبراء عن الثمن، وفي هبة الثمن من المشتري به. 12 * في البيع بشرط الخيار. 13 * في خيار الرؤية. 14 * وفي العيوب. 15 * وفي بيع المرابحة والتولية والوضيعة. 16 * في الاستحقاق وبيان حكمه. 17 * وفي الاستبراء.

18 * وفي بيع الأب والوصي والقاضي ومال الصبي وشرائهم له. 19 * وفي كراهية التفريق بين الرقيق. 20 * وفي الإقالة. 21 * في الدعاوى والشهادة في البيع. 22 * في السلم. 23 * وفي القروض. 24 * وفي الاستصناع. 25 * في البياعات المكروهة، والأرباح الفاسدة وما جاء فيها من الرخصة. 26 * وفي المتفرقات.

الفصل الأول: فيما يرجع إلى انعقاد البيع

الفصل الأول: فيما يرجع إلى انعقاد البيع قال أصحابنا رحمهم الله: كل لفظين بلسان عن التمليك والتملك على صيغة الماضي والحال ينعقد بهما البيع، وذلك نحو أن يقول أحدهما ويقول الآخر: اشتريت وقبلت، وكذلك كل لفظين يؤديان معناهما، ولو قال البائع: ابتعك فقال المشتري: اشتريت بمعنى بعت لا ينعقد البيع بينهما، وفرق البيع والنكاح، فإن الرجل إذا قال للمرأة: تزوجيني فقالت: تزوجت ينعقد النكاح، والفرق قد عرف في موضعه. ولو قال لغيره: بعت منك هذا العبد بكذا فقال المشتري: اشتريت ولم يسمع البائع كلام المشتري لا ينعقد البيع بينهما، فسماع المتعاقدين كلامهما في البيع شرط انعقاد البيع بالإجماع، فإن سمع أهل المجلس كلام المشتري والبائع يقول: لم أسمع ولا وقر في أذنه لا يصدق البائع؛ لأن الظاهر يكذبه، وإذا قال لغيره: بعت منك هذا العبد فقال المشتري: أجرب ينعقد البيع بينهما، ذكره في «الأمالي» . وإذا قال لغيره: بعت منك هذا العبد وقال الآخر: قبلت قال الفقيه أبو بكر رحمه الله: يكون بيعاً، وقال الفقيه أبو جعفر: لا يكون بيعاً، وبه أخذ الفقيه أبو الليث. رجل قال لغيره: عبدي هذا لك إن أعجبك فقال: أعجبني فهذا بيع، وكذلك إذا قال: إن أردت فهو سلف بعت، فهذا كله بيع في الجواب، وأما في الابتداء فلا يلزمه. إذا قال الآخر: إن أديت إليّ كذا كذا درهماً ثمن هذا الثوب فقد بعته منك، فأدى الثمن في المجلس يكون بيعاً صحيحاً استحساناً ذكره في «السير» وكذا إذا قال: «فروختم جون بها بن ربيد» فأعطاه الثمن في المجلس فهذا بيع صحيح استحساناً. وفي «النوازل» إذا قال الآخر: بعت منك عبدي هذا بألف درهم فقال المشتري: قد فعلت فهذا بيع؛ لأن هذا تحقيق، ولو قال: نعم لا يكون بيعاً، فقد فرق بين قوله فعلت وبين قوله نعم، واستشهد فقال: ألا ترى من قال لامرأته اختاري نفسك فقالت: قد فعلت فهذا اختيار، ولو قالت نعم فهذا ليس باختيار. وذكر في «فتاوي أهل سمرقند» أن من قال: لغيره اشتريت عبدك هذا بألف درهم فقال البائع قد فعلت (35ب3) أو قال: نعم أو قال: هات الثمن صح البيع بينهما؛ لأن هذا جواب، وسوى بين قوله فعلت وبين قوله نعم فكان فيه قولان والأصح أنه ينعقد البيع، وإذا قال لغيره بالفارسية: ابن خانه وآخر يدي ازمن بجندين فقال: اخر يدم ولم يقل المخاطب بعد ذلك فروختم. حكى الإمام الأجل ظهير الدين عن عمه شمس الإسلام الأوزجندي عن أستاذه الإمام شمس الأئمة السرخي: أنه ينعقد البيع؛ لأن قوله فروختم

مضمر في قول البائع معناه خريدي كه فروختم، وإذا قال: بعت فلانا الغائب فحضر في المجلس فلان، وقال: اشتريت يصح، وإذا قال لغيره: بعتك هذا العبد بألف درهم فقبضه المشتري ولم يقل شيئاً ينعقد البيع بينهما ذكره شيخ الإسلام في بيوعه في باب.... في البيع، وإذا قال لغيره: كل هذا الطعام بدرهم لي عليك، فأكل كان هذا بيعاً وكان ما أكل حلالاً له، ذكره شمس الأئمة السرخي في شرح كتاب الاستحسان، وفي «فتاوي أبي الليث» : إذا قال الرجل لغيره: بعتك عبدي هذا بألف درهم فقال المشتري: اشتريت منك بألفي درهم فالبيع جاز، فإن قيل: الزيادة في المجلس البيع بألفي درهم؛ لأنه أمكن تصحيحه بأن يقل كأن المشتري قال: قبلت البيع بألف درهم ورددتك ألفاً أخرى. وفي «فتاوي أهل سمرقند» رجل قال لغيره: اشتريت منك هذا بألفين فقال ذلك الغير: بعته منك بألف فهو جائز، ويجعل كأن البائع بالغير قال حططت عنك ألفاً، وإذا قال لغيره: جعلت عبدي لك هذا بألف درهم وقال ذلك الغير قبلت هل ينعقد البيع بينهما؟ اختلف المشايخ فيه، وقد ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» مسألة تدل على أنه ينعقد. وصورتها: رجل مات وترك عبداً قيمته ألف درهم لا مال له غيره، وعلى الميت لرجل ألف درهم دين فأعطى القاضي الغريم بدينه وقال هذا العبد: بيع لك بدينك أو قال: جعلته لك بدينك وبنى على اللفظين أحكام البيع، قال شمس الأئمة السرخي: وهذا هو الصحيح؛ لأنهما بمعنى البيع إن لم يأتيا بلفظ البيع، والعبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ، وهذه المسألة أيضاً دليل على أن من قال لغيره: هذا العبد بيع لك بدينك فقبل ذلك الغير، إنه ينعقد البيع بينهما. وفي «طلاق النوازل» : إذا قال لغيره: هذا العبد عليك بألف درهم فقال الآخر: قبلت يكون بيعاً، قال: ألا ترى أنه لو قال لامرأته ثلاث تطليقات عليك إنه يقع الثلاث عليها، وإذا قال لغيره بعد ما جرى بينهما مقدمات البيع: بعت هذا العبد بألف وقال المشتري: اشتريت يصح، وإن لم يكن البائع قال: بعت منك. وفي «فتاوي أهل سمرقند» إذا قال لغيره: بعت هذا الثوب مني فقال ذلك الغير: بعت فقال المشتري: لا أريده فله ذلك؛ لأن البيع لم يتم بعد. ومثله لو قال المشتري: اشتريت منك طعامك هذا بألف فتصدق به على المساكين ففعل ولم يتكلم جاز؛ لأن هذا دلالة القبول. وفي «فتاوي أهل بلخ» سئل أبو الليث الكبير رحمه الله عمن قال لآخر: بكم هذا الوقر من الحطب؟ فقال: بدرهم فقال: سق الحمار قال: يكون بيعاً ما لم يسلم الحطب وينقد منه الثمن، وقد قيل: لو قال قائل إن هذا بيع لا ينفذ؛ لأن قوله سق الحمار رضا بالبيع، فإذا ساقه البائع فقد ساعده على ذلك الرضا، فظهر تراضيهما بالبيع، وسئل أبو زيد الكبير أيضاً عمن قال لآخر خذ هذا الثوب بعشرة ليس له أن يمتنع بعد قوله أحد يسأله وقال خلف: سألت أسداً عمن قال في السوق: من عنده ثوب هروي بعشرة فقال له

رجل: أنا، فأعطاه قال: هذا ليس ببيع إلا أن يقول حين أخذه: أخذته بعشرة فاذهب وانظر إليه. وسألت الحسن عن هذا فقال: البيع جائز ولكل واحد منهما حق نقض هذا البيع، وإذا قال الرجل لغيره: بعتك عبدي هذا بألف درهم فقال ذلك الغير: بعتك عبدي هذا بألف درهم فقال ذلك الغير: هو حر. ذكر شيخ الإسلام والصدر الشهيد في دعوى الجامع أن هذا جواب ويعتق العبد، وذكر في «العيون» أنه ليس بجواب ولا يعتق العبد، ولو قال: فهو حر فهو جواب وعتق العبد وعليه ألف درهم. وروى إبراهيم عن محمد في رجل قال لغيره: بعني غلامك هذا بألف درهم فقال: بعت فقال: اشتريت هو حر، قال: قال أبو حنيفة قوله هو حر قبض منه له وعتق عليه، قال: إبراهيم وقال محمد رحمه الله لا يعتق ولا يكون قابضاً بالعتق. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال لآخر: بعتك هذا العبد فقال الآخر: هو حر أو قال: هو مدبر فذلك سواء في قولي، وليس هذا ببيع حتى يأخذه ثم يعتقه. قال: وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا قال: هو حر يعتق عليه. وفي «فتاوى الأصل» إذا قال لغيره: بعتك عبدي هذا بألف درهم، وهبت لك الألف منك، فقال المشتري: اشتريت صح البيع ولا يجوز....؛ لأن الثمن لم يجب بعد. وفي «مجموع النوازل» أن البيع لا يصح في هذه الصورة؛ لأن هذا في معنى البيع بلا ثمن. وفي «الفتاوي» : سئل أبو القاسم عمن ابتاع من آخر ثوباً بتسعة فقال: ربُّ الثوب بالفارسية: يده درهم يسند بدي بدين فقال المشتري: رضيت لا يجب به البيع حتى لو امتنع البائع عن تسليمه لا يجبر عليه، إذ ليس في هذه اللفظة ما ينبؤ عن إيجاب البيع. وفي «فتاوى أهل سمرقند» رجل جاء إلى قصاب وقال: كم يعطي من هذا اللحم بدرهم فقال: منوين فقال الرجل زن منوين فوزن القصاب ودفعه إلى الرجل وأخذ الدرهم ولم يقل القصاب بعت ولا قال المشتري اشتريت وتفرقا عن ذلك فهو بيع جائز، ويعيد بذلك الوزن؛ لأنه يثبت البيع بينهما مقتضى الوزن سابقاً عليه، فيكون الوزن بعد البيع فيعتدُّ به، رجل قال: من أين أهب خورا با اسب نو عرض كردم، فقال الآخر: وأنا فعلت أيضاً فهذا بيع، هكذا حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي. رجل قال: لآخر بعت هذا العبد من فلان فبلغه، فبلغه الرسول وقال المشتري: اشتريت فهو بيع، ولو لم يقل بلغه فبلغه وقال المشتري: اشتريت لا يصح؛ لأن شطر البيع لا يتوقف على ما وراء المجلس، ولو قال: بعته منه فبلغه، فبلغه رجل آخر جاز؛ لأنه حين قال: فبلغه فقد أظهر من نفسه الرضا بالتبليغ فكل من بلغه كان التبليغ برضاه، فإن قال: صح البيع وهذا شيء يحفظ جداً، وإذا قال لآخر: بعت منك هذا العبد بكذا، فقال الآخر لرجل آخر: قد اشتريت، فقال الرجل: اشتريت، ينظر إن أخرج الأخر الكلام مخرج الرسالة صح الشراء، وإن أخرج مخرج الوكالة لا يصح.

وفي «مجموع النوازل» : رجل له على آخر دين فطالبه فجاء المطلوب بشعير قدرا معلوماً وقال للطالب: خذه بسعر البلد قال: إن كان سعر البلد معلوماً وهما يعلمان ذلك كان بيعاً تاماً، وإذا لم يكن سعر البلد معلوماً وهما يعلمان ذلك كان بيعاً تاماً، وإذا لم يكن سعر البلد معلوماً إلا أنهما لا يعلمان ذلك لا يكون بيعاً. رجل قال لآخر: بعتك هذا العبد ثم قام أحدهما عن المجلس، إما البائع أو المشتري ثم قبل الآخر لا يصح قبوله، هذا هو المذكور في عامة المواضع، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في الباب الثاني من «شرح الجامع» أنه إذا باع وهو قاعد ثم قام البائع، إلا إنه لم يذهب عن ذلك المكان حتى قبل المشتري صح قبوله، وهكذا كتب في هذا الباب أيضاً، لو كانا يمشيان فقال أحدهما: بعت وقال الآخر بعدما مشيا خطوة أو خطوتين: قبلت، رأيت في موضع من المواضع أنه لا يجوز في ظاهر الرواية، وفي رواية يجوز، ورأيت مكتوباً على ظهر الجزء الثاني (36أ3) من شرح البيوع: شرحه الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي رحمه الله أن من قال لغيره: بعت منك هذا العبد فمشيا مكانا ثم قبل المشتري، إن في انعقاد هذا البيع وصحته اختلاف المشايخ، وسئل نصير بن يحيى عمن قال لآخر: بعت منك هذا العبد وفي يدي المشتري قدح ماء فشربه ثم قال: اشتريته كان بيعاً تاماً، وكذا لو أكل لقمة ثم قال: اشتريت لا ينعقد البيع بينهما؛ لأن المجلس قد تبدل. قال لآخر: اشتريت منك هذا الثوب بكذا فاقطعه قميصاً لي، فقطعه فهذا بيع بينهما، في فتاوي شمس الأئمة السرخي رحمه الله، وفي نوادر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: أبعتني عبدك بألف استفهام فقال: نعم فقال: قد أخذته فهذا بيع لازم، فإن كان قد اشتراه بالأمس شراءً فاسداً ثم لقيه اليوم فقال: أليس قد بعتني عبدك هذا بألف درهم قال: بلى قال: قد أخذته، فهذا باطل؛ لأن هذا على ما كان أمس، وإن كان ماكراً بيع أمس فهذا اليوم جائز، ولو كان قال له أمس: بعتك عبدي هذا بألف درهم، فإن لم تجئني اليوم بالثمن فلا بيع بيني وبينك فقبل المشتري ذلك ولم يجىء بالثمن اليوم ولقي البائع من الغد وقال له: قد بعتني عبدك بألف درهم فقال: نعم قد أخذته فهذا شراء الساعة ولا أبطله بما كان منه أمس؛ لأن ذلك الشراء قد انتقض حين ما يأته بالثمن أمس قال: ولا يشبه هذا الشراء الفاسد. رجل قال لآخر: بعت منك هذا العبد بألف فقال المشتري: اشتريت وقال البائع: رجعت وخرج قول البائع رجعت مع قول المشتري اشتريت معاً لا يصح البيع؛ لأنه قارن البيع ما يمنع صحته وهو رجوع البائع، كتب رجل إلى رجل: بعت عبدك هذا مني بكذا، فكتب المكتوب إليه: بعت منك عبدي هذا فهذا ليس ببيع، ولو كتب الأول اشتريت عبدك فلاناً بكذا، فكتب المكتوب إليه: إني قد بعت فهذا بيع، والفرق: أن البيع لابد له من الركنين، ففي الفصل الأول لم يوجد أحد الركنين، وفي الفصل الثاني وجد الركنان، وفي «فتاوي أبي الليث» : رجل قال لغيره: بعت منك هذا الثوب بعشرة والمشتري قال: أخذته بتسعة وتقابضا قال: هو بتسعة؛ لأنه ينظر إلى آخرهما كلاماً فيحكم بذلك.

وفي «العيون» عن محمد رجل ساوم رجلاً فقال البائع: أبيعه بخمسة عشر وقال المشتري: لا آخذه إلا بعشرة، فإن كان الثوب بيد المشتري حين ساومه فهو بخمسة عشر لما ذهب به، وإن كان الثوب في يد البائع وقت المساومة فدفعه إلى المشتري فهو بعشرة؛ لأن البائع رضي بعشرة لما دفع الثوب إلى المشتري، وعنه أيضاً: رجل ساوم رجلاً بثوب فأخذه على المساومة أو دفعه إليه وهو يساومه وقال: هو بعشرة فذهب به المشتري، قال: هو على الثمن الذي قاله البائع يرده عليه أن يقول المشتري: لا آخذه إلا بتسعة لا أرضى إلا بتسعة، وعن أبي يوسف رجل أخذ ثوباً من رجل فقال البائع بعشرين، وقال المشتري: لا أزيدك على عشرة فذهب بالثوب وضاع فهو بعشرين. وفي «الواقعات» رجل قال لآخر: بكم هذا الثوب فقال: بعشرين فقال المشتري: لا أريده بعشرين، فذهب ثم جاء وأخذ الثوب وذهب به فهو بعشرين؛ لأنه رضي به وأخذ من الرجل ثوباً، وقال: اذهب به، فإن رضيته اشتريته فذهب به وضاع الثوب فلا شيء عليه، ولو قال: إن رضيت أخذته بعشرة فضاع فهو ضامن قيمته بناء على أن المقبوض على سوم الشراء إنما يكون مضموناً إذا كان الثمن مسمى. عن أبي يوسف في رجل ساوم رجلاً بثوب فقال صاحب الثوب: هو بعشرة فقال المساوم: هاته حتى أنظر إليه فدفعه إليه على ذلك فضاع لم يلزمه شيء علل فقال: لأنه أخذ على النظر، أشار إلى أنه ليس بمقبوض على سوم الشراء، إن أخذه على غير النظر ثم قال: انظر إليه فضاع لم يخرجه قوله انظر إليه عن الضمان، وهو على ما أخذه عليه أول مرة. هكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله أيضاً. وصورة ما روي عنه: رجل قال لغيره: هذا الثوب لك بعشرة فقال ذلك الرجل: هاته حتى أنظر إليه، فأخذه على هذا فضاع منه فلا شيء عليه، ولو قال: هاته، فإن رضيته أخذته فضاع فهو على ذلك الثمن، رجل قال لغيره: إن الناس يشرون كرمك هذا بألفي درهم فلم لا تبيعه فقال له صاحب الكرم: بعته منك بألف درهم فقال المشتري: اشتريته بها صح البيع إن لم يكن على طريق الهزل، وإن اختلفا فالقول قول البائع أنه أراد به الهزل بأن يكون قوله بعت بألف درهم رد الكلام ذلك الرجل، وإن كان المشتري أعطاه شيئاً من الثمن وأخذه ثم ادعى الهزل لا تسمع دعواه بعد ذلك؛ لأن قبض الثمن علامة الجد، وينعقد البيع بلفظ السلم بالإتفاق، وفي انعقاد السلم بلفظ البيع روايتان وسيأتي بيان ذلك في موضعه. وينعقد البيع بالتعاطي بدون لفظة الإيجاب والقبول، على هذا اتفقت الروايات، والأصل فيه عرف الناس وعاداتهم. وصورة ذلك ما مر قبل هذا: رجل قال لقصاب: بكم يعطي من هذا اللحم بدرهم؟ فقال منوين فقال الرجل: زن منوين فوزن ودفع الرجل درهماً إلى القصاب وذهب باللحم فهذا بيع، وإن لم يتلفظا بلفظة البيع والشراء. وذكر في «النوازل» : وضع فلساً عند بقال وأخذ رمانة برضاه ولم يتكلما شيئاً فهذا بيع ثم اختلف المشايخ فيما بينهم، بعضهم قالوا: إنما ينعقد البيع بالتعاطي في الأشياء

الخسيسة نحو البقل والرمانة والخبز وأشباه ذلك، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه وعامتهم على أنه ينعقد في جميع الأشياء الخسيسة والنفيسة في ذلك على السواء، وفي الكتاب مسائل تدل على هذا القول وهو الصحيح، واختلف المشايخ أن الشرط في بيع التعاطي: الإعطاء من الجانبين، أو الإعطاء من أحد الجانبين يكفي، وأشار محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : أن تسليم المبيع يكفي، وفي مسائل الوكيل مسألتان: أحدهما: تدل على أنه يشترط الإعطاء من الجانبين، والأخرى: تدل على أن الإعطاء من أحد الجانبين يكفي، وستأتي صورتهما في موضعهما، وسيأتي في فصل الإقالة نص أن الشرط هو الإعطاء من الجانبين، وكان الشيخ الإمام شمس الحلواني يشترط الإعطاء من الجانبين وكان يقول: إذا وجد قبض البدلين في المجلس ينعقد البيع بالتعاطي ومالا فلا، وبعض مشايخنا اكتفوا بالإعطاء من أحد الجانبين وهذا القائل شرط بيان الثمن لانعقاد هذا البيع بتسليم البيع، وهكذا حكى فتوى الشيخ الإمام أبو الفضل الكرماني.6 وفي «المنتقى» : رجل ساوم رجلاً بشيء أراد شراءه منه ولم يكن معه وعاء يأخذه منه، ثم جاء بالوعاء بعد ذلك وأعطاه الدراهم فهذا جائز، فقد حكم بجواز البيع بإعطاء الدراهم، فهذا يدل على انعقاد البيع بالتعاطي من أحد الجانبين، وعن أبي يوسف في رجل قال لغيره: كيف بيع الحنطة؟ فقال كل قفيز بدرهم فقال كل لي خمسة أقفزة فكال فذهب بها، قال: هذا بيع وعليه خمسة دراهم، وهذه المسألة دليل على انعقاد البيع بالإعطاء من أحد الجانبين أيضاً. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا قال للقصاب: زن لي ما عندك من اللحم أو قال: زن لي من هذا الجنب أو قال من هذا الرجل على حساب ثلاثة أرطال بدرهم، فوزن له فلا خيار له، وفي «المجرد» عن أبي حنيفة إذا قال للحام: كيف بيع اللحم؟ قال: كل ثلاثة أرطال بدرهم فقال: قد أخذت منك زن لي، ثم بدا للحام أن لا يزن، فقبل قبض المشتري كان لكل واحد الرجوع، فإن قبضه المشتري أو جعله البائع في وعاء المشتري بأمره تم البيع وعليه درهم. وهذه المسألة دليل أيضاً (36ب3) على انعقاد البيع بإعطاء من أحد الجانبين. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا قطع القصاب اللحم ووزن والمشتري ينظر أن يقبض له ذلك حتى يقول: رضيت أو يقبض. رجل اشترى وقرين من آخر بثمانية دراهم ثم قال البائع: أنت تؤمر آخر بهذا الثمن والغد ههنا، فجاء البائع بوقر آخر والعين في ذلك الموضع فهذا بيع، وله أن يطالب الأخر بثمانية دراهم. ومما يتصل بهذا الفصل معرفة المبيع والثمن؛ لأن البيع لا بد له من المبيع والثمن. قال القدوري في كتابه: ما يتعين بالعقد فهو مبيع، وما لا يتعين فهو ثمن إلا أن يقع عليه لفظ البيع ثم قال: الدراهم والدنانير أثمان أبداً؛ لأنها في الأصل خلقت ثمن الأشياء وقيمتها قال الله تعالى: {وشروه بثمن بخس دراهم معدودة} (يوسف: 20) عين الثمن بالدراهم، وقال القدوري في «كتابه» الثمن: ما يكون في الذمة والدراهم والدنانير لا يتعينان في عقود المعاوضات على أصلنا، وإنما ينعقد على مثلها ديناً في الذمة، فجعلوا

الدراهم والدنانير أثماناً لهذا، والأعيان التي ليست من ذوات الأشياء مبيعةً أبداً، والمكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة بين مبيع.... فإن كان مقابلها الدراهم والدنانير فهي مبيعة، وإن كان مقابلها عين، فإن كانت المكيلات والموزونات معينة فهي مبيعة وثمن؛ لأن البيع بدل من مبيع وثمن، وليس لأحدهما بأن يجعل مبيعاً بأولى من الآخر؛ لأن المكيل والموزون يتقينان في البياعات كالعروض، فجعلنا كل واحد منهما مبيعاً على وجه ثمناً من وجه. وإن كانت المكيلات والموزونات غير معينة، فإن استعملت استعمال الأثمان فهي ثمن نحو أن يقول: اشتريت هذا العبد بكذا كذا حنطة ونحو ذلك، وإن استعملت استعمال المبيع كان مبيعاً بأن قال: اشتريت منك بكذا كذا حنطة بهذا العبد فلا يصح العقد إلا بطريق السلم، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في شرح شهادات «الجامع» أن المكيل والموزون إذا لم يكن معينا فهو ثمن، دخل عليه حرف الباء أو لم يدخل؛ لأن المكيل والموزون من ذوات الأمثال حتى يضمنا بالمثل في الإتلاف، فصار نظير الدراهم والدنانير، والدراهم والدنانير أثمان دخل عليها حرف الباء، أو لم يدخل، والفلوس بمنزلة الدراهم والدنانير في أنها لا تتعين بالتعيين، وكان أبو الحسن الكرخي يقول: الدراهم والدنانير يتعينان في العقود ولا يتعينان في التسليم، ويستدل بمسألة ذكرها محمد في «الجامع» . وصورتها: إذا قال الرجلان: بعت هذا العبد بهذا الكر وبهذه الألف فهما في المساكين صدقة، فباع العبد بهما لزمه التصدق بالكر دون الألف، ولم تتعين الدراهم في العقد، ولا يجب التصدق بشيء؛ لأن شرط وجوب التصدق البيع بالكر المعين والدراهم المعينة، فإذا كانت الدراهم لا تتعين في العقود كان البيع واقعا بكر معين والدراهم في الذمة فكان الموجود نصف الشرط، وبوجوب نصف الشرط لا ينزل الجزاء. والجواب عن هذا الإشكال وهو وجه تخريج هذه المسألة: أن شرط وجوب التصدق وجود البيع مضافا إلى الكر وإلى الدراهم وتسميتها في البيع، فأما تعيين الدراهم فليس من الشرط في شيء؛ لأنه ليس من صنع العبد، فصار في التقدير كأنه قال: إن بعت هذا العبد بيعا مضافا إلى هذا الكر وإلى هذه الألف فهما في المساكين صدقة، فإذا أضاف البيع إليهما وسماها في البيع فقد وجد شرط وجوب التصدق فيلزمه التصدق. وإذا عرفت المبيع والثمن فنقول من حكم المبيع إذا كان منفعة أن لا يجوز بيعه قبل القبض، ورد الأثر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولأنه تمكن في هذا العقد غرر يمكن التحرز عنه، ونهى رسول الله عليه الصلاة والسلام «عن بيع فيه غرر» .

بيانه: أن المشتري الأول لو قبض المبيع بعدما باع يتم البيع الأول ويصير بائعا ملك نفسه، ومتى لم يقبض حتى هلك في يد البائع الأول فيفسخ البيع الأول ويعود العبد إلى ملك البائع الأول، فيصير المشتري الأول بائعا ملك الغير، فأما إذا كان لا يدري أنه يقبضه أو لا يقبضه لا يدري أن يكون بائعا ملكه فيصح، أو يكون بائعاً ملك غيره فلا يصح، فكان فيه غرر من هذا الوجه، وكل جواب عرفته المشتري فهو الجواب في الأجرة إذا كانت الأجرة عينا وقد شرط تعجيلها لا يجوز بيعها قبل القبض، وكذلك بدل الصلح عن الدين إذا كان عينا لا يجوز بيعه قبل القبض؛ لأن النص وإن ورد في البيع ولكن المعني الغرر فكان غير ملك يعقد، وينفسخ العقد فيه بهلاكه قبل القبض إن كان فيه غرر فيكون النص واقعا فيه دلالة، فأما المهر وبدل الخلع وبدل الصلح عن دم العمد. إذا كان عينا فبيعها جائز قبل القبض وهم الغرر بانفساخ العقد في هذه الأشياء منتف فلا يكون النص ورادا في هذه الأشياء والمطلق للتصرف موجود وهو الملك، فجاز بيع هذه الأشياء قبل القبض، وما لا يجوز بيعه قبل القبض فكذا لا يجوز إجازته. ولو تصدق بالمنقول المشتري قبل القبض وبما هو في معنى الشراء نحو الأجرة وبدل الصلح عن دعوى الغير فعلى قول أبي يوسف لا يجوز، وعلى قول محمد يجوز، وعلى هذا إذا وهبه، فأبو يوسف اعتبر معنى العود على نحو مابينا في البيع وأشباه ذلك، ومحمد يقول: تمام هذه التصرفات بالقبض، فكانت العبرة بحالة القبض، ولهذا كان الشيوع وقت القبض مانعا جواز الهبة ولم يكن وقت العقد مانعا. قلنا: والمانع زائل وقت القبض فيصح، ويصير الموهوب له وغيره مما ذكرنا عنه في القبض، فيصير قابضا لنفسه بخلاف البيع والإجارة؛ لأن ذلك مما يلزم بنفسه، وعند ذلك المانع قائم والقرض والوصية على هذا الخلاف أيضاً. هذا إذا تصرف المشتري في المنقول قبل القبض، فأما إذا تصرف فيه مع بائعه فإن باعه منه لم يجز بيعه أصلاً قبل القبض، وإن وهبه له لا يصح إقالة والبيع لايصح أصلاً. الفرق: وهو أن لفظة الهبة تستعمل مقام لفظة الإقالة يقول الرجل: اللهم هب لي ديوني كما يقول: أقلني عثرتي، فعند تعذر العمل بحقيقته يجعل مجازا عن الإقالة. وفي «فتاوي الفضلي» : اشترى دارا ووهبها لغير البائع قبل القبض جاز بالاتفاق. فرق محمد بين الهبة لا تتم إلا بالقبض، فمتى أمر المشتري الموهوب له بالقبض صح الأمر؛ لأنه صادف ملكه، وصار الموهوب له وكيل المشتري في القبض فصار قبضه كقبض المشتري، فصار هبة للحال، وهو ما بعد قبض الموهوب فيكون هبة بعد القبض، فأما تمام البيع فبالإيجاب والقبول لا بالقبض، فلا يمكن أن يجعل تبعاً من الثاني للحال وهو ما بعد قبضه ليكون تبعاً بعد القبض. وذكر الكرخي في «مختصره» : إذا قال المشتري للبائع قبل القبض: بعه لنفسك فهو نقض البيع؛ لأنه لا يتصور بيعه لنفسه إلا بعد فسخ الأول فالأمر به من جهة المشتري وقبول البائع ذلك يتضمن فسخ الأول، ولو قال: بعه لي لا يكون نقضا، لو باعه لم يجز

بيعه؛ لأن هذا أمر بما هو باطل فلا يتضمن فسخ الأول، ولو قال: بعه ولم يقل: لي أو لنفسك فقبل فهو نقض للأول وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف: لا يكون نقضا. وجه قول أبي يوسف: أن قوله بعْ ينصرف إلى البيع للأمر (37أ3) ؛ لأن الملك له، فكأنه قال: بعه، وجه قولهما؛ لأن الأمر بالبيع للأمر لا يصح للمأمور بواسطة انفساخ البيع الأول للمأمور، ويتضمن ذلك انفساخ الأول كما لو قال: بعه لنفسك، ولو قال المشتري للبائع قبل القبض أعتقه فأعتقه البائع جاز العتق عن البائع وينفسخ البيع الأول، ولا يقع العتق عن المشتري عند أبي حنيفة؛ لأن بالعتق يصير المشتري قابضا والبائع لا يصلح قابضا للمشتري بطريق النيابة عنه فيقع العتق عن البائع، وطريقه: أن ينفسخ البيع الأول فيعود إلى ملك البائع، وعند أبي يوسف: العتق باطل؛ لأنه لا يقع عن المشتري لما قاله أبو حنيفة، ولا يقع عن البائع لعدم الملك، ولو ملك المنقول بالوصية أو بالميراث يجوز بيعه قبل القبض، أما في الميراث فلأن يد الورثة يد المورث؛ لأنهم خلفا عنه فكان هذا بيع المقبوض، وأما الوصية فلأنهما أحب الميراث فكان حكمها حكم الميراث، وأما مسألة العقار فنقول: العقار إذا ملك بالبيع أو الإجارة أو الصلح عن الدين لا يجوز التصرف فيه قبل القبض عند محمد وزفر والشافعي لعموم النهي عن بيع ما لم يقبض، ويجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف لانتفاء الغرر إذ العقار لا يتصور هلاكه، والحديث خاص في المنقولات؛ لأن القبض حقيقة يتصور في المنقول دون العقار فينصرف الحديث إليه. وفي «النوازل» : إذا اشترى دارا وأوقفها قبل القبض وقبل نقد الثمن فالأمر موقوف إن أدى الثمن وقبضها جاز الوقف قيل: هذا على قول من لا يوقف صحة الوقف على التسليم إلى المتولي، هذا هو الكلام في طرف المبيع، جئنا إلى طرف الثمن فنقول: التصرف في الأثمان قبل القبض والديون استبدالا سوى السلم والصرف جائز عندنا، واختلفت عبارة المشايخ فيه بعضهم قالوا: لأن الثمن بيع المنقول قبل القبض إنما لا يجوز لمكان الغرر وهو انفساخ البيع الأول بالهلاك، وهذا المعنى لا يتأتى في جانب الثمن فيجوز التصرف فيه عملا بالمطلق، وبعضهم قالوا: لأن الثمن واجب في الذمة، والقبض لا يرد عليه حقيقة، وإنما طريق قبضه أن يقبض مثله عينا مضمونا عليه معاً فيلتقيان قصاصاً، وإذا كان طريق القبض هذا لا يقع التفرقة بين أن يكون المقبوض من جنسه أو من خلاف جنسه؛ لأنه مضمون بمعناه، والمقاصة تقع به وروي عن ابن عمر أنه قال: كنا نبيع الإبل بالبقيع ونأخذ مكان الدراهم الدنانير ومكان الدنانير الدراهم، وكان يجوزه رسول الله عليه السلام..... بخلاف السلم؛ لأنه وإن كان دينا لكن الشرع جعل المقبوض في السلم غير المستحق بالعقد؛ لأن الأصل فيه أن يكون مبيعاً، والاستبدال فيه بالقبض لا يجوز، وذكر الطحاوي أنه يجوز التصرف في القرض قبل

القبض قال: لأنه لا يجوز تأجيله فلا يجوز التصرف فيه أيضاً، وهذا منه إشارة إلى أن الاستبدال إنما يصح في الديون المطلقة؛ لأن طريق قبض الديون قبض أمثالها لا أعيانها. وفي باب القرض الواجب رد العين؛ لأنه إعارة فيصير كأنه انتفع بالعين وردّه، ومن هذا الوجه لم يجز التأجيل؛ لأن التأجيل في العواري لا يلزم فلا يصح الاستبدال عنه أيضاً. قال القدوري في «كتابه» : هذا سهو والصحيح أنه لا يجوز؛ لأن الواجب بالقرض رد المثل لا رد العين، وأقيم رد المثل مقام رد العين فكان طريق رده ماهو الطريق إيفاء الديون فيصح الاستبدال. ومما يتصل بهذه المسائل: إذا اشترى من آخر عبدا بدراهم وتقابضا ثم تقايلا ولم يقبض البائع العبد بحكم الإقالة حتى باعه ثانيا من المشتري صح، ولو باعه من أجنبي لا يصح، وبمثله لو اشترى رجل من آخر عبدا وباعه قبل القبض من بائعه أو من أجنبي لا يجوز، ففي بيع المنقول المشتري قبل القبض سوى بين البيع من بائعه وبين البيع بين أجنبي، وفي مسألة الإقالة فرق بين البيع من المشتري وبين البيع من الأجنبي، والوجه في ذلك: أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين بيع جديد في حق الثالث، ففي حق المتعاقدين يعود إلى البائع قديم ملكه وأنه مقبوض، فإذا باعه من المشتري فقد باع ماهو مقبوض في حقهما، وفي حق الثالث لما كان عقداً جديداً جعل في حق الثالث كأن البائع اشتراه ثانياً من المشتري ولم يقبضه بحكم الشراء، فكان هذا البيع المنقول قبل القبض، فوقع الفرق في مسألة الإقالة من هذا الوجه. وفي مسألة الشراء هذا بيع المنقول قبل القبض في حق الكل فاستوى فيه البيع من البائع والبيع من الأجنبي، ولو اشترى غلاماً من رجل بألف درهم بشرط الخيار للمشتري ثلاثة أيام وتقابضا ثم فسخ المشتري العقد بخيار الشرط فلم يردها على البائع حتى اشتراه منه ثانيا صح، ولو اشتراه أجنبي صح أيضاً. والأصل في جنس هذه المسائل: أن في كل موضع انفسخ البيع بين البائع والمشتري في المنقول بسبب هو فسخ من كل وجه في حق الناس كافة فباعه البائع قبل أن يقبضه من المشتري أو من أجنبي، وفي كل موضع انفسخ البيع بينهما بسبب هو فسخ في حق المتعاقدين عقد جديد في حق الثالث، ولو باعه من المشتري يصح، ولو باعه من أجنبي لا يصح، وهذا أصل جنس كبير أشار إليه محمد رحمه الله في «بيوع الجامع» وفي «المنتقى» رواية مجهولة: رجل اشترى من رجل عبداً وقبضه ثم أقاله البيع ثم باعه من الذي هو بيديه قبل أن يقبضه فالبيع ... حتى يقبض.

الفصل الثاني: في الاختلاف الواقع بين الإيجاب والقبول وفي الحوادث التي تمنع صحة القبول

الفصل الثاني: في الاختلاف الواقع بين الإيجاب والقبول وفي الحوادث التي تمنع صحة القبول المشتري إذا أوجب البائع البيع في سنتين أو ثلاثة وأراد المشتري أن يقبل العقد في أحدهما دون الآخر فهذا على وجهين: إن كانت الصفقة واحدة ليس له ذلك، وإن كانت متفرقة فله ذلك، وهذا لأن الصفقة إذا كانت واحدة فالمشتري بقبول العقد في أحدهما يريد تفريق الصفقة على البائع وذلك ضرر بالبائع؛ لأن العادة فيما بين الناس أنهم يضمون الرديء الى الجيد في البياعات وينقصون أشياء عن ثمن الجيد لترويج الرديء بالجيد، فلو جاز قبول العقد في أحدهما فالمشتري يقبل العقد في الجيد ويترك الرديء على البائع فيزول الجيد عن ملك البائع بأقل من ثمنه، وفيه ضرر بالبائع، وكذلك لو قال: بعتك هذا العبد فقال المشتري: قبلت في نصفه لم يصح؛ لأن فيه ضرر عيب الشركة فالشركة في الأعيان عيب. قال القدوري في «الكتاب» : إلا أن يرضى البائع في المجلس نحو أن يقول: بعتك هذين القفيزين بعشرة فيقول المشتري: قبلت في أحدهما فيرضى به البائع ويكون ذلك من المشتري في الحقيقة استئناف إيجاب القبول، فإذا رضي به البائع في المجلس فيجوز، قال: وإنما يصح مثل هذا إذا كان للتبعيض الذي قبل المشتري حصة معلومة من الثمن على نحو ما ذكرنا من المثال في القفيزين؛ لأن الثمن ينقسم عليهما باعتبار الأجزاء فيكون حصة كل قفيز معلومة، فأما إذا كان الثمن ينقسم باعتبار القيمة نحو إن أضاف العقد إليه عبدين أو ثوبين فلم يصح العقد إذا قبل المشتري في أحدهما؛ وإن رضي البائع به؛ لأن القبول من المشتري لما جعل بمنزلة ابتداء الإيجاب (37ب3) ، فإذا لم يكن حصة كل واحد مسمى لو جاز البيع في الذي قبل كان هذا ابتداء العقد بالحصة وإنه لا يجوز. ثم لا بد من بيان معرفة اتحاد الصفقة وتفرقها فنقول: إذا اتحد البيع والشراء والثمن بأن ذكر الثمن جملة والبائع واحد والمشتري واحد فالصفقة متحدة قياسا واستحساناً، كذلك لو تفرق الثمن بأن سمى لكل بعض من المبيع ثمنا على حدة واتحد الباقي، بأن قال البائع: بعتك هذه الأثواب العشرة كل ثوب منها بعشرة، كانت الصفقة متحدة أيضاً، وكذلك إذا كان البائع والمشتري اثنين بأن قال البائع لرجلين: بعت منكما بكذا، وقال المشتريان: اشتريناها منك بكذا، كانت الصفقة متحدة، هذا هو الكلام في الاتحاد، وأما الكلام في جانب التفرق فنقول: إن تفرقت التسمية بأن سمى لكل بعض ثمناً على حدة وتكرر البيع أو الشراء والبائع والمشتري اثنان وكان أحدهما اثنين فالصفقة متفرقة، وكذلك إذا تفرق الثمن وتكرر البيع أو الشراء والبائع والمشتري واحد، بأن قال البائع لرجل: بعت منك هذه الأثواب، بعتك هذا بعشرة، بعتك هذا بخمسة، أو قال المشتري:

اشتريت منك هذه الأثواب، اشتريت هذا بعشرة، اشتريت هذا بخمسمائة كانت الصفقة متفرقة بالاتفاق، وأما إذا تفرق الثمن إلا أنه لم يتكرر لفظ البيع والشراء واختلف العاقدان بأن كان بأمر أحد الجانبين أو كان من كل جانب اثنين ذكر في بعض المواضع أنها صفقة واحدة، وذكر في بعض المواضع أنها صفقتان قيل: الأول: استحساناً، والثاني: قياس وقيل: الأول قول أبي حنيفة، والثاني قول صاحبيه، ذكر الصدر الشهيد هذه الجملة في بيوع «الجامع» . وذكر شيخ الإسلام في شرح «صلح المبسوط» في باب اختلف الشراء والصلح إذا كان العبد بين رجلين فباعاه من رجل.... على أن نصيب الآخر ألف وجعل الصفقة متفرقة حتى قال: لو قبل المشتري البيع في نصيب أحدهما جاز، وعلل فقال: لأن كل واحد منهما بين لنصيبه ثمنا لا تقتضيه الواحدة؛ لأن الصفقة الواحدة تقتضي (أن) يكون الثمن بينهما نصفين على قدر ملكهما، فإذا سميا على التفاوت فقد غير حكم الصفقة الواحدة، وذكر حكم صفقتين فصارت الصفقة الواحدة في حكم صفقتين متفرقتين، بخلاف ما إذا سميا الثمن على المساواة بأن سمى كل واحد منهما لنصيبه خمسمائة، حيث تكون الصفقة متفرقة؛ لأن كل واحد منهما سمى لنفسه مقدار ما تقتضيه الصفقة الواحدة فيكون ذلك تقديرا لموجب الصفقة الواحدة لا تغيرا لها، فكانت الصفقة حقيقة وحكما متحدة وينبني على اتحاد الصفقة وتفرقها ما إذا اشترى شيئين أو أشياء مختلفة أو شيئاً واحدا ونفد بعض الثمن، وأراد أن يقبض بعض المبيع، فإن كانت الصفقة متفرقة فله ذلك. بيان هذه الصورة فيما ذكر محمد رحمه في «الجامع» : وصورته: رجل اشترى من آخر عشرة أثواب يهودية كل ثوب بعشرة دراهم وبعث المشتري عشرة دراهم وقال: هذه العشرة ثمن هذا الثوب بعينه وأراد أن يقبض ذلك ليس له؛ لأن الصفقة متحدة، وفي الصفقة الواحدة ضم الرديء إلى الجيد في البيع والحط عن بعض ثمن الجيد معتاد فيما بين الناس، فلو جاز له قبض أحدهن يقبض الجيد ولا يتسارع إلى قبض الرديء، وربما يهلك الرديء قبل القبض وينفسخ العقد فيه ويسلم للمشتري الجيد بأقل من ذلك، وفي ذلك ضرر على البائع،.... المشتري عن ثمن أحد هذه الأثواب بعينه فقال المشتري: أنا أجد ذلك الثمن لم يكن له ذلك اعتبارا للبراءة الحاصلة بالاستيفاء، وكذلك لو أخر البائع عن المشتري ثمن ثوب بعينه سهوا لم يكن له أن يقبض ذلك الثوب اعتبارا للبراءة المؤقتة بالبراءة المؤبدة، وكذلك لو أبراه عن جميع الثمن إلا درهما، وكذلك لو كان الثمن مائة وللمشتري على البائع سبعون درهماً، فصار ذلك قصاصا بما وجب على المشتري قبض شيء من الثياب حتى تنفذ العشرة اعتباراً للبراءة الحاصلة بالمقاضاة بالبراءة الحاصلة بالإيفاء باليد، وكذلك إذا كان ثمن أحد الأثواب بعينه عشرة دنانير،

وثمن الباقي مائة درهم فنقد الدنانير أو نقد الدراهم لم يقبض شيئاً منها، وكذلك لو وقع الشراء على أن ثمن ثوب منها بعينه حالا وثمن الباقي مؤجلاً لم يكن له أن يقبض شيئاً حتى ينفذ المال. ومما يتصل بهذه المسائل: رجلان اشتريا من رجل عبداً بألف درهم فغاب أحدهما وحضر الآخر فليس له أن يقبض شيئاً من العبد ما لم ينقد الثمن جملة؛ لأن الصفقة متحدة، فلا يملك الحاضر تفريقها، فإن أوفى جميع الثمن قبل القبض قبض كله، ولا يكون متطوعاً، وإذا حضر الغائب ليس له أن يقبض حصته حتى يدفع الى الحاضر ما نقده من حصته، فإذا فعل ذلك قبض نصيبه، فإن هلك العبد في يد الذي قبضه قبل أن يحضر الغائب أو بعد ما حضر قبل أن يطلبه هلك أمانة حتى حضر الغائب رجع الأول عليه بحصته، وإن حضر الأول وطلب نصيبه فمنعه حتى يستوفي ما نقده عنه ثم هلك هلك بما نقد عنه، بمنزلة المبيع يهلك في يد البائع، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف يقال للحاضر: ليس لك أن تقبض شيئاً من العبد حتى تنقد جميع الثمن، فإذا نفذت جميع الأثواب لم تقبض إلا نصيبك وكتب متطوعا مع ذلك عن الشريك.o فوجه قول أبي يوسف: أن الغائب لم يرض بقبض الحاضر نصيبه فلا يصح قبضه عليه، وإنما يقبض نصيب نفسه إلا أنه لا يمكنه قبض نصيب نفسه ما لم ينقد جميع الثمن لما قلنا، فإذا نقد جميع الثمن ملك قبض نصيبه؛ لأن البائع لما رضي بتسليم الكل عند تسليم جميع الثمن كان أرضى بتسليم النصف عند قبض جميع الثمن، ويكون متبرعا إذ لا يجيء بما أدى للغائب ملكا ولا يداً. وجه قولهما: أن الحاضر محتاج إلى قبض نصيبه ولا يمكنه قبض نصيبه إلا بقبض الكل كيلا يؤدي الى تفريق اليد على البائع، ولا يمكنه قبض الكل، فكان مضطرا في أداء ما على الغائب، والمضطر لا يكون متبرعا، فكان بمنزلة الوكيل وكان له حبسه بما أدى كالوكيل، فإذا هلك عنده بعد البيع صار كالبيع يهلك في ضمان البائع، وعن أبي يوسف في «النوادر» : أنه يدفع نصف الثمن ويأخذ نصف المبيع؛ لأن المستحق عليه نصف الثمن وقد أدى، فلو توقف حقه في قبض نصيبه لتوقف على أداء ما على صاحبه، وحق الإنسان لا يتوقف على أداء ما على غيره، ولو كان البائع أبرأ أحد الشريكين عن حصته من الثمن أو أخر عنه شهرا لم يكن له أن يقبض حصته من العبد حتى ينقد الآخر حصته من الثمن؛ لأن البراءة الحاصلة بالإبراء أو بالتأخير لا تكون أعلى حالا من البراءة الحاصلة بالإيفاء، وهناك ليس له أن يقبض لنفسه ما لم يوفِ كل الثمن كذا ههنا، ولو أن المشتريين اشترى كل واحد منهما نصفه بخمسمائة بأن قال: كل واحد منهما للبائع، اشتريت منك نصف هذا العبد بخمسمائة فقال البائع: بعت ثم نقد أحدهما حصته فله أن يقبض نصيبه من العبد؛ لأن الايجاب وإن كان متحداً (38أ3) فالقبول متفرق، فرجحنا التفرق بحكم تفرق التسمية، وكذلك لو أن البائع أبرأ أحدهما حصته أو أخر أحدهما عن حصته كان له قبض نصيبه، وعلى هذا يخرج جنس هذه المسائل.

الفصل الثالث: في قبض المبيع بإذن البائع وبغير إذنه في تصرف أحد المتعاقدين في المبيع قبل القبض، وفيما يلزم المتعاقدين في المؤونة في تسليم المبيع، وفي تسليم الثمن

الفصل الثالث: في قبض المبيع بإذن البائع وبغير إذنه في تصرف أحد المتعاقدين في المبيع قبل القبض، وفيما يلزم المتعاقدين في المؤونة في تسليم المبيع، وفي تسليم الثمن قال أصحابنا رحمهم الله: وللبائع حق حبس المبيع لاستيفاء الثمن إذا كان الثمن مالاً؛ لأن البائع عين حق المشتري في المبيع، فيجب على المشتري تعيين حق البائع في الثمن تحقيقا للتساوي بينهما، ثم تعيين النقود بالقبض، فيجب تقديم القبض في الثمن تعييناً لحق البائع، ولو وقع البيع عينا بعين أو دينا بدين سلما معا؛ إذ لا مزية لأحدهما على الآخر، وإن كان الثمن مؤجلا لم يمكن له حق الحبس؛ لأن حق الحبس إنما يثبت للبائع تحقيقا للتسوية بينهما، وقد سقط حق البائع في المساواة بحكم التأجيل، فيسقط حقه في الحبس ضرورة، ولو كان بعض الثمن حالا وبعضه مؤجلا فله حبسه حتى يستوفي الحال اعتبارا للبعض بالكل، ولو بقي من الثمن شيء قليل كان له حبس جميع المبيع؛ لأن حق الحبس لا يتجزأ، ولو دفع بالثمن هنا أو كفل به كفيلاً لم يسقط حق البائع لأنه وثيقة، والوثيقة توجب تأكيد الأصل، فكان حق البائع في الثمن قائما قبل المشتري فيبقى له حق الحبس، ولو أحال المشتري البائع على غريم له بالثمن لا يبطل حق البائع في الحبس، ولو أحال البائع غريماً من غرمائه على المشتري حوالةً مقيدة بالثمن يبطل حقه بالحبس، هكذا ذكر المسألة في «الزيادات» : ووجه ذلك أن سقوط حق البائع بالحبس يتعلق بسقوط حقه عن المطالبة بالثمن لا ببراءة المشتري عن الثمن، بدليل أن الثمن إذا كان مؤجلا سقط حق البائع في الحبس؛ وإن بقي الثمن في ذمة المشتري، فإذا أحال المشتري البائع على غريم من غرمائه لم يسقط حق البائع عن المطالبة بالثمن، ولكن عين المشتري في حق تحمل هذه المطالبة، فلهذا لا يسقط حق البائع عن المطالبة بالثمن فيسقط حقه في الحبس. وفي «القدوري» : إذا أحال المشتري البائع بالثمن على إنسان أو أحال البائع رجلا على المشتري سقط حق البائع في الحبس في قول أبي يوسف، وقال محمد: إذا أحال المشتري البائع بالثمن على إنسان لم يسقط حق البائع في الحبس، ولو أحال البائع رجلا سقط حقه. وتبين لما ذكر «القدوري» أن ما ذكر في «الزيادات» قول محمد وأبي يوسف إلى جانب ابني المشتري، وقال: ذمة المشتري برئت عن الثمن بالحوالة فتعتبر بالأداء، ومحمد نظر إلى جانب البائع، وقال: إن حق البائع إنما ثبت في الحبس لتعيين حقه في الثمن، فما دام حقه في المطالبة فإنما يبقى حقه في الحبس، فإذا أحال البائع رجلا على

المشتري فقد سقط حق البائع في المطالبة فيبطل حقه بالحبس، أما إذا أحال المشتري الباقي على رجل فحق المطالبة للبائع قائم، لكن المشتري أقام غيره مقامه في حق تحمل المطالبة فلا يبطل حق البائع في الحبس. وفي «المنتقى» رواية مجهولة: لو أحال البائع غريما من غرمائه على المشتري بالثمن مؤجلا فلم يقبض المشتري حتى حل الأجل كان له قبضه قبل نقد الثمن وليس للبائع منعه؛ لأن حق البائع في الحبس سقط بالتأجيل والساقط متلاشي لا يقبل العود، ولو أحله بالثمن سنة غير معينة فلم يحضر المشتري حتى مضت السنة فالأجل سنة من حين يقبض المبيع في قول أبي حنيفة، وإن كانت سنة بعينها صار الثمن حالا، وقال أبو يوسف ومحمد: الثمن حال في الوجهين؛ لأن مطلق الأجل ينصرف إلى ما يلي العقد كمدة الإجارة، فاستوى المعين وغير المعين، ولأبي حنيفة رحمه أن التأجيل إنما شرع نظراً للمشتري لتتأخر عنه المطالبة بالثمن مع حصول الانتفاع له بالبيع والتصرف في المبيع في مدة الأجل ليؤدي الثمن عند مضي الأجل ويستفصل لنفسه أشياء. وهذا المعنى إنما يحصل باعتبار الأجل من وقت القبض فيجب اعتباره ما أمكن، وقد أمكن اعتباره إذا كانت السنة غير معينة، فأما إذا كانت معينة فلأنها إذا كانت معينة فأتت لو بينا التأجيل في سنة أخرى كان هذا إثباتاً للحكم في غير المحل الذي تناوله اللفظ وهذا لا يجوز، بخلاف ما إذا لم تكن السنة معينة، ولو كان في المبيع خيار لهما أو أحدهما والأجل مطلق فابتداؤه من حين يلزم العقد، وأما في خيار الرؤية فالأجل يعتبر من حين العقد؛ لأن التأجيل لتأخير المطالبة إلى وقت مضي الأجل، وذلك إنما يكون في موضع يجب البدل لولا التأجيل، وذلك من وقت لزوم العقد، فأما خيار الرؤية فلا يمنع وجوب الثمن ولا يوجب المطالبة بالثمن، فاعتبر التأجيل من وقت العقد، وتسليم البيع: هو أن يحل بين المبيع وبين المشتري على وجه يتمكن المشتري من قبضه من غير حائل، كذا التسليم في جانب الثمن، وقال الشافعي رحمه: التخلية ليست بقبض والصحيح مذهبنا؛ لأن التسليم مستحق على الإنسان يجب أن يكون له طريق الخروج عن عهدته بنفسه، لو قال لوقف ذلك على وجود الفعل من غيره، وذلك الغير مختار في الفعل يبقى هو في عهدة الواجب، وإذا اشترى حنطة بعينها وخلى البائع بينها وبين المشتري في بيت البائع فعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا يصير المشتري قابضا حتى لو هلكت هلكت من مال البائع، وعلى قول محمد يصير المشتري قابضاً حتى لو هلكت هلكت من المشتري، وعلى هذا الخلاف إذا اشترى خلا في دن وخلى البائع بين المشتري وبين الدن في بيت البائع وختم المشتري على الدن صار المشتري قابضا للحال عند محمد خلافا لأبي يوسف. حجة محمد أن التخلية من البائع قد صحت؛ لأن صحتها بإزالة البائع يده، وقد زالها حين خلى بينه وبين الطعام، فيجب أن يصير قابضا، كما لو خلى في غير بيت البائع، ولأبي يوسف أن صحة التخلية بزوال يد البائع إن زالت حقيقة لم تزل من حيث الحكم؛ لأن البيت وما فيه في يد البائع حكماً.

وفي «العيون» : إذا اشترى من آخر حنطة في بيت ودفع البائع المفتاح إلى المشتري وقال: خليت بين الحنطة وبينك فهذا قبض، ولو دفع المفتاح إليه ولم يقل: خليت بينها وبينك فهذا ليس بقبض، ولو قال: خذ لا يكون قبضاً، ولو قال: خذه فهو قبض إذا كان يصل إلى أخذه ومرآه. في «أجناس الناطفي» وفي «فتاوي الفضلي» إذا قال لغيره: بعت منك هذه السلمة وسلمتها إليك فقال ذلك الغير: قبلت لم يكن هذا تسليما حتى يسلمه بعد البيع، فإنما يعتبر بعد تمام البيع، ثم لاخلاف أن بالتخلية يقع القبض إذا كان المعقود عليه يقربهما، فأما إذا كان يبعد عنهما فقد ذكر الناطفي في «أجناسه» وهشام في «نوادره» فيمن باع من آخر دارا غائبه فقال البائع للمشتري: سلمتها إليك، وقال المشتري: قبضتها كان ذلك قبضا في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا كان يقدر على دخولها وأعلامها كان قبضا. قال في «العيون» : وكذلك الهبة والصدقة وأشار الخصاف في «شرح الحيل» أن التخلية تقع بالقبض وإن كان المعقود عليه يبعد عنهما، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ذكر في «النوادر» أن الرجل إذا باع ضيعته وخلى بينها وبين المشتري إن كانا بقرب من الضيعة يصير المشتري قابضا، وإن كانا ببعد عنها لا يصير قابضا، قال محمد رحمه الله: والناس عن هذا غافلون، فإنهم يشترون الضيعة في السواد ويقرون (38ب3) بالقبض والتسليم في المصر، وذلك مما لا يصح به القبض إلا رواية شاذة عن أبي يوسف رحمه الله. قال: ولا يؤخذ بتلك الرواية ولا يعمل بها، وفي «فتاوي الفضلي» : إذا باع دار إنسان ببلدة أخرى ولم يسلمها إليه إلا باللفظ ثم امتنع المشتري عن تسليم الثمن كان له ذلك؛ لأن تسليم الثمن إنما يجب عند قدرة البائع على تسليم المبيع، والبائع في هذه الصورة غير قادر على تسليم المبيع في الحال، فهذه المسألة دليل أن بالتحلية لا يقع القبض إذا كان المعقود عليه يبعد من المتعاقدين، وفي «نوادر هشام» عن محمد: رجل اشترى من آخر سمكة وهي مشدودة بخيط في الماء فقبضها المشتري، كذلك ثم ناول الخيط البائع وقال: احفظها فجاءت سمكة وابتلعت المشدودة، فالتي ابتلعت المشدودة للبائع إذا كان البائع هو الذي مد الخيط وأخرجها؛ لأنه هو الذي صادها، وأما المشدودة فهي للمشتري، فإن كانت المشدودة هي ابتلعت الماسة فهما جميعاً للمشتري سواء كان المشتري قبض المشدودة أو لم يقبضها؛ لأن الماسة كسب ملكه، وإن كان المشتري لم يقبض المشدودة فابتلعت الماسة المشدودة فالمشتري بالخيار: إذا خرجت المشدودة من بطن الذي ابتلعتها وقد ضرب بها لمن شاء، وإن شاء ترك. وفي «كتاب العلل» قال: إذا أخذ البائع الآكلة وسلم المشدودة إلى المشتري جاز، وإن عجز عن تسليم الآكلة فقد عجز عن تسليم المبيع صح المشتري، كما لو أبق العبد المشترى قبل القبض، وإن كان المشتري قبض السمكة المشدودة ثم قال للبائع: أمسكها

لتصيد بها فما كان من ذلك فهو للمشتري، زاد في «كتاب العلل» وإن بيد البائع الخيط وكان البائع كالعون له؛ لأن المشتري إنما ترك المشدودة ليصطاد بها، فهو بمنزلة ما لو نصب شبكة ووقع صيد فقال الآخر: مد فم الشبكة ففعل. وفي «نوادر هشام» عن محمد: رجل اشترى من آخر داراً بالكوفة وهما ببغداد وقبض الثمن ولم يسلم الدار، خاصمه المشتري فيها فإن القاضي يأمر بائع الدار أن يوكل وكيلاً يشخص مع المشتري إلى الكوفة فيأخذ الدار ويأخذ المشتري كفيلاً من البائع بنفسه، ويوكل المشتري ههنا وكيلاً بخصومة البائع، ثم يخرج المشتري إلى الدار مع الوكيل ويكتب: قاضي بغداد له إلى قاضي الكوفة فيأخذ الدار ويأخذ المشتري كفيلاً بخصومة البائع بما استقر عنده من أمرها، فإن كتب قاضي الكوفة إلى قاضي بغداد أن الوكيل لم يسلم الدار، يعني جحد الوكالة وأعادها لنفسه حبس القاضي البائع في السجن حتى يسلم وكيله الدار. وفي «فتاوي أبي الليث» : إذا باع داراً وسلمها إلى المشتري وفيها متاع قليل للبائع لا يصح التسليم حتى يسلمها إليه فارغة؛ لأن يد البائع قائمة، وقيام يد البائع تمنع صحة التسليم، وإن أذن البائع للمشتري بقبض الدار والمتاع صح التسليم؛ لأن المتاع صار وديعة عند المشتري، فزالت يد البائع عن الدار، وكذلك إذا باع أرضاً فيها زرع البائع وسلم الأرض إلى المشتري لا يصح التسليم، ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير:» إذا ولى الإمام رجلاً بيع المغانم فجعل ذلك الأرماك في حظيرة وباع رمكة منها وقال للمشتري: ادخل الحظيرة واقبض الرمكة فخليت بينك وبينها، فدخل الرجل الحظيرة لقبض الرمكة، فعالجها فأفلتت منه وخرجت من باب الحظيرة وذهبت ولا يدري أين ذهبت، ينظر في ذلك إن كان المشتري لا يقدر على أخذها فالهلاك على البائع؛ لأن المشتري لم يصر قابضاً لها لا حقيقة وهذا ظاهر، ولا حكماً لأنه لم يتمكن من قبضها، إذا كان لا يقدر على أخذها، وإن كان المشتري يقدر على أخذها فالهلاك على المشتري؛ لأنه صار قابضاً لها حكماً، ثم في هذا الوجه يستوي الجواب بينهما إذا كان يقدر المشتري على أخذها من غير كلفة ومشقة وبين ما إذا كان يقدر على أخذها بكلفة ومشقة، ففي الحالين جميعاً يصير قابضاً لها بالتخلية؛ لأن المعتبر في هذا الباب التمكن من القبض لا غير. ألا ترى أن من اشترى من آخر صبرة عظيمة مشاراً إليها وخلى البائع بينها وبين المشتري صار قابضاً لها، وإن كان لا يقدر على قبضها إلا بكلفة ومشقة وإن كان المشتري لا يقدر على أخذها وحده ويقدر على أخذها لو كان معه أعوان أو له فرس ينظر إن كان الأعوان أو الفرس معه يصير قابضاً. وإن كانت الرمكة في يد البائع وهو يمسك لها فقال المشتري: هاك الرمكة فأثبت المشتري يده عليها أيضاً حتى صارت الرمكة في أيديهما والبائع يقول للمشتري: خليت بينها وبينك وأنا أمسكها منعاً لها، وإنما أمسكها حتى يضبطها فانفلتت في أيديهما فالهلاك على المشتري؛ لأن المشتري قابض لنصفها حقيقة ولنصفها حكماً لتمكنه منه؛ لأن البائع لا يمنعه من ذلك، فإن قيل: الرمكة في يد البائع حقيقة، وقيام يد البائع عنها يمنع بثبوت يد غيره عليها، قلنا: قيام يد الإنسان على المحل يمنع ثبوت يد غيره عليه على طريق تمكين المشتري وإعانته عليه إياه على تقدير يده، فلا يمنع ذلك صحة قبض المشتري. وإن كانت الرمكة في يد البائع ولم تصل إليها يد المشتري فقال البائع للمشتري: خليت

بينها وبينك فاقبضها، فأبى إنما أمسكها لك فانفلتت من يد البائع قبل أن يقبض المشتري وهو يقدر على أخذها من يد البائع وضبطها كان الهلاك على البائع، بخلاف ما إذا كانت الرمكة في أيديهما والبائع لا يمنعها من المشتري فانفلتت فإن هناك الهلاك على المشتري. والفرق: أن المشتري لا يصير قابضاً للمشترى ما لم يزل قبض البائع، ومتى كانت الرمكة في أيديهما والبائع لا يمنع فقد زال قبض البائع حكماً؛ لأن يد المشتري ثابتة على أحد النصفين حقيقة، وعلى النصف الآخر حكماً، إنما يد البائع ثابتة على أحد النصفين لا غير، فكان قبض البائع حكماً دون قبض المشتري فيرتفع بقبض المشتري، وأما إذا كانت الرمكة كلها في يد البائع فلم يزل قبض البائع حكماً؛ لأن جميع الرمكة في يد البائع حقيقة، ويد المشتري ثابتة عليها حكماً، إذا كان لا يمنعها البائع عن المشتري فكان قبض المشتري دون قبض البائع فلا يرتفع به قبض البائع، ومع قيام قبض البائع لا يعتبر قبض المشتري، وبخلاف ما إذا لم تكن الرمكة في يد البائع ولا في يد المشتري وهو قريب من البائع، والمشتري بحيث لو أراد المشتري قبضها أمكنه ذلك، فقال البائع للمشتري: خليت بينك وبينها فانفلتت في هذه الحالة كان الهلاك على المشتري؛ لأن الثابت لكل واحد منها، أعني البائع والمشتري في هذه الصورة التمكين من القبض لا القبض الحقيقي، فكان يد كل واحد منهما مثل يد صاحبه، فجاز أن تزول يد البائع بيد المشتري، فإن كانت الرمكة ببعد عن المشتري والبائع فقال البائع للمشتري: خليت بينها وبينك فهذا لا يكون قبضاً، وقد مر هذا في فصل الضيعة والدار. وسئل شمس الإسلام الأوزجندي: عن فرس بين اثنين وهو في المرعى، باع أحدهما نصيبه من صاحبه وقال للمشتري: اذهب واقبضه وهلك الفرس من قبل أن يذهب المشتري إليه قال: الهلاك عليهما؛ لأن المشتري لم يقبض المشترى حقيقة ولا حكماً، وكان الهلاك على المشتري، ووقعت في زماننا أن رجلاً اشترى بقرة من رجل وهي في المرعى فقال له البائع: اذهب واقبض البقرة فأفتى بعض مشايخنا: أن البقرة إن كانت بمرأى العين بحيث يمكن الإشارة إليها فهذا قبض وما لا فلا، وهذا الجواب ليس بصحيح (39أ3) والصحيح أن البقرة إن كانت بقربهما بحيث يتمكن المشتري من قبضها لو أراد فهو قابض لها بدليل المسألة التي ذكرناها، ولو كان المشتري اشترى الأرماك

كلها في الحظيرة وخلى البائع بينها وبين المشتري والأرماك بحيث لا يقدر على الخروج إلا بفتح الباب، ففتح المشتري باب الحظيرة ليدخل فلعله يأخذ بعض الرماك فعليه الرماك وخرجت من الحظيرة وذهبت فالهلاك على المشتري والثمن لازم، سواء كان المشتري يقدر على أخذها لو دخل الحظيرة أو لا يقدر، وهذا الجواب ظاهر فيما إذا كان يقدر على قبضها لو دخل الحظيرة؛ لأن المشتري صار قابضاً لها لما تمكن من قبضها، مشكل فيما إذا كان لا يقدر على قبضها لو دخل الحظيرة؛ لأن المشتري لم يقبضها لا حقيقة باليد ولا حكماً بالتمكن من القبض، فينبغي أن يكون الهلاك على البائع في هذه الصورة. ألا ترى لو فتح غير المشتري الباب، ولو كان المشتري لا يقدر على أخذ الرماك لو دخل الحظيرة فانفلتت رمكة وخرجت لا يكون الهلاك على المشتري لم يصر قابضاً لها لما لم يكن متمكناً من قبضها، والجواب أن الجواب صحيح في الوجهين؛ لأن المشتري إذا كان لا يقدر على قبض الرماك إن كان لا يصير قابضاً لها بالتمكن من القبض يصير قابضاً لها بالإتلاف. والقبض كما يتحقق من المشتري بالتمكن من القبض يتحقق منه بالإتلاف. ألا ترى أن من اشترى عبداً والعبد يبعد منه بحيث لا يتمكن من قبضه لو أراد قبضه فأعتقه يصير قابضاً حتى يتأكد عليه الثمن وما صار قابضاً لتمكنه من القبض؛ لأن العبد يبعد منه، وإنما صار قابضاً بالإتلاف كذا هنا، وبيان الإتلاف أن فتح الباب سبب خروج الرمكة وإتلافها، فيقام مقام مباشرة الإخراج والإتلاف. وخرج على هذا ما إذا كان فاتح الباب غير المشتري ولا يلزم أبا حنيفة وأبا يوسف ما إذا فتح الرجل باب قفص إنسان أو باب اصطبل إنسان فطار الطير أو خرجت الدابة من فور ذلك؛ فإنه لا يضمن الفاتح عندهما مع أنه سبب لإخراج الدابة والطير بالفتح؛ لأن هناك لو فتح الباب ضمن الفاتح إنما يضمن ضمان غصب؛ لأنه لم يوجد منه عقد ضمان في حق الطير والدابة، والمشتري في فعل الرمكة لو ضمن بفتح الباب ضمن ضمان العقد؛ لأنه وجد منه عقد ضمان في حق الرمكة، وقد جرى في بعض ضمان العقد من السهولة ما لم يجر في ضمان الغصب. ألا ترى أن المشتري قابض بحكم العقد وضامن بالتمكن من قبض ما اشترى، ولا يثبت الغصب بمجرد التمكن بالقبض فكذا هنا. وفي «فتاوي أهل سمرقند» : إذا اشترى طيراً في بيت والباب مغلق فهبت الريح بالباب وفتح الباب وطار الطير لا يصح التسليم، وإن فتح المشتري الباب وطار الطير صح التسليم، وهذا الجواب ليس بصحيح،...... أن المشتري إذا كان بحال يمكنه قبض المشترى بيده من غير أعوان أو مع أعوان إلا أن الأعوان معه يصير قابضاً حتى لو انفتح الباب وطار الطير ذهب من مال المشتري سواء انفتح الباب بفتح المشتري أو بهبوب الريح أو بفعل أجنبي، وإن كان بحال لا يمكنه الأخذ أصلاً أو كان يمكنه بعون إلا أن الأعوان ليسوا معه، فإن فتح الباب بفتح المشتري وذهب الطير ذهب من مال

المشتري، وإن انفتح الباب بهبوب الريح أو بفتح الأجنبي ذهب من مال البائع بدليل مسألة الشراء. اشترى من آخر دهناً معيناً ودفع إليه قارورة ليزنه فيها، فوزن بحضرة المشتري صار قابضاً، وإن كان في دكان البائع أو بيته لا وزن البائع هنا منقول من المشتري؛ لأن الأمر به قد صح، وإن وزن بغيبة المشتري ذكر بعض المتقدمين في شرح «الجامع الصغير» أن المشتري لا يصير قابضاً، والصحيح أنه يصير قابضاً لما ذكرنا. ولو أن البائع حين صب رطلاً انكسرت وهما لا يعلمان بذلك، فما صب قبل الانكسار يهلك على المشتري وما صب بعد الانكسار يهلك على البائع، في القارورة شيء بعد الانكسار، فما وزن قبل الانكسار فصب البائع في القارورة رطلاً حتى خرج الكل عن القارورة، فالبائع يصير ضامناً للمشتري مثل ما بقي في القارورة بعد الإنكسار، وإن دفع المشتري القارورة منكسرة إلى البائع ولم يعلما بذلك فصب فيه بأمر المشتري فذلك كله على المشتري.m ولو أن المشتري أمسك القارورة بنفسه ولم يدفعه إلى البائع والمسألة بحالها كان الهلاك في جميع ما ذكرنا على المشتري. وفي «المنتقى» : لو دفع القارورة إلى البائع منكسرة ولا يعلم به المشتري والبائع يعلم وكاله فيه فتلف فالبائع متلف فيه ولا شيء على المشتري ولو لم يعلم به البائع أو كانا يعلمان به وكاله فيه، فالمشتري قابض له. قال هشام في «نوادره» : سألت محمداً عن رجل اشترى من آخر شيئاً وأمره المشتري أن يجعله في وعاء المشتري، فجعله فيه ليزنه عليه، فانكسر الإناء وتوي ما فيه فهو من مال البائع؛ لأنه إنما جعله في إناء المشتري ليزنه فيعلم وزنه لا للتسليم إلى المشتري، فإن وزنه ثم انكسر الإناء فهو من مال البائع أيضاً، وإن وزنه في شيء للبائع ثم جعله في إناء المشتري ثم انكسر فهو من مال المشتري. (قال) للبائع: زن لي في هذه الإناء كذا وكذا وابعث به مع غلامك أو قال مع غلامي ففعل، فانكسر الإناء في الطريق، قال: هو من مال البائع حتى يقول: ادفعه إلى غلامك أو قال: إلى غلامي، فإذا قال ذلك فهو وكيل، فإذا دفعه إليه فكأنه دفعه إلى المشتري. وفي «مجموع النوازل» : إذا اشترى من قروي وعاء هديل، وأمره أن يذهب به إلى منزله، فسقط في الطريق وهلك، فالهلاك على البائع إن لم يقبضه المشتري. رجل باع من آخر ثوباً وأمره أن يقبضه فلم يقبضه حتى أخذ إنسان الثوب، فإن كان حين أمره البائع بالقبض أمكنه القبض من غير قيام صح التسليم، وإن كان لا يمكنه القبض إلا بقيام لا يصح التسليم. في «فتاوي أبي الليث» وفيه أيضاً: إذا اشترى من آخر دابة والبائع راكبها، فقال له المشتري: احملني معك فحمله معه، فهلكت الدابة هلكت من مال المشتري؛ لأن ركوب

المشتري قبض منه. وقيل: إن كان المشتري ركب على السرج والبائع رديفه يصير قابضاً وما لا فلا، وإن لم يكن عليه سرج فهو قابض كيف ما كان، ولو كانا راكبين فباع أحدهما من صاحبه لا يصير قابضاً بمنزلة ما لو باع داراً والبائع والمشتري في الدار. رجل اشترى من آخر حنطة بعينها، ثم قال للبائع: أعرني جوالقك هذا، أو قال جرابك هذا، وكل لي ما اشتريت منك حتى أرجع فاحمله، فذهب المشتري ففعل البائع ذلك وضاعت الحنطة، فهذا ليس بقبض حتى يدفع إليه المشتري آنية له يكيل فيها الطعام أو يقبض منه المشتري وعاءه التي استعارها ويدفعها إليه، فإذا كان كذلك فهو قبض هكذا رواه ابن سماعة عن محمد رحمهما الله. وذكر عمرو بن أبي عمرو عن محمد إذا قال المشتري للبائع: أعرني جوالقك هذا كله فيه، ففعل صار المشتري قابضاً، ولو قال: لم هذا والباقي بحاله لا يصير. وفي «القدوري» : وقال أبو يوسف: إذا استعار المشتري من البائع جوالق أو أمره أن يكيل فيها، فإن كانت الجوالق بعينها صار المشتري قابضاً بالكيل فيه، وإن كانت بغير أعيانها نحو أن يقول: أعرني جوالق أو كِلْ فيها ففعل فإن كان المشتري حاضراً فهو قبض، وإن كان غائباً لم يكن قبضاً، وقال محمد رحمه الله: لا يكون قابضاً في المعينة في الوجهين حتى يقبض الجوالق منه ثم يسلمها إليه، فإذاً على ما ذكره القدوري بينهما اتفاق أن المشتري إذا لم يعين الغرائر لم يصر المشتري قابضاً بكيل البائع حال غيبة المشتري، وهذا لأن البائع بالكيل عامل لنفسه من وجه من حيث إنه يميز ملكه عن ملك المشتري، وعامل المشتري من وجه من حيث إنه يميز ملك المشتري فينتقل (39ب3) فعله إلى المشتري من وجه دون وجه، فلا يثبت القبض بالشك بمجرد الأمر بالكيل بخلاف ما لو دفع إليه غرائر نفسه حيث يصير قابضاً بجعله في غرائره بعد الكيل والتمييز؛ لأنه عامل في هذا للمشتري من كل وجه، فيصير فعله في هذا منقولاً إلى المشتري من كل وجه، ويصير كأن المشتري هو الذي جعله في غرائره بعد الكيل والتمييز؛ لأنه عامل في هذا للمشتري من كل وجه فيصير فعله في هذا منقولاً إلى المشتري من كل وجه، فيصير فعله في هذا منقولاً إلى المشتري من كل (وجه) ويصير كأن المشتري هو الذي جعل الغرائر بعد الكيل والتمييز ولأن الاستعار مع الجهالة لا يصح، فقبل التعيين لا تصير الغرائر للمشتري لا ملك منفعة ولا ملك رقبة، فلا يحصل الجعل في غرائر المشتري، وبدون الجعل في غرائر المشتري (لا يصير) قابضاً، وأما إذا عين الغرائر وأمره بالكيل بها ففعل بعينه المشتري، فعلى قول محمد لا يصير قابضاً؛ لأن العارية لا تتم بدون القبض، وما لم يتم العارية لا تصير الغرائر للمشتري لا ملك منفعة ولا ملك رقبة، وقال أبو يوسف: يصير قابضاً؛ لأن استعارة الغرائر غير مقصودة لعينها وإنما يثبت حكماً لتصحيح القبض، فكانت قصدية من وجه حكمية من وجه، فشرطنا التعيين لكونها قصدية ولم يشترط القبض لكونها حكمية. وفي «القدوري» أيضاً: إذا اشترى من آخر كراً بعينه وله على البائع كر دين، فأعطاه

جوالق وقال: كلها فيه، فإن كان العين أولاً ثم الدين صار المشتري قابضاً لهما، أما للعين فظاهر، وأما للدين فلأن البائع خلطه بمال المشتري بأمره، وهذا سبب ملك لو وجد من الآمر، فإن خلطه الجنس بالجنس بسبب ملك، وإذا كان هذا سبب ملك كان المشتري أمر للبائع أن يباشر له بسبب ملك، فيكون عاملاً للمشتري بأمره كما لو أمره بالشراء فاشترى، وإن كان الدين أولاً ثم العين لم يصر قابضاً للدين وكانا شريكين، فهذا على قول محمد و (على) قول أبو يوسف يصير قابضاً لهما؛ لأن خلطه الجنس بالجنس استهلاك، فإذا خلطه الدين بملك المشتري بأمره صار المخلوط ملكاً للمشتري، فصار قابضاً له لاتصاله بملكه. وجه قول محمد: أن المشتري لو صار قابضاً الدين، إما أن يصير قابضاً بالكيل أو يجعل المكيل في غرار المشتري، لا وجه إلى الأول؛ لأن الكيل لم يصر منفعة لا إلى المشتري؛ لأن أمره بالكيل لم يصح؛ لأن الكيل يلاقي ملك المديون، فلا يصير المكيل منقولاً إلى المشتري كما قبل الأمر، ولا وجه إلى الثاني، وإن صح الأمر من المشتري بجعل الحنطة في غرائره من حيث إنه يصرف في الغرائر ملك المشتري؛ لأن جعل المديون الدين في غرائر المشتري لا يصير منقولاً إلى المشتري؛ لأن المديون في ذلك عامل لنفسه؛ لأن الحنطة ملك المديون، وقد أذن له المشتري أن يجعلها في غرائره، فصار معير الغرائر من المديون، والمستعير في الانتفاع بالعارية عامل لنفسه وإن كان بأمر المعير، ولهذا كان قرار الضمان على المستعير، وإذا صار عاملاً لنفسه فيما صح الأمر به لم يصر فعله منقولاً إليه لا في حق الكيل ولا في جعله في الغرائر، صار الحال بعد الأمر كالحال قبله، وقبل الأمر لا يصير قابضاً فكذا ههنا، بخلاف شراء العين؛ لأن هناك فعل البائع وهو الكيل وجعل الحنطة في غرائر المشتري صار منقولاً إلى المشتري؛ لأن البائع في جعل الحنطة في غرائر المشتري عامل للمشتري؛ لأنه يضع ملكه ومنفعة ذلك له فكان عاملاً له، فانتقل فعل البائع إلى المشتري حكماً، وصار المشتري فعل ذلك بنفسه، فلهذا صار قابضاً، وعن هذا قلنا: إن في فصل العين إذا أمر المشتري البائع بالطحن، فطحن يصير المشتري قابضاً، وفي الدين لا يصير؛ لأن الأمر بالطحن من المشتري قد صح؛ لأنه لاقى ملك المشتري ومنفعته تعود إليه، فانتقل فعل البائع إليه. أما الأمر بالطحن من رب الدين فلم يصح؛ لأنه لاقى ملك المديون فلم ينتقل فعله إلى رب الدين. وإذا ثبت من مذهب محمد أن المشتري لم يصر قابضاً للدين في هذه الصورة بقي دين المشتري على البائع حاله، وبقي الكر في الجوالق على ملك المديون لكن صار البائع خالطاً ملك المشتري بملك نفسه بأمر المشتري، فكانا شريكين فيه. ولو أحدث المشتري في المبيع عيباً أو أخذ البائع بأمره فهو قبض من المشتري، أما إذا أحدث المشتري فلأن هذا لا يتأتى إلا بالاستيلاء على المحل، وذلك فوق القبض حقيقة في إثبات القدرة على المحل. وأما إذا فعل البائع بأمره فلأن فعل غيره بأمره كفعله بنفسه.

وكذلك لو أعتقه المشتري أو دبره أو أقر أن الجارية أم ولد له فهو قبض من المشتري، أما الإعتاق فلأنه إبطال المحل حكماً فيعتبر بالإتلاف حقيقة، وما عدا الإعتاق من التدبير والإقرار.... منه الولد ينقبض حكماً، فيعتبر بالقبض حقيقة وهو الصلت. ولو زوج المشتري الأمة المشتراة قبل القبض من إنسان، فالقياس: أن يكون قابضاً بنفس النكاح، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله. وفي الاستحسان: لا يصير قابضاً ما لم يطأها الزوج، وهذا لأن النكاح ليس بتعييب من حيث إتلاف الملك وتنقيص المالية بل هو تعييب حكمي من حيث...... الناس، فهو في معنى نقصان السعر بخلاف الإعتاق والتدبير؛ لأن ذلك إتلاف الملك وتنقيص المال، فلهذا افترقا، فإذا وطئها الزوج الآن يصير قابضاً؛ لأن الوطء استيلاء على المحل وقد فعل الزوج بتسليط المشتري فيعتبر بما لو فعل المشتري بنفسه. فرع على مسألة النكاح في «المنتقى» فقال: رجل اشترى من رجل جارية وزوجها قبل القبض وماتت الجارية قبل أن يدخل بها الزوج ينتقض البيع ويموت من مال البائع بناء على ما قلنا: إن المشتري بنفس النكاح لم يصر قابضاً، فإذا ماتت فقد ماتت قبل القبض، وهلاك المبيع قبل القبض يوجب انتقاض البيع ثم قال: ويكون المهر الذي على الزوج للمشتري وعليه حصته من الثمن يقسم على المهر من الثمن لزمه، ويتصدق بالفضل إن كان في المهر فضل. قال: والمهر في هذا بمنزلة الولد، ولا يشبه المهر الهبة لو وهب للجارية هبة، فإن الهبة لا حصة لها من الثمن قال: لأن المهر من الجارية، ألا ترى أن الجارية المرهونة إذا وطئت كان المهر رهناً معها، لو وهب هبة كانت الهبة للراهن ولم يكن رهناً. قال ثمة أيضاً: رجل اشترى من رجل عبداً لجارية فلم يتقابضا حتى زوج المشتري الجارية من إنسان بمئة درهم ثم مات العبد في يد البائع قبل أن يدفعه إلى مشتري العبد، فإن العقد ينتقض فيما بينهما ورجعت الجارية التي كانت له مهرها، ويرجع الذي كانت الجارية له على مشتريها بقدر النقصان. قال: ولا يكون نكاح المشتري إياها قبضاً منه لها، وإن كان هذا عيباً فليس بعيب في يديها. ألا ترى أن المشتري لو أقر بدين عليها في يد البائع قبل القبض جاز إقراره عليه، وإن كان ذلك عيباً أخذته فيها ولم يصر به قابضاً لها ما كان الطريق إلا ما قلنا: وذكر هذه المسألة في موضع آخر من «المنتقى» وزاد في وصفها فقال: رجل اشترى من رجل جارية بعبد، فقبل أن يقبض المشتري الجارية زوجها المشتري من رجل بمئة درهم، وقد كانت الجارية تساوي قبل التزويج ألفي درهم، فنقصها التزويج خمسمئة ثم وطئها الزوج في يد (40أ3) البائع ثم مات العبد قبل التسليم إلى مشتريه، قال: المهر للذي باعها ويكون الخيار إن شاء أخذ جاريته ناقصة ولا

شيء له غيرها، وإن شاء ضمن مشتريها قيمتها يوم وطئها الزوج؛ لأن بموت العبد قبل القبض فسد البيع في الجارية، والمبيع بيعاً فاسداً مضمون على المشتري بقيمته يوم القبض، ويوم قبض المشتري يوم وطء الزوج إياها. ولو كان المشتري زوجها من البائع قبل القبض فوطئها الزوج ثم مات العبد قبل التسليم، فإن بائع الجارية إن شاء يسلم الجارية لمشتريها منه وضمنه قيمتها يوم وطئها هو بحكم النكاح من قبل أن المشتري صار قابضاً لها بوطء الزوج، ولا يغرم البائع مهر مثلها للمشتري، وإن شاء بائع الجارية نقض المبيع فيها وأخذ جاريته من المشتري وفسد النكاح وبطل المهر، والخيار في نقض البيع وتركها إلى بائعها دون مشتريها وينتقض البيع (وإن لم) ينقضه القاضي، ألا ترى أن في البيع الفاسد إذا قبض البائع الجارية من المشتري ونقض البيع فيها انتقض البيع، وإن لم ينقضه القاضي. وإن كان المشتري زوجها إياه بعدما قبضها بأمره والباقي بحاله لم يكن للبائع سبيل على الجارية من قبل أنه وجب المهر بعد القبض، ولا يستطيع بائعها أن يأخذها ويأخذ معها مهراً لم يكن في البيع ويضمن المشتري قيمتها يوم قبضها وسلم هي للمشتري ويكون المهر على البائع والنكاح صحيح. ولو كان المشتري قبضها بغير أمر البائع ثم لقي البائع فزوجها إياه وقد علم البائع نقضه لها أو لم يعلم، فإن هذا لا يكون تسليماً عن البائع للمشتري؛ لأن تزويجه إياها قبل القبض صحيح، فإن وطئها البائع بعد ذلك في يد المشتري بحكم النكاح، فإن هذا تسليم من البائع لقبضه، فإن مات العبد قبل التسليم لم يكن للبائع على الأمة سبيل من قبل أنه وجب لها في يدي المشتري مهر؛ لأن قبضه الأول قد سلم له. وفي «العيون» : اشترى من غيره فصاً في خاتم بدينار، فدفع البائع الخاتم إليه، فهلك في يده فإن أمكن نزع الفص من غير ضرر، فعليه ثمن الفص لا غير؛ لأن التسليم قد صح، فيتأكد الثمن وهو في الخاتم أيسر وإن لم يمكن نزع الفص إلا بضرر لا شيء عليه؛ لأنه لا يصح التسليم. وفي «القدوري» : لو باع قطناً في فراش وحنطة في سنبل وسلم كذلك، فإن كان المشتري لا يتمكن إلا بفتق الفراش ودق السنبل لم يصر قابضاً؛ لأن المشتري لا يملك التصرف في ملك البائع والفتق والدق تصرف في ملك البائع، فلم يكن مملوكاً للمشتري، فلم يصر المشتري متمكناً من المبيع، فلم يصر قابضاً. قال: ولو باع التمر على الشجر وسلمه كذلك صار قابضاً؛ لأنه لا يحتاج في قبض المبيع إلى إحداث فصل تلك البائع، فلا يمتنع صحة التسليم. نوع آخر منه إذا قبض المبيع بغير إذن البائع كان للبائع أن يسترده منه حتى يستوفي حق الإنسان لا يبطل من غير رضاه، ولو تصرف المشتري في ذلك تصرفاً يلحقه النقض بأن باع أو وهب أو رهن أو آجر أو تصدق نقض التصرف، وإن كان لا يلحقه الفسخ كالعتق والتدبير والاستيلاء لم يملك البائع رده إليه والفرق وهو أن تصرف المشتري حصل في ملكه

والنقض عليه لحق البائع، ولكن إنما يجب رعاية حق البائع عند الإمكان تصرف المشتري قابلاً للنقض، فالإمكان ثابت، ولا كذلك ما إذا لم يكن تصرف المشتري قابلاً للنقض، ولو نقده الثمن، فوجده البائع ... أو مستحقاً أو وجد بعضه كذلك كان للبائع منعة، فإن كان المشتري قبضه بغير إذن البائع بعد ما نقد الزيوف أو الستوق فللبائع أن ينتقض قبضة. ولو تصرف فيه المشتري بعض تصرفه؛ لأن ما نقد ليس حق البائع، فصار وجوده والعدم بمنزلة، فصار كأنه قبض بغير إذن البائع قبل نقد الثمن، وهناك قد ذكرنا أن للبائع أن ينقض قبض المشتري وتصرفه إذا كان تصرفاً يحتمل النقض فكذا هنا. ولو قبض بأمره ثم وجد الدراهم المقبوضة زيوفاً لم يكن للبائع أن يسترده، وقال زفر له أن يسترده وهو قول أبي يوسف الأول، ووجه ذلك: أن البائع إنما سلم المبيع بناء على أن المقبوض من الثمن حقه، وقد تبين أنه لم يكن حقاً له؛ لأن حقه في الجياد والمقبوض زيوف، فلم يتم رضاه بالتسليم فكان له أن يعيده إلى يده بمنزلة الرهن، فإن الراهن إذا سلم الدين وقبض المرهون بإذن المرتهن ثم وجد المرتهن المقبوض زيوفاً كان له أن يرد المقبوض ويسترد الرهن كذا هنا. ولنا: أن الزيوف من جنس حقه، ولهذا لو تجوز به في الصرف والسلم يجوز إلا أن بها عيباً، والعيب لا يبدل الجنس حقه، فإذا أذن له بالقبض بناء على ما وجد من الاستيفاء، وذلك يصلح أن يكون استيفاء يسقط حقه في الجنس، وعمل إذنه والساقط لا يتحمل العود بخلاف الرهن؛ لأن ما ثبت للمرتهن من ملك اليد والجنس لا يبطل، وإن وجد قبض الرهن بإذن المرتهن ألا ترى أن المرتهن لو سلم الرهن إلى الراهن بطريق الوديعة أو العارية كان له أن يسترده، وإنما المقسط لحقه وصول كمال حقه إليه ولم يوجد، ولو وجد المقبوض رصاصاً أو ستوقاً أو

مستحقاً كان له أن يسترد المبيع، وإن قبضه المشتري بإذنه بخلاف الزيوف، والفرق: أن إذن البائع في القبض كان بناء على ما يوجد من الاستيفاء وقبض الستوق والرصاص لا يصلح للاستيفاء؛ لأن الستوق ليس من جنس حقه، ولهذا لو تجوز به في الصرف والسلم لا يجوز، فإذا لم يصلح استيفاء والإذن كان بناء على الاستيفاء صار وجود الإذن والعدم بمنزلة، وكذلك قبض المستحق موقوف على إجازة المالك، فإذا لم يجز انتقض القبض فيه من الأصل، فصار الحكم فيه بعدم الإجازة نظير الحكم في الستوق والرصاص، فإن لم يجد البائع شيئاً مما ذكرنا في الثمن حتى باع المشتري العبد أو أجره أو رهنه وسلم، ثم إن البائع وجد في الثمن شيئاً مما ذكرنا، فجميع ما صنع المشتري في العبد جائز لا يقدر البائع على رده ولا سبيل له على العبد، وهذا الجواب ظاهر فيما إذا وجد الثمن زيوفاً أو نبهرجة وذلك حق البائع في الجنس قد بطل حتى لم يكن له أن ينقض قبض المشتري قبل وجود التصرف من المشتري، فلا يكون له نقض تصرفه أيضاً كما لو أذن له في القبض مرسلاً أو استوفى الثمن بتمامه مشكل مما إذا وجد الثمن رصاصاً أو ستوقاً أو مستحقاً؛ لأن حق البائع في الجنس في هذه الصورة لم يسقطه إلا أن له أن ينقض قبض المشتري، فكان له أن ينقض تصرفه أيضاً كما لو قبض بغير إذنه. والجواب: أن قبض المشتري في هذه الصورة وقع فاسداً؛ لأن شرط صحته أن يكون بإذن البائع من كل وجه، وهنا قبض المشتري حصل بغير إذن البائع من وجه باعتبار المعنى، وبإذنه من وجه باعتبار الحقيقة، فيعتبر القبض الفاسد، وفي البيع الفاسد إذا قبض المشتري المبيع بإذن البائع كان له أن ينقض قبضه بحكم الفساد، وكان له أن ينقض تصرفه؛ لأنه لم يحصل بتسليطه، فكذا ههنا حتى كان القبض فاسداً، وقد حصل بإذن البائع كان للبائع نقض قبضه بحكم الفساد، ولا يكون نقض تصرفه وهو حصل بغير إذن البائع كان للبائع نقض قبضه ونقض تصرفه أيضاً. وإن كان البائع حين علم بقبض المشتري بغير إذنه في هذه الصورة سلم ذلك ورضي به والباقي بحاله كان هذا مثل إذنه في القبض في الابتداء؛ لأن الإجازة في الانتهاء (40ب3) بمنزلة الإذن في الابتداء، ودلت المسالة على أن الإجازة تلحق الأفعال كما تلحق العقود. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا اشترى الرجل مصراعي باب..... أو دهليز، فقبض أحدهما بغير إذن البائع ولم يقبض الآخر حتى هلكت ما كان عند البائع، فلم يجعل قبض أحدهما قبضاً للآخر، وقال: خير في المقبوض، فقد جعلهما في حق الخيار كشيء واحد. ولو قبض أحدهما فاستهلكه أو عيبه صار قابضاً للآخر حتى لو هلك الآخر عند البائع قبل أن يحدث البائع فيه حبساً أو بيعاً هلك (على) المشتري، ولو منعه البائع بعد ذلك ثم هلك هلك على البائع حتى سقط من الثمن بحصته، فجعلها كشيء واحد في الاستهلاك والتعييب، وفي حق الاسترداد جعلهما بمنزلة العبدين والثوبين حتى لم يجعل استرداد البائع أحدهما كاستردادهما. ولو جنى البائع على أحدهما بإذن المشتري صار قابضاً لهما حتى لو هلكا بعد ذلك هلكا من مال المشتري، ولو منع البائع أحدهما بعد ذلك أو منعهما كان عليه قيمة ما هلك. ولو أذن البائع للمشتري في قبض أحدهما كان إذناً في قبضهما حتى لو قبضها ثم استرد البائع أحدهما ليحبسه بالثمن صار غاصباً. ولو رأى المشتري أحدهما فرضيه لم يلزمه حتى لو رأى الآخر كان له أن يردهما بخيار الرؤية. ولو أحدث بأحدهما عيباً لم يكن له أن يرد الآخر بالعيب ولا يختار الرؤية ولو جاء أجنبي واستهلك أحدهما كان لصاحبهما أن يدفع إليه الآخر ويضمنه قيمتهما. والأصل في هذه المسائل أن القبض فعل حقيقي يلاقي الصورة، والمعنى فيه تابع، فاعتبرا فيه بالثوبين والعبدين، فأما الخيار فإنما يثبت باعتبار نقصان في مالية القائم، فإن

هلاك أحدهما يوجب نقصاناً في مالية القائم، والهلاك كان في ضمان البائع، فجعل كأن انتقاض مال القائم حصل في ضمان البائع، والتعييب ينتقص المالية، والاستهلاك يفوت المالية، وهما في المالية كشيء واحد، فأوجب ذلك تعييباً في الآخر مقبوضاً، فصار بحكم التعييب، واسترداد البائع يلاقي الصورة، فاعتبرا فيه بالثوبين، والإذن في قبض أحدهما إنما كان لإيصال المشتري إلى منفعة ملكه، وهما فيه كشيء واحد؛ وجناية البائع بإذن المشتري بمنزلة جناية المشتري بنفسه لكن برضا البائع، وجناية المشتري بنفسه على أحدهما بإذن البائع؛ لأن ذلك تعييب أو إتلاف للمالية، وهما في ذلك كشيء واحد، فيوجب ذلك قبض الآخر وبطلان حق الحبس لرضا البائع بقبضهما، فكذا جناية البائع بإذن المشتري على أحدهما، فإذا منع البائع بعد ذلك صار غاصباً والغصب يلاقي الصورة، فاعتبرا فيه بالثوبين والعبدين، فلم يصر غصب أحدهما غصباً للآخر وخيار الرؤية إنما يثبت باعتبار الجهل بأوصاف المعقود عليه، فإنما يبطل بالعيان الذي يدرك به معرفة الأوصاف، والعيان يلاقي الصورة فاعتبرا فيه بالثوبين، وإذا أحدث عيباً بأحدهما، فذلك يوجب نقصاناً في مالية الآخر، فيبطل خيار العيب والرؤية فيهما؛ لأن شرط الرد بخيار الرؤية على الوجه الذي خرج عن ملك البائع واستهلاك الأجنبي أحدهما يوجب نقصاناً وخللاً في مالية الآخر، فكان بمنزلة من عيب دابة غيره أو ثوب غيره عيباً فاحشاً، وهناك كان لصاحبه أن يضمنه قيمة الكل ويسلم إليه المعيب كذا ههنا. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل اشترى من رجل جارية بألف درهم ولم ينقد ثمنها حتى قبضها بغير إذن البائع وباعها من رجل بمئة درهم وتقابضا وغاب المشتري الأول وحضر بائعه، وأراد استرداد الجارية من المشتري الآخر، فإن أقر المشتري في الآخر أن الأمر كان وضعه البائع كان للبائع الأول أن يستردها منه؛ لأن المشتري الآخر أقر بثبوت حق الاسترداد للبائع في ملكه فصح إقراره، وإذا استردها بطل البيع الثاني؛ لأن البيع الأول أبطل قبض المشتري الأول بحق سابق على قبضه فانتقض قبضه من الأصل. وإن كذب المشتري الآخر البائع الأول فيما قال أو قالت: لا أدري أحق ما قال أو باطل لا خصومة بينهما حتى يحضر الغائب؛ لأن الجارية صارت مملوكة للمشتري الآخر والبائع الأول مقر بذلك ثم هو يدعي على البائع حقاً، فلا يصدق إلا بحجة والحجة لا تسمع على الغائب إلا إذا كان عن خصم حاضر، والمشتري الثاني ليس بخصم عن الأول، فإن حضر الغائب وصدق البائع الأول فيما قال لا يصدق على المشتري الآخر، وإن كذبة يقال للبائع الأول: أقم البينة على أنه ما غيب، فإن أقام البينة بمحضر من المشتري الأول والثاني ردها القاضي على البائع الأول وانتقض البيع الثاني لما مر، إلا أن ينقد المشتري الأول الثمن قبل الرد على البائع الأول، فحينئذ لا يردها القاضي على البائع الأول؛ لأن حق البائع الأول في الاسترداد، إنما يثبت له حق الاسترداد حبساً للجارية بالثمن، فإذا سلم له الثمن لو بقي له حق الاسترداد يبقى مقصوداً وهذا مما لا وجه له.

وإن نقد المشتري الأول الثمن بعدما أخذها البائع الأول سلمت الجارية للمشتري الأول، ولم يكن للمشتري الآخر عليها سبيل؛ لأن شراءه قد انتقض على ما مر، فلا يعود إلا باستحقاق جديد ولم يوجد. ولو ماتت الجارية في يد المشتري الآخر كان للبائع الأول أن يضمن المشتري الآخر قيمتها؛ لأن للبائع الأول على الجارية يداً مستحقة لأجل الحبس، فصار المشتري الثاني بقبضه خائناً على البائع الأول فصار كالغاصب، وهكذا المشتري الأول؛ لأن قبض المشتري الأول أوجب تأكيد الثمن عليه للبائع الأول، فلا يوجب القيمة عليه، أما قبض المشتري الآخر لا يوجب الثمن عليه للبائع الأول ليمكن إيجاب القيمة عليه للبائع الأول، وتكون القيمة المردودة على البائع الأول قائمة مقام الجارية حتى لو هلكت عند البائع الأول انتقض البيعان ويرجع المشتري الآخر على المشتري الأول بما يعدله من الثمن كما لو هلكت الجارية بعد الاسترداد في يد البائع الأول، ولو لم تهلك والقيمة في يد البائع الأول حتى نقد المشتري الأول الثمن أخذ القيمة من بائعه، ولم يكن للمشتري الثاني على القيمة سبيل لما لم يكن له على الجارية في هذه الصورة سبيل، ورجع المشتري الثاني على المشتري الأول بالثمن الذي نقده. وإذا سلمت القيمة للمشتري الأول ينظر إن كان من غير جنس الثمن لا يتصدق بالفضل إن كان ثمة فضل. قال في «الجامع» أيضاً: رجل اشترى من رجل ثوباً بعشرة ولم يقبضه حتى أحدث فيه عيباً يعني المشتري صار قابضاً على ما مر ثم هلك الثوب في يد البائع، فإن هلك قبل أن يمنعه البائع هلك من مال المشتري، وإن هلك بعد ما منعه البائع هلك من مال البائع، وهذا لأن المشتري صار قابضاً للثوب، وإنما ينتقض قبضه بالاسترداد كون المال في يد البائع لا يصير البائع مسترداً ألا ترى أنه لا يصير غاصباً بهذا القدر، فكذا لا يصير مسترداً فبقي قبض المشتري على حاله، فإذا هلك يهلك من مال المشتري. فأما إذا منعه البائع فقد صار مسترداً. ألا ترى أنه يصير غاصباً مال الغير بمجرد المنع عنه، فكذا يصير مسترداً فانتقض قبض المشتري وعاد الثوب إلى ضمان البائع، فإذا هلك تهلك من مال البائع وبطل الثمن على المشتري إلا قدر ما انتقص بفعل المشتري، فإن ذلك القدر ينفرد على المشتري؛ لأنه لم يوجد الاسترداد لذلك القدر لكونه هالكاً. وإن كان الثوب على عاتق البائع وفي حجره فعيبه المشتري ثم هلك من غير فعل أخذ به البائع هلك على المشتري؛ لأن (41أ3) كون الثوب على عاتقه أو في حجره لا يصلح أن يكون غصباً، ولهذا لو هبت الريح بثوب إنسان ألقته على عاتقه أو في حجره لا يصير غاصباً، فلا يصير البائع مسترداً، وكذلك لو كان البائع ممسكاً الدابة؛ لأن مجرد إمساك الدابة لا يصلح غصباً، ولهذا جاز للبائع أن يفعل ذلك في المبيع، ولو كان أمسك الثوب أو ركب الدابة فأحدث المشتري فيه عيباً ينقصه ثم لم يمنعه البائع حتى هلك هلك من مال البائع؛ لأن دوام الركوب واللبس يصلح غصباً، ولهذا لو استعار ثوباً يوماً، فدام على اللبس بعد ما مضى اليوم يصير ضامناً، وكذا دوام الركوب على هذا فصار البائع مسترداً للدابة والثوب.

ولو كانت دار فهدم المشتري حائطاً منها حتى يصير قابضاً، ثم إن البائع سكن الدار بعد ذلك لا يصير البائع مسترداً عند أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر؛ لأن السكنى لا يصلح غصباً موجباً للضمان عندهما، فلا يصير البائع به مسترداً. وعند محمد وهو قول أبي يوسف الأول: السكنى تصلح غصباً للعقار، فيصير البائع مسترداً فبطل الثمن عن المشتري إلا حصة ما هدم. وصار الحاصل أن المشتري إذا قبض المبيع بغير إذن البائع فإنما يصير البائع مسترداً؛ بما يصير به غاصباً مال الغير حتى أن مجرد التمكن والتخلية لا يصير مسترداً، وهذا بخلاف المشتري، فإن المشتري بمجرد التمكن والتخلية يصير قابضاً. والفرق: أن التسليم مستحق على البائع، فيجب تعليقه بما في وسعه وهو التمكين والتخلية حتى لا يبقى في العهدة المستحق، أما التسليم غير مستحق على المشتري بعد ما قبض المبيع بغير إذن البائع لما عرف أنه ليس للبائع يد مستحقة على المبيع إنما على المشتري تسليم الثمن، فلو علقنا التسليم بحقيقة الأخذ لا يبقى المشتري في عهدة المستحق. نوع آخر إذا باع الرجل من غيره شيئاً هو في يد ذلك الغير: الأصل في هذا النوع من المسائل أن البيعان إذا تجانسا تناوبا؛ لأن التجانس دليل التشابه والمتشابهان ينوب كل واحد منهما عن صاحبه، وإذا تغايرا ناب الأعلى عن الأدنى؛ لأن في الأعلى ما في الأدنى وزيادة، فوجد القبض المحتاج إليه وزيادة شيء، والأدنى لا ينوب عن الأعلى؛ لأن الأدنى من الأعلى قدر بعضه والمحتاج إليه كله، والقبض المستحق بالشراء أن يقبض المشتري لنفسه قبضاً موجباً ضمان نفسه وهو قيمة العين، أما القبض لنفسه؛ لأنه متملك بالشراء، والمتملك في القبض يكون قابضاً لنفسه وأما موجباً ضمان نفسه؛ لأنه ملك بعقد المعاوضة فيكون بعوض، والعوض الأصلي للعين قيمته إلا أنه يصار إلى المسمى قطعاً للمنازعة، ويكون المسمى قيمة اصطلاحية قائمة مقام قيمة العين كما في باب النكاح، فإن منافع البضع مضمون بمهر المثل بقضية الأصل وإنما يصار إلى المسمى قطعاً للمنازعة كذا ها هنا. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل غصب من آخر جارية أو إناء فضة ووضعه في بيته ثم لقيه واشتراه منه بمئة دينار ونقده الثمن وليس الإناء بحضرتهما صار المشتري قابضاً بنفس الشراء حتى لو هلك قبل أن يصل المشتري إلى بيته هلك من مال المشتري قبل الشراء كان لنفسه، وإنه موجب ضمان نفسه وهو قيمة العين، وكان مجانساً للقبض المستحق بالعقد فناب عنه. ولو أراد البائع أن يسترد الجارية من المشتري ليحبسها بالثمن لم يكن له ذلك؛ لأنه لما أوجب العقد مع علمه بقيام قبض ينوب عن القبض المستحق وذلك يسقط حقه عن العين صار راضياً بسقوط حقه عن العين القبض.

ولو كانت العين وديعة في يد المشتري أو عارية فاشتراه لا يصير قابضاً بنفس الشراء حتى لو هلك قبل أن يقبضه المشتري هلك من مال البائع؛ لأن قبض الوديعة والعارية قبض أمانة، وقبض المشتري قبض ضمان فكانا متغايرين، وقبض الأمانة أدنى ولا ينوب عن قبض الشراء. ومعنى آخر يخص الوديعة أن المودع قابض لغيره والمشتري قابض لنفسه، والقبض الواقع للغير كيف ينوب عن المستحق لنفسه، وبه فارق قبض الغصب، فإن ذهب المودع أو المستعير إلى العين أو انتهى إلى مكان يتمكن من أخذه الآن يصير المشتري قابضاً له بالتخلية، فإذا هلك بعد ذلك يهلك من مال المشتري، فإن فعل المشتري في فصل الوديعة والعارية ما يكون قبضاً ثم أراد البائع أن يحبسها بالثمن لم يكن له ذلك؛ لأنه لما باعه منه مع علمه أن المبيع في بيت المشتري وهو يتمكن من القبض يصير راضياً بقبض المشتري دلالة، وقبض المشتري برضا البائع يسقط حقه في الحبس، فإن أخذها البائع من بيت المودع قبل أن يصل إليه يد المودع كان له ذلك؛ لأن البائع إنما يصير راضياً بقبض المشتري بطريق الدلالة، والإذن دلالة لا يمكن إثباته مع المنع صريحاً. ولو كان المبيع بحضرتهما فباعه منه لم يكن للبائع حبسه؛ لأن بيعه منه رضا منه بالقبض دلالة، فمتى كان المبيع بحضرته، وذلك يصلح قبضاً جديداً يثبت القبض بحكم الشراء برضا البائع، فلا يكون للبائع حق الحبس، ولو كان العين رهناً في يد المشتري فالمشتري لا يصير قابضاً له بنفس الشراء؛ لأن قبض الرهن في حق العين قبض أمانة، والضمان الذي يثبت ضمان استيفاء الدين، فإن المرتهن بعقد الرهن يصير مستوفياً الدين بالعين في حق ملك اليد والحبس والاستيفاء يعتمد المجانسة ولا مجانسة بين العبد والدراهم من حيث العين، وإنما المجانسة بينهما من حيث المالية، فكان القبض في حق العين، فلا ينوب قبض الرهن عنه، فلا يصير قابضاً بنفس الشراء، فإذا ذهب إلى بيته وانتهى إلى مكان يتمكن من قبضه حقيقة الآن يصير قابضاً بالتخلية. وإذا اشترى إبريق فضة بمائة دينار وقبض المشتري الإبريق ولم ينقد الدنانير حتى افترقا وبطل الصرف لعدم قبض أحد البدلين في المجلس كان على المشتري رد الإبريق على البائع، فإن وضع المشتري الإبريق في بيته ولم يرده حتى لقي البائع واشترى الإبريق منه..... مستقبلاً بدنانير ونقد الثمن ثم افترقا فالبيع جائز ويصير قابضاً الإبريق بنفس الشراء؛ لأن الإبريق بعد بطلان عقد الصرف مضمون بضمان نفسه، ولهذا لو هلك قبل التسليم إلى البائع يهلك مضموناً بالقيمة، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض المشتري، فحصل الافتراق بعد قبض البدلين فلا يبطل الصرف. ولو اشترى رجل من رجل عبداً بألف درهم وتقابضا (وتقا) يلا ثم إن المشتري

اشتراه ثانياً من البائع قبل أن يسلمه إلى البائع صح الشراء على ما مر لا يصير المشتري قابضاً بنفس الشراء حتى لو هلك قبل أن يحدد المشتري قبضاً يهلك بالعقد الأول ويبطل الإقالة والبيع الثاني لا بعد الإقالة العين في هذه الصورة مضمون على المشتري بالثمن حتى لو هلك في يد المشتري قبل التسليم إلى البائع يبطل الإقالة ويعود حكم العقد الأول حتى يلزمه الثمن ومثل هذا القبض لا ينوب عن قبض الشراء. ولو اشترى رجل من رجل غلاماً بجارية وتقابضا وجعل كل واحد منهما ما اشترى في منزله ثم تقايلا، ثم اشترى أحدهما من مال صاحبه ما أقاله إياه قبل أن يدفعه إليه حتى جاز الشراء صار المشتري قابضاً له بنفس الشراء حتى لو هلك أحدهما قبل الرد لا تبطل الإقالة، وكان على الذي هلك في يده قيمته، وهذا لأن في بيع العرض بالعرض يصح ابتداء الإقالة بعد هلاك أحدهما (41ب3) وإذا لم تبطل الإقالة بهلاك أحدهما لا يعود حكم العقد الأول فبقي مضموناً ضمان نفسه، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء بخلاف الفصل الأول، وهو ما إذا اشترى بدراهم؛ لأن هناك محل الإقالة والتصرف لا يبقى بعد فوات محله، فتبطل الإقالة بهلاك العبد ويعود حكم العقد الأول، فكان العبد مضموناً بالثمن أما ههنا بخلافه، هذا إذا تقايلا العبد مع الجارية قائمين. فأما إذا تقايلا العقد بعدما هلك العبد بعد التقابض صحت الإقالة، ووجب على مشتري العبد قيمة العبد. فإن اشترى من في يده الجارية في هذه الصورة الجارية من بائعها قبل أن يدفعها إليه وليست الجارية بحضرتهما ثم ماتت الجارية بعد الشراء الثاني قبل أن يحدد المشتري لها قبضاً هلكت بالشراء الأول وبطلت الإقالة والشراء الثاني؛ لأن الجارية بعد هلاك العبد مضمونة على المشتري بغيرها وهو قيمة العبد حتى لو هلكت بعد الإقالة قبل الشراء الثاني هلكت بقيمة العبد ومثل هذا القبض لا ينوب عن قبض الشراء. ولو كانا قائمين بعد الإقالة ثم اشترى كل واحد منهما من صاحبه ما في يده بدراهم ثم هلكا معاً أو على التعاقب هلك كل واحد منهما من مال من اشتراه؛ لأن كل واحد منهما مضمون بضمان نفسه، ولهذا لو هلك أحدهما بعد الإقالة قبل الشراء تجب قيمته، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء. ولو اشترى جارية بدراهم على أن المشتري بالخيار فيه ثلاثة أيام وتقابضا ثم فسخ المشتري البيع بخيار الشرط، فلم يردها على البائع حتى اشترى منه شراء مستقبلا صح؛ لأن الرد بحكم خيار الشرط فسخ في حق الناس كافة، وكذلك ينبغي أن يصح شراء الأجنبي من البائع قبل قبض البائع؛ لأن الرد بخيار الشرط فسخ في حق الناس كافة فلو هلكت الجارية قبل أن يصل إليها يد المشتري بطل الشراء الثاني والفسخ وهلك بحكم الشراء الأول؛ لأن المبيع في خيار الشرط بعد الفسخ مضمون على المشتري بضمان غيره وهو الثمن؛ ومثل هذا القبض لا ينوب عن قبض الشراء. وإذا هلكت الجارية هلكت بالشراء؛ لأن المشترى بشراء الخيار للبائع مضمون على المشتري بضمان نفسه وهو القيمة قبل الفسخ وبعد الفسخ، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء.

والجواب في الرد بخيار الرؤية وبخيار العيب نظير الجواب فيما إذا كان البيع بشرط الخيار للمشتري؛ لأن هذا الخيار لا يمنع زوال ملك البائع كخيار المشتري فيكون الجواب عنهما على السواء. وإذا أرسل الرجل غلامه في حاجته ثم باعه من ابن صغير له حي جاز العبد حتى مات مات من مال الأب؛ لأن قبض الأب أمانة ولأنه قبض لنفسه فلا يقع عن قبض مضمون لغيره، فإن لم يمت الغلام حتى رجع إلى الولد وتمكن من القبض صار قابضاً له عن ولده، وإذا لم يرجع العبد حتى بلغ الغلام ثم رجع العبد إلى الولد لم يصر قابضاً للولد حتى لو هلك هلك على الولد وانتقض البيع فيكون القبض في هذا إلى الولد. فرق بين هذا وبين ما إذا اشترى الوالد لولده الصغير من غيره ثم بلغ قبل القبض، فإن القبض وتسليم الثمن يكون إلى الوالد واستفاء الحقوق يكون له أيضاً، وفي شراء الوالد لولده من نفسه ترجع الحقوق إلى الولد متى بلغ. والفرق: أن الاب إذا اشترى من نفسه، فالعقد في حق الحقوق ما وقع للأب؛ لأن الأب هو المملك، فلا يجوز أن يثبت له على نفسه حقاً، وكانت الحقوق ثابتة للصغير على الأب يستوفيه بحكم النيابة عن الصغير، فإذا بلغ وصار أهلاً للاستيفاء بنفسه بطلت النيابة وعاد إلى الأصل، فأما إذا اشترى من غيره فالعقد في حق الحقوق وقع للأب؛ لأنه لم يوجد المانع من ذلك، والقبض من حقوق العقد، وبعد البلوغ لم يوجد ما يغير العقد فلا يتغير حقوقه فبقي حق القبض واقعاً للأب والله أعلم. نوع آخر في تصرف أحد المتعاقدين في المبيع قبل القبض إذا أمر المشتري البائع أن يعمل في المبيع عملاً، فإن كان ذلك العمل لا ينقصه مثل القصارة والغسل بأجر أو بغير أجر لم يصر قابضاً والأجرة واجبة، وإن كان ذلك العمل مما ينقصه فهو قبض، والفرق وهو أن العمل إذا كان ينقصه فهو استهلاك الجزء من المبيع وذلك غير مملوك للبائع، فإذا حصل بأمر المشتري صار كأن المشتري فعل بنفسه فيصير قابضاً، فأما إذا كان لا ينقصه الفعل المأمور به، فذلك الفعل مملوك للبائع؛ لأنه فيما يرجع إلى نفس الثوب إمساك، وما يحدث في الثوب من الوصف يفعله من قصارة أو غير ذلك، فذلك وصف زائد يتصل بالمبيع حصل بإذن المشتري فبقي تصرفه في المبيع إمساكاً، فيكون مقصوراً على الفاعل، فلا يصير به قابضاً إلا أنه يجب الأجر؛ لأن هذا العمل غير مستحق على البائع فصح ذكر البدل في مقابلته، هكذا ذكر في «شرح القدوري» . وفيه أيضاً: لو أرسل المشتري العبد في حاجته صار قابضاً؛ لأنه صار مستعملاً له (و) بالاستعمال تثبت يد المستعمل على المحل. ألا ترى أن الأجنبي يصير به غاصباً وطريقه ما قلنا. وكذلك لو أعاره المشتري أجنبياً أو أودعه أجنبياً يصير قابضاً؛ لأنه أثبت يد غيره على المحل فيصر كما لو أثبت يد نفسه، وهناك يصير قابضاً فكذا ههنا. ولو أعاره

المشتري البائع أو أودعه إياه أو آجره منه، فإن المشتري لا يصير قابضاً به؛ لأن يد البائع ثابتة على المحل للحبس، فلا يتصور ثبوتها بجهة أخرى مع قيام الأولى كما كانت صار الحال بعد هذا التصرفات والحال قبلها سواء. في «الجامع» : إذا قال المشتري للبائع: قل للعبد يعمل لي كذا، فأمره البائع فعمل صار المشتري قابضاً؛ لأنه جعل البائع رسولاً ينتقل إلى المرسل، فكأن المشتري قال للعبد: اعمل كذا فعمل، وهناك ينتقل المشتري قابضاً كذا ههنا. ولو كان المشتري أجره من البائع شهراً فاستعمل البائع بحكم الإجارة لا يلزمه الأجر؛ لأن هذه إجارة فاسدة، وفي الإجارة الفاسدة إنما يجب الأجر باستيفاء المنافع إذا وجد التسليم إلى المستأجر، ولم يوجد التسليم هنا إلى المستأجر إذ ليس للمشتري آلة التسليم وهو اليد، إنما اليد للبائع والبائع لا يصلح نائباً عن المشتري في القبض، فلم يتحقق التسليم، فكيف يجب الأجر؟. في «النوازل» : إذا اشترى عبداً بثمن معلوم فلم يقبضه حتى أمر البائع أن يؤاجره من إنسان معين، فأجره جاز ويصير المشتري قابضاً له، والغلة التي يأخذها البائع تجب من الثمن؛ لأن الأمر من المشتري قد صح؛ لأنه صادف ملكه والمستأجر ينتصب نائباً عنه في القبض ثم يصير قابضاً لنفسه بحكم العقد. وفي «العيون» : إذا اشترى غلاماً فلم يقبضه حتى وهبه لرجل أو رهنه وأمره بالقبض فقبض جاز، ولو آجره وأمر المستأجر بالقبض لم يجز والفرق أن الهبة والرهن إنما تصح بعد التسليم، وعند التسليم يصير قابضاً فيكون الرهن والهبة نافذاً بعد قبض المشتري، ولا كذلك الإجارة. في «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى من آخر كر حنطة بعينه وكر شعير بعينه، فلم يقبضه المشتري حتى خلطهما البائع، قال: يقوم كر من هذا أي من المخلوط ويقوم الحنطة قبل الخلط ثم يقسم ثمن الحنطة عن المشتري ما دخل الحنطة من النقصان ويأخذ (42أ3) المشتري الكر ويأخذ الشعير بثمنه. وكذلك لو باعه رطلاً من زنبق ورطلاً من بنفسج، فخلطهما. ولو باعه (رطلاً) من زنبق ومئة رطل من زيت وخلط الزنبق بالزيت فقد بطل في الزنبق البيع؛ لأن البائع استهلكه وللمشتري أن يأخذ الزيت إن أحب، فيأخذ مئة رطل ولا خيار فيه وإن كان ذلك لم ينقصه. و (لو) أن رجلاً كان في خابيته زيت عشرة أرطال، فاشتراها منه رجل فلم يقبضها حتى خلطها البائع بما في الخابية كان المشتري في أخذه بالخيار؛ لأن البائع خلطها بمتاعه. رجل باع من رجل عبداً بألف درهم فلم يقبضه المشتري، باعه البائع من رجل آخر ودفعه إليه فمات في يد المشتري الثاني أو وهبه له ودفع إليه ومات في يده، أو أعاره إياه ودفعه إليه فمات في يده، فالمشتري الأول بالخيار إن شاء نقض البيع واسترد الثمن إن كان قد دفع الثمن، وإن شاء أمضى البيع وضمن المشتري الثاني قيمة العبد يوم قبضه،

وكذلك في الهبة والعارية، ولا يرجع الموهوب له ولا المستعير على البائع بشيء، وإن اختار الأول نقض البيع ونقضه، فللبائع أن يُضَمِّن المشتري الثاني قيمته يوم دفعه إليه، وكذلك في الهبة والعارية؛ لأن العبد إنما صار له بعد قبض المشتري الأول وبيعه. ولو كان البائع آجره من رجل أو أودعه إياه فمات في يده انتقض البيع ولا سبيل للمشتري على تضمين واحد منهما؛ لأنه إن ضمنه رجع به على البائع، وإذا كان كذلك صار كأنه مات في يد البائع والرهن نظير الإجارة والوديعة رواه هشام عن محمد رحمه الله. وعن أبي يوسف: إذا أودع البائع العبد المبيع قبل التسليم إلى المشتري من رجل ودفعه إليه أو أعاره إياه أو أجره ودفعه إليه، فمات عنده من غير عمله، فلا ضمان عليه ولا على البائع. ولو مات عبد المستعير من عمله المودع فمات من ذلك، فإن شاء المشتري أمضى البيع واتبع المستعير والمستودع بالقيمة، وإن شاء نقض البيع وكان للبائع أن يضمن المستودع القيمة؛ لأنه استعمله بغير أمره وليس له أن يضمن المستعير؛ لأنه استعمله بأمره، وأما المستأجر فإن عطب من عمله فليس للمشتري أن يضمنه؛ لأنه لو ضمنه رجع على البائع؛ لأن البائع غره وليس على المستعير غرر.d ولو كان البائع أجر رجلاً أن يقتله فقتله فالمشتري بالخيار إن شاء ضمن القاتل قيمته ودفع الثمن إلى البائع، وإن شاء نقض البيع، فإن ضمن القاتل فالقاتل لا يرجع على البائع؛ لأن القتل ليس فيه غرر، ولو كان مكان العبد ثوباً فقال البائع لخياط: اقطعه لي قميصاً بأجر أو بغير أجر لا يكون للمشتري أن يضمن الخياط؛ لأن الخياط يرجع بالقيمة على البائع. رجل باع شاته من رجل وأمر البائع رجلاً حتى ذبحها، فإن كان الذابح يعلم بالبيع فللمشتري أن يضمن الذابح ولا يرجع الذابح به على الآمر، وإن كان الذابح لا يعلم بالبيع لم يكن للمشتري أن يضمنه؛ لأنه لو ضمنه يرجع به على البائع الآمر، فيصير كأن البائع ذبح بنفسه. نوع آخر فيما يلزم المتعاقدين من المؤنة في تسليم المبيع والثمن: الأصل أن مطلق العقد يقتضي تسليم المعقود عليه وقت العقد، ولا يقتضي تسليمه في مكان العقد، هذا هو ظاهر مذهب أصحابنا، حتى إنه لو اشترى حنطة وهو (في) المصر والحنطة في السواد يجب تسليمها بالسواد. ومن الناس من قال: يجب تسليمها حيث عقدا العقد قبيل باب السلم. ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله: أن من اشترى تمراً على نخل، فجزه على المشتري. في «المنتقى» : أنه إذا باعه مجازفة فالجواب كذلك، وإذا باعه مكايلة فعلى البائع أن يقطعه ويكيله، وكذلك الجز والقطع والتسليم على المشتري، وكذلك قلع البصل هكذا ذكر في رواية ابن سماعة. وذكر في «المنتقى» أن على البائع قلع أنموذج قدر ما برأه المشتري، فإذا رضي به كان القلع على المشتري. وفي «المنتقى» : إذا اشترى

الفصل الرابع: في المسائل التييتعلق بالثمن

حنطة في سعفه فالإخراج على المشتري، وكذلك إذا باع حنطة في جراب أو ثوباً في جراب باع الحنطة والثوب دون الجراب ففتح الجراب على البائع، والإخراج من الجراب على المشتري وأجرة الكيال والوزان والذراع والعداد على البائع إذا باعه مكايلة أو موازنة أو مذارعة؛ لأن الكيل والوزن فيما باع مكايلة أو موازنة من تمام التسليم، والتسليم على البائع فما يكون من تتمته يكون عليه. وفي «نوادر هشام» : قال: سألت محمداً رحمه الله عمن اشترى شيئاً بدراهم فعلى من الانتقاد وقد زعم المشتري أن دراهمه جياد قال: القول له؛ لأن الدراهم كلها جياد حتى يتبين لنا غير ذلك، فإن قال البائع هي رديئة فالقول قول المشتري وعلى البائع أن يجيء بالناقد والأجرة عليه. وعن إبراهيم عن محمد أن الانتقاد على المستوفي والوزن على الموفي، يريد أن انتقاد الثمن على البائع ووزن الثمن على المشتري. وفي «العيون» : أن أجرة وزان الثمن والناقد على المشتري، وكان الصدر الشهيد يقول بأن أجرة الناقد على المشتري ونفتي به. وروي عن محمد أنه جعل أجرة الناقد على من عليه الدين إلا أن يقتضي دينه رب الدين ثم يدعي أنه من غير نقده، فيكون الأجر على رب الدين. والفرق بينهما قبل القبض وبينهما بعد القبض على هذه الرواية: أن الواهب على المديون إيفاء دراهم مقدرة جيدة، فكان النقد قبل القبض لإيفاء الحق في الجودة كما أن الوزن لإيفاء الحق في القدر، ثم أجرة الوزان على المديون، فكذا أجرة الناقد، فأما إذا قبض رب الدين فقد دخل في ضمانه، فإذا ادعى أنه على خلاف حقه كان النقد محتاجاً إليه ليتمكن من الرد، وذلك يقع لرب الدين فيكون الأجر عليه. ولو اشترى وقد دخل في المصر فحملها إلى بيت المشتري على البائع، ولو هلك في الطريق من مال البائع. ولو اشترى حنطة في سنبلها فتخليصها بالكدس والتذرية على البائع؛ لأن التسليم لا يتهيأ بدون ذلك وصبها في وعاء المشتري على البائع بحكم العرف، وصب الماء من القربة على البائع أيضاً بحكم العرف. ولو اشترى داراً وطلب من البائع أن يكتب صكاً على الشراء لا يجبر البائع عليه وإن كتب المشتري الصك من مال نفسه وأمره بالإشهاد لا يجبر على الخروج إلى الشهود، وإن أبى الشهود يجبر على إشهاد شاهدين، وهو أن يقر بين شاهدين، فإن أبى البائع يرفع المشتري الأمر إلى القاضي، فإن أقر بين يد القاضي كتب له سجلاً وأشهد عليه. الفصل الرابع: في المسائل التييْتعلق بالثمن قال محمد رحمه في كتاب الصرف: إذا اشترى الرجل من آخر شيئاً بألف درهم أو بمئة دينار ولم يسمِ شيئاً، فهذا على وجهين:

الأول: أنه يكون في البلد نقد واحد معروف في هذا الوجه جاز العقد، وينصرف إلى نقد البلد بحكم العرف؛ لأن الناس يتبايعون بنقد البلد والمعروف كالمشروط. الوجه الثاني: إذا كان في البلد نقود مختلفة، وإنه على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون الكل في الرواج على السواء ولا صرف لبعضها على البعض، وفي هذا الوجه جاز العقد، وإن كان الثمن مجهولاً إذ لم يصر نقد من النقود معلوماً لا بحكم العرف ولا بحكم التسمية إلا أن هذه (42ب3) جهالة لا توقعهما في منازعة مانعة من التسليم والتسلم، وإن كان لبعضها صرف على البعض والكل في الرواج على السواء كما في العطارف العدال في الزمان السابق لا يجوز البيع؛ لأن الجهالة ههنا توقعهما في المنازعة المانعة من التسليم، وإن كان لبعضها فضل على البعض إلا أن واحداً منهما أروج، فإنه يجوز لأن العقد ينصرف إلى الرواج. في «كتاب الصرف» أيضاً: إذا اشترى الرجل مئة فلس بدرهم فنقد الدرهم ولم يقبض شيئاً من الفلوس حتى كسدت الفلوس، فالقياس: أن لا ينقض العقد، ويتخير المشتري إن شاء قبضها كذلك، وإن شاء فسخ العقد وأخذ الدراهم كما لو تعيب المبيع قبل القبض، وبالقياس أخذ زفر. وجه ذلك: أن بالكساد لم يهلك ما تعلق العقد به قبل القبض بل تعيب؛ لأن العقد في جانب الفلوس تعلق بها من حيث إنها ثمن؛ لأن الفلوس صارت ثمناً باصطلاح الناس، وبالكساد لم تزل الثمنية من كل وجه؛ لأن بعد الكساد يباع وزناً والموزون ثمناً، وإذا بقيت الثمنية من وجه بقي ما تعلق به العقد لكنه صار معيباً من حيث إنه لم يبقَ ثمناً باعتبار العدد، والعيب لا يوجب انتقاض المبيع إنما يوجب الخيار كما لو تعيب المبيع قبل القبض. وكما لو اشترى شيئاً بقفيز رطب في الذمة ثم انقطع أوانه فهذا هو وجه القياس، وفي «الاستحسان» : ينتقض العقد كالمبيع إذا هلك قبل القبض. بيانه: أن العقد في جانب الفلوس تعلق بها من حيث إنها ثمن باعتبار العدد وبالكساد بطلت الثمينة باعتبار العدد، فإن بعد الكساد يباع وزناً لا عدداً، وقولنا بلا خلاف انتباه إلى أن بعد الكساد وإن كانت تباع وزناً، والموزون يصلح ثمناً؛ لأن الثمنية من حيث الوزن لم تحدث بالكساد حتى يجعل حلها عن الثمنية من حيث العدد، وإنما زالت الثمنية من حيث الوزن بالاصطلاح على الثمنية من حيث العدد، فإذا زالت بالاصطلاح على العدد عادت الثمنية باعتبار الوزن الذي كان في الأصل بسبب الكساد، وليس كالمبيع إذا هلك وجب القيمة؛ لأن هناك القيمة وجبت بسبب القتل؛ لأنها لم تكن واجبة قبل القتل بل وجبت ابتداءً بمقابلة المبيع، فكانت خلفا عن المبيع بخلاف الرطب إذا انقطع أوانه؛ لأن هناك ما تعلق به العقد لم يهلك؛ لأن العقد متعلق بالرطب من حيث إنه ثمن، وثمنية الرطب من حيث إنه مكيل وقد بقي مكيلا بعد الانقطاع، إلا أنه لا يوجد في أيدي الناس والشراء بثمن ليس عنده حالة العقد ولا عند آخر جائز، فإنه لو اشترى برطب والرطب منقطع عن أيدي الناس يجوز، فلأن يبقى أولى.

وإذا اشترى شيئاً بدراهم هي نقد البلد ولم ينقد الدراهم حتى تغيرت، فإن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق فسد البيع؛ لأنها هلكت، وإن كانت تروج ولكن انتقصت قيمتها لا يفسد البيع، وليس للبائع إلا ذلك؛ لأنها لا تهلك. وفي «عيون المسائل» : إن عدم الرواج إنما يوجب فساد البيع إذا كان لا يروج في جميع البلدان؛ لأنه حينئذ يصير هالكاً ويبقى البيع بلا ثمن، فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة ويروج في غيرها، فلا يفسد المبيع؛ لأنه لم يهلك ولكنه يعيبه، فكان للبائع الخيار: إن شاء قال: أعط مثل النقد الذي عليه البيع، وإن شاء أخذ قيمته ذلك دنانير، قالوا: وما ذكر في «العيون» مستقيم على قول محمد رحمه الله، أما لا يستقيم على قولهما إذ يكتفي لفساد المبيع في كل بلدة بالكساد في تلك البلدة بناء على اختلافهم في بيع الفلس بالفلسين عندهما يجوز اعتباراً لاصطلاح بعض الناس، وعند محمد رحمه الله: لا يجوز اعتباراً لاصطلاح الكل، والكساد يجب أن يكون على هذا القياس أيضاً. وذكر في كتاب الصرف: إذا اشترى بدراهم ونقد الثمن ولم يقبض الفلوس حتى كسدت بطل البيع استحساناً، وإن كان قبض الفلوس ولم يقبض الدراهم حتى كسدت الفلوس، فالبيع جائز والدراهم دين على حالها؛ لأن العقد قد انتهى في الفلوس بالقبض، فهلاكها بالكساد لا يؤثر في العقد. ولو اشترى بفلوس فاكهة أو غيرها وقبض ما اشترى ولم ينقد الفلوس حتى كسد بطل استحساناً. وفي «القدوري» في باب استقراض الفلوس: إذا اشترى بفلوس وكسدت قبل القبض فسد العقد في قول أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يفسد العقد وفي «المنتقى» : إذا كسدت الفلوس قبل القبض فعلى المشتري قيمة الفلوس في قول أبي يوسف، وهذه إشارة إلى أن العقد لا يفسد على قوله. وذكر محمد في كتاب الرهن مسألة تدل على أن البيع لا ينتقض بهلاك الفلوس قبل القبض، وصورتها: رجل رهن من آخر فلوساً تساوي عشرة بعشرة، فكسدت فهي رهن على حالها حتى لو هلكت هلكت بالعشرة، ولو كان الكساد بمنزلة الهلاك لسقط الدين بمجرد الكساد، والمشايخ اختلفوا في هذه المسألة، بعضهم قالوا: ينتقض البيع كما ذكر في كتاب الصرف، وبعضهم قالوا: لا ينتقض، واستدلوا بمسألة الرهن. وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله يصحح رواية كتاب الصرف، وشيخ الإسلام يصحح رواية الرهن، وهذا القائل يقول معنى قول محمد في كتاب البيع يبطل البيع أنه يخرج من أن يكون لازماً حتى لا يجبر البائع على القبض دفعا للضرر عنه، أما لو اختار البائع الأخذ فله ذلك. وعن أبي يوسف أنه إذا اشترى فلوساً بدراهم أو دنانير وكسدت الفلوس قبل القبض بطل البيع، وإذا اشترى بالفلوس شيئاً فاكهة أو عرضاً وكسدت الفلوس قبل القبض لا يبطل البيع، والفرق: أن الفلوس الرائجة ثمن بيع الفلوس والشراء بها بيع الثمن والشراء،

وبالكساد تصير مبيعة بمقابلة الدراهم والدنانير؛ لأن الدراهم والدنانير أثمان من كل وجه، فلو اتقينا ذلك البيع اتقينا على المبيع، وإنه ما ورد على المبيع فبطل ضرورة، فأما بمقابلة العرض والفاكهة يمكن أن يجعل الفلوس الفاسدة ثمناً؛ لأن العرض والفاكهة مبيع والفلوس بمقابلة المبيع يمكن أن تجعل ثمناً باعتبار أنه عددي متقارب كالجوز وغيره. وفي «المنتقى» : إذا اشترى فلوساً بدراهم وبمد من دقيق بعينه، فقبض المد والدراهم ولم يقبض الفلوس حتى كسدت فسد البيع في قياس أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: ينتقض البيع في حصة الدراهم ويجوز في الدقيق بحصته وعليه قيمة الفلوس تلك الحصة من الدراهم أو الفلوس هذا إذا كسدت الدراهم أو الفلوس قبل القبض، فأما إذا غلت بأن ازدادت قيمتها، فالبيع على حاله ولا يخير المشتري، وإذا انتقصت قيمتها فالبيع على حاله ويطالبه بالدراهم بذلك العنان الذي كان وقت البيع. وفي «المنتقى» : إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت، قال أبو يوسف رحمه الله: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء وليس له غيرها، ثم رجع أبو يوسف وقال: عليه قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض، والذي ذكرنا من الجواب في الكساد فهو الجواب، والانقطاع إذا انقطعت الدراهم عن أيدي الناس قبل القبض فسد المبيع عند أبي حنيفة، وحد الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة في البيوت، وقيل: إذا كان يوجد في يد الصيارفة فهو ليس بمنقطع، والأول أصح وسيأتي جنس هذه المسائل في مسائل السلم (43أ3) إن شاء الله. وفي «المنتقى» : قال أبو حنيفة: كل ما يكال أو يوزن إذا كان ثمناً بغير عينه وقد انقطع عن أيدي الناس أن الطالب بالخيار إن شاء أخره إلى الجديد، وإن شاء أخذ قيمة بيعه، فقد حكم بفساد العقد حتى أوجب قيمة المبيع، وقال أبو يوسف: إن شاء أخره إلى الجديد، وإن شاء أخذ قيمة الثمن قبل انقطاعه بلا فضل، ولأبي يوسف في هذا قول آخر أن عليه قيمة الثمن يوم وقع البيع وهو قوله وعليه الفتوى. وكذلك الدراهم والفلوس إذا انقطع عن أيدي الناس قبل القبض، فللبائع قيمة الدراهم والفلوس يوم وقع البيع في قول أبي يوسف الآخر وعليه الفتوى. وروى بشر عن أبي يوسف في «الأمالي» في رجل اشترى من عبده شيئاً بألف درهم غلة، والغلة يوم اشترى طبرية ويزيدية، فكسدت الطبرية فإن عليه أن يعطيه غلة سوى الطبرية ما يقع عليه اسم الغلة، وإن أبى واحد منهما أجبر عليه. ولو باع سلعة بكذا ديناراً حتى كان له نقد الناس، فكسد صنف من الدنانير ما كان يجوز مثله فله نقده من الدنانير التي تجوز بين الناس، ولو باع شيئاً بدراهم مسماة مكروهة فكسد صنف من المكروهة أي المكحلة، فإن عليه أن يعطيه الصنف الباقي منها، ولو باعه بألف درهم طبرية والطبرية على صنفين صنف غلة وصنف نقد بيت المال كان له الطبرية الغلة الجائزة بين الناس. ولو كسدت لم يكن له من الطبرية المقدسي، وإنما له قيمة الكاسدة من الذهب، وهذا قول أبي يوسف فقد أشار إلى أن البيع لا يفسد بالكساد إذ لو فسد لوجب قيمة المبيع، ثم

الفصل (الخامس) : فيما لا يدخل تحت البيع من غير ذكره صريحا، وما يدخل تحته من غير ذكره صريحا

إذا فسد البيع بالكساد أو بالإنقطاع على قول من يقول به، فإن لم يكن المبيع مقبوضاً فلا حكم لهذا البيع أصلاً، وإن كان مقبوضاً إن كان قائماً رده على البائع، وإن كان مستهلكاً أو هالكاً يرجع البائع عليه بقيمة المبيع إن لم يكن المبيع مثلياً وبمثله إن كان مثلياً. دلال باع متاع الغير بإذنه بالدراهم واستوفى الدراهم فقبل أن يدفعها إلى صاحب المتاع كسدت الدراهم، فليس للدلال على المشتري سبيل؛ لأن حق القبض للدلال؛ لأنه هو العاقد وقد قبض. وفي «النوازل» : رجل باع من آخر شيئاً بألف درهم فوزن له المشتري ألفاً ومئتي درهم فقبضها البائع ثم ضاعت من يده فهو مستوف للثمن ولا ضمان عليه؛ لأنه بقدر الألف استوفى حقه، وفيما زاد فهو مؤتمن فيه، فإن ضاع نصفها فالنصف الباقي على ستة أسهم، فالأصل أن المال المشترك إذا هلك منه شيء، فالهالك يهلك على الشركة، فلو عزل منها مئتي درهم، فضاعت المئتان يردها كان الألف بينهما على ستة أسهم لما قلنا. ولو ضاعت الألف فللبائع أن يرجع في المائتين بخمسة أسداسها. وإذا باع جارية بألف درهم، فدفع إليه المشتري كيساً على أن فيه ألف درهم فذهب به البائع إلى المنزل، فإذا فيه دنانير فحمل الدنانير ليردها فضاعت في الطريق فلا ضمان عليه؛ لأنه أخذ بإذن فكان أميناً. وإذا اشترى شيئاً وأعطى دراهم صحاحاً فكسرها ولا شيء عليه؛ لأنه لم يتلف عليه مالاً، وكذا إذا دفع إليه إنسان لينظر. في «فتاوي أبي الليث» وفي «فتاوي أهل سمرقند» : إذا باع بدراهم جياد ودفع المشتري الدراهم، فأراها البائع رجلاً فأنقدها فوجد فيها قليل نبهرجة، فاستبدل وأراد أن يصرف في شراء الحوائج فلم يأخذها آخذ، وقالوا: كلها نبهرجة إن كان أقر البائع أنها جياد لا يرد؛ لأنه مناقض إلا إذا صدقه المشتري، وإن لم يكن أقر بذلك يرد؛ لأنه مناقض. الفصل (الخامس) : فيما لا يدخل تحت البيع من غير ذكره صريحاً، وما يدخل تحته من غير ذكره صريحا هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منها قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل اشترى منزلاً فوقه منزل فليس له الأعلى إلا إذا قال بكل حق هو له، أو قال بمرافقه، أو قال قليل أوكثير هو فيه أو منه وعلم بأن ههنا ثلاث مسائل مسألة في بيع الدار، ومسألة في بيع المنزل، ومسألة في بيع البيت، ففي المنزل الجواب ما قلنا. وبيع الدار يدخل العلو تحت البيع وإن لم يذكر كل حق هو لها أو ما أشبه ذلك، كما يدخل السفل وإن لم يذكر كل حق هو لها أو

ماأشبه ذلك، وفي بيع البيت لايدخل العلو تحت (البيع) إلا بالتنصيص عليه، وهذا لأنَّ العلو بمنزلة البناء من وجه، وبمنزلة بيت آخر من وجه من حيث إن قوام العلو بالسفل هو بمنزلة البناء؛ لأن قوام البناء بالأرض، ومن حيث إنه يبنى لينتفع بنفسه لايصير السفل منتفعاً به فهو كبيت آخر، بخلاف البناء فإنه لا يبنى على الأرض لينتفع بنفسه، وإنما يبني ليصير داخل البيت منتفعاً بالبيت، فكان البناء تبعاً للأرض قواماً وانتفاعاً، فإذا كان العلو بينهما كان يجب أن يوفر على الشبهين حظهما في المسائل كلها فيجعل العلو منزلاً بين منزلين في المسائل كلها، فيقال: متى ذكر الحق يدخل العلو وإن لم يذكر العلو نصاً كالبناء يدخل من غير ذكره ومتى لم يذكر الحق لا يدخل كبيت آخر، إلا أن العمل بالشبهين على هذا الوجه متعذر في المسائل أجمع لما فيه من التسوية بين اسم الدار والبيت والمنزل في الاستتباع ولا يجوز التسوية بين هذه الأسماء في الاستتباع؛ لأن معاني هذه الأسماء متفاوتة في العموم والخصوص، فإن اسم الدار أعم من اسم البيت والمنزل من حيث المعنى، فإن الدار مشتقة من الدوران في موضع أدير عليه، فكان الاسم مأخوذاً من الدوران من إدارة الحائط، وفي الدوران نزول كما في المنزل، وبيتوته كما في البيت؛ لأن الدوران يكون بالنهار والمنزل أخص من الدار؛ لأنه مأخوذ من النزول دوران أما فيه بيتوته إلا أنه أعم من البيت؛ لأن البيت موجود من البيتونة عبارة عن المقام ليلا ونهاراً، فكانت الدار أعم من المنزل، والبيت أخص من الدار والمنزل جميعاً، فألحق العلو بالبناء في الدار حتى يظهر اسم الدار وإنه أعم زيادة رتبة في الاستتباع ليس ذلك للمنزل، قلنا: إن ذكر الحق يستتبع العلو، وإن لم يذكر لا يستتبع العلو حتى يظهر نقصان رتبة المنزل في الاستتباع عن رتبة الدار، وفي البيت قلنا: لا يدخل العلو إلا بالتنصيص عليه. وذكر محمد بن مقاتل الرازي في شروطه أن العلو إنما يدخل في بيت المنزل بذكر الحقوق أو المرافق أو بذكر كل قليل وكثير هو فيها ومنها إذا كان طريق الصعود إلى العلو في منزل الأسفل، فأما إذا كان في غيره فلا أعرف عن أصحابنا لهذا رواية، ويحتمل أن لا يدخل. ويدخل الكنيف الشارع في الدارفي بيع الدار، وإن لم يذكر بكل حق هو لها؛ لأن الكنيف من حقوق الدار؛ لأن قراره على الدار، ولأن الدار اسم لما أدير عليه الحائط والحائط أدير على الكنيف، فيكون الكنيف من الدار، فيدخل تحت بيع الدار من غير ذكر. وأما الظلة التي تكون على الطريق وهي الساباط التي أحد طرفيه على جدار هذه الدار والطرف الآخر على جدار دار أخرى أو على الأسطوانات خارج الدار لا يدخل تحت بيع الدار إلا بذكر كل حق هو لها وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: يدخل وإن (43ب3) لم يذكر كل حق لها إذا كان مفتحها إلى هذه الدار؛ لأن قرار الظلة في الدار كانت بمنزلة العلو والكنيف، ولأبي حنيفة أن قرار أحد طرفي الظلة لما كان

بالأسطوانات خارج الدار وبدار أخرى كانت الظلة تبعاً للدار المبيعة من وجه دون وجه، فلكونها تبعاً للدار المبيعة لا يشترط التنصيص عليها لدخولها في بيع الدار، ولكونها تبعاً للدار المبيعة اكتفينا بذكر الحقوق لدخولها في بيع الدار عملاً بالشبهين، وإذا ذكر الحقوق. والمرافق يدخل الظلة عند أبي حنيفة في البيع إذا كان مفتحها إلى الدار المبيعة، وإن لم يكن مفتحها إلى الدار المبيعة لا يدخل، وإن ذكر الحقوق أو المرافق، قال الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي في «شرح الجامع الصغير» : هذا الذي ذكر محمد في «الكتاب» من الفصل بين الدار والمنزل والبيت في الجواب عرف أهل الكوفة، فأما في عرف بخارى يدخل العلو من غير ذكر اسم، سواء باع باسم الدار والمنزل والبيت؛ لأن في ديارنا المسقف بسقف واحد قلما يكون، وكل مسكن يسمى خانة سواء كان كبيراً أو صغيراً إلا دار السلطان، والعلو يدخل من غير ذكر على كل حال. ويدخل في بيع الدار المخرج والمربط والمطبخ والبئر ذكروا المرافق أو لم يذكروا، وفي بيع منزل من الدار وبيت من الدار لم تدخل هذه الأشياء إلا بذكر؛ لأن الدار اسم لما أدير عليه الحائط، فكل ما هو داخل في بيع الدار، فأما اسم المنزل من النزول واسم البيت من البيتوتة وهذه الأشياء سوى البيت في معنى النزول والبيتوتة فيها على السواء، فتكون هذه الأشياء منازل وبيوتاً باعتبار الاسم، وهو إنما ذكر في البيع منزلاً واحداً وبناء واحداً فلا تدخل هذه الأشياء تحت البيع.Y والبئر لا يتأتى فيه النزول والبيتوتة فلا يدخل تحت اسم المنزل والبيت، ويشترط التنصيص على هذه الأشياء ولا يكتفى بذكر الحقوق والمرافق؛ لأن حقوق الشيء ما يقصد إليه لأجل ذلك الشيء لا بعينه، وهذه الأشياء مقصودة بنفسها من غير المنزل والبيت فلا تكون من حقوقها ومرافقها. والحاصل أن الحق في العادة يذكر فيما هو تبع للمبيع ولابد للمبيع منه، ولا يقصد إليه إلا لأجل المبيع كالشرب والطريق في الأرض، والمرافق عبارة عما يرتفق به ويختص بما هو من التوابع كالشرب للأرض ومسيل الماء وقوله: كل قليل أو كثير يذكر على وجه المبالغة في إسقاط حق البائع عن المبيع وما هو متصل بالمبيع، وهذا إذا كان المخرج والمربط في الدار المبيعة. فأما إذا كان في دار أخرى متصلاً بالدار المبيعة لا تدخل هذه الأشياء تحت بيع الدار. قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى بيتاً في دار أو منزلاً لا يدخل الطريق ومسيل الماء من غير ذكر، وكذلك إذا اشترى أرضاً لا يدخل الشرب في الشراء من غير ذكر، وفي الإجارة تدخل هذه الأشياء من غير ذكر، والفرق: أن الإجارة تعقد للانتفاع، ولهذا لا يجوز إجارة ما لا ينتفع به في الحال كالمُهْر الصغير والأرض السبخة ولا يمكن الانتفاع بهذه الأشياء إلا بالطريق ومسيل الماء والشرب للمستأجر لا يشتري هذه الأشياء عادة ولا يجد ليستأجر، ولو استأجر الطريق الذي لصاحب الدار لا يجوز، فتدخل هذه الأشياء في الإجارة تصحيحاً لها، فأما البيع فلا يعقد للانتفاع عيناً بل يعقد للانتفاع،

وتحصيل العين المتقوم ممكن بدون الطريق فلا ضرورة إلى إدخاله في البيع، فلا يدخل إلا بالتنصيص أو بذكر الحقوق أو بذكر المرافق، وأراد بالطريق الذي لا يدخل في بيع الأرض والدار من غير ذكر الطريق الخاص. والطريق ثلاثة: طريق إلى الطريق الأعظم، وطريق إلى سكة غير نافذة، وطريق خاص في ملك إنسان، فالطريق الخاص في ملك الإنسان لا يدخل في البيع من غير ذكر إما نصاً وإما بذكر الحقوق والمرافق، والطريقان الآخران يدخلان في البيع من غير ذكر، وكذا مسيل الماء في ملك خاص وحق إلقاء الثلج في ملك خاص لا يدخل في البيع إلا بالذكر إما نصاً أو بذكر الحقوق والمرافق. وإذا باع بيتاً من دار ولم يذكر الطريق ولا الحقوق ولا المرافق حتى لم يدخل الطريق في البيع، فللمشتري أن يزداد قال: يرد، أو قال: ظننت أن لي..... إلى الطريق هكذا ذكر في «المنتقى» يريد به أن البيت إذا كان لا يلي الطريق الأعظم حتى لا يمكنه أن يقع البيت بابًا إليه، وقال: وقت البيع أن البيت يلي الطريق الأعظم ويمكنني أن افتح باباً إليه فله أن يرد البيت، وفي بعض الكتب لم يذكر الخيار، وإنما ذكر أن البيت إذا كان لا يلي الطريق الأعظم لا يبطل البيع وله أن يستأجر أويستعير من صاحب الأرض، ثم الطريق الذي يدخل في البيع بذكر الحقوق والمرافق الطريق وقت البيع لا الطريق الذي كان قبل البيع حتى أن من سد طريق منزله وجعل طريقاً آخر وباع المنزل بحقوقه دخل تحت بيع المنزل الطريق الثاني دون الأول. وإذا باع داراً وفيها بستان ذكر في «فتاوى أبي الليث» أنه إذا كان البستان في الدار يدخل في البيع من غير ذكره صغيراً كان البستان أم كبيراً؛ لأنه من جملة الدار. وإن كان البستان من خارج الدار إلا أن مفتاحه إلى الدار اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: لا يدخل، وبعضهم قالوا: إن كان البستان أصغر من الدار يدخل من غير ذكر، وإن كان مثل الدار أو أكبر لا يدخل، وبعضهم قالوا: يحكم الثمن. وفي بيوع «المنتقى» : قال هشام: سمعت أبا يوسف يقول في رجل اشترى داراً، وفيها بستان إن البستان ليس بداخل في بيع الدار إلا أن يسميه إلا أن يكون البستان في وسط الدار والدار محدودة، قال هشام: ذاكرت أبا يوسف مرة أخرى فيمن باع داراً وفيها بستان، قال: البستان منها، قلت: فإن كان للبستان بابان أحدهما في الدار والآخر خارج منها، قال: هو منها. وفي «العيون» : إذا اشترى داراً وفيها رحاء الإبل وقد اشتراها بحقوقها ومرافقها لا يكون الرحاء ولا متاعها للمشتري؛ لأن هذا ليس من حقوق الدار وهذا بخلاف ما لو

باع ضيعة وفيها رحاء باعها بكل حق هو لها حيث كان الرحاء المشتري؛ لأن هذا من عمارة الضيعة وصلاحها، فكان من حقوقها وفي الدار من خراب الدار فلم يكن من حقوقها، وكذلك دولاب الضيعة للمشتري بمنزلة الرحاء والدالية للبائع؛ لأنها معلقة بغير بناءٍ وكذلك جذعها. وروى إبراهيم بن رستم عن محمد رحمه الله فيمن اشترى بيتاً وفيها رحا بكل قليل أو كثير هو فيه، فله الأسفل والأعلى، وكذلك إذا كان فيه قدر نحاس موصولاً بالأرض. وفي «فتاوي الفضلي» دار فيها بيوت باع صاحب الدار بعض البيوت بمرافقها، ثم أراد أن يرفع باب الدار الأعظم وأبى المشتري ليس لصاحب الدار أن يرفعه؛ لأنه باع الأبيات بمرافقها والباب الأعظم من مرافقها، وكذلك لو كان باع البيوت بمرافقها من حقوقها؛ لأن الطريق دخل في البيع بقوله من حقوقها، فيدخل الباب أيضاً؛ لأنه منصوب على الطريق. وفيه أيضاً: إذا اشترى بيتاً من منزل بحدوده وحقوقه وصاحب المنزل يمنعه عن الدخول ويأمره بفتح الباب إلى السكة ينظر: إن كان البائع بين له طريقاً معلوماً ليس له منعه، وإن لم يبين اختلف المشايخ فيه منهم من قال: له منعه؛ لأن بقوله بحقوق هذا البيت في السكة حتى لا يمنع عن المرور في السكة العظمى، ومنهم من قال: ليس له منعه؛ لأن الباب الأعظم دخل يذكر الحقوق على ما ذكرنا في المسألة المتقدمة. قال الصدر الشهيد رحمه الله: هو المختار. وفي «العيون» : إذا باع داراً لا بناء فيها، وفيها بئر ماء ومخرج وآجر مطوي في البئر وأشياء أخر كلها متصلة بالبئر دخل تحت البيع. وفي «النوازل» : إذا باع دار فيها بئر وعليها بكرة ودلو وحبل، فإن باعها بمرافقها دخل الحبل والدلو في البيع؛ لأنهما من مرافق الدار، وإن لم يذكر المرافق لا يدخلان والبكرة يدخل على كل حال؛ لأنها مركبة والأصل أن ما كان في الدار من البناء أو ما كان (44أ3) متصلاً بالبناء يدخل في بيع الدار من غير ذكر بطريق التبعية، وما لا يكون متصلاً بالبناء لا يدخل في بيع الدار من غير ذكر إلا إذا كان شيئاً جرى العرف فيه فيما بين الناس أن البائع لا يضن به ولا يمنعه عن المشتري، فحينئذ يدخل، وإن لم يذكره في البيع. وعن هذا أن الغلق وفارسيته: كليدان يدخل في البيع من غير ذكر لكونه متصلاً بالبناء، والمفتاح يدخل استحساناً ولا يدخل قياساً؛ لأنه غير متصل بالبناء، فصار كثوب موضوع في الدار إلا أنا استحسنا وقلنا بالدخول بحكم العرف؛ لأن العرف فيما بين الناس أن بائع الدار لا يمنع المفتاح عن المشتري ويسلمون الدار بتسليم المفتاح، فإنما دخل المفتاح من غير ذكر بحكم العرف والقفل ومفتاحه لا يدخل، والسلم إن كان متصلاً بالبناء يدخل سواء كان من خشب أو مدر، فإن كان غير متصل بالبناء لا يدخل، والسرر نظير السلاليم.

وإذا اشترى رحا ماء يدخل في البيع من آلاته ما كان متصلاً بالبناء من غير ذكر؛ لأنه كالبناء فعلى هذا الحجر الأسفل يدخل تحت البيع من غير ذكر؛ لأنه متصل بالبناء، فكان كالبناء، والحجر الأعلى لا يدخل قياساً؛ لأنه غير مركب بالبناء ألا ترى أنه يمكن رفعه من غير أن يحتاج فيه إلى نقض شيء من البناء. وفي «الاستحسان» يدخل؛ لأن الرحا اسم لبيت فيه حجر دوارة، فالدوارة فيه الحجر الأعلى، فإذا كان اسم الرحى ثبت بالأعلى كان الأعلى وما يديره من البكرة داخلاً تحت اسم الرحى. وعلى هذا إذا اشترى طاحونة، فالحجر الأسفل يدخل من غير ذكر، والأعلى لا يدخل قياساً واستحساناً. وإذا كان درج في الدار من خشب أو ساج أصلها في البناء، فإنها تدخل في بيع الدار من غير ذكر، ولو لم يكن في بناء........... فهو للبائع وهذا مثل السلم. ولو كان في البيت باب موضوع لا يدخل في البيع من غير ذكر. في «المنتقى» وفي «العيون:» اشترى داراً واختلفا في بيت منها، فإن كانت الدار في يد المشتري، فالقول فيه قوله سواء كان الباب معلقاً أو موضوعاً، وإن كانت الدار في يد البائع، فإن كان الباب موضوعاً فيه فالقول قول البائع، وإن كان معلقاً فالقول قول المشتري. وفي «النوازل» : إذا اشترى داراً واختلفا في باب الدار فقال البائع: لم يدخل في البيع، وقال المشتري: دخل، فإن كان الباب متصلاً بالبناء، فالقول قول المشتري سواء كان الدار في يد البائع أو في يد المشتري؛ لأن الباب من جملة الدار، وإن كان غير متصل بالبناء بل كان موضوعاً في الدار، فالقول قول من كان الدار في يده؛ لأن الباب ليس من جملة الدار ههنا. بقي الاختلاف في الملك، فيكون القول قول صاحب اليد، وهذه المسألة غير مسألة «العيون» . وفي «المنتقى» : إذا قال لغيره: بعتك هذا البيت وما أغلق عليه بابه من المتاع للمشتري، وهذا يقع على حقوقه كأنه قال: بعتك بحقوقه، قال هشام: قلت لأبي يوسف: إن قال له: بعتك بما فيه من شيء، قال: هذا على حقوقه أيضاً، وإن قال على ما فيه من المتاع، فهذا جائز على ما فيه من المتاع. نوع آخر باع من آخر حانوتاً وباب الحانوت من.... يغلق ويفتح وينزع..... دخل الألواح تحت البيع، سواء باع الحانوت بمرافقه أو لم يبعه بمرافقه؛ لأن ألواح الحانوت مركبة بالحانوت معنى، هكذا ذكر في «المنتقى» . ولو كان على الحانوت ظلة في السوق كما يكون في الأسواق، فإن كان باع الحانوت بمرافقه دخل الظلة؛ لأن الظلة من مرافقه، وإن كان باعه مطلقاً فالظلة لا تدخل.

وذكر في «العيون» : إذا اشترى حانوتاً فالألواح للبائع، والصحيح ما ذكرنا أن الألواح للمشتري ويدخل مفتاح الحانوت في البيع من غير ذكر استحساناً لما قلنا في مفتاح الدار. وكوز الحداد للمشتري وكوز الصائغ للبائع؛ لأن الأول مركب، والثاني لا، قال في «المنتقى» : وكوز الحداد بمنزلة أتون الأجر وورق الحداد الذي منع فيه للبائع، وقدر من النحاس يطبخ فيه الحنطة السويق أو للصباغين يطبخ فيه الصبغ، أو للقصارين يوضع فيها الثياب للبائع، هذا كان معلاه السواقين من طين دخلت في البيع، وقد ذكرنا قبل هذا رواية محمد رحمه الله في القدر من النحاس إذا كان موصولاً بالأرض أنه يدخل في بيع البيت. والصندوق المثبت في البناء أو حالهم و.............. أو المنفعة في البناء لا يدخل، وليست هذه الأشياء من متاع الدار ولا من حقوقها، وكذلك جذع القصار الذي زيد عليه الثوب لا يدخل في البيع؛ لأن هذا ليس من حقوق الحانوت ويستوي في هذه المسائل إن ذكر الحانوت مطلقاً أو بمرافقه أو حقوقه؛ لأن هذه الأشياء ليست من حقوق الحانوت ومرافقه، إنما هذا من حقوق التجارة أو الفعلة والعمال. وقدر الحمام يدخل في البيع من غير ذكر، والقصاع لا تدخل، وإن ذكر الحقوق ... ألقي على الأولاد ليست في البناء للبائع. وإذا اشترى حانوتاً أو داراً ووجد في جذع منه دراهم فإن قال البائع: إنها لي فالقول قول البائع؛ لأنا عرفناها في يده، وإن قال: ليس لي فحكمها حكم اللقطة؛ لأنه لم يعرف لها مالك. ومن هذا الجنس إذا اشترى داراً أو حانوتاً فانهدم حائط منها فوجد فيه رصاصاً أو صاجاً أو خشباً إن كان من جملة البناء كالخشب الذي تحت الجدار يوضع ليبتنى عليه ويسمى سبح بالفارسية فهو للمشتري، وإن كان مودعاً فيه فهو للبائع. نوع آخر إذا باع أرضاً أو كرماً ولم يذكر الحقوق ولا المرافق ولا ذكر بكل قليل أو كثير، فإن يدخل تحت البيع باركب للتأبيد.... والأشجار والأبنية؛ لأن هذه الأشياء بمعنى الأرض إذ ليس لنهايتها مدة معلومة، وما يعلم مدة نهايته فهو للتأبيد كالأرض، فإنها ذات نهاية ولكن لما لم يكن لنهايتها مدة معلومة..... كانت للتأبيد، فإذا كانت هذه الأشياء للتأبيد كانت كالأرض من كل وجه، فيدخل تحت بيع الأرض من غير ذكر، فأما الزرع والثمر لا يدخلان في البيع. والقياس: أن يدخل متصل بالأرض اتصال قوام والثمر متصل بالشجر إيصال قوام، فكان كالأشجار مع الأرض إلا أنا استحساناً وقلنا: بأنهما لا يدخلان لقوله عليه السلام: «من باع نخلاً مؤبراً فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع» والزرع مثل

التمر من حيث إن لكل واحد منهما غاية معلومة، فالنص الوارد في الثمر يكون وارداً في الزرع دلالة، والمعنى في ذلك: أن لقطعهما غاية معلومة وما لنهايته غاية معلومة. وإن ذكر في بيع الأرض الحقوق أو المرافق لا يدخل الزرع والثمار أيضاً؛ لأنهما ليسا من جملة حقوق الأرض ومرافقه، وإن قال: بعتها بكل قليل وكثير هو منها وفيها، إن قال: في أثرها من حقوقها، أو قال: من مرافقها، فالثمار والزرع لا يدخلان، وإن لم يقل: في آخرها من حقوقها ومرافقها يدخلان في البيع، وذكر الحاكم أحمد السمرقندي في «شروطه» : أنه إذا ذكر في بيع الضيعة والنخيل كل حق يدخل الزرع والثمر في البيع قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ولم يذكر كل قليل وكثير، وهكذا ذكر الناطفي أن بذكر الحقوق والمرافق يدخل الزرع والثمر في بيع الأرض. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف برواية ابن سماعة عن محمد: أن الثمر والزرع لا يدخل بذكر الحقوق والمرافق. وإذا قال: بكل قليل أو كثير هو منها أو فيها يدخل استحساناً. وروى ابن أبي (44ب3) مالك عن أبي يوسف أنه يدخل الزرع والثمر في الألفاظ كلها، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده في آخر شرح المزارعة الكبيرة أنه إذا قال في بيع الضيعة: بكل قليل وكثير فيها على رواية كتاب الشرب لا يدخل الزرع والثمر في البيع. وهكذا ذكر في «المنتقى» عن محمد؛ لأن الزرع ليس من الأرض، وعلى رواية كتاب الشفعة والمزارعة يدخل. وإن قال بكل قليل وكثير هو فيها يدخل جميع ما فيها من الثمر والزرع والبقل والرياحين وغير ذلك، وإن كان فيها زرع قد حصدت أو ثمار قد جزت لا يدخل في البيع، قال ابن أبي مالك: سمعت أبا يوسف قال: هما سواء، ويدخل الثمر في البيع. وفي «شرح القدوري» وشرح القاضي الإمام الإسبيجابي: أن الزرع إنما لا يدخل في بيع الأرض من غير ذكر، إذا لم يثبت بعد، وصار له قيمة يدخل، ثم إن محمداً رحمه الله ذكر أن الشجرة تدخل في بيع الأرض من غير ذكر، ولم يفصل بين المثمرة وغير المثمرة، ولا بين الصغيرة والكبيرة، فمن مشايخنا من فصل بين المثمرة وغير المثمرة، فقال: المثمرة تدخل من غير ذكر وغير المثمرة لا تدخل، وذهب في ذلك إلى أن غير المثمرة بمعنى الزرع لنهايتها مدة معلومة كما للزرع، فأما المثمرة فليس لنهايتها مدة معلومة، فكان مؤبداً، فكان كالأرض، ومنهم من قال: الشجرة الكبيرة إذا كانت مثمرة تدخل من غير ذكر، وإذا كانت غير مثمرة لا تدخل، والصغيرة لا تدخل إلا بالذكر مثمرة كانت أو غير مثمرة؛ لأن الصغير لقطعها مدة معلومة عند الناس مثمرة كانت أو غير مثمرة، فإنها تقلع وتنقل من موضع إلى موضع، ولمدة ذلك وقت معلوم بين الناس، وكذلك الكبيرة المثمرة هي مثمرة لقلعها مدة معلومة بين الناس، فصار كالزرع بخلاف الكبيرة المثمرة، ومنهم من قال: الكل يدخل من غير ذكر وهذا أصح؛ لأن غير المثمرة ليس لنهايتها مدة معلومة بل تتفاوت بتفاوت الأراضي تفاوتاً فاحشاً صغيرة كانت أو كبيرة بمعنى الكبيرة المثمرة.

وأما قوائم الخلاف هل يدخل في بيع الأراضي من غير ذكر؟ من المشايخ من قال: لا يدخل وألحقها بالثمرة؛ لأن لنهايتها مدة معلومة، ومنهم من قال تدخل؛ لأن مدة نهايتها تتفاوت بتفاوت الأراضي تفاوتاً فاحشاً، فصار بمنزلة الأشجار المثمرة وهو الأقيس. وأما الورد والآس لا يدخلان في البيع من غير ذكر؛ لأن لنهايتها مدة معلومة لا تتفاوت إلا يسيراً، فصارت كالثمرة، فأما أصلهما (فيدخل) في البيع من غير ذكر؛ لأنه ليس لنهايتها مدة معلومة، فكانت بمنزلة سائر الأشجار، هكذا ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الشفعة. وفي «العيون» : أن أصل الآس لا يدخل؛ لأنه بمنزلة الثمر؛ لأنه يقطع كذلك. وأما القطن فلا يدخل في البيع من (غير) ذكر وهو كالثمرة. وأما أصلها فقد قالوا: لا يدخل وهو الصحيح؛ لأن لنهايتها مدة معلومة، فإن بعد ما فرغ من القطن يقطع، ومنهم من قال: يدخل؛ لأن مدة قطعها يتفاوت بتفاوت الأراضي، فإن في بلاد الحر لا يقطع إلا بعد سنين وفي بلادنا يقطع في كل سنة. وشجرة الباذنجان لا تدخل في بيع الأرض من غير ذكر، هكذا ذكر الحاكم أحمد السمرقندي في «شرحه» ، وعلى قياس مسألة القطن يجب أن يكون فيه اختلاف المشايخ. وأما الكراث والقت وفارسية: تيبست والرطبة فما كان على وجه لا يدخل في البيع من غير ذكر كالزرع والثمر؛ لأن لنهايتها مدة معلومة، وأما أصول هذه الأشياء وهي ما كان مغيباً في الأرض، فمنهم من قال: لا يدخل؛ لأن لنهاية الأصول مدة معلومة فيما بين الناس فصار كالزرع، ومنهم من قال: يدخل؛ لأن نهاية هذه الأشياء تتفاوت تفاوتاً فاحشاً بتفاوت الأراضي، فصار كالأشجار وصار الأصل أن ما كان لقطعه مدة معلومة ونهاية معلومة فهو بمنزلة الشجر فيدخل تحت بيع الأرض من غير ذكر. والزعفران لا يدخل من غير ذكر وكذلك أصله، ذكر في «العيون» لأنه يقطع كذلك وصار كالثمرة، والقصب لا يدخل في بيع الأرض من غير شرط، والفرو يدخل؛ لأن الفرو شجر؛ لأن له ساق ولا يقطع أصله حتى كان شجراً يدخل تحت بيع الأرض من غير ذكر، وما لم يكن بهذه الصفة لا يدخل تحت بيع الأرض من غير ذكر؛ لأنه بمنزلة الثمرة. وإذا باع أرضاً وفيها حطب ثابت لا يدخل في بيع الأرض من غير ذكر، ذكره في «العيون» وفي «البقالي» عن أبي حنيفة في الخلاف والحطب والقصب والطرف وأنواع الخشب أنها للمشتري. وروى بشر عن أبي يوسف أن القصب للبائع. وفي «المنتقى» : أن الشوك لمن أخذه بخلاف الحطب، ذكر شيخ الإسلام في شرح المزارعة الكبيرة أن الشجر الذي ذكره محمد في الكتاب أنه يدخل في بيع الأرض من غير ذكر شجر يغرس للبقاء، أما الشجر الذي يغرس للقطع كشجر الحطب وغيره لا يدخل في البيع من غير ذكر. وفي «فتاوي أهل سمرقند» : إذا اشترى أرضاً وفيها أشجار تقطع في كل ثلاث سنين

إن كان يقلع من الأصل فهو للمشتري؛ لأنه شجر وهو الشجر الصغير الذي يباع في السوق في فصل الربيع، وإن كان يقطع من وجه الأرض فهو للبائع؛ لأنه بمنزلة الثمر. ولا يدخل في بيع الأرض شربه وطريقه إلا إذا ذكر ذلك نصاً أو دلالة بأن قال: بجميع حقوقها أو قال بمرافقها، وإذا اشترى أرضاً ونخلاً وليس لها شرب وهو لم يعلم بذلك فله الخيار، هكذا ذكر في «المنتقى» . وفي «العيون» : اشترى نخلة في أرض بطريقها في الأرض ولم يبين موضع الطريق وليس إليها طريق يعني من ناحية معروفة. قال أبو يوسف: الشراء جائز ويأخذ إلى النخلة طريقاً من أي ناحية أحب؛ لأن هذا مما لا يتفاوت حتى (إن) كان متفاوتاً كان البيع باطلاً، وعن محمد رحمه الله: أن البيع باطل ما لم يبين الطريق لمكان الجهالة. وفي «فتاوي الفضلي» : إذا اشترى اشترى أرضاً ... وبين والأرض مسناة وعلى المسناة أشجار، وجعل أحدهما حدود الأرض إلا قذف دخل المسناة وما عليها من الأشجار تحت البيع؛ لأنه جعل المسناة في البيع فيكون من جملة المحدود. وقال في «المنتقى» : وإذا (اشترى) نخلة فهذا على الجذع، ولا يكون بأرضها واعلم بأن شراء الشجرة من ثلاثة أوجه: إما أن يشتريها للقلع بدون الأرض، وفي هذا الوجه يؤمر المشتري بقلعها بعروقها، وأصلها يدخل في البيع، وليس له أن يحفر الأرض إلى ما يتناهى إليه العروق، ولكن يقلعها على ما عليه العرف والعادة إلا إذا شرط البائع القلع على وجه الأرض أو يكون في القلع مضرة للبائع، نحو أن يكون بقرب الحائط أو ما أشبه ذلك، فحينئذ يؤمر المشتري أن يقطعها على وجه الأرض، فإن قلعها أو قطعها ثم نبت من أصلها أو عرقها شيء، فالنابت للبائع، وإن قطع من أعلى الشجرة فما نبت يكون للمشتري. وأما إذا اشتراها مع قرارها من الأرض، فإنه لا يؤمر المشتري بقلعها، ولو قلعها فله أن يغرس مكانها أخرى. وأما إذا اشتراها ولم يشترط شيئاً، فعند أبي يوسف رحمه الله: الأرض لا تدخل في البيع، وعند محمد: تدخل، وله الشجرة مع قرارها من الأرض هذه الجملة في بيوع «شرح الطحاوي» .g وأجمعوا أن ما تحت الشجرة من الأرض يدخل في القسمة. وفي «كتاب العيون» : في باب بيع الشجرة قبل كتاب الرهن: أن دخول الأرض في الوصية الشجرة على الاختلاف الذي ذكرنا في البيع. قال: والهبة والصدقة كالوصية. وذكر شيخ الإسلام في كتاب القسمة: أن ما تحت الحائط من الأرض يدخل في الإقرار والقسمة والبيع، وذكر في «المنتقى» أيضاً: أن ما تحت الحائط من الأرض يدخل في بيع الحائط، والمذكور في «المنتقى» إذا باع حائطاً من دار فهذا بأرضه، قال: لأن

الحائط (45أ3) بغير الأرض لا يسمى حائطاً. وفي «المنتقى» أيضاً: وقال أبو حنيفة في الحائط: هو له بأصله، وفي النخلة يقلعها بأصلها في البيع والهبة كل شيء، وقال أبو يوسف: مثل ذلك إلا أنه قال أستحسن في الشجرة أن له بأصلها فصار حاصل الجواب في الشجر أن على قول أبي حنيفة لا تدخل الأرض في بيع الشجرة، وعند محمد تدخل، وعن أبي يوسف روايتان، قال الصدر الشهيد: والفتوى في مسألة البيع على أن الأرض تدخل، وفي أي موضع دخل ما تحت الأرض من الشجر، فإنما يدخل بقدر غلظ الشجرة وقت مباشرة ذلك التصرف، حتى لو ازدادت الشجرة غلظاً تحت الأرض كان لصاحب الأرض أن يسحب ولا يدخل تحت الأرض ما يتناهى إليه العروق والأغصان وعليه الفتوى. وفي «المنتقى» إذا قال لغيره: بعت منك هذه المبطخة فهذا على البطيخ إذا كان فيه بطيخ، وكذلك المنقلة إذا كان فيه نقل، وكذلك هذه الرطبة ولو قال بعتك هذا الكرم أو هذا النخيل، فهذا على الأرض. قالوا: وأراد بالنخيل البستان أو الذي يقال له بالفارسية در خبيان. فقد حكينا قبل هذا رواية «المنتقى» : أن من اشترى نخلة فهذا على الجذع ولا يكون بأرضها، وإذا قال: بعتك هذا الكرم أو هذا النخيل وفيه تمر أو عنب فإني أنظر إلى الثمن فإن كان ثمناً للعنب أو التمر فهو على العنب (والتمر) ، وإن كان ثمناً للنخيل والكرم (فهو على النخيل والكرم) ذكره في «المنتقى» : ولم ينسبه إلى أحد. وهو نظير ما ذكر في دعوى «العيون» : إذا اشترى الرجل من آخر مزبلة بمائة درهم ثم اختلفا قال المشتري: إنما اشتريت منك الأرض وقال البائع: بعتك الكناسة بحكم الثمن إن كان مثل ذلك الثمن يكون للأرض قضيت ببيع المزبلة دون الأرض. في «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف إذا قال لغيره: بعتك كرمي هذا، أو قال: بستاني هذا فهذا على الكرم بأصله والبستان بأرضه، فإن كان في البستان أو النخيل أو الكرم تمر فهذا كله على تمر البستان والنخيل والكرم ولم يقل ينظر إلى الثمن كما في المسألة المتقدمة. وفي «المنتقى» : رواية مجهولة إذا قال لغيره: بعتك قريتي التي يقال لها كذا وكذا ولم يسم حدودها فهو على موضع القرية البناء والبيوت دون المحرث. ولو باع قرية أخرى بجنبها فقال بعتك هذه القرية أحد حدودها أو الثاني أو الثالث أو الرابع قرية البائع تدخل أرض هذه القرية التي لم يبعها في أرض القرية التي باعها مما يليها، وإن قال: أحد حدود هذه القرية أرض قرية كذا لم تدخل فيه أرض القرية التي لم يبعها. وفي «فتاوي أهل سمرقند» : إذا اشترى كرماً وفيه ورق التوت والورد وذكر حقوقها لا يدخل ذلك في البيع؛ لأنه بمنزلة الثمر، وقد ذكر الكلام في دخول الثمر في البيع بذكر الحقوق وما فيه من الاختلاف ففي ورق التوت والورد يكون كذلك.

وفيها أيضاً: اشترى شجرة بعروقها وقد نبت من عروقها أشجار، فإن كانت الأشجار النابتة بحيث لو قطعت شجرة الأصل يبست صارت مبيعة وإلا فلا؛ لأنها إذا كانت تيبس بقطع الشجرة كانت نابتة من هذه الشجرة، فكانت مبيعة. ذكر في «النوازل» وفي «فتاوي الفضلي» : أن من اشترى أشجاراً وعليها ثمار إلا أنها بحال لا قيمة لها فإنها للمشتري. وذكر فيه أيضاً: علة المسألة فقال: لأن بائعها لو قصد بيعها على الإنفراد لا يجوز، وفي الجواب نظر وفي التعليل كذلك، وينبغي أن تكون الثمار للبائع لما ذكرنا قبل هذا، وبيعها على الانفراد جائز هو الصحيح على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وفي «فتاوي أبي الليث» : رجل باع كرماً بمجرى مائة وكل حق له، ومجرى مائة في سكة بينه وبين رجلين وعلى ضفة النهر أشجار، فإن كان المجرى ملك البائع فالأشجار للمشتري؛ لأن رقبة المجرى دخلت تحت البيع، فدخلت الأشجار تبعاً، وإن لم يكن المجرى ملك البائع لكن له حق المسيل، فالأشجار للبائع؛ لأن رقبة المجرى لم تدخل تحت البيع فلا تدخل الأشجار تبعاً لو دخلت دخلت أصلاً باسمها ولم يوجد. نوع آخر اشترى من آخر جارية وعليها ثيابها التي يباع مثلها دخل الثياب تحت البيع بحكم العرف وإنما تدخل ثياب مثلها إن شاء البائع أعطاها الذي عليها، وإن شاء أعطاها غير ذلك؛ لأن الدخول بحكم العرف والعرف في كسوة مثلها لا بعينها هكذا ذكر المسألة في «العيون» . وليس معنى قوله: دخل الثياب تحت البيع أنه يصير للثياب حصة من الثمن بل لا يصير حتى لو استحق شيء من الثياب من يدي المشتري أو وجد المشتري بالثياب عيباً لا يرجع بشيء من الثمن في فصل الاستحقاق ولا يرد الثياب بالعيب في فصل العيب، وإنما معناه أن للمشتري أن يطالب البائع بذلك. وكذلك إذا وجد بالجارية عيباً ردها، وإن لم يجد بالثياب عيباً، وذكر هذه المسألة في «النوازل» ووضعها في الغلام، فقال: إذا باع غلاماً وعليه ثياب دخل الثياب في العقد، ولو استحق ثياب الغلام لا يرجع المشتري على البائع؛ لأن الثياب لم تدخل تحت البيع حتى يصير له حصة من الثمن، فيردها بالعيب ويرجع ببعض الثمن عند الاستحقاق، ولكن للمشتري مطالبة البائع بذلك؛ لأن البائع صار مملكاً ذلك من المشتري تبعاً للبيع عرفاً، ولو وجد بالغلام عيباً رده؛ لأن الثياب ليست بمبيعة ليمتنع رد الجارية بالعيب. وفي «النوازل» أيضاً: إذا باع حماراً دخل العذار وهو الذي بالفارسية فسار في البيع بحكم العرف، وإذا باع حماراً موكفاً دخل الإكاف والبردعة في البيع بحكم العرف، وإذا لم يكن عليه بردعة ولا إكاف دخل البردعة والإكاف أيضاً، كذلك اختاره الصدر الشهيد، وإذا كان موكفاً ودخل الإكاف والبردعة لا يكون له حصة من الثمن على نحو ما ذكرنا في

ثياب الجارية والغلام وبعض المشايخ قالوا: إذا كان على الحمار إكاف وبردعة دخل الإكاف، وإذا كان عرياناً لا يدخل شيء من ذلك في البيع. وهذا القائل يفرق بين الحمار والجارية، والغلام والجارية، والغلام إذا بيع ليس عليه ثياب يدخل ثياب مثله في العقد؛ لأن الغلام والجارية لا يباعان عرياناً عادة بخلاف الحمار، فإنه يباع عرياناً عادة كما يباع مع البردعة والإكاف. ولم يذكر في شيء من الكتب ما إذا باع فرساً وعليه سرج، قيل: وينبغي أن لا يدخل السرج في البيع إلا بالتنصيص عليه أو يكون الثمن شيئاً كثيراً لا يشترى ذلك الفرس عادة بمثل ذلك الثمن (إلا) مع مثل ذلك السرج؛ لأن العادة ما جرت ببيع الفرس معه ولا كذلك ببيع الحمار وبيع الغلام والجارية. قال هشام: سألت أبا يوسف: عن رجل باع جاريته وعليها قلب فضة أو قرطان ولم يشترط ذلك والبائع ينكر، قال: لا يدخل شيء من الحلي فهو لها، وإن سكت عن طلبه وهو يراه فهو بمنزلة ما لو سلم ذلك. وفي صلح «فتاوي الفقيه أبي الليث» رحمه الله: عبد له مال باعه المولى مع ماله قال: إن لم يسم ماله، فالبيع فاسد، قوله: إنه باع العبد مع ماله ولكن لم يبين مقداره، وأما إذا باع العبد وسكت عن ذكر المال، فالبيع يكون جائزاً ويكون المال للبائع وهو الصحيح، ولو كان باعه مع ماله وسمى أي سمى مقدار ماله ينظر إن كان ثمن العبد من جنس ماله بأن كان مال العبد دراهم وثمن العبد أيضاً دراهم أو كان مال العبد دنانير وثمن العبد دنانير لابد، وأن يكون الثمن زائداً على مال العبد ليكون بإزاء مال العبد من الثمن قدره والباقي (45ب3) يكون بإزاء العبد، فأما إذا كان ثمن العبد أقل من مال العبد أو مثله لا يجوز وإن كان ثمن العبد من خلاف جنس مال العبد بأن كان ثمن العبد دراهم ومال العبد دنانير أو على العكس يجوز كيف ما كان ثمن العبد، ولكن يشترط قبض حصة الصرف في المجلس، فإن افترقا قبل القبض بطل العقد بحصة الصرف وبقي بحصة العبد، ولو كان مال العبد ديناً أو كان بعضه ديناً فالعقد فاسد. وفي «القدوري» : إذا اشترى سمكة فوجد فيها لؤلؤة فهي للمشتري. ولو اشترى دجاجة فوجد فيها لؤلؤة فهي للبائع. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا اشترى سمكة فوجد في بطنها سمكة أخرى فهما جميعاً للمشتري، ولو وجد في بطنها لؤلؤة فهي للبائع؛ لأن هذا مما لا يأكل السمك، قالوا: أراد بقوله فهي للبائع يأخذها وتكون لقطة في يده. قال: ولو وجد في بطنها صدف فيه لحم وفي اللحم لؤلؤة كما يكون في الأصداف فهي للمشتري؛ لأن هذا مما يأكل السمك له. قال: ألا ترى أنه لو اشترى رجل من رجل أصدافاً ليأكل ما فيها من اللحم فوجد في بطنها لؤلؤة في اللحم أن ذلك له؛ لأنها خلقة في اللحم من الصدف قال: ولا يشبه هذا اللؤلؤة المنزوعة في بطن السمك. وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عمن باع الصدفة كما هو قال: البيع جائز

الفصل السادس: فيما يجوز وما لا يجوز بيعه

واللؤلؤة يعني للبائع ما لم يسم اللؤلؤة، وإن اشتراها بدرهم وهي ثمن أكثر من ألف درهم وهذا يخالف رواية ابن سماعة رحمه الله. وعن محمد رحمه الله برواية ابن رستم: لو اشترى سمكة ووجد في بطنها عنبرة فهي للمشتري؛ لأنها طعامها وهي حشيش يأكل السمك في البحر والله أعلم. الفصل السادس: فيما يجوز وما لا يجوز بيعه هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع من ذلك في بيع الدين بالدين وبيع الأثمان، وبطلان العقد بسبب الافتراق قبل القبض فنقول: بيع الدين بالدين جائز إذا تفرقا عن المجلس بعد قبض البدلين حقيقة أو بعد قبض البدلين حكماً، سواء كان عقد صرف أو لم يكن، أما بعد قبض البدلين حقيقة بأن اشترى من آخر ديناراً بعشرة دراهم حتى كان صرفاً أو لم تكن الدنانير والدراهم بحضرتهما ثم نقدا في المجلس وتفرقا جاز. فكذلك إذا اشترى فلوساً أو طعاماً بدراهم حتى لم يكن صرفاً ولم يكن بحضرتهما ثم نقدا في المجلس وتفرقا جاز، وأما بعد قبض البدلين حكماً بأن كان لرجل على آخر بعشرة دراهم وللآخر عليه دينار فاشترى كل واحد منهما ما عليه بماله على صاحبه كان العقد صرفاً أو لم يكن صرفاً بأن كان على آخر فلوساً أو طعاماً، وللآخر عليه دراهم فاشترى كل واحد منهما ما عليه بماله على صاحبه وتفرقا كان العقد جائزاً، وهذا فراق بعد قبض البدلين حكماً، وأما بعد قبض البدلين أحدهما حقيقة، والآخر حكماً بأن كان لرجل على رجل عشرة دراهم، فاشترى من عليه الدراهمُ الدراهمَ بدينار نقد الدينار وتفرقا عن المجلس فالعقد جائز، وهذا افتراق بعد قبض البدلين أحدهما حقيقة والآخر حكماً. وكذلك إن كان لرجل على رجل حنطة فاشترى من عليه الحنطةُ بالدراهم ونقد الدراهم في المجلس جاز. وذكر في صلح «الفتاوى» مسألة الحنطة وقال: لا يجوز البيع وإن نقد الدراهم في المجلس قالوا: وما ذكر في صلح «الفتاوى» محمول على ما إذا كانت الحنطة مسلماً فيها؛ لأن الاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز، أما إذا كانت الحنطة قرضاً أو ثمن بيع جاز البيع على ما ذكرنا، وأما إذا حصل الافتراق بعد قبض أحد البدلين في بيع الدين بالدين إن حصل الافتراق بعد قبض أحد البدلين حقيقة جاز في غير الصرف. بيانه: فيمن اشترى ديناراً بعشرة دراهم حتى كان العقد صرفاً فقبض الدينار ولم يسلم العشرة حتى تفرقا أو سلم العشرة ولم يقبض الدينار حتى تفرقا كان البيع فاسداً. ولو اشترى فلوساً أو طعاماً بدراهم حتى لم يكن العقد صرفاً وتفرقا بعد قبض أحد البدلين حقيقة كان العقد جائزاً وأما إذا حصل الافتراق بعد قبض أحد البدلين حكماً كان

العقد فاسداً سواء كان عقد صرف أو غير عقد صرف. بيانه: فيما إذا كان له على رجل دينار، فاشترى الدينار الذي عليه بعشرة دراهم حتى كان العقد صرفاً، أو تفرقاً قبل نقد العشرة كان باطلاً. وكذلك إذا كان عليه فلوس أو طعام فاشترى ما عليه بدراهم حتى لم يكن العقد صرفاً وتفرقا قبل نقد الدراهم كان العقد باطلاً، وهذا افتراق بعد قبض أحد البدلين حكماً؛ لأن ما في ذمة أحدهما مقبوضة وهذا فصل يجب حفظه والناس عنه غافلون. فإن العادة فيما بين الناس إن كان له على آخر حنطة أو شعير أو ما أشبه ذلك فصاحبها يأخذ ممن عليه عند غلاء الشعير حطاً بالذهب أو بالفضة ويسمون ذلك فيما بينهم كندم رابها كردن، فإنه فاسد لكونه افتراقاً عن دين بدين، وإنما جاز هذا العقد بعد قبض البدلين حقيقة أو حكماً لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فإنه سأل رسول الله عليه الصلاة والسلام وقال: إني أكري الإبل من البقيع إلى مكة بالدراهم وآخذ مكانها دنانيراً أو بالدنانير وآخذ مكانها دراهم، فقال عليه السلام: «لا بأس بأن تأخذ بسعر يومها وقد افترقتما وليس بينكما عمل» معناه إذا افترقتما ولا يبقى أحد البدلين ديناً لأحدكما في ذمة الآخر بعد ما تفرقتما، فقد جوز رسول الله عليه الصلاة والسلام بيع الدين بالدين وإن كان صرفاً إذا تفرقا وليس بينهما عمل على التفسير الذي قلنا، وإذا جاز هذا في الصرف جاز فيما ليس بصرف من الطريق الأولى وصار هذا البيع مستثنياً عن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله عليه الصلاة والسلام «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» أي: الدين بالدين. وأما إذا تفرقا بعد قبض أحد البدلين حقيقة فإن كان صرفاً، فالعقد باطل؛ لأنهما افترقا وقد بقي بينهما عمل فإن أحد البدلين بقي ديناً لأحدهما على صاحبه فيحتاج إلى قبضه بعد ما تفرقا عن المجلس، ورسول الله عليه الصلاة والسلام جوز بيع الدين بالدين في الصرف إذا افترقا وليس بينهما عمل لم يكن داخلاً تحت المجوز، فيكون داخلاً تحت المحرم وهو النهي عن بيع الدين بالدين. وإن لم يكن صرفاً فالعقد جائز؛ لأن البدل المقبوض صار عيناً بالقبض فيكون هذا افتراقاً عن عين بدين وإنه لا يفسد العقد في غير الصرف وعلى هذا جميع بياعات الناس، وأما إذا تفرقا بعد قبض أحد البدلين حكماً لا يجوز سواء كان عقد صرف أو غير صرف؛ لأنهما افترقا عن دين بدين وإنه يفسد العقد صرفاً كان أو غير صرف. وإذا اشترى دراهم بيضاء فأعطاه البائع مكانه سوداء ورضي به المشتري جاز؛ لأن السود دراهم ولكن مع العيب فكان الجنس واحداً، فإذا رضي المشتري بسقوط حقه عن

الجودة كان مستوفياً لا مستبدلاً فيجوز، والمراد من السود المضروب من النقرة السوداء لا الدراهم التجارية حتى لو قبض مكان الدراهم البيض درهماً تجارياً لا يجوز؛ لأن الجنس مختلف فيكون هذا استبدالاً فلا يجوز. وإذا أعطى البيض مكان السود ذكر شمس الأئمة السرخسي والشيخ أبو الحسن القدوري رحمهما الله: أنه يجبر على القبول وإليه أشار عصام في «مختصره» . وإذا باع فلساً بفلسين حالة الرواج، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه: (46أ3) أحدها: أن يبيع فلساً بغير عينه بفلسين بغير أعيانهما، وفي هذا الوجه البيع فاسد لوجهين: أحدهما: أن هذا بيع الدين بالدين. والثاني: أن الجنس بانفراده محرِّم للنساء عندنا على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. الوجه الثاني: إذا باع فلساً بعينه بفلسين بأعيانهما وفي هذا الوجه البيع جائز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يجوز. وجه قوله: أن الفلوس أثمان حتى لا يتعين بالتعيين وبيع الأثمان واحداً باثنين لا يجوز كبيع الدراهم والدنانير واحداً باثنين، ولأبي حنيفة وأبي يوسف: أن ثمنية الفلوس إنما تثبت باصطلاح الناس، فإذا عيناه فقد أبطلا جهة الثمنية فعادت سلعة كما كانت فيجوز البيع متساوياً متفاضلاً. فإن قيل: الثمنية تثبت باصطلاح الكل، فلا يبطل باصطلاحهما على خلاف ذلك. قلنا: الثمنية في حقهما يثبت باصطلاح غيرهما عليهما، وإن قلنا: إن الثمنية لا تبطل إلا أن ربا النقد إنما يجري بالجنس والقدر وهو الكيل أو الوزن وههنا إن وجد الجنس لم يوجد القدر، أما الكيل فظاهر. وأما الوزن؛ فلأن الناس تعارفوا بيع الفلوس عدداً إلا وزناً، ولهذا قلنا: إذا باع فلساً بعينه وأحدهما أثقل من الآخر وزناً إنه يجوز، ولو كان موزوناً لكان لا يجوز كما إذا باع درهماً بدرهم أثقل من الآخر وزناً وههنا لما جاز علمنا أن الوزن ساقط الاعتبار في الفلوس فلم يوجد إلا لجنس فلا يجري الربا. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني: وكل جواب ذكرناه في الفلوس فهو في الدراهم التجارية أعني بها العطارف من جملة الفلوس؛ لأنها صفر كالفلوس، وكذلك الجواب في الرصاص والستوقة قالوا: ويجب أن يكون في العدلي كذلك؛ لأن الصفر فيه غالب فصار بمنزلة الفلوس. الوجه الثالث: إذا كان أحد البدلين عيناً والآخر ديناً وفي هذا الوجه إن كان ما في الذمة مؤجلاً لا يجوز البيع لما ذكرنا أن الجنس بانفراده يحرم النسّاء عندنا، وإن كان ما في الذمة غير مؤجل لا شك أن على قول محمد: لا يجوز؛ لأن عنده لو باع فلساً بعينه بفلسين بأعيانهما لا يجوز، فإذا كان أحد البدلين بغير عينه أولى. وأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: فقد اختلف المشايخ بعضهم قالوا: يجوز؛

لأن الفلوس عندهما تصير بمنزلة العرض حال مقابلته بجنسه، قالوا: لو باع فلساً بعينه بفلسين بأعيانهما يجوز كما لو باع قمقمة بقمقمين، فإذا صار الفلس المعين على مذهبهما بمنزلة العرض كان بمنزلة ما لو باع عرضاً بعينه بفلسين في الذمة. ومنهم من قال: لا يجوز؛ لأن الفلس عندهما إنما تتعين بالتعيين حال تعيين أحد البدلين فلا (يجوز) ؛ وهذا لأن الفلوس الرائجة لها حكم العرض من وجه. ولهذا قال في ظاهر الرواية: يجوز السلم في الفلوس، والسلم إنما يجوز في المثمنات لا في الأثمان، فمن هذا الوجه الفلوس بمنزلة العروض ولها حكم الأثمان من وجه. ولهذا قالوا: إذا قوبلت بخلاف جنسه لا يتعين كالدراهم والدنانير حتى لو هلكت الفلوس المشار إليها لا يبطل العقد، وإذا كان للفلوس حكم العروض من وجه وحكم الأثمان وفرنا على الشبهين حظهما فلشبهها بالعروض قالا: بالتعين حال تعين البدلين إلحاقاً لها بالعروض ولشبهها بالدراهم قالا: بعدم التعين حال تعيين البدلين إلحاقاً لها بالدراهم، وإذا ألحقاها بالدراهم في هذه الحالة كان بمنزلة ما لو باع درهماً بعينه بدرهمين بغير أعيانها. ثم إذا باع فلساً بعينه بفلسين بأعيانهما حتى جاز العقد عند أبي حنيفة، هل يشترط التقابض في المجلس؟ ذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في صرف «الأصل» ولم يشترط التقابض فهذا دليل على أن التقابض ليس بشرط، وذكر في «الجامع الصغير» : ما يدل على أنه شرط. فإنه قال: إذا باع فلساً بفلسين يجوز يداً بيد إذا كان بعينه من مشايخنا من لم يصحح ما ذكر في «الجامع الصغير» : لأن التقابض مع العينية إنما يشترط في الصرف وهذا ليس بصرف، ومن مشايخنا من صحح ما ذكر في «الجامع الصغير» لأن الفلوس لها حكم العروض من وجه وحكم الأثمان من وجه، فمن حيث إن لها حكم العروض جوزنا بيع واحد باثنين إذا كان عينين كما لو باع سيفاً بسيفين، ومن حيث إن لها حكم الدرهم شرطه التقابض في المجلس صح العينية عملاً بالدليلين بقدر الإمكان. وذكر القدوري في «شرحه» : إذا باع الفلس بالفلس وقبض أحدهما ما اشترى ولم يقبض الآخر حتى تفرقا، أو تقابضا ثم استحق ما في يد أحدهما بعد الافتراق، فالعقد صحيح على حاله. وكذا لو باع الفلوس بالدراهم أو بالدنانير فقد اكتفى بقبض أحد البدلين لصحة هذا العقد ولبقائة على الصحة فهذا دليل أن التقابض ليس بشرط. وروى هشام عن محمد: فيمن اشترى فلوساً بدراهم وقبض الفلوس ولم يقبض الدراهم حتى افترقا فهو جائز قال: ألا ترى أني أسلم الدراهم في الفلوس فقد اكتفى بقبض الفلس لصحة العقد.k ووجه ذلك من أحدهما: أن الفلوس في الأصل عرض وليست بأثمان وإنما يثبت لها وصف الثمنية بعارض، فيجب إثبات هذا الوصف على وجه لا ينعدم المعنى

الأصلي، فاكتفينا بقبض أحد البدلين كما في العروض إذ به يخرج من أن يكون ديناً بدين، فأما قبض البدلين إنما يعين فيما هو أثمان بقبضه الأصل، وهذا ليس بهذه الصفة. والثاني: أن قضية القياس أن لا يجب قبض البدلين في المجلس، وإن كان العقد صرفاً ولكن عرفنا اشتراط التقابض في عقد الصرف بالنص، والنص الوارد في بيع الصرف لا يكون وارداً في بيع الفلس؛ لأن ثمنية الفلس عارضة على شرف الزوال بالكساد فرد بيع الفلس إلى ما يقضتيه القياس. ذكر القدوري في «شرحه» أيضاً: قال محمد رحمه الله: فإذا اشترى فلوساً على أن كل واحد منهما بالخيار وتقابضا وتفرقا عن ذلك فالبيع فاسد؛ لأن الخيار يمنع الملك وصحة القبض، فكأنهما افترقا من غير قبض، ولو كان أحدهما بالخيار فالبيع جائز. ويجب أن يكون هذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على أصلهما: خيار المشتري لا يمنع ثبوت الملك له فيما اشترى، فلا يمنع صحة القبض فينعدم القبض المستحق من أحد الجانبين. والقبض إنما يعتبر فيهما لا في أحدهما، أما على قول أبي حنيفة يؤمر من الجانبين، فإنه كما لا يملك على المشروط له الخيار البدل الذي من جانبه عند أبي حنيفة لا يملك هو البدل الذي من جانب صاحبه، فاشتراط الخيار لأحدهما يمنع صحة القبض وتمامه فيهما جميعاً. قالوا: وينبغي على قول أبي حنيفة وأبي يوسف إذا باع فلساً بعينه بفلسين بأعيانهما بشرط الخيار أن يجوز البيع؛ لأنهما بمنزلة العروض في هذه الحالة عندهما فلم يكن القبض شرطاً. ولو اشترى بفلوس كاسدة في موضع لا ينفق فإن كانت بأعيانهما جاز، وإن لم تكن معينة لا يجوز؛ لأنها بعد الكساد تعود عرضاً، وشرط صحة العقد في العروض التعيين. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا استقرض الرجل كراً من طعام وقبضه ثم إن المستقرض اشترى من المقرض الكر الذي له عليه بمائة درهم (صح شراؤه) ؛ لأن المستقرض صار ملكاً للمستقرض بنفس القبض ووجب عليه للمقرض كراً مثله، فيصح شراؤه بخلاف ما إذا اشترى غير من عليه الكر حيث لا يجوز؛ لأن هناك الحاجة إلى التسليم ولا يمكنه للتسليم إلا بالقبض، فكان عاجزاً عن التسليم في الحال (46ب3) وههنا لا حاجة إلى التسليم؛ لأن المبيع في يد المشتري؛ لأنه في ذمته، وإذا جاز الشراء إن نقد المائة في المجلس فالشراء ماض على الصحة، وإن افترقا من غير قبض بطل الشراء، وهذا بخلاف ما لو وجب للمستقرض على المقرض كر حنطة، ثم إن كل واحد منهما اشترى ما عليه لصاحبه عليه وتفرقا حيث يجوز؛ لأن في المسألة الأولى الافتراق حصل بعد قبض أحد البدلين حكماً، وفي المسالة الثانية حصل بعد قبض البدلين حكماً. قالوا: وهذا الجواب الذي ذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن عندهما المستقرض يصير ملكاً للمستقرض بنفس القبض، فيجب عليه مثله ديناً في الذمة فيصح الشراء، أما على قول أبي يوسف: المستقرض لا يصير ملكاً للمستقرض إلا بالاستهلاك

بعد القبض فلم يجب في ذمة المستقرض للحال شيء، فلا يصح الشراء، فإذا استهلكه ثم اشتراه الآن يصح الشراء بلا خلاف. ثم إذا نقد المشتري وهو المستقرض المائة في المجلس ثم وجد بالكر القرض عيباً لم يرده؛ لأنه لا وجه إلى رده حكم الشراء لم يتناوله ولا وجه إلى رده بحكم القرض؛ لأن القرض ينزع لا يوجب السلامة عن العيب لكن يلزم المستقرض مثل المقبوض ولكن يرجع بنقصان العيب من الثمن؛ لأن المبيع كر وجب في الذمة بحكم القرض والمقبوض بحكم القرض معيب فكذا ما وجب بدلاً عنه، والعقد يقتضي السلامة عن العيب، وقد ظهر العيب بالمبيع وتعذر رده؛ لأنه كان ديناً في ذمة المستقرض وقد سقط عن ذمته كما اشتراه وهلك فهو بمنزلة ما لو اشترى عبداً وهلك في يد المشتري ثم اطلع على عيب به. ولو كان القرض المقبوض مستهلكاً كان الجواب كما قلنا إلا أن الفصل الأول يكون مختلفاً، والفصل الثاني يكون مجمعاً، وكذلك الجواب في كل مكيل وموزون غير الدراهم والدنانير والفلوس إذا كان قرضاً. ولو كان المستقرض اشترى الكر الذي عليه بالقرض بكر مثله جاز، إذا كان ديناً لا يجوز إلا إذا قبضه في المجلس لما مر، فإن وجد المستقرض بالقرض (عيباً) لم يرده ولم يرجع بنقصان العيب بخلاف الفصل الأول. والفرق: أن في هذا الفصل لو رجع بنقصان العيب يرجع ببعض الكر الذي دفع المستقرض فيكون هذا مبادلة كل كر من طعام بأقل من الكر وذلك ربا، أما في الفصل الأول لو رجع بنقصان العيب يرجع بنقصان الدراهم التي دفع المستقرض عوضاً من الكر المستقرض فيكون هذا مبادلة كر بأقل من مائة درهم وذلك جائز. وإذا اشترى المستقرض الكر المستقرض بعينه وهو مقبوض لم يصح شراؤه عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأنه صار ملك المستقرض بنفس القبض، فإنما اشترى ملك نفسه وعلى قول أبي يوسف يصح؛ لأنه صار ملك المقرض. فإن قيل: لم لا يقدم فسخ القرض تصحيحاً لما قصدا كما تقدم فسخ البيع بألف على البيع بألفين تصحيحاً لما قصدا. قلنا: فسخ القرض لا يتم إلا برد المقرض، وذلك فعل والأفعال لا يمكن إثباتها بطريق الاقتضاء، فلا يثبت فسخ القرض إلا إذا سقط اعتبار الرد الفسخ مقتضى الإقدام على البيع ولا وجه إلى ذلك؛ لأن ما صار شرطاً للشيء لا يسقط اعتباره، وإن كان ثبوت ذلك الشيء بطريق الاقتضاء. ونظير هذا ما قال أبو حنيفة فيمن قال لغيره: أعتق عبدك عني بغير شيء لا يثبت الهبة بطريق الاقتضاء؛ لأن القبض شرط لها، وإنه فعل فلا يمكن إثباتها بطريق الاقتضاء إلا إذا سقط اعتبار القبض شرطاً للهبة ولم يسقط، وإن كان ثبوت الهبة مقتضى غيره وهو الإعتاق عن الأمر كذا ههنا. ولو اشترى المقرض من المستقرض غير القرض صح (عند) أبي حنيفة؛ لأنه ملك المستقرض، وعلى قول أبي يوسف: لا يصح؛ لأنه بقي على ملك المقرض.

رجل أقرض رجلاً ألف درهم على أنها جياد فقبضها ثم اشتراها المقرض ما عليه بعشرة دنانير صح، أما على قول أبي حنيفة: فلأنه وجب على المستقرض مثل تلك الدراهم ديناً في الذمة بنفس القبض، وأما على قول أبي يوسف: فلأن العقد لا يتعلق بالدراهم المعينة بالإشارة، فلا يتعلق في الدراهم التي في الذمة بالإضافة إليها بل يتعلق بمثلها، ويصير هو بائعاً الدنانير بمثل تلك الدراهم فصار وجوب تلك الدراهم في الذمة والعدم بمنزلة، بخلاف مسألة الطعام؛ لأن العقد يتعلق بالطعام المعين بالإشارة إليه، فيتعلق بما في الذمة بالإضافة، فإذا لم يكن في ذمته شيء لا يصح الشراء. ثم إذا صح الشراء ههنا بالاتفاق فإن لم ينقد الدنانير في المجلس وافترقا بطل العقد، وإن قبض الدنانير في المجلس فالعقد ماض على الصحة؛ لأن في الوجه الأول افترقا بعد قبض أحد البدلين حكماً. وفي الوجه الثاني: افترقا بعد قبض البدلين أحدهما حقيقة والآخر حكماً، فإن وجد المستقرض الدراهم القرض زيوفاً أو نبهرجة لم يردها على ما ذكرنا، ولا يرجع بنقصان العيب ههنا أيضاً بخلاف مسألة شراء الكر (يرجع) عليه بالدراهم. والفرق: أن العقد يتعلق بالكر الذي هو عين بالإشارة فيتعلق بالكر الذي في ذمة المستقرض بالاضافة، وإذا تعلق العقد بالكر الذي في ذمة المستقرض فلو رجع بحصة العيب من الدراهم كان مشترياً الكر بأقل من المائة، وإنه ليس بربا. أما العقد لا يتعلق بالدراهم التي في ذمة المستقرض بدلاً عن الدنانير وللمقرض على المستقرض ألف درهم مثل ذلك بزعمهما فالتقيا قصاصاً وصار المستقرض قاضياً ما كان للمقرض بما وجب للمستقرض في ذمة المقرض بالشراء، فلو رجع عليه بنقصان العيب يسلم له ألف درهم وشيء بمقابلة ألف درهم وهو الربا. وإذا ادعى رجل على غيره شيئاً مما يكال أو يوزن أو يعد فاشتراه المدعى عليه من المدعي بمائة دينار ثم تصادقا أنه لم يكن للمدعي على المدعى عليه شيء فالعقد باطل تفرقا أو لم يتفرقا؛ لأن العقد يتعلق بالكر في الذمة بالإضافة، فإذا تبين أنه لم يكن في الذمة تبين أنه باع المعدوم وبيع المعدوم باطل. ولو ادعى دراهم أو دنانير أو فلوساً فاشتراها المدعى عليه بدراهم ونقد الدراهم ثم تصادقا أنه لم يكن عليه شيء، ففي مسألة الدراهم والدنانير إن لم يتفرقا ورجع بمثل ما اشترى في المجلس يصح العقد؛ لأن العقد لم يتعلق بالمسمى في الذمة فيجعل كأنه وجد مطلقاً، فلا يبطل بتأخير القبض إلى آخر المجلس. ولو تفرقا عن المجلس بطل العقد لافتراقهما عن المجلس قبل أخذ البدلين حقيقة في الفلوس لا يبطل العقد، وإن تفرقا عن المجلس قبل قبض ما اشترى؛ لأن في بيع الفلوس بالدراهم يكتفي بقبض أحد البدلين حقيقة؛ لأنه ليس بصرف على ما ذكرنا. ولو اشترى الرجل من غيره شيئاً بدراهم على المشتري وهما يعلمان أنه لا شيء للبائع على المشتري لا يجوز الشراء، ويكون هذا بمنزلة الشراء بغير ثمن؛ لأنه سمى ما لا يتصور ثمناً.

وإذا باع درهماً كبيراً بدرهم صغير أو درهماً جيداً بدرهم صغير رديء يجوز؛ لأن لهما فيه غرضاً صحيحاً. فأما إذا كانا مستويين في القدر والصفة فبيع أحدهما بالآخر هل يجوز وهل يصير مثله ديناً في الذمة؟ واختلف المشايخ قال بعضهم: لا يجوز، وإليه أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» : وبه كان يفتي الحاكم الإمام أبو أحمد. وإذا اشترى من آخر ألف درهم بمائة دينار ونقد مشتري الدراهم الدينار ولم ينقد بائع الدراهمِ الدراهمَ وقد كان لبائع الدراهم (47أ3) على مشتري الدراهم ألف درهم دين قبل عقد الصرف، فقال بائع الدراهم لمشتري الدراهم: اجعل الألف التي وجب لك علي بعقد الصرف بالألف التي لي عليك ورضي به المشتري جاز، وهذا استحسان. والقياس: أن لا يجوز. ولقب المسألة أن المتصارفين إذا تقاصّا بدل للصرف بدين وجب قبل عقد الصرف جاز استحساناً؛ لأنهما لما قصدا وقوع المقاصة فقد حولا عقد الصرف إلى ذلك الدين، ولو أضافا إليه العقد في الابتداء بأن اشترى بالعشرة التي له ديناراً وبقبض الدينار في المجلس يجوز، فكذا إذا حولا العقد إليه في الانتهاء، وهذا لأنهما قصدا تصحيح هذه المقاصة وتحويل الصرف إلى ذلك الدين. طريق تصحيح هذه المقاصد وما يتوصل به إلى المقصود يكون مقصوداً لكل أحد. ولهذا شرطنا التراضي منهما على المقاصة وإن كان في سائر الديون يقع المقاصة بدون التراضي؛ لأن هذا تحويل العقد إلى ذلك الدين والعقد قديم بهما، فالتصرف فيه بالتحويل لا يكون إلا بتراضيهما، وأما المقاصة بدين وجب بالشراء بعد عقد الصرف بأن اشترى رجل من رجل دراهم بدينار ونقد الدينار ولم يقبض الدراهم حتى اشترى مشتري الدراهم من بائع الدراهم ثوباً بدراهم، فقال بائع الدراهم: اجعل الدراهم التي عليك بالدراهم التي لك علي بعقد الصرف، وتراضيا عليه؛ ذكر في رواية أبي سليمان أنه يجوز، وإليه أشار في «الزيادات» . وذكر في رواية أبي حفص: أنه لا يجوز وهو الأصح. وجه ذلك: أنهما يملكان تحويل العقد إلى ما كان يصح منهما إضافة العقد إليه في الابتداء، وذلك في الدين (الذي) سبق وجوبه على عقد الصرف لا في الدين الذي تأخر وجوبه عن عقد الصرف. قال محمد رحمه في «الجامع» : وإذا بيعت الدراهم المغشوشة بالفضة الخالصة فهو على ثلاثة أوجه: الأول: أن تكون الفضة فيها مغلوبة بأن كان ثلثا هذه الدراهم صفراً وثلثها فضة فبيع بعض هذه الدراهم بالفضة الخالصة وزناً بوزن، فإن كان وزن الفضة الخالصة مثل وزن هذه الدراهم المغشوشة يجوز؛ لأن قدر ما في الدراهم المخلوطة من الفضة يقابله من الفضة الخالصة مثل وزنه، والباقي من الفضة الخالصة بإزاء الصفر الذي في الدراهم، فيقع الأمن عن الربا. وإن كانت الفضة الخالصة مثل وزن ما في الدراهم المخلوطة من الفضة كان باطلاً؛ لأن الصفر لا يقابله شيء من هذه الصفرة فيكون ربا، وكذلك إن كانت

الفضة الخالصة أقل وزناً من الفضة التي في الدراهم لا يجوز من الطريق الأولى. وكذلك إذا كان لا يدرى أي الفضتين أكثر الخالصة منهما أو المخلوطة أو هما سواء لا يجوز؛ لأن هذا البيع يجوز بجهة واحدة وهي أن يكون الفضة الخالصة أكثر، ولا يجوز من وجهين وهو أن تكون الفضة المخلوطة أكثر أو كانا سواء، فكان ما يوجب الفساد غلب فيرجح جانب الفساد. الوجه الثاني: أن تكون الفضة في الدراهم المغشوشة غالبة بأن كان ثلثاها (فضة) وثلثها صفراء فبيعت الفضة الخالصة لم يجز إلا سواء بسواء؛ لأن الصفر إذا كان أقل كان مغلوباً مستهلكاً فلم يعتبر وصار تحت الفضة فاعتبر بيع الزيوف بالجياد، وقد جاءت السنة في هذا أن جيدها ورديئها سواء، فلم يعتبر الصفر حال كونه مغلوباً بل أهدره. وفرق بين الصفرة والفضة حيث اعتبر الفضة وإن كانت مغلوبة، ولم يجعلها هدراً. والفرق بينهما: هو أن الفضة وإن كان أقل فهي قائمة للحال حقيقة، فإنها ترى وتشاهد، فإن اللون لون الفضة ومتى أذيبت تخلص الفضة وتخرج بيضاً خالصة ولا تحترق وإنما يحترق الصفر، وما أمكن تحصيله لا يكون مستهلكاً، فكانت الفضة قائمة باعتبار الحال والمآل، هذا من جهة الحقيقة، وأما من جهة العرف فلأن الفضة لا يجعل في الصفر ليصير خلطاً للصفر بل لترويج الصفر بالفضة ولهذا سموه دراهم، ولهذا جعلوا الفضة ظاهراً والصفر باطناً، فكانت الفضة معتبرة وإن كان أقل من الصفر، فأما الصفر إذا كان أقل، فإنه مستهلك باعتبار الحال؛ لأنه لا يشاهد في الدراهم وكذا باعتبار المآل فإن الصفر يحترق عند التمييز؛ لأنه أضعف جوهراً من الفضة فكان أشد احتراقاً على ما يقوله أهل هذه الصنعة وهم السباكون، فلم يكن به عبرة هذا من جهة الحقيقة، وكذا من جهة العرف، فإن الصفر إنما يحصل في الفضة ليكون خلطاً للفضة ورداءة لها عن الجودة إلى الرداءة، فصار بمنزلة جيد الفضة فسقط اعتباره وصار هذا البيع بمنزلة بيع فضة جيدة بفضة رديئة فيعتبر فيه المساواة على ما مر. وأما الوجه الثالث: وهو ما إذا كانا على السواء بأن كانت الدراهم المخلوطة نصفها فضة ونصفها صفر، فبيعت بالفضة الخالصة. قال في «الكتاب» : هذا على وجهين: إما إن كانت الفضة التي في الدراهم غالبة على الصفر أو لم تكن فإن كانت الفضة هي الغالبة، فهذا والوجه الثاني من الباب سواء لا يجوز بيعها بالفضة الخالصة إلا وزناً بوزن، وإن لم تكن الفضة هي الغالبة بل كانا على السواء فهو بمنزلة الأول من الباب فيكون على التفصيل الذي مر. فإن قيل: كيف يستقيم هذا التفصيل؟ إن الفضة التي في الدراهم إما أن تكون أغلب من الصفر التي فيها أو على السواء، وقد وضع المسألة فيما إذا تساويا. قلنا: معنى هذا الكلام ما حكي عن العلماء من الصيارفة أن الصفر والفضة إذا دخلا في النار، فالصفر أشدهما احتراقاً وأسرعهما ذهاباً فيجوز أن يكون النصف من هذا والنصف من ذاك حال حملهما إلى النار للذوب وبعدما حملا إلى النار وأذيبا واختلطا

يحترق شيء من الصفر قبل أن يذوب شيء من الفضة، فتصير الفضة في النار غالبة على الصفر، فإنما أراد بقوله النصف من هذا والنصف من ذاك حال حملهما إلى النار. وما فصل من الجواب فقال: إذا كانت الفضة غالبة أو كانا على السواء أراد بذلك بعدما أذيبا فربما ينتقص الصفر فيصير الفضة غالبة وربما لا ينتقص فيبقيان على السواء، فإن كانت الفضة هي الغالبة كان نظير الوجه الثاني من الباب، وإن كانا نظير الوجه الأول من الباب فيكون على التفاصيل الذي مر. ولم يذكر محمد رحمه الله في هذه المسألة ما إذا كان الصفر غالباً على الفضة، وإنما لم يذكر؛ لأنه وضع هذه المسألة فيما إذا كانت الفضة والصفر سواء حال حملهما إلى النار، ويعتبر الغلبة بعد الذوب والاختلاط وعليه الصفر بعد الذوب إذا كانا سواء مثل ذلك لا يكون بحال؛ لأن الصفر أكثر احتراقاً من الفضة على ما مر. فإنما لم يذكر هذا الوجه في هذه المسألة، لهذا قال في «الجامع» أيضاً: وإذا كانت الدراهم ثلثاها صفراً وثلثها فضة فاشترى بها رجل متاعاً وزناً جاز على كل حال ولا تتعين تلك الدراهم، وإن اشترى بدراهم مسماة من هذه الدراهم يعتبر عينها عدداً وهي بينهم وزناً فلا خير في ذلك؛ لأن قوله: اشتريت بكذا درهماً انصرف إلى الوزن؛ لأنهم متى تعاملوا الشراء بها وزناً لا عدداً تقررت الفضة الأصلية للدراهم وهي الوزن وصارت العبرة للوزن، والثمن إذا كان موزوناً فإنما يصير معلوماً بأحد أمرين إما بذكر الوزن، وإما بالإشارة إليها ولم يوجد شيء من ذلك (47ب3) فكان الثمن مجهولاً وهذا جهالة يوقعها في المنازعة؛ لأن فيها الخفاف والثقل معتبر عند الناس متى تعاملوا الشراء بها وزناً، فلهذا لم يجز. وإن اشتراها بعينها عدداً فلا باس وإن كان تعامل الناس المبايعة بها وزناً؛ لأن جهالة الوزن في المشار إليه لا يمنع جواز البيع فيصح، ويصير معتبراً لبيان النقد والمقدار، فيصير كأنه قال: اشتريت بمثل وزن هذه الدارهم، فبعد ذلك إن أدى من غيرها يحتاج إلى وزن هذه الدارهم المشار إليها ليمكنه معرفة قدرها بالوزن، فيتمكن من أداء غيرها بمثل وزن هذه الدارهم، وإن أدى عينها صح من غير وزن كما في الدراهم الخالصة. ولو عين هذه الدراهم وسماها وقال: اشتريت منك هذا المتاع بهذه الدراهم وهي كذا وكذا درهماً، أراد به تسمية الوزن وكانت تباع فيما بين الناس وزناً وقع ذلك على الوزن؛ لأن تقدير كلامه اشتريت منك هذا العرض بهذه الدارهم على أنها ألف أو على أنها مائة، ولو قال هكذا وجب على المشتري أن يوفيها وزن الذي يكون في بلادهم كذا ههنا. هذا إذا كان بينهم وزناً، وإن كان بينهم عدداً، فاشترى بها يعتبر عينها عدداً جاز، وإن كان فيها الخفاف والثقال؛ لأن الناس تعاملوا الشراء بها عدداً لا وزناً، فالجهالة من حيث الثقل والخفة لا يوقعها في المنازعة فلا يمنع الجواز.

وإن كانت الدراهم ثلثاها فضة وثلثها صفراً فهي بمنزلة الدراهم الزيوف والنبهرجة إن اشترى بها إن لم يكن مشاراً إليها لا يجوز الشراء إلا وزناً كما لو كان الكل فضة زيفاً، ولهذا لم يجز استقراضها إلا وزناً، وإن كان مشاراً إليها يجوز الشراء بها من غير وزن كما في الدراهم الزائفة، وإن كانت الدراهم نصفها صفراً ونصفها فضة، فالجواب فيما إذا كانت الدراهم ثلثاها صفراً وثلثها فضة سواء عند الاستواء لا تصير الفضة تبعاً للصفر، فلا يجوز الشراء في حق الفضة إلا بطريق الوزن، فكذا في حق الصفر. ولو اشترى رجل من آخر ثوباً بدراهم بعينها من التي ثلثاها صفر وهي عندهم وزناً أو عدداً فلم يتفرقا حتى ضاعت لم ينتقض البيع حتى يعطيه مثلها؛ لأنها إن كانت تباع عدداً فهي بمنزلة الفلوس الرائجة، وأيهما كان لا يتعين بالتعيين فهلاكها لا يوجب انتقاض البيع، وهذا إذا علم عددها أو وزنها حتى يتمكن المشتري من اعطاء مثلها عدداً أو وزناً كما قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : أما إذا لم يعلم ينتقض البيع؛ لأن الثمن يصير مجهولاً فلا يتهيأ للمشتري رد مثل المشار إليه والحالة هذه. وإن كانت الدراهم ثلثاها فضة وثلثها صفراً فهو بمنزلة الدراهم النبهرجة والزيوف لا ينتقض البيع بهلاكها ويرد مثلها وزناً إن علم وزن المشار إليه، فإن لم يعلم وزن المشار إليه ينتقض البيع، وكذلك الجواب فيما إذا كان نصفها فضة ونصفها صفراً؛ لأنه إذا كان هكذا فهو بمنزلة فضة ضم إليها فلس رائج فلا يتعين أيضاً، وإن كانت الدراهم ثلثاها صفر بيعت وزناً كالسلع يجب أن تتعين بالتعيين، فيبطل البيع بهلاكها قبل التسليم، كذا قاله مشايخنا رحمهم اللَّه. وإذا كانت الدراهم صنوفاً مختلفة منها ما ثلثها فضة، وثلثها صفر، ومنها ما نصفها صفر فلا بأس ببيع إحدى هذه الصنوف بالصنف الآخر متفاضلاً يداً بيد ولا خير في ذلك نسيئة يريد به أنه لا بأس ببيع ما كان الصفر فيه غالباً بما كان الصفر فيه مغلوباً وببيع ما كان الصفر فيه مغلوباً بما كان الصفر والفضة فيه على السواء، وعلى العكس يداً بيد وإن كان متفاضلاً؛ لأنه تصرف فضة هذا إلى صفر ذلك وصفر ذلك إلى فضة هذا، وجعل بمنزلة ما لو باع صفراً وفضة بصفر وفضة فإنه يجوز كيف ما كان، ولكن بعد أن كان يكون يداً بيد، وأما لا خير فيه نسيئة؛ لأن الوزن يجمعهما وهما ثمنان فيحرم النَّساء.g فأما إذا باع جنساً منها بذلك الجنس متفاضلاً ففيما إذا كانت الفضة غالبة لا يجوز؛ لأن المغلوب ساقط الاعتبار، فكان الكل فضة فلا يجوز إلا مثلاً بمثل، وفيما إذا كان الصفر غالباً أو كانا على السواء يجوز متساوياً ومتفاضلاً؛ لأن الصفر معتبر والفضة كذلك، فأمكن صرف الجنس إلى خلاف الجنس، ويشترط أن يكون يداً بيد باعتبار صورة الفضة. وعلى قياس هذه المسألة قالوا: إذا باع من العدليات في زماننا واحداً باثنين يجوز بعد أن يكون يداً بيد هذه الجملة من «الجامع الكبير» وفي «نوادر ابن سماعة» سئل أبو يوسف عن بيع درهم بخاري بدرهمين وقد يكون في بعض البخاري من النحاس دانقين

ونصف وفي بعضها دانقين قال: لا يجوز من قبل أن الفضة غالب فلا يجوز إلا مثلاً بمثل وزناً (بوزن) قال: ولو كان النحاس غالباً لا يجوز أيضاً إلا مثلاً بمثل، وفي زمن العطارف ببخارى أكثر المشايخ كانوا يفتون بجواز بيع عطريفة بعطريفتين يداً بيد وكانوا يقولون: في كل عطريفة سدس فضة فإن بيع منها الثنتان أو ثلثه أو أربعه أو خمسه بدرهم فضة خالصة يجوز، ويجعل من الفضة الخالصة بمثل الفضة التي في العطارف والفضل بإزاء النحاس. وسئل أبو حنيفة عن الدراهم البخارية إذا كان الغالب فيها النحاس فقال: هي بمنزلة الفلوس، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله لا يفتي بجواز بيع العطارف واحداً باثنين، وكان يقول: تقررت العطارف ثمناً في بلادنا بحيث لا تتبدل ولا تتغير فالتحقت بالدراهم الجياد. وروى بشر عن أبي يوسف أنه قال: إذا كان النحاس هو الغالب على الفضة في الدراهم وكل واحد منهما يتخلص على حدة إن خلص لم يجز أن يشتريها إلا بأكثر من الفضة التي فيها، وإن كان يحترق الفضة ويبقى النحاس فهو نحاس كله لا بأس بأن يشتريها بأقل من الفضة التي فيها، وهي بمنزلة الفلوس لا تحتسب بالفضة التي تحترق فلا يبقى. وإن كانت الفضة تبقى والصفر تحترق بل تحتسب بالصفر وعومل به كما يعامل بالفضة، ثم قال: كل شيء من ذلك يحترق فيذهب ويذوب لم يحتسب به. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى من آخر ديناراً بعشرين درهماً وقبض الدينار ولم يدفع الدراهم حتى وهب الدينار لبائعه ثم فارقه قبل أن يدفع إليه الدراهم قال: الهبة في الدينار جائزة ولبائع الدينار على مشتري الدينار دينار مثله؛ لأن بالافتراق قبل قبض الدراهم بطل عقد الصرف، فوجب على المشتري رد ما قبض من الدينار وقد عجز عن رد عينه، فيلزمه فلم يحكم بانتقاض الهبة ببطلان عقد الصرف. وروى بشر عن أبي يوسف: أن البيع باطل والهبة باطلة؛ لأنها بناء على البيع وقد بطل البيع بالافتراق ولا شيء على المشتري لبائع الدينار؛ لأن بانتقاض الهبة رجعت الهبة إلى بائعها بحكم قديم ملكه فلا شيء له غير ذلك. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل له على رجل كر حنطة فباعه إياه بعشرة دراهم على أن مشترى الكر فيه بالخيار إلى أجل مسمى وقبض الدراهم قال: هذا فاسد؛ لأن مشتري الكر لم يملك الدراهم حين شرط الخيار لنفسه في الكر. فهذا دين بدين؛ لأنه اشترى الكر وهو دين بعشرة دراهم وهو دين حين لم يملكها من بائع الكر واللَّه أعلم. (48أ3) نوع آخر في بيع الأشجار وفي بيع الثمار والكرم والأوراق والمبطخة وفي بيع الزرع والرطبة والحشيش: ذكر في «فتاوي أبي الليث» : رحمه الله فيمن اشترى أشجاراً ليقطعها من وجه الأرض، فلم يفعل حتى أتى على ذلك مدة وجاء أوان الصيف فأراد المشتري أن يقطعها، فهذا على وجهين:

الأول: أن لا يكون في القطع ضرر بين بالأرض وأصول الأشجار، وفي هذا الوجه له أن يقطعها؛ لأنه يتصرف في ملكه. الثاني: أن يكون في القطع ضرر بين بالأرض وأصول الأشجار، وفي هذا الوجه ليس له أن يقطع دفعاً للضرر عن صاحب الأرض والأشجار. وإذا لم يكن للمشتري ولاية القطع في هذه الصورة ماذا يصنع؟ اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يدفع صاحب الأشجار قيمة الأشجار إلى مشتريها وتصير الأشجار له، واختلفوا فيما بينهم أنه يدفع قيمتها مقطوعة أو قائمة. عامتهم على أنه يدفع قيمتها قائمة؛ لأنه يتملكها قائمة وهو الصحيح، وبعضهم قالوا: ينتقض البيع بينهما في الأشجار ويرد صاحب الأرض على المشتري ما دفع إليه من ثمن الأشجار؛ لأنه عجز عن التسليم معنى، وبه كان يفتي الفقيه أبو جعفر الهندواني، واختاره الصدر الشهيد في «واقعاته» : وهكذا كان يفتي في جنس هذه المسألة نحو بيع الأوراق وغير ذلك. في «فتاوي أهل سمرقند» : طلب الرجل من آخر أن يبيع منه أشجاراً في أرضه للحطب، فاتفقا على رجال من أهل البصر لينظروا إلى أشجار بعينها أنها كم وقراً تكون من الحطب، فاشتراها بثمن معلوم، فلما قطعها كانت أكثر من خمسة وعشرين وقراً، فأراد البائع أن يمنع الزيادة ليس له ذلك؛ لأن هذا وصف الشجر فيطيب للمشتري كالزيادة في الثوب. وفي «فتاوي أبي الليث» : رجل (عنده) مشجرة جعل على بعض الأشجار علامة، فباع المشجرة إلا الأشجار التي عليها العلامات، فقطع المشتري الأشجار ثم ادعى البائع على المشتري أنك قطعت بعض الأشجار التي عليها العلامة، وأنكر المشتري فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه منكر. وإن ادعى البائع أنه كسر أغصان الأشجار التي عليها العلامة، وقال المشتري: لم أتعمد ذلك ولكن لم يكن منه بد إذا قطعت أشجاري، فإن كان ذلك مما يمكن التحرز عنه فعليه ضمان النقصان؛ لأنه غير مأذون من جهة البائع في ذلك، وإن كان ذلك مما لا يمكن التحرز عنه فلا ضمان؛ لأنه مأذون من البائع في ذلك دلالة. وفي «واقعات الناطفي» : إذا باع شجراً وعليه ثمرة قد أدرك أو لم يدرك جاز، وعلى البائع قطعه من ساعته؛ لأن المشتري يملك الشجرة فيجبر البائع على تسليمها فارغة، وكذلك لو أوصى بنخلة لرجل وعليه تمر ثم مات الموصي أجبر الورثة على قطع التمر وهو المختار من الرواية. وفي «فتاوي أهل سمرقند» : شجرة جوز أصلها واحد ولها فرعان باع صاحبها أحد الفرعين جاز إن عين موضع القطع ولم يكن في القطع ضرر؛ لأن هذا بيع استجمع شرائطه، باع نصيباً له من الشجرة بغير إذن شريكه وبغير رضا، فإن كانت الأشجار قد بلغ أوان قطعها فالبيع جائز؛ لأن المشتري لا يتضرر بالقسمة، وإن لم يبلغ أوان قطعها لم يجز؛ لأن المشتري يتضرر بالقسمة.

وفي «العيون» : اشترى رجل نخلة فيها تمر وتواضعا على أن لأحدهما النخلة وللآخر الرطب، فالبيع جائز ويقسم الثمن على قيمتها؛ لأن كل واحد منهما تفرد بالبيع. وكذا لو اشترى أرضاً فيها نخيل على أن لأحدهما الأرض وللآخر النخيل جاز، ولصاحب الشجر أن يقلعه، فإن كان في قلعه ضرر بيّن فهو بينهما؛ لأنه حينئذ بمنزلة الفص مع الخاتم، والحلية مع السيف، ويجوز شراء الشجرة بشرط القلع، وأما شراؤها بشرط القطع فقد اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه يجوز. في شفعة شيخ الإسلام في شفعة الأرضين والأنهار: وأما بيع الثمار على الأشجار فهو على وجهين: الأول: أن يبيعها قبل الطلوع أي قبل الظهور، وفي هذا الوجه لا يجوز البيع. الوجه الثاني: أن يبيعها بعد الطلوع وإنه على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يبيعها قبل أن تصير منتفعاً بأن لم يصلح لتناول بني آدم وعلف الدواب، وفي هذا اختلاف المشايخ ذكر شمس الأئمة السرخسي، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده: لا يجوز، وذكر الشيخ أبو الحسن القدوري والقاضي الإمام الإسبيجابي أنه يجوز، وإليه أشار محمد رحمه الله في كتاب الزكاة في باب الغرر في «الجامع» في كتاب الإجارات. والحيلة في ذلك: حتى يجوز البيع على قول الكل أن يبيعه مع أوراقه بأن يبيع الكمثرى في أول ما يخرج من ورده مع أوراقه، فيجوز في الكمثرى تبعاً للبيع في الأوراق، ويجعل كأنه ورق كله حتى يجوز البيع. الوجه الثاني: إذا باعه بعدما صار منتفعاً به، وتناهى عظمه، ولا شك أن في هذا الوجه يجوز البيع إذا باعه مطلقاً أو بشرط القطع. وإن باع بشرط الترك فالقياس: أن لا يجوز، وبه أخذ أبو حنيفة وأبو يوسف، وفي الاستحسان: يجوز، وبه أخذ محمد. وجه ما ذهب إليه محمد رحمه اللَّه: أن شرط الترك لو أوجب فساد العقد في هذه الصورة، إما أن يوجب من حيث إنه بيع شرط فيه إجارة أو عارية ولا وجه إليه؛ لأن إجارة النخل وإعارته لا تتحقق، أو من حيث إنه شرط فيه زيادة مال يحصل للمشتري من ملك البائع سوى المبيع ولاوجه إليه أيضاً؛ لأنه تناهى عظمه بخلاف ما إذا لم يتناه عظمه؛ لأن فيه اشتراط زيادة من مال البائع سوى المبيع. فأما أبو حنيفة وأبو يوسف: ذهبا في ذلك إلى أنه شرط في هذا البيع ما لا يقتضيه العقد، ولأحد العاقدين فيه منفعة. بيانه: أنه إن كان لا يثبت بهذا الشرط إجارة أو عارية أو زيادة مال من مال البائع سوى المبيع يحصل للبائع زيادة وطراوة وللمشتري فيه منفعة، والبيع لا يقتضي هذا، ومثل هذا الشرط يوجب فساد البيع. الوجه الثالث: إذا باعه بعدما صار منتفعاً إلا أنه لم يتناه عظمه وفي هذا الوجه البيع

جائز إذا باع مطلقاً أو بشرط القطع، وإن باع بشرط الترك فالبيع فاسد؛ لأن هذا بيع شرط فيه مالا يقتضيه البيع، ولأحد العاقدين فيه منفعة. بيانه: أن المشتري شرط لنفسه زيادة مال يحصل له سوى ما دخل تحت البيع من مال البائع، وهذا شرط لا يقتضيه العقد، ولأحد العاقدين فيه منفعة، ومثل هذا يوجب فساد البيع لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله. ثم إذا جاز البيع إذا باع مطلقاً أو بشرط القطع: إذا ترك المشتري حتى أدرك هل يطيب له الزيادة؟ إن ترك بإذن البائع أو استأجر منه الأشجار يطيب له الزيادة؛ لأن الزيادة إنما استفادها المشتري من مال البائع بإذنه، فيطيب له ذلك. وإذا اشترى ثمار بستان على ما هو العرف ويقال بالفارسية: برباغ وبعض الثمار قد خرج وبعضها لم يخرج بعد، هل جاز هذا البيع؟ ظاهر المذهب أنه لا يجوز، وكان شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يفتي بجوازه في الثمار والباذنجان والبطيخ وغير ذلك، وكان يزعم عن أصحابنا رحمهم الله، وهكذا عن الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري أنه كان يفتي بجواز هذا البيع، وكان يقول: أجعل الموجود أصلاً في هذا العقد وما يحدث بعد ذلك تبعاً، ولهذا (شرط) أن يكون الخارج أكثر؛ لأن الأقل يجعل تابعاً للأكثر، أما الأكثر لا يجعل تابعاً للأقل. وقد روي عن محمد رحمه الله في بيع الورد على (48ب3) الأشجار أنه يجوز، ومعلوم أن الورد لا يخرج جملة، ولكن يتلاحق البعض بالبعض. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والأصح عندي أنه لا يجوز؛ لأن المصير إلى هذا الطريق إنما يكون عند تحقيق الضرورة ههنا؛ لأنه يمكنه أن يبيع أصول هذه الأشياء مع ما فيها من الثمرة؛ وما يتولد بعد ذلك يحدث على ملك المشتري، وعلى هذا نص في «القدوري» . وإن كان البائع لا يعجبه بيع الأشجار، فالمشتري يشتري الثمار الموجودة ببعض الثمن فيؤخر العقد في الباقي إلى وقت وجوده، أو يشتري الموجود بجميع الثمن، ويحل له البائع الانتفاع بما يحدث، فيحصل مقصودهما بهذا الطريق، فلا ضرورة إلى تجويز العقد في المعدوم. وإذا اشترى الكرم وبعض الثمار صار منتفعاً لاشك أن هذا الشراء جائز على قول من قال بجواز شراء الثمار قبل أن يصير منتفعاً، ومن قال بأن شراء الثمار قبل أن يصير منتفعاً لا يجوز اختلفوا فيما بينهم. قال شمس الأئمة السرخسي: والأصح عندي أنه لا يجوز، وطريقه ما قلنا. وفي «فتاوي أهل سمرقند» : إذا اشترى أنزل الكرم وبعضه ني وبعضه قد أنضج، فإن كان كل نوع بعضه ني وبعضه قد أنضج جاز، وإن كان بعض الأنواع نياً والبعض قد أنضج لا يجوز، قال: لأن المجوز العرف ولا عرف ههنا، والصحيح أنه يجوز في الوجهين جميعاً. وإذا باع الكل فإن باع البعض وبعضها ني وبعضها قد أنضج، أو الكل ني لا

يجوز. وكذلك إذا كان مشتركاً بين رجلين باع أحدهما نصيبه وبعضه ني أو الكل ني لا يجوز؛ لأنه يحتاج إلى القسمة والمنتفع يقسم وغير المنتفع لا يقسم. هذا إذا باع من أجنبي، فإن باع من شريكه أفتى ركن الإسلام السغدي أنه لا يجوز، وبعضهم قالوا: لو باع من العامل لا يجوز، ولو باع العامل من رب الكرم يجوز كما في الزرع على ما يأتي بياناً بعدُ إن شاء الله تعالى. فأما إذا باع من الأجنبي لا يجوز ولكن لا لما قالوا: إنه يجوز ولكن لما قالوا: إنه يحتاج إلى القسمة وغير المنتفع؛ لأن بعض الثمار ينتفع قبل النضج انتفاع أعلاف الدواب بها، ومع هذا لا يجوز البيع في الكل. ولكن الوجه في ذلك أنه يحتاج إلى القسمة ولا تتأتى القسمة إلا بالقلع وفي القلع ضرر للمشتري. وفي «متفرقات شمس الإسلام الأوزجندي» رحمه الله: أن بيع الثمار على رؤوس الأشجار قبل أن يبدو صلاحها وبعدما بدا صلاحها يجوز وفسد بدو الصلاح بصيرورته منتفعاً. قال: ولا يشترط النضج إلا في الكمثرى والجوز والخوخ؛ لأن هذه الأشياء غير منتفع بها من حيث الأكل قبل النضج، وهذا (ليس ب) صواب في الكمثرى؛ لأن قبل النضج يصير منتفعاً من حيث أعلاف الدواب. وفي «صلح فتاوى أبي الليث» : إذا باع الثمار قبل أن يدرك أن كان الثمار حصرماً أو تفاحاً أو ما أشبه ذلك يجوز، وإن كان خوخاً أو كمثرى لا يجوز إلا أن يكون قد أدرك بعضها فيجوز فيما أدرك وفيما لم يدرك على تلك الشجرة إذا لم يشترط الترك، وهذا كما قال أبو يوسف: فيمن باع الفيلق وبعضها دود لم يصر فيلقاً جاز البيع في الكل، والجواب الذي ذكر غير مستقيم في الكمثرى لما مر. ولو باع نزل الكرم والعنب كالمج إن عبر بعبارة العنب لا يجوز البيع، وإن صار عنباً لا ينقلب البيع جائزاً، وإذا لم يعبر بعبارة العنب لا يجوز البيع في الحال؛ لأنه لا ينتفع به أصلاً، وإذا باع عنباً فذلك البيع جائز. وإذا باع الثمر على الشجر والبعض قد خرج ثم خرج الباقي، فإن حلل له البائع جاز. ولو اختلط الحادث بالموجود، فإن كان يعرف الحادث فالعقد صحيح على حاله، ولو اختلط الحادث بالموجود، فإن كان قبل التخلية فسد البيع؛ لأنه تعذر التسليم بسبب الاختلاط فيعتبر بما لو تعذر بسبب الهلاك. وإن كان بعد التخلية لا يفسد العقد؛ لأن تمام العقد بالتسليم وقد وجد فانتهى نهايته فلا يفسد بالاختلاط وقد اختلط ملك أحدهما بالآخر، فإن كانا شريكين فيه فالقول قول المشتري في قدر ذلك؛ لأنه في يده. وفي «القدوري» أيضاً: إذا اشترى ثمرة بدا صلاح بعضها وصلاح الباقي يتقارب وشرط الترك جاز عند محمد؛ لأن المعتاد أن الثمرة يدرك أكثرها ويتلاحق فصار كما لو

كان الكل مدركة فصح شرط الترك عنده، وإن كان يتأخر إدراك البعض تأخراً كثيراً فالبيع جائز فيما أدرك ولم يجز في الباقي، وهذا إنما يكون في العنب غالباً؛ لأن بلوغ الأسود منه يتقدم ويتأخر كثيراً، فيصير كالجنسين إذا بلغ أحدهما ولم يبلغ الآخر، فيجوز بيع ما قد بلغ عنده بشرط الترك دون ما لم يبلغ لما عرف من أصله. وإذا اشترى الرجل عنب كرم على أنه ألف منٍ فلم يخرج منه إلا قدر تسعمائة، فللمشتري أن يطالب البائع بحصة مائة مَنَ من الثمن؛ لأن البيع بقدر المائة المَنَ لم يصح لمكان العدم وصح بقدر التسعمائة المَنِّ فيطالب البائع بحصة ما لم يصح فيه البيع. قالوا: على قياس قول أبي حنيفة: ينبغي أن يفسد العقد في الباقي؛ لأن العقد فسد في البعض بمفسد مقارن للعقد وهو العدم، والأصل عنده: أن العقد متى فسد في البعض بمفسد مقارن للعقد يفسد العقد في الباقي، وكان القاضي أبو الحسين قاضي الحرمين يروي عن أبي حنيفة في جنس هذا أن العقد فاسد في الكل، وبه كان يقول شمس الأئمة الحلواني وعليه كثير من المشايخ، وكان شمس الأئمة السرخسي يقول: بأن العقد فيما وجد صحيح عند الكل؛ لأن البائع ما ضم المعدوم إلى الموجود في البيع بل باع الموجود، وظن أنه مقدار معين وتبين أنه لم يكن ذلك المقدار، ولهذا لا يصير بائعاً، وسيأتي جنس هذه المسألة بعد هذا إن شاء الله. وفي «النوازل» : إذا قال الرجل لغيره: بعت منك عنب هذا الكرم (كل) وقر بكذا، والوقر معروف لهم، فهذا على وجهين: أما إن كان العنب من جنس واحد، وفي هذا الوجه يجوز البيع في الكل ذكر مطلقاً من غير ذكر خلاف. قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : يجب أن يكون المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة رحمه الله: يجوز في وقر واحد، وعلى قولها: يجوز في الكل بناء على مسألة الصبرة إذا قال لغيره: بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم على قول أبي حنيفة: يجوز في قفيز واحد، وعندهما: يجوز في الكل، قال رحمه الله: والفتوى على قولهما تيسيراً للأمر على الناس، وإن كان العنب أجناساً مختلفة فعلى قول أبي حنيفة ينبغي ألا يجوز أصلاً، وعلى قولهما: يجوز في الكل. وفي «النوازل» أيضاً: وإذا باع أوراق الشجرة وقد ظهرت على الشجر بثمن معلوم وقبض الثمن ولم يأخذ المشتري الأوراق حتى ذهب وقتها، فأراد الرجوع بالثمن، فإن كانت الأوراق بأغصانها وكان موضع القطع معلوماً ليس له الرجوع؛ لأنه قادر على قبض المشترى بالقطع إلا أنه إذا كان في القطع فساد الشجر تخير البائع: إن شاء رضي بالقطع، وإن شاء نقض البيع. قال الصدر الشهيد: وهذا هو المختار في مسألة بيع الاشجار التي تقدم ذكرها، فإن كان اشترى الأوراق بدون الأغصان كان له الرجوع بالثمن؛ لأنه لما بقي إياماً يفسد البيع؛ لأنه لا بد وأن يخرج شيء من الأوراق في هذه المسألة، فيتخلط المبيع بغير المبيع وكذلك بيع ثمار الاشجار على هذا.

وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا اشترى أوراق التوت (49أ3) على أن يقطعها من ساعته يجوز، وإن اشتراها على أن يأخذ شيئاً فشيئاً لا يجوز؛ لأنه يزداد فيختلط المبيع بغير المبيع، وإن اشتراها ولم يشترط شيئاً، فإن أخذها في اليوم جاز، وإن مضى يوم فسد البيع؛ لأنه يزداد ويمكن التحرز عنه. والحيلة في ذلك أن يشتري الشجرة بأصلها، ويأخذ الأوراق ثم يبيع الشجرة من البائع. وأما بيع المبطخة: رجل أراد بيع مبطخة على وجه يصح البيع بالاتفاق ينبغي أن يبيع الحشيش وأشجار البطيخ ببعض الثمن الذي اتفقا عليه حتى أن ما يحدث بعد ذلك يحدث على ملك المشتري، ثم يؤاجر الأرض من المشتري ببقية الثمن ليتمكن المشتري من إبقاء الحشيش والأشجار، فيحصل مقصودهما. في «فتاوي الفضلي» : إذا باع من آخر شجرة البطيخ قبل أن يخرج الحدجة بهذه اللفظة: أين خيار زار بتوفر وختم؛ جاز لأن البيع يقع على شجرة البطيخ دون ما يخرج من الحدجة، ثم (ما) يخرج من الحدجة يخرج على ملكه. وفي هذا الموضع أيضاً: مبطخة بين شريكين باع أحدهما نصيبه من إنسان لا يجوز (قلعه لأن) في قلعه ضرر يلحق غير البائع، والإنسان لا يجبر على عمل الضرر، وإن رضي به فينبغي أن يشتري كل المبطخة من الشريكين ثم يفسخ البيع في النصف، وسئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عن بيع الغاليين قبل أن يظهر شيء قال: لا يجوز. وأما بيع الزرع والحشيش: إذا باع الزرع وهو بقل إن باعه على أن يقطعه المشتري أو على أن يرسل دابته فيها لتأكل جاز؛ لأنه شرط ما يقتضيه العقد، وإن باعه على أن يتركه حتى يدرك لا يجوز؛ لأنه شرط ما لا يقتضيه العقد، وكذلك إذا باع رطبة وفارسيته سبست زار، فهو على التفصيل الذي ذكرنا هو المختار، وبه أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله. في «فتاوي أبي الليث» : أرض بين رجلين فيها زرع لهما، باع أحدهما نصف الزرع الذي هو نصيبه من غيره بدون الأرض فهذا على وجهين: إن كان الزرع مدركاً يجوز؛ لأنه لا يتضرر بهذا البيع صاحبه؛ لأن أكثر ما فيه أن المشتري يقلع الزرع ليمكنه أخذ النصف إلا أنه لا ضرر على صاحبه في ذلك إن كان مدركاً، وإن كان غير مدرك لا يجوز إلا برضا صاحبه باع مطلقاً أو بشرط القطع، وإن باع بشرط الترك لا يجوز وإن رضي به صاحبه، أما إذا باع بشرط الترك إنما لا يجوز وإن رضي به صاحبه؛ لأن هذا بيع شرط فيه شرط فاسد، وإنه لا يوجب الفصل بين الرضا.f وأما إذا باع مطلقاً وبشرط القطع إنما لا يجوز إذا رضي به صاحبه؛ لأنه ضمن

إلحاق الضرر بصاحبه؛ لأنه لا يمكن للمشتري قلع النصف وإبقاء النصف باعتبار مساحة الأرض؛ لأن الزرع في أطراف الأرض يتفاوت قد يكون في بعضها مبلغاً ولا يكون في البعض كذلك، فتتعذر القسمة باعتبار مساحة الأرض، فيجب اعتبار القسمة باعتبار المقلوع، فإذا قلع الكل يتضرر به صاحبه إذا لم يكن مدركاً، وأحد الشريكين إذا تصرف في المحل المشترك تصرفاً يتضرر به صاحبه وإنه يقبل الرد لا يجوز تصرفه إلا برضا صاحبه، هذه الجملة من صلح شيخ الإسلام رحمه الله. ومسألة المبطخة التي تقدم ذكرها مع تعليلها أن الإنسان لا يجبر على تحمل الضرر وإن رضي به دليل أن بيع نصف الزرع بدون الأرض لا يجوز وإن رضي به صاحبه. ولو باع أحدهما نصف الزرع مع نصف أرضه جاز، وقام المشتري مقام البائع، ثم في الفصل الأول إذا لم يجز بيع نصف الزرع أو لم يفسخ العقد حتى أدرك الزرع انقلب العقد جائزاً؛ لأن المانع من الجواز قد زال ويعلم من هذه المسألة كثير من المسائل، فإذا كان الزرع كله لرجل باع نصفه من رجل بدون الأرض إن كان الزرع مدركاً يجوز، وإن لم يكن مدركاً لا يجوز؛ لأن هذا البيع يتضمن إلحاق الضرر بالبائع في غير ما تناوله البيع، فيكون فاسداً كبيع الجذع في السقف. وإذا كان الزرع من الأرض مشتركاً بين رجلين باع أحدهما نصيبه من الزرع من شريكه بدون الأرض لا يجوز إذا لم يكن الزرع مدركاً؛ لأن هذا هذا بيع يضمن إلحاق الضرر بالمشتري فيما ليس بمعقود عليه؛ لأن البائع يأمر المشتري بقلع ما اشترى منه ليفرغ أرضه وعلى هذا القطن وسائر أنواع الزرع إذا كان مشتركاً بين اثنين باع أحدهما نصيبه من صاحبه بدون الأرض، وأما إذا باع نصف الزرع مع نصف الأرض من شريكه أو من أجنبي بغير رضا شريكه جاز في شفعة شيخ الإسلام. وفي «الأجناس» : إذا باع النصف من الزرع المشترك من شريكه يجوز في ظاهر الرواية، وروى هشام عن محمد أنه لا يجوز. وإذا كان الزرع بين رب الأرض وبين الأكار، فباع رب الأرض نصيبه من الأكار لا يجوز، ولو باع الأكار نصيبه من رب الأرض جاز؛ لأنه لا يحتاج في التسليم إلى القسمة فلا يتضرر به أحدهما. في الباب الأول من بيوع «الواقعات» : ولو كان مدركاً جاز بيع كل واحد منهما نصيبه من صاحبه، ومن مزارعة «الجامع الأصغر» قال: يصير مزارعاً بالثلث، باع نصيبه من الزرع من رب الأرض أو غيره لا يجوز. وفي «نوادر إبراهيم بن رستم» عن محمد: رجل دفع أرضه مزارعة ثم باع الأرض بزرعه يعني بنصيبه من الزرع والزرع بقل، فأجاز المزارع فهو جائز، وإن أجاز على أن يكون نصيبه في الأرض مزارعة فهذا فاسد. قال في «البقالي» : وإذا استحصد الزرع وقد كان سمى الزرع في البيع جاز البيع وقسم الثمن على قيمة الأرض ونصيب البائع، فأحاله إلى كتاب المزارعة. وفي «المنتقى» : رواية مجهولة: إذا اشترى الرجل أرضاً فيها زرع للبائع والحراب لمشتري الأرض بنصيب البائع من الأرض، فإن طلب تسليم الأرض لم يجز، وإن قال:

أنا أسكت حتى تستحصد الأرض جاز؛ ولا يتصدق المشتري بشيء من الزرع؛ لأنه زاد في أرضه. وفي «البقالي» : إذا كان الأرض بين رجلين فزرعها أحدهما ونبت الزرع فتراضيا على أن يعطيه الأجر مثل نصف البذر، ويكون الزرع بينهما ولا يجوز قبل أن ينبت. ولو طلب الآخر القطع قسمت الأرض ويؤمر الزارع بقلع ما في نصيب الشريك، ويغرم نقصان نصيب الشريك إن كانت الزراعة قد نقصت الزرع. ومن اشترى أرضاً وزرعها فأشرك غيره في الأرض والزرع جاز، ولو أشركه في الزرع دون الأرض لا يجوز، ذكره محمد رحمه الله في النصاب. وإذا اشترى أرضاً وفيها زرع والزرع بقل، فقبل أن يقبض الأرض دفعها مزارعة إلى البائع بالنصف لا يجوز؛ لأنه يصير بائعاً الزرع وهو منقول قبل القبض، وإذا باع الأرض مع نصف الزرع أشار في كتاب المزارعة في باب العذر في المزارعة أنه لا يجوز ثم بيع نصف الزرع بدون الأرض، وإنما لا يجوز في موضع كان لصاحب الزرع حق القرار بأن زرع في ملكه، أما إذا لم يكن له حق القرار بأن كان متعدياً في الزراعة كالغاصب جاز بيع نصف الزرع؛ لأنه إذا لم يكن لصاحب الزرع حق القرار كان القلع مستحقاً عليه ومستحق القلع كالمقلوع، ولو كان مقلوعاً حقيقة جاز بيع نصفه كذا ههنا. وعلى هذا إذا باع نصف (49ب3) البناء بدون الأرض إن (كان) محقاً في البناء لا يجوز، وإن كان متعدياً جاز؛ ذكر هذه الجملة شيخ الإسلام في شرح كتاب الشفعة في باب الفروض. وإذا اشترى الفضل فهذا على وجهين: الأول: أن يشتريه قبل أن يصير منتفعاً وفي جوازه اختلاف على نحو ما بينا في الثمار. الثاني: إذا يشتريه بعد ما صار منتفعاً به يصلح لعلف الدواب، فإن اشتراه بشرط القطع أو أطلق الكلام فالبيع جائز، وإن اشتراه بشرط الترك فالعقد فاسد. ثم إذا جاز بأن اشتراه بشرط القطع أو مطلقاً، فاستأجر المشتري الأرض مدة معلومة جاز، وفي الثمار لو استأجر الأشجار مدة معلومة في مثل هذه الصورة لا يجوز. وفرق آخر بينهما: أن ههنا لو استأجر الأرض إلى وقت الإدراك يلزمه أجر المثل ولا يطيب له الفضل، ولو استأجر الأشجار إلى وقت إدراك الثمر في مثل هذه الصورة يطيب له الفضل ولا يلزمه شيء من الأجر. والفرق: أن الإجارة في مسألة النخيل أضيف إلى غير محلها وهي الأشجار؛ لأن الحادث من الأشجار زيادة في التمر والزيادة في التمر عين وليس بمحل الإجارة، فالتصرف المضاف إلى غير محله لا جواز له ولا انعقاد، فيبقى مجرد الإذن بالترك من غير عقد ولا فساد فيه، فيطيب الفضل ولا يجب الأجر. أما في مسألة الفضل: الإجارة أضيفت إلى محلها وهو الأرض. والحاصل من الأرض منفعة ... فأما الزيادة في الحب يحصل من الفضل؛ لأن الفضل للحب

كالشجر للتمر لما وجدنا ههنا أصلاً بحصول زيادة العين إليه كان الحاصل من الأرض مجرد منفعة ... فتنعقد الإجارة عليها بوصف الصحة عند بيان المدة، وبوصف الفساد عند ترك بيان المدة، فما حصل من الزيادة بسبب خبيث وهو العقد الفاسد فيجب التصدق مع أجر المثل. وإذا باع جزة من الكرات بعدما غلا يجوز، وإن باع كذا كذا جزة لا يجوز؛ لأن البيع إنما ينعقد على ما هو موجود، وقد غلا وهي الجزة الأولى، أما الجزة الثانية والثالثة معدومة لم يثبت بعد فلا يجوز البيع، وكذلك هذا في سائر البقول إذا باع منه جزة بعدما غلا يجوز، وإن باع كذا كذا جزة لا يجوز. وكذلك في الفضل إذا باعه بعدما غلا ليفضل في الحال يجوز البيع، وكذلك هذا في الأشجار إذا باعها وهي نابتة ليقطع أو ليقلع في الحال فهو جائز، وأما قوائم الخلاف وسعف النخيل فقد اختلف المشايخ في جواز بيعها، ونص الكرخي في «كتابه» على الجواز ورواه عن أصحابنا. ولو باع حشيشاً في أرضه إن كان صاحب الأرض هو الذي أنبت بأن سقاها لأجل الحشيش، فنبت بتكلفه جاز؛ لأنه ملكه ألا ترى أنه ليس لأحد أن يأخذه بغير إذنه، وإن نبت بنفسه لا يجوز؛ لأنه ليس بمملوك له، بل هو مباح الأصل، ألا ترى أن لكل أحد أن يأخذه فلهذا لم يجز بيعه، هكذا ذكر في «النوازل» : وفي «القدوري» : ولا يجوز بيع الكلأ في أرضه، وكذا لا يجوز بيع الكمأة في الأرض، قال ثمة: ولو ساق الماء إلى أرضه وبحصة موته حتى خرج الكلأ لم يجز بيعه، قال: لأن الشركة في الكلأ ثابتة بالنص، وإنما تنقطع الشركة بالحيازة، وسوق الماء إلى أرضه ليس بحيازة للكلأ على الشركة فلا يجوز بيعه. وما ذكر القدوري رحمه الله يخالف ما ذكر في «النوازل» . نوع آخر في بيع المرهون والمستأجر والمغصوب والآبق وأرض القطيعة والأخاد والإكارة: اختلفت عبارة الكتب في بيع المرهون وقع في بعض (الكتب بيع) المرهون فاسد ووقع في بعضها أن البيع موقوف، من مشايخنا من قال: في المسألة روايتان، وعامتهم على أن الصحيح أن البيع موقوف إن قضى الراهن المال أو أبرأه المرتهن منها ورد الرهن عليه ورضي به تم البيع وإن لم يجز المرتهن بيعه وطلب المشتري من القاضي التسليم، فالقاضي يفسخ العقد بينهما، وهذا لأن البيع صدر من المالك، وللمرتهن حق في المحل، وكما يجب مراعاة حق صاحب الحق وإنما يصير الحقان مراعاً إذا قلنا بالتوقف. ومعنى قوله في بعض الكتب: أن بيع المرهون فاسد أنه لا حكم له، فكان فاسداً في حكم الحكم؛ وهذا لأن البائع مالك للغير وتأثير حق الغير في دفع الحكم لا في إفساد العقد في نفسه كبيع مال الغير وبيع المستأجر نظير بيع المرهون موقوف عند عامة

المشايخ وهو الصحيح، وللمشتري الخيار إذا لم يعلم وقت الشراء أن المشترى مرهون أو مستأجر لتأخر التسليم بحق المرتهن والمستأجر، وإن (كان) عالماً به وقت الشراء فكذلك عند محمد يثبت له الخيار؛ لأن كون المشترى مرهوناً أو مستأجراً عند محمد بمنزلة الاستحقاق. ومن اشترى من غيره مال غيره والمشتري يعلم أن المشترى مال الغير كان للمشتري حق النقض، والرجوع على البائع بالثمن، وعند أبي يوسف: ليس له حق نقض الشراء؛ لأن كون المشترى مستأجراً أو مرهوناً عنده بمنزلة العيب. ومن اشترى شيئاً معيباً وعلم بكونه معيباً وقت الشراء فلا خيار له في فسخ العقد، وذكر شمس الأئمة الحلواني الخلاف على هذا الوجه في شرح «حيل الخصاف» وأحاله إلى «النوادر» ، وذكر الصدر الشهيد في «واقعاته» : أنه إذا كان يعلم بكونه مرهوناً أو مستأجراً فله الخيار في ظاهر الرواية. وذكر القاضي الإسبيجابي في «شرحه» : أنه إذا كان عالماً به، فلا خيار له في ظاهر الرواية، وكذلك إذا اشترى أرضاً ولها إكار فهو على هذين الوجهين يعني في حق ثبوت الخيار للمشتري. إذا علم وقت الشراء أن لها أكاراً، أو لم يعلم، ذكره الصدر الشهيد، وليس للمستأجر حق فسخ البيع بلا خلاف؛ لأن حقه في المنفعة والبيع صادف الرقبة، فأما المرتهن هل له حق فسخ هذا البيع؟ اختلف المشايخ فيه منهم من قال: ليس له ذلك؛ لأن حقه في اليد لا في الرقبة، والبيع لا يصادف الرقبة، ومنهم من قال: له حق الفسخ؛ لأن البيع يبطل ملك الرقبة، وهو وسيلة إلى استيفاء الدين منه عند الهلاك، وليس للراهن الآخر حق فسخ هذا البيع؛ لأن هذا البيع ينعقد صحيحاً في حقهما نص عليه الخصاف في أدب ما لا يجب فيه اليمين، وإنما التوقف في حق المستأجر والمرتهن. وفي رهن «المنتقى» : إذا باع الراهن المرهون من رجل بغير إذن المرتهن، ثم باعه من المرتهن جاز البيع من المرتهن، وهو نقض للبيع الأول. وفي الباب الأول من رهن «الجامع» : إذا باع الراهن المرهون من رجل بغير إذن المرتهن، ثم باعه من رجل آخر بغير إذن المرتهن أيضاَ، ثم أجاز المرتهن أحد العقدين نفذ البيع الذي لحقته الإجازة واليمين للمرتهن يستوفي منه حقه، وروي عن أبي يوسف إن البيع الأول نفذ، وإن أجاز البيع الثاني ينفذ البيع الثاني، ولو كان مكان البيع الثاني رهناً أو إجارة، وأجاز المرتهن الرهن أو الإجارة ينفذ البيع ويبطل الرهن والإجارة. والآجر إذا باع المستأجر من رجل بغير إذن المستأجر، ثم باعه من المستأجر جاز البيع من المستأجر، وهو نقض للبيع الأول. وأما بيع المغصوب فقد ذكره محمد رحمه الله في «الأصل» : أنه موقوف إن أقر به الغاصب تم البيع ولزم، وإن جحد وكان للمغصوب منه بينة عادلة، فكذلك (50أ3) الجواب، وإذا لم يكن بينة، ولم يسلمه حتى هلك انتقض البيع، بعض مشايخنا قالوا: قول محمد في «الكتاب» وإن لم يكن للمغصوب منه بينة، ولم يسلمه حتى هلك انتقض

البيع بظاهره غير صحيح، وينبغي أن لا ينقض البيع ههنا إلا أن يختار المشتري النقض. فكان تأويل قول محمد: انتقض إذا اختار المشتري النقض، وبعضهم قالوا: قول محمد بظاهره صحيح، وينتقض البيع من غير اختيار المشتري النقض؛ لأن الغاصب هي ضمن القيمة بملك المغصوب من وقت الغصب، وبيع المولى كان بعد ذلك، فيظهر أنه كان بائعاً مال الغير، وهو الغاصب بخلاف ما لو قبل بعد البيع أو غصب؛ لأن القيمة هناك وجبت بعد البيع، فمتى بقي البيع لا يؤدي إلى أن يصير بائعاً مال الغير. وفي «نوادر بشر» : قال: سألت محمداً عمن اشترى المغصوب منه، وهو في يد الغاصب، والغاصب جاحد له، قال: يجوز، ويقوم المشتري في دعواه ذلك مقام المالك قال: وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله. وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف: أنه قال: قال أبو حنيفة: لا يجوز بيعه من غير الغاصب، وقلت أنا: هو جائز. وروى بشر عن أبي يوسف في رجل غصب من آخر طعاماً وتصدق به، وكان قائماً في يد المساكين حتى اشتراه الغاصب من المغصوب منه جاز شراؤه ويرجع في صدقته، ولا يجزئه عن كفارة يمينه، وإن استهلك المساكين الطعام بعد الشراء ضمنوا، ولو لم يشتر وضمن قيمته جازت صدقته وأجزأت عنه ولم يرجع فيها، ولو كان الطعام مستهلكاً حال ما اشتراه الغاصب من المغصوب منه في أيدي المساكين، فالشراء باطل إلا أن يقول: أشتري منك ما لك علي من الطعام، فيجوز الشراء وجازت الصدقة للمساكين. قال محمد في «الجامع» : رجل غصب من آخر عبداً، ثم أن الغاصب أمر رجلاً حتى يشتريه له من مولاه، فاشترى صح الشراء، وصار الآمر قابضاً له بنفس الشراء؛ لأنه في يده مضمون بضمان نفسه، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء، فكأن الآمر جدد القبض، أكثر ما في الباب أن حق القبض للوكيل لا للموكل، ولكن هذا لا يمنع صحة قبض الموكل، بالبيع ليس له حق قبض الثمن من المشتري مع هذا لو قبض صح كذا ههنا. وكذلك لو أمر رجل أجنبي الغاصب أن يشتريه له، ففعل صح، وصار الآمر قابضاً بنفس الشراء؛ لأنه وجد في حق المأمور، وهو الغاصب قبض ينوب هو عن قبض الشراء، فصار هو قابضاً، وقبض المأمور بمنزلة قبض الآمر، فصار الآمر قابضاً من هذا الوجه. قال في «الجامع» أيضاً: رجل غصب من آخر جارية، وغصب رجل من رب الجارية عبداً، وتبايعا العبد بالجارية وتقابضا، ثم بلغ المالك ذلك فأجازه كان باطلاً؛ لأن الإجازة إنما تعمل في العقد الموقوف لا في العقد الباطل، وهذا العقد وقع باطلاً؛ لأن البيع تمليك بتملك، وذلك لا يكون في بيع مال الرجل بماله. توضحه: أن الإجارة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء، ولو أذن المالك لهما في الابتداء بذلك لا ينفذ، فإذا فعلا بغير إذنه لا يتوقف أيضاً، ولو كان مالكهما رجلين فبلغهما، وأجازا كان جائزاً، وصارت الجارية لغاصب الغلام، والغلام لغاصب الجارية،

هذا لأن كل واحد منهما صار مشترياً ما في يد صاحبه بما في يده بائعاً ما في يده بما في يد صاحبه، ولا يوقف في الشراء، فقد عرف إن شراء الفضولي لا يتوقف على إجازة بل ينفذ على المشتري، وإنما التوقف في البيع، فصار شراء كل واحد منهما واقعاً لنفسه كأن كل واحد من المالكين قال لغاصبه: اشترِ مملوك فلان لنفسك بمملوكي، وإنما احتيج إلى الإجازة لنفاذ البيع، فانعقد تصرف كل واحد منهما على أن يفيد الملك للمشتري، ولكن عند إجازة المالك، وعلى صاحب الغلام قيمة الغلام لمولاه، وعلى صاحب الجارية قيمة الجارية لمولاها؛ لأن كل واحد منهما صار مستقرضاً ما غصب حتى يكون البدل على من يثبت له الملك في المبدل. واستقراض الحيوان، وإن كان لا يجوز إلا أنه إنما لا يجوز إذا حصل ابتداءً، والاستقراض منهما حصل في ضمن الشراء، وإنه تصرف مشروع فيصير مشروعاً بشرعته، والمستقرض فيما لا يصل مضمون بالقيمة، فيوجب على كل واحد من الغاصبين قيمة ما غصب من هذا الوجه. وفيه أيضاً: لو أن رجلاً غصب من رجل مائة دينارٍ وغصب آخر من رب الدينار ألف درهم، ثم تبايعا الدراهم بالدنانير يعني الغاصبان وتقابضا وتفرقا، ثم بلغ المالك ذلك فأجازه جاز. فرق بين هذا وبين المسألة المتقدمة، والفرق: أن ههنا العقد ما ورد على الدراهم والدنانير بأعيانهما، وإنما وقع على مثلهما ديناً في الذمة، فلم يقع على مالين لمالك واحد، فصح البيع بلا توقف. ألا ترى أن مالك الدراهم والدنانير لو لم يجز وأخذ دراهمه ودنانيره، ولم يتفرقا حتى نفذ كل واحد منهما من مال نفسه يجوز، ولا يفسد البيع، فعلم أن العقد وقع على مثلهما دينا في الذمة إلا أن كل واحد منهما صار قابضاً ما وجب في ذمته بما غصب، فإذا أجاز المالك، وجاز صار مقرضاً، أما في المسألة المتقدمة العقد وقع على العرضين بأعيانهما؛ لأن العرض يتعين في عقد المعاوضة، فإذا كانا لشخص واحد لم ينعقد العقد على ما بينا، والفلوس في هذا نظير الدراهم والدنانير؛ لأنهما لا يتعينان بالتعيين. وفيه أيضاً: رجل غصب من رجل جارية، وغصب رجل من صاحب الجارية مائة دينار، فباع غاصب الجارية الجارية من غاصب الدنانير بتلك الدنانير، فبلغ المالك، فأجاز صح؛ لأن الجارية إن تعينت في العقد فالدنانير لم تتعين، فلم يقع العقد على مالين لواحد، بل وقع على جارية مغصوبة بدنانير في الذمة، فإذا أجازه صحت الإجازة في حق البيع؛ لأن بيع الجارية قد توقف على إجازته؛ لأنه يملك الإذن ببيع جاريته بالدنانير، فيملك الإجازة فيه إذا غصب علم المغصوب منه أنه نفذ من ماله، ويصير هو مقرضاً الدنانير من مشتري الجارية؛ وهذا لأن الشراء لمّا تعلق بدنانير في الذمة صار مشتري الجارية بنقد الدنانير المغصوبة قاضياً ما عليه بمال غير متوقف على إجازته. فإذا جاز النقد أيضاً يلزم ذلك قرضاً للدنانير على ما مر، فصارت الدنانير ملكاً لمشتري الجارية

بالقرض مقتضى القضاء، وصار المشتري قاضياً دنانير نفسه، وقد نفذ بيع الجارية على مالكهما بالإجازة، وتثبت الوكالة بالإجازة، فيصير بائع الجارية قابضاً الدنانير لمالك الجارية بحكم الوكالة، فإن بقيت الدنانير في يد بائع الجارية فهي للمغصوب منه، وإن هلكت في يده فلا ضمان؛ لأنها هلكت في يد الوكيل. وهلاك الثمن في يد الوكيل لا يوجب عليه ضماناً، وإن كان النقد بعد الإجازة، وهلكت الدنانير في يد بائع الجارية، فالمغصوب منه بالخيار إن شاء ضمن بائع الجارية، وإن شاء ضمن مشتري الجارية، وهذا لأن الإجازة إذا حصلت قبل النقد فليس الجارية ذلك بإذن في النقد؛ لأن النقد لم يكن موجوداً، ولا يدري هل ينقد المغصوب أو لا ينقد؟ فلم تعمل الإجازة في حق النقد، فصار مشتري الجارية يأخذ دنانير المغصوب منه بغير إذنه، وصار هو غاصباً بالنقد، وصار بائع الجارية غاصباً لها بالقبض. فإذا هلكت كان للمالك الخيار في (50ب3) تضمينها، فإن ضمن مشتري الجارية ظهر انه ملك الدنانير من وقت القبض السابق، وأنه نقد ملك نفسه، فصح النقد، وصار بائع الجارية قابضاً دنانير مشتري الجارية بإذنه فكان أميناً فيها، وإن ضمن بائع الجارية رجع البائع على المشتري؛ لأن قبض البائع لم يسلم ثمناً له لما استحق عليه عوضه، فاستوجب الرجوع به على المشتري، كما لو كانت الدنانير قائمة بأعيانها، فأخذت من يده. وإذا ادعى رجل أرضاً في يدي رجل، وأقام البينة على ما ادعى، وقضى القاضي بالأرض له، فباعها من رجل، ثم ظهر أنه قد كان باع هذه الأرض قبل أن يدعيها عند القاضي من رجل آخر، فالجائز هو البيع الأول؛ لأنه يتبين أنه باع المغصوب وله بينة، فجاز الأول، ومن ضرورة جواز الأول بطلان الثاني، فأما بيع الآبق، فقد ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : أنه لا يجوز، فقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام «نهى عن بيع الآبق» ؛ ولأنه معجوز التسليم، والقدرة على التسليم شرط جواز البيع، وهذا بخلاف ما لو باع عبداً أرسله في حاجته؛ لأن القدرة على التسليم هناك ثابتة وقت العقد حكماً واعتباراً؛ لأن الظاهر عوده إلى المولى، ولا كذلك الآبق، فإن عاد من الإباق وسلمه إلى المشتري روي عن محمد: أنه يجوز، به أخذ الكرخي وجماعة من مشايخنا، وهكذا القاضي الإسبيجابي في «شرحه» : والمذكور في «شرحه» : إذا ظهر الآبق وسلمه إلى المشتري يجوز البيع، وأيهما امتنع إما البائع عن التسليم، أو المشتري عن القبض يجبر عليه، ولا يحتاج إلى بيع جديد إلا إذا كان المشتري رفع الأمر إلى القاضي، وطلب التسليم من البائع، وظهر عجزه عند القاضي، وفسخ القاضي العقد بينهما، ثم ظهر العبد حينئذ يحتاج إلى بيع جديد، وهذا لأن المانع من الجواز العجز عن التسليم بسب الإباق، وقد ارتفع العجز حين ظهر من الإباق.

h وروي عنه رواية أخرى: أنه لا يجوز البيع، ويحتاج إلى بيع جديد، وبه أخذ جماعة من مشايخنا، وبه كان يفتي أبو عبد الله البلخي، وهكذا ذكر شيخ الاسلام رحمه الله في شرح كتاب البيوع الفاسدة؛ لأن شرط جواز العقد، وهو القدرة على التسليم كان فائتاً وقت البيع فلا يجوز البيع، وإن وجد من بعد. وصار كما لو باع خمراً، فصار خلاً في المجلس وتسلمه، أو باع طيراً في الهواء، أو سمكاً في الماء، أو وحشاً في الفضاء، ثم أخذه، وسلم في المجلس فإنه لا يجوز البيع، وطريقه ما قلنا، ومن أخذ بهذه الرواية الأولى أنهما تراضيا عليه عند العبد، فينعقد بينهما بالتعاطي. إما أن يقال: بأن ذلك العقد يجوز فلا، وإن جاء رجل إلى مولى الآبق، وقال: إن عبدك الآبق عندي، وقد أخذته فبعه مني، فباعه جاز، ولو قال: عود هو عبد فلان قد أخذه فبيعه، فباعه لا يجوز. الفرق: أن فساد بيع الآبق عرف بالأثر، والأثر ورد في الآبق المطلق، وهو الآبق في حق أحد المتعاقدين، وفيما إذا قال الذي يريد شراءه: هو عبدي قد أخذته، فهذا ليس بآبق في حق المشتري، فلا يكون آبقاً مطلقاً، وفيما إذا قال: هو عبد فلان، فهو آبق في حق البائع والمشتري، فكان آبقاً مطلقاً؛ ولأن في الصورة الأولى العبد غير معجوز التسليم في حق المشتري، ولا كذلك في الفصل الثاني، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن بيع الآبق جائز ذكر القدوري هذه الرواية. وكان أبو الحسن الكرخي يقول: بيع الآبق فاسد إلا أن يرضي المشتري أن ينتظر حتى يتمكن البائع من التسليم، وفاسد بيع المرهون والمستأجر. وفي «المنتقى» : رواية الحسن عن أبي حنيفة: إذا باع الآبق، والمشتري يعلم بمكانه جاز، فإن باعه وقبضه، ثم اختلفا فقال المشتري: لم أعلم بمكانه حين بعتني، وقال البائع: لا بل علمت، فالقول قول البائع وهو الصحيح، وإن باعه ولا يعلم أحدهما بمكانه لم يجز، وأما بيع أرض القطيعة جائز، وهي التي أقطعها الإمام لقوم وخصهم بها؛ لأنهم ملكوها بالقطيعة فيجوز بيعهم، وأما بيع أرض الإجارة والإكارة، فالإجارة هي الأرض الخراب يأخذها إنسان بأمر صاحبها فيعمرها ويزرعها، وإن كانت الأرض التي في يد الأكرة، فنقول: إن باعها صاحبها جاز؛ لأنه مالك رقبتها، وإن باع الذي له أجارتها وآكارتها لا يجوز البيع؛ لأن له العمارة لا غير، وإنه مال متقوم، وإذا باع الأرض وهي في عقد مزارعة أخرى، قال شمس الآئمة الحلواني: المزارعة أولى في مدته من أيهما كان البذر، فإن أجاز المزارع البيع فلا أجر لعمله. في «مجموع النوازل» : إن أجاز المزارع يكون كلا النصيبين للمشتري يريد به إذا كان في الأرض غلة، وإن لم يجز لا يجوز البيع، وكذا في الكرم سواء ظهر الثمار، أو لم يكن هذا الفصل في الزتدويستي. وقيل: الجواب على التفصيل إن كان البذر من المزارع لا يجوز في حقه؛ لأن مستأجر الأرض، وكذا في الكرم إن لم يظهر الثمار، ويجوز البيع، وبه كان يفتي ظهير الدين رحمه الله.

نوع آخر في بيع الحيوانات قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ولا يجوز بيع السمك في حظيرة لا يستطيع الخروج منها إذا كن لا يؤخذن إلا بصيد، وإن كن يؤخذن بغير صيد جاز البيع، والمشتري بالخيار إذا رآهن، يجب أن يعلم بأن هذه المسألة على وجهين: إما إن اجتمعن فيها باحتياله واصطيادهن، ثم أرسلهن في الحظيرة، وفي هذا الوجه إن كان لا يقدر على أخذهن من غير احتيال جاز بيعهن؛ لأن ملكهن بالاصطياد، فقد باع ملكه، وهو قادر على التسليم، فيصح كما لو باع عبداً له قد أرسله في حاجته، وإن اجتمعن في الحظيرة لا باحتياله واصطياده لا يجوز بيعهن أمكن أخذهن من غير اصطياد واحتيال، أو لم يمكن؛ لأنه لم يحرزهن فلم يملكهن، فقد باع ما ليس بمملوك له. فرع على هذا الفصل وهو ما إذا اجتمعن في الحظيرة لا باحتياله واصطياده، فقال: لو سد موضع دخول الماء، فصرن بحالة لا يستطعن الخروج عنها لا يجوز البيع عند بعض المشايخ؛ لأنه لم يملكها؛ لأن هذا القدر ليس بإحراز فهو بمنزلة طير طار في بيت إنسان، فسد الباب والكوة، وهناك لا يصير محرزاً له بهذا القدر ما لم يأخذه كذا ههنا، ولا ملك بدون الإحراز، فإنما باع ما لا يملك فلا يجوز. وعند بعض المشايخ: يجوز البيع إذا أمكن أخذهن من غير اصطياد؛ لأنه بما فعل صار آخذاً لهن حكماً، فصرن ملكاً له بمنزلة ما لو وقع في شبكته، فيجوز بيعه، وهذا الخلاف إذا لم يهيء الحظيرة لاصطياده، فأما إذا هيأها ملكهن بلا خلاف، فيجوز بيعهن. وفي كل موضع جاز بيع السمك في الماء، فإذا قبضه المشتري ورآه فله الخيار؛ لأنه اشترى ما لم يره، وإذا أخذ سمكة وجعلها في حب ماء فالجواب فيه على التفصيل الذي قلنا في الحظيرة: إن كان يقدر على أخذها من غير اصطياد جاز بيعه، وإن كان في الحظيرة سمك وقصب باع السمك والقصب جملة، فإن كان لا يمكن أخذ السمك إلا بصيد، فالبيع فاسد في الكل اصطاد السمكه قبل ذلك أولا، أما في السمك؛ فلأنه باع ما لا يقدر على تسليمه، وأما في القصب فلجهالة الثمن؛ لأن قيمة السمك مجهولة لا يدرى إذا كان لا يؤخذ بغير صيد، وجهالة قيمة السمك توجب جهالة حصة القصب، فيفسد البيع في القصب بجهالة الثمن، وإن كان يمكن أخذ السمك من غير صيد إن لم يكن اصطاد السمك قبل ذلك فالبيع فاسد في السمك وهل يفسد في القصب؟ قالوا: (51أ3) على قياس قول أبي حنيفة: يفسد؛ لأن قبول العقد في السمك يصير شرطاً لقبوله في القصب إذا كانت الصفقة واحدة، وقبول العقد في السمك شرط فاسد، فيفسد العقد في القصب، وعلى قياس قولهما لا يفسد؛ لأن قيمة السمك معلومة إذا كان يؤخذ بغير صيد، فيكون حصة القصب معلومة.

والصحيح: أن على قولهما يفسد في القصب؛ لأن حصة القصب تصير معلومة بالحرز والظن إذ الصفقة متحدة وما يعرف بالحزر يكون مجهولاً، فهو نظير ما لو اشترى عبدين بألف درهم، فإذا أحدهما حر، وإن كان اصطاد السمك قبل ذلك يجوز البيع في الكل عندهم جميعاً. ذكر شيخ الإسلام هذه الجملة في شرح كتاب الشفعة قبيل باب تسليم الشفعة، وإذا أراد الرجل أن يبيع برج حمام مع الحمام إن باع ليلاً جاز؛ لأن في الليل يكون الحمام بجملته داخل البرج، ويمكن أخذه من غير احتيال، فيكون بائعاً ما يقدر على تسليمه. وفي النهار بعضه يكون خارج البرج لا يمكن أخذه باحتيال، فيكون بائعاً ما لا يقدر على تسليمه. قال محمد رحمه الله: في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة: ولا يجوز بيع النحل وقال: إنما النحل بمنزلة الزنبور وهو قول أبي يوسف. وقال محمد رحمه الله: يجوز بيعه إذا كان مجموعاً، وجه قول محمد: إن هذا حيوان ينتفع به ويتمول فيصح بيعه، وإن لم يؤكل كالحمار والبغل، ولأبي حنيفة وأبي يوسف أن النحل لا ينتفع بعينه، وإنما ينتفع بما يحدث، فقبل الحدوث لا يكون منتفعاً، والعين إنما يصير مالاً بكونه منتفعاً به، ولأنه من جملة الهوام، فلا يجوز بيعه كالزنبور. وذكر القدوري في «شرحه» : إذا كان في كوارتها عسل، فاشترى الكوارة بما فيها من النحل جاز عند أبي حنيفة، ويدخل النحل في البيع تبعاً للعسل، وأنكر أبو الحسن الكرخي رحمه الله: جواز بيع النحل مع العسل، فقال: إنما يدخل الشيء في العقد تبعاً لغيره إذا كان من حقوقه كالشرب مع الأرض، وهذا ليس من حقوقه. وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا اشترى العلق الذي يقال له بالفارسية مرنمك يجوز، وبه أخذ الصدر الشهيد رحمه الله لحاجة الناس، فإن الناس يحتاجون إليه ويتمولونه. وفي «القدوري» : ويجوز بيع دود القز إن ظهر القز فيه، وإن لم يظهر لا يجوز، هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد رحمه الله: يجوز البيع، وإن لم يظهر فيه القز لما قلنا في النحل، قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : والفتوى على قول محمد، وأما بيع دود القز فعلى قول أبي حنيفة: لا يجوز؛ لأنه غير منتفع باعتبار ذاته بل باعتبار غير معدوم، وعندهما: يجوز اعتباراً للعادة؛ ولأنه يتولد منه ما هو منتفع به، فصار كبذر البطيخ، فيجوز بيعه، والصدر الشهيد في «واقعاته» : اختار قولهما. ولا يجوز بيع هوام الأرض كالحية والعقرب والوزغ، وما أشبه ذلك؛ لأن لانتفاع بهذه الأشياء حرام ومحليته يعتمد جواز الانتفاع بها، ولا يجوز بيع ما يكون في البحر كالصفد والسرطان وغيره إلا السمك، وما يجوز الانتفاع بجلده أو عظمه، والحاصل: أن جواز البيع يدور مع حل الانتفاع، وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى. وأما بيع الكلب وأشباهه فقد ذكر في «القدوري» : بيع كل ذي ناب من السباع وذو مخلب من الطير جائز معلماً كان، أو غير معلم، وفي رواية «الأصل» ولا شك في جواز بيع الكلب المعلم؛ لأنه آلة الحراسة والاصطياد، فيكون محلاً للبيع. ألا ترى أنه جاز بيع البازي المعلم والصقر المعلم، وإنما جاز؛ لأنه آلة الاصطياد؛ وهذا لأنه إذا كان آلة

الحراسة والاصطياد كان منتفعاً حقيقة وشرعاً، فيكون مالاً؛ لأن المال غير الأدمي خلق لمنافع الأدمي والمال محل للبيع، وأما بيع كلب غير المعلم. فقد ذكر شمس الأئمة السرخسي: أنه إذا كان الحال يقبل التعليم يجوز بيعه قال رحمه الله: هو الصحيح من المذهب، وهذا لأنه إذا كان يقبل التعليم كان منتفعاً به، فيكون محلاً للبيع، الدليل عليه أنه ذكر في «النوادر» : ولو باع الجرو وجاز بيعه؛ لأنه يقبل التعليم، فهذا يبين لك أن غير المعلم إذا كان يقبل التعليم، فهو والمعلم سواء في حق محلية البيع، وإنما لا يجوز بيع العقور والذي لا يقبل التعليم ولا يصطاد به لا يجوز البيع، والفهد والبازي يقبلان التعليم على كل حال، فيجوز بيعهما. وأما القرد فقد اختلفت الروايات فيه عن أبي حنيفة روى الحسن عنه: أنه يجوز بيعه، وروى أبو يوسف عنه: أنه لا يجوز بيعه، وبيع الفيل جائز؛ لأنه منتفع به حقيقة وشرعاً، فهو كسائر الحيوانات، وأما الهرة فقد ذكر شيخ الإسلام في «شرح السير» : أنه يجوز بيعها، سئل عطاء بن رباح عن ثمن الهرة فقال: لا بأس به. نوع آخر في بيع المحرمات بيع المحرم الصيد لا يجوز، وكذلك بيع صيد الحرم لا يجوز، وإن كان المتبايعان حلالين، وهما في الحرم، والصيد في الحل جاز ذلك في قول أبي حنيفة. وقال محمد: إن قوام العقد بالعاقد والمحل، ثم المحل إذا كان في الحرم لا يجوز بيعه، فكذا إذا كان العاقدان في الحرم، وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: أن المحرم. وهذا ليس صيد الحرم، ولهذا لو أمر إنساناً بإتلافه جاز، ولا شك أن الأمر بالإتلاف فيما يرجع إلى التعويض للصيد دون العقد عليه، فإذا لم يحرم ذلك لكون الصيد خارج الحرم، فكذا العقد، ولو أحرم وفي يده صيد لغيره، فباعه مالكه، وهو حلال جاز، ويجبر على التسليم، وعليه الجزاء إن تلف، وهذا لأن البائع عقد البيع على ملك نفسه، وهو حلال فصح، وإحرام الذي هو في يديه لا يمنع رد الوديعة، فيجب الرد إلا أنه صار مضموناً عليه بالإمساك وهو محرم، فلا يبرأ من الضمان مع بقاء الإحرام إلا بالإرسال، ولو وكل محرم حلالاً ببيع صيد فباعه، فالبيع جائز في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: البيع باطل، والخلاف في هذا نظير الخلاف في المسلم إذا وكّل ذمياً ببيع الخمر وشرائه، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى. ولو وكل الحلال محرماً ببيع الصيد أو شرائه لا يجوز، وهذا إذا تبين لك أن المعترف العاقد، ولو وكل رجل رجلاً ببيع صيد فأحرم الآمر، وباع المأمور، فالبيع جائز في قول أبي حنيفة، وعندهما البيع باطل، وهذا لأن الوكالة ليست بلازمة، وما ليس

بلازم، فلدوامه حكم إنشاء الوكالة بعد الإحرام، وإنه على الخلاف، فهذا بناء عليه. ولو اشترى حلال من حلال صيداً، فلم يقبضه حتى أحرم أحدهما انتقض البيع؛ لأن للقبض شبهاً بالعقد، فيجعل المقارن للعقد، ألا ترى أنه لما نزلت آية الربا أبطل رسول الله عليه السلام ما لم يقبض من الربا، وأجاز ما قبض. ولا يجوز بيع ذبيحه المجوسي والمرتد وغير الكتابي، وكذلك لا يجوز بيع ما تركت التسمية عليه عمداً، ويجوز بيع ذبائح أهل الكتاب، وهو بناء على ما قلنا: أن جواز البيع يدور مع حل الانتفاع، ولا يحل الانتفاع بهذه الأشياء، فلا يجوز بيعها. وفي «العيون» : لا بأس ببيع عظام الفيل وغيره من الميتة؛ لأن الموت لا يحل العظام ولا دم فيه، فلا يتنجس، فيجوز بيعه إلا عظم الأدمي والخنزير، فإنَّ بيعها لا يجوز، وهذا إذا لم يكن على عظم الفيل وأشباهه (51ب3) دسومة، فأما إذا كان فهو نجس، فلا يجوز بيعه. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا ذبح كلبه، وباع لحمه جاز، وكذا إذا ذبح حماره وباع لحمه جاز، وهذا فصل اختلف فيه المشايخ بناء على اختلاف في طهارة هذا اللحم بعد الذبح، واختيار الصدر الشهيد على طهارته. ولو ذبح الخنزير، وباع لحمه لا يجوز؛ لأن لحم الكلب المذبوح والحمار منتفع به؛ لأنه يجوز أن يطعم به لسؤره؛ لأنه طاهر، ولا كذلك لحم الخنزير؛ لأنه ليس له أن يطعم به لسوره؛ لأنه نجس، وفرق بين الكلب والحمار بين ما إذا كانا مذبوحين، وبينما إذا كانا ميتين، فلم يجز بيع لحمهما إذا كانا ميتين؛ لأن لحم الميت ليس بمنتفع إذ ليس له أن يطعم به سؤرة، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تنتفعوا من الميتة بشيء» . وأما لحوم السباع فقد ذكر القدوري: أنه لا يجوز بيعها من غير فصل، وروي عن أبي حنيفة: أنه يجوز بيعها إذا ذبحت. وفي «الفتاوي» : إذا كان السبع ميتاً لا يجوز بيع لحمه بلا خلاف، وإن كان مذبوحاً، ففيه اختلاف المشايخ، قال بعضهم: لا يجوز وبه أخذ الفقيه أبو جعفر والفقيه أبو الليث؛ لأن على قولهما: هذا اللحم نجس وقال بعضهم: يجوز؛ لأن هذا اللحم طاهر، وهو اختيار الصدر الشهيد، وروى إسماعيل بن حماد وابن أبي مالك عن أبي يوسف: أنه لا يجوز بيعها وإن كانت مذبوحة. وأما جلود السباع والحمير والبغال، فما كانت مذبوحة أو مدبوغة جاز بيعها، وما كان بخلافه لم يجز، وهذا بناء على أن الجلود كلها تطهر بالذكاة أو بالدباغ إلا جلد الإنسان والخنزير، وإذا طهرت بالدباغ أو بالذكاة جاز الانتفاع به، فيكون محلاً للبيع، وحكي عن شمس الأئمة الحلواني: أن هذه الجلود إنما تطهر بالذكاة إذا كانت الذكاة مع

التسمية، أما بدون التسمية لا يطهر، ولا يجوز بيع شعر الخنزير؛ لأن الخنزير عينه نجس بجميع أجزائه منع الشرع عن الانتفاع به إهانة لعينه واستقباحاً لذاته، وفي البيع إعزاز له إلا أن رخص للخراز الانتفاع به من حيث الخرز؛ لأجل الضرورة مستثناة عن قواعد الشرع، وعن أبي يوسف أنه كره الانتفاع به للخرازين؛ لأنه نجس ولا ضرورة في الانتفاع به؛ لأن الخرز يحصل بغيره، وعن بعض السلف أنه لا يلبس مكعباً ولا خفاً أخرز من شعر الخنزير. وشعر الميتة وعظمها وصوفها وقرنها لا بأس بالانتفاع بها، وبيع ذلك كله جائز؛ لأنه لا حياة في هذه الأشياء، فلا يحلها الموت فلا يتنجس. وأما العصب ففيه روايتان: من رواية جاز الانتفاع به وبيعه؛ لأنه طاهر، فقد صح أن رسول الله عليه السلام استعمله في اصطلاح القوس، وشعر الأدمي طاهر، ولا يجوز الانتفاع به. ويجوز بيع السرقين والبعر والانتفاع بها، وأما العذرة فلا يجوز الانتفاع بها ما لم يخلط بالتراب ويكون التراب غالبا، وهذا لأن محلية البيع بالمالية، والمالية بالانتفاع، والناس اعتادوا الانتفاع بالبعر والسرقين من حيث الإلقاء في الأرض لكثرة الريع، أما ما اعتادوا الانتفاع بالعذرة ما لم يكن مخلوطاً بالتراب، ويكون التراب هو الغالب. وقال أبو حنيفة رحمه الله: كل شيء أفسده الحرام والغالب عليه الحلال، فلا بأس بأن يبيعه وتبين ذلك، ولا بأس بالانتفاع به كالفأرة تقع في السمن والعجين، وما كان الغالب عليه الحرام لم يجز بيعه ولا هبته. وكذلك الزيت إذا وقع فيه ودك الميت، فإن كان الزيت غالباً جاز بيعه، وإن كان الودك غالباً لم يجز، والمراد من الانتفاع حال عليه الحلال الانتفاع في غير الأبدان، وأما في الأبدان فلا يجوز الانتفاع به، ويجوز بيع البربط والطبل والمزمار والنرد، وأشباه ذلك في قول أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز بيع هذه الأشياء. وجه قولهما: إن هذه الأشياء أعدت للمعصية حتى صارت بحال لا يستعمل إلا في المعصية، فسقطت ماليتها والتحقت بالعدم، ومن شرط جواز البيع المالية. ولأبي حنيفة: إن هذه الآلات ليست بمحرمة العين، وكونها آلة المعصية إنما يوجب سقوط التقوم والمالية إذا كانت متعينة للمعصية، وهذه الأشياء لم تتعين آلة للمعصية؛ لأن الانتفاع بهذه الأشياء ممكن بوجه حلال بأن يجعل النرد صنجات الموازين، والبربط والطبل والدف ظروف الأشياء، وإذا لم تكن متعينة للمعصية تقومها كالمعيبة فإنه لما تصور الانتفاع يعينها بطريق حلال لا يسقط تقومها وماليتها حتى جاز بيعها كذا ههنا. وذكر أبو الحسن في «الجامع الصغير» المنسوب إليه: ذبيحة المجوسي، وكل شيء يعملونه وهو عندهم ذكاة كالخنق والضرب حتى يموت فإنه يجوز البيع بينهم عند أبي يوسف، ولو استهلكها مسلم ضمن القيمة، وليس كالميت حتف أنفه. وقال محمد: هو في الميت حتف أنفه سواء؛ لأن الذكاة فعل شرعي، فإذا لم يكن

الفاعل من أهله صار الذبح في حقه والموت حتف أنفه سواء، ولأبي يوسف: أنهم يتمولونه كما يتمولون الخمور، ونحن أمرنا ببناء الأحكام على اعتقادهم، وان نتركهم وما يدينون، فظهر حكم ديانتهم في حقهم بخلاف الميت حتف أنفه، لأنه ليس بمال في حق أحد. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع الأشربة المحرمة كلها إلا الخمر، وعلى مستهلكها الضمان. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز بيعها ولا يجب الضمان على مستهلكها؛ لأنه حرم شربها وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى إذا حرم شربه حرم بيعه وأكل ثمنه» ، أوجب تحريم البيع عند تحريم الشرب، وفيه إشارة إلى سقوط التقويم، وذلك شرط وجوب الضمان. ولأبي حنيفة: أن حرمة هذه الأشربة ما يثبت على طريق النص، بل بالاجتهاد الذي يوجب العمل دون العلم، فلا يوجب سقوط التقوم اللذان كانا من قبل، والحديث منصرف إلى ما يثبت فيه الحرمة مطلقا وهو الخمر. وروى الحسن عن أبي حنيفة في العصير: إذا ذهب ثلثه، واشتد أنه يجوز بيعه بخلاف المنصف، ولا يجوز بيع المكاتب والمدبر وأم الولد ومعتق البعض. أما المكاتب؛ فلأنه استحق يداً على نفسه ومكاتبه، وبالبيع يبطل ذلك، فيجب صيانته برد البيع إذا باع المكاتب بغير رضاه، وإن باعه برضاه، ذكر المشايخ في كتبهم: أنه يجوز البيع وتنفسخ الكتابة، وحكي عن الكرخي رحمه الله: أنه كان يقول: لا رواية فيه عن أصحابنا رحمهم الله نصاً، وإنما هذا شيء يقوله مشايخنا المتأخرون وقد أشار إليه محمد في «الجامع» : إلى أنه لا يجوز ولا ينفسخ الكتابة. فقد قال في «الجامع» : إذا أمر الرجل مكاتبه أن يتزوج على رقبته حرة جاز، وكان على المكاتب أن يسعى في قيمته، ولم تنفسخ الكتابة مقتضى جعل الرقبة مهراً إذ لو انفسخت الكتابة لتعلق النكاح برقبتها، ويفسد النكاح؛ لأنها تملك رقبة زوجها، ولا يفسد النكاح حتى وجبت عليه السعاية في قيمته علم أن الكتابة لم تنفسخ، وقد رضي المولى والمكاتب بانفساخ الكتابة؛ لأنهما رضيا بضرورة رقبت مهر المولي بالأمر بالتزوج على رقبة والمكاتب بالأقدام على التزوج على رقبته، ولن تصير رقبته مهراً إلا بفسخ (52أ3) الكتابة، وهذا لم يفسخ الكتابة، ولم تصر رقبته مهراً، فقياس هذه المسألة أن لا يجوز بيع المكاتب برضاه، ولا تنفسخ الكتابة ههنا مقتضى جعل رقبته مهراً هذا جملة ما نقل عن الكرخي. ومن مشايخنا من فرق بين المسألتين فقال: الكتابة لو انفسخت في هاتين الصورتين

إنما تنفسخ تصحيحاً للنكاح للبيع في مسألتنا، وليس في فسخ الكتابة تصحيح النكاح ثمة، فإن الكتابة إذا انفسخت يصير رقبته مهراً، وتملك المرأة رقبة زوجها مقارناً للنكاح، فلم يكن في فسخ الكتابة فائدة. وأما معتق البعض؛ فلأنه بمنزلة المكاتب عند أبي حنيفة، وعندهما بمنزلة آخر عليه دين.I وأما أم الولد فلقوله عليه السلام في حقها: «لا تباع ولا توهب» وهو حر من جميع المال. وأما المدبر فهو نوعان: مقيد ومطلق، فجواز بيعه مجمع عليه، وإن كان مطلقاً فعدم جواز بيعه مذهبنا، والمسألة معروفة، وأولاد الإماء من ذلك بمنزلة الأصول؛ لأن الأصل إن ما يثبت في الأصل يتعدى إلى الفروع لهذا كان ولد الحرة حراً، وولد الأمة رقيقاً، وكذلك الولد المشترى في حالة الكتابة والولدان، وأما من سواهم من ذوي الأرحام، فلا يدخلون في الكتابة، ويجوز بيعهم في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز بناء على أن الكل يدخلون في الكتابة عندهما، فيمتنع بيعهم كما يتبع بيع الأولاد والولدان، والمسألة معروفة في كتاب المكاتب. نوع آخر في بيع الجنس بالجنس قال أبو حنيفة رحمه الله: ويجوز بيع التمر بالرطب متساوياً كيلاً، ولا يجوز متفاضلاً، وعندهما بالآخر متساوياً كيلاً ومتفاضلاً، فالأصل أن كل مكيل أو موزون قوبل بجنسه إن كانت المجانسة بينهما ثابته من كل وجه يكتفي بالمماثلة الخالية بجواز البيع، عرف ذلك بالحديث المعروف، وهو قوله عليه السلام: «الحنطة بالحنطة مثلاً بمثل كيلاً بكيل، والذهب بالذهب مثلاً بمثل وزناً بوزن» قيد الجواز بالمماثلة إذا كانت المجانسة قائمة للحال من كل وجه. بعد هذا قال أبو يوسف ومحمد: التمر جنس الرطب من وجه دون وجه، فإن بعض معانيه فائت بالجفاف، والبعض باقي، فلا يكتفي بالمماثلة الخالية بجواز البيع، وأبو حنيفة رحمه الله قال: المجانسة بين الرطب وبين التمر قائمة من كل وجه؛ لأنها كانت ثابتة من كل وجه قبل الجفاف، ولاتحاد الاسم ولاتحاد المنفعة، وبعد الجفاف الاسم متحد؛ لأن الرطب يسمى تمراً وبالجفاف لا يزول جنس المنفعة بأصلها، فإنه يجيء من التمر جميع ما يجيء من الرطب إنما يتمكن من نقصان، والمجانسة إذا كانت ثابتة من كل وجه إذا فات جنس منفعة بأصلها كما في الحنطة مع الدقيق، فإنه بالطحن يزول جنس منفعة أصلاً، وهي منفعة الزراعة، واتخاذ الهريسة وكما في المقلية مع غير المقلية، فإن بالقلي يفوت جنس منفعة بأصلها وهي منفعة الزراعة وهاهنا لم يفت جنس منفعة بأصلها،

فكانت المجانسة ثابتة من كل وجه، فيكتفي بها جواز البيع. وأما بيع الرطب بالرطب يجوز إذا تساويا كيلاً عند علمائنا رحمهم الله، وكذلك بيع ما يلي الرطب أما بيع البسر بالتمر، فلا ذكر له في الكتب. وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح بيوعه: أنه يجوز بالإجماع إذا تساويا كيلاً يداً بيد، وأما بيع العنب بالزبيب، فعند أبي حنيفة وأبي يوسف يجوز إذا تساويا كيلاً هكذا ذكر في «نوادر هشام» . وذكر في موضع آخر أن على قول أبي يوسف إنما يجوز هذا البيع على سبيل الاعتبار، وتفسيره: أن يكون الزبيب أكثر حتى يكون الزبيب بالزبيب من العنب، والباقي بإزاء الماء العالمة للحال، وعلى قول محمد: لا يجوز، وذكر شمس الأئمة السرخي في «شرحه» : أن بيع العنب بالزبيب نظير بيع التمر بالرطب على قول أبي حنيفة يجوز إذا تساويا كيلاً، أو على قولهما: لا يجوز، فعلى ما ذكره شمس الأئمة السرخي لا يحتاج إلى الفرق لأبي يوسف بين بيع العنب بالزبيب، وبين بيع الرطب بالتمر، وعلى ما ذكره هشام يحتاج الى الفرق. والفرق: أن الرطوبة التي في الرطب من أجزاء التمر، ولهذا ينطلق عليه اسم التمر، ولو كانت الرطوبة شيئاً آخر وأجزاء التمر شيئاً آخر لكان لا ينطلق على الرطب اسم التمر كما لا ينطلق على العنب اسم الزبيب، فإذا اعتبرت الرطوبة من أجزاء التمر كانا شيئاً واحداً إلا أن المجانسة بينهما قائمة من وجه دون وجه، والمماثلة في الحال في مثل هذا لا يكتفي بجواز البيع، فأما الرطوبة التي في العنب ليست من أجزاء الزبيب ولهذا لا ينطلق على العنب اسم الزبيب، بل هما شيئان ماء وتفل فكانا كالسمسم مع الدهن. وإذا باع الحنطة المبلولة بالحنطة اليابسة على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز إذا تساويا كيلاً، وعلى قول محمد: لا يجوز هكذا ذكر في «الأصل» قال شمس الأئمة الحلواني في «شرحه» : إن الرواية محفوظة عن محمد أن بيع الحنطة اليابسة بالمبلولة إنما لا يجوز إذا ابتل وانتفخ، أما إذا لم ينتفخ بعد ولكن بل من ساعته يجوز بيعه باليابسة إذا تساويا كيلاً. قال محمد رحمه: وهذا نظير زبيب يابس بزبيب قد بل بالماء عند أبي حنيفة يجوز هذا البيع إذا لم ينتفخ، وإذا انتفخ لا يجوز، وأما بيع الحنطة الرطبة بالحنطة اليابسة، ذكر بعض مشايخنا أنه على الخلاف المذكور في بيع الحنطة المبلولة بالحنطة اليابسة. على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز إذا تساويا كيلاً، وعلى قول محمد: لا يجوز، وبعضهم ذكر قول أبي يوسف في هذه المسألة مع قول محمد، فعلى قول هذا القائل يحتاج أبو يوسف إلى الفرق بين بيع المبلولة باليابسة وبيع الرطبة باليابسة. والفرق: أن المبلولة مع اليابسة جنس واحد من كل وجه؛ لأن بالبل لم يزل الاسم ولا جنس منفعة، فإن المبلولة تصلح للطحن والزراعة كاليابسة إلا أنه يمكن فيه نوع نقصان، فإذا بقيت المجانسة من كل وجه كان الشرط جواز البيع المماثلة في الحال وقد وجدت.

وأما الرطبة مع اليابسة جنسان من وجه، وفي مثل هذا المماثلة لا تكفي، وأما بيع الحنطة المبلولة، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز إذا تساويا كيلاً، وكذا الزبيب المنقع بالزبيب المنقع والتمر المنقع، وفي بيع المقلية اختلاف المشايخ، والأصح إن تساويا كيلاً؛ لأن المجانسة بينهما فائته من وجه؛ لأن بالقلي يفوت جنس المنفعة بأصلها، وهي منفعة الزراعة والجنس والمماثلة الخالية في مثل هذا لا يكفي للجواز. وأما بيع المقلية بالمقلية: فيجوز إذا تساويا كيلاً؛ لأن المجانسة بينهما قائمة من كل وجه، ويكتفي بجواز البيع بالمماثلة الخالية، ولا فرق في بين الحنطة بالدقيق متساوياً ومتفاضلاً؛ لأن المجانسة بين الحنطة والدقيق ثابتة من وجه دون وجه؛ لأن أثر الطحن في تفريق الأجزاء لا غير، والمجتمع لا يصير شيئاً آخر بالتفريق، ولهذا بقي حرمة ربا الفضل بين الحنطة والدقيق، وأما فائتة من وجه بدليل اختلاف الاسم والصورة والمعنى، والمماثلة الخالية في مثل هذا لا يكتفي للجواز. وبيع الدقيق بالدقيق يجوز إذا تساويا كيلاً؛ لأن المجانسة بينهما قائمة من كل وجه، والاتفاق في القدر ثابت، فيجوز البيع عند التساوي كيلاً، كبيع الحنطة، وكبيع الدقيق بيان المجانسة ظاهر بيان الاتفاق في القدر أن الدقيق كيلي، فإنَّ الناس اعتادوا بيعه كيلاً، ولهذا جاز السلم فيه كيلاً، ويجوز بيعه في الذمة كيلاً، وكذا يجوز استقراضه كيلاً. حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل: أن بيع الدقيق بالدقيق إذا تساويا كيلاً إنما يجوز إذا كانا مكبوسين، وإذا باع الحنطة بالحنطة وزناً لا يجوز، والأصل: أن ما يثبت كيله بالنص لا يجوز بيعه بجنسه وزناً، كالحنطة بالحنطة، وما ثبت وزنه بالنص لا يجوز بيعه بجنسه وكيلاً كالدراهم (52ب3) بالدراهم كيلاً، وكالدنانير بالدنانير كيلاً، وما لا نص فيه، ولكن عرف كونه كيلاً على عهد رسول الله عليه، فهو مكيل أبداً، وإن اعتاد الناس بيعه وزناً في زماننا، وما عرف كونه موزوناً في ذلك الوقت، فهو موزون أبداً، وما لا يعرف حاله على عهد رسول الله عليه يعتبر فيه عرف الناس، فإن تعارفوا كيله فهو مكيل، وإن تعارفوا وزنه فهو وزني، وإن تعارفوا كيله ووزنه، فهو كيلي ووزني، وهذا كله قول أبي حنيفة ومحمد. فأما على قول أبي يوسف: المعتبر في جميع الأشياء العرف سواء عرف كونه مكيلاً على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام أو موزوناً. قال الشيخ الإمام: وأجمعوا على أن ما يثبت كيله بالنص إذا بيع وزناً بالدراهم يجوز، وكذا ما يثبت وزنه بالنص إذا بيع كيلاً بالدراهم يجوز. وعن محمد في «المنتقى» في باب صفة تسليم الثمن بالثمن إن شراء البر وزناً لا يجوز، فإن أخذه رد مثله بكيل، فإن أكله قبل أن يكيله فالقول قوله أنه كذا كذا قفيراً مع يمينه، قال: وأستحسن في الثمن أن يجوز بيعه وزناً، أو كان الثمن بعينه، فيقول: أبيعك منه كذا رطلاً بدرهم. وفي «المنتقى» أيضاً: في باب السلم الصحيح والفاسد رواية إبراهيم عن محمد لا تجوز الحنطة في السلم وزناً، وفي آخر هذا الباب، وقال أبو يوسف: لا بأس بالسلم في الحنطة بالوزن، وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف: إذا أسلم في التمر وزناً جاز استحساناً، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة لا يجوز. وفي «المنتقى» أيضاً: في باب القرض وصحته وبطلانه عن محمد: لا

تجوز الحنطة أن تقرض وزناً، فإن أخذه وأكله قبل أن يكيله، فالقول قول المستقرض أنه كذا كذا قفيزاً، وقال هشام: قلت لمحمد: إن التمر بالذي يباع وزناً، فما نقول فيمن أقرضه وزناً؟ قال: لا يصح ذلك؛ لأن أصله كيل. وفي باب الربا من «المنتقى» : إذا باع تمراً بتمر كيلاً بكيل مثلاً بمثل، ويتفاوت الوزن يجوز، وإن كان وزناً بوزن مثلاً بمثل والكيل يتفاوت، ذكر في موضع من هذا الباب أنه يجوز؛ لأن التمر يكال، وذكر في موضع آخر من هذا الباب أنه لا يجوز، وفي هذا الباب أيضاً: إذا بيع رطل من سمن الغنم كيلاً برطل من سمن الغنم وزناً بالميزان، فالبيع باطل حتى يعلما قبل البيع أنهما سواء لا يختلفان لا كيلاً ولا وزناً. والعسل والسمن والزيت على الوزن بالميزان إذا اتفق جاز، وإن كان يختلف في كيل الرطل، وفي هذا الباب أيضاً: وكل ما يوزن وما يكال فلا بأس ببيعه بجنسه كيلاً ووزناً وفي «الأصل» : ولا خير في بيع الحنطة بالحنطة مجازفة، قالوا: وهذا إذا كانت الحنطة بحيث يكال، فأما إذا كانت قليلاً يجوز بيع البعض بالبعض مجازفة. وكذلك الجواب في كل مكيل أو موزون، وإن بيعت الحنطة بالحنطة مجازفة، ثم كيلاً بعد ذلك فكانا متساويين لا يجوز، فالأصل: أن في كل موضع اعتبرت المماثلة بين البدلين في المعيار الشرعي شرطاً بجواز العقد بشرط العلم بالمماثلة في المعيار وقت مباشرة العقد، ويجوز بيع الفضة بالفضة الكفة بالكفة، وإن لم يعلم مقدار كل واحد منهما؛ لأنا تيقنا بالتساوي في الوزن، وإن لم يعلم مقدار ذلك. وفي «الأصل» : إذا باع قفيز حنطة بنصف قفيز هو أجود لا يجوز، وبهذه المسألة تبين أن أدنى ما يكون مال الربا من الحنطة نصف قفيز، وذكر شمس الأئمة السرخي في باب الصرف في شرح الأجارات: أن أدنى ما يجري فيه الربا من الأشياء المكيلة نحو الحنطة وأشباهها نصف صاع، وذلك مدّان، حتى لو باع مدّين من الحنطة بثلثه أيضاً من الحنطة فصاعداً لا يجوز ذلك، لكن إذا باع منوين بمنون من الحنطة، ومنوين من الشعير بمنوين من الشعير يجوز. وكذلك لو باع نصف مَنّ الحنطة بمنوين فصاعداً يجوز. وقد صح عن عبادة بن الصامت: أنه قال في خطبته بالشام: أيها الناس إنكم أحدثتم نوعاً لا يدري ما هي ألا وإن الحنطة بالحنطة مدين بمدين، وإن الشعير بالشعير مدين بمدين، وذكر في التمر والملح مثل ذلك، ثم قال: فمن زاد أو استزاد فقد أربى بهذا، تبين أن ماذكر محمد رحمه الله في «الأصل» أن أدنى مال الربا من الحنطة نصف قفيز أن المراد منه نصف صاع، أو يكون في المسألة روايتان، وإذا باع حنطة بحنطة، وفي كل واحد من الجانبين حبات شعير أنه لا يجوز إلا متماثلاً؛ لأن الشعير مغلوب فكان مستهلكاً.

في «الجامع» : في باب الدراهم المخلوطة، وذكر شمس الأئمة السرخي رحمه الله في شرح «الزيادات» : في باب الوصية بعد باب المهر قبل باب الحيض: إذا بيع شعير بالحنطة إن كان مثل ما يكون في الشعير يجوز، وإذا باع الدقيق بالدقيق وزناً لا يجوز كما لا يجوز بيع الحنطة بالحنطة وزناً، وبيع السويق بالسويق، وبيع النخالة بالسويق نظير بيع الدقيق بالدقيق. وإذا باع دقيقاً منخولاً بدقيق غير منخول جازا تساوياً؛ لأنهما جنس واحد إلا أن أحدهما أجود، وبيع الحنطة بالسويق نظير بيع الحنطة بالدقيق، وبيع الدقيق بالخبز، وبيع الحنطة بالخبز يجوز متساوياً ومتفاضلاً بعد أن يكون يداً بيد، وهذا لأن المجانسة بين الخبز والحنطة، وإن كانت قائمة من وجه؛ لأن الخبز أجزاء دقيق قد طبخت، فالإتفاق في القدر فائت من وجه؛ لأن أحدهما كيلي والآخر عددي. وفي مثل هذا لا يجرى الربا فالأصل أن الربا النقد لا يحرم إلا بوصفين، وهو القدر والجنس، ونعني بالقدر الكيل في المكيلات، والوزن في الموزونات، فإذا انفق البدلان جنساً وكيلاً، أو وزناً يحرم الفضل، وما لا فلا، وبيع أحدهما بالآخر مسألة من مسائل السلم نذكره في فصل السلم إن شاء الله تعالى. وبيع الدقيق بالنخالة لا يجوز إلا على طريق الاعتبار عند أبي يوسف. وتفسير الاعتبار، أن يكون النخالة الخالصة أكثر من النخالة التي في الدقيق، وقال محمد: لا يجوز إلا إذا تساويا كيلاً، أو تفاضلا، وعندهما يجوز تساوياً بعد أن يكون يداً بيد. وإذا باع الزيت بالزيتون فهو على أربعة أوجه: إما إن كان الدهن الخالص أكثر من الدهن الذي في الزيتون، وفي هذا الوجه البيع جائز، ويجعل الدهن الذي في الزيتون بمثله من الدهن الخالص، والباقي من الدهن الخالص بإزاء التفل، وإن كان الدهن الخالص مثل الدهن الذي في الزيتون لا يجوز البيع؛ لأن الدهن يصير بمثله، ويبقى التفل خالياً عن العوض فيكون الربا. قالوا: وهذا إذا كان التفل في الآخر شيئاً له قيمة، وإن لم يكن له قيمة جاز البيع في هذا الوجه إذ لا يؤدي إلى الربا، وإن كان الدهن الخالص أثقل من الدهن الذي في الزيتون لا يجوز البيع إذ يبقى بعض الدهن خالياً عن العوض، وإن كان لا يدري لا يجوز لجواز أن الدهن الخالص مثل الدهن الذي في الزيتون أو أقل، والبيع، قال: الربا عند مقابلة الجنس بالجنس كما يبطل بفضل موهوم، ألا ترى أن بيع الحنطة بالحنطة مجازفة لا يجوز، وإنما لا يجوز بفضل موهوم. وإذا باع دهن السمسم بالسمسم، أو العصير بالعنب، أو التمر الذي فيه نوى بالتمر الذي ليس فيه نوى، أو الرطب بالدبس، أو اللبن بالسمن، أو المحلوج بالقطن، أو لب الجوز بالجوز، فهو على ما ذكرنا في بيع الزيت بالزيتون، وهذا الذي ذكرنا قول علمائنا. وقال مالك والشافعي: لا يجوز البيع، وإن كان المقدار أكثر في المسائل كلها،

والصحيح مذهب علمائنا؛ لأن في الزيتون والسمسم شيئين حقيقة الدهن والتفل، فيمكننا تجويز هذا البيع متى كان الخالص أكثر بأن يجعل ما في الزيتون زيت، والسمسم بمثله من الخالص (53أ3) والباقي بإزاء التفل كما بعد التميز، وكان القياس فيما إذا باع الزيتون بالزيتون، أو السمن بالسمن، أو الحنطة بالحنطة، أو التمر بالتمر متفاصلاً أن يجوز، ويصرف الجنس إلى خلاف الجنس؛ لأن في الزيتون تفل ودهن في الجانب الآخر كذلك، وفي التمر تمر ونوى وفي الحنطة دقيق ونخالة إلا أنا تركنا هذه الحقيقة بالنص، فإن النص لما أثبت الربا في هذه الأموال علمنا أنه أسقط اعتبار الحقيقة، وجعل الكل شيئاً واحداً؛ لأن الربا لا يتصور مع اعتبار هذه الحقيقة، وإذا اعتبر الكل شيئاً واحداً لا يجوز مع التفل بالزيادة من الخالص إلا باعتبار المماثلة؛ لأن التفل دهن حكماً لما اعتبر التفل مع الزيت شيئاً واحداً، ولم توجد المماثلة بين الزيادة، وبين الخالص، وبين التفل، فلا يجوز. قلنا: والنص الوارد بإسقاط هذه الحقيقة في تلك الصورة لايكون وارداً فيما تنازعنا فيه؛ لأن فيما تنازعنا فيه تحقق الربا مع اعتبار هذه الحقيقة في جنس الأموال بأن يكون الدهن الخالص مثل الدهن الذي في السمسم أو أقل، وإذا كان الربا في المتنازع فيه تحقق في بعض الأموال مع اعتبار هذه الحقيقة لا ضرورة إلى إسقاط اعتبار هذه الحقيقة، فإذا لم يسقط اعتبار هذه الحقيقة حصل بيع الدهن الخالص بجنسه وبالتفل فالتقريب ما مر. وفي «المنتقى» : ولا خير في القطن المحلوج بالقطن الذي فيه حبّ إلا مثلاً بمثل، وكذلك التمر بالتمر المشقوق، وإذا كان اشترى تمراً بنوى تمر لا يجوز إلا إذا كان في التمر من النوى أقل. وكذا إذا اشترى قطناً بحب قطن، وكذا إذا اشترى دقيقاً غير منخول بنخالة، وإذا باع السمن بالزبد، فعن أبي حنيفة أنه أفسده على كل حال؛ لأن الزبد إذا حمل إلى النار انتقص. قيل: لم لا تعامل الفضل بتفل الزبد إذا كان السمن الصافي أكثر؟ قال: لأن له قيمة، وقد مر جنس هذا فيما تقدم، وذكر المعلى عن أبي يوسف أنه كان يكره التمرة بالتمرتين، وكان يقول: كل شيء حرم منه الكثير فالقليل منه حرام، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله في «المجرد» في مئة جوزة بمائتي جوزة يداً بيد بأعيانهما يجوز. وفي «الأصل» : لو باع تمرة بتمرتين، أو جوزة بجوزتين، أو تفاحة بتفاحتين، فالبيع جائز عندنا من غير ذكر خلاف. فإن قيل: الجوز والبيض جعلا مثالاً في ضمان المستهلكات، فينبغي أن لا يجوز بيع الواحد باثنين. قلنا: لا مماثلة بينهما حقيقة للتفاوت صغراً أو كبراً إلا أن الناس اصطلحوا على إهدار التفاوت، فيعمل بذلك في حقهم، وهو ضمان العدوان دون الربا الذي هو حق الشرع عليهم.

وإذا باع شاة بلحم، فإن كانت الشاة مذبوحة مسلوخة جاز إذا تساويا وزناً؛ لأن كل واحد منهما موزون، فقد باع موزوناً بجنسه متساوياً فيجوز، وأراد بالمسلوخة غير المفصولة عن السقط، وإن كانت مذبوحة غير مسلوخة لا يجوز إلا على سبيل الاعتبار بأن يكون اللحم المفصول أكثر؛ ليصير بعضه بإزاء السقط، وإن كانت حية فالقياس: أن لا يجوز إلا على سبيل الاعتبار، وهو قول محمد. وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز من غير اعتبار؛ لأن الشاة مع اللحم المفصول جنساً مختلفاً عرفنا ذلك بالنص فإن الله تعالى قال: {فكسونا العظام لحماً ثم أنشأناه خلقاً آخر} (المؤمنون: 14) أي: بعد نفخ الروح، فعلمنا أن الحي جنس آخر غير الجماد، فجعلنا الشاة الحية مع اللحم جنسان نصاً، فيجوز بيع أحدهما بالآخر كما لو كانا جنسين حقيقة بأن باع لحم البقر بالشاة وما أشبهه. وإذا باع ثوبا منسوجاً بالذهب الخالص لابد لجوازه من الاعتبار، وهو أن يكون الذهب المنفصل أكثر، وكان ينبغي أن يجوز البيع من غير اعتبار؛ لأن الذهب الذي نسج في الثوب خرج من أن يكون وزنياً، ولهذا لا يباع وزناً، وربا الفضل يعتمد المجانسة والمعيار، والجواب وهو الأصل في جنس هذه المسائل أن الناس متى تركوا الوزن في شيء للتعذر لا يخرج ذلك الشيء من أن يكون موزوناً. ألا ترى أنه لو باع لبّ الجوز بالجوز لا يجوز إلا على طريق الاعتبار، والجوز عددي، واللب موزون، فينبغي أن يجوز البيع من غير الاعتبار، ولكن مثل اللب الذي في الحب موزون، وإن ترك الناس وزنه؛ لأنهم إنما تركوا للتعذر بسبب اتصاله بالقشر، فلم يخرجه من أن يكون موزوناً، فقد باع الموزون بجنسه وبشيء آخر فيشترط الاعتبار، ومتى تركوا الوزن في شيء مع الإمكان، فإنه يخرج من أن يكون موزوناً، فإنه لو باع قمقمة من حديد أو صفر ونحاس بقمقمتين من جنسها، وتلك القمقمة لا يباع وزناً، فإنه يجوز يداً بيد؛ لأن الناس تركوا وزنها مع الإمكان، وتركوا الوزن مع الإمكان ينسخ الاصطلاح على الوزن في هذه الأشياء ثبت باصطلاحها بخلاف قمقمة من ذهب أو فضة بقمقمتين من ذلك لا يجوز، وإن تعارفوا بيعاً عدداً؛ لأن صفة الوزن في الذهب والفضة منصوص عليها، فلا يتغير ذلك بالعرف، ولا يخرج من أن يكون موزوناً بالعادة. إذا ثبت هذا فنقول: الذهب المنسوج لا يوزن لمكان التعذر، فترك الوزن فيه لا يخرجه من أن يكون مال الربا، فعلى هذا الأصل يخرج جنس هذه المسائل. وفي «البقالي» : أن في الاعتبار الذهب في السقف روايتان، ولا يعتبر العلم في الثوب، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه يعتبر وإذا اشترى شاة حية على ظهرها صوف بصوف منفصل لا يجوز إلا على طريق الاعتبار، أطلق محمد رحمه الله الجواب في المسألتين في «الأصل» . قال الطحاوي رحمه الله: ما ذكر محمد من الجواب في المسألتين قوله، أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز هذا البيع من غير صفة الاعتبار، وجعلت هذه المسألة فرع مسألة بيع اللحم بالشاة؛ لأن الصوف ما دام على ظهر الشاة، واللبن في ضرعها،

فهو من أوصافها نظير اللحم الذي في الشاة، ومن المشايخ من قال: ما ذكر من الجواب في المسألتين قول الكل، وإطلاق محمد رحمه الله في «الكتاب» يدل عليه. وفي «نوادر هشام» : قال: أخبرني محمد أن أبا يوسف قال: لا خير في صوف الشاة على ظهرها بصوف إلا أن يكون الصوف المنفصل أكثر من الصوف الذي على ظهر الشاة، فأما في اللبن فهو جائز؛ وإن كان اللبن أقل مما في ضرعها؛ لأن اللبن مكنون ليس بظاهر. ذكر المعلى عن أبي يوسف في اللبن أنه لا يجوز أيضاً، وقال هشام: سألت أبا يوسف عن دورق عصير بدورق خل قال: لا بأس به، وأما دورق عصير بدورق.... لايجوز؛ لأن العصير لاينتقص إذا صار خلاً وينتقص إذا صار.... وروى أبو سليمان عن أبي يوسف في بيع العصير على خلاف رواية هشام، وذكر أبو سليمان في كتاب الحج عن محمد لابأس بالخبز قرص بقرصين يداً بيد، وإن كان بعض ذلك أكثر من بعض؛ لأن ذلك قد خرج من الكيل، وليس مما أصله الوزن. ذكر أبو الحسن الكرخي أن ثمار النخيل كلها جنس واحد، قال عليه الصلاة والسلام: «التمر بالتمر» ، وهذا عام؛ ولأن الأصل متحد، والمقصود كذلك، وأما بقية الثمار، فثمرة كل نوع من الشجر جنس واحد كالعنب كلها جنس واحد، وإن اختلفت أنواعها، وكذلك الكمثرى كلها جنس واحد، وإن اختلفت أنواعها، وكذلك التفاح كلها جنس واحد حتى لم يجز بيع نوع من العنب متفاضلاً، وعلى هذا التفاح والكمثرى، ويجوز بيع الكمثرى بالتفاح متفاضلاً، وكذا بيع (53ب3) التفاح بالعنب متفاضلاً. واللحوم معتبر بأصولها، فالبقر والجواميس جنس واحد لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً، وكذلك الغنم جنس واحد ضأنها ومعزها. وزاد في «المنتقى» : والضأن والمعز جنس واحد في اللبن واللحم، ولو باع لحم الغنم بلحم البقر متفاضلاً يجوز عندنا اعتباراً بالأصول، وكذلك لو باع لبن الغنم بلبن البقر متفاضلاً يجوز، ويعتبر في اللبن الأصول أيضاً كما في اللحم. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف في لبن المخيض مع لبن الحليب إذا كان المخيض اثنان والحليب واحداً لا بأس به، وإن كان المخيض واحداً، والحليب اثنان فلا خير فيه من قبل أن الحليب فيه زيادة زبد.

وقيل أيضاً: فيما إذا كان الحليب اثنان فلا خير فيه من قبل أن الحليب فيه زيادة زبد. وقيل أيضاً: فيما إذا كان الحليب اثنان إن كان الحليب بحيث لو أخرج زبده نقص من رطل فهو جائز، وإن كان لا ينقص فلا خير فيه. وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف: أن الزبيب جنس واحد، وإن اختلفت ألوانه وأجناسه، وفيه أيضاً: لحوم الطير وما لا يوزن من اللحمان فلا بأس به واحد باثنين؛ لأنه لا يوزن، فإن كان في جنس منه يوزن فلا خير فيما يوزن منه إلا مثلاً بمثل، قال: وكل يصير لا يوزن فيه بأس بأن يباع هناك طابق بطابقين إنما أنظر إلى حال بلده في ذلك. والحديد والرصاص والصفر والشبه أجناس لاختلاف المقاصد والاسم والصورة والمروي مع المروي جنسان مختلفان لاختلاف المقصود والصورة. وكذلك الثوب المتخذ من القطن مع الثوب المتخذ مع الكتان، إما لاختلاف الأصل أو لاختلاف الصنعة على وجه أوجب اختلاف الاسم والمقصود، وكذلك الزبد مع الوداري جنسان مختلفان، ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح بيوعه، والمعنى ما ذكرنا. وفي «المنتقى» : ولا يصلح غزل قطن ابن بغزل قطن حسن إلا مثلاً بمثل القطن سواء، وإنما نفرق بينهما بالنسج، ولا بأس بغزل قطن بغزل قطن كتان واحداً باثنين يداً بيد. وكذلك غزل خز بغزل قطن، وكذلك شعر بغزل صوف لا بأس به واحداً باثنين يداً بيد، والإلية واللحم جنسان يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً، وكذلك الإلية وشحم البطن جنسان وشحم الجنب من جنس اللحم وهو مع الألية، وشحم البطن جنسان، ولا يجوز بيع غزل القطن بالقطن متساوياً؛ لأن القطن ينقص بالغزل. فهو نظير الحنطة مع الدقيق، والخل مع الزيت جنسان لاختلاف أصلها، وإذا كان أصلهما واحداً، واختلف المضاف إليه كانا جنسين كالبنفسج مع.... ويجوز بيع قفيز سمسم مربى بقفيزي سمسم غير مربى، والزيادة بإزاء الرائحة؛ لأن الرائحة بمنزلة الزيادة في عينها، وقال أبو يوسف: إنما يعتبر الرائحة إذا كانت تزيد في وزنه بحيث لو خلص نقص؛ لأنه إذا كان بحال ينقص لو خلص نقص؛ لأنه علم أن ذلك زيادة في عينه، أما إذا كان لا ينقص لو خلص لم يكن ذلك زيادة في عينه فلا يعتبر. وفي «المنتقى» : وإذا باع مكوك سمسم مربى ببنفسج بخمس مكاييل سمسم غير مربى يداً بيد يجوز، وإن كان المربى مثله في الكيل لا يجوز وكذلك سويق ملتوت بسمن أو محلى بسكر بسويق غير ملتوت وغير محلى. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: أن الصوف والمرعزي جنسان لا بأس به واحداً باثنين يداً بيد، والصوف مع الشعر جنسان أيضاً، والقز مع الابريسم كالدقيق مع الحنطة،

وعن محمد جواز بيع غزل القطن بالقطن متساوياً، وعن أبي يوسف: أنه لا يجوز إلا إذا كان القطن أكثر، وعلى هذا بيع الصوف بغزله. وفي «البقالي» : عن أبي حنيفة جواز التفاضل في الماء، وعن محمد خلافه، وعن أبي يوسف لا خير في الجبن باللبن؛ لأن الجبن لم يخرج عن حد الوزن كما خرج الخبز من حد الكيل والفلوس من حد الوزن، ولا بأس بالسمن بالجبن. وفي «الأصل» : وإذا باع حنطة قد أدرك في سنبلها بحنطة منقاة خرصاً لا يجوز. قال شيخ الاسلام في «شرحه» : إذا كانت الحنطة المنقاة مثل الحنطة في سنبلها أكثر أو أقل، أو لا يدري، أما إذا كانت أكثر يجوز قال عليه الصلاة والسلام: «الناس شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار» ؛ والمراد من الماء المذكور في الحديث الماء الذي في الآبار والأنهار؛ لأن هذا الماء وجد بإيجاد الله تعالى في مكانه، فبقي على الإباحة على أصل الخلقة حتى يؤخذ في الجرار، فإذا أخذه وجعله في جرة، أو ما أشبهها من الأوعية، فقد أحرزه فصار أحق به، فيجوز بيعه وتصرفه فيه كالصيد الذي يأخذه، فأما بيع ما جمعه الإنسان في حوضه من الماء ذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده في شرح كتاب الشرب: أن الحوض إذا كان مجصصاً، أو كان الحوض من نحاس أو صفر جاز البيع على كل حال، فكأنه جعل صاحب الحوض محرزاً الماء بجعله في حوضه، ولكن بشرط أن ينقطع الجري حتى يختلط المبيع بغير المبيع، وإن لم يكن الحوض من الصفر أو النحاس، ولم يكن مجصصاً، فقد اختلف فيه على حسب اختلافهم في الجمد في المجمدة في الصيف على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله. قال رحمه الله: والمختار في هذه المسألة أنه إن سلم أولاً على سوم البيع، ثم باع بعد التسليم جاز، وإن باع أولاً ثم سلم لا يجوز؛ لأن الحوض ينصب شيئاً من الماء، فيهلك بعض المبيع، فإذا كان البيع أولاً كان الهلاك قبل القبض، فتسقط حصته من الثمن، وقدر الهلاك مما لا يعرف، فتكون حصة الباقي من الثمن مجهولة، وإنها توجب فساد العقد. ورأيت في موضع آخر إن كان صاحب الحوض ملأ الحوض من ساحة نهر لا يجوز بيعه؛ لأنه لم يصر محرزاً له بحوضه فإنما باع ما لم يملك وإن كان ملأه ماء بجرة، أو بالقربة جاز البيع؛ لأنه ملكه بالإحراز بالجرة أو بالقربة، فقد باع ما ملكه فجاز. وأما بيع الجمد في المجمدة إن كان البيع في الشتاء وكان الجمد بحيث لا يذوب في ذلك الوقت ولا ينتقص يجوز، وإن كان البيع في الصيف، فقد أنكره بعض مشايخ بلخ، وقال: لا يجوز على كل حال. وقال الفقيه أبو بكر الإسكاف: إن يسلم أولاً على سوم البيع، ثم باع بعد التسليم

يجوز البيع، وإن باع أولاً، ثم سلم لا يجوز؛ لأنه في زمان الصيف يذوب بعض الجمد، فيهلك بعض المبيع، فإذا كان البيع أولاً كان الهلاك قبل التسليم، ولا يدري قدر الهلاك حتى يسقط حصة من الثمن، فيكون ثمن الباقي مجهولاً، وإنها توجب فساد المبيع، وهذا المعنى لا يتأتى فيما إذا كان التسليم أولاً. كان الفقيه أبو جعفر رحمه الله: يفتي بالجواز على كل حال لتعامل الناس، وكان الفقيه أبو نصر محمد بن محمد سلام البلخي يقول: يجوز البيع بعد التسليم وقبل التسليم إذا لم يتخلل بين البيع والتسليم مدة طويلة بأن سلم بعد البيع بيوم أو يومين، أما لو سلم بعد ثلاثة أيام لا يجوز؛ لأن قدر ما يذوب في المدة القصيرة ساقط الاعتبار فيما بين الناس، فصار وجوده والعدم بمنزلة، وعلى هذا أكثر مشايخ ما وراء النهر. ثم إذا جاز البيع يثبت للمشتري خيار الرؤية إذا رآها حين وقع التسليم، فإن رآها بعد ما وقع التسليم، فإن وقع التسليم لتمام ثلاثة أيام لم يكن له خيار الروية، وإن وقع التسليم بعد ذلك يبقى خيار الرؤية إلى تمام ثلاثة أيام من وقت العقد. ذكر الصدر الشهد رحمه الله في الباب الأول من بيوع «واقعاته» وفي كتاب الشرب: إذا باع الشرب وحده لا يجوز، وإذا باع الشرب (54أ3) مع الأرض يجوز، إذا باع أرضاً مع شرب أرض آخر، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل، وحكي عن الفقيه أبي نصر محمد بن محمد بن سلام: أنه يجوز. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله في «الكتاب» : ولو قال: بعت منك هذه الأرض بألف درهم، وبعت منك شربها هل يجوز بيع شرب؟ اختلف المشايخ فيه، في شرب شيخ الإسلام: وإذا اشترى كذا كذا قربة من الفرات جاز استحساناً، فإذا كانت القربة نفسها لتعامل الناس قيل: إنما يجوز إذا تبين مكان رفع نحو ما فكاه كنش؛ لأن.... أو أشباه ذلك. وذكر الحسن بن زياد في «المجرد» عن أبي حنيفة في رجل اشترى من سقّا كذا وكذا قربة بدرهم من ماء دجلة على أن يوفيها في منزله كان جائزاً، إذا كانت قربة بعينها، وكذلك إذا قال: بعني كل راويتين من ماء دجله بدرهم على أن يوفيها في منزلي، وروى ابن أبي مالك عن أبي حنيفة أن هذا البيع فاسد لوجهين: أحدهما: أن الماء ليس عنده. والثاني: أن القربة وعاء إذا ضاعت لا يعرف ما مقدارها، وإذا قال لغيره: اسق دوابي كذا شهراً بدرهم لم يجز، ولو قال: كل شهر كذا قربة فهو جائز إذا أراه القربة، ولو قال لغيره: أسقيك ملاء قرابك ماء ففتح له من نهره وسقاه فلا شيء له، ولو قال: اسقِ دوابك من نهري، أو من حوض كذا فذلك جائز.

نوع آخر في جهالة المبيع أو الثمن جهالة المبيع أو الثمن مانعة جواز البيع إذا كان يتعذر معها التسليم، وإن كان لا يتعذر لم يفسد العقد كجهالة كيل الصبرة بأن باع صبرة بعينه، ولم يعرف قدر كيلها، وكجهالة عدد الثياب المعينة بأن باع أثواباً معينة، ولم يعرف عددها، وهذا لأن الجهالة ما كانت مانعة لعينها، بل للإفضاء إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسليم ينعدم عند ذلك ما هو فائدة العقد، فإذا لم يكن مانعة من التسليم والتسليم، فقد انعدم المعنى الذي لأجله صارت الجهالة مفسدة للعقد، فينعدم الفساد. قال محمد في «الجامع الصغير» : رجل اشترى من آخر ثوباً كل ذراع بدرهم، ولم يعلم قدر جملة ذرعان الثوب، فاعلم بأن ههنا أربع مسائل: إحداها: في العدديات المتفاوتة كالأغنام والبناءات. وصورة المسألة فيها: إذا أشار الرجل إلى قطيع من الغنم أو إلى جراب هروي قال: بعتك كل شاة منها بعشرة، أو قال: بعتك كل ثوب منها بعشرة، فهذا على ثلاثة أوجه: الأول: أن يبين جملة عدد الأغنام والثياب، ولم يبين جملة الثمن بأن قال: بعت منك هذا القطيع، وهي مئة شاة كل شاة منها بعشرة، أو قال: بعتك هذا الجراب، وهي مئة ثوب كل ثوب بعشرة، ولم يبين جملة الثمن بأن لم يقل: بألف، وفي هذا الوجه يجوز البيع بإجماع؛ لأن المبيع صار معلوماً بالإشارة والتسمية وجملة الثمن أيضاً معلوم حالة العقد؛ لأنها لما بينا عدد الأغنام مئة وبينّا لكل غنم عشرة فكأنهما قالا: بعتك هذه الأغنام، وهي مئة بألف درهم كل غنم بعشرة، فالبيع معلوم، والثمن معلوم فيجوز. الوجه الثاني: أن يبين جملة الثمن، ولم يبين عدد الأغنام بأن قال: بعتك هذه الأغنام بألف درهم كل غنم منها بعشرة، أو قال: بعتك هذا الجراب بألف درهم كل ثوب منه بعشرة، وفي هذا الوجه يجوز البيع أيضاً؛ لأن جملة الثمن صارت معلومة بقوله: ألف، وكذلك ثمن كل شاة صار معلوماً بقوله: كل شاة بعشرة، والمبيع صار معلوماً بالإشارة حيث قال: بعتك هذه الأغنام، فالاشارة إلى المبيع، أو إلى مكان المبيع كافية للأعلام، وإن كان لا يعلم ما هو وما مقداره كما لو قال: بعتك جميع ما في هذا البيت، بعتك جميع ما في كفي، فإن هذه الصورة يجوز البيع، ويصير المبيع معلوماً بالإشارة. الوجه الثالث: إذا لم يبين جملة الثمن، ولا جملة الأغنام أو الثياب، وإنما بين حصة كل ثوبٍ بأن قال: بعتك هذا القطيع كل شاة منها بعشرة، أو قال: بعتك هذا الجراب كل ثوب منها بعشرة، وفي هذا الوجه لا يجوز العقد أصلاً أن يعلم عدد الأغنام في المجلس، فينقلب العقد جائزاً، وكان للمشتري الخيار إن شاء أخذ بما ظهر له من الثمن، وإن شاء ترك، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: العقد جائز في الكل، ولا خيار للمشتري إن كان قد رآه.

المسألة الثانية: في المكيلاًت والموزونات: صورتها: إذا أشار إلى صبرة وقال: بعتك هذه الصبرة كل قفيز منها بعشرة، فهو على ثلاثة أوجه أيضاً: إن بين عدد القفزان وبين ثمن كل قفيز إلا أنه لم يبين جملة الثمن، أو بين جملة الثمن، وبين ثمن كل قفيز إلا أنه لم يبين عدد جملة القفزان بأن قال: بعت منك هذه الصبرة كل قفيز منها بدرهم، فالعقد جائز بالإجماع. وإن بين ثمن كل قفيز ولم يبين عدد جملة القفزان ولا جملة الثمن بأن قال: بعت منك هذه الصبرة كل قفيز منها بدرهم، فالعقد جائز عند أبي حنيفة في قفيز واحد، ولا يجوز فيما زاد على ذلك إلا أن يعلم عدد القفزان في المجلس، فيجوز البيع في الكل، وكان للمشتري الخيار، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: البيع جائز في الكل. المسألة الثالثة: في العدديات المتقاربة: والجواب فيها كالجواب في المكيلات والموزونات. لأن العدديات المتقاربة ألحقت بالمكيلات والموزونات، وصورتها: إذا قال الرجل لغيره: بعت منك هذه الجوزات كل جوزة بفلس. (المسألة) الرابعة: في الذرعيات صورتها: إذا قال لغيره: بعت منك كل ذراع من هذه الدار بدرهم، أو قال: من هذا الثوب بدرهم، والجواب فيها كالجواب في الأغنام؛ لأن الذرعان من الدار الواحدة مما يتفاوت في نفسها من حيث القيمة، وكذلك الذرعان من الثوب الواحد مما يتفاوت في نفسها من حيث القيمة، فإن الذراع من مقدم البيت والثوب يكون أكثر قيمة من الذارع من مؤخر البيت أو الثوب، فصار الجواب فيها كالجواب في الأغنام من هذا الوجه. فوجه قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أنه لو لم يجز هذا البيع إنما لم يجز؛ لأن جملة الثمن ليست بمعلومة الحال إلا أن طريق تحصيل العلم قائم بالرجوع إلى عدد الأغنام من غير مشقة، فإنه إذا عد الأغنام يصير جملة الثمن معلومة، والجهالة إذا كانت مشتركة يمكن رفعها من غير مشقة لا يفسد العقد كما لو باع بوزن هذا الحجر ذهباً. ولأبي حنيفة: إن كلمة كل إذا دخلت على ما لا يعلم نهايته يتناول الواحد من تلك الجملة كما في قوله: أجرتك هذه الدار كل شهر، وكما في قوله لامرأة الغير: كفلت لك عن زوجك نفقة كل شهر، وإذا تناول واحداً من الجملة صار بائعاً شاة واحدة من القطيع وثوباً من الجراب وذرعاً واحداً من الثوب أو الدار وقفيزاً واحداً من الصبرة وجوزاً واحداً من الجوزات الكبيرة، إلا أن بيع شاة واحدة من القطيع، وبيع ثوب واحد من الجراب، وبيع ذراع من الثوب أو من الدار لا يجوز بيع قفيز واحد من الصبرة يجوز فكذا ههنا. وعبارة بعض مشايخنا لأبي حنيفة في المسألة: أنه لا وجه إلى تجويز البيع في الكل في العدديات المتفاوتة، وما ألحق بها؛ لأن ثمن الكل مجهول في الحال، ولا وجه إلى تجويز في واحدة منها، وإن كان ثمن الواحدة منها مجهولة في نفسها لكونها (54ب3) متفاوتة. ألا ترى أنه لو باع واحدة من القطيع أو واحداً من الجراب لا بعينها لم يجز. فأما في المكيلاًت والعدديات المتقاربة إن تعذر تجويز البيع في الكل؛ لأن ثمن الكل مجهول أمكن تجويز البيع في واحدة؛ لأن ثمنها معلوم بالقسمة والواحدة منها معلوم

أيضاً؛ لأنه غير متفاوت في نفسه؛ لأنه من ذوات الأمثال. ألا ترى لو باع قفيزاً من الصبرة في الابتداء بثمن معلوم جاز ذلك كان القياس أن يجوز البيع في الثاني والثالث من القفزان مما لا يتفاوت في نفسها لكن تركنا القياس فيما زاد على الواحدة؛ لأنا لو عملنا بالقياس، وجوزناً البيع في الثاني والثالث لزمنا تجويزه في الكل إذ ليس الثاني والثالث بأولى من الرابع والخامس؛ لأن الثاني والثالث تبع للكل كالرابع والخامس، فيؤدي إلى تجويز البيع في الكل مع أن ثمن الكل مجهول. أما تجويز البيع في الواحد لا يؤدي إلى تجويز البيع في الثاني والثالث؛ لأن الأول يتصور بدون الثاني والثالث فتجويز البيع في الواحد لا يؤدي تجويز البيع في الكل فلهذا افترقا، وليس كما لو كان الثمن دراهم مشار إليها؛ لأن المشار إليه معلوم من كل وجه بالإشارة كما في جانب البيع. ألا ترى أنه يمكن للمشتري أخذ المشار إليه من غير رجوع إلى شيء، ولا يمكن للبائع أخذ جميع الثمن ههنا إلا بعد الرجوع إلى عد الأغنام، وكذا إذا أشار الحجر لأن الحجر معيار للدراهم؛ لأنها يوزن به فصارت الإشارة إلى معيارها كالإشارة إليها، وهاهنا لم وجد الإشارة الى جملة الثمن، ولا الى معيار؛ لأن القطيع ليس معياراً للثمن؛ لأنه لا يوزن به، ولم يوجد تسمية جملة الثمن، فبقي جملة الثمن مجهولة إلا أن هذه جهالة يتوهم زوالها بعد الأغنام، فقلنا بفساد العقد للحال و.... علم عدد الأغنام في المجلس فأثبتنا الخيار للمشتري؛ لأن الثمن كان مجهول القدر عنده، وإنما صار معلوماً بعد الأغنام، فيخير كما لوكان المبيع مجهول الوصف، وزالت الجهالة بالرؤية، ويسمى هذا خيار بكشف الحال لو رضي به المشتري، فليس للبائع أن يأبى، ثم شرط في «الكتاب» بجواز هذا العقد إن علم عدد الأغنام في المجلس؛ لأن ساعات المجلس لها حكم ساعة واحدة في حق العقد، فصار كأنها إنشاء العقد في الحال، فكان طريق تجويز العقد طريق رافع للفساد، فأما ساعات بعد الافتراق عن المجلس مع ساعات المجلس ليس لها حكم ساعة واحدة ليجعل كأنها إنشاء العقد، فكان طريق تجويز العقد طريق رفع الفساد، ورفع الفساد إنما يجوز في موضع كان الفساد بسبب شرط في العقد كأجل مجهول، أو خيار يزيد على الثلاث لا في موضع الفساد في صلب العقد، والفساد ههنا في صلب العقد. وبعض مشايخنا قالوا: إن عند أبي حنيفة إذا علم عدد الأغنام في المجلس، أو بعد الافتراق عن المجلس ينقلب العقد جائزاً على كل حال، وهذا القائل يقول: ذكر المجلس في الباب وقع اتفاقاً. وقال شمس الأئمة الحلواني: الأصح عندي أن على قول أبي حنيفة، وإن علم عدد الأغنام في المجلس ينقلب العقد جائزاً، ولكن إن كان البائع دائماً على رضاه ورضي به

المشتري ينعقد بينهما عقد مبتدأ بالتراضي. وسيأتي مثل هذا فيما إذا باع شيئاً برقمه هذا الذي ذكرنا إذا قال: كل شيء بعشرة، أو قال: كل ذراع، أو قال: كل قفيز، فأما إذا قال: كل شاتين بعشرة، ففي الأغنام، وما أشبهها من العدديات المتفاوتة لا يجوز البيع عندهم في الوجوه الثلاث بأن بين عدد الأغنام، أو لم يبين جملة عدد الأغنام ولا جملة الثمن، وإنما قال: كل شاتين بعشرة، وهذا لأن ثمن كل شاة ههنا غير معلوم بنفسها بل يحتاج إلى ضم شاة أخرى إليها، ثم يقسم العشرة إلى قيمتها ولا يعرف كيفية الضم أنه ضم الجيد إلى الجيد أو الرديء إلى الجيد والوسط، فيبقى ثمن كل واحدة مجهولاً، وهذه جهالة مفضية إلى المنازعة، فإنه إذ وجد بشاة أو ثوب عيباً بعد القبض يرد المعيب خاصة، ويتمكن المنازعة بينهما في ثمنه، وكذا إذا هلك أحدهما قبل القبض أو تقايلا البيع في واحدة، أو استحق واحد، فعرفنا أن هذه الجهالة تفضي إلى المنازعة، فيفسد العقد بينهما. وفي المكيل والموزون وما ألحق بهما من العدديات المتقاربة إن بين جملة عدد القفزان، ولم يبين جملة الثمن أو بين جملة الثمن، ولم يبين جملة عدد القفزان، فالبيع جائز عندهم جميعاً؛ لأن أكثر ما فيه أن كل قفير مبيع لا يعرف ثمنه إلا بانضمام غيره إليه إلا أن القفيز الذي يضم إليه مما لا يتفاوت في نفسه بخلاف الشاة على ما بينا. ألا ترى أنه لو باع قفيزين من صبرة بعشرة كان جائزاً، ولو باع شاتين من قطيع بعشرة لا يجوز، وإن لم يبين واحداً منهما، ولكن قال: بعتك هذه الصبرة كل قفيزين منها بعشرة بحيث أن تكون المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة: يجوز البيع في قفيزين منها بعشرة، ولا يجوز فيما زاد على ذلك إلا أن يعلم عدد القفزان في المجلس، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يجوز في الكل كما لو قال: كل قفيز منها بدرهم، وعلى هذا إذا قال: كل ثلاثة بكذا. ولو أشار إلى نوعين حنطة وشعير، وقال: أبيعك بهاتين الصبرتين كل قفيز منها بدرهم صح العقد على قفيز واحد منهما في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز في الصبرتين. وفي «المنتقى» : رجل قال لآخر: بعتك هذه السفين الآجر كل ألف بعشرة دراهم، فالبيع فاسد؛ لأن البيع وقع على جميعه ولا يدري إن أصاب ببعضها عيب ما حصته؛ لأن الآجر متفاوت، ولو قال: أبيعك منه ألفاً بعشرة، فإن عد له الألف ثم البيع فيها، ولكل واحد منهما أن يمنع من البيع ما لم يعد له. وفي «نوادر ابن سماعة» : قال: سألت محمداً عن رجل دنى إلى وقر بطيخ وقال: بكم عشر بطيخات من هذه البطيخات بغير عينها، فقال: بكذا، فاشترى، ثم عزله البائع بعشر بطيخات وحملها المشتري ومضي على ذلك القول، والبطيخ متفاوت قال: هو جائز استحساناً بمنزلة رجل قال للقصاب: بعني من هذا اللحم كذا، فباعه منه وقطع له منه واحدة على ذلك، فالبيع جائز.

وكذلك الرمان وهذا لأن البائع لما عزل كان ذلك منه بمنزلة ابتداء العقد فان قبل المشتري، ثم البائع إلا أن قال: ثمة ولو أتى إلى مائة شاة وقال لصاحبها: بكم عشرة منها قال: بكذا، فاشترى فالبيع باطل. قالوا: وعلى قياس مسألة البطيخ والرمان يجب أن يقال: إذا عزل البائع عشرة منها وحملها المشتري ومضى على ذلك أنه يجوز، وعلى قياس مسألة الشهادة يجب أن يقال في البطيخ والرمان: إذا لم يعزل البائع أو عزل، ولكن لم يقبل المشتري أنه لا يجوز، فإذاً لا فرق بين هذه المسائل. وفي «المنتقى» : رجل معه درهم قال لغيره: اشتريت منك هذا الثوب مثلاً بهذا، وأشار إلى ما معه من الدرهم، فباعه فوجده زيوفاً، فالبيع فاسد، رجل قال لغيره: بعت منك هذه المئة الشاة بهذه المئة الشاة كل شاة منها بشاة فالبيع فاسد. رجل قال لآخر: بعت منك هذه البقرة، وهي حية كل رطل بدرهم، فقبضها فضاعت منه ضمن قيمتها أشار الى فساد هذا البيع، وعند محمد فيمن قال لآخر: بعتك هذه الشاة كل ثلاثة أرطال بدرهم توزن حية، فالبيع باطل؛ لأنها تنقص وتزيد، وكذلك إذا قال: وزنها خمسون رطلاً، فاشترى منه كل ثلاثة أرطال بدرهم، وكذلك إذا قال: بعت منك هذه الرمانة؛ لأنها قد تنقص. وفي «القدوري» : إذا قال الرجل لغيره: بعت منك هذا اللحم كل رطل بكذا، فالبيع فاسد في الكل عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: البيع جائز في الجميع، ولا خيار له. والخلاف في هذا نظير الخلاف فيما إذا قال: بعت (55أ3) منك هذا القطيع كل شاة منها بدرهم، وإنما لم يجز البيع في رطل واحد عند أبي حنيفة بخلاف مسألة الصبرة؛ لأن القفزان من الصبرة لا يختلف، فيمكن تجويز العقد في قفيز واحد؛ لأن ثمنه معلوم، أما موضع اللحم من الشاة مما يختلف، فلا يمكن تجويز العقد في رطل واحد، ولو باع شيئاً بربح ده يازده، فالبيع فاسد حتى يعلم المشتري فيختار أو يدع. وهذه رواية ابن رستم عن محمد، وهذا لأن الثمن مجهول عند المشتري جهالة يمكن بإعلام فقيل بالفساد في الحال لمكان الجهالة وقيل: الجواز إذا زالت الجهالة عملاً بالأمرين. وروى ابن سماعة عن محمد: أن البيع جائز وتأويله أنه موقوف يحكم بالجواز عند ارتفاع الجهالة بدليل ما فسر أنه لو هلك ذلك الشيء، أو باعه، فالبيع فاسد ويلزمه قيمته، فهذا الدليل على أن العقد محكوم بفساده الى أن تزول الجهالة. وقال أبو يوسف: إن مات البائع قبل أن يرضى المشتري، وقد قبض أو لم يقبض انتقض العقد؛ لأن رضى المشتري ههنا بمنزلة الإجازة في العقد الموقوف، ثم في

الإجازة يشترط قيام المتعاقدين والمعقود عليه كذا ههنا. ولو قبض المشتري أو باعه قبل العلم، أو مات المشتري، فالعتق والبيع جائز وعليه القيمة، أما جواز العتق والبيع فلحصولهما في ملك المعتق والبائع، أما وجوب القيمة فلتقرر الفساد، وبإزالة العتق عن ملكه قبل العلم بالثمن، ولو أعتق بعدما علم برأس المال، فعليه الثمن؛ لأن الجهالة زالت، فزال الفساد إلا أن المشتري كان له الخيار، وقد يسقط خياره بالإعتاق فلزمه الثمن. ولو كان عتق عليه بحكم القرابة، ولم يكن علم بالثمن حتى قبضه، فعليه القيمة؛ لأنه لا فرق بين الإعتاق والعتق عليه فيما يرجع إلى فوات المحل فيقرر الفساد. وفي «الأصل» : إذا قال: أخذت هذا منك بمثل ما يبيع الناس فهو فاسد، ولو قال بمثل ما أخذ به فلان من الثمن، فإن علما مقدار ذلك وقت العقد فالبيع جائز، وإن لم يعلما فالعقد فاسد، فإن علما بعد ذلك إن علما وهما في المجلس ينقلب العقد جائزاً، أو يتخير المشتري؛ لأن ما يلزم المشتري من الثمن إنما يظهر للحال وهذا خيار يكشف حاله. وقد مر نظير هذا فيما تقدم، وإذا اشترى شيئاً برقمه، فالعقد فاسد، فإن علم بعد ذلك إن علم في المجلس جاز العقد، وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني يقول: وإن علم بالرقم في المجلس ينقلب ذلك العقد جائزاً، ولكن إن كان البائع على ذلك الرضا ورضي به المشتري ينعقد بينهما عقد ابتداء بالتراضي. وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف: رجل له على رجل عشرة دراهم، فقال لمن عليه العشرة: بعني هذا الثوب ببعض العشرة وبعني هذا الآخر بما بقي، فقال: نعم قد بعتك، فهو جائز، وإن قال: هذا ببعض العشرة قال: لا يجوز. وقيل: ينبغي أن لا يجوز في الوجهين؛ لأن ثمن كل واحد منهما مجهول، وهذه الجهالة مفضية إلى المنازعة، فإنه إذا وجد بأحدهما عيباً بعد القبض يرد المعيب خاصة ويتنازعان في ثمنه. وفي «المنتقى» : إذا باع عدل بز برقمه، ثم باعه البائع قبل أن يتبين الثمن الأول، فبيعه جائز من الثاني، ولو أخبره بالثمن، فلم يختر أخذه حتى باعه البائع من غيره لم يجز بيعه الثاني، وأشار إلى الفرق، فقال: لأن في الفصل الثاني أوجب البيع الأول، وهو فيه بالخيار يعني الأول، يريد بهذا أن البيع قد صح من الأول لما أخبر البائع الأول بالرقم إلا أنه له خيار يكشف الحال، وإذا صح البيع من الأول صار العدل ملكاً للأول، فالبيع الثاني صادف ملك الأول، فلم يصح قال: وفي الفصل الأول لم يتبين له الثمن، فكان له الخيار، يريد به أنه إذا لم يتبين الثمن الأول فاسداً، فيكون للبائع خيار نقضه، والبيع الثاني نقض الأول مقتضاه سابقاً عليه، فكان البيع الثاني مصادفاً ملك البائع فيصح. ثم قال عقيب هذه المسألة: ألا ترى لو استهلكه بعدما أخبره كان عليه الثمن، ولو استهلكه قبل أن يخبره بالثمن، فعليه القيمة، ثم قال: كل بيع يكون على المشتري فيه القيمة فللبائع أن ينقضه وأن يبيعه قبل أن يسلمه، وكل بيع يكون على المشتري فيه الثمن،

ويكون له فيه الخيار، فليس للبائع أن ينقضه، وإذا كان البيع بالتولية أو برقمه، ولا يعلم رأس ماله فهو بمنزلة البيع الفاسد في حكم الضمان، وفي حكم النقض إلا أنه يخالف البيع الفاسد من وجه. وفي البيع الفاسد إذا قال البائع: لا أتم البيع لا يجبر عليه فهاهنا لو قال البائع: لا أخبرك بالثمن يجبر عليه. وفي «الإملاء» عن أبي حنيفة: إذا قال لغيره: بعتك هذا الطعام كل كر بمئة درهم، فإنما وقع البيع في كر فإن كال المشتري أو البائع الطعام، وعرف المشتري كيله كله فله أن يرضاه ويأخذه كله كل كر بمئة درهم، وليس للبائع أن يمتنع منه، وهذا رواية محمد عن أبي حنيفة، وروى أبو يوسف عنه: أنه لا يجوز العقد فيما زاد على الكر الا بتراضيهما؛ لأن العقد لما وقع فاسداً لجهالة الثمن أوجب ذلك خيار الفسخ لكل واحد منهما، فلا يلزم إلا بتراضيهما، وإن لم يرضَ به المشتري بعد ما علم بكيله باع البائع ما بقي من الطعام من رجل آخر، ثم قال المشتري الأول بعد ذلك: رضيت بالطعام كله لم يلتفت إلى رضاه، وكان له من الطعام كر والباقي للمشتري الآخر. وإذا باع جراباً من بر قال: بعتك هذا الجراب بخمسين درهماً، فالبيع فاسد في الكل، فإن عد البائع الثياب، وعرف المشتري عددها فقال: رضيته بذلك، فليس للبائع أن يمتنع عنه، وجاز البيع للمشتري. وفي «المنتقى» : رجل اشترى من آخر مئة جوزة كبيرة بثمن معلوم، فلما عدها له البائع قال: لا أرضى، فليس له في ذلك، ولو اشترى من قصاب كذا رطلاً من لحم بدرهم، فقطع القصاب اللحم ووزنه، وهو ساكت حين قطعه ووزنه، ثم قال: لا أرضى فله ذلك حتى يقول بعد الوزن: رضيت، قال: ولا يشبه هذا الجوز وأشار إلى العلة فقال: لأن الجوز شيء واحد والله أعلم. روى الحسن عن أبي حنيفة فيمن قال لغيره: بعتك نصيبي من هذا الطعام، ولم يبين كم هو فالبيع باطل، وإن بيّنه بعد ذلك، وهو قول زفر. وفي «المنتقى» عن محمد: إذا قال الرجل لغيره:

بعتك نصيبي من هذه الدار، ولم يبين النصيب، وقول أبي حنيفة: أنه فاسد، وقال أبو يوسف: هو جائز والمشتري بالخيار إذا علم إن شاء أخذ، وإن شاء لم يأخذ، قال الحاكم أبو الفضل: قول محمد هاهنا بخلاف ما ذكر في «الأصل» ، وروى الحسن ابن أبي مالك قال: سمعت أبا يوسف يقول عن أبي حنيفة: إذا باع نصيبه من هذه الدار، ولم يبين النصف، فالبيع فاسد إلا أن يتصادقا أنهما كانا يعرفان كم هو فيجوز، قال ابن أبي مالك: وهو قول أبي يوسف قال: وكان أبو حنيفة أولاً يقول: بيع نصيبه جائز؛ لأنه معلوم في نفسه، وإن كان مجهولاً عندهما. ألا ترى أنه إذا ولاه ما اشترى ولم يخبره فالبيع جائز، وإن كان مجهولاً عندهما لما كان معلوماً في نفسه، ثم رجع أبو حنيفة رحمه فقال: بيع النصف فاسد، وهو قول أبي يوسف، ثم رجع أبو يوسف عن هذا القول، وقال: هو جائز بمنزلة التولية. ذكر الحسن ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: إذا قال الرجل لغيره: أبيعك من هذا البيض عشرة بكذا أن القياس فيه أن البيع فاسد مثل الرمان وأشباهه، ولكن أستحسن تجويزه. وروى ابن مالك عن أبي (55ب3) أبي يوسف أيضاً: أن من قال لغيره: بعتك كر طعام، وعنده كر طعام، فالبيع على الكر الذي عنده، وكذلك إذا قال: بعتك جارية، وعنده جارية، فإن كان عنده جارية فالبيع فاسد، وفي شرح كتاب العتق إذا قال لغيره: بعت منك عبداً لي بكذا، وله عبد واحد، إن قال: عبداً لي في مكان كذا جاز البيع، وإن لم يقل: في مكان كذا قال شمس الأئمة الحلواني: عامة المشايخ على أنه لا يجوز البيع، قال رحمه الله: وهو الصحيح، وإليه أشار محمد رحمه الله في كتاب العتاق. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : وإذا اشترى الرجل من آخر عشرة أذرع من مئة ذراع من الحمام، أو من الدار، فالبيع فاسد عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: البيع جائز إذا كانت الدار مئة ذراع. وإذا اشترى عشرة أسهم من مئة سهم من الدار جاز البيع عندهم جميعا، ذكر الخصاف في هذه المسألة أن فساد البيع عند أبي حنيفة بجهالة الذرعان، فأما إذا عرف مساحتها يجوز عنده، وجعل هذه المسألة على قياس ما لو باع كل شاة من القطيع بعشرة إن كان عدد جملة الشياه معلومة يجوز عنده، وإن لم يكن معلوماً لايجوز، وذكر أبو زيد الشروطي أن على قول أبي حنيفة البيع فاسد، وإن علما ذرعان الجملة، وهكذا ذكر شيخ الاسلام في شرح بيوع «الأصل» وهو جواب «الجامع الصغير» ، وهذا أصح مما قاله الخصاف. فوجه قولهما: أن عشرة أذرع من مئة ذراع عشر الدار وربع عشر الدار جائز بالاتفاق كما لو باع عشرة أسهم من مئة سهم من الدار، فاللفظ مختلف، أما المعنى لايختلف، ولأبي حنيفة رحمه الله أن المبيع مجهول؛ لأن الذراع حقيقة اسم لخشبة تذرع بها الممسوحات ولكن يستعار لما يحله مجازاً، وما يحله عين؛ لأن الخشبة محل العين، أما لا يحل الشائع فلم يصح أن يستعار هذا لاسم الشائع، فكان الداخل تحت العقد موضعاً معيناً، فإذا لم يبين ذلك الموضع أنه من مقدم الدار أو من مؤخره وجوانب الدار متفاوتة في القيمة كان المعقود عليه مجهولاً جهالة تفضي إلى المنازعة بخلاف السهم؛ لأنه اسم بجزء شائع، ألا ترى أن ذراعاً من مئة ذراع، وذراعاً من عشرة أذرع سواء، وسهم من عشرة أسهم لايساوي سهما من مئة سهم فيظهر الفرق. وذكر في بيوع «الأصل» : إذا قال: بعتك ذراعاً من عشرة أذرع من هذه الدار، وجعله على الخلاف الذي ذكرنا قال شيخ الإسلام: وأجمعوا على أنه لو باع سهماً من عشرة أسهم من هذه الدار أنه يجوز، ولم يذكر ما إذا باع عشرة أذرع من هذه الدار، ولم يقل: من مئة أذرع كيف الجواب فيه؟ على قولهما من مشايخنا من قال: يجوز، ومنهم من قال: لا يجوز؛ لأن المعقود عليه، وإن كان مجهولاً إلا أن هذه جهالة مستدركة يمكن رفعها بأن يذرع الدار بأسرها،

فإن كانت مئة ذراع علم أن المبيع عشرها، وإن كان خمسين ذراعاً علم أن المبيع خمسها. ولو قال: بعتك ذراعاً من هذه الدار إن عين موضعه بأن قال: من هذا الجانب إلا أنه يميزه بعد، فالعقد منعقد غير نافذ حتى لا يجبر البائع على التسليم؛ لأنه باع مالاً معلوماً إلا أنه لايقدر على التسليم إلا بضرر يلحقه في غير ماتناوله العقد، وإن لم يعين موضع الذراع، على قول أبي حنيفة: لايجوز أصلاً. وعلى قولهما: يجوز ويذرع الدار، فإن كانت عشرة أذرع صار شريكاً بمقدار عشر الدار، هكذا ذكر شيخ الإسلام، وذكر شمس الأئمة الحلواني: أن على قولهما اختلف المشايخ، والأصح: أنه لايجوز، وإذا باع سهماً من الدار، ولم يعين موضعه ذكر شمس الأئمة الحلواني: أنه لايجوز إجماعاً، فعلى هذا يحتاج أبو يوسف ومحمد إلى الفرق بين الذراع والسهم. والفرق: أن المعقود عليه مجهول في الفصلين جميعاً إلا أن في الذراع رفع الجهالة ممكن بذرع جملة الدار، أما في السهم غير مستدركة، فلا يجوز إجماعاً، وإذا قال: بعتك ذراعاً من هذا الثوب ولم يبين موضعه، أو قال: من هذه الخشبة ولم يعين موضعه، ذكر بعض مشايخنا: أنه على الخلاف الذي في مسألة الدار، وذكر بعض المشايخ: أنه لايجوز بالإجماع، فعلى قول هذا القائل يحتاج أبو يوسف ومحمد إلى الفرق بين الدار وبين الثوب. وأشار شيخ الإسلام إلى الفرق فقال: في مسألة الدار الذراع أضيف إلى غير محله من حيث العرف والعادة؛ لأن الدار لاباع ذراعاً عرفاً وعادة، فلا يمكن العمل بحقيقة اسم الذراع في الدار، فيجعل كناية عن السهم من حيث الذراع اسم مقدار كالسهم، فصار كما لو باع سهماً من هذه الدار، فأما في مسألة الثوب الذراع أضيف الى محله عرفاً وعادة، فأمكن العمل بحقيقة اسم الذراع، فلا يجعل كناية عن غيره. قلنا: والذراع اسم للخشبة حقيقة ولما يحله مجازاً وما يحله يميز، فإذا لم يعين موضعاً يبقى المعقود عليه مجهولاً على نحو ما قلنا لأبي حنيفة رحمه الله فلم يجز لهذا. وفي «المنتقى» : إذا باع ذراعاً من خشبة أو ثوب من جانب معلوم، فالبيع فاسد، فان قطعه وسلمه إلى المشتري له أن يمتنع من قبوله. وفيه أيضاً: عن أبي يوسف أن البيع جائز، وللمشتري الخيار إذا قطعه البائع إن شاء أخذ، وإن شاء ترك. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل اشترى داراً على أنها ألف ذراع بألف درهم، فوجدها أكثر فهي له كلها، وإن كان قال: كل ذراع بكذا، فوجدها أكثر، فالمشتري بالخيار إن شاء ردها وإن شاء أخذها، وزاد في الثمن بحساب ذلك، وإن وجدها أنقص، فهو بالخيار إن شاء أخذ، وإن شاء ترك. أصل هذا أن الذراع فيما يذرع يشبه الأوصاف، فإن الاسم لا يتغير بزيادة الذرع ونقصانه، بل يتغير وصفه، فيصير أطول وأقصر، ولكنه غير منتفع به يزداد القيمة بزيادته، فمن هذا الوجه أصل، فيجب العمل بالشبهين في حالين، وإذا لم يقابل الثمن بالذرعان يراعي فيه شبه الأوصاف، فيستحق تبعاً

لاستحقاق الأصل، وإن لم يتناوله العقد كفناء الدار يستحق من غير ذكر. وكجمال الجارية يستحق من غير ذكر، وإذا اعتبر وصفاً، فإن زاد سلم المشتري من غير خيار، وإن انتقص تخير المشتري، ولكن لا يحط شيء من الثمن كمالو سقط أطراف المبيع، فإن هناك يتخير المشتري، ولا يسقط شيء من الثمن كذا ههنا. وإذا قابل الثمن بالذرعان بأن قال: كل ذراع بكذا يراعي فيها شبه الأصالة، ويصير كل ذراع بمنزلة مبيع على حدة، فإن ازداد يخير المشتري؛ لأنه يقع تسوية ضرر؛ لأنه إن ازداد المبيع يلزمه زيادة ثمن، فيتخير المشتري، وإن انتقص تخير المشتري أيضاً؛ لأنه يقع تسوية ضرر؛ لأنه إن انتقص المبيع. وعلى هذا إذا اشترى من آخر ثوباً على أنه عشرة أذرع بكذا، ولم يبين حصة كل ذراع، أو بين ووجده أزيد بأن وجده أحد عشر ذراعاً، أو وجده تسعة أذرع، فالعقد جائز على كل حال غير أنه إذا لم يبين حصة كل واحد من الذرعان ووجده زايداً سلمت له الزيادة مجاناً، ولو وجده ناقصاً لايسقط شيء من الثمن، ولكن تخير المشتري، وإن تبين حصة كل ذراع، ووجده زائداً فله الخيار، إن شاء أخذه ولزمه حصة الزيادة، وإن شاء نقض العقد، والجواب (56أ3) في الخشب والأرض نظير الجواب في الأرض والدار؛ لأنه مذروع كالثوب، والدار. في «المأذون الكبير» : في باب بيع الكيل والوزن إذا قال: أبيعك هذه الدار على أنها أقل من ألف ذراع فوجدها كما قال، أو أكثر، فالبيع جائز؛ لأن المذروع في هذه الحالة شبيه الأوصاف، فكأنه اشتراها على أنها ضيقة، ومن اشترى داراً على أنها ضيقة فوجدها كذلك، أو وجدها واسعة كان البيع جائزاً كذا ههنا. ومن هذه الجنس مسائل مسألة الذرعيات: وهي هذه، ومسألة في الكيليات والوزنيات. وصورتها: رجل باع من آخر صبرة على أنها خمسون قفيزاً مثلاً، أو اشترى زيتاً على أنه خمسون مَنّاً، فوجده أزيد بأن وجده إحدى وخمسين أو أنقص بأن وجده تسعة وأربعين، فالبيع جائز، بين حصة كل قفيز ومَنّ، أو لم يبين؛ لأنه متى وجده أحداً وخمسين والداخل تحت العقد خمسون صار مشترياً خمسين قفيزاً من أحد وخمسين قفيزاً، وذلك جائز سمي لكل قفيز ثمناً أو لم يسم؛ لأن الحنطة من ذوات الأمثال حتى يضمن مستهلكاً المثل من جنسها والحادي والخمسون الذي لم يدخل تحت العقد مما لا يتفاوت في نفسها حتى يصير الباقي مجهولاً، ومتى وجده تسعة وأربعين ولذلك البيع جائز؛ لأنه لو لم يجز لجهالة ثمن الباقي، وثمن الباقي معلوم، أما إذا تبين لكل قفيز ثمناً فظاهر، وأما إذا لم يبين؛ فلأن القفزان لا تتفاوت في أنفسها فيقسم الثمن باعتبار عدد القفزان، فيصير حصة الذاهب معلوماً بيقين، وإذا صار حصة الذاهب معلوماً كان حصة الباقي معلوماً، ولهذه المسألة تفريعات لم يذكرها محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» ولا في بيوع «الأصل» .

فمن جملتها إذا قال لغيره: أبيعك هذه الحنطة بكذا على أنها أقل من كر، فاشتراها على ذلك، فوجدها أقل من كر، فالبيع جائز إلا رواية عن أبي يوسف رواها المعلى؛ لأن المبيع معلوم بالإشارة، ووجده على شرطه الذي سماه، والثمن معلوم بالتسمية فيجوز، وإن وجدها كراً، أو أكثر من ذلك فالبيع فاسد؛ لأن البيع يتناول بعض الموجود، وهو أقل من الكر كما سمي وذلك مجهول؛ لأنه لا يدري أن المشترى أقل من الكر بقفيز أو قفيزين، وهذه الجهالة تفضي إلى المنازعة. وكذلك إذا قال: على أنها أكثر من كر، فوجدها أكثر من الكر بقليل أو كثير، فالبيع جائز إلا رواية عن أبي يوسف رواها المعلى؛ لأنه وجدها على شرطه، والبيع يتناول جميعها، وإن وجدها أقل من كر أو كراً فالبيع فاسد؛ لأنه لا بد من إسقاط حصة النقصان من الثمن، وذلك غير معلوم وتشتبه تقع المنازعة، ولو قال: على أنها كر أو أقل من كر، فوجدها كراً أو أقل من كر فهو جائز، ولو وجدها أكثر من كر، فكذلك البيع جائزاً؛ لأنه يصير مشترياً كراً من صبرة وذلك جائزاً، ولزم المشتري كر بجميع الثمن، والزيادة على الكر للبائع؛ لأنه لم يدخل تحت البيع.H ولو قال: على أنها كر أو أكثر، فالبيع جائز وجدها أكثر منه، أو أقل غير أنه إن وجدها كراً أو أكثر، فذلك سالم للمشتري بجميع الثمن ولا خيار له، وإن وجدها انقص فالمشتري بالخيار، إن شاء أخذ الموجود بحصته من الثمن لو قسم الثمن على الركام، وإن شاء ترك. والوجه في ذلك أن البائع أدخل كلمة، أو بين مقدارين، فكان المراد أحدهما، فإذا وجده أنقص من كر لم يوجد واحد من المقدارين حتى يتعين مراداً لابد لنا من إثبات أحد المقدارين، إما الكر أو الأكثر، فنقول: إثبات الكر أولى من إثبات أكثر من الكر؛ لأن في إثبات الكر تجويز العقد. فإن اشترى من أخر حنطة على أنها كر، فوجدها أقل من الكر يجوز وفي إثبات الأكثر إفساد العقد فإن من اشترى من آخر حنطة على أنها أكثر من الكر، فوجدها أقل من الكر يفسد العقد، والعقد متى احتمل الصحة والفساد يحمل على وجه الصحة، فأثبتنا المقدار الذي منه يجوز العقد وهو الكر، وصار كأنه اشتراها على أنها كر، فوجدها أقل، وهناك يقسم الثمن على الفائت والقائم فكذا ههنا هذه الجملة في «المأذون الكبير» في باب بيع الكيل والوزن، ولم يذكر ما إذا اشتراها على أنها كر، وينبغي أن يجوز البيع سواء وجدها كراً أو أقل من الكر أو أكثر غير أنه إذا وجدها كراً لزم المشتري ذلك من غير خيار، وإذا وجدها أكثر من الكر لزم المشتري قدر الكر من غير خيار ويرد الزيادة، وإذا وجدها أنقص يتخير المشتري إن شاء أخذ الموجود بحصته، وإن شاء ترك. وعلى قياس هذه المسائل يخرج ما إذا اشترى عيناً معيناً في كرم معين على أنه كذا مناً، فوجده كذلك، أو أقل أو أكثر، ومسألة في العدديات المتقاربة ألحقت بالمكيل والموزون في ضمان الاستهلاك حتى ضمن مستهلكاً المثل من جنسها كالأغنام والثياب.

وصورتها: رجل اشترى عدل زطي على أنه خمسون ثوباً، أو اشترى قطيعاً من الغنم على أنه خمسون شاة بكذا، فوجدها زايداً بأن وجدها واحداً وخمسين، أو وجد ناقصاً بأن وجدها تسعة وأربعين، فإن وجدها زايداً، فالبيع فاسد سمي لكل واحد ثمناً على حده بأن قال: كل ثوب بكذا، أو لم يسم؛ لأن المبيع مجهول جهالة يوقعهما في المنازعة؛ لأن المبيع خمسون ثوباً، فما زاد على ذلك يجب رده على البائع، ولا يدري أي ثوب يرد على البائع، ولذا كان المردود مجهولاً. وإن وجدها أنقص من ذلك إن لم يسمِ لكل ثوب ثمناً فالبيع فاسد؛ لأن الثمن مجهول، وإن حصة الذاهب يوجب جهالة حصة الباقي، وهذا لأنه إذا لم يسمِ لكل واحد ثمناً، فالثمن ينقسم باعتبار القيمة، ولا يدري قيمة الذاهب بيقين؛ لأنه لا يدري إن كان جيداً أو وسطاً أو رديئاً، فكان حصة الذاهب مجهولاً والتقريب ما ذكرنا، فإذا سمى لكل واحد ثمناً بأن قال: كل ثوب مثلاً بعشرة كان البيع جائزاً في الثياب الموجودة، وهي تسعة وأربعون؛ لأن المبيع معلوم والثمن. كذلك أكثر مشايخنا على ما ذكر في «الكتاب» : أن البيع جائز في الثياب الموجودة قولهما أما على قول أبي حنيفة، فالعقد فاسد في الكل؛ لأن العقد فسد في البعض بمفسد مقارن، وهو العدم والأصل عند أبي حنيفة أن العقد متى فسد في البعض بمفسد مقارن للعقد يفسد في الباقي، وكان أبو الحسن قاضي الحرمين يروي عن أبي حنيفة أن العقد فاسد في الكل في هذا الفصل وقد ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» مسألة تدل على هذا. وصورتها: رجل اشترى ثوبين على أنهما مرويان كل ثوب بعشرة، فإذا أحدهما هروي والآخر مروي، وذكر أن البيع فاسد في الهروي والمروي جميعاً عند أبي حنيفة، وعندهما يجوز في الهروي، والفائت في مسألة «الجامع» الصفة لا أصل الثوب، فإذا كان فوات الصفة في أحد البدلين يوجب فساد العقد في الكل على مذهبه، ففوات أحدهما من الأصل لا يوجب فساد العقد في الكل عنده أولى، بعض مشايخنا قالوا: لا بل ما ذكر من الجواب قول الكل، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، قال شمس الأئمة الحلواني: الصحيح عندي أن على قول أبي حنيفة: يفسد العقد في الكل، قال محمد رحمه الله: وعلى هذا إذا اشترى حنطة على أنها كر، فوجدها ببعض قفيراً يفسد العقد في الباقي عند أبي حنيفة هو الصحيح قال رحمه الله: (56ب3) وعلى هذا إذا اشترى مئة جوزة كل جوزة بفلس، فوجد بعض الجوز خاوياً، فإن العقد لا يجوز. في «الحاوي» : ويتعدى الفساد إلى الباقي عند أبي حنيفة، ثم إذا جاز البيع في الثياب الموجودة ذكر أن المشتري تخير إن شاء أخذ كل ثوب بما سمي، وإن شاء ترك، وذلك لأن الصفقة تفرقت على المشتري قبل التمام، وإنه يوجب الخيار. وذكر في «النوادر» أن من اشترى من آخر ثوباً على أنه عشرة أذرع كل ذراع بدرهم، فوجده عشرة ونصفاً، أو تسعة ونصفاً أخذه بأحد عشرة درهماً إن شاء، وعلى قول أبي

حنيفة إن شاء رده، وقال محمد: إن وجده عشرة ونصفاً أخذه بعشرة ونصف إن شاء، وإن وجده تسعة ونصفاً أخذه بتسعة ونصف، وما قال محمد رحمه الله ظاهر؛ لأن من ضرورة مقابلة كل درهم بكل ذراع مقابلة نصف درهم بنصف ذراع، وأبو يوسف يقول: لما صح الشرط صار كل ذراع في حكم المقابلة كثوب على حدة بيع على أنه ذراع، فإنه إذا وجده أنقص أسقط شيء من الثمن، ولكن يثبت الخيار كذا ههنا، وما قاله أبو حنيفة أصح؛ لأن الذراع وما دونه في حكم الصفة على ما مر. وإنما يعتبر أصلاً بقضية مقابلة الثمن، والمقابلة مقدرة بذراع، فإذا عدم الذراع لم يثبت جهة الأصالة، فبقيت العبرة لكونها صفة، فصار زيادة نصف ذراع بمنزلة زيادة صفة الجودة، فيسلم له من غير شيء، وصار نقصان نصف ذراع بمنزلة تسعة أذرع جيدة فيتخير. ومن المتأخرين من قال: ما ذكر من الجواب في «الكتاب» في فصل الثوب في القميص والسراويل والعمائم والأفنية أما إذا اشترى كرباساً لا يتفاوت جوانبها على أنه عشرة أذرع بعشرة دراهم، فإذا هو أحد عشر لا يسلم له الزيادة؛ لأن هذا الكرباس في معنى الموزون والمكيل، وإن كان متصلاً بعضها ببعض لكن ليس في الفصل ضرر، فيصير بمنزلة اعتبار خفيفة كالموزون لما كان لا يتمكن فيه العيب بتميز البعض عن البعض اعتبر كل قفيز أصلاً فكذا ههنا، وعلى هذا إذا باع ذراعاً من هذا الكرباس، ولم يعين موضعه يجوز كما في الحنطة إذا باع قفيزاً منها. قال محمد في «الجامع» : إذا اشترى الرجل من غيره زق زيت بمائة درهم على أن له الزق وما فيه من الزيت على أن وزن ذلك كله مئة رطل، فوزن ذلك فوجد كله تسعين رطلاً الزق من ذلك عشرون رطلاً، والزيت سبعون، فإن النقصان من الزيت خاصة، فيقسم الثمن على قيمة الظرف، وعلى قيمة ثمانين رطلاً من زيت، فما أصاب الزيت يطرح ثمنه، ويجب الباقي، فكان للمشتري الخيار فيما بقي إن شاء أخذ بما قلنا، وإن شاء بما ترك، فقد جعل النقصان من الزيت خاصة. وعلل في «الكتاب» : مما يزيد وينقص، والزق مما لا يزيد ولا ينقص، ومعنى هذا الكلام أن الزيت لما كان يزيد وينقص لو صح صرفنا النقصان إلى الزيت احتمل كلامه الصدق بأن يجعل كأن الزيت وقت البيع كان ثمانين رطلاً، والزق عشرين، فجملته مائة، ثم انتقص من الزيت عشرة أرطال قبل القبض، أما لو صرفنا النقصان إلى الزق، وأنه لا يحتمل الزيادة والنقصان لا يمكن حمل كلامه على الصدق إذ لا يمكن ان يجعل كأن الزق ثمانون رطلاً، ثم صار عشرين فصرفنا النقصان إلى الزق حملاً لكلامهما على الصحة، قال أكثر: مشايخنا ينبغي أن يفسد العقد في الكل عند أبي حنيفة. وقيل: لا يفسد عنده أيضاً، وقد مر ذلك من قبل، وإن وجد المشتري الزق ستين رطلاً، والزيت أربعين رطلاً، فإن الزق لا يبلغ ذلك القدر في مبايعات الناس كان للمشتري الخيار، إن شاء أخذ الكل بكل الثمن، وإن شاء ترك الزق إذا لم يبلغ ذلك المقدار في مبايعات

الناس يتمكن الخلل في الرضى فيثبت له الخيار لتمكن الخلل في الرضا. وإن وجد المشتري الزق مئة رطل، والزيت خمسين رطلاً كان البيع فاسداً؛ لأنه باع الزق مع ما يكمل مئة رطل من الزيت، وذلك الزيت معدوم عند كون الزق مائة، وهذا الجواب لا يشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن عنده فساد العقد في البعض بمفسد مقارن يوجب فساد العقد فيما بقي، وإنما يشكل على قولهما. والوجه لهما: أنه لما قابل الثمن بالزق وبما يكمل مئة رطل من الزيت لا بد وأن يضم إلى الزق شيئاً من الزيت لا لإدخاله في العقد لكن ليقسم الثمن عليهما حتى يظهر حصة الزق، والقليل يصلح لذلك، والكثير يصلح أيضاً، وليس البعض أولى من البعض، فكان ثمن الزق مجهول الثمن يوجب فساد العقد. ولو وجد وزن الزق عشرين رطلاً، ووزن الزيت مئة رطل لزم المشتري الزق، وثمانون رطلاً من الزيت بجميع الثمن، ويرد الباقي على البائع؛ لأنه اشترى الزق، وقدر ما يكمله مئة رطل من الزيت وذلك قدر ثمانون، والوزن في الزيت معتبر، فكانت الزيادة على مال البائع، فيرد عليه كما لو اشترى الزيت وحده على أنه ثمانون رطلاً فوجده مئة رطل. وكذلك لو كان الزق على حدة، والزيت على حدة، فاشتراها جملة كان الجواب كما قلنا؛ لأنا صرفنا الزيادة والنقصان إلى الزيت للمعنى الذي ذكرنا، وذلك المعنى لا يتفاوت بينما إذا كان الظرف وعاء لما ضم إليه من الزيت أو لم يكن. ولو اشترى زيتاً في ظرف، وسمناً في ظرف آخر، فاشتراهما بغير ظرف على أن يكون ذلك كله مئة رطلاً، والزيت ستين، فإنه يرد من الزيت على البائع عشرة أرطال، ويطرح من ثمن السمن مقدار عشرة أرطال من السمن، وإنما كان هكذا؛ لأنه أضاف الوزن إليهما، وكل واحد منهما يحتمل الزيادة والنقصان، وانقسم عليهما نصفين، فإذا وجد أحدهما أزيد، والآخر أنقص، رد الفضل، وسقط حصة النقصان من الآخر بخلاف المسألة الأولى، فإن الوزن وإن أضيف إلى الزق والزيت إلا أن أحدهما قابل للزيادة والنقصان، وهو الزيت، والوزن فيه معتبر، فكان صرف النقصان إلى ما يحتمله، وهو موزون حكماً أولى. وكذلك إذا اشترى حنطة في جوالق، وشعيراً في جوالق آخر بغير الجوالق على أن الكل مئة مَنّ فهو على هذا، وكذلك إذا أضاف المئة إلى ثلاثة أصناف المكيلاًت دخل تحت العقد من كل صنف ثلث المئة لما قلنا والله أعلم. نوع آخر في بيع الأشياء المتصلة بغيرها، وفي البيوع التي فيها استثناء قال محمد: ولا يجوز شراء ألبان الغنم في ضرعها كيلاً ولا مجازفة بدراهم، أو غير ذلك إن كان مجازفة فلوجهين:

أحدهما: أن فيه غرر، فإنه لا يدري ما في الضرع أنه لبن أو دم أو ريح. والثاني: أن البيع يتناول اللبن الموجود حالة العقد لا ما يحدث، فإنه يحدث ساعة فساعة فما يحدث بعد البيع يختلط بالمبيع خلطاً يتعذر تمييزه، فيصير قدر المبيع مجهولاً جهالة تفضي إلى المنازعة مكايلة، فالمعنى الأول، وكذلك لا يجوز بيع الولد في البطن؛ لأن فيه غرراً، فإنه لا يدري أن ما في البطن ريح أو ولد، وكذلك لا يدري (57أ3) أنه حي أو ميت. ولو باع الحنطة في سنبلها جاز بخلاف الولد في البطن واللبن في الضرع، ولا فرق بينهما من حيث الصورة؛ لأن وجود الحنطة في السنبل ثابت من حيث الظاهر، وإذا لم يكن بالسنبل آفة، وكذا وجود الولد في البطن، ووجود اللبن في الضرع ثابت من حيث الظاهر إذا لم يكن الانتفاخ لعلة. وإنما جاز الفرق؛ لأن في الوصفين الموجود وإنما كان ثابتاً إلا أنه بعد ما يثبت الوجود من حيث الظاهر تمكن في الولد واللبن غرراً آخر، وهو العذر في كونه مالاً، فإنه لا يدري أن الذي في البطن حي أو ميت، ولا يدري أن في الضرع لبن أو دم، وفي السنبلة متى يثبت الوجود من حيث الظاهر لا يتمكن العذر في كونه مالاً أو غير مال؛ لأن الحنطة على أي صفة ما كانت كان مالاً. هذا إذ باع حنطة في سنبلها، فأما إذا باع حنطة مكايلة، وله حنطة في سنبلها جاز البيع أيضاً؛ لأن الحنطة أيضاً موجودة في ملكه. ولو اشترى تبن تلك الحنطة قبل الكدس لا يجوز، وكذا بيع الصوف على ظهر الغنم لا يجوز؛ لأن فيه غرراً؛ لأنه يحدث ساعة فساعة، وما يحدث ملك البائع، فيختلط المبيع بغير المبيع على وجه يتعذر التمييز ولا يدري قدر ما دخل تحت العقد، فيصير المعقود مجهولاً، وبعض مشايخنا قالوا: ما ذكر من الجواب قول محمد أما على قول أبي يوسف: ينبغي أن يجوز البيع على قياس مسألة ذكرها في كتاب الصلح. صورتها: إذا ادعى الرجل في يد رجل غنماً، فصالح من في يديه الأغنام على صوف على ظهرها جاز الصلح عند أبي يوسف خلافاً لمحمد، ومنهم من قال: ما ذكر من الجواب في البيع قول الكل، وهذا القائل يحتاج إلى الفرق لأبي يوسف بين مسألة البيع وبين مسألة الصلح. والفرق: أن طريق جواز الصلح في تلك المسالة استيفاء بعض الحق وترك البعض، فأمكن تجويز هذا الطريق؛ لأن الصلح يجوز بدون الحق، وإنما يتحقق التجوز بدون الحق باستيفاء البعض وترك البعض، فأما البيع فتمليك ابتداء، والصوف على ظهر الغنم لا يقبل التمليك ابتداء. وقد ذكرنا قبل هذا أن بيع شاة على ظهرها صوف بصوف منفصل بطريق الاعتبار جائز بلا خلاف، وبدون الاعتبار على الخلاف عند بعض المشايخ، وإنما قوائم الخلاف، وسعف النخل، اختلف المشايخ فيه منهم: من لم يجوز بيعه، ومنهم: من جوز بيعه، وذكر أبو الحسن الكرخي في كتابه جوازه، وروي الحسن بن زياد عن أصحابنا

جوازه، ومن لم يجوزه من المشايخ اختلفوا فيما بينهم في العلة، بعضهم قالوا: لأنه يزيد ساعة فساعة، فيختلط المبيع بغير المبيع على وجه يتعذر تمييزه، فكان نظير بيع الصوف على ظهر الغنم، وبعضهم قالوا: لأن موضع القطع مجهول، ومن جوز بيعه من المشايخ يجيب عن الأول ويقول: بأن القوائم تزيد من الأعلى. ألا ترى أنا إذا جعلنا على موضع القطع علامة، فإذا مضى زمان فالعلامة لا تعلو بل يبقى في موضعه، فتكون الزيادة حاصلة من ملك المشتري بخلاف الصوف؛ لأن الصوف ينمو من أسفله، ألا ترى أنك إذا حصفت أسفله، ومضى زمان فالحصاف يعلو، فالزيادة إنما يحدث من ملك البائع، فيكون للبائع وقد اختلط بالمبيع، ولا يدري قدره، فيصير قدر المبيع مجهولاً، ويجيب عن الثاني، ويقول: إن كان موضع القطع مجهولاً، فهذه جهالة لا توقعهما في المنازعة، وإذا باع الصوف على ظهر الشاة، ثم إن البائع جز الأصواف، واختار المشتري أخذها بالبيع، روى بشر عن أبي يوسف أنه ليس ذلك له إلا أن يستقبل البيع عن تراض بينهما. وروى هشام عن محمد هذه المسألة بعبارة أخرى فقال: إن ينفذه البائع دفعه إلى المشترى لم يجز، ولا يجوز بيع الؤلؤة في الصدف. وروي عن أبي يوسف: أنه يجوز؛ لأن الصدف لا ينتفع به إلا بالشق، فأمكن تسليم المعقود عليه من غير ضرر، وجه ظاهر الرواية: أنه لا يمكن المعقود إلا بالشق، والشق شيء زائد لم يوجبه العقد، وإذا باع حب قطن في قطن بعينه، أو باع نوى تمر لا يجوز، وأشار أبو يوسف إلى الفرق بين هذا وبينما إذا باع الحنطة في سنبلها، فقال: لأن الغالب في السنبل الحنطة ألا ترى أنك تقول: هذه حنطة وهي في سنبلها، ولا يقول: هذا حب وهو في القطن؟ وإنما يقول: هذا قطن وكذلك في التمر. وفي «نوادر هشام» عن محمد: إذا باع البذر الذي في البطيخ ممن يريد البذور، ورضي صاحب البطيخ أن يقطع له البطيخ، فالبيع باطل. وكذلك إذا باع خد السمسم وزيت الزيتون لا يجوز، فإن سلم البائع ذلك لم يجز هكذا ذكر القدوري في «شرحه» قال: ولا يشبه هذا الجذع، يريد به أن من باع الجذع في السقف لا يجوز، ولو نزعه البائع وسلمه إلى المشتري جاز البيع. والفرق: أن الجذع غير مال في نفسه، وإنما ثبت الاتصال بينه وبين غيره تعارض إلا أنه عد عاجزاً حكماً لما فيه إفساد بناء غير مستحق بالعقد وفيه ضرر، فإذا قلع والتزم الضرر زال المانع، فأما خد السمسم وزيت الزيتون فهو معدوم، فلا يكون محلاً للبيع وبذر البطيخ والنوى في التمر، وإن كان موجوداً إلا أنه متصل به اتصال خلقة، فكان بائعاً له فكان العجز عن التسليم هناك معنى أصلياً؛ لأنه اعتبر عاجزاً حكماً لما فيه من إفساد شيء غير مستحق بالعقد. وفي «نوادر ابن سماعة» قال: سألت محمداً عمن باع فصاً في خاتم أوجذعاً في سقف، وذلك لا ينتزع لا بضرر أيملك المشتري، أو هو موقوف لا يملكه المشتري ما دام للبائع فيه خيار إن شاء سلم، وإن شاء لم يسلم، أشار الى ما قبل القلع، فإذا صار

بحال لا يقدر البائع فيه على الامتناع من دفعه ملكه المشتري، فإن لم يخاصم المشتري في ذلك حتى باع البائع الخاتم بأسره، أو باع البيت بأسره من إنسان آخر، ودفعه إليه، قال محمد رحمه الله: بيع البائع ثانياً ينقض بيعه أولاً. قلت: أرأيت إن باعني رجل فصاً في خاتم، أو مسمار في باب، أوجذعاً، ثم دفع إلي الخاتم بأسره، أو دفع الباب، أو البيت بأسر، هـ فهلك في يدي، قال محمد: القياس: أن لا يكون قابضاً لما أشرت، ويهلك من مال البائع، ولا أعلمه إلا قول أبي يوسف: أنه لا يكون قابضاً حتى يدفعه إليه مفصولاً مخلصاً. وذكر في «المنتقى» : أصلاً من جنس هذه المسائل قال: كل شيء كنت أجبر البائع على دفعه الى المشتري فقبضه على ذلك، فضاع لزمه وكل ما لم أجبره على دفعه اليه لا يكون قابضاً، ولا ضمان عليه إذا هلك. بيانه: مسألتنا هذه إذا كان الفص لا ينزع إلا بضرر لا يجبر البائع على دفعه، فإذا دفعه إليه مع الحلقة وضاع فلا ضمان، وإذا كان الفص ينزع من غير ضرر يجبر على دفعه إليه مع الحلقة، ثم ضاع من يده، فقد لزمه البيع، وعليه ثمنه، ولا ضمان عليه في الحلقة، وكذلك أجناسه. قال ابن سماعة: قلت لمحمد: أرأيت إن اغتصبت جذعاً فسقفت به بيتاً أو اغتصبت آجراً فبنيت به، أو اغتصبت مسماراً فجعلته في باب، ثم أني بعت البيت، أو الباب، أو الدار، يجوز البيع في ذلك، وإذا علم المشتري بذلك أيكون له الخيار في رد الدار والبيت والباب؟ قال: البيع جائز، وليس (57ب3) للمشتري فيه خيار؛ لأن المغصوب منه لا يقدر على ذلك. روى إبراهيم عن محمد في رجل إذا نظر إلى ألف مَنٍ قطن، فقال: قد اشتريت من حليج هذا القطن مئة مَنّ قال: هذا فاسد. وعنه أيضاً: فيمن اشترى ذراعاً من خشبة، أو من ثوب من جانب معلوم أن البيع فاسد، فإن قطعه وسلمه إلى المشتري له أن يمتنع من قبوله، وله أن يفسخ البيع قبل أن يسلم إليه البائع، وعن أبي يوسف في هذه الصورة إن البيع جائز والمشتري بالخيار، إذا قطع البائع ذلك له إن شاء أخذه، وإن شاء ترك. وعن محمد رواية ابن سماعة إذا اشترى الرجل من آخر نصف الثوب من أحد الطرفين، أو نصف الخشبة من هذا الرافض أنه فاسد، فإن قطعه البائع فهو جائز ويدفعه إلى المشتري، وله أن يمتنع. قال هشام: قلت لمحمد: إن كان لرجل شاة مذبوحة، فاشترى رجل كروشها، أو مسلخوها فهو جائز، والسلخ وإخراجه على البائع وللمشتري الخيار إذا رآه، ولو كانت بطيخة مكسورة كانت بمنزلة الشاة المذبوحة يجوز بيع بذرها. وفي «الأصل» : إذا اشترى من آخر كذا قيماناً بعينه. من هذه الصبرة لا يعرف قدره بأن قال: اشتريت منك من هذه الصبرة بهذا الزنبيل، ولا يعرف كم يسع في الزنبيل، أو

قال: بوزن هذا الحجر، ولا يعرف وزن الحجر جاز يداً بيد شرط في «الأصل» أن يكون يداً بيد. وفي «القدوري» لم يشترط ذلك وجعل الجواب جواب المشهور من الرواية. وفي «المنتقى» : رجل اشترى من آخر طعاماً على أن يكيله بزنبيله، أو إناء يشبه الزنبيل ليس بمكيال، فقال: اشتريت منك ملأ هذا من هذه الصبرة بكذا أن ذلك لا يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن هذا الإناء لا يعرف مملوءه كما يعرف المكيال، فليس هذا بمكايلة ولا مجازفة، معناه: ليس هذا بيع مكايلة ولا بيع مجازفة قال ثمة: وكذلك إذا اشترى شيئاً موزوناً، واشترط وزن صخرة أو حجر لا يعرف وزنه، فهو مثل هذا الإناء، ثم رجع أبو يوسف عن هذا، وقال: إذا كان الإناء لا يتسع إذا حشي فيه الشيء الذي يكال به أنه يجوز. وروى إبراهيم عن محمد: إذا اشترى ملأ هذا الجراب بدرهم لم يجز؛ لأن الجراب مما يتسع ويضيق، وكذلك الزنبيل قال: إلا أن يكون الزنبيل معراً يابساً لا يتسع، فيجوز البيع به وقيل: ما ذكر في «الأصل» ، وفي «القدوري» محمول على ما إذا كان الإناء من خزف، أو حديد، أو خشب، أو ما أشبه ذلك مما لا يحتمل الزيادة والنقصان، أما إذا كان مما يحتمل الزيادة والنقصان كالزنبيل والجراب والغرارة لا يجوز البيع.m مسائل الاستثناء: ذكر القدوري في «شرحه» : إذا باع حمله واشتثنى منه شيئاً، فإن استثنى ما جاز إفراده بالعقد جاز الاستثناء نحو أن يستثني جزءاً مشاعاً، وما لا يجوز إفراده بالعقد لا يصح استثناؤه كما لو استثنى عضواً من الشاة، وهذا لأن الاستثناء استخراج ما تناوله الكلام في حق الحكم، فإنما يصح في محل يمكن إثبات حكم الكلام فيه مقصوداً. ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد: إذا قال لغيره: أبيعك هذه الدار إلا طريقاً فيها من هذا الموضع إلى باب الدار وصف طوله وعرضه، وشرط ذلك لنفسه أو لغيره، فالبيع جائز، والثمن الذي سمى كله ثمن ما بقي من الدار سوى الطريق؛ لأنه هذا شيء استثناه من المبيع لا حصة له في الثمن. قال ثمة: ألا ترى أن من قال لآخر: أبيعك هذا العبد على أن لي ربعه، فقبل المشتري البيع كان له ثلاثة أرباع العبد بثلاثة أرباع الثمن، ولو قال في بيع الدار: على أن للبائع فيها طريقاً، ووصف طوله وعرضه لا يجوز ذكر هذا الفصل في «العيون» . وفيه أيضاً: إذا قال لغيره: أبيعك هذه الدار بعشرة آلاف درهم على أن لي هذا البيت، فالبيع فاسد، ولو قال: إلا هذا البيت جاز البيع بجميع الثمن، وذكر شمس الأئمة في شرح كتاب القسمة أن بيع زفت الطريق على أن يكون للبائع حق المرور فيه جائز البيع بخلاف بيع حق المرور في رواية فإنه لا يجوز، وبيع السفل على أن يكون للبائع حق قرار العلو جائز. وفي «الأمالي» عن محمد: إذا قال الرجل لغيره: بعتك هذا العبد بألف درهم إلا نصفه بخمسمائة درهم، فالبيع جائز في جميع العبد بألف وخمسمائة، وكذلك لو قال: إلا

نصفه بمائة درهم، فالعبد كله للمشتري بألف درهم ومائة درهم. الحسن بن زياد في كتاب الاختلاف عن أبي يوسف وزفر إذا قال لغيره: بعتك هذه الدار بألف درهم إلا مائة ذراع، فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف: البيع جائز، والمشتري بالخيار إذا علم ذراع الدار، فإن شاء كان البائع شريكاً معه في الدار بالمائة الذراع، وإن شاء ترك. ولو قال: أبيعك هذا الطعام بألف إلا عشرة أقفزة منها فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: البيع جائز، والمشتري بالخيار إذا عزل منه العشرة الأقفزة، فإن شاء أخذ ما بقي بما سمي من الثمن، وإن شاء ترك. وروى بشر عن أبي يوسف: إذا قال لغيره: أبيعك هذه المائة الشاة بمائة درهم على أن لي هذه الشاة لشاة بعينها فالبيع فاسد، وكذلك لو قال: ولي هذه الشاة، ولو قال: إلا هذه الشاة، كان ما بقي مائة درهم، ولو قال: هذه المائة لك بمائة درهم إلا نصفها، فإن النصف بمائة درهم، ولو قال: لي نصفها كان النصف بخمسين درهماً. وفي «الأمالي» عن محمد: إذا قال: له بعتك هذا العبد بألف درهم أن لي نصفه بثلثمائة درهم، أو أو بستمائة درهم، أو قال: بثلث الثمن، أو قال: بمائة دينار، فالبيع فاسد في هذا كله، وهذا بمنزلة رجل قال لغيره: بعتك هذا العبد بألف درهم على أن نصفه بيعاً منك بثلثمائة درهم، أو بمائة دينار، أو قال: بحصة من الثمن، فالبيع جائز في جميع العبد، ويكون نصفه بتسعمائة، ونصفه بثلثمائة. وكذلك لو قال: بعتك هذين العبدين بألف درهم على أن هذا لك بثلاثمائة، أو قال: على أن هذا بثلاثمائة درهم، فالبيع جائز منهما بألف درهم، والعبد الذي عنيه بثلاثمائة هو بثلاثمائة، والعبد الآخر بباقي الألف. ولو قال: بعتك هذا العبد بألف درهم على أن نصفه بمائة دينار، أو قال: على أن نصفه لك بيعاً بمائة دينار، وإنما هذا بمنزلة رجل قال لغيره: بعتك هذا العبد على أن نصفه مردود علي أني لابيع فيه، والنصف المردود بيع لك بمائة دينار. ولو قال: بعتك هذين العبدين بألف درهم على أن هذا العبد بعينه منهما لك بمائة دينار، ففي قياس من قول أبي حنيفة البيع فيهما جميعاً باطل؛ لأن حصة الباقي من الألف مجهول، وقال محمد: يجوز البيع في الذي سمي بمائة دينار، ولا يجوز البيع في الآخر والله أعلم. نوع آخر في البيع على شيئين أحدها لا يجوز البيع فيه إذا جمع بين عبدين في البيع، ثم ظهر أن أحدهما حر، فإن لم يبين حصة كل واحد منهما من الثمن، فالعقد فاسد في الكل بالإجماع، وإن بين حصة كل واحد منهما من الثمن، فكذلك الجواب عند أبي حنيفة يفسد العقد في الكل، وعندهما يجوز العقد في الثمن.

وكذلك لو اشترى دنين من خل، ثم ظهر أن أحدهما خمر، إن لم يبين حصة كل دن من الثمن، فالعقد فاسد في الكل وإن بين، فكذلك عند أبي حنيفة يفسد العقد في الكل، وعندهما يجوز العقد في الخل، وكذلك إذا اشترى مسلوخين (58أ3) وثم ظهر أن أحد المسلوخين ميتة، فهو على التفصيل والخلاف الذي ذكرنا، فوجه قولهما أن الفساد موجب المفسد، فيتقدر بقدر المفسد، وأكد ذلك بمسائل منها: أنه إذا باع عبده وعبد غيره بألف درهم كل عبد بخمسمائة، ولم يجز ذلك الغير البيع في عبده، فإن البيع يجوز في عبد البائع؛ لأن سبب الفساد وجد في البعض، وهو الاستحقاق، وإذا باع عبدين، وأحدهما مدبر، أو مكاتب، أو أم ولد، وسمى لكل واحد ثمناً، فالبيع جائز في العبد، وإذا اشترى عبدين، وقبض أحدهما، ولم يقبض الآخر حتى باعهما جميعاً بألف على أن كل واحد بخمسمائة جاز البيع فيما قبض، ولم يجز فيما لم يقبض. وكذلك إذا اشترى عبداً بألف درهم، وقبض العبد، ولم ينقد الثمن حتى باعه مع عبدٍ آخر له من البائع ألف درهم كل واحد منهما بخمسمائة، فإنه يجوز البيع في عبده، ولا يجوز في العبد الذي اشتراه؛ لأن سبب الفساد وهو بيع ما اشترى بأقل مما اشترى قبل من نقد الثمن وجد في البعض، ولا يلزم على ما قلنا إذا لم يبين حصة كل واحد من العبدين حتى ظهر أن أحدهما حر، فإن العقد يفسد في الكل؛ لأن سبب الفساد هناك وجد في جميع العقد في حصة العبد والحر جميعاً، أما في حصة الحر فظاهر، وأما في حق العبد فجهالة الحصة ابتداء؛ لأن الحر بدله غير داخل تحت العقد أصلاً بدليل أنه لو قبض الحر لا يملكه ولا بدله، وإنما دخل في العقد العبد مع بدله لا غير، فيصير مشترياً القن بما يخصه من الألف ابتداء لو قسم الألف عليه وعلى الحر، وجهالة الحصة ابتداءً يوجب فساد العقد. ألا ترى أن من قال لغيره: بعت منك هذا العبد بما يخصه من الألف لو قسم الألف عليه وعلى هذ الحر، فإن البيع لا يجوز، وإنما لا يجوز لما قلنا، فأما إذا بين حصة كل واحد منهما، فسبب الفساد وجد في حق الحر لا غير؛ لأن سبب الفساد في حق القن حالة الإجهال جهالة حصته من الثمن، والجهالة ترتفع عند بيان حصة كل واحد منهما، ولا يلزم بيع الدرهم بالدرهمين؛ لأن هناك سبب الفساد وجد في حق الكل؛ لأن الدرهم الواحد قوبل بالدرهمين، فيجب قسمتها على الدرهمين. وإذا قسمناه على الدرهمين يتمكن الربا في الدرهمين جميعاً؛ لأنه يصير كل واحد منهما بنصف درهم، ولا يلزم إذا اشترى عبداً بألف درهم ورطل من خمر، فإنه يفسد العقد في جميع العبد، أما في حصة الخمر فظاهر، وأما في حصة الألف؛ فلأن ما يخص الألف من العبد مجهول جهالة مقارنة من وجه إن كانت طارئة من وجه؛ لأن الخمر لا يدخل تحت العقد حتى يملك بدله بالقبض، فباعتبار البدل تكون الجهالة طارئة، وباعتبار الغير تكون الجهالة مقارنة يوجب الفساد، والطارئة لا توجب، فرجحنا ما يوجب الفساد على ما يوجب الجواز احتياطاً، فقد وجد بسبب الفساد في جميع العقد، أما في حصة الحر

فظاهر وأما في حصة القن، فهو اشتراط الربا. بيانه: أن بدل الحر صار مشروطاً في حصة القن من حيث المعنى؛ لأن الصفقة الواحدة إذا أضيفت إلى شيئين موجودين، فقبول العقد في كل واحدة منهما يصير شرطاً لصحة القبول في الآخر حتى لو قبل المشتري العقد في أحدهما لا يجوز، وإذا صار قبول العقد في الحر شرطاً لقبول العقد في القن من حيث المعنى صار بدله مشروطاً في حصة القن، وبدل الحر ربا؛ لأنه مال متقوم شرط في العقد من غير عوض أصلاً، فيكون رباً وقد صار مشروطاً في حصة القن غير مقابل بالقن فيصير رباً كما لو قال: بعتك هذا العبد بخمسمائة على أن تسلم إلي خمسمائة أخرى بغير شيء، وأما إذا باع عبده وعبد غيره. قلنا: هناك لم يوجد بسبب الفساد في حصة عبده، وهو اشترط الربا؛ لأن قبول المستحق مع بدله، وإن صار شرطاً في عبده إلا أن بدله في نفسه ليس بربا؛ لأنه مقابل بما يصلح عوضاً، وهو المستحق، والربا عبارة عن مال ملك بالبيع بغير عوض أصلاً، أو بعوض لا يصلح عوضاً عنه بوجه ما. فإن قيل: إن لم يوجد سبب الفساد في حصة عبده من هذا الوجه وجد من وجه آخر، وهو جهالة الحصة. قلنا: ليس كذلك؛ لأن المستحق مع بدله دخلا تحت العقد، فكان البدل في الابتداء جميع المسمى وهو ألف درهم، وإنه معلوم، وإنما يصير بالحصة بعد ذلك إذا لم يجزه المستحق، فتكون جهالة طارئة من كل وجه، وإذا جمع بين عبدين، وأحدهما مكاتب، أو مدبر، أو أم ولد. قلنا: هناك لم يتمكن بسبب الفساد في حصة القن، وهو اشتراط الربا؛ لأن هؤلاء دخلوا في العقد مع القن لقيام المالية فيهن، وبدلهم ملك بمقابلة ما يصلح عوضاً عنه، فإنه مقابل المال، فلا يكون بدل الحر على ما مر. وأما مسألة الجراب: فقد ذكرنا قبل هذا عن أبي حنيفة أن العقد فاسد في الثياب الموجودة عند أبي حنيفة على رواية قاضي الحرمين، وهو اختيار شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، واستشهد بمسألة «الجامع» ، ومن قال من المشايخ أن على قول أبي حنيفة يجوز البيع في الثياب الموجودة، ففرق لأبي حنيفة بين مسألة «الجامع» وبين مسألة الجراب. ووجه الفرق: أن الإضافة إلى الثوبين في مسألة «الجامع» قد صحت لوجود الخصاف إليه من حيث الحقيقة، وصار قبول العقد في المروي شرطاً بقبول العقد في الهروي، وصار بدله مشروطاً في الهروي أيضاً وبدله رباً؛ لأنه بدل معدوم، فإنه أشار وسمي، والمشار إليه من خلاف جنس المسمى، والمسمى معدوم، وبدل المعدوم رباً كبدل الحر. وأما في مسألة الجراب: فالإضافة إلى الثوب الخمسين لم يصح أصلاً؛ لأنه لا بد من صحة الإضافة من مضاف إليه موجود، فإذا كان معدوماً لم تصح الإضافة أصلاً، ولم

يصر قبول العقد في المعدوم شرطاً لقبول العقد في الموجود، ولم يصر بدل المعدوم الذي هو ربا مشروطاً في الموجود، فخلت حصة الموجود عن شرط الربا. وإذا باع عبدين أحدهما مقبوض، والآخر غير مقبوض، ففي حق المقبوض لم يوجد اشتراط الربا؛ لأن بدل غير المقبوض من البيع لا يكون رباً؛ لأن الربا عبارة عن فضل مال ملك بالبيع لا يقابله عوض وقد قابله عوض، وأما مسألة شراء ما باع بأقل مما باع قلنا: هناك لم يوجد سبب الفساد في العبد الذي لم يشتر، وهو اشتراط الربا لما ذكرنا أن الربا فضل مال خالي عن العوض، ولم يوجد هذا فيما اشترى. وذكر أبو الحسن الكرخي عن أبي يوسف: فيمن باع جارية في عنقها طوق بألف درهم نساءً أن البيع باطل في الجميع في قول أبي يوسف الأخير، فجعل أبو الحسن رجوع أبي يوسف في هذه المسألة رجوعاً في جميع ما هو من هذا الجنس من المسائل. وإذا اشترى ضيعة، وفيها قطعة من الوقف كان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: البيع فاسد في الوقف والملك كما لو جمع بين عبد وحر، وكان القاضي إمام الإسلام أبو الحسن علي السغدي يقول: البيع جائز (58ب3) في الملك كما لو جمع بين عبد ومدبر، ثم رجع شمس الأئمة إلى قول ركن الإسلام. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا باع كرماً فيه مسجد قديم، وقد أطلق العقد هل يفسد البيع في الكرم؟ ينظر إن كان المسجد عامراً يفسد؛ لأن المسجد لا يدخل تحت البيع بالإجماع فكان الفساد قوياً، فيظهر في حق الباقي كما لو جمع بين حر وبين عبد، وإن كان المسجد خراباً لا يفسد العقد الباقي؛ لأن في دخول المسجد تحت البيع إذا خرب واستغنى عنه أهله خلاف. فعند بعض العلماء المسجد إذا خرب واستغني عنه أهله يعود إلى ملك الواقف إن كان حياً، وإلى ملك ورثته إن كان ميتاً، فلم يكن الفساد قوياً، فصار كما لو باع عبداً ومدبراً، والذي ذكرنا في الوقف، فكذلك في المقبرة. وإذا كان الأرض مشتركاً بين رجلين باع أحدهما جميع الأرض من صاحبه كان الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله يقول بفساد البيع، وكذا كان يقول: فيما إذا صالح المدعى عليه مع المدعي عن دعواه على دار مشتركة بينهما، وكان يشير إلى المعني أن ملك المشتري ليس بمحل للبيع في حق المشتري، فكان بمنزلة ما لو جمع بين حر وعبد في البيع ولكن فيه نظر؛ لأن نصيب المشتري محل للبيع في الجملة، فيكون بمنزلة ما لو جمع بين مدبر وعبد. والدليل عليه: أن رب المال إذا اشترى من المضارب شيئاً من مال المضاربة بعدما ظهر الربح يجوز، وإن كان المشتري ملك المشترى، وإذا كان الفساد بسب الافتراق لا لمعنى في نفس العقد، فإنه يبطل بقدره خاصة. وذلك أن يسلم عشرة دراهم في شيء خمسه دين نقد، وكذلك في باب الصرف إذا قبض البعض دون البعض فسد بقدر ما لم يقبض خاصة، ولو اشترى عبداً بخمسمائة نقد

وخمسمائة له على فلان أو بخمسمائة إلى العطاء فسد البيع في الكل ذكره القدوري في «شرحه» . وفي «المنتقى» : رجل اشترى داراً أو طريقاً من طرق المسلمين محدودة معلومة يعني جمع بين الدار وبين طريق المسلمين في البيع، فاستحق بعدما قبضهما المشتري، فإن شاء المشتري رد الدار، وإن شاء أمسكها إذا كان الطريق مختلطاً بالدار، فإن كان مميزاً لذمته الدار بحصتها ولم يكن له الخيار، وإن كان الطريق ليس بمحدود لا يعرف قدره فسد البيع، ولو كان مكان الطريق مسجد خاص يجمع فيه، فالقول فيه مثل الطريق المعلوم، وإن كان مسجد جماعة فسد البيع كله؛ لأن بيع المسجد الجامع لا يجوز ولا يحل، وكذلك إذا كان مهدوماً أو أرضاً ساحة لا بناء فيها بعد أن يكون الأصل مسجد جامع. نوع آخر في شراء ما باع بأقل مما باع يجب أن يعلم أن شراء ما باع الرجل بنفسه أو بيع له بأن باع وكيله بأقل مما باع ممن باع أو ممن قام مقام البائع كالوارث قبل نقد الثمن لا يجوز إذا كانت السلعة على حالها لم ينتقض بعيب، وكذلك إن بقي عليه شيء من ثمنه وإن قل، أما إذا اشترى ما باع بنفسه، فللحديث المعروف، ولأجل شبهة الربا؛ لأن بين الثمن الثاني وبين الثمن الأول شبهة المقابلة من حيث إن العقد الثاني أوجب تأكيد الثمن الأول؛ لأن الثمن الأول كان بعرض السقوط بالرد وهذه العرضية تزول بالبيع الثاني. فهو معني قولنا: إن البيع الثاني يوجب تأكيد الثمن الأول، وللمؤكد حكم الموجب حتى أن شهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا ضمنوا نصف الصداق؛ لأنه كان بعرض السقوط بالفرقة الجائية من قبلها، فهم بإضافة الفرقة إلى الزوج أزالوا تلك العرضية وأكدوه، فكانوا كالموجبين له كذا ههنا، وإذا ثبت أن البيع الثاني مؤكد للثمن الأول، وللتأكيد حكم الإيجاب كان وجوب الثمن الأول مضافاً إلى العقد الثاني موجباً الثمن الأول حكماً، والثمن الثاني حقيقة، فكان بينهما شبهة المقابلة من حيث إن وجوبها مضاف إلى عقد واحد في حالة واحدة، ولو ثبت بينهما حقيقة المقابلة يثبت شبهة الربا بخلاف ما بعد قبض الثمن؛ لأن هناك العقد الثاني أوجب تأكيد الثمن الأول؛ لأن الثمن الأول صار موكداً بالقبض، ولم يبق له عرضية السقوط قبل العقد الثاني، فلم يكن تأكيداً له. وأما إذا اشترى ما بيع له بأن باع وكيله لا يجوز أيضاً، فقد جعل الموكل بائعاً بيع الوكيل حتى لم يجز شراؤه ما باع وكيله بأمره بأقل مما باع قبل نقد الثمن، وأبو حنيفة رحمه الله لم يجعل الموكل مشترياً بشراء الوكيل حتى قال: لو باع الرجل شيئاً بنفسه، ثم وكل رجلاً بأن يشتري له ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن، فاشتراه الوكيل، فإنه يجوز عند أبي حنيفة خلافاً لهما. والفرق لأبي حنيفة: أن شراء الموكل منعقد ونافذ بدون التوكيل، ولهذا اشترى بدون التوكيل نفذ عليه، وصار الملك له، فلم يكن التوكيل محتاجاً إليه لانعقاد شراء

الوكيل ولا لنفاذه، فلم يكن شراء الوكيل مضافاً إلى الموكل لا انعقاداً ولا نفاذاً، فلم يصر الموكل مشترياً بشراء الوكيل أصلاً؛ لأن بعد ما تم شراء الوكيل ونفذ عليه ينتقل الملك إلى الموكل بشراء حكمي ينعقد بينهما، فلأجل ذلك احتيج إلى التوكيل، فيصير الوكيل مشترياً لنفسه، ثم بائعاً من الموكل حكماً. ولو اشتراه لنفسه حقيقة من غير توكيل، وباع حقيقة من البائع الأول جاز ههنا كذلك، فأما بيع الوكيل لا ينفذ بدون التوكيل إن كان ينعقد بدون التوكيل، فكان التوكيل محتاجاً إليه لنفاذ بيعه، فصار بيعه مضافاً إلى الموكل فيما يرجع إلى النفاذ إن لم يصر مضافاً إليه فيما يرجع إلى الانعقاد، فصار الموكل بائعاً ببيع الوكيل فيما يرجع إلى النفاذ، فإذا اشترى بعد ذلك صار مشترياً من وجه ما باع بأقل مما باع، فرجحنا جانب الفساد احتياطاً. وكذلك الجواب فيما إذا اشترى من وارث من باع منه بأقل لا يجوز، فقد جعل الشراء من وارث من باع منه بمنزلة الشراء ممن باع منه، ولم يجعل محمد رحمه الله شراء البائع حتى قال: لو مات البائع فاشترى وارثه ما باع بأقل مما باع جاز، وعن أبي يوسف أنه لا يجوز في الفصلين جميعاً؛ لأن وارث كل واحد منهما مقامه. وجه الفرق لمحمد: أن وارث البائع ما قام مقام البائع في هذا الشراء بحكم الإرث صار شراؤه وأجنبي آخر سواء، فأما وارث من بيع منه وهو المشتري قام مقام المشتري في هذا البيع بحكم الإرث، فإنه كان لا يملك البيع حال حياته مورثه؛ لأنه ملك موروثه، ولما قام الوارث مقام المشتري في بيع هذا الغير بحكم الإرث صار بيع الوارث وبيع الموروث سواء، فكما لا يجوز بيع المشتري، فكذا لا يجوز بيع وارثه. بعض مشايخنا قالوا: قول أبي حنيفة فيما إذا كان المشتري وارث البائع نظير قول أبي يوسف: إذا كان وارثاً تقبل شهادته له، أما إذا كان وارثاً لا تقبل شهادته له كالوالد ومن بمثابتهما لا يجوز شراؤه عند أبي حنيفة؛ لأن على قوله ولد البائع ووالده، وكل من لا تقبل شهادته له لو اشتراه في حال حياة البائع لنفسه لا يجوز خلافاً لهما؛ لأن منافع الأملاك بينهم متصلة، فصار شراء هؤلاء واقعاً للبائع، فكأن البائع اشترى بنفسه، فكذا بعد وفاته. وبعضهم قالوا: على قول أبي حنيفة: يجوز شراء وارث البائع على كل حال سواء كان وارث البائع ممن نقبل شهادته له، أو ممن لا تقبل شهادته له كما هو قول محمد، وفرق هذا القائل على قول أبي حنيفة بين حال حياة البائع وبينما بعد موته. والفرق: أن حال حياة البائع إنما لا يجوز شراء والده وولده وجميع من لا نقبل (59أ3) شهادته له باعتبار أن منافع الأملاك متصلة بينهم، فيصير شراء هؤلاء بمنزلة شراء البائع بنفسه، وهذا المعنى قد انقطع بالموت، وإنما شرطنا أن تكون السلعة قائمة على حالها لم تنتقص بعيب؛ لأن بعدما انتقص لا يتأتى شبهة الربا؛ لأن نقصان الثمن يجعل بمقابلة ما فات بالعيب، فيصير مشترياً ما باع بمثل الثمن الأول معنى وذلك جائز،

ولو رخص سعر السلعة من غير أن حدث بها عيب، فلا ينبغي أن يشتريها بأقل مما باع؛ لأن رخص السعر غير معتبر في حق الأحكام إذا بقي العين على حاله كما في حق الغاصب وأشباه ذلك، فيجعل وجوده كعدمه. ولو باع المشتري المشترى من رجل، ثم إن البائع الأول اشتراه من المشتري الثاني بأقل مما باع جاز، فإن عاد المشتري إلى المشتري الأول إن عاد بسبب هو فسخ في حق الناس كافة لا يجوز للبائع الأول أن يشتريه بأقل مما باع، وعاد إليه بسبب هو فسخ في حقهما بيع جديد في حق الثالث كان للبائع أن يشتريه بأقل مما باع. وكذلك لو أن المشتري وهب السلعة من إنسان، ثم أن البائع اشتراه من الموهوب له بأقل مما باع جاز، وكذلك لو وهبه الموهوب له من الواهب، وهو المشتري بعد ذلك، ثم إن المشتري باعه من البائع بأقل جاز. وكذلك لو أن المشتري باع العبد من إنسان، ثم اشتراه، ثم باعه من البائع بأقل جاز، ولو أن المشتري وهبه من إنسان وسلمه، ثم رجع في الهبة، ثم باعه من البائع بأقل لا يجوز؛ لأن الرجوع في الهبة من كل وجه فسخ سواء كان بقضاء أو بغير قضاء، فيعود إلى المشتري قديم ملكه المستفاد من جهة البائع وصار كأنه لم يهب حتى باعه من بائعه بأقل لا يجوز فههنا كذلك.h ولو كان المشتري أوصى بهذا العبد لرجل وقبل الموصى له الوصية، ثم مات الموصي فباع الموصى له العبد من بائع الموصي بأقل جاز؛ هكذا ذكر في «الزيادات» وفرق بين الموصى له من وجهة المشتري وبين الوارث المشتري، فإن وراث المشتري لو باعه من بائع موروثه بأقل لا يجوز. والفرق: وهو أن ملك الوارث غير ملك المورث، ولهذا كان للوارث أن يرد على بائع مورثه، ويصير الوارث مغروراً من جهة بائع مورثه كما يصير الموروث مغروراً، فكان بيع الوارث كبيع المورث، فأما ملك الموصى له غير ملك الموصي، ولهذا لا يرد على بائع الموصي بالعيب ولا يصير مغروراً من جهة، فأشبه المشتري والموهوب له، ثم المشتري من المشتري وهو الموهوب له من جهة المشتري لو باع من البائع الأول بأقل يجوز فكذا الموصى له. وقد كتبت في «السير» أن مسألة الوصي على خلاف ما ذكر في «الزيادات» وإذا وكلّ الرجل رجلاً ببيع عبد له بألف درهم فباع الوكيل، ثم أن الوكيل أراد أن يشتري العبد بأقل مما باع لنفسه أو لغيره بأمره قبل نقد الثمن لا يجوز إما شراؤه لنفسه؛ لأن الوكيل بالبيع بائع لنفسه في حق الحقوق، فكان هذا شراء البائع من وجه. والثابت من وجه في باب الحرمات كالثابت من كل وجه، وأما لغيره بأمره، فلأن شراء المأمور واقع له من حيث الحقوق، فيكون هذا شراء ما باع لنفسه من وجه، وكما لا يجوز للبائع أن يشتري ما باع بأقل مما باع، فكذا لا يجوز لعبده أن يشتري ما باع بأقل سواء كان على العبد دين أو لم يكن، أما إذا لم يكن عليه دين، فلأن شراء العبد إذا لم يكن عليه دين يوجب الملك للمولى في المشترى على الحقيقة، فصار شراء العبد كشراء المولي بنفسه.

دوأما إذا كان على العبد دين، أما على قول أبي يوسف ومحمد؛ لأن دين العبد عندهما لا يمنع وقوع الملك للمولى في كسب العبد، فكان شراء عبده في هذه الحالة كشرائه بنفسه، وأما على قول أبي حنيفة؛ فلأن شراء العبد إذا كان عليه دين إن كان يمنع وقوع الملك للمولى في كسب العبد حقيقة لا يمنع ثبوت حق الملك له في كسبه، فكان شراء عبده في هذه الحالة بمنزلة شراء به من وجه، وكذا لا يجوز شراء مكاتبه؛ لأن للمولى في أكساب مكاتبه حق الملك، فيكون شراء مكاتبه كشرائه بنفسه من وجه. ولو باع المدبر أو العبد أو المكاتب لم يكن للمولى أن يشتري ما باع بأقل، ولو اختلف جنس الثمن جاز الشراء، وإن كان الثمن الثاني أقل؛ لأن المانع في الجنس الواحد شبهة الربا، والربا لا يتحقق عند اختلاف الجنس، قال: إلا أن يكون أحدهما دراهم والآخر دنانير، والثاني أقل قيمة من الأول، فيكون البيع فاسداً استحساناً؛ لأن الدراهم والدنانير جنس واحد معنى لكونها ثمن الأشياء وقيمتها، فاكتفينا بالمجانسة المعنوية احتياطاً. وفي «القدوري» ولا يجوز أن يبيع سلعة بثمن حال، ثم يشتريها بذلك الثمن إلى أجل؛ لأن هذا في معني شراء ما باع بأقل مما باع؛ لأن الأجل يمكن نقصاناً في المالية؛ لأن المؤجل أنقص من الحال. ولو باعه بألف درهم نسيئة سنة، ثم اشتراه بألف درهم نسيئة سنتين لا يجوز؛ لأن هذا في معنى شراء ما باع بأقل مما باع؛ لأن الزيادة في الأجل يمكن نقصاناً في المالية، وإن زاد على الثمن درهماً أو أكثر جاز، ويجعل الزيادة في الثمن الثاني بمقابلة النقصان المتمكن بزيادة الأجل، فينعدم النقصان معني. نوع آخر في صور البيوع الفاسدة والباطلة فمن جملة صورة الفاسدة أن يبيع بخمر أو خنزير، ومن جملة ذلك بيع الدين من غير من عليه الدين، ومن جملة ذلك صفقتان في صفقة نحو أن يقول: أبيعك هذا على أن تبيعني هذا، ومن جملة ذلك بيعان في بيع نحو أن يقول: بعتك بقفيز حنطة أو بقفيزي شعير. ومن جملة ذلك شرطان في بيع نحو: إن أعطيتني الثمن حالاً فبكذا. وإن كان مؤجلاً فبكذا، ومن جملة ذلك إذا باع وسكت عن الثمن؛ لأن البيع مبادلة المال بالمال، فيصير البدل مذكوراً بذكر البيع، ولكن يجعل المذكور هو القيمة؛ لأن الأصل في الأشياء هو القيمة، وإنما عدل عنها عند وجود التسمية وصحتها، ولم يوجد التسمية، وإذا صارت القيمة مذكورة صار كأنه قال: بعت بالقيمة، والبيع بالقيمة بيع فاسد، وأما إذا باع على أن لا ثمن له ففيه روايتان: في رواية لا ينعقد أصلاً بخلاف ما إذا سكت عن ذكر الثمن أمكن أن يجعل تبعاً

الفصل السابع: في الشروط التي تفسد البيع والتي لا تفسد

بذكرالعوض دلالة وعند بقاء الثمن لا يمكن أن يجعل تبعاً بذكر الثمن دلالة إذ لا قوام للدلالة عند وجود الصريح بخلافها. وفي رواية قال: ينعقد؛ لأن النفي منه لم يصح؛ لأنه نفي حكم العقد فصار وجود هذا النفي والعدم سواء، فكأنه سكت عن ذكر الثمن، ولو باع بالميتة أو الدم أو الربح، فالبيع باطل، وروي عن محمد إذا قال: أبيعك بما ترعى إبلي في أرضك أو بما تشرب من ماء بئرك أنه بيع منعقد؛ لأنه سمى شيئاً متقوماً، فإنه لو قطع الحشيش أو استقى الماء في إناء وباعه يجوز، ولكون المسمى ماء قلنا بالانعقاد، ولكونه مجهولاً قلنا بالفساد، وبخلاف الفصل الأول؛ لأن المسمى هناك ليس بمال أصلاً. وكذلك لو باع عبد الجارية من جواري المشتري، ولم يبينها فهو بيع منعقد، ولو قال: أبيعك بالكعبة فهو بيع باطل؛ لأن المسمى ليس بمال، وإذا باع شيئاً بمكاتب أو مدبر أو أم ولد فهو بيع منعقد؛ لأن المالية ثابتة في هذه المحال، وإنما حرم بيعها بحق محترم لا لانعدام المالية وإنه لا يمنع انعقاد العقد بوصف الفساد والله أعلم. الفصل السابع: في الشروط التي تفسد البيع والتي لا تفسد يجب أن يعلم بأن (59ب3) الشرط الذي يشترط في البيع لا يخلو إما إن كان شرطاً يقتضيه العقد، ومعناه أن يجب بالعقد من غير شرط وأنه لا يوجب فساد العقد كشرط تسليم المبيع على البائع، وشرط التسليم الثمن بالثمن على المشتري، وهذا لأن اشتراط ما يجب بالعقد من غير شرط له؛ ولأنه لا يفيد شيئاً، فصار وجوده كعدمه، فكأنه لم يشترط شيئاً فيجوز البيع، وإن كان شرطاً لا يقتضيه العقد على التفسير الذي قلنا؛ إلا أنه يلائم العقد، ونعني به أنه يؤكد موجب العقد إذ تأكيد موجب الشيء يلائم ذلك الشيء، وذلك كالبيع بشرط أن يعطي المشتري كفيلاً بالثمن، والكفيل معلوم بالإشارة أو التسمية حاضر مجلس العقد، فقبل الكفالة، أو كان غائباً عن مجلس العقد، فحضر قبل أن يتفرقا وقبل الكفالة جاز البيع استحساناً، والكفالة إن لم تكن من مقتضيات البيع إلا أنها تؤكد موجب العقد، فما يؤكدها يكون ملائماً للعقد، فلا يؤثر في فساد العقد. وكذلك البيع بشرط أن يعطي المشتري بالثمن رهناً والرهن معلوم بالإشارة أو التسمية جاز البيع استحساناً، وإن لم يكن الرهن من مقتضيات العقد؛ لأن الرهن يؤكد موجب العقد؛ لأن الرهن شرع وعقد وهو مؤكد لجانب الاستفاء، ولهذا اختص جوازه بالأموال القابلة للاستيفاء الثمن موجب العقد فما يؤكده يلائم موجب العقد. قال الشيخ الإمام شيخ الاسلام المعروف بخواهر زاده في «شرحه» : فرّق محمد بين الكفيل وبين الرهن، فشرط حضرة الكفيل مجلس البيع، وقبول الكفالة بجواز البيع، ولم يشترط حضرة الرهن بجواز البيع وإنما شرط العلم به.

وفي «القدوري» شرط أن يكون الرهن معيناً، وهكذا شرط في «المنتقى» : وإن لم يكن الرهن معيناً، ولكن كان مسمى إن كان عرضاً لم يجز البيع، وإن كان مكيلاً أو موزوناً موصوفاً فهو جائز، وإن لم يكن الرهن معيناً ولا مسمى، وإنما شرطا أن يرهنه بالثمن رهناً فالبيع فاسد؛ لأن جهالة الرهن يوقعهما في منازعة مانعة من التسليم فالمشتري يعطيه رهناً، والبائع يطالبه برهن آخر. قال في «المنتقى» : إلا إذا تراضيا على تعيين الرهن في المجلس، ودفعه المشتري إليه قبل أن يتفرقا، أو يعجل المشتري الثمن ويبطلان الأجل، فيجوز البيع استحساناً، وكذلك إذا لم يكن الكفيل معيناً ولا مسمى، فالعقد فاسد؛ لأن جهالة الكفيل يوقعهما في منازعة مانعة من التسليم؛ لأن الناس يتفاوتون في قضاء الدين وملاء الذمة، وإن كان الكفيل حاضراً في مجلس العقد وأبى أن يقبل الكفالة، أو لم يأتِ ولكن لم يقبل حتى افترقا، أو أخذا في عمل آخر، فالبيع فاسد استحساناً قبل بعد ذلك، أو لم يقبل. وشرط الحوالة في هذا الباب نظير شرط الكفالة، يريد به إذا وقع البيع بشرط أن يحيل المشتري البائع على غريم من غرمائه، أما لو وقع البيع بشرط أن يحيل البائع على المشتري غريماً من غرمائه فالعقد فاسد قياساً واستحساناً. وفي «المنتقى» : رواية ابن سماعة: إذا كان الرهن معيناً في العقد بأن اشترى رجل من آخر داراً بألف درهم على أن يعطيه بالثمن عبده هذا رهناً، فلما قبض الدار امتنع عن تسليم الرهن لم يجز عليه، ولكن يقال للمشتري: ادفعه أو افسخ العقد، أو عجل الثمن قال: ثمة وهو قول محمد. وفي «القدوري» يقول: ولكن يقال للمشتري: إما أن تدفع الرهن أو قيمته أو يفسخ العقد؛ وهذا لأن الرهن من جانب الراهن محض تبرع؛ لأن الحق يبقى عليه بعد الرهن كما كان قبل الرهن، ولا خيار على التبرعات ولكن يخّير المشتري على نحو ما ذكرنا؛ لأن البائع ما رضي بزوال ملكه عن المبيع إلا بثمن مستوثق، فإذا فاتت الوثيقة فات وصف مرغوب، فيثبت له حق النقض إلا إن يفي المشتري بالشرط أو يدفع القيمة على ما ذكره «القدوري» ؛ لأن يد الاستيفاء للبائع إنما يثبت على المعنى وهو القيمة، فالاستيفاء في باب الرهن يقع عن معنى الرهن الا من عينه. قال في «المنتقى:» وإن كان المشتري باع الدار أمر به أن يدفع العبد أو يعجل الثمن؛ لأن بعد البيع تعذر فسخ البيع، فيخير بين دفع العبد أو تعجيل الثمن قال ثمة: وإن مات العبد أمر به أن يدفع إليه رهناً يساوي قيمة العبد، أو تعجيل الثمن، وإن كان العبد لم يمت فقال المشتري أعطه رهناً آخر سوى العبد، فللبائع أن يمتنع منه. وإن أراد المشتري أن يعطيه قيمة العبد دراهم أو دنانير، فليس للبائع أن يمتنع منه، ولو اشترى عبداً على أن يعطي البائع المشتري كفيلاً بما أدركه من أدرك، فهو على ما ذكرنا إن كان الكفيل مجهولاً، فالعقد فاسد، وإن كان معيناً ظاهراً وقيل، أو كان غائباً، فحضر قبل أن يفترق العاقدان وقيل، فالعقد جائز استحساناً.

وإن كان الشرط شرطاً يلائم العقد إلا أن الشرع ورد بجوازه كالخيار والأجل، أو لم يرد الشرع بجوازه، ولكنه متعارف كما إذا اشترى نعلاً وشراكاً على أن يحدوه البائع جاز البيع، وإن كان القياس يأبى جوازه؛ لأن التعارف والتعامل حجة يترك به القياس، ويخص به الأثر. وروى هشام عن محمد: أنه إذا اشترى من رجل نعلاً على أن يحدوه البائع أن البيع فاسد، وإن كان الشرط شرطاً لم يعرف ورود الشرع بجوازه في صورة، وهو ليس بمتعارف إن كان لأحد المتعاقدين فيه منفعة، أو كان للمعقود عليه من أهل أن يستحق حقاً على الغير فالعقد فاسد. وتفسير المنفعة المعقود عليه ما قال في «الكتاب» : إذا باع عبداً بشرط أن لا يبيعه ولا يهبه ولا يخرجه من ملكه بوجه من الوجوه، ففي هذا الشرط منفعة المعقود، فإن المملوك يسره أن لا تتداوله الأيدي، وإذا وافقهم في موضع لا يحبون البيع وبمثل قلبهم إلى ذلك الموضع، فالبيع بهذا الشرط لا يجوز عند علمائنا رحمهم الله. وتفسير منفعة المتعاقدين: أن يقول للبائع: بعني هذا العبد على أن أهب لك كذا أو أقرضك كذا، فالمبيع بهذا الشرط فاسد، ثم إذا شرط منفعة المعقود عليه إنما يفسد العقد إذا كان المعقود عليه من أهل أن يستحق حقاً على الغير وذلك الرقيق، فأما سوى الرقيق من الحيوانات التي لايستحق على الغير حقاً، فاشتراط منفعة لا يفسد العقد حتى لو اشترى شيئاً من الحيوان سوى الرقيق بشرط أن لا يبيعه، أو لا يهبه، فالبيع جائز، وفي هذا الشرط منفعة للمعقود عليه. فإن الناس يتفاوتون في الإحسان في حق دوابهم، فالمشتري وبما يكون أكثر تعاهداً بالمشترى من غيره، وإنما جاء الفرق؛ لأن المعقود عليه إن كان من أهل الاستحقاق، فالشرط يفسد وجوب المشروط في حقه أوضح، والشرط متى أفاد وجوباً يجب اعتباره، فالمشروط يطالب بحكم الشرط والمشروط عليه يمتنع بحكم الشرع، فإن الشرع نهى عن بيع وشرط مطلقاً إلا أن شرطاً يقتضيه العقد، أو يلائم موجب العقد، أو ورد الشرع بجوازه، وكان متعارفاً صار مخصوصاً عن قضية النهي، فبقي ما وراءه داخلاً تحت النهي فتقع المنازعة (60أ3) بينهما في إبقاء المشروط، وكل عقد يفضي إلى المنازعة يحكم بفساده، فأما إذا لم يكن المعقود عليه من أهل أن يستحق حقاً على الغير، فالشرط لا يغير وجوب المشروط، فيجعل وجوده والعدم بمنزلة، فكان البيع حاصلاً من غير شرط معنىً، وإن كان شرط المنفعة جرى بين أحد المتعاقدين وبين أجنبي بأن اشترى على أن يعوض البائع فلأن الأجنبي كذا وقبل المشتري ذلك. ذكر الصدر الشهيد في «شرح الجامع» : في باب الزيادة في البيع من غير المشتري أن العقد لا يفسد. وذكر القدوري: أن العقد يفسد، وصورة ما ذكر القدوري إذا قال المشتري للبائع: على أن تعوضني، أو على أن تعوض فلاناً، وذكر أن العقد فاسد. وفي «المنتقى» : قال محمد رحمه الله: كل شيء يشترط المشتري على البائع يفسد

به البيع، فإذا شرط على أجنبي فهو باطل من ذلك إذا اشترى من غيره دابة على أن يهب له فلان الأجنبي عشرين درهماً فهو باطل، كما لو شرط على البائع أن يهب له عشرين درهماً، وكل شيء يشترط على البائع لا يفسد به البيع، فإذا شرط على أجنبي فهو جائز، وهو الخيار. من جملة ذلك إذا اشترى من آخر عبداً بمائة على أن يحط فلان الأجنبي عشرة دراهم عنه، فالبيع جائز وهو بالخيار إن شاء أخذها به، وإن شاء ترك. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف: إذا اشترى من آخر شيئاً على أن يهب البائع لابن المشتري أو لفلان الأجنبي من الثمن ديناراً فالبيع فاسد، وإن كان شرطاً لم يكن لأحد المتعاقدين ولا للمعقود عليه منفعة، بل فيه لأحد المتعاقدين مضرة بأن باع ثوباً بشرط أن لا يبيعه ولا يهبه. ذكر في آخر المزارعة ما يدل على أن البيع جائز، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة: أن البيع فاسد، وهو قول أبي يوسف. وجه الجواز لأبي حنيفة ومحمد: أن المشروط إن كان منفعة في حق أحد المتعاقدين إنما يوجب فساد العقد؛ لأن المشروط له يطالب بحكم الشرط، والآخر يمتنع بحكم الشرع، فيتنازعان ولا مطالبة في موضع الضرر، فصار وجود هذا الشرط والعدم بمنزلة. وروى الحسن عن أبي حنيفة: إذا اشترى من آخر دابة أن لا يبيع ولا يهب، أو جملاً على أن لا يعلفه، فالبيع جائز، وكذلك إذا قال: على أن ينحره، وإن قال: على أن يبيعه من فلان، أو على أن لا يبيعه منه فالبيع فاسد. وإن اشترى على أن يبيعه أو يهبه، ولم يقل: من فلان، فالبيع جائز. قال في «المنتقى:» وهكذا روى ابن سماعة عن محمد، وإن اشترى على أن لا يبيع إلا بإذن فلان فالبيع فاسد أيضاً، وإن كان شرطاً ليس منه منفعة ولا مضرة نحو أن يبيع طعاماً بشرط أن يأكله، أو ثوباً بشرط أن يلبسه فالبيع جائز. وإذا باع جارية بشرط أن يطأها المشتري، أو بشرط أن لا يطأها قال أبو حنيفة: البيع فاسد في الموضعين، وقال محمد: البيع جائز في الموضعين، وقال أبو يوسف: إن باعها بشرط أن يطأها فالبيع جائز، وإن باع يشرط أن لا يطأها فالبيع فاسد. وإذا اشترى جارية بشرط أن لا يستخدمها، فعن أبي يوسف أن البيع فاسد، وكذا عن أبي يوسف: فيما إذا اشترى طعاماً بشرط أن لا يأكله ولا يطعمه أن العقد فاسد. المعلى عن أبي يوسف: إذا اشترى من آخر شيئاً على أن يعطي الثمن فلان، فالبيع جائز سواء كان حاضراً أو غائباً. وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «شرح كتاب المكاتب» في الباب الثاني منه أن من باع على أن يعطي ثمنه من مال فلان، فقد اختلف المشايخ في جواز هذا البيع. وفي «المنتقى» : إذا قال لغيره: أبيعك بألف درهم لك على فلان فصار مني لك عن فلان فالبيع جائز، وهو متطوع عن فلان. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد: إذا باع الرجل عبداً له من رجل بالدين الذي

للمشتري على فلان، وهو ألف، ورضي به فلان فهو جائز، والمال للبائع على الغريم الذي عليه الدين؛ لأنه لو قال لمولى العبد: بع عبدك فلاناً بماله علي من الدين فهذا جائز، ولمولى العبد ألف على الغريم كأنه دفع عبده إلى الغريم ليبيعه بما للطالب عليه من الدين. وفي «المنتقى» : إذا قال الرجل لغيره: أشتري منك هذا بالمائة التي على فلان فهو فاسد، وقال زفر: صحيح، وعليه خرجت تلك المائة أو لم تخرج، وإن قال: أبيعك ثوباً لك على فلان على أن تبرئ فلان الغريم عما عليه لك فهو جائز، وإذا قال لغيره: أبيعك هذه الجارية على أن تشتريها لنفسك فالبيع فاسد، هكذا ذكر في «المنتقى» . وفي «البقالي» : عن أبي يوسف جوازه بخلاف قوله: على أن لا يشتريه، وإذا اشترى عبداً وشرط الخيار لنفسه شهراً على أنه عرضه على بيع أو استخدمه فهو على خياره فالبيع فاسد، وإذا كان لرجل على رجل دينار، فاشترى منه ثوباً على أن لا يقاضه فالبيع فاسد. وإذا باع عبداً بشرط أن يعتقه المشتري فالبيع فاسد في ظاهر الرواية أصحابنا حتى لو أعتقه المشتري قبل القبض لا ينفذ عتقه، ولو قبضه، ثم أعتقه ينقلب البيع جائزاً حتى يلزمه القيمة، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل قولهما. وجه قولهما: أنهما شرطا شرطاً لا يقتضيه العقد ولا يلائمه، ولم يرد الشرع بجوازه، وإنه غير متعارف فيما بين الناس، وللمعقود عليه فيه منفعة، فيفسد العقد كما لو باع بشرط أن يدبر المشتري أو يكاتبه، أو باع جارية بشرط أن يستولدها المشتري. وإنما قلنا: لا يقتضيه العقد؛ لأن البيع لا يوجب العتق على المشتري في غير القريب ولا يلائمه؛ لأن في العتق إزالة ملك المشتري عن العبد، والبيع يوجب الملك فما يزيله لا يكون ملائماً للبيع ولم يرد الشرع بجوازه، وإنه غير متعارف؛ لأن الشراء بهذا الشرط لا يكثر وجوده، والمتعارف ما يكثر وجوده فيما بين الناس كشراء النعل بشرط أن يحدوه البائع، وكان الاستصناع، وفيه منفعة للمعقود عليه، وإنه ظاهر أيضاً، والتقريب ما مر. ولأبي حنيفة رحمه الله: أن الشراء بهذا الشرط متعارف من وجه من حيث إن الناس يبيعون المملوك بهذا الشرط، وغير متعارف من وجه من حيث إنه لا يكثر وجوده، فلكونه غير متعارف من وجه أفسدناه في الابتداء، ولكونه متعارفاً من وجه جعلناه جائزاً بعد العتق، أو نقول: هذا الشرط إذا كان متعارفاً من وجه دون وجه كان المفسد موجوداً من وجه دون وجه، فحكمنا بالفساد على سبيل التوقف لا على سبيل الثبات، فإن استهلك بوجه آخر يتقرر الفساد لكونه غير متعارف ويلزمه القيمة، وإن أعتقه يتقرر الجواز لكونه متعارفاً، ويلزمه الثمن. وجه آخر لأبي حنيفة: إن هذا الشرط يلائم البيع، ولا يلائمه من وجه، من حيث إن فيه إزالة الملك لا يلائم البيع، ومن حيث إنه ينهي الملك ولا يقطع، وفي الإنهاء تقرير وإتمام يلائمه.

ولهذا قلنا: إن المشتري إذا أعتق العبد، ثم اطلع على عيب به كان له الرجوع بنقصان العيب كما لو مات حتف أنفه، فمن حيث (60ب3) إنه لا يلائم العقد حكمنا بفساد العقد في الحال، ومن حيث إنه لائم العقد حكمنا بجوازه إذا أعتق، ويمكن أن يقال: إذا كان شرط العتق يلائم البيع من وجه، ولا يلائمه من وجه حكمنا بفساد العقد على سبيل التوقف آخر ما ذكرنا. وروى أبو شجاع عن أبي حنيفة: أن المشتري إذا أعتقه قبل القبض جاز، وهذا دليل على أن الفساد غير متقرر؛ إذ لو كان متقرراً كان لا يثبت الملك للمشتري قبل القبض وبدون الملك لا يصح إعتاقه، وهذا بخلاف شرط التدبير والاستيلاد والكتابة، والتدبير والاستيلاد شرط لا يلائم العقد بوجه؛ لأن هذه التصرفات إنهاء الملك؛ لأن إنهاء الملك إنما يتحقق إذا وقع الأمن عن الزوال عن تملك المشتري إلى ملك غيره كما في العتق والموت، وبهذه التصرفات لا يقع الأمن عن زوال الملك بجواز أن يباع فيقضي القاضي بجواز البيع في المدبر وأم الولد، ويجيز المكاتب بيع نفسه، وإذا لم تكن هذه التصرفات إنهاء للملك لا محالة لم يكن ملائماً للعقد بوجه ما.l وفي «الأمالي» : عن أبي يوسف برواية بشر: رجل اشترى داراً على أن يتخذها مسجداً للمسلمين فالبيع فاسد، قال: لأن المسجد يخرج عن ملك متخذه، وكذلك لو باع منه طعاماً يتصدق به. وفي «المنتقى» : إذا اشترى جارية على أن يحسن إليها أو على أن يسيء إليها فالبيع جائز رواه عن الحسن. وفي «البقالي» : إذا باع عبداً، وشرط أن يطعمه خبيصاً لم يجز. وفي «المنتقى» : أيضاً رواية الحسن عن أبي حنيفة: إذا اشترى جارية على أن يكسوها القز، أو على أن يضربها فالبيع فاسد. إذا اشترى من أحد داراً على أن يسلم البيع له وعلم أن لفلان فيها شيئاً، أو لم يعلم فالبيع فاسد. وقال الحسن: إن علم أن له فيها شيئاً فإن سلم المبيع جاز وإلا كان بالخيار في حصة البائع، فإن شاء أجازه، وإن شاء أبطله. وفي «المنتقى» : إذا كان قال للمشتري: اشترِ هذا الثوب بكذا وأنت بريء، فاشترى فهو بريء. وفيه أيضاً: إذا اشترى من آخر عيناً بكذا على أن يحط من ثمنه كذا أو على أنه حطه من ثمنه كذا فالبيع جائز، والحط جائز ويكون البيع بما وراء المحطوط، قال ثمة: وقوله: على أن يحط، مثل قوله: حططت، ألا ترى أنه لو قال لمديونه: صالحتك مما لي عليك على كذا على أن أحط لكنه كذا، فهذا حطه جائز ولو قال: بعتك هذا العبد بكذا على أني قد وهبت لك من ذلك كذا وهو حط. وفي «فتاوي أبي الليث» : لو قال: علي أن أهب لك من ثمنه كذا لا يجوز وذكر في «المنتقى» : أنه يجوز. وفي «نوادر هشام» : قال: سألت محمداً عن رجل قال لغيره: بعتك هذا الغلام

بألف درهم على أني قد بعتك هذا الآخر بمائة دينار، فقال المشتري: قبلت البيع في ذلك، فالبيع جائز على الغلامين جميعاً. وعن محمد برواية هشام أيضاً: إذا قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم على أن أبيعك هذا الآخر بمائة دينار إن هذا باطل، وإذا قال: بعتك هذا العبد بألف درهم وعلى أن تقرضني عشرة جاز البيع، ولا يعتبر قوله: وعلى أن تقرضني شرطاً؛ لأنه ذكر بحرف الواو، فكان معطوفاً على الأول لا شرطاً. ومثله لو قال: على أن تقرضني عشرة يعتبر ذلك شرطاً حتى يفسد البيع، وهو نظير ما لو كان لرجل أرض بيضاء فيها نخيل، فقال: دفعت إليك النخيل معاملة على أن يزرع الأرض البيضاء فسدت المعاملة، واعتبر قوله: أن يزرع شرطاً للمزارعة في المعاملة، ولو قال: وعلى أن يزرع الأرض البيضاء لا يفسد المزارعة ولم يعتبر ههنا شرطاً، ويعرف عن هاتين المسألتين كثير من المسائل. ذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهرزاده هاتين المسألتين في صلح «المبسوط» : في باب الصلح عن الدين، وإذا قال المشتري: زدتك في الثمن مائة على أن تبيعني بألف درهم، ففعل جاز البيع، وكان البيع بألف درهم ومائة، وكذلك إذا قال: أهب لك زيادة في الثمن. رجل قال لغيره: بع عبدك هذا من فلان على أن أجعل لك مائة درهم جُعلاً على ذلك، فباعه من فلان بألف، ولم يكن في عقده البيع شرط فالبيع جائز، والجعل لا يلزم، وإن كان بعده فله أن يرجع فيه من قبل أن الجعل ليس في الثمن، ولو شرط ذلك في عقد البيع فالبيع فاسد، قال: وكذلك الهبة، كذا ذكر المسالة في «المنتقى» عن أبي يوسف. وفي «المنتقى» : إذا قال: جعلت لك مائة درهم على أن تبيعني عبدك هذا بألف درهم، ففعل بطل البيع للشرط الذي فيه؛ لأن الجعل ليس من الثمن، وكذلك إذا قال: أهب لك، والمسألة بحالها، وكذلك أرشوك مائة درهم على أن تبيع من فلان بألف درهم فقال: نعم، ثم باع هو فلان، ولم يكن فيه ... يؤخذ الدين........ بالرشوة. ولو باع من آخر ثوباً بعشرة دراهم سحتاً، أو رشوة فالبيع جائز. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف: إذا اشترى من آخر شيئاً على أن يدفعه إلى المشتري الثمن فالبيع فاسد. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد: رجل قال لغيره: بعتك عبدي هذا بكذا على أن تعطيني عبدك هذا، أو قال: على أن تجعل لي عبدك هذا فالبيع فاسد؛ لأن هذا عبدي على الهبة، فقد شرط في الهبة بيعاً، فيوجب فساد البيع إلا أن يقول: على أن تعطيني عبدك هذا زيادة فيجوز، ويكون العبد زيادة في البيع، وإذا قال: أبيعك هذا العبد على أن تبيعه وتعطيني ثمنه فالبيع فاسد، وإذا قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم وعلى أن يخدمني سنة أو قال: على أن يخدمني سنة فهذا باطل، وكذلك لو قال: أبيعك عبدي بثلاثمائة درهم ويخدمنك سنة، أو قال: أبيعك عبدي لخدمتك سنة فهو كله باطل.

نوع آخر إذا باع برذوناً على أنه هملاج فالبيع جائز، وإذا اشترى شاة على أنها حامل، أو اشترى ناقة على أنها حامل، فالبيع جائز ذكره الحسن في بيوعه؛ لأن المشروط صفة من أوصاف البيع؛ لأن الولد ما دام في البطن في حق التصرفات المضافة إلى الأم ألحق بسائر أوصافها من اليد والرجل، فصار اشتراط أنها حامل كاشتراط أنها ذات يد وذات رجل. وفي ظاهر الرواية لا يجوز؛ لأن الحبل في البهائم زيادة، ولا يدري وجودها وقت البيع، فكان فيه غرراً، فيفسد به البيع كما لو باع معها، وكذا بخلاف ما لو باع برذوناً على أنه هملاج؛ لأن الوقوف على المشروط ممكن وقت البيع بالسر، أما ههنا بخلافه. ولو باع شاة على أنها حلوب فالبيع جائز كذا ذكره الحسن في «المجرد» وكذا ذكر الطحاوي في اللبون؛ لأن المشروط صفة من أوصاف المبيع، ويمكن الوقوف على وجوده وقت البيع، فصار كما لو باع برذوناً على أنه هملاج، وبه أخذ الفقيه أبو الليث، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمهما الله. وذكر الكرخي أن البيع فاسد، وهكذا روي ابن سماعة في «نوادره» ، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله. وإذا اشترى جارية على أنها ذات لبن، فهذا وما لو اشترى شاة على أنها لبون سواء. ووجه ذلك: أن المشروط وإن كان من أوصاف المبيع إلا أن هذا (61أ3) وصف لا يدري وجوده وقت البيع، فكان في البيع غرر فيكون فاسداً، ولو باع شاة على أنها تحلب كذا كذا، فالبيع فاسد باتفاق الروايات؛ لأن المشروط ليس بصفة بهذه الصورة، فإنه لم يقل: على أنها حلوب، وإنما قال: على أنها تحلب كذا كذا، فيكون اشتراط اللبن المحلوب، وإنه مجهول على خطر الوجود فاشتراطه يوجب غرراً في العقد، فيوجب الفساد. وكذلك لو اشتراها على أنها تضع بعد شهر فالعقد فاسد، وكذلك لو اشترى سمسماً وزيتوناً على أن فيه كذا من الدهن فالعقد فاسد. وإذا اشترى دابة على أنها ذات أسنان لبن فالشراء جائز؛ لأن المشروط صفة من أوصاف، المبيع والموقوف عليه ممكن وقت البيع. فهو بمنزلة ما لو اشترى فرساًعلى أنه هملاج، ولو اشترى جارية على أنها حامل، فقد ذكر الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله: أن المشايخ اختلفوا في جواز العقد، بعضهم قالوا: لا يجوز كما لو اشترط الحمل في البهائم، وهذا القائل يستدل بما ذكر محمد رحمه الله في كتاب البيع: إذا باع جارية وتبرأ من الحمل يجوز، فإنما حكم بجواز البيع في الجارية إذا تبرأ من الحمل، فهذا دليل على أنه إذا اشترط الحمل يفسد، وهذا لأن المشروط مما لا يوقف عليه وقت البيع، وقال بعضهم: البيع جائز. قال الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله: وهذا القول أصح عندي من قبل أن الحمل في ثبات أدم بعد نقصاناً لا زيادة، فإنه يوجب ضعفاً فيها واشتراط الحمل يكون تنبهياً من العيب، ولا يكون اشتراطاً كقولك: بعتك هذه الجارية على أنها عوراء أو عرجاء،

فالشراء عن العيب كما يثبت بلفظ البراءة يثبت بالشرط. وعن الفقيه أبي جعفر رحمه الله: أن اشتراط الحمل إن كان من جهة البائع، فهو تبري عن العيب، ولا يفسد العقد، وإن كان من جهة المشتري، فهو شرط على الحقيقة، والمشروط خطر العدم فيفسد العقد، من المشايخ من قال: اشتراط الحمل في الجارية إن كان لأجل الزيادة، بأن كان يشتريها ليتخذها ظئراً يفسد البيع، وإن كان لاتخاذها ظئراً، فاشتراط الحمل على وجه التبري، فيكون البيع جائزاً، وقد ذكر هشام في «نوادره» عن محمد رحمهما الله ما هو قريب من هذا، فإنه روى أنه قال: البيع جائز إلا أن يظهر المشتري أن لا يشتريها للظؤورة لا يجوز البيع. وذكر الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي رحمه الله: أن الجارية إن كانت نفيسة فالبيع جائز؛ لأن الحبل منها عيب، وإن كانت خسيسة بحيث يشتري ليتخذ ظئراً فالعقد فاسد؛ لأن الحبل في مثلها يعد زيادة، وإذا اشترى جارية على أنها تحيض، فوجدها لا تحيض لسبب الإياس كان له الرد؛ لأنه اشتراها للحبل، والآيسة لا تحبل. ولو اشترى جارية على أن البائع لم يكن يطأها، ثم ظهر أنه قد كان وطئها ليس له أن يردها، وإذا باع جارية على أنها مغنية، أو باع قمرياً أو غيره، وشرط أنه يضع، أو طيراً بشرط أن يجيء من المواضع البعيدة، أو كبشاً نطاحاً، أو ديكاً مقاتلاً، فالبيع فاسد، في قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن محمد؛ لأن هذه الجهات محظورة لكونها جهات محظورة فإدخالها في البيع يوجب فساد البيع. وإن صياح القمري وصياح الديك وأشباه ذلك عسى لا يوجد، والإجبار عليه غير مكن، فكان المشروط شيئاً لا يقدر على تسليمه، فيوجب فساد البيع. وروي عن محمد: إنه إذا باع قمرياً على أنها تصوت فصوتت جاز؛ لأن هذه خلقة فيها، فيمكن تسليم المشروط، فلهذا قال على هذه الرواية في المحرم: إذا قتل القمرية المصوتة إنه يضمن قيمتها مصوتة بخلاف ما لو قتل صيداً يجيء من المواضع البعيدة، فإن هناك لا يعتبر قيمة الصفة في الضمان؛ لأن ذلك ليس بخلقة هكذا ذكر القدروي. وذكر في «المنتقى» : عن محمد: إذا باع فاختة أو قمرية على أنها تصوت، ولم يكن يذكر فصوتت، وأجاب بأنه يجوز، وذكر في «المنتقى» عن محمد: فيما إذا اشترى حمامة يجيء من الصالحين أن شريحا ضمنه حمامة يجيء من الصالحين وأنا ضمنه مثل ذلك ولا أجوزه في البيع، وإذا باع بازياً على أنه يصيد قال أبو يوسف: البيع جائز، وعن محمد روايتان، وإذا باع جارية على أنها مغنية على وجه التبري من العيب فهو جائز؛ لأنها كونها مغنية عيب فالتبري عن العيب في البيع لا يفسد البيع. وفي «الأصل» : إذا باع كلباً على أنه عقور أو حمامة على أنها دوارة لا يجوز إلا أن يبين ذلك على وجه العيب، فعلى هذا في كبش النطاح والديك المقاتل إذا ذكر الصفة على وجه العيب. وذكر في «المنتقى» : عن محمد: وإذا باع جارية على أنها مغنية أن الشراء جائز،

ولم يشترط ذكر ذلك على وجه العيب، قال ثمة: ولا أرد البيع إن كانت تغني أو لا تغني؛ لأن هذا عيب تبرأ منه. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : وإذا اشترى الرجل من آخر عبداً على أنه كاتب أو خباز فالبيع جائز، فإن قبضه المشتري فوجده كاتباً أو خبازاً على أدنى ما ينطلق عليه الاسم لا يكون له حق الرد بوجود المشروط، فإن المستحق بمطلق العقد أدنى ما ينطلق عليه الاسم لا النهاية في الجودة كذا ههنا. وقوله: أدنى ما ينطلق عليه اسم الكتابة والخبز، معناه أن يفعل من ذلك ما يسمى الفاعل به خبازاً وكاتباً، وهذا لأن كل واحد في العادة لا يعجز من أن يكتب على وجه يبين حروفه وأن يخبز مقدار ما يدفع الهلاك عن نفسه، وبذلك لا يسمى كاتباً وخبازاً بشرط الإتقان بأدنى ما ينطلق عليه اسم الكاتب والخباز باعتباره لهذا، قال: وإن وجد الحسن الكتابة والخبز، ومعناه أنه لا يعرف من ذلك مقدر ما يسمي الفاعل به كاتباً وخبازاً كان للمشتري الرد، فإن امتنع الرد بسب من الأسباب رجع المشتري على البائع بحصته من الثمن، فيقوم العبد كاتباً وخبازاً على أدنى ما ينطلق عليه الاسم إذ هو المستحق بالشرط، ويقوم غير كاتب وخباز. فينظر إلى تفاوت ما بين ذلك، فإن كان مثلاً العشر يرجع على البائع بعشر الثمن كما في خيار العيب، وإن كان التفاوت مثلاً الخمس يرجع على البائع بخمس الثمن، وسيأتي الكلام فيه في مسائل العيب إن شاء الله تعال. وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه ليس للمشتري أن يرجع على البائع ههنا بشيء؛ لأن ثبوت الخيار للمشتري إنما كان بالشرط لا بالعقد، وتعذر الرد في خيار الشرط للمشتري لا يوجب الرجوع للمشتري على البائع بشيء، ولكن ما ذكر في ظاهر الرواية أصح؛ لأن ثبوت الخيار للمشتري ههنا ما كان بحكم الشرط، وليس أثر الشرط في إثبات الخيار للمشتري، بل أثره في صيرورة المشروط مستحقاً بالعقد، ثم ثبوت خيار لعجز البائع عن تسليم صفة السلامة، فإن وقع الاختلاف بين المشتري وبين البائع في هذه الصورة بعد ما مضى حين من وقت البيع فقال المشتري: لم آخذه كاتباً ولا خبازاً، وقال البائع: إني سلمته إليك كاتباً وخبازاً، ولكنه نسي عندك، وقد ينسى في مثل تلك المدة، فالقول قول المشتري، هكذا ذكر المسألة في «بيوع الجامع» : لأن الاختلاف وقع في وصف عارض؛ لأن الأصل عدم الكتابة والخبز، فيكون القول قول المنكر لهذا الوصف، وهو المشتري. قال في «الجامع» أيضاً: وكذلك لو قال البائع: هو الساعة كما شرطت، وقال العبد: أنا كذلك إلا أني لا أفعل كان القول قول المشتري، ولا يعتبر قول العبد أما؛ لأنه لا شهادة له، ولأنه شهادة فرد، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف: أن المشتري إذا زعم أن العبد ليس بخباز، فإني أسأل العبد فإن قال: لست بخباز رددته. وإن اشترى جارية بغير شرط طبخ ولا خبز وهي تحسن ذلك فنسيت (61ب3) في يد البائع ردها؛ لأن الجارية بالعقد صارت مستحقة على الصفة الموجودة وصار

الاستحقاق بحكم الوجود كالاستحقاق بحكم الشرط في «القدوري» . وكذلك اشترى جارية على أنها بكر، فإذا هي غير بكر عرف ذلك بإقرار البائع كان للمشتري الخيار لما مر، فلو امتنع الرد بسبب من الأسباب رجع المشتري على البائع بحصة البكارة من الثمن، فتقوم وهي بكر أو تقوم وهي غير بكر، فيرجع بفضل ما بينهما، ولكن من الثمن، ولو شرط الثيابة فوجدها بكراً، فهي له ولا خيار للبائع. في «القدوري» وإن وقع الاختلاف بين البائع والمشتري، وكان الاختلاف بعد قبض المشتري الجارية، فقال المشتري: لم أجدها بكراً، وقال البائع: كانت بكراً لكن ذهبت البكارة عندك، كان القول قول البائع مع يمينه؛ لأن البكارة صفة أصلية في النساء، فكان المدعي لوجودها وقت التسليم، وهو البائع متمسكاً بالأصل لكن يحلف البائع إليه بالله لقد باعها وقبضها المشتري وإنها بكر. وليس المراد من قول المشتري: لم أجدها بكراً الامتحان بالوطء فإن الوطء مانع من الرد بالعيب، ولكن معناه إني علمت أنها ليست ببكر بخبرها أو تحيرها، وهذا إذا وقع الاختلاف بعد قبض الجارية. فأما إذا وقع الاختلاف قبل قبض مشتري الجارية، فقال المشتري: هي ليست ببكر، وقال البائع: هي بكر، فالقاضي يريها النساء بخلاف الوجه الأول؛ لأنه هناك اتفقا على عدم البكارة وقت الخصومة، إنما اختلفا فيما مضي، ورؤية النساء للحال لا يفيد العلم فيما مضى، أما هنا اختلفا في قيام البكارة للحال، ورؤية النساء في الحال يفيد العلم في الحال. فإن قلن: هي بكر، ذكر في «الجامع» : أنه يلزم المشتري من غير يمين البائع؛ لأن شهادة النساء ههنا تأيدت بمؤيد، فإن البكارة أصل في بنات أدم، وشهادة النساء هي تأيدت بمؤيد صارت كشهادة النساء مع الرجل، ولو قامت شهادة النساء مع الرجال على البكارة لزمت الجارية المشتري من غير يمين البائع كذا ههنا. ونظير هذا ما قال في كتاب «الاستحسان» : إن امرأة العنين إذا ادعت أنها بكر بعد مضي المدة، وادعى الزوج الوصول إليها، فالقاضي يريها النساء فإن قلن: هي بكر يجبر من غير يمين الزوج، فقد أثبت الفرقة بشهادتهن من غير يمين الزوج لما تأيدت شهادتهن بمؤيد فههنا كذلك، وإن قلن: إنها ليست ببكر يلزم المشتري مع يمين البائع بالله إنها لبكر، ولا ينتقض البيع؛ لأنا جعلنا في الابتداء القول للبائع، فلو ردت الجارية عليه إنما ترد بشهادة النساء بانفرادهن، وشهادة النساء بانفرادهن إذا لم تتأيد بمؤيد غير معتبرة لبناء الأحكام عليها، وهذا على أصل أبي حنيفة رحمه الله ظاهر؛ لأن عنده شهادة النساء حجة ضرورية الثيابة الرد بجواز أنها كانت بنتاً وقت البيع، وعلم المشتري بذلك، ورضي به، فلم تثبت الثيابة بشهادتهن في حق الرد. فأما على قولهما: فشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال حجة مطلقة، فينبغي أن يثبت الثيابة بشهادتهن في حق الفسخ، وقد روي عن محمد في «النوادر» في هذا الفصل أنه تثبت الثيابة بشهادتهن في حق الفسخ على قياس قولهما، فعلى هذا يحمل ما ذكر ههنا على أنه قول أبي حنيفة، وفائدة شهادة النساء ههنا على قول أبي حنيفة بوجهين: بوجه

اليمين على البائع، فإن قبل شهادتهن كان لا يتوجه اليمين على البائع والآن يتوجه. والوجه في هذا: أن دعوى المشتري الثيابة على البائع لم يعتبر في حق توجيه اليمين على البائع عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه عارض دعوى المشتري ما يبطلها، وهو كون البكارة أصلاً في بنات آدم، وقد بطل اعتبار هذا الأصل بمعارضة شهادة النساء بقي دعوى المشتري معتبراً في حق توجيه اليمين على البائع، فإن نكل البائع ردت الجارية عليه، وإن حلف انقطعت الخصومة، ولزم المشتري الجارية. أما قبل شهادة النساء لم يبطل كون البكارة أصلاً، فبقيت المعارضة بينهما وبين دعوى المشتري، فلا يعتبر دعوى المشتري في حق توجه اليمين على البائع، فإن لم يكن بحضرة القاضي من النساء من يثق بقولها ألزمت الجارية المشتري من غير يمين البائع لما ذكرنا أن دعوى المشتري من غير شهادة النساء غير معتبر في حق توجيه اليمين على البائع. ولو كان المشتري اشترى عبداً على أنه كاتب أو خباز، فلم يقبضه المشتري حتى قال: ليس هذا كما شرطت لا يجبر على قبضه، ولو اشترى جارية على أنها بكر، فقال المشتري قبل القبض: ليس هذا كما شرطت لي يجبر على قبضه؛ لأن في الفصل الأول القول قول المشتري، فلا لعبد يجبر على القبض. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : وإذا اشترى قوصرة تمر على أنه فارسي، فإذا هو دقلاً ثبت له حق الرد لو امتنع الرد بسبب من الأسباب يقوم فارسياً على أدنى ما ينطلق عليه الاسم، ويقوم دقلاً على هيئة، ويرجع بفضل ما بينهما، ولكن من الثمن. وكذا إذا اشترى قوصرة تمر فارسي على أنه جيد، فإذا هو رديء، وقد امتنع العيب بسبب من الأسباب يقوم فارسياً جيداً على أدنى ما ينطلق عليه الاسم، ويقوم ردياً كما هو، فيرجع بفضل ما بينهما، وإذا اشترى أرضاً على أن خراجها على البائع أبداً، فهذا على وجهين: إما إن شرط جميع الخراج على البائع، وفي هذا الوجه البيع فاسد؛ لأنه شرط شرطاً لا يقتضيه العقد؛ لأنه شرط قضاء دين المشتري، والعقد لا يقتضيه ولا يلائمه، وإنه غير متعارف، وللمشتري فيه منفعة، فيوجب فساد العقد. وإما إن شرط بعض الخراج على البائع وأنه على وجهين أيضاً: إن كان المشروط على البائع ما هو من أصل الخراج، فالعقد فاسد لما قلنا، وإن كان المشروط على البائع ما هو زائد على أصل الخراج فالبيع جائز؛ لأنه شرط في البيع أن لا يجب عمل الظلم على المشتري، وهذا ثابت بدون الشرط. وفي «فتاوي أبي الليث» : إذا اشترى ضيعة مع خراج درهم وخراجها ثلاثة دراهم، فإن كان المشتري عالماً بأن خراجها ثلاثة دراهم فالعقد فاسد؛ لأن هذا بيع شرط أن

يجب الخراج على البائع، وهذا شرط فاسد لما مر، وإن لم يعلم المشتري بذلك فالبيع صحيح، وللمشتري الخيار، إن شاء قبلها بخراجها، وإن شاء تركها. وقد قيل: إذا كان المشتري يعلم أن خراجها في الأصل درهم، وزيد عليه بعد ذلك درهمان يجب أن لا يفسد العقد كما في المسألة الأولى؛ إذ المعنى لا يوجب الفصل. وفي «فتاوى الفضل» : إذا باع أرضاً خراجها درهم فإذا خراجها ثلاثة دراهم، فالعقد فاسد ذكر المسألة مطلقة من غير فصل بينهما، إذا علم المشتري أن خراجها ثلاثة دراهم، أو لم يعلم، ويجب أن تكون المسألة على التفصيل الذي ذكرنا في مسألة «فتاوى أبي الليث» .t ولو اشترى أرضاً بغير خراج والأرض خراجية فالبيع فاسد، وهذا إذا كانت الأرض خراجية في الأصل، فأما إذا لم تكن خراجية في الأصل، ثم وضع عليها الخراج ظلماً، فالبيع يكون جائزاً، وإذا كانت الأرض خراجية في الأصل، فإنما يفسد العقد إذا علم المشتري أنها خراجية على ما ذكرنا. وسئل القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله: عن أرض خراجها عشرة، فباعها مالكها مع خراج خمسة عشر زاد عليها من خراج أرض أخرى، قال: البيع فاسد، وكذا في جانب النقصان هكذا أجاب، والجواب في جانب النقصان يؤل وتأويله ما ذكرنا، فسئل: وإن لم يعلم بمقدار أصل الخراج على هذه الأرض، واختلف البائع والمشتري في المقدار، فادعى المشتري أقل، وادعى البائع (62أ3) أكثر هل ينظر إلى خراج مثل هذه الأرض في تلك القرية؟ وإن أراد المشتري أن يحلف البائع ما يعلم أن أصل الخراج كذا له ذلك، قال: الخصم في الخراج نائب السلطان. فسئل وما قوله إذا كانت البلدة خراجية إلا أنه لا يعلم كيف وضع أصل الخراج غير أنهم يوزعون الخراج على الشرب بذلك جرى العرف بينهم في القديم، فباع رجل أرضاً بغير خراج، أو بخراج قليل هل يجوز؟ قال: هذا مخالف لحكم الشرع. إذا اشترى أرضاً على أنها حرة عن النوائب، فاذا طالب المشتري بالنوائب، فله أن يردها على البائع إن كان حياً وعلى ورثته إن كان ميتاً، وكذلك إذا اشتراها على أن قانونها نصف دانق، فإذا هو أكثر، فله أن يردها، ثم هذا البيع جائز. بخلاف ما إذا اشترى الأرض على أنه لا خراج عليها، أو على أن خراجها درهم، فإذا هو أكثر فالعقد فاسد؛ لأن الخراج حق دين كسائر الديون، فقد شرط المشتري قضاء دين المشتري، فأما المؤنات والجنايات فالمشتري شرط في العقد أن لا يتحمل الظلم، وهذا ثابت بدون الشرط، فإذا باع أرضاً على أنها منظور عن القانون، أو على أنها مشفوع عن الخراج، وعلى أن لا يوجد منه الخراج فالعقد فاسد، كما إذا باع على لا يغصبه غاصب. إذا باع من آخر حانوتاً على أن عليها عشرون، فإذا هي خمس عشر، فإن أراد بذلك أنها كانت تعمل فيما مضى كذا، فهذا شرط لا ينتفع به أحد، فلا يفسد به العقد، وإن

أراد بذلك أنها يعمل في المستقبل عشرين، فالعقد فاسد؛ لأن هذا شرط بشيء هو منتفع، وفي وجوده غرر، وإن أطلق ولم يفسر، ولم يرد به شيئاً فالعقد فاسد، وهو محمول على المستقبل؛ لأن مراد الناس من هذا في عرفهم وعاداتهم المستقبل فيحمل عليه. وفي «فتاوي أهل سمرقند» : اشترى من آخر سكنى له في حانوت مركباً بمال معلوم، وقد أجبره بائع السكنى أن آجره هذا الحانوت بسنة، فإذا ظهر أن أجرته عشرة ليس له أن يرد على البائع، وإن لم يسلم له شرطه؛ لأنه إنما لم يسلم له شرطه في غير المشتري، قال: وللمالك أن يكلف المشتري رفع السكنى، وإن كان على المشتري ضرر؛ لأنه شغل ملكه. قال محمد رحمه في «الأصل» : إذا اشترى الرجل من آخر طعاماً بطعام أو بغيره مما يكال أو يوزن، واشترط عليه أن يؤمن إياه في منزله، أو شرط عليه أن يحمله إلى منزله فهذا على وجهين: إما إن اشتراه في المصر أو خارج المصر، وقد اشتراه بمثله من جنسه، أو بخلاف جنسه، وفيما إذا شرط عليه الحمل إلى منزله، فإن البيع يفسد اشتراه في المصر أو خارج المصر اشتراه بجنسه وبخلاف جنسه؛ لأنه شرط في البيع ما لا يقتضيه البيع؛ لأن حمل البائع المبيع إلى منزل المشتري ليس من قضايا البيع. ألا ترى أن بدون الشرط لا يوجب على البائع الحمل إلى منزل المشتري؟ وإنما يجب عليه التسليم في مكان العقد إذا كان المبيع فيه. فهو معنى قولنا: إنه شرط ما لا يقتضيه العقد، وللمشتري فيه منفعة، ومثل هذا الشرط يوجب فساد البيع، وإن شرط الإيفاء في منزله أن اشتراه خارج المصر، ومنزله في المصر، فالعقد فاسد سواء اشتراه بجنسه أو بخلاف جنسه؛ لأنه شرط في البيع ما لا يقتضيه البيع؛ لأن البيع يقتضي التسليم في مكان المبيع إذا كان المبيع فيه، ومتى كان العقد خارج المصر لا يكون منزله في المصر مكان العقد في حق الإيفاء لا حقيقة، وهذا ظاهر، ولا حكماً؛ لأن خارج المصر لم يجعل كمكان واحد في حق الإيفاء شرعاً. ألا ترى أن في باب السلم لو شرط الإيفاء في المصر، فأراد المسلم إليه أن يسلم خارج المصر ليس له ذلك، ولا يجبر رب السلم على القبول، فأما إذا اشتراه في المصر، وشرط الإيفاء في منزله في المصر، إن اشتراه بجنسه بأن اشتراه بحنطة، فإن العقد فاسد لقوله: عليه الحنطة بالحنطة مثلاً بمثل والفضل رباً فقد جعل الفضل على المماثلة من حيث الكيل رباً بلا فصل بين فضل وفضل، فهو على الكل وقد شرط المشتري فضلاً لنفسه وهو الإيفاء في منزله. فأما إذا اشتراه في المصر بخلاف جنسه وشرط الإيفاء في منزله، ومنزله في المصر، القياس: أن يكون البيع فاسداً، وبالقياس أخذ محمد رحمه الله. وفي الاستحسان: أن البيع جائز وبه أخذ أبو حنيفة وأبو يوسف. وجه القياس في ذلك: أنه شرط في العقد ما لا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين فيه منفعة، فيفسد العقد كما لو اشتراه خارج المصر، أو اشتراه في المصر بجنسه، أو شرط الحمل إلى منزله بيان العقد يقتضي تسليم البيع في مكان البيع إذا كان المبيع فيه

منزل المشتري ليس مكان العقد حقيقة، وهذا ظاهر، وكذلك حكماً؛ لأن خارج المنزل مع المنزل لم يجعل في حكم مكان واحد في حق الإيفاء شرعاً. ألا ترى أن باب السلم لو شرط الإيفاء في منزل رب السلم، فأراد المسلم إليه أن يسلم خارج المنزل ليس له ذلك، فكان اشتراط الإيفاء في منزله اشتراط الإيفاء في غير مكان العقد والعقد لا يقتضيه ذلك. وجه الاستحسان: أن شرط في البيع ما يقتضيه البيع؛ لأن شرط الإيفاء في مكان البيع والمصر مع اختلاف أماكنها جعل كمكان واحد في حق الإيفاء، أصله مسألة السلم، فإن في باب السلم إذا شرط الإيفاء في المصر جاز، وإن لم يبين محله من المصر، وهذا تبين لك أن المصر كله جعل كمكان واحد في حق الإيفاء، واذا صار هكذا صار منزله مكان العقد حكماً في حق الإيفاء، واشتراط الإيفاء في مكان العقد مما يقتضيه العقد، وأما إذا شرط الحمل إلى منزله، فهناك شرط ما لا يقتضيه العقد؛ لأن العقد لا يوجب الحمل إلى منزل المشتري. وأما إذا اشترى خارج المصر هناك شرط ما لا يقتضيه العقد؛ لأنه الإيفاء في غير مكان العقد على ما مر، وأما إذا اشتراه بجنسه قلنا: هناك شرط ما لا يقتضيه العقد؛ لأن منزله ليس مكان العقد في حق الإيفاء متى حصل الشراء بجنسه، وهذا لأن منزله مكان العقد في حق الإيفاء حكماً لا حقيقة؛ لأن العقد لم يوجد في منزله حقيقة فاعتبرنا مكان العقد في حق الإيفاء متى حصل الشراء بخلاف الجنس عملاً بالحكم، ولا يعتبر مكان العقد في حق الإيفاء متى حصل الشراء بالجنس عملاً بالحقيقة، وإنا فعلنا هكذا؛ لأنا لو عملنا بالحقيقة متى حصل الشراء بالجنس وبينا الربا يلزمنا العمل بالحقيقة متى حصل الشراء بخلاف الجنس؛ لأن اختلاف الجنس أنفى للربا من اتفاق الجنس، فحينئذ يتعطل العمل بالشبهين فعملنا على الوجه الذي قلنا ليمكننا العمل بالشبهين. وفي «الزيادات» : إذا اشترى وقر حطب في المصر، فعلى البائع أن يأتي به إلى منزله للمشتري، ولو هلك في الطريق يهلك من مال البائع، وإنما يجب على البائع ذلك؛ لأن الإتيان به إلى منزل المشتري مشروط عرفاً، ولكن يجعل المشتري شارطاً الإيفاء في منزله لا شارطاً الحمل؛ لأن شرط الحمل يفسد العقد، وشرط الإيفاء لا يفسد العقد عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وفي «فتاوى أبي الليث» : رحمه الله أن التفاوت بين لفظة الحمل والإيفاء في العربية، فأما في الفارسية فلا تفاوت ففي كل موضع جاز شرط الإيفاء بالعربية يجوز شرطهما بالفارسية، ولو اشترى حطباً في قرية من رجل شراءً صحيحاً، وقال: موصولاً بالشراء من غير شرطه في الشراء: احمله إلى منزلي لا يفسد العقد؛ لأن هذا ليس بشرط في البيع بل هو كلام ابتداءً بعد تمام البيع، فلا يوجب فساد البيع. في «فتاوي أهل سمرقند» : إذا اشترى حصانه حرف على أن يحرزه البائع جاز؛ لأنه عمل الناس، وكذا اشترى من خلقائي ثوب، وبه خرق على أن يخيطه، ويجعل عليه

الرقعة (62ب3) لما ذكرنا، وإذا اشترى من كرباسي كرباساً على أن يقطعه قميصاً، أو يخيطه لا يجوز؛ لأنه لا يعامل في هذا، وإذا اشترى داراً، وشرط مع الدار الفناء ذكر في «الواقعات» أن البيع فاسدٌ؛ لأن الفناء لا يصير مملوكاً للمشتري، فكان هذا شرطاً فاسداً في بيع الدار. وفي «بيوع المنتقى» : إذا باع الرجل داراً وكتب بحقوقها وقفاً بها قال أبو حنيفة: العقد فاسد، قال ابن سماعة: إن البيع جائز، قال: وليس هذا عندنا على معنى التمليك منه للفناء، وقد علم الناس لا يبيعه الرجل من داره. نوع آخر في شرط الأجل إذا شرط الأجل في المبيع.... المواضع أجمع لكونه مغيراً لمقتضى العقد، وإنما جوزناه تيسيراً للأمر على الناس، وتخفيفاً عليهم ليكتب من له الأجل في مدة الأجل، فيؤدي عند محل الأجل، وهذا المعنى يتحقق في الديون لا الأعيان، فبقي الأجل في الأعيان على أصل القياس، وإنما كان الأجل المجهول في الدين مفسداً للعقد؛ لأن الجهالة في الأجل يفضي إلى منازعة مانعة من التسليم والتسلم، ومثل هذه الجهالة تفسد العقد، والأجل المجهول أن يبيع إلى الحصاد والدياس؛ لأن وقت الحصاد والدياس يتقدم في البلدان، ويتأخر في البعض، فالبائع يطالب المشتري بالثمن محتجاً عليه بدخول وقت الحصاد في بعض المواضع، والمشتري يمتنع عن الأداء محتجاً بعدم دخول وقت الحصاد في بعض المواضع فيتنازعان، وكذا إذا باعه إلى وقت قدوم الحاج؛ لأن قدوم الحاج قد يتقدم وقد يتأخر؛ لأن ذلك فعلهم. وكذلك إذا باعه إلى وقت خروج العطاء؛ لأن خروج العطاء قد يتقدم وقد يتأخر، وما روت عائشة رضي الله عنها: أنها كانت تخير إلى خروج العطاء، فتأويله عندنا أن الخلفاء في زمانها كانوا لا يخلفون الميعاد، فكان لا يتقدم خروج العطاء ولا يتأخر حتى أن في زماننا لو لم يتقدم ولم يتأخر نقول بالجواز أيضاً. وكذلك إذا باع إلى صوم النصارى؛ لأن صومهم قد يتقدم وقد يتأخر، فإن كانوا دخلوا في الصوم، فباع إلى فطرهم جاز؛ لأنه لما عرف ابتداء وقت الصوم ومدته معلوم صار الأجل معلوماً، وهذا كله إذا حصل البيع إلى هذه الآجال، أما إذا باشر البيع مطلقاً، ثم أن البائع أجل المشتري في الثمن إلى هذه الآجال صح التأجيل رواه ابن سماعة عن محمد رحمه الله، فصار نصاً، وهذا لأن الأجل إذا لم يكن مشروطاً في البيع لا يكون من نفس البيع، وكان تأثير الأجل في تأخير المطالبة إلى هذه الآجال، وتأخير المطالبة إلى هذه الآجال صحيحة في الكفالة، وإن أجله إلى شهر الريح فهو باطل، وإن قال في رجب: أجلتك إلى رجب القابل، وإن قال: إلى انسلاخه قال: انسلاخ هذا الرجب.

ثم في باب البيع من له الأجل إذا أسقط الأجل قبل دخول وقت الحصاد والدياس انقلب العقد جائزاً استحساناً عند علمائنا الثلاثة خلافاً لزفر والشافعي، وعلى هذا الاختلاف إذا باع بشرط الخيار إلى الأبد حتى فسد العقد بلا خلاف، ثم إن من له الخيار أسقط الخيار قبل مضي الثلاث ينقلب العقد جائزاً عند أبي حنيفة، وعندهما في أي وقت أسقط الخيار ينقلب العقد جائزاً، وعلى هذا إذا باع بشرط الخيار أربعة أيام حتى فسد العقد عند أبي حنيفة، ثم إن من له الخيار أسقط الخيار قبل مضي الثلاث ينقلب العقد جائزاً، واختلفت عبارة المشايخ في جنس هذه المسائل. فعبارة أهل العراق أن العقد فاسد، ويرتفع الفساد بحذف الشرط، ويرفع المفسد، وعبارة أهل خراسان أن العقد موقوف، فإذا مضى جزء من اليوم الرابع في مسألة الخيار، أو دخل وقت الحصاد في بعض البلدان يفسد، وذكر أبو الحسن الكرخي نصاً عن أبي حنيفة في مسألة الخيار أن البيع موقوف على إجازة المشتري في المدة، وأثبت للبائع حق الفسخ قبل الإجازة، ومعنى هذا أن الخيار للمشتري، فيكون ولاية الإلزام له، ولكن لما كان العقد موقوفاً يتمكن البائع من الفسخ؛ لأن كل واحد من المتبايعين يتمكن في فسخ العقد الموقوف. وأجمعوا ما إذا باع بألف ورطل من خمر، أو باع إلى أن يهب الريح، أو إلى أن تمطر السماء، ثم إن من له الخمر، ومن له الأجل إلى سقط الخمر والأجل لا ينقلب العقد جائزاً، هذا هو المذكور في عامة النسخ، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» في باب البيوع: إذا كان فيها شرط أنه إذا باع بألف ورطل من خمر، ثم اتفقا على إسقاط الخمر أن العقد ينقلب جائزاً، ولكن لا ينفرد أحدهما بالإسقاط بل يشترط اتفاقهما على الإسقاط وفي البيع إلى أجل مجهول ينفرد من له الأجل بالإسقاط. ومن جملة الآجال المجهول أن يبيع إلى النيروز والمهرجان، وقد ذكر محمد رحمه الله مسألة النيروز والمهرجان في «الجامع الصغير» : وأجاب بالفساد مطلقاً. وذكر في «الأصل» : وقال: إن كان لا يعرف بأن كان يتقدم ويتأخر لا يجوز كما في الحصاد والدياس، وإن كان معروفاً بالأيام بحيث لا يتقدم ولا يتأخر يجوز، وقد ذكر الكرخي في كتابه قريباً مما ذكر في «الأصل» : فإنه قيد الجواب بالفساد بما إذا كان المتعاقدان لا يعرفان، وفيه وله أحدهما، والصحيح من الجواب في هذه المسألة: أنهما إذا لم يبينا نيروز المجوس أو نيروز السلطان، فالعقد فاسد، وإذا بينا أحدهما وكانا يعرفان وفيه لا يفسد العقد، والبيع إلى الميلاد، فالبيع فاسد، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : فإن كان المراد ميلاد البهائم، فالجواب على ما أطلق في الكتاب؛ لأنه مما يتقدم ويتأخر، وإن كان المراد ميلاد عيسى عليه السلام، فما ذكر من الجواب محمول على ما إذا لم يعرفا. وفيه: إذا باع من آخر شيئاً بألف درهم، وهما ببخارى على أن يوفيه الثمن بسمرقند مثلاً لا يجوز، ولو باعه بألف درهم إلى شهر على أن يوفيه الثمن بسمرقند يجوز سواء كان الثمن شيئاً له حمل ومؤونة أو كان شيئاً لا حمل له ولا مؤونة.

ولو استقرض من آخر ألف درهم ببخارى على أن يوفيه مثلها بسمرقند، أو استقرض من آخر ألف درهم ببخارى إلى شهر على أن يوفيه مثلها بسمرقند لا يجوز، فقد فرق بين الاستقراض وبين البيع فيما إذا شرط مع بيان مكان الإيفاء أجلاً معلوماً. والفرق: أن الأجل في القرض لا صحة له، معلوماً كان الأجل أو مجهولاً، فصار ذكر الأجل وعدمه بمنزلة، ولو لم يشترط الأجل في القرض، وشرط أن يوفيه بسمرقند لا يجوز؛ لأنه قرض جر منفعة، وفي باب البيع الأجل المعلوم صحيح، وبيان مكان الإيفاء مع الأجل لا يفسد العقد. والفقه: أنه إذا ذكر أجلاً معلوماً مع بيان مكان الإيفاء لا يكون شرط الإيفاء في ذلك المكان على وجه التأجيل، وإنما يكون تخصيص القبض بذلك المكان، فلا يفسد العقد، وأما إذا لم يذكر مع بيان مكان الإيفاء أجلاً معلوماً كان ذكر بيان الإيفاء على وجه التأجيل، وإنه يفسد العقد؛ لأنه أجل مجهول؛ لأنه لا يدري في أي قدر من المدة يأتي سمرقند، فيكون أجلاً مجهولاً، ثم إذا صح العقد مع الأجل المعلوم، وحل الأجل، فإن كان الثمن شيئاً له حمل ومؤونة لا يطالبه إلا في مكان الإيفاء باتفاق الروايات. وإن كان الثمن شيئاً له حمل ومؤونة، فعلى ما أشار إليه في بيوع «الأصل» وهو رواية الطحاوي عن أصحابنا لا يطالبه إلا في مكان الإيفاء، وعلى رواية كتاب الأجارات وكتاب الصرف يطالبه في أي مكان شاء، ويلغو شرط الإيفاء في ذلك المكان؛ لأنه إنما يراعي من الشرائط ما لا يفسد، ولا يفيد وتعيين مكان الإيفاء إذا لم يكن له حمل ومؤونة. فإن قيل: على رواية كتاب الأجارات (63أ3) وكتاب الصرف إذا لغى هذا الشرط إذا لم يكن للثمن حمل ومؤونة ينبغي أن يصح البيع إذا لم يشترط مع بيان مكان الإيفاء أجلاً معلوماً. قلنا: يجب بهذا الشرط شيئان تأخير المطالبة إلى أن يأتي سمرقند، وتعيين سمرقند مكان الإيفاء لا يفيد فيما ليس له حمل ومؤونة، فأما في أن يتأخر المطالبة إلى أن يأتي سمرقند مفيد، فإن من عليه ينتفع به، فيعتبر هذا الشرط في حق تأخير المطالبة إن لم يعتبر في حق تعيين مكان الإيفاء. وفي «القدوري» : إذا لم يذكر في الثمن أجلاً فسد العقد، وفي قول محمد رحمه الله، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف. وروي عن أبي يوسف رواية أخرى أن القياس أن يجوز العقد؛ لأن هذا الكلام عادة يذكر لتخصص القبض بمكان لا للتأجيل، فإذا أمكن الحمل على وجه الصحة لا يحمل على وجه الفساد، ولكنه استحسن فيما له حمل ومؤونة أن يفسد العقد؛ لأن الثمن لا يجب في غير ذلك المكان، فيعتبر في معنى التأجيل، فأما فيما ليس له حمل ومؤونة لا يفسد العقد؛ لأن فيما لا حمل له ولا مؤونة يطالبه حيث شاء، فلا يصير شرط التسليم في مكان معين في معنى التأجيل بل يلغو ذكر الشرط، ويصير كأنه أطلق العقد.

وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف: أن اشتراط إيفاء الدراهم في حق عقد البيع في بلد آخر لا حكم له إن كان له حمل ومؤونة، أو لم يكن، وله أن يأخذه بها إذا حل أجلها حيث تعين وللمطلوب أن يقتضيه حيث تعين، وإن كره ذلك الطالب، وإن لم يكن للمال أجل فهو سواء في القياس غير أني أستحسن إذا فسد البيع إذا كان له حمل ومؤونة للشرط الذي فيه من الحمل والمؤونة. وفي «مجموع النوازل» : رجل باع من آخر ثوباً بعينه ببغداد على أن يوفي المشتري الثمن أخ البائع بسمرقند، فالبيع فاسد؛ لأنه توهم اشتراط الثمن لغير البائع، وهو الأخ، واشتراط الثمن لغير البائع، أو على غير المشتري يوجب فساد البيع، وإن صورنا المسألة فيما إذا كان الثمن للبائع، والأخ وكيله بالقبض فالبيع فاسد أيضاً؛ لأن فيه أجلاً مجهولاً على نحو ما بينا. وفيه أيضاً: رجل باع عبداً بألف درهم على أن ينقده خمسمئة عند مضي شهر، فقال البائع: أنا أطلب منك جميع الثمن قال: البيع فاسد لجهالة الأجل؛ لأنه لا يدري ماذا يمكنه تسليم عند كل أسبوع؟ وفيه نظر؛ لأن هذا بمنزلة ما لو باع على أن نصف الثمن مؤجل إلى شهر، والنصف بعد ذلك جائز فهاهنا كذلك. وفي «المنتقى» : إذا باع عبداً على أن يؤدي ثمنه يوم القيامة، فقال المشتري: أودي الثمن في الحال جاز البيع. نوع آخر إذا باع من آخر شخصاً على أنها جارية، وأشار إليه، فإذا هو غلام فلا بيع بينهما، وهذا استحسان أخذ به علماؤنا رحمهم الله. والقياس: أن ينعقد البيع، ويكون للمشتري الخيار، الأصل في هذه المسالة وما يجانسها أن الإشارة مع التسمية وإذا اجتمعتا في العقد فوجد المشار إليه على خلاف المسمى إن كان الخلاف من حيث الجنس، فالبيع باطل حتى إن من باع من آخر فصاً على أنه ياقوت، فإذا هو زجاج كان البيع باطلاً؛ لأن المشار إليه من خلاف جنس المسمى؛ لأن الزجاج من خلاف جنس الياقوت، وإنما كان البيع باطلاً في هذه الصورة؛ لأن المشار إليه إذا كان من خلاف جنس المسمى، فالعقد يتعلق بالمسمى وتلغو الإشارة، فإذا كان المسمى معدوماً كان المبيع معدوماً، والبيع على المعدوم باطل، وإنما كانت العبرة بالتسمية في هذه الصورة إذ لا يتمكن العمل بالإشارة والتسمية معاً في هذه الصورة؛ لأن الإشارة توجب تعلق العقد بالمشار إليه، وهو الزجاج، والتسمية توجب تعلق العقد بالمسمى وهو الياقوت، والعقد الواحد لا يجوز أن يتعلق بالياقوت والزجاج بكل واحد منهما على الإنفراد في وقت واحد، فلابد من العمل بأحدهما، وإلغاء الأخرى، فنقول: العمل بالتسمية وإلغاء الإشارة أولى من العمل على العكس؛ لأن الإشارة مع التسمية إن استويا من حيث إن التسمية كما يقطع الشركة بين المسمى وغيره من خلاف الجنس، ومن حيث إن التسمية إن كانت تعرف الماهية، والإشارة لا تعرفها،

فالإشارة تقطع الشركة بين المشار إليه وغيره من جنسه، والتسمية لا تقطع الشركة بين المسمى وبين غيره من جنسه، فاستويا من هذا الوجه؛ إلا أن ما في التسمية من تعريف الماهية فوق ما في الاشارة من التعريف بقطع الشركة بين المشار إليه، وبين غيره من جنسه؛ لأن الماهية مقصودة لعينها. وقطع الشركة بين المشار إليه وبين غيره من جنسه مقصود لا مكان التسليم لا لعينه، ولا شك أن المقصود لعينه فوق المقصود لغيره، فترجحت التسمية على الإشارة من هذا الوجه، فوجب العمل بها دون الإشارة عند تعذر العمل بهما والتقريب ما ذكرنا. وإن كان المشار إليه من جنس المسمى إلا أنه يخالفه في الصفة، فالعقد جائز، وللمشتري الخيار إذا رآه كما لو اشترى فصاً على أنه ياقوت أحمر، فإذا هو ياقوت أصفر، فالبيع جاز، وللمشتري الخيار، إذا رآه؛ لأن المشار إليه إذا كان من جنس المسمى، فالعبرة للإشارة؛ لأن المسمى وجد في المشار إليه، وهو المقصود من التسمية وهو تعريف الماهية قد حصل؛ لأن المشار إليه ياقوت كالمسمى، فصار حق التسمية بعضاً بقيت الإشارة لتعيين الذات؛ لأن المسمى شائع في الجنس، والإشارة تعينه، فكان في الإشارة زيادة تعريف في هذه الصورة، فكانت العبرة للإشارة حال اتفاق الجنس، وتلغو التسمية، فكأنه أشار في البيع، ولم يسم، وهناك ينعقد على المشار إليه فهاهنا كذلك إلا أنه يثبت للمشتري الخيار؛ لأنه شرط له زيادة وصف في المشار إليه حيث قال: على أنه أحمر كأنه قال من الابتداء: بعتك هذا على أنه أحمر، فإذا وجده أصفر، فقد فات الوصف المذكور في المشار إليه، فلهذا كان له الخيار، وصار كما لو قال: بعتك هذا على أنه كاتب أو خباز، ولم يسم العبد فوجده غير كاتب، وغير خباز، وهناك يجوز العقد، ويكون للمشتري الخيار، وكذا هاهنا إذا ثبت هذا، جئنا إلى بيان مسألتنا، وأنها على القياس والاستحسان. وبيان وجه الاستحسان: أن الذكر مع الأنثى من بني آدم جنسان مختلفان؛ لأن اختلاف المجانسة بين الشيئين باختلاف الصورة، والمقصود في بني آدم مختلفة، وهذا ظاهر كذلك المقصود مختلف، فإن ما ينبغي من الذكر من الزراعة والجهاد لا ينبغي من الأنثى من الغزل والطبخ والاستفراش لا ينبغي من الذكر، وصار كالمروي مع الهروي، وكان كالزندنجي مع الوداري اعتبرا جنسين مختلفين لاختلاف الصورة والمقصود، وكذا هاهنا، وإذا ثبت أن الذكر مع الأنثى من بني آدم جنسان مختلفان يتعلق العقد بالمسمى، والمسمى معدوم فكان البيع باطلاً. ولو اشترى شاة على أنها نعجة، فإذا هي ضأن فالبيع جائز؛ لأن الذكر مع الأنثى في البهائم جنس واحد؛ لأن الصورة، وإن كانت مختلفة فالمعنى واحد؛ لأن ما ينبغي من الذكر من العمل والأكل ينبغي من الأنثى، وفي منفعة الولاد يشتركان والمقصود راجح على الصورة، فترجح ما يوجب اتحاد الجنس، فجعلنا الجنس واحداً، وقد ذكرنا أن في الجنس الواحد العبرة للإشارة كأنه أشار ولم يسم، وهناك ينعقد العقد كذا هاهنا، ثم ما

ذكرنا أن المشار إليه إذا كان من خلاف جنس المسمى، فالعقد يتعلق بالمسمى (63ب3) فذلك إذا لم يعلم المشتري والبائع أن المشار إليه من خلاف جنس المسمى، فأما إذا علما بذلك، فالعقد يتعلق بالمشار إليه. ألا ترى أن من قال لغيره: بعتك بعت منك هذا الحمار، وأشار إلى عبد قائم بينهما ينعقد العقد على العبد؟ وكذلك إذا قال لغيره: اشترِ لي بهذه الألف درهم جارية، وأشار إلى الدنانير وفي «الزيادات» ذكر مسألة الوكالة، وشرط لتعليق الوكالة بالمشار إليه، فعلم الوكيل والموكل بالمشار إليه، وعلم كل واحد منهما بعلم صاحبه بحال المشار إليه. ومن هذا الجنس لو باع داراً على أن بناءها آجر، فإذا هو لبن فالبيع باطل، الأغراض والمقاصد تتفاوت تفاوتاً فاحشاً فيلتحق بالجنس المختلف، فيتعلق العقد بالمسمى، والمسمى معدوم، ولو باع داراً على أن فيها بناء، فإذ لا بناء فيها فالبيع جائز، والمشتري بالخيار، ويأخذها بجميع الثمن إن شاء، وفي المسألة نوع إشكال، فإن انعدام الوصف أقوى من اختلاف الوصف، ثم اختلاف الوصف في المسألة الأولى منع انعقاد البيع، وعدم الوصف في المسألة الثانية لم يمنع. والوجه في ذلك: أن في المسألة الأولى بين الموجود والمذكور تفاوت فاحش في الأغراض، وباعتبار فحش التفاوت التحقا بالجنسين المختلفين، فلا يدخل الموجود تحت المذكور، فلو أوجبنا العقد في الموجود، فقد أوجبناه في غير ما تناوله الذكر، وإنه لا يجوز، فأما اسم الدار فيتناول العرصة بانفرادها أيضاً، فإذا انعدم البناء لو أوجبنا العقد في العرصة، فقد أوجبناه فيما تناوله الذكر، فلهذا افترقا، فهذا غاية ما قيل في الفرق بين المسألتين ولم يتضح لنا وجه. وذكر الخصاف: إذا اشترى داراً على أنها مبنية بالجص أو منتفعة بالساج، فكان بخلافه، أو كان معدوماً، فالبيع جائز، وكذا النخل على أنه دقل بخلاف الزرع على أنه حنطة، فإذا هو شعير، ولو باع جبة على أن ظهارتها كذا، وبطانتها كذا، أو حشوها كذا، فوجد الظهارة على ما شرط والبطانة والحشو على خلافه فالبيع جائز، ويتخير المشتري، وهذا لأن الجبة ينسب إلى ظهارتها ويعرف بها فهي الأصل، والبطانة والحشو تبع، فإذا وجد الظهارة على خلاف ما سمي جنساً كان المسمى معدوماً، فيقع العقد باطلاً، وإذا كانت الظهارة على وفاق ما سمي جنساً لم يكن المسمى منعدماً، فجاز أن ينعقد العقد. وروي أن الظهارة إذا كانت أقل قيمة مثل أن يكون البطانة وبراً أو سموراً، والظهارة من كرباس، أو ما أشبهه، أن العقد لا يبطل، وإذا باع قباء على أن بطانته هروي، فإذا هي مروي، فالبيع جائز، ويتخير المشتري؛ لأن البطانة تبع، فالاختلاف يوجب الخيار، ولا يمنع الانعقاد، وكذا إذا قال: على أن حشوه قز، فإذا هو قطن، ولو باع ثوباً على أنه مصبوغ بعصفر، فإذا هو مصبوغ بزعفران فالبيع باطل؛ لأن الأغراض تتفاوت بتفاوت اللون تفاوتاً فاحشاً، فاختلفتا كالجنس المختلف.

ذكر القدوري المسألة على هذا الوجه، وهكذا روى ابن سماعة عن محمد، وأشار محمد إلى العلة فقال: لأنه باع مافي الثوب من الصبغ كما باع الثوب وشرط ذلك الصبغ عصفر، وتبين أنه غيره وهو شيء قائم في الثوب. وفي «المنتقى» : إذا باع ثوباً على أنه مصبوغ بعصفر، فإذا هو أبيض فالبيع جائز، ويتخير المشتري إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك. في «البقالي» : وهذا بخلاف بيعه أبيض، فإذا هو مصبوغ حيث لايجوز. قال في «البقالي» : وكذلك شراء الدار على أن لا بناء فيها، فإذا فيها بناء يريد أن هذا وبيع الثوب على أنه أبيض، فإذا هو مصبوغ سواء حتى لايجوز، وإذا باع أرضاً على أن فيها نخيلاً وأشجاراً، فإذا ليس فيها نخيل وأشجار فالبيع جائز، ويتخير المشتري كما لو باع داراً على فيها بناء، فإذ لا بناء فيها، وإذا باع أرضاً بنخيلها وأشجارها فهذا وما لو باعها على أن فيها نخيلاً وأشجاراً سواء، وكذا إذا باع داراً بسفلها وعلوها، فإذ لا علو لها كان للمشتري الخيار؛ لأنه قال: بسفلها وعلوها، فكأنه قال: على أن لها علواً، وهناك للمشتري الخيار كذا هاهنا. وإذا قال: بعتك هذه الدار بأخداعها وأبوابها وخشبها، فإذا ليس فيها أخداع ولا أبواب ولا خشب فهو بالخيار، وإن كان فيها بابان أو خدعان، فلا خيار له؛ لأن اسم الجمع يتناول اثنين فصاعداً، فقد وجد أدنى ما ينطلق عليه الاسم أنه كاف لإسقاط الخيار، ولو كان فيه باب واحد وخدع واحد فله الخيار؛ لأن اسم الجمع لا ينطلق على الواحد. ولو قال: بعتكها بما فيها من الأخداع والأبواب والخشب والنخل، فلم يجد شيئاً من ذلك فلا خيار له؛ لأن في هذه الصورة لم يشترط هذه الأشياء في البيع، ولا جعلها صفة للبيع بل أخبر على وجودها فيه، وانعدام ما ليس بمشروط في البيع ولا صفة للمبيع لايوجب الخيار، أما في قوله: بأخداعها وأبوابها جعل هذه الأشياء صفة للدار، فالبيع يتناول الموصوف بصفة، فإذا لم يجده بتلك الصفة يثبت الخيار ضرورة هذه الجملة من «المنتقى» . وفيه أيضاً: إذا اشترى أرضاً على أن فيها كذا نخيلاً، أو اشترى داراً على أن فيها كذا بيتاً، أو اشترى سيفاً على أنه محلى بمئة درهم فضة، أو اشترى نعلاً على أنها مشركة بشراك، أو خاتماً على أن له فصاً من ياقوت، أو فصاً على أنه مركب في حلقة، فإذا لا نخيل ولا شراك ولا بيوت إلخ أفكانت هذه الأشياء كما شرطت، فاحترق النخيل، وانهدمت البيوت، وتلف الشراك وأشباه ذلك قبل القبض، فالمشتري بالخيار في هذه الصورة إن شاء أخذ الباقي بجميع الثمن، وإن شاء ترك إلا في خصلة، وهو ما إذا اشترى فصاً على أنه مركب في حلقة ذهب، فلم توجد الحلقة، فإن هذه الصورة للبيع فاسد؛ لأن

للحلقة حصة من الثمن، ولا يعرف الحصة أما فيما عدا ذلك، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك. والجملة في ذلك أن كل شيء يباع، ويدخل غيره في البيع تبعاً من غير ذكر ذلك الغير، فإذا بيع ذلك الشيء وشرط ذلك الغير معه في البيع، ووجد ذلك الشيء، ولم يوجد ذلك الغير، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ ذلك الشيء بجميع الثمن، وإن شاء ترك، بيانه في النخيل مع الأرض، فإن النخيل يدخل في البيع في بيع الأرض من غير ذكر تبعاً للأرض، فإذا شرط النخيل مع الأرض، ولم يوجد النخيل، فالمشتري يأخذ الأرض بجميع الثمن إن شاء، وكل شيء يباع ولا يدخل غيره في بيعه تبعاً له من غير ذكر، فإذا بيع ذلك الشيء، وشرط غيره معه في البيع، ولم يوجد ذلك الغير، فالمشتري يأخذ ذلك الشيء بحصته. وذلك نحو أن يشتري أرضاً فيها نخيل، وشرط الثمن مع النخيل، فإذا لا تمر في النخيل، أو كان فيها تمر إلا أنه هلك قبل القبض، فالمشتري يأخذ الأرض والنخيل بحصتها من الثمن وعن هذا قلنا: إذا اشترى أرضاً فيها زرع، وشرط الزرع، فاحترق الزرع قبل القبض، فالمشتري يأخذ الأرض بحصتها من الثمن. وإذا قال: بعتك هذا الثوب القز أو الخز فكان مختلطاً، فإن كان السدى ناشر مما شرط واللحمة من غيره، فالبيع باطل، وإن كانت اللحمة مما شرط فالبيع جائز، وتخير المشتري في فصل القز، وهذا لأن الثوب إنما يصير ثوباً بتركيب اللحمة بالسدى واللحمة آخرهما، فيضاف الثوب إلى اللحمة على خلاف المشروط كان المسمى معدوماً، فلا يصح العقد، فأما إذا كانت اللحمة من جنس المسمى كان المسمى موجوداً، ولكن اختلفت الصفة (64أ3) فانعقد البيع لوجود المسمى وثبت الخيار لفوات الصفة، وفي الخز لا خيار للمشتري إذا كانت اللحمة خزاً، والسدى من غيره؛ لأن الخز لا يوجد إلا بهذه الصفة. قال بشر: سألت أبا يوسف: عن رجل اشترى من آخر ثوباً على أنه كتان، فإذا ثلثه قطن فله أن يرده، وإن قطعه لم يرجع بشيء، ولو كان أكثره قطناً فالبيع فاسد، وإذا اشترى عبداً على أنه فحل، فإذا هو خصي، فللمشتري أن يرده، وإذا اشتراه على أنه خصي، فإذا هو فحل روى الحسن ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا خيار له قال: وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: الخصى في العبد عيب، فإذا شرط فإنما يبرأ عن العيب، وقال أبو يوسف الخصى في ثمنه أفضل من الفحل لرغبة الناس فيهم؛ لأنهم لا يمتنعون عن دخولهم كما يمتنعون عن دخول الفحل، قال: وهو في القيمة زيادة. ولو اشتري على أنه فحل، فإذا هو خصي، وقد مات عند المشتري، أو حدث به عيب عنده، وقد اشتراه بعشرة آلاف درهم، وقيمته خصياً ثلاثة آلاف درهم، وقيمته فحلاً ألف درهم، قال محمد رحمه الله: في قياس أبي حنيفة وأبي يوسف: لا يلزمه شيء؛

لأن الخصي هاهنا أفضل قيمة من الفحل، وقال محمد: إن شاء البائع أعطاه قيمته خصياً ثلاثة آلاف درهم، وأخذ منه عشرة آلاف درهم الثمن، معناه إن رضي البائع أن يأخذ من المشتري قيمته خصياً ثلاثة آلاف درهم أعطاه المشتري ثلاثة آلاف درهم، وهذا لأن العبد لو كان قائماً كان للمشتري أن يرده على البائع، ويسترد منه الثمن، فإذا كان هالكاً رد قيمته ليكون رد للعبد معنىً غير أنه يشترط رضى البائع؛ لأن البيع ورد على صورة العبد بمعناه وتعذر رد الصورة. وفي «نوادر بشر عن أبي يوسف» : إذا اشترى سفينة على أنها من ساج، فإذا فيها غير الساج، قال: إن كان شيئاً لا بد من أن يكون، فلا خيار له وهو بجميع الثمن، يريد بهذا: أنه إذا استعمل فيها شيء من غير الساج لا يصلح ذلك الشيء إلا من غير الساج، ولو كان كل السفينة غير الساج فلا بيع بينهما. وروى بشر عن أبي يوسف أيضاً: في رجل قال لغيره: بكم هذا الثوب الهروي والثوب مصبوغ صبغ الهروي؟ فقال: بكذا فبايعه، قال أبو حنيفة: هو مثل الشرط أنه هروي، وهو قول أبي يوسف، يريد بهذا أنه لو تبين أنه مروي كان البيع باطلاً قال أبو يوسف: ألا ترى أنه لو قال لغيره: بكم هذا الغلام، وهو مشكل فبايعه، فإذا هو جارية أنه لا يقع بينهما بيع، وعن شريح أنه لم يجعله شرطاً. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى من آخر سمكة على أنها عشرة أرطال وزنها على المشتري، فوجد في بطنها حجراً وزنه ثلاثة أرطال ونحو ذلك، والسمكة على حالها، فالمشتري بالخيار، إن شاء أخذها بجميع الثمن، وإن شاء ترك، وإن كان قد شواها قبل أن يعلم بذلك، فإني أقوم السمكة على أنها عشرة أرطال وأقومها وهي سبعة أرطال، فيجمع بحصته ما بينهما من الثمن، فقد اعتبر محمد نقصان الوزن في السمكة بالعيب حتى قال: يقوم السمكة عشرة أرطال، ويقوم سبعة أرطال وهذا هو ذات العيب، ولم يعتبر نقصان العيب بنفسه إذ لو اعتبر ذلك لقال: يرجع بثلاثة أعشار الثمن، وعن أبي يوسف أنه قال في هذه الصورة: المشتري لا يرجع على البائع بشيء وإن وجد في بطنها طيباً أو ما أشبهه ذلك مما يأكل السمك، فإن ذلك مما يأكل السمك لزمه البيع، ولا خيار. وقال محمد فيمن اشترى طشتاً على أنه عشرة أمناء فقبضه، فإذا هو خمسة أمناء فهو بالخيار، وإن شاء أمسكه بجميع الثمن، وإن شاء ترك، قال: وهذا بمنزلة العيب، وإن كان حدث بها عيب عند المشتري، وأبى البائع قبوله لأجل العيب، فإنه ينظر إلى الطشت، فإن كان قيمة الطشت على عشرة أمناء عشرون، والعيب ينقصه على قيمة خمسة أمناء درهم، فإنه يرجع على البائع بنصف الثمن لنقصان الوزن، ويرجع أيضاً بعشر الثمن لأجل العيب، وذلك درهم؛ لأن العيب قد ينقصه درهماً. وإذا قال لغيره: أبيعك هذا الزق وهذا الزيت الذي فيه على أن الزق خمسون رطلاً، وعلى أن الزيت خمسون رطلاً كل رطل منها درهم، فوجد الزق ستين رطلاً،

والزيت أربعين رطلاً، فإن الثمن ينقسم على قيمة الزيت، وعلى قيمة الزق، ثم يزاد على الثمن حصة العشرة الآرطال التي وجدها ناقصة عن الزيت، ثم يقال له: إن شئت فخذ وإن شئت فدع؛ لأن الزق قد وقع البيع على جميعه. قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى مسكاً وزناً، فوجد فيها رصاصاً، فهو بالخيار إن شاء رد الرصاص وحط عن الثمن بقدر وزن الرصاص، وإن شاء ترك، وإذا اشترى سمناً وزناً، فوجد فيه زبأ، قال محمد: إذا كان زبأ يوجد مثله في السمن، ولا يعد عيباً لزمه بجميع الثمن، وإن كان يعد عيباً، فإن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك، وإن كان زبأ لا يكون مثله في السمن، فإن شاء أخذ بحصته، وإن شاء ترك. وهو نظير ما قال محمد رحمه الله في الثمار التي في السلال، وفي أسفلها الحشيش: إن الحشيش إذا كان قدر ما يوضع في مثله أنه لاخيار له، وقال أبو حنيفة رحمه الله: في الزيت يبيعه الرجل، فيجد فيه المشتري الطين، أو المسك يبيعه الرجل، فيجد فيه المشتري رصاصاً إن المشتري بالخيار إن شاء أخذه، وإن شاء رده، وقال ابن أبي ليلى: يرد الرصاص والطين وما أشبه ذلك بحسابه، وكذلك قال أبو يوسف في الرصاص والطين؛ لأن الرصاص ليس من المسك، والطين ليس من الزيت، فيردهما وأمثالهما بالحساب، وأما السمن يبيعه الرجل فيجد فيه زبأ يكون ذلك عيباً فيه، فهو بالخيار إن شاء أخذ، وإن شاء ترك؛ لأن هذا منه، وكذلك العود يشتريه الرجل على أنه هندي، فإذا هو غير هندي، قال: ولا أنظر في هذا إلى اليسير منه، وإنما أضع هذا على الكثير، فإذا كان في الكثير لايجب عليه أن يرده لم أمض عليه ذلك في اليسير. وفي «الإملاء» عن محمد: إذا باع الفص دون الفضة وقلعه يضر بالفص دون الفضة أو يضر بهما، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ الفص بحصته من الثمن على قيمته غير ناقص وعلى قيمته ناقصاً لم يبطل عن المشتري حصة النقصان من الثمن، ويكون المشتري بالخيار إن شاء أخذ الفص بما بقي من الثمن، وإن شاء ترك، قال: ولا يشبه هذا شراء الفص والفضة جميعاً إذا صار قلع أحدهما يضر بالآخر، أو يضر بهما؛ لأن ذلك صرف إذا بطل بعضه بطل كله، والأول ليس بصرف إنما باعه الفص وحده، وإنما بطل البيع فيه بالضرورة، فإذا اندفعت الضرورة، أو رضي صاحبها جاز البيع. قال: ألا ترى أن رجلاً لو اشترى من رجل خشبة في حائط يضر قلعها بالبائع إن يقلعها، وإن يبطل البيع، فإن لم يبطله حتى قلع البائع الخشبة سلمت الخشبة للمشتري إلا أن يكون القلع ينقصها ويضر بها، فيكون المشتري بالخيار على ما وصفت لك بالقبض في الفص. إذا اشترى كفرى فصار تمراً قبل أن يقتضيه، أو اشترى بيضاً فخرج هاهنا فرخ قبل القبض، فهو بالخيار. قال رحمه الله: إذا قال للقصاب: زن لي من هذا اللحم ثلاثة أرطال بكذا، فقطعه ووزنه فللمشتري الخيار؛ لأن هذا ليس بشيء معلوم ومعناه أن موضع اللحم يتفاوت،

فكان أن لايرضى بهذا، وإن قال: زن لي من هذا الجنب، أو من هذه الرجل ثلاثة أرطال بكذا، فوزن له منه، فلا خيار له؛ لأن اللحم من موضع معين من الشاة قلما يتفاوت، فهو بمنزلة ما لو اشترى قفيزاً من صبرة. ولو قال: زن لي ما عندك من هذا اللحم على (64ب3) حساب ثلاثة آرطال بدرهم، فهو جائز، ولا خيار له قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: ذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف في هذه المسالة مثل ما قال محمد. وفي «نوادر هشام» : عن محمد: رجل اشترى من آخر جراب ثياب هروي أو غيرها، أو اشترى قوصرة تمر فلم يقبضها حتى عمد البائع، وأخرج الثياب من الجراب، وأخرج التمر من القوصرة، ثم باع الجراب أو القوصرة، وترك التمر أو الثياب، أو لم يبع الجراب والقوصرة، ولكنه انتفع بها قال: المتاع والتمر لازم للمشتري وليس له أن يمتنع عن الثياب والتمر لمكان الجراب والقوصرة. اشترى جارية بكراً ولم يسم البائع أنها بكر، فزالت بكارتها في يد البائع، فللمشتري الخيار، وقد ذكرنا وجه ذلك في فصل الخبازة. وإذا اشترى من آخر رمان على أنها حامضة، فقال بعد الشراء من غير أن يكسرها: إنها حلوة وقال البائع: إنها حامضة، فالقول قول البائع؛ لأن الرمانة قد يكون حلوة وقد يكون حامضة، وروي في الحلو بخلاف هذا، فقد روي أن من اشترى من أخر رمانة على أنها حلوة، ثم اختلفا فيه، فالقول قول المشتري، وعلى البائع أن يوفيه شرطه، والمسألتان في بيوع «المنتقى» . إبراهيم عن محمد: إذا اشترى من آخر من بر، فإذا فيه وكان عظيم أو باع بئراً من بر وقال: إنه كذا كذا ذراعاً، فإذا هو أقل من ذلك، وقد أكل بعض البر، فنقول: حكم المسألة قبل أكل شيء من البر أن المشتري بالخيار، وإن شاء أخذ بجميع الثمن وإن شاء ترك، وبعد أكل شيء من البر للمشتري أن يرد الباقي ومثل ما أكل، ويرجع بجميع الثمن، وروي هشام عن أبي يوسف مثل ماروي إبراهيم عن محمد. قال: ولو كان طعاماً في قفيز أو في حب، فباعه بعشرة دراهم، فإذا نصفه بين قال: يأخذه بالثمن وأشار إلى الفرق، فقال: لأن القفيز والحب وما يكال بهما، ألا ترى لو قال: بعت منك ملاء هذا القفيز أو ملاء هذا الحب يجوز والبيت والبئر ما يكال بهما ولا يشتري بهما. وإذا باع داراً على أنها ألف ذراع فكانت تسعمائة، فباعها المشتري قال: إن لم يرجع على الأول فالأول لا يرجع على صاحبها، وإن رجع الآخر عليه رجع هو أيضاً. قيل: يجب أن يكون تأويل المسألة: أن المشتري باعها قبل أن يعلم أنها تسعمائة، أما لو علم أنها تسعمائة وباعها كذلك، فلا رجوع له على صاحبه، وإن رجع المشتري الآخر عليه. وعلى هذا إذا اشترى طشتاً أو ملئها، اشترى حبة لؤلؤة وشرط لها وزناً وتقابضا،

ثم وجدها ناقصة وقد استهلكها، قال: لا يرجع عليها بشيء في قياس قول أبي حنيفة، ولكنه استقبح ذلك قياسه فيه؛ لأن نقصان اللؤلؤة يحط من الثمن شيئاً كثيراً، وجعل له أن يرجع بالنقصان. إذا اشترى بستاناً فيه نخل وشجر وشرط له أنه عشرة أجربة وقبضه بغير مساحة، وأكل ثمره سنين، ثم وجد تسعة أجربة لم يرد، ولم يرجع الباقى في قياس قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يقوم هذا الجرب الناقص أرضاً بيضاء مثل بقية أرض البستان، ويقوم النخل والتمر والشجر، ثم يقسم الثمن على ذلك، فما أصاب الجريب الناقص من الثمن رجع به هكذا ذكر في «المنتقى» ، وذكر بعد هذا عن أبي يوسف ما يدل على أن الجريب الناقص من الثمن رجع به هكذا ذكر في «المنتقى» ، وذكر بعد هذا عن أبي يوسف ما يدل على أن الجريب الناقص يقوم مراحاً ولا يغير النخل والشجر في التقويم، روي عن أبي يوسف مثل قول أبي حنيفة أيضاً: أنه لا يرجع بشيء، وذكر بعد هذا محمد فيمن اشترى أرضاً فيها نخل وكرم على أنها عشرة أجربة، وأكل ثمرها سنين، ثم تبين أنها خمسة أجربة قال: يقوم هذه الأرض وهي خمسة أجربة بكم تساوي، ولو كانت عشرة أجربة في مثل حالها بكم تساوي، فيرجع بفضل ما بينهما.m وإذا اشترى أرضاً بزرعها، فحصد المشتري الزرع، ثم وجد الأرض انقص جراباً مما اشترى أنه يرد الأرض بحصتها. رجل معه قفيزان من حنطة في زنبيل، فباع قفيزاً من رجل بدرهم، ولم يبقض حتى باع من آخر قفيزاً منه بدرهم، ثم هلك أحد القفيزين، فالمشتريان بالخيار إن شاء أخذ كل واحد منهما نصف القفيز الباقي بنصف الثمن، وإن شاء ترك أحدهما حصته، فإن أراد الآخر أن يأخذ القفيز كله بدرهم، فليس له ذلك إلا إن شاء البائع من قبل أنه كان وجب للثاني قيمة نصفه، فإن قبض المشتري الآخر قفيزاً، أو لم يقبض الأول شيئاً، يريد به إذا لم يهلك أحد القفيزين، ثم إن المشتري الآخر رد ذلك القفيز على البائع بعيب بقضاء قاضي، فليس للمشتري الأول في القفيز المردود شيء إنما له أن يأخذ القفيز الثاني، أو يترك، فإن خلط البائع أحد القفيزين بالآخر انتقض بيع الأول من قبل أن البيع صار له في الباقي، وقد صار البائع له مستهلكاً حين خلطه بغيره، وإن لم يخلطه البائع، وقد كان قد رد عليه بعيب بقضاء قاضي، وليس بالقفيز الباقي عيب، فأراد المشتري الأول أن يأخذ القفيز الباقي دون المردود، فأبى البائع إلا أن يأخذ نصف كل واحد منهما، فذلك للبائع من قبل أن القاضي يقضي البيع فيه. فصار بمنزلة ما لم يبع، فلو هلك القفيز الباقي عنده، وبقي المردود الذي به عيب، فأراد المشتري الأول تركه، فذلك له من قبل أن الهالك لم يكن به عيب، وإن أراد أخذه كله فله ذلك، وإن شاء أن يأخذ نصفه فعل، ولو كان القفيز الهالك هو المردود الذي به عيب، والقفيز الباقي هو الأول الذي لم يكن به عيب، فللمشتري أن يأخذ نصفه، وليس له أن يأخذ كله، وإن سلم البائع كله فللمشتري أن يمتنع.

رجل عنده كر حنطة، فباع نصفه من رجل، ثم باع النصف الباقي من رجل، ثم قبض الأول منه مختوماً، ثم هلك نصفه وبقي نصفه، فالمختوم الذي قبض الأول له إن شاء، ويأخذ مما بقي بحصة ذلك، والآخر بحصة ما بقي يضرب فيه الأول بنصف كر المختوم ويضرب الآخر بنصف كر، ولا بيع شركة للثاني في المختوم الذي قبضه الأول. الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: رجل اشترى من آخر جارية على أنها عذراء، وقبضها وماتت في يده، ثم علم أنها لم تكن عذراء لا يرجع على البائع بشيء سواء كان ذلك ينقصها أو لا ينقصها، وذكر ابن أبي مالك عن أبي يوسف: أنه يرجع بقدر نقصانها. الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أيضاً: رجل اشترى من آخر داراً على ألف ذراع بألف درهم، فوجدها تنقص قال: له أن يردها، فإن كانت قد انهدمت في يده، أو باعها، ثم علم أنها تنقص لم يرجع بشيء من النقصان، وذكر ابن أبي مالك عن أبي يوسف: أنه يرجع بالنقصان، فيقوم الدار على ما فيها من البناء، ويقوم الذراع الناقص على قيمة مراحاً. اشترى أرضاً بحقوقها أو بشربها وللبائع أراضي مثلها، فإنه يقسم الشرب بينهم بالحصص، وإن لم تكف هذه الأرض ما يصيبها، فللمشتري الخيار إن شاء أخذ هكذا ذكر في «المنتقى» . وفيه أيضاً: إذا اشترى من آخر حنطة واكتال بعضه، فرأى في البقية اختلاط وليس بعيب إلا أنه (65أ3) ينقص ذلك من الثمن قال أبو يوسف: هو بالخيار إن شاء أخذه، وإن شاء تركه، فإن استهلك منها شيء لم يكن له أن يرد. وفي «فتاوي أبي الليث» رحمه الله: إذا اشترى خمسمئة قفيز حنطة، فوجد فيها تراباً، فإن كان التراب مثل ما يكون في الحنطة ولا يعده الناس عيباً ليس له أن يرد ولا يرجع بنقصان العيب، وإن كان التراب مثل ما لا يكون في الحنطة، ويعده الناس عيباً كان له أن يرد كل الحنطة مع التراب، فإن ميز التراب عن الحنطة فإن أمكنه أن يرد كلها على البائع بذلك الكيل لو خلط البعض بالبعض فله الرد، وإن كان لا يمكنه ذلك انتقص بالتنقية ليس له الرد، وكذا الجواب فيما كان نظير الحنطة. وقال أبو يوسف رحمه الله: في رجل اشترى من آخر ثوباً، ثم جاء يرده وقال: اشتريت على أنه هروي وليس بهروي وقال البائع: لم أشترط شيئاً، فالقول قول البائع؛ لأن المشتري قد أقر بالبيع، فلا يصدق على ما يرد به البيع. وكذلك لو اشترى دهناً في إناءٍ بعينه، ثم جاء يرده، وقال: اشتريته على أنه جري وهو ينفسخ، وقال البائع: لم أشترط شيئاً، فالقول قول البائع، ولو قال: اشتريت على

أنه عشرة أذرع كل ذراع بدرهم، وقال البائع: لم أشترط شيئاً، وإنما بعتك كما هو، فإنهما يتحالفان. رجل اشترى طعاماً على أنه كر فمات المشتري قبل أن يكتاله فاكتاله الوارث فنقص قال: الورثة بالخيار إن شاءوا أخذوه، وإن شاءوا تركوه، قال أبو العباس: وروي عن محمد: أن الوارث بالخيار إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك. رجل اشترى أرضاً بشربها، فإذ لا شرب لها، فأراد المشتري أن يأخذ الأرض بحصتها، ويرجع على البائع بحصة الشرب من الثمن، فإن له ذلك، وإذا باع شجرة بأصلها وفي قلعها ضرر على البائع، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ ما فوق الأرض منها بقيمته، وإن شاء ترك. وعن محمد أنه قال: للبائع أن لا يسلمها، فإن قلعها المشتري ضمنها له. الحسن بن زياد في الاختلاف: مسلم اشترى من مسلم شاة فماتت في يد البائع، فسلخها البائع ودبغ جلدها، قال أبو يوسف رحمه الله: المشتري بالخيار إن شاء أخذ الجلد بحصته من الثمن، وإن شاء ترك، وقال: يقسم الثمن على قيمة اللحم لو كان ذكياً، وعلى قيمة الجلد ذكياً غير مدبوغ، ولا ينظر إلى ما زاد الدباغ في قيمته. نوع آخر إذا حصل البيع بشرط الكيل أو الوزن أو الذرع قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى الرجل طعاماً مكايلة، وقبضه، فإنه لا يأكله، ولا يبيعه، ولا ينتفع به حتى يكيله، وكذلك إذا كان البائع ابتاعه واكتاله من بائعه بحضرة المشتري لم يجز له أن يقتصر على ذلك الكيل ولا يبيع ولا يأكل حتى يكتاله ثانياً، هذا هو لفظ القدوري، يريد بهذا أن من اشترى طعاماً مكايلة، وباعه من آخر مكايلة، واكتال البائع الثاني من بائعه بحضرة المشتري الثاني لا يجوز للمشتري الثاني أن يقتصر على ذلك الكيل، ولا يبيع ولا يأكل حتى يكتاله ثانياً. والأصل في ذلك ما روي عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: «أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان صاع البائع وصاع المشتري» والمعنى فيه: أن الكيل جعل من تمام القبض شرعاً فيما بيع مكايلة؛ لأن القدر في المعين مقصود عليه فيما بيع مكايلة. ألا ترى أنه لو وجده أزيد مما سمى من القدر لا يسلم له الزيادة إذا كانت الزيادة بحيث لا يدخل بين الكيلين؛ لأن الزيادة لم تدخل تحت العقد، ولو وجده انقص ينقص عنه حصته من الثمن، وإذا ثبت أن القدر معقود عليه فيما يرجع بيع بشرط القدر، فنقول: القدر غير متعين قبل الكيل يجوز أن يكون مثل الكيل المشروط وأزيد منه وأنقص منه،

وإنما يتعين بالكيل فكان للكيل حكم القبض؛ لأن الكيل تعين ما ملك غير متعين بالعقد إنما يكون بالقبض، وإذا كان الكيل يعمل هذا العمل كان للكيل حكم القبض، فكان الكيل من تمام القبض من هذا الوجه، ثم في هذه المسائل يحتاج إلى قبضين قبض البائع وقبض المشتري، فكذا يحتاج إلى كيلين. فإن قيل: إنما أعطي الكيل حكم القبض؛ لأنه تعين ما ملك بالعقد غير متعين وهذا التعين حاصل بكيل البائع لنفسه بحضرة المشتري الثاني، فكان يجب أن لا يحتاج المشتري الثاني إلى كيل آخر كما لو استفاد من أرضه وباعها من آخر مكايلة وكان بحضرة المشتري لا يحتاج إلى كيل آخر. والجواب عنه أن يقال: بأن الكيل أعطي له حكم القبض فيما بيع مكايلة، وإذا أعطي له حكم القبض يعتبر بالقبض الحقيقي، ففي كل موضع يحتاج إلى قبضين ولا ينوب أحد القبضين عن الآخر لا ينوب أحد الكيلين عن الآخر، وفي كل موضع يكتفى بقبض واحد يكتفى بواحد، وفيما يحتاج إذا استفاده من أرضه لا يحتاج فيه إلى أصل القبض بجواز التصرف، فلا يحتاج فيه إلى الكيل أيضاً. وإذا اشترى من آخر حنطة مجازفة وباعه بعد ما قبضها من غيره مكايلة، فإنه يكتفى فيه بكيل واحد، وكذا إذا استقرض من رجل كر حنطة على أنه يكتفي بكيل المشتري، وأما كيل البائع المستقرض بحضرة المشتري، وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا اشتراها مجازفة وباعها من غيره مكايلة؛ لأن الكيل غير محتاج إليه في حق البائع الثاني لصحة تصرفه؛ لأن الكيل ليس بشرط لتمام القبض، فأما إذا اشترياه مجازفة؛ لأن المعقود عليه غير مشار إليه لا المقر له وإنه متعين قبل الكيل، وإنما يشكل فيما إذا استقرض من آخر حنطة على أنها كر، ثم باعها من غيره بشرط الكيل ويجب أن يحتاج فيه إلى كيلين؛ لأن الاستقراض يملك بعوض، فكان بمنزلة الشراء فيصير القدر معقوداً عليه متى استقرض بشرط الكيل كما لو اشتراه مكايلة. والجواب: أن الغرض إن كان مبادلة صورة فهو عارية من حيث الحكم والاعتبار؛ لأن ما يرد المستقرض غير المقبوض حكماً لا بدله، إذ لو لم يجعل كذلك كان هذا مبادلة الشيء بجنسه لشبه وإنه حرام، وإن كان رد البدل قائماً مقام رد العين المقبوض من حيث الحكم كان الفرض تمليكاً بغير بدل من حيث الحقيقية كالهبة والوصية لم يحتج فيه إلى الكيل فكذا ههنا، بخلاف الشراء؛ لأنه تمليك بعوض حقيقة وحكماً. والشرع جعل الكيل من تمام القبض فيما ملك تبعاً بشرط المكايلة، فلهذا احتيج في الشراء إلى الكيل، ولم يحتج إلى الكيل في الاستقراض. ولو اشترى حنطة مجازفة وباعها من غيره بعدما قبضها مجازفة أو..... حنطة من أرضه أو بالهبة وباعها مجازفة أو ملك حنطة ثمناً على أنه كر وقبضها وباعها مجازفة قبل

الكيل فهو جائز، كذا رواه ابن سماعة عن محمد، أما إذا اشتراها مجازفة فلا إشكال فيها؛ لأن الكيل في هذه الصورة لم يجعل من تمام القبض؛ لأن المعقود عليه عين مشار إليه لا المعيار بخلاف ما إذا اشتراه مكايلة؛ لأن الكيل هناك جعل من تمام القبض، وأما إذا استفاد من أرضه أو بالهبة ولأنه ملك بغير عوض والشرع إنما اعتبر الكيل لاباحة التصرف بخلاف القياس، فيرد التبرع إلى ما يقتضيه القياس فأما إذا ملكه ثمناً، فلأن الكيل شرع لتمام القبض لإباحة التصرف فيما يحتاج فيه إلى أصل القبض لإباحة التصرف، وفي الثمن أصل القبض ليس بشرط لإباحة التصرف، فلا يكون الكيل الذي جعل من تمام القبض شرطاً لإباحة التصرف، وأما إذا اشترى مكايلة وباعه من غيره مجازفة لا قبل أن يكيله هل (65ب3) يجوز ظاهر ما أطلق محمد رحمه الله في «الأصل» يدل على أنه لا يجوز. وذكر ابن رستم في «نوادره» : أنه إذا باعه مجازفة قبل أن يكيله جاز، ولو باعه مكايلة قبل أن يكيله لا يجوز، فصار في المسألة روايتان. وجه رواية ابن رستم: أن القدر كما هو معقود عليه فالعين المشار إليه أيضاً معقود عليه، فمتى باعه مجازفة فقد باع العين دون القدر، والعين مقبوض فصار بائعاً ما تم قبضه فيه فيجوز، ومتى باعه مكايلة فقد باع القدر مع العين والقدر غير مقبوض قبل الكيل. وجه ما ذكر في «الأصل» : أن القدر معقود عليه والعين معقود عليه وأحدهما مما يختار عن الآخر؛ لأن القدر صفة للعين لا يوجد بدونه، فإذا باعه مجازفة فقد باع مقبوضاً وغير مقبوض؛ لأن العين الذي اشتراه مقبوض والقدر ليس بمقبوض فقد باع مقبوضاً وغير مقبوض صفقة واحدة فلا يجوز البيع في الكل. وذكر بعض المشايخ في شرح «الجامع الصغير» خلافاً في هذا الفصل بين أبي يوسف ومحمد فقال على قول أبي يوسف لا يبيعه حتى مكايلة لنفسه. وعلى قول محمد: يبيعه من غير (أن) يكتاله لنفسه. وقد اختلف المشايخ في فصل، وهو ما إذا اشترى طعاماً مكايلة وكاله البائع بحضرة المشتري وسلمه إليه، فمنهم من قال: ليس للمشتري أن يكتفي بذلك الكيل ويكيل مرة أخرى، قال شمس الأئمة السرخسي: الأصح أنه يكتفي بذلك الكيل وكل جواب عرفته في المكيلات فهو الجواب في الموزنات؛ لأن الوزن في الوزنيات متى بيع بشرط الوزن يصير معقوداً عليه، كالكيل في المكيلات، فكل جواب عرفته في المكيلات في الترتيب الذي ذكرنا، فهو الجواب في الوزنيات. وأما الكلام في الذرعيات: إذا اشترى من آخر ثوباً على أنه عشرة أذرع كان له أن يبيعه، وأن يتصرف فيه قبل الذرع في الذرعيات متى لم يجعل بإزائه لمن سلك به مسلك الأوصاف حتى لا يقسم الثمن على عدد الذرعان حتى لو وجد أحد عشر في مسألتنا فالزيادة تسلم له، ولو وجده أنقص من عشرة لا يسقط شيء من الثمن لكن يجز المشتري، كما لو اشترى ثوباً على أنه صفيق فوجده رقيقاً، وإذا سلك به مسلك الصفة لم يصر الذرع معقوداً عليه، وكان المعقود عليه الثوب المشار إليه، وأنه متغير من غير ذرع.

الفصل الثامن: في بيان أحكام الشراء الفاسد والتصرف في المملوك بالعقد الفاسد

وكان بمنزلة ما لو اشترى حنطة مجازفة على أنها جيد وقبضها قبل أن يعلم بأنها جياد بأن كانت في الجوالق ويصرف فيها وهناك التصرف منه جائزاً ههنا. وأما الكلام في العدديات: إذا اشترى من أخر عددياً بشرط العقد فهل يجب إعادة العد، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في الكتب الظاهرة، قالوا: وقد ذكر الكرخي: أن على قول أبي حنيفة: يشترط إعادة العد لإباحة التصرفات إلحاقاً للعدديات بالكيليات والوزنيات، وعلى قولهما لا يشترط إلحاقاً بالذرعيات. وفي «شرح القدوري» : وأما المعدودات فيجب إعادة العد فيها في رواية لا يجب، وصحح القدوري هذه الرواية؛ لأن العد في العدديات بمنزلة الذرع في المذروعات، ألا ترى أن الربا لا تجري بين العدديات كما لا يجب بين المذروعات، ثم في المذروعات لا يجب إعادة الذرع، فكذا في المعدودات لا يجب إعادة العد. وفي «القدوري» : في باب بيع المبيع قبل القبض: إذا اشترى طعاماً مكايلة أو موازنة شراء فاسداً وقبض بغير كيل، ثم باعه وقبضه المشتري فالبيع الثاني جائز، وإنما يعتبر إعادة الكيل في البيعين الصحيحين؛ لأن المستحق القدر المذكور، ويتصور التفاوت بين المذكور والموجود فيعتبر إعادة الكيل لإزالة ذلك الوهم احتياطاً، وهذا المعنى لا يوجد في البيع الفاسد، فإن الملك في البيع الفاسد، إنما يثبت بالقبض فصار المملوك قدر المقبوض لا قدر المذكور في البيع، فلا يتصور التفاوت بين المستحق. ولو اشترى طعاماً مكايلة بإناء بعينه، فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وقد مر هذا، فإن كاله بذلك الإناء ورضي به المشتري بعد الكيل جاز، وقد مر هذا أيضاً من قبل، فإن باعه المشتري بعد ذلك قبل أن يعيد الكيل جاز؛ لأن هذا في معنى البيع مجازفة لا يحتاج إلى إعادة الكيل؛ لأن المستحق هو المشار إليه فلا يتصور فيه التفاوت. وفي «المنتقى» : قال أبو يوسف: إذا كان الثمن شيئاً مما يكال أو يوزن بغير عينه فأخذه البائع بغير كيل وصدق المشتري في كيله ووزنه، فله أن ينتفع به قبل أن يكيله. إذا كان الثمن ثياباً موصوفة مؤجلة، فليس له أن يبيعها منه قبل أن يقبضها، وقال في الصرف: ليس له أن يشتري بأخذ اليد شيئاً حتى يتوازنا، وإن تفرقا قبل الوزن في الصرف، وكل واحد منهما مصدق لصاحبه في الوزن فالبيع فاسد، وذكر في موضع آخر من هذا الكتاب: إذا كان كل واحد منهما مصدقاً لصاحبه في الوزن إن البيع جائز. الفصل الثامن: في بيان أحكام الشراء الفاسد والتصرف في المملوك بالعقد الفاسد البيع الفاسد منعقد عندنا والملك موقوف على وجود القبض، ويشترط أن يكون القبض بإذن البائع نص عليه القدوري في «كتابه» ، ولفظ القدوري وما قبضه بغير إذن البائع في البيع الفاسد فهو كما لم يقبض، قال ثمة: وهذه الرواية هي المشهور.

وفي «الزيادات» : إذا قبض المشتري المبيع في البيع الفاسد من غير إذن البائع ويهبه، فإن قبض في المجلس يصح القبض استحساناً ويثبت الملك فيه للمشتري، وإن قبض بعد الافتراق عن المجلس لا يصح قبضه قياساً واستحساناً ولا يثبت الملك للمشتري، وإذا أذن له بالقبض فقبض في المجلس أو بعد الافتراق عن المجلس صح قبضه ويثبت الملك قياساً واستحساناً. وفي «البقالي» : لو كان وديعة عنده وهي حاضرة ملكها، وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه قال: يجب أن يجوز القبض بعد الافتراق عن المجلس بغير إذنه إذا كان أدى الثمن، والتخلية في البيع الفاسد ليست بقبض يثبته في شرح «الزيادات» . وذكر في «الجامع» مسألة تدل على أنها قبض. وصورة ما ذكر في «الجامع» : إذا اشترى الرجل شراءً فاسداً والعبد وديعة عند المشتري إلا أنه ليس بحاضر عند الشراء فأعتقه المشتري كان عتقه باطلاً؛ لأن الملك في الشراء الفاسد لا يثبت بدون القبض وما وجد من القبض لا ينوب عن قبض الشراء؛ لأنه قبض الوديعة لا ينوب عن قبض الشراء، وبدون الملك لا يثبت العتق فأرجع المشتري إلى العبد وقبضه حقيقة، أو يخلي به بحيث يكون قابضاً له، ثم أعتقه صح الإعتاق؛ لأنه يصير قابضاً بإذن البائع حتى لا يكون للبائع ولاية الاسترداد فههنا كذلك، وإذا صار قابضاً بإذن البائع صار المبيع ملكاً له بالعقد السابق، والإعتاق صادف ملك نفسه. ألا ترى أن محمداً رحمه الله: أثبت الملك للمشتري في هذه الصورة إذا تخلى بالعبد حتى جوّز إعتاقه، والملك في البيع الفاسد لا يثبت بدون القبض، ثم إن الملك وإن كان يثبت في البيع الفاسد عند اتصال القبض به عندنا إلا أن هذا الملك يستحق النقض إعداماً للفساد، ولأن إعدام الفساد واجب حقاً للشرع. ولأجل ذلك قلنا: أنه يكره للمشتري أن يتصرف فيما اشترى شراءً فاسداً بتمليك أو انتفاع؛ لأن الفسخ مستحق إعداماً للفساد، وفي التصرف تقرر الفساد، مع هذا لو تصرف فيه تصرفاً نفذ تصرفه لمصادفته ملكه، ولا ينقض تصرفه ويبطل به حق البائع في الاسترداد سواء كان تصرفاً يحتمل البعض بعد ثبوته كالبيع والإجارة والرهن، أو لا يحتمل البعض بعد ثبوته كالإعتاق والتدبير وأشباه ذلك إلا الإجارة والنكاح فإن هذه (66أ3) التصرفات لا تبطل حق البائع في الاسترداد على ما يتبين بعد هذا إن شاء الله، فلم يحمل البائع بيعاً فاسداً حتى تنقض تصرفات المشتري فيما ينوي الإجارة والنكاح مع أن البائع حقاً في المشترى شراءً فاسداً، وهو حق الأخذ وجعل للشفيع حق نقض جميع التصرفات المشتري لما أن له في الدار المشفوعة حقاً. واختلفت عبارة المشايخ في بيان الفرق بعضهم قالوا: الحق في المشتري شراء فاسداً للبائع وهذه التصرفات من المشتري حصل عند تسليط البائع؛ لأن البائع، أوجب له الملك المطلق لهذه التصرفات فتكون هذه التصرفات حاصلاً عن تسليط فيكون راضياً به فيظهر نفاذها في حقه فلا يكون له إبطالها بعد ذلك.

فأما الحق في الدار المشفوعة للشفيع وهذه التصرفات لم تصدر بتسليط الحق في الدار المدفوعة للشفيع من جهة الشفيع حتى يكون راضياً بذلك؛ لأن التسليط إنما يثبت بالأذن نصاً أو بإثبات الملك المطلق للتصرف، ولم يوجد واحد منهما من الشفيع فكان له حق النقض. ولأجل هذا المعنى وقع الفرق في الشراء الفاسد بين البيع والهبة والرهن وبين الإجارة؛ لأن الإجارة تصرف في المنافع مقصوداً؛ لأنها موضوعة لتمليك المنافع والتسليط من البائع في حق المنفعة ما ثبت مقصوداً؛ لأن البيع لإيجاب ملك الرقبة مقصوداً، ولا يجاب ملك المنفعة تبعاً، والتصرف من المشتري في المنفعة حصل مقصوداً فلم يكن حاصلاً بتسليط البائع فكان له حق النقض، كما كان للشفيع أن ينقص جميع تصرفات المشتري لما لم يكن حاصلاً بتسليط. فإما الرهن والبيع والهبة فهذه تصرفات.... حصلت في العين مقصوداً، والتسليط من البائع في حق تصرف يرد على العين ثابت مقصوداً؛ لأن التسليط بإيجاب الملك والملك ثبت له في الرقبة مقصوداً. وهذا معنى ما يقول في «الكتاب» : وهذا عذر في الإجارة يريد بالعذر هذا، وهو أن الإجارة لم تحصل بتسليط البائع فكان للبائع نقضه. وبعضهم قالوا: فسخ البيع بحق الله تعالى إعلاماً للفساد، وهذه التصرفات يتعلق حق العبد بالمحل وحق العبد مع حق الله تعالى إذا اجتمعا، ترجح حق العبد على (حق) الله تعالى لحاجة العبد وغنى الله تعالى، إلا أن الإجارة عقد ضعيف يفسخ بالأعذار، وفساد الشراء عذر في فسخها فينفسخ ويسترد المشتري إعداماً للفساد، ولم يذكر محمد رحمه الله في «الأصل» من يفسخ الإجارة.d وذكر في «النوازل» : أن القاضي هو الذي يفسخ، وكأنه مال إلى أن فسخ الإجارة بالعذر مختلف فيه، فيعتبر فسخ القاضي لتصير المسألة متفقاً عليها والتزويج يشبه الإجارة ولوروده على المنفعة والبيع يرد على ملك الرقبة، والفسخ يرد على ملك الرقبة أيضاً فيتعلق حق الزوج بالمنفعة لا يمنع الفسخ على الرقبة، والنكاح على حاله. ولو أوصى بالعبد، ثم مات بطل حق الفسخ ولا يشبه هذا الوارث. والفرق: وهو أن ملك موصى له ملك متحدد لثبوته بسبب متشابه ولهذا لا يرد بالعيب ولا يرد عليه فأشبه ملك المشتري وما أشبهه فانقطع به حق الفسخ، فأما ملك الوارث في حكم عين ما كان للمورث ولهذا يرد بالعيب ويرد عليه بطل حق الفسخ؛ لأن هذه المعاني لو وجدت من الغاصب انقطع به حق المالك مع أن حق العبد إبطاء سقوطاً؛ فلأن يسقطه بهذه المعاني حق الله تعالى، وإنه أسرع سقوطاً أولى، ولو صبغ الثوب فقد روي عن محمد رحمه الله: أن البائع بالخيار أخذه وأعطاه ما زاد لصبغ فيه إن شاء ضمنه قيمته كما في الغضب، وأطلق أبو الحسن الجواب في الصبغ، إنه ينقطع به حق البائع في

الفسخ، وهو محمول على التفصيل الذي ذكرنا، ولو كان الجواب كما أطلق. فوجهه: أن حق الفسخ هاهنا أسرع سقوطاً من حق الاسترداد في الغصب، ولهذا يسقط بالبيع والهبة ونحو ذلك فجاز أن يسقط بهذا بخلاف الغصب. ولو كان للمشتري داراً فبنى المشتري فيها بناء بطل حق الفسخ في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأخير، وفي قوله الأول وهو قول محمد لا يبطل اعتباراً بالغاصب إذا بنى في المغصوب بناءً حيث لا ينقطع به حق المغصوب منه، ولهما أن النقض في البيع الفاسد ما كان لحق البائع، وإنما كان حقاً للشرع لينعدم به الفساد، وقد ذكرنا أنه إذا تعلق به حق آخر يمنع، إلا إذا بنى المشتري في الدار بناء، والعقد لم يتناول البناء صار ثبوت حقه في البناء بمنزلة حق ثابت في البيع الثاني بل أولى؛ لأن الضرر الذي يلحق المشتري بنقض البناء فوق الضرر الذي يلحق الثالث بنقص شرائه، فإذا لم ينقص لحق ثالث في البيع الثاني؛ فلأن لا ينقض لحق المشتري في البناء كان أولى. بخلاف ما لو صبغ المشتري الثوب المشترى شراء فاسداً؛ لأن حق المشتري لا يبطل بالنقض بل ينتقل إلى القيمة، وههنا يبطل حق المشتري في البناء إذا نقض البناء، وبخلاف الغصب؛ لأن حق النقص كان لحق المغصوب منه وحق المغصوب منه في العرصة قائم من كل وجه فرجحنا جانب المغصوب منه، إما؛ لأن العرصة أصل والبناء تبع؛ أو لأن الغاصب متعدي والمغصوب منه مظلوم. بخلاف ما إذا غصب ساحة وأدخلها في البناء حيث ينقطع حق المغصوب منه ثمة صار هالكاً من وجه وحق الغاصب قائم من كل وجه وحق المغصوب منه يفوت إلى بدل وحق الغاصب يفوت إلى بدل فرجحنا حق الغاصب لهذا، بخلاف ما تقدم. وفي كل موضع تعذر ردّ المشترى شراء فاسداً على البائع فعلى المشترى المثل فيما هو من ذوات الأمثال. والقيمة فيما ليس من ذوات الأمثال، والأصل: أن المقبوض بحكم العقد الفاسد مضمون بالقيمة فيما لا مثل له وبالمثل له وبالمثل فيما له مثل؛ لأن المقبوض في العقد الفاسد مضمون بجهة القبض فصار كالمغصوب؛ وهذا لأن الأصل في الضمانات القيمة؛ لأنها هي العدل، وإنما يصار إلى المسمى في موضع صحت التسمية تحرزاً عن المنازعة والتسمية، هنا لم تصح فبقي الضمان الأصلي وهو القيمة. ثم في كل موضع تعذر على البائع فسخ البيع واسترداد المبيع لمانع، ثم زال ذلك المانع بأن فك المشتري الرهن ورجع في الهبة أو عجز المكاتب عن أداء بدل الكتابة أو رد المشترى على المشتري بالعيب في المبيع بعد القبض نقصاً كان للبائع حق الاسترداد إذا لم يكن القاضي قضى على المشتري بالقيمة؛ لأن المانع زال بسبب هو فسخ من كل وجه في حقهما وفي حق الثالث فصار، كأن هذه العقود لم توجد حتى لو زال المانع بسبب هو عقد جديد في حق الثالث بأن كان الرد بالعيب بعد القبض بالتراضي لا يكون للبائع حق الاسترداد، ويجعل في حقه كأن المشتري اشترى ثانياً.

وهذا كله إذا لم يقض القاضي على المشتري بالقيمة، فإن كان قد قضى عليه بالقيمة لا يكون للبائع حق الاسترداد في الوجوه كلها؛ لأن القاضي أبطل حق البائع عن العين ونقله إلى القيمة بسبب أطلق له ذلك فلا يعود حقه إلى العين بعد ذلك، وإن ارتفع السبب كما لو قضى القاضي على الغاصب بقيمة المغصوب بسبب الإباق، ثم عاد العبد من الإباق لا يعود حق المالك إلى العبد كذا ههنا. ولو زاد المشترى في يد المشتري لا يمتنع الفسخ في الأحوال كلها إلا إذا (66ب3) كانت بزيادة من جهة المشتري بأن كان المشترى ثوباً فصبغه المشتري بصبغ يريد به قيمة فيه، أو كان سويقاً فلته بسمن أو عسل فحينئذٍ يمتنع الفسخ بحق المشتري حتى لو رضي المشتري بالفسخ واسترداد المشترى مع الزيادة كان للبائع حق الاسترداد وإذا لم ينقص المشترى في يد المشتري بفعل نفسه أو بآفة سماوية أو يفعل المشتري والبائع مع أرش النقصان وليس له أن يترك المبيع على المشتري ويضمنه تمام القيمة إزالة للفساد، وإن كان النقصان بفعل أجنبي، فللبائع أن يأخذ الأرش من المشتري إن شاء أخذه من الجاني؛ لأنه وجده في حق كل واحد منهما بسبب ضمان النقصان في حق المشتري القبض؛ لأن المقبوض بحكم العقد الفاسد مضمون بالقبض، والأوصاف تضمن بالقبض، وفي حق الجاني الخيانة فكان للبائع الخيار وصار كما لو انتقص المغصوب في يد الغاصب بفعل أجنبي كان للمالك في أخذ الأرش الخيار لما ذكرنا كذلك ههنا. ولو قتل أجنبي المبيع في يد المشتري، فللبائع أن يضمن المشتري وليس له أن يضمن القاتل، فرق بين ضمان القتل وبين ضمان النقصان. والفرق: إن ما وجب على القاتل بالقتل بدل ملك المشتري؛ لأن الجارية قتلت على ملك المشتري فلا يكون للبائع عليه سبيل إلا بعد فسخ البيع في المبيع، وتعذر فسخ العقد في المبيع بسبب الهلاك بخلاف ضمان النقصان؛ لأن هناك العقد انفسخ فيما بقي من المبيع بالاسترداد فيصير الفسخ في حق الجزء الفائت حكماً لانفساخ البيع في الأصل، وإذا اعتبر البيع منفسخاً في حق الجزء الفائت بدلاً عن ملك البائع، فكان للبائع حق الأخذ من الجاني فلهذا افترقا. وبما ذكر من المعنى ظهرت التفرقة بين المشتري شراءً فاسداً وبين المغصوب، فإن المغصوب إذا قتل في يد الغاصب كان للمالك أن يضمن القاتل إن شاء؛ لأن ما وجب على القاتل بقتل المغصوب بدل ملك المالك؛ لأن المغصوب باقي على حكم ملك المالك فكان للمالك أن يأخذ ذلك من القاتل، ولا كذلك المشتري شراءً فاسداً على ما بينا قد ذكرنا أن البيع الفاسد يستحق النقض والفسخ إعداماً للفساد وإزالة للحرام. قال القدوري في «كتابه» وأيهما فسخ البيع قبل القبض ففسخه جائز على صاحبه، إذا كان بمحضر من صاحبه أي بعلم صاحبه؛ لأن الفسخ يستحق بحق الشرع، فانتقى اللزوم عن العقد فكان بمنزلة البيع الذي فيه الخيار للمتعاقدين فيكون كل واحد منهما تسييل من فسخه بغير رضى الآخر لكنه توقف على علم الآخر؛ لأنه إلزام موجب للفسخ فلا يلزمه إلا بعمله.

وإذا قبض المبيع فكل بيع لا يصح حذف المفسد عنه مثل البيع بالخمر والخنزير فهو على ما ذكرنا قبل القبض؛ لأن وجوب الفسخ بحق الشرع، وإنه متحتم فكان كل واحد منهما تسييل منه، وإن كان الفساد بسبب شرط يقبل الحذف فعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لكل واحد من المتعاقدين الفسخ، وقال محمد: إن وجد الفسخ ممن له منفعة في الشرط صح، وإن فسخ الآخر لم ينفسخ وذلك مثل الشراء بأجل مجهول إلى العطاء وما أشبه ذلك. وكذلك الخيار الفاسد وجه قول محمد: أن منفعة الشرط إذا كانت عائدة إليه كان قادراً على تصحيح العقد بإسقاط الأجل، فإذا فسخ الأجر فقد أبطل حقاً ثابتاً لغيره فلا يجوز وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله يقولان: بأن الفسخ مستحق حقاً للشرع فانتقى اللزوم عن العقد إذا كان غير لازم، فكل واحد من المتعاقدين يتمكن من فسخه. أكثر ما في الباب أن من له الخيار قادر على التصحيح بالحذف، ولكن الكلام قبل الحذف وهو بمنزلة الإيجاب إذا وجد من البائع كان المشتري تسييل من القبول، ثم البائع لو رجع قبل قبول المشتري صح ولا يقال: بأن رجوعه يتضمن إبطال حق القبول على المشتري كذلك ههنا. وإذا كان المشترى جارية فاستولدها المشتري حتى وجبت القيمة هل يغرم العقر؟ ذكر في كتاب البيوع: أنه لا يغرم، وذكر في كتاب الشرب: أنه يغرم. قال شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : ما ذكر في كتاب الشرب تأويله أن المشتري وطئها ولم يعلقها، وما ذكر في كتاب البيوع تأويله إذا أعلقها قال شيخ الإسلام المعروف بخواهرزاده في «شرحه» : إذا لم يعلقها يجب العقر باتفاق الروايات، وإذا أعلقها ففيه روايتان. وهكذا ذكر الطحاوي في «كتابه» وهو الصحيح: يجب أن يعلم بأن من اشترى جارية شراءً فاسداً لا يكون له أن يطأها، إما لأن الثابت له بالشراء الفاسد ملك حرام والملك الحرام لا يبيح الوطء كما لا يبيح الأكل والشرب واللبس، أو لأن الملك غير ثابت في حق الوطء لكون السبب فاسداً فأوطأها ولم يعلقها كان للبائع أن يستردها؛ لأن الجارية قائمة بعينها كما قبل الوطء، وإذا استردها ضمن المشتري عقرها للبائع، فرق بين هذا وبين الموهوب له إذا وطء الجارية، ثم رجع الواهب، فإنه لا يضمن للواهب عقراً، وههنا قال: يضمن. ووجه الفرق بينهما: وهو أن الموهوب له حين وطء ملك نفسه ملكاً حلالاً، فإن الملك ثابت للموهوب له بوصف الحل لكون السبب صحيحاً، ولهذا حل له الوطء وبالرجوع لم يظهر أن الملك لم يكن له وقت الوطء؛ لأن الرجوع لا يسند إلى وقت العقد بل يقتصر على حال وجوده؛ لأنه فسخ العقد، وإذا اقتصر على حال وجوده صار واطئها ملك نفسه فلم يكن عليه عقرها، فأما ههنا فالملك في حق الوطء غير ثابت لكون السبب فاسداً. ولهذا لم يحل له الوطء وإذا لم يثبت الملك في حق الوطء كانت الجارية في حق الوطء كالمغصوبة، فإذا لم يجد الشبهة وجب العقر هنا كما في الغصب، هذا الذي ذكرنا

إذا لم يعلقها فأما إذا أعلقها يضمن قيمتها؛ لأنه بالإعلاق صارت أم ولد له فعجز عن ردها فكان عليه رد قيمتها، كما لو أعتق، إذا وجب القيمة هل يجب عليه العقر، فعلى قول شمس الأئمة السرخسي: لا عقر رواية واحدة وعليه يحمل رواية كتاب البيوع، وعلى ما ذكره في المسألة روايتان على رواية كتاب البيوع لا عقر عليه، وعلى رواية كتاب الشرب عليه العقر. وجه ما ذكر في كتاب الشرب: أن الجارية وإن كانت ملكاً للمشتري وقت الوطء إلا أن للبائع حق الاسترداد جميع الجارية، وبالوطء أبطل على البائع حق الاسترداد فيما استوفى بالوطء فيضمن قيمة ما استوفى كما لو أن المستوفي ملك البائع؛ لأن الحق معتبر بالحقيقة. وجه ما ذكر في كتاب البيوع إن حق البائع في المستوفي لا يكون أكثر حالاً من حقيقة الملك للغير، وإذا تقرر عليه الضمان لم يضمن العقر كما في الغصب فههنا أولى. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد: اشترى من آخر جارية شراءً فاسداً وقبضها وولدت في يده أولاداً وماتت، ثم إن البائع ضمن قيمة الجارية يوم قبضها، فإن البائع يأخذ من المشتري أولادها ولا يجعل المشتري مالكاً للجارية يوم قبضها يعني مالكاً صحيحاً مما يحكم به في أولادها، قال الحاكم أبو الفضل: خالف بين المشتري شراء فاسداً وبين المشتري من الغاصب، فإن الجارية إذا ولدت في يد المشتري من الغاصب، ثم تم البيع فيما يتضمن البائع، فإن هناك يتم البيع من جميع الجهات. وفي «المنتقى» : في باب حكم الشراء الفاسد في أوله: رجل اشترى من آخر جارية شراء فاسداً، ثم إن (67أ3) المشتري وطئها وولدت منه أولاداً، ثم استحقها رجل يأخذها وولدها وعقرها وولدها، ولا يرجع المشتري على البائع إلا بالثمن؛ لأنه ليس بمغرور، ألا ترى أنها لو ولدت من غير المشتري كان له أن ينقض البيع ويأخذها من المشتري. وذكر في هذا الباب عن أبي يوسف: أن المشتري يرجع بقيمة ... البائع، وهكذا روى ابن سماعة عن محمد في باب الاستحقاق من «المنتقى» . وفي باب حكم الشراء الفاسد عن محمد في «المنتقى» : اشترى من آخر شراء فاسداً وزوجها من رجل بمهر مسمى فوطئها الزوج وقد كانت بكراً، ثم إن البائع خاصم فيها وأخذها فالنكاح جائز والمهر للبائع، فإن كان فيه وقائماً نقصها من ذهاب العذرة فلا شيء على المشتري، وإن كان النقصان أكثر من المهر رجع به على المشتري. وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر أمة شراء فاسداً وزوجها من رجل بمهر مسمى فوطئها الزوج، ثم إن البائع خاصم فيها وأخذها فعلى المشتري الأكثر من مهر مثلها ومما نقصها التزويج وللمشتري على الزوج مهرها الذي سمى الزوج، وإن كان فيه فضل تصدق به فالنكاح على حاله.

وكذلك إن طلقها طلاق الرجعة، وإن طلقها واحدة بائنة فعليه مهر مثلها ولا نقصان عليه، وذكر هذه المسألة في «المنتقى» مرة أخرى وذكر أن على المشتري مهر مثلها وما نقصها التزويج. وفي «نوادر هشام» : قال: سألت محمداً عن رجل اشترى من آخر غلاماً شراء فاسداً وقبضه، ثم باعه واستهلكه، قال: أخبرني أن أبا حنيفة وأبا يوسف رحمهما الله قال: عليه قيمته يوم قبض، وقال محمد فيما أظن: قيمته يوم استهلكه، هذا إذا كانت الزيادة من حيث السعر، وإن كانت من حيث العين فعليه في قول محمد أيضاً قيمتها يوم قبض. وفي بيوع «الجامع» : رجل اشترى من آخر عبداً شراءً فاسداً وقبض المشتري بإذن البائع ونقده الثمن، ثم أراد البائع أن يأخذ عبده كان للمشتري أن يحبس العبد منه إلى أن يستوفي الثمن؛ لأن الفاسد من العقود يلحق بالجائز في حق الأحكام. وفي البيع الجائز إذا تفاسخا العقد بعد القبض كان للمشتري حق حبس المشتري إلى أن يستوفي الثمن من البائع، وهذا لأن المشتري إنما قبل العقد مقابلاً بما نقده فصار كالرهن به عند ارتفاع السبب بالفسخ فكان له حق الحبس به كما في الرهن، فإن مات البائع ولا مال له غير العبد كان المشتري أحق بالعبد من غرماء البائع؛ لأنه كان أحق به من البائع في حال حياة البائع فيكون الحق به من غرمائه بعد وفاته فيباع العبد بحقه، فإن كان الثمن الثاني في مثل الثمن الأول أخذه المشتري فضل الثمن الثاني على الثمن الأول فالفضل لغرماء البائع، فإن كان الثمن أقل كان هو لسائر غرماء البائع يضرب هو منهم ببقية حقه فيما يظهر من التركة، فإن مات العبد في يد المشتري كان عليه قيمته لما ذكرنا فيتقاصان ويترادان الفصل إن كان ثمة فضل. ولو كان المشتري اشترى العبد بألف درهم دين كان للمشتري على البائع قبل الشراء اشتراه بذلك شراء فاسداً وقبضه بإذن البائع، ثم إن البائع أراد استرداد العبد بحكم فساد البيع وأراد المشتري حبسه بما كان عليه من الدين لم يكن له ذلك. فرق بين هذا بينما لو كان البيع جائزاً في هذه الصورة فإن هناك للمشتري أن يحبس العبد إلى أن يستوفي ما على البائع من الدين ولم يذكر محمد رحمه الله هذا الحكم في البيع الجائز، وإنما ذكر مسألة الإجارة بدين سابق للمستأجر على الآخر. وفرق فيها بين الإجارة الجائزة والإجارة الفاسدة في حق حكم الحبس بالدين السابق، فقال: في الإجارة الجائزة للمستأجر حق حبس المستأجر بما كان له على الآخر، وقال: في الإجارة الفاسدة ليس له حق الحبس بذلك. قال مشايخنا: ولا فرق بين الإجارة من الدين وبين البيع الجائز فالرواية في الإجارة يكون رواية في البيع. والفرق بين البيع الفاسد: أن العقد في البيع الجائز لا يتعين بغير ذلك الدين بل بمثله ديناً في ذمة المشتري، ثم يلتقيان قصاصاً لا يستوفيهما قدراً ووصفاً، فيصير البائع

مستوفياً الثمن بحكم المقاصة فيعتبر بما لو استوفاه حقيقة، وهناك للمشتري حق حبس المبيع بعد الإقالة إلى أن يستوفي الثمن، فكذا إذا صار مستوفياً الثمن بحكم المقاصة، فإما في البيع الفاسد إن كان لا يتعلق العقد بغير ذلك الدين أيضاً، ولكن لا يجب مثل ذلك ديناً في ذمة المشتري، وإنما يجب قيمة المبيع عند القبض والقيمة غير متقررة قبل الهلاك فإنها تحتمل السقوط في كل ساعة وزمان بالفسخ، فأما دين المشتري على البائع متقرر فلم يتفقا وصفاً، وإذا لم تقع المقاصة لم يصر البائع مستوفياً الثمن بالمقاصة لتعيين ذلك بالاستيفاء حقيقة. فإن مات البائع وعليه ديون كثيرة والعبد عند المشتري ففيما إذا وقع الشراء فاسداً لا يكون المشتري أحق بالعبد حال حياة البائع حتى لم يكن له حق حبس العبد فلا يكون أحق به بعد وفاة البائع، فيباع العبد ويقسم الثمن بين غرماء البائع المشتري من جملتهم. وفيما إذا وقع الشراء جائزاً يجب أن يكون المشتري أحق بالعبد؛ لأنه كان أحق بالعبد حال حياة البائع حتى كان له حق حبسه من البائع فيكون أحق به بعد وفاته أيضاً. وفي «الجامع الصغير» : أيضاً: رجل اشترى من آخر عبداً شراء فاسداً على أن البائع فيه بالخيار وقبض المشتري العبد في مدة الخيار بإذن البائع فأعتقه في مدة الخيار لا ينفذ إعتاقه؛ لأن الفاسد من العقود ملحق بالخيارين في حق الأحكام، وخيار البائع في العقد الجائز يمنع ثبوت الملك للمشتري فكذا في العقد الفاسد، وإنما صح الخيار في البيع الفاسد غير لازم؛ لأن فيه فائدة حتى يمنع انعقاده في حق الحكم وهو الملك، فإن البيع فاسد العاري عن شرط الخيار ينعقد في حق الحكم، ولهذا يفيد الملك عند إيصال القبض به، ومع شرط الخيار لا يفيد الملك عند إيصال القبض به فكان شرط الخيار في البيع الفاسد مفيداً. ولو أعتقه المشتري بعدما سقط الخيار بإسقاطهما أو بمضي المدة صح إعتاقهما؛ لأن عند زوال الخيار يثبت الملك للمشتري بالسبب السابق ولا يحتاج فيه إلى تجديد القبض؛ لأن قبضه الأول موجب ضمان القيمة فكان مضموناً بضمان نفسه، ومثل هذا القبض ينوب عن قبض الشراء الصحيح فينوب عن قبض الشراء الفاسد. قال في «المنتقى» : رجل اشترى من آخر شراء فاسداً بألف درهم وتقابضا، ثم إن البائع استرد العبد بحكم فساد العقد كان للمشتري أن يأخذ ألفه إن وجدها بعينها، ولا يكون للبائع أن يمنعه منها. قال ثمة: ألا ترى أن البائع لو مات كان المشتري أحق بألفه فهذا إشارة إلى أن الدراهم والدنانير تتعينان في البيوع الفاسدة، وهكذا ذكر في كتاب الصرف. ووجه ذلك: المقبوض بحكم العقد الفاسد يشبه المغصوب؛ لأن أول القبض يلاقي ملك، ثم يصير مملوكاً للبائع عند تمام القبض كما في جانب المبيع، فإن أول القبض في المبيع يلاقي ملك البائع، ثم يصير ملكاً للبائع عند تمام القبض كما في جانب المبيع (67ب3) فإن أول القبض في المبيع يلاقي ملك البائع، ثم يصير مملوكاً للبائع عند تمام القبض، كما

في جانب المبيع، فإن أول القبض في المبيع يلاقي ملك البائع، ثم يصير مملوكاً للمشتري عند تمام القبض والدراهم والدنانير تتعينان في الغصب، فكذا في العقد الفاسد. قال هشام: سألت محمداً: عن رجل اشترى من رجل غلاماً شراءً فاسداً بألف درهم وقبضه المشتري، ثم اشتراه منه البائع بمائة درهم شراء صحيحاً، قال: إن قبضه البائع فهو فسخ للبيع الأول، وإن لم يقبضه فليس بفسخ له. بشر عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر عبداً شراء فاسداً وقبضه، ثم باعه من غيره، ثم تقايلا البيع ورد المشتري الثاني في العبد على المشتري الأول، ثم جاء البائع الأول وخاصم المشتري الأول في البيع الفاسد فلا سبيل له عليه؛ لأن الإقالة بيع مستقبل في حق الثالث فصار نظير بالعيب بعد القبض بغير قضاء وقد صح فيه. ولو باعه من آخر بيعاً فاسداً وسلمه إليه، فإن خاصم البائع الأول المشتري الأول ضمنه القاضي قيمتها، وإن لم يخاصمه حتى خاصم المشتري الأول المشتري الآخر في البيع وفسخه القاضي، ثم خاصمه الأول، فإنه يرد عليه. الحسن بن زياد عن أبي يوسف: في رجل اشترى من رجل جارية شراء فاسداً وقبضها وولدت في يد المشتري ولداً من غير المشتري، فإن كان في ولدها وفاء بنقصان الولادة لم يغرم نقصانها، وإن لم يكن بالولد وفاء بالنقصان أخذ البائع تمام النقصان، فإن زاد الولد بعد ذلك زيادة وفاء بالنقصان، فإن المشتري يرجع على البائع بما ضمن من نقصان الولد، فإن نقص الولد بعد ذلك لا يلزمه شيء، والحكم فيما بين الغاصب والمغصوب منه إذا ولدت الجارية عند الغاصب وليس بالولد وفاء بنقصان الولادة نظير الحكم فيما بين البائع والمشتري في الشراء الفاسد، وهذا شيء يجب أن يحفظ.f بشر عن أبي يوسف رحمه الله: رجل اشترى من آخر عبداً شراء فاسداً فلم يقبضه حتى قال للبائع: أعتقه فأعتقه عنه كان العتق عن البائع، ولا يكون للمشتري. ولو اشترى حنطة شراءً فاسداً فأمر البائع أن يطحنها فالدقيق للبائع، وكذلك لو كانت شاة فأمر بذبحها. ولو اشترى قفيز حنطة شراء فاسداً وأمر المشتري البائع حتى خلطه بطعام المشتري، مثله رجل اشترى مسلاً أو قضبان كرم أو قضبان شجر شراء فاسداً وقبضه وغرسه فأطعم، أو كان غاصباً قال أبو حنيفة رحمه الله: هما سواء، وعلى المشتري والغاصب قيمة ذلك؛ لأنه قد تغير الشجر الصغير. ولو كان غصب نخلاً قد أطعم فغرسه ست وأطعم عنده، أو كان ذلك شراء فاسداً قلع في الغصب ورد على صاحبه؛ لأنه عين ماله، وأما في الشراء الفاسد فعلى المشتري قيمته ولا يقلع في قول أبي حنيفة مثل قوله: في الأرض إذا بناها، وقال أبو يوسف: إن كان قلعه ينقص الأرض لم أقلعه في الشراء الفاسد مثل قوله في الثوب إذا قطعه وخاطه وحشاه، وإن كان قلعه لا ينقص الأرض قلعه مثل قوله في البناء أنه يهدم؛ لأن هدمه لا ينقص الأرض، وفي الغصب أقلعه وإن نقص الأرض.

ابن سماعة عن أبي يوسف: رجل اشترى عبداً شراء فاسداً وقبضه وزوجه امرأة حرة على مهر مسمى فدخل بها ولم ينقد المهر، ثم خاصم البائع المشتري في فساد البيع، فإن القاضي ينظر فيما لزمه من النفقة لما مضى والمهر، فإن بلغ ذلك قيمة العبد فالبائع بالخيار إن شاء أخذ القيمة وسلم العبد للمشتري، وإن شاء أخذ عبده ولم يرجع بشيء، وإن لم يبلغ ذلك قيمته أخذ العبد وأخذ ما نقصه يقوّم على هذه الحالة ويقوم وليس عليه دين والنكاح جائز على كل حال والمهر الذي في رقبته العبد فالمشتري ضامن للمرأة على كل حال؛ لأنه عاد لها، فإن لزم العبد دين عبد البائع بعد ما نقص البيع من نفقة امرأته لم يرجع بذلك على المشتري. ولو عمي العبد عند المشتري، فإنه ينقض البيع ويرد المبيع على البائع، وللبائع أن يضمنه ما نقصه العمي، وإن شاء ترك العبد على البيع وضمنه القيمة، وهذا كله قول أبي يوسف ومحمد، وعلى قياس قول أبي حنيفة إذا أخذ البائع العبد فلا شيء له. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر عبداً شراء فاسداً، ثم إن المشتري أذن له في التجارة فلحقه دين، ثم إن البائع خاصم المشتري في استرداد القيمة، فإنه يرد العبد عليه ولا سبيل للغرماء عليه ويضمن المشتري الأقل من قيمة العبد ومن الدين يعني للغرماء. وعنه أيضاً: فيمن اشترى جارية شراء فاسداً وقبضها المشتري وزوجها من رجل، ثم فسخ البيع بينهما يحكم بالفساد وأخذها البائع مع ما نقصها التزويج، ثم إن الزوج طلقها قبل الدخول بها كان على البائع أن يرد على المشتري ما أخذ من النقصان، قال: ألا ترى أنه لو لم يكن تزويج ولكن ابيضت إحدى عينيها في يدي المشتري، ثم إن المشتري ردها ورد معها نصف القيمة، ثم ذهب البياض وعادت إلى الحالة الأولى، فإن البائع يرد على المشتري ما أخذ من نصف القيمة وطريقه ما قلنا. وفي «نوادر ابن سماعة» : رجل قال لغيره: اشتريت منك عبدك هذا بهذا السمن في هذا الزق فباعه إياه بذلك الزق بحضرتهما ففتحه، فإذا لا شيء فيه وقد قبض المشتري العبد وأعتقه فالعقد جائز كأنه اشتراه بالسمن ولم يسم ما هو، وكذلك لو قال: اشتريته منك بهذا الثوب وأشار إلي يريد أن ثوبه وهما يعلمان أنه ليس في ذلك الموضع ثوب. قال محمد في «الجامع» : رجل اشترى من أخر جارية شراء فاسداً وقبضها بإذن البائع فأراد البائع أن يستردها بحكم فساد البيع فأقام المشتري بينة أنه باعها من فلان بكذا، فإن صدقه البائع فيما قال ضمنه قيمتها؛ لأنهما تصادقا على أنه تعذر ردها لخروجها عن ملك المشتري، وإن كذبه البائع فيما قال: كان للبائع حق استرداد الجارية؛ لأن حق البائع قد ثبت في الاسترداد بحكم فساد البيع. فلو امتنع الاسترداد إنما يمتنع بحكم هذه البينة وتعذر القضاء بهذه البينة لما فيها من القضاء على الغاصب من غير أن يكون عنه خصم حاضر، فإن استرد البائع الجارية، ثم حضر الغائب وصدق المشتري فيما قال كان للذي حضر أن يسترد الجارية من البائع الأول؛ لأن التصديق يستند إلى وقت الإقرار؛ لأن ذلك الإقرار وقع صحيحاً؛ لأنه حصل المعلوم.

الفصل التاسع: في حكم شراء الفضولي وبيعه

وإذا استند التصديق إلى وقت ذلك الإقرار ظهر أن استرداد البائع الأول وقع باطلاً، فكان للذي حضر أن يأخذ الجارية البائع الأول، فإن كان البائع الأول صدق المشتري فيما قال وأخذ القيمة، ثم حضر الغائب لم يكن للبائع الأول استرداد الجارية سواء صدق الذي حضر المشتري أو كذبه، أما إذا صدقه فظاهر، وأما إذا كذبه؛ فلأن البائع الأول أقر ببطلان حقه في الاسترداد وإقرار كل إنسان حجة في حقه فلا يعود حقه في الاسترداد وبتكذيب البائع. ولو قال المشتري بعتها من رجل ولم يسمه وكذبه البائع كان للبائع أن يستردها؛ لأنه لو أقر لمعلوم وكذبه البائع كان للبائع أن يستردها، فإذا أقر لمجهول أولى، فإن استرد البائع، ثم جاء رجل فقال للمشتري: إنما عنيت هذا فإن كذب ذلك الرجل المشتري فلا استرداد ما من وإن صدقه فكذلك؛ لأن الإقرار حال وجوده وقع باطلاً لحصوله لمجهول إلا أن بعد الاسترداد هو مصر على إقراره فيلتحق التصديق بهذا الإقرار، وصار كأنهما تصادقاً بعد استرداد البائع وبه لا يبطل بخلاف المسألة الأولى؛ لأن هناك الإقرار وقع صحيحاً لوقوعه لمعلوم واستند (68أ3) التصديق إليه ومن ضرورته بطلان الاسترداد. قال في «الكتاب» : وهو نظير ما لو قال المشتري إنها ليست لي لا يبطل به حق البائع في الاسترداد، ولو قال: إنها لفلان، فإن صدقه البائع في ذلك بطل حق البائع في الاسترداد، وإن كذبه البائع في ذلك استردا العبد، فإن حضر المقر له وصدق المشتري أخذ الجارية وبطل استرداد البائع، وإن كذبه فالاسترداد ماضٍ والله أعلم. الفصل التاسع: في حكم شراء الفضولي وبيعه وبيع أحد الشريكين في شيء كله أو بعضه، وما يكون إجازة في ذلك وما لا يكون، وفي اجتماع الفضوليين على التصرف في محل واحد ويدخل فيه بعض مسائل الغاصب، وإذا اشترى الرجل شيئاً لرجل بغير أمره كان ما اشترى لنفسه، وإن أجاز الذي اشتراه له. وصورته: إذا قال البائع للمشتري: بعت منك هذه العين بكذا، فقال المشتري: اشتريت ونوى بقلبه الشراء لفلان، وهذا بناء على أن أصل أن شراء الفضولي إنما يتوقف على الإجازة إذا لم (يوجد) على المشتري كما لو كان المشتري عبداً محجوراً عليه أو صبياً محجوراً عليه، أما إذا وجد نفاذاً على المشتري ينفذ ولا يتوقف وقد وجد نفاذاً على المشتري ههنا فينفذ عليه ولم يتوقف، فلا تعمل إجازة المشتري له فيه، وهذا إذا أضاف العقد إلى نفسه فأما إذا أضيف العقد إلى المشترى له فهو على وجوه. أحدها: أن يقول البائع بعت هذا العبد من فلان، وقال الفضولي: اشتريت لفلان قبلت لفلان، أو قال: اشتريت قبلت ولم يقل لفلان، وفي هذا الوجه يتوقف ويعمل إجازة المشترى له فيه.

الثاني: أن يقول الفضولي لصاحب العبد: بع هذا من فلان بكذا، فقال البائع: بعت وقال المشتري: قبلت لفلان، أو قال: اشتريت لفلان، وفي هذا الوجه يتوقف ولا ينفذ على المشتري. والثالث: أن يقول صاحب العبد للفضولي: قبلت أو اشتريت أو يقول الفضولي لصاحب العبد: اشتريت هذا العبد لأجل فلان فيقول صاحب العبد: بعت، وفي هذا الوجه ينفذ العقد على المشتري ولا يتوقف، هذه الجملة من بيوع «شرح الطحاوي» ، ورأيت في موضع آخر لو قال صاحب العبد للفضولي: بعت منك هذا العبد بكذا، وقال الفضولي: قبلت اشتريت لفلان بدأ الفضولي فقال: اشتريت منك هذا العبد لفلان وقال صاحب العبد: بعت منك، وذكر أن الصحيح أن العقد يتوقف ولا ينفذ على الفضولي. وفي «شرح الطحاوي» أيضاً: الفضولي إذا باع مال الغير فهو على وجهين: إن باعه بثمن لا يتعين بالتعيين فإنما تلحقه الإجازة بقيام الأربعة البائع والمشتري والمالك والمبيع، ولا يشترط لصحة الإجازة قيام الثمن في يد البائع، فإن أجاز المالك البيع في حال قيام الأربعة جاز البيع ويكون البائع كالوكيل للمجيز، والثمن للمشتري إن كان قائماً، وإن هلك في يد البائع هلك أمانة، وإن باعه بثمن يتعين بالتعين يشترط ذلك قيام الثمن لصحة الإجازة، ثم إذا صحت الإجازة في هذا الوجه، وهو ما إذا كان الثمن شيئاً يتعين بالتعين وكان الثمن قائماً فالثمن يكون للبائع دون المجيز؛ لأن البائع صار مشترياً للثمن إذا كان الثمن شيئاً يتعين بالتعيين والشراء ينفذ على المشتري ولا يتوقف، ويرجع المجيز على البائع بقيمة ماله إن كان من ذوات القيم وبمثله إن كان من ذوات الأمثال. وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا باعه متاع غيره بغير إذنه، ثم مات فأجاز صاحب المتاع البيع لا يجوز، وإنه موافق لما ذكره الطحاوي فرق بين هذا وبين النكاح. والفرق: أن البيع إذا جاز يصير البائع وكيلاً لما عرف أن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء فترجع إليه الحقوق، والميت لا يصلح وكيلاً ولا كذلك النكاح، فإن هناك لا ترجع الحقوق إلى الوكيل. وفي «نوادر ابن سماعة» قلت لمحمد: رأيت رجلاً غصب من آخر حيواناً وباعه من آخر فأجاز المغصوب منه البيع ولا يعلم ما حال المغصوب، قال محمد رحمه الله: البيع جائز حتى يعلم أنه تلف، قال: وهو قول أبي يوسف الأول، ثم رجع ببغداد وقال: البيع فاسد حتى يعلم حياته، فإن قال المشتري: المبيع كان هالكاً وقت الإجازة وقال البائع: إنما مات بعد الإجازة فالقول قول البائع. وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل باع ثوب غيره بغير أمره فقبضه المشتري وصبغه، ثم أجاز رب الثوب البيع لم يجز؛ لأن المبيع قد هلك من وجه وصار شيئاً آخر، ألا ترى أن الغاصب إذا فعل ذلك مَلَكه. وفي «نوادر ابن سماعة» : إذا باع أحد الشريكين نصف الدار مشاعاً ينصرف إلى نصيبه، ولو باع فضولي نصف الدار المشترك بين رجلين ينصرف البيع إلى نصيبهما، فإن أجاز

أحدهما صح البيع في النصف الذي هو نصيب المجيز، وهذا قول أبي يوسف، وقال محمد وزفر: البيع جائز في ربعها، ولو وهب نصيبه من الدين المشترك للمديون جازت الهبة في نصيبه، ولو وهب نصف الدين مطلقاً تنفذ الهبة كما لو قال: وهب نصف العبد المشترك. هشام عن محمد في غلام بين رجلين ليسا بشريكين في الأشياء قال: أحدهما لصاحبه وقد وكلتك ببيع نصيبي من هذا الغلام، فباع المأمور نصف هذا الغلام بعد هذا القول ولم يبين أي النصفين هو، ثم مات العبد بعد تسليم المبيع منه، فقال البائع بعد موته: قد بعت نصيبي فالقول قوله. قال في «الجامع الكبير» : رجل باع عبد غيره بغير أمر صاحب العبد بألف درهم ومثله المشتري، وباعه أخر من رجل بألف درهم بغير أمر صاحب العبد فقبله المشتري الثاني توقف العقدان؛ لأنه لا مزاحمة في التوقف، وإذا بلغ المولى ذلك فأجازهما بنصف العقدان؛ لأن البيعين تعارضا في الحكم، وليس أحدهما بأولى من الآخر والمحل قابل للتنصيف فينصف، فكان لكل واحد من المشترين الخيار؛ لأن كل واحد منهما إنما أقدم على السواء عنه في الكل، ولم يسلم لكل واحد منهما إلا النصف. وكذلك لو وكل المولى رجلين كل واحد منهما ببيع العبد فباعه كل واحد منهما من رجل على حدة ووقع البيعان جميعاً معاً يحكم بالتنصيف؛ لأنا نعتبر الإذن في الابتداء بالإجازة في الانتهاء بالبيعين بنصف البيعان، فكذا إذا وجد الإذن في البيعين في الابتداء ويخير المشتريان لما قلنا. وكذلك لو كان الذي ولي البيع فضولياً واحداً والمشتري أهان بأن باع العبد من رجل بألف بغير أمر المولى وباع من آخر كذلك، فبلغ المولى فأجازهما ينصف العقدان، وكان أبو الحسن الكرخي يقول: تأويل المسألة فيما إذا أخرج البيعان معاً بأن قال الذي ولي البيع: بعت من كل واحد منكما جميع هذا العبد من هذا بألف ومن هذا بألف فقبلا جميعاً، ثم أجاز المولى البيعين، فأما إذا حصل ذلك على وجه التعاقب، فالثاني ببعض الأول؛ لأن الفضولي ملتزم العهدة والناس يتعاونون في الوفاء بموجب المعاملة فصار إقدامه على البيع الثاني فسخاً للعقد الأول، والفضولي يملك فسخ العقد الموقوف قبل إجازة المالك، ولهذا لو فسخه صريحاً ينفسخ فيتضمن إقدامه على البيع الثاني فسخاً للبيع الأول، وصار كما لو كان المباشر للبيع الثاني هو المالك، وصار كما لو كان المشتري (68ب3) واحداً، وأكثر مشايخنا على أن ما ذكر في «الكتاب» : أصح. ووجهه: أنه لم يوجد من الفضولي فسخ العقد الأول لا نصاً ولا دلالة، أما نصاً فلا شك وكذلك دلالة لما قلنا: أنه لا مزاحمة في التوقف بخلاف ما إذا كان المباشر للعقد الثاني هو المالك أوجب حكم العقد وبين الحكمين تنافي فانتقض الأول ضرورة، وبخلاف ما إذا كان المشتري واحداً؛ لأن الشراء الثاني لازم في حق المشتري وإنما امتنع النفاذ من الجانب الآخر لحق المولى، فصار إقدام المشتري على الشراء الثاني فسخاً للأول، وهو يملك فسخ البيع الأول، فأما ههنا إن وجد من المشتري الثاني دلالة الفسخ إلا أنه لا يملك فسخ العقد الأول، والفضولي وإن ملك الفسخ لم يوجد منه دلالة الفسخ فلهذا لا ينفسخ العقد الأول.

ولو باع فضولي أمة رجل بألف درهم وزوجها آخر من رجل بمائة دينار فبلغ المولى فأجازهما جاز البيع وبطل النكاح؛ لأن البيع أقوى إذ يستفاد بملك النكاح وهو ملك المتعة وملك النكاح ولا يستفاد به شيئاً يترتب عليه ما يستفاد بالبيع وهو ملك الرقبة. ولهذا لو طرأ البيع على النكاح الموقوف لا يبطله ولو استويا كان ترجيح البيع أولى؛ لأنه يقبل التنصيف، والنكاح ولا يقبل التنصيف ولو أعتقها رجل بغير أمره أو كاتبها وباعها الأخر فأجازهما المولى معاً جاز العتق؛ لأن البيع يقبل البطلان والعتق والكتابة لا يقبلان الثبوت في أحد النصفين مع قيام البيع في النصف الآخر فوجب ترجيح العتق والكتابة لهذين الوجهين، ولهذا قلنا لو وكل رجل غيره بإعتاق عبده أو بكتابة عبده، ووكل آخر ببيع هذا العبد أيضاً ففعلا معاً فالعتق والكتابة أولى فههنا كذلك. ولو أن رجلاً وهب عبد رجل لرجل بغير أمره وسلمه المولى الموهوب له وباعه آخر من رجل فبلغ المولى، فأجازهما جميعاً جاز كل واحد منهما في النصف؛ لأن الهبة مع القبض تساوي البيع في حق إفادة الملك، وكل واحد منهما قابل للتنصيف، فإن هبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة صحيحة تامة، ويخير المشتري ولا يخير الموهوب له، فإن اختار المشتري الإنصاف فالأمر ماضي، وإن اختار الرد لا يرد ذلك النصف على الموهوب له؛ لأن القاضي لما قضى بينهما نصفان فقد صار الموهوب له مقضياً عليه في ذلك النصف، والإنسان متى صار مقضياً عليه في شيء لا يصير مقضياً عليه في ذلك النصف إلا بسبب جديد. وقد قال في كتاب الدعوى: في رجلين تنازعا في عين ادعى أحدهما الملك بالشراء والأخر بالهبة والقبض بإذن المالك وأقاما البينة على ذلك أن الشراء أولى، فقد رجح الشراء في مسألة الدعوى دون مسألتنا. والوجه في ذلك: أن في مسألة الدعوى ثبت العقدان بالبينة وجهل التاريخ، والأصل في العقد إذا تساويا، وجهل التاريخ أن يجعلا كالمقترنين. ولو اقترنا كان البيع يوجب الملك بنفسه والهبة لا توجب الملك ما لم يوجد القبض فيثبت ملك المشتري أولاً، وظهر أن الموهوب له قبض ملك المشتري إذ القبض وجد بعد العقدين فلم يثبت الملك للموهوب له، فأما ههنا القضاء يقع بالعقدين جميعاً عند الإجازة وحالة الإجازة الهبة مقبوضة للموهوب، والهبة مع القبض تساوي البيع إفادة الملك وقبول التنصيف، فلهذا يقضي بالعقد بينهما نصفين. ولو كان مكان العبد في مسألة «الكتاب» : داراً والباقي بحاله جاز البيع دون الهبة؛ لأن البيع قابل للتنصيف والهبة ههنا غير قابلة للتنصيف؛ لأن هبة المشاع فيما يحتمل القسمة غير صحيحة، فرجحنا البيع على الهبة. ومن هذا الجنس رجل وهب دار رجل لرجل وسلم، ووهبها رجل آخر لرجل آخر وسلم أيضاً فأجاز صاحب الدار العقدين معاً بطلا عند أبي حنيفة، وجاز عندهما؛ لأنه لما أجاز العقدين صار كأنه وهبها من رجلين نصفين إذ قضية الاستواء التنصيف، وهبة الدار من رجلين

نصفين باطلة عند أبي حنيفة جائزة عندهما فههنا كذلك، وكذلك الهبة والصدقة لاستوائهما في المعنى. ولو باعها رجل من رجل ورهنها أخر من رجل بدين له فأجاز صاحبها ذلك كله جاز البيع وبطل الرهن؛ لأن البيع أقوى؛ لأنه يوجب ملك الرقبة والرهن لا يوجب ملك الرقبة؛ ولأن البيع قابل للتنصيف والرهن لا يقبل التنصيف؛ لأن رهن المشاع لا يصح سواء كان مشاعاً يحتمل القسمة أو لا يحتمل القسمة، فلهذا رجحنا البيع، ولو كان أحدهما صدقة أو هبة والأخر رهناً، فإن كان في العبد والهبة والصدقة أولى لما قلنا في البيع مع الرهن، وإن كان في الدار بطل إذ لا يمكن تصحيح كل واحد منهما في نصف الدار شائعاً. فإن قيل: ينبغي أن تترجح الهبة والصدقة؛ لأنه أقوى منهما، فإن كل واحد منهما يفيد ملك الرقبة والرهن لا يفيد ملك الرقبة. قلنا: الهبة إن كانت أقوى من هذا الوجه فالرهن أقوى من وجه آخر، فإن الرهن عقد ضمانٍ، والهبة عقد تبرع فوقعت المعارضة بين قوة الرهن من هذا الوجه وبين قوة الهبة من الوجه الذي قلتم، فثبتت المساواة بينهما فكان الحكم هو التنصيف وواحد من ذلك لا يقبل التنصيف. ولو كانا رهنين في دار أو عبد فذلك كله باطل لتعذر الترجيح وتعذر التنصيف؛ لأن رهن المشاع لا يصح على كل حال ولم يجعل هذا بمنزلة الرهن من رجلين؛ لأن هناك لا يتحقق الشيوع، فإن العقد واحد والكل يصير رهناً عندهما، ولا يصير عند كل واحد منهما نصفه رهناً فلم يتمكن من الشيوع، أما هنا العقدان توقفا ليعيد كل واحد منهما في الكل عند زوال المزاحمة وفي النصف عند بقائها وقد بقيت المزاحمة فيعيد كل عقد في النصف دون النصف فيتمكن الشيوع. وإذا اجتمع البيع والإجارة في العبد أو الدار فالبيع أولى؛ لأن البيع أقوى، فإنه يفيد ملك الرقبة وملك المنفعة بناء عليه، أما الإجارة لا تفيد ملك الرقبة؛ ولأن البيع يحتمل التنصيف والإجارة لا تحتمل التنصيف فترجح البيع عند أبي حنيفة بعلتين، وعندهما بالعلة الأخرى. وإذا اجتمعت الهبة والإجارة فالهبة أولى؛ لأنها أقوى؛ لأنها تفيد ملك الرقبة وملك المنفعة بناء وتبعاً والإجارة لا تفيد ملك الرقبة والهبة قابلة للتنصيف والإجارة لا تحتمل التنصيف عند أبي حنيفة، وهذا إذا كان الدعوى في العبد، فإن كان في الدار فالهبة أولى أيضاً عند أبي حنيفة لكن للعلة الأولى دون الثانية، وعندهما الترجيح في الدار والعبد للعلة الأولى دون الثانية لما مر. وإذا اجتمع الرهن مع الإجارة فالإجارة أولى في الدار والعبد جميعاً. قيل: هذا على قولهما؛ لأن الإجارة تقبل التنصيف عندهما والرهن لا يقبل، فأما عند أبي حنيفة فهما سواء فينبغي أن يبطل. وقيل: لا بل هذا قول الكل؛ لأن الشيوع في الرهن أشد تأثيراً منه في الإجارة؛ لأن رهن المشاع باطل لا حكم له، وإجارة

المشاع فاسدة لها حكم وهو أجر المثل عند استيفاء المنافع، ورهن المشاع من الشريك لا يجوز إجارة المشاع من الشريك جائزة في المشهور من الرواية فكان الشيوع أشد تأثيراً في إبطال الرهن فلهذا صارت الإجارة أولى، ولأن الإجارة أقوى من الرهن؛ (69أ3) لأن الإجارة توجب ما يوجبه الرهن وهو الجنس ويوجب ملك المنفعة أيضاً وهو عقد معاملة، والرهن لا يوجب ملك المنفعة وليس بمعاوضة فلهذا كان الترجيح للإجارة. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد: رجل باع ثوباً لرجل من ابن نفسه بغير أمر صاحبه والابن صغير مأذون أو باعه من عند نفسه والعبد مأذون له في التجارة وعليه دين أو لا دين عليه، ثم إن البائع أعلم رب الثوب أنه قد باع ثوبه ولم يعلمه ممن باعه لا يجوز ذلك إلا في عبده الذي عليه الدين من قبل أنه لو أمره ببيعه مبتدئاً من أحد من هؤلاء إلا من عبده الذي عليه الدين.6 قال: امرأة جاءت بألف درهم إلى رجل وقالت: اشتر والد ذلك فالدار للمشتري والإجارة باطلة. رجل قال لأخر: قد اشتريت عبدك هذا من نفسي بألف درهم والمولى حاضر وقت هذه المقالة فقال: قد أجزت وسلمت قال: أجعله بيعاً الساعة منه بألف درهم، ولو قال: هذا في شيء ماض كان باطلاً. ولو قال: اشتريت عبدك هذا من نفسي، ومن فلان بألف درهم يعني أمس فقال المولى: قد رضيت لم يجز في شيء؛ لأنه لا بيع واحد بثمن واحد، ولو قال: اشتريت عبدك هذا أمس اشتريت نصفه من نفسي بخمسمائة ونصفه من فلان بخمسمائة درهم فهو جائز في النصف الذي اشتراه من فلان يعني إذا قال المولى: قد أجزت. إذا اشترى عبداً وقبضه فادعاه رجل أنه عبده وأقام البينة وقد علم بالبيع فقضى له القاضي وقبضه، ثم أمضى العقد فإمضاؤه جائز، وكذلك إذا قضاه قبل أن يقضي له القاضي بالعبد جاز إمضاؤه. وفي «نوادر هشام» قال: سألت أبا يوسف: عن رجل غصب من رجل عبداً وباعه، ثم جاء المغصوب منه وأجاز البيع، قال: إن كان يقدر المغصوب منه على أخذ العبد فإمضاؤه جائز وإلا فإمضاؤه باطل، وهذا قول أبي يوسف الأخر، وقد مرت هذه المسألة قبل هذا. وإبراهيم عن محمد: رجلان بينهما صبرة من طعام باع أحدهما قفيزاً منه، ثم كاله لصاحبه فأجازه الآخر أو لم يجزه فالبيع جائز والثمن كله للبائع، وإن ضاع ما بقي من الطعام فللشريك على البائع نصف قفيز ولا سبيل له على المشتري، ولو عزل قفيراً من الصبرة أولاً، ثم باعه فأجازه الشريك فالثمن بينهما نصفان ولم يجزه وأخذ نصفه فأراد المشتري أن يرجع عليه من تمام القفيز فليس له ذلك، وهو بالخيار وإن شاء أخذه بنصف الثمن وإن شاء شارك.

إذا قال لغيره: بعتك من هذه الحنطة وهو مكيلها بمائة درهم فإن ههنا يقع البيع، وكذلك السمن والزيت وما يكون له نموذج، فأما الثياب فليس لها نموذج. وإذا باع من آخر جراباً على أنه أربعون، فإذا هو واحد وأربعون، ثم باعه المشتري على أنه واحد وأربعون فأجاز البائع الأول ذلك فله من هذا الثمن جزؤه من واحد وأربعين، ويقسم الثمن على عدد الثياب. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد: رجل غصب من آخر عبداً وباعه الغاصب من رجل وسلمه المشتري، ثم إن الغاصب صالح مولاه منه على شيء، قال: إن صالحه على القيمة دراهم أو دنانير جاز بيع الغاصب وهذا بمنزلة ضمان القيمة، وإن صالحه على عرض من العروض فهذا بمنزلة بيع المستقبل، والبيع الأول باطل. وفي «المنتقى» : رجل باع عبد رجل بغير أمره، ثم إن البائع اشتراه أقام بينة أنه اشتراه من مولاه بعد البيع قبل ذلك هكذا قاله محمد رحمه الله. وفيه أيضاً: رجل باع عبد رجل بغير أمره، فقال له صاحب العبد: أحسنت وأصبت ووفقت فهذا لا يكون إجازة للبيع، وله أن يرده؛ لأنه قد يكون هذا على التعجب والاستهزاء، ولكن إن قبض الثمن فهو إجازة للبيع. وكذلك إذا قال: قد كفيتني مؤنة البيع وأحسنت فجزاك الله خيراً لم يكن ذلك إجازة؛ لأنه قد يجيء هذا على وجه الاستهزاء. وفي «نوادر هشام» : عن محمد رحمه الله: في رجل باع جارية رجل بغير أمره فلقيه رب الجارية فقال: أحسنت أو وفقت فالبيع جائز استحساناً، فصار في المسألة روايتان. وفي «المنتقى» : أن قوله بئس ما صنعت إجازة، وكذلك قبض الثمن إجازة. بشر عن أبي يوسف: رجل باع عبد رجل بغير أمره فبلغه الخبر فقال للبائع: قد وهبت لك الثمن أو قال: تصدقت به عليك فهذا إجازة للبيع إن كان قائماً. وعنه أيضاً: اشترى رجل أمة رجل من غيره ووقع عليها وعلقت منه وولدت فأجاز المولى جاز، وليس في الولد قيمة ولا عقر على المشتري. ابن سماعة عن محمد: رجل باع بغير إذنه فجاء المشتري إلى مولاه وأخبره أن فلاناً باع عبده منه، قال: إن باعك بمائة درهم فقد أجزت، فقال: إن كان باعه بمائة أو أكثر من الدراهم جاز، وإن كان بأقل من مائة لا يجوز وإن باعه بألف دينار لا يجوز، وإنما ينظر في هذا إلى النوع الذي وصفه. وكذلك إن كان قال: إن باعك بمائة دينار فهو جائز فهو على (ما) وصفت لك، وإن قال: إن كان باعك بمائة أجرت ذلك فهذا عبده وإذا غصب عبداً وباعه من غيره، ثم أبق العبد من يد المشتري، ثم أجاز المالك البيع جاز عند أبي حنيفة خلافاً لزفر.

الفصل العاشر: في الاختلاف الواقع بين البائع والمشتري

الفصل العاشر: في الاختلاف الواقع بين البائع والمشتري هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منها في الاختلاف في صحة العقد وفساده، هذا النوع ينبني على عبارتين. أحديهما: أن المتعاقدين إذا ادعى صحة العقد وادعى الآخر فساده، فإن كان مدعي الفساد يدعي الفساد ولا يدفع إستحقاق مال عن نفسه لا يصدق في دعوى الفساد، وهذا لأن مدعي الفساد إذا كان لا يدفع عن نفسه استحقاق مال بقي من جانبه مجرد دعوى الفساد لا يقبل؛ لأن الظاهر شاهد لمدعي الجواز وهو ظاهر عقله ودينه؛ لأن عقل الإنسان ودينه يمنعانه عن مباشرة العقد الفاسد وعن دعوى الجواز كاذباً، وظاهر عقل مدعي الفساد ودينه إن كان يمنعانه عن دعوى الفساد كاذباً يمنعانه عن مباشرة العقد الفساد فظاهر عقل مدعي الفاسد ظاهر له من وجه وعليه من وجه وظاهر عقل مدعي الجواز شاهد له من كل وجه. والقول قول من يشهد له الظاهر، فمن كانت شهادة الظاهر له أكثر كان قوله أولى بالقبول، أما إذا كان مدعي الفساد بدعوى الفساد يدفع استحقاق مال عن نفسه لو جعلنا القول قول مدعي الجواز بشهادة الظاهر له فقد جعلناه مستحقاً مالاً على صاحبه بشهادة الظاهر والظاهر لا يصلح حجة الاستحقاق، ومتى جعلنا القول قول من يدعي الجواز بشهادة الظاهر لدفع صفة المعصية عن فعلهما والمعاصي أبداً تدفع عن المسلمين بشهادة الظاهر. إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسائل: فنقول في بيع العين: إذا ادعى أحد المتعاقدين الفساد بأن ادعى شرطاً فاسداً فالقول قول من يدعي الصحة؛ لأن بيع العين عقد معادلة من الجانبين؛ لأنه بيع بالمثل من الجانبين، فإن مبنى البيع على المساواة والمعادلة من الجانبين فمدعي الفساد لا يدفع عن نفسه استحقاق شيء من حيث المعنى؛ لأنه يحصل له مثل ما استحق عليه متى جاز العقد الاستحقاق فكأنه لم يستحق عليه فبقي مجرد دعوى الفساد من غير دفع الاستحقاق فيكون القول (69ب3) قول الجواز على ما مر. وفي باب النكاح إذا ادعى أحد الزوجين الصحة والآخر الفساد، بأن ادعى أحدهما أن النكاح كان بغير شهود وادعى الآخر أنه كان بشهود، أو ادعى أحدهما أن النكاح كان في عقد الغير وادعى الآخر أنه كان بعد انقضاء العدة فالقول قول من يدعي الصحة؛ لأن عقد النكاح معادلة من الجانبين؛ لأن من الجانب الزوج المهر وأنه عين ومن جانب المرأة منافع البضع ومنافع البضع في حكم الأعيان، فصار كبيع العين. وللمضارب إذا ادعى فساد العقد بأن قال لرب المال: شرط لي نصف الربح إلا عشرة ورب المال يدعي جواز المضاربة بأن قال: شرطت لك نصف الربح فالقول قول

رب المال؛ لأن المضارب بدعوى الفساد لا يدفع الاستحقاق عن نفسه وإن كان مستحق على المضارب بعد عقد المضاربة شيء؛ لأن المستحق له جوّز من الربح إنه عين مال والمال خير من المنفعة والاستحقاق بعوض هو خير كلا الاستحقاق فلم يكن المضارب بدعوى الفساد دافعاً عن نفسه الاستحقاق فلا يقبل قول رب المال إذا ادعى فساد المضاربة بأن قال رب المال للمضارب: شرطت لك نصف الربح إلا عشرة والمضارب ادعى جواز المضاربة فالقول قول رب المال؛ لأن رب المال بدعوى الفساد يدفع عن نفسه استحقاق مال؛ لأن ما يستحق لرب المال منفعة المضارب وما يستحق على رب المال عين مال وهو جزء من الربح والعين خير من المنفعة، وإذا كان ما يستحق على رب المال خير أكان المال بدعوى الفساد دافعاً عن نفسه استحقاق زيادة قال: فكان القول قوله. وإذا ادعى رب المال السلم لأجل والمسلم إليه لواحد منهما فالقول قول رب السلم استحساناً؛ لأن المسلم فيه على تقدير ثبوت الأجل وجواز العقد لا يصير مستحقاً للحال فلا يكون المسلم إليه بدعوى الفساد عن نفسه استحقاقاً فلا يقبل قول، ويكون القول قول من يدعي الجواز وهو رب المسلم بشهادة الظاهر له. العبارة الثانية: أن العاقدين إذا اتفقا على وجود عقد واحد واختلفا في صحته وفساده فالقول قول من يدعي الصحة. كما في بيع العين إذا ادعى أحدهما فساد العقد بأن ادعى اشتراط فاسد والآخر يدعي الجواز فالقول قول من يدعي الجواز؛ لأنهما اتفقا على عقد واحد؛ لأن البيع باشتراط شرط فاسد لا يصير عقداً آخر بل يكون بيعاً فاسداً، فقد اتفقا على عقد واحد واختلفا في صحته وفساده. وكذلك في باب النكاح: إذا ادعى أحدهما فساد العقد بأن ادعى أن النكاح كان بغير شهود أو ما أشبه ذلك، وادعى الآخر أن النكاح كان بشهود فالقول قول من يدعي الجواز؛ لأنهما اتفقا على وجود عقد واحد؛ ولأن النكاح بسبب الفساد لا يصير عقداً آخر أنما اختلفا في صحته وفساده. وكذلك في باب السلم إذا ادعى رب السلم الأجل وأنكر المسلم إليه الأجل فالقول قول رب السلم استحساناً؛ لأن السلم بسبب الفساد لا يصير عقداً آخر فقد اتفقا على وجوده عقد واحد واختلفا في صحته وفساده، فكان القول قول من يدعي الجواز. وفي باب المضاربة: إذا قال رب المال: شرطت لك نصف الربح إلا عشرة، وقال المضارب: شرطت لي نصف الربح فالقول قول رب المال؛ لأن هناك ما اتفقا في وجود عقد واحد بل اختلفا فيه؛ لأن رب المال يدعي الإجازة؛ لأن المضاربة إذا فسدت تصير إجازة فاسدة، فإذا جازت كانت شركة فقد اختلفا في العقد الذي باشر المضاربة. ادعى الشركة وأنكرها رب المال وأقرّ له بالإجازة فيكون القول قول رب المال، كما لو أنكر المضاربة ولم يقر بالإجازة. فإن قيل: هذا القدر الذي قلتم في فصل المضاربة يشكل ما إذا قال رب المال

للمضارب: شرطت لك ثلث الربح وزيادة عشرة، وقال المضارب: شرطت لي الثلث فالقول قول المضارب، وقد اختلفا في نوع العقد. قلنا: هناك اتفقا على عقد واحد ابتداء وهو الشركة، فإن المضارب ادعى ذلك ورب المال أقر له بذلك ابتداء المال شرطت لك نصف الربح؛ لأن قوله: وزيادة عشرة مقطوعة عن أول الكلام فلا يتوقف أول الكلام عليه، فكان هذا من رب المال دعوى عقد آخر بعد الإقرار بوجود عقد واحد فلا يصدق في دعواه، بخلاف قوله إلا عشرة؛ لأن هذا استثناء أول الكلام يتوقف على الاستثناء. فأما إذا اختلف الزوجان في النكاح باشراه بأنفسهما أنه كان في حالة الصغر أو بعد البلوغ فيه، كان القول قول من يدعي النكاح في حالة الصغر؛ لأن هناك ما اتفقا على وجود العقد بل اختلفا في وجوده؛ لأن عبارة الصغير فيما يضره أو يتردد بين الضرر والنفع ملحق بالعدم. كعبارة المجنون، فكان المدعي للنكاح في حالة الصغر منكراً وجود النكاح فكان القول قوله. وإن كان بمنزلة ما لو قالت: تزوجتني قبل أن أحلق، أو قال الرجل: تزوجتك قبل أن أحلق، وقال الآخر: لا بل بعد الحلق، أما ههنا اتفقا على وجود النكاح، فإنهما اتفقا أنهما كانا من أهل العقد حال ما باشرا العقد، وإنما اختلفا في صحته وفساده. ذكر في «المنتقى» بشر عن أبي يوسف في «الإملاء» : رجل ادعى عبداً في يدي رجل لي اشتريته من صاحب اليد بألف درهم، وقال صاحب اليد: بعته منه بألف درهم وشرطت عليه أن لا يبيعه أو ما أشبه ذلك من الشروط التي تفسد البيع فالقول قول المشتري، وإن كان مدعي الشرط هو المشتري فالقول قول البائع؛ لأنهما اتفقا على وجود العقد واختلفا في صحته وفساده ومدعي الفساد لا يدفع عن نفسه استحقاق مال على العبارة الأولى، وعلى العبارة الثانية اتفقا على وجود عقد واحد واختلفا في صحته وفساده فيكون القول قول من يدعي الصحة. فإن قال مدعي الشراء: اشتريت عبدك هذا بعبدي هذا وقال البائع: بعته منك بألف درهم ورطل من خمر، أو قال: بألف درهم وخنزير فأقاما البينة فالبينة بينة البائع، وإذا ادعى للبائع أن الثمن كله خمر أو خنزير فأقاما البينة فالبينة بينة المشتري. والحاصل: أنه إذا اتفقت بينة البائع والمشتري على ذكر ما يصلح ثمناً وأثبت أحديهما شرطاً زائداً يفسد به البيع، كما إذا اتفقا أن البيع كان بألف درهم وزادت أحديهما خنزيراً أو رطلاً من خمر فالبينة بينة الفساد، وإذا اختلفا في ذكر ما يصلح ثمناً فأثبت أحديهما ما يصلح ثمناً بأن قال: كان البيع بألف درهم أو بهذا العبد، وأثبتت الأخرى ما لا يصلح ثمناً بأن قالت: الثمن كله خمر أو خنزير فالبينة بينة الصحة. وذكر المعلى عن أبي يوسف: رجل باع من آخر داراً، ثم قال: بعتها بيعاً صحيحاً فاسداً، وقال المشتري: اشتريتها شراء صحيحاً فإني أقول للبائع: كيف بعته فإني أقول

للمشتري: كيف اشتريته، فإن قال: اشتريته بألف درهم ونقدت الثمن حلفت البائع على ذلك فإن حلف قلت للبائع: كيف بعته؟ فإن قال: بعته على أن مسمى طعاماً اربح فيه، حلفت المشتري ما اشتراه بهذا الشرط، فإن حلف كان البيع صحيحاً، وإن قال البائع: بعتها بخنزير فالقول قوله. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل قال لآخر: بعتك هذا العبد بألف درهم ورطل خمر وقال المشتري: اشتريته بألف درهم لا غير، قال: كان أبو حنيفة رحمه الله يقول في مثل هذا: أن القول (70أ3) قول من يدعي الصحة، وأما أنا فأرى أن يجعل القول قول البائع. ولو قال: بعتك بألف درهم حالة وقال المشتري: بألف درهم إلى العطاء فالقول قول البائع: وإن أقاما البينة (فالبينة) بينة المشتري. وعن أبي يوسف: في رجل باع آخر متاعاً وسلمه إلى المشتري، ثم اختلفا فقال المشتري: اشتريته بألف درهم، وقال البائع: بعته بألف درهم، أو قال: بمائة دينار وزاد في دعواه أمراً يفسد به البيع إما شرطاً أو لمن حرم يفسد به البيع، فإن البائع يحلف على دعوى المشتري وينتقض البيع إن حلف، وليس على المشتري يمين بدعوى البائع؛ لأن دعوى البائع لو أقر أنه جميعاً لم يلزم بها البيع. قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: وقد قال في مجلس آخر بعد هذا في رجل باع عبداً من آخر وقد أقرا جميعاً أنه كان آبقاً، فقال البائع: بعتك في أيامه وقال المشتري: لعينيه بعدما أخذته فالقول قول الذي يدعي صحة البيع أنهما كانا، وكذلك في نظائره، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الذي يدعي الصحة. رجل باع من آخر بيعاً فاسداً وسلمه إلى المشتري، ثم إن البائع باعه من غيره بيعاً صحيحاً وقبضه المشتري الثاني، فقال البائع للمشتري الثاني: بعتكه قبل أن أقبضه من المشتري الأول وقبل أن ينفسخ البيع بيني وبينه، وقال المشتري الثاني: لا بل بعته بعد ما قبضه وفسخت البيع الأول فالقول قول المشتري الثاني، ولا يصدق البائع على إبطال البيع الثاني وقد انفسخ البيع الأول بقبض المشتري الثاني. إبراهيم عن محمد: في رجل اشترى ألف مَنّ من القطن، ثم اختصم البائع والمشتري بعد ذلك وفي يد البائع والمشتري بعد ذلك، وفي يد البائع ألف مَنّ من القطن يوم الخصومة، فقال البائع: لم يكن في ملكي يوم البيع قطن أصلاً أو قال: قد كان وقد بعت ذلك القطن ولم يكن هذا القطن في ملكي يوم البيع، وإنما أحدث بعد ذلك فالقول قول البائع أنه لم يبع هذا القطن. رجل قال لأخر: بعتك هذا العبد بألف درهم وقال ذلك الرجل: لم اشتره منك فسكت البائع حتى قال: المشتري في ذلك المجلس أو بعده هي تلي قد اشتريته منك بألف درهم فهو جائز. قال: وكذلك في النكاح وفي كل شيء يكون لهما جميعاً فيه حق إذا رجع المنكر إلى التصديق قبل أن يصدقه الأخر على إنكاره فهو جائز، وكل شيء يكون الحق فيه لواحد مثل الهبة والصدقة والإقرار فلا ينفعه إقراره له بعد إنكاره، هذه المسألة من «المنتقى» .

وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل باع عبد غيره بغير أمره وسلمه إلى المشتري ومات في يد المشتري فجاء المولى بعد ذلك بطلت يمينه وقال: قد كنت أجزت البيع لا يقبل قوله إلا ببينة، ولو قال: كان باعه بأمري قبل قوله. نوع آخر في الاختلاف الواقع بينهما في الثمن يجب أن يعلم أن البائع مع المشتري إذا اختلفا في جنس الثمن أنه دراهم أو دنانير، أو في قدره أنه ألف أو ألفان، أو في صفته أنه صحاح أو جياد أو زيوف كسرة والسلعة قائمة بعينها أنهما يتحالفان. اختلفا قبل قبض المشتري المبيع أو بعده؛ لأن ظاهر قوله عليه السلام: «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة بعينها تحالفا وترادا» لا يجب الفضل، غير أن هذا الاختلاف إذا كان قبل (قبض) المبيع فالتحالف موافقه القياس؛ لأن المشتري يدعي على البائع وجوب تسليم المبيع بالثمن الذي ادعاه، والبائع ينكر ويدعي على المشتري زيادة ألف في الثمن والمشتري ينكر، فكان كل واحد منهما مدعياً ومنكراً واليمين حجة المنكر في الشرع فكان التحالف قبل القبض على موافقة القياس. وإن كان هذا الاختلاف بعد قبض (المبيع) فالتحالف على مخالفة القياس. والقياس: أن لا يحلف البائع وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن المشتري لا يدعي على البائع شيئاً ينكره البائع؛ لأن حق المشتري في المبيع رقبة وتصرفاً وذلك سالم للمشتري، الرقبة بحكم إقرار البائع والتصرف بالقبض فكان ينبغي أن لا يحلف البائع لكن حلفناه بالنص، ولهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف: أن هذا الاختلاف لو وقع بين ورثتهما بعد القبض لا يتحالف بعد القبض على مخالفة القياس بالنص، والنص تناول المتبايعين وهذا الاسم لا يتناول الورثة. وأما على قول محمد: فالتحالف بعد القبض على موافقة القياس وبه أخذ بشر بن غياث والكرخي؛ لأن كل واحد منهما يدعي على صاحبه عقداً ينكره صاحبه، البائع يدعي على المشتري العقد بألفين والمشتري ينكر، والمشتري يدعي على البائع العقد بألف والبائع ينكر، والعقد بألف غير العقد بألفين. فكان كل واحد منهما منكراً من هذا الوجه فكان التحالف بعد القبض على موافقة القياس، ولهذا قال محمد رحمه الله: بأن هذا الاختلاف لو وقع بين ورثتهما قبل القبض أو بعد القبض يتحالف فيما بين المتعاقدين على موافقة القياس لكونهما منكرين فيمكن قياس ورثتهما عليهما. وإذا وقع الاختلاف في المبيع فالتحالف قبل نقد الثمن على موافقة القياس وبعد نقد الثمن على مخالفة القياس عند أبي حنيفة وأبي يوسف بدلالة النص الذي رويناه، والأقضية القياس أن لا يحلف المشتري؛ لأنه مدعي لكن أوجبنا عليه اليمين بدلالة النص

الذي روينا؛ لأنه أوجب اليمين على المدعي، متى اختلفا في أحد بدلي العقد وهو الثمن، فكذا إذا اختلفا في البدل الآخر، ثم أوجب التحالف كيف يتحالفان. ذكر في «الأصل» : أن كل واحد منهما يحلف على دعوى صاحبه، يحلف البائع بالله ما بعته بألف كما يدعيه المشتري، ويحلف المشتري بالله ما اشتريته بألفين كما يدعيه البائع، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه. وذكر محمد في «الزيادات» : في باب السلسلة أن كل واحد منهما يحلف على دعوى نفسه وعلى دعوى صاحبه يحلف البائع بالله: ما بعته بألف كما ادعاه المشتري ولقد بعته بألفين كما ادعيت أنت، ويحلف المشتري بالله: ما اشتريته بألفين كما ادعى البائع ولقد اشتريته بألف كما ادعيت أنت. وكان أبو يوسف أولاً يقول يبدأ بيمين المشتري وهو قول زفر ومحمد وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمهما الله؛ لأن المشتري أشدهما إنكاراً؛ لأنه منكر صورة ومعني والبائع عندهما غير منكر أصلاً. وعند محمد منكر صورة؛ لأن المشتري وإن كان يدعي على البائع البيع بألف فإنما يدعيه صورة لا معنى؛ لأن المقصود من العقد الذي يدعيه المشتري ملك الرقبة والتصرف وكل ذلك سالم له فكان مدعياً صورة فكان البائع منكراً صورة فهو معنى قولنا: المشتري أشدهما إنكاراً فلهذا كانت البداية بيمينه أولى، ثم إذا تخالفا ذكر في كتاب الدعوى أن القياس أن يقضي بالبيع بأقل الثمنين كما يدعيه المشتري؛ لأن البيع بأقل الثمنين ثابت باتفاقهما، وفي الاستحسان يترادان العقد لظاهر قوله عليه السلام: «تحالفا وترادا» فهذا أمر عرف بالنص بخلاف القياس، ويحتاج إلى فسخ القاضي أو إلى فسخهما لينفسخ العقد إما بدون ذلك لا ينفسخ العقد بينهما.g وفي مسائل السلم يقول: فيما إذا اختلفا في المسلم فيه أو في مقدار رأس مال السلم وحلفا فالقاضي يقول لهما ماذا تريدان، فإن قالا: نفسخ العقد أو قال أحدهما ذلك فالقاضي يفسخ العقد بينهما، وإن قالا: لا نفسخ العقد تركهما القاضي رجاء أن يعود أحدهما إلى تصديق صاحبه سيمضيان في البيع. وفي كتاب البيوع للحسن بن زياد إذا حلف كل واحد منهما على دعوى الآخر فقبل أن يفسخ القاضي العقد (70ب3) بينهما فللبائع أن يقول أنا ألزمه المشتري بألف درهم وللمشتري أن يقول أنا آخذه بألفي درهم وبعد ما فسخ القاضي بينهما فليس لأحدهما كلام وأنهما ما نكل عن اليمين لزمه ما ادعاه صاحبه لصيرورته مقراً بما يدعيه صاحبه عند نكوله، وأيهما أقام بينة قبلت بينته. وإن أقاما بينة فالبينة بينة البائع؛ لأن فيها زيادة إثبات هذا وقع الاختلاف بين المتبايعين، فإن وقع الاختلاف بين ورثتهما أو بين ورثة أحدهما وبين الحي، فإن كانا قبل

قبض السلعة يتحالفان بالإجماع، وإن كانا بعد القبض فكذلك عند محمد، وعلى قول أبي يوسف وأبي حنيفة لا يتحالفان، وقد ذكرنا هذا إذا اختلفا في الثمن مقصوداً، وأما إذا اختلفا في الثمن مقتضى اختلافهما في شيء آخر. وصورته: رجل اشترى من آخر سمناً في زق ووزنه مائة رطل، ثم جاء بالزق ليرده ووزنه عشرون، فقال البائع: ليس هذا زقي، وقال المشتري: هو زقك فالقول قول المشتري، سمي لكل رطل ثمناً بأن قال: كل رطل بدرهم أو لم يسم وجعل هذا اختلافاً في مقدار المقبوض والقول قول المشتري في أصل القبض فكذا في مقدار المقبوض. ثم هذا اختلاف في الثمن؛ لأن بزيادة وزن الزق ينتقص الثمن، وبنقصان وزن الزق يزداد الثمن، فالبائع يدعي زيادة في الثمن والمشتري ينكر، ولم يعتبر هذا الاختلاف في إيجاب التحالف؛ لأن الاختلاف في الثمن إنما وقع مقتصى اختلافهما في الوزن، فصار الأصل أن الاختلاف في الثمن إنما يوجب التحالف إذا كان الاختلاف واقعاً فيه مقصوداً، وههنا شيئاً آخر وكلمات كثيرة تأتي في آخر هذا النوع إن شاء الله تعالى، هذا إذا كانت السلعة قائمة بعينها لم يتغير عن حالها، فأما إذا كانت قد تغيرت عن حالها فهذا على وجهين: الأول: أن يكون التغير من حيث الزيادة وإنه على وجهين أيضاً: فإن كانت الزيادة من حيث السعر وقد اختلفا في مقدار الثمن قبل القبض أو بعض القبض فإنهما يتحالفان، وإن كانت الزيادة من حيث العين، فإن حدث قبل القبض فإنهما يتحالفان وإن كانت الزيادة من حيث العين، فإن حدث قبل القبض فإنهما يتحالفان أي: زيادة ما كانت متصلة أو منفصلة متولدة من العين كالولد أو بدل العين كالأرش أو بدل المنفعة كالكسب والغلة، وهذا لا يوجب التحالف الفسخ والزيادة من حيث السعر لا يمنع الفسخ بسائر أسباب الفسخ على كل حال فكذا بالتخالف، وكذا الزيادة من حيث العين الحادثة قبل القبض لا يمنع الفسخ بسائر أسباب الفسخ فكذا بالتحالف إلا أن الزيادة المنفصلة إذا كانت متولدة من عينها كالولد أو بدل العين

كالأرش، والعقر وقد تحالفا وفسخ القاضي العقد بينهما، فإن الزيادة تصير للبائع عندهم جميعاً، كما لو حصل الفسخ بالإقالة أو بالرد بالعيب. وإن كانت الزيادة المنفصلة كالكسب والغلة إذا تحالفا وفسخ القاضي العقد بينهما أو تفاسخا، فإن الكسب والغلة تكون للمشتري عند أبي حنيفة، وعلى قولهما يكون للبائع، كما لو حصل الفسخ بالإقالة قبل القبض أو بالرد بالعيب أو بالهلاك، فإن هناك الزيادة تكون للمشتري عند أبي حنيفة. وعندهما: تكون للبائع فالأصل عند أبي حنيفة أن الكسب الحادث قبل القبض إنما يكون لمن كان الأصل له يوم الكسب، وعلى قولهما لمن صار له ملك الأصل هذا إذا حدثت الزيادة قبل القبض. فأما إذا حدثت بعد القبض، إن كانت الزيادة كالثمن والحال فعلى قولهما: لا

يتحالفان إلا أن يرضى المشتري أن يرد العين مع الزيادة المتصلة الحادثة بعد القبض عندهما يمنع الفسخ إلا برضى من له الحق في الزيادة، ولهذا قالا: بأن الصداق إذا أراد زيادة متصلة بعد القبض، ثم ورد الطلاق قبل الدخول، فإن الصداق لا يتنصف إلا برضاء المرأة، والصداق قبل الدخول إنما يتنصف بحكم الفسخ على ما يعرف في كتاب الطلاق، ثم امتنع التنصيف لما كانت الزيادة المتصلة عندهما إلا برضاء المرأة فكذا يمنع الفسخ ههنا إلا برضاء المشتري، وعلى قول محمد يتحالفان؛ لأن الزيادة المنفصلة بعد القبض كالولد لا يمنع التحالف على مذهبه، فالمتصلة أولى وإذا وجب التحالف على مذهبه وتخالفا، فإذا ترادان لم يذكر هذا في «الكتاب» . وقد اختلف فيه المشايخ قال بعضهم: بأنهما يترادا العين رضي المشتري بذلك أم سخط، وقاسوا هذه المسألة على الصداق، فإن الصداق يتنصف عند محمد رحمه الله رضيت المرأة بذلك أم سخطت فكذلك ههنا المشتري يرد العين على البائع مع الزيادة..... ومنهم من يقول بأيهما يترادان القيمة إلا أن يشأ المشتري أن يرد العين مع الزيادة. فهذا القائل يحتاج إلى الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الصداق على مذهب محمد رحمه الله. وجه الفرق له في ذلك: وهو أن تنصف الصداق بالطلاق قبل الدخول ثابت على موافقة القياس أن الطلاق قبل الدخول فسخ للنكاح معنى من حيث إن جميع المعقود عليه عاد إلى المرأة كما خرج عن ملكها من غير سبب جديد وهذا معنى الفسخ، وهو قطع للملك الثابت بالنكاح من حيث الحقيقة، فإن الطلاق موضوع للقطع لا للفسخ، ولهذا صح بعد الدخول وإن كانت لا تثبت معنى الفسخ بعد، تبدأ الدخول فكان فسخاً معنى قطعاً حقيقية..... الشرع على الشبهين خطهما بقدر الإمكان فجعل للزوج النصف عملاً بالمعنى وبقي النصف للمرأة بالحقيقة، وإذا كان كذلك كان ثبوت حق الزوج في النصف بالطلاق قبل الدخول على موافقة القياس لولا الزيادة فلم يجز أن يبطل حقه بالزيادة المتصلة؛ لأن الزيادة المتصلة تبع للأصل ولا يجوز إبطال الأصل بالتبع. وأما الفسخ بعد التحالف ثابت على مخالفة القياس مراعاة لحق البائع لما ذكرنا أن القياس أن يقضي بالبيع بأقل الثمنين؛ لأنه متفق عليه إلا إن اثبتنا حق الفسخ بخلاف القياس مراعاة لحق البائع حتى يعود إلى رأس ماله إذا لم يصل إليه ما ادعى من البدل، وإذا كان الفسخ ثابتاً له على مخالفة القياس مراعاة لحق البائع لا يكون له الفسخ على وجه يكون فيه إبطال حق على المشتري وفي الفسخ على العين إبطال حق على المشتري وهو الزيادة المتصلة. فلهذا قلنا بأنهما يترادان القيمة ههنا إلا أن يرضى المشتري برد العين مع الزيادة هذا إذا كانت الزيادة متصلة، فأما إذا كانت منفصلة متولدة عن عيبها كالولد أو بدل العين كالأرش والعقر بعد القبض فإنهما يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف ويكون القول قول المشتري مع يمينه رضي المشتري برد الزيادة أو لم يرض؛ لأن هذه الزوائد تمنع الفسخ بسائر أسباب الفسخ فكذا يمنع الفسخ بالتحالف ومتى امتنع الفسخ على مذهبهما لا يجب التحالف كما بعد هلاك السلعة على مذهبه على القيمة. وإن كان الفسخ على العين متعذر فكذلك لا يمنع الفسخ بالتحالف على القيمة ألا ترى أنه بعد هلاك العين يتحالفان هذا وإن كانت الزيادة بدل المنفعة فإنهما يتحالفان بالإجماع؛ لأن هذه الزيادة لا تمنع فسخ البيع بسائر أسباب الفسخ فكذا بالتحالف كان الكسب للمشتري عندهم جميعاً كما لو حصل الفسخ بالرد بالعيب بعد القبض وبالإقالة بعد القبض، فإنه يبقى الكسب للمشتري عندهم جميعاً وبعيبه ورد النص فكذلك هذا، هذا (71أ3) إذا تغيرت من حيث الزيادة. أما إذا تغيرت من حيث النقصان كان النقصان من حيث السعر، فإنه لا يمنع التحالف عندهم جميعاً حصل قبل القبض أو بعده؛ لأن النقصان من حيث السعر لا يمنع فسخ العقد بسائر الأسباب حصل قبل القبض أو بعده فكذا لا يمنع الفسخ بالتحالف أيضاً. فأما إذا كان النقصان من حيث العين إن كان لفوات وصف إن كان قبل القبض، فإنه لا يمنع التحالف عندهم جميعاً؛ لأن النقصان من حيث الصفة قبل القبض لا يمنع الفسخ بالعيب ويختار الرؤية والشرط، وإن كذَّبه البائع فكذا لا يمنع الفسخ بالتحالف عندهم جميعاً؛ لأن النقصان من حيث الوصف بعد القبض لا يمنع الفسخ بحكم العيب ويختار الرؤية والشرط وإن كره البائع ذلك فكذا لا يمنع الفسخ بالتحالف عندهم جميعاً. وإن حصل بعد القبض فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: لا يتحالفان إلا أن يرضى البائع أن يأخذه ناقصاً؛ لأن النقصان من حيث الوصف بعد القبض يمنع الفسخ بحكم العين ويختار بالشروط والرؤية لا برضاء البائع بالإجماع، وإذا امتنع الفسخ امتنع التحالف عندهما. وفي قول محمد: يتحالفان؛ لأن امتناع الفسخ لفوات الصفة لا يكون أكثرها لا من امتناع الفسخ بسبب الهلاك وذلك لا يمنع التحالف على مذهبه على القيمة فكذا ههنا يتحالفان، ويتردان القيمة على مذهبه إلا إن رضي البائع أن يأخذ العين ناقصاً كما في الصداق، فأما إذا كان النقصان بفوات بعض المبيع إن كان قبل القبض، فإنهما يتحالفان على القائم عندهم جميعاً، وإن كان بعد القبض فالقول قول المشتري مع اليمين عند أبي حنيفة إلا أن يشاء البائع أن يأخذ القائم ولا يأخذ معه شيئاً على رواية «الجامع الصغير» وعلى رواية «الأصل» إلا أن يشاء البائع أن يأخذ القائم ولا يأخذ من ثمن الميت شيئاً. وقال أبو يوسف رحمه الله: يتحالفان في القائم ويترادان القائم والقول قول المشتري في حصة الهلاك من الثمن، وقال محمد رحمه الله: يتحالفان عينهما، ثم يترادان البيع في الحي على العين، وفي الهالك على القيمة. وصورتها: رجل اشترى عبدين صفقة واحدة وقبضهما، ثم مات أحدهما واختلفا

في الثمن فقال المشتري: اشتريتهما بألف درهم، وقال البائع: اشتريتهما بألفي درهم فهو على الاختلاف الذي ذكرنا يجب أن يعرف أولاً حكم المسألة فيما إذا كان المشتري عبداً واحداً وقبضه المشتري ومات واختلفا في الثمن. وفي تلك المسألة قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يتحالفان ويكون القول قول المشتري مع يمينه، وقال محمد: يتحالفان ولقب المسألة أن هلاك السلعة هل يمنع التحالف عندهما خلافاً لمحمد رحمه الله قوله عليه السلام: «إذا اختلفا المتبايعان تحالفا وترادا» من غير فصل بينهما إذا كانت السلعة قائمة أو كانت هالكة؛ ولأن كل واحد منهما يدعي على صاحبه عقداً ينكره صاحبه فيتحالفان كما في حال قيام السلعة، ولهما قوله عليه السلام: «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا» شرط قيام السلعة لإيجاب التحالف، وقد ذكرنا أن إيجاب التحالف بعد القبض على مخالفة القياس بالنص، والنص شرط لذلك قيام السلعة يبقي على أصل القياس؛ ولأن حكم التحالف الفسخ بعد صحة البيع والهلاك لا يقبل الفسخ بسائر أسباب الفسخ فكذا بالتحالف، وهذا إذا هلكت السلعة بعد القبض. فأما إذا هلكت بعد القبض فقد انفسخ العقد حين هلكت السلعة فلا معنى لاختلافهما إذا لم يكن الثمن مقبوضاً، وإذا عرفت حكم التحالف في العبد..... إلى العبدين وفيه اختلاف على ما ذكرنا فأبو حنيفة مرَّ على أصله فيقول التحالف بعد القبض عرف بخلاف القياس بالنص، والنص أوجب التحالف شرط قيام السلعة من كل وجه، فإن النبي عليه السلام قال: و «السلعة قائمة» ذكر السلعة مطلقاً ومطلق الاسم ينصرف إلى الكامل، فما بعد هلاك بعض السلعة يبقى على أصل القيام فلا يشرع التحالف بعد هلاك بعض السلعة ويكون القول فيه قول المشتري مع يمينه؛ لأنه منكر زيادة الثمن. وقول أبي حنيفة إلا أن يشاء البائع يأخذ القائم ولا يأخذ معه شيئاً على رواية «الجامع الصغير» ، أو لا يأخذ من ثمن الميت شيئاً على رواية «الأصل» تكلم المشايخ فيه أن هذا الاستثناء ينصرف إلى مادي وأن البائع بأي طريق يأخذ القائم قال مشايخ بلخ: هذا الاستثناء ينصرف إلى يمين المشتري والبائع يأخذ القائم بطريق الصلح عما ادعى قبل المشتري، وهذا لأن حق البائع قبل المشتري في الثمن لا في العبد القائم بعينه، فإذا أخذ منه هذا العبد ولم يأخذ من ثمن الميت شيئاً، أو لم يأخذ معه شيئاً أصلاً، فكأنه صالحه من الثمن على العبد القائم. وصار نقداً تقدير ما قال: في «الكتاب» على قول هؤلاء لا يتحالفان عند أبي حنيفة ويكون القول قول المشتري مع يمينه إلا أن يأخذ البائع العبد القائم ولا يأخذ شيئاً آخر فلا يحلف المشتري؛ وهذا لأن المشتري إنما يحلف إذا أنكر شيئاً يدعيه البائع، وإذا أخذ البائع العبد القائم صلحاً عن جميع ما ادعاه على المشتري سقط دعوى المشتري البائع فلا حاجة إلى تحليف المشتري.

وغيرهم من المشايخ قالوا: هذا الاستثناء منصرف إلى التحالف والبائع يأخذ القائم على جهة التحالف ويصير تقدير ما قال في «الكتاب» : على قول هؤلاء لا يتحالفان عند أبي حنيفة إلا أن يشاء البائع أن يأخذ العبد القائم، ولا يأخذ من ثمن الميت فيتحالفان، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه واختلفوا فيما بينهم في المعنى بعضهم قالوا: إنما لا يجب التحالف عند أبي حنيفة رحمه الله نظراً للبائع؛ لأنه خرج عن ملكه عند إذٍ والأن يعود إليه عند واحد والعرف جرى بين الناس أنهم يضمون الرديء إلى الجيد لترويج الرديء إلى الجيد وعسى كان الهالك هو الجيد، فلو قلنا: إنهما يتحالفان تضرر به البائع غير أنه إذا رضي أن يأخذ الحي فقد رضي بلحوق الضرر بنفسه فيترك وذاك هذا الرجل اشترى عبداً وقبضه فاطلع على عيب كان عند البائع فقبل أن يرده حدث عنده عيب آخر، فأراد أن يرده ليس له ذلك، فإن البائع إن قبل له ذلك، كذلك ههنا. وبعضهم قالوا: شرط التحالف عند أبي حنيفة قيام جميع المعقود عليه، وما بقي العقد على الهلاك فيكون القائم بعض المعقود عليه، فلا يجب التحالف لفوات شرطه ومالم يرض البائع بأن لا يأخذ من ثمن الميت شيئاً لا يمكننا فسخ العقد في الهلاك فيكون القائم بعض المعقود عليه، فلا يجب التحالف، فأما إذا رضي أن يأخذ ولا يأخذ من ثمن الميت شيئاً أمكننا فسخ العقد في الهالك فيعتبر العقد في الهالك ففسخنا حكماً قبل التحالف من حيث الإعتبار؛ لأنه شرط صحته فيكون القائم جميع المعقود عليه فيتحالفان، ويجوز أن يعتبر العقد منفسخاً في الهالك متى رضي البائع أن لا يأخذ من ثمن الميت شيئاً. وإن كان الهالك ما لا يقبل الفسخ؛ لأنه ينفسخ حكماً لا مكان التحالف في القائم، وقد يجوز أن يثبت الفسخ في الهالك تبعاً لغيره وإن كان لا يثبت مقصوداً، ثم شرط لصحة الفسخ في الهالك ومن البائع بأن لا يأخذ من ثمن الميت شيئاً أو لم يعتبر رضى المشتري وذلك؛ لأنَّا لو أوجبنا التحالف من غير رضى البائع وفسخنا العقد في الميت قبل التحالف من حيث الإعتبار بطل حق البائع في الهالك أصلاً من غير رضاه؛ لأنه يسقط حقه في الثمن الهالك من غير أن يعود إليه ما يصلح عوضاً عنه لإمكان التحالف في القائم (71ب3) ومن حكم التحالف فسخ العقد على وجه لا يبطل حق كل واحد منهما بغير عوض، فشرط رضى البائع أن لا يأخذ من ثمن الهالك شيئاً، حتى إذا اعتبر العقد منفسخاً في الهالك يكون فوات حقه في ثمن الهالك من غير عوض يحصل له برضاه، ولم يشترط رضى المشتري، وإن كان متى تحالفا ينفسخ العقد في القائم والهالك جميعاً بغير رضاه؛ لأن حقه إنما يزول عنها بعوض فإن الحي إن زال عنه سلم له ثمنه والميت كذلك، والفسخ بالتحالف على هذا الوجه صحيح من غير رضاء المشتري، كما لو كانا قائمين فتحالفا، وطلب البائع الفسخ، فإنه يفسخ العقد فيهما وإن أبى المشتري ذلك فكذلك هذا. وقال بعضهم: المانع من التحالف عند أبي حنيفة رحمه الله هلاك أحد العبدين بعد

القبض، فإنه لو كان هلك أحدهما قبل القبض وقبض المشتري الآخر، ثم اختلفا كانا يتحالفان؛ لأن المانع من التحالف عند أبي حنيفة إذا هلك أحدهما بعد القبض تعذر الفسخ في الحي بالتحالف؛ لأن الفسخ بالتحالف نظير الفسخ بخيار الرؤية وبخيار الشرط، ولا يملك المشتري الفسخ في القائم بعد هلاك أحد العبدين في يده بخيار الشرط وبخيار الرؤية، لما فيه من تفريق الصفقة على البائع قبل التمام، فكذا بالتحالف، فأما متى كان أحدهما مالكاً في يدي البائع قبل القبض أمكن المشتري رد ما قبض بخيار الرؤية وبخيار الشرط، فأمكنه الفسخ بالتحالف. وإذا ثبت هذا فنقول: متى رضي البائع أن يأخذ الحي ولا يأخذ من ثمن الميت شيئاً فقد جعل ما هلك في يد المشتري كالهالك قبل القبض؛ لأن من حكم هلاك المبيع قبل القبض أن لا يكون على المشتري ثمنه ويأخذ الحي لا غير، فصار للهالك في يد المشتري بهذه الصفة كالهالك قبل القبض من حيث الحكم. ولو هلك أحدهما قبل القبض حقيقة يتحالفان في الحي، فكذلك إذا جعل هالكاً قبل القبض حكماً لما رضي البائع أن يأخذ الحي، ولا يأخذ من ثمن الميت شيئاً. وأبو يوسف رحمه الله مر على أصله أيضاً، فإن من أصله أن هلاك المعقود عليه يمنع التحالف وقد هلك بعض المعقود عليه وبقي البعض فيمتنع التحالف في الهالك ويكون القول قول المشتري في حصة الهالك لا في القائم هذا كما قلنا في الإجارة، وإذا اختلفا في مقدار الأجر بعد استيفاء بعض المنفعة دون البعض يتحالفان فيما لم يستوف من المنفعة وفيما استوفى وهلك جعل القول قول المستأجر مع يمينه فكذلك هذا؛ وهذا لأن المقصود من التحالف الفسخ ليعود كل واحد منهما إلى رأس ماله وانفسخ، إن تعذر في الهالك لم يتعذر في القائم. ألا ترى أنه لو وجد بالقائم عيباً رده، ولو وجد بالهالك عيباً لا يرده فكذا هذا. ثم ذكر في «الكتاب» : أن على قول أبي يوسف رحمه الله القول قول المشتري في حصة الميت، ويتحالفان ويترادان في العبد القائم، ولم يذكر لغيبة التحالف على مذهبه فمن مشايخنا من قال: يقسم الثمن أولاً على قيمة العبدين فيخص الحي ألف درهم على زعم البائع، وعلى زعم المشتري خمسمائة، وإذا كان قيمتهما سواء فيحلف المشتري بالله ما اشتريته بألف درهم كما يدعيه البائع، فإن نكل ثبت ما ادعاه البائع وإن حلف لم يثبت، ثم يحلف البائع بالله ما بعته بخمسمائة كما يدعيه المشتري، فيتحالفان في القائم على حصته ولا يتحالفان في جملة الثمن، فإذا تحالفا فسخ العقد على الحي إن طلبا أو طلب أحدهما ذلك، ورد المشتري الحي على البائع، وسقط عن المشتري حصته. ثم يحلف المشتري على حصة الهالك بالله ما اشتريته بألف درهم، فإن نكل لزمه ما ادعاه البائع من حصة الهالك وذلك ألف درهم، وإن حلف لزمه ما أقرّ به وذلك خمسمائة درهم، ومن المشايخ من قال: لا بل يتحالفان في جملة الثمن فيحلف البائع بالله ما بعتهما بألف درهم كما يدعيه المشتري ويحلف المشتري، بالله ما اشتريتها بألفي

درهم كما يدعيه البائع، قالوا: وهكذا ذكر في «الجامع الكبير» : وهذا لأن المقصود من التحالف النكول، وإنما يحصل هذا المقصود إذا حنث الحالف في يمينه، ومتى حلف كل واحد منهما في حق الحي على حصته لا غير لا يحنث واحد منهما؛ لأن المشتري يحلف بالله ما اشتريته بألف فيحلف ولا يحنث في يمينه وإن اشتراهما بألفين؛ لأنه لم يشتر الحي على الإنفراد بألف وإنما اشترى عبدين بألف. وكذلك البائع إذا حلف بالله ما بعت الحي بخمسمائة يحلف في يمينه، وإن كان باعهما بألف كما يدعيه المشتري؛ لأنه لم يبع الحي على الانفراد وبخمسمائة إنما باع العبدين بألف درهم يبقى هذا القدر أن التحالف في الميت غير مشروع، والجواب أن التحالف عنده في الميت غير مشروع لأجل الفسخ؛ لأن الفسخ في الهالك مقصوداً متعذر والتحالف في الهالك ههنا عند أبي يوسف ما كان للفسخ فيه، وإنما كان لإمكان التحالف في القائم. وإذا تحالفا في جملة الثمن يترادان العقد في القائم على العين، وفي الميت لا يفسخ العقد ويكون القول قول المشتري في مقدار ثمنه ويجب أن يكون كيفية التحالف على قول أبي حنيفة على هذا الوجه متى رضي البائع أن يأخذ القائم ولا يأخذ من ثمن الميت. فعند بعض المشايخ يتحالفان في حصة الحي من الوجه الذي ذكرنا، وعند بعضهم يتحالفان في جملة الثمن، ثم إذا تحالفا يفسخ العقد في الحي فيرد الحي على البائع ولا يأخذ البائع من ثمن الميت شيئاً هذا إذا تصادقا أن قيمتها يوم العقد ويوم القبض على السواء. فأما إذا اختلفا في قيمتهما يوم العقد ففي حق الحي ينظر إلى قيمته للحال، ويجعل الحال حكماً ويكون القول من يوافق قيمته للحال، وأما في الهالك إذا اختلفا في قيمته فقال المشتري: كانت قيمته يوم القبض خمسمائة وقيمة القائم ألف درهم، وقال البائع على عكس ذلك لم يذكر محمد هذه المسألة في شيء من الكتب نصاً. وروى أصحاب «الأمالي» : عن أبي يوسف: أن القول قول البائع وإليه أشار محمد رحمه الله في بيوع «الأصل» : في مسألة يأتي ذكرها بعد هذا إن شاء الله؛ وهذا لأن المشتري لزمة ضمان الثمن كله بالقبض فهو بما يدعي يريد براءة نفسه عن بعض الثمن فلا يصدق إلا ببينة، ومحمد رحمه الله مر على أصله أيضاً: فإن هلاك جميع السلعة عنده لا يمنع التحالف فهلاك البعض أولى فيتحالفان ويرد القائم ويفسخ العقد في الهالك على قيمته. وكيفية التحالف على محمد ظاهر يحلف المشتري أولاً بالله ما اشتريتهما بألفين كما يدعيه البائع، فإن نكل لزمه ألفان وإن حلف يحلف البائع بالله ما بعتهما بألف كما يدعيه المشتري، فإن نكل ثبت ما ادعاه المشتري. وإن حلف البائع أيضاً لم يثبت ما ادعاه كل واحد منهما من الثمنين، فإن اتفقا وطلب أحدهما أو كلاهما الفسخ فسخ القاضي العقد بينهما ويأمر المشتري برد القائم وقيمة الهالك، وإن اختلفا في قيمة الهالك

فالقول قول المشتري مع يمينه لإنكاره الزيادة. وقد ذكر محمد رحمه الله في إقرار «الأصل» : في باب الإقرار بالبيع إذا خرج بعض المبيع عن ملك المشتري بأن باع مثلاً نصف العبد أو ما أشبهه، ثم اختلفا في الثمن فإنهما لا يتحالفان لا فيما باع ولا فيما بقي على قول أبي يوسف القول قول المشتري مع يمينه ولا يتحالفان إلا أن يرضى البائع أن يأخذ ما بقي منه، فإذا رضي بذلك فحينئذٍ يتحالفان على ما بقي في ملك المشتري بحصة ما خرج (72أ3) عن ملكه على قول المشتري، وقال محمد: يتحالفان على قيمة العبد إلا أن يشاء البائع أن يأخذ ما بقي من العبد وقيمة ما استهلكه المشتري منه فحينئذٍ يتحالفان في القائم على العين وفيما باع على القيمة. فكلهم فرقوا بين مسألة كتاب الإقرار وبين مسألة كتاب البيوع، فإن في مسألة البيوع أبي حنيفة التحالف إلا بشرط أن يأخذ البائع الحي ولا يأخذ من ثمن الميت شيئاً، وفي مسألة كتاب الإقرار أن التحالف مطلقاً غير معلق بشرط، فإنه لم يقل لا يتحالفان إلا أن يرضى البائع أن لا يأخذ من ثمن ما خرج عن ملكه شيئاً، وفي المسألتين جميعاً اختلفا في الثمن بعد ما خرج بعض المعقود عليه. وأبو يوسف رحمه الله في مسألة البيوع قال: يتحالفان في القائم رضي البائع أو كره، وفي مسألة الإقرار قال: لا يتحالفان فيما بقي إلا أن يشاء البائع أن يأخذ النصف الباقي، ومحمد رحمه الله في مسألة البيوع قال: يتحالفان على القائم على العين وعلى الهالك على القيمة رضي البائع أو كره، وههنا شرط الإيجاب التحالف في النصف الباقي رضي البائع بأخذ النصف الباقي. والفرق مكتوب في.... وفي «المنتقى» : إذا اشترى جراب مروي واستهلك منه ثوباً أو هلك، ثم اختلفا في الثمن قال أبو حنيفة: ليس للبائع أن يأخذه ناقصاً ولكن يأخذ الثمن الذي أقر به المشتري، وقال أبو يوسف: في المستهلك قول المشتري بالحصة وفي البقية يرده إلا أن يرضى المشتري أن يأخذها بما ادعاه البائع وعلى كل واحد منهما اليمين على دعوى صاحبه. قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هلاك الثوب من الجراب من غير فعل أحد وبين موت أحد العبدين، فقال: في موت أحد العبد للبائع أن يأخذ الحي معه شيئاً، وقال ههنا: ليس للبائع أن يأخذه ناقصاً قال: وكذلك الثياب كلها والبقر والغنم والرقيق والدواب والكيل والوزن أيضاً. واختلف قول أبي يوسف فيما إذا اختلفا في قيمة الثوب الهالك فقال في موضع القول فيها قول البائع، وكذلك قال: في موت أحد العبدين القول قول البائع في الهالك. وفي «الأصل» : إذا اشترى عبدين وقبض أحدهما ومات في يده ومات الآخر في يد

البائع، ثم اختلفا في ذلك، فقال المشتري للبائع: قبضت عبداً يساوي ألف درهم ومات عبدك عبد يساوي ألفي درهم، وقال البائع: لا بل قبضت عبداً يساوي ألفي درهم والذي مات عندي يساوي خمسمائة ذكر أن القول قول المشتري مع يمينه. وإنما وضع المسألة فيما إذا مات العبدان جميعاً المقبوض وغير المقبوض وذلك؛ لأن أحدهما متى كان قائماً لا يلتفت إلى اختلافهما في مقدار قيمة ما هلك عند البائع؛ لأنهما تصادقا على أن قيمة أحدهما أكثر وقيمة الآخر أقل، فمتى كان أحدهما حياً وقوم وظهر قيمته نظير قيمة الميت أنه كان أقل أو أكثر فلا يلتفت إلى اختلافهما. فوضع المسألة فيما إذا ماتا جميعاً حتى لا يعرف قيمة واحد منهما من حيث العيان والمشاهدة، ثم إنما جعل القول قول المشتري؛ لأن حاصل اختلافهما في مقدار ما ورد عليه قبض المشتري أو في مقدار ما تأكد على المشتري من الثمن؛ لأن البائع بما يدعي يقول: قبضت أنها المشتري أربعة أخماس المبيع وتأكد عليك أربعة أخماس الثمن، والمشتري يقول: لا بل قبضت ثلث المبيع وتأكد على الثلث الثمن وأربعة أخماس خمسة أكبر من الثلاثة فالبائع يدعي زيادة فيما قبضه المشتري ويدعي زيادة تأكد في الثمن ينكر تلك الزيادة، ولو أنكر القبض أصلاً.... وقال: ما قبضت شيئاً منك كان القول قوله فكذا إذا أقر بقبض البعض وأنكر قبض البعض ولا يتحالفان. وإن اختلفا في صفة الثمن وهو التأكد والثمن دين وذلك؛ لأن الاختلاف في صفة الدين إنما يوجب التحالف إذا تصور صيرورة الدين سنين إذا عين الدين على الوصفين اللذين اختلفا فيه كما لو اختلفا في الجودة والرداءة، فإذا عين ألف جيد وألف رديء كانا غيرين، كان الاختلاف في صفة الثمن اختلفا في أصل الثمن وصفة التأكد ليست بصفة ليختلف الدين باعتباره متى عين؛ لأنه ليس بموصوف صنف قائم في الدراهم حتى يختلف الدين بسببه فكان بمنزلة اختلافهما في صفة العين، وذلك لا يوجب التحالف ما لم يختلف العين بسبب اختلاف الصفة فكذا هذا. ولو كان المشتري قبض العبدين، ثم مات أحدهما وجاء المشتري بالآخر يرده بعيب فاختلفا في قيمة الميت، فقال: البائع كان قيمته ألفاً، وقال المشتري كان قيمته خمسمائة كان القول قول البائع مع يمينه. فرق بين هذا وبين المسألة الأولى وهو ما إذا لم يقبض أحد العبدين حتى هلك غير المقبوض في يد البائع وهلك الذي قبضه المشتري، ثم اختلفا في قيمة غير المقبوض، ذكر أن القول قول المشتري مع يمينه، وإنما كان كذلك؛ لأن المنكر في المسألة الأولى هو المشتري والمدعي هو البائع اعتبرنا حال المعقود عليه أوحال الثمن؛ لأن البائع يدعي على المشتري قبض زيادة من المعقود عليه وهو ينكر ويدعي على المشتري تأكد زيادة في الثمن وهو ينكر فأي الأمرين ما اعتبرنا كان البائع مدعياً من كل وجه والمشتري منكراً من

كل وجه، فجعلنا القول قول المشتري. فأما في المسألة الثانية فالمشتري مدعي من كل وجه اعتبرنا حال المعقود عليه أم حال الثمن؛ لأنه يدعي على البائع ردّ زيادة من المعقود عليه والبائع ينكر ويدعي سقوط زيادة من الثمن والبائع ينكر فجعلنا القول قول البائع مع يمينه في قيمة الميت، ولا يتحالفان (في) الاختلاف في قيمة الميت اختلافاً في مقدار ثمن الحي وذلك؛ لأنهما لم يختلفا في أصل الثمن وإنما اختلفا في كيفية انقسام الثمن، فالبائع يدعي الانقسام مثلاً نصفان والمشتري يدعي أثلاثاً. وقد ذكرنا أن التحالف حال اختلافهما في مقدار الثمن بعد القبض ثابت نصاً بخلاف القياس فلا يقاس عليه الاختلاف في الانقسام، والنص الوارد بإيجاب التحالف إذا اختلفا في مقدار الثمن لا يكون وارداً دلالة إذا اختلفا في الانقسام؛ لأن الاختلاف في الانقسام دون الاختلاف في أصل الثمن. فإذا جعلنا القول قول البائع مع يمينه في قيمة الميت إذا حلف البائع، فإنه يقوّم الحي قيمة عدل غير معيب، فإن كان قيمة الحي غير معيب ألف درهم وقيمة الميت ألف كما يقول البائع ظهر أن الثمن انقسم نصفان فيرد الحي بنصف الثمن ويبقى عليه النصف، وإنما اعتبرنا قيمة الحي غير معيب وذلك؛ لأن الثمن إنما ينقسم على المستحق بالعقد، والمستحق بالعقد للمشتري عبد سليم عن العيب حتى لو وجد به عيباً كان له الرد بالعيب، وإذا كان المستحق للمشتري بالعيب عبد سليم وجب قسمة الثمن عليهما باعتبار السلامة. وإذا اختلفا في الثمن وقد خرجت السلعة عن ملك المشتري لا يتحالفان في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، والقول قول المشتري مع يمينه، وعلى قول محمد: يتحالفان ويتردان القيمة كما في فصل الهالك، فإن عادت السلعة إلى ملك المشتري، ثم اختلفا في الثمن، فإن عادت بسبب هو فسخ من كل وجه نحو الرد بخيار الرؤية أو خيار (72ب3) الشرط أو العيب قبل القبض أو بعده بقضاء تحالفا، وإن عادت بسبب جديد من كل وجه نحو الإرث أو الصداقة أو الشرب لا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وكذلك إذا عادت بسبب جديد في حق الثالث وبالفسخ في حق المتعاقدين كالرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء والإقالة لا يتحالفان عندهما. وقال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل اشترى من آخر غلاماً وجارية بمائة دينار قيمة الغلام ألف درهم وقبضهما ولم ينقد الثمن حتى اختلفا فقال المشتري: اشتريتهما صفقة واحدة بمائة دينار فالعبد بثلثي المائة الدينار والجارية بثلثها، وقال البائع: بعتكهما بمائة دينار على أن كل واحد منهما بخمسين ديناراً فالقاضي لا يلتفت إلى هذا الاختلاف؛ لأنه لا فائدة في هذا الاختلاف في الحال، فإن طعن المشتري بعيب في العبد وأقام بينة على أن العيب كان عند البائع حتى يثبت له حق الرد فكذلك الاختلاف إلا بعبد فيعتبر ويرد المشتري العبد بالعيب ويأخذ من البائع خمسين ديناراً في الحال أقر له بهذا القدر وكان ينبغي أن يرد العبد بثلثي المائة؛ لأن القول قول المشتري اشتراهما

صفقة واحدة؛ لأن البائع يدعي زيادة شرط وتسمية في هذه الصفقة والمشتري ينكر ذلك فيكون القول قول المشتري. والجواب إنما لم يجعل القول قول المشتري في الحال؛ لأن الاختلاف في ثمن المردود وهو العبد اختلاف في ثمن القائم وهي الجارية، والاختلاف متى

وقع في ثمن القائم يوجب التحالف؛ لأنا لو جعلنا القول قول المشتري في الحال وأخذ بمقابلة العبد بثلثي المائة، فإذا حلفناهما على الجارية فعلى تقدير أن يحلف البائع وينكل المشتري يثبت كون ثمن العبد خمسين ديناراً ويجب على المشتري رد الزيادة على الخمسين على البائع فلاحتمال ردّ الزيادة على الخمسين على تقدير نكول المشتري. قلنا: أن يأخذ في الحال قدر ما اتفقا عليه بمقابلة العبد وذلك خمسون ديناراً حتى لا يلزمنا نقض قضاء القاضي في الزيادة على الخمسين؛ لأن صيانة قضاء القاضي عن النواقض واجبة ما أمكن، ثم اختلافهما على الجارية، فإن حلفا ترادا ويرجع المشتري على البائع ونكل المشتري ثبت كون ثمن العبد خمسين ديناراً فبعد ذلك ينظر إن كان المشتري حين ردّ العبد أخذ العبد من البائع خمسين ديناراً لا سبيل له على البائع ولا للبائع عليه، وإن كان أخذ زيادة على الخمسين رد الزيادة على البائع وإن حلف المشتري ونكل البائع ثبت أن ثمن العبد ثلثا المائة فيرجع المشتري على البائع إلى تمام ثلثي المائة، ثم إن محمداً رحمه الله أوجب التحالف في الجارية من غير ذكر خلاف، وإنه مشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن العقد ههنا انعقد على الجارية وعلى العبد وقد زال العبد عن ملك المشتري. ومن مذهب أبي حنيفة: أن العقد إذا انعقد على شيئين وزال أحدهما عن ملك المشتري بالبيع أو الهلاك واختلفا في مقدار الثمن لا يتحالفان في الباقي، والجواب عن هذا أن يقال: خروج بعض المبيع عن ملك المشتري إنما يمنع التحالف في الباقي عنده إذا كان الخروج لا إلى ملك البائع؛ لأن الفسخ بالتحالف مانع تمام الصفقة والرؤية ثبتت لجهالة أوصاف المبيع فكان في فسخ العقد في أحدهما بالتحالف تفريق الصفقة على البائع قبل التمام، وإنه لا يجوز، وهذا المعنى لا يتأتى في مسألتنا؛ لأنهما عادا جميعاً إلى ملك البائع. قال في «الكتاب» : ألا ترى أن على قول أبي حنيفة: لو هلك أحد العبدين في يد البائع قبل القبض، ثم اختلفا في مقدار الثمن يتحالفان في الباقي؛ لأن الأول هلك على ملك البائع فلو ورد الأمر عليه بسبب الفسخ بالتحالف لا يؤدي إلى تفريق الصفقة فههنا كذلك، ولو ماتت الجارية في يد المشتري قبل أن يتحالفا يحلف المشتري ما ادعى البائع من ثمن الجارية فقد جعل القول قول المشتري ولم يوجب التحالف، وهذا على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن عندهما هلاك السلعة يمنع التحالف. فأما عند محمد فالتخالف يجري عند هلاكهما فعند هلاك أحدهما أولى، ثم إذا حلف المشتري عندهما إن حلف ثبت أن ثمنها ثلث المائة وثمن العبد ثلثا المائة، ولو نكل المشتري عن اليمين ثبت أن

ثمن الجارية خمسون ديناراً وثمن العبد كذلك وقد سلمت الجارية للمشتري فلزمه ثمنها ويرد العبد على البائع بحصته من الثمن وذلك خمسون ديناراً. وعند محمد يتحالفان في الكل، فإن نكل المشتري رجع بخمسين ديناراً، وإن نكل البائع رجع المشتري بثلثي المائة وإن حلفا فسخ القاضي العقد بينهما في الجارية على القيمة فيرد المشتري قيمة الجارية ورجع على البائع بجميع المائة؛ لأن العقد انفسخ في الكل في الجارية بالتحالف وفي العبد بالرد، وكذلك لو لم يجد بالعبد عيباً لكن استحق العبد كان الجواب في استحقاق العبد ما هو الجواب في الرد بالعيب. قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: رجل اشترى عبدين أحدهما بألف حالة والآخر بألف إلى سنة في صفقة أو صفقتين فوجد بأحدهما (عيباً) فرده، ثم اختلفا فقال البائع: رددت علي الذي كان ثمنه مؤجلاً وبقي عبدك الذي كان ثمنه حالاً فعليك أداء ثمنه، وقال المشتري: رددت عليك الذي كان ثمنه حالاً فالقول قول البائع سواء كان الباقي قائماً في يد المشتري أو مستهلكاً؛ لأن الأجل يستفاد من جهة البائع وما يستفاد من جهة إنسان كان القول قوله في بيانه؛ ولأن اختلافهما في المردود غير معتبر في ثمن المردود؛ لأن ثمن المردود سقط بالرد أي شيء كان، وإنما اعتبر في ثمن ما بقي في يد المشتري فالمشتري يدعي أنه اشتراه بألف مؤجلاً والبائع يدعي أنه اشتراه بألف حالة. والأصل: أن المتبايعين متى اختلفا في الأجل في الثمن وحلوله كان القول قول من يدعي الحلول؛ لأن من يدعي الحلول يتمسك بالأصل؛ لأن الحلول في الديون أصل؛ لأنه ثبت من غير شرط والأجل عارض والقول قول من يدعي الأصل، ولا يتحالفان؛ لأن الاختلاف وقع فيما ليس من نفس العقد وهو الأجل وجريان التحالف عرف بالنص فيما إذا كان الاختلاف واقعاً في نفس العقد ولم يوجد. وكذلك لو كان أحدهما حبشياً والآخر سندياً وقد اشترى الحبشي بألف درهم مؤجلة واشترى الهندي بألف درهم حالة، ثم رد أحدهما، ماتا جميعاً وقد اختلفا على ما قلنا في المسألة الأولى كان القول قول البائع لما مر، وشرط في هذه المسألة موت العبد ولم يشترط في المسالة الأولى؛ لأن في هذه المسألة لو كان أحدهما أمكن للقاضي معرفة صدق أحدهما وكذب الآخر بأن ينظر في لون الباقي فيعرف أنه حبشي أو سندي، وإذا عرف الباقي يعرف الآخر ضرورة، وهذا المعنى لا يتأتي في المسألة الأولى فلهذا لم يشترط موتهما في المسألة الأولى. ولو كان الثمنان مختلفين بأن كان ثمن أحدهما بعينه ألف درهم وثمن الآخر بعينه مائة دينار فرد أحدهما بالعيب، ثم اختلفا فقال المشتري: رددت عليك الذي ثمنه ألف درهم، فإن هلك أو هلك غير المردود وقد قبض البائع الثمنين جميعاً فالقول قول المشتري مع يمينه، إن ادعى المشتري على البائع استرداد الدينار لما كان الثمن مقبوضاً ينكر مع هذا جعل القول قول المشتري؛ لأن ثمن المردود أي شيء كان سقط بالرد بقي الاختلاف بينهما في جنس ثمن غير المردود وهو هالك في يد المشتري، والاختلاف متى وقع في جنس الثمن والسلعة هالكة في يد المشتري لا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ولكن يكون القول قول المشتري مع يمينه، ولم يذكر محمد رحمه الله هنا حتى ظن بعض مشايخنا: أن الاختلاف في المسالة المعروفة (73أ3) فيما إذا اختلف المتبايعان في قدر الثمن دون ما اختلفا في جنس الثمن والصحيح أن الكل على الخلاف. ولو كان العبدين قائمين بأعيانهما تحالفا وترادّا بالإجماع واسترد المشتري الثمنين من البائع جميعاً؛ لأن العقد قد انفسخ في أحدهما بسبب الرد وفي الآخر بسبب التحالف، ولو كان اشتراهما جميعاً بمائة دينار صفقة واحدة فمات أحدهما عند المشتري الباقي بالعيب، واختلفا في قيمة الهالك فقال البائع كانت ألفي درهم وقيمة المردود ألف درهم فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن البائع استحق جميع الثمن بالبيع، وتم ذلك الاستحقاق بتسليم العبدين إلى المشتري بعد ذلك تنازعا فيما بطل استحقاقه برد المعيب فالمدعي زيادة فيه والبائع ينكر فيكون القول قول البائع، وإن أقام البينة (فالبينة) بينة البائع أيضاً؛ لأنها تثبت زيادة في قيمة ما هلك في يد المشتري. فإن قيل: ببينة المشتري تثبت الزيادة أيضاً: في ثمن المردود بالعيب فوقع التعارض. قلنا: المنازعة بينهما إنما هو وقع بسبب البيع فإنما يعتبر اختلافهما في قيمة ما بقي فيه العقد والذي بقي فيه العقد غير المردود، فيعتبر اختلافهما في قيمة غير المردود وبينة البائع تثبت زيادة في ذلك؛ ولأن بينة البائع تثبت الزيادة فيما بقي فيه العقد وتثبت الزيادة فيما بقي مستحقاً له من الثمن فكانت أولى بالقبول، ولو قال البائع كان ثمنها واحداً وكان ألفي درهم وقال المشتري كان الثمن الهالك خمسمائة وثمن المردود ألف وخمسمائة فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه لا منازعة بينهما في ثمن المردود بالعيب؛ لأن ذلك قد سقط بالرد وإنما المنازعة في ثمن الهالك في يد المشتري والمنازعة فيه وإنما وقع من وجهين: أحدهما: في كون ثمنه مسمى والآخر في مقدار ثمنه والاختلاف متى وقع في مقدار الثمن بعد هلاك السلعة لا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ويكون القول قول المشتري مع يمينه وعند محمد يتحالفان بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك تصادقا أن ثمن الهالك لم يكن مسمى على حدة فكان الاختلاف في قيمة الهالك والاختلاف في مقدار القيمة لا يوجب التحالف بالاتفاق، ويكون القول قول من ينكر الزيادة في السقوط وهو البائع. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى من رجل جارية بمحضر من الحاكم بثمن من الورق، ثم مات ونسي الحاكم كم كان الثمن فخاصم البائع الورثة إلى الحاكم وأنكروا ذلك وأراد البائع أخذ الجارية، قال محمد رحمه الله: القاضي يقول للبائع كم كان الثمن، فإذا ادعى شيئاً عنه الورثة إن كانوا كباراً، فإن كذبوه في ذلك حلفهم على دعواه بالله ما تعلمون أباكم اشترى الجارية بذلك، ويقول للورثة ادعوا أنتم الثمن، فإذا ادعوا شيئاً حلف القاضي البائع إليه، فإن حلف ردّوا البيع، وإن كانت الورثة

صغاراً نظر القاضي لهم فإن ادعى البائع ثمناً ورأى القاضي أخذ الجارية بذلك الثمن خيراً لهم أخذ الجارية بذلك وأعطاه الثمن من جميع المال، وإن لم يرد ذلك خيراً لهم، استحلف البائع ما كان الثمن أقل من هذا على مقدار الجارية بذلك المقدار خيراً لهم فإن حلف رد الجارية عليه، وإن كان فيهم كبير وأقر بما قال البائع وأبى أن يحلف على علمه لزمه لحصته زيادة الثمن فيما بين ما ادعى إلى ما كان خيراً للصغير، وإن كان فيهم كبار غيب انتظرت بهم اليمين أو كتبت إلى القاضي الذي هم بحضرته يستحلفهم على دعواه إن طلب ذلك البائع وكذلك إن لم يكن البيع بحضرة القاضي وادعى الفريقان البيع واختلفا في الثمن، وإن ادعى الورثة وأقاموا البينة على البائع بالبيع بلا تسمية الثمن، فإن شهادتهم باطلة ويستحلف البائع ويرد عليه الجارية وإن كان البائع هو المدعي والورثة يجحدون الشراء استحلفوا على علمهم، فإن حلفوا بطل البيع وردت الجارية على البائع.k رجل في يديه عبد ادعى رجل عليه أنه باع هذا العبد من الذي في يديه، ومن رجل آخر بعينة بمائة دينار وأقام الذي في يديه العبد بينة أنه اشترى كله منه بألف درهم فالعبد للذي في يديه بخمسمائة درهم وخمسين ديناراً، إذا أقام البائع على إقرار المشتري أنه اشترى العبد منه بألفين وأقام المشتري بينة على إقرار البائع أنه باعه بألف أخذ المشتري بألفين، وإن أقام المشتري بينة على إقرار البائع أنه باعه منه بألف درهم، وأقام البائع بينة أنه باعه بألفين فليس على المشتري إلا ألف وهذه براءة من الألف الآخر. قال هشام عن محمد: إذا أقر المشتري بثمن يسير والسلعة مستهلكة وهي ثمن دراهم كسرة فإن أبا يوسف كان يقول: القول قول المشتري، ثم فحشنا عليه فرجع وقال: إذا كان من ذلك شيء بيعاً من الناس في مثله قبلت قوله. قال محمد رحمه الله: وأما أنا فأرى أن ألزمه قيمة ذلك، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف في غير هذه الصورة أنه إذا أقر المشتري بما لا يتعاين الناس في مثله إلا أقبل ذلك منه وأقضي عليه بقيمة المبيع، قال: فإن كنت إنما أردت أن أقضي عليه بالقيمة يرجع وأقر بشيء يتغابن الناس فيه قبلت ذلك، وإن كنت قد قضيت عليه بالقيمة لم أقبل رجوعه بعد القضاء. قال هشام: وسألت عنه محمداً عن رجل اشترى ثوباً فقال المشتري: اشتريته بعشرين وقال البائع: بعته بثلاثين صحاح بالثوب وهو في أيديهما فتخرق وانقطع وصار بعضه في يد البائع وبعضه في يد المشتري، ولم يكن المشتري نقد الثمن قال: يتحالفان، فإذا حلفا فالبائع بالخيار إن شاء سلم الثوب للمشتري بالعشرين ويحط من المشتري نصف ما نقص الثوب من العشرين؛ لأن كل واحد منهما قد مد فصار حانثاً قلت لو كان أمسكه أحدهما ولم يجد به وجد به الأخر أكان الضمان كله على الحادث قال: نعم، قال: وهذا الجواب على قياس قول أبي حنيفة وهو الجواب على قول أبي يوسف. ولو اشترى ثوبين وقبضهما واستهلك أحدهما والأخر قائمه في يده فقال البائع: بعتك الثوبين بثلاثين درهماً وقال المشتري: بعشرين درهماً، قال محمد: قال أبو حنيفة:

يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، فإن حلفا فالبائع بالخيار إن شاء أمضى البيع وأخذ العشرين وإن شاء أخذ الثوب القائم ولا شيء له من ثمن الثوب المستهلك. سأل هشام محمداً رحمه الله: عن قياس قول أبي حنيفة فيمن اشترى ثوباً وشقه بنصفين وصبغ نصفه والنصف الأخر في يده أبيض، ثم اختلفا في الثمن قال: إن شاء البائع أخذ هذا النصف الأبيض ولا شيء له غيره ولا سبيل له على المصبوغ، وإن شاء تركه وأخذ ما أقر به المشتري من الثمن. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا اشترى من آخر جارية وقبضها وماتت في يده واختلفا في ثمنها فقال المشتري اشتريتها منك بألف درهم وبهذا الوصف وقال البائع: بعتها بألفي درهم ففي قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يقسم الجارية على ألف درهم وعلى قيمة الوصف خمسمائة كان القول قول المشتري في ثلثي الجارية بألف ولا يتحالفان، وفي ثلث الجارية وهي حصة الوصف يتحالفان. الأصل في هذا: إن المتبايعين متى اختلفا في مقدار الثمن أوجبه بعد ما هلكت السلعة في يد المشتري وكان الثمن دراهم أو دنانير فالقول قول المشتري مع يمينه، ولا يتحالفان عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد يتحالفان ويفسخ العقد على قيمة قد مر هذا فيما تقدم. وإن كان الثمن عرضاً والمسألة بحالها فإنهما يتحالفان عندهم جميعاً ويفسخ العقد على القائم مقصوداً وعلى الهالك حكماً (73ب3) وتبعاً للقائم باعتبار القيمة؛ لأن فسخ البيع بسائر أسباب الفسخ جائز باعتبار القائم فكذا بالتحالف. فأما إذا ادعى أحدهما أن يبدل السلعة كان ثمناً، وادعى الأخر أنه كان عرضاً إن كان مدعي العرض المشتري، فإنهما يتحالفان عندهم جميعاً ويغرم المشتري قيمة السلعة يوم قبضها لصاحبه، وإن كان مدعي العرض البائع، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: القول قول المشتري مع يمينه ولا يتحالفان، ويغرم المشتري الثمن الذي أقر به للبائع؛ لأن البيع قابل للفسخ في زعم أحدهما غير قابل في زعم الأخر فيجب التحالف من وجه دون وجه فعلمنا بهما من الوجه الذي بينا، إلا أنا عملنا بما يوجب التحالف متى كان المشتري مدعياً للعرض؛ لأنَّا لو عملنا بما يوجب التحالف متى كان البائع مدعياً للعرض لا يمكننا تحليف البائع؛ لأن البائع إنما يحلف بدعوى المشتري والمشتري لا يدعي عليه يميناً ومتى كان للعرض المشتري أمكننا تحليف البائع بدعوى المشتري؛ لأن المشتري يدعي يمينه في هذه الحال، فإنه يزعم أن البيع قابل للفسخ، وإن الثمن واجب على البائع فأمكن تحليف البائع بدعوى المشتري بدعوى البائع فيجعل العمل بما يوجب التحالف وبما يمنع. فأما إذا إدعى أحدهما أن بدل السلعة كان ثمناً وعرضاً، وادعى الأخر أنه كان ثمناً كله، إن كان المدعي للعرض المشتري، فإنه يقسم السلعة على الثمن الذي أقر به المشتري وعليه قيمة العرض فيما يخص السلعة من الثمن، فالقول قول المشتري فيه مع يمينه عندهما ولا يتحالفان عندهما، ثم يغرم قيمة حصة العرض من السلعة للبائع.

وإن كان المدعي للعرض البائع فالقول قول المشتري في الكل ولا يتحالفان عندهما اعتباراً للبعض بالكل، وعند محمد في جميع ذلك يتحالفان؛ لأن تعذر الفسخ عند هلاك السلعة لا يمنع التحالف إذا ثبت هذا. جئنا إلى تخريج المسألة التي ذكرها محمد فبقوله: المشتري ادعى أن بدل الجارية بعضه ثمن وبعضه عرض، فيكون لكل بعض حكم نفسه فإن تخالفا على ثلث الجارية وفسخ القاضي العقد على ثلث الجارية كان على المشتري أن يرد ثلث الجارية، على البائع وقد عجز عن ردها بسبب الهلاك فكان عليه رد ثلث قيمة الجارية وعلى قول محمد: يتحالفان في الكل ويغرم جميع قيمة الجارية للبائع وعلى هذا يقاس جنس هذه المسائل. قال هشام: سألت محمداً عمن اشترى من آخر حنطة بعينها فقال المشتري اشتريتها منك على أنها مائة قفيز بعشرة دراهم، وقال البائع: بعتكها حراماً، أو أقام البينة والحنطة قائمة قال البينة بينة البائع؛ لأنهما ثمنان وإن أقام المشتري بينة أنه اشتراه منه بأربعة دنانير وعشرة دراهم وأمام البائع بينة أنه باعه منه بخمسة دنانير فالبينة بينة البائع، وإن أقام المشتري بينة أنه اشتراه بخمسة دنانير وعشرة دراهم على أنه مائة قفيز فوجده خمسين قفيزاً وأقام البائع بينة أنه باعه منه بخمسمائة جزافاً فالبينة بينة المشتري وله الخيار، إن شاء أخذه بحصته من الثمن وهو ديناران ونصف وخمسة دراهم؛ لأنه ثمن واحد؛ لأن المشتري وافق البائع على خمسة دنانير. وقال أبو سليمان: سمعت أبا يوسف يقول في رجل باع طعاماً بعينه بعشرة دراهم فقال البائع: بعتكها جزافاً بعشرة وقال المشتري: اشتريت مكايلة بعشرة قال: يتحالفان ويتردان. وكذلك كل ما يوزن ولو كان هذا في ثوب فقال البائع: بعتكه ولم أسم ذراعه وقال المشتري: اشتريت مذارعة فالقول قول البائع؛ لأن الثوب إن نقص لم انقص من الثمن. وروى عمرو بن أبي العلاء عن محمد: رجل قال لآخر: اشتريت منك هذا العبد بألف درهم زيوفاً أو نبهرجة أو ستوقة أو رصاصاً قال ذلك موصولاً وقال المقر له بالجياد فالقول قول المقر له في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد في الزيوف والنبهرجة يتحالفا ويتردان البيع وأما في الستوقة والرصاص فالقول قول البائع عند أبي يوسف؛ لأن المشتري لا يصدق على فساد البيع وقال محمد: القول قول المشتري؛ لأنه لم يقر أو لا بيع فاسد. رجل ادعى على رجل أنه باعه منه هذه الجارية بألف درهم إلى سنة وأقام بينة وأقام مولى الجارية بينة أنه باعه الجارية بألفي درهم، فعلى المشتري ألف حالة وألف إلى سنة؛ لأنه أخذت بينة البائع في الثمن وأخذت بينة المشتري في الأجل، وهذه ألف المؤخرة ليست من الألف التي أقر بها المشتري أنها هي الثمن ولكنها من الألفين جميعاً من ألف خمسمائة ولو قال بعينها بألف درهم إلى ثلاث سنين كل سنة ثلث ألف وقال البائع: بل

بعتكها بألفي درهم إلى سنتين كل سنة ثلث ألف وهذا الثلث المؤخر إلى السنة الثالثة من الألفين فيؤدي في السنة الأولى أسداس ألف درهم، فإن مائة وثلاثة وثلاثون وثلث وفي السنة الثانية كذلك وفي السنة الثالثة يؤدي ثلث الألف، هذه المسألة من «المنتقى» . وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: رجل ادعى على رجل أنه باعه هذا الثوب بمائة درهم إلى خمسة أشهر كل شهر عشرين درهماً، وأقام على ذلك بينة وأقام المدعي عليه بينة أنه اشتراه بخمسين درهماً إلى عشرة أشهر وكل شهر خمسة، قال: إن ربَّ الثوب قد أقام البينة على فصل خمسين درهماً فأقبل بينته فيه وقد زعم أن له من المائة كل شهر عشرين وقد أقر المدعى عليه له بخمسة في كل شهر، فأدفع إلى المدعي في الشهر الأول خمسة أقر له بها المدعى عليه وخمسة عشر من دعوى المدعي من فصل الخمسين الذي بينه بالبينة وكذلك في الشهر الثاني والثالث فيأخذ في ثلاثه أشهر ستين درهماً خمسة عشر بحكم الإقرار عليه وخمسة وأربعين بحكم دعواه المؤكد بالبينة، فإذا أخذ ذلك بقي له من الخمسين التي أقام عليها البينة خمسة يأخذ ذلك في الرابع بحكم البينة ويأخذ خمسة أخرى أيضاً في الشهر الرابع بإقرار المدعى عليه وما بقي بعد ذلك ويأخذ في كل شهر خمسة حتى يتم المائة على الأجل الذي أقام البينة المدعى عليه البينة. وروري عن أبي يوسف بخلاف هذا، فإنه يقول الخمسين التي أقام عليها المشتري البينة من المائة التي زعم المدعي أنها له على المشتري فأجعل الخمسين على الأجل الذي أقام المشتري عليه البينة، بقيت خمسون بزعم المدعي فأقضي للمدعي بعشرة من هذه الخمسين في كل شهر؛ لأن المدعي ادعى العشرين من المائة كلها فيكون مدعياً من هذه الخمسين عشرة وقد عزلت خمسين من المائة على دعوى المشتري على أجلها فيأخذ المدعي في الشهر الأول خمسة المدعى عليه مقر له بها، ويأخذ عشرة من الخمسين الفاضلة عشرة فيأخذ خمسة عشر في خمسة أشهر وذلك خمسة وسبعون بقي هناك خمسة وعشرين يأخذ منها في كل شهر خمسة فيحصل الاستيفاء في عشرة أشهر. قال محمد رحمه الله: ما ذكر من الجواب فذلك في الثوب والعبد والدار يختلفان في ثمنه وأشباهها، فأما إذا قام رجل بينة على رجل بدين مائة درهم أن له عليه مائة درهم في خمسة أشهر في كل شهر عشرين وأقام الأخر عليه البينة أن له عليه خمسين في عشرة أشهر في كل شهر خمسة فهما مالان فأقضي عليه بدعوى المدعي بمائة درهم في خمسة أشهر. وفيه أيضاً عن محمد: رجل أقام (74أ3) بينة على رجل أني بعت منك هذا الثوب بمائة درهم تؤديها إلي في عشرة أشهر كل شهر عشرة وأقام المدعى عليه بينة أنه اشتراه منه بستين درهماً في عشرين شهراً في كل شهر ثلاثة، فإني أقبل بينة البائع على فصل الثمن وأقبل بينة المشتري على الأجل فيأخذ منه البائع كل خمسة أشهر عشرة؛ لأن المشتري مقر له بثلاثة كل شهر، فيأخذ منه البائع في خمسة أشهر ثلاثة كل شهر بإقراره، ويأخذ سبعة من الأربعين الذي ادعاها البائع فضلاً على الستين، فإذا أخذ منه خمسة

أشهر عشرة، فقد بقي للبائع من الأربعين الفاضلة خمسة فيأخذها منه في الشهر السادس، وثلاثة أخرى فقد أقر بها المشتري، ثم يأخذ منه بعد ذلك كل شهر ثلاثة حتى يستوفي المائة فيأخذ المائة في عشرين شهراً على الأجل الذي أقام المشتري عليه البينة. وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف في المسألة الأولى يقول هذه الستون الذي أقام عليه المشتري البينة من جميع المائة التي زعم المدعي أنها له على المشتري فأجعل الستين على الأجل الذي أقام عليه المشتري البينة، بقي هناك أربعون بزعم المدعي بأربعة من هذه الأربعين في كل شهر؛ لأنه ادعى العشرة في كل شهر من المائة كلها فيكون مدعياً من هذه الأربعين أربعة في كل شهر فأقضي له بذلك ببينته وأقضي له من الستين الذي للمشتري يقر بها في كل شهر بثلاثة فيأخذ من جميع المائة في كل شهر سبعة فيأخذ هكذا سبعة، سبعة في عشرة أشهر يبقى هناك إلى تمام ثلاثون فيستوفيها في عشرة أشهر ثلاثة، ثلاثة فيحصل استيفاء المائة في عشرين شهراً على الأجل الذي ادعاه المشتري. قال محمد رحمه: لا أجعل الخمسين في المسألة الأولى من المائة كلها ولا الستين في المسألة الثانية من المائة كلها، ألا ترى أن البائع لو قال: بعته بألفين بألف حالة وبألف إلى شهر، وقال المشتري: اشتريته بألف إلى شهرين وأقام جميعاً البينة إلى أحد منه ألفاً الساعة وألفاً إلى شهرين. قال هشام: (قال) مشايخنا: وعلى قياس قول أبي يوسف تجعل الألف المؤخرة إلى شهرين من الألفين من النقد والتأخير فيحصل خمسمائة حالة وخمسمائة إلى شهر وألفاً إلى شهرين. رجل أقام بينة على رجل أنه اشترى منه هذا الثوب بخمسة عشرة درهماً إلى شهر وأقام الذي في يديه الثوب بينة أنه باعه نصف هذا الثوب بعشرة دراهم حالة مال يدفع إليه الثوب وله خمسة عشر درهماً إلى شهر، ألا ترى أنه لو قال: بعتك هذا الثوب بألف حالة وأقام بينة وأقام الآخر بينة أنه اشترى هذا العبد مع هذا العبد الآخر بألف إلى سنة أنهما له بألف إلى سنة. نوع آخر في الاختلاف في الثمن، وفيه بعض مسائل الاختلاف في الثمن وإذا وقع الاختلاف في المبيع فقال المشتري: اشتريت منك هذا العبد بألف درهم وقال البائع لا بل بعت منك هذه الجارية بألف درهم فلا يخلو إما إن كانا في يد البائع أو في يد المشتري أو كان العبد في يد ثالث، فإن كانا في يد المشتري فلا يخلو إما إن قال البائع للمشتري: العبد ملكك لم أبعه منك وإنما بعتك الجارية بألف درهم ولي عليك ألف درهم ثمن الجارية، وفي هذا الوجه إلا ألف لازم على المشتري والعبد سالم له؛ لأنهما اتفقا على سلامة العبد له، وكذلك اتفقا على وجوب الألف عليه ولكن اختلفا في جهته والاختلاف في الجهة في مثل هذا لا يضر. كمن قال لآخر: لك علي ألف درهم من ثمن متاع وقال الآخر: لا بل من قرض، وإن قال البائع للمشتري: العبد ملكي ما بعته منك وإنما بعتك الجارية بألف درهم ذكر

هذه المسألة في كتاب الإقرار في موضعين فأجاب في أحدهما: أن القول في العبد قول البائع؛ لأن المشتري أقر له بملك العبد حيث ادعى الشراء منه إلا أنه ادعى التملك عليه وهو أنكر التملك عليه والقول قول المنكر في الشرع. وإذا حلف البائع على العبد أخذ العبد ولا شيء على المشتري؛ لأن المشتري إنما أقر له بألف على نفسه عوضاً عن العبد ولم يسلم له العبد فكان له أن لايعطيه الألف، وأجاب في الموضع الآخر إنهما يتحالفان؛ لأن كل واحد منهما يدعي على صاحبه عقداً غير العقد الذي ادعى صاحبه عليه؛ لأن العبد غير الجارية فكان العبد الذي يدعيه صاحبه فيتحالفان كما لو اختلفا في جنس الثمن. وإن كانا في يد البائع فالجواب فيه على التفصيل الذي ذكرنا فيما إذا كانا في يد المشتري، وإن كان العبد في يد ثالث إن صدق صاحب العبد المشتري فيما قال، أمر بالتسليم إليه، ثم الحكم فيه ماذكرنا فيما إذا كان العبد في يد المشتري، وإن قال صاحب اليد: العبد ملكي فالقول قوله مع اليمين ولا شيء على المشتري؛ لأنه ما أقر بالألف على نفسه لا عوضاً عن العبد ولم يسلم له العبد. وإن قال صاحب اليد: العبد للبائع كالأمر بالتسليم إليه والحكم فيه بعد ذلك ماذكرنا فيما إذا كانا في يد البائع، وإن قال المشتري: اشتريت منك هذا العبد مع هذه الجارية بألف درهم، وقال البائع: بعت منك هذه الجارية لاغير بألف درهم، فالجواب في هذه المسألة على التفاصيل التي مرت في المسألة المتقدمة. وإذا اشترى من آخر جراب هروي وقبضه فوجد فيه أحد عشر ثوباً فقال البائع: بعتك هذا الجراب على أن فيه عشرة أثواب بمائة درهم، وقال المشتري: اشتريته على أن فيه أحد عشر ثوباً وأراد كل واحد منهما استحلاف صاحبه. فالقاضي يحلف البائع على دعوى المشتري؛ لأن المشتري يدعي البيع في الثوب الحادي عشر والبائع ينكر والقول قول المنكر، فإن نكل ثبت ما ادعاه المشتري، وإن حلف رد المشتري الجراب ولم يحلف المشتري، إما رد المشتري؛ فلأن البائع لما حلف فسد العقد؛ لأنه لم يثبت البيع في الثوب الحادي عشر وإنه مجهول فصار المبيع مجهولاً وجهالة المبيع توجب فساد العقد، والعقد الفاسد واجب الرد، إما لايحلف المشتري؛ لأن فائدة التحليف النكول الذي هو إقرار، والمشتري لو أقر بما ادعاه البائع كان العقد فاسداً لما مر، فلا يفيد تحليف. فإن قيل: ينبغي أن يجعل القول قول المشتري في هذه المسألة؛ لأنه يدعي جواز العقد. قلنا: بدعوى الجواز يدعي استحقاق الثوب الحادي عشر والبائع ينكر، وإن اختلفا في وصف من أوصاف المبيع فقال المشتري: اشتريت منك هذا العبد على أنه كاتب أو على أنه خباز وقال البائع: لم أشترط لك شيئاً فالقول قول البائع ولا يتحالفان، وفيما إذا اختلفا في صفة الثمن وهو دين يتحالفان؛ لأن الدين يختلف باختلاف الأوصاف فكان

الاختلاف في الوصف اختلافاً في أصل الثمن فكان كل واحد مدعياً على صاحبه عقداً غير العقد الذي يدعيه صاحبه، أما المبيع عين والعين لايختلف باختلاف الصفة فلم يكن كل واحد منهما مدعياً عقداً غير العقد الذي يدعيه صاحبه عليه، وإذا قال: بعتك هذا العبد بألف درهم وقال المشتري: اشتريت منك هذه الجارية بخمسين ديناراً ولا بينة لهما يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، فإن أقاما البينة يقضي بالعقدين عندهم جميعاً يقضي على البائع ببيع العبد والجارية ويقضي على المشتري بألف درهم وخمسين ديناراً. أما على قول محمد؛ فلأن الأصل عنده القضاء بعقدين مع إمكان القضاء بعقد واحد فعندما تعذر القضاء بعقد واحد أولاً، وأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ فلأن الأصل عندهما القضاء بعقد واحد الا إذا تعذر فحينئذٍ يقضي بالعقدين وقد تعذر القضاء بعقد واحد منهما؛ لأن إمكان القضاء بعقد واحد إنما يثبت بأحد طريقين إما بإمكان رد إحدى البينتين أو بإمكان القضاء بكل واحد من البينتين بإثبات (74ب3) الزيادة في عقد واحد على ما يأتي بيانه في مسائل السلم، وههنا رد إحدى البينتين غير ممكن؛ لأن كل واحدة منهما قامت على إثبات ما هو محتاج إليه وتعذر القضاء بهما من حيث القضاء بإثبات الزيادة في كل واحد من البدلين؛ لأن العبد لايتصور زيادة في الجارية في العبد ولا الدراهم في الدنانير، وإذا فات إمكان القضاء بعقد واحد وجب القضاء بعقدين ضرورة. ولو قال: بعتك هذه الجارية بمائة دينار، وقال المشتري: اشتريتها بخمسين ديناراً وأقام البينة (فالبينة) بينة البائع؛ لأنها أكثر أماناً ويقضي بعقد واحد؛ لأن القضاء بالعقدين متعذر؛ لأن المبيع عين والعين الواحدة متى صار مستحقاً للمشتري بالشراء لايتصور أن يصير مستحقاً له بالشراء مرة أخرى ما لم يعد إلى البائع بسبب من الأسباب، ثم يشتري منه ثانياً والشهود لم يشهدوا بالعود إلى البائع فكان القضاء بالعقدين متعذر، ولو قال المشتري: بعتني مع هذه الجارية وصيفا بخمسين ديناراً، وقال البائع: بعتك الجارية وحدها بمائة دينار، وأقاما البينة فإنه يقبل بينة كل واحد منهما فيما ادعى من إثبات الزيادة لنفسه؛ لأن القضاء بالعقدين متعذر؛ لأن الجارية باتفاقهما صارت مستحقة للمشتري من جهة البائع بالشراء، فلا يتصور استحقاقها بالشراء من جهة مع شيء آخر إلا بعد عود الجارية إلى البائع، والشهود لم يشهدوا بذلك، وإذا تعذر القضاء بالعقدين وليست إحدى البينتين بالقبول بأولى من الأخرى؛ لأن كل واحدة قامت على إثبات زيادة ادعاها صاحبها قبولهما في إثبات ماقامت عليه لكل واحد منهما، فيقبل بينة البائع في إثبات الزيادة في الثمن فيقضي على المشتري بمائة دينار، ويقبل بينة المشتري في إثبات الزيادة في المبيع فيقضي على البائع بالجارية والوصيف. قال محمد رحمه في «الجامع» : رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم وقبضه ووهب البائع عبداً آخر للمشتري وسلمه إليه فمات أحد العبدين فجاء المشتري يرد الباقي بالعبد فقال البائع: لم أبعك هذا العبد الذي فات وهذا العبد وهبته منك وقال المشتري:

لا بل هذا الحي هو الذي اشتريته منك بألف درهم ولا بينة لواحد منهما كان القول قول البائع مع يمينه؛ لأن المشتري يدعي فسخ البيع في العبد الحي والبائع ينكر، ولأن المملك هو البائع فيكون القول قوله في بيان سبب الملك أني ملكت هذا العبد بالهبة ولو لم يجد المشتري بالعبد عيناً ولكن أراد البائع الرجوع في الهبة وقال: إن الحي هو الذي وهبته وأنكر المشتري فالقول قول البائع لما قلنا من المعنى الثاني، وإذا رجع فيه كان للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن الذي نقده لأنا إنما جعلنا القول قول البائع في كيفية تمليك العبد باعتبار أن تمليك العبد استفيد من جهته وتمليك الثمن وجد من جهة المشتري فوجب أن يقبل قوله كيفية تمليك الثمن أيضاً.h وفي زعم المشتري أنه إنما ملكه الثمن بإزاء العبد الحي ولم يسلم له العبد الحي فلا يسلم للبائع أيضاً الثمن بخلاف المسألة الأولى، حيث لايرجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن هناك في زعم المشتري، أن العبد الذي بمقابلته الثمن سلم للمشتري لما امتنع الرد فجاز أن يسلم للبائع الثمن في زعم المشتري أما ههنا فبخلافه على مامر. وإذا رجع البائع على المشتري بقيمة العبد الذي مات في يده؛ لأن البائع يقول إنما ملكت ذلك الذي مات عوضاً عن هذا الثمن الذي استحقه وقول البائع في ذلك أيضاً مقبول فإذا لم يسلم الثمن للبائع وجب على المشتري رد المبيع وتعذر رده صورة بسبب الموت، فيجب رده معنى، وذلك برد القيمة ولكن هذا كله بعد أن يتحالفان، فيحلف البائع بالله ما بعت هذا القائم، فإذا حلف اعتبر القائم موهوم في حقه فيرجع فيه، فيحلف المشتري بالله مااشتريت من الذي مات. وإذا حلف رجع على البائع بالثمن، ثم إنما وجب التحالف ههنا؛ لأن البائع يدعي الرجوع في الهبة والمشتري ينكر، والمشتري يدعي الرجوع بالثمن والبائع ينكر فلهذا جرى التحالف، ثم أوجب التحالف في هذه المسألة ولم يوجب الحلف على المشتري في المسألة الأولى، البائع لايدعي على المشتري شيئاً؛ لأنه لايرجع في الهبة. أما في المسألة الثانية: البائع مع المشتري كل واحد منهما يدعي صاحبه شيئاً على مامر فيجري التحالف، ثم أوجب التحالف في المسألة الثانية، وإن كان العبد هالكاً بخلاف ما إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن والسلعة هالكة على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن هناك اتفق العاقدان أن التمليك حصل بجهة واحدة وهو البيع، بقي الاختلاف في مقدار الثمن، فيكون القول قول من ينكر الزيادة وهو المشتري، أما ههنا اختلفا في جهة التمليك فالبائع ادعى التمليك الهالك بالبيع والمشتري ينكر، والمشتري يدعي تمليك الهالك بالهبة والبائع ينكر فوجب التحالف لهذا. ولو اشترى أحدهما بألف درهم والآخر بمائة دينار كل واحد منهما صفقة على حدة وتقابضا فمات أحدها عنده، ثم جاء بالباقي يرده بالعيب، واختلفا في ثمنه قال البائع ثمنه ألف درهم وقال المشتري: لا بل مائة دينار كان له أن يرد بالعيب؛ لأن حق الرد لايختلف باختلاف الثمن ولا يبطل بجهالته، وإذا رده بقي الاختلاف بينهما في ثمن

المردود وتمليك الثمن استفيد من جهة المشتري فيكون القول قوله أنه ملكه بإزاء هذا العبد ولا يتحالفان؛ لأن المقصود من التحالف الفسخ وقد حصل ذلك بالرد بالعيب، وكذلك يكون القول قول المشتري في ثمن الهالك عند أبي حنيفة وأبي يوسف مع يمينه. وعند محمد يتحالفان ويرد المشتري قيمة الميت وكان على البائع رد الثمنين جميعاً؛ لأن العقد انفسخ في العبدين في أحدهما بالرد بالعيب، وفي الآخر بالتحالف، ولو كانا عين والمسألة بحالها رد المشتري العبد المعيب بالثمن الذي ادعاه من غير تحالف لحصول ماهو المقصود من التحالف وهو الفسخ في المردود بسبب الرد تحالفا وترادا في الباقي؛ لأنهما اختلفا في الثمن الباقي ضرورة اختلافهما في ثمن المردود والسلعة قائمة فيتحالفان ويترادان ويرجع المشتري على البائع بالثمنين جميعاً لانفساخ العقد في العبدين على ما مر. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل باع من آخر ثوباً مروياً فقبضه أو لم يقبضه حتى اختلفا فقال البائع بعته على أنه ست في سبع، وقال المشتري: اشتريته على أنه سبع في ثمان، فالقول قول البائع مع يمينه. وفي «نوادر هشام» : إذا اشترى من آخر ثوباً وقال: اشتريته منك بثمانية أذرع وهو سبع في سبع وقال البائع: بعتك بثمانية ولم اسم لك ذراعاً فالقول (قول) البائع، وفي قول أبي يوسف ومحمد: ولو كان المشتري قال: اشتريته على أنه ثمانٍ في ثمان كل ذراع بدرهم، وقال البائع: بعتك بثمانية ولم اسم ذراعاً فالقول قول المشتري ويتحالفان ويتردان على قولهما. قال هشام: سألت محمداً عن رجل له أجمة تساوي ألفاً وفيها قصب يساوي ألفاً فاشترى رجل منه الأجمة بعشرة آلاف درهم واختلفا فقال البائع: بعتك القصب، وقال المشتري: إنما وقع الشراء على الأصل قال أفسد البيع. روى إبراهيم عن محمد: رجل اشترى بيتاً في موضعين بكذا درهم وقبض أحدهما وذهب الريح بالموضع الآخر في مقدار ما قبض وما ذهب، فإن كان ماقبض فإنما تخالفا وترادان كان مستهلكها، فالقول قول المشتري في قياس قول أبي حنيفة، وقال محمد: (75أ3) يتحالفان ويرد المشتري مثل ما أخذ بالشرط والقول فيه قوله. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر سرجاً، ثم اختلفا فقال البائع: بعتكه بغير زكاته، وقال المشتري: لا بل مع زكاته واشترى خاتماً، ثم اختلفا في فصه، فقال البائع: بعته بغير فصه، وقال المشتري: لا بل مع فصه فإنهما يتحالفان ويترادان. وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن رجل اشترى كباسة بمائة درهم، ثم اختلفا فقال المشتري: اشتريت منك ومن الأرض وقال البائع: إنما بعتك الكباسة التي

عليها قال ينظر إلى الغالب من الثمن فإنهما كان الغالب جعلتها به، وكذلك هذا في شراء الأجمة والمبطخة والمنقلبة، وكذا في شراء النخلة مع الرطب ينظر إلى الغالب. وفي «البقالي» : إذا اختلفا في الثياب والجراب والراوية والماء ونحوها على أنهما وقع البيع اعتبر مقدار الثمن وإن استوى الأمران في العادة لم يجز. قال أبو يوسف وقال أبو حنيفة: في رجل اشترى عبداً بألف درهم وقبضه ونقده الثمن، ثم ادعى المشتري أنه كان مع العبد أمة يبيعها في البيع وجحد البائع ذلك فالقول قول البائع ولا يرد شيئاً من الثمن بعد أن يحلف بالله ما باعه هذه الأمة مع (العبد) . وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إذا قال الرجل لغيره: بعتك هذا العبد بألف درهم وأقام البينة وقال المدعى عليه: اشتريته منك وهذا العبد الآخر بألف درهم وأقام البينة فإني أجعلهما جميعاً بألف، ولو قال المشتري: اشتريتها منك هذا بخمسمائة وهذا بخمسمائة وقال البائع: بعت هذا وحده منك بألف درهم وأقام البينة، فإني أجعل عليه الألف للعبد الذي أقام عليه البائع بينة أنه باعه بالألف، وأجعل عليه خمسمائة للعبد الآخر، قال: وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول: إذا قال المشتري اشتريتهما منك بألف درهم، وأقام بينة فعليه ألف وخمسمائة، ثم رجع وقال: هما بألفٍ، وقال زفر: قوله الأول أحب إلي. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: إذا قال الرجل لغيره: اشتريت منك هذه الجارية وابنتها بألف درهم وأقام على ذلك بينة وقيمتها سواء، وقال البائع: بعت الأم وحدها بألف درهم، فإن أبا حنيفة رحمه الله يقول: يأخذهما بألفٍ وخمسمائة، ثم رجع وقال: يأخذهما جميعاً بألف درهم وهذه المسألة المتقدمة ولكن في صورة أخرى. وفي «المنتقى» : رجل اشترى من آخر ثوباً فقطعه، ثم قال المشتري بعد ذلك: اشتريته بدرهم وقال البائع: بعته بكر حنطة بعتها فالقول قول المشتري. وفيه أيضاً: رجل اشترى من آخر جارية وقبضها ووطئها، ثم اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري مع يمينه إلا أن يرضى البائع أن يأخذ الجارية بغير مهر، ولو كان لها زوج يوم اشتراها لم يمنع وطئه من الرد بسبب الاختلاف في الثمن من قبل إن هذا بمنزلة عيب كان فسرى منه البائع. وفيه أيضاً: رجل اشترى عبداً وقبضه، ثم اختلفا في مقدار الثمن من الدراهم، قال أبو حنيفة: القول قول المشتري ولا سبيل للبائع على العبد وأرضى بأخذه كذلك، ولو قال البائع: بعتك بدارك هذه، وقال المشتري: اشتريته بأمتي هذه رد العبد على البائع وضمن المشتري نصف قيمته يوم قبض كيف كان ذهاب العين من جناية المشتري أو من جناية أجنبي أو من غير فعل أحد. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف في المبيع: إذا كان مستهلكاً كل شيء أقر المشتري أنه اشتراه به مما هو ثمن لا ينتقص البيع بهلاكه واستحقاقه أو رده بالعيب فالقول فيه قول المشتري، وكل شيء لبس بثمن وينتقض البيع بهلاكه أو استحقاقه أو رده

بالعيب لم يصدق فيه المشتري؛ لأنه يريد أن يلزم البائع هذا العرض والمشتري فيه مانع وعلى المشتري قيمة ما قبض، وقال أبو يوسف لو قال البائع: بعتك بهذين العبدين وقال المشتري: اشتريته بهذا العبد وحده لأحدهما والمبيع مستهلك، قال: قد اتفقا على واحد فهو بيع به ولا يصدق البائع على الآخر. نوع آخر في دعوى البيع مع دعوى الاعتاق رجل ادعى على الآخر إني بعت منك هذا العبد الذي في يدي بألف درهم واعتقته أنت أيها المشتري وقال المشتري: ما اشتريته وما اعتقته، فإن أقام البائع بينته سمعت بينته على الشراء والعتق؛ لأنه خصم في إثبات الشراء والعتق؛ لأن بالشراء يثبت أصل الثمن وبالعتق يثبت تأكد الثمن وخروج المبيع عن ضمان البائع ودخوله في ضمان المشتري؛ لأن الإعتاق قبض معنوي على ما عرف، فإن لم يكن له بينة وطلب من القاضي أن يحلف المشتري حلفه أولاً على دعوى الشراء، فإن حلف على دعوى الشراء لا يحلفه على دعوى العتق بعد ذلك؛ لأنه فائدة فيه؛ لأنه لم يثبت ملك المشتري بما حلف ولكن يعتق العبد على البائع بحكم إقراره أنه مالكه قد أعتقه وكان ولا العبد موقوفاً؛ لأن كل واحد منهما بيعه عن نفسه، هذا إذا حلف على دعوى الشراء وإن نكل عن دعوى الشراء حتى صار مقراً بالشراء إلا أن يحلف على دعوى العتق؛ لأن البائع يدعي عليه قبض المعقود عليه، وتأكد الثمن وهو ينكر فإن نكل ثبت العتق من جهة وكان ولاء العبد له، وإن حلف لم يثبت العتق وكان العبد مملوك للمشتري؛ لأنه لو ثبت العتق ههنا يثبت بشهادة البائع؛ لأنه فرد هذا إذا كان العبد في يدي البائع، وإن كان في يدي المشتري والمسألة بحالها، فإن أقام البائع بينة على ذلك سمعت بينته على الشراء لما مر، ولا يسمع بينته على العتق عند أبي حنيفة بخلاف الفصل الأول؛ ولأن في الفصل الأول إنما قبلت بينة البائع على العتق لما فيه من إثبات القبض الذي هو حقه والقبض ههنا ثابت بالمعاينة فلا حاجة إلى إثباته بالبينة فلم ينتصب البائع خصماً في دعوى العتق، فالتحق دعواه بالعدم والبينة على عتق العبد لا تقبل من غير الدعوى. وعندهما يقبل البينة على العتق؛ لأن عندهما الدعوى ليست بشرط لقبول البينة على العتق، وإن لم يكن للبائع بينة يحلف المشتري على دعوى الشراء، فإن حلف لا يحلف على دعوى العتق بالإجماع، وعتق العبد على البائع بحكم إقراره على ما مر، وكان ولاؤه موقوفاً وإن نكل عن دعوى الشراء يثبت الشراء بإقراره، ثم لا يحلف على العتق بعد ذلك عند أبي حنيفة؛ لأن دعوى العتق من البائع التحق بالعدم فلو حلف المشتري حلف عنه بدون الدعوى. ومن مذهب أبي حنيفة أنه لا يحلف عنه على عتق العبد بدون الدعوى كما لا يقبل البينة على حبسه بدون الدعوى، وأما عندهما فقد ذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح «الزيادات» : أن عندهما لا يحلف حبسه بدون الدعوى بخلاف قبول البينة.

وأشار محمد رحمه الله في «كتاب التحري» : أنه يحلف على طلاق المرأة بدون الدعوى، وذكر شيخ الإسلام خواهرزاده وشمس الأئمة هذا في شرح «كتاب التحري» أنه يحلف على طلاق المرأة، وعتق الأمة عندهما حبسه بدون الدعوى وهما يلحقان عتق العبد بعتق الأمة وطلاق المرأة حتى قالا: تقبل البينة على عتق العبد بدون الدعوى كما تقبل على طلاق المرأة وعتق الأمة، فالصحيح عندهما أنه يحلف في عتق العبد حبسه بدون الدعوى، ثم إن عند أبي حنيفة إذا لم يحلف على دعوى العتق كالعبد مملوك للمشتري لا يحكم بعتقه؛ لأنه لو عتق، عتق بمجرد قول البائع، والعتق لا يثبت بقول الفرد وعندهما إذا حلف أنه نكل صار (75ب3) مقراً بالعتق وكان ولاء العبد له، وإن حلف بقي العبد مملوكاً وإذا ادعى على غيره أني بعت منك هذا العبد بمائة دينار وأعتقته أيها المشتري، وقال المشتري: اشتريت منك بألف وما أعتقته فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يحلف المشتري على العتق أولاً، ولا يشتغل بتحليفها بسبب اختلافهما في جنس الثمن؛ لأنهما اتفقا على الشراء؛ لأن البائع ادعى البيع بمائة دينار والمشتري أقر بالشراء بألف درهم فدعوى البائع الاعتاق على المشتري. في هذه الصورة دعوى هلاك المعقود عليه ودعوى هلاك المعقود عليه دعوى سقوط التحالف عندهما، فيحلف المشتري أولاً على دعوى العتق عندهما لهذا، فإن نكل ثبت العتق وسقط التحالف، وكان القول في الثمن: قول المشتري مع يمينه فيحلف المشتري بالله لقد اشتريته بألف درهم كما يدعي، فالأصل إن كل من جعل القول قوله، فإنما يحلف على مايقوله على مايدعي الخصم. كالمودع إذا ادعى رد الوديعة أما متى وجب التحالف يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه ولا يحلف على ما يدعيه، وإن حلف على دعوى الإعتاق لم يثبت هلاك المعقود عليه، فيتحالفان لاختلافهما في جنس الثمن حال المعقود عليه ويبدأ بيمين المشتري، فإن نكل لزمه مائة دينار وكان العبد مملوكاً له، وإن حلف يحلف البائع بعد ذلك بالله: ما بعته بألف درهم كما ادعاه المشتري، فإن نكل فله الألف. وإن حلف فسخ القاضي العقد بينهما بسبب التحالف إذا طلبا أو طلب أحدهما، ثم يصير العبد حراً؛ لأن البائع أقر بحريته حال ما كان مملوكاً للمشتري، ومن أقر بحرية ملك غيره، ثم ملكه يوماً من الدهر يعتق على المقر ويكون ولاء العبد موقوفاً؛ لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه. فإن عاد المشتري إلى التصديق كان الولاء له؛ لأن الولاء يحتمل النقض بعد ثبوته فلا يبطل بتكذيب المشتري، هذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وأما على قول محمد: يبدأ بالتحالف؛ لأن هلاك المعقود عليه عنده لايمنع التحالف واختلافهما في العقد سابق على اختلافهما في العتق، فهذا يبدأ بالتحالف ويحلف المشتري بالله بمائة دينار ويحلف البائع بالله مابعته بألف درهم، وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه، فإن حلفا يحلف المشتري على دعوى العتق بعد ذلك؛ لأن البائع يدعي عليه حقاً لنفسه بهذا الدعوى، فإنه لو ثبت العتق كان الفسخ بالتحالف على قيمة الهلاك المعقود عليه، وإذا لم

يثبت العتق كان الفسخ بالتحالف على عين العبد، فيحلف المشتري بالله ماأعتقته فإن نكل ثبت العتق ويفسخ القاضي العقد على القيمة، وإن حلف فسخ القاضي العقد على العبد وصار العبد حراً لإقرار البائع وولاؤه موقوف، ويستوي في هذه المسألة إن كان اختلافهما قبل قبض المشتري العبد أو بعده. وفي «الزيادات» : رجل ادعى على رجل أني بعت منك هذا العبد الذي في يدي بمائة دينار واعتقته أنت وقال المشتري: ما اشتريت إلا نصفه بخمسمائة درهم وما أعتقته، فإن على قول أبي يوسف يحلف المشتري أولاً على العتق ولا يشتغل بتحليفهما بسبب اختلافهما في جنس الثمن؛ لأن البائع بدعوى العتق على المشتري يدعي هلاك المعقود عليه وسقوط التحالف ويحول ضمان المشتري، فيحلف المشتري على دعوى العتق أولاً، فإن نكل ثبت العتق من جهة المشتري، فيحلف بالله مااشتريت الكل بمائة دينار ولقد اشتريت النصف بخمسين درهما، فإن نكل صار مقراً بشراء الكل بمائة دينار وقد ثبت العتق منه وكان الولاء له، وإن أنكر الولاء لنفسه لما أنكر الإعتاق إلا أن القاضي لما قضى عليه بالعتق بنكوله فقد كذبه في إنكاره فالتحق إنكاره بالعدم، وإن حلف فقد انتفى شراء الكل بمائة دينار وثبت شراء النصف بخمسين درهماً وعاد النصف الذي انتفى الشراء عنه إلى ملك البائع وعتق نصف العبد على المشتري وعتق النصف الآخر على البائع عند أبي حنيفة لإقرار البائع بحريته حين نسب الإعتاق إلى من زعمه مالكاً وهو المشتري. ومن أقر بحرية عبد وملكه يوماً من الدهر يعتق عليه بحكم إقراره، والإعتاق عند أبي حنيفة متجزئ فيعتق النصف على البائع والنصف على المشتري لهذا ويكون نصف الولاء للمشتري والنصف يكون موقوفاً للحال؛ لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه. وعلى قول أبي يوسف: عتق كل العبد على المشتري والولاء؛ لأن الإعتاق عنده لايتجزئ هذا إذا نكل المشتري عن اليمين على العتق وإن حلف على العتق انتفى العتق من جهة فيشتغل الآن بتحليفهما بسبب اختلافهما في جنس الثمن ويبدأ بيمين المشتري، فيحلفه بالله ما اشتريته بمائة دينار ولقد اشتريت نصفه بخمسمائة، فإن نكل لزمه الشراء بمائة دينار وكان العبد رقيقا؛ لأن العتق هنا لو ثبت يثبت بمجرد قول البائع، وإنه شهادة فردها بحكم لما يقطع بشهادة الفرد، وإن يحلف يحلف البائع بالله مابعت نصفه بخمسمائة درهم، ولقد بعته كله بمائة دينار، فإن نكل انتفى العقد عن أحد النصفين وعتق ذلك النصف على البائع؛ لأنه أقر بحريته حين نسب الإعتاق إلى من زعمه مالكاً. ثم الإعتاق عند أبي يوسف رحمه لايتجزئ، فإذا أعتق أحد النصفين على البائع عتق النصف الآخر عليه وعند أبي حنيفة الإعتاق يتجزئ فبقي النصف الذي ثبت فيه البيع مملوكاً للمشتري في النصف الذي ثبت فيه البيع بين إمضاء العقد وبين الفسخ؛ لأن المعقود عليه قد تغير من جهة البائع قبل القبض من العين إلى القيمة عند أبي يوسف؛ لأن عنده الإعتاق لايتجزئ. وعند أبي حنيفة الإعتاق، وإن كان يتجزئ إلا أن يعتق النصف يثبت نوع فساد وتغير في النصف الباقي، وإنه يكفي لثبوت الخيار للمشتري، فإن اختار المشتري الفسخ عاد

النصف الآخر إلى ملك البائع وعتق عليه بلا خلاف بحكم إقراره السابق ولا سعاية له على العبد أصلاً لا في النصف الذي انتفى البيع عنه، ولا في النصف الذي عاد إليه بحكم الفسخ؛ لأن البائع يبرأه من السعاية، فإنه يقول بعت كل العبد من المشتري وحقي في الثمن، والمشتري كاذب في يمينه فيكون مقراً ببراءة العبد عن السعاية من هذا الوجه، وإن اختار المشتري ببراءة من السعاية، فإنه يقول: بعت كل العبد من المشتري، إمضاء العقد كان له أن يسعى العبد في نصف قيمته؛ لأنه مشهود عليه بالعتق والمشهود عليه يستوجب السعاية على العبد سواء كان الشاهد موسراً أو معسراً بلا خلاف، نصف السعاية بما أدعى المشترى من الثمن، فإن كان الجنس متحداً وكان في السعاية فضل تصديق بالفضل؛ لأنه ربح حصل لا على ضمانه، وإن كان الجنس مختلفاً لا يتصدق بشيء؛ لأن الربح لايظهر في جنسين مختلفين؛ ولأن القبض له شبه بالعقد وابتداء العقد متفاضلاً في الجنسين المختلفين يجوز، فما له شبه بالعقد متفاضلاً في جنس واحد الاستحسان سار ما أشبه بالعقد يتمكن نوع. حيث إنه يوجب التصديق هذا إذا حلف البائع ونكل عن اليمين، فأما إذا حلف فالقاضي يفسخ العقد بينهما في النصف الذي اتفقا في البيع إذا طلبا أو طلب أحدهما وعاد ذلك النصف إلى ملك البائع وعتق عليه مجاناً من غير سعاية لما قلنا، هذا كله قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وأما على قياس قول محمد بدأ بالتحالف في العقد؛ لأن دعوى الإعتاق من البائع. وإن كان دعوى (76أ3) هلالك المعقود عليه لا يمنع التحالف عنده، والاختلاف في العقد سابق على الاختلاف في العتق فيبدأ بالتحالف في العقد، ويحلف المشتري أولاً، ثم يحلف البائع على نحو ما بينا، وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه، وإن حلفا يحلف المشتري في دعوى العتق لما مر، هذا في كله إذا اختلفا قبل القبض. وأما إذا اختلفا بعد قبض العبد والباقي بحال قال في «الكتاب» : الجواب على ما وضعت لك قبل القبض إلا في خصلة واحدة أنه لا خيار للمشتري هنا بين الفسخ والإمضاء في النصف الذي ادعاه في الشراء فيه لتغير المعقود عليه بعد القبض ولكن يستسعى في نصف قيمته. قال مشايخنا: وهنا خصلة أخرى إنه إذا قبض المشتري نصف من العبد لا يتصدق بشيء، وإن كانت القيمة من جنس الثمن وكان فيها فصل على الثمن بحصول الربح على ضمانه ولعدم ورود ماله شبه بالعتق، فالعقد وهو القبض عليه ولهذه المسألة مع أجناسها باب على حدة في «الزيادات» لقبه باب السلسلة. نوع آخر في الاختلاف في الثمن بعد ارتفاع العقد قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى الرجل من آخر جارية بألف درهم وتقابضا، ثم تقايلا البيع حال قيام الجارية حتى صحت الإقالة، ثم اختلفا في مقدار الثمن فقال المشتري: كان الثمن ألف درهم، وقال البائع: كان الثمن خمسمائة وعلى أن أزد عليك خمسمائة أيها المشتري ولا بينة لواحد منهما ذكر أنهما يتحالفان.

الفصل الحادي عشر: في الزيادة في الثمن وازديادهما في الحط والإبراء عن الثمن وفي هبة الثمن من المشتري

فرق بين هذا وبين ما إذا اختلفا في مقدار رأس المال بعد الإقالة في المسلم إليه كان رأس المال خمسة، وقال رب السلم كان رأس المال عشرة فالقول قول المسلم إليه مع يمينه، ولا يتحالفان في الإقالة في بيع اليمين، قال: تخالفان فسخ ويفسخ الإقالة بينهما بعد التحالف ويعود الأمر إلى ما كان قبل الإقالة. والفرق: أن الإقالة في باب السلم قبل قبض المسلم فيه فسخ من كل وجه وفي حق كل حكم إذ لا يمكن أن يعتبر بيعاً جديداً لما فيه من الاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض، فإنه بيع فيعتبر فسخاً في حق التحالف أيضاً كما في بيع العين إذا تقايلا قبل قبض المبيع المنقول والثمن مدفوع إلى البائع، واختلفا في مقدار الثمن بعد الإقالة، فإنهما لا يتحالفان ويكون القول في مقدار الثمن قول البائع مع يمينه؛ لأن الإقالة في هذه الصورة لا يمكن أن يعتبر بيعاً جديداً فاعتبر فسخاً في حق جميع الأحكام من جملتها التحالف. وكذا في السلم وإذا اعتبرت الإقالة فسخاً في حق التحالف لا يمكن شرع التحالف فيها؛ لأن التحالف شرع في المعقود بخلاف القياس فلا يشرع في حق المفسوخ، وأما الإقالة في بيع العين بعد القبض إن اعتبر فسخاً فيما بين المتعاقدين اعتبر بيعاً جديداً في حق الثالث؛ لأن لاعتبار معنى البيع بعد القبض ممكن فيعتبر بيعاً جديداً في حق التحالف وصار في حق التحالف كان البائع اشترى ثانياً، ثم اختلفا في الثمن ولو كان كذلك كانا يتحالفان كذا ههنا. وفي باب السلم: لو جعلت الإقالة بعد قبض المسلم فيه وهو قائم حتى أمكن أن يعتبر بيعاً جديداً في حق الثالث، يقول بأنهما يتحالفان أيضاً، هكذا قال الفقيه أبو بكر البلخي، ثم إن محمد رحمه الله يحتاج إلى الفرق بين الإقالة في فصل السلم، وبين ما إذا اختلفا في مقدار الثمن بعد هلاك السلعة، فإن في فصل الإقالة في السلم قال: لا يتحالفان؛ لأن الإقالة في باب السلم مما لا يحتمل الفسخ وفي البيع بعد هلاك السلعة قال بالتحالف، وإن كان بعد هلاك السلعة لا يحتمل الفسخ بسائر أسباب الفسخ. والفرق: أن التحالف مشروع في العقد لا في الفسخ والإقالة في باب السلم قبل القبض فسخ من كل وجه، ولا يمكن شرع التحالف فيها فأما في البيع بعد هلاك السلعة التحالف إنما يجري في البيع لا في الفسخ إلا أنا نقيم القيمة في حق الفسخ مقام العين. الفصل الحادي عشر: في الزيادة في الثمن وازديادهما في الحط والإبراء عن الثمن وفي هبة الثمن من المشتري هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه في الزيادة المتولدة من المبيع. كل زيادة تولدت من نفس المبيع كالولد والثمر واللبن فهي مبيعة، فإن حدثت قبل

القبض كان لها حصة من الثمن على اعتبار القبض، فإن ورد القبض على الأصل والزيادة قسم الثمن على الأصل يوم العقد وعلى الزيادة يوم القبض، وإن حدثت هذه الزيادة بعد القبض كانت مبيعة بيعاً ولا حصة لها من الثمن أصلاً، وإنما كانت هذه الزيادة مبيعة؛ لأنه يثبت فيها حكم البيع وهو الملك؛ لأن الملك في الأم إنما يثبت بالبيع، والملك في الزيادة إنما يثبت بملك الأم؛ لأن ملك الأصل علة ملك الزيادة بثبوت الملك في الزيادة بواسطة ثبوت الملك في الأصل مضافاً إلى البيع. فهي معنى قولنا: أن الزيادة صارت مملوكة بالبيع فصارت مبيعة بيعاً بمنزلة أطراف المبيع فلا يكون لها حصة من الثمن؛ لأن الثمن تقابل الأصول وإنما يقابلها الثمن إذا صارت مقصودة بفعل محلها وهو القبض فعل مقصود وله شبه بالعقد من حيث أن العقد يثبت ملك الرقبة وباليد يثبت ملك التصرف، فإذا حل بالولد يصير للولد حصة من الثمن إما بدونه لا يكون للولد حصة من الثمن، حتى لو هلكت الزيادة في يد البائع هلكت بغير شيء؛ لأن القبض قد انعدم فيها فلم يصر بمقابلتها شيء من الثمن ولا خيار للمشتري بسبب هلاك الزيادة في يد البائع إلا في ولد الجارية خاصة؛ لأن الولادة عيب فيها فيثبت الخيار لنقصٍ في الأم دون هلاك الولد. وإذا ورد القبض على الأصل والزيادة قسم الثمن على الأصل والزيادة ويعتبر في الانقسام قيمة الأصل يوم العقد وقيمة الزيادة يوم القبض؛ لأن الأصل صار مقصوداً بالعقد والزيادة صارت مقصودة بالقبض، والثمن إنما يقابل ما هو مقصود فاعتبرنا قيمة الأصل يوم القبض. لهذا ولو أتلف البائع الزيادة المتولدة من المبيع قبل القبض سقطت حصته من الثمن يقسم الثمن على قيمة الأصل يوم العقد، وعلى قيمة التمام يوم الاستهلاك؛ لأن التمام مبيع وقد صار مقصوداً بالاستهلاك فيثبت له حصة من الثمن كما لو استهلك جزء من المبيع، وإنما اعتبر قيمة التمام يوم الاستهلاك؛ لأنه إنما صار مقصوداً بالاستهلاك. ولو استهلك التمام أجنبي ضمن قيمته وكانت مع الأصل مبيعاً، لكون البدل قائماً مقام الأصل ولا خيار للمشتري إلا في ولد الجارية لما مر، ولو استهلك البائع التمام بطلت حصته على ما بينا ولا خيار للمشتري في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: له الخيار؛ لأن التمام بالاستهلاك صار مقصوداً ولهذا أخذ حصته من الثمن فصار كالموجود لدى العقد، وعلى هذا الاعتبار تتفرق الصفقة على المشتري بالاستهلاك قبل التمام وذلك يثبت الخيار. ولأبي حنيفة إن هذه الزيادة لو هلكت بنفسها، للمشتري خيار، فإذا استهلكها أولى؛ لأن البائع بالاستهلاك حصل للمشتري يقع لم يحصل بالهلاك وهو سقوط الحصة وهذا؛ لأن الرغبة في الأصل يزداد باستهلاك الزيادة ولا يتقاصر؛ لأنه لما رغب في أن يسلم له الأصل بكل الثمن، (76ب3) فإذا سلم له الأصل ببعض الثمن كانت الرغبة أزيد بخلاف الزيادة الموجودة لدى العقد؛ لأن الرغبة هناك تحمل بفوات الزيادة؛ لأن

الإنسان قد يرغب في التزام الثمن بمقابلة الشيء لرغبة له فيما ضم إليه، فإذا فات المضموم تحصل الرغبة، ولهذا استوى فيه الهلاك بخلاف ما نحن فيه. ولو اشترى أرضاً ونخلاً فأثمرت النخلة في يد البائع، ثم استهلك البائع الثمرة، فإن عند أبي يوسف يأخذ الثمرة الحصة من النخل، وعند محمد: يأخذ الثمرة والنخلة الحصة من الأرض. وبيانه: إذا كانت الأرض تساوي ألفاً والثمر يساوي ألفاً، فإن عند أبي يوسف يقسم الثمن نصفين على الأرض والنخل، ثم ما أصاب النخل يقسم نصفين فيسقط الربح، وعند محمد يقسم أثلاثاً فيسقط الثلث. نوع منه في الزيادة المشروطة اعلم أن الزيادة في الثمن والمثمن صحيحة ثمناً ومثمناً ويلحق بأصل العقد ويجعل كأن العقد على الابتداء. ورد على الأصل والزيادة وهو مذهب علمائنا الثلاثة، وعند زفر لا يصح ثمناً ومثمناً إنما يصح هبة مبتدأة حتى لا يتم إلا بالتسلم والتسليم وقال الشافعي: لا يصح أصلاً. والصحيح مذهب علمائنا الثلاثة رحمهم الله: أن الزيادة تصرف في العقد بتغييره من وصف مشروع وهو وصف كونه خاسراً إلى وصف مشروع وهو وصف كونه عدلاً أو رائجاً؛ لأن العقد قد يقع خاسراً من أحد الجانبين رائجاً من الجانب الآخر، وبأن كان أحد البدلين أكثر مالية، والزيادة على ما عليه الغالب، والظاهر إنما يشترط لمن وقع العقد خاسراً من جانبه، والعقد يقبل هذا النوع من التغير إذ ليس فيه أكثر من أن يصير بعض الثمن بمقابلة الزيادة بعد أن كان كله بمقابلة الأصل ومن أن يصير بعض المبيع بمقابلة الزيادة بعد أن كان كله بمقابلة أصل الثمن، والعقد قابل لذلك. ألا ترى أن في الزيادة المتولدة من المبيع قبل القبض إذا قبضها المشتري يأخذ قسطاً من الثمن ويصير بعض الثمن بمقابلة الزيادة بعد أن كان كله بمقابلة أصل المبيع. وكذلك الزيادة المتولدة من الثمن إذا ثبت أن العقد قابل لهذا النوع من التغير وجب القبول بتصحيح الزيادة ثمناً ومثمناً دفعاً للخسران من جانب المشروط له الزيادة يبقي هذا القدر أن الثمن لا بد له من مثمن هو ملك الغير. وكذلك المثمن لا بد له من ثمن هو ملك الغير، ولكن الجواب عنه أن أصل الثمن لا يستغني عن المقابلة، وكذلك أصل المثمن، فأما فضول الثمن والمثمن يستغني عن المقابلة ويكتفي بصورة المقابلة فيه. ألا ترى لو باع عبداً قيمته ألف درهم بألفي درهم يجوز وفي حق الألف الزائد لا مقابلة من حيث الحقيقة إنما الثابت المقابلة صورة. وفي مسألتنا وجد صورة المقابلة فيكتفي بها لصحة الزيادة ثمناً ومثمناً وشرط صحة الزيادة من المشتري في الثمن في ظاهر الرواية بقاء المبيع وكونه محلاً للمقابلة في حق المشتري حقيقة.

وروى الحسن عن أبي حنيفة أن أشياء من ذلك ليس بشرط حتى أن على رواية الحسن تصح الزيادة بعد هلاك المبيع في ظاهر الرواية لا تصح، وروي عن محمد أن شرط صحة الزيادة كون المبيع قابل للمقابلة في نفسه لا كونه قابلاً للمقابلة في حق المشتري حتى أن على الرواية هذه تصح الزيادة من المشتري في الثمن بعد ما باع المشتري المبيع أو وهب وسلم أو تصدق وسلم؛ لأن المبيع بقي محلاً للمقابلة في نفسه، وفي ظاهر الرواية لا تصح الزيادة؛ لأن المبيع لم يبق محلاً للمقابلة في حق المشتري. والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية؛ لأن طريق تصحيح الزيادة في الثمن تغيير العقد والعقد بعد هلاك المعقود عليه لا يقبل التغيير؛ لأن التغير يرد على الموجود والعقد كلام كما وجد تلاشى وانعدم، وإنما جعل باقياً ببقاء محله ومحله المبيع ذات محل العقد فلا يبقي العقد فلا يمكن القول بالتغيير. والجواب عن رواية محمد على ظاهر الرواية: أن الزيادة من المشتري فيشترط محلية المقابلة في حقه. يوضحه: أن التغيير المقابلة من وصف إلى وصف في معنى إن شاء المقابلة على ذلك الوصف، ثم يشترط الصحة إنشاء المقابلة حقيقة كون المحل قابلاً للمقابلة في حق المنسي لا كونه محلاً للمقابلة في نفسه، فكذا يشترط لصحة إنشاء المقابلة المعنوية كون المحل قابلاً للمقابلة في حق. إذا اشترى عبداً بأمة وتقابضا وهلك أحدهما، ثم زاد أحدهما للآخر في المبيع جاز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الإقالة تجوز في هذا الوجه. والأصل عند أبي يوسف: إن ما جازت الإقالة جازت الزيادة فيه، ولو زاد في الثمن بعد ما رهن المبيع أو أجر تصح الزيادة؛ لأن المحل بقي قابلاً للمقابلة حقيقة في حق المشتري وقت شرط الزيادة. فإن بيع المرهون والمستأجر من المرتهن والمستأجر صحيح نافذ، وإنما لا ينفذ بيعهما من الأجنبي لعجز البائع عن التسليم لحق المرتهن والمستأجر لا؛ لأنه ليس بمحل للمقابلة في حقه. وكذلك لو زاد المشتري في الثمن بعد ما قطع يد المبيع وأخذ المشتري أرشه صحت الزيادة المنفصلة لا تبطل محلية المقابلة في حق المشتري فلا يمنع الزيادة إلا أنه لا يملك الرد بالعيب لمكان الزيادة المنفصلة؛ لأن بالرد بالعيب ينفسخ العقد فتبقي الزيادة مبيعاً مقصوداً بلا ثمن أما في إثبات الزيادة لا يحتاج إلى الفسخ فلا يؤدي إلى هذا المعنى وهذا تبين أن الطريق المعتبر في تصحيح الزيادة طريقة التغيير لا طريقة الفسخ. ولو زاد المشتري في الثمن بعد ما كان المبيع لا تصح الزيادة فرق بين الكتابة والرهن حيث جوز الزيادة في المبيع بعد الرهن ولم يجوز بعد الكتابة وكما ثبت للمكاتب يد على نفسه ثبت للمرتهن يد على المرهون. والفرق: وهو أن الثابت للمرتهن يد الاستيفاء، وأنه يد الملك لا يد حرية للمملوك

فبقي المرهون محلاً للمقابلة، فأما الكتابة تبطل يد المولى فيظهر للعبد يد حرية على نفسه ليتمكن من الضرب في أرض الله فيبتغي من فضل الله تعالى، فينال شرف الحرية، وبهذا تبطل محلية البيع. ولهذا لو حلف أن لا يبيع فباع المرهون يحنث في يمينه ولو باع المكاتب لا يحنث هذه الجملة من بيوع «الجامع» . وفي «القدوري» : وإذا صار المبيع لا يجوز العقد عليه نحو أن يعتقه المشتري أو يستولدها أو يدبر أو يكون عصيراً فيتخمر أو يخرجه المشتري عن ملكه أو يملك، ثم زاده فالزيادة جائزة في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز. وعلى هذا الخلاف إذا زاد الزوج في مهر المرأة بعد موتها وعلل لأبي حنيفة وقال: أن الزيادة تثبت للحال ربحاً وبيعاً لا أصلاً ومقصوداً، ثم بعد الالتحاق بأصل العقد يثبت المقابلة بين الزيادة والمبيع ويثبت لهذه الزيادة حصة من الثمن ولما كان هكذا يراعي قيام المبيع وكونه محلاً للمقابلة حالة العقد لا حالة الزيادة. وفي «البقالي» : تجوز الزيادة في المبيع بعد هلاك المبيع بخلاف الزيادة في الثمن في ظاهر الرواية، وهكذا روى ابن سماعة في «نوادره» . ولو زاد بعد ما صار الخمر خلاً صحت الزيادة بلا خلاف؛ لأن الزيادة تقابل المبيع للحال صورة، ثم إذا التحق بأصل العقد يقابل المبيع معنى، فإن نظرنا إلى حالة المقابلة صورة فالمحل صالح للمقابلة، وإن نظرنا إلى حالة المقابلة معنى فالمحل صالح أيضاً، أما فيما بين ذلك ليس حالة المقابلة صورة ولا حالة المقابلة معنى فيجعل التخمر فيه عفواً. وإذا اشترى (77أ3) شاة وذبحها ولم يسلخها، ثم زاد في الثمن صحت الزيادة؛ لأن المبيع قائم بعد الذبح والسلخ ولهذا لو كانت مغصوبة لا ينقطع حق المالك بهذه الأشياء هكذا ذكر في «الجامع» . وفي «المنتقى» رواية مجهولة أنه لا تجوز الزيادة. وفي «الجامع» أيضاً: ولو اشترى غزلاً وقبضه ونسجه ثوباً، ثم زاد في الثمن بطلت الزيادة؛ لأن بالنسخ صار شيئاً آخر وصار الأول هالكاً ولهذا ينقطع حق المغصوب منه. ولو اشترى ثوباً فقطعه وخاطه قميصاً، ثم زاده في الثمن صحت الزيادة؛ لأن المبيع هو الثوب والثوب باقي إلا أنه إنما وجب انقطاع حق المغصوب منه باعتبار تعارض الحقين حق الغاصب وحق المغصوب، وترجح حق الغاصب على حق المالك على ما عرف، فأما حق المشتري هنا فلا يعارضه بنفسه فلا يجب الترجيح. وكذلك إذا اشترى حديداً وضربه سيفاً، ثم زاد في ثمنه صح لما قلنا: أنه حديد كما كان، وإنما ينقطع حق المالك لترجح حق الغاصب على ما مر في مسألة الخياطة. ولو اشترى حنطة فطحنها، ثم زاد في الثمن شيئاً بطلت الزيادة على ظاهر الرواية؛ لأن الحنطة هلكت، ألا ترى أنه قد زال الاسم والصورة قد تبدلت والمعنى قد هلكت وحدثت معنى آخر فبطلت الزيادة ضرورة، وإذا كانت الزيادة مفسدة للعقد التحقت بأصل

العقد وفسد بها البيع في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا تصح الزيادة، ثم في موضع تصح الزيادة من المشتري تصح من الأجنبي؛ لأن المشتري لا يملك بمقابلة الزيادة شيئاً لم يكن مملوكاً له فكان الأجنبي في هذا كالمشتري غير أن الزيادة من المشتري تصح بمطلق الإيجاب ومن الأجنبي إنما تصح إذا أضاف الإيجاب إلى ماله أو ذمته أو أضاف الضمان إلى نفسه، أما بدون أخذ هذه الأوصاف لا تصح، وإنما كان هكذا؛ لأن مطلق الزيادة ثمناً إنما يكون على من وقع له الثمن والثمن وقع للمشتري وله ولاية على نفسه فيصح، فأما لا ولاية لأجنبي على المشتري فلا يقع إيجاباً على المشتري بل يقع إيجاباً على الأجنبي فلا يصح إلا على الوجه الذي قلنا: وهو نظير ما قلنا في الخطاب بالطلاق على مال، أنه يصح من الأجنبي كما يصح من المرأة؛ لأن المرأة بالطلاق بمال لا تملك شيئاً؛ لأن حقها في مالكيتها وحريتها وذلك باقي لكن يبطل به حق كان للزوج، وقد بطل ذلك مع الأجنبي أيضاً لكن يصح من المرأة مطلقاً ومن الأجنبي، لا يصح ما لم يصف الإيجاب إلى مال نفسه أو ذمته. ثم الزيادة من الأجنبي لا تخلو إما أن تكون مطلقاً أو مقيدة بالثمن، وإما أن تكون مشروطة في العقد أو ملحقة بها، وإما أن تكون الزيادة بأمر المشتري أو بغير أمره، فإن كانت الزيادة مشروطة في العقد فإن كانت بغير أمر المشتري وكانت مطلقة غير مقيدة بالثمن. وصورتها: رجل ساوم رجلاً له بألف درهم وأبى المالك إلا أن يبيعه بألف وخمسمائة فقال أجنبي لصاحب العبد: بعه إياه بألف على أني ضامن لك خمسمائة من الثمن سوى الألف فباعه إياه بألف ولم يشرطه شيئاً في البيع فالبيع جائز والخمسمائة التي ضمن الرجل للبائع باطل، وإن كانت مقيدة بالثمن. وصورتها: إذا قال الأجنبي لصاحب العبد: بعه بألف درهم على أني ضامن لك خمسمائة من الثمن سوى الألف فباعه إياه جاز ووجب الألف على المشتري والخمسمائة على الأجنبي، وفي مسألة «الجامع الصغير» وإنما جاء الفرق بين المسألتين؛ لأن في المسألة الأولى لا يمكن أن يجعل كلام الأجنبي زيادة في الثمن؛ لأنه قال: على أني ضامن لك خمسمائة سوى هذه الألف والألف هو الثمن فكأنه قال: سوى الثمن فلا يمكن أن يجعل هذا زيادة في الثمن بقي هذا شرطاً للزيادة مطلقاً وشرط الزيادة مطلقاً التزام المال بلا سبب، والتزام المال بلا سبب رشوة حرام. أما في المسألة الثانية: جعل الخمسمائة من جملة الثمن والثمن اسم لما يستحق بالبيع فخرج به من أن يكون رشوة. فوضح الفرق بينهما: أن في المسألة الأولى لو كان المشتري هو الذي قال ذلك للبائع لا يلزمه الخمسمائة، وفي المسألة الثانية لو كان المشتري هو الذي قال ذلك للبائع يلزمه الخمسمائة فظهر الفرق بينهما. وفرق آخر وهو: أنه إذا قال من الثمن فقد أضاف الإلتزام إلى ما بعد الوجوب؛ لأن الثمن اسم للواجب بالبيع وإضافة الكفالة إلى ما بعد الوجوب بل التزم المال في

الحال بشرط أن يبيعه منه بألف درهم وذلك غير صحيح، وفرق أجزائه إذا قال من الثمن فقد جعل المائة بمقابلة المبيع صورة لا معنى، ومثل هذا يصح من العاقد فيصح من الأجنبي، وإذا لم يقل من الثمن فقد جعل الزيادة مقابلاً بفعل البائع وهو البيع والبائع في البيع عامل لنفسه فلا يستوجب به عوضاً على غيره. فرع أما إذا قال الأجنبي من الثمن فقال: لو نقد المشتري الألف له أن يقبض المبيع وليس للبائع أن يمتنع عن التسليم لاستيفاء الخمسمائة؛ لأن الخمسمائة لم تثبت ثمناً في حكم يرجع إلى المشتري؛ لأنه لم يلتزمها ولم يأمر الأجنبي بها وإنما يثبت ثمناً في حق الأجنبي وفي حق حكم يرجع إلى الأجنبي، وهذا؛ لأن التزام الأجنبي فيما يتضرر به المشتري غير معتبر ولو وقفنا حق قبض المشتري على نقد الخمسمائة يتضرر به المشتري. ولو كان المشتري أمر الأجنبي بالضمان والمسألة بحالها كان البيع جائزاً إذا لم يشرط ضمان الخمسمائة في البيع إنما ذكر هذه الزيادة تحرزاً عن البيع بشرط الكفالة، فإن هناك بين العلماء اختلافاً وفيه استحسان، وإذا جاز البيع هنا كان للبائع أن يأخذ الخمسمائة من الكفيل بحكم الضمان يريد به إذا كان الكفيل قال: على أني ضامن لك خمسمائة من الثمن، وإن أراد البائع أن يطالب المشتري بالخمسمائة لم يكن له ذلك؛ لأن المشتري ما التزمها في ذمة نفسه إنما التزمها الكفيل بأمره فصار الكفيل ههنا بالشراء وهناك ليس للبائع أن يطالب الموكل بالثمن بل يطالب الوكيل كذا ههنا. فإن نقد المشتري ألف درهم وأراد أن يأخذ المبيع ليس له ذلك حتى يأخذ البائع الخمسمائة من الكفيل بخلاف ما إذا لم يكن المشتري أمر الضامن؛ لأن ههنا الخمسمائة ثمناً في حق المشتري ولهذا الكفيل يرجع على المشتري بذلك وفيما إذا كانت الزيادة بغير أمر المشتري فالزيادة لم تثبت ثمناً في حق المشتري ولهذا لا يرجع الضامن على المشتري بالزيادة. وإن ادعى المشتري الألف والخمسمائة إلى البائع أُجبر البائع على القبول منه، وإن كان لا يجبر المشتري على إعطاء الخمسمائة إذا أبى ذلك بمنزلة الموكل إذا أدى الثمن يجبر على القبول منه، وإن كان لا يجبر هو على الدفع ابتداء، وليس للكفيل أن يرجع على المشتري يريد به إذا أدى المشتري الألف والخمسمائة إلى البائع كالموكل إذا نقد الثمن من مال نفسه لا يكون للوكيل حق الرجوع عليه بشيء؛ لأنه إنما يرجع بما أدى من الثمن لا بما لم يؤد. وأشار محمد رحمه الله في «الأصل» : إلى علة المسألة فقال: المشتري ليس بمتطوع فيما أدى عن الكفيل، وإنما أراد بهذا التفرقة بين هذا وبينما لو جاء إنسان وأدى الخمسمائة عن الكفيل حيث كان للكفيل أن يرجع على المشتري بالخمسمائة؛ لأن هناك الأجنبي في الأداء عن الكفيل (77ب3) متبرع فيصير كأنه ملك الخمسمائة من مال الكفيل، أما ههنا المشتري ليس بمتبرع عن الكفيل؛ لأنه يؤدي ما كان عليه فلم يصير مملكاً من الكفيل بطريق التبرع بل يكون مؤدياً من مال نفسه فلهذا افترقا.

r هذا إذا كانت الزيادة مشروطة في العقد فأما إذا كانت الزيادة ملحقة به بأن اشترى رجل عبداً بألف درهم وقبضه حتى زاد رجل أجنبي في ثمنه خمسمائة فإن فعلها بإذن المشتري فهو على المشتري دون الأجنبي لما ذكرنا أن مطلق الزيادة إنما تنصرف إلى من دفع له الثمن وقد ثبتت له الولاية على المشتري لما أمره المشتري بالزيادة ويصير الأجنبي في هذا بمنزلة المعير والسفير، ولهذا لا يستغني عن الإضافة إلى عقد الشراء، فإنه لابد أن يقول زدتك خمسمائة في ثمن المبيع الذي اشتراه فلان. وحقوق العقد إنما ترجع على العاقد دون المعير والسفير، بخلاف ما إذا كانت الزيادة مشروطة في العقد؛ لأن الأجنبي هناك بمنزلة الوكيل ولهذا يستغني عن إضافة الزيادة إلى عقد غيره فكانت الحقوق راجعة إليه أما هنا بخلافه. وإن كان زاد بغير أمر المشتري فإن لم يضمن الزيادة ولا إضافة إلى مال نفسه، ولا إلى ذمته كانت الزيادة موقوفة على رضا المشتري لما مر أن يطلق الإيجاب ثمناً يكون على من وقع له المثمن فيصير إيجاباً على المشتري ولا ولاية له على المشتري فيوقف على رضا المشتري لهذا، وإن كان حين زاده الخمسمائة قال: إنه ضامن لهما، وقال: على إنها علي فهي لازم للأجنبي؛ لأنه التزمها في ذمة نفسه أو ماله فبعد ذلك أن إجازة المشتري لم يعمل فيه الإجازة؛ لأنها قد لزمت عقداً نفذ على غيره لا يعمل بخلاف ما إذا لم يضمنها الأجنبي ولا أضافها إلى ذمته على ما مر. وفي «المنتقى» : رجل باع رجلاً ثوباً، ثم لقيه المشتري قال: إنك أغليت علي وبعتني بأكثر مما يساوي، وقال البائع: إني بعتك بعشرة وكان باعه بعشرين فهذا حطته للعشرة عن الثمن، ولو كان البائع قال للمشتري: قد أرخصت عليك وبعتك بنصف الثمن فقال المشتري: قد اشتريته بعشرين وقد كان اشتراه بعشرة فهذا من المشتري زيادة في الثمن. ولو لم يكن الأمر على هذا الوجه ولكن البائع قال للمشتري: بعتكه ثانياً بعشرين فتراضيا عليه وكان البيع الأول بعشرة ينفسخ البيع الأول بالثاني. وكذلك لو كان المشتري قال للبائع: اشتريته منك ثانياً بعشرة وتراضيا عليه وكان الشراء الأول بعشرين ينتقض الشراء الأول بالثاني. قال: ولا يشبه هذا الأول، ثم قال: إذا ذكرا غلاءً أو رخصاً فهو زيادة وحط وإذا لم يذكر فهو نقص الأول. وفي «نوادر هشام» قال: سمعت أبا يوسف يقول في رجل اشترى من آخر ثوباً بعشرة دراهم وأرجح له دانقاً قال لا تعمله حتى يقول في حل أو يقول هو لك، فإن فعل ذلك باعه المشتري على عشرة دراهم يعني مرابحة أو تولية، ولو وجد به عيباً رده بعشرة. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر عبداً على أن البائع بالخيار، ثم إن المشتري قال للبائع: أصالحك على مائة درهم أعطيكها على أن تسلم لي البيع ففعل جاز وهذه زيادة، ولو كان الخيار للمشتري فقال البائع: أصالحك على أن أحط منك مائة وأزيدك شيئاً على أن تقبل البيع فهذا جائز أيضاً، وسيأتي في فصل الخيار بخلاف هذا.

وفي «المنتقى» : إذا مات البائع والمشتري والسلعة قائمة، ثم زاد وارث الآخر شيئاً فهو جائز في قولهم جميعاً. وفي أول بيوع «الجامع» : إذا اشترى إبريق فضة بمائة دينار وتقابضا وتفرقا، ثم التقيا فزاد المشتري البائع في الثمن عشرة دنانير وصحت الزيادة بشرط قبض الزيادة في مجلس الزيادة؛ لأن الزيادة إذا صحت التحقت بأصل العقد بطريق الإسناد فتصير الزيادة بدل الصرف غير أن الإستناد لا يدخل في فعل العباد، والقبض من أفعال العباد فاعتبر في حق وجوب القبض حال ثبوت الزيادة، ولا يشترط قبض الإبريق للحال؛ لأنها مقابلة للحال تسمية. وصورة إذا صحت التحقت بأصل العقد وتثبت المقابلة من وقت وجوب العقد معنى والمقابلة معنى أقوى من مقابلة صورة وقبض الإبريق وجد وقت العقد حقيقة فوقعت عن اشتراط قبضها وقت وجود المقابلة صورة، أما في حق الزيادة لا يمكن اعتبار القبض وقت المقابلة معنى فاعتبرناه وجود المقابلة صورة. نوع آخر يرجع إلى قسمة الزيادة في بعض المعقود عليه يجب أن يعلم أن الزيادة المتولدة من المبيع لا يزاحم المبيع في الزيادة المشروطة مادام المبيع قائماً حتى كانت الزيادة المشروطة زيادة في المبيع دون الولد؛ لأن الولد تبع والتبع لا يستتبع غيره مادام الأصل باقياً، وإذا صارت الزيادة المشروطة زيادة على المبيع فالثمن أولاً ينقسم على المبيع وعلى الزيادة المشروطة، ثم ما أصاب المبيع ينقسم عليه وعلى الولد مبيعاً، فإن المتولد من المبيع مبيع، ويكون الانقسام باعتبار القيمة. ويعتبر قيمة الأصل يوم العقد وقيمة الزيادة المشروطة يوم الزيادة وقيمة الولد يوم قبض الولد، وهذا لما ذكرنا قبل هذا أن الثمن إنما يقابل بما هو مقصود بالعقد والمبيع صار مقصوداً بإيراد العقد عليه، والزيادة بالشرط والولد بالقبض الذي هو ملحق بالعقد فاعتبرنا في الانقسام قيمة المبيع يوم العقد وقيمة الزيادة يوم الشرط وقيمة الولد يوم القبض. لهذا قال محمد رحمه الله: رجل اشترى من آخر جارية قيمتها ألف درهم بألف درهم فولدت الجارية قبل القبض ولداً بقيمة ألف درهم، ثم إن البائع زاد المشتري غلاماً يساوي ألف درهم ورضي به المشتري، ثم ازدادت قيمة الولد فصارت ألفي درهم وجاء المشتري وقبضهم ونقد الألف ووجد بالولد عيباً رده بثلث الألف، وإنما كان هكذا؛ لأن الثمن أولاً ينقسم على الجارية وعلى الزيادة نصفان اعتبار القيمة الجارية يوم العقد والقيمة الزيادة المشروطة يوم الزيادة، وجعلت الزيادة المشروطة زيادة على الجارية، ثم ما أصاب الجارية وذلك نصف الألف انقسم عليها وعلى الولد أثلاثاً وثلثاه بمقابلة الولد اعتبار القيمة الأم يوم العقد وهي الألف، ولقيمة الولد يوم القبض وهي ألفان وثلثا نصف الألف ثلث الألف، فإذا وجد بالعبد عيباً رده بثلث الألف، وإن وجد بالأم عيباً ردها بسدس الألف؛ لأن بمقابلتها ثلثا نصف الألف وثلث نصف الألف سدس الألف، وإن

وجد بالزيادة عيباً ردها بنصف الألف؛ لأن بمقابلتها نصف. وكذلك لو لم تلد الجارية لكن كانت عينها بيضاء وقت العقد فذهب البياض عن عينها، ثم إن عبداً معاً عيبها عند البائع فدفعه مولاه بالجناية إلى البائع، ثم زاد البائع المشتري يساوي ألف فهذا والأول سواء إذا قبضهم المشتري ينقسم الثمن على قيمة الجارية وقت العقد وعلى قيمة المدفوع بالعين يوم يقبضه المشتري، فإذا وجد بأحدهم عيباً ردها بالحصة؛ لأنه لما انجلى البياض عن العين كان ذلك بمنزلة زيادة متصلة فلما برأت عن عيبها دفع بها صارت تلك الزيادة متصلة بمنزلة ولد ولدته فيكون العبد المدفوع تبعاً للجارية إنم (78أ3) يصير مقصوداً بالقبض فيعتبر في الانقسام قيمة وقت القبض. وهذا بخلاف إتلاف البائع؛ لأن البائع بالإتلاف يصير مفوتاً القبض المستحق بحكم العقد مقصوداً بالفسخ وأن يصير مقصوداً بالفسخ إلا وأن يصير مقصوداً بالعقد ضرورة فلهذا يعتبر قيمته في تلك الحالة أما ههنا البائع يقبض العبد بهذا القبض المستحق للمشتري ولا يفوت فلا يصير مقصوداً بالفسخ ليصير مقصوداً بالعقد ضرورة، فلهذا اعتبر قيمته في الانقسام يوم قبض المشتري. وهذا الذي ذكرنا إذا كانت الجارية بيضاء إحدى العينين عند البيع فانجلى البياض عنها عند البائع، ثم جاء عبد وضرب عينها حتى عاد البياض فدفع به، فأما إذا كانت عيناها صحيحتين عند البيع وقيمتها ألف درهم وجاء عبد وضرب عينها عند البائع حتى انتصب فدفع مولاه إلى البائع. ثم زاد المشتري عبداً يساوي ألف درهم، ثم جاء المشتري وقبضهم فهنا لا يجعل المدفوع بمنزلة الولد بل يقسم الثمن أولاً على قيمة الجارية يوم العقد وعلى قيمة الزيادة نصفان، ثم (ما) أصاب الجارية ينقسم عليها وعلى العبد المدفوع نصفان قلت قيمة العبد أو كثرت بخلاف الفصل الأول، فإن هناك ما أصاب الجارية ينقسم على قيمتها يوم العقد وعلى قيمة العبد المدفوع يوم القبض. والفرق: أن العبد المدفوع هناك قائم مقام ما هو أصل وهو العين إذ العين في هذه الصورة كانت أصلاً ولم تكن زيادة؛ لأنه اشتراها وهي صحيحة العينين فكان حكمه حكم نصف الجارية على أي قيمة كان إذا العين من الأدمي نصفه فيأخذ نصف ما أصاب الجارية من غير اعتبار القيمة، فأما في الفصل الأول العين كانت زيادة؛ لأنه اشتراها وهي بيضاء أحد العينين، ثم انجلى البياض عنها والعبد المدفوع بها قام مقاماً فصارت الزيادة المتصلة منفصلة فكان بمنزلة الولد، وفي انفساخ الثمن يعتبر قيمة الولد يوم القبض فكذا قيمة العبد المدفوع. قال: ولو ولدت الجارية المبيعة قبل القبض ولداً أو جاء عبد وضرب عينها التي كانت بيضاء وقت العقد وانجلى البياض عنها حتى عاد البياض بسبب ضربه ودفع العبد

به، ثم ماتت الجارية بسبب آخر غير العين، ثم زاد البائع المشتري في المبيع دابة تساوي ألف درهم ورضي به المشتري صحت الزيادة؛ لأنها حصلت حال بقاء العقد؛ لأن الولد يقوم مقام الجارية حال فوات الجارية والعبد المدفوع في مثل هذه الصورة بمنزلة الولد فيبقي العقد ببقاء كل واحد منهما فصحت الزيادة. وإذا قبض المشتري يقسم الثمن على قيمة الجارية يوم العقد وعلى قيمة الولد أو العبد المدفوع يوم قبض المشتري فحصة الجارية تسقط بهلاكها قبل القبض وحصة الولد أو العبد المدفوع يقسم عليه وعلى الزيادة يعتبر قيمته الزيادة يوم الزيادة وقيمة الولد أو العبد المدفوع يقسم عليه وعلى الزيادة يوم قبض المشتري وتعتبر الزيادة في هذه المسالة تابعة للولد أو العبد المدفوع؛ لأن الأصل متى، فإن قام الولد مقامه وصار أصلاً فاعتبرت الزيادة تبعاً للولد أو العبد المدفوع لهذا، فإذا بأحدهما عيباً رده بحصته من الثمن. فإن لم يقبض المشتري شيئاً من ذلك حتى هلكت الزيادة هلكت بحصتها ويتخير المشتري إن شاء أخذ الولد أو العبد المدفوع بحصته من الثمن وإن شاء ترك؛ لأن بهلاك الزيادة تعتبر على المشتري شرط عقده فلابد من التخير طلباً لرضاه، وهذا الخيار غير الخيار والذي ثبت له بهلاك الجارية قبل القبض؛ لأن ذلك الخيار سقط حين رضي المشتري بالزيادة يكون رضاءً يلزم العقد وبسقوط الخيار فبطل ذلك الخيار وإنما هذا خيار وآخر يثبت بسبب هلاك الزيادة. وإن هلك الولد أو العبد المدفوع قبل القبض وبقيت الزيادة فللبائع أن يمسك الزيادة عن المشتري؛ لأن الولد أو العبد المدفوع إذا هلك قبل القبض صار كأن لم يكن؛ لأنه ظهر أنه لم يكن، بمقابلته شيء من الثمن وإن الأم حين هلكت بجميع الثمن فانفسخ العقد كله بهلاك الأم، وإن الزيادة حصلت بعد انفساخ العقد فلم تصح الزيادة فكان للبائع أن يمسك الزيادة لهذا. وإنما قلنا: أن بهلاك الولد قبل القبض يظهر أنه لم يكن بمقابلته شيء من الثمن؛ لأن الولد وإن صار مبيعاً إلا أنه إنما يأخذ قسطاً من الثمن إذا صار مقصوداً وإنما يصير مقصوداً إذا ورد عليه القبض إلا أن الظاهر لما كان إلى وقت القبض كان الظاهر صيرورته مقصوداً والأحكام مبنية على الظاهر فجعلنا للولد حصة من الثمن للحال بحكم الظاهر وأبقينا العقد ببقائه وصححنا الزيادة تبعاً له ولكن بشرط بقائه إلى وقت القبض، فإذا هلك الولد قبل القبض فات الشرط وظهر بخلاف ذلك الظاهر، وظهر أنه لم يكن بمقابلته شيء من الثمن. وإذا اشترى عبدين قيمة أحدهما ألف درهم وقيمة الآخر خمسمائة درهم بألف درهم، فصارت قيمة التي كانت خمسمائة ألف درهم أيضاً، ثم زاد المشتري في الثمن شيئاً تصح الزيادة وتنقسم الزيادة عليهما أثلاثاً اعتباراً لقيمتهما يوم البيع على ما مر،

ومعنى آخر أن الزيادة للحال بل المبيع صورة لا معنى، ثم إذا صحت الزيادة والتحقت بأصل العقد تتحقق المقابلة بين الزيادة وبين المبيع معنى والانقسام حكم المعاني لا حكم الصور فيجب اعتبار حالة المقابلة المعنوية وهي حالة العقد، وفي تلك الحالة قيمة أحدهما ضعف قيمة الآخر فلا يتغير الانقسام بعد ذلك بتغير القيمة، فإن وجد المشتري بأحد العبدين عيباً رده بحصته من المثمن الأصل والزيادة، وإن مات أحدهما، ثم زاد المشتري في الثمن صحت الزيادة في حق القائم دون الهالك، حتى لو كان القائم هو الذي قيمته ألف صح ثلثاها، وإن كان القائم هو الآخر صح ثلثها. وكان ينبغي أن لا تصح الزيادة أصلاً؛ لأنه جمع بين الحي وبين الميت في حق الزيادة، ولو جمع بين الحي وبين الميت في حق ابتداء العقد لا يصح العقد أيضاً فكذا في حق الزيادة. وللوجه في هذا أن يقال: إن الجمع بينهما إنما يمنع ابتداء العقد بجهالة الثمن إن لم يكن الثمن مفصلاً عند الكل، والشرط الفاسد عند أبي حنيفة إن كان الثمن منفصلاً؛ لأنه جعل قبول العقد في الهالك شرطاً للعقد في القائم على ما عرف في موضعه، وكلا المعنيين لا يوجدان ههنا. أما الجهالة؛ لأن الجهالة إنما تقع من قبل الانقسام من حكم المقابلة معنى لا صورة، والمقابلة من حيث المعنى إنما تثبت عند العقد فعند ذلك يثبت الانقسام، وفي الحالة لا جهالة فيصير بمنزلة موت أحدهما بعد الزيادة. وأما المعنى الآخر؛ لأن الزيادة إنما تثبت بطريق الاستثناء، وكل مستند ظاهر من وجه مقتصر من وجه ولافساد باعتبار الظهور إنما الفساد باعتبار الاقتصار فكان الفساد في حصة الهالك ثابتاً من وجه دون وجه فلا تثبت حصة الهالك ولكن لا يتعدى ذلك إلى حصة القائم، ولا يصير شرطاً فاسداً في حق حصة القائم وكان ينبغي أن يصرف كل الزيادة إلى القائم عند أبي حنيفة. كما إذا تزوج امرأتين إحداهما لا تحل له على ألف درهم يصرف الألف كله إلى التي تحل له عند أبي حنيفة. والجواب: أن الانقسام حكم صحة الإيجاب وهناك الإيجاب لم يصح في حق الحرمة أصلاً، أما ههنا (78ب3) الهالك داخل باعتبار شبه الظهور والتقسيم حكم شبه الظهور فصار كما لو مات أحدهما بعد الزيادة، وكذلك لو أعتق أو دبر أو كانت أمة فاستولدها أو باع أحدهما فهذا وما لو مات أحدهما سواء. وفي «المنتقى» : رجل اشترى عبدين صفقة واحدة بألف درهم وتقابضا أو لم يتقابضا حتى زاد المشتري مائة في ثمن أحد العبدين بعينه، أو قال: في ثمن أحدهما ولم يعين قال: لا تجوز الزيادة. ثم قال: وإن كان لكل واحد منهما ثمن على حدة وزاد في ثمن أحدهما لا بعينه جاز، وجعل القول قول المشتري في إضافة الزيادة إلى أحد الثمنين. وذكر في موضع آخر من هذا الكتاب: إذا اشترى عبدين صفقة واحدة بألف درهم، ثم زاد المشتري مائة في ثمن أحد العبدين بعينه. وقال القياس: أن تجوز الزيادة ويقسم

الثمن على العبدين، ثم تدخل الزيادة في حصة العبد الذي زيدت فيه، وكذلك إذا زاد جارية في ثمن أحدهما بغير عيبه جاز وكان للمشتري أن يضيفها إلى أيهما شاء وكذلك إذا زاد عرضها. نوع آخر في الحط والإبراء عن الثمن وفي هبة الثمن من المشتري حط الثمن صحيح ويلتحق بأصل العقد عندنا كالزيادة، غير أن بين الحط والزيادة فرق من وجهين: أحدهما: أن الحط صحيح سواء بقي المبيع محلاً للمقابلة أو لم يبق، بخلاف الزيادة على الرواية؛ لأن الحط إخراج ما تناوله وله الحط من أن يكون ثمناً للحال وتستند إلى حال كمال العدم يشترط له قيام الثمن لا قيام البيع، فأما الزيادة فإثبات صورة المقابلة للحال وتستند إلى حال كمال الثبوت فيشترط لها قيام المبيع بشرط أن يكون محلاً للمقابلة. الثاني: إن من اشترى عبدين صفقة واحدة بألف درهم، فحط عنه المشتري مائة كان الحط نصفين، ولو زاد المشتري في هذه الصورة مائة يقسم الزيادة على قدر قيمتها. والفرق: أن الحط يكون من الثمن ولا تعلق له بالمبيع، فإذا قال: حططت عن ثمنها مائة، فقد أدخلهما في الحط على السواء، فانقسم الحط عليهما نصفان بخلاف الزيادة في الثمن؛ لأنهما تقابل المبيعين، وقد قابلهما بهما، والمقابلة تقتضي الانقسام على المبيعين باعتبار القيمة، وإذا وهب بعض الثمن من المشتري قبل القبض أو أبرأه عن بعض الثمن قبل القبض فهو حط أيضاً. وإن كان البائع قد قبض الثمن، ثم حط البعض أو وهب البعض بأن قال: وهبت منك بعض الثمن صح ووجب على البائع رد مثل ذلك على المشتري. ولو قال: أبرأتك عن بعض الثمن بعد القبض لا يصح الإبراء، وكان يجب أن لا تصح الهبة والحط بعد القبض أيضاً كالإبراء؛ لأن المشتري قد برئ عن الثمن بالإبقاء، فالحط أو الهبة لم تصادف ديناً قائماً في ذمة المشتري، فينبغي أن لا يصح كالإبراء. والجواب: أن الدين باق في ذمة المشتري بعد القضاء؛ لأنه لم يقض عين الواجب حتى لا يبقى في الذمة إنما قضى مثله فيبقى ما في ذمته على حاله، إلا أن المشتري لا يطالب به؛ لأن له مثل ذلك على البائع بالقضاء، فلو طالب البائع المشتري بالثمن كان للمشتري أن يطالب البائع أيضاً، فلا يفيد مطالبة كل واحد منهما صاحبه. فعلم أن الثمن باق في ذمة المشتري بعد القضاء بالهبة والحط كل واحد منهما صادف ديناً قائماً في ذمة المشتري كان ينبغي أن يصح الإبراء أيضاً، إلا أنه لم يصح؛ لأن الإبراء نوعان: إبراء بالإستيفاء وإبراء بإسقاط الواجب، ولهذا يقال: أبرأه براءة قبض واستيفاء كما يقال: أبرأه براءة اسقاط، فإذا أطلق البراءة إطلاقاً انصرفت إلى البراءة من حيث القبض؛ لأنه أقل، وإذا انصرف إليه صار كأنه قال: أبرأتك براءة قبض واستيفاء ولو نص على هذا

الفصل الثاني عشر: في البيع بشرط الخيار

لا يسقط الواجب عن ذمة المشتري، ولا يجب على البائع رد ما قبض كذا ههنا. فأما الهبة والحط لا يتنوع إلى نوعين: هبة إسقاط وهبة قبض، حط إسقاط وحط قبض، وإنما هو نوع واحد وهو هبة إسقاط، وإذا كان نوعاً واحداً وهو الإسقاط صار كأنه نص عليه، وقال: حططت عنك حط إسقاط، وهبت منك هبة إسقاط، ولو نص على ذلك يسقط الواجب عن ذمة المشتري ويبرأ المشتري مما عليه كذا ههنا، وإذا برئ المشتري مما عليه في هذه الصورة كان له أن يطالب البائع بما وجب له على البائع بالقضاء؛ لأن المطالبة الآن تفيد، فهذا هو الفرق بين الهبة والحط وبين الإبراء. زان مسألة الحط والهبة أن لو قال البائع للمشتري بعد قبض الثمن: أبرأتك براءة إسقاط، وهناك يصح الإبراء أيضاً، ويجب على البائع رد ما قبض من المشتري. وأما إذا حط كل الثمن أو وهب كل الثمن أو أبرأه عن كل الثمن، فإن كان ذلك قبل قبض الثمن صح الكل، ولكن لا يلتحق بأصل العقد، وإن كان بعد قبض الثمن صح الحط والثمن، ولم يصح الإبراء لما ذكرنا. هذا جملة ما أورده شيخ الإسلام في شرح كتاب الشفعة وفي شرح كتاب الرهن، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه في الباب الثاني من شرح كتاب الرهن: أن الإبراء المضاف إلى الثمن بعد الاستيفاء صحيح حتى يجب على البائع رد ماقبض من المشتري، وسوى بين الابراء وبين الهبة والحط فيتأمل عند الفتوى. الفصل الثاني عشر: في البيع بشرط الخيار هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه في بيان ما يصح منه وما لايصح يجب أن يعلم بأن الخيار المشروط في العقد لايخلو إما أن يكون مؤبداً بأن يقول المشروط له الخيار على أني بالخيار أبداً، وفي هذا الوجه العقد فاسد؛ لأن الأبد ينصرف إلى العمر ويصير تقدير المسألة كأنه قال: إني بالخيار مدة عمري، ولو صرح بذلك يفسد العقد بجهالة المدة كذا ههنا. وكذلك إذا قال: على أني بالخيار، ولم يوقت لذلك وقتاً كان العقد فاسداً؛ لأن المطلق فيما يحتمل التأبيد ينصرف إلى الأبد، فكأنه قال: على أني بالخيار أبداً، وكذلك إذا قال: على أني بالخيار أياماً ولم يبين مقدار ذلك فالعقد فاسد. وإن ذكر لذلك وقتاً معلوماً قال: ثلاثة أيام أو دون ذلك، فالعقد جائز بالاتفاق، وإن قال: أربعة أيام أو ما أشبه ذلك، فعلى قول أبي حنيفة العقد فاسد، وهو قول زفر، وقال أبو يوسف ومحمد: العقد جائز.

والصحيح ما قاله أبو حنيفة؛ لأن القياس يأبى جواز البيع مع شرط الخيار؛ لأنه شرط لايقتضيه العقد، ولأحد العاقدين فيه منفعة لكن عرفنا جوازه بالنص، وهو قوله عليه السلام لحبان بن منقذ: «إذا بايعت» ، وفي رواية: «إذا ابتعت شيئاً فقل لا خلابة، ولي الخيار ثلاثة أيام» فبقي مازاد على الأيام الثلاثة على أصل القياس، والنص الوارد في ثلاثة أيام لايكون وارداً فيما زاد عليهما؛ لأن منع حكم العقد فيما زاد على ثلاثة أيام أكثر، والشيء يدل على مثله ولا يدل على مافوقه، والاستدلال بالأجل لا يجوز؛ لأن الأجل أخف في منع حكم العقد من خيار الشرط؛ لأن الأجل يمنع المطالبة ولا يمنع وقوع الملك في البدلين، وخيار الشرط يمنع وقوع الملك والمطالبة، فإن سقط الخيار قبل (79أ3) دخول اليوم.I .. الرابع ارتفع الفساد. وهو نظير البيع إلى الحصاد والدياس إذا سقط الأجل قبل دخول وقت الحصاد والدياس، وإذا لم يكن الخيار مؤقتاً بوقت فلصاحب الخيار أن يختار في الثلاث، فإن مضت الثلاث قبل أن يختار البيع، فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز اختياره بعد الثلاث، وينقلب العقد جائزاً، هكذا ذكر في «الأصل» . قال شمس الأئمة الحلواني: إنما ينقلب جائزاً عندهما، وفي «القدوري» : إذا سقط الخيار في أي وقت أسقطا، فالبيع جائز على قولهما. وروي عن أبي يوسف: أن هذا البيع جائز؛ لأن الخيار ملائم بالعقد، فصح شرطه من غير توقيت كخيار الرؤية، وخيار العيب، إلا أنه يقول على هذه الرواية يخير من له الخيار على أن يمضي البيع أو يفسخ، وروي عنه رواية أخرى أنه قال: إذا اجتمعا فإن أجاز البيع وإلا فسخت، وعنه رواية أخرى: أنه إذا لم يكن للخيار مدة، فلكل واحد منهما إبطال العقد. وقال محمد: إذا كان الخيار للمشتري غير مؤقت، فليس للبائع فسخ العقد وإنما ذلك إلى المشتري. وفي «القدوري» : ولو كان الخيار إلى قدوم فلان أو موته أو إلى أن يهب الريح، فأبطلا الخيار لم يجز البيع في قول أبي يوسف. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد باع من آخر عبداً أو ثوباً أو ما أشبه ذلك على أن المشتري فيه بالخيار ثلاثة أيام بعد ما مضى شهر رمضان، قال: هذا جائز وله الخيار في رمضان كله وثلاثة أيام بعده، وكذلك لو شرط الخيار للبائع ولو كان البائع قال للمشتري: لا خيار لك في شهر رمضان، ولكن الخيار بعد ذلك ثلاثة أيام، أو قال المشتري للبائع: لا خيار لك في شهر رمضان ولكن الخيار بعده ثلاثة أيام فالبيع فاسد.

وفي «الفتاوى» : إذا شرط للمشتري خيار يومين بعد شهر رمضان والشراء في آخر رمضان، فالشراء جائز وله الخيار ثلاثة أيام، اليوم الآخر من شهر رمضان ويومين بعده؛ لأنه سكت عن الخيار وقت العقد، فيمكن تصحيح هذا العقد باشتراط الخيار وقت العقد ويومين بعد رمضان، ولو قال: لاخيار له في رمضان فالبيع فاسد؛ لأنه تعذر تصحيح هذا العقد. وعن أبي يوسف: أنه إذا باع بيعاً وشرط الخيار لنفسه يوماً بعد سنة، فالبيع جائز ولا خيار له في السنة، فإذا مضت السنة فله الخيار يوماً. وإذا باع من آخر ثوباً بعشرة دراهم ثم إن البائع قال للمشتري: لي عليك الثوب أو عشرة دراهم، قال محمد رحمه الله: هذا عندنا خيار، وإذا باع على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما، فالبيع جائز والشرط جائز، هكذا ذكر محمد رحمه المسألة في «الأصل» ، واعلم بأن هذه المسألة على وجوه: إما إن لم يبين الوقت أصلاً بأن قال: على أنك لم تنقد الثمن فلا تبيع بيننا أو بين وقتاً مجهولاً بأن قال: على أنك إن لم تنقد الثمن أياماً في هذين الوجهين العقد فاسد، وإن بين وقتاً معلوماً إن كان ذلك الوقت مقدراً بثلاثة أيام أو دون ذلك، فالعقد جائز عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، والقياس يأبى جواز العقد مع هذا الشرط، وبه أخذ زفر؛ لأنه شرط لايقتضيه البيع، فإنه شرط الفسخ متى لم ينقد الثمن ثلاثة أيام وفيه منفعة للبائع، فإن المبيع يعود إلى ملكه متى لم ينقد المشتري الثمن ثلاثة أيام. لكن ترك القياس فيما إذا كان الوقت مقدراً بثلاثة أيام بحديث عبد الله بن عمر، فإنه روي أنه لو باع بأمة له من رجل على أنه إن لم ينقد الثمن إلى ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما، والمروي عن الصحابة فيما لايعرف قياساً كالمروي عن النبي عليه السلام، ولأن هذا شرط متعامل فيما بين الناس يشترطون ذلك فيما بينهم لدفع العين عن أنفسهم متى لم ينقد المشتري الثمن، والقياس يترك بالتعامل. وإن ترك المدة أكثر من ثلاثة أيام قال أبو حنيفة: البيع فاسد، وقال محمد: البيع جائز. قال شيخ الإسلام: سوى أبو حنيفة بين هذا وبين خيار الشرط، فلم يجوّز أكثر (من) ثلاثة أيام فيهما، ومحمد سوى بينهما أيضاً، فجوز فيهما أكثر من ثلاثة أيام، ولم يذكر محمد قول أبي يوسف. يقول في رجل قال لآخر: بعتك عبدي هذا بألف درهم فإن لم تأتي بالثمن إلى سنة، فلا شيء بيني وبينك، قال: هذا فاسد وليس هذا بمنزلة الخيار، قال: على هذه الرواية لو نقد المشتري الثمن في الثلاث، وقال للبائع: خذه فلا أريد تأخيره، فإني أجبره، فهذه الرواية دليل أن أبا يوسف في هذه الصورة جوز البيع بهذا الشرط. والفرق له على هذه الرواية بين هذا الشرط وبين شرط الخيار أن القياس يأبى الجواز مع هذا الشرط ومع شرط الخيار، وإنما تركنا القياس في الوضعين بالنص، والنص مقيد بثلاثة أيام، وفي شرط الخيار ورد النص بالزيادة على ثلاثة أيام.

وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف: أنه رجع عن قوله بفساد البيع مع هذا الشرط أكثر من ثلاثة أيام. والحاصل أن هذا البيع بمنزلة البيع بشرط الخيار للمشتري، فإذا بين المدة أكثر من ثلاثة أيام. فالعقد فاسد عند أبي حنيفة ويرتفع الفساد بالنقد قبل مضي اليوم الثالث على ما ذهب إليه أهل العراق، وعلى ما ذهب إليه أهل خراسان: العقد موقوف، فإذا مضى اليوم الثالث ولم ينقد الثمن الآن يفسد العقد. وإذا باع عبداً ونقد الثمن على أن البائع إن رد الثمن فلا بيع بينهما فهو جائز، وهو بمنزلة البيع بشرط الخيار للبائع، ويجوز شرط الخيار بعد البيع كما يجوز شرطه وقت البيع حتى إن المشتري إذا قال للبائع أو البائع قال للمشتري بعد تمام البيع: جعلتك بالخيار ثلاثة أيام أوما أشبه ذلك صح، وكان بالخيار كما شرط له وإن (كان) الخيار فاسداً فسد العقد به عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لايفسد، وهو نظير ما إذا ألحق شيء من الشروط الفاسدة بالعقد الصحيح. ومن باع من آخر شيئاً وقبض المشتري المبيع ومضى أيام، فقال البائع للمشتري: أنت بالخيار فله الخيار مادام في المجلس؛ لأن هذا بمنزلة قوله: لك الإقالة، ولو قال: أنت بالخيار ثلاثة أيام فله الخيار ثلاثة أيام كما بينا في «الفتاوى» . وإذا اشترى الرجل شيئاً على أنه بالخيار إلى الغد أو إلى الظهر دخلت في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد لايدخل حتى كان له الخيار في الغد والليل، وفي وقت الظهر عند أبي حنيفة خلافاً لهما هكذا ذكر المسألة في «الأصل» . وذكر الحسن بن زياد في «المجرد» عن أبي حنيفة بخلاف ماذكر في «الأصل» فقال: إذا باع على أنه بالخيار إلى الليل، فله الخيار مابينه وبين أن تغيب الشمس، فإذا غابت الشمس بطل خياره عند أبي حنيفة. إذا قال للمشتري: خذه وانظر إليه اليوم فإن رضيته أخذته بعشرة فهو خيار، إذا قال: هو بيع لك إن شئت اليوم. وفي «الفتاوى» : باع عبداً على أنه بالخيار على أن له نقله ويستخدمه جاز وهو على خياره بخلاف ما لو باع كرماً على أن يأكل من تمره حيث لايجوز؛ لأن المنفعة لا حصة لها (79ب3) من الثمن وللتمر حصة من الثمن. نوع آخر في بيان عمل الخيار وحكمه إذا كان الخيار مشروطاً للبائع، فالمبيع لايخرج عن ملكه بالاتفاق؛ لأن الخيار استثناء لحكم العقد؛ لأنه دخل على العقد فأوجب تعليقه ونفس العقد لايقبل التعليق وحكمه وهو الملك يقبل، فتخير في هذا الحكم بين أن يثبت وبين أن لايثبت كما تخير في الابتداء بين أن يباشر العقد وبين أن لا يباشر، فكان هذا هو الخبر الأصلية، والثمن

يخرج عن ملك المشتري باتفاق؛ لأن المانع من عمل العقد شرط الخيار، ولا شرط في جانب المشتري وعمل العقد في جانبه في إزالة الثمن عن ملكه، فلهذا قلنا: إن الثمن يزول عن ملك المشتري. وهل يدخل في ملك البائع؟ على قول أبي حنيفة: لا يدخل، وعلى قولهما: يدخل إذا كان الخيار للمشتري، فالثمن لايزول عن ملكه. والمبيع يخرج عن ملك البائع بالاتفاق على نحو ما ذكرنا في خيار البائع. وهل يدخل المبيع في ملك المشتري؟ على قول أبي حنيفة: لا يدخل، على قولهما: يدخل. وجه قولهما: أن المانع من عمل العقد شرط الخيار ولا شرط في جانب البائع، فيعمل في جانبه وعمل العقد في جانبه في إزالة المبيع عن ملكه إلى ملك المشتري، ولأبي حنيفة أن الشراء كما هو علة زوال الثمن عن ملك المشتري، فهو شرط دخول المبيع في ملكه، ولهذا توقف دخول المبيع في ملك المخاطب على قبوله، والخيار دخل على الشراء مطلقاً، فكان يمنع عمله من حيث إنه علة يمتنع ومن حيث إنه شرط. ويبنى على هذا الأصل المختلف مسائل منها: إن من اشترى زوجته على أنه بالخيار ثلاثة أيام لم يفسد النكاح عند أبي حنيفة، وعندهما يفسد، فإذا وطئها فله أن يردها بحكم الخيار عند أبي حنيفة، وعندهما ليس له ذلك. ووجه البيان: أن خيار المشتري لما منع دخول المبيع في ملكه عنده، فالمشتري لم يملك زوجته عنده، فلا يفسد النكاح ويكون الوطء حاصلاً بحكم ملك النكاح لا بملك اليمين، فيضاف إلى البائع فلا يمنع الرد، عندهما: خيار المشتري لما لم يمنع دخول المبيع في ملك المشتري ملك المشتري امرأته فيفسد النكاح، وكان الوطء حاصلاً بحكم ملك اليمين فيمنع الرد. منها: أن المشترى بشرط الخيار إذا كان ذو رحم محرم منه لم يعتق عليه عند أبي حنيفة؛ لأنه لم يملكه وخياره على حاله، وعندهما: يعتق وبطل خياره. ومنها: أن المشترى إذا كانت جارية وقبضها المشتري فحاضت في يد المشتري في مدة الخيار بعض الحيض، وأجاز المشتري العقد لا تجزئ تلك الحيضة عند أبي حنيفة؛ لأن بعضها حصلت خارج ملك المشتري. وعندهما: تجزئ تلك الحيضة، وإذا فسخ المشتري العقد ورد الجارية على البائع لايجب على البائع الاستبراء عند أبي حنيفة سواء جعل الفسخ والرد قبل القبض أو بعده، وعندهما: إن كان الفسخ والرد قبل القبض لا يجب على البائع الاستبراء استحساناً. والقياس: أن يجب، وإن كان الفسخ والرد بعد القبض يجب على البائع الاستبراء قياسًا واستحساناً بمنزلة العقد البات. ومنها: أن المشتري إذا كان قبض المبيع بإذن البائع، ثم أودعه عند البائع في مدة الخيار أو بعدها هلك على البائع وبطل البيع عند أبي حنيفة؛ لأن عنده المشتري لم يملكه وقد ارتفع قبضه بالرد على البائع، فكان الهلاك على ملك البائع.

وعندهما: يهلك على المشتري، ويلزمه الثمن؛ لأن عندهما ملكه المشتري، فصار مودعاً ملك نفسه، ويد المودع يد المودع فصار هلاكه في (يد) البائع كهلاكه في يد المشتري. ومنها: عبد مأذون له في التجارة اشترى من آخر سلعة على أنه بالخيار ثلاثة أيام، ثم إن البائع أبرأه عن الثمن صح الإبراء استحساناً وخياره على حاله عند أبي حنيفة إن شاء أجاز وتكون السلعة له بغير ثمن، وإن شاء فسخ وأعاد السلعة إلى البائع بغير ثمن. عندهما: بطل خياره؛ لأن عند أبي حنيفة رحمه الله: العبد لم يملك السلعة، فيكون الرد والفسخ امتناعاً من التملك، والعبد يملك ذلك كما إذا أوهب له هبة، فامتنع عن القبول، وعندهما يملك السلعة، فالرد والفسخ من العبد يكون تمليكاً من البائع بغير بدل وانه اصطناع بالمعروف، والعبد لايملك ذلك. ومنها: إذا باع عبد الجارية وشرط الخيار لبائع العبد فأعتق مشتري العبد الجارية أو العبد لاينفذ عتقه، أما في الجارية؛ لأنها خرجت عن ملكه، وأما في العبد؛ لأنه لم يملكه، ولو أعتق بائع العبد نفذ عتقه؛ لأنه بقي على ملكه أو ينقض البيع، ولو أعتق الجارية نفذ العتق ولزم البيع؛ لأنه لم يملك الجارية عند أبي حنيفة فهو.... من إثبات الملك لنفسه فيها بإسقاط الخيار، فيضمن الإعتاق إسقاطاً للخيار. ولو أعتقهما معاً يعني بائع العبد نفذ عتقه فيهما وانتقض البيع وعليه قيمة الجارية في قول أبي حنيفة؛ لأن العبد بقي على ملكه، فينفذ عتقه فيه وحال ما أعتق العبد كان ... من اعتاق الجارية بإلزام العقد فنفذ العتق فيهما لكن بدل الجارية قد هلك قبل التسليم، فأوجب ذلك فسخاً للعقد في الجارية فوجب ردها وقد عجز عن ذلك بسبب العتق فيضمن قيمتها. قال بشر: سمعت أبا يوسف يقول: رجل اشترى عبداً على أنه بالخيار لم أجبر البائع على دفع العبد إلى المشتري ولا أجبر المشتري على دفع الثمن إليه، ولو دفع المشتري الثمن أجبرت البائع على دفع العبد إليه. ولو دفع العبد إلى المشتري أجبرت المشتري على دفع الثمن وله الخيار للبائع ونقد المشتري الثمن وأراد أن يقبض العبد فمنعه البائع، فله ذلك غير أن يجبر البائع على رد الثمن. قال أصحابنا: خيار الشرط يمنع تمام الصفقة؛ لأنه يمنع ثبوت الحكم وهو الملك ويمنع اللزوم، فكان مانعاً تمام الصفقة؛ لأن تمامها بثبوت جميع أحكامها، فإذا كان الخيار للمشتري والمبيع شيء واحد أو أشياء لم يكن له أن يجيز العقد في البعض دون البعض مقبوضاً أو لم يكن؛ لأنه تفريق الصفقة قبل التمام وإنه لا يجوز بخلاف ما بعد التمام حيث يجوز التفريق. والفرق: أن في الحالين يوجد ضرران؛ ضرر البائع وضرر المشتري، فيجب دفع الأقوى يتحمل الأدنى عند تعذر دفعهما، وقبل التمام إما يلحق البائع من الضرر بتفريق

الصفقة أقوى مما يلحق المشتري بعدم التفريق؛ لأنه ضرر مالي؛ لأن ضم الرديء إلى الجيد لترويج الكل بالثمن الجيد معتاد فيما بين الناس، فلو جاز التفريق فالمشتري يأخذ الجيد ويرد الرديء، ويتعذر على البائع ترويج الرديء بعد ذلك بثمن الجيد، فيلحق البائع ضرر مالي من هذا الوجه. أما ما يلحق المشتري من الضرر بعدم صحة التفريق قبل التمام ليس بضرر مالي بل فيه ضرر بطلان قوله حيث لايصح قبوله العقد في البعض، أو لا يصح رده البعض وإنه مجرد قوله، فإبطال مجرد القول في ضرر دون إبطال المال، فأما بعد تمام الصفقة. أما يلحق المشتري من الضرر برد الكل أكثر مما يلحق البائع برد البعض؛ لأن برد الكل يبطل حق المشتري عن التسليم من غير رضاه، وإنه ضرر مالي، وإن كان بعوض. (80أ3) وما يلحق البائع برد البعض موهوم، فإنه عسى يتهيأ له بيع المعيب بثمن السليم، فكان ضرر المشتري أكثر في هذه الصورة، فهذا هو الفرق بين الصورتين. ولو كان الخيار للبائع والمبيع مقبوض فهلك بعضه فللبائع أن يجيز البيع في قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: إذا كان المبيع مما يتفاوت فهلك واحد منه أو تبعض البيع وليس للبائع أن يجيز الباقي وإن كان مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً غير متفاوت، فهلك بعضه للبائع أن يلزمه البيع فيما بقي. وجه قول محمد: أن خيار البائع لما منع زوال ملك البائع كانت الإجازة بمعنى ابتداء التمليك، ولما كان هكذا يتعذر إثباتها في الهالك لعدم المحل كان إجازة المالك بيع الفضولي بعد هلاك المبيع وتعذر إثباتها في القائم إذا كان شيئاً متفاوتاً؛ لأنه حينئذٍ يكون تمليكاً للقائم بحصة من الثمن، وإنه مجهول بخلاف ما إذا كان شيئاً يتفاوت؛ لأن حصته من الثمن معلوم، فأمكن اعتبار الإجازة في الباقي. ولهما: أن علة الملك وهي التمليك وهو المالك إلا أن حكم العلة صار مستثنى بالخيار، فإذا سقطت الخيار بالإجازة التحق الحكم من الابتداء من كل وجه ولما كان المتفاوت وغير المتفاوت سواء وما قال بأن الإجازة بمعنى ابتداء التمليك فاسد؛ لأن الحكم لايتوقف على وجود الإجازة، فإنه يثبت بدونها بمضي المدة. وكذلك بموت من له الخيار. ولو كان لها حكم ابتداء التمليك لما ثبت بدونها بخلاف الإجازة في الفضولي؛ لأنها بمعنى ابتداء التمليك، ولهذا توقف ثبوت الحكم وجوباً؛ وهذا لأن الإجازة في بيع الفضولي معملة للعلة وهي التمليك لصدورها من غير المالك والعمل للعلة يعطي له حكم العلة فاعتبرنا قيام المحل. أما ههنا الإجازة ليس لها حكم الإعمال للعلة لما ذكرنا أن العلة صدرت من المالك إلا أن حكمها صار مستثنى بالخيار فإذا سقط الخيار ثبت الحكم من الابتداء من كل وجه فلم تكن الإجازة في معنى ابتداء التمليك أصلاً، فلا يعتبر قيام المحل عند الإجازة. ولو استهلك مستهلك المبيع في يد المشتري فللبائع أن يلزمه ويأخذ الثمن في قول

أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال أبو يوسف بعد ذلك: ليس للبائع أن يلزمه إلا برضى المشتري؛ لأن المبيع قد تغير قبل ثبوت الحكم، فيثبت الخيار للمشتري كما في البيع البات قبل القبض بل أولى؛ لأن هناك يثبت ملك الرقبة إن لم يثبت ملك التصرف لم يثبت الملك أصلاً. وأبو حنيفة رحمه الله مر على الأصل الذي قلنا: إن الحكم عند الإجازة لما كان يثبت من وقت العقد من كل وجه كما لو كان باتاً من الأصل واستهلك.... المشتري في يد المشتري وهناك لايثبت الخيار للمشتري فههنا كذلك، ولو هلك أحد العبدين في يد البائع لم يكن له أن يلزم المشتري العبد الباقي إلا برضاه؛ لأن فيه تفريق الصفقة على المشتري قبل التمام وصار كما لو كان العقد باتاً من الأصل. نوع آخر في بيان ما ينفذ به هذا البيع، وفي بيان ما ينفسخ به هذا البيع فنقول: شرط الخيار إذا كان البائع منفوذ العقد بمعانى: أحدها: أن يجيز البيع صريحاً سواء كان المشتري حاضراً أو غائباً. الثاني: أن يموت البائع في مدة الخيار؛ لأنه يعجز عن التصرف بحكم الخيار في آخر جزء من أجزاء حياته فيسقط خياره ضرورة. والثالث: أن تمضي مدة الخيار من غير فسخ من جهته؛ لأن بمضي مدة الخيار يسقط الخيار وهو المانع من نفوذ العقد. وكذلك إذا أغمي عليه أو جن حتى مضت الأيام الثلاثة. ولو أنه أفاق في مدة الخيار حكي عن الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي (أنه) على خياره، وذكر شمس الأئمة الحلواني: أنه على خياره. قال رحمه الله: وهو منصوص وهو الأصح. وإن سكر من الخمر لم يبطل خياره؛ لأنه عد غافلاً كما في الطلاق، وإن سكر من البيع يبطل خياره حتى لو زال السكر من البنج في المدة ليس له أن يتصرف بحكم الخيار هكذا حكى عن الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي، والصحيح أنه لايبطل. وإن ارتد وعاد إلى الإسلام في المدة فهو على خياره إجماعاً، وإن مات أو قتل على الردة بطل خياره إجماعاً، وإن تصرف بحكم الخيار بعدها توقف تصرفه عند أبي حنيفة ونفذ عندهما، وفسخه بأحد أمرين، أما بالقول أو بالفعل، أما بالقول فسخت فبعد ذلك ينظر إن كان المشتري حاضراً يصح الفسخ ولا يحتاج فيه إلى قضاء أو رضا، وإن كان غائباً لا يصح الفسخ، ويكون موقوفاً عند أبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف. والمراد من الحضرة المذكورة في هذه المسألة العلم بالفسخ في مدة الخيار حتى إن المشتري لو علم بالفسخ صح الفسخ وإن لم يكن حاضراً، وإن علم بعد مضي المدة تم

البيع؛ لأن تمام المدة دلالة لزوم البيع، فإذا اعترض في حال توقف الفسخ. فوجه قول أبي يوسف: أن صاحب الخيار تصرف برضا صاحبه فلا يشترط علم صاحبه كالوكيل بالبيع، فإنه لا يشترط علم الموكل لصحة البيع لما قلنا كذا هنا. بيانه: أن ولاية النقض بحكم شرط الخيار، وصاحبه شاركه في شرط الخيار، وعن أبي يوسف رواية أخرى في «النوادر» مثل قولهما: إن صاحب الخيار بالفسخ يلزم حكماً مبتدأً على صاحبه، ولصاحبه فيه ضرر إذا لم يعلم به، ونعني بهذا الفسخ فسخ العقد، فإن العقد ثابت في حق الحكم ففسخه ورفعه يكون حكماً مبتدأً. وإنما قلنا لصاحبه فيه ضرر إذا لم يعلم به؛ لأنه تبنى على هذا أحكام يلزمه أداؤها، فإذا كان لا يشعر بها يمضي على موجب العقد ولا يؤدي تلك الأحكام، فيؤاخذ بسبب تركها، وهذا الضرر إنما جاء من ناحية الفسخ بلا علم، فيكون هذا إضراراً منه لصاحبه، فوجب أن لا يرد من غير علم صاحبه دفعاً للضرر عن صاحبه، ألا ترى أن من له خيار العيب إذا أراد الرد ... العبد إلى ملك البائع ويبني على الملك أحكام يجب آداؤها، فإذا كان لايعلم به لايؤدي فيؤاخذ بترك الأداء، فلم يصح من غير علمه دفعاً للضرر عنه، ولا يلزم على ماقلنا الإجازة؛ لأنه لا ضرر على صاحبه في الإجازة من غير علمه، فلا يتوقف صحتها على علمه، ولأنه لازم في حقه قبل الإجازة. وأما الفسخ بالفعل أن يتصرف البائع في مدة الخيار في المبيع تصرف الملاك كما إذا اعتق أو دبر أو كاتب؛ لأن هذه التصرفات مختصة بالملك ولا يحتاج إليها للاختيار للملك دلالة، واختيار الملك يوجب نقض البيع، ولأن بعد هذه التصرفات يتعذر عليه الإجازة؛ لأن الحر ليس بمحل الابتداء، فلا يكون محلاً لإجازة البيع فيه، والأصل في العقد الموقوف إذا حدث فيه ما يتعذر بالإجازة أن ينفسخ، العقد مشروع للإجازة لا.t ... وكذلك إذا باع من غيره؛ لأن البيع من التصرفات المختصة بالملك ولأن البيع قد نفذ؛ لأنه لاقى ملك البائع، والعقد. النافد إذا طرأ على العقد الموقوف أوجب انفساخه، وكذلك لو وهب وسلم ينفسخ البيع، ولو وهب ولم يسلم لاينفسخ البيع. اذا رهن وسلم ينفسخ (80ب3) البيع، وإذا رهن وسلم ينفسخ البيع، وإذا آجر ذكر هذه المسألة في بعض المواضع، وقال: لا يكون فسخاً ما لم يسلمه إلى المستأجر، وذكر في بعضها أنه يكون فسخاً وإن لم يسلمه إلى المستأجر، وبه أخذ عامة المشايخ، ثم تصح هذه التصرفات بغير محضر من المشتري بلا خلاف، وإن كانت هذه التصرفات توجب فسخ البيع، والمشروط له الخيار لا يملك فسخ البيع حال غيبة صاحبه عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الفسخ بهذه التصرفات يثبت حكماً لا قصداً، وقد يثبت الشيء حكماً لغيره وإن كان لا يثبت قصداً، وقد روي عن محمد ما يدل على اشتراط حضرة صاحبه، وستأتي تلك الرواية بعد هذا إن شاء الله.

وفي «المنتقى» : إذا باع عبداً على أن البائع فيه بالخيار، ثم إن البائع أخذ الثمن من المشتري، فذلك ليس بإمضاء للبيع، ولو أخذ بالألف من المشتري مائة دينار كان هذا إجازة للبيع، قال: لأنه عمد إلى الثمن بعينه فباعه، ولو قبض منه الألف، ثم باعها منه أو من غيره لم يكن ذلك إجازة منه للبيع؛ لأن هذه الألف التي باعها قضاء من الألف التي على المشتري. والحاصل في هذه المسائل: أن الثمن إذا كان شيئاً يتعين بالتعين، فإذا قبض البائع الثمن وتصرف فيه من بيع أو هبة، فذلك إمضاء للبيع؛ لأن تصرفه صادف عين المستحق بالعقد، فكان تقريراً للملك فيه فيكون دليلاً للإجازة، وإن كان الثمن شيئاً لا يتعين بالتعيين كالدراهم، فتصرف فيه بعد ما قبض مع المشتري أو مع غيره، فذلك ليس بإمضاء للبيع، وإن تصرف فيه قبل القبض مع المشتري فاشترى منه بالثمن ثوباً أو صارفه الألف على مائة دينار، فذلك إجازة للبيع. والفرق: أن التصرف قبل القبض أضيف إلى غير ما هو مستحق بالعقد؛ لأنه لا حق للبائع في ذمة المشتري إلا ما هو ثمن فكان التصرفة تقريراً للملك فيه فيكون دليل الإجازة، أما بعد القبض التصرف ما أضيف إلى ما هو مستحق بعينه؛ لأن ما يدخل تحت القبض غير مستحق بالعقد أيضاً. رجل باع جارية بعبد رجل وشرط بائع الجارية الخيار لنفسه في الجارية، ثم إنه وهب العبد الذي اشتراه بالجارية أو عرضه على بيع فهو إمضاء للبيع، ولو كان باع الجارية بألف درهم على أنه بالخيار في الجارية وقبض الألف، ثم وهبه أو أنفقه فهو على خياره؛ لأن له أن يدفع غيره. ولو لم يكن قبض الثمن من المشتري حتى اشترى منه بالألف شيئاً أو صارفه على مائة فهذا نقض لخياره وإمضاء لبيعه. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل باع عبدين من رجل على أن البائع فيهما بالخيار، ثم إن البائع نقض البيع في أحدهما وبغير عينه فنقضه باطل، وكأنه لم يتكلم بشيء ولا يكون نقضه بعض البيع نقضه بجميعه ولا شيء منه، وله أن يجيز البيع كله بعد ذلك. وكذلك لو باع عبداً واحداً على أنه بالخيار فيه، ثم قال نقضت البيع في نصفه كان ذلك باطلاً وكأنه لم يتكلم بشيء، وله أن يجيز البيع في الكل بعد ذلك. وفي «المنتقى» : باع من آخر بيضة على أن البائع فيها بالخيار، فخرج منها فرخ بغير صنع المشتري فليس للبائع أن يجيز ذلك على المشتري علل، فقال من قبل أنه قد تحول عن حاله، وكذلك إذا باع كفرى على أنه بالخيار فيه فصار تمراً بعد القبض، وهذا إشارة إلى أن هذا العقد لا يبطل. وهكذا ذكر في «الزيادات» . وذكر الصدر الشهيد في «واقعاته» أنه يبطل؛ لأنه لو بقي يبقى مع الخيار فيقدر البائع على الإجازة وإن أبى المشتري، وهذا لا يجوز؛ لأن

المبيع صار شيئاً آخر ولو لم يكن في البيع خيار البيع، فالبيع باق والمشتري بالخيار، إن شاء أخذ وإن شاء ترك؛ لأنه لو بقي البيع لا يلزم المشتري إلا إذا شاء، وهذا جائز بعد تغيير المبيع. وفي «نوادر عيسى بن أبان» عن محمد: رجل باع من رجل أرضاً بعبد على أن البائع بالخيار وتقابضا، ثم تناقضا العقد، فالأرض في يد المشتري مضمونة بالقيمة لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله، ويكون لمشتري الأرض أن يحبس الأرض من البائع إلى أن يرد العبد عليه، وإن أذن بائع الأرض للمشتري في زراعتها خرجت الأرض من الضمان وصارت عارية للبائع في يد المشتري، وللبائع إن يأخذها متى شاء، وإن كان المشتري زرع الأرض كان للمشتري أن يمسكها بأجر المثل ويمنع البائع عنها إلى أن يستحصد الزرع. وإن أراد المشتري بعد زرعها أن يمنع الأرض من البائع حتى يسترد العبد ليس له ذلك؛ لأنه حين زرعها بإذنه فكأنه سلمها إليه. وإن أبى المشتري أن تكون الأرض في يده بأجر المثل إلى وقت إدراك الزرع وكره قلع الزرع أيضاً وأراد تضمين رب الأرض الزرع كان له ذلك إذا كان قد أذن له في زراعتها إلى أن يدرك الزرع إلا أن يرضي البائع أن يترك الزرع فيها حتى يستحصد بغير شيء. وإن كان الخيار للبائع في عبد باعه فقال البائع للعبد: أنت حر إن دخلت الدار، وقال: إن دخلت الدار فأنت حر لم يكن هذا نقضاً للبيع، وكذلك إذا قال للعبد: أنت حر أو هذا العبد الآخر ذكر المسألة في «المنتقى» . وروى بشر عن أبي يوسف: إذا باع عبداً على أن البائع فيه بالخيار ثلاثة أيام، ثم قال له: أنت حر أو هذا العبد لم يكن هذا نقضاً للعقد، فإذا مضى أجل الخيار (لم يكن له) أن ينقض البيع (و) وجب البيع وعتق العبد الآخر. وفي «المنتقى» أيضاً: إذا باع فعرض المبيع على البيع ذكر شمس الأئمة الحلواني أنه (إن) كان بغير محضر من صاحبه لا ينفسخ البيع، وبعض مشايخنا قالوا: العرض على البيع من البائع ليس بفسخ على كل حال وإليه مال الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» أن فيه روايتين. وفي «المنتقى» عن محمد: البائع إذا عرض المبيع على البيع لا يبطل خياره وعلل فقال: لأن نقضه لا يجوز بغير محضر من المشتري، فهذا التعليل يشير إلى أن العرض على البيع لو كان بمحضر من المشتري أنه يكون نقضاً للبيع. وإذا هلك المبيع في يد البائع انفسخ البيع سواء كان الخيار للبائع أو المشتري، وإن هلك في يد المشتري والخيار للبائع إن هلك في الأيام الثلاثة فعلى المشتري قيمته، وإن هلك بعد مضي الأيام الثلاثة فعلى المشتري الثمن؛ لأن بمضي المدة تم العقد ولزم الثمن فلا ينفسخ بالهلاك في يد المشتري بعد ذلك، فيبقى الثمن لازماً، فأما (إذا) هلك في الأيام الثلاثة فقد انفسخ

العقد بهلاك المبيع؛ لأن الخيار قائم، وهذا؛ لأن المبيع بالهلاك والموت (يعاب) وإن تعيب في آخر جزء من أجزاء حياته؛ لأن الموت لا يخلو عن سابقة عيب إلا أن العيب الحادث في يد المشتري لا يعجز البائع عن الفسخ. والإجازة بحكم الخيار فلا ينافي بقاء الخيار؛ لأن بقاء الخيار حينئذٍ يكون مقيداً، وإذا كان الخيار قائماً عند الهلاك كان العبد مملوكاً للبائع، فيهلك على ملكه وينفسخ العقد ضرورة، ولا يضمن المشتري الثمن ولكن يضمن القيمة، لأنه في معنى المقبوض على سوم الشراء إنما قبضه ليتملكه بعوض عيني كما في المقبوض على سوم الشراء، فيضمن القيمة عند العجز عن الرد كما في تلك المسألة. وفي «المنتقى» : رجل باع من آخر جارية على (أن) البائع فيها بالخيار ودفعها (81أ3) إلى المشتري، فأعتقها المشتري أو زوجها في مدة الخيار، ثم إن البائع أجاز البيع فيها لا يجوز عتق المشتري ولا تزويجه وقد نقض البائع التزويج بإجازته البيع وإحلاله فرجها للمشتري. ولو كان الزوج وطئها وهي بكر، ثم نقض البائع البيع فيها وقد نقصها الوطء مائة درهم، وعقرها مائتا درهم، فالبائع بالخيار إن شاء اتبع الزوج بالعقر تاماً ولم يرجع به الزوج على أحد، وإن شاء اتبع المشتري بنقصان الوطء ورجع المشتري على الزوج الواطء بالمائة التي ضمن ولم يكن البائع دفع الأمة إلى المشتري، وزوجها المشتري رجلاً وهي في يد البائع فوطئها الزوج، ثم أجاز البائع البيع ولم ينقصها الوطء؛ لأنها ثيب فالنكاح فاسد إذا فسخه المشتري، ولا يبطل ما لم يفسخه؛ لأن فرجها لم يحل للمشتري بإجازة البائع البيع وللمشتري على الوطء مهر مثلها إذا فسد النكاح، ولا خيار للمشتري في رد الأمة بالوطء الذي كان عند البائع من قبل أن الوطء لم ينقصها، وإن كان الوطء زناً كان هذا عيباً رد فيه. قال هشام: سألت محمداً: عن رجل باع داراً على أنه بالخيار ثلاثة أيام فتوارى المشتري في بيته أراد أن يمضي الثلاث، فيجب له البيع مثل يوجد في هذا بالأعذار، قال: نعم أبعث إليه من يعذره فإن ظهر وإلا أبطلت خياره إلا أن يجيء في الثلاث، قلت: فإن لم يأت الخصم في الأيام أتاك في وقت لا تستطيع أن تبعث إليه من قبلك الأعذار، فسألك أن تبطل الخيار عليه، قال: لا أفعل ذلك، قلت: فإن قال الخصم: إني قد أعذرت إليه وأشهدت فاختفى مني، فاشهد لي بذلك، قال: أقول اشهدوا أن هذا قد زعم أنه قد أعذر إلى صاحبه في الأيام الثلاثة كان يأتيه عند كل يوم، فتعذر إليه فيختفي منه، فإن كان الأمر كما قال فقد أبطلت عليه الخيار، فإذا ظهر بعد ذلك وأنكر سألت المدعي البينة على الخيار وعلى أعذاره كما كان ادعى. وإن كان الخيار للبائع فأبرأ البائع المشتري من الثمن صح إبراؤه، وكان ذلك إمضاء للبيع؛ لأن التصدق إنما يكون من المالك، ومالكية الثمن عند أبي حنيفة رحمه الله موقوفة على إجازة العقد، فيضمن الإقدام على ذلك إجازة للعقد، وستأتي مسألة الإبراء عن أبي يوسف بعد هذا بخلاف ما ذكر هنا.

وكذلك لو اشترى بالثمن منه شيئاً أو ساومه به صح ويكون ذلك إمضاء للبيع. ولو اشترى بالثمن شيئاً من غيره لم يصح الشراء، ولو حدث بالمبيع عيب في يد البائع والخيار له فهو على خياره، ولو كان العيب حادثاً بفعل البائع انتقض البيع؛ وهذا لأن ما يحدث بفعل البائع قبل القبض يكون مضموناً عليه حتى تسقط حصته من الثمن، فلو بقي البائع على خياره تفرقت الصفقة على المشتري قبل التمام، وإنه لا يجوز. أما ما انتقض لا بفعل البائع لا يكون مضموناً عليه، ولهذا لو سقط أطراف المبيع قبل القبض لا يسقط بحصته من الثمن شيء. فلو نفينا الخيار لا يكون فيه تفريق الصفقة على المشتري قبل التمام إلا أنه لا يجبر المشتري إذا ألزم البائع العقد؛ لأنه إنما رضي بمبيع سليم. فإذا تعيب قبل القبض انعدم الرضا فكان الخيار كما لو سقط أطرافه قبل القبض. وروى أبو سليمان عن أبي يوسف في «الإملاء» فيمن اشترى من آخر جارية بألف درهم على أن البائع بالخيار، ثم إن البائع وهب الثمن بعدما قبضه، فإبراء المشتري منه لم يكن ذلك فسخاً ولا إمضاء للبيع، فإن أجاز البيع بعد ذلك، فالبيع جائز والهبة جائزة، ولو كان المشتري نقد الثمن للبائع، ثم وهبه للبائع وقبل ذلك البائع، ثم أجاز البيع ليس للبائع أن يأخذه المشتري بثمن آخر، والثمن الموهوب هو الثمن وهبته باطلة؛ لأنه وهب للبائع ما ملكه البائع؛ لأن البائع مالك لهذا الثمن لا المشتري، وهذا بناء على ما قلنا إن الخيار إذا كان للبائع فالثمن يزول (عن) ملك المشتري ويدخل في ملك البائع عندهما. بشر عن أبي يوسف: مسلم باع من مسلم عصيراً على أن البائع بالخيار وقبضها المشتري، فصارت في يده خمراً فقد انتقض البيع، ذكر المسألة في «المنتقى» قال: وضمن العصير، وهكذا روي عن محمد. قال الحاكم أبو الفضل: وقد قال في موضع آخر البائع على خياره، فإن سكت حتى مضت الثلاث لزم البيع المشتري، ثم على ما ذكر بشر أن البيع ينتقض لو لم يختصما حتى صار خلاً، فاختار البائع فله ذلك ولا يعتبر رضا المشتري في المشهور من الرواية، وفي بعض الروايات يعتبر رضا المشتري. وإذا تبايع الذميان خمراً بشرط الخيار للبائع، فأسلم البائع بعد القبض بطل البيع، هكذا ذكر القدوري في كتابه، وهكذا ذكر في موضع آخر من «المنتقى» بناء على أن خيار البائع زوال ملك البائع فبقيت الخمر على ملكه في مدة الخيار، فلو لم يبطل العقد انتقل الملك عنه في الخمر بعد سلامه وإنه لا يجوز. وذكر في موضع آخر من «المنتقى» : لو أسلم البائع بعد القبض جاز المبيع بمنزلة موته، ولو أسلم المشتري لم يبطل البيع، هكذا ذكر في «القدوري» ، وفي «المنتقى» في موضع؛ لأن المسلم لا يحتاج إلى صنع فيه لإتمام العقد على الخمر إذا لم يكن الخيار مشروطاً له، فصار إسلامه في هذا البيع وإسلامه في البيع البات إذا كان المبيع مقبوضاً على السواء، وهناك لا يفسد العقد فههنا كذلك. وفي موضع آخر في «المنتقى» : أن البيع ينتقض بإهدام المشتري في هذه الصورة

بناء على ما قلنا إن خيار البائع يمنع زوال المبيع عن ملكه، فلو بقي العقد ينتقل الملك في الخمر إلى المسلم، ولو أسلم أحدهما قبل قبض الخمر بطل البيع. وإذا باع طيباً على أن البائع فيه بالخيار فقبضه المشتري وأحرم المشتري لم ينفسخ البيع، ولو أحرم البائع وقد دفعه إلى المشتري أو لم يدفعه ينفسخ البيع، وروى ابن سماعة في إحرام المشتري بخلاف ما ذكرنا. وإذا باع عبداً على أن البائع بالخيار وقبضه المشتري قتيلاً ومات العبد وضمن المشتري قيمته للبائع أخذ أولياء الجناية القيمة من البائع، (وللبائع) أن يرجع على المشتري بمثلها، وهو بمنزلة الغصب. رجل باع عبداً على أن البائع فيه بالخيار والعبد في يد البائع، فقال في الثلاث: قد فسخت البيع ونقضته، ثم قال بعد ذلك: قد أجزت البيع وقبل المشتري فهذا جائز، وإنه استحسان، ولو جنى البائع على المبيع في هذه الصورة جناية ونقضه فقال المشتري: أنا آخذه فليس له ذلك إلا أن يسلم البائع له؛ لأن جناية البائع عليه في الثلاث نقض للبيع، ولو كان الخيار للبائع والجارية عنده فوطئت بشبهة انتقض البيع من قبل المهر الذي وجب بالوطء. وإذا كان الخيار للبائع وحلف بعتق المبيع أن لا يكلم فلاناً فلان يرده بالخيار ما لم يعتق بالحلف. وروى أبو سليمان عن أبي يوسف في «الأمالي» : إذا جنى المبيع في يد البائع جناية والخيار له، فإن نقض البيع دفعه البائع أو فداه، فإن أمضى البيع أو سكت حتى مضت المدة وقتله المشتري ورضي بعيب أو فداه. إذا اشترى ابنه على أن البائع بالخيار، ثم مات المشتري، فأجاز البائع البيع لا يرث الابن أباه. اشترى عبداً على (أن) البائع بالخيار، فأذن له في التجارة لا يكون هذا فسخاً إلا أن يلحقه دين إلا في قول من يقول: فسخه بغير محضر من المشتري فسخ، ولو أمضاه بعد ما لحقه دين لم يجز؛ لأن الغريم أحق به من المشتري. وإذا كان الخيار للبائع فقال المشتري للبائع: (81ب3) أعطيتك مائة درهم على أن تنقض البيع ففعل، فالمناقضة جائزة وليس عليه شيء. وإذا باع عبداً بألف درهم على أن البائع فيه بالخيار ثلاثة أيام فأعطاه المشتري بها مائة دينار، ثم إن البائع نقض البيع فالصرف باطل، وكان عليه أن يرد الدينار. وإذا باع جارية على أن البائع فيها بالخيار وتقابضا أو لم يتقابضا، فوجد المشتري بالمبيع عيباً فقال: رضيت به أو باعه أو وهبه أو عرضه على بيع أو ما أشبه ذلك من المعاني التي تكون رضاً في البيع خيار فليس للمشتري أن يردها بذلك العيب، هذا هو الكلام (في) البائع. (وأما الكلام) في جانب المشتري، فنقول: إذا كان الخيار للمشتري فيعود هذا البيع بما ذكرنا من المعاني الثلاث، وبمعنى آخر سواها، وهو أن يتصرف المشتري في المبيع تصرف الملك.

والأصل فيه: أن كل فعل باشر المشتري في المشترى بشرط الخيار له فعلاً يحتاج إليه للامتحان ويحل في غير الملك بحال فالاشتغال به أول مرة لا يكون دليل الاختيار حتى لا يسقط خياره، وكل فعل لا يحتاج إليه للامتحان أو يحتاج إليه إلا أنه لا يحل في غير الملك بحال فإنه يكون دليل الاختيار، وهذا لا يحتاج إليه للامتحان ويحل في غير الملك بحال متى جعل دليل الاختيار، ويسقط خياره به أول مرة لا يفيد الخيار فائدة؛ لأن فائدة شرط الخيار إمكان الرد متى لم يوافقه بعد الامتحان، فمتى لزمه البيع بفعل الامتحان أول مرة لا يمكنه الرد متى لم يوافقه فتفوت فائدة شرط الخيار حينئذٍ، ومتى فعل فعلاً لا يحتاج إليه للامتحان لو جعل دليل الاختيار إلى أن تفوت فائدة الخيار فيسقط به الخيار. ولهذا إذا ثبت هذا فنقول: إذا اشترى جارية على أنه بالخيار فاستخدمها مرة، لا يبطل خياره؛ لأن الاستخدام يحتاج إليه للامتحان؛ لأن الجارية تشترى للخدمة والخدمة لا تصير معلومة للمشتري من غير امتحان فكان الاستخدام محتاجاً إليه للامتحان، وإنه يحل بدون الملك فلم يكن الاشتغال به مرة دليل الاختيار فبقي على خياره. بخلاف ما لو وطئها حيث يبطل خياره وإن كان الوطء محتاجاً إليه للامتحان لأنها تشترى للوطء ولا يعلم كونها صالحة للوطء بالنظر لأنها إنما كانت كذلك؛ لأن الوطء تصرف لا يحل بدون الملك بحال فكان الإقدام عليه اختياراً للملك، حتى لا يقع وطؤه في غير الملك، ولا كذلك الاستخدام؛ لأنه يحل في الملك، هذا إذا كان الاستخدام يسيراً. فإن كان كثيراً يخرج عن حد الامتحان والاختيار يكون اختياراً للملك، وإن استخدمها مرة أخرى فإن كان في النوع الذي استخدمها في المرة الأولى كان اختياراً للملك؛ لأن المرة الأخرى في ذلك النوع غير محتاج إليه؛ (لأن) الامتحان حصل بالمرة الأولى، وإن كان في نوع آخر لا يكون اختياراً للملك؛ لأن للخدمة أنواعاً أخر محتاجاً إليه للامتحان أيضاً، والإكراه على الاستخدام في المرة الأولى اختيار للملك. فسر محمد الاستخدام في كتاب الإجارات فقال: يأمرها بحمل المتاع على السطح أو بإنزاله من السطح أو بتقديم النعل بين يديه أو بأن تغمز رجله بعد أن لا يكون عن شهوة، أو بأن تطبخ أوتخبز بعد أن يكون ذلك يسيراً، وإن أمرها بالطبخ أو الخبز فوق العادة فذلك رضا. ولو اشترى دابة على أنه بالخيار فركبها لينظر إلى سيرها لا يسقط خياره ولو ركبها مرة أخرى؛ لأن الركوب مرة أخرى غير محتاج إليه للامتحان بخلاف الركوب في المرة الأولى، ولو سافر عليها يسقط خياره؛ لأن السفر عليها غير محتاج إليه للامتحان، وكذلك إذا ركبها بحاجة سقط خياره. وكذلك لو حمل عليها شيئاً وكذلك لو حمل عليها علفاً لها هكذا روي عن أبي يوسف وعن محمد: أنه إذا حمل علفاً لها عليها لا يسقط له خياره، ولو كان له دواب فحمل علف جميع الدواب عليها فذلك رضا ولو ركبها ليردها أو ليسقيها أو ليعلفها لا يكون رضا به ولا يسقط خياره استحساناً، كذا ذكر في

«الأصل» ، بعض مشايخنا قالوا: هذا إذا لم يمكنه الرد والسقي والإعلاف إلا بالركوب. ويدل على هذا التأويل ما ذكر في «السير الكبير» في فصل العيب إن جوالق العلف إذا كان واحداً فركبها مع الجوالق لا يكون رضاً بالعيب؛ لأنه (لا) يمكنه حمل الجوالق الواحد إلا بالركوب، ولو كان جوالقين فركب يكون رضاً، لأنه يمكن حملها بدون الركوب. ومن مشايخنا من قال: الركوب إذا كان لأجل الرد لا يسقط الخيار وإن أمكنه الرد بدون الركوب، بخلاف الركوب للسقي والإعلاف. والقاضي ركن الاسلام علي السغدي والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي على أن الركوب للسقي والإعلاف رضا لما ذكرنا في «الأصل» ؛ لأن الركوب للسقي وحمل العلف من أمر الرد لأنه لو لم يسقها ولم يعلفها تهلك أو نتقض فلا يمكنه الرد، وربما تكون الدابة جموحاً لا يمكن ضبطها إلا بالركوب فكان الركوب من أسباب الرد فلا يمنع الرد. ولو قص حوافر الدابة أو أخذ من عرقها فليس برضا؛ لأنه نقض وإتلاف جزء منها فيعتبر بإتلاف سائر الأجزاء، ولو كانت شاة فجز صوفها ذكر في «المنتقى» أنه يسقط، ولو كانت شاة فحلبها أو شرب لبنها فهو رضا هكذا ذكر في القدوري؛ لأن اللبن زيادة عنها والزيادة منفصلة عنها، والزيادة المنفصلة تمنع الرد بالعيب عندنا فكذا بخيار الشرط. وفي صلح «الفتاوي» : رواية عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: إذا اشترى شاة أو بقرة على أنه بالخيار فاحتلب لبنها فقد انقطع خياره، وذكر «البقالي» قول محمد في هذا كقول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: هو خياره حتى يشرب لبنها أو يستهلكها.g ولو حجم الغلام أو سقى دواء أو حلق رأسه فهو رضا، وعن أبي يوسف في الدابة وحجامة الغلام أنه لا يسقط خيار المشتري. وفي المنتقى والأخذ من الشعر ليس برضا، وعن محمد رحمه الله: إذا أمر الغلام بجز رأسه يعني رأس الغلام فهو ليس برضا، إلا أن يريد به الدواء، وكذا الطلى وكذا غسل الرأس واللحية. وفي «المنتقى» : إذا احتجم الخادم بأمر المشتري فهو رضا، وفي موضع آخر إذا رأى المشتري الغلام يحجم الناس بأجر فسكت فهو رضا، وإن كان يحجم بغير أجر فهذا ليس برضا، هذا بمنزلة الخدمة، ألا ترى أن المشتري لو قال له: أحجمني لا يكون رضا، ولو كان الخيار للبائع فاحتجم الغلام بإذن المشتري فهذا ليس ينقص إذا كان نفسه المشتري. قال في «المنتقى» : أيضاً: وأمر الخادم ليحمل شيئاً ليس برضا هذا من الخدمة. ولو أمر الجارية بمشط أو دهن أو لبس فهو ليس برضا أيضاً، وكذا إذا علق عنقها بشرط لا يسقط خياره ما لم تعتق بحكم اليمين. ولو اشترى أرضاً فيها حرث اشترى الأرض مع الحرث أو حصده أو فصل منه شيئاً سقط خياره؛ لأن السقي للإستنماء وإنه دلالة الاختيار وبالقطع ينقبض المعقود عليه، وذلك مانع من الرد فيسقط خياره ضرورة، ولو سقى من نهرها دوابه أو شرب بنفسه لا

يسقط خياره؛ (82أ3) لأنه مباح بدون الملك فلا يكون فعله دليلاً على تقدير الملك، ولو سقى من نهرها أرضاً أخرى فهو رضا بخلاف ما إذا سقى أجنبي بغير علمه وإن هناك لا يسقط خياره، ولو رعت ماشية المشتري الكلأ يسقط خياره بخلاف ماشية الناس، وكري النهر وكنس البئر يسقط الخيار. ولو انهدم البئر فبناها لم يعد خياره، ولو وقع فيها فأرة أو نجاسة سقط خياره، وروي في الفأرة إذا نزح عشرون دلواً أنه على خياره، وإذا سقى من البئر زرعه أو دوابه فهو على ما ذكرنا في النهر. وإذا باع المشتري على أنه بالخيار، ذكر الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي في «شرحه» في باب من الخيار قيل: لا يبطل خياره، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : أنه يبطل وهو الصحيح؛ لأن البيع (باتاً) كان، أو بشرط الخيار من التصرفات المختصة بالملك وإنه غير محتاج إليه للاختيار فيصير به مختاراً للملك، ولو عرض المشتري التقوم لا يبطل خياره، ولو عرضه ليباع يبطل خياره؛ لأن العرض على جهة البيع من التصرفات المختصة بالملك، فإنه لا يعرض على البيع إلا المالك أو نائبه وإنه غير محتاج إليه للاختيار فيصير به مختاراً كما في البيع. ولو اشترى ثوباً ولبسه لينظر إلى مقداره لا يسقط خياره، فإن لبسها ثانياً يسقط خياره؛ لأن اللبس ثانياً غير محتاج إليه للاختيار بخلاف اللبس أول مرة، فإن طال اللبس الأول سقط خياره أيضاً، وإن لبسه ليستدفئ به بطل خياره. ولو اشترى رحاً فطحن به المشتري ليعرف مقدار طحنها لا يبطل خياره؛ لأن الطحن محتاج إليه للامتحان والاختبار، ولم يذكر محمد رحمه الله في شيء من الكتب مقدار ذلك. وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني: أنه إذا طحن بها زيادة على يوم وليلة يبطل خياره وإن كان دون ذلك لا يبطل خياره. وفي «البقالي» : الطحن بالرحى لا يسقط خيار المشتري إلا أن يطول أو ينقصها، وذكر الخصاف: أن الطحن يوماً ونحوه لا يسقط حتى يجزئه، ثم يريد بعد ما بان له طحنها على قلة الماء وكثرته. وإذا كان المشتري بشرط الخيار للمشتري دار فسكنها المشتري سقط خياره هكذا ذكر المسألة في كتاب البيوع. وفي «القدوري» : إذا سكن المشتري الدار وأسكنها رجلاً بأجر أو رمم فيها شيئاً أو أحدث فيها بناءً أو جصصها أو طيبها أو هدم فيها شيئاً فهو إمضاء للبيع. وذكر في كتاب القسمة: أن خيار الشرط في القسمة لا يبطل بالسكنى بعد القسمة، إلا أن في كتاب القسمة وضع المسألة فيما إذا دام على السكنى، وفي كتاب البيوع ذكر السكنى مطلقاً، فمن مشايخنا من قال: ما ذكر في كتاب البيوع ابتداء السكنى، بأن كان المشتري ساكناً في الدار قبل الشراء بإجارة أو إعارة لا يسقط خياره كما في القسمة. ومنهم من قال: خيار الشرط في البيع يسقط بالسكنى في الحالين، كما أطلق محمد

رحمه الله في كتاب البيوع، وفي القسمة لا يسقط خيار الشرط وفي الحالين. غير أن محمداً وضع المسألة وفي القسمة في الدوام على السكنى اتفاقاً، وإن كان في الدار ساكناً بأجر فباعها البائع برضاه وشرط الخيار للمشتري فترك المشتري وأساء العلة فقد سقط خياره؛ لأنه أخذ عوض المنافع وإنما يجب عوض المنافع لمن كان ملك المنافع إنما يملك الأصل فكان أخذ العوض على تقدير ملك الأصل. وسئل أبو بكر عمن اشترى كتاباً على أنه بالخيار ثلاثة أيام، ثم إنه انتسخ منه لنفسه لا يبطل خياره، كالنساج إذا نظر في نقش الديباج لا يبطل خياره، ألا ترى أن من انتسخ من كتاب المبسوط ولم يرفعه لا يصير غاصباً، وإن قلب أوراقه قيل له: لو درس منه ولم يكتب قال: يبطل خياره؛ لأن شراء الكتاب للدراسة يكون لا للانتساخ، وكذلك لو انتسخ لغيره لا يبطل أيضاً قال الفقيه: ولو قيل يبطل الخيار بالانتساخ دون الدراسة كان له وجهاً؛ لأن في الدراسة امتحان لينظر إلى صحته، فصار كاستخدام العبد وفي الكتابة استعمال، قال الفقيه: وبه نأخذ. وإذا بيعت الدار بجنب الدار المشتراة بشرط الخيار للمشتري، فأخذها المشتري بالشفعة فقد سقط خياره، وإذا كان الخيار للمشتري فأبرأه البائع عن الثمن لم يصح الإبراء في قول أبي يوسف، وروي عن محمد: أنه إذا أجاز البيع نفذ الإبراء. فوجه قول أبي يوسف: أن هذا إبراء عن دين غير واجب فلا يصح كما قبل العقد، وجه قول محمد: أن المشتري لما أجاز البيع، استند وجوب الثمن إلى أصل العقد فكان إبراء عن دين واجب، وإذا كان الخيار للمشتري فقال المشتري للبائع: إن أردها إليك اليوم فقد رضيتها فهذا القول باطل، وله أن يردها بخيار الشرط. وكذلك إذا قال: إن لم أفعل كذا فقد أبطلت خياري، ولو لم يقل هكذا ولكن قال: أبطلت خياري غداً، وقال: إذا جاء غداً فقد أبطلت خياري فهذا جائز قال: لأن هذا وقت كائن لا محالة. ولو قال بعد ما اشترى وشرط الخيار لنفسه شهراً: إن لم آتك بالثمن فيما بيني وبين ثلاث فلا يمتنع بيني وبينك فهو على ما قال كان ذلك، قال في أصل العقد وكذلك إذا قال: إن لم آتك بالثمن إلى سنة فقد نقضت البيع فيه. وفي «نوادر هشام» قلت لمحمد: رجل اشترى قرية وفيها قناة غزيرة اشتراها وماءها على أنه بالخيار كيف يصنع بماء القناة؟ قال: يدعه يذهب، قلت: إن لم يصرف الماء يفسد، قال: يوكل البائع رجلاً لصرفه. وإذا كان الخيار للمشتري فولدت الجارية في يده، أو أثمرت النخلة، أو باضت الدجاجة، فقد سقط خياره؛ لأن فائدة الخيار الرد وقد تعذر الرد؛ لأنه وجه إلى رد الأصل بدون الزيادة يبقى مبيعاً في يده بلا ثمن ولا وجه إلى رد الأصل مع الزيادة؛ لأن العقد لم يرد عليها فكيف يرد الفسخ عليها. وفي «البقالي» : ولا يسقط الخيار بالولد الميت والبيضة الفاسدة.

وفي «المنتقى» : إذا ولدت في يدي المشتري ولداً ميتاً أو لم تنقصها الولادة فهو على خياره، وإن كانت الزيادة ذات المبيع كالسمن وما أشبهه سقط الخيار في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وفي قول محمد: لا يسقط. ولو كان المشتري بشرط الخيار جارية فلمسها المشتري، أو قبلها بشهوة سقط خياره، بخلاف ما إذا لمسها بغير شهوة؛ لأن اللمس بشهوة تصرف يختص بالملك جماع حكماً حتى يثبت به حرمة المصاهرة فيعتبر بالجماع حقيقة، وبالجماع حقيقة يثبت الخيار فكذا بالجماع حكماً. فأما اللمس بغير شهوة ليس بجماع حكماً، وإنه فعل يحتاج إليه للامتحان فلا يسقط الخيار، والنظر إلى فرجها بشهوة نظر المسن بشهوة جماع حكماً حتى يثبت به حرمة المصاهرة، بخلاف النظر إلى ما هو سوى الفرج من أعضائها بشهوة؛ لأنه ليس بجماع أصلاً. وإذا دعاها إلى فراشه لا يبطل خياره هكذا ذكر في «فتاوي أبي الليث» : لأنه لعل إنما دعاها للاختبار ليعلم أنها تجيبه أو لا تجيبه، وإذا كانت الجارية قد نظرت إلى فرج المشتري بشهوة أو لمسته بشهوة أو قبلته بشهوة وأقر المشتري أنها فعلت بشهوة أجمعوا على أنه إذا كان يتمكن المشتري بأن علم المشتري بذلك منها فتركه (82ب3) حتى فعلت أنه يسقط خياره؛ لأن فعل الجارية بتمكين المشتري بمنزلة فعل المشتري بنفسه. ولو أن المشتري فعل ذلك يسقط خياره فكذا هذا، وبهذا الطريق قلنا: بأن المرأة إذا فعلت مثل هذا بالزوج بتمكين الزوج يصير راجعاً كذا هنا، فأما إذا فعلت ذلك لا بتمكين من المشتري، على قول أبي يوسف: يسقط خياره. وعلى قول محمد: لا يسقط وإن وجدت المشتري نائماً فأدخلت فرجه فرجها، يسقط خياره بالإجماع، ولو نظرت المعتدة طلاقاً رجعياً إلى فرج زوجها بشهوة أو لمسته بشهوة يثبت في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا يثبت في قول محمد، إلا أن تحصل المجامعة بفعلها بأن أدخلت فرجه فرجها، ذكر المسألة على هذا الوجه بشر بن الوليد في «نوادره» ، وروى ابن سماعة في «نوادره» في مسألة الرجعة روايتين عن محمد رحمه الله. وفي سقوط الخيار بنظر الأمة إلى فرج المشتري بشهوة رواية واحدة عن محمد أنه لا يسقط. وجه قول محمد: أن الخيار حق المشتري فلا يسقط إلا بإسقاطه إما نصاً أو دلالة، ولم يوجد منه الإسقاط نصاً وهذا ظاهر ولا دلالة؛ لأن دليل الإسقاط وجود صنع من جهته، إما من حيث الحقيقة أو من حيث الاعتبار، ولم يوجد من المشتري صنع لا من حيث الحقيقة، وإنه ظاهر ولا من حيث الاعتبار؛ لأن فعل المس يضاف إلى الماس لا إلى الممسوس؛ لأن الممسوس محل فعل المس والفعل يضاف إلى الفاعل لا إلى المحل. ثم إن محمداً يحتاج إلى الفرق بين مسألة الرجعة وبين مسألة الخيار على إحدى روايتي ابن سماعة.

والفرق من وجهين: أحدهما: أن الرجعة يشترك فيه الزوجان لكل واحد منهما فيها حق، فجاز أن يجعل فعل أحد الشريكين كفعل صاحبه، والدليل على أن للمرأة في الرجعة حقاً كما للرجل قال الله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن} (البقرة: 228) فلولا أن للمرأة حقاً في ذلك، وإلا لم يكن لقوله: أحق معنى وفائدة؛ لأن الفعل إنما يستعمل بين شخصين في شيء يشتركان فيه كما يقال: فلان أحسن من فلان وأفقه من فلان وأجمل من فلان وكقوله عليه السلام: «الأيِّم أحق بنفسها من وليها» اقتضى أن يكون للولي حق في نفسها إلا أن حق المرأة أكثر فكذلك هذا. وإذا ثبت أن لها حقاً في الرجعة أمكن أن يجعل فعلها في إثبات المراجعة كفعل الزوج، فأما لا حق للأمة في خيار المشتري ولا يمكن أن يجعل فعلها كفعل المشتري في حق إسقاط خياره. والفرق الثاني: أن المرأة في باب النكاح عاقدة من وجه ومعقود عليها من وجه، فوفرنا على الشبهين حظهما. قلنا: لكونها عاقدة من وجه تثبت الرجعة من جهتها من حيث الحكم، ولكونها معقوداً عليها من وجه لا يثبت الرجعة من جهتها قصداً توفراً على الشبهين حظهما، فأما الأمة في باب الشراء معقود عليها من كل وجه وليست بعاقد، فلم يسقط خيار المشتري من جهتها لا من حيث الحكم بالنظر (إلى) فرج المشتري بشهوة ولا من حيث العقد بصريح الاختيار. وأما أبو حنيفة وأبو يوسف ذهبا في ذلك إلى أنه وجد منها ما هو جماع حكماً، فيعتبر بما لو وجد منها ما هو جماع حقيقة، دليله جانب الزوج، فإن في جانب الزوج اعتبر الجماع الحكمي بالحقيقي فكذا في جانبها. ولو وجد منها ما هو جماع حقيقة سقط خيار المشتري فكذا في جانبها ما هو جماع حكماً وإنما قلنا وجد منها ما هو جماع حكماً؛ لأن هذا الفعل من جانبها أوجب حرمة المصاهرة كما لو وجد منها الجماع حقيقة. وأما قول محمد رحمه الله: لم يوجد ممن له الخيار صنع، قلنا: وجد الصنع من حيث الاعتبار لما ذكرنا أنه وجد منها جماع حكماً، والفعل في الجماع الحقيقي مضاف إلى الزوج من حيث الحقيقة، فكذا فيما هو جماع حكماً يكون الفعل مضاف إليه حكماً، فقد وجد منه فعل حكماً. وفي «نوادر هشام» عن محمد: رجل اشترى من آخر جارية على أنه بالخيار ثلاثة أيام، فمرض العبد في الثلاث، فنقض المشتري العقد ورد العبد إلى البائع أن سلمه

فأمضى الثلاث، والعبد مريض على حاله لزم المشتري، وإن صح قبل مضي الثلاث قبل أن يرد، فله أن يرد بالرد الذي كان منه في الثلاث. وإذا كان الخيار للمشتري والسلعة مقبوضة فحدث بها عيب لا يرتفع لزم العقد وبطل الخيار، سواء كان بفعل البائع أو بغير فعله، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يلزم بجناية البائع؛ لأن فيه تسليط البائع على إلزام العقد وبه تفوت فائدة الخيار للمشتري، إلا أن يتمكن المشتري من الفسخ شاء البائع أو رضي أم سخط. ولهما: أن العقد قد لزم في القدر الذي تلف بالتعييب في ضمان المشتري وتقرر عليه حصته من الثمن، فلو جاز رد الباقي كان ذلك تفريقاً للصفقة على البائع قبل التمام في حق الرد، وذلك لا يجوز، وإذا تعذر الرد لهذا المعنى لزم العقد في فعل الأجنبي، إلا أن يكون الأجنبي مسلطاً على إلزام العقد، وإذا لزم العقد عندهما رجع المشتري على البائع بالأرش؛ لأن البيع قد تم بأول جزء من النقص فصار البائع جانياً على ملك المشتري فيضمن الأرش. وفي «نوادر هشام» قال: قلت لمحمد رجل اشترى من رجل شيئاً على أنه بالخيار ثلاثة أيام، فجاء إلى باب البائع في الثلاث ليرده، فاختفى منه البائع فأشهد المشتري ناساً أنه قد رد البيع بخياره، ثم ظهر البائع بعد الثلاث فأخبرني أن أبا حنيفة رحمه الله قال: رده باطل إلا أن يجتمعا جميعاً، قال هشام: وهو قول محمد وهي المسألة المعروفة أن المشروط له الخيار في البيع لا يملك الفسخ إلا بحضرة صاحبه عند أبي حنيفة ومحمد ومعناه ألا يعلمه. وتأويل ما ذكر هشام: إن لم يعلم البائع بفسخ المشتري قال هشام: قلت لمحمد كيف يصنع المشتري؟ قال: إن أراد أن يستوثق ينبغي أن يقول للبائع: تقيم له كفيلاً المشتري وبرضاه إن رد البيع ونقضه بخياره فرده يكون عليه جائزاً. ولو اشتراه على أن البائع إن غاب عيبة ففسخه عليه جائز فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن هذا شرط فاسد عندهما لأنهما لا يريان الفسخ عند غيبة الآخر. في «المنتقى» : إذا اشترى عبداً على أنه إن لم ينفذ الثمن إلى ثلاثة أيام فلا بيع بينهما، ثم إن المشتري قطع يد العبد في الثلاث أو قطعها أجنبي في الثلاث قال: إذا قطعها المشتري في الثلاث، فالبائع بالخيار إن شاء أخذ العبد مقطوع اليد ولا شيء له غير ذلك، وإن قطعها أجنبي في الثلاث فقد وجب البيع للمشتري لأنه وجب له أرش. رجل اشترى من آخر سمكاً طرياً أو عصيراً على أنه بالخيار ثلاثة أيام، فقبضه فوهب للعبد مال أو اكتسبه، ثم استهلكها العبد بعلم المشتري بغير إذنه أو بغير علمه، لم يبطل خيار المشتري ولو وهب للعبد ابن المشتري وقبض العبد الابن العبد عتق الابن، ولا يبطل خيار المشتري في العبد، ولو وهب للعبد أم ولد المشتري وقبضها العبد بطل

(83أ3) خياره في العبد، وهكذا روى ابن سماعة عن محمد هذه المسألة: الأفضل استهلاك العبد الموهوب فإنه لم يروه عن محمد. وعن أبي يوسف: اشترى عبداً على أنه بالخيار ثلاثة أيام، ثم قال المشتري: شئت أخذه أو قال: رضيت بأخذه أو أحببت أو أردت أو أعجبني ذلك أو قال: وافقني لم يلزمه. وفي «نوادر بشر بن الوليد» : عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر عبداً على أنه بالخيار ثلاثة أيام فقال البائع للمشتري: أعطيك مائة على أن تبطل البيع ففعل، قال: قد انفسخ البيع وليس على البائع شيء. وإذا اشترى من آخر عبداً بألف درهم على أن المشتري بالخيار، فأعطاه بها مائة دينار، ثم أن المشتري رد البيع فالصرف جائز عند أبي يوسف ويرد الدراهم، وعلى قول أبي حنيفة: الصرف باطل. رجل اشترى من آخر جارية على أن المشتري بالخيار ثلاثة أيام، ثم إن المشتري قبلها أو لمسها أو نظر إلى فرجها، ثم أراد أن يردها وقال: لم يكن ذلك بشهوة فالقول قوله مع يمينه. هكذا روي عن محمد في «المنتقى» : ثم قال: ألا ترى أن رجلاً لو قبل امرأة أو لمسها أو نظر إلى فرجها، ثم قال لم يكن عن شهوة، كان القول قوله كذا هنا، ولو كان مباشرة، ثم قال: كان ذلك مني بغير شهوة لم يقبل قوله، وكان الصدر الشهيد يقول في القبلة: يفتي بحرمة المصاهرة ما لم يبين أنه فعل بشهوة، قياس ما قاله الصدر الشهيد ثمة: يجب أن يقال في مسألة الشراء إذا قبلها، ثم قال: لم يكن عن شهوة، أن لا يقبل قوله ويسقط خياره. وقال أبو يوسف: في رجل اشترى بئراً على أنه بالخيار ثلاثة أيام فغار ماؤها أو دفع فيها فأرة ميتة قال: إن اختصما على تلك الحالة لم يكن له ردها، وإن لم يختصما حتى عاد الماء كما كان على خياره. نوع منه في اشتراط الخيار لهما وفي بيان أحكامه إذا كان الخيار لهما فمات أحدهما لزم البيع من جهته والآخر على خياره، فخيار الشرط لا يورث هنا عندنا خلافاً للشافعي. وفي «المنتقى» : رجل باع عبداً بأمة على أن كل واحد منهما بالخيار فأجاز بائع العبد البيع وقد تقابضا فمات العبد في يد المشتري فقد لزمه وتم البيع فيه. رجل اشترى عبد الجارية وشرط كل واحد الخيار لنفسه فيما باع، ثم إنهما أعتقا معاً جاز عتق كل واحد منهما في السلعة التي كان يملكها. رجل اشترى من آخر عبداً بألف درهم وهما جميعاً بالخيار فقال البائع: قد أجزت البيع بحضرة من المشتري، وقال المشتري بعد ذلك: قد فسخت البيع بحضرة البائع فالبيع

ينفسخ، فإن هلك العبد في يدي المشتري قبل أن يرده في الأيام الثلاثة أو بعدها فعلى المشتري الثمن من قبل أن البائع قد ألزم البيع وصار المشتري بالخيار دون البائع. ولو أصابه عيب قبل هذه المقالة أو بعدها فهو على سواء وعليه الثمن ولا يستطيع رده بعد العيب الذي أصابه، وإن بدأ المشتري ففسخ العقد، ثم إن البائع أجاز البيع، ثم هلك العبد فعلى المشتري قيمته. وكذلك لو أصابه عيب نقصه بعد هذه المقالة فالبيع منتقض يرد المبيع ويرد نقصان العيب، ولو أصابه العيب قبل أن يفسخ المشتري البيع، ثم فسخه المشتري، ثم أجازه البائع فالبيع لازم للمشتري وعليه الثمن من قبل أن العيب الذي حدث به عند المشتري بمنزلة إجازة البيع، فإذا أجازه البائع بعد ذلك فقد تم البيع فلزم الثمن وإذا كان الخيار للبائع أو للمشتري فتناقضا العقد، ثم هلك المبيع في يدي المشتري قبل الرد على البائع يبطل حكم ذلك الفسخ ويعود حكم البيع ويجعل كأن الهلاك كان قبل فسخ البيع. نوع آخر في الاختلاف في عقد البيع على الخيار هشام قال: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة رحمه الله: رجل ادعى أنه باع هذا العبد من هذا أمس بألف درهم على أني بالخيار وجحد المشتري الخيار فالقول قول البائع وهو المدعي للخيار وقال أبو يوسف: القول قول المشتري وكذلك إن كان المشتري هو الذي ادعى الشراء بشرط الخيار وجحد البائع الخيار فالقول قول المشتري وهو المدعي للخيار. وفي «البقالي» : عن أبي حنيفة: أن القول قول من سعى بالخيار، وفيه أيضاً: القول قول من يدعي الخيار عند محمد. قال في «البقالي» : وأطلق الأصل أن القول قول من يبقيه وكذا في المجرد، وقال أبو يوسف: إذا ادعى أحدهما الخيار لبيع قد مضى، ثم أصدقه إلا يبقيه وإن ادعى أحدهما الخيار لبيع باعه من ساعته ووصل دعواه بالخيار، فإني أقبل ذلك من أيهما ادعاه، وعن أبي يوسف فيمن قال لامراته: طلقتك أمس إن شئت وقالت المرأة: طلقتني لغدٍ فالقول قول الزوج، ولو قال: بعتك أمس إن شئت، وقال المشتري: اشتريته إليه فالقول قول المشتري، وإنما افترقا؛ لأن في قوله: بعتك أمس أنك قبلته وليس ذلك في الطلاق. وفي «المجرد» : إذا اختلفا في مقدار الخيار فالقول قول من يدعي الأقل، وإذا اتفقا على مقدار واختلفا في المضي فالقول قول من أنكر المضي.s نوع آخر في الاختلاف في الخيار في البيع في موت العبد ومضي الخيار وبعده قال محمد في «الجامع الكبير» : رجل باع عبداً من رجل بألف درهم على أن البائع

فيه بالخيار وقبضه المشتري فمضت المدة فقال أحدهما أيهما كان، إن العبد مات في الثلاث وانتقض البيع ووجبت القيمة. وقال الآخر: لا بل هو حي آبق فالقول قول من يدعي أنه حي آبق؛ لأن الظاهر شاهد له من وجوه من حيث إنه عرف حياة العبد، والأصل في الثابت بقاؤه ومن حيث إن العقد قد انعقد فكان الأصل بقاؤه ومن حيث إن مدة الخيار انقضت فكان الأصل لزوم العقد فكان الظاهر شاهداً له من هذه الوجوه الثلاثة، ومدعي الموت يشهد له الظاهر من وجه واحد من حيث إن الغير في مدة الخيار كان مضموناً على المشتري بالقيمة، والأصل بقاؤه. قلنا: من يشهد له الظاهر من وجه واحد لا يعارض من خبره خبر من يشهد له الظاهر من وجوه، فإن أقاما البينة كانت البينة بينة من يدعي أنه حي آبق أيضاً. وطعن عيسى ابن أبان في هذا فقال: يجب أن تكون البينة بينة من يدعي الموت في مدة الخيار؛ لأنه يدعي أمراً على خلاف الظاهر على ما مر، والبينات شرعت لإثبات ما خفي من الأمور دون إثبات ما ظهر منها، ألا ترى أنا رجحنا بينة الخارج على بينة ذي اليد في دعوى الملك المطلق خفي من الأمر كذا ههنا، الجواب أن بينة من يشهد له الظاهر إنما تبطل إذا بقي الظاهر مع بينة خصمه كما في الخارج مع ذي اليد؛ لأن هناك شهادة الظاهر إنما تثبت بحكم اليد واليد لا تبطل بينة الخارج إما إذا بطل الظاهر ببينة خصمه لا يبطل كونها حجة لحق وهو أن الظاهر إذا لم يبطل ببينة خصمه مما يثبت له بالظاهر لا يثبت لبينة وبينة الخصم تثبت من كل وجه فكانت بينة (83ب3) خصمه أكثر إثباتاً فترجحت باعتبار هذا، أما إذا أبطل الظاهر بينة خصمه وبينته مبيناً من كل وجه أيضاً، فلا يترجح بينة خصمه، بل يطلب الترجيح في نفس البينة فكانت أكثر أماناً فهو أولى إذا ثبت هذا. فنقول لما قامت البينة على الموت في الثلاث بطل الظاهر الذي كان يشهد لمن يدعي الحياة بعد الثلاث من كل وجه وهو ظاهر الحياة وظاهر العقد وانقضاء المدة، فإن انقضاء المدة لا يؤثر في اللزوم مع الموت في المدة، فإذا بطل الظاهر كله يعتبر معنى الإثبات وبينة من يدعي الحياة بعد مضي المدة أكثر إثباتاً لأنها تثبت لزوم العقد وإنتقال المبيع من ملك البائع إلى ملك المشتري، والانتقال من ضمان القيمة إلى ضمان الثمن أيضاً. وبينة صاحبه تبقي ذلك كله فكانت بينة من يدعي الحياة أولى، وإن تصادقا بعد الثلاث أن العبد مات واختلفا في وفاته، فقال أحدهما: مات في الثلاث وقال الآخر: مات بعد الثلاث فالقول قول من يدعي الموت في الثلاث؛ لأن مدعي الموت في الثلاث مدعي نقض البيع وموت العبد سبب لنقض البيع في البيع بشرط الخيار للبائع إذا علم موته بعد الثلاث ولم يثبت فكان الظاهر شاهد المدعي الموت في الثلاث من هذا الوجه، ولأن مدعي الموت في الثلاث يدعي ضمان القيمة وقد عرف ثبوته، ويدعي هلاك العبد على ملك البائع وعرف كونه ملك البائع أيضاً فكان الظاهر شاهداً له من هذه الوجوه. فأكثر ما في الباب أن الظاهر شاهد يدعي المدعي الموت بعد الثلاث من حيث إنه يدعي

بقاؤه حياً إلى بعد الثلاث وقد عرف كونه حياً ويدعي حدوث الموت لأقرب الأوقات ومدعي بقاء العقد إلى ما بعد الثلاث وقد عرف قيامه فتعارضت الظواهر، لكن الظاهر يصلح للدفع دون الاستحقاق ومدعي النقض يدعي حدوث ملك المشتري وحدوث ضمان الثمن. ومدعي الجواز يدعي حدوث ملك المشتري وضمان الثمن. فلهذا كان القول قول من يدعي الموت في الثلاث، فإن أقاما البينة (فالبينة) بينة من يدعي الموت بعد الثلاث؛ لأنه يثبت ببينته لزوم العقد وحدوث الملك للمشتري والنقل من ضمان القيمة إلى ضمان الثمن وكل ذلك غير ثابت قبل البينة، وبينة من يدعي بعد الموت بعد الثلاث أولىّ. ولو تصادقا أن العبد مات بعد الثلاث في يد المشتري فأقام أحدهما البينة أن البائع نقض البيع في الثلاث بمحضر من المشتري وأقام الآخر البينة أن البائع أجاز البيع في الثلاث فالبينة بينة من يدعي النقص؛ لأن حياة العبد بعد مضي المدة تدل على لزوم العقد فالانتقال من ضمان القيمة إلى ضمان الثمن بالذي على نص النقض يثبت خلاف الظاهر والأخر يثبت ما هو ظاهر فكانت بينة من يدعي أكثر إثباتاً. ولو تصادقا أن العبد مات في الثلاث وأقام أحدهما البينة على النقض والأخر على الإجازة قبل الموت فالبينة بينة من يدعي الإجازة؛ لأن الموت في الثلاث موجب النقض فالبينة على الإجازة هي التي تثبت ما ليس بظاهر فكانت حق بالقبول. ولو ادعى أحدهما أن الثلاث مضت والعبد حي، ثم مات وأن البائع نقض البائع قبل موته بمحضر من المشتري ولا بينة لهما فالقول قول من يدعي الموت في الثلاث؛ لأن كل واحد منهما يدعي شيئين. أحدهما: الموت في الثلاث، والنقض قبل ذلك وادعى الأخر بقاؤه في الثلاث والإجازة ودعوى كل واحد منهما أولاً متضمن دعواه آخر؛ لأن الذي ادعى بقاء العبد بعد الثلاث ادعى لزوم العقد، وقوله: إن البائع جاز البيع دعوى لما تضمنه الكلام الأول والذي ادعى الموت في الثلاث ادعى انتقاص البيع، وقوله: إن البائع نقض البيع دعوى لما تضمنه الكلام الأول فلغى عن دعوى كل واحد منهما لدعوى الثاني في بقيت العبرة لدعوى أحدهما الموت في الثلاث ودعوى الأخر: الموت بعد الثلاث، وقد ذكرنا أن في هذا القول قول من يدعي الموت في الثلاث والبينة بينة صاحبه كذا ههنا. وإن ادعى أحدهما أن العبد مات بعد الثلاث وإن البائع نقض البيع في الثلاث بمحضر من المشتري وادعى الأخر أن العبد مات في الثلاث وأن البائع جاز البيع قبل موت العبد فنقول كل واحد منهما ضم إلى دعواه لا بجانبه؛ لأن موت العبد في الثلاث يدل على النقض فلا يصح معه دعوى جواز البيع فلا يصح معه دعوى النقض فاعتبر من دعوى كل واحد منهما السابق، وهو دعوى الموت في الثلاث، أو بعد الثلاث وقد بينا هناك أن القول قول من يدعي الموت في الثلاث والبينة بينة صاحبه. ولو كان البائع والمشتري جميعاً بالخيار ثلاثة أيام وقد قبض المشتري العبد فادعى

أحدهما أن الثلاث مضت والعبد حي، ثم مات بعد ذلك، وأيهما جميعاً أجاز البيع قبل موته فالقول قول من يدعي النقض والبينة بينة صاحبه؛ لأن كل واحد منهما ضم إلى دعواه السابق ما لا يجانسه على أمر، فاعتبر السابق من دعوى كل واحد منهما وهو دعوى الموت في الثلاث ودعوى الموت بعد الثلاث، وقد بينا في هذا أن القول قول من يدعي الموت في الثلاث والبينة بينة صاحبه. قال أبو يوسف ومحمد: لو أن رجلاً باع من رجل عبداً على (أن) البائع أو المشتري بالخيار ثلاثه أيام وقبض المشتري العبد فمضت الثلاث والعبد حي قائم فأقام أحدهما البينة على النقض في الثلاث وأقام الآخر البينة على الإجازة في الثلاث كانت بينة النقض أولى؛ لأن العبد لما بقي حياً بعد الثلاث فذلك دليل الجواز. ولهذا لو لم يكن لهما بينة جعل القول قول من يدعي الجواز فصارت بينة النقض هي البينة لأمر غير ظاهر فكانت أولى، وإن أقام البينة على ما ذكرنا في الثلاث فالبينة بينة من لا خيار له؛ لأن من له الخيار يثبت ببينته أمراً يملك الشاة فلا حاجة له إلى إثباته بالبينة، والذي لا خيار له يحتاج إلى إثبات ما يدعيه بالبينة فكانت بينته أولى، بخلاف ما إذا مضت المدة؛ لأن هناك كل واحد منهما يدعي أمراً لا يملك استئنافه وبينة النقض على المنفعة على أمر فكانت هي أولى، ولو كان الخيار لهما فأقام أحدهما البينة على النقض منهما جميعاً، وأقام الأخر البينة على الإجازة منهما جميعاً وكان الاختلاف بينهما بعد مضي الأيام الثلاثة فالبينة بينة من يدعي النقض؛ لأن لزوم البيع ثابت بمضي المدة ظاهراً فكانت بينة النقض على المنفعة فيكون أولى. ولو اختلفا على هذا الوجه في الأيام الثلاثة ولم يكن لهما بينة، فالقول قول من يدعي النقض، ولو أقام البينة فالبينة بينة مدعي الإجازة؛ لأنه ادعى أمراً لا يتفرد به فاحتاج إلى إثباته بالبينة، والأخر ادعى أمراً يتفرد به فلم يحتج إلى إثباته بالبينة، فإن عرف تقدم أحدهما فذلك أولى؛ لأن أحد الأمرين إذا ثبت تقدمه بطل الآخر بعده؛ لأنهما ضدان. قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: رجل باع عبداً على أن (84أ3) البائع بالخيار ثلاثة أيام فقبضه المشتري وقيمته ألف درهم فزادت قيمته في الأيام الثلاثة فصارت ألفي درهم، ثم مضت الأيام الثلاثة، فأقام البائع بينة أن المشتري قتله خطأ في الأيام الثلاثة، وبعدما صارت قيمته ألفي درهم، وأنكره المشتري فأقام المشتري بينة أن البائع قتله خطأً بعد مضي الأيام الثلاثة فالبينة بينة البائع. فرق بين القتل وبين الموت على هذا الوجه بأن أقام أحدهما البينة بعد مضي الأيام الثلاثة، أنه مات في يد المشتري في الثلاث، وأقام الآخر البينة أنه مات بعد الأيام الثلاثة حيث كانت البينة بنية من يدعي الموت بعد الثلاث. والفرق: وهو أن القتل نفسه مقصود بالإثبات بالنية لما يتعلق بالقتل من الضمان على العاقلة، فإنه لا يتوصل الى هذا الحكم إلا بعد إثبات القتل فصار نفس القتل مقصوداً بالإثبات. ولما كان هكذا فبينة البائع أثبت القتل من المشتري في وقت لا مزاحم لها

ضرورته انتفاء القتل من البائع بعد ذلك، إذ القتل لا يتكرر فأما الموت فغير مقصود بالإثبات إذ لا يتعلق به حكم مقصود، فلا تعتبر البينة على نفس الموت، وإنما المعتبر ما يترتب على الموت من الحكم وبينة من يدعي الموت بعد الثلاث أكثر إثباتاً فيما يترتب عليه من الحكم على (ما) مر. ونظير هذا ما قال في الشهادات في رجل أقام البينة إن أباه مات في رمضان وهو وارثه لا وارث له غيره، وأقامت امرأة البينة إن أباه تزوجها في شوال من تلك السنة فالبينة بينة المرأة؛ لأن الموت غير مقصود بالإثبات في رمضان إذ لا يتعلق به حكم المقصود بالموت في رمضان، وإنما يثبت الابن الإرث لنفسه، والمرأة مقرة بذلك. أما المرأة يثبت بها النكاح في شوال وهو مقصود لما يتعلق به من الأحكام، فكان بينتها أولى، وبمثله لو أقام الابن البينة أن فلاناً قتل أباه في رمضان وباقي المسألة بحاله كانت بينته أولى؛ لأن النفس القتل ههنا مقصود بالإثبات لما يتعلق به وجوب الدية على العاقلة ببينته بالقتل في رمضان، ثم لا يتصور للنكاح منه بعد ذلك في شوال، فكذلك في مسألتنا. وإذا قضينا بموجب ضمان القتل للبائع هنا كان للبائع أن يضمن عاقلة المشتري، ولو أراد أن يضمن المشتري قيمة العبد يوم قبضه لما أنه قبضه على ضمان القيمة لم يكن له ذلك؛ لأنا لو أثبتنا له ذلك ابتداء أبطلناه انتهاءً، وهو أن البائع متى اختار تضمين المشتري قيمة العبد بسبب القبض تبين أن القتل لم يكن مقصوداً بالإثبات إذ لا يبقي للقتل حكماً في هذه الحالة لصيرورة البائع معرضاً عن دعوى ضمان الجناية على القتل فبقي مدعياً بمجرد الموت، ولو وقعت الدعوى في مجرد الموت على هذا الوجه كانت بينة المشتري أولى فيظهر أنه لم يكن للبائع تضمين المشتري القيمة بسبب القبض، فصح أن في تضمينه في الابتداء إبطاله في الانتهاء. وكذلك لو أقام البائع البينة أن فلاناً قتله في الأيام الثلاث خطأ، وأقام المشتري بينته على ذلك الرجل أو غيره أنه قتله خطأً بعد مضي الأيام الثلاثة كانت بينة البائع أولى، ويقضي البائع على العاقلة القاتل بقيمته يوم القتل، وإن اختار تضمين المشتري القيمة لم يكن له ذلك لما مر. ولو كان المشتري أقام البينة على البائع قتله في الأيام الثلاثة وأقام البائع بينته أن المشتري قتله بعد الأيام الثلاث فالبينة بينة البائع؛ لأن القتل هنا غير مقصود بالإثبات؛ لأن كل واحد منهما لهذا القتل لا يدعي لنفسه حقاً على صاحبه؛ لأن قتل المشتري بعد الثلاث يقع على ملكه فلا يوجب شيئاً للبائع. وكذلك قتل البائع في الثلاث يقع على ملكه فلا يوجب شيئاً للمشتري، فلم يكن القتل مقصوداً بالإثبات إنما يتعلق به من أحكام، وذلك في بينة البائع أكثر، وهو جواز البيع ولزومه والانتقال إلى ضمان الثمن فكانت بينة البائع أولى، ولو أقام البائع بينة على أن هذا الأجنبي قتله بعد الأيام الثلاثة، وأقام المشتري بينة على أن هذا الأجنبي أو غيره

قتله في الأيام الثلاثة فالبينة بينة البائع؛ لأن كل واحد ببينته يثبت حكم القتل لغيره، وذلك الغير ممكن فلم يكن ليقتل مقصوداً فاعتبر كأن البينتان قامتا على الموت على هذا الوجه. وهناك كانت بينة البائع أولى فكذلك هنا، وإن أراد المشتري في هذا الوجه إثبات القتل على الذي أقام عليه البائع البينة أنه قتله بعد الثلاث، وأراد تضمنه لم يكن له ذلك؛ لأنه قد ادعى القتل على غيره فيصير يدعي القتل عليه فتناقضاً. قال محمد في «الجامع» أيضاً: رجل باع عبداً من رجل بألف درهم أن البائع بالخيار فيه ثلاثة أيام فقبضه المشتري فصارت قيمته ألفي درهم فأقام البائع بينة على أن هذا الأجنبي غصب هذا العبد من المشتري بعد ما صارت قيمته ألفي درهم فمات في الأيام الثلاث عنده، وأقام المشتري البينة أن هذا الرجل أو غيره غصب هذا العبد في الأيام الثلاثة وقيمته ألف درهم فمات عنده بعد مضي الأيام الثلاثة، فإن بينة المشتري أولى بخلاف مسألة القتل. والفرق بينهما: وهو أن دعوى الغصب على الأجنبي إنما يعتبر بحكمه وكل واحد منهما يدعي الحكم لنفسه، ولا يعتبر بالموت في دعوى الغصب، فإن في دعوى الغصب بحكم نفسه صحيح بدون دعوى الموت. وإنما المعتبر في ذلك جواز العقد وانتقاضه إن أجاز العقد فحكم الغصب للمشتري، وإن انتقض فحكمه يكون للبائع فصار المحتاج إليه في دعوى الغصب إثبات النقض للبائع، وإثبات الجواز للمشتري فالجواز هو العارض، وذلك في بينة المشتري فصار الحكم به أولى، ثم تبعه ضمان الغصب بخلاف ضمان القتل. ولو أقام البائع بينة على الموت بعد الثلاث عند الغاصب وأقام المشتري بينته على البائع؛ لأن كل واحد منهما يثبت حكم الغصب لغيره، فلم يعتبر البينة على حكم الغصب، واعتبر نفس الموت، فيكون القضاء ببينة البائع أولى لما مر، وإذا قضينا على هذا الوجه كان للمشتري أن يضمن الغاصب قيمته بخلاف ما سبق من مسألة القتل في نظير هذا، فإن هناك إذا قضينا ببينة البائع ليس للمشتري أن يضمن القاتل شيئاً. والفرق بينهما: أن في مسألة القتل كل واحد منهما يثبت حكم القتل لغيره فبطل ذلك، واعتبرت البينة على الموت وعقد ذلك يقضي بالموت بعد الثلاث فالقضاء بالموت بعد الثلاث ينافي القضاء بالقتل في الثلاث، أما ههنا الغصب ثبت من هذا الغاصب في الثلاث بينهما والقضاء بالموت بعد الثلاث لا ينافي الغصب في الثلاث فبقي الغصب محكوماً به، فكان للمشتري أن يأخذه بضمان الغصب، وكذلك إذا كان الغصب من اثنين كان للمشتري أن يأخذ الذي ثبت الغصب عليه بضمان؛ لأن الغصب ثبت على الذي أثبته المشتري ببينته (84ب3) لا أن المشتري زعم أن حكمه للبائع، وإذا قضينا ببينة البائع صار المشتري مكذباً في زعمه أن ضمان الغصب للبائع فالتحق زعمه بالعدم، فلهذا كان الجواب كذلك، وإن لم يقم البينة على ما وصفنا من القتل والموت فالقول قول من يدعي القتل، والموت في الثلاث؛ لأن الظاهر يشهد له على الوجه الذي قلنا.

نوع آخر في شرط الخيار في بعض المبيع قال محمد في «الجامع الصغير» : وإذا اشترى الرجل شيئين بأن اشترى عبدين أو ثوبين على أنه بالخيار في أحدهما يأخذ أيهما شاء بعشرة مثلاً ويرد الآخر فهو جائز في الثوبين والثلاثة استحساناً، والقياس أن لا يجوز ولا يجوز فيما زاد على ذلك قياساً واستحساناً. وقد اختلف ألفاظ الفسخ في هذه المسألة: وقع في بعضها اشترى شيئين، ووقع في بعضها اشترى أحد الشيئين وهو الصواب؛ لأن المشتري أحدهما وإنما جاز هذا العقد استحساناً مع كون المبيع مجهولاً؛ لأنه بمعنى ما جاءت به السُنة وهوشرط الخيار ثلاثة أيام لمساس الحاجة، وكون الجهالة غير مفضية إلى المنازعة، أما الحاجة؛ فلأن الإنسان قد يشتري الشيء لعياله ولا يعجبه أن يحمل معه عياله إلى السوق ولا يرضى البائع بالتسليم إليه عينتيّ ليحمله إلى عياله من غير عقد فيحتاج إلى مباشرة العقد بهذه الصفة لاختيار الأرفق بمحضر من عياله. والجهالة هنا غير مفضية إلى المنازعة؛ لأن التعيين إلى من له الخيار بخلاف ما إذا لم يشترط الخيار لنفسه؛ لأن الجهالة ثمة تفضي إلى المنازعة، وبخلاف ما إذا لم يسم لكل ثوب ثمناً، فإن هناك ثمن ما يتناوله العقد مجهول وإنما اقتصر الجواز على الأبواب الثلاثة؛ لأن فيما زاد على الثلاث إن انعدمت المنازعة لم توجد الحاجة لاندفاعها بالثلاث لاقتصار صفات الأبواب على الجودة والوساطة والرداءة وهذه الرخصة كانت قائمة بوضعين فلم يقم بأحدهما، ويجوز هذا العقد إذا كان فيه شرط الخيار مع خيار التعيين. وهل يجوز بدون شرط الخيار؟ فيه كلام على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، ثم هذا البيع يجوز مع هذا الخيار ثلاثة أيام بلا خلاف، وهل يجوز مع هذا الخيار أربعة أيام لا شك أن على قولهما يجوز كما في العين الواحد، وأما على قول أبي حنيفة فقد اختلف المشايخ فيه، كان الكرخي يقول لا يجوز؛ لأن هذا الخيار على قول الكرخي ملحق بخيار الشرط ولهذا قال: لا يجوز البيع إذا لم يكن الخيار مؤقتاً، وخيار الشرط إذا كان مؤقتاً أربعة أيام يوجب فساد البيع عند أبي حنيفة، فكذلك هذا الخيار، وكان ابن شجاع يقول: يجوز؛ لأن هذا الخيار على قول ابن شجاع غير ملحق بخيار الشرط، ولهذا قال: أن البيع جائز مع هذا الخيار، وإن لم يكن مؤقتاً، فأما إذا ذكر الخيار مطلقاً ولم يؤقته كان الكرخي يقول: لا يجوز البيع وإليه أشار في «الجامع الصغير» وفي «المأذون» ، فإنه وضع المسألة في الخيار المؤقت. وفائدة ذكر التوقيت: أنه لا يجوز بدونه وإليه مال شمس الأئمة السرخسي، وفخر الإسلام علي البزدوي، وكان ابن شجاع يقول: يجوز وإليه أشار في «الجامع الكبير» وفي بيوع «الأصل» وإليه مال بعض المشايخ، وبعضهم قالوا في المسألة روايتان.

وجه ما ذكره الكرخي: أن هذا اختيار لا يثبت إلا بالشرط فلا يجوز إلا مؤقتاً قياساً على خيار الشرط في عين واحد ولهذا ذكره مؤقتاً في بعض الكتب، وما ذكره مطلقاً في بعض الكتب فهو مجهول على المؤقت. وجه ما ذهب إليه ابن شجاع: أن هذا الخيار ليس بخيار شرط بل هو خيار تمييز ملك من له الخيار عن ملك غيره ابتداء وإنتهاء؛ لأنه فسر قوله على أني بالخيار بقوله أحديهما شئت وأراد الآخر، وإبداء الحكم للتفسير لا لأول الكلام وخيار تيميز الملك لا يتوقت كما لو ثبت هذا الخيار بسبب الاختلاط، ولهذا ذكر محمد رحمه الله هذا الخيار في بعض الكتب مطلقاً، وإنما ذُكر في بعض الكتب مؤقتاً لتبيين أن العقد جائز مع التوقيت في الخيار، كما هو جائز مع التأبيد لا لبيان أن التوقيت شرط للخيار، وأما قول الكرخي أنه لا يثبت إلا بشرط. قلنا: إنما تعلق بثبوته بالشرط قطعاً للمنازعة؛ لأنه متى لم يشترط الخيار لأحدهما يثبت خيار التعيين لهما جميعاً بحكم الملك، فلا يتعد تعيين أحدهما على صاحبه قبل اشتراط الخيار له فكان الشرط محتاجاً إليه لهذا لا؛ لأنه خيار شرط، ثم إذا جاز البيع على وجه الذي قلنا فقبضهما المشتري فأحدهما معقود عليه مضمون على المشتري بالثمن والأخر ملك البائع أمانة في يد المشتري؛ لأن الداخل تحت العقد أحدهما لا كلاهما والذي لم يدخل تحت العقد حصل قبضه بإذن المالك لا على سوم الشراء ولا على وجه الوثيقة فيكون أمانة في يده كالوديعة، فإذا هلك أحدهما أو تعيب أحدهما وقد عجز عن رد الخيار لفوات الشرط وهو الرد على الوجه الذي قبض يتعين هو مبيعاً حين تعيب أو أشرف على الهلاك ويتعين الآخر. بخلاف ما لو اشترى كل واحد منهما بعشرة على أنه بالخيار ثلاثة أيام فهلك أحدهما عنده، فإنه لا يرد الباقي؛ لأن العقد تناولهما ولهذا ملك إتمام العقد فيهما، فلو رد الباقي منهما بعد هلاك أحدهما كان فيه تفريق الصفقة قبل التمام، وذلك لا يجوز، أما ههنا العقد يتناول أحدهما، ولا لهذا لا يملك إتمام العقد فيهما فبعد ما هلك أحدهما لو رد الأخر لا يكون فيه تفريق الصفقة قبل التمام، وكذلك إذا تصرف في أحدهما تصرفاً يبطل الخيار ولزمه ثمنه ويتعين هو مبيعاً؛ لأنه دليل الاختيار بالدلالة كالاختيار بالصريح.t ولو تصرف المشتري أو حدث العيب بهما وهما حيَّان فهو على خياره؛ لأن المبيع أحدهما وأحدهما لم يتعين البيع فيه بأولى من الأخر فكان على خياره فيرد الذي لم يخير وليس له أن يردهما بخلاف ما قبلهما قبل التعييب. والفرق وهو: أن العقد ههنا قد لزمه في المبيع منهما وسقط خيار الشرط فيه فلا يتمكن من ردهما بخلاف ما قبل التعييب؛ لأن العقد هناك لم يلزمه في المبيع منهما وبقي خيار الشرط فكان له أن يردهما، أما ههنا بخلافه، وإذا ردَّ الذي لم يخير في مسألتنا لا يلزمه أن يغير النقصان استحساناً، والقياس أن يرد معه نصف أرش النقصان، ولو ماتا معاً لزمه نصف ثمن كل واحد منهما.

ووجه القياس: أن بحدوث العيب فيهما هلك جزء منهما والجزء معتبر بالكل ولو هلكا معاً شاع الأمانة والضمان فيهما، فكذلك إذا هلك جزء منهما. وجه الاستحسان: وهو أن خيار التعيين لم يسقط بحدوث العيب بهما؛ لأن المبيع محل لابتداء البيع فيكون محلاً للبيان، وإذا بقي خيار التعيين صح تعينه، فتعين عينه للبيع فيه، ومن ضرورة تعينه للبيع تعين الأخر للأمانة وتعيب الأمانة في يد الأمين لا يوجب عليه ضماناً بخلاف ما إذا ماتا؛ لأنه سقط خيار التعيين بموتهما؛ لأن الهلاك محلاً لابتداء البيع فيه، فلا يكون محلاً للتعيين، وإذا سقط خيار التعينين استحكمت الجهالة فكان طريق رفعها التوزيع والشيوع فلهذا لزمه نصف ثمن كل واحد منهما بخلاف ما نحن فيه، (85أ3) ثم هل يشترط أن يكون في هذا العقد خيار الشرط مع خيار التعيين اختلف المشايخ فيه. منهم من قال: يشترط وهو المذكور في «الجامع الصغير» . فقد ذكر فيه اشترى ثوبين على أنه بالخيار يأخذ أيهما شاء وهو بالخيار وثلاثة أيام منهم من قال: لا يشترط وهو المذكور في «الأصل» و «الجامع» ، فإنه ذكر هذه المسألة في «الأصل» ولم يذكر خيار الشرط وهذا القائل يقول: إذا لم يذكر خيار الشرط يلزم العقد في أحدهما ولا يردهما، وإذا ذكر لا يلزم العقد في أحدهما وله أن يردهما، وذكر الكرخي هذه المسألة في كتابه ولم يذكر فيها خيار الشرط، وذكر أن له أن يردهما؛ لأن هذا الخيار عنده في معنى خيار الشرط ولهذا يشترط التأقيت فيه هذا إذا حصل البيع بشرط الخيار للمشتري، فإن حصل البيع بشرط الخيار للبائع، فإن قال البائع: بعتك أحد هذين الثوبين على أني بالخيار عيَّن البيع في أحدهما دون الآخر، لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة ههنا ولا في بيوع «الأصل» . وذكر الكرخي في «مختصره» : أنه يجوز استحساناً قالوا، وإليه أشار في «المأذون» ؛ لأن هذا بيع يجوز مع خيار الشرط، فيجوز مع خيار البائع قياساً على خيار الشرط. وذكر في «المجرد» : أنه لا يجوز هذا العقد مع خيار المشتري إنما يجوز بخلاف القياس باعتبار الحاجة إلى اختيار ما هو الأرفق بحضرة من يقع الشراء له، وهذا المعنى لا يتأتى في جانب البائع؛ لأنه لا حاجة له إلى الخيار لاختيار الأرفق؛ لأن المبيع كان معه قبل البيع فيرد جانب البائع إلى ما يقتضيه القياس هذا إذا باع أحدهما وشرط الخيار للمشتري ليأخذ أيهما شاء. ولو لم يشترط الخيار للمشتري إنما باعه أحد الثوبين أو أحد العبدين بعشرة مثلاً، فإنه لا يجوز هذا العقد؛ لأن المبيع مجهول جهالة تفضي إلى المنازعة المانعة من التسليم، فإذا دفعها البائع إلى المشتري فماتا عند المشتري ضمن نصف قيمة كل واحد منهما؛ لأن أحدهما يبيع ملكه المشتري بالقبض بحكم الفاسد وصار مضموناً عليه بالقيمة، والأخر أمانة في يده وليس أحدهما بأن يجعل أمانة على التعيين بأولى من الآخر، وبيع الأمانة والضمان فيهما، ولو مات أحدهما قبل صاحبه يتعين الأول للعقد، كما في البيع الصحيح لو مات أحدهما قبل صاحبه يتعين الأول.

وإن اعتقهما المشتري معاً عتق عليه أحدهما ملكه وكان على المشتري قيمته؛ لأنه ملكه بحكم عقد فاسد، وكان البيان إلى المشتري؛ لأن الذي نفذ عتقه فيه مضمون عليه، والقول في تعيين المضمون قول من عتق عليه. ولو اعتق المشتري أحدهما قبل الآخر جاز عتقه في الأول وتعين هو معقوداً عليه تصحيحاً لإعتاقه، ولو قال المشتري: أحدكما حر كان باطلاً؛ لأنه جَمْعٌ، بينما يملك وبينما لا يملك، وأعتق أحدهما وفي مثل هذا لا يصح الإعتاق أصلاً. وكذلك لو أعتق البائع أحدهما بغير عينه كان باطلاً؛ لأنه جمع بينما يملك وبين لا يملك؛ لأن أحدهما زال عن ملكه، وكذلك إذا قالا: جميعاً أحدكما حر كان ذلك باطلاً حتى لا يعتق واحد منهما، وإن قالا: جميعاً وأحدهما قبل الأخر هما حران عتقا؛ لأن كل واحد أعتق ما يملك وما لا يملك فيصح إعتاقه فيما يملك ولا يصح فيما لا يملك وتقرر على المشتري قيمة الذي نفذ عتقه فيه ويكون الخيار إليه لما قلنا. وإن مات المشتري قبل التعيين كان الخيار لورثته؛ لأن الخيار إنما يثبت للمشتري باعتبار أنه وجب عليه القيمة والقول في تعيين القيمة إليه، وبعدما مات المشتري فالقيمة تجب على الورثة في تركة الميت فيكون البيان إليهم أيضاً، ولو أن البائع أعتق أحدهما بعينه بعدما قبضهما المشتري لم ينفذ عتقه. وإن رفع الأمر الى القاضي حتى ردهما القاضي على البائع بحكم فساد البيع نفذ إعتاق البائع؛ لأن إعتاق البائع صادف محلاً مملوكاً للبائع؛ لأن زوال ملك البائع بالبيع إنما كان ضرورة الثبوت للمشتري، وملك المشتري إنما ثبت في المنكر فيزول ملك البائع عن المنكر أيضاً، والإعتاق صادف المعين فكان مصادفاً ملك البائع إلا أنه لم ينفذ في الحال؛ لأن للمشتري خيار التعيين، ولو نفذ الإعتاق يبطل خيار المشتري وقد زال هذا المعنى ههنا، فوجب القول بنفاذ العتق بين هذا وبينما إذا أعتق البائع العبد المبيع بشرط الخيار للمشتري البيع حيث لاينفذ العتق. والفرق وهو: أن شرط الخيار للمشتري لا يمنع زوال المبيع عن ملك البائع وإنما يعود بعد ذلك إلى ملك البائع بسبب الفسخ، والفسخ لم يوجد بعد، فلم يكن السبب قائماً حتى يتوقف العتق باعتبار النظر الى سبب الملك، أما ههنا بخلافه. وفرق بين هذا وبين الموصى له يأخذ العبيد الثلاثة إذا أعتق أحدهم بعينه بعد موت الموصي، ثم عين الوارث الوصية فيه حيث لاينفذ عتقه. والفرق وهو: أن الموصى له إنما يملك الموصي به بالوصية ابتداءً والوصية صادفت المنكر والسبب المصادف المنكر في حق المعين كالمعلق بخطر البيان، والسبب القاهر لايكفي لتوقف العتق، أما ههنا بخلافه على ما مر، ولو أن القاضي لم ينقض البيع حتى أعتق المشتري العبد الذي أعتقه البائع نفذ ذلك منه وبطل إعتاق البائع؛ لأن إعتاق البائع موقوفاً فيه، وكان للمشتري خيار التعيين فإذا أقدم على إعتاق هذا العبد صار ذلك منه تعييناً للبيع فيه فتعين وطرأ الإعتاق النافذ على الإعتاق الموقوف فأبطله. وكذلك لو مات

هذا العبد من غير أن يعتقه المشتري بطل إعتاق البائع، لأنه لما مات تعين هو مبيعاً فلو أن البائع أعتق العبدين جميعاً بعد قبض المشتري، ثم نقض القاضي البيع فيهما عتق على البائع أحدهما، والخيار إليه؛ لأن أحدهما باقي على ملك البائع وقت الإعتاق، والآخر لا يدخل ملكه بحكم البيع الفاسد، والزائد عن ملك البائع بسبب البيع الفاسد لايتوقف فيه إعتاق البائع، ما الذي بقي على ملكه ينفذ الإعتاق فيه ويكون التعيين الى البائع. وكذلك لو أعتق البائع أحد العبدين بعينه، ثم إن المشتري أعتق العبد الآخر أو دبر أو مات الآخر في يد المشتري نفذ عتق البائع فيه، وكذلك إذا اختار المشتري البيع في الآخر نصاً، وكذلك لو أعتق البائع العبدين، ثم إن المشتري أعتق أحدهما بعينه نفذ عتق البائع في الآخر فيتوقف عتق البائع في هذه المسائل، وإنما توقف؛ لأنه نفذ فيهما يبطل خيار المشتري، ولو نفذ في أحدهما يتعين الآخر للبيع من غير اختيار المشتري نصاً أو دلالة ولا وجه إليه وتعذر القول بالبطلان؛ لأنه إنما يبطل من حيث إنه صادف ملك المشتري ومثل اختيار المشتري ملك المشتري، ليس بثابت قطعاً بل الحال يتردد بين أن يكون ملك المشتري وبين أن يكون باقياً على ملك البائع فقلنا: بالتوقف لهذا، وكل جواب عرفته في البيع الفاسد بعد القبض، فكذلك الجواب في البيع الصحيح قبل القبض؛ (85ب3) لأن البيع الصحيح يزيل الملك بنفسه فصار نظير البيع الفاسد بعد القبض، ولو أن البائع أعتقهما قبل قتل المشتري بحكم العقد الفاسد عتقا؛ لأن أحدهما ليس بمبيع والآخر كان مبيعاً، إلا أنه باقي على ملكه لعدم التسليم، وكان المشتري قبض أحدهما في البيع الفاسد فأعتقه البائع، ثم إن المشتري قبض الآخر وأعتق أحدهما إن أعتق الذي أعتقه البائع نفذ إعتاق المشتري وتعين مبيعاً، ويبطل إعتاق البائع وغرم المشتري قيمته ورد الآخر، وإن أعتق المقبوض آخراً تعين هو مبيعاً ورد المقبوض أولاً ونفذ فيه إعتاق البائع، ولو قبض المشتري أحدهما فمات في يديه تعين هو مبيعاً؛ لأنه لو قبضهما ومات أحدهما تعين الميت مبيعاً مع أن الحي يزاحم الميت في الملك؛ فلأن يتعين الميت هنا مبيعاً والحي لا يزاحم الميت في الملك لانعدام القبض في الحي كان أولى، ولو لم يمت المقبوض حتى أعتق المشتري الذي لم يقبضه بطل الإعتاق؛ لأن الذي لم يقبضه إن كان أمانة فإعتاقه باطل وإن كان مبيعاً فهو مبيع بيع فاسد لم يملك لعدم القبض فصادف الإعتاق محلاً ليس بمملوك له فكان باطلاً. ولو قبض أحدهما ثم قبض الآخر ثم أعتق المقبوض آخراً جاز عتقه ويتعين هو مبيعاً، وكذا إذا مات يتعين الميت مبيعاً فقد جعل موت أحدهما أو أعتق أحدهما تعييناً للعقد في المعتق والميت، ولم يجعل قبض أحدهما تعييناً للعقد في المقبوض، وكذا الجواب في العقد الجائز. والمعنى الجامع بينهما وهو: أن جواز هذا العقد إنما كان باعتبار الحاجة إلى اختيار ماهو الأرفق، وذلك إنما يكون بعد قبضهما، وعسى (أن) لا يتهيأ له قبضهما معاً، ولو جعل قبض أحدهما تعييناً للعقد في المقبوض يفوت له هذا العوض فيعود إلى

موضوعه بالبعض، وإنه لا يجوز بخلاف الإعتاق والموت. إما في الإعتاق؛ فلأن هناك لما أنه أقدم على الإعتاق فقد قصد صحته ولا صحة للإعتاق إلا، وأن يتعين معقوداً عليه ضرورة بخلاف القبض؛ لأن القبض كما يصح في الملك يصح في غير الملك؛ فلأن يكون قبض أحدهما تعييناً للعقد فيه وفي الموت إنما يتعين الميت للعقد ضرورة أنه لا يمكن نقض العقد في الباقي بالشك، وهذه الضرورة لا توجد في قبض أحدهما بدون الموت والإعتاق. وشرط في «الكتاب» : أن يكون القبض بإذن البائع؛ لأن قبض المشتري في البيع الفاسد بغير الافتراق عن المجلس إنما نعيد الملك إذا كان بإذن البائع، وكذلك الجواب في الهيئة الفاسدة، فأطلق الجواب في اشتراط الإذن إطلاقاً تحرزاً عن القبض بعد الافتراق عن المجلس بغير إذن البائع. قال محمد في «الجامع الصغير» : رجل باع من آخر عبدين بألف درهم على أنه بالخيار في أحدهما فالبيع باطل، فهذه المسألة في الحاصل على أربعة أوجه: إما أن لا يعين الذي فيه الخيار ولا يفصل الثمن، وفي هذا الوجه البيع فاسد؛ لأن المبيع مجهول؛ لأن الخيار يمنع حكم العقد في مدة الخيار فالذي فيه الخيار هو غير داخل في الحكم، وإنه مجهول لم يعين، وإذا لم يكن غير الداخل في الحكم معلوماً لم يكن الداخل في الحكم معلوماً، فهو معنى قولنا: أن المبيع مجهول. وإما أن لا يعين الذي فيه الخيار ويفصل الثمن، وفي هذا الوجه العقد فاسد أيضاً لجهالة المبيع على ما بينا. وإما أن يعين الذي فيه الخيار ويفصل الثمن، وفي هذا الوجه فاسد فيه الخيار ويفصل الثمن بأن قال كل واحد منهما بخمسمائة، وفي هذا الوجه العقد جائز؛ لأن المبيع معلوم والثمن كذلك. فرق بين الوجه الثالث وبينما إذا اشترى عبدين أحدهما مدبر أو مكاتب أو اشترى جاريتين فإما أحدهما أم ولد، فإن العقد ينعقد في حق القن بوصف الصحة، وإن كان انعقاد العقد في حق القن في هذه المسائل بالحصة؛ لأن العقد لا ينعقد في حق المكاتب والمدبر وأم الولد، فمن مشايخنا من لم يشتغل بالفرق فقال: على قياس هذه المسألة لاينعقد العقد في حق القن في تلك المسائل ويصير ماذكر هنا رواية في تلك المسائل. ومنهم من اشتغل بالفرق وهو الصحيح. والفرق ماذكرنا: أن شرط الخيار يمنع انعقاد البيع في حق الحكم ويجعل العقد في حق الحكم كالمعدوم فيما شرط فيه الخيار وإذا لم ينعقد في حق الحكم في حق المشروط فيه الخيار، لو انعقد في حق الآخر ينعقد ابتداءً بالحصة، والعقد لاينعقد ابتداء بالحصة إما في المدبر والمكاتب، وأم الولد العقد منعقد في حق الحكم إذ لم يوجد في حقهم ما يمنع انعقاد البيع، ولهذا لو قضى القاضي يجوز بيع هؤلاء لكن لم يثبت الحكم بحق محترم واجب الصيانة يحصل بمجرد منع الحكم، فلا ضرورة إلى أن يجعل العقد

غير مباشرة في حق الحكم كما انعقد في حق القن، ثم وجب قسمة الثمن بعد ذلك عند فسخ العقد على هؤلاء، والانقسام ابتداءً يكون بالحصة ولا يوجب خلالاً في العقد. ولو كان المبيع شيئاً واحداً عبداً أو مكيلاً أو موزوناً وقد اشتراه بألف درهم وشرط الخيار في نصفه للبائع أو للمشتري جاز بخلاف ما اشترى عبدين بألف درهم وشرط الخيار في نصفه للبائع أو المشتري جاز بخلاف ما اشترى عبدين بألف درهم وشرط الخيار في أحدهما بعينه. والفرق وهو: أن النصف من الشيء الواحد لايتفاوت وثمنه أيضاً لا يتفاوت، وإذا كان ثمن الكل معلوماً كان ثمن النصف معلوماً أيضاً. فأما العبد الواحد من العبدين يتفاوت وثمنه أيضاً يتفاوت فكان حصة المبيع من الثمن مجهولاً، وإذا جاز البيع مع شرط الخيار في النصف، فإن كان الخيار للمشتري كان له أن يؤد النصف الذي شرط له الخيار فيه إن شاء، وإن شاء أجاز العقد فيه فإن أجاز العقد لزمه الكل، وإن رد انتقص العقد في النصف، وإن كان في رد النصف تفريق الصفقة على البائع وتنقيص المعقود عليه إلا أن البائع رضي بهذا التفريق؛ لأنه أثبت الخيار للمشتري في النصف والخيار مشروط للفسخ فيكون راضياً بفسخ العقد في النصف بتفريق الصفقة عليه. قال في «الزيادات» : وإذا اشترى الرجل من آخر عبدين كل منهما بألف درهم وشرط الخيار في أحدهما بعينه، البائع حتى جاز العقد على ما مر قبل هذا، فقال المشتري: أنا آخذ الذي لاخيار فيه وأنقد ثمنه لم يكن له ذلك؛ لأن البائع مسلط على إجازة البيع في الذي فيه الخيار، وعلى اعتبار الإجازة يجعل كأن البيع وقع بابا من الأصل. فيتبين أن المشتري فرق الصفقة على البائع في القبض والمشتري كما لا يملك تفريق الصفقة للبائع في العقد حتى لو أراد أن يقبل العقد في البعض دون البعض ليس له ذلك، لا يملك تفريق الصفقة في حق القبض ولكن يتوقف الأمر إن فسخ البائع البيع في الذي فيه الخيار، فقد تفرقت الصفقة وكان للمشتري أن يأخذ الأجر بثمنه، فإن أجاز العقد فيه أو سقط الخيار فيه بمضي المدة أخذ الكل بجميع الثمن وأبى المشتري لايجبر عليه. ولو أراد البائع أن يسلم الذي لا خيار فيه الى المشتري وتوقف العقد الأخر وقال المشتري: لا أقبل ولا أعطيك شيئاً من الثمن حتى (86أ3) عبر البيع في الآخر وأحدهما أو بفسخ العقد فيه يأخذ العبد الذي تم البيع فيه بحصته فذلك إلى المشتري؛ لأن على اعتبار إجارة البيع في الآخر تبين أنه فرق الصفقة على المشتري في القبض وليس له ذلك الولاية، ولو أراد البائع أن يدفع العبدين إلى المشتري ويأخذ ثمنها لم يجبر المشتري على ذلك؛ لأن الذي فيه الخيار لم يملكه المشتري، والإنسان لايجبر على قبض ما لم يملكه. وإن قال المشتري: أنا آخذ العبدين وأنقد ثمنهما ليس له ذلك إلا برضاء البائع؛

لأن الذي فيه الخيار بقي على ملك البائع والإنسان لا يجبر على تسليم ملكه إلى غيره ولكن الأمر موقوف حتى يظهر الفسخ من البائع أو الإجازة، فإن أجاز البائع البيع قبضهما المشتري جميعاً، وإن فسخ قبض الذي وجب البيع بثمنه ولا يجبر المشتري بسبب تفريق الصفقة عليه لرضاه بذلك. ولو كان الخيار في هذه الصورة فأراد المشتري أن يأخذ العبد الذي وجب البيع فيه ويأخذ ثمنه إلى البائع لا يجبر البائع عليه لما مر، أن فيه تفريق الصفقة على البائع على اعتبار إجازة المشتري البيع في الآخر، وكذلك لو أراد البائع أن يسلم إلى المشتري العبد الذي وجب البيع فيه ويأخذ ثمنه وأبى المشتري ذلك فذلك إلى المشتري. ولو قال المشتري: أنا آخذ العبدين وأنقد ثمنهما وأكون على خياري؛ فأبى البائع ذلك، لا يجبر البائع عليه، ولو قال البائع للمشتري: أعطيك العبدين وآخذ الثمنين وأنت على خيارك لايجبر عليه؛ لأن هذا جبر على تسليم مالم يلزم المشتري وهو ثمن المشروط فيه الخيار، وقد مر شيء من هذا الجنس في آخر النوع الثاني من هذا الفصل. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل أخذ من رجل واحد بعشرين وآخر بثلاثين وآخر بعشرة على أن يأخذ منها أيها شاء فضاعت عنده معاً لزمه ثلث ثمن كل واحد منهما، ولو ضاع واحد لزمه ثمن الأول وهو في الآخرين معاً ثمن. ولو احترق ثوبان ونصف منها معاً فإنه يرد النصف الباقي ولزمه نصف ثمن كل واحد منهما، ألا ترى أنهما لو كانا ثوبين فاحترق أنصافهما معاً كان له أن يردهما معاً ويلزمه الآخر بثمنه، ولو احترق أحدهما ونصف الآخر معاً، فإنه يرد النصف الباقي ولزمه الآخر بثمنه، وليس له أن يمسك هذا النصف بجميع ثمنه ويجعل الأمانة في الهالك. ابن سماعة عن محمد رحمه (الله) : رجل اشترى إحدى أمتين على أنه بالخيار فيهما جميعاً يأخذ أيتهما شاء إن شاء هذه بألف وإن شاء هذه بخمسمائة، فوطء المشتري الأمتين وحملتا منه، ثم اختلف البائع والمشتري فقال المشتري وطئت هذه أولاً، وقال البائع: بل وطئت هذه الأخرى أولاً، فالقول قول المشتري في التي وطئها أولاً ويلزمه ويثبت ولدها منه وتكون أم ولد، وأما التي زعم البائع أن المشتري وطئها أولاً فلا سبيل للبائع ولا للمشتري عليها، أما للمشتري فظاهر فلأن البائع حين زعم أنه وطئها أولاً فقد زعم أنها ولد للمشتري، وأنه لا سبيل له عليها وزعمه معتبر في حقه وتكون موقوفة إلى أن يموت المشتري فيعتق عند موته بإقرار البائع، ولا يلزم المشتري ثمن هذه الجارية؛ لأن زعم البائع حجة في حق المشتري. قال ابن سماعة: وينبغي أن يلزم المشتري عقر الجارية التي زعم البائع أنه وطئها أولاً، ويكون العقر له من الثمن الذي لا يغير واحد منهما على النفقة عليها ولكن تكتسب فتأكل من ذلك. ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف: رجل أخذ من رجل ثوبين على أن يأخذ أيهما شاء أخذ هذا بعشرة وإن شاء أخذ هذا بعشرين، وإن شاء أخذهما جميعاً فصبغ

أحدهما واختاره، والأخر فقال البائع: أخترت الذي ثمنه عشرون، وقال المشتري: بل أخترت الذي ثمنه عشرة فالقول في الثمن قول المشتري. وهو بمنزلة رجل اشترى ثوباً وصبغه، ثم اختلفا في قيمته ولا سبيل للبائع على الثوب؛ لأن الصبع زيادة فيه وليس هذا كالغضب، ولو أن المشتري قطع الثوب قميصاً ولم يخطه، ثم اختلفا في الثمن، فإن شاء البائع أخذ ما أقر به المشتري له من الثمن، وإن شاء أخذ الثوب مقطوعاً، وإن كان القطع قد زاد فيه مثل الصبغ فلا سبيل للبائع عليه، وله ما أقر به المشتري. المعلى عن أبي يوسف: رجل أخذ من رجل ثوبين على أن يأخذ أحدهما بثمن مسمى فضاع أحدهما، وقطع الآخر فقال المشتري: أجزت الذي قطعت، ثم ضاع الآخر وأنا أمين فيه، وقال البائع أجزت الذي ضاع، ثم قطعت الآخر فعليك قيمة الذي قطعت مع ثمن الذي ضاع، فإن المشتري ضامن نصف ثمن الذي ضاع ونصف قيمة الذي قطع ونصف ثمنه. نوع آخر في شرط الخيار لغير العاقد يجب أن يعلم أن من اشترى شيئاً أو باع شيئاً اشترط الخيار لثالث، فالقياس: أن لايجوز العقد، وبالقياس أخذ زفر رحمه (الله) ، وفي الاستحسان: يجوز العقد ويثبت الخيار للعاقد، ثم يصير المشروط له بالخيار وكيلاً من جهة في الفسخ والإجازة، وإنما كان كذلك، وذلك لأن تقدير هذا الشرط عندنا كأن العاقد شرط الخيار لنفسه، ثم وكل المشروط له الخيار بالتصرف بحكم الخيار. / ولو صرح بهذا كان العقد جائزاً؛ فإنه لو قال: بعت على أني بالخيار، ثم وكلت فلاناً بالتصرف بحكم الخيار، إن شاء أجاز وإن شاء فسخ صح، وصار فلان وكيلاً من جهته إذا علم بذلك، فكذلك إذا كان تقديره هذا وإنما جعلنا تقديره هذا؛ لأن اشتراط مايجب بالعقد لغير العاقد لايجوز بحكم الوكالة والنيابة فيصح من هذا الوجه حملاً لكلامه على الجواز. هذا كما قال علماؤنا رحمهم الله: فيمين قال لآخر: أعتق عبدك عني بألف فأعتق فإنه يصير الأمر مستوياً منه أولاً ثم موكلاً إياه بالعتق تصحيحاً للأمر، حتى لا يلغو فكذلك هذا، وأيهما أجاز أو نقض صح ذلك؛ لأن تصرفه صدر عن ولائه، أما المشتري فظاهر، وأما المشروط له الخيار؛ فلأنه وكيل من جهة المشتري بالفسخ والإجازة، وإن أجاز أحدهما ونقض الآخر فإن عرف السابق منهما أولى؛ لأن تصرفه صدر عن ولائه فعقد حال وجوده أفاد حكمه ولا يعمل الآخر بعد ذلك، وإن خرج الكلامان معاً، ذكر في «المأذون الكبير» أن الفسخ أولى، وذكر في بيوع «الأصل» أن تصرف المشتري أولى نقضاً كان أو إجازة.

وجه ماذكر في بيوع «الأصل» : أن العمل بالأمرين جميعاً متعذر؛ لأن العقد الواحد لا يجوز أن يكون مفسوخاً كله وغير مفسوخ فلا بد من إثبات أحدهما وإلغاء الآخر، فنقول: إثبات تصرف المشتري وإلغاء تصرف الوكيل أولى؛ لأن تصرف المشتري أصل؛ لأنه يتصرف بحكم الملك، وتصرف الوكيل بناء عليه فيكون كالبيع له، ولا شك أن إلغاء المبيع واعتبار الأصل أولى وجه ما ذكر في «المأذون» : أن العمل بهما لما تعذر ووجب العمل بأحدهما كان العمل بالفسخ أولى لوجهين: أحدهما: وهو أن الاحتياط فيه، فإن الفسخ يوجب الحرمة على المشتري، والإجازة توجب الإباحة، فإذا اجتمعا رجحنا المحرم على المبيح. فإن قيل: هذا اعتبار جانب المشتري وإنه يوجب أن يكون الفسخ أولى فاعتبار جانب البائع يوجب أن تكون الإجازة أولى؛ لأن الإجازة تثبت حرمة في حقه، والفسخ يثبت إباحة في حقه، فيجب أن تكون الإجازة أولى باعتبار جانب البائع فلم يصر المشتري بهذا الاحتياط أولى (86ب3) من البائع والجواب عنه أن مراعاة الاحتياط من كلا الجانبين متعذر، فلا بد من مراعاة أحد الجانبين فكان مراعاة جانب المشتري أولى، لأنا نحتاج في جانبه الى إثبات الحل ابتداء؛ لأنه لم يكن ثابتاً له، وفي جانب البائع نحتاج إلى إبقاء الحل؛ لأن الحل كان ثابتاً له وبالفسخ يعود إليه قديم ملكه ويحل له قديم ملكه فيكون إبقاءً باعتبار قديم الملك لا إثباتاً مبتدأ، وأي جانب راعيناه فقد راعيناه مع الشك، إذا لم يعرف السابق، فنقول مراعاة جانب المشتري بالاحتياط أولى؛ لأن البقاء مع الشك أخف من الإثبات ابتداءً بالشك؛ لأن الشيء يبقى مع الشك ولا يثبت ابتداء مع الشك، فلهذا كان مراعاة الاحتياط في جانب المشتري أولى من مراعاة الاحتياط في جانب البائع. والثاني: أن الإجازة لا ترد على الفسخ، فإن المفسوخ لا يجاز لفسخ يرد على الإجازة لا المجاز بفسخ، فإذا اجتمعا معاً كان الفسخ أولى. كنكاح الحرة مع نكاح الأمة إذا اجتمعا كان نكاح الحرة أولى بالجواز؛ لأنه يرد على نكاح الأمة، ونكاح الأمة لا يرد على نكاح الحرة فعند الاجتماع كان نكاح الحرة أولى، وكما قلنا في العتق والبيع إذا توقفا فأجاز المالك كلاهما كان العتق أولى؛ لأن العتق يرد على البيع والبيع لايرد على العتق، فعند الاجتماع كان العتق أولى فكذلك هذا. قيل: ما ذكر في البيوع قول محمد، وما ذكر في «المأذون» قول أبي يوسف؛ لأن محمد رحمه الله يقدم ولاية الملك على ولايته، وأبو يوسف يسوي بينهما أصله: في الوكيل بالسلم أو بشراء شيء بغير عينه إذا عقد ولم تحضره البينة، فعلى قول محمد يقع للوكيل، وعند أبي يوسف بحكم النقد. وقيل: ما ذكر في البيوع و «المأذون» من ترجيح أحد التصرفين على الآخر قول أبي حنيفة، فأما على قول محمد: ينبغي أن تصح الإجازة في النصف والفسخ في النصف، ثم يكون للمشتري الخيار، إن كان الخيار مشروطاً للبائع وللأجنبي لتفرق الصفقة على

المشتري، وإن كان الخيار مشروطاً للمشتري وللأجنبي فللبائع الخيار لما يلحقه من الضرر بسبب عيب الشركة ويفرق الصفقة، وإنما قالوا هذا قياساً على مسألة أخرى اختلف فيها أبو حنيفة ومحمد، وهو أن الوكيل بالبيع إذا باع الموكل وخرج الكلامان معاً وباع كل منهما من رجل. قال أبو حنيفة رحمه الله: بأن بيع الموكل أولى، وقال محمد: يجوز بيع كل واحد منهما في نصف العبد وتكون العهدة عليهما يخير كل واحد من المشتريين إن شاء رضي كل واحد منهما بنصف العبد وإن شاء رد، فأبو حنيفة رحمه الله لم يعمل بالتصرفين متى كان التصرف تبعاً، بل طلب الترجيح لأحدهما وعمل بالراجح وأبطل الآخر فكذلك في الفسخ والإجازة لا يعمل بهما بل يطلب الترجيح لأحدهما بالراجح على رواية كتاب البيوع تصرف الموكل بسبب الأصالة، ورجح في «المأذون» الفسخ على الإجازة من أيهما وجد، للوجهين اللذين ذكرنا فأما محمد رحمه الله لم يشتغل بالترجيح في بيع الوكيل والموكل بل عمل بقدر الإمكان، وأثبت تصرف كل واحد منهما في النصف متى أجاز أحدهما وفسخ الآخر تثبت الإجازة في النصف والفسخ في النصف. نوع آخر في البيع والشراء لغيره مع شرط الخيار هذا النوع يشتمل على قسمين في البيع، وقسم في الشراء. فأما قسم البيع: قال محمد رحمه الله: رجل أمر رجلاً أن يبيع عبده وأمره أن يشترط الخيار للآمر ثلاثة أيام فباعه ولم يشترط الخيار لم يجز البيع؛ لأنه خالف أمر آمره إلى سر؛ لأنه أمره ببيع يلزمه ولا يزيل ملكه إلا برضاه، وقد أتى ببيع يلزمه ملكه من غير رضاه، فرق أبو حنيفة وأبو يوسف بين هذا وبين المأمور بالبيع الفاسد إذا باع بيعاً جائزاً، فإنه ينفذ على الآمر. والفرق: وهو أن البيع الفاسد نوعان: نوع يزيل الملك بنفسه، وهو ما إذا كانت السلعة مقبوضة، ونوع لايزيل الملك بنفسه وهو إذا لم تكن السلعة مقبوضة، وكلا النوعين داخل تحت عقد الوكالة فلا يتحقق الخلاف من هذا الوجه، لو تحقق إنما يتحقق من حيث اسقاط الخيار، وذلك خلاف إلى ما ينفعه؛ لأن الخيار الثابت بحكم فساد العقد مستحق على العاقد، فإنه يفترض عليه الفسخ إزالة للفساد ودفعاً للحرام، فإذا باع الوكيل بيعاً صحيحاً فقد أسقط عنه حقاً مستحقاً عليه فكان خلافاً إلى خير فلا يعد خلافاً، فأما خيار الشرط يثبت حقاً له؛ لأنه ينتفع به فكان تركه وإسقاطه خلافاً إلى سر فيعتبر خلافاً، فإن باعه وشرط الخيار للآمر كما أمره به نفذ تصرفه عليه؛ لأنه وافق أمره ويثبت الخيار له ولآمره؛ لأن القياس يأبى شرط الخيار لغير العاقد إلا أنا جوزنا ذلك بطريق، وهو أن العاقد لما شرط الخيار لغيره فقد قصد تصحيحه، وأمكن تصحيحه بجعله شارطاً الخيار لنفسه بطريق الاقتضاء أولاً، ثم عاجلاً ذلك الغير نائباً ووكيلاً عن نفسه في الفسخ والإجازة ولهذا إلى زفر، شرط الخيار لغير العاقد؛ لأن شرط الخيار لغير العاقد إنما كان

بطريق شرط الخيار للعاقد بطريق الاقتضاء، وزفر لا يقول بالمقتضيات، فإن فسخ الوكيل العقد صح فسخه كما لو شرط الخيار لنفسه لا غير، وإن أجاز بطل خياره وخيار الآمر؛ لأن ذلك ثابت بطريق النيابة، ولكن العقد لايلزم على الآمر بإجازة الوكيل؛ لأن الآمر لم يرض بلزوم العقد عند رضاء الوكيل واختياره يكون له خيار الإجازة لا خيار الشرط. ولهذا لا يتوقت هذا الخيار بعد إجازة الوكيل بمدة الخيار، وقالوا: كأن الآمر أمره بالبيع مطلقاً فباع وشرط الخيار للآمر أو للأجنبي صح عملاً بإطلاق اللفظ، فإن مطلق اسم البيع كما يتناول البيع الثابت يتناول البيع بشرط الخيار، وأيهما يصرف فسخاً أو إجازة يريد به العاقد والمشروط له الخيار صح تصرفه، لما ذكرنا أن شرط الخيار لغير العاقد شرط للعاقد وتوكيل للمشروط له الخيار بالفسخ والإجازة بحكم الخيار. فيصح فسخ العاقد، وإجازته بحكم اشتراط الخيار، ويصح فسخ المشروط له الخيار وإجازته بطريق النيابة والوكالة عن العاقد، ويلزم هذا العقد بإجازة الوكيل؛ لأن الآمر لما أمره بالبيع مطلقاً يتناول البيع، مع أن اسم البيع مطلقاً يتناول البيع الباب والبيع بشرط الخيار فقد رضي بلزوم العقد عند رضاء الوكيل فلم يصر بإسقاط الخيار بالإجازة بمنزلة الفضولي، فلا يتوقف على إجازة الآمر بخلاف ما تقدم. وإن فسخ أحدهما وأجاز الآخر وخرج الكلامان منهما معاً ففي رواية «كتاب المأذون» الفسخ أولى؛ لأنه ألزم، وفي رواية كتاب البيوع تصرف المالك أولى؛ لأنه أقوى، وإن أمره بالبيع بشرط الخيار لنفسه أي للمأمور فباع بشرط الخيار لنفسه أو للآمر أو للأجنبي فإنه يجوز، أما اذا شرط الخيار لنفسه فظاهر، وأما إذا شرط الخيار للآمر أو للأجنبي فلما ذكرنا، أن اشتراط الخيار لغير العاقد اشتراط للعاقد، وتوكيل للمشروط له الخيار بالفسخ والإجازة فصار شارطاً الخيار لنفسه كما أمره به فيجوز. وأما قسم الشراء قال محمد رحمه الله: وإذا أمر الرجل رجلاً بأن يشتري له عبداً بعينه أو بغير عينه، وسمى له ثمناً أو جنساً حتى صح الأمر، وأمره أن يشترط الخيار للآمر أو للأجنبي فلما ذكرنا، أن شرط الخيار لغير العاقد شرط للعاقد، ولو أمره أن يشترط الخيار للآمر فاشتراه بغير خيار، أو شرط الخيار لنفسه لاينفذ على الآمر؛ لأنه خالفه عما ينفعه إلى ما يضره (87أ3) فإن أمره شراء لايلزمه إلا برضاه، وقد أتى بشراء يلزمه من غير رضاه فلا ينفذ على الآمر، ولكن يلزم المأمور بخلاف المبيع، فإنه إذا أمر بالبيع بشرط الخيار، أو باع بشرط الخيار لنفسه حيث لاينفذ أصلا لا على الآمر ولا على المأمور. وكذلك لو أمره بأن يشترطه الخيار لنفسه يعني للوكيل فاشتراه بغير خيار لنفسه فقد أمره شراء يلزمه برضاء المأمور، فإذا اشترى ولم يشترط الخيار فقد رضي المأمور بلزوم هذا الشراء للآمر هذا الشراء للآمر فهذا شراء دخل تحت الأمر فينفذ على الآمر، والجواب عنه: أن الآمر لما أمره بشرط الخيار لنفسه، فإنما رضي بشراء لا يلزمه بنفسه، وإنما يلزمه بإجازة توجد بعد العقد، فإذا اشترى ولم يشترط الخيار فقد أراد أن يلزمه هذا

الشراء بنفسه فصار مخالفاً الأمر، فلا يلزم الآمر ويصير المأمور مشترياً لنفسه على ماذكرنا، ولو أمره أن يشترط الخيار لنفسه أي للآمر، فاشترى وشرط الخيار للآمر كما أمره به حتى نفذ على الآمر، ثم أجاز المأمور البيع بطل خياره، والآمر على خياره، وإنما كان كذلك لما ذكرنا، أن خيار الشرط لغير العاقد يقتضي بثبوته للعاقد، وإذا ثبت الخيار للعاقد بطل بإبطاله، إلا أنه لايلزم الآمر لما ذكرنا، أن الآمر ما رضي بلزوم هذا العقد من غير اختياره فيتوقف على إجازته واختياره. واختلف المشايخ في أن الباقي للآمر بعد إجازة الوكيل خيار شرط أم خيار آخر، بعضهم قالوا: شرط؛ لأنه ذو حظ من هذا العقد، فإن المبيع يدخل في ملكه ويجب الثمن في ذمته، فصح اشتراط الخيار له على طريق الخصوص، فلا يبطل إلا بإبطاله، وقال بعضهم: لا يبقى له خيار شرط لما ذكرنا، أن ثبوت شرط الخيار لغير العاقد بطريق النيابة من العاقد، فإذا أبطل العاقد خياره بطل خيار الأصل فيبطل خيار الثابت ضرورة، ولكن يبقى له خيار آخر، وهو أنه مارضي بالتزام حكم العقد وعدم التزامه كما في مسألة البيع، وهذا أقيس، وإن كان شراء الفضولي لايتوقف على الإجازة، إلا أنه إنما لا يتوقف إذا وجد نفاذاً على المشتري، كما إذا اشترى شيئاً لغيره بغير أمره، فإذا اشترى ولم يشترط الخيار للآمر حتى صار مخالفا وجد نفاذاً على المشتري فنفذ عليه، فأما إذا شرط الخيار للآمر كما أمر به لم يجد نفاذاً على المشتري، وإن أجاز لتعلق حق البائع والآمر به، فيتوقف على إجازة الآمر كما في البيع، وصار الشراء الذي لا يجد نفاذاً على المشتري في حق التوقف على إجازة الآمر العقد بعد ذلك كان العبد له؛ لأنه التزم حكم العقد، فإن رد كان العبد للوكيل، حتى لو هلك العبد بعد ذلك في يد الوكيل هلك من مال الوكيل؛ لأن الإجازة من الوكيل قد صحت، إلا أنها لم تعمل في حق الآمر بحصته، فإذا زال حقه بالنقض عملت الإجازة السابقة عملها في حق الوكيل، فدخل العبد في ملك الوكيل وضمانه، فإذا هلك يهلك من ماله. ونظير هذا الوكيل بالبيع إذا رد عليه بالعيب من غير قضاء القاضي، فإنه يتوقف على قبول الموكل، فإن قبل لزمه وإن رد الوكيل، والمعنى ماذكرنا كذا هنا، ولو أن الوكيل لم يرض به ولم يجز البيع من الابتداء حتى قال الآمر للوكيل: رد العبد فلا حاجة لي فيه، فهلك بعد هذا القول في يد الوكيل هلك من مال الآمر؛ لأن العبد دخل في ضمان الآمر بقبض الوكيل؛ لأن يد الوكيل يد الآمر، وبقول الآمر: رد العبد، لم ينفسخ العقد؛ لأن هذا ليس بفسخ للعقد بل هو أمر بالفسخ، لا يكون فسخاً فبقي العين في ضمان الآمر، فإذا هلك يهلك من مال الآمر، وقول محمد رحمه الله في «الكتاب» على وجه التعليل هذا ليس بنقض حتى ينقض بمحضر من البائع، ليس المراد منه إنه نقض في نفسه لكنه لم يعمل لعند البائع كما ظنه بعض أصحابنا، وإنما المراد أنه ليس بنقض في نفسه حتى يبتدئ النقض بحضرة البائع. قال مشايخنا: وإنما يشترط حضرة البائع لابتداء النقض على قول أبي حنيفة

الذى كان قبل ومحمد، وأما على قول أبي يوسف: يصح ابتداء النقض، وإن لم يكن بحضرة البائع والمسألة معروفة، فإن قال الوكيل بعد ما قال الآمر رد هذا العبد: رضيت بهذا العقد، ثم هلك العبد في يد الوكيل هلك من مال الآمر لما ذكرنا، أن بقول الآمر رد هذا العبد لم ينفسخ العقد، وقول الوكيل رضيت بهذا العقد لا يعمل في حق الآمر، فبقي العبد على ملك الآمر، وضمانه، فإذا هلك يهلك من مال الآمر قال: ولو أن الآمر حين قال للمأمور: رد هذا العبد على البائع فلا حاجة لي فيه، باعه المأمور من رجل، فإنه يتوقف هذا البيع على إجازة الآمر؛ لأن العبد بعد قول الآمر رده، باقي على ملك الآمر وقد باعه بغير أمره، فيتوقف على إجازته كما توقف الأول على إجازته، من مشايخنا من قال: هذا الجواب يستقيم على قول أبي يوسف ومحمد، أما على قول أبي حنيفة لا يستقيم؛ لأن المشترى بشرط الخيار للمشتري لا يدخل في ملك المشتري عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، وإذا لم يصر العبد مملوكاً للآمر عنده كيف يتوقف بيع العبد بعد ذلك على إجازته، والتوقف إنما يكون على إجازة المالك لا على إجارة غير المالك، ومنهم من قال: لا بل هذا قول الكل. ووجهه أن على قول أبي حنيفة إن لم يصر العبد مملوكاً للآمر، فسبب الملك في حقه هو الشراء وقد وجد، والحكم مستحق بقضية السبب فصار العبد كالمملوك له، نظراً إلى السبب فجاز أن يتوقف عند المأمور بعد ذلك على إجازته، أو يقول إن لم يكن العبد مملوكاً للآمر فهو أقرب الناس إلى إجازة هذا العقد فجاز أن يعطى له حكم المالك في حق إجازة هذا العبد، إذ يجوز أن يعطى للإنسان حكم المالك في حق بعض الأشياء، وإن لم يكن له حقيقة الملك لما أنه أقرب الناس إليها. ألا ترى أن السبع إذا افترس الميت وبقي الكفن يرد إلى الورثة؟ لا لأنهم ملكوه ولكن؛ لأنهم أقرب الناس إليه فأعطي لهم حكم المالك كذا هنا، ثم إذا توقف البيع الثاني على إجازة الآمر لو أجاز الآمر البيع الثاني ينفذ البيع الثاني والبيع الأول؛ لأنه لما أجاز البيع الثاني فقد قصد تصحيح البيع الثاني ولا صحة للبيع الثاني إلا بعد نفاذ البيع الأول، ولا نفاذ للبيع الأول إلا بإجازته الأول فصار بإجازة الثاني في حكم (مجيز) البيع الأول فنفذ البيع الأول من وقت وجوده، ويثبت الملك له من ذلك الوقت، فحصل البيع على ملكه وقد لحقته الإجازة فنفذ، ويطيب له الربح إن كان في الثمن ربحاً؛ لأن البيع الثاني حصل على ملكه وضمانه، وإن نقض الآمر البيع الثاني صار الحال بعد نقض البيع الثاني كالحال قبل وجود البيع الثاني؛ لأنه لما نقض الآمر البيع الثاني وله ولاية نقضه صار وجوده والعدم بمنزلة، فصار الحال بعد نقض البيع الثاني، والحال قبل البيع الثاني سواء من هذا الوجه، وإن نقض الآمر البيع الأول بعد البيع الثاني لزم (87ب3) العبد المأمور؛ لأن إقدام المأمور على البيع الثاني إبطال للخيار وإمضاء للشراء بينه وبين البائع، كقوله: رضيت إلا أنه لم يعمل هذا الإبطال في حق الآمر بحقه، فإذا اختار بعض الشراء فقد أبطل حقه، فعمل ذلك الإبطال في حق الآمر عمله فصار العبد ملكاً للمأمور لهذا، ولكن لا ينفذ عليه بيعه الذي كان قبل

ذلك؛ لأنه كان قبل ملكه، إذ ملكه حدث الآن، والبيع لا يتوقف على ملك سيحدث. ألا ترى أن من باع شيئاً، ثم ملكه بسبب من الأسباب لا ينفذ ذلك البيع عليه، وإنما لم ينفذ عليه لما قلنا، فإن حدد المأمور بيعاً بعد ذلك وطاب الربح إن كان في الثمن الربح؛ لأن العبد صار ملكاً له من وقت البعض وإنه في يده وضمانه فحصل البيع على ملكه وضمانه فينفذ مع ظنه لهذا وإذا اشترى الرجل شيئاً لغيره بأمره وشرط الخيار للآمر كما أمره به حتى يثبت الخيار للآمر وللوكيل، ثم اختلف البائع والوكيل بعد ذلك فقال: إن الآمر قد رضي والآمر غائب، وأنكر الوكيل ذلك فالقول قول الوكيل؛ لأن البائع يدعي على الوكيل سقوط خياره بعد ما كان ثابتاً ووجب الثمن على الوكيل بعد ما لم يكن واجباً عليه، والوكيل ينكر ذلك فيكون القول قوله. ألا ترى أنه لو ادعي الرضا على الوكيل في مدة الخيار وأنكر الوكيل ذلك، كان القول قوله؟ فكذا هذا، ثم يكون القول قول الوكيل بلا يمين، بخلاف ما لو ادعي الرضاء على الوكيل في مدة الخيار وأنكر الوكيل كان القول قول الوكيل مع اليمين. والفرق: أن الدعوى في مسألتنا توجه على الآمر مقصوداً، فإنه يدعي رضاء الآمر لا رضاء المشتري بيعاً ونقضاً؛ لأن رضاء الآمر متى ثبت سقط خيار المشتري ولزمه الثمن وحكم الأصل، وهذه الدعوى لم تصح في حق (هذا) الجانب، اليمين على من توجه عليه الدعوى مقصوداً وهو الآمر، فإن الآمر لو كان حاضراً وأنكر الرضاء لا يستحلف الآمر بهذه الدعوى فكيف يصح في حقٍ توجيه اليمين على من توجه عليه الدعوى تبعاً وهو المشتري، بخلاف ما لو ادعي الرضاء على المشتري؛ لأن الدعوى هناك توجه على المشتري مقصوداً وهو أصل فيما ادعي عليه؛ لأن العقد في حق الحقوق للعاقد، كأنه اشترى لنفسه، وإنما لم تجب اليمين على الآمر متى كان حاضراً وادعى عليه الرضا، وذلك؛ لأن الأمر في حق حقوق العقد ثابت عن المشتري لما مر، والدعوى على الثابت لا تصح في حق الجانب اليمين عليه، وإن كان يصح في حق سماع البينة كالوكيل بالخصومة والأب والوصي وصحت الدعوى في مال اليتيم على هؤلاء في حق سماع البينة، ولم تصح في حق إيجاب اليمين فكذلك هنا. وذكر شمس الأئمة الحلواني: أن في استحلاف الوكيل في هذه المسألة روايتين، على أصح الروايتين: يستحلف الوكيل هنا إذا أنكر المشتري ما ادعاه البائع، ولم يقم البائع (بينة) على ما ادعى، فأما إذا أقام البائع البينة أن الآمر قد رضي، فإن البيع لازم للآمر، وإن كان الآمر غائباً؛ لأن المشتري انتصب خصماً عن الآمر حكماً؛ لأن البائع ادعى على المشتري حقاً بسبب ادعاه على الغاصب فيه، وبين المشتري والغائب إيصال سبب وهو الأمر ولا يثبت ما ادعى على المشتري إلا بإثبات ما ادعي على الغائب، فينتصب المشتري خصماً عن الغائب، وإن لم يقم له بينة على ذلك؛ لأن المشتري صدقه فيما ادعى من رضا الآمر، ثم حضر الآمر في مدة الثلاث وأنكر الرضا وادعى أنه نقض البيع بمحضر من البائع، ذكر أن الشراء يلزم المشتري ولا يلزم الآمر، حتى لا يكون

للوكيل أن يرجع على الآمر بالثمن مدفوعاً إليه؛ لأن المشتري بإقراره أن الآمر رضي أقر على نفسه بسقوط حقه في الخيار ووجوب الثمن، وعلى الآمر بالرجوع بالثمن، فإذا أنكر الآمر الرضا صح إقرار الوكيل في حقه، ولم يصح إقراره في حق الآمر وصار وجود هذا الإقرار في حق الآمر وعدمه بمنزلة، ولو عدم فقال الآمر في مدة الخيار: كنت فسخت والبائع حاضر كان القول قوله؛ لأنه حكي أمراً يملك استئنافه للحال، ومن حكى أمراً يملك استئنافه للحال، فإنه يصدق فيما حكى، هذا إذا قال الآمر مدة المقالة في مدة الخيار، فأما إذا قال هذه المقالة بعد مدة الخيار فإن البيع يلزمه، ولا يكون مصدقاً فيما حكى؛ لأنه حكى مالا يملك استئنافه للحال فلزمه البيع بمضي المدة، لا بإقرار المشتري.l ومما يتصل بهذا النوع: إذا باع الوصي أو الأب شيئاً من مال الصغير وشرط الخيار لنفسه فهو جائز، فإن بلغ الصبي في مدة الخيار تم البيع وبطل الخيار في قول أبي يوسف، وقال محمد في ظاهر الرواية: ينتقل الخيار إلى الصبي، فإن أجاز البيع في مدة الخيار، وإن رد بطل، وجه قول أبي يوسف أن الخيار إنما يثبت حقاً للعاقد، لكونه من حقوق العقد وقد تعذر استيفاؤه بعد البلوغ لانقطاع الولاية فيسقط، ولا ينتقل إلى غير العاقد كما لا ينتقل إلى غير الوارث بعد موت المورث. وجه قول محمد: أن الخيار من حقوق العقد والعقد وقع للصغير فكذا الخيار، إلا أنه كان يستوفيه بنفسه لعجزه، فإذا قدر على الاستيفاء بالبلوغ يستوفيه، نظيره الملك، فإن الملك فيما يشتريه الأب والوصي للصغير يقع للصغير، إلا أنه كان يَتَصرف في ملكه بنفسه لعجزه، فإذا قدر على التصرف بالبلوغ فلا كذا ههنا. إذا ثبت أن الخيار للصبي بعد البلوغ على قول محمد يقول ليس للوصي أن يجيز وله أن يفسخ؛ لأن ولاية الإجازة بحكم الخيار ولم يبق له الخيار بعد البلوغ لانقطاع الولاية، أما يَملك الفسخ؛ لأنه لما شرط الخيار فقد بين أنه لم يرض بالتزام العهدة إلا عند وجود الإجازة منه، فإذا انعدمت الإجازة منه كان له أن يفسخ دفعاً للعهدة عن نفسه، ويجوز أن يثبت حق الفسخ للإنسان، وإن لم يكن له ولاية الإجازة كالفضولي إذا باع مال الغير كان له الفسخ قبل إجازة المالك، ولا يكون له أن يجيز كذا هنا. وفي «النوادر» عن محمد ثلاث روايات، قال في رواية مثل ما قال أبو يوسف، وقال في رواية: ينتقض العقد؛ لأنه تعذر القول ببقائه مع الخيار وبدون الخيار، وقال في رواية: ينتقل الخيار إلى الصبي، واختلفت الروايات عن محمد في مضي المدة، قال في رواية: يلزم العقد لاستحالة بقاء الخيار بعد المدة، وفي رواية لا يلزم إلا بإجازته؛ لأن عنده الإجازة في معنى إنشاء العقد، فيجعل البلوغ الطارئ على العقد قبل الإجازة بمنزلة المقارن للعقد، ولو كان مقارناً للعقد بأن باع فضولي مال الغير وشرط الخيار لنفسه لا يلزم العقد من غير إجازة المالك، وإن مضت مدة الخيار فهنا كذلك. ولو باع المكاتب وشرط الخيار لنفسه فعجز في الثلاث تم البيع في قولهم؛ لأن

المكاتب عاقد لنفسه فكان الخيار ثابتاً له أصلاً والعجز أوجب بطلان ولايته فصار كموت من له الخيار وكذلك المأذون (88أ3) إذا حجر عليه المولى في الثلاث بطل خياره لما مر. ولو اشترى الأب أو الوصي شيئاً بدين في الذمة وشرط الخيار، ثم بلغ الصبي فأجاز الأب أو الوصي جاز العقد عليهما، والصبي بالخيار إن شاء أجاز وإن شاء فسخ؛ لأن ولاية الأب والوصي تنقطع عن الصغير بالبلوغ فلم يبق لهما ولاية الإجازة والفسخ في حق الصغير، أما بقي لهما ولاية الإجازة في حق أنفسهما، فإن أجاز الصبي تم البيع في حقه، وإن فسخ زال حق الصغير فيصح الشراء في حق الأب والوصي لوجود الإجازة منه، ونظير هذا الوكيل بالشراء بشرط الخيار للموكل، إذا اشترى وشرط الخيار للموكل، ثم أجاز العقد تعمل الإجازة في حقه دون الموكل، حتى أن الموكل لو رضي بالشراء لزمه البيع، وإن فسخ العقد ورد المبيع لزم الوكيل فهنا كذلك، وإن لم يجز الصبي شيئاً حتى مات الوصي بعد ما رضي بالبيع أو قبل ذلك فاليتيم على خياره، وإن لم يمت الوصي ومات العبد في يد الوصي في وقت الخيار أو بعد مضيه، أو مات اليتيم في وقت الخيار قبل رضى الوصي بالمشترى أو بعده فالشراء لازم للمشتري وسيأتي بعض هذه المسائل يعد هذا في فصل الأب والوصي. نوع آخر في الاختلاف في تعيين المشتري بشرط الخيار عند الرد وإذا اشترى الرجل من آخر شيئاً على أنه بالخيار ثلاثة أيام وقبضه، ثم جاء ليرده على البائع بحكم الخيار فقال البائع: ليس هذا هو الذي بعتك، وقال المشتري: هو ذلك فالقول قول المشتري مع يمنيه؛ لأن في خيار الشرط، المشتري ينفرد بالفسخ فيفسخ العقد بمجرد قوله، وبقي ما قبض في مدة مال البائع، فالمشتري يقول للبائع: مالك الذي قبضت منك هذا، والبائع يقول: غيره، فيكون القول قول المشتري في تعيين المقبوض اعتبر أمانةً كالمودع أو ضماناً كالغاصب، ولو كانت السلعة غير مقبوضة في هذه الصورة فأراد المشتري إجازة العقد في غير يد البائع فقال البائع: ما بعتك هذا، وقال المشتري: لا بل بعتني هذا، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في شيء من الكتب، قالوا: وينبغي أن يكون القول قول البائع، كما ادعى عليه مع هذا العين، وأنكر البائع البيع أصلاً، وقال: ما بعتك شيئاً، ولا يتحقق الخلاف في الفسخ هنا؛ لأن المشتري ينفرد بالفسخ، والمبيع في يد البائع، وإنما يتحقق الخلاف حالة الإجازة، كما إذا ادعى كانت السلعة مقبوضة لا يتحقق الخلاف حالة الإجازة؛ لأنه أجاز والمبيع في يده، إنما يتحقق الخلاف حالة الفسخ هذا الذي ذكرنا إذا كان الخيار للمشتري. فأما إذا كان الخيار للبائع إن كانت السلعة مقبوضة، فجاء المشتري بسلعة ليردها على البائع في مدة الخيار، فقال البائع: ليس هذا الذي بعتك وقبضت مني، وقال المشتري: الذي بعتني وقبضتني هذا فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن الحال لا يخلو

إما أن يدعي البائع هلاك ما باع منه أو ادعى القيام في يده، فإن ادعى ضمان القيمة على المشتري وإن لم يكن واجباً والمشتري ينكر، وإن ادعى القيام فقد تصادقا على أن للمشتري حق الرد؛ لأن للمشتري حق الرد في مدة الخيار حتى يخرج عن ضمان القيمة، إلا أنهما اختلفا في تعيين المقبوض فيكون القول قول المشتري مع يمينه، وإن كانت السلعة غير مقبوضة، فأراد البائع إلزام البيع في عين فقال المشتري: ما اشتريت هذا، ذكر أن القول قول المشتري مع يمينه؛ لأن البائع يدعي عليه ولاية إتمام الشراء في هذا العين، والمشتري ينكر فيكون القول قوله كما أنكر المشتري الشراء أصلاً. نوع آخر في جناية المبيع في البيع بشرط الخيار قال محمد رحمه الله في «الجامع:» رجل باع عبداً على أن البائع بالخيار ثلاثة أيام فقتل العبد قتيلاً خطأً في مدة الخيار، فعلم المولى ذلك، فأجاز البيع وهو عالم بالجناية لم يصر مختاراً للفداء أو صحت الإجازة، لأن الإجازة لا تكون أقوى من ابتداء البيع. ولو باع المولى العبد الجاني ابتداء يجوز، فالإجازة أولى ولم يصر مختاراً للفداء؛ لأنه بالإجازة حصل مزيل له عن ملكه فيصير مختاراً للفداء كما لو باعه أو أعتقه، والجواب ثمة إنما صار مختاراً للفداء؛ لأن بالبيع والإعتاق يبطل حق أولياء الجناية، أما بالإعتاق فلا شك وكذلك بالبيع؛ لأن المشتري لا يُخَيَّر بين الدفع والفداء إذ الجناية لم تكن في ملكه، وهو لا يملك إبطال حق ولي الجناية عن عين العبد إلا بالفداء، فيصير مختاراً للفداء، أما هنا بالإجازة لا يبطل حق ولي الجناية عن عين العبد؛ لأن المشتري تخير بين الدفع والفداء؛ لأن عند الإجازة يثبت الملك له من وقت البيع، ولهذا إذ حصل الولد من المبيعة بشرط الخيار للبائع في مدة الخيار، ثم سقط الخيار بالإجازة فالولد يسلم له، إذا ثبت أن عند الإجازة يثبت الملك للمشتري من وقت البيع، ظهر أن العبد حتى ملكه فيخير، وإذا كان كذلك لم يبطل حق أُولي الجناية عن العبد، فلم يصر البائع مختاراً الفداء. وذكر في كتاب البيوع: إذا باع جارية على أن البائع فيها بالخيار، فملك البائع ولدها في مدة الخيار، يكره للبائع أن يخير البيع في الأم، لما فيه من التفريق بين الوالدة وولدها فجعل الإجازة بمنزلة ابتداء العقد، والفرق: أن الإجازة تشبه ابتداء العقد من وجه، من حيث إن الملك موقوف على الإجازة ويشبه الإمضاء من وجه، من حيث إن الإجازة بعمله للبيع السابق وعند الإجازة يستند الملك إلى وقت العقد حكماً، فكان الملك قبل الإجازة ثابتاً من وجه دون وجه، والملك الثابت من وجه يكفي للخطاب بالدفع والفداء، أصله ملك المكاتب، فإن عبد المكاتب إذا جنى جناية يخاطب المكاتب بالدفع أو الفداء، وإذا ثبت أن الملك من وجه كافي للخطاب بالدفع أو الفداء، وأنه ثابت للمشتري يوجه الخطاب على المشتري بالدفع أو الفداء، فلم يصير البائع مبطلاً حق أولياء الجناية، وهكذا يقول في مثله، مسألة التفريق أن الإجازة تعتبر بإبتداء العقد من وجه لكن

الباب باب الجزئيات، والثابت من وجه ملحق بالثابت من كل وجه في حق الحرمات. فإن قيل: البائع منها يتمكن من فسخ العقد، فإذا لم يفسخ مع التمكن جعل كالمنسي للبيع. كمن وكل رجلاً بطلاق امراءته في صحته ولم يعزل الوكيل حتى طلق امرأته في مرض موته فصار وجعل امتناعه عن العزل بمنزلة إنشاء الوكالة، والجواب عنه وهو الفرق بين المسألتين أن الإمتناع من الفسخ بمنزلة البيع المبتدأ أما ليس ببيع المبتدأ حقيقة، والامتناع عن العزل أيضاً ليس بتوكيل مبتدأ حقيقة، بل هو بمنزلة التوكيل المبتدأ، إلا أن حق المرأة متعلق بماله، فباعتبار الحقيقة لم يصر فاراً، وباعتبار الحكم يصير فاراً، فلا يبطل حقها بالشكل، أما حق أولياء الجناية لم يكن متعلقاً بالفداء فباعتبار الحقيقة لم يثبت حق ولي الجناية، إن كان يثبت باعتبار الحكم، فلا يثبت بالشك والاحتمال، إذا ثبت أن البائع لم يصر مختاراً للفداء كان للمشتري الخيار؛ لأن العبد قد تعيب بعيب في ضمان البائع. (88ب3) فإن رقبته صارت مستحقة بالجناية، فإن اختار المشتري أخذه تخير بين الدفع والفداء لأنه تبين أن العبد جنى على ملكه وأي الأمرين اختار لا يرجع به على بائعه، وإن وجد العيب في ضمان البائع، لأن المشتري رضي بكونه معيباً، وإن اختار المشتري نقض البيع تخير البائع بين الدفع والفداء، لأن الرد بالعيب قبل القبض فسخ العقد من الأصل، فصار كأن البيع لم يكن، ثم ذكر في بعض الروايات: فأي ذلك فعل المشتري تخير البائع، وذكر في بعضها فإن فعل ذلك والمراد فإن رد وهو الصحيح، لأن البائع إنما تخير عند رد المشتري المبيع عليه لا عند الإمضاء، هذا إذا كانت الجناية في يد البائع. وإن كانت الجناية في يد المشتري والباقي بحاله، فالبائع على خياره، لأن الجناية في يد البائع لما لم يبطل خياره، فالخيار في يد المشتري، لأن لا يبطل كان أولى، فإن أجاز البيع جاز ولا يكون للمشتري خيار العيب، لأن عند الإجازة يثبت الملك للمشتري من وقت العقد، فظهر أن العيب حدث على ملكه في ضمانه لا يكون له الخيار، بخلاف الفصل الأول، ثم تخير المشتري بين الدفع والفداء لأن الجناية لو كانت حاصلة في ملكه لا ضمانه، تخير عند استقرار الملك له، فلا تخير هنا والجناية حصلت في ملكه في ضمانه كان أولي، هذا الذي ذكرنا إذا كان الخيار للبائع فجنى العبد جناية أو في يد المشتري، فإن كان الخيار للمشتري وجني العبد جناية في يد البائع كان للمشتري خيار العيب، ليعيب المشترى في يد البائع، ويبقى خيار الشرط أيضاً، لأن في إبقائه فائدة، فإن ولي الجناية ربما يبرئ العبد من الجناية فيتمكن المشتري من الرد بخيار الشرط، فإن اختار الأخذ تخير بين الدفع والفداء، وإن اختار البعض تخير البائع، وقد مر هذا من قبل، ولو كان الخيار للمشتري فجنى العبد في يد المشتري في مدة الخيار، لم يكن له أن يرده على البائع لأن العبد تعيب في مدة الخيار، ولا يكون له ولاية الرد إلا أن يفدي العبد في مدة الخيار له أن يرده بخيار الشرط لزوال العيب، وهو بمنزلة ما لو اشترى عبداً فَحُمَّ في مدة الخيار لا يكون له ولاية الرد، فلو زال الحمَّى يرده بخيار الشرط كذا هنا،

الفصل الثالث عشر: في خيار الرؤية

ولو لم يفد واختار الدفع سقط خيار الشرط وتقرر العبد على ملكه عند الإقدام على الدفع فيجب عليه الثمن. ومما يتصل بهذا النوع رجل اشترى داراً بشرط الخيار للبائع أو للمشتري أو كان البيع فوجد في الدار قتيل، فعلى قول أبي حنيفة: الدية على عاقلة صاحب اليد على كل حال، وعلى قول أبي يوسف ومحمد على عاقلة المشتري إن كان البيع باتاً وعلى عاقلة من يصير الدار له بالفسخ والإجارة إن كان فيه الخيار، فوجه قولهما: أن هذا مؤنة الملك فيدور مع الملك ويتوقف حاله توقف الملك كصدقة الفطر، وإنما قلنا ذلك لأن الدية إنما يجب على عاقلة صاحب الدار لصيرورة صاحب الدار حانثاً بترك الحفظ، والحفظ إنما يجب على المالك، وجه قول أبي حنيفة أن الحفظ أمر حسي فإنما يتأتى بآلة حسية وذلك اليد، وإنما تعتبر تلك الرقبة لتصير اليد محقة وقد تيقنا أن يد صاحب اليد ههنا محقة فلا معتبر بالملك، ثم عندهما إذ كان البيع باتاً والدار في يد البائع حتى وجبت الدية على عاقلة المشتري، لم يذكر في «الكتاب» أن المشتري هل يتخير ويجب أن يتخير، لأن وجود القتيل في الدار ليس يعيب حل بالدار لا حقيقة ولا اعتباراً، فإن الدار لا تصير مستحقة بضمان الجناية، ولا كذلك ما إذا جنى العبد في يد البائع والله أعلم. الفصل الثالث عشر: في خيار الرؤية هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه في بيان صفته وحكمه وفي وضع ثبوته^p يجب أن يعلم أن شراء مالم يره المشتري جائز عندنا، وصورة المسألة: أن يقول الرجل لغيره: بعت منك الثوب الذي في كمي هذا، والصفة كذا، أو الدرة التي في كفي وصفته كذا، أو لم يذكر الصفة، أو يقول: بعت منك هذه الجارية المتبقية، وأما إذا قال بعت منك مافي كمي هذا، أو مافي كفي هذا من شيء، فهل يجوز هذا البيع؟ لم يذكره في «المبسوط» . قال عامة مشايخنا: اطلاق الجواب يدل على جوازه عندنا، ومنهم من قال: لا يجوز ههنا وللمشتري لما لم يره له خيار إذا رآه، الاصل في جواز هذا العقد قوله صلى الله عليه وسلّم «من اشترى شيئاً لم يره فهو بالخيار إذا رآه» ولأن المبيع وإن كان مجهول الوصف إلا أن الجهالة انما تفسد العقد باعتبار الإفضاء الى المنازعة، ألا ترى أن من باع

فقيزاً من صبرة، يجوز وإن كان مجهولاً لأنه (الجهل) يفضي إلى المنازعة ولا منازعة هنا، لأن المشتري بالخيار، فإن وافقه أخذه وإلا رده وهذا الخيار غير مؤقت، بخلاف خيار الشرط، لأن ثبوت هذا الخيار عرف بالحديث الذي روينا وإنه مطلق، فإنه عليه السلام قال: «فهو بالخيار إذا رآه» لايورث، بمنزلة خيار الشرط لأن الثابت ليس إلا ولاية الفسخ والإجازة وأنه لا يبقى بعد موت العاقد، والإرث إنما يجري فيما يبقى بعد الموت وهذا خيار لايسقط بالاسقاط مقصوداً، حتى لو قال: أسقطت خيار الرؤية لايسقط بخلاف خيار الشرط، ولو باع شيئاً يره بأن ورث شيئاً ولم يره حتى باعه جاز البيع، ولا خيار له في قول أبي حنيفة الآخر، وكان يقول أولاً: له الخيار، فعلى قوله الأول قاس جانب البائع بجانب المشتري، وعلى قوله الآخر: فرق بينهما، وكأنه اعتمد على ماروي أن عثمان باع أرضاً كانت له بالبصرة من طلحة فقيل لطلحة: إنك قد عيبت، فقال: لي الخيار لأني اشتريت ما لم أره، وقال عثمان: لي الخيار لأني بعت ما لم أره، فحكما جبير بن مطعم فقضى لطلحة بالخيار، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد. وفي «صرف القدوري» وليس في الدراهم والدنانير خيار الرؤية، وكذلك سائر الديون، لأنه لافائدة في الرد فإن العقد لاينفسخ بردها، لأن العقد لم يرد على عيبها، وإذا رد وقبض ثانيا لابد وأن يثبت خيار الرؤية أيضاً، كما في المقبوض الأول فيؤدي إلى مالا يتناهى، ولو كان إناءً أو تبراً أو حلياً مصوغاً فله فيه خيار الرؤية، لأن الرد مفيد ههنا لأنه يتعين وينفسخ العقد فيه بالرد. ولو اشترى عينا بدين فالخيار للمشتري ولا خيار للبائع، ولو تبايعا عينا بعين، فلكل واحد منهما الخيار، لأن الرد من كل جانب مفيد لأن العقد ينفسخ برد كل واحد منهما ويعود إلى الرادعين ماكان له، وإذا اشترى شيئا قد كان رآه ولا يعرفه، بأن رأى ثوبا في يد إنسان ثم إن صاحب الثوب لفه في منديل وباعه منه، أو رأى جارية في يد إنسان ثم رآها قصة عنده فاشتراها منه ولم يعلم بأنه ذلك الثوب، وتلك الجارية، فله الخيار إذا رآه بعد ذلك لأنه جاهل بأوصاف المعقود عليه وقت العقد وهو العلة الموجبة للخيار. وفي «المنتقى» : إذا عرض (98آ) على رجل جراب هروي فنظر الى كل ثوب ثم ان صاحب الثوب لف ثوباً من الجراب في منديل فاشتراه الذي اعترض الجراب، فله الخيار إذا رآه، وإن كان بين له صاحب الجراب أنه من ذلك حتى بينه إلى شيء يعرفه لأنه جاهل بأوصاف المعقود عليه حالة الشراء فإنه لايدري أن الثوب الذي اشتراه جيداً. وروي في «الأصل» : فلو أراه ثوبين وعرضهما عليه ثم لف أحدهما في منديل ثم اشتراه منه ولم يره ولم يعلم أيهما هو، فهو بالخيار إذا رآه لما ذكرنا أنه جاهل بأوصاف المعقود عليه حالة الشراء فإنه لا يدري أنه جيد أو رديء ولو رآه بالثوبين جميعا قد لف كل واحد منهما في منديل، وقال: هذين الثوبين اللذين عرضت عليك أمس، فقال: أخذت هذا الثوب نفسه بكذا وهذا الثوب بعينه بكذا، ولم يرهما حالة الشراء فهذا على

وجهين أما إن اشتراهما بثمن واحد بأن قال هذا بعشره وهذا بعشرة وفي هذا الوجه لاخيار له لأنه عالم بأوصاف المعقود عليه حالة الشراء حيث سوى بينهما في الثمن لأن ذلك دليل على أنهما كانا مستويين في الوصف وإذا كانا مستويين في الوصف كان عالما بأوصاف المعقود عليه حالة الشراء، وأما ان اشتراهما بثمن مجهول مختلف بأن قال: هذا بعشرة، وفي هذا الوجه له الخيار لأن التفصيل في الثمن دليل على أن أحدهما أجود من الآخر ولم يعلم وقت الشراء أن الذي قاتله العشرين جيد أو رديء ولو قال: أخذت أحدهما بعشرين ولم يُسَلَّم أيهما هو، فإن هذا فاسد لأن المبيع مجهول جهالة يوقعهما في المنازعة، ولو اشترى شيئا قد رآه وعلم وقت الشراء أنه ذلك الشيء، فلا خيار له إلا أن يكون قد تغير عن الحال الذي رآه عليه، وإن ادعى المشتري، التعيين فالقول قول البائع مع يمينه لأن المشتري يدعي عرضاً والبايع ينكر، قالوا: وهذا إذا كانت المدة قريبة يعلم أنه لايتغير في تلك المدة، فأما إذا كانت المدة بعيدة فالقول قول المشتري، لأن الظاهر يشهد له وإليه مال شمس الأئمة السرخسي، قال: أرأيت لو كانت جارية رآها فاشتراها بعد ذلك بعشرين سنة، زعم البائع أنها لم تتغير أكان يصدق على ذلك؟ لاشك أنه لايصدق، وبه كان يفتي الصدر الشهيد حسام الدين والشيخ الإمام ظهير الدين المرغيتاني. وخيار الرؤية يمنع تمام الصفقة حتى أن من اشتري من آخر عدل زطي ولم يره فقبضه وحدث ثبوت عيب فليس له أن يرد منه شيئاً بختار الرؤية، لأنه عجز عن ردها بعيب في يده فلو رد شيئا من الباقي تفرقت الصفقة على البائع قبل التمام وأنه لا يجوز، وكذلك لو لم يتعيب شيء منه وأراد أن يرد بعض الأثواب دون البعض ليس له ذلك، لأن فيه تفريق الصفقة على البائع قبل التمام، ثم إنما منع خيار الرؤية تمام الصفقة لأنه إنما يثبت بسبب جهالة وصف المعقود عليه، وبجهالة أصل المبيع ووصفه أثر في منع الجواز ولزومه، بأن اشترى ثوبا من جملة الثياب لابعينه فجهالة الوصف مع العلم بالأصل في منع اللزوم دون الجواز، عملاً بالدليلين بقدر الإمكان، واذا امتنع اللزوم لم تكن الصفقة تامة، لأن اللزوم من أحكام الصفقة وليس للمشتري أن يخير قبل الرؤية حتى أنه لو أجازه ثم رآه فله أن يرده، ويجوز له أن يفسخ وإن لم يره عند عامة المشايخ، وهكذا روى بشر ابن الوليد عن أبي يوسف في «الأمالي» وهكذا ذكر في «شرح الطحاوي» وفي «القدوري» وهو الصحيح. والفرق وهو أن صحة الفسخ تعتمد عدم لزوم العقد، والعقد ههنا غير لازم ليمكن الخلل في الرضا، أما ولاية الإلزام تعتمد تمام الرضا، وإنما يتم الرضا بعد العلم بأوصاف المعقود عليه وإنه يتحقق قبل الرؤية، والرد بخيار الرؤية فسخ قبل القبض وبعده، حتى لايحتاج فيه إلى قضاء القاضي ولا إلى رضا البائع، لكن لايصح هذا الرد إلا بمحضر من البائع عند أبي حنيفة ومحمد، أما الرضا به يصح بعد الرؤية بمحضر من البائع وبغير محضر منه بالاتفاق، والرضا به على ضربين: رضا بالصريح ورضا بالدلالة،

فالرضا بالصريح: أن يقول بعد الرؤية رضيت أو يقول أجزت، والرضا بالدلالة، أن يراه ثم يشتريه أو يراه بعد البيان فيقبضه، أو يتصرف فيه تصرف الملاك على مايعرف في خيار الشرط، فإذا فعل شيئاً من ذلك سقط خياره وهو النوع الثاني من هذا الفصل، إذا تصرف المشتري في المبيع قبل الرؤية تصرف الملاك فهو على وجهين: إن كان تصرفاً لايمكن فسخه بعد وقوعه ونفاذه نحو الإعتاق والتدبير لزم البيع وبطل خياره، لأنه ملك المشتري قبل الرؤية فتنفذ هذه التصرفات وبعد نفاذ هذه التصرفات يتعذر الفسخ فبطل الخيار ضرورة. وكذلك لو علق بالمبيع حقاً للغير، بأن أجر أو رهن أو باع بشرط الخيار للمشتري، لأن هذه الحقوق مانعة من الفسخ فيبطل الخيار ضرورة، حتى لو انفك المرهون أو مضت مدة الإجازة أو رُدَّ المشترى عليه بشرط الخيار ثم رآه لايكون له الرد، وإن كان تصرفا لم يتعلق به حق الغير، بأن باع بشرط الخيار أو وهب ولم يسلم أو عرض على البيع لايبطل خياره، وإن كانت هذه التصرفات منه بعد الرؤية يبطل خياره، ذكر القدوري هذه الجملة في كتابه، والفرق بين ماقبل الرؤية في حق التصرفات التي لم يتعلق بها حق الغير، أن خيار الرؤية لم يبطل بهذه التصرفات إنما يبطل من حيث إنها دليل الرضا بالامساك لاباعتبار تعلق حق الغير، إلا أن خيار الرؤية لايسقط بصريح الرضا أولى أما بعد الرؤية فبدليل الرؤية أولى، أما بعد الرؤية يسقط هذا الخيار بصريح الرضا فكذا يسقط بدليله أيضا، وروي الحسن عن أبي حنيفة أن المشتري إذا باعه بشرط الخيار لنفسه يسقط خياره. وقيل: تلك الرؤية أصح. وذكر شيخ الاسلام وشمس الأئمة السرخسي في شرحهما أن هذا الخيار يبطل بالعرض على البيع، وذكر القاضي الإمام فخر الإسلام علي السغدي أنه لايبطل كما ذكره القدوري، ورأيت في نسخة أن على قول أبي يوسف لايبطل هذا الخيار بالعرض على البيع، وعلى قول محمد: يبطل، وروي أن هذا الخيار يبطل بنقد الثمن، وقد مر أن خيار الشرط لايبطل بنقد الثمن. وفي «المنتقى» : اشترى شيئا لم يره فقال للبائع: بعه لنفسك فهذا رد البياعة، باعه البائع أو لم يبعه، وقد انتقض البيع، ولو قال ذلك بعد ما رآه لم يذكر هذا الفصل في هذه المسألة، إنما ذكره بعد هذا في مسألة الشاة فقال: إذا اشترى شاة ولم يقبضها قال للبائع بعها أو بعها لنفسك فهو سواء، فإن كان لم يرها فهو البياعة نقض للبيع ورد (98ب) بخيار الرؤية، وإن كان قد رآها لم يكن نقضاً، حتى يقول: قد قبلت ذلك وأنا أبيع، وفيه أيضاً اشترى شاة ولم يقبضها ولم يرها حتى قال للبائع: احلب لبنها وتصدق به، أو قال: فأطعمه عيالك، أو قال صبه في الأرض، ففعل البائع ذلك فإن المشتري قابض لذلك اللبن وقد بطل خيار الرؤية في الشاة. ذكر مسألة الشاة بعد هذا وقال: إذا لم يرها وقال البائع: كل لبنها أو قال: أطعمه عيالك ففعل فهو نقض في اللبن خاصة، ولو قال: احلبها وأطعمته أو قال فاطعمه عيالي فهذا لايبطل خيار الرؤية البياعة، فإن حلبها فأطعمه المشتري والمشتري يعلم أنه لبنها أو

لايعلم، أو كان المشتري لم يأمره بذلك وفعله البائع من قبل نفسه فإن خيار الرؤية في هذا يبطل، ولو كان اللبن محلوبا فقال: بع لبنها أو قال: أطعمه عيالي أو قال: تصدق به ففعل فهو نقص في اللبن خاصة بمنزلة ما لو اشترى عبدين كل واحد منهما بخمسمائة، ولم يرهما ثم قال للبائع: بع فلانا يعني أحدهما بعينه فإن ذلك مناقضة فيه خاصة كذا هنا. واذا اشترى خفافاً لبسه البائع وهو نائم فقام فمشى فيه وذلك ينقضه فقد بطل خيار الرؤية، وإن لم ينقضه لايبطل خيار الرؤية. إذا اشترى دارا ولم يرها فبيعت دار بحيها فأخذها بالشفعة فله أن يرد الدار المشتري بخيار الرؤية، رواه ابراهيم عن محمد. وفي «الأصل» : إذا اشترى عدل زطي لم يره ثم باع ثوبا منه، ثم نظر إلى مابقي ولم يرض به فليس له أن يرد بخيار الرؤية، فإن عاد ما باع الى ملكه بسبب هو فسخ من كل وجه، فله أن يرد الكل بخيار الرؤية، إلا على رواية علي بن الجعد عن أبي يوسف فانه روي عنه أن خيار الرؤية إذا سقط لايعود اليه قديم ملكه بخيار الشرط. وفي «الأصل» : إذا جرح العبد عبد المشتري جرحاً له أرش أو كانت أمة فوطئها غير المشتري بشبهة، فليس له أن يردها بخيار الرؤية، وإن كان وطئها غير المشتري بطريق الزنا أو وطئها المشتري أو كان الجرح من المشتري فليس له الرد إلا أن يرضي البائع في مسائل الثلاث، واذا ولدت ولدا فإن بقي الولد فليس له الرد على كل حال، وإن مات الولد إن أوجبت الولادة نقصاناً ظاهراً فليس له الرد إلا برضى البائع، وإن لم يوجب نقصانا ظاهرا فكذلك على رواية كتاب المضاربة، لأن على رواية كتاب المضاربة الولادة في بني آدم عيب لازم أبداً. وإن كانت شاة فولدت في يد المشتري إن بقي الولد فليس للمشتري أن يردها على كل حال، وكذلك ان قبل الولد وإن مات كان له الرد لأنه لما مات من غير صنع أحد جعل كأن لم يكن فالولادة لا تكون عيباً فيها لأنها لا توجب نقصاناً في البهائم. ولو أن البائع جرح العبد، عبد المشتري ذكر في «الأصل» أنه وجب البيع على المشتري، وعلى البائع القيمة في القتل والأرش في الجراحة، وذكر فصل الجراحة في كتاب الشرب وقال: على قول أبي حنيفة ومحمد يسقط خيار المشتري ويلزمه البيع، وعلى قول أبي يوسف لايسقط خياره، وقال في موضع آخر: على قول أبي يوسف الأول يسقط خياره، وعلى قوله الآخر لايسقط. وفي «نوادر ابن سماعة» أن الخيار لايسقط وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وفي بعض «النوادر» خيار المشتري يسقط بجراحة البائع عند أبي حنيفة، وعندهما لايسقط قالوا: وهو الصحيح. ولو أجاز المشتري العقد في بعض المبيع دون البعض بأن اشترى ثوبين أو عبدين أو ما أشبه ذلك ورآهما بعد ماقبضهما ورضي بأحدهما فقال: رضيته بهذا، لم يجز لما فيه من تفريق الصفقة قبل التمام، والخيار على حاله لأن إلزام بقية المبيع ولم يوجد الرضا به متعذر ورد الباقي وحده متعذر لما فيه من تفريق الصفقة فتعين رد الكل وصار وجود الإجازة في البعض والعدم بمنزلة.

ذكر المسألة على هذا الوجه. ابن سماعة في «نوادره» عن محمد قال ثمة: ولو لم يقل رضيت بهذا، ولكن عرض أحدهما على البيع لم يكن له أن يردهما لأن خيار الرؤية قد سقط حكما للعرض على البيع، وما ثبت حكماً لا يرد، فيلزمه العقد في الآخر ضرورة، قال ثمة: وكذلك لو كانا في يد البائع فرآهما وقبض أحدهما فهو دليل الرضا بهما، وليس له أن يردهما. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف أنه سوى بين الرضا بأحدهما وبين عرض أحدهما على البيع وقال: لايبطل خياره حتى يرضا بهما أو بعرضهما على البيع، فهذا إشارة إلى أنه لو عرضهما على البيع انه يبطل خياره، وقد ذكرنا قبل هذا عن أبي يوسف ان المشتري لو عرض المبيع على البيع لايبطل خياره. وفي «القدوري» عن أبي يوسف لو عرض المشتري بعض المبيع على البيع أنه لايبطل خياره، وفي «المنتقى» أيضاً عن أبي حنيفة فيمن اشترى جاريتين ورآهما ورضي بأحديهما فهو رضا بهما، ولو رأى أحديهما ورضي بهما لم يكن رضا بهما. رجلان اشتريا شيئا لم يرياه وقبضاه ثم نظرا إليه فرضي به أحدهما وأراد الآخر الرد فليس له الرد إلا أن يجمعا على الرد وهذا قول أبي حنيفة. وكذلك إذا كان البائع اثنين والمشتري واحدا والخيار للبائعين فنقض أحدهما وأجاز الآخر لايجوز ما لم يجمعا على الإجازة. رجلين اشتريا جارية قد رآها أحدهما فنظر إليها الذي لم يرها وأجمعا على ردها هو وصاحبه فلهما ذلك، ولو أن الذي رآها قال: قد رضيت وأنفذت البيع قبل أن يرد الذي لم يره كان للذي لم يره أن يرد جميع البيع ورضا شريكه بمنزلة رؤيته. عن أبي يوسف في «الأمالي» اشترى ثوباً لم يره فإذا هو قصير، لايغطيه فأراد أن يرده فقال له البائع: إن الخياط فإن قطعك فأمسكه وإلا فرده فأراه الخياط فإذا لا يغطيه فله أن يرده، وليس هذا كعرضه على البيع، هذا بمنزلة مالو قال: اذهب به فإن رضيته وإلا فرده، وكذلك الخف والقلنسوة وكل شيء بمنزلة صغره أو نقصانه. ولو كان عبداً فوجده أعمى فقال: أريد أن أعتقه عن كفارة يميني فإن أجري وإلا رددته فله أن يرده هذا بمنزلة الصغر. وفي الفتاوي سئل أبو بكر عمن اشترى أرضاً ولها أكار فزرعها الأكار برضا المشتري بأن تركها عليه، على الحالة المتقدمة ثم رآها فليس له أن يردها، لأن فعل الاكار بمنزلة فعل المشتري، وعن محمد فيمن

اشترى تمراً بالري وهو في أوعية فحمله الى الكوفة ولم يكن رآه هل له أن يرده بالكوفة، قال: لا ولكن يحمله إلى الري ويرده ثمنه. وفي «الفتاوي» : إذا اشترى لبنا على أن يحمله البائع إلى منزل المشتري وكان ذلك بالفارسية حتى صح البيع فحمله البائع إلى دار المشتري ولم يكن رآه المشتري، فأراد أن يرده بخيار الرؤية ليس له ذلك، لأنه لو رده يحتاج البائع إلى الحمل فيصير بمنزلة عيب حادث عند المشتري. (90آ) . وفي «المنتقى» : رجل باع جارية بألف درهم وعبد ودفع الجارية وقبض العبد

والألف فرآي ولم يكن رآه قبل ذلك، فرده بخيار رؤية جاز رده ولا ينتقض البيع في جميع الجارية، وإنما ينتقض بحصته العبد فيها ويرجع حصة العبد من الجارية إلى بائعها، وأما حصة الألف من الجارية فلا ينتقض البيع فيها ولا يعود إلى بائعها. بشر عن أبي يوسف في رجل اشترى كري حنطة ولم يرهما قبل القبض أو بعده فله خيار الرؤية فيما بقي. نوع آخر فيما يكون رؤية بعضه كرؤية كله في إبطال الخيار وإذا رأى بعض المبيع ورضي له ولم ير الباقي هل يكون على خياره، فلأصل فيه أن غير المرئي إذا كان تبعاً للمرئي فليس له رد غير المرئي، وإن كان برؤية المرئي لا يعرف حال غير المرئي إن البيع حكمه حكم البيوع فيعتبر مرآها تبعاً للمرئي وإذا سقط الخيار في الأصل سقط في البيع. بيانه إذا اشترى جارية أو عبداً ورأى وجهه ورضي به لا يكون له الخيار بعد ذلك، ولو رأى ظهرها وبطنها ولم ير وجهها فله خيار الرؤية لأن سائر الأعضاء في العبيد والجواري تبع للوجه، ألا ترى أنه تتفاوت القيمة بتفاوت الوجه مع التساوي في سائر الأعضاء، وفي الدواب بشرط النظر إلى مقدمها ومؤخرها هكذا ذكر القدوري قال: لأنه في العادة عند شراء هذه الأشياء ينظر إلى مقدمها ومؤخرها ولا يلتفت إلى شيء آخر فصار ذلك أصلاً وغيره تبعاً، وذكر في موضع آخر عند أبي يوسف يعتبر النظر إلى مقدمها ومؤخرها، وعند محمد يعتبر النظر إلى مؤخرها لا غير. وفي «المتنقى» : قال أبو يوسف في الدواب: يسأل النحاسون فإن قالوا يحتاج مع النظر إلى الوجه والكفل النظر إلى مؤخرها لنقصان كان في مؤخرها من غير عيب فله الخيار ما لم ينظر إلى مقدمها ومؤخرها، وإن كان مؤخرها لا يكون فيه نقصان من غير عيب، لم يكن له خيار إذا نظر إلى مؤخرها. وعند محمد رحمه الله في الداوب: أنه يحتاج إلى النظر إلى وجهها وجسدها، والنظر إلى قوائمها لا يكفي، وعن أبي حنيفة في البرذون والحمار والبغل يكفي أن يرى شيئاً منه إلا الحافر والذنب والناصية، وفي الشاة الفتية لا بد من النظر إلى فرعها وسائر جسدها، وفي شاة اللحم لا بد من الجس حتى يتعين به الهزال والسمن. وفي المنقول إن كان شيئاً مقصوداً منه كالوجه في المعافر وموضع العلم في بعض الثياب فلابد من النظر إلى ذلك الموضع لسقوط الخيار، كذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة، وإن لم يكن شيء منه مقصوداً كالكرباس فإذا نظر إلى ظاهره مطوياً فلا خيار له بعد ذلك، لأن التفاوت بين المرئي وغير المرئي في الكرباس وأشباهه يسير، فإن وجد الباقي مثل ما رآه فلا خيار له وإن وجده دونه فله الخيار. وروى الحسن عن أبي حنيفة إذا اشترى جراب هروي فأراه من كل ثوب قطعة فلا خيار له وإلا له الخيار، قال هشام قلت لمحمد: إذا كان المشترى طنفسة فرأى أسفلها ولم يرى وجهها وموضع الوشي منها، قال: لا خيار له قال هذا شيء واحد وقد ذكرنا قبل هذا بخلافه. وروي عن أبي حنيفة فيمن اشترى بساطاً أن له الخيار حتى يرى جميعه، وما كان له وجهان من ثوبين مختلفين فإنه شرط رؤية كل الوجهين. وعن محمد فيمن اشترى جبة مبطنة ورأى بطانتها ورضي بها لا يبطل خياره حتى يرى الظهارة يريد به إذا كان بطانتها دون ظهارتها كذلك الحكم في كل شيء مبطن بطانته دون ظهارته، وأما السمور وكل شيء بطانته أرفع وأكثر ثمناً من ظهارته فرأى البطانة ورضي بها بطل خياره إلا أن يكون البطانة فائقة يشترط رؤيتها. وفي «فتاوى النسفي» : إذا اشترى مكاعب وقد جعل الوجوه المكاعب بعضها إلى بعض فنظر المشتري إلى ظهورها لا يبطل خيار الرؤية، لأن الوجه أصل والصرم تبع. وإذا اشترى رحا بأداتها شيء تباين لم يره فله الخيار إذا رآه ويرد الكل، وكذلك إذا اشترى سرجابا دابة ورأى ولم يرى اللبد فله الخيار إذا رأه ويرد الكل، وإن كان المشترى داراً إذا رأى حيطانها ولم يرد أجلها ورضي به خيار له بعد ذلك قالوا وهذا إذا لم يكن جوف الدار أبنية، أو كان إلا أنه لا يختلف أبنية ذلك الموضع بل يكون على تقطيع واحداً.d أما إذا كان داخل الدار أبنية وتختلف أبنية دور ذلك الموضع فله الخيار، وما ذكر من الجواب في «الكتاب» فذلك بناء على عادة أهل الكوفة وبغداد فإن أبنية دورهم لا تختلف، وقال زفر: لا يبطل الخيار حتى يرى شيئاً من أرض دهليز أو شيئاً من أرض الدار، وقال الحسن: لا يبطل الخيار حتى يدخلها ويتأمل جوانبها وشخصها وبعض مشايخنا من أهل زماننا قالوا في البيت الصغير وهو الذي يسمي عله جابه إذا رآى خارج البيت ورضي به بطل خياره كما هو جواب «الكتاب» . وفي الدور يعتبر رؤية داخلها كما هو جواب المشايخ، وقالوا أيضاً في الدور أيضاً يعتبر رؤية ما هو المقصود حتى أنه إذا كان في الدار بيتان شتويان وبيتان صيفيان وبيتاً طابق يشترط رؤية الكل كما يشترط رؤية صحن الدار، ولا يشترط رؤية المطبخ والمزبلة والعلو إلا في بلد يكون العلو مقصوداً كما في سمرقند، وبعضهم شرطوا رؤية الكل وهو الأظهر والأشبه. وإن كان المشترى بستاناً يشترط رؤية رؤوس الأشجار ويكتفي بها لأن رؤية رؤوس الأشجار يعرف حال الباقي. وفي كتاب القسمة لم يشترط رؤية رؤوس الأشجار أيضاً، وصورة ما ذكر ثمة إذا اقتسما بستاناً وكرماً فأصاب أحدهما البستان وأصاب الآخر الكرم ولم يرى واحد منها الذي أصابه ولا رأى جوفه ولا نخله ولا شجره ولكنه رأى الحائط من ظاهره فلا خيار لواحد منهما فقد اكتفي برؤية ظاهر الحائط ولم يشترط رؤية رؤوس الأشجار، ويجب أن يكون الجواب المذكور في البستان بناء على عادة بلادهم أما في بلادنا لا يكتفي برؤية ظاهر حائط البستان ولا برؤية رؤوس الأشجار ويشترط رؤية داخل الكرم، لأن داخل الكرم في بلادنا يتفاوت تفاوتاً فاحشاً. وإن كان المبيع شيئاً ففي العدديات المتفاوتة نحو الثياب التي اشتراها في جراب، والبطيخ الذي يكون في السريحة وغير ذلك لا بد من رؤية كل واحد، وإذا رآى البعض فهو بالخيار في الباقي لأن كل واحد مقصود رؤية المرئي لا يعرف حال الباقي، ولكن إذا أراد الرد يرد الكل تحرزاً عن تفريق الصفقة على البائع قبل التمام، وفي العدديات المتقاربة نحو الجوز والبيض رؤية البعض يكفي إذا وجد الباقي مثل المرئي أو فوقه رؤية البعض (90ب3) يعرف حال الباقي والمكيل والموزون

نظير العدديات المتقاربة يكتفي فيه برؤية البعض إذا كان في وعاء واحد بلا خلاف، وإذا كان في وعائين فرأى ما في أحد الوعائين اختلف المشايخ فيه قال مشايخ عراق: إذا رضي بما رأى يبطل خياره في الكل إذا وجد في الوعاء الآخر مثل ما رأى أو فوقه، أما إذا وجد دونه فهو على خياره ولكن إذا أراد يرد الكل وهو الصحيح. وفي «المنتقى» : رجل اشتري من آخر حنطة في بيتين متفرقين فرآى في أحد البيتين ورضي به ثم رآى ما في البيت الآخر فلم يرض به، فإن كان طعاماً واحداً لزمه البيع فيهما، وإن كان الذي رآه أخيراً ليس من الطعام الذي رآه أولاً فله أن يرده عليه، قال: وكذلك الكيل كله والوزن كله. وفيه أيضاً إذا اشترى زقين من السمن أو الزيت أو العسل أو حملين من القطن أو الحب أو الشعير أو شيء من الحبوب ورأى أحدهما ورضي به فليس له أن يرد إلا أن يكون (الأخير) مخالفاً للأول يأخذهما أو يردهما، وهذه المسائل تؤكد قول مشايخ العراق، وإن قال المشتري في هذه الفصول لم أجد الباقي على الصفة التي رأيت المرئي بل هو دونه، وقال البائع: لا بل وجدته على تلك الصفة فالقول قول البائع مع يمينه، وعلى المشتري البينة. وإن كان المعقود عليه شيئاً معيناً في الأرض كالثوم والبصل والشلجم والجزر والفجل فإن كان شيئاً يكال أو يوزن بعد القلع كالجزر والبصل، فإذا قلع المشتري شيئاً منه بإذن البائع أو قلع ورضي المشتري سقط خياره فيما بقي، وإن قلع المشتري ذلك بغير إذن البائع سقط خياره حتى لم يكن له أن يرد رضي بالمقلوع أو لم يرض وجد في ناحية أخرى من الأرض أقل منها أو لم يجد فيها شيئاً إذا كان المقلوع شيئاً له ثمن، وإن كان المقلوع شيئاً لا ثمن له لا يسقط خياره لأنه بالقلع صار معيناً، لأنه كان حياً ينمو أو بعد القلع صار من الموات لا ينمو أو العيب الحاصل في يد المشتري يمنع الرد بخيار الرؤية فيمتنع الرد إلا إذا كان المقلوع شيئاً لا ثمن له وجوده وعدمه بمنزلة فكأنه لم يقلع شيئاً. وإن كان ذلك شيئاً يباع عدداً كالفجل فرؤية البعض لا يبطل خياره فيما بقي إذا حصل القلع من البائع أو من المشتري بإذن البائع، وإن كان قلع المشتري بغير اذن البائع وكان المقلوع شيئاً له ثمن يسقط خياره لأجل العيب هكذا ذكر في «الأصل» . وفي «القدوري» إذا اشترى معيناً في الأرض كالجزر والبصل فله الخيار إذا رآى جميعه، وإن رآى بعضه ورضي به فهو على خياره في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: إذا قلع شيئاً يستدل به على الباقي في عظمه ورضي به المشتري فهو لازم. وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن رجل اشترى عشرة أجربة جزر في الأرض فقبض الأرض وبعث الغلام وأمره بقلع الجزر فقلع كله، ثم جاء المشتري هل له خيار الرؤية قال: نعم، قلت: قد نقصه القلع ثلث القيمة، قال: وإن نقصه لأنه لم ينقصه من عيب إنما نقصه من شعر، وإن كان المشتري هو الذي قلع فإذا قلع منه شيئاً قدر الكفين، أو قال ما يدخل في الكيل قدر ما يستدل به على الباقي فإنه إذا ما أقلع الباقي

لزمه ذلك كله بمنزلة متاع اشتراه، فإذا قبضه بعد الرؤية أو قبض بعضه لزمه وانقطع خيار الرؤية. وإذا اشترى دهناً في قارورة فنظر إلى القارورة ولم يصب على راحته يعني كفه أو على أصبعه منه شيئاً فهذا ليس برؤية عند أبي حنيفة، وعن محمد فيه روايتان. وفي «المنتقى» عن محمد: إذا رآى عنب كرم فله الخيار حتى يرى من كل نوع منها شيئاً، وفي النخل إذا رآى بعضه ورضي به بطل خيار الرؤية وجعل رؤية نوع من أنواع النخل جائزاً على كله. وإذا اشترى رماناً حلواً وحامضاً ورآى أحدهما فله الخيار إذا رآى الآخر، وفيه أيضاً إذا اشترى حمل نخل فرأى بعضه ورضي به لم يلزمه البيع حتى يرى كله ويرضى به، وكذلك الثمار الظاهره كلها ما يدخل منها في الكيل والوزن وما يدخل في العد بعد أن يكون في رأس النخل والشجر وليس هذا كالذي قد جمع وخلط وجعل في موضع واحد. وفي «البقالي» : وإذا اشترى وزناً من تراب المعدن بعينه فله الخيار إذا خرج ما فيه، أيضاً رؤية أحد المصراعين أو أحد الخفيين أو النعليين لا يكفي. وفي «فتاوى» إذا اشترى نافجة مسك وأخرج المسك منها فليس له أن يردها برؤية أو عيب لأن الاخراج يدخل فيه عيباً حتى لو لم يدخل كان له أن يرده بها والله أعلم. نوع آخر في شراء الأعمى شراء الأعمى وبيعه جائز وهو بمنزلة البصير الذي لم ير بلمسه وحشة بمنزلة النظر من الصحيح، وفي المشمومات يعتبر الشم وفي المذوق يعتبر الذوق لأن هذه الأشياء مما يعرف بعض أوصاف المبيع فيقام مقام النظر حالة العجز، كما تقام الإشارة من الأخرس مقام النظر للعجز، وأما الثوب فلا بد من صفة وبيان طوله ورفعته لأنه أقصى ما يستدل به على أوصافه وسقوط اعتبار النظر كان لضرورة العجز ولا ضرورة في الأقصى، فيعتبر إذا اشترى التمر على رؤوس النخيل يعتبر الصفة لأنه هو الممكن، وكذلك العقار وقيل: يلمس الحائط والبيتان، وروي عن أبي يوسف أنه يوقف في مكان يصير حصل له العلم، وفي الحقيقة لا اختلاف بين الروايات والمنظور في الروايات كلها أقصى ما يتصور. وعن أبي حنيفة رحمه أنه يوكل بصيراً حتى يقبضه الوكيل وهو ينظر إليه، وهذا أصله مستقيم فإن عنده الوكيل بالقبض يملك إسقاط خيار الرؤية على ما نبين هذا إن شاء الله تعالى. ولو وصف له ثم أبصر فلا خيار له لأن العقد قد تم حين وصف له وسقط الخيار فلا يعود بعد ذلك، ولو اشترى البصير ثم عمي انتقل الخيار إلى الصفة لأن المعنى أن قل للخيار من النظر إلى الصفة العجز وفي هذا كونه أعمى وقت العقد وصيرورته أعمى بعد العقد قبل الرؤية سواء.

نوع آخر في الاختلاف في الرؤية إذا اختلف البائع والمشتري في رؤية ما اشترى فالقول قول المشتري مع يمينه، لأن البائع يدعي عليه أمراً حادثاً وهو لزوم العقد بسبب حادث وهو الرؤية والمشتري ينكر فالقول قول المنكر، ولو أراد المشتري أن يرده فقال البائع: ليس هذا هو الذي بعتك وقال المشتري: هو ذلك فالقول قول المشتري، لأن في خيار الرؤية المشتري ينفرد بالفسخ فينفسخ العقد بقول المشتري، ويبقى الاختلاف في المقبوض فيكون القول فيه قول القابض كما في باب الغصب والوديعة وما أشبه ذلك. وإن كان المشترى محدوداً وأقر المشتري بقبض المحدود المشترى ثم قال بعد ذلك: لم أر جميع المحدود لا يقبل قوله لأن القبض في المحدود لا يتصور (91أ3) بدون الرؤية فالإقرار بقبض المحدود المشترى ينقض دعواه عدم الرؤية في بعضه. نوع آخر في الوكيل والرسول قال محمد رحمه الله في الجامع الصغير: عن أبي حنيفة إذا اشترى طعاماً لم يره ووكل وكيلاً بقبضه فقبضه الوكيل بعد ما رآه ونظر إليه فللمشتري أن يرده، وقال أبو يوسف ومحمد: الوكيل والرسول سواء، للمشتري أن يرده إذا رأه إن شاء وإن شاء أخذه. أصل المسألة أن الوكيل بالقبض يملك إبطال خيار الرؤية عند أبي حنيفة وعندهما لا يملك إبطاله، عند أبي حنيفة بأن يقبضه وهو ينظر إليه فأما إذا قبضه مستوراً ثم أراد بعدما نظر إليه ابطال الخيار قصداً فليس له ذلك، فوجه قولهما أن التوكيل تناول القبض وإبطال خيار الرؤية ليس من القبض في شيء، ولهذا لا يملك إبطاله مقصوداً، ولهذا لا يملك إبطال خيار الشرط ولا إبطال خيار العيب. ولأبي حنيفة أن التوكيل بالشيء توكيل بما هو تمامه ألا ترى أن التوكيل بالخصومة توكيل بالقبض الذي هو من تمام الخصومة، وإتمام القبض بإبطال خيار الرؤية لأن تمام القبض بتمام الصفقة، والصفقة لا تكون تامة مع خيار الرؤية فيضمن التوكيل بالقبض توكيلاً بالرؤية المسقط للخيار ومقتضي تتميم القبض لا مقصوداً فيملك إسقاط الخيار مقتضي تتميم القبض ولم يملك إسقاطه مقصوداً لهذا. وأما خيار الشرط فقد ذكر في «القدوري» أن من اشترى شيئاً على أنه خيار فوكل وكيلاً بقبضه فقبضه بعد ما رآه فهذا على هذا الخلاف أيضاً، وإن سلمنا فلأن خيار الشرط لا يحتمل البطلان مقتضي تتميم القبض، ولهذا لا يبطل خيار الشرط لو قبضه المشتري بنفسه. وأما خيار العيب فقد ذكر الفقيه أبو جعفر أنه يبطل بقبض الوكيل بالقبض والصحيح أنه لا يبطل، وإليه أشار في «الأصل» : لأنه لا يمنع تمام القبض فلا يتضمن الوكيل بالقبض توكيلاً بإبطال خيار العيب. وأما الرسول فقلنا: الرسول ليس إليه إلا تبلغ الرسالة أما تتميم ما أرسل لا إلى

الفصل الرابع عشر: في العيوب

الرسول هذا هو الكلام في الوكيل بالقبض. أما الوكيل بالشراء فرؤيته كرؤية الموكل بالإتفاق بخلاف الرسول بالشراء فإن رؤيته لا تكون كرؤية المرسل. وإذا وكل إنساناً أو أرسله قبل الشراء حتى رآه ثم اشتراه الموكل والمرسل بنفسه يثبت له خيار الرؤية، وإذا اشترى شيئاً لم يره قال لغيره أني اشتريت سلعة فاذهب وانظر إليه، فإن كان يصلح فارض بها وخذه أو قال: فإن رضيت بها فخذه فذهب ورضي. ذكر شيخ الإسلام في باب الخيار بغير شرط أن هذا لا يجوز، ورأيت في موضع آخر أن هذا لا يجوز عند أبي يوسف ومحمد، وأما علي قول أبي حنيفة إن قيل يجوز فله وجه، وإن قيل لايجوز فله وجه. الوكيل بالشراء إذا اشترى شيئاً لم يره وقد كان رآه الموكل ولم يعلم به الوكيل يثبت للوكيل خيار الرؤية ذكره شيخ الإسلام في «شرح كتاب المضاربة» . الفصل الرابع عشر: في العيوب هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضاً: نوع منه في بيان معرفة العيب قال القدوري في «كتابه» : كل ما يوجب نقصاناً في الثمن في عادات التجار فهو عيب لأن المالية مقصودة في البيع وما ينقص الثمن ينقص المالية فكان عيباً، وذكر شيخ الإسلام خواهرزاده أن ما يوجب نقصاناً في العين من حيث المشاهدة والعيان فهو عيب وذلك كالسلل في أطراف الجواري والهشم في الأواني، وما لا يوجب نقصاناً في العين من حيث المشاهدة والعيان ولكن يوجب نقصاناً في منافع العين فهو عيب لأن الأعينان يقصد بها المنافع، ومالا يوجب نقصاناً في العين ولا منافع العين إلا أن يعتبر فيه عرف الناس أن عدوه عيباً كان عيباً ومالا فلا، إذا ثبت هذا العمى والعور والحول والإصبع الزائدة والناقصة عيب لما قلنا، والولادة القديمة ليست بعيب، على رواية «كتاب المضاربة» عيب، حتى إن من اشترى جارية قد ولدت عند البائع لا من البائع أو عند بائع البائع ولم يعلم المشتري بذلك وقت العقد فعلى رواية كتاب البيوع ليس له أن يردها بخيار العيب إذا لم يتمكن بسب الولادة نقصاناً ظاهراً. وعلى رواية «كتاب المضاربة» يرد وإن لم يتمكن بسبب الولادة نقصاناً ظاهراً، وفي البهائم لا يرد ما لم يمكن بسبب الولادة نقصاناً ظاهراً باتفاق الروايات، والحبل في الجارية عيب يزول بالولادة على رواية «كتاب البيوع» لأن على رواية «كتاب البيوع» نفس الولادة ليس بعيب، فإذا قبضها ووجدها حاملاً فولدت فلا رد ولا رجوع إلا أن يتمكن بسبب الولادة نقصان ظاهر، وفي البهايم الخبل ليس بعيب وترك الختان في الجارية والغلام ليس بعيب إذا كانا محلوبين سواء كانا صغيرين أو كبيرين لأن الكبار لا يختنون،

وإن كانا صغيرين فكذلك، وإن كانا كبيرين فهو عيب فيوجب نقصاناً في الداب والمراد من الكبير البالغ، والزنا في الجارية عيب وليس بعيب في الغلام إلا أن يكون مديماً على ذلك، وهذا لأن الاستفراش مقصود من الجواري والزنا يخل به لأن الزانية لا تستفرش عادة، والمقصود من العبيد الأعمال خارج البيت والزنا لا يخل به إلا إذا اعتاد ذلك يكون عيباً لأن ذلك يضعفه ويعجزه عن الأعمال. وفي الإجازة إذا اشترى جارية كانت زنت في يد البائع فله أن يردها وإن لم تزن عند المشتري، وإذا كانت الجارية ولد لزنا فهو عيب وليس عيب في الغلام. وفي «البقالي» لو كان أبوها أو جدها لغير رشد فهو عيب: وفي «نوادر ابن رشيد» عن محمد إذا كان أبوها لغير رشد فهو عيب عندي في الجواري اللاتي يتخذن أمهات الأولاد، وأما غير ذلك فليس بعيب إلا أن يكون عيباً عند النخاسين. وفي «المنتقى» : شرب النبيذ مما لا يحل ليس بعيب في الجارية والغلام ولكنه عيب في دينه، وفيه أيضاً والشجر فيهما عيب ويحتمل أن يكون المروي والشجر بالجيم وفتح الشين وفارسيته سوختكي براندام. والبخر والدفر في الجواري عيب وفي العبيد ليس بعيب لأن الاستفراش مقصود من الجارية وأنه لا يحصل بهما والمقصود من العبير العمل، وعن هذا قيل أن كثرة الأكل عيب في الجواري دون العبيد لأنها تورث التخمة فتخل به الاستفراش، وفي بيوع «الأصل» الدفر في العبيد ليس بعيب إلا أن يكون من داءه، موضع آخر من «المنتقى» الدفر ليس بعيب لا في الجارية ولا في الغلام بخلاف البخر في الجواري، وفي موضع آخر منه الدفر ليس بعيب إلا أن يكون من داء فيكون عيباً في الجارية دون الغلام. وفي «البقالي» البخر والدفر ليس بعيب في الغلام إلا أن يكون فاحشاً، وفي «النوادر» الدفر ليس بعيب إلا أن (91ب3) يوجب نقصاناً فاحشاً بأن يؤخذ رائحة ذلك يؤخذ منه، وذكر شمس الأئمة السرخسي إلا يكون ذلك فاحشاً لا يكون في الناس مثله فذلك يكون الداء في الباطن. والنكاح عيب في الجارية والغلام وكذلك الدين عيب في الجارية والغلام وانقطاع الحيض في البالغة عيب، لأن انقطاع الحيض في أوانها يكون لداء في باطنها إلا أن دعوى المشتري لا تسمع ما لم يدع انقطاع الحيض بالحبل أو الداء، وسيأتي ذلك في موضعه. والاستحاضة عيب أيضاً (لأنها) علامة المرض ولا يقبل قول الأمة في الفصلين جميعاً إلا رواية عن محمد. والكفر عيب في الجواري والعبيد لأن المسلم لا باء ثمنه على نفسه ولا على مصالح الدينية من اتخاذ ماء الطهارة وحمل المصحف وكذلك في المعاملات، لأنه ربما يوكله من الحرام. والبخر عيب وهو الانتفاخ تحت السرة، الأدر عيب وهو عظم الخصيتين، وسيلان الماء من المنخر عيب، والعسر وهو أن يعمل بيساره ولا يعمل بيمنه عيب، والسن السوداء والخضراء عيب وفي الصفراء

اختلاف الروايات، والغناء في الجارية التي تتخذ أم ولد عيب، والعدة عن الطلاق الرجعي في الجارية عيب وعن الطلاق البائن ليس بعيب، لأن المشتري يتمكن من إزالته من غير مؤنة تلحقه وهذا هو الأصل أن كل عيب يتمكن المشتري من إزالته من غير مؤنة تلحقه وكان المبيع بحال إذا أزيل العيب عنه لا ينتقص فهو ليس بعيب يوجبه الرد كما في مسألة الإحرام، وكما إذا اشترى ثوباً بخساً ولم يعلم به، ثم علم وكان الثوب بحال إذا غسل الثوب لا ينتقص الثوب لا يكون له حق الرد على ما هو المختار للفتوي في تلك المسألة. والعنة والخصاء عيب. ذكر في «العيون» : والسن الساقط عيب ضرب كان أو غيره هو الصحيح، والظفر الأسود عيب إذا كان ينتقص الثمن، والثؤلول والخال كذلك عيب إذا كان ينتقص الثمن، والصهوبة في الشعر وفارسيته موري خرما كون عيب، والتخنث في الغلام عيب حتى لو وجده خنثاً رده بالعيب، لأن هذا مما يعده التجار عيباً قالوا: وهذا إذا كان التخنث من حيث العمل القبيح يأتي بالأفعال القبيحة، أما إذا كان التخنث من حيث المشية والقول لا يرد لأنه لا يعد عيباً، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يحكي عن استاذه هذا إذا كان تخنثاً في الرد من أفعاله حتى كان يخالطه النساء ويفسدهن أما إذا كان به نوع رعونة ونوع تخنث للابن في صورته ويكسر في مشيته، فإن كان ذلك يسيراً لا يكون عيباً وإن كان فاحشاً يكون عيباً. والغشاء عيب وتفسيره عند بعضهم ضعف في البصر وعند بعضهم أن لا يبصر عند أدنى الظلمة، والعفل عيب وهو أن يكون المال منها شبه الكيس، والعتق عيب، قيل: معناه أن يصير المسلك واحداً، وقيل: معناه ريح في المثائة ربما يهيج بالإنسان فيقبله، والسلعة عيب وهو القروح التي في العتق يسمى بالفارسية «حول والكي» عيب إلا أن يكون سمه كما يكون في بعض الدواب والفحج عيب وهو في الأدمي يقارب صدور قدميه وتباعد عقبيه، والفدع عيب والمصدر أفدع وهو المعوج الرسمي، والحنف عيب وهو إقبال كل واحد من الإبهامين على صاحبه، والصدق عيب وهو يوسع مفرط في الغنم، والشتر عيب وهو انقلاب في الأجفان وبه كان يسمى «اليسر ناخنة وبادسيل سوي درجشم أبي درجشم» كل ذلك عيب، والجرب في العين في غير العين والسرقة والبول في الفراش، والأباق في حالة الصغر قبل أن يأكل واحده وقبل أن يشرب وحده ليس بعيب هذا هو لفظه «القدوري» وبعد لك هو عيب ما دام صغيراً فإذا بلغ فهو عيب أخر سوي الذي كان حتى لو أبق أو سرق في يد البائع قبل البلوغ ثم فعل عند المشتري بعد البلوغ لم يكن له أن يرده. وفي «المنتقى» : إذا اشترى عبداً يفعل البيع والشراء والأباق والسرقة والبول في الفراش فتقيد المسألة بالذي يعقل البيع والشراء دليل على أنه إذا كان لا يعقل البيع والشراء فهذه الأشياء منه لا تكون عيباً، وذكر في موضع آخر من «المنتقى» ما ذكر في «القدوري» . ومن مشايخنا من قال: إنما تكون هذه الأشياء عيب إذا كان الصغير بحيث يميز أما

إذا كان صغيراً جداً لا يكون عيباً، وبعض مشايخنا قالوا: البول في حالة الصغر إنما يكون عيباً إذا كان ابن خمس فما فوقه أما إذا كان ابن سنة أو سنتين فليس ذلك بعيب. فأما الجنون فهو عيب واحد في حالة الصغر والكبر حتى لو جن في يد البائع قبل البلوغ ثم جن عند المشتري بعد البلوغ فله الرد، وتكلم المشايخ في مقدار ما يكون عيباً من الجنون. قال بعضهم: إن كان أكثر من يوم وليلة فهو عيب فما دونه فليس بعيب، وقال بعضهم: المطبق عيب وغير المطبق ليس بعيب. والسرقة وإن كانت أقل من عشرة دراهم عيب لأن السرقة أنما كانت عيباً، لأن الإنسان لا يأخذ ثمن السارق على مال نفسه، وفي حق هذا المعنى العشرة وما دونه سواء، وقيل: ما دون الدرهم نحو فلس أو فلسين أو ما اشبه ذلك ليس بعيب، والعيب في السرقة لا يختلف بين أن يكون من المولى أو غيره إلا في المأكولات فإن سرقه من المولي لأجل الأكل لا يعد عيباً ومن غير المولي يعد عيباً، وسرقة ما يؤكل لا لأجل الأكل بل لأجل البيع عيب من المولى وغيره، وإذا وهب البت ولم يختلس فهو عيب.m والإباق ما دون السفر عيب بلا خلاف بين المشايخ وتكلموا في أنه يشترط الخروج من البلدة، وهذا لأن الإباق إنما كان عيباً لأنه يوجب فوات المنافع عن المولى وفي حق هذا المعنى السفر، وما دون السفر سواء. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: في رجل اشترى أمة وأبقت عنده ثم وجدها واستحقها مستحق ببينة فذلك الإباق لزم لها أبداً، وكذلك لو أبقت من الغاصب إلى أن مولاها فهذا ليس بإباق وإن أبقت فلم يرجع إلى الغاصب ولا إلى المولى وهو يعرف منزل مولاها ويقوى على الرجوع إليه فليس بعيب، وإن أبقت في دار الحرب من المغنم قبل أن يقسم ثم ردت إلى المغنم فهذا ليس باباق، وإن بقيت في المغنم أو قسمت فوقعت في سهم رجل فأبقت في دار الحرب تريد الرجوع إلى أهلها أو لا تريد فهو إباق وهو عيب. ثم اختلف المشايخ في فصل الجنون أن معاودة الجنون في يد المشتري هل هو شرط للرد، بعضهم قالوا: أنها ليست بشرط بل إذا ثبت وجوده عند البائع يرد به، وإليه مال شمس الآئمة الحلواني وشيخ الإسلام خواهرزاده، وهو رواية «المنتقى» فقد نص في «المنتقى» أنه إذا جن في صغره أو كبره مرة واحدة فذلك عيب فيه أبداً ولم يعادوه وفي الجامع الصغير يقول: الجنون عيب أبداً، وهذا لأن الجنون آفة تحل بالدماغ وهي إذا تمكنت لا تزول هكذا قاله أهل الطب، وإذا بقت في نفسه كان للمشتري (92أ3) حق الرد ان لم يجن في يده، وبعض مشايخنا قالوا: المعاودة في يد المشتري شرط وهو المذكور في «الأصل» وفي «الجامع الكبير» إذا ليس من ضرورة وجود هذه الآفة بقاؤها والله تعالى قادر على أن يزيل تلك الآفة بكمالها، وإن سلمنا أن تلك الآفة لا تزول بالكلية إلا أن مايبقى منها بعد زوال الجنون الظاهر إلا بعد عيبا لأنه يفوت بها شيء من المنافع وفيها عد الجنون من السرقة والإباق والبول على الفراش ذكرها شمس الأئمة الحلواني في شرحه ظاهر أن لايشترط المعاودة في يد المشتري.

ومن المشايخ من قال: يشترط قال رحمه وهو الصحيح، وبعضهم ذكر في شروحهم إن معاودة هذه الأشياء في يد المشتري شرط بلا خلاف بين المشايخ هكذا ذكر في عامة الروايات. وذكر في بعض روايات «كتاب الاستخلاف» أن المعاودة في يد المشتري ليس بشرط. وإذا اشترى جارية فوجدها ذميمة أو سوداء ليس له حق الرد بالعيب إذا كانت تام الخلقة. وإذا اشترى غلاماً أمرد فوجده محلوق اللحية فهو عيب في فتاوي أبي الليث، وسيأتي فرع هذه المسألة بعد هذا ان شاء الله تعالى. وإذا اشترى جارية تركية لا تعرف التركية أو لا تحسن والمشتري عالم بذلك إلا أنه لا يعلم أنه عيب عند التجار فقبضها ثم علم أنه عيب فإن كان هذا عيبا بينا لايخفى على الناس كالعور ونحوه لم يكن له أن يردها، لأنه لم يرمز به، وإذا اشترى جارية هندية لا تعرف الهندية، ينظر إن عده أهل المصر عيبا فله الرد وإن لم يعدوه عيباً فليس له الرد بخلاف المسألة الأولى، لأن ذلك عيب عند أهل البصر لامحالة ولا كذلك المسألة الثانية قيل: إذا كان لايعرف الترك والهندي فإن كان جلباً فالجواب ما ذكرنا، وإن كان مولداً فهو ليس بعيب. وإذا اشترى جارية فوجد بها وجع الضرس يأتي مرة أخرى فإن كان حديثاً فليس له الرد وإن كان قديما فله الرد لأنه علم أنه كان في يد البائع. في فتاوي أهل سمرقند وإذا كان بها حمى غبت في يد البائع فزال ثم عاد في يد المشتري إن عاد في يد المشتري غباً فله الرد لا تحاد السبب فإن اتحاد السبب يوجب اتحاد الحكم، وإن عاد في يد المشتري وبها فليس له أن يرد لاختلاف السبب، فإن إختلاف السبب يوجب اختلاف الحكم. وفي «فتاوى الفضلي» : اشترى عبدا فأصابه في يد المشتري حمى وقد أصابه في يد البائع فإن أصابه في يد المشتري لوقته فله الرد لأنه إذا أصابه لوقته علم أنه يولد بالسبب الذي كان يتولد عند البائع وأنه ذلك الحمى بعينه حكماً، وإن أصابه لغير وقته لايرد لأنه يولد من سبب آخر فكان حمى آخر فلا يكون له الرد به. وإذا اشترى جارية ثيباً على أن البائع لم يطأها ثم ظهر أنه قد كان يطؤها قبل البيع فليس له الرد في «الزيادات» في باب الكسب والعلة في الشرح. وفي الزيادات إذا اشترى جارية فوجدها مخترمة الوجه بحيث لايستبين لها صح ولا جمال كان له حق الرد لفوات صفة السلامة، فإن امتنع الرد بسبب من الأسباب فوهب مخرمة الوجه كما هي وقومت صحيحة غير محترمة الوجه، ولكن على الصح لاعلى الجمال فيرجع بفضل مابينهما، وإنما قومت على الصح لاعلى الجمال لأن المستحق بالعقد السلامة عن العيوب دون الجمال، ألا ترى لو اشترى جارية فوجدها مستحة وهي سليمة عن العيوب لايكون له حق الرد بسبب العيب، وهذه المسألة نص أن الفتح في الجواري ليس بعيب. رجل اشترى من آخر غلاماً بركبته ورم فقال البائع: إنه ورم حديث أصابه ضرب فأورمه فليس بقديم فاشتراه المشتري على ذلك ثم ظهر أنه قديم فليس له أن يرده لأنه رأى العيب ورضي به، وكل عيب قديم حديث في أوله. وكذلك إذا قال البائع: إن كان قديماً

فجوابه علي ثم تبين أنه قديم فليس له الرد، وكذلك إذا اشترى على أنه حديث فإذا هو قديم ليس له الرد ذكر المسألة في «فتاوى الفضلي» قيل: المسألة مشكلة فإنه إذا اشترى غلاماً به حمى فقال البائع: إنه غب واشتراه على ذلك فإذا هو ربع أو عكس فإنه يرده وهذا الإشكال ليس بشيء لأن هناك عاين الغب ورضي به وقد ظهر الربع والربع غير الغب لاختلاف مادتهما، ألا ترى أنه تختلف النوبة، والذي ظهر لم يعاينه ولم يرض به، فأما الورم بهذه الصفة قد يكون قديماً وقد يكون جديداً، وقد وقعت في زماننا واقعة من جنس مسألة ورم فقد باع واحد من الفقهاء فرساً وقد ظهر بإحدى رجليه فرجة هي أثر الحسام، فافتى ظهير الدين المرغيناني للمشتري ليس له الرد وقاسه على مسألة الورم. وفي «صلح الفتاوى» : اشترى جارية وبها قرحه ولم يعلم المشتري أنها عيب فله الرد، وهذه تخالف مسألة الورم لأنه إذا لم يعلم أن هذه القرحة عيب لايكون راضيا بالعيب والصحيح من الجواب في مسألة القرحة أنه إن كان عيباً بيناً لايخفى على الناس لايكون له الرد لأنه قد رضي بالعيب وإن لم يكن هذا عيباً بيناً فله الرد. وفي «صرف القدوري» : إذا قال: أبيعك هذه الدراهم وأراها إياه ثم وجدها زيوفاً قال: يستبدلها إلا أن يقول هي زيوف أو يبرأ عن عيبها. ومن جنس مسألة الورم مسائل ذكرها في «فتاوى أبي الليث» . صورتها: إذا اشترى من آخر سويقاً على أن البائع لته بمن من السمن والمشتري ينظر اليه وقت الشراء ثم ظهر أنه لته بنصف من من السمن فلاخيار لأن هذا شيء يعرف بالعيان وهو معاين مرئي، وهو نظير مالو اشترى صابوناً على أنه يتخذ من كذا حرة من الدهن فتبين أنه متخذ بأقل من ذلك والمشتري ينظر إليه وقت الشراء أو اشترى من آخر قميصاً على أنه اتخذ من عشرة أذرع من كرباس فتبين أنه اتخذ من أقل من ذلك والمشتري ينظر إليه وقت الشراء فإنه لاخيار للمشتري والمعنى ماذكرنا. نوع آخر في معرفة عيوب الدواب سئل شمس الأيمة الأوزجندي عمن اشترى بقرة فوجدها قليلة الأكل يقال بالفارسية «ناخوران» قال: له الرد، ولو وجدها بطيئة الذهاب يقال بالفارسية «كاهل» فليس له الرد، إلا إذا اشتراها بشرط أنها عجول. وفي «الفتاوى» : اشترى بقرة فوجدها لاتحلب إن كان مثلها يشترى للحلب فله الرد، لأن المعروف كالمشروط وإن كان يشترى للحم لايرد. وفي «المنتقى» إن كانت الدابة تعثر كثيراً دائماً فهو عيب، وإن كان في الاجالن فليس بعيب، ذكر في «الأصل» السم عيب وهو يبس في اليد أو في الرجل أو في المرفق، والجيف عيب وهو تداني القدمين وتباعد الفخذين، وقيل: هو خلاف العينين وهو أن يكون إحدايهما زرقاء والأخر غير زرقاء والعزل عيب وهو ميلان في الذنب، والمشيش عيب وهو شيء يخرج في ساق الدابة يكون له حجم وليس له صلابة، والجرد (92ب3)

بالدال عيب وهو كل ماحدث في غير قوته من مربد أو انتفاخ عصب والفرموت نوسس وخلع الرأس عيب وهو أن يكون له حيلة بخلع رأسه وهو العدار أن سد عليه وبل المحلاة عيب إن كان ينقص الثمن، والمفهوع عيب فسره في «الأصل» فقال مأخوذ من الهممة وهي الدائرة التي في صدره من الجانب الأيسر ويكون ذلك انتصاب بشأم به، وفسر في «المنتقى» المفهوع: الذي إذا سار سمع مابين خاصرته ومرحه صوت والانتشاء عيب وهو انتفاخ العصب عند الإيعاب، وقيل: هو اتساع سواد العين حتى كاد يأخذ البياض كله، وإذا كانت الدابة تأكل الذباب فقد ذكر في موضع من «المنتقى» أنها إذا كانت تأكل الكسر فهو عيب، وإن كانت تأكل في الأحانين فليس بعيب، وذكر في موضع آخر منه أن محمداً رحمه الله سئل عن الشاة تأكل الذباب فلم يره عيباً ترد به. إذا اشترى خفين فوجدهما ضيقين لا تدخل رجله فيهما ذكر شيخ الإسلام في شرح بيوعه أنه إن كان لايدخل لا لعلة في رجله يرد، وذكر في «فتاوى الفضلي» : أنه إذا اشتراهما ليلبسهما لا يرد، وكان القاضي الإمام علي السعدي يفتي بالرد اشتراهما للبس أو لغير اللبس، فإن وجد أحدهما أضيق من الآخر فإن كان خارجاً عما عليه خفاف الناس في العادة يرد ومالا فلا. في «فتاوى الفضلي» : اشترى خشبة ووجد فيها فأرة ميتة فهو عيب، وإذا اشترى ثوباً فوجد فيه دماً إن كان ينقصه الغسل فهو عيب وإن كان لا ينقصه فليس بعيب، وقد مر شيء من هذا في النوع الأول ذكر المسألة في العيوب. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا اشترى من آخر ثوباً نجساً ولم يبين البائع جاز، وإذا علم المشتري فله الرد لأن النجاسة عيب لأنها تمنع أداء الصلاة، وعلى قياس المسألة الأولى تأويلها إذا كان الثوب بحال ينقصه الغسل. وإذا اشترى كرماً وظهر أنه شربة على تأوق يوضع على ظهر نهر أو على موضع آخر فله حق الرد لأنه عيب فاحش فيما بين الناس في هذا الموضع. أيضاً وإذا اشترى حنطة مشار اليها فوجدها رديئة فليس له حق الرد بالعيب وكذا إذا اشترى إناء فضة بعيبها فوجدها رديئة من غير شيء عشر ولا كسر فليس له حق الرد بالعيب، فلم يعتبر الرداءة في المكيل والموزون عيباً في «شرح الكافي» : في كتاب الصرف في باب العيوب. وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف: إذا اشترى نقرة فضة لعينها بدينار ثم اختلفا فقال المشتري: اشتريتها على أنها بيضاء فإذا هي سوداء وقال البائع: لم اشترط شيئاً، فقال: السواد عيب في الفضة وللمشتري أن يردها. اشترى حزمة بقل فأصاب في جوفها حشيشاً فإن كان ذلك يعد عيباً فله الرد فإن شاء رد وإن شاء أخذ بجميع الثمن وإن كان لا يعد عيباً ليس له الرد. في «واقعات الناطفي» إذا وجد في الأرض طريقاً يمر فيه الناس فهو عيب، في بيوع «فتاوى الفضلي» وجد في

الكرم على كر فهو عيب في هذا الموضع أيضاً. وفي «المنتقى» : اشتري مصحفاً فوجد في حروفه سقطاً، أو اشتراه على أنه منقوط بالنحو فوجد في نقطه سقطاً قال هذا عيب يرد منه، وفيه أيضاً وإذا اشترى مصحفاً على أنه جامع فإذا فيه أيتان ساقطتان أو آية، قال: هذا عيب يرد منه، ووجدت في موضع آخر: رجل اشترى مصحفاً لولده، قال المعلم أن فيه خطاءً كثيراً، قال: إن كان فيه خطأ الكتابة يرد ويرجع بالثمن. وفي «فتاوى الفضلي» : لو اشترى أرضاً فنزت عند المشتري وقد كانت لك عند البائع فله أن يرد لأن سبب النز واحد وليس لها أسباب مختلفة، فيكون كالحمي إلا إذا رفع المشتري وجه الأرض فيعلم أنها نزت لرفع التراب، أو جاء الماء الغالب من موضع لأنه يعلم أن هذا غير النز الذي كان في يد البائع. وفي «فتاوى الصغرى» قال: ينظر إن كان النز بسبب آخر بأن كان في يد البائع بسبب نز نهر وفي يد المشتري بسبب نزنهر آخر لا يرد، وإن كان بغير ذلك السبب يرد ولا ينظر أن يكون النز صار في يدالمشتري أكثر مما كان في يد البائع، أو كان ذلك القدر إذا كان بغير ذلك السبب يملك الرد كيف ما كان. وكذلك إذا اشترى كرماً وقد ظهر في يد المشتري هماري يملك تخريجها بالتأمل. وفي «فتاوى الفضلي» : أيضاً رجل اشترى جارية في إحدى عينيها بياض فانجلى البياض ثم عاد فقبض المشتري وهو لا يعلم بذلك، ثم علم، فله أن يرد، ولو قبض وفي إحدى عينيها بياض وهو لا يعلم ثم انجلى البياض ثم عاد لا يرده. والفرق وهو أن الثاني غير الأول حقيقة ففي الوجه الأول حدث في يد البائع فيوجب الرد، وفي الوجه الثاني حدث في يد المشتري فلا يوجب الرد. وفي «فتاوى أبي الليث» : اشترى خمسمائة قفيز حنطة فوجد فيها تراباً إن كان ذلك التراب مثل ما يكون في مثل تلك الحنطة لايعده الناس عيباً ليس له أن يرجع بنقصان العيب فإن ذلك ليس بعيب، وإن كان مثل ذلك التراب لا يكون في مثل تلك الحنطة ويعده الناس عيباً، فإن أراد أن يرد الحنطة كلها فله ذلك لعدم المانع من الرد، وإن أراد أن يميز التراب فيرده على البائع بحصته من الثمن ويحبس الحنطة ليس له ذلك، لوجود المانع على ما تبين، هذا إذا لم يميز فوجد تراباً كثيراً يعده الناس عيباً فإن أمكنه أن يردها كلها على البائع بذلك الكيل لو خلط البعض بالبعض فله أن يرد، لكنه أمكنه الرد كما قبض، وإن لم يمكنه الرد بذلك الكيل لو خلطهما بأن انتقص بالسقية ليس له الرد لأنه لايمكنه الرد كما قبض لكن يرجع بنقصان العيب، وهو نقصان الحنطة إلا أن يرضى البائع أن يأخذها ناقصة فيكون له ذلك لأن النقصان إنما يمنع الرد لحق البائع وقد رضي ببطلان حقه هذا إذا اشترى الحنطة، وكذا إذا اشترى السمسم وسائر ماكان نظير الحنطة فوجد فيه تراباً فهو على التفصيل الذي ذكرنا. فرق بين هذا وبينما إذا اشترى مسكا فوجد فيها

رصاصا حيث يميز الرصاص، ويرده على البائع بحصته من الثمن قل أو كثر، والفرق أن في الحنطة يسامح في القليل من التراب ولا يميز الكثير، لأن في ذلك ضرر بالبائع لما أنه لايظهر المسامحة في القليل وفي المسك لايسامح في القليل فلم يكن في التمييز ضرر بالبائع ولهذا يستوي فيه القليل والكثير في الحنطة لا فيه، أيضا لو اشترى نقرة من نحاس (فإذا بها) فخرج منها حجر مثل ما يخرج من النحاس، فله أن يمسك من الثمن بحسابه إلا أن يشاء البائع أن يأخذها كذلك ويرد الثمن كله لأن القليل من الحجر لا يسامح في النحاس كالرصاص في المسك. وإذا اشترى شحماً قديداً ووجد فيه ملحاً كثيراً فهو على ماذكرنا في الحنطة يجد فيها التراب. نوع آخر في بيان ما يمنع الرد بالعيب وما لا يمنع الأصل في هذا النوع أن المشتري متى تصرف في المشترى بعد العلم بالعيب تصرف الملاك بطل حقه في الرد، لأنه دليل الإمساك (93آ3) ودليل الرضا بالعيب، بيان هذا الأصل إذا اشترى دابة فوجد بها جرحاً فداواها أو ركبها لحاجة نفسه فليس له أن يردها لأن المداواة دليل الرضا والإمساك، وكذلك الركوب لحاجة نفسه، ولو داواها من عيب قد برئت إليه فله أن يردها بعيب آخر لم تبرأ إليه لأنه لم يرض بذلك العيب والاستخدام بعد العلم بالغيب مرة لايكون دليل الرضا، بعض مشايخنا قالوا: لا يجوز أن يكون للامتحان والاختيار ليعلم أنه مع العيب هل يصلح له أم لا، ولكن هذا ليس بصحيح بدليل مسألة الركوب واللبس التي بعد هذا، ولكن الصحيح أن يقال: بأن الاستخدام مرة لايختص بالملك والاستخدام في المرة الثانية دليل الرضا، وكذلك الإكراه في المرة الأولى دليل الرضا. فسر الاستخدام في كتاب الإجازة فقال: بأن يأمرها بحمل المتاع على السطح أو بإنزاله عن السطح، أو بأن يأمرها بأن تغمز رجله بعد أن لايكون عن شهوة، أو يأمرها بأن تطبخ أو تخبز بعد أن يكون يسيرا، فإن أمرها بالخبز والطبخ فوق العادة فذلك يكون رضا. ولو ركب الدابة ينظر إلى سيرها أو لبس الثوب ينظر إلى قدره فهذا منه رضا، وقد ذكرنا في خيار الشرط أن ذلك ليس برضا. والفرق أن خيار الشرط مشروع للاختيار، والركوب واللبس مرة محتاج إليه للاختيار فلو بطل خيار الشرط بالركوب واللبس مرة لفاتت فائدة خيار الشرط، فأما خيار العيب ماشرع للاختيار إنما شرع للرد ليصل إلى رأس ماله عند عجزه عن الوصول إلى الجزء الفائت فلم يكن هذا التصرف في خيار العيب محتاجاً إليه للاختيار وإنه لايحل بدون الملك فيجعل دليل الرضا. والركوب ليردها أو ليسقيها أو ليعلفها لا يكون دليل الرضا استحساناً قال مشايخنا: هذا إذا لم يمكنه الرد والسقي والإعلاف إلا بالركوب، بأن كان لايمكنه ضبطها إلا بالركوب، فأما إذا أمكنه ذلك بدون الركوب كان الركوب رضا. والدليل على صحة هذا ماذكر محمد رحمه في «السير الكبير» أن جوالق العلف إذا كان واحداً فركب فهذا لا يكون رضا، لأن الجوالق إذا كان واحداً لا يمكن حمله إلا

بالركوب، وإذا كان الجوالق اثنين فركب يكون رضا لأن حمل الجوالق بدون الركوب ممكن. ومن المشايخ من قال: الركوب للرد لايكون رضا وإن أمكنه الرد بدون الركوب، لأنه يفضي إلى الرد وتفرق ولا كذلك الركوب للسقي والعلف، ولو حمل عليها علفها وركبها مع العلف فهذا ليس برضا، وإنه مؤول عند بعض المشايخ على ما ذكرنا، ولو حمل عليها علف دابة أخرى وركبها أو لم يركبها فهذا يكون رضا. والسكنى في الدار هل يكون رضا فهو على ماذكرنا في خيار الشرط. وعن أبي يوسف: فيمن اشترى جارية لها لبن فأرضعت صبيا لها أو للمشتري ثم وجد المشتري بها عيباً فله أن يردها، ولو أنه حلب لبنها واستهلك لبنها أو شربه ثم وجد بها عيباً لم يردها، وعلى هذا قالوا: إذا اشترى شاة فرضعها ولدها ثم أطلع على عيب بها بعد ذلك فله أن يردها، فأما إذا حلبها فاتلفه لم يكن له أن يردها بالعيب إذا اطلع عليه بعد ذلك. وفي «المنتقى» إذا اشترى شاة وشرب من لبنها قال أبو يوسف: له أن يردها بالعيب، وفيه عن محمد اشترى شاة وحلبها ثم وجد بها عيباً يلزمه ويرجع بنقصان العيب، وإن جز صوفها ثم وجد بها عيباً، فإن لم يكن الجز نقصاناً فله أن يردها قال محمد رحمه: والجز عندي ليس بنقصان. وفي موضع آخر من «المنتقى» : إذا جز صوفها بعد العلم بالعيب فهو رضا، ولو أخذ من صوفها فليس برضا. وفي «النوادر» عن أبي يوسف إذا اشترى شاة وحلبها ثم وجد بها عيباً فإني أقسم الثمن على قيمتها وقيمة اللبن فيردها بحصتها من الثمن. وفي «المنتقى» إذا أطلاه بعدما رأى به العيب أو حجمه أو أخر رأسه فليس برضا، وفيه عن أبي يوسف إذا اشترى جارية فوجد بها عيباً، فداواها فإن كان ذلك دواءً من ذلك العيب فهو رضا، وإن لم يكن دواءً منه فليس برضا إلا أن يكون ذلك نقصها فهو رضا، ولو أصابها عنده فسق عنها إن كان ذلك ينقصها فهو رضا، وإن لم ينقصها فليس برضا. ولو حجم العبد بعد النظر إلى العيب فإن كانت الحجامة دواء ذلك العيب فهو رضا، وإن لم تكن دواء ذلك العيب فليس برضا، قال الحاكم أبو الفضل: جعل الحجامة والتوديج في موضع آخر رضاً من غير اشتراط هذا الشرط. وفي «المنتقى» : أيضا اشترى جارية فوجد بها عيباً فداواها من عيب قد كان برئ إليه البائع فهذا لايكون رضا بالعيب الذي وجده، وفي بيوع «فتاوى أبي الليث» : اشترى أمة ترضع وأمرها أن ترضع صبياً له فهذا لا يكون له رضاً لأن الأمر بالإرضاع استخدام ولو حلب لبنها وأكل أو باع فهذا رضا لأن اللبن جزء منها واستيفاء جزء منها دليل الرضا، ولو حلب لبنها ولم يبع ولم يأكل فكذلك الجواب. وفي صلح الفتاوى أن الحلب بدون البيع أو الأكل لا يكون رضا. وفي «المنتقى» : اشترى مملوكاً ووجد به عيباً ورضي به فإن أثر به الضرب لم يرده، وإن لم يكن له أثر فله أن يرده، وفي موضع آخر منه قال: فضربه ضرباً لم يؤثر بأن لطمه أو ضربه سوطين أو ثلاثة فله أن يرد. وإذا وطيء الجارية المشتراة ثم أطلع على عيب بها لم يردها ويرجع بنقصان العيب سواء كانت بكرا أو ثيبا إلا أن يقول البائع: أنا أقبلها

كذلك، وكذلك إذا قبلها بشهوة وكذلك الجارية إذا جعلت أجرة فوطئها الآخر ثم أطلع على عيب بها فليس له أن يردها ولكن يرجع بنقصان العيب إلا أن يقول المستأجر: أنا أقبلها كذلك، وإن وطئها المشتري أو قبلها بشهوة أو لمسها بشهوة بعدما علم بالعيب فهو رضا بالعيب وليس له أن يردها، إلا أن يرجع بنقصان العيب، وإذا وطئها غير المشتري في يد البائع بزنا فليس له أن يردها بكراً كانت أو ثيباً ويرجع بنقصان العيب إلا أن يرضى البائع أن يأخذها كذلك، لأنها تعيبت عنده بعيب زائد وهو عيب النقصان أن أوجب النقصان الوطء نقصاناً أو عيب الزنا إن لم يوجب الوطء نقصاناً فيها، وإن كان الوطء بشبهة حتى وجب العقر على الواطء فليس له أن يرد وإن رضي به البائع، لمكان الزيادة، على مايأتي بيانه بعد هذا ان شاء الله تعإلى. ولو زوجها المشتري لم يكن له أن يردها وطىء الزوج أو لم يطأها رضي البائع أو لم يرض، لأن النكاح يوجب الصداق والصداق زيادة منفصلة وإنها تمنع الرد على مايأتي بيانه. ولو كان لها زوج عند البائع فوطئها عند المشتري فإن كانت الجارية بكراً فليس للمشتري أن يردها بالعيب (93ب3) إلا برضا البائع لأنه فات جزء منها في ضمان المشتري بقسم من العباد، وإن كانت الجارية ثيباً إن نقصها الوطء فكذلك الجواب لايملك المشتري ردها إلا برضا البائع، وإن لم ينقصها الوطيء كان للمشتري أن يردها على البائع، هذا الذي ذكرنا في السبب إذا وطئها الزوج في يد البائع مرة، ثم وطئها عند المشتري، وأما إذا لم يطأها عند البائع مرة إنما وطئها عند المشتري لم يذكر محمد رحمه هذا الفصل في «الأصل» ، وقد اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه يرد. ذكر في «المنتقى» إذا اشترى جارية وقبضها ولها زوج كان عند البائع فوطئها الزوج في يد المشتري لم يمنع وطئه المشتري عن الرد بالعيب، وإن كان الوطء عيباً قد برئ البائع إلى المشتري منه، وإذا عرضه على البيع بعدما علم بالعيب أو أجره أو رهنه فذلك رضا بالعيب وليس له أن يرد ولا ان يرجع بنقصان العيب. وإذا اشترى برذوناً وأخصاه ثم اطلع على عيب به كان له الرد إذ لم ينقصه الخصي ذكره في «فتاوى أهل سمرقند» : وكان الشيخ الإمام الأجل ظهير الدين المرعيناني يفتي بخلافه. قال محمد رحمه في «الجامع الصغير» : إذا اشترى من آخر ثوباً فقطعه ولم يخطه حتى اطلع على عيب به لم يرده ولكن يرجع بنقصان العيب، فإن قال البائع: أنا أقبله كذلك فله ذلك، وإن كان المشتري صبغه أحمر ثم وجد به عيباً لايرده ولكن يرجع بنقصان العيب، فإن قال البائع: أنا أقبله كذلك، فليس له ذلك، هذه المسألة تبتني على أصل أن المبيع إذا انتقص في يد المشتري بآفة سماوية أو بفعل أجنبي ثم اطلع المشتري على عيب كان عند البائع لايرده بالعيب، لأن حق الرد إنما يثبت للمشتري دفعاً للضرر عنه ولا يجوز للإنسان أن يدفع الضرر عن نفسه بالأضرار للغير. وفي «المنتقى» الرد بعدما انتقص في يد المشتري إضرار بالبائع فلا يملك المشتري رده ولكن يرجع بنقصان العيب دفعاً للضرر عن نفسه، غير أن النقصان إذا كان بآفة سماوية أو

بفعل المشتري فامتنع الرد لدفع الضرر عن البائع لاغير، فإذا قال: أنا أقبله كذلك فقد رضي بالضرر وله ذلك فكان للمشتري أن يرده، وإذا كان النقصان بفعل أجنبي من قطع أو ماأشبهه حتى وجب الأرش فامتناع الرد لحق البائع دفعا للضرر عنه وبحق الشرع أيضاً، لأن العقد لم يرد على الأرش فلا يرد عليه الفسخ فتعذر رد الارش ورد المبيع بدون رد الأرش متعذر لمكان الربا لأن الأرش يبقى في يد المشتري مبيعاً مقصوداً بلا عوض وأنه ربى، والربا حرام حقاً للشرع، وإذا قال البائع: أنا أقبله كذلك، فقد أراد بطلان حق الشرع وليس للعبد هذه الولاية، هذا هو الكلام في النقصان الحادث في يد المشتري. جئنا إلى الزيادة الحادثة في يد المشتري فنقول: الزيادة نوعان متصلة ومنفصلة فالمتصلة نوعان غير متولدة عن المبيع كالصبغ وما أشبهه وأنها تمنع الرد بالعيب بالاتفاق سواء قال البائع أنا أقبله كذلك أو لم يقل، لأنها تمنع الفسخ في ملك الأصل لأن الملك لو فسخ في الأصل لأدى أن يفسخ في الأصل والزوائد، وفي الأصل لاغير لاوجه إلى الأول لأنه لو فسخ الملك في الزوائد أما أن يفسخ مقصودا ولا وجه إليه، لأنه لم يرد عليها عقد ولا ما له شبهه بالعقد مقصوداً، أو يفسخ الملك في الزوائد تبعاً لفسخ الملك في الأصل ولا وجه إليه أيضاً، لأن هذه الزوائد إن كانت تبعاً للأصل بحكم الاتصال فلها حكم الأصل، لأنها كانت أصلا قبل الاتصال ولا وجه إلى أن يفسخ الملك في الأصل بدون الزوائد لأنه يؤدي إلى أمر غير مشروع، لأنه يؤدي إلى أن يصير الأصل ملكاً للبائع، ويبقى الأصل الصبغ للمشتري، والشركة على هذا الوجه وفي حق هذا المعنى لافرق بين أن يقول البائع: أنا أقبل كذلك، وبين أن يقول: ومتولدة من المبيع كالسمن والجمال وإنها لا تمنع الرد بالعيب في ظاهر الرواية لأن فسخ العقد على الزيادة ممكن تبعاً للأصل إذا رضي من له حق في الزيادة لأن السمن والجمال وأنها تبع للأصل من كل وجه لايتصور أصلا بحال، لأنه متصل بالأصل فيكون تبعاً له بحكم الاتصال فإذا انفسخ العقد على الأصل ينفسخ فيهما، فإن أبى المشتري الرد وأراد الرجوع بنقصان العيب، وقال البائع لا أعطيك نقصان العيب ولكن رد علي المبيع حتى أرد عليك جميع الثمن هل للبائع ذلك، على قول أبي حنيفة وأبي يوسف ليس له ذلك، وعلى قول محمد له ذلك، وهذا لأن الزيادة المتصلة بعد القبض تمنع فسخ العقد على الأصل إذا لم يوجد الرضا بمن له الحق في الزيادة عن أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد لايمنع فسخ العقد في الأصل وجد الرضا في من له الحق في الزيادة أولم يوجد، كما في المسألة المهر إذا ازداد زيادة متصلة بعد القبض ثم طلقها الزوج قبل الدخول بها هذا هو الكلام في الزيادة المتصلة. وأما الزيادة المنفصلة فنوعان أيضاً: متولدة عن المبيع: كالولد والتمر وماهو في معناهما كالأرش والعقر وأنها تمنع الرد بالعيب والفسخ بسائر أسباب الفسخ عندنا، لأنه لايمكن فسخ العقد على الزيادة

لامقصودا لما ذكرنا ولا تبعاً للأصل، لأن الولد بعد الانفصال ليس تبع الأصل لاحقيقة وهذا ظاهر ولاحكماً، فإن شيئاً من أحكام البيع لايثبت في الولد الحادث بعد القبض، ولا يجوز أن يفسخ العقد في الأصل دون الولد لأن الولد مبيع من وجه لأنه متولد من المبيع والمتولد من الشيء يحدث على صفة الأصل كالمتولد من المدبر والمكاتب، وما يكون مبيعاً من كل وجه لايسلم للمشتري بعد فسخ العقد مجازاً بغير عوض، لأنه يكون ربى فكذا ما يكون مبيعاً من وجه وهنا بعدما فسخ العقد في الأصل يبقى الولد سالما للمشتري مجاناً بغير عوض. وغير متولدة من المبيع: كالكسب والغلة وأيهما لايمنعان الرد بالعيب والفسخ بسائر أسباب الفسخ، وطريقه أن يفسخ العقد في الأصل دون الزيادة ويسلم الزيادة للمشتري مجاناً بغير عوض وأمكن القول به، لأن هذه الزيادة ليست بمبيعة بوجه ما لأنه لم يرد عليها العقد وماله شبه العقد، وما تولد من عين المبيع حتى يكون مبيعه بحكم التوليد بل تولدت من المبيع والمنافع غير الأعيان. ولهذا كانت منافع الحر مالا مع أن الحر ليس بمال وكسب المكاتب والمدبر لايكون مكاتباً ومدبراً، وسلامة ماليس بمبيع بوجه ما، للمشتري لايمنع فسخ العقد على الأصل، لأنه لا يؤدي إلى الربا. إذا ثبت هذا الأصل جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: إذا اشترى ثوباً وقطعه ولم يخطه فامتناع الرد لنقصان حصل بفعل المشتري، فيرتفع برضا البائع لما قلنا، وإن صبغ الثوب بعصفر فامتناع الرد بسب الزيادة المتصلة وأنها لا ترتفع برضا البائع لما ذكرنا، فعلى هذا إذا قطع الثوب وخاطه ثم وجد به عيباً فقال البائع: انا أقبله كذلك، ليس له ذلك، لأن امتناع الرد ههنا بسبب الزيادة المتصلة وهي الخياطة ولا يرتفع برضا البائع. وفي «المنتقى» : إذا اشترى عبداً كاتباً أو خبازاً وقبضه فنسي ذلك في يده ثم اطلع على عيب به فله أن يرده. وفي «المنتقى» : اشترى من آخر تمراً بالري وحمله إلى الكوفة ثم اطلع على عيب (94آ3) هناك فإن أراد أن يرده قال محمد رحمه: ليس له ذلك حتى يرده إلى ذلك الموضع علل فقال: لأن لحمله مؤنة ولو كان مكان التمر جارية فقد أشار محمد رحمه إلى أنها ليست نظير التمر، حيث قال: أرى سعر هذه ثمة وههنا قريباً ولا أرى لحملها تلك المؤنة. وفي «القدوري» : اشترى شيئاً وأجره من غيره ثم اطلع على عيب به فله أن ينقض الإجارة ويرد المستأجر بالعيب بخلاف مالو رهنه من غيره، والفرق أن الإجازة تنقض بالاعذار والرهن لا. قال محمد رحمه في «الزيادات» : وإذا اشترى الرجل من آخر جارية بيضاء إحدى العينين وهو يعلم بذلك فلا خيار له في ردها، لأن العيب إنما يثبت حق الرد للمشتري إذا عجز البائع عن تسليم بالتزام، ولم يعجز لأنه التزم تسليمها معيبة لما علم المشتري بعيبها وقت البيع، فإن لم يقبضها المشتري حتى انجلى البياض ثم عاد البياض

فهي لازمة للمشتري ولا خيار له في ردها، وعن أبي يوسف: أن له الخيار، والصحيح ماذكر في ظاهر الرواية، لأن البياض الثاني وإن كان غير الأول حقيقة فهو غير الأول حكماً من حيث أن البائع بسببه لم يعجز عن تسليم ما التزم بالعقد كما التزم بيانه، وهو أن المشتري لما اشتراه مع علمه بالبياض الأول فالبائع لم يلتزم تسليمها سليمة عن عيب البياض بهذه العين، وإنما التزم تسليمها معيبة بهذا العيب والبياض الأول وقت العقد كان بياضاً ظاهراً مع احتمال أن لا يكون والثاني بهذه الصفة فكان الثاني غير الأول حكماً من حيث أن البائع لم يعجز عن تسليم ما التزم بالعقد كما التزم. قال في «الكتاب» : ألا ترى أن رجلاً لو اشترى جارية وبنتها ساقطة أو سوداء والمشتري علم بذلك فلم يقبضها حتى ثبت بنيتها الساقطة أو ذهب السواد عن بنيتها ثم سقطت تلك البنية أو عاد السواد فالجارية لازمة للمشتري وإنما كانت لازمة لأن البائع لم يعجز عن تسليم ما التزم بالعقد كما التزم على ماذكرنا، ولم ير عن أبي يوسف في مسألة السن بخلاف ما ذكره في «الكتاب» . واختلف المشايخ في ذلك منهم من قال: هذا قول الكل، ومنهم من قال: لا بل مسألة السن على الاختلاف أيضا. ولو قبضها وهي بيضاء إحدى العينين أو بينتها ساقطة وهو يعلم بذلك ثم انجلى البياض وثبتت البينة ثم عاد البياض وسقطت البينة، ثم وجد بها عيباً آخر كان عند البائع ردها بذلك العيب، لأن الواجب على المشتري أن يردها على الوجه الذي قبضها، وقد قبضها معيبة بهذا العيب. قال في «الكتاب» : ألا ترى أنه لو اشترى شاة حاملاً وولدت في يد المشتري ولداً ثم هلك الولد ثم وجد بها عيباً كان له أن يردها على البائع، لأن الولادة لا تمكن نقصاناً في الشاة ليمتنع الرد بسبب ذلك، لكن امتناع الرد بالولادة باعتبار أن بالولادة حدث زيادة منفصلة، فإذا هلكت فقد ذهبت الزيادة وجعلت كأن لم تكن فكان المشتري قادراً على رد ماقبض كما قبض كذا هنا. ولو لم يعد البياض في العين التي ذهب عنها البياض لكن ابيضت العين الأخرى لم يكن له أن يرد الجارية بعيب أبداً، لأنه عجز عن ردها كما قبضها لأنه قبضها وهي صحيحة هذه العين، والآن يردها وهي مبيضة هذه العين، ولم تبيض العين الأخرى ولكن عاد البياض في العين التي ذهب عنها البياض بفعل المشتري بأن ضرب المشتري عينها فابيضت ثم وجد بها عيباً آخر كان عند البائع لم يكن له أن يردها، بخلاف ما إذا عاد البياض، والفرق أنه لما انجلى البياض فقد حصلت زيادة متصلة فإذا ضربها المشتري صار جالباً تلك الزيادة وإنه مانع من الرد، بخلاف ما إذا عاد البياض بضرب الأجنبي في يد المشتري حيث لا يكون للمشتري أن يردها بالعيب، وإن رضي به البائع. والفرق أن في الفصل الأول المانع من الرد حق البائع فإذا أسقط حقه (سقط) ، والمانع في الفصل الثاني حق الشرع (وهو) لا يسقط بإسقاط العبد. هذا الذي ذكرنا كله إذا اشتراها مع علمه ببياض إحدى العينين، فأما إذا اشتراها ولم يعلم لكونها بيضاء إحدى العينين وقبضها ثم علم كان له أن يرد فإذا لم يرد حتى انجلى البياض لم يكن له أن يردها بعد ذلك، وإن استحقها سليمة لما لم يعلم بالعيب

وقت العقد لأنه لما انجلى البياض فقد استوفى عين حقه لايكون له الخيار فإن عاد البياض لايكون له أن يردها أيضاً لما ذكرنا أنه لما انجلى البياض صار المشتري مستوفياً عين حقه حكماً وبعود البياض لاينتقض الاستيفاء، لأن قبض المبيع لايحتمل الانتقاض كما لو قبض السلامة ثم فاتت. ولو وجد بها عيبا آخر كان له أن يردها به لأنه لما انجلى البياض صار المشتري مستوفياً عين حقه حكماً فوقعت البراءة للبائع عن العيب، لأن البراءة كما تقع بالإبراء تقع بالاستيفاء فصار كأنه أبرأه نصاً عن هذا العيب. ولو أبرأه المشتري عن عيب ثم وجد بالمبيع عيباً آخر كان له أن يرده بذلك العيب فههنا كذلك فقد جعل البياض العائد كأنه غير الأول في حق الرد به، وجعل كأنه عين الأول في حق الرد بعيب آخر. وكذلك إذا اشترى جارية وهي ساقطة البينة أو مسودة البينة وهو لا يعلم بذلك فقبضها، ثم علم بذلك، ثم زال السواد وثبت البينة لم يكن له أن يردها ولو وجد بها عيبا آخر كان له أن يردها. ثم في كل موضع ثبت للمشتري حق الرد إذا قال في وجه البائع: قد أبطلت البيع إن كان قبل القبض انتقض البيع، قبل البائع أو لم يقبل، وإن كان بعد القبض، فإن قبل البائع فكذلك ينتقض البيع، وإن لم يقبل لاينتقض البيع. وإن كان بغير محضر من البائع لاينتقض البيع وإن كان قبل القبض، أصل المسألة في العيوب وفصل الحضرة في وكالة السامي. وفي «المنتقى» : إذا اشترى عبداً محموماً كأن تأخذه الحمى كل يومين أو ثلاثة فأطبق عليه عنده فله أن يرده وأنه يخالف ماذكر في «فتاوى أبي الليث» ، فقد ذكر ثمة إذا اشترى عبداً وبه مرض في يد المشتري، فليس له أن يرده ويرجع بالأرش، وكذلك إذا كانت قرحة فانفجرت عنده أو جدري فانفجر فله أن يرده، ولو كان به جرح فذهبت يده به، أو كانت موضحة فصارت آمة فليس له أن يرده. وفيه أيضاً إذا اشترى عبداً فاستقاله فأبى أن يقيله، قال هذا ليس بعرض على البيع وله أن يرده، إذا وهب المبيع بعدما اطلع على عيب به ولم يسلم فليس له أن يرده على بائعه لأن هذا دلالة الرضا بالعيب، ألا ترى أن العرض على البيع يمنع الرد وإنما منع لأنه دلالة الرضا، ولو فعل شيئاً من ذلك قبل العلم بالعيب، يعني العرض والهبة بدون التسليم فهذا لايكون رضا، ولايمنع الرد لو علم بالعيب بعد (94ب3) ذلك، مسألة الهبة في «فتاوى أبي الليث» اشترى شيئاً أو خاصم البائع في عيب به، وترك الخصومة أياماً ثم عاد إلى الخصومة قال: لأنظر وأسأل أهذا عيب فله أن يخاصمه في العيب ويرده، لأن هذا ليس دلالة الرضا وكذا إذا أراد الرد ولم يجد البائع فأطعمه وأمسكه أياماً ولم يتصرف فيه تصرفاً يدل على الرضا ثم وجد البائع فله أن يرد، قال محمد رحمه الله: على هذا أدركت مشايخ زماني. وفي «المنتقى» : رجل اشترى من رجل عبداً ثم ان المشتري أمر رجلاً ببيعه ثم علم الآمر بعد ذلك أن به عيباً، قال: إن باعه الوكيل بمحضر من الموكل ولم يقل الموكل شيئاً فهذا منه رضا بالعيب، حتى لو لم ينقض البيع ليس للمشتري أن يرد العبد على بائعه

بذلك، قال: وكذلك إن أعلمه الوكيل أنه ذهب من فوره ليبيعه فلم ينهه أو أخبره أن الوكيل ساوم به وهويعرضه ليبيعه فلم ينهه فهذا منه رضا. اشترى أبريسماً فإذا هو «دار وكرده امله» لايرده ويرجع بالنقصان، لأن الباب في الابريسم عيب اشترى كرماً فأكل الثمار ثم اطلع على عيب فليس له الرد وإن رضي البائع، وكذا إذا اشترى بقرة فأكل من لبنها. اشترى قدوماً وأدخله في النار ثم اطلع على عيب به لم يرده، ولو اشترى ذهباً وأدخله في النار ثم اطلع على عيب به يرده، لأن الذهب لاينتقص بالإدخال في النار والحديد ينتقص، سئل شمس الأئمة الأوزجندي عمن اشترى منشاراً وحدده ثم اطلع على عيب به قال: لم يرده إلا برضا البائع، لأنه ينتقص منه شيء بسبب التحديد. قال محمد رحمه: رجل اشترى من آخر عبداً قد سرق عند البائع ولم يعلم، فقطع عند المشتري فللمشترى أن يرده على البائع، ويرجع بجميع الثمن، وقال أبو يوسف ومحمد: لايرده ولكن يرجع نقصان العيب فيقوم سارقاً وغير سارق فيرجع بفضل ما بينهما، وحاصل هذا أن أبا حنيفة يجعل هذا بمنزلة الاستحقاق فيكون عيباً في الباقي مضافاً إلى ضمان البائع، وهذا إذا اشترى عبداً فوجده حلال الدم بقصاص، أورده وقبل ذلك المشتري يرجع على البائع بجميع الثمن بمنزلة مالو استحق العبد، وعندهما يقوم مباح الدم ويقوم معصوم الدم فيرجع بفضل ما بينهما. وفي «نوادر هشام» : قال: قلت لمحمد: ففي قياس قول أبي حنيفة إذا اشترى عبداً قد سرق عند البائع ولا يعلم به المشتري وسرق عند المشتري أيضاً فقطعت يده بالسرقتين جميعاً، قال: يرجع عليه بالنصف وجه قولهما: أن فوات المبيع مضاف إلى أمر حادث في ضمان المشتري، لا إلى أمر كان في ضمان البائع فلا يجري مجرى الاستحقاق لمن اشترى جارية حاملاً وولدت وهلكت في نفاسها، لايضاف الهلاك إلى أمر كان في ضمان البائع، ولا يجري مجرى الاستحقاق وإنما كان كذلك، لأن السبب الموجود في يد البائع حل بالدم والحياة وأثر في إتلافهما دون المالية، وإنما ذهبت المالية ضرورة أنها لا تبقى بدون الحياة وهذا أمر غير مضاف إلى الجناية، ولأبي حنيفة وجهان أحدهما: أن التلف حصل بفعل كان في ضمان البائع فينتقص به قبض المشتري، ويجعل كأنه تلف في يد البائع، وقاسه على مالو غصب عبداً فقتل العبد رجلاً في يد الغاصب ثم رده فقتل قصاصاً يرجع المالك على الغاصب بجميع القيمة، لأن الرد انتقص بسبب كان عند الغاصب فصار كأنه قتل في يد الغاصب، من المشايخ من ربط هذا الوجه بمسائل منها: أن البائع لو قطع يده ثم باعه فمات العبد في يد المشتري من القطع، لا يرجع المشتري على البائع بجميع الثمن، وإن زال القبض بسبب كان في يد البائع. وكذلك إذا اشترى أمة حبلى فولدت عند المشتري فماتت لا يرجع بجميع الثمن وإن ماتت بسبب كان في يد البائع. وكذلك إذا اشترى عبداً محموماً ولم يعلم به ثم قبضه ثم مات من الحمى يرجع بالنقصان لابجميع الثمن، وإن مات بسبب كان في يد البائع، إلا أن هذا ليس بشيء والمسائل غير لازمة، أما مسألة قطع اليد فلأن قطع اليد لايوجب الهلاك لامحالة وهو التحريج لمسالة الحمى، وأما في فصل الولادة فمن مشايخنا من قال مسألة الولادة على هذا الخلاف أيضا، وما ذكر في «الكتاب» : أنه لايرجع بجميع الثمن قولهما، وأما على قول أبي حنيفة يرجع بجميع الثمن الذي الدليل عليه أن محمداً رحمه ذكر في «الكتاب» إذا غصب من آخر جارية فحبلت عند الغاصب فردها على المالك فولدت وماتت في نفاسها قال: يرجع بجميع القيمة على الغاصب عند أبي حنيفة، وجعل كأنها ماتت في يد الغاصب كذا هنا وإن سلمنا فوجه التخريج أن الولادة ليست بسبب الهلاك لامحالة والتقريب مامر وجه آخر لأبي حنيفة أن العبد الذي هو مستحق القتل لا قيمة له إذا القيمة عبارة عن الغرة وغرة الأشياء باعتبار مولها وإدخارها لإقامة المصالح، ومتى كان مستحق القتل، كان حرام الاستيفاء فلم يكن متقوماً، والبيع لاينعقد على غير المتقوم كالميتة والدم والخمر فإن كان المشتري علم بذلك العيب، فعندهما لزمه العبد ولا يرجع بنقصان العيب، لأنه عيب رضي به. وأما عند أبي حنيفة فمن مشايخنا من قال: أنه عند أبي حنيفة كذلك وهو غير صحيح، إنما الصحيح أن عند أبي حنيفة رحمه الله العلم والجهل سواء، لأن هذا بمنزلة الاستحقاق عنده والعلم بالاستحقاق لا يمنع الرجوع وأن يداوله البيوع ثم قتل عند المشتري الآخر يراجعون عند أبي حنيفة بمنزلة الاستحقاق وعندهما بمنزلة العيوب. وإن كان المشتري أعتق العبد ثم قتل، فعندهما يرجع بنقصان العيب، وأما عند أبي حنيفة فعلى قول ماذكرنا في الوجه الأول له أن بالقتل يموت يد المشتري مضافاً إلى سبب كان في يد

البائع ينبغي أن لا يرجع بفيء، لأن بالإعتاق فات ملك المشتري قبل القتل والقطع لايتصور انتقاصه بالقطع والقتل، وعلى قول ماذكرنا من الوجه الثاني أن البيع غير منعقد لعدم تقوم العبد يرجع بجميع الثمن. ذكر الحسن بن زياد في «كتاب الاختلاف» : إذا اشترى بدراهم وتقابضا ثم باعه المشتري من بائعه ثم وجد به عيباً قديماً، قال أبو يوسف: له أن يرده على المشتري الأول إذا لم يعلم به وقال: هو قول أبي حنيفة. وفي «شرح الجامع» : من تعليقي في كتاب الوكالة في باب القتل نقل الوكالة في الطلاق، رجل اشترى من آخر عبداً وباعه من غيره ثم اشتراه من ذلك الغير ثم اطلع على عيب كان عند البائع الأول لم يرده على الذي اشتراه منه لأنه غير مفيد، لأنه لو رده عليه كان للمردود عليه ثانياً لأنه اشتراه منه فلا يفيد الرد لايرده على البائع (95آ3) الأول لأن هناك الملك غير مستفاد من جهة فيسمي البائع الأول صالحاً والمشتري الأول جعفر أو المشتري الثاني زيداً وصور مسألتنا بعد تسمية هؤلاء اشترى جعفر عبداً من صالح ثم إن جعفراً باعه من زيد ثم إن جعفر اشتراه من زيد ثانياً ثم أطلع على عيب قديم كان بالعبد، فعلى ما ذكر في «الجامع» : ليس لجعفر أن يرده على زيد، لأنه لو رده على زيد كان له أن

يرده على جعفر لأنه قد اشتراه منه فلا يفيد الرد، وعلى ما ذكر الحسن بن زياد في كتاب «الاختلاف» كان لجعفر أن يرده على زيد ثم يرد زيد على جعفر وأنه مقيد حتى يرده جعفر على صالح، لأن بدون ذلك لا يعود إلى جعفر قديم ملك إلا المستفاد من جهة صالح ثم على ما ذكره في كتاب الاختلاف إذا رد جعفر العبد على زيد رده زيد على جعفر إنما كان لجعفر حق الرد على صالح إذا كان الرد على جعفر نقصان لأن الرد بالقضاء فسخ من كل وجه في حق الناس كافة فيعود إلى جعفر قديم ملكه الذي استفاده من جهته صالح في حقه صالح فكان له الرد على صالح فأما إذا كان الرد على جعفر بغير قضاء والرد بغير قضاء بيع جديد في حق الثالث لا يعود إلى جعفر قديم ملكه الذي استفاده من جهة صالح فلا يكون له الرد على صالح، وتبين بما ذكر في كتاب «الاختلاف» المذكور في «شرح الجامع» قول محمد.d وفي «المنتقى» : إذا اشترى من آخر ديناراً بدرهم أن مشتري الدينار باع الدينار من رجل آخر ثم وجد المشتري الآخر بالدينار عيباً ورده على المشتري الأول بغير قضاء كان للمشتري الأول أن يردها على بائعه بذلك العيب، ولا يشبه الصرف ههنا العروض قال: لأن البيع لا يقع على الدينار ببيعها، وعلى هذا إذا قبض رجل دراهم له على رجل وقضاها آخر فوجد فيها زيوفاً وردها عليه بغير قضاء قاضي فله أن يردها على الأول. وفي «المنتقى» : اشترى عبداً فوجده أعمى فقال المشتري للبائع: أريد أن أعتقه عن كفارة يميني فإن جاز عني وإلا رددته فله أن يرده، وهو نظير مسألة الثوب التي بعدها. وفي «العيون» : اشتري من آخر ثوباً فإذا هو صغير فأراد رده فقال له البائع: أره الخياط فإن قطعه وإلا رده عليَّ فأراه الخياط فإذا هو صغير فله أن يرده، وكذا الخف والقلنسوة، وكذا إذا قضاه دراهم زائفة، وقال للقابض: أنفقها فإن جازت عليك وإلا يردها علي، فقبلها على ذلك فلم تنفق عليه فله أن يردها استحساناً ذكره في كتاب «الصلح من النوازل» . وفي «المنتقى» اشترى شيئاً بألف درهم وقبض الألف فوجدها نبهرجة ثم عرضها على البائع فهو رضا منه بها وليس له أن يردها، وعن أبي يوسف أنه لا يكون رضا وله أن يردها. وفي «المنتقى» عن محمد المشتري في خيار العيب إذا قال للبائع أن لم أردها إليك اليوم فقد رضيتها بالعيب فهذا القول باطل وله الرد، وفيه أيضاً رجل اشترى من رجل داراً فادعى رجل فيها مسيل ماء وأقام على ذلك بينة فهو بمنزلة العيب فإن شاء المشتري أمسكها بجميع الثمن وإن شاء ردها، وإن كان قد بني فيها بناء فله أن ينقض بناءه وليس له أن يرجع بقيمة بنائه لأن هذا عيب وليس باستحقاق شيء منها، وفيه أيضاً رجل اشتري من آخر عبداً بكر موصوف بغير تعينه، وتقابضا ثم وجد بائع العبد بالكر عيباً ووجد به عنده عيب آخر فإنه لا يرجع بشيء، وإن كان الكر بعينه عند الشراء رجع في العبد بمثل نقصان العيب في الكر إلا أن يرضى البائع وهو مشتري العبد أن يأخذ الكر بعينه ويرد العبد، وفيه أيضاً رجل استقرض من رجل (كرّ) حنطة وقبضه ثم اشتراه منه بمائة درهم يعني المستقرض

اشترى الكر المستقرض من المقرض ثم وجد بالكر عيباً، قال أبو يوسف: له أن يرده بالعيب ولا يرده في قياس قول أبي حنيفة، وكذلك إن كان القرض دراهم فاشترى المقرض بها دنانير وقبض الدنانير ثم وجد المستقرض الدراهم القرض زيفاً فله أن يستبدلها في قول أبي يوسف. نوع آخر منه إذا اشترى شيئين ووجد بأحدهما عيباً، وكان ذلك قبل أن يقبضها أو قبض أحدهما فأراد أن يرد المعيب خاصة ليس له ذلك، لما فيه من تفريق الصفقة على البائع قبل التمام ولو قبضهما رد المعيب خاصة، لأن خيار العيب لا يمنع تمام الصفقة لهذا القبض فرد المعيب خاصة لا يؤدي إلى تفريق الصفقة على البائع من قبل التمام، وليس له أن يردها إلا برضا البائع وهذا الجواب يستقيم في شيئين فيستغني كل واحد في الانتفاع به عن الآخر، فأما إذا كانا شيئين لا يستغني أحدهما في الإنتفاع به عن الآخر كروجي الخف ومصراعي الباب وما أشبهه إذا قبضهما ثم وجد بأحدهما عيباً ليس له أن يرد المعيب خاصة لما فيه من الإضرار بالبائع، ولكن أما أن يردهما أو يمسكهما وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» . إذا اشترى زوجي وجد بأحدهما عيباً بعد القبض فأراد أن يرد المعيب خاصة فظاهر الجواب أن له ذلك، قال مشايخنا: أن ألف أحدهما العمل مع صاحبه وصار بحال لا يعمل إلا مع صاحبه فإنه لا يرد المعيب خاصة وصار بمنزلة شيء واحد وإن كان المشتري شيئاً واحداً فوجد ببعضه عيباً قبل القبض أو بعده فليس له أن يرد المعيب خاصة، وإن كان المعقود عليه مما يكال أو يوزن من ضرب واحد فوجد ببعضه عيباً ليس له أن يرد المعيب خاصة سواء كان قبل القبض أو بعد القبض فظاهر وأما بعد القبض بخلاف ما إذا كان المعقود عليه ثوبين أو عبدين، والفرق أن المكيل والموزون جعل كشيء واحد من حيث الحكم في حق البيع لأن المالية والتقوم للمكيل والموزون يثبت بالإجتماع صار الكل في حق البيع كشيء واحد حكماً، ولو كان شيئاً واحداً حقيقية بأن كان ثوباً وجد ببعضه عيباً فأراد أن يرد المعيب خاصة ليس له ذلك كذلك ههنا. حكى الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي أنه كان يقول على قياس قول محمد: يجب أن يرد بعض المكيل والموزون بالعيب وإن كان مجتمعاً إذا كان التمييز لا يرد بالمعيب عيباً، وكذلك إذا وجد البعض صغاراً فأراد أن يغربل ليرد الصغار من الحب الذي هو من تحت الغربال ويمسك الباقي ليس له ذلك، وكذلك إذا اشترى الجوز والبيض صغاراً فأراد أن يرد الصغار خاصة ويمسك الباقي فليس له ذلك. وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه قال: ما ذكر من الجواب في المكيل والموزون محمول على ما إذا كان الكل في وعاءٍ واحداً أما إذا كان (95ب3) في أوعية مختلفة فوجد في وعاء واحد معيناً فإنه يرد ذلك وجد بمنزلة الثوبين والصفين كالحنطة والشعير وكان يفتي به ويزعم أنه رواية أصحابنا، وبه أخذ شيخ الإسلام خواهرزاده رحمه الله وقد عثرت على الرواية في «المنتقى» .

وصورة ما ذكر ثمة: إذا اشترى سمن أو عسل أو اشترى جرة زيت أو دهن أو سلة زعفران أو قوصرة تمر أو جوالق حنطة أو دقيق فوجد بشيء من ذلك عيباً قبل القبض أو بعده فهو بالخيار إن أمضاه، وليس له أن ينقض البيع في المعيب خاصة، لأن هذا شيء واحد والحال فيه قبل القبض وبعد القبض سواء، ولو اشترى قوصرتي تمراً أو جرتي زيت أو قرتي عسل أو كرين متفرقين وفي وعائين أو جانبيتي خل، فوجد بأحدهما عيباً قبل القبض فله أن يدع البيع أو يأخذ المبيع وإن كان بعد القبض فليس له أن يرد إلا الذي به العيب قال الحاكم أبو الفضل: قال أبو يوسف إلا إذا كان سواء مثل الأول زيتاً واحداً وسمناً واحداً فيرده كله أو يتركه كله في قول أبي حنيفة وهو قلنا. قال أبو الفضل أيضاً: وجدت في البيوع عن أبي حنيفة إذا اشترى أثواباً فقبضهما أو لم يقبضهما رد المعيب خاصة ولزمه الآخر، وروى الحسن عن أبي حنيفة إذا اشترى عشرة قوصير تمر فوجد ببعضها عيباً فإن كان تمراً واحداً من صنف واحد ليس له أن يرد إلا جميعه أو يأخذ جميعه، وإن كان مختلفاً له أن يرد المعيب خاصة. وكذلك قال الفقيه أبو جعفر فيما اشترى لفائف إبريسيم، فوجد بعض ما في كل لفافة معيباً فأراد أن يرد ذلك خاصة بأن يميز المعيب فليس له ذلك، وبمثله لو وجد لفافة منها كلها معيباً كان له أن يرد لك ويمسك مالا عيب به، وكذلك إذا اشترى عدداً من كر الغزل فوجد في كل واحد شيئاً معيباً لا يكون له أن يميز ذلك ويرده خاصة، وإن وجد بعض العدد معيباً له أن يرد ذلك ويمسك ما لا عيب به، ومن المشايخ من قال: لا فرق بينما إذا كان الكل في وعاء واحداً أو أوعية ليس له أن يرد البعض بالعيب وإطلاق محمد رحمه الله في «الأصل» : يدل عليه، وبه كان يفتي شمس الأئمة السرخسي. وفي «المنتقى» : قال محمد: رجل اشتري طعاماً ووجد به عيباً فأراد أن يرد البعض دون البعض فله ذلك، وكذلك كل ما يكال أو يوزن لأنه ليس في رد بعضه ضرر على البائع قال محمد رحمه الله: وقال أبو حنيفة ليس له أن يرد البعض دون البعض، قال: وأظنه قول أبي يوسف.. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رجل اشترى جاريتين صفقة واحدة ورأى بأحديهما عيباً قبل القبض وأعتق التي لا عيب بها لزمه الآخرى، ولو قبض التي لا عيب بها ثم أراد ردها فله ذلك، ولو كان قبض التي بها العيب وهو يعلم بالعيب فقبض أحديهما فله أن يردهما جميعاً، ولو كان قبض أحديهما وأعتقها وهو لا يعلم بالعيب ثم وجد بالأخرى عيباً ولم يقبضها فله أن يردها، وإذا قبضهما جميعاً فأعتق أحديهما وهو يعلم بعيب الأخرى فليس هذا منه رضا، ولو قبض واحدة وترك واحدة ثم حدث بكل واحدة عيب، فله أن يدع التي لم يقبض إلا أن يرضي البائع أن يقبل الأخرى بعيبها، وإن شاء البائع ذلك قال للمشتري: خذهما جميعاً. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد إذا اشترى عبدين وعلم بعيب فقبض أحدهما فهو رضا بعيبهما جميعاً. وفي «المنتقى» : رجل اشترى ثلاثة أعبد فقبض أحدهم ثم وجد بأحد الباقيين عيباً

فليس له إلا أن يردهم جميعاً أو يأخذهم جميعاً، ولو كان أعتق العبد الأول لزمه بحصته من الثمن، وهو بالخيار في الباقيين إلا إن شاء أحدهما وليس له أن يرد المعيب خاصة إلا أن يوصي البائع. وإذا اشترى جراب هروياً وأخذ ثوباً منه وقطعه وخاطه أو باعه، ثم وجد بثوب من الجراب عيباً فللمشتري أن يأخذ ما بقي من الثياب ويرد الذي به العيب خاصة، لأنه حين استهلك ثوباً فكأنه قبض كله، ولو قال البائع: لا أسلم لك أنا أرضى أن يرد الجراب كله، فليس له ذلك إلا إن شاء المشتري، ولو كان قطع الثوب ولم يخطه فرضي البائع أن يمسك الجراب ويأخذ الثوب المقطوع فله ذلك، ذكر مسألة الجراب في «المنتقى» . وفيه أيضاً اشترى من آخر نخلاً فيه تمر بوضعه من الأرض وتمره ولم يقبض المشتري حتى جر البائع فإن كان حرارة بعض النخل أو التمر بأن كان لم يبلغ الحرار فالشراء بالخيار، لأنه عيب حدث في ضمان البائع، وإن كان ما صنع البائع لم ينقص النخل والتمر فلا خيار للمشتري، لأن فعله إصلاح، وإذا قبضهما المشتري وجد بأحدهما عيباً رده وحده، لأن البائع سلم المبيع متفرقاً فلا بأس بالرد كذلك، وإن كان المشتري قبض ذلك كله قبل الحرار ثم حرة المشتري ولم ينقصه الحرار شيئاً، ولم ينقص النخيل أيضاً، ثم وجد بأحدهما عيباً لم يكن له أن يرد أحدهما دون الآخر، وله أن يردهما جميعاً بالعيب الذي وجد بأحدهما، لأنه إذا قبضهما قبل الحرار كانا بمنزلة شيء واحد وليس هذا كالفص والخاتم إذا غير أحدهما عن الآخر بعد القبض وليس فيه ضرر، لأن التمر بعض النخل لأنه خرج منه، والفص ليس من الفضة، ولو كان حرار المشتري بفص أحدهما ثم وجد العيب لم يرد واحداً منهما. أما إذا كان العيب بالذي ينقص لأنه بعيب زائد، وأما إذا كان بالآخر تفرقت الصفقة وقد كانت مجتمعة فإذا تعذر الرد رجع بنقصان العيب إلا أن يشاء البائع أن يقبل ذلك مع العيب رد، لأن امتناع الرد إنما كان لحق البائع فإذا رضي زال حقه فيرتفع الامتناع. وكذلك لو اشترى شاة على ظهرها صوف فجز البائع الصوف قبل القبض أو جزه المشتري بعد القبض، كان الجواب فيه كالجواب في التمر إلا أن فرق بينهما أن الصوف يدخل في العقد في غير شرط بخلاف التمر، والقياس في التمر كذلك لأن التمر مع النخل بمنزلة شيء واحد، لكون التمر متصلاً بالنخلة إتصال خلقة، إلا أنا تركنا القياس في التمر بالنص وهو قوله عليه السلام: «من باع نخلاً مؤبراً فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع» ، ولو كان شاة حاملاً فولدت عند البائع ولم تنقصها الولادة، فقبضها المشتري ثم وجد بأحدهما عيباً رده بحصته من الثمن، لأنه مبيع متفرق في يد البائع فلا يكون في رد أحدهما تفريق اليد على البائع، وإن قبضها ثم ولدت ثم وجد بأحدهما عيباً لم يملك الرد لأنه لا يمكن رد الأم مع الولد، لأن العقد لم يرد على

الولد فلا يرد عليه الفسخ ولا يمكن رد الأم بدون الولد، لأن الولد عنده يبقى مقصوداً بلا عوض فيكون ربا بخلاف الصوف، لأنه ظاهر صار مبيعاً فصار انفصاله عن الأصل وبقاؤه متصلاً به سواء، واللبن مثل الولد يريد به إذا اشترى شاة وفي ضرعها لبن فحلب البائع أو المشتري لبنها كان بمنزلة الولد إذ لا قيمة له حالة الإتصال كما في الولد ولهذا إذا (96أ3) غصب شاة يصير ضامناً لصوفها ولا يصير ضامناً لولدها ولبنها، وزان هذه المسألة من تلك المسألة ما إذا زاد الصوف بعد القبض يمنع الرد. وإذا اشترى فجلاً أو شلجماً معيناً في الأرض فقلعه المشتري كله فوجد ما اشترى من الفراج فيه ذلك ووجد به عيباً بعد ما قلعه كله لا يستطيع الرد بعيب ولكن يرجع بنقصان العيب. وإذا اشترى من آخر عبداً بثمن معلوم فجاء أجنبي وزاد المشتري في المبيع ثوباً فقبضه المشتري فهذا متطوع وللثوب حصة من الثمن، وقد رضي صاحب الثوب أن يكون حصة ثوبه للبائع فإن وجد المشتري بالعبد عيباً رد بحصته من الثمن ويكون حصة الثوب للبائع، وإن وجد بالثوب عيباً بعد ذلك رده على صاحبه وأخذ من البائع تلك الحصة. ولو لم يجد بالعبد عيباً رده على صاحبه ولم يرجع بحصته، فإن وجد بعد ذلك عيباً رده على صاحبه بجميع الألف. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا اشترى مصراعي باب فأخذ أحدهما بإذن البائع، ثم ذهب ليأخذ الآخر فوجده قد سرق من البائع، هلك على البائع، لأنه هلك في يده ويرد عليه المشتري ما أخذ إن شاء لأنه صار معيباً، فلو أنهما حين أخذ أحدهما عينه بصرفه قاس وباقي المسألة بحاله كان الهلاك على المشتري، لأن تعييب المأخوذ يؤثر في غير المأخوذ فيصير قابضاً له، وكذا في الخفين والنعلين. وفيه أيضاً اشترى ضيعة مع غلاتها واطلع على عيب بها وأراد ردها ساعة وجدها معيبة، لأنه لو جمع الغلات امتنع الرد لأن ذلك يكون رضا منه بالعيب، ولو ترك الغلات فكذلك يمتنع الرد لأنه تضييع فيزداد العيب. وإذا اشترى مشجرة ووجد ببعض الأشجار عيباً فأراد أن يرد المعيب خاصة ليس له ذلك، لأنها وإن كانت متباينة حقيقة فهي كشيء واحد، بمعنى ألا ترى أن المعيب لو ردها خاصة لا تشترى من البائع بمثل ما تشترى مع غيرها. نوع آخر في بيان ما يمنع الرجوع بالأرش وما لا يمنع كيفية الرجوع بنقصان العيب أن يقوم المبيع ولا عيب به، ويقوم وبه ذلك العيب، فإن كان تفاوت ما بين القيمتين النصف فالمشتري يرجع على البائع بنصف الثمن، وعلى هذا القياس فإنهم وإذا باع المشتري المبيع بعد ما علم بالعيب به، فالأصل في هذا أن في كل موضع لو كان المبيع قائماً على ملك المشتري أمكنه الرد على البائع، إما برضاه أو بغير رضاه فإذا أزاله عن ملكه بالبيع، أو ما أشبهه لا يرجع بنقصان العيب، وفي كل موضع لا يمكنه الرد لو كان المبيع قائماً على ملكه فأزاله عن ملكه بالبيع، أو ما أشبهه يرجع بنقصان العيب، ولهذا لأن المشتري الثاني قام مقام المشتري الأول بالبيع فصار كون المبيع في يد المشتري الأول وأراد أن يرجع بنقصان العيب مع إمكان الرد ليس له

ذلك، فكذا إذا كان في يد المشتري الثاني، بيان هذا الأصل إذا تعيب المبيع في يد المشتري بعيب، ثم أطلع على عيب آخر كان في يد البائع كان له أن يرده برضى البائع، فإذا خرج المبيع عن ملكه في هذه الصورة أو ما أشبهه ليس له أن يرجع بنقصان العيب. وإذا اشترى ثوباً وصبغه أو اشترى داراً وبنى فيها بناءً ثم اطلع على عيبه، ليس له أن يرده، وإن رضي به البائع فإذا أخرجه عن ملكه في هذه الصورة بالبيع أو ما أشبهه يرجع بنقصان العيب. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل اشترى عبداً وأعتقه، ثم وجد به عيباً إن كان أعتقه على مال لا يرجع بنقصان العيب، وإن كان أعتقه بغير مال يرجع بنقصان العيب عندنا، فالأصل في جنس هذه المسائل أنه متى تعذر رد المبيع على البائع بسبب إخراج المشتري المبيع عن ملكه بالبيع أو الهبة وكان ذلك قبل العلم بالعيب منع الرجوع بالنقصان عند ظهور العيب، لأن المشتري متشبث بالمبيع مع إمكان الرد بعد العلم بالعيب، أما التشبث بالبيع بعد العلم بالعيب فلأن المشتري منه والموهوب له متشبث به، وبعد العلم بالعيب، وتشبثهما كتشبث المشتري الأول لأنه حصل بتسليطه. وأما مع الرد فلأن المشتري منه لورد المشتري عليه بقضاء أمكنه الرد على البائع وكذلك الموهوب له، لو فسخ الهبة مع المشتري أمكنه الرد، قلنا: والتشبث بالمبيع بعد العلم بالعيب مع إمكان الرد دليل الرضا بالعيب، والرضا بالعيب يسقط حق المشتري في الرد وفي الرجوع بنقصان العيب. ومتى تعذر الرد بتلف المشتري على حكم ملك المشتري من غير فعله، وكان ذلك قبل العلم بالعيب لا يمنع الرجوع بنقصان العيب وذلك كالموت لأنه غير متشبث بالمبيع بعد العلم بالعيب مع إمكان الرد فلا يمنع الرجوع بنقصان العيب، كما لو كان حياً وتعذر الرد بسبب من الأسباب. ومتى تعذر الرد بتلف المشترى على حكم ملك المشتري بفعل المشتري ينظر إن كان بفعل مضمون عليه من جميع الجهات لو حصل في ملك الغير نحو القتل وإحراق الثوب وغير ذلك منع الرجوع بنقصان العيب، فإنه وصل إليه عوض الجزء الفائت من حيث المعنى، لأن القتل والإحراق سبب الضمان وجد في ملك الغير، وإنما سقط عنه الضمان بسبب ملكه، فيجعل سقوط الضمان بسبب الملك وقد زال عنه الملك بسبب القتل بدلاً عن الملك فهو معني قولنا: أنه وصل إليه العوض فلا يرجع بنقصان العيب كما لو باع. وإن كان بفعل غير مضمون عليه يمنع بجميع الجهات لو حصل في ملك الغير لا يمنع الرجوع بنقصان العيب، وذلك نحو الإعتاق والتدبير، ولأن العتق في ملك الغير لا يتصور بسبب الضمان لأنه لا ينفد أصلاً فإذا لم يكن بسبب الضمان في ملك الغير لا يمكننا أن نجعل الضمان واجباً بالسبب ثم ساقطاً عنه بسبب الملك حتى يصير سقوط الضمان بسبب الملك وقد زال عنه الملك بالإعتاق بدلاً عن الملك على نحو ما ذكرنا في القتل فهو معنى قولنا: لم يصل إليه عوض الجزء الفائت بخلاف فصل القتل على ما ذكرنا، بخلاف ما لو أعتقه على مال أو كاتبه لأنه وصل إليه عوض الجزء الفائت، لأن البدل مقابل تجميع الأجزاء القائم والفائت لأن حقه

بالجزء والفائت قائم من حيث الاعتبار ما له يصل إليه بدله، ولو قتله أجنبي لا يرجع بالنقصان قتله عمداً أو خطاءً لأنه وصل إليه العوض وهو القصاص أو القيمة. قال في «القدوري» : وإذا اشترى ثوباً أو طعاماً وخرق الثوب واستهلك الطعام ثم اطلع على عيب كان (له أن) يرجع بنقصان العيب بلا خلاف، ولو لبس الثوب حتى تخرق من اللبس، أو أكل الطعام ثم اطلع على عيب به قال أبو حنيفة: لا يرجع بنقصان العيب، وقالا: يرجع والصحيح قول أبي حنيفة، لأن الأكل واللبس في ملك الغير سبب الضمان، وإنما سقط الضمان عنه بسبب الملك والثوب ما ذكرنا. وإذا اشترى عبداً (96ب3) وباع بعضه وبقي البعض لم يرد ما بقي كيلا يتضرر البائع، ضرر عيب الشركة ولم يرجع بنقصان العيب بحصة ما باع بلا خلاف، وهل يرجع بحصة ما بقي؟ ففي ظاهر رواية أصحابنا لا يرجع، وعن محمد أنه يرجع، والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية، لأنه متشبث بالبيع بالقدر الذي باع بيد المشتري منه مع إمكان الرد أن يرد المشترى منه ذلك بعيب نقضاً، فيصير راضياً في القدر الذي باع فيصير راضياً بالباقي ضرورة عدم التجزؤ. وفي «المنتقى» : عن أبي يوسف فيمن اشترى ثوباً أو باع نصفه ثم وجد بالنصف الآخر عيباً أنه يرد ما بقي، وقال أبو حنيفة: لا يرد ويرجع بفضل العيب، قال أبو الفضل: هذا خلاف جواب «الأصل» . ولو اشترى حنطة أو سويقاً وطحن الحنطة أولت السويق بسمن ثم اطلع على عيباً يرجع بنقصان العيب، لأنه لم يتشبث بالمبيع بعد العلم بالعيب مع إمكان الرد لأنه لا يمكنه الرد بعد الطحن ولت السويق وإن رضي به البائع لمكان الزيادة فلا يصير راضياً بالعيب فيرجع بحصة النقصان. وإذا اشترى طعاماً فأكل بعضه ثم وجد بالباقي عيباً فعلى قول أبي حنيفة لا يرد ما بقي ولا يرجع بأرش ما أكل ولا بارش ما بقي، وقال أبو يوسف: لا يرد ما بقي ويرجع بأرش ما أكل، وقال محمد: يرد ما بقي ويرجع بنقصان العيب فيما أكل، فالحاصل: أن أبا حنيفة وأبا يوسف يجعلان المكيل والموزون في حكم شيء واحد فلا يرد بعضه بالعيب كما في العبد الواحد، وإنما اختلفا في الرجوع بنقصان العيب فعند أبي حنيفة الأكل بمنزلة البيع حتى قال: لو أكل جميع الطعام ثم أطلع على عيب به لا يرجع بنقصان العيب، كما لو باع فصار أكل بعض الطعام وأنه شيء واحد عنده بمنزلة بيع نصف العبد، وهناك لا يرجع بنقصان العيب أصلاً. وعند أبي يوسف الأكل بمنزلة الطحن حتى إن عنده بعد ما أكل الطعام إذا طلع على عيب يرجع بنقصان العيب كما لو طحن الحنطة ثم اطلع على عيب بها، فصار أكل بعض الطعام كطحن بعض الحنطة وذلك لا يمنع الرجوع بنقصان العيب في الكل. ومحمد رحمه الله: جعل المكيل والموزون في حكم شيئين، لأنه مما لا يضره التبعيض والأكل عنده بمنزلة الطحن فكأنه اشترى شيئين حنطة وشعيراً وطحن أحدهما ثم أطلع على عيب بالكل، وهناك يرجع بحصة ما طحن ويرد الباقي فكذا هنا هذا جملة ما ذكر في «الأصل» .l وذكر في موضع من «المنتقى» : عن محمد إذا أكل بعض الطعام ثم علم بالعيب أنه

يرجع بنقصان العيب فيما أكل وفيما بقي ولا يرد الباقي، وذكر في موضع آخر منه عن أبي يوسف: أنه إذا أكل بعض الطعام رجع بنقصان العيب الذي بقي عنده، وذكر في موضع آخر منه عن أبي يوسف عن أبي حنيفة إذا أكل بعض الطعام ثم أطلع على عيب كان بالذي أكل وبالذي بقي، فإنه يرجع بنقصان عيب ما أكل، وكذلك جميع ما يكال أو يوزن مما لا ينقصه التبعيض. وأما إذا باع بعض المكيل والموزون فعند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يرد ما بقي ولا يرجع بشيء من النقصان؛ لأنه في حكم شيء واحد فصار بمنزلة العبد الواحد، وعن محمد أنه يرد ما بقي ولا يرجع بحصة العيب فيما باع هكذا ذكر في «الأصل» . وكان الفقيه أبو الليث يفتي في هذه يقول محمد على ما ذكر في «الأصل» رفقاً بالناس، وعليه اختيار الصدر الشهيد حسام الدين. وفي «فتاوي أبي الليث» : أن من اشترى دقيقاً وخبز بعضه، ثم تبين أن الدقيق مُر، رد الباقي بحصة من الثمن ورجع بالنقصان بحصة ما استهلك وهو بناء على مذهب محمد على ما هو المذكور في «الأصل» . وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: أنه إذا باع بعض الطعام رد ما بقي في يده ولا يرجع بنقصان العيب. وفي موضع آخر من «المنتقى» إذا باع بعض الطعام، ثم وجد بالباقي عيباً لم يرد الباقي ولا يرجع بنقصان العيب في قولهم جميعاً، إذا أبق بعد القبض، ثم علم المشتري به عيباً كان عند البائع لا يكون له أن يرجع بنقصان العيب ما دام العبد حياً، فإذا مات له أن يرجع بنقصان العيب، وهذا؛ لأن الرجوع بنقصان العيب خلف عن الرد بالعيب، وإنما يصار إلى الخلف عند وقوع اليأس عن الأصل، وما دام العبد حياً لا يقع اليأس عن الأصل فلهذا لا يرجع بنقصان العيب. وإذا اشترى أرضاً ووقفه، ثم وجد به عيباً رجع بنقصان العيب، ذكر المسألة هلال الرازي في «وقفه» ، ولو جعله مسجداً، ثم وجد به عيباً لا يرجع بنقصان العيب ذكر المسألة في القدوري في «شرحه» ، والفرق بينهما: أنه لما جعله مسجداً فقد جعله لله تعالى، قال الله تعالى: {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} (الجن: 18) ومتى صار لله تعالى زال عن ملكه، ولهذا لا يعتبر فيه شرطه، فإنه لو جعل داره مسجداً بشرط أن يصلي فيه فلان دون فلان لا يعتبر هذا الشرط ولو بقي على حكم ملكه لا يعتبر شرطه؛ لأنه حينئذٍ يكون هذا شرطاً في ملكه، علم أن الدار زال عن ملكه باتخاذه مسجداً فيعتبر الإزالة عن ملكه باتخاذه مسجداً كالإزالة بالبيع، وهناك لا يرجع بالأرش وهنا كذلك إما بجعله وقفاً لا يزيله عن ملكه؛ لأن الموقوف باقي على حكم ملكه ألا ترى أنه يعتبر شرطه؟ فإنه لو وقف أرضه بشرط أن تصرف غلته إلى فلان دون فلان يعتبر شرطه فلم توجد الإزالة في باب الوقف فلا يمنع الرجوع بالأرش. ذكر القدوري مسألة المسجد في «شرحه» من غير ذكر خلاف، وفي موضع آخر أن على قول محمد لا يرجع بنقصان العيب، وعلى قول أبي يوسف يرجع بناء على أن قول

محمد المسجد مؤبد فتحت الإزالة، عن ملكه وعند أبي يوسف المسجد ليس بمؤبد فلم تتم الإزالة عن ملكه وصار من حيث المعنى كأنه لا إزالة. ولو اشترى ثوباً وكفن به ميتاً، فإن كان المشتري وارث الميت وقد اشترى بشيء من التركة رجع بالأرش، ولو تبرع بالتكفين أجنبي لم يرجع بأرش العيب، والفرق وهو أن المشتري إذا كان وراثاً وقد اشترى من التركة لمورثه فالملك في الكفن لم يثبت للوارث بل هو على ملك المورث فبقي الملك في الكفن على الوجه الذي أوجبه العقد وقد تعذر الرد، بخلاف ما إذا تبرع أجنبي بالتكفين؛ لأن الكفن ملك المتبرع وبالتكفين أزاله عن ملكه فيبطل حقه من كل وجه كما لو تبرع به على إنسان في حال حياته. إذا مات العبد المشترى في يد المشتري الثاني، ثم اطلع على عيب به ورجع على بائعه وهو المشتري الأول بنقصان العيب، فالمشتري الأول لا يرجع على بائعه بنقصان العيب؛ لأن البيع الثاني لم ينفسخ فلم يثبت حق الرد في المشتري الأول فلا يثبت له حق الرجوع بالنقصان خلفاً عنه، وهذا قول أبي حنيفة وعلى قول أبي يوسف يرجع، ذكر قول أبي يوسف في هذه المسألة في «المنتقى» ولم يذكر قول محمد، وذكر في «المنتقى» أيضاً قول محمد في مثل هذه المسألة نظير قول أبي يوسف في هذه المسألة، وذكر قول أبي يوسف بخلافه. وصورتها: رجل اشترى (79أ3) من آخر جارية وباعها فولدت في يد المشتري الثاني ولداً ووجد بها عيباً قد كان دلسه البائع الأول ولم يعلم به المشتري الأول ورجع المشتري الثاني على المشتري الأول بنقصان العيب لا يرجع المشتري الأول على بائعه بذلك في قول أبي يوسف، وقال محمد: يرجع. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل اشترى من آخر عبداً بألف درهم وتقابضا، ثم أقر المشتري أن البائع قد كان أعتقه قبل البيع أو دبره، أو كاتب أمة فأقر أنه استولدها، وأنكر البائع ذلك، وحلف لا يصدق المشتري على البائع؛ لأن إقرار الإنسان ليس بحجة على غيره على ما عرف ويكون العبد حراً في الإقرار بالعتق وولاؤه موقوف، وصار مدبراً موقوفاً في مسألة التدبير وكذا في مسألة الاستيلاد، وإن وجد المشتري بالمبيع عيباً علم أنه كان عند البائع، فله أن يرجع بنقصان العيب؛ لأنهما تصادقا على الرجوع بنقصان العيب، أما البائع؛ فلأن في زعمه أن المشتري أقر كاذباً، وإنه صار كالمنسي للإعتاق والتدبير، وذلك لا يمنعه من الرجوع بنقصان العيب على ما مر، والمشتري يزعم أن البيع وقع باطلاً، وإن له حق الرجوع بجميع الثمن فصار قدر النقصان متفقاً فلهذا رجع بنقصان العيب. وكذلك لو كان المشتري أقر أنه والأصل والمسألة بحالها رجع بنقصان العيب لما قلنا، ولو كان المشتري أقر أن العبد لم يكن للبائع يوم باعه، وإنما كان لفلان فصدقه المقر له في ذلك، فإن شاء أجاز البيع وأخذ منه الثمن وإن شاء لم يجز وأخذ العبد؛ لأنه ثبت بتصادقهما أن البائع كان فضولياً في هذا البيع وأن البيع توقف على إجازة المقر فيكون له الخيار، فإن أجاز بيعه وأخذ الثمن، ثم إن المشتري وجد بالعبد عيباً قديماً لم يرجع بشيء على البائع؛ لأن الإقرار من المشتري نزل منزلة التمليك، ولا نعني به أن الإقرار تمليك مبتدأ؛ لأن الإقرار خيار عن كائن سابق والتمليك إنشاء الملك، ولكن نعني به أن الإقرار بدل عن التمليك؛ لأن الإقرار بالملك إخبار عن سبق الملك والملك لا بد له من التمليك ولكن الإقرار إنما يدل على سبق التمليك بأدنى زمان يمكن فيجعل كأن المشتري ملكه منه، ثم أقر له بناءاً على ذلك، فإذا كان هكذا انقطع ملك المشتري عن المبيع فبطل حقه في العيب أصلاً، وهذا إذا صدقه المقر له في الإقرار، فإن كذبه فيه رده بالعيب؛ لأن الإقرار نفسه ليس بتمليك، وإنما يثبت التمليك في ضمن الإقرار، فإذا بطل الإقرار بطل التمليك الذي يثبت في ضمنه. وكذلك لو كان الإقرار من المشتري بهذا بعد علمه بالعيب وكذبه المقر له رده المشتري على البائع، بخلاف ما إذا عرضه المشتري على البيع بعد العلم بالعيب. والفرق وهو أن العرض على البيع إنشاء تصرف يعتمد الملك في المحل بعضه الأصل فيكون ذلك دليلاً على تقرير ملكه وإبطال حقه في العيب، فأما الإقرار كما يصح في الملك يصح في غير الملك حتى أن من أقر بما لا يملك، ثم ملكه يوماً من الدهر يؤمر بالتسليم إلى المقر له فلا يكون هذا رضاً من المقر ينوب ملكه. ولو وجد به المشتري عيباً قديماً وقد حدث عنده آخر حتى امتنع رده وذلك قبل إقراره فرجع بنقصان العيب، ثم أقر به المشتري المقر له وصدقه المقر له لم يرجع البائع على المشتري بنقصان العيب الذي أخذ منه؛ لأن أكثر ما في الباب أن الإقرار من المشتري جعل بمنزلة تمليك مبتدأ على ما مر أن التمليك إنما يثبت سابقاً على الإقرار بأدنى يوم يمكن فيحمل وجود التمليك بعد الرجوع بنقصان العيب، ويحتمل أن يكون قبله فلا يبطل المأخوذ بالشك، وفي الفصل الأول لا يثبت حق الرجوع للمشتري بالشك. قال: رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم، وتقابضا فأقر المشتري أن العبد لفلان أعتقه قبل أن اشتريه وأنكر البائع ذلك كله فهو على وجوه: أما إن صدقه المقر له في الملك والإعتاق، أو صدقه في الملك دون الإعتاق، أو كذبه فيهما جميعاً. ففي الوجه الأول: كان العبد مولى للمقر له؛ لأن المشتري أقر له بالملك وشهد عليه بالعتق، فإذا صدقه في الملك نفذ الكل عليه، وإن وجد المشتري بالعبد عيباً قديماً لم

يرجع بشيء؛ لأنه لما ثبت الملك للمقر له بإقرار المشتري ولم يصدقا على البائع جعل كأن المشتري ملكه بعد الشراء تمليكاً مبتدأ، ثم أعتقه المقر له، ثم أقر به المشتري، ولو كان كذلك لم يرجع المشتري على البائع بشيء فههنا كذلك. وفي الوجه الثاني: دفع العبد إلى المقر له وكان عبداً له لا يعتق عليه؛ لأن المشتري أقر له بالملك وشهد عليه بالعتق فثبت ما أقر به بحكم التصديق، وبطل ما شهد به بحكم التكذيب، وإن وجد المشتري به عيباً لم يرجع بشيء لما قلنا: إن الإقرار منه بمنزلة تمليك مبتدأ على ما مر. وفي الوجه الثالث: عتق العبد على المقر؛ لأنه مالكه ظاهراً وقد أقر بحريته حيث

نسب الإعتاق إلى من يزعمه مالكاً والمالك الظاهر متى أقر بحرية مملوكه يعتق وكان الولاء موقوفاً لما قلنا قبل هذا، وإن وجد المشتري بالعبد عيباً قديماً يرجع بنقصان العيب على البائع؛ لأن المقر بهذا الإقرار جعل كالمنسي للإعتاق ولم يجعل بمنزلة الملك؛ لأن التمليك إنما كان مقتضياً للإقرار بالملك للمقر له وقد بطل الإقرار بتكذيب المقر له فبطل ما ثبت في ضمنه. ولو أقر المشتري أنه اشتراه وهو لفلان إلا أن المشتري قال أعتقه فلان بعد شرائي لا يرجع بنقصان العيب، أما إذا صدقه المقر له فيهما أو صدقه في الملك دون الإعتاق فلما قلنا، وكذلك إذا كذبه فيهما فرق بين هذا وبين ما تقدم، والفرق وهو: أن فيما تقدم المشتري زعم أن شراؤه وقع على حر فلم يثبت الملك له حتى يجعل الإقرار بالملك لفلان تمليكاً مبتدأ، منه أما ههنا إقرار الشراء وقع على مال متقدم وشراء ما هو مال متقدم صحيح فقد أقر بصحة الشراء، ثم أقر للمقر له بالملك على وجه لا يحتمل البطلان، والإقرار بالملك لفلان بعد الإقرار بصحة الشراء إقرار منه بالتملك من فلان وتعلق به حق البائع وهو أن تنقطع خصومة المشتري منه في العيب، وبتكذيب المقر له إن بطل الإقرار في حق المشتري لم يبطل في حق البائع. استشهد في «الكتاب» فقال: ألا ترى أن المشتري إذا قال: بعت العبد من فلان، وإن فلاناً أعتقه بعد الشراء وكذبه فلان، ثم وجد المشتري به عيباً لم يرده ولم يرجع بشيء؟ لأنه أقر بالتمليك من فلان على وجه لا يحتمل النقض وقد تعلق به حق البائع الأول من حيث البراءة عن العيب ولئن بطل إقرار البائع الثاني في حقه بتكذيب المقر له لم يبطل في حق البائع الأول كذا هنا. ثم فرع على مسألة الاستشهاد وقال: لو ادعى أنه باعه من فلان ولم يذكر الإعتاق وكذبه المشتري الثاني وحلف وعزم البائع (79ب3) على ترك الخصومة كان له أن يرده على البائع الأول؛ لأن العقد قد انفسخ في حق المشتري الثاني بتكذيبه، وتوقف في حق البائع الثاني على رضاه، فإذا عزم على الفسخ فيما بينهما بتراضيهما فعاد العبد إلى قديم ملك المشتري الأول فكان له الرد بالعيب وشرط عزم المشتري الأول على ترك الخصومة حتى يتم النقص في حقه، لو وجد المشتري الأول بينة فأقامها على البائع الثاني قبل العزم على ترك الخصومة لا يلتفت القاضي إلى ذلك. وهو نظير ما قال في «الجامع الصغير» في رجل ادعى على رجل أنه باع أمته وحجد المشتري وحلف، وعزم البائع على ترك الخصومة كان له أن يطأها، والمعنى ما مر، ثم ما ذكر هنا إشارة إلى أن عند العزم على ترك الخصومة ينفسخ العقد من الأصل ولم يجعل هذا إقالة في حق البائع الأول، وإنما كان كذلك؛ لأن القاضي ألزم المشتري الأول حكم الفسخ بغير رضاه وما يلزم الإنسان من غير رضاه لا يمكن أن يجعل إقالة. رجل اشترى من آخر عبداً بألف درهم وتقابضا، ثم أقر المشتري أن العبد مدبر لهذا الرجل أو كانت أمة فأقر المشتري أنها أم ولد لهذا الرجل اشتراهما وهما كذلك أو حدث

المقر له فيهما أو كذبه في التدبير والاستيلاد وصدقه في الملك أوكذبه في الكل، وزعم المقر أن المقر له فعل ذلك بعد الشراء، وإنما يخالف هذا الأول فيما إذا كذبه المقر في الكل، وزعم المقر أن المقر له فعل ذلك قبل الشراء، فإنه قال في الإعتاق يرجع بنقصان العيب وفي التدبير والاستيلاد لا يرجع. والفرق: أن في مسألة الإعتاق والشراء زعم أن شراءه وقع على الحر ولم يثبت الملك له فلم يجعل الإقرار من المشتري تمليكاً مبتدأ منه ولم يتعلق به حق البائع بل جعل المقر كالمنسي للإعتاق فملك الرجوع بالنقصان. أما في مسألة التدبير والاستيلاد المشتري اعترف بقيام المالية وقت الشراء؛ لأن المدبر وأم الولد مالان محلان للبيع، ولهذا جاز البيع فيهما بقضاء القاضي، ويجوز البيع فيما ضمت إليهما فيثبت الملك للمشتري، وصار مقراً بملك حادث للمقر له من جهته، ويعلق به حق البائع وهو بطلان خصومة المشتري معه في العيب، إلا أنه بإسناد التدبير إلى ما قبل الشراء ادعى معارضاً مانعاً ثبوت الملك له بالشراء مع قيام المحلية فلم يصدق في دعوى الإسناد فيما يرجع إلى حق البائع فلهذا لم يرجع بنقصان العيب. ذكر في «فتاوي أهل سمرقند» : إذا اشترى سمناً ذائباً فأكله، ثم أقر البائع أنه قد كان وقع فيه الفأرة وماتت يرجع بنقصان العيب عند أبي يوسف ومحمد، وعليه الفتوى. إذا اشترى شجرة وقطعها فوجدها لا تصلح إلا للحطب يرجع بنقصان العيب، إلا أن يأخذها البائع مقطوعة، في هذا الموضع أيضاً، قالوا: وهذا إذا اشترى لا لأجل الحطب أما إذا اشتراها لأجل الحطب، لا يرجع بنقصان العيب. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : مسلم اشترى عصيراً وقبضه وتخمر في يده، ثم اطلع على عيب به لم يرده ويرجع بنقصان العيب؛ لأن تعذر الرد كان لا يضيع من جهه المشتري، فإن قال البائع: أنا آخذ الخمر بعينها فليس له ذلك؛ لأن امتناع الرد لحق الشرع؛ لأن الرد بالعيب بغير قضاء عقد جديد في حق الثالث وحرمة تمليك الخمر حق الشرع فصار الرد بالعيب عقداً جديداً في حق الشرع، فيمتنع في الخمر، فعلم أن امتناع الرد لحق الشرع فلا يسقط برضا العبد، فإن لم يخاصم في العيب حتى صارت خلاً رجع بنقصان العيب ولا يرده بالعيب إلا أن يقبله البائع؛ لأن العين وإن عاد مالاً متقوماً إلا أنه لم يعد حلواً، والرغبات مختلفة باختلاف الصفات فلا يرده إلا أن يقبله البائع؛ لأن امتناع الرد لحق البائع وقد رضي به البائع. ولو أن نصرانياً اشترى من نصراني خمراً وتقابضا، ثم أسلما، ثم وجد المشتري بالخمر عيباً لا يرده بالعيب، وإن قبله البائع كذلك، ولكن يرجع بنقصان العيب، فإن لم يرجع بنقصان العيب حتى صار الخمر خلاً لم يرده بالعيب، إلا أن يرضى البائع. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : رجل اشترى الجوز أو البيض فيكسره فيجده فاسداً فله أن يرده ويأخذ الثمن كله، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: يريد به إذا وجده خاوياً علي أو وجده منتن اللب أو وجد البيض مذرة؛ لأنه تبين

أن البيع لا يصح لما نبين بعد هذا إن شاء الله، أما إذا وجده قليل اللب أو وجد لبه فاسداً ولم يكن مكتنزاً فهو من باب العيب وليس من باب الفساد وقد تعذر الرد بسبب الكسر فيرجع بنقصان العيب إلا أن يرضي البائع بأن يأخذه مكسوراً، حتى لو وجده بهذه الصفة قبل الكسر كان له الرد بسبب العيب؛ لأن الرد ممكن. والمسألة على هذا التفسير مذكورة في «المنتقى» ، وصورة ما ذكر ثمة إذا اشترى جوز فكسره فوجده فاسداً، فإنه يرده ما بقي ويأخذ الثمن، وإن كان ما كسر ينتفع به وله ثمن بأن كان قليل اللب أو كان أسود اللب، فإنه لا يرده ولا يرد ما بقي، ولكن يرجع بنقصان العيب فيما كسر، قال ثمة: فهذا عيب والأول ليس بعيب بل هو عدم، وهذا إذا كسره ولم يعلم بالعيب أما إذا كسره وهو عالم بعيبه صار راضياً فيبطل حقه في كل وجه. ثم ما ذكر في «الكتاب» مستقيم في البيض، فإنه لا قيمة لقشره، فإذا وجده فاسداً يتبين أن المبيع لم يكن مالاً فتبين أن البيع كان باطلاً لعدم مصادفته محله فيرده ويرجع بجميع الثمن، وفي الجوز أيضاً مستقيم إذا لم يكن للقشر قيمة أما إذا كان للقشر قيمة بأن كان في موضع يعد الحطب ويستعمل قشر الجوز استعمال الحطب فوجد خاوياً، اختلف المشايخ فيه منهم من قال: يرجع بحصة اللب ويصح العقد في القشر بحصته؛ لأن العقد في حق القشر صادف محله، ومنهم من قال: يرد القشر بجميع الثمن؛ لأن مالية الجوز قبل الكسر باعتبار اللب دون القشر، فإذا كان اللب لا يصلح للانتفاع به لم يكن محل البيع موجوداً وإن كان للقشر قيمة فتبين أن العقد وقع باطلاً، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي. وإذا اشترى بيض نعامة فكسرها ووجدها مذرة ذكر بعض المشايخ في شرح «الجامع الصغير» : أنه يرجع بنقصان العيب ولا يرجع بجميع الثمن؛ لأنه ينتفع بقشرها فكونها مذرة يكون عيباً فيها فيرجع بنقصان العيب فهذا الفصل يجب أن يكون بلا خلاف؛ لأن مالية بيض النعامة قبل الكسر باعتبار القشر وما فيه بخلاف قشر الجوز على قول بعض المشايخ، وأما إذا كسر بيض النعامة فوجد فيها فرخاً ميتاً اختلف فيه المتأخرون، منهم من قال: لا يجوز؛ لأنه اشترى شيئين وأحدهما ميت فلا يجوز كما بعد الانفصال، ومنهم من قال: يجوز؛ لأن الميت في معدته ومثل هذا لا يمنع جواز العقد كما إذا اشترى جارية وفي بطنها ولد ميت. وأما إذا وجد (98أ3) البعض فاسداً، لم يذكر في «الكتاب» ، وحكي عن الفقيه أبي جعفر أنه قال: إذا اشترى ألفاً أو ألوفاً من الجوز فوجد فيها عيباً أو وجدها خاوية لا يرجع بشيء؛ لأن الكثير من الجوز لا ينجو عن مثل هذا في العرف والعادة، وهو نظير التراب في الحنطة، ثم إنه جعل فلولا في الألف والألوف جميعاً وما ورد على ذلك البيض فقد حكي عن الفقيه أبي جعفر أيضاً أنه قال: إذا اشترى مائة بيضة فوجد فيها واحداً أو اثنين أو ثلاثة مذرة لا يكون له أن يرجع بشيء، وجعل الثلاثة في المائة قليلاً. وأما إذا اشترى عشرة من الجوز فوجد فيها خمسة خاوية اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يجوز العقد في الخمسة التي فيها لب بنصف الثمن بالإجماع، وقال بعضهم: يفسد العقد في الكل بالإجماع، وبعضهم قالوا: العقد يفسد في الكل عند أبي

حنيفة؛ لأنه جمع في العقد بين ما له قيمة وبين ما لا قيمة له فصار كالحر والميتة، وعندهما يصح العقد في الخمسة التي فيها لب بنصف الثمن وهو الأصح؛ لأن هذا بمعنى الثمن المفضل عندهما، فإن الثمن ينقسم على الأجزاء لا على القيمة. وكذلك إذا اشترى بطيخاً وكثيرها منتناً لا تصلح لأكل أحد من الناس ولا لعلف الدواب، فإنه يرجع بجميع الثمن، فإن كان لا يصلح لعلف الدواب، أو كان قشره يصلح لعلف الدواب فهذا من باب العيب فيرجع بنقصان لتعذر الرد بسبب الكسر، وكذلك إذا اشتراه فوجده مراً أوكان يصلح لعلف الدواب أو يتكلف بعض الناس لأكله فهذا من باب العيب، وإن كان لا يصلح لأكل أحد من الناس ولا لعلف الدواب فالعقد باطل وعلى هذا حكم الثمار وغيره من الفواكه. وفي «المنتقى» : اشترى بطيخاً بدرهم عدداً وكسر واحداً بعد القبض فوجده فاسداً لا ينتفع به فله أن يرجع بحصتها ولا يرد غيرها، وقال: وليس البطيخ في هذا كالجوز، يريد به أن في الجوز إذا وجد بعضه فاسداً رده كله. قال: واللوز والفستق والبندق والبيض نظير الجوز والرمان والسفرجل والقثاء والخيار نظير البطيخ. وفي «المنتقى» : اشترى دابة وقبضها فسرقت من يده، ثم علم بها عيباً لم يكن له أن يرجع إلى البائع بنقصان العيب رواه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة. وفيه أيضاً: اشترى ثوباً فقطعه لابن صغير له ثوباً وخاطه فوجد به عيباً فليس له أن يرجع بنقصان العيب، ولو كان الابن كبيراً رجع؛ لأن الوجه الأول: الهبة تمت بالقطع ولم يمتنع الرد بالقطع، فإن البائع لو رضي به يجوز فكانت الهبة في حال لم يكن الرد ممتنعاً، فيبطل بها حق الرد وهو الأصل، فيبطل الحلف وهو الرجوع بنقصان العيب، أما في الوجه الثاني: الهبة إنما تتم بالتسليم وبالخياطة امتنع الرد فالهبة وقعت في حال كان حق الرد باطلاً، وثبت حق الرجوع بنقصان العيب فلا يمنع الرجوع بنقصان العيب، وكذلك لو قطع لمملوكه أو لأم ولده فله أن يرجع بنقصان العيب. وفي «فتاوي الفضلي» : اشترى بعيراً قبضه فلما أدخله داره سقط فذبحه إنسان فنظروا إلى أمعائه فوجدوها فاسدة فساداً قديماً، ينظر إن ذبحه الذابح بغير أمر المشتري، لم يرجع المشتري على البائع بالنقصان؛ لأن الذابح يضمن القيمة، وإن ذبحه بأمر المشتري يرجع المشتري عند أبي يوسف ومحمد بمنزلة ما لو اشترى طعاماً فأكله، ثم وجد به عيباً، فإنه يرجع بنقصان العيب. وإذا اشترى حملاً وظهر به عيب فوقع فانكسر عنقه فنحره، ليس له أن يرجع على البائع بشيء؛ لأن النحر حصل بعد العلم بالعيب وذلك يمنع الرجوع بالنقصان. رجلان لكل واحد منهما بعير فتبايعا وتقابضا، ثم وجد أحدهما عيباً في البعير الذي اشتراه فمات في يده وقد مرض البعير الآخر فله الخيار، إن شاء رجع بحصته العيب من الآخر وإن شاء رجع بحصته العيب من قيمة البعير الآخر صحيحاً، وإنما نحر لمرض البعير الآخر.

ولو اشترى عبداً بجارية وتقابضا فوطء المشتري الجارية، ثم رأى العبد صاحبه فلم يرضه، أو وجد به عيباً فرده يخير، إن شاء ضمن مشتري الجارية قيمتها يوم قبضها مشتريها، وإن شاء أخذ الجارية ولا يضمنه النقصان إن كانت بكراً ولا العقر إن كانت ثيباً؛ لأن الوطء حصل في ملك المشتري الواطئ. نوع آخر منه في دعوى العيب والخصومة فيه وإقامة البينة عليه يجب أن يعلم أن العيب نوعان: ظاهر يعرفه القاضي بالمشاهدة والعيان كالقروح والعمى والإصبع الزائدة وأشباهها، وباطن لا يعرفها القاضي بالمشاهدة والعيان. والظاهر أنواع: قديم كالأصبع الزائدة ونحوها، وحديث لا يحتمل الحدوث من وقت البيع إلى وقت الخصومة كأثر الجدري وما أشبه ذلك، وحادث يحتمل الحدوث من البيع إلى وقت الخصومة كالجراحات وما أشبهها، وحادث لا يحتمل التقدم على مدة البيع. وأما الباطن فنوعان: نوع يعرف بأثار قائمة كالثيابة والحبل والذاء في موضع لا يطلع عليها الرجال، ونوع لا يعرف بآثار قائمة كالسرقة والإباق والجنون، فإن كانت الدعوى في عيب ظاهر يعرفه القاضي بالمشاهدة ينظر إليه، فإن وجده سمع الخصومة ومالا فلا، ثم إذا سمع الخصومة، فإن كان العيب قديماً أو حادثاً لا يحدث من وقت البيع إلى وقت الخصومة كان للمشتري أن يرد؛ لأنا عرفنا قيامه للحال بالمعاينة وتيقنا بوجوده عند البائع إذا كان لا يحدث مثله، أو لا يحدث في مثل هذه المدة فيرده المشتري، إلا أن يدعي البائع سقوط حق المشتري الرد بالرضا أو غيره ويكون القول قول المشتري فيه مع يمينه، ثم عند طلب البائع يمين المشتري يحلف المشتري باتفاق الروايات وعند عدم طلبه هل يحلف المشتري عامة المشايخ على أنه لا يحلف في ظاهر الرواية. ورأيت في «المنتقى» رواية عن أبي يوسف: أن المشتري إذا أراد الرد بعيب لا يحدث مثله يحلف بالله ما علم بالعيب حين اشتراه ولا رضي به منذ علم ولا عرضهُ على بيع. قال: وكان أبو حنيفة يقول: لا أحلف المشتري حتى يدعي ذلك البائع، قال: وأجب إلى أن استحلفه وإن لم يدع البائع ذلك، وعن أبي حنيفة رواية أخرى: أن المشتري لا يحلف على ذلك من غير فصل. ثم كيف يحلف المشتري أكثر القضاة على أنه، يحلف بالله ما سقط حقك في الرد بالعيب من الوجه الذي يدعيه لا نصاً ولا دلالة وهو الصحيح. وإن كان عيباً يحتمل الحدوث في مثل هذه المدة ويحتمل التقدم عليه، أو كان مشكلاً فالقاضي يسأل البائع أكان به هذا العيب في يدك، فإن قال: نعم كان للمشتري حق الرد إلا أن يدعي البائع سقوط حق المشتري في الرد ويثبت ذلك بنكوله أو بالبينة، فإن أنكر فالقول قوله مع يمينه إن لم يكن للمشتري بينة على كون هذا العيب عند البائع.

ثم كيف يحلف البائع. (98ب3) ذكر في «الأقضية» في موضع: يحلف بالله لقد بعته وما به هذا العيب، وهذا الإنكار يصح لجواز أنه حدث به هذا العيب بعد البيع قبل التسليم، وإنه يكفي لثبوت حق الرد. وذكر في موضع آخر منه: أنه يحلف بالله لقد بعته وسلمته وما به هذا العيب، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» والقدوري في «كتابه» . وهذا لا يكاد يصح لجواز أن العيب حدث بعد البيع قبل التسليم، وإنه يكفي للرد، فمتى حلفناه عليهما كان البائع باراً في يمينه لو كان العيب حادثاً بعد البيع قبل التسليم، فيبطل حق المشتري في الرد. وذكر في كتاب الاستحلاف: أنه يحلف بالله لقد سلمته بحكم هذا البيع وما به هذا العيب، وهذا لا يكاد يصح أيضاً لجواز أنه كان، إلا أن المشتري رضي به أو أبرأه عنه، فالاعتماد على ما روى بشر عن أبي يوسف: أنه يحلف بالله ما لهذا المشتري قبلك حق الرد بالعيب الذي يدعيه، وهذا تحليف على الحاصل، وإنه موافق لمذهب محمد رحمه الله في كثير من المسائل على ما يأتي بيانه في مواضعه إن شاء الله تعالى. وإن كان عيباً لا يحتمل التقدم على مدة البيع، فالقاضي لا يرده على البائع؛ لأنه تيقن بانعدامه في يده، وأما إذا كان البيع باطناً، فإن كان يعرف بآثار قائمة في البدن، وكان ذلك في موضع يطلع عليه الرجال، فإن كان للقاضي بصارة بمعرفة الأمراض ينظر بنفسه في ذلك، وإن لم يكن له بصارة في ذلك يسأل عن من له بصارة في ذلك ويعتمد على قول مسلمين عدلين وهو أحوط والواحد يكفي، فإذا أخبره واحد مسلم عدل بذلك يثبت العيب بقوله في حق توجه الخصومة فيحلف البائع ولا يرد بقول هذا الواحد هكذا ذكر بعض المشايخ في «شرح الجامع» وفي «شرح أدب القاضي» الخصاف. وذكر بعض المشايخ في «شرح المبسوط» : أنه ما لم يتفق اثنان عدلان من الأطباء لا يثبت العيب في حق توجه الخصومة، فبعد ذلك ينظر إن كان هذا العيب لا يحتمل الحدوث في مثل هذه المدة عرف ذلك بقول الواحد أو المثنى أو أشكل عليهما ذلك اختلفوا فيما بينهم، فإنه لا يرد على البائع بل يحلف، وإن كان هذا العيب لا يحتمل الحدوث في مثل هذه المدة بأن عرف وجوده بقول الواحد لا يرد ويحلف البائع، وإن عرف وجوده بقول المثنى ذكر في الأقضية، وفي القدوري: أنه يرد بقولهم، وهكذا ذكر في «شرح الجامع» ، وعن أبي يوسف: أنه لا يرد بقول المثنى ويحلف البائع؛ لأنهم لا يهتدون عن حقيقة الأمر، وإنما يشهدون عما لا يصلح حجة للرد، وفي «أدب القاضي» للخصاف: أن قبل القبض يرد بقول المثنى وبعد القبض يحلف البائع، وإن كان عيباً لا يطلع عليه إلا النساء كالحبل وما أشبه ذلك، فالقاضي يريها النساء، الواحدة (من) النساء العدلة يكفي والثنتان أحوط، فإذا قالت واحدة عدل: أنها حبلى أو قالت اثنتان ذلك بقيت في حق توجه الخصومة، فبعد ذلك أن قالت أو قالتا حدث في مدة البيع لا يرد على البائع ولكن حلف البائع، فإن نكل الآن يرد عليه، وإن قالت أو قالتا كان ذلك بعد القبض لا يرد ولكن يحلف البائع؛ لأن شهادة النساء حجة ضعفة والعقد بعد القبض

قوي، ولا يجوز فسخ العقد القوي بحجة ضعفة. وإن كان ذلك قبل القبض فكذلك لا يرد بقول الواحد هل يرد بقول المثنى؟ ذكر بعض مشايخنا: أن على قياس قول أبي حنيفة لا يرد، وعلى قولهما يرد. وذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أنه لا يرد في ظاهر رواية، أصحابنا وفي «القدوري» : أنه لا يرد في المشهور من قول أبي يوسف ومحمد؛ لأن ثبوت العيب بشهادتين أمر ضروري ومن ضرورة ثبوت العيب توجه الخصومة لما ليس من ضرورته الرد فيحلف البائع، فإذا نكل فقال: بدت بشهادتين بنكوله فيثبت الرد. وروي الحسن بن زياد عن أبي حنيفة مطلقاً: أنه يثبت الرد بشهادتهن؛ لأن شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال كشهادة الرجال فيما يطلع الرجال، وعن محمد في رواية ابن سماعة مطلقاً: أنه يثبت الرد بشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال إلا في الحبل؛ لأن معرفة الحبل غير ممكن؛ لأن الحبل من جملة ما توخى الله علمه بنفسه، أما معرفة ما سوى الحبل حقيقة ممكن بالنظر إليه فجاز الرد بشهادتهن. وفي «النوادر» عن أبي يوسف: أن قبل القبض يثبت الرد بشهادتهن بخلاف ما بعد القبض، والفرق: أن شهادة النساء وإن كانت حجة ضعيفة إلا أن العقد قبل القبض ضعيف أيضاً، ولهذا ملك المشتري الرد بالعيب قبل القبض من غير قضاء ولا رضا ويجوز فسخ العقد بحجة ضعيفه بخلاف ما بعد القبض. وفي «المنتقى» ابن سماعة عن أبي يوسف: اشترى جارية فقبضها وادعى أنها رتقاء أريها النساء، فإن قلن هي رتقاء رددتها على البائع وكذلك إذا ادعى أن بها كية قديمة في موضع لا ينظر إليه إلا النساء قال وأرد في مثال هذا بقول امرأة واحدة، قال ثمة: وحكي عن محمد بن الحسن مثل ذلك. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى جارية وادعى أن لها حبلاً وأراد ردها بعد يوم أو يومين أو ثلاثة، فإن القاضي يحلف البائع البيتة بالله لقد بعتها وما بها حبل، وإن قال المشتري للقاضي: حلفه ما يعلم أن بها حبلاً فالقاضي يحلفه، فإن حلف على ذلك لا يحلف البتة حتى يشهد نساء أنها حامل، فإذا شهد بذلك حلف على ذلك البته على نحو ما ذكرنا، فإن لم يحلف على العلم حلف البتة لقد باعها وما بها حبل. وفي «نوادر هشام» عن محمد: اشترى جارية وادعى أن بها حبلاً وأحضر أمرأة عدلة شهدت بذلك، قال: أقبل شهادتها على أن استحلف البائع بالله لقد باعها وقبضها المشتري وما هي يومئذ بحامل، وإذا لم تشهد المرأة قلت للبائع: أهي حامل عندك الساعة، فإن لم يقر قلت: أحلف ما هي عندك الساعة حامل. وعن إبراهيم عن محمد: أن من اشترى في آخر جارية وادعى أنها خنثى يحلف البائع على ذلك؛ لأن هذا من جملة ما لا يطلع عليه الرجال والمرأة فيعذر معرفة ما وقع فيه الدعوى من جهة غيرها فيعتبر الدعوى والإنكار، والجواب في دعوى الاستحاضة في حق حكم الرجوع إلى النساء لتوجه الخصومة وفي الرد بشهادتهن قبل القبض وبعده كالجواب في دعوى الحبل على الوجه الذي ذكرنا كذا ذكر في كتاب «الاستحلاف» .

ولكن إذا شهد الرجال على الاستحاضة قبلت شهادتهم؛ لأن درور الدم يراه الرجال فجاز أن يثبت بشهادتهم. وأما إذا ادعى المشتري انقطاع حيضها وأراد ردها بهذا السبب لا يوجد لها رواية في المشاهير، وحكي عن الحاكم الإمام أبي محمد الكوفيين أنه قال: يسأل المشتري أولاً عن مقدار مدة الانقطاع، فإن ادعى الانقطاع في مدة يسيرة لا يعد (99أ3) عيباً، وإن ادعى الانقطاع في مدة كثيرة سمعت دعواه؛ لأن الناس يعدونه عيباً، فحينئذٍ يسأل البائع: أهي كما ادعاه، فإن قال: نعم، سأله: أكانت منقطعة الحيض عنده، فإن قال: نعم، ردها بإقراره عليه، وإن قال: هي كذلك للحال، ولكن ما كانت منقطعة الحيض عنده، وإنما حدث هذا العيب في يد المشتري توجهت الخصومة على البائع لتصادقهما على قيام العيب في الحال، فإن طلب المشتري يمين البائع يحلف البائع على ذلك. وكيفية الاستحلاف فيه كما في دعوى سائر العيوب، فإن حلف برئ، وإن نكل يرد عليه؛ لأن نكوله بمنزلة إقراره، وإنه حجة ملزمة، فإن شهد للمشتري شهود على انقطاع الحيض عند البائع لا تقبل شهادتهم بخلاف ما لو شهدوا على كونها مستحاضة، والفرق أن الاستحاضة درور الدم، وإنه مما يوقف عليه، أما انقطاع الحيض على وجه يعد عيباً لا يقف عليه الشهود، فقد تيقن القاضي بكذبهم، فلا يقبل شهادتهم. وإن أنكر البائع انقطاع حيضها للحال هل يستحلف البائع على ذلك؟ على قول أبي حنيفة لا يستحلف، وعلى قولهما يستحلف. بعد هذا يحتاج إلى بيان المدة اليسيرة والكثيرة. قالوا: ويجب أن تكون هذه المسألة نظير مسألة مدة الاستبراء إذا انقطع الحيض، وفي تلك المسألة الروايات مختلفة، فعن أبي يوسف: قدر الكثير بثلاثة أشهر، وعن محمد: أنه قدر الكثير بأربعة أشهر وعشر، ثم رجع وقدر الكثير بشهرين وخمسة أيام. وعن أبي حنيفة وزفر: أنهما كانا يقدران الكثير بسنتين. وإذا عرفت المدة الكثيرة، فما دون ذلك يكون يسيراً، والكثير عيب دون اليسير. فإن كان القاضي مجتهداً كان له أن يقضي بما أدى إليه اجتهاده من هذه الأقاويل، وإن لم يكن مجتهداً ليأخذ بالمدة التي اتفق عليه أصحابنا أنها كبيرة وهي سببان حتى لا يكون خروجاً عن أقاويلهم. وإذا ادعى الانقطاع في مدة كثيرة ينبغي أن يدعي الانقطاع بأحد الشيئين إما الداء أو الحبل حتى تسمع دعواه. الدليل عليه ماذكر في «فتاوي الفضلي» : إذا اشترى جارية وهي طاهرة فامتد طهرها ولم تحض من غير ظهور الحبل بها ليس له أن يردها على بائعه مالم يدع ارتفاع الحيض بالحبل أو بالداء؛ لأن الارتفاع بدون هذين الشيئين لايعد عيباً والمرجع في الحبل إلى قول النساء، والمرجع في الداء إلى قول الأطباء. وإذا أخبرت امرأة بالحبل أو طبيبان بالداء فتمام المسألة ماكتبناها قبل هذا، ويعتبر في ذلك أقصى ماينتهي إليه ابتداء حيض النساء عادة وذلك تسعة عشر سنة عند أبي حنيفة. ذكر الصدر الشهيد في بيوع «الجامع الصغير» وفي دعوى الحبل: لو قالت امرأة

واحدة أن بالجارية حبلاً، وقالت امرأتان أو ثلاثة ليس بها حبل تتوجه الخصومة على البائع بقول ملك المرأة ولا يعارضها قول المرأتان والثلاث في أنهما ليس بها حبل، فإن قال البائع للقاضي: المرأة التي تقول انها حامل جاهلة ينبغي للقاضي ان يختار لذلك امرأة عالمة تقى ههنا. فصل آخر لابد من معرفته أن الاستحاضة وانقطاع الدم والحبل لأهل له يثبت بقول الجارية، وقد ذكر في كتاب الاستحلاف ما يدل على أنه لا يثبت، فقد ذكر ثمة: أن من اشترى أمة وادعى بها حبلاً واستحاضة فالقاضي لايجعل بين البائع وبين المشتري خصومة حتى تشهد امرأة أو امرأتان بها حبلاً أو استحاضة، وبهذا تبين ان ما ذكره الصدر الشهيد في «الجامع الصغير» : أنه لا يقف عليها غيرها غير مستقيم، وإن الطريق إقرار البائع أو إشهاده في الاستحاضة والحبل، وفي الانقطاع إقرار البائع. وأما إذا كان العيب باطناً لايعرف بآثار قائمة بالبدن نحو الإباق والجنون والسرقة والبول في الفراش، فإنه يحتاج إلى إثباته في الحال؛ لأنه لايعرف عياناً وطريق معرفة ثبوته على ماذكره محمد في «الجامع» أن القاضي يسأل البائع عن ذلك إذا صح دعوى المشتري، وإنما تصح دعوى المشتري إذا ادعى أن هذه العيوب كانت في يد البائع وقد وجدت في يد المشتري إلا أن في الجنون يصح دعوى المشتري إذا ادعى هذا القدر، وفي الإباق والسرقة والبول في الفراش لابد لصحة الدعوى من زيادة شيء وهو أن يقول المشتري هذه العيوب كانت في يد البائع وقد وجدت في يد المشتري والحالة واحدة ويعني باتحاد الحالة أن يكون وجودها في يد البائع وفي يد المشتري قبل البلوغ وبعده. أما لو كانت في يد البائع قبل البلوغ ووجدت في يد المشتري بعد البلوغ فهذا لا يكفي لصحة الدعوى والسؤال للبائع، وفي الجنون سواء كان الجنون في يد البائع والمشتري قبل البلوغ، أو كان في أيديهما بعد البلوغ، أو كان في يد البائع قبل البلوغ فهذا يكفي لصحة الدعوى ولسؤال البائع، وهذا؛ لأن الجنون عيب واحد؛ لأن سببه واحد وهو آفة تخل الدماغ ففي أي حالة وجد في يد المشتري فهو عين ماكان في يد البائع. أما في الإباق وأشباهه: يختلف العيب باختلاف الحالة لاختلاف السبب فسبب الاباق والسرقة في حالة الصغر قلة العقل وبعد البلوغ سببه قلة المبالاة، وسبب البول في الفراش قبل البلوغ ضعف المثانة وبعد البلوغ داء في الباطن. وإذا اختلف سبب العيب باختلاف الحالة يختلف العيب واختلاف العيب يمنع الرد، ثم إذا صح دعوى المشتري فالقاضي يسأل البائع أنها هذا العيب في الحال، فإذا أقر به ثبت العيب في حق توجه الخصومة فيسأل أكان هذا العيب بها عندك، فإن أنكر يحلف على الثبات، وإن أنكر البائع قيام هذا العيب للحال، فإن أقام المشتري بينة على ذلك يثبت قيام العيب للحال وتوجهت الخصومة على البائع في أن هذا العيب هل كان بها

في يده. وإن لم يكن للمشتري بينة على ذلك وطلب من القاضي أن يحلف البائع بالله ما يعلم قيام العيب به في الحال. ذكر في «الجامع الكبير» : أنه يحلفه ونسب الجواب إلى أبي يوسف ومحمد فإنه معصوم ومحمد أنه يحلف ولم يذكر قول أبي حنيفة، من مشايخنا من قال: ماذكر عن الجواب قول الكل إلا أنه لم يذكر قول أبي حنيفة لا لأن قوله يخالف قولهما بل؛ لأنه لم يحفظ قوله. وحكى القاضي أبي الهيثم عن القضاة الثلاثة أن المسألة على الخلاف، على قول أبي حنيفة لايحلف، وحكي عن الفقيه أبي إسحاق الحافظ أنه قال: وجدت في كتاب الاستحلاف لمحمد ابن سلمة أن المسألة على الخلاف فوجه قولهما: أنه ادعى عليه معنى لو أقر به يلزمه فعند الانكار يستحلف كما في سائر الدعاوي، ولأبي حنيفة أن اليمين لدفع الخصومة مستحقة لإنشائها (99ب3) ومتى استحلف البائع ههنا لاتنقطع الخصومة بينهما بل تتحقق بينهما خصومة أخرى في أن هذا العيب هل كان عند البائع ويستحلف البائع مرة أخرى، ولا كذلك سائر الدعاوي. وفي «المبسوط» في «أدب القاضي» للخصاف: جعل طريق معرفة ثبوت هذه العيوب للحال البينة، فقال: لايثبت للمشتري حق الخصومة مع البائع مالم يقم بينة على وجود هذه العيوب في يد نفسه، فإن لم تكن له بينة وطلب يمين البائع فهو على الاختلاف الذي مر، وإذا ثبت وجود هذه العيوب في يد المشتري وأنكر البائع كونها عنده ولم يكن للمشتري بينة فاحتيج إلى تحليف البائع، كيف يحلف البائع؟. فعلى رواية بشر بن الوليد: يحلف بالله لهذا ملك الرد بالسبب الذي يدعيه. وذكر في «الأقضية» في الجنون، بالله ما جن عندك قط، وفي الإباق والسرقة يحلف بالله ماسرق وما بال في الفراش عندك حتى بلغ مبلغ الرجال، وهذا بناء على ما قلنا: إن الجنون لا يختلف بالاختلاف الحالة وماعداه من السرقة والإباق والبول في الفراش يختلف باختلاف الحالة، واتحاد العيب شرط ثبوت حق الرد. ثم إذا اختلفا (المشتري و) البائع، فإن حلف بريء عن دعوى المشتري، وإن نكل يرد عليه بنكوله ولا يحلف المشتري على الرضا من دعوى البائع عند أبي حنيفة ومحمد وقدر هذا. ثم إذا ادعى البائع ذلك كيف يحلف المشتري، أكثر القضاة على أنه يحلف بالله ما سقط حقك في الرد من الوجه الذي يدعيه البائع لاصريحاً ولا دلالة، وقال أبو بكر الرازي: يحلف بالله إنك محق في ردك العبد على البائع فقيل له: إن الاستحلاف مشروع على النفي وهذا استحلاف على الإثبات أيضاً، فإن المودع إذا ادعى الرد وهلاك الوديعة فإنه يستحلف على الرد وعلى الهلاك وهذا استحلاف على الإثبات. قال في «كتاب الأقضية» : اشترى جارية وظفر المشتري بشجة كانت عند البائع وحلف القاضي البائع فنكل، ردها المشتري عليه، فادعى البائع بعد ذلك أنها حبلت في يد المشتري وهي حبلى في هذه الساعة فالقاضي يسأل المشتري عن ذلك، فإن قال

المشتري: مالي بها علم فالقاضي يريها النساء، فإن قلن: هي حبلى لا يثبت الرد بقولهن، ولكن تتوجه الخصومة على المشتري فيحلف القاضي المشتري بالله ماحدث هذا الحبل عندك، فإن حلف فلا شيء عليه والرد على حاله كما كان، إن نكل يثبت ما ادعاه البائع فيردها على المشتري؛ لأن رد المشتري على البائع لم يصح هنا؛ لأنه ردها مع عيب زائد وفيه ضرر للبائع أن يدفع ذلك الضرر عن نفسه بأن يرد الجارية على المشتري، ولكن إنما يردها على المشتري مع نقصان عيب الشجة؛ لأنه تعذر الرد بعيب الشجة فيلزم البائع نقصان عيب الشجة، فإن قال البائع للقاضي: أنا أمسك الجارية مع (عيبها) ولا أضمن نقصان عيب الشجة كان له ذلك؛ لأن حق الرد إنما يثبت للبائع هنا دفعاً للضرر عنه بالرد عليه بعيب زائد، فإذا اختار إمساك الجارية فقد أسقط حق نفسه ورضي بذلك الضرر، فكان له ذلك ولا يلزمه نقصان الشجة هنا وأنه ظاهر. ولو أن القاضي حين سأل المشتري عن الحبل قال المشتري: إن هذا الحبل كان عند الباع ولم أعلم به سمع دعواه؛ لأن الحبل عيني لايظهر إلا بعد مدة فيحتمل وجوده عند البائع، وإن لم يظهر إلا في هذا الوقت فصار المشتري بدعوى وجود هذا الحبل عند البائع مقراً بوجوده عنده لكن لم يثبت وجوده عند البائع؛ لأن قول المشتري ليس بحجة على البائع إن كان حجة على نفسه، فيحلف البائع، فإن حلف لم يثبت وجوده عند البائع، وقد أقر المشتري بوجوده عنده فكان للبائع أن يرد الجارية عليه ويرد معها نقصان عيب الشجة، وإن نكل عن اليمين ظهر أن هذا العيب كان عند البائع، وظهر أن هذا الرد كان صحيحاً.t قال: ولو كان القاضي حين قضى برد الجارية على البائع بعيب الشجة فقبل أن يرد المشتري الجارية على البائع قال البائع: إنها حبلى، وهذا حبل حدث عند المشتري وقال المشتري: لا بل كان عند البائع فالقاضي لا يعجل في الرد ويحلف البائع على ما ادعى المشتري عليه أنه حدث عنده ولا يمين على المشتري هنا، بخلاف الفصل الأول، فإن هناك يحلف المشتري في تلك المسألة الرد قديم والبائع يريد نقض ذلك الرد وردها على المشتري ما دام المشتري ينكر، فلا يملك البائع ذلك بيمين نفسه فيكون اليمين على المشتري، وهنا الرد لم يتم بعد فيجعل في الحكم كأن القاضي لم يقض بالرد فكان المشتري مدعياً الرد على البائع والبائع ينكر فكان القول قول البائع مع يمينه، لكن هذا الفرق يشكل بالوجه الثاني، فإن في الوجه الثاني الرد قديم والبائع يريد نقض ذلك الرد مع هذا يحلف البائع، وإنما الفرق الصحيح أن يقال: بأن في الفصل الأول المشتري منكر وجود الحبل عنده فيحلف على ذلك، وههنا مقر بوجود الحبل عنده حيث أقر بوجوده عند البائع، فلا يحلف المشتري على وجود الحبل عنده وهو مقر بذلك، ولكن المشتري ادعى أن هذا الحبل الموجود في يده كان عند البائع، والبائع ينكر فيحلف البائع كما في الوجه الثاني. قال محمد: رجل باع نصف عبد له من رجل بخمسين ديناراً وباعه النصف الآخر

بمائة دينار، ثم إن المشتري وجد العبد أعور فقال البائع: حدث عندك أيها المشتري، وقال المشتري للبائع: كان عندك فالقول قول البائع وعلى المشتري البينة، وإن لم يكن للمشتري البينة يحلف البائع، ويقال للمشتري: أتخاصم البائع في النصف الأول أو في النصف الثاني أو فيهما؛ لأن كل واحد من النصفين معقود عليه بإيراد العقد عليه على حدة واختلاف الأسباب ينزل اختلاف الأعيان. ولو كانا عينين كان له أن يخاصم في أيهما شاء، وإن شاء خاصم فيهما كذا هنا، فإن قال: أنا أخاصم في الآخر وأقف في الأول لأتأمل أكان العيب عنده أم لا، كان ذلك، ويستحلف البائع على النصف الآخر، فإن نكل رد ذلك على البائع، وإن حلف لزم المشتري. وإذا حلف البائع، ثم إن المشتري خاصم من بعد في النصف الأول فأراد أن يستحلفه فقال البائع لما حلفت أنه لا عور عند البيع الثاني كان ذلك متى حلف أنه لا عور به عند البيع الأول بطريق الضرورة فلا أحلف مرة أخرى لايلتفت إلى ذلك؛ لأن هذه اليمين في النصف نفت الخصومة فلا تعتبر، ألا ترى أنه لو حلف المدعى عليه بعد الخصومة (100أ3) قبل طلب المدعي لا يعتبر يمينه فهذا أولى. وكان الفقه في ذلك: أن اليمين أحد نوعي الحجة للمدعي كالبينة، ثم إن البينة لا تعتبر قبل وجود الدعوى فكذا اليمين، ثم إذا حلف في النصف الأول، فإن حلف لم يرد عليه شيء، وإن نكل عن هذا اليمين لزمه النصف الأولى، فإن قال المشتري: إن العيب واحد وقد ثبت بنكوله فأرد عليه النصف الآخر لا يلتفت إلى ذلك، وهذا لا يشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن عنده النكول بدل، وبدل الفسخ في أحد النصفين لا يكون بدلاً للفسخ في النصف الآخر، وإنما يشكل عندهما النكول إقرار. ولو أقر البائع بالعيب يوم باع النصف الأول كان للمشتري أن يرد عليه النصفان، ولكن الوجه في هذا أن يقال: بأن الإقرار حجة مطلقة في حق المقر، فإذا ثبت العيب بإقراره في النصف الأول ثبت في النصف الباقي؛ إذ يستحيل أن يكون العيب قائماً بأحد النصفين شائعاً ولا يكون قائماً في النصف الآخر، فأما النكول ليس بإقرار حقيقة ولكن جعل إقراراً ضرورة قطع الخصومة فيعتبر إقرار في محل الخصومة ههنا النصف الأول دون الثاني. وكذلك لو خاصمه المشتري في النصف الأول قبل أن يخاصمه في النصف الثاني فنكل البائع عن اليمين فرد عليه النصف الأول، ثم أراد رد النصف الثاني بذلك النكول لم يكن له ذلك حتى يخاصمه فيه خصومة مستقبلة لما قلنا فلا يفيد، وإن أراد المشتري أن يخاصم في النصفين جميعاً يحلف البائع فيهما يميناً واحداً؛ لأن الدعاوي إذا اجتمعت وتوجهت من واحد على واحد والجنس متحد يكفي يمين واحدة، أصله حديث القسامة. وألا ترى أن من ادعى أموالاً مختلفة على رجل فطلب يمينه في الكل يحلف يميناً واحداً؟ فكذا هنا يحلف يميناً واحداً بالله لقد باعه النصف الأول وسلمه إليه وما به هذا العيب، وباعه النصف الثاني وسلمه إليه وما به هذا العيب، فإن حلف فيهما برئ عنهما،

وإن نكل فيهما لزماه وإن حلف في أحدهما ونكل في الآخر لزمه، ما نكل فيه وبرئ عما حلف فيه. قال محمد في «الجامع» أيضاً: رجلان باعا من رجل عبداً صفقة واحدة أو صفقتين فمات أحد البائعين وورثه البائع الآخر، ثم طعن المشتري بعيب في العبد، فإن شاء خاصمه في أحد النصفين، وإن شاء خاصمه في النصف ألأخر وقيام الحلف كقيام الأصل، فإن خاصمه المشتري فيما باعه بنفسه حلفه على الثبات بالله لقد بعته وسلمته وما به هذا العيب؛ لأن هذا تحليف على فعل نفسه فيكون على الثبات، وإن خاصمه بالذي باشر البيع مورثه، حلفه بالله لقد باعه وسلمه إليه، ولم يعلم به هذا العيب؛ لأن هذا تحليفه على فعل الغير فيكون على العلم، فإن حلف في أحدهما لم يقع به الاستغناء عن اليمين في النصف الآخر، وإن نكل في أحدهما لم يكن ذلك لازماً في النصف الآخر لما قلنا، وإن جمع بين النصفين في الخصومة فلا يخلو إما أن يكون البيع صفقة أو صفقتين، فإن كان صفقتين حلفه على النصفين ويجمع بين اليمين بالله لقد بعته بالنصف وسلمته وما به هذا العيب، ولقد باعه صاحبك بصفة وسلمه وما يعلم بهذا العيب وهذا بالاتفاق. فأما إذا كانت الصفقة واحدة فكذلك الجواب عند محمد، وعند أبي يوسف يكتفي باليمين على نصيبه خاصته على الثبات ويبرأ ذلك عن يمينه في النصف الذي باعه مورثه. محمد رحمه الله سوى بين الصفقة والصفقتين وقال: بأن الصفقة ههنا، وإن كانت متحدة صورة فهي متعذرة حكماً، ولهذا كان للمشتري أن يخاصم البائع في أي نصف شاء، ولو كانت الصفقة متعذرة ومعنى يحلف على النصفين فكذلك إذا كانت متعذرة صورة. يوضحه: أن الوارث في نصيب المورث قام مقام المورث، ولو كان المورث حياً فاليمين في نصيب أحدهما لا ينوب عن اليمين في نصيب صاحبه فهنا كذلك، وأبو يوسف رحمه الله يفرق بين الصفقة والصفقتين ويقول بأن الصفقة إذا كانت واحدة، وحلف على أحد النصفين لا يكون في التحليف على النصف الآخر فائدة إذ لا يتصور أن يكون العيب عند بيع أحد النصفين دون الآخر إذ وقت بيع النصفين واحد، فإذا استحلف على النصف الذي باعه على الثبات لا يمكنه الحلف لو كان به العيب فيحصل ما هو المقصود من الاستحلاف وهو النكول فاكتفى باليمين على الثبات في النصف الذي باعه مورثه، ولم يجعل على القلب، باعتبار أن اليمين على الثبات أقوى من اليمين على العلم، فإن في اليمين على الثبات يحنث، علم بالعيب أو لم يعلم، وفي اليمين على العلم لا يحنث ما لم يعلم بالعيب، والأقوى ينوب عن الأضعف أما الأضعف لا ينوب عن الأقوى، بخلاف ما لو كان البيع بصفقتين متفرقتين فقد تصور أن يكون العيب عند بيع أحد النصفين دون الآخر؛ لأن وقت بيع أحد النصفين غير وقت بيع النصف الآخر فلو اكتفى بالاستخلاف على النصف الذي باعه يمكنه الحلف إذا لم يكن العيب قائماً وقت بيعه، وبخلاف ما إذا كان مورثه حياً؛ لأن هناك ربما يكون أحدهما أودع من صاحبه فينكل

بنوع اشتباه لا ينكل به الآخر، فكان في استحلاف كل واحد منهما فائدة، أما ههنا فبخلافه، وبخلاف ما إذا خاصمه في أحد النصفين فحلف البائع، ثم خاصمه في النصف الآخر حيث لا يكتفي باليمين الأولى ولا ثبوت الأولى عن الثانية؛ لأن اليمين في النصف الأول لسبق الدعاوي في النصف الآخر، ولا يعتبر اليمين قبل الدعوى، أما ههنا وجدت الدعوى في النصفين فجاز أن ثبوت اليمين في النصف الذي باعه عن اليمين في النصف الذي باع مورثه. قال في «الجامع» أيضاً: متفاوضان باعا عبداً، ثم غاب أحدهما وطعن المشتري في العبد بعيب، فله أن يخاصم هذا الحاضر ويحلفه؛ لأن كل واحد منهما أصيل فيما باع وكيل عن صاحبه في الخصومة وكفيل عنه فيما التزم، وصاحبه التزم تسليم العبد سليماً فيكون كفيلاً عنه في ذلك، فلهذا يحلف، فإن نكل لزمه وإن حلف لم يلزمه، فإن حلف الحاضر، ثم حضر الغائب فأراد المشتري استحلافه كان له ذلك؛ لأن صاحبه فيما باشر لكونه أصيلاً فيحلف الآخر لكونه كفيلاً؛ لأن تحلف الأصيل لا يسقط الحلف عن الكفيل وفيما باشر هذا الذي حضر آخراً استخلف الأول لكونه كفيلاً فيحلف الذي حضر لكونه أصيلاً؛ لأن تحلف الكفيل لا يسقط حلف الأصيل. فرق بين هذا وبين ما إذا وجب لهما حق على رجل فاستحلف أحدهما الخصم، ثم حضر الأخر ليس له أن يستحلفه؛ لأن الاستحلاف يحتمل النيابة من جانب (100ب3) الطالب فصار استحلاف أحدهما لكونه وكيلاً عن الآخر كاستحلافهما، فأما في مسألتنا الكلام في الحلف والحلف لا يحتمل النيابة، وإنما يحلف كل واحد منهما فيما باع صاحبه بحكم الكفالة لا بحكم النيابة، وحلف الكفيل لا يسقط حلف الأصيل، ثم فرق بين الاستخلاف والحلف في جريان النيابة وعدم جريانه، والفرق: أن ما هو المقصود من اليمين للمدعي لا يفوت بالنيابة في الاستحلاف؛ لأن المقصود بكون المدعي عليه، وفي هذا استحلافه واستحلاف ما بينه سواء، أما هذا المقصود يفوت بالنيات في الحلف؛ لأن كل من وجب عليه اليمين يثبت فاسقاً لا يتورع عن اليمين الكاذبة فلهذا افترقا، ثم كيفية التحليف أنه يحلف الحاضر منهما بالله لقد باعه النصف وسلمه وما يعلم بهذا العيب، فإذا حضر الآخر حلف على هذا الوجه أيضاً إن كان العقد بصفقتين بالاتفاق، وكان صفقة واحدة فكذلك عند محمد وعند أبي يوسف يستحلف يميناً واحدة على الثبات في النصف الذي باع، وقد مر هذا فيما تقدم. نوع آخر في اختلاف الواقع فيه وعن محمد في «الإملاء» : إذا اشترى الرجل من آخر عبدين بألف درهم صفقة واحدة ووجد عيباً بأحدهما بعد ما قبضهما، ثم اختلفا في قيمتهما يوم وقع البيع فقال المشتري: كان قيمة المعيب ألفي درهم وقيمة الآخر ألف درهم، وقال البائع: على عكس هذا، لم يلتفت إلى قول واحد منهما، وينظر إلى قيمة العبدين يوم يختصمان فيه،

فإن كانت قيمة كل واحد منهما يوم الخصومة ألف درهم رد المعيب خاصة بنصف اليمين بعد ما حلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه. وإن أقاما جميعاً البينة على ما ادعيا أخذ بنيتهما جميعاً فيما ادعيا من الفضل فيجعل قيمة المردود ألفي درهم على ما شهد به شهود المشتري ويجعل قيمة الآخر ألفي درهم على ما شهد به شهود البائع فيرد المشتري المعيب يتضمن الثمن. ولو مات أحدهما والآخر قائم ووجد بالقائم عيباً واختلفا في قيمة القائم، وفي قيمة الميت ولا بينة لهما، فالقول قول البائع في قيمة الهالك، فالبينة بينة البائع أيضاً، ولو لم يقيما بينة على قيمة الهالك، وأقاما البينة على قيمة الحي فالبينة بينة المشتري. وفي «النوازل» : اشترى خلاً في خابية وحمله في جرة له فوجد فيهما فأرة ميتة فقال البائع: هذه الفأرة كانت في جرتك، وقال المشتري: لا بل كانت في خابيتك فالقول قول البائع؛ لأنه ينكر العيب. وفي «فتاوي أهل سمرقند» : اشترى دهناً بعينه في آنية بعينها وأتى على ذلك زمان فلما فتح رأس الآنية وكان رأسها مشدوداً منذ قبضها ووجد فيها فأرة ميتة وأنكر البائع أن تكون في يده فالقول قول البائع؛ لأنه ينكر العيب وتأويل المسألة إذا كان رأسها مشدوداً وقت القبض ولم يعلم انفتاحها بعد ذلك إلى أن وجد فيه الفأرة ولا عدمه، أما لو عرف استمرار الشد وعدم انفتاح رأس الآنية التي وجد فيها الفأرة فالقول للمشتري وله الرد. وإذا اشترى عبداً وقبضه، ثم جاء به وقال: وجدته محلوق اللحية وأنكر البائع فالقول قول البائع، فإن أثبت المشتري أنه محلوق اللحية اليوم، فإن لم يكن أتى على البيع وقت يتوهم خروج اللحية عند المشتري له أن يرد؛ لأنه العيب عند البائع وإن كان أتى على البيع مثل ذلك لم يرد ما لم تقم البينة أنه كان محلوق اللحية على البائع أو يستحلفه فينكل. وإذا ادعى المشتري عيباً بالمبيع والبائع يعلم أن هذا العيب كان به وقت البيع وبينه أن لا يأخذها حتى يقضي القاضي عليه بردها؛ لأنه لو أخذها بغير قضاء لم يكن له أن يردها على بائعه. وفي «المنتقى» : رجل باع من آخر عبداً وقبضه المشتري وطعن به لعيب، وقال: اشتريته اليوم ومثله لا يحدث في اليوم، وقال البائع: بعته منذ شهر ومثله يحدث في الشهر فالقول للبائع. وفيه أيضاً: اشترى من آخر جارية ووجد بها عيب فخاصم البائع إلى صاحب الشرطة والسلطان لم يوله الحكم فقضى على البائع وردهما إليه وقضى للمشتري بالثمن كله وبيع المشترى (قبل) أن يأخذ الثمن منه؛ لأنه يعلم أن البائع قد كان دلّس العيب. وفيه أيضاً: اشترى دابة وأراد أن يردها بعيب فقال البائع: قد ركبتها في حوائجك بعدما علمت بالعيب، وقال المشتري: لا بل ركبتها لأردها عليك فالقول قول المشتري، وتأويل المسألة على قول بعض المشايخ: إذا كان لا يمكنه الرد إلا بالركوب.

وفيه أيضاً: رجل اشترى من رجل غلاماً بجارية ووجد مشتري الجارية بالجارية عيباً وردها واختلفا في الغلام فالقول قول الذي في يده الغلام. وفيه أيضاً: رجل باع من آخر جارية وقال: بعتها وبها قرحة في موضع كذا وجاء المشتري بالجارية ولها قرحة في ذلك الموضع وأراد ردها، فقال البائع: ليست هذه القرحة، والقرحة التي أقررت بها قد برئت وهذه قرحة حادثة عندك، فالقول قول المشتري، وكذلك لو قال البائع: بعتها وإحدى عينيها بيضاء وجاء المشتري بالجارية وعينها بيضاء، وأراد أن يردها فقال البائع: كان البياض بعينها اليمنى وقد ذهب وهذا بياض حادث بعينها اليسرى، وكذلك إذا قال البائع بعتها: وبرأسها شجة إلى آخر المسألة، فإن قال البائع: في فصل الشجة كانت شجته موضحة فصارت منقلة عندك، فالقول قول البائع في هذا، وكذلك في فصل بياض العين لو قال البائع: كانت نكتة بياض ازداد عندك والعين مبيضة كلها أو عامتها فالقول قول البائع، وإن كانت بعينها نكتة بياض فقال البائع، كان البياض مثل الخردل أقل من هذا إذا جاء من هذا أمر متقارب جعلت القول قول المشتري، وإن تفاوت فالقول قول البائع. ولو قال: بعتها وبها حمى فجاء المشتري محمومة يريد ردها فقال البائع: زادت الحمى لا يصدق البائع وكان للمشتري أن يردها، ولو قال البائع: بعتها وبها عيب وجاء المشتري وبها عيب وأراد ردها فقال البائع: لم يكن بها هذا العيب وإنما كان كذا وكذا فالقول قوله؛ لأن العيوب مختلفة. ولو قال: بعته وبه عيب في رأسه فجاء به المشتري وأراد إن يرده بعيب برأسه فالقول قول المشتري أنه هذا العيب وإن كذبه البائع. والحاصل: أن البائع إذا نسب العيب إلى موضع وسماه فالقول قول المشتري، وإذا لم ينسب إلى موضع بل ذكره مطلقاً فالقول قول البائع. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا اشترى جارية وقبضها، ثم ادعى أن لها زوجاً وأراد ردها فقال البائع: كان لها زوج عندي ولكن مات عنها أو طلقها وانقضت عدتها، ثم بعتها فالقول قول البائع؛ لأنه ينكر ثبوت حق الرد؛ لأن النكاح إنما يثبت حق الرد (101أ3) على تقدير البقاء، فإذا أنكر البقاء إلى وقت البيع فقد أنكر ثبوت حق الرد، وإن قال البائع: كان لها زوج فلان عين الزوج إلا أنه طلقها قبل البيع فكذلك الجواب القول قول البائع ما دام الزوج غائباً، فإذا حضر الزوج، فإن صدق البائع في الطلاق لا يثبت للمشتري حق الرد؛ لأنه لم يثبت العيب وإن كذبه وقال: ما طلقتها فالقول قول الزوج؛ لأنهم اتفقوا على وجود النكاح ولم يثبت الطلاق بمجرد قول البائع فكان للمشتري حق الرد بعيب النكاح، وهذا الفصل مشكل؛ لأن ثبوت النكاح ههنا مضاف إلى تصديق المشتري، فإنه لولا تصديق المشتري ما ثبت النكاح بإقرار البائع، لحصول الإقرار بعد زوال ملكه، وحصول العيب مضافاً إلى المشتري لا يثبت له حق الرد، وإن قال البائع: كان لها زوج بعد البيع إلا أنه طلقها منذ التسليم، أو قال: بعد التسليم لم يقبل قوله؛ لأن البائع أقر بقيام النكاح وقت البيع، ثم ادعى رداً له والمشتري ينظر.

ولو كان لها زوج عند المشتري فقال المشتري للبائع: قد كان هذا الزوج عندك وقال البائع: كان زوجها عندي غير هذا وطلقها ذلك الزوج أو مات عنها، وقال المشتري: بل هو هذا فالقول قول البائع ولا يكون للمشتري حق الرد؛ لأن ما أقر به البائع بطل بتكذيب المشتري وما ادعاه المشتري لم يثبت لعدم تصديق البائع بخلاف ما تقدم؛ لأن هناك اتفقا على عيب واحد متصل بالعقد فكان القول قول من ينكر زواله. واستشهد محمد رحمه الله في «الكتاب» فقال: ألا ترى أن رجلاً لو اشترى عبداً أو قبضه فمات عند المشتري فادعى المشتري أن البائع باعه وبإحدى عينيه بياض ومات هو كذلك؟ وقال البائع: كان ذلك لكنه زال قبل البيع فالقول قول البائع، ولو قال: زال عنه بعد البيع فالقول قول المشتري، ولو قال البائع: كان البياض بعينه اليمنى فزال عندك وقد حدث البياض عندك باليسرى، وقال المشتري: بل البياض عندك كان باليسرى كان القول قول البائع. إن ما أقر به البائع بطل بتكذيب المشتري وما ادعاه المشتري لم يثبت لعدم تصديق البائع بخلاف ما تقدم؛ لأن هناك اتفقا على عيب واحد متصل بالعقد فكان القول قول من ينكر زواله. قال في «الجامع» أيضاً: رجل اشترى من آخر جارية، ثم أقام بينة أن لها زوجاً معروفاً غائباً لا قبل هذه الشهادة؛ لأن هذه بينة قامت لغائب أو على غائب وليس عنه خصم حاضر، وطعن أبو حازم القاضي في جواب هذه المسألة فقال: ينبغي أن يقبل هذه البينة؛ لأن الحاضر يدعي لنفسه حق الرد ولا يتوصل إلى إثباته إلا من بعد إثبات حق الغائب، وهو النكاح في مثل هذه الصورة ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب في إثبات حقه إذا كان للحاضر حق فيما هو حق للغائب، أو يكون ما هو حق الغائب سبب حق الحاضر أما إذا لم يكن فلا. ألا ترى أن من تزوج امرأة فادعت أنه كان تزوج أختها قبلها وأقامت على ذلك بينة والأخت غائبة لا تقبل بينتها؟ وإن كان لو ظهر نكاح أختها حصل الخلاص عن حبالة هذا الزوج، ولكن قبل لما لم يكن لها حق في نفس النكاح، ولم يكن النكاح سبب حقها لم تثبت هي خصماً عن أختها، إذا ثبت هذا فنقول: حق الغائب النكاح والنكاح ليس حق الحاضر ولا يثبت حقه في الرد بالعيب والنكاح ليس بسبب للرد بل الموجب للرد التزام البائع تسليم المعقود عليه سليماً، ولكن ظهور العيب كما أن عند ظهور الإحصان يجب الرجم بزنا المحصن لا بنفس الإحصان، وكما أن عند يسار الحالف تجب الكفارة بالعتق باليمين لا ننفس اليسار فكذا ههنا، وإذا لم يكن للحاضر حقاً في النكاح ولم يكن النكاح سبب حق الحاضر لا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب. وكذلك لو شهد الشهود أن لها زوجاً ولم يعرفوه فشهادتهم باطلة؛ لأنهم شهدوا بالنكاح لمجهول، ولو شهدوا بالنكاح لغائب معروف لا تقبل شهادتهم، فإذا شهدوا لغائب مجهول أولى. ولو شهدوا على إقرار البائع أن لها زوجاً معروفاً غائباً، أو على إقراره بأن لها زوجاً مجهولاً صح؛ لأن هذه شهادة على إقرار البائع وهو معلوم حاضر بخلاف الوجه الأول على ما مر.

قال في «الكتاب» : ألا ترى أنه لو شهد الشهود أن لفلان على فلان شيئاً أو غصب منه شيئاً كان باطلاً، ولو اشهدوا على إقراره أنه غصب من فلان شيئاً كان ذلك جائزاً؟ فكذا هنا، وهناك كذلك وإذا قبلت الشهادة ظهر النكاح فكان للمشتري أن يردها مع يمينه بالله ما يعلم أن الزوج مات عنها أو طلقها طلاقاً بائناً، هكذا ذكر في «الجامع» من مشايخنا من قال: هذا إذا ادعاه البائع فأما بدون الدعوى فالقاضي لا يحلف المشتري؛ لأنه نصب لفصل الخصومات، وذلك إنما يكون عند الدعوى، والأصح أن القاضي يحلف المشتري على هذا في الحالين صيانة لقضائه. وإذا اشترى خادماً وقبضه وطعن بعيب فيه فجاء بالخادم ليرده فقال البائع: ما هذا بخادمي، وقال المشتري: هذا خادمك الذي اشتريته فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأن المشتري لا يملك الفسخ بخيار العيب إلا بقضاء أو رضاء ولم يوجد قضاء فلم ينفسخ البيع، بفسخه نفى المشتري بما يدعي في هذا العين المعين مدعياً حق الفسخ لنفسه والبائع ينكر فيكون القول قول البائع، كما لو تصادقا أن المبيع هذا إلا أن المشتري ادعى عيباً فيه آخر والبائع ينكر، وهناك القول قول البائع كذا ههنا.m نوع آخر منه رجل قال لآخر: إن عبدي هذا أبق فاشتره مني فقال له الآخر: بكم تبيعه فقال: بكذا فاشتراه منه، ثم وجده المشتري آبقاً فليس له أن يرده، فإن باعه المشتري من آخر فوجده المشتري الثاني آبقاً فأراد أن يرده وأنكر المشتري الأول أن يكون آبقاً فأقام المشتري الثاني بينة على مقابلة البائع الأول لم يستحق به شيئاً؛ لأن البائع الأول أخبر أن عبده أبق لكن لم يجعل ذلك وصفاً للإيجاب فلم يصر إيجاب المشتري منتظماً لذلك، فلم يصر المشتري مقراً بذلك العيب وصار البائع الأول معترفاً بإباقة، واعترافه حجة عليه وليس بحجة على المشتري الأول. ولو قال البائع الأول للمشتري الأول: بعتك هذا العبد على أنه أبق أو على أني بريء من إباقه والمسألة بحالها كان للمشتري الآخر أن يرده على المشتري الأول؛ لأن البائع الأول جعل الإباق وصفاً لإيجابه فصار جواب المشتري قبولاً لذلك الوصف، كأنه قال: اشتريته على أنه آبق، ولو قال هكذا كان مقراً بإباق العبد كذا هنا. ولو قال البائع الأول: بعت على أني بريء من الإباق ولم يقبل من إباقه لم يرده المشتري الآخر على المشتري الأول ما لم يقم البينة على أنه باعه وهو آبق؛ لأن البائع وإن جعل الإباق (101ب3) صفة لإيجابه إلا أنه ذكر الإباق مطلقاً غير مضاف إلى العبد فصار إيجاب المشتري منتظماً كذلك على سبيل الإطلاق وبهذا لا يصير مقراً بوجود العيب فيه، ألا ترى أن البيع قد يكون بشرط البراءة عن كل عيب وذلك لا يكون إقراراً بوجود كل عيب فيه بخلاف قوله على أني بريء من إباقه؛ لأنه أضاف الإباق إلى العبد بالهاء الذي هو كناية عنه فصار جواب المشتري قبولاً بذلك الوصف فصار مقراً بذلك أما ههنا فبخلافه. وفي «المنتقى» : رجل أقر على عبده بدين، ثم باعه من آخر ولم يذكر الدين، ثم

باعه المشتري من آخر ولم يذكر الدين، فإن للمشتري الآخر أن يرده على بائعه بذلك الإقرار الذي كان من البائع الأول؛ لأن الدين لازم للغريم أن يرد البيع فيه وليس هذا كالإقرار بالإباق قبل البيع وبعده في حق فسخ البيع الآخر بين المشتري الآخر وبين بائعه الذي لم يقر بالإباق، والإقرار بالزوج كالإقرار بالدين في أن المشتري الآخر يرد على بائعه بالإقرار الذي كان من البائع الأول. وفيه أيضاً: رجل أقر أن أمته أبقت منه، ثم وكل وكيلاً أن يبيعها ولم يبين أنها آبقه فباعها مأموره وكتم ذلك الإقرار وتقابضا، ثم علم المشتري بذلك الإقرار وأراد ردها به على بائعه وكذبه بائعه وقال: لم تأبق، أو كان الإقرار من المولى بعد ما باع الوكيل وتقابضا فليس للمشتري أن يردها على الوكيل. ألا ترى أن المضاف أو شريك العنان لو باع أمة، ثم أقر رب المال أو الشريك بعيب فيها ليس بظاهر لم يكن للمشتري أن يردها على البائع بذلك الإقرار، ولو أن الموكل قال للوكيل إن عبدي آبق فبعه وابرأ من إباقه، فباع الوكيل ولم يبرأ من الإباق، ثم علم المشتري بمقالة الموكل قبل القبض فله أن يرده بذلك، وليس هذا كالمسألة الأولى التي لم يبين رب العبد فيها الإباق للوكيل، فإن هناك لا يجوز إقراره على بعض بيع الوكيل. قال: ولو كان هذا في رب المال والمضارب لم يكن للمشتري أن يرده بإقرار رب المال على المضارب علل فقال: لأن رب المال لو نهى المضارب عن البيع كان له أن يبيعه. وفيه أيضاً: لو وكل رجلاً ببيع عبد له فأقر الوكيل أنه أبق ولا يعلم أنه أقر به قبل الوكالة أو بعد الوكالة، ثم باع العبد من رجل وتقابضا، ثم اطلع على مقالة الوكيل فله أن يرد على الوكيل، وليس للوكيل أن يرده على الموكل، ولو كان المشتري سمع إقرار الوكيل بذلك قبل البيع، ثم اشتراه منه لم يكن له أن يرده على الوكيل. وفيه أيضاً: إذا باع رجل من رجل عبداً وأقر البائع والمشتري بإباقه وكان ذلك منهما في عقد البيع، ثم باعه المشتري من آخر وكتم الثاني من الآخر على أنه مأمون وليس بآبق، ثم علم المشتري الآخر بالإباق وبما جرى بين البائع الأول والمشتري الأول من إقرارهما وقت جريان البيع لم يكن له أن يرده، ولا يكون إقرار المشتري الأول بإباقه نافذاً على من لم يشتر منه من الباعة. ولو أن المشتري الأول اشتراه من غير إقرار منه ومن البائع الأول بإباقه، ثم أقام المشتري الأول بينة على إباقه ورد القاضي على البائع الأول، ثم إن البائع الأول باعه من ذلك المشتري أو من رجل آخر، وباعه المشتري من رجل وباعه المشتري الثاني من رجل آخر، ثم علم المشتري الآخر بالإباق وبما جرى بين المشتري الأول وبائعه من رد القاضي العبد عليه بالإباق ببينة قامت فله أن يرد على بائعه؛ لأن البينة حجة في حق الناس كافة.

وفيه أيضاً: إذا اشترى من آخر جارية، ثم ادعى أنها آبقة وأقام البينة على إباقها وردها القاضي بذلك أقام رجل بينة أنها أمته ولدت في ملكه وقضى القاضي له بالجارية، ثم باعها مأمونة فخاصمه المشتري في إباقها واحتج عليه بحكم الحاكم بالإباق فله أن يردها. رجل اشترى عبداً فساومه رجل فيه فقال له المشتري: اشتره مني، فإنه ليس به عيب فلم يتفق بينهما بيع، ثم إن المشتري وجد بالعبد عيباً يحدث مثله فخاصم فيه البائع وأقام بينة أنه كان عند البائع وأقام البائع بينة أنه قال عند المساومة: اشتر مني، فإنه لا عيب به لا يلتفت إلى هذه البينة ويقضى بالرد على بائعه؛ لأن بإقالة المشتري كذب معين؛ لأن هذا نفي لكل العيوب والإنسان لا يخلو عن قليل العيب عادة، ومن العيوب بالآدمي ما لا يقف عليه غيره غالباً فيسقط اعتبار حقيقة هذا اللفظ حمل على المجازة هو ترويج السلعة. ولو قال للذي ساومه: اشتر فإنه ليس به عيب كذا فلم يتفق بينهما بيع، ثم إن المشتري ادعى ذلك العيب وأراد أن يرده على بائعه بذلك فليس له ذلك؛ لأن العمل بحقيقة ممكن؛ لأن الآدمي يخلو عن عيب واحد معين فكان ذلك منه إقرار في ذلك العيب فلا تسمع دعوى وجود ذلك العيب منه بعد ذلك. ولو كان مكان العبد ثوباً وباقي المسألة بحالها، لا تسمع دعواه ولا يرده على بائعه في الوجهين جميعاً؛ لأنا لم نتيقن بكذبه؛ لأن عيوب الثوب مما يوقف عليه ولو كان العيب مما يحدث مثله أصلاً أو لا يحدث مثله في هذه المدة رد القاضي العبد على بائعه؛ لأنه صار مكذباً فيما أقر حقيقة، ولو صار مكذباً فيما أقر شرعاً ليس أنه يلتحق إقراره بالعدم كذا هنا. نوع آخر منه وإذا أصاب الإمام والجند غنائم في دار الحرب فأخرجوها إلى دار الإسلام فباع الإمام أو بعض أمنائه الغنائم لمصلحة رآها حتى جاز البيع، فوجد المشتري بجارية عيباً لا يدري أكان العيب يوم الشراء أو لم يكن، لم يكن له أن يخاصم الإمام في الرد بالعيب؛ لأن بيع الإمام خرج على وجه القضاء بالنظر للغانمين، ولو صار خصماً في هذا البيع خرج بيعه من أن يكون قضاء، فإن القاضي لا يصلح خصماً. وإذا عرفت هذا الحكم في حق القاضي فكذا في حق أمينه؛ لأن أمنيه نائب عنه هذا بخلاف ما إذا نصب الإمام وصياً عن الميت بالتصرف حيث تلحقه العهدة؛ لأنه نائب الميت ولكن ينصب القاضي، والميت كان يصلح خصماً في حياته فكذا نائبه. وإذا لم يصلح الإمام خصماً ولا نائبه كان للإمام أن يجعل أمينه خصماً للمشتري ابتداء وإن شاء نصب آخر دفعاً للضرر عن المشتري، فإن أقام المشتري البينة على الخصم أن العيب كان بالجارية يوم اشتراها ردها عليه، وإن لم يكن أراد استحلاف من يخاصمه لا يستحلف؛ لأن المقصود من الاستحلاف النكول الذي هو قائم مقام الإقرار، ولو أقر هذا الخصم بالعيب لا يصلح إقراره للمعنى الذي قلنا فكذا هذا الذي نصبه الإمام إذا أقر

لا يصلح إقراره، وإذا (102أ3) لم يصح إقراره لما قلنا فالقاضي يخرجه عن الخصومة وينصب للمشتري خصماً آخر؛ لأنه لا وجه إلى الخصومة مع هذا الخصم؛ لأنه مقر بالعيب فينصب خصماً آخر نظراً للمشتري وإذا نصب القاضي خصماً آخر ورد المشتري الجارية على هذا الخصم الآخر ببينة أقامها فالقاضي يبيع الجارية ويوفي المشتري ثمنها، فإن كان الثمن الثاني مثل الثمن الأول فيها، وإن كان أنقص أعطاه الفضل من بيت المال، وإن كان الثمن الثاني أفضل جعل الفضل للفقراء إن كانت الجارية من الخمس، وإن كانت من الأربعة الأخماس جعل الفضل في بيت المال؛ لأن ذلك حق الغانمين وتعذر صرفه إلى كل الغانمين لكثرتهم وتفرقهم، وتعذر صرفه إلى بعض الغانمين لما فيه من إبطال حق البعض فكان بمنزلة اللقطة فيوضع في بيت المال، هذه الجملة من بيوع «الجامع» . وفي «المنتقى» : رجل اشترى عبداً وباعه من أبيه، ثم مات الأب، والابن وارثه، لا وارث له غيره، ثم وجد الابن بالعبد عيباً قديماً لم يستطع رده وذكر عين هذه المسألة في «الزيادات» وزاد ثمة وباعه من مورثه في صحته، ثم مات المورث، وورثه هذا البائع لا وارث له غيره، ثم وجد بالعبد عيباً قد كان دلّسَهُ البائع الأول لا يكون له أن يرده؛ لأنه لا وجه إلى الرد على البائع الأول؛ لأن الملك هو المستفاد من جهة البائع الأول قد انعدم ببيع الوارث عن المورث، ولا وجه إلى الرد على نفسه؛ لأنه لو رد لرد لنفسه فيصير الواحد راداً ومردوداً عليه وأنه لا يجوز، ولا ينصب القاضي هنا وصياً عن الميت؛ لأنه لو نصبه إما أن ينصبه ليرده على الوارث أو على البائع الأول، ولا وجه إلى أن يرده على البائع الأول؛ لأنه ما جرى بينهما معاقدة والسبب المتحلل قائم، ولا وجه إلى أن يرده على الوارث؛ لأن في هذا إيجاب المورث الدين على الوارث بعد الموت وإنه مستحيل إذا لم يكن وارث آخر؛ لأن ما يجب من الدين للمورث على الولد بملك الوارث كما يملك سائر أملاكه. وإذا ملك ما على نفسه يسقط ضرورة أن الإنسان لا يثبت له على نفسه دين فلم يكن في إيجاب الدين للمورث على الوارث فائدة. قال مشايخنا رحمهم الله: وهذا إذا لم يكن على الميت دين فأما إذا كان عليه دين، فالقاضي ينصب خصماً للميت ليرد العبد على الوارث ولا يملك الوارث ما عليه؛ لأن دين المورث يمنع وقوع الملك للوارث فكان الرد مقيداً بخلاف ما إذا لم يكن عليه دين. قال في «المنتقى» : ولو كان مع هذا الابن ابن آخر ذلك الآخر خصماً فيه يرده على ابن البائع، ثم إنه يرده على بائعه. وفي «الزيادات» أيضاً: رجل اشترى عبداً وباعه من وارثه في صحته بثمن معلوم وقبض الثمن، ثم مات البائع وورثه هذا المشتري، ولا وارث له غيره، ثم وجد به عيباً كان له أن يرد فينصب القاضي وصياً عن الميت ليرده الوارث عليه، والرد ههنا مفيد إذ لا يستحيل وجوب الدين للوارث على مورثه بعد الموت، ألا ترى أنه إذا حفر بئراً على قارعة الطريق ومات ووقع فيها دابة الوارث وهلكت وجبت قيمة الدابة للوارث على المورث إلا أنه لا يمكنه الخصومة مع المورث والرد عليه فينصب القاضي وصياً عن

المورث ليرد عليه الوارث، فإذا رد ارتفع السبب المتحلل بقضاء القاضي وعاد الملك المستفاد من جهة البائع الأول فيرده الوصي على البائع الأول ويأخذ الثمن منه ويدفعه إلى الوارث، فإن قبل رد الوارث إنما يكون للرجوع بالثمن ورجوع الوارث بالثمن يكون في تركة الميت وتركة الميت سالمة للوارث بغير مزاحم، فأي فائدة له في هذا. قلنا: التركة سالمة للوارث إرثاً وبالرد والرجوع تسلم له التركة اقتضاء لدينه، وفيه فائدة حتى لا يتقدم عليه غريم آخر ولا يزاحمه وارث آخر إن ظهر، وهذا إذا نقده الثمن، فأما إذا لم ينقده الثمن لا يكون له الرد إذا لم يكن معه وارث آخر؛ لأنه لا فائدة في الرد في هذه الصورة؛ لأن فائدة الرد في مثل هذه الصورة استفادة البراءة عن اليمين وقد استعاد البراءة بالموت لاستحالة أن يجب للميت على وارثه دين. وفي «المنتقى» : رجل اشترى لنفسه من ابنه الصغير وأشهد على ذلك، ثم وجد به عيباً فأراد أن يرده لنفسه على ابنه، ثم يرد لابنه على بائعه فليس له ذلك، ولكن بأن القاضي حتى يجعل لابنه خصماً يرده عليه، ثم يرده الأب لابنه الصغير على الذي اشتراه منه. وكذلك لو كان الأب باع من ابنه الصغير عبداً أو قبضه لابنه من نفسه، ثم وجد به عيباً وأراد رده على نفسه لابنه. وفيه أيضاً: رجل باع عبداً بأمة وتقابضا، ثم وجد مشتري الأمة بالأمة إصبعاً زائداً وردها عليه بقضاء قاض وأخذ العبد، ثم إن مولى الأمة اطلع على أن مشتري الأمة قد كان وطئها قبل أن يستردها، والوطء لا ينقصها شيئاً وذلك بعدما ماتت الأمة في يدي الذي ردت إليه أو بعد ما باعها فليس له شيء، قال: لأنه قد كان له أن يرد الأمة ويأخذ العبد. نوع آخر في المكاتب والمأذون يردان بالعيب قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : مكاتب اشترى ابنه لم يستطع بيعه؛ لأنه كما اشتراه صار مكاتباً عليه على ما عرف، والمكاتب لا يباع، فإن وجد به عيباً لا يرده بالعيب؛ لأن الكتابة تمنع البيع فيمنع الرد ولا يرجع بنقصان العيب، واختلفت عبارة المشايخ فيه بعضهم قالوا: لأن الكتابة كما تمنع الرد تمنع الرجوع بنقصان البيع؛ لأن الكتابة في معنى البيع من حيث إنها معاوضة قابلة للفسخ، والبيع كما يمنع الرد بالعيب يمنع الرجوع بنقصان العيب، وبعضهم قالوا: لأن الملك بهذا الشراء وقع للمولى فكأن المكاتب اشتراه، ثم باعه من المولى، ثم اطلع على عيب به، والبيع يمنع الرجوع بنقصان العيب وبعضهم قالوا: لأن الرجوع بنقصان العيب خلف عن الرد ولهذا لا يصار إليه مع القدرة على الرد، إنما يظهر حكم الخلف عند وقوع الناس عن الأصل ولم يقع الناس عن الأصل ههنا؛ لأن الكتابة قابلة للفسخ يمكن الرد، فإن عجز المكاتب الذي اشترى ابنه كان له أن يرده بالعيب؛ لأن المانع من الرد الكتابة وقد ارتفعت الكتابة بالعجز والرد في الرق فارتفع المانع، والمكاتب هو الذي يلي الرد والخصومة فيه؛ لأن العاقد هو، فإنه هو المشتري، فإن لم يخاصم المكاتب في ذلك حتى لو باعه المولى أو مات كان

(102ب3) الرد إلى المولى؛ لأن الملك للمولى، والمكاتب كان في معنى الوكيل عن المولى ألا ترى أنه يقع الرد عائداً إلى المولى وحكمه واقع له؟ فإذا تعذر الرد من جهة المكاتب بالموت أو بالبيع صار كالوكيل بالشراء إذا مات قبل الرد بالعيب فهناك يثبت للمولى كل حق الرد كذا هنا. ولو أن المكاتب لم يعجز، ولكن أبرأ البائع عن العيب صح إبراؤه حتى لو عجز المكاتب بعد ذلك لم يستطع رده. فإن قيل: كيف يصح الإبراء عن العيب إسقاط حق الرد وليس للمكاتب ههنا حق الرد فكيف يصح إسقاطه. قلنا: سبب حق الرد وجوده وهو التزام البائع بالبيع تسليم المبيع تسليماً ولكن لم يثبت له حق الرد لمانع، وإسقاط الحق يعتمد سبب ثبوت الحق لاثبوت الحق لامحالة، ألا ترى أن إبراء الآخر المستأجر عن الآخر قبل استيفاء المنفعة صحيح وكذا تسليم الجار المنفعة مع وجود الشريك صحيح وإنما صح لما قلنا. وأقرب من هذا: الحر إذا اشترى عبداً وكاتبه، ثم وجد به عيباً ليس له أن يرده ولو أبرأه عن العيب صح حتى لو عجز ورد في الرق ليس له أن يرده، وإنما صح لما قلنا، فإن قيل: الإبراء عن العيب تبرع والمكاتب، ولكن تبرع هو من صنيع التجارة معهم ومثله يملك المكاتب كالتأجيل والإعارة واتحاد الضيافة اليسيرة بأقل من قيمته بما يتغابن الناس في مثله، وكذلك لو أبرأ المولى البائع عن العيب قبل العجز صح إبراؤه؛ لأن الملك للمولى على مامر والمكاتب بمنزلة الوكيل عن المولى، والموكل إذا أبرأ البائع عن العيب صح إبراؤه عن العيب كذا هنا، والذي ذكرنا من الجواب فيما إذا اشترى المكاتب ابنه فهو الجواب فيما إذا اشترى أباه أو أمه. وأما إذا اشترى أخاه أو عمه أو أخته فهو على قول أبي يوسف ومحمد هو لا يتكاتبون معه فصار الجواب فيهم والجواب في الابن والأب على السواء، وعلى قول أبي حنيفة هؤلاء يتكاتبون معه فيملك ردهم بالعيب كما يملك بيعهم، فإن أبرأ المولى البائع قبل عجز المكاتب لايصح إبراؤه عنده؛ لأن المولى لايملكه لما لم يتكاتب، ولهذا لو أعتقه المولى لايصح إعتاقه فكان أجنبياً عنه فلم يصح إبراؤه عنه لهذا. قال: وإذا اشترى المكاتب أم ولده ووجد بها عيباً إن كان معها ولد لايملك رد بيعها وإنما يملك بيعها؛ لأن الجارية في باب الاستيلاد تبع للولد، قال عليه السلام: «أعتقها ولدها» وقد امتنع الولد ههنا لما مر فيمتنع بيع الجارية ولكن يرجع بنقصان العيب فرق بين هذا وبين ما إذا اشترى ابنه، ثم وجد به عيباً فإنه كما لايرده بالعيب لايرجع عليه بنقصان العيب. والفرق إما على المعنى الأول فلأنه لم يصر مكاتبه، وأما على الثاني؛ فلأنهما لم

يصر مملوكه للمولى، وأما على المعنى الثالث؛ فلأن الاستيلاد لا يحتمل الرفع فكان الأصل ميؤوس فيظهر حكم الخلف والمكاتب هو الذي يلي الرجوع؛ لأنه من حقوق العقد والمكاتب هو العاقد فكان الرجوع له إلا أن يموت أو يباع بعد العجز على ما مر، فإن إبراء المكاتب البائع عن العيب قبل العجز صح لما قلنا، وإن إبراء المولى لايصح؛ لأن المولى أجنبي عنها، فإنها لم تتكاتب عليه ولم تدخل في ملكه، ولهذا لو أعتقها المولى لايصح بخلاف الولد على ما مر، وإن لم يكن معها ولد فكذلك الجواب على قولهما، وعلى قول أبي حنيفة: له أن يردها بناء على أصل معروف، أن المكاتب إذا ملك أم ولده وليس معها ولد فعلى قولهما تصير أم ولد له ولا يتبعها، وعلى قول أبي حنيفة: لا تصير أم ولد له ويتبعها فهما سواء بينهما إذا كان معهما ولد وجعلها أم ولد له في الحالين. وأبو حنيفة فرق، ووجه الفرق: أن المكاتب يشبه الحر من وجه ويشبه العبد من وجه فلشبهه بالأحرار جعلها أم ولد له إذا كان معها ولد ولشبهه بالعبيد لا يجعلها أم ولد له إذا لم يكن معهما ولد عملاً بالشبهين جميعاً. قال: مكاتب أو حر اشترى عبداً أو كاتبه، ثم وجد به عيباً لايرده بالعيب لما قلنا: أن الكتابة مانعة أيضاً لما مر أن الكتابة مانعة من الرد بالعيب لكونها مانعة من البيع ولا يرجع بنقصان العيب أيضاً لما مر أن الكتابة في معنى البيع والبيع يمنع الرجوع بنقصان العيب، فإن إبراء المكاتب أو الحر البائع من العيب صح الإبراء حتى لايكون للمكاتب بعد العجز ولا للحر ولاية الرد بالعيب لما مر، ولو أبرأ المولى البائع قبل عجز المكاتب لايصح الإبراء؛ لأن المولى أجنبي عن اكتساب المكاتب وإنما يملك من يكاتب عليه لأجل الضرورة، فإن التكاتب عليه لا يكون إلا بعد الدخول في ملكه. وكذلك وارث الحر إذا أبرأ البائع لايصح إبراؤه، وإن كان ذلك في مرض موت الحر؛ لأنه لاملك للوارث في مال مورثه في حال حياته، وفي مرض موته له شبهة الملك، والإبراء لا يثبت بالشبهة، ولهذا لو عفى عن جارح مورثه في الخطأ، لايبرأ، وإنما لم يبرأ لما قلنا: وإذا صح الإبراء للحال لايتوقف على ملك يحدث كالوارث إذا أعتق، ثم مات المولى إذا أعتق عبد المكاتب، ثم عجز المكاتب، فإنه لاينفذ لما قلنا، ولو أن المولى أبرأ البائع بعدما عجز المكاتب الأول قبل عجز الثاني صح الإبراء أما بعد عجز الثاني فلأنهما بالعجز صارا ملكاً للمولى، وأما قبل عجز الثاني فلأن يعجز الأول صار الثاني مملوكاً للمولى وصار المولى فيه قائماً مقام المكاتب ألا ترى أنه كان يصح من المكاتب الأول إبراء البائع قبل عجز المكاتب الثاني؟ فكذا من المولى. أكثر ما في الباب أن الرد ممتنع، إلا أن سبب حق الرد موجود فحصل الإبراء بعد وجود سبب الحق فيصح على ما مر، وكذا وارث الحر إذا أبرأ البائع بعد موت المورث صح الإبراء؛ لأن الملك والحق له. وكذلك رجل اشترى عبداً وباعه من آخر، ثم مات المشتري الأول، ثم ظهر بالعبد

عيب كان عند البائع الأول فإبراء وارث المشتري الأول البائع عن العيب صح الإبراء حتى لو رد العبد عليه صح الإبراء لا يستطيع رده على البائع، وإن كان الرد ممتنعاً في الحال وطريقه ماذكرنا. أورد محمد رحمه الله هذه المسألة لبيان أن صحة الأداء لا تعتمد قيام الحق لامحالة بل كما يصح الإبراء عند قيام الحق يصح عند وجود سببه. مكاتب اشترى عبداً وباعه من مولاه وتقابضا أولم يتقابضا حتى عجز المكاتب، ثم وجد المولى به عيباً لم يرده بالعيب؛ لأنه لو رد إما أن يرد على بائع العبد أو على (103أ3) العبد ولا وجه إلى الأول؛ لأن المولى استفاد ملكاً مبتدأً من جهة العبد فلم يملك الرد على بائع العبد ما لم يعد حكم البيع من العبد، وذلك بالرد على العبد ولا وجه إلى الرد على العبد لعدم الفائدة نيابة أن المولى إن نفذ الثمن ففائدة الرد وجوب الثمن ديناً في ذمة البائع والمكاتب بالعجز صار ملكاً للمولى، والمولي لا يستوجب على مملوكه ديناً، وإن لم ينفذ الثمن ففائدة الرد البراءة من الثمن، والمولى يعجز المكاتب ندى عن الثمن، إذ المملوك لا يستوجب على مالكه شيئاً ومالا يفيد لا يرد الشرع به على ما مر بهذا الطريق.d قلنا: إن من اشترى من آخر عبداً ولم ينقده الثمن حتى وهب البائع الثمن منه، ثم وجد بالعبد عيباً لا يرده، وإنما لا يرد لعدم الفائدة على نحو ما قلنا. ولو كان المولى اشترى العبد أولاً من رجل وباعه من مكاتبه، ثم عجز المكاتب، ثم وجد المولى بالعبد عيباً وأراد المولى أن يرده على بائعه هل له ذلك؟ لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» . قال مشايخنا: وينبغي أن لا يكون له ذلك؛ لأنه باع ما اشترى منه فلا يملك الرد عليه ما لم يرتفع حكم البيع الثاني، وذلك بالرد وتعذر الرد بحكم البيع الثاني؛ لأن البائع الثاني هو المولى فيصير هو الرد والمردود عليه، وإنه باطل، وإذا تعذر الرد بحكم البيع الثاني تعذر بحكم الأول ضرورة عندما دون عليه دين مستغرق لرقبته. اشترى عبداً وقبضه، ثم باعه من مولاه، إن باعه بمثل قيمته جاز بيعه بلا خلاف، أما على قول أبي حنيفة؛ فلأن هذا البيع يفيد له ملك العين وملك التصرف؛ لأن دين العبد إذا كان مستغرقاً يمنع الرد وقوع الملك للمولى في أكسابه، وأما قول أبي يوسف ومحمد؛ فلأن هذا البيع إن كان لا يفيد له ملك العين يفيد ملك التصرف؛ لأن دين العبد وإن كان لا يمنع وقوع الملك للمولى في أكسابه يمنع المولى عن التصرف، فهذا البيع يفيد له ملك التصرف، وأنه يكفي لنفاذ البيع أصله: شراء العبد المأذون، فإنه صحيح مع أنه لا يفيد له ملك العين لإفادته ملك التصرف، وكذا شراء رب المال شيئاً من مال المضاربة صحيح، وإنما صح لإفادته ملك التصرف هذا إذا باعه بمثل قيمته، وإن باعه وحابى فيه محاباه فاحشة أو يسيرة لا يجوز، فلم يتحمل في هذا العقد الغبن الفاحش ولا الغبن اليسير. ومن هذا الجنس مسائل: أحدها هذه، والثانية: المضارب إذا باع ممن لا يقبل شهادته له، فإنه لا يتحمل فيه الغبن اليسير كما لا يتحمل منه الغبن الفاحش.

والثالثة: المريض إذا باع وعليه دين محيط بتركته، فإنه لا يتحمل منه الغبن الفاحش إذا باع رب المال شيئاً من مال المضاربة بعدما صار رأس المال عروضاً، فإنه لا يتحمل منه الغبن اليسير، كما لا يتحمل الغبن (الفاحش) ، والأصل منه أن كل من تمكنت التهمة في تصرفه لا يتحمل منه الغبن اليسير ولا الغبن الفاحش، قلنا: والعبد في تصرفه مع المولى متهم بالميل إليه، وكذلك المضارب متهم في بيعه ممن لا تقبل شهادته له، وكذلك المريض منهم لجواز أنه قصد إيثار المشتري على الغرماء، وعلم أنه لو أبرأ بطريق التبرع ينقض تبرعه بمال إلى طريق يروج إيثاره وهو المبيع، وكذلك رب المال متهم؛ لأنه بعدما صار رأس المال عروضاً لا يملك منع المضارب ونهيه عن التصرف لتعلق حقه في الربح، فلعل أنه قصد الإضرار بحرمانه عن الربح، ثم إذا باعه من مولاه بمثل قيمته حتى جاز هذا البيع فقبضه المولى ووجد به عيباً إن كان للمولى نقد، نقد الثمن لم يملك رده على العبد؛ لأنه لا يفيد؛ لأن فائدة الرد في مثل هذه الصورة الرجوع بالثمن وهو ممتنع ههنا؛ لأن المولى لا يستوجب على عبده ديناً سواء كان على العبد دين أو لم يكن؛ لأن محل الدين ملكه والإنسان لا يستوجب ديناً في ملك نفسه، ولا يرجع بنقصان العيب على العبد أيضاً؛ لأن ذلك القدر يصير ديناً له في ملكه. فإن قيل: المولي قد يستوجب على عبده ديناً، فإنه إذا باع شيئاً من عبده المأذون المديون بالدراهم أو الدنانير، فإنه يجوز ويجب الثمن في ذمة العبد، فإن حكم البيع بالدراهم والدنانير وجوب الثمن في ذمة المشتري، على ما عرف من أصلنا: أن الدراهم والدنانير لا يتعينان في عقود المعاوضات. قلنا: بيع المولى من العبد المأذون المديون عندنا لا ينعقد موجب الثمن في ذمة العبد، بل ينعقد فيما بين المتعاقدين مفيداً الملك في الدراهم المعينة عند القبض، على مثال البيع بشرط الخيار للمشتري لا ينعقد موجباً الثمن في ذمة المشتري؛ لأن خيار الشرط يمنعه، بل ينعقد فيما بين المتعاقدين مفيداً الملك في الدراهم المعينة عند القبض، وهذا لأن الدراهم والدنانير إن كانا لا يتعينان في عقود المعاوضات يتعينان عند القبض، فينعقد العقد فيما بين المتعاقدين في الحال مفيداً الملك عند التعيين بالقبض، وهذا الطريق مما لا يمكن بحقيقة في الفسخ فيما بين المتعاقدين من غير أن يعود الثمن ديناً في ذمة البائع، الأصل له في الشرع، وإن أراد المولى أو العبد الرجوع على البائع بشيء لم يكن لهما ذلك، أما المولي، فإنه ما جرى بينهما معاقدة والسبب المحلل قائم، وأما العبد فلأن ما استفاد العبد من الملك من جهته إزالة عن ملكه إلى ملك مولاه، فلا يملك الرد عليه ما لم يعد حكم ذلك الملك بالرد على العبد، هذا إذا كان المولي قد نقد الثمن، وإن لم يكن نقد الثمن كان له أن يرد على العبد؛ لأن الرد ههنا مفيد؛ لأن فائدة الرد في مثل هذه الصورة سقوط الثمن عن ذمة المولي وبراءته عن دين العبد، ولا يستحيل أن ببراءة المولى عن دين العبد كما لو أداه إلى العبد حقيقة، فإذا رد إلى العبد بقضاء القاضي عاد حكم الملك الذي استفاده العبد من جهة بائعه فكان له أن يرد على بائعه، فإن سقط الدين

عن العبد في هذه الصورة مثل رد المولى العبد عليه، ثم أراد المولى رده على العبد لم يكن له ذلك؛ لأن المولى قد برئ من الثمن حين سقط الدين عن العبد، فلم يكن في هذا الرد فائدة فلا يرد هذا الذي ذكرنا إذا كان الثمن دراهم أو دنانير، فإن كان الثمن عرضاً بعينه أو مكيلاً أو موزوناً بعينه، ودين العبد قائم على حاله فوجد المولى بالعبد عيباً رده على العبد إن كان الثمن قائماً في يد العبد على حاله؛ لأن الرد مفيد؛ لأن فائدة الرد ههنا استحقاق لتسلم هذا العين إلى المولى، ولا يمتنع أن يكون في يد العبد عين واجب التسليم إلى المولى، كما لو غصب من مولاه عيناً، وإن كان العبد قد استهلك الثمن لم يكن للمولى أن يرده؛ لأنه لا يفيد؛ لأنه لا يستفيد به عين الثمن (103ب3) وإنما يستفيد قيمته دينا في الذمة والمولي يستوجب على عبده ديناً، وكذلك لو كان العبد باع العبد من المولى بمكيل أو موزون بغير عينه، المولى عند التسليم لم يملك رده؛ لأن حقه لا يعود في المقبوض بعينه، بل في مثله ديناً في الذمة؛ وهذا لأن حق المشتري عند الرد إنما يعود فيما يثبت فيه حق البائع وقت العقد؛ لأن الرد فسخ العقد، والعبد عند العقد استوجب على المولى مكيلاً أو موزوناً ديناً في الذمة فالمولى عند الرد يستوجب على العبد مكيلاً أو موزوناً ديناً في الذمة أيضاً، والمولى لا يستوجب على عبده ديناً فلا يكون في الرد فائدة فلا يرد. ولو كان العبد المأذون باع العبد من المولى بعرض بعينه أو بمكيل أو موزون بعينه، وقبض المولى العبد ووجد به عيباً فلم يخاصم العبد في الرد حتى سقط الدين عن العبد لا يملك المولى رد العبد. وإن كان الثمن قائماً في يد العبد على حاله؛ لأنه لا يستفيد بهذا الرد شيئاً؛ لأنه كما سقط الدين عن العبد فقد تمكن المولى من أخذ الثمن من يد العبد بدون الرد عليه بخلاف ما إذا كان الدين على العبد على حاله؛ لأن هناك المولى لا يتمكن من أخذ الثمن من يد العبد بدون الرد عليه فكان الرد مقيداً، أما هنا فبخلافه هذا كله إذا قبض المولى العبد من المأذون، فإن لم يقبضه حتى وجد به عيباً كان له أن يرده على العبد في الوجوه كلها؛ وإنما كان كذلك؛ لأن قبل القبض الصفقة عين تام لما عرف أن تمام الصفقة بالقبض، ولهذا لا يحتاج في هذا الرد إلى قضاء القاضي، بل يتفرد به العاقد ولما لم تكن الصفقة قبل القبض تامة كان الرد امتناعاً عن إتمام العقد، والعاقد مختار في تحصيل العقد، وإتمامه سواء كانت فيه فائدة حكمته أو لم تكن كما في خيار الرؤية، وخيار الشرط، أما بعد القبض، الصفقة قد تمت، ولهذا لا ينفرد العاقد بالرد بل محتاج فيه إلى قضاء القاضي والقاضي لا يشتغل بما لا يفيد على ما مر؛ ولأن العيب قبل القبض لا حصة له من الثمن، فلا يتوقف صحة الرد بالعيب على استفادته بمقابلته شيئاً ولا شيء بمقابلته، أما بعد القبض له حصة من الثمن، فإذا لم يستفد بمقابلته شيئاً بطل. وإنما وقع الفرق باعتبار أن الفائت بالعيب وصف، فما دام في يد البائع فهو بيع للمبيع، فلا يكون له حصة من الثمن، وإذا قبضه المشتري فقد احتبس هذا الوصف عند البائع فصار مقصود المكان له حصة من الثمن والأوصاف، وإلا يباع لا لفرد بالعقد فلا يفرد بضمان العقد،

إنما يفرد بالفعل فجاز أن يفرد بالضمان الذي يعود إلى الفعل؛ ولأن تقرير الحصة من الثمن المعيب قبل القبض يؤدي إلى التناقض. بيانه: إنما إذا أقررنا للعيب حصة قبل القبض لا يؤمن من أن يحدث فيه عيب قبل القبض فينتقض التقدير الذي كان؛ لأن العيب الذي يحدث قبل القبض يكون محسوباً على البائع، وما أدى إلى التناقض يكون باطلاً بخلاف ما بعد القبض، فإنا إذا قدرنا للعيب حصة من الثمن بعد القبض لا يتوهم نقضه بعيب يحدث فيه؛ لأنه يكون محسوباً على المشتري، فلا يؤدي إلى التناقض فلهذا افترقنا. واستدل محمد رحمه الله: في «الكتاب» لبيان أن العيب قبل القبض لا حصة له من الثمن بمسألتين: أحدهما: أن من اشترى عبداً ووجد به عيباً قبل القبض فصالحه البائع من ذلك العيب على جارية زيادة في البيع ولم يكن عوضاً عن حصة العيب انقسم الثمن على العبد، وعلى الجارية على قيمتهما ولم تكن حصة الجارية من الثمن حصة العيب، حتى لو وجد بأحدهما عيباً رده بحصته من الثمن، وإن كان ذلك بعد القبض كانت حصة الجارية من الثمن حصة العيب، حتى لو كان العيب ينقص العيب عشر قيمته كانت حصة الجارية عشر الثمن. المسألة الثانية: الوكيل بالشراء إذا وجد بالمبيع عيباً ورضي به، إن كان ذلك قبل القبض لزم الموكل، كأنه اشتراه مع العلم بالعيب، وإن كان ذلك بعد القبض، للعيب حصة من الثمن فوجبت حصة العيب من الثمن للموكل، فصار الوكيل بالرضا بالعيب مبطلاً حق الموكل الذي وجب، وفي العيب قبل القبض. قال: ولو أن رجلاً اشترى من رجل عبداً وقبضه ونقد الثمن، ثم باعه المشتري من رجل آخر وهب الثمن من المشتري الثاني وأبرأه منه، ثم إن المشتري الثاني وجد به عيباً وأراد أن يرده على البائع الثاني ليس له ذلك، ولو كان ذلك قبل القبض كان له ذلك. والفرق من قبل القبض ما ذكرنا، ولو كان للمشتري الثاني فيه خيار الشرط أو خيار الرؤية والباقي بحاله فله أن يردها قبل القبض وبعد القبض؛ لأن خيار الشرط يمنع انعقاد العقد في حق الحكم، وخيار الرؤية يمنع تمام الصفقة قبل القبض وبعده في ذلك على السواء فكان الرد امتناعاً عن الإتمام فلا يتوقف على الفائدة، وبعد القبض الصفقة تامة فلم يكن الرد امتناعاً عن الإتمام بل كان إلزاماً، فإذا لم يستفد بمقابلته شيئاً لا يشتغل به القاضي، فإنما سوينا في خيار الشرط وخيار الرؤية بينا قبل القبض وبعده، وفرقنا في خيار العيب بينما قبل القبض وبعده. نوع آخر في البراءة عن العيوب إذا باع شيئاً على أنه بريء من كل عيب صح المبيع وتثبت البراءة عن كل عيب. وقال الشافعي: لا تصح البراءة وعلى هذا الخلاف الإبراء عن الحقوق المجهولة

والصحيح مذهبنا؛ لأن الإبراء إسقاط فيه معنى التمليك، أما إسقاط بدليل أنه صح من غير قبول كالطلاق والعتاق، وأما فيه معنى التمليك بدليل أنه يريد بالرد وأياً ما كان فالجهالة لا تمنع صحته، أما صحة الإسقاط فظاهر، وإما صحة التمليك؛ فلأن هذا تمليك يحتاج فيه إلى التسليم؛ لأن ما وقعت البراءة عن مسلم لمن وقعت البراءة له، والجهالة إذا لم تمنع التسليم والتسليم لا يمنع صحة التمليك. كما لو اشترى قفيزاً من صبرة ويدخل في هذه البراءة العيب الموجودة والحادث قبل القبض في قول أبي يوسف، وقال محمد: لا يدخل فيه الحادث، وهذا بناء على أنه إذا باع بشرط البراءة عن كل عيب يحدث بعد البيع قبل القبض هل يصح هذا الشرط عند أبي يوسف يصح، وعند محمد لا يصح، فأما إذا كان من مذهب محمد أن البراءة عن العيب الحادث لا تصح لو نص عليه فعند الإطلاق أولى، وعند أبي يوسف لما صحت البراءة عنه حالة التنصيص عليه فكذا حالة الإطلاق. المحيط البرهانى وجه قول محمد: أن هذا إبراء قبل وجود السبب (104أ3) لأن سبب الفسخ العيب، فالإبراء قبل وجود العيب يكون إبراء قبل وجود السبب، والإبراء قبل وجود السبب لا يجوز، ولأبي يوسف أن حق المشتري في صفة السلامة مقصوداً، وصفة السلامة تستحق بالعقد لاقتصار مطلق العقد صفة السلامة؛ لأن في الفسخ مقصوداً وصفة السلامة تستحق بالعقد إذن فصار الإبراء عن كل عيب إبراء عما يقتضيه مطلق العقد من صفة السلامة، فكان إبراء بعد وجود السبب؛ لأن سبب استحقاق صفة السلامة العقد، ولو شرط أنه بريء عن كل عيب به لم ينصرف إلى حادث في قولهم جميعاً، وكذلك إذا خص ضرباً من العيوب صح التخصيص، ولو كانت البراءة عامة واختلفا في عيب فادعى المشتري أنه حادث، وقال البائع: كان به يوم العقد فالقول قول البائع في قول محمد، وقال زفر والحسن: القول قول المشتري ولا يتأتى على هذا قول أبي يوسف؛ لأن البراءة العامة عنده تتناول القائم والحادث فلا يفيد هذا الاختلاف على قوله إلا على رواية شاذة عنه: أن البراءة العامة عنده لا تتناول الحادث، على تلك الرواية جواب أبي يوسف في هذه المسألة نظير الجواب عند محمد. ووجه قول زفر والحسن: أن البراءة تستفاد من جهة المشتري فيكون القول قوله فيما أبرأ، وجه قول محمد: إن الإبراء حصل بصفة العموم فيتناول العيوب كلها، فالمشتري بدعوى حدوث بعضها يدعي خروج شيء بعينه من اللفظ فلا يقبل قوله، ولو كانت البراءة عن كل عيب بها واختلفا على نحو ما ذكرنا فالقول قول المشتري؛ لأن الإبراء يتناول عيناً موصوفاً بكونه في الحال فلا يدخل تحته إلا ما يثبت بالحجة أنه بذلك الوصف. قال هشام: سمعت أبا يوسف يقول رجل اشترى من رجل جارية وقال البائع للمشتري: أنا بريء من يدها، ولم يذكر عيباً قال: هو بريء، قلت: وإن قال أنا بريء منها قال: الإبراء عن العيب؛ لأنه لا يقع هذا على أن البراءة عن العيب في كلام الناس. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى من رجل ثوباً وأراه البائع خرقاً

فيه فقال المشتري: أبرأتك عن هذا الخرق، ثم جاء المشتري بعد ذلك يريد قبض الثوب، فإذا فيه ذلك الخرق فقال المشتري: ليس هذا الخرق مثل ما رأيته حين أبرأتك حين كان رأيته شهراً، والإذن ذراع فالقول قوله في ذلك، وكذلك القول في زيادة بياض عين الجارية. وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد: إذا قال أبرأتك عن كل عيب بعينه، فإذا هو أعور لا يبرأ، وكذلك إذا قال: أبرأتك عن كل عيب بيده، فإذا يده مقطوعة لا يبرأه، وإن كان أصبع مقطوعة من يده يبرأ، وإن كان أصبعان مقطوعتان فهذان عيبان، لا يبرأ، وإن كانت الأصابع كلها مقطوعة مع نصف الكف فهذا عيب واحد فيبرأ. وفي كتاب «العلل» : عن محمد إذا قال: أبرأتك عن كل عيب بعينها، فإذا هي عمياء فهو بريء، ولو قال: أبرأتك عن كل عيب بكفها، فإذا هي مقطوعة الكف لا يبرأ؛ لأن الكف بعد القطع لا تسمى كفاً فأما العين بعد العمي تسمي عيناً، ففي مسألة العين الإبراء صادف محله فصح، وفي مسألة الكف الإبراء لم يصادف محله فلم يصح. وعن «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إذا باع جارية قال: برئت إليك من كل عيب إلا من عيب بكفها، أو إلا من عيب بعينها فوجدها يابسة أو وجدها عمياء فهو برىء منها؛ لأنه قد سمى ذلك العيب له فهو برأ منه حين أخبره به. وكذلك إذا قال: أنا بريء من كل عيب بهذا العبد إلا إباقه فوجده آبقاً فهو بريء عنه، ولو قال: إلا الإباق فله أن يرده بالإباق، ولو باع يوماً وبرىء عن كل خرق به دخل تحت البراءة كل خرق به، دخل تحت مرفوعه كانت أو غير مرفوعه، محيطة كانت أو غير محيطة، مرقوة أو غير مرقوة. وكذلك إذا باع عبداً وبرىء من كل قرح به دخل تحت القروح الدامية وآثار قروح قد برئت، ولا يدخل تحته آثار الكي؛ لأن الكي غير القرح. وفي «المنتقى» : إذا باع سلعة وقال برئت إليك من العيب بها، أو قال: برئت إليك عن عيب بها فهذا على عيب واحد، فإن قال وجد بها عيبان فهو بريء من أحدهما. وفي «نوادر المعلي» عن أبي يوسف: رجل اشترى من آخر جارية وبرئ البائع إليه من كل آمة برأسها موضحة وليس برأسها آمة لا يبرأ عن الموضحة، ولو برىء إليه من كل سن لها سوداء، أو حمراء، أو خضراء، وكذلك لو برىء إليه من عينيها السوداوين، فكانت حمراوين فهو بريء منهما، قال المعلى: وسألت محمداً عن ذلك فقال: كفء في الآمة يبينه. وفي القدوري: وإذا اشترى عبداً على أن به عيباً واحداً فوجد به عيبين وقد تعذر رده بموت أو ما أشبه ذلك فعند أبي يوسف الخيار إلى البائع، وقال محمد: الخيار إلى المشتري يرجع بنقصان أي: العيبين شيئاً، فيقوم العبد وبه العيبان وبه العيب الذي لا يريد الرجوع بنقصان فيرجع بفضل ما بينهما، وإنما كان الخيار إلى المشتري عند محمد؛ لأنه هو المبرىء عن العيب، فكان تعيين ما وقعت البراءة عنه إليه.

قال في «الزيادات» : وكذلك إذا وجد به ثلاثة عيوب وتعيب عنده بعيب زائد حتى تعذر الرد يرجع بنقصان العيبين من الثلاثة أي: ذلك شاء عند محمد، فيقوم وبه العيب الذي لا يريد الرجوع بنقصانه، ويقوم وبه العيوب الثلاثة فيرجع بفضل ما بينهما. وفيه أيضاً: إذا اشترى عبدين على أن بأحدهما عيباً فوجد بأحدهما عيباً فليس له حق الرد، ولو وجد به عيبان فله حق الرد، وكذلك لو وجد بكل واحد عيباً فله الرد، وبعد ذلك ينظر، إن كان ذلك قبل القبض رد أيهما شاء فهذا قول محمد، فالخيار إلى المشتري عند محمد؛ لأن الخيار إنما يثبت للمشتري حقاً له فكان التعيين إليه، فإن كان قبض أحد العبدين ولم يعلم بالعيب فيه، ثم علم بالعيب بالعبد الآخر، وقبضه مع العلم بالعيب، ثم علم بالعيب الذي قبضه أولاً، له أن يرد أيهما شاء، فإن أراد رد الذي قبضه مع العلم بالعيب فقال البائع: ليس لك أن ترده؛ لأنك رضيت بعيبه حين قبضته مع العلم بالعيب، لا يلتفت إلى قول البائع؛ لأن القبض مع العلم بالعيب إنما يكون رضا بالعيب، إذا كان عيباً يثبت له حق الرد، وهذا العيب ما كان يثبت له حق الرد؛ لأنه أبرأه عن عيب واحد بأحدهما وحين قبض الثاني، مع العلم بالعيب، فالعيب بالأول لم يكن معلوماً فهذا العيب ما كان يثبت له حق الرد مكان قبض الثاني مع العلم بالعيب وجوده وعدمه بمنزلة. فإذا باع من آخر عبداً على أن لا عيب به ولكن يبرأ إليه من عيب واحد فاشتراه على ذلك وقبضه، ثم وجد به عيبين وقد تعذر (104ب3) بسبب من الأسباب يرجع بنقصان أي العيبين شاء من قيمته صحيحاً؛ لأنه وإن ذكر عيباً واحداً وكان نص في الابتداء على أنه لا عيب به، فيتناوله العقد سليماً بخلاف ما إذا لم يقل في الابتداء لا عيب به، فإن هناك يرجع بنقصان أي العيبين شاء من قيمته معيناً بالعيب الآخر. ولو اشترى عبدين على أنه برئ من كل عيب بأحدهما قبضهما، ثم وجد بأحدهما عيوباً لا يكون له أن يرده، فإن استحق الآخر بعد ذلك رجع بحصته من الثمن عليهما فهماً صحيحان، ولو اشتراهما على أنه برئ من ثلاث شجاج بأحدهما فوجد بأحدهما ثلاث شجاج واستحق الآخر، فإنه يقسم الثمن على المستحق وهو صحيح، وعلى الآخر وهو مشجوج بثلاث شجاج؛ لأن في الوجه الأول دخلا في العقد سليماً بخلاف الوجه الثاني. والأصل في جنس هذه المسائل: أن البراءة عن كل عيب لا يكون إقرار بوجود العيب لعلمنا يقيناً أن العبد لا يجتمع فيه العيوب كلها، فيجعل مجاناً عن إلزام العقد وإبرامه بالامتناع عن التزام صفة السلامة وشرط البراءة عن بعض العيوب إقرار بوجوده، إذ لو لم يكن إقرار بوجوده لم يكن لتخصيص العيوب معنى وفائدة، ألا ترى أن قوله لا عيب به مطلقاً لا يجعل إقرار ينفي العيوب كلها؟ لأن الإنسان لا يخلو عن قليل عيب، والعمل بالحقيقة غير ممكن، فيسقط اعتبار الحقيقة ويجعل قوله لاعيب به مجازاً عن الترويج، حتى أن من عرض عيباً على رجل وقال: اشتر، فإنه لاعيب به، فلم يتفق بينهما بيع، ثم وجد به عيباً كان له أن يرده على بائعه وليس لبائعه أن يحتج عليه بقوله عند العرض لاعيب به، وتخصيص بعض العيوب بالنفي يكون إقرار بانتفاء ذلك العيب، حتى

من عرض عيباً على رجل، وقال: اشتر، فإنه ليس به عيب كذا فلم يتفق بينهما بيع، ثم وجد به عيباً لم يكن له أن يرده على بائعه بذلك العيب، وجعل قوله ليس به عيب، كذا إقرار بانتفاء ذلك العيب؛ لأن العمل بالحقيقة ههنا ممكن، فإن الإنسان يخلو عن عيب معين فكذا ههنا.h والدليل على صحة ماقلنا ما ذكر في «الكتاب» : أن من اشترى من رجل عيناً، ثم أراد أن يرده بالعيب فشهد شاهدان على أن البائع يبرأ عن كل عيب به، ثم اشتراه أحد الشاهدين، ثم وجد به عيباً فأراد رده كان له ذلك، فلم يجعل الشهادة على البراءة عن كل عيب إقرار بالعيب، وبمثله لو شهدا على أن البائع يبرأ عن عيب كذا، ثم اشتراه أحد الشاهدين، ثم وجد به ذلك العيب لا يكون له حق الرد، وجعل الشهادة على البراءة عن عيب مخصوص إقراراً بوجود ذلك العيب، وعن أبي يوسف إذا أبرأه عن كل عيب دخل فيه العيوب والأدواء، ولو أبرأه عن كل داء دخل فيه السقم والمرض ولا يدخل فيه الكي، ولا أثر قرح قد برأ ولا الأصبع الزائدة. والحاصل: أن الداء داخل في العيب غير داخل في الداء، ولو أبرأه من كل عاملة دخل فيه السرقة والفجور، ولا يدخل فيه الكية ولا أثر القروح ولا الدمل والثؤلول والأمراض، وعن أبي حنيفة: أن الداء المرض الذي في الجوف طحال أو كبد والعاملة السرقة والإباق والزنا. نوع آخر في الضمان عن العيوب وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: اشترى من رجل عبداً وضمن له من رجل عيوبه فوجد به عيباً ورده فلا ضمان عليه في قياس قول أبي حنيفة، وهذا على العهدة وقال أبو يوسف: هو ضامن للعيوب هذا مثل ضمان الدرك والاستحقاق، وكذلك لو ضمن له رجل ضمان السرقة والعتاق فوجده حراً أو مسروقاً ضمن، وكذلك لو ضمن رجل العمى والجنون فوجده كذلك رجع على الضامن بالثمن، ولو مات عنده قبل أن يرده وقضى البائع بنقصان العيب كان للمشتري أن يرجع بذلك على الضامن ولو ضمن له بحصة مايجد عن العيوب فيه من الثمن فهو جائز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، فإن رده المشتري رجع بجميع الثمن على الضامن بذلك، كما يرجع على البائع. ابن سماعة عن أبي يوسف: لو اشترى رجل عبداً فقال له رجل: ضمنت لك عماه وكان أعمى فرده على البائع لم يرجع على ضامن العمى بشيء، ولو قال: إن كان أعمى فعليه حصة العمى من الثمن فرده بالعمى كان له أن يضمن حصة العمى. ولو اشترى عبداً فوجد به عيباً فقال له رجل: ضمنت لك هذا العيب لم يلزمه شيء. وفي «واقعات الناطفي» : لو قال المشتري للبائع أنت بريء من كل حق لي قبلك، دخل العيب تحت الإبراء هو المختار، ولا يدخل الدرك؛ لأن العيب حق له قبله للحال والدرك لا.

نوع آخر في الصلح عن العيوب قال محمد في «الأصل» : إذا اشترى الرجل من آخر عبداً بألف درهم وقبضه منه ونقده الثمن، ثم وجد به عيباً فأنكر البائع أن يكون باعه وبه ذلك العيب، ثم صالحه البائع على أن يرد عليه دراهم مسماة حالة أو إلى أجل فهو جائز، والحاصل: أن الناس تكلموا في المشتري إذا وجد بالمبيع عيباً أن فيما أدى والأصح في ابتداء مايحدثه العيب حقه في الحر والفائت يطالب به البائع؛ لأنه ضمن له تسليمه بالعقد، ومن العيوب مايكون بعرض الزوال وإذا زال صار قادراً على تسليمه فقبل يطالبه في الابتداء به، ثم إن البائع يعجز عن تسليمه إليه لفواته فينفسخ البيع فيه، ويصير حق المشتري في حصة العيب من الثمن، إلا أنه متى وقع الصلح على جنس الثمن يعتبر استيفاء لحصة العيب من الثمن ويجوز حالا ومؤجلاً وإذا وقع على خلاف جنس الثمن يعتبر معاوضة بين المأخوذ وبين حصة العيب من الثمن، وفيما إذا صالح عن العيب على أكثر من حصة من الثمن، فطريق الجواز أن بمقدار حصة العيب هذا استيفاء لحصة العيب وما زاد على ذلك فالبايع حط عنه من الثمن، ولو صالحه من العيب على دينار، فإن نقده قبل أن يتفرقا فهو جائز، وإن افترقا قبل أن ينقده بطل الصلح، ولو كان المشتري باعه ونقد الثمن، ثم اطلع على عيب به فصالحه بائعه منه على دراهم لم يجز؛ لأنه لا حق للمشتري بعدما باعه لا في الرد بالعيب ولا في الرجوع بنقصان العيب، فإنما صالح فيما ليس بحق له، فإن كان العبد مات عند المشتري الثاني فرجع على بائعه بنقصان العيب، ثم إن البائع الثاني صالح البائع الأول على صلح. فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: الصلح باطل وعندهما صحيح بناء على المشتري الثاني إذا رجع على بائعه، هل لبائعه أن يخاصم البائع الأول؟ عند أبي حنيفة ليس له ذلك خلافا لهما، وذكر في المأذون إذا حدث به عيب عند المشتري الآخر فيرجع على بائعه لنقصان ليس لبائعه أن يرجع إلى البائع ولم يذكر خلافاً، منهم من قال: هو قول أبي حنيفة. ومنهم من فرق لأبي يوسف ومحمد بين المسألتين، والفرق: أن في تلك المسألة للبائع الأول أن يقول للمشتري الأول: سبيلك أن تقبل منه لا أقبل منك فإذا لم يقبل فأنت الذي فوت حقك فلا يمكنه (105أ3) الاحتجاج عليه ههنا فقلنا بأنه يرجع عليه، وإن كان الثمن مكيلاً أو موزوناً بغير عينه وبين الكيل والضرب وتقابضا، ثم وجد بها عيباً فصالح، فإن وقع الصلح على بعض الثمن من جنسه فهو استيفاء لا استبدال، فيجوز حالاً ومؤجلاً سواء كان الثمن قائماً في يد المشتري أو كان مستهلكاً، وإن وقع الصلح على خلاف صلح الجنس فهو معاوضة، ففي كل موضع حصل الافتراق فيه عن دين بدين لا يجوز، وإن كان الثمن مكيلاً أو موزوناً بعينه وتقابضا فصالحه على بعض الثمن من ذلك الجنس مؤجلاً أو بعينه فهو جائز إن كان الذي أخذه عوضاً عن الجارية مستهلكاً، وإن

كان الذي هو ثمن قائماً بعينه لم يجز الصلح على بعض الثمن من ذلك الجنس مؤجلاً جاز حالاً إذا أوفاه إياه قبل أن يتفرقا أو كان بعينه؛ لأن الثمن في هذه المسألة تعين في العقد بالتعيين فكان حق المشتري في عين ما أدى، فكان ماوقع عليه الصلح عوضاً عما استوجبه عليه ومبادلة المكيل والموزون بجنسه مؤجلاً يجوز. وفي المسألة الأولى: الثمن استحق بالعبد دينا قائماً يرجع بحصة العيب من ذلك لامن عين المقبوض فجاز الصلح عن مثله حالاً ومؤجلاً. ولو طعن في بياض بعينها فصالح البائع من ذلك على أن حط عنه درهماً كان جائزاً، فلو أنه انجلى البياض بعد ذلك رد الدرهم على البائع. وكذلك لو طعن بحبل فيها فصالحه البائع على أنه حط عنه درهماً، ثم ظهر أنه لم يكن بها حبل، فإنه يرد الدرهم، وكذلك لو اشترى أمة فوجدها (منكوحة عند) البائع فصالحه البائع على دراهم، ثم طلقها الزوج طلاقاً كان على المشتري رد الدراهم. اشترى كر حنطة، ثم ظهر بعيب بأحدهما، فصالحه الآخر على درهم أو على قفيز حنطة أو على قفيز شعير لم يجز؛ لأن الحنطة بالحنطة مثل بمثل فتكون الزيادة رباً كما لو قال عند ابتداء العقد، وإذا لم تصح الزيادة هل يفسد البيع، إن كان بلفظة الصلح بأن قال صالحتك عن العيب على أن أزيد لك قفيز حنطة أو درهم فسد البيع عند أبي حنيفة؛ لأن الزيادة تلحق بأصل العقد ولو كان موجوداً لدى العقد كان العقد فاسداً كذا ههنا. صالحه من كل عيب على درهم جاز سواء طعن المشتري بعيب أولم يطعن؛ لأن هذا إبراء عن العيوب المجهولة بعد وجوب سبب الحق له، وذلك صحيح، ولو اشترى العيوب منه بدرهم لايجوز؛ لأن مثل هذه الجهالة تمنع صحة البيع ولا تمنع صحة الصلح صالحه من العيب على ركوب دابته في حوائجه فهو جائز، قالوا: وتأويله إذا شرط ركوبه في المصر أما إذا شرط ركوبه خارج المصر إذا أطلق لا يجوز لمكان الجهالة، نص على هذا التفصيل في كتاب الإقرار. صالحها من عيب الغلام على أن تزوج نفسها منه صح، وكان هذا إقرار بالعيب؛ لأن النكاح لايصح إلا بمال وكان كالبيع إذا باعت ثوباً منه بحصته من العيب؛ لأن النكاح لايصح إلا بمال إذا كان إقرار منها بالعيب؛ لأن البيع لا يصح إلا بمال بخلاف الصلح. اشترى ثوباً فقطعه قميصاً وخاطه فباعه بعد ذلك، أو لم يبعه، ثم اطلع على عيب أو كان البيع بعد ظهور العيب، ثم صالحه من العيب على دراهم جاز؛ لأن حقه قد تقرر في الرجوع بنقصان العيب بسبب الخياطة، ألا ترى لو كان في يده ليس للبائع أن يقول أنا أقبله كذلك، فإنما صالح عن حقه، وكذلك إذا صبغه بصبغ أحمر، ثم باعه أو لم يبعه حتى صالح من العيب، ولو قطعه ولم يخطه حتى باعه، ثم صالحه من العيب لايصح؛ لأنه حقه لم يتقرر في الرجوع بنقصان العيب؛ لأن القطع المجرد نقصان، ألا ترى أن للبائع يقول: أنا أقبله؟ كذلك، فإنما صالح عما ليس بحق له، والسواد بمنزلة القطع

المفرد عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: بمنزلة القطع مع الخياطة، صالحه على أن أبرأه عن كل عيب فهو جائز سمى أو لم يسم خلافاً لابن أبي ليلى، وكان أبو حنيفة رحمه الله يحتاط في ذلك ويقول: نكتب في صك الصلح برئت من كل عيب سميته وعرفته أو يكتب في الصك أنه باع العبد وخرج عن ملكه، ثم عاد إلى ملكه بصدقة أو ما أشبهها، أكثر ما في الباب أن هذا حيلة بالكذب إلا أن الكذب، مباح لإحياء حقه، ولدفع الظلم عن نفسه كالشفيع يعلم بالبيع في جوف الليل لا يمكنه الإشهاد، فإذا أصبح يشهد ويقول علمت الآن، وكذلك الصغيرة تبلغ في جوف الليل، فإذا أصبحت تقول بلغت الآن وأجزت نفسي فيرخص فيه كذا ههنا. وحيلة أخرى: أن تعلق المشتري أعتقه بمخاصمته في عيب تجد بها، فإذا خاصمه عتق العبد ولا يمكنه الرد ولا الرجوع بنقصان العيب، طعن بعيب في عينها، ثم صالحه البائع من عيبها على ما جاز، وإن لم يذكر العيب وجعل يسميه محل العيب بمنزلة تسمية العيب. وقال في «الأصل» : اشترى أمة بخمسين ديناراً وقبضها وطعن المشتري بعيب بها، فاصطلحا على أن قبل البائع السلعة ورد عليه تسعة وأربعين ديناراً قالوا جائز، فهل يطيب للبائع ما استفصل من الدينار، ينظر: إن كان البائع مقراً أن هذا العيب كان عنده على قول أبي حنيفة ومحمد لا يطيب، ويجب عليه رده على المشتري، وعلى قياس قول أبي يوسف لا يلزمه الرد، بناءاً على أن عند أبي يوسف الإقالة بأكثر من الثمن الأول أو بأقل يعتبر بيعاً جديداً لا إقالة فلزمه الرد، وأما إذا كان جاحداً أن هذا العيب كان عنده أن عيباً لا يحدث مثله فكذلك الجواب، وإن كان عيباً يجوز أن يحدث مثله طاب الفضل للبائع بالاتفاق لم يقر ولم ينكر بل سكت فهو وما لو أنكر سواء، ولو كان المشتري أخذ ثوباً وقبل منه السلعة على أن يرد الثمن كان عليه هذا وما لو حبس شيئاً من الثمن سواء. وإن كان مكان الثوب دراهم، فإن فضت فالجواب كما ذكرنا، وإن كاتب إلى أجل لا يجوز على كل حال. اشترى ثوباً فقطعه قميصاً ولم يخطه، ثم وجد به عيباً أقر البائع أنه كان عنده فصالحه البائع على أن قبل البائع الثوب وحط المشتري عنه من الثمن مقدار درهمين كان جائزاً، ويحصل ما احتبس عند البائع من الثمن بمقابلة ما انتقص بفعل المشتري. وقال في «الأصل» أيضاً: طعن المشتري بعيب جحده البائع فاصطلحا على أن يحط كل واحد منهما عشرة ويأخذ الأجنبي بما وراء المحطوط، ورضي به الأجنبي فالبيع من الأجنبي جائز؛ لأن المشتري باع ملك نفسه وحطه أيضاً جائز؛ لأن حطه في ملك نفسه وهو والثمن (105ب3) يكون هذا من المشتري رضاء بالعيب، وحط البائع لا يجوز؛ لأنه لا في ملك لغيره، وكان للأجنبي الخيار إن شاء أخذ بما وراء العشرة من الثمن، وإن شاء ترك؛ لأنه إنما اشترى ليسلم له المشترى بما وراء العشرين من الثمن، وتبين أنه إنما سلم له بما وراء العشرة، وهذه المسألة تدل على أن المشتري إذا ظهر أنه صار مغبوناً

على وجه لا يتغابن في مثله أنه يثبت له الخيار، وأدلة الكتب متعارضة ظاهر الجواب لا خيار له، وعن محمد فيمن اشترى صبرة حنطة فوجد في أسفله دكاناً فله الخيار، وإذا اشترى طعاماً في جفنه، ثم علم مقداره يثبت له الخيار وهو خيار التكشف وخيار الكتمة، قال الشيخ الإمام شمس الحلواني رحمه الله: كان القاضي يقول الفقيه عبد الله كان يفتي بثبوت الخيار للمشتري إذا صار مغبوناً، وكان يقول هب، كان في المسألة روايتان: يختار هذه الرواية رفقاً بالناس إذا كان الثمن عشرة مثلاً، فاصطلحا على أن يأخذ من الآخر الثوب بثمانية، وحط البائع الأول عن المشتري الأول درهماً جائز سواء كان قبل قبض الثمن أو بعده لما عرف، أن الحط بعد قبض الثمن صحيح. اشترى ثوباً بعشرة وتقابضا وسلمه المشتري إلى قصار فقصره وجابه متخرقاً، فقال المشتري: لا أدري عند القصار تخرق أو كان به عند البائع، فاصطلحوا على أن يقبل المشتري الثوب ويرد القصار عليه درهماً فذلك جائز، وكذلك لو كان هذا الصلح على أن يقبله البائع منه، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وهذا إشارة إلى أنه إذا صالحه على أن يعتله البائع، ويغرم له القصار درهماً، ويترك له المشتري درهماً أنه يجوز، قال مشايخنا: وهو غلط؛ لأن اشتراط ترك الدرهم على المشتري صحيح؛ لأن البائع جاحد للعيب، أما اشتراط الدرهم على القصار باطل؛ لأنه ما كان بينه وبين القصار سبب يستوجب به الضمان عليه، وفي زعمه أنه يملك الثوب ابتداء من جهة المشتري بعد ما تخرق في يد القصار، فاشتراط أخذ الدرهم منه عذراً لا أن يكون تأويله أن القصار يضمن الدرهم أولاً للمشتري، ثم المشتري يدفع ذلك إلى البائع ليقبل المبيع منه فحينئذٍ يجوز؛ لأنه يزعم أنه يملك المبيع ابتداء، وهذه الزيادة بدل ما تلف عند القصار فكان له أن يأخذ إذا رد جميع الثمن. قال شيخ الإسلام رحمه الله: تأويله أن يقع الصلح على أن يقبل البائع الثوب من المشتري، على أن يحط المشتري من البائع درهماً، ويأخذ المشتري من القصار درهماً ويعطيه المشتري أجرة. وفي «فتاوى الفضلي» : اشترى من آخر جارية ووجد بها عيباً فاصطلحا على أن يدفع البائع كذا درهماً والجارية للمشتري فهو جائز؛ لأن هذا صلح عن العيب، وإن اصطلحا على أن يدفع المشتري ذلك الجارية للبائع لا يجوز؛ لأنه ربا إلا إذا باعه منه بأقل من الثمن الذي اشتراها منه بعد أن كان يقدر الثمن كله. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى من آخر عبداً ووجد به عيباً قبل أن يقبضه، وصالحه من العيب على عبد آخر وقبضهما المشتري، ثم استحق أحد العبدين رجع المشتري بحصة المستحق من الثمن أيهما كان، كأنه اشتراهما جميعاً، ولو قبض العبد المشتري، ثم وجد به عيباً فصالحه منه على عبد ودفع الثمن، ثم استحق العبد المشتري يبطل الصلح في العبد الثاني. وفي «نوادر ابن سماعة» أيضاً عن أبي يوسف رحمه الله: رجل اشترى جارية ووجد بها عيباً قبل القبض أو بعده فصالحه البائع على جارية أخرى، ثم استحقت الجارية الأولى بطل الصلح.

وفي «المنتقى» : رجل اشترى من آخر كر حنطة بعشرة دراهم وقبض الكر ولم يدفع الثمن، حتى وجد بالكر ينقصه العشرة فأراد رده فصالحه البائع من العيب على كر شعير بعينه، فإنه جائز، وحصة الشعير نقصان العيب، وإن كان بغير عيبه، ووصفه وسمى أجله فهو باطل؛ لأنه صار بمنزلة سلم لم يدفع إليه رأس ماله، فإن دفع إليه غير الثمن وقال هذا حصة الكر الشعير فهو جائز والشعير سلم، وكذلك إذا دفع إليه كل الثمن، ولو دفع إليه عشر الثمن ولو نقل عشر هذا حصة الشعير، فإن الذي نقده من جميع الثمن فيثبت عشر كر الشعير ويبطل تسعة أعشاره. نوع آخر منه قال محمد في «الجامع» : عبد أو داراً في يدي رجل أقام رجل بينته أنه باعه من ذي اليد بألف درهم، وأقام آخر بينة أنه باعه من ذي اليد بمائة دينار قضى القاضي بالثمنين على ذي اليد؛ لأن المبيع إذا كان مسلماً إلى المشترى كانت الحاجة إلى إثبات الثمن والثمن دين فصار، كما لو ادعى أحدهما ألف درهم والآخر مائة دينار، وكذلك إن اقام كل واحد منهما بينة أن العبد عبده باعه من ذي اليد بما يدعيه من الثمن؛ لأن المبيع إذا كان مسلماً إلى المشتري لا يحتاج كل واحد منهما إلى إثبات الملك لنفسه ليترجح بالنتاج، فإن وجد المشتري بالعبد عيباً وأراد أن يرده ليس له أن يرده عليهما؛ لأنه إذا رد عليهما كان راداً على كل واحد منهما النصف، وكل واحد زعم أنه باعه كله فكان له أن لا يقبل النصف مع عيب الشركة، ولكن يرده على أيهما شاء؛ لأن في زعم كل واحد أن البائع هو، وأن للمشتري حق الرد عليه وحق استرداد جميع الثمن منه، وفي زعم المشتري أن له حق استرداد كل الثمن من كل واحد منهما، فلهذا كان له أن يرد على أيهما شاء، ويسترد الثمن منه، وإذا رده على أحدهما لا يكون له على الآخر سبيل لا في الرد ولا في الرجوع بنقصان العيب. أما في الرد بعجزه عن ذلك حين رد على الأول، وأما في الرجوع بنقصان العيب؛ لأن في زعم الآخر إلى نصيبه منه وإن له حق الرد بالعيب علي لا على صاحبي، فإذا رد على صاحبي مع أنه ليس له حق الرد عليه كان ذلك منه بمنزلة تمليك مبتدأ وبه يبطل حق الرجوع بنقصان العيب، فإن لم يرده بالعيب على أحدهما حتى تعيب عند المشتري بعيب ذا يد لا يكون له حق الرد عليه، ولكن يرجع بنقصان العيب على أيهما شاء؛ لأن في زعم كل واحد منهما أن له حق الرجوع بنقصان العيب عليه وهو يدعي على كل واحد منهما جميع الثمن فقد اتفقا على استحقاق قدر النقصان، فيرجع على أيهما شاء بذلك، إلا أن يقول الذي يريد أن يرجع عليه بالنقصان أنا أقبله كذلك، فحينئذ يرد عليه لامتناع الرد إنما كان دفعاً للضرر عنه، فإذا رضي به كان للمشتري أن يرد عليه فإن أبى أن يرده عليه وأعطاه النقصان كان للمشتري أن يرجع على الآخر بنقصان العيب. فرق بين هذا وبينهما لو رد على أحدهما حيث لا يكون له على الآخر سبيل، والفرق بينهما أن فصل الرجوع على أحدهما بنقصان العيب في حق استرداد جميع الثمن

(106أ3) من صاحبي أخذ ذلك منه بغير حق، فإذا أخذ منه قدر النقصان، فقد أخذ بعض حقه، وهذا لا يوجب سقوط حقه في الرجوع بنقصان العيب علي، أما في فصل الرد في زعم الآخر أن للمشتري حق الرد علي بالثمن لا على صاحبي، فإذا رد عليه لم يكن له حق الرد عليه كان ذلك منه بمنزلة بيع جديد، وبه يبطل حق الرجوع بنقصان العيب. ولو مات العبد، ثم اطلع على عيب قديم رجع بنقصان العيب عليهما إن شاء لما مر، ولو قطعت يد العبد المشترى وأخذ المشتري أرشها، ثم وجد به عيباً قديماً كان له أن يرجع بالنقصان عليهما؛ لأن الأرش زيادة منفصلة والزيادة مانعة من الرد بالعيب، فيكون له حق الرجوع بنقصان العيب عليهما لما مر، فإن قال أحدهما: أنا أقبله كذلك؛ لأن امتناع الرد بسبب الزيادة إنما كان لحق الشرع تحرزاً عن الربا، فلا يسقط ذلك برضا العبد، فإن باعه المشتري فإنه يبطل حق الرجوع بنقصان العيب، والفرق وهو أن البيع إنما يوجب بطلان الرجوع بنقصان العيب في موضع بقي حق الرد في نفسه بعد حدوث العيب ليصير المشتري بالبيع راضياً بذلك العيب، فيبطل حقه من كل وجه. وفيما إذا تعيب المبيع بعيب زائد بقي للمشتري حق الرد في نفسه، ولهذا لو قال البائع: أنا أقبله كذلك كان له أن يرده عليه، وبالبيع يبطل حقه من كل وجه، أما بعد القطع لم يبق له حق الرد في نفسه، ولهذا لو قال البائع: أنا أقبله كذلك لايملك الرد، فإذا لم يبق حقه في الرد تعذر حقه في النقصان قبل البيع، فلا يبطل بالبيع، فإن كان أقام أحدهما البينة أنه عبد وباعه من ذي اليد يوم الجمعة بمائة دينار يقضى بالثمنين؛ لأن الحاجة ههنا إلى إثبات الثمن، فإن وجد به عيباً رده إلى الثاني، وكذلك لو تعذر بالعيب يرجع بنقصان العيب على الثاني دون الأول؛ لأن القضاء بالعقدين على هذا الترتيب يوجب انقطاع حق المشتري عن الأول، فلهذا يرد بالعيب ويرجع بالنقصان على الثاني دون الأول. نوع آخر في الوصي والوكيل والمريض قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل اشترى عبداً بألف درهم وقبضه ولم ينقد الثمن حتى مات وأوصى إلى رجل، ولا مال له سوى العبد وعليه دين ألف درهم سوى الثمن، فوجد الوصي بالعبد عيباً فرده بالعيب بغير قضاء القاضي، فرده جائز وليس للغريم نقضه؛ لأن الموجب للرد قد وجد، لو امتنع الرد إنما يمتنع لحق الغريم، وحق الغريم يتعلق بمالية العبد لا بعينه، ولأن الرد بالعيب بغير قضاء بمنزلة بيع جديد في حق الثالث والغريم ثالثهما، فصار في حق الغريم كأن الوصي باع هذا العبد وللوصي هذه الولاية ويرجع الوصي على البائع، فيأخذ منه نصف الثمن ويدفعه إلى الغريم الآخر، والوصي هو الذي يلي ذلك؛ لأن هذا الرد اعتبر بيعاً جديداً في حق الثالث، وقبض الثمن من حقوق العبد، فيكون للعاقد.

ولو أن البائع لم يقبل هذا العبد من الوصي حتى خاصمه إلى القاضي، فإن كان القاضي علم بدين الآخر لا يرده بل يبيعه ويقسم الثمن بينهما؛ لأن فيه إبطال حق غريم الآخر؛ لأن الرد بقضاء فسخ من كل وجه، فيبطل البيع ويعود إلى الأصل، فيسقط الثمن، فلا يصل الغريم شيء لا يضمن البائع نقصان العيب لا قبل بيع القاضي ولا بعده، أما بعد بيع القاضي؛ فلأن بيع القاضي حصل للميت، فيجعل كأن الميت باع نفسه، ولو باع الميت نفسه حال حياته، ثم اطلع على عيب به لم يرجع بنقصان العيب فههنا كذلك، وأما قبل بيع القاضي فلأن امتناع الرد في هذه الصورة كان بمعنى من جهة المشتري وهو اكتسابه سبب وجود الدين للغريم الآخر وامتناع الرد بمعنى من جهة المشتري لايثبت حق الرجوع بنقصان العيب. وإن لم يعلم القاضي بدين الغريم وخاصم الموصي البائع في العيب رده بالعيب على البائع؛ لأن الموجب للرد قد ظهر وهو العيب، وفي المانع شك، ويبطل الثمن الذي للبائع على الميت؛ لأن الرد بقضاء القاضي فسخ من كل وجه، ومتى صح الفسخ والثمن غير منقود يبطل عن المشتري، فإن أقام الغريم الآخر بينة على دينه، خير البائع المردود عليه إن شاء أمضى الرد وضمن الغريم الآخر نصف ثمن العبد، فيصير الثمن بينهما نصفان، وإن شاء نقض الرد، ورد العبد حتى باع في دينهما؛ لأنه ظهر دين الغريم الآخر بعذر صحيح، هذا الرد من القاضي (يعد) فسخاً من كل وجه لما فيه من إبطال حق الغريم الآخر، فاعتبر رده بيعاً جديداً كيلا يبطل هذا الرد، أمكن اعتباره بيعاً جديداً لوجود معنى البيع فيه، وهو التمليك والتملك. ولو أن رجلاً اشترى عبداً في صحته بألف درهم وقبض العبد ولم ينقد الثمن حتى مرض وعليه دين ألف درهم، فوجد بالعبد عيباً فرده بغير قضاء أو استقال البيع البائع فأقاله برئ من مرضه، فجميع ما صنع صحيح، وإن لم يبرأ من مرضه ومات وقيمة العبد مثل الثمن أو أقل منه ولا مال له غيره كان الجواب فيه كالجواب في الوصي إذا رد العبد بغير قضاء وإن أقاله البيع وقيمة العبد مثل الثمن أو أقل منه؛ لأن المريض مرض الموت يملك بيع ماله، ولا يمكن إيثار بعض الغرماء على البعض كالوصي، ولو لم يقبل البائع البيع حتى خاصم المشتري البائع إلى القاضي في العيب في مرض المشتري، فالقاضي يرد العبد عليه سواء علم بدين الغريم الآخر أو لم يعلم، بخلاف مسألة الوصي، فإنه إذا خاصم البائع في العيب إلى القاضي بدين الغريم الآخر فالقاضي لايرده. والفرق سواء أن الميت للرد بموجود في الحالين لكن عسى يمتنع عمل الميت، والموجب لمانع، ففي مسألة المريض المانع وهو حق الغريم موهوم؛ لأن حق الغريم إنما يتعلق بمال المريض إذا كان المريض مرض الموت ولا يدرى في الحال أنه هل يتصل بهذا المرض الموت أو (لا) يتصل، وإذا وقع الشك لايمتنع عمل المثبت، أما في فعل الموصي المانع ثابت قطعا؛ لأن الوصي إنما يخاصم البائع بعد الموت، وبعد الموت المانع ثابت قطعاً، فجاز أن يمتنع عمل المثبت والموجب.

فإن مات المشتري من مرضه بعدما رده عليه، فالجواب فيه كالجواب في الوصي إذا رده بالعيب نقضاً، فلم يعلم القاضي بدين الغريم الآخر؛ لأنه لما مات ظهر أن المرض مرض الموت من ابتدائه، فظهر أن حق الغريم الآخر كان متعلقا بماله حتى رده القاضي على البائع كما لو رده الوصي فيكون الجواب في الوصي، إلا في خصلة أن ههنا متى كانت قيمة العبد أكثر من الثمن، فإنه لا يجبر المردود عليه بنقض (106ب3) الرد، ويباع العبد ويقسم الثمن نصفين. و (لو) قال: أنا أمسك العبد وأرد نصف القيمة حتى تزول المحاباة، لم يكن له ذلك، وفي الوصي يخير المردود عليه، والفرق: أنه لما مات من مرضه ظهر أنه ماكان للقاضي ولاية الفسخ ليتعلق حق الغريم بماله، وإن فسخه لم يصح، فاعتبر عقداً جديداً وفيه محاباة، والمحاباة لا تعفي من المريض، وإن قلت: إذا كان عليه دين مستغرق لتركته، فتعذر تصحيح الرد من هذا الوجه وتعذر تصحيحه بتبليغ الثمن إلى تمام الصحة؛ لأن الرد بقضاء القاضي فسخ من كل وجه، فلا يصح الفسخ تأكيداً من الثمن الأول، وإذا تعذر تصحيح الرد بالطريقين تعين بعض الرد، فأما الوصي فعفى عنه المحاباة اليسيرة، فأمكن تصحيح الرد بمثل الثمن، فلهذا يخير فيه البائع. وهذه المسألة من أغرب المسائل، فإن عفي فيه المحاباة اليسيرة من الثابت ولم يعف من الأصل وهو المريض. وإذا أمر رجل رجلاً ببيع عبد له، فباعه الوكيل وسلمه وقبض الثمن من المشتري أو لم يقبض حتى وجد المشتري بالعبد عيباً وخاصم الوكيل في العيب فقبله الوكيل بغير قضاء، فإن كان ذلك عيباً يحدث مثله من وقت البيع يلزم الوكيل دون الموكل، فلا يكون للوكيل أن يخاصم الموكل، وإن كان عيباً لا يحدث مثله في تلك المدة ذكر في «الأصل» أنه يلزم الموكل يجب أن يعلم أن الوكيل بالبيع والشراء خصم في الرد بالعيب من حقوق العبد فيرجع إلى العاقد، والوكيل في حق الحقوق كالعاقد لنفسه. وإذا رد عليه بالعيب بعد القبض فهو على وجهين: إن رد عليه برضاه والعيب مما يحدث مثله يلزم الوكيل باتفاق الروايات، ولا يكون له مخاصمة الموكل، كأن الوكيل اشتراه ثانياً من المشتري، وإن كان عيباً لا يحدث مثله في مدة البيع ذكر في بيوع «الأصل» أنه يلزم الموكل؛ لأنهما فعلا بأنفسهما عين مايفعله القاضي؛ لأن الرد متعين في هذا، فيجعل فعلهما كفعل القاضي، وذكر في عامة الروايات أنه يلزم الوكيل؛ لأن الرد بالعيب بعد القبض بالتراضي عقد جديد في حق الثالث والموكل ثالثهما. وإن كان الرد بقضاءٍ فهو على ثلاثة أوجه: إن كان ببينة قامت على الوكيل لزم الموكل؛ لأن البينة حجة في حق الناس كافة، فيعد الرد على الموكل، وإن كان الرد بنكول الوكيل، فكذلك يكون رداً على الموكل؛ لأن الوكيل مضطر في النكول كما هو مضطر في سماع البينة إذا لم يستبق منه ما يطلق اليمين على انتفاء العيب؛ لأن الإنسان كما يوكل غيره ببيع السليم يوكل ببيع المعيب، فاعتبر نكوله بالبينة، ولكن الوكيل مع الموكل على خصومته، فإن أقام بينة أن هذا العيب كان عند الموكل رده عليه، وإن لم

يكن له بينة، فله أن يحلف الموكل فإن نكل رده عليه، وإن حلف لزم الوكيل، وهذا لأن الرد حصل بقضاء القاضي على كره منه، فإن صورة هذه المسألة أن يقر الوكيل بالعيب أولاً، ثم يجحد ويأبى القبول حتى يحتاج فيه إلى قضاء القاضي. قلنا: والرد بقضاء فسخ من كل وجه، غير أن هذا الفسخ استند إلى سبب قاصر وهو الإقرار، فمن حيث إنه فسخ كان للوكيل حق مخاصمة الموكل، بخلاف ما إذا كان الرد بغير قضاء، ومن حيث إنه استند إلى دليل قاصر يلزم الوكيل إلى أن يقيم الحجة على الموكل، وهذا كله إذا كان عيباً يحدث مثله في مدة البيع، فالقاضي يرده من غير بينة وإقرار ويمين، ويكون ذلك رداً على الموكل؛ لأن القاضي إنما قضى بالرد لعلمه أنه كان عند الموكل وعلمه هذا بالبينة، وهذا كله إذا كان الوكيل حراً بالغاً، فإن كان مكاتباً أو عبداً مأذوناً فالخصومة في الرد بالعيب بينهما ولا يرجعان على المولى، ولكن يباع المأذون فيه ويلزم الدين المكاتب، وإن كان الوكيل صبياً محجوراً أو عبداً محجوراً، فلا خصومة معهما، وإنما الخصومة مع الموكل. وذكر محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : أن من أجر عبد غيره ليشتري نفسه للآمر من مولاه بألف درهم، فقال: نعم فأتاه مولاه قال: بعني نفسي لفلان بألف درهم ففعل فهو للآمر، فإن وجد الآمر بالعبد عيباً، فأراد خصومة البائع، فإن كان العيب معلوماً للعبد يوم اشترى نفسه لم يرده؛ لأن العبد كان وكيلاً بالشراء، والوكيل إذا اشترى مع العلم بالعيب يمتنع الرد؛ لأنه أسقط حق الرد، وحق الرد (من) حقوق العقد فيكون إلى العاقد، والعاقد هو العبد وكان للعبد الرد من استطلاع رد الآمر؛ لأن المشتري وهو العبد في يد نفسه وهو وكيل بالشراء، والوكيل بالشراء يملك الرد بالعيب من غير استطلاع رأي الموكل مادام المشتري في يده على مايأتي بيانه بعد هذا ان شاء الله تعالى. وإذا أمر الرجل غيره أن يشتري عبد فلان بكذا، فاشترى ونقد الوكيل البائع الثمن وقبض العبد واطلع على عيب به فما دام العبد في يد الوكيل رده على البائع من غير استطلاع رأي الموكل، فإن كان قد سلم العبد إلى الآمر لا يرده من غير رأي الموكل، والفرق: أن في الرد إبطال العقد الذي هو حق الوكيل، وإبطال الملك الذي هو حق الموكل، فكان الوكيل في الرد أصيلاً من وجه ثابتاً من وجه، فلكونه أصيلاً ملك الرد من غير استطلاع رأي الموكل مادام العبد في يده، ولكونه نائبا لم يملك الرد من غير استطلاع رأي الموكل بعدما دام العبد في يده، ولكونه نائباً لم يملك الرد من غير استطلاع رأي الموكل بعدما سلمه إلى الموكل، ومتى كان العبد في يد الوكيل، فأراد الوكيل الرد، فادعى البائع رضا الآمر بهذا العيب، فإن أقام على ذلك بينة قبلت بينته وامتنع الرد، وإن لم يكن له بينة وأراد استحلاف الوكيل ليس له ذلك، بخلاف ما إذا ادعى على الوكيل أنك رضيت بالعيب، فأراد استحلاف الوكيل حيث له ذلك، والفرق: أنه إذا ادعى الرضا على الوكيل، فالوكيل يستحلف بطريق الأصالة، وإذا ادعى الرضا على الموكل، فالوكيل لا يستحلف بطريق الأصالة، وإنما يستحلف (بالنيابة، و) النيابة لا تجري في الاستحلاف، وإذا لم يستحلف الوكيل رد الوكيل الجارية على البائع، ثم إذا

حضر الموكل وادعى الرضا وأراد استرداد الجارية من يد البائع فله ذلك، ولو كان الوكيل بالشراء وكيلاً بالخصومة في العيب فادعى البائع أن المشتري رضي بهذا العيب فالوكيل رده بحضرة الموكل فيحلف. نوع آخر منه رجل اشترى من آخر عبداً وقبضه وباعه من رجل آخر، ثم إن المشتري الآخر وجد به عيباً ورده على المشتري الأول، فهذا على وجهين: الأول: أن يكون الرد منه قبل القبض، وفي هذا الوجه للمشتري الأول أن يرده على البائع الأول سواء كان الرد بقضاء أو بغير قضاء (إن كان الرد بقضاء؛ فلأن) الرد قبل القبض فسخ للعقد من الأصل في حق الناس كافة، وإن كان بغير قضاء؛ لأنه تصرف دفع وامتناع من القبض وولاية الدفع عامة (107أ3) فظهر أمره في حق الكل، ولهذا لم يتوقف على قضاء القاضي. وهذا المعنى يعم العقار والمنقول جميعاً. ومعنى آخر يخصّ المنقول أن الرد بالعيب قبل القبض لايمكن أن يعتبر بيعاً جديداً أصلاً؛ لأن بيع المنقول قبل القبض لايجوز، فجعلناه فسخاً في حق الكل أصلاً، فصار كأنه لم يبع، فعلى هذا التعليل لايرد العقار عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن بيع العقار قبل القبض جائز، فأمكن أن يعتبر بيعاً جديداً في حق البائع الأول. وهذا فصل اختلف فيه المشايخ واختلفت فيه الروايات: أن الرد بالعيب قبل القبض بغير قضاء في العقار هل يعتبر بيعاً جديداً في حق الثالث، ذكر في كتاب الشفعة أنه لايعتبر، قال شيخ الاسلام: ماذكر في كتاب الشفعة قول محمد، فإن بيع العقار قبل القبض عنده لايجوز، أما على قول أبي حنيفة يعتبر بيعاً جديداً؛ لأن عنده بيع العقار قبل القبض جائز، وبعض مشايخنا قالوا: ماذكر في الشفعة قول الكل فنقابل عند الفتوى. و (الثاني) : إن كان الرد من المشتري الثاني بعد القبض، إن كان الرد برضا المشتري الآخر من غير قضاء، فالمشتري الأول لا يرده على بائعه؛ لأن الرد بالعيب بالتراضي فسخ في حق المتعاقدين عملاً باللفظ، وعقد جديد في حق الثالث عملاً بالمعنى، وهو التمليك والملك بالتراضي، والبائع الأول ثالثهما، فصار في حق البائع الأول كأن المشتري الأول اشتراه ثانياً، فلا يكون له حق الخصومة مع بائعه لافي الرد ولا في الرجوع بنقصان العيب. وفي «القدوري» عن محمد فيمن اشترى ديناراً بدرهم وقبض الدينار وباعه من ثالث، ثم وجد المشتري الآخر به عيباً فرده على الأوسط بغير قضاء كان للأوسط أن يرده على الأول، لا يشبه هذا العروض، وقد مرت المسألة من قبل، وهذا إذا كان عيباً يحدث مثله، فأما إذا كان عيباً لايحدث مثله، فعلى رواية البيوع والإقرار يرد على بائعه، وعلى رواية «الجامعين» والمأذون والوكالة لايرد على بائعه. وإن كان الرد بقضاء قاض فهو على ثلاثة أوجه: فإن كان الرد بالبينة كان للمشتري الأول أن يرد على بائعه إذا ثبت أن العيب كان عند بائعه؛ لأن الرد بالبينة فسخ في حق الثالث إذ ليس فيه معنى البيع وهو التمليك

والتملك، وإن حصل الرد بنكوله أو بإقراره بقضاء القاضي بأن أقر بالعيب أولاً، ثم أبى القبول، فكذلك الجواب عند علمائنا يرده على البائع الأول؛ لأن هذا فسخ حصل بقضاء القاضي بغير رضا المشتري الأول، فيكون فسخاً في حق الكل كما لو حصل الرد بالبينة. وإنما قلنا حصل بغير رضا المشتري الأول أما نصاً فظاهر، وأما دلالة فلأن الرضا بالفسخ بطريق الدلالة لو ثبت يثبت من حيث إنه باشر سبب الفسخ بالنكول أو الإقرار بالعيب، ليس بسبب للفسخ، فإن الفسخ لايوجد وإنما يوجد بقضاء قاض عن اختيار، وحكم الشيء ما يثبت به من غير أن يتخلل بين السبب وبين الحكم بفعل فاعل مختار، أكثر ما فيه أن القاضي مضطر في هذا، وهذا الاضطرار إنما جاء من جهة المشتري الأول بإقراره أو بنكوله، فيكون بمعنى المكره من جهته، وفعل المكره يتنقل إلى المكره، فيصير كأن المشتري الأول باشر الفسخ بنفسه، إلا أن نقول: فعل المكره إنما يتنقل إلى المكره فيما صلح آلة للمكره كما في القتل والإتلاف، وأما فيما لايصلح آلة للمكره فعل المكره لا يتنقل إليه. ألا ترى أن في حق الإثم في الإكراه على القتل لايصير فعل المكره منقولاً إلى المكره؟ لأنه في حق الإثم لا يصلح إلا له، وأما القاضي لا يصلح إلا للمشتري الأول في حق القضاء بالفسخ؛ لأن القضاء بالفسخ يكون بالكلام، والإنسان لا يصلح آلة لغيره في الكلام؛ إذ لا يتصور أن يصير الشخص الواحد متكلماً بكلام غيره. قال بعض مشايخنا: هذا الجواب الذي ذكر في فصل البينة والنكول مستقيم إذا لم يجحد المشتري الأول أن هذا العيب كان عنده بل سكت، فإن البينة على الساكت مسموعة، والساكت يستحلف أيضاً، فأما إذا جحد الأول أن هذا العيب كان عنده ورد عليه بالنكول أو بالبينة، فعلى قول أبي محمد: ليس له أن يخاصم البائع الأول لمكان التناقض، وعلى قول أبي يوسف: له ذلك؛ لأن القاضي لما قضى عليه بالرد فقد أبطل جحوده والتحق بالعدم. وعامتهم على أن الجواب في فصل الإقرار هكذا إن سبق منه الجحود نصاً، بأن قال: بعتها وما به هذا العيب، وإنما حدث عندك، ثم أقر به بعد ذلك وأبى القبول، فرد عليه القاضي لايكون له مخاصمة بائعه عند محمد؛ لأنه حصل مقراً لبائعه بسلامة العبد عند العيب حيث قال للمشتري الثاني: لم يكن به هذا العيب حين بعتها منك، لو بطل إقراره للبائع الأول بسلامته عن العيب، إنما يبطل بإقراره الثاني بعد ذلك، ولا يقدر المقر له على إبطال إقراره الأول بإقرار يكون منه بعد ذلك، فبقي إقراره الأول بسلامة المبيع عن هذا العيب عند البائع الأول، فلا يصح منه دعوى كون السلعة معيبة بعد ذلك لمكان التناقض. وذكر في «المنتقى» : إذا اشترى عبداً وقبضه وأراد أن يرده على بائعه بالعيب فقال البائع: هذا العيب حدث عندك واستحلف القاضي البائع، فأبى أن يحلف فرده عليه قال: له أن يرده على بائعه، أي: له أن يخاصم بائعه فيه و (لو) لم يأب اليمين ولكن أقر بالعيب فرد عليه بإقراره لم يكن له أن يخاصم بائعه، فقد ذكر المسألة مطلقاً من غير تفصيل.

وفي «نوادر هشام» : عن محمد في رجل اشترى من آخر داراً وقبضها، ثم ردها بعيب بغير قضاء، قال: كان أبو حنيفة يقول مرة: كل شيء لو رفعا إلى القاضي قضى به، ففعل هذا دون القاضي، فهو على حقه مع بائعه الأول. ولو وهبها وسلم، ثم رجع في الهبة بقضاء أو بغير قضاء، فله أن يردها على بائعه بناء على أن الرجوع في الهبة فسخ من كل وجه سواء كان بقضاء أو بغير قضاء، وفيه كلمات كثيرة قد ذكرناها في كتاب الهبة من هذا الكتاب. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل اشترى من آخر جارية وباعها من غيره، فظهر بها عيب عند المشتري الآخر مما يحدث، فجاء به إلى المشتري الأول وأراد الرد عليه، فقال المشتري الأول: بعتها وما كان بها هذا العيب، وإنما حدث عندك وأقام المشتري الآخر بينة أن هذا العيب كان بها عند البائع الأول، فردها القاضي على المشتري الأول، فللأول أن يردها بذلك العيب على البائع الأول عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله (وعند محمد رحمه الله) لا يردها. وجه قول محمد: أن المشتري الأول لما ادعى حدوث العيب عند المشتري الثاني، فقد أنكر قيامه عنده وأقر أنه لم يكن عند البائع الأول، وبقضاء القاضي صار مكذباً في إنكاره في إقراره؛ لأن شرط جواز القضاء بالرد على المشتري قيام العيب عند بائعه، فبقي حكم إقراره (107ب3) فلا يكون له أن يخاصم بائعه. ولهما: أن المشتري الأول صار مكذباً شرعاً فيما زعم بقضاء القاضي عليه بالرد، والتحق زعمه بالعدم. نظيره مسألة الشفعة فإن المشتري إذا أقر بالشراء بألف والدار في يديه وأقام البائع بينة على البائع بألفين، فالشفيع يأخذ من المشتري بألفين، وإن زعم المشتري أن حقه في الألف ولكن لما صار مكذبا شرعاً بقضاء القاضي التحق زعمه بالعدم، وما يقول بأنه صار مكذباً فيما أنكر لافيما أقر، قلنا: الإقرار بعدم العيب عند البائع الأول لم يؤخذ نصاً، وإنما يثبت في ضمن دعوى الحدوث في يد المشتري الثاني، وإذا صار مكذباً في المتضمن بطل المتضمن ضرورة. هذا إذا أقام المشتري الآخر بينة على أن هذا العيب كان عند البائع، فأما إذا أقام بينة أن هذا العيب كان عند المشتري الأول لم يذكر هذا الفصل في «الجامع» ، وإنما ذكر في إقرار الأصل، وقال: ليس للمشتري الأول مخاصمة بائعه بالإجماع، ووجه ذلك: أن المشتري الأول لم يصر مكذباً فيما أقر من كون الجارية سليمة وقت شرائه عند البائع الأول؛ لأن المقر الأول إنما يصير مكذباً في إقراره إذا قضى القاضي بالبينة عليه بخلاف ما أقر به، وهنا القاضي لم يقض على المشتري الأول بخلاف ما أقر به؛ لأن المشتري الأول أقر بكونها سليمة وقت شرائه إياها عند البائع الأول، والقاضي قضى بكونها معيبة وقت بيع الأول من المشتري الثاني؛ لأن القاضي قضى بالرد على المشتري الأول، وشرط كونها معيبة عند المشتري الأول؛ لأن عند البائع الأول لم يثبت بقضاء القاضي

كونها معيبة عند البائع فلا يصير المشتري الأول مكذباً في إقراره بكونها معيبة عند البائع الأول، فلهذا لايكون له مخاصمة البائع الأول، وقود هذا التعليل أن لا يكون للمشتري الأول حق مخاصمة بائعه في المسألة الأولى بالاجماع، وقود ماذكر من العلة لهما في المسألة الأولى أن يكون للمشتري الأول حق مخاصمة بائعه عندهما في هذه المسألة أيضاً. وفي «المنتقى» : اشترى من آخر داراً وسلمها إلى إنسان، ثم افترقا قبل القبض، ثم رأى المشتري بالدار عيباً فله أن يردها على بائعها وإن لم يتفرقا حتى يتقاضى السلم، فليس له أن يردها على بائعها، وهذا يجب أن يكون على قول محمد؛ لأن بيع العقار قبل القبض عنده لايجوز، فلا يمكن أن تجعل هذه المناقضة بيعاً جديداً في حق البائع الأول، وقد ذكرنا جنس هذا في أول الفصل. نوع آخر منه قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل اشترى من آخر عبداً بألف درهم وقبضه، ثم باعه من آخر بمائة دينار وتقابضا، ثم إن المشتري الآخر لقي بائعه وزاد في الثمن خمسين ديناراً، حتى صحت الزيادة ودفع المشتري الزيادة إلى البائع، ثم وجد المشتري بالعبد عيباً فرده على البائع بقضاء قاضٍ استرد الثمن والزيادة جميعاً، وكان للمشتري الأول أن يرد على بائعه؛ لأن المبيع عاد إلى قديم ملكه، وكأن المشتري الآخر لم يزده في الثمن شيئاً، ولكنهما التقيا فجدد العقد بينهما بألفي درهم صح، وينقض البيع الأول بطريق الاقتصار كأنهما تقابلا، ثم تعاقدا، فإن وجد المشتري الآخر بالعبد عيباً فرده لم يكن لبائعه أن يرده على بائعه الأول؛ لأن هذا الرد لايعود إليه قديم ملكه بالعقد الأول، لما عرف أن الإقالة عقد جديد في حق الثالث، والبائع الأول ثالثهما، فصار في حق البائع الأول كأن المشتري الأول اشتراه ثانياً من المشتري الآخر، فلم يعد إلى المشتري الأول بالرد بالعيب الملك المستفاد من جهة البائع الأول بخلاف الزيادة؛ لأنها لاتوجب فسخ العقد الأول على أصح الأقوال؛ لأن الزيادة تصرف في وصف العقد، والتصرف في وصف البيع تقريراً لأصله، فعاد إلى المشتري الأول بالرد عليه قديم ملكه، أما ههنا بخلافه. ولو كان المشتري الثاني زاد في الثمن عرضاً بعينه، ثم وجد بالعبد عيباً ورده على المشتري الأول بقضاء، رده المشتري الأول على البائع الأول لما مر، وإن لم يجد المشتري الثاني بالعبد عيباً لكنه هلك العرض قبل أن يقبض البائع الثاني، وقيمة العرض خمسون ديناراً، فإنه ينقض العقد في ثلث العقد ويكون ذلك الثلث إلى البائع الثاني؛ لأن الزيادة إذا صحت التحقت بأصل العقد، ويصير كأن المشتري الثاني اشتراه بمائة دينار، وعرض قيمته خمسون ديناراً، فإن وجد المشتري بعد ذلك بالعبد عيباً ورد الثلثين الباقيين على البائع الثاني بقضاء، فإن للبائع الثاني أن يرد العبد على البائع بذلك العيب؛ لأنه عاد إلى البائع الثاني ملكه الذي استفاده من جهة البائع؛ لأن في الثلث انتقض العقد بهلاك أحد العرضين وإنه فسخ من الأصل، وفي الثلثين انتقض العقد بالرد بقضاء القاضي، وإنه

فسخ من الأصل أيضاً، ولو كان لم يهلك العرض ولكن إقالة البيع في ثلث العبد، ثم وجد بالباقي عيباً يرده على بائعه، أما في الثلث ما عاد إليه الملك المستفاد من جهة البائع الأول، وأما في الثلثين، فحتى لايتضرر البائع الأول ضرر عيب الشركة. نوع آخر منه رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم وتقابضا، وباعه من آخر، فجحد المشتري الآخر فخاصمه المشتري الأول إلى القاضي ولم يكن له بينة فحلف، وعزم المشتري الأول على ترك الخصومة، ثم وجد به عيباً كان عند البائع الأول، فأراد رده على البائع الأول، فاحتج عليه البائع الأول بدعواه البيع من المشتري الثاني، فالقاضي يرده عليه ولا يبطل حقه بدعواه البيع من الثاني؛ لأن دعوى المشتري البيع من الثاني قد بطلت بيمين، حجة قاطعة لخصومته ههنا، فبطل دعواه بيمين الثاني، والتحق بالعدم، إلا أن المشتري متى علم أنه صادق في دعوى البيع لا يسعه فيما بينه وبين الله تعالى، إلا إذا عزم أن لا يخاصم الثاني، إذا وجد بينة يوماً من الدهر، فحينئذ يسعه الرد فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن بجحود الثاني ينفسخ العقد في حقه على ماعرف ويتوقف الفسخ في حق المشتري الأول، فإذا عزم على ترك الخصومة فقد ساعده على الفسخ فينفسخ العقد فيما بينهما. قالوا: وهذا إذا عزم المشتري على ترك الخصومة بعدما حلف الثاني، أما إذا عزم على ترك الخصومة قبل حلف الثاني، فليس له أن يخاصم بائعه، والفرق: أن بعد حلف الثاني، ولم يكن للمشتري الأول بينة ينعقد إبقاء العقد فيكون الأول (108أ3) مضطراً في مساعدة في الفسخ فلم يحتمل معنى المبادلة، فكان فسخاً من كل وجه في حق الناس كافة، فأقبل حلف الثاني، فالمشتري الأول غير مضطر في فسخ البيع الثاني، فاعتبر هذه المساعدة منه بيعاً جديداً في حق الثالث، فلا يكون له مخاصمة البائع الأول، وإن صدقه المشتري الآخر في الشراء وتصادقا أن البيع بينهما كان تلجئة وسمعة، فرده على المشتري الأول، ثم وجد المشتري بالعبد عيباً كان عند بائعه كان له أن يرده على بائعه؛ لأن البيع بينهما إنما ظهر بإقرارهما قائماً يثبت على الوجه الذي أقرا به، وقد أقرا أنه ثبت كذلك والبيع تلجئة لا يزيل المبيع عن ملك البائع، فبقي الملك المشترى المستفاد من جهة بائعه على حاله فلا يمتنع الرد، وكذلك إن اتفقا على أنهما كانا بالخيار في هذا البيع، أو على أن فلانا منهما بعينه كان بالخيار، فرده صاحب الخيار رده المشتري الأول على بائعه، وكذلك لو أنفقا على المشتري الثاني لم يرده ورد بخيار الرؤية، فللمشتري الأول أن يرده على بائعه؛ لأن الرد بخيار الشرط وبخيار الرؤية فسخ للعقد من الأصل في حق الناس كافة، وكذلك إن اتفقا أن البيع الثاني كان بألف درهم إلى العطاء فرد البيع الثاني، فللمشتري الأول أن يرده على بائعه؛ لأن البيع إلى العطاء بيع فاسد، والرد بفساد السبب فسخ في حق الناس كافة. ولو تصادق المشتري الأول والثاني على جريان بيع بات بينهما، ثم خير أحدهما صاحبه بثلاثة أيام ولياليها جاز وقد مر هذا في فصل الجناية. ولو أن من شرط له الخيار في هذه الصورة نقض البيع لم يكن للمشتري الأول أن

يرده على بائعه بحكم العيب؛ لأن البيع في الأصل لما وقع باتاً تعلق به حق البائع الأول، وهو انقطاع حق المشتري الأول في الرد، فهما في إثبات الخيار وتحصيل الفسخ يريدان إبطال ذلك الحق على البائع الأول، وليس لهما هذه الولاية، ولو لم يخير أحدهما صاحبه بالفسخ ولكن وجد المشتري بالعبد عيباً ورده على المشتري الأول، فأراد المشتري أن يرده على البائع الأول، فقد ذكرنا هذا الفصل تمامه قبل هذا. ولو أن المشتري الأول مع المشتري الثاني أقرًّ بالبيع الثاني عند القاضي، ثم جحد البيع، وأنكرا أن يكونا أقرا عنده بشيء جعلا عند القاضي جحودهما فسخاً للعقد؛ لأن الجحود جعل كناية شرعاً عن الفسخ، فإن أراد المشتري الأول الرد بعد ذلك لم يكن له ذلك؛ لأن البيع قد ثبت عند القاضي بإقرارهما، وجحودهما جعل نقضاً باختيارهما، فكان بمنزلة الإقالة، حتى لو أراد المشتري الآخر إمساك العبد بعد ذلك ليس له ذلك، وكذلك لو أعتقه المشتري الآخر لم يصح إعتاقه، ولو أعتقه المشتري صح؛ لأن الإقالة تمت فيما بينهما. رجل اشترى عبداً وقبضه ووجد به عيباً فأراد أن يرده، فأقام البائع بينة أن المشتري أقر أنه باعه من فلان قبلت بنيته ولم يكن للمشتري أن يرده، سواء كان فلان حاضراً أو غائباً، فرق بين هذا وبينما إذا أقام البينة أن المشتري باعه من فلان الغائب حيث لا تقبل بنيته، وكان للمشتري أن يرده عليه بالعيب، والفرق: أن في الفصل الأول قامت على إثبات إقرار المشتري الأول، والمشتري الأول حاضر، وليس في قبولها قضاء على الغائب بالبيع؛ لأن الإقرار حجة قاصرة فقبلت، وثبت إقرار المشتري الأول بالبيع، فلا يتمكن من الرد بعد ذلك. أما في الفصل الثاني البينة قامت على إثبات البيع من الغائب، وذلك ممتنع لما فيه من القضاء على الغائب من غير أن يكون خصم حاضر، فلم تقبل هذه البينة، وصار وجودها والعدم بمنزلة، ولو انعدمت كان للمشتري أن يرده على البائع بالعيب كذا هنا. ولو كان البائع أقام البينة أن المشتري باع هذا العبد من هذا الرجل وهو حاضر لكنهما يجحدان البيع والشراء لم يرده المشتري الأول؛ لأن البينة في هذه الصورة قامت على خصمين حاضرين فقبلت وثبت البيع بينهما، فإذا تجاحدا البيع جعل ذلك إقالة منهما للبيع، والإقالة بيع جديد في حق الثالث، والبائع الأول ثالثهما، فاعتبر في حقه بيعاً جديداً، فبطل حق الرد بالعيب والله أعلم.

الفصل الخامس عشر: في بيع المرابحة والتولية والوضعية

الفصل الخامس عشر: في بيع المرابحة والتولية والوضعية المرابحة بمثل الثمن الأول وزيادة، والتولية بيع بمثل الثمن الأول من غير زيادة والوضيعة بمثل الثمن الأول مع نقصان معلوم، والكل جائز؛ لأن المبيع معلوم والثمن معلوم، ولأن الناس تعاملوا ذلك كله من غير نكير منكر، وتعامل الناس حجة يترك بها القياس، ويخص بهذا الأثر. قال محمد رحمه الله: إذا اشترى شيئاً فباعه مرابحة، فإن كان البدل في العقد الأول من ذوات الأمثال، جاز بيعه مرابحة سواء جعل الربح من جنس رأس المال أو من غيره، إذا كان معلوماً يجوز الشراء به؛ لأن الربح جزء من أجزاء الثمن، كما يجوز أن يكون من جنس واحد يجوز أن يكون من جنسين، ولكن بشرط أن يكون معلوماً يجوز الشراء به، وإن لم يكن البدل في العقد الأول من ذوات الأمثال فباعه مرابحة ممن لايملك ذلك البيع، فالبيع باطل؛ لأن الثمن في بيع المرابحة مثل الثمن الأول وزيادة ربح، فإذا لم يكن الثمن الأول من ذوات الامثال والمشتري لا يملك عين ذلك الثمن، لو انعقد العقد ينعقد بقيمة ذلك الثمن وهي مجهولة لاتعرف إلا بالحزر والظن، وجهالة الثمن تمنع جواز العقد. وإن كان يملكه فهو على وجهين: إن باعه بربح درهم أو شيء موصوف جاز العقد؛ لأنه يقدر على تسليم ما التزم، وإن باعه بربح «ده يازده» فالبيع باطل؛ لأنه جعل الربح من جنس رأس المال، فإنه جعل الربح مثل عشر الثمن، وعشر الشيء يكون من جنسه، فإذا لم يكن الثمن من ذوات الأمثال يصير العقد منعقداً بالثمن الأول وتنقص قيمته وهذا لا يجوز. ولو اشترى ثوباً بعشرة فأعطي بها ديناراً أو ثوباً، فرأس المال العشرة، حتى لو باعه مرابحه لزم المشتري الثاني عشرة لا ما نقد المشتري الأول؛ لأن الثمن ما ملك بالعقد،

والمملوك بالعقد الأول العشرة دون الثوب والدينار. ولو اشترى ثوباً بعشرة خلاف نقد البلد، فباعه بربح درهم فالعشرة مثل ما نقد، والربح من نقد البلد؛ لأن رأس المال يجب أن يكون مثل الأول، فلا يتغير بنقد البلد، أما الربح فدرهم ذكره مطلقاً، ومطلق اسم الدرهم ينصرف إلى نقد البلد، ولو نسب الربح إلى رأس المال، فقال: أبيعك «ده يازده» فالربح من جنس الثمن؛ لأنه جعل الربح جزءاً للثمن حيث جعله مثل عشره فكان (108ب3) على صفة ضرورة. في «المنتقى» : باع من رجل متاعاً مرابحة، وأخبره أن رأس ماله مائة دينار، فلما أن أراد أن يدفع الثمن قال: اشتريت بمائة دينار شامية والبيع ببغداد، قال: ليس له إلا نقد بغداد، وإن أقام البينة أن رأس ماله مائة دينار شامية قبلت بينته ويكون المشتري بالخيار. وفيه: رواه ابن سماعة عن محمد بشر عن أبي يوسف: رجل اشترى متاعاً بنيسابور، فقدم بلخ ولم يبين أنه اشتراه بنقد نيسابور، فقال ببلخ: قام علي هذا المتاع بكذا، فأبيعه بربح مائة درهم أو بربح ده دوازده، فإن الربح ورأس المال نقد بلخ، إلا أن يصدقه المشتري أنه نقد نيسابور أو تقوم بينته. وإذا كان نقد نيسابور دون نقد بلخ في الوزن والجودة، فقال: قام علي بكذا، ولم يبين أنه نقد نيسابور كان رأس المال والربح على نقد نيسابور، وإذا كان نقد نيسابور أكثر وزناً وأجود من نقد بلخ ولا يعلم المشتري بذلك، فاشتراه على أنه نقد نيسابور وهو بلخ، ثم علم أن نقد نيسابور أكثر وزناً وأجود من نقد بلخ، فللمشتري الخيار إن شاء أخذه، وإن شاء ترك. وإذا اختار البائع في رأس المال في بيع المرابحة والتولية، قال أبو حنيفة: يحط قدر الجناية في التولية ويتخير في المرابحة، إن شاء أخذ بجميع المذكور، وإن شاء ترك، وقال أبو يوسف: يحط الجناية في التولية وفي المرابحة يحط الجناية وحصتها من الربح، وقال محمد: يثبت له الخيار في الموضعين، إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك. وجه قول أبي يوسف: أن العقد الثاني في المرابحة والتولية في حق الثمن بناء على الأول، وقدر الجناية لم يكن ثمناً في العقد الأول، فلا يمكن إثباته في العقد الثاني، وإذا سقط قدر الجناية سقط حصته من الربح في بيع المرابحة ضرورة. وجه قول محمد: أنهما كانا باشرا عقداً باختيارهما ثمن سماه، فينعقد بجميع ذلك الثمن كما لو باعه مساومة وزاد؛ لأن انعقاد السبب الثاني يعتمد التراضي منهما، ولا يتم رضا المشتري الأول إذا لم يحجب له جميع الثمن المسمى، إلا أنه دلس على المشتري

الثاني، والتدليس ثبت الخيار للمشتري كتدليس العيب. ولأبي حنيفة رحمه الله في الفرق بين المرابحة والتوليه أن في إثبات الجناية في التولية، يعتبر العقد عن موضوع ما صرحا به؛ لأنهما صرحا بالتولية ومع الجناية هو مرابحة لا يكون معتبراً للعقد؛ لأنهما صرحا بالمرابحة أكثر مما ظنه المشتري، غير أن البائع دلس على المشتري بتسمية بعض الربح رأس المال، والتدليس يثبت الخيار. ولو هلك المبيع أو حدث به ما يمنع الفسخ عند ظهور الجناية سقط خياره، ولا شيء له في قول أبي حنيفة، وهو المشهور من قول محمد رحمه الله؛ لأنه تعذر الرد بما حدث من الهلاك أو غيره، وتعذر الرد يسقط الخيار كما في خيار الرؤية وخيار الشرط، وروي ابن سماعة عن محمد رحمه الله أن المشتري يرد قيمة المبيع ويرجع على البائع بالثمن، وإذا حط البائع عن المشتري بعض الثمن باعه مرابحة بما بقي بعد الحط، وكذلك لو حط عنه بعد ما باع حط ذلك من المشتري الثاني مع حصته من الربح وكان له ولاية حط ذلك عن المشتري الآخر. ولو زاد المشتري البائع في الثمن زيادة، باعه مرابحة على الأصل والزيادة جميعاً، وهذا مذهب علمائنا الثلاث رحمهم الله، بناءً على أن الزيادة في الثمن والحط عنه ملتحق بأصل العقد، ويجعل كأن العقد ورد ابتداء على هذا القدر، وقد جرت المسألة من قبل. قال محمد في «الكتاب» : لو حط عنه بعد ما باع حط ذلك عن المشتري الثاني مع حصته من الربح، إشارة إلى أنه لا يحط ذلك عن المشتري الآخر بنفس الحط عن الأول مالم يحط عنه، وهذا فصل قد اختلف المشايخ فيه، منهم من قال: لا يحط ذلك عن المشتري الآخر ما لم يحط عنه، ومنهم من قال: ينحط عنه بنفس الحط عن الأول. ولو اشترى ثوباً ولم ينقد ثمنه، ثم باعه مرابحة جاز، فإن أخر الثمن منه شهراً بعد ذلك لم يلزمه أن يؤخر عن المشتري ولا يشبه هذا الحط. ولو اشترى ثوباً بعشرة فباعه مرابحة باثني عشر، ثم اشتراه ثانياً عشرة باعه مرابحة على ثمانية في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: يبيعه مرابحة على عشرة؛ لأن الشراء جديد فنبني عليه بيع المرابحة، كما لو باعه المشتري من ثالث، ثم إن البائع اشترى من ذلك الثالث، ولأبي حنيفة: أنه لما باعه أولاً وربح، كان الربح على شرف السقوط بأن يرد بالعيب أو يبطل العقد بسبب من الأسباب، فلما اشتراه منه بعد ذلك تأكد الربح، والتأكيد إثبات من وجه، فصار كأنه اشترى الربح والثوب بذلك الثمن، فيصير مقدار الربح من الثمن بمقابلته، ويبقى الباقي بمقابلة الثوب فيبيعه مرابحة على ذلك القدر احتياطاً؛ لأن باب المرابحة مما يحتاط فيه؛ لأنه من باب الربا فيلحق الشبهة منه بالحقيقة، فعلى هذا عند أبي حنيفة: لو اشتراه بعشرة وباعه بعشرين، ثم اشتراه بعشرة لا يبيعه مرابحة أصلاً.

نوع آخر فيما يحدث بالسلعة مما يجب أن يبين وما لا يجب: وإذا حدث عيب في يد البائع بالمبيع، أو في يد المشتري بآفه سماوية، أو بفعل المبيع فله أن يبيعه مرابحة بجميع الثمن من غير بيان عند علمائنا الثلاث رحمهم الله؛ لأن جميع ما يقابله الثمن قائم؛ لأن الفائت وصف، والأوصاف لا يقابله شيء من الثمن إذا فاتت من غير صنع واحد، ومعنى إذ الأمانة بالصدق إذا نفى جميع ما يقابله الثمن، ولو كان الحادث من فعله، أو فعل أجنبي لم يبعه مرابحة حتى يبين، أما إذا حدث بفعله فلأنه حبس جزءاً من المبيع بجنايته، والأوصاف إذا صارت مقابلاً بالتبادل صار لها حصة من الثمن، وأما إذا حدث بفعل أجنبي فلأن جناية الأجنبي موجبة للضمان عليه، فيكون المشتري حابساً بدل جزء المعقود عليه، وذلك مبلغه من بيع المرابحة حتى يبين. وفي «المنتقى» : اشترى عبداً وقبضه، ثم جاء أعور أو أعمى لم يبعه مرابحة، وكل ما ينقصه مما يحدث به من العيب عنده بقدر ما لا يتغابن الناس في مثله لم يبعه مرابحة، وكذلك إذا جابى لبائع، وكذلك إن حدث من المبيع نماء وهو قائم في يده كالثمرة والولد والصوف، أو هلك بفعله، أو بفعل أجنبي لم يبعه مرابحة حتى يبين، أما قبل الهلاك فإن المستولد من نفس المبيع له حكم المبيع، وفي ذلك نوع خيانة، وأما إذا هلك بفعله، أو بفعل أجنبي فلما مر، ولو هلك بآفة سماوية جاز له أن يبيعه مرابحة من غير بيان، ولو استغل الدار والأرض جاز أن يبيعه مرابحة من غير بيان؛ لأن العلة ليست بمتولدة من العين، ولهذا لا يمنع استيفاؤها الرد بالعيب فلا يكون (109أ3) حابساً شيئاً من المعقود عليه باعتبارها؛ لأن العلة بدل المنفعة واستيفاء المنفعة لا يمنع من بيعها مرابحة؛ وهذا لأنه أنفق عليها ... من المنفعة، فإذا كان استيفاء عين المنفعة لا يمنع من بيع المرابحة، فكذا استيفاء بدل المنفعة. قال: ولو اشترى جارية ثيباً فوطئها جاز أن يبيعها مرابحة، وإن كانت بكراً لم يبعها مرابحة حتى يبين، والفرق هو أن المستوفى بوطء الثيب لا يقابله شيء من البدل؛ لأنه ليس بمال الاستخدام، وإن الحق بتفويت الحر في عين الملك بخلاف ما إذا كانت بكراً؛ لأن العذارة ... هو مال ويقابلها شيء من الثمن، فصار إزالتها كقطع العضو. قال: ولو اشترى نسيئة لم يبعه مرابحة حتى يبين؛ لأن الأجل نسبه كونه مبيعاً، فإنه يزاد في الثمن لأجل الأجل، فألحق بحقيقته احتياطاً، فصار كأنه اشترى شيئين، ثم أراد أن يبيع أحدهما مرابحة على كل الثمن، وذلك لا يجوز من غير بيان فههنا كذلك، وهذا

في الأجل المشروط، فإن لم يكن الأجل مشروطاً إلا أنه متعارف موهوم فيما بين التجار، مثل البياع يبيع الشيء من إنسان ولا يطالبه بالثمن بل يأخذه منه منجماً في كل شهر، أو في كل عشرة أيام هل عليه أن يبين ذلك في بيع المرابحة؟ أكثر المشايخ أنه ليس عليه ذلك، وروي عن أبي يوسف أنه لا يبيعه مرابحة حتى يتبين حاله، وبه أخذ بعض المشايخ، ثم في الأجل المشروط إذا باعه من غير بيان وعلم به المشتري فله الخيار، إن شاء رضي به وأمسكه، وإن شاء رده. ذكر المسألة في «الأصل» وفي «الجامع الصغير» ، وتصير هذه المسألة رواية فيمن اشترى شيئاً وصار مغبوناً فيه غبناً فاحشاً له أن يرده على البائع بحكم الغبن، وإليه أشار محمد رحمه الله في الصلح عن العيوب، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يحكي عن أستاذه يقول: في المسألة روايتان عن أصحابنا: وكان يفتي برواية الرد رفقاً بالناس، وكان القاضي الإمام صدر الإسلام أبو اليسر، والقاضي الإمام ركن الإسلام أبو بكر.... والقاضي الإمام جمال الدين.... مولى جدي رحمهم الله يفتون أن البائع إن قال للمشتري: قيمة متاعي كذا، إذا قال: متاعي يساوي كذا فاشترى بناء على ذلك، ثم ظهر بخلافه أن له الرد بحكم التغرير، أما إذا لم يقل ذلك، فليس له الرد، وغيرهم كانوا لا يفتون بالرد على كل حال، والصحيح: أن يفتى بالرد إذا وجد التغرير، وبدونه لا يفتى بالرد. قال: ولو اشترى من إنسان بدين عليه كان له أن يبيعه مرابحة على قدر الدين، ولو صالح من الدين على ثوب لم يجز له أن يبيعه مرابحة حتى يتبين الفرق وهو أن مبنى الصلح على الحط والتجوز بدون الحق، والمشتري الثاني اعتمد مما كسبه الأول، فإذا ترك الأول المماكسة في عقد الصلح كان في بيعه مرابحة من غير بيان نوع جناية فلا يفعل، فأما الشراء فمبناه على المماكسة، فكان الشراء بالدين والثمن النقد سواء، فجاز له أن يبيعه مرابحة من غير بيان، وعن أبي يوسف في فصل الصلح أنه إذا زاد في ثمنه أكثر مما يتغابن الناس فيه، فإنه لا يبيعه مرابحة حتى يبين، وإن كان أخذه بقيمته أو بنحو ذلك باعه مرابحة من غير بيان. قال: وقال أبو حنيفة: إذا اشترى ممن لا تجوز شهادته له لم يجز له أن يبيعه مرابحة حتى يتبين. وقال أبو يوسف ومحمد: له أن يبيعه مرابحة. ولو اشترى من عبده أو مكاتبه لم يجز بيعه مرابحة بالاتفاق حتى يبين. فوجه قولهما: أنه ليس لأحدهما في مال صاحبه ملك ولا حق، فكانا في ذلك بمنزلة الأخوين بخلاف العبد والمكاتب؛ لأن كسب العبد لمولاه وما حصل لمكاتبه من

وجه كأنه لمولاه، فكان الشراء عدما من ذلك الوجه بخلاف ما نحن فيه. ولأبي حنيفة: أن ما يحصله المرء لهؤلاء (ما) بمنزلة يحصله لنفسه من وجه، ولهذا لا تقبل شهادته لهؤلاء، فباعتبار هذا الوجه صاروا في حقه بمنزلة العبد والمكاتب، ولا يشاركه بعض هؤلاء مع البعض في المعاملة، أو ظاهر فيثبت معنى الجناية بترك البيان. وفي «المنتقى» : إذا اشترى الرجل شيئاً بغلاء والزيادة مما لا يتغابن الناس في مثله، فله أن يبيعه مرابحة ولا يبين، وإذا جاوزت الزيادة ذلك والمشتري يعلم لا يبيعه مرابحة ما لم يبين، وإن كان لا يعلم وسعه أن يبيعه ولا يبين. قال: وإذا كانت الزيادة في الأمر البين الذي لا يحتاج الناس إلى أن تبين فيه المحاباة فليس عليه أن يبين، نحو أن يشتري فلساً بدرهم، فهذا معروف فيما بين الناس أن الفلس لا يباع بدرهم، فإن باع هذا ولم يبينه وسعه إلا أن يشتريه منه بجهل ذلك، فإن كان كذلك لم يبعه حتى يبين كما يبين في النسبة. وفيه أيضاً: وهب لرجل ثوباً على عوض اشترط وتقابضا، فليس له أن يبيعه مرابحة في قياس قول أبي حنيفة وهذا مثل الصلح، وأما في قياس قول أبي يوسف إن كان العوض مثل قيمة الهبة فلا بأس بأن يقول: قام علي بكذا، ولا يقول اشتريته بكذا، وكذلك إن حط عن العوض ما يتغابن الناس فيه، وإن حط أكثر من ذلك لم يجز له أن يبيعه مرابحة بألف، ويقول: قام علي بكذا، وللشفيع أن يأخذها بالشفعة بألف. / وفي «نوادر هشام» قال: سألت أبا يوسف عن رجل اشترى من رجل متاعاً بدراهم له عليه من ثمن المتاع، وهذا المتاع إن أصاب في يد غيره لم يشتره من ذلك الثمن بالنصف، قال: كان هكذا فلا يبيعه مرابحة حتى يبين؛ لأنه قد حاباه. وفيه أيضاً: إذا اشترى عبداً بألف درهم ببعض لها صرف ونقد في ثمنه غلة، فلا صرف لها، فإنه يبيعه على الغلة التي نقدها؛ لأن قبول البائع نقداً دون نقده حط عن الثمن. وفي «نوادر هشام» قال: قلت لأبي يوسف في رجل اشترى ثوباً بعشرة جياد ونقده زيوفاً، قال في قول أبي حنيفة يبيعه مرابحة على عشرة زيوف، وقال أبو يوسف: يبيعه على عشرة جياداً، ثم رجع أبو يوسف عن قول أبي حنيفة وشده فيه، قال: سمعت أبا يوسف يقول: فيمن اشترى ثوباً بعشرة دراهم مزيفة أنه يبيعه ويبين، وإن لم يبين فللمشتري الخيار. إذا اشترى نصلاً وحمائل وجفناً، ثم أنفق على ذلك حتى ركبه وحلاه بفضة ثم باعه، وقال: القصة فيه كذا أبيعكها بوزنها بلا ربح، وما بقي قام علي بكذا وكذا، فهذا جائز استحساناً، من قبل أنه وقع لكل شيء من هذا ثمن على حدة. ولو اشترى مختوم حنطة بعينها بمختوم شعير بغير عينه وتقابضا، فلا بأس أن يبيع

الحنطة مرابحة (109ب3) وكذلك كل صنف من الكيل أو الوزن بصنف آخر. ولو اشترى قفيراً من الحنطة بقفيزي شعير بغير عينه، ثم باع الحنطة بربح ربع حنطة لم يجز، وهذا بخلاف ما لو اشترى قلب فضة، ثم باعه بربح درهم. قال: الوارث لا يبيع ما ورثه عن أبيه مرابحة على ما اشتراه الأب. ولو أقام المشتري بينة أن المشترى ميراث لبائعه من أبيه كان له أن يرده عليه. ولو أقام البائع (البيّنة) أنه كان ميراثاً إلا أنه بيع في دين علي واشتريته بهذا الثمن، ثم يقبل قوله، وله أن يحلف المشتري على علمه، وإن أقام بينته على ذلك قبلت بينته وكانت أولى من بينة المشتري؛ لأنهم شهدوا بمثل شهادته في الميراث وزادوا عليهما بيع الميراث وشراءه. وكذلك لو أقام (البيّنة) أنه كان ميراثاً إلا أني بعته من فلان وقبضت ثمنه وسلمه إليه، ثم إني اشتريته منه بهذا الثمن قبلت بينته في قول أبي حنيفة. وروى أبو سليمان عن أبي يوسف فيمن اشترى عبداً بطعام عينه وتقابضا لم يكن له أن يبيعه مرابحة؛ لأنه لو هلك قبل القبض انتقض البيع ولو رده بعيب انتقض البيع. وروى بشر عن أبي يوسف بخلاف هذا. وعن محمد أنه يبيعه مرابحة رجل رقم يره وزاد في رأس المال وقال المشتري: أبيعك على هذا الرقم ولم يقل اشتريته بذلك، ولا قال قام علي به، جاز في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: إن كان المشتري جاهلاً بذلك الأمر، فليس له أن يبيعه حتى يقول زدت في الرقم، وإن (لم) يقل وعلم المشتري به بعد ذلك فله أن يرده، وإن كان المشتري تاجراً يعرف ما يجري بين التجار من هذه الزيادات لزمه. بشر عن أبي يوسف في «الإملاء» : رجل اشترى من آخر ثوباً وبطانة، وجعلها حشوها قطناً وريشاً وهب له، ثم حسب الثمن وأجر الخياط، ثم قال لغيره: قام علي بكذا وكذا وباعه مرابحة على ذلك جاز، وكذلك الرجل يرث الثوب فبطنه بالقز والذي اشتراه ويحسب أجرة الخياط وثمن القز، وقال لغيره: قام علي بكذا وكذا وباعه مرابحة على ذلك جاز، وكذلك لو كان القز ميراثاً والظهارة مشترى. ولو باع ثوبين قد اشترى أحدهما بعشرة والآخر ميراث باعهما مرابحة، وقال وقت البيع: قاما علي بعشرة، فهذا لا يجوز، قال: من قبل أن للثوب الميراث حصة من الثمن يردها بالعيب ويرجع بها في الاستحقاق، وهو لم يشتره بشيء، وهذا مخالف للذي وصفنا قبله من الثوب المحشو والمبطن؛ لأن ذلك ثوب واحد لا يراثل بعضه بعضاً، وهذان ثوبان كل واحد منهما ثوب على حدة. رجل اشترى عبداً بألف درهم وتقابضا، ثم باعه مرابحة على ألف ومائة درهم وتقابضا، ثم بلغ المشتري الثاني أن أصل شراء المشتري الأول كان بألف، فخاصم في ذلك فأقام بينة عليه بذلك، فقال معه: قد كنت اشتريته بألف درهم، ثم وهبته، ثم اشتريته بألف ومائة لم يصدق على ذلك، فإن طلب يمين المشتري على علمه، وقال المشتري:

شهدني حين وهبته واشتريته بألف ومائة أستحلفه على علمه، ولو لم يدع بيعه هذا، ولكنه قال: المائة الزيادة أنفقتها عليه في طعامه وفي حمولته من البلد التي اشتريته فيه إلى هذا البلد، فإن كان إنما باعه مرابحة على ما قام، فالقول قوله مع يمينه، وإن كان قال: قد اشتريته بألف ومائة على ذلك لم يقبل قوله في هذه المائة أنها نفقة؛ لأنه قد أقر في عقدة البيع أنها في أصل الثمن. رجل اشترى ثوباً بخمسة عشر درهماً ونقد الثمن، ثم باعه بربح ده يازده، وأخبر أنه قام علي بعشرة، فانتقد عشرة وربحها، ثم قال بعده: غلطت، قام علي بخمسة عشر وكذبه المشتري، فإنه لا تقبل بينة البائع على ما ادعاه من رأس المال، فإن صدقة المشتري في ذلك، قيل للمشتري: أعطه خمسة دراهم ونصف، أو رد البيع في قول أبي يوسف رحمه الله، وأما في قياس قول أبي حنيفة فلا يؤخذ المشتري بزيادة، إنما يقال للبائع إن يثبت ما فسخ البيع وخذ الثوب ورد ما فقدت، وإن سبب فعلم البيع بالذي انتقدت لا يزاد عليه. ولو قال المشتري: إنما اشتريته بخمسة فحسبت وجعلت رأس مالك عشرة وأراد استحلافه على ذلك، فلا يمين على البائع في قول أبي حنيفة، ويستحلف في قول أبي يوسف. ولو أقر البائع أن رأس المال ذلك، أو قامت بذلك بينة، فإنه يرد في قول أبي يوسف على المشتري خمسة ونصف، وأما في قول أبي حنيفة فلا يرد شيئاً، إن شاء المشتري يرد البيع، وإن شاء أمسك بالثمن الذي نقده، فإن كان اشتراه تولية في المسألتين جميعاً فإنهما يترادان في الزيادة والنقصان في قول أبي يوسف، وكذلك قال أبو حنيفة في النقصان، وكذلك قياس قوله في الزيادة، وكذلك لو ابتاعه بربح درهم على عشرة، فهو مثل ذلك في جميع هذه الوجوه في ده يازده. في «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل غصب من آخر عبداً، فأبق منه وعيبه فقضي عليه بقيمة المغصوب منه، ثم ظهر العبد كان للغاصب أن يبيعه مرابحة على القيمة التي غرم، ويقول: قام علي بكذا، ولا يقول اشتريت. وفي «نوادر هشام» عن محمد: اشترى بجراب هروي فيه كذا ثوباً لك كل ثوب بعشرين درهماً أنه يبيعه مرابحة على عشرين، ولو كان للجراب حصة لم يقدر على البيع مرابحة بعشرين، وكذلك دن الخل وقوصرة التمر بمنزلة، وأما ورق السمن والعسل وقد اشتراه جزافاً فله حصته من الثمن. نوع آخر في بيان ما للمشتري أن يلزم السلعة في بيع المرابحة وما ليس له ذلك قال محمد في «الأصل» : اشترى متاعاً فله أن يحمل عليه ما أنفق في القصارة والخياطة ويقول: قام علي بكذا، ولا يقول: اشتريته بكذا، وكذلك يحمل عليه ما أنفق

في الصبغ أو الغسل أو الفتل، ويقول: قام علي بكذا ولا يقول: اشتريته بكذا؛ لأن ذلك كذب وخيانة، وإن قال ذلك، ثم علم المشتري فله الخيار إن شاء أخذ، وإن شاء رد؛ لأنه خيانة، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال أبو يوسف في مسألة القصارة والفتل والصبغ: إنه لا خيار للمشتري؛ لأن الذي أنفق في الصبغ والفتل والقصارة شراء أيضاً، فلا يكون هذا من باب الجناية، والأصل في جنس هذا أن يقال: ما جرت عادة التجار بإلحاقه برأس (110أ3) المال يلحق برأس المال وما لا فلا أو نقول: ما أثر في المبيع وتزداد به مالية البيع صورة ومعنى، فله أن يلحق برأس المال وما لا فلا، ولا يحمل عليه ما أنفق على نفسه في سفره، وأما الرقيق فله أن يلحق بهم طعامهم وكسوتهم بالمعروف. وفي «المنتقى» وفي الرقيق يحمل على أثمانهم طعامهم، ولا يحمل عليه كسوتهم، ويضم أجرة سائق الغنم، ولا يضم أجرة الراعي استحساناً، قال شمس الأئمة الحلواني: في موضع جرت العادة فيما بين التجار بإلحاق أجر الراعي برأس المال يلحق أيضاً، والباج الذي يؤخذ في الطريق لا يلحق برأس المال، قال رحمه الله: في موضع جرت العادة فيما بين التجار بإلحاقه برأس المال يلحق به أيضاً. ولا يضم أجرة الطبيب والرائض والبيطار، وجعل الآبق وأجرة السمسار تضم إن كانت مشروطة في العقد بالإجماع، وإن لم تكن مشروطة بل كانت موسومة، أكثر المشايخ على أنها لا تضم، ومنهم من قال: لا تضم أجرة الدلال بالإجماع، بخلاف أجرة السمسار إذا كانت مشروطة في العقد، أو لم تكن على قول بعض المشايخ، وذكر في «البرامكة» : أن أجرة السمسار لا تضم من غير فصل، وفي «المنتقى» ويحمل على الثمن كراء السفينة وكراء الدابة التي حملت ويقول: قام علي بكذا، وفي الدواب يحمل على أثمانها ثمن العلف، ولا يحمل ثمن الجلال والبرامع، وكذا في الرقيق لا يحمل على الثمن ثمن العطر والأدهان، وكذا لا يضم كل ما جاوز القوت من الطعام والإدام، ولا يضم أجرة سائق الرقيق وحافظ الطعام والمتاع وما عمل بيده من قصارة أو خياطة أو ما أشبه ذلك من الأعمال لا يضمه إلى رأس المال. وقال أبو يوسف: ولا يضم إلى ثمن الرقيق ما أنفق عليه في تعلم القرآن والكتابة والصناعة والسفر وغير ذلك، وقال محمد: يضم إذا اشترى لؤلؤة واستأجر من شقها ضم أجرة إلى ثمنها ويبيعها مرابحة على ذلك كله؛ لأنه يزيد في ثمنها، وأما الياقوتة فما كان ينقصه ذلك لا يحتسب بأجره في الثمن، وما كان منه يزيده الثقب..... أو لابد له منه احتسب أجر ذلك. وفي الطعام لا يضم أجرة الكيالين إلى رأس المال ويضم أجرة النقالين. وإذا

جصص الدار أو طينها أو طوى......، فإنه يضم ثمن ذلك وأجر..... ثمن الدار، ولا يضم أجرة الحافر سواء بئر ماء أو بئر بالوعة والفناء في الأرض يحتسب ذلك ثمنها، وكذلك النفقة في الكراب وكشح الكروم، ولو سقى الأرض لم يحتسب ذلك في رأس مالها، وكذلك إذا سقى النخل والكرم والشجر. ولو أحدث في الأرض زرعاً أو كرماً أو شجراً وأنفق في سعتها يحتسب بذلك في رأس المال ما بقي فيها، فإذا ذهب ذلك من الأرض لم يحتسب بشيء ما أنفق من قبل أن منفعة الماء كانت للنخل والشجر، فإذا ذهب ذلك لم يبع مرابحة إلا على الثمن الذي اشتراها به، وإذا اشترى تمر نخل، فإنه يحتسب بأجرة اللقاط، ولا يحتسب بأجرة الحافظ. وإذا اشترى شياه وأجر آخر من يذبحها ويسلخها ويملحها، فإنه يضم ذلك كله إلى رأس ماله. إذا اشترى نحاساً واستأجر من يضربه آنية حسب بذلك، وكذلك ينحته أبواباً، وكذلك الرجل يشتري الحطب ويتخذ منه فحماً، فإنه يحتسب أجر الموقد وأجر الآخر وأجر النقالين. وإذا اشترى غنماً وأنفق عليها في علفها وأصاب من ألبانها وأصوافها دون ذلك ألحق الفضل من النفقة برؤوس مالها. ونظير هذا رجل اشترى دجاجة وقبضها فباضت عنده ثلاثين بيضة فباع البيضات بدرهم، ثم أراد أن يبيع الدجاجة مرابحة، إن أنفق على الدجاجة قدر ثمن البيضات جاز؛ لأنه جعل ثمن البيض عوضاً عما أنفق، وإن لم ينفق لا يجوز وهذا هو الأصل في جنس هذه المسائل، إن قدر ما أصاب من الزيادة أولاً نفق في ماله لا يلزمه بيان ذلك في بيع المرابحة. نوع آخر منه في بيع ما اشترى مرابحة إذا كان المبيع جملة مما يكال أو يوزن أو يعد غير متفاوت، كان للمشتري أن يبيع بعض تلك الجمل مرابحة؛ لأن مالا يتفاوت، فالثمن فيه ينقسم على الأجزاء، فنصف الثمن يكون ثمن النصف بيقين وثمن الربع يكون ربع الثمن بيقين، فيبيع النصف منه مرابحة على نصف الثمن ويبيع الربع مرابحة على ربع الثمن، وإن كان مختلفاً مما لا يكال ولا يوزن، فإن باع نصفاً مشاعاً مرابحة جاز، بأن اشترى جراباً هروياً وباع ربع جميع ذلك أو نصفه بربع الثمن أو نصفه؛ لأن كل جزء من المشاع معلوم الحصة بالعقد، فصار كالمعين الذي لا يتفاوت، وإن باع بعضها معيناً بأن باع ثوباً معيناً من الجراب وكان الثمن في الأصل جملة لم يبعه؛ لأن الانقسام فيما يتفاوت باعتبار القيمة وطريق معرفتها الحزر والظن، ويجري في ذلك السهو والغلط، وإن سمى لكل واحد ثمناً جاز بيعه مرابحة على ما سمى في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن حصة كل

واحد من الثمن معلوم بيقين، وقال محمد: لا يبيعه مرابحة؛ لأن من عادة التجار ضم الرديء إلى الجيد في البيع بثمن واحد مع التفصيل ليرغب المشتري في الرديء لماله من المقصود في بيع الرديء، فلو جوزنا له بيع أحدهما مرابحة من غير بيان ربما يبيع الرديء بمثل ثمن الجيد وفيه من الجناية ما لا يخفى. وإذا اشترى ثوباً واحداً واحترق نصفه فليس له أن يبيع النصف الباقي بنصف الثمن، وإن كان الباقي نصف الثوب باعتبار الذرعان؛ لأن الثوب الواحد لا ينقسم باعتبار عدد الذرعان؛ لأن الذرعان من ثوب واحد مما يتفاوت، وإنما ينقسم باعتبار القيمة، فنصف الثمن لا يكون ثمن النصف الباقي من حيث الإخاطة والتعين، وكذلك إذا اشترى ثوباً واحداً وأراد أن يبيع ذراعاً منه بأن ميز ذراعاً منه وباعه مرابحة على ما يخصه لا يجوز، إما لأن التمييز يوجب نقصاناً في هذا الذراع، فكأن اشترى شيئاً وعينه، أو لأن ما يخصه من الثمن غير معلوم من حيث الإخاطة والتعين؛ لأن الثمن لا ينقسم باعتبار عدد الذرعان. وكذلك إذا لم يميزه ولكن عين ذراعاً في جانب واحد لا يجوز أن يبيعه مرابحة للمعنى الثاني، وإن لم يعين وأراد أن يبيع ذراعاً منه ما يخصه، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يفسد العقد عندهم جميعاً، وإذا فسد العقد لا تتصور المرابحة، وقال بعضهم: يفسد العقد عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: لا يفسد كما في الدار ويجعل الذراع عبارة عن السهم، فمتى كان الثوب عشرة أذرع كان بائعاً عشر الثوب بعشر الثمن وذلك جائز. (110ب3) . ولو اشترى رجلان مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً لا يتفاوت اعتبر أقراراً ومعنى التبادل فيها ساقط، فيكون ما في يد كل واحد منهما كأنه عين ما كان له قبل القسمة، ولو كانت الجملة مختلفة فاقتسماها لم يجز لأحدهما أن يبيع حصته مرابحة؛ لأن القسمة فيما يتفاوت إقرار من وجه مبادلة من وجه، فما في يد كل واحد منهما نصفه كان له قبل القسمة، ونصفه بدل عما وصل إلى شريكه من نصيبه، فصار كأنه اشترى ذلك بنصيبه فلا يبيعه مرابحة. وفي «المنتقى» : إذا اشترى ثوباً بعشرة دراهم وقطع نصفه وباعه، ثم باع النصف الباقي مرابحة على عشرة، ثم علم المشتري بذلك، فهو بالخيار إن شاء أخذ بجميع الثمن، وإن شاء ترك من قبل أن النصفين يتفاضلان، أشار إلى أنه لو أراد أن يأخذ هذا النصف بنصف الثمن ليس له ذلك؛ لأن ثمن هذا النصف مجهول هذا كرجل اشترى ثوبين صفقة واحدة بثمن واحد، ثم باع أحدهما مرابحة على جميع الثمن وعلم المشتري بذلك فهو بالخيار، إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء ترك وليس له أن يأخذ الثوب بحصته؛ لأن ثمنه مجهول. وفيه أيضاً: رجل اشترى أمة وقبضها ففقأ رجل عينها، فأخذ لها إن شاء، فإنه يبيعها على ما بقي مرابحة، قال الحاكم أبو الفضل هذا الخلاف جواب «الأصل» . وفيه أيضاً: رجل اشترى داراً وقبضها فانهدم بناؤها، فباع النقض وأخذ ثمنه لم

يكن له أن يبيع الدار مرابحة من قبل أن ذلك بالحزر والظن. مسائل هذا النوع في الاختلاف في المرابحة ورأس المال قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل اشترى ثوباً قيمته عشرة بعشرة، ودفع إليه رجل ثوباً اشتراه بعشرة وقيمته عشرون ليبيعه مع ثوبه، فجاء المأمور بالثوبين جميعاً إلى رجل وقال: إنهما علي بعشرين، فأنا أبيعكهما مرابحة بربح عشرة فاشتراها على ذلك يقسم الربح عليهما نصفين؛ لأن ثمن كل واحد منهما عشرة، أكثر ما فيه أن قيمة أحدهما نصف قيمة الآخر، ولكن الثمن في بيع المرابحة ينقسم على قدر رأس المال في البيع الأول ولا ينقسم على قدر قيمتهما في البيع الثاني؛ لأن المرابحة بيع بمثل الثمن الأول وزيادة، فيجعل هذا كالمنصوص عليه، فلو وجد مشتري الثوب، بالثوب الآخر عيباً، فأراد رده فقال البائع: كان ثمن كل واحد منهما عشرة؛ لأن الآمر اشترى ثوبه بعشرة وأنا اشتريت ثوبي بعشرة، فصار الثمن وهو ثلاثون منقسماً عليهما نصفين فلك أن ترده بخمسة عشر، وقال المشتري: بل كان لك وقد اشتريتهما صفقة واحدة بثلاثين، فانقسم الثمن في البيع الأول على قدر قيمتهما ثلاثاً، وانقسم الثمن الثاني وهو ثلاثون عليهما أثلاثاً، فجملة ما يقابل المعيب من الثمن والربح عشرون فأنا أرده بهذا القدر، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأن ظاهر ما قاله البائع عند البيع شاهد للمشتري؛ لأنه قال: قام علي بعشرين وهذه اللفظة إنما تستعمل في صفقة واحدة فيكون القول قول المشتري مع يمينه على العلم بالله ما يعلم أن الأمر كما قاله البائع، فإن حلف رده وأخذ من البائع على الآمر بخمسة عشر؛ لأن في زعم البائع أن حقه قبل الآمر في خمسة عشر وزعمه معتبر، وإن أقاما البينة بينة المشتري أيضاً. ولو وجد المشتري العيب بالثوب المأمور والمسألة بحالها، فالقول قول المشتري أيضاً لما قلنا، ويقال للمشتري قد أقر لك البائع زيادة خمسة، فإن شئت فصدقه وخذها، وإن شئت فاترك. وفي «المنتقى» : رجل اشترى عبداً بمائة ورجل آخر اشترى جارية بمائتين فوكل أحدهما صاحبه ببيع مملوكه مع مملوك نفسه مرابحة، وساومه على أي حال رأى جمعهما، فقال المأمور لرجل: إنهما قاما بثلاثمائة فصدقه المشتري وأربحه ربحاً واشتراهما وقبضهما، ثم وجد بالعبد عيباً وأراد رده، فقال البائع: رأس مال هذا مائة وكذبه المشتري وحلف على علمه ما يعلمه قام بالذي قلت، فإنهما يقومان قيمة عدل، فيرد العبد بالذي يصيبه من القيمة، فإن أصابه أقل من المائة فقال للمشتري: إن البائع قد أقر لك بفضل، فإن شئت فصدقه وخذه، وإن شئت فاتركه، وإن كان نصيبه أكثر من نصف الثمن رده البائع عليه فلزم البائع غرم، له أن يقبضه ولا يرجع به على صاحب الجارية. ولو كان المشتري هو الذي ادعى أن شراء الثوبين كان بصفقتين كل واحد بعشرة، وقال البائع: بل كانت الصفقة واحدة فالقول قول البائع، فإن وجد المشتري العيب بثوب المأمور رده بعشرة، وإن أقاما البينة فالبينة للمشتري؛ لأنه يثبت زيادة صفقة وزيادة ثمن

المردود بالعيب، وإن وجد العيب بثوب الآمر رده بخمسة عشر؛ لأن المشتري ادعى فيه خمسة عشر وقد أقر له البائع بخمسة زائدة، فإن شاء صدقه وأخذ منه، وإن شاء ترك، قال مشايخنا: هذا إذا كان البائع مصراً على إقراره، فأما إذا لم يكن مصراً على إقراره لا يؤخذ بتلك الخمسة، لارتداد إقراره الأول بتكذيب المشتري ولم يذكر ههنا أن البينة بينة البائع؛ لأن البائع ببينته لا يثبت لنفسه حقاً. مسائل التولية بشر عن أبي يوسف في رجل اشترى جارية بألف درهم فولدت عند المشتري ولداً، ثم ولي البيع رجلاً لم يبيعها ولدها قال الحاكم أبو الفضل: هذا خلاف جواب الأصل، وإذا ولي رجلاً شيئاً بما قام عليه ولم يعلم المشتري بكم قام عليه فالبيع فاسد، فإن أعلم البائع المشتري بكم قام عليه فالمشتري بالخيار، إن شاء أخذه وإن شاء ترك؛ لأن الذي قام عليه اسم لما اشتراه به ولما لحقه من المؤنة التي التحقت بالثمن، وذلك لا يعرف إلا ببيان البائع، فإذا لم يبين كان الثمن مجهولاً ففسد البيع فإن أعلمه بعد ذلك صح، يريد به إذا أعلمه في المجلس، وهذا؛ لأن ساعات المجلس كساعة واحدة فصار الإعلام في آخر المجلس كالإعلام وقت العقد. وفي «القدوري» : لو باع شيئاً بربح ده يازده ولم يعلم ما اشترى به فالبيع فاسد حتى يعلم المشتري فيختار أو يدع وهذا رواية ابن رستم عن محمد، روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أن البيع جائز، وتأويله: أنه موقوف في حق وصف الجواز إذا زالت الجهالة بدلالة ما فسر، أنه لو هلك ذلك الشيء فالبيع فاسد ويلزمه قيمته، وهذا دليل على أن العقد محكوم بفساده ووجب الخيار ليكشف حال الثمن عند الإعلام بعد أن كان ملتبساً. روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله: فيمن اشترى ثوبين بمائة درهم فقبضهما، ثم ولي رجلاً أحدهما بعينه لم يجز، وكذلك لو أنه أشركه في أحدهما بعينه لم يجز، ولو كان المشتري قبض أحد الثوبين من البائع، ثم أشرك رجلاً فيهما (111أ3) جازت الشركة في النصف المقبوض، وكذلك لو ولاهما رجل جازت التولية في النصف المقبوض.d ولو اشترى جاريتين بألف درهم وقبضهما وباع إحداهما، ثم وليهما رجل، فالمولى بالخيار إن شاء أخذ التي لم تبع بحصتهما، وإن شاء ترك إذا لم يعلم بيع أحدهما، وكذلك أشركه فيهما جازت الشركة في النصف التي لم تبع وإن لم تبع إحداهما لكنه أعتق إحداهما أو ما يثبت، ثم وليهما رجل أو أشركه فيهما جاز في الأمة ... منهما. وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف: أن أحد الشيئين إذا كان طعاماً غير

الفصل السادس عشر: في الاستحقاق وبيان حكمه

مقبوض فولاهما رجلاً لم تجز التولية في الآخر؛ لأن بيع الطعام قبل القبض لا يجوز بالإجماع، قال الحسن: وروي عن أبي يوسف غير هذا، قال: إذا كان لا يختلف في إبطاله؛ لأنه ليس بمال، أفسدت البيع في الآخر، وإذا كان لا يختلف في إبطاله لعلة عارضة، وهو قال: أجزت البيع في الآخر والله أعلم. مسائل الوضيعة الأصل فيه: أن بضم قدر الوضيعة إلى رأس المال لم يسقطها من الجملة ويكون الثمن ما بقي ومثاله: إذا اشترى ثوباً بعشرة فباعه بوضيعة ده يازده فإنك تجعل كل درهم من رأس المال أحد عشر جزءاً، فتكون الجملة مائة وعشرة فيسقط فيها جزء من أحد عشر وذلك عشرة، يبقى هناك مائة وهي تسعة دراهم وجزءاً من أحد عشر جزءاً من درهم، وإنما جعلنا كل درهم على أحد عشر جزءاً؛ لأنه لما باعه بوضيعة ده يازده فقد جعل الوضيعة جزءاً من أحد عشر جزءاً، فيجعل كل درهم أحد عشر جزءاً لها، فتصير الجملة مائة وعشرة أجزاء، سقط من كل أحد عشر واحد يبقى مائة وهي تسعة دراهم وجزء من درهم، وعلى هذا القياس يجري الباب، حتى لو باع بوضيعة ده دوازده يجعل كل درهم اثنا عشر فيكون مائة وعشرون يسقط منها عشرون، بقي هناك مائة وبقي ثمانية دراهم وثلاث دراهم. الفصل السادس عشر: في الاستحقاق وبيان حكمه استحقاق العقد على المشتري يوجب توقف العقد السابق على إجازة المستحق ولا يوجب نقضه وفسخه في ظاهر الرواية، وعن أبي حنيفة رحمه الله: أن الخصومة من المستحق وطلب الحكم من القاضي دليل بعض العقد فينتقض به العقد كما ينتقض بصريح النقض، حتى لا تعمل إجازة المستحق بعد ذلك. وعن أبي يوسف رحمه الله: إن أخذ المستحق العين بحكم القاضي دليل النقض فينتقض به العقد، وعن أبي يوسف رواية أخرى: أن المستحق إذا قال عند الخصومة: أنا أقيم البينة لأجيز العقد فحكم له لا ينتقض العقد وتعمل إجازته، وإن لم يقل ذلك لا تعمل إجازته، وفي ظاهر الرواية: ليس شيء من ذلك دليل النقض، أما الخصومة وطلب الحكم فلأنهما لإثبات الاستحقاق وإظهاره، والاستحقاق لو كان ثابتاً ظاهراً يوم البيع لا يمنع انعقاد البيع فظهوره في الإنتهاء لا يوجب النقض والفسخ من طريق الأولى، والأخذ بحكم القاضي محتمل، يحتمل التأويل والتلوم، ويحتمل النقض والفسخ، والعقد جائز بيقين فلا يثبت النقض بالشك، وإذا أجاز المستحق البيع وعمل إجازته، كان الثمن للمستحق ولكن البائع يقبضه ويدفعه إلى المستحق، وإذا كان المشترى شيئاً واحداً كالثوب الواحد والعبد الواحد،

فاستحق بعضه قبل القبض أو بعده، فللمشتري الخيار في الآخر؛ لأن الصفقة تفرقت على المشتري قبل التمام، وإن استحق أحدهما بعد القبض فلا خيار في الآخر وإن تفرقت الصفقة عليه؛ لأنها تفرقت بعد التمام، وإن كان المشترى مكيلاً أو موزوناً واستحق بعضه، فللمشتري الخيار فيما بقي إن شاء أخذه بالحصة وإن شاء ترك، وإذا كان المشترى شيئين كالثوبين والعبدين فلم يقبضهما حتى استحق أحدهما أو قبض أحدهما بعد القبض، فلا خيار له في الآخر؛ لأن الصفقة وإن تفرقت عليه إلا أنها تفرقت بعد التمام، وإن استحق بعضه بعد القبض فعن أبي حنيفة روايتان. وفي «المنتقى» : رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم ووهب البائع الثمن للمشتري قبل القبض أو بعده، ثم استحق العبد فلا سبيل للمشتري على البائع؛ لأن ما وهب البائع للمشتري ماله فلا يضمن له ماله في يده، ولو أجاز مستحق العبد العقد قبل أن يقضى له فإن البيع جائز، والهبة جائزة في قول أبي حنيفة رحمه الله إن كانت الهبة قبل قبض الثمن، ويضمن البائع مثله لرب العبد، ولا تجوز الهبة بعد القبض فيؤديه المشتري ويكون لرب العبد، وأما في قول أبي يوسف: فلا تجوز الهبة في الوجهين جميعاً؛ لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء، ولو أذن له في الابتداء ببيع عبده فباعه ووهب الثمن من المشتري كان الحكم ما ذكرنا فهنا كذلك. قال محمد رحمه الله في كتاب الدعوى: رجل اشترى من آخر أمة شراء جائزاً أو فاسداً أو ملكها بهبة أو صدقة واستولدها، ثم استحقها رجل ببينة أقامها قضى القاضي بالجارية وأولادها للمستحق؛ لأن الأولاد فرع ملكه إلا إذا ثبت غرور المستولد، ولابد لذلك من البينة على المشترى والهبة أو ما أشبه ذلك، فإذا أقام المستولد بينة على ذلك يثبت غروره؛ لأنه وطئها على حسبان أنها ملكه وهذا هو حد الغرور، وولد المغرور حر بالقيمة فيقضي القاضي حينئذٍ للمستحق بالجارية وبقيمة الولد، ويقضي بعقر الجارية أيضاً ولا يرجع المستولد على مملكها بالعقر بائعاً كان أو واهباً، ويرجع بقيمة الأولاد عليه إن كان بائعاً، ولا يرجع عليه إن كان واهباً. والفرق: أن البائع بالبيع ضمن سلامة الجارية للمشتري؛ لأن المشتري ضمن سلامة الثمن وهذا عقد مجازاة ومقابلة، ولأجل ذلك ثبت له حق الرد بالعيب، وضمان سلامة الجارية يكون ضمان سلامة الزوائد بطريق التبعية ولم تسلم الزيادة للمشتري لما ضمن قيمتها للمستحق، فيرجع على البائع بذلك بحكم الضمان، فأما الواهب لم يضمن سلامة الموهوب للموهوب له ليصير ضامناً سلامة الزوائد بطريق التبعية؛ لأن ضمان سلامة المبيع من البائع بمقابلة ضمان سلامة البدل ولا بدل في الهبة، ومجرد الغرور لا يثبت حق الرجوع ما لم يؤخر ضمان السلامة إما قضاءً أو في ضمن عقد المعاوضة، حتى لو كان الواهب ضمن سلامة الموهوب للموهوب له نصاً يقول بأنه يرجع على الواهب بقيمة الولد، فإن كان المشتري باع الأمة من رجل آخر (111ب3) واستولدها المشتري الثاني، ثم استحقها رجل وأخذ الجارية وقيمة الأولاد من المشتري الثاني على المشتري

الأول بقيمة الأولاد قيل: يرجع على بائعه بقيمة الأولاد، على قول أبي حنيفة: لا يرجع، وعلى قولهما: يرجع. لهما: أن البائع الأول ضمن للمشتري الأول سلامة الأولاد ولم يسلم لها الأولاد حين أخذ منه قيمة الأولاد. والدليل عليه: أن المشتري الأول في هذه الصورة يرجع على بائعه بالثمن، وإنما يرجع لأن بائعه ضمن سلامة المبيع لما رجع المشتري الثاني عليه بالثمن. ولأبي حنيفة: أن البائع الأول ضمن للمشتري الأول سلامة أولاده لا سلامة أولاد المشتري منه، وهذا ضمان السلامة في ضمان البيع، فإنما يثبت ضمان سلامة أولاد المشتري الثاني في ضمان البيع الثاني والبيع الثاني مقصور على البائع الثاني؛ لأنه حصل باختياره، فما وجد في ضمان السلامة في صحته يكون مقصوراً على البائع الثاني أيضاً، ألا ترى أن ضمان تسليم المبيع إلى المشتري الثاني لما وجب بالبيع الثاني، والبيع الثاني مقصور على البائع الثاني لا على البائع الأول بخلاف الرجوع بالثمن؛ لأن البائع الأول ضمن للمشتري الأول ما باع منه ولم يسلم له ذلك لما رجع الثاني على المشتري الأول بالثمن. اشترى داراً وبنى فيها بناءً، ثم استحق رجل الدار بالبينة، ونقض بناء المشتري، فالمذكور في عامة الكتب أن المشتري يرجع على البائع بقيمة البناء، وذكر في شركة «الجامع» : أن للمشتري الخيار في البناء المنقوض إن شاء أمسكه ولا يرجع على البائع لما لحقه من زيادة غرم؛ لأنه لما اختار النقض فقد أبرأ البائع عن الضمان، وإن شاء ترك النقض على البائع ورجع عليه بقيمة البناء مبنياً، وبعض مشايخنا قالوا: إذا اختار المشتري إمساك النقض فله أن يرجع إلى البائع بما يلحقه من زيادة غرم، وقاسه على ما إذا خرق ثوب إنسان خرقاً فاحشاً، كان لصاحب الثوب أن يمسك الثوب ويضمن النقصان كذا هذا، ولو أن المشتري باع الدار من رجل آخر وبنى فيها المشتري الثاني بناءاً، ثم استحقها رجل من المشتري الثاني يرجع المشتري على المشتري الأول بالثمن وبقيمة البناء، ويرجع المشتري الأول على بائعه بالثمن، ولا يرجع عليه بقيمة البناء عند أبي حنيفة خلافاً لهما. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رواية أخرى، أنه قال: في رجوع المشتري الأول على بائعه بقيمة البناء أنا أقف في هذا حتى أنظر، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله، ذكر المعلى عن أبي يوسف أن أبا حنيفة قال: لا يرجع المشتري الأول على بائعه بالثمن حتى يؤدى، وقال أبو يوسف: حتى يقضي عليه فرق أبو يوسف رحمه الله بين هذا وبينما إذا غصب رجل عبداً وجنى العبد في يد الغاصب جناية، ثم قبضه المغصوب منه فليس له أن يرجع على الغاصب بأرش جنايته حتى يرجع عليه. وفي «المنتقى» : رجل اشترى داراً وبنى فيها بناء، ثم استحق نصف الدار رد ما بقي من الدار ورجع بنصف قيمة البناء؛ لأنه مغرور في نصفها، ولو كان استحق نصف الدار

بعينه فإن كان البناء فيه خاصة رجع بقيمة البناء، وإن كان البناء في النصف الذي لم يستحق فله أن يرد ذلك النصف، ولا يرجع بشيء من قيمة البناء، وعن محمد رحمه الله فيمن اشترى داراً على أن البائع فيه بالخيار فبنى المشتري فيها بناءاً، ثم اختار البائع البيع، ثم استحقت الدار فقال: لا يرجع المشتري على البائع بشيء من قيمة البناء؛ لأنه بنى فيها قبل أن يملكه البائع منه. وفي شركة «الجامع» : اشترى داراً من رجلين وبنى فيها بناءاً، ثم استحق رجل الدار ونقض بناء المشتري، ثم حضر أحد البائعين كان للمشتري الخيار إن شاء أمسك المقبوض، وإن شاء سلم نصف المقبوض إليه ورجع عليه بنصف قيمة البناء؛ لأنه صار مغروراً من جهته في النصف، فإن حضر البائع الآخر بعد ذلك كان للمشتري الخيار في النصف الآخر، واختياره أخذ الشيئين مع الأول في أحد النصفين لا يكون اختياراً لذلك مع الثاني، فله أن يختاره مرة أخرى. وروى إبراهيم عن محمد: فيمن اشترى جارية ووهبها من رجل وسلمها إليه، ثم إن الواهب اشتراها من الموهوب له واستولدها واستحقها مستحق رجع على البائع وهو الموهوب له بقيمة الولد؛ لأنه مغرور. روى أبو سليمان عن أبي يوسف في «الإملاء» ، قال أبو حنيفة: في رجل اشترى من آخر أمة وقبضها ونقد الثمن فاستحقهما رجل بالبينة وقضى القاضي بها للمستحق وأراد المشتري أن يرجع على البائع بالثمن فقال له البائع: قد علمت أنهم شهدوا بالزور وأن الأمة لي، وقال المشتري: أنا أشهد لك أن الأمة لك وأنهم شهدوا بالزور فللمشتري أن يرجع على البائع بالثمن بعد هذا الإقرار، قال: من قبل أن المبيع لم يسلم له والشهادة على البائع، فلا يحل له أن يأكل الثمن، والمبيع لم يسلم للمشتري. رجل اشترى أمة من رجل وقبضها، ثم اشتراها منه أهل الحرب، ثم اشتراها هذا الرجل منهم، استحقها مستحق بالبينة وقضى القاضي له أن يأخذها بالثمن فله أن يرجع بالثمن على بائعها الأول. وفي «المنتقى» : رجل وطىء جارية ابنه، فولدت له يضمن قيمتها لابنه، ثم ولدت له ولداً آخر، ثم استحقها رجل فقضى بها له وبعقرها يرجع على الابن بالقيمة ضمن له وبقيمة له، قال الحاكم أبو الفضل: هذا خلاف جواب «الأصل» ، وذكر بعد هذا المسائل. رجل وطىء جارية ابنه وعلقت منه، فادعى الولد حتى ثبت نسبه منه وغرم قيمة الجارية بيقين، ثم ولدت بعد ذلك أولاداً، ثم استحقها رجل وأخذ عقرها وقيمة الولد، فعلى قول محمد لا يرجع الأب على ابنه بشيء من قيمة الأولاد، وقال أبو يوسف: يرجع عليه بقيمة كل ولد ولدته بعد الولد الأول. وفيه أيضاً: جارية بين رجلين، اشتراها من رجل فاستولدها أحدهما وضمن لشريكه نصف قيمتها ونصف عقرها، ثم استولدها ثانياً، ثم استحقها مستحق وقضى القاضي له

بالجارية وبقيمة الولدين وبالعقر على المستولد، فإن المستولد يرجع على الشريك بما ضمن له، ثم يرجعان بالثمن على البائع، يرجع المستولد على البائع بنصف قيمة الولدين حصة من الشراء، ولا يرجع عليه بالنصف الباقي؛ لأنها حصة شريكه لم يشترها منه ولا من الشريك، إنما هو ضمان دخل عليه بالاستهلاك وبطل الاستهلاك. قال: ولو أن رجلاً غصب أمة فأبقت منه ضمن قيمتها، ثم وجدها واستولدها (112أ3) ، ثم استحقها مستحق وأخذها وعقرها وقيمة ولدها فقضى القاضي، فالغاصب يرجع على المغصوب منه بالقيمة التي دفعها إليه وبقيمة الولد ولا يشبه الغاصب في هذا الشريك، هذا في الشريك بمنزلة النكاح، ألا ترى أنه ضمن حصته من العقر، وإنما ثبت نسب الولد من قبل الشريك الرق للواطىء فيه، فليس الشريك يضار في هذا. وروى المعلي عن أبي يوسف: في رجل اشترى أمة وأعتقها، ثم تزوجها فجاءت بولد، ثم استحقها رجل، قال: هو مغرور ويرجع بقيمة الولد، وقال محمد: هو ليس بمغرور ولا يرجع بقيمة الولد. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل باع لرجل ساجة ملقاة في الطريق وقبض الثمن وخلى بين البائع وبين الساجة، ولم يحركها المشتري من موضعها فقد صار قابضاً لها، فإن أحرقها رجل فهي من مال المشتري، فإن جاء مستحق واستحقها بالبينة فالمستحق بالخيار إن شاء ضمن المحرق، وإن شاء ضمن البائع إن كان البائع هو الذي ألقاها في ذلك الموضع، ولا سبيل للمستحق على المشتري إن لم يكن حركها من ذلك الموضع. رجل باع أمة من رجل فلم يقبضها المشتري حتى زاد البائع في المبيع أمة أخرى، ثم استحقت الأولى، فإن شاء المشتري أخذ الزيادة بحصتها من الثمن كأن الشراء وقع عليهما جميعاً. وذكر الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف: في رجل اشترى عشر بيضات واستحق بعضها أو تلف قبل القبض أنه قال فيه قولان: أحدهما أن يبطل من الثمن بقدر العدد، والثاني أنه يبطل بقدر حصة ذلك من الثمن على القيمة، فعلى قول لم تجعل مختلفة وعلى قول الثاني جعلها مختلفة. رجل باع من آخر جارية غيره وتقابضا، ثم اختلف البائع والمشتري، فقال البائع: بعتها بغير أمر صاحبها، وقال المشتري: لا بل بعتها بأمر صاحبها فالقول قول المشتري والمسألة معروفة، ولو أن المشتري استولدها بعد ذلك، ثم استحقها مولاها قال أبو يوسف: يأخذ المولى الولد عبداً له مع الجارية؛ لأن المشتري ليس بمعروف. رجل اشترى نصف عبد، ثم اشترى آخر النصف الآخر ولم يقبض الأول فما استحق فهو منهما، وإن قبض الأول ولم يقبض الآخر فما استحق فهو من الآخر، وإن قبضا فما استحق فهو منهما.

رجل اشترى من رجل داراً بألف درهم ونقده الثمن وقبض الدار، وأقام أخ المشتري بينة أن الدار كانت لأبيه تركها ميراثاً له ولأخيه هذا المشتري، فإنه يقضي له بنصف الدار، فبعد ذلك ينظر: إن كذبه المشتري كان المشتري بالخيار، إن شاء رد النصف الباقي على بائعه ورجع عليه بجميع الثمن، وإن شاء أمسكه ورجع عليه بنصف الثمن، وإن صدقه المشتري بقي النصف في يده بنصف الثمن ورجع على بائعه بنصف الثمن الضامن للدرك يرجع عليه دون قيمة البناء إلا أن يسميه، وأما الضامن للخلاص وهو أن يسلم العبد من يد البائع إلى المشتري ويحصله من يد المستحق فليس على ضامن الخلاص رد الثمن، وإن مات العبد في يد المستحق بمنزلة موته في يد البائع، وإذا ضمن له الدرك فإنما هو من الاستحقاق وليس..... أن يسلمه من يد البائع. في «نوادر هشام» عن محمد: رجل اشترى أرضاً بشربها واستحق الشرب قبل القبض أخذ الأرض بجميع الثمن إن شاء، وكذلك المسيل إن كان قد قبض وأخذت فيها غرساً أو بناءاً أو زرعاً رجع بنقصان الشرب والمسيل. قال محمد: كل شيء إذا بعته وحده لم يجز البيع فيه وإن بعته مع غيره جاز البيع فيه، فإذا استحق ذلك الشيء فإن شاء المشتري أخذ الباقي بجميع الثمن وإن شاء ترك، وكل شيء إذا بعته وحده جاز وإذا بعته مع غيره جاز أيضاً كان له حصة من الثمن. قال هشام: قلت لمحمد رجل اشترى أمة هي ليست بحاضرة فقبضها ولم تقر بالرق وباعها من رجل آخر ولم تقر بالرق أيضاً وقبضها المشتري الآخر، ثم ادعت أنها حرة قال: يعتقها القاضي ويرد بعضهم الثمن على البعض، فإن قال المشتري الأول: قد كانت أقرت بالرق وليس له على ذلك بينة ولم يقر المشتري الثاني بذلك قال: يرد المشتري الثاني بالثمن (على) الأول ولا يرد المشتري الأول على بائعه؛ لأن المشتري الأول مقر أنها أقرت له بالرق. وفي «الفتاوى» : رجل اشترى جارية وباعها حتى تداولتها الأيدي، ثم ادعت الجارية في يد المشتري الآخر أنها حرة الأصل وردها صاحبها على بائعها بقولها وقبل بائعها منه وردها هو أيضاً على بائعه وقبل منه، فأراد أن يرد على بائعه فليس لبائعه أن لا يقبلها منه إن لم تكن انقادت للبيع فتثبت الحرية بقولها في حق الكل، وإن كانت انقادت للبيع بأن بيعت وسلمت إلى المشتري وهي ساكتة فللبائع الأول أن لا يقبلها؛ لأنها لما انقادت للبيع فقد أقرت بالرق فدعوى حرية الأصل منها بعد ذلك دعوى العتق العارض، والعتق العارض لا يثبت بمجرد قولها، فكان للأول أن لا يقبلها كما لو ادعت العتق العارض. قال هشام: وسألت محمد رحمه الله عن غلام لم يبلغ الحلم باعه إنسان، فأقر بأنه مملوك له وهو يعبر عن نفسه، ثم استحق بالحرية وغاب البائع ولا يدرى أين هو هل

يرجع المشتري على الغلام بالغرور قال: لا، قلت: فالرجل الذي اشترى عبداً أقر على نفسه بالرق وغاب البائع وقبض المشتري العبد ولم ينقد الثمن فأعتق القاضي العبد؛ لأنه كان حر الأصل هل يشهد القاضي ببراءة المشتري عن الثمن والبائع غائب قال: نعم. قال: وسمعت محمداً يقول رجل اشترى من صبي لم يأذن له أبوه أو وصيه في التجارة جارية فاستولدها، ثم استحقها إنسان، فإنه يأخذها وولدها رقيقاً والنسب ثابت، وكذلك إن اشتراها من عبد محجور عليه. ولو اشترى رجل جارية بعبد وتقابضا وولدت الأمة من المشتري، فإذا العبد حر الأصل فإن لبائع الجارية أن يأخذ الجارية وعقرها، وولدها رقيقاً والولد ثابت النسب، قال هشام: قلت لمحمد فإن كان الذي باع العبد كان اشتراه من غيره قال: الولد يكون له بالقيمة. رجل اشترى أمة وقبضها فادعاها آخر فاشتراها منه أيضاً، ثم استحقت الأمة وقد ولدت للمشتري، قال محمد رحمه الله: يرجع بالثمنين على البائع، فإن كانت الأمة جاءت بالولد (112ب3) لأكثر من ستة أشهر من وقت اشتراها من الآخر رجع بقيمة الولد التي يعرفها للمستحق على المشتري الآخر، فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت شرائها من المشتري الآخر لا يرجع بقيمة الولد على واحد منهما؛ لأن إقراره الثاني براءة الأول، قال محمد رحمه الله: ويضمن البائع في الأرض المشتراة إذا استحقت، البناء والغرس والزرع، وضمان الزرع: أن ينظر ما قيمة الزرع فيضمنه البائع، قال هشام: وذلك إذا لم يستحصد. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل اشترى جارية فولدت منه فاستحق رجل نصفها قضى له عليه بنصف قيمتها وبنصف عقرها، فإن قضى بذلك فاستحق رجل آخر النصف الآخر بعد ذلك فإنه يقضي له أيضاً بنصف قيمة الجارية وبنصف عقرها ويقضي عليه بقيمة الولد بينهما نصفين. رجل اشترى جارية وقبضهما فولدت له، ثم أعتقها وتزوجها فولدت له ولداً آخر، ثم استحقت فليس عليه إلا عقر واحد، وكذلك لو لم يتزوجها بعد العتق ولكنه زنى بها فولدت له أولاداً، ثم استحقت لم يغرم للمستحق إلا عقر واحد، وصار ذلك العتق ليس بعتق فكأنه وطء على الملك الأول، ويثبت نسب الأولاد ويغرم قيمتهم ويرجع على البائع بقيمة الأولاد الذين كانوا قبل العتق، ولا يرجع بقيمة الأولاد الذين كانوا بعد العتق. في «نوادر ابن سماعة» عن محمد في يده كران حنطة، باع كراً منها من رجل بثمن مسمى ودفعه إليه فاستحق من يده قال: يأخذ المشتري الكر الباقي ودفعه، ثم استحق الأول قال: يبطل البيع فيه ولا سبيل له على المشتري الثاني، ولو كان في يده كران فباع أحدهما ولم يدفعه حتى باع الآخر ودفعه، ثم باع الكر الباقي ودفعه، ثم حضر المشتري الأول ووجد المشتريين جميعاً فإنما سبيله على المشتري الثالث؛ لأن البائع قد كان له أن يبيع الكر الباقي بعد بيعه من المشتري الأول فلما باعه وقع البيع على ما يملكه وجاز

الدفع إليه، ثم لما باع الكر الآخر لم يجز بيعه؛ لأنه للمشتري الأول، فإن لم يجد المشتري الأول المشتري الثالث، إنما وجد المشتري الثاني يقضى له بنصف ما في يده، فإذا حضر الثالث أخذا جميعاً ما في يده فيكون بينهما نصفين وكذلك لو كان مكان الكرين عبداً فباع نصف من رجل ولم يدفع إليه، ثم باع نصفه من آخر ودفعه إليه، ثم باع نصفه من ثالث ودفعه إليه. وروى ابراهيم عن محمد في رجل باع قفيزاً من طعام * ومعه ثلاثة أقفزة * من رجل، ثم باع قفيزاً من رجل آخر، ثم باع قفيزاً من ثالث، ثم قال لهم الأقفزة الثلاثة، ثم استحق القفيز الأول قال يأخذ المستحق القفيز الثالث فيكون له؛ لأن صاحب الطعام باع القفيز الأول وهو يملكه وباع الثاني وهو يملكه، (وباع) الثالث وهو لا يملكه. رجل اشترى من دار نصفها مشاعاً، ثم استحق نصفها قبل القسمة فالبيع على النصف الباقي فإن كان قسم للمشتري، ودفع إليه ما اشترى، ثم استحق النصف الذي اشترى فللمشتري نصف نصف الباقي وهو ربع جميع الدار، ولو اشترى من صبرة نصفها وهو كر، ثم استحق نصفها قبل القسمة أو بعد القسمة والقبض فإنه يأخذ جميع النصف الباقي من الكر، ولو اشترى من عبد نصفه كان ما استحق من نصيب البائع، وسلم للمشتري نصفه وفرق بين العبد والدار. رجل وهب لرجل عبداً أو تصدق به عليه فاستحق من يد الموهوب له أو من يد المتصدق عليه، كان للواهب أو المتصدق أن يرجع على بائعه بالثمن رواه ابن سماعة عن أبي يوسف. وروى ابن سماعة عنه أيضاً: في رجل اشترى من رجل عبداً وقبضه، ثم إن الموهوب له وهبه من رجل آخر، ثم استحق العبد من يد الموهوب له الآخر، كان للمشتري أن يرجع على بائعه بالثمن، ولو كان المشتري للعبد باعه من رجل، ثم وهبه لرجل من الابتداء، ثم إن الموهوب له باعه من رجل، ثم استحق من يد الآخر، فالمشتري الأول لا يرجع على بائعه قبل أن يرجع الآخر على بائعه وهو الموهوب له، فإذا رجع عليه رجع المشتري الأول على بائعه. وروى بشر عن أبي يوسف في «الإملاء» : رجل اشترى زق سمن أو عسل أو جرة زيت أو دهن أو سلة زعفران أو جوالقاً من دقيق أو حنطة، ثم استحق منها فللمشتري الخيار إن شاء أخذ الباقي بحسابه من الثمن وإن شاء ترك؛ لأن هذا شيء واحد فيكون الحال فيه قبل القبض وبعده سواء، ولو كان اشترى زقي سمن أو قوصرتي تمر أو جرتي زيت أو جوالقي حنطة واستحق أحدهما، إن كان قبل القبض فله أن يرد البيع كله، وإن كان بعد القبض فليس له أن يرد الأخرى ويرجع بحساب ما استحق وكذلك سائر ما وصفت لك. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى من رجل داراً وقبضها فاستحق رجل نصفها فأقام المشتري بينة أنه اشترى الجارية من هذا المستحق ولم يؤقت وقتاً قال:

لا يرجع المشتري على البائع بثمن ذلك النصف، إنما هذا رجل اشترى من رجل داراً فادعاها آخر فاشتراها منه أيضاً ولو أقام البينة أنه اشتراها منه بعد الاستحقاق رجع على البائع الأول بنصف الثمن. ابن سماعة عن أبي يوسف في «الإملاء» : رجل اشترى من رجل أرضاً بيضاء وبنى فيها بناءاً، ثم استحقت الأرض وقضى القاضي على المشتري بهدم البناء فهدمه، ثم استهلكه فلا شيء على البائع من قيمة البناء وهذا اختيار منه له، وإن لم يستهلكه ولكن المطر أفسده كان البناء صحيحاً فصار طيناً، أو كسره رجل، فعلى البائع فصل ما بين النقض والبناء، وإن شاء البائع أخذ النقض على تلك الحالة وأعطاه قيمة البناء مبنياً ويرفع عنه ما حدث في النقض من النقصان من كل وجه، فإن اختار هذا فالمشتري بالخيار، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وكذلك يدخله بضمان أي جناية أحد فالمشتري بالخيار والبائع بالخيار، فإن اتفقا على وجه من ذلك أقضي بينهما، وإن اختلفا ترك في يد المشتري وضمن البائع فضل ما بين النقض إلى البناء، وإن كان النقصان من غير جناية أحد فهو مثل ذلك في قول أبي يوسف كان للمشتري أن يمسك ويرجع بفضل ما بين الهدم إلى البناء كما يمسك المفقوءة عيناه ويرجع بالنقصان. رجل اشترى داراً وبني فيها وغاب، ثم أن البائع باعها من رجل ونقض المشتري الآخر بناء الأول وبنى فيها ثانياً، ثم جاء الأول، فهذه المسألة على وجهين: الأول أن يكون الثاني بناها بآلات هي ملكه وفي هذا الوجه يضمن المشتري الثاني للمشتري الأول (113أ3) حصة البناء من الدار العامرة ونقض البناء الأول للمشتري الأول، وإن بنى ينقض الأول فالمشتري الثاني يضمن للمشتري الأول حصة البناء من الدار العامرة وللمشتري الأول أن يمسك البناء وليس للمشتري الثاني رفعه؛ لأنه عين ملك الأول فإن زاد المشتري الثاني في ذلك زيادة، أعطاه قيمة الزيادة من غير أن يعطيه أجرة العامل؛ لأن الزيادة عينها مال متقوم، فأما العمل فلا يتقوم إلا بالعقد. وفي «المأذون الكبير» : اشترى أمة واستولدها واستحقها رجل بالبينة وقضى على المشتري بقيمة الولد رجع المشتري بذلك كله على بائعه، وفرق بين هذه المسألة وبينما إذا اكتست أكساباً أو وهب لها، ثم استحقت وقضي للمستحق بالكسب والهبة حيث لا يرجع المشتري على البائع بالكسب والهبة. ولو اشترى أرضاً وأحياها أي عمرها فاستحقت من يد المشتري هل يرجع على البائع بما أنفق في عمارتها وحرثها؟ فلا رواية لهذه المسألة، وقيل: لا يرجع؛ لأن الإحياء حصل بصرف المنافع والمنافع عندنا لا تتقوم إلا بالعقد. وسئل الشيخ الإمام شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: عن رجل اشترى من آخر جارية، ثم ظهر أنها حرة وقد مات البائع ولم يترك شيئاً لا وارث له ولا وصي، غير أن بائع الميت حاضر قال: القاضي يجعل للميت وصياً حتى يرجع المشتري على وصي الميت، ثم وصي الميت يرجع على بائعه للميت.

وسئل هو عمن اشترى سكناً في دكان وقف فقال المتولي: ما أذنت بالسكنى وأمر بالرفع، هل للمشتري أن يرجع على البائع؟ قال: إن كان المبيع بشرط القرار، رجع لفوات الشرط وظهور العيب وإلا فلا رجوع له على البائع بوجه ما لا بالثمن ولا بالنقصان. أيضاً ذكر في «مجموع النوازل» : في رجل اشترى من آخر أرضاً بعينها فجاء مستحق واستحقها بالبينة وقضى القاضي بالأرض له وطلب المشتري من البائع الثمن فرد الثمن عليه، ثم ظهر فساد الدعوى وفساد القضاء بفتوى الأئمة، هل للمستحق أن يسترد تلك الأرض ويقول قد ظهر بطلان القضاء؟ قال: لا؛ لأن المشتري لما رجع على البائع بالثمن ورد البائع الثمن عليه فقد فسخا البيع فيما بينهما بالتعاطي فانفسخ العقد من كل وجه وارتفع حكمه فكيف يستردها قال: ولو لم يرجع المشتري على البائع بعد ما قضى القاضي بالأرض للمستحق وفسخ العقد بينهما، ثم بعد ذلك ظهر بطلان قضاء القاضي وبطلان الاستحقاق، كان لهذا المستحق عليه استرداد الأرض في هذه الصورة؛ لأنه ظهر بطلان الفسخ بناء على ظهور بطلان القضاء بخلاف الفصل الأول. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل اشترى جارية فولدت عنده ولداً لا باستيلاده، ثم استحقها رجل بالبينة أخذها وولدها، ولو أقر المشتري بالجارية لإنسان أخذ المقر له الجارية ولا يأخذ ولدها. والوجه في ذلك: أن دعوى الملك المطلق دعوى الملك من الأصل فتكون الشهادة بالملك من الأصل؛ لأن الشهود إنما يشهدون على وقت الدعوى فيكون القضاء بالملك المطلق قضاء بالملك من الأصل؛ لأن القاضي إنما يقضي مما يشهد به الشهود، والشهادة حجة مطلقة متعدية فظهر الملك في الجارية عند القضاء بها في حق الولد جميعاً، ولهذا قلنا: إن في القضاء بالملك المطلق يرجع الباعة بعضهم على بعض وطريقه ما قلنا: أن القضاء بالملك المطلق بالبينة، فظهر الملك من الأصل كافة، فأما القضاء بالملك بالإقرار ليس بقضاء بالملك من الأصل؛ لأن الإقرار حجة قاصرة، ألا ترى أن الباعة لا يرجع بعضهم على بعض؟ يوضحه: أن الإقرار ليس ثابتاً بل هو إخبار، وثبوت المخبر به فيه لصحة والمخبر به ملك الآمر، فيقضي بملك الآمر في أدنى زمان يتصور فيه الملك فيقضي بملك الآمر بعد الانفصال عنها؛ لأنه متيقن ولا يقضي به حال الاتصال؛ لأنه مشكوك فيه، ثم في فصل البينة هل يشترط قضاء على حدة بالولد أو القضاء بالأم يكفي؟ اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: القضاء بالأم يكفي، وقال بعضهم: يشترط قضاء على حدة بالولد، وإليه أشار محمد رحمه الله في موضع آخر، فإنه قال: إذا قضى بالأصل للمستحق، ولم يعلم بالزوائد، لم تدخل الزوائد تحت القضاءوهذا؛ لأن القضاء بالزوائد منفصلة حقيقية فلا بد من القضاء بها. قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : رجل اشترى ثوباً فقطعه وخاطه قميصاً، ثم ادعى رجل أن الثوب له وأقام البينة قضى القاضي له بالقميص، ولا يرجع المشتري على البائع بشيء.

الأصل في جنس هذه المسائل: أن الاستحقاق متى وقع على ملك البائع، رجع المشتري على البائع بالثمن ومتى وقع على حدوث الملك للمشتري لا يرجع المشتري على البائع بالثمن، وهذا؛ لأنه متى وقع الاستحقاق على ملك البائع، لم يسلم المبيع للمشتري من جهة البائع بالبيع، فلا يسلم الثمن للبائع إذ البيع عقد معاوضة يقتضي السلامة بإزاء السلامة ومتى وقع الاستحقاق على حدوث ملك المشتري، فالمبيع مسلم للمشتري من جهة البائع، وإنما زال بسبب حدوث من جهته، فلا يمنع سلامة الثمن للبائع وإنما يعرف وقوع الاستحقاق على حدوث الملك للمشتري إذا حدث في العين بما يمنع الاستحقاق من الأصل، وإذا عرفت هذا الأصل فنقول: في هذه المسألة الاستحقاق وقع على حدوث الملك للمشتري لا على الملك من الأصل، إذا كان الثوب للمستحق من الأصل، لصار للذي خاطه، فإن من غصب ثوب إنسان وخاطه قميصاً، ينقطع حق المالك ويصير حق الغاصب أن ضرورة استحقاق القميص أن يكون بملك حدث على ملك المشتري، وبهذا لا يتبين أن المبيع لم يسلم للمشتري من جهة البائع، وكذلك لو اشترى حنطة فطحنها، ثم جاء رجل وأقام البينة أن الدقيق له يقضي القاضي بالدقيق للمستحق، ولا يرجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن الاستحقاق وقع على حدوث الملك للمشتري لما قلنا، فقد سوى بين الخياطة والطحن ههنا وافترقا في حق صحة الزيادة، وإنما كان كذلك باعتبار أن المانع من صحة الزيادة هلاك المبيع، وبالطحن يهلك المبيع وهي الحنطة، أما بالخياطة لا يهلك المبيع؛ لأن المبيع هو الثوب وبعد الخياطة الثوب باق، أما المانع من الرجوع على البائع بالثمن حدوث معنى يمنع (113ب3) الاستحقاق من الأصل والخياطة مع الطحن يستويان في حق هذا المعنى. وكذلك لو أن رجلاً غصب من رجل ثوباً فقطعه وخاطه قميصاً، ثم جاء رجل وأقام البينة أن القميص له وأخذ القميص من الغاصب لا يبطل الضمان الأول؛ لأن الملك لم يستحق من الأصل بل مقصوراً على صاحب اليد لما قلنا في المسألة الأولى فبقي ملك المغصوب منه، بسبب الخياطة فيجب عليه قيمة الثوب، وكذلك الجواب في الحنطة بطحنها، ولو أن رجلاً اشترى شاة فذبحها وسلخها فأقام رجل البينة أن اللحم والجلد والأطراف والرأس له وأخذ ذلك كله كان للمشتري أن يرجع على بائعه بالثمن؛ لأن الاستحقاق اسم هذه الأشياء بمنزلة الاستحقاق باسم الشاة وهناك يرجع المشتري على البائع؛ لأن الاستحقاق ورد الملك على الملك المطلق ولم يوجد ههنا ما يمنع القضاء من الأصل؛ لأن حق المالك لا ينقطع عن العين بهذه الأشياء، فوجب القضاء بالملك عن الأصل، فتبين أن الاستحقاق على ملك البائع، ولو كان في الغصب يبطل حق المغصوب منه عن الضمان لما ذكرنا أن بهذه الأشياء لا ينقطع حق المالك عن العين، فورد الاستحقاق على ملك المغصوب منه فوجب بطلان حقه عن الضمان، ولكن يرجع الثاني على الغاصب بالنقصان. وكذلك لو اشترى ثوباً فقطعه ولم يخطه، ثم استحق رجل الثوب المقطوع بالبينة، فإن المشتري يرجع بالثمن على البائع؛ لأن الاستحقاق ورد على الملك المطلق ولم

يوجد ههنا ما يمنع القضاء بالملك من الأصل؛ لأن مجرد القطع لا يقطع ملك المستحق وإن كان هذا في الغصب بأن غصب رجل ثوباً فقطعه ولم يخطه، ثم استحقه رجل بالبينة يبطل حق الأول عن الضمان إذ الملك صار مستحقاً من الأصل. ولو أن رجلاً غصب من رجل لحماً فشواه فأقام رجل البينة أن هذا اللحم المشوي له فقضي به له رجع المغصوب منه على الغاصب بقيمة لحمه؛ لأن الاستحقاق لم يثبت من الأصل إذ لو جعل هذا الاستحقاق له من الأصل، لصار الغاصب مالكاً له، فمن ضرروة هذه البينة أن يجعل الاستحقاق مقصوراً على الحال، ويجعل كأن المغصوب منه كان مالكاً، ثم الغاصب يملك عليه بالشيء، ثم المستحق يملك عليه بوجه من الوجوه، ثم وجب ههنا القيمة، فهذا دليل على أن اللحم مضمون بالقيمة لا بالمثل، وهذا فصل اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: هو مضمون بالمثل، وتأويل هذه المسألة على قوله إذا لم يوجد مثله. ولو كان هذا في الشراء بأن اشترى لحماً فشواه، ثم أقام رجل البينة أنه له وقضى به له لم يرجع على البائع بالثمن؛ لأن الاستحقاق مقصور على المشتري لما قلنا، ولو أقام المستحق البينة في هذا كله أن ذلك اللحم قبل أن يشويه المشتري، وذلك الثوب قبل أن يخيطه المشتري وتلك الحنطة قبل أن يطحنها المشتري كان له، كان للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن. ولو كان هذا في الغصب يبطل حق الأول عن الضمان؛ لأن الاستحقاق ههنا ثبت من الأصل وتبين أن المشتري أو الغاصب كان غاصباً لهذه الأشياء من المستحق فكان ضامناً للمستحق. ولو أن رجلاً اشترى من رجل شاة وذبحها وسلخها فأقام الرجل البينة أن اللحم له وأقام آخر بينة أن الجلد له وأقام آخر بينته أن الرأس والأطراف له وقضى القاضي بذلك، ودفع إلى كل واحد ما، استحقه ببينة لم يرجع المشتري على البائع بشيء؛ لأن هذا الاستحقاق مقصور على المشتري؛ لأن تملك هذه الأشياء على الافتراق لا يتصور إلا بعد الذبح، إذ لا يجوز أن يستحق كل واحد منهم جزءاً من الشاة وهي حية، وإنما يجوز ذلك بعد الذبح، فكان الاستحقاق مقصوراً على المشتري، ألا ترى أن المدعي لو أقام البينة على شيء من هذه الجملة أنه لو أقام الذي في يده بينة على مثله أن صاحب اليد أولى؛ لأن ذا اليد أسبقهما تاريخاً؛ لأنه يثبت الملك لنفسه ملكاً بغير الذبح، وهذا بخلاف ما إذا كان المدعي لهذه الجملة رجل واحد؛ لأن ذلك يصلح استحقاقاً من الأصل؛ لأن الواحد يجوز أن يستحق هذه الجملة من الشاة حية، ألا ترى أن المدعي لو أقام البينة على ذلك وذو اليد أقام البينة على مثله أن المدعي أولى؟ وكذلك على هذا لو أن رجلاً اشترى ثوباً فقطعه قميصاً ولم يخطه، فأقام رجل البينة أن الكمين له وأقام آخر البينة أن الدخريص له وقضى القاضي، لا يرجع المشتري على البائع بالثمن وإنما لا يرجع لما قلنا.

وفي «مجموع النوازل» : باع من آخر حماراً على أنه غارتي يريد به أن لا يرجع عليه عند الاستحقاق قال: للمشتري أن يرجع عليه عند الاستحقاق؛ لأن الرجوع حق ثابت شرعاً في البيع الجائز والفاسد، وقيل: يجب أن يكون البيع بهذا الشرط فاسداً؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد ولأحد المتعاقدين فيه منفعة، فيكون للمشتري أن يسترد الثمن ويكون للبائع أن يسترد المبيع بحكم فساد العقد، «اكرد لالي دلالي كرد» ، ثم استحق المبيع من يد المشتري فالمشتري على من يرجع بالثمن، والجواب «أكرد لا لي خود بيع كرده باشد مشتري برد لالي رجوع كغد» . وفي صلح «فتاوى أبي الليث» : رجلان اشتريا عبداً صفقة واحدة فاستحق نصف العبد فهما بالخيار إن شاءا أخذا نصف العبد وإن شاءا تركا، فإن أخذا كان لكل واحد ربع العبد، وإن سبق أحدهما بالأخذ أخذ ربع العبد، ثم لا يكون للآخر حق الرد على البائع. وفي «المنتقى» : رجل اشترى داراً وقبضها، ثم خاصمه رجل في حائط بين دار المشتري وبين دار الذي خاصمه، ولم يكن في الشراء للحائط ذكر ولا شرط، فقامت البينة أن الحائط للجار وقضى به القاضي، فأراد المشتري أن يرد الدار، قال: إن كان للمشتري على الحائط خشبة واحدة أو أكثر وليس للمستحق عليه خشبة أصلاً، فله أن يرد الدار، وإن أراد أن يمسك الدار ولا يرجع بحصة كل الحائط فعل، وإن كان الذي استحق الحائط عليه جذوع أيضاً، فإن شاء رد الدار وإن شاء رجع بحصته من الحائط، وإن لم يكن لواحد منهما عليه جذوع وكان متصلاً ببناء المشتري رد الدار إن شاء، وإن أمسك الدار ورجع بحصة الحائط كله، وإن كان متصلاً بالبناءين جميعاً بناء المشتري وبناء المدعي رجع بحصة نصف الحائط وإن شاء رد الدار، وإن لم يكن متصلاً ببناء واحد منهما ولم يكن لواحد منهما عليه جذوع، فإنه لا يرد الدار ولا يرجع بشيء على البائع (114أ3) . إلا أن بكون سمى له الحائط في الشراء فحينئذ يرجع بحصته أو يرد الدار، وإن كان الحائط متصلاً ببناء الجار وليس بمتصل ببناء المشتري ولا جذوع للمشتري عليه، فإنه لا يرد الدار ولا يرجع بشيء، ولو كان للمشتري عليه ستره، فلما استحق الحائط أمر بهدمها والسترة قائمة قبل شرائه كان له أن يرجع بنقصان هذه السترة، وإن شاء رد الدار، ولو كان للمشتري عليه فرادي لا غير، فاستحق الحائط لم يرجع بشيء ولم يرد الدار، ولو كان الحائط متصلاً ببناء المشتري اتصال تربيع وللجار عليه جذوع فالحائط للمشتري وللجار موضع جذوعه وليس للمشتري أن يرجع على البائع بحصة مواضع الجذوع في حائطه، ولكن يقال للمشتري: هذا عيب فإن شئت فرد الدار وإن شئت فخذها بجميع الثمن، ولو كان له مثل ما في دار وطريق فاستحق ذلك رد الدار إن شاء، وإن شاء أمسكها ورجع بنقصان ذلك، ولو كان كنيف شارع إلى الطريق أو ظلة شارعة فخاصم فيها

أهل الطريق فأمره القاضي برفعها لم يرجع على البائع بشيء ولم يرد الدار، ليس هذا من حقوقه الواجبة هذا في طريق المسلمين. وإن كان له باب في الطريق الأعظم وباب في طريق غير نافذ، فأقام أهل ذلك الطريق بينة أنهم أعادوا لبائع هذا الطريق فأمره القاضي بسده وقضى عليه فهو بالخيار إن شاء رد الدار وإن شاء رجع بنقصان ذلك الطريق. رجل مات وترك ابنين وداراً فأدعى أحد الابنين أن أباه كان باع هذه من هذا الرجل بألف درهم وأنكر ذلك الرجل والأبن الآخر، فأقام ابن المدعي البينة على ما ادعى، فإني أقضي على الرجل بنصف الثمن وأقضي له بنصف الدار حصة الذي ادعى البيع، ولا خيار له في رده وليس هذا كالاستحقاق لنصف الدار؛ لأني إنما نقضت البيع ههنا في النصف لجحود المشتري، ولو ادعى لأجزت البيع فيه. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في رجل ادعى حقاً في الدار وأنكر المدعى عليه ذلك، ثم إن المدعى عليه صالح المدعي على مائة يأخذها المدعي صح الصلح عندنا. هذه المسألة تبتني على أصلين: أحدهما: أن الصلح عن الحقوق المجهولة إذا كان لا يحتاج فيها إلى التسليم جائز عندنا. والثاني: أن الصلح على الإنكار جائز عندنا والمسألة معروفة. ثم إذا صح الصلح لو استحقت الدار من يد المدعى عليه إلا ذراعاً منها لم يرجع عليه بشيء. ولو كان المدعي يدعي كل الدار وباقي المسألة بحالها يرجع على المدعي بحصته ما استحق عن المائة. والفرق: أن في المسألة الأولى الاستحقاق غير مناقض أصلاً؛ لأن الصلح وقع عن حقوق مجهولة، واسم الحق يتناول ما بقي في يد المدعى عليه بعد الاستحقاق، فيمكن للمدعي أن يقول للمدعى عليه: عنيت بالدعوى السابق هذا القدر الذي بقي في يدك، وإذا لم يكن الاستحقاق مناقضاً للصلح أصلاً لا يكون له حق الرجوع على المدعي بشيء. وأما في المسألة الثانية الاستحقاق مناقض للصلح بقدره وقع عن كل الدار على مائة، فلابد وأن ينتقض الصلح بقدر ما استحق، فيرجع على المدعي بحصة ذلك. قال في «الجامع الصغير» أيضاً: في عبد لرجل مقر له بالعبودية باعه من رجل، وقد قال العبد للمشتري: اشترني فإني عبد له فاشتراه، فإذا هو حر لا سبيل للمشتري على العبد إذا كان البائع غايباً غيبة منقطعة معروفة، وإذا كان البائع لا يدرى أين هو رجع المشتري على العبد بالثمن، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا رجوع للمشتري على العبد بالثمن بحال، ووجه ذلك: أن ضمان الثمن وجوبه بالمعاقدة أو بالكفالة عن المعاقدة ولم يؤخذ شيء من ذلك بالعبد، إنما الموجود منه الإخبار بكونه عبداً، وإنه لا يوجب ضمان الثمن، ألا ترى أن أجنبياً لو قال للمشتري: اشترى هذا العبد، فإذا هو حر لا يرجع المشتري عليه بالثمن وطريقه ما قلنا، ألا ترى أن العبد إذا قال لرجل: ارتهني فإني عبد فارتهنه، فإذا هو حر لا يرجع المرتهن على العبد بدينه؟ كذا ههنا. وجه «ظاهر الرواية» : أن العبد ضمن للمشتري سلامة نفسه أو سلامة الثمن من

نفسه متى تعذر استيفاؤه من البائع، وقد تعذر الاستيفاء من البائع إذا غاب غيبة لا يدرى أين هو، فيرجع المشتري بالثمن على العبد بحكم الضمان، كالمولى إذا قال لأهل السوق: بايعوا عبدي هذا، فإني قد أذنت له في التجارة، فبايعوه ولحقه ديون، ثم استحق العبد فإن أصحاب الديون يرجعون على المولى بقيمته، وجعل المولى ضامناً لهم سلامة حقوقهم من نفسه عند تعذر الاستيفاء من مالية العبد.d بيانه: أن المشتري إنما رغب في الشراء اعتماداً على أمر العبد إياه وعلى إخباره أنه عبد، فيجعل العبد ضامناً سلامة البدل عند عدم سلامة نفسه نفياً للغرور، وإذا صار العبد ضامناً سلامة البدل عند عدم سلامة نفسه كان للمشتري حق الرجوع على العبد بحكم الضمان، ويمكن جعل العبد ضامناً للسلامة؛ لأن البيع معاوضة يستحق به السلامة، فيمكن أن يجعل الآمر به ضامناً للسلامة على ما هو موجبه نفياً للغرور، ولا كذلك الرهن؛ لأنه شرع لملك الحبس من غير عوض ويصير يعارضه استيفاء ليس حقه من غير عوض، فلا يمكن أن يجعل الآمر به ضامناً للسلامة. أو نقول: الثمن يجب بالبيع، فجاز أن يكون الآمر به ضامناً، أما الدين لا يجب بعقد الرهن بل هو واجب قبل عقد الرهن فلا يكون الآمر به ضامناً للسلامة، تم قول محمد رحمه الله في هذه المسألة، فإذا العبد حر يحتمل أنه أراد به حرية الأصل، ويحتمل أنه أراد به العتق المعارض، فإن كان المراد منه حرية الأصل يثبت أن التناقض لا يمنع صحة الشهادة على حرية الأصل؛ لأن العبد في دعوى الحرية ههنا متناقض، واختلف المشايخ فيه قال بعضهم: التناقض في حرية الأصل إنما لا تمنع صحة الشهادة؛ لأنه لو منع، منع من حيث إنه يعدم الدعوى إلا أن دعوى العبد في حرية الأصل ليس بشرط في الاتفاق، والخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله في العتق العارض. وبعضهم قالوا: دعوى العبد شرط عند أبي حنيفة في حرية الأصل وفي العتق العارض إلا أن التناقض لا يمنع صحة الدعوى في حرية الأصل، فلا يمنع صحة الشهادة، وفي العتق العارض يمنع صحة الدعوى، فيمنع صحة الشهادة، وإن كان المراد مما ذكر في «الكتاب» العتق العارض ثبت أن التناقض في العتق (114ب3) العارض، لا يمنع صحة الدعوى عند أبي حنيفة؛ لأنه لا بد من دعوى العبد للقضاء بالحرية عند أبي حنيفة، والعبد في دعواه الحرية ههنا متناقض، والصحيح أن دعوى العبد عند أبي حنيفة شرط في حرية الأصل. وفي العتق العارض والتناقض لا يمنع صحة الدعوى وصحة الشهادة لا في حرية الأصل ولا في العتق العارض؛ لأن التناقض في حرية الأصل إنما لا يمنع لخفاء حالة العلوق، فإن الولد قد يجلب من دار الحرب صغيراً ولا يعلم بحرية أبيه وأمه، فبقي بالرق لم يعلم بحرية أبيه وأمه، فيدعي الحرية والتناقض فيما (طريقه) طريق الخفاء لا يمنع صحة الدعوى ولا يجزئ الخفاء في حرية الأصل، يجزئ في العتق العارض؛ لأن المولى بنفسه (أقر) بالإعتاق من غير علم العبد، فيجعل التناقض فيه عفواً أو

الفصل السابع عشر: في مسائل الاستبراء

نقول التناقض إنما يؤثر فيما يحتمل النقض بعد ثبوته، فلا يكون التناقض فيه مانعاً صحة الدعوى وقبول البينة، ألا ترى أن التناقض في دعوى النسب لا يمنع صحته حتى إذا كذب المُلاعِنُ نَفْسَهُ ثبت منه كذلك ههنا والله أعلم. الفصل السابع عشر: في مسائل الاستبراء قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا اشترى جارية وجب على المشتري أن يستبرئها بحيضة، والأصل في ذلك قوله عليه السلام في سبايا أوطاس «ألا لا توطأ الحبالى حتى تضعن، ولا الحيالى حتى تستبرأن بحيضة» والحكمة في ذلك تعرف براءة الرحم وصيانة ماء نفسه عن الخلط، والتحرز من أن يصير ساقياً ماؤه زرع غيره، لكن لا يمكن بناء الحكم على حقيقة هذا المعنى لبطونه، فبني الحكم على السبب الظاهر، وهو استحداث ملك الرقبة واليد؛ لأن الصيانة إنما تجب عليه في تلك الحالة؛ لأن بملك الرقبة يقدر على الفعل شرعاً وبملك اليد يقدر عليه حقيقة فيعلق الحكم به لهذا، وتعدي الحكم من المنصوص عليه وهي المسبية إلى المشتراة بهذه العلة، ويستوي على ظاهر الرواية أن يكون البائع ممن يطؤها أو لا يطؤها؛ لأن هذا الحكم بناء على استحداث حل الوطء بملك الرقبة واليد. وكذلك قال أبو حنيفة في الجارية: إذا كانت بكراً إنه يجب الاستبراء، وروي عن أبي يوسف رحمه الله: أنها إذا كانت بكراً وقد أحاط علم المشتري أنها لم توطأ لم يجب الاستبراء. وفي «المنتقى» : رجل وهب جارية لابنه الصغير وسكنت في ملكه أربعة أشهر، ثم قومها على نفسه واشتراها، فلا استبراء عليه عند أبي يوسف، وقال أبو حنيفة: عليه الاستبراء وإن كانت ممن لا تحيض لصغر أو كبر استبرأها بشهر لقيام الشهر في غير ذات الحيض مقام الحيض، وفي ذوات الحيض كما في العدة، كما لا يجوز له أن يطأ ولا يقبلها ولا يلمسها بشهوة ولا ينظر إلى عورتها؛ لأن هذه الأشياء دواع في الوطء والداعي إلى الشيء يعطى له حكم ذلك الشيء، ويشترط في الاستبراء حيضة بعد استحداث ملك الرقبة واليد حتى إن الحيضة قبل القبض لا تجزئ بها عن الحيضة إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله ما ذكرنا أن هذا الحكم مبني على استحداث حل الوطء بملك الرقبة واليد جميعاً لا على حقيقة تعرف براءة الرحم. ولو انقطع الحيض لعلة قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يطؤها حتى تمضي مدة لو كان حاملاً طهر الحمل ثلاثة أشهر، وقال محمد رحمه الله: يعتبر أربعة أشهر وعشرة أيام، ثم رجع وقال: شهران وخمسة أيام، وقال زفر: سنتان. وروي «المعلى» عن أبي

يوسف في رجل اشترى جارية تحيض في السنة مرة واحدة، قال: عليه (السلام) «أن يستبرئها بحيضة» ، قيل له: قد كنت تقول قبل هذا بثلثة أشهر، قال: الآن أقول بخلاف هذا، فسئل عن من اشترى جارية مستحاضة لا يعلم حيضها كيف يستبرئها، قال: يدعها من أول الشهر عشرة أيام. ولو ملك جارية حاملاً لا يطؤها (حتى) تضع حملها، أو بعد ما وضعت حملها لا استبراء عليه بالحديث الذي روينا، ولأن وضع الحمل في حق حصول المقصود وهو تعرف براءة الرحم فوق الحيضة، وإن وضعت حملها قبل القبض فعليه الاستبراء كما لو حاضت قبل القبض. وإذا اشترى جارية لها زوج ولم يدخل بها فطلقها قبل أن يقبضها المشتري، فعلى المشتري أن يستبرئها بحيضة، هكذا ذكر في «الأصل» ، وفي كتاب «الحيل» : أنه لا استبراء على المشتري، فعلى رواية كتاب «الحيل» اعتبر وقت الشراء هي مشغولة بحق الغير، وعلى رواية الأصل اعتبر وقت القبض، وهو الصحيح؛ لأن وقت وجوب الاستبراء على المشتري وقت القبض، وهي وقت القبض فارغة عن حق الغير. وإن كان الزوج طلقها بعد قبض المشتري فلا استبراء على المشتري، وهذا هو الحيلة لاسقاط الاستبراء أن يزوجها البائع قبل البيع من رجل أو يزوجها المشتري بعد الشراء قبل القبض، ثم يقبضها المشتري، ثم يطلقها الزوج، فلا يجب الاستبراء على المشتري؛ لأن وقت وجوب الإستبراء وقت القبض هي مشغولة بحق الزوج فلا يجب عليه الاستبراء، وبعد ما طلقها زوجها صارت فارغة عن حقه لم يوجد السبب وهو استحداث حل الوطء باستحداث ملك الرقبة والوطء باليد. قال الشيخ الإسلام شمس الأئمة الحلواني: إنما لا يجب الاستبراء على المشتري في هذه الصورة إذا كان البائع لا يطؤها أما إذا كان البائع يطؤها يجب الاستبراء تحرزاً عن سقي زرع غيره، وهكذا روى ابن سماعة في «نوادره» عن محمد. والمذكور ثمة: رجل اشترى جارية لها زوج وقبضها، ثم طلقها الزوج قبل الدخول، فلا استبراء على المشتري إلا أن يكون البائع زوجها بعد وطئه إياها قبل أن تحيض، فإني لا أحب لهذا المشتري في هذه الصورة أن يطأها حتى تحيض حتى لا يجتمعان عليها في طهر واحد، وإن لم يكن يجد المشتري حرة فلإسقاط الاستبراء حيلة أخرى، وهو أن يتزوجها المشتري قبل الشراء، ثم يشتريها ويقبضها، فلا يلزمها الاستبراء؛ لأن النكاح يثبت له عليها الفراش، وقيام الفراش له عليها دليل شرعي على فراغ رحمها من ماء الغير. وفي «المنتقى» : رجل تزوج أمةً، ثم اشتراها قال استحسن أن يستبرئها، رواه ابن سماعة عن محمد رحمه الله، وروي عن أبي يوسف وأبي حنيفة في هذه الصورة: أنه لا

استبراء عليه وكان الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني يقول: رأيت في كتاب الاستبراء لبعض المشايخ أنه إنما لا يجب الاستبراء على المشتري في هذه الصورة أن لو تزوجها ووطئها ثم اشتراها؛ لأنه حينئذ يملكها وهي مشغولة بعذر، فأما إذا استبرأها قبل أن يطأها وكما استبرأها يبطل النكاح فحال ثبوت ملك اليمين لا نكاح فيجب الاستبراء لتحقق (115أ3) سببه وهو استحداث حل الوطء بملك اليمين، وكان يحسنه ودقته رحمه. وإذا باع جارية ولم يسلمها إلى المشتري حتى تارك المشتري البيع، فلا استبراء على البائع استحساناً، وإذا ردها بالعيب بعد القبض أو تقايلا بعد القبض فعلى المشتري أن يستبرئها بحيضة، وإذا رجعت الآبقة أوردت المغصوبة أو فكت المرهونة أو عجزت المكاتبة أو انقضت الإجارة لم يكن على المولى أن يستبرئها بلا خلاف. وإذا كان الخيار للمشتري فردها بعد القبض فليس على البائع أن يستبرئها عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما، فإذا رد القاضي المبيع على البائع لفساد البيع، عليه أن يستبرئها. وإذا باع الغاصب الجارية المغصوبة من رجل وقبضها المشتري، ثم استحقها المالك إن لم يكن المشتري وطئها قبل الاستحقاق فلا استبراء على المالك قياساً واستحساناً، وإن كان قد وطئها إن علم بحالها أنها مغصوبة فلا استبراء على المالك قياساً واستحساناً أيضاً، وإن لم يعلم بحالها مغصوبة فالقياس أن لا يجب الاستبراء على المالك، وفي الاستحسان يجب. وإذا زوج الرجل أمته من إنسان، ثم مات الزوج عنها، فله أن يجامعها بعد مضي العدة ولا استبراء عليه، وإن طلقها الزوج بعد الدخول بها، فله أن يجامعها بعد مضي العدة والاستبراء عليه، وإن طلقها الزوج قبل الدخول بها، فإن كان المولى لم يستبرئها بعد ما قبضها بحكم الشراء ولم تحض عند الزوج فعليه الاستبراء، وإن كانت قد حاضت عند الزوج فلا استبراء على المولى (إن كان) قد استبرأها بعد ما قبضها، ثم زوجها وطلقها قبل الدخول بها ولم تحض في يد الزوج فلا استبراء على المولى هو الصحيح. وإذا تزوج جارية وكان الزوج يطأها لم يكن على الزوج استبراء في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يستبرئها بحيضة استحساناً كيلا يؤدي إلى اجتماع الرجلين على امرأة واحدة في طهر واحد، ولأبي حنيفة: أن عقد النكاح متى صح تضمن العلم ببراءة الرحم شرعاً، وهو المقصود من الاستبراء. وإذا أراد الرجل أن يبيع أمته وقد كان يطؤها يستحب أن يستبرئها ثم يبيعها. وإذا أراد الرجل أن يزوج أمته من إنسان يطؤها، بعض مشايخنا قالوا: يستحب أن يستبرئها بحيضة ثم يزوجها كما لو أراد بيعها، والصحيح أن ههنا يجب الاستبراء، وإليه مال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، بخلاف ما إذا أراد أن يبيعها. والفرق: أن في فصل البيع يجب الاستبراء على المشتري، فيحصل المقصود به، فلا معنى للإيجاب على البائع، أما في فصل النكاح لا يجب الاستبراء على الزوج ليحصل به معنى الصيانة، فمست الحاجة إلى إيجابه على المولى.

الفصل الثامن عشر: في بيع الأب والوصي والقاضي مال الصبي وشرائهم له

وفي «المنتقى» الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: كره للرجل أن يبيع جارية كان يطؤها حتى يستبرئها بحيضة، وإن كانت لا تحيض أبداً أو كانت آيسة فبشهر، وإن ارتفع حيضها بعد الوطء فبأربعة أشهر، وإن جامعها في الحيض فلا يبيعها حتى تطهر من حيضة. وإذا زنت أمة الرجل فليس عليه استبراء في قول أبي حنيفة، وقال محمد: أحب إلي أن لا يطأها حتى يستبرئها بحيضة، وروي عن محمد رحمه الله رواية أخرى أنه قال: يجب عليه الاستبراء، وإن حبلت من الزنا لم يقربها حتى تضع حملها. وإذا كانت الجارية بين رجلين اشترى أحدهما من صاحبه نصيبه، فعليه الاستبراء. وإذا وطىء الرجل أمته ثم اشترى أختها فله أن يطأ الأولى، وليس له أن يطأ الثانية إذا اشتراها كيلا يصير جامعاً ماءه في رحم أختين، وإن لم يكن وطء الأولى فله أن يطأ أيتهما شاء، وإن وطئهما أو قبلهما أو لمسهما بشهوة أو نظر إلى فرجهما فقد أساء؛ لأنه ارتكب المحرم وهو الجمع بينهما في حق الوطء والدواعي ولا يطأ واحدة منهما بعد ذلك حتى يزول ملك الوطء عن الأخرى حتى ذكر في «الأصل» ، وفي «نوادر هشام» قال: سمعت محمداً رحمه الله يقول في رجل عنده أختان وطئهما ثم باع إحديهما، فإن لم يستبرئ التي باعها بحيضة قبل أن يبيعها، فإنه لا يقرب هذه حتى تحيض، وروى بشر عن أبي يوسف: رجل عنده أمتان أختان وطء إحداهما، فلا ينبغي له أن يطأ الأخرى حتى تحيض الموطوءة حيضة ويخرجها عن ملكه، وفي قول أبي حنيفة: إذا أخرجها عن ملكه وطء الأخرى. وفي «القدوري» : ذكر المسألة في غير ذكر خلاف، فقال: إذا أخرج التي وطىء عن ملكه جاز له أن يطأ الأخرى؛ لأن المحرم هو الجمع في الوطء وقد زال ذلك بإبطال ملك المتعة والله أعلم. الفصل الثامن عشر: في بيع الأب والوصي والقاضي مال الصبي وشرائهم له الواحد لا يصلح عاقداً من الجانبين في عقود المعاوضات لما فيه من رجوع الحقوق المضادة والأحكام المتنافية إلى الواحد، فإن البيع يوجب ضد ما يوجبه الشراء من الأحكام، قالوا الواحد إذا صار بائعاً ومشترياً يرجع إليه أحكام متضادة، ألا ترى أنه يصير مطالِباً ومطالَباً مسلماً ومتسلماً مستزيداً ومستنقصاً، وإنه ممتنع بحال، ولأن المعاوضة توجب حقاً لكل واحد من المتعاقدين على صاحبه، فالواحد إذا صار بائعاً ومشترياً وجب الحق له على نفسه، وأنه ممتنع، والقياس في الأب كذلك، حتى لا يجوز بيع الأب ماله من أبيه الصغير وشراء مال ابنه الصغير لنفسه لما قلنا من الاستحالة، إلا أنهم استحسنوا وجوزوا ذلك، وطريقه أن يجعل الأب رسولاً عنه في التصرف وأمكن جعل الأب رسولاً عنه في التصرف لانتفاء التهمة عن تصرفه مع نفسه بسبب كمال الشفقة، وعبارة الرسول عبارة المرسل، فصار العقد قائماً بعبارتين معنى، كأن الأب باع

من ابنه وهو بالغ، ثم تحمل العهدة عليه بحكم الأبوة لعجزه عنها، فلا يؤدي إلى التضاد في الأحكام؛ لأنه إنما يؤدي إلى التضاد في الأحكام أن لو كان لخوف العهدة للأب بحكم العقد، ولهذا لو بلغ الصبي كان العهدة عليه بخلاف الوكيل؛ لأنه لم يوجد في حق الوكيل سبب لحمل العهدة عليه سوى العقد، فكان الخوف العهدة بحكم العقد فجاء التضاد، أما هنا فبخلافه على أنا نقول بأن هذا العقد لا يوجب التسلم والتسليم والمطالبة فلا يتحقق من التضاد في الأحكام. واختلف المشايخ في أنه هل يشترط لتمام هذا العقد الإيجاب والقبول، والصحيح أنه لا يشترط حتى أن الأب لو قال: بعت هذا من ولدي فلان بكذا، وقال: اشتريت من مال ولدي هذا بكذا، فإنه يتم العقد، ولا يشترط أن يقول: بعت هذا من ولدي واشتريت، وإليه أشار محمد رحمه الله في «الزيادات» ، وهذا لأنه لا معتبر بالقبول عند وجود الرضا كما في فصل التعاطي، والرضا يتم بقوله: بعت هذه العين من ولدي، فلا يعتبر القبول (115ب3) ويجوز هذا البيع من الأب بمثل القيمة وبما يتغابن الناس فيه، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز إلا بمثل القيمة، فعلى هذه الرواية لم يتحمل الغبن اليسير من الأب في تصرفه في الوجهين جميعاً، ووجهه: أن الغبن اليسير إنما يتحمل في تصرفه مع الإيجاب؛ لأن التحرز عنه غير ممكن، هذا المعنى موجود في تصرفه مع نفسه، والجواب الأب عند انعدام الأب بمنزلة الأب. ولو كان له ابنان صغيران فباع مال أحدهما من الآخر بأن قال: بعت عبد ابني فلان من ابني فلان جاز؛ لأنه لو باع مال أحدهما من نفسه يجوز، فكذا إذا باع من الآخر، وإذا أتلفا فالعهدة عليهما هو الصحيح؛ لأن لحوق العهدة الأب بطريق التحمل عنهما لعجزهما عن التحمل بأنفسهما، وبالبلوغ ارتفع العجز، فكانت العهدة عليهما. وفي «الهارني» وفي الثمن لزم الأب شراء مال ولده الصغير ولا يبرأ الأب منه حتى ينصب القاضي وكيلاً من الصغير، فيقبضه عن الأب للصغير، ثم بعد قبضه بأمر القاضي يرده على الأب حتى يكون في يده عن ابنه وديعة. وفي «الفتاوى» : الأب إذا باع مال الصبي من أجنبي بمثل القيمة، فالمسألة على ثلاثة أوجه: إن كان الأب محموداً عند الناس أو كان مستور الحال يجوز حتى لو كبر الأبن لم يكن له أن ينقضه؛ لأن الأب له شفقة كاملة ولم يعارض هذا المعنى معنى آخر، فكان هذا البيع نظراً فيجوز، وإن كان فاسداً عند الناس إن باع العقار لا يجوز حتى لو كبر الأبن له أن ينقضه. قال الصدر الشهيد رحمه الله في «واقعاته» : هو المختار إلا إذا كان جبراً للصغير بأن باع بضعف قيمته؛ لأنه عارض ذلك المعنى معنى آخر فلم يكن هذا البيع نظراً. وإن باع ما سوى العقار من المنقولات ففيه روايتان: في رواية: يجوز ويؤخذ الثمن منه ويوضع على يدي عدل، وفي رواية: لا يجوز إلا إذا كان جبراناً للصغير، قال الصدر الشهيد رحمه الله: هو المختار. وفي وصايا «المنتقى» إبراهيم عن محمد رحمه الله: بيع الأب المفسد جائز،

فيؤخذ الثمن منه ويوضع على يدي عدل من غير فصل بين العقار والمنقول. الوصي إذا باع مال اليتيم من نفسه أو باع مال نفسه من اليتيم، فعلى قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أبي يوسف إذا كان فيه منفعة ظاهرة لليتيم يجوز، وإن لم يكن فيه منفعة ظاهرة لليتيم لا يجوز. وعلى قول محمد وأظهر الروايات عن أبي يوسف: لا يجوز بحال. وتكلموا في تفسير المنفعة الظاهرة على قول أبي حنيفة، بعضهم قالوا: أن يبيع من الصبي من مال نفسه ما يساوي ألف درهم بثلثمائة ويبيع مال الصبي من نفسه ما يساوي ثمان مائة بألف درهم، وقال بعضهم: أن يبيع من الصبي من مال نفسه ألف درهم بخمسمائة، ويبيع من مال الصغير ما يساوي خمسمائة بألف، وبعضهم قالوا: أن يبيع من مال الصبي من نفسه ما يساوي ألفاً بألف وخمسمائة. والصحيح قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الوصي مختار الأب بعد وفاته، وهو حال عجزه عن المراقبة بنفسه له الاستقصاء في النظر واختيار من هو أشفق الناس على الصغير، فنزل الوصي منزلة الأب إلا أن شفقة الوصي لا تكون نظير شفقة الأب، فشرط في تصرفه مع نفسه المنفعة الظاهرة، ولم يشترط في تصرف الأب مع نفسه المنفعة الظاهرة. ثم إذا جاز بيع الوصي من نفسه على قول أبي حنيفة هل يكتفي بقوله: بعت أو اشتريت كما في الأب أو يحتاج إلى الشطرين؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في شيء من الكتب، وذكر الناطفي رحمه الله في «واقعاته» : أنه يحتاج فيه إلى الشطرين بخلاف، وذكر للفرق ثمة وجهاً فقال: ولاية الأب تثبت شرعاً بلا قبول، فكذا يجوز بيعه بلا قبول، وولاية الوصي ما يثبت شرعاً بلا قبول، فكذا لا يجوز بيعه بلا قبول. قال الناطفي ثمة: رأيت هذه المسألة فيما علق على ابن الحسن، فكأنه أبو الحسن الكرخي رحمه الله. وفي «واقعات الناطفي» أيضاً: الوصي إذا أمره إنسان أن يشتري أشياء من مال الصغير، فاشتراه له لا يجوز، بخلاف ما إذا اشتراه لنفسه على قول أبي حنيفة رحمه الله، والفرق: أنه إذا اشتراه فحقوق العقد من جانب اليتيم راجع إلى اليتيم، ومن جانب الوصي راجع إليه، فلا يؤدي إلى التضاد، وإذا اشترى لغيره فحقوق العقد من جانب اليتيم راجعة إلى الوصي ومن جانب الآمر كذلك فيؤدي إلى التضاد. الصبي المأذون إذا باع من مال نفسه فهو كبيع الوصي بنفسه، فقد اعتبر في تصرفه مع الوصي جهة النيابة عن الوصي تولاه بنفسه، ولو باع الصبي المأذون من الأجنبي بغبن فاحش يجوز عند أبي حنيفة في تصرفه مع الأجنبي جهة المالكية والأصالة لا جهة النيابة، فإن الوصي لو باع مال الصغير من أجنبي بغبن فاحش لا يجوز، هما اعتبرا جهة النيابة في تصرفه مع الأجانب أيضاً حتى قالوا: لو باع الصبي ماله من أجنبي بغبن فاحش لا يجوز ولو باع الوصي. القاضي إذا باع مال اليتيم من نفسه ذكر في «السير» أنه لا يجوز، وأشار في المعنى

فقال: لأن بيعه منه نوع قضاء وهو إنما استفاد القضاء من جهة غيره وما تم ذلك إلا به وبغيره، فكذا العقد الذي يعقده القاضي لا يتم إلا به وبغيره. وذكر الناطفي في كتاب «الأجناس» أن ما ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» من عذر جواز بيع القاضي مال اليتيم من نفسه، فكذلك قوله خاصة أما على قول أبي حنيفة رحمه الله ينبغي أن يجوز. وروى بشر عن أبي يوسف: أن القاضي إذا اشترى من متاع اليتيم لنفسه شيئاً، فهو بمنزلة الوصي، فإذا رفع إلى قاض آخر نظر فيه، فإن كان خيراً لليتيم أجازه وإلا لم يجزه، وأكرهُ القاضي شراءه.l الأب إذا اشترى لابنه الصغير شيئاً ونقد الثمن من مال نفسه وأشهد على نفسه أنه إنما نقد عنه ليرجع في ماله، ذكر في بيوع «الإملاء» ، وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: أن له الرجوع عليه، واختلفت الروايات في اعتبار وقت الإشهاد. قال في بيوع «الإملاء» : يعتبر الاشهاد وقت الشراء، وقال في «نوادر ابن سماعة» : يعتبر الإشهاد وقت نقد الثمن. وإن نقد عنه الثمن ولم يشهد على الرجوع، فإنه لا يرجع به على الأبن، نص عليه في بيوع «الإملاء» . وفي «نوادر رستم» عن محمد رحمه الله (116أ3) إذا لم يشهد الأب على الرجوع لكن نوى الرجوع ونقد الثمن على هذه النية وسعه الرجوع فيما بينه وبين الله تعالى، ولو كان مكان الأب وصياً فله حق الرجوع ليشهد له الرجوع على ذلك أو لم يشهد، وكذلك الجواب في مهر امرأة الأبن الصغير. وروى بشر عن أبي يوسف في رجل اشترى داراً لابنه الصغير، فعلى الأب أن ينقد الثمن، وإن مات قبل أن ينقده فهو في ماله خاصة ولا يرجع به في مال الأبن، قال: وما يشتري الأب يرجع به عليه يرجع بثمن الكسوة والطعام عليه، كذلك كل دين لزم الصبي في حاجته فضمنه الأب وأداه لم يرجع على الأبن استحساناً وهو متطوع فيه. ولو اشترى لابنه داراً وأشهد عند عقده البيع أنه يرجع عليه بالثمن كان له أن يرجع به عليه، وكذلك كل شيء يشتريه مما لا يجبر الأب عليه، وكذلك كل دين كان على الأبن، فضمنه الأب يريد أنه إذا أشهد أنه يرجع عليه إذا أداه. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف أن ما اشتراه الأب لابنه إن كان شيئاً يجبر الأب عليه مما كان طعاماً أو كسوة ولا مال للصغير لا يرجع الأب عليه، وإن أشهد أنه يرجع عليه كان له أن يرجع. وإن لم يشهد لا يكون له أن يرجع وعن أبي حنيفة رحمه الله فيما إذا اشترى داراً أو ضيعة أو مملوكاً لابنه الصغير إن كان للابن مال، فالرجوع على التفصيل الذي ذكرنا، وإن لم يكن له مال لا يرجع عليه أشهد عليه أو لم يشهد، وكان هذا صلة منه لابنه. وروى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن الأحب إذا اشترى لابنه الصغير في صحته ونقد الثمن في مرض موته لا يرجع على الابن بشيء؛ لأن الذي تبرع به الأب على الابن الثوب وقد أمضاه في حالة الصحة. وفي «نوادر هشام» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله: الأب إذا باع لابنه

الصغير ما ثمنه عشرة بدرهم جاز، وإن اشترى له ما ثمنه درهم بعشرة لا يجوز، وفي «الأصل» سوى بين البيع والشراء فلم يجوزهما في هذه الصورة وأشباهها؛ لأن تصرف الأب مقيد بشرط عدم الضرر فقد تحقق الضرر ههنا. وعلى هذه الرواية فرق بين البيع والشراء، فلم يجوز الشراء لمكان التهمة؛ لأن الأب يضيف الشراء إلى نفسه من حيث إنه اشترى لنفسه، فلما وجد فيه عيباً أظهر الشراء للابن، ومثل هذه التهمة لا يجوز ... في جانب البيع، والداعي إلى النفاذ موجود لينفذ. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: في رجل باع عبد ابنه الصغير من رجل بألف درهم، ثم قال في مرضه: قد قبضت من فلان الثمن، ثم مات في مرضه لم (أقبل) إقراره، علل فقال: لأنه كان ضمن لابنه ألف درهم في مرضه أو أقر بها له في ماله، ومعنى هذا الكلام أن الأب بإقراره بالاستيفاء من المشتري أقر للابن بمقدار الثمن في ماله، وإقرار المريض لابنه لا يرجع، فصار وجوده كعدمه، وكان للوصي أن يأخذ الثمن من المشتري كما لو لم يوجد هذا الإقرار من المريض. ولو كان قال في مرضه: قد قبضتها من فلان فضاعت كان مصدقاً، ولو قال: قبضتها واستهلكتها لم يكن مصدقاً ولا يبرأ المشتري منها؛ لأنه لما ادعى الضياع مما أقر للابن شيئاً من ماله بخلاف ما إذا ادعى الاستهلاك، ولا يكون للمشتري إذا أخذ منه الثمن أن يرجع به على الأب أو في ماله؛ لأن ذلك الإقرار قد بطل، وإقرار قد بطل لا شيء عليه الحكم. وفي «المنتقى:» اشترى من ابنه الصغير عبداً والعبد في يد الأب، فمات العبد فهو من مال الأبن حتى يأمره الوالد بعمل أو بقبضه بمنزلة عبد اشتراه وهو وديعة عنده، وهذا؛ لأن العبد في يد الأب أمانة وقبض الأمانة لا ينوب عن قبض الشراء. وفي الباب الثاني من بيوع «الجامع» : إذا أرسل غلامه في حاجته، ثم باعه من ابنه الصغير جاز ولا يصير الأب قابضاً عن ابنه بمجرد البيع، حتى لو هلك قبل أن يرجع إلى الوالد، فذلك من الوالد، بخلاف ما إذا وهبه منه حيث يصير قابضاً له عن الأبن بقض الهبة حتى لو هلك الغلام قبل أن يعود، فذلك من مال الولد، وإن لم يمت الغلام في مسألة البيع حتى رجع إلى الوالد وتمكن من قبضه صار قابضاً له عن ولده، وإن كان الولد لم يبلغ بعد، وإن لم يرجع الغلام حتى بلغ الولد، ثم رجع إلى الولد وتمكن الوالد من قبضه لا يصير قابضاً له عن ولده حتى لو هلك هلك على الوالد. والأصل أن الأب إذا اشترى لابنه الصغير شيئاً، فما دام الأبن صغيراً فحق القبض للأب، وإذا بلغ الأبن كان الأب قد اشترى من الأجنبي فحق القبض للأب، وإن كان قد اشترى من نفسه فحق القبض للابن. وفي «الهاروني» : إذا باع الأب داره من ابنه في عياله والأب ساكن فيها لا يصير الأب قابضاً حتى يفرغها الأب، حتى لو انهدمت الدار والأب فيها يكون من مال الأب،

وكذلك لو كان فيها متاع الأب أو عياله وهو غير ساكن فيها، فإن فرغها الأب صار الابن قابضاً، فإن عاد الأب بعد ما تحول عنها فسكنها أو جعل فيها متاعاً له أو سكنها عياله وكان عيناً صار بمنزلة الغاصب. وفيه أيضاً: لو باع الأب من ابنه الصغير جبة له وهي على الأب أو طيلساناً هو لابسه أو خاتماً في أصبعه لا يصير الابن قابضاً حتى ينزع الأب ذلك، وكذلك الدابة والأب راكبها حتى ينزل عنها. ولو قال الأب: اشهدوا أني قد اشتريت جارية ابني هذه بألف درهم وابنه صغير في عياله جاز الشراء وصار الأب قابضاً للجارية إن كانت في يده والثمن دين عليه لا يبرأ إلا بالطريق الذي قلنا. قال في «الزيادات» : وصي اليتيمين إذا باع مال أحدهما من الآخر لا يجوز، أما على قول محمد وأظهر الروايات عن أبي يوسف فلا والوصي إنما يقوم بالعقد في الطرفين باعتبار منفعة ظاهرة لا يظهر النفع في حق أحدهما، إلا بظهور الضرر في حق أحدهما. وكذلك لو أذن الوصي لهما في التصرف فباع أحدهما مالاً من الآخر لم يجز، وكذلك لو أذن لعبدين (أو) يتيمين بالتصرف فباع أحدهما ماله من الآخر لم يجز؛ لأنهما استفادا الولاية من جهة الوصي، والوصي لو فعل ذلك بنفسه لا يجوز فكذا إذا فعل من استفاد الولاية من جهته. وفيه أيضاً: إذا وكل الأب رجلاً ببيع عبد له من ابنه أو بشراء عبد الابن للأب والابن صغير لا يعبر عن نفسه، ففعل الوكيل ذلك لا يجوز لما ذكرنا أن الواحد لا يصلح عاقداً من الجانبين في عقود المعاوضات، وإنما ورد الشرع به في حق الأب بجعل الأب رسولاً بحكم كمال الشفقة، وليس للوكيل مثل تلك الشفقة فلا يصير رسولاً فيكون العقد قائماً بعبارة واحدة، فإن كان الأب حاضراً فقبل من الوكيل (116ب3) جاز وتكون العهدة من جانب الابن على الأب ومن جانب الأب على الوكيل، وقيل على العكس؛ لأن جعل الأب متصرفاً عن نفسه أولى؛ لأن الأصل في الإنسان (أن تكون) متصرفاً لنفسه والأول أصح؛ لأن تصرف الأب عن نفسه مباح وعن الصغير فرض وإيقاع تصرفه عنه أولى من إيقاعه عما هو مباح. ولو كان له ابنان وكل رجلاً حتى باع مال أحدهما من الآخر لا يجوز، قال في «الكتاب» : ألا ترى أنهما لو كانا كبيرين، فوكلا رجلاً حتى باع أحدهما من الآخر لا يجوز، وهذا جواب عن سؤال لم يذكر أن الوكيل قائم مقام الموكل. والأب لو باع مال أحدهما من الآخر يجوز، فإذا وكل رجلاً بذلك يجب أن يجوز، أشار بما ذكر من الاستشهاد إلى أنه يجوز أن يملك إنسان مباشرة تصرف نفسه ولا يملك تفويضه إلى غيره. ولو وكل الأب رجلاً بالبيع ووكل رجلاً آخر بالشراء فتبايع الوكيلان يجوز؛ لأن العقد قائم بالاثنين وزالت الاستحالة، وذكر هشام أن الأب إذا اشترى عبد ابنه الصغير لنفسه شراء فاسداً فمات العبد قبل أن يستعمله الأب أو يقبضه أو يأمره بعمل مات من مال الصغير لما عرف أن البيع الفاسد لا يفيد الملك بنفسه بل يتوقف ذلك على القبض،

وبالتخلية لا يجعل قابضاً بل يشترط القبض الحسي الذي يصير به غاصباً مال الغير حتى يصير مضموناً بالقيمة فيملكه بها، وذكرنا قبل هذا أن بالتخلية في البيع الفاسد يقع القبض. ولو باع عبده من ابنه الصغير بيعاً فاسداً، ثم أعتقه الأب جاز عتقه؛ لأنه لا يخرج عن ملك الأب بمجرد البيع، فقد أعتق ملك نفسه فينفذ عتقه. وفي نوادر ابن سماعة عن محمد: لا يجوز (تفريع هلى قوله: ثم أعتقه الأب جاز عتقه) أو ولد المعتق عليه حتى تمضي سنة منذ يوم صار معتوقاً، قال: ولا أحفظ فيه عن أبي حنيفة وأبي يوسف شيئاً، قال ابن سماعة: كان محمد رحمه الله وقت ذلك شهراً، ثم بعده رجع عن ذلك ووقته لسنة، وكل جواب عرفته في المعتق فهو الجواب في المجنون؛ لأنهما يستويان في حق الأحكام. وفي «نوادر هشام» عن محمد: وصي يتيم باع غلاماً لليتيم قيمته بألف درهم على أن الوصي بالخيار، فإن زادت قيمة العبد في مدة الخيار فصارت ألفي درهم فليس للوصي أن ينفذ البيع، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وفي «الأمالي» عن محمد: رجل مات وعليه دين وترك عبداً، لا مال له غيره وترك ابناً صغيراً أو كبيراً، لا وارث له غيره، وقيمة العبد أكثر من الدين، فباع القاضي العبد بغير مائة واشترط الخيار ثلاثاً، فأجاز الابن البيع وهو كبير، فإجازته باطلة إلا أن يقضي الدين، وإن مات الابن في وقت الخيار انتقض البيع. ولو أن وصي يتيم باع عبداً لليتيم واشترط الخيار ثلاثة أيام، ثم مات اليتيم في وقت الخيار جاز البيع، وكذلك الوالد، وعلل فقال: لأن العبد ههنا بيع للصغير، وفي الوجه الأول بيع لغير مولاه، أراد بالوجه الأول فصل بيع القاضي. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : اشترى الأب لابنه الصغير من مال الصغير ذات رحم محرم من الصغير لا ينفذ على الصغير؛ لأن تصرف الأب من مال الصغير مقيد بقيد النظر والأحسن، وليس من النظر للصغير أن يشتري له من يعتق عليه، فلا ينفذ على الصغير ولكن ينفذ على الأب. وكذلك لو اشترى لابنه الكبير المعتوه من مال المعتوه ذات رحم محرم من المعتوه لا ينفذ على المعتوه ولا ينفذ على الأب فبعد ذلك إن كان المشترى قريباً من الأب عتق على الأب بحكم قرابته، وإن كان أجنبياً عنه كأم الصغير والمعتوه أو اختهما لا يعتق عليه، والوصي فيما ذكرنا نظير الأب لكونه قائماً مقام الأب. ولو اشترى الأب والوصي للمعتوه جارية قد كان استولدها بحكم النكاح، القياس أن لا يجوز على المعتوه، وبالقياس أخذ محمد. ووجهه أنه لو صح هذا الشراء على المعتوه تضرر به المعتوه، وفي الاستحسان: يجوز على المعتوه بشراء واحدة من ذلك؛ لأن فيه نظراً للمعتوه؛ لأنه يدخل في ملكه من يطؤها ويقوم بخدمته، وشراء هذه أنفع له؛ لأنها أشفق عليه وأهدى إلى خدمته. والمحققون من مشايخنا قالوا: وجه القياس: لأن هذه الحاجة تندفع بالمنكوحة وبالجارية

التي ينكر بيعها، فلا حاجة إلى شراء هذه، وفيه ضرر بالمعتوه على نحو ما بينا. واستقبح محمد رحمه الله قول من أخذ بالاستحسان، وقال: من أخذ بالاستحسان يجوز هذه التصرف في الواحدة لا فيما زاد عليها، وهذا أمر قبيح؛ لأن هذا التصرف إن كان داخلاً في ولاية الأب لم يتقيد بالواحدة، وإن لم يكن داخلاً لم يتقيد في الواحدة. ومشايخنا أجابوا عن هذا وقالوا: جواز هذا الشرط ودخوله في ولاية الأب والوصي باعتبار حاجة المعتوه بالواحدة تندفع حاجته، فلا يجوز شراء غيرها، وروي عن محمد في «الأمالي» أنه رجع إلى الاستحسان. ومما يتصل بهذا الفصل المريض إذا باع ما يساوي ألف درهم بخمسائة من الأجنبي ولا مال سواه يصير محابياً بقدر خمسمائة فتنفذ المحاباة بقدر الثلث، ثم يقال للمشتري: إما أن يبلغ الثمن إلى تمام ثلثي الألف ولا ترد شيئاً من المبيع، وإما أن تفسخ العقد، وهذا إذا لم يكن على الميت دين، فإن كان على الميت دين محيط بماله، فإنه لا تنفذ محاباته في حق الغرماء أصلاً، لا فيما زاد على الثلث ولا بقدر الثلث، ولا يتحمل منه لا الغبن الفاحش ولا الغبن اليسير، غير أن في حق الغرماء لا يصح أصلاً، وفي حق الوارث يعتبر من الثلث، وهذا لأن المريض مرض الموت يتصرف في محل يتعلق به حق الغير وهو الغريم والوارث، ولم يؤخذ منهم الأمر بالتصرف، إما لأنه لا يتفرغ لذلك بشغله بنفسه، أو لأنه لا يقدر على ذلك إلا أن الشرع رخص له في التصرف على وجه يؤدي في إبطال حق الغير، وبالرخص قد يتعلق حقان وبما يتعذر الاحتراز عنه بخلاف المطلوب فلا يتحمل منه لا اليسير ولا الفاحش. وإذا باع عيناً من أعيان ماله من وراث عند أبي حنيفة لا يصح أصلاً من غير إجازة باقي الورثة سواء حابى أو لم يحاب، باع بمثل القيمة أو بأضعاف القيمة؛ لأنه وصية ولباقي الورثة حق القبض، وعندهما يصح البيع بمثل قيمته وبأضعافها. والوارث إذا باع عيناً من أعيان ماله من الورثة للمريض بمثل القيمة، فكذلك الجواب عند أبي حنيفة في «المأذون الكبير» لشيخ الإسلام في باب إقرار العبد لمولاه، فإن باع المريض من وارثه شيئاً حابى. ذكر شيخ الإسلام في شرح المأذون: أن عندهما لا تصح المحاباة أيضاً أجازت الورثة أم لم يجيزوا، ويقال للمشتري: إما أن يبلغ الثمن إلى تمام القيمة، وإلا يفسخ. وفي «الزيادات» : أن نفس البيع من الوارث لا يصح من غير إجازة (117أ3) الورثة عند أبي حنيفة، وعندهما يصح من غير إجازة الوارث والمحاباة مع الوارث لا تصح إلا بإجازة باقي الورثة وهو الصحيح؛ لأن المحاباة وصية بلا خلاف، والوصية للوارث لا يجوز إلا بإجازة بقية الورثة بلا خلاف.

الفصل التاسع عشر: في كراهة التفريق بين الرقيق

الفصل التاسع عشر: في كراهة التفريق بين الرقيق الأصل أن من ملك شخصين بينهما قرابة مؤكدة بالحرمة، فلا ينبغي أن يفرق بينهما في البيع إلا إذا كان أحدهما صغيراً به ورد الأثر والمعنى دفع الضرر عن الصغير؛ لأن الصغير يستأنس بالكبير، والكبير يقوم تبعاً هذه، ففي التفريق بينهما إيحاش الصغير وإضرار به، وكذلك إذا كانا صغيرين؛ لأن كل واحد منهما يستأنس بصاحبه ويستوحش بمفارقته، وإن كانا كبيرين فلا بأس بالتفريق بينهما؛ لأن كل واحد من الكبيرين يقوم تبعاً هذه، ولا يلتفت إلى تعاهد الآخر ولا يستأنس به، فليس في التفريق بينهما إلحاق الضرر بأحدهما، وهذا الحكم في القرابة المؤكدة بالمحرمية حتى إذا اجتمع في ملك رجل زوجان لا بأس بأن يفرق بينهما، سواء كانا صغيرين أو كبيرين، أو كانا أحدهما صغيراً والآخر كبيراً، وكذا إذا اجتمع في ملك رجل شخصان هما ذوا رحم وليسا بذوي محرم كابني الخال وابني العم فلا بأس بالتفريق بينهما، وكذا إذا كانا ذوي محرم بالرضاع أو بالصهرية وليسا بذي رحم فلا بأس بالتفريق؛ لأن كراهة التفريق عرفت بالآثار وإنها وردت في القرابة المؤكدة بالمحرمية، فهذه الكراهية تمتد إلى وقت البلوغ في ظاهر مذهب أصحابنا وجد الرضا بالتفريق أو لم يوجد. فبيانه فيما روى ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: رجل له أمة وابنتها وهي لم تبلغ فأراد بيعها بموضع ورضيت الأم بذلك والأبنة قال: أكره التفريق بينهما، وكذا إذا كان ثمة أبوان ورضيا بذلك. وقال بعض مشايخنا: إذا راهق الصغير ورضيا أن يفرق بينهما، فلا بأس بالتفريق بينهما وعن أبي يوسف روايتان: في رواية إذا رضوا بذلك فلا بأس بالتفريق ولم يشترط على هذه أن يكون الصغير مراهقاً. وفي «نوادر بشر» عنه إذا رضوا بذلك جميعاً والأبنة مراهقة فلا بأس به. وإذا اجتمع مع الصغير أبواه فلا ينبغي أن يفرق بينه وبينهما ولا بينه وبين أحدهما؛ لأن نفعهما مختلف وشفقتهما متفاوتة. وإذا اجتمع مع الصغير أمه وخالته، فلا بأس بأن يمسك الأم ويبيع الخالة؛ لأن الأم أقرب وشفقتها مغنية له عن غيرها إلا أن تكون الخالة صغيرة فحينئذ يكره بيع الخالة لما فيه من التفريق بينها وبين أختها. وكذلك إذا كان مع الصغير أمه أو عمته أو جدته من قبل أبيه أو من قبل أمه، فلا بأس بأن يمسك الأم ويبيع من سواها، وكذلك إذا كان مع الصغير أمه أو عمته أو جدته من قبل ابيه أو قبل أمه فلا بأس بأن يمسك الأم ويبيع من سواها، وكذلك إذا كان مع الصغير أمه أو أخته أو أخوه فلا بأس بأن يبيع الأخ والأخت والجدة من قبل الأم أو الأب نظير الأم حتى إذا اجتمع مع الصغير جدته وعمته أو خالته أو أخوه أو أخته، فلا بأس بأن يمسك الجدة ويبيع من سواها، ذكر هذه المسائل على هذا الترتيب في «الزيادات» . والحاصل أن على رواية

«الزيادات» إذا كان مع الصغير أمه لا بأس بأن يمسك الأم مع الصغير ويبيع من سواها إلا الأب فإنه لا يبيع الأب وإن كان مع الصغير أمه. وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن الصغير إذا كان معه أمه أو عمته هل يبيع العمة قال: لا، وإذا كان مع الصغيرة أمها وأخوات لأب لا يبيع واحدة منهن حتى تحبل أو تحيض أو تستكمل سبعة عشر سنة. وفي «المنتقى» قال أبو يوسف: أفرق بين الصبي وجميع قرابته إذا كان معه أبوان، وإذا كان معه أحدهما فرق بينه وبين من كانت قرابته من قبل الحمى دون من كانت قرابته من الميت حتى أنه إذا كان مع الصغير أبوه وخاله لم أبع الخال، وإن كان مع الأم عمة لم أبع العمة. قال في «الزيادات» : وإذا كان مع الصغير أخ لأب لأم لا يبيع واحداً منهما، وكذلك إذا كان مع الصغير أخت لأب وأخت لأم لا يبيع واحدة منهما؛ لأن جنس القرابة يختلف منفعتها متفاوتة فلا ينقضي حق الصغير مع أحدهما فيتوهم الضرر، وإن كان معهم أخ لأب وأم في المسألة الثانية لا بأس بأن يمسك الأخ لأب وأم في المسألة الأولى، والأخت لأب وأم في المسألة الثانية، ويبيع من سواه؛ لأن الأخ لأب وأم والأخت لأب وأم أقرب إلى الصغير، وشفقة الأقرب مغنية عن الأبعد. والحاصل أنه: إذا اجتمع مع الصغير في ملك رجل قرابتان، فإن كانت أحديهما أقرب من الأخرى لا بأس بأن يمسك الأقرب ويبيع الأبعد، وإن كانتا في القرب إلى الصغير على السواء إن كانتا من الجانبين نحو أن يكون أحدهما من قبل الأب والآخر من قبل الأم لا يجوز له أن يفرق بين الصغير والكبيرين واحد منهما، فإن الذي من قبل الأب قائم مقام الأب والذي من قبل الأم قائم مقام الأم، وكما يكره التفريق بين الصغير وبين والديه يكره التفريق بينه وبين من قام مقامهما. وإن كانت من جانب واحد فلا بأس بأن يبيع أحدهما ويمسك الآخر استحساناً حتى إذا كان مع الصغير أخوان كبيران لا يبيع واحداً منهما ويمسك الآخر قياساً، وفي الاستحسان لا بأس بأن يبيع أحدهما ويمسك آخر مع الصغير؛ لأن جنس القرابة ونفعها متحد. وذكر في البيوع من «الأمالي» وكره التفريق بين الصغير والأخوة المتفرقة والأخوات المتفرقة كما هو القياس لجواز أن يكون منفعة البعض أوفر فيبقى توهم الضرر، وذكر أيضاً أنه إذا كان له أبوان وأخ يكره بيع الأخ لجواز أن يكون الأخ أشفق. والصحيح ما ذكر في «الزيادات» ؛ لأنه تعذر اعتبار التفاوت والتساوي في الشفقة أمر باطن فيعتبر التفاوت والتساوي في القرابة لكونها شيئاً داعياً إلى الشفقة حتى لا تعتبر القرابة البعيدة مع القرابة القريبة، وعند اختلاف الجهة اختلف السبب وتعذر الترجيح فاعتبر كل سبب على حدة. وإذا اجتمع مع أبوين له بأن كان جارية بين رجلين جاءت بولد فادعياه حتى يثبت النسب منهما، ثم أسرا وأسر الولد معهما ففي القياس على الاستحسان الذي ذكرنا في

الأخوين لا بأس بأن يبيع واحداً منهما، وفي الاستحسان لا يبيع واحداً منهما بخلاف الأخوين، والفرق: أن الأب في الحقيقة أحدهما وهو مشتبه فلو جوزنا بيع أحدهما ربما يبيع الأب ويمسك الأجنبي مع الصغير وفيه ضرر بالصغير بخلاف الأخوين؛ لأن كل واحد منهما أخ على الحقيقة، فإذا باع أحدهما كان الباقي مع الصغير أخاً على الحقيقة وبه يصير حق الصغير (117ب3) مقتضياً سعراً هو الكلام في حكم كراهة التفريق في البيع. وأما الكلام في حكم جواز البيع وفساده فنقول: إذا فرق بين الصغير وبين والده أو والديه ومن سواهما من الأقارب في البيع فالبيع جائز في ظاهر الرواية.k عن أبي يوسف: أن البيع باطل في الكل، وعنه رواية أخرى: أنه فرق بين الوالدين والمولودين وجوزه فيما عداه يأمن القرابات لقوة قرابة الولاد وضعف قرابة المتجردة عن الولادة، وجه رواية التسوية أن كراهة التفريق لدفع الضرر عن الصغير وفي حق هذا المعنى قرابة الولادة والقرابة المتجردة عن الولادة على السواء، والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية؛ لأن ركن التمليك صدر من أهله مضافاً إلى محله، والنهي عن البيع إنما كان مجاوراً ينفك (عن) البيع، وهو إلحاق الوحشة بالصغير ومثل هذا لا يؤثر في فساد البيع كالبيع وقت النداء أو ما أشبهه. وإذا كان التفريق بحق يستحق في أحدهما لم يكن، وكذلك يجوز أن يلحق أحدهما دين فيباع فيه أو يجني أحدهما جناية؛ لأن المنع عن التفريق لدفع الضرر عن الصغير، ولا يجوز دفع الضرر عن شخص على وجه يلحق الضرر بشخص آخر. وعن أبي حنيفة في فصل الجناية يستحب الفداء نظراً للجانبين، وكذلك لو اشتراهما فقبضهما، ثم وجد بأحدهما عيباً رد المعيب خاصة، وقال أبو يوسف: يردهما؛ لأنهما في معنى كراهة التفريق كشيء واحد. وجه «ظاهر الرواية» : أن الميت لحق الرد بالعيب وهو مقصور على المعيب حقيقة وحكماً، فلم يجز رد الآخر بعد تمام الصفقة، أكثر ما فيه أن فيه تفريقاً بينهما، ولكن بحق مستحق في أحدهما فيجوز كما لو جنى أحدهما أو لحق أحدهما دين، ولا يكره عتق أحدهما ولا كتابته؛ لأن كراهته للبيع لأجل التفريق ولا تفريق في الإعتاق. ولو باع أحدهما بسمة للعتق كره عند أبي حنيفة خلافاً لمحمد، والصحيح قول أبي حنيفة أن البيع بسمة ليس ببيع بشرط العتق، فإن البيع بشرط العتق فاسد لكنه ميعاد بينهما والوفاء بالوعد ليس بلازم حتى لو باعه ممن قال: إن اشتريته فهو حر لا يكره البيع بالاتفاق. وفي «المنتقى» : لو باع أحدهما ممن يعتقه لم يجز في قول أبي يوسف، فإن قبضه المشتري وأعتق ضمن القيمة. ولو باع أحدهما من رجل، ثم باع الآخر من ذلك الرجل، قال أبو يوسف: البيع وقع فاسداً، فإذا اجتمعا في ملكه استحسنت أن أجيزهما. وفي «نوادر ابن سماعة» قال: سمعت أبا يوسف يقول في رجل اشترى عبداً صغيراً وأمه عند البائع فأعتقه المشتري، فالبيع جائز وعليه الثمن، وكذلك لو مات عنده قال:

الفصل العشرون: في الإقالة

إني إنما كنت انقض البيع لتفريقه بينهما، فإذا ذهب التفريق جاز البيع، وكذلك لو ماتت الأم عند البائع أو أعتقهما مولاها يجوز البيع، وكذلك لو باع المشتري الصغير من رجل فأعتقه. قال: والقياس في العتق والموت أن تلزمه القيمة الصغير ولكن يستحسن أن يجعله بالثمن إذا ذهب الفرقة. الفصل العشرون: في الإقالة الأصل عند أبي حنيفة رحمه الله: أن الإقالة تجعل فسخاً في حق المتعاقدين في الصور كلها، فإن أمكن تصحيحها فسخاً لا تصح أصلاً، بيان هذا الأصل من المسائل: إذا باع جارية بألف درهم وتقايلا العقد فيها بألف درهم فعلى قوله صحت الإقالة وإن تقايلا بألف وخمسمائة صحت الإقالة بألف ويلغو ذكر الخمسمائة؛ لأن في الألف وخمسمائة ذكر الألف فيمكن تصحيحها إقالة بالألف بالغاً مبلغ الزيادة، وإن تقايلا بخمسمائة فإن كان العبد قائماً في يد المشتري على حاله لم يدخله عيب صحت الإقالة بألف ويلغو ذكر الخمسمائة، فيجب على البائع رد الألف على المشتري، وإن دخله عيب تصير إقالة بخمسمائة ويصير المحطوط بإزاء نقصان العيب؛ لأنه لما احتبس عند المشتري جزء من المبيع جاز أن يحتبس عند البائع بعض الثمن. بعض مشايخنا قالوا: تأويل المسألة أن تكون حصة العيب خمسمائة أو أقل أو أكثر مقدار ما يتغابن الناس فيه، ولكن جواب «الكتاب» مطلق. ولو كانت الإقالة بجنس آخر ذكر عامة الكتب أنها تصح إقالة عند أبي حنيفة بالثمن الأول ويلغو ذكر جنس آخر، وذكر بعض المشايخ في شرح «الجامع الصغير» أن على قول أبي حنيفة تبطل الإقالة في هذه الصورة، وإن ازدادت الجارية ثم تقايلا، فإن كان قبل القبض صحت الإقالة سواء كانت الزيادة متصلة أو منفصلة؛ لأن الزيادة قبل القبض لا تمنع الفسخ منفصلة كانت أو متصلة، وإن كانت الزيادة بعد القبض إن كانت منفصلة فالإقالة باطلة عند أبي حنيفة؛ لأنه تعذر تصحيحها فسخاً بسبب الزيادة المنفصلة مانعة فسخ العقد حقاً للشرع، وأبو حنيفة لا يصحح الإقالة إلا بطريق الفسخ، وإن كانت الزيادة متصلة فالإقالة صحيحة عنده ولأن الزيادة المتصلة عند أبي حنيفة لا تمنع الفسخ حينما وجد الرضا ضمن له الحق في الزيادة ببطلان حقه في الزيادة وقد وجد الرضا لما تقايلا، فأمكن تصحيحها فسخاً فيصح فسخاً عنده. والأصل عند أبي يوسف رحمه الله: أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين إذا لم يوجد منهما قليل البيع بأن تقايلا بمثل الثمن الأول وكان العقد قابلاً للفسخ، ففي هذه الصورة تجعل الإقالة فسخاً في حقهما أمكن اعتبارها بيعاً جديداً أو لم يمكن بأن كانت الإقالة في المنقول قبل القبض وإذا وجد منهما دليل البيع وأمكن جعلها تبعاً سواء أمكن

جعلها فسخاً أو لم يمكن أن يجعل بيعاً وأمكن أن يجعل فسخاً، كما لو تقايلا في المنقول قبل القبض أو تقايلا في بيع العرض بعد هلاك أحدهما، فالإقالة في هذه الصورة تجعل فسخاً؛ لأنه تعذر جعلها بيعاً، وإن لم يمكن أن تجعل بيعاً ولا فسخاً تبطل كما في بيع العرض بالدراهم إذا تقايلا بعد هلاك العرض، وكما لو تقايلا في المنقول قبل القبض على خلاف جنس الثمن الأول. بيان هذا الأصل من المسائل: إذا تقايلا قبل قبض الجارية (والجارية) قائمة على حالها لم تتغير إلى زيادة أو نقصان أو تغيرت إلى زيادة أو نقصان، فالإقالة صحيحة عنده فسخاً إذا تقايلا بالثمن الأول، أو بجنس الثمن الأول ولكن زيادة أو نقصان؛ لأنه تعذر اعتبارها فسخاً؛ لأن النقصان لا يمنع الفسخ فيجعل فسخاً، وإن تقايلا على خلاف جنس الثمن الأول بطلت الإقالة؛ لأنه تعذر اعتبارها بيعاً؛ لأن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز وتعذر اعتبارها فسخاً؛ لأن الفسخ ما يكون بالثمن الأول وقد سميا ثمناً آخر، وإن تقايلا بعد القبض فإن كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير إلى زيادة ولا نقصان أو تغيرت (118أ3) إلى زيادة أو نقصان، فالإقالة صحيحة عنده فسخاً إذا تقايلا بالثمن الأول أو بجنس الثمن الأول، ولكن لزيادة أو نقصان اعتبارها بيعاً وأمكن اعتبارها فسخاً؛ لأن النقصان لا يمنع الفسخ على كل حال. وكذلك الزيادة قبل القبض لا تمنع الفسخ فيجعل فسخاً. وإن تقايلا على خلاف جنس الثمن الأول بطلت الإقالة؛ لأنه تعذر اعتبارها بيعاً؛ لأن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز، وتعذر اعتبارها فسخاً؛ لأن الفسخ ما يكون بالثمن الأول وقد سميا ثمناً آخر، وإن تقايلا قبل القبض. وإن كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير وقد تقايلا بالثمن الأول، فالإقالة عنده صحيحة فسخاً؛ لأنه لم يوجد دليل البيع والعقد قابل للفسخ فتجعل الإقالة فسخاً، إذا سكتا عن الثمن الأول يصير مذكوراً مقتضى الإقالة ما يكون بالثمن الأول. وإن تقايلا بجنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان فعلى قول أبي يوسف تجعل الإقالة بيعاً؛ لأنه وجد دليل البيع وهوالزيادة في الثمن أو النقصان عنه، وأمكن جعلها بيعاً فجعلناها بيعاً حتى لا تلغو الزيادة أو النقصان. وإن تقايلا بخلاف جنس الثمن الأول تجعل بيعاً عنده؛ لأنه وجد دليل البيع وأمكن اعتباره بيعاً؛ لأن بيع المنقول بعد القبض جائز فجعلناها بيعاً. وإن تغيرت الجارية إلى نقصان بأن تعيبت في يد المشتري بفعل المشتري أو بآفة سماوية، فإن تقايلا بمثل الثمن الأول أو سكتا عن ذلك تجعل الإقالة فسخاً عنده غير أن البائع إذا لم يعلم بالعيب وقت الإقالة كان له الخيار إن شاء أمضى الإقالة وإن شاء رد، وإن علم بالعيب فلا خيار له، وهذا؛ لأن البائع في إقالة بيع العرض بالدارهم بمنزلة المشتري عند الشراء وإن تغيرت الجارية إلى زيادة، فإن كانت الزيادة منفصلة كالولد والأرش والعقر تجعل الإقالة بيعاً؛ لأن تعذر اعتبارها فسخاً لمكان الزيادة وأمكن

اعتبارها بيعاً فجعلناها بيعاً، وإن كانت الزيادة متصلة، فالجواب في هذا والجواب فيما إذا كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير سواء؛ لأن الزيادة المتصلة عنده لا تمنع الفسخ عند وجود الرضا ممن له الحق وفي الزيادة وقد وجد الرضا ههنا لما تقايلا. والأصل عند محمد: أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين إذا لم يوجد منهما دليل البيع بأن تقايلا بجنس الثمن الأول وكان البيع قابلاً للفسخ. وإن وجد منهما دليل البيع لم يمكن أن تجعل فسخاً وأمكن جعلها بيعاً رواية واحدة، كما لو تقايلا بعد القبض بالثمن الأول ولكن بعد الزيادة المنفصلة، أو تقايلا بعد القبض بخلاف جنس الثمن الأول. وإن وجد منهما دليل البيع جعلهما بيعاً وفسخاً كما لو تقايلا بعد القبض والجارية قائمة على حالها بجنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان. وعن محمد روايتان وفي رواية كتاب المأذون يجعلها بيعاً وفي رواية كتاب الشفعة يجعلها فسخاً وإن لم يمكن جعلها بيعاً ولا فسخاً تبطل الإقالة. بيان هذا الأصل من المسائل إذا تقايلا قبل قبض الجارية تصح الإقالة ويكون فسخاً عند محمد إذا حلصت الإقالة بالثمن الأول أو على جنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان، وإن حصلت الإقالة على خلاف جنس الثمن الأول تبطل الإقالة عنده على نحو ما قلنا. وعند أبي يوسف رحمه الله: وإن تقايلا بعد قبض الجارية فإن كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير وقد تقايلا بالثمن الأول وقد سكتا عن الثمن الأول يجوز الإقالة عنده فسخاً على نحو ما قلنا لأبي يوسف، وإن تقايلا بجنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان عن محمد في الصورة روايتان، ففي رواية كتاب المأذون تصح الإقالة بيعاً وفي رواية كتاب الشفعة تصح فسخاً؛ لأنه وجد دليل البيع وأمكن جعله بيعاً وفسخاً وفي مثل هذه الصورة عن محمد روايتان. وإن تقايلا على خلاف الثمن الأول صحت الإقالة عنده بيعاً رواية واحدة؛ لأنه وجد دليل البيع وتعذر جعلها فسخاً؛ لأن الفسخ ما يكون بمثل الثمن الأول وأمكن جعلها بيعاً وفي مثل هذه الصورة تصح الإقالة بيعاً عنده رواية واحدة. وإن كانت الجارية قد تغيرت عن حالها إلى زيادة أو نقصان إن كان التغير إلى نقصان بأن تعيبت في يد المشتري بفعل أجنبي أو بآفة سماوية، فالجواب فيه عند محمد رحمه الله نظير الجواب عند أبي يوسف رحمه الله، إن تغيرت الجارية إلى زيادة فإن كانت الزيادة منفصلة تصح الإقالة عنده بيعاً؛ لأنه تعذر اعتبارها فسخاً لمكان الزيادة وأمكن اعتبارها بيعاً فجعلناها بيعاً، وإن كانت الزيادة متصلة فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كانت الجارية

قائمة على حالها لم تتغير؛ لأن الزيادة المتصلة لا تمنع صحة الفسخ عنده سواء وجد الرضا ممن له الحق في الزيادة أو لم يوجد، وإذا كان الفسخ لا يتعذر بسبب الزيادة المتصلة صار وجودها والعدم بمنزلة. وذكر محمد رحمه الله في كتاب المأذون إقالة العبد المأذون له في التجارة: إذا باع

بألف درهم، ثم إن العبد أقال البيع في الجارية وجعلها على وجهين: أما إن كانت الإقالة قبل قبض المشتري الجارية أو بعد قبضه إياها، وجعل كل وجه على وجهين: أما إن كان الثمن موهوباً أو غير موهوب. فإن كانت الإقالة قبل قبض الجارية والثمن غير موهوب تصح الإقالة فسخاً عندهم إلا في فصل، وهو ما إذا حصلت الإقالة بخلاف جنس الثمن الأول، فإن هناك تبطل الإقالة عندهم أما في سائر الفصول؛ لأنه تعذر اعتبارها بيعاً جديداً؛ لأن بيع المنقول قبل القبض لا يجوز وأمكن جعلها فسخاً إذا كان الثمن غير موهوب للمأذون؛ لأنه لا يكون فسخاً بغير ثمن فيجعل فسخاً، وأما إذا حصلت الإقالة بخلاف الثمن الأول فلأنه كما تعذر اعتبارها بيعاً تعذر اعتبارها فسخاً؛ لأن في الفسخ ما يكون بمثل الثمن الأول فيبطل ضرورة وإن كان الثمن موهوباً للمأذون، فالإقالة باطلة عندهم جميعاً في الفصول كلها؛ لأنه كما تعذر اعتبارها بيعاً لحصولها قبل القبض في المنقول تعذر اعتبارها فسخاً لما كان الثمن موهوباً؛ لأنه يكون فسخاً بغير ثمن والمأذون لا يملك ذلك؛ لأنه يكون تبرعاً. وإن تقايلا قبل قبض الجارية بعد ما تغيرت الجارية إلى زيادة أو نقصان، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كانت الجارية قائمة على حالها؛ لأن الزيادة قبل القبض والنقصان قبل القبض لا يمنع الفسخ على كل حال، فصار وجود ذلك والعدم بمنزلة، فتصح الإقالة فسخاً إذا كان الثمن غير موهوب إلا إذا حصلت الإقالة على خلاف جنس الثمن الأول، فإن هناك لا تصح الإقالة أصلاً، وإن كان الثمن موهوباً للمأذون لا تصح الإقالة في الفصول كلها عندهم جميعاً. وأما إذا تقايلا بعد قبض الجارية، فإن تقايلا بعد قبض الجارية، فإن تقايلا والثمن غير موهوب، فإن كانت الجارية قائمة على حالها، إن تقايلا بالثمن الأول أو سكتا عن ذكر الثمن الأول تصح الإقالة فسخاً عنده؛ لأنه لم يوجد دليل البيع وأمكن اعتبارها فسخاً، وإن تقايلا بجنس الثمن الأول ولكن (118ب3) إلى زيادة أو نقصان تصح الإقالة فسخاً عند أبي حنيفة، ويلغو ذكر الزيادة والنقصان على قول أبي يوسف بيعاً؛ لأنه وجد دليل البيع وهو ذكر الزيادة أو النقصان وأمكن اعتبارها بيعاً وفسخاً، فجعلناها بيعاً حتى لا تبطل الزيادة أو النقصان، وعند محمد في هذه الصور روايتان. وإن تقايلا بخلاف جنس الثمن الأول فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: تبطل الإقالة لتعذر اعتبارها فسخاً، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: تصح الإقالة بيعاً جديداً؛ لأنه أمكن اعتبارها بيعاً جديداً، هذا إذا تقايلا والجارية قائمة على حالها. فإن كانت الجارية قد تغيرت أو تغيرت إلى زيادة وكانت الزيادة منفصلة، فالإقالة باطلة عند أبي حنيفة على كل حال يعتبر الإقالة فسخاً، وتعذر اعتبارها فسخاً لمكان الزيادة المنفصلة، وعندهما تصح الإقالة بيعاً جديداً في الفصول كلها؛ لأنه أمكن اعتبارها بيعاً. وإن كانت الزيادة متصلة، فالجواب كما إذا كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير وإن تغيرت إلى نقصان بأن تعيبت في يد المشتري أو بآفة سماوية، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير هذا إذا تقايلا بعد القبض والثمن غير موهوب. فأما إذا تقايلا بعد القبض والثمن موهوب للمأذون، فإن كانت الجارية قائمة على حالها وقد تقايلا بالثمن الأول بطلت الإقالة عند أبي حنيفة؛ لأنه قد تعذر اعتبارها فسخاً إذا كان الثمن موهوباً، عندهما يجعل بيعاً؛ لأنه إن تعذر اعتبارها فسخاً أمكن اعتبارها؛ لأن البيع بعد هبة الثمن صحيح. وإن سكتا عن ذكر الثمن الأول فكذلك عند أبي حنيفة الإقالة باطلة، وعند أبي يوسف تصح بيعاً واضطربت روايات المأذون في هذا الفصل عند محمد، في بعض الروايات اعتبرها بيعاً كما فيما تقدم، وفي بعض الروايات الإقالة باطلة كما هو قول أبي حنيفة. ووجه هذه الرواية: أن الإقالة عند محمد إنما تجعل بيعاً عند تعذر اعتبارها فسخاً إذا أمكن جعلها بيعاً ههنا؛ لأنهما سميا ثمناً ولم يصر الثمن الأول مذكوراً يمقتضى الإقالة؛ لأن الثمن الأول إنما يصير مذكوراً بمقتضى الإقالة إذا بقي للعقد ثمن، ولم يبق ههنا ثمن فلم يصر الثمن الأول مذكوراً، والبيع لا يصح من غير تسمية الثمن بخلاف ما إذا كان الثمن غير موهوب؛ لأن هناك صار الثمن الأول مذكوراً بمقتضى الإقالة فأمكن أن يجعل بيعاً. وإن تقايلا بجنس الثمن الأول ولكن بزيادة أو نقصان فعلى قول أبي حنيفة الإقالة باطلة، فعلى قولهما تصح بيعاً، وإن تقايلا بخلاف جنس الثمن الأول فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله الإقالة باطلة، وعلى قولهما تجعل بيعاً، فإذا تقايلا وقد تغيرت عن حالها والثمن موهوب، وإن تغيرت إلى زيادة وكانت الزيادة منفصلة نحو الأرش والولد والعقر، فعند أبي حنيفة الإقالة باطلة، وعندهما الإقالة صحيحة بيعاً رواية واحدة إلا في فصل واحد، وهو إذا سكتا عن ذكر الثمن فإن هذا الفصل عن محمد روايتان في رواية تصح الإقالة بيعاً، وفي رواية تبطل الإقالة. وإن كانت الزيادة متصلة فهذا وما لو كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير سواء، وإن تغيرت إلى نقصان تعيبت بفعل المشتري أو بآفة سماوية أو ما لو كانت الجارية قائمة على حالها لم تتغير سواء عندهم جميعاً. هذه الجملة من «مأذون شيخ الإسلام خواهرزاده» رحمه الله. وفي «القدوري» : الإقالة فسخ في حق المتعاقدين عقد جديد في حق الثالث، قال أبو يوسف رحمه الله: الإقالة بيع وإلا إذا تعذر فتجعل فسخاً، وقال محمد: هو فسخ إلا إذا تعذر فيجعل بيعاً، وقال زفر: هو فسخ في حق المتعاقدين وغيرهما. وفي «المنتقى» قال محمد: إن الإقالة بعد القبض وقبل القبض مناقضة وليست ببيع، وكذلك قال أبو حنيفة، ثم هذا الخلاف الذي ذكرنا فيما إذا حصل الفسخ بلفظ الإقالة، أما إذا حصل بلفظ المفاسخة أو المتاركة أو الرد، فإنها لا تجعل بيعاً فإن أمكن جعلها بيعاً، وإذا حصل الفسخ بلفظ الإقالة فهو بيع جديد في حق الثالث بلا خلاف حتى أن الشفيع إذا سلم الشفعة في بيع مع المشتري تقايلا البيع يتجدد للشفيع حق الشفعة واعتبرت الإقالة بيعاً جديداً في حقه، ونظائر هذا كثيرة. ثم إنما تعتبر الإقالة فسخاً في حق المتعاقدين فيما كان من موجبات البيع، فأما ما لم يكن من موجبات البيع وإنما ثبت

بأمر زائد أو شرط زائد فالإقالة تعتبر بيعاً جديداً في حقه على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا اشترى الرجل من رجل عبداً بكر من طعام وسط إلى أجل أو حالاً وتقابضا وقد كان أعطاه المشتري حنطة أجود من المشروط أو أردأ أو مثل المشروط، ثم تقايلا لا يلزمه رد المقبوض بعينه وإن كان قائماً؛ لأن الطعام في هذه المسألة ثمن ولهذا جاز الاستبدال به، والأثمان لا تتعين عند الفسخ كما لا تتعين عند البيع. وكذلك الجواب فيما إذا كان الرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء، وإذا لم يجب رد الطعام بعينه في هاتين الصورتين يرد مثل الذي كان مشروطاً أو يرد مثل المقبوض لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في الكتاب نصاً، عامة المشايخ على أنه يرد مثل المشروط، وهذه الصورة ألزمه تفاوت ما بين المقبوض والمشروط وهو تفاوت ما بين الوسط والرديء بسبب تبرعه؛ لأن حقه كان في المشروط، فهو إذا تجوز بالرديء فقد تبرع بمقدار ذلك، فلو لزمه رد مثل المشروط لزمه ذلك التفاوت بسبب تبرعه وإنه لا يجوز. ثم على قول عامة المشايخ فرق بين الإقالة بعد القبض والرد بالعيب بغير قضاء وبين الرد بالعيب قبل القبض أو بعد القبض بقضاءٍ فقال: إذا كان الرد بالعيب قبل القبض كيف ما كان أو كان الرد بعد القبض بقضاء يلزمه رد مثل المقبوض لا رد مثل المشروط، والفرق: أن الرد بالعيب قبل القبض بقضاءٍ أو بغير قضاءٍ وبعد القبض بقضاءٍ فسخ من كل وجه في حق الكل وليس ببيع جديد، ولهذا لا يتجدد للشفيع حق الشفعة. وإذا انفسخ البيع من كل وجه فيما يستقبل من الأحكام صار وجود البيع وعدمه بمنزلة، ولو عدم البيع ووجب على القابض رد المقبوض بعد ما ملكه بسبب صحيح لزمه رد مثل المقبوض كما في العوض كذا ههنا. أما الإقالة والرد بالعيب بعد القبض إذا كان بتراضيهما بمنزلة بيع جديد ولهذا يتجدد للشفيع حق الشفعة، فإذا كان بمنزلة بيع جديد صار كأن المشتري باع العبد من البائع ثانياً بمثل الثمن المشروط في البيع؛ لأن الإقالة بناء على العقد، فإنما تصح بما كان مشروطاً في أصل البيع فكأن المشتري باع العبد من البائع بمثل الثمن الأول الذي كان مشروطاً في البيع، ولو كان كذلك كان على البائع أن يعطي المشتري مثل الثمن (119أ3) المشروط في البيع ولا يلزمه رد مثل المقبوض كذا ههنا، فإن قيل: الإقالة والرد بالعيب بعد القبض بغير قضاءٍ إنما اعتبر بيعاً جديداً في الثالث أما في حق المتعاقدين اعتبر فسخاً حتى أن البائع بعد الإقالة لو باع العبد من المشتري ثانياً قبل القبض يجوز، كما لو كان الرد بقضاءٍ أو قبل القبض بغير قضاءٍ ولو باعه من غيره لم يجز؛ لأنه في حق الثالث بيع جديد فصار بائعاً المبيع قبل القبض. إذا ثبت هذا فنقول: وجوب رد مثل المقبوض أو رد مثل المشروط في البيع في حق المتعاقدين فتعتبر الإقالة في هذا فسخاً وإذا اعتبر فسخاً يجب أن يعتبر الفسخ المقبوض لا بمثل ما كان مشروطاً في البيع.

والجواب: أن الإقالة فسخ فيما بين المتعاقدين من موجبات البيع وهو ما يثبت بين البيع من غير شرط فصيرورة العين مبيعاً من موجبات البيع، فإنه يثبت من غير شرط فتعتبر الإقالة فسخاً في حق العبد فيما بينهما فيكون العبد عائداً إلى البائع بحكم الفسخ لا ببيع جديد فكان له أن يبيع العبد من المشتري قبل القبض كما لو كان الرد بقضاءٍ، فأما ما لم يكن من موجبات البيع فإنما يثبت بأمر زائد أو بشرط زائد فالإقالة تعتبر بيعاً جديداً في حقه، وإن كان ذلك في حق المتعاقدين. الدليل على صحة هذا مسألتان ذكرهما محمد رحمه الله في «الزيادات» : إذا كان لرجل على غيره ألف درهم مؤجل باعه المطلوب بذلك عبداً قبل حلول الأجل أو صالحه من ذلك على عوض، قال: يبرأ المطلوب من الدين كما لو عجل الدين، فلو أن مشتري العبد وجد بالعبد عيباً بعد القبض فرده بغير قضاءٍ، قال: يعود الدين على الطالب حالاً لا مؤجلاً كأن الطالب باع العبد في المطلوب ثانياً بألف درهم، واعتبرت الإقالة والرد بالعيب بغير قضاء في حق الأجل بيعاً جديداً، وإن كان من حقهما لهذا المعنى أن الأجل ليس من موجبات البيع، فإنه لا يثبت بنفس البيع، وإنما يجب بشرط زائد، وبمثله لو كان الرد بالعيب في هذه المسألة قبل القبض بغير قضاءٍ، فالدين يعود مؤجلاً؛ لأن الرد بالعيب قبل القبض بغير قضاءٍ، وبعد القبض بقضاءٍ فسخ من كل وجه، فإذا انفسخ البيع الأول من كل وجه، صار وجوده وعدمه بمنزلة، ولو عدم البيع كان الدين على المطلوب مؤجلاً. المسألة الثانية: إذا اشترى عبداً فوجد به عيباً بعد القبض فرده بغير قضاءٍ، ثم جاء رجل وادعى أن العبد له، وأقام على ذلك شاهدين أحد الشاهدين مشتري العبد، قال: لا تقبل شهادته، واعتبر هذا بيعاً جديداً في حق الشهادة؛ لأنه ليس من موجبات البيع فصار كأن المشتري باع العبد ثانياً من بائعه وشهد للمدعي بالملك، ولو كان كذلك لا تقبل شهادته؛ لأنه ساعي في نقض ما تم به وبمثله لوروده بقضاء قاضي، أو بغير قضاءٍ قبل القبض تقبل شهادته واعتبر البيع منفسخاً من كل وجه، وإذا انفسخ البيع من كل وجه صار وجود البيع وعدمه سواء، ولو عدم البيع كان يقبل شهادته للمدعي فهنا كذلك، فعلم أن الإقالة والرد بالعيب بعد القبض بغير قضاءٍ، وإنما تعتبر فسخاً في حق المتعاقدين فيما كان من موجبات البيع، فأما ما لم يكن من موجبات البيع فاعتبر شراءً جديداً في حقه كما يعتبر شراءً جديداً في حق الثالث. إذا ثبت هذا فنقول: زيادة الجودة على المشروط في أصل البيع ونقصان الجودة ليس من موجبات البيع، فإنه لا يجب ذلك بالبيع، وإنما وجب بعارض آخر، وهو أن المشروط الجودة، أو إبراء البائع المشتري عن الجودة، وإذا لم يكن ما حصل من الجودة فللبائع من موجبات البيع اعتبرت الإقالة في ذلك بيعاً جديداً، وإن كان ذلك من حقهما، وإذا اعتبر بيعاً جديداً صار كأن المشتري باع العبد ثانياً من البائع بمثل الثمن الأول، ولو كان كذلك لا يجب على البائع رد مثل المقبوض، وإنما يجب عليه رد مثل المشروط في أصل البيع فكذا ههنا، وإذا كان فسخاً من كل وجه ظهر الفسخ في حقه كما ظهر في حق الأجل ولزمه رد مثل المقبوض لا رد مثل المشروط.

وفي «القدوري» : وقبول الإقالة على المجلس؛ لأن الإقالة نظير البيع في حق ارتباط اللفظين بالآخر فيعتبر له المجلس كما في البيع، قال: الإقالة بلفظين، أحدهما: يعبر به عن المستقبل نحو أن يقول: أقلني فيقول: أقلت، وقال محمد: لا يقوم إلا بلفظين يعبر بهما عن الماضي اعتباراً بالبيع، ولهما أن الإقالة لا تكون إلا بعد نظر فتأمل، فلا يكون قوله أقلني مساومة بل كان تحقيقاً للتصرف كما في النكاح، وبه فارق البيع. وفي «نوادر ابن سماعة» قال: سمعت أبا يوسف رحمه الله يقول في رجل باع رجلاً لبعد، ثم لقيه المشتري ولم يقبض البيع قال: إنك قد أغليت علي فلا حاجة لي فيما بعتني، فأقلني فقال البائع: قد أقلتك، قال: ينتقض البيع، وإن يقل (لم) المشتري: قبلت أو رضيت، وهذه الرواية عن أبي يوسف توافق القدوري عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمه الله قال: كذلك لو كان قال له المشتري: فافسخ البيع فيما بيني وبينك ففسخ كان جائز. وفي «المنتقى» عن محمد رحمه الله: مسألة تدل على أن قوله مثل قولهما، فإنه قال في رجل اشترى من رجل عنباً بألف درهم، ثم تقابضا، ثم قال المشتري للبائع: أقلني على أن أؤخرك ألف سنة فقال: قد فعلت جازت الإقالة ولم يجز التأخير، قال القدروي رحمه الله أيضاً: وتصح الإقالة إذا كان المبيع قائماً أو بعضه ولا يعتبر قيام الثمن، يجب أن يعلم أن من شرط صحة الإقالة قيام العقد لكون الإقالة رفعاً للعقد، وقيام العقد بقيام المعقود عليه لا قيام المعقود به؛ لأن المعقود عليه محل إضافة العقد، ولا محل ثبوت حكمه، وما يكال ويوزن إذا كان موصوفاً في الذمة كان ثمناً، وإذا كان بعينه يكون مبيعاً. قال محمد في «الجامع الكبير» : رجل اشترى من آخر عبداً بكر حنطة بعينها وتقابضا فهلك العبد، ثم إنهما تقايلا العقد فيما بينهما جازت الإقالة؛ لأن الكر لما كان متعيناً كان هذا بيع العين بالعين، وفي بيع العين بالعين كل واحد منهما مبيع في حق نفسه ثمن في حق ما يقابله؛ لأن العقد لا بد له من معقود عليه، وليس أحدهما بأن يجعل معقوداً عليه أولى من الآخر فجعلنا كل واحدمن العوضين مبيعاً في حق نفسه ثمناً في حق ما يقابله، ولهذا لا يجوز الاستبدال بالكر قبل القبض لما فيه من استبدال المبيع قبل القبض، وإذا هلك قبل القبض، فسد العقد ولما كان كل واحد منهما معقوداً عليه في حق نفسه يبقى العقد ببقاء أحدهما فتصح الإقالة، وإذا صحت الإقالة لزم الآخر رد العبد وقد عجز عن رده بسبب الهلاك فيلزمه قيمته، وإذا باع العبد بكر بغير عينه وتقابضا فهلك، ثم تقايلا والكر فلم يعينه فالإقالة باطلة؛ لأن الكر إذا (119ب3) كان بغير عينه كان ثمناً، ولهذا لا يشترط فيه التأجيل، ولو كان مبيعاً فالمبيع لا يثبت في الذمة إلا مؤجلاً، وكذا لا يجوز الاستبدال به قبل القبض مع أن الاستبدال بالمبيع قبل القبض ممتنع، وكذلك لو تقايلا حال قيام العبد لا يلزم بائع العبد رد عين ما قبض من الكر، كما في الدراهم فكان ثمناً، ولما كان ثمناً لا يبقى العقد بيعاً به فلم يستقم رفعه.

فرق بين هذا وبين ما لو أسلم عبداً في كر حنطة إلى أجل، ثم هلك العبد، ثم تقايلا على المسلم فيه ثمَّ يجوز، والفرق وهو: أن المسلم فيه مبيع بدليل عكس ماذكرنا من الأحكام ولما كان كذلك كان هذا بيع العرض بالعرض فهلاك أحدهما لا يمنع صحة الإقالة، أما ههنا بخلافه على ما مر. وإذا اشترى عبداً بدراهم وتقابضا، ثم تقايلا بعد ما هلك العبد، فالإقالة باطلة؛ لأن الدراهم ثمن من كل وجه فلا يبقى العقد ببقائها، ولو صح ما ذكرنا أن الثمن إنما يثبت له حكم الوجود في الذمة بالعقد، وما يكون وجوده بالعقد كان حكماً للعقد، وحكم العقد لا يكون محلاً للعقد؛ لأن محل العقد وشرط الشيء يسبقه وحكم الشيء يعقبه وبينهما تنافي. ولو اشترى عبداً بنقرة فضة إن كانت النقرة بغير عينها فكذلك الجواب، وإن كان بعينها لم تنتقض الإقالة بهلاك العبد لما مر، وإذا لم تنتقض الإقالة كان على الذي هلك العبد في يده قيمته دراهم أو دنانير. فرق بين هذا وبينما إذا كانت الإقالة على النقرة بعينها بعد هلاك العبد، فإن هناك قال: يقضي بالدنانير خاصة، والفرق وهو: أن ههنا الإقالة صحت على النقرة وعلى العبد، والربا لا يجري بين العبد والنقرة وهذه الحالة، وهو حال وجوب قيمة العبد حال بقاء الإقالة لا يجري الربا إذ الموجود في حالة البقاء ليس إلا القبض الذي له شبه بالعقد وأثره في إيجاب التصدق لا في جريان الربا، ووجوب التصدق حكم شيء بينه وبين ربه لا يدخل تحت القضاء فلم يجب القضاء بخلاف الجنس تحرزاً عن هذه الشبهة التي لا تدخل لها في القضاء لكن قيل: إن قضى بخلاف جنسه لا يجب عليه التصدق بشيء، وإن قضى بجنسه تصدق بالفضل تحرزاً عن الشبهة. كما لو اشترى عبداً قيمته ألفا درهم فقتل العبد قبل القبض وأختار المشتري أخذ القيمة قضى القاضي بالقيمة دنانير أو دراهم، لكن إن قضى بالقيمة دراهم بالفضل وإن قضى بالقيمة دنانير لم يتصدق بشيء كذا ههنا، أما فيما سبق الحال ابتداء الإقالة، فالإقالة عقد جديد في حق الثالث وحرمة الربا حق الشرع فصار في حق الشرع بمنزلة عقد مبتدأ على النقرة وعلى قيمة العبد، وفي حالة الابتداء يجري الربا وإنه يدخل تحت الحكم فيقضى بالدنانير تحرزاً عن الربا. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل اشترى عبداً بألف درهم فلم يقبضه حتى قال المشتري للبائع: بعه فقيل هل يكون هذا نقضاً للبيع، فقد ذكرنا هذه المسألة مع أجناس في صدر هذا الكتاب إلا أن موضوع المسألة فيما وضع محمد رحمه الله ثمة أن المشتري، قال للبائع: بعه فقيل، ثم باعه فهو مناقضة للبيع الأول، وموضوع المسألة ههنا أن المشتري قال للبائع: بعني فقيل هو مناقضة للبيع. وعنه في رجل اشترى من رجل عبداً فلم يقبضه حتى سأله البائع أن يبيعه إياه بألف درهم ففعل، لم تكن هذا مناقضة للبيع الأول.

الفصل الحادي والعشرون: في الدعاوي والشهادة في البيع

وفي «المنتقى» : رجل اشترى من رجل عبداً ودفع إليه الثمن ولم يقبض، ثم إن المشتري لقي البائع وقال: قد وهبت لك العبد والثمن لم تجز الهبة في الثمن، قال: لأني إنما جعلت قوله: وهبت لك العبد نقضاً للعبد فلا يمكنني أن أجعله هبة للثمن. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل اشترى من رجل عبداً بجارية وتقابضا، ثم تقايلا فدفع مشتري العبد العبد إلى بائعه، ولم يقبض الجارية حتى ماتت في يد مشتريها، فإن البيع يعود إلى حاله ويرد العبد إلى الذي كان في يده. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل باع عبداً بعبد وتقابضا فعمي أحدهما، ثم أقاله البيع، قال: إن كان يعلم بالعمى أخذه وليس له غيره، وإن لم يكن علم، فإنه يرد العبد ويأخذ قيمة عبده صحيحاً. إذا اشترى عبداً بألف درهم وتقابضا، ثم تقايلا، ثم قتله المشتري قبل أن يرده فقد ذهب بالثمن، وإن فقأ إحدى عينيه فالبائع بالخيار إن شاء أخذه بنصف الثمن وإن شاء ترك، وإن لم يفقأ عينه ولكن ذهبت من وجع، فإن شاء البائع أخذه بجميع الثمن، وإن شاء ترك. وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف رحمه الله قال أبو حنيفة رحمه الله: رجل اشترى من رجل عبداً، ثم قال للبائع قبل أن يقبضه: بعه، فإن أعتقه البائع فعتقه جائز عن نفسه، وقال أبو يوسف رحمه الله: باطل، قال أبو الفضل رحمه الله: يحتمل أن يكون وجه هذه المسألة أنه جعل قوله بعه بمنزلة الإقالة، وجعل عتق البائع بمنزلة قبول الإقالة على قول أبي حنيفة رحمه الله. وفي «المنتقى» : رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم وتقابضا، فقطعت يده عند المشتري فأخذ أرشها، ثم تقايلا البيع، فإن كان البائع علم بالقطع لزمته الإقالة بجميع الثمن ولا شيء له من الأرش، وإن لم يكن علم بالقطع، فهو بالخيار إن شاء أخذه دون الأرش بجميع الثمن، وإن شاء رده، وكذلك لو كانت جارية فولدت عند المشتري لم يبعها الولد في الإقالة. وفيه أيضاً: رجل باع عبداً بأمة وتقابضا، ثم باع نصف العبد، ثم إقالة البيع في الأمة جاز وكان له قيمة العبد والله أعلم. الفصل الحادي والعشرون: في الدعاوي والشهادة في البيع هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه إذا كانت الدار في يدي رجل ادعاها رجل أنه اشتراها وأقام على ذلك بينة فهذا على وجهين:

الأول: أن تكون الدار في يد البائع وفي هذا الوجه لو شهد الشهود المشتري بمجرد الشراء منه يقضي له بالدار، وإن لم يشهدوا بالملك للبائع. الوجه الثاني: أن تكون الدار في يد غير البائع وذو اليد يدعي الدار لنفسه، وأنه على وجوه، فشهدوا أنه اشتراها من فلان فلم يزيدوا عليه، فإنما لا يقضي له بها ولا ينتقض يد ذو اليد بهذه الشهادة؛ لأنه لم يثبت الملك للمدعي بهذه الشهادة؛ لأنه لم يثبت إلا مجرد الشراء من فلان يوجب الملك للمدعي إن كان البائع مالكاً أو نائب المالك، وإن كان غاصباً لا يوجب الملك للمدعي فيقع الشك في نقض يد ذي اليد، فلا ينقض بالشك، وكان هذا بمنزلة ما لو شهدوا أنه كان في يد المدعي، ولم يزيدوا عليه، فإنه لا ينقض يد ذي اليد بهذه الشهادة، وإن ثبت حدوث يد ذي اليد؛ لأنه احتمل أن يد المدعي كان بحق فيجب نقضه بهذا الاعتبار، واحتمل أنه كان بغير حق فلا يجب نقضه فلم ينقض بالشك والاحتمال فكذلك هذا، ولا يقال (120أ3) بأن الظاهر أن تكون يده يد الملك؛ لأنا نقول الظاهر يصلح حجة للدفع ولا يصلح حجة الاستحقاق وههنا حاجته إلى استحقاق اليد على ذي اليد. وإن شهدوا أنه اشتراها من فلان وهو يملكها، فإنه يقضي بذلك للمدعي وينقض يد ذي اليد؛ لأنه ثبت ملك المدعي بلا احتمال، فإنهم شهدوا بالملك للبائع، وإذا ثبت ملك البائع ثبت ملك المشتري بالشراء منه فينقض يد ذي اليد، كما لو شهدوا أنه ملك المدعي. وكذلك إن شهدوا أنه اشتراها من فلان وأنها لفلان تقبل شهادتهم؛ لأن شهادتهم أنها لفلان كشهادتهم أنه كان يملكها، وكذلك لو شهدوا أنها لهذا المدعي اشتراها من فلان يقضي بها للمدعي؛ لأنهم شهدوا بالملك للمدعي وشهدوا بالملك لبائعه، مقتضى شهادتهم بالملك للمدعي، فإن المشتري يملك من جهة البائع. وكذلك لو شهدوا أن فلاناً باعها منه وسلم إليه، فإنه يقضي للمدعي، وينقض يد ذي اليد وكان يجب أن لا يقضي وهو رواية القاضي أبو حازم عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأنهم لم يشهدوا بالملك للمشتري نصاً، ولم يشهدوا بالملك للبائع ليكون شهادة بالملك للمشتري إذا ثبت شراء أو هبة إنما شهدوا بالبيع والتسليم، وكلا الأمرين قد يكون من المالك ومن نائبه، وقد يكون من الغاصب فصار هذا كما لو شهدوا أنه باعها وهي في يده يوم البيع ولم يزيدوا على ذلك، وهنا لا تقبل الشهادة كذا ههنا، إلا أن الجواب منه أن يقال: بأنهم بهذه الشهادة أثبتوا للمدعي يد ملك فينتقض يد ذي اليد، كما لو نصوا أنه كان في يده ملك، وإنما قلنا ذلك؛ لأنهم شهدوا للمدعي بيده مقرون بسبب الملك والشهادة للمدعي باليد مقروناً بسبب الملك فهي محتملة بين أن يكون يد ملك وبين أن لا تكون احتمالاً على السواء، فإذا اقترن به سبب الملك ترجح جانب يد الملك وسقط اعتبار احتمال أنه ليس بيد ملك، وإذا سقط هذا الاعتبار فكأنهم شهدوا نصاً أن يد المدعي يد ملك.

ونظير هذا قالا: في شاهدين شهدوا بدار لرجل يدعيها في يد إنسان أنها كانت في يد ابنه وقت الموت، فإنه يقضى بالدار له وينتقض به يد ذي اليد؛ لأنهم شهدوا للمدعي بيد مقرون بسبب الملك؛ لأن ماكان في بدايته وقت الموت ينتقل إلى وارثه بعد الموت ويصير في يده فيكون شهادة له باليد مقروناً بسبب الملك؛ لأن الموت سبب ملك للوارث فيما تركه الميت للوارث فترجح يد الملك على يد غير الملك لما اقترن باليد سبب الملك، وإذا ترجح الملك صارت العبرة أو يقول الشهادة بالتسليم شهادة بالملك للبائع من حيث المعنى فيقبل كما لو شهدوا له بالملك نصاً. بيانه: أن التسليم إن كان تسليم مالك فلا شك أن يكون شهادة بالملك، وإن لم يكن تسليم مالك يصير مالكاً بالتسليم يصير عاجزاً عن الرد، وعجز الغاصب عن الرد يوجب الضمان والمضمون يصير مالكاً للضامن بالضمان كان بمنزلة الشهادة باليد عند الموت اعتبرت الشهادة بالملك عند الموت؛ لأن يد غير المالك تنقلب يد المالك بالموت بسبب العجز عن الرد بالتجهيل، وإذا شهدوا أنه كان في يد المدعي وقت البيع، فلا ذكر لهذا في «الأصل» . وقد اختلف المشايخ فيه ممن اختار العبارة الأولى في المسألة المتقدمة يقول: تقبل هذه الشهادة؛ لأن الشهادة باليد عند سبب..... شهادة بالملك كما لو شهدوا أنه كان في يده عند الموت، وهذا القائل لا يحتاج إلى الفرق بينما شهدوا أنه كان في يده يوم البيع، وبينما إذا شهدوا أنه كان في يده يوم الموت. ومن اختار العبارة الثانية في المسألة المتقدمة يقول: لا تقبل هذه الشهادة وهكذا روى هشام في «نوادره» عن محمد رحمه الله، وهذا القائل يحتاج إلى الفرق بين هذه المسألة وبينما إذا شهدوا أنها كانت في يده عند الموت، والفرق: أن الشهادة باليد عند البيع ليست بشهادة للملك للبائع؛ لأن يده إن لم تكن يد ملك لا تنقلب يد ملك بمجرد البيع لا يعجز عن التسليم ما دام في يده، فأما الشهادة باليد عند الموت شهادة بالملك له؛ لأن بالموت يعجز عن الرد فتنقلب يده بالموت يد ملك إن لم تكن يد ملك في الأصل. وأما إذا شهدوا أنه اشتراها من فلان وقبضها منه ولم يزيدوا على ذلك كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا شهدوا أن فلاناً باعها منه وسلمها إليه؛ لأن الشهادة بقبض المشتري شهادة بتسليم البائع، ثم إذا قبلت الشهادة في هذه المسائل يثبت الشراء على البائع، وينتصب ذو اليد خصماً من البائع ويقوم إنكاره مقام إنكار البائع حتى لو حضر البائع، وأنكر البيع لا يلتفت إلى إنكاره. دار في يد رجل إدعاها رجل وشهد شاهدان أنه اشتراها منه إن سميا مقدار الثمن قبلت شهادتهما سواء شهدا بإستيفاء الثمن أو لم يشهدا؛ لأن المشهود به معلوم من كل

وجه؛ لأن المشهود به في البيع المبيع والثمن، وكل ذلك معلوم فكانت الشهادة مقبولة، وأما إذا لم يسميا بأن لم يشهدا باستيفاء الثمن لا تقبل شهادتهما؛ لأن الثمن مجهول وهو مقضي به إذا لم يكن مستوفياً؛ لأنه لا بد للقاضي من القضاء بالثمن على المشتري حتى يمكن قبض المبيع من البائع، وإذا كان مقدار الثمن مجهولاً لا يمكنه القضاء، وإذا تعذر القضاء بالثمن تعذر القضاء بالمبيع وشهادة لا يمكن القضاء بها لا تقبل. وأما إذا شهدا بإستيفاء الثمن كانت الشهادة مقبولة، فإن كان مقدار الثمن غير مقضي به متى كان مستوفياً، فجهالته وهو غير مقصودة لا يصير ما هو مقضي به وهو المبيع معلوم، فإن أنكرت قضاء بهذه البينة فقبلت، وإذا ادعى على آخر أنك اشتريت مني هذه العين والمشتري يجحد، فجاء المشتري بشاهدين واختلفا في جنس الثمن أو في مقدار الثمن، فإنه لا تقبل شهادتهما على كل حال، وإذا كانت العين قائماً في يد المشتري، وذلك لأن المعقود عليه ما دام قائماً فالعقد مقضي به أيضاً، ألا ترى أنهما إذا تقايلا حال قيام المعقود عليه صحت الإقالة؟ ولا يمكن للقاضي أن يقضي بالعقد بما شهدوا؛ لأنهما شهدا بعقدين مختلفين؛ لأن العقد بألف غير العقد بألفين، ولهذا قلنا: إن الاختلاف لو وقع فيما بين المتعاقدين على هذا الوجه يتحالفان، وإذا كان العقد بألف غير العقد بألفين فقد شهد كل واحد منهما بعقد لم يشهد به صاحبه، وما غاب عن علم القاضي لا يثبت بشهادة واحد هذا إذا كان المبيع قائماً، فأما إذا كان المبيع هالكاً في يد المشتري، وادعى المشتري الشراء أو أنكر البائع، وقال: لا بل غصب مني فأقام المشتري شاهدين فاختلفا فهذا على وجهين. إما أن يختلفا في المقدار أو جنس الثمن، فإن اختلفا في جنس الثمن بأن شهد (120ب3) أحدهما بألف درهم والآخر بمائة دينار، فإنه لا تقبل هذه الشهادة، وإن لم يكن العقد مقضياً به حال هلاك المعقود عليه حتى لو تقايلا لم تصلح الإقالة، وإنما المقضي به المال إلا أن الدعوى لو وقعت في مطلق المال، واختلفا على هذا الوجه لا تقبل شهادتهما؛ لأنه لابد للمدعي من أن يدعي أحد المالين، وأنه إذا ادعي أحدهما وقد كذب شاهد فلا تقبل شهادته، وأنه اختلفا في مقدار الثمن إن تخلل بين الإثنين حرف العطف بأن شهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمائة، فإن كان المدعي يدعي أكثر المالين، فإنه يقبل هذه الشهادة على الأقل؛ لأن العقد غير مقضي به في هذه الإقالة فكأن الدعوى وقعت في مطلق المال. واختلف الشاهدان على هذا الوجه والمدعي يدعي أكثر وهناك تقبل الشهادة على الأقل عندهم جميعاً نص على هذا في كتاب الإجارات كذا هنا، وإن كان المدعي يدعي أقل المالين، فإن كان يدعي ألف درهم لا تقبل؛ لأنه كذب شهادة بالأكثر إلا أن يوفق المدعي فيقول: كان لي عليه ألف وخمسمائة كما شهد به الشاهد بالأكثر إلا أني استوفيت خمسمائة لم يعلم به هذا الشاهد إن وفق على هذا الوجه، فإنه يقضى له بألف درهم؛ لأن المانع من قبول الشهادة تكذيب الشاهد بالأكثر وقد زال التكذيب متى وفق المدعي على هذا الوجه فتقبل الشهادة.u

فأما إذا لم يتخلل بين الأقل والأكثر حرف العطف بأن شهد أحدهما بالألف والآخر بألفين إن كان المدعي يدعي الأقل، فإنه لا تقبل هذه الشهادة عندهم جميعاً كما لو وقع الدعوى في مطلق المال؛ لأنه كذب شاهده بأكثر المالين إلا أن يوفق المدعي على قول أبي يوسف ومحمد، فيقول: كان لي عليه ألفان إلا أني استوفيت منه ألف درهم ولم يعلم به الشاهد بأكثر المالين فحينئذ تقبل الشهادة عندهما؛ لأن المانع من قبول الشهادة عندهما في هذا الفصل تكذيب الشاهد بأكثر المالين، وقد زال التكذيب فتقبل الشهادة كما لو تخلل بين المالين حرف العطف، وعند أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا تقبل وإن وفق على هذا الوجه؛ لأن المانع من قبول الشهادة أنهما لم يتفقا على ألف لفظاً ولا يثبت اتفاقهما على ألف لفظاً ولا يبيعه هذا التوفيق، وإن كان المدعي يدعي أكثر المالين ألفي درهم، فالمسألة على هذا الوجه والاختلاف لا تقبل عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد: تقبل هذه الشهادة. قال: وإذا ادعى رجل داراً في يدي رجل أنه قد اشتراها منه وأقام على ذلك شاهدين فشهدا أنه باعها وسميا الثمن، واتفقا عليه، غير أنهما اختلفا في الأيام أو البلدان، فإنه لا يمنع قبول الشهادة؛ لأن البيع تصرف قولي واختلاف الشاهدين في الزمان والمكان لا يمنع قبول الشهادة متى قامت الشهادة على القبول، ألا ترى أن العادة بين الناس أنهم يدورون على الشهود، وعند الإشهاد فتختلف الأماكن والأوقات ويكون الإقرار واحداً. قال: وإذا ادعى الرجل داراً في يدي رجل أنه اشتراها وأقام شاهدين عليها غير أنهما لا يعرفان الدار ولا الحدود ولا يسميان من ذلك شيئاً، فإن شهادتهما لا تقبل؛ لأنهما شهدا لمجهول؛ لأنهما لم يشيرا ولا حدود المشهود به، والتعريف في العقارات يقع بأحد هذين الأمرين، فإذا لم يوجد واحد منهما كان المشهود به مجهولاً، وجهالة المشهود به تمنع قبول الشهادة؛ لأنه لا يمكن القضاء بها، وإن قالا: قد سمى البائع والمشتري موضع الدار وحدودها وصفوا ذلك وسمو إلا أنا لا نعرف أن هذا المحدود هل هو في يد البائع أم لا؟ فإنه تقبل هذه الشهادة؛ لأن المشهود به معلوم، فإنهم حدوا الدار، والتعريف يقع بذكر الحدود في باب العقار إلا أنه لا يقضى بها متى أنكر المشهود عليه أن تكون الدار التي ذكرها الشهود وحدوها وهي الدار التي في يده الجواز أن يكون لهذا الدار التي ادعاها الحدود التي ذكرها الشهود، ويحتاج المدعي إلى إقامة بينة أخرى، أن الدار التي ادعاها المدعي بهذه الحدود التي ذكرها الشهود، فإذا أقام بينة أخرى على هذا الوجه قضي بالدار. ونظير هذا: ما قالوا في رجل جاء بكتاب قاض إلى قاض أن فلاناً وفلاناً شهدا عندي أن لفلان بن فلان على فلان بن فلان كذا وكذا ديناراً فأحضر المدعي أنه فلان بن فلان، وأنكر الرجل أن يكون بن فلان ما لم يقم المدعي بينة أخرى أن هذا الرجل فلان بن فلان، فإنه لا تقبل بينته كذا ههنا، وإذا كان المشتري يجحد الشراء، والبائع يدعيه فالجواب فيه

كالجواب فيما إذا كان يدعيه المشتري، فإن القاضي يحتاج إلى أن يقضي بالثمن إذا كان البائع مدعياً كما يحتاج لو ادعاه المشتري، فيكون الجواب في الفصلين واحد. وإذا كانت الدار في يد رجل، فأقام على ذلك الرجل شاهدين أنها داره ابتاعها من فلان، وأقام الذي في يديه بينة أنها داره ابتاعها من ذلك لفلان أيضاً، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه: إما أن تكون الدار في أيديهما أو في أيد أحدهما أو في يد البائع، وكل وجه من ذلك على أربعة أوجه: أما إن أرخا وتاريخهما على السواء أو تاريخ أحدهما أسبق من تاريخ آخر، أو لم يؤرخا أصلاً، أو أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، فإن كانت الدار في أيديهما وقد أرخا وتاريخهما على السواء، أو لم يؤرخا، فإنه يقضى بالدار بينهما نصفين؛ لأنهما استويا في الدعوى والحجة واليد فتستويان البينة، فإنه يقضى بينهما نصفان فكذلك هذا، وكذلك إذا أرخ أحدهما دون الآخر،، فإنه يقضي بالدار بينهما نصفان ولا يقضي بجميع الدار لصاحب التاريخ؛ لأن الذي لا تاريخ له ثابت بيقين وقع الشك في نصفها إن كان شراءه بعد شراء صاحب التاريخ وجب نقض يده، وإن كان قبله لا يجب نقضه وقد احتمل شراء الدار التي لا تاريخ له أن يكون سابقاً على صاحب التاريخ وأن يكون لاحقاً فقد وقع الشك في نقض يده فلا يجوز نقضها بشك ويخبر كل واحد منهما أثبت الشراء في الجميع ولم يسلم له إلا النصف فيخبره. كما لو اشترى داراً، ثم استحق نصفها، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق، فأسبق التاريخ أولى لوجهين: أحدهما: أن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة ولو عاينا شراء أحدهما سابقاً وشراء الآخر بعد ما كان السابق بينهما أولى، وإن كانت الدار في أيديهما، وكذا إذا ثبت بالبينة العادلة. والثاني: وهو بينة أسبقهما تاريخاً أكثر إثباتاً؛ لأنها تثبت ملكه منذ شهرين والآخر منذ شهر فكانت بينة من أسبق التاريخ أكثر إثباتاً فكان أولى، وإن كانت الدار في يد أحدهما، إن أرخا وتاريخهما على السواء أو لم يؤرخا، أو أرخ أحدهما فذو اليد أولى إن كان تاريخهما على السواء أو لم يؤرخا؛ لأنهما استويا في إثبات الشراء مما يتأكد باليد فيكون صاحب اليد، وأنه يثبت آكد لشيئين أولى كالعتق مع الشراء إذا اجتمعا (121أ3) كان العتق أولى؛ لأنه آكد فكذلك هذا، وكذلك إن أرخ أحدهما فصاحب اليد أولى؛ لأن يده ثابتة بيقين وقع الشك في نقض يده إن كان شراء الذي لا تاريخ به سابقاً على يده وجب نقض يده، وإن كان لاحقاً لا يجب نقض يده وقد احتمل كلا الأمرين، فلا ينقض يده بالشك. وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق كان أسبقهما تاريخاً أولى سواء كان في يده أو في يد الآخر إن كان أسبقهما تاريخاً ذو اليد فلا إشكال؛ لأنه من غير تاريخ كان أولى، وإن كان أسبقهما تاريخاً من الآخر فكذلك أولى؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة؛ ولأنه أكد ثباتاً.

إن كانت الدار في يد البائع إن أرخا وتاريخهما على السواء أو لم يؤرخا فالدار بينهما نصفاً ويجبر كل واحد منهما استويا في الدعوى والحجة، وإن كان تاريخ أحدهما أسبق فالسابق أولى كما لو ثبت الأمر أن متعاينة، فأما إذا أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، فإن صاحب التاريخ أولى. فرق بين هذا وبينما إذا كانت الدار في يد أحد المشتريين، وقد أرخ الخارج ولم يؤرخ ذو اليد، ذكر أن ذا اليد أولى من صاحب التاريخ، ووجه الفرق بينهما: وهو أن الدار متى كانت في يد البائع لو جعلنا صاحب التاريخ أولى نقل بعض ما هو ثابت، ومتى جعلنا صاحب الإطلاق أولى أنكر بعض ما هو الثابت وتقليل نقض ما هو الثابت أولى، وإنما قلنا ذلك؛ لأنا متى جعلنا صاحب التاريخ أولى نقضنا بشراء الآخر غير أنه لم يثبت الشراء ومتى قضينا للذي لا تاريخ له فقضينا على صاحب التاريخ شراءه وتاريخه بعدما ثبت الأمران بالبينة وتقليل نقض ما هو الثابت أولى من تكثرة بخلاف ما لو كان في يد أحد المشتريين حيث قضي لذي اليد ولا يقضى لصاحب التاريخ حتى نقل بعض ما هو الثابت، وذلك لأنا متى قضينا لصاحب التاريخ يحتاج إلى أن ينتقض الشراء على ذي اليد ويده ثابت معاينة، والثابتة معاينة فوق الثابت بالبينة فيكون نقض الثابت معاينة وهو أكثر من نقض الثابت بالبينة وهو التاريخ، فإذاً من حيث المعنى لا فرق بينهما؛ لأنا في الموضعين نقضي على وجه نقل النقض هذا الذي ذكرنا كله إذا ادعيا يلغي الملك من وجه واحد، فأما إذا ادعيا تلقي الملك من وجه. اثنين ادعى أحدهما أنه اشترى هذه الدار من زيد، وادعى الآخر أنه اشتراها من عمرو وأقاما جميعاً البينة فهذا لا يخلو من وجهين: إما أن تكون في أيديهما أو أيد أحدهما، إن كان في أيديهما يقضي بالدار بينهما؛ لأن كل واحد منهما بينة يثبت الملك لبائعه؛ لأن الملك لبائعه غير الثابت باتفاق صاحبه فكأن البائعين حضرا وادعيا، وأقام البينة على الملك والدار في أيديهما، وهناك المدعي بينهما يكون نصفين؛ لأنهما استويا في الدعوى والحجة واليد، فكذلك إن كان في أيد أحدهما فالخارج أولى بخلاف ما إذا ادعيا تلقي الملك من وجه فلا يقضي لذي اليد. ووجه الفرق بينهما: أنهما متى ادعيا تلقي الملك من وجه اثنين فكل واحد منهما يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه فيجعل كأن البائعين حضرا وادعيا ملكاً مطلقاً والدار في أيد أحدهما وأقام البينة. ولو كان كذلك كان الخارج أولى فكذلك هذا، وأما إذا ادعيا تلقي الملك من جهة واحدة فكل واحد منهما يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه ثابت بتصادقهما، وإنما يثبت كل واحد منهما بينة الملك بسبب الشراء وذو اليد آكد الشرائين والقضاء للآكد أولى إذا تعذر العمل بهما، كالرهن مع الشراء هذا إذا ادعيا تلقي الملك من جهة اثنين من غير التاريخ، فإن ادعيا مع ذلك تاريخاً أو ادعاه أحدهما فهذا وما لو ادعيا ملكاً مطلقاً سواء؛ لأن كل واحد منهما يحتاج إلى إثبات الملك بملكيته، فكأن كل واحد من المالكين حضر وادعى الملك لنفسه، وسيأتي الكلام في دعوى الملك المطلق في كتاب الدعوى إن شاء الله تعالى.

قال: وإن كانت الدار في يدي رجل فأقام عليها رجل البينة أنه اشتراها من ذي اليد بألف درهم، وأقام الذي في يديه البينة أنه باعها منه بألفي درهم ولا يدري التاريخ بين البيعين، فإنه يقضي بألفي درهم ببينة البائع؛ لأن القضاء بالعقدين متعذر؛ لأن أحدهما يفسخ الأول لا محالة وبأخذهما بعينه متعذر؛ لأنه ليس أحدهما بأن يعتبر بأولى من الآخر، فإذا تعذر القضاء بالعقدين، وبعقد واحد، يجعل كأن الدعوى وقعت في مطلق المال كما لو حصل الدعوى بعد هلاك المبيع، ولو وقع الدعوى في مطلق المال ادعى أحدهما العين، وأقر المدعي قبله بألف وأقاما جميعاً البينة كان بينة صاحب العين أولى لوجهين؛ الأول: أنه أكثر إثباتاً، والثاني: أنه يثبته ببينة دعواه والآخر يثبت إقراره لغيره والبينة مشروعة على إثبات الدعوى لا على الإقرار لغيره فكذلك هذا. ولو أقام البائع البينة أنه باعها بعبد أو طعام وأقام المشتري بينة أنه اشتراها منه بألف درهم كانت بينة البائع أولى، ولا تجيء العلة الأولى التي ذكرنا في الفصل الأول أنه بينة البائع أولى، ولا تجيء العلة الأولى التي ذكرنا في الفصل الأول أن إلي أكثر إثباتاً يثبت زيادة؛ لأن الزيادة إنما تتحقق في جنس واحد ولا تتحقق في جنسين، وإنما تجيء العلة الأخيرة وهو أن البائع بببنته يثبت دعواه على المشتري والمشتري ببينته يثبت إقراره بألف للبائع والبينات مشروعة لإثبات الدعوى على الغير لا لإثبات إقرار الغير، فإن من أقر لإنسان ورد المقر له إقراره، فأراد إثبات إقراره بالبينة لا تقبل بينتهُ. هذا معنى قولهم: إن البائع أثبت لنفسه والمشتري لغيره، فكان البائع أشبه بالمدعي عين فكذلك هذا، قال: ولو أقام المشتري البينة أنه ابتاع هذه الدار ودار أخرى بألف درهم وأقام البائع البينة أنه باع هذه الدار وحدها بألفين أجزت البيع فيهما جميعاً بألفين؛ لأن القضاء بالعقدين متعذر؛ لأن الدار متى بيعت مرة أخرى لا يمكن أن تباع (مرة) أخرى مع آخر ما لم يشترها البائع ثانياً والشهود لم يشهدوا بذلك، وإذا تعذر القضاء بالعقدين لزمنا قبول البينتين؛ لأن كل واحد منهما يثبت زيادة فوجب قبول بينة كل واحد منهما في إثبات الزيادة. قال: إذا كانت الدار في يدي رجل فأقام بينة أنه باعها من فلان بألف درهم في رمضان، وأقام فلان البينة أنه اشتراها في شوال بخمسمائة، فإنه يقضي بالشراء بخمسمائة؛ لأن الثابت بالبينة العادلة إذا قبلت كالثابت معاينة، ولو عاينا الشراء الآخر بخمسمائة، فإنه ينتقض البيع بألف درهم؛ لأن القضاء بالعقدين وبعقد واحد بعينه متعذر على ما بينا فتعتبر الدعوى في مطلق المال، ادعى أحدهما بألف والآخر بخمسمائة وأقام البينة كان كذلك تقبل بينة من يثبت (121ب3) ألف للوجهين اللذين ذكرنا فيما تقدم. قال: وإذا ادعى الرجل داراً في يدي رجل وأقام بينة أنه اشتراها بألف درهم والبائع يقول: لم أبع شيئاً وأقام البائع البينة على أنه قد رد عليه الدار، فإني أقبل ذلك منه وأنقض البيع، هكذا ذكر في كتاب الدعوى، ويجب أن لا تقبل بينة البائع، وذلك لأن البائع ناقض في هذه الدعوى؛ لأنه زعم أولاً أنه لم يبع، ثم ادعى الفسخ حين ادعى

الفسخ لا يصح إلا بعد البيع فكان مناقضاً في الدعوى. والمناقضة في الدعوى تمنع صحة الدعوى فكان يجب أن لا تقبل بينة البائع على الفسخ بعدما جحد البيع إلا أن الجواب عنه في وجهين: الأول: المناقضة إنما تتحقق بين الدعوى إذا لم يمكن التوفيق بينهما، وههنا التوفيق ممكن بين الكلامين بأن يقول البائع: لم أبع شيئاً لنفسي، وإنما باع وكيلي، ثم فسخت البيع بعد ذلك نفي، وإذا أمكن التوفيق بين الكلامين من هذا الوجه يوفق ويحمل عليه حملاً لأمره على الصلاح، وإذا حمل عليه يجعل كالمنصوص عليه فكأن البائع قال: لم أبع بنفسي وإنما باع وكيلي، ثم استحقت العقد معك وأقام على ذلك بينة، ولو كان كذلك تقبل بينة البائع على الفسخ فكذلك هذا. ونظير هذا ما قالوا فيمن ادعى على آخر ديناً فقال المدعي قبله لم يكن لك علي دين فأقام المدعي بينة على الدين، ثم ادعى قبله الإيفاء أو الإبراء وأقام على ذلك بينة قبلت بينته؛ لأن التوفيق بين الكلامين ممكن بأن يحمل قوله: لم يكن لك دين حين أنكرت؛ لأني قضيت ذلك أو أبرأتني، فكذلك هذا التوفيق بين الدعوتين ممكن فتوفيق القاضي أنهما حملاً لأمر البائع على الصلاح، فإن الظاهر من حال العاقل أن لا يناقض في كلامه، ومحمد رحمه الله لم يذكر توفيق المدعي والمسألة مجهولة على أنه وفق إلا أنه يذكر في بعضها توفيق المدعي ولا يذكر في البعض. والثاني: وهو أن قوله فسخت البيع؛ لأن جحود البيع فسخ، ألا ترى أنهما لو تبايعا، ثم تجاحدا لفسخ البيع بينهما كما لو تقايلا فيكون جحود أحدهما دعوى الفسخ؟ فكأن البائع ادعى الفسخ أول مرة وأنكر المشتري، ثم أقام البائع البينة على الفسخ، ولو كان كذلك تقبل منه بينة البائع على الفسخ فكذلك هذا. نوع منه قال محمد رحمه الله: في «الزيادات» : رجل باع عبد رجل من رجل، ثم اختلف البائع والمشتري فقال البائع: أمرني صاحب العبد بالبيع وقال المشتري: لا بل (لم) يأمرك به، ادعى المشتري عدم الأمر وادعى البائع الأمر فالقول قول من يدعي الأمر؛ لأن دخولهما في هذا العقد وهما عاقلان اعتراف بينهما لصحته ونفاذه، والنفاذ في ملك الغير لا يكون إلا بالأمر فمن يدعي عدم الأمر يدعيه بعد الإقرار بالأمر فيكون مناقضاً، فإن أقام المدعي لعدم الأمر بينة، صاحب العبد لم يأمره بالبيع لم تقبل بينته؛ لأن هذه البينة قامت على النفي؛ ولأن البينة إنما تسمع إذا ترك ثبت على دعوى صحيحة والدعوى ههنا لم تصح لمكان التناقض. وكذلك لو أقام بينة على إقرار صاحبه إن صاحب العبد لم يأمره بالبيع لا تقبل بينته؛ لأن الدعوى لم تصح على عدم أمره، وكذلك لو لم يكن له بينة، فإن أراد أن يحلف صاحبه على ما ادعى من عدم الأمر لا يلتفت إلي ذلك؛ لأن الدعوى لم تصح والاستحلاف يترتب على دعوى صحيحة.

وإن تصادق البائع والمشتري أن البيع كان بغير الأمر فذاك بينهما فسخ للعقد، والوكيل مع الموكل يفسخان العقد ويصح فسخهما. بيانه: أن دخولها في هذا العقد اعتراف منهما نفاذه وإقراره بأمر صاحب العقد واتفاقهما على عدم الأمر بعد ذلك يجعل اتفاقاً منهما على الفسخ فيجعل ذلك فسخاً منهما على طريق الابتداء على طريق نفي العقد في الأصل، وإنما يصح الفسخ بينهما لا على الموكل؛ لأن تصادقهما لا يعمل في حق الموكل ويجعل في حق الموكل هذا بيعاً مبتدأً، فإن حضر صاحب العبد وصدقهما ادعى لزمه الفسخ وهذا العبد إلى قديم ملكه؛ لأن فسخهما إنما لم يقبل في حق الموكل دفعاً للضرر حتى صدقهما فيما زعما، وإن كذبهما فيما زعما وقال: كنت أمرته فالبيع ماض في حقه صحيح في حقهما، ويجعل في حق الموكل كأن الوكيل اشتراه من المشتري. وهو نظير المشتري مع الوكيل إذا قالا: البيع بفسخ الإقالة فسخاً بينهما بيعاً مبتدأً في حق الموكل كذا ههنا، ثم يبطل الثمن على المشتري عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الفسخ قد صح فيما تلقهما والفسخ يبطل الثمن عن المشتري؛ لأن الوكيل بالبيع يملك إسقاط الثمن عن المشتري عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله بالفسخ كما يملك الإبراء ويضمن للموكل مثله كما في الإبراء، وعلى قول أبي يوسف لا يبطل الثمن عن المشتري؛ لأن عنده الوكيل بالبيع لا يملك إسقاط الثمن عن المشتري. وفيه أيضاً: رجل في يده مملوك لرجل قال رجل لصاحب العبد: آمرك أن تبيعه مني بكذا فصدقه صاحب اليد أو سكت وباع منه العبد وتقابضا، ثم حضر البائع عند القاضي وقال: إن صاحب العبد قد حضر وأنكر الأمر بالبيع، وأقام البينة على ذلك وأراد نقض البيع، أو أراد استحلاف المشتري على ذلك بأن لم يكن له بينة لا يلتفت إلى قوله؛ لأن هذه الدعوى منه لم تصح لمكان التناقض والسعي في بعض ما تم به، أما إذا صدق المشتري فيما قال فظاهر، وأما إذا سكت؛ فلأنه إنما باعه بناءاً على ما ادعى به الأمر فصار بمنزلة المقر بالأمر، ولم يذكر في «الكتاب» أن صاحب اليد لو كذب في دعوى الأمر وباعه بعد ذلك، والصحيح: أن الجواب فيه نظير الجواب فيما إذا تصدق أو سكت؛ لأنه إنما باعه بناءاً على دعوى الأمر فيعلق به حق الغائب فلا يملك إبطاله، وإن حضر صاحب المملوك عند القاضي وجحد الأمر بالبيع، ثم غاب وطلب البائع نقض البيع أجابه القاضي إلى ذلك؛ لأنه لما جحد الأمر عند القاضي، فقد ظهر عنده أن البائع كان فضولياً وإن العقد كان موقوفاً والفضولي يملك نقض العقد الموقوف، ويكون فسخ القاضي إعانة له لا أن يكون فسخاً على الحقيقة بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك القاضي لم يعاين جحود المالك، وإنما البائع يريد إثباته بالبينة بيمين المشتري، ولا بد لذلك من الدعوى الصحيحة، ودعوى البائع لم تصح، فإن طلب المشتري يمين المالك بالله ما أمره بالبيع فالقاضي لا يؤخر النقض لذلك ويقول له: انقض البيع ورد العبد على البائع وانطلق واطلب يمين المالك؛ لأن حق النقض قد ثبت للحال بدليل وهو جحود المالك الأمر؛

لأن الشرع لما جعل القول قول المنكر فقد جعله حجة فيثبت به عدم الأمر من غير يمين؛ إذ اليمين شرع لنفي التهمة لا لكونه حجة مثبتة فهو معنى قولنا: إن حق النقض قد ثبت للحال بدليل، فلا يجوز تأخيره بطلبه اليمين على ذلك، ولو أن صاحب العبد لم يحضر ولم يجحد الوكالة حتى مات فورثه البائع فقال (122أ3) إن صاحب العبد لم يأمرني بالبيع لا يلتفت إليه؛ لأنه ساع في نقض ما تم به. فإن قيل: ينبغي أن يلتفت إليه من حيث أنه صار بمنزلة الميت وقام مقامه ومن هذا الوجه لا يتحقق التناقض، ألا ترى أن صاحب العبد لو كان حياً فحضر وجحد الوكالة قبل ذلك منه؟ قلنا: إنما يلتفت إلى قوله إذا صار بمنزلة الميت قائماً مقامه في هذا العين، وشرط قيامه مقام الميت في هذا العين بقاء هذا العين على ملكه وذلك لا يثبت بمجرد قوله، فلهذا لا يلتفت إلى قوله، وكذلك لو طلب يمين المشتري على ذلك لا يلتفت إلى ذلك؛ لأن الدعوى لم تصح لما مر، وكذلك لو لم يمت رب العبد وادعى البائع أنه جحد الأمر، ووهب هذا العبد مني وسلمه إلي وصار العبد لي لا يلتفت إلى قوله؛ لأنه يدعي بطلان بيع أقر بصحته متناقضاً ساعياً في نقض ما تم به. بيانه: أنه يدعي أن ذلك العقد كان موقوفاً، وإن العبد صار ملكاً لي بالهبة فطرأ الملك البات على الملك الموقوف فأوجب بطلان العقد الموقوف فصار مدعياً انتقاض ما تم به فلم يصح، ولو مات صاحب العبد فورثه البائع وأقام بينة على أنه يثبت بينته على إقرار المشتري بطلان حقه ولا يريد إبطال ما أوجبه بل يقول: أوجبت البيع وألزمت التسليم إلا أن المشتري نقض وأبطل ما أوجبت البيع له فانعدم التناقض من جهة البائع، والمشتري في دعوى النقض في هذه الفصول بمنزلة البائع؛ لأنه أحد المتعاقدين، وإن حضر صاحب العبد من المشتري كان له ذلك؛ لأن العبد كان مملوكاً له لو خرج عن ملكه إنما يخرج إذا حصل البيع من البائع بأمره، وقوله في إنكار الأمر مقبول إذا لم يبين منه ما يجعله متناقضاً في إنكار الأمر فلم يثبت الأمر فبقي العبد على ملكه كما كان فكان له أن يأخذ العبد وعليه اليمين إن طلب المشتري ذلك لاحتمال النكول، وإن كان المشتري غائباً فلا سبيل له على العبد؛ لأن العبد في يد المشتري حقيقة وقد صار مملوكاً له ظاهراً؛ لأنا حكمنا بصحة البيع ظاهراً؛ لأنه إنما اشتراه بناءاً على ظاهر الوكالة فلا بد من نقض العقد وإبطال يد المشتري ليتمكن المولى من أخذه، وفي ذلك قضاء على الغائب وأنه لا يجوز، ولكن للمولى أن يضمّن البائع قيمة العبد؛ لأنه باعه بغير أمره وسلمه بغير أمره فوجب عليه قيمة العبد عند تعذر رد العبد كما في الغاصب إذا أبق المغصوب من يده، وللبائع أن يطلب يمين المولى، بالله ما أمره بالبيع لاحتمال النكول، فإن حلف أخذ قيمته وإن نكل بطل الضمان؛ لأنه صار مقراً.v وكذلك لو أقام البائع بينة على صاحب العهد في هذه الصورة أنه أمره بالبيع قبلت بينته لأنه بهذه البينة يسقط الضمان عن نفسه فكان خصماً فيه، وإن لم يجد بينة على ذلك وحلف الآمر فحلف حتى

ضمن قيمة العبد للآمر سلم العبد للمشتري وكان الثمن للبائع؛ لأن البائع ملك بأداء الضمان فتبين أنه باع ملك نفسه وسلم ملك نفسه، ألا ترى أن الغاصب إذا باع المغصوب ثم ادعى الضمان نفد البيع وسلم العبد للمشتري كذا هذا. فإن قيل: الملك بالضمان يستند إلى وقت وجوب الضمان، وسبب وجوب الضمان هو التسليم دون البيع والبيع كان سابقاً على التسليم فيستند الملك إلى وقت البيع فينبغي أن لا ينفذ البيع. قلنا: الرواية محفوظة لمودع الوديعة وضمن القيمة للمودع أنه ينفذ بيعه. وطريقة أنه وإن كان أميناً في العين إلا أنه لما أشغل بالبيع وتبين لذلك جر القبض لنفسه فيصير ضامناً بالقبض السابق على البيع، فعند أداء الضمان يثبت الملك له من ذلك الوقت، فكان ثبوت الملك سابقاً على البيع والتسليم فيفسد البيع كذا هنا. ولو لم يحضر به العبد حتى مالت فورثة البائع ورجل آخر نصفين فأراد الوارث الآخر أن يأخذ نصف العبد وجحد الآمر المورث كان له ذلك؛ لأنه قام مقام الموروث في نصف العبد ولم يبق منه ما يجعله متناقضاً في جحود الأمر ولا ساعياً في نقض ما تم به، ولكن يحلف أولاً بالله ما يعلم أن المورث أمر بالبيع إن طلب المشتري يمينه؛ لأنه قام مقام المورث. ولو حضر المورث وجحد الأمر وطلب المشتري يمينه أن يحلف فكذلك ههنا، إلا أن المورث يحلف على الثبات بالله ما أمرت بالبيع؛ لأنه يحلف على فعل نفسه والوارث يحلف على العلم؛ لأنه يحلف على فعل الغير، فإذا حلف، إن نكل صار مقراً للأمر فلا يكون له على العبد سبيل ولكن يأخذ نصف الثمن لم يصر مقراً بالأمر فكان له أن يأخذ نصف العبد. ولو أراد البائع أن ينقض البيع في النصف الآخر ليس له ذلك لما قلنا من التناقض، والسعي في نقض ما تم به وكان للمشتري الخيار في النصف إن شاء أخذه بنصف الدين، وإن شاء رده؛ لأن الصفقة قد تغيرت عليه باستحقاق النصف، ودخله عيب الشركة فكان له الخيار لهذا، هذا الذي ذكرنا إذا اتفق البائع والمشتري يوم العقد أن العبد لفلان، فإذا لم يجز بينهما شيء من ذلك وقت العقد فقال البائع بعد بيع العبد: كان لفلان وقد بعتك بغير أمره وقال المشتري: لا أدري لمن كان هو فالقاضي لا يلتفت إلى قول البائع ولا ينقض البيع بينهما؛ لأن العقد قد صح من حيث الظاهر فيصير البائع بدعواه متناقضاً ساعياً في نقض ما تم به فلا يصل ذلك منه وكذلك إذا حضر فلان المقر له وصدق البائع فيما أقر به وأراد أخذ العبد ليس له ذلك إلا ببينة يقيمها على ملكه أو يستحلف المشتري فنكل بخلاف الوجه الأول؛ لأن في الوجه الأول البائع مع المشتري اتفقا على كون العبد ملكاً لفلان فجاز أن يعتبر قوله في إنكار الأمر، أما ههنا اتفقا على كون العبد ملكاً لفلان ليعتبر قوله في إنكار الآخر إذا اعتبر قوله إنما يعتبر في دعوى الملك لنفسه، ودعوى الإنسان الملك لنفسه من غير حجة مردود، فإن لم يكن له بينة وحلف المشتري، فنكل ودفع العبد إلى المقر له رجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن البائع كان مقراً بأن المبيع

ملك المستحق وقد رجع المشتري إلى تصديقه بحكم النكول القائم مقام الأب فظهر أن البائع أخذ ما أخذ من الثمن بغير حق فكان للمشتري حق الرجوع عليه بالثمن، وإن لم يحضر المقر له حتى مات فورثه البائع، أن البائع أقام بينة أن العبد كان ملك الميت وقد بعته بغير أمره، ثم مات البائع وانتقض البيع لطروء الملك النافذ بحكم الإرث على ملك (122ب3) . الموقوف فالقاضي لا يقبل بينته، ولو أراد أن يحلف المشتري على ذلك لا يحلف؛ لأن الدعوى منه لم تصح فكان التناقض والسعي في بعض ما تم به، فلا يترتب عليه سماع البينة والتحليف، وإن مات المقر له ورثه البائع ورجل آخر، فأقام الوارث الآخر بينة أن العبد كان لفلان الميت مات وتركه ميراثاً بيني وبينه، وأنه باع بغير أمره وصحح الميراث منه وقبل ذلك لعدم التناقض يقضي له بنصف العبد ولا يقضي بنصف البائع؛ لأنه لو قضى به البائع لا يصلح خصماً في ذلك، ودعواه فيه فاسدة فيه كيف يصح القضاء به للبائع والبائع لا يصلح خصماً فيه، ثم يسأل القاضي المشتري العبد كان للمقر، فإن قال: كان للميت وقد كان أمر البائع بالبيع فالقاضي لا يقضي بالبيع في النصف الباقي؛ لأن المشتري مع البائع تصادقا أن العبد كان للميت وقد كان أمر البائع بالبيع فالقاضي لا يقضي بالبيع في النصف الباقي؛ لأن المشتري مع البائع تصادقا أن العبد كان للميت، وأن البيع حصل بأمر المشتري يقر بالأمر صريحاً والبائع يقر بذلك مقتضي الإقدام على البيع، فإن إقدامه على البيع ولا يصح البيع في ملك الغير إلا بإذنه فقد تصادقا على الأمر، وعلى صحة البيع، ولكن تصادقهما يعمل في حقهما ولا يعمل في حق الوارث الآخر، فكان للوارث الآخر أن يأخذ نصيبه وبقي البيع في نصيب البائع. فإن قال: ينتقض البيع في نصيب البائع لحقه، ولكن لو أراد المشتري أن ينقض البيع فيه لتفرقة الصفقة وبدخول عيب الشركة فيه كان له ذلك، وإن أقال المشتري البيع كان للبائع أن يسلم له شيء من العبد ونقض البيع في كل العبد؛ لأن الملك يثبت للعبد في جميع العبد بإقالة الوارث الآخر البينة على ذلك؛ لأن أحد الورثة يتنصب خصماً عن الميت فيما يدعي للميت وصار البائع مستحقاً عليه بزعم المشتري، والشراء من المستحق عليه باطل فلهذا نقض البيع في الكل، قال ولو لم يمت رب العبد ولكن أقال، ثم أمر البائع بالبيع وأشهد على ذلك شهوداً، لو كان ذلك في غير مجلس القضاء، ووكل البائع بخصومة المشتري في ذلك لم يكن البائع وكيلاً؛ لأنه يصير ساعياً في بعض ما تم به، إذ جحود صاحب العبد في غير مجلس القضاء غير معتبر، فلا يصح ذلك منه، واستشهد في «الكتاب» أن الشيء في نقض ما تم من جهته مردود. فقال: ألا ترى أن بائع الدار إذا كان شفيع الدار وأراد أن يأخذها بالشفعة ليس له ذلك، وذلك لأجل أنه يسلم الشفعة مباشرة العقد بدليل أن المشتري إذا كان شفيعاً كان له حق الأخذ، وإن كان باشر العقد ولكن إنما كان ذلك؛ لأن البائع في نقض ما تم به والمشتري ليس ببائع في نقض ما تم به. قال في «الكتاب» أيضاً: ألا ترى أن البائع لا يصح وكيلاً عن الشفيع في طلب الشفعة، وإنما لم يصح لما قلنا، وهو السعي في نقض ما تم به.

نوع آخر رجل اشترى من رجل بيتاً بألف درهم وتقابضا، ثم ادعى المشتري أن الطيسلان كان لابنه يوم اشترى، فإن أباه مات وترك ميراثاً له لا وارث له غيره وأراد الرجوع على البائع بالثمن لم يسمع دعواه وأقام على ذلك بينة لم تقبل بينته؛ لأنه بالإقدم على الشراء صار شراء بالملك للبائع على رواية «الجامع» ، وعلى رواية «الزيادات» صار مقراً بصحة الشراء على الروايات كلها فبدعواه للأب والإرث من جهته يصير متناقضاً ساعياً في نقض ما تم به فلا تصح دعواه ولا تقبل بينته، ولو كان الأب حياً وادعى الطيلسان لنفسه، وأقام على ذلك بينة تصح دعواه قبلت بينته بعد ذلك، فورث الأب الطيلسان سلم له، ولم يكن للبائع على الطيلسان سبيل. أما على رواية «الجامع» ؛ فلأنه وإن صار مقراً بملك الطيلسان للبائع ولكن إقراره حصل في ضمن الشراء وقد بطل الشراء بالقضاء بالطيلسان للأب فبطل الإقرار الحاصل في ضمنه، وعلى رواية «الزيادات» المشتري صار مقراً بصحة الشراء لا يملك الطيلسان للبائع إلا أن القاضي لما قضى بالطيلسان للأب تبين أن الشراء لم يكن له حق البيع فصار مكذباً في إقراره فالتحق بالعدم. وكذلك لو قضى القاضي بالملك للأب فلم يقبضه الأب حتى مات فورثه الأب كان الطيلسان له ميراثاً؛ لأن الملك تقرر للأب بقضاء القاضي، فلا يبطل بالموت للأب، وإن كان القاضي لم ينقض للأب بالطيلسان حتى مات بطلت البينة، ولم يكن له على البائع سبيل؛ لأن دوام الخصومة إلى وقت القضاء شرط صحة القضاء وقد انقطعت خصومة الأب بالموت، والابن لا يصلح خصماً لكونه متناقضاً، فإن كان الأب قد ترك ابناً آخر غير هذا المشتري كان هو على حجته يعني في البينة التي أقامها الأب في البينة التي بينها بنفسه؛ لأنه لم يسبق منه ولا من أبيه ما يوجب المناقضة ولكن القاضي إنما يقضي بنصف الطيلسان، وذلك حصته وكان ينبغي أن يقضي تلك الطيلسان؛ لأن أحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت في جميع ما يدعي له كما ينتصب خصماً عنه في جميع ما يدعي عليه، ولو كان الميت حياً ليس له أن يقضي بكل الطيلسان كذا ههنا. وجوابه: أن القضاء يقع للوارث من وجه من حيث أن الملك في العين يثبت للوارث ويقع للمورث من وجه فمن حيث إنه يقع للمورث يصلح الابن الآخر خصماً في النصف الآخر ومن حيث إنه يقع للوارث ففي نصيب الصلح يصير خصماً إذ لا مناقضة فيه، وفي نصيب الابن المشتري يكون نائباً عنه فلا يصلح خصماً، كما لو كان الابن المشتري حاضراً. ولو كان حاضراً بنفسه لا يسمع خصومة فكذلك ههنا فامتنع القضاء به، ثم إذا قضى القاضي بالنصف للابن الآخر والابن المشتري بالخيار في النصف الباقي؛ لأن بعض المبيع استحق من يده، فإن اختار امساكه لزمه نصف الثمن، وإن اختار رده لا يلزمه شيء ولو كان المشتري أقر عند البيع صريحاً أن الطيلسان للبائع، ثم اشتراه منه، ثم

استحق الطيلسان والد المشتري وقضى القاضي له بالطيلسان، ثم مات الوالد فورث الابن الطيلسان منه فهذا على وجهين. إن لم يرجع الابن المشتري بالثمن على البائع سلم الطيلسان للابن المشتري فلا رجوع له بالثمن على البائع؛ لأن المشتري لما أقر بالملك للبائع صريحاً فقد أقر أن البيع كان صحيحاً فهذا الإقرار منه لم يبطل في حقه بقضاء القاضي؛ لأن في زعمه أن الشهود شهدوا بزور وأن القاضي أعطاه في قضائه فحين مات الأب سلم الطيلسان له بجهة البيع لا بجهة الإرث فلا يكون له حق الرجوع على المشتري بالثمن بخلاف الوجه الأول، وهو ما إذا لم يكن أقر الابن المشتري بالملك للبائع صريحاً؛ لأن الإقرار هناك (123أ3) يثبت في ضمن الشراء وقد بطل الشراء بقضاء القاضي فيبطل ما يثبت في ضمنه فسلم الطيلسان للأب بحكم الإرث لا بحكم البيع، فكان له أن يرجع بالثمن على بائعه وإن كان الابن قد رجع على البائع بالثمن قبل موت المورث، ثم مات الأب، وورث الابن الطيلسان ليس له ذلك ويرد الثمن على البائع؛ لأن البائع مع المشتري وإن تصادقا أن البيع قد صح، وأن القاضي أخطأ في قضائه إلا أن المشتري لما رجع على البائع بالثمن فقد رضي بانفساخ البيع وإنفسخ العقد في حقه فلا يكون له أن يلزم البائع بالبيع وقد انفسخ العقد في حقه ولكن البائع بالخيار، إن شاء استرد الطيلسان وترك الثمن في يد المشتري؛ لأن البيع لم ينفسخ في حق البائع برجوع المشتري عليه بالثمن؛ لأنه يلزم لكن راضياً بالفسخ. ألا ترى أنه احتيج فيه إلى قضاء القاضي بل يوقف على إجازته، فإن شاء أجاز الفسخ وأخذ الطيلسان على المشتري واسترد الثمن قبل هذا على قول محمد؛ لأن قضاء القاضي بالفسخ لم ينفذ باطناً عنده فكان البائع بالخيار، إن شاء أبطله، فأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر فقضاء القاضي بالفسخ نفذ باطلاً فلا يكون للبائع الخيار، فيأخذ الطيلسان من المشتري ليترك الثمن عليه. وإن كان الرجوع بالثمن بغير قضاء القاضي فالثمن يسلم للمشتري ويؤمر برد الطيلسان على البائع؛ لأن العقد قد انفسخ فيما بينهما بتراضيهما فيسلم الثمن للمشتري ويؤمر المشتري برد الطيلسان على البائع؛ لأن المشتري قد كان أقر صريحاً أن الطيلسان للبائع ولم يبطل هذا الإقرار فيؤمر بتسليم الطيلسان إليه لهذا. نوع آخر فيه من المسائل المتفرقات قال أبو يوسف: رجل ادعى عبداً في يدي رجل أنك بعتني هذا العبد ونقدتك الثمن وهو ألف درهم، وحجة البائع البيع وقبض الثمن فشهد شاهدان على إقراره بالبيع وقبض الثمن، وقالا: لا نعرف العبد ولكنه قال: إن عبدي زيد وشهد آخران هذا العبد اسمه زيد أو شهدا على إقرار البائع على هذا العبد اسمه زيد فالبيع لا يتم بهذه الشهادة ويحلف البائع، وإن حلف رد الثمن، وإن نكل عن اليمين لزمه البيع بنكوله.

الفصل الثاني والعشرون: في السلم

وإن شهد شاهدا البيع أنه باع عبده زيد المولد ونسبه إلى شيء يعرف من عمل أو صناعة أو حلية ذلك هذا العبد فهذا والأول سواء في القياس، إلا أني استحسن إذا نسبوه أمر معروف أن أجيزه وكذلك الأمة. وسئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله: عمن اشترى من آخر أرضاً على أنها..... وامتنع المشتري عند نقد الثمن لعلة أنه أنقص والبائع يقول بعتها كما هي، فإن القول قول البائع مع اليمين فيما أنكر من شرط الجرتبين معنى المسألة أن المشتري قال: اشتريتها على أنها...... وأنكر البائع شرط الجربين فالقول قول البائع، وإن حلف أحد تمام الثمن وإن نكل وأقام البينة للمشتري على شرط الجربين قال: بعد هذا القول قول المشتري مع اليمين أنها ليست جربين، فإن حلف فله ردها وليس للمشتري أن يتربص أن يسمح بل ينقد تمام الثمن، وإذا اختلف البائع والمشتري فادعى المشتري بيعاً بائناً والبائع يدعي بيع الوفاء فالقول قول البائع؛ لأن المشتري يدعي زوال ملك البائع عنه وهو ينكر. وإن أقاما البينة فالبينة بينة المدعي الوفاء؛ لأنها أكثر إثباتاً؛ لأنه خلاف الظاهر في الساعات. فإن قيل: أليس أن بيع الوفاء اعتبر في الحكم رهناً، وفي الاختلاف في الرهين البيع البيع أولى؛ لأنه يزيل الملك فكانت البينة عليه إثباتاً. قلنا: ليس هذا تم ظاهراً بل له حكم الرهن بعد ثبوته فلا بد من اعتبار ظاهر الكلام أولاً وكلاهما بيع وأحدهما ظاهر والآخر خلاف الظاهر فكان فيه زيادة فكان أولى، وكذلك إذا ادعى أحدهما البيع والصلح عن غير طوع، وادعى الآخر عن طوع، فأقام البينة على ما ادعيا فبينة مدعي الكره أولى. وكذلك إذا ادعى أحدهما إقرار بدين كذا طائعاً، والآخر يدعي على إكراه أو كانت البينة بينة من يدعي الإكراه، والقول في هذه المسائل قول من يدعي الطوع، ذكر هذه المسائل في «مجموع النوازل» وقد تقدم في مسألة بيع الوفاء أن القول قول من يدعي الوفاء وهو البائع، وقد ذكر جنس هذه المسائل قبل هذا في فصل الاختلاف الواقع مع المتعاقدين. الفصل الثاني والعشرون: في السلم هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه في بيان شرائط السلم فنقول: للسلم شرائط كثيرة:

أحدها: بيان جنس المسلم فيه كقولنا تمرزلا. والثاني: بيان نوعه كقولنا فارسي أو ما أشبهه. والثالث: بيان صفته كقولنا جيد أو رديء. والرابع: بيان قدره في المكيلات بالكيل والموزونات بالوزن والمعدودات بالعد لأن بدون بيان هذه الأشياء يقع بينهما منازعة من التسليم والتسلم، أما إذا لم يبينا الجنس، فإن المسلم فيه أجناس مختلفة فالمسلم فيه ربما يعطي جنساً، ورب السلم يطالبه بجنس آخر وليس الرجوع إلى قول أحدهما بأولى من الآخر؛ لأنهما متعاوضان وقضية المعاوضة التساوي، وأما إذا لم يبينا النوع والصفة؛ فلأن المسلم فيه يختلف باختلاف النوع وصفته فتعين كل واحد منهما نوعاً آخر وصفة أخرى، وأما إذا لم يبين المقدار؛ فلأن كل واحد منهما يعين المقدار غير ما يعين صاحبه، وينبغي أن يعلم مقداره بمعيار يؤمن فقده من أيدي الناس، ولو علم قدره بمكيل بعينه نحو أن يقول بهذه الإناء بعينه أو بهذا الزنبيل أو بوزن هذا الحجر لا يجوز إذا كان لا يعرف كم يسع في الإناء ولا يعرف وزن للحجر، وبيع العين يخالف بيع السلم هذا في المشهور. فإن من قال لغيره: بعت منك من هذه الصبرة بهذه الزنبيل أو بوزن هذا الحجر جاز في المشهور من الرواية؛ لأن التسليم في باب السلم لا يعقب العقد، وإنما يكون بعد حلول الأجل، ومن الجائز أن يهلك ذلك الإناء الحجر قبل حلول الأجل فلا يدري كم يجب تسليمه، فأما في بيع العين السلم يعقب العقد، وأنه لا يهلك في هذه الساعة الطبيعة غالباً فلا تتمكن الجهالة. وكذا في الذرعيات ينبغي أن يعلم قدر يؤمن فقده من أيدي الناس وإن أعلمه بخشبة بعينها ولا يدري كم هي أو بذراع مده أو يد فلان لا يجوز. الشرط الخامس: أن يكون المسلم فيه مؤجلاً بأجل معلوم حتى إن سلم الحال لا يجوز وهذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: الأجل ليس بشرط لجواز السلم والصحيح مذهبنا؛ لأن جواز السلم عرف بخلاف القياس بالنص والنص جوزه بشرط الأجل قال عليه السلام: «من أسلم منكم فليسلم في كيل (123ب3) معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم» ، واختلفت الروايات في الأجل الذي لا يجوز السلم بدونه. ذكر ابن أبي عمرو أن البغدادي أستاذ البخاري قال: إنه مقدر بثلاثة أيام فصاعداً قال: وهو قول أصحابنا رحمهم الله عن أبي الحسن الكرخي أنه ينظر إلى مقدار المسلم فيه وإلى عرف الناس في تأجيل مثله، فإن كان شرط أجلاً يؤجل لمثله في العرف والعادة تجوز السلم ومالا فلا، وعن أبي بكر الرازي رحمه الله أنه قال: أقل مقدار يتعلق به

جواز السلم أن يكون زائداً على مجلس العقد ولو بساعة، وعن محمد أنه أدناه بالشهر فصاعداً وعليه الفتوى. الشرط السادس: أن يكون المسلم فيه موجوداً من وقت العقد إلى وقت محل الأجل حتى أن السلم في المنقطع لا يجوز وهذا مذهبنا. وقال الشافعي: الشرط وجوده وقت محل الأجل لا غير، والصحيح مذهبنا؛ لأنه أسلم فيما هومعجوز التسليم في الحال فلا يجوز كما لو حصل محل الأجل قبل إدراك المسلم فيه. بيانه: أن العجز ثابت في الحال لو ارتفع العجز إنما يرتفع بسبب قيام الأجل إلى وقت الإدراك، ألا ترى أنه لو جعل محل الأجل قبل ذلك لا يجوز. قلنا: وقيام الأجل وقت الإدراك ثابت باستصحاب الحال لا بدليل يوجب بقاؤه بيقين لجواز أنه سقط قبل ذلك لها بإسقاط من له الأجل أو بموته، واستصحاب الحال يصلح لإثبات ما كان ثابتاً ولا يصلح لإثبات ما لم يكن ثابتاً إلا لضرورة ولا ضرورة ههنا؛ لأنه يمكنه أن يقبل السلم في المنقطع وإذا لم يثبت القدرة بسبب قيام الأجل الثابت باستصحاب الحال حصل السلم في معجوز الحال، وفي الثاني: وليس كما لو كان موجوداً عند العقد؛ لأن القدرة ثابتة في الحال بيقين لوجوده في أيدي الناس فجاز العقد لثبوت القدرة في الحال ولم يمتنع الجواب لتوهم زوالها بعارض يستمر إذا كان المسلم فيه موجوداً من وقت العقد إلى وقت محل الأجل، حتى جاز السلم فلم يأخذه رب السلم بعد محل الأجل حتى انقطع، فصاحب السلم بالخيار، ان شاء فسخ العقد وأخذ رأس ماله وإن شاء انتظر وجوده؛ لأن العقد وقع صحيحاً وقد عجز المسلم إليه عن تسليم المعقود عليه، فكان لرب السلم أن يفسخ العقد ويرجع برأس ماله، وحد الانقطاع ما ذكر الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله أن لا يوجد في السوق الذي تباع فيه، وإن كان يوجد في الثبوت. الشرط السابع: أن يكون المسلم فيه يتعين بالتعيين حتى لا يجوز السلم في الأثمان نحو الدراهم المضروبة والدنانير المضروبة؛ لأن المسلم فيه يجب أن يكون مبيعاً؛ لأن السلم شرع بطريق الرخصة، والرخصة باستباحة المحضور مع قيام الحاضر فاستباحة الشيء مع قيام الحاضر بخلاف القياس، فالتنصيص على الرخصة في السلم تنصيص على أن السلم بخلاف القياس، وإنما يكون جواز السلم بخلاف القياس أن لو كان المسلم فيه مبيعاً، فأما إذا كان ثمناً كان جوازه على مواقعة القياس؛ لأن البيع بالثمن والثمن ليس في ملكه بجائز قياساً واستحساناً، فلا يجوز السلم في التبر على رواية كتاب الصرف لا يجوز؛ لأن على رواية كتاب الصرف التبر ثمن، وعلى رواية كتاب الشركة يجوز؛ لأن على رواية كتاب الشركة التبر مبيع. الشرط الثامن: أن يكون المسلم فيه من الأجناس الأربعة من المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة والذرعيات، حتى لا يجوز السلم في الحيوإن هذا

مذهبنا، وإنما كان كذلك؛ لأن الحيوان متفاوت في نفسه، فإنك تجد حيوانين (متساويين) في الجنس والصفة والنوع، ثم يختلفان في القيمة اختلافاً فاحشاً لتفاوت بينهما في المعاني الباطنة من الهماجة وحسن السير وما أشبه ذلك، ولهذا لا يضمن الحيوان في الإتلاف بمثله وما كان بهذه الصفة لا يجب ديناً في الذمة بدلاً عما هو مال، إما لأنه يفضي إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسلم أو؛ لأن الواجب في الذمة يفضي بالمثل بلا زيادة ونقصان كضمان الإتلاف، وإذا كان المماثلة شرطاً بين الواجب والمؤدى وإنها لا توجد في الحيوان أدى إلى الربا، إلى هذا أشار عمر رضي الله عنه في قوله: فإن من الربا صوباً لا يكذب.g ... على أحد منهما السلم في السن أي السلم في الحيوان، فقد جعل السلم في الحيوان من الربا، وإنما يتحقق الربا في السلم في الحيوان من الوجه الذي قلنا كان القياس أن لا يجوز السلم في النبات أيضاً؛ لأنها ليست من ذوات الأمثال، فيؤدي إلى الربا أيضاً على نحو ما بينا في الحيوان، لكن تركنا القياس ثمة بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، فإنه سئل عن السلم في الكراس، فقال: «لا بأس به إذا كان ضرباً معلوماً إلى أجل معلوم» والنص الوارد في النبات بخلاف القياس لا يكون وارداً في الحيوان؛ لأن في الحيوان نصاً آخر بخلافه، وهو حديث عمر رضي الله عنه. الشرط التاسع: بيان مكان الإيفاء إذا كان المسلم فيه شيئاً له حمل ومؤنة كالحنطة وغير ذلك، وهذا قول أبي حنيفة آخراً، وكان أبو حنيفة لا يقول ببيان مكان الإيفاء ليس بشرط، ولكن إن ببيان مكان الإيفاء يتعين ذلك المكان للإيفاء، وإن لم يبينا مكاناً بتعين مكان العقد للإيفاء لا يتعين مكان العقد للإيفاء، بل بقي مكان الإيفاء مجهولاً. وأجمعوا أن مكان العقد يتعين لإيفاء رأس المال، وأجمعوا على أن بيع العين إذا كان المبيع حاضراً في مجلس العقد يتعين مكان العقد لإيفاء المبيع، وأجمعوا على أن في مكان القرض والغصب والاستهلاك يتعين للإيفاء. وعلى هذا الخلاف إذا باع عبداً حاضراً بكر حنطة ديناً في الذمة إلى أجل عند أبي حنيفة آخراً يشترط بيان مكان الإيفاء للحنطة هو الصحيح، وعندهما يتعين مكان العقد للإيفاء. وعلى هذا الخلاف إذا قسم الرجلان داراً على أن يرد أحدهما كراً مؤجلاً في الذمة على صاحبه عند أبي حنيفة رحمه الله آخراً يشترط بيان مكان الإيفاء للحنطة لصحة القسمة هو الصحيح، وما ذكر في كتاب القسمة مجهول على قوله الأول، وعندهما: يتعين مكان القسمة للإيفاء. وعلى هذا الخلاف إذا أجر داره بما له حمل ومؤنة عند أبي حنيفة رحمه الله آخراً يشترط بيان مكان الإيفاء لصحة الإجارة، وعندهما: يتعين مكان الدار للإيفاء. وجه قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في المسألة: أن سبب التزام الكر السلم، فيتعين مكان السلم للإيفاء كما في الغصب والقرض وما أشبه ذلك، وهذا؛ لأن

العقد عقد معاوضة والمعاوضة تقتضي التساوي، فإذا وجب تسليم أحد البدلين وهو رأس (124أ3) المال في مكان العقد يجب تسليم البدل الآخر فيه تحقيقاً للتساوي، ألا ترى أن بيع العين إذا كان المبيع حاضراً في مكان العقد حتى وجب تسليم المبيع في مكان العقد يجب تسليم الثمن في مكان العقد، وإذا كان غائباً عن مكان العقد حتى وجب تسليمه في المكان الذي فيه يجب تسليم الثمن في ذلك المكان ليستوي حكم البدلين كذا ههنا، وإذا تعين مكان العقد للإيفاء كان مكان الإيفاء معلوماً، ولو فسد العقد ههنا فسد لجهالة مكان الإيفاء. ولأبي حنيفة: أن مكان العقد لو تعين مكان الإيفاء، أما إن تعين نصاً بالعقد أو ضرورة لا وجه إلى الأول؛ لأن العقد يتعرض للمكان أصلاً من حيث النص، ولا وجه إلى الثاني؛ لأن الضرورة إنما تتحقق إذا وجب تسليم المعقود عليه عقب العقد حتى يصير مطالباً بالتسليم عقيب العقد، فيتعين مكان العقد للإيفاء ضرورة وجوب التسليم عليه في مكان العقد، وفي هذه المسائل التي ذكرناها لم يجب تسليم العقد عليه عقيب العقد، فلم يصر مطالباً بالتسليم في مكان العقد، فلا يتعين مكان العقد للإيفاء، وإذا لم يتعين مكان العقد للإيفاء، ولم يعينا مكاناً آخر يبقى مكان الإيفاء مجهولاً وإنه يفسد العقد فيما له حمل ومؤنة لمكان المنازعة، وأما إذا كان المسلم فيه شيئاً ليس له حمل ومؤنة لا يشترط بيان مكان الإيفاء بالإجماع. وهل يتعين مكان العقد للإيفاء؟ ذكر في بيوع «الأصل» وفي «الجامع الصغير» ما يدل على أنه يتعين عندهم جميعاً، وذكر في كتاب الإجارات ما يدل على أنه لا يتعين عندهم جميعاً، وإن بينا مكاناً آخر للإيفاء فيما ليس له حمل ومؤنة هل يتعين ذلك المكان للإيفاء؟ وذكر في كتاب الإجارات أنه لا يتعين، وذكر الطحاوي أنه يتعين، وإليه أشار محمد في «الأصل» . الشرط العاشر: قبض رأس المال في المجلس سواء كان رأس المال شيئاً يتعين بالتعيين أو لا يتعين، إنما كان كذلك لأن السلم عقد جوز بخلاف القياس إلى رأس المال، فإذا افتراقا من غير قبض رأس المال يتبين أنه لا حاجة فيعمل فيه بالقياس، فقد ذكر قبض رأس المال والمجلس، وقبض رأس المال في المجلس ليس بشرط لا محالة، وإنما الشرط القبض قبل افتراقهما بالأبدان ألا ترى أن ما ذكر في «النوادر» لو تعاقدا عقد السلم ومشيا ميلاً أو أكثر ولم يغب أحدهما عن صاحبه، ثم قبض رأس المال فافترقا جاز. وفي «النوادر» أيضاً: لو ناما أو نام أحدهما لم يكن ذلك فرقة، وفيه أيضاً: إن أبى المسلم إليه قبض رأس المال في المجلس أجبر عليه. الشرط الحادي عشر: إعلام قدر رأس المال في المقدرات نحو المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة، فإن كان مشاراً إليه ليس بشرط حتى أن من قال لغيره: أسلمت إليك هذه الحنطة في كذا منٍ من الزعفران لا يعرف قدر الحنطة لا يجوز على

قول أبي حنيفة، وأجمعوا على أن رأس المال إذا كان شيئاً ذرعياً أو حيواناً أو شيئاً من العدديات المتقاربة أنه يصير معلوماً بالتعيين والإشارة، وأجمعوا أن في بيع العين الثمن يصير معلوماً بالإشارة إليه والتعيين، ولا يحتاج إلى إعلام قدره، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: بأن الدراهم قلما تخلو عن الزيف، وقد يرد الاستحقاق على بعضها، فإذا رد الزيف ولم يستبدل في المجلس، إن استحق بالبعض فسخ العقد بقدره، فإذا لم يعلم مقداره لا يدري في أي قدر نفي العقد، وفي أي قدر انفسخ، أكثر ما في الباب أن هذه أمور موهومة إلا أن الأصل في السلم عدم الجواز، وإنما جوز إذا وقع الأمن عن الغرر من كل وجه، وإنما يقع الأمن عن الغرر من كل وجه بإعلام رأس المال، وبه فارق ما إذا كان رأس المال ثوباً بعينه حيث لا يشترط بيان ذرعانه؛ لأن الذرعان في الثياب تجري مجرى الوصف بعد الإشارة ليس بشرط. وينبنى على هذه المسألة إذا أسلم عشرة دراهم في سنتين ولم يبين حصة كل واحد منهما أن كانا مختلفي الجنس بأن أسلم (في) هروي ومروي أو أسلم في حنطة وشعير أو كانا متفقي الجنس مختلفي الصفة بأن أسلم في هرويين أحدهما جيد والآخر رديء لا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله ما لم يبين حصة كل واحد منهما، وإن كانا متفقي الجنس والصفة بأن أسلم في هرويين جيدين، القياس على قول أبي حنيفة: أن يشترط بيان حصة كل واحد منهما، وفي الاستحسان: لا يشترط بيان حصة كل واحد بالإجماع قياساً واستحساناً. الثاني عشر: أن يكون رأس المال منتقدة عند أبي حنيفة رحمه الله أن غيره كرها خلافا لهما، بأن ترك الانتقاد يؤدي إلى فساد السلم على ما عليه غالب دراهم الناس، فإما لا يخلو عن الزيوف حتى لم ينقده ربما يجده أكثره زيوفاً فيرده، وينفسد السلم في قدر المردود استبدل مثله خياراً في مجالس الرد، أو لم يستبدل والاحتراز عن هذا الفساد يمكن (عند) الالتقاء ويكون شرطاً عند أبي حنيفة رحمه الله. الشرط الثالث عشر: أن يكون عقد السلم باتاً لا خيار فيه، فإذا عقد عقد السلم بشرط الخيار لهما أو لأحدهما، فالسلم فاسد إلا إذا أبطل صاحب الخيار خياره قبل التفرق بالأبدان ورأس المال قائم في يد المسلم إليه، فحينئذ ينقلب العقد جائزاً. ولو كان رأس المال هالكاً في يد المسلم إليه وقت إبطال الخيار لا ينقلب العقد إلى الجواز. الشرط الرابع (عشر) : أن يكون ما جعل مسلماً فيه مضبوطاً بالوصف على الوجه الذي يذكر الوصف بذوات الأمثال حتى قالوا ما كان مضبوطاً بوصفه معلوماً بقدره موجوداً من وقت أجله يجوز السلم فيه ومالا فلا. نوع آخر في بيان ما يجوز السلم فيه وما لا يجوز إذا أسلم ثوباً هروياً في ثوب مروي لا يجوز، وإذا أسلم قفيز حنطة في قفيز شعير لا يجوز أيضاً، والأصل في جنس هذه المسائل معروفة، علة الحرمة في ربا النقد، وفي

ربا النساء، فنقول ربا النقد يحرم بوصفين وهو القدر والجنس، ومعنى القدر الكيل في المكيلات والوزن في الموزونات، وربا النساء يحرم بأحد وصفي علة ربا النقد، وهو الجنس بثمنين بأن أسلم هروياً في ثوب هروي أو الوزن أو الكيل في مثمنيين أو ثمنين حتى إنه إذا أسلم قفيز حنطة أو قفيز شعير لا يجوز لوجود الكيل في مثمنيين. وكذا إذا أسلم دراهم في الذهب لا يجوز لوجود الوزن في ثمنين، وإذا أسلم في الحديد في الزعفران لا يجوز لوجود الوزن في مثمنين، فإذا أسلم الدراهم في الزعفران يجوز؛ لأنه لم يوجد الوزن في مثمنين أو ثمنين إنما وجد في ثمن ومثمن. ولا بأس بأن يسلم الفلوس في الحديد والرصاص وما أشبهه؛ لأنه لم يجمعهما أحد وصفي علة الربا النقد وهو الوزن أو الجنس. وإذا أسلم الفلوس في الصفر لا يجوز؛ لأن جمعهما الجنسية والمراد من الفلوس الفلوس الرائجة، أما لو كانت كاسدة لا يجوز إسلامها في الحديد والرصاص؛ لأنها بالكساد صارت وزنية، فيكون هذا إسلام الموزون وهما مثمنان. ولو أسلم النصل في الحديد لا يجوز (124ب3) لمكان الجنسية، وكذا السيف في الحديد، وإن أسلم السيف في الصفر يجوز إذا كان السيف يباع وزناً لا يجوز؛ لأن في الوجه الثاني جمعهما الوزن وفي الوجه الأول لا. وإذا أسلم الدراهم في المكيلات وزناً وأسلم الدراهم في الوزنيات كيلاً، ومعناه: وإذا أسلم فيما ثبت كيله بالنص وزناً أو أسلم فيما يثبت وزنه كيلاً وروى الحسن في «المجرد» عن أصحابنا رحمهم الله أنه يجوز، وذكر الطحاوي عن أصحابنا أنه لا يجوز، فصار فيه روايتان. وفي «المنتقى» ذكر قول أبي حنيفة ومحمد فيما إذا أسلم في المكيل وزناً في طرف عدم الجواز، وقول أبي يوسف في طرف الجواز. واتفقت الروايات عن أصحابنا أن ما يثبت كيله بالنص لا يجوز بيعه بجنسه وزناً، وإن تماثلا وزناً كالحنطة بالحنطة وأشباهها؛ لأن الشرع ورد فيها بالجواز بشرط التماثل في الكيل، قال: وفي «فتاوى أهل سمرقند» لو علم أنهما تماثلاً كيلاً يجوز، وكذا بيع الدقيق بالدقيق وزناً لا يجوز إن تماثلا في الوزن؛ لأن الدقيق كيلي حتى لو علم أنهما تماثلاً كيلاً يجوز، وفيه أيضاً: وما ثبت وزنه بالنص لا يجوز بيعه بجنسه كيلاً كالدراهم بالدراهم كيلاً إلا رواية شاذة عن أبي يوسف رحمه الله قال: يجوز إذا اعتاد الناس ذلك. والحاصل: أن ما ثبت كيله بالنص فهو مكيل أبداً، وما ثبت وزنه بالنص فهو موزون أبداً، وما لا نص فيه ولكن عرف كونه مكيلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّمبعرف أصل زمانه فهو مكيل أبداً، وإن تعارف الناس بيعه وزناً في زماننا، وما عرف كونه موزوناً في تلك الوقت فهو موزون أبداً، وما لم يعرف حاله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّميعتبر فيه عرف الناس في زماننا، إن تعارفوا كيله فهو مكيل، وإن تعارفوا وزنه فهو موزون، وإن تعارفوا كيله ووزنه فهو مكيل وموزون، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف: المعتبر في جميع الأشياء عرف الناس في زماننا، عرف ذلك بالنص مكيلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّمأو موزوناً أو لم يعرف، وما ثبت كيله أو وزنه بالنص لا يجوز بيعه بجنسه مجازفة. وإن تبايعا صبرتين مجازفة، ثم كيلا بعد ذلك فكانتا متساويين لم يجز العقد عندنا؛ إذ المعتبر في جواز العقد العلم بالمساواة وقت العقد، هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» في آخر الباب الأول من كتاب البيوع. وإذا أسلم في اللبن في جبنه كيلاً أو وزناً معلوماً إلى أجل معلوم جاز؛ لأن كون اللبن مكيلاً أو موزوناً غير ثابت بالنص، ولم يعرف حاله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّمأيضاً، فتكون العبرة فيه للعرف، والناس اعتادوا بيعه كيلاً ووزناً، وكذلك الخل والعصير نظير اللبن لما قلنا، ثم ذكر في اللبن جبنه قال شمس الأئمة رحمه الله: هذا في ديارهم؛ لأن اللبن كان ينقطع من أيدي الناس في بعض الأوقات، أما في ديارنا لا ينقطع فيجوز في كل وقت، والخل يوجد في كل وقت فلا يشترط الجبن، والعصير لا يوجد في كل وقت فيشترط السلم في جبنه في هذا الباب أيضاً. وإذا شرط في السلم طعام قرية أو أرض خاصة لا يبقى طعامها في أيدي الناس فالسلم فاسد، وإن شرط طعام موضع يبقى طعامه كطعام خراسان وما وراء النهر يجوز؛ لأنه إذا كان لا يبقى طعامها في أيدي الناس لا تثبت القدرة على التسليم قطعاً أو شبهاً به وقت حلول الأجل، ولا بد منها لجواز التسليم، وإذا كان طعامها يبقي تثبت القدرة على التسليم قطعاً أو شبهاً بالقطع ذكر المسألة في «الأصل» . وذكر في «الأصل» أيضاً: إذا أسلم في حنطة هراة خاصة وهي تنقطع من أيدي الناس لا يجوز، بخلاف ما لو أسلم في ثوب هروي حيث يجوز، قال عامة المشايخ: لم يرد بهذا هراة خراسان؛ لأن تلك بلدة عظيمة لا يتوهم انقطاع حنطتها عن أيدي الناس، وإنما أراد به قرية في الهراة تسمى هراة، فطعام تلك القرية مما يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس. والحاصل: أن ما ثبت كيله بالنص فهو مكيل أبداً، وما ثبت وزنه بالنص فهو موزون أبداً، وما لا نص فيه ولكن عرف كونه مكيلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّمبعرف أصل زمانه فهو مكيل أبداً، وإن تعارف الناس بيعه وزناً في زماننا، وما عرف كونه موزوناً في تلك الوقت فهو موزون أبداً، وما لم يعرف حاله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّميعتبر فيه عرف الناس في زماننا، إن تعارفوا كيله فهو مكيل، وإن تعارفوا وزنه فهو موزون، وإن تعارفوا كيله ووزنه فهو مكيل وموزون، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.

وقال أبو يوسف: المعتبر في جميع الأشياء عرف الناس في زماننا، عرف ذلك بالنص مكيلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّمأو موزوناً أو لم يعرف، وما ثبت كيله أو وزنه بالنص لا يجوز بيعه بجنسه مجازفة. وإن تبايعا صبرتين مجازفة، ثم كيلا بعد ذلك فكانتا متساويين لم يجز العقد عندنا؛ إذ المعتبر في جواز العقد العلم بالمساواة وقت العقد، هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» في آخر الباب الأول من كتاب البيوع. وإذا أسلم في اللبن في جبنه كيلاً أو وزناً معلوماً إلى أجل معلوم جاز؛ لأن كون اللبن مكيلاً أو موزوناً غير ثابت بالنص، ولم يعرف حاله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّمأيضاً، فتكون العبرة فيه للعرف، والناس اعتادوا بيعه كيلاً ووزناً، وكذلك الخل والعصير نظير اللبن لما قلنا، ثم ذكر في اللبن جبنه قال شمس الأئمة رحمه الله: هذا في ديارهم؛ لأن اللبن كان ينقطع من أيدي الناس في بعض الأوقات، أما في ديارنا لا ينقطع فيجوز في كل وقت، والخل يوجد في كل وقت فلا يشترط الجبن، والعصير لا يوجد في كل وقت فيشترط السلم في جبنه في هذا الباب أيضاً. وإذا شرط في السلم طعام قرية أو أرض خاصة لا يبقى طعامها في أيدي الناس فالسلم فاسد، وإن شرط طعام موضع يبقى طعامه كطعام خراسان وما وراء النهر يجوز؛ لأنه إذا كان لا يبقى طعامها في أيدي الناس لا تثبت القدرة على التسليم قطعاً أو شبهاً به وقت حلول الأجل، ولا بد منها لجواز التسليم، وإذا كان طعامها يبقي تثبت القدرة على التسليم قطعاً أو شبهاً بالقطع ذكر المسألة في «الأصل» . وذكر في «الأصل» أيضاً: إذا أسلم في حنطة هراة خاصة وهي تنقطع من أيدي الناس لا يجوز، بخلاف ما لو أسلم في ثوب هروي حيث يجوز، قال عامة المشايخ: لم يرد بهذا هراة خراسان؛ لأن تلك بلدة عظيمة لا يتوهم انقطاع حنطتها عن أيدي الناس، وإنما أراد به قرية في الهراة تسمى هراة، فطعام تلك القرية مما يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس. ثم اختلفوا فيما بينهم قال بعضهم: لا فرق بين مسألة الحنطة وبين مسألة الثوب؛ لأن محمداً رحمه الله ذكر: إذا أسلم في حنطة هراة، وهو مما ينقطع عن أيدي الناس لا يجوز، وذكر إذا أسلم في ثوب هروي يجوز، ولم يذكر هو ينقطع عن أيدي الناس، ولو كان ينقطع من أيدي الناس لا يجوز، فعلى هذا يقع الفرق بين الثوب والحنطة. ومن المشايخ من فرق بين الحنطة والثوب، والفرق: أن نسبة الثوب إلى هراة لبيان جنس المسلم فيه لا لتعيين المكان؛ لأن الهروي ما ينسخ على صفة معلومة سواء نسخ على تلك الصفة بهراة أو غيرها يسمى هروياً، وذلك الجنس مما لا يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس حتى (لو) كان هذا لتعيين المكان وثبات ذلك المكان مما يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس لا يجوز السلم أيضاً، فأما نسبة الحنطة إلى مكان لتعيين ذلك المكان، فإذا كان طعام ذلك الموضع مما يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس لا يجوز السلم فيه حتى لو كان نسبة الحنطة

إلى مكان لبيان ذكر الصفة لا لتعيين المكان كالجسموإني ببخارى، فإنه يذكر لبيان الجودة لا يفسد السلم، وإن كان يتوهم انقطاع حنطة ذلك الموضع. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: يجوز أن يسلم المروي البغدادي في مروي مرو؛ لأنهما جنسان، وكذلك المروي البغدادي في مروي الأهوازي ومروي الواسطي. وفي «نوادر هشام» قال: سمعت أبا يوسف رحمه الله قال: «لا خير أن يسلم عن لا في قطن؛ لأنه وزني وكله» ، وفي «الفتاوى» : إذا أسلم قطن هروي في ثوب هروي جاز؛ لأنه عدمت المجانسة؛ لأن الثوب خرج من أن يكون قطناً. وفيه أيضاً: إذا أسلم شعراً في مسح شعر، إن كان لا ينقص ذلك المسح ولا يصير شعراً جاز؛ لأنه انعدمت المجانسة، وإن كان ينقص ويصير شعراً لا يجوز؛ لأنه حتى شعراً ألا ترى أنه يعود شعراً؟. وفي «المنتقى» : إذا أسلم صوفاً في لبد وشعراً في مسح أو خز في ثوب خز لا يجوز ولم يوصل. ولو أسلم غزلاً في ثوب جاز، وعلل فقال: لأن اللبد ينقض فيعود صوفاً، وكذلك الخز والمسح والثوب لا ينقض فيعود غزلاً، وعن أبي يوسف رحمه الله: لا بأس أن يسلم اللبن في الجبن، وعنه أيضاً: ويجوز أن يسلم السمن في الناطف وإن لم يخلط الناطف بالدقيق. قال في «الجامع الصغير» : لا (خير) بالسلم في الجوز (و) في البيض عدداً ووزناً وكيلاً، ولا خير في سلم الرمان والسفرجل والبطيخ والقثاء وما أشبه ذلك؛ لأن الجوز والبيض عددي متفاوت والسلم في العدديات المتفاوتة جائز ولا كذلك الرمان والسفرجل؛ لأنه عددي متفاوت والسلم في العدديات المتفاوتة لا يجوز، والمتقارب ما نقل عن أبي يوسف رحمه الله أن كل ما يتفاوت آحاده في القيمة فهو عددي متفاوت وما لا يتفاوت في القيمة فهو عددي متقارب، ثم قال: يجوز السلم في الجوز والبيض عدداً، لم يشترط للجواز (125أ3) إعلام الصفة أنه جيد أو وسط أو رديء، قالوا: وذكر محمد رحمه الله في «الزيادات» أنه يجوز السلم في الجوز وإن لم يسم وسطاً ولا جيداً، وأما البيض: إن بين بيض الأوز أو الدجاجة أو الحمام يجوز، وإن لم يسم وسطاً ولا جيداً، فلم يجعل إعلام الصفة شرطاً للجواز في البيض والجوز؛ لأنه لما سقط إعلام القدر حتى جاز السلم فيها عدداً مع أن بين العددين تفاوت من حيث القدر، فلأن يسقط إعلام الصفة أولى. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: ولا خير في السلم في الجوز الهندي وفي بيض النعام، وعنه أيضاً: (لو أسلم) بيض الأوز في بيض الدجاج أو أسلم بيض النعام في بيض الدجاج جاز، وإن أسلم بيض الدجاج في بيض النعامة أو أسلم بيض الدجاجة في بيض الأوز إن كان في حين يقدر عليه لا يجوز.

قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : ويجوز السلم في الفلوس عدداً، ذكر المسألة مطلقاً من غير ذكر خلاف، فمن مشايخنا من قال: إن جواز السلم في الفلوس قولهما؛ لأن ثمنية الفلوس عندهما قابلة للبطلان؛ لأن الفلوس إنما صار ثمناً باصطلاح الناس، وإلا فهي سلعة في الأصل، وما ثبت باصطلاحهم على خلافه، فإذا أقدما على السلم فيها والسلم لا يجوز إلا في المثمن ذلك إبطالاً لاصطلاح الأول، فعادت سلعة، فيجوز السلم فيها، فأما على قول محمد رحمه الله: ينبغي أن لا يجوز لا يعتبر الفلس ثمناً حتى لا يجوز بيع فلس بفلسين، والسلم في الأثمان لا يجوز. قالوا: وقد روى أبو الليث الخوارزمي عن محمد نصاً: أن السلم في الفلوس لا يجوز. ومن المشايخ من قال: جواز السلم في الفلوس قول الكل، وهذا القائل يفرق لمحمد رحمه الله بين السلم وبين البيع، والفرق: أن من ضرورة جواز السلم كون المسلم فيه مثمناً، فيضمن أقدامها على البيع إبطالاً لذلك الاصطلاح في حقهما، فبقي ثمناً كما كان، فلا يجوز بيع الواحد بالاثنين، ويجوز السلم في الثوم والبصل كيلاً لا عدداً، ذكرهما شيخ الإسلام في «شرحه» وجعلهما من العدديات المتفاوتة، والسلم في الباذنجان يجوز عدداً، ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» ، والسلم في الكاغد يجوز عدداً؛ لأنه عددي ذكره الصدر الشهيد في «واقعاته» ، ولا خير في السلم في الرطبة؛ لأن الرطبة لا تباع وزناً إنما تباع حزماً وبين الحزم متفاوت، وكذلك في الحطب حزماً أو قالا، فإن بين من ذلك على وجه لا تتمكن المنازعة بينهما في التسليم والتسلم يجوز في بعض الشروح لو بين الطول والعرض والغلظ في المسألتين، وكان عرف ذلك، وإذا أسلم في كندم بنكير أو قال: كندم منك، أو قال: كندم سره يجوز؛ لأنه لايراد بهذه الألفاظ الجيد. في «فتاوي أبي الليث» ، وفي «الأصل» : لا خير في السلم في الزجاج إلا أن تكون مكسرة، فيشترط منها وزنا معلوماً فيجوز، وكذلك الزجاج فإنه موزون معلوم على وجه لا تفاوت فيه، فأما الأوإني المتخذة من الزجاج فهي عددية متفاوتة فلا يجوز السلم لا بذكر العدد ولا بذكر الوزن، قال شمس الأئمة السرخسي: إلا أن يكون شيئاً معروفاً يعلم أنه لا تفاوت في المالية كالمكاحل والطاسات، فإن أبعاد ذلك لا تختلف في المالية إنما تختلف أنواعه، وكل نوع معلوم عند أهل هذه الصنعة، فيجوز السلم فيه حينئذ بذكر العدد. قال: ولا بأس بالسلم في الآجر واللبن إذا اشترط من ذلك معروفاً وأجلاً معلوماً ومكاناً معلوماً وأراد بقوله شيئاً معلوماً لبناً معلوماً. ولو اشترى آجره لم يجز من غير إشارة رواه الحسن في «المجرد» عن أبي حنيفة إلا أن وضع المسألة في «المجرد» في مائة آجرة من أبون. وذكر شيخ الإسلام وجه الفرق، فقال: الآجر من العدديات المتقاربة باعتبار القدر متى كان اللبن واحداً إلا أن ما يكون من التفاوت بين لبن ولبن من حيث المقدار لايعتبر الناس فيما بينهم متى كان اللبن واحداً. ولا تجوز المماسكة بينهم لأجل ذلك، فأما باعتبار الصنعة وهي النضج من العدديات المتفاوتة؛ لأن التفاوت من حيث النضج بين آجر متفاوت معتبر يعتبره الناس

فيما بينهم، وتجري فيه المماكسة فيما بينهم، فألحق بالعدديات المتقاربة في باب السلم باعتبار الحاجة وبالعدديات المتفاوتة في البيع لانعدام الحاجة، ويمكن أن يقال بأن الآجر من العدديات المتقاربة إذا كان الملبن واحداً في السلم وفي بيع العين جميعاً وفساد البيع في مسألة «المجرد» لاختلاف اللبن واحداً لما قلتم، فإن الموضوع بمسألة «المجرد» لو باع مائة آجرة من أتون لم يجز، ولم يذكر أن الملبن واحد أو مختلف، وكما يوضع في الأتون اللبن من ملابن واحد يوضع اللبن من ملابن تختلف، فيمكن أن نحمل مسألة «المجرد» على الملابن المختلفة وعند ذلك لا يقع الفرق بين مسألة السلم وبين مسألة البيع، ثم ذكر في هذه المسألة مكاناً معلوماً. واختلف المشايخ بعضهم قالوا: أراد به مكان الإيفاء وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وبعضهم قالوا: أراد به المكان الذي يضرب فيه اللبن. ولا بأس في السلم بالثياب والبسط والحرير بعد أن يشترط طولها وعرضها بذرع معلوم ويبين صفتها وهذا استحسان. والقياس: أن لايجوز؛ لأن الثياب ليست من ذوات الأمثال، لكن استحسنا ذلك بحديث ابن عباس على ما مر، وبحديث علي فإنه قال: «لا بأس بالسلم في الثياب» ، والمعنى فيه أن الثياب مصنوع العباد والعبد إنما يصنع بآلة، فإذا اتحد الصانع والآلة يتحد المصنوع، فلا يبقى بعد ذلك إلا تفاوت يسير، والتفاوت اليسير في المعاملات متحمل، ثم إن محمداً رحمه الله اشترط لجواز هذا السلم بيان الطول والعرض والصفة ولم يشترط بيان الوزن، ولا شك أن بيان الوزن في الكرباس ليس بشرط؛ لأن الكرباس لايختلف باختلاف الوزن. وهل يشترط بيان الوزن في الحرير؟ اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه يشترط، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي، وهكذا ذكر في «شرح القدوري» ؛ لأن الحرير يختلف باختلاف الوزن ولم يبين الذرع لايجوز؛ لأن الذروعات بمنزلة الصفة، فكأنه أسلم في موزون وترك صفته. قال شيخ الإسلام خواهر زاده في «شرحه» : إذا اشترط الوزن في الحرير ولم يشترط الذرعان إنما لا يجوز السلم إذا لم يبين لكل ذرع ثمناً، أما إذا بين لكل ذرع ثمناً يجوز، وإن بين طولها وعرضها بذراع رجل معروف فلا خير فيه، هكذا ذكر في «الأصل» . قال مشايخنا: أراد بقوله بذراع رجل معروف فعل الذرع لا الاسم وهو الخشب، ألا ترى أنه قال: لو مات ذلك الرجل لم يدر رب السلم، وإذا شرط كذا كذا ذراعاً مطلقاً فله ذراع وسط اعتباراً للنظر من الجانبين. واختلف المشايخ في تفسير قوله: فله ذراع وسط، بعضهم قالوا: أراد به المصدر، وهو فعل الذرع لا الاسم وهو الخشب، يعني لا يمد كل المد (ولا يرخى كل) الإرخاء، وقال بعضهم: أراد به الخشب؛ لأن خشب الذرع يتفاوت في الأسواق، فمنها ما يكون أقصر ومنها مايكون أطول. قال شيخ الإسلام: والصحيح أنه يحمل عليهما إذا شرط مطلقاً (125ب3) فيكون له الوسط منهما نظراً بين الجانبين. قال في «الأصل» : ولا بأس بالسلم بالتبن كيلاً معلوماً وضماناً معلوماً وكيله

العرارة، فإن كان معلوماً يجوز، وإن كان لا يعرف ذلك فلا خير فيه، فقد شرط الكيل في التبن، وقد اختلف المشايخ قال بعضهم: إنه مكيل على كل حال؛ لأنه متولد من المكيل وإن تعارفوا كيلاً فهو مكيل. ولا باس بالسلم في البواري بعد أن يشترط ذرعاً وصفة معلومة وصنعة معلومة، هكذا ذكر في «القدوري» ، ولا خير في السلم في جلود الإبل والبقر والغنم؛ لأنه عددي متفاوت وإن بين لذلك ضرباً معلوماً يجوز. والأدم إذا كان يباع وزناً يجوز السلم فيها بذكر الوزن إذا بينوا على وجه لا تمكن المنازعة بينهما في التسليم، والتسليم معه لا يصير. (ولا خير) في السلم في الرؤوس والأكارع؛ لأنها من العدديات المتفاوتة؛ لأن التفاوت الذي يكون بين رأس ورأس وكراع وكراع تفاوت يعتبره الناس فيما بينهم، وتجري المماسكة لأجله، ولا يشترون إلا بعد الإشارة. ولا خير في السلم في اللحم في قول أبي حنيفة من غير فصل بينما إذا كان منزوع العظم أو لم يكن، وعلى قول أبي يوسف ومحمد لا بأس به إذا بين الجنس بأن قال: جذع أو ضأن، بأن قال: مضى أو حل وبين صفة اللحم بأن قال: سمين أو مهزول وبين الموضع بأن قال: من الحنت مثلاً وبين القدر بأن قال: عشرة أمناء فوجه قولهما أن الجهالة تنعدم ببيان هذه الأشياء، ولو لم يجز السلم ههنا، إنما لم يجز لمكان الجهالة. ولأبي حنيفة وجهان: أحدهما: أن اللحم يتفاوت باختلاف العظم، ويكثر عند صغره، فكان المسلم فيه مجهولاً، وهذا التعليل يقتضي جواز السلم إذا كان منزوع العظم. الثاني: أن اللحم يتفاوت من حيث السمن والهزال ورغبات الناس تتفاوت فيه أيضاً، وهذا التعليل يقتضي جواز السلم إذا كان منزوع العظم، ولا بأس بالسلم في الشحوم والألبان؛ لأنها لا تختلف سمناً وهزالاً، وكذلك ما فيها من الدسم لا يختلف باختلاف ما فيها من العظم. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ولا بأس بالسلم في السمك المالح وزناً معلوماً. يجب أن يعلم أن السلم في السمك عدداً لا يجوز طرياً كان أو مالحاً؛ لأنه عددي متفاوت فيه الصغير والكبير، وأما السلم فيه وزناً، فإن كان طرياً وكان السلم في غير حينه لا يجوز، هكذا ذكر في «الأصل» ، وطعن بعض المشايخ في قوله غير حينه وقالوا: الطري مما يوجد في الأحايين كلها؛ لأن وجوده بالأخذ واحدة ممكن في الأوقات كلها، والجواب: أن الأخذ قد يتعذر في بعض الأوقات بأن يتجمد الماء أو يكثر أو ما أشبه ذلك، فلهذا شرط الحين وإن كان السلم في الطري في حينه، أو كان السلم في المالح ذكر في «الأصل» ولم يحك خلافاً. وروى أبو يوسف رحمه الله عن أبي حنيفة: أن السلم في السمك لا يجوز بحال من الأحوال، وجه هذه الرواية: أن السمك لحم، فلا يجوز السلم فيه كما لا يجوز في لحم البقرة والشاة عنده. وجه الفرق لأبي حنيفة على ظاهر الرواية: أن السلم في لحم

البقرة والشاة إنما لم يجز، إما لأن اللحم يتفاوت باختلاف العظم، وهذا المعنى لم يكن بحقيقة ههنا؛ لأن العظم في السمك ساقط الاعتبار فيما بين الناس لا تجري المماكسة باعتباره، أو لأن اللحم يتفاوت من حيث السمن والهزال، وهذا المعنى لا يمكن يحقيقة ههنا أيضاً؛ لأن السمن والهزال ليس بظاهر فيه، وهذا كله قول أبي حنيفة. و (قال) أبو يوسف ومحمد: لا يجوز السلم في كبار السمك، وفرقا بينه وبين اللحم؛ لأن في اللحم يمكن بيان مكان اللحم، فتزول الجهالة في السمك لا يمكن، وهذا كله في كبار السمك، وأما الصغار منه فالسلم فيها جائز وزناً معلوماً أو كيلاً معلوماً، طرياً كان أو مالحاً بعد أن يكون السلم في الطري في حينه، فقد فرقا بين الصغار والكبار، والفرق: أن في الكبار إنما لا يجوز السلم عندهما؛ لأنه لا يمكن بيان مكان اللحم وهذا المعنى لا يتأتى في الصغار. وقال في «الأصل» : ولا خير في السلم في شيء من الطيور ولا لحومها، أما في الطيور فلا يجوز؛ لأنه سلم في الحيوان، فإن قيل: السلم في الحيوان إنما كان باطلاً لتفاوت الحيوان في نفسه تفاوتاً يعتبره الناس، ومن الطيور ما لا يتفاوت تفاوتاً يعتبره الناس كالعصفور، فكان يجب أن يجوز السلم فيه كما في الجوز والبيض، والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن بطلان السلم في الحيوان ثابت نصاً على ما روينا والعبرة في المنصوص عليه النص لا للمعنى، والنص لم يفصل بين حيوان وحيوان، وإليه أشار محمد رحمه الله حين سئل: لماذا لا يجوز السلم في الحيوان لأنه لا يضبط في الوصف؟ قال: لا لأني أجوز السلم في الديباج ولا أجوزه في الشاة وضبط الشاة أهون علي من ضبط الديباج السنة.... والثاني: أن العصفور إن كان من العدديات المتقاربة إلا أنه بمعنى المنقطع؛ لأنه مما لا يقتنى ولا يحبس التوالد وقد يمكن أخذه وقد لا يمكن، ولا رجحان لإمكان الأخذ على عدم الإمكان حتى يقام مقام الوجود في أيدي الناس، فيبقى العبرة للانقطاع بخلاف السمك الطري؛ لأن إمكان الأخذ راجح على عدم الإمكان، فيكون العبرة لإمكان الأخذ فيقام إمكان الأخذ مقام الوجود في أيدي الناس. وأما لحومها: فأما عدداً فلا إشكال أنه عددي متفاوت، وأما وزناً هل يجوز؟ فظاهر ما ذكر محمد يدل على أنه لا يجوز؛ لأنه أطلق إطلاقاً، فمن مشايخنا من قال: بأن المسألة على الاختلاف لا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: يجوز كما لو أسلم في اللحم، ومنهم من يقول: لا يجوز وزناً عند الكل إلا أنه حمل المذكور من لحم الطير على طيور لا تقتنى ولا تحبس للتوالد، فيكون البطلان بسب أنه أسلم في المنقطع، فلا يجوز بسبب الانقطاع عندهم جميعاً، وإن ذكر الوزن فأما فيما يقتنى ويحبس للتوالد

فيجوز عند الكل؛ لأن ما يقع من المتفاوت في اللحم بسبب العظم في الطيور تفاوت لا يعتبره الناس، فإنه لا تجري المماكسة بسببه فكان بمنزلة عظم الإلية وعظم السمك، وإلى هذا مال شيخ الإسلام المعروف خواهرزاده. ولا يجوز السلم في الخبز عند أبي حنيفة ومحمد رحمه الله لا وزناً ولا عدداً؛ لأن الخبز عنده يختلف بالعجن والنضج وكيفية الخبز، فمنه الخفيف ومنه الثقيل، والمقاصد مختلفة، ومع التفاوت لا يمكن تجويز السلم فيه، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: يجوز وزناً واختيار المشايخ للفتوى قول أبي يوسف إذا أتى بشرائطه لحاجة الناس، لكن يجب أن يحتاط وقت القبض حتى يقبض من جنس الذي لا يصير استبدالاً بالمسلم فيه قبل القبض. وبيع الحنطة بالخبز وبيع الدقيق به وبيع الخبز بهما يجوز متساوياً متفاضلاً إذا كانا نقدين، وإن كان أحدهما نسيئة والآخر نقداً، فإن كان الخبز نقداً يجوز بالاتفاق، وإن كان الخبز نسيئة عند أبي حنيفة ومحمد لا يجوز، وعند أبي يوسف يجوز بناء على اختلافهم في جواز التسليم في الخبز وزناً، والمشايخ أفتوا بقول أبي يوسف. وإذا أراد دفع الحنطة إلى الخباز جملة وأخذ الخبز متفرقاً ينبغي أن يبيع صاحب الحنطة خاتماً أو سكيناً من الخباز بألف من الخبز مثلاً (126أ3) ويجعل الخبز ثمناً ويصفه بصفة معلومة حتى يصير ديناً في ذمة الخباز ويسلم الخاتم إليه، ثم يبيع الخباز الخاتم من صاحب الحنطة بالحنطة مقدار ما يريد الدفع إليه ويدفع الحنطة فيبقى له على الخباز الخبز الذي هو ثمن، هكذا قيل، وهو مشكل عندي، قالوا: إذا دفع دراهم إلى خباز، وأخذ منه كل يوم شيئاً من الخبز، فكلما أخذ يقول: هوعلى ما قاطعتك عليه. ولا خير في السلم في الجوهر واللؤلؤ لا عدداً ولا وزناً ولا كيلاً، قال الشيخ الإمام الأجل السرخسي: ما ذكر من الجواب محمول على الكبار من اللآلئ، وأما الصغار منها التي تباع وزناً وتجعل في أدوية العين والمفوح فالسلم فيها يجوز وزناً، ولا بأس بالسلم في الجص والنورة كيلاً معلوماً ومكاناً معلوماً، واختلف المشايخ في قوله: ومكاناً معلوماً قال بعض: أراد به مكان الإيفاء على قول أبي حنيفة، وقال بعضهم: أراد به المكان الذي يستخرج منه الجص والنورة. ولا بأس بالسلم في الأدهان إذا شرط من ذلك ضرباً معلوماً، من مشايخنا من قال: هذا في الدهن الصافي، فأما المربي بالبنفسج وغيره فلا؛ لأن المربي يختلف باختلاف ما يربى من الأدوية، فهو نظير الناطف المبرز، ولا يجوز السلم فيه لما يقع من التفاوت في البروز التي فيه، والأصح أن المربي وغيره في ذلك سواء. ولا بأس بالسلم في الصوف وزناً وإن اشترط كذا وكذا جزه بغير وزن لم يجز، وإن أسلم في صوف غنم بعينها لم يجز، وكذلك ألبانها وسمونها، ولا خير في السلم في السمن الحديث والزيت الحديث والحنطة الحديثة وهي التي تكون في هذا العام؛ لأنها قد لا تكون، ولا بأس بالسلم في نصول السيف يريد به إذا كان معلوم الطول والعرض

والصفة، ولا يجوز إسلام الصوف في الشعر؛ لأنه يجمعهما الوزن. قال شمس الأئمة الحلوإني: هذا إذا كان الشعر يباع وزناً كذنب الفرس وغيره، لا بأس بالسلم في الجبن والمصل إذا كان معلوماً عند أهل الصنعة على وجه لا يتفاوت هو الصحيح. ولا بأس بالسلم في القطن والكتان والإبريسم والنحاس والحديد والرصاص والصفر والشبة، وهذه الأشياء من ذوات الأمثال، والحناء والوسمة والرياحين اليابسة التي تكال نظير هذه الأشياء وأما الرياحين الرطبة والبقول والقصب والخشب والحطب فهذه الأشياء ليست من ذوات الأمثال، فلا يجوز السلم فيها. في باب البيع بالفلوس في كتاب الصرف، وفي بيوع «الأصل» : لا بأس بالسلم في الجذوع إذا بين ضرباً معلوماً وبين الطول والعرض والغلظ والأصل والمكان الذي يوفيه فيه، وكذلك الساج وصوف العيدان والخشب والقصب وإعلام الغلظ في القصب بإعلام ما يشد به أنه ذراع أو شبر، والغزل من ذوات الأمثال ذكره شمس الأئمة السرخسي في أول إجازته، وذكر الطحاوي في كتابه أنه كل ما كان موزوناً فهو مثله. نوع آخر منه إذا أسلم إلى رجل ديناً له عليه لم يجز؛ لأن هذا بيع الدين بالدين، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلّمعن ذلك، فإن لم يفترقا حتى نقده في المجلس يعني نقد رب السلم رأس المال في المجلس صح؛ لأن الدراهم لا تتعين في العقود، وإن عينت فلا تتعين كذلك الدين، وإن أضيف العقد إليه فصار وجود الإضافة إلى الدين والعدم بمنزلة. ولو لم توجد الإضافة إلى الدين وقبض الدراهم في المجلس صح فههنا كذلك. قال: ولو أسلم إليه دراهم له ثالث لم يصح السلم، وإن نقده في المجلس؛ لأن الفساد ههنا ما كان باعتبار الإضافة إلى الدين، وإنما كان باعتبار شرط التسليم على ثالث، وهو شرط بغير مقتضى العقد أن يكون التسليم على العاقد، فإذا شرط التسليم على غيره فقد غير مقتضى العقد، فلا يرتفع الفساد لهذا. ذكر في «الجامع الصغير» : رجل أسلم إلى رجل مائتي درهم في كر حنطة ونقد مائة، ومائة كانت له ديناً على المسلم إليه، فحصة النقد جائزه، وحصة الدين باطلة، هكذا ذكر المسألة في «الكتاب» ، واعلم بأن هذه المسألة على وجهين: إما أن يقول أسلمت إليك مائتي درهم في كر حنطة ولم يصف المائتين إلى دراهم بعينها، ثم نقد رب السلم من المائتين مائة وجعل المائة الأخرى قصاصاً بدين كان له قبل عقد السلم، أو قال: أسلمت إليك هذه المائة الدين التي لي عليك في كر حنطة، ففي الوجه الأول جاز السلم بحصة ما نقد عندهم جميعاً، ويبطل بحصته ما لم ينقد عندهم جميعاً؛ لأن السلم وقع جائزاً نافذاً من الابتداء خالياً عن الشروط الفاسدة لما ذكر المائتين مطلقاً، ألا ترى أنه لو نقد المائتين كلها في المجلس جاز، وإنما فسد بعض السلم بعدذ لك بسبب طارئ

وهو أنه لم ينقد المائة وجعلها قصاصاً بماله على المسلم إليه، والعقد متى فسد بعضه بسبب طارئ، فإنه يقتصر الفساد على ما فيه الفساد ولا يستتبع في الكل، كما لو باع عبدين وهلك أحدهما قبل القبض، وكما إذا أسلم إلى رجل مائتي درهم في كر حنطة ونقد مائة ولم ينقد المائة الأخرى حتى افترقا عن المجلس صح السلم بحصة ما نقد وبطل بحصته ما لم ينقد، فرق أبو حنيفة بين هذه وبينما إذا جعل رأس المال حراً وعبداً، فإنه يفسد العقد كله وكذلك إذا أسلم مكيلاً في مكيل أو موزوناً في موزون أو شيئاً من جنسه وغير جنسه بطل العقد في جميعه في قول أبي حنيفة، وهنا قال: العقد لا يفسد كله والصفقة واحدة في الموضعين جميعاً وإنما فعل هكذا والله أعلم لأن العقد في هذه المسائل فسد بعضه بفساد قوي مقارن العقد، وفي مسألة «الكتاب» فسد بفساد طارئ، والأصل عند أبي حنيفة أن العقد إذا كان صفقة واحدة وفسد بعضه بمفسد مقارن للعقد فسد كله، وإذا فسد بعضه بمفسد طارئ على العقد لا يفسد كله، والأصل عند أبي يوسف ومحمد: أن الفساد بقدر المفسد على كل حال حتى قالا في المسائل التي مر ذكرها بأن السلم يجوز في حصة العبد وفي حصة الموزون، وقد مر شرح ذكر الأصلين قبل هذا، وذكر أبو الحسن عن أبي يوسف رحمهما الله فيمن باع جارية في عنقها طوق فضة بألف درهم نسىئة أن البيع باطل في الجميع (، إلا) في قول أبي يوسف الأخير، فجعل أبو الحسن رجوعه في هذه المسألة رجوعاً في جميع المسائل. وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين مسألة «الجامع الصغير» وبينما إذا باع عبدين على انه بالخيار، فمات أحدهما في مدة الخيار أن العقد يفسد كله حتى لو أراد أن يخبر العقد في القائم ليس له ذلك، والعقد قد وقع جائزاً وقد فسد بمفسد طارئ، ثم لم يقتصر الفساد على وجه فيه الفساد بل شاع في الكل، وههنا قال: لا يفسد العقد في الكل، والفرق ظاهر أن فساد بعض العقد بسبب موت أحد العبدين في مدة الخيار طارئ من وجه باعتبار وقوع صورة العقد طارئ، وباعتبار النفاذ وثبوت الحكم مقارن؛ لأن النفاذ ما كان ثابتاً، وإنما يثبت بالإجازة فاعتبار صورة العقد تمنع شيوع الفساد واعتبار النفاذ يوجب شيوع الفساد (126ب3) واعتبار النفاذ يوجب الفساد، فيرجح ما يوجب الشيوع احتياطاً، أما ههنا فالعقد وقع نافذاً موجباً لحكمه، فإنه أوجب الملك في البدلين إلا أنه فسد البعض بعدذ لك بسبب المقاصة، وأنه طارئ من كل وجه، فلا يتعدى إلى الباقي. وفرقوا أيضاً بين الصرف والسلم، فإنه إذا اشترى مائة دينار بألف درهم مطلقاً غير مضاف إلى دراهم بعينها ونقد خمسمائة وجعل خمسمائة الأخرى قصاصاً بالدين الذي له على بائع الدينار كان ذلك جائزاً، وههنا قال: لا يجوز، والفرق أن جواز الصرف على موافقة القياس إلا أن القبض شرط بقائه على الصحة وقد وجد القبض في جميع الألف من بائع الدينار؛ لأنه قبض خمسمائة حقيقة وخمسمائة في خدمته كالمقبوض له وأما عقد السلم فيجوز بخلاف القياس لحاجة المسلم إليه، ومتى جوزناه بما في ذمته لا تندفع حاجته، فلو جوزناه جوزناه من غير حاجة وما جوز بحاجة لا يمكن تجويزه بغير حاجة فلهذا افترقا، هذا إذا لم يضف المائتين إلى دراهم بعينها فأما إذا أضاف المائتين إلى

دراهم بعينها بأن قال: أسلمت إليك هذه الخمسمائة التي لي عليك في كذا وكذا من طعام، فكذلك الجواب عند علمائنا الثلاثة لا يفسد العقد في الكل بناءاً على أن الدراهم والدنانير لا يتعينان في عقود المعاوضات بالتعيين عند علمائنا، فصار وجود الإضافة إلى الدين وهي دراهم والعدم بمنزلة ولو عدمت الإضافة وباقي المسألة بحالها جاز العقد في حصة المعقود كذا ههنا. ثم فرق علماؤنا بين هذه المسألة وبينما إذا قال: أسلمت إليك هذه الخمسمائة والخمسمائة الدين التي لي على فلان ونقد خمسمائة، فإن السلم يبطل في الكل، وههنا يجوز بحصة ما نقد ولم يوجد في المسألتين جميعاً إلا الإضافة، وإنها باطلة عندها، وإنما كان كذلك؛ وذلك لأن في تلك المسألة رب السلم أضاف السلم إلى دراهم له في ذمة المسلم وشرط التسليم عليه، والإضافة إن لغت في حق استحقاق المشار إليه إلا أنه نفى شارطاً تسليم إحدى الخمسمائتين على غير، فكان بمنزلة ما لو ذكر ألف درهم مطلقاً على أن ينقد خمسمائة بنفسه، وينقد خمسمائة فلا يكون فساد العقد بسبب اشتراط تسليم بعض الثمن على غيره وإنه مقارن للعقد، فأوجب فساد الكل، ألا ترى أنه لو نقد الكل من ماله لم يجر وهنا لغت الإضافة إلى الدراهم، ولم يوجد بعد إلغاء الإضافة اشتراط تسليم بعض الثمن على غير العاقد. نوع آخر في قبض رأس المال والمسلم فيه ومسائلهما قال القدوري في «شرحه» : لا يجوز للمسلم إليه أن يبرئ رب السلم من رأس مال السلم؛ لأن الإبراء إسقاط، والساقط متلاش، فينعدم به القبض والقبض وجب حداً من حدود الشرع، فلا يجوز إسقاطه، قال: فإن أبرأه وقبل رب السلم البراءة بطل عقد السلم، وإن رد البراءة لم يبطل؛ لأن العقد قد صح بتراضيهما فلا يقدر أحدهما على فسخه إلا برضا الآخر، والمسلم إليه يريد فسخ العقد بالإبراء لما مر أنه ينعدم القبض المستحق فلا يقدر من غير قبول صاحبه، قال: ولا يجوز أن يأخذ برأس المال شيئاً آخر من غير جنسه؛ لأنه يسقط به القبض المستحق شرعاً، قال: ولو أعطاه من جنسه أجود أو أردأ ورضي المسلم إليه بالأردأ جاز؛ لأنه جنس حقه أصلاً إلا أنه دون حقه وصفاً، فمن حيث إنه جنس حقه أصلاً صح التجوز به، ومن حيث إنه دون حقه وصفاً يشترط رضاه. قال: ولو أعطاه أجود من حقه أجبر على القبول، وقال زفر: لا يجبر؛ لأنه متبرع فيما يرجع إلى صفة الجودة، ولو تبرع بزيادة صفة الجودة (لا يجبر على القبول) ، ولنا: أنه وفاه حقه بكماله وأحسن في الدين وقد قال عليه السلام: «خيركم أحسنكم قضاء للدين» ، ولأن صفة الجودة قائمة بالعين، فكانت من توابع الإيفاء وليس له أن يمتنع من الاستيفاء.

لو قال المسلم إليه لرب السلم: خذ هذا وزد لي درهماً، يجب أن يعلم أن ههنا مسألتين: أحديهما: أن يكون السلم في المكيلات والموزونات، والثانية: أن يكون في الذرعيات، وكل مسألة على أربعة أوجه. إما أن يأتي المسلم إليه بالزيادة من حيث القدر أو بالنقصان من حيث الصفة، فإن كان المسلم فيه مكيلاً وقد أتى بالزيادة من حيث القدر بأن أسلم إليه عشرة دراهم في عشرة أقفزة حنطة، فجاء المسلم إليه يأخذ قفيزاً من حنطة، وقال لرب السلم: خذ هذا وزدني درهماً فإنه يجوز، وإنما جاز؛ لأن تجويزه لا يؤدي إلى الزيادة؛ لأنه إن جعلنا المؤدى عين الواجب حكماً لا غيره ضرورة أن الاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز صار المودى مقابلاً بالدراهم، فيصير رب السلم على هذا الاعتبار مشترياً أحد عشر قفيزاً بأحد عشر درهماً، وهذا جائز وإن اعتبرنا الحقيقة وجعلنا المؤدى غير الواجب في الذمة؛ لأن الواجب في الذمة دين، وهذا عين صار رب السلم باعتبار الحقيقة مشترياً أحد عشر قفيراً بعشرة أقفزة حنطة له في ذمة المسلم إليه وبزيادة درهم فيكون بالعشرة والدرهم بإزاء القفيز الحادي عشر فكان جائزاً فدل أن تجويزه لا يؤدي إلى الربا.d فأما إذا أتى ما زيد من حيث الصفة بأن أسلم عشرة دراهم في عشرة أقفزة حنطة وسط، فأتى المسلم إليه بعشرة أقفزة حنطة جيدة، وقال: خذها وزدني درهماً ذكره في بيوع «الأصل» أنه لا يجوز ولم يذكر فيه خلافاً، وذكر في كتاب الصلح وقال: لا يجوز على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، ويجوز على قول أبي يوسف رحمه الله فكان المذكور في بيوع «الأصل» قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وجه ما ذهب إليه أبو يوسف رحمه الله ظاهر، وهو أن تجويزه هذه المعاوضة أن تعذر باعتبار الحال لما يتبين في حجتها أمكن تجويزها بطريق الزيادة، بأن يجعل رب السلم كأن زاد في رأس المال درهماً والمسلم إليه زاد في الجودة، والزيادة تلتحق بأصل العقد وتجعل كالموجود لدى العقد وإذا جعلناها كالموجود لدى العقد صار كأنه أسلم أحد عشر درهماً في عشرة أقفزة حنطة جيدة، ولو أسلم أحد عشر درهماً في عشرة أقفزة حنطة جيدة جاز فكذلك ههنا. وأما أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله فيقولان: إن تجويز هذا التصرف باعتبار الحال متعذر؛ لأنه باعتبار الحال ما يأخذ غير الواجب في ذمة المسلم من حيث الحقيقة، فيصير باعتبار الحقيقة رب السلم مشترياً عشرة أقفزة حنطة جيدة بعشرة أقفزة حنطة وسط في ذمة المسلم إليه وزيادة درهم بإزاء الجودة وهذا لا يجوز؛ لأن الجودة مال الربا لا قيمة لها عند مقابلتها بجنسها، فإنه لو باع قفيز حنطة رديئة، وزيادة درهم بإزاء الجودة لم يجز، فباعتبار الحكم لا يتمكن الربا؛ لأن المستوفى عين الواجب في باب السلم من حيث الحكم، فعلى هذا الاعتبار يكون ما يأخذ مقابلاً بالدراهم لا بجنسه من الحنطة يصير رب السلم مشترياً عشرة أقفزة حنطة جيدة بأحد عشر درهماً، وهذا ليس بربا فيمكن الربا من وجه دون وجه فتمكن شبهة الربا. وقول أبي يوسف رحمه الله (127أ3) بأن تجويز هذا

التصرف بطريق الإلحاق ممكن فاسد؛ لأن الزيادة إنما تلتحق بأصل العقد إذا صحت حيث وجدت؛ لأنها تصح للحال أولاً، ثم تستند وصار كالزيادة بعد هلاك المبيع، فإنها لا تصح وإن كانت تستند. ولو صحت لهذا إن إنشاءها في الحال غير ممكن بهذا الذي ذكرنا إذا أتى بأزيد مما شرط عليه. فأما إذا أتى بأنقص مما شرط عليه، فإن أتى ما نقص من حيث القدر، بأن أتى بتسعة أقفزة وقد أسلم إليه في عشرة أقفزة، فقال: خذ هذا وأزيد عليك درهماً، فإنه يجوز عندهم جميعاً؛ لأنهما تقابلا السلم في بعض المسلم فيه، وذلك قفيز واحد، والإقالة في نص المسلم فيه جائزة لما مر، فأما إذا أتى بأنقص من حيث الصفة بأن أسلم في عشرة أقفزة حنطة جيدة قال بعشرة أقفزة حنطة وسط، وقال: خذها وأزيد عليك درهماً لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف رحمه الله: نص على هذا الخلاف في كتاب الصلح، فأما أبو يوسف فيقول بأن تجويز هذا التصرف إن تعذر بطريق الإقالة للحال؛ لأنه أقاله على مجرد الوصف لا يصح أمكن تصحيحه بطريق الحط؛ لأن الحط يلتحق بأصل العقد كالزيادة، فإذا التحق بأصل العقد صار كأنه أسلم في الابتداء بتسعة دراهم في عشرة أقفزة حنطة وسط، فيكون جائزاً بهذا الاعتبار. ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله طريقان: أحدهما: أن يقال بأنا لو جوزنا هذا التصرف يتمكن فيه شبة الربا؛ لأن المؤدى باعتبار الحقيقة غير الواجب، فيكون مقابلاً بجنسه من الحنطة، فيصير رب السلم بائعاً بعشرة أقفزة حنطة له جيدة في ذمة المسلم إليه بعشرة أقفزة حنطة بعينها وسط وزيادة درهم، وإنه ربا وباعتبار الحكم يصير مشترياً عشرة أقفزة حنطة وسط بتسعة دراهم التي كانت رأس المال، وإنه ليس ربا، فيتمكن الربا من وجه ولا يتمكن من وجه، فتتمكن شبهة الربا (وشبهة الربا) مانعة جواز العقد كالحقيقة. والثاني: أنه أقال السلم على مجرد الوصف لا يقبل العقد، فلا يقبل الفسخ. فإن قيل مجرد الوصف مما يقبل ابتداء العقد، فإن المسلم فيه كان ثوباً وسطاً، فأتى المسلم إليه بثوب جيد وقال: خذ هذا وزدني درهماً، فإنه يجوز وقد صار المسلم إليه بائعاً مجرد الوصف من رب السلم؛ لأن الأصل له فيصير الوصف مع الأصل له وشراء الوصف مع الأصل جائز، فأما ههنا لو صحت الإقالة على مجرد الوصف يبقى الأصل لرب السلم ويصير لوصف السلم إليه بالإقالة، والوصف على هذا الوجه لا يقبل العقد، فإنه لو باع الجودة من الثوب بدون الأصل لا تجوز الإقالة، (وصار) رب الثوب بائعاً للجودة بدون الأصل. وقول أبي يوسف بأن تصحيح هذا التصرف بطريق الحط ممكن قلنا: هذا إذا أمكن إتيانه للحال ولم يكن للوجهين الذين ذكرنا، والجواب في الموزونات نظير الجواب في المكيلات، هذا الذي ذكرنا كله إذا كان المسلم فيه مكيلاً أو موزوناً.

فأما إذا كان المسلم فيه ذرعياً بأن كان ثوباً وجاء بأزيد من حيث القدر بأن أسلم عشرة دراهم في عشرة أذرع، فأتى بثوب هو أحد عشر ذراعاً، وقال لرب مال السلم: خذ هذا وزدني درهماً جاز ذلك؛ لأنه لا يؤدي إلى الربا على ما بينا، وكذلك إذا أتى بالزيادة من حيث الصفة، فإنه يجوز عندهم جميعاً بخلاف ما لو كان المسلم فيه مكيلاً أو موزوناً حيث لا يجوز على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. والفرق: أن تجويز هذا في الثوب لا يؤدي إلى الربا؛ لأن المأخوذ إما أن يعتبر عين الواجب من حيث الحكم، فيكون مقابلاً بالدراهم فيصير مشترياً ثوباً جيداً بأحد عشر درهماً، وهذا جائز ويعتبر الحقيقة، فيعتبر المؤدى غير الواجب، فيصير رب السلم على هذا الاعتبار مشترياً ثوباً جيداً بثوب وسط في ذمة المسلم إليه، وزيادة درهم بإزاء الجودة، وإنه جائز في غير مال الربا؛ لأن للجودة في عين مال الربا قيمة عند مقابلتها بعينها. فإنه لو اشترى ثوباً جيداً بثوب رديء وزيادة درهم بإزاء الجودة كان جائزاً، فأما في الحنطة فإن أجاز هذا باعتبار أن المأخوذ عين الواجب، فيكون مقابلاً بالدرهم فيصير مشترياً عشرة أقفرة حنطة جيدة بأحد عشر درهماً وهذا جائز، فاعتبار الحقيقة يكون المؤدى مقابلاً بما وجب لرب السلم في ذمته، فيصير مشترياً عشرة أقفزة حنطة جيدة بعشرة أقفزة حنطة له وسط في ذمة المسلم إليه وزيادة درهم، وهذا لا يجوز، فيتمكن الربا من وجه، ولا يتمكن من وجه فثبت شبهة الربا. وأما إذا أتى بالنقصان من حيث الصفة بأن أسلم في ثوب جيد، فأتى بثوب وسط وقال لرب السلم: خذ هذا لأزيد عليك درهماً لم يجز في قول أبي حنيفة ومحمد (و) يجوز في قول أبي يوسف. وجه قول أبي يوسف، ما ذكرنا في فصل المكيل أن تصحيح هذا التصرف بطريق الحط والإلحاق بأصل العقد ممكن. ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: الوجه الثاني الذي ذكرنا في فصل المكيل، أن في هذه الإقالة لو صحت صحت على مجرد الوصف وتعذر تصحيح الإقالة على مجرد الوصف على ما مر، ولا يجيء في هذا الفصل، لأبي حنيفة الوجه الأول الذي ذكرنا في فصل المكيل من شبهة الربا؛ لأن التجويز في الثوب لا تتمكن فيه شبهة الربا. أما إذا أتى بأنقص من حيث القدر بأن أتى بتسعة أذرع وقال: خذها وأزد عليك درهماً لم يجز في قول أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف يجوز، وهذا لأن الذرع إذا لم يجعل له حصة من الثمن فهو بمنزلة الصفة حتى تسلم الزيادة للمشتري في بيع العين من غير عوض، وإن وجده أنقص لا يحط عنه شيء من الثمن، وإذا كان بمنزلة الصفة في هذه الحالة كانت الإقالة على ذراع منها، والإقالة على القدر جائزة إنما لا يجوز على مجرد الوصف وتصح الحوالة والكفالة والارتهان برأس المال. وقال زفر: لا يجوز؛ لأن هذه التصرفات إنما شرعت للتوثيق مالاً بماله، ولنا: أن رأس المال دين كسائر الديون، فيصح أخذ الرهن والحوالة والكفالة به قياساً على سائر

الديون، واستحقاق قبض رأس المال في المجلس لا ينفي معنى التوثيق. قال: فإن فارق رب السلم المسلم إليه قبل القبض بطل العقد، وإن كان الكفيل والمحال عليه في المجلس، ولا يضرهما افتراق الكفيل والمحال عليه إذا كان المتعاقدان في المجلس؛ لأن القبض من حقوق العقد، وحقوق العقد تتعلق بالمتعاقدين فيصير بقاء المجلس في حقهما، ولا يضرهما افتراق غيرهما. قال: ولو أخذ به رهناً فإن افترقا والرهن قائم انتقض العقد، ولو هلك في المجلس مضى العقد على الصحة؛ لأن الاستيفاء لا يتم إلا بهلاك الرهن، والافتراق قبل تمام القبض موجب انتقاض السلم. قال: ولو أخذ بالمسلم فيه رهناً فهلك الرهن صار مستوفياً؛ لأن القبض وجد حقيقة ويتم بالهلاك والرهن، وإن لم يكن من جنس حقه صورة (127ب3) فهو من جنسه معنى وهو المالية، والمرتهن إنما يصير مستوفياً دينه من مالية المرهون من صورته. قال: ولو لم يهلك الرهن ولكن مات المسلم إليه وعليه ديون كثيرة، فصاحب السلم أحق بالرهن إلا أنه لا يجعل الرهن بدينه بل يباع بجنس حقه حتى لا يصير مستبدلاً بالمسلم فيه قبل القبض. قال: إذا قال رب السلم للذي عليه السلم: كل مالي عليك وعزله في بيته أو في غرائزك ففعل ذلك رب التسليم ليس بحاضر، فإنه لا يكون قبضاً من رب السلم، وذلك؛ لأن رب السليم لو دفع إليه غرائز نفسه، وقال: كل مالي عليك من السلم في غرائري هذه ففعل، ورب السلم ليس بحاضر، فإنه لا يصير قابضاً، وإن صح الأمر باعتبار الغرائر من حيث إنه أمره يستعمل غرائزه لم يصح باعتبار الحنطة؛ لأنها ملك المسلم إليه فلأن لا يصير قابضاً ههنا ولم يصح الأمر لا باعتبار الحنطة ولا باعتبار الغرائر؛ لأن كلهيما ملك المسلم إليه أولى، هذا إذا كان رب السلم غائباً، فأما إذا كان رب السلم حاضراً في منزل المسلم إليه وكان بحضرته لا شك أنه لا يصير قابضاً إذا لم يخل بينه وبين الطعام؛ لأن القبض إنما يثبت إما بالقبض حقيقة بأن يأخذ مواجهة أو بتخلية المسلم إليه إياه ولم يوجد واحد منهما، فإذا خلى بينه وبين الطعام، فأهله هل يصير قابضاً أم لا؟ لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» نصاً. وقد ذكر القدوري في «شرحه» : أن على قول أبي يوسف رحمه الله: لا يصير قابضاً حتى لو هلك بعد ذلك كان الهلاك على المسلم إليه، وعلى قول محمد يصير قابضاً، وظاهر ما ذكر محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» يدل على أن المذهب عنده كذلك؛ لأنه قال: ورب السلم ليس بحاضر، فهذا يدل على أنه إذا كان حاضراً في منزله إذا خلى بينه وبين الطعام يصير قابضاً. وجه قول محمد رحمه الله: أن التخلية من البائع، فيصير المشتري بها قابضاً قياساً على ما لو حصلت التخلية من غير منزل البائع، وإنما قلنا بأن التخلية قد صحت؛ لأن صحتها بإزالة المسلم إليه يده على الحقيقة، وقد أزالها حين خلى بينه وبين الطعام.

وأبو يوسف رحمه الله يقول: بأن التخلية لم تصح فلا يعتبر، وإنما قلنا ذلك؛ لأن شرط صحة التخلية زوال يد المسلم إليه حتى إذا كان في يده حقيقة وقال: خليت لا يصير قابضاً، وههنا يد المسلم إن زالت من حيث الحقيقة لم تزل من حيث الحكم؛ لأن المنزل وما فيه في يده حكماً، فيده إن زالت حقيقة لم تزل حكماً، فلم تثبت التخلية، فأما إذا دفع رب السلم غرائر نفسه، وقال المسلم إليه: كل مالي عليك من الطعام في غرائري، فإنه لا يصير قابضاً إذا جعلها في غرائره حتى إذا هلك لا يهلك على رب السلم. فرق بين هذا وبينما إذا اشترى طعاماً بعينه يشترط الكيل، ثم دفع المشتري إلى البائع غرائر، وقال له: كله في غرائري فكال في غرائره، فإن المشتري يصير قابضاً. ووجه الفرق بينهما: هو أن القبض لو ثبت في باب السلم، فإنما يثبت إما بالكيل أو بجعل الحنطة في غرائر رب السلم، ولا يجوز أن يثبت القبض بالكيل يلاقي ملك السلم إليه، وإذا لم يصح أمره بالكيل لم يصر الاكتيال منقولاً إلى رب السلم كما قبل الأمر، ولا يجوز أن يثبت القبض بجعل الحنطة غرائزه وإن صح الأمر به من حيث إنه تصرف في الغرائز، والغرائز ملك رب السلم؛ لأن جعل المسلم إليه الحنطة في غرائز رب السلم غير منقول إلى رب السلم؛ لأن المسلم إليه في ذلك عامل لنفسه؛ لأن الحنطة ملك المسلم إليه، وقد أذن له رب السلم بجعلها في غرائزه، فصار مغيراً الغرائز من المسلم إليه، والمستقر عامل لنفسه في الانتفاع بالعارية وإن كان بأمر المعير، ولهذا كان قرار الضمان عليه، وإذا صار عاملاً لنفسه فما صح الأمر به لم يصر منقولاً إلى الأمر حتى يصير فعله كفعله، وإذا لم يصير فعله كفعله وإذا لم يصر فعله منقولاً إليه لا حق الكيل ولا في جعله في الغرائر صار الحال بعد الأمر كالحال قبل الأمر، وقبل الأمر لا يصير قابضاً، فكذلك ههنا بخلاف شراء العين، وذلك؛ لأن الفعل صار منقولاً إلى المشتري في حق الكيل وجعل الحنطة في غرائره بعد الكيل من كل وجه؛ لأن البائع في جعل الحنطة في غرائره عامل للمشتري من كل وجه؛ لأنه يضع ملكه في ملكه ومنفعة ذلك له فيكون عاملاً له، وإذا صار عاملاً له صار فعله منقولاً لا إلى الأمر حكماً، فيجعل كأن الأمر فعل بنفسه، ولو فعل بنفسه حقيقة صار قابضاً، فكذا إذا صار فعل البائع منقولاً إليه. وعن هذا قلنا: إن في شراء العين إذا أمر المشتري البائع بالطحن، فطحن يصير قابضاً، وفي السلم لا يصير رب السلم قابضاً؛ لأن الأمر بالطحن في باب السلم لا يجوز؛ لأن الطحن يلاقي ملك المسلم إليه، فيصير الحال بعد الأمر كالحال قبله، أما الأمر بالطحن في باب التراخي فقد صح؛ لأنه لاقى ملك المشتري ومنفعة الطحن حاصلة للمشتري، فانتقل فعله إليه. فإن قيل في فصل الشراء: ينبغي أن لا يصح الأمر في حق ثبوت القبض؛ لأن البائع لا يصلح وكيلاً عن المشتري في القبض، ألا ترى أنه لو وكله بذلك نصاً لا يصح، قلنا: القبض بالأمر يثبت حكماً لا قصداً، ويجوز أن يثبت الشيء حكماً وإن كان لا يثبت قصداً على ما عرف، وما ذكرنا من الجواب في فصل السلم فيما إذا كان لم يكن في غرائر

السلم حنطة لرب السلم، فأما إذا كانت مكال المسلم إليه السلم فيها بأمره هل يصير رب السلم قابضاً؟ فلا رواية في هذا الفصل، وقد قيل: لا يصير قابضاً. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: ولا يصح عندي أنه يصير قابضاً، ثم فرق بين السلم وبين مسألتين أخريين ذكر أحديهما في كتاب الصرف، والأخرى في كتاب المزارعة. أما التي ذكرها في كتاب الصرف: إذا دفع درهماً إلى صانع وقال له: زد من عندك درهماً بمالي بكذا ففعل، فإن الآمر يصير قابضاً للدرهم الزائد الذي صار مستقرضاً من الصانع حكماً لاتصاله بماله، وإن كان الآمر بالخلط في حق الزيادة لا في ملك الصانع؛ لأنه في حق الدرهم المدفوع لا في ملك الأمر، وههنا قال: لا يصير قابضاً، وإن صح الأمر باعتبار الغرائر؛ لأنه ملك الأمران لم يصح باعتبار الحنطة. وأما التي ذكرها في المزارعة إذا قال لآخر: ازرع أرضي ببذرك على أن الخارج كله لي فبذر، فإنه يصير مقرضاً البذر من الآمر، ثم الآمر يصير قابضاً البذر حكماً لاتصاله بملكه، وإن كان الأمر في حق الحنطة لا في ملك المأمور؛ لأنه باعتبار الأرض لا في ملك الآمر. ووجه الفرق بينهما: هو أن الأمر في مسألة الخاتم وفي مسألة المزارعة صح في حق الدرهم المدفوع وفي حق الأرض؛ لأنه لا في ملك الآمر على ما مر، وصار فعل المأمور منقولاً إلى الآمر؛ لأن المأمور عامل له بأمره؛ لأنه أمره بالحنطة في أرضه، وهذا سبب ملك لو وجد من الآمر، فإن خلط الجنس بالجنس سبب ملك، وكذا إلقاء حنطة الغير في أرضه سبب ملك، وإذا كان سبب ملك لو وجد من الآمر كان لا الآمر أمر المأمور بأن يباشر له سبب ملك، فيكون آمراً عاملاً له (128أ3) بأمره بالشراء فاشترى، وإذا صار عاملاً له بأمره وقد صح الاعتبار بملكه صار فعله منقولاً إليه حكماً فكان بمنزلة ما لو فعل بنفسه، ولو فعل بنفسه صار قابضاً فكذلك هذا، فأما في مسألتنا هذه فالأمر بجعل الحنطة في غرائره إن صح باعتبار الغرائر؛ لأنه يتصرف في ملكه، إلا أن فعله لم يصر منقولاً إليه، وإن كان عاملاً بأمره؛ لأنه عامل لنفسه؛ لأن جعل الحنطة في الغرائر ليس بسبب ملك الأمر لا قبل التسليم ولا بعد التسليم قبل السلم فلا إشكال بعده؛ فلأنه لا يملكه بحمله في الغرائر، وإنما يملكه بالأخذ قبل الجعل في الغرائر، وإذا لم يكن الوضع في الغرائر سبب ملك الآمر لا يمكننا أن نجعله عاملاً للآمر من حيث أنه يباشر له سبب ملك أمره، بقي عاملاً لنفسه بهذا الوضع من حيث إنه جعل غرائره مشغولاً بحنطة نفسه وصار مستعير الغرائر على ما مر، وعمل المستعير لا يصير منقولاً إلى الآمر وإن عمل بأمره، وإذا لم يصر منقولاً صار الحال بعد الأمر كالحال قبله. وصار قياس مسألتنا من مسألة المزارعة أن لو قال له: أقرضني كر حنطة وألقه في ناحية من أرضي جملة، فألقاه في ناحية من الأرض جملة، لا يصير قابضاً وإن صح الأمر من حيث التصرف في الأرض؛ لأن الإلقاء جملة في ناحية من الأرض ليس بسبب ملك حتى يصير عاملاً للأمر بمباشرة ما هو سبب ملك له فيبقى عاملاً لنفسه من حيث إنه

استعمل أرضه بحنطة فيصير مستعير الأرض منه. وقياس مسألة الخاتم من مسألتنا: أن لو كان في الغرائر حنطة لرب السلم، ولو كان كذلك يصير رب السلم قابضاً؛ لأن الأمر قد صح باعتبار ملكه بالخلط، وإذا صح الأمر وأنه سبب ملك الآمر، لو وجد من الآمر صار عاملاً له فصار فعله منقولاً إليه فصار كأنه فعل بنفسه، ولو فعل بنفسه صار قابضاً فكذلك هذا. قال: وإذا وكل رب السلم وكيلاً بدفع رأس المال إلى المسلم إليه صح، فإن دفع الوكيل ومما في المجلس بعد لا يبطل السلم، وإن ذهب رب السلم عن المجلس أو المسلم إليه قبل دفع الوكيل بطل السلم، وكذلك لو كان المسلم إليه وكل رجلاً بالقبض. وإذا كفل رجل لرب السلم برأس المال قبل أن يتفاسخا السلم فالكفالة باطلة؛ لأنه لم يكفل بدين واجب للحال ولا أضاف الكفالة إلى سبب الوجوب قالوا: لو كان كفل بأمر المسلم إليه وقبل ذلك رب السلم صحت الكفالة، ويضمن ذلك شرط صحتها وهو فسخ السلم أولاً. نوع آخر إذا أسلم إلى رجل دراهم في كر حنطة، ثم إن المسلم إليه اشترى من رجل حنطة على أنها كر وأوفى رب السلم عن كر السلم، فإنه يحتاج لإباحة التصرف فيه من الأكل والبيع وأساه ذلك إلى كيلين كيل للمسلم إليه وكيل لرب السلم ولا يكفي رب المسلم إليه وإن كان رب السلم حاضراً حين اكتال المسلم إليه، وكذلك لو أن المسلم إليه أمر رب السلم بقبضه فقبضه يحتاج أن يكيل مرتين بكيله، أولاً للمسلم إليه بحكم النيابة عنه، ثم يكيله لنفسه ولا يكتفي بكيل واحد. وكذلك لو كان المسلم إليه دفع إلى رب السلم دراهم حتى يشتري له حنطة، فاشترى له حنطة بشرط الكيل وقبضه وكاله، ثم قبضه قضاء لحقه فعليه أن يكيله ثانياً لنفسه، وهذا؛ لأن الكيل أعطي له حكم القبض شرعاً فيما بيع مكايلة؛ لأن القدر في العين معقود عليه فيما بيع مكايلة، ألا ترى لو وجده أزيد مما سمى من القدر رد الزيادة إذا كانت الزيادة بحيث لا تدخل بين الكيلين؛ لأن الزيادة لم تدخل في العقد، ولو وجده انقص، فإنه ينقص عنه حصة من الثمن؛ لأن كل كيل أصل بنفسه وليس مع الباقي قلنا: والقدر غير متعين قبل الكيل لجواز أن يكون مثل الكيل المشروط أو أزيد منه أو أنقص منه وإنما يتعين بالكيل وكان الكيل حكم القبض من حيث إنه يعمل عمل القبض فعين ما ملك بالعقد غير متعين، ثم يحتاج في هذه المسائل قبضين قبض المسلم إليه وقبض رب السلم، وقبض المسلم إليه من بائعه لا ينوب عن قبض رب السلم وإن كان بحضرة رب السلم فكذا الكيل، وإذا اشترى المسلم إليه من رجل حنطة مجازفة أو استفاد من أرضه حنطة أو أوفي رب السلم فههنا يكتفي بكيل واحد، حتى إذا كاله المسلم إليه بحضرة رب السلم لم يحتج رب السلم إلى كيل آخر. وكذلك إذا استقرض المسلم إليه حنطة على أنها كر، ثم أوفى رب السلم، فإنه

يكفي كيل واحد، إما كيل رب السلم وإما كيل المسلم إليه بحضرة رب السلم، وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا اشتراه المسلم إليه مجازفة أو استفاده من أرضه؛ لأن الكيل غير محتاج إليه في حق المسلم إليه لإباحة التصرف، أما فيما اشتراه مجازفة؛ فلأن المعقود عليه عين المشار إليه لا المقدار وأنه متعين قبل الكيل، وأما فيما استفاده من أرضه، فالكلام فيه ظاهر وإنما المحتاج اليه الكيل في حق رب السلم؛ لأن القدر معقود عليه في حقه، فكان المحتاج إليه كيلاً واحداً من هذا الوجه، وإنما الأشكال في فصل الاستقراض بملك بعوض، فكان كالشراء فيصير القدر معقوداً عليه متى استقرضه بشرط الكيل، كما لو اشتراه مكايلة، والوجه في ذلك: أن القرض إن كان مبادلة من حين الصورة، فهو عارية من حيث الحكم والاعتبار؛ لأن مايرد المستقرض عين المقبوض حكماً لا بدله إذ لو لم يجعل، كذلك مبادلة الشيء بجنسه نسيئة وإنه حرام، ولما كان القرض تمليكاً بغير بدل من حين الحكم يعتبر بما لو كان تمليكاً بغير بدل من حيث الحقيقة، وهناك لايحتاج إلى الكيل، فكذا ههنا بخلاف الشراء؛ لأنه تمليك بعوض حقيقة وحكماً، وكل جواب عرفته في المكيلات فهو الجواب في الموزونات. / نوع آخر في السلم ينتقض فيه القبض بعد الافتراق إذا قبض المسلم إليه رأس المال، ثم وجدها أو بعضها زيوفاً أو نبهرجة فههنا مسائل. إحديها: أن يجدها مستحقة، وكان ذلك في مجلس العقد، فإنه يقف على إجازة المستحق، إن أجاز جاز، وإن لم يجز بطل السلم؛ لأنه لما ظهر أنها مستحقة ظهر أن رب السلم صار قاضياً دينه من مال الغير، فيكون القضاء موقوفاً على إجازة صاحب المال، كما لو باع ماله، فإن أجاز ورأس المال قائم جاز؛ لأن القبض توقف على إجازة المستحق، فيعتبر بما لو توقف العقد على إجازة المستحق، ولو توقف العقد على إجازته، فإنما يجوز بإجازته إذا كان المقبوض قائماً ويصير مثل ما نقد ديناً لصاحب المال على رب السلم؛ لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء، ولو أذن له صاحب المال في الابتداء أن يقضي دينه من ماله ضمن مثل ماقضى لصاحب المال، فكذا إذا أجاز قضاءه في الانتهاء، وإن لم يجز انتقض القبض والقضاء؛ لأنه كان موقوفاً على إجازته، فإذا لم يجز بطل كما لو توقف البيع على إجازته، فإنه ينتقض إذا لم يجز فكذا ههنا. وإذا انتقض القبض صار كأنه لم يقبض، فإن قبض درهماً آخر في المجلس بقي العقد على الصحة، وجعل كأنه أخر القبض إلى أخر المجلس، فإن لم يقبض بطل العقد، وإن وجدها ستوقة (128ب3) وكان ذلك في مجلس العقد، ويجوز به المسلم إليه لا يجوز؛ لأن الستوقة ليست من جنس رأس المال (، لأنه) فضة، والستوقة (ليست) بفضة من حيث الحكم؛ لأن الرصاص والنحاس في الستوقة على الفضة، والفضة مغلوبة، والعبرة للغالب، فكان الكل نحاساً أو رصاصاً من حيث الحكم. ولو كان الكل نحاساً أو

رصاصاً من حيث الحقيقة ورأس المال فضة إذا تجوز به المسلم إليه لم يجز؛ لأنه يصير مستبدلاً برأس مال السلم قبل القبض، وإنه لا يجوز، هذا إذا تجوز به، فأما إذا رده وقبض مكانه آخر في المجلس جاز؛ لأنه إذا قبض آخر مكانه آخر المجلس وإن وجدها زيوفاً أو نبهرجة وكان ذلك في مجلس العقد، فإن تجوز به المسلم إليه جاز؛ لأن الزيوف من جنس رأس المال؛ لأن الزيوف من الدراهم ما تكون الفضة فيه غالبة على الغش، والعبرة للغالب، فكان الكل فضة، فالتجوز به لايصير مستبدلاً برأس المال، وإن رده واستبدل به في المجلس يجوز، وجعل كأنه أخر القبض إلى آخر المجلس، وإن افترقا قبل الاستبدال بطل السلم، فأما إذا وجد شيئاً منها مستحقاً وكان ذلك بعد الافتراق عن المجلس، فإن أجاز المالك وكان رأس المال قائماً جاز؛ لأن خيار الإجازة لا تمنع صحة القبض، فلا يتبين أن الافتراق عن المجلس جعل قبل قبض رأس المال، وإذا صح القبض على سبيل التوقف جاز بإجازته إذا كان رأس المال قائماً، وإن رد بطل السلم بقدره قل أو كثر عندهم جميعاً؛ لأن القبض كان موقوفاً بين أن يكون قبض رأس المال متى أجاز، وبين (أن) لا يكون قبض رأس المال متى لم يجز، والموقوف بين الشيئين إذا تعين أحدهما كان هو الثابت من الأصل، وكان قبض رأس المال لم يوجد أصلاً. وأما إذا وجد شيئاً منها ستوقاً وكان بعد الافتراق عن المجلس بطل السلم بقدره قل أو كثر يجوز به، أو رد أو استبدل مكانه أو لم يستبدل لما ذكرنا أن الستوقة ليست من جنس رأس المال، وإذا لم تكن من جنس رأس (المال) ظهر أن الافتراق عن مجلس العقد حصل من غير قبض رأس المال بقدر الستوقة، فبطل السلم بقدره ولا يعود جائزاً بالقبض بعد المجلس كما لو لم يقبض هذا القدر أصلاً في المجلس ثم قبض، وأما إذا وجد شيئاً منها زيوفاً وكان ذلك بعد الافتراق عن المجلس، فإن تجوز به جاز، كما لو تجوز به في المجلس وإن لم يتجوز به ورده أجمعوا على أنه إذا لم يستبدل في مجلس الرد أن السلم يبطل بقدر مارده، وأما إذا استبدل مكانه أخرى في مجلس الرد، فالقياس: أن يبطل السلم بقدره، وبالقياس أخذ زفر، وفي الاستحسان: لا يبطل متى كان المردود قليلاً، وبه أخذ علماؤنا الثلاثة رحمهم الله، وإن كان كثيراً فعند أبي حنيفة يبطل وعندهما: لا يبطل استحساناً. وكذلك على هذا الاختلاف أحد المتصارفين إذا وجد شيئاً مما قبض زيوفاً ورد بعد المجلس. وجه القياس: أن الرد بالزيافة مما ينقض قبض المسلم إليه في رأس المال من الأصل بدليل أنه: إذا لم يستبدل مكانه أخرى في مجلس الرد بطل السلم بقدره، ولو لم ينتقض قبضه من الأصل، وإنما انتقص من وقت الرد مقصوداً على الرد كان لايبطل السلم كما لو وهب رأس المال منه ولهذا ينفرد الرد. والدليل على أبي حنيفة ما إذا كان المردود كثيراً، وإذا كان الرد بالزيافة مما ينقض قبضه من الأصل لو نفى السلم بعدها صحيحاً، فإنما يبقى صحيحاً بصحة القبض الثاني، والقبض الثاني صح من وجه صح من حيث إن مجلس الرد مجلس العقد حكماً؛ لأن

العقد كان باقياً على الصحة إلى وقت الرد حكماً بسبب قيام المعقود عليه وكون المقبوض، وإذا كان العقد قائماً إلى وقت الرد كان مجلس الرد مجلس العقد من حيث الحكم، فصح القبض الثاني باعتبار الحكم، وباعتبار الحقيقة لا يصح القبض الثاني؛ لأنه لم يوجد في مجلس العقد حقيقة، فإن حقيقة العقد توجد بالإيجاب والقبول، فقد دار القبض الثاني بين أن يصح وبين أن لا يصح، والصحة لم تكن ثابتة فلا يثبت بالشك والاحتمال. وأبو حنيفة رحمه الله هكذا يقول في المردود: إذا كان كثيراً إلا أنه في القليل استحسن وصح القبض الثاني وإن كان القياس يأبى صحته لنوع ضرورة، فإن أموال الناس لا تخلو عن قليل زيف يكون فيها، لو أخذنا بحقيقة القياس في القليل لضاق الأمر على القياس، والقياس يترك بالضرورة والحرج، فرجحنا كون هذا المجلس مجلس العقد حكماً على كونه غير مجلس العقد حقيقة بسبب الحرج والضرورة، هذه الضرورة معدومة في الكثير؛ لأن أموال الناس تخلو عن كثير الزيوف، فكانت العبرة فيه للقياس أن يبطل السلم بقدر المردود كما قاله زفر رحمه الله، وبخلاف الستوقة والمستحقة؛ لأن أموال الناس تخلو عن المغصوب والنحاس والرصاص قليلاً كان أو كثيراً. وأبو يوسف ومحمد قالا: بأن القبض الثاني صح من وجه ولم يصح من وجه كما قاله زفر رحمه الله فيعتبره صحيحاً احتيالاً لجواز العقد، فإنه يحتال لجواز العقد ما أمكن، فرجحنا كون هذا المجلس مجلس العقد حكماً على كونه غير مجلس العقد حقيقة احتيالاً منا لجواز العقد كما رجح أبو حنيفة رحمه الله كون هذا المجلس مجلس العقد على كونه غير مجلس العقد حقيقة إذا كان المردود قليلاً ولهذا سمياه استحساناً. وهذا بخلاف ما لو وجد ستوقة أو مستحقة ولم يخبر المستحق؛ لأن هناك ظهر أن العقد كان باطلاً كما تفرقا عن المجلس؛ لأنه لم يوجد قبض رأس المال، فأما هنا فبقي العقد صحيحاً بعد الافتراق لوجود قبض رأس المال، وإنما يبطل القبض بالرد، فيكون العقد باقياً إلى مجلس الرد، فيكون مجلس الرد مجلس العقد حكماً، فيعتبر بما لو كان مجلس العقد حقيقة إذا تفرقا بعد قبض رأس المال جاز كذا هنا. ثم اتفقت الروايات الظاهرة المشهورة عن أبي حنيفة أن ما زاد على النصف كان كثيراً، وإن كان المردود أقل من النصف كان قليلاً، وهذا لأن الكثرة والقلة بين شيئين من حيث الحقيقة إنما تعرف بالمقابلة لا بالتسمية؛ لأن مامن قليل إلا يوجد ماهو أقل منه، فمتى كان المردود أكثر من النصف كان المردود كثيراً، وإذا كان المردود أقل من النصف كان قليلاً باعتبار المقابلة؛ لأن ما يقابله من غير المردود أقل فكان المردود كثيراً، وإذا كان المردود أقل من النصف كان قليلاً؛ لأن ما يقابله من غير المردود أكثر، فيكون المردود قليلاً باعتبار المقابلة، وأما النصف ففيه روايتان: في رواية جعله قليلاً، وفي رواية أخرى ما زاد على الثلث كثير، والثلث وما دونه قليل وهذه الرواية موافقة لما ذكرنا (129أ3) في الصيد والذبائح أن الظاهر من العضو في الشاة إذا كان أكثر من الثلث فهو كثير، والثلث وما دونه قليل.

نوع آخر في بيان ما يكون قصاصاً في السلم وما (لا) يكون هذا النوع ينبنى على أصلين: أحدهما: أن دين السلم مما يستوفى ولا يوفى به دين آخر إما أن يستوفي؛ لأن الاستيفاء وفاء بموجب العقد، وأما لا يوفى به دين آخر؛ لأن إيفاء دين آخر به استبدال والاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز، لقوله عليه السلام: «لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» والمراد المسلم فيه حال بقاء العقد، ورأس مال السلم بعد انفساخه، ولأن المسلم فيه مبيع وإنه دين، واستبدال المبيع بالعين قبل القبض لا يجوز مع أن العين أقبل للتصرف من الدين، فلأن لا يجوز بالمبيع بالدين أولى. وأصل آخر: وهو أن باب في المقاصة تصير آخر الدينين قضاء لأولهما ولا يصير أول الدينين قضاء لآخرهما؛ لأن القضاء يتلو الوجوب ولا يسعه، ولهذا في الدين المشترك لو وجب للمديون على أحد الشريكين دين بقدر حصته، فصار قصاصاً كان للشريك الآخر أن يرجع عليه بنصفه؛ لأنه صار مستوفياً حصته، وإذا كان دين المديون سابقاً على دينهما، فصار قصاصاً لم يكن لشريكه أن يرجع عليه بشيء؛ لأنه صار قاضياً بنصيبه ديناً عليه لا مقتضياً، وعلامة الاستيفاء قبض عين مضمون مثل المسلم فيه بعد عقد السلم لا على وجه الاقتضاء بدين آخر. ألا ترى أن في موضع الذي صار مستوفياً إنما صار مستوفياً بهذا الحد، وهو قبض عين ديون مثل المسلم فيه بعد عقد السلم لا على وجه الاقتضاء بدين آخر، وهذا لأن قبض عين الدين لا يتصور قبضه بهذا الطريق، وهو أن يصير المقبوض مضموناً على القابض إذا قبضه لا على وجه الاقتضاء بدين آخر، ثم يلتقيان قصاصاً إذا كان المقبوض مثل الدين، وإن كان في هذا نوع مبادلة لكن الاستيفاء لا يهيأ بدونه يسقط اعتبار هذا النوع من المبادلة شرعاً بقي المحرم الاستبدال الخالص، وإنما شرطنا أن يكون قبض مثل هذا العين عقد السلم؛ لأنه لو كان قبله كان دين السلم آخر الدينين، وآخر الدينين يصير قضاء لأولهما ولا يصير أولهما قضاء لآخرهما، فيكون استبدالاً بالمسلم فيه. وإذا وجب على رب السلم مثل السلم بسبب متقدم على العقد لم يصر قصاصاً بالسلم. أما على الأصل الأول؛ فلأن ما هو صورة الاستيفاء وهو القبض الحقيقي لم يوجد بعد عقد السلم، وأما على الأصل الثاني؛ فلأنه لو وقعت المقاصة صار دين السلم قضاء لما وجب قبل عقد السلم، وكذلك إذا وجب بعقد بعده لم يصر قصاصاً نحو أن يشتري رب السلم من المسلم إليه شيئاً بحنطة مثل السلم للأصل الأول، وهو انعدام القبض حقيقة بعد عقد السلم ديون الأصل الثاني. ولو وجب عليه بقبض مضمون نحو أن غصب منه كذا بعد عقد السلم واستقرض منه قصاصاً لوجود حد الاستيفاء وهو قبض

مضمون بعد عقد السلم لا على وجه الاقتضاء بدين آخر. ولو كان غصبه كراً قبل العقد وهو قائم في يده حتى حل السلم قصاصاً صار سواء كان بحضرتهما أو لم يكن؛ لأن القبض حقيقة موجود وإنه مما يمتد، فكان للدوام حكم الابتداء فجارت المقاصة، ولو كان الكر وديعة عند رب السلم قبل العقد أو بعده، فجعله بالمسلم إليه قصاصاً لم يكن قصاصاً إلا أن يكون بحضرتهما أو يرجع رب السلم، فيتخلى به؛ لأن قبض رب السلم كان أمانة، والمعتبر في الاستيفاء قبض ضمان، فلا بد من تجديد القبض بالتخلية به. ولو غصب منه كراً بعد العقد قبل حلول السلم، ثم حل، فإنه يصير قصاصاً. ولو كان الغصب واقعاً قبل العقد، فلا بد من أن نجعله قصاصاً. والفرق وهو: أن في الفصل الأول القبض الحقيقي بصفة الضمان وجد بعد عقد السلم، فصلح اقتضاءاً، لكن لم تثبت المقاصة قبل حلول الأجل لما فيه من إبطال الأجل، فإذا حل الأجل زال المانع، فتثبت المقاصة، أما في الفصل الثاني القبض حين وجد لم يصلح اقتضاءاً لوجوده قبل عقد السلم إلا أن لدوامه حكم الابتداء جازت المقاصة، ومن حيث إنه حين وقع لم يصلح اقتضاءاً لا بد من إثبات المقاصة من قبل المتعاقدين، ولو غصب منه بعد عقد السلم كراً أجود من السلم لم يصر قصاصاً إلا برضا المسلم إليه، وإن كان أردأ لم يصر قصاصاً رب السلم اعتباراً لحق كل واحد منهما في الوصف. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل أسلم إلى رجل مائة درهم في كر حنطة وسط إلى أجل معلوم، ودفع إليه رأس المال، ثم إن رب السلم باع من المسلم إليه عبداً بكر حنطة وسط مثل المسلم فيه، وقبض الكر ولم يسلم العبد إليه حتى انتقض العقد في العبد، بموت العبد أو بالرد بخيار الشرط أو الرؤية أو بالرد بالعيب قبل القبض بقضاء أو بغير قضاء، أو بعد القبض بقضاء حتى انفسخ من كل وجه في حق الناس كافة، كان على رب السلم أن يرد الكر الذي هو ثمن العبد حكماً لانفساخ العقد في العبد، فإن العقد قد انفسخ في العبد بهذه الأسباب من كل وجه، وعند انفساخ العقد لا يسلم العبد للمشتري، فلا يسلم ثمنه للبائع. فإن قال بائع العبد وهو رب السلم: أنا أمسك الكر المقبوض وأرد مثله، كان له ذلك؛ لأن المستحق على البائع من الثمن حال انفساخ العقد ما هو المستحق على المشتري حال مباشرة العقد، والمستحق على المشتري حال مباشرة العقد إذا كان العقد مطلقاً كر في الذمة لا كر بعينه، فكذا المستحق على البائع حال انفساخ العقد. توضيحه: أن استحقاق الرد بحكم الفسخ قائماً، يثبت استحقاق ما ورد عليه الفسخ، والفسخ ما ورد على المقبوض العين، وإنما ورد على الموصوف في الذمم ضرورة ورود البيع عليه، فإن الفسخ إنما ورد عليه البيع، ولأن هذا الكر ما صار ملكاً له بالعقد ليزول عن ملكه بانفساخ العقد؛ لأن العقد ما ورد على المعين، وإنما صار ملكاً له بالقبض وقبضه باق بعد، فيبقى الكر مملوكاً له، فكان له أن يحبسه، فإن لم يرد رب

السلم الكر الذي هو ثمن حتى حل السلم صار قصاصاً بكر السلم تقاصا أو لم يتقاصا؛ لأن البيع إذا انتقض وإنفسخ من كل وجه بالأسباب التي ذكرنا بطل جهة الثمنية للكر، فبقي الكر في يده مقبوضاً بعد عقد السلم لا على وجه الاقتضاء بدين آخر وهو قبل السلم، فقد وجد علامة الاستيفاء، فصار قصاصاً بالسلم لهذا، وكذلك لو كان عقد البيع قبل السلم ولكن قبض الكر الذي هو به أسلم ممن كان بعد السلم، ثم انفسخ البيع بينهما بالأسباب التي ذكرنا صار الكر الذي هو ثمن قصاصاً (129ب3) بالسلم عند حلول الأجل؛ لأن العبرة لحالة القبض؛ لأن الاستيفاء يقع بالقبض، والقبض وجد بعد عقد السلم، فتقدم العقد وتأخره في هذا سواء. ولو كان مشتري العبد وهو المسلم إليه رد العبد بعد القبض بالتراضي أو تقايلا العقد في العبد والباقي بحاله، فإن الكر الذي هو ثمن لا يصير قصاصاً بالسلم في الفصلين جميعاً تقاصا أو لم يتقاصا، وإنما كان كذلك؛ لأن الرد بالعيب بعد القبض بالتراضي، والإقالة فسخ في حق المتعاقدين عقد جديد في حق الثالث؛ لأن الصورة صورة الفسخ وهو قولهما فسخاً، والمعنى معنى المبادلة، وهو التمليك والتملك بالتراضي ولا يمكن اعتبار المعنى والصورة في حق شخص واحد، فاعتبرنا الصورة في حق المتعاقدين، واعتبرنا المعنى في حق الثالث، وحرمة الاستبدال بالمسلم فيه حق الشرع فصار في حرمة حق الاستبدال الذي هو حق الشرع عقداً جديداً، وإذا اعتبرنا على هذا الوجه بقي العقد الأول وثمنه، فبقي الكر مقبوضاً بجهة الثمنية، فلا يمكن أن يجعل ذلك القبض استيفاء، لما ذكرنا أن الاستيفاء إنما يكون بقبض عين مضمون هو مثل السلم لا بجهة الاقتضاء بدين آخر، وهذا الكر بقي مقبوضاً بجهة الثمنية، فلو صار قصاصاً كان هذا استبدالاً بالمسلم فيه قبل القبض، وإنه لا يجوز، أو نقول بأن الرد بالعيب بعد القبض بالتراضي والإقالة اعتبر كل واحد منهما فسخاً في حق المتعاقدين فيما هو من حقوق ذلك العقد اعتباراً للصورة، وفيما ليس من حقوق ذلك العقد اعتبر بيعاً جديداً اعتباراً للمعنى على ما ذكرنا، وعقد السلم بشيء من حقوق ذلك العقد فيجعل في حق حكم السلم بمنزلة بيع مبتدأ، ولما كان هكذا بقي العقد الأول وثمنه والتقريب ما ذكرنا، ولو كان عقد البيع وقبض الكر قبل عقد السلم والباقي بحاله، فإن الكر الذي هو ثمن العبد لا يصير قصاصاً بكر السلم وإن تقاصا؛ لأنه لو صار قصاصاً صار دين السلم ايفاء وقضاء الثمن العبد؛ لأنه آخر الدينين وقد ذكرنا أن آخر الدينين يصير قصاصاً لأولهما، فيصير آخرهما مقبوضاً بدين السلم ولا يصير دين السلم مقبوضاً فلا يجوز. نوع آخر هو قريب من هذا النوع قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : رجل أسلم إلى رجل في قفيز من رطب وجعل أجله في جنسه حتى كان جائزاً، فأعطاه المسلم إليه مكانه قفيزاً من تمر وأسلم في قفيز من تمر، فأعطاه مكانه قفيراً من الرطب، وتجوز به رب السلم فهو جائز في قول أبي

حنيفة؛ لأن الرطب والتمر عنده جنس واحد جاز أحدهما بالآخر كيلاً بكيل ابتداء، فيكون هذا استيفاءاً للمسلم فيه لا استبدالاً، وعندهما: إن كان المسلم فيه قفيز رطب، فأعطاه مكانه تمراً لا يجوز على كل حال؛ لأنهما يعتبران المماثلة بعد الجفاف ولهذا لا يجوز بيع الرطب بالتمر عندهما كيلاً بكيل ابتداءً ولا مساواة بينهما في تلك الحالة، فإن الرطب تنقص إذا جف فيصير رب السلم بقبض كرٍ من تمر مستوفياً أكثر من حقه باعتبار النظر إلى تلك الحالة وهو ربا فلم يجز، وصار كما لو أسلم في ثلاثة أذرع قفيز تمر، فاستوفى قفيزاً من تمر، فأعطاه قفيزاً من رطب فهو على وجهين: إما أن يقبضه على وجه الاستيفاء بأن يقول المسلم إليه لرب السلم: خذه لحقك أو قضاء لحقك أو قضاء من حقك أو ما أشبه ذلك من العبارات، أو يقبضه على وجه الصلح والإبراء بأن يقول: خذه صلحاً بحقك أو قضاء من حقك على أني بريء مما كان لك قبلي. ففي الوجه الأول: هو باطل؛ لأن تقدير ما قال المسلم إليه خذ كمال حقك وما أعطاه لا يفي بكمال حقه؛ لأن العبرة عندهما لحال الجفاف، والرطب ينقص إذا جف فلا يصير مستوفياً جميع حقه باعتبار تلك الحالة، وليس في لفظه ما يدل على إسقاط شيء فلا يدرى كم أخذ من حقه وكم بقي مع أنه إذا انتقص مقدار الربع مثلاً، فإن جعلناه مستوفياً جميع حقه كان استيفاء لقفيز بثلاثة أرباع قفيز وذلك ربا، وإن جعلناه مستوفياً بثلاثة أرباع قفيز، فالمسلم إليه لم يرض بإعطاء قفيز من الرطب إلا وأن يكون قضاءً عن جميع حقه، وفي هذا تفويت حقه في صفة الرطوبة وهي صفة مقصورة. وفي الوجه الثاني: وهو ما إذا كان على طريق الصلح والإبراء ينظر إلى هذا الرطب كم تنقص إذا جف، فإن علم ذلك بنى على ما يعلم، وإن لم يعلم بنى ذلك على أكثر ما لا يزيد عليه النقصان، فإن علم أنه إذا جف ينقص مقدار الربع أو علم أنه لا يزيد النقصان على الربع ويبقى بثلاثة أرباع ينظر بعد هذا إن كانت قيمة القفيز من الرطب مثل قيمة ثلاثة أرباع قفيز من تمر أو أقل، فالصلح جائز؛ لأن رب السلم استوفى بعض حقه وأبرأه عما بقي؛ لأن في لفظ الصلح ما يدل على الإبراء والإسقاط، كيف وقد صرح بالإبراء في بعض المواضع ولم يشترط عليه بإزاء ما أبرأه عوضاً، وهو الحسن الجميل الذي ورد به الأثر فيجوز، وإن كانت قيمة قفيز من الرطب أكثر من قيمة ثلاثة أرباع تمر السلم بطل الصلح؛ لأنه وإن استوفى قدر ثلثة أرباع وأبرأه عن الربع فقد جعل لنفسه بمقابلة ما أبرأه عنه فضل جودة الرطوبة فلا يجوز، كمن له على آخر ألف درهم نبهرجة إلى سنة فصالحه على خمسمائة نبهرجة معجلة، أو كان له على رجل ألف درهم نبهرجة حالة، فصالحه على خمسمائة جيدة حالاً لا يجوز لما قلنا: إنه اعتاض صفة الجودة عما أبرأ فكذا ههنا. واستشهد محمد رحمه الله لإيضاح هذا بما لو كان لرجل على رجل قفيز تمر مؤجل فصالحه على نصف قفير تمر حال كان الصلح باطلاً؛ لأنه حط القدر بمقابلة فضل الجودة في المسألة الأولى، وبمقابلة فضل الحلول في المسألة الثانية كذا هنا.

رجل أسلم إلى رجل في قفيز من حنطة، فأعطاه مكانه قفيز حنطة مقلية لم يجز في قولهم جميعاً؛ لأنه لا مماثلة بين المقلية وغير المقلية شرعاً، ولهذا لا يجوز بيع المقلية بغير المقلية قفيزاً بقفيز عندهم جميعاً، فكان هذا استبدالاً عند الكل لا استيفاء فلهذا لا يجوز. وكذلك لو أسلم في قفيز بسر أخضر أو أصفر في جنسه وأعطاه مكانه قفيز بسر مطبوخ، أو أسلم في قفيز حنطة، فأعطاه مكانه قفير حنطة مطبوخة، لو أسلم في قفيز حنطة، فأعطاه مكانه قفيز دقيق لا يجوز؛ لأنه لا مماثلة بين البسر المطبوخ وبين الأخضر، ولهذا لا يجوز مع أحدهما بالآخر قفيزاً بقفيز ابتداء، وكذا المطبوخ على هذا، وكذا لا يجوز بيع قفيز حنطة من المطبوخة بقفيز من غير المطبوخة، ولا يجوز بيع قفيز حنطة بقفيز دقيق، فعلم أنه لا مماثلة، فكان هذا استبدالاً لا استيفاءاً.h ولو أسلم في قفيز حنطة فأعطاه قفيزاً من حنطة قد أنقع (130أ3) من الماء حتى انتفخ، فهذا جائز عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد لا يجوز؛ لأنهما مثلان عندهما خلافاً لمحمد رحمه الله، ولهذا جاز بيع الحنطة المبلولة بغير المبلولة عندهما قفيزاً بقفيز خلافاً لمحمد، وكان قول محمد في هذا على قياس قوله في الرطب. ولو أسلم في زيتون فأخذ مكانه زيتاً لا يجوز وإن علم أنه أقل مما في الزيتون؛ لأنهما صنفان فيكون استبدالاً والله أعلم بالصواب. نوع آخر في الاختلاف الواقع بين رب السلم وبين المسلم إليه وإنه على وجوه الأول: أن يقع الاختلاف بينهما في المسلم فيه أو في رأس المال أو فيهما ويجب أن يعلم بأن ههنا مسألتان: الأولى ما إذا كان رأس المال ديناً كالدارهم والدنانير وإنها على وجوه ثلاثة: الأول: أن يقع الاختلاف في المسلم فيه وإنه على وجوه ثلاثة، إن وقع الاختلاف في جنسه بأن قال رب السلم: أسلمت عشرة دراهم في كر حنطة وقال المسلم إليه: أسلمت عشرة دراهم في كر شعير تحالفا استحساناً إن لم يكن لهما بينة، ويبدأ بيمين المسلم إليه في قول أبي يوسف الأول، وفي قوله الآخر يبدأ بيمين رب السلم، وإذا تحالفا فالقاضي يقول لهما: ماذا تريدان؟ لأن العقد لا ينفسخ بمجرد التحالف كما في بيع العين، فإن قالا: نفسخ العقد أو قال أحدهما ذلك فسخ القاضي بينهما، وإن قالا: لا نفسخ، تركهما رجاء أن يعود أحدهما إلى تصديق صاحبه، وأيهما أقام بينة قبلت بينته، وفي قبول بينة المسلم إليه إشكال إذ لا وجه إلى قبولها لإثبات العشرة لنفسه؛ لأن رب السلم قد أقر له بعشرة، ولا وجه إلى قبولها لإثبات الشعير؛ لأنه يثبت الشعير للغير، والبينة لا تقبل على إثبات حق الغير، ولكن الوجه في ذلك أن بينة المسلم إليه إنما تقبل لإسقاط اليمين عن نفسه، وكما تقبل بينة الإنسان لإثبات الحق لنفسه تقبل لإسقاط اليمين عن نفسه. ألا ترى أن بينة المودع على الرد مقبولة لإسقاط اليمين عن نفسه؛ لأن البراءة حاصلة له بقوله رددت. وإن أقام البينة إن لم يتفرقا عن مجلس العقد بعد، فعند محمد

رحمه الله يقضي بعقدين، يقضي على رب السلم بعشرين درهماً وعلى المسلم إليه بكر حنطة وكر شعير، وإن تفرقا عن المجلس وقد نقد رب السلم عشرة لا غير قضي بعقد واحد ببينة رب السلم، وعند أبي يوسف رحمه الله: يقضي بعقد واحد ببينة رب السلم على كل حال. فالأصل عند محمد في جنس هذه المسائل أن يقضي بسلمين ما أمكن، فإن لم يمكن لضرورة حينئذ يقضي بسلم واحد، وإنما كان الأصل القضاء بعقدين؛ لأنه اجتمع ما يوجب القضاء بعقدين، فإن كل واحد ادعى عقداً غير العقد الذي ادعاه صاحبه، فإن العقد على الحنطة على الشعير وما يوجب القضاء بعقد واحد، فإنهما مع اختلافهما اتفقا على أنه لم يجر بينهما إلا عقد واحد فكان القضاء بعقدين وفيه عمل بالبينتين، وبدعوى العقدين صورة أولى من القضاء بعقد واحد، وفيه تعطيل إحدى البينتين. إذا ثبت هذا فقول ما داما في مجلس العقد أمكن القضاء بالعقدين إذ يمكن القضاء بعشرين في كل عقد بعشرة إذ يمكن نقد رأس المال كل عقد في مجلسه، أما إذا تفرقا عن المجلس وقد نقد رب السلم عشرة لا غير لا يمكن القضاء بعقدين إذا لم ينقد رأس مال أحدهما في المجلس فنقضي ببينة رب السلم؛ لأن رب السلم ببينته تثبت الحق لنفسه، والمسلم إليه يثبت الحق لغيره. والأصل عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: القضاء بسلم واحد إلا إذا تعذر، فيقضي بسلمين حينئذٍ على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وإنما كان الأصل هو: القضاء بعقد واحد مما يأباه القياس؛ لأن القياس يأبى جواز سلم؛ لأنه بيع ما ليس عند الناس. إذا ثبت هذا فنقول القضاء على إثبات العشرة لنفسه وعلى إثبات الشعير لغيره، والعشرة ثابتة له بإقرار رب السلم، فلا تقبل بينته من هذا الوجه، ولذلك لا تقبل بينته على إثبات الشعير؛ لأن البينة على الشعير قامت على إثبات ما أقر به للغير والبينة على إثبات ما يقر به الإنسان لغيره غير مقبولة، فإن من أقر لإنسان بشيء وكذبه المقر له، فقال المقر: أنا أقيم البينة على ذلك لا تقبل بينته، فهو معنى قولنا: أمكن رد بينة المسلم، فيمكن القضاء بعقد واحد ببينة رب السلم من هذا الوجه فيقضي به. وإن اختلفا في قدر المسلم فيه، فهذا وما لو اختلفا في جنس المسلم فيه سواء إذ المعنى لا يوجب الفصل. وإن اختلفا في صفة المسلم فيه ولا بينة لواحد منهما، القياس: أن يتحالفا، وفي الاستحسان: أن (لا) يتحالفا، وبالقياس نأخذ. وجه الاستحسان: أنهما اختلفا في صفة المبيع، فلا يتحالفان كما في بيع العين. وجه القياس: أن الاختلاف في صفة المسلم فيه، وإنه دين بمنزلة الاختلاف في أصل المعقود عليه في بيع العين بأن قال المشتري: اشتريت منك هذا الكر وقال البائع: لا بل بعتك هذا الكر الآخر، وهذا لأن الدين غائب عندنا يعرف بصفته فيختلف أصله باختلاف صفته، فهو معنى قولنا: الاختلاف في صفة المسلم فيه وإنه دين بمنزلة الاختلاف في أصل المعقود عليه في بيع العين. ولو اختلفا في أصل المعقود عليه في بيع

العين مخالفاً كذا ههنا بخلاف ما إذا اختلفا في صفة المعقود عليه في بيع العين أنه عشرة أذرع أو أحد عشر؛ لأن المعقود عليه غير مشار إليه قط لا يصير عينين باختلاف الصفة، فيكون الاختلاف واقعاً في الصفة لا في المعقود عليه لا يوجب التحالف؛ لأن هذا السبب باختلاف فيما هو من صلب العقد الذي لا يوجد العقد بدونه. ألا ترى أن البيع يوجد بدون هذه الصفة، فكان بمنزلة ما اختلفا في شرط يلحق بالعقد الذي يوجد بدونه العقد، وذلك لا يوجب التحالف كذلك ههنا، والمعنى: أن التحالف عرف بخلاف القياس بالنص فيما إذا وقع الاختلاف فيما هو من صلب العقد الذي لا يوجد العقد بدونه، فيبقى ما وراءه على أصل القياس، فإن قامت لأحديهما بينة فإنه يقضي ببينته طالباً كان أو مطلوباً، كما وإن أقاما جميعاً البينة فعلى قولهما لا شك أنه يقضى بعقد واحد ببينة رب السلم كما لو اختلفا في جنس المسلم فيه أو في قدره. وأما على قول محمد رحمه الله: ذكر في بعض المواضع أنه يقضي بعقدين وإنه قياس، وبه نأخذ؛ لأن الاختلاف في صفة الدين على جواب (130ب3) القياس جعل بمنزلة الاختلاف في أصل المعقود عليه. هذا إذا اختلفا في المسلم فيه ورأس المال

شيء لا يتعين بالتعين إن اختلفا في جنسه بأن قال رب السلم: أسلمت إليه عشرة دراهم في كر حنطة وقال المسلم إليه: لا بل أسلمت إلى ديناراً في كر حنطة، ولا بينة لواحد منهما لا يتحالفان قياساً، ويكون القول قول رب السلم؛ لأنهما اتفقا على حق رب السلم واختلفا في حق المسلم إليه؛ لأن المسلم إليه يدعي الدينار ورب السلم ينكر، فالقول قول رب السلم لا المنكر في الشرع. وفي الاستحسان: يتحالفان كما إذا اختلفا في جنس الثمن في بيع العين، فإن أقام البينة، فعند محمد يقضي بعقدين على رب السلم بدينار وعشرة دراهم، ويقضي على المسلم إليه بكري حنطة إن لم يتفرقا عن مجلس العقد؛ لأن القضاء بعقدين على هذا الوجه ممكن؛ لأن رأس المال دين والمسلم فيه كذلك ومحل الدين الذمة، وفي الذمة سعة فأمكن القضاء بعقدين، ومن أصله القضاء بعقدين إلا في موضع التعذر، ولم يذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة وأبي يوسف في هذه الصورة. وذكر ابن سماعة في «نوادره» عنهما: أنه يقضي بعقد واحد ببينة المسلم إليه وهو الصحيح؛ لأن الأصل عندهما أن يقضي بعقد واحد ما أمكن القضاء بعقد واحد يرد بينة رب السلم؛ لأن بينته قامت على إثبات العشرة وكر حنطة وكر حنطة ثابت له بإقرار المسلم إليه، فلا حاجة إلى إثباته بالبينة، والعشرة ثابتة للمسلم فبينة رب السلم قامت في حق العشرة على إثبات ما أقر به لغيره فهو معنى قولنا أمكن رد بينة رب السلم فأمكن القضاء بعقد واحد فيقضى به. وإن وقع الاختلاف في قدر رأس المال أو صفته، فالجواب فيما إذا وقع الاختلاف في صفة المسلم فيه أو قدره، فأما إذا اختلفا في المسلم فيه وفي رأس المال ورأس المال شيء لا يتعين بالتعيين إن اختلفا في جنس المسلم فيه وفي جنس رأس المال، ولا بينة لواحد منهما يتحالفا قياساً واستحساناً؛ لأن كل واحد منهما حصل مدعياً ومدعى عليه، المسلم إليه يدعي الدينار على رب السلم، ورب السلم يدعي الحنطة على المسلم إليه، والمسلم إليه ينكر، فيتحالفان قياساً واستحساناً كما في بيع العين، فإن أقام أحدهما بينة قبلت بينته، وإن أقاما البينة يقضي بالعقدين إن لم يتفرقا عن مجلس العقد بلا خلاف، أما عند محمد فظاهر، وأما عندهما؛ فلأن عندهما إنما يقضي بعقد واحد عند الإمكان ولا إمكان ههنا؛ لأن إمكان القضاء بعقد واحد ما يرد إحدى البينتين، أو بقول كل واحد منهما في إثبات الزيادة مع القضاء بعقد واحد، وهنا تعذر القضاء بعقد واحد يرد إحدى البينتين؛ لأن كل واحد منهما قامت في موضعها ومحلها؛ لأن رب السلم أقام البينة على الحنطة، والحنطة غير ثابتة له بإقرار المسلم إليه؛ لأن المسلم إليه منكر للحنطة، والمسلم إليه أقام البينة على الدينار، والدينار غير ثابت بإقرار رب السلم؛ لأن رب السلم منكر للدينار، فهو معنى قولنا: تعذر رد البينتين، وتعذر قبول واحد في إثبات الزيادة مع القضاء بعقد واحد؛ لأن الزيادة إنما تتحقق في جنس واحد لا في جنسين مختلفين، فالدينار لا يصلح زيادة في الدراهم، والدراهم لا تصلح زيادة في الدينار، والحنطة لا تصلح زيادة في الشعير، وكذا الشعير لا يصلح زيادة في الحنطة، فتعذر القضاء بعقد واحد من هذا الوجه فيقضي بعقدين ضرورة. وإن وقع الاختلاف في قدر المسلم فيه وفي قدر رأس المال ولا بينة لهما يتحالفان، وإذا أقام أحدهما بينة قبلت بينته، وإن أقام البينة قضى بعقدين عند محمد إن لم يتفرقا عن مجلس العقد، وعندهما: يقضي بعقد واحد إذ القضاء بعقد واحد ممكن بأن يقول: بينة كل واحد منهما على إثبات الزيادة في عقد واحد على ما أقر له صاحبه؛ لأن الجنس واحد، فيمكن القضاء بكل واحد من البينتين في عقد واحد من حيث إثبات الزيادة من غير إثبات عقد آخر، فلا ضرورة إلى القضاء بعقدين، فيقضي على رب السلم بعشرين ببينة المسلم إليه، ويقضي على المسلم إليه بكري حنطة ببينة رب السلم. وإن اختلفا في صفة رأس المال والمسلم فيه، فالجواب في البينة عندهم جميعاً كالجواب فيما إذا اختلفا في صفة رأس المال لا غير، فكل جواب عرفته ثمة في حق إقامة البينة عندهم جميعاً فهو الجواب هنا، هذا الذي ذكرنا إذا كان رأس المال دراهم أو دنانير. المسألة الثانية: إذا كان رأس المال عيناً بأن كان عرضاً إن اختلفا في جنس المسلم فيه، فإن الجواب في التحالف أن لا يتحالفا قياساً، ويكون القول قول المسلم إليه؛ لأنهما اتفقا على حق المسلم إليه، واختلفا في حق رب السلم؛ لأن رب السلم يدعي حنطة والمسلم إليه ينكر، فيجب أن يكون القول قول المسلم إليه ولا يتحالفان، ولكن في الاستحسان يتحالفان، ثم الجواب إلى آخره على ما قلنا. وإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته وإن أقاما جميعاً البينة، فإنه يقضي بعقد

واحد منهم جميعاً، أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف فلا إشكال؛ لأن عندهما يقضي بسلم واحد مع إمكان القضاء بسلمين في حال عدم الإمكان. أما على قول محمد؛ فلأنه تعذر القضاء بعقدين؛ لأن رأس المال عين، والعين متى جعلت رأس مال في السلم لا يمكن أن يجعل رأس مال في سلم آخر إلا بعد إثبات الشراء ثانياً من المسلم إليه ولم يمكن إثبات الشراء؛ لأن الشهود لم يشهدوا بذلك لتعذر القضاء بعقدين فوجب القضاء بعقد واحد، بخلاف ما لو كان رأس المال دراهم أو دنانير؛ لأنه يجب ديناً في الذمة وفي الذمة سعة، فيمكن القضاء بعشرين كما يمكن بعشرة فقد أمكن القضاء بعقدين، فلا يقضي بعقد واحد. وإن اختلفا في قدر المسلم فيه فالجواب في حق التحالف والبينة كالجواب في الفصل الأول عندهم جميعاً. وإن اختلفا في صفة المسلم فيه إن لم تقم لأحدهما بينة، فالقياس على ما مضى من الاستحسان أن يتحالفا، وفي الاستحسان: أن لا يتحالفا، وبالقياس نأخذ، ثم الجواب إلى آخره على ما بينا، وإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته. وإن أقاما جميعاً البينة يقضي بعقد واحد عندهم جميعاً؛ لأن القضاء بعقدين غير ممكن إلا بعد الشراء ثانياً من المسلم إليه، والشهود لم يشهدوا بالشراء. فإن اختلفا في جنس رأس المال ولم يقم لأحدهما بينة، القياس: أن لايتحالفا ويكون القول قول رب السلم، وفي الاستحسان: (131أ3) يتحالفان. وإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته لما بينا، وإن أقاما جميعاً البينة فعلى قول محمد رحمه الله يقضي بعقدين؛ لأن القضاء بالعقدين ممكن؛ لأن كل فريق شهد بعين لم يشهد به الآخر، والقضاء بعينين في عقدين ممكن، فيقضي بعقدين كما لو اختلفا في جنس رأس المال ورأس المال دين، وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يقضي بعقد واحد على رواية الكرخي وهو الأصح؛ لأن القضاء بعقد واحد ممكن برد أحد البينتين وهي بينة رب السلم؛ لأنها قامت على إثبات ماهو ثابت له بإقرار المسلم إليه، ولما أمكن رد إحدى البينتين أمكن القضاء بعقد واحد. وإن اختلفا بعقد في مقداره إن لم تقم لأحدهما بينة، فالقياس: أن يكون القول قول رب السلم ولا يتحالفان؛ لأن المسلم إليه يدعي زيادة ثوب في رأس المال وهو ينكر، وفي جانب المسلم فيه اتفقا على أنه كر حنطة إلا أنهما يتحالفان استحساناً، وإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته. وإن أقاما جميعاً البينة يقضي بعقد واحد عندهم؛ لأن القضاء بعقدين غير ممكن؛ لأن أحد الثوبين باتفاق البينتين صار رأس المال في عقده، فلا يتصور أن يجعل رأس المال في عقد إلا بإدراج زيادة لم يشهد به الشهود وهو الشراء. وإن اختلفا في صفته إن لم يقم لأحدهما بينة، فإنهما لا يتحالفان قياساً واستحساناً، ويكون القول قول رب السلم؛ لأنهما اختلفا في صفة رأس المال وهو عين،

فكان بمنزلة ما لو اختلفا في صفة المعقود عليه في بيع العين، فيكون القول قول منكر الزيادة قياساً واستحساناً، فإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته، وإن أقاما جميعاً البينة، فإنه يقضي بعقد واحد عندهم جميعاً؛ لأن رأس المال واحد (وهو) عين. وإن اختلفا فهما إن اختلفا في جنس رأس المال وجنس المسلم فيه إن لم تقم لأحدهما بينة، فإنهما يتحالفان قياساً واستحساناً؛ لأن كل واحد منهما حصل مدعياً ومدعى عليه، وإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته وإن أقاما جميعاً البينة يقضي بعقدين لما ذكرنا فيما إذا اختلفا في جنس رأس المال والمسلم فيه فهما دينان. وإن اختلفا في قدر رأس المال والمسلم فيه إن لم تقم لأحدهما بينته، فالجواب في التحالف أنهما يتحالفان قياساً واستحساناً، وإن قامت لأحدهما بينة يقضي ببينته، وإن أقاما جميعاً البينة، فإنه يقضي بعقد واحد عندهم جميعاً ويقبل بينة كل واحد منهما في إثبات الزيادة؛ لأن القضاء بعقدين متعذر لما ذكرنا، ويمكن العمل بالبينتين من حيث إثبات الزيادة؛ لأن الجنس واحد من الجانبين، فإنما إذا اختلفا في صفة رأس المال والمسلم فيه ولم يقم لأحدهما بينة، فإنهما يتحالفان قياساً واستحساناً، وإن قامت لأحدهما بينة فإنه يقضي ببينته، وإن أقاما جميعاً البينة فإنه يقضي بعقد واحد وتقبل بينة كل واحد منهما في إثبات الزيادة يقضي بثوب هو أحد عشر ذراعاً وبكر حنطة جيدة؛ لأن القضاء بالعقدين متعذر؛ لأن رأس المال عين ولا بد من قبول كل واحد من البينتين؛ لأنهما قامت على إثبات ما هو غير ثابت، فيقضي بعقد واحد بالزيادة الثابتة بالبينتين. هذا الذي ذكرنا كله إذا اختلفا في المسلم فيه أو في رأس المال أو فيهما. الوجه الثاني: إذا اختلفا في بيان مكان الإيفاء، فقال الطالب: شرطت لي الإيفاء في مكان كذا، وقال المطلوب: لا، بل شرطت لك الإيفاء في مكان كذا لمكان دون ذلك المكان، ولم تقم لهما بينة، فعلى قول أبي حنيفة لا يتحالفان قياساً واستحساناً، ويكون القول قول المسلم إليه مع يمينه، وقال أبو يوسف ومحمد: ذهبا في ذلك إلى أنهما اختلفا في مقدار المسلم فيه من حيث المعنى أو في مقدار رأس المال فيتحالفا، كما لو اختلفا في مقدار رأس المال، وإنما قلنا ذلك؛ لأن المسلم إليه يلزمه زيادة قفيز أو قفيزين لمؤنة الكراء متى لزمه النقل إلى المكان الذي يدعيه غير رب السلم تلزمه زيادة درهم لو لزمه النقل من المكان الذي يدعيه المسلم إليه، ومؤنة الكراء تلحق بأصل المال حتى لو كان له أن يضم مؤنة الكراء إلى الثمن ويبيعه مرابحة على الكل. فإذا صارت مؤنة النقل ملحقاً بأصل المعقود عليه، فكأن رب السلم يدعي عليه اثني عشر قفيزاً بعشرة دراهم وهو يقول: عشرة أقفزة فكأن المسلم إليه يدعي عليه أحد عشر أو اثني عشر درهماً بكر حنطة، فرب السلم يقول: عشرة دراهم، ينزل اختلافهما في بيان مكان الايفاء من حيث منزلة اختلافهما في مقدار المسلم فيه أو في رأس المال، وذلك مما يوجب التحالف هذا، وهذا الخلاف ما لو اختلفا في مقدار الأصل، فإنهما لا يتحالفان، ويكون القول قول رب السلم في الزيادة؛ لأن الاختلاف في الأجل ليس باختلاف في المعقود

عليه ولا في بدله لا من حيث الحقيقة ولا من حيث المعنى، وذلك لأن رب السلم لا تلزمه زيادة مال بسبب نقصان الأجل، فلا يكون الاختلاف في الأجل اختلافاً في المعقود عليه ولا في بدله، والتحالف أمر عرف بخلاف القياس بالنص، والنص إنما ورد بإيجاب التحالف إذا اختلفا في بدل المعقود عليه أو في المعقود عليه، فإذا لم يوجد الاختلاف في المعقود عليه ولا في بدله لا حقيقة ولا معنى يرد إلى ما يقتضيه القياس، والقياس يوجب أن يكون القول قول المنكر وعلى المدعي فبهذا تعلقا. وأما أبو حنيفة ذهب في ذلك إلى أن التحالف وجب نصاً بخلاف القياس، والنص الوارد بإيجاب التحالف متى اختلفا في المعقود عليه أو في بدله لا يكون وارداً دلالة فيما إذا اختلفا في مكان الإيفاء؛ لأن مؤنة الكراء معقود عليه من وجه، وليس بمعقود عليه من وجه من حيث إنه ليس بإزائه بدل مقابلة لم يكن معقوداً عليه، ومن حيث إنه قال يلزمه سبب تسليم المعقود عليه كان معقوداً عليه، ولهذا قالوا في بيع المرابحة أنه يقول: قام علي بكذا ولا يقول اشتريت بكذا، ولهذا قال محمد رحمه الله: إنهما إذا أقاما جميعاً البينة، فإنه لايقضي بعقدين، وإن أمكن القضاء بالعقدين كما إذا اختلفا في مقدار الأجل وقامت لهما بينة، وإذا كان بمنزلة المعقود عليه من وجه لم يكن النص الوارد بإيجاب التحليف متى اختلفا في المعقود أو في بدله من كل وجه وأرادا نصاً دلالة، ورد هذا إلى ما يقتضيه القياس، والقياس يقتضي أن يكون القول قول المسلم إليه؛ لأن رب السلم يدعي عليه زيادة وهو ينكر ذلك، أو يقال: اختلفا في شرط ملحق بالعقد يوجد العقد بدونه، فلا يوجب التحالف، وإن كان لا يصح العقد إلا به قياساً على الأجل، وإنما قلنا ذلك؛ لأن (131ب3) بيان مكان الإيفاء شرط ملحق بالسلم، والسلم يوجد بدون بيان مكان الإيفاء إلا أنه يكون فاسداً كالأجل، والدليل على أن الاختلاف في المكان كالاختلاف في الأجل أن الأسفار تختلف (باختلاف) المواضع والأمكنة كما تختلف باختلاف الأيام والأزمنة، ألا ترى أن التجار يجلبون الطعام وغيرها من السلع من بلد إلى بلد لطلب الربح كما يحبسونها لوقت رجاء الربح بسبب تغير السعر، ثم الاختلاف في الأجل لم يوجب التحالف، فكذا في بيان مكان الإيفاء اختلافاً في قدر المسلم فيه أو في رأس المال معنى، فمن حيث الحقيقة اختلاف في شرط ملحق للعقد يوجد العقد بدونه كالأجل، فيجب التحالف من وجه ولا يجب من وجه، فلا يجب هذا إن لم تقم بينة أحدهما، وإن قامت لأحدهما بينة، فإنه يقضي ببينته طالباً كان أو مطلوباً لما ذكرنا. وإن أقاما جميعاً البينة ذكرنا أنه يقضي بينة الطالب؛ لأن في بينته زيادة إثبات، وهو النقل إلى المكان الذي يدعيه بنفيه بينة المسلم إليه، فكانت أولى بالقبول ويقضي بعقد واحد. وهذا عند أبي يوسف رحمه الله لا إشكال؛ لأنه على مذهبه لو اختلفا في المقدار المعقود عليه من حيث الحقيقة وقامت لهما بينة لا يقضي بعقدين فهذا أولى.l وإنما يشكل على قول محمد رحمه الله؛ لأن الأصل عنده أن يقضى بعقدين متى اختلفا في مقدار المعقود عليه على الحقيقة ليكون عملاً بالبينتين، وهنا قال: يقضي بعقد واحد مع إمكان

القضاء بعقدين بأن يقضي ببينة رب السلم بعشرة دراهم في كر حنطة إلى المكان الذي ادعاه رب السلم وببينة المسلم إليه بعشرة دراهم في كر حنطة إلى المكان الذي يدعيه المسلم إليه، ولكن وجه الفرق له ما ذكرنا أن مؤنة الكراء معقود عليه من وجه دون وجه على ما بينا، والاختلاف في مقدار المعقود عليه من كل وجه، ورأس المال دين يوجب القضاء بعقدين متى قامت لهما بينة على مذهبه، والتحالف إذا لم تقم لهما بينة والاختلاف فيما ليس بمعقود عليه من كل وجه كالأجل لا يوجب القضاء بعقدين متى قامت لهما بينة ولا التحالف إذا لم يقم لهما بينة، فإذا كان لهما بينة عملنا بالشبهين في حق حكمين مختلفين، فعملنا بشبه المعقود عليه في حق التحالف ليمكننا العمل بالشبه الآخر؛ لأنا متى عملنا بشبه المعقود عليه في حق القضاء بعقدين يلزمنا إظهار هذا الشبه في حق التحالف من الطريق الأولى؛ لأن التحالف أسهل ثبوتاً من القضاء بعقدين حتى وجب التحالف في بيع العين في موضع لا يجب القضاء بعقدين، هذا الذي ذكرنا إذا اختلفا في بيان مكان الإيفاء. الوجه الثالث: أما إذا اختلفا في الأجل، فهذا لا يخلو من ثلاثة أوجه: أما إن اختلفا في أصل الأجل، بأن قال أحدهما كان بأجل، وقال الآخر: بغير أجل أو اختلفا في مقدار الأجل بأن قال رب السلم: كان الأجل شهراً، وقال المسلم إليه: لا بل شهرين، أو اختلفا في المضي بأن قال رب السلم: كان شهراً وقد مضى، وقال المسلم إليه: لم يمض بعد، وإنما أسلمت إلي الساعة. فإن اختلفا في أول وجه، فهذا على وجهين: إما أن يكون مدعي الأجل الطالب أو المطلوب، فإن كان مدعي الأجل وهو الطالب، والمطلوب ينكر ولم تقم لهما بينة، فالقياس: أن يكون القول قول المطلوب مع يمينه، وفي الاستحسان: يكون القول قول الطالب مع يمنيه. وجه القياس في ذلك: وهو أن المطلوب بإنكار الأجل إن كان يدعي فساد العقد إلا أنه يدفع استحقاق مال عن نفسه بدعوى الفساد، فيكون القول قوله إذا لم يسبق منه إقرار بالجواز. بيان ما قلنا: إن السلم في جانب المسلم إليه يبيع بأقل الثمنين، فيكون ما يستحق عليه من المسلم فيه أكثر مما يحصل له من رأس المال، فكان دافعاً عن نفسه استحقاق مال بدعوى الفساد فيكون القول قوله. وإن كان مدعياً لفساد العقد كالمضارب ورب المال إذا اختلفا فقال رب المال: شرطت له نصف الربح إلا عشرة، وقال المضارب: شرطت لي ثلثه أو النصف، كان القول قول رب المال، وإن كان مدعياً للفساد بما ادعى؛ لأنه دافع بدعوى الفساد استحقاقاً عن نفسه، على ما مر بيانه قبل هذا. وللاستحسان طريقان في ذلك أحدهما: أن يقال إن المطلوب لما أقر بالسلم فقد أقر بالأجل؛ لأن السلم عبارة عن أخذ مال عاجل بآجل فصار مقراً بالأجل راجعاً عنه، فلا يصدق في الرجوع. والثاني: وهو أن المطلوب بإنكار الأجل يدعي فساد العقد من غير أن يدفع عن نفسه استحقاقاً؛ لأن المسلم فيه غير مستحق للحال، متى ثبت جواز العقد لا يكون بدعوى الفساد دافعاً استحقاقاً عن نفسه بما يدعي من الفساد، فإنه لا يصدق في دعوى الفساد دافعاً استحقاقاً عن نفسه بما يدعي من الفساد، فإنه لا يصدق في دعوى الفساد كما في النكاح، وكما في المضارب على ما مر، هذا إذا كان الطالب هو مدعي الأجل. فأما إذا كان المطلوب هو يدعي الأجل، قال أبو حنيفة رحمه الله: القول قوله استحساناً، وقال أبو يوسف ومحمد: القول قول الطالب قياساً. وجه قولهما: أن الطالب بإنكار الأجل وإن كان يدعي فساد العقد إلا أنه بدعوى الفساد يدفع عن نفسه استحقاق مال للحال؛ لأن رأس المال يستحق عليه للحال في السلم متى ثبت جواز السلم، ولا يحصل له للحال عرض إنما يحصل له في الثاني؛ لأن المسلم فيه أجل، والآجل لا يعادل العاجل؛ لأن النقد خير من النسيئة، وقد ذكرنا أن أحدالمتعاقدين إذا ادعى الفساد يكون القول قوله، إذا كان دافعاً عن نفسه استحقاقاً، بخلاف ما لو أنكر المطلوب الأجل وادعى الطالب ذلك؛ لأن المطلوب بإنكار الأجل يدعي فساد العقد من

غير أن يدفع عن نفسه استحقاقاً للحال؛ لأن المسلم فيه لا يستحق عليه للحال، ومتى جاز العقد فيكون القول قول من يدعي الصحة. ولأبي حنيفة رحمه الله: أن كل واحد منهما بإنكار الأجل مدعٍ للفساد من غير دفع الاستحقاق عن نفسه، فيكون القول قول من يدعي الجواز وإنما قلنا ذلك؛ لأن ما يحصل لكل واحد منهما في باب السلم مثل ما يستحق عليه من حيث المعنى في جانب المسلم إليه إن كان يستحق عليه زيادة؛ لأن يبيع بأقل الثمنين من جانبه فهو أجل، وما يحصل له، وإن كان ناقصاً فهو عاجله، والعاجل وإن كان قليلاً خير من الآجل، والزيادة خير من الناقص، فكان في كل واحد من البدلين ضرب نقصان ونوع زيادة فاستويا، فالتحق السلم لهذا المعنى بالنكاح وببيع العين فيسقط اعتبار الاستحقاق في كل واحد من الجانين كأنه لا استحقاق أصلاً، فصار منكر الأجل مدعياً للفساد من غير أن يدفع عن نفسه (132أ3) استحقاقاً، فيكون القول قول من يدعي الصحة، وهذا خلاف رب المال إذا ادعى فساد المضاربة عن نفسه استحقاق مال؛ لأن ما يستحق عليه خير مما يحصل له؛ لأنه يستحق عليه عين مال ويحصل له منفعة والعين خير من المنفعة. وفي باب السلم ما يحصل لكل واحد منهما عين مال إلا أن في كل واحد منهما نوع نقصان ونوع زيادة فاستويا زال اعتبار الاستحقاق من الجانبين فيبقى دعوى الفساد من غير دعوى الاستحقاق فيكون القول قول من ينكر الفساد؛ لأن الظاهر يصلح لرفع المعصية عن فعل الغير، هذا إذا لم يقم لأحدهما بينة. وإن قامت لأحدهما بينة قبلت بينته، وإن أقاما البينة فالبينة بينة من يدعي الأجل؛ لأنه يثبت زيادة شرط في العقد ليس في بينة الآخر، هذا إذا اختلفا في أصل الأجل. وإن اختلفا في مقدار الأجل إن لم يقم لأحدهما بينة فالقول قول الطالب مع يمنيه

ولا يتحالفان عند علمائنا الثلاثة، وقال زفر: يتحالفان. وجه قول زفر قوله عليه السلام: «إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا» فقد أوجب التحالف عند اختلاف المتبايعين بلا فصل بينما إذا وقع الاختلاف بينهما في المعقود عليه أو في بدله أو شرط ملحق بالعقد، فلو خليت فظاهر الحديث كنت أقول بأنهما إذا اختلفا في الأجل أو في خيار الشرط في بيع العين يتحالفان إلا أني تركت ظاهره بالإجماع، ولا إجماع على ظاهره؛ لأنهما متبايعان اختلفا فيما لا يجوز العقد بدونه، فوجب أن يتحالفا قياساً على مالو اختلفا في مقدار المسلم فيه أو في مقدار رأس المال، بخلاف ما إذا اختلفا في الأجل وخيار الشرط في بيع العين، فإنهما يتحالفان؛ لأن الأجل في بيع العين وخيار الشرط مما يجوز العقد بدونه، فلم يكن الاختلاف الواقع فيه كالاختلاف الواقع في مقدار الثمن أو في مقدار المعقود عليه. وعلماؤنا رحمهم الله ذهبوا في ذلك إلى أن التحالف واجب بخلاف القياس من الوجه الذي ذكرنا، والشرع على وجوبها باختلافها في المعقود عليه أو في الثمن؛ لأنه علق وجوب التحالف للمتبايعين، وهذا اسم مشتق من البيع فيتعلق وجوب التحالف باختلافهما فيما يوجد به البيع، والبيع يوجد بالمبيع وبالثمن لا بالأجل ولا بشرط ملحق به، وإذا كان كذلك صار تقدير الحديث كأنه قال إذا اختلف المتبايعان في المبيع أو في الثمن تحالفا وترادا، ولو نص على هذا لا يجب التحالف في شرط ملحق به لا قياساً ولا دلالة؛ لأن الشرط الملحق بالعقد دون المبيع والثمن؛ ولأنهما متبايعان اختلفا فيما يوجد العقد بدونه، فوجب أن لا يتحالفا قياساً على ما لو اختلفا في الأجل والخيار في بيع العين، وإنما قلنا ذلك؛ لأن السلم بدون الأجل يكون سلماً إلا أنه يكون فاسداً بخلاف ما لو اختلفا في مقدار المسلم فيه ورأس المال؛ لأنهما اختلفا فيما هو من صلب العقد الذي لا يوجد العقد بدونه، هذا إذا لم يقم لأحدهما بينة يقضي ببينته إن قامت للمطلوب؛ فلأنه يثبت الزيادة، وإن قامت للطالب؛ فلأنه يثبت حادثا يسقط به الثمن عن نفسه، فيقبل كالمشتري إذا تفرد بإقامة البينة على ألف درهم. وإن أقاما جميعاً البينة، فالبينة بينة المطلوب؛ لأنه يدعي زيادة الأجل ففي بينته زيادة إثبات ولا يقضي بعقدين عندهم جميعاً، عند أبي يوسف لا إشكال، وعند محمد؛ لأن الاختلاف في مقدار الأجل لا يجعل العقد عقدين، ولهذا لم يتحالفا بخلاف ما إذا اختلفا في مقدار المسلم فيه أو في رأس المال؛ لأن ما يدعيه كل واحد منهما من العقد غير ما يدعيه صاحبه ولهذا تحالفا. وإن اختلفا في المضي إن لم تقم لأحدهما بينة، فالقول قول المطلوب أنه لم يمض؛ لأن الطالب يدعي توجه المطالبة بعدما لم يكن متوجهاً والمطلوب ينكر، فيكون المطلوب متمسكاً بما كان ثابتاً، فيكون القول قوله، وإن قامت لأحدهما بينة يقبل ببينته،

وإن قامت للمطلوب لا شك أنه يقبل ببينة؛ لأنه يثبت زيادة أجل ببينته، وإن قامت للطالب فكذلك تقبل بينته؛ لأنه يدعي إيفاء الأجل، وتوجه المطالبة على المسلم إليه بعد ما لم يكن ثابتاً فتقبل ببينته. وإن أقاما جميعاً البينة فالبينة بينة المطلوب؛ لأن ببينته يثبت زيادة أجل من حيث المعنى، فكان القول قوله في شيء، والبينة بينته في شيء آخر، وهذا جائز كما في المودع الرد كان القول قوله؛ لأنه منكر للضمان والبينة بينته؛ لأنه مثبت للرد كذلك هذا. الوجه الرابع: إذا وقع الاختلاف بينهما في قبض رأس المال في المجلس، فأقام رب السلم البينة أنهما تفرقا قبل قبض رأس المال وأقام المسلم البينة أنه قبض رأس المال قبل الافتراق، فإن كان رأس المال في يد المسلم إليه، فالبينة بينة المسلم إليه والسلم جائز؛ لأن بينته قامت على إثبات القبض وبينة رب السلم قامت على النفي، والبينات مقبولة للإثبات دون النفي. والثاني: أن ببينته تثبت عقداً جائزاً وبينة رب السلم تثبت عقداً فاسداً، ولا يقال بأنه لا يدعي على رب السلم شيئاً إذا كان رأس المال في يده بل يقر له بكر حنطة ويريد أن يثبت إقراره لغيره، فكيف يقبل بينته؛ لأنا نقول موضوع المسألة أن رب السلم ينكر قبضه في مجلس العقد ويدعي عليه غصباً بعد التفرق أو وديعة حتى يكون مدعياً استحقاق ما في يد المسلم إليه من الدراهم، فيكون القول قول المسلم إليه لإنكاره استحقاق ما في يده، وتقبل بينته أيضاً؛ لأنها قامت على الإثبات، وفي قبولها فائدة وهو سقوط الثمن. ولو كانت الدراهم في يدي رب السلم والمسلم إليه يقول: قبضت ثم غصبت مني بعد ذلك، أو أودعتك، ورب السلم يقول: لم يقبض وتفرقنا قبل القبض، وأقاما البينة فالبينة بينة المسلم إليه؛ لأنها قامت على إثبات القبض واستحقاق ما في يدرب السلم. ثم ذكر محمد رحمه الله جواب هذه المسألة فيما إذا قامت لهما بينة ولم يذكر الجواب فيما إذا قامت لأحدهما بينة أو لم تقم لهما أصلاً، ولا بد من معرفته فنقول إن قامت لأحدهما بينة على الوجه الذي ذكرنا إن قامت لرب السلم لا تقبل؛ لأنها قامت على النفي، فلا تقبل. وإن كان لو قبلت كان قبولها استحقاق ما في يد المسلم إليه كبينة رب الوديعة لا تقبل على نفي الرد، وإن كان في ذلك إيجاب الضمان وبينة المسلم إليه تقبل؛ لأنها قامت على الإثبات، وفيها سقوط اليمين عنه أو استحقاق ما في يد الطالب. وإن لم تقم لأحدهما (132ب3) بينة، فهذا على وجهين: إما أن تكون الدراهم في يد المطلوب أو في يد الطالب، فإن كانت في يد المطلوب إن كان الطالب لا يدعي عليه غصباً ولا وديعة، وإنما يقول: ما قبضت رأس المال، فإنه لا يمين على واحد منهما؛ لأن اليمين يجب على المنكر، وأحدهما لا يدعي على صاحبه حقاً، أما المطلوب فلأنه يقر بالسلم للطالب، وليس يدعي عليه شيئاً، والطالب يكذبه في إقراره ولا يدعي على المطلوب شيئاً. وإن ادعى الطالب الغصب عنه أو الوديعة ما أنكر القبض في المجلس، فالقول قول المطلوب؛ لأن المطلوب أقر للطالب بكر حنطة وكذبه الطالب

فيما أقر له وادعى على المطلوب استحقاق ما في يده من الدراهم والمطلوب أنكر، فيكون القول قوله مع يمينه. كمن أقر لإنسان بدينار وكذبه المقر له، وادعى عليه عشرة دراهم في يد رب السلم، فإن كان المطلوب ادعى القبض ولم يدع على الطالب غصباً ولا وديعة بعد ذلك، فلا يمين على واحد منهما؛ لأن المطلوب أقر له بالسلم وكذبه الطالب في إقراره، ولم يدع الطالب على المقر شيئاً، ولا المقر على الطالب شيئاً. وإن ادعى المطلوب الغصب أو الوديعة بعد ما ادعى قبض رأس المال في المجلس وأنكر الطالب، فمن مشايخنا من قال: القول قول المطلوب مع يمينه فيحلف ويجوز السلم، ويأخذ رأس المال من رب السلم، وذهبوا في ذلك إلى أن المطلوب ادعى صحة العقد، ورب السلم ادعى فساده، فيكون القول قول من يدعي الصحة كما لو اختلفا في أصل الأجل كان القول قول من يدعي الأجل عند أبي حنيفة على كل حال. وإذا جعلنا القول قوله مع اليمين وجوزنا السلم وأثبتنا له استحقاق ما في يد رب السلم يكون الاستحقاق مضافاً إلى إقرار الطالب؛ لأن الطالب يجعل مقراً بالقبض، ثم ينكر؛ لأن السلم عبارة عن أخذ عاجل مقراً بالقبض، ثم ينكر؛ لأن السلم عبارة عن أخذ عاجل بآجل، فيصير مقراً بتسليم رأس المال، ثم راجعاً بعد ذلك، فيكون الاستحقاق مضافاً إلى إقرار الطالب لا إلى يمينه كما في الأجل. وكما لو اختلف الزوجان في النكاح بشهود وغير شهود جعل القول قول من يدعي النكاح بشهود، وإن كان يستحق على ما يدعيه لصاحبه؛ لأنه لا يصير مستحقاً بإقراره، فإن الإقرار بالنكاح إقرار بشهود؛ لأنه لا جواز للنكاح إلا بشهود. ومنهم من قال: بأن هذا هكذا إذا قال الطالب لم يقبض مفصولاً بأن قال: أسلمت إليك وسكت، ثم قال: إلا أنك لم تقبض، أو قال: أسلمت إليك ولم تقبض بالعطف لا بالاستثناء؛ لأنه مع العطف اعتبر مفصولاً كما في المضاربة إذا قال رب المال: شرطت لك نصف الربح وعشرة أعشر هذا مفصولاً، وكما في الطلاق قبل الدخول اعتبر قوله وطالق ثانياً مفصولاً بخلاف الاستثناء، ومتى كانت الحالة هذه يكون القول قول المطلوب مع يمينه؛ لأن السلم في هذه الحالة عبارة عن التسليم لا عن العقد، ولهذا قال بأن المطلوب إذا أقر بالسلم، ثم قال: إني لم أقبض مفصولاً، وقال رب السلم: قبضت كان القول قول رب السلم استحساناً مع يمينه، قال:؛ لأن المطلوب أقر بالقبض، فإذا صار عبارة عن التسليم صار رب السلم مقراً بالقبض، ثم راجعاً عنه فلا يصدق، فأما إذا قال موصولاً: لم يقبض والمطلوب يقول: قبضت يجب أن يكون القول قول الطالب في هذه المسألة ولا يكون القول قول المطلوب؛ لأن السلم في هذه الحالة جعل عبارة عن العقد لا عن السلم، ولهذا صدق المطلوب إذا أقر بالسلم وأنكر القبض موصولاً، وإذا جعل عبارة عن العقد لا عن التسليم لا يكون الطالب مقراً بالقبض، ثم منكر القبض بعد الإقرار ومتى لم يجعل مقراً بالقبض متى جعلنا القول قول المطلوب مع يمينه استحق بيمينه مالاً ادعاه على الطالب، واليمين حجة للدفع لا للاستحقاق لظاهر الحال بخلاف الأجل؛ لأن

السلم لا جواز له بدون الأجل بحال من الأحوال، فإنه متى وقع بغير أجل لا ينقلب جائزاً بضرب الأجل، فيكون الإقرار بالسلم لا محالة إقرار بالأجل سواء اعتبر عقداً أو تسليماً، فأما السلم فهو العقد يجوز من غير قبض رأس المال وإنما القبض شرط إيفاء العقد على الصحة، فأمكننا أن نجعل السلم عبارة عن العقد لا عن القبض والتسليم. الوجه الخامس: إذا جاء المسلم إليه بعد ما تفرقا عن المجلس ببعض رأس المال، وقال وجدته زيوفاً إن صدقه بذلك رب السلم كان له أن يرده على رب السلم، وإن كذبه في ذلك وأنكر أن يكون من دراهمه وادعى المسلم إليه أنه من دراهمه، فهذه المسألة على ستة أوجه: إما أن يكون المسلم إليه أقر قبل ذلك، فقال: قبضت الجياد، أو قال: قبضت حقي، أو قال: قبضت رأس المال، أو قال: استوفيت الدراهم، وفي هذه الوجوه لتعريفه، لا تسمع دعواه للزيافة حتى لا يستحلف رب السلم؛ لأنه متناقض في دعوى الزيادة؛ لأنه أقر بقبض الجياد فظاهر، وأما في قوله استوفيت الدراهم؛ لأن الاستيفاء عبارة عن تمام الحق، فكأنه قال: استوفيت الدراهم التي هي تمام حقي وتمام حقه في الجياد. وأما إذا قال قبضت الدراهم فالقياس أن يكون القول قول رب السلم؛ لأن المسلم إليه يدعي على رب السلم فسخ القبض، فليرجع عليه بالجياد ورب السلم ينكر، وفي الاستحسان: القول قول المسلم إليه؛ لأن المسلم إليه بدعوى الزيافة منكر قبض حقه، ولم يسبق منه إلا الإقرار بقبض مطلق الدراهم، واسم الدراهم مطلقاً كما يتناول الجياد يتناول الزيوف، ورب السلم يدعي إيفاء الحق فيكون قول المسلم إليه، وأما إذا قال قبضت فالقول قول المسلم إليه فههنا أولى. وأما إذا قال: وجدتها ستوقة أو رصاصاً، ففي الوجوه لتعريفه لا شك أن لا يقبل قوله وكذلك في الوجه الخامس، وهو: ما إذا قال: قبضت الدراهم بعد ما أقر بقبض الدراهم؛ لأن الستوق والرصاص ليسا من جنس الدراهم بعد ما أقر بقبض الدراهم. وفي الوجه السادس وهو: ما إذا قال: قبضت يقبل قوله؛ لأنه أقر بمطلق القبض لا بقبض الدراهم، فبدعواه أن ما قبض ستوقة أو رصاص (133أ3) لا يكون متناقضاً، وإذا جاء المسلم إليه بدراهم ستوقة أو رصاص وجدها في رأس المال، وقال: هذا نصف رأس المال وقال رب السلم: هو ثلث رأس المال، فالقول قول المسلم إليه، ولو كان زيوفاً أو نبهرجة أو مستحقة واختلفا في مثل ذلك، فالقول قول رب السلم مع يمينه ذكر «القدروي» المسألة على هذا الوجه. والفرق: وهو أن قبض المستحق والزيوف وقع صحيحاً، وإن كان أحدهما على سبيل النفاذ والآخر على سبيل التوقف، وإنما ينتقض بالرد بعد الحكم بالصحة، فالمسلم إليه يدعي الانتقاض في النصف ورب السلم ينكر فيما زاد على الثلث، فيكون القول قول رب السلم مع يمينه، أما في الستوقة والرصاص القبض لم يقع صحيحاً، ولهذا لو تجوز به لا يجوز، فكان الاختلاف في قدر المقبوض، ورب السلم يدعي زيادة في القبض والمسلم إليه ينكر، فيكون القول قول المسلم إليه مع يمينه.

الوجه السادس: رجل قال لآخر أسلمت إلي عشرة دراهم في كر حنطة إلا أني لم أقبضها، فإن ذكر قوله إلا أني لم أقبضها موصولاً بكلامه صدق قياساً واستحساناً، وإن ذكر مفصولاً بأن سكت ساعة، ثم قال: إلا أني لم أقبضها، صدق قياساً، ولم يصدق استحساناً، وهذا؛ لأن قوله: إلا أني لم أقبضها بيان تغيير لا بيان تقرير؛ لأن قوله: أسلمت إلي، على جواب الاستحسان صار عبارة عن قوله أسلمت إلي رأس المال، لا عن قوله باشرت معي عقد السلم؛ لأن قوله أسلمت إن صار للعقد حقيقة بسبب الشرع، والاستعمال نفي للقبض حقيقة بالشرع والاستعمال أيضاً وترجح حقيقة القبض بحكم الوضع، فإنه في الأصل موضوع للتسليم لا للعقد. وإذا ترجح أحد الاحتمالين على الآخر صار الاسم للراجح حقيقة وللآخر مجازاً، وإذا صار هذا الاسم مجازاً للعقد صار قوله عنيت بالعقد إرادة للمجاز، وإرادة المجاز من الكلام يغير الكلام من حيث الحقيقة، ولكنه بيان من حيث إن العرب تتكلم بالحقيقة وتريد المجاز، فهو معنى قولنا: إن هذا بيان تغيير فيصح موصولاً، ثم إذا لم يصدق على جواب الاستحسان ذكر أن القول قول الطالب مع يمينه، وكان ينبغي أن لا يستحلف الطالب على جواب الاستحسان؛ لأن قوله: أسلمت إلي على جواب الاستحسان صار عبارة عن قوله أسلمت إلي رأس المال. ولو قال: أسلمت إليَّ رأس المال، ثم قال بعد ذلك: لم أقبض، لا يصح دعواه حتى يستحلف الطالب على دعواه؛ لأنه صار مناقضاً في الدعوى كذا ههنا، والجواب إنما لا يصدق في دعوى العقد على طريق الاستحسان؛ لأنه ادعى المجاز من كلامه لا لأنه مناقض؛ لأن المناقضة إنما تثبت بضد ما أقر له من كل وجه بأن قال: قبضت، ثم قال: لم أقبض، وههنا لم يقر بصريح القبض، وإنما أقر بالسلم، وإنه يحتمل العقد مجازاً، وإن كان حقيقة للتسليم لا للعقد، وإذا كان محتملاً للمجاز لا يصير مناقضاً في قوله لم أقبض فيكون دعواه صحيحاً، ومن ادعى دعوى صحيحاً يستحلف خصمه على دعواه هذا إذا قال: أسلمت إليَّ.k أما إذا قال: دفعت إلي عشرة، أو قال: نقدتني لكني لم أقبضها، قال أبو يوسف: لا يصدق وصل وإن فصل، كما لو قال: قبضت، ثم قال: لم أقبض وقال محمد: يصدق إن وصل، وإن فصل لا يصدق، والمسألة معروفة في كتاب الإقرار. نوع آخر منه في شرط الإيفاء والحمل ومسائلها: إذا شرط رب السلم على المسلم إليه أن يوفيه السلم في مصر كذا، ففي أي مكان دفعه إليه من ذلك المصر فله ذلك، وليس لرب السلم أن يكلفه تسليمه في موضع آخر، فقد جوز المسلم من غير بيان مكان الإيفاء في المصر إنما فعل كذلك؛ لأن بتأمن محالها واختلاف أماكنها جعل كمكان واحد حكماً؛ لأن القيمة لا تختلف بتفاوت محال المصر، وإذا كان كذلك صار مكان الإيفاء معلوماً، فجاز السلم، وله أن يوفيه من أي مكان شاء من ذلك المصر؛ لأن المصر لما جعل

كمكان واحد من حيث الحكم صار كأنه شرط عليها الإيفاء في مكان واحد من حيث الحقيقة، ولو كان كذلك ففي أي ناحية من ذلك المكان أوفاه فله ذلك، وليس لرب السلم أن يعين مكاناً آخر كذا ههنا. وإن اختلفا فقال رب السلم: شرطت لي أن توفني في محلة كذا، وقال رب السلم: أعطيك في محلة أخرى غير دارك أجبر رب السلم على القبول لما ذكر، وإذا شرط رب السلم أن يوفيه إياه في مكان كذا، فقال المسلم إليه لرب السلم: خذه في غير ذلك المكان وخذ مني الكراء فأخذه جائز ولا يسلم له الكراء أما أخذ التسليم فلأنه استوفى في عين الحق وأما عدم سلامة الكراء؛ لأن المأخوذ صار ملكاً لرب السلم بالأخذ فهذا إذا أخذ الكراء من المسلم إليه، فإنما أخذ الكراء لينقل ملك نفسه، والإنسان بنقل ملك نفسه لا يستوجب الكراء على غيره، وإذا لم يسلم له الكراء كان له الخيار، إن شاء أمسك المقبوض ورد الكراء، وإن شاء رد للمقبوض مع الكراء ليوفيه في المكان المشروط؛ لأنه إنما رضي بقبضه في غير المكان المشروط بشرط أن يسلم له الكراء، فإذا لم يسلم له الكراء، فقد تغير عليه بشرطه فتخير، قالوا: وإنما يتخير إذا كان المقبوض قائماً، وأما إذا هلك لا خيار له؛ لأنه إنما يثبت الخيار لينتقض قبضه، وإنما يمكنه نقض قبضه قبل الهلاك لا بعد الهلاك، فإذا شرط رب السلم على المسلم إليه أن يحمل المسلم إلى منزله بعد ما أوفى في المكان الذي شرط فيه الإيفاء، بأن شرط عليه أن يوفيه السلم في درب سمرقند ببخارى، ثم يحمل إلى منزلة بكلاباد فلا خير في السلم على هذا الوجه؛ لأن بالإيفاء في المكان المشروط بدرب سمرقند يصير المسلم فيه ملكاً لرب السلم، فإذا شرط عليه الحمل إلى كلاباد صار مستأجراً له أو مستعيناً به، فيكون إجارة أو إعارة مشروط في عقد السلم، فيوجب فساد السلم كما في بيع العين، وكما لو اشترى حنطة على أن يطحنها المشتري، فهذا إذا شرط الحمل إلى منزله بعد الإيفاء في المكان المشروط، فأما إذا شرط الحمل إلى منزله ابتداء قبل اشتراط الإيفاء في محلة المصر، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» ، وكان الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله يقول: يجوز السلم استحساناً، وكان يقول: اشتراط الحمل إلى منزله واشتراط الإيفاء في منزلة سواء؛ لأن الإيفاء في منزلة لا يتصور بدون الحمل إلى منزله، ولو شرط الإيفاء في منزله ابتداء أليس أنه يجوز استحساناً فكذا إذا شرط الحمل إلى منزله، وكان يقول إنما يفسد السلم باشتراط الحمل إلى منزله إذا كان (133ب3) اشتراط الحمل بعد اشتراط الإيفاء في مكان، وإليه مال شمس الأئمة الحلواني، وروي عن أبي عبد الله البلخي أنه كان يقول: اشتراط الحمل إلى منزله يوجب فساد السلم سواء كان ابتداء بعد شرط الإيفاء في مكان، ويروي ذلك عن أصحابنا رحمهم الله، فإنه يثبت هذه الرواية عنهم، والوجه في ذلك: أن الإيفاء مما يقتضيه عقد السلم، فإنه يجب على المسلم إليه إيفاؤه، واشتراط ما يقتضيه العقد من غير شرط لا يوجب الفساد، فأما لا يقتضي الحمل؛ لأن على المسلم إليه الإيفاء دون الحمل بأن يشتريه المسلم إليه في المكان المشروط ويوفيه من غير حمل، فقد

شرط في السلم مالا يقتضيه ولأحد المتعاقدين فيه منفعة، فيوجب الفساد، هذا كما قال أبو حنيفة وأبو يوسف فيمن اشترى وقر حطب وشرط الحمل إلى منزله لم يجز البيع قياساً واستحساناً؛ لأن البيع لا يقتضي الحمل، ولو شرط الإيفاء في منزله يجزئه استحساناً؛ لأن البيع يقتضي الإيفاء كذا ههنا. ولو شرط أن يوفيه إياه في منزله بعد ما يوفيه في محلة كذا بأن قال: على أن يوفيني في درب سمرقند، ثم يوفيني بعد ذلك في منزلي بكلاباد، عامة المشايخ على أنه لا يجوز قياساً واستحساناً؛ لأن اشتراط الإيفاء في منزله بعد الإيفاء في مكان لا يتصور إلا بالحمل، ولو شرط الحمل بعد الإيفاء في مكان لا يتصور إلا بالحمل. ولو شرط الحمل بعد الإيفاء أليس أنه لا يجوز استحساناً وقياساً، وكان الفقيه أبو بكر محمد بن سلام رحمه الله يقول: يجوز استحساناً؛ لأن بشرط الإيفاء ثانياً يفسخ شرط الإيفاء الأول؛ لأن الموفي لا يتصور إيفاؤه ثانياً، وإذا انفسخ الشرط الأول صار كأنه شرط الإيفاء إلى منزله لا غير هناك يجوز السلم استحساناً كذا ههنا. وفي «المنتقى» بشر عن أبي يوسف: إذا شرط في السلم حمله إلى موضع كذا، فهو جائز وهو قول أبي حنيفة من أن الطعام في ملك المسلم إليه وضمانه حتى يسلمه بخلاف ما لو شرط؛ لأن اشتراط الحمل لا يتضمن فسخ شرط الإيفاء؛ لأن الموفي يتصور حمله، وإذا لم ينفسخ الشرط الأول بقي شرط الحمل شرط إجارة أو إعارة فيوجب فساد السلم. ولو شرط أن يوفيه إياه في منزلة ابتداءاً، بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: المسألة على القياس والاستحسان، القياس: أن لا يجوز، وفي الاستحسان: يجوز، قال الحاكم الشهيد رحمه الله: هذا القياس والاستحسان فيما إذا لم يبين منزله ولم يعلم المسلم إليه أنه في أي محلة، أما إذا بين أو علم المسلم إليه ذلك يجوز قياساً واستحساناً. نوع آخر من هذا الفصل في الإقالة والصلح: يجب أن يعلم بأن الإقالة في السلم جائزة؛ لأن السلم نوع بيع فيجوز إقالته كما يجوز إقالة سائر أنواع البيوع، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقال: «لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» والمراد أخذ السلم حال قيامه ورأس المال بعد انفساخه، فدل الحديث أن السلم قابل للفسخ والإقالة. ولو أقاله في البعض وأخذ البعض جاز؛ لأنه لو أقاله في الكل يجوز، فيجوز في البعض أيضاً اعتباراً للبعض بالكل. ولو أبرأ رب السلم المسلم إليه من المسلم فيه، فيجوز بخلاف ما لو أبرأ إليه رب السلم عن رأس المال حيث لا يجوز، والفرق: أن قبض المسلم فيه ليس بمستحق حقاً للشرع بل هو حق العبد، فيصح الإبراء عنه، أما قبض رأس المال مستحق للشرع ليخرج

العقد من أن يكون ديناً بدين، فلا يصح الإبراء عنه، ومتى صحت الإقالة يجب على المسلم إليه رأس المال إلى رب السلم، فإن أراد رب السلم أن يستبدل برأس المال شيئاً بعد الإقالة لم يجز استحساناً، وبه أخذ علماؤنا الثلاثة رحمهم الله، وأصل المسألة أن الاستبدال برأس مال السلم بعد الإقالة قبل القبض هل يجوز؟ على قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله: لا يجوز وهذا استحسان، والأصل فيه قوله عليه السلام: «لا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» ومتى جوزنا الاستبدال برأس المال بعد الإقالة قبل القبض صار آخذاً عين السلم وعين رأس المال، والمعنى فيه: أن الإقالة في باب السلم قبل قبض رأس المال تمت من وجه من حيث إنها أفادت لرب السلم ملك الرقبة، ولم يتم من وجه من حيث إنها لم تفد لرب السلم ملك التصرف، وملك اليد وحق رب السلم في المسلم إليه يثبت بنفس العقد ويتأكد بتسليم رأس المال، فما لم يقبض رأس المال يكون حقه في المسلم فيه قائماً من وجه، وإذا بقي حقه في المسلم إليه من وجه بدلاً عن رأس المال، وإنه جائز؛ لأنه وجب بسبب فسخ السلم لا بسبب السلم، ويأخذ من وجه بدلاً عن المسلم فيه؛ لأن الإقالة من حيث إنها لا تتم بها لم توجد؛ لأنه لا حكم لها شرعاً من ذلك الوجه، فيصير مستبدلاً بالمسلم فيه من وجه وإنه يجوز، وبرأس مال السلم من وجه وإنه لا يجوز، وقع الشك في الجواز، فلا يجوز بالشك والاحتمال، ولأجل ما ذكرنا من المعنى لم يشترط قبض رأس المال في مجلس الإقالة في باب السلم؛ لأنا إن اعتبرنا حق رب السلم في المسلم فيه من وجه لا يجب، فيصير كما لا يجب قبض المسلم فيه، وإن اعتبرنا حقه في رأس المال فكذلك لا يجب قبض رأس المال؛ لأنه لم يجب بعقد؛ لأنه وجب بفسخ السلم وفسخ السلم لا يكون سلماً لا في حقها ولا في حق الثالث؛ لأن الفسخ حصل قبل قبض المبيع، فيكون فسخاً في حق الكل. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل أسلم إلى رجل جارية في كر حنطة وقبضها المسلم إليه ثم تقايلا، فماتت الجارية في يد المسلم إليه، فعليه قيمتها يوم قبضها، وإن هلكت الجارية ثم تقايلا جازت الإقالة عليه قيمة الجارية. إعلم بأن من هذا الجنس أربع مسائل: إحداها: بيع العرض بالعرض إذا تبايع الرجلان عرضاً بعرض وتقابضا، ثم هلك أحد العرضين بعد الإقالة قبل التسلم بحكم الإقالة بقيت الإقالة على الصحة. ولو تقايلا بعد ما هلك العرضان فالإقالة باطلة. والثانية: بيع العرض بالدراهم أو دنانير: إذا تبايع الرجلان عرضاً بدراهم أو دنانير وتقابضا، ثم تقايلا بعدما هلكت الدراهم فالإقالة صحيحة، ولو تقايلا بعدما هلكت العرض فالإقالة باطلة. ولو تقايلا وهما قائمان، ثم هلك أحدهما قبل التسليم بحكم الإقالة، إن هلك العرض بطلت الإقالة، وإن هلكت الدراهم بطلت الإقالة على الصحة، وقد ذكر مع العرض بالدراهم أو بالدنانير في فصل الإقالة، ثم الفرق بين فصل بيع العرض بالعرض وبين فصل بيع العرض بالدراهم أو بالدنانير أن الإقالة صحتها تعتمد قيام

العقد من حيث الحكم؛ لأنها رفع للعقد ورفع العقد إنما يتصور حال قيامه والبيع (134أ3) قائم في بيع العرض بالعرض من حيث الحكم قيام أحد العرضين؛ لأن قيام العقد قبل هلاك أحدهما كان بهما لا بأحدهما بعينه بأن يضاف قيام العقد إليه حكماً بأولى من الآخر؛ لأن كل واحد منهما مال حقيقة وحكماً؛ لأن كل واحد عين حقيقة وحكماً، وكل واحد منهما مثمن من وجه، فلا مزية لأحدهما على الآخر، فكان قيام العقد من حيث الحكم بهما جميعاً، وإذا كان قيام العقد حكماً بهما لا بأحدهما بعينه لم يرتفع العقد بهلاك أحدهما على ما عرف أن الثابت بشيئين لا يزول بزوال أحدهما، فبقي العقد بقيام أحدهما، فجازت الإقالة حال قيام أحدهما لقيام العقد بقيام أحدهما كما جازت حال قيامهما، فأما في بيع العرض بالدراهم والدنانير، فقيام العقد حكماً مضاف إلى البيع خاصة لا إلى البيع والثمن جميعاً؛ لأن للمبيع فضل مزية على الثمن، فإن المبيع مال حقيقة وحكماً؛ لأنه عين حقيقة وحكماً، والثمن دين حقيقية وحكماً إن لم يكن مشاراً إليه، وإن كان مشاراً إليه دين حكماً؛ لأن البيع لا يتعلق بعين المشار إليه، وإنما يتعلق بمثله ديناً في الذمة ولهذا جاز الاستبدال قبل القبض قلنا: والدين في الذمة مال حكماً واعتباراً وليس بمال حقيقة، ولهذا قالوا بأن البراءة عن الدين تصح من غير قبول كالطلاق والعتاق ويرتد بالرد؛ لأنه مال حكماً وهبة العين لا يصح من غير قبول، ولا تتأدى زكاة العين بالدين؛ لأن الدين أنقص من العين، فصار مؤدياً الكامل بالناقص. وكذلك قالوا فيمن حلف وقال: مالي صدقة على المساكين وله ديون على الناس لا تدخل تحت مطلق اسم المال من غير نية؛ لأنه ناقص في كونه مالاً، وإذا كان للمبيع ضرب مزية على الثمن لا بد من إظهار مزيته، وقد تعذر إظهار مزية المبيع على الثمن في حق انعقاد البيع؛ لأنه لابد لانعقاد البيع من مثمن وثمن، فأظهر مزيته في حق البقاء لما تعذر إظهار مزيته على الثمن في حق الانعقاد، فجعلنا قيام البيع حكماً كله مضافاً إلى المبيع لا إلى الثمن، فإذا هلك المبيع ارتفع البيع وإن بقيت الدراهم والدنانير. والدليل: على أن بقاء البيع مضاف إلى قيام البيع لا إلى الثمن أنا أجمعنا على أنه لو وجد الثمن زيوفاً حال قيام المبيع فرده واستحق الثمن، فإنه يرجع بمثله ولا ينفسخ البيع. ولو كان قيام البيع مضافاً إليه لمكان ينفسخ البيع برده، كما في بيع العرض بالعرض لو استحق أحد العرضين إذا وجد به عيباً فرده، فإنه ينتقض البيع في الباقي، وفي الثمن لما بقي البيع على حاله علمنا أن قيام العقد مضاف إلى المبيع، فإذا هلك ارتفع البيع فلا يرتفع مرة أخرى بالإقالة. المسألة الثانية بيع الثمن بالثمن: إذا تبايعا درهماً بدرهم أو ديناراً بدينار أو دراهم بدنانير، وتقايلا بعد هلاك أحد البدلين أو بعدما هلك البدلان لا تصح الإقالة، والفرق: وهو أن في باب الصرف لو تقايلا قبل هلاك البدلين صحت الإقالة بمثل الدراهم والدنانير التي قبضا ديناً في الذمة لا بأعيانهما كان لكل واحد فيهما أن يرد مثل ما قبض، ولا يلزمه رد ما قبض بعينه؛ وهذا لأن الفسخ معتبر بالعقد، والعقد لا يتعلق بأعيانهما وإن

أشير إليها عندنا، فكذا الإقالة لا تتعلق بأعيانهما لو كانا قائمين صار هلاكهما كقيامهما بخلاف بيع العرض بالعرض؛ لأنهما متى كانا قائمين يتعلق الإقالة بأعيانهما، فمتى كانا هالكين لم يبق شيء من المعقود عليه لما هلك اليد؛ لأن كل واحد من البدلين وجب في الذمة، وقد سقط ذلك بالقضاء، فالإقالة لم تضف معقوداً عليه، فيجب أن لا تصح الإقالة، والجواب عنه أن الدين مما لا يسقط بالقضاء، ألا ترى أن البائع إذا حط عن المشتري بعض الثمن بعد ما قبض الثمن صح مع الحط لإسقاط بعض الثمن، ولو كان الثمن يسقط بالثمن بالقضاء كان لا يصح الحط كما لو حصل الحط بعد الإبراء، وإذا كان كذلك فالدين الواجب في الذمة مما لا يسقط بالقضاء إلا أن الطالب لا يطالب الغريم بعد القضاء؛ لأن المطالبة لا تفيد، فإنه لو طالبه طالبه بما بقي في ذمته طالبه الغريم بما أوجب له في ذمة الطالب؛ لأن الديون تقضى بأمثالها لا بأعاينها، وإذا كان كذلك فما هو المعقود عليه وهو الدين قائم في ذمة كل واحد منهما، فصحت الإقالة باعتبار ما بقي في ذمتهما كما صح العقد باعتبار ما يجب في ذمتهما. المسألة الرابعة: إذا كان رأس المال عرضاً وهلك العرض، ثم تقايلا السلم صحت الإقالة لقيام المسلم فيه وكان قيام المسلم مضافاً إلى قيام المسلم فيه ديناً، وإن كان المسلم فيه رأس المال إذا كان عرضاً كان عيناً حقيقة وحكماً، وفرق بين فصل السلم وبين بيع العرض بالدراهم، والفرق: أن في بيع العرض بالدراهم المبيع مال حقيقة وحكماً؛ لأنه عين حقيقة وحكماً والثمن دين حقيقة وحكماً أو حكماً لا حقيقة، فكان للمبيع ضرب مزية على (الثمن) والتقريب ما مر، فأما المسلم فيه إن كان ديناً حقيقة فهو عين حكماً؛ لأنه مبيع، ولهذا لم يجز الاستبدال به قبل القبض والمبيع ما يكون عيناً، فكان له حكم العين ورأس المال إن كان عيناً فهو دين حكماً حتى لو افترقا قبل قبض رأس المال بطل السلم، وإن كان رأس (المال) عيناً وجعل كأن الافتراق حصل عن دين بدين فاستويا، فصار قيام العقد مضافاً إليهما كما في بيع العرض بالعرض لا إلى أحدهما بعينه. وإذا قبض رب السلم رأس المال وتقايلا السلم، ثم اختلفا في مقدار رأس المال، فقال المسلم إليه: كان رأس المال خمسة، وقال رب السلم: لا بل كان رأس المال عشرة، فالقول قول المسلم إليه مع يمينه، ولا يتحالفان فرق بين هذا وبين بيع العين، فإن في بيع العين إذا تقايلا العقد حال قيام العين واختلفا في مقدار الثمن، فإنهما يتحالفان ويفسخ الإقالة فيما بينهما بعد التحالف، والفرق: أن المقصود من التحالف شرعاً الفسخ متى يعود كل واحد منهما إلى رأس ماله، والإقالة في باب السلم لا تقبل الفسخ لا حكماً ولا قصداً، فإنهما لو قالا: نقضنا الإقالة، تنتقض ويعود الأمر إلى ما كان قبل الإقالة، وكذلك إذا هلك العين في يد المشتري قبل التسليم إلى البائع والثمن والدراهم، فإن الإقالة تنتقض ويعود الأمر إلى ما كان قبل الإقالة، فالتحالف يقيد يمر به في الإقالة في بيع العين، فجاز الاشتغال به قياس الإقالة في السلم من الإقالة في بيع العين أن لو تقايلا

بعد ما قبض رب السلم المسلم فيه قائم في يده، ثم اختلفا في مقدار رأس المال، وهناك يتحالفان أيضاً؛ لأن الإقالة في هذه الحالة تحتمل الفسخ قصداً، ففسخهما الإقالة على ما يقوله بعض مشايخنا وهو الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله، (134ب3) ثم إنما كانت الإقالة في باب البيع قابلة للفسخ ولم تكن الإقالة في باب السلم قابلة للفسخ؛ لأن في باب السلم ما يتأول الإقالة وهو المسلم فيه في ذمة المسلم إليه، فملك المسلم إليه بالإقالة يسقط عنه فلا يمكن تصحيح فسخ الإقالة باعتبار المعقود عليه لو صح صح باعتبار الثمن، فكذا فسخها. فأما في باب البيع ما تتأوله الإقالة وهو المبيع قائم حقيقة فيمكن تصحيح الفسخ باعتبار المعقود عليه حتى لو هلك المعقود عليه بعد ما تقايلا وتقابضا، ثم أراد أن ينقض الإقالة لم يكن له ذلك. وفي «فتاوي أبي الليث» رحمه الله: رجل أسلم إلى رجل في كر حنطة، فقال رب السلم للمسلم إليه: أبرأتك من نصف السلم، وقال المسلم إليه: وجب عليه رد نصف رأس المال؛ لأن هنا إقالة في نصف السلم، هكذا قاله أبو نصر محمد بن محمد بن سلام والفقيه أبو بكر الإسكاف، قالا: لأن السلم نوع بيع. ومن اشترى شيئاً ثم قال المشتري قبل أن يقبض المشتري: وهبت لك نصفه وقبل البائع صار إقالة في النصف بنصف الثمن كذا هنا. وقال أبو القاسم الصفار: هذا حط ولا يرد شيئاً من رأس المال، قال: وهو بمنزلة حط نصف الثمن في البيع. وفيه أيضاً: وقال أبو نصر فيمن أسلم دراهم في شيء، ثم إن رب السلم (قال:) وهبت ذلك الشيء للمسلم إليه إن قبل المسلم إليه، فعليه أن يرد رأس المال. وقال أبو بكر: ليس عليه الرد والهبة تبرئه من ذلك. وفي «نوارد ابن سماعة» عن محمد: رجل أسلم إلى رجل ثوباً في كر حنطة ودفعه إليه، ثم ناقضه السلم، فله أن يبيع الثوب منه قبل أن يقبضه ولا يشبه العرض في هذه الدراهم، وهكذا روى ابن سماعة عن أبي يوسف زوائد أحدها: أنه لو باعه من غير المسلم فيه قبل القبض لا يجوز. الثاني: إذا لم يكن مستهلكاً لم يكن له أن يشتري منه قيمته شيئاً قبل أن يقبضه، وهو بمنزلة رأس المال إذا كان دراهم. وفي «نوادر إبراهيم بن رستم» عن محمد: رجل أسلم إلى رجل عشرة دراهم في كر حنطة وله عليه أيضاً كر إلى سنة، فإقالة السلم على أن يعجل له الكراء لنسبة مال الإقالة جائزة والكراء إلى أجله، وإذا كان السلم حنطة ورأس المال مائة درهم، فصالحه على أن يرد عليه مائتي درهم أو مائة درهم أو خمسون كان باطلاً؛ لأن الصلح عن السلم متى كان غير مضاف إلى رأس المال بيع المسلم فيه، وههنا الصلح غير مضاف إلى رأس المال، فإنه لم يقل مائة وخمسون من رأس مالك وبيع المسلم فيه قبل القبض لا يجوز، فأما إذا قال: صالحتك من السلم على مائة من رأس مالك كان جائزاً، أو كذلك إذا قال على خمسين من رأس مالك كان جائزاً؛ لأن الصلح على رأس المال في باب السلم إقالة السلم قبل القبض جائزة إن كان لا يجوز بيعه.

بعد هذا اختلف المشايخ في قوله: صالحتك من السلم على خمسين درهماً من رأس مالك أنه يصير إقالة في جميع السلم أو في نصف السلم، وإن قال: صالحتك من السلم على مائتي درهم من رأس المال لا يجوز يريد بقوله: لا يجوز، لا يجوز الزيادة؛ لأن الإقالة في باب السلم على أكثر من رأس المال لا يجوز عندهم جميعاً إلا أنهم لا يجوز الزيادة ويقع الإقالة في باب السلم بعد رأس المال كما في بيع المنقول لو تقايلا على أكثر من الثمن الأول قبل القبض يصح الإقالة بمثل الثمن ولا تثبت الزيادة، هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» ، وأشار شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» أنه تبطل الإقالة في هذا الوجه أصلاً، هذه الجملة من كتاب الصلح. وفي بيوع «الأصل» : إذا صالح أحد ربي التسلم مع المسلم إليه على حصة من رأس المال، فالصلح موقوف عند أبي حنيفة ومحمد على إجازة الآخر، فإن أجازا وكانا المقبوض من رأس المال مشتركاً بينهما وما بقي من الطعام مشتركاً بينهما، وإن رد بطل الصلح وبقي حق كل واحد قبل المسلم إليه في الطعام، وهذا إذا أسلما عشرة دراهم مشتركة إلى رجل في كر من طعام، فإن لم يكن العشرة مشتركة بينهما لكن أسلما عشرة دراهم، ثم نقد كل واحد منهما خمسة لم يذكر محمد رحمه الله هذا في البيوع، وذكر بعض المشايخ في شرح البيوع أنه يجوز هذا الصلح في حصة المصالح بالإجماع، وبعضهم قالوا: هذا ليس بصحيح، فقد ذكر في صلح «الأصل» هذا الفصل، وذكر فيه قول أبي حنيفة رحمه الله على حسب ما ذكر في الفصل الأول، ولم يذكر في شيء من الكتب ما إذا قال أحد ربي السلم عقد السلم بحصته، وقد اختلف المشايخ فيه على ما ذكرنا في الفصل المتقدم، ومسائل الصلح في هذا الباب كثيرة سيأتي بيانها في كتاب الصلح إن شاء الله تعالى.t نوع آخر في وجود العيب فيه وخيار الرؤية فيه قال هشام في «نوادره» : سألت أبا يوسف عن رجل أسلم عشرة دراهم في ثوب فأخذه وقطعه، ثم وجد به عيباً، قال: ليس له أن يرجع بنقصان العيب، قلت: لم؟ قال: ما تقول في رجل له على رجل طعام فقضاه دون طعامه فأكله؟ ثم علم بذلك أنه يرجع بنقصانه، وعنه أيضاً: قالت: سألت محمداً عن رجل أسلم إلى رجل درهمين أحدهما في الحنطة والآخر في الأرز ودفعهما إليه، ثم وجد أحدهما ستوقة قال: إن كان دفعهما إليه معاً فسد نصف الحنطة ونصف الرز، وإن كان دفع إليه كل درهم على حدة، فإن أقاما فالبينة بينة الذي أسلم إليه، وإن لم يقم لهما تحالفا وفسد السلم كله. وعن إبراهيم بن رستم عن محمد قال: رجل أسلم إلى رجل خمسة دراهم في خمسة أقفرة حنطة وخمسة دراهم في خمسة أقفرة شعير خمسة للحنطة على حدة وخمسة للشعير على حدة، فأصاب درهماً ستوقاً يعني بعدما تفرقا، فقال رب السلم: هو من الحنطة، وقال المسلم إليه: هو من الشعير، فالقول قول رب السلم، وإن تصادقا أنهما لا

يعلمان من أيهما قال يرد المسلم إليه درهماً آخر على رب السلم وينتقص من كل واحد منهما خمسة. وروى بشر (بن) الوليد عن أبي يوسف: في رجل أسلم إلى رجل عشرة دراهم في كر حنطة وخمسة دراهم في كر شعير فأعطاه عشرة للحنطة، ثم أعطاه خمسة للشعير، ثم وجد درهماً ستوقاً، فقال المسلم إليه: هو من دراهم الحنطة، وقال رب السلم: هو من دراهم الشعير، قال: إن كان المسلم إليه أقر بالاستيفاء، فالقول قول رب السلم، وإن لم يكن أقر بالاستيفاء فالقول قوله، فإن تصادقا أنهما لا يدريان من أيهما هو، قال: يكون نصفه من العشرة ونصفه من الخمسة، فينتقص عشر الحنطة ونصف عشر الشعير؛ لأنه في الحنطة لم يوجد قبض رأس المال، وفي حصة الشعير لم يوجد قبض نصف عشر رأس المال، وإن كان أعطاه خمسة عشر في صفقة واحدة، فإنه ينتقص ثلثا عشر الحنطة وثلث خمس الشعير. (135أ3) . وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل أسلم إلى رجل عبداً في كر حنطة وبجارية للمسلم إليه ودفع عبده وقبض الجارية من غير رؤية، ثم نظر إليها فردها بخيار الروية، فإن ذلك جائز ويرجع إليه من عنده بحصته الجارية، ويجوز منه حصة الكراء السلم. وفي «المنتقى» : رجل أسلم إلى رجل عشرة دراهم في ثوب موصوف مسمى، ودفع رب السلم الدراهم وقبض الثوب فوجد به عيباً، ثم حدث عند القابض عيب، قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يرجع بالنقصان؛ لأنه لا يأخذ ثوبه وبعض رأس ماله؛ لأنه يكون اعتياضاً عن الجودة، وإنه ربا. وقال محمد رحمه الله: أما ما يقبض فهو سلم، فلا يجوز أن يأخذ الثوب ودراهم العيب، ولها إذا قبضه فهو الثوب الذي وقع عليه البيع، فصار بمنزلة البيع إن وجد به عيباً رده وإن حدث عنده عيب آخر ولم يستطع رده رجع بنقصان العيب الذي وجده، وكذلك لو كان كر حنطة مكان الثوب، ألا ترى أنه يبيعه مرابحة على ما أسلم فيه، ولو لم أجعله بيعاً حتى قبضه وجعلته ديناً اقتضاه، فما كان له أن يبيعه مرابحة. قال ثمة: وينبغي له في قياس قول أبي يوسف أن يرد قيمة الثوب معيناً ويرجع بسلمه إلى الثوب ويرد مثل الكر معينا، ويرجع بسلمه في الكر كما قال في ألف اقتضاها وعلم بعد ما أنفقها أنها كانت زيوفاً، وسيأتي بعض مسائل هذا الفصل في الوكالة إذا وكل الرجل غيره أن يسلم له عشرة دراهم في كر حنطة كان التوكيل صحيحاً؛ لأنه وكل بما يملكه بنفسه ويجري فيه النيابة، والتوكيل بمثله صحيح كالتوكيل بشراء العين وكالتوكيل بالبيع، بيانه: أن الحال لا يخلو إما أن يكون رأس المال عيناً أو ديناً، فإن كان عيناً فقد أمره بالتصرف في عين مملوك له من حيث الإزالة عن ملكه إلى غيره بعوض يحصل له وهو بملك ذلك بنفسه، فيملك الأمر به. وإن كان رأس المال ديناً بأن كان دراهم، فقد أمره بإيجاب رأس المال في ذمته ورب السلم يملك إيجاب رأس المال ديناً في ذمته ملكه، فيملك الأمر به كما لو وكله بالشراء.

فرق بين هذا وبينما إذا وكل رجلاً بقبول السلم بأن قال: خذ لي عشر دراهم في طعام مسمى، فإن التوكيل لا يصح حتى إذا قبل الوكيل السلم يصير قابلاً لنفسه حتى يكون رأس المال له، وله منفعة من الموكل بقبول السلم توكيل بما لا يملك الموكل بنفسه بقضية الأصل؛ لأن قبول السلم بيع ما ليس عنده وبيع ما ليس عند الإنسان مما لا يملكه الموكل بنفسه، فكان القياس: أن لا يجوز لو قبل الموكل بنفسه كما في بيع العين إذا باع ما لا يملك، لكن عرفنا ذلك بالنص، فإن النبي عليه السلام رخص في السلم، والرخصة وردت في بيع ما ليس عنده لا في الأمر ببيع ما ليس عنده، ففي الأمر ببيع ما ليس عنده تكون العبرة للقياس، والقياس يأبى جواز الأمر ببيع ما ليس عنده بخلاف التوكيل بالشراء حيث يصح وإن لم يكن الثمن في ملكه؛ لأن الشراء بما ليس عند الإنسان جائز على موافقة القياس، فكان الأمر به جائزاً على موافقة القياس أيضاً إذا ثبت أن التوكيل بالسلم جائز، فالوكيل هو الذي يطالب بتسليم المسلم فيه عند محل الأجل وهو الذي يسلم رأس المال؛ لأنه هو العاقد وحقوق العقد ترجع إلى العاقد عند علمائنا الثلاثة، ثم إن كان الوكيل نقد دراهم الموكل أخذ المسلم فيه ودفعه إلى الموكل، وإن كان نقد دراهم نفسه، ولم يدفع إليه الذي وكله شيئاً يرجع بما نقد على الموكل، وكان ينبغي أن لا يرجع؛ لأنه أمره بالسلم أما ما أمره بالنقد قلنا: الوكيل مضطر في هذا النقد؛ لأن حقوق حق الوكيل وإنما يبقى قبض المسلم فيه حقاً له؛ لأن السلم يفسد حينئذ، فكان مضطراً في هذا النقد لإحياء حق نفسه، ومن قضى دين غيره مضطراً كان له الرجوع بما قضى على المقضي عنه. وإذا عقد الوكيل السلم، ثم أمر الموكل بأداء رأس المال وذهب الوكيل، فقد بطل السلم. وكذلك لو كان الذي عليه السلم وكل رجلاً يقتضي رأس المال وذهب عن مجلس العقد، ولم يوجد وإذا خالف الوكيل بالسلم فأسلم في غير ما أمره الموكل بالسلم فيه كان للموكل أن يضمن الوكيل دراهمه، وإن شاء ضمن المسلم إليه؛ لأن الوكيل لما خالف نقد العقد على الوكيل؛ بالسلم وكيل بشراء العين، والوكيل بشراء العين إذا خالف نقد العقد عليه، فكذا هذا وإذا نقد العقد على الوكيل قاضياً دين نفسه من دراهم الموكل، فصار غاصباً وصار المسلم إليه غاصب الغاصب، فإن ضمن الوكيل بقي السلم صحيحاً على الوكيل، وطريق بقائه صحيحاً بتضمين الوكيل، وإن بطل ذلك التسليم فقد وجد تسليم آخر في ذلك المجلس من حيث الحكم والاعتبار؛ لأن الدراهم في يد المسلم إليه وإنها مضمونة على المسلم إليه نفسه، فثبوت قبضه عن قبض السلم، فكأنه وجد تسليم آخر من حيث الحكم بعدما بطل الأول في المجلس، ألا ترى أن قبض الغاصب ينوب عن قبض الشراء؟ فكذا ههنا. وإن ضمن السلم إليه إن ضمنه وهما في المجلس يعني الوكيل والمسلم إليه ونقد

الوكيل دراهم أخر، فالسلم جائز؛ لأنه لما ضمن المسلم إليه فقد انتقض قبضه، وصار كأنه لم يقبض رأس المال في أول المجلس وقبضه في آخر المجلس، وإن ضمنه بعدما تفرقا عن المجلس، فإن أسلم بطل؛ لأنه قد انتقض وصار كأنه لم يقبض رأس المال أيضاً حتى تفرقا عن المجلس. وإذا دفع الرجل إلى رجل دراهم ليسلمها له في الحنطة، ثم الوكيل أسلم إلى رجل، فهذه المسألة على وجوه: إن أضاف العقد إلى دراهم الآمر، فالعقد للآمر، وإن نواه لنفسه عقد العقد بدراهم مطلقة، فإن تصادقا أنه نواه لنفسه فهو لنفسه، وإن نقد دراهم للآمر بعد ذلك، وهذا لأن الوكيل بالسلم لا يصير محجوراً عن السلم لنفسه؛ لأنه وكيل بشراء شيء بغير عينه، والوكيل بشراء شيء بغير عينه لا يصير محجوراً عن الشراء لنفسه؛ لأن ما هو مقصود الآمر من الأمر لا يفوت؛ لأن مقصود الآمر تحصيل ما سمى ويمكن تحصيل ما سمى الأمر إن لم يصر الوكيل محجوراً عن الشراء لنفسه إذا كان ما سمى الموكل بغير عينه، وإذا لم يصر محجوراً عن الشراء لنفسه ملك الشراء لنفسه وللآمر، فأي ذلك نوى، فقد نوى ما يملك فصحت نيته إذا ثبتت نيته بتصادقهما، وأما إذا تكاذبا في النية فقال الموكل: نويت لي، وقال الوكيل: نويت لنفسي يحكم بالنقد إن نقد الوكيل من مال نفسه كان السلم للوكيل، وإن نقد من مال الموكل كان السلم للموكل هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ، بعض مشايخنا قالوا: ما ذكر محمد رحمه الله قول أبي يوسف، فأما في قول محمد: فالسلم يقع للوكيل ولا يحكم بالنقد، كما لو (135ب3) تصادقا أنه لم يحضره نية؛ لأنه جعل الوكيل عاملاً لنفسه في الحالين جميعاً، وبعضهم قالوا: لا بل المذكور في «الكتاب» قولهم بحكم النقد حال التكاذب بلا خلاف، فعلى قول هذا القائل يحتاج محمد رحمه الله إلى الفرق بين حالة التكاذب وبينما إذا تصادقا أنه لم تحضره النية وهو الأصح، والفرق: أن في حالة التكاذب استويا في الدعوى والإنكار الوكيل ادعى أنه نوى لنفسه والموكل أنكر ذلك، والموكل ادعى أنه نواه له، وأنكر الوكيل ذلك، فقد استويا في الدعوى والإنكار، وفي مثل هذا يحكم الحال كما في مسألة الطاحونة، وما في حالة التصادق لم يوجد منهما الدعوى والإنكار، فلم يجب تحكيم الحال، وجعلنا السلم واقعاً للوكيل؛ لأن الأصل في عمل الحر أن يكون له إلا إذا نص بخلافه. وأما إذا تصادقا أنه لم تحضره النية، فقد اختلف أبو يوسف ومحمد فيما بينهما، قال محمد: لا يحكم النقد ويجعل السلم واقعاً للوكيل؛ لأن الأصل في عمل الحر أن يكون له إلا إذا نص على خلافه ولم ينص، فوقع العقد للوكيل، وبعدما وقع للوكيل لا ينتقل إلى الموكل النقد من ماله. وقال أبو يوسف: يحكم في هذا النقد؛ لأن هذا العقد صالح لكل واحد منهما لما ذكرنا أن الوكيل يملك مباشرة هذا العقد لنفسه كما يملك مباشرته للوكيل، فيحكم النقد إذا عزفته النية عملاً لأمر على الصلاح حتى لا يصير غاصباً دراهم الآمر متى عقد لنفسه.

الفصل الثالث والعشرون: في القروض

نوع آخر من هذا الفصل في المتفرقات: إذا أسلم في القطن لا يعطي فيه الورام كما في البيع اتفق عليه مشايخ زماننا؛ لأن الورام في البيع أمر عرفي، ولا عرف في السلم. بشر عن أبي يوسف في «الإملاء» : رجل أسلم إلى رجل عبداً في كر حنطة، ودفع إليه العبد، ثم إن المسلم إليه باع العبد من رجل وسلمه إلى المشتري، ثم إن المشتري وجد بالعبد عيباً ورده على المسلم إليه بغير حكم، ثم إن رب السلم مع المسلم إليه أرادا أن يتقايلا السلم. والمسألة على وجهين: إن قال رب السلم للمسلم إليه: رد علي وأبرأتك من المسلم، أو قال: أبرأتك من السلم بهذا العبد، أو قال: أقلني السلم بهذا العبد، فهذا كله باطل. وهذا كرجل قال لغيره: بعني مالك علي من السلم بكذا، وإن قال: أقلني السلم ولم يذكر العبد، أو قال: أبرئني من السلم وخذ رأس مالك، ولم يذكر العبد ففعل، فقد انتقض السلم وله قيمة العبد (وللمسلم) رأس ماله. وفي «فتاوي أبي الليث» رحمه الله: رجل باع من آخر عبداً بثوب موصوف في الذمة إن ضرب للثوب في الذمة أجلاً جاز، وإن لم يضرب الأجل لا يجوز؛ لأن الثوب لا يجب في الذمة إلا سلماً ولا سلم بدون الأجل. ولو افترقا قبل قبض العبد لا يبطل العقد؛ لأن هذا العقد اعتبر سلماً في حق الثوب بيعاً في حق العبد، ويجوز أن يعتبر في عقد واحد حكم عقدين كما في الهبة بشرط العوض، وكما في قوله: إن أديت إلي ألفاً، فأنت حر، اعتبر فيه حكم اليمين وحكم المعاوضة. الفصل الثالث والعشرون: في القروض هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضاً: الفصل الثالث والعشرون: في القروض هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضاً: نوع منه في بيان ما يجوز استقراضه وما لا يجوز: كل شيء يكال أو يوزن نحو الحنطة والشعير والسمسم والتمر والزبيب جاز استقراضه، الأصل فيه أن ما هو من ذوات الأمثال ويكون مضموناً على الغاصب والمستهلك بالمثل استقراضه (جائز) ؛ لأن المقبوض بحكم القرض مضمون بالمثل من غير زيادة ولا نقصان مما يكون من ذوات الأمثال نحو المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة، يمكن اعتبار المماثلة المشروطة في القرض فيه فيجوز استقراضه، وما لا يكون من ذوات الأمثال نحو الحيوان واللآلئ والجواهر والأكارع والرؤوس لا يجوز استقراضه؛ لأن طريق معرفة القيمة الحزر، وبه لا تثبت

المماثلة المعتبرة في القرض، وهي المماثلة من غير زيادة ولا نقصان كما لا يثبت به المماثلة المشروطة في أموال الربا، واستقراض الثياب لا يجوز؛ لأنها ليست من ذوات الأمثال حقيقة، وإنما صارت من ذوات الأمثال شرعاً في باب السلم حتى جاز السلم فيها بشرط مخصوص، والأجل لا يثبت في القرض، فلم يكن من ذوات الأمثال في القرض لا حقيقة ولا شرعاً. وقال أبو حنيفة: لا يجوز إقراض الخبز ولا (استقراضه) لا عدداً ولا وزناً، وهذا على أصله مستقيم؛ لأن عنده لما لم يجز السلم في الخبز لمكان التفاوت أولى أن لا يجوز القرض؛ لأن باب القرض أضيق من باب السلم، ألا ترى أنه لا يجوز إقراض الثياب ويجوز السلم في الثياب. وقال أبو يوسف في رواية مثل قول أبي حنيفة، وعن ابن أبي مالك عن أبي يوسف أنه قال: لا بأس به وزناً قال ابن أبي مالك: سألت أبا يوسف عن استقراض الخبز مرة، قال: لا بأس به وعليه أفعال الناس جارية، قال ابن أبي مالك: وهذا قوله المعروف، وذكر في بعض المواضع عن محمد أنه يجوز عدداً ولا يجوز وزناً، قال: لأن العادة جرت باستقراضها عدداً لا وزناً والقياس يترك بالعادة. وذكر في «المنتقى» عن محمد: أنه جوز قرض الخبز عدداً، وقال: بلغنا ذلك عن إبراهيم النخعي، قال ثمة أيضاً: قال محمد: الوزن في قرض الخبز من الدناءة والعدد أحب إلي. ويجوز استقراض الجوز كيلاً؛ لأنه يكال مرة ويعد أخرى ولهذا جاز السلم فيه كيلاً، ويجوز استقراض الكاغد عدداً؛ لأنه عددي متقارب، كذا ذكره الصدر الشهيد في «واقعاته» . واستقراض الباذنجان عدداً يجوز ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في أول شرح الغصب، ويجوز استقراض اللحم وزناً، رواه إبراهيم عن محمد، والذي روي عنه: من أقرض رجلاً عشرة أرطال لحم الغنم، قال: هو جائز وإنه مشكل على مذهبه؛ لأن اللحم عنده من ذوات القيم حتى إن من أتلف على آخر لحماً يضمن قيمته، هكذا ذكر محمد رحمه الله في بيوع «الجامع» في الرواية. ونص فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله في شرح «الجامع» أنه من ذوات الأمثال، قال رحمه الله: وتأويل ما ذكر محمد أنه يضمن بالقيمة إذا كان في موضع لا يوجد له المثل، وذكر بعض المشايخ في شرح «الجامع الصغير» : أن اللحم من ذوات الأمثال يضمن بالمثل في ضمان العدديات، ويجري بثمنيته الربا وأشار إليه الطحاوي في كتابه، فإنه قال: كل ما يكون موزوناً فهو مثلي. وفي «نوادر هشام» عن أبي يوسف أنه قال: (لا) خير في قرض الحنطة والدقيق بالوزن، وكذلك التمر وإن كان حيث يوزن، قال هشام رحمه الله: قلت لمحمد: التمر عندنا بالري وزناً فما تقول فيمن أقرضه بالوزن، قال: لا يصلح ذلك؛ لأن أصله كيل، وعن محمد أيضاً: أنه قال: لا يجوز الحنطة أن تقرض وزناً، فإن أخذه وأكله قبل أن

يكتاله، فالقول قول المستقرض أنه كذا كذا قفيزاً. وفي «الأصل» : (136أ3) إذا استقرض الدقيق وزناً لا يرده وزناً، وعن أبي يوسف رواية أخرى: أنه يجوز بيع الدقيق واستقراضه وزناً إذا تعارف الناس ذلك أستحسن فيه. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : فإذا كانت الدراهم ثلثها فضة وثلثاها صفر، فاستقرض رجل منها عدداً وهي جارية بين الناس عدداً، فلا بأس به وإن لم تجر بين الناس إلا وزناً لم يجز استقراضها إلا وزناً؛ لأن الصفر إذا كان غالباً تكون العبرة للصفر، وتكون الفضة ساقطة الاعتبار وكون الصفر موزوناً، فأثبت بالنص فتكون العبرة موزوناً ما ثبت بالنص لما فيه لتعامل الناس، فمتى تعاملوا بيعها وزناً يكون موزوناً، فلا يجوز استقراضها إلا وزناً، ومتى تعاملوا بيعها عدداً كان عددياً، فلا يجوز استقراضها إلا عدداً، فقد أسقط محمد رحمه الله اعتبار الفضة في القرض إذا كانت مغلوبة، ولم يسقط اعتبارها في حق البيع حتى لا يجوز بيعها بالفضة الخالصة إلا على سبيل الاعتبار، إنما فعل هكذا؛ لأن القرض أسرع جوازاً من البيع؛ لأن القرض مبادلة صورة، تبرع حكماً؛ لأن رد المثل في القرض أقيم مقام رد العين حكماً، والربا إنما يتحقق في البيع دون القرض، فاعتبرت الفضة المغلوبة في البيع ولم تعتبر في القرض لهذا. وإن كانت الدراهم ثلثاها فضة وثلثها صفراً لا يجوز استقراضها إلا وزناً، وإن تعامل الناس التبايع بها عدداً؛ لأن الفضة إذا كانت غالبة بمنزلة ما لو كان الكل فضة ولكنها زيف، ولو كان كذلك لم يجز استقراضها إلا وزناً وإن تعامل الناس بها عدداً، فههنا كذلك. وإن كانت الدراهم نصفها فضة ونصفها صفراً لم يجز اعتبار استقراضها إلا وزناً؛ لأنه لم يسقط اعتبار واحد منهما؛ لأن إسقاط اعتبار واحد منهما حال كونه مغلوباً ولم يوجد، فوجب اعتبارهما لم يجز الاستقراض في حق الفضة إلا وزناً، فإذا تركوا ذلك بطل الاستقراض في الفضة، فبطل في الصفر ضرورة، ويجوز استقراض الجمد وزناً؛ لأن الناس تعارفوا وزناً. نوع آخر منه قال محمد رحمه الله في كتاب الصرف: إن أبا حنيفة كان يكره كل قرض جر منفعة قال الكرخي: هذا إذا كانت المنفعة مشروطة في العقد بأن أقرض عادلية صحاحاً أو ما أشبه ذلك، فإن لم تكن المنفعة مشروطة في العقد، فأعطاه المستقرض أجود مما عليه، فلا بأس به، وكذلك إذا أقرض الرجل رجلاً دراهم أو دنانير ليشتري المستقرض متاعاً بثمن غال فهو مكروه، وإن لم يكن شراء المتاع مشروطاً في القرض، ولكن المستقرض اشترى من المقرض بعد القرض متاعاً بثمن غال فعلى قول الكرخي: لا بأس به. وذكر الخصاف في «كتابه» وقال: ما أحب له ذلك، وذكر شمس الأئمة الحلواني أنه حرام؛ لأن هذا قرض جر منفعة؛ لأنه يقول: لو لم أشتره منه طالبني بالقرض في الحال. وذكر محمد رحمه الله في كتاب الصرف: أن السلف كانوا يكرهون ذلك، إلا أن الخصاف لم

يذكر الكراهة إنما قال: لا أحب له ذلك، فهو قريب من الكراهة لكنه دون الكراهة، ومحمد لم ير بذلك بأساً، فإنه قال في كتاب الصرف: المستقرض إذا أهدى للمقرض شيئاً لا بأس به من غير فصل، فإنه دليل على أنه رفض قول السلف. قال شيخ الإسلام خواهرزاده رحمه الله: ما نقل عن السلف محمول على ما إذا كانت المنفعة وهي شراء المتاع بثمن غال مشروطة في الاستقراض، وذلك مكروه بلا خلاف، وما ذكر محمد رحمه الله محمول على ما إذا لم تكن المنفعة والهدية مشروطة في القرض وذلك لا يكره بلا خلاف، هذا إذا تقدم الإقراض في البيع. فأما إذا تقدم البيع على الإقراض وصورة ذلك: رجل طلب من رجل أن يعامله بمائة دينار، فباع المطلوب عند المعاملة من الطالب ثوباً قيمته عشرون ديناراً بأربعين ديناراً، ثم أقرضه ستين ديناراً حتى صار للمقرض على المستقرض مائة دينار وحصل للمستقرض ثمانون ديناراً، ذكر الخصاف أن هذا جائز، وهذا مذهب محمد بن مسلمة إمام بلخ، فإنه روي أنه كان له سلع، فكان إذا استقرض إنسان منه شيئاً كان يبيعه أولاً سلعة بثمن غال ثم يقرضه بعض الدنانير إلى تمام حاجته، وكثير من المشايخ كانوا يكرهون ذلك، وكانوا يقولون: هذا قرض جر منفعة. ومن المشايخ من قال: إن كانا في مجلس واحد يكره، وإن كانا في مجلسين مختلفين لا بأس به؛ لأن المجلس الواحد لجمع الكلمات المتفرقة، فكأنهما وافقا معاً فكانت المنفعة مشروطة في القرض. وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني يفتي بقول الخصاف، ويقول: محمد بن سلمة كان يقول هذا ليس بقرض جر منفعة بل هذا بيع جر منفعة وهو القرض. وأما هدية المستقرض: إن كانت الهدية مشروطة في الاستقراض فهو حرام، ولا ينبغي للمقرض أن يقبل، فإن لم تكن الهدية مشروطة في الاستقراض، وعلم أنه أهدى إليه لا لأجل الدين أو لأجل الدين، ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أنه لا بأس بقبولها، والتورع عنه أولى، وهكذا حكي عن بعض مشايخنا. بعد هذا قالوا: إذا كانت المهاداة تجري بينهما قبل القرض بسبب القرابة والصداقة أو كان المستقرض معروفاً بالجودة والسخاوة، فهذا قائم مقام العلم أنه أعطاه لا لأجل الدين فلا يتورع عنه، وإن لم يكن شيء من ذلك، فالحال حال الإشكال، فيتورع عنه حتى يتبين أنه أهدي لا لأجل الدين، ومن قال: بالكراهة في مسألة البيع يقول بالكراهة ههنا أيضاً، ومحمد لم ير به بأساً من غير تفصيل. وأما دعوة المستقرض قال محمد: ولا بأس بأن يجيب دعوة رجل له عليه دين، قال شيخ الإسلام خواهرزاده: (إلى) هذا جواب الحكم، فأما الأفضل أن يتورع عن الإجابة إذا علم أنه لأجل الدين أو أشكل عليه الحال. قال شمس الأئمة الحلواني: ما ذكر محمد رحمه الله محمول على ما إذا كان يدعوه قبل الإقراض، أما إذا كان لا يدعوه قبل الإقراض أو كان يدعوه في كل عشرين يوماً وبعد الإقراض جعل يدعوه في كل عشرة أيام أو زاد في الباحات، فإنه لا يحل

ويكون مسيئاً. وإذا أرجح في بدل القرض ولم يكن الرجحان مشروطاً في القرض فلا بأس به، روي أن رسول الله استقرض من رجل دراهم وأرجح وقال: «أنا كذلك بريء» . قال مشايخنا رحمهم الله: والرجحان على ضربين: إن كان يدخل تحت الوزنين لا بأس به وإن كان لا يدخل تحت الوزنين فهو على ثلاثة أقسام: أما إن كانت الدراهم مكسرة أو كانت صحاحاً لا يضرها الكسر، وفي هذين الوجهين لا يجوز؛ لأنه تعذر اعتبارها زيادة على بدل القرض؛ لأنه يكون ربا وتعذر اعتبارها هبة؛ لأنها هبة المشاع فيما يحتمل القسمة، وأما إن كانت (136ب3) الدراهم صحاحاً يضرها الكسر، وفي هذا الوجه ينظر إن كان الرجحان زيادة يمكن تمييزها بدون الكسر بأن كان يوجد فيها درهم خفيف يكون مقدار الزيادة لا يجوز، وإن كان الرجحان زيادة لا يمكن تمييزها بدون الكسر يجوز بطريق الهبة، ويكون هذا هبة المشاع فيما يحتمل القسمة. وإذا أقرضه بالكوفة بشرط أن يوفيه بالبصرة لا يجوز؛ لأنه قرض جر منفعة؛ لأن المستقرض يكفيه خطر الطريق ومؤنة الحمل، وعلى هذا السفاتج التي يتعامل بها التجار، فإنهم يقرضون فيما بينهم ويكتب المستقرض للمقرض سفتجة إلى مكان، فإن كان ذلك شرطاً في القرض فهو مكروه؛ لأنه قرض جر منفعة، فإنه يسقط عن المقرض مؤنة الحمل وخطر الطريق، وإن لم يكن ذلك مشروطاً في القرض فلا بأس به. وفي «المنتقى» إبراهيم عن محمد: رجل قال لآخر: أقرضني ألفاً على أن أعيرك أرضي هذه تزرعها ما دامت الدراهم في يدي، فزرع المقرض لا يتصدق بشيء وأكره له هذا. نوع آخر منه إذا استقرض فلوساً فكسدت، فإن على قول أبي حنيفة يرد عينها إن كانت قائمة، ومثلها إن كانت هالكة، وأما على قول أبي يوسف فقد ذكر بعض مشايخنا في شرح كتاب الصرف: أن المشايخ اختلفوا فيه على قولهما، قال بعضهم: يرد عينها وإن كانت هالكة فعليه قيمتها، وقال بعضهم: عليه قيمتها على كل حال. وفي «المنتقى» ما يدل على هذا القول، فقد ذكر ثمة: أنه إذا استقرض فلوساً، فعليه مثلها في قول أبي حنيفة، وقال محمد: عليه قيمتها يوم سقطت زاد في رواية إبراهيم عن محمد فعليه قيمتها في آخر ما فسدت بساعة قليلة قبل أن تكسد، وقال يعقوب: عليه قيمتها يوم استقرض، فقد ذكر القيمة على قولهما من غير فصل بينما إذا كانت قائمة أو هالكة على قولهما. والفلوس المغصوبة إذا كسرت، فإن كانت قائمة رد عينها بالإجماع، وإن كانت هالكة، فعلى الاختلاف الذي مر. وهذه المسألة في الحاصل فرع لمسألة أخرى في كتاب الغصب، أن من غصب من

آخر رطباً وهلك عنده أو استهلكه، ثم انقطع أوان الرطب، قال أبو حنيفة رحمه الله: عليه قيمته من الفضة يوم الخصومة، وقال أبو يوسف: عليه قيمته من الفضة يوم الغصب، وقال محمد: عليه قيمته من الفضة يوم الانقطاع. وجه كونها فرعاً لتلك المسألة: أن الواجب على المستقرض رد مثل ما قبض وعلى الغاصب كذلك، وقد حصل قبض الفلوس وهي رائجة، فيجب رد مثلها من ذلك الضرب رائجة، وقد عجز عن تسليمها رائجة بالكساد، كما أن غاصب الرطب عجز عن تسليم الرطب بالانقطاع إلا أن غاصب الرطب عجز عن رد الأصل، ومستقرض الفلوس عجز عن رد الصفة وهي كونها رائجة. وإذا صارت هذه المسألة بناء على تلك المسألة لو أوجبنا القيمة على قول أبي حنيفة وجب اعتبار القيمة يوم الخصومة ههنا كما وجب اعتبار القيمة يوم الخصومة ثمة، قلنا: إيجاب قيمتها من الفضة يوم الخصومة لا يفيد؛ لأن قيمتها كاسدة وعينها سواء بل إيجاب العين كاسدة أعدل من قيمتها فأوجبنا المثل على قوله ولم نوجب القيمة لهذا، وعلى قولهما لما وجب اعتبار قيمتها رائجة إما يوم الاستقراض وإما في آخر يوم كانت رائجة كان إيجاب القيمة من الفضة أعدل من إيجاب عينها كاسدة فيؤول الكلام إلى تلك المسألة، فإن اصطلحا على شيء يداً بيد، فهو جائز؛ لأن الواجب في الذمة على قولهما القيمة من الفضة، وعلى قول أبي حنيفة الفلوس، وأياً ما كان فالاستبدال به جائز بعد أن يكون الافتراق عن عين بدين، والجواب في العدلي على ما ذكرنا من غير تفاوت. وكثير من المشايخ كانوا يفتون بقول محمد رحمه الله، وبه كان يفتي الصدر الكبير برهان الأئمة، والصدر الشهيد حسام الدين، وبعض مشايخ زماننا أفتوا بقول أبي يوسف رحمه الله وقوله أقرب إلى الصواب في زماننا. وفي بيوع «الأمالي» : رجل استقرض من آخر شيئاً من الكيلي أو الوزني وانقطع عن أيدي الناس، قال: يجبر المقرض على التأخير حتى يدرك الحديث عند أبي حنيفة؛ لأن الانقطاع عن أيدي الناس يجري مجرى الهلاك، ومن مذهب أبي حنيفة رحمه الله أن الحق لا ينقطع عن الغير بهلاك العين على ما عرف في موضعه. وإذا بقي الحق في العين، ولوجود العين غاية معلومة يجبر على التأخير إلى وقت وجوده ليصل إليه عين حقه، أكثر ما فيه أن في التأخير ضرب ضرر للمقرض إلا أن في أخذ غير الحق ضرراً للمستقرض، وهذا الضرر فوق ضرر التأخير، فكان أولى بالدفع. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: في رجل استقرض من آخر شيئاً من الفواكه كيلاً أو وزناً، فلم يقبضه المقرض حتى انقطع، فهذا لا يشبه الفلوس إذا كسدت؛ لأن هذا مما لا يوجد، فهذا يجبر صاحبه على تأخيره إلى أن يجيء الحديث إلا أن يتراضيا على قيمته. قال: وهذا في الوجه مثل رجل استقرض من رجل طعاماً من بلد الطعام فيه رخيص، فالتقيا في بلد الطعام فيه غال، فأخذه الطالب بحقه، فليس له أن يحبسه ويؤمر المطلوب بأن يوثق له حتى يعطيه إياه في البلد الذي استقرضه فيه.

نوع آخر منه وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: إذا أخذ المقرض المستقرض في بلدة أخرى، فإن شاء أخذه حتى يؤديه في الموضع الذي استقرضه، وإن شاء أخذه بقيمة ذلك الموضع ههنا، وإن أبى المستقرض أن يعطيه القيمة أجبر عليه. وروى إبراهيم عن محمد: رجل استقرض من آخر طعاماً بالعراق، فأخذه المقرض بمكة، قال أبو يوسف: عليه قيمته يوم أقرضه، وقال محمد: عليه قيمته بالعراق يوم اختصما، وليس عليه أن يرجع معه إلى العراق ويأخذ طعامه. في «القدوري» : إذا استقرض دراهم بخارية والتقيا في بلدة لا يقدر على البخارية، فإن كان ينفق في ذلك البلد، فإن شاء صاحب الحق أجله قدر المسافة ذاهباً وجائياً ويستوثق منه، وإن كان في بلدة لا ينفق وجب القيمة. وروى بشر عن أبي يوسف: رجل أقرض رجلاً طعاماً أو غصبه إياه وله حمل (و) مؤنة، والتقيا في بلدة أخرى الطعام فيها أرخص، فإن أبا حنيفة قال: يستوثق له من المطلوب حتى يوفيه طعامه حيث أقرضه أو غصبه، قال أبو يوسف: إن تراضيا عليه فحسن وأيهما طلب القيمة أجبرت الآخر عليه وهي القيمة في البلد الذي استقرض أو غصب على حال يوم أقضي، والقول في ذلك قول المطلوب، فإن كان الغصب قائماً في يديه بعينه أجبره على أخذه ولا أجبره على القيمة. نوع آخر رجل أقرض رجلاً ألف درهم وقبضها المستقرض، ثم إن المقرض قال للمستقرض: اصرف الدراهم التي عليك بالدنانير، فإن عين له شخصاً بأن قال له مع فلان، ففعل جاز على المقرض بالإجماع، وإن لم يعين شخصاً ففعل، قال أبو حنيفة قال: لا يجوز على المقرض و (قال: لا يجوز) . أصل المسألة: إذا قال رب الدين للمديون أسلم ما لي عليك (37أ3) في كر حنطة ولم يعين المسلم إليه، فإن أراد الطالب أن يأخذ الدنانير من المستقرض باختياره جاز ذلك، وهذا عندهم جميعاً، أما عند أبي يوسف ومحمد فظاهر، وأما عند أبي حنيفة؛ لأن بالدفع والأخذ ينعقد بينهما بيع جديد بالتعاطي. إذا كان للرجل على رجل ألف درهم دين، فدفع المطلوب دنانير إلى الطالب، وقال: اصرفها وخذ حقك منها، فقبضها الطالب فهلكت في يده قبل أن يصرفها، فهي من مال المطلوب؛ لأن الدنانير أمانة في يده؛ لأنه قبضها بحكم الوكالة، والوكيل أمين فيما في يده بحكم الوكالة، فإن صرفها فهلكت الدراهم في يده قبل أن يأخذ منها هلكت من مال الدافع أيضاً؛ لأنه وكيل بالصرف، فالقبض بحكم العقد يقع للآمر أولاً وتصير الدراهم أمانة في يده ما لم يحدث فيها قبضها لنفسه، فإذا أخذ بحقه منها، فقد أخذت في المأخوذ قبضها لنفسه، فإذا هلك بعد ذلك هلك على مال الطالب، وإن لم يأخذها بحقه بعد؛ لأن في هذه المسألة أمره الطالب بالبيع بحقه، وإنما يكون البيع بحقه إذا كان بائعاً لنفسه فيقع البيع للطالب، أما في المسألة الأولى ما أمر الطالب بالبيع بحقه إنما أمره

بالصرف لنفسه واستيفاء الحق من الدراهم، فيقع الصرف للدافع، ويقع القبض بحكم الصرف للدافع أيضاً، والتقريب ما ذكرنا. نوع آخر من هذا الفصل قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل استقرض من رجل كراً من طعام، ثم إن المستقرض اشترى من المقرض الكر الذي عليه بمائة درهم جاز الشراء؛ لأن المستقرض صار ملكاً للمستقرض بنفس القبض، ووجب عليه للمقرض كراً مثله، فصح الشراء، بخلاف ما إذا اشترى غير من عليه الدين حيث لا يجوز؛ لأنه لا يمكنه التسليم إلا بالقبض، فكان عاجزاً عن التسليم للحال فلا يجوز، أما ههنا المبيع في يد المشتري؛ لأنه في ذمته وذمته تكون في يده أيضاً، فلما اشترى وقع مسلماً إليه فصح. وإذا جاز الشراء إن نقد المائة في المجلس، فالشراء ماض على صحته، وإن لم ينقدها في المجلس بطل لافتراقهما عن دين، وهذا بخلاف ما إذا وجب على المستقرض كر حنطة، ثم إن كل واحد منهما باع ماله على صاحبه بما لصاحبه عليه حيث يجوز، وإن افترقا عن المجلس من غير قبض شيء لأن هناك الافتراق حصل بعد قبض البدلين حكماً؛ لأن بنفس الشراء ملك كل واحد ما ذمته إذ ذمته في يده، قالوا: وهذا على قول أبي حنيفة ومحمد رحمه الله؛ لأن عندهما المستقرِض يصير ملكاً للمستقرض بنفس القبض، فيجب عليه مثله ديناً في الذمة فيصح الشراء. أما عند أبي يوسف: فالمستقرض لا يصير ملكاً للمستقرض إلا بالقبض مع الاستهلاك، فلم يجب في ذمة المستقرض شيء، فلا يصح الشراء، فإذا استهلكه ثم اشتراه لا يصح بلا خلاف، وكذلك الاختلاف في الملك في المنقود وسائر ما يستقرض. وجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن (القبض) بمنزلة العارية، ولهذا لا يصح التأجيل فيه مع صحة القرض وجعلت إعارة كل مكيل وموزون قرضاً، لا إعارة تمليك المنفعة، ولهذا لا يملكه المكاتب والعبد والأب والوصي، والإعارة تمليك المنفعة لا تمليك العين إلا أن منافع هذه الأعيان لا تنفصل عن الأعيان، فأقيمت المنافع مقام الأعيان، ثم المنافع لما كانت لا تملك إلا بالاستهلاك، فكذلك الأعيان التي قامت مقام المنافع. وجه قول أبي حنيفة ومحمد هو: أن الأعيان لما أقيمت مقام المنافع فيما لا يتهيأ الانتفاع إلا بعد استهلاكها يقوم قبض العين أيضاً مقام قبض المنفعة لهذه الضرورة، والمنفعة في باب الأعيان تمليك بالقبض، فكذا العين تملك بالقبض، غير أن قبض المنافع لا يكون بدون الاستهلاك، فإذا افترقا في حق القبض يفترقان في الملك الذي هو بناء عليه. والدليل عليه: أن المستقرض لو باع القرض من غيره يجوز، وكان الثمن له. ولو بقي على ملك المقرض قبل الاستهلاك لكان يقف هذا البيع على إجازته، وكذا سائر تصرفاته من الهبة والصدقة على هذا. ثم إذا نقد المشتري المائة في المجلس، ثم وجد بالكر عيباً لم يرده بالعيب؛ لأنه لا وجه إلى رده بحكم الشراء؛ لأن العقد ما يتناوله. ولا وجه إلى رده بحكم القرض؛

لأن القرض تبرع لا يوجب السلامة عن العيب، ولكن يلزمه مثل المقبوض، ولكن يرجع بنقصان العيب من الثمن؛ لأن المبيع كر وجب في الذمة بدلاً عن المقبوض بحكم القرض والمقبوض بحكم القرض معيب في نفسه، فكذا ما وجب عنه، والعقد يقتضي السلامة عن العيب، وقد ظهر أنه معيب وقد تعذر رده؛ لأنه دين في ذمة المشتري، فلما اشتراه سقط عن ذمته، فيرجع بنقصان العيب، كما لو اشترى عبداً فهلك في يد المشتري ثم اطلع على عيب به، ولو كان القرض المقبوض مستهلكاً كان الجواب كما قلنا، لكن عند الكل، وكذلك الجواب في كل مكيل وموزون غير الدراهم والدنانير والفلوس إذا كان قرضاً. وقال في آخر الباب: لو اشترى ما عليه من الكر (قبل) القبض بكر مثله جاز إذا كان عيناً، وإن كان ديناً لا يصح إلا أن يقبضه في المجلس لما مر، فإن وجد المستقرض بالقرض عيباً لم يرده ولا يرجع بنقصان العيب بخلاف الوجه الأول، والفرق بينهما: أنه لو رجع ينقص الكر الذي دفع المستقرض، فيكون هذا مبادلة كر من طعام بأقل من كر وذلك ربا، أما إذا كان الثمن دراهم لو رجع ببعض الدراهم كان هذا مبادلة كر بأقل من مائة درهم، وذلك لا يؤدي إلى الربا. وقال في آخر الباب: إذا اشترى المستقرَض بعينه وهو مقبوض لم يصح الشراء؛ لأنه ملك المستقرض، وإنما اشترى ملك نفسه فلا يصح، وعلى قياس قول أبي يوسف يصح؛ لأنه ملك المقرض، فإن قيل: لم لا يقدم فسخ المقرض تصحيحاً لما قصدا كما يقدم فسخ البيع بألف على البيع بألفين وخمسمائة تصحيحاً لما قصدا، قلنا: فسخ القرض لا يتم إلا برد المقرض، وذلك فعل والأفعال لا يمكن إتيانها بطريق الاقتضاء، فلا يثبت فسخ القرض إلا إذا سقط اعتبار الرد شرطاً لتمام الفسخ بمقتضى الإقدام على البيع ولا وجه إلى ذلك؛ لأن ما صار شرطاً للشيء لا يسقط اعتباره وإن كان ثبوت ذلك الشيء بطريق الاقتضاء. نظير هذا ما قال أبو حنيفة ومحمد فيمن قال لغيره: أعتق عبدك عني بغير شيء لا تثبت الهبة بطريق الاقتضاء إلا إذا سقط اعتبار القبض؛ (لأن القبض) شرط للهبة ولم يسقط، وإن كان ثبوت الهبة يقتضي غيره وهو الاعتاق (137ب3) عن الآخر كذا ههنا. ولو اشترى المقرض من المستقرض عين ما قبضه صح عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأنه ملك المستقرض، وعلى قول أبي يوسف: لا يصح؛ لأنه ما زال عن ملك المقرض فلا يصح شراؤه. وعنه أيضاً: رجل أقرض رجلاً مائة درهم على أنها جياد، فقبضها ثم اشتراه المستقرض المقرض بعشرة دنانير صح، أما على قول أبي حنيفة ومحمد: فلأنه وجب على المستقرض مثل تلك الدراهم ديناً في الذمة بالإضافة بل يتعلق بمثلها وصار هو بائعاً الدنانير بمثل ذلك الدراهم، فصار وجوب تلك الدراهم في الذمة وجودها والعدم بمنزلة بخلاف مسألة الطعام العقد يتعلق بالعين بالإشارة فيتعلق بما في الذمة بالإضافة، فإذا لم يكن في ذمته شيء لا يصح الشراء أما ههنا بخلافه.

ثم إذا صح الشراء ههنا لو افترقا عن المجلس من غير قبض البدل وهو الدينار يبطل الصرف لافتراقهما عن المجلس من غير قبض بدلي الصرف، وإن قبض الدنانير قبل أن يتفرقا، فالعقد ماض على الصحة؛ لأن الدنانير مقبوضة حقيقة والدين مقبوض عليه أيضاً، فوجد قبض بدلي الصرف في المجلس (وأما) في مسألة الحنطة العقد ليس بصرف، فإنما يبطل بالدينية في البدلين، وذلك يزول بقبض أحدهما، ثم في مسألة الحنطة لم يجعل الدين بمنزلة المقبوض إذ لو كان في معنى المقبوض لما احتيج إلى قبض البدل الآخر؛ لأن في عقد غير الصرف يكتفى بقبض أحد البدلين. والوجه في هذا أن يقال: إن في العقود كلها الشرط تعين أحد البدلين حقاً للشرع ليصير محل العقد موجوداً، غير أن في باب الصرف لما لم يتحقق التعيين إلا بالقبض شرط قبض أحد البدلين للتعيين، وشرط قبض الآخر حقاً للعاقد الآخر تحقيقاً للتساوي بينهما، وفي مسألتنا الدين لما كان في حكم المقبوض، ووجد قبض الآخر في المجلس صار حق الشرع وحق العبد مقاماً، فيجوز أما في مسألة الحنطة، ما في الذمة وإن صار في حكم المقبوض لكن لم يتعين فيه؛ لأن صيرورته مقبوضاً لا ينافي كونه ديناً فلم يصر حق الشرع مقاماً، فشرط تعيين البدل الآخر ليصير حق الشرع مقاماً. فإن وجد المستقرض الدراهم القرض زيوفاً أو نبهرجة لم يردها؛ لأنه لو ردها بحكم العقد أو بحكم القرض، وكلا الوجهين ممتنع على ما مر في الفصل الأول، ولا يرجع بنقصان العيب ههنا أيضاً بخلاف مسألة شراء الكر الذي عليه بالدراهم، والفرق وهو أن العقد يتعلق بالكر الذي هو عين بالإشارة، فيتعلق بالكر الذي في ذمة المستقرض أيضاً بالإضافة. ولهذا إذا اشترى كر حنطة في ذمته من إنسان، ثم تصادقا أنه لا حنطة عليه إنه يبطل الشراء، وإذا تعلق العقد بالكر الذي في ذمة المستقرض، فلو رجع بحصة العيب من الدراهم كان مشترياً الكر بأقل من مائة وإنه ليس بربا، أما في مسألتنا الدراهم التي في ذمة المستقرض لا تتعين لإضافة العقد إليها، ألا ترى أنها لو كانت عيناً لا تتعين لإضافة العقد إليها، فكذا إذا كانت ديناً لا تتعين لإضافة العقد إليها. ولهذا لو اشترى مائة درهم في ذمته لإنسان بعشرة دنانير، ثم تصادقا أنه لا شيء عليه لا يبطل الشراء، وإذا لم يتعلق العقد بالدراهم التي في ذمة المستقرض وجب للمستقرض بهذا الشراء مائة درهم جياد في ذمة المقرض بدلاً عن الدنانير، وللمقرض على المستقرض مائه مثلها فصار قصاصاً، فصار المستقرض قاضياً ما كان عليه بما وجب له في ذمة المقرض بالشراء، فلو رجع بنقصان العيب تسلم له مائة درهم وزيادة شيء وهذا هو الربا. قال: وليس للمستقرض أن يرد على المقرض مثل دراهمه الزيوف ويرجع عليه بالجياد، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: له ذلك، وهذه المسألة فرع لمسألة أخرى أن من كان له على آخر مائة جياد، فأوفاه المديون زيوفاً ولم يعلم رب الدين حتى هلكت الدراهم في يده أو استهلكها، ثم علم بذلك، فأراد أن يرد عليه مثل المقبوض من الزيوف ويرجع عليه بالجياد ليس له ذلك في قول أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف له ذلك استحساناً.

الفصل الرابع والعشرون: في الاستصناع

فوجه قول أبي يوسف أن المقبوض لو كان قائماً بعينه كان له أن يرده ويرجع بالجياد، فكذا إذا تمكن من رد مثله وعجز عن رد العين، إذ رد المثل جعل كرد العين إيفاء لحقه في الجودة ونظراً له. وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: بأن المقبوض إذا كان قائماً بعينه، فأراد (رده) ينتقض القبض من الأصل ويلتحق بالعدم، فيعود حقه في الأصل فيعود في الجودة أيضاً، أما برد مثل المقبوض لا ينتقض القبض في المقبوض إذ القبض لم يرد على المثل، وبرد غير المقبوض لا ينتقض القبض في المقبوض، فلا يعود حقه في الأصل، فلو عاد في الجودة عاد ابتداءً، وحقه لا يعود في الجودة ابتداء. ولو وجد المستقرض الدراهم المستقرضة ستوقة أو رصاصاً، وباقي المسألة بحالها ردها على المقرض؛ لأن الستوقة والرصاص عروض واستقراض العروض باطل. بعد هذا إن لم يتفرقا عن المجلس وقد نقد الدنانير واستوفى مائة جياداً في المجلس بل يتعلق بمثل المسمى في الذمة، فإذا تبين أنه لم يكن في ذمته دراهم بسبب القرض صار كأن العقد مطلق لم يضف إلى ذمة المستقرض، فلا يبطل العقد إذا قبض في المجلس، فأما إذا تفرقا عن المجلس فقد الصرف لافتراقهما عن غير قبض أحد البدلين وهو الدراهم في المجلس، فكان للمستقرض أن يسترد دنانيره وصار كرجل اشترى دراهم بدنانير وسلم الدنانير وقبض الدراهم، ثم وجدها ستوقة، إن استبدل في المجلس يصح العقد وإن افترقا عن المجلس حتى يبطل العقد برد الدنانير كذا ههنا. ولو كان الدين على المستقرض دنانير أو فلوساً فاشتراها بدراهم، ثم وجدها زيوفاً أو نبهرجة أو ستوقة، ففي الدنانير الجواب ما ذكرنا في جميع الأحوال، وكذلك الجواب في الفلوس إذا كان زيوفاً أو نبهرجة أما إذا وجد الفلوس ستوقة وقد تفرقا بعد قبض الدراهم كان العقد جائزاً، وإن حصل الافتراق عن عين بدين ولكن في غير عقد الصرف فلا يوجب الفساد. الفصل الرابع والعشرون: في الاستصناع يجب أن يعلم أن الاستصناع جائز في كل ما جرى التعامل فيه كالقلنسوة والخف والأواني المتخذة من الصفر والنحاس وما أشبه ذلك استحساناً، ولا يجوز فيما لم يجر التعامل فيه كالثياب وما أشبهها، والقياس: أن لا يجوز الاستصناع أصلاً، وبه أخذ زفر والشافعي.n وجه القياس في ذلك ما روي عن النبي عليه السلام: «أنه نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم» ، وهذا بيع ما ليس عنده لا على (138أ3) وجه السلم،

فلا يجوز عملاً بهذا الظاهر، ولأن من جوز الاستصناع فيما للناس فيه تعامل (إما) أن يجوزه إجارة أو بيعاً أو سلماً، ولا وجه إلى تجويزه بيعاً؛ لأنه باع ما ليس عنده. ولا وجه إلى تجويزه سلماً؛ لأنه لم توجد شرائط جواز السلم، وإذا لم يمكن تجويزه على موافقة هذه العقود كان باطلاً، كالاستصناع في الثياب فهذا على وجه القياس. وجه الاستحسان: أن القياس وإن كان يأبى جواز الاستصناع من الوجه الذي قلتم إلا أنا تركنا القياس وجوزناه بتعامل الناس، فإن الناس تعاملوا الاستصناع في هذه الأشياء من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلى يومنا هذا من غير نكير، ولا رد من الصحابة رضي الله عنهم ولا من التابعين رحمهم الله، وتعامل الناس من غير نكير (ولا) رد من علماء كل عصر حجة يترك بها القياس ويخص بها الأثر، ألا ترى أن دخول الحمام بأجر جائز استحساناً لتعامل الناس من غير نكير من علماء كل عصر وإن كان القياس يأبى جوازه؛ لأن مدة ما يمكث في الحمام وقدر ما يستعمل من الماء مجهول. وكذلك لو قال لسقاء: أعطني شربة ماء بفلس جاز ذلك لتعامل الناس فيه من غير نكير ورد من علماء كل عصر، وإن كان القياس يأبى جوازه فكذلك هذا. والأصل في ذلك ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن» ، والمسلمون رأوا الاستصناع حسناً فيكون حسناً بخلاف الاستصناع فيما لا يتعامل الناس فيه نحو الثياب وما أشبه ذلك؛ لأن المجوز للاستصناع التعامل ففيما لا تعامل فيه لا يجوز فيعمل فيه بالقياس. ثم الاستصناع فيما للناس فيه تعامل إذا جاز استحساناً فإنما يجوز معاقدة لا مواعدة بدليل أن محمداً رحمه الله ذكر فيه القياس والاستحسان، ولو كان مواعدة لجاز قياساً واستحساناً، والدليل عليه: أنه فصل بين ما للناس فيه تعامل وبين ما لا تعامل للناس فيه، ولو كانت مواعدة لجاز في الكل. والدليل عليه: أن محمداً رحمه الله قال في «الكتاب» : إذا فرغ الصانع من العمل، وأتى به كان المستصنع بالخيار؛ لأنه اشترى ما لم يره، فقد سماه شراء، وكذلك قال: إذا قبض الآخر فإنه يملكه، ولو كانت مواعدة لكان لا يصير الآخر ملكاً له، فدل أنه ينعقد لا مواعدة، ثم كيف ينعقد معاقدة؟ نقول ينعقد إجارة ابتداء ويصير بيعاً انتهاء متى سلم قبل التسليم بساعة بدليل أنهم قالوا: إذا مات قبل تسليم العمل بطل الاستصناع ولا يستوفي المصنوع من تركته. ولو انعقد بيعاً ابتداءً وانتهاءً لكان لا يبطل بموته كما في بيع العين والسلم. وقال محمد رحمه الله: إذا أتى به الصانع كان المستصنع بالخيار؛ لأنه اشترى شيئاً لم يره ولو انعقد إجارة ابتداء وانتهاء لم يكن له خيار الرؤية كما في الخياطة والصباغ،

ولو كان ينعقد بيعاً عند التسليم لا قبله بساعة لم يثبت خيار الرؤية؛ لأنه يكون مشترياً ما رآه، خيار الرؤية لا يثبت في المرئي، علمنا أنها تنعقد إجارة ابتداء وإن كان القياس يأباه؛ لأنه إجارة على عمل في ملك الأجير لم يصر بيعاً انتهاءً قبل التسليم بساعة، وإن كان القياس يأبى أن تصير الإجارة بيعاً تركنا القياس في الكل لمكان التعامل. والمعنى في ذلك: أن المستصنع طلب منه العمل والعين جميعاً، فلا بد من اعتبارهما جميعاً (واعتبارهما جميعاً) في حالة واحدة متعذر؛ لأن بين الإجارة والبيع تناف فجوزناها إجارة ابتداء؛ لأن عدم المعقود عليه لا يمنع انعقاد الإجارة ويمنع انعقاد البيع، فاعتبرناها إجارة ابتداء وجعلناها بيعاً قبل التسليم بساعة توفيراً على الأمرين حظهما كما فعلنا هكذا في الهبة بشرط العوض اعتبرناها (هبة) في الابتداء عملاً باللفظ وبيعاً انتهاء عملاً بالمعنى فكذلك هذا، ولهذا قلنا: لو مات قبل التسليم تبطل الإجارة ومتى سلم كان المستصنع بالخيار؛ لأنه اشترى ما لم يره. وهذا بخلاف ما لو استأجر وراقاً ليكتب له كتاباً بحبره أو صباغاً ليصبغ بصبغه، فإنها تنعقد إجارة ابتداء وانتهاء، وإن كان فيها تمليك العين من المستأجر وهو الحبر والصبغ ممكناً من غير أن يجعل بيعاً في الانتهاء لإيصال الصبغ بملكه، فإن إيصال الصبغ بملكه من غير بيع لم يضطر إلى أن تجعل الإجارة بيعاً انتهاء، وإنه خلاف القياس، فأما هنا تمليك العين من المستصنع تبعاً للعمل غير ممكن وإن اعتبرناها إجارة ابتداء؛ لأن العمل لا يصير ملكاً له قبل ملك المحل، وإذا لم يمكن تمليك العين منه تنعقد الإجارة تبعاً للعمل احتجنا إلى تمليك العين منه أولاً ولا يمكننا ذلك إلا بالبيع فجعلناه بيعاً انتهاء. وجعلناه بيعاً قبل التسليم بساعة ليثبت به خيار الرؤية، ولهذا أورد محمد رحمه الله الاستصناع في كتاب البيوع وفي كتاب الإجارات؛ لأن به شبهاً من الأصلين من الإجارة والبيع، فإنها تنعقد إجارة ابتداء وتنقلب بيعاً انتهاء، فكان له اتصال بالكتابين جميعاً فلهذا أورده في الكتابين. فإن قيل: لو كان ينعقد إجارة لكان الصانع يجبر على العمل ويجبر المستصنع على إعطاء الدراهم كما في سائر الإجارات، ولو أتى الصانع بمصنوع صنعه قبل العمل يري الصانع عما لزمه بالاستصناع، ولو انعقد إجارة لاستحق عليه العمل بعد العقد. قلنا: الروايات في لزوم الاستصناع وعدم لزومه مختلفة. روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله: أن الصانع لا يجبر على العمل بل يتخير إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، وذكر الكرخي في «كتابه» : أن هذا العقد ليس بلازم ولم ينسب هذا القول إلى أحد، وقال أبو يوسف رحمه الله أولاً: يجبر المستصنع دون الصانع وهو رواية عن أصحابنا رحمهم الله، ثم رجع أبو يوسف عن هذا وقال: لا خيار لواحد منهما بل يجبر الصانع على العمل ويجبر المصنوع على القبول. وجه ما وري عن أبي يوسف: أنه يجبر كل واحد منهما، أما الصانع فلأنه ضمن العمل فيجبر عليه وأما المستصنع؛ فلأنه لو لم يجبر على القبول يتضرر به الصانع؛ لأنه

عسى لا يشتريه غيره منه أصلاً، أو لا يشتري بذلك القدر من الثمن فيجبر على القبول دفعاً للضرر عن البائع. وجه قول أبي يوسف أولاً وهو رواية عن أصحابنا أن المستصنع اشترى شيئاً لم يره، الصانع، باع شيئاً لم يره للمشتري، ما لم يره الخيار بالنص لا للبائع. وجه ما روي عن أبي حنيفة رحمه الله وهو المذكور في «القدوري» : أنه لا يجبر كل واحد منهما إنما لم يجبر الصانع على العمل، وإن كان ينعقد إجارة؛ لأنه لا يمكنه العمل إلا بإتلاف عين، والإجارة تنفسخ بهذا القدر، ألا ترى أن المزارع له أن يمتنع من العمل إذا كان البذر من جهته ورب الأرض كذلك؛ لأنه لا يمكنه المضي في هذه الإجارة إلا بإتلاف عين. وكذلك لو استأجر رجلاً ليقطع يده وقد وقع فيها أكله كان له أن يمتنع، فكذلك هذا. ولا يجبر (138ب3) المستصنع على إعطاء الدراهم وإن شرط تعجيله؛ لأن الإجارة في الأجرة شراء ما لم يره كان له أن يفسخ العقد ولا يعطي البدل، ولأن جواز الاستصناع بخلاف القياس لأجل الحاجة، والضرورة في الجواز لا في اللزوم، بقي اللزوم على أصل القياس، وعن هذا قلنا: إن للصانع أن يبيع المصنوع قبل أن يراه المستصنع؛ لأن العقد ليس بلازم، فإذا رآه ورضي به ليس له أن يبيعه؛ لأن الصانع بالإحضار أسقط خياره ولزم العقد من جانبه، فإذا رضي به المستصنع يثبت اللزوم في حقه أيضاً، فلا يكون للصانع أن يبيع بعده. وأما قوله: لو أتى المصنوع صنعه قبل العقد لم يجبر على العمل قلنا: المقصود من العمل المعمول، فإذا سلم المعمول سقط عنه العمل هذا إذا لم يضرب لذلك أجلاً. فأما إذا ضرب لذلك أجلاً قال أبو حنيفة: يصير سلماً ولا يبقى استصناعاً حتى يجب تعجيل رأس المال في المجلس، ومتى أتى بالمصنوع على الوصف الذي وصفه لا يكون له خيار الرؤية، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إنه لا يصير سلماً بل يبقى استصناعاً، وهذا في استصناع للناس فيه تعامل. وأما ما لا تعامل للناس فيه كالاستصناع في الثياب، فإنه ينقلب سلماً يضرب الأجل بالإجماع هكذا قالوا، وذهبا في ذلك إلى أن الاستصناع ينعقد إجارة ابتداء ويصير بيعاً انتهاء، فأما إذا ضرب فيه الأجل، فاعتبار معنى الإجارة فيه يمنع أن يصير سلماً؛ لأن الإجارة لا تصير سلماً بضرب الأجل، كما (لو) قال لخياط: خط هذا الثوب غداً أو إلى شهر لا يصير سلماً، واعتبار معنى البيع يوجب أن يكون سلماً؛ لأن المستصنع في حكم مبيع عين، ولهذا يثبت للمستصنع خيار الرؤية، وضرب الأجل لا يصح في الأعيان وإنما يصح في الديون، فضرب الأجل اقتضى أن يكون المبيع ديناً في الذمة، والمبيع لا يثبت ديناً في الذمة إلا سلماً، فقد اجتمع ما يوجب أن يكون الاستصناع سلماً وما يمنع وقد أمكن تجويزه استصناعاً من غير أن نجعله سلماً، فلا نغفله وقد استوى الموجب لصيرورته سلماً مع المانع بخلاف ما لا تعامل للناس فيه؛ لأنه لا يمكن تجويزه استصناعاً فجوزناه سلماً.

الفصل الخامس والعشرون: في البياعات المكروهة والأرباح الفاسدة وما جاء فيها من الرخصة

وأما أبو حنيفة يقول: اجتمع ما يوجب أن يصير الاستصناع سلماً، وإنما قلنا ذلك؛ لأن اعتبار معنى الإجارة * إن كان * يمنع أن يكون سلماً واعتبار معنى البيع يوجب أن يكون سلماً فقد استويا. وهنا اعتبار آخر يوجب أن يصير سلماً وهو أنا لو جوزناه سلماً ورجحنا جانب البيع كان ذلك تجويز هذا العقد على موافقة القياس من وجه؛ لأن المبيع حينئذٍ يثبت ديناً في الذمة وثبوت المبيع في الذمة على موافقة القياس وجه كما في السلم، فأما متى صار استصناعاً لم يكن المبيع في الذمة ديناً ولا عيناً، وهذا خلاف القياس من كل وجه، فصار ما يوجب صيرورته سلماً شيئان وما يمنع شيء واحد، فتكون العبرة لما يوجب. ثم إذا صار سلماً لم يكن للمستصنع خيار الرؤية كما في سائر الأسلام لا يثبت خيار الرؤية، وإن اشترى ما لم يره، فرق بين هذا وبين بيع العين، فإن للمشتري في بيع العين خيار الرؤية وإنما كان كذلك، وذلك لأن إثبات خيار الرؤية الفسخ ولا يحصل هذاالمقصود متى اثبتنا خيار الرؤية في السلم، وذلك لأنه متى رد المقبوض بخيار الرؤية لا ينفسخ السلم؛ لأنه لم يرد عين ما تناوله العقد؛ لأن العقد لم يتناول هذا المقبوض بعينه، وإنما يتناول مثله ديناً في الذمة فلا ينفسخ العقد برده بل يعود حقه إلى مثله، وإذا لم يعد بموته وحكمه لا يثبت، وفي بيع العين يفيد ثمرته وحكمه؛ لأن حكمه الفسخ، والبيع ينفسخ متى رده بخيار الرؤية؛ لأنه رد عين ما تناوله العقد فينفسخ العقد برده، وإذا أفاد حكمه وثمرته يثبت. الفصل الخامس والعشرون: في البياعات المكروهة والأرباح الفاسدة وما جاء فيها من الرخصة قال مشايخنا: العرية التي فيها الرخصة ليس تفسيرها عندنا أن يشتري الثمار على رؤوس النخيل بثمار محدودة كيلاً أو مجازفة، فإن ذلك لا يجوز عندنا، وإنما تفسيرها أن يهب الرجل ثمرة نخيله من بستانه لرجل، ثم يشق على المعري دخول المعرى له في بستانه كل يوم ويكون أهله في البستان ولا يرضى من نفسه خلف الوعد والرجوع في الهبة، فيعطيه مكان ذلك تمراً محدوداً بالخرص يعني بالحزر والظن، ليدفع ضرورة عن نفسه ولا يكون مخالفاً للوعد وهذا جائز؛ لأن الموهوب لم يصر ملكاً للموهوب له ما دام متصلاً بملك الواهب، فما يعطيه من الثمر لا يكون عوضاً عنه يكون هبة مبتدأة لكن سمي بيعاً مجازاً؛ لأنه في الصورة عوض يعطيه للتحرز عن الخلف في الوعد. فإن قيل: لو كان تفسير العرية ما قلتم ينبغي أن لا تقتصر الرخصة على ما دون خمسة أوسق، والراوي ذكرها مقصودة على ما دون خمسة أوسق، قلنا: عندنا الرخصة غير مقصورة إلا أن الراوي إنما ذكر الرخصة؛ لأن العرية التي وقعت كانت فيما دون خمسة أوسق، فظن الراوي أن الرخصة مقصورة فروى كما ظن.

اختلف المشايخ في تفسير العينة التي ورد النهي عنها في قوله عليه السلام: «إذا تبايعتم بالعينة واتبعتم أذناب البقر ذللتم وظهر عليكم عدوكم» ، تفسيرها: أن يأتي الرجل المحتاج إلى آخر يستقرضه عشرة دراهم ولا يرغب المقرض في الإقرار طمعاً في الفضل الذي لا يناله في الإقراض، فيقول: ليس تيسر علي القراض إذ لا يحصل له ربح ولكن أبيعك هذا الثوب إن شئت باثني عشرة درهم وقيمته في السوق عشرة ليبيع في السوق بعشرة، فيرضى به المستقرض، فيبيعه المقرض منه باثني عشر، ثم يبيعه المشتري في السوق بعشرة فيحصل لرب الثوب ربح درهمين بهذه التجارة ويحصل للمستقرض قرض عشرة سمي هذا العقد بالعينة؛ لأنه أعرض عن الدين إلى بيع العين. قال بعضهم: تفسيرها أن يدخلا بينهما ثالثاً فيبيع المقرض ثوبه من المستقرض باثني عشر درهماً ويسلمه إليه، ثم يبيع المستقرض من الثالث الذي ادخلاه بينهما بعشرة ويسلم الثوب إليه، ثم إن الثالث يبيع من صاحب الثوب وهو المقرض بعشرة ويسلم الثوب إليه ويأخذ منه العشرة، ويدفعها إلى طالب القرض، فيحصل لطالب القرض عشرة دراهم ويحصل لصاحب الثوب عليه اثنا عشر درهماً، وهذا حيلة من حيل الربا، وكان محمد بن سلمة البلخي رحمه الله يقول لتجار بلخ: إن العينة التي جاءت (139أ3) في الحديث «خير من يبايعكم» هذه. وفي «فتاوى النسفي» : أن البيع الذي تعارف (عليه) أهل سمرقند وسموه بيع الوفاء تحرزاً عن الربا في الحقيقة رهن، والمبيع في يد المشتري كالرهن في يد المرتهن لا يملكه ولا يحل الانتفاع به إلا بإذن الراهن، وهو ضامن لما أكل من ثمره واستهلك من عينه، والدين ساقط بهلاكه في يده، إذا كان فيه وفاء بالدين، وللبائع استرداده إذا قضى الدين؛ إذ لا فرق عندنا بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام، وعليه فتوى السيد الإمام أبو شجاع السمرقندي، وفتوى القاضي الإمام علي السغدي ببخارى وكثير من الأئمة على هذا. و (في) «فتاوى أبي الفضل» : سئل عن كرم بيد رجل وامرأة، باعت المرأة نصيبها من الرجل واشترطت أنها متى جاءت بالثمن رد عليها نصيبها ثم باع الرجل نصيبه، هل للمرأة فيه شفعة؟ قال: إن كان البيع بيع معاملة ففيه الشفعة للمرأة سواء كان نصيبها من الكرم في يدها أو في يد الرجل قيل: ثم قال؛ لأن بيع المعاملة والبلخية حكمه حكم الرهن وللراهن الشفعة، وإن كان الرهن في يد المرتهن. وبعض مشايخ سمرقند قالوا: إذا لم يكن الوفاء مشروطاً في البيع يجعل هذا بيعاً صحيحاً في حق المشتري حتى يحل له الانتفاع بالمشترى كما يحل له الانتفاع بسائر

أملاكه، ويجعل رهناً في حق البائع حتى لا يتمكن المشتري من بيعه، وإذا مات لا يورث عنه، وإذا جاء البائع بالمال يؤمر المشتري بأخذ المال ورد المبيع عليه، ويجوز أن يكون للعقد الواحد حكمان، وقد مر نظير هذا في السلم، وإنما فعلنا هكذا لحاجة الناس بعضهم إلى أموال البعض مع صيانتهم عن الوقوع في الربا. وسئل أبو القاسم عمّن يحتاج إلى شراء الأشياء، ويخاف الوقوع في الحرام، هل يجب عليه أن يسأل عن كل أحد يريد الشراء عنه عن حال ما يريد شراءه؟ قال: الأشياء على ظاهرها التي جرت العادة عليه حتى تجيء العوارض، وإذا كان نقد قد غلب الحرام على أهله أو كان البائع ممن يتخذ المال من خبث، فالسؤال حسن، وإن كان نقد الغالب عليها الحلال في الأسواق لا يجب السؤال. وسئل عن بيع الزنار لأهل الذمة قال: لا بأس به؛ لأن ذلك ذل لهم ويكره بيع المكعب المفصص من الرجل إذا علم أنه يشتريه ليلبسه، وسئل الفقيه أبو بكر عمن يريد بيع عبده الأمرد من فاسق يعلم أنه يعصي الله به قال: يكره؛ لأنه إعانة على المعصية. وسئل أبو القاسم عمن يبيع ويشتري في الطريق قال: إن كان الطريق واسعاً ولا يكون في قعوده ضرر للناس فلا بأس، وعن أبي عبد الله القلانسي أنه كان لا يرى بالشراء منه بأساً وإن كان بالناس ضرر في قعوده، والصحيح هو الأول؛ لأنه إذا علم أنه لا يشتري منه لا يبيع على الطريق فكان هذا إعانة له على المعصية وقد قال الله تعالى: {ولا تعاونوا على الاثم والعدوان} () وبعض مشايخنا قالوا: لا تجوز له العقود على الطريق وإن لم يكن للناس في قعوده ضرر ويصير بالقعود على الطريق فاسقاً؛ لأن الطريق ما اتخذ للجلوس فيه إنما اتخذ للمرور فيه. رجل اشترى شيئاً بعشرة دراهم صغار فدفع إليه العشرة وبعضها كبار وهو لا يعلم لا يحل للبائع أن يأخذه ويصرفه إلى حوائجه. وسئل بعض مشايخ بلخ عن بعض الطين الذي يؤكل لا يعجبني بيع الذي يؤكل إلا إذا لم ينتفع به إلا للأكل؛ لأنه يضرو يقتل. رجل له سلعة معيبة يريد بيعها ينبغي أن يبين حتى لا يقع المشتري في الغرور، قال بعض مشايخنا: لو لم يبين وباع صار فاسقاً مردود الشهادة لا يؤخذ به. قال محمد رحمه الله في آخر بيوع «الجامع الصغير» : ولا بأس ببيع من يزيد وهو بيع الفقراء وبيع من كسدت بضاعته، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمباع حلساً له ببيع من يزيد والناس تعاملوا بيع المزايدة في الأسواق من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلّمإلى يومنا هذا من غير منكر.

والاستيام على سوم الغير مكروه، قال عليه السلام: «لا يستام الرجل على سوم أخيه» فظن بعض الناس أن بيع المزايدة استيام على سوم الغير وليس كذلك. والفرق بين المزايدة وبين الاستيام على سوم الغير عرف أن صاحب المال إذا كان ينادي على سلعة فطلبه إنسان بثمن فكف عن النداء وركن إلى ما طلب منه ذلك الرجل فليس للغير أن يزيد في ذلك، وهذا استام على سوم الغير، وإن لم يكف عن النداء، فلا بأس لغيره أن يزيد ويكون هذا بيع المزايدة ولا يكون استياماً على سوم الغير. وإن كان الدلال هو الذي ينادي على السلعة فطلبه إنسان بثمن، فقال الدلال: حتى أسأل المالك فلا بأس أن يزيد في هذه الحالة، فإن أخبر الدلال المالك فقال: بعه بذلك واقبض الثمن فليس للغير أن يزيد بعد ذلك، وهذا استيام على سوم الغير؛ وهذا لأن النهي عن الاستيام على سوم الغير لدفع الوحشة، والوحشة إنما تحصل إذا ركن صاحب السلعة إلى ما طلب منه وعزم على بيعها بذلك، أما قبل ذلك فلا. إذا باع العصير ممن يتخذه خمراً فلا بأس به، وهذا قول أبي حنيفة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله: يكره، وأجمعوا على أنه إذا باع العنب أو الكرم ممن يتخذه خمراً إنه لا بأس به، فوجه قولهما وهو الفرق بين العنب والعصير والفساد والفتنة من المشتري يحصل بعين ما يتناوله العقد، فصار كبيع السلاح من أهل الفتنة في أيام الفتنة، وفي فصل العنب الفساد والفتنة من المشتري لا يحصل بعين ما يتناوله العقد، بل يحصل بعين آخر، فإن ما يتناول العقد يتبدل العقد، فكان بمنزلة ما لو باع الحديد من أهل الفتنة، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن الفتنة والفساد لا تقع إلا بعد تغير المعقود عليه في نفسه، فلا يكره كبيع الحديد من أهل الفتنة والفساد. ولا بأس ببيع السرقين ويكره بيع القذرة يريد به الخالصة، فإن كانت مخلوط بالتراب فلا بأس ببيعها عندنا. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة: في رجل اشترى من آخر جارية (شراء) فاسداً بألف درهم وتقابضا ثم تصرف كل واحد منهما فيما صار له يعني المشتري في الجارية، والبائع في الدراهم وربح طاب للبائع ما ربح من الدراهم ولم يطب للمشتري ما ربح في الجارية، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمه الله، يجب أن يعلم أن الحنث نوعان: حنث لعدم الملك ظاهراً، وحنث للملك لفساد سببه. والمال نوعان: نوع يتعين بالتعيين كالعروض، ونوع لا يتعين بالتعيين كالأثمان وكان الحنث لعدم الملك يعمل في النوعين جميعاً في العروض والأثمان حتى لا يطيب الربح كالمودع يتصرف في الوديعة ويربح (139ب3) لا يطيب له الربح سواء كانت الوديعة عرضاً أو ثمناً؛ لأن الخبث لعدم الملك غير أن الثابت في العرض حقيقة الخبث؛

لأن العقد يتعلق بمال غيره وقت المباشرة وإن كان في الثاني يصير مملوكاً للغاصب، والثابت في الأثمان شبهة الخبث؛ لأن العقد لم يتعلق بها استحقاقاً وإنما يتعلق به إشارة وهي ملك، فصار ملك الغير وسيلة إلى الربح من وجه فيتمكن فيه شبهة الخبث فيجب التصدق. وإن كان الخبث في محل مملوك له لفساد سببه يعمل في العروض حتى لا يطيب له ما ربح في العروض، ولا يعمل في النقود حتى يطيب ما ربح فيها عند فساد السبب، هذا هو طريق بعض المشايخ في تخرج المسألة.k وطريق بعضهم أن العقد لا يتعلق بالدراهم المملوكة بالعقد الفاسد، إنما يتعلق بمثلها ديناً في الذمة؛ لأن الدراهم لا تتعين في عقود المعاوضات، فالربح على مثل الدراهم المملوكة العقد الفاسد لا على عينها فطاب له. فأما الجارية فقد تعلق بها العقد فكان الربح حاصلاً على ملك بعقد فاسد، والعقد الفاسد معصية، فكان فيه نوع خبث، والربح الحاصل من أصل الخبث سبيله التصدق. وطريق بعضهم أن الفساد ساقط الاعتبار حكماً في حق الدراهم والدنانير؛ لأن حق المالك انقطع عن العين حتى لم يجب على القابض رد المقبوض بعينه ولو كان للفساد عبرة في جانب الدراهم والدنانير لكان لا ينقطع حق المالك عن العين كما في جانب المبيع، فصار وجود البيع الفاسد وعدمه بمنزلة في حق الدراهم والدنانير بقي مجرد الإذن بالقبض للتصرف فيه من غير بيع، ولو أذن له بالقبض للتصرف من غير بيع كان قرضاً وكان التصرف فيه مباحاً كذا هاهنا. فأما الفساد غير ساقط الاعتبار حكماً في حق الجارية؛ لأن حق المالك لا ينقطع عن عينها، فهذا ربح حصل من أصل ملك بسبب فاسد فلا يطيب له. ذكر محمد رحمه الله في إجارات «الجامع الكبير» حكم الدراهم المملوكة بعقد فاسد في طيبة الربح على نحو ما ذكر في «الجامع الصغير» . وذكر بعض المشايخ في شرح «الجامع الكبير:» أن هذا الجواب إنما يستقيم على الرواية التي تقول بأن الدراهم والدنانير متى ملك ببيع فاسد ينقطع حق المالك عن عين الدراهم والدنانير، أما على الرواية التي تقول بأن المالك حقه لا ينقطع عن عينها وللمالك أن يأخذ عينها يجب أن لا يطيب له الربح؛ لأن الفساد بقي معتبراً في حقها حكماً، فهذا ربح حصل من ملك استفيد بسبب فاسد، فلا يطيب له. وذكر في إجارات «الجامع» : أن من استقرض من آخر ألفاً على أن يعطي المقرض كل شهر عشرة دراهم وقبض الألف وربح فيها طاب له الربح لأنه ربح استفيد بسبب مباح؛ لأنه استقرض الألف على أن يعطي المستقرض المقرض كل شهر عشرة إجارة للألف وهذه إجارة باطلة؛ لأنها إجارة ما لا يمكن الانتفاع (به) إلا بعد استهلاكه فلم تنعقد الإجارة الفاسدة ولا جائزة، ولهذا لم يجب الأجر، بقي مجرد القرض من غير إجارة وإنه مباح فكان الربح حاصلاً بسبب مباح.

قال محمد في «الجامع الصغير» : ولو أن رجلاً قال لآخر لي عليك ألف درهم فقبضها وتصرف القابض فيها وربح ثم تصادقا على أنه لم يكن عليه دين يطيب له الربح؛ لأنه ملك المقبوض ملكاً فاسداً؛ لأنه بمنزلة بدل المستحق؛ لأن وجوب الدين بالتسمية؛ فإذا تصادقا بعد التسمية أنه لم يكن عليه دين صار بمنزلة ما لو لم يستحق العوض فيفسد الملك في العوض لكن لا يبطل، فيتمكن شبهه عدم الملك، ولو حصل الربح من دراهم غير مملوكة يتمكن في الربح شبهة الخبث فلا يعتبر في وجوب التصدق. وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن رجل باع من آخر حنطة ثم إن البائع باعها من آخر فقبضها المشتري الثاني واستهلكها، فالمشتري الأول بالخيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أخذ الثاني بمثلها، فإن أخذه بمثلها فباعه بأكثر من رأس المال قال: طاب له الفضل قلت: إن أبا يوسف يقول: يتصدق بالفضل فأبى محمد أن يقبل ذلك، وقال: إنما يتصدق بالفضل إذا أخذ قيمته دراهم. قال أبو يوسف: رجل اشترى عبداً وقبضه ومات عنده فأقام رجل بينة أنه اشتراه قبله، قال: له أن يضمنه قيمته ويتصدق بفضل القيمة على الثمن. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل أمر رجلاً أن يشتري له متاعاً بألف درهم فاشتراه بنقد البلد فأعطاه الآمر وصح ونقد المشتري في ثمن المتاع علة هل يطيب له الفضل؟ قال: إن علم الآمر بذلك وعلله منه فهو طيب له وإن لم يعلم، فإن في نفسي ما فيها من هذا ولم يجب بشيء. وفي «المنتقى» : رجل غصب من آخر عبداً فباعه بعبد ثم باع العبد الثاني بعرض ثم باع العرض بدراهم، فعلى قول أبي حنيفة يتصدق بالفضل عما ضمن من قيمة العبد الغصب، وكذلك لو غصبه ألف درهم واشترى بها عبداً وباعه بألفين ثم اشتري بالألفين عرضاً وباعه بأكثر من ذلك. وقال أبو يوسف في المسألتين جميعاً: يطيب له الفضل. ولو اشترى أمة شراءً فاسداً وباعها بأمة، فإنه يحل له وطء هذه الأمة ولم يكن يحل له وطء الأولى، قال ابن سماعة: وروى أصحابنا أنه قال يعني أبا يوسف: لو باع هذه الأمة تصدق بما زاد على قيمة الأولى التي ضمن قيمتها، ووافق أباحنيفة في البيع الفاسد، فإنه يقول: لو باع المبيعة بيعاً فاسداً بعرض، ثم باع ذلك العرض بفضل عما ضمن من قيمة البيع الفاسد إنه يتصدق بالفضل وجعل البيع الفاسد أشد من الغصب في هذا. هشام عن محمد: في رجل اشترى دجاجة ببيضة بغير عينها فلم يقبض الدجاجة حتى باضت خمس بيضات، فما أصاب الدجاجة أخذها به، وما أصاب البيضات الخمس أخذ حصة ما يصيب البيضة من البيضة ويتصدق ببقية البيض، ولو اشتراها ببيض بعينها فهو جائز كله، وكذلك لو اشترى نخلة بمد من رطب بغير عينه فلم يقبض النخلة حتى حملته رطباً، فإن اشتراها بثمر بعينه فهو جائز على نحو ما بينا. بشر عن أبي يوسف: لو باع درهماً من نصراني بدرهمين ثم أسلم قال: إن عرف

صاحبه فليرد عليه الفضل، فإن لم يعرف تصدق به. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل (140أ3) اشترى ذمية بيعاً فاسداً وقبضها وباعها وقضى القاضي عليه بالقيمة للبائع الأولى، وأداها إليه وأبرأه البائع الأول، وفي الثمن الثاني فضل على القيمة التي أداها، فإنه يتصدق بذلك الفضل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وإنما طاب للمساكين وهو أطيب ... له من اللقطة؛ لأنه يملكه الذي يتصدق بالربح حتى عمل بالثمن وربح ربحاً فبيعت فيها بيوع كلها ربح قال: يتصدق بالفضل في جميع ذلك. ولو غصب مالاً أو عمل بوديعة أو مضاربة خالف فيها وربح تصدق بالفضل في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: يطيب له الفضل من قبل أنه كان له أن ينقد في ذلك غير الغصب، ولو اشترى بغير الغصب ونقد الغصب أو اشترى بالغصب ونقد غير الغصب فهو كذلك، وقال أبو حنيفة: لا يتصدق بهذا، وإنما يتصدق إذا اشترى به ونقده. وقال أبو يوسف: إذا اشترى جارية بألف درهم وولدت في يد البائع ولداً فقبضها المشتري وفيهما فضل كثير على الثمن فذلك طيب له، ولو قتلا في يد البائع واختار المشتري أخذ القيمة، فإنه يتصدق بالفضل، ولو قتل الولد وأخذه، فإنه يتصدق بفضل قيمته على حصته من الثمن. ولو اشترى عبداً بألف درهم فقتله عبد قبل القبض فدفع به أخذه المشتري وفي قيمته فضل على الثمن، فليس عليه أن يتصدق به؛ لأنه عرض وليس يحسب الفضل في العرض إنما يحسب في الدراهم والدنانير، ولو باع هذا العبد بفضل أكثر مما كان فيه أو اقل، فإنه يتصدق بالفضل ولا يجاوز ما كان فيه إنما يتصدق بالأقل من الربح الذي صار فيه من الفضل بالقيمة يوم قبض هذا العبد. ولو باع هذا العبد بعرض لا يتصدق، وإن كان فيه فضل، فإن باع ذلك بدراهم أو دنانير فيها فضل، فإن نظر إلى قيمة العبد المدفوع بالجناية يوم قبضه، فإن لم يكن فيه فضل يومئذ لم يتصدق بشيء، وإن كان في قيمته فضل يومئذٍ نظر إلى ذلك الفضل، قال: هذا الربح الذي صار في يده فيتصدق بالأوكس منهما. ولو اشترى عبداً بألف وقيمته ألفان فقتل في يد البائع فاختار المشتري أخذ القيمة وهي ألفا درهم ولم يتصدق بأحد الألفين حتى ضاع أحد الألفين، وبقي الألف الآخر لا يتصدق بشيء، ولو لم يضع حتى لو اشترى بها وربح تصدق بأحد الألفين وحصته من الربح، عند أبي حنيفة لا يتصدق بربح الألف، فإن هلك ألف درهم منها بعد ما تصرف فيها، فعليه التصدق بالألف؛ لأنها دخلت في ضمانه بالتصرف. ولو كان صالح مع القاتل من القيمة على عبد وأعتق العبد لم يلزمه التصدق بشيء، فإن كان أعتقه على مال أو كاتبه على مال، فلا يتصدق بشيء إلا في خصلة أن يكون العبد يوم قبضه يساوي أكثر من رأس ماله ويكون الذي أعتقه عليه مثل قيمته أو أكثر

فيتصدق بذلك الفضل الذي في القيمة على رأس ماله. الحسن عن أبي حنيفة في البيوع غصب من آخر حنطة تساوي خمسين وباعه بمئة ثم ضمنه صاحب الكر مثله تصدق بالفضل، وإن كان ثوباً طاب له الفضل؛ لأنه لا يجوز بيع الكر إلا بمثله ويجوز بيع ثوب واحد باثنين. فصل في الاحتكار الاحتكار مكروه، وإنه على وجوه: أحدها: أن يشتري طعاماً في مصر أو ما أشبهه ويحبسه ويمتنع من بيعه، وذلك يضر بالناس فهو مكروه للحديث المعروف. والمعنى فيه: أن حق العامة تعلق بما جلب إلى المصر فالمحتكر بالاحتكار يريد إبطال حقهم فلا يطلق له ذلك. والثاني: أن يشتري طعاماً في مكان قريب من المصر فحمل إلى المصر وحبسه وذلك يضر بأهل المصر فهو مكروه أيضاً للحديث؛ ولأنه إذا كان يحمل طعام ذلك المكان إلى المصر تعلق به حق أهل المصر، فلا يطلق في إبطال حقهم بالاحتكار وهذا على قول محمد. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إذا اشترى طعاماً في غير المصر وجلبه إلى المصر فلا بأس به من غير فصل بينما إذا كان المكان الذي اشترى فيه الطعام قريباً من المصر أو بعيداً عنه، من غير فصل بينما إذا كان يحمل الطعام إلى المصر أو لا يحمل؛ وهذا لأن حق أهل المصر إنما يتعلق بطعام جمع في المصر أو جلبه إلى فنائها، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان، وفي رواية مثل ما قال أبو حنيفة، وفي رواية: إذا اشتراه من نصف ميل وحمله إلى المصر واحتكر فيه يكره. والثالث: أن يشتري طعاماً في مصر وجلبه إلى مصر آخر واحتكر فيه، فإنه لا يكره لقوله عليه السلام: «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون» ؛ ولأن حق أهل المصر لا يتعلق بطعام مصر آخر، وكذلك لو زرع أرضه وادخر طعامه، فإنه لا يكره، فإنه في معنى الجالب؛ لأنه حدث بكسبه، ولأن ذلك خالص حقه ولم يتعلق به حق غيره فلا يكون احتكاره إبطالاً لحق الغير ولكن يستحب له البيع نظراً للناس وإشفاقاً بهم، وإذا قلت المدة لا يكون احتكاراً؛ لأن الناس لا يتضررون في مدة قليلة، وإذا طالت المدة يكون احتكاراً؛ لأنهم يتضررون في مدة طويلة فلا بد من حد فاصل بينهما. وفي الحديث قدر الطويل بأربعين فما دونه يكون قليلاً، وعن أصحابنا أنهم قدروا

الطويلة بشهر فما دونه يكون في حكم القليل ثم يقع التفاوت في الاحتكار بين أن لا يتربص العشرة وبين أن يتربص، فوبال الثاني أعظم من وبال الأول. وفي الجملة التجارة في الطعام غير محمودة قال محمد رحمه الله: ويجبر المحتكر على البيع ولا يسعر. أما الجبر على البيع لأن فيه نظراً للعامة، وفي عدم الجبر اضراراً بهم، أكثر ما في الباب أن الجبر ضرر بالمحتكر إلا أن هذا ضرر خاص والضرر الخالص يسقط اعتباره، وعند الضرر العام قبل الجبر على البيع يجب أن يكون على قولهما، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يجبر؛ لأن الجبر على البيع بمنزلة الحجر وهو لا يرى الحجر على الحر. وأما لا يسعر لما روي أن السعر قد غلا بالمدينة فطلب من النبي عليه السلام أن يسعر فأبى وقال: «إن الله تعالى هو المسعر القابض الباسط الرازق» ، وفي حديث الحر قال: «الله تعالى يخفض ويرفع وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس لأحد منكم عندي مظلمة» ؛ ولأن الثمن حق البائع؛ لأنه يقابل ملكه، فيكون التقدير إليه إلا إذا أغلى فيه بأن يريد أن يبيع قفيزاً منه بمئة والناس يشترون منه بخمسين، فيمنع البائع عنه دفعاً للضرر عن الناس وإذا رفع أمر المحتكر إلى (140ب3) الحاكم فالحاكم أمره ببيع ما هو فضل عن قوته وعن قوت أهله على اعتبار سعة في قوته وفي قوت أهله وينهاه عن الاحتكار، فإن انتهى فبها ونعمت، وإن لم ينته ورفع إلى القاضي مرة أخرى فهو مصر على عادته وعظه وهدده، فإن رفع إليه مرة أخرى حبسه وعزره على ما يرى؛ لأنه ارتكب ما لا يحل وليس فيه حد مقدر ومن ارتكب ما لا يحل وليس فيه حد مقدر للشرع وعليه. وإن كان أرباب الطعام يتحكمون على المسلمين ويتعدون عن القيمة تعدياً فاحشاً وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير فلا بأس بالتسعير بمشورة من أهل الرأي والبصر، فإذا فعل ذلك ثم تعدى رجل عن ذلك القدر فباعه بثمن فوقه أجازه القاضي يعني أمضاه ولم يبطله، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله يبطله؛ لأنه لا يرى الحجر على الحر وفي إبطال بيعه نوع حجر عليه، أما قولهما فلأنهما إن كانا يريان الحجر على الحر إلا أن الحجر هنا لم يوجد حتى لو حجر القاضي على قوم من أرباب الطعام بأعيانهم تصير المسألة على الخلاف، ومن باع منهم بما قدر الإمام من الثمن جاز بيعه؛ لأنه غير مكره على البيع بل هو طائع. ذكر القدوري في «شرحه» : إذا خاف الإمام الهلاك على أهل المصر أخذ الطعام من المحتكر وفرق فإذا وجدوا ردوا مثله وهذا صحيح؛ لأن أهل المصر في هذه الحالة

الفصل السادس والعشرون: في المتفرقات

مضطرون إلى ماله والحال حالة المخمصة وحكم الشرع في المضطر إلى مال الغير حالة المخمصة هذا قال: والتلقي إذا كان يضر بأهل البلد فهو مكروه، وإن كان لا يضر فلا يكره. وصورة التلقي: أن يخرج من البلدة إلى القافلة التي جاءت بالطعام يريدون البلدة واشتراها خارج البلدة وهو يريد حبسها ويمتنع عن بيعها ولم يترك حتى تدخل القافلة في البلدة، فإن كان يضر بأهل البلدة فهو مكروه إذا كان في وقت الحاجة لأهل البلدة إليها، وإن كان لا يضر بأهل البلدة فلا يكره إذا كان لا يلبس على أهل القافلة سعر أهل البلدة، ولا يغرهم بأن أخبر أن قيمة الطعام في البلدة كذا وهو صادق في ذلك، فأما إذا لبس عليهم سعر أهل البلدة فهو مكروه لحق أهل القافلة والله أعلم. الفصل السادس والعشرون: في المتفرقات دار بين اثنين باع أحدهما نصفه يجوز وينصرف إلى نصيبه هذا هو جواب «الكتاب» ، وقال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله إن عين النصف وقال: بعتك هذا النصف لا يجوز، وإن لم يعين النصف إنما باعه نصف الدار مطلقاً يجوز. وسئل شمس الإسلام الأوزجندي عن رجل مات وترك ثلاث بنين وبنتين، فباع أحد البنين نصيبه من ابن آخر قبل القسمة من ضياع بعينه قال: إن كان نصيب الابن البائع معلوماً للمشتري جاز. وفي «شرح الطحاوي» : أحد الورثة إذا باع شيئاً من التركة ينظر إن باع نصيبه من كل شيء والمشتري يعلم نصيبه يجوز، وإن باع شيئاً معيناً لا يجوز؛ لأنه يحتمل أن لا يقع هذا في نصيبه، ومعنى قوله لا يجوز، لا يجوز البيع في كل ذلك الشيء أما في نصيبه يجوز. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل ادعى عيناً في يد رجل فأقام على ذلك شاهدين أو شاهداً واحداً فقبل الحاكم باع المدعى عليه العين من رجل أو وهبه له قال: لا يجوز بيعه ولاهبته، وقال الحكم أبو الفضل في «المنتقى» : هذا الجواب خلاف جواب «الأصل» يريد به فيما إذا أقام شاهداً واحداً، فقد ذكر محمد رحمه الله فقبل الحكم باع المدعى عليه أتى في «الجامع» في هذه الصورة أن البيع جائز، وفرق بين الشاهد الواحد والشاهدين. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل قال لآخر: إن لك في يدي أرض ضربة لا تساوي شيئاً فقال فبعها مني بكذا، فقال: بعتها ولم يوفها البائع وهي تساوي أكثر من ذلك، فالبيع جائز؛ لأنه قال في يدي صار كأنه قال أرض كذا، فإذا أجابه فكأنه قال: بعتك أرض كذا.

وفي «المنتقى» عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا قال الرجل لغيره أبيعك هذه الدار تلجئة بألف درهم، إن البيع جائز، ولو قال لأمراة: أتزوجك متعة فالنكاح باطل، وقال أبو يوسف: البيع والترويج جميعاً باطل. وفي «الإملاء:» إذا قال البائع: هذا لك بألف هذا لك بألفين، فقال المشتري: قبلت البيع الأول لم يجز؛ لأن البائع رجع عن البيع الأول فانتقض، ولو قال: قبلت البيعيتن بثلاثة ألاف فهو مثل قوله قبلت البيع الثاني بثلاثة آلاف فيكون البيع بألفين والألف الآخر في زيادة إن شاء قبلها وإن شاء لم يقبلها. وعن محمد رحمه الله: أنه كان لا يرى بأساً أن يبيع الرجل من الرجل من طين هذه الأرض عمقها للحفرة. وفي «الأصل:» إذا باع المشتري غنماً بشرط أن يرد المشتري منها شاة، فالعقد فاسدٌ؛ لأن المردود مجهول، وإنه يوجب جهالة الباقي، وإذا باع أجود الغنم أو أردأها، فقد اختلف المشايخ في هذا الموضع أيضاً. وفي «المنتقى» : إذا باع من آخر ثوباً بعشرة دراهم على أن يعطيه المشتري كل يوم درهماً وكل يومين درهمين، فإنه يعطيه في اليوم الأول درهماً، وفي اليوم الثاني ثلاثة دراهم، وفي اليوم الرابع ثلاثة دراهم، وفي الخامس درهماً، وفي السادس درهماً. وإذا باع الأرض لشربها ولم يقيم الشرب كم هو ولا يعلمان به فهو جائز. وذكر في «الجامع الصغير» : علو لرجل وسفل لآخر فسقطا جميعاً ثم باع صاحب العلو موضع العلو لا يجوز، ولم يذكر ما إذا سقط العلو والسفل قائم على حاله فباع صاحب العلو هل يجوز؟ والجواب أنه لا يجوز؛ لأنه بعد ما سقط العلو فالثابت لصاحب العلو حق التعلي، والتعلي ليس بمال؛ لأنه متعلق بهواء الساحة وأنه ليس بمال ومحل البيع ما هو مال، فالبيع لم يصادف بحاله، وهذا بخلاف الشرب حيث يجوز بيعه تبعاً للأرض بالإجماع ومقصوداً في الرواية وهو قول بعض مشايخ بلخ؛ لأن الشرب عين مال؛ لأنه عبارة عن نصيب من الماء، ولهذا قال بعض مشايخنا: من أتلف على إنسان شرباً ضمن، وإليه مال شيخ الإسلام فخر الإسلام علي البزودي رحمه الله، وإنما لا يجوز بيعه مقصوداً في رواية وهو اختيار مشايخنا رحمهم الله لمكان الجهالة حتى لو سقط اعتبار الجهالة بأن يبيع الشرب مع الأرض حتى دخل الشرب في العقد تبعاً يجوز بيعه بخلاف حق التعلي؛ لأنه ليس بمال على ما ذكرنا. قال محمد رحمه الله في «الجامع (141أ3) الصغير» أيضاً: بيع الطريق وهبته جائز وبيع مسيل الماء وهبته باطل، فإن كان أراد بالطريق ومسيل الماء رقبة الطريق ورقبة مسيل الماء، فإنما وقع الفرق بين الطريق والمسيل؛ لأن الطريق معلوم الطول والعرض غالباً أو إن لم يكن كذلك يمكن إعلامه ببيان طوله وعرضه، فكان المبيع معلوماً غالباً، فأما مسيل الماء لا يكون معلوماً غالباً، ولا يمكن إعلامه غالباً أيضاً؛ لأن مقدار ما يشغل الماء من الأرض أو من النهر مختلف غالباً، فكان المبيع مجهولاً غالباً، وإن كان

أراد بالطريق ومسيل الماء حق المرور وحق تسييل الماء فما ذكر من الجواب في تسييل الماء أنه لا يجوز البيع باتفاق الروايات إلى ما ذكر من المرور وأنه لايجوز البيع رواية «الجامع الصغير» ورواية كتاب القسمة وبه أخذ عامة المشايخ. وذكر في «الزيادات» أن بيع حق المرور لا يجوز وبه أخذ الكرخي، وإنما وضع الفرق بين حق المرور وبين تسييل الماء في رواية من حيث جهالة المعقود عليه وتسييل الماء دون حق المرور. وإنما وقع الفرق بين حق التعلي وبين حق المرور في رواية جواز بيع حق المرور؛ لأن حق المرور يتعلق برقبة الأرض، والأرض مال وله قرار، فكان لهذا الحق حكم المال بطريق التبعية، فأماحق التعلي متعلق بهواء الساحة، وإنه ليس بمال حتى يعطى له حكم المالية بطريق التبعية، فلهذا لم يجز بيعه. وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب القسمة: أن بيع رقبة الطريق على أن يكون للبائع فيه حق المرور جائز بخلاف بيع حق المرور بانفراده في رواية بيع السفل على أن يكون لصاحب الدار حق قرار العلو جائز، وإذا باع علو منزل في داره دون السفل، فالبيع جائز، فإن بيع حق المرور مستحق واستحق بناء العلو دون الساحة ثم أجاز البيع جاز فقد أجاز المستحق البيع مطلقاً من غير فصل بينما إذا قضى القاضي للمستحق بالعلو أو لم يقض وهذا جواب ظاهر الرواية، فإن على ظاهر الرواية يقضي القاضي المستحق، ولا يبطل البيع من البائع والمشتري فالإجازة لاقت عقداً قائماً فيعمل، وفي المسألة روايات مختلفة سيأتي بيانها في موضع إن شاء الله. ثم إذا أجاز إجازة المستحق كان الثمن كله للمستحق ولا يكون للبائع شيء من الثمن؛ لأنه لما استحق العلو تبين أن الثابت للبائع حق التعلي، وحق التعلي ليس بمال فلا يقابله شيء من الثمن.h وذكر في كتاب الشرب وجعل للشرب حصة من الثمن حتى قال: لو شهد شاهدان بشراء أرض بألف درهم، وذكر أحدهما شرب الأرض ولم يذكر الآخر شربها، فإنه لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن الذي ذكر الشرب جعل بعض الثمن بمقابلته. والفرق: أن الشرب عين مال على ما مر، فجاز أن يكون بمقابلته شيء من الثمن عند دخوله في البيع بخلاف حق التعلي، فإنه ليس بمال فلا يقابله شيء من الثمن، وفي كتاب القسمة جعل للمرور قسطاً حتى إن من باع داره مع ممره واستحق الدار دون الممر يقسم الثمن على الدار دون الممر. وكذلك قال: في رجلين باعا طريقاً لأحدهما حق المرور وللآخر رقبة الطريق كان الثمن بينهما، قال الكرخي: تأويل المسألة الأولى أن يكون نفس عرضة الطريق لهما، وتأويل المسألة الثانية أن يكون عرضة الطريق بينهما ولأحدهما إما مجرد حق الاستطراق لا يقابله شيء من الثمن وغيره من المشايخ أجروا على الظاهر، وفرقوا بين حق الاستطراق وبين حق التعلي، والفرق ما بينا أن حق المرور أعطي له حكم المالية بطريق

التبعية فجاز أن يكون بمقابلة شيء من الثمن بخلاف حق التعلي على ما ذكرنا. وفي «المنتقى» : رجل اشترى قصيلاً من رجل على أن يفصله فتركه في الأرض بغير إذن رب الأرض أو بإذنه حتى سنبل واستحصد، فإن أبا حنيفة قال: هو للبائع كله؛ لأنه تحول عن حاله قبل القبض من قبل أن الفصيل يفصل ثم ينبت ويحصد، قال: وليس الرطبة والقصب هكذا قال: لو زاد ولم يسبل كان للمشتري مثل الرطبة ويتصدق بالفضل إن كان ترك بغير إذن، وقال أبو يوسف: في الأول أيضاً هو للمشتري. وروى أبو سليمان عن أبي يوسف: إذا اشترى من آخر حنطة ندوية مجازفة وقد رأها ولم يقبضها حتى حفت فلا خيار له. ولو اشترى رطباً مجازفة وقد رأها فلم يقبضها حتى صار تمراً فله الخيار. المعلى عن أبي يوسف: إذا قال لغيره أبيعك من هذا الطعام قفيزاً بدرهم فاشترى له ذلك منه ولم يقبضه حتى أصابه ماء وزاد وقال: إن كان عنده طعام من ذلك الضرب، فإنه يعطيه قفيزاً منه، وإن لم يكن فالمشتري بالخيار إن شاء قبض منه قفيراً من هذا الطعام، وإن شاء ترك. وروى بشر عن أبي يوسف: اشترى جارية وشرط البائع أنها خبازة أو مشاطة وقبضها على ذلك ثم هلكت عنده ثم أقر البائع أنها لم تكن خبازة ولا مشاطة قال أبو حنيفة: لا يرجع على البائع بشيء؛ لأن ذلك ليس بعيب وإن كانت قائمة فوجدها من جنس دونه بأن شرط البائع له أنها حبشية مثلاً فإذا هي هندية، فإنه يردها إن كانت قائمة، وإن كانت هالكة لا يرجع بشيء، وكذلك قال أبو يوسف: قال: لأني لا أدري كيف أخذه من الجنسين ولا يعلم فضل ما بين الحبشتين لو شرط ... فوجده ... فليس في الأرض أحد يعلم فضل ما بين هذين وقد يكون من هذا الجنس ما هو خير من ذلك الأخير، قال: وأما الخبازة، فإنما يقوم عينها خبازة وغير خبازة، أشار أبو يوسف إلى أنه موافق لأبي حنيفة رحمه الله فيما إذا وجدها من جنس دونها إن كانت قائمة يردها، وإن كانت هالكة لا يرجع بشيء مخالف له فيما إذا شرط أنها خبازة، فإذا هي غير خبازة، وقد باتت في يد المشتري. وعن أبي يوسف في مسألة الخبازة مثل قول أبي حنيفة ذكر المسألة بعد هذا قال: وكذلك كل ما يوزن من الآنية والذرعية وفي نسخة والأوعية ما لاينقص فإما ما ينقص من الكيل أو الوزن، فإنه يرجع بنقصانه في قولهم جميعاً. وفي «القدوري» : لو اشترى عصيراً فتخمر قبل القبض فالبيع على حاله في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وذكر محمد في «الأصل» أن البيع باطل؛ لأن الخمر ليس بمحل للبيع، ولهذا لو اشترى خمراً لا يملكه بحال، كما لو اشترى ميتة فصار التخمر قبل القبض بمنزلة هلاك المبيع قبل القبض يوجب بطلان العقد، قال أبو الحسن: يعني قول

محمد أن البيع باطل إن للمشتري أن يبطله (141ب3) واستدل على هذا التأويل بما إذا صارت خلاً قبل الفسخ أن يكون له أنه يأخذه ولو بطل العقد لم يكن له حق الأخذ، ومعنى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: أن العقد على حاله أنه لم يبطل بعد إما مفسد بلا شك. ووجه هذا: أن صحة العقد كان باعتبار المالية والتقوم، وبالتخمر إن سقطت القيمة لم تبطل المالية حتى لو اشترى شيئاً ملك ولو زالت القيمة والمالية جميعاً انفسخ العقد. كما لو مات المبيع قبل القبض ولو بقيا جميعاً بقي العقد جائزاً، فإذا زال أحدهما وبقي الآخر ارتفع الجواز ولم يرتفع أصل العقد، إلا أن هذا الفساد إنما يكون بعارض على شرف الزوال، فإذا زال صار كأن لم يكن وهو معنى تأويل أبي الحسن رحمه الله لقول محمد رحمه الله. وفي «المنتقى» قال أبو حنيفة: إذا اشترى عصيراً فصار خمراً قبل أن يقبض المشتري، فلم يختصما حتى صار خلاً، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذها بقيمتها وإن شاء ترك، وقال أبو يوسف: بطل البيع. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجلان بينهما دار فباع أحدهما نصف بيت منها شائعاً والبيت معلوم، فإن أبا حنيفة قال: لا يجوز البيع؛ لأن فيه ضراً على الشريك في تقطيعه نصيبه عليه عند القسم، قال: أرأيت لو باع نصف كل بيت من الدار لم يتقطع نصيب شريكه قال: وكذلك الأرض. ولو كان بين رجلين عشر من الغنم وعشرة أثواب مروية مما يقسم باع أحدهما نصف ثوب بعينه من رجل، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال: هذا جائز، وكذلك الغنم ولا يشبه هذا الدار الواحدة، وقال أبو يوسف: ينبغي أن يكون هذا والدار سواء في قوله، ألا ترى أنه لو باع نصف كل شاة منها من رجل على هذه لم يستطع شريكه أن يجمع له نصيبه فيها، فقد دخل عليه ضرر ويتقطع نصيبه، فكيف يختلفان. ولو أن رجلين بينهما أرض ونخل باع أحدهما نصف نخل بعينه بأصله من رجل لم يجز في قول أبي حنيفة، وهذا كالبيت الذي وصفنا، ولو باع أحدهما نصف الأرض واشترى نصف النخيل بأصله، فإن هذا مثل ذلك في قياس قول أبي حنيفة، وكذلك لو باعه نصف الدار شائعاً أن بيتاً منها معلوماً لم يدخل في البيع، وقال أبو يوسف: أنا أرى كل هذا جائزاً لا أنقض بيعاً من أجل قسمة لا يدري أتكون أو لا تكون، ولا يدري لعلها إذا كانت لا تدخل في القسمة ضرر من قبل هذا البيع. قال محمد رحمه الله: إذا اشترى الرجل من غيره كراً من طعام مكايلة بمئة درهم فاكتاله من البائع لنفسه، ثم إنه ولى رجلاً بالثمن الأول لم يكن للمشتري أن يقبضه إلا بكيل مستقبل، وإن كان المشتري الأول الذي باع من هذا الثاني اكتاله لنفسه بمحضر من المشتري الثاني؛ لأن الشراء الثاني حصل بشرط الكيل، ولم ينص فيه على الكيل باعتبار أن البيع الثاني بيع تولية، والتولية بعد العقد الأول وإقامة الثاني فيه مقام نفسه، وقد كان

البيع الأول بشرط الكيل فيكون الكيل مشروطاً في الثاني ضرورة، وإن لم يكن مشروطاً نصاً فلا يكتفي بكيل بائعه وهو المشتري الأول لما مر في أصل الباب، فإن اكتاله المشتري الثاني فوجده يزيد قفيزاً رد الزيادة على المشتري الأول، سواء كانت زيادة تجري بين الكيلين أو زيادة لا تجري بين الكيلين، لأنه زائد على المعقود عليه، فإذا ردها المشتري الثاني على الأول ينظر إن كانت الزيادة مما يدخل بين الكيلين كانت الزيادة للمشتري الأول ولا يردها على بائعه، وإن كانت الزيادة مما لا يدخل بين الكيلين ردها المشتري على بائعه؛ وهذا لأن الزيادة إذا كانت تدخل بين الكيلين لا يمكن التحزر عنه وذلك عفو، وقال الله تعالى: {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها} (الأنعام: 152) فهذا دليل على أن ما يدخل بين الكيلين من الزيادة والنقصان عفو، أما إذا كانت الزيادة لا تدخل بين الكيلين يمكن التحزر عنها ولا يجعل عفواً هذا من حيث النص. وأما من حيث المعقول هو أن الزيادة إنما ترد على البائع إذا ظهر خطأ الكيل الأول بيقين، وإذا كانت الزيادة تدخل بين الكيلين ظهر الخطأ في الكيل الأول لا بالاجتهاد فوجب الرد على البائع الأول، وإن وجده المشتري الثاني ناقصاً كان للمشتري الآخر أن يأخذ المشتري الأول بحصته إذا لم يسلم له شرطه فيرجع عليه سواء كان النقصان يدخل بين الكيلين أو لا، وهل يرجع المشتري الأول على بائعه؟ إن كان النقصان مما يدخل بين الكيلين لا إذا لم يظهر الخطأ في الكيل بيقين، وإن كان مما يدخل ثيت ذلك بالبينة أو بتصديق البائع يرجع إذا ظهر الخطأ في الكيل بيقين، لا باجتهاد فوجب الرجوع على البائع الأول بذلك. ثم إذا كانت الزيادة تدخل بين الكيلين فالزيادة تكون للمشتري الأول، وإن كان هو ولى الثاني جميع ما اشترى إلا أنه ولاه ما اشترى باسم الكر وقد سلم له ذلك، فكان الفضل رزقاً ساقه الله إليه. وكذلك لو كان البيع الثاني مرابحة بيع ما اشترى بمثل الثمن الأول إلا أنه زاد فيه ربحاً ولما كان كذلك كان في اقتضاء الكيل مثل التولية، ولو كان المشتري الأول باع من الطعام قفيزاً ودفعه إلى المشتري وقبض ثمنه، ثم إنه باع الباقي على أنه كر بمثل ما اشتراه تولية فاكتاله الثاني فوجده كراً تاماً فكذلك جائز ولا خيار له؛ لأنه سلم له جميع ما اشترى ولكن ثمن الكراً يقسم على إحدى وأربعين قفيزاً، فما أصاب القفيز سقط عن المشتري الثاني، وذلك جزء من إحدى وأربعين جزءاً من الثمن ولزمه الباقي؛ لأن التولية بيع ما اشتري بمثل ما قام عليه ولقد وصل إليه بمقابلة القفيز شيء فلو لم يحط عن المشتري بذلك القدر حصل بيع الباقي بزيادة على ما اشترى تولية، فصار ذلك جناية، وإنه يمكن التحرز عنه، فوجب حط قدر الجناية عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله من غير خيار، ومحمد يخير إن شاء أخذ الكيل بجميع الثمن، وإن شاء ترك. ولو كان العقد الثاني مرابحة والباقي بحاله، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد المشتري بالخيار إن شاء رده وإن شاء أمسكه بجميع ثمنه، وعلى قول أبي يوسف يحط قدر الجناية من الربح وهذه المسألة من مسائل «الأصل» .

قال في «الجامع» أيضاً: إذا اشتري كراً على أنه أربعون قفيزاً فكاله (142أ3) البائع فوجده أربعين قفيزاً وتقابضا فأصاب الطعام ماء من ماء المطر فزاد حتى صار خمسين قفيزاً وأفسد الماء الطعام جاز للمشتري أن يبيعه مرابحة من غير بيان، فإن ولاه رجلاً أو باعه مرابحة على أنه كر فوجده خمسين قفيزاً كان للمشتري منه أربعون قفيزاً، إذ المشروط له هذا القدر، وكان للمشتري خيار الرد بالعيب إن لم يعلم به وقت الشراء، وإن علم ليس له ذلك لرضاه بالعيب. وإن كان الطعام رطباً وباعها مرابحة على أنه كر فكالها المشتري، فإذا هو ينتقص من الكر، فالمشتري الآخر بالخيار إن شاء ترك بغير شرط عليه، وإن شاء أخذها بحصتها من الثمن، وإن اشترى كراً على أنه أربعون قفيزاً فكاله وقبضه فولاه رجلاً أو باعه مرابحة فلم يكله له حتى أصاب الطعام ماء فزاد عشرة، ثم كاله فوجده خمسين قفيزاً، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ، وإن شاء ترك لتغير المعقود عليه في ضمان البائع على ما مر، ومتى اختار الأخذ أخذ الأربعين قفيراً لما مر أن المشروط له هذا التقدير وسلم ما بقي من الطعام وهو عشرة أقفزة للبائع الثاني، ولو أن البائع الثاني كال الطعام للمشتري الثاني قبل أن يصيبه الماء فكان أربعون قفيزاً ثم أصابه الماء في يد بائعه، فصار خمسون قفيزاً وأفسده الماء، فللمشتري الثاني الخيار لتغير المعقود عليه في ضمان البائع، فإن اختار الأخذ أخذ الكل؛ لأن المبيع قد تعين بالكيل فكانت الزيادة الحاصلة زيادة في المبيع. ولو باعه قفيزاً من الكراء فأصابه الماء قبل أن يقبضه فللمشتري الخيار، إن شاء قبض من ذلك الكر، وإن شاء ترك، وإن كان قد كال القفيز وأفرزه لما ذكرنا أن الكيل في غير المعين قبل التسليم هدر، فكان له الخيار كما قبل، إلا أن يكون الماء أصاب المقرر دون غيره فيأخذ قفيزاً من اليابس ولا خيار لواحد منهما على ما مر قبل هذا. رجل اشترى كر حنطة بمئة درهم على أنه أربعون قفيزاً فكاله، فإذا هو أربعون قفيزاً فقبضه المشتري ثم تقايلا البيع ثم اكتاله البائع، فإذا هو يريد أن ينقص قفيزاً، فتصادقا أن ذلك من نقصان الكيل ومن زيادة مع الكيل، فالزيادة مع الأصل للبائع، والنقصان عليه حتى لا يحط بسببه شيء من الثمن. وكذلك لو أصابه الماء فازداد ورضي به البائع فذلك كله له، إلا أن يكون لم يعلم فله أن يرده بالعيب وتبطل الإقالة ويعود البيع الأول، وكذلك إن كان رطباً وقت البيع وهو كرّ تام ثم جف ونقص عند المشتري ثم تقايلا فاكتاله فانتقص وعلم أنه من الجفاف أو تصادقا عليه فذلك كله للبائع ولا يحط شيء من الثمن. فرق بين هذا وبين التولية والمرابحة، فإن هنالك جعل للمشتري الثاني ما يتيقن بالكيل ولم يجعل الزيادة والنقصان عليه، ومنها جعل الزيادة والنقصان بعد الإقالة على البائع. والفرق بينهما سواء هو أن الإقالة فسخ في حق المتعاقدين وإعادة إلى قديم الملك، وإنما يجب مراعاة الكيل في المبادلات وفيما يملكه الإنسان بالشراء ابتداء لا فيما يعود إلى قديم ملكه، ألا ترى أنه لو فسخ العقد بخيار الشرط أو بخيار العيب بقضاء أو بغير قضاء لا يعتبر فيه كيل مبتدأ، أما التولية والمرابحة فذلك بيع مبتدأ فيعتبر فيه الكيل

إذا حصل بشرط الكيل، وقد حصل شرط الكيل فكذا ما جعل بناء عليه. قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: رجل اشترى من رجل حنطة بعينها على أنه اشتراها بدرهم، فلم يقبضه المشتري حتى أصابه ماء فابتل، فكاله المشتري، فإذا هو قفيز وربع قفيز كان للمشتري الخيار، إن شاء أخذ قفيراً بعينها بدرهم، وإن شاء ترك وإنما أثبتنا له الخيار بعيب المعقود عليه في ضمان البائع، وإنما اقتصر ملكه على القفير؛ لأن العقد إنما انعقد باسم القفيز يدخل تحت العقد ما يظهر بالقفيز لا ما وقعت الإشارة إليها؛ لأن ذلك من حكم بيع المجازفة وهذا بيع مكايلة. ألا ترى أنه لو كاله قبل إصابة الماء فوجده أزيد رد الزيادة على البائع، ولو وجده أنقص سقط حصة النقصان من الثمن، ولما كان هكذا فقبل الكيل لم يظهر قدر البيع فالزيادة الحاصلة بالماء لم تكن زيادة في المبيع فلم يسلم للمشتري، وإن كان اكتال الطعام قبل أن يصيبه الماء بمحضر من المشتري فكان قفيزاً إلا أنه لم يدفعه إلى المشتري ثم أصابه الماء فصار قفيزاً وبيع قفيز كان المشتري بالخيار إن شاء أخذ كله بدرهم وإن شاء تركه، أما الخيار فلما مر، وأما سلامة الكل له؛ لأن المعقود عليه ظهر قدره بالتقدير وهو الكيل والزيادة الحاصلة في المبيع فيسلم للمشتري. وصار كالنخيل إذا أثمرت بعد البيع قبل القبض، وإنما شرط أن يكون الكيل بحضرة المشتري؛ لأن المعقود عليه لما كان يظهر قدره بالكيل صار للكيل شبهة بابتداء العقد فشرط أن يكون بحضرة المشتري لهذا، ولو كانت الحنطة رطباً في الابتداء فيبس حتى نقص، فإن كان بعد الكيل لم يأخذه المشتري بجميع الثمن؛ لأن المعقود عليه قد تعين بالكيل، وبالجفاف إنما يفوت وصف الرطوبة وفوات الوصف لا يوجب سقوط شيء من الثمن، فإن كان نقص قبل الكيل لا يأخذه إلا بحصته من الثمن؛ لأن المعقود عليه إنما يتعين بالكيل، فإذا كان النقصان قبل الكيل، فإنما يتعين ثلاثة أرباع قفيز فيأخذه بثلاثة أرباع الدرهم ويكون المشتري بالخيار كما لو اشترى شيئين فهلك أحدهما قبل القبض. ألا ترى أنه لو اشترى هذا الطعام على أنه قفيز بدرهم فكاله فوجده يزيد أو ينقص مقدار ما يجري بين الكيلين، فإن كان زائداً أخذ المشتري قفيزاً منه بدرهم، وإن كان ناقصاً أخذه بحصته من الثمن، ولو كاله البائع للمشتري بمحضر منه فكان قفيزاً فلم يأخذ المشتري حتى أعيد عليه الكيل، فإذا هو يزيد أو ينقص قدر ما يكون بين الكيلين لزمه بجميع الثمن؛ لأن المعقود عليه قد تعين بالكيل الأول ولم يظهر خطأ الكيال للأول حتى لو كانت الزيادة والنقصان قدر ما لا يجري بين الكيلين إن كان زائداً رد الزيادة، وإن كان ناقصاً أخذه بحصته من الثمن في الحالين جميعاً إذا ظهر به خطأ الكيال الأول. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: في عبدين لرجلين لكل واحد منهما عبد على حدة وأحدهما أكثر قيمة من الآخر ولا يعرف عبد كل واحد منهما من عبد صاحبه فباعهما أحدهما، فالثمن بينهما نصفان. وكذلك (142ب3) قال في ثوب رجل وقع في ثياب رجل ولم يعرف بعينه، فإني

أبيعها وأقسم الثمن على عدد الثياب، ولو أوصى رجل لرجل بشاة ولآخر بصوفها فباعا جميعاً، فإن الثمن لصاحب الشاة وليس لصاحب الصوف شيء؛ لأن الصوف لا يباع على ظهر الشاة ولو جعلت له نصيباً من الثمن أفسدت البيع وكذلك الشاة وما في بطنها. وروى بشر عن أبي يوسف رحمه الله في «الإملاء» : امرأة قالت لزوجها: خلعتني بالألف التي لي عليك، وقال الزوج: لا ولكني بعتك بالألف التي لك علي هذا العبد في يديك، وقالت هي: لم أشتره منك، فأقامت هي بينة على الخلع وأقام الزوج بينة على بيع العبد أجزت البيع والخلع وضمنت المرأة ألفاً للزوج. وفي «نوادر هشام» عن محمد: رجل اشترى من رجل سمكة طرية وجحد البائع البيع فأقام المشتري بينة عليه، فالقاضي يأمر المشتري بقبض السمكة ودفع الثمن إلى البائع يريد به ما دام القاضي في المسألة عن الشهود ثم يقبض القاضي السمكة من المشتري والثمن من البائع ويبيع السمكة، ويضع الثمن الثاني والأول على يدي عدل، فإن عدلت البينة ودفع الثمن الثاني إلى المشتري الأول والثمن الأول، وإن ضاع الثمن من مال المشتري يعني المشتري الأول، وإن لم تعدل البينة ضمن المشتري يعني المشتري الأول قيمة السمكة للبائع. قال هشام: وسألته عن رجل ادعى على رجل أنه باع جاريته هذه منه بألف درهم وجحد المشتري أن يكون اشتراها فحلفه القاضي فحلف، هل يفسخ القاضي الشراء بينهما؟ قال: لا، قلت: إن كان المدعى قبله قال بعد ذلك: هي حرة لوجه الله تعالى هل يكون هذا إقرار منه بالشراء ويلزمه قيمة الجارية؟ قال: لا، قلت: وإن قال المدعى قبله للمدعي إن كنت اشتريتها منك فهي حرة، قال: عتقت الجارية ولم يلزم المدعى قبله قيمتها؛ لأنها إنما عتقت بقول البائع إني بعتها منك. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل قال لآخر: بعتك ثوباً بعشرة دراهم وقبضتَه ولم أقبض الثمن، وقال الآخر: أخذته منك رهناً بعشرة والثوب هالك قال: يضمن المرتهن الأقل من قيمته ومن عشرة. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل قال لآخر: بعتك عبدي هذا أمس بألف درهم فلم يقبل، وقال المشتري: قبلت فالقول قول المشتري قد اشتريت منك عبدك هذا أمس فلم يقبل، وقال البائع: قبلت فالقول قول البائع؛ لأن لفظة البيع تنتظم فعلهما جميعاً. وإن قال لأمراته: طلقتك أمس بألف درهم فلم تقبلي، فالقول قول الزوج والعتق على مال نظير الطلاق، والإجارة والنكاح نظير البيع. وأما الكفالة بالمال فينبغي في قياس قول أبي حنيفة: أن يكون القول فيه قول الضامن فلا يلزمه الضمان إلا أن تقوم بينة على رضى المضمون له. وعنه برواية ابن سماعة أيضاً: رجل عنده مملوك قال لغيره بعتك مملوكي هذا قبل أن أملكه قال: لا أصدقه وألزمه البيع وليس هذا كالطلاق والعتاق؛ لأن في البيع عقدة قد

عقدها ثم يريد أن يبطلها وليس في الطلاق والعتاق. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل قال: اشهدوا أني قد بعت عبدي من فلان بألف درهم وفلان غائب فقدم فقال: قد كنت بعته قبل ذلك المجلس وهذا منك إقرار، وقال البائع: بل كان مني ابتداء، فإن القول قول المشتري؛ لأن هذا الكلام يكون على ما مضى وعلى ما يستقبل. وفي «نوادر هشام» : عن (محمد) : رجل اشترى من رجل داراً بثمن معلوم وأشهد بقبض الثمن، ثم أقام البائع بينة أن المشتري أقر بعد شراء الدار أن هذه الدار تلجئة في يده، فإني أردها على البائع ويأخذ المشتري الثمن من البائع. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل اشترى من رجل جارية بثمن معلوم وتقابضا اختلفا في ولدها فقال البائع: قد ولدت قبل أن يشتريها، وقال المشتري: لا، بل ولدت بعد الشراء، فالقول قول من في يده الولد والبينة بينة المشتري.g ولو اشترى داراً من رجل ونقد الثمن واختلفا في باب الدار وقد نزع من موضعه ووضع فيها، فقال المشتري: نزعته بعد ما اشتريت وقبضت، وقال البائع: كان موضوعاً فيه وقت البيع ولم يدخل في البيع فالقول قول المشتري إن كانت الدار في يده، وإن كانت الدار في يد البائع فالقول قول البائع مع يمينه، فإن نكل عن اليمين دخل الباب في البيع وللمشتري الخيار إن كان في تعليقه ضرر، وإن حلف يخير المشتري أيضاً، إن شاء أخذ الدار في غير باب، وإن شاء ترك، ولكن بعد أن يحلف بالله ما اشترى الدار بدون الباب. وكذلك على هذا جذوع بيوت نقض أو نقض حائط أو شجرة مقلوعة في أرض أو تمر صرم من شجرة، فالقول في جميع ذلك قول الذي في يديه، وإن كان الثمر على الشجر والأرض في يد المشتري، فالقول قول المشتري، وإن كان في يد البائع، فقال المشتري: حدث بعد البيع، وقال البائع: كان قبل البيع ولم أشرط فالقول قول البائع، وللمشتري الخيار إن شاء أخذ وإن شاء ترك. اشترى أمةً وتقابضا وولدت واختلفا في الولد، فقال البائع: بعتك الأمة في رمضان عام أول وكانت الولادة في شعبان وأقام البينة، وقال المشتري: اشتريتها منك في شعبان وولدت في رمضان وأقام البينة والولد مشكل، فالبينة بينة البائع؛ لأن وقته أول. ولو أقر البائع أنه أخذ من الأمة ثوباً أو دراهم قبل أن يبيعها، وقال المشتري: أخذت ذلك منها بعدما اشتريت وقبضت، فالقول قول المشتري، وأما في الجماع والغلة فالقول قول البائع. ابن سماعة عن محمد: رجل اشترى عبداً وقبضه وأدى الثمن وأعتقه، ثم قال رجل للبائع: كنت بعتني الغلام قبل أن تبيعه من هذا وأعتقه وصدقه البائع في ذلك قال: يأخذ البائع منه الثمن أيضاً، ويكون في يده ثمنان حتى يرجع المشتري الذي قبض الغلام وأعتقه إلى تصديق البائع ويأخذ منه الثمن ويصير الغلام مولى الذي ادعاه أنه أعتقه أولاً،

وإن كذبه الغلام أن يكون مولى للذي ادعى، ولا أنه أعتقه كان مولى للذي قبض وأعتق؛ لأن الغلام قدثبت ولاؤه من الذي قبضه وأعتقه فلا يتحول إلا بتصديق الغلام. المعلى في «نوادره» : رجل قال لآخر: بعتك هذه الدار بمئة درهم وقال المدعى قبله: بل أجَّرتها بعشرة دراهم إلى الكوفة فسرت عليها، فإنه يحلف المدعى عليه على الشراء ما اشتريته بمئة درهم، فإن حلف رجع عليه المدعي للبيع بالعشرة التي أقر بها من الإجارة؛ لأنه لم يكذبه قال: بعد ما أقر له بالإجارة لم أؤاجركها (143أ3) فهذا كذاب. وفي «المنتقى» إبراهيم عن محمد: إذا باع من آخر رطلاً من زيت في خابية فقال المشتري: أعطني من خابية غيرها، فللبائع أن لا يعطيه إلامن تلك الخابية (التي) وقع البيع عليها. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل باع من آخر داراً ثم إن المشتري لقي البائع وقال له: لم يتهيأ لي ثمن الدار فافسخ العقد بيني وبينك، وتصدق علي بالدار التي بعتني فقال البائع: قد تصدقت عليك بالدار وفسخت البيع بيني وبينك، ولم يقل الآخر شيئاً بعد هذا الكلام قال: أجيز ذلك وأفسخ البيع فيه. قال: لو أن رجلاً باع ثوباً له من مسكين بدرهم، ثم إن المسكين لقي البائع وقال: لإني بعشرة لا أقدر على ثمن الثوب، فإن رأيت أن تفسخ البيع وتصدقت عليّ بالثوب فقال البائع: قد تصدقت عليك به وفسخت البيع، فإنه يجوز ذلك. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل اشترى من آخر داراً بألف ثم إن البائع قال للمشتري: تصدقت عليك بالدار وقبل المشتري ثم جاء البائع يطلب الثمن وقال: إنما تصدقت عليك بدارك قال: له أن يأخذ الثمن وصدقته باطلة. وفي «المنتقى» : رجل اشترى من رجل آخر عبداً وقبضه ثم جاء به مشجوجاً وقال: بعتني (العبد) مشجوجاً، فالقول قوله؛ لأن البائع يدعي لزوم البيع على المشتري فيه وهو منكر. وفيه أيضاً: إذا باع جارية على أنه بالخيار فحدث بها عيب في يد البائع، فقال البائع للمشتري: اقبضها وأنا على خياري، فقبضها وهو يعلم بالجناية أو بالعيب أو كان قبضها بغير إذن البائع مع العلم بالجناية أو العيب، ثم إن البائع أجاز البيع ثم أراد المشتري أن يردها على البائع بالجناية التي كانت عند البائع أو بالعيب الذي حدث عنده، ليس له ذلك وقبضه بعد العلم بالجناية رضاً بالعيب. وكذلك لو لم يقبضها ولكن أعطى البائع ثمنها بعد علمه بالجناية أو العيب وكذا لو كان قبضها ولم ينقد الثمن ولم يكن عالماً بالجناية أو العيب ثم علم بذلك بالجناية أو العيب فنقده الثمن من غير أن يأمره بذلك قاضي. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل اشترى شيئاً مما يفسد نحو السمك والفاكهة وشرط الخيار لنفسه ثلاثة أيام، فخاف البائع أن يفسد قبل مضي مدة الخيار في

يده فقال للمشتري: إما أن ترد البيع حتى أبيعه من غيرك أو تختاره وتقبضه، ففي القياس: لا يخير المشتري على ما أراد البائع؛ لأن المشتري ما شرط الخيار لنفسه إلا لمقصود وهو أن يكون مخيراً في المدة ولا يلزمه ضرر، فلا يكون لأحد تفويت هذا المقصود عليه بإلزامه الفسخ أو الإجارة، أكثر ما في الباب إن في عدم إلزام الفسخ والإجارة ضرر البائع إلا أن البائع لما شرط الخيار للمشتري مع علمه بحال المبيع، فقد صار راضياً بهذا الضرر والضرر المرضي لا يدفع. وفي الاستحسان: يقال للمشتري: إما أن ترد البيع، وإما أن تأخذه ولا شيء عليك من الثمن ما لم تجز البيع أو يفسد عندك. وجه ذلك: أن في إلزام المشتري الفسخ أو الإجارة إن كان ضرر بالمشتري لكن في عدم إلزامه ذلك ضرر بالبائع وضرر البائع أولى من ضرر المشتري؛ لأن ضرر المشتري أدنى، فإنه إذا قبضه يتمكن من أكله ومن بيعه من غيره ويتمكن من رد البيع ورد المبيع على البائع لهذا فهو متمكن من دفع الضرر عن نفسه، أما البائع لا يتمكن من دفع ضرره عن نفسه، والضرر الذي يتمكن الإنسان من دفعه أدنى بالتحمل أولى، وما يقول بأن البائع رضي بهذا الضرر هذا ممنوع؛ لأنه يحتمل أنه إنما باع رجاء أن يختار المشتري الفسخ أو الإجازة قبل الفساد، وإن رضي به لكن هذا ضرر محض، والضرر المحض لا يلزم بمجرد الرضا ولكن لا يجبر المشتري على إعطاء الثمن وإن قبضه؛ لأنه إنما أجبرناه على القبض دفعاً للضرر عن البائع وقد حصل هذا المعنى بالقبض والثمن ملك المشتري مع بقاء خياره، فلا يخير المشتري على إعطائه ولكن إن فسد عنده أو اختاره حينئذٍ يلزم إعطاء الثمن، وإن لم يفسد حتى نقض المشتري البيع ورده على البائع ولا شيء عليه من الثمن. وذكر هشام في «نوادره» عن محمد: أن من اشترى من آخر عصيراً أو رطباً على أنه بالخيار ثلاثة أيام، وخاف البائع تخمر العصير وتحمض الرطب في مدة الخيار، فطلب قبض المشتري فالمشتري لا يجبر عليه وهو جواب القياس على نحو ما ذكرنا. وفيه أيضاً: أن من ادعى على آخر أنه اشترى منه سمكة طرية في يده وجحد البائع، فأقام المشتري بينة على الشراء فخاف فساد السمكة في مدة التركة، وفيه ضرر بالبائع قال: يأمر القاضي المشتري حتى يقبض السمكة ويدفع الثمن، ثم يبيع القاضي السمكة ويضع الثمن الأول والثاني على يدي عدل، فإن زكيت البينة دفع الثمن الأول إلى البائع والثاني إلى المشتري، وإن ضاع في يدي العدل ضاع على المشتري؛ لأن بيع القاضي كبيعه ولو لم تتزك البينة ضمن المشتري قيمة السمكة؛ لأن الشراء لم يثبت فبقي قابضاً سمكة بجهة البيع، فيكون مضموناً عليه. قال في «الزيادات» : رجل قال لغيره: هذا العبد بيني وبين فلان وفلان ثلاثاً وهما غائبان، فأنا أبيعكه بألف ولم يأمراني بذلك فلعلهما يجيزان البيع فاشتراه المشتري على ذلك ونقد الثمن ثم حضر الغائبان ولم يجيزا البيع لزم المشتري نصيب البائع. واعلم بأن هاهنا ثلاث مسائل:

إحداها: هذه، والوجه فيها: أن البيع تم في نصيبه من غير توقف، وتوقف في نصيب الغائبين على إجازتهما، فإذا لم يجيزا بطل ولا خيار للمشتري وإن تفرقت الصفقة عليه؛ لأن تفرق الصفقة، إنما يوجب الخيار إذا وقعت الصفقة جملة في الابتداء، ثم تفرقت بعد ذلك، والصفقة من الابتداء ما وقعت جملة حال وقوعها؛ لأنها نفذت في نصيب البائع وتوقفت في نصيب الغائبين فامتاز نصيب البائع عن نصيب الغائبين حال وقوعها، كأنه اشترى نصيب الحاضر بصفقة ونصيب الغائبين بصفقة وهناك لا خيار للمشتري كذا هنا، فإن أجاز أحد الغائبين البيع في نصيبه، قال محمد رحمه الله: لزم المشتري نصيب المجيز بثلث الثمن أيضاً ولا خيار له، وعلى قياس قول أبي يوسف له الخيار لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى. المسألة الثانية: إذا قال الرجل لغيره هذا العبد لفلان وفلان وأنا أبيعكه بألف درهم بغير أمرهما فلعلهما يجيزان البيع فاشتراه المشتري على ذلك فبلغهما الخبر فأجاز أحدهما البيع في نصيبه وأبى الآخر، فعلى قول محمد رحمه الله: لا خيار للمشتري وعلى قول أبي يوسف له الخيار. وجه قول أبي يوسف أن الصفقة هاهنا وقعت جملة، فإن العقد (143ب3) توقف في الكل على الإجازة، فإذا أجاز أحدهما دون الآخر، فقد تفرقت الصفقة عليه فكان له أن لا يرضى به بخلاف المسألة الأولى؛ لأن هناك الصفقة حال وقوعها نفذت في نصيب البائع وتوقفت في نصيب الغائبين فوقعت الصفقة متفرقة من الابتداء، فلا يوجب الخيار حتى إنها لو توقفت في نصيب الغائبين جملة فقلت: بثبوت الخيار في نصيبهما إذا أجاز أحدهما البيع دون الآخر. وجه قول محمد: أن المشتري لما أقدم على الشراء مع علمه أنهما عسى يتفقان على الإجازة، وعسى يحب أحدهما دون الآخر صار راضياً بهذا التفرق، ألا ترى أن أحد المشتريين ينفرد بالرد بخيار الشرط، وبخيار العيب باتفاق بينهما، وطريقه ما قلنا. المسألة الثالثة: إذا قال الرجل لغيره هذا العبد لفلان وأنا أبيعكه بغير أمره بألف درهم فلعله يجيز البيع، فاشتراه على ذلك فحضر فلان وأجاز البيع في نصفه كان للمشتري الخيار بلا خلاف؛ لأن الصفقة وقعت جملة، فإذا أجاز صاحب العبد العقد في النصف، فقد تفرقت الصفقة عليه، ولم يصر المشتري راضياً بهذا التفرق؛ لأن الظاهر من حال المالك إذا كان واحداً أن يجيز في الكل تحرزاً عن تبعيض ملكه الذي هو عيب بخلاف ما إذا كان العبد لا يبين عن قول محمد؛ لأن الإجازة من المالكين ليس بظاهر إذ العيب ثابت في كل واحد منهما أما هي بخلافه. قال: وإذا باع الرجل جارية من رجل ثم غاب المشتري ولا يدري أين هو فرفع البائع الأمر إلى القاضي وطلب منه أن يبيع الجارية ويوفي ثمنه، فإن القاضي لا يجيبه إلى ذلك قبل إقامة البينة على ذلك. ذكر أن القاضي يبيع الجارية على المشتري، ونقد الثمن للبائع واستوثق من البائع

بكفيل ثقة وهذا الذي ذكر جواب الاستحسان، والقياس: أن لا يسمع هذه البينة ولا يبيع الجارية على المشتري. نص على هذا القياس، والاستحسان في «الجامع الكبير» في كتاب الإجارات في باب الاختلاف بين اثنين في نظير هذه المسألة وجه القياس في ذلك ظاهر وهو أن هذا بينة قامت على إثبات حق الغائب، وليس عن الغائب خصم حاضر لا قصدي ولا حكمي، فوجب أن لا يقبل قياساً على ماإذا كان يعرف مكان المشتري، وقياساً على من أقام بينة على إثبات حق على الغائب الذي لا يعرف مكانه لينزع شيئاً مما في يد الغائب، فإن في هاتين الصورتين لا تقبل هذه البينة، وإنما لا تقبل لما قلنا. وجه الاستحسان: أن البائع عجز عن الوصول إلى الثمن من جهة المشتري إذا كان لا يعرف مكانه، وعجز عن الانتفاع بالمبيع؛ لأنه مال غيره واحتاج أن ينفق عليه ما لم يحضر المشتري، وربما تأتي النفقة على الثمن وزيادة متى انتظر القاضي حضور المشتري، فمتى لم يسمع هذه البينة من البائع أدى إلى إبطال حقه، والقاضي انتصب خصماً لإحياء الحقوق، فكان للقاضي أن يسمع هذه البينة ليندفع الضرر والبلية التي ابتلى بها البائع؛ لأن على القاضي دفع البلية عن الناس ما أمكنه بخلاف ما إذا كان يعرف مكان البائع؛ لأنه كان يمكنه دفع الضرر والبلية عن البائع بأن يأمره بالذهاب إلى حيث كان المشتري، وإقامة البينة عليه. وبخلاف ما إذا ادعى حقاً على غائب لا يعرف مكانه، وأراد أن يقيم البينة على ذلك لينزع شيئاً من مال الغائب، فإن القاضي لا يسمع ذلك منه؛ وذلك لأن القياس في مسألة البيع أن لا يسمع البينة على الغائب؛ لأنه ليس عنه خصم حاضر إلا أنا تركنا القياس فيما إذا كان لا يعرف مكان المشتري لينزع البلية التي ابتلى بها البائع وليس في قبولها إزالة يد البائع الغائب عما في يده؛ لأن حق البائع إنما يستوفى من الجارية التي في يده، لو ادعى أنها له كان القول قوله، وهذا لا يجيز ترك القياس إذا قامت البينة على إنزاع مال في يد الغائب، وفي ذلك إزالة ملك البائع ويده. حتى لو ادعى المدعي ذلك لنفسه لا يصدق، فيرد هذا إلى ما يقتضيه القياس، وإنما شرط إقامة البينة في هذه المسألة؛ لأنه ادعى إيجاب الحفظ على القاضي في هذا المال؛ لأنه يزعم أنه مال الغائب وعلى القاضي حفظه؛ لأنه مما يخشى عليه التلف، فكان للقاضي أن لا يلتزم هذا الحفظ إلا بإقامة البينة على ذلك. وكان كالرجل جاء بدابة إلى القاضي وقال: هذه لقطة فبعها، فإن القاضي لا يبيعها حتى يقيم البينة على ذلك؛ لأنه يدعي إيجاب حفظ على القاضي، فكان للقاضي أن لا يصدق إلا ببينة، فكذلك هاهنا لا يصدقه، ولا يبيع إلا بينة؛ ولأنه يجوز أنه كان غاصباً لهذه الجارية، واحتال بهذه الحيلة ليبرأ عن ضمانها، ويسقط نفقتها عن نفسه، فكان للقاضي أن لا يتعرض له من غير بينة، ثم إنما يوفيه الثمن من حيث أنه ثبت بما أقام من البينة دين على المشتري من حيث أن في الإيفاء حفظ الثمن على الغائب؛ لأنه يصير مضموناً على القابض بالمثل، فيكون بمعنى

القرض، وللقاضي أن يقرض مال الغائب لما فيه من زيادة حفظ ليس في الإيداع فكذا هذا، والدليل على أن البيع وإيفاء الثمن كان على سبيل الحفظ من القاضي: أنه لو فعل ذلك من غير بينة أقامها الحاضر كان له ذلك بأن يعرف ذلك من الناس، وكذا لو فعل القاضي ذلك بعد إقامة البينة ثم جاء الغائب، وجحد الشراء، وقال: الجارية جاريتي من الأصل يحتاج البائع إلى إقامة البينة ثانياً، فلو صار البائع مقضياً عليه بالشراء لكان لا يلتفت إلى إنكاره بعد ذلك، فهذا يبين لك أن ما فعله القاضي فعله على سبيل الحفظ لا على سبيل القضاء على الغائب. ثم إذا باع القاضي الجارية وأدى الثمن إلى البائع، فإنه يأخذ منه كفيلاً ثقة لجواز أنه أخذ الثمن من المشتري مرة، فمتى حضر المشتري احتاج إلى أن يرجع على البائع بالثمن فيأخذ كفيلاً نظراً للمشتري، حتى إنه إن تعذر عليه اتباع البائع اتبع الكفيل، فيستوفي من الكفيل، ثم إن كان فيه وضعية فعلى المشتري، وإن كان فضل فللمشتري أن يتبع القاضي وله ولاية البيع على المشتري من الوجه الذي ذكرنا كبيع المشتري. ولو أن المشتري باع الجارية بنفسه إن كان فيه وضعية تكون على المشتري؛ لأن الدين على المشتري، وقد أدى البعض ولم يؤد البعض فما (لم) يؤد يكون ديناً على المشتري، فكذا إذا باعه القاضي، وإن كان فيه فضل فله؛ لأنه بدل ماله فيكون له، ثم وضع المسألة في الجارية ولم يضع في الدار (144أ3) ويجب أن يقال بأنه في الدار لا يتعرض القاضي لذلك ولا يبيع الدار؛ لأن القياس أن لا يبيع الجارية على المشتري، وإنما يبيعها استحساناً لدفع البلية عن البائع، وهو إسقاط النفقة عنه، وإنما يحتاج إلى إسقاط النفقة إذا كان المبيع حيواناً، وإن كان يعرف مكان المشتري، فإنه ليس للقاضي أن يبيع الجارية، وإن أقام البائع على ذلك. فرق بين هذا وبينما إذا كانت الجارية آبقة، فادعى الذي في يده الجارية أنها آبقة، وأقام البينة على ذلك فطلب من القاضي بيعها أو كانت وديعة أو ضالة كالبعير والبقر، فإن القاضي يبيع ذلك أو يأمره بالنفقة على حسب ما يرى الأصلح للغائب، وإن كان يعرف مكانه إن كان يرجو قدومه عن قريب يأمره بالنفقة حتى لا تزول العين عن ملكه، وإن كان لا يرجو قدومه عن قريب، وخاف أنه متى أمر الذي في يديه الجارية بالنفقة أنها تربو على قيمة الجارية يبيع الجارية، وذلك نفقة الآبقة والوديعة على ربها، فمتى لم يبع إلى النفقة على جميع ما له فيهلك ماله وعلى القاضي أن يدفع الهلاك عن أموال الناس ما أمكنه، فكان النظر للغائب أن يبيع، وهاهنا النظر للغائب في أن لا يبيع حتى لا تزول العين عن ملكه؛ لأن نفقة المبيع على البائع إلى أن يحضر المشتري فيقبض، وإذا هلكت كانت مضمونة عليه، فالنظر للغائب أن لا يبيع إذا كان يعرف مكانه، ولكن يأمره بطلب المشتري، وهذا إذا جاء المشتري وأقر بذلك، فأما إذا أنكر المشتري الشراء احتاج البائع إلى إقامة البينة على المشتري ثانياً؛ لأن البيع لم يثبت بما أقام من البينة؛ لأنه لم يكن عنه خصم حاضر.

قال في «الزيادات» : رجل باع عبداً من رجل ووهبه عبداً آخر فنقد المشتري الثمن وقبضهما ثم مات أحدهما، فأراد المشتري أن يرد الباقي بالعيب، فقال البائع: لم أبعك هذا إنما بعتك الميت، فالقول قول (البائع لأن) المشتري يدعي عليه حق الرد بسبب العيب وهو ينكر؛ ولأن الملك في العبدين استفيد من جهة البائع، فكان القول في بيان جهة الملك قول البائع، وهو ادعى أنه ملكه بالهبة، فإذا اعتبر قوله ثبت أن الحي موهوب، فلا يكون له حق الرد بسبب العيب. ولو أراد البائع أن يرجع في الحي بحكم الهبة والمشتري يقول: الحي مبيع والموهوب هو الميت، فالقول قول البائع وله أن يرجع في الحي؛ لأن الملك في العبدين استفيد من جهة البائع، فكان القول في بيان جهة الملك قول البائع، وهو ادعى أنه ملك الحي بجهة الهبة، فإذا اعتبر قوله ثبت أن الحي موهوب، فكان له حق الرجوع فيه. ثم يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، فإذا حلف وجب على البائع رد الثمن، ووجب (على) المشتري رد قيمة الميت؛ لأنهما لما حلفا لم يثبت ما ادعاه كل واحد منهما فيجب على كل واحد منهما رد ما قبض، إلا أن رد الميت متعذر، فيقام رد قيمته مقام رده. ولو كان باعه عبداً بألف درهم وباعه آخر بمئة دينار وتقابضا، ومات أحدهما ورد المشتري العبد الحي بالعيب واختلفا في ثمنه، فالقول في بيان الثمن قول المشتري؛ لأن تمليك الثمن استفيد من جهته، فكان القول في بيان جهة التمليك قوله، فيرجع على البائع بما أنه ثمن المردود، ولو لم يمت واحد منهما ورد المشتري المعيب بالعيب يرجع بالثمن الذي ادعاه ثم يتحالفان في الباقي؛ لأن الاختلاف في ثمن المردود أنه دراهم أو دنانير اختلاف في ثمن الباقي وأنه يوجب التحالف فيتحالفان ويترادان. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل أسلم إلى رجل مئة درهم في كر حنطة، ثم إن المسلم إليه اشترى من رب السلم كر بمئتي درهم إلى أجل فقبض الكر الذي اشترى ولم يدفع الثمن، فلما حل السلم قضاه المسلم إليه بذلك الكر المشترى كر السلم قبل أن ينقده الثمن، فهذا لا يجوز؛ لأن رب السلم يصير مشترياً من وجه ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن، وإنه لا يجوز. بيانه: أن القبض بحكم الشراء شبيه بالشراء من حيث إنه يستفاد به ملك التصرف، ويتأكد به ملك العين، وفي باب السلم يثبت به ملك العين مع ملك التصرف، فكان شراء من هذا الوجه؛ لأنه ليس بشراء من كل وجه؛ لأن أصل الملك كان ثابتاً قبل القبض ولما كان القبض بحكم الشراء شراء من وجه، صار رب السلم باعتباره مشترياً من وجه ما باع قبل نقد الثمن، والثابت من وجه في باب الربا احتياطاً، ولا وجه إلى أن يجعل رب السلم مشترياً هذا الكر بكراء السلم؛ لأن المقبوض في باب السلم في حكم العين ما يتناوله العقد؛ إذ لو لم يجعل كذلك كان هذا استبدالاً بالمسلم فيه، وذلك لا يجوز، فجعل هذا في حكم العين ما يتناوله العقد، ولما كان بدله مئة درهم وقد كان باع عين هذا

الكر قبل ذلك بمئتي درهم فيصير مشترياً عند القبض من وجه ما باع قبل نقد الثمن فلا يجوز. وهذه المسألة حجة لأبي حنيفة على أبي يوسف في رجل أسلم إلى رجل دراهم في ثوبين بعينين فقبضهما أنه لا يبيع واحد منهما مرابحة من غير بيان عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن المقبوض لما جعل في حكم عين ما يتناوله العقد صار بمنزلة ما لو اشترى ثوبين بعينين، وهناك لا يملك بيع أحدهما مرابحة من غير بيان فهاهنا كذلك، فإن قبض رب السلم الكر الذي باعه من المسلم إليه بكر السلم قبل نقد الثمن مع أنه لا يجوز فطحنه، أو هلك عنده كان على رب السلم للمسلم إليه طعاماً مثل طعامه؛ لأنه مقبوض بحكم القضاء الفاسد، وذلك مضمون بالمثل، فهذا كذلك، فإن قضى القاضي عليه بكر مثله فاصطلحا على أن يكون قضاء من المسلم فيه لم يجز ذلك لوجهين: g أحدهما: أن استيفاء السلم إنما يقع بقبض عين من جنس السلم بعد السلم قبضاً صحيحاً ولم يوجد، ولأن المثل فيما يضمن بالمثل قائم مقام المضمون يجب بالسبب الذي يجب رد المقبوض (به) ثم القضاء إذا لم يقع بالمضمون، فكيف يقع بما هو قائم مقامه؟ فإن قبض المسلم إليه الكر الذي قضى به القاضي ثم قضاه إياه من طعام السلم جاز؛ لأنه وجد قبض عين من جنس السلم بعد السلم قبضاً صحيحاً، فحصل به قضاء السلم، وإنما قلنا بأن هذا القبض صحيح؛ لأنه بهذا القبض لم يصر مشترياً ما باع قبل نقد الثمن؛ لأن هذا الكر الذي اقتضاه رب السلم ليس هو الكر الذي باعه لا حقيقة ولا حكماً بل بدل عن ذلك الكر؛ لأن الاستبدال بالكر الذي وجب على رب السلم قبل القبض جائز؛ لأنه دين وجب لا بعقد صرف ولا بعقد صرف سلم. قال محمد رحمه الله: وهذا كالمسلم إليه اشترى من رب السلم كر حنطة بعينها بمتاع فلم يقبضه (144ب3) قضاء رب السلم عن المسلم فيه كان باطلاً؛ لأنه بمنزلة بيع المبيع قبل القبض، وإن قبضه المسلم إليه ثم قضاه صح وقد وقع في بعض النسخ. وهذا بمنزلة ما إذا اشترى رب السلم من المسلم إليه كر حنطة بمتاع فقضاه إياه قبل القبض، وهذا وقع غلطاً؛ لأن المسلم فيه على المسلم إليه لرب السلم أيضاً، وما على الإنسان لا يتصور اقتضاؤه بما عليه حتى يكون الفساد بعلة استبدال المبيع قبل القبض، والصحيح ما وقع في عامة النسخ ولو لم يهلك الكر الذي قبضه رب السلم ولم يطحنه ولكن تعيب عنده، فإن شاء المسلم إليه قبضه ولا شيء له، وإن شاء تركه وضمنه حنطة؛ لأنه مضمون على رب السلم بحكم القضاء الفاسد، وهذا الضمان مثل ضمان الغصب. والجواب في الحنطة المغصوبة إذا تعيبت أن المغصوب منه بالخيار إن شاء ضمنه مثله، وإن شاء أخذه، ولا شيء له إذ الجودة لا قيمة لها بانفرادها في أموال الربا فهاهنا كذلك، فإن ضمنه مثله فجعلاه قصاصاً من السلم لم يجز إلا أن يقبضه المسلم إليه ثم

يعطيه بالسلم؛ لأن حق المسلم إليه انتقل إلى كر مثله في الذمة بالتضمين بالمثل كما في الاستهلاك، وهناك الجواب ما قلنا فهاهنا كذلك. فإن اختار أخذ الكر فلم يأخذه حتى اصطلحا على أن يكون قصاصاً بكر السلم جاز؛ لأن ما مضى من القبض، إن فسد فحالة المقاصة القبض قائم والقبض مستدام وما يكون مستداماً كان لدوامه حكم الإنشاء، فصار كأن المسلم إليه قبضه ثم سلمه إلى رب السلم عن كر السلم بعد ما دخله عيب ولو كان كذلك كان جائزاً. فإن اشترى ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن بعد تعيب المبيع صحيح على ما بينا قبل هذا، فإن رضي أحدهما أن يكون قصاصاً، وأبى الآخر لم يكن قصاصاً إلا بتراضيهما، وهذا لا يشكل في حق رب السلم؛ لأن حقه في الجيد فلا يلزمه المعيب إلا برضاه، إنما يشكل في حق المسلم إليه؛ لأن حق رب السلم قبله في الجيد، فإذاً يجوز بالمعيب ينبغي أن يجوز، ألا ترى أن هذا الكر المعيب لو قبضه المسلم إليه ثم قبضه رب السلم بحقه من غير رضا المسلم إليه صح، ولكن الوجه في هذا أن يقال بأن حق المسلم إليه ثابت في الجودة، ولهذا كان له أن يترك هذا الكر المعيب فإذا آل الأمر إلى أن يسلم له لم يكن راضياً بسقوط حقه عن الجودة، ومع بقاء حقه في الجودة لا تقع المقاصة إلا برضاه. بخلاف ما إذا قبضه المسلم إليه ثم أخذ منه رب السلم بحقه حيث يصير قصاصاً من غير رضا المسلم إليه؛ لأن هناك الكر المعيب سلم له؛ لأن السلامة بالوصول وقد وصل إليه، أما دوام الوصول ليس بشرط، فلهذا افترقا. لم يذكر في «الكتاب» ما لو اصطلحا على المقاصة قبل أن يختار المسلم إليه شيئاً قالوا ويجب أن يجوز؛ لأن اصطلاحهما على المقاصة لا تصح إلا بعد أن يختار المسلم إليه أخذ الكر، فيتضمن ذلك اختيار الكر سابقاً على المقاصة. ثم إن محمداً رحمه الله أعاد مسألة الأول الباب فقال: لو أن المسلم إليه اشترى من رب السلم كر بمئتي درهم إلى أجل فقبضه، ولم يدفع الثمن حتى حل السلم، ثم إن رب السلم غصب الكر الذي اشتراه المسلم إليه فجعله قصاصاً بكر السلم لا يكون قصاصاً؛ لأنهما لو تراضيا على هذه المقاصة لا يكون قصاصاً لما مر في أول الباب، فإذا رضي به أحدهما وأبى الآخر أولى. ولو غصبه من المسلم إليه رجل أجنبي فأحالة المسلم إليه رب السلم على الغاصب ليعطيه ذلك من طعام السلم لا يجوز، وكذلك لو أودعه عند رجل ثم أحال رب السلم به لم يجز، لأن المحتال عليه يقتضي بأمر المسلم إليه بأمره لا يجوز فكذا إذا قضاه غيره بأمره قال: إلا إذا أصابه عيب فحينئذ يصح اقتضاؤه من المحتال عليه كما يصح من المسلم إليه. غير أن بين مسألة الغصب وبين مسألة الوديعة فرقاً من وجه: أن في مسألة الغصب لو هلك الكر عند المحتال عليه ما تعيب حتى صحت الحوالة، وفي مسألة الوديعة تبطل، وإنما جاء الفرق باعتبار أن مسألة الغصب ما يتعلق به الحوالة هلك صورةً لا معنى؛ لأن

مثله قد وجب فبقيت الحوالة ببقاء مثله، أما في مسألة الوديعة ما تعلق به الحوالة هلك صورةً ومعنىً، لأنها هلكت أمانة فلهذا افترقا. ولو كان الغاصب استهلك الكر قبل أن يحدث عيب، ثم إن المسلم إليه أحال رب السلم بكرّه على الغاصب ليعطيه من الكر الذي له في ذمته كان جائزاً؛ لأنه ملك الكر في ذمته بسبب الغصب، وهو بدل عن الطعام المبيع، فلم يكن في قضاء طعام السلم به بيع ما اشترى بأقل مما اشترى. وإن كانت الحوالة قبل هلاك الكر قد بينا أنها باطلة، فإن هلكت ووجب مثلها لم تعد الحوالة جائزة؛ لأنها وقت وقوعها وقعت باطلة والحوالة متى وقعت باطلة لا تعود جائزة إلا بالتجديد ولو كان رب السلم أخذ الكر المبيع قضاء من طعام السلم مع أنه لا يجوز فحدث به عيب في يده، فلم يسترده المسلم إليه ولم يجعلاه قصاصاً حتى طحنه رب السلم، ثم اصطلحا على أن يجعلاه قصاصاً لم يكن لهما ذلك. فرق بين هذا وبينما إذا جعلاه قصاصاً بعد العيب قبل الطحن يجوز، والفرق: هو أن بالقبض الأول لم يقع الاستيفاء في الوجهين جميعاً، غير أن الوجه الأول: القبض القائم لا يصلح لاستيفاء الحنطة بالدقيق، لا يكون إلا بطريق الاستبدال، وإنه لا يجوز، أما في الفصل الثاني القبض القائم صالح للاستيفاء؛ لأن الحنطة قائمة بعينها فجاز أن تقع المقاصة إذا جعلاه قصاصاً والله أعلم. روى الحسن بن زياد عن أبي يوسف: رجل أسلم إلى رجل مئة درهم في طعام أو غيره سلماً فاسداً وقبض المسلم إليه المئة، ثم علما أن السلم فاسد فأرادا أن يصححاه في ذلك المجلس أو بعدما افترقا، قال أبو يوسف: إن كانت المئة قائمة بعينها في يد المسلم إليه فلهما ذلك. رجل قال لآخر: بعني كر طعام وسط على أن توفيه إلى شهر في موضع، كذا بمئة درهم ودفع إليه مئة قال أبو يوسف: هو سلم صحيح. بشر في «الإملاء» عن أبي يوسف: إذا أسلم ديناً له على رجل في سلم ثم علم أنه لا يجوز فجعل له رأس المال، ودفعه إليه قبل أن يفترقا جاز له استحساناً. قال: إذا اشترى الطعام بالعبد، وهو الثمن وللطعام أجل وموضع يوفيه فيه وكيل معلوم وضرب معلوم فهو سلم إن سماه سلماً أو كنى عن اسمه، فإن افترقا قبل أن يقبض العبد انتقض. ذكر أبو سليمان عن أبي يوسف في «الإملاء:» رجل أرسل غلامه يجلب عليه ثياباً ليشتري لرجل ثوباً فنادى الغلام في السوق من معه ثوب كذا بكذا، فقال رجل: أنا، فقال الغلام: هاته فأعطاه إياه، فإن هذا قد أخذه على سوم وهو ضمان للثمن الذي سماه، فإن أراد الغلام أن يرجع على الذي أرسله (فقال الذي أرسله:) لم آمرك (145أ3) أن تقبض الثوب، وإنما أمرتك أن تجلب علي مع غلمان القوم، فلا ضمان عليه بعد أن يجلب أنه لم يأمره بالمساومة وقبض الثوب، ولو أقر بذلك ضمنه إذا أقر بقبض الغلام، وإن لم يقر

بقبضه فلا ضمان عليه، وإن كان الغلام صغيراً، وقد أذن له الأب في البيع والشراء فهو ضامن عليه من قبل أن رب الثوب سلطه على القبض، وليس يجوز مساومته، ولو أن الغلام حين نادى من معه ثوب كذا بكذا، وقال رجل: أنا قال الغلام: إليّ أريده لفلان، فقال ذلك الرجل: خذه واذهب به، فضاع فلا ضمان عليه هذا رسول من رب الثوب إلى الآمر بالجلب. ولو دفع إلى الآمر في هذه الصورة وضاع من يد الآمر لم يضمن الآمر؛ لأنه لم يقع في يده على سبيل المساومة. ولو أن رجلاً أرسل رسولاً إلى بزاز أن ابعث إليّ ثوب كذا وكذا فبعث إليه البزاز مع رسوله أو مع غيره وضاع الثوب قبل أن يصل إلى الآمر فلا ضمان على الرسول، فبعد ذلك ينظر إن كان الذي ضاع منه الثوب رسول الآمر فالآمر ضامن؛ لأن رسوله قبض الثوب على سبيل المساومة وقبض رسوله كقبضه، وإن كان رسول رب الثوب، فلا ضمان على الآمر إلا إذا وصل الثوب إليه فحينئذ يضمنه. ولو أن (رجلاً) بعث بكتاب إلى رجل مع رسول أن ابعث إليَّ ثوب كذا ففعل، وبعث به مع الذي أتاه بالكتاب ولم يكن يسأل الآمر حتى يصل إليه، إنما الرسول في الكتاب وليس كقوله انطلق فتقاضى انطلق فخذ كذا، ولو بعث رسولاً يجلب عليه ثياباً فقال الرسول: من معه ثوب كذا بكذا فقال رجل: أنا، فقال صاحب الثوب: علي، فقال الرسول: على أستاذي أو على فلان ولم يقل استاذي أو قال: من يريده فقال: فلان فقال: هاك فأخذه فلا ضمان على الرسول ولا على الآمر إن ضاع في يد الرسول، وإن وصل إلى الآمر فضاع من عنده فهو الضامن المساوم؛ لأن الذي أرسل لا ضمان على الرسول والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

كتاب الصرف

كتاب الصرف هذا الكتاب يشتمل على أربعة وعشرين فصلاً: 1 * في بيان معنى هذا الاسم. 2 * في بيع الدين بالدين. 3 * في الساعات التي يشترط فيها قبض البدلين حقيقة. 4 * في الدراهم المغشوشة تباع بالفضة الخالصة. 5 * في الفلوس. 6 * في خيار الرؤية والرد بالعيب والاستحقاق في باب الصرف. 7 * في الرهن والحوالة وفي الكفالة في الصرف. 8 * في الحط عن بدل الصرف والزيادة فيه. 9 * وفي الصلح في الصرف. 10 * في بيع الإناء وزناً فيزيد أو ينقص. 11 * في السيوف وفي بيع الحلي الذي فيه الآلىء والجواهر، وفي بيع المملوكات ما يجوز وما لا يجوز. 12 * في الوكالة في الصرف. 13 * في الصرف مع مملوكه وقرابته وشريكه ومضاربه والوصي. 14 * في الصرف في المرض. 15 * في الاستبدال ببدل الصرف. 16 * فيما يكون قصاصاً ببدل الصرف وما لا يكون. 17 * في بيع الموزون بجنسه أو بخلاف جنسه وفي بيع المكيل كذلك. 18 * في تصرف المتصارقين في ثمن الصرف قبل القبض. 19 * في بيع الصرف مرابحة.

20 * في الصرف في دار الحرب. 21 * في الصرف في الغصب والوديعة. 22 * يشتمل على الإجازة وعلى الصرف، ويدخل فيه استهلاك المشتري في عقد الصرف قبل القبض. 23 * في الصرف في المعادن وتراب الصوّاغين ويدخل فيه الاستئجار لتخلص الذهب والفضة من تراب المعادن. 24 * في المتفرقات.

الفصل الأول: في بيان معنى هذا الاسم وشرط جواز هذا المسمى وحكمه

الفصل الأول: في بيان معنى هذا الاسم وشرط جواز هذا المسمى وحكمه أما بيان معنى هذا الاسم فنقول: الصرف اسم لنوع وهو مبادلة الأثمان بعضها ببعض، إما مبادلة الذهب أو مبادلة الفضة بالفضة أو مبادلة أحد الجنسين بصاحبه مفرداً كان أو مجموعاً مع غيره هذا هو لفظ «القدوري» ، وقوله: أو مجموعاً مع غيره يريد به مثلاً إذا باع ثوباً وذهباً بفضة، فحصة الذهب صرف؛ لأنه يقابله ثمن وحصة الثوب بيع. والأموال أنواع ثلاثة: نوع منها: هو ثمن في العقد على كل حال وهو الدراهم والدنانير. ونوع منها: وهو مبيع في العقد على كل حال وهو ما ليس من ذوات الأمثال كالعروض والحيوانات وأشباهها. ونوع منها: هو بين المبيع وهو المكيلات والموزونات، وقد ذكرنا ذلك بتمامه في أول كتاب البيوع، والمبيع يخالف الثمن في أحكام كثيرة قد ذكرنا في ذلك في أول كتاب البيوع. وأما بيان شرائط جواز هذا المسمى فنقول: شرائط جواز هذا المسمى على الخصوص ثلاثة: أحدها: أن لا يفترقا عن تقابض، والمراد منه: تفرق الأبدان لا الذهاب عن موضع الجلوس للعقد لما نتبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، ثم قبض أحد البدلين قبل التفرق في بيع الدرهم (بالدرهم) ، وفي بيع الدينار بالدينار، وفي بيع الدرهم بالدينار، واشتراطه على موافقة القياس؛ لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في عقود المعاوضات بالتعيين، إما يتعينان بالقبض فشرطنا قبض أحد بدلي الصرف لتزول الدينية عن أحد بدلي الصرف، وإنه على موافقة القياس كما في سائر البياعات، أما اشتراط قبض البدل الآخر على مخالفة القياس. ألا ترى أنه لم يشترط ذلك في سائر البياعات، وكذلك اشتراط قبض أحد بدلي الصرف فيما يتعين بالتعين من الذهب والفضة وهو ما إذا باع البئر بالبئر أو مع القلب بالقلب على مخالفة القياس، فإن في سائر البياعات، إذا بيع عين بعين لا يشترط قبضهما، ولا قبض أحدهما قبل التفرق يجب أن يكون في الصرف، كذلك شرط قبض أحد البدلين إذا بيع عين القلب بالقلب، وشرط قبض البدلين إذا بيع الدراهم بالدراهم، والدنانير بالدنانير، عرف ذلك بالنصوص من جملة ذلك قوله عليه السلام: «الفضة بالفضة وزن بوزن يد بيد والذهب بالذهب وزن بوزن يد بيد» . فإن قيل: كيف يجوز أن يقال بأن قبض بدلي الصرف قبل الافتراق شرط جواز

العقد لإحالة العقد، وشرط العقد ما يشترط حالة العقد كالشهادة في باب النكاح والمالية في بيع العين بالثمن، فأما ما يجب بعد العقد يكون حكم العقد لا شرط جواز العقد. قلنا: شرط جواز العقد ما يشترط مقارناً للعقد إلا أن اشتراط القبض مقارناً لحالة العقد من حيث الحقيقة غير ممكن من غير تراض لما فيه من إثبات اليد على مال الغير بغير رضاه فعلقت الجواز بقبض يوجد في المجلس؛ لأن مجلس العقد حكم حالة العقد كما في الإيجاب والقبول، فصار القبض الموجود بعد العقد في مجلس العقد كالموجود وقت العقد من حيث الحكم، ولو كان موجوداً وقت العقد من حيث الحكم، ثم اختلف المشايخ فيما بينهم أن التعارض قبل الافتراق (145ب3) شرط صحة العقد أو شرط بقاء العقد على الصحة وإلى كل واحد أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» ، فعلى قول من يقول: أنه شرط بقاء العقد على الصحة لا يتأتى هذا، وعلى قول من يقول شرط صحة العقد يتأتى الإشكال، ولكن وجه الجواب ما ذكرنا. الشرط الثاني: أن لا يكون في هذا العقد خيار الشرط لأحدهما؛ لأن الخيار استثناء لحكم العقد وهو الملك عن العقد، فيمتنع الملك ما بقي الخيار، وإذا امتنع الملك يمتنع القبض الذي يحصل به التعيين الذي هو شرط جواز هذا العقد. الشرط الثالث: أن لا يكون في هذا العقد أجل؛ لأن شرط الأجل يتقدم استحقاق القبض الذي به يحصل به التعيين، فرجع الكل إلى معنى واحد أن الفساد بسبب انعدام القبض الذي يحصل التعيين، وخيار الرؤية وخيار العيب يخالف خيار الشرط في هذا الباب؛ لأنه بختار العيب والرؤية لا يمتنع الملك فكان القبض الذي يحصل به التعيين ثابتاً، فيصح العقد ولا كذلك الأجل وخيار الشرط، فهذا هو الفرق بين هذه الفصول، وإن افترقا من غير تقابض أو شرط الخيار أو الأجل فسد البيع ثم لا يصح بعد ذلك، أما إذا افترقا من غير تقابض؛ فلأنه فات شرط الصحة وهو التقابض، وأما إذا كان فيه خيار الشرط، فكذلك لهذا المعنى أيضاً، وأما إذا كان فيه أجل قائم يفسد العقد إذا لم يتقابضا، فأما إذا تقابضا لا يفسد العقد؛ لأن الإقباض يكون إسقاطاً للأجل ولو شرطا الخيار ثم أبطلا قبل الافتراق أو كان الخيار لأحدهما فأبطله الذي هو له قبل الافتراق جاز استحساناً عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله. والكلام فيه نظير الكلام فيما إذا شرط الخيار في بيع العين أربعة أيام ثم أسقط الخيار قبل دخول اليوم الرابع، وقد مر الكلام فيه في كتاب البيوع، وإن كان لأحدهما أجل فيما عليه أولهما فأبطل ما لهما من الأجل قبل التفرق جاز استحساناً، وعن أبي يوسف أن صاحب الأجل إذا أسقط الأجل لا يبطل حتى يرضى به صاحبه. وفرق بين هذا وبين الخيار والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية؛ لأن الأجل يثبت حقاً لصاحب الأجل وصاحب الحق يتمكن من إسقاطه من غير أن يتوقف ذلك على رضا غيره كذا هاهنا وصاحب الحق يتمكن من إسقاطه من غير أن يتوقف إلي.

ثمّ فرق بين بيع الدراهم (بالدراهم) والدنانير بالدنانير وبيع الفلوس بالدراهم أو بالدنانير، حيث لم يشترط في بيع الفلوس بالدراهم أو بالدنانير قبض البدلين قبل الافتراق، ويكتفي بقبض أحد البدلين. والفرق: أن قضية القياس أن لا يجب قبض البدلين كما في سائر العقود التي ليست بصرف، وإن كان العقد صرفاً قبل الافتراق لكن عرفنا اشتراطه في عقد الصرف وهو بيع الدرهم بالدرهم وبيع الدينار بالدينار وبيع أحد الجنسين بالآخر بالنص، والنص الوارد ثمة لا يكون وارداً في بيع الفلس بالدراهم؛ لأن ثمة الفلوس دون ثمنية الدراهم والدنانير؛ لأن ثمنية الفلوس عارضة على شرف الزوال بالكساد فرد بيع الفلس بالدراهم أو بالدنانير على أصل القياس. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا اشترى فلوساً بدراهم على أن بائع الدراهم بالخيار فدفع الدراهم ولم يقبض الفلوس حتى افترقا، فالبيع فاسد؛ لأن قابض الدراهم لم يملك الدراهم لما شرط الخيار لبائع الدراهم؛ لأن خيار البائع يمنع زوال المبيع عن ملكه فكأنهما افترقا من غير قبض أصلاً، وإن كان الخيار لبائع الفلوس وقد قبض الدراهم، فالبيع جائز؛ لأن بائع الفلوس يملك الدراهم ههنا بالقبض، لأنه مشتري الدراهم وخيار المشتري لا يمنع الملك له فيما اشترى، فلا يمنع صحة القبض، وقد وجد قبض أحد البدلين، وإنه كافٍ في بيع الفلوس بالدراهم أو الدنانير، وعلى قول أبي حنيفة: ينبغي أن لا يجوز هذا العقد؛ لأن عنده خيار الشرط كما يمنع ثبوت الملك للبائع في البدل الذي من جانب المشتري يمنع ثبوت الملك للمشتري في البدل الذي من جانب صاحبه، فلا يملك مشتري الدراهم بالقبض فيتحقق الدينية من الجانبين. ولو شرط النّساء في أحد البدلين في بيع الدراهم بالدنانير، وأشباه ذلك ثم إن المشروط له النسيئة نقد البعض دون البعض فسد البيع في الكل في قول أبي حنيفة، وذلك بأن يشتري ديناراً بعشرة دراهم إلى شهر فنقد خمسة ثم افترقا لا يجوز في حصة الخمسة، فإن اشترى بخمسة نقد وبخمسة نسيئة فنقد الخمسة فافترقا فالصرف فاسد كله؛ لأن العقد وقع على الفساد، ولو نقد العشرة كلها جاز وهذا نقض لما كان قبله ذكر المسألة على هذا الوجه في «المنتقى» . وفي «القدوري» : لو اشترى ديناراً بعشرة دراهم بعينه ثم نقد بعض العشرة دون البعض فسد البيع في الكل في قول أبي حنيفة، وعندهما يصح بمقدار ما قبض ولو قبض الدراهم وهي مستحقة فالقبض صحيح، وإذا أجازه المالك ينفذ. ومما يتصل بهذا الفصل معرفة حد التفرق فاعلم بأن التفرق الذي يوجب بطلان عقد الصرف قبل التقابض فيأخذ كل واحد منهما في جهة أو يذهب أحدهما ويبقى الآخر، فهذا تفرق معتبر يوجب بطلان العقد سواء أكان البيع ديناً بدين كالدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير أو أحدهما بصاحبه. أو كان عيناً بعين كالأواني والقلب وهذا؛ لأن القلب والآنية وإن كان يتعين بالتعيين إلا أن معنى الثمنية لا تبطل بالصنعة؛ لأن هذا معنى

لازم بأصل التخليق فألحق بجنسه وهو الدراهم والدنانير، فيشترط قبض البدلين في المجلس كما في الدراهم والدنانير. ولو قاما عن مجلس الصرف فذهبا معاً في جهة واحدة فرسخاً أو ما أشبهه ثم تقابضا قبل أن يفارق أحدهما صاحبه جاز العقد، وهذا دليل على أن المعتبر التفرق بالأبدان لا بالذهاب عن مجلس العقد، قال: وكذلك لو طال قعودهما في مجلس العقد أو ناما في مجلس العقد أو أغمي عليهما ثم تقابضا قبل أن يفارق أحدهما صاحبه جاز هكذا ذكر القدوري في «كتابه» . وذكر مسألة النوم والقعود والإغماء علي بن الجعد عن أبي يوسف على نحو ما ذكر القدوري، وذكر ابن رستم عن محمد مسألة الذهاب معاً ميلاً أو أكثر على نحو ما ذكر القدوري، وذكر مسألة النوم بخلاف ما ذكر القدوري فقال: إذا ناما أو نام أحدهما فهذه فرقة، ولو ناما جالسين لم تكن فرقة. وعن محمد رواية أخرى: إذا نام طويلاً بطل الصرف، وإن كان يسيراً فهو على صرفه فهذه المسألة دليل أيضاً أن العبرة للتفرق بالأبدان، والأصل في ذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال «وإن استنظرك أن يدخل بيته فلا تنتظره» ، وقال أيضاً: (146أ3) وإن وثب من سطح فثب معه، وكذلك إذا قام أحدهما عن المجلس وبقي الآخر كذلك لا يبطل الصرف ما لم يتفرقا؛ لأنهما لو قاما معاً لا يبطل الصرف فإذا قام أحدهما أولى. قال القدوري في «كتابه» : ولا يشبه هذا خيار المخيرة، يريد به: أن خيار المخيرة يبطل بالقيام عن المجلس؛ لأن خيار المخيرة يبطل بالإعراض والقيام عن المجلس دليل الإعراض. قلنا: بطلان الصرف بالافتراق بالأبدان قبل قبض البدلين، وذلك يتحقق بمجرد قيام أحدهما أو قيامهما عن المجلس. وعن محمد رحمه الله رواية أخرى: أنه جعل الصرف بمنزلة خيار المخيرة حتى قال: يبطل بما هو دليل الإعراض كالقيام عن المجلس والنوم طويلاً وأشباه ذلك. وعن محمد: إذا كان لرجل على غيره ألف درهم ولذلك الغير عليه مئة دينار فأرسل من عليه الدراهم إلى صاحبه رسولاً، وقال: بعتك الدنانير التي عليك بالدراهم التي لك علي فقال صاحبه: قد قبلت فهو باطل علل، قال: من قبل أنهما تصارفا وهما مفترقان ومعنى هذا الكلام أن عبارة الرسول تنتقل إلى المرسل، فكأن المرسل باشر البيع مع صاحبه وهما مفترقان، إلا أن الافتراق في غير الصرف ليس بضائر. وعن محمد فيمن قال لقوم: اشهدوا أني اشتريت من ابني الصغير هذا الدينار بعشرة دراهم، ثم قام قبل أن يزن العشرة فهو باطل؛ لأنه لا يمكن اعتبار الافتراق بالأبدان؛ لأن العاقد هو فيعتبر المجلس والله أعلم.

الفصل الثاني: في بيع الدين بالدين وبالعين

الفصل الثاني: في بيع الدين بالدين وبالعين وإذا باع الرجل ديناراً بدراهم وليس عند هذا دراهم، ولا عند ذلك الدينار فنقد هذا الدراهم، وذلك الدينار وتقابضا قبل أن يفترقا جاز. فرق بين هذا وبينما إذا باع مكيلاً ليس عنده من آخر تمكيل ليس عند الآخر، ونقد كل واحد منهما ما باعه وتقابضا حيث لا يجوز، والفرق: أن في مسألة المكيل ما يقع عليه لفظ البيع مبيع فيصير بائعاً ما ليس عنده، وذلك لا يجوز أما في مسألة الدراهم بالدنانير يصير مشترياً بما ليس عنده، والشراء بما ليس عند الإنسان صحيح. وروى الحسن عن أبي حنيفة: إذا اشترى فلوساً بدراهم وليس عند هذا فلوس ولا عند هذا دراهم، ثم إن أحدهما دفع وتفرق جاز؛ لأن كل واحد منهما ثمن فيصير كل واحد منهما مشترياً بثمن ليس عنده وذلك جائز، وإنما اكتفى بنقد أحدهما لما ذكرنا قبل هذا: أن في بيع الفلوس بالدراهم يكتفي بقبض أحد البدلين قبل الافتراق. وإن لم ينقد واحد منهما حتى تفرقا لم يجز؛ لأن هذا دين بدين، فإذا اشترى ديناراً بدراهم وليس عند هذا دينار ولا عند هذا دراهم فنقد أحدهما وتفرقا لم يجز؛ لأن هذا صرف، وفي الصرف يشترط قبض البدلين قبل التفرق، ولو باع تبر فضة بفلوس بغير أعيانها وتفرقا قبل أن يتقابضا فهو جائز؛ لأن الدين هاهنا بمنزلة العروض، فكأنه باع عرضاً بفلوس بغير أعيانها، وهناك لا يشترط التقابض كذا هاهنا ولم يكن الدين عنده لم يجز بمنزلة ما لو باع عرضاً ليس عنده بفلوس، وإذا اشترى شيئاً بدين وهما يعلمان أنه لا دين عليه لا يجوز الشراء، ويكون هذا بمنزلة ما لو اشترى بغير ثمن؛ لأنه سمى ما لا يصير ثمناً، ولو اشترى بدين مظنون ثم تصادقا على أنه لا دين فالشراء صحيح بمثل ذلك الدين. الفصل الثالث: في الساعات التي يشترط فيها قبض البدلين حقيقةوما يكتفي فيه بقبض أحدهما حكماً، وما يكتفي منها بقبض أحدهما حقيقة، وما لا يكتفي مسائل هذا الفصل قد ذكرناها بتمامها في أول الفصل السادس من البيوع فلا نعيد ذكرها.

الفصل الرابع: في الدراهم المغشوشة تباع بالفضة الخالصةوفي الدراهم المغشوشة يشتري بها متاع وزنا أو عددا بعينها أو بغير عينها

الفصل الرابع: في الدراهم المغشوشة تباع بالفضة الخالصةوفي الدراهم المغشوشة يشتري بها متاع وزناً أو عدداً بعينها أو بغير عينها مسائل هذا الفصل وقد ذكرنا في أول الفصل السادس من البيوع فلا نعيدها. الفصل الخامس: في الفلوس بعض مسائل هذا الفصل ذكرنا في أول الفصل السادس من البيوع أيضاً: فذكر هاهنا ما لم يذكر ثمة، فمن جملة ما لم يذكر ثمة: إذا اشترى الرجل متاعاً بعينه أو فاكهة بعينها بفلوس ليست عنده فهو جائز؛ لأن الفلوس كالدراهم والدنانير، ولو اشترى شيئاً بعينه مما ذكرنا بدراهم أو بدنانير ليست عنده جاز الشراء كذا هاهنا. وإذا اشترى متاعاً بعينه بفلوس بعينها فله أن يعطي غيرها مما يروج بين الناس لما ذكرنا أن الفلوس ثمن، فصار الشراء بالفلوس بمنزلة الشراء بالدراهم. ولو اشترى متاعاً بعينه بدراهم بعينها كان له أن يعطي مثل تلك الدراهم كذا هاهنا. فإن قيل الفلوس إنما صارت ثمناً باصطلاح الناس لا بالشرع، فإذا عينا الفلوس في العقد فقد قصدا تعليق العقد بالمعين وجعله مثمناً يجب أن يبطل الاصطلاح على الثمينة في حقهما، كما قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله فيمن باع فلساً بعينه بفلسين بأعيانهما، فإنه يجوز وينفسخ الاصطلاح على الثمينة في حقهما تحقيقاً لجواز البيع إذ لا يجوز هذا البيع مع بقاء الثمينة. والجواب عن هذا الإشكال أن يقال: إن التعيين محتمل، يجوز أن يكون لتعليق العقد بالمعين، ويجوز أن يكون لبيان قدر الواجب وصفته فكأنه قال: بعت منك بمثل هذه الفلوس، فإن كان البيع لتعليق العقد به ينفسخ ذلك الاصطلاح السابق، وإن كان لبيان القدر الواجب في الذمة وصفته لا ينفسخ الاصطلاح السابق، فلا ينفسخ الاصطلاح بالاحتمال حتى لو تصادقا أنهما قصدا تعليق العقد بعينه يقول بأنه يبطل ذلك الاصطلاح وتصير الفلوس مثمناً لا يجوز للمشتري أن يعطي البائع مثلها، وفيما إذا أورد من المسألة الاصطلاح على الثمنية لم يبطل بسبب التعيين لكون التعيين محتملاً على ما ذكرنا، كما في هذه المسألة، وإنما بطل الاصطلاح ثمة مقتضى جواز البيع؛ لأن البيع لا يجوز وهما ثمنان؛ لأن بيع الثمن واحد باثنين لا يجوز كبيع الدرهم بالدرهمين، وهاهنا الجواز ثابت من غير يقين، فإن بيع المتاع بفلوس في الذمة جاز فلا تبطل الثمنية لا مقتضى جواز البيع ولا مقتضى التعين ولو أعطى تلك الفلوس فافترقا ثم وجد فيها فلساً لا يتفق فرده

واستبدله هل ينتقض العقد. ففي هذه الصورة وهو ما (146ب3) إذا كان الفلوس ثمن متاع لا يبطل العقد سواء كان المردود قليلاً أو كثيراً استبدل أو لم يستبدل؛ لأن أكثر ما فيه أن القبض في الفلوس قد انتقض بالرد وصار كأن لم يكن إلا أنه لو لم يقبض الفلوس وافترقا لا ينتقض العقد؛ لأن الافتراق حصل عن عين بدين كذا هاهنا. وإن كانت الفلوس ثمن الدراهم فهو على وجهين: إما إذا كانت الدراهم مقبوضة أو لم تكن مقبوضة، فإن كانت الدراهم مقبوضة ورد الذي لا يتفق واستبدل أو لم يستبدل فالعقد باق على الصحة؛ فكذلك لو وجد الكل في هذه لا تتفق الصورة فردها واستبدل، فالعقد باق على الصحة؛ لأن أكثر ما فيه أن قبض الدراهم ينتقض بالرد، ويصير كأن لم يكن فكأنه لم يقبض الفلوس، ولكن لو لم يقبض الفلوس والدراهم مقبوضة فافترقا لا ينتقض العقد لما ذكرنا أن بيع الفلوس بالدراهم يكتفى بقبض أحد البدلين قبل الافتراق. فإن لم تكن الدراهم مقبوضة إن وجد كل الفلوس لا تتفق فردها بطل العقد في قول أبي حنيفة وزفر، استبدل في مجلس الرد أو لم يستبدل، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إن استبدل في مجلس الرد فالعقد صحيح على حاله، وإن لم يستبدل انتقض العقد، وإن كان البعض لا يتفق فردها، فالقياس: أن ينتقض بقدره قليلاً كان أو كثيراً، استبدل في مجلس الرد أو لم يستبدل في قول أبي حنيفة وهو قول زفر رحمهما الله، ولكن أبا حنيفة استحسن في القليل إذا رده واستبدل في مجلس الرد أن لا ينتقض العقد أصلاً. واختلفت الروايات عن أبي حنيفة في تحديد القليل، فقال في روايته: إذا زاد على النصف فهو كثير وما دونه قليل، في رواية: إذا بلغ النصف فهو كثير، وفي رواية قال: إذا زاد على الثلث وقال أبو يوسف ومحمد: إذا ردها واستبدل في مجلس الرد لا ينتقض العقد قليلاً كان المردود أو كثيراً، هذا إذا كانت الفلوس فلوساً قد تروج وقد لا تروج، فأما إذا كانت الفلوس فلوساً لا تروج بحال، وقد تفرقا فرد الفلوس، ينتقض العقد استبدل في المجلس أو لم يستبدل، فإن وجد بعض الفلوس بهذه الصفة فرد ينتقض العقد بقدره استبدل في مجلس الرد أو لم يستبدل. وإذا اشترى الرجل بدانق فلساً أو بقيراط فلساً، فهذا جائز استحساناً هكذا ذكر في «الأصل» . قال شمس الأئمة الحلواني: هذا إذا كان الدانق أو القيراط معلوماً فيما بين الناس لا يختلف في معاملاتهم، فإذا كان مختلفاً يأخذ بعضهم عشرة وبعضهم تسعة لا يجوز العقد لمكان المنازعة، ولم يذكر شيخ الإسلام خواهرزاده وشمس الأئمة السرخسي هذا الفصل على هذا التفصيل في شرحهما. ولو اشترى شيئاً (بدرهم فلوس) قال في «الكتاب» : كان مثل ذلك في القياس والاستحسان الذي ذكرنا في الدانق أنه يجوز، ثم قال: وهو في الدراهم فحش ولم ينص على الجواز وعدم الجواز، وقال زفر: لا يجوز فيهما، وقال أبو يوسف: إنه يجوز

فيهما. وروى هشام عن محمد: أنه يجوز فيما دون الدراهم ولا يجوز في الدراهم. وجه قول زفر: أن الدانق والدرهم ذكر الوزن والفلوس عددي فيلغو ذكر الوزن ويبقى ذكر الفلوس ومجرد ذكر الفلوس من غير ذكر العدد لا يكفي لجواز العقد. وأبو يوسف رحمه الله يقول بذكر الدانق والدرهم يصير عدد الفلس معلوماً؛ لأن قدر ما يؤخذ الدرهم من الفلوس معلوم في السوق، وكذلك قدر الدانق من الفلوس معلوم في السوق، فتسمية الدرهم والدانق كتسمية ذلك العدد في الإعلام على وجه لا تتمكن المنازعة فيه بينهما. ومحمد يقول فيما دون الدرهم ذكر الاستعمال للعبارة عما يوجد بدون عدد الفلوس فيقام مقام تسمية ذلك العدد، أما في الدراهم وما فوق ذلك لم يكثر استعماله للعبارة عما يوجد به من الفلوس، فلا يقام هو مقام تسمية ذلك العدد فبقي عبارة عن الفضة؛ لأن مطلق اسم الدانق يقع على الدانق من الفضة، ألا ترى أنه لو قال لغيره: بعتك هذا بدانق ينصرف إلى الدانق من الفضة، فإذا ذكر بعد ذلك الفلوس صار تقدير المسألة كأنه قال: بعتك هذا بدانق فضة على أن تعطيني مقام الفضة فلوساً فيكون هذا صفقة في صفقة فلا يجوز. قال: إذا أعطى رجل رجلاً درهماً، وقال: أعطني بنصفه كذا فلساً وبنصفه درهماً صغيراً، وزنه نصف درهم، فهذا جائز؛ لأنه جمع بين عقدين كل واحد منهما يجوز حالة الإنفراد؛ لأنه جمع بين عقد الصرف وعقد البيع؛ لأن ما يخص الدرهم الصغير من الدرهم الكبير صرف، وما يخص الفلوس من الدرهم الكبير بيع فنحكم بالجواز حالة الاجتماع، فإن تفرقا قبل قبض الدرهم الصغير والفلوس، فالعقد قائم في الفلوس منتقض في حصة الدرهم الصغير؛ لأن في حصة الدرهم الصغير صرف، وقد افترقا قبل قبض أحد البدلين، وفي حصة الفلوس العقد بيع، وقد قبض بدله من الدرهم الكبير، ففي حصة الفلوس افتراق العقد حصل عن عين بدين، فإن لم يكن دفع الدرهم الكثير حتى افترقا بطل البيع في الكل. ولو قال: أعطني بنصف هذا الدرهم كذا كذا فلساً، وأعطني بنصفه درهماً صغيراً وزنه نصف درهم إلا حبة، فإن العقد يفسد كله عند أبي حنيفة، وعندهما يجوز في حصة الفلوس وهذا؛ لأن العقد فسد في الدرهم الصغير لمكان الربا، فإن مقابله نصف درهم إلا حبة يكون رباً، ومن أصل أبي حنيفة أن العقد إذا فسد بعضه يعني الربا يفسد الكل عرف ذلك في كتاب البيوع. وكان الفقيه أبو بكر الأعمش، والشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمهم الله يقولون: الصحيح أن العقد يجوز في حصة الفلوس عندهم جميعاً على ما عليه وضع المسألة في «الأصل» ؛ لأن الصفقة صفقتان على ما عليه وضع المسألة في «الأصل» أعطني بنصفه كذا فلساً وأعطني بنصفه الباقي درهماً صغيراً، فإذا تكرر قوله أعطني تكرر العقد ففساد أحدهما لا يوجب فساد

الفصل السادس: في خيار الرؤية والرد بالعيب والاستحقاق في باب الصرف

الآخر بمنزلة ما لو قال لغيره: بعني بنصف هذه الألف عبداً، وبعني بنصفها كذا كذا رطلاً من خمر، وهناك لا يبطل العقد في العبد، وإن بطل في الخمر لما كانت الصفقة متفرقة. وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني والفقيه مظفر بن اليمان والشيخ الإمام شيخ الإسلام خواهرزاده: أنهم صححوا ما ذكر في «الكتاب» ، ووجه ذلك: أن الصفقة متحدة هاهنا؛ لأنها لو تفرقت تفرقت بتكرر قوله أعطني مساومة وبتكرار المساومة لا يتكرر البيع، ألا ترى أن بذكر المساومة لا ينعقد البيع ما لم يقل: اشتريت، وإذا كان (147أ3) لا ينعقد البيع ما لم يقل اشتريت، وإذا كان لا ينعقد البيع بذكر المساومة فبتكراره كيف يتكرر العقد فكانت الصفقة واحدة والتقريب ما ذكرنا. ولو قال: أعطني به كذا وكذا فلساً ودرهماً صغيراً، وزنه نصف درهم إلا قيراطاً كان ذلك كله جائز بخلاف المسألة الأولى، في المسألة الأولى صرح بالفساد حيث جعل بإزاء الدرهم الصغيرة نصف درهم من الدرهم الكبير إلا حبة، والعاقدان متى صرحا بفساد العقد لا يحمل على وجه الصحة، أما في هذه المسألة لم يصرحا بفساد العقد، فإنه لم يتيقن للدرهم الصغير حصة الدرهم الكبير، فإنه لم يقل وأعطني بنصف الدرهم الكبير درهماً صغيراً وزنه مثل نصف الدرهم الكبير إلا قيراطاً فيجعل بإزاء الدرهم الكبير مثل وزنه، وذلك نصف درهم إلا قيراطاً، والباقي من الدرهم الكبير يجعل بإزاء الفلوس بخلاف المسألة المتقدمة على ما ذكرنا. ولو اشترى فلوساً بدرهم وافترقا، ثم وجد شيئاً من الفلوس مستحقاً ولم يجزه المستحق، فإن كان مشتري الفلوس نقد الدرهم، فإنه يستبدل مثله ويجوز العقد؛ لأن أكثر ما في الباب أن القبض في المستحق قد انتقض إلا أن الدراهم مقبوضة، وقد ذكرنا أن في بيع الفلس بالدرهم يكتفي بقبض أحد البدلين قبل الافتراق، ألا ترى أنه لو استحق كل الفلوس فردها أو لم يقبض الفلوس أصلاً حتى تفرقا، وكان مشتري الفلوس نقد الدرهم يبقى العقد على الصحة فههنا أولى، وإن لم يكن نقد الدرهم فالعقد ينتقض بقدر المستحق إن كان المستحق بعض الفلوس، وفي الكل إن كان المستحق جميع الفلوس؛ لأن القبض في المستحق قد انتقض فصار كأن لم يكن فكان الافتراق عن دين بدين، إما في الكل، وإما في البعض، وإذا وقع الشراء بالفلوس الرائجة وكسدت الفلوس قبل القبض، أو كان المشتري فلوساً وكسدت قبل القبض فقد ذكرنا هذه المسألة مع أخواتها وما يتصل بها في كتاب البيوع فلا يفيد ذكرها. الفصل السادس: في خيار الرؤية والرد بالعيب والاستحقاق في باب الصرف وإذا اشترى ديناراً بعشرة دراهم وتقابضا، ثم وجد مشتري الدراهم الدراهم كلها (مستحقة) ، فإن كانا في مجلس العقد يتوقف على إجازة المستحق، فإن أجاز جاز، وإن لم

يجز بطل القبض وصار كأنه لم يكن، فإن قبض دراهم أخرى في مجلس العقد فالصرف صحيح ويجعل كأنه أخر القبض إلى آخر المجلس، وإن لم يقبض بطل العقد، وإن وجدها ستوقة وكان ذلك في مجلس العقد ليس له أن يجوز به؛ لأن الستوقة ليست من جنس بدل الصرف، فيصير مستبدلاً ببدل الصرف قبل القبض، وإن لم يجوز ورده إن استبدل في المجلس جاز وجعل كأنه أخر القبض إلى آخر المجلس، وإن وجدها زيوفاً أو نبهرجة، وكان ذلك في مجلس العقد إن تجوز به المسلم إليه جاز؛ لأن الزيوف من جنس بدل الصرف؛ لأن الزيوف ما كان الفضة فيه غالباً على الغش والعبرة للغالب، فكان الكل فضة فالتجوز به لا يصير مستبدلاً ببدل الصرف، وإن رده واستبدله في مجلس العقد جاز، وإن افترقا قبل الاستبدال بطل الصرف، وأما إذا وجدها أو بعضها مستحقة وكان ذلك بعد الافتراق بأبدانهما إن أجازه المستحق وكانت الدراهم قائمة جاز؛ لأن خيار الإجازة لا يمنع صحة القبض على سبيل التوقف فلا يتبين أن الافتراق حصل من غير قبض بدل الصرف، وإذا صح القبض على سبيل التوقف جاز بإجازته إذا كان رأس المال قائماً، وإذا رد بطل الصرف كله إن كان الكل مستحقاً، وإن كان البعض مستحقاً بطل الصرف بقدره قلّ أو كثر؛ لأن القبض في المستحق موقوف بين أن يكون قبض رأس المال متى أجاز، وبين أن لا يكون قبض رأس المال متى لم يجز. والموقوف بين شيئين إذا تعين أحدهما كان هو الثابت من الأصل، فكان قبض رأس المال لم يوجد أصلاً، وأما إذا وجدها ستوقة أو وجد شيئاً منها ستوقة وكان ذلك بعد الافتراق بأبدانهما إن وجد الكل ستوقة بطل الصرف كله، وإن وجد البعض ستوقة بطل الصرف بقدره تجوز به، أو رده واستبدل مكانه أو لم يستبدل لما ذكرنا أن الستوقة ليست من جنس الدراهم، فتبين أن الافتراق حصل قبل قبض كل بدل الصرف أو قبل قبض بعضه. وفي «نوادر ابن سماعة» وضع هذه المسألة في الإناء فقال: رجل باع من آخر إناء فضة وزنها عشرة بعشرة وتقابضا وتفرقا، ثم وجد بائع الإناء نصف الدنانير ستوقة ردها وله نصف الإناء وللمشتري نصف الإناء وزاد فيه فقال: ولا خيار للمشتري وعلل وقال: لأن هذا جاء من قبله حين لم يستوف الثمن جياداً قبل أن يفارقه، وإن وجدها زيوفاً أو وجد بعضها زيوفاً وكان ذلك بعد الافتراق بأبدانهما، وإن رده إن لم يستبدل في مجلس الرد يبطل الصرف في المردود بلا خلاف، وإن استبدل في مجلس الرد القياس أن يبطل الصرف في المردود وبه أخذ زفر في الاستحسان لا يبطل. والاختلاف في هذا نظير الاختلاف في رأس مال السلم إذا وجده المسلم إليه مستحقاً أو ستوقة أو زيوفاً، وقد ذكرنا الحجج في مسائل السلم في كتاب البيوع، ثم اتفقت الروايات عن أبي حنيفة: أن ما زاد على النصف كثير، وفي النصف روايتان، في رواية جعله كثيراً، وفي رواية جعله قليلاً، وفي رواية قال: إذا زاد على الثلث فهو كثير وقد مر هذا في كتاب البيوع أيضاً.

وإذا اشترى الرجل سيفاً محلى بدراهم أكثر مما فيه وتقابضا وتفرقا ثم وجد بالسيف عيباً في جفنة أو نصله أو حمائله، فله أن يرد الكل ما وجد فيه العيب وما لم يجد؛ لأنه شيء واحد، وإن رده وقبله صاحبه بغير قضاء قاض، ثم فارقه قبل أن يقبض البدل بطل الرد عند علمائنا الثلاثة وعاد العقد على حاله، وقال زفر: لا يبطل الرد وعلى هذا الخلاف إذا تقايلا الصرف ثم افترقا قبل قبض البدل بطلت الإقالة عند علمائنا الثلاثة قالوا: الإقالة بعد القبض والرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء فسخ من وجه بيع جديد من وجه فاعتبرنا بيعاً جديداً في حق وجوب قبض البدل بعد الإقالة قبل الافتراق. قلنا: إذا افترقا بعد الإقالة قبل قبض بدل الصرف تبطل الإقالة واعتبرناه فسخاً في حق جواز الاستبدال، فقلنا: إذا استبدل بعد الإقالة ببدل الصرف يجوز عملاً بالمعينين جميعاً بقدر الإمكان، ولو كان الرد بالعيب بعد القبض بقضاء ثم افترقا قبل أن يقبض البدل لا تبطل الإقالة؛ لأن الرد بالعيب بعد القبض فسخ في حق الكل وقبض البدل إنما يجب بحكم عقد الصرف لا بحكم فسخ الصرف ولا كذلك الرد بعد القبض بغير قضاء (147ب3) . ولو اشترى حلي ذهب فيه جوهر مفضض فوجد بالجوهر عيباً، فأراد أن يرد الجوهر دون الحلي ليس له ذلك ويقال له: إما أن ترد الكل أو تترك الكل. وهذا لأن الانتفاع المقصود منه وهو انتفاع التحلي لا يتأتى إلا بالكل، فصار بالنظر إلى المقصود كان الكل شيء واحد، فهو بمنزلة ما لو اشترى مصراعي باب أو مصراعي خف وأراد أن يرد الذي وجد العيب به وحده لم يكن له ذلك والمعنى ما ذكرنا. ولو أن رجلاً اشترى من رجل إبريق فضة فيه ألف درهم بألف درهم، أو اشترى من رجل ألف درهم بمئة دينار وتقابضا، ثم وجد الدراهم ستوقة أو رصاصاً فردها فله أن يفارقه قبل قبض الثمن وقبل قبض الإبريق؛ لأن رد الدراهم حصل بحكم فساد الصرف بسبب الستوقة والرصاص صار فاسداً لحصول الافتراق قبل قبض أحد البدلين والرد بحكم الفساد فسخ من كل وجه. وإذا كان هذا الرد فسخاً من كل وجه صار نظير الرد بالعيب بقضاء القاضي، وهناك لا يضرهما الافتراق قبل قبض البدل فكذا ههنا، ولو كانت الدراهم زيوفاً فردها على قول أبي حنيفة رحمه الله إن لم يقبض الدنانير حتى تفرقا لم يضرهما ذلك؛ لأن الرد بالزيافة عند أبي حنيفة إذا كان كثيراً، والرد بالستوقة والرصاص سواء حتى لا يبقى العقد جائزاً، وإن استبدل في مجلس الرد؛ لأنه رد بسبب الفساد فيكون فسخاً من كل وجه. ولو اشترى إناء فضة فلا بيع بينهما؛ لأنه أشار وسمى، والمشار إليه من خلاف جنس المسمى، فيتعلق العقد بالمسمى، وإنه معدوم فلا يقع البيع، ولو كانت فضة سوداء أو حمراء فيها رصاص أو صفر، وهو الذي أفسدها فهو بالخيار، وإن شاء أخذها وإن شاء ردها وهذا؛ لأن المشار إليه من جنس المسمى فأرسله سمي لها فضة في الناس فيتعلق العقد، بالمشار إليه، وإنه موجود فيقع العقد إلا أن به عيب فيثبت الخيار للمشتري

لمكان العيب، ولو كانت الفضة رديئة من غير غش فليس له الرد؛ لأن حق الرد إنما يثبت لفوات المشروط. كما لو اشترى عبداً على أنه كاتب فوجده غير كاتباً، والنقصان يمكن في المعقود عليه بأن وجد المبيع ثابت الطرف أو ما أشبه ذلك ولم يوجد بشيء من ذلك، أما فوات المشروط؛ لأنه لم يشترط عند العقد إلا كون الإناء من الفضة، والإناء من الفضة كما لو شرط، وإما تمكن النقصان في المعقود عليه العين، وبسبب الرداءة لا يمكن النقصان في العين. يوضحه: أن العيب ما تخلوا عنه أصل الفطرة السليمة، وصفة الرداءة بأصل الخلقة، ألا ترى أن بالرداءة تنعدم صفة الجودة، وبمطلق العقد لا يستحق صفة الجودة، إنما يستحق صفة السلامة. فإذا اشترى إبريق فضة بذهب، ووجد به عيباً فهلك في يده أو حدث به عيب آخر، فله أن يرجع بنقصان العيب وهذا ظاهر، فلو كان الثمن فضة فلم يرجع بالنقصان. والفرق: أن الثمن كان من جنس الإبريق فمتى رجع بالنقصان يرجع بشىء من الثمن، وعند ذلك يظهر التفاضل فيتحقق الربا، وإذا كان الثمن من خلاف جنس الإبريق فمتى رجع بالنقصان لا يظهر التفاضل فلا يتحقق الربا. ولو اشترى ديناراً بعشرة وتقابضا والدراهم زيوف فأنفقه المشتري وهو لا يعلم فلا شيء له على البائع في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف رحمه الله: يرد مثل ما قبض ويرجع بالجياد. وقال القدوري في «شرحه» : والظاهر من قول محمد: أنه مع أبي يوسف، وذكر الكرخي قول أبي حنيفة رحمه الله مع محمد. فوجه قول أبي يوسف: أن صفة الجودة متقومه وقد أمكن استدراكه برد مثل المقبوض والرجوع بالجياد، فيرد مثل المقبوض ويستوفي ما كان حقاً له، ولأبي حنيفة: أن المستوفي في مثل جنس حقه أصلاً، إلا أن له حق الرد بسبب العيب، فيتعين المقبوض للرد؛ لأنه لو ردّ عيباً آخر فبقي لا يمكن تحقيق معنى الرد. ولو اشترى ديناراً بعشرة دراهم استحق نصف الدينار، رجع بنصف الدراهم وله نصف الدينار، ولا خيار له في الباقي؛ لأن الشركة في هذا ليس بعيب، وكذلك سر الفضة؛ لأن الشركة فيها ليس بعيب ولا يضرها التبعيض، ولو كان المبيع قلباً فاستحق البعض منه كان للمشتري أن يرد الباقي، إن شاء وإن شاء أمسكه بحصة؛ لأن الشركة ههنا عيب ويرد الباقي بعيب الشركة. ولو باع درهماً بدينار، ثم قال: برئت لك من كل عيب بهذا الدرهم فوجده ستوقاً لم يبرأ. والفرق: أن البراءة وقعت من عيب بالدراهم والزيف درهم قام به العيب الزيافة تحت البراءة، أما الستوقة ليست بدرهم فلا يمكن أن يجعل هذا واحداً تحت البراءة. وعن محمد فيمن قال: أبيعك هذه الدراهم وأراها إياه، ثم وجدها زيوفاً قال: ببدلها إلا أن يقول: هي زيوف أو يبرأ عن عيبها؛ وهذا لأنها وإن عينت لا تتعين، فصار

وجود التعيين والعدم بمنزلة، ومطلق الدراهم تنصرف إلى الجياد فاستحق صفة الجودة بمطلق الاسم، وقد فاتت صفة الجودة إذا وجدها زيفاً، فكان له أن يبدلها قال: إلا أن شراء عن عينها فحينئذٍ لا يبقى له خيار العيب. وعن محمد: فيمن اشترى ديناراً وتقابضا، ثم إن مشتري الدينار باع الدينار من ثالث، ثم وجد الثالث به عيباً فردها على الأوسط بغير قضاء، كان للأوسط أن يرده على الأول قال: ولا يشبه هذا العروض، والفرق: أن الدنانير المعيبة لا تملك بالعقد؛ لأنها لا تتعين في العقد بالتعيين، وإنما يقع العقد على دراهم في الذمة، والملك في المعيبة يثبت بالقبض، وقد انتقض قبض الثالث بالرد فعاد إلى الأوسط قد تم ملكه فكان له الرد، فأما العروض، فإنها تملك بالعقد عيباً؛ لأنها تتعين بالتعيين في العقد، فإنما يعود إلى البائع بفسخ ذلك المبيع بالرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء إن كان فسخاً في المتعاقدين فهو عقد جديد في حق الثالث، فلم يعد إلى الأوسط قد تم ملكه في حق البائع الأول، فلا يكون له الرد على البائع الأول. قال القدوري في «شرحه» : وليس في الدنانير والدراهم خيار الرؤية إذا كان الكل نوعاً واحداً، وكذلك سائر الديون في العقود وهذا؛ لأن الرد في خيار الرؤية لا يفيد إما؛ لأنه ينفسخ العقد بالرد؛ لأن العقد لم يرد على هذا المعين فكيف ينفسخ العقد برده؛ أو لأنه لو رده يأخذ مثله فيثبت له خيار الرؤية أيضاً، وكذلك في الكرة الثالثة فيؤدي إلى ما لا يتناهى، ولو كان شيئاً بعينه إناءً أو تبراً أو حلياً مصوغاً، فله أن يرد بالعيب وخيار الرؤية؛ (148أ3) لأن الرد بخيار الرؤية ههنا مقيد؛ لأنها تتعين في العقد فينفسخ العقد فيه بالرد بخيار الرؤية، ولو استحق بعضه وهو بعينه قبل القبض أو بعده، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ ما بقي بالحصة، وإن شاء ترك فإن استحق ولم يحكم به للمستحق حتى أجاز المستحق جاز وكان الثمن فيما أجازه للمستحق يأخذه البائع ويسلمه إليه؛ وهذا لأن الظاهر الرواية العقد الذي جرى بين البائع والمشتري لا ينفسخ بمجرد الاستحقاق، وكذلك بحكم القاضي وسيأتي ذلك في «أدب القاضي» إن شاء الله. وإذا لم ينفسخ ذلك العقد بمجرد الاستحقاق تلحقه الإجازة من المستحق، ويصير كان للعقد من الابتداء ورد بأن المستحق فيصير البائع وكيلاً من جهته وحقوق العقد تتعلق بالوكيل فيأخذ البائع الثمن من المشتري ويدفع إلى المستحق لهذا، وعن أبي يوسف: أن المستحق إذا قال عند الخصومة: أنا أقيم البينة لآخر العقد فحكم له أجاز بإجازته، وإن لم يقل ذلك لم يجز وههنا روايات أخر وسيأتي جملة ذلك في «أدب القاضي» . ومما يتصل بهذا الفصل إذا اشترى ديناراً بعشرة دراهم وتقابضا ثم جاء بائع الدينار بدراهم زيوف وقال: وجدتها في ذلك الدراهم وأنكر مشتري الدينار أن تكون هذه الدراهم من دراهمه، فالمسألة على وجوه: إما إن أقر بائع الدينار قبل ذلك فقال: قبضت الجياد أو قال: قبضت حقي أو قال: قبضت رأس المال أو قال: استوفيت الدراهم أو قال: قبضت

الفصل السابع: في الرهن والحوالة والكفالة والصرف

الدراهم أو قال: قبضت ولم يرد عليه. ففي الوجه الأول والثاني والثالث والرابع: لا تسمع دعوى بائع الدينار وحتى لا يستحلف مشتري الدينار على ذلك؛ لأن بائع الدينار متناقض في هذه الدعوى. وفي الوجه الخامس: وهو إذا قال: قبضت الدراهم فالقول قول بائع الدينار وعلى مشتري الدينار البينة أنه أعطاه الجياد استحساناً. وجه ذلك: أن بائع الدينار بدعواه أنها من دراهمه وهي زيوف ينكر قبض حقه، ولم يسبق منه إقرار يناقض دعواه؛ لأن الذي سبق منه ليس إلا الإقرار بقبض الدراهم، ومطلق اسم الدراهم يتناول الزيوف فكان بائع الدينار قال: لم أقبض حقي، وقال مشتري الدينار: أوفيت حقك فكان القول قول بائع الدينار وكان على المشتري البينة أنه أوفاه. وكذلك الجواب في الوجه السادس: وهو ما إذا قال بائع الدينار: قبضت ولم يزد على هذه؛ لأنه لو قال: قبضت الدراهم كان القول قوله في دعوى الزيافة فههنا أولى، ولو قال: وجدتها ستوقة أو رصاصاً لا شك أن لا يقبل قوله في الوجوه الأربعة، ففي دعوى الستوقة والرصاص أولى. وكذلك في الوجه الخامس: لا يقبل قوله، وفي الوجه السادس يقبل قوله. فرق بين الوجه السادس وبين الوجه الخامس. والفرق: أن في الوجه الخامس بائع الدينار مناقض في دعوى الستوقة والرصاص، فكأنه أقر أنه قبض الدراهم ثم قال: لم أقبض الدراهم، أما في الوجه السادس: فهو ليس بمناقض في دعوى الستوقة والرصاص؛ لأنه ذكر القبض، أما ما ذكر شيئاً آخر والقبض يرد على الستوق والرصاص كما يرد على الجيد، فهذا هو الفرق بين الصورتين. الفصل السابع: في الرهن والحوالة والكفالة والصرف قال محمد: إذا اشترى الرجل من آخر عشرة دراهم بدينار فنقد الدينار واحد بالدراهم رهناً فهو جائز، يجب بأن يعلم بأن الرهن والحوالة والكفالة ببدل الصرف جائز عند علمائنا الثلاثة؛ لأن بدل الصرف دين فتصح الحوالة والكفالة والارتهان به كما في سائر الديون، فإذا جازت هذه التصرفات نقول بعد هذا إن قبض من المحتال عليه والكفيل قبل الافتراق أو هلك الرهن في يد المرتهن قبل الافتراق ثم الصرف بينهما ويعتبر قيام مجلس المتعاقدين ولا يعتبر افتراق الكفيل والمحتال عليه وعدم افتراقهما؛ لأن القبض من حقوق العقد فيتعلق بالمتعاقدين فيعتبر قيام مجلس المتعاقدين لا مجلس غيرهما. ولو افترق المتعاقدان والرهن قائم بطل الصرف؛ لأن الافتراق حصل قبل قبض أحد البدلين؛ لأن المرتهن إنما يصير مستوفياً ما وقع الارتهان به بعد الهلاك، فإذا افترق

قبل الهلاك فقد حصل الافتراق قبل قبض أحد البدلين فكان الصرف باطلاً، وإذا بطل الصرف بالافتراق بقي الرهن مضموناً على المرتهن بأقل من قيمته ومن الدين، وإن برئ الرهن عن الدين لما فسد الرهن بالافتراق؛ لأنه برئ يحلف فإن الدينار يعود إلى ملك المرتهن. والأصل: أن الراهن إذا أبرأ عن الدين يحلف لا يبطل ضمان الرهن، كما لو استوفى المرتهن الدين حقيقة، فإنه لا يبطل ضمان الرهن، وإن برئ الرهن عن الدين بإيفاء الدين؛ لأنه برئ يحلف فبقي ضمان الرهن على حاله كذا ههنا. بخلاف ما لو أبرأ المرتهن الراهن عن الدين حيث يبطل ضمان الرهن؛ لأن الراهن هناك برئ عن الدين من غير حلف، أما ههنا بخلافه أو يقول ضمان الرهن حكم يثبت بالقبض، والقبض باق على ما بطل عقد الصرف بالافتراق، فعند الهلاك يتم الاستيفاء فيما انعقد ضمانه بالقبض، وقد بطل العقد الموجب للاستيفاء فيلزمه رد المستوفي كما لو استوفاه حقيقة. قال: وإذا اشترى الرجل من آخر شيئاً محلى بدينار وقبض السيف ودفع الدينار، وهناك رهناً فالحكم ما ذكرنا في المسألة المتقدمة أنه رهن إن هلك الرهن قبل افتراقهما بقي الصرف على الصحة، فإن افترقا والرهن قائم بطل الصرف وبقي الرهن مضموناً بالأقل من قيمته ومن الدين لما ذكرنا. وإن حصل الارتهان بالسيف بأن نقد المشتري الدينار وأخذ السيف رهناً فهلك الرهن عنده قبل أن يفترقا، فإن بائع السيف على مشتري السيف ولا يصير مشتري السيف مستوفياً السيف بالهلاك؛ إما لأن الاستيفاء العين من العين لا يتصور؛ وإما لأن المرتهن إنما يصير مستوفياً حقه بالهلاك إذا صح الرهن، ولم يصح الرهن ههنا؛ لأن الرهن حصل بالعين وهو السيف فالرهن بالأعيان لا يصح على ما يأتي بيانه في كتاب الرهن إن شاء الله تعالى. وإذا لم يصر المرتهن مستوفياً السيف بهلاك الرهن يؤمر بائع السيف رد السيف على المشتري كما الرهن، ويضمن المرتهن للراهن الأقل من قيمة السيف ومن الرهن؛ لأن الرهن بالعين فاسد وليس بباطل والفاسد من العقود بعد القبض ملحق بالصحيح في حق إفادة حكمه ما أمكن كما في البيع الفاسد، ولم يمكن اعتباره بالصحيح في حق الضمان بأن يجعله مضموناً بالعين الذي حصل به الارتهان فيجعله مضموناً بالأقل من قيمته ومن قيمة العين الذي ارتهن به أو يقول قبض (148ب3) الرهن ههنا حصل بجهة الاستيفاء، والمقبوض على جهة الشيء كالمقبوض على حقيقته في الضمان فجعلنا الرهن مضموناً، وجعلناه مضموناً بالأقل من قيمته من السيف كما ذكرنا. قال: وكذلك لو كان مكان السيف منطقة أو سرج مفضض، أو إناء مصوغ أو فضة تبر، وهذا دليل على أن التبر يتعين بالتعيين في العقد، فإنه جعله كالسيف، فإنه لا يجوز أخذ الرهن بعينه.

الفصل الثامن: في الحط عن بدل الصرف والزيادة فيه

الفصل الثامن: في الحط عن بدل الصرف والزيادة فيه قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى الرجل سيفاً محلى بمئة درهم وحلية السيف خمسون وتقابضا، ثم إن بائع السيف حط عن ثمنه درهماً فهو جائز؛ لأن الحط تعلق بأصل العقد، ويخرج ذلك المحطوط من أن يكون ثمناً مكانه من الابتداء، وباع السيف بتسعة وتسعين درهماً، فيكون بمقابلة الحلية مثل وزنها والباقي بمقابلة السيف. ولو أن رجلاً ابتاع من رجل قلب فضة فيه عشرة دراهم بعشرة دراهم وتقابضا، ثم إن بائع القلب حط عن ثمنه درهماً، وقبل المشتري وقبض الدراهم المحطوط من البائع فسد البيع كله في قول أبي حنيفة، وقول أبي يوسف ومحمد: الحط باطل، غير أن عند أبي يوسف لا يصير المحطوط هبة مبتدأ حق كان على مشتري القلب أن يرد الدرهم على بائعه والعقد الأول صحيح، وفي قول محمد: يصير ذلك هبة مبتدأة حتى كان للمشتري أن يمتنع عن تسليم الدراهم إلى البائع. وجه قول أبي يوسف ومحمد في بطلان الحط: أن الحط لو صح لبطل من حيث صح. بيانه: أن الحط لو صح التحق بأصل العقد فيصير العقد فاسداً من الأصل لمكان الربا، وإذا فسد العقد من الأصل، فهو معنى قولنا: أنه لو صح العقد لبطل من حيث صح فلا يصح بهذا الطريق. قلنا: أنه إذا حط جميع الثمن لا يصح حتى لا يفسد العقد؛ لأنه لو صح لبطل من حيث صح؛ لأنه يلتحق بأصل العقد ويبقى العقد بلا ثمن فلا يصح من الابتداء كذلك ههنا. فبعد هذا قال محمد رحمه الله: يجعل المحطوط هبة مبتدأة؛ لأن الحط لو صح حقيقة أفاد معنى الهبة وهو التمليك بغير عوض فعند تعذر تصحيحه بحقيقته يجعل كناية عن الهبة صيانة للتصرف عن الإلغاء وأبو يوسف لا يجعله هبة مبتدأة؛ إذ ليس في الحط معنى الهبة؛ لأن الهبة إيجاب ملك مبتدأ، والحط إخراج المحطوط عن الإيجاب وليس فيه إيجاب ملك مبتدأ. وأبو حنيفة يقول: إن تعذر تصحيح الحط بحقيقته؛ لأنه لو صح لبطل من حيث صح أمكن أن يجعل مجازاً عن إنشاء العقد بما وراء المحطوط. بيان هذا الكلام: أن في الموضع الذي صح الحط حقيقة بأن لم يكن ثمة ربا كان من حكمه أن يصير العقد الموجود بما وراء المحطوط من الأصل، فعند تعذر العمل بالحقيقة نجعل الحط كناية عن إنشاء العقد بما وراء المحطوط كأن البائع، قال لمشتري القلب ثانياً: بعتك هذا القلب بتسعة دراهم وقبل المشتري، وهناك ينفسخ العقد الأول

ويثبت الثاني، وإن كان انعقاد الثاني بوصف الفساد إلا أن الفاسد من البيع بمنزلة الصحيح حتى يقع الحنث في اليمين على أن لا يبيع بالبيع الفاسد فيرتفع الأول بالثاني كما كان الثاني صحيحاً. وهكذا نقول في حط جميع الثمن إنّ عند تعذر تصحيحه يجعل كناية عن حكمه إلا أن حكمه بغير ثمن قال: فإذا جعلناه كناية عنه صار كأن البائع قال للمشتري ثانياً: بعتك بغير شيء، ولو قال هكذا لا ينعقد الثاني ولا ينفسخ الأول؛ لأن انفساخ الأول حكم انعقاد الثاني هذا إذا حط بائع القلب عن ثمن القلب درهماً، وقبل البائع ذلك. فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: تصح الزيادة ويلتحق بأصل العقد ويفسد العقد كله، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمه الله: سوّى بين الحط والزيادة فحكم تصحيحهما والتحاقهما بأصل العقد وبفساد العقد بسببهما، وكذلك أبو يوسف سوى بين الزيادة والهبة فلم يصححهما لا بحقيقتهما ولا هبة مبتدأة، ومحمد رحمه الله فرق بين الزيادة والحط فصحح الحط هبة مبتدأة ولم يصحح الزيادة هبة مبتدأة. والفرق: أن الحط في معنى الهبة؛ لأن المحطوط يصير ملكاً للمحطوط عنه بغير عوض وليس في الزيادة معنى الهبة؛ لأن الزيادة لو صحت يلتحق بأصل العقد ويأخذ حصته من المبيع، والهبة تمليك بغير عوض، والتمليك بغير عوض لا يصلح كناية عن التمليك بعوض فلهذا افترقا. ولو اشترى قلب فضة وثوباً بعشرين درهماً وفي القلب عشرة دراهم وتقابضا، ثم حط البائع درهماً من ثمنها جميعاً، فإن المحطوط يكون عنهما بصفة في الثوب فيصح البيع في الثوب بحصة من العشرين، ويحط عن ثمنه نصف درهم وهذا بلا خلاف، وكذلك يصح نصف الحط في القلب عند أبي حنيفة رحمه الله حتى يفسد العقد في كل القلب؛ لأنه يكون بمقابلته أقل من وزنه إلا أن هذا فساد طارئ فلا يفسد العقد في حصة الثوب. وعلى قول أبي يوسف ومحمد: لا يصح الحط في حصة القلب إلا أن محمداً يجعله هبة مبتدأة، وهذا بخلاف ما لو قال البائع: حططتك درهماً عن ثمنها، ولم يقل جميعاً، فإن الحط يصح كله ويصرف إلى الثوب ويقع العقد جائزاً. ووجه الفرق بينهما: أنه قال: متى حططت عنك من ثمنها ولم يقل جميعاً، فلم يصرح بالفساد فيحتال بصحة الحط ما أمكن؛ لأن ظاهر عقله ودينه يحمله ذلك، وإنما قلنا: أنه لم يصرح بالفساد؛ لأنه وإن كنى عن سين بقوله: هما، إلا أنه يجوز أن يكني عن سين ويراد به أحدهما؛ وهذا لأن الكناية عن الجمع بصريح الجمع، وصريح الجمع يذكر ويراد به الخصوص فكذا الكناية عن الجمع. وإذا كان محتملاً عن الجمع، وإذا كان محتملاً للخصوص حمل عليه بظاهر عقله ودينه احتيالاً للصحة، بخلاف ما لو قال من ثمنها جميعاً؛ لأنه صرح بالفساد؛ لأنه لا يمكن حمله على أحدهما مع قوله جميعاً كلمة تأكيد، وكلمة التأكيد متى ذكر عقيب صريح الجمع، فإنها تذكر لمنع الخصوص لا فائدة له سوى ذلك كما في قوله: {فسجد الملائكة

كلهم أجمعون} (الحجر: 30) فكذا إذا ذكرت عقيب الكناية عن الجمع كان ذكرها لمنع الخصوص فحمل عليها، وإذا حمل عليها صار كأنه نص فقال: حططت عنك نصف درهم من ثمن القلب، ونصف درهم من ثمن الثوب، وهو قال: صرح بهذا كان ذلك تصريحاً منه بالفساد ههنا. فإن قيل: هذا يشكل بما إذا نقد عشرة وقال: هذا المنقود من ثمنها جميعها، فإنه يجعل المنقود من ثمن القلب استحساناً، وقد ذكر كلمة التأكيد عقيب الكناية عن الجمع، ولم يمنع ذلك الحمل على الخصوص. قلنا: ذكر كلمة التأكيد بعد الكناية (149أ3) عن الجمع في مسألة النقد لا يصح؛ لأنه لو لم يذكر كلمة التأكيد بأن قال: من ثمنها ولم يقل جميعاً لم يكن الخصوص ثابتاً من جهته، وإنما كان ثابتاً من جهة الشرع جعل الفضة مستحقة بالفضة في العقد، قال عليه السلام: «الفضة بالفضة» ، فكذا في القبض تكون مستحقة بالفضة شرعاً، لأن للقبض شبهاً بالعقد من حيث إن القبض يفيد ملك التصرف، كما أن العقد يفيد ملك الرقبة، وإذا كان التخصيص قبل ذكر كلمة التأكيد في مسألة النقد من جهة الشرع لم يمنع الخصوص بسببها، والعدم بمنزلة. ولو عدمت فإنه يجعل المنقود عن القلب فكذا إذا جعل ذكرها كعدمها بخلاف مسألة الحط؛ لأن هناك الخصوص ثابت بدون ذكر كلمة التأكيد من جهته بظاهر عقله ودينه؛ لأن الحط ليس ببيع، ولا هو في البيع، وإنما هو أخذ بعض الثمن من العقد بغير عوض يحصل للبائع. واستحقاق الفضة بالفضة ثابت شرعاً في البيع أو فيما هو في معنى البيع وهو القبض ولم يثبت استحقاق الفضة بجنسها شرعاً في الحط، فكان الخصوص في الحط بدون ذكر كلمة التأكيد ثابتاً من جهة العبد ولا من جهة الشرع، فجاز أن تعمل كلمة التأكيد من جهة العبد في منع الخصوص، وإذا امتنع الخصوص بذكر كلمة التأكيد انصرف الحط إليهما، والتحق بأصل العقد، فكأنه أنشأ البيع وقال: اشتريت منك هذا القلب بتسعة ونصف، ولو صرح بذلك يفسد العقد في القلب ولا يفسد في الثوب كذا هاهنا. قال: وإذا اشترى الرجل سيفاً محلى بخمسين درهماً وحلية السيف خمسون، ثم إن البائع حط عن ثمن السيف درهماً جاز الحط؛ وصرف الحط إلى ما راء الحط احتيالاً بتصحيح الحط؛ لأنه لم يصرح بالفساد لما حط عن ثمن السيف؛ لأن السيف كما يذكر ويراد به الحلية مع النصل، يذكر ويراد به ما وراء الحلية، وإذا كان ما ذكر محتملاً للخصوص خص منه الحلية وصرف الحط إلى ثمن النصل احتيالاً للجواز بظاهر عقله ودينه وأمكن القول به؛ لأنه تخصيص لإيفاء حكم في المخصوص لإتيان حكم آخر في المخصوص، فظاهر الحال حجة لإيفاء ما كان إن لم يصلح لرفع ما كان ثابتاً.

قال: ولو أن رجلاً اشترى آخر قلب فضة بعشرين ديناراً أو تقابضا، ثم إن بائع القلب حط عن المشتري عشرة دنانير فذلك جائز؛ لأن هذا الحط لو صح لا يبطل من حيث صح؛ لأنه يلتحق بأصل العقد، ويجعل من الابتداء كأنه باع قلب فضة بعشرة دنانير، وبيع القلب من الفضة بعشرة دنانير جائز كيف ما كان لاختلاف الجنس، ثم يبقى الحط جائزاً، وإن لم يقبض مشتري القلب قدر المحطوط من بائع القلب في مجلس الحط؛ لأن الحط ليس بصرف لا حقيقة ولا معنىً؛ لأنه إخراج بعض الثمن عن العقد من غير عوض يحصل للبائع، فإن قدر الحط يرجع إلى ملك المشتري من غير عوض، وإذا لم يكن فيه معنى البيع لا يمكن أن يعتبر صرفاً في حق الثالث فلا يجب القبض بخلاف الإقالة؛ لأنها بيع معنى فيمكن أن يعتبر صرفاً في حق الثالث فيجب القبض.g قال: وإذا اشترى قلب فضة فيه عشرة دراهم بدينار ثم إن أحدهما زاد صاحبه شيئاً ينطر إن زاد بائع القلب وكانت الزيادة ثوباً ورضي به مشتري القلب فالزيادة جائزة؛ لأن الزيادة لو صحت لا تبطل من حيث صحت؛ لأنها تلتحق بأصل العقد من الابتداء، ورد على قلب فضة فيه عشرة دراهم، وعلى ثوب بدينار بذلك وذلك جائز، فهاهنا كذلك. ولا يشترط قبض الثوب في المجلس؛ لأن ما يخص الثوب من الدينار بيع وليس بصرف، فإن كانت الزيادة ذهباً وكانت من قبل البائع ينطر إن كانت الزيادة ديناراً أو أكثر صحت الزيادة عند أبي حنيفة رحمه الله ويبطل العقد؛ لأن الدينار يكون بالدينار فيبقى القلب ربا، إن كانت الزيادة ديناراً ويبقى القلب مع شئ من الدينار ربا إن كانت الزيادة أكثر من الدينار. وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: لا تصح الزيادة ويبقى العقد على الصحة، وإن كانت الزيادة نصف دينار فهو جائز، وتلتحق الزيادة بأصل العقد، وصار كأنه باع قلب فضة ونصف دينار بدينار وذلك جائز، إلا أنه يشرط قبض الزيادة في مجلس الزيادة بدل الصرف. فإن قيل: كان ينبغي أن لا يصح العقد في الزيادة، وإن وجد قبض الزيادة في مجلس الزيادة، لأن الزيادة متى صحت التحقت بأصل العقد وصارت كالموجود لدى العقد، فإذا صارت كالموجود لدى العقد كأنه باع قلب فضة ونصف دينار بدينار، وقبض الدينار وسلم القلب ولم يسلم نصف الدينار حتى تفرقا، وهناك لا يصح العقد في الزيادة وهي نصف الدينار كذا هاهنا. والجواب: لأن الزيادة متى صحت التحقت بأصل العقد القائم وقت الزيادة، ولا يستند إلى وقت إنشاء العقد حتى لا يثبت الملك في الزيادة مستنداً إلى وقت إنشاء العقد، وإنما يثبت الملك في الزيادة من وقت شرط الزيادة وهذا؛ لأن ثبوت الزيادة وقول العاقد ردت، وإنه وجد الآن والحكم لا يثبت. فهو معنى قولنا: أن الزيادة لا تلتحق بإنشاء العقد السابق، وإنما تلتحق بأصل العقد القائم حكماً؛ وهذا لأن أصل العقد السابق قائم في الحال حكماً ولهذا يرد عليه الفسخ، وإذا التحقت بالزيادة بالعقد القائم وقت شرط الزيادة كان مجلس الزيادة في حق الزيادة كمجلس العقد، فلهذا يصح قبض الزيادة في

مجلس الزيادة، وإن لم يقبض الزيادة في مجلس الزيادة بطل العقد في الزيادة بما يخصها من الدينار؛ ولأن بعض الدينار صار بمقابلة الزيادة وقد بطل العقد في الزيادة فيبطل فيما يخصها من الدينار هذا إذا كانت الزيادة من بائع القلب ثوباً أو ذهباً. وإن كانت الزيادة من بائع القلب، فإنه يجوز وإن كثرت؛ لأنه يصير بائعاً القلب مع الفضة بدينار فيجوز كيف ما كان، وإن كانت الزيادة ذهباً، فإن كانت ديناراً أو أكثر جازت الزيادة، ويصير كأن مشتري القلب اشترى القلب بدينار أو بأكثر منهما وكل ذلك جائز، إلا أنه يشترط قبض الزيادة في مجلس الزيادة، وإن لم يقبضها بطل الصرف في القلب بحصة الزيادة من القلب صرف، فإذا لم يوجد قبض الزيادة في المجلس بطل الصرف في الزيادة فيبطل فيما يخصها من القلب ضرورة، وإن كان مشتري القلب زاد فضة، فإن كانت الفضة مثل القلب أو أكثر لا يجوز؛ لأن القلب يكون بمثله من الفضة فيبقى الدينار مع شئ من الفضة ربا، وإن كانت الفضة أقل من القلب يجوز وتصير الفضة بمثلها من القلب، والباقي من القلب يكون بإزاء الدينار فيجوز. وإذا اشترى سيفاً محلى فيه خمسون درهماً بمئة درهم وتقابضا، ثم زاد مشتري السيف درهماً أو ديناراً فهو جائز، وتصرف الزيادة إلى ما وراء الحلية وهو النصل بظاهر عقله ودينه احتيالاً للجواز، وإن تفرقا قبل قبض الزيادة لا تبطل الزيادة لما ذكرنا أن الزيادة في ثمن النصل لا في ثمن الحلية، ولو كان بائع السيف هو الذي زاد ديناراً صحت الزيادة وصار كأنه باع سيفاً فيه (149ب3) خمسون درهماً وديناراً بمئة درهم، فإن لم يقبض وتفرقا انتقض العقد في الدراهم بحصة الدينار لما ذكرنا أن من حيث المعنى، كأنه باع سيفاً فيه خمسون درهماً وديناراً بمئة درهم، فإن لم يقبض وتفرقا انتقض العقد في الدراهم بحصة الدينار لما ذكرنا أن من حيث المعنى، كأنه باع سيفاً فيه خمسون درهماً وديناراً بمئة درهم فخمسون درهماً من الثمن يكون بمقابلةِ الحلية، والخمسون الباقية تقسم على الدينار وعلى قيمة النصل، فما أصاب الدينار يجب رده؛ لأن العقد قد انتقض فيه بترك قبض الدينار في المجلس. قال في «الجامع» : إذا اشترى فضة بمئة دينار وتقابضا وهو قائم التقيا فزاد المشتري البائع في الثمن عشرة دنانير تصح الزيادة، ويشترط قبض الزيادة، ولا يشترط قبض الإبريق في الحال، وإن كانت الزيادة مقابل الإبريق في الحال إلا أن الزيادة للحال لا مقابل الإبريق حقيقة، وإنما مقابله تسمية؛ لأن الإبريق صار مملوكاً له بكماله بأصل الثمن، وبالزيادة لا يزداد ملكه ولم ينفسخ العقد بشرط الزيادة؛ لأن الزيادة لا تقابل الإبريق للحال حقيقة، وإنما تقابله صورة، غير أنها إذا صحت التحقت بأصل العقد فتثبت المقابلة من وقت وجود العقد من حيث المعنى، وإنه أقوى من المقابلة من حيث الصورة، وقبضُ الإبريق موجود وقت العقد حقيقة فوقعت الغيبة عن اشتراط قبضه وقت المقابلة صورة، أما في حق الزيادة لا يمكن اعتبار القبض وقت المقابلة معنى فاعتبرناه وقت وجود المقابلة صورة والله أعلم.

الفصل التاسع: في الصلح في الصرف

الفصل التاسع: في الصلح في الصرف رجل اشترى من رجل عبداً وتقابضا ثم وجد مشتري العبد بالعبد عيباً، وخاصم البائع فيه فأقر البائع بالعيب وجحده وصالح المشتري عن العيب على دنانير فهذا (على) وجهين: الأول: أن يكون بدل الصلح أقل من حصة العيب من الثمن بأن كان حصة العيب من الثمن عشرة دنانير، ووقع الصلح على أقل من عشرة دنانير وافترقا قبل التقابض فالصلح جائز. من مشايخنا من قال: ما ذكر من الجواب يستقيم على قولهما، أما على قول أبي حنيفة: ينبغي أن لا يجوز الصلح إذا افترقا قبل التقابض. وهذا الاختلاف يرجع إلى اختلافهم في المغصوب منه إذا صلح مع الغاصب بعد هلاك المغصوب على أكثر من قيمته على قول أبي حنيفة: يجوز؛ لأن حق المغصوب منه بمجرد الهلاك لا ينتقل عن العين إلى القيمة إلا بقضاء أو رضاء فقبل القضاء والصلح يكون الصلح واقعاً عن الجزء الغائب، وإنه دين معنى فيبطل الصلح بالافتراق عن المجلس قبل قبض البدل؛ لأن الافتراق يكون عن دين بدين. وعلى قول أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: صلح المغصوب منه مع الغاصب على أكثر من قيمته لا يجوز؛ لأن عندهما حق المغصوب منه بمجرد الهلاك ينتقل عن العين إلى القيمة فيكون الصلح واقعاً عن القيمة، فلا يجوز على أكثر من القيمة لمكان الربا فكذا هاهنا حق المشتري ينتقل عن الجزء الغائب إلى حصة من الثمن، وذلك عشرة دنانير، فيكون الصلح واقعاً من حيث المعنى على عشرة دنانير على ثمانية دنانير، ولو كان هكذا حقيقة لا يبطل الصلح بالافتراق قبل قبض بدل الصلح؛ لأن هذا ليس بصرف بل هو استيفاء لبعض الحق وإسقاط لبعض الحق كذا هاهنا. ومن المشايخ من قال: ما ذكر ههنا قول الكل، وهذا القائل يقول بأن حق المشتري في الجزء الغائب ينتقل إلى حصته من الثمن من غير أن يحتاج فيه إلى قضاء القاضي أو التراضي. وفرق هذا القائل على قول أبي حنيفة رحمه الله من هذه المسألة الغصب. والفرق: أن في باب الغصب حق المالك كان في عين المغصوب قبل الهلاك لو انتقل إلى القيمة؛ إنما ينتقل بنفس الهلاك وليس من ضرورة الهلاك انتقال الحق إلى القيمة؛ لأن الهلاك على ملكه مقصور بأن أبرأ الغاصب عن ضمان الغصب، وإذا لم يكن

من ضرورة الهلاك إسقاط الحق إلى القيمة يفي حق المغصوب منه في عين العبد، فإنما صالح عن عين المغصوب لا عن قيمته، فيجوز كيف ما وقع الصلح، فأما حق المشتري في الأصل في الثمن لا في المبيع، وإنما انتقل إلى المبيع وأجزأ به بالبيع، فإذا عجز البائع عن تسليم شيء منه قبل القبض عجزاً لا يرجى زواله انفسخ البيع وانتقل حقه إلى الثمن. ألا ترى أنه لو هلك المبيع كله قبل القبض ينتقل حق المشتري إلى جملة الثمن ولا يحتاج فيه إلى القضاء والتراضي، فكذا إذا هلك البعض، وإذا انتقل حق المشتري إلى حصة الجزء الغائب من الثمن، فلا يبطل الافتراق قبل القبض لما قلنا لأبي يوسف ومحمد رحمهما الله. فأما إذا وقع الصلح على أكثر من حصة العين، فإن كانت الزيادة بحيث يتغابن الناس في مثلها يجوز، وإن كانت الزيادة بحيث لا يتغابن الناس في مثلها بأن وقع الصلح على اثني عشر ديناراً، فعلى قول أبي حنيفة: يجوز الصلح، وعلى قولهما: لا يجوز. وجه قولهما: أن الصلح وقع عن حصة العيب من الثمن، فإذا كانت حصة العيب من الثمن عشرة، ووقع الصلح على اثني عشر فقد تمكن الربا. ولأبي حنيفة: أنه إن تعذر تجويز هذا الصلح بطريق المعاوضة لمكان الربا أمكن تصحيحه بطريق أخر بأن يجعل البائع موفياً حصة العيب بتمامه، وذلك عشرة حطا حاطا دينارين عن ثمن الباقي، ولو كان كذلك يصح ما صنع ويجب رد دينارين عن ثمن الباقي إن كان الثمن مقبوضاً ويسقط عن المشتري هذا القدر إن لم يكن الثمن مقبوضاً كذا هاهنا. وإن كان البائع صالح المشتري عن العيب على دراهم، فإن قبض بدل الصلح قبل أن يتفرقا قبل قبض بدل الصلح بطل الصلح وقع عن حصة الجزء الغائب عن الثمن، وحصة الجزء الغائب من الثمن دنانير، فإذا صالحه على دراهم لا يمكن تصحيحه بطريق استيفاء البعض؛ لأن الجنس يختلف لو صح بطريق المعاوضة وتعذر تجويزه بطريق المعاوضة؛ لأنه صرف، والصرف لا يصح إذا وقع الافتراق قبل قبض أحد البدلين. وإذا ادعى رجل على رجل مئة درهم فأنكر المدعى عليه ذلك، أو أقر ثم صالحه منها على عشرة دراهم حالة أو إلى أجل، ثم افترقا قبل القبض فالصلح جائز، أما إذا كان الصلح عن إقرار؛ فلأن هذا الصلح استيفاء للبعض وإبراء عن البعض في زعم المدعى عليه، وليس بصرف فلا يبطل بالافتراق قبل القبض، وكذلك لو كان فيه خيار لأحدهما فافترقا قبل التقابض لا يبطل الصلح؛ لأن أثر الخيار في فوات القبض، وهذا الصلح لا يبطل بفوات القبض فاشتراط الخيار كيف يؤثر فيه. وإن كان صالحه على خمسةِ دنانير وافترقا قبل التقابض بطل الصلح، وإن افترقا بعد القبض فالصلح صحيح على خلاف جنس الحق، فلا يمكن تصحيحه إلا بطريق المعاوضة (150أ3) فيكون صرفاً، والتقابض في الصرف شرط.

وإذا ماتت المرأة وتركت ميراثاً من رقيق وثياب، وميراثها كله عبداً بها فصالح الأب زوجها على مئة دينار فهذا على وجهين: الأول: أن يعلم نصيب الزوج من الذهب المتروكة، وفي هذا الوجه إن كان بدل الصلح أكثر من نصيب الزوج من الذهب يجوز، وإن كان مثله أو أقل لا يجوز. الثاني: إذا كان لا يعلم نصيب الزوج من الذهب المتروك، وفي هذا الوجه لا يجوز الصلح. وكذلك إذا صالحه على خمسمئة درهم فهو على وجهين أيضاً: إما أن يعلم نصيب الزوج من الدراهم المتروكة أولم يعلم. والجواب في الوجهين على ما ذكرنا في فصل الذهب، وإن كان صالحه على مئة درهم وخمسين ديناراً جاز الصلح كيف ما كان، أما إذا كان بدل الصلح من كل واحد من الجنسين يجعل مثله من جنسه من بدل الصلح والفاضل من بدل الصلح يجعل بإزاء العروض، وإذا كان بدل الصلح من كل واحد من الجنسين مثل حصة الزوج من ذلك؛ فلأن بدل الصلح من الذهب يصرف إلى الفضة من التركة، وبدل الصلح من الفضة يصرف إلى الذهب من التركة والمتاع والرقيق تحرياً للجواز وطلباً للحصة، فإن وجد التقابض بقي الصلح في الكل على الصحة. وإن لم يوجد التقابض يبطل الصلح هكذا ذكر في «الكتاب» : ويجب أن يقال بأن الصلح في حصة الصرف يبطل، وكذلك في حصة اللألئ والجواهر التي لا يمكن نزعه إلا بضرر، وأما فيما عدا ذلك من الثياب والمتاع والعروض فالصلح يبقى على الصحة. وهو نظير ما لو اشترى ثوباً قيمته عشرة دراهم بعشرين ديناراً أو تفرقا من غير قبض يبطل العقد بحصة الصرف، ويبقى في الثوب بحصته على الصحة كذا هاهنا، وإن قبض الزوج الدراهم والدنانير التي هي بدل الصلح وكان الميراث في بيت الأب ولم يكن حاضراً في مجلس الصلح، فإن الصلح يبطل بحصة من الذهب والفضة. هكذا ذكر في «الكتاب» : وهذا إذا كان الأب مقراً للزوج بما عنده حتى يكون نصيب الزوج أمانة في يده؛ لأن قبض الأمانة لا تنوب عن قبض الشراء فيجعل الافتراق بغير قبض فتبطل حصة الصرف وحصة ما لا يمكن تسليمه إلا بضرر كالجوهر المرصع واللؤلؤ المرصع. فإما إذا كان جاحداً للزوج ما عنده فالصلح صحيح في الكل؛ ولأن الأب إذا كان جاحد اً للزوج ما عنده كان الأب غاصباً نصيب الزوج، وقبض الغصب ينوب عن قبض الشراء، فإذا قبض بدل الصلح فالافتراق حصل بعد التقابض، فلا يبطل الصلح في حصة الصرف، وكذلك إذا كان الأب مقراً للزوج بما عنده إلا أن المشتري كان غاصباً حاضراً في مجلس الصلح، فالصلح جائز في الكل؛ لأن الزوج قبض بدل الصلح والأب قبض نصيب الزوج من التركة؛ لأنه يمكن من قبضه حقيقة إذا كان حاضراً في مجلس الصلح والتمكن من القبض حكماً عرف ذلك في موضعه فحصل الافتراق بعد قبض البدلين

وستأتي هذه المسألة من طرف المرأة مع زيادة كما يأتي في كتاب الصلح إن شاء الله. ثم إذا ادعى رجل سيفاً محلى بعينه في يدي رجل فصالحه المدعى عليه عشرة دنانير يدفعها المدعى عليه على المدعي فقبض المدعي منها خمسة، واشترى بالخمسة الأخرى ثوباً، فإن كانت الخمسة المقبوضة مقدار حصة الحلية فالصلح صحيح؛ لأن المنقود يجعل بإزاء الحلية مستحق في المجلس وقبض حصة والثوب ليس بمستحق. وإذا جعلنا المنقود حصة الحلية حصل الافتراق بعد قبض البدلين فيما هو صرف؛ لأن موضوع المسألة المدعى عليه جاحداً للسيف حتى يكون غاصباً لها، وقبض الغصب ينوب عن قبض الشراء، وإن كان المدعى عليه مقراً بالسيف كان حاضراً في مجلس الصلح، وما بقي من بدل الصلح غير منقود فهو ثمن النصل والاستبدال بثمن النصل قبل القبض جائز، فإن كانت الخمسة المنقودة أقل من مقدار حصة الحلية فالصلح باطل في الكل. أما في حصة الحلية فلا إشكال؛ لأنه بطل في بعضه فيبطل في الباقي؛ لأنه شئٌ واحد، وأما في حصة الشراء؛ لأنه دخل بعض الحلية في شراء الثوب والاستبدال ببدل الصرف قبل القبض لا يجوز لما فيه من فوات القبض، وإذا بطل شراء الثوب في البعض بطل في الباقي عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن شراء الثوب في البعض بطل معنى الربا؛ لأنه بطل لما فيه من فوات القبض في أحد البدلين في صرف يمكن ربا النساء، وإذا صار بعض بدل الحلية مشروطاً في شراء الثوب فقد بطل شراء بعض الثوب لمكان ربا فيه فيبطل في الباقي. كما لو سلم حنطة في شعير وزيت وعندهما شراء الثوب يبطل بقدر ما صار من حصة الحلية داخلاً فيه ويبقى في الباقي كما في مسألة السلم. وإذا اشترى الرجل إبريق فضة بمئة دينار وفي الإبريق ألف درهم وتقابضا، ثم وجد مشتري الإبريق بالإبريق (عيباً) وهو قائم بعينه حتى كان له رد الإبريق فصالح بائع الإبريق المشتري على دينار وقبض المشتري الدينار أو لم يقبض حتى تفرقا فالصلح ماضٍ. ذكر المسألة في «الأصل» : من غير ذكر خلاف وهذا الجواب على قولهما مستقيم، وكذلك على قول أبي حنيفة رحمه الله على قول من يقول من المشايخ: أن الصلح وقع عن حصة العيب من الثمن؛ لأن حصة العيب من الثمن دينار وبدل الصلح دينار أيضاً، فيكون هذا الصلح واقعاً على جنس حقه فلا يكون صرفاً، وإن وقع الصلح على عشرة دراهم، فإن قبض المشتري الدراهم قبل أن يتفرقا فالصلح جائز، وإن لم يقبض حتى تفرقا بطل الصلح؛ لأن الصلح وقع على خلاف جنس الحق فيعتبر صرفاً، فإن كانت الدراهم التي وقع عليها أكثر من حصة العيب فالصلح جائز؛ لأن الصلح وقع ثمن حصة العيب عند الكل عند بعض المشايخ، وحصة العيب دينار وشراء الدينار بدراهم أكثر من قيمة الدينار جائز، وعند بعض المشايخ: الصلح وقع عن الجزء الغائب بالدراهم أكثر من قيمته يجوز. وإذا ادعى رجل على رجل عشرة دراهم وعشرة دنانير وأنكر المدعى عليه وأقر، ثم

صالحه المدعى عليه على خمسة دراهم من ذلك كله، فهذا جائز سواء كان نقداً أو نسيئة وطريق الجواز أن يجعل المدعي مؤقتاً عن الدراهم التي ادعاها خمسة مبرئاً للمدعى عليه عن الخمسة دراهم وعن العشرة الدنانير. وإذا اشترى الرجل قلب ذهب منه عشرة مثاقيل بمئة درهم وتقابضا واستهلك المشتري القلب، أو لم يستهلكه حتى وجد به عيباً قديماً (150ب3) قد كان دلسه البائع فصالحه البائع من ذلك على عشرة دراهم نسيئة فهو جائز، وأراد بقوله استهلك القلب أنه كسره لا حقيقة الاستهلاك بالآخر أو بالبيع؛ لأن ذلك يمنع الرجوع بنقصان العيب، وإنما جاز هذا الصلح؛ لأنه وقع على حصة العيب من الثمن، وإنه دراهم فيكون هذا صلحاً على جنس الحق، فيجوز سواء كان بدل الصلح هذا أو نسيئة، وإن صالحه على دنانير فالصلح جائز ويكون صرفاً؛ لأن الصلح على خلاف جنس الحق فيكون معاوضة فيكون صرفاً. وإذا اشترى قلب فضة فيه عشرة دراهم بدنانير وتقابضا، ثم وجد في القلب عيباً فنقضه فصالحه على قيراطي ذهب من الذهب على أن يريده المشتري ربع حنطة وفي بعض النسخ ربع كر حنطة وكانت الحنطة بعينها كان ذلك جائزاً. وطريق الجواز: أن البائع بذل قيراطي ذهب من دينار بإزاء ربع كر حنطة، وبإزاء حصة العيب من الثمن، فإن حصة العيب من قيمة ربع كر حنطة على السواء، يقسم القيراطان عليهما نصفين فيكون أخذ القيراطين حصة العيب من الثمن، والقيراط الآخر حصة الحنطة وذلك جائز، فإن افترقا من غير قبض لا يبطل الصلح، أما حصة الحنطة؛ فلأن الافتراق فيها حصل عن عين بدين، وأما حصة العيب؛ فلأن الصلح فيها وقع على جنس الحق والصلح إذا وقع على جنس الحق لا يبطل بالافتراق قبل القبض، فإن تقابضا ثم وجد بالحنطة عيباً رد بحصتها من القيراطين. وفي «المنتقى» : إذا كان للرجل على رجل دراهم بتجارة واصطلحا منها على دراهم لا يعرف وزنها قال: إني أنظر إلى التجارة به، فإن كان الغالب فيها النحاس فهو جائز على القليل والكثير، وإن كان الغالب فيها الفضة لا يجوز الصلح إلا على وزنها، وإن صالح على أقل لا يجوز من قبل أن هذا ليس على وجه الحط. ألا ترى لو كان عليه ألف درهم غلة فصالح منها على تسعمئةٍ درهم بيض لا يجوز، ولو كان الدين بيضاً فصالح على تسعمئةٍ سود جاز وكان هذا حطأً، ولو صالحه على تسعمئةٍ ولم يشترط بيضاً جاز ذلك، وقال أبو يوسف: إن كان السود أفضل لم يجز الصلح على السود أقل من وزن البيض، وإن كان أسوأ جاز الصلح من أحدهما على الأخر بأقل من وزنه.

الفصل العاشر: في بيع الإناء وزنا فيزيد وينقص

الفصل العاشر: في بيع الإناء وزناً فيزيد وينقص وإذا اشترى سيفاً محلى فيه مئة درهم من الحلية بمئتي درهم، ثم علم أن فيه مئتي درهم فهذا على وجهين: إما إن علم ذلك بعد ما تقابضا وتفرقا، وفي هذا الوجه بطل العقد في الكل؛ لأنه لا وجه إلى تصحيح هذا العقد في الحلية بالزيادة؛ لأن الزيادة بإزاء الحلية يكون صرفاً ولم يوجد قبض بدله في المجلس لما تفرقا ولا وجد إلى تصحيحه في جميع الحلية بمئة؛ لأنه يكون ربا فبطل العقد في الحلية ضرورة، وإذا بطل في الحلية بطل في النصل؛ لأنه لا يمكن تسليمه إلا بضرر هذا، إذا علم ذلك بعد ما تفرقا. وأما إذا علم ذلك قبل أن يفترقا فالمشتري بالخيار إن شاء زاد في الثمن مئة أخرى، وإن شاء فسخ العقد في الكل، وإنما خير؛ لأن المشتري إنما رضي بجميع السيف بمئتي درهم، فإذا آل الأمر إلى أن يلزمه مئة أخرى زيادة على المئتين لا يكون راضياً فيكون له الخيار، فإن اختار أخذ السيف لزمه مئة أخرى؛ لأنه الثمن، وذلك مئتان أيقسم من الابتداء على الحلية والنصل والحصن والحمائل نصفان؛ لأنهما شرطا في البيع أن الحلية مئة والمئة فكأنهما قالا: على أن المئة بمئة والمئة الأخرى بإزاء النصل والحصن والحمائل، فإذا صار بإزاء الحلية مئة يحتاج إلى أن يزيد بحصتها مئة أخرى حتى يصير مشترياً مئتين بمئتين فلا يتمكن الربا فيزيد مئة أخرى ويقبض البائع الثمن مع الزيادة، ويقبض المشتري السيف؛ لأنهما في المجلس بعد فيصح العقد.u فرق بين هذا وبين ما إذا علما في الابتداء؛ أن وزن الحلية مئتي درهم وقد تبايعا السيف بمئتي درهم أراد المشتري أن يزيد مئة أخرى قبل أن يتفرقا، فإن العقد لا يجوز. والفرق: أنهما إذا علما في الابتداء أن الحلية مئتي درهم وقد تبايعا بمئتي درهم فقد أوقعا العقد بصفة الفساد؛ لأنه لا بد وأن يكون بمقابلة النصل والحصن في الحمائل شيء من الثمن، فيكون بمقابلة الحلية أقل من وزنها، وبيع الفضة بالفضة واحد هما أقل وزناً من الآخر لا يجوز. فهو معنى قولنا: أوقعا العقد بصفة الفساد والعاقدان إذا أوقعا العقد بصفة الفساد ولا يحتال تصحيحه؛ لأنه لا يمكن، فأما في مسألتنا هذه ما أوقعا العقد بصفة الفساد؛ ولأنهما لم يعلما وقت العقد أن الحلية مئتي درهم إنما علماها مئة درهم، فإذا تبايعا بمئتي درهم فقد جعلا بمقابلة الحلية مئة درهم؛ لأن الفضة مستحقة بمثلها شرعاً فكان بائع السيف وهي مئة، قال للمشتري: بعتك منك حلية السيف وهي مئة بمئة، وبعتك منك النصل والجفن والحمائل بمئة أخرى، ولو صرح بذلك لا يكون ذلك إيقاعاً للعقد بصفة الفساد ويمكن تصحيحه بالزيادة متى رضي المشتري بالزيادة. وإذا اشترى قلب فضة على أن فيه ألف درهم بألف درهم، فإذا فيه ألفا درهم إن علم ذلك في المجلس فالمشتري يريد ألفاً أخرى إن شاء أخذ كل الإبريق، وإن لم يرد

يبطل العقد في نصف الإبريق؛ لأن الفساد بسبب الافتراق قبل قبض بدل الصرف، وذلك بقدر النصف فيفسد العقد بقدر النصف، ويصح بقدر النصف إذ يصح العقد في نصف القلب شائعاً ممكن بخلاف مسألة السيف؛ لأن تصحيح العقد في نصف الحلية شائعاً غير ممكن؛ لأن بيع نصف الحلية شائعاً لا يجوز؛ لأن الحلية بمنزلة الوصف وبيع بعض الأوصاف لا يجوز فلا يمكن تصحيح البيع في نصف الحلية، فلا يمكن تصحيح البيع في الكل بالزيادة بعد الافتراق عن المجلس لما قلنا فتعين جهة البطلان في الكل. أما في القلب فبخلافه على ما يتناول في «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل اشترى قلب فضة على أن فيه عشرة دراهم بدينار، فوجد فيه خمسة عشر قبل أن يتفرقا أو بعد ما تفرقا فالقياس: أن يكون القلب كله للمشتري بذلك الثمن، ولكن ادعى القياس في الذهب والفضة ويكون للمشتري فيه الخيار، إن شاء أخذ ثلثاه بالدينار وكان للبائع ثلث القلب، وإن شاء رده قال: وهذا قبل الفرقة، وبعده سواء من قبل أن الزيادة لم يرد عليها البيع، وإنما كان للمشتري الخيار؛ لأن القلب لم يسلم له كله، وهذا خلاف جواب الأصل، ولو كان اشترى القلب بعشرة دراهم على أن فيه عشرة دراهم وتقابضا، وتفرقا أو لم يتفرقا فوجد فيه خمسة عشر فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ بثلثه بعشرة، وإن شاء رد، فإن قال: أنا أزيد خمسة وأستلم القلب لم يكن ذلك إذا كان قد تفرقا، وإن كانا لم يتفرقا فله ذلك، يزيد خمسة ويأخذ كله وإن شاء أخذ ثلثه بعشرة (151أ3) . ولو اشترى إناء فضة بدينار على أن فيه عشرة دراهم فتقابضا وتفرقا فوجد فيه تسعة دراهم، فهو بالخيار إن شاء رده وإن شاء أمسكه، ورجع بحصة النقصان من الدينار، ولو كان اشتراه بدراهم، فإن شاء رده ورجع بدراهمه. وإذا اشترى نقرة فضة على أنها ألف درهم بألف درهم، إن علم ذلك قبل أن يتفرقا عن المجلس فالمشتري يزيد ألف درهم إن شاء ويجوز العقد في الكل؛ لأنهما ما أوقعا العقد بجهة الفساد والتصحيح في الكل ممكن بإثبات الزيادة في مجلس العقد، فإن لم يزد المشتري ألفاً أخرى يصح العقد في نصف الفضة، ويبطل في النصف كما في مسألة الإبريق إلا أن مسألة القلب يتخير المشتري وهاهنا لا يتخير؛ لأن الشركة في النقرة ولا ينقصها التبعيض ولا يضرها ولا يعد عيباً، والشركة في القلب والتبعيض ينقضه ويضره يرد عيباً، فأثبتنا الخيار للمشتري في القلب ولم يثبت في النقرة لهذا، وإن علم ذلك بعدما تفرقا عن المجلس يجوز العقد في نصف الإبريق؛ لأن تصحيح العقد في النصف ممكن في النقرة؛ لأن بيع نصف النقرة شائعاً جائز كبيع نصف الإبريق إلا أن في الإبريق يتخير المشتري، وفي النقرة لا، هذا إذا حصل الشراء بالجنس. أما إذا حصل بخلاف الجنس بأن اشترى سيفاً محلى على أن حليته مئتي درهم بعشرة دنانير، أو اشترى إبريق فضة على أنه ألف درهم بمئة دينار، فإذا فيه ألفان أو اشترى نقرة فضة على أنها ألف درهم بمئة دينار، فإذا فيه ألفان، أو اشترى نقرة فضة على أنها ألف درهم إلي فالعقد جائز في المسائل كلها؛ لأن الجنس مختلف، وإذا جاز العقد

الفصل الحادي عشر: في بيع السيف وفي بيع الحلي الذي فيه اللآلئ والجواهر وأشباه ذلك وفي بيع المملوكات ما يجوز وما لا يجوز

فالزيادة على المسمى من الوزن في مسألة النقرة لا تسلم للمشتري من غير شيء. وفي مسألة الإبريق: يسلم للمشتري من غير شيء؛ وهذا لأن الوزن فيما يضره التبعيض جار مجرى الوصف؛ لأن تمييز البعض عن البعض يوجب نقصاناً في الباقي فكان بمنزلة الوصف من هذا وزيادة الوصف على المسمى يجوز أن يسلم للمشتري بغير شيء. كما لو اشترى ثوباً على أنه عشرة أذرع، فإذا هو أحد عشر ذراعاً فالذرع الحادي عشر يسلم للمشتري بغير شيء، فأما الوزن فيما لا يضره التبعيض أصل من كل وجه؛ لأنه تمييز البعض عن البعض لا يوجب نقصاناً في الباقي فيعتبر أصلاً من كل وجه، والزيادة على المسمى فيما هو أصل من كل وجه لا يسلم للمشتري بغير شيء. كما لو باع من أخر صبرة حنطة على أنها عشرة أكرار، فإذا هي أحد عشر كراً، فالكر الحادي عشر لا يسلم للمشتري لما كان كل كر أصلاً بنفسه كذا هاهنا. وفي «نوادر هشام» : عن أبي يوسف: رجل اشترى سيفاً محلى بفضة بمئة وخمسين درهماً على أن حلية السيف مئة درهم، فإذا حلية السيف خمسون درهماً، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذه بمئة درهم كأنه حين اشتراه بمئة وخمسين على أن الحلية مئة، فقد اشترى الفضة بمئة وبقية السيف بخمسين قاله محمد رحمه الله. الفصل الحادي عشر: في بيع السيف وفي بيع الحلي الذي فيه اللآلئ والجواهر وأشباه ذلك وفي بيع المملوكات ما يجوز وما لا يجوز قال محمد رحمه الله: وإذا اشترى الرجل من أخر سيفاً محلى بفضة درهم فالمسألة على أربعة أوجه: الأول: أن تكون الدراهم التي في ثمن أكثر من الفضة التي هي في السيف، وفي هذا الوجه البيع جائز، ويجعل بمقابلة الفضة التي في السيف، وفي الوجه البيع جائز إلي من الدراهم التي هي ثمن مثلها، والباقي يكون بإزاء النصل والجفن والحمائل. الوجه الثاني: أن تكون الدراهم التي هي في ثمن مثل الفضة التي في السيف، وفي هذا الوجه لا يجوز البيع؛ لأنه يبقى النصل والجفن خالياً عن العوض فلا يكون ربا. الوجه الثالث: أن تكون الدراهم التي هي ثمن أقل من الفضة التي في السيف، وفي هذا الوجه لا يجوز البيع أيضاً؛ لأنه يبقى النصل والجفن وبعض الفضة خالياً عن الثمن. الوجه الرابع: أن لا يدري أن الدراهم التي هي ثمن مثل الحلية أو أقل أو أكثر، وفي هذا الوجه لا يجوز البيع أيضاً؛ لأنه يجوز من وجه واحد، وهو ما إذا كانت الدراهم التي هي ثمن أكثر من الفضة التي في السيف ولا يجوز من وجهين: وهو أن تكون الدراهم التي هي ثمن مثل الحلية أو أقل ولو جاز من وجه دون وجه يحكم بالفساد

بطريق الاحتياط فهذا أولى، وإن لم يعلم مقدار الدراهم وقت البيع ثم علم بعد ذلك فكانت أكثر من الفضة التي في السيف، فإن علم وهما في مجلس العقد بعد جاز البيع، وإن علم بعد ما افترقا عن المجلس لم يجز البيع، والأصلُ أن في كل موضع اعتبرت المماثلة بين البدلين في المعيار الشرعي شرطاً لجواز العقد تعتبر المماثلة في المعيار وقت البيع. ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله هذا الأصل في شرح كتاب البيوع آخر الباب الأول إلا أن ساعات المجلس جعلت كساعة واحدة شرعاً في حق الأحكام المتعلقة بالمجلس فيجعل العلم بمقدار الدراهم في آخره كالعلم به وقت المباشرة للعقد وعلى هذا بيع صبر بصبرة مجازفة ثم كيلاً بعد الافتراق عن المجلس فكان متساويين كيلاً لم يجز وطريقةُ ما قلنا. قال القدوري: وكذلك لو اختلف أهل العلم فيه فقال بعضهم: الثمن أكثر من الفضة التي في السيف. وقال بعضهم: لا بل هو مثلها لا يجوز البيع؛ لأن الرجوع إلى قول البعض ليس بأولى فسقط اعتبار قولهم لمكان التناقض والتحق قولهم بالعدم. وإذا باع الرجل من آخر حلي ذهب ولؤلؤ وجواهر بدنانير وقبض المشتري الحلي فهذا على أربعة أوجه: أحدها: أن يكون الدنانير مثل الذهب الذي في الحلي. الوجه الثاني: أن تكون الدنانير أقل من الذهب الذي في الحلي. الوجه الثالث: إذا كان لا يدري أن الدنانير التي هي ثمن مثل الذهب الذي في الحلي أو أقل أو أكثر في هذه الوجوه الثلاث لا يجوز البيع أصلاً لا في الذهب، ولا في الجواهر سواء أمكن تخليص الجواهر من غير ضرر أو لم يمكن أما في الذهب فظاهر، وأما في الجواهر أما إذا أمكن تخليص الجوهر من غير ضرر؛ فلأن الجواهر في هذه الصورة كالممتاز حكماً إن كان متصلاً حقيقة، ألا ترى أن من غصب جوهراً وركبه في حلية ويمكن تخليصه (151ب3) بغير ضرر لا ينقطع على المالك كأنه ممتاز حقيقة، وقد اشتراهما جميعاً بدنانير، والدنانير مثل الذهب أو أقل أو لا يدري، لم يجز البيع أصلاً لا في الذهب ولا في الجوهر فكذا هاهنا، وإذا كان لا يجوز هذا البيع في الجوهر. وإن أمكن تخليص الجوهر عنه من غير ضرر؛ فلأن لا يجوز البيع في الجوهر إذا لم يمكن تخليصه إلا بضرر وقد يمكن في الجوهر سبب فساد آخر، وهو أنه باع ما لا يقدر على تسليمه إلا بضرر أولى، وأما إذا كانت الدنانير التي هي ثمن أكثر من الذهب الذي في الحلي، فالبيع جائز في الكل في الذهب وفي الجوهر، ويصرف إلى الذي في الحلي من الذهب الذي هو ثمن قدر مثله والباقي بإزاء الجوهر واللألئ فبعد ذلك المسألة على ثلاثة أوجه: إن نقد الدنانير التي هي ثمن كلها قبل أن يتفرقا فالعقد ماض على الصحة، أما في حصة الذهب الذي في الحلي؛ فلأنه صرف وقد وجد التقابض قبل الافتراق، وأما في حصة الجوهر؛ فلأنه للبيع وقد قبض منه قبل الافتراق، ولم يقبض

ثمنه قبل الافتراق لكان لا يفسد العقد لحصول الافتراق فيه عن عين بدين فههنا أولى. وكذلك إن نقد من الدنانير التي هي عين حصة الذهب الذي هو في الحلي يريد به أنه نقد من الدنانير التي هي من ثمن حصة الذهب الذي هو في الحلي ولكن لم ينص على أنه حصة الذهب؛ لأن قبض حصة الذهب مستحق في المجلس شرعاً وقبض حصة اللألئ والجواهر ليس بمستحق في المجلس وغير مستحق لا يعارض المستحق. فجعلنا المنقود حصة الذهب فتبين أن الافتراق فيما هو صرف حصل بعد القبض، فلهذا بقي العقد على الصحة، وإن لم ينقد شيئاً من الدنانير حتى تفرقا، لا شك أن العقد فيما يخص الحلي من الذهب يفسد فيما يخص الجوهر هل يفسد؟ ينظر إن كان الجوهر بحيث لا يمكن تخليصه إلا بضرر يفسد؛ لأن العقد في حصة الجوهر بيع فقد باع ما لا يمكن تسليمه، فكل بيع هذه حالة، لا يكون فاسداً عرف ذلك في موضعه. فإن قيل: أمكنه التسليم من غير ضرر أن يحلى بين المشتري وبين الحلي كله فيصير قابضاً الجوهر، ألا ترى أنه لو باع نصف الجوهر شائعاً يجوز. وطريق الجواز: أن تسليم المبيع ممكن من غير ضرر بأن يحلى بين المشتري وبين جميع الجوهر. قلنا: العقد إذا ورد على الشائع، فالواجب تسليم المبيع مع غيره؛ لأن تسليمه بنفسه لا يمكن؛ لأن الشائع ما يكون مختلطاً بغيره. فأما إذا ورد على شيء بعينه يجب تسليمه بنفسه ولا يمكن تسليم الجوهر هاهنا بنفسه إلا بضرر. فإن قيل: البائع رضي بضرر التخليص لما باع مع علمه أن البيع يقتضي التسليم ولا يمكنه التسليم إلا بالتخليص. قلنا: نعم رضي بالتخليص إلا أنه بدا له الرجوع عن هذا الضرر وله ذلك. ألا ترى أن من رضي بإتلاف شئ من ماله ثم بدا له قبل الإتلاف أن لا يتلف عليه ذلك كان له ذلك كذا ههنا، وأما إذا أمكن تخليصه من غير ضرر لا يفسد العقد في الجوهر؛ لأنه إذا أمكن تخليصه فهو كالممتاز من حيث الحكم، ولو كان ممتازاً حقيقة وقد اشتراهما بدينار، فإن العقد يفسد في حصة الذهب ولا يفسد في حصة الجوهر كذا هاهنا. هذا إذا باع الحلي بدنانير يفسد، فأما إذا باع الحلي بدنانير نسيئة فهو على أربعة أوجه: إن كان المسمى من الدنانير مثل الذهب الذي في الحلي وفي الجوهر؛ لأن الدنانير لو كانت نقداً لا يجوز البيع في الوجوه الثلاث لمكان ربا الفضل؛ فلأنه لا يجوز البيع في مثل هذه الوجوه إذا كانت الدنانير نسيئة وقد اجتمع مع ربا الفضل ربا النسيئة كان أولى، فأما إذا كانت الدنانير أكثر من الذهب الذي في الحلي لا شك أن العقد يفسد فيما يخص الحلي من الذهب؛ لأنه صرف لم يوجد قبض بدله في المجلس. فأما فيما يخص الجوهر هل يجوز البيع؟ ينظر: إن لم يمكن تخليصه إلا بضرر يفسد البيع في حصة الجوهر؛ لأن ثمن الجوهر، فإذا كان نسيئة أولى وإن أمكن تخليصه

من غير ضرر يجب أن تكون المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة لا يجوز البيع في الجوهر؛ لأن العقد على الذهب كان ربا؛ لأن ربا النساء يحرم بأحد وصفي علة الربا النقد بمجموعها أولى، وإذا فسد البيع على الذهب بسبب الربا فسد في الجوهر؛ لأن الربا صار مشروطاً فيه حكماً ومعنى لاتحاد الصفقة. فهو نظير ما لو أسلم في كر حنطة كر شعير وزيت، فالعقد يفسد في الزيت عند أبي حنيفة؛ لأن العقد فسد في الشعير لمكان الربا والربا صار مشروطاً في الزيت معنىً لاتحاد الصفقة وعندهما العقد في مسألة السلم لا يفسد في حصة الجوهر. قال هشام قال أبو يوسف: إذا باع حلية السيف دون السيف لم يجز، إلا أن يبيعه على أن يقلعه المشتري فقلعه فبل أن يتفرقا، وإن باعه ولم يقل على أن يقلعه، ثم قال للبائع قبل أن يتفرقا: قد أديت ذلك في قلعه فأقلعه قبل أن يتفرقا جاز، وإن افترقا قبل أن يقلعه فهو باطل. قال هشام: قلت لأبي يوسف: وإن كان المشتري قد قبض الثمن قال: لأنه لا يكون قابضاً لحليته حتى يقلعها من السيف، قلت لأبي يوسف: أرأيت إن باعه السيف على أن فيه مئة درهم بمئة وخمسين درهماً فقال البائع: فيه كما شرطت وقال المشتري: فيه خمسون، فالقول قول البائع. قال أبو الفضل: وهذا الجواب في مسائل السيف على التصادق أو يجيء شئ من ذلك يحيط العلم بأنه لا يكون فيه. وفي القدوري: وإذا باع السيف المحلى بثمن مؤجل فنقد المشتري قدر حصة الحلية من الثمن جاز استحساناً، وإن لم ينص أن المنقود من حصة الحلية، وقد مر جنس هذا، وكذلك إذا قال هذا المنقود من ثمنها كان من حصة الحلية خاصة، ويكون معنى قوله من ثمنها من جملة الثمن وحصة الحلية من جملة الثمن. ولو قال: هذا من ثمن النصل والجفن خاصة فسد العقد؛ لأنه بَيّن وأفصح فلا يمكن جمله على وجه آخر، ولو قال: هذا الذي عجلت من ثمن السيف كان المعجل من ثمن الحلية؛ لأن السيف اسم للجملة. ألا ترى أن الحلية تدخل في بيع السيف بطريق التبع، وإذا كان السيف المحلى بالفضة بين رجلين فباع أحدهما نصيبه من السيف من صاحبه يجوز؛ لأنه لو باعه من أجنبي يجوز فكذا من شريكه إلا أن الشريك إن لم يجد ذا القبض حتى افترقا بطل العقد؛ لأن يد كل واحد منهما في نصيب صاحبه يد أمانة ويد الأمانة لا تنوب عن قبض الشراء. وإذا اشترى من آخر سيفاً محلى بفضة فيه خمسون درهماً وقيمة السيف (152أ3) وحمائله وجفنه خمسون درهماً اشتراه بمئة درهم وقبض السيف ونقد الخمسين ولم ينقد الخمسين حتى افترقا فهو جائز؛ لأن المنقود يصرف إلى الحلية احتيالاً لبقاء العقد على الصحة؛ وهذا لأن الظاهر من مال العاقد العاقل الدين أن ما ينقد ينقد عن حصة الحلية حتى لا يبطل شئ من العقد بسبب الافتراق، ولم يعارض هذا الظاهر ظاهر آخر؛ لأنه

ليس في اعتباره تفويت مقصوده بل فيه تحصيل مقصوده. وهذا بخلاف ما لو اشترى سيفاً محلى فيه خمسون درهماً بسيف محلى فيه خمسون درهماً وتفرقا من غير قبض، فإنه يبطل العقد ولا يصرف الجنس إلى خلاف الجنس حتى يبقى العقد جائزاً متى افترقا من غير قبض؛ لأن الاحتيال لتصحيح العقد غير ممكن هناك؛ لأن ظاهر حالهما إن كان يوجب صرف الجنس حتى يبقى العقد على الصحة فقد عارض هذا الظاهر ظاهراً يوجب صرف الجنس إلى الجنس حتى تقابضا في المجلس فيتعجل مقصود كل واحد منهما بالعقد، وإذا تقابضا تعذر الاحتيال لبقاء العقد جائزاً فبطل ضرورة. ولو اشترى سيفاً ممّوها بفضة أو اشترى لجاماً مموّها بفضة بدراهم بأقل مما فيه أو أكثر يجوز. فرق بين هذا وبينما إذا باع سيفاً محلى أو لجاماً محلى بفضة بدراهم حيث لا يجوز ما لم تكن الدراهم التي هي ثمن أكثر من الفضة التي في الحلية، واعلم أن الممّوه المطلي بماء الذهب أو الفضة، والذهب ما جعل فيه عين الذهب، والمفضض ما جعل فيه عين الفضة، والفرق من وجهين: أحدهما: أن الفضة بالتمويه يصير مستهلكاً، وكذلك الذهب بالتمويه يصير مستهلكاً، ألا ترى أن بعد التمويه لا يمكن تمييزه، وإذا صارت مستهلكة صارت ملحقة بالعدم، ولو انعدمت كان البيع جائزاً على كل حال؛ لأنه يصير بائعاً جديداً بدرهم كذا هاهنا، فأما الحلية لم تصر مستهلكة بل هي قائمة حقيقة، ألا ترى أنه يمكن تمييزها وإذا لم تصير مستهلكاً صار بائعاً جديداً وفضة بدراهم، فلا يجوز البيع ما لم تكن الدراهم أكثر كذا هاهنا. الفرق الثاني: إن قلنا أن الفضة بالتمويه لا تصير مستهلكة إلا أنها خرجت عن حد لا وزن، لأنه لا يمكن وزنها لا في الحال، ولا في الثاني؛ لأنها لا تخلص، وإذا لم تبق موزونة لم يبق مال الربا كحبةٍ من الحنطة لا يكون مال الربا؛ لأنها ليست مملكة كذا هاهنا، فإما الحلية لا تخرج أن تكون موزونة؛ لأنه لا يمكن معرفتها بالوزن في الثاني؛ لأنها مما يتخلص، إلا أنه إذا زال عنها صفة الوزن في الحال بعارض يتوهم زواله وما زال من الصفات إذا كان بحال يتوهم عوده لا يعتبر زائلاً، فبيعت الحلية موزونة كما كانت، وإذا بقيت موزونة، فهذا موزون بيع بجنسه، فلا يجوز إلا متساوياً. فإن قيل: الفضة منصوص عليها، والحكم في المنصوص عليه يثبت بالنص لكن يجب النظر في أن المنصوص عليه مادي فيقول المنصوص عليه فضة موزونة وحنطة مكيلة قال عليه السلام: «الفضة بالفضة مثل بمثل وزن بوزن، والحنطة بالحنطة مثل بمثل كيل بكيل» ، معناه بيع الفضة بالفضة مشروع متماثلاً في الوزن، وبيع الحنطة بالحنطة مشروع

الفصل الثاني عشر: في الوكالة في الصرف

متماثلاً في الكيل، وإنما يتحقق بيع الفضة بالفضة متماثلاً وزناً، فيما يتأتى فيه الوزن، وكذلك بيع الحنطة بالحنطة، إنما يتحقق متماثلاً كيلاً فيما يتأتى فيه الكيل. وإذا ثبت أن المراد الفضة الموزونة والحنطة المكيلة صار تقدير الحديث بيع الفضة الموزونة بالفضة الموزونة مشروع متماثلاً وبيع الحنطة المكيلة بالحنطة المكيلة مشروع متماثلاً. ولو صرح بهذا كان الداخل تحت النص الموزون والمكيل لا غير الموزون والمكيل، وما لا يدخل تحت النص فالحكم يثبت فيه بالعلة لا بالنص. والعلة هي الوزن لم توجد. ولكن الفرق الأول أصح بدليل أن محمداً رحمه الله قال: لو باع بدراهم إلى أجل كان جائزاً، ولو بقيت الفضة بعد التمويه، ولكنها خرجت عن حد الوزن لكان لا يجوز إذا كان الثمن مؤجلاً؛ لأن الجنس بانفراده يحرم النَّساء، وحيث جوز البيع النسيئة علم أنه جعل الذهب بالتمويه مستهلكاً وألحقه بالعدم، ولو انعدم كان هذا بيع النحاس وبيع الحديد بدراهم فيجوز كيف ما كان. الفصل الثاني عشر: في الوكالة في الصرف وإذا وكل الرجل رجلين بدراهم تصرف بها، فليس لأحدهما أن يصرف دون الآخر؛ لأن عقد الصرف أمر يحتاج إلى الرأي وقد فوض ذلك إلى رأيهما، ورأي الواحد لا يكون كرأي المثنى، فإن عقدا جميعاً ثم ذهب أحدهما قبل القبض بطل حصة الذاهب، وهو النصف وبقي حصة الباقي وهو النصف؛ وهذا لأن القبض من حقوق العقد، والوكيل في حقوق العقد كالمالك، ولو كانا مالكين فعقدا عقد الصرف، ثم ذهب أحدهما قبل القبض بطل حصة الذاهب وبقي حصة الباقي كذا هاهنا، فقد جوز قبض أحدهما وإن كانا وكيلين بالقبض.z وفرق بين هذا وبين الوكيلين بقبض الدين إذا قبض أحدهما دون الأخر حيث لا يجوز. والفرق: أن الوكيل بالقبض يقبض بحكم الآمر. ألا ترى أن المالك لو عزله عن القبض صح عزله، والمالك إنما رضي بقبضهما وأمانتهما، فلا يكون راضياً بقبض أحدهما، فأما الوكيل في باب الصرف إنما يقبض لحق المالك، ألا ترى أنه لو عزله، المالك عن القبض لا يعمل عزله، وإذا كان قبضه بحق الملك كان الوكيلان بالصرف في حق القبض كالمالكين. ولو كانا مالكين فذهب أحدهما، وقبض الآخر جاز كذا هاهنا، وإن ذهب الوكيلان

عن مجلس الصرف كل واحد منهما إلى ناحية أخرى فقبض رب المال لا يجوز لما ذكرنا أن الوكيلين في حق حكم القبض بمنزلة المالكين فذهبا عن مجلس العقد كل واحد إلى حيه، ووكلا رجلاً بالقبض فقبض لم يجز كذا هاهنا. وإذا وكل الرجل رجلاً بدراهم يصرفها له بدينار، فصرفها الوكيل وتقابضا وأقر مشتري الدراهم باستيفاء الدراهم ثم جاء مشتري الدراهم بدرهم زيف وقال: وجدتها في تلك الدراهم فقبله الوكيل وأقر أنه من تلك الدراهم لزم الوكيل دون الموكل؛ لأن الرد على الوكيل حصل بإقراره، فإنه لولا إقراره أن هذا من تلك الدراهم، وإلا لما تمكن مشتري الدراهم من رده لما أقر بالاستيفاء والرد بالعيب على الوكيل، أو كان بإقراره والوكيل لا يلزم المردود كما في بيع العين. قال: لو جحد الوكيل (152ب3) أن هذه الدراهم من تلك الدراهم، فأقام مشتري الدراهم بينة أن هذه من تلك الدراهم، ولم يكن أقر مشتري الدراهم بالاستيفاء، فالقاضي يقبل بينته ويرد الدرهم على الوكيل ويلزم الآمر. فمن المشايخ من قال ما ذكر في «الكتاب» : أن القاضي يقبل بينة مشتري الدراهم أن الدرهم من تلك الدراهم، إذا لم يقر بالاستيفاء حطاً؛ لأن في هذه الصورة القول قول المشتري أن هذه الدراهم من تلك الدراهم استحساناً في مسألة السلم إليه بدرهم زيف. وقال: وجدت هذا في رأس المال ولم يكن أقر بالاستيفاء، وكما في بيع العين إذا جاء البائع بدرهم زيف، وقال: وجدته في الثمن ولم يكن أقر بالاستيفاء كان القول قوله استحساناً فكذا هاهنا، وإذا كان القول قوله لم يكن في هذه الصورة موضع إقامة البينة في غير موضعها كيف يسمع. وإلى هذا مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله والشيخ الإمام شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله صحح ما ذكر محمد في «الكتاب» فقال: بلى القول (قول) مشتري الدراهم في هذه الصورة استحساناً، ولكن مع اليمين فهو بهذه البينة أسقط اليمين عن نفسه، والبينة لإسقاط اليمين مقبولة، ألا ترى أن المودع إذا أقام البينة على الرد والهلاك فيثبت بينته مع أن القول في الرد والهلاك قوله، إنما قلت لإسقاط اليمين عن نفسه كذا هاهنا. وكان الشيخ الإمام الزاهد عبد الله بن الحسين بن أحمد رحمه الله يقول: ليس في «الكتاب» أن مشتري الدراهم يكلف إقامة البينة، وإنما فيه أنه إذا أقام البينة قلت ببينته، والعلة أقام البينة لدفع اليمين عن نفسه وكان كالمودع قال: وكذلك إن استحلف الوكيل على ذلك ونكل ورد عليه بنكوله لزم الموكل، وهكذا ذكر محمد رحمه الله بعض مشايخنا قالوا: هذا الجواب خطأ أيضاً؛ لأنه لا يمين على الوكيل في هذه الصورة، وإنما اليمين على مشتري الدراهم أن هذا الدرهم من تلك الدراهم؛ لأن الشرع جعل القول قول مشتري الدراهم في هذه الصورة من جعل القول قوله شرعاً يتوجه عليه اليمين. فإنما يرد إذا حلف على ذلك، إما أن حلف على ذلك وإما أن يحلف الوكيل فلا،

وإنما الصحيح من الجواب أن يحلف مشتري الدراهم، ويرد على الوكيل ويكون ذلك رداً على الآمر؛ لأنه رد على الوكيل بغير اختياره بما هو حجة في حق الآمر فيظهر ذلك في حق الآمر. قلنا: ما ذكر من الجواب صحيح، ولكن على طريق القياس لا على طريق الاستحسان؛ لأن على طريق الاستحسان: لا يمين على الوكيل، وعلى طريق القياس: على الوكيل اليمين، والقول قول الوكيل مع يمينه كما في بيع العين، فكان ما ذكر من استحلاف الوكيل ونكوله ذكره على طريق القياس. وإذا وكل الرجل رجلاً بدراهم يصرفها له بدنانير فصرفها، وتقابضا فليس للوكيل أن يتصرف بعد ذلك في الدنانير نسي؛ لأن الدنانير ملك الموكل؛ لأنهما ثمن دراهمه ولم يأذن الموكل للوكيل بالتصرف فيها بأن يشتري له إبريق فضة بعينه بدراهم فاشتراه بدراهم كما أمر به، ونوى أن يكون المشتري لنفسه كان المشتري للآمر، ولو اشتراه بدنانير وعرض كان المشتري للوكيل. ولو كان وكله أن يشتري إبريق فضة بعينه ولم يسم له الثمن فاشتراه بدراهم أو دنانير، فالمشتري للموكل. ولو اشتراه بعرض أو بشيء من المكيل أو الموزون، فالمشترى للوكيل؛ وهذا لأن مطلق التوكيل كيل بالشراء ينصرف إلى الشراء بالنقد، فكأنه صرح به، وهناك إذا اشتراه بالدراهم أو الدنانير كان للموكل، ولو اشتراه بشئ من المكيل والموزون كان المشتري للوكيل كذا هاهنا، ولو وكله بفضة له ببيعها ولم يسم له الثمن فباعها بفضة أكثر منها لم يجز كما لو باعها الموكل بنفسه لا يضمن الوكيل؛ لأنه موافق أمر آمره؛ لأن التوكيل بالبيع منصرف إلى البيع الجائز والفاسد جميعاً. قال: والذي وكل أحق بهذه الفضة من الوكيل يريد به الفضة التي قبضها الوكيل من مشتري الإبريق؛ لأن الفضة التي قبضها الوكيل ملك الموكل؛ لأنه بدل ملكه؛ إذ البيع قد نفذ على الموكل على ما ذكرنا قال: إلا أنه يأخذ من الوكيل مثل وزن فضة، وإن كان الكل لمكاله؛ لأنه لو أخذ زيادة على ذلك يلزمه أن يرده ثانياً على الوكيل على المشتري فلا يفيد أخذ الزيادة، والشرع لا يرد بما لا يفيد قالوا: تأويل ما قاله محمد رحمه الله: أن الموكل أحق بالفضة التي قبضها الوكيل أن الموكل إذا كان بحال لا يقدر على أخذ فضة بعينها، بأن غاب قابضها، أوكان حاضراً واستهلكها فمتى كانت الحالة هذه كان له أن يأخذ مما في يد الوكيل مثل فضة وزناً؛ لأن فضته صارت ديناً على القابض، وقد ظفر بجنس حقه من مال القابض فكان له أن يأخذ ذلك، فإما إذا كان قادراً على أخذ فضته بعينها، فإنه يأخذ ذلك حتى تزول المعصية ولا يأخذ ذلك حتى تزول المعصية ولا يأخذ ما في الوكيل؛ لأن فيه تقرير الفساد وسبيل الفساد رفعه لا تقريره. وإذا وكل الرجل رجلاً ببيع تراب الصواغين أو تراب المعادن كان جائزاً؛ لأن الموكل يملك بيع ذلك فيملك التوكيل به، فإن باعه بذهب أو فضة لم يجز، كما لو باع

الموكل ذلك بنفسه؛ وهذا لأن الشراء إنما يقع على ما في التراب من الذهب أو الفضة لا على نفس التراب، فإذا لم يعلم أن في التراب شئ من ذلك، لم يكن محل البيع موجوداً بيقين، فلا يمكن القول بجوازه، وإن علم أن في التراب فضة هي مثل الفضة التي ثمن أو ذهب هو مثل الذهب الذي هو ثمن ورضي به المشتري، فإن علما بذلك في مجلس العقد فهو جائز وللمشتري الخيار ليكشف الحال له. فهو كمن اشترى شيئاً لم يره ثم رآه، فإن رده بغير حكم جاز على الآمر بمنزلة الرد بخيار الشرط والرؤية، وإن علما به بعد ما تفرقا لا يجوز البيع، وإن باعه بعرض، وقد علم أن في التراب ذهب أو فضة أو ذهب وفضة جاز البيع على قول أبي حنيفة خلافاً لهما؛ لأنه وكله بالبيع مطلقاً والوكيل بالبيع مطلقاً بأي ثمن كان عند أبي حنيفة. وعندهما لا يملك البيع إلا بالنقد، وإن لم يعلم أن فيه أحدهما أو كلاهما فباعه بالعرض جاز عند الكل، أما عند أبي حنيفة فظاهر. وأما عندهما؛ فلأن في هذه الصورة وهو ما إذا لم يعلم أن فيه أحدهما أو كلاهما لا يجوز البيع لا بالدراهم ولا بالدنانير، وإنما يجوز بيعه بالعرض، ومطلق التوكيل بالبيع ينصرف إلى الجائز والفاسد فيصير (153أ3) البيع بالعرض هاهنا داخلاً تحت التوكيل. ولو وكله أن يزوجه بهذا التراب امرأة وهو تراب المعدن أو تراب الصواغين فزوجه امرأة، ينظر إن كان فيه عشرة دراهم أو أكثر فلها ذلك، وإن كان أقل من عشرة دراهم يكمل لها العشرة، كما لو تزوج الموكل بنفسه، ولو وكل أن يبيع سيفاً محلى له أو منطقة مفضضة له فباعه بفضة هي أقل فالبيع فاسد، وكذلك لو باعه بنسيئة فالبيع فاسد، وكذلك لو باعه بشرط فالبيع فاسد. كما لو باع الموكل بنفسه ولا ضمان على الوكيل؛ لأنه لو ضمن ضمن بسبب فساد العقد ولا وجه إليه؛ لأن التوكيل بالبيع يتناول الجائز والفاسد جميعاً، ولو وكله بحلي به ذهب فيه ياقوت أو فيه زبرجد أو لؤلؤة يبيعه له فباعه له بدراهم نقد وتفرقا قبل القبض بطل حصة الحلي به؛ لأنه صرف وبطل حصة اللؤلؤة، والجوهر أيضاً إن كان لا يمكن تسليمه إلا بضرر، وإن أمكن تسليمه بلا ضرر لا تبطل حصة اللؤلؤة، والجوهر أيضاً إن كان لا يمكن تسليمه إلي. ولو وكله أن يشتري له فلوساً بدرهم فاشتراه وقبضها فكسدت في يد الوكيل قبل أن يدفعها إلى الموكل فهي للذي وكله؛ لأن قبض الوكيل بمنزلة قبض الموكل من حيث إن الوكيل في القبض عامل للموكل. ألا ترى أنه لو هلك في يد الوكيل كان بمنزلة ما لو هلك في يد الموكل فكأنها كسدت في يد الموكل. ولو كسدت قبل أن يقبضها الوكيل، فإن الوكيل بالخيار إن شاء أخذها، وإن شاء ردها هكذا ذكر في «الكتاب» ، قال شيخ الإسلام: وهذا إنما يستقيم طريقه القياس الكساد بمنزلة العيب، ويعيب المبيع قبل القبض يوجب الخيار للموكل، أما لا يستقيم على طريقة الاستحسان؛ لأن على طريقة الاستحسان الكساد بمنزلة الهلاك،

ولهذا ينتقض العقد بالكساد قبل القبض، والعقد إذا انتقض لا معنى لإثبات الخيار للوكيل بعد ذلك. وإذا وكل الرجل رجلاً أن يشتري له طوق ذهب بعينه بألف درهم ودفع إليه الألف فاشترى الوكيل الطوق بألف درهم، ونقد الثمن فقبل أن يقبض الوكيل الطوق في يد البائع، كان للوكيل الخيار، إن شاء أمضى العقد، وأبيع الكاسر بقيمة الطوق مصوغاً من خلاف جنسه. وإن شاء فسخ العقد ودفع إليه البائع إن شاء عين تلك الدراهم، وإن شاء مثلها، فإن أمضى الوكيل العقد وأخذ من الكاسر قيمة الطوق للموكل أن يأخذ من الوكيل تلك القيمة، وإنما يأخذ من الوكيل مثل تلك الدراهم التي دفع إليه وهذا؛ لأن الوكيل يأخذ القيمة صار بائعاً الطوق من الكاسر؛ لأن ضمان الكسر يفيد الملك للكاسر في المكسور وله التضمين؛ لأن حق قبض الطوق كان له بحكم العقد فيكون له قبض بدله لكون البدل قائماً مقام المبدل، وإذا صار بائعاً الطوق المكسور من الكاسر حكماً بالتضمين يعتبر بما لو باعه منه حقيقة بأن أخذ المكسور فقبل أن يأخذه الموكل منه باعه من غيره. ولو كان هكذا كان بدل المكسور للوكيل لا سبيل للموكل عليه؛ لأن بدل المكسور على هذا الاعتبار ملك الوكيل؛ لأن الوكيل متى رضي بعيب فاحش يعتبر المشتري مملوكاً له إلا إن شاء الموكل أن يأخذه، كذلك فقبل أن يشاء الموكل أن يأخذه، كذلك كالمشتري ملك الوكيل فيكون البدل ملك الوكيل، فلا يكون للموكل عليه سبيل، وإنما للموكل أن يأخذ من الوكيل مثل الدراهم التي دفعها إليه، فكذا إذا صار بائعاً المكسور من الكاسر حكماً يأخذ القيمة. وإذا وكل رجلاً بطوق ذهب يبيعه له فباعه وأنقد الثمن، وسلم الطوق إلى المشتري فجاء المشتري بعد ذلك وقال: وجدت الطوق صفراً مموهاً بالذهب وأنكر الآمر، فالمسألة على الوجهين: الأول: أن يجحد الوكيل ذلك فأقام المشتري عليه البينة بذلك، ولم يكن للمشتري بينة فحلف الوكيل فنكل ورد القاضي الطوق عليه، وفي هذين الوجهين الطوق يلزم الموكل. الوجه الثاني: أن يقر الوكيل وفي هذا الوجه المسألة على وجهين أيضاً: إن رد عليه بغير قضاء كان ذلك رداً على الوكيل وليس له أن يخاصم الموكل في ذلك، وإن رد عليه بقضاء قاض يلزم الوكيل أيضاً، ولكن للوكيل حق مخاصمة الموكل هاهنا، والكلام في هذا نظير الكلام في الوكيل ببيع العبد إذا باع العبد، وانتقد الثمن ثم طعن المشتري بعيب في العبد ورده على الوكيل، وهناك الجواب على التفصيل الذي ذكرنا في مسألة الطوق. وأكره للمسلم أن يوكل ذمياً أن يصرف له دراهم أو دنانير؛ لأنه يستحل الربا وعسى يوقعه في الحرام مع هذا لو فعل جاز الوكيل أهل لما وكل به؛ لأن الأهلية بالمعرفة والتميز وقد وجد. وإذا وكله بدراهم يصرفها له فصرفها مع عبد للموكل فهذا على وجهين:

الأول: لأن لا يكون على العبد دين، وفي هذا الوجه لا يجوز الصرف، الوكيل مع العبد كما لو فعل الموكل ذلك بنفسه ولكن لا ضمان على الوكيل؛ لأنه سلم الأمانة إلى عبد صاحب الأمانة فلا يضمن. كالمودع إذا دفع الوديعة إلى عبد صاحب الوديعة، وإن كان على العبد دين يجوز كما لو فعل المولى ذلك بنفسه، ولكن لا يسلم الوكيل المبيع إلى العبد حتى يستوفي منه الثمن. ألا ترى أن الموكل لو باع بنفسه كان له الحبس إلى أن يستوفي الثمن، وإذا سلم يبطل حقه في الثمن فكذا في الوكيل. وإذا وكل الرجل رجلاً بدراهم يصرفها بدنانير هي أقل (من) قيمة من الدراهم إن كان النقصان بحيث يتغابن الناس في مثله يجوز، وإن كان بحيث لا يتغابن الناس في مثله لا يجوز. أما على قولهما؛ لأن الوكيل بالمصارفة إما أن يعتبر وكيلاً بالبيع أو بالشراء ويأتي ذلك ما اعتبرنا لا يتحمل منه الغبن الفاحش عندهما. وأما على قول أبي حنيفة: فلأن الوكيل بالمصارفة وكيل بالبيع من وجه وبالشراء من وجه؛ لأن كل واحد من بدلي الصرف ثمن من وجه مثمن من وجه، فمن حيث إنه وكيل بالبيع إن كان يتحمل منه الغبن الفاحش عند أبي حنيفة فمن حيث أنه وكيل بالشراء لا يتحمل منه الغبن الفاحش بالشك، وإن صرفها مع شريك مفاوض للوكيل لا يجوز كما لو صرفها مع نفسه وهذا؛ لأنه بهذا التصرف يثبت للوكيل ملك الرقبة والتصرف (153ب3) في نصف الدراهم؛ لأن الدراهم تصير مشتركاً بين الوكيل وبين الشريك فتصير الدراهم للوكيل رقبة وتصرفاً ويثبت له ملك التصرف في النصف الآخر الذي هو الشريك، وله في التصرف في نصيب شريكه منفعة، فإنه يحصل له الربح، فصار في معنى المصارفة مع نفسه من هذا الوجه، وهو لا يملك المصارفة مع نفسه. وكذلك لو باعها من شريك مفاوض للآمر لا يجوز، كما لو باع الآمر بنفسه؛ وهذا لأن هذا البيع لا يفيد إلا ما كان ثابتاً من قبل؛ لأن الدراهم المبيعة كانت مشتركة بين الآمر وبين شريكه المفاوض والدنانير التي قبضها الوكيل من المفاوض أيضاً مشتركة بينهما فهذا التصرف لا يفيد إلا ما كان ثابتاً فلا يحكم بجوازه، وإن صرفها مع الشريك الآمر في الصرف غير مفاوض له يجوز كما لو فعل الآمر ذلك بنفسه؛ وهذا لأن مصارفة الآمر مع الشريك له في الصرف مفيد؛ لأن الشريك يستفيد بهذا التصرف في هذه الدراهم، ويخرج به ما كان في الشركة وهو الدراهم، فكان هذا التصرف مفيداً فيجوز، وإذا كان يجوز هذا التصرف من الآمر فكذا من وكيله. وإذا وكل بألف درهم يصرفها وصار بالكوفة ولم يسم له مكاناً، ففي أي ناحية في الكوفة صرفها فهو جائز؛ لأنه لو صرفها في مصر آخر يجوز فهذا أولى، ولو صرفها ثمة فهو جائز ولا ضمان على الوكيل أما جواز البيع؛ فلأن الآمر بالبيع مطلق فلا يتقيد بمكان الآمر إلا بدليل مقيد ولا دليل فيها لا حمل له ولا مؤنة؛ لأن قيمته لا تختلف باختلاف الأمكنة، ففي أي مكان صرفها كان ذلك بأمره فيجوز، وأما لا ضمان على الوكيل وإن

سافر بها، والآمر بالبيع لا يقتضي الأذن بالمسافرة إن لم يثبت مقتضي الآمر بالبيع ثبت مقتضي الآمر بالحفظ؛ لأنه لما دفع الدراهم إليه ليصرفها فقد أمره بحفظها، ولم يقيد الأمر بالحفظ بمكان الآمر نصاً، ولم يتقيد به بدلا له حال الآمر حتى لا يلزمه مؤنة الرد من غير تقصير، ما هو مقصود بالآمر عند الرد عليه إذ ليس له حمل ومؤنة. فأما إذا كان له حمل ومؤنة كالعبد والطعام وأشباه ذلك فباعها في بلد آخر إن لم ينقلها إلى ذلك البلد جاز البيع قياساً واستحساناً، وإن نقلها إلى بلد آخر وباع ذلك في كتاب الصرف في رواية أبي سليمان أنه إذا نقل الرمكة واستأجر لذلك فإذا ضاع أو سرق منه فهو ضامن. وإن سلم حتى باع أجزت البيع ولم ألزم الآمر من الآخر شيئاً، وذكر في رواية أبي حفص أجزت البيع إذا باعه بمثل ثمنه في الموضع الذي أمره ببيعه، وذكر هذه المسألة في كتاب الوكالة وقال: استحسن وأضمنه ولا أجيز البيع اتفق عليه رواية أبي سليمان، ورواية أبي حفص، فكان ما ذكر في كتاب الصرف في رواية أبي سليمان: أنه إذا سلم حتى باع أنه يجوز البيع جواب القياس لا جواب الاستحسان، فصار حاصل المسألة أن فيما له حمل ومؤنة إذا باعه الوكيل في مصر آخر جاز قياساً ولا يلزم الآمر شيئاً من الآخر، وفي الاستحسان لا يجوز البيع. وجه القياس في ذلك: أنه لم يجز البيع في مصر آخر، إنما لم يجز كيلا يلزم المالك الكراء، ولا يلزمه الكراء هاهنا متى جوزنا بيع الوكيل؛ لأن الوكيل في النقل مخالف؛ لأن العرف فيما بين الناس أن من دفع إلى غيره شيئاً له حمل ومؤنة لمبيعهِ قائماً يريد البيع في المكان الذي دفعه إليه حتى لا يلزمه الكراء ومؤنة النقل من غير أن يحصل له مقصوده وهو البيع. فهو معنى قولنا: أن الوكيل مخالف في النقل فلا يلزم الآمر الكراء فلا يمنع جواز بيعه ولا ترتفع الوكالة بالنقل؛ لأن هذا خلاف من حيث الفعل وبالخلاف من حيث الفعل لا ترفع الوكالة على ما عرف في موضعه. وجه الاستحسان: لو أخر ما بيعه في مصر آخر، وجعلنا بيعه بأمر الآمر يجب الكراء على الآمر؛ لأن الحمل حصل للآمر فيجب الكراء عليه، ولا وجه إلى إيجاب الكراء على الآمر؛ لأن الآمر لم يرض به. وبيان: أنه لم يرض به ما ذكرنا من العرف في وجه القياس، بخلاف ما إذا باعه في مصر آخر من غير أن ينقله إلى ذلك المصر؛ لأن هناك لا يلزم الآمر الكراء متى جوزنا بيع الوكيل وهذا هو التخريج لما لا حمل له ولا مؤنة. وإذا وكل الرجل رجلاً بألف درهم يصرفها له، ثم إن الموكل صرف تلك الدراهم الألف بنفسه فجاء الوكيل بعد ذلك إلى بيت الموكل، وأخذ من بيته ألفاً غيرها وصرفها، فهو جائز على الموكل فلم يجعل الألف التي أضيفت إليها الوكالة متعينة في حق بطلان الوكالة متى صرفها الموكل بنفسه وقال: لو دفع الموكل تلك الألف إلى الوكيل فسرقت من يديه أو هلكت في يده.

والوجه في ذلك: أن الوكالة بالشراء بمعنى الشراء من حيث أنها سبب لثبوت الشراء في الثاني بين الوكيل وبين الموكل، حتى حصل الشراء من الوكيل، فإن الوكيل يصير بائعاً ما اشترى من الموكل، وذلك بالوكالة السابقة. وهذا كان للوكيل جنس المشتري من الموكل بالثمن، وإذا كانت الوكالة بالشراء سبباً للشراء في الثاني ألحق بالشراء والدراهم والدنانير لا يتعينان في الشراء قبل القبض بإضافة الشراء إليهما، ويتعينان بالقبض فكذا في الوكالة بالشراء التي ألحقت بالشراء، هذا بخلاف ما لو أمره ببيع شئ يتعين بالتعيين، ثم إن الموكل باع ذلك الشئ بنفسه، فإنه تبطل الوكالة حتى لا يكون للوكيل أن يأخذ مثله من بيته ويبيعه؛ لأنا ألحقنا الوكالة بالشراء فما يتعين في الشراء يتعين في الوكالة والفلوس بمنزلة الدراهم في أنها لا تتعين في الشراء فكذا في الوكالة. وإذا وكله بدراهم يصرفها له بدنانير وهما بالكوفة فصرفها بدنانير كوفية مقطعة فهو جائز في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز إلا إذا صرفها بدنانير شامية وأراد بالكوفية المقطعة الجفاف التي فيها عسر المكسرة، وأراد بالشامية النعال واعلم بأن الوكالة ينصرف (154أ3) نقد البلد لما ذكرنا أن الوكالة ألحقت بالشراء والشراء ينصرف إلى نقد البلد فكذا الوكالة، وقد كان نقد البلد في زمن أبي حنيفة الكوفية المقطعة والشامية فأفتى على ما شاهد في زمانه، وصرف الشراء والوكالة إلى المقطعة والشامية، وزمن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله كان نقد البلد الشامية لا غير، فصرف الوكالة والشراء إلى الشامية وأفتيا على ما شاهدا في زمانهما فهذا في الحقيقة اختلاف عصر وزمان. وإذا وكله أن يشتري له بهذه الدنانير دراهم غلة ولم يسلم غلة الكوفة أو غلة بغداد فهذا غلة الكوفة يريد به إذا كان التوكيل بالكوفة، وهذا لما ذكرنا أن الوكالة معتبرة بالشراء ولو قال: اشتريت منك هذا بألف درهم، وهما بالكوفة كان الشراء على غلة الكوفة فكذا الوكالة، فإن اشترى بها غلة بغداد أو غلة بصرة، فإن كان مثل غلة كوفة أو فوقها جاز؛ لأنه أتى بمثل المأمور به وزيادة، وإن كان دون غلة الكوفة لا يجوز.l ولو وكله بأن يبيع هذه الدراهم بكذا ديناراً شامية فباعها بدينار كوفية، فإن كانت الكوفية غير مقطعة وكان وزنها مثل وزن الشامية يجوز على الآمر؛ لأنه أتى بمثل ما أمره به إن لم يأت بعين ما أمره به ثم قال: وليس الدنانير في هذا كالدراهم يريد أن الدراهم لا تعتبر زيادة الوزن بزيادة، وفي الدنانير تعتبر زيادة الوزن بزيادة. حتى قال: لو وكله بأن يبيع هذه الدراهم بكذا ديناراً شامية فباع بكذا دينار كوفية، فإن كانت الكوفية وزنها مثل وزن الشامية جاز على الآمر وما لا فلا. وقال: فيمن وكل رجلاً أن يبيع هذه الدنانير بكذا دراهم غلة الكوفة فباعها بغلة بغداد وبغلة بصرة قال: إن كان لوغلة كوفة جاز، ولم يشترط أن يكون بمثل غلة الكوفة، وإنما كان كذلك؛ لأن المقصود من الغلة الاتفاق في حوائجه، وإنما يحصل ذلك بغلة

الفصل الثالث عشر: في الصرف مع مملوكه وقرابته وشريكه ومضاربه والوصي وما يتصل بذلك

الكوفة أو مثلها، والمقصود من شراء الدنانير الربح، وذلك يختلف باختلاف الوزن، فإن رغبة الناس في الدنانير الثقال أكثر، فإن كان وزن الكوفية مثل وزن الشامية فقد حصل المقصود فيجوز وما لا فلا، ولو قال: بعها بدينار عتق، فباعها بشامية لا يجوز على الآمر؛ لأن المقصود لا يحصل هذا لما للعتق ثمن الصرف على الشامية. وإذا أقرض الرجل رجلاً ألف درهم وقبضها المستقرض ثم إن المقرض قال للمستقرض: اصرف الدراهم التي لي عليك، ولم يبين مع من يصرف لا يصح التوكيل عند أبي حنيفة ويقع الصرف للمستقرض، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يصح التوكيل ويقع الصرف للمقرض. وهذه المسألة بناء على مسألة معروفة في كتاب البيوع إذا قال رب الدين لمديونه: أسلم مالي عليك من الدين في كذا ولم يبين مع من يسلم فهناك لا يصح التوكيل عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما فها هنا كذلك، وأما إذا قال اصرفها ولم يرد عليه لا يصح التوكيل عندهم جميعاً؛ لأن وفي قوله: اصرفها، يجوز أن يكون كناية عن الألف التي قبضها المستقرض، ويجوز أن تكون كناية عن الألف التي صار ديناً للمقرض في ذمة المستقرض فيه إن كان كناية عن الألف التي قبضها المستقرض لا يصح التوكيل؛ لأن تلك الألف صارت ملكاً للمستقرض هذا أمر بالتصرف في ملك الغير، وأنه لا يصح، فإن كانت الكناية عن الألف التي وجبت للمقرض في ذمة المستقرض كان التوكيل صحيحاً؛ لأن هذا أمر بالتصرف في ملك نفسه صحيح فيصح التوكيل على هذا التقدير عندهما مطلقاً وعند أبي حنيفة إذا بين من يصرف إليه وقع الشك في صحة هذا التوكيل، فلا يصح هذا التوكيل بالشك. الفصل الثالث عشر: في الصرف مع مملوكه وقرابته وشريكه ومضاربه والوصي وما يتصل بذلك قال محمد رحمه الله: وإذا باع الرجل من عبده درهماً بدرهمين بدرهم فهذا ليس بربا سواء كان على العبد دين أو لم يكن، والأصل فيه قوله عليه السلام: «لا ربا بين السيد وبين عبده» . والمعنى في ذلك: أن الربا اسم لما ملك بعقد المعاوضة، أما إذا لم يكن على العبد دين؛ فلأن شراء المولى منه لا يصح؛ لأن هذا الشراء لا يفيد للمولى إلا ما كان له فصار وجود هذا الشراء وعدمه بمنزلة وصار المولى. دافعاً إلى العبد درهماً أخذ منه درهمين أو دافعاً إليه درهمين أخذ منه درهماً وهذا لا يكون رباً، وأما على العبد دين؛ فلأن

الفصل الرابع عشر: في الصرف في المرض

شراء المولى منه في هذه الصورة إن كان مقيداً؛ لأنه يفيد المولى فيما اشترى ملك الرقبة، والتصرف على حسب ما اختلفوا فيه إلا أن للمولى أن يأخذ كسب عبده المديون لقيام ملكه في رقبته من غير شراء، ولكن ببدل يعد له حق الغرماء، وإذا كان له الأخذ على هذا الوجه من غير شراء، فإذا باع المولى منه درهمين بدرهم صار كأنه دفع إليه درهمين، وأخذ منه درهماً من غير شراء وذلك لا يكون رباً، وإذا باع منه درهماً بدرهمين صار كأنه أعطاه درهماً وأخذ منه درهمين فيلزمه رد الدرهم الزائد؛ لأنه أخذه بغير عوض وقد تعلق به حق الغرماء لا لمكان الربا. وأشار في القدوري إلى أن الربا يجري بين المولى وعبده إذا كان على العبد دين فإنه قال: دين العبد يمنع ملك المولى عند أبي حنيفة، وعندهما إن كان لا يمنع الملك ولكن يوجب حجر المولى عن التصرف فصار المولى بمنزلة الأجنبي فيظهر الربا كما فيما بين الأجانب. ولو باع من مكاتبه درهماً بدرهمين أو بدرهمين بدرهم لا يجوز وكان ربا؛ لأن الشراء المولى من أكساب مكاتبه وبيع المولى ماله من مكاتبه جائز؛ لأن المكاتب بعقد الكتابة صار أخص بمكاسبه كالحر يداً وتصرفاً في الكسب فيجري الربا بينه وبين مولاه كما يجري بينه وبين سائر الأحرار ومعتق البعض عند أبي حنيفة بمنزلة المكاتب وعندهما بمنزلة حر عليه دين وبأنهما اعتبرناه تجري الربا بينه وبين مولاه، وكذلك يجري الربا بين الرجل وبين أبيه وابنه وسائر قرابته؛ لأن الشراء يتحقق فيما بين هؤلاء، (154ب3) فيجري الربا بينهم لما ذكرنا أن الربا اسم لما يملك بالشراء من غير عوض، وكذلك يجرى الربا بين الرجل وهي عندهما هؤلاء وبين الرجل ووكيل هؤلاء؛ لأن الشراء من عند هؤلاء من وكيلهم بمنزلة الشراء من هؤلاء، ويجري الربا بين شريكي العنان إذا لم يكن الصرف من تجارتهما؛ لأن كل واحد منهما ليس من تجارتهما بمنزلة الأجنبي ولا يجري بين المتفاوضين؛ لأن المبايعة فيما بينهما لا يصح؛ لأنها لا تفيد شيئاً. قال القدوري: ولا يجوز فعل القاضي وأمينه لليتيم، والأب لابنه الصغير والوصي، إلا ما يجوز بين الأجنبيين، وكذلك إذا اشترى الأب من مال ابنه لنفسه أو المضارب باع من رب المال لم يجز إلا ما يجوز بين الأجنبيين. الفصل الرابع عشر: في الصرف في المرض قال محمد رحمه الله: وإذا باع المريض من وارثه ديناراً بألف درهم وتقابضا، فإنه لا يجوز في قول أبي حنيفة رحمه الله: إلا بإجازة باقي الورثة ويعتبر وصية للوارث بالعين وكذلك إذا باعه بمثل قيمته أو أقل. والأصل عند أبي حنيفة: أن نفس البيع من الوارث وصية ولا وصية للوارث إلا بإجازة باقي الورثة.

وعندهما: إذا باعه بمثل القيمة أو بأكثر يجوز من غير إجازة باقي الورثة؛ لأن عندهما نفس البيع ليس بوصية، وإنما الوصية في الحط عن القيمة، وإذا كان البيع بمثل القيمة أو أقل لم يوجد الحط فلم توجد الوصية ولم تتمكن التهمة فتجوز، أجازت الورثة ذلك أو لم يجيزوا. ولو اشترى المريض من ابنه ألف درهم بمائتي دينار وتقابضا وله ورثة كبار فعلى قول أبي حنيفة: لا يجوز إلا بإجازة الورثة سواء كان قيمة ديناره ألف درهم أو أكثر أو أقل. وعندهما: إن كان قيمة ديناره ألف درهم أو أقل يجوز من غير إجازة باقي الورثة. وإن كان قيمة دنانيره أكثر من ألف درهم: فإن أجاز باقي الورثة ذلك جاز، وإن لم يجزوا يخير الابن المشتري إن شاء نقض البيع ورد الدنانير وأخذ دراهمه، وإن شاء أخذ من الدنانير مثل قيمة دراهمه ورد الفضل. وإنما يخير الابن المشتري؛ لأنه إنما بذل الدراهم بمقابلة الدنانير بكمالها، ولم يسلم له الدنانير بكمالها فقد تغير عليه شرطه فيكون له الخيار، فإن شاء رضي به وإن شاء نقض العقد، وسواء هذا رواية أخرى عنها أن أصل العقد يبطل إذا حابى المريض وارثه بشيء. وإذا باع المريض من أجنبي ألف درهم بدينار قيمته عشرة دراهم وتقابضا ثم مات المريض والدينار عنده ولا مال له غير ذلك، فللورثة الخيار إن شاؤوا أجازوا ذلك، وإن شاؤوا لم يجيزوا؛ لأن المريض حابى بالزيادة على الثلث؛ لأن الثلث ماله ثلاث مئة وثلاثون وثلث وقد حابى بالزيادة على ذلك؛ لأنه حابى مقدار تسعمئة وتسعين، والمحاباة في المرض وصية فصار موصياً بما زاد على الثلث والمريض إذا أوصى بما زاد على الثلث يقف ذلك على إجازة الورثة، فإن أجازوا أجاز وسلم للمشتري جميع الألف والدينار لورثة المريض، وإن لم يجيزوا فالمشتري بالخيار: إن شاء نقض البيع وإن شاء أجاز. وإنما يخير المشتري؛ لأنه باشر هذا العقد ليسلم له الألف بكماله بمقابلة الدينار ولا يسلم له ذلك هاهنا فيتغير عليه شرطه ومقصوده فيكون له الخيار، فإن نقض البيع أخذ ديناره ورد جميع الألف ولا يسلم له شيء من الوصية كانت في ضمن البيع، فإذا انفسخ البيع بطل ما ثبت في ضمنه، وإن أجاز البيع يأخذ من الألف قيمة الدينار عشرة؛ لأنه لا محاباة بهذا القدر، ويأخذ ثلث مال الميت، وذلك ثلثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث؛ لأن الدينار إذا كان قائماً في يد ورثة الميت كان جميع مال الميت ألف درهم فيكون له ثلاثة ذلك وثلث الألف ثلاث مئة وثلاثة وثلاثون ويسلم له قيمة الدينار أيضاً، وذلك عشرة فجملة ما سلم له ثلاث مئة وثلاثة وأربعون وثلث، ويرد الباقي على الورثة. هذا إذا كان الدينار قائماً، وإن كان المريض قد استهلك الدينار، فالجواب فيما إذا كان الدينار قائماً عند المريض إلا في فصل، فإن هذه الصورة إذا لم تجز الورثة ذلك وخير المشتري فلم يجز فسخ البيع قال المشتري يأخذ من الألف قدر قيمة الدينار عشرة

بحكم المعاوضة ثم يأخذ بحكم الوصية ثلث الباقي من الألف، وذلك ثلاث مئة وثلاثون وثلث جميع الألف، بخلاف الفصل الأول، فإن هناك المشتري بعد ما أخذ قيمة الدينار يأخذ جميع الألف ثلاث مئة وثلاثون وثلث. والوجه في ذلك: أن الوصية إنما تنفذ فيما هو ثلث مال الميت عند الموت، وفي المسألة الأولى ثلث مال الميت عند الموت ألف درهم؛ لأن المشتري وإن أخذ من الألف قدر قيمة الدينار عشرة إلا أن الدينار الذي هو عوض عن العشرة قائم في يد الورثة قائم مقام العشرة فكان مال المريض ألف درهم عند الموت فيعطي الموصى له ثلث ذلك. أما في المسألة الثانية: مال المريض عند موته تسعمئة وتسعون؛ لأن المشتري قد أخذ عشرة عوض عن الدين ديناراً، والدينار ليس بقائم حتى يقوم مقام ذلك فكان مال الميت عند الموت تسعمئة وتسعون فيكون للمشتري ثلث ذلك. ثم إن محمداً رحمه الله: خير مشتري الدراهم بعد هلاك الدينار في يد المريض، وفرق بين هذا وبينما إذا هلك الألف في يد مشتري ألف ولم تجز الورثة ما صنعه المريض، فإن هناك لا يخير مشتري الألف بين الفسخ والإجازة بل يأخذ قدر قيمة الدينار وثلث جميع الألف يرد الباقي على الورثة. والفرق: أن الدينار الذي قبضه المريض بدل الصرف من كل وجه؛ لأنه لا محاباة للمريض في ذلك، وهلاك بدل الصرف لا يمنع الفسخ، فإما الألف التي قبضها مشتري الألف بعضها إن كان بدل الصرف، وذلك قدر قيمة الدينار؛ لأنه أعطاه بإزائه عوضاً فما زاد على ذلك لم يكن بإزاء عوض للمريض بل كان وصية وهلاك الدراهم في يد الموصَى له يمنع فسخ الوصية؛ لأن الدراهم تتعين في الوصايا، وكانت الدراهم في الوصايا كالعروض، وإذا امتنع فسخ الصرف؛ لأنا لو فسخنا الصرف تنفسخ الوصية؛ لأنها كانت في ضمن الصرف، فإذا تعذر فسخ الوصية تعذر فسخ الصرف، فشرط قيام الدراهم في يد مشتريها لا مكان فسخ الصرف (155أ3) ولم يشترط قيام الدينار في يد مشتريه لإمكان فسخ الصرف لهذا. قال: ولو أن المريض باع سيفاً قيمته مئة درهم، وفيه من الفضة مئة درهم، وذلك كله قيمته عشرين ديناراً بدينار وتقابضا، ثم مات المريض وإلى الورثة أن يجيزوا ذلك، فإن المشتري بالخيار: إن شاء نقض البيع ورد السيف وأخذ ديناره ولا شيء له من الوصية، وإن شاء أجاز البيع وأخذ قدر قيمة الدينار من السيف والحلية وثلث السيف تاماً بعد ذلك زاد وهاهنا، فقال: إن شاء زاد في الثمن إلى تمام قيمة ثلثي السيف، ثم قال: في هذه المسألة أخذ المشتري قدر قيمة الدينار من السيف والحلية جميعاً؛ لأن الحلية مع السيف كشيء واحد لا يتأتى إثبات المعاوضة في أحدهما دون الأخر. وإن كان الدينار قد هلك، فالجواب كذلك إلا في فصل أن الورثة إذا لم يجيزوا ما صنع الميت وخير المشتري بين أن يختار فسخ العقد وأخذ دينار مثل ديناره وبين أن

يمضي العقد وأخذ من السيف وحليته قدر قيمة ديناره وثلث ما بقي من السيف والحلية لا ثلث جميع السيف. وإن كان المشتري قد استهلك ما قبضه أيضاً كان للمشتري قدر قيمة ديناره وثلث الباقي من السيف والحلية وعشر من ثلثي الباقي للورثة؛ لأن تعذر فسخ العقد هاهنا؛ لأن المعقود عليه مستهلك فكان ضمان حصة الورثة من ذلك وهو قيمة ثلثي الباقي بعد قيمة الدينار. وهذا لأن المقبوض لو كان قائماً في يد المشتري كان لورثة المريض استرداد ذلك، فإذا كان هالكاً كان له استرداد البدل بمنزلة استرداد المبدل، وبقي له تسعمائة درهم لا مال له غيرها باعها بدينار قيمته تسعمائة دراهم وقبض مشتري الدينار الدينار وقبض الأخر مئة درهم وافترقا ثم مات المريض والدينار قائم في يده والدراهم كذلك فإجازة الورثة هاهنا، وعدم إجازتهم سواء. ويسلم لمشتري الدراهم مئة درهم بتسع الدينار ويرد الورثة عليه بمئة أتساع الدينار وهذا؛ لأن الدينار قوبل بتسعمائة فيكون بمقابله كل مئة تسع دينار، فإذا قبض مشتري الدراهم من الدراهم مئة ولم يقبض الباقي حتى تفرقا فقد انتقض العقد في ثمان مئة درهم بثمانية أتساع الدينار في مئة درهم بتسع الدينار، فيسلم للمشتري مئة درهم بتسع الدينار. وإن كان قيمة المئة أكثر من تسع الدينار؛ لأن ما زاد على قيمة تسع الدينار محاباة للمشتري، وأنها يخرج من ثلث مال المريض فيسلم ذلك للمشتري أجازت الورثة أو لم يجيزوا، وجب على ورثة المريض رد ثمانية أتساع الدينار على المشتري؛ لأن ذلك في أيديهم بحكم عقد قد فسد. وكذلك لو كان له مشتري الدراهم قبض من الدراهم مئتي درهم فإجازة الورثة وعدم إجازتهم سواء، ويسلم للمشتري مئتا درهم بتسعي الدينار، وإن كان مائتا درهم أكثر من قيمة تسعي الدينار؛ لأنه محاباة يخرج من ثلث مال المريض. وكذلك إذا كان مشتري الدراهم قبض من الدراهم ثلاث مئة فإجازة الورثة في هذا وعدمها سواء، يسلم لمشتري الدراهم ثلاث مئة درهم بثلاثة أتساع الدينار؛ لأن المحاباة تخرج من ثلث مال المريض. وإن كان مشتري الدراهم قبض من الدراهم أربعمئة فهاهنا يحتاج إلى إجازة الورثة؛ لأن المحاباة تزيد على ثلث المال هاهنا، فإن أجازت الورثة ذلك سلم للمشتري أربعمائة درهم وسلم للورثة أربعة أتساع الدينار ولزم الورثة رد خمسة أتساع الدينار على المشتري، وإن لم تجز الورثة ذلك فالمشتري بالخيار، وإن شاء نقض البيع ورد ما قبض من الدراهم وأخذ ديناره، وإن شاء أخذ مما قبض من الدراهم قدر قيمة أربعة أتساع الدينار وثلث جميع المال وذلك ثلاث مئة ورد الباقي على الورثة، وإن لم يقبض مشتري الدراهم شيئاً من الدراهم يرد على الورثة دينارهم؛ لأن العقد قد فسد في جميع الدينار والوصية كانت في ضمن البيع فإذا بطل البيع بطلت الوصية.

وهل يجب على المشتري رد ذلك الدينار بعينه أم لا؟ فالمسألة على روايتين، فإن الدينار مقبوض بحكم عقد فاسد وفي تعيين الدراهم والدنانير في البيع الفاسد للرد روايتان، ولو لم يتفرقا ولم يمت المريض المشتري بتسعة وخمسين ديناراً وتقايضا فهو جائز كله إن كان قيمة كل دينار عشرة؛ وهذا لأن قيمة كل دينار متى كان عشرة صار المريض بائعاً تسعمئة بما يساوي ستمئة؛ لأن ثمن الدراهم صار ستون ديناراً لما زاد مشتري الدراهم تسعة وخمسين ديناراً، فتكون المحاباة بقدر ثلاث مئة وذلك يخرج من ثلث ماله فيجوز أجازت الورثة أو لم يجيزوا؟. وإن كان المريض وكل وكيلاً فباعها من هذا الرجل بدينار ثم مات المريض قبل أن يتقابضا، فقال المشتري: أنا آخذ تسعمئة بتسعين ديناراً فهو جائز إذا رضي به الوكيل؛ لأن الزيادة من المشتري وجدت حال قيام العقد صحت إذا رضي به الوكيل، ما إن أنها حصلت حال قيام العقد لأن العقد قد صح من الوكيل؛ لأنه باع قبل موت المريض، وإنما بقي القبض لا غير، والقبض حق الوكيل؛ لأنه ملكه بحكم العقد كأنه عقد لنفسه والوكيل حي وهو مع المشتري في مجلس العقد بعد فبقي العقد على الصحة بعد موت المريض. فإذا زاد المشتري في الثمن وقد وجدت الزيادة حال قيام العقد صحت إذا رضي به الوكيل، وإنما شرطنا رضا الوكيل لصحة الزيادة؛ لأن العاقد سَوَّى الوكيل فيتوقف صحتها على رضا الوكيل؛ وهذا لأن الزيادة إذا صحت التحقت بأصل العقد وصار كأن العقد من الابتداء ورد على الأصل والزيادة، ثم ابتداء العقد بالزيادة لا تصح إلا برضا الوكيل فكذا هاهنا، وهذا بخلاف ما لو عقد المريض بنفسه ثم مات قبل القبض فأراد المشتري أن يزيد في الثمن حتى تزول المحاباة لا يقدر عليه؛ لأن العقد بطل بموت المريض؛ لأن حق القبض للوكيل وإنه حي فأمكن القول بصحة الزيادة. قالوا: وتأويل هذه المسألة أن المريض وكل هذا الرجل ببيع الدراهم وفوض الرأي إليه بأن قال: اعمل فيها برأيك، أو قال: ما صنعت فيها من شيء فهو جائز حتى يكون بيع الوكيل جائزاً على المريض مع المحاباة فيكون بمنزلة بيع المريض، فإذا زاد المشتري بزيادة ورفع المحاباة يجوز، فإما إذا لم يفوض إليه الرأي لا يجوز العقد. وإن زاد المشتري على اختلاف المذهبين أما على (155ب3) قولهما؛ فلأن الوكيل بالصرف وكيل بالبيع من وجه وبالشراء من وجه، وبأي ذلك اعتبرناه لا يحتمل منه المحاباة الفاحشة، ولا يجوز بيعه على المريض، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله؛ فلأنه وكيل بالبيع من وجه وبالشراء من وجه فمن حيث إنه وكيل بالبيع إن جاز تصرفه مع المحاباة على المريض، فمن حيث إنه وكيل بالشراء لا يجوز تصرفه مع المحاباة على المريض وقع الشك في جواز تصرفه على المريض فلا يجوز بالشك. وإذا باع المريض ألف درهم بمئة درهم وتقابضا ثم مات من مرضه ذلك فهذا لا يجوز؛ لأنه ربا، ألا ترى أنه لو كان ذلك من الصحيح لا يجوز لمكان الربا فكذا من المريض. قال: والذي أعطى المئة أن يمسك مئة من ثمانية ويرد الباقي، قالوا: وهذا على

الرواية التي تقول فيها إن المقبوض من الدراهم بحكم عقد فاسد لا يتعين للرد؛ لأن على هذه الرواية حق صاحبه المئة يكون في مئة لا بعينها وقد ظفر بحبس ذلك من مال المريض فيأخذه. فأما على الرواية التي يقول فيها إن المقبوض من الدراهم بحكم عقد فاسد يتعين للرد على الذي أعطى المئة إن رد جميع الألف المقبوضة على ورثة المريض ويرجع عليهم ثمانية إن كانت مئة قائمة بعينها ولا شيء لصاحب المئة من الوصية هاهنا؛ لأن وصية في ضمن البيع وقد وقع البيع باطلاً فما في ضمنه يكون باطلاً أيضاً. قال: وإن كان صاحب المئة أعطى مع المئة ثوباً أو ديناراً كان ذلك بيعاً صحيحاً على أن تكون المائة بالمائة، والباقي بإزاء الثوب أو الدينار، فإن مات المريض يجيز ورثته؛ لأنه صار بائعاً تسعمئة درهم بدينار فصار محابياً بأكثر من ثلث ماله فكان للورثة الخيار، فإن أجازوا ما صنع المريض سلم للورثة مئة دينار وسلم لصاحب المئة الألف كلها، فإن لم يجيزوا فصاحب المئة بالخيار لتغير شرطه ومقصوده، فإن شاء نقض البيع ورد الألف وأخذ مئته وديناره على إحدى الروايتين. وعلى رواية أخرى: إن شاء نقض البيع وأمسك من الألف مئة ثمانية ورجع على ورثة المريض بديناره إن كان قائماً، وإن شاء أجاز البيع وأخذ من الألف مئة وقيمة ديناره؛ لأنه محاباة في ذلك القدر ثم يأخذ ثلث جميع مال المريض إن كان ديناره ومئته قائمةً وثلث ما بقي إن كان هالكاً. وإذا كان للمريض إبريق فضة فيه مئة درهم وقيمتها عشرون ديناراً فباعه بمئة درهم وقيمتها عشرة دنانير فتقابضا ثم مات المريض من مرضه، وأبى الورثة أن يجيزوا ذلك فللمشتري الخيار، فإن شاء فسخ العقد ورد الإبريق وأخذ دنانيره، وإن شاء أمضى العقد وأخذ ثلثي الإبريق بثلثي المئة، ويرد ثلث الإبريق على الورثة. والوجه في ذلك: أن يقول لا وجه إلا أن يصحح هذا العقد بأن يرد مئة أخرى حتى تصير قيمة الإبريق مئتي درهم فتبقى المحاباة؛ لأنه يصير مشترياً مئة درهم، وإنه ربا؛ إذ لا قيمة للصنعة والجودة فيما بين المتعاقدين في أموال الربا، ولا وجه إلى أن يصححه بأن يزيد في الثمن من خلاف جنس الثمن إلى تمام ثلثي الإبريق؛ لأنه في إثبات الزيادة على هذا الوجه إبطالها، لأن الزيادة تصير ثمن الإبريق، فيصير صرفاً ولم يقبض في المجلس، ولا وجه إلى أن يجوز العقد في جميع الإبريق بمائة؛ لأن فيه إبطال حق الورثة في الصنعة والجودة، ولا وجه إلى أن يفسخ العقد في الكل إذا لم يرض به المشتري لما فيه من إبطال الوصية له بقدر الثلث.g وإذا انتفت هذه الوجوه عيّنا تجويز العقد في ثلثي المائة؛ لأنه يقع الخلاص عن الربا، ولا يبطل حق الورثة في الصنعة، ولا تبطل وصية المشتري ويحصل تنفيذ الوصية بقدر ثلث مال المريض ويسلم للورثة ثلثا مال المريض. بيانه وهو: أن حق الورثة في ثلثي مال المريض وجميع مال المريض إبريق قيمته عشرون ديناراً ذلك ثلاثة عشر وثلث، فإذا جوزنا العقد في ثلثي الإبريق بثلثي الثمن،

الفصل الخامس عشر: في الاستبدال ببدل الصرف

ورددنا ثلث الإبريق على الورثة فقد سلم للورثة ثلث الإبريق، وقيمته ستة وثلثان، وسلم لهم من ثمن الإبريق ثلثا المائة ستة وستون وثلثان وقيمته ستة دنانير، فجملة ذلك ثلاثة عشر ديناراً وثلث دينار، وهذا هو تمام حقهم وسلم للمشتري ثلثا الإبريق، وقيمته ثلاثة عشر وثلث بثلثي مائة وقيمته ستة وثلثان فكان السالم للمشتري بطريق الوصية ستة دنانير وثلث دينار فاستقام الثلث والثلثان. الفصل الخامس عشر: في الاستبدال ببدل الصرف قال محمد رحمه الله: إذا اشترى الرجل عشرة دراهم بدينار فنقد مشتري الدينار لتسعة دراهم وبقي درهم، ونقد مشتري الدراهم الدينار فلم يتفرقا حتى قال مشتري الدراهم لمشتري الدينار يعني بالدرهم لي عليك كذا فباعه، فإن البيع لا يجوز ولا يبرأ مشتري الدينار عن بدل الصرف، وقال زفر رحمه الله: يجوز البيع، ولكن مشتري الدينار لا يبرأ عن بدل الصرف. واعلم بأن الاستبدال ببدل الصرف قبل القبض لا يجوز أجمع عليه أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر رحمهم الله، غير أن زفر قال: بجواز البيع في هذه الصورة؛ لأنه يجوز هذا البيع بمثل بدل الصرف وتبقى الإضافة إلى بدل الصرف في حق تعلق العقد به وتقررها في حق بيان قدر الواجب وصفته، فلا يكون هذا استبدالاً ببدل الصرف قبل القبض، ونحن نعتبر الإضافة إلى بدل الصرف في حق تعلق العقد به من وجه، فيكون هذا استبدالاً لا ببدل الصرف من وجه، وإنه لا يجوز كالاستبدال من كل وجه. وإنما لم يجز الاستبدال ببدل الصرف قبل القبض عندنا لوجهين: أحدهما: أن الاستبدال ببدل الصرف قبل القبض يفوت قبض بدل الصرف من حيث الحقيقة، فإنه لا يوجد قبض الدراهم التي هو بدل الدينار من مشتري الدراهم بعد استبدال به، وإنما يوجد قبض بدل الثوب أو الدينار التي اشترى، وفوات قبض بدل الصرف يوجب بطلان الصرف، فيكون الاستبدال ببدل الصرف سبباً لفساد الصرف يكون فاسداً. الوجه الثاني: إن كل واحد من بدل الصرف ثمن من وجه إما كونه ثمناً فظاهر، وأما كونه مثمناً؛ لأن عقد الصرف بيع؛ لأنه مبادلة مال بمال والبيع ليس إلا مبادلة، ولهذا قالوا: إذا حلف أن لا يبيع فصارف يحنث في يمينه، فثبت أن عقد الصرف بيع. قلنا: والبيع ما يشتمل على مبيع وثمن، وليس أحد البدلين إذا كانا دراهم أو دنانير بأن يجعل مبيعاً والآخر ثمناً بأولى (156أ3) من الأخر، فجعل كل واحد منهما مبيعاً وثمناً من وجه ضرورة انعقاد البيع، وإن كان كل واحد منهما مبيعاً حقيقة كذا هاهنا. وإذا صار كل واحد منهما ثمناً من وجه مثمناً من وجه، فنقول: إن جاز الاستبدال به قبل القبض من حيث إنه ثمن لا يجوز الاستبدال به قبل القبض من حيث إنه مثمن، فلا

يجوز الاستبدال بالشك، هذا كما في التأجيل في بدل الصرف إنه لا يجوز إن كان يجوز من حيث إنه ثمن لا يجوز من حيث إنه مثمن، فلا يجوز بالشك. فإن قيل: لو كان بدل الصرف ثمناً من وجه مثمناً من وجه لكان يشترط قيام الملك فيه حالة العقد حتى لا يصير بائعاً ما ليس عنده بالإجماع، لم يشترط قيام الملك في الدراهم والدنانير وقت العقد. فقد ذكرنا في صدر هذا الكتاب لو باع رجل آخر ديناراً بدراهم، وليس في ملك هذا دينار ولا في ملك ذلك دراهم ثم استقرض هذا ديناراً ودفعه إلى مشتري الدينار واستقرض ذلك دراهم ودفعها إلى مشتريها، فإنه يجوز. قلنا: الدراهم والدنانير قبل العقد وحالة العقد ثمن من كل وجه، وإنما يعتبر مثمناً من وجه بعد العقد؛ لأن اعتباره مثمناً بسبب العقد ضرورة أن العقد لابد له من مثمن كذا لابد له من ثمن، فيعتبر كونه مثمناً بعد العقد لا قبله ولا يشترط قيام الملك فيه قبل العقد، هذا كما في بيع العرض بالعرض، فإن كونه ثمناً قبل العقد بوجه من الوجوه؛ لأنه مثمن في الأصل، وإنما يصير ثمناً بسبب العقد ضرورة أن العقد لابد له من ثمن، فيعتبر كونه مثمناً قبل العقد حتى يشترط قيام الملك في كل واحد منهما حالة العقد، ويتعلق العقد بهما، ويعتبر كونه ثمناً بعد العقد حتى لا ينفسخ العقد بهلاك أحدهما بعد البيع، كما لو كان ثمناً من كل وجه كذا هاهنا، وإذا اعتبرت المثمنية قبل العقد في البدلين من كل وجه لا يشترط قيام الملك فيهما قبل العقد، فلا يتعلق العقد بالمشار إليه. فإن قيل: أليس أنه لو اشترى قلب فضة بدراهم، واستبدال بالدراهم قبل القبض لا يجوز عندكم مع أن الدراهم بمقابلة القلب ثمن من كل وجه؛ إذ لا ضرورة إلى جعله مثمناً من وجه؛ لأن القلب بمقابلته مثمن من كل وجه. قلنا: جواز الاستبدال ببدل القلب إن كان لا يمتنع للوجه الثاني؛ لأن الدراهم بمقابلة القلب ثمن من كل وجه يمتنع للوجه الأول أن الاستبدال ببدل القلب لو صح يفوت قبض بدل القلب، وفوات قبض بدل القلب يوجب فساد الصرف، وإن كان دراهم أو دنانير، وما يكون سبباً لفساد العقد يكون فاسداً في نفسه. ففي الكلام مع زفر رحمه الله في جواز هذا البيع. فوجه قوله: إن هذا شراء ضعيف إلى دراهم دين، فيتعلق العقد بمثله لا بعينه كما في سائر الديون سوى بدل الصرف، فإن في سائر الديون لا يتعلق العقد بالدين المضاف إليه حتى لو تصادقا بعد ذلك أنه لا دين لا يبطل البيع، فإذا لم يتعلق العقد بعين بدل الصرف لا يكون هذا استبدالاً ببدل الصرف قبل القبض فيجوز. ثم فرق زفر رحمه الله بينما إذا أضيف العقد إلى الدراهم الدين، وبينما إذا أضيف العقد إلى الدراهم العين، فقال: إذا أضيف العقد إلى الدراهم العين يتعلق بها، وإذا أضيف إلى الدراهم الدين لا يتعلق العقد بها. والفرق له: أن في الدين التعيين أضيف إلى غير محله، فيصح التعيين كما في سائر

المضافة إلى محالها وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: بأن التعيين أضيف إلى ما هو مثمن من وجه لما ذكرنا أن الدراهم والدنانير إذا قوبل بعضها ببعض وكل واحد من البدلين مثمن من وجه، فصار مشتري الدراهم مشترياً بما هو مثمن من وجه، والشراء المضاف إلى المثمن يتعلق بعينه، وإذا تعلق بعينه جعل المشتري مستبدلاً ببدل الصرف قبل القبض، وإنه لا يجوز بخلاف الشراء المضاف إلى سائر الديون سوى بدل الصرف؛ لأن هناك الشراء حصل بما هو ثمن من كل وجه، والشراء بالمضاف إلى الثمن من كل وجه لا يتعلق بعينه، أما هاهنا بخلافه. وإذا اشترى الرجل عشرة دراهم بدنانير وتقابضا إلا بدرهم واحد بقي من العشرة، وليس عند بائع الدراهم الدرهم العاشر، فأراد الذي اشترى الدراهم أن يأخذ عشر الدينار، فله ذلك. وهذا الجواب على هذا الإطلاق الذي قاله محمد رحمه الله يستقيم بعد ما تفرقا عن مجلس العقد قبل نقد الدرهم العاشر؛ لأنه بعد ما تفرقهما انتقض الصرف بقدر عشر دينار وصار عشر الدينار على مشتري الدينار، فلبائع الدينار أن يطالب المشتري بذلك رضي المشتري أم سخط. فأما قبل التفرق: إذا أراد أن يأخذ عشر دينار من مشتري الدينار فليس له ذلك إلا برضى مشتري الدينار بذلك؛ لأن الصرف صحيح قبل التفرق في جميع الدينار، وإن لم يكن عند مشتري الدينار الدرهم العاشر، فيكون حق بائع الدينار في الدرهم العاشر وحق مشتري الدينار في جميع الدينار، فإذا قيل له: أعطني عشر دينار، فكأنه قال: أقلني العقد بقدر عشر دينار، فإن رضي مشتري الدينار بذلك جاز وإن لم يرض لا يجوز. فأما إذا قال له: بعني بعشر دينار فلوساً مسماة أو عرضاً مسماة فباعه بذلك كان جائزاً باعه قبل التفرق أو بعد التفرق، فلا إشكال؛ لأن الصرف انتقض بقدر عشر دينار لفوات قبض بدله، فصار حق بائع الدينار بعد التفرق في عشر الدينار في ذمة مشتري الدينار. فإذا قال: بعني بذلك شيئاً بعد استبدال ببدل الصرف بعد الفسخ قبل القبض، فإنه جائز، وإن كان قبل التفرق فكذلك يجوز؛ وذلك لأن بائع الدينار كما قال: أعطني بعشر دينار فلوساً فقد طلب منه أن يصير عشر دينار حقاً له في ذمة المشتري حتى يجوز له أخذ الفلس عوضاً عنه، وإن عشر الدينار قبل التفرق حقاً لبائع الدينار إلا بالفسخ، فكأنه قال: أقلني الصرف بقدر عشر دينار حتى لا يصير حقاً لي بالفسخ ثم أعطني بذلك فلوساً أو عرضاً، فإذا رضي الآخذ بذلك انفسخ (156ب3) الصرف بقدر عشر دينار، فصار مستبدلاً ببدل الصرف قبل القبض بعد الفسخ، وإنه جائز. وهذا بخلاف ما لو قال بائع الدينار: بعني بالدراهم شيئاً، فإنه لا يجوز سواء باعه بالدراهم العاشر شيئاً قبل التفرق أم بعد التفرق، فأما قبل التفرق؛ فلأنه استبدل ببدل الصرف قبل القبض حال بقاء عقد الصرف؛ لأنه طلب منه أن يبيع بالدرهم شيئاً والدرهم

الفصل السادس عشر: فيما يكون قصاصا ببدل الصرف وما لا يكون

حقه بعقد الصرف، فإنه ملك الدرهم بعقد الصرف، وإنما يبقى الدرهم العاشر حقاً له ببقاء الصرف، فلا يكون بيعه الدرهم منه طلباً للفسخ بل يكون استبدالاً ببدل الصرف، وإنه لا يجوز. وأما بعد التفرق؛ لأنه اشترى شيئاً بدين يعلمان ليس عليه دين، ومن اشترى شيئاً من غيره بدين حاله عليه يعلمان أنه لا دين له عليه، فإنه لا يجوز هذا الشراء، ويكون هذا الشراء بعين الثمن، لأنه سمى ما لا يتصور ثمناً، فكأنه قال: اشتريت بغير ثمن. وفي كتاب الصرف: إذا اشترى الرجل ألف درهم بعينها بمائة دينار والدراهم بيض، فأعطاه مكانها سوداء، ورضي بها البائع جاز؛ وذلك لأن هذا ليس باستبدال، فالسود والبيض من الدراهم جنس واحد، وإنما البراءة عن صفة الجودة خير يجوز بالسود، فكان مشترياً بهذا الطريق لا مستبدلاً. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: ومراده من السود الدرهم المضروب من النقرة السود لا الدراهم البخارية؛ لأن أخذ البخارية مكان الدراهم البيض لا يجوز؛ لأنه يكون استبدالاً لاختلاف الجنس، وكذلك لو قبض مشتري الدراهم وأراد أن يعطي ضرباً أخر من الدنانير سوى ما شرط لا يجوز إلا برضا صاحبه، وإذا رضي به صاحبه كان مستوفياً لا مستبدلاً لا يكون الجنس واحداً قبل هذا إذا أعطاه ضرباً دون المسمى، فأما إذا أعطاه ضرباً فوق المسمى، فلا حاجة إلى رضى صاحبه. الفصل السادس عشر: فيما يكون قصاصاً ببدل الصرف وما لا يكون رجل له على رجل عشرة دراهم، فباعه الذي عليه العشرة دنانير وترك العشرة ودفعه الدينار إليه، فهو جائز. وهذا صرف بدين مسبق وجوده، والصرف بدين مسبق وجوبه جائز لحديث عبد الله ابن عمر، فإنه يروى أنه رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّموقال: إني أكري الإبل بالبقيع إلى مكة بالدراهم وآخذ مكانها دنانير، أو بالدنانير وآخذ مكانها دراهم، وربما قال أبيع، فقال عليه السلام: «لا بأس إذا افترقتما، وليس بينكما عمل» . ومن هذا الجنس ثلاث مسائل: أحداهما هذه. الثانية: رجل له على رجل عشرة دراهم، فباعه الذي عليه العشرة ديناراً بعشرة دراهم ودفع الدينار حتى وجب لكل واحد منهما على صاحبه عشرة، ثم جعل العشرة التي هي ثمن الدينار قصاصاً، وهذا استحسان أخذ به علماؤنا الثلاثة. والقياس: أن لا يصير قصاصاً، وهو قول زفر ولقب المسألة أن المتصارفين إذا

جعلا بدل الصرف قصاصاً بدين وجب قبل عقد الصرف استبدال ببدل الصرف وليس باستيفاء؛ لأن علامة الاستيفاء قبض مال مضمون من جنس بدل الصرف بعد عقد الصرف لا على وجه الاقتضاء بدين آخر، ولم يوجد قبض مثل هذا المال بعد عقد الصرف؛ لأن صاحب آخر الدينين يكون قاضياً لأولهما، وصاحب أول الدينين يكون مقضياً؛ لأن القضاء يتلوا الوجوب ولا يسبقه، ودين الصرف وجب آخراً، فمتى جازت المقاصة صار بائع الدينار قاضياً ببدل الصرف ديناراً كان عليه قبل عقد الصرف، وفي القضاء استبدال؛ لأنه تملك مكان بدل الصرف ما في الذمة والاستبدال ببدل الصرف لا يجوز. وعن هذا قالوا: إذا سلم عشرة دراهم في كر حنطة ثم أراد أن يتقاصا رأس مال السلم بدين كان واجباً لرب السلم قبل عقد السلم لا يجوز؛ لأنه استبدال رأس مال السلم، وكذا لو كان للمسلم إليه كر قبل عقد السلم هو مثل السلم ثم حل السلم فأرادا أن يجعلا المسلم فيه قصاصاً بما كان واجباً للمسلم إليه على رب السلم قبل عقد السلم لا يجوز، وإنما لا يجوز؛ لأنه استبدال بالمسلم فيه قبل القبض فيه كذا هاهنا. وجه الاستحسان من وجهين: أحدهما: لو أخذ ما على هذه المقاصة فقد قصدا تصحيحهما بتعلق العقد ملك العشرة التي وجبت ديناً قبل عقد الصرف بتلك العشرة جائزاً على ما بينا، ولذلك طريقان: أحدهما: أن ينفسخ الصرف المرسل وينعقد صرف آخر بتلك العشرة، كما لو باع بألف درهم ثم باع بألفين أو يبقى أصل العقد المرسل، ولكن بتغير وصف، فإنه إلى الآن كان منعقداً بوصف الإطلاق، والآن يتقيد بذلك العشرة، وهما مكان إبطال العقد ويعتبره كما يملكان إبقاءه، فيتضمن على هذه المقاصة والحالة هذه فسخ الصرف المرسل وتحديد صرف الآخر بتلك العشرة أو يعتبر الصرف المرسل وتعليق العقد بتلك العشرة كما في الزيادة في الثمن والمثمن. ولهذا لم تصح هذه المقاصة إلا بتراضيهما، وإن كان جنس الدين واحداً؛ لأن طريق تصحيح هذه المقاصة فسخ ما عقدا من الصرف المرسل أو يعتبره، وفسخ العقد أو يعتبره لا يصح وجود التراضي منهما بخلاف السلم؛ لأن تصحيح ما قصدا في السلم غير ممكن بالطريق الذي عيناه في الصرف، وهو فسخ السلم المرسل، وإثبات سلم آخر أو يعتبره وتعليق بتلك العشرة، فإنهما لو صرحا بذلك وقالا: فسخنا السلم وحددنا تلك الدين لا يجوز؛ لأن السلم بدين سبق وجوبه لا يجوز. ألا ترى إن قال لغيره: أسلمت إليك العشرة الدين التي لي عليك في كر حنطة لا يجوز، وفي الصرف لو صرحا بذلك لا يجوز؛ لأن الصرف بدين سبق وجوبه وهي المسألة الأولى. الوجه الثاني: وفي هذا الوجه لا يحتاج إلى التعريض لفسخ العقد المرسل ولا لتغييره ولكن يقول: القياس يأبى جواز هذه المقاصة، وإن تقاصا؛ لأنه استبدال وليس باستيفاء على ما مر، ولكن تركنا القياس فيه لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما،

فإن فيه أن رسول الله جوّز الصرف بدين وجب قبل عقد الصرف، ومتى جاز الصرف بدين واجب عليه قبل عقد الصرف يصير قاضياً ببدل الصرف ديناً وجب عليه قبل عقد الصرف علمنا أن قضاء دين وجب قبل عقد الصرف ببدل الصرف جائز. وإذا جاز هذا في الصرف المضاف إلى الدين فكذ (157أ3) في الصرف المرسل إلا أنه لم نجز هذه المقاصة قبل تراضيهما عليها، وإن لم يثبت فسخ ما عقد من الصرف على هذا الوجه؛ لأن جواز هذه المقاصة بحديث عبد الله بن عمر كخلاف القياس، والحديث يقتضي جواز حال وجود الرضا منهما؛ لأن الحديث ورد في الصرف المضاف إلى الدين، والصرف المضاف إلى الدين لا يصح إلا بتراضيهما، فحال عدم التراضي يعمل فيه بقضية القياس. والقياس يأبى جواز هذه المقاصة بخلاف السلم على هذا الوجه؛ لأن جواز هذه المقاصة في السلم لو كان، كان بدلالة حديث عبد الله بن عمر لا بصريحه، وفي السلم صريح نص بخلافه، وهو قوله عليه السلام: «ولا تأخذ إلا سلمك أو رأس مالك» ، فكان العمل في السلم بصريح النص أولى. المسألة الثالثة: رجل باع من أخر ديناراً بعشرة دراهم ودفع الدينار، ولم يقبض العشرة حتى وجب لمشتري الدينار عشرة دراهم على بائع الدينار، فأراد مشتري الدينار أن يحمل ما وجب له قصاصاً بما وجب عليه من بدل الصرف، ووصى به بائع الدينار، ولقب المسألة أن المتعارفان إذا تقاصّا بدل الصرف بدين وجب بعد عقد الصرف. والجواب فيها: أن ينظر إن وجب هذا الدين بعد عقد الصرف بالغصب أو القرض بأن غصب أو استقرض بائع الدينار من مشتري الدينار عشرة دراهم وقصاصاً تقاصا أو لم يتقاصا؛ لأنه وجد بعد عقد الصرف قبض حقيقي وهو من جنس المستحق بعقد الصرف، وإنه قبض مضمون فيعتبر واقعاً بجهة الصرف. ألا ترى أن مثل هذا في السلم يجوز حتى أن رب السلم إذا غصب من المسلم إليه بعد عقد السلم وبعد ما حل الأجل كراء هو مثل المسلم فيه أو استقرض كراء هو مثل المسلم فيه يصير قصاصاً أو لم يتقاصا، وكذلك المسلَّم إليه إذا غصب من رب السلم أو استقرض منه دراهم هي مثل رأس المال تقاصا أو لم يتقاصا. وأما إذا وجب هذا الدين بعد عقد الدين عقد الصرف بسبب الشراء بأن باع مشتري الدينار من بائع الدينار ثوباً بعشرة دراهم إن لم يجعلاه قصاصاً لا يصير قصاصاً باتفاق الروايات. وإن جعلاه قصاصاً ذكر في «الزيادات» وفي كتاب الصرف في رواية أبي سليمان: أنه يصير قصاصاً، وذكر في رواية أبي حفص: أنه لا يصير قصاصاً. وجه ما ذكر في «الزيادات» وفي رواية أبي سليمان: أنهما لما أقدما على هذه المقاصة فقد أنشأ عقد الصرف على هذا الدين، ومن ضرورته انفساخ الصرف المرسل؛

الفصل السابع عشر: في بيع الموزون بجنسه أو بخلاف جنسه وبيع المكيل كذلك وما يتصل بهما

وهذا لأنه لا صحة لهذه المقاصة إلا بعد انفساخ الصرف المرسل، وإنشاء صرف آخر على هذا الدين الواجب بعد عقد الصرف، ولو صرحا بذلك أليس أنه يجوز؟ كذا هاهنا. وجه ما ذكر في رواية أبي حفص: أن جواز هذه المقاصة بدين وجب قبل عقد الصرف عرف بخلاف القياس بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، والحديث الوارد في دين وجب قبل عقد الصرف لا يكون وارداً في دين وجب بعد عقد الصرف؛ لأن هذا صريح نصوص أُخر بخلافه يوجب قبض بدلي الصرف وهو آثار الصحابة رضي الله عنهم، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يميل إلى رواية «الزيادات» ورواية أبي سليمان. حكى ذلك عنه القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله، وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة أبو بكر محمد ابن أبي سهل السرخسي رحمه الله يميل إلى رواية أبي حفص رحمه الله. ومما يتصل بمسائل المقاصة وإن لم يكن من جنس مسائل هذا الفصل: ما ذكر في «المنتقى» وصورتها: رجل له عند رجل وديعة وللمودع على صاحب الوديعة دين، هو من جنس الوديعة لم تصر الوديعة قصاصاً بالدين قبل أن يجتمعا عليه وبعدما اجتمعا عليه لا يصير قصاصاً أيضاً ما لم يرجع إلى أهله فيأخذها، وإن كانت في يده فاجتمعا على جعلها قصاصاً لا يحتاج إلى شيء أخر غير ذلك، ومتى صار ديناً صار قصاصاً، وحكم المغصوب إذا كان المغصوب قائماً في يد رب الدين وحكم الوديعة سواء، وحكم الدينين إذا كانا مؤجلين أنه لا تقع المقاصة بينهما ما لم يتقاصا، وكذا إذا كان أحدهما مؤجلاً والأخر حالاً، أو كان أحدهما علة والأخر صحاحاً والله أعلم. الفصل السابع عشر: في بيع الموزون بجنسه أو بخلاف جنسه وبيع المكيل كذلك وما يتصل بهما ولا يجوز بيع الإناء المتخذ من الفضة بالدراهم إلا وزناً بوزن، وكذلك لا يجوز بيع الإناء المتخذ من الذهب بالدنانير إلا وزناً بوزن؛ لأن الصياغة فيه بمعنى الجودة ولو كان أحد البدلين جيداً والأخر رديئاً لم يجز ما لم يتساويا وزناً. قال عليه السلام: «جيدها ورديئها سواء» ، فلم يخرج الذهب والفضة عن الوزن بالصفة حتى أثبت الربا بين المصبوغ وغير المصبوغ. وفرق بين الفضة والذهب، وبين الحديد والرصاص والصفر حيث خرجت هذه الأشياء بالصفة عن حد الوزن حتى يجوز بيع إناء متخذ من حديد بحديد غير مصبوغ كيف

ما كان، وجوز بيع إناء متخذ من رصاص برصاص غير مصبوغ كيف ما كان. والفرق: أن وزن الذهب والفضة ثابت بالشرع فما بقي الذهب والفضة يبقى الوزن معتبراً وبعد الصبغة بقي ذهباً وفضة، فيبقى الوزن معتبراً، فهذا موزون بيع بموزون من جنسه، فلا يجوز إلا متساوياً، فأما الوزن في الحديد والصفر والرصاص ما ثبت بالشرع، وإنما ثبت باصطلاح الناس، وما ثبت باصطلاح الناس يبطل باصطلاح آخر منهم بخلاف الاصطلاح الأول حتى باعوها عدداً وتركوا وزنها مع إمكان الوزن، فخرج عن حد الوزن وصار عدداً، فهو عددي بيع بموزون، فيجوز متساوياً ومتفاضلاً حتى قالوا: لو اعتادوا بيع الأواني المتخذة من هذه الأشياء بالوزن لا بالعدد لا يجوز بيعه بغير المصنوع من جنسه إلا متساوياً.g وعن هذا قلنا: إن الناس إذا تعاملوا بيع الأواني المتخذة من هذه الأشياء بالعدِّ يجوز بيع الواحد منها بالاثنين، ولكن يداً بيد، وفي الأواني المتخذة من الذهب والفضة لا يجوز بيع الواحد بالاثنين والطريق ما قلنا. والحديد كله نوع واحد جيده (157ب3) ورديئه سواء، ولا يجوز البيع إلا وزناً بوزن؛ لأن الحكم في الفرع ثبت على الوجه الذي ثبت في الأصل، وفي الأصل وهو الذهب والفضة يجعل أنواع النقرة والذهب نوعاً واحداً فكذا الحديد. وإن افترقا قبل التقابض لا يبطل البيع؛ لأن هذا بيع وليس بصرف ولكن يشترط أن يكون عيناً بعين لينتفي النَّسَاء، وكذلك هذا الحكم في سائر الموازنات، ولا بأس بالنحاس الأحمر بالشبه الشبه واحد والنحاس اثنان يداً بيد؛ لأن الشبه وإن كان من جنس النحاس إلا أنه جعل فيها الأودية والأخلاط حتى صار شبهاً، فيكون الشبه بمثل وزنه من النحاس والباقي من النحاس بإزاء الأخلاط والأودية. فإن قيل: الأخلاط التي تجعل في الشبه صارت مستهلكة حتى لو باع الشبه بالأخلاط التي تجعل في الشبه يجوز كيف ما كان، فينبغي أن لا يكون لها عبرة كالذهب إذا موه به اللجام لا يبقى الذهب غيره. قلنا: على الأخلاط التي في الشبه صارت مستهلكة إلا أن ما اتصل به من الصبغ واللون مال، متقوم يمكن أن يجعل زيادة النحاس بإزاءه كما في مسألة التمويه إذا بيع حديد مموّه بذهب أو فضة بحديد غير مموّه يجوز، فإن كان غير المموّه أكثر يجعل زيادة الحديد بإزاء التمويه. والحاصل ما صار مستهلكاً من هذا الجنس لا يعتبر لجريان الربا أما يعتبر في حق جعل الزيادة بمقابلته. وكذلك لا بأس بالشبه بالصفر الأبيض الشبه واحد والصفر اثنان يداً بيد ولا خير في هذا كله نسيئة؛ لأن الجنس والوزن يجمعهما وبأحد الوصفين يحرم النساء فيهما أولى. قال: والرصاص والقلعي الجيد وإلا صرف الرصاص كله نوع وموزون، ولكن البعض أجود من البعض، فلا يجوز بيع البعض بالبعض إلا مثلاً بمثل. وإذا باع الرجل من أخر سيفاً محلى بفضة بسيف محلى بفضة وقبض أحدهما

السيف الذي اشتراه، ولم يقبض الأخر السيف الذي اشتراه حتى افترقا فسد العقد من الكل. والأصل في جنس هذه المسائل: أن في أموال الربوية يصرف الجنس إلى الجنس في المبادلات إذا لم يكن في صرف الجنس إلى الجنس فساد المبادلة، وإن كان في صرف الجنس إلى الجنس فساد المبادلة يصرف الجنس إلى خلاف الجنس، وإنما وجب صرف الجنس إلى الجنس عند جواز العقد بالنص، وهذا قوله عليه السلام: «الذهب بالذهب مثل بمثل، والفضة بالفضة مثل بمثل» ، فقد جعل الجنس مستحقاً بالجنس حال جواز العقد، فإنه جعل الجنس بالجنس حالة المماثلة وحال المماثلة في الأموال الربوية حال جواز العقد. ونوع من المعنى يدل عليه أنا لو صرفنا الجنس إلى خلاف الجنس احتجنا إلى التقويم بآرائنا واجتهادنا، وإذا صرفنا الجنس إلى خلاف الجنس استغنينا عن الاجتهاد، فإنه لا مزية لأحدهما على الأخر؛ لأن المالية تنشأ عن الذات، فإذا استويا في الذات استويا في القيمة من حيث القطع، وإنما وجب صرف الجنس إلى خلاف الجنس إذا كان في صرف الجنس فساد المبادلة؛ لأن صرف الجنس إلى الجنس إذا لم يكن فيه فساد العقد بالنص ولا نص فيما إذا كان صرف الجنس إلى الجنس فساد العقد، فبطلت. فيه دليل أخر يوجب صرف الجنس إلى خلاف الجنس وهو ظاهر عقلهما ودينهما؛ لأن الظاهر من حال العاقل المتدين مباشرة الصحيح، والجائز من العقود دون الفاسد، والجواز هاهنا يصرف الجنس إلى خلاف الجنس. إذا ثبت هذا فنقول ليس في صرف الحلية إلى الحلية هاهنا فساد العقد، أما إذا كانت الحليتان في الوزن على السواء فظاهر، فأما إذا كان أحداهما أقل من الأخرى؛ فلأن أقلهما يكون بمثل وزنها من الأخرى، والباقي من الحلية التي هي أكثر مع حقه ونصله بمقابلة الجفن والنصل من الآخر، فصرفنا الجنس إلى الجنس. وإذا فعلنا هكذا كانت الحلية فإذا افترقا من غير قبض أحداهما فقد بطل العقد في صحة الحلية لوجود الافتراق قبل قبض البدل الصرف، فيبطل في الكل؛ لأن الكل بمنزلة شيء واحد وقد مر جنس هذا فيما تقدم. فإن قيل: إن لم يكن في صرف الجنس إلى الجنس هاهنا فساد العقد في الحال ففيه فساد العقد في الثاني، وهو ما إذا افترقا من غير قبض إحداهما، وليس في صرف الجنس إلى خلاف الجنس فساد العقد لا في الحال ولا في الثاني؛ لأن العقد حينئذ لا يكون صرفاً أصلاً، وكما يحتال لتصحيح العقد يحتال لإيفاء العقد على الصحة. ألا ترى أن من اشترى من أخر ثوباً وعشرة دراهم بعشرين درهماً وقبض مشتري الثوب والدراهم الثوب والدراهم ونقد عشرة دراهم ولم يقل: إنها بمقابلة الدراهم أو بمقابلة الثوب يجعل بمقابلة

الدراهم، وإنما يجعل بمقابلة الدراهم إيفاء للعقد على الصحة كذا هاهنا. قلنا: إنما يحتال لبقاء العقد على الصحة إذا أمكن، أما إذا لم يمكن فلا؛ وهذا لأن الاحتيال لإيفاء العقد على الصحة بحكم ظاهر عقلهما ودينهما؛ لأن الظاهر من حال العاقل الدين أنه يقصد مباشرة العقد على وجه يبقى على الصحة، وبقاؤه على الصحة هاهنا يصرف الجنس إلى خلاف الجنس، إلا أن في هذا الظاهر تعارض؛ لأن هذا الظاهر كما يقتضي صرف الجنس إلى خلاف الجنس يقتضي صرف الجنس إلى الجنس حتى يجب التقابض في مجلس الصرف، فيحصل مقصود كل واحد منهما من عقد الصرف؛ لأن مقصود كل واحد منهما من عقد الصرف لا يتم إلا بالقبض، وليس أحد الظاهرين بالاعتبار بأولى من الآخر؛ إذ ليس في اعتبار أحدهما فساد العقد وفي اعتبار الآخر جوازه، فسقط اعتبار كلا الظاهرين ويعمل فيه بظاهر قوله عليه السلام: «الذهب بالذهب مثل بمثل» . بخلاف ما ذكر من المسألة؛ لأن هناك الاحتيال لإيفاء العقد على الصحة ممكن؛ لأنه لا يعارض فيما ذكرنا من الظاهر؛ لأن في جعل المنقود بمقابلة العشرة إيفاء العقد على الصحة، وليس في جعله بإزاء الثوب تفويت عرض المتعاقدين، فعملنا بالظاهر الذي قلنا في صرف المنقود إلى العشرة إيفاء العقد على الصحة، وأما هاهنا بخلافه على ما ذكرنا. وإذا اشترى الرجل من أخر سيفاً محلى بفضة بعينه بثوب وعشرة دراهم وتفرقا قبل أن (158أ3) يتقابضا بطل العقد في الكل؛ لأن العشرة التي مع الثوب مصروفة إلى الحلية إن كانت الحلية مثل وزنها، وإن كانت الحلية أكثر من وزنها يصرف العشرة إلى الحلية بمثل وزنها، والباقي من الحلية والنصل والجفن كله بمقابلة الثوب. بناء على ما قلنا: إن في أموال الربوية يصرف الجنس إلى الجنس إذا لم يكن فيه فساد العقد، وليس في صرف الجنس إلى الجنس فهاهنا فساد العقد، فصارت العشرة بمقابلة الحلية، فإذا افترقا قبل التقابض بطل العقد في حصة الصرف، فيبطل في الباقي ضرورة لما مر. ولو باع من آخر ثوباً ونقرة فضة بثوب ونقرة فضة فالفضة تصرف إلى الفضة والثوب؛ إذ ليس في صرف الفضة إلى الفضة فساد العقد ففعلنا كذلك، فإن افترقا قبل القبض التقابض حتى فسد العقد في الفضة بالفضة لا يفسد في الثوب بالثوب؛ لأن العقد في الثوب بالثوب ليس بصرف. بخلاف مسألة السيف المحلى، فإن هناك لا يمكن تسليم الباقي إلا بضرر، ولهذا المعنى لم يجز بيع النصل والجقن بدون الحلية ابتداءً. أما في تسليم الثوب ممكن من غير ضرر، والعقد فيه ليس بصرف، ففساد العقد في الحلية لم يوجب فساد العقد في الصرف، أما في مسألة السيف فبخلافه على ما ذكر.

ولو أن رجلاً باع من آخر ثوباً وديناراً بثوب ودرهم، وتفرقا قبل التقابض بطل العقد فيما تقابل الدينار من الدرهم والدرهم من الدينار، وجاز العقد في الباقي، ولا يصرف الجنس إلى الجنس الثوب إلى الثوب، وإن لم يكن في صرف الجنس إلى الجنس فساد العقد؛ لأن صرف الجنس إلى الجنس عرف بالحديث في الأموال الربوية الذهب بالذهب، والثوب ليس بمال الربا، والدرهم والدينار وإن كانا مال الربا إلا أنهما اختلفا جنساً، وإذا لم يجب صرف البعض على التعيين إلى البعض، هاهنا عمل بقضية المقابلة والمقابلة مطلقة وقضية المقابلة المطلقة انقسام كل جزء من أجزاء كل واحد من البدلين على كل جزء من أجزاء البدل الآخر. قسمنا الدينار والثوب على الدرهم والثوب باعتبار القيمة فما أصاب الدينار من الدرهم يكون صرفاً وما أصاب الثوب من الثوب يكون بيعاً فتبطل حصة الصرف بالافتراق عن المجلس، ولا تبطل حصة الثوب؛ إذ ليس فيه ما يوجب الفساد. وإذا أردت معرفة طريق قسمة الثوب والدرهم على الثوب والدينار. فطريقه: أن يقوم الثوب والدينار، فإن كان قيمة كل واحد منهما عشرة دراهم صار نصف الثوب ونصف الدرهم بإزاء الثوب الذي مع الدينار، وصار نصف الثوب ونصف الدرهم بإزاء الدينار، فصار الثوب الذي مع الدينار مشترى بنصف الثوب والدرهم، وصار الدينار مشترى بنصف ثوب قيمته خمسة وبنصف درهم، فجعل كل نصف درهم جزءاً، فصار خمسة دراهم عشرة أجزاء، وصار نصف درهم جزءاً فصار نصف الثوب ونصف الدرهم على أحد عشر جزءاً، وظهر أن الصرف إنما جرى في جزء واحد من أحد عشر جزءاً من الدينار بنصف درهم، فإذا تفرقا قبل القبض بطل هذا القدر من الدينار بنصف درهم وجاز ما سوى ذلك. وإن أردت أن تقسم الدينار والثوب على الدرهم والثوب، فاقسم بالطريق الذي قلنا، وقوِّم المقسوم عليه وهو الثوب والدرهم، فأما المقسوم وهو الثوب والدينار، فلا حاجة إلى تقويهما، فإذا بطل العقد في حصة الصرف في هذه المسألة لا خيار ولواحد منهما؛ لأن عيب التبعيض بفعل كل واحد منهما، وهو ترك القبض والتسليم، فيكون كل واحد منهما راضياً بعيب التبعيض. ولو باع درهماً ودينارين بدينار ودرهمين صح العقد عندنا، ولا يصرف الجنس إلى الجنس؛ لأن في صرف الجنس إلى الجنس فساد العقد. ولو اشترى رجل من رجل مثقالاً من فضة، ومثقالاً من نحاس بمثقال من فضة وثلاث مثاقيل من حديد، فهو جائز عندنا، ويجعل المثقال من الفضة بمثله من المثقالين، ويجعل النحاس الذي مع هذا المثقال بمثقال فضة وثلاث مثاقيل حديد، وكذلك مثقال صفر ومثقال حديد بمثقال صفر ومثقال رصاص يجوز، ويجعل مثقال صفر بمثقال صفر، والحديد بالرصاص. وإذا اشترى إناء من نحاس برطل من حديد بغير عينه ولم يضرب له أجلاً وقبض

الفصل الثامن عشر: في تصرف المتصارفين في ثمن الصرف قبل القبض

الإناء، فهو جائز إن دفع إليه الحديد قبل أن يتفرقا؛ لأن الحديد موزون، والموزون في الذمة إذا قوبل بعين يصير ثمناً على ما مر في كتاب البيوع خصوصاً إذا صحبه حرف الباء وترك التعيين في الثمن عند العقد لا يضر ولكن يشترط قبض الحديد قبل أن يتفرقا؛ لأن الوزن يجمعهما، والوزن في ثمنين أو في ثمن يحرم النساء إلا أنه في المجلس عفو، وخارج المجلس ليس بعفو. هكذا ذكر المسألة في «الأصل» وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» تفصيلاً، فقال: إن كان ذلك الإناء يباع في العادة عدداً لا وزناً لا يشترط قبض الحديد في المجلس؛ لأن هذا افتراق عن عين بدين في جنسين مختلفين، وإن ذلك الإناء يباع وزناً في العادة، فلا بد من قبض الحديد في المجلس؛ لأنه بيع موزون بموزون من جنسه، والدينية فيه عفو قبل الافتراق، وليس بعفو بعد الافتراق. ولو قبض الحديد في المجلس ولم يقبض الإناء حتى افترقا فالعقد صحيح؛ لأن ما كان ديناً قد تعين بالقبض قبل الافتراق والإناء عين، فترك القبض فيه قبل الافتراق لا يضر. ولو اشترى رطلاً من حديد بعينه برطل من رصاص بغير عينه وقبض الحديد ولم يقبض الرصاص حتى افترقا فسد البيع، ولو قبض الرصاص ولم يقبض الحديد، فالعقد صحيح، والمعنى ما ذكرنا. وإن كان كل واحد منهما بغير عينه، فالعقد فاسد إن تقابضا قبل الافتراق أو لم يتقابضا؛ لأن أحدهما مبيع وهو الذي لم يصحبه حرف الباء، فيكون بائعاً ما ليس عنده لا على وجه السلم. وروي عن محمد: إذا باع بالدراهم الدراهم، وفي أحدهما فضل من حيث الوزن وفي الجانب الذي لا فضل فيه فلوس، قال أبو حنيفة: لا بأس به، ويجعل المثل بالمثل والباقي بمقابلة الفلوس. وقال محمد رحمه الله: ذلك ألف الناس التفاضل واستعملوها فيما لا يحل وسبيل الحديد بالحديد والصفر بالصفر، وما يجري مجرى ذلك مما لا يجري فيه الربا بمنزلة الذهب والفضة (158ب3) في الوجوه كلها إلا في فصل واحد أن التقابض مستحق في بيع الذهب بالذهب أو الفضة غير مستحق في غير ذلك، إذا كان المعقود عليه عيناً. الفصل الثامن عشر: في تصرف المتصارفين في ثمن الصرف قبل القبض إذا أبرأ أحد المتصارفين صاحبه الدين الذي وجب له عليه بالعقد أو وهبه منه أو تصدق به عليه، فإن قبل الذي عليه الدين انتقض الصرف، وإن لم يقبل بقي العقد على حاله؛ وهذا لأن المستحق بعقد الصرف القبض الحقيقي والإبراء إسقاط، وليس بقبض،

الفصل التاسع عشر: في بيع الصرف مرابحة

وسقوط الدين يتضمن فوات القبض ويوجب انفساخ العقد، والعقد لا ينفسخ بتصرف أحدهما، وإنما ينفسخ إذا أجمعوا على الفسخ، فإذا قبل صاحبه فقد ساعده على الفسخ فانفسخ، وإن لم يقبل بقي العقد على حاله. وإذا اشترى منه شيئاً أو قبض عنه شيئاً من غير جنس الدين، فالبيع فاسد وثمن الصرف على حاله بقبضه ويتم العقد، وقال زفر: البيع الثاني جائز؛ لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في العقود في أحد الروايتين عن زفر، فلم يتعلق العقد بعين ذلك الثمن، وكان ما ذكر من بدل الصرف لبيان القدر والجنس كأنه قال ثمة: اشتريت بمثل الدراهم التي في ذمتك، وإما يقول الدراهم، وإن كانت لا تتعين في العقد إلا أن تسليم الثمن واجب عليه، وقد عين بذلك بدل الصرف وقد تعذر إثبات المقاصة من بدل الصرف وبين الثمن؛ لأنه يفوت للقبض المستحق لبدل الصرف فبقيت الإضافة في حق إثبات المقاصة وبقي أثرها في إسقاط وجوب التسليم، وإنه مفسد للعقد يفسد البيع، وبقي الصرف صحيحاً على حاله، ولو أخذ الدراهم أجود أو أردئ مما يخالفه في الوصف، وذلك المقبوض يجري مجرى الدراهم الواجبة بالعقد في معاملات الناس جاز وكان اقتضاء؛ لأنه من جنس حقه، وإن خالفه في الصفه فقد اقتضاه لا استبدالاً. ولو وهب له فلم يقبل الهبة وأبى الواهب أن يأخذ ما وهب أجبر على القبض؛ لأنه يريد فسخ العقد بالامتناع على القبض، فلا يكون له ذلك وستأتي بعض مسائل هذا في فصل المتفرقات. الفصل التاسع عشر: في بيع الصرف مرابحة وإذا باع الرجل قلب فضة فيه عشرة دراهم بدينار وتقابضا ثم باعه بربح دراهم أو بربح نصف دينار فهو جائز، أما إذا باعه بربح نصف فضة وزنه عشرة ديناراً ونصف دينار وإنه جائز؛ لأن الجنس مختلف فلا يظهر الربح. وأما إذا باعه بربح درهم فما ذكر من الجواب جواب ظاهر الرواية؛ لأنه يصير بائعاً القلب بدينار ودرهم وذلك جائز؛ لأنه يجعل بإزاء الدرهم من القلب مثله والباقي من القلب بإزاء الدينار، وعن أبي يوسف: أنه لا يجوز؛ لأن الدرهم يقابله مثل وزنه من القلب على ما عليه الأصل، فلو جوزنا ذلك كان الدينار بمقابله تسعة أعشار القلب، والدرهم بمقابلة عشر القلب، فيكون بعض ما سمياه رأس المال ربحاً في تسعة أعشار القلب بعض ما سمياه ربحاً رأس المال في عشر القلب، وذلك تصحيح على غير الوجه الذي صرحا به. ولو كان قام عليه بعشرة دراهم فباعه بربح درهم لم يجز؛ لأنه يبع العشرة بأحد عشر ولو ضم معه ثوباً أقام عليه بعشرة دراهم فقال: قام عليّ هذان بعشرين درهماً

وأبيعهما بربح درهم، فذلك كله في قول أبي حنيفة. وكذلك إذا باعه بربح ده يازده؛ لأن الربح انصرف إليهما؛ لأنه أنص عمل بيعهما مرابحة، فإذا انصرف الربح إليهما فسد العقد في حصة القلب لأجل الربا أو العقد صفقة واحدة، فتعدى الفساد إلى الباقي وعندهما يجوز في حصة الثوب؛ لأن كل واحد منهما منفصل عن الآخر. وكذلك لو اشترى جارية وطوق فضة عليها فيه مئة درهم بألف درهم وتقابضا، ثم باعها مرابحة بربح مائة درهم أو بربح ده يازده فالعقد فاسد في قول أبي حنيفة وعندهما يجوز في الجارية دون الطوق وقد ذكر الكرخي رجوع أبي يوسف إلى قول أبي حنيفة في مسألة الطوق واستبدل به على رجوعه في نظائره وقد ذكرنا ذلك في كتاب البيوع. وإذا اشترى الرجل من آخر سيفاً محلى بفضة بمائة درهم وحلية السيف خمسون درهماً وتقابضا، ثم إن المشتري باع السيف مرابحة بربح عشرين درهماً أو بربح ده دوا زده أو بربح ثوب بعينه أو ما أشبه ذلك لا يجوز؛ لأن للحلية حصة من الربح فيصير مقابلتها أكثر من وزنها من الفضة أو أقل، وإنه ربا ففسد العقد في حصة الحلية ويفسد في الباقي ضرورة. فإن قيل: كان يجب أن يصرف الربح إلى الجفن والنصل والحمائل دون الحلية، فإن باع السيف مرابحة؛ لأن اسم السيف ينطلق على النصل بدون الحلية فيجعل كذلك تحرياً للجواز، فيكون العقد على الحلية مساومة على ما وراء ذلك مرابحة. ألا ترى إلى ما ذكر محمد: أن من اشترى من آخر سيفاً محلى بفضة بمئة درهم وحلية السيف خمسون درهماً ثم إن البائع قال للمشتري: حططت عنك عن ثمن السيف درهماً كان الحط عن ثمن النصل والجفن؛ لأن اسم السيف منطلق على النصل وحده، فيصرف الحط إليه تحرياً للجواز كذا ههنا. والجواب عن هذه الإشكال من وجهين: أحدهما: أنا لو جعلنا كذلك صار العقد الواحد عقدين؛ لأن بمقدار الحلية يصير البيع، وبمقدار الجفن والنصل يصير مرابحة وجعل العقد الواحد عقدين خلاف الأصل، ولأنه خلاف ما صرحا به؛ لأنهما جعلا الربح في ثمن السيف ده يازده، وإذا جعلنا جميع الربح بإزاء السيف كان الربح في ثمن السيف ده ده بازده. الجواب الثاني: أنه إنما يحتال لتصحيح العقد إذا لم يصرح المتعاقدان بالفساد، وههنا صرحا بالفساد، ولما قالا: بيع هذا السيف بربح ده دوا زده؛ وهذا لأن بيع المرابحة بيع بالثمن الأول ويازده. ولهذا قالوا: في رجلين اشتريا عبداً أحدهما نصفه بمائة، والأخر اشترى نصفه بخمسين، ثم باعاه مرابحة انقسم الثمن عليهما على قدر ثمنهما في العقد الأول، لا على قدر ملكهما في العبد. وإذا كان بيع المرابحة بيعاً بالثمن الأول وزيادة يصير الثمن الأول مذكوراً من حيث

المعنى، فيعتبر بما لو كان مذكوراً أيضاً بأن قال: بعتك هذا السيف بربح ده دو زده على المائة كلها، فكذا إذا صارت المائة مذكورة معنى، (159أ3) فأما في مسألة الحط لم يصرحا بالفساد؛ لأن الحط صحته لا تنبني على الثمن الأول حتى تصير المائة التي هي ثمن مذكورة معنىً، فيكون تنصيصاً على الفساد من حيث إنه أضاف الحط إلى المائة ففي هذا حط عن ثمن السيف من غير ذكر الثمن الأول، واسم السيف يقع على الجفن والنصل والحمائل، كما يقع على النصل، فصرفنا الحط إلى النصل والجفن تحرياً للجواز أما ههنا بخلافه على ما مر. قال: الجام المموه بالذهب أو الفضة لا بأس ببيعه مرابحة؛ لأن الذهب والفضة كل واحد منهما يصير مستهلكاً بالتمويه، ألا ترى أنه لا يتخلص، فلا يتمكن الربا باعتباره. ولو أن رجلاً اشترى قلب فضة بعشرة دراهم فيه عشرة دراهم، ثم باعهما جميعاً القلب والثوب مرابحة بربح أحد عشرة درهماً يفسد العقد في حصة الحلية، ويكون الربح مصروفاً إليهما، ولا يصرف إلى الثوب خاصة لما ذكرنا في المسألة الأولى، ولا يتعدى الفساد إلى الثوب، هكذا ذكر المسألة في «الكتاب» ، ولم يحك فيها خلافاً. أما على قولهما: فظاهر. وأما على قول أبي حنيفة: فلأن الصفقة هاهنا صفقتان؛ لأن ملك كل واحد منهما فيما باع متميز عن ملك صاحبه، وثمن ملك كل واحد منهما ممتاز عن ثمن ملك صاحبه؛ لأن ثمن ملك كل واحد منهما مسيء بسبب البيع مرابحة؛ لأنه بيع بمثل الثمن الأول. ولو كان المبيع مشتركاً بينهما وباعا جميعاً إلا أن كل واحد منهما سمى لنصيبه ثمناً على حدة، بأن كان عبداً مشتركاً بين اثنين قالا لرجل: بعناك هذا العبد بألف على أن يكون نصيب هذا بكذا، ونصيب هذا بكذا كان صفقتان، فإذا لم يكن الملك في المبيع مشتركاً بينهما وقد سمى كل منهما لنصيبه ثمناً على حدة أولى، وإذا كان العقد صفقتان ففساد إحداهما لا يوجب فساد الآخر.x قال: وكذلك لو كان القلب والثوب لرجل واحد فقد عطف هذه المسألة على المسألة الأولى، وإنما يصح هذا العطف على المسألة الأولى على قولهما؛ لأن الجواب على قولهما لا يختلف بين هذه المسألة والمسألة الأولى. أما على قول أبي حنيفة: الجواب مختلف بين هذه المسألة وبين الأولى؛ لأنهما متى كانا لواحد يفسد العقد كله على قول أبي حنيفة؛ لأن الصفقة تكون واحدة؛ لأن ملك المبيع لواحد وقد باعه جملة من واحد، فكانت الصفقة واحدة، فإذا فسد في البعض فسد في الباقي عند أبي حنيفة. والدليل على أن الجواب في هذه المسألة على قولهما: أنه نص على قول أبي حنيفة بعد هذه المسألة في مثل هذه المسألة بخلاف ما ذكر في هذه المسألة. وصورة ما ذكر بعد هذه المسألة: إذا اشترى الرجل من آخر ثوباً وقلباً بمائة درهم،

الفصل العشرون: في الصرف في دار الحرب

ووزن القلب خمسون على أن يكون ثمن القلب نسيئة وثمن الثوب حالة فسد العقد كله عند أبي حنيفة؛ لأنهما صفقة واحدة وقد فسد بعضه لربا النساء، فيفسد الباقي عنده. وفي مسألتنا فسد البعض لربا الفضل فأولى أن يفسد الباقي؛ لأن ربا الفضل أقوى من ربا النساء، ولو باعهما بصيغة ده يازده بوضعية ده دوا زده، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا باعهما مرابحة؛ لأن الوضعية بيع بمثل الثمن الأول نقصان، والمرابحة بيع بمثل الثمن الأول مع زيادة. قال: ولو ضم القلب والثوب، وقال: أبيعكما بزيادة درهم على عشرين درهماً كان جائزاً، وتصرف الزيادة كلها إلى الثوب خاصة، ولا يصرف شيء منها إلى القلب بخلاف ما إذا قال: أبيعكهما بربح ده يازده، فإن هناك يصرف الربح إلى القلب والثوب جميعاً. والفرق: أن في قوله: أبيعكهما بزيادة درهم على عشرين درهماً لم ينسب العشرين إلى رأس المال، ولا إلى ما قاما عليه به، فكان هذا بيع مساومة، وفي بيع المساومة تقابل الفضة بمثل وزنها، ويجعل الربح كله بمقابله الثوب تحرياً للجواز؛ إذ ليس فيه ما يمنعها من أن يجعل بمقابلة الفضة مثل وزنها، وجميع الربح بمقابلة الثوب. أما في قوله: أبيعكهما بربح ده يازده نص على بيع المرابحة فيهما، وفي بيع المرابحة لابد من اعتبار الثمن الأول، فكأنه قال: بعتكهما مرابحة بربح درهم على العشرين، وعند ذلك لا يمكن جعل جميع الربح بمقابلة الثوب. الفصل العشرون: في الصرف في دار الحرب إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان أو بغير أمان وعقد مع حربي عقد الربا بأن اشترى درهماً بدرهمين أو اشترى درهماً بدينار إلى أجل، أو باع منهم خمراً أو خنزيراً أو ميتة أو دماً بمال؛ قال أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: ذلك كله جائز، وقال أبو يوسف: لا يجوز بين المسلم وأهل الحرب في دار الحرب إلا ما يجوز بين المسلمين. والصحيح قولهما؛ لأن مال الحربي على الإباحة الأصلية، إلا أن الذي دخل دار الحرب بأمان التزم أن لا يعترض لهم، ولما في أيديهم إلا بتراضيهم، فحرم عليه الأخذ بدون رضاهم تحرزاً للعذر والخيانة، وإذا أعطى برضاهم فقد انعدم العذر والخيانة فيأخذه المسلم بحكم الإباحة الأصلية وتأثير المعاقدة في تحصيل الرضا بالأخذ لا في التملك. ورأيت في بعض الكتب أن هذا الاختلاف فيما إذا اشترى منهم درهماً بدرهمين لا يجوز بالاتفاق؛ لأن فيه إعانة لهم بقدر الدرهم الزائد ومبرة في حقهم بذلك. وإن عاقد هذا المسلم الذي دخل بأمان، ورجل أسلم هناك ولم يهاجر عقد الربا جاز في قول أبي حنيفة، ولم يجز في قول أبي يوسف ومحمد، وهذا فرع اختلافهم في حكم مال من أسلم في دار الحرب، ولم يهاجر إلينا فعند أبي حنيفة رحمه الله: أنه على

الفصل الحادي والعشرون: في الصرف في الغصب والوديعة

حكم الإباحة ما لم يحرزه بدار الإسلام لو أتلفه مسلم لا ضمان عليه، وعندهما: أنه على العصمة كمال المستأمن، والمسألة قد مرت في كتاب السير. ولو دخل مسلمان دار الحرب، فتبايعا ثمة درهماً بدرهمين لا يجوز؛ لأن كل واحد معصوم في حق صاحبه، فكان التمليك بالعقد، وهذا العقد فاسد. ولو أسلم حربيان في دار الحرب وتبايعا درهماً بدرهمين، قال أبو حنيفة: كرهت ذلك لهما، ولا آمر هما بالرد. وقال أبو يوسف ومحمد: يؤمران بالرد، والحكم في حقهما كالحكم في المستأمنين من المسلمين في دار الحرب عندهما، وأبو حنيفة يقول بالإسلام قبل الإحراز ثبتت العصمة في حق الآثام دون الأحكام، ألا ترى أن أحدهما (159ب3) لو أتلف مال صاحبه أو نفس صاحبه لم يضمن هو آثم في ذلك، وإنما نثبت العصمة في حق الأحكام بالإحراز على ما عرف، فلثبوت العصمة في حق الآثام كره لهما هذا الصنع، ولعدم العصمة في حق الحكم قلنا لا يؤمران بالرد. ولو أن تاجراً من المسلمين أعطى رجلاً من أهل الحرب ألف درهم نسيئة كان جائزاً؛ لأن ربا الفضل لما لم يجز بين المسلم وبين الحربي فربا النسيئة أولى. ولو أن حربياً باع من حربي درهماً بدرهمين، ثم خرجا إلى دار الإسلام مسلمين أو ذميين أو اختصما إلى القاضي، فإن كان ذلك بعد التقابض فالقاضي لا يتعرض لذلك ولا يبطله؛ لأن الإسلام ورد والحرام بعقد المعاوضة مقبوض فيلاقيه الإسلام قال الله تعالى: {عفا الله عما سلف} (المائدة: 95) وإن كان ذلك قبل التقابض لا يبطله؛ لأن الإسلام ورد والحرام يعقد المعاوضة غير مقبوض فيلاقيه الإسلام بالرد، قال الله تعالى: {وذروا ما بقي من الربا، إن كنتم مؤمنين} (البقرة: 278) ، وقال عليه السلام: «كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي هاتين، وأول وضعة ربا العباس بن عبد المطلب» ، وكان العباس قد أربى في كفره وأسلم قبل القبض، فوضعه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكذلك لو عاقدا عقد الربا في دار الحرب ثم خرجا إلى دار الإسلام قبل أن يتقابضا في دار الإسلام، واختصما إلى القاضي فالقاضي يرد ذلك، فكذا إذا أربيا في دار الحرب وتقابضا في دار الإسلام؛ لأن للقبض شبهاً بابتداء العقد. الفصل الحادي والعشرون: في الصرف في الغصب والوديعة وإذا غصب رجل من آخر قلب فضة أو ذهب فاستهلكه، فعليه قيمته مصوغاً من خلاف جنسه؛ لأنه تعذر تضمينه بمثلاً؛ لأن القلب ليس من ذوات الأمثال، وتعذر تضمينه من غير جنسه غير مصوغ؛ لأنه يؤدي إلى إبطال حق المغصوب منه في الصنعة والجودة، وتعذر تضمينه من جنسه مصوغاً؛ لأنه يؤدي إلى الربا؛ لأنه يصل إلى صاحب القلب مثل وزن القلب وزيادة، فإذا تعذر تضمينه بهذه الوجوه تعين تضمينه مصوغاً من

خلاف جنسه؛ لأنه لا يؤدي إلى الربا؛ لأنه يصل إلى صاحب القلب مثل وزن القلب إلي، ولا إلى تفويت حق المغصوب منه في الجودة ثم إذا ضمنه القاضي قيمته من خلاف جنسه صار القلب ملكاً له بالضمان على ما عرف. فبعد ذلك ينظر إن كان قبض المغصوب منه القيمة قبل أن يتفرقا بقي التضمين صحيحاً بالإجماع، وإن تفرقا قبل القبض قبض القيمة، فكذلك لا يبطل التضمين عند علمائنا الثلاثة، وكان ينبغي أن يبطل وهو شبهة زفر في المسألة، ووجد ذلك صرف ثبت حكماً لإيجاب الضمان كيلاً يجتمع البدل والمبدل في ملك رجل، فيشرط التقابض كما لو ثبت الصرف قصداً. والجواب وهو قول علمائنا: إن قضاء القاضي بقيمة العين عند تعذر رد العين بمنزلة قضائه برد العين حالة قيام العين لكون القيمة قائمة مقام العين، ثم القاضي لو قضى على الغاصب برد عين القلب لا يشترط القبض في المجلس، فكذا إذا قضى برد القيمة؛ لأن هذا صرف ثبت حكماً للضمان الواجب بالغصب لا مقصوداً أو ما ثبت حكماً لغيره لا مقصوداً لا يراعى له من الشرائط ما يراعى له مقصوداً. ألا ترى أن قيام المضمون حالة التضمين ليس بشرط لصحة التضمين مع أن بالتضمين تثبت المعاوضة؛ لأن هذه المعاوضة ثبتت حكماً للتضمين لا مقصوداً، فلم يشترط لها ما يشترط لو كان ثبتت هذه المعاوضة قصداً. وبيانه: أن هذه المعاوضة تثبت حكماً أن المعاوضة لابد لها من صنع من جهة المتعاوضين والموجود من الغاصب الغصب، والغصب نفسه ليس بموجب الملك في المغصوب للغاصب، وإنما هو موجب للضمان على الغاصب، ثم من ضرورة وجوب الضمان على الغاصب زوال المغصوب عن ملك المغصوب منه إلى ملك الغاصب كيلا يجتمع البدل والمبدل في ملك شخص واحد. فهو معنى قولنا: إن هذه المعاوضة تثبت حكماً لوجوب الضمان؛ لأنها تثبت وبنفس وجوب الضمان من غير أن يتخلل بين الضمان والمعاوضة فعل فاعل مختار، وحكم الشيء ما يثبت عقيب ذلك الشيء من غير تخلل واسطة اختيارية، والتقريب ما ذكرنا. وكذلك إن اصطلحا على القيمة فهو على الخلاف، ولو أخر القيمة عنه شهراً جاز عند علمائنا الثلاثة أيضاً. وإذا غصب الرجل من آخر ألف درهم ثم اشتراها بمائة دينار وقبض المائة دينار قبل أن يتفرقا جاز، وإن لم تكن الدراهم في يده وقت الشراء؛ لأن قبض الغصب ينوب عن قبض الشراء. وكذلك إن صالح منها على مائة دينار وقبض المائة دينار قبل أن يتفرقا؛ لأن الصلح

على خلاف جنس الحق بمعنى الشراء فقد وجد قبض البدلين في مجلس العقد أحدهما حقيقة والآخر حكماً. ثم يستوي في هذا أن تكون الدراهم قائمة في منزل الغاصب، أو كانت مستهلكة، ففي الحالين جميعاً يجوز الشراء بالمائة دينار إذا قبض المائة في المجلس، أما إذا كانت قائمة؛ فلأن الغاصب قابض لها بيده، وإن كانت مستهلكة؛ فلأن قابض لها بذمته. وكذلك لو كان الذي غصب إناء فضة، ثم اشتراه الغاصب من المغصوب منه أو صالحه على جنس حقه أو على خلاف جنس حقه وقبض المغصوب منه البدل قبل أن يتفرقا، وأما إذا تفرقا قبل أن يقبض المغصوب، منه فالشراء يجوز قياساً واستحساناً، سواء كان المغصوب قائماً أو مستهلكاً، وأما الصلح، فإن المغصوب مستهلكاً حقيقة بأن أحرقه الغاصب، أو حكماً بأن كان معيناً أو حلف الغاصب وتفرقا قبل قبض البدل، القياس: أن يبطل الصلح. وفي الاستحسان: لا يبطل. ولو كان المغصوب قائماً في يد الغاصب وهو مقر به ولا يمنع المالك من أخذه لا يجوز الصلح قياساً واستحساناً. وجه الاستحسان: وهو الفرق بين البيع والصلح إذا كان المغصوب مستهلكاً أن في الصلح إن تعذر العمل (160أ3) بلفظ الصلح باعتبار المبادلة من حيث إن قبض البدل قبل الافتراق شرط المبادلة كما في البيع أمكن العمل بمجازه بأن يجعل الصلح كناية عن التضمين. ويصير معنى قوله: صالحتك بمنزلة قوله: ضمنتك قيمته من خلاف جنسه أو من جنسه بمثل وزنه غير مصوغ، فإن له أن يضمنه مثل وزنه من جنسه غير مصوغ، وقبض القيمة ليس بشرط صحة التضمين عند علمائنا الثلاثة على ما بينا، فيجعل كذلك. وإنما قلنا: أمكن العمل بمجازه وهو التضمين؛ لأن بين الصلح وبين التضمين موافقة من حيث المعنى الخالص؛ لأن الصلح أخذ بعض الحق وترك البعض؛ لأنه أخذ الحق من حيث المعنى وترك الصورة، وحق المغصوب منه في الصورة معتبر حتى لا يكون للغاصب حال قيام المغصوب أن يمسك المغصوب منه ويعطيه مثله، فيثبت أن في الصلح معنى التضمين. فعند تعذر العمل به باعتبار المبادلة يجعل كناية عن التضمين تصحيحاً له، والتقريب ما ذكرنا. بخلاف ما إذا كان المغصوب قائماً بعينه والغاصب مقربه لا يمنع المالك عن أخذه؛ لأن هناك لا يمكن أن يجعل الصلح كناية عن تضمين القيمة؛ إذ ليس له حق تضمين القيمة والحالة هذه، ولا يمكن تصحيحه بطريق المبادلة؛ لأن قبض البدل في المجلس في المبادلات شرط ولم يوجد، ولا يمكن تجويزه بطريق استيفاء البعض والإبراء عن البعض؛ لأن الإبراء عن الأعيان باطل. فأما إذا كان المغصوب مستهلكاً فللمالك حق تضمين الغاصب، فيمكن تصحيح الصلح باعتبار معنى التضمين فصححناه كذلك. فأما في فصل البيع كما تعذر العمل بحقيقته وهو المبادلة؛ لأن قبض البدلين في

الفصل الثاني والعشرون: يشتمل على الإجارة وعلى الصرف ويدخل فيه استهلاك المشترى في عقد الصرف قبل القبض

المبادلات شرط، ولم يوجد بعذر العمل بمجازه بأن يجعل أيضاً؛ لأنه ليس في البيع معنى التضمين؛ لأن التضمين أخذ بعض الحق وترك بعض الحق، وليس في البيع هذا المعنى؛ لأن قبل البيع لم يكن لواحد منهما على صاحبه حق، وإنما وجب الحق بالبيع وما وجب بالبيع استوفاه بكماله فليس فيه معنى أخذ بعض الحق وترك البعض، وكما تعذر العمل بحقيقة البيع مبادلة تعذر جعله مجازاً عن التضمين، أما في الصلح معنى التضمين؛ لأن معنى التضمين؛ لأن قبل التضمن إذا كان قائماً وللمالك أخذ العين، وبعد ما هلكت العين وعجز المالك عن أخذ العين إذا ضمنه فقد أخذ بعض الحق وترك البعض. فكان في الصلح معنى التضمين من الوجه الذي بينا، والتقريب ما مر. ولو أن رجلاً أودع رجلاً ألف درهم وقبضها المودع، ووضعها في بيته ثم التقيا في السوق فباع صاحب الوديعة دراهم الوديعة من المودع بمائة دينار وقبض صاحب الوديعة الدينار، وافترقا قبل أن يحدد المودع في الوديعة قبضاً فقد بطل البيع؛ لأن الافتراق حصل قبل قبض أحد البدلين؛ لأن المودع بنفس الشراء لا يعتبر قابضاً الوديعة بجملة الشراء؛ لأن قبض الوديعة لا ينوب عن قبض الشراء وقد مر هذا في كتاب البيوع، بخلاف ما إذا كان مكان الوديعة غصباً؛ لأن هناك الغاصب يصير قابضاً المغصوب بجملة الشراء؛ لأن قبض الغصب عن قبض الشراء؛ لأن كل واحد منهما قبض ضمان، وقد مر هذا أيضاً في كتاب البيوع. الفصل الثاني والعشرون: يشتمل على الإجارة وعلى الصرف ويدخل فيه استهلاك المشترى في عقد الصرف قبل القبض وإذا دفع إلى رجل لجاماً مموهة بفضة وزناً معلوماً يكون قرضاً على الدافع أجراً معلوماً على ذلك فهو جائز، يلزمه الأجر والقرض، أما جواز الإجارة؛ فلأنه استأجره بعمل معلوم ببدل معلوم، وأما جواز القرض؛ فلأن استقراض منه فضة معلومة وصار قابضاً لذلك حكماً لإيصاله بملكه، فيكون قرضاً صحيحاً. والقياس: أن يلزمه قيمة ماء الفضة؛ لأنه إنما يصير قابضاً لماله اتصل بملكه، والمتصل بملكه ماء الفضة لا عين الفضة، فينبغي أن يلزمه قيمة ماء الفضة لا عين الفضة من هذا الوجه، إلا أنا تركنا القياس لمكان التعامل فيما بين الناس أنهم يريدون بهذا استقراض عين الفضة لا استقراض ماء الفضة، والقياس يترك بتعامل الناس. وإن اختلفا في مقدار ما صبغ فيه من الفضة، فالقول قول رب اللجام مع يمينه على علمه؛ لأن العامل يدعي عليه إيفاء جميع العمل، وإقراض جميع ما استقرض منه صاحب اللجام، وإنما استحلف على العلم؛ لأن استحلاف على فعل الغير.

وإن قال مَوِّهْهُ بمائة درهم فضة على أن أعطيك ثمنها وعملك عشرة دنانير فافترقا على ذلك. قال في «الكتاب» : هو فاسد. واعلم بأن هذه المسألة اشتملت على الصرف والإجارة؛ لأن صاحب اللجام جعل بعض الدنانير بإزاء الفضة، فيكون صرفاً فيفسد بالافتراق قبل قبض البدلين وجعل بإزاء العمل، فيكون إجارة، والإجارة مما تبطل بالافتراق قبل القبض، وليس من ضرورة بطلان الصرف بطلان الإجارة؛ لأن الإجارة ما كانت مشروطة في الصرف بل الصرف كان مشروطاً في الإجارة؛ فبقيت جائزة وبين أن المراد المذكور في «الكتاب» هو فاسد أن الصرف فاسد. ثم قال في «الكتاب» : فإن عمله كان له على صاحب اللجام فضة؛ لأن صاحب اللجام صار قابضاً الفضة حين اتصلت بملكه بسبب صرف فاسد، والمقبوض بحكم العقد الفاسد واجب الرد، وعند تعذر رد العين يجب رد المثل فيما كان من ذوات الأمثال. ثم قال: وللعامل على صاحب اللجام أجر مثل عمله، هكذا ذكرها الحاكم الشهيد في المجلس، فقد أوجب أجر مثل العمل، وهذا إنه فساد الإجارة في الأصل يقول أنه أجر مثله من الدنانير إذا قسمت الدنانير على أجر مثله وعلى المائة الدرهم، فقد أوجب بعض المسمى، وإنه دليل صحة الإجارة، وهذا هو الصحيح أن الإجارة جائزة. وذكر أجر المثل في «الكتاب» : ليس لبيان أن الواجب أجر المثل، وإنما هو لبيان قدر الواجب من المسمى يعني له حصة أجر المثل من الدنانير المسمى. وتفسير ذلك: أن يقسم الدنانير العشرة على المائة الفضة، وعلى أجر مثل عمله؛ لأن الدنانير العشرة قوبلت بشيئين بالفضة وبعمله، فيقسم عليهما باعتبار القيمة فما أصاب الفضة يكون صرفاً، وما أصاب أجر المثل يكون بمقابلة العمل حتى أنه إذا كان قيمة الفضة وأجر مثل عمله على السواء تنقسم العشرة الدنانير (160ب3) نصفين فأجر المثل اعتبر لمعرفة حصة العمل من المسمى؛ لأن الواجب أجر المثل، هذه الجملة في باب الإجارة في التمويه. وفي باب الإجارة في الصناعة إذا شرط على العامل ذهب التمويه بأن قال: على أن يموهه بقيراط ذهب، فلا خير فيه، أما إذا لم يبين؛ فلأن مقدار ذهب التمويه مجهول، ولأن ما يدل من الآخر مقابله بل بذهب التمويه والعمل فيما يخص الذهب يكون صرفاً، ولم يوجد فيه قبض أحد البدلين فيفسد، وإذا فسد الصرف فسدت الإجارة؛ لأن هذه إجارة شرط فيها صرف فاسد. وأما إذا بين مقدار ذهب التمويه، فإنما لا يجوز للمعنى الثاني، قال: إلا أن يقبض الأجير الدرهم ويقبض المستأجر القيراط من الأجير، ثم يدفعه إليه ويقول لهم موهْهُ فحينئذٍ يجوز، وكان ينبغي أن لا يجوز في هذه الصورة أيضاً؛ لأن هذه إجازة شرط فيها صرف فكان صفقة، لكن جوزنا ذلك لعمل الناس.

فرع على المسألة باب الإجارة في الصناعة فقال: لو استأجر بعرض أو ما أشبهه على تموه لجامه وشرط ذهب على الأجير وبين مقداره فهو جائز، وإن لم يتقابضا؛ لأن ما يخص الذهب من العرض يكون بيعاً، وما يخص العمل يكون إجارة، وقبض الثمن والأجرة قبل الافتراق ليس بشرط. ولو دفع إلى رجل عشرة دراهم فضة، ثم قال: صغها كلها قلباً ولك أجر كذا وكذا ففعل ذلك فهو جائز؛ لأنه استقرض من العامل خمسة دراهم وصار قابضاً لها حكماً للاختلاط بملكه. ألا ترى لو هلكت بعد الخلط هلك من مال الأمر ثُم استأجره للعمل في ملكه ببدل معلوم، وذلك جائز فقد جعل الخمسة قرضاً في هذه المسألة وفي المسألة الأولى لم يجعل ما كان عند العامل قرضاً، وإنما جعله صرفاً؛ لأن في المسألة نص على الصرف حيث قال: علي أن أعطيك ثمنه وبأجر عملك كذا، وههنا لم ينص على الصرف، فإنه لم يذكر الثمن إنما ذكر لفظاً محتملاً، وهو قوله: اخلط من عندك. فهذا يحتمل ثلاثه أشياء: الهبة والقرض والصرف، غير أن الهبة منتفية لما فيها من إلحاق الضرر بالعامل مع الاحتمال، فبقي القرض والصرف، وتعيين القرض أولى؛ لأنه أدنى؛ لأنه بمعنى العارية؛ لأنه تمليك المنفعة يرد مثله، وليس فيه الضرر. وفي الصرف تمليك الرقبة والمنفعة جميعاً فكان القرض أدنى فجعلناه مستقرضاً للخمسة قابضاً لها حكماً لاتصالها بملكه، ولو لم يدفع إليه الفضة ولكن قال له: صغ لي قلباً من عندك بعشرة دراهم، فهذا باطل؛ لأنه استأجر العمل في ملكه؛ لأن القرض لا يفيد الملك إلا بالقبض حقيقة باليد أو حكماً لاتصاله بملكه ولم يوجد. وإذا اشترى من آخر قلب فضة بدينار ودفع الدينار ولم يقبض القلب حتى جاء رجل وأحرق القلب، واختار المشتري فسخ العقد وفسخه أخذ ديناره من البائع، وكان للبائع أن يبيع المحرق بقيمة القلب، وإن اختار المشتري إمضاء العقد واتباع المحرق بقيمة القلب وأخذ منه القلب قبل أن يفارق البائع المشتري جاز الصرف؛ لأن قبض قيمة القلب كقبض القلب إلا أنه يتصدق بما زاد على الدينار إن كان ثمة زيادة؛ لأنه ربح ما لم يضمن، وإن لم يقبض القيمة حتى فارقه البائع بطل البيع وعلى البائع رد الدينار وابتاع المحرق بقيمة القلب، وهذا قول محمد وكان أبو يوسف يقول أولاً بقول محمد، ثم رجع وقال: لا يبطل الصرف. الحاصل: إن على قول محمد وهو قول أبي يوسف الأول اختار المشتري اتباع المحرق لا يكون قبضاً منه، وعلى قول أبي يوسف ذكر قول أبي حنيفة في «الجامع الكبير» في مثل هذه المسألة. وصورة تلك المسألة: رجل اشترى من آخر عبداً وقبل قبض المشتري، واختار المشتري إمضاء العقد واتباع القابل وقومت القيمة على القابل، فعلى قول أبي يوسف أولاً وهو قول محمد: التوى على البائع ويبطل البيع ولا يكون اختيار المشتري اتباع

القائل بالقيمة قبضاً منه، وعلى قول أبي يوسف الآخر وهو قول أبي حنيفة: يكون التوى على المشتري ولا يبطل البيع، فيكون اختيار المشتري اتباع القائل بالقيمة قبضاً.. وإذا اشترى سيفاً محلى فيه خمسون درهماً بمائة درهم أو بعشرة دنانير ونقد الثمن ولم يقبض السيف حتى أفسد رجل شيئاً من حمائله أو جفنه، فاختار المشتري أخذ السيف وتضمين المفسد القيمة فله ذلك، فإن قبض السيف أولاً ثم فارق البائع قبل أن يقبض من المفسد ضمان ما أفسده لم يضره ذلك؛ لأن الواجب على المفسد بدل المبيع قبل افتراق المتعاقدين ليس بشرط إنما ذلك في الصرف خاصة. وهذا بمنزلة ما لو اشترى ثوباً من أخر وأحرق الثوب رجل قبل قبض المشتري أياه، واختار المشتري إمضاء العقد واتباع المحرق ونقد الثمن، ثم افترق البائع والمشتري قبل أن يقبض المحرق شيئاً لم يفسد البيع. وطريقة ما قلنا: وإن لم يقبض السيف وفارق البائع فالعقد يفسد في الكل عندهم جميعاً في حصة الحلية لكونه صرفاً لم يوجد فيه قبض البدلين، وإذا فسد العقد في حصة الحلية فسد في الباقي لما قلنا، هذا إذا أفسد شيئاً، أما إذا أفسد الكل بأن أحرقه بالنار واختار المشتري اتباع المحرق إن أخذ منه قيمة الكل أو قيمة حصة الحلية قبل أن يفارق البائع، فالعقد جائز في الكل. وإن لم يقبض قيمة الحلية حتى فارق البائع فالمسألة على الخلاف على قول أبي يوسف آخراً وهو قول أبي حنيفة: لا يبطل العقد أصلاً، وعلى قول أبي يوسف أولاً يبطل. ولو أن رجلاً اشترى من آخر قلب فضة بدينار، فقبل أن يقبض المشتري القلب جاء رجل وهشمه فقال المشتري: أنا آخذ القلب وأبيع المفسد بضمان القلب فله ذلك، وهذا مشكل؛ لأنه أثبت للمشتري ضمان النقصان مع أخذ القلب ينبغي أن لا يكون له ذلك؛ لأن بالهشم لا يزول بشيء من الوزن، فيجب الضمان بمقابلة الجودة بانفرادها ولا قيمة للجودة بانفرادها. ألا ترى أن المشتري إذا أخذ القلب ثم هشمه رجل أو هشم رجل قلباً مملوكاً للغير من الابتداء، واختار المالك بأخذ القلب مع ضمان النقصان ليس له ذلك وطريقة ما قلنا. والجواب: أن في مسألتنا إذا أخذ المشتري قدر (161أ3) النقصان يصير قدر النقصان مع القلب مبيعاً بالدينار، فكان العقد من الابتداء ورد على القلب مع قدر النقصان بالدينار، فلا يكون سواء، وأما قبضه المشتري ثم يقسمة رجل فالعقد قد انتهى بالقبض فما يأخذ من الهاشم لا يصير مبيعاً، ولا يقابله شيء من الثمن، والمتلف في نفسه معدوم، فيصير ربا.

الفصل الثالث والعشرون: في الصرف في المعادن وتراب الصواغين

الفصل الثالث والعشرون: في الصرف في المعادن وتراب الصواغين ويدخل فيه الاستئجار ولتخليص الفضة والذهب من تراب المعادن ذكر الشعبي رضي الله عنه أنه قال: لا خير في بيع تراب الصواغين، وهذا عندنا إذا لم يعلم هل فيه شيء من الذهب أو الفضة أولاً، فإن علم وجود ذلك فباعه بقرض أو بجنس أخر جاز عندنا. واعلم بأن تراب الصواغين أو المعادن لا يخلو عن أربعة أوجه: أما إن كان تراب ذهب، وفي هذا الوجه إن بيع بذهب وفضة لا يجوز، وإن بيع بفضة لا يجوز، وأما إن كان تراب فضة، وفي هذا الوجه إن بيع بفضة أو بفضة وذهب لا يجوز، وأما إن بيع بذهب يجوز، أما إن كان تراب ذهب وفضة، وفي هذا الوجه إن بيع بذهب أو بفضة لا يجوز، وإن بيع بذهب وفضة يجوز، ويصرف الجنس إلى خلاف الجنس، وأما إن كان لا يدرى أن فيه ذهب أو لا يدرى أن فيه كلاهما أو إحداهما، وفي هذا الوجه لو بيع بذهب وفضة لا يجوز، وكذلك إذا بيع بذهب وفضة. وإذا احتفر الرجل موضعاً في المعدن ثم باع ملك الحفرة، فبيعه باطل؛ لأنه باع ما لا يملك؛ لأنه ما احتفر هذا المكان ليملك رقبته لهما احتفره ليملك ما فيه بخلاف ما لو احتفر حفيرة في أرض موات بأمر الإمام؛ لأن احتفاره كان ليملك رقبة هذا المكان فقد باع ما يملك. وإذا كان للرجل على رجل دين فأعطاه به تراباً بعينه يداً بيد، فإن كان الدين فضة وأعطاه تراب الفضة لم يجز؛ لأنه لو باع تراب الفضة بالفضة لم يجز فكذا إذا قضى الدين على هذا الوجه. فرق بين هذا وبين ما ذكر في كتاب الصلح: إذا كان لرجل على رجل ألف درهم دين، فأعطاه الغريم دراهم مجهولة الوزن على سبيل الصلح، فإنه يجوز استحساناً فقد جوز هذا التصرف على وجه الصلح ولم يجوزه على وجه القضاء، وإن أعطاه تراب ذهب جاز؛ لأنه لو باعه تراب ذهب بفضة جاز كذا هاهنا. ولو اشترى تراب ذهب بتراب ذهب أو اشترى فضة بتراب فضة لا يجوز، ولو اشترى تراب ذهب بتراب فضة أو على العكس يجوز، وكل واحد منهما بالخيار إذا رأى ما فيه. وإذا استقرض الرجل من الرجل تراب ذهب أو تراب فضة قائماً عليه مثل ما خرج من التراب؛ لأنه هو المقصود ويكون القول (قول) المستقرض في مقدار ما خرج، ولو استقرضه على أن يعطيه تراباً مثله لا يجوز؛ لأنه يكون بيع فضة بفضة مجازفة، وإنه لا يجوز لما يتوهم فيها من الربا.

الفصل الرابع والعشرون: في المتفرقات

وإذا استأجر الرجل رجلاً يخلص له ذهباً أو فضة من تراب المعادن أو من تراب الصياغين فهذا على ثلاثة أوجه: إما أن يقول: استأجرتك لتخلص لي ألف درهم فضة من هذا التراب، أو قال: ألف مثقال ذهب من هذا التراب، ولا يدري ذلك المقدار هل يخرج من هذا التراب المشار إليه أو لا يخرج؛ لأنه لا يجوز. وإما أن يقول: استأجرتك لتخلص الذهب والفضة من هذا التراب بكذا، وإنه جائز. وإما أن يقول: استأجرتك لتخلص لي ألف درهم فضة من التراب، ولم يشر إلى التراب، وإنه لا يجوز أصلاً، بمنزلة ما لو استأجر له قميصاً بدرهم ولم يعين الكر باس والله أعلم. الفصل الرابع والعشرون: في المتفرقات قال محمد رحمه الله: إذا اشترى الرجل من آخر عشرة دراهم فضة بعشرة، فزادت عليها دانق فوهبه له هبة، ولم يدخله في البيع فهو جائز يريد بقوله: لم يدخله في البيع أن الهبة لم تكن مشروطة في الشراء؛ إذ لو كانت مشروطة في الشراء لأفسده الشراء، وإنما جاز هذا التصرف؛ لأنه لو لم يجز، أما لم يجز لمكان الربا، وإذا وهب الدانق منه فقد انعدم الربا. قالوا: وإنما تصح هبة الدانق إذا كان الدرهم بحيث يضره الكسر؛ لأنه حينئذ يكون هبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة، وإنها جائزة فأما إذا كان الدرهم بحيث لا يضره الكسر لا تجوز الهبة، لأنها هبة المشاع فيما يحتمل القسمة وهبة المشاع فيما يحتمل القسمة لا يتم قبل القسمة والتميز. ولا يجوز بيع الذهب مجازفة ولا بيع الفضة بالفضة مجازفة إذ لم يعرف وزنهما أو وزن أحدهما. والأصل فيه قوله عليه السلام: «الفضة بالفضة مثل بمثل وزن بوزن والذهب بالذهب مثل بمثل وزن بوزن» ، فقد جعل المماثلة في الوزن شرط جواز البيع، ولم توجد المماثلة في الوزن هاهنا، فإن وزنا فوجدا متماثلين فهذا على وجهين: إن وزنا في مجلس العقد، فالبيع جائز، وإن وزنا بعد الافتراق على المجلس لا يجوز العقد، وهو نظير بيع الصبرة بالصبرة مجازفة، وقد مر الكلام فيه قبل هذا. ويجوز الفضة بالفضة والذهب بالذهب إذا اعتدل البدلان في كفة الميزان إن لم

يعلم مقدار كل واحد منهما لتيقننا بالمماثلة وزناً، وأما المماثلة إذا وزن أحدهما بصاحبه المهر إذا وزن كل واحد منهما بالسخات عقد الصرف إذا فسد بسبب الافتراق عن المجلس قبل القبض لا يخرج المشترى عن ملك المشتري قبل الرد على البائع. بيانه في مسألة ذكرها محمد في «الجامع الكبير» : رجل اشترى من آخر إبريق فضة بدينار وقبض الإبريق ونقد ديناراً واحداً، ثم تفرقا قبل أن ينقد الدينار الآخر فسد البيع في نصف الإبريق، ولا يتعدى الفساد إلى النصف الآخر، فإن حضر رجل بعدما غاب بائع الإبريق وادعى نصف الإبريق لنفسه كان المشتري خصماً له؛ لأن المشتري مالك جميع الإبريق؛ لأن السبب وإن فسد في النصف لمكان الافتراق لا يبطل ملكه فيه ما لم يرده؛ لأن فساد السبب في الابتداء لا يمنع ثبوت الملك عند اتصال القبض، فأولى أن لا يمنع بقاء الملك في المقبوض فكان كل الإبريق ملكاً للمشتري، فيكون خصماً للمدعي. هشام قال: (161ب3) سألت أبا يوسف: عمن باع درهماً بدرهم، فرجح أحدهما فحلله صاحب الرجحان، قال: هذا جائز؛ لأنه لا يقسم، الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: لا بأس ببيع خاتم فيه فص بخاتمين فيهما فصان، وكذلك السيف المحلى بسيفين. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا بأس ببيع الغشوش إذا بين أو كان ظاهراً يرى، وهو قول أبي يوسف رحمه الله. وقال في رجل حمل على الفضة النحاس، فلا يبيعها حتى يبين، قال: ولا بأس بأن يشتري بستوقة إذا بين، وأرى للسلطان أن يكسرها لعلها تقع في يدي من لا يبين. بشر في «الإملاء» عن أبي يوسف: وأكره للرجل أن يعطي الزيوف والنبهرجة والستوقة والمكحلة والمزيفة والبخارية وإن بين ذلك ويجوز بها عنه الأخذ من قبل أن انفاقها ضرر على العوام، وما كان ضرراً عاماً فهو مكروه، وليس يصلحه تراضي هذين الحاضرين من قبل ما يتجوز فيه من الدلسة على الجاهل به، ومن الفاجر الذي لا يتحرج وقال كل شيء لا يجوز بين الناس، فإنه ينبغي أن يقطع، ويعاقب صاحبه إذا أنفقه وهو يعرفه. ابن سماعة عن أبي يوسف: إذا اشترى تراب الصواغين بعرض فلم يكن فيه ذهب ولا فضة فالبيع فاسد من قبل أنه اشترى ما فيه ليس البيع على التراب دون ما فيه. وإذا كان فيه ذهب وفضة جاز البيع، وليس ينبغي للصائغ أن يأكل من ثمن ما باع من تراب الصياغة من قبل أن ما فيه متاع الناس إلا أن يكون قد زاد في متاعهم حين وفاهم بقدر ما سقط منهم في التراب، فإذا كان كذلك طاب لهم الفضل، وأكره للمشتري أن يشتريه حتى يخبره الضائع أنه قد أوفى الناس متاعهم من قبل أن علم المشتري بحيط بأن الصائغ لا يملك ذلك. ابن سماعة عن أبي يوسف: إذا باع عشرة دراهم صح بعشرة مكحلة لم يصح؛ لأن هذه تنقص وما فيها من الكحل ليس له ثمن، فيكون ما زاد من وزن البيض. في «الإملاء» عن محمد: رجل اشترى من رجل خاتم فضة فيه فص بدراهم أو دنانير وتقابضا، ثم قلع المشتري الفص من الفضة، والقلع لا يضر بواحد منهما، ثم وجد بأحدهما عيباً رده، وأخذ بحصته من الثمن، وكذلك لو وجد بأحدهما عيباً قبل أن يقلع الفص من الفضة وأراد درهماً جميعاً فليس له ذلك، ولكنه يقلع الفصة من الفضة، ثم يرد الذي به العيب منهما. وإن كان المشتري قد قبضهما ولم يدفع الثمن حتى وجد بأحدهما عيباً، فإن شاء أخذهما وإن شاء ردهما، وإن لم يجد بأحدهما عيباً، ولكنهما افترقا قبل قبض الثمن بطل البيع في الفضة، ولزم المشتري الفص بحصته؛ لأن الذي بطل فيه البيع إنما بطل بترك المشتري دفع الثمن وذلك لا يوجب الخيار. ثم قال: والفص والفضة إذا كانا مسراً لم يضر ذلك بواحد منهما بمنزلة السمن في الزق يباعان جميعاً، وبمنزلة الدقيق في الجراب، وكذلك السيف المحلى أو المنطقة المحلى أو ما أشبه ذلك من الجوهر يكون في الذهب، فكل شئ من ذلك كان نزعه لا يضر بواحد منهما، فكأنهما شأنان متباينان في جميع ما وصفت لك. وإذا اشترى خاتم فضة فيه فص بدراهم أو

دنانير وقبضهما، ثم ميّزهما قبل الافتراق أو بعده، والتميز يضر به، وافترقا قبل أن يدفع الثمن، فالبيع فاسد في ذلك كله ويرد المشتري على البائع الفص وما نقصه. وإن كانت الفضة نقصت مع ذلك أو نقصت وحدها لم يقدر المشتري على ردها، ولكنه يغرم قيمتها مصوغة من الذهب إلا أن يشاء البائع أن يأخذها وحدها، ولا يغرم المشتري نقصانهما؛ لأن المشتري حين قبض الخاتم قبل أن يميز الفص منه، والتميز يضر به كان ذلك شيئاً واحداً، فإذا بطل في كله البيع في بعضه بطل في كله. وفي «المنتقى» : اشترى خاتم فضة فيه فص ياقوت بمائة دينار، فذهب الفص عند البائع، فإن هذا في قياس قول أبي حنيفة يأخذ الحلقة بمائة دينار أو نزع، ولو كان اشتراه بدراهم يأخذ الحلقة بوزنها من الفضة؛ لأنه لا يصلح أن يأخذها بأكثر من ذلك. أبو سليمان عن أبي يوسف: إذا تصارف الرجلان دراهم بدنانير وتقابضا وتفرقا، فوجد من الدراهم من وصف غير الذي اشترط له، فعلى قول أبي يوسف له أن يستبدلها إذا كانت دون شرط، وإن كانت خيراً من شرطه، فليس له أن يستبدله، وإذا كانت مثل الذي شرط ينفق في جميع البلدان والبيوع، كما ينفق الذي شرط في البيع، وإن كانت لا تنفق في بعض البيوع أو بلد من البلدان، فله أن يستبدلها، وإن شاء تجوز بها. وأما في قول أبي حنيفة: وإن كان فيها هذا النقصان فهي بمنزلة النبهرجة، فإن كانت أكثر من الثلث انتقص بحساب ذلك. وفي «المنتقى» : رجل اشترى عبداً بألف درهم وأعطى بها مائة دينار قبل أن يقبض العبد، ثم تفرقا ثم استحق قبل أن يقبضه أو بعد ما قبضه فقد بطل الصرف، وكذلك لو قبضه ثم صارفه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. ولو أن المستحق بعد ما استحق العبد وقضى به أجاز البيع أو لم يجر؛ لأن القضاء به له بعض البيع، ولو أجاز البيع ولم يجز الصرف أيضاً جائزاً في قول أبي حنيفة، ويضمن البائع ألف درهم لرب العبد، ولا يجوز

الصرف في قول أبي يوسف، فيرد البائع الدنانير، ويأخذ ألف درهم. وفي «المنتقى» : رجل صرف لغيره ديناراً بعشرين درهماً وتقابضا، ثم إن بائع الدراهم وجد الدينار الذي قبضه ينقص قيراطاً، قال: له أن يرجع بدرهم حصة القيراط؛ لأن كل دينار عشرون قيراطاً، قال: وله أن يرد الدينار ويأخذ دراهمه إن شاء؛ لأنه تعيب وإن شاء أمسك ولا شيء له غير الدينار بعينه، وأما في قول أبي يوسف، فإنه يرجع بنقصان الدينار، ثم إن شاء أمسك الدينار بعينه، وإن شاء رده ورجع عليه بتسعة عشر جزءاً من الدينار، فيكون لبائع الدينار جزءاً، ولهذا تسعة عشر، فيكون الدينار بينهما على ذلك. وفيه أيضاً: رجل باع من آخر قلب فضة وزنه عشرة دراهم بعشرة دراهم، فدفع القلب ولم يقبض الدراهم حتى وهب مشتري القلب منه ينظر إن دفع المشتري القلب ثمن القلب قبل أن يتفرقا صح البيع وجازت الهبة، وإن تفرقا قبل أن (162أ3) يدفع ثمنه انتقض البيع وبطلت الهبة ورجع القلب إلى بائعه وصار ذلك مناقضة. وفي «نوادر ابن سماعة» : رجل اشترى من آخر ديناراً بعشرين درهماً، وقبض الدينار ولم يدفع الدراهم حتى وهب الدينار لبائعه، ثم فارقه قبل أن يدفع إليه الدراهم، قال: الهبة في الدينار جائزة ولبائع الدينار على مشتريه دينار مثله. وفي «المنتقى» : رجل اشترى عشرة دراهم بدينار ودفع الدينار ولم يقبض الدراهم ثم إن قابض الدينار للدافع ودفعه إليه أو اشترى به منه فضة تبر وتقابضا، ثم تفرقا قبل أن يقبض الدراهم الأول ففيما إذا وهب الدينار فالهبة باطلة، والبيع الأول باطل ورجع الدينار الموهب إلى صاحب الذي دفعه بانتقاض الهبة، فليس له غيره. وفيما إذا اشترى به منه فضة تبر وتقابضا فالشراء الآخر جائز والأول باطل، وعلى قابض الدينار الأول مثله لقابض الدينار الآخر. رجل صارف رجلاً ديناراً بعشرة دراهم وتقابضا، ثم إن الدراهم وجد فيها دراهم زائفاً فدفعه إلى الصيرفي وأخذ بدله مكانه، قال: لما دفعه إلى الصيرفي صار مناقضاً في الدرهم؛ لأن المصارف غائب فينتقص من الدينار بحصته. ولو قبض درهماً جيداً ولا بدل الزيف ثم دفع الزيف إليه كان جائزاً. في «المنتقى» : رجل اشترى منطقة بمائة درهم على أن فيها خمسون درهماً حلية وتقابضا وتفرقا وقد شرط له أن حليتها فضة بيضاء، فكسر الحلية، فإذا هي حلية سوداء جاز ذلك عليه ولم يرجع بشيء، وإن وجد بعض الحلية رصاصاً فالبيع فاسد وإن كان قد استهلك الحلية ضمن قيمتها من الذهب وضمن قيمة الرصاص ورد اليسير، وإن كان ذلك بعض اليسير رد ما نقص اليسير، ولو لم يجد فيها رصاصاً ولكن وجد فيها أربعين درهماً الحلية فهو بالخيار، إن شاء ردها وإن شاء رجع بعشرة دراهم، وإن وجد فيها ستين درهماً حلية فالبيع فاسد إذا كان قد تفرقا، وإن لم يتفرقا إن شاء المشتري زاد العشرة وجاز البيع وإن شاء نقض البيع.

ولو كان الثمن دنانيراً فتفرقا والمسألة بحالها فالبيع جائز، كأنه باع قلب فضة بدينار على أنه عشرة دراهم، فإذا هو عشرون درهماً باع من أخر قلب فضة فيه عشرون درهماً بدينار على أنها فضة فاستهلكه فضة سوداء، ولم يعلم به المشتري ثم علم لم يرجع بشيء. رجل له على رجل ألف درهم غلة فأخذها تسعمائة وضح وديناراً، ثم افترقا فاستحق الدينار، فإنه يرجع على الغريم بمائة درهم غلة، وإن استحق الدينار قبل أن يتفرقا يرجع بدينار ومثله، وكذلك الجواب فيما إذا كان مكان الدينار مائة مائة فلس. ولو أن رجلاً باع صيرفاً ألف درهم غلة تسعمائة وضح وبمائة فلس وتقابضا، ثم استحقت الألف الغلة من يدي الصيرفي رجع الصيرفي على الذي اشترى منه الغلة بالتسعمائة الوضح الذي أعطاه، فرجع عليه بمائة درهم غلة ثمن الفلس الذي أعطاه، وإن لم يتفرقا حتى استحقت الغلة رجع الصيرفي على الرجل بألف غلة مثلها، وإن لم يستحق شيء من ذلك حتى افترقا، ثم استحقت المائة الفلس من الرجل رجع على الصيرفي بمائة فلس مثلها، وإن لم يستحق الفلوس، ولكن استحقت التسعمائة الوضح بعدما افترقا رجع على الصيرفي بتسعمائة غلة ثمن الوضح، ويرجع عليه بمائة فلس بدل الذي استحق. وإن استحق ما في يد الرجل من الوضح والفلوس واستحق ما في يد الصيرفي من الغلة، فإن كان بعدما افترقا فقد انتقض البيع بينهما في جميع الدراهم والفلوس، وإن كانا لم يفترقا يرجع كل واحد منهما على صاحبه بمثل ما استحق من يده، والبيع تام. ابن سماعة عن أبي يوسف: أن الرد بالعيب بعد القبض لا يبطل الصرف، وكذلك الرد بخيار الرؤية، والرد بالعيب قبل القبض بمنزلة موت العبد قبل أن يقبضه، وأما في الرد بخيار الشرط بعد القبض يرجع بالدنانير التي أعطاه بدل الألف درهم الثمن. وفي كتاب الصرف: إذا اشترى ألف درهم بعينها بمائة دينار والدراهم بيض، فأراد المشتري الدراهم أن يتبرع على بائعه بالجودة وإلى بائعه تبرعه فله ذلك. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهو نظير ما لو أبرأه عن شيء من المقر له ورد من عليه إبراءه كان له ذلك. قال رحمه الله أيضاً: وهو نظير ما ذكر في «الجامع» : إذا كان لرجل على رجل ألف درهم فأتاه بألف جياد وأبى صاحب الدين أن يقبل ذلك لا يجبر عليه، وإن أتى بجنس حقه وزيادة؛ لأنه تبرع عليه فكان له أن لا يقبل تبرعه ومنه فكذا هاهنا. قال: وكذلك لو اشترى منه ضرباً من الدنانير وقال للبائع: أعطني دنانير غيرها لم يكن له ذلك وإن كان ما طلب دون حقه إلا أن يرضى الآخر دون حقه. وفي «المنتقى» : وللذي عليه السود أن يؤدي بيضاً هو مثل السود أو أجود منه، ويجبر من له على القبول، وكذا من عليه البيض إذا أدى سوداً مثله يجبر على القبول عند علماءنا الثلاثة. قال هشام: سمعت محمداً يقول في رجل له ابن صغير قال: اشهدو أني اشتريت

هذه الدينار من ابني هذا بعشرة دراهم، ثم قام الأب قبل أن يرث المشتري، فإنه يبطل بقيامه. قال: وسمعت أبا يوسف يقول: رجل اشترى ديناراً بعشرة دراهم وقبضه على أن الدينار مثقال وحبة ثم افترقا، فوزن الدينار، فإذا هو ينقص حبة هو مثقال سواء، فإنه يرجع على البائع بحصة الحبة من الدينار، أو يرد الدينار الناقص على البائع ويأخذ منه ديناراً بوزن مثقال وحبة ويكون البائع شريكه في الحبة الزائدة. المعلى في «النوادر» عن أبي يوسف: رجل اشترى من رجل ديناراً بعشرة دراهم وتقابضا.............؟ الدينار ينقص دونه العشر، قالا: وإن كان نقصان الدينار عيباً بالدينار رده المشتري على البائع وأخذ منه ديناراً وأراه أو أخذ منه عشر الثمن، وكان للمشتري في الدينار تسعة أعشاره وللبائع العشر، وإن كان النقصان ليس بعيب في الدينار رجع المشتري على البائع بعشرة الدراهم ولزمه الدينار. وإذا كان عند الرجل ألف درهم (162ب3) وديعة، فاشترى بها مائة دينار وأجاز صاحب الوديعة الشراء قبل أن يتفرقا جاز له على المستودع ألف درهم، وإن أجازه بعدما افترقا، فإن شاء صاحب الوديعة ضمن ما له المستودع، ويجوز البيع، وإن شاء ضمن بائع الدينار وانتقض الصرف. الحسن بن زياد عن أبي يوسف: رجل له على رجل ألف درهم، فاشترى منه مائة دينار بألف درهم، ثم تقابضا بما عليه، قال أبو يوسف: إن تقابضا قبل أن يتفرقا جاز، وإن تفرقا قبل أن يتقابضا بطل، وهو قول أبي حنيفة. وقال المعلى عن أبي يوسف رحمه الله: رجل دفع إلى رجل درهماً، وقال أبدله لي واحدة منه وضاع منه قبل أن يبدله، قال: هو ضامن له والله أعلم. رجل دفع إلى رجل ديناراً وأمره أن يبيعه، ودفع إليه آخر ثوبه وأمره أن يبيعه فعمد المأمور فباع الدينار والثوب صفقة واحدة، وقبض بعض الثمن ثم توى ما بقي على المشتري توى من مال صاحب الثوب. ابن سماعة عن أبي يوسف: اشترى من آخر ألف درهم بمائة دينار فصدق كل واحد منهما صاحبه بالوزن، وتقابضا يعني قبل الوزن فهذا جائز، وينتفع كل واحد منهما بما اشتراه. ولو قال: بعني هذه الدراهم التي في يديك بهذه الدنانير التي في يدي ولم يسميا عدداً ولا وزناً، وتقابضا جاز لكل واحد منهما أن ينتفع بما اشترى قبل الوزن والعدد هذا بيع مجازفة. وإن قال بعني ألف درهم بألف درهم وتقابضا بغير وزن وصدق كل واحد منهما صاحبه أن هذا المقبوض ألف درهم ثم وزن كل واحد منهما قبل التفرق أو بعده، فوجد

أنها سواء بسواء، فهذا جائز، ولو لم يصدق كل واحد منهما صاحبه وتفرقا ثم وزنا فكانا سواء لم يجز من قبل أنهما قد تفرقا على غير علم بأنهما استوفياه. ألا ترى أن رجلاً لو باع رجلاً دراهم في كيس بدراهم في كيس، فإن وزناها قبل أن يتفرقا فكانا سواء، فالبيع جائز، وإن تفرقا قبل أن يزناها فالبيع فاسد. إذا اشترى ديناراً بعشرة دراهم ثم باعها بربح درهم لا يجوز، ولو باعها بربح قيراط جاز، ذهب رجل باع من رجل ثوباً ونقرة فضة بخمسين درهماً على أن النقرة ثلاثون، فإذا هي خمسون، فإنه يقطع له من النقرة ثلاثون، فإن كان مكانها إناء أو قلب، فإن علم بوزنه قبل أن يتفرقا فالمشتري بالخيار إن شاء أعطاه عشرين درهماً أخرى، وإذا كانا قد افترقا كان شريكه في القلب، وللمشتري ثلاثة أخماسه. بشر عن أبي يوسف: رجل باع سيفاً محلى من رجلين بمائة درهم، وحلية السيف خمسون درهماً فقبض من أحدهما خمسة وعشرين بغير إذن شريكه ثم افترقا، فإن هذا النقد من الناقد وينقد خمسة وعشرون درهماً أخرى، ويكون له نصف السيف، وانتقض البيع في حصة الآخر، وهذا قول أبي يوسف. وأما في قول أبي حنيفة رحمه الله: فالنقد عنهما جميعاً وفسد البيع كله، ويرجع الناقد على البائع بما أعطاه، وإن شاء رجع على شريكه بنصفه ثم اتبعا البائع بخمسة وعشرين. وإذا اشترى الرجل من الرجل ألف درهم بمائة دينار وصدق كل واحد منهما صاحبه في الوزن وتقابضا وتفرقا قبل أن يتوازنا فالبيع فاسد، وقد ذكر قبل هذا قول أبي يوسف. في عين هذه الصورة: أنهما إذا تفرقا وكل واحد منهما مصدق لصاحبه ثم توازنا فهو جائز. وإذا أقرض الرجل رجلاً ألف درهم وأخذ بها كفيلاً ثم إن الكفيل صالح الطلب على عشرة دنانير وقبضها، فهو جائز؛ لأن الكفيل قائم مقام الأصيل، والأصيل لو صالح عن الألف الدرهم على عشرة دنانير جاز إذا قبض الدنانير في المجلس، فكذا إذا صالح الكفيل، ويرجع الكفيل على الأصيل بالدراهم؛ لأن الكفيل ملك ما في ذمته بالصلح. ولو ملك ما في ذمته بالأداء أو بالهبة رجع به على الأصيل، فكذا إذا ملكه بالصلح. ولو أن الكفيل صالحه على مائة درهم لم يرجع على الأصيل إلا بمائة درهم، وإنما كان كذلك؛ لأن هذا الصلح في معنى إبراء الكفيل عما زاد على المائة، ولو أبرأ الكفيل عن الكل لا يجب على الأصيل شيء، فكذا إذا أبرأه عما زاد على المائة. فإن قيل: إذا كان إبراء الكفيل عما زاد على التسعمائة، وإبراء الكفيل لا يجب براءة الأصيل كأن يجب أن يكون للطالب حق الرجوع على الأصيل بتسعمئة كما لو قبض من الكفيل مائة، وقال له: أبرأتك عن التسعمائة وليس ذلك بالإجماع. قلنا: البراءة عن التسعمائة إنما تثبت من حيث إن الصلح يجوز بدون الحق، وفي التجوز بدون الحق معنى استيفاء البعض، والإبراء عن الباقي، فيجعل هذا كالمنصوص عليه كأنه قال: تجوزت بدون الحق، وإنما يقع التجوز بدون الحق إذا برئ الأصيل عما

وراء المستوفى، فصرفنا الإبراء إليهما لهذه الضرورة. وصار كأنه قال للكفيل وقت الصلح: استوفيت منك مائة درهم وأبرأتك والأصيل عن تسعمائة، ولو نص على هذا كان لا يرجع الطالب على المكفول عنه بشيء كذا هاهنا بخلاف ما لو صالحه على عشرة دنانير؛ لأن هناك الكفيل ملك جميع ما (في) ذمته بالدنانير العشرة تصلح بدلاً عن الألف الدرهم، فصار بمنزلة ما لو ملك ما في ذمته بالأداء، وهناك الكفيل يرجع على الأصيل بالألف، فكذا ما في ذمته بالصلح، أما في مسألتنا بخلافه. هذا الذي ذكرنا إذا صالح الكفيل مع الطالب فأما إذا صالح الكفيل مع الأصيل على عشرة دنانير، وذلك قبل أن يؤدي الكفيل شيئاً إلى الطالب صح الصلح إذا قبض الكفيل الدنانير من الأصيل لما عرف أن الكفالة إذا كانت بأمر يوجب ديناً للكفيل على الأصيل، ولكن مؤجلاً إلى أن يؤدي، فإذا صالح الكفيل مع الأصيل فإنما صالح عن دين له مؤجل، والصلح عن الدين المؤجل صحيح بشرط قبض بدل الصلح في المجلس، ثم صلح الكفيل مع الأصيل لا يوجب سقوط مطالبة الطالب لا عن الكفيل ولا عن الأصيل، فيطالب إن شاء الأصيل، وإن شاء الكفيل، فإن طالب الكفيل وأخذ منه الألف لا يرجع على الأصيل؛ لأن الأصيل ملك ما كان للكفيل في ذمة الأصيل بالصلح، فيعتبر كما لو ملك بالأداء، ولو ملكه بالأداء بأن أدى الأصيل (163أ3) دين الكفيل قبل أداء الكفيل دين الطالب، ثم أخذ الطالب الدين من الكفيل لا يرجع الكفيل على الأصيل بشيء كذا هاهنا. وإن طالب الأصيل وأخذ منه الألف كان للأصيل أن يرجع على الكفيل بالألف، إلا أن يشاء الكفيل أن يعطي الأصيل الدنانير التي أخذها منه؛ وهذا لأن الكفيل صار مستوفياً الدراهم من الأصيل بهذا الصلح؛ لأنه أخذ الدنانير بدلاً عن الدراهم، والبدل قائم مقام المبدل، فيعتبر بما لو صار مستوفياً الدراهم بجنسه بأن دفع الأصيل إلى الكفيل الألف الدراهم، وهناك الطالب إذا رجع على الأصيل وأخذ منه الألف كان للأصيل أن يرجع بما أدى على الكفيل؛ لأن الأصيل إنما أدى الألف الدراهم إلى الكفيل ليستفيد البراءة عن دين الطالب ولم يستفد، فكان له الرجوع بما أدى كذا هاهنا. ثم قال: إلا أن يشاء الكفيل أن يعطي الأصيل الدنانير التي أخذها منه، معناه إذا قال الكفيل للأصيل حين أراد الأصيل أن يرجع عليه بالألف الدرهم: أنا أعطيك الدنانير التي أخذتها منك، ولا أعطيك الألف الدرهم وللكفيل ذلك؛ لأن الكفيل يقول للأصيل: أنا أخذت منك الدراهم بطريق الصلح. ومبنى الصلح على الإغماض والتجوز بدون الحق، وإنما رضيت أنا بالتجوز بدون حق بشرط أن أكون أنا المباشر لقضاء دين الطالب لعلمي أن الطالب رضي عني بدون الحق، فإذا باشرت أنت وأردت الرجوع إليّ بجميع الألف فقد فات غرضي من هذا الصلح، فلا أرضى به وهذا يصلح حجة للكفيل، فلهذا كان له الخيار بين أن يعطي

الطالب الألف الدرهم وبين أن يعطيه العشرة الدنانير، وقد ذكر مسألة الإقالة في الصرف في صدر الكتاب. قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله في «المنتقى:» روي عن محمد أنه لا تجوز الإقالة في الصرف؛ لأنه ليس هاهنا مشترى والله أعلم بالصواب. تم كتاب الصرف في منتصف جمادى الأولى سنة ست وثمانين وستمائة.

كتاب الشفعة

كتاب الشفعة هذا الكتاب يشتمل على عشرين فصلاً 1 * فيما تجب فيه الشفعة وما لا تجب. 2 * في بيان مراتب الشفعة. 3 * في طلب الشفعة. 4 * في استحقاق الشفيع كل المشترى أو بعضه. 5 * في الحكم بالشفعة والخصومة فيها. 6 * في الدار إذا بيعت ولها شفعاء. 7 * في إنكار المشتري حق الشفيع وما يتصل به. 8 * في تصرف المشتري في الدار المشفوعة قبل حضور الشفيع. 9 * في تسليم الشفعة. 10 * في الشفيع إذا أخبر بالبيع، فيسلم ثم يعلم أن البيع كان بخلافه. 11 * فيما يحدث الشفيع مما يبطل شفعته. 12 * في الاختلاف الواقع بين المشتري والشفيع والشهادة في الشفعة. 13 * في التوكيل بالشفعة وتسليم الوكيل الشفعة وما يتصل به. 14 * في شفعة الصبي. 15 * في حكم الشفعة. 16 * في الشفعة في فسخ البيع والإقالة وما يتصل بذلك. 17 * في شفعة أهل الكفر. 18 * في الشفعة في المرض. 19 * في وجوه الحيل في باب الشفعة. 20 * في المتفرقات.

الفصل الأول: فيما تجب فيه الشفعة وما لا تجب

الفصل الأول: فيما تجب فيه الشفعة وما لا تجب قال أصحابنا رحمهم الله: الشفعة لا تجب في منقولات مقصودة، وإنما تجب تبعاً للعقار على ما يأتي بيانه في آخر هذا الفصل، وإنما تجب مقصوداً في العقارات كالدور والكرم وغيرها من الأراضي مما يحتمل القسمة كالحمام والرحى والبئر وغير ذلك، وإنما تجب في الأراضي التي يملك رقابها حتى أن الأراضي التي حازها الإمام لبيت المال ويدفع إلى الناس مزارعة فصار لهم فيها كراء دار كالبناء والأشجار والكنس إذا كنسوها بتراب نقلوها من موضع يملكوها، فإن بيعت هذه الأراضي فبيعها باطل، وإن بيع الكر دار وكان معلوماً يجوز بيعها، ولكن لا شفعة، وكذا الأراضي ... ؟ إذا كانت الأكرة يزرعونها فبيعها لا يجوز، وبيع الكراء إذا كان معلوماً يجوز، ولكن لا شفعة فيها. في «أدب القاضي» : للخصاف في باب الشفعة: وإنما يجب بحق الملك حتى لو بيعت دار بجنب دار الوقف، فلا شفعة للوقف، ولا يأخذها المتولي. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: وكذلك إذا كانت هذه الدار وقفاً على رجل لا يكون للموقوف عليه حق الشفعة بسبب هذه الدار لما قلنا. في «فتاوى (أهل) سمرقند» : وإنما يجب إذا ملك العقار بعوض هو عين مال إذا ملك بغير عوض أصلاً بأن ملك بالهبة بغير عوض أو بالإرث أو بالصدقة فلا شفعة. وكذلك إذا ملك بعوض هو ليس بعين مال، كما إذا جعل الدار مهراً في النكاح أو أجرة في باب الإجارة أو بدل خلع أو صلح عن دم العمد فلا شفعة؛ وهذا لأن حق الشفعة بخلاف القياس؛ لأن في الأخذ بالشفعة تملك مال الغير بغير رضاه عرف بالنص في البيع، والملك بالبيع ثبت بعوض هو عين مال، فما وقع الملك فيه بغير عوض أو بعوض ليس هو عين مال يبقى على أصل القياس. وإذا تزوج امرأة بغير مهر وفرض لها داره مهراً أو قال لها: صالحتك على أن أجعلها لك مهراً، أو قال: أعطيتك هذه الدار مهراً، فلا شفعة للشفيع فيها في الفصول كلها. فرق (بين) هذا وبينما إذا قال لها: صالحتك من مهرك على هذه الدار، أو قال: مما وجب لك من المهر. والفرق: أن في الفصول الثلاث جعل الدار مهراً ابتداء لا بدلاً عن المهر، فإنه قال: فرضتك داري هذه مهراً جعلت لك داري هذه مهراً ولم يقل: جعلت لك داري بدلاً

من مهرك، وقد أمكن أن يجعل الدار مهراً مبتدئاً؛ لأنه لم يكن في النكاح تسمية، وإنما وجدت التسمية الآن، وإذا صار الدار مهراً مبتدأ يكون بدلاً عن البضع، وإنه ليس بعين مال، فلا تجب فيه الشفعة، كما لو تزوجها ابتداء على الدار، أما في الفصلين جعل الدار بدلاً عن المهر نصاً، والمهر عين مال، فصارت الدار مملوكة بما هو عين مال، فيجب للشفيع فيها الشفعة. وكذلك لو تزوجها على مهر مسمى ثم باعها بذلك المهر داراً يجب للشفيع فيها الشفعة، وكذلك إذا تزوجها على غير مهر وفرض القاضي مهراً ثم باعها داراً بذلك المفروض يجب للشفيع فيها الشفعة؛ لأن الدار في هذين الفصلين بدل عن المهر لا عن منافع البضع. رجل تزوج امرأة (163ب3) ولم يسم لها مهرها ثم دفع إليها داراً، فهذا على وجهين: إن قال الزوج: جعلتها مهرك، فلا شفعة فيها؛ لأن هذا تقدير لمهر المثل ولا شفعة في المهور، وإن قال: جعلتها بمهرك ففيها الشفعة؛ لأن هذا عوض عن مهر المثل، فكانت مبيعاً. في «الفتاوى» : وإذا ملكت بدلاً عما هو عين مال وما ليس بمال، فعلى قول أبي حنيفة: لا شفعة للشفيع أصلاً، وعلى قولهما: تجب الشفعة في حصة المال من الدراهم. صورته: إذا تزوج امرأة على دار على أن ردت المرأة عليه ألف درهم، أو صالح عن القصاص على دار على أن يرد صاحب الدم عليه ألف درهم. وإذا وهب داراً من إنسان يشترط أن يعوضه منها كذا وكذا، فلا شفعة فيها للشفيع ما لم يتقابضا، وبعدما تقابضا ففيها الشفعة، وهذا لما عرف في كتاب الهبة أن الهبة بشرط العوض هبة ابتداء وتصير بيعاً بعد اتصال القبض بالبدلين، فقبل اتصال القبض بالبدلين هي هبة، ولا شفعة في الهبة، وبعد اتصال القبض بالبدلين هو بيع وفي البيع الشفعة. وإذا وهب شقصاً مسمى في دار غير محوز ولا مقسوم على أن يعوضه كذا وكذا فهو باطل، ولا شفعة للشفيع فيه لما ذكرنا أن الهبة بشرط العوض تنعقد هبة ابتداء، والهبة في مشاع يحتمل القسمة لا يجوز، فانعقدت الهبة بصفة الفساد في الابتداء، والتمام بناء على الابتداء، فيكون التمام بيعاً فاسداً. والجواب في الصدقة والتخلي والعمرى ... نظير الجواب في الهبة، لأن هذه ألفاظ الهبة، والعقد لا يختلف باختلاف الألفاظ، وأما الوصية على هذا الشرط إذا قبل الموصى له ثم مات الموصي، فإنه تجب الشفعة وإن لم يقبضها الموصى له بخلاف الهبة. ثم قال في «الكتاب» : إذا قال أوصيت بداري بيعاً لفلان بألف درهم ومات

الموصي، فقال الموصى له: قبلت يثبت للشفيع الشفعة، وإن قال أوصيت أن يوهب له عوض ألف درهم، فهو مثل الهبة بشرط العوض لنفسه. وإذا ادعى حقاً على إنسان وصالحه المدعي قبله على دار، فللشفيع أن يأخذ الدار بالشفعة سواء كان الصلح عن إقرار أو عن إنكار؛ لأن التملك بالشفعة يقع على المدعي، وفي زعم المدعي أنه ملك هذه الدار عوضاً عما هو عين مال فيبني الأمر على زعمه. وبمثله لو ادعى داراً في يدي رجل، فصالحه المدعي قبله على أن يعطيه المدعي قبله دراهم، ويترك الدار على المدعي قبله. ينظر: إن كان الصلح على إقرار المدعي قبله، فللشفيع الشفعة، وإن كان الصلح عن إنكار، فلا شفعة للشفيع؛ لأن التملك بالشفعة ههنا تقع على المدعي قبله، فإذا كان الصلح على إقراره، ففي زعمه أنه يملك الدار بعوض أصلاً، وإنما دفع الدراهم فداء عن اليمين، فإذاً في الفصول كلها يعتبر زعم من يقع التملك عليه. دارٌ بين ثلاثة نفر مثلاً، جاء رجل وادعى لنفسه فيها دعوى، فصالحه أحد شركاء الدار على مال على أن يكون نصيب المدعي لهذا المصالح خاصة فطلب الشريكان الآخران الشفعة، فإن كان الصلح على إقرار شركاء الدار، فإن أقر شركاء الدار بما ادعاه المدعي وصالح المدعي واحد منهم على أن يكون نصيب المدعي له خاصة كان لهم الشفعة في ذلك، وإن كان الصلح عن إنكار الشركاء، فلا شفعة وهو بناء على ما قلناه. وإن كان المصالح مقراً بحق المدعي، وأنكر الشريكان الآخران أخذ حقه، فالقاضي يسأل الشريك المصالح البينة على ما ادعاه المدعي؛ لأن الشريك المصالح صار مشترياً نصيب المدعي من الدار ونصيب المدعي بعضه في يد الشريكين الآخرين، وهما ينكران ملكه وحقه. ومن اشترى شيئاً من رجل، وذلك الشيء في يد غير البائع وصاحب الدار ينكر ملكية البائع، فإنه لا يسلِّم المشترى للمشتري حيث يثبت ملكية البائع بالبينة كذا هاهنا، فإن أقام البينة على ما ادعاه المدعي قبلت بينته؛ لأنه مشترٍ أثبت ملك بائعه فيما اشترى حتى يصح شراؤه. وإذا قبلت بينته صار الثابت بالبنية كالثابت بإقرار الشركاء، وهناك للشريكين الآخرين حق الشفعة فهاهنا كذلك، أكثر ما فيه أن في زعم الشريكين الآخرين أنه لا شفعة لهما، إلا أنهما كذبا في زعمهما لما قضى القاضي، فالملك للمدعي، فالتحق زعمهما بالعدم. وإذا ادعى حقاً في دار وصالحه المدعي على سكنى دار أخرى، فلا شفعة للشفيع التي وقع الصلح عنهما، لأنها ملكت بعوض هو ليس عين مال. وإذا اشترى داراً على أن المشتري فيها بالخيار ثلاثة أيام فللشفيع الشفعة في قولهم جميعاً، وإن لم تصر الدار مملوكاً للمشتري عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن حق الشفعة تعتمد انقطاع حق البائع لا ثبوت حق المشتري.

ألا ترى أن للشفيع أن يتملك الدار على البائع، ولا يتملك على المشتري، فيراعي زوال ملك البائع، وملك البائع هاهنا زوال بالإجماع، وعن هذا قلنا: إن من أقر ببيع داره من رجل، وأنكر المشتري كان للشفيع أن يأخذها بالشفعة. وذكر القدوري في «شرحه» : روى عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا شفعة للشفيع مع شرط الخيار للمشتري. وفي «القدوري» : أن خيار الرؤية وخيار العيب لا يمنع ثبوت حق الشفعة؛ لأنه لا يمنع زوال ملك البائع، وإن كان المشتري شرط الخيار لنفسه شهراً أو ما أشبه ذلك، فلا شفعة للشفيع عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الشراء بشرط الخيار زيادة على ثلاثة أيام فاسد عنده، ولا شفعة في الشراء الفاسد على ما تبين، فإن أبطل المشتري خياره قبل مضي ثلاثة أيام حتى انقلب البيع صحيحاً وجب للشفيع الشفعة، وإن كان الخيار لبائع الدار فلا شفعة للشفيع في قولهم جميعاً؛ لأن خيار البائع يمنع زوال المبيع عن ملكه، فيمنع ثبوت حق الشفعة، وإن كان الخيار لهما يعني للبائع والمشتري، فلا شفعة للشفيع لأجل خيار البائع لا لأجل خيار المشتري. وإذا اشترى داراً بعبد بعينه أو بعرض بعينه وشرط فيه الخيار لأحدهما، إن شرط الخيار لبائع الدار، فلا شفعة للشفيع قبل تمام البيع سواء شرط الخيار في الدار أو في العبد إن شرط الخيار في العبد؛ فلأن بائع الدار مشترٍ للعبد وثمنه الدار، وخيار المشتري يمنع زوال الثمن عن ملك المشتري بالإجماع، (164أ3) ولو اختلفوا أنه هل يمنع دخول المشترى في ملك المشتري فلم تزل الدار عن ملك البائع بلا خلاف، فكيف يثبت للشفيع حق الشفعة؟ وإن كان الخيار لمشتري الدار، فإنه يجب للشفيع الشفعة قبل أن يجيز البيع سواء شرط له الخيار في العبد، إن شرط له الخيار في الدار؛ فلأن هذا خيار مشتري الدار وخيار مشتري الدار لا يمنع وجوب الشفعة في الدار، وإن شرط الخيار في العبد؛ فلأن مشتري الدار بائع للعبد والثمن هو الدار، وخيار البائع في المبيع لا يمنع زوال اليمين عن ملك المشتري، فتزول الدار عن ملك مشتريه فيثبت للشفيع حق الشفعة فيها، وإن كان الخيار لهما معنى البائع الدار ومشتريها، فلا شفعة لأجل خيار البائع على نحو ما بينا. إذا اشترى الرجل من آخر داراً على أن المشتري فيها بالخيار ثلاثة أيام فبيعت دار إلى جنبها فللمشترى الشفعة بالإجماع، أما على قولهما فظاهر، وأما على قول أبي حنيفة: فلأنه وإن لم يكن مالكاً للدار المشتري وقت بيع هذه الدار إلا أن له فيها حق الملك. ألا ترى أن للمشتري أن يمتلكها إذا كان الخيار له وحق الملك يكفي لثبوت حق الشفعة، ألا ترى أن المكاتب يستحق الشفعة سقط خياره؛ لأنه لو لم يسقط خياره بذلك، فإذا فسخ العقد ينفسخ في حقه من الأصل، فتبين أنه أخذها بالشفعة بغير حق فاللتحرز عن ذلك قلنا بأنه يسقط خياره، وإذا حضر الشفيع بعد ذلك أخذ الدار الأولى بالشفعة ولا

شفعة له في الدار الثانية؛ لأن الشفيع إنما صار جاراً للدار الثانية بعد أخذه الدار الأولى وشراء الدار الثانية كان قبل أخذه الدار الأولى. ولو كان الخيار لبائع الدار فبيعت دار بجنب الدار المبيعة فللبائع فيها حق الشفعة؛ لأن ملك البائع قائم وقت شراء هذه الدار، فإذا أخذها كان هذا منه نقضاً للبيع، وإذا شرط الخيار للشفيع، فإن كان البائع هو الذي له ذلك، فأمضى البيع فلا شفعة له، وإن كان المشتري هو الذي شرط له ذلك، فله الشفعة؛ لأنه قام مقام الشارط في إتمام العقد، ولو كان البائع شفيع الدار، فلا شفعة له، ولو كان المشتري شفيع الدار فله الشفعة. و «الأصل» : أن من باع أو بيع له بأن كان البيع بحق الوكالة، فلا شفعة له ولا لموكله، ومن اشترى أو اشتري له بأن كان الشراء بحق الوكالة، فله الشفعة ولموكله.d في «شرح القدوري» : وفي «المنتقى» : عن محمد رحمه الله في «الإملاء» : رجل اشترى داراً وشرط الخيار لشفيع ثلاثاً قال: إن قال الشفيع: أمضيت البيع على أن آخذ بالشفعة فهو على شفعته، وإن لم يذكر أخذ الشفعة فلا شفعة له. رجل توكل عن غيره بشراء دار وهو شفيعها ثبتت له الشفعة، فيطلب من الموكل، علل الصدر الشهيد رحمه الله، فقال: لأن الوكيل لم يملك بالشراء وفيه نظر. وعن أبي نصر أنه كان يقول: وليس هذا كمن يشتري لنفسه؛ لأن الوكيل اشترى لغيره، قال: ولو أقام أخذ الوكيل مقام الموكل في هذا الشراء لا ينعقد، لكن الطريق الأول أعجب إلي، ولا شفعة في الشراء الفاسد سواء كان المشترى مما يملَك بالقبض أو لا يملك، وسواء كان المشتري قبض المشترى أو لم يقبض، إن لم يقبض فلبقاء ملك البائع وإن قبض حقه في الاسترداد، وهذا إذا وقع البيع فاسداً، أما إذا فسد بعد انعقاده صحيحاً، فحق الشفيع يبقى على حاله. ألا ترى أن النصراني إذا اشترى من نصراني داراً بخمر، فلم يتقابضا حتى أسلما أو أسلم أحدهما أو قبض الدار ولم يقبض الخمر، فإن البيع يفسد على ما عرف في كتاب البيوع، وللشفيع أن يأخذ الدار بالشفعة وإن فسد البيع؛ لأنه إنما فسد بعد وقوعه صحيحاً، فإن كان المشتري قبض الدار المشتراة شراء فاسداً وبيعت دار أخرى بجنب هذه الدار، فله الشفعة؛ لأن له جواراً قائماً بحقيقة الملك من وقت الشراء، فإن لم يأخذ الدار الثانية بالشفعة حتى استرد البائع منه ما اشترى لم يكن للمشتري أن يأخذها بالشفعة؛ لأن جواره زال قبل الأخذ، وكذا لا يكون للبائع أن يأخذها؛ لأن جواره حادث، وإن كان المشتري أخذ الدار بالشفعة ثم استرد البائع منه ما اشترى فالأخذ ماض. وإذا اشترى داراً شراءً فاسداً وبنى فيها بناءً أو غرس فيها أشجاراً فللشفيع أن يأخذها بالشفعة بقيمة الدار، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا شفعة للشفيع، وهذا بناء على أصل مختلف معروف في كتاب البيوع أن حق البائع في الاسترداد ينقطع بالبناء وغرس الأشجار عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا ينقطع، وإذا انقطع حق البائع بالبناء عند أبي حنيفة

زال المانع من وجوب الشفعة، فيأخذها الشفيع بقيمتها وينقص بناء المشتري لحق الشفيع. قال القدوري: فإن بائع المشتري ما اشتراه شراء فاسداً بيعاً صحيحاً من رجل لم يكن للبائع نقض البيع، والشفيع بالخيار إن شاء أخذ بالبيع الثاني بالثمن المذكور فيه، وإن شاء نقض البيع الثاني وأخذه بالبيع الأول بقيمته؛ لأنه اجتمع سببان، فكان له أن يأخذ بأيهما شاء. فإن قيل: إذا نقض البيع الثاني صار كأن لم يكن، فيعود حق البائع في النقض، فلا يكون للشفيع الشفعة كما قبل البيع الثاني. قلنا: البيع الثاني ينتقض لحق الشفيع مقتضى يملكه المشتري بالشفعة بالبيع السابق، فلا يثبت الانتقاض على وجه يبطل به حق الشفيع. إذا أوصى لرجل بدار ولم يعلم الموصى له حتى بيعت دار بجنبها، ثم قبل الوصية وادعى الشفعة، فلا شفعة له؛ لأنه لا يملك الدار وقت (البيع) فلم يتحقق السبب، وإن مات الموصى له قبل أن يعلم بالوصية بيعت دار بجنبها، فادعى الورثة شفعتها فلهم ذلك؛ لأن موت الموصى له بمنزلة قبوله، والمسألة (164ب3) معروفة في الوصايا. وإذا بيع سفل عقار دون علوه، أو بيع علوه دون سفله أو بيعا معاً وجبت الشفعة. في «الزيادات» : سفل لرجل آخر فباع صاحب السفل سفله، فلصاحب العلو الشفعة، وإن باع صاحب العلو علوه، فلصاحب العلو الشفعة، فبعد ذلك إن كان طريق العلو في السفل كان حق الشفعة بسبب الشركة في الطريق، وإن كان الطريق في السكة العظمى كان حق الشفعة بسبب الجوار؛ إذ الجوار إنما يعرف بالاتصال، والاتصال بين الملكين ثابت، فإن لم يأخذ صاحب العلو السفل بالشفعة حتى انهدم العلو، فعلى قول أبي يوسف: تبطل شفعته، وعلى قول محمد: لا تبطل. فوجه قول أبي يوسف: أن الشفعة هاهنا إنما تثبت بالجوار إنما يعرف بالاتصال وقد زال الاتصال قبل قبض الأخذ بالشفعة، فزال الجوار فتبطل شفعته، كما لو باع الدار التي يستحق بها الشفعة قبل الأخذ بالشفعة. وجه قول محمد: أن استحقاق الأخذ بالشفعة هاهنا بسبب قرار البناء، لا بسبب عين البناء؛ لأن البناء منقول والشفعة لا تستحق بالمنقول وحق القرار هاهنا باق فما يستحق به الشفعة باق. ولو بيع السفل والعلو متهدم فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا شفعة لصاحب العلو بناء على أن عنده حق الشفعة له بسبب البناء، وعلى قول محمد: له الشفعة؛ لأن عنده حق الشفعة له بسبب قرار البناء لا بسبب نفس البناء، وحق قرار العلو باق في الباب الأول. من شفعة «المنتقى» : رجلان اشتريا داراً، وأخذها شفيعها فلا شفعة للشفيع فيما صار للأجنبي منهما؛ لأن شراء الأجنبي لم يتم إلا بقبول الشفيع البيع لنفسه، ألا ترى أن

البائع حين قال: بعتكما هذه الدار بألف درهم لكل واحد منكما نصفها بخمسمائة، فقال الأجنبي: قبلت نصفها إلي بخمسمائة لم يجز ذلك على البائع، فهو بمنزلة رجل باع داره من رجل واشترط الخيار لرجلين أحدهما شفيع الدار، فأجاز البيع. في «فتاوى أبي الليث» : إذا بيع المستأجر قبل مضي مدة الإجارة والمستأجر شفيعها فأجاز المستأجر البيع في حقه كان له أن يأخذ بالشفعة، وإن لم يجز البيع ولكن طلب الشفعة بطلت إجارته؛ لأنه لا صحة للشفعة إلا بعد بطلان الإجارة، فيتضمن طلب الشفعة ببطلان الإجارة. فرق بين هذه المسألة وبينما إذا باع من آخر داراً على أن يكفل فلان بالثمن وفلان شفيعها، فكفل حيث لا تثبت له الشفعة. والفرق: أن في مسألة الكفالة البيع لا يجوز ما لم يكفل إذا كانت الكفالة شرطاً في البيع، فصار الجواز مضافاً إليه، فصار بمنزلة البائع، أما ههنا البيع جائز فيما بين البائع والمشتري من غير إجازة المستأجر، فلم يكن الجواز مضافاً إلى المستأجر فلم يضر بمنزلة البائع. رجل اشترى من آخر أرضاً فيها نخيل بألف درهم فلم يقبضها المشتري حتى أثمر النخيل ثم حضر الشفيع، فله أن يأخذ الكل بالشفعة. وفي المسألة إشكال من وجهين: أحدهما: أن حق الشفيع إنما يثبت بالبيع، فإنما يثبت فيما كان موجوداً وقت البيع، والثمر لم يكن موجوداً وقت البيع. والثاني: أن الثمر يغلى، أما الأول قلنا: حق الشفيع يثبت بالبيع ولكن في جميع ما صار مملوكاً للمشتري بالبيع، والثمر صار مملوكاً للمشتري بالبيع، وإن لم يكن موجوداً وقت البيع، ألا ترى لو قبضه المشتري صار له حصة من الثمن. وأما الثاني: قلنا الثمر ما دام متصلاً بالنخل والأرض فله حكم النخل والأرض بطريق التبعية، وحق الشفعة يثبت في النخيل والأرض، فكذا بالثمر المتصل بهما، فإن قال الشفيع أخذ الأرض والنخيل بحصتهما، وأترك الثمر أو قال المشتري: أعطيك الأرض والنخل بحصتهما، ولا أعطيك الثمر: لا يلتفت إلى قوله لما فيه من ضرر التفريق بصاحبه. ولو أن الشفيع حين حضر لم يقض القاضي له بالشفعة حتى جذ البائع الثمر أخذ الشفيع الأرض والنخيل وترك الثمر؛ لأنا إنما أثبتنا حق الشفعة في الثمر قبل الجذ مع كونه تقلباً بطريق التبعية، وبالجذاذ زالت التبعية، فعاد الأمر إلى الأصل، ثم يأخذ الأرض والنخيل بحصتهما من الثمن وتسقط حصة الثمر؛ لأن البائع بالجذاذ صار مستهلكاً حق المشتري قبل القبض، فأوجب سقوط حصته من الثمن، وكما يظهر السقوط في حق الشفيع. وهو نظير بناء الدار إذا نقضه البائع ثم حضر الشفيع أخذ الباقي بحصته من الثمن، وطريقة ما قلنا. هذا إذا أخذ البائع الثمر، فأما إذا هلك الثمر من غير صنع أحد، فالشفيع يأخذ الثمر والنخيل بجميع الثمن؛ لأنه ملك بالبيع تبعاً، فلا يقابله شيء من الثمن إلا إذا صار

مقصوداً بالبيع والجنس، ولم يوجد ذلك هاهنا، إذا أثمر النخيل ولم يقبض المشتري، وإن أثمر بعد قبض المشتري وجذ المشتري ثم حضر الشفيع فلا شفعة له في الثمر ويأخذ النخيل والأرض بجميع الثمن إن شاء؛ لأن الثمر في هذه الصورة لا يقابله شيء من الثمن، لأنه حادث بعد القبض، هذه الجملة من «الزيادات» . وفي «نوادر ابن سماعة» : وعن محمد رحمهما الله: رجل اشترى نخلاً فيه ثمر اشتراه بأصله وثمره فجذ المشتري الثمر، فحضر الشفيع أخذ النخل بحصته من الثمن، فيقوّم النخيل وفيه الثمر، ويقوّم ولا ثمر فيه، فيأخذه بحصته. وكذا إذا اشترى أرضاً مبذورة، فنبت الزرع وحصده المشتري، ثم حضر الشفيع أخذ الأرض بحصتها، والطريق ما قلنا في المسألة الأولى من «الزيادات» : في باب شفعة الأرضين. من «الأصل» إذا اشترى نخلة بأصولها ومواضعها من الأرض ففيها الشفعة، بخلاف ما إذا اشترى نخلة ليقلعها حيث لا شفعة فيها؛ لأن في الفصل الأول إنما أوجبنا الشفعة في النخلة تبعاً للأرض؛ لأنه اشتراها للقلع، ولا يمكن إيجاب الشفعة فيها مقصوداً؛ لأنها نقلي، وكان الجواب في الأشجار كالجواب في البناء إذا اشترى ليقلعه، فلا شفعة للشفيع فيه، وإن اشتراه بأصله فللشفيع فيه الشفعة. وعلى هذا إذا اشترى الزرع مع الأرض (165أ3) فللشفيع أن يأخذ الزرع بالشفعة، ولو اشترى الزرع ليحصده لم يكن فيه شفعة، وإذا اشترى بيتاً ورحى فيه ونهرها ومتاعها فللشفيع الشفعة في البيت، وفي جميع ما كان من آلات الرحى المركبة ببيت الرحى؛ لأنها تابعة لبيت الرحى. وعلى هذا إذا اشترى الحمام فللشفيع أن يأخذ بالشفعة الحمام مع آلاتها المركبة من القدر وغيره، ولا يأخذ ما كان مزايلاً من البيت في المسألة الأولى ومن الحمام في المسألة الثانية إلا الحجر الأعلى، فإنه يأخذه بالشفعة استحساناً، وإن لم يكن مركباً؛ لأن الحجر الأعلى مع الأسفل شيء واحد معنى. ألا ترى أنه يدخل في بيع الرحى استحساناً من غير ذكر مكان كالمركب معنى لهذا يأخذه بالشفعة وإذا اشترى عين ... ونفط أو موضع ملح أخذ جميع ذلك بالشفعة؛ لأن هذه الأشياء متصلة بالأرض معنى؛ لأنها تتبع من ذلك الموضع. في «فتاوى الفضلي» : اشترى كرماً وله شفيع غائب فأثمرت الأشجار فأكلها المشتري، ثم حضر الشفيع وأخذ الكرم بالشفعة، فإن كانت الأشجار وقت قبض المشتري ذات ورد، ولم يبدوا الطلع من الورد لا يسقط شيء من الثمن، وإن كان قد بدأ الطلع وقت قبض المشتري يسقط بقدر ذلك، ويعتبر قيمته وقت القبض المشتري الكرم؛ لأن في الوجه الأول لا حصة له من الثمن، وفي الوجه الثاني له حصة، وكذا إذا كان المشترى

الفصل الثاني: في بيان مراتب الشفعة

أرضاً فيها زرع لا قيمة، لها فأدرك الزرع وحصد المشتري وأخذ الأرض لا يسقط شيء من الثمن والله أعلم. الفصل الثاني: في بيان مراتب الشفعة الشفعة عندنا تستحق على ثلاث مراتب: أولاً: تستحق بالشركة في عين البقعة، ثم بالشركة في عين حقوق الملك من الطريق والشرب، ثم تستحق بالجوار. وصورته: منزل بين اثنين في سكة غير نافذة باع أحد الشريكين نصيبه من المنزل، فالشريك في المنزل أحق بالشفعة، فإن سلم فأهل السكة أحق، فإن أسلموا فالجار الملاصق وهو الذي على ظهر هذا المنزل وباب داره في سكة أخرى أحق. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : والجار الذي له الشفعة عندنا الجار الملازق الذي داره لزيق الدار الذي وقع الشراء في سكة نافذة. وفي الوجه وهذه المسألة في الحاصل على وجهين: إما أن تكون الدار التي وقع فيها الشراء في سكة نافذة وفي هذا الوجه الشفعة للجار الملازق. وإما أن تكون في السكة غير نافذة، وفي هذا الوجه جميع أهل السكة شفعاء الملازق، والمقابل في ذلك على السواء. قال محمد رحمه الله: وإن كان فناء منفرجاً أي مائلاً عن الطريق الأعظم زائفاً عن الطريق أو زقاقاً أو درباً غير نافذ فيه دور، فبيعت دار منها، فأصحاب الدور جميعاً شفعاء. قال الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني: هذا إذا كان الفناء مربعاً فأما إذا كان الفناء مدوراً، فالشفعة للجار الملازق. صورة الفناء المدور والمربع مدور مربع قال: والمراد من سكة غير نافذة سكة رأسها ضيق وآخرها واسع فيها دور بيعت دار فيها والسكة غير نافذة. وقد قيل: الشفعة على أربع مراتب عندنا، وذلك في مسألتين: إحداهما في بيت في دار في غير نافذة والبيت لاثنين، والدار لقوم، فباع أحد الشريكين نصيبه من البيت، فالشفعة أولاً للشريك في البيت، فإن سلم فلشريك الدار، فإن سلم فلأهل السكة الكل في ذلك على السواء، فإن سلموا فللجار الملاصق، وهو الذي ظهر هذا المنزل وباب داره في سكة أخرى. في «شرح أدب القاضي» : للخصاف في باب الشفعة: فإن كان لهذه الدار التي هذا البيت الذي هو مبيع فيه جيران متلازقون فالذي هو ملازق هذا البيت المبيع، والذي هو ملازق لأقصى الدار لا لهذا البيت في الشفعة على السواء، هذا التفريع في أخر «شفعة الكافي» .

المسألة الثانية: ودار بين شريكين في سكة غير نافذة، فباع أحد الشريكين نصيبه من الدار من إنسان، فالشفعة أولاً للشريك في الدار، فإن سلم فللشريك في الحائط المشترك التي يكون بين الدارين، فإن سلم فلأهل السكة، الكل في ذلك على السواء، فإن سلموا فللجار الذي يكون ظهر هذه الدار إليه باب تلك الدار في سكة أخرى. في «شرح أدب القاضي» : للخصاف في باب الشفعة: ثم الجار الذي هو مؤخر عن الشريك في الطريق أن لا يكون شريكاً في الأرض الذي هو تحت الحائط الذي هو مشترك بينهما، أما إذا كان شريكاً فيه لا يكون مؤخراً بل يكون مقدماً؛ لأنه شريك، وإن كان شريك في بعض المبيع. وصورة ذلك: أن تكون أرضاً بين اثنين مقسومة يبنيا في وسطها حائط، ثم اقتسما الباقي، فيكون الحائط وما تحت الحائط من الأرض مشتركاً بينهما، فكان هذا الحائط الجار شريكاً في بعض المبيع، أما إذا اقتسما الأرض قبل بناء الحائط وخطا خطاً وسطها، ثم أعطي كل واحد منهما شيئاً حتى يبنيا فكل واحد منهما جار لصاحبه في الأرض، شريك في البناء لا غير، وفي الشريك في البناء لا غير لا يوجب الشفعة في آخر أشفعة خواهر زاده رحمه الله. وذكر القدوري في «شرحه» : في باب الشفعة في الحيطان ومسيل الماء: أن الشريك الذي تحت الحائط يستحق الشفعة في كل المبيع بحكم الشركة عند محمد رحمه الله، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف، فيكون مقدماً على الجار في كل المبيع. وإحدى الروايتين عن أبي يوسف: يستحق الشفعة في الحائط بحكم الشركة ويستحق الشفعة في بقية الدار بحكم الجوار، فيكون ذلك مع جار آخر بينهما. وثمرة الاختلاف تظهر في مسائل كثيرة، وفي كل موضع سلم الشريك الشفعة، فإنما يثبت للجار حق الشفعة إذا كان الجار قد طلب الشفعة حتى يدفع البيع، أما إذا لم يطلب الشفعة حتى سلم الشريك الشفعة، فلا شفعة له، ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في أول شرح كتاب الشفعة. وروايته في «نوادر هشام» رواه عن محمد رحمه الله في صور المسائل: دار كبيرة فيها مقاصير باع صاحب الدار فيها مقصورة أو قطعة معلومة، ففيها الشفعة لجار الدار الكبيرة (165ب3) . كان جاراً من أي نواحيها؛ لأن المبيع من جملة الدار يكون جار المبيع، فإن سلم الشفيع الشفعة ثم باع المشتري ما اشترى لم تكن الشفعة إلا لجار ذلك القدر المبيع؛ لأن ذلك صار مقصوداً، فخرج من أن يكون بعض الدار. كذلك لو اشترى رجل بيتاً من دار كلها لواحد، فالشفعة لجار الدار، وإن لم يكن جار ذلك البيت المشترى، فلو أن الشفعة ثم باع مشتري البيت ذلك البيت، فلا شفعة للشفيع الذي سلم الشفعة إن لم يكن جار ذلك البيت لما قلنا. صاحب العلو مع صاحب السفل إذا لم يكن طريق العلو في السفل بمنزلة جارين. في «الأصل» : في باب الشفعة أهل الكفر، وفي هذا الباب أيضاً صاحب الطريق

أولى بالشفعة من صاحب مسيل الماء إذا لم يكن موضع مسيل الماء ملكاً له. وصورة هذا: إذا بيع دار ولرجل فيها طريق، ولآخر فيها مسيل ماء، فصاحب الطريق أولى بالشفعة من صاحب مسيل الماء؛ لأن للذي له طريق شركة لصاحب مسيل إذا لم يكن المسيل ملكاً له. دار ثلاثة نفر موضع بئر أو طريق، فإن ذلك بين اثنين من هؤلاء الثلاثة لا حق للثالث فيه، وباقي الدار بين الثلاث باع الذي له شركة في الدار والبئر والطريق نصيبه، فالشفعة لشريكه الذي له شركة في الدار والبئر. والطريق هكذا في أول شفعة «الأصل» : قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي: لا شك أن الذي له شركة في البئر والطريق أحق بالشفعة في البئر والطريق، والكل في حكم شيء واحد، فإذا صار أحدهما أحق بالبعض كان أحق بالجميع، ويعرف عن هذه المسألة كثير من المسائل وعلى قياس مسألة الشركة في أرض الحائط التي تقدم ذكرها، يجب أن تكون في هذه المسألة روايتان عن أبي يوسف رحمه الله في «المنتقى» : الحسن بن زياد عن أبي حنيفة صاحب السفل أحق بشفعة العلو من الجار الملاصق له إذا لم يكن بينهم شركة في الطريق. وفي «القدوري» : أنهما يستويان فيها، وإن كانت ثلاثة أبيات بعضها فوق بعض وباب كل بيت منها إلى السكة فبيع الأوسط كان للأعلى والأسفل جميعاً الشفعة، وإن بيع الأعلى فالأوسط أولى بالشفعة. وفيه أيضاً: دار فيها ثلاثة أبيات ولها الساحة والساحة بين ثلاثة نفر والبيوت بين اثنين منهم، فباع أحد مالكي البيوت نصيبه من البيوت والساحة من شريكه في البيوت والساحة، فلا شفعة لشريكهما في الساحة، ويخرج المسألة على نحو ما ذكره شمس الأئمة السرخسي في المسألة تقدم ذكرها. وفيه أيضاً: حائط بين داري رجلين والحائط بينهما، فصاحب الشريك أولى بالحائط من الجار وهما سواء في بقية الدار بأحداثها، يريد بهذا إذا لم يكن ما يخص الحائط من الأرض مشتركاً بينهما، وكذلك البيت من الدار بين رجلين بغير طريق باع صاحب الدار، فالشريك في البيت أولى بالبيت وهو مع الجار سواء في بقية الدار. درب غير نافذ فيه دور لقوم باع رجل من أرباب تلك الدور بيتاً شارعاً في السكة العظمى ولم يبع طريقاً في الدرب على أن يفتح مشتري البيت باباً إلى الطريق الأعظم، فلأصحاب الدرب الشفعة لشركتهم في الطريق وقت البيع، فإن سلموها ثم باع المشتري البيت بعد ذلك، فلا شفعة لأهل بيت الدرب لانعدام شركتهم في الطريق وقت البيع الثاني، فتكون الشفعة للجار الملازق وهو صاحب الدار. وكذلك إذا باع قطعة من الدار بغير طريق في الدرب هذه الجملة في «شرح الكافي» في باب الشفعة في البناء غير نافذ في إقضاء مسجد خطة وباب المسجد في الدرب وظهر المسجد وجانبه الآخر إلى الطريق الأعظم، فهذا درب نافذ لو بيع فيه دار، فلا

شفعة إلا للجار، وأراد بمسجد الخطة المسجد الذي اختطه الإمام حين قسم الغانمين. وهذا لأن المسجد إذا كان خطه وظهره إلى الطريق الأعظم وليس حول المسجد سكة بينه وبين الطريق الأعظم، فهذا الدرب بمنزلة درب نافذ، ولو كان حول المسجد دروب يحول بينه وبين الطريق الأعظم كان لأهل الدرب الشفعة بالشركة؛ لأن هذا الدرب لا يكون نافذاً، ولو لم يكن المسجد في الأقصى لكن كان في أول السكة إلى موضع المسجد نافذ لا يثبت فيها الشفعة إلا للجار الملازق، وما وراء ذلك يكون غير نافذ حتى كان لأهل ملك السكة كلهم الشفعة، ولو لم يكن المسجد خطة. بأن اشترى أهل الدرب من رجل من أهله داراً في أقصى الدرب، ظهرها إلى الطريق الأعظم وجعلوها مسجداً وجعلوها في الدرب بابه، ولم يجعلوا له إلى الطريق الأعظم باباً، أو جعلوا له، ثم باع رجل من أهل الدرب داراً، فلأهل الدرب الشفعة بالشركة. سكة أو درب غير نافذ في أقصاها دار وباب هذا الدار في الدرب أو في السكة، ولهذا الدار باب آخر يخرج منها إلى الطريق الأعظم، فإن كان هذا الطريق للعامة ليس لأهل الدرب أن يمنعوهم، فهذه سكة نافذة. لو بيع فيها دار لا تجب الشفعة إلا بالجوار وإن كان طريقاً لأهل الدرب والسكة خاصة بأن أحدثوه ولهم منع العامة، فأهل الدرب شفعاء بالشركة في الطريق؛ لأن الدرب حينئذ غير نافذ من حيث المعنى.h قال الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله في «شرح هذا الكتاب» : فعلى هذا سُكَكُنا وسائر السكك إن كان نفاذها خطة، فلا شفعة فيها إلا بحكم الجوار، وإن أحدثوا النفاذ فالشفعة للكل، وأما الرقيقات التي ظهرها وادٍ لا تخلو من وجهين: إن كان موضع الوادي مملوكاً في الأصل وأحدثوا الوادي، فهذا والمسجد الذي أحدثوه في أقصى السكة سواء، وإن كان في الأصل وادياً كذلك فهو ومسجد الخطة سواء، هكذا حكى من الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني رحمه الله، وكان يقول الرقيقة التي على ظهرها وادي بخارى إذا بيع في الرقيقات منها دار فأهل الرقيقات كلهم شفعاء، ولا يجعل ذلك كالطريق النافذ، فكأنه عرف أنه مملوك وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله يجعل حكم (166أ3) هذه الرقيقات حكم السكك النافذة قبل، ويجوز أن تقاس السكك التي في أقصاها الوادي ببخارى على ما تقدم، ويبنى أمر الشفعة فيها على النفاذ الخطة، وعلى النفاذ الحادث. سكة غير نافذة فيها عطف مدور يريد بالعطف الذي يقال بالفارسية: خم كرد، وصورة العطف المدور هذا، وفي العطف منازل، فباع رجل منزلاً في أعلى السكة أو في أسفلها أو في العطف، فالشفعة لجميع الشركاء وكان العطف مربعاً بأن تكون سكة ممدودة في كل جانب منها رقيقة، وفي السكة دور، وفي الرقيقة من دون صورته هذا، فباع رجل في العطف منزلاً فالشفعة لأصحاب العطف دون أصحاب السكة. دار كانوا جميعاً شفعاء، وهو نظير سكة عظمى غير نافذة، فيها سكة صغرى إذا بيع في السكة الصغرى دار، فالشفعة لأهل السكة الصغرى خاصة.

ولو بيع دار في السكة العظمى، فالشفعة لأهل السكة. والحاصل: أن بالعطف المدور لا تصير السكة في حكم سكتين، ألا ترى أن هيآت الدور في هذا العطف لا يتغير كما في سكة دهقان أما العطف المربع يصير في حكم سكة أخرى، ألا ترى أن هيآت الدور في هذا العطف لا تتغير، فتصير فيه بمنزلة سكة في سكة. في آخر شفعة «الكافي» وفي «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله في درب فيه الزائفة مستديرة لجميع الدرب بيعت دار في هذه الزائفة التي عليها الدرب فهم شركاء في الشفعة، وإذا كان درب مستطيل فيه الزائفة ليست على ما وصفت لك ولكنها نسبة السكة، فأهل تلك الزائفة شركاء في دورهم، ولا يشركهم أهل الدرب في الشفعة. وقال أبو يوسف رحمه الله: ذلك كله سواء، فهم شركاء في زائفتهم دون أهل الدرب. وفي «نوادر هشام» : قال أبو يوسف: المدورة والمربعة والمستطيلة سواء، وإذا بيع دار في الزائفة فلهم ولأهل السكة فيها الشفعة لا شركائهم في طريق السكة. فيه أيضاً: هشام عن محمد: اشترى بيتاً من دار إلى جنب داره وفتح بابه إلى داره، ثم باع هذا البيت وحده، فجاءه هذا الرجل وطلب هذا البيت بالشفعة، قال: إن كان سد باب البيت من تلك الدار وفتح في هذه الدار، حتى عد البيت من هذه الدار، فله الشفعة فيه. في شفعة أبي الليث رحمه الله: دار بيعت ولها بابان في زقاقين غير نافذة، فإن كانت في الأصل دارين باب أحدهما في زقاق، وباب الأخرى في زقاق الأخرى، فاشتراهما رجل، ورفع الحائط بينهما حتى صارت له كلها دار واحدة كان لأهل كل زقاق أن يأخذ الجانب الذي يليه، لأنهما لما كانتا دارين في الأصل كان لأهل زقاق جوار بأحداهما، وإن كانت في الأصل داراً واحدة ولها بابان، فالشفعة لأهل الزقاقين في جميع الدار بالسوية؛ لأن الدار لما كانت واحدة في الأصل كان جوار تلك الدار ثابتة لأهل الزقاق، والعبرة للأصل دون العارض. ونظير هذا: الزقاق إذا كان في أسفلها زقاق آخر إلى جانبٍ آخر فرفع الحائط بينهما حتى صار الكل سكة واحدة كان لأهل كل زقاق شفعة في الزقاق الذي لهم خاصة، ولا شفعة لهم في الجانب الآخر، في مثل هذا ينظر إلى الأصل. وفي الشفعة: للحسن بن زياد سكة غير نافذة، فيها عطفة منفردة نفذت هذه العطفة، فلا شفعة فيها إلا لمن داره لزيق الدار المبيعة، ولو لم تنفذ هذه العطفة إلى السكة كانت الشفعة لجميع أهل هذه العطفة، فإن سلموا الشفعة، فليس لأهل السكة الشفعة فيها. في آخر شفعة «الأصل» : دار فيها حِجَرٌ، وحجرة منها بين رجلين، فباع أحدهما نصيبه من الحجرة، فهذا على وجهين: إن كانت الحجرة مقسومة بينهما فالشفعة للشركاء

في طريق الدار لا للشريك في الحجرة، وقد انقطعت بالقسمة، وصار الشريك جاراً في حق الحجرة بعد القسمة، وبقي شريكاً في طريق الدار، فإن سلم شركاء الطريق كانت الشفعة للجار الملاصق بالدار. وفي هذا الموضع أيضاً: أرض اشتراها قوم وأقسموها دوراً وتركوا فيها سكة وهي سكة ممدودة غير نافذة، فبيعت دار في أقصى السكة، فهم جميعاً شركاء في شفعتها، الأعلى والأقصى في ذلك على السواء؛ لأن الطريق في هذه السكة بقيت على الشركة الأصلية؛ لأنها لم تدخل تحت القسمة، فيستحقون الشفعة بحكم الشركة في الطريق. وكذلك إن كانوا ورثوا الدور عن آبائهم كذلك، ولا يعرفون كيف كانوا أصلها، فهذا والأول سواء، علل شمس الأئمة السرخسي، فقال: لأنهم شركاء في الفناء، وهو الطريق الذي في السكة، فيشتركون في استحقاق الشفعة. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : والشريك في الفناء أحق من الجار، قال شمس الأئمة السرخسي: فإن كان مراده فناء مملوكاً لهم خاصاً فهذا ظاهر، وإن كان المراد فناء غير مملوكاً. فوجهه: أنهم أخص بالانتفاع بذلك الفناء، ولهم أن يمنعوا غيرهم عن الانتفاع به فهو بمنزلة الطريق الخاص بينهم في استحقاق الشفعة به. في شفعة «الأصل» : اشترى بيتاً في داره علو لآخر، وسفله لآخر وطريق البيت الذي اشتري في دار أخرى، فإنما الشفعة للذي في داره الطريق، وهذا إذا كان مفتح العلو خارج الدار، أما إذا كان مفتحه إلى الدار، فصاحب العلو وغيره في الشفعة سواء بسبب الشركة في الطريق. في «الكيسانيات» : دار ورثوها جماعة عن أبيهم، مات بعضهم ولد أبيهم وترك نصيبه ميراثاً بين ورثته، فهم ثلاث بنين باع أحدهم نصيبه منها، فهم شركاءه في ميراث أبيهم، فهما أبناء الميت الثاني، وشركاء الأب، وهم أولاد الميت الأول شفيعها فيه ليس بعضهم بأولى من البعض؛ لأنه ليس في الدار شيء إلا وهم شركاء فيه؛ لأن نصيب الميت الثاني ليس بعينه. في الشفعة للحسن بن زياد: قوم ورثوا داراً فيها منازل، فاقتسموها وأصاب كل واحد منها منزلاً، ورفعوا فيما بينهم الطريق، فباع بعض من صار له منزل منزله وسلم الذين لهم المنازل في الدار الشفعة كان للجار الشفعة إذا كان لزيق المنزل الذي بيع، وإن كان لزيق الطريق الذي بينهم وليس لزيق المنزل كان له أن يأخذ المنزل وطريقه بالشفعة، وإن لم يكن لزيق (166ب3) المنزل، ولا لزيق الطريق الذي بينهم وكان لزيق منزل آخر من الدار فلا شفعة، فهذه المسألة دليل أن الشفعة كما يجب لجيران حق المبيع أيضاً. وفي كتاب الشرب لأبي عمرو الطبري: دار فيها ثلاثة أبيات، وكل بيت لرجل على حدة، وطريق كل بيت في هذه الدار فطريق هذه الدار في دار أخرى وطريق تلك الدار في سكة غير نافذة بيع بيت من البيوت التي في الدار الداخلة كان صاحبا البيتين أولى بالشفعة

من صاحب الدار الخارجة؛ لأنهم اشتركوا في الطريق في صحن الدار الداخلة، فإن سلما الشفعة لصاحب الدار الخارجة، فإن سلم هو أيضاً فالشفعة لأهل السكة. في «العيون» : أرض بين قوم اقتسموها بينهم، ورفعوا طريقاً بينهم وجعلوها نافذة، ثم بنوا دوراً يمنة ويسرة، وجعلوا أبواب الدور شارعة إلى السكة، فباع بعضهم داراً فالشفعة منهم سواء؛ لأن هذه وإن كانت نافذة، فكأنها غير نافذة؛ لأن لهم أن يرجعوا ويسدوا الطريق، وإن قالوا: جعلناها طريقاً للمسلمين، فكذلك الجواب أيضاً. قال الصدر الشهيد رحمه الله: هو المختار؛ لأن لهم أن يرجعوا يسدوا هو المختار في «الزيادات» في باب الشفعة التي يأخذها كلها والتي لا يأخذها. داران متلازقان كل واحد منهما لرجل ولكل دار جيران، فتبايعا إحدى الدارين بالأخرى، فالشفعة للجيران، وليس لكل واحد منها الشفعة، أما فيما باع فظاهر، وقد مرت المسألة من قبل، وأما فيما اشترى؛ فلأن كل واحد منهما لو استحق الشفعة فيما اشترى استحق بسبب الجوار، وكل واحد منهما أزال جواره ببيع ما كان له مقارناً لثبوت حق الشفعة. ولو كانت الداران جميعاً بينهما نصفان باع كل واحد منهما نصيبه من هذه الدار بنصيب صاحبه من الدار الأخرى، فلا شفعة للجيران هاهنا؛ لأن كل واحد منهما شريك في الدار التي اشترى نصفها. رجل اشترى داراً في سكة غير نافذة، ثم اشترى بعد ذلك أخرى كان لأهل السكة أن يأخذوا الدار الأولى، يكونون شركاءه في الثانية؛ لأن وقت شراء الأولى لم يكن المشتري شريكهم في السكة، ووقت شراء الثانية وهو شريكهم في السكة، وكذلك لو كان بين ثلاثة نفر دار؛ فاشترى رجل نصيبهم واحداً بعد وللجار أن يأخذ البيت الأول وليس له على البيتين الباقيتين شركة لما قلنا. ولو كانت الدار بين أربعة، فاشترى رجل نصيب الثلاثة واحداً بعد واحد، والرابع غائب فله أن يأخذ نصيب الأول وهو في نصيب الآخرين شريك له لما قلنا. ولو اشترى أحد الأربعة نصيب الاثنين واحداً بعد واحد، ثم حضر الرابع كان المشتري شريكاً في النصيبين جميعاً؛ لأن هاهنا المشتري شريك وقت شراء النصيبين بخلاف ما تقدم. وفي الهاروني: دار بين ثلاثة نفر اشترى رجل نصيب أحدهم، ثم جاء رجل آخر واشترى نصيب الآخر، ثم جاء الثالث الذي يبع نصيبه كان له أن يأخذ النصيبين جميعاً بالشفعة، فإن لم يحضر الثالث حتى جاء المشتري الأول إلى المشتري الثاني وطلب منه الشفعة كان له ذلك، ويقضى له بها، فيصير له النصيبين جميعاً، فإن جاء الثالث بعد ذلك وكان غائباً وطلب الشفعة أخذ جميع ما اشتراه الأول ونصف ما اشتراه الثاني. ولو لم يقض القاضي للمشتري الأول بما اشتراه الثاني، قضى للثالث بالنصيبين جميعاً. وأشار إلى الفرق، فقال: إذا قضى القاضي للمشتري الأول بنصيب الثاني صار نصيب الثاني ملكاً للمشتري الأول فإذا جاء الثالث، وأخذ ما اشتراه المشتري الأول صار

كأن الأول باع ما اشتراه، وإنه لا يوجب بطلان ملكه فيما أخذ بالشفعة بقضاء القاضي للأول شفعاء في نصيب الأول، الثاني والثالث أيضاً شفيع فيه، فقضى بينهما، فأما قبل قضاء القاضي بذلك نصيب الثاني لم يصر ملكاً للمشتري الأول، بل له حق أن بتملكه بما اشتراه، فإذا أخذ الثالث ما اشتراه الأول فقد زال ملك الأول وحقوقه، فلا يستحق به الشفعة. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : الشركاء في النهر الصغير كل من كان له ثبوت أحق من الجار الملازق. وإن كان نهراً كبيراً تجري فيه السفن، فالشفعة للجار الملازق في باب شفعة الأرضين من شفعة «الكافي» قال الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني رحمه الله: أراد بالسفن البسماريات التي هي أصغر السفن، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» المذهب عند أبي حنيفة رحمه الله: أن النهر الكبير الذي تجري فيه السقف كدجلة والفرات، فكل ما تجري فيه السفن من الأنهار يكون في معنى الدجلة والفرات، وما لا تجري فيه السفن يكون في حكم النهر الصغير. وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: أن المشايخ اختلفوا في حد النهر الكبير والصغير بعضهم قالوا النهر الكبير: ما يتفرق ماؤه بين الشركاء، وله منفذ إلى المفاوز التي هي لجماعة المسلمين، والنهر الصغير: ما يتفرق ماؤه بين الشركاء ولا يبقى إذا انتهى ولا يكون له منفذ. وعامة المشايخ: على أن الشركاء على النهر إذا كانوا لا يحصون فهذا نهر كبير، وإن كانوا يحصون فهذا نهر صغير، لكن اختلفوا بعد هذا في حد ما يحصى وما لا يحصى، بعضهم قدر ما لا يحصى بخمسمائة، وبعضهم قدر ما لا يحصى بمائة، وبعضهم قدر ما لا يحصى بأربعين، وبعضهم قدر ما لا يحصى بعشرة. وبعض مشايخنا قالوا: صح ما قيل فيه إنه مفوض إلى رأي كل مجتهد في زمانهم إن رآهم كثيراً كانوا كثيراً، وإن رآهم قليلاً كانوا قليلاً. ثم إن عامة المشايخ فرقوا بين النهر والسكة، حيث جعلوا الشركة في النهر إذا كان بين أقوام يحصون خاصة، وإن كان النهر ينفذ في مفاوز هي لجماعة المسلمين ولم يجعلوا الشركة في الطريق الذي له منفذ إلى طريق العامة شركة خاصة، وإن كان أهل السكة مما يحصون. نهر خاص لرجل في أرض رجل، وعليه رحى ماء لصاحب النهر باع صاحب النهر النهر مع الرحى فالصاحب الأرض أن يأخذ النهر (167أ3) مع الرحى بالشفعة، وإن لم يكن له اتصال بالرحى؛ لأن الرحى مع النهر كشيء واحد؛ إذ الانتفاع بالرحى بدون النهر لا يمكن، فجاز النهر يكون جاز الرحى. قال: وجميع جيران النهر في الشفعة في النهر والرحى على السواء، ولا يختص الملازق للرحى بالرحى ذكره شيخ الإسلام في «شرحه» .

في الشفعة للحسن بن زياد رحمه الله: نهر كبير كالرحى يجري لقوم منه نهر صغير، فصارت شرب أراضيهم من هذا النهر الصغير، فباع رجل من أهل هذا النهر الصغير أرضه بشربها كان للذين شربهم من هذا النهر الصغير أن يأخذوا تلك الأرض بالشفعة، أقصاهم وأدناهم فيها سواء، فإن كانت الأرض التي بيعت قطعة أخرى لزيقة بهذه الأرض المبيعة، وشرب هذه القطعة من النهر الكبير، فلا شفعة لصاحب القطعة مع الذين شربهم من النهر الصغير. في كتاب هلال البصري: في نهر يلتوي بيع فيه أرضون خلف الالتواء قبله، فإن كان الالتواء فهو كنهرين، فتكون الشفعة للشركاء في الشرب إلى موضع الالتواء خاصة، فإن أسلموا، فهي للباقين من أهل النهر. قال: وهو كنهر صغير أخذ من نهر كبير مع أرض على هذا النهر الصغير كان أهل النهر الصغير أولى بالشفعة، فإن سلموا كان لأهل النهر الكبير، وإن كان الالتواء باستدارة الجزء كانت الشفعة لهم جميعاً، وجعلوه كالنهر الواحد. في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد رحمه الله: نهر بين قوم وعليه أرضون وبساتين شربها من ذلك النهر شركاء فيه، فلهم الشفعة فيما بيع من هذه الأرضين والبساتين، فإذا اتخذوا من تلك الأرضين والبساتين دوراً، واستغنوا عن ذلك الماء إلا للشفعة، فإنه لا شفعة بينهم إلا بالجوار إلا بمنزلة دور الأمصار، وإن بقي من هذه الأرضين ما يزرع وما بقي منها بساتين يحتاج إلى السقي، فهم شركاء في الشرب على حال لهم، وشركاء في الشفعة. وفيه أيضاً: هشام سألت محمداً عن نهر لقوم فيه شرب، وأصل النهر لغيرهم فباع رجل أرضه والماء منقطع في النهر، فلهم الشفعة بالشرب في قول محمد، وفي قياس قول أبي حنيفة: لا شفعة لهم، وفي نسخة، وفي قياس قول أبي يوسف: لا شفعة لهم كقولهم في العلو المنهدم. اشترى الرجل نهراً بأصله في أعلاه إلى جنبه، ولرجل آخر أرض في أسفله إلى جنبه، فلهما جميعاً الشفعة في جميع النهر من أعلاه إلى أسفله؛ لأن كل واحد منهما جار، فإن ملك كل واحد منهما متصل ببعض المبيع، والاتصال بالبعض يثبت الجوار. نهر أعلاه لرجل ومجراه في أرض رجل آخر، وأسفله لرجل آخر، فاشترى رجل نصيب صاحب أعلى النهر، فطلب صاحب الأرض وصاحب أسفل النهر الشفعة، فإن لهما الشفعة بحكم الجوار؛ لأنهما جاران للنهر لكن جوار صاحب الأسفل أقل؛ لأن جواره بمقدار عرض النهر، وجوار صاحب الأرض بمقدار طول النهر، ولا عبرة لزيادة الجوار، فلا يصير أحدهما أولى باستحقاق شفعة النهر، وإن كان لأحدهما شرب من هذا النهر ولا شرب للآخر؛ لأن الشركة ليست شركة في حقوق المبيع وهو النهر؛ إذ الشرب ليس من حقوق الأرض إذ لا حاجة إلى الشرب للنهر؛ وإنما يتقدم على الجار من له شركة في رقبة المبيع أو في حقوقه والله أعلم.

الفصل الثالث: في طلب الشفعة

في «الأجناس» وفي «الشرب» لأبي عمرو الطبري: في قطعة أرض لرجل لها شرب من نهر بين قوم باع صاحب القطعة أرضه بلا شرب، فلشركائه في الشرب الشفعة في القطعة وهم أحق من الجيران وبطل حق البائع من الشرب، وصار ذلك لشركائه، فإن سلم الشركاء الشفعة ثم بيعت هذه القطعة مرة أخرى، فلا شفعة لأرباب الشرب بالشرب؛ لأن الشرب قد انقطع لهما الأرض. ألا ترى أنه لا شركة للبائع الثاني في الشرب، ولو اشترى البائع الأول هذه القطعة، ثم أراد أن يرجع في نصيبه من الشرب ليس له ذلك؛ لأنه حين باع الأرض بلا شرب فقد بطل حقه عن الشرب، قال «صاحب الأجناس» : وقد رأيت في كتاب الهلال البصري صاحب الوقف: لو باع أرضه بلا شرب، فالشرب للبائع بحاله وعليه يعقد النهر. وفي «نوادر بن سماعة» لمحمد رحمه الله: دار في سكة خاصة باعها صاحبها من رجل بلا طريق فلأهل السكة الشفعة، وكذلك لو باع أرضاً بلا شرب، فلأهل الشرب الشفعة، ولو بيعت هذه الدار وهذه الأرض مرة أخرى ليس لهم فيها الشفعة؛ لأنه انقطع حق الدار من الطريق وحق الأرض من الشرب. الفصل الثالث: في طلب الشفعة قال محمد رحمه الله: إذا علم الشفيع بالبيع، فلم يطلب مكانه، فلا شفعة له يجب أن يعلم بأن الشفعة تجب بالجوار وبالعقد أو بالشركة وبالعقد، وتتأكد بالطلب، ولا يفيد الملك إلا بقضاء والطلب على ثلاثة أوجه طلب مواثبة، وطلب إشهاد وتقرير، وطلب تمليك. واختلف العلماء مقدار مدة طلب المواثبة. قال علماؤنا في ظاهر الرواية: يشترط فور علمه بالشراء إن طلب يثبت حقه وإن لم يطلب وسكت هنيهة بطل، وإليه ذهب مشايخ بلخ بخارى وروى هشام عن محمد: أن له مجلس العلم إن طلب في مجلس العلم يثبت حقه، وإن لم يطلب حتى قام بطل، وهو اختيار الكرخي وبعض مشايخ بخارى. وروى ابن رستم عن محمد: أنه إذا سكت هنيهة لا تبطل شفعته، ولم يذكر في شيء من الكتب كيفية طلب المواثبة. والصحيح: أنه إذا أتى بأي لفظ ما أتي بالماضي أو بالمستقبل إذا كان لفظاً يفهم منه طلب الشفعة إنه يجوز، وإليه ذهب الفقيه أبو جعفر الهندوابي شمس الأئمة السرخسي.

والإشهاد ليس بشرط لصحة هذا الطلب، وإنما ذكر أصحابنا رحمهم الله الإشهاد وعند الطلب لا؛ لأنه شرط صحة بهذا الطلب؛ ولكن لأن المشتري لو جحد هذا الطلب، فالشهود يشهدون له على ذلك، وهو نظير ما قال أصحابنا رحمهم الله في الأب: إذا وهب لابنه الصغير هبة وأشهد على ذلك ما ذكروا الإشهاد، ولكونه شرطاً لصحة الهبة، ولكن لو جحد، فالشهود يشهدون، وكذلك ذكروا الإشهاد وفي الحائط المائل (167ب3) لا لكونه شرطاً لصحة طلب التفريع؛ ولكن لأن صاحب الحائط لو جحد، فالشهود يشهدون عليه وبعدما طلب طلب المواثبة يحتاج إلى طلب الإشهاد والتقرير. وهذا الطلب إنما يصح عند حضرة واحد من الثلاثة إما المشتري، وأما البائع وأما الدار، فإن حضر المشتري يقول: أشتري هذه الدار التي كانت لفلان أَحَدُ حدودها كذا، والثاني والثالث والرابع كذا، وأنا شفيعها بالجوار بداري التي أحد حدودها كذا، وقد كنت طلبت وأطلبها الآن، فاشهدوا على ذلك إلى آخر ما ذكرنا، فاشهدوا على ذلك، وهذا الطلب عند المشتري صحيح، سواء كان الدار في يد المشتري أو في يد البائع. وكذلك عند البائع إذا كانت الدار في يده، وإن لم تكن الدار في يده ذكر الشيخ أبو الحسن القدوري في «شرحه» وعصام في «مختصره» والناطفي (في) «أجناسه» : أنه لا يصح، وبه أخذ الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في «شرحه» أنه صحيح استحساناً، وأحاله إلى «الجامع الكبير» : هكذا ذكر الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي، ومدة هذا الطلب مقدرة بالتمكن من الإشهاد، وعند حضرة أحد هؤلاء الثلاث حتى لو تمكن ولم يطلب بطل حقه، قال شيخ الإسلام في «شرحه» : في باب شفعة أهل البغي: أن الشفيع إنما احتاج إلى طلب المواثبة، ثم إلى طلب الإشهاد بعده إذا لم يمكنه الإشهاد عند طلب المواثبة بأن سمع الشراء حال غيبته عن المشتري والبائع والدار، أما إذا سمع الشراء عند حضرة أحد هؤلاء، فطلب المواثبة وأشهد على ذلك يكفيه ويقوم ذلك مقام طلبين، فإن قصد الأبعد من هؤلاء الأشياء الثلاثة، وترك الأقرب، فإن كانوا جملة في مصر واحد.5 فالقياس: أن تبطل شفعته، وفي الاستحسان: لا تبطل؛ لأن نواحي المصر جعلت كناحية واحدة حكماً، ولو كانوا في مكان واحد حقيقة، وطلب عند أحدهم، وترك الطلب عند الآخرين أليس أنه يصح طلبه؟ كذا هاهنا. وبه أخذ الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله في «شرح أدب القاضي» للخصاف، وفي «واقعاته» : إذا اختار على الأقرب ولم يطلب منه بطل شفعته، لو كان الشفيع بحضرة أحد هذه الأشياء الثلاثة، والآخران في مصر آخر أو في رستاق هذا المصر الذي الشفيع فيه يقصد الأبعد وترك الطلب عند من هو بحضرته بطلت شفعته قياساً واستحساناً؛ لأن مصراً آخر ورستاق هذا المصر مع المصر لم يجعل لمكان واحد، فإذا ترك الطلب عند الأقرب وقصد الأبعد، فقد ترك الطلب مع الإمكان. ولو كان كل واحد من هذه الأشياء الثلاثة في مصر على حدة ذكر عصام في

«مختصره» : أن الشفيع يذهب إلى أقربهم، وذكر الناطفي في «أجناسه» : أنه إذا ذهب إلى الأبعد لا تبطل شفعته وبعض مشايخنا رحمهم الله أخذوا برواية عصام، وبعضهم برواية الناطفي. وإليه أشار محمد رحمه الله في كتاب الشفعة في باب أهل البغي، حيث قال: وإذا كان الشفيع في غير مصر البائع والمشتري والدار قال أيهم ... فهو على شفعته من غير فصل؛ وهذا لأن الشفيع قد يعجز عن الذهاب إلى الأقرب بسبب من الأسباب، فلا يكون بترك الذهاب إلى الأقرب مبطلاً شفعته، وعلى هذا إذا كان إلى الأقرب طريقان، فترك الطريق الأقرب واختيار الأبعد لا تبطل شفعته على قياس ما ذكر الناطفي، ثم إذا حضر المصر الذي فيه أحد هذه الأشياء بطلت الشفعة بحضرة ذلك، فلا يكفيه حضور البائع والمشتري والدار في ذلك على السواء، وكان القاضي الإمام ركن الإسلام أبو يزيد الكبير يقول: أيكفيه حضور المصر، وعلى هذا إذا كانت الدار في مصر الشفيع لا بشرط الطلب عند الدار على ما ذكره القاضي الإمام بل إذا طلب وأشهد من غير تأخير في أي موضع طلب جاز.... لو كان البائع أو المشتري في مصر الشفيع لا بد من الطلب بحضرته. ثم بعد طلب المواثبة وطلب الإشهاد يحتاج إلى طلب التمليك وهو الطلب عند القاضي أن يسلم المشتري الدار إليه. وصورة ذلك: أن يقول الشفيع للقاضي: إن فلاناً اشترى داراً وبين محلتها وحدودها، وأنا شفيعها بدار لي ويبين حدودها، فمره بتسليمها إلي، وبعد هذا الطلب أيضاً لا يثبت الملك للشفيع في الدار المشفوعة إلا بحكم القاضي أو بتسليم المشتري الدار إليه حتى أن بعد هذا الطلب قبل حكم القاضي بالدار، وقبل تسليم المشتري الدار إليه لا يستحق الشفعة فيها إلي لو بيعت دار أخرى بجنب هذه الدار، ثم حكم له الحاكم أو سلم المشتري الدار إليه لا يستحق الشفعة فيها، وكذلك لو مات الشفيع أو باع داره بعد الطلبين قبل حكم الحاكم أو تسليم المشتري تبطل شفعته، ذكر الخصاف ذلك في «أدب القاضي» . وللشفيع أن يمتنع من الأخذ بالشفعة وإن بذله المشتري حتى يقضي القاضي له زيادة فائدة، وهو معرفة القاضي بسبب ملكه، وعلم القاضي بمنزلة شهادة شاهدين، فكان الأخذ بقضاء القاضي أحوط في شفعة الاسبيجابي، فإن ترك الشفيع الطلب الثالث يعني بعدما طلب الطلبين لو لم يرفع الأمر إلى القاضي حتى يقضي له بالشفعة هل تبطل شفعته؟. أجمعوا على أنه إذا ترك هذا الطلب بعذر من مرض أو حبس أو غير ذلك ولم يمكنه التوكيل بهذا الطلب أنه لا تبطل شفعته وإن طالت المدة، وإن ترك هذا الطلب بغير عذر، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا تبطل شفعته، وإن طالت المدة، وعلى قولهما:

تبطل إذا طالت المدة، واختلفت الرواية ههنا ففي رواية عن محمد رحمه الله أنه قدره بثلاثة أيام، وفي رواية أخرى أنه قدره بشهر، فقال: إذا ترك المرافعة شهراً بطلت شفعته، وهو إحدى الروايات عن أبي يوسف رحمه الله. قال شيخ الإسلام: الفتوى اليوم على هذا، وعن أبي يوسف في رواية مثل قول أبي حنيفة رواه محمد عنه، قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا كان الشفيع غائباً فعلم بالشراء، فإنه ينبغي أن يطلب المواثبة ثم له من الأجل على قدر المسير إلى المشتري أو البائع والدار المبيعة لطلب الإشهاد والتقرير، فإذا مضى ذلك (168أ3) الأجل قبل أن يطلب هذا الطلب أو بيعت من يطلب فلا شفعة له، فإن قدم المصر الذي فيه الدار فبيعت المشتري وطلب الشفيع طلب الإشهاد، والتقرير عند البائع إن كانت الدار في يديه أو عند الدار ثم ترك الطلب الآخر، فإنه لا تبطل شفعته وإن طالت، ذلك بلا خلاف؛ لأنه إنما ترك هذا الطلب بعذر؛ لأنه لا يمكنه اتباع المشتري لأجل الخصومة؛ لأنه كلما قدم مصراً فيه المشتري ليخاصمه، ويأخذ منه يهرب المشتري إلى مصر أخر وترك هذا الطلب بعذر لا يوجب بطلان الشفعة. وفي «المنتقى» : عن محمد رحمه الله: إذا ترك الطلب الثالث سنة؛ لأنه لم يكن في البلد قاضي فهذا عذر الشفيع إذا علم بالشراء وهو في طريق مكة، فطلب طلب المواثبة وعجز عن طلب الإشهاد بنفسه، يوكل وكيلاً ليطلب له بالشفعة، فإن لم يفعل ومضى بطلت شفعته، وإن لم يجد من يوكله ووجد فيما يكتب على يديه كتاباً ويوكل وكيلاً بالكتاب، فإن لم يفعل بطلت شفعته، فإن لم يجد وكيلاً ولا فيما لا تبطل شفعته حتى يجد الفسخ. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله في «فتاوى أهل سمرقند» : رجل له شفعة عند القاضي، فقدمه إلى السلطان الذي تولى القضاء، فإن كانت شفعته عند السلطان وامتنع القاضي في إحضاره فهو على شفعته؛ لأن هذا عذر الشفيع إذا علم بالبيع في نصف الليل ولم يقدر على الخروج، فإن أشهد حتى أصبح صح؛ لأن هذا تأخير بعذر. في «واقعات الناطفي» : اليهودي إذا سمع البيع يوم السبت فلم يطلب الشفعة؛ لأن هذا تأخير بعذر، في «فتاوي أهل سمرقند» ، وفي هذا الموضع أيضاً: الشفيع بالجوار إذا خاف أنه لو طلب الشفعة عند القاضي والقاضي لا يرى ذلك بطلت شفعته فلم يطلب فهو على شفعته؛ لأن هذا عذر يعتبر الطلب من الشفيع في البيع الفاسد وقت انقطاع حق البائع بالاتفاق. وفي بيع الفضولي والبيع بشرط الخيار للبائع يعتبر الطلب وقت البيع عند أبي يوسف رحمه الله وعند محمد رحمه الله، فيعتبر الطلب وقت الإجازة، هكذا ذكر شيخ الإسلام في الباب الأول من «شرحه» . وجه قول محمد رحمه الله: أن علة ثبوت حق الشفعة انقطاع حق البائع، وحق البائع ينقطع وقت سقوط الخيار في البيع بشرط الخيار، ووقت الإجازة في بيع الفضولي،

وفي البيع بشرط الخيار حق البائع، وإن كان يسقط عند الإجازة إلا أن الإجازة تستند إلى وقت العقد؛ لأن الإجازة إثبات صفة للعقد والصفة لا تقوم بنفسها، وإنما يقوم بالموصوف، فيستند إلى وقت العقد مع حكمه، وهو انقطاع حق البائع، فيكون وقت الطلب وقت العقد بخلاف البيع الفاسد؛ لأن هناك حق البائع، فيكون وقت الطلب وقت العقد بخلاف البيع الفاسد؛ لأن هناك حق البائع إنما ينقطع بتصرف المشتري، وتصرف المشتري لا يستند إلى وقت العقد، بل يتقرر حالة وجوده، فكذا انقطاع حق البائع لا يستند، فيعتبر الطلب وقت تصرف المشتري لهذا. وذكر ابن أبي مالك عن أبي يوسف أنه كان يقول: يعتبر وقت البيع، ثم رجع وقال: سكوته عن الطلب وقت البيع ليس بتسليم. ولو قال: أبطلت الشفعة فذلك تسليم. وفي الهبة بشرط العوض روايتان: في ظاهر الرواية يعتبر الطلب وقت التقابض؛ لأنها تصير بيعاً في هذه الحالة، وإذا كان البيع بألف درهم إلى سنة يعتبر الطلب وقت العلم بالبيع حتى أن للشفيع لو قال: أنا انتظر الأجل ولم يطلب شفعته كما علم بالبيع بطلت شفعته، رواه الحسن عن أبي حنيفه رحمه الله: أنه قال: كذلك، قال ابن أبي مالك: وقال أبو يوسف أيضاً: إنه على شفعته، وسكوته عن الطلب قبل الأخذ لا يكون تسليماً للشفعة. في «الأصل» : في باب شفعة أهل البغي: إذا اشترى رجل من أهل البغي داراً من رجل في عسكره، والشفيع في عسكر أهل العدل، فإن كان لا يقدر على أن يبعث وكيلاً ولا أن يدخل بنفسه عسكرهم، فهو على شفعته، ولا يضره ترك طلب الإشهاد؛ لأن هذا ترك بعذر، وإن كان يقدر على أن يبعث وكيلاً أو يدخل بنفسه عسكرهم، فلم يطلب طلب الإشهاد، وبطلت شفعته؛ لأنه ترك طلب الإشهاد بغير عذر. إذا اتفق الشفيع والمشتري أن الشفيع علم بالشراء منذ أيام، ثم اختلفا بعد ذلك في الطلب فقال الشفيع طلبت منذ علمت، وقال المشتري: ما طلبت، فالقول قول المشتري، وعلى الشفيع البينة، ولو قال الشفيع: علمت الساعة وأنا أطلبها، وقال المشتري: علمت قبل ذلك ولم يطلب، فالقول قول الشفيع. وفي «نوادر أبي يوسف» : إذا قال الشفيع: طلبت الشفعة حين علمت، فالقول قوله. ولو قال: علمت أمس وطلبت، أو قال: كان البيع أمس وطلبتها في ذلك الوقت لم يصدق إلا ببينته، وهكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» . حكي عن الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني رحمه الله، قال: إذا كان الشفيع علم بالشراء وطلب طلب المواثبة ثبت حقه ولكن إذا قال بعد ذلك: منذ كذا وطلبته لا يصدق على الطلب، ولو قال: ما علمت الساعة يكون كاذباً. فالحيلة في ذلك: أن يقول لإنسان أخبرني بالشراء، ثم يقول: إلا أن أخبرت ويكون صادقاً، وإن كان أخبر قبل ذلك. قال: وفي الصغيرة إذا بلغت في نصف الليل واختارت نفسها، وأرادت أن تشهد

الفصل الرابع: في استحقاق الشفيع كل المشترى أو بعضه

على ذلك تقول حضت الآن، ولا تقول: حضت في نصف الليل، واخترت نفسي، فإنها لا تصدق في اختيارها نفسها، ولكن تقول على نحو ما بينا، وتكون صادقة في قولها؛ الآن حضت؛ لأن الحيضة اسم لكل دم بدر ساعة بعد ساعة. وذكر محمد بن مقاتل رحمه الله في «نوادره» : إذا كان الشفيع قد طلب الشفعة من المشتري في الوقت المتقدم ويخشى أنه إن أقر بذلك يحتاج إلى البينه، فقال: الساعة علمت وأنا اطلب الشفعة يسعه أن يقول ذلك، يحلف على ذلك، ويستثني في يمينه وقد احتج على ذلك بما ذكر في وديعة «الأصل» : إن جحد المودع الوديعة، فحصل في يد رب الوديعة من جنس ما أودع عنده من الدراهم أن يأخذ بحقه ويحلف، ويستثني في يمينه إذا قال (168ب3) الشفيع: كنت طلبت الشفعة أمس حين علمت بالبيع، وأنكر المشتري ذلك طلب بالشفيع يمين المشتري ذكر «الهاروني» و «أدب القاضي» للخصاف: أنه يحلف المشتري ما يعلم أنه طلب شفعة ولم يذكر فيه خلافاً. وذكر الفقيه الرازي أن هذا قول أبي يوسف، وقال محمد: أحلفه على الثبات بالله ما طلبت شفعته حين بلغه الشراء، فإن قال المشتري: للقاضي حلفه بالله لقد طلبت هذه الشفعة طلباً صحيحاً ساعة علمت من غير تأخير حلّفه القاضي على ذلك، ذكره موسى بن نصر في شفعته، فإن أقام المشتري بينة أن الشفيع (علم) منذ زمان ولم يطلب الشفعة، وأقام الشفيع بينة أنه طلب الشفعة حين علم بالبيع، فالبينة بينة الشفيع في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف: البينة بينة المشتري، ذكره في «نوادر أبي يوسف» : رواية ابن سماعة. في «فتاوى أبي الليث» : المشتري إذا أنكر طلب الشفعة، فالقول قوله مع يمينه، وبعد ذلك ينظر: إن أنكر طلبه عند سماع البيع يحلف على العلم بالله ما يعلم أن الشفيع حين سمع طلب الشفعة؛ لأنه لا يحيط علمه به، وإن أنكر طلبه عند العامة يحلف على الثبات؛ لأنه لا يحيط علمه به. ابن سماعة في «نوادره» : عن محمد رحمه الله: إذا طلب الشفيع الشفعة ورافعه إلى القاضي يؤجله ثلاثة أيام لنقد الثمن، فإن جاء به إلى هذه المدة وإلا أبطل شفعته. وفي «فتاوي أبي الليث» : الشفيع إذا طلب الشفعة، فقال المشتري: هات الدراهم وخذ شفعتك، فإن أمكنه إحضار الدراهم ولم يحضر ثلاثة أيام بطلت شفعته، هكذا روى عن محمد، قال الصدر الشهيد رحمه الله: والمختار أنه لا يبطل. في «فتاوى أبي الليث» : المشتري إذا أنكر طلب الشفعة، فالقول قوله مع يمينه، وبعد ذلك ينظر: إن أنكر طلبه عند سماع البيع يحلف على العلم بالله ما يعلم أن الشفيع حين سمع طلب الشفعة؛ لأنه لا يحيط علمه به، وإن أنكر طلبه عند العامة يحلف على الثبات؛ لأنه لا يحيط علمه به. ابن سماعة في «نوادره» : عن محمد رحمه الله: إذا طلب الشفيع الشفعة ورافعه إلى القاضي يؤجله ثلاثة أيام لنقد الثمن، فإن جاء به إلى هذه المدة وإلا أبطل شفعته. وفي «فتاوي أبي الليث» : الشفيع إذا طلب الشفعة، فقال المشتري: هات الدراهم وخذ شفعتك، فإن أمكنه إحضار الدراهم ولم يحضر ثلاثة أيام بطلت شفعته، هكذا روى عن محمد، قال الصدر الشهيد رحمه الله: والمختار أنه لا يبطل. في «فتاوى أبي الليث» : المشتري إذا أنكر طلب الشفعة، فالقول قوله مع يمينه، وبعد ذلك ينظر: إن أنكر طلبه عند سماع البيع يحلف على العلم بالله ما يعلم أن الشفيع حين سمع طلب الشفعة؛ لأنه لا يحيط علمه به، وإن أنكر طلبه عند العامة يحلف على الثبات؛ لأنه لا يحيط علمه به. ابن سماعة في «نوادره» : عن محمد رحمه الله: إذا طلب الشفيع الشفعة ورافعه إلى القاضي يؤجله ثلاثة أيام لنقد الثمن، فإن جاء به إلى هذه المدة وإلا أبطل شفعته. وفي «فتاوي أبي الليث» : الشفيع إذا طلب الشفعة، فقال المشتري: هات الدراهم وخذ شفعتك، فإن أمكنه إحضار الدراهم ولم يحضر ثلاثة أيام بطلت شفعته، هكذا روى عن محمد، قال الصدر الشهيد رحمه الله: والمختار أنه لا يبطل. الفصل الرابع: في استحقاق الشفيع كل المشترى أو بعضه ابن سماعة عن أبي يوسف: دار بين قوم اقتسموها، وأصاب كل واحد منهم ناحية منها معلومة، إلا أن طريقهم واحد، ولرجل دار ملاصقة نصيب بعضهم، فباع أحدهم نصيبه من رجل وسلم شركاؤه في الطريق الشفعة، فللجار الملاصق لبعض نصيب هؤلاء

الشفعة في المبيع، وإن لم يكن لزيقه إن الدار واحدة. وكذلك القرية والأرضون بين قوم شربها من نهر أقضي في مثله بالشفعة، بيعت منها أقرحة متفرقة أو مجتمعة ولرجل أرض ملازقة بعض هذه الأرضين، فإني أقضي لهذا الجار الملازق بالشفعة فيما بيع من جميع هذه الأرضين، وإن لم تكن ملازقة؛ لأنها أرض واحدة. ولو كانت أراضي كثيرة وقذف شربها من نهر لا أقضي في مثلها بالشفعة، فبيع من هذه الأرضين شيء، فلا شفعة للجار إلا فيما يلازقه. فرع على الفصل الأول فقال: ولو كان الذي بيع منها قراحين يلي أحداهما صاحبه وعلى كل قراح حائط يحيط به ولأحد القراحين جار ملازق، فله الشفعة فيهما، وإن كان الذي بيع بساتين، وعلى كل بستان حائط يحيط به وله باب على حدة، ولرجل أرض تلي أحد البساتين، فإن له الشفعة في البستان الذي يليه، ولا شفعة له في الآخر. وفرق بين البساتين وبين القراحين. وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله أيضاً: الجواب في مسألة البستان بخلاف هذا، فقال: له الشفعة في البساتين جميعاً، قال في هذه الرواية: ولا يشبه القياس البساتين في القرى والدور في الأمصار، فإنه لو كان لرجل دور يلي بعضها بعضاً، فباعها فللشفيع الشفعة في الدار التي يليها، قال أيضاً في هذه الرواية: البساتين في المصر بمنزلة الدور. وعنه: وإذا كان له داران في قرية باعها، وأرض من أراضي تلك القرية معها، وله جار يلي إحدى هاتين الدارين، فلهذا الجار أن يأخذ الدارين والأرض، وإن كان لو باع الدارين بانفرادها، فالشفيع لا يأخذ منهما إلا التي تليه، وجعل بيع الدار مع الأرض بمنزلة بيع القرية وأرضها. وعنه: رجل له بستان عليه حائط وباب، فباع بستانه وأرضين خلف البستان، ولرجل قطعة أرض إلى جانب الحائط الذي على البستان، فالشفعة له في البستان والأرض المتصلة. وعنه: إذا كان لرجل دور هدمها وجعلها داراً واحدة أو جعلها أرضاً وباعها فللشفيع الشفعة في جميع ذلك؛ لأنها صارت داراً واحدة. قال: سألت محمداً عن حوانيت ثلاثة تلي بعضها بعضاً، أو باب كل واحد إلى الطريق الأعظم إلى جنب حانوت، فبيع الحوانيت الثلاث، فجاء الشفيع يطلب الشفعة،

قال: فله الشفعة في ذلك كلها، قال: وهي بمنزلة البيوت في دار واحدة. رجل له بيتان في دار يلي أحد البيتين الآخر، ولا طريق لهما في الدار ويلي أحد البيتين دار رجل، فباع صاحب البيتين البيتين لصاحب الدار أن يأخذهما جميعاً، ولو كان البيتان متفرقين أحدهما في ناحية من الدار والآخر في ناحية أخرى من الدار، ولا يلي أحدهما من الآخر فباع صاحب البيتين البيتين، فإن الشفعة للشفيع في البيت الذي يليه دون الآخر. قال هشام أيضاً: سألت محمداً عن دار فيها بستان، وطريق البستان في هذه الدار ليس للبستان طريق آخر، على الدار والبستان حائط واحد محيط بهما، فباع الدار والبستان صاحبهما، قال: هما بمنزلة الدارين من يلي البستان، فله الشفعة في البستان دون الدار، ومن يلي الدار فله الشفعة في الدار دون البستان. قال هشام أيضاً: سألت محمداً عن عشرة أقرحة متلازقة لرجل يلي واحد منها أرض إنسان، فبيع العشرة الأقرحة، فللشفيع أن يأخذ القراح الذي يليه، وليس له في بقيتها شفعة؛ لأن كل قراح على حدة، وإن لم يكن بينها طريق، وكذلك لو كانت قرية خالصة منها تلي أرض إنسان، فالشفيع يأخذ القراح الذي يليه. إذا أراد الشفيع أن يأخذ بعض المشترى دون البعض يجب أن يعلم أن الروايات اتفقت عن أصحابنا رحمهم الله أن المشتري إذا كان واحداً والبائع واحداً، وقد اشترى الدار بصفقة واحدة أنه ليس للشفيع أن يأخذ البعض دون البعض دفعاً للضرر عن المشتري، يعني به ضرر عيب الشركة، وإن كان المشتري واحداً والبائع اثنان أو ثلاثة، وقد اشترى الدار صفقة واحدة، فليس للشفيع أن يأخذ نصيب أحد البائعين دون الآخر وإن كان المشتري اثنين أو ثلاثة والبائع واحد، فللشفيع (169أ3) أن يأخذ نصيب أحد المشتريين. والفرق: أن المشتري إذا كان اثنين، فليس في أخذ نصيب أحدهما ضرر عيب الشركة لا على المشتري ولا على البائع، أما على المشتري؛ لأن الشفيع يأخذ تمام نصيبه، وأما على البائع؛ فلأن أحد النصيبين يصير للشفيع والنصف الأخر يبقى للمشتري الآخر، فأما إذا كان البائع والمشتري واحداً ففي أخذ الشفيع نصيب أحد البائعين ضرر عيب الشركة على المشتري في الباقي، وهذا بخلاف ما لو اشترى نصيب كل واحد منهم بصفقة على حدة كان للشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما، وإن كان يلحق المشتري ضرر عيب الشركة؛ لأنه رضي بهذا العيب حيث اشترى نصيب كل واحد منهم بصفقة على حدة. قال القدوري في «شرحه» : وقد روي عنهم بخلاف هذا، فإنه روي عنهم أن البائع إذا كان اثنين، فللشفيع أن يأخذ نصيب أحد البائعين قبل القبض، وليس له أن يأخذ من المشتري نصيب أحدهما بعد القبض؛ لأن قبل القبض التملك، وقد أخذ جميع ما خرج

عن ملكه، وبعد القبض التملك يقع على المشتري، فيلحقه ضرر عيب الشركة في الباقي. وروي عنهم: أن المشتري إذا كان اثنين لم يكن للشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما قبل القبض؛ لأن التملك يقع على البائع، فتفرق عليه الصفقة، وله أن يأخذ نصيب أحدهما بعد القبض؛ لأن التملك يقع على المشتري، وقد أخذ منه جميع ملكه. قال القدوري: وسواء سمى لكل نصف ثمناً أو كان الثمن جملة واحدة، فالعبرة لاتحاد الصفقة دون الثمن، وكذلك لو كان الشراء بوكالة، فوكل رجل رجلين، فاشتريا كان للشفيع أن يأخذ نصيب أحد المشتريين، وإن كان الموكل رجلين والوكيل رجلاً واحداً لم يكن له أن يأخذ نصيب أحد الموكلين. والحاصل: أن على ظاهر الرواية ينظر في مثل هذه المسائل إلى المشتري، فإن كان المشتري واحداً اشترى الدار لنفسه أو لجماعة بتوكيلهم إياه والبائع واحداً، أو قد اشترى بصفقة واحدة، فليس للشفيع إلا أن يأخذ الكل أو يدع الكل، ولو كان المشتري جماعة اشترط لأنفسهم ولواحد بتوكيل إياهم بصفقة واحدة أو متفرقة، فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهم. وإذا كان المشتري واحد والبائع اثنان وطلب الشفيع نصيب أحدهما دون الأخر هل يكون على شفعته بما صنع؟ ذكر في آخر شفعة «الأصل» أنه على شفعته. قال بعض مشايخنا: هذا الجواب محمول على ما إذا وجد منه طلب المواثبة وطلب الإشهاد في الكل، ثم أراد أن يأخذ نصيب أحدهما؛ لأن ترك طلب التمليك في النصف لا يربوا على تركه في الكل لا تبطل شفعته عند أبي حنيفة رحمه الله أصلالاً وعندهما إلى شهر، وهو المختار، ففي نصف أولى. فأما إذا طلب المواثبة وطلب الإشهاد في النصف تبطل شفعته؛ لأنه اجتمع ما يوجب بطلان شفعته وما يمنع بطلانها؛ لأن طلب الشفعة في النصف طلب في الكل؛ لأنها لا تتجزأ فقد وجد الطلب في الكل من هذا الوجه، وإنه يوجب بقاء شفعته، وترك الطلب في النصف ترك الطلب في الكل؛ لأنها لا تتجزأ، وإنه يوجب بطلان شفعته في الكل، فكان حقه في الشفعة من القائم والساقط، فلا يصح للتملك، وإنه غير ثابت؛ لأن غير الثابت لا يثبت بالشك. وقال بعضهم: هذا الجواب على إطلاقه، وإذا طلب طلب المواثبة والإشهاد في النصف لا تبطل شفعته؛ لأنه اجتمع ما يوجب بقاء شفعته وما يوجب بطلان شفعته، وإنها كانت ثابتة، فلا يبطل بالشك. وإذا اشترى الرجل دارين صفقة واحدة شفيعهما واحد، فأراد أن يأخذ أحدهما دون الآخر، فليس له ذلك، وكذلك لو كانت أرضين أو قرية وأرضها أو قريتين وأرضهما وهو شفيع ذلك كله، فإنما له أن يأخذ جميع ذلك أو يدعه، وسواء كانت الدار متلازقتين أو غير متلازقتين، في مصرين أو قريبتين بعد أن يكون ذلك صفقة واحدة. في آخر شفعة «الكافي» : ونص على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله في

الفصل الخامس: في الحكم بالشفعة والخصومة فيها

مثله مثل هذه المسألة في الشفعة للحسن بن زياد، وإن كان الشفيع شفيعها لإحدهما وقد وقع البيع صفقة واحدة ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : أنه يأخذ الدار التي هو شفيعها في ظاهر الرواية، وروى عن أبي حنيفة رواية شاذة أنه ليس له ذلك، إما أن يأخذهما أو يتركهما.u وعلى هذه الرواية قال أبو حنيفة رحمه الله: لو اشترى المشتري الدار مع متاع فيها صفقة واحدة، فالشفيع يأخذ الدار مع المتاع أو يدع الكل، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» كان أبو حنيفة رحمه الله يقول: أولاً له أن يأخذهما جميعاً أو يدع، ثم رجع وقال: لا يأخذ واحدة منهما، ثم رجع وقال: يأخذ التي هو شفيعها خاصة، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وفي الشفعة للحسن بن زياد في مثل هذه المسألة: أن الشفيع يأخذ الكل أو يدع الكل، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقد ذكرنا قول أبي يوسف في ابتداء الفصل في القراحين والبساتين، وذكرنا قولي محمد في الأقرحة والحوانيت والله أعلم. الفصل الخامس: في الحكم بالشفعة والخصومة فيها قال محمد رحمه الله: ولا ينبغي للقاضي أن يقضي بالشفعة حتى يحضر الشفيع الثمن، وطلب أجلاً أجّله يومين أو ثلاثة ولم يقض له بالشفعة، وإن قضى بالشفعة نفذ قضاؤه، ولا ينقض حتى لو أبى الشفيع أن ينقد الثمن حبسه القاضي. وفي «المنتقى» : قال هشام عن محمد رحمه الله: إذا قال الشفيع للقاضي: اقض لي بالشفعة ودعها على حالها من غير أن يسلم إلي حتى آتيك بالمال لم يفعل ذلك، وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب الشفعة أن القاضي يقضي بالشفعة، وإن لم يحضر الشفيع الثمن في قول أبي حنيفة الإمساك وأبي يوسف رحمهما الله، ويكون للمشتري حق الإمساك إلى أن يستوفي الثمن. قال القدوري: وقد روى الحسن عن أبي حنيفة مثل قول محمد: أن القاضي لا يقضي بالشفعة حتى يحضر الشفيع الثمن، وإذا رفع الشفيع الأمر إلى القاضي وطلب منه أن يقضي له، فهذا على وجهين: إن كانت الدار في يد البائع، فالقاضي لا يسمع خصومته، ولا يقضي له بالشفعة إلا بحضرة البائع والمشتري؛ لأن اليد للبائع والملك للمشتري، فكان القضاء متعرضاً للحقين، فلا بد من حضرتهما، وإن كانت الدار في يد المشتري، فالخصم هو المشتري وحده يشترط حضرته، ولا يشترط حضرة (169ب3) البائع؛ لأنه ليس له ملك ولا يد، فكان كالأجنبي. فإن أخذ الدار من المشتري، فعهدته وضمان ماله على المشتري. وإن أخذها من البائع، فعهدته وضمان ماله على البائع عندنا؛ لأن بالأخذ من البائع ينفسخ العقد الذي جرى بين البائع والمشتري، ويقع التملك

على البائع هو المذهب عند علمائنا رحمهم الله، ومعنى انتقاض البيع فيما بين البائع والمشتري الانتقاض في حق الإضافة إليه كان قول البائع للمشتري: بعت هذه الدار اتحاد البيع، وقوله منك إضافة إليه، وإذا أخذها الشفيع بالشفعة تقدم على المشتري، فصار ذلك البيع مضافاً إلى الشفيع بعد أن كان مضافاً إلى المشتري، وانتقضت الإضافة إلى المشتري. ونظيره في المحسوسات من رمى سهماً إلى رجل، فتقدم عليه غيره وأصابه السهم، فالرمي في نفسه لم ينقطع، ولكن التوجيه إلى الأول قد انقطع بتخلل هذا الثاني. وروى أبو سليمان عن أبي يوسف رحمه الله: أن المشتري إن كان نقد الثمن ولم يقبض الدار حتى قضى القاضي للشفيع بحضرتهما، فإنه يقبض الدار من البائع، وينقد الثمن للمشتري، وعهدته على المشتري، وإن كان لم ينقد الثمن دفع الشفيع الثمن إلى البائع وعهدته على البائع، فلو أن الشفيع في هذه الصورة وجد بالدار عيباً فردها على البائع أو على المشتري بقضاء القاضي، فأراد أن يأخذها بشرائه، وأراد البائع أن يردها على المشتري بحكم ذلك الشراء، فالمشتري بالخيار إن شاء أخذها وإن شاء تركها. قال: من قبل القضاء الذي حدث للشفيع فيها، فإن أخذ الشفيع الدار من المشتري وأراد أن يكتب كتاباً على المشتري ليكون وثيقة للشفيع على المشترى له ذلك، ويحكى في الكتاب شراء المشتري أولاً ثم يرتب عليه الأخذ بالشفعة؛ لأن الشفعة إنما تثبت فيما ملك بجهة الشراء، فيحكى شراء المشتري أولاً ثم يرتب عليه الأخذ بالشفعة؛ لأن الشفعة إلي حتى لا ينكر المشتري ملكه من جهة بائعه بالشراء يوماً من الدهر، ويأخذ الشفيع من المشتري كتاب شرائه الذي كتب على بائعه، وإن أبى المشتري أن يدفع ذلك إليه فله ذلك؛ لأن الكاغده عنده ملك المشتري، ولكن ينبغي للشفيع أن يحتاط لنفسه، فيشهد قوماً على تسليم المشتري الدار إليه بالشفعة. وإن كان الشفيع أخذ الدار من البائع يكتب كتاباً على البائع على نحو ما يكتب لواحده من المشتري، ويكتب في هذا الكتاب إقرار المشتري أنه سلم جميع ما في هذا الكتاب وأجازه وإقراره لاحق له في هذا الدار ولا في ثمنه. وإذا وقع الشراء بسبب بثمن مؤجل إلى سنة مثلاً، فحضر الشفيع ويطلب الشفعة وأراد أخذها إلى ذلك الأجل، فليس له ذلك إلا برضا المأخوذ منه، إما أن ينقذ الثمن حالاً ويصبر حتى يحل الأجل، فإن نقد الثمن حالاً، وكان الآخذ من المشتري يبقى الأجل في حق المشتري على حاله حتى لا يكون للبائع ولاية مطالبة المشتري قبل محل الأجل، وإن صبر حتى حل الأجل فهو على شفعته، وهذا كله إذا كان الأجل معلوماً. فأما إذا كان مجهولاً نحو الحصاد والدياس وأشباه ذلك، فقال الشفيع: أنا أعجل الثمن وآخذها لم يكن له ذلك؛ لأن الشراء بالأجل المجهول فاسد، وحق الشفيع لا يثبت في الشراء الفاسد. في «المنتقى» : دار بيعت ولها شفيعان جاران، وأحدهما غائب، فخاصم الحاضر

المشتري إلى قاضٍ لا يرى الشفعة بالجوار، فقال له: لا شفعة لك، أو قال: أبطلت شفعتك ثم قدم الشفيع الأخر وخاصم المشتري إلى قاض يرى الشفعة بالجوار، فإنه يقضي له بجميع الدار، وإن طلب الأول القضاء من هذا القاضي لا يقضي له بشيء؛ لأن قاضياً من القضاة قد أبطل حقه، فإن كان القاضي الأول قال للشفيع الأول: أبطلت شفعتك وقضيت بإبطال الشفعة في هذه الدار لكل جار، فإن هذا خطأ منه، وإنه قضاء على الغائب، فهو يجوز على ما يجوز عليه القضاء على الغائب. وفيه أيضاً: رجل اشترى من آخر داراً بألف درهم، وباعها من رجل أخر بألفي درهم وسلمها، ثم حضر الشفيع وأراد أن يأخذ الدار بالبيع الأول. قال أبو يوسف رحمه الله: يأخذها من الذي هي في يده، ويدفع إليه ألف درهم، ويقال له طلب صاحبك الذي باعك، فخذ منه ألفاً أخرى، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله: إذا حضر الشفيع وقد باع المشتري الدار وسلمها وغاب وأراد أن يأخذها الشفيع بالبيع الأول، فلا خصومة بينه وبين المشتري الآخر. فالحاصل: أن الشفيع لو أراد أخذها بالبيع الأول يشترط حضرة المشتري الأول عند أبي حنيفة رحمه الله، وهو في قول محمد، وفي قول أبي يوسف: لا يشترط حضرته، وإن أراد أخذها بالبيع الثاني لا يشترط حضرة المشتري الأول بلا خلاف. إذا قضى القاضي للشفيع بالشفعة وضرب له أجلاً، وقال: إن لم يأت بالثمن إلى وقت كذا فلا شفعة لك، فلم يأت به بطلت شفعته، وكذلك إذا قال المشتري ذلك للشفيع، فإن جاء بالدنانير والثمن دراهم، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا تبطل شفعته، وبعضهم توقف في الجواب، فيفتي أنه لا تبطل شفعته، وكذلك إذا قال الشفيع: إن لم أعطيك الثمن وقت كذا، فأنا بريء من الشفعة فهو صحيح، ويبطل حقه إن لم يعط الثمن إلى ذلك الوقت. في «القدوري» : وفي «المنتقى» بشر عن أبي يوسف رحمه الله: أن قول الشفيع: لا حق لي عند فلان براءة عن الشفعة. رجل في يده دار جاء رجل وادعى صاحب اليد اشترى الدار من فلان، وأنا شفيعها وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة أن فلاناً أودعها إياه قضى القاضي للشفيع بالشفعة؛ لأن صاحب اليد انتصب خصماً بدعوى الفعل عليه وهو شراؤه هذه الدار من فلان وفي مثل هذا لا تندفع الخصومة عن صاحب اليد بإثبات أن يده وديعة وإن كان الشفيع لم يدع الشراء على صاحب اليد إنما ادعاه على رجل. وصورته: أن يقول لصاحب اليد: إن هذا الرجل وأشار إلى غير صاحب اليد اشترى هذه الدار من فلان بكذا وقبضها ونقد الثمن وأنا شفيعها، وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينه أن فلاناً أودعها إياه فلا خصومة بينهما حتى يحضر الغائب؛ لأن صاحب اليد هاهنا انتصب خصماً بحكم ظاهر اليد لا بدعوى الفعل عليه. وفي مثل هذا تندفع الخصومة عن صاحب اليد بإثباته أن يده وديعة، وإذا وقع

الفصل السادس: في الدار إذا بيعت ولها شفعاء

الشراء بالجياد ونقد المشتري الزيوف فالشفيع يأخذ بالجياد؛ لأن الشفيع (170أ3) إنما يأخذ بما وقع الشراء به، والشراء وقع بالجياد. في «واقعات الناطقي» : إذا وقع الشراء بما هو من ذوات الأمثال، فالشفيع يأخذ بمثله، وإذا وقع بما هو من ذوات القيمة، فالشفيع يأخذ بقيمة ذلك الشيء، ويعتبر قيمة ذلك الشيء وقت الشراء لا وقت الأخذ بالشفعة. الفصل السادس: في الدار إذا بيعت ولها شفعاء إذا كان للدار شفيعان فسلم أحدهما، فإن كان قبل قضاء القاضي بالشفعة بينهما نصفان أخذ الآخر كل الدار، وترك ليس له غير ذلك، يجب أن يعلم بالشفعاء إذا اجتمعوا فحق كل واحد قبل الاستيفاء والقضاء ثابت في جميع الدار، حتى أنه إذا كان للدار شفيعان سلم أحدهما الشفعة قبل الأخذ وقبل القضاء كان للآخر أن يأخذ الكل؛ لأن قبل الاستيفاء القضاء وجد في حق كل واحد منهما بسبب ثبوت حق الشفعة في كل الدار، وأمكن الجمع بينهما؛ لأن الجمع بينهما ليس إلا الجمع بين حقين في عين واحد كلاً لفائدة أن أحدهما متى ترك أخذ الآخر الكل، وهذا جائز كما لو رهن.... من رجلين، فإنه يصير راهناً كل العين من كل واحد منها بجميع دينه حتى لو قضى دين أحدهما كان للآخر أن يحبس الكل بدينه، وبعد الاستيفاء أو بعد القضاء يبطل حق واحد منها عما قضى لصاحبه حتى إنه إذا كان للدار شفيعان، وقضى القاضي بالدار بينهما، ثم أسلم أحدهما نصيبه لم يكن للآخر أن يأخذ الجميع؛ وهذا لأن القاضي لما قضى بالدار بينهما صار كل واحد منهما مقضياً عليه من جهة صاحبه فيما قضى به لصاحبه، فبطل شفعته فيما قضى به لصاحبه ضرورةً إذا كان بعض الشفعاء أقوى من البعض بقضاء القاضي بالشفعة بطل حق الضعيف حتى أنه إذا اجتمع الشريك والجار وسلم الشريك الشفعة، قبل القضاء له كان للجار أن يأخذ بالشفعة. ولو قضى القاضي بالدار للشريك ثم سلم الشريك الشفعة، فلا شفعة للجار، وإذا حضر بعض الشفعاء وغاب البعض، فللشفيع الحاضر أن يأخذ كل الدار؛ لأن حق الحاضر في كل الدار ثابت بصفة التأكيد؛ لأن تأكد الشفعة بالطلب وقد وجد الطلب من الشفيع الحاضر، وحق الغائب لم يتأكد بعد، والحق المتأكد لا يؤخر لحق غير متأكد، ومتى وقع الاستيفاء من الحاضرين، فإنما يبطل من الغائب ما كان يبطل لو كان حاضراً، أما الزيادة فلا. حتى أنه إذا كان للدار شفيعان أحدهما حاضر، والآخر غائب وقضى القاضي للحاضر بكل الدار كان له أن يأخذ النصف، وإذا جعل بعض الشفعاء نصيبه

الفصل السابع: في إنكار المشتري حق الشفيع وما يتصل به

لبعض لم يصح الجعل ويسقط حقه، وقسمت على عدد من بقي؛ لأن نقل الحق في الشفعة لا يستقيم لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، ولكن يسقط حقه بدلالة الإعراض فيقع حق الباقين. وإذا قضى القاضي للحاضر بكل الدار، ثم حضر آخر وقضى له بالنصف، ثم حضر آخر قضي له بثلث ما في يد كل واحد منهما حتى يستويا لهما، فإن قال الذي قضي له بكل الدار أولاً للثاني: أنا أسلم لك الكل، فإما أن يأخذ الكل أو يدع فليس له ذلك، وللثاني أن يأخذ النصف، هكذا ذكره «القدوري» . ولو كان الشفيع الحاضر يأخذ الدار من المشتري بالشفعة ولكن اشترى الدار منه ثم حضر الغائب، فإن شاء أخذ الدار كلها بالبيع الأول، وإن شاء أخذ كلها بالبيع الثاني، أما بالبيع الأول، فلأن الحاضر أسقط حقه في الشفعة لما أقدم على الشراء وخرج من البين، فكان للآخر أن يأخذ الكل، وأما بالبيع الثاني، فلأن الشريك المشتري أعرض عن الشفعة حيث أقدم على الشراء، ومع الإعراض لا يثبت له حق الشفعة، فخرج هو من البين، فكان للآخر أن يأخذ الكل. وفي المسألة نوع إشكال؛ لأن حق الشفعة في البيع الثاني، إنما يثبت بعد تمام البيع الثاني فلا يبطل بالإعراض قبله، والجواب هو معرض بالشراء الثاني، فلا يثبت له بسبب هذا الحق مع تضمن هذا الشراء الإعراض. بخلاف الشفيع إذا اشترى ابتداء؛ لأن شراء لم يتضمن إعراضاً؛ لأنه مقبل على التملك، وهو معنى الأخذ بالشفعة. ولو كان المشتري الأول شفيعاً للدار فاشتراها الشفيع الحاضر منه، ثم قدم الغائب، فإن شاء أخذ نصف الدار بالبيع الأول، وإن شاء أخذ الكل بالبيع الثاني؛ لأن المشتري الأول يثبت له حق قبل الشراء حتى يكون شراؤه معرضاً عنه، فبقي هو شفيعها في البيع الأول، فلا يكون للغائب بسبب البيع الأول إلا النصف، وأما العقد الثاني فقد ثبت للشفيع الحاضر حق الشفعة بسبب الأول، فإذا اشترى سقط حقه عن البيع الأول، ولم يتعلق بعقده حق مع كونه معرضاً، فكان للغائب أن يأخذ الكل بالبيع الثاني. الفصل السابع: في إنكار المشتري حق الشفيع وما يتصل به في «المنتقى» : قال هشام: سألت محمداً عن الشفيع إذا طلب الشفعة بدار في يديه يزعم أنها له، فقال المشتري: ليست هذه الدار لك، قال: فأخبرني أن أبا حنيفة كان يقول: على الشفيع البينة يعني القاضي لا يقضي للشفيع بالشفعة ما لم يقم البينة أن الدار التي في يديه داره، وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا كان في يديه، فله الشفعة بها. قال هشام: قلت لمحمد: ما قولك، قال: القياس ما قاله أبو حنيفة. وفي «الأجناس» : بين كيفية الشهادة، فقال: ينبغي أن يشهدوا هذه الدار التي بجوار

الفصل الثامن: في تصرف المشتري في الدار المشفوعة قبل حضور الشفيع

الدار المبيعه ملك هذا الشفيع أن يشتري هذا المشتري هذه الدار، وهي له إلى هذه الساعة لا يعلمها خرجت عن ملكه. ولو قال: إن هذه الدار لهذا الجار لا يكفي، وفي «الحاوي» : لو شهدا أن الشفيع كان اشترى هذه الدار من فلان وهي في يديه أو وهبها وقبضها، فذلك يكفي، فلو أراد الشفيع أن يحلف المشتري بالله فله ذلك. ذكر في «واقعات الناطفي» ؛ لأنه يدعي معنىً لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف. بعد هذا قال محمد رحمه الله: يحلف على الثبات، وقال أبو يوسف: يحلف على العلم بالله ما يعلم أن هذه الدار ملك هذا؛ لأن هذا يختلف على ملكية دار ليست في يديه، وبه أخذ الصدر الشهيد رحمه الله في «المنتقى» أيضاً. ابن سماعة عن أبي يوسف: في رجل في يديه دار أقام رجل بينه أن هذه كانت في يد والده، وأن والده مات، وهذه الدار في يديه، قال: اجعلها للذي أقام البينة، فإن جاء بطلب الشفعة (170ب3) دار إلى جنبه لم أقض له بالشفعة حتى يقيم البينة على ذلك. في آخر الباب الأول في «المنتقى» : دار في يدي رجل أقر أنها لأخر فبيعت إلى جنبها دار وجاء المقر له بطلب الشفعة بإقراره الذي أقر له بها فلا شفعة له فيها حتى يقيم البينة أن الدار داره. وفي الباب الثالث منه رجل اشترى داراً ولها شفيع فأقر الشفيع أن داره التي بها الشفعة لأخر، فإن كان سكت عن الشفعة، ولم يطلبها بعد فلا شفعة للمقر له، وإن كان طلب الشفعة فللمقر له الشفعة؛ لأن في الوجه الأول الشفيع يريد أن يوجب بإقراره حقاً لم يكن ولا كذلك في الوجه الثاني، وقد ذكرنا في الفصول المتقدمة أن الشريك فيما تحت الحائط من الأرض أولى بشفعة بقية الدار والجار، فإن كان صاحب الدار أقر أن الحائط بينه وبين هذا الرجل لم أجعل له بهذا شفعة بمنزلة دار في يدي رجل أقر أنها لأخر، فإنه لا يستحق المقر له بهذا الإقرار الشفعة كذا هاهنا، وذكر الخصاف في إسقاط الشفعة أن البائع إذا أقر بسهم من الدار للمشتري ثم باع منه بقية الدار فالجار لا يستحق الشفعة؛ لأن المشتري شريك بالسهم المقر له به، وكان أبو بكر الخوارزمي يخطئ الخصاف في هذا ويفتي بوجوب الشفعة للجار؛ لأن الشركة لا تثبت إلا بإقراره وكان يستدل بمسألة الحائط. الفصل الثامن: في تصرف المشتري في الدار المشفوعة قبل حضور الشفيع إذا تصرف المشتري في الدار المشفوعة قبل حضور الشفيع بأن اشترى داراً أو أرضاً وبنى فيها بناءً أو غرس عرساً، ثم حضر الشفيع وطلب الشفعة أمر المشتري برفع بنائه وغرسه وتسليم الساحة للمشتري، وروى أبو يوسف: أنه يخير بين أن يأخذ بالثمن

وقيمة البناء والغرس الذي أخذه أو تركه. ووجه ظاهر الرواية: أنه بنى في محل تعلق به حق الغير ولم يبطل حقه بتصرفه فكان له أن ينقصه كالمشتري إذا باع من غيره أكثر ما فيه أن في نقض البناء ضرر للمشتري إلا أن المشتري هو الذي أضر بنفسه حيث بنى على محل تعلق به حق الغير. وعلى هذا إذا اشترى داراً وصفها بأشباه كثيرة ثم جاؤوا الشفيع، فهو بالخيار إن شاء أخذها بالشفعة وأعطاه ما زاد فيها، وإن شاء ترك. قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : وفيه نظر، فإن المشتري إذا بنى في الدار المشفوعة بناء كان للشفيع أن ينقض البناء ولا يأخذ الدار ولا يعطيه ما زاد فيها. قيل: إن كان المذكور في «العيون» عن محمد فدعوى النظر صحيح، وإن كان عن أبي يوسف فدعوى النظر لا يصح، فإن الجواب في مسألة البناء على إحدى الروايتين عن أبي يوسف هكذا. وقيل: يجوز أن يفرق محمد رحمه الله من البناء وبين الصنع؛ لأن البناء إذا أنقض لا يلحق المشتري كثير ضرر؛ لأنه يسلم النقض ولا كذلك إذا نقص الصبغ. وإذا اشترى الرجل داراً وهدم بنائها أو هدمها أجنبي أو انهدم بنفسه، ثم جاء الشفيع قسم الثمن على قيمة البناء وعلى قيمة الأرض فما أصاب الأرض أخذها الشفيع بذلك يعني المسألة إذا انهدم البناء وبقي النقض على حاله؛ وهذا لأن حق الشفيع ثابت في البناء بيعاً وقد بطل ذلك الحق عن البناء بالهدم والانهدام؛ لأنه صار نقلياً فمتى قلنا: أن الشفيع يأخذ الأرض بجميع الثمن يبقى بعض المبيع في يد المشتري بلا ثمن، وهذا لا يجوز إلا أنه إذا انهدم بفعل المشتري أو بفعل الأجنبي يقسم الثمن على قيمة البناء. وإذا انهدم بنفسه يقسم الثمن على قيمته مهدوماً؛ لأن بالهدم دخل في ضمان الهادم، فيعتبر القيمة على الوصف الذي دخل في ضمانه وبالانهدام لم يدخل في ضمان أحد فيعتبر قيمته على حاله التي هو عليه مهدوماً علي حتى أنه إذا كان قيمة الساحة خمسمائة وقيمة البناء خمسمائة فانهدم البناء وبقي النقض وهو يساوي ثلاثمائة، فالثمن يقسم على قيمة الساحة خمسمائة، وعلى قيمة النقض ثلاثمائة أثماناً فيأخذ الشفيع الساحة بخمسة أثمان الثمن. ولو احترق البناء أو ذهب به السيل ولم يبق غير ثمن النقض يأخذ الشفيع الساحة بجميع الثمن؛ لأنه لم يبقى في يد المشتري شيء له ثمن ولو استحق البناء أخذ الشفيع ما بقي بحصته من الثمن بخلاف ما لو احترق البناء أو ذهب به السيل ولو لم يهدم المشتري البناء، ولكن باعه من غيره من غير أرض ثم حضر الشفيع، فله أن ينقض البيع ويأخذ الكل؛ لأنه ما دام متصلاً فحق الشفيع متعلق به فكان له إبطال تصرف المشتري. وكذلك النبات والنخيل في الأرض والتمر في النخيل المجود وقت البيع كل ما لم يزائل الأرض فالشفيع أولى به بالثمن الأول وما زائل الأرض بفعل المشتري أو بفعل أجنبي يقسم الثمن على قيمته صحيحاً وعلى قيمة الأرض، وإن زائل الأرض لا بفعل أحد

ولم يهلك يعتبر قيمته ساقطاً، وإن هلك الثمن من غير صنع أحد ولم يبق منه شيء سقط حصته من الثمن بخلاف البناء؛ لأن الثمر مبيع مقصود، ألا ترى أنه لا يدخل في البيع إلا بتسمية فيثبت له الحصة لا محالة. أما البناء بيع فلا يثبت له الحصة أبداً إذا صار وجعل الدار المشتراة مسجداً أو مقبرة، ثم حضر الشفيع قضى له بالشفعة وله أن ينقض المسجد وينبش الموتى يجب أن يعلم أن تصرف المشتري في الدار المشفوعة صحيح إلى أن يحكم الحاكم بالشفعة للشفيع، وله أن يؤاجر ويطلب له الثمن والأجر، وكذا له أن يهدم وما أشبه ذلك من التصرفات؛ لأن نفاذ التصرف وإطلاقه يعتمد الملك، وإنه ثابت للمشتري والثابت للشفيع حق الأخذ لاحق في المحل أصلاً فلهذا يجوز تصرفاته ويطلق فيها غير أن للشفيع أن ينقض كل تصرف إلا القبض وما كان من تمام القبض. ألا ترى أن الشفيع لو أراد أن ينقض قبض المشتري ليعيد الدار إلى البائع ويأخذ منه لا يكون له ذلك، وكذلك لا يملك نقض قسمة المشتري حتى أن من اشترى نصف دار غير مقسومة وقاسم المشتري البائع، ثم حضر الشفيع ليس له أن ينقض قسيمه سواء كانت القسمة بحكم أو بغير حكم؛ لأن القسمة من تمام القبض لما عرف أن قبض المشاع فيما يحتمل القسمة قبض ما قبض.l وذكر في «واقعات الناطقي» : أن القسمة إذا كانت بحكم ففي بعض القسمة عن أبي حنيفة روايتان. قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : والمختار أنه لا ينقض، وإنما جاء الفرق بين القسمة والقبض وسائر التصرفات؛ لأنه ليس في القبض والقسمة إبطال حق الشفيع في الأخذ (171أ3) بمثل الثمن الأول من المشتري الأول إلا بعد إعادته إلى ملكه ولا يمكن إعادته إلى ملك المشتري الأول ولا ينقض تصرفاته. ذكر «القدوري» : في «شرحه» ، روى عن أبي حنيفة: أن الشفيع إنما يأخذ النصف الذي أصاب المشتري إذا وقع في جانب الدار المشفوع بها؛ لأنه إذا وقع في غير جانبه وليس له نقض القسمة لا يكون جاراً فلا يستحق الشفعة. وفي «القدوري» : الدار إذا كانت مشتركة بين رجلين باع أحدهما نصيبه من رجل وقاسم المشتري الشريك الذي لم يبع، ثم حضر الشفيع فله أن ينقض القسمة. في «العيون» : رجلان اشتريا داراً وهما شفيعان ولها شفيع ثالث فاقتسماها، ثم جاء الثالث فله أن ينقض القسمة اقتسماها بقضاء أو بغير قضاء. في «فتاوى الفضلي» : رجل اشترى أرضاً قيمتها مائة بمائة فرفع منها التراب وباعها بمائة، ثم جاء الشفيع وطلب الشفعة وأخذ الأرض بنصف المائة وهو خمسون؛ لأن الثمن يقسم على قيمة الأرض قبل رفع التراب وعلى قيمة التراب الذي باعه وقيمتها سواء فيقسم الثمن عليهما نصفان، ولو كيس المشتري الأرض وأراد إعادتها على ما كانت عليه قبل أن يحضر الشفيع ثم حضر، فقال للمشتري: ارفع عنها ما أحدثت؛ لأن ذلك

الفصل التاسع: في تسليم الشفعة

المشتري ثم الجواب كما وصفنا من قبل. وفي «الكيسانيات» : يمنع المشتري عن هدم البناء وحفر البئر ونحوه في «القدوري» . لو باع نصف دار من رجل ليس بشفيع وقاسمه بأمر القاضي ثم قدم الشفيع ونصيب البائع بين دار الشفيع وبين نصيب المشتري، فإن هذا لا يبطل شفعة الشفيع؛ لأن القسمة تصرف من المشتري فلا يبطل بها حق الشفيع، ولو كان البائع باع نصيبه بعد القسمة قبل طلب الشفيع الشفعة الأولى؛ ثم طلب الشفيع، فإن قضى بالأخير جعلنا بينهما يعني بين الشفيع وبين المشتري الأول؛ لأنهما جاران لهذه البقعة، وقضى بالأولى للمشتري الأول وإن بدأ فقضى بالأولى للشفيع قضى بالأخيرة له أيضاً؛ لأنه لم يبق للمشتري الأول حق يأخذ به الشفعة. وفي «المنتقى» : رجل اشترى من رجل داراً بألف، وباعها لرجل بألفين فعلم الشفيع بالبيع الثاني ولم يعلم بالبيع الأول فخاصم فيها وأخذها بالشفعة الثاني بحكم أو بغير حكم، ثم علم بالبيع الأول ليس له أن ينقض أخذه الأول وقد بطلت شفعته في البيع الأول، وكذلك لو باعها صاحبها من رجل بألف درهم، ثم إن المشتري ناقضه البيع فيها وردها، ثم إن البيع اشتراها من ربها بالغبن وهو لا يعلم ببيعه إياها قبل ذلك، ثم علم به لم يكن له أن ينقض شراءه في الأصل. اشترى الرجل دار فهدم بناؤها، ثم بنى فأعظم الذي كان فيها يوم اشتراها فما أصاب البناء يسقط عن الشفيع وما أصاب العرصة يأخذها وينقض بناء المشتري الذي أخذت فيها، وهذا جواب ظاهر الرواية، وعلى ما روي عن أبي يوسف رحمه الله على ما بينا في ابتداء هذا الفصل لا ينقض بناء المشتري، ولكن يقوم قيمة ما بناه المشتري إن شاء ترك. الفصل التاسع: في تسليم الشفعة تسليم الشفعة قبل البيع لا يصح وبعده صحيح علم الشفيع بوجوب الشفعة أو لم يعلم؛ وعلم من أسقط إليه هذا الحق أو لم يعلم؛ لأن تسليم الشفعة إسقاط حق، ألا ترى أنه يصح من غير قبول ولا يزيد بالرد وإسقاط الحق يعتمد وجوب الحق أما لا يعتمد علم المسقط ولا علم المسقط إليه كالعتاق والطلاق ثم تسليم الشفعة لا تخلو من ثلاثة أوجه: التسليم والمال لا يجب؛ لأن هذا اعتياض عن حق التملك؛ لأنه لا حق للشفيع في الدار، وإنما له الحق أن يأخذ الدار والاعتياض عن مجرد حق التملك لا يجوز؛ ولأن حق الشفعة أو مرفرف بخلاف القياس فلا يظهر ثبوته في حق جواز الاعتياض عنه، وإما أن يسلم الشفعة على أن يأخذ نصفاً أو ثلثاً منها، وفي هذا الوجه التسليم جائز وهذا ظاهر والأخذ جائز أيضاً؛ لأنه أشياء معلومة من الدار وهو النصف أو الثلث بثمن معلوم؛

لأن ثمن نصف الدار أو ثلثه معلوم يتعين، ويكون أحد هذا النصف بحكم الشفعة لا بحكم شراء مبتدء بدليل ما ذكر في «الكتاب» . وكان لهذه الدار جار أخذ الجار منه نصف هذا النصف ولو كان هذا تسليماً في كل الدار واحداً للنصف أو الثلث بشراء مبتدء لكان الجار أولى بكل هذا النصف، وأما إن سلم الشفعة على أن يأخذ من الدار بيتاً بعينه. وفي هذا الوجه الصلح باطل، وله أن يأخذ جميع الدار بعد ذلك أو يدع؛ لأن الأخذ حصل بثمن مجهول؛ لأنه إنما يعرف ثمن بيت منها بعينه بالحرز والظن بأن يقسم الثمن على قيمة البيت وعلى قيمة ما في الدار والناس يتفاوتون في ذلك. فإن قيل: أليس لو اشترى داراً بعبد فالشفيع يأخذ الدار بقيمة العبد وقيمة العبد يعرف بالحرز والظن. قلنا قضية القياس: أن لا توجد الدار بقيمة العبد إلا أنا تركنا القياس لضرورة؛ لأن بيع الدار بالعبد وقد صح؛ لأنه بيع ما هو معلوم بثمن معلوم، وإذا صح البيع وجبت الشفعة ولا يمكن الأخذ إلا بقيمة العبد أو وجب الأخذ بالقيمة لهذه الضرورة مثل هذه الصورة لا يتأتى هاهنا؛ لأن أخذ البيت بثمن معلوم ممكن للشفيع، وليس إذا سقط اعتبار الحالة لضرورة ما يدل على أنه يسقط اعتبارها لغير ضرورة. وإذا بطل التسليم وكان الشفيع على شفعة فرق بيت هذا وبينما إذا سلم الشفعة على مال أخر حتى لا يجب المال كان التسليم جائز، وهاهنا قال: التسليم لا يصح والعرض المسمى لم يسلم للشفيع في المسألتين. والفرق: أن تسليم الشفعة على مال آخر لا يجوز له بحال فكان ذكر المال ولا ذكره بمنزلة، ولو سلم الشفعة ولم يذكر مالاً صح التسليم كذا هاهنا، أما تسليم البعض وأخذ البعض جاز بحال وهو أن يكون بدل المأخوذ معلوماً فلا يصير ذكر العوض ولا ذكره سواء فيجب اعتبار العوض، فإذا لم يسلم العوض يبقى على حقه، وإذا وهب الشفيع الشفعة أو باعها من إنسان لا يكون تسليماً هكذا ذكر في «فتاوي أهل سمرقند» ؛ لأن البينة لم تصادف محله أصلاً فليغى. وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب الشفعة قبيل باب الشهادة: إذا باع الشفعة كان ذلك تسليماً للشفعة ولا يحب المال علل فقال حق الشفعة لا يحتمل البيع؛ لأن البيع تمليك وحق (171ب3) الشفعة لا قبل التمليك، فيصير كلامه عبارة عن الإسقاط مجازاً. كبيع الزوج زوجته من نفسها وهو الصحيح، وقد ذكر محمد رحمه الله في شفعة «الجامع» وما يدل عليه، وسيأتي ذلك بعد هذا في الصحيفة التي تلي هذه الصحيفة إن شاء الله. إذا سلم الشفيع الشفعة ثم زاد البائع بعد ذلك في المبيع عبداً أو أمة كان للشفيع أن يأخذ الدار بحصتها من الثمن؛ لأن الزيادة ملتحق بأصل العقد، فتبين أن حصة الدار من الثمن أقل مما علم الشفيع في الباب الأول من شفعة «الواقعات» .

وفي هذا الباب أيضاً: إذا سلم الشفيع الشفعة ثم حط البائع من الثمن شيئاً فله الشفعة؛ لأن الحط ملتحق بأصل العقد فصار كما لو أخبر بالبيع بألف فسلم، فإذا البيع بألف فسلم، فإذا البيع بخمسمائة إذا قال الشفيع: سلمت شفعة هذه الدار، كان تسليماً صحيحاً، وإن لم يعين أحداً، وكذلك لو قال للبائع: سلمت لك شفعة هذه الدار، والدار في يد البائع ولو قال ذلك للبائع بعد ما سلم الدار إلى المشتري لا يصح التسليم قياساً؛ لأن قبل التسليم إلى المشتري لا يصح التسليم قياساً؛ ولأن قبل التسليم إلى المشتري إنما صح تسليم الشفعة للبائع؛ لأن للشفيع حق أخذ الشفعة من البائع، هذا المعنى لا يتأتى بعد التسليم إلى المشتري. وفي الاستحسان: يصح التسليم ويكون معنى قوله للبائع: سلمت لك سلمت لك ولأجلك، وكذلك إذا كان المشتري وكيلاً من جهة غيره بشراء الدار، فقال الشفيع: سلمت شفعة هذه الدار ولم يعين أحداً كان تسليماً صحيحاً. وكذلك لو قال للوكيل: سلمت لك شفعة هذه الدار والدار في يد الوكيل صح التسليم استحساناً؛ لأن الوكيل بالشراء في حق الحقوق كالمشتري لنفسه ثم كالبائع من موكله، ولو سلم الشفيع الشفعة للبائع، كان الجواب فيه على التفصيل الذي ذكرنا كذا هاهنا، إذا قال أجنبي لشفيع الدار: سلم شفعة هذه الدار للآمر أو قال: لهذا المشتري فقال المشتري الشفيع: سلمتها لك، أو قال: وهبتها لك، أو قال: أعرضت عنها لك، كان هذا تسليماً صحيحاً للآمر، وللمشتري استحساناً؛ لأن كلام الشفيع خرج على وجه الجواب، فيتضمن إعادة ما في السؤال، وصار تقدير كلام الشفيع سلمتها للآمر وسلمتها لهذا المشتري. وقوله لك: معناه لأجلك، ولسبيلك بخلاف، ما لو قال الشفيع: ذلك الأجنبي ابتداء، حيث لا يكون تسليماً؛ لأنه لا يمكن أن يجعل ذلك تسليماً للآمر ليصح إسقاطا، فلو صح صح تمليكاً من الأجنبي، ولا وجه إليه ثم في الفصل الأول ذكر من جملة ألفاظ الشفيع وهبتها لك وذكر أنه تسليم للشفعة فتصير هذه المسألة حجة لشمس الأئمة السرخسي رحمه الله في مسألة بيع الشفيع الشفعة التي يقدم ذكرها إذا قال أجنبي: صالحتك على كذا على أن تسلم الشفعة فسلم كان التسليم صحيحاً، ولا يحب المال ولو قال: صالحتك على كذا على أن تكون الشفعة لي، كان الصلح باطلاً، فهو على شفعته. والفرق: أن في المسألة الأولى، الشفيع سلم الشفعة صريحاً بالمال، وتسليم الشفعة بالمال صحيح، وإن لم يجب المال، وفي هذه المسألة ما سلم الشفعة بل أقام الشفيع مقام نفسه في الشفعة، وإنما يقوم الأجنبي مقامه في الشفعة إذا هي له الشفعة، إذا قال البائع: سلمت لك بيع هذه الدار، أو قال للمشتري: سلمت لك شراء هذه الدار فهو تسليم صحيح؛ لأن تسليمه ينصرف إلى ما هو حقه؛ لأن ما ليس بحق له فهو مسلم للبائع والمشتري بدون تسليمه، وحقه في هذا البيع والشراء الشفعة، وصار تقدير كلامه: سلمت لك شفعة هذه الدار، وإذا كان المشتري وكيلاً عن غيره بالشراء فقال له الشفيع: سلمت

الفصل العاشر: في الشفيع

لك شفعة هذه الدار خاصة دون غيرك، كان هذا تسليماً صحيحاً للأمر، ولو قال: سلمتها لك إن كنت اشتريتها لنفسك، لا يكون تسليماً. وكذلك لو قال الشفيع للبائع: سلمت الشفعة لك إن كنت بعتها من فلان لنفسك، وكان باعها لغيره لم يكن ذلك تسليماً، هذه الجملة من الباب الأول من شفعة «الجامع» . في «فتاوي أبي الليث» رحمه الله: إذا قال الشفيع للمشتري: سلمت لك شفعة هذه الدار، فإذا قد اشتراها لغيره فهو على شفعته؛ لأنه رضي بالتسليم إليه لا إلى الموكل. وفي «فتاوى الفضيل» : أن هذا تسليم للآمر والمختار المذكور في «فتاوي أبي الليث» ، هكذا ذكر الصدر الشهيد. وفي «الحاوي» «الهاروني» : إذا قال المشتري: اشتريتها لنفسي فسلم الشفيع الشفعة، ثم ظهر أنه اشتراها لغيره، قال محمد رحمه الله: تبطل شفعته، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا تبطل. الفصل العاشر: في الشفيع إذا أخبر بالبيع فسلم ثم علم أن البيع كان بخلافه إذا أخبر الشفيع أن المشتري فلان فسلم الشفعة، فإذا المشتري غيره فهو على شفعته؛ لأنه رضي بجوار شخص معين، فلا يكون راضياً بجوار غيره؛ ولأنه سلم شفعته عقد لم يعقد بعد؛ لأنه سلم شفعة زيد، وزيد لم يعقد فلم يصح تسليمه، ولو كان المشتري فلاناً ومعه غيره بطلت شفعته في نصيب الذي سلم وأخذ نصيب غيره. ألا ترى أنه لو سلم وكان عالماً بالشريك الأخر لم يكن تسليماً للشريك الأخر، فإذا سلم يعلم أولى، ولو أخبر أن الثمن ألف فسلم، فإذا الثمن أقل من ذلك فهو على شفعته، ولو كان الثمن ألف أو أكثر، فلا شفعة له؛ لأن الرضا بالتسليم بألف لا يكون رضاً بالتسليم بخمسمائة، أما الرضا بالتسليم بألف رضي بالتسليم بأكثر من الألف، ولو أخبر أن الثمن شيء مما يكال أو يوزن فسلم الشفعة، فإذا الثمن صنفٌ آخر مما يكال أو يوزن، فهو على شفعته على كل حال، سواء كان ما ظهر مثل ما أخبره، أو أقل، أو أكثر من حيث القيمة؛ لأن الشراء إذا وقع بالمكيل أو الموزون فالشفيع يأخذ بمثله من جنسه، لا بالقيمة وقد تيسر على الإنسان إذا حبس، ويتعسر عليه إذا حبس أخر، ولو أخبر أن الثمن شيء من ذوات القيم فيسلم، ثم ظهر أنه كان مكيلاً أو موزوناً فهو على شفعته. هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» ، فعلى هذا القياس: لو أخبر أن الثمن ألف درهم فإذا ظهر أنه مكيل أو موزون فهو على شفعته على كل حال، ولو أخبر أن الثمن عبد. فجواب محمد رحمه الله في «الكتاب» : أنه على شفعته من غير فصل قال شيخ

الإسلام: هذا الجواب صحيح فيما إذا كان قيمة ما ظهر مثل قيمة ما أخبر أو أكثر؛ لأن الثمن إذا كان من ذوات القيم، فالشفيع إنما يأخذ الدار بقيمة الثمن دراهم أو دنانير، فكأن أخبر أن الثمن ألف درهم أو مائة دنانير فسلم ثم ظهر أن الثمن مثل ما أخبر به (172أ3) أكثر، وهناك كان التسليم صحيحاً، ولا شفعة له، ولو ظهر أنه أقل مما أخبر كان على شفعته كذا هاهنا. ولو أخبر أن الثمن عبد قيمته ألف درهم أو ما أشبه ذلك من الأشياء التي هي من ذوات القيم، ثم ظهر أن الثمن دراهم أو دنانير، فجواب محمد رحمه الله: أنه على شفعته من غير فصل بعض مشايخنا رحمهم الله، قالوا: هذا الجواب محمول على ما إذا كان ما ظهر كان أقل من قيمة ما أخبر، أما إذا كان مثل قيمة ما أخبر أو أكثر، فلا شفعة له. ومنهم من قال: هذا الجواب صحيح على الإطلاق، بخلاف المسألة المتقدمة؛ لأنه وإن كان يأخذ بالقيمة، فقد يصير مغبوناً في ذلك؛ لأن تقويم الشيء بالظن يكون قائماً سلمه حتى لا يصير مغبوناً، ولهذا المعنى ينعدم إذا كان الثمن دراهم، ولو أخبر أن الثمن عبد قيمته ألف وظهر أن قيمته أقل من الألف فله الشفعة، وإن ظهر أن قيمته ألف أو أكثر فلا شفعة. ولو أخبر أن الثمن ألف فسلم ثم ظهر أن الثمن شيء هو من ذوات القيم فلا شفعة له، إلا إذا كان قيمة الثمن أقل من ألف درهم، هكذا ذكر في «شرح القدوري» وهذه المسألة يؤيد قول المشايخ: فيما إذا أخبر أن الثمن شيء هو من ذوات القيم، فإذا هو من ذوات القيم ولكن من صنف آخر، ولو أخبر أن الثمن ألف فسلم، فإذاً الثمن مائة دينار، فلا شفعة له، إلا أن يكون قيمة الدينار ألف من الألف، هكذا ذكر القدوري في كتابه. وجعل الجواب فيه كالجواب فيما إذا ظهر أن الثمن دراهم. قال شيخ الإسلام في «شرحه» : وهو قول أبي يوسف رحمه الله وروي عن زفر: أنه على شفعته على كل حال، وهو قول أبي حنيفة، وجعل الجواب فيه كالجواب في الحنطة والشعير، قالوا: ما ذكره أبو حنيفة وزفر قياس، وما ذكره أبو يوسف استحسان. وجه قول أبي يوسف: إن الدراهم والدنانير اعتبرا جنساً واحداً في أكثر الإيجابات، حتى يكمل نصاب أحدهما بالأخر، والمكره على البيع بالدراهم مكره على البيع بالدنانير. وإذا باع شيئاً بالدراهم ثم اشتراه بأقل مما باع بالدنانير لا يجوز كما لو اشترى بالدراهم ورب الدين إذا ظفر بدنانير المديون وحقه في الدراهم، له أن يأخذ ومال المضارب إذا صار دنانير عمل نهى رب المال فيه. كما لو صار دراهم، وإنما اعتبرا جنسين في حق الربا، حتى جاز بيع أحدهما بالأخر متفاضلاً، وفي حق الإجارة حتى إذا استأجر بعشرة ثم أجر بدينار طاب له، وإن كان قيمة الدينار أكثر من عشرة دراهم، كما لو أجره بشعير وقد استأجره بحنطة فيمزج ما

يوجب المجانسة بحكم الكثرة، فكان التسليم بالدراهم تسليماً بالدنانير، إذا كانت قيمة الدنانير مثل الدراهم أو أكثر. وأبو حنيفة يقول: الدراهم والدنانير اعتبرا جنسين مختلفين في الإخبار، حتى أن الإكراه على الإقرار بالدراهم لا يكون إكراهاً على الإقرار بالدنانير، وفي بعض الإيجاب اعتبرا جنساً واحداً وفي الإخبار اعتبرا جنسين مختلفين. وفي مسألتنا: إخبار وإيجاب؛ لأن تسليم الشفعة إن كان إيجاباً إلا أن التسليم بناء على الأخبار؛ لأنه أخبر أن الثمن كذا، فإذا في أحد النوعين، فهو الإخبار اعتبرا جنسين مختلفين، وفي النوع الأخر وهو الإيجاب اعتبرا جنسين مختلفين في حق بعض الأحكام، فتمزج ما يوجب اختلاف الجنسين، فصار كالحنطة مع الشعير، ولو أخبر بشراء نصف الدار فسلم، ثم ظهر أن المشتري اشترى الكل فسلم، ثم ظهر أن المشتري اشترى النصف فلا شفعة له. قال شيخ الإسلام في «شرحه» : هذا الجواب محمول على ما إذا كان ثمن النصف مثل ثمن الكل، فإن أخبر أنه اشترى الكل بألف، فإذا ظهر أنه اشترى النصف بألف، فأما إذا أخبر أنه اشترى الكل بألف، ثم ظهر أنه اشترى النصف بخمسمائة يكون على شفعته. ومما يتعلق بمسائل الأخبار، إذا أخبر الشفيع بالشراء، فإن كان المخبر هو المشتري ثبت الشراء بخبره، سواء كان عدلاً أو لم يكن، رواه الحسن عن أبي حنيفة، حتى لو سكت بعد إخبار المشتري ولم يطلب الشفعة بطلت شفعته؛ لأنه خصم في هذا والعدالة غير معتبرة في الخصومة، وإن كان المخبر غيره. ففي رواية محمد عن أبي حنيفة: لا يثبت الشراء حتى يخبره بذلك رجلان، أو رجل وامرأتان، وفي رواية الحسن عنه: لا يثبت الشراء حتى يخبره بذلك رجلان عدلان، أو رجل وامرأتان، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا أخبره واحد يثبت الشراء بخبره حراً كان المخبر أو عبداً أو صبياً أو امرأة. إذا كان ذلك الخبر حقاً، وذكر الطحاوي في كتاب الوكالة: أن المخبر إذا كان رسولاً يثبت الشراء بخبره كيف ما كان الخبر، ولكن بعد أن بلغ الرسالة، وإن لم يكن المخبر رسولاً، وإنما أخبر من تلقاء نفسه، فإن كان المخبر رجلين عدلين أو غير عدلين أو كان رجلاً واحداً عدلاً، فإنه يثبت الشراء سواء صدقه الشفيع في ذلك أو كذبه. إذا ظهر صدق الخبر، فإن كان المخبر رجلاً واحداً غير عدل، فإن صدقه الشفيع في ذلك يثبت الشراء بخبره، وإن كذبه لا يثبت الشراء بخبره، وإن صدق الخبر عند أبي حنيفة وعندهما: يثبت الشراء بخبره إذا ظهر صدق الخبر والله أعلم.

الفصل الحادي عشر: فيما يحدث الشفيع مما يبطل شفعته

الفصل الحادي عشر: فيما يحدث الشفيع مما يبطل شفعته إذا ساوم الشفيع الدار من المشتري، أو سأل منه أن يوليه، إياه أو استأجرها الشفيع من المشتري، أو كان أرضاً أو كرماً وأخذها مزارعة أو معاملة وذلك بعد العلم بالشراء فهو تسليم الشفعة؛ لأن هذه المعاني دليل الإعراض. وكذلك لو قال المشتري للشفيع أو ليهكها بكذا، فقال الشفيع: نعم؛ لأن قول الإنسان نعم في موضع الخطاب يتضمن إعادة ما في الخطاب، وكأن الشفيع قال: ولي. وفي «المنتقى» : مساومة الشفيع بداره لا يبطل معناه، إذا ساومها بالبيع، إذا قال الشفيع: سلمت نصف الشفعة بطلت شفعته في الكل؛ لأن الشفعة لا تتجزء في حق التسليم؛ لأنه لا يملك أن يأخذ البعض دون البعض، وذكر البعض ما لا يتجزء كذكر الكل، هكذا ذكر في «الأصل» ، وذكر في القدوري: أن الشفيع إذا طلب نصف الدار بالشفعة فهذا تسليم منه في الكل في قول محمد، إلا أن يكون طلب الكل فلم يسلم المشتري فقال: اعطني نصفها على أن أسلم لك النصف، أو قال: اعطني نصفها وأسلم لك نصفها فهذا لا يكون (172ب3) تسليماً، وقال أبو يوسف: لا يكون تسليماً على كل حال. وتبين ما ذكر القدوري إن ما ذكر في «الأصل» قول محمد، وذكر الصدر الشهيد في الباب الأول من «واقعاته» : دار بيعت ولها شفيعان أحدهما غائب وطلب الحاضر نصف الدار، على حسبان أنه لا يستحق إلا النصف بطلت شفعته، وكذلك لوكانا حاضرين وطلب كل واحد منهما نصف الدار بطلت شفعة كل واحد منهما، ولم يحكم خلافاً، وإن قول محمد على ما ذكره القدوري ذكر رحمه الله في الباب الثاني: أن الشفيع إذا قال: سلم لي نصفها بالشفعة لا يبطل شفعته، وأنه قول أبي يوسف على ما ذكره «القدوري» . وإذا باع الشفيع داره التي يشفع بها بعد شراء المشتري وهو يعلم بالشراء أو لا يعلم بطلت شفعته؛ لأن الاستحقاق بالجوار وقد زال الجوار قبل الأخذ فبطل الحق ضرورة، فإن رجعت إلى ملكه: بيعت بقضاء أو بخيار رؤية أو يختار شرط فليس له أن يأخذ بالشفعة؛ لأن الحق متى بطل لا يعود إلا بسبب جديد، وإن كان بيع الشفيع داره بشرط الخيار للشفيع، فهو على شفعته ما لم يوجب البيع؛ لأن الجوار لم يزل، وإن كان بيعه نصفه الفساد وقبضها المشتري بطلت شفعته؛ لأن ملكه قد زال، وإن كان الشفيع شريكاً وجاراً فباع نصيبه الذي يشفع به كان له أن يطلب الشفعة بالجوار، هذا إذا باع الشفيع كل داره، وإن باع بعض داره سيأتي ذلك في فصل المتفرقات إن شاء الله تعالى.w إذا سلم الشفيع على المشتري ثم طلب الشفعة صح طلبه، قال هشام: قلت لمحمد رحمه الله: من يقول إذا بدأ الشفيع بالسلام على المشتري يبطل شفعته؟ فأنكر ذلك، ولو كان المشتري واقفاً مع الابن فسلم الشفيع على ابن المشتري بطلت شفعته، بخلاف ما إذا

سلم على المشتري محتاج إليه؛ لأنه يحتاج إلى التكلم معه، ومفتتح الكلام السلام قال عليه السلام: «من كلم قبل السلام فلا تجيبوه» فيصير ذلك عذراً، فأما السلام على ابن المشتري غير محتاج إليه، فلا يصير ذلك عذراً. إذا أخبر المشتري الشفيع بالبيع فقال: من اشتراها وبكم اشتراها، فلما أخبر بذلك قال: طلبت الشفعة صح طلبه في الباب الأول من شفعة «الواقعات» . وكذلك إذا قال: الحمد لله، أو قال: سبحان الله، أو قال: الله أكبر، أو عطس المشتري فشمته، أو قال: خلصني الله من فلان، أو قال: بكم باعها ومتى باعها، لا تبطل شفعته بعض هذه الألفاظ في «العيون» ، وبعضها في شرح شمس الأئمة لو قال الشفيع للمشتري: أنا شفيعك وآخذ الدار منك فلا شفعة له؛ لأن قوله أنا شفيعك كلام لا يحتاج إليه، فصار كأنه قال: كيف أصبحت فكيف أمسيت. في «فتاوي (أهل) سمرقند» بأن وكذلك إذا قال الشفيع: الشفعة لي أطلبها وأخذها بطلت؛ لأن قوله: الشفعة لي غير محتاج إليه، فصار كما لو سكت ساعة وعلى قياس ما رواه ابن رستم في «نوادره» عن محمد: أنه إذا سكت هاهنا لا تبطل شفعته، لا يبطل هاهنا أيضاً، وكذا قياس ما روي أن له مجلس العلم، ينبغي أن لا تبطل شفعته؛ لأن هذا القدر لا يتبدل المجلس. وكذلك لو قال: شفعة مراست خواستم ومافتم فهو على هذا، وفي «نوادر أبي يوسف» رواية أبي الجعد إذا قال الشفيع للمشتري حين لقيه: كيف أصبحت، كيف أمسيت، أو سلم عليه لم تبطل شفعته، ولو عرض حاجة إليه أو سأله عن حاجته تبطل شفعته. دار بيعت فقال البائع أو المشتري للشفيع: أبرئنا عن كل خصومة لك. وقلنا: ففعل وهو لا يعلم أنه وجب له قبلهما شفعة، لا شفعة له في القضاء، وله الشفعة فيما بينه وبين الله تعالى إن كان بحال، لو علم بذلك لأمر بهما، وهو نظير ما لو قال رجل لأخر: إجعل لي في حل، ولم يبين ماله قبله فجعله في حل، فإنه يصير في حل ولا يبقى له في القضاء شيء، ويبقى فيما بينه وبين الله تعالى إذا كان بحال أو علم بذلك الحق لا يريه. في «فتاوى أبي الليث» : إذ قال الشفيع للمشتري: شفاعة صحواهم بطلت شفعته، هكذا ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» ، وعلى قياس ما ذكرنا عن الفقيه أبي جعفر: أنه إذا طلب الشفعة بأي لفظ من يفهم طلب الشفعة يجوز، ينبغي أن يقال في هذه المسألة: إذا كان الشفيع من أهل مسلة يطلبون الشفعة بهذا اللفظ لا تبطل شفعة الشفيع، إذا صلى بعد الظهر ركعتين لا تبطل شفعته، وإذا صلى أكثر من ذلك تبطل شفعته، وإن صلى بعد الجمعة أربع ركعات لا تبطل شفعته، وإن صلى أكثر من ذلك تبطل شفعته؛ لأن الأكثر

الفصل الثاني عشر: في الخلاف الواقع بين الشفيع والمشتري والشهادة في الشفعة

ليس بمسنون، فلا يصير عذراً في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله. وفي «واقعات الناطفي» : الشفيع إذا علم بالبيع وهو في التطوع فجعلها أربعاً أو ستاً، فعن محمد رحمه الله: أنه لا تبطل شفعته، قال الصدر الشهيد: والمختار أنه تبطل شفعته؛ لأنه غير معذور، بخلاف ما إذا كان في الأربع قبل الظهر فأتمها أربعاً؛ لأن الأربع مسنون فكان معذوراً. والدليل على الفرق: أنه إذا طلب المواثبة وترك طلب الإشهاد وافتتح التطوع تبطل شفعته، ولو افتتح الركعتين بعد الظهر والأربع بعد الجمعة لا تبطل والله أعلم. الفصل الثاني عشر: في الخلاف الواقع بين الشفيع والمشتري والشهادة في الشفعة إذا اشترى الرجل دارا وقبضها ونقد الثمن، ثم اختلف الشفيع والمشتري في الثمن، فالقول قول المشتري مع يمينه ولا يتحالفان؛ لأن الشفيع مع المشتري ينزل منزلة المشتري مع البائع، ولو وقع الاختلاف بين البائع والمشتري في الثمن والبيع في يد البائع، كان القول قول البائع مع يمينه؛ لأن المشتري يدعي عليه التملك بألف وهو ينكر، إلا أن البائع والمشتري يتحالفان وهاهنا الشفيع لا يحلف؛ لأن هناك البائع يدعي على المشتري زيادة ألف والمشتري ينكر وهاهنا المشتري لا يدعي على الشفيع شيئاً؛ لأنه لم يجب له على الشفيع شيء حتى يحلف الشفيع، وأيهما ما أقام بينته قبلت بينته، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الشفيع عند أبي حنيفة ومحمد رحمه الله، وعند أبي يوسف رحمه الله: البينة بينة المشتري. فوجه قوله: إن الشفيع مع المشتري ينزل منزلة المشتري مع البائع؛ لأن الشفيع يتملك الدار من جهة المشتري كما أن المشتري يتملكه من جهة البائع، ثم إذا وقع الاختلاف على هذا الوجه بين البائع والمشتري، وأقاما البينة بينة البائع؛ لأنها تثبت الزيادة. ودليله: إذا وقع الاختلاف على هذا الوجه بين البائع والمشتري والشفيع، قال الشفيع: الثمن ألف، وقال المشتري: ألفين (173أ3) وقال البائع: ثلاثة آلاف، وأقاموا البينة، فالبينة بينة البائع؛ لأنها تثبت الزيادة كذا هاهنا. وكذلك الوكيل بالشراء مع الموكل إذا اختلفوا في مقدار الثمن وأقاما البينة فالبينة بينة الوكيل؛ لأنها تثبت زيادة في الثمن. ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله طريقتان: أحدهما: أن العمل بالبينتين هاهنا ممكن، فلا يصار إلى الترجيح، بيان الإمكان أنا نجعل كأنه اشترى مرة بألف ومرة بألفين، فكان الشفيع أن يأخذ بالألف. ألا ترى أنه لو ثبت ذلك معاينة، أو بإقرار المشتري بأن أقر المشتري مرة أنه اشترى

مرة بألف ومرة أخرى إنه اشترى بألفين، كان للشفيع أن يأخذ بألف، ولا يقال: بأن العقدين إذا ثبتا بالمعاينة، وبالإقرار يجعل كل واحد منهما ثابتاً في حق الشفيع، أما إذا ثبت العقد بالألفين بالبينة لا يعتبر العقد بألف ثابتاً في حق الشفيع ويجعل العقد بألفين ناسخاً له. ألا ترى أن المشتري لو أقر بالشراء بألف وأخذ الشفيع الدار بألف، ثم أقام البائع بينة إن البيع كان بألفين، كان للمشتري أن يرجع على الشفيع بالألف الأخرى، لأنا نقول: نعم الأمر كما قلتم، إلا أن هاهنا العقد بألفين لم يثبت بالبينة؛ لأن بينة المشتري على العقد بألفين غير منقولة؛ لأن بهذه البينة لا يسقط اليمين عن نفسه؛ لأن اليمين عنه ألا ترى أن بعد ما أقام الشفيع البينة بألف لا يحلف المشتري، وإن لم يكن للمشتري بينة، ولا يلزم بهذه البينة الشفيع زيادة ألف؛ لأن للشفيع أن يترك الأحد بألفي درهم، وإن لم يكن بينة المشتري مقبولة على البيع بألفين، كان البيع بألفين ثابتاً بإقرار المشتري، فلا ينفسخ بالبيع بألف، فيحمل كلاماً ثابتاً في حق الشفيع بخلاف ما إذا وقع بين البائع والمشتري؛ لأن هناك العقد بألفين ثابت ببينة البائع؛ لأن بينة البائع على العقد بألفين مقبولة؛ لأنه بهذه البينة يلزم المشتري الألف الزائدة، وبخلاف ما إذا اختلفوا جميعاً؛ لأن بينة البائع على الزيادة مقبولة؛ لأنها توجب الزيادة على المشتري فكان البيع بالزيادة ثابتاً بالبينة، فينفسخ البيع بما دونه في حق العاقد والشفيع. وأما الوكيل مع الموكل، إذا اختلفا فقد روى ابن سماعة عن محمد: أن البينة بينة الموكل، وفي ظاهر الرواية البينة بينة البائع الوكيل؛ لأن الوكيل مع الموكل ينزل منزلة البائع مع المشتري وقد ذكرنا العذر. ثمة الطريق الثاني: أن بينة الشفيع ملزمة المشتري تسليم المشتري شاء أو أبى، وبينة المشتري، غير ملزمة بل هو مخير بين الأخذ والترك، والبينات في الأصل شرعت للإلزام، فما كانت ملزمة كانت أولى بالقبول، بخلاف البائع مع المشتري، كان هناك بينة كل واحد منهما ملزمة، وبخلاف الوكيل مع الموكل؛ لأن بينة كل واحد منهما ملزمة فاستويا من هذا الوجه، فصرنا إلى الترجيح بالزيادة. وإذا اختلف البائع والمشتري والشفيع في الثمن قبل نقد الثمن، فهذا على الوجهين: الأول: أن تكون الدار في يد البائع وفي هذا الوجه ينظر إن كان ما قاله البائع أقل مما قالا: فالقول قول البائع، ويأخذ الشفيع ذلك من غير يمين على واحد، وإن كان ما قاله البائع أكثر مما قالا، فالبائع مع المشتري يتحالفان، فبعد ذلك إن نكل البائع فالشفيع يأخذ بألفين؛ لأن النكول بمنزلة الإقرار، فكأن البائع أقر بالبيع بألفين بعد ما ادعى البيع بثلاثة آلاف، وإن نكل المشتري لزمه ثلاثة آلاف درهم، والشفيع يأخذ بالثلاث آلاف إن شاء، وليس له أن يأخذه بألف درهم، وإن أقر المشتري أن الشراء كان بألفي درهم؛ لأن

النكول من المشتري في حق الشفيع بمنزلة البينة، كما أن النكول من الوكيل بالبيع إذا أراد المشتري أن يرد عليه بالعيب بمنزلة البينة، وسيأتي ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى. ولو ثبت بالبينتان البيع كان بثلاثة آلاف بعد ما أقر المشتري بالشراء بألفي درهم، أخذ الشفيع الدار بثلاثة آلاف درهم، وليس له أن يأخذه بألفي درهم بإقرار المشتري؛ لأنه صار مكذباً في إقراره كذا هاهنا، وإن حلفا وطلبا الفسخ من القاضي أو طلب الثاني، إذا كانت الدار في يد المشتري. والجواب فيه نظير الجواب، فيما إذا كانت الدار في يد البائع، وإذا كانت الدار في يد المشتري فقال البائع: بعتها إياه بألف درهم واستوفيت الثمن، وقال المشتري: اشتريتها بألفين، فالقول قول البائع، ويأخذ الشفيع بألف درهم وبمثله لو قال: بعتها منه واستوفيت الثمن وهو ألف درهم، وقال المشتري: اشتريتها بألفين أخذها بألفين. والفرق: أنه إذا بدأ بالإقرار بالاستيفاء لا يصح منه بيان مقدار الثمن بعد ذلك؛ لأنه لم يبق بعد استيفاء الثمن وتسليم الدار إلى المشتري ذو خط من هذا العقد، بل صار كالأجنبي، ولو أن أجنبياً بين مقدار الثمن لا يصح بيانه كذا هاهنا، وإذا بدأ ببيان مقدار الثمن لا يصح منه الإقرار باستيفاء بعد ذلك؛ لأن قبل الإقرار بالاستيفاء ثبت للشفيع حق الأخذ بذلك المقدار، وبالإقرار بالاستيفاء يبطل ذلك الحق على الشفيع؛ لأن بالإقرار بالاستيفاء تبين أن مقدار الثمن منه لم يصح؛ لأنه لم يبق ذو خط من هذا العقد، فلم يصح الإقرار بالاستيفاء صيانة لحق الشفيع، وإذا لم يصح الإقرار بالاستيفاء، بقي بيان مقدار الثمن صحيحاً؛ لأنه بين مقدار الثمن، وهو ذو خط في هذا العقد؛ لأن له الاستيفاء بحكم هذا العقد. قال القدوري: وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن المبيع إذا كان في يد البائع فأقر بقبض الثمن وزعم أنه ألف، فالقول قوله؛ لأن التملك يقع على البائع، فيرجع إلى قوله. في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد رحمه الله: رجل اشترى من رجل داراً، ولها شفيعان، فأتاه أحدهما بطلت شفعته، فقال المشتري: أني اشتريتها بألف، وصدقه الشفيع في ذلك، وأخذها بألف، ثم إن الشفيع الثاني جاء وأقام بينته، أن المشتري اشترى بخمسمائة، فالشفيع الثاني يأخذ من الشفيع الأول نصفها، ويدفع إليه مائة درهم وخمسين، ويرجع الشفيع الأول على المشتري بمائة وخمسين، ويبقى في يد الشفيع الأول نصف الدار بخمسمائة؛ لأنه صدق المشتري على ما أخذها به. وفيه أيضاً: رجل اشترى من رجل داراً وقبضها، فجاء الشفيع بطلت الشفعة، فقال المشتري: اشتريتها بألفين وقال الشفيع: (173ب3) لا بل اشتريت بألف، ولم يكن للشفيع بينة وحلف المشتري على ما ذكر، وأخذه الشفيع بألفي درهم، ثم قدم شفيع أخر وأقام بينة على الشفيع الأول، أن البائع باع هذه الدار من فلان بألف، فإنه يأخذ نصف

الدار بخمسمائة، ويرجع الشفيع الأول على المشتري بخمسمائة، حصة النصف الذي أخذه الثاني ويقال للشفيع الأول: إن شئت أعد البينة على المشتري من قبل النصف الذي في يدك، وإلا فلا شيء لك؛ لأن الشفيع الثاني إنما يستحق ببينته نصف الدار، هكذا ذكر في «الكتاب» . ومعنى المسألة: أن الشفيع الأول لو قال للمشتري: أن الشفيع الثاني أثبت البينة أن الشراء كان بألف فيكون بمقابلة النصف الذي في يدي خمسمائة، فلي أن أرجع عليك بخمسمائة، ليس له ذلك إلا إذا أعاد البينة أن الشراء كان بألف، لما أشار إليه في «الكتاب» : أن الشفيع الثاني إنما استحق ببينته نصف الدار. ومعناه: أن بينة الشفيع الثاني لما عمل في نصف الدار ثبت الشراء بألف في حق ذلك النصف الذي استحقه الشفيع الثاني، لا في حق النصف الذي في يد الشفيع الأول فيحتاج الشفيع الأول، إلى إعادة البينة، لثبت الشراء بالألف في النصف الذي في يديه، فيستحق الرجوع على المشتري بالخمسمائة الزائدة. في القدوري: اتفق البائع والمشتري أن البيع كان يشترط الخيار للبائع، وأنكر الشفيع فالقول قولهما، في قول أبي حنيفة ومحمد، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمهم الله: ولا شفعة للشفيع؛ لأن البيع ثبت بإقرارهما، وإنما ثبت على الوجه الذي أقربه، وفي إحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله: القول قول الشفيع؛ لأن الأصل في البيع البات، فكان الشفيع متمسكاً بالأصل. وفي «الجامع» : إذا ادعى البائع الخيار وأنكر المشتري والشفيع، فالقول قول المشتري استحساناً؛ لأن الخيار لا يثبت إلا بالشرط والمشتري ينكر، وذكر في «النوادر» : أن القول قول البائع وهو الصحيح، وكذا لو ادعى المشتري الخيار، وأنكر البائع والشفيع ذلك، فالقول قول البائع: ويأخذها الشفيع. لما قلنا في «فتاوى الفضلي» : رجلان تبايعا، وطلب الشفعة يحضر بهما فقال البائع: سنتابع معاملة، وصدقه المشتري على ذلك، لا يصدقان على الشفيع؛ لأنهما أقرا بالأصل البيع فيكون القول قول من يدعي الجوار، إلا إذا كان الحال يدل عليه، بأن كان المنزل كثير القيمة وقد بيع بثمن لا يباع مثله بمثله، فحينئذ يكون القول قولهما ولا شفعة للشفيع. ألا ترى أن في الوجه الأول: لو اختلف البائع والمشتري في هذه الصورة فقال البائع: بعت معاملة، وقال المشتري: اشتريت لا معاملة، كان القول قول المشتري، وفي الوجه الثاني: لو اختلفا كان القول قول البائع في «المنتقى» . باع داراً من رجل ثم إن المشتري والبائع تصادقا أن البيع كان فاسداً، وقال الشفيع: كان جائزاً فالقول قول الشفيع، ولا أصدقهما على فساد البيع في حق الشفيع بشيء لو ادعى أحدهما، وأنكر الأخر جعلت القول فيه قول الذي يدعي الصحة، وإذا زعما أن البيع كان فاسداً، جعلت القول فيه قول من يدعي الفساد، فإني أصدقهما، ولا

أجعل للشفيع شفعة، يريد بهذا أن البائع مع المشتري إذا اتفقا على فساد البيع بسبب، لو اختلف البائع والمشتري فيما بينهما في فساد العقد بذلك السبب، فالقول قول من يدعي الجوار. نحو أن يدعي أحدهما فاسداً، فإذا اتفقا على الفساد بذلك السبب لا يصدقان في حق الشفيع، وإذا اتفقا على فساد البيع بسبب لو اختلفا فيما بينهما في فساد البيع بذلك السبب كان القول. قول من يدعي الفساد، فإذا اتفقا على الفساد بذلك السبب يصدقان في حق الشفيع. وبين ذلك في «المنتقى» : فقال: لو قال المشترى للبائع: بعتها بألف درهم ورطل من خمر فقال البائع: صدقت، لم أصدقهما على الشفيع، ولو قال: بعت فيها بخمر وصدقه البائع، فلا شفعة للشفيع، هذا هو لفظ «المنتقى» . وجعل القدوري في كتابه المذكور في «المنتقى» قول أبي يوسف في إحدى الروايتين عنه، قال القدوري: لأن أبا يوسف على هذه الرواية يعتبر هذا الاختلاف بالاختلاف من المتعاقدين، ولو اختلف المتعاقدان فيما بينهما فقال المشتري: بعت منها بألف درهم ورطل من خمر، وقال البائع: لا بل بعتها بألف درهم، فالقول قول البائع. ولو قال المشتري: بعت منها بخمر وخنزير، وقال البائع: بعتها بألف درهم، فالقول قول البائع؛ لأن البيع بخمر لا جواز له بحال، وإنما يجعل القول قول من يدعي الجواز في عقد له جواز بحال، بخلاف البيع بأجل فاسد، أو بألف ورطل من الخمر، فأما على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: إذا اتفقا على الفساد وكذبهما الشفيع فلا شفعة للشفيع على كل حال، كما لو اتفقا على البيع بشرط الخيار للبائع، وكذبهما الشفيع فيه. في «فتاوى الفضلي» : رجل اشترى من رجل ضيعة عشرها بثمن كثير وتسعة أعشارها بثمن قليل، فللشفيع الشفعة في البيع الأول، ولا شفعة له في البيع الثاني، وهو من جملة الحيل، وسيأتي ذلك في فصل الحيل لأبطال الشفعة إن شاء الله تعالى. فإن أراد الشفيع أن يحلف المشتري بالله ما أراد به إبطال شفعة لا يحلف؛ لأنه ادعى عليه معنى لو أقر به لا يلزمه، ولو ادعى الشفيع أن البيع الأول كان تلجئة، وأراد أن يحلف المشتري بالله، أن البيع الأول ما كان تلجئة، فله ذلك؛ لأنه يدعي عليه معنى لو أقر به يلزمه، وهو تأويل ما ذكر في كتاب الشفعة إذا أراد الاستحلاف، إنه لم يرد به إبطال الشفعة، إن له ذلك إذا ادعى أن البيع كان بيع تلجئة. وقد ذكرنا في الفصل المتقدم: أن المشتري إذا كان واقفاً مع ابنه فسلم الشفيع على المشتري لا تبطل شفعته، فلو سلم الشفيع على المشتري لا تبطل شفعته، فلو سلم على أحدهما بأن قال: السلام عليك ولا يدري على من سلم، سئل الشفيع إنه سلم على الأب أو على الابن، فإن قال: على الأب، لا تبطل شفعته، وإن اختلفا فقال المشتري: سلمت على ابني وقد بطلت شفعتك، وقال الشفيع: سلمت عليك، فالقول قول الشفيع؛ لأن حاصل اختلافهما في بطلان حق الشفيع، فالمشتري يدعي عليه بطلان حقه وهو ينكر.

في «المنتقى» : اشترى داراً لابنه (174أ3) الصغير وقبضها، ثم اختلف المشتري والشفيع في الثمن، قال: لا يحلف المشتري. وفي الدعوى من «الفتاوى» : جاء الشفيع يخاصم المشتري فأنكر الشراء، وأقر أن الدار لابنه الصغير ولا بينة للشفيع على شرائه، قال: لا يمين على المشتري؛ لأنه قد لزمه الإقرار لابنه، فلا يجوز الإقرار لغيره. في «الأجناس» : إذا قال المشتري: اشتريت هذه الدار لابني الصغير، وأنكر شفعة الشفيع فلا يمين على المشتري إن كان الشفيع أقر أن له ابن صغير. وفي «الواقعات» : إذا قال الشفيع: إنما قال المشتري ذلك ليدفع اليمين عن نفسه فحلفه أنها القاضي أنه ما اشتراها لنفسه فلا يمين عليه، وأنكر الشفيع أن له ابن، يحلف المشتري بالله ما يعلم أنه له ابن صغير، وإن كان الابن كبيراً وقد سلم الدار إليه، دفع عن نفسه الخصومة، وقبل تسليم الدار هو خصم للشفيع، ذكرها في «الأجناس» . وفي «الأصل» : إذا اشترى داراً وقبضها وهدم بناؤها أو أحرقه أو فعل ذلك رجل أجنبي حتى سقط عن الشفيع حصة البناء من الثمن، يقيم الثمن على قيمة الأرض أو على قيمة البناء مبنياً يوم اشتراها، فما أصاب الأرض أخذها بذلك، فإن اختلفا في قيمة البناء، فقال: المشتري كان قيمة البناء ألف درهم، وقيمة العرض ألف درهم فسقط نصف الثمن، وقال الشفيع: كان قيمة البناء ألفي درهم، فسقط ثلثا الثمن، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه حاصل اختلافهما في ثمن العرصة فالمشتري يقول: اشتريت العرصة بنصف الثمن، والشفيع يقول: اشتريت بثلثي الثمن، فيكون القول قول المشتري مع يمينه. كما لو اختلفا في مقدار الثمن لا في قيمة البناء كان القول قول المشتري مع يمينه على ما مر كذا هاهنا، وأيهما تفرد بإقامة البينة قبلت بينته، وإن أقام البينة فالبينة بينة المشتري في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله. فأبو يوسف مر على أصله، ومحمد فرق فقال: إذا اختلفا في قدر قيمة البناء، وإقامة البينة، فالبينة بينة المشتري، وقال: إذا اختلفا في مقدار الثمن، وأقاما البينة، فالبينة بينة المشتري، وقال: إذا اختلفا في مقدار الثمن وأقاما البينة فالبينة بينته الشفيع، واضطربا في قول أبي حنيفة رحمه الله. قال أبو يوسف قياس قول أبي حنيفة: إن البينة بينة الشفيع كما لو اختلفا في مقدار الثمن وأقاما البينة، وقال محمد رحمه الله: قياس قوله: أن البينة بينة المشتري، بخلاف ما لو اختلفا في مقدار الثمن، وأقاما البينة في الأصل. إذا اشترى الرجل داراً من امرأة فلم يجد من يعرفها لا من له الشفعة، فإن شهادتهم لا تجوز عليها إذا أنكرت الشراء، وكذلك إذا كان البائع رجلاً وجحد البيع بعد ذلك وشهد الشفيعان عليه بالبيع، لا تقبل شهادتهما. وهذا إذا كانا يطلبا الشفعة؛ لأنه إذا كان كذلك كانا جارين إلى نفسهما مغنماً بهذه

الشهادة، وهو حق الشفعة؛ ولأنهما إذا طلبا الشفعة فقد صارا خصماً؛ لأنهما أظهرا الخصومة بطلبهما الشفعة، وشهادة الخصم لا يقبل، فأما إذا سلما الشفعة ثم شهدا بالبيع قبلت شهادتهما هكذا ذكر في «الكتاب» ، ولم يفصل قال مشايخنا رحمهم الله: ويجب أن يكون الجواب فيه التفصيل. إن سلما الشفعة قبل أن يطلبا، ثم شهدا تقبل شهادتهما؛ لأنهما جران إلى نفسهما مغنماً بهذه الشهادة، ولم يصيرا خصماً في هذا الحادث، وإن سلما الشفعة بعد ما طلبها لا يقبل شهادتهما؛ لأنهما صارا خصماً فيما شهدا؛ لأنهما أظهرا الخصومة حين طلب الشفعة، ومن صار خصماً في حادثة لا تقبل شهادته في تلك الحادثة، وإن لم يبق خصماً فيها كالوصي إذا شهد لليتيم بعد ما عزل، فإنه لا يقبل شهادته، وإن لم يكن خصماً فيما شهد وقت الشهادة؛ لأنه كان خصماً فيه قبل ذلك، فإن قيل قبل الطلب: إن لم يصيرا خصمين حقيقية لعدم الخصومة فهما حقيقة، فقد صار الخصمين حكماً فوجوب حق الشفعة لهما بنفس البيع؛ وهذا لأن الإنسان كما يصير خصماً بوجود الخصومة منه حقيقة يصير خصماً بوجوب الحق له، من غير أن يوجد منه الخصومة كما في الوصي. فإنه إذا شهد للصغير بمال قبل أن يخاصم في ذلك، فإنه لا يقبل شهادته، وإنما لم يقبل لصيرورته خصماً. والجواب هذا هكذا إذا كان الحق الذي وجب حقاً لازماً، كما في الوصي، فإن الحق ثابت له فيما شهد بنفس الوصاية، بحيث لا يمكنه دفعه، فأما حق الشفيع ليس بلازم، فإنه مخير بين الأخذ والترك فلا يكفي هذا الحق لصيرورته خصماً، بل يشترط إظهار الخصومة، هذا إذا كان البائع يدعي الشراء والمشتري ينكر. وإن كان المشتري يدعي الشراء، والبائع ينكر، فشهد الشفيعان بالبيع على المشتري لا تقبل شهادتهما أيضاً، إذا كانا يطلبان الشفعة. وفي المسألة نوع أشكال؛ لأن حق الشفعة هاهنا ليس تثبت بشهادتهما، إنما يثبت بإقرار البائع، والجواب: أنهما إن كانا لا يثبتان حق الشفعة؛ لأنفسهما، يثبتان؛ لأنفسهما حق الأخذ من المشتري وإلزام المشتري العهدة متى أخذا منه، غير أن في هذه الصورة لهما أن يأخذا الدار بالشفعة بإقرار البائع بالبيع بخلاف الفصل الأول. وإن شهد أبناء البائع على الشفيع بتسليم الشفعة فهذا على وجهين: الأول: أن تكون الدار في يد البائع، وفي هذا الوجه وإن كان البائع يدعي تسليم الشفعة لا يقبل شهادتهما، وإن كان يجحد، تقبل شهادتهما؛ لأن هذه الشهادة على أمر للأب فيه منفعة من وجه، بأن كان المشتري أملاء من الشفيع، ومضر من وجه بأن كان الشفيع أملاء من المشتري وترجح جانب النفع بالدعوى، وجانب الضرر بالجحود. والوجه الثاني: أن تكون الدار في يد المشتري، وفي هذا الوجه يقبل شهادتهما؛ لأنهما بهذه الشهادة لا يُجران إلى أنهما مغنماً ولا يدفعان عنه مغرماً؛ لأنه خرج من البين، بتسليم الدار إلى المشتري فيقبل شهادتهما.

ثم فرق بين شهادة ابني البائع، وبين شهادة البائعين فقال: إذا شهد البائعان على الشفيع بتسليم الشفعة لا يقبل شهادتهما، وإن كانت الدار في يد المشتري. وقال: إذا شهد ابنا البائع بذلك والدار في يد المشتري يقبل شهادتهما. والفرق: أن شهادة البائعين إنما لم تقبل؛ لأنهما كانا خصمين في هذه الدار قبل التسليم إلى المشتري، ومن كان خصماً في شيء لا يقبل شهادته فيه، وإن لم يبق خصماً، أما أبناء ما كانا خصمين في هذه الدار حتى لا تقبل (174ب3) شهادتهما من هذا الوجه، لو لم يقبل، إنما يقبل إذا جرى إلى أيهما مغنماً أو دفعا عنها مغرماً، ولم يوجد هذا إذا شهد ابنا البائع على الشفيع بتسليم الشفعة، فأما إذا شهدا على المشتري بتسليم الدار إلى الشفيع، فإنه لا يقبل شهادتهما، سواء كانت الدار في يد الأب أو في يد المشتري؛ لأنهما يبعدان العهدة عن الأب هذه الشهادة، فإنه إذا ورد الاستحقاق على المشتري فالمشتري يرجع على البائع، وإذا ورد الاستحقاق على الشفيع فالشفيع يرجع على المشتري، يرجع على البائع وبتعيد العهدة منفعة، فكانت هذه الشهادة للأب، وسواء ادعى الأب ذلك أو لم يدع لا يقبل شهادتهما؛ لأن بتعيد العهدة منفعة محضة، وما كان منفعة محضة لا يشترط فيهما الدعوى. وإذا وكل الرجل رجلاً بشراء دار أو بيعها، فاشترى أو باع وشهد ابنا الموكل على الشفيع بتسليم الشفعة، فإن كان التوكيل بالشراء لا تقبل شهادتهما، سواء كانت الدار في يد البائع، أو في يد الوكيل، أو في يد الموكل؛ لأنهما يشهدان لأبيهما بتقرر الملك، فإن حق الشفيع إذا سقط بتقرير الملك لأبيهما، وإن كان التوكيل بالبيع، فإن كانت الدار في يد الموكل أو في يد الوكيل لا يقبل شهادتهما؛ لأن فيه تقرير العهدة لأبيهما على المشتري؛ لأن حق الشفيع متى سقط تقررت العهدة على المشتري. ومتى لم يسقط وأخذ الشفيع الدار من يد الموكل أو من يد الوكيل ينفسخ الشراء وتسقط العهدة عن المشتري، وربما يكون المشتري أصيلاً، فكان في هذه الشهادة منفعة للأب، وإن كانت الدار في يد المشتري يقبل شهادتهما؛ لأنه منفعة لأبيهما في هذه الشهادة؛ لأن العهدة متقررة على المشتري سقط حق الشفيع أو لم يسقط. وإذا شهد شاهدان للبائع والمشتري أنه قد سلم شفعته وشهد آخران للشفيع أن البائع والمشتري سلما إليه قضيت بها للذي في يديه، أشار إلى أن بينة الذي في يديه الدار وهو البائع أو المشتري أولى. وجعل هذه المسألة نظير مسألة الخارج معنى ذي اليد إذا أقاما البينة على النتاج؛ وهذا لأن الشهود شهدوا بالأمرين ولم يشهدوا بالترتيب، ويتصور وقوعهما من غير ترتيب، فيجعل كأنهما وقعا معاً، ولو وقعا معاً كان تسليم الشفعة سابقاً على تسليم الدار بالشفعة؛ لأن تسليم الشفعة وتسليم الدار تمليك والإسقاط أسرع نفاذاً من التمليك، فكان سابقاً معنى. ألا ترى أنه لو شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده وشهد آخران عليه أنه باعه

كانت بينة العتق أولى؛ لأنه سابق معنى، كذا هاهنا أقر المشتري أنه اشترى هذه الدار بألف درهم وأخذها الشفيع بذلك ثم ادعى البائع أن الثمن ألفان، وأقام على ذلك بينة قبلت بينته وكان للمشتري أن يرجع على الشفيع بألف أخرى، وإن أقر أن الثمن ألف؛ لأنه صار مكذباً في إقراره لما وجب القضاء ببينة البائع. وكذلك إذا ادعى البائع أنه باعها من هذا المشتري بعرض بعينه وأقام على ذلك بينة، فالقاضي يسمع بينته ويقضي له بذلك على المشتري ويسلم الدار للشفيع بقيمة ذلك العرض، فإن كان ما أخذ المشتري من الشفيع وذلك ألف أقل من قيمة العرض، وإن كان أكثر من قيمة العرض رجع الشفيع عليه بما زاد على قيمة العرض إلى تمام الألف. وإن كان للدار شفيعان شهد شاهدان أن أحدهما قد سلم الدار ولا يدري من هو، فالقاضي لا يقبل شهادتهما وللشفيعين أن يأخذها بالشفعة؛ لأنه لم يثبت تسليم أحدهما بهذه الشهادة. فإذا كفل رجلان المشتري الدار بالدرك، ثم شهد الكفيلان على المشتري أنه قد سلم الدار للشفيع لا يقبل شهادتهما؛ لأنهما يبعدان العهدة عن أنفسهما. وإذا اشترى الرجل داراً بعرض حتى كان للشفيع أن يأخذ بقيمة العرض على ما يأتي بيانه في موضعه. واختلفا في قيمة العرض يوم العقد، فإن كان العرض قائماً للحال ينظر إلى قيمته في الحال، ويجعل الحال حكماً على ما قبله؛ وهذا لأن قيمة ما سوى الحيوانات من العروض لا يتغير ساعة فساعة، فيمكن أن يجعل الحال حكماً على ما قبله، وإن كان العرض مستهلكاً، فالقول قول المشترى؛ لأن اختلافهما في مقدار قيمة العرض اختلاف في مقدار الثمن في الحاصل، وإن أقام أحدهما بينته قبلت بينته، وإن أقاما البينة فهذا وما لو اختلفا في قيمة البناء المحترق سواء. وإذا تزوج امرأة على دار على أن ردت على الزوج ألف درهم، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا شفعة للشفيع في شيء من الدار. وعلى قولهما: له الشفعة فيما ملك بيعاً ولا شفعة فيما ملك مهراً، وقد مر هذا في صدر الكتاب ثم عندهما إذا وجبت الشفعة فيما ملك بالبيع يقسم الدار على مهر مثلها وعلى ألف درهم، فإن كان مهر مثلها ألف انقسمت الدار عليهما نصفان، فيكون نصف الدار مهراً بإزاء البضع والنصف مبيعاً بإزاء الألف. فإن اختلفا في مهر مثلها وقت البيع، فقال الزوج: كان مهر مثلها ألف وللشفيع نصف الدار، وقال الشفيع: كان مهر مثلها خمسمائة لي ثلثا الدار، فالقول قول الزوج مع يمينه؛ إما؛ لأن الشفيع يدعي لنفسه استحقاق زيادة سدس والزوج ينكر أو؛ لأن حاصل اختلافهما في مقدار الثمن. والشفيع مع المشتري إذا اختلفا في مقدار الثمن، فالقول قول المشتري، وإن أقاما البينة فالبينة بينة المشتري عندهما كما لو اختلفا في مقدار قيمة البناء الهالك. وإذا ادعى رجل على رجل حقاً في أرض أو دار، فصالحه على دار فللشفيع فيها

الشفعة بقيمة ذلك الحق الذي ادعى؛ لأن المأخوذ منه وهو المدعي يزعم أنه ملك الدار بدلاً عما هو مال، فيكون مقراً للشفيع بالشفعة، فيؤاخذ بإقراره في حقه. فإن اختلفا في قيمة ذلك الحق فالقول قول المدعي وهو المأخوذ منه الدار؛ لأن الحاصل اختلافهما في مقدار الثمن، وإن أقاما البينة على قيمته. ذكر ههنا أن البينة بينة الشفيع عند أبي حنيفة إذا اشترى الرجل داراً بألف درهم وقبضها ونقد الثمن، ثم جاء الشفيع، فقال المشتري: قد أحدثت فيها هذا البناء، وكذبه الشفيع وقال: كان هذا البناء فيه، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه ينكر ثبوت حق الشفعة في البناء، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الشفيع؛ لأنه أشبه بالمدعين؛ لأنه يخير بين أن يدعي وبين أن يترك، فهذا هو أحد المدعي، والبينات في الأصل شرعت حجة للمدعين فمن كان أشبه بالمدعين كانت بينته أولى (175أ3) بالقبول. وإذا اشترى أرضاً فجاء الشفيع يأخذها بالشفعة وفيها أشجار ونخيل، فقال المشتري: أحدثت الأشجار والنخيل فيها، وقال الشفيع: اشتريتها مع هذه الأشجار والنخيل، فإن كان من وقت الأخذ بالشفعة مدة لا يمكن إحداث مثل هذه الأشجار، فالقول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه لم يثبت كذب ما قاله المشتري في هذه الصورة، بخلاف الصورة الأولى إذا قال المشتري للشفيع: اشتريت الدار أو قال: الأرض بخمسمائة، ثم اشتريت البناء بخمسمائة فلا شفعة للشفيع في البناء، وقال الشفيع: لا بل اشتريتهما معاً، فالقول قول الشفيع مع يمينه على علمه استحساناً يحلف بالله ما يعلم أنه اشتراهما بعقدين؛ لأن المشتري أقر بالسبب المثبت لحق الشفيع في الأرض والبناء، وهو الشراء وبدعوى تفرق الصفقة ادعى سقوط حق الشفيع في البناء. ولو قال المشتري: باعني الأرض بغير بناء، ثم وهب لي البناء أو قال: وهب لي البناء ثم باعني الأرض، وقال الشفيع: لا بل اشتريتهما، فالقول قول المشتري في هذه ما أقر بالسبب المثبت لحق الشفيع في البناء، بل أنكر حقه ولا كذلك الصورة الأولى، وكذلك إذا قال المشتري: وهب لي هذا البيت بطريقه إلى باب الدار وباعني الباقي من الدار بألف درهم، وقال الشفيع: لا بل اشتريت كلها، فالقول قول المشتري في البيت لإ نكاره سبب ثبوت حق الشفعة في البيت، ويأخذ الشفيع الدار كلها غير البيت. وطريقه: إن شاء؛ لأن المشتري أقر بسبب ثبوت حق الشفيع فيما سوى البيت وطريقه وادعى لنفسه حق التقدم عليه بالشركة في الحقوق، فلا يثبت ما ادعى من غير حجة. وإن أقر بهبة البيت للمشتري وادعى المشتري أن الهبة كانت قبل الشراء فلا شفعة للجار؛ ولأنه شريك في الحقوق وقت الشراء الثاني، والجار يقول: لا بل كان الشراء قبل الهبة ولي الشفعة فيما اشتريت، فالقول قول الشفيع؛ لأن العقدين قد ظهرا وقد جهل التاريخ، فيجعل كأنهما وقعا معاً. ولو وقعا معاً كانت الشفعة للجار؛ لأن شريك المشتري في الحقوق بعد الشراء؛

الفصل الثالث عشر: في التوكيل بالشفعة وتسليم الوكيل الشفعة وما يتصل به

لأن الهبة لا تفيد الملك قبل القبض والشراء يفيد الملك بنفسه، فكان شركة المشتري في الحقوق بسبب الهبة حادثة بعد الشراء لا تبطل شفعة الجار، وإن قامت البينه على الهبة قبل الشراء، فإن صاحبها أولى بالشفعة من الجار. ولو ادعى المشتري أنه اشترى الأرض والبناء بصفقة واحدة، وقال الشفيع: لا بل اشتريتهما بصفقتين ولي أن آخذ الأرض دون البناء، فالقول قول المشتري مع يمينه ولم يذكر الاستحسان، والقياس في هذه المسألة، وفيما إذا ادعى المشتري تفرق الصفقة، فهي المسألة التي تقدم ذكرها ذكر القياس والاستحسان. وذكر أن القول قول الشفيع مع يمينه استحساناً ويجب أن تكون هذه المسألة على القياس والاستحسان ويكون ما ذكر أن القول قول المشتري. جواب الاستحسان: رجل أقام بينة أنه اشترى هذه الدار من فلان بألف درهم، وأقام رجل آخر بينة أنه اشترى هذا البيت من هذه الدار من فلان منذ شهر بكذا، فإنه يقضي بالبيت لصاحب الشهر وببقية الدار للآخر؛ لأن الشراء حادث، والأصل في الحوادث أن يحال بحدوثها على أقرب الأوقات ما لم يؤرخ الشهود، وشهود مشتري البيت أرخوا شراءه أما شهود مشتري الباقي ما أرخوا ... اشتراه، فثبت شراء البيت منذ شهر وثبت شراء الباقي للحال، ثم مشتري البيت منذ شهر أولى بشفعة باقي الدار؛ لأن شراء البيت لما ثبت قبل شراء الباقي من الدار كان مشتري البيت شريكاً في الحقوق منذ شراء الباقي من الدار، والشريك في الحقوق مقدم على الجار، ولو لم يؤقت واحد منهما قضيت بالبيت بينهما، وقضيت بباقي الدار للآخر، ولا شفعة لواحد منهما فيما صار لصاحبه؛ لأنه ظهر كلا الأمرين ولم يعرف التاريخ، فيجعل كأنهما وقعا معاً. وإذا كانا داران متلازقان ادعى أحدهما منذ شهرين وادعى الآخر شراء الآخر منذ شهر، فالشفعة لصاحب الشهرين، ولو لم يؤقت شهود واحد منهما فلا شفعة لواحد منهما. الفصل الثالث عشر: في التوكيل بالشفعة وتسليم الوكيل الشفعة وما يتصل به ويجوز التوكيل بطلب الشفعة؛ لأنه توكيل بالخصومة والشراء، والتوكيل بكلا الأمرين جائز، وإذا أقر المشتري بشراء الدار في يديه وجبت فيها الشفعة وخصمه الوكيل؛ لأنه أقر بثبوت حق الشفعة فيما في يده. ولو أقر بالملك فيما في يده أليس يصح إقراره؟ فكذا إذا أقر بحق الشفعة، ولا يقبل من المشتري بينة أنه اشتراها من صاحبها إذا كان صاحبها غائباً؛ لأن البينه على الغائب

لا تقبل من غير خصم حاضر، ولا خصم عن الغائب ههنا، حتى لو حضر صاحبها بعد إقامة المشتري البينه على الشراء وصدقه فيما أقوله من الملك وكذبه فيما ادعى من المشتري يسترد الدار من يد الشفيع ويسلم إلى البائع؛ لأنهم اتفقوا على أن أصل الملك كان له، ولم يثبت النقل من المشتري، ولكن يحلف صاحبها بالله ما بعتها من هذا المشتري، فإذا حلف حينئذ يرد الدار عليه، فإن قامت بينة لمحضر صاحبها أنه باعه من المشتري ثبت الشراء وسلم الدار للشفيع، ويقبل هذه البينة من المشتري ومن الشفيع؛ لأن المشتري يثبت عقده والشفيع يثبت حقه في الشفعة، وإن أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري والدار في يد البائع قضى بالشفعة لما ذكرنا في جانب المشتري وخصمه الوكيل. وإن أقر المشتري والبائع بالبيع، ولكن قالا: لا شفعة لفلان فيها، فإن القاضي يسأل الوكيل البينة على الحق الذي وجبت به لموكله الشفعة من شركة أو جوار، فإن أقامها قضي له بالشفعة، وما لا فلا. وهذا لأن الوكيل قائم مقام الموكل، والحكم في حق الموكل إذا أنكر المشتري والبائع شفعته هذا فكذا في حق الوكيل، وإذا أراد الوكيل إثبات الشفعة لموكله بالجوار ينبغي أن يقيم بينة أن الدار التي إلى جنب الدار المبيعة ملك موكله فلان. هكذا ذكر محمد رحمه الله، وقد ذكرنا في فصل إنكار المشتري جواز الشفيع كيفية الشهادة (175ب3) في حق الأصيل، فيجب أن يكون في حق الوكيل كذلك، ولو أقام بينة أن الدار التي جنب الدار المبيعة ملك موكله فلان لا يكتفي به كما في حق الموكل، ولو أقام البينة بنفسه، وإذا أراد إثبات الشفعة بالشركة فأقام بينة أن لموكله فلان نصيباً من هذه الدار المبيعة ولم يثبتوا مقداره لا يثبت ذلك، ولا يقضى له بالشفعة؛ لأنه لا يمكن القضاء بالشفعة إلا بالقضاء بالشركة وتعذر القضاء بالشركة لمكان الجهالة. وهذا بخلاف ما لو أقام المدعي بينة على المحبوس في السجن أنه موسر فإنه يقبل بينته، وإن لم يبينوا مقدار ملكه حتى يجلده القاضي في السجن بينة المدعي وتجليده في السجن لا يستحق إلا باليسار ويساره لا بثبت إلا بملكه. والفرق: أن في مسألة المديون القضاء بالملك له مع إنكاره غير ممكن، ألا ترى مع بيان مقدار ملكه لا يمكن للقاضي أن يقضي له بالملك بجحوده، وما تعذر القضاء بالملك هناك لم يشترط للقضاء باليسار إمكان القضاء بالملك، وفي مسألة الشفعة أمكن للقاضي القضاء بالملك للشفيع؛ لأنه مدع، فلا يسقط اعتبار اشتراط القضاء بالملك للقضاء بالشفعة لمكان الجهالة. وإذا وكل الرجل رجلاً بأخذ دار له بالشفعة ولم يعلمه الثمن صح التوكيل، وإذا أخذها الوكيل بما اشتراها المشتري لزم الموكل، وإن كان ذلك ثمناً كثيراً بحيث لا يتغابن الناس فيه سواء أخذها بقضاء أو بغير قضاء، بخلاف الوكيل بالشراء إذا اشترى بثمن كثير لا يتغابن الناس في مثله حيث لا يلزم الموكل. والفرق: أن في فصل الشفعة الثمن منصوص عليه، وهو الثمن الذي اشتراه

المشتري؛ لأن الأخذ بالشفعة لأخذ بمثل ذلك الثمن وقد اشتراه به، فأما في فصل الشراء الثمن غير منصوص عليه، فيعرف المقدار بالعرف. وإذا وكل رجل هو ليس بشفيع الدار أن يأخذ الدار له بالشفعة، فأظهر الشفيع ذلك فقد بطلت شفعته؛ لأنه قصد التملك من جهة المشتري بغيره، فيعتبر بما لو قصد التملك من جهة لنفسه بأن ساومه، وذلك مبطل شفعته، فإن أسر الشفيع ذلك حتى أخذها ثم علم المشتري بذلك إن سلمها بغير قضاء قاض جاز ذلك، ولم يكن للمشتري أن يأخذها وصار الشفيع مشترياً للآمر؛ لأنه سلم الدار بالشفعة في موضع لا شفعة للشفيع مستأنفاً إذا حصل برضا المشتري. وإن أخذها بقضاء قاض، فإنها ترد على المشتري؛ لأنه لما لم يكن له أخذ الدار بالشفعة تبين أن القاضي قضى للوكيل بالدار بغير سبب، ولا يمكن أن يجعل شراء مستقبلاً لانعدام الرضا من المشتري، ولا يصح توكيل الشفيع المشتري بأخذ الشفعة سواء كانت الدار في يده أو في يد البائع إن كانت الدار في يده؛ فلأن الأخذ بالشفعة شراء، والإنسان لا يصلح وكيلاً بالشراء من نفسه، وإن كانت الدار في يد البائع؛ فلأنه ساع في نقص ما تم به؛ لأن بالأخذ بالشفعة ينفسخ الشراء الذي جرى بين البائع وبين المشتري، وكذا لا يصح توكيل البائع بذلك. وإن كانت الدار في يد البائع قياساً، وفي الاستحسان: لا يصح؛ لأنه ساع في نقض ما تم به من وجه؛ لأن الأخذ بالشفعة من المشتري إن كان تمليكاً مبتدأ من جهة، المشتري من وجه فهو بمنزلة الاستحقاق من وجه من حيث إنه يأخذ من غير رضا المشتري بحق سابق له على حق المشتري، فمن هذا الوجه يصير البائع ساعياً في نقض ما تم به. وإذا وكل رجلاً بطلب الشفعة بكذا كذا درهماً واحدة، فإن كان المشتري اشترى بذلك المقدار أو بأقل فهو وكيل، وإن كان اشترى بأكثر من ذلك، فهو ليس بوكيل؛ لأن الأخذ بالشفعة شراءٌ والوكيل بالشراء بثمن معين بملك الشراء به وبأقل منه، ولا يملك الشراء بأكثر منه، وكذلك إذا قال: وكلتك إن كان فلان اشتراها فإذا قد اشتراها غيره لا يكون وكيلاً. وإذا وكل وكيلين بأخذ الشفعة، فلأحدهما أن يخاصم بدون الآخر، ولا يأخذ الشفعة بدون الآخر، وإذا وكل وكيلاً بأخذ الشفعة، فليس للوكيل أن يوكل غيره إلا أن يكون الأصل أجاز ما صنع، فإن أجاز ما صنع وكل الوكيل وكيلاً، وأجاز ما صنع لم يكن لهذا الوكيل الثاني أن يوكل غيره. الوكيل بالشفعة إذا سلم الشفعة ذكر في شفعة «الأصل» : أنه إذا سلم في مجلس القاضي صح، وإن سلم في غير مجلس القاضي لا يصح عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وهو قول أبي يوسف الأول، ثم رجع أبو يوسف عن هذا، وقال: يصح تسليمه في مجلس القاضي.h

فعلى رواية كتاب الشفعة جوز تسليمه في مجلس القاضي، ولم يحك فيه خلافاً، وذكر في كتاب «الوكالة» و «المأذون» : ما ذكر في الشفعة قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وإقراره على موكله بالتسليم في مجلس القاضي صحيح بلا خلاف بين علمائنا الثلاثة وإقراره في غير مجلس القاضي عند أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف الأول. في قوله الآخر صحيح، فمحمد رحمه الله، فرّق بين تسليمه في مجلس القاضي وبين إقراره بالتسليم على موكله في مجلس القاضي. والفرق: أن إقراره إنما صح أنه جواب الخصومة، والتسليم ليس جواب الخصومة بل هو إبطال حق على الموكل والوكيل مأمور باستيفاء الحق لا بإبطاله. ألا ترى أن الوكيل بالخصومة في الدِّين يملك الإقرار على موكله بالقبض، ولا يملك الإبراء. الوكيل بالشفعة إذا طلب الشفعة وادعى المشتري التسليم، فهذا على وجهين: الأول: أن يدعي التسليم على الموكل ويطلب يمين الوكيل بالله ما يعلم أن الموكل قد سلم الشفعة، أو يطلب الموكل بالله ما سلمني الشفعة، فإن طلب يمين الوكيل، فالقاضي لا يحلفه؛ لأن أصل الدعوى وقعت على الموكل، فإنه ادعى تسليم الموكل واستحلاف غير من توجه عليه الدعوى بمنزلة البدل عن استحلاف من يوجه عليه الدعوى والإنصاف إلى البدل على إمكان المصير إلى الأصل، وما دام الموكل حياً واستخلافه ممكن بخلاف ما لو ادعى ديناً على ميت وأنكر الوارث ذلك وطلب المدعي من القاضي أن يحلف الوارث، فالقاضي يحلفه على علمه؛ لأن هناك وقع العجز عن المصير إلى الأصل، وإن طلب يمين الموكل، فالقاضي يقول له: سلم الدار إلى الوكيل ليأخذها الموكل بالشفعة وانطلق واطلب يمين الموكل. وهو نظير ما لو وكل (176أ3) رجلاً بقبض الدين فقال المديون: أريد يمين الموكل بالله ما أبرأني، فالقاضي يقضي عليه بالمال، ويأمره بالأداء إلى الوكيل ويقول له انطلق واطلب يمين الموكل، وهذا بخلاف الوكيل بالشراء إذا وجد بالمشترى عيباً وأراد رده على البائع، وطلب البائع يمين الموكل بالله ما رضي بالعيب كان له ذلك، ولا يرد حتى يحضر الموكل ويحلف الوجه الثاني أن يدعي التسليم على الوكيل ويطلب يمينه فالقاضي لا يحلفه عند أبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف رحمهم الله. وإذا شهد شاهدان على الوكيل أنه سلم الشفعة عند غير القاضي، فشهادتهما باطلة عند أبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف، وكذلك إذا شهد شاهدان عليه أنه قد سلم عند القاضي، ثم عزل قبل أن يقضي عليه لم يجز على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. ولو أقر الوكيل عند القاضي أنه قد سلم الشفعة عند غير قاض، أو عند قاض آخر فإقراره صحيح، ويكون هذا بمنزلة إنشاء التسليم عند هذا القاضي.

وهو نظير ما لو شهد شاهدان على رجوع الشهود وعن شهادتهم في غير مجلس القاضي فالقاضي لا يقبل شهادتهم، ولو أقر الشهود عند القاضي أنهم قد رجعوا عن شهادتهم في غير مجلس القاضي صح إقرارهم وجعل ذلك منهم منزلة إنشاء الرجوع عند هذا القاضي. في «فتاوي (أهل) سمرقند» : ... وإذا وكل رجلاً ببيع داره، فباعها بألف درهم ثم حط عن المشتري مائة درهم وضمن ذلك الأمر، فليس للشفيع أن يأخذها بالشفعة إلا بالألف؛ لأن حط الوكيل لا يلتحق بأصل العقد. في «فتاوي الفضلي» : الوكيل بشراء الدار إذا اشترى وقبض فجاء الشفيع وأراد أن يطلب الشفعة من الوكيل، فهذا على وجهين: الأول: أن تكون الدار في يد الوكيل، وفي هذا الوجه الطلب منه صحيح. الوجه الثاني: أن يكون الوكيل قد سلم الدار إلى الموكل وفي هذا الوجه لا يصح الطلب من الوكيل، هكذا قال، قول الفقيه أبو إبراهيم، هكذا ذكر في «الأجناس» عن محمد قال الصدر الشهيد رحمه الله: هو المختار. وقال القاضي الإمام علي السغدي: الصحيح أنه يصح الطلب منه على كل حال؛ لأنه هو العاقد، قال الصدر الشهيد: والجواب في الوكيل مع الموكل كالجواب في البائع مع المشتري إن كانت الدار في يد البائع فالطلب منه صحيح، وإن كانت في يد المشتري لا يصح الطلب من البائع هو المختار غير أن فرق ما بين الوكيل والبائع أن البائع إذا لم يسلم الدار لا يكون خصماً حتى يحضر المشتري، والوكيل إذا قبض فهو خصم، وإن لم يحضر الموكل، هذا هو الكلام في الطلب. وأما الكلام في تسليم الشفعة وتسليم الشفيع عند الوكيل وقد ذكرناه في فصل تسليم الشفعة في «القدوري» . قال أصحابنا: إذا قال المشتري قبل أن يخاصم في الشفعة: اشتريت هذه الدار لفلان وسلمها إليه، ثم حضر الشفيع فلا خصومة بين الشفيع وبين المشتري؛ لأن إقراره قبل الخصومة صحيح، فصار كما لو كانت الوكالة معلومة، فإذا خوصم ثم أقر بذلك لم تسقط الخصومة عنه؛ لأنه صار خصماً وهو يريد إسقاط الخصومة عن نفسه ولو أقام بينة أنه قبل شرائه اشترى لفلان لم تقبل بينته؛ لأنه لا يدفع بهذه الخصومة عن نفسه. قال: وروي عن محمد رحمه الله: أن المشتري إذا قال: أنا أقيم البينة أني أقررت بهذا القول قبل الشراء لم تقبل بينته لإثبات الملك للغائب، ولا خصومة بينه وبين الشفيع حتى يحضر المقر له. وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف: رجل اشترى داراً وأشهد قبل شرائهما معنى قوله أشهد قال بلسانه: أنه اشترى لفلان بماله وأمره وطلب الشفيع الشفعة، فالمشتري خصم في ذلك، ولو كان له شاهدان يشهدان أن فلاناً أمره بشرائهما لم يكن هو خصماً للشفيع والله أعلم. وأما الكلام في تسليم الشفعة وتسليم الشفيع عند الوكيل وقد ذكرناه في فصل تسليم الشفعة في «القدوري» . قال أصحابنا: إذا قال المشتري قبل أن يخاصم في الشفعة: اشتريت هذه الدار لفلان وسلمها إليه، ثم حضر الشفيع فلا خصومة بين الشفيع وبين المشتري؛ لأن إقراره قبل الخصومة صحيح، فصار كما لو كانت الوكالة معلومة، فإذا خوصم ثم أقر بذلك لم تسقط الخصومة عنه؛ لأنه صار خصماً وهو يريد إسقاط الخصومة عن نفسه ولو أقام بينة أنه قبل شرائه اشترى لفلان لم تقبل بينته؛ لأنه لا يدفع بهذه الخصومة عن نفسه. قال: وروي عن محمد رحمه الله: أن المشتري إذا قال: أنا أقيم البينة أني أقررت بهذا القول قبل الشراء لم تقبل بينته لإثبات الملك للغائب، ولا خصومة بينه وبين الشفيع حتى يحضر المقر له. وفي «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف: رجل اشترى داراً وأشهد قبل شرائهما معنى قوله أشهد قال بلسانه: أنه اشترى لفلان بماله وأمره وطلب الشفيع الشفعة، فالمشتري

الفصل الرابع عشر: في شفعة الصبي

خصم في ذلك، ولو كان له شاهدان يشهدان أن فلاناً أمره بشرائهما لم يكن هو خصماً للشفيع والله أعلم. الفصل الرابع عشر: في شفعة الصبي قال محمد رحمه الله في «الأصل» : الصغير والكبير في استحقاق الشفعة سواء؛ لأنهما في سبب استحقاق الشفعة سواء، قال: والحبل في استحقاق الشفعة والكبير سواء؛ لأن الحبل يرث فيثبت له الشركة أو الجوار كما يثبت للكبير، فإن وضعت الأقل من ستة أشهر منذ وقع الشراء فله الشفعة؛ لأنا تيقنا بوجوده يوم البيع وكان وضعه بمنزلة قدومه وهو غائب. وإن جاءت به لسته أشهر فصاعداً منذ وقع الشراء، فإنه لا شفعة له؛ لأنه لم يثبت وجوده وقت البيع لا حقيقة ولا حكماً إلا أن يكون أبوه مات قبل البيع وورث الحبل منه حينئذ يستحق الشفعة، وإن جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً؛ لأن وجوده وقت البيع ثابت حكماً لما ورث من أبيه، ثم إذا وجب الشفعة للصغير فالذي يقوم بالطلب والأخذ من قام مقامه شرعاً في استيفاء حقوقه وهو أبوه، ثم وصي أبيه، ثم جده أب أبيه، ثم وصي نصيبه القاضي، فإن لم يكن له أخذ من هؤلاء فهو على شفعته إذا أدرك، فإذا أدرك وقد ثبت له خيار البلوغ والشفعة فاختار رد النكاح أو طلب الشفعة مع الإمكان بطلت الشفعة، حتى لو بلغ الصغير لا يكون له حق الأخذ، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لا تبطل الشفعة، وعلى هذا الخلاف تسليم الشفعة إذا سلم الأب أو الوصي ومن بمعناهما شفعة الصغير صح تسليمه، وأبي يوسف حتى لو بلغ الصبي لا يكون له أن يأخذها بالشفعة؛ لأن تسليم الشفعة وترك طلبها ترك التجارة، ومن ملك التجارة في مال إنسان ملك تركها أيضاً؛ ولأن أخذ الشفعة يكون عوضاً، فبتسليم الشفعة إن كان سقط حق الصغير، ولكن بعوض وإسقاط حق الصغير بعوض داخل تحت ولاية هؤلاء. ألا ترى أنهم ملكوا بيع مال الصغير، ثم تسليم الأب والوصي شفعة الصغير صحيح عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، سواء كان التسليم في مجلس القضاء أو في غير مجلس القضاء بخلاف تسليم الوكيل في غير مجلس القضاء عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنهما نائبان عن الصغير في مجلس القضاء وغيره، فأما الوكيل نائب عن الموكل في مجلس القاضي؛ لأنه وكيل بالخصومة، ومعدن الخصومة مجلس القضاء، فكأن الموكل قال له: أنت وكيلي في مجلس القاضي. إذا اشترى داراً لابنه الصغير والأب (176ب3) شفيعها كان للأب أن يأخذها بالشفعة عندنا، كما لو اشترى الأب مال ابنه لنفسه، ثم كيف يقول: اشتريت وأخذ

بالشفعة، ولو كان مكان الأب وصياً. ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله هذه المسألة في «واقعاته» وشوش الجواب المشبع إن كان في أخذ الوصي هذه الدار بالشفعة منفعة للصغير بأن وقع شراء الدار بغبن يسير بأن كان قيمة الدار مثلاً عشرة وقد اشتراها الوصي بأحد عشر، فإن الغبن اليسير يتحمل من الوصي في تصرفه مع الأجانب، ويأخذ الوصي بالشفعة يرتفع ذلك الغبن. فإذا كانت الحالة هذه كان أخذ الوصي بالشفعة مبتغياً في حق الصغير فإن للوصي أن يأخذ الدار بالشفعة على قياس قول أبي حنيفة وأحد الروايتين عن أبي يوسف كما في شراء الوصي من مال الصغير لنفسه، وإن لم يكن في أخذ الوصي هذه الدار بالشفعة منفعة في حق الصغير بأن وقع شراء الدار للصغير بمثل القيمة لا يكون للوصي الشفعة بالاتفاق. كما لا يكون للوصي أن يشتري شيئاً من مال اليتيم لنفسه بمثل القيمة بالاتفاق، ومتى كان للوصي ولاية الأخذ يقول: اشتريت وطلبت الشفعة، ثم يرفع الأمر إلى القاضي حتى ينصب قيمة عن الصبي، فيأخذ الوصي منه بالشفعة ويسلم الثمن إليه ثم القيم يسلم الثمن إلى الوصي. في «فتاوى أبي الليث» : رحمه الله وفي «الفتاوى» : عن الفقيه أبي بكر: لو اشترى لابنه الصغير داراً والأب شفيعها لا يأخذ بالشفعة ما لم يدرك الابن أو ينصب الحاكم خصماً. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: هذا الجواب في الوصي فأما الأب يأخذ؛ لأن الأب لو اشترى مال ابنه لنفسه صح، كذا هذا يأخذ من غير قضاء وعن شداد: أن الوصي يشهد على طلب الشفعة ويترك حتى يبلغ الصبي، ولو كان الصبي شفيع دار اشتراها الوصي لا يشهد ولا يطلب الشفعة له حتى يدرك الصبي. اشترى الأب لنفسه داراً وابنه الصغير

الفصل الخامس عشر: في حكم الشفعة إذا وقع الشراء بالعروض

شفيعها فلم يطلب الأب الشفعة للصغير حتى بلغ الصغير، فليس للذي بلغ أن يأخذها بالشفعة؛ لأن الأب كان متمكناً من الأخذ بالشفعة، فسكوته يكون مبطلاً للشفعة. ولو باع الأب داراً لنفسه وابنه الصغير شفيعها فلم يطلب الأب الشفعة للصغير، لا تبطل شفعة الصغير حتى لو بلغ الصغير كان له أن يأخذها؛ لأن الأب ههنا لا يتمكن من الأخذ بالشفعة لكونه تابعاً وسكوت من لا يملك الأخذ لا يكون مبطلاً ذكر هذه الجملة شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في باب تسليم الشفعة، وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» وأحاله إلى «نوادر أبي يوسف» . وأما الوصي إذا اشترى داراً لنفسه أو باع داراً له والصبي شفيعها، فلم يطلب الوصي شفعته فاليتيم على شفعته إذا بلغ؛ لأن الوصي لا يملك البيع والشراء للصغير مع نفسه إلا إذا كان فيه منفعة للصغير، وإذا لم يملك الأخذ لم يكن سكوته تسليماً، هكذا ذكر القدوري في «شرحه» . في «نوادر هشام» قال: قلت لمحمد: ما يقول في رجل اشترى داراً وابنه الصغير شفيعها، فلم يطلب الشفعة، قال: أما في قياس أبي حنيفة لا شفعة للصغير؛ لأن تسليم الأب جائز عليه، وأما في الوصي فهو على شفعته؛ لأنه لا يقدر أن يأخذه له من نفسه، ويجب أن يكون الجواب في شراء الأب داراً لنفسه وابنه الصغير شفيعها على التفصيل إن لم يكن للصبي في هذا الأخذ ضرر بأن وقع شراء الأب بمثل القيمة أو بأكثر مقدار ما يتغابن الناس في مثله لا يكون للصغير الشفعة إذا بلغ. وإن كان للصغير في هذا الأخذ ضرر بأن وقع شراء الأب بأكثر من القيمة مقدار ما لا يتغابن الناس فيه كان له الشفعة إذا بلغ؛ لأن الأب لا يملك التصرف في مال الصغير مع نفسه على وجه الضرر، فلم يكن الأب متمكناً من الأخذ في هذه الصورة، فلا يكون سكوته مبطلاً للشفعة، والذي يريد هذا مسألة ذكرها شمس الأئمه السرخسي في باب تسليم الشفعة. وصورتها: رجل اشترى داراً بأكثر من قيمتها وصغير شفيعها، فسلم الأب شفيعها لا يصح تسليمه عندهم جميعاً هو الصحيح؛ لأن الأب لا يملك الأخذ ههنا بالاتفاق لكثرة الثمن والسكوت عن الطلب، والتسليم إنما يصح ممن يملك، فيبقى الصبي على حقه إذا بلغ. ويجب أن يكون الجواب في الوصي إذا اشترى داراً لنفسه والصغير شفيعها، فلم يطلب حتى بلغ الصبي على التفصيل أيضاً: إن كان للصغير في الأخذ بالشفعة منفعة، فلا شفعة للصغير إذا بلغ عند أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أبي يوسف؛ لأن الوصي لو اشترى من مال نفسه شيئاً للصغير وللصغير فيه منفعة ظاهرة جاز عند أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف، فكان الوصي متمكناً من الأخذ فكان سكوته مبطلاً شفعته، وإن لم يكن للصغير في الأخذ بالشفعة منفعة ظاهرة كان له الشفعة إذا بلغ بالاتفاق، فلا يكون سكوته مبطلاً. ولو كان الوصي باع الدار وباقي المسألة بحاله، فالصغير على شفعته إذا بلغ بالاتفاق، كما في الأب إذا قال الأب أو الوصي: اشتريت هذه الدار بألف درهم للصغير، فقال الشفيع: اتق الله فإنك اشتريتها بخمسمائة فصدقة، فإنه لا يصدق ويأخذ الدار بألف درهم حتى يقيم البينة على الشراء بخمسمائة والله أعلم. الفصل الخامس عشر: في حكم الشفعة إذا وقع الشراء بالعروض قد ذكرنا قبل هذا أن الشراء إذا وقع ما ليس من ذوات الأمثال، فالشفيع يأخذ الدار بقيمة ما وقع الشراء به. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا اشترى الرجل داراً بعبد بعينه وأخذ الشفيع الدار بقيمة العبد بقضاء القاضي، ثم استحق العبد بطلت الشفعة وأخذ الدار من الشفيع؛

وهذا لأن الشراء بالمستحق شراء فاسد، ولهذا لا يفيد الملك في بذل المستحق إلا بالقبض ولا شفعة في الشراء الفاسد، فظهر أن القاضي أخطأ في قضائه حيث قضى بالشفعة ولا شفعة، فيرد قضاؤه وذلك يرد حكمه، فلهذا قال يسترد الدار من يد الشفيع. فإن قيل: ينبغي أن لا يسترد الدار، وإن ظهر أنه لم يكن له الشفعة عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن القضاء بالشفعة قضاء بالشراء، والقاضي متى قضي بالشراء للإنسان ثبت الشراء بقضائه وإن لم يكن بينهما شراء. قلنا: القضاء بالشفعة قضاء (177أ3) بالشراء من وجه قضاء بالملك المرسل من وجه لما ذكرنا أن الأخذ بالشفعة بمنزلة الاستحقاق من وجه من حيث إن الشفيع يأخذ الدار من غير رضا المشتري بحق سابق والقضاء بالشراء إن كان ينفذ ظاهراً وباطناً عند أبي حنيفة، فالقضاء بالملك المرسل لا ينفذ باطناً، فلا ينفذ القضاء بالشفعة ظاهراً أو باطناً بالشك. فلهذا قال: يسترد الدار من يد البائع، هذا إذا أخذ الشفيع الدار بقيمة العبد بقضاء القاضي، وإن كان المشتري قد سلم الدار إلى الشفيع بقيمة العبد بقضاء القاضي، وإن كان المشتري قد سلم الدار إلى الشفيع بقيمة العبد بغير قضاء إن كان قد سمى الشفيع قيمة العبد كذا كذا حتى صار الثمن معلوماً من كل وجه. ثم استحق العبد ليس للمشتري على الدار سبيل ويجعل ذلك بيعاً مبتدأ لوجود حده وهو التملك والتمليك بالتراضي، لما تبين أنه لم يكن له شفعة، ويكون للبائع على المشتري قيمة الدار؛ لأن باستحقاق العبد تبين أن الشراء وقع فاسداً. وإذا باع ما اشترى نفذ بيعه ويضمن للبائع قيمة ما اشترى، وإن لم يكن سمى للشفيع قيمة العبد كذا وكذا، ولكن قال سلمت الدار لك بقيمة العبد كان للمشتري أن يسترد الدار من الشفيع. إذا اشترى داراً بعبد وهلك العبد في يد البائع قبل التسليم إلى المشتري كان للشفيع أن يأخذ الدار بالشفعة؛ وهذا لأن بهلاك العبد وإن فسد البيع لما عرف أن هناك أحد البدلين في بيع المقايضة يوجب فساد العقد، إلا أنه إنما فسد البيع بعد وقوعه بوصف الصحة، وإنه لا ينافي حق الشفعة ولو لم يمت العبد حتى أخذ الشفيع الدار بقيمة العبد إن أخذها من البائع لم يبق للبائع على العبد الذي جعله المشتري ثمناً لهذه الدار سبيل؛ لأن يأخذ الشفيع الدار من البائع ينفسخ شراء المشتري، وإن أخذها من المشتري ثم مات العبد في يد البائع قبل التسليم إلى المشتري، فالقيمة التي أخذها المشتري من الشفيع تكون للبائع. وإذا اشترى داراً بعبد غيره، وأجاز صاحب العبد الشراء، فللشفيع الشفعة؛ لأن الإجازة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء ويأخذها بالشفعة بقيمة العبد لما ذكرنا، وإذا وقع الشراء بمكيل أو موزون بعينه واستحق المكيل أو الموزون فقد بطلت الشفعة؛ لأن المكيل أو الموزون إذا كان بعينه فهو والعبد سواء، وإن كان المكيل أو الموزون في

الفصل السادس عشر: في الشفعة في فسخ البيع والإقالة وما يتصل بذلك

الذمة، فأوفاه ذلك ثم استحق ذلك فشفعة الشفيع على حاله؛ لأن المكيل أو الموزون إذا كان في الذمة فهو والدراهم سواء. في «المنتقى» : ابن سماعة عن محمد رحمه الله: في رجل اشترى من آخر داراً بالكوفة بكر حنطة بعينه أو بغير عينه وتقابضا ثم خاصمه الشفيع في الدار بمرو فقضى له عليه بالشفعة والدار بكوفة، قال: إن شاء المشتري أخر الشفيع حتى يأخذ منه حنطة مثلها بالكوفة وسلم له الدار بمرو، وإن شاء سلم له الدار وأخذ منه بمرو قيمة الطعام بالكوفة. وقال في موضع آخر من «المنتقى» : إذا كان قيمة الكر في الموضعين سواء أعطاه الكر حيث قضي له بالشفعة، وإن كانت القيمة متفاضلة نظر في ذلك إن كان الكر في الموضع الذي يريد الشفيع أن يعطي أعلى، فذلك إلى الشفيع يعطيه ذلك حيث شاء، وإن كان أرخص فرضي به المشتري، فذلك إليه وإن شاؤوا أعطى المشتري قيمة ذلك في الموضع الذي فيه ما يساوي في موضع الشراء. الفصل السادس عشر: في الشفعة في فسخ البيع والإقالة وما يتصل بذلك مشتري الدار إذا وجد الدار عيباً بعدما قبضها وردها بالعيب، وكان ذلك بعد ما سلم الشفيع الشفعة فللشفيع أن يأخذها بالشفعة، وإن كان الرد بغير قضاء قاض، فإن الرد بالعيب بغير قضاء بيع جديد في حق الثالث والشفيع ثالث، فصار في حق الشفيع كأن المشتري باع الدار من البائع، ولو كان الرد بقضاء قاض فليس للشفيع أن يأخذها؛ لأن الرد بقضاء فسخ في حق الكل وليس ببيع جديد أصلاً لانعدام حده، والتملك بالتراضي وحق الشفيع إنما يثبت في العقد لا في الفسخ، وإذا كان الرد بالعيب قبل قبض الدار، فإن كان بقضاء فلا شفعة للشفيع، وإن كان بغير قضاء، فكذلك عند محمد رحمه الله؛ لأنه تعذر اعتباره بيعاً جديداً في حق الشفيع؛ لأن بيع العقار قبل القبض عنده لا يجوز، وأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف، فقد اختلف المشايخ بعضهم قالوا: للشفيع الشفعة؛ لأن بيع العقار قبل القبض عندهما جائز، فأمكن أن يجعل هذا الرد بيعاً جديداً في حق الشفيع وبعضهم قالوا: لا شفعة للشفيع؛ لأن رضا البائع قبل القبض لا عبرة به؛ لأن للمشتري حق الرد بالعيب قبل القبض وإن لم يرض به البائع؛ لأن الصفقة لم يتم بعد، ولو انعدم الرضا من البائع لا يمكن أن يعتبر بيعاً جديداً في حق الشفيع، فكذا إذا لم يعتبر رضاه. كما لو سلم المشتري الدار إلى الشفيع باختياره ورضاه لا يعتبر ذلك بيعاً جديداً في حق الثالث، حتى لو كان لهذه الدار شفيع آخر وقد سلم الشفعة لا يتجدد له شفعة أخرى بهذا التسليم؛ لأن للشفيع أن يأخذ منه بغير رضاه، فلم يكن لرضاه عبرة كذا هاهنا. وإن كان المشتري رد الدار بخيار رؤية أو بخيار شرط لا يتجدد للشفيع حق الشفعة

الفصل السابع عشر: في شفعة أهل الكفر

حصل الرد قبل القبض أو بعد القبض، بتراضيهما أو بغير تراضيهما؛ لأن الرد بهذه الأسباب فسخ من كل وجه في حق الناس كافة. وإن اشترى الرجل داراً أو أرضاً فسلم الشفيع الشفعة، ثم إن البائع والمشتري تصادقا أن البيع كان تلجئة ورد المشتري على البائع لا يتجدد للشفيع حق الشفعة، وكان ينبغي أن يتجدد؛ لأن إقرارهما بالتجلئة لا يعتبر في حق الشفيع. ألا ترى أنهما لو أقرا بذلك قبل تسليم الشفعة لا يعتبر إقرارهما في حق الشفيع حتى كان للشفيع أن يأخذ الدار كذا هاهنا. وإذا لم يعتبر إقرارهما لم تثبت التلجئة في حق الشفيع فكان الرد بسبب التلجئة فسخاً للعقد في حقه لا رداً بالتلجئة والفسخ متى حصل بالتراضي يتجدد للشفيع حق الشفعة، والجواب إنما لم يعمل إقرارهما بالتلجئة في حق الشفيع قبل تسليم الشفعة؛ لأن البيع الصحيح ظاهر أو ثبت للشفيع حق الشفعة، فهما بهذا الإقرار يريدان إبطال حقه؛ فأما بعد تسليم الشفعة لم يبق للشفيع (177ب3) حق أصلاً، فإقرارهما لا يتضمن بطلان حقه فتثبت التلجئة بإقراره، فكان الرد بسبب التلجئة فلا يتجدد به حق الشفعة.l في «المنتقى» : رجل اشترى داراً وقبضها وسلم الشفيع الشفعة، ثم إن المشتري قال: إنما كنت اشتريتها لفلان، وقال الشفيع بل اشتريتها لنفسك، وهذا منك بيع مستقبل وأنا آخذها بالشفعة بهذا البيع، فالقول قول الشفيع، وإن كان فلاناً غائباً لم يكن للشفيع أن يأخذ الدار حتى يقدم الغائب من قبل أن الشفيع يدعي أن هذا باع الدار من الغائب، وليس للشفيع أن يأخذ الدار من البائع حال غيبة المشتري. وإن قال المشتري: أنا أقيم البينة أن فلاناً كان أمرني بذلك، وإني إنما اشتريتها له لم يقبل بينته على ذلك حتى يحضر فلان. ومما يتصل بهذا الفصل إذا انفسخ العقد فيما بين البائع والمشتري بسبب هو فسخ من كل وجه لا يبطل حق الشفيع؛ لأن حق الشفعة يعتمد وجود البيع لا بقاؤه والله أعلم بالصواب. الفصل السابع عشر: في شفعة أهل الكفر الكافر والمسلم في استحقاق الشفعة سواء؛ لأنهما في سبب استحقاق الشفعة سواء. وإذا اشترى النصراني داراً بميته أو دم، فلا شفعة للشفيع؛ لأن الميت والدم ليس بمال في حقهم، فالشراء حصل بما ليس بمال فلا ينعقد، وهذا بخلاف ما لو اشترى بخمر أو خنزير؛ لأن ذلك مال في حقهم، فالشراء حصل بما هو مال فينعقد. اشترى الذمي داراً بخمر وتقابضا ثم صار الخمر خلاً ثم أسلم البائع والمشتري، ثم استحق نصف الدار وحضر الشفيع أخذ النصف بنصف قيمة الخمر ولا يأخذ بنصف الخل؛

لأن الشفيع إنما يأخذ الدار بمثل الثمن الذي هو مضمون على المشتري، والمضمون على المشتري الخمر دون الخل وقد عجز الشفيع عن الأخذ بصورة الخمر، فيأخذ بمعناها وهو القيمة، ثم يرجع المشتري على البائع بنصف الخل إن كان الخل قائماً في يده. وإن كان مستهلكاً رجع عليه بمثل نصف الخل؛ لأنه لما استحق نصف الدار ظهر أن نصف الخمر كان في يده بحكم عقد فاسد، والخمر الذي اشتراها الذمي في شراء فاسداً إذا صارت خلاً في يده لا يسعه رد الخل بعينه إن كان قائماً، وإن عجز عن رد عينه رد مثله، فإن عجز عن رد مثله حينئذ رد قيمته، كذا هاهنا. اشترى الذمي من ذمي كنيسة أو بيعة فللشفيع الشفعة هكذا ذكر في «الأصل» ، وهذا الجواب ظاهر فيما إذا كان من ديانتهم أن الملك لا يزول عن المالك بجعله بيعة أو كنيسة إنما يشكل فيما إذا كان من ديانتهم أن الملك يزول عن المالك بهذا الصنع؛ لأنه باع ما لا يملك فلا يجوز بيعه في ديانته، ونحن أمرنا ببناء الأحكام على اعتقادهم وأن يتركهم وما يدينون إلا ما استثني عليهم في عودهم. والوجه في ذلك: أنه لما أقدم على البيع فقد أدان بديننا؛ لأن من ديننا أن الملك لا يزول عن المالك بما بعده للمعصية والذمي إذا دان بديننا يلزمه ذلك كما في نكاح المحارم إذا طلبا الفرقة من القاضي. اشترى المرتد داراً ثم مات أو قتل على الردة حتى بطل شراؤه عند أبي حنيفة أو أسلم حتى نفذ شراؤه فللشفيع الشفعة؛ لأن شراء المرتد بمنزلة الشراء على أن المشتري بالخيار؛ لأنه توقف لمعنى من جهة المشتري وهو ردته. ومن اشترى داراً على أن المشتري بالخيار كان للشفيع الشفعة أجاز المشتري البيع أو فسخ، وإن باع المرتد داراً ثم مات أو قتل على الردة، فلا شفعة للشفيع وإن أسلم فله الشفعة؛ لأن بيع المرتد بمنزلة البيع على أن البائع بالخيار. ومن باع داراً بشرط الخيار إن أجاز البيع وجبت الشفعة وإن فسخه لا تجب كذا هاهنا عند أبي حنيفة، وإذا كان الشفيع مرتداً أو طلب الشفعة من القاضي، فالقاضي لا يقضي له بالشفعة حتى يسلم عند أبي حنيفة؛ لأن القضاء بالشفعة قضاء بالشراء، وشراء المرتد موقوف عند أبي حنيفة رحمه الله، بين أن ينفذ إذا أسلم، وبين أن يبطل إذا مات أو قتل على الردة، فمتى قضي له بالشفعة صار معرضاً قضاءه للإبطال، وعلى القاضي أن يصون قضاءه عن النقض والإبطال، وإن أبطل القاضي شفعته ثم أسلم بعد ذلك، فلا شفعة له؛ لأن قضاء القاضي قد نفذ لمصادفته محلاً مجتهداً فيه، فإن من العلماء من قال: لا شفعة للمرتد لا على الكافر ولا على المسلم وهو ابن شرمه. ومنهم من قال: لا شفعة له على المسلم، وله شفعة على الكافر، وهو عثمان اليتي،

الفصل الثامن عشر: في الشفعة في المرض

فهو معنى قولنا: إن قضاءه صادف محلاً مجتهداً فيه فنفذ، وإن أوقفها القاضي حتى ينظر ثم أسلم فهو على شفعته، وإذا كان الشفيع مرتداً فمات أو قتل على الردة أو لحق بدار الحرب فلا شفعة لوارثه؛ لأن وارثه لو استحق الشفعة إما أن يستحق بحكم الإرث ولا وجه إليه؛ لأن الملك للوارث إنما يثبت من حين يموت المرتد أو يلحق بدار الحرب ويقضي القاضي بلحوقه لامن وقت الردة والبيع كان قبل الموت فكان جوار الورثة حادثاً والشفعة لا تستحق بجوار حادث. ولو كان المرتد لحق بدار الحرب، ثم بيعت الدار قبل قسمة ميراثه كان لورثته الشفعة؛ لأنهم ملكوا ماله من وقت اللحوق بدار الحرب والبيع كان بعد ذلك، فتبين أنه كان للورثة جوار لوقت البيع، فيستحقون الشفعة ابتداء بجوارهم لا بحكم الإرث. إذا اشترى الحربي المستأمن داراً ولحق بدار الحرب، فالشفيع على شفعته متى لقيه؛ لأن لحاقه بدار الحرب كموته، وموت المشتري لا يبطل شفعة الشفيع، وإن كان الشفيع هو الحربي، فلا شفعة له متى لحق بدار الحرب؛ لأن موت الشفيع يوجب بطلان الشفعة. وإن كان الشفيع مسلماً أو ذمياً فدخل دار الحرب إن لم يعلم بالبيع فهو على شفعته متى علم؛ لأن دخول المسلم أو الذمي دار الحرب ليس كموته بل هو بمنزلة الغيبة وغيبة الشفيع لا تبطل شفعته، وإن دخل وهو يعلم بالبيع فلم يطلب بطلت شفعته لترك الطلب. وإذا اشترى المسلم داراً في دار الحرب وشفيعها مسلم، ثم أسلم أهل الدار، فلا شفعة للشفيع. يجب أن يعلم أن كل حكم لا يفتقر إلى قضاء القاضي لا يثبت ذلك الحكم في حق من كان من المسلمين في دار الحرب بمباشرة سبب ذلك الحكم في دار الحرب. نظير الأول: جواز البيع والشراء (178أ3) وصحة الاستيلاء ونفاذ العتق ووجوب الصوم والصلاة، فإن هذه الأحكام كلها من أحكام الإسلام ويجري على كل من كان في دار الحرب من المسلمين؛ لأن أحكام هذه الحقوق لا يفتقر إلى القضاء. ونظير الثاني: الزنى فإن المسلم إذا زنى في دار الحرب، ثم صار دار الإسلام لا يقام عليه الحد؛ لأن الزنى حال وجوده لم يوجب الحد؛ لأن ما هو المقصود من الحد الإقامة والإقامة إلى الإمام، وليس للإمام ولاية الإقامة في دار الحرب فلم يجب الحد لما كانت ولاية الإقامة فائته؛ إذا ثبت هذا فنقول: المقصود من حق الشفعة التملك وذلك يفتقر إلى قضاء القاضي؛ لأن المشتري عسى يرضى وعسى لا يرضى، وقضاء القاضي لا يجري على من كان في دار الحرب. الفصل الثامن عشر: في الشفعة في المرض إذا باع المريض داره بألفي درهم وقيمتها ثلاثة آلاف، ولا مال له غير الدار، ثم مات المريض وابنه شفيع الدار فلا شفعة له؛ هكذا ذكر في «الكتاب» ، وهذا الجواب لا

يشكل عندهم جميعاً، متى أراد الشفيع الأخذ بألفي درهم قبل إجازة الورثة؛ لأن المريض كما صار بائعاً من المشتري بإيجاب حقيقة الملك له ببدل صار بائعاً من الشفيع بإيجاب حق التملك له ببدل. ولهذا قلنا: إن الشفيع لو أقال مع البائع بعد ما أخذ الدار من المشتري بالشفعة صحت إقالته؛ لأنه أقال مع بائعه، ولو باع من وارثه من كل وجه بألفي درهم لا يجوز إجازة الورثة عندهم لما فيه من الوصية للوارث كذا هذا. فأما إذا أراد أن يأخذ بثلاثة آلاف درهم لا شك أن على قول أبي حنيفة لا يجوز بدون إجازة الورثة لما ذكرنا أنه صار بائعاً من الشفيع من وجه، ولو باع منه من كل وجه بثلاثة ألف درهم لا يجوز عند أبي حنيفة من غير إجازة الورثة فهاهنا كذلك. وأما على قولهما: فقد ذكر في كتاب الشفعة و «الجامع» والوصايا في رواية أبي حفص والمأذون أنه لا يأخذها بالشفعة، وذكر في الوصايا في رواية أبي سليمان: أنه يأخذها، فمن مشايخنا من قال في المسألة روايتان. وجه ما ذكر في عامة الروايات: أن الأخذ بثلاثة آلاف يخالف موضوع الشفعة أن الشفيع يأخذ بمثل الثمن الذي هو مضمون على المشتري والمضمون على المشتري ألفا درهم، فلا يجوز أن يأخذ بثلاثة ألف درهم. وجه ما ذكر في رواية أبي سليمان: أن المريض صار بائعاً الدار من الوارث من وجه، فيعتبر بما لو باعه منه من كل وجه ولو باع منه بألفي درهم وقيمتها ثلاثة آلاف درهم كان له الأخذ بثلاثة آلاف درهم قبل إجازة الورثة كذا هاهنا. ومن المشايخ من وفق بين الروايتين، وقال: ما ذكر في عامة الروايات محمول على ما إذا أراد الأخذ من المشتري؛ لأن الألف الزائد حينئذ تكون للمشتري؛ لأنه يملك من جهة المشتري فلهذه العهدة تكون على المشتري، فلا تزول المحاباة في حق الوارث؛ وما ذكر في الرواية الأخرى محمول على ما إذا أراد الأخذ من الورثة؛ لأن الألف الزائدة حينئذ تكون للورثة، فتزول المحاباة في حقهم. وأما إذا أراد الأخذ بألفين بإجازة الورثة إن كان الأخذ من المشتري لا تعمل إجازتهم؛ لأن الشفيع بهذا الأخذ يصير متملكاً من جهة المشتري ومن جهة المريض فباعتبار التملك من المريض إن كانت تعمل إجازتهم، فباعتبار التملك من المشتري لا تعمل إجازتهم، فلا تصح إجارتهم بالشك، وإن كان الأخذ من الورثة تعمل إجارتهم، فإن شراء المشتري ينفسخ ويصير متملكاً على المريض من كل وجه فتعمل إجازتهم، هذا إذا كان المشتري أجنبياً، وإن كان المشتري وارثاً، فإن كان باعها بمثل قيمتها أو بأضعاف قيمتها لا شفعة للشفيع قبل إجازة الورثة عند أبي حنيفة خلافاً لهما، إن باعها بألفي درهم وقيمتها ثلاثة آلاف درهم لا شك أن على قول أبي حنيفة لا شفعة للشفيع. وأما على قولهما: فقد ذكر في كتاب الشفعة أنه يأخذها بثلاثة آلاف درهم إن شاء؛ لأن الشفيع قائم مقام المشتري وهو الابن أن يزيل المحاباة ويأخذها بثلاثة آلاف إن شاء،

فكذا للشفيع، وذكر في موضع آخر: أنه لا شفعة للشفيع ههنا؛ لأن عندهما بيع المريض من وارثة إنما يصح، إذا لم تكن فيه وصية، وفي بيع المحاباة وصيتة ولا وصية للوارث، فكان البيع فاسداً ولا شفعة في البيع الفاسد، وبأن كان المشتري يتمكن من إزالة المفسد، فذاك لا يوجب الشفعة للشفيع. كما لو اشترى بشرط أجلٍ فاسد، وعن أبي يوسف رحمه الله: أن للشفيع أن يأخذها بألفي درهم؛ لأنه يتقدم على المشتري شرعاً، فيجعل كأن البيع من المريض كان معه بألفي درهم. المريض إذا باع داراً بألفي درهم وقيمتها ثلاثة آلاف، وشفيعها أجنبي فله أن يأخذها بالشفعة بألفي درهم؛ لأن المحاباة كانت بقدر الثلث، وذلك صحيح من المريض الأجنبي. فإن قيل: كيف يأخذ الشفيع الدار بألفي درهم والوصية من المريض كانت للمشتري لا للشفيع، ولا يجوز تنفيذ الوصية له لغير الوصي له. قلنا: الوصية ما حصلت مقصودة ههنا، إنما حصلت في ضمن البيع والشفيع قد تقدم على المشتري شرعاً في البيع، فكذا فيما هو متضمن البيع على (أنه) لما أوجب البيع للمشتري بما سمى مع علمه أن الشفيع يتمكن من الأخذ بمثل ما اشترى به المشتري، كان هذه وصية للمشتري إن سلم الشفيع الشفعة، وللشفيع أن يأخذ بالشفعة إذا باعها بألفين إلى أجل، وقيمتها ثلاثة آلاف درهم، فالأجل باطل؛ لأن المحاباة بالقدر استغرقت ثلث المال، فلا يمكن تنفيذ الوصية بالأجل في شيء ولكن يتخير المشتري بين أن يفسخ البيع، أو يؤدي الألفين حالة، ليصل إلى الورثة كمال حقهم وأي ذلك ما فعل، فللشفيع الشفعة يأخذها بألفي درهم حالة، وإن باعها بثلاثة آلاف درهم إلى سنة وقيمتها ألفا درهم، ثم مات أجمعوا على أن الأجل فيما زاد على الثلث باطل؛ لأنه بمنزلة المحاباة؛ لأنه براءة مؤقته، فتعتبر بالبراءة المؤبدة، لكن اختلفوا أنه يعتبر الأجل في الثلث باعتبار الثمن أو باعتبار القيمة، قال أبو يوسف: باعتبار الثمن، فيجعل ثلثي الثمن، وذلك ألفا درهم (178ب3) إن شاء والألف الثالثة إلى أجله، وقال محمد رحمه الله: باعتبار القيمة، فيجعل ثلثا القيمة، وذلك ألف وثلثمائة وثلاثة وثلثون وثلث إن شاء، والباقي عليه إلى أجله. إذا باع المريض داراً وحابى وابنه شفيعها فبرئ من مرضه، فإن كان الوارث الشفيع علم بالبيع، وقد طلب وقت ما علم كان له أن يأخذ بالشفعة، وإن لم يطلب فلا شفعة له؛ لأنه ترك الطلب بغير عذر، أكثر ما فيه أنه لم يكن متمكناً من الأخذ وقت البيع لمرض البائع، لكن هذا لا يمنع سقوط الشفعة عند ترك الطلب، ألا ترى أن الجار إذا لم يطلب الشفعة بعد ما علم بالبيع لمكان الشريك، ثم سلم الشريك الشفعة، فلا شفعة للجار، وإن لم يكن متمكناً من الأخذ وقت البيع.

الفصل التاسع عشر: في وجوه الحيل في باب الشفعة

الفصل التاسع عشر: في وجوه الحيل في باب الشفعة الحيل في هذا الباب نوعان: نوع لإسقاطه بعد الوجوب، وذلك أن يقول المشتري للشفيع: أنا أبيعها منك بما أحدث، فلا فائدة لك في الأخذ، فيقول الشفيع: نعم أو يقول المشتري للشفيع اشتراه مني بما أحدث فيقول الشفيع: نعم، أو يقول: اشتريت، فبطل به شفعته وإنه مكروه، هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» ، وذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : أنه لا يكره إذا لم يكن قصد المشتري الإضرار بالشفيع. ونوع لمنع وجوبه، وقد اختلف المشايخ فيه: بعضهم قالوا على قول أبي يوسف: لا يكره، وعلى قول محمد: يكره، وهذا القائل قاس فصل الشفعة على فصل الذكاة وفي كراهية الحيل لمنع وجوب الذكاة خلاف بين أبي يوسف ومحمد، ومنهم من قال: في الشفعة لا تكره الحيلة لمنع وجوبها بلا خلاف، وإنما الخلاف في فصل الذكاة فعلى قول هذا القائل يحتاج محمد إلى الفرق بين الشفعة وبين الذكاة. وفي «المنتقى» : قال هشام: سألت عن محمداً عن رجل جعل بيتاً من داره هبة لرجل، ثم باع بقية الدار منه هرباً من الشفعة قال: كان أبو يوسف لا يرى بذلك بأساً، وأما محمد رحمه الله، فكرهه كراهة شديدة، ولم يحفظ عن أبي حنيفة شيئاً. وفي «فتاوى الفضلي» : سئل أبو بكر بن أبي أسعد عن ذلك، فقال: بعد البيع مكروه في الأحوال كلها إن كان الجار فاسقاً يتأذى به، فلا يكره. وقيل: يكره في جميع الأحوال، ثم بعض الحيل يرجع إلى منع وجوب الشفعة، وبعضها يرجع إلى تقليل الرغبة في الشفعة، أما التي ترجع إلى منع وجوبها: أن يهب البائع بيتاً معلوماً من الدار بطريقه أو موضعاً آخر معلوماً من الدار بطريقه فتجوز الهبة؛ لأن ما وهب مقرر معين، والطريق وإن كان مشاعاً إلا أنه لا يحتمل القسمة، وهبة المشاع فيما لا يحتمل القسمة جائز، فيصير شريكاً في الطريق ثم يبيع بقية الدار منه بثمن الكل، فيصير أولى بالجار، إلا أن هذه الحيلة تصلح لدفع الجار أما لا يصلح لدفع الشريك في الدار. ومن جملة ذلك أن يتصدق بطائفة معينة من الدار على المشتري بطريقها ويسلمها، ثم يبيع الباقي منه، فلا يكون للجار الشفعة. ومن جملة ذلك: أن يهب من المشتري قدر ذراع من الجانب الذي هو متصل بملك الجار حتى يزول جواره عن باقي الدار، ثم يبيع الباقي منه. ومن جملة ذلك: أن يستأجر صاحب الدار من المشتري ثوباً ليلبثه يوماً إلى الليل

بجزء من داره التي يريد بيعها ثم يصير حتى يمضي اليوم أو بشرط التعجيل حتى يملك ذلك الجزء للحال ثم يبيع الباقي منه فلا يكون للجار الشفعة في الجزء الأول؛ لأنه ملك بعقد الإجارة، ولا في الجزء الثاني؛ لأن المشتري في الدار وقت البيع والشريك يتقدم على الجار. ومنها: أن يؤكل الشفيع ببيعها، فإذا باعها بطلت شفعته. ومنها: أن يبيعها بشرط أن يضمن الشفيع الدرك أو يضمن الثمن للبائع، فإذا ضمن بطلت شفعته، ومنها أن يبيعها بشرط الخيار للشفيع ثلاثة أيام فلا شفعة له قبل إسقاط الخيار بطلت شفعته. وأما التي يرجع إلى تعليل الرغبة أن يبيع عشر الدار من المشتري بتسعة أعشار الثمن ثم يبيع تسعة أعشار الدار بعشر الثمن، فلا يرغب المشتري في أخذ العشر لكثرة الثمن، ولا حق له في الباقي؛ لأن المشتري شريك وقت شراء الباقي، فلو أن المشتري في هذه الصورة خاف أنه لو اشترى العشر بتسعة أعشار الثمن لا يبيع الباقي بعشر من الثمن. فالحيلة في ذلك: أن يشتري العشر على خيار ثلاثة أيام حتى لو أن البائع إن أبى بيع الباقي، فالمشتري ينقض البيع في العشر بحكم الخيار، فلو أن البائع خاف في هذه الصورة أنه إن باع الباقي بعشر الثمن يفسخ المشتري البيع في العشر الأول بحكم الخيار. فالحيلة للبائع: أن يبيع الباقي بشرط الخيار لنفسه ثلاثة أيام يجيزان البيعين معاً، فإن خاف كل واحد منهما أنه إن أجاز لم يجز صاحبه. فالحيلة في ذلك: أن يوكل كل واحد منهما وكيلاً بإجازة البيع، ويشترط أن يجيز بشرط أن يجيزان لم يجز صاحبه. ومنها: أن يشتري الدار بثمن كثير ثم يعطي المشتري بذلك شيئاً من خلاف جنسه هو أقل قيمة منه، فإذا أراد الشفيع أن يأخذ يأخذ بذلك الثمن الكثير، فلا يرغب فيه لكثرة الثمن. ومنها: وهو قريب مما تقدم: أنه إذا أراد أن يشتري داراً قيمتها عشرة آلاف درهم وعشرة ينبغي أن يشتريها بعشرين ألف درهم ويعطيه عشرة آلاف درهم وديناراً بعشرة، فإذا أراد الشفيع الأخذ يأخذ بعشرين ألف درهم؛ لأن الشراء وقع بهذا القدر، وإن استحق الدينار رجع على البائع بما أدى من الدراهم والدنانير فقط؛ لأنه لما استحق الدينار رجع على البائع بما أدى من الدراهم بطل الصرف؛ لأنه ظهر أن الثمن لم يكن عليه، فصار كمن اشترى من آخر ديناراً بعشرة عليه ثم تصادقا إنه لا دين عليه، فإنه يبطل الصرف ويرد الدينار كذا هاهنا. ومنها: أن يبيع البناء من الدار من المشتري ليقلعه بثمن قليل ويبيع الساحة بثمن كثير فلا يجب للشفيع الشفعة في البناء، ويجب في الساحة ولكن لا يرغب في الساحة لكثرة الثمن.

الفصل العشرون: في المتفرقات

ومنها: أن قيمة الدار إذا كانت ألفاً مثلاً يبيع مشتري الدار شيئاً من أعيان ما له قيمته ألف بألفين حتى يجب للمشتري بائع الدار ألفي درهم قيمة ذلك الشيء ثم يشتري المشتري الدار وقيمتها ألف بثمن ذلك الشيء ألفي درهم، فتقع المقاصة بين الثمنين، (179أ3) ويكون ثمن الدار ألفي درهم إذا أراد المشتري أخذ الدار يأخذها بألفي درهم فلا يرغب في أخذها. الفصل العشرون: في المتفرقات ذكر محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : أن الشفيع إذا باع بعض داره التي يستحق بها الشفعة مشاعاً غير مقسوم بعد بيع الدار المشفوعة لا تبطل به شفعته، في «الأصل» في هذه المسألة وأجناسها: أن الشفيع متى أحدث في الدار التي يستحق بها الشفعة حدثاً بعد البيع والطلب قبل الأخذ، وما لو أحدثه بعد البيع قبل الطلب أو قبل البيع منع الطلب ووجوب الشفعة منع الأخذ، وما لا يمنع الطلب ووجوب الشفعة لا يمنع الأخذ بالشفعة؛ إذ المقصود من الطلب الأخذ. إذا ثبت هذا فنقول: بيع بعض الدار التي يستحق بها الشفعة مشاعاً قبل البيع أو بعد البيع قبل الطلب لا يمنع وجوب الشفعة، وطلبها لقيام الجوار في نقص الدار، فبعد البيع والطلب لا يمنع الأخذ، وكذلك إذا باع بعضها مقسوماً مما لا يلي جانب الدار المبيعة لا تبطل به شفعته. وإن باع بعضها مقسوماً مما يلي الدار المبيعة تبطل به شفعته؛ لأن ما أحدث لو أحدثه قبل البيع أو بعد البيع قبل الطلب يمنع وجوب الشفعة، وطلبها زوال الجوار وقت البيع ووقت الطلب، فيمنع الأخذ بالشفعة. داران طريقهما واحد، وأحد الدارين بين رجلين، والآخر لرجل خاصة باع صاحب الخاصة داره، فللآخرين الشفعة بالطريق، فإن اقتسما الدار المشترك وأصاب أحدهما بعض الدار مع كل الطريق الذي كان لهما وأصاب الآخر بعض الدار بلا طريق، وفتح الذي لا طريق له لنصيبه باباً إلى الطريق الأعظم، وهما جميعاً جاران للدار التي بيعت، فالذي صار الطريق له أحق بشفعتها؛ لأنه بقي في شركة الطريق، فإن سلم هو الشفعة أخذه الآخر بالجوار، ولا تبطل شفعته بسبب هذه القسمة؛ لأن هذه القسمة لو وجدت قبل البيع أو بعد البيع قبل الطلب لا تمنع وجوب الشفعة وطلبها الآخر؛ لأن الجار مع الخليط شفيع إلا أن الخليط مقدم على الجار فلا يمنع الأخذ بالشفعة أيضاً.r في «الأصل» : إذا بنى الشفيع في الدار التي أخذها بالشفعة بناءً، ثم استحقت الدار من يده رجع على الذي الدار منه بالثمن ولم يرجع بقيمة البناء، والمشتري إذا بنى ثم استحقت الدار من يده، فإنه يرجع بقيمة البناء كما يرجع بالثمن.

والفرق: أن رجوع المشتري بقيمة البناء من حيث إن البائع ضمن سلامة البناء للمشتري، وهذا المعنى لا يتأتى في حق الشفيع؛ لأن المأخوذ منه الدار لم يضمن له سلامة البناء؛ لأن الشفيع أخذ الدار على كره منه وضمان السلامة لا يثبت بدون الرضا. وفي «المنتقى» : الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: أن الشفيع إن كان أخذ الدار بقضاء لا يرجع بقيمة البناء على كل حال، وهو قول أبي يوسف رحمه الله أولاً، وكان أبو يوسف يرويه عن أبي حنيفة أيضاً، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف: أنه يرجع بقيمة البناء على من أخذ الدار منه، وكتب عليه عهدته؛ لأنه بمنزلة البائع ويستوي فيه الحكم وغير الحكم. في «الأصل» : رجل زعم أنه باع داره من فلان بكذا ولم يأخذ الثمن، فقال فلان: ما اشتريتها منك كان للشفيع أن يأخذها بالشفعة؛ لأن في زعم البائع أن البيع ثابت وصدقه الشفيع في ذلك، فكان للشفيع أن يأخذ للبائع في ذلك بزعمه، هذا إذا أقر أنه باع من فلان وفلان حاضر ينكر الشراء، فأما إذا كان غائباً فلا خصومة للشفيع مع البائع حتى يحضر المشتري؛ لأن الشراء من الغائب قد ثبت بتصديق البائع والشفيع، فيعتبر بما لو كان ثابتاً معاينة وغاب المشتري، فلا خصومة للشفيع مع البائع إلى أن يحضر المشتري؛ لأن الملك يستحق عليه، فلا بد من حضرته، فكذا ها هنا. ذكر في أول باب طلب الشفعة، قال هشام: سألت محمداً عن رجل باع داراً إلى جنب رجل وهو شفيعها، والشفيع يزعم أن الدار المبيعة له، ويخاف أنه إن ادعى رقبتها تبطل شفعته، وإن ادعى الشفعة تبطل دعوى الرقبة، فكيف يصنع؟. فأجاب، وقال: ينبغي له أن يقول: هذه الدار داري وأنا أدعي رقبتها، فإن وصلت إليها وإلا فأنا على شفعتي فيها، فإذا قال هذا لا يبطل شفعته بدعواه الرقبة. وفي «النوازل» : دار بيعت وفيها لرجل هو شفيعها حق فأراد أن يطلب الشفعة على وجه لا تبطل دعواه ينبغي أن يقول: طلبت الشفعة إن لم يثبت لي فيها حق الذي ادعى فيها. وفي «المنتقى» : في آخر باب طلب الشفعة: إذا باع الرجل داره فادعى رجل أنها داري وأنا أقيم البينة، فإن لم يزك بينتي فأنا آخذها بالشفعة؛ لأن داري لزيقها فلا شفعة له فيها من قبل أنه ادعى ملكها وزعم أنه لا شفعة له فيها. وفيه أيضاً: رجل له دار غصبها غاصب، فبيعت دار بجنبها والغاصب والمشتري جاحدان الدار للشفيع ينبغي أن يطلب الشفعة حتى إذا أقام البينة على الملك يتبين أن الشفعة كانت ثابتة له، فطلب خاصم الغاصب إلى القاضي وأخبره عن صورة الأمر، فبعد ذلك قضى القاضي له بالدار وبالشفعة في الدار الأخرى، وإن لم يقم البينة فالقاضي يحلفهما جميعاً فبعد ذلك المسألة على وجوه: إن حلفا فالقاضي لا يقضي له بإحدى الدارين، وإن نكلا فالقاضي يقضي بالدارين، وإن حلف الغاصب ونكل المشتري لا يقضي له بالدار المغصوبة، ويقضي له بالشفعة، وإن حلف المشتري ونكل الغاصب يقضي

له بالدار المغصوبة، ويقضي له بالشفعة؛ لأن النكول إقرار وإقرار كل مقر حجة عليه خاصة. ذكر هشام في «نوادره» : سمعت أبا يوسف يقول في رجل صالح رجلاً من دار ادعاها في يديه على مائة درهم وهو جاحد، فأقام الشفيع البينة أنها للذي ادعاها قال: يأخذها. في «القدوري» : اشترى داراً ولها شفيع، فبيعت دار إلى جنب هذه الدار، فطالب بالشفعة، وقضى له ثم حضر الشفيع قضي له بالدار الأولى لجواره، ويمضي الحكم في الثانية للمشتري؛ لأنه كان جاراً له البيع والحكم له، فبطلان الجوار لا يبطل حكم الواقع كما لو باع المشفوع بها. ولو كان الأول جاراً للدارين حكم له بالدار الأولى بالجوار وبنصف الدار الثانية؛ لأن الشفيع مع المشتري جاران للدار الثانية، وروي عن أبي يوسف رحمه الله فيمن اشترى نصف دار ثم اشترى آخر نصفها الأخرى، فخاصمه المشتري الأول فقضي له بالشفعة بالشركة ثم خاصمه جار (179ب3) في الشفيعين، فالجار أحق بالشراء الأول، ولا حق له في الثاني. وكذلك لو اشترى نصفها ثم اشترى نصفها؛ لأنه شريك وقت شراء النصف الثاني، فكان أولى بالشفعة من الجار، ولو كان المشتري للنصف الثاني غير المشتري للنصف الأول، فلم يخاصمه فيه حتى أخذ الجار النصف الأول، فالجار أحق بالنصف الثاني؛ لأن ملك المشتري الأول قد بطل قبل الأخذ بالشفعة، فيبطل حقه في الشفعة. ولو أن رجلاً ورث داراً فبيعت دار بجنبها فأخذها بالشفعة، ثم بيعت دار أخرى بجنب الدار الثانية، ثم استحقت الدار الموروثة وطلب المستحق الشفعة، فإنه يأخذ الدار الثانية ويكون الوارث أحق بالدار الثالثة، هكذا ذكر القدوري، ولم يذكر ما إذا لم يطالب المستحق الشفعة، وذكر في القدوري: أن الدار الثانية ترد على المقضي عليه بالشفعة يعني للذي كان اشتراها والدار الثالثة تترك في يد الذي هي في يديه. في الباب الأول من شفعة «الجامع:» رجل اشترى داراً وقبضها فأراد الشفيع أخذها فقال المشتري: بعتها من فلان وخرجت من يدي، ثم أودعينها لم يصدق، وجعله خصماً للشفيع؛ لأن الشفيع ادعى لنفسه حقاً في هذه الدار وذو اليد أقر أنه كان خصماً له ثم ادعى أنه لم يبق خصماً له، فلا يصدق، فإن أقام البينة على ذلك لا تسمع بينته. وكذلك لو قال: وهبتها لفلان وقبضها ثم أودعينها لا يقبل قوله، ولو أقام على ذلك بينة، فإن حضر المشتري في الفصل الأول والموهوب له في الفصل الثاني، وكان ذلك بعد قضاء القاضي للشفيع، وأقام البينة على الشراء أو على الهبة لا تسمع بينته، وكان القضاء بالشفعة نقضاً للشراء والهبة؛ لأن صاحب اليد صار مقضياً عليه، فكل من ادعى تلقي الملك من جهة صاحب اليد يصير مقضياً عليه، ألا ترى أنه لو كان مكان دعوى الشفعة دعوى الملك في هذه الدار وقضي القاضي بالملك للمدعي، ثم حضر المشتري والموهوب له وأقام البينة على الشراء والهبة لا يقبل بينته كذا ها هنا.

وفي الأبواب المتفرقة قبيل كتاب البيوع من «الجامع» : دار في يدي رجل يدعي أنه اشتراها من فلان ونقده الثمن والدار تعرف لفلان، وادعى فلان أنه وهبها للمدعي، وله أن يرجع في الهبة، فالقول قول فلان؛ لأن التمليك صدر من فلان باتفاقهما، فيكون القول قوله في بيان جهته، فإن لم يقض القاضي للواهب بالرجوع حتى حضر شفيع الدار، فهو أحق بالدار من الواهب؛ لأن صاحب اليد أقر بحق الشفعة للشفيع، وقد صح هذا الإقرار منه؛ لأن صاحب الدار أقر أنه ملك الدار من صاحب اليد، والتمليك تسليط على التصرف، وأن يضمن ذلك إبطال حق الواهب في الرجوع، فيصح الإقرار منه بثبوت حق التملك للشفيع أيضاً، فإن لم يحضر الشفيع قضى القاضي بالرجوع للواهب؛ لأن حقه ظاهر وحق الشفيع لم يظهر بعد فإذا قضي له بالرجوع، ثم حضر الشفيع نقض الرجوع، وردت الدار على الشفيع. ولو كان صاحب اليد ادعى أنه اشتراها من فلان على أن فلاناً بالخيار ونقده الثمن، وادعى فلان الهبة والتسليم وحضر الشفيع أخذها بالشفعة وبطل الخيار. وفي المسألة نوع إشكال؛ لأن صاحب اليد مع صاحب الدار اتفقا على أنه لا شفعة للشفيع؛ لأن صاحب الدار يدعي الهبة وصاحب اليد يدعي البيع بشرط الخيار للبائع. قلنا: صاحب الدار لما أقر بالهبة والتسليم إلى صاحب الدار فقد أقر بثبوت الملك له، وإقراره بثبوت الملك إسقاط منه للخيار، وصاحب اليد مقر بالشراء، فتثبت الشفعة بإقرار صاحب اليد بالشراء عند سقوط خيار صاحب الدار. في «الأصل» : إذا كانت الدار في يد البائع، وقضى القاضي للشفيع بالشفعة على البائع، وطلب الشفيع من البائع الإقالة فأقاله البائع فالإقالة جائزة، وتعود الدار إلى ملك البائع ولا تعود إلى ملك المشتري، ويجعل في حق المشتري كأن البائع اشترى الدار من الشفيع، وكذلك إذا كانت الدار في يد (البائع) وقضى القاضي بالدار للشفيع، فقبل أن يقبض الشفيع الدار من المشتري أقال مع البائع صحت الإقالة، وصارت الدار ملكاً للبائع في قول أبي حنيفة. في «الأصل» أيضاً: إذا مات المشتري والشفيع حي، فللشفيع الشفعة، فإن كان على الميت دين لا تباع الدار في دينه وأخذها الشفيع بالشفعة، وإن تعلق بالدار حق الغريم والشفيع؛ لأن حق الشفيع آكد من حق الغريم، فإن حق الشفعة في الصورة والمعنى، وهو المالية وحق الغريم في المالية دون الصورة، فكان حق الشفيع مقدماً. وفي «الأصل» أيضاً: إذا حط (180أ3) البائع عن المشتري بعض الثمن، فهذه المسألة على وجهين: إما إن كان الحط قبل الثمن من المشتري أو بعده، فإن كان قبل قبض الثمن صح الحط في حق المشتري والشفيع حتى أن الشفيع يأخذ الدار بما وراء المحطوط؛ لأن حط البعض يلتحق بأصل العقد، فصار العقد القائم للحال عقداً بما وراء المحطوط، فيأخذه الشفيع بذلك. وكذلك لو وهب بعض الثمن من المشتري أو أبرأه عن بعض الثمن؛ لأن الهبة والإبراء قبل القبض بمنزلة الحط.

وأما إذا حط الكل أو وهب الكل أو أبرأه عن الكل صح في حق المشتري؛ لأنه لاقى ديناً ولكن لا يظهر في حق الشفيع حتى يأخذ الشفيع الدار بجميع الثمن إن شاء؛ لأن هذا الحط لا يلتحق؛ لأنه لو التحق بطل من حيث صح؛ لأن العقد بغير ثمن باطلٌ فلا يكون المحطوط ثمناً، فلم يلتحق بأصل العقد، وبقي العقد في حق الشفيع بجميع الثمن كما كان قبل ذلك، وإن كانت هذه التصرفات بعد قبض البائع الثمن من المشتري. فالجواب في الحط والهبة على ما ذكرنا قبل القبض إن حط البعض أو وهب البعض صح في حق المشتري والشفيع، ووجب على البائع رد مثل ذلك على المشتري وأخذه الشفيع بما وراء المحطوط والموهوب، وإن حط الكل أو وهب الكل يصح ذلك في حق المشتري، فلا يصح في حق الشفيع. وأما الإبراء بعد القبض لا يصح لا في حق المشتري ولا في حق الشفيع، سواء كان الإبراء عن الكل أو عن البعض. وفي المسألة نوع إشكال، فإن الثمن بعد القبض إن اعتبر قائماً في ذمة المشتري، فينبغي أن يصح الإبراء كما تصح الهبة والحط كما قبل القبض، وإن لم يعتبر قائماً ينبغي أن لا تصح الهبة والحط كما لا يصح الإبراء، والجواب: الثمن باق في ذمة المشتري بعد القبض؛ لأن البائع ما قبض عين حقه إلا أنه ليس للبائع ولاية المطالبة؛ لأن المشتري يطالبه بمثله، فلا يفيد فمطالبة المشتري مفيد؛ لأن البائع لا يطالبه بمثل ذلك؛ لأن المشتري قد يرى، فيجب على البائع رد مثل ما قبض بعد الحط والهبة، فأما الإبراء، فإنما لم يصح؛ لأن الثمن غير باق في ذمة المشتري ولكن؛ لأن الإبراء نوعان: إبراء لإسقاط الواجب، وإبراء بالاستيفاء. ولهذا يقال: أبرأه براءة قبض واستيفاء، كما يقال: أبرأه براءة إسقاط، فإذا أطلق البراءة إطلاقاً انصرف ذلك إلى البراءة من حيث الاستيفاء؛ لأنه أقل وصار كأنه نص عليه، فقال: أبرأتك براءة قبض واستيفاء، وهناك لا يسقط الواجب عن ذمته ولا يلزم البائع رد شيء بخلاف الحط والهبة، فإنه نوع واحد وهو الحط والهبة، بطريق إسقاط الواجب. ولهذا لا يقال: حططت ووهبت حط استيفاء، فكأنه نص عليه، ولو زاد المشتري في الثمن زيادة بعد العقد يأخذ الشفيع الدار بالثمن الأول، ولا تظهر الزيادة في حق الشفيع. وفرق بين الزيادة وبين الحط، فإن الحط يظهر في حق الشفيع. والفرق: أن الزيادة تتضمن إبطال حق الشفيع، فإنه يثبت للشفيع حق الأخذ بالثمن الأول؛ لأن لو صحت الزيادة في حق الشفيع لا يتمكن من الأخذ بالثمن الأول، فلم تصح الزيادة في حقه صيانة لحقه، أما الحط لا يتضمن إبطال حق على الشفيع بل فيه منفعة للشفيع؛ لأن بالحط يخرج بعض الثمن عن العقد، فلهذا افترقا. في «فتاوى (أهل) سمرقند» : أن رجلاً اشترى من رجل أرضاً وقبضها، فجاء الشفيع

وطلب شفعتها، فسلمها المشتري إليه، ثم نقد المشتري البائع الثمن فوهب البائع منه من ذلك خمسة دراهم، وقد قبض المشتري من الشفيع جميع الثمن، فعلم الشفيع بالهبة، فليس له أن يسترد شيئاً. ولو وهب البائع خمسة دراهم من المشتري قبل قبض الثمن كان للشفيع أن يسترد؛ لأن في الوجه الأول الهبة ليست بحط؛ لأنها هبة العين بخلاف الوجه الثاني. في «المنتقي» : جل اشترى داراً من رجل بألف درهم وتقابضا، ثم زاده في الثمن ألفاً من غير أن يتناقضا البيع، ثم علم الشفيع بالألفين ولم يعلم بالألف، فأخذها الشفيع بألفين بحكم أو بغير حكم، فإن أخذها بحكم أبطله القاضي، ثم قضى له أن يأخذها بشفعته بالألف؛ لأنه كان قضاء له بغير ما وجبت به الشفعة، وإن أخذها بغير حكم، فهذا شراء ولا ينتقض، ولو كان المشتري حين اشتراها بألف وقبضها ناقصة البيع، ثم اشتراها بألفين، ثم علم الشفيع بالبيع بألف وأخذها بالشفعة بألفين بحكم أو بغير حكم، ثم علم بالبيع بألف لم يكن له أن ينتقض أخذه؛ لأنه أخذ بما قد كان وجب له أخذها به. إذا باع الرجل داره وعبده التاجر شفيعها، فإن لم يكن عليه دين لا يأخذها، وإن كان عليه دين أخذها، وكذلك إذا كان البائع هو العبد والمولى شفيعها. إذا اشترى الرجل أرضاً وزرع فيها زرعاً، ثم جاء الشفيع فله أن يأخذها ويقلع الزرع قياساً. وفي الاستحسان: لا يأخذها في الحال، وتترك في يد المشتري إلى أن يستحصد الزرع؛ لأن المشتري محق في الزراعة من وجه، فإنه زرع في ملك نفسه، وكونه محقاً في الزراعة يمنع غيره عن قلع زرعه، ويتعدى في الزراعة من وجه من حيث إنه زرع فيما هو حق الغير، وإنه مطلق القلع لصاحب الحق، الآن لو اعتبرنا كونه محقاً لا يبطل حق الشفيع أصلاً بل يتأخر؛ لأن لإدراك الزرع غاية معلومة. ولو اعتبرنا جانب كونه متعدياً يبطل حق المشتري في الزرع أصلاً، ولا شك أن التأخير أولى من الإبطال حتى لو كان مكان الزرع بناء أو غرساً أو رطبة يؤمر المشتري بقلع هذه الأشياء؛ إذ ليس لهذه الأشياء نهاية معلومة، والتأخير لا إلى غاية معلومة إبطال، فاستوى الجانبان في معنى الإبطال، فراعينا جانب الشفيع؛ لأنه ليس بمتعد أصلاً، والمشتري متعد من وجه، ثم إذا ترك الأرض في يد المشتري تترك بغير أجر. وروي عن أبي يوسف: أنه تترك بأجر المثل، وكان أبو يوسف رحمه الله قاس هذا على ما إذا انقضت مدة الإجارة وفي الأرض زرع لم يستحصد بعد حتى ترك في يد المستأجر يترك بأجر المثل. وفي ظاهر الرواية فرق بينهما؛ لأن المشتري مالك للرقبة وإيجاب الآخر على مالك الرقبة لا يستقيم، وفي فصل الإجارة يجب الأجر على غير مالك الرقبة وإنه مستقيم،

وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن حامد يحكي عن الشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير رحمه الله: أنه كان يقول: يسلم المشتري الأرض إلى الشفيع ثم يستأجر منه مدة معلومة يعلم أن الزرع يدرك في مثله نظراً للشفيع والمشتري، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن حامد هذا يقول: ما قاله الشيخ لا يصح على قول محمد؛ لأن الأرض مشغولة بزرع رب الأرض فيمنع التسليم. وإذا منع التسليم صار الشفيع مؤجراً الأرض قبل القبض، ومن مذهبه إن إجارة العقار قبل القبض لا تجوز، وإنما يصح هذا الجواب على قولهما؛ لأن عندهما إجارة العقار قبل القبض جائزة. ومن هذا الجنس في «فتاوى أبي الليث» وصورتها: رجلٌ أخذ أرضاً مزارعة وزرعها، فلما صار الزرع بقلاً اشترى المزارع الأرض مع نصيب رب الأرض من الزرع، ثم جاء الشفيع، فله الشفعة في الأرض وفي نصف الزرع، ولكن لا يأخذ حتى يدرك الزرع؛ لأن نصف الأرض مشغولة بنصيب (180ب3) المزارع ولم يجب فيها الشفعة، فكان المزارع أحق بها حتى يدرك. في «المنتقى» : رجل اشترى داراً ولها شفيع، فقال الشفيع: أجزت البيع وأنا آخذ بالشفعة أو قال: سلمت المبيع، وأنا آخذ بالشفعة فهو على شفعته إذا وصل، وإذا فصل وسكت ثم قال: أنا آخذ بالشفعة، فلا شفعة له. في «المنتقى» أيضاً عن محمد: رجل اشترى من آخر داراً وجاء شفيع الدار، وادعى أنه كان اشترى هذه الدار من البائع قبل شراء هذا المشتري، فأقر المشتري بذلك ودفع الدار إلى الشفيع ثم قدم شفيع آخر، وأنكر شراء الشفيع أخذ الدار كلها بالشفعة؛ لأن الأول لم يأخذها بالشفعة ولم يطلب شفعته، فبطلت شفعته لترك الطلب، ولو كان الشفيع حين أقر له المشتري بما أقر به كذبه في إقراره. معنى المسألة: إذا قال المشتري للشفيع ابتداء: قد كنتَ اشتريت هذه الدار قبل شرائي فهي لك بشرائك قبلي، وقال الشفيع: ما اشتريتها وأنا آخذها بالشفعة، فأخذها الشفيع من المشتري ثم الشفيع الآخر فليس إلا نصفها. في «الفتاوى» : سئل أبو بكر عمن له ضيعة عليها خراج كثير ومؤن لا يشتري بشيء، فباعها مع دار قيمتها ألف درهم بألف درهم، فجاء شفيع الدار بكم يأخذ الدار؟. قال: سئل أبو نصر عن هذا، فلم يجب، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وعندي أن الضيعة إذا كانت بحال يشتريها أخذها من أصحاب السلطان بشيء يقسم الألف على ما يشتري به الضيعة وعلى قيمة الدار، وإن كانت الضيعة لا يشتريها أحد قسمت الألف على قيمة الأرض في آخر الوقت التي ذهبت عنها رغبات الناس وعلى قيمة الدار؛ لأنه لا بد للقسمة من القيمة، فإذا لم يكن لها قيمة للحال يعتبر قيمتها في آخر الوقت الذي عنها رغبات الناس، ويمكن أن يقال على قياس أبي حنيفة يجعل الألف بمقابله الدار إذا لم يكن للضيعة قيمة أصلاً.

أصله: إذا تزوج امرأتين على ألف درهم إحداهما تحل له والأخرى لا تحل له. رجل ادعى قبل رجل شفعة بالجوار والمشتري لا يرى الشفعة بالجوار، فأنكر شفعته يحلف بالله ما لهذا قبلك شفعة يحلف فيفوت حق المدعي. في «فتاوى أبي الليث» : وفي هذا الموضع أيضاً: رجل اشترى داراً ولم يقبضها حتى بيعت دار أخرى بجنبها، فللمشتري الشفعة؛ لأنه ملكها بنفس الشراء، فيثبت له الجوار. وفي هذا الموضع أيضاً: رجل طلب الشفعة في دار، فقال له المشتري: دفعتها إليك فهذا على وجهين: الأول: إن علم الشفيع بالثمن، وفي هذا الوجه التسليم صحيح وصارت الدار ملكاً للشفيع؛ لأن المشتري ملكها منه وصح التمليك. الوجه الثاني: إذا لم يعلم الشفيع بالثمن، وفي هذا الوجه لا يصير الدار ملكاً للشفيع، فهو على شفعته؛ لأن التمليك لم يصح. وفي هذا الموضع أيضاً: رجلٌ أسلم داراً في مائة قفيز حنطة وسلم، فجاء الشفيع فله الشفعة؛ لأنها ملكت بعقد المعاوضة، ولو لم يسلم الدار حتى افترقا بطل السلم لمكان الافتراق، ولا شفعة للشفيع؛ لأن هذا ليس بعقد، وإن لم يفترقا حتى تناقضا السلم ثم افترقا كان للشفيع الشفعة؛ لأن الإقالة عقد جديد في حق الثالث. في «الجامع» : رجل في يديه دار جاء رجل وادعى شفيعها، وقال للذي في يديه الدار: اشتريتها من فلان وصدقه البائع في ذلك، وقال الذي في يديه الدار: ورثتها عن أبي، فأقام الشفيع البينة أنها كانت لأب البائع مات وترك ميراثاً للبائع، ولم يقم البينة على البيع، فالقاضي يقول للذي في يديه: إن شئت فصدق الشفيع وآخذ منه الثمن وتكون العهدة عليك وإن أبى ذلك أخذ الشفيع الدار ودفع الثمن ويرد البائع الثمن على المشتري والعهدة على البائع، وإنما قبلت بينة الشفيع على إثبات الملك للبائع؛ لأن الملك للبائع سبب ثبوت حقه في الشفعة. ألا ترى أنه لو ادعى أن هذه الدار ملكه اشتراها من فلان، وفلان يملكه وقال ذو اليد: ورثتها عن أبي، فأقام المدعي بينة أن الدار كانت لأب البائع مات وتركها ميراثاً للبائع والبائع مقر بالبيع، وقبض الثمن من المدعي تقبل بينة المدعي، وإنما تقبل لما قلنا. وإذا قبلت بينته صار الثابت بها كالثابت عياناً، ولو عاينا أن الدار ملك البائع والبائع يقول بعتها من فلان من ذي اليد بكذا وقبضت منه الثمن كان القول قوله. وصارت مسألتنا دار مملوكة لإنسان في يد رجل أقر صاحب الدار بيعها من صاحب اليد وقبض الثمن منه، وأنكر صاحب اليد الشراء جاء شفيع الدار وطلب الشفعة وهناك يقال لصاحب اليد: إن شئت فصدق البائع في دعوى البيع حتى يأخذها الشفيع منك، وتكون العهدة عليك، وإن شئت فكذب البائع ورد الدار على البائع حتى يأخذها الشفيع منه وتكون العهدة عليه كذا ههنا، وكذلك لو قال الذي في يديه: وهبها لي فلان، وقال

الشفيع: اشتريتها من فلان وصدق البائع الشفيع فهو على ما وصفت لك.Y وفيه أيضاً: رجل اشترى داراً بعبد فلم يتقابضا حتى اعور العبد ورضي المشتري بالقيمة أو اختار تركه كان للشفيع أن يأخذ الدار بالشفعة، أما إذا رضي به المشتري فظاهر، وأما إذا تركه؛ فلأن العقد، وإن انفسخ من كل وجه بالرد بالعيب قبل القبض إلا أن حق الشفيع لا يبطل بانفساخ البيع على ما مر، ويأخذها بقيمة العبد صحيحاً، وكان ينبغي أن يأخذها بقيمة العبد معيباً؛ لأن بائع الدار لما رضي بالعبد مع العيب، فقال: حط عن مشتري الدار بعض ثمنها وما يحط عن المشتري يحط عن الشفيع. قلنا: هذا هكذا إذا كان ما حط على المشتري متبوعاً وأصلاً بنفسه؛ لأنه حينئذ يلتحق بأصل العقد ويجعل كالموجود لذا العقد، إما إذا كان بيعاً ووصفاً من أوصاف الثمن لا يحط عن الشفيع ما حط عن المشتري. ألا ترى أن من اشترى داراً بألف درهم جياد ونقد ألف درهم زيوف وتجوز به البائع، ثم حضر الشفيع أخذ الدار بألف درهم جياد. وطريقة ما قلنا: خيار الرؤية يثبت للشفيع بدون الشرط، وكذلك خيار العيب، وخيار الشرط لا يثبت له بدون الشرط حتى أن من اشترى داراً وشرط الخيار لنفسه، فأخذها الشفيع فلا خيار له؛ وهذا لأن الأخذ بالشفعة شراء حكماً، فيعتبر بالشراء حقيقة. ولو اشتراها الشفيع حقيقة يثبت له خيار الرؤية، وخيار العيب من غير شرط، ولا يثبت خيار الشرط إلا بالشرط، فكذا إذا اشتراها حكماً رجل اشترى داراً لم يرها، فبيعت داراً بجنبها فأخذها بالشفعة لم يبطل خياره بخلاف خيار الشرط؛ وهذا لأنه لو بطل خياره إنما يبطل من حيث إن ما فعل دليل الرضا، إلا أن دليل الرضا لا يربوا على صريح الرضا، وبصريح الرضا قبل الرؤية لا يبطل خيار الرؤية، فبدليل الرضا أولى، هذا إذا كان الأخذ بالشفعة قبل رؤية الدار المشتراة، أما إذا كان بعدها يبطل خيار الرؤية؛ لأن هذا دليل الرضا وبصريح الرضا بعد الرؤية يبطل خيار الرؤية، فكذا بدليل الرضا. في شرح الطحاوي في «الأصل» : اشترى داراً وهو شفيعها ولها شفيع غائب يصدق الشفيع يثبت منها، وطريقه على رجل، ثم باع ما بقي منها ثم قدم الشفيع الغائب، فأراد أن ينقض صدقة المشتري وبيعه، فهذا على وجهين: الأول: إذا باع ما بقي من الدار من المتصدق عليه، وفي هذا الوجه ليس له أن ينقض صدقته في الكل إنما ينقض في النصف؛ لأن الدار مشترك بيت المشتري وبين الغائب بحق الشفعة فيعتبر بما لو كان مشتركاً بينهما بحقيقة الملك، ولو كانت مشتركة بينهما بحقيقة الملك باع أحدهما موضعاً منها بعينه، أو تصدق على رجل ثم باع الباقي منه، لم يكن للشريك (181أ3) الآخر أن ينقض تصرفه في الكل، وإنما ينقض في النصف كذا هنا. الوجه الثاني: إذا باع باقي الدار من رجل آخر كان للغائب أن ينقض تصرفه في الكل، ألا ترى أنها لو كانت مشتركة بينهما شركة ملك، فيصير أحدهما على هذا الوجه

كان للآخر أن ينقض تصرفه في الكل؛ لأنه يحتاج إلى أن يقسم مع اثنين، وربما يتفرق نصيبه، فيلحقه زيادة ضرر، ولا كذلك في الوجه الأول. في «الأصل» أيضاً: تسليم الشفعة في البيع تسليم في الهبة، بشرط العوض حتى أن الشفيع إذا أخبر بالبيع، فسلم الشفعة، ثم تبين أنه لم يكن بيعاً، وكان هبة بالعوض، فلا شفعة له، وكذلك تسليم الشفعة في الهبة بشرط العوض تسليم في البيع، وهذا لما عرف أن الهبة بشرط العوض والبيع سواء، فكان التسليم في أحدهما تسليماً في الآخر. في «فتاوى الفضلي» : رجل اشترى داراً وهو شفيعها بالجوار، وطلب جار آخر فيها الشفعة، فسلم المشتري الدار كلها إليه كان نصف الدار له بالشفعة والنصف بالشراء. في «فتاوى أهل سمرقند» : أجمة بين اثنين ورثا عن أبيهما، ولا يعلم أحدهما بعينه أن له فيه نصيباً، فبيعت أجمة أخرى بجوار هذه، فلم يطلب هو الشفعة، فلما أخبر أن له فيها نصيب طلب الشفعة، فلا شفعة له؛ لأنه لم يطلب طلب المواثبه عند العلم بالبيع، والجهل ليس بعذر. في «فتاوى الفضلي» : إذا قال المشتري للشفيع: رد علي الثمن ولك الشفعة، فهذا لا يكون تسليماً للدار والشفيع على شفعته؛ لأن قوله: ولك الشفعة، إن كان اختار أن له الشفعة فهو صادق في هذا الخبر وإن كان تسليماً معلقاً بأداء الثمن، فالتسليم على هذا الوجه لا يصح يعني التمليك. فيه أيضاً: رجل له خمس منازل في زقاق غير نافذة باع هذه المنازل، وطلب الشفيع الشفعة في واحد من المنازل، فهذا على وجهين: الأول: أن يطلب بحق الشركة في الطريق، وفي هذا الوجه ليس له ذلك؛ لأنه تفريق من غير ضرورة؛ لأن السبب عم الكل. الوجه الثاني: أن يطلب الشفعة بحق الجوار، وجواره في هذا المنزل لا غير، وفي هذا الوجه له ذلك؛ لأن السبب خص هذا الواحد والله أعلم. وبه ختم كتاب الشفعة، تم الدفتر الخامس من المحيط (181ب3) .

كتاب القسمة

كتاب القسمة هذا كتاب يشتمل على ثلاثة عشر فصلاً. 1 * في بيان ماهية القسمة. 2 * في بيان كيفية القسمة. 3 * في بيان ما يقسم وما لا يقسم وما يجوز من ذلك وما لا يجوز. 4 * فيما يدخل تحت القسمة من غير ذكره وما لا يدخل. 5 * في الرجوع عن القسمة واستعمال القرعة فيها. 6 * في الخيار في القسمة. 7 * في بيان من يلي القسمة على الغير ومن لا يلي. 8 * في قسمة التركة وعلى الميت أو له دين أو موصى له، وفي ظهور الدين بعد القسمة، وفي دعوى الوارث ديناً في التركة أو عيناً من أعيان التركة. 9 * في الغرور في القسمة. 10 * في القسمة يستحق منها شيء. 11 * في دعوى الغلط في القسمة. 12 * في المهايأة. 13 * في المتفرقات.

الفصل الأول: في بيان ماهية القسمة

الفصل الأول: في بيان ماهية القسمة فنقول: القسمة نوعان: قسمة في ذوات الأمثال كالمكيلات والموزونات والعدديات المتقاومة. وقسمة في غير ذوات الأمثال من العدديات المتقاومة كالنبات والأغنام. فالقسمة في ذوات الأمثال إفراز وقبض لعين الحق حكماً، مبايعة من حيث الحقيقة من وجه؛ لأن ما قبضه كل واحد منهما نصف ملكه من الأصل حقيقة، ونصفه ملك صاحبه صار له من جهة صاحبه بالقسمة. فهو معنى قولنا: إنها مبايعة من حيث الحقيقة من وجه، إلا أن ما أخذ كل واحد منهما من نصيب صاحبه مثل ما ترك عليه بيقين وأخذ مثل الحق بمنزلة أخذ عين الحق حكماً. ألا ترى أن أخذ المثل في الرضى جعل كأخذ العين حكماً حتى لم تثبت المبادلة بين المستقرض وبين المأخوذ. فهو معنى قولنا: إنها إفراز لعين الحق حكماً، ففي كل موضع لا يمكن العمل بشبه الإفراز والمبايعة يعمل بها، وفي كل موضع لا يمكن العمل بالشبهين يعمل بنسبة الإفراز؛ لأن شبه الإفراز راجح؛ لأنه ثابت حكماً من كل وجه، وحقيقة من وجه. ولهذا كان لكل واحد من الشريكين أن يأخذ نصيبه من غير رضى صاحبه. وإذا اشترى رجلان مكيلاً أو موزوناً بدراهم وأقسماهما فيما بينهما، فلكل واحد منهما أن يبيع من الحسر بنصف الدرهم. فإن قيل: أليس محمد رحمه الله ذكر في آخر كتاب القسمة: إذا كان وصي الذمي مسلماً، وفي التركة خمور وخنازير أنه يكره له قسمتها. ولو كان الرجحان في هذه القسمة لشبه الإفراز ينبغي أن يجوز من غير كراهة، فإن الذمي إذا وكل مسلماً أن يقبض خمراً له جاز للوكيل قبضها من غير كراهة. قلنا: ذكر شمس الأئمة الحلواني: أنه إذا كان في التركة الخمور لا غير لا يكره للوصي المسلم قسمتها، لأن هذه القسمة إفراز محض، ليس فيها شبهة المبادلة، والمسلم يملك قبض خمر الذمّى، وإنما تكره القسمة إذا كان مع الخمور الخنازير؛ لأن القسمة تكون مبادلة.

وغيره من المشايخ قالوا: لا، بل تكره قسمة الخمور وحدها للمسلم؛ لأن العمل بالشبهين في قسمة الخمر ممكن بإثبات الكراهة، ومعنى الكراهة ههنا بين الحرام المطلق والحرام المحض؛ لأنها لو كانت إفرازاً من كل وجه كانت حلالاً، ولو كانت مبايعة من كل وجه كانت حراماً، فإذاً كانت مبايعة حقيقية من وجه إفرازاً حكماً بين الحلال المحض والحرام المحض. وأما القسمة في غير ذوات الأمثال فشبه المبادلة فيها راجح؛ لأنها إفراز حكماً من وجه، ومن حيث الحقيقية هي مبادلة من كل وجه، وأما الحقيقة فظاهر. وأما الحكم؛ فلأن نصف ما يأخذ كل واحد منهما مثل لما ترك على صاحبه باعتبار القيمة وأخذ المثل كأخذ العين حكماً، فكان إفرازاً إلا أن ما يأخذ كل واحد منهما، ليس بمثل لما ترك على صاحبه بيقين، لأن المقسوم ليس من ذوات الأمثال، فلا تثبت المعادلة بيقين، فالإفراز مع المبادلة استويا في الحكم، ثم ترجحت المبايعة بالحقيقة؛ وهذا لأن الحقيقة وإن كانت لا تصلح حلاً لمقابلة الحكم بنفسها، لكنها تصلح للترجيح، ولهذا كره بيع المرابحة لأن الرجحان للمبايعة في غير ذوات الأمثال، فيكون مشترياً نصف ما أخذ بثلث ما ترك على صاحبه من الثياب. فإذا قال: اشتريت بالدراهم كان ذلك منه جناية، فإن قيل لو كان الرجحان في هذه القسمة للمبايعة لكان لا يجبر الآتي عليها، وبالإجماع يجبر، وكذلك لا يثبت حكم الغرور فيها، حتى إن الشريكين إذا اقتسما داراً أو أرضاً بينهما، وبنى أحدهما في نصيبه بناء، ثم جاء مستحق واستحق الطائفة التي بنى فيها ونقض بناءه لا يرجع على صاحبه بقيمة البناء. ولو كان الرجحان لجانب المبايعة لثبت الغرور، كما لو اشترى. قلنا: الجبر على هذه المبايعة لينقطع ارتفاق الآتي بملك صاحبه، ويجوز أن يجرى الجبر على المبايعة باعتبار حق مستحق للغير. ألا ترى: أن المشتري يجبر على تسليم الدار إلى الشفيع، وإن كان التسليم إليه مبايعة إنما يجبر لحق الشفيع، وألا ترى أن المديون يحبس حتى يبيع ماله ويقضي الدين، فيجريان الجبر عليها لا تبقى كونها مبايعة، وأما الثاني، فقلنا: إنما لا يثبت الغرور؛ لأن كل واحد منهما مضطر في هذه المبايعة. لأنه يحتاج إلى تخليص حقه، يمنع صاحبه عن الارتفاق بملكه، ولا يمكنه ذلك إلا بهذه المبايعة لإحياء حقه، والجبر كما يثبت بالإكراه يثبت بالحاجة إلى إحياء الحق، كصاحب العلو إذا بنى السفل، وإذا كان مجبراً على هذه المبايعة لا يثبت فيها حكم الغرور، كالشفيع إذا أخذ الدار من المشتري بقضاء القاضي، والله أعلم.

الفصل الثاني: في بيان كيفية القسمة

الفصل الثاني: في بيان كيفية القسمة في «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف قال: كان أبو حنيفة رحمه الله لا يرى القسمة على ما كان يصنع ابن أبي ليلى، ولكنه يقوّم الزراع من الأرض دراهم، ويقوّم البناء دراهم، ويقوم الجذوع دراهم. وكذلك في الأرض والشجر يقسمهما: يعطى كل إنسان ما أصابه، فإن كان في يده فضل أخذه، وإن نقص زاده حتى يوفيه. في «الأصل» كان أبو حنيفة رحمه الله يقول في العلو الذي لا سفل له، وفي السفل الذي لا علو له بأن كان علو مشترك بين رجلين، وسفل لرجل آخر، وسفل مشترك بين هذين الرجلين، وعلوه لآخر، تجب القسمة ذراع من السفل بذراعين من العلو. وقال أبو يوسف: يحسب العلو بالنصف والسفل بالنصف. وقال محمد رحمه الله: يقسم على قيمة السفل والعلو، فإن كان قيمتهما على السواء يحسب ذراع بذراع، وإن كان قيمة إحداهما ضعف قيمة الآخر يحسب من الذي قيمته على الضعف ذراع بذراعين من الآخر حتى يستويا في القيمة. قيل: إن أبا حنيفة أجاب بناء على ما شاهد من عادة أهل الكوفة في اختيار السفل على العلو في السكنى، وأبو يوسف أجاب بناء على ما شاهد من عادة أهل بغداد في التسوية بين العلو والسفل في منفعة السكنى، ومحمد رحمه الله شاهد اختلاف العادة في ذلك في البلدان، فقال: يقسم على القيمة. وقيل: هذا بناء على أن عند أبي حنيفة لصاحب السفل منفعتان، منفعة بظاهره ومنفعة بباطنه بأن يحفر في السفل سرداباً، فإن له ذلك إذا لم يضر بالعلو، ولصاحب العلو منفعة واحدة، وهو أن يسكن فيه أما ليس له أن يبنى على علوه يقال ضرّ بصاحب السفل أو لم يضر، فكان ذراعاً من السفل بذراعين من العلو من هذا الوجه، أو نقول: العلو ينتفع في حالة واحدة وهي حالة قيام السفل، والسفل ينتفع في حالتين، حالة قيام العلو وحالة قوامه، فكان قوامه مكان منفعة العلو على نصف منفعة السفل فصار ذراع من السفل بذراعين من العلو لهذا. وعندهما لصاحب العلو أن يتصرف في علوه تصرفاً لا يضر بصاحب السفل، كما أن لصاحب السفل أن يتصرف في سفله تصرفاً لا يضر بصاحب العلو فاستويا في المنفعة، قال أبو يوسف رحمه الله بعد هذا: إذا استويا في المنفعة يجعل ذراع من السفل بذراع من العلو، وقال محمد رحمه الله: مع أنهما استويا في المنفعة تعتبر القيمة في القسمة، لأن في بعض البلدان يكون السفل أكثر قيمة، وفي بعض البلدان يكون العلو أكثر قيمة. (2أ4) وربما يختلف ذلك باختلاف الأوقات، فلا تتبين المعادلة إلا بالقيمة.

وقول محمد رحمه الله في «الكتاب» : أن على قول أبي يوسف يحسب العلو بالنصف والسفل بالنصف، فذلك في مسألة أخرى، فقد ذكرنا في هذه المسألة أن على قول أبي يوسف يجعل ذراع من السفل بذراع من العلو. وصورة تلك المسألة: سفل مفرد لا علو له، وعلو مفرد لا سفل له،. وبيت كامل له سفل وعلو، وكل ذلك مشترك بين رجلين طلبا القسمة. فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: القاضي يحسب ذراعاً من البيت الكامل بثلاثة أذرع من العلو المفرد، ليكون ذراعان من العلو المفرد بإزاء ذراع من سفل البيت الكامل، والذراع الثالث من العلو المفرد بإزاء ذراع من علو البيت الكامل، ويحسب ذراع من البيت الكامل بذراع ونصف من السفل المفرد، ليكون ذراعاً من سفل البيت الكامل بإزاء ذراع من السفل المفرد، وذراعاً من علو البيت الكامل بإزاء نصف ذراع من السفل المفرد. وعلى قول أبي يوسف: يذرع السفل المفرد والعلو المفرد والبيت الكامل، فإن كان البيت الكامل عشرين ذراعاً، والعلو المفرد كذلك، والسفل المفرد كذلك كان جملة ذرعان السفل المفرد والعلو المفرد أربعون، يجعل الأربعون من العلو المفرد والسفل المفرد عشرون. فهو معنى قوله: يحسب العلو بالنصف والسفل بالنصف، وإنما فعل هكذا لتقع المعادلة بين البيت الكامل، وبين العلو المفرد والسفل المفرد، فإن العلو والسفل عنده سواء فعشرون ذراعاً من البيت الكامل بمنزلة أربعين ذراعاً، عشرون منها سفل وعشرون علو. وعلى قول محمد تعتبر القيمة في ذلك كله قال الكرخي: وعليه الفتوى. فإن قيل: كيف يقسم العلو مع السفل، والبيت الكامل قسمه واحدة عند أبي حنيفة رحمه الله، ومن مذهبه أن البيوت المتفرقة لا تقسم قسمة واحدة على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله. قلنا: تأويل المسألة وجهان: الأول: أن يكون الكل في دار واحدة والبنيان في دار واحدة يقسمان قسمة واحدة، متلازقين كانا أو متفرقين، فكذا السفل والعل. الثاني: أن يكون الكل في دور مختلفة، ولكن تراضوا على ذلك إلا أنهم طلبوا المعادلة من القاضي فيما بينهم، وعند أبي حنيفة تجوز القسمة حالة التراضي من الشركاء. وإذا كانت الدور من قوم ميراث، فإن أراد أحدهم أن يجمع نصيبه منها في دار واحدة وأبى الآخر، قال أبو حنيفة رحمه الله: القاضي لا يجمع نصيب كل واحد منهم في دار على حدة، بل يقسم كل دار بينهم على حدة إلا أن يتراضوا على ذلك، سواء كانت الدار متلازقة أو متفرقة، وسواء كانت الدور في محلة واحدة أو محلتين، في مصر واحد أو في مصرين. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا كانت الدور في مصر واحد، فالرأي في ذلك إلى القاضي، إن رأى الصلاح في أن يجمع نصيب كل واحد منهم في دار على حدة، بأن

رأى ذلك أعدل للقسمة فعل ذلك، وإن رأى الصلاح في قسمة كل دار على حدة فعل ذلك. وأما إذا كانا في مصرين، روى هلال الرازي عن أبي يوسف رحمه الله: أن القاضي يقسم كل دار على حدة، ولا رأي له في ذلك. قال القدوي رحمه الله: لو كانت إحدى الدارين بالرقة والأخرى بالبصرة، قسمت أحدهما في الأخرى، وبعض مشايخنا رحمهم الله ذكروا قول محمد مع أبي يوسف فيما إذا كانت الدور في مصرين متفرقين. لأبي حنيفة أن الدور أجناس مختلفة باعتبار المعنى وهو المنفعة وإن كانت في مصر واحد؛ لأن بعضها يصلح للخزانة وبعضها لا يصلح، ولاختلاف المعاني أن في اختلاف المجانسة، كما في الهروي مع المروي. ولهذا لو وكله بشراء دين في مصر بعينه ولم يبين الثمن لا يجوز، وذكر الحاكم في «المختصر» أنه وإن بين الثمن لا يجوز ما لم يبين المحلة، والأجناس المختلفة لا تقسم قسمه واحدة إلا باصطلاح الشركاء على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. ولأبي يوسف ومحمد: أن الدور في مصر واحد جنس واحد باعتبار الاسم والمكان، فإن الاسم واحد والمكان كذلك، فصارت كالثياب الهروية والمروية، فإنها اعتبرت جنساً واحداً لاتحاد الاسم والمكان، أجناساً مختلفة باعتبار المعنى على ما قال أبو حنيفة رواية، فيفوض الأمر إلى رأي القاضي، فإن شاء مال إلى جنس واحد وقسمها قسمة واحدة، وإن شاء مال إلى الأجناس المختلفة وقسم كل واحدة قسمة على حدة، بخلاف ما إذا كانا في مصرين مختلفين لأنهما جنسان مختلفان لاختلاف المكان، ألا ترى أن المروي مع الهروي اعتبرا جنسين مختلفين لاختلاف المكان. ومن المشايخ قال: معنى قول أبي حنيفة رحمه الله: العقار لا يقسمه القاضي قسمة جمع، أن الأولى أن لا يفعل القاضي ذلك، وإن لم يفعل الأولى جاز. وأما المنازل فإن كانت في دور متفرقة أو في دار واحدة وهي متباينة، فالجواب فيها عندهم جميعاً كالجواب في الدور، وإن كانت في دار واحدة فهي متباينة، فعندهم جميعاً تقسم قسمة واحدة. وأما البيوت فإن كانت في دار واحدة فإنها تقسم قسمة واحدة، سواء كانت متلازقة أو متفرقة، وإن كانت في دور مختلفة فعلى الاختلاف الذي ذكرنا في الدور، وفي كل ما ذكرنا من الدور والمنازل والبيوت لا تقسم قسمة جمع، فتأويله إذا لم يكن معها شيء هو محل القسمة الجمع، أما إذا كان معها شيء هو محل القسمة الجمع يقسم الكل قسمة جمع، ويجعل ذلك الشيء أصلاً في القسمة والدور والمنازل والبيوت تبعاً، وسيأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وإذا كان في التركة دار أو حانوت والورثة كلهم كبار وتراضوا أن تدفع الدار أو الحانوت إلى واحد منهم من جميع نصيبه من التركة جاز؛ لأن عند أبي حنيفة إنما لا

يجمع نصيب واحد منهم من الورثة بطريق الحصر من القاضي، فأما عند التراضي فذلك جائز. في قسمة «شرح القدوري» : ولو دفع أحد الورثة الدار إلى واحد من الورثة من غير رضا الباقين عن جميع نصيبه من التركة لم يجز، يعني: لا ينفذ على الباقين إلا بإجازتهم، ويكون لهم استرداد الدار، وأن يجعلوها في القسمة إن شاؤوا، وهذا ظاهر، وإنما الإشكال في أن الدافع هل يأخذ نصيبه من الدار بعد استرداد الباقين، وقيل إنه لا يأخذ. في «المنتقى» : أراد اثنان من قرابته جمع نصيبهما في موضع واحد من الضياع، لم يكن لهما ذلك في قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله، وقال أبو يوسف: لهما ذلك؛ إذ ليس فيه ضرر على من مرّ حوله. ولو اختلفوا في قيمة البناء، فقال بعضهم: يجعل قيمة البناء بالذرعان من الأرض، ومعنى المسألة: أن الدار والكرم إذا كان بين قوم، وأرادوا قسمتها في أحد الجانبين بناء، فأراد أحدهما أن يكون عوض البناء دراهم، وأراد الآخر أن يكون عوضه من الأرض، فإنما يجعل قيمة البناء بالذرعان من الأرض؛ لأن القسمة إقرار ما هو مشترك بين شركاء الأرض دون الدراهم فمتى جعلنا قيمة البناء بالذرعان من الأرض فقد أقررنا ما هو مشترك بينهما، ومتى جعلنا قيمته بالدراهم فما أقررنا ما هو مشترك بينهما بل حملناها على البيع وللقاضي ولاية القرار لا ولاية الحمل على البيع، ولأن تقويم البناء بالذرعان من الأرض أولى في القسمة؛ لأنه يتعجل حق كل واحد من الشركاء في الحال، ومتى قريناه بالدراهم يتعجل حق الذي يعطي الدراهم، ويتأخر حق الآخر إلى أن يحضر الدراهم ويسلمها، فكان التقويم بالذرعان من الأرض أولى، وإن تعذر اعتبار العادة بتقويم البناء بالذرعان من الأرض قومه بالدراهم. وإن اتفقوا أن يجعلوا قيمة البناء في الدراهم فلهم ذلك؛ لأن الحق لهم، وإن اختلفوا في الطريق، فقال بعضهم: نرفع طريقاً بيننا، وقال بعضهم: لا نرفع، نظر فيه الحاكم، فإن كان يستقيم لكل واحد منهم طريق يفتحه في نصيبه قسمه بينهم بغير طريق يرفع لجماعتهم، وإن كان لا يستقيم ذلك رفع طريقاً بين جماعتهم؛ لأن (2ب4) . حاصل اختلافهم في قسمة قدر الطريق، فالمانع من رفع الطريق يطلب قسمته والآخر يأبى، وقسمته في الوجه الأول؛ إذ لا يفوّت بقسمة قدر الطريق ما كان لهم من المنفعة قبل القسمة. وفي الوجه الثاني قسمته غير ممكن؛ لأن قسمته تتضمن تفويت منفعة كانت لهم قبل القسمة. ولو اختلفوا في سعة الطريق وضيقه، جعل الطريق بينهم على عرض باب الدار، وطوله على أدنى ما يكفيهم، يعني يجعل طوله من الأعلى بقدر طول الباب، لا إلى البناء، وفائدة قسمة ما وراء طول الباب أن أحد الشركاء إذا أراد أن يخرج جناحاً في نصيبه إن كان فوق طول الباب فله ذلك؛ لأن الهواء فيما زاد على طول الباب مقسوم بينهم، فيصير باباً على ما هو خالص حقه، وإن كان فيما دون طول الباب فإنه يمنع من

ذلك؛ لأن قدر طول الباب من الهواء مشترك فيما بينهم، والبناء على الهواء المشترك لا يجوز إلا برضا الشركاء، وأما إذا كان أرضاً يرفع من الطريق مقدار ما يمر فيه ثور؛ لأنه يحتاج إليه للزراعة فلا بد منه، ولا يرفع مقدار ما يمر فيه ثوران، لأن منه بد. ويقسم القاضي الأعداد من جنس واحد من كل وجه بأن كانت المجانسة مجانسة بين الأعداد اسماً ومعنى، كما في الغنم أو البقر أو المكيل أو الموزون أو النبات قسمة جمع عند طلب بعض الشركاء. وفي الأجناس المختلفة من كل وجه لا يقسم الأعداد قسمة جمع عند طلب بعض الشركاء؛ وهذا لأن قسمة الجمع في الأجناس المختلفة يتضمن تفويت جنس المنفعة على الآبي، فإنه قبل هذه القسمة له منفعة البقر والغنم والثياب، وبعد قسمة الجمع يفوت عليه بعض هذه المنافع، أما منفعة الإبل والغنم والثياب. والقسمة متى تضمنت تفويت جنس منفعة على الآبي، فالقاضي لا يقسم، أما قسمة الجمع في الجنس الواحد لا يتضمن تفويت جنس المنفعة على الآبي، فيقسم القاضي. وإن كان جنساً واحداً من حيث الحقيقة، وأجناساً مختلفة من حيث المعنى كالرقيق، فإن كان معه شيء آخر هو محل لقسمة الجمع، فالقاضي يقسم لكل قسمة جمع بلا خلاف، ويجعل ذلك الشيء أصلاً في القسمة والرقيق تبعاً، ويجوز أن يثبت الشيء تبعاً لغيره، وإن كان لا يثبت بشهود أعرف ذلك في مواضع كثيرة، وإن لم يكن شيء آخر هو محل لقسمة الجمع. قال أبو حنيفة: القاضي لا يقسمه قسمة جمع، وقالا: القاضي يقسم قسمة جمع هكذا ذكر في «الأصل» : وذكر أبو الحسن على قوله: الرأي في ذلك إلى القاضي، واختلف المشايخ فيه على قولهما بعضهم قالوا: يقسم الرقيق قسمة جمع على قولهما على كل حال، ولا يكون ذلك موكولاً إلى رأي القاضي، وبعضهم قالوا: هو موكول إلى رأي القاضي هما قولان أن الرقيق جنس واحد، إذا كان الكل ذكوراً أو إناثاً من وجه حقيقة وحكماً، أما حقيقة فلا إشكال. وأما حكماً بدليل: أنه إذا تزوج امرأة على عبد صحت التسمية، كما لو تزوجها على ثوب هروي وأجناس مختلفة من وجه تتفاوت منهم في المعاني قرب يصلح للأمانة، ورب عبد لا يصلح لذلك، ويتفاوتون أيضاً في الذهن والذكاء والعقل والتمييز الذي هو المطلوب من الآدمي. وإذا كان جنساً واحداً من وجه وأجناساً مختلفة من وجه جعلنا الرأي فيه للقاضي، كما في الدور. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: العمل بالشبهين متعذر في حالة واحدة؛ لأن أحدهما يقتضي جواز قسمة الجمع، والآخر ينفي، فيعمل بهما في الحالين، فجعلناه جنساً واحداً إذا كان معه شئ آخر هو محل لقسمة الجمع، وجعلناه أجناساً مختلفة إذا لم يكن معه شئ آخر هو محل لقسمة الجمع، وإنما فعلنا هكذا لتمكننا العمل بالشبهين، لأنا متى جعلناه أجناساً مختلفة إذا كان معه شيء آخر هو محل لقسمه الجمع يلزمنا أن نجعله أجناساً مختلفة على الانفراد من الطريق الأولى؛ لأن من الأشياء ما لا يجوز قسمته على

الانفراد، ويجوز قسمته تبعاً لغيره كالشرب والعيون والآبار، يتعطل العمل بالشبهين. وكان الفقيه أبو بكر الرازي رحمه الله يقول: قول أبي حنيفة رحمه الله إذا كان بيع الرقيق شيء آخر هو محل لقسمة الجمع، قسم الكل قسمة جمع، تأويله إذا رضي الشركاء بقسمة الكل قسمة جمع. أما إذا أبى البعض ذلك، فالقاضي لا يقسمه قسمة جمع عنده، قال: لأن الرقيق مع غيره جنسان مختلفان، فإن كان لا يقسم الرقيق عنده عند الانفراد لأن الجنس مختلف، فعند الاجتماع أولى.g قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأمة السرخسي: والأظهر عندي أن القاضي يقسم الكل قسمة جمع عند أبي حنيفة رحمه لله وإن بعض الشركاء ذلك، ويجعل ذلك الشيء الذي مع الرقيق أصلاً في القسمة، ويجعل الرقيق تبعاً، وأبو حنيفة إنما لا يرى قسمة الرقيق قسمة جمع مقصوداً لا تبعاً لغيره. في «فتاوى أبي الليث» : إذا كانت الأراضي بين شركاء لأحد هم عشرة أسهم، ولآخر خمسة أسهم، ولآخر سهم، فأرادوا قسمتها، وأراد صاحب العشرة الأسهم أن تقع سهامه متصلة، ولا يرضى بذلك الذي له سهم واحد قسمة الأراضي متصلة كانت أو متفرقة بينهم على قدر سهامهم عشرة وخمسة وواحد. وكيفية ذلك: أن تجعل الأراضي على عدد سهامهم بعد أن سويت وعدلت لم تجعل بنادق سهامهم على سهامهم ويقرع بينهم فأول بندقة تخرج ترفع على طرف من أطراف السهام فهو أول السهام، ثم ننظر إلى البندقة لمن هي، فإن كانت لصاحب العشرة أعطاه ذلك السهم وتسعة أسهم متصلة بالسهم الذي وضع البندق عليه، فيكون سهام صاحبها على الاتصال، ثم يقرع بين الستة كذلك، فأول بندقة تخرج توضع على طرف من أطراف الستة الباقية، ثم ينظر إلى البندقة لمن هي فإن كانت لصاحب الخمسة أعطاه ذلك السهم وأربعة أسهم متصلة بذلك السهم، يبقى السهم الواحد لصاحبه، وإن كانت هذه البندقة لصاحب السهم الواحد كان ذلك السهم له والباقي لصاحب الخمسة. وفيه أيضاً: رجلان بينهما خمسة أرغفة، لأحدهما رغيفان، وللآخر ثلاثة أرغفة، فدعيا ثالثاً وأكلوا جميعاً مستويين، ثم إن الثالث أعطاهما خمسة دراهم، وقال لهما: إقسماها بينكما على قدر ما أكلت من رغيفكما، قال الفقيه أبو بكر الرازي: لصاحب الرغيفين درهم منها لأن كل واحد منهما أكل رغيفاً وثلثا رغيف، فصاحب الرغيفين أكل من رغيفيه رغيف وثلثي رغيف، فإنما أكل الثالث من رغيفيه رغيف وثلث رغيف، فيجعل بمقابلة كل ثلث رغيف درهم، فيصير لصاحب الرغيفين درهم منها، ويصير لصاحب الرغيف الثالث أربعة دراهم. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: فعندي أن لصاحب الرغيفين درهمان، وللآخر ثلاثة دراهم؛ لأن كل واحد منهم أكلوا الثلث رغيف ومن الرغيفين ثلثا رغيف، فيجعل كل ثلث سهماً فيصير أكلا من الرغيفين سهمان ومن الثلاث ثلاثة أسهم، فجملة ذلك

الفصل الثالث: في بيان ما يقسم وما لا يقسم، وما يجوز من ذلك وما لا يجوز

خمسة أسهم، فيقسم البدل كذلك. في «فتاوى أهل سمرقند» : رجل مات وترك ثلاثة بنين وترك خمسة عشر خابية، خمسة منها مملوءة خلاً، وخمسة منها إلى نصفها خل، وخمسة منها خالية، كلها مستوية، فأراد البنون أن يقسموا الخوابي على السواء من غير أن يزيلونها عن موضعها. فالوجه في ذلك: أن يعطى أحد البنين خابيتين تعلو مملوءتين وخابيتين خاليتين وخابيه إلى نصفها خل، ويعطى الثاني كذلك من كل خمس خوابي أحدها مملوءة وأحدها خالية وثلاث خوابي إلى نصفها خل، يعطي الثالث ذلك؛ لأن المساواة بذلك تقع. سئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله: عن سلطان غرم أهل قرية، فأرادوا قسمة ذلك الغرامة، واختلفوا فيما بينهم، قال بعضهم: تقسم على قدر الأملاك، وقال بعضهم: تقسم ذلك على قدر الرؤوس، قال: إن كانت الغرامة لتحصين أملاكهم يقسم ذلك على قدر الأملاك؛ لأنها مؤنة الملك، فتقدر بقدر الملك وإن كانت الغرامة لتحصين الأبدان يقسم ذلك على عدد الرؤوس؛ لأنها مؤنة الرؤوس، ولا شيء على النسوان والصبيان في ذلك، لأنه لا يتعرض لهم. سئل حمدان بن سهل عن قسمة العين، قال: يقسم بالكوارجات، قبل: فإن لم يكن، قال: فبالحبال. قال الفقيه أبو الليث: يجوز بالحبال لقلة التفاوت فيها استحساناً. سئل شيخ الإسلام (3أ4) أبو الحسن عن رجلين بينهما أعناب كرم على الشركة يقسمان ذلك بينهما كيلاً بالسولجة، أو وزناً بالقبان أو الميزان، قال: كل ذلك واسع؛ لأن الناس تعارفوا العنب كيلاً أو وزناً، فثبت التساوي بالطريقين جميعاً، فيجوز والله أعلم. الفصل الثالث: في بيان ما يقسم وما لا يقسم، وما يجوز من ذلك وما لا يجوز قال محمد رحمه الله في «الأصل» : بيت بين رجلين أراد أحد هما قسمته وأبى الآخر، وارتفعا إلى القاضي، فإن كان البيت كبيراً بحيث لو قسم أمكن لكل واحد منهما أن ينتفع بنصيبه انتفاع البيت كما قبل القسمة، فإن القاضي يقسم بينهما، وإن كان البيت صغيراً بحيث لو قسم لا يمكن لكل واحد منهما أن ينتفع به انتفاع البيت، فإنه لا يقسم إذا كان الآخر يأبى القسمة؛ لأن في هذا الوجه طالب القسمة متعنت في طلب القسمة قاصد للإضرار بنفسه وبشريكه بإتلاف منفعة كانت لهما قبل القسمة، والتعنت مردود، وفي الوجه الأول طالب القسمة قاصد تكميل منافع الكل على نفسه وعلى شريكه، وشريكه في الإباء متعنت. وإن طلبا القسمة في الوجه الثاني من القاضي، فعنه روايتان: في رواية يقسم

القاضي بينهما وإليه أشار محمد في «الأصل» في باب ما لا يقسم من العقار وغيره، وإليه مال الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام، وفي رواية قال: لا يقسم القاضي بينهما، ولكن يتركهما وذاك، إن شاء اقتسما بأنفسهما وإن شاء تركا كذلك، وإليه مال كثير من المشايخ؛ لأن في هذه القسمة ضرر للشركاء بإتلاف المنفعة عليها، وليس للقاضي ولاية الإضرار بالغير، وإن رضي به ذلك الغير. وإن كان نصيب أحد هما في البيت شقصاً قليلاً لا ينتفع به إذا قسم البيت، ونصيب الآخر كثير، فطلب أحد هما القسمة، فهذا على وجهين: أحدهما: أن يطلب صاحب الكثير القسمة، والحكم فيه أن القاضي يقسمها بينهم، هكذا ذكره محمد في «الأصل» . وقال في باب ما لا يقسم من العقار: وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا كان الطريق بين قوم إن اقتسموه لم يكن لبعضهم طريق ولا تنفذ، فأراد بعضهم قسمته، وأبى الآخر، قال: لا أقسمه بينهم. بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: المسألة محمولة على أن الطريق بينهم على السواء، وكان بحيث لو قسم بينهم لا يبقى لواحد منهم طريق ومنفذ، فأما إذا كان الطريق بينهم على التفاضل بحيث لو قسم لا يبقى لصاحب القليل طريق ولا ينفذ ويبقى لصاحب الكثير طريق ومنفذ، فالقاضي يقسم إذا طلب صاحب الكثير القسمة، كما في مسألة البيت إذا طلب صاحب الكثير القسمة. ومنهم من قال: الطريق لا يقسم في الحالين بخلاف البيت، والفرق على قول هذا القائل: أن في قسمة الطريق تعطيل ملك صاحب القليل في داره، لأنه متى قسم الطريق ولا يمكنه التطرق فيما وقع في نصيبه لا يمكن التطرق به إلى داره، فلا يمكنه الانتفاع بداره بعد ذلك، وتعطيل الملك على الغير لا يجوز. وأما ليس في قسمة البيت تعطيل ملك صاحب القليل في نصيبه، لأنه يمكنه أن يدخل في بنائه ذلك فيتوسع عليه منزله، ألا ترى أنه لا يجوز التهايؤ في الطريق بين الشريكين لما فيه من تعطيل الملك على كل واحد منهما في نوبة صاحبه، فكذا ألا تجوز قسمة رقبة الطريق إذا تضمنت تعطيل الملك على أحدهما ويجوز التهايؤ في مسألة البيت لأن ملك كل واحد منهما لا يتعطل في نوبة صاحبه، لأن صاحبه ينتفع به من جهته، فلو امتنعت القسمة في مسألة البيت إنما تمتنع لما فيها من قطع الارتفاق بنصيب صاحبه، إلا أن ذلك لا يصلح بأنهما. ألا ترى أنه جاز استرداد العارية وإن كان فيها قطع الارتفاف على المستعير بملك المعير. الوجه الثاني: إذا طلب صاحب القليل القسمة، وأبى صاحب الكثير ذلك، ذكر الحاكم الشهيد في «المختصر» : أنها تقسم، وإليه ذهب شيخ الإسلام، وذكر الكرخي في «مختصره» : أنها لا تقسم، وهكذا ذكر الفقيه أبو الليث وجعل هذا قول أصحابنا رحمهم

الله، وإليه مال الحاكم عبد الرحمن والقاضي الاسبيجاني والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي، قال الصدر الشهيد رحمه الله: والفتوى على الأول؛ لأن الطالب رضي بالقسمة، وهذه القسمة لا تضمن فوات منفعة على الآبي منفعة كانت له قبل القسمة صاحب الكثير ينتفع بنصيبه فيكون هذا في حق الآبي قسمة لا إتلافاً، والقسمة مستحقه بطلب أحدهما، هكذا ذكر في «شرح كتاب القسمة» وذكر هو رحمه الله في «شرح أدب القاضي» للخصاف: أن الأصح أن القاضي لا يقسمها. ووجه ذلك: أن الطالب وإن رضى بالضرر إلا أن رضاه بالضرر لا يلزم القاضي شيئاً إنما الملزم طلب الإنصاف من القاضي وإيصال الطالب إلى منفعة ملكه، وذلك لا يوجد عند طلب صاحب القليل. قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا كان بين رجلين حائط طلب أحدهما القسمة من القاضي، وأبى الآخر، فالقاضي لا يقسمها؛ لأنه لو قسم بعد الهدم كان في الهدم إتلاف المنفعة، ولو قسم قبل الهدم بالمساحة كما تقسم الأرض كان ذلك تسبباً إلى إتلاف المنفعة؛ لأن للطالب أن ينقض نصيبه بعد القسمة لأنه يكون متصرفاً في نصيبه، وكما لا يجوز إتلاف المنفعة لا يجوز التسبب إليه، وكذلك الحمام لا يقسم بطلب بعض الشركاء؛ لأن هذه القسمة إتلاف منفعة الحمام؛ لأنه لا ينتفع به انتفاع الحمام إلا بجميعه، وإن قسموا ذلك فيما بينهم تركهم القاضي وذلك لأن الحق لهم، فيكون التدبير في ذلك إليهم. في «المنتقى» : في أول الباب الأول من كتاب القسمة: حائط بين دارين سقط حتى بدى أسفله قال أحد الشريكين في الحائط: أقسم، وقال الآخر: لا بل ابني، قال محمد رحمه الله: لا أقسم بينهما؛ فلعله أن يقع نصيب كل واحد منهما إن قسم مما يلي الآخر رواه هشام. وذكر في آخر هذا الباب ابن سماعه عن محمد رحمها الله: حائط بين رجلين، وأرضه كذلك بينهما انهدم الحائط، وأرض الحائط مما يستطاع قسمته، طلب أحدهما القسمة، فإن كان لهما عليه جذوع لا يقسم أرض الحائط، وإن لم يكن لأحدهما عليه جذوع قسمت أرض الحائط. وإذا كان بناء بين رجلين في أرض رجل قد بناه فيها بإذنه، فأراد أحدهما قسمة البناء وهدمه، وأبى الآخر وصاحب الأرض غائب لا يكلفهما ذلك، فالقاضي لا يقسمها بينهما؛ لأنه ما لم يكلفهما صاحب الأرض الهدم فلهما حق القرار، فكان بمنزلة ما لو كان البناء في أرض هي ملكهما، ولو كان كذلك وطلب أحدهما من القاضي قسمة البناء وهدمه، وأبى الآخر، فالقاضي لا يقسمها بينهم كذا ههنا، ولو فعلا ذلك بأنفسهما تركهما القاضي، وذلك لما ذكرنا. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : في دكان في السوق بين رجلين يبيعان فيه بيعاً أو يعملان فيها بأيديهما، فأراد أحدهما قسمته وأبى الآخر، فإن القاضي ينظر في ذلك،

إن كان لو قسم أمكن لكل واحد منهما أن يعمل في نصيبه العمل الذي كان يعمله قبل القسمة قسم، وإن كان لا يمكنه ذلك لا يقسم، وإنه يخرج على ما ذكرنا. وإذا كان زرع بين رجلين، فأرادوا قسمة الزرع فيما بينهم دون الأرض، فالقاضي لا يقسمه، أما إذا بلغ الزرع وتسنبل، لأنه بعد ما بلغ وتسنبل صار مال الربا، وفي القسمة معنى المبادلة فلا يجوز مجازفةً. فإن قيل: ينبغي أن يصرف حبّ هذا إلى بين ذلك، وبين ذلك إلى حب هذا احتيالاً للجواز، كما لو اشترى قفيز حنطة وقفيز شعير بقفيزي حنطة وقفيزي شعير، فإنه يصرف حنطة هذا الجانب إلى شعير ذلك الجانب، وشعير هذا الجانب إلى حنطة ذلك الجانب إحتيالاً للجواز، والجواب من وجهين: أحدهما: أن موضوع هذه المسألة أنهما طلبا القسمة من القاضي، ومتى كانت القسمة من القاضي لا يمكن صرف الجنس فيها إلى خلاف الجنس، لأنها تكون مبايعة، وإلى القاضي القسمة عند طلب بعض الشركاء لا البيع. فعلى قول هذا التعليل لو حصلت القسمة بالتراضي يجوز؛ لأن لهما القسمة والمبايعة، فمتى تعذر وتجويزها مقاسمة تجوز مبايعة. الوجه الثاني: أنه إنما يصرف الجنس إلى خلاف الجنس إذا كان الجنس الآخر محلاً للبيع يجوز إفراد العقد عليه بانفراده، كما في الحنطة مع الشعير أما (3ب4) إذا لم يكن الجنس الآخر محلاً للبيع فإنه لا يصرف الجنس إلى خلاف الجنس. ألا ترى أنه لو باع قفيز تمر بقفيزي تمر لا يجوز، ولا يصرف جنس هذا إلى نوى ذلك؛ لأن النوى بانفراده ليس بمحل البيع لو باعه لا يجوز. إذا ثبت هذا فنقول: الحنطة في سنبلها إن كانت محلاً للبيع فتبنها ليس بمحل للبيع، ألا ترى أنه لا يجوز بيعه، فلا يصرف الجنس إلى خلاف الجنس، فعلى قول هذا التعليل وإن اقتسما بتراضيهما لا يجوز. وأما إذا كان الزرع بقلاً فإنما لا يقسم القاضي إذا كانت القسمة بشرط الترك؛ لأنه إذا قسم بشرط الترك فقد شرط في القسمة إعارة الأرض، وإنه شرط فاسد، والقسمة لا تصح مع الشرط الفاسد. وأما إذا أراد القسمة بشرط القلع فله أن يقسم، إذ ليس في هذه القسمة شرط العارية لو لم يصح لهما لا يصح لمكان الضرر وقد رضيا به، وهذا الجواب على إحدى الروايتين، فأما على الرواية الأخرى ينبغي أن لا يقسم القاضي وإن رضيا به كما ذكرنا هذا إذا طلبا القسمة من القاضي، وإن طلب أحدهما وأبى الأخر فالقاضي لا يقسم على كل حال. ولو قسما الزرع بأنفسهما، فإن كان الزرع قد بلغ وتسنبل فالجواب فيه قد مر، وإن كان الزرع بقلاً إن قسما بشرط الترك لا يجوز، وإن قسما بشرط القلع جاز باتفاق الروايات. وفي «المنتقى» زرع بين رجلين اقتسماه قبل أن يدرك، قال أبو حنيفة: لا يجوز،

وقال أبو يوسف: إنه جائز، وقسمة الطلع بدون قسمة النخيل نظير قسمة الزرع قبل البلوغ بدون الأرض، إن اقتسما بشرط القلع جاز، وإن اقتسما بشرط الترك لا يجوز، وإن رفعا الأمر إلى القاضي، فالقاضي لا يقسمه بشرط الترك، وهل يقسمه بشرط القلع؟ فهو على الروايتين، وإن طلب أحدهما القسمة فالقاضي لا يقسم لا بشرط القلع ولا بشرط الترك. ولا يقسم الساحة الواحدة واللؤلؤة وكل شيء يحتاج إلى كسر أو شق أو قلع بطلب البعض، إذا كان في قطعه أو شقه أو كسره ضرر، فأما إذا لم يكن في ذلك ضرر يقسم، واللآليء واليواقيت تقسم لأن الجنس واحد، ومنفعة هذا الجنس مما لا تتفاوت تفاوتاً لا يمكن استدراكه بخلاف العبيد على قول أبي حنيفة. وإذا كان قناة أو نهراً أو عيناً، وليس معه أرض، فأراد بعض الشركاء القسمة، فالقاضي لا يقسم؛ لأن منفعة النهر لا تحصل إلا بالبعض، وكذلك منفعة القناة وأشباهها، وإن كان مع ذلك أرض للشرب لها الماء من ذلك قسمت الأرض وتركت النهر والبئر والقناة على الشركة، ولو كان أنهاراً أو أباراً في الأرضين متفرقة قسمت الآبار والعيون؛ والأراضي لأن الإفرازها هنا ممكن من غير ضرر. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا كانت الدار بين ورثة فاقتسموها، وفصلوا بعضها على البعض بفصل قيمة البناء، أو ما أشبه ذلك فهذه القسمة وهذا التفصيل جائز. وصورته: إذا كانت الدار بين وارثين وهي ثلاثون ذراعاً قيمة عشرة أذرع منها من جانب مثل قيمة العشرين من الجانب الآخر، إما لأجل البناء أو لمعنى من المعاني، فاقتسما أن يكون لأحدهما هذه العشرة وللآخر العشرون، فهذه القسمة جائزة واكتفي فيها بالمعادلة من حيث المعنى، وهو المالية عند تعذر اعتبار المعادلة من حيث الصورة بالذرعان. وإن اقتسما العرصة بالسوية نصفين وشرطا أن من وقع البناء في نصيبه أعطى نصف قيمة البناء الآخر، فهذا على وجهين: الأول: أن يقوموا البناء قيمة العدل، وشرطوا وقت القسمة أن من وقع البناء في نصيبه أعطى نصف ذلك لصاحبه، بأن قوموا البناء مثلاً مئة درهم، وشرطوا وقت القسمة أن من وقع البناء في نصيبه يعطي لصاحبه خمسين درهماً، وأنه جائز لأنهم قسموا الأرض بالسوية، وباع الذي لم يقع البناء في نصيبه نصيبه من البناء ببدل معلوم من صاحبه وكل ذلك جائز وتعين الكل قسمة. أما على قول أبي حنيفة: لأن البيع مشروط في القسمة، فيكون تبعاً للقسمة فيكون له حكم القسمة بطريق التبعية، وصار كالبيع المشروط في النكاح له حكم النكاح عند أبي حنيفة رحمه الله بطريق التبعية. وأما على قولهما: فلأن هذا البيع من ضرورات هذه القسمة، فيكون له حكم القسمة بخلاف البيع المشروط في النكاح على قولهما، لأنه ليس من ضرورات النكاح أما هنا بخلافه.

الوجه الثاني: إذا اقتسموا الأرض نصفين وشرطوا وقت القسمة أن من وقع البناء في نصيبه أعطي نصف قيمة البناء الآخر إلا أنه لم يعرف قيمة البناء وقت القسمة ولم يتبينوا ذلك، فهذه القسمة. وهذا بخلاف ما لو باع داراً وأرضاً له وذكر الحقوق فإنه يدخل الطريق والشرب في البيع، وإن أمكن للمشتري فتح الطريق وتسييل الماء من موضع آخر من ملكه؛ لأن العمل باللفظين ممكن في البيع، لأن موجب البيع ملك اليمين، وبعدما دخل الحقوق ويبقى كذلك تمليكا للعين فلا ضرورة إلى إلغاء أحد اللفظين، أما عند عدم ذكر الحقوق في القسمة لم يوجد في القسمة ما يوجب دخول الحقوق. أما إذا أمكنه فتح الطريق وتسييل الماء في نصيبه؛ فلأن في هذه الصورة لا يدخل الطريق وتسييل الماء مع ذكر الحقوق فبدون ذكر الحقوق أولى وأما إذا أمكنه فتح الطريق وتسييل الماء في نصيبه؛ فلأن الطريق وتسييل الماء لو دخلا في هذه القسمة دخلا بدلالة الحال؛ لأن الظاهر أنهما يباشران قسمة جائزة لا فاسدة، لا أن دلالة الحال إنما يعتبر إذا لم يوجد الصريح بخلافها وقد وجد الصريح هنا بخلافها، وهو التنصيص على لفظة القسمة، فإن القسمة للإفراز وخلوص الأنصباء. وإذا اقتسم الرجلان داراً، فلما وقعت الحدود بينهما، فإذا أحدهما الطريق له، فإن كان يقدر على أن يفتح في حيزه طريقاً فالقسمة جائزة، وإن كان لا يقدر أن يفتح في حيزه طريق فالقسمة جائزة، وإن كان لا يقدر أن يفتح لنصيبه طريقاً، فإن لم يعلم وقت القسمة أن لا طريق له فالقسمة فاسدة؛ لأنها تضمنت تفويت منفعة على بعض الشركاء بغير رضاه. وإن علم وقت القسمة أن الطريق له فالقسمة جائزة، وإن تضمنت تفويت منفعة على بعض الشركاء لرضاه بذلك، وكذلك لو اقتسما على أن الطريق لأحدهما جازت القسمة لما ذكرنا، وإن كان يقدر على أن يفتح في نصيبه طريقاً يمر فيه الرجل ولا يمر فيه الحمولة فالقسمة جائزة. فالأصل في الطريق مرور الناس فيه، فأما مرور الحمولة فيه لا يكون إلا نادراً، وإن كان بحيث لا يمر فيه رجل فهذا ليس بطريق، ولا تجوز القسمة فيها من قطع منفعة الملك على أحدهما. إذا كانت الدار بين رجلين، فاقتسما على أن يأخذ أحدهما الأرض كلها ويأخذ الآخر البناء، ولا شيء له من الأرض، فهذا على ثلاثة أوجه: الأول: إذا شرطا في القسمة على المشروط له البناء قلع البناء وفي هذا الوجه القسمة جائزة؛ لأن القسمة في معنى البيع، ومن اشترى بناء بشرط القلع بأرض له كان جائزاً فكذا هاهنا، وصار المشروط البناء مشترياً نصيب صاحبه من النقص بما ترك على صاحبه من نصيبه من الأرض، وإن سكتا عن القلع ولم يشترطا ذلك جازت القسمة

أيضاً؛ لأنه لما شرط لأحدهما البناء من غير الأرض، والإفراز للبناء إلا بالأرض، فكأنه شرط عليه القلع من حيث المعنى. وإن شرطا ترك البناء فالقسمة فاسدة؛ لأن المشروط له البناء يصير مشترياً نصيب صاحبه من البناء، ومنفعة الأرض بقدر ما يكون عليه مراد البناء بنصيبه من الأرض، فما يقابل منفعة الأرض يكون إجارة. وهذه إجارة فاسدة لجهالة المدة. فهذه قسمة شرط فيها إجارة فاسدة فتفسد كالبيع إذا شرط فيها إجارة، وإذا وقع الحائط أن يرفع الجذوع عن الحائط ليس له ذلك، إلا أن يكونا شرطا في القسمة رفع الجذوع سواء كان الجذوع لأحدهما على (4أ4) الخصوص قبل القسمة والحائط بينهما، أو كان السقف والجذوع مع الحائط مشتركاً بينهما ثم صار الحائط لأحدهما بالقسمة والسقف والجذوع للآخر. ووجه ذلك: أن اشتراط الحائط لأحدهما بحكم القسمة إن كان يقتضي خلوص الحائط له عن شغل صاحبه، فاشتراط السقف للآخر يوجب أن يكون الحائط مشغولاً بحق صاحب السقف، ليسلم له ما شرط له من السقف، فأحد الاعتبارين إن كان يوجب رفع البناء فالاعتبار الآخر يمنع رفع البناء فلا يكون له الرفع بالشك، ثم جوز شرط رفع الجذوع في القسمة، وفيه نوع إشكال؛ لأن القسمة فيها معنى البيع. ولهذا كل شرط يفسد البيع يفسد القسمة، ثم بيع الجذوع في السقف بشرط الرفع لا يجوز، فكذا القسمة بهذا الشرط ينبغي أن لا تجوز، وإذا كان أصل الشركة الميراث فجرى فيها الشراء بأن باع واحد منهم نصيبه يقسم القاضي إذا حضر البعض، وإذا كان أصلها الشراء فجرى فيها الميراث بأن مات واحد من المشترين، فالقاضي لا يقسم حتى يحضر سائر المشتريين لأن في الوجه الأول المشترى قام مقام البائع في الشركة الأولى وكان أصلها وراثة، وفي الوجه الثاني الوارث قام مقام المورث في الشركة الأولى، وكان أصلها شراء، فينظر في هذا إلى الأول.5 في «فتاوى أبي الليث» : وفي هذا الموضع أيضاً: ضيعة بين خمسة من الورثة، واحد منهم صغير واثنان غائبان، واثنان حاضران، فاشترى رجل نصيب أحد الحاضرين، وطالب شريكه الحاضر بالقسمة عند القاضي وأخبراه بالقصة، فالقاضي يأمر شريكه بالقسمة ويجعل وكيلاً عن الغائب والصغير؛ لأن المشتري قام مقام البائع أن يطالب شريكه؛ لأن أصل الشركة كان ميراثاً، والعبرة في هذا الأصل على ما مر. وفي «الرقيات» كتب ابن سماعه إلى محمد رحمهم الله في قوم ورثوا داراً وباع بعضهم نصيبه من أجنبي، وغاب الأجنبي المشترى، وطلبت الورثة القسمة وأقاموا البينة على الميراث، قال محمد رحمه الله: إذا حضر الوارثان قسمها القاضي حضر المشتري

أو لم يحضر؛ لأن المشتري بمنزلة الوارث الذي باعه. وفي «الأصل» : إذا كانت القرية وأرضها بين رجلين بالشراء فمات أحدهما وترك نصيبه ميراثاً، فأقام ورثته البينة على الميراث وعلى الأصل، وشريك أبيهم غائب لم يقسم القاضي حتى يحضر شريك أبيهم؛ لأن الوارث قائم مقام الميت، ولو كان الميت حياً وحضر يطلب القسمة، وشريكه غائب فالقاضي لا يقسم، ولو حضر شريك الأب وغاب بعض ورثة الميت قسمها القاضي بينهم؛ لأن حضور بعض الورثة كحضور الميت لو كان حياً، أو كحضور باقي الورثة. وإن كان أصل الشركة بالميراث بأن كانا أخوين وورثا قرية من أبيهما، فقبل أن يقسما مات أحدهما وترك نصيبه ميراثاً لورثته، فحضر ورثة الميت الثاني وعمهم غائب، وأقاموا البينة على ميراثهم عن أبيهم وعلى ميراث أبيهم عن جدهم قسمها القاضي بينهم ويعزل نصيب عمهم، وكذلك لو حضر عمهم وغاب بعضهم قسمها القاضي بينهم؛ لأن الأصل ميراث، وفي الميراث غيبة بعض الشركاء لا يمنع القسمة. في «المنتقى» عن أبي يوسف: إذا اشترى رجل من أحد الورثة بعض نصيبه، ثم حضر يعني الوارث البائع والمشتري وطلبا القسمة، فالقاضي لا يقسم بينهما حتى يحضر وارث آخر غير البائع؛ لأن المشتري بمنزلة الوارث الذي باعه. ولو اشترى منه نصيبه ثم ورث البائع شيئاً بعد ذلك، أو اشترى لم يكن خصماً للمشتري في نصيبه الأول في الدار حتى يحضر وارث آخر غيره، ولو حضر المشتري من الوارث ووارث آخر وغاب الوارث البائع، وأقام المشتري بينة على شرائه وعلى الدار وعدد الورثة. فإن هذا على وجهين: إن كانت الدار في يد الورثة ولم يقبض المشتري له، أقبل بينة المشتري على المشتري من الغائب، لأن الوارث الحاضر لا يجحد نصيب الغائب، ولو كان يجحده ويدعيه جعله خصماً، وقبلت بينة المشتري وقسمته. وإن كان المشتري قبض وسكن الدار معهم ثم طلب القسمة هو ووارث آخر غير البائع، وأقام البينة على ما ذكرنا فالقاضي يقسم الدار، وكذلك إذا طلبت الورثة القسمة دون المشتري، فالقاضي يقسم الدار بينهم بطلبهم، وجعل نصيب الغائب في يد المشتري، ولا يقضي بالشراء، وإن لم يكن المشتري قبض الدار عزل نصيب الوارث الغائب، ولا يدفع إلى المشتري، وإن المشتري هو الذي طلب القسمة وأبى الورثة لم أقسم؛ لأني لا أعلم أنه مالك، ولا أقبل بينته على المشترى والبائع غائب. وفيه أيضاً عن أبي يوسف: دار بين رجلين باع أحدهما نصيبه وهو مشاع من رجل، ثم إن المشتري أمر البائع أن يقسم صاحبه الدار ويقبض نصيبه، فقاسمه لم تجز القسمة؛ لأن البائع لا يكون قابض للمشتري من نفسه، ولو أخرت القسمة جعلت قابضاً للمشتري، وإذا كان بين رجلين دار ونصف دار اقتسما على أن يأخذ أحدهما الدار ويأخذ الآخر نصف الدار جاز، وإن كانت الدار أفضل قيمة من نصف الدار؛ لأن البيع على هذا الوجه

جائز، وكذلك لو كانت سهاماً مسماة من هذه الدار، وسهاماً مسماة من تلك الدار، فاقتسما على أن لهذا ما في هذه الدار من السهام، ولهذا الآخر ما في هذه الدار الأخرى من السهام جاز؛ لأن البيع على هذا الوجه جائز. ولو كانت مئة ذراع، وهذه الدار ومئة ذراع أو أكثر من الدار الأخرى فاقتسما على أن لهذا ما في هذه الدار من الذرعان، ولهذا ما في هذه الدار الأخرى لا يجوز عند أبي حنيفة؛ لأن البيع على هذا الوجه لا يجوز عند أبي حنيفة، عرف في كتاب البيوع أن بيع مئة ذراع من الدار لا يجوز، فكذا لا تجوز القسمة على هذا؛ لأنها في معنى البيع. وإذا كانت الدار بين رجلين ميراثاً أو شراء فاقتسما على أن أحد كل واحد منهما طائفة على أن زاد أحدهما للآخر دارهم مسماة فهو جائز. واعلم بأن ما يصلح ثمناً في باب البيع يصلح زيادة في القسمة، فالدارهم والدنانير تصلح عوض في باب البيع، حالّة كانت أو مؤجلة فتصلح زيادة في القسمة، والمكيل والموزون يصلح ثمناً في باب البيع، إن كان ثمناً وكان موصوفاً سواء كان حالاً أو مؤجلاً فتصلح زيادة في القسمة تكون على هذا الوجه. وإن كان عيناً ولم يشترط فيه الأجل يصلح ثمناً في باب البيع، وإن شرط فيه الأجل لا يصلح ثمناً في باب البيع، فالزيادة في القسمة تكون على هذا الوجه أيضاً، وبيان مكان الإيفاء شرط عند أبي حنيفة إذا كانت الزيادة شيئاً لها حمل ومؤنة عند أبي حنيفة، وعندهما بيان مكان الإيفاء ليس بشرط ويسلم عند الدار. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : عقيب هذه المسائل: وهذا والسلم في القياس سواء لكني استحسن في هذا، قال بعض مشايخنا رحمهم الله: القياس والاستحسان ينصرف إلى فصل الأجل. يعني القياس: أن لا يجوز شرط المكيل والموزون زيادة في القسمة بغير أجل كما في السلم إلا أنه في الاستحسان يجوز، وهذا هو القياس والاستحسان الذي ذكرنا في كتاب البيوع، إذا اشترى شيئاً بمكيل أو موزون في الذمة حالاً فالقياس أن لا يجوز كما لو اشتراه بالثياب، وفي الاستحسان يجوز كما لو اشترى بالدراهم. قال جماعة منهم: القياس والاستحسان على قول أبي حنيفة خاصة، يعني: القياس أن لا تجوز القسمة متى ترك بيان مكان الإيفاء فيما له حمل ومؤنة على قول أبي حنيفة رحمه الله القياس أن لا يجوز، وفي الاستحسان يجوز. ووجه ذلك: أن مكان الإيفاء في القسمة مشروط دلالة، وهو عند الدار مقتضى وجوب القسمة؛ لأن موجب القسمة المعادلة بين الأنصباء ما أمكن، وقد وجب تسليم النصيبين في الدار فيجب تسليم البدل في الدار أيضاً، بخلاف فعل السلم والإجارة؛ لأن موضع العقد لم يتعين مكاناً للإيفاء ثمة لإيفاء، ولا مقتضى يوجب عقد السلم؛ إذ ليس بشيء (4ب4) عقد السلم على المعلق له ألا ترى أن أحد البدلين في السلم يسلم حالاً والآخر يسلم في الثاني.

وقال بعضهم: القياس والاستحسان على قولهما خاصة، القياس أن يجب تسليم ما شرط في موضع عقد القسمة كما في البيع والسلم، وفي الاستحسان يجب التسليم عند الدار. ووجه ذلك: أن في السلم إنما وجب تسليم المسلم إليه في مكان العقد؛ لأن البدل الآخر وهو رأس المال وجب تسليمه في مكان العقد، فيجب تسليم هذا البدل في مكان العقد أيضاً، وها هنا تسليم أحد البدلين وجب في الدار، فكذا تسليم البدل الآخر فصارت الدار في مسألتنا كمكان العقد في مسألة السلم. إذا كانت الدار بين رجلين اقتسماها فأخذ أحدهما قدر النصف، وأخذ الآخر قدر الثلث، ورفع طريقاً بينهما قدر السدس فذلك جائز؛ لأنهما قسما بعض الدار وبقيت شركتهما في البعض، ولو اقتسما الكل يجوز، ولو بقيا الكل على الشركة يجوز، فإذا قسما البعض وبقيا الشركة في البعض يجوز أيضاً، وكذلك إذا شرطا أن يكون الطريق لصاحب الأقل، وللآخر فيه حق المرور فهو جائز. قال شيخ الإسلام: هذه المسألة دليل على جواز بيع حق المرور، والحاصل أن في جواز بيع حق المرور روايتان، واتفقت الروايات أن بيع الترب وبيع حق السبيل وبيع قرار العلو على السفل على الانفراد لا يجوز. وذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح هذا الكتاب من العلة ما يدل على جواز هذه القسمة على الروايات كلها، وإن كان في جواز بيع حق المرور روايتان كان بأن عين الطريق كان مملوكاً لهما، وكان لهما حق المرور، وقد جعل أحدهما نصيبه من رقبة الطريق ملكاً لصاحبه عوضاً عن بعض ما أخذ من نصيب صاحبه، وبقي لنفسه حق المرور هذا جائز بالشرط، كمن باع طريقاً مملوكاً من غيره على أن يكون له فيه حق المرور، وكمن باع السفل على أن له حق قرار العلو فإنه يجوز كذا ها هنا. وإذا كانت الدار بين رجلين وبينهما شقص من دار أخرى اقتسماها على أن أخذ أحدهما الدار والآخر الشقص، فإن علما أن سهام الشقص كم هو فالقسمة جائزة، وإن لم يعلما فالقسمة مردودة، ولو علم أحدهما ولم يعلم الآخر فالقسمة مردودة. وهكذا ذكر المسألة في «الأصل» : في هذا الكتاب ولم يفصل الجواب منها على التفصيل إن علم المشروط له الشقص جازت القسمة بلا خلاف، وإن جهل الشارط ذلك، وإن جهل المشروط له وعلم الشارط كانت المسألة على الخلاف. على قول أبي حنيفة ومحمد تكون القسمة مردودة، وعلى قول أبي يوسف تكون جائزة وهذا القائل يقيس مسألة القسمة على مسألة البيع المذكور في كتاب الشفعة. صورته: إذا باع الرجل نصيبه من دار من رجل، وقد علم أحدهما بمقدار النصيب ولم يعلم الآخر، إن علم المشتري ولم يعلم البائع جاز البيع بلا خلاف، وإن علم البائع

ولم يعلم المشتري فالمسألة على الخلاف، فكان تأويل المذكور في كتاب القسمة: إذا جهل أحدهما؛ إذا جهل المشروط له، وقوله: القسمة مردودة، يعني: في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. ومنهم من قال: لا بل الجواب في مسألة القسمة على ما أطلق، والقسمة مردودة في قولهم جميعاً، واختلفوا فيما بينهم. قال بعضهم: إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع، موضوع مسألة الشفعة أنه أضاف البيع إلى نصيبه، فيدخل تحت البيع جميع نصيبه بحكم الإضافة فلا يبقى للبائع حق المنازعة بعد ذلك بأن يقول: عينت نصيبي نصيب كذا دون كذا، وموضوع مسألة كتاب القسمة أنهما ذكرا الشقص مطلقاً غير مضاف إليهما، وعند ذكر الشقص مطلقاً إنهما ما جهل يقع بينهما منازعة في مقدار الشقص، الشارط يقول: عينت بالشقص بعض نصيبي، والمشروط له يقول: عنيت جميع نصيبك؛ لأن اسم الشقص كما ينطلق على الكثير ينطلق على القليل، فيقع بينهما منازعة مانعة من التسليم والتسلم. ووزان مسألة البيع في مسألة القسمة ما إذا قال البائع بعت نصيباً من الدار ولم يقل بعت نصيبي وهناك لا يجوز البيع إذا جهل أحدهما النصيب، ووزان مسألة القسمة من مسألة البيع ما إذا قالا: الشقص الذي لنا في الدار الأقوى، وهناك كان الجواب في القسمة كالجواب في البيع. وإلى هذا مال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، وشمس الأئمة السرخسي رحمه الله، ومن المشايخ من فرق بين القسمة والبيع. والفرق: أن مبنى القسمة على المعادلة في المنفعة والمالية، ولا يصير ذلك معلوماً لكل واحد منهما إلا إذا كان الشقص معلوماً لكل واحد منهما، فأما البيع عند المعاينة يقصد به الاسترباح والمشتري هو الذي يقبض المبيع، فيشترط أن يكون مقداره معلوماً له، فأما حق البائع في الثمن وهو معلوم فيتحقق هذا المعنى. نظير الفرق: إذا اقتسم الشركاء فيما بينهم، وفيهم شريك غائب أو صغير ليس له وصي لا تصح القسمة، وإن فعلوا ذلك بأمر القاضي صحت القسمة لأن فعلهم بأمر القاضي كفعل القاضي بنفسه ولو قسم القاضي بنفسه وفيهم غائب أو صغير تصح القسمة؛ وينتصب الحاضر خصماً عن القاضي، كذا إذا فعلوا بأمر القاضي، وإن قدم الغائب وأجاز قسمتهم جاز، وكذلك إذا بلغ الصغير وأجاز قسمتهم، لأن هذا تصرف عقد وله مجبر حال وقوعه، فإن الغائب يجبر، وكذلك ابن الصغير أو وصيه بجبر وكل تصرف وله مجبر حال وقوعه يتوقف. فإن قيل: في هذا توقيف الشراء، ومن مذهبنا أن الشراء لا يتوقف. قلنا: الشراء إنما لا يتوقف إذا كان شراء محضاً بأن اشترى شيئاً لغيره بدارهم بغير أمره، فأما إذا كان شراء فيه بيع فإنه يقف، كما لو اشترى جارية لنفسه بعبد للصغير، فإن شراء الجارية يقف لأنه بيع في حق العبد، إذا ثبت هذا فنقول: هذه القسمة شراء فيها معنى البيع فجاز أن يقف، فإن مات الغائب أو الصبي فأجاز وارثه عمل بإجازة الوارث

الفصل الرابع: فيما يدخل تحت القسمة من غير ذكر وما لا يدخل

عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد تبطل القسمة. فوجه قول محمد: أن موت من له الإجازة قبل الأداء تبطل العقد كالبيع المحض. وجه قولنا: أنا لو أبطلنا القسمة بموت من له الإجازة احتجنا إلى إعادة مثلها ثانياً عند طلب بعض الشركاء، فلا يفيد الإبطال بخلاف البيع المحض؛ لأنا لو أبطلنا البيع بموت من له الإجازة لا نحتاج إلى إعادة مثله ثانياً، فكان في الإبطال فائدة، ثم إنما تعمل الإجازة من الغائب أو من وارث أو من الوصي أو من الصبي بعد البلوغ إذا كان ما وقع عليه القسمة قائماً وقت الإجازة، فأما إذا هلك فلا كالبيع المحض الموقوف على الإجازة إنما تعمل فيه الإجازة إذا كان المبيع قائماً وقت الإجازة، وكما تثبت الإجارة صريحاً بالقول تثبت الإجازة دلالة بالفعل كما في بيع المحض. الفصل الرابع: فيما يدخل تحت القسمة من غير ذكر وما لا يدخل وتدخل الشجرة في قسمة الأراضي، وإن لم يذكروا الحقوق والمرافق كما تدخل في بيع الأراضي، لا يدخل الزرع والثمار في قسمة الأراضي، وإن ذكروا الحقوق لأن الثمار والزرع ليست من حقوق الأرض فحقوق الأرض ما لا ينتفع بها بدون الأرض، فيكون من توابع الأرض، والزرع والثمار مما ينتفع بها دون الأرض فلا تكون من حقوق الأرض. ولهذا لا يدخل في المبيع المحض بذكر الحقوق، وكذلك إن ذكر المرافق مكان الحقوق لا تدخل الثمار والزرع في ظاهر الرواية؛ لأن في العرف يروا المرافق الحقوق، فصار ذكر الحقوق سواء، ولو ذكروا في القسمة بكل قليل أو كثير فيها ومنها، إن قال بعد ذلك: من حقوقها لا تدخل الثمار والزرع، وإن لم يقل من حقوقها يدخل. والأمتعة الموضوعة فيها لا تدخل على كل حال لأن الأمتعة إن كانت فيها فليست منها بوجه، ما وهو إنما شرط لصاحبه كل قليل وكثير هو فيها ومنها، فما يكون فيها ولا يكون منها لا يكون له بخلاف الزرع؛ لأن الزرع فيها من كل وجه ومنها من وجه، لأن الزرع متصل بالأرض إتصال تركيب بهذا الطريق دخل الزرع في بيع الأرض بذكر كل قليل وكثير فيها ومنها، وأما الشرب (5أ4) والطريق هل يدخلان من غير ذكر الحقوق في القسمة؟. ذكر الحاكم الشهيد في «المختصر» : أنهما يدخلان، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : في موضع آخر من هذا الكتاب، فإنه قال: إذا كانت الأرض بين قوم ميراثاً اقتسموها بغير قضاء، فأصاب كل إنسان منهم فراح على حده، فله شربه وطريقه ومسيل مائه وكل حق لها. والصحيح: أنهما لا يدخلان، ألا ترى أنهما لا يدخلان في البيع من غير ذكر

الحقوق فكذا في القسمة؛ لأنها بمعنى البيع إلا أن فرق ما بين البيع والقسمة أن البيع جائز على كل حال، والقسمة جائزة إن أمكنه أن يجعل لأرضه شرباً وطريقاً من موضع آخر، وإن لم يمكنه إن علم وقت القسمة أن لا طريق ولا شرب له، فكذا القسمة جائزة، وإن لم يعلم فالقسمة باطلة؛ لأن البيع وضع لتمليك ما عقد عليه البيع، وقد حصل هذا المعنى على كل حال. فأما القسمة فكما أن فيها معنى التملك، ففيها معنى الإقرار لما كان لهم من المنفعة والمالية قبل القسمة، وإنما يتحقق الإقرار إذا لم يتضمن لفوات منفعة على بعض الشركاء منفعة كانت لهم قبل القسمة، فبدون ذلك لا تكون قسمة على الحقيقة، فيتوقف على رضاهم إذا ذكر الحقوق والمرافق في القسمة، فلما استحق المشروط له الحقوق الطريق فيما أصاب صاحبه بالقسمة إذا لم يمكنه إيجاد طريق آخر، أما إذا أمكنه فلا، وقد ذكرنا جنس هذا فيما تقدم. ولو كان الطريق في أرض غيرهما استحق كل واحد منهما الطريق بذكر الحقوق أمكنه إيجاد طريق آخر، أو لم يمكن وإن لم يذكر الحقوق والمرافق في القسمة، وإنما ذكر كل قليل أو كثير هو فيها ومنها، قيل: يدخل الطريق والشرب. ذكر شيخ الإسلام: أن في المسألة روايتين، في رواية لا يدخل لأن هذه الحقوق في البيع ولا منها، وفي رواية هذا الكتاب يدخل بحكم العرف، فإنه كما يراد بهذه الكلمة إدخال أما فيها ومنها يراد بها إدخال هذه الحقوق. وإذا اقتسم نفر أرضاً على أن لفلان هذه القطعة وهذه النخلة، والنخلة في غير هذه القطعة، وعلى أن لفلان الآخر هذه القطعة الأخرى، ولم يقولوا لكل حق هو لها، وعلى أن للثالث التي فيها تلك النخلة، فالذي شرط له النخلة يستحق النخلة بأصلها من الأرض حتى لم يكن للذي شرط له القطعة التي فيها النخلة أن يقطع النخلة، فالنخلة تستحق بأصلها في القسمة. وكذلك في الإقرار، إذا أقر لرجل بنخلة فإنه يستحق بأصلها، وإذا باع النخلة أو باع الشجرة مطلقاً، ذكر شيخ الإسلام أن في المسألة روايتين، وذكر شمس الأئمة السرخسي ذكر في «النوادر» : أن في البيع اختلافاً بين أبي يوسف ومحمد، على قول أبي يوسف يستحق النخلة بأصلها، وعلى قول محمد لا يستحق، فمحمد يحتاج إلى الفرق بين البيع وبين القسمة والإقرار. والفرق: أن في القسمة بعض ما يصيب كل واحد منهما باعتبار أصل ملكه، وأصل ملكه فيها نخلة، وإنما يكون نخله قبل القطع فمن ضرورة استحقاق بعض النخلة بأصلها استحقاق جميع النخلة بأصلها وكذلك في الإقرار؛ لأن الإقرار اختيار تملك النخلة له، فأما البيع إيجاب مبتدأ فلا يستحق به إلا المسمى فيه، والنخلة اسم لما ارتفع من الأرض لا الأرض، فلا يجوز أن يثبت الملك ابتداء في شيء من الأرض بتسمية النخلة في البيع ما لم يسم النخلة بأصلها.

والحائط يستحق بأصله في الإقرار والقسمة والبيع باتفاق الروايات، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» ، وذكر الخصاف في كتاب الشروط أن الحائط والنخلة والشجرة سواء. ثم ذكر محمد في «الكتاب» : أن الشجرة تستحق بأصلها في القسمة، ولم يذكر مقدار ذلك. بعض مشايخنا قالوا: يدخل في القسمة من الأرض ما كان بإزاء العروق يوم القسمة عروقاً لو قطعت تثبت الشجرة، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وبعضهم قالوا: يدخل في الأرض بمقدار غلظ الشجرة يوم القسمة، وإليه مال في «الكتاب» فإنه قال: إذا زادت النخلة غلظة كان لصاحب الأرض أن يبحث ما ازداد، فدل أنه قدر ما تحته من الأرض بمقدار غلظ الشجرة وقت القسمة. فإن قطع النخلة أو الشجرة فله أن يغرس مكانها ما بدا له لأن صاحبها ملك من الأرض بقدر الغلظ الذي كان وقت القسمة، فكان له أن يتصرف فيها ما شاء، فإن أراد أن يمر إليها فمنعه صاحب الأرض عنه، إن ذكروا في القسمة بكل حق هو لها فليس لصاحب الأرض أن يمنعه وله الطريق إلى كله، وإن لم يذكروا ذلك، إن علم وقت القسمة أن لا طريق له فالقسمة جائزة، وإلا فالقسمة مردودة. وإذا كانت قرية وأرض ورحى ما بين قوم بالميراث، فاقتسموها فأصاب رجلاً الرحى ونهرها وأصاب آخر التنور وأرضاً مسماة، وأصاب آخر أيضاً أرضاً مسماة فاقتسموها بكل حق لها، فأراد صاحب النهر أن يمر إلى نهره في أرض أصاب صاحبه بالقسمة فمنعه صاحبه، فليس له منعه إذا كان النهر في وسط أرض هذا ولا يصل إليه إلا بأرضه، لأن ذكر الحقوق والحالة هذه لاشتراط هذا الطريق، والطريق يستحق بالشرط. وإن كان يصل إلى النهر بدون أرضه بأن كان النهر متفرجاً مع حد الأرض، لم يكن له أن يمر في أرض هذا، وإن كان الطريق إلى النهر في أرض الغير لا في نصيب صاحبه يدخل في القسمة بذكر الحقوق أمكنه الوصول إلى النهر بدون ذلك الأرض، أو لم يمكنه، وقد مر جنس هذا. وإن لم يشترطوا في القسمة الحقوق والمرافق وما أشبهها، وكان الطريق في أرض الغير، فإن لم يمكن فتح الطريق في نصيبه فالقسمة فاسدة، إلا إذا علم بذلك وقت القسمة وإن أمكنه فتح الطريق في نصيبه فالقسمة جائزة، وكذلك إذا أمكنه المرور في بطن النهر بأن نضب الماء من موضع منه، وكان يمكن المرور في ذلك، فهو قادر على أن يمر في نصيبه فتكون القسمة جائزة، وإن لم يكن من النهر شيء مكشوف فالقسمة فاسدة؛ لأن المرور متعذر إن كان الماء كثيراً ومتعسر إن كان قليلاً فلا يلتفت إليه، والتحق هذا بما إذا لم يمكنه فتح الطريق في نصيبه. لا يدخل العلو والكنيف والشارع في قسمة الدار، وإن لم يذكر الحقوق والمرافق، والظلة لا تدخل بدون ذكر الحقوق والمرافق عند أبي حنيفة، وعندهما تدخل إذا كان

الفصل الخامس: في الرجوع عن القسمة (6ب/4) واستعمال القرعة فيها

مفتحها من الدار، والجواب في القسمة نظير الجواب في البيع. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: دار بين قوم اقتسموا، فوقع في نصيب أحدهم بيت فيه حمامات، فإن لم يذكروا الحمامات في القسمة فهي بينهم كما كانت، وإن ذكروها فإن كانت لا توجد إلا لصيد فالقسمة فاسدة لما ذكرنا أن القسمة في معنى البيع، وبيع الحمامات إذا كانت لا توجد إلا لصيد فاسد فكذا القسمة، وإن كانت الحمامات توجد بغير صيد فالقسمة جائزة، لأن بيع الحمامات إذا كانت توجد بغير صيد جائزة، وهذا كله إذا اقتسموها بالليل حتى إذا اجتمعت كلها في البيت، فأما إذا اقتسموها بالنهار بعد ما خرجن من البيت فالقسمة فاسدة كالبيع. في «مجموع النوازل» : شريكان اقتسما كرماً نصفين، وفيه أعناب وثمار، فإن قالا: على أن هذا النصف لفلان بكل قليله وكثيره، أو قالا: بما فيه الأعناب والثمار تصير الأعناب والثمار مقسومة، وإن لم يقولا ذلك تبقى مشتركة؛ لأن قسمة العقار بيع، وبيع الكرم لا يكون بيعاً للأعناب والثمار إلا بالتنصيص أو بذكر القليل والكثير. في «فتاوى أبي الليث» : كرم بين اثنين اقتسماه فوقع النصف الأعلى في نصيب أحدهما مع الطريق القديم، ووقع النصف الأسفل في نصيب الآخر مع طريق رفعوه للنصف الأسفل، وفي الطريق الذي رفعوه للنصف الأسفل أشجار، قال الفقيه أبو القاسم: لمن جعل له الطريق، وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: إن جعل ملك الطريق له فالأشجار له: لأنها بمنزلة بيع الأرض، والشجرة تدخل في بيع الأرض تبعاً، وإن جعلا حق المرور له لا ملك الطريق، فالأشجار مشتركة بينهما كما كانت. فيه أيضاً، لو كان بين شريكين دار فرفعا باباً منها ووضعاه فيها، ثم قسما الدار، فالباب الموضوع لا يدخل في القسمة إلا بالذكر كما في البيع والله أعلم. الفصل الخامس: في الرجوع عن القسمة (6ب/4) واستعمال القرعة فيها إذا كان الغنم أو ما أشبهه بين رجلين فأرادا قسمتها، وقسماها نصفين ولم يقصرا عن طلب المعادلة، ثم بدا لأحدهما الرجوع، فإن بدا له قبل تمام القسمة بأن كان ذلك قبل خروج القرعة فله الرجوع؛ لأن المقصود من القسمة وهو تعيين الأنصباء لم يحصل قبل الإقراع، فحال ما قبل الإقراع في القسمة والمقصود لم يحصل، كحال المساومة في باب البيع، وإن بدا له بعد تمام القسمة، بأن بدا له بعد ما خرج قرعتهما، أو بعد ما خرج قرعة أحدهما وتعين نصيب كل واحد منهما ليس له الرجوع؛ لأن القسمة في معنى البيع، والرجوع عن البيع بعد تمامه لا يعمل، فكذا الرجوع عن القسمة. وإن كان الشركاء ثلاثة، فخرج قرعة أحدهم فلكل واحد منهم الرجوع؛ لأن القسمة لم تتم في كل واحد منهما، وأما في حق من خرج قرعته وإن تعين نصيبه؛ لأن ما يترك

الفصل السادس: في الخيار في القسمة

على صاحبيه من نصيبه لم يتعين بعد فكأنه وجد إحدى شطري القسمة، وإن خرج قرعة اثنين منهم، ثم أراد أحدهم أن يرجع ليس له ذلك؛ لأنه تعين نصيب كل واحد منهم وتمت القسمة في حقهم؛ لأن بخروج السهمين يتعين السهم الثالث. ولو كان الشركاء أربعة ما لم تخرج قرعة ثلاث منهم كان لكل واحد منهم الرجوع، وهو بناء على ما قلنا. وفي «نوادر ابن رستم» : لو كانت القسمة من القاضي أو من قسامه، فليس لأحد الشركاء الرجوع وإن لم تخرج السهام أصلاً؛ لأن القاضي يجبرهم على ذلك فلا يلتفت إلى رجوع واحد منهم لا بعد خروج القرعة ولا قبل خروجها. وإذا كان غنم بين قوم تشاحوا عليها قبل أن يقسموها، فأيهم خرج سهمه أولاً عدوا له، كذا الأول فالأول فهذا لا يجوز؛ لأن ذلك مجهول؛ لأنه لا يدري ما نصيب كل واحد منهم بعد الإقراع، فإنه لا يدري أي عشرة تعد له الجيد أو الوسط أو الرديء، فهذه حياله مفضية إلى المنازعة، فيفيد القسمة كما يفيد البيع. وإن كان في الميراث إبل وبقر وغنم، فجعلوا الإبل قسماً والبقر قسماً والغنم قسماً ثم تشاحوا عليها وأقرعوا، فهذا جائز لأن ما يصيب كل واحد منهم بعد القرعة معلوم بخلاف الفصل الأول، فإن ما يصيب كل واحد بعد القرعة ثمة ليس بمعلوم. وإذا كانت الدار بين رجلين فاقتسما على أن أخذ أحدهما الثلث من مؤخرها بجميع حقه، وأخذ الآخر الثلثين من مقدمها بجميع حقه فلكل واحد منهما أن يرجع عن ذلك ما لم تقع الحدود بينهما، ولا يعتبر رضاهما بما قالا قبل وقع الحدود؛ وهذا لأن الرضا بالقسمة إنما يعتبر وقت وجود القسمة وتمامها، كالرضا بالبيع يعتبر وقت وجود البيع وتمامه، وتمام القسمة بوقع الحدود والتعيين، إما بالنص أو بالإقراع؛ لأن الإقرار به يتحقق. ذكر في «الأجناس» : القرعة ثلاث: الأولى لإثبات حق وإبطال حق آخر وإنها باطلة، كمن أعتق أحد عبديه بغير عينه، ثم تعين بالقرعة، والأخرى لطيبة النفس، وإنها جائزة كما يقرع بين النساء ليسافر بها، والثالث لإثبات حق واحد وفي مقابلة مسألة ليقر بها كل حق كالقسمة وهو جائز والله أعلم. الفصل السادس: في الخيار في القسمة الخيار نوعان: نوع يثبت بالشرط، ونوع يثبت بدون الشرط، والذي يثبت بدون الشرط نوعان: خيار الرؤية وخيار العيب، والقسمة نوعان: قسمة يوجبها الحكم، نعني بها: قسمة يجبر الآبي عليها، وقسمة لا يوجبها الحكم نعني: قسمة لا يجبر الآبي عليها. وقد أورد محمد رحمه الله في «الأصل» لكل خيار باباً وبدأ بخيار الرؤية، فنحن

نبدأ به أيضاً، فنقول: خيار الرؤية يثبت في القسمة التي لا يوجبها الحكم؛ لأن إثباته مفيد، وهل يثبت في القسمة التي يوجبها الحكم؟ ينظر إن وقعت هذه القسمة في ذوات الأمثال من المكيل أو الموزون أو العدديات المتقاربة من جنس واحد لا يثبت؛ لأن إثباته غير مفيد؛ لأنا متى أثبتناه ونقضنا القسمة به يجب إعادتها كما وقعت أول مرة، فلا يفيد الاشتغال به بخلاف القسمة التي لا يوجبها الحكم، لأنا لو نقضناها بخيار الرؤية لا يجب إعادة مثلها ثانياً، فكان الإثبات مفيداً. وإن وقعت هذه القسمة في غير ذوات الأمثال كالغنم والبقر والإبل والثياب الهروية أو المروية ففيه روايتان، ذكر في رواية أبي سليمان أنه يثبت، وذكر في رواية أبي حفص أنه لا يثبت، والصحيح ما ذكر في رواية أبي سليمان. ووجه ذلك: أن إثبات الخيار في هذه القسمة مفيد؛ لأن المعادلة في غير المكيل والموزون تعتبر من حيث القيمة، والقيمة تعرف بالحزر والظن فيتوهم جريان الغلط فيها فمتى نقضنا هذه القسمة بخيار الرؤية ربما تعاد على وجه يكون أعدل من الأول، فكان النقض مفيداً بخلاف المكيل والموزون؛ لأن المعادلة فيها تعتبر من حيث الإجراء لا من حيث القيمة، فمتى نقضناها احتجنا إلى إعادة مثلها، ثم ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : الحنطة والشعير وكل ما يكال وكل ما يوزن، وأثبت في قسمتها خيار الرؤية. قال مشايخنا رحمهم الله: أراد بما قال الحنطة والشعير جميعاً والمكيل والموزون جميعاً، لا أحدهما على الانفراد حتى يكون المقسوم أجناساً، فتكون قسماً لا يوجبها الحكم بتراضيهما، فيثبت فيها خيار الرؤية. وإن أراد بذلك الحنطة على الانفراد أو الشعير على الانفراد، فهو محمول على ما إذا كان صفتهما مختلفة، بأن كان البعض علكة والبعض رخواً، والبعض حمراء والبعض بيضاء، واقتسما كذلك حتى تكون القسمة واقعة على وجه لا يوجبها الحكم. أو كانت صفتها واحدة، إلا أنه أصاب أحدهما من أعلى الصبرة، وأصاب الآخر من أسفله، وهكذا الجواب في الذهب التبر والفضة التبر، وكذلك أواني الذهب والفضة والجواهر واللآليء، وكذلك العروض كلها، وكذلك السلاح والسيوف والسروج. وإذا كانت ألفا درهم بين رجلين، كل ألف في كيس فاقتسما على أن لأحدهما كيساً وللآخر كيساً، وقد رأى أحدهما المال كله، ولم يره الآخر فإنه لا يثبت خيار الرؤية؛ لأنها قسمة وقعت على يوجبها الحكم؛ وهذا لأن الدراهم والدنانير، أثمان من كل وجه، ولا مقصود في عينها إنما المقصود الثمنية وبمعرفة المقدار يصير المقصود معلوماً على وجه لا تفاوت قسم الرضا به قبل الرؤية، بخلاف سائر وجه الأعيان، قال: إلا أن يكون قسم الذي لم ير المال سهماً، فيكون له الخيار إن شاء رد القسمة وإن شاء أمضاها. واختلف المشايخ في تعليله، قال بعضهم: لأنه إذا كان قسمه سهماً بأن كان زيوفاً كان ذلك عيباً، فيرد بخيار العيب لا بخيار الرؤية، وخيار العيب يثبت في القسمات كلها. وبعضهم قالوا: لأنه إنما رضي بقسمته على أن يكون في الصفة بمثل ما أخذ

صاحبه، فإذا كان دون ذلك لا يتم به الرضا فيتخير في ذلك، كما لو رأى عند الشراء جزءاًمن المكيل أو الموزون، ثم كان ما بقى وإنما رأى، فإنه يثبت له الخيار، وهذا إشارة إلى أن الرد بخيار الرؤية. وإذا اقتسم الرجلان بستاناً وكرماً فأصاب أحدهما البستان وأصاب الآخر الكرم ولم ير واحد منهما الذي أصابه ولا رأى جوفه ولا نخله، وإنما رأى الحائط من ظاهره سقط خيار الرؤية، ورؤية الظاهر كرؤية الباطن. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : وبهذه المسألة يتبين ضعف قول من يقول في مسألة الدار: إذا رأى المشترى ظاهر الدار ولم ير داخلها أن جواب محمد: أنه لا خيار للمشتري محمول على دور الكوفه؛ لأنهما لا تتفاوت في السعة والضيق. ألا ترى أن محمداً رحمه الله في مسألة البستان والكرم اكتفى برؤية الظاهر، مع أن البستان المقصود والكرم المقصود يتفاوت بتفاوت الأشجار والنخيل، ولم يشترط رؤية شيء من ذلك، فعلم أن المعنى في تلك المسألة أن ما يتعذر الاستقصاء برؤية كل جزء منه تقام رؤية جزء منه مقام رؤية الجميع في إسقاط الخيار، وبعض مشايخنا قالوا: تأويل قوله: ولا رأى شجره ولا نخلة، كل الشجر وكل النخيل. إنما رأى رؤوس الأشجار ورؤوس النخيل، أما لو لم ير رؤوس الأشجار أيضاً لا يسقط (7أ4) خيار الرؤية، وهذا القائل هذا يقول في بيع المحض، ثم إذا ثبت خيار الرؤية في القسمة في أي موضع ثبت يبطل بما يبطل به هذا الخيار في البيع المحض؛ لأن القسمة في معنى البيع، وقد عرف تفاصيل ذلك في كتاب البيوع. جئنا إلى خيار العيب، فنقول: خيار العيب يثبت في نوعي القسمة جميعاً، لأن إثبات خيار العيب مقيد في النوعين جميعاً، فإن القسمة متى نقضت بسبب العيب لا يحتاج إلى إعادة مثلها على حسب ما وقعت أول مرة، بل تعاد على وجه يزول الضرر عمن وقع العيب في قسمه. ومن وجد من الشراء عيباً في شيء من قسمه، فإن كان قبل القبض رد جميع نصيبه سواء كان المقسوم شيئاً واحداً، أو أشياء مختلفة كما في البيع، وإن كان بعد القبض، فإن كان المقسوم شيئاً واحداً حقيقة وحكماً كالدار الواحدة، أو حكماً لا حقيقة كالمكيل والموزون، يرد جميع نصيبه، وليس له أن يرد البعض دون البعض، كما في البيع المحض، وإن كان المقسوم أشياء مختلفة حقيقة وحكماً كالأغنام يرد المعيب خاصة كما في البيع المحض، وما يبطل خيار العيب في البيع المحض كذا يبطل به في القسمة؛ لأن في القسمة معنى البيع على ما مر. وإذا استخدم الجارية بعد ما وجد بها عيباً ردها استحساناً، وإذا دام على سكنى الدار بعد ما علم بالعيب بالدار ردها بالعيب استحساناً أيضاً، وإذا دام على ركوب الدابة، أو دام على لبس الثوب بعد ما علم بالعيب لا يردهما بالعيب استحساناً وقياساً،

وللاستحسان في مسألة السكنى طريقان. أحدهما: أن الدوام على السكنى بعد ما علم بالعلم محتمل بين أن يكون لاختيار الملك فيسقط خياره، وبين أن يكون لعجزه عن الانتقال لأن الانتقال من دار إلى دار لا يمكن إلا بكلفة ومؤنة وربما لا يتهيأ له ذلك فلا يكون اختياراً للملك مع الشك فلا يسقط خياره بخلاف الدوام على الركوب واللبس؛ لأنه اختيار الملك؛ لأنه لا عجز عن النزع والنزول، فكان لاختيار الملك فعلى قول هذه الطريقة، يقول: إذا أنشأ السكنى بعدما علم بالعيب يسقط خياره؛ لأن إنشاء السكنى لا يكون إلا لاختيار الملك؛ لأنه لا يحتمل العجز عن الانتقال، ومحمد رحمه الله لم يذكر فصل إنشاء السكنى في بعض روايات كتاب القسمة، إنما ذكر فصل الدوام. الطريق الثاني: أن الدوام على السكنى محتمل بين أن يكون بالملك الحادث المستفاد بالقسمة من جهة صاحبه، فيدل على اختيار الملك، وبين أن يكون بملكه القديم؛ لأن كل واحد منهما يملك ذلك بملكه القديم من غير رضا شريكه؛ لأن الناس لا يتفاوتون فيه وعلى هذا الاعتبار لا يكون اختياراً للملك فلا يثبت أنه الاختيار بالشك، بخلاف الدوام على اللبس والركوب؛ لأنه لا يحتمل أن يكون بالملك القديم؛ لأن أحد الشريكين لا يملك ذلك من غير رضا شريكه لما أن الناس يتفاوتون في الركوب واللبس فتعين أن يكون بالملك الحادث، فعلى قول هذه الطريقة نقول: إذا أنشأ السكنى بعد ما علم بالعيب لا يسقط خياره، وإلى هذا أشار في بعض روايات هذا الكتاب. وأما في البيع المحض هل يسقط خيار العيب بالسكنى دواماً كان أو أنشاءً فلا ذكر لهذه المسألة في كتاب البيوع، وقد اختلف المشايخ فيه. فمن سلك الطريق الأول في مسألة القسمة يقول: خيار العيب في القسمة والبيع المحض يبطل بإنشاء السكنى ولا يبطل بدوامه، ومن سلك الطريق الثاني يقول: خيار العيب في القسمة والبيع المحض لا يبطل بإنشاء السكنى ولا بدوامه. ومن المشايخ من فرق بين البيع المحض، وبين القسمة فقال: في البيع يبطل خيار العيب بالسكنى إنشاء ودواماً، وفي القسمة لا يبطل خيار العيب بالسكنى لا إنشاء ولا دواماً. والفرق: أن السكنى في فصل القسمة دواماً كان أو إنشاء يحتمل أن يكون بالملك القديم، فأما البيع لا يحتمل أن يكون بالملك القديم دواماً كان أو إنشاءً فيتعين أن يكون بالملك الحادث المستفاد بالبيع، فيكون اختياراً للملك، فلهذا افترقا. وأما في خيار الشرط إذا سكن الدار في مدة الخيار، أو دام على السكنى. ذكر محمد رحمه الله في كتاب البيوع: إذا سكن المشتري الدار في مدة الخيار سقط خياره، ولم يفصل بينما إذا أنشأ السكنى وبينما إذا دام على السكنى، فمن فرق من المشايخ بين إنشاء السكنى وبين الدوام عليه في مسألة القسمة يفرق بينهما أيضاً في خيار الشرط.

ويقول: خيار الشرط يبطل بإنشاء السكنى ولا يبطل بالدوام عليه إذ لا فرق بينهما، ومن قال: خيار العيب في القسمة لا يبطل لا بإنشاء السكنى ولا بدوامه، قال: بأن خيار الشرط يبطل بإنشاء السكنى وبدوامه. والفرق بينهما: وهو أن السكنى في خيار العيب يحتمل أن يكون لإمكان الرد بالعيب؛ لأن مدة الرد بالعيب قد تطول؛ لأن الرد بالعيب لا يكون إلا بقضاء أو برضا، وعسى لا يرضى به خصمه، فيحتاج إلى القضاء، والقضاء يعتمد سابقه الخصومة، ومدة الخصومة عسى تطول فمتى لم يسكنها تخرب، لأن الدار تخرب إذا لم يسكن فيها أحد، فيعجز عن الرد فيحتاج إلى السكنى لإمكان الرد بالعيب، فلا يكون اختياراً للملك وعلى هذا الاحتمال؛ فلهذا لا يسقط به خيار العيب. فأما في خيار الشرط لا يحتاج إلى السكنى لإمكان الرد؛ لأنه يتمكن من الرد بنفسه من غير أن يتوقف ذلك على قضاء أو رضا فلا تطول مدة الرد، فلا يحتاج إلى السكنى لإمكان الرد فكان الاختيار الملك فيوجب سقوط خياره، وإذا باع قسمه الذي أصابه من الدار، ولا يعلم بالعيب، فرده المشتري عليه، إن قبله بغير قضاء فليس له أن ينقض القسمة، وإن قبله بقضاء فله أن ينقض القسمة، كما في البيع المحض. فإن كان المشتري قد قدم شيئاً من الدار قبل أن يعلم بالعيب لم يكن له أن يردها، ويرجع بنقصان العيب كما في البيع المحض، قال: وليس للبائع أن يرجع بنقصان ذلك على من قاسمه، ذكر المسألة مطلقة من غير ذكر خلاف. فمن مشايخنا من قال: ما ذكر هنا قول أبي حنيفة رحمه الله وحده، أما على قول أبي يوسف ومحمد يرجع بنقصان العيب على قسمته، وقاس هذه المسألة بمسألة ذكرها في كتاب الصلح. وصورتها: رجل اشترى من آخر جارية وقبضها وباعها من غيره، فهلكت عند المشتري، ثم اطلع المشتري الثاني على عيب بها، فإن له أن يرجع بنقصان العيب على بائعه وهو المشتري الأول، وهل للمشتري الأول أن يرجع على بائعه؟ ذكر أن على قول أبي حنيفة: لا يرجع. وعلى قولهما: يرجع فها هنا يجب أن يكون على الخلاف أيضاً، ومن المشايخ من يقول: ما ذكر في كتاب القسمة قول الكل، وفرق هذا القائل بين مسألة كتاب القسمة وبين مسألة كتاب الصلح. ووجه الفرق: أن في مسألة كتاب القسمة إلتزم ضمان النقصان باختياره، فإنه كان يمكنه أن يقبل المبيع ولا يؤدي النقصان، فهو بمعنى قولنا: التزم ضمان النقصان باختياره فلا يرجع بذلك على غيره. أما في مسألة كتاب الصلح التزم ضمان النقصان عن اضطرار وجبر، فإن القبول بعد الهلاك غير ممكن، فجاز أن يرجع بذلك على بائعه، ولكن هذا الفرق لا يكاد يصح؛ لأن في مسألة كتاب القسمة لا يمكنه القبول إلا بزيادة عيب يلزمه، فكان مضطراً في التزام

الفصل السابع: في بيان من يلي القسمة على الغير ومن لا يلي

ضمان النقصان، فالصحيح أن المسألة على الاختلاف. جئنا إلى خيار الشرط، فنقول: خيار الشرط يثبت في القسمة حيث يثبت خيار الرؤية، وما يبطل به خيار الشرط في البيع المحض يبطل في القسمة، وإنما يصحّ اشتراط الخيار في القسمة على نحو ما يصح اشتراط في البيع المحض حتى يجوز اشتراط ثلاثة أيام بلا خلاف، وما زاد على الثلاثة يكون على الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه، وإن ادعى المشروط له الخيار بعد مضي مدة الخيار الفسخ في مدة الخيار لا يصدق على ذلك، كما في البيع المحض. الفصل السابع: في بيان من يلي القسمة على الغير ومن لا يلي الأصل أن من ملك بيع شيء ملك قسمته؛ لأن في القسمة بيعاً وإفرازاً، ومن ملك بيع شيء ملك إفرازه (7ب4) ضرورة، إذا عرفت هذا فنقول: الأب يقاسم مال ولده الصغير عقاراً كان أو منقولاً بغبن يسير، ولا يملك بغبن فاحش لأنه يملك بيع مال ولده الصغير عقاراً كان أو منقولاً بغبن يسير، ولا يملك بغبن فاحش فكذا القسمة، ووصي الأب في ذلك بمنزلة الأب، والجد أب الأب حال عدم الأب، ووصي الأب بمنزلة الأب، وأما وصي الأم يقاسم مال ولدها الصغير ما سوى الصغار من تركة الأم إذا لم يكن للصغير أحد ممن سمينا، ولا يقاسم ما له من غير تركة الأم، العقار والمنقول في ذلك على السواء؛ وهذا لأن وصي الأم قائم مقام الأم، والأم حال حياتها كانت تملك بيع منقولاتها التي يرثها هذا الصغير، تحصيناً على نفسها وعلى الصغير، فإنها ما لم تحصن ذلك وتحفظها لا يبقى لها ولا يصير موروثاً للصغير من جهتها، وكانت تملك بأن تحفظ ما ورثها الصغير من غيرها بعينها وما كانت تملك بيعها، العقار والمنقول في ذلك على السواء. وما كانت تملك بيع عقار أب نفسها التي يرثها هذا الصغير تحصيناً لأنها محصنة بنفسها، وإنما كانت تملك بيعها لحاجتها إلى الثمن، إذا ثبت هذا في حق الأم ثبت في حق وصيها الذي هو قائم مقامها فيملك وصيها بيع المنقولات التي ورثها من الأم تحصيناً، ولا يملك بيع عقاراته التي ورثها من الأم تحصيناً، وإنما يملك بيعها لحاجته إلى ثمنها، بأن كان عليه دين لا وفاء له إلا من ثمنها. ولا يملك بيع ما ورث الصغير من غير الأم، العقار والمنقول في ذلك سواء. وإذا عرفت الجواب في البيع ظهر الجواب في القسمة، في كل موضع ملك هذا الوصي البيع يملك القسمة؛ لأن في القسمة تحصين، فإن الإنسان أقدر على تحصين المقسوم، وفي كل موضع لا يملك البيع لا يملك القسمة، وكل جواب عرفته في وصي الأم فهو الجواب في وصي الأخ والعم وابن العم يقاسم ما ورث الصغير من هؤلاء ما سوى العقار، ولا يقاسم العقار ولا يقام ما ورث الصغير من غيرهم، العقار والمنقول في

الفصل الثامن: في قسمة التركة وعلى الميت أو له دين أو موصي له، وفي ظهور الدين بعد القسمة، وفي دعوى الوارثدينا في التركة أو عينا من أعيان التركة

ذلك سواء؛ لأنه لا ولاية لهؤلاء على الصغير كما لا ولاية للأم فكانوا بمنزلة الأم، فكان وصيهم بمنزلة وصي الأم. ولا تجوز قسمة الأب الكافر على ابنه المسلم، وكذا لا تجوز قسمة الأب المملوك على ابنه الحر، ولا تجوز قسمة الملتقط على اللقيط كما لا يجوز بيعه، ولا تجوز قسمة الوصي بين الصغيرين كما لا يجوز بيعه مال أحدهما من الآخر.p والوصي إذا قاسم مالاً مشتركاً بينه وبين الصغير لا يجوز، إلا إذا كان للصغير فيها منفعة ظاهرة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند محمد لا يجوز، وإن كان للصغير فيه منفعة ظاهرة، ويجوز للأب أن يقاسم مالاً مشتركاً بينه وبين الصغير، وإن لم يكن للصغير فيه منفعة ظاهرة. وإن كان في الورثة صغار وكبار فقاسم الوصي الكبار وميز نصيب الصغار جاز، ولا تجوز قسمة الوصي على الكبار الغيب في العقار، وتجوز قسمته في العروض، زاد «البقالي» في كتابه العروض من تركة الأب، وإن كان فيهم صغير وكبير حاضر وكبير غائب فعزل الوصي نصيب الكبير الغائب مع نصيب الصغير، وقاسم الكبير الحاضر. فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: جاز قسمته في العقار والعروض، وعلى قولهما: تجوز في العقار ولا تجوز في العروض كما في البيع، ولا يقسم على الموصى له من غير أمر القاضي. وروى الحسن عن أبي يوسف: أنه يجوز، وهو قول الحسن، وإذا جعل القاضي وصياً ليتيم في كل شيء فقاسم عليه في العقار والعروض جاز، ولو جعله وصياً في النفقة أو في حفظ شيء بعينه فقاسم لا يجوز. وهذا بخلاف وصي الأب إذا جعل الأب وصياً في شيء خاص، فإنه يكون وصياً في الأشياء كلها فالوصاية من القاضي قابلة للتخصيص، ومن الأب لا تقبل التخصيص، ولا تجوز القسمة على المبرسم والمغمى عليه، والذي يجن ويفيق إلا برضاه، ووكالته في حالة صحته وإفاقته؛ وهذا لأن هذا العارض على شرف الزوال فكان لاحقاً بالعدم إلا أنه موجود حقيقة، فما ثبت للغير عليه من الولاية الثانية بالوكالة حالة الصحة لا يزول، وما لم يكن ثابتاً للغير عليه من الولاية لا يثبت. الفصل الثامن: في قسمة التركة وعلى الميت أو له دين أو موصي له، وفي ظهور الدين بعد القسمة، وفي دعوى الوارثديناً في التركة أو عيناً من أعيان التركة قال محمد رحمه الله: إذا اقتسم الورثة داراً للميت أو أرضاً الميت، وعلى الميت دين، فجاء الغريم يطلب الدين فالقسمة فاسدة قياساً جائزة استحساناً لوجهين:

أحدهما: أنهما شرطا في القسمة ما تقتضيه القسمة من غير شرط، فإنهما لو اقتسما الأرض وترك البناء على الشركة وجب على من وقع البناء في نصيبه نصف قيمة البناء لصاحبه، واشتراطها يقتضيه العقد من غير شرط لا يوجب فساد العقد. فإن قيل: إذا لم يشترط القيمة وقت القسمة فالجهالة طارئة على القسمة، لأن القيمة تجب بعد ذلك حكماً فكانت طارئة، ومتى شرطا القيمة وقت القسمة كانت الجهالة متقارنة للقسمة، والجهالة الطارئة على العقد لا توجب فساد العقد، أما المقارنة تفسد العقد، عرف ذلك في كتاب البيوع، والجواب عن هذا أن يقال: لا بل الجهالة مقارنة للقسمة، وإن لم يشترطا القيمة؛ لأن القيمة واجبه لا محالة لا تنفك القسمة عنها فكانت الجهالة متقارنة، ثم لم يمنع ذلك جواز القسمة، فكذا إذا كانت مشروطة؛ لأنه لا يثبت بالشرط زيادة جهالة لم تكن ثابتة قبل ذلك. الوجه الثاني: لبيان جواز هذه القسمة: أن العبرة لحال تمام العقد، والعقد تم في المعلوم فلا تضرهم الجهالة في الابتداء، كما لو اشترى أحد الأبواب الثلاثة على أنه بالخيار ويأخذ أيها شاء، وسمى لكل واحد ثمناً. بيان هذا الكلام: أن حكم القسمة في الأرض لا يتم بالمساحة بل يتوقف تمام القسمة فيها على معرفة قيمة البناء وقسمتها بالقيمة، فلا تتم القسمة إلا بعد ظهور المعادلة في الكل ومعرفة كل واحد من الشركاء نصيبه. فهو معنى قولنا: إن العقد يتم في المعلوم، ثم إذا اقتسما الأرض نصفين وترك البناء على الشركة ووقع البناء في نصيب أحدهما إنما وجب على من وقع البناء في نصيبه نصف قيمة البناء؛ لأنه لا وجه إلى إبقاء البناء مشتركاً كذلك؛ لأن ما تحت البناء من الأرض صار ملكاً لأحدهما، فمتى تركنا البناء كذلك يتضرر من وقعت ساحة الأرض في نصيبه، ولا وجه إلى أن يؤمر الذي لم يقع البناء في نصيبه نقض نصيبه، لأنه لا يمكن نقض نصيبه إلا بعد نقض نصيب صاحبه، وفي ذلك ضرر بصاحبه فلم يبق ههنا وجه سوى أن يتملك الذي لم يقع البناء في نصيبه من الأرض ونصيب صاحبه من البناء، أو يتملك صاحب الأرض من نصيب صاحبه من البناء، وتملك صاحب الأرض نصيب صاحبه من البناء أولى؛ لأن التملك فيه أقل؛ ولأن صاحب الأرض صاحب أصل وصاحب البناء صاحب تبع، وتملك التبع لحق صاحب الأصل أولى على ما عرف. وإذا كانت الدار في يدي ورثة حضور كبار أقروا عند القاضي أنها ميراث في أيديهم وسألوه قسمتها. قال أبو حنيفة رحمه الله: القاضي لا يقسم الدور وسائر العقار بإقرارهم حتى يقيموا بينة أن فلاناً مات وتركها ميراثاً بينهم. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: قسمها بإقرارهم بينهم، ويشهد على أنه إنما قسمها بينهم بإقرار منهم لا بالبينة، وعلى هذا الخلاف إذا أقروا أن معهم وارث آخر غائب أو صغير، والدار كلها في يد الذين حضروا عند القاضي، وسألوه القسمة،

واجمعوا على أن الدار كلها أو شيء منها إذا كان في يدي غائب أو صغير سوى هؤلاء الذين حضروا عند القاضي وطلبوا من القاضي القسمة، فالقاضي لا يقسمها بينهم حتى يقيموا البينة على الميراث، واجمعوا في العروض إذا أقروا أنها ميراث بينهم، والعروض في أيديهم، وطلبوا من القاضي القسمة أن القاضي قسمها (8أ4) وإن لم يقيموا البينة على الميراث. وأما إذا قالوا: اشترينا هذه الدار من فلان وطلبوا من القاضي القسمة، فالقاضي يقسمها بينهم بإقرارهم، وعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان، في المشهور من الرواية: القاضي يقسمها بينهم بإقرارهم كما هو مذهبهما، وفي رواية قال: لا يقسمها حتى يقيموا البينة على الشراء من فلان. وجه قولهما: في فصل الميراث أن إقرارهم أن الدار في أيديهم ميراث إقرار صحيح؛ لأن الدار في أيديهم لا ينازعهم أحد فيها، وقول صاحب اليد فيما في يده عند عدم المنازع مقبول صحيح شرعاً، فلا حاجة إلى إثبات ذلك بالبينة. والدليل عليه في فصل الشراء وفصل العروض، وهذا بخلاف ما إذا كانت الدار كلها أو شيء منها في يد الغائب؛ لأن هناك إقرارهم غير صحيح؛ لأنه لا يد لهم فيما أقروا فلا بد من الإثبات بالبينة أما ها هنا بخلافه. ولأبي حنيفة رحمه الله أن التركة قبل القسمة مبقاة على حكم ملك الميت، ألا ترى أن التركة إذا ازدادت قبل القسمة كانت الزيادة للميت؟ حتى تقضى منها ديونه وتنفذ وصاياه، وبالقسمة ينقطع قدر ما بقي من الملك له حتى يصير الزيادة لمن وقع في سهمه، وقولهم ليس بحجة على الميت بخلاف فصل الشراء على ظاهر الرواية؛ لأن القسمة هناك لا تتضمن بطلان شيء من ملك البائع؛ لأن المشترى بعد القبض ملك المشتري من كل وجه، ولم يبق للبائع فيه حق، ألا ترى أن ما يحدث من الزيادة يحدث على حكم ملك المشتري. وأما العروض قلنا: القاضي لا يقسم العروض لقطع ما بقي من ملك الميت إنما يقسمها تحصيناً على الميت؛ لأن العروض تخشى التوى والتلف. ألا ترى أن القاضي يبيع عروض الغائب، وإنما يبيعها تحصيناً عليه، أما العقار محصنة بنفسها فلم يقسمها بطريق التحصين بل كان لإزالة ملك الميت، فلا بد لذلك من حجة تقوم عند القاضي. ثم على قولهما إذا قسم القاضي الدار بين الورثة بإقرارهم، يشهد أنه إنما قسم بإقرارهم؛ لأن حكم القسمة بالبينة يخالف حكم القسمة بالإقرار؛ لأن حكم القسمة بالبينة يتعدى إلى الغير. حتى لو ادعى أم ولده هذا الميت أو مدبرة العتق فالقاضي يقضي لهما بالعتق، ولا يكلفهما إقامة البينة على الموت، وحكم القسمة بالإقرار لا يتعدى. ألا ترى أنه لا يقضي بالعتق في هاتين الصورتين إلا ببينة تقوم على الموت، وإذا

كان بعض الورثة حضوراً والبعض غيباً، والدار كلها أو بعضها في يد الغائب وطلب الحاضر القسمة من القاضي، وأقام البينة على الميراث، فإن كان الحاضر واحداً فالقاضي لا يقبل بينته ولا يقسم الدار، وعن أبي يوسف أن القاضي ينصب عن الغائب خصماً ويسمع البينة عليه ويقسم الدار. وجه ظاهر الرواية: أن التركة قبل القسمة إن بقيت على حكم ملك الميت من وجه على ما مر صارت ملكاً للورثة من وجه، حتى لو أعتق واحد منهم عبداً من التركة قبل القسمة يعد العتق في نصيبه، وكل واحد من الورثة قبل القسمة يرتفق بنصيبه ونصيب شركائه، فالحاضر بدعوى القسمة كما يدعي إزالة ما بقي من ملك الميت يدعى على شركائه قطع الارتفاق بنصيبه ونصيب شركائه، فالحاضر ... جاز للقاضي نصب الوصي من حيث إنه دعوى على الميت لا يجوز له نصب الوصي من حيث إنه دعوى على شركائه الغائب، فلا يجوز نصب الوصي بالشك. وليس كما لو ادعى أجنبي ديناً على الميت، وليس للميت وارث ولا وصي، فإن القاضي ينصب عنه وصيّاً عن الميت، أما هاهنا بخلافه، وإذا لم يكن للقاضي أن ينصب وصياً عن الميت، وهذا الواحد لا يصلح خصماً عن الميت وعن سائر الشركاء؛ لأنه مدعي فلا يصلح مدعياً عليه تعذر قبول البينة؛ لأن البينة من غير الخصم لا تقبل. وإن حضر اثنان والباقي بحاله، فالقاضي يسمع البينة، ويقسم الدار ويجعل أحد الحاضرين مدعياً والآخر مدعى عليه، وأحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت وعن باقي الورثة. فإن قيل: كيف يجعل أحدهما مدعى عليه وكل واحد منهما مقر بما يدعيه صاحبه، والمقر بما يدعي المدعي لا يصلح خصماً للمدعي. قلنا: كل واحد منهما إنما يقر على الغير والإقرار على الغير باطل، وجوده والعدم بمنزلة، ألا ترى أن من ادعى على ميت ديناً وأقر به وصيه، فإن المدعي يكلف إقامة البينة وينتصب الوصي خصماً له، وإن كان الوصي مقراً، وإذا حضر أحد الورثة ومعه صغير وطلب القسمة من القاضي، وأراد ن يقسم بينه على الميراث، فالقاضي ينصب وصياً عن الصغير ويسمع البينة عليه ويقسم الدار؛ لأن للقاضي ولاية نصب الوصي، ووصيه يقوم مقام الصبي، وكأن الحاضر اثنان بالغان. وإن كانت الدار بين ثلاثة نفر بالشراء، وأحدهم غائب، فأقام اثنان منهم البينة على الشراء وطلبا من القاضي القسمة فالقاضي لا يسمع بينته ولا يقسم الدار بينهم؛ وهذا لأن الحاضر من المشترين لا ينتصب خصماً عن الغائب منهم؛ لأن الثابت بالشراء كل واحد منهم ملك جديد بسبب يأمره في نصيبه، فأما في الميراث لا يثبت للورثة ملك متجدد لسبب حادث، وإنما ينتقل إليهم ما كان من الملك للمورث بطريق الخلافة عنه، فيستقيم

أن يجعل البعض خصماً عن البعض في ذلك؛ لاتحاد السبب في حقهم وهو الخلافة عن الميت، وسيأتي جنس هذه المسائل بعد هذا في هذا الفصل إن شاء الله تعالى. وإذا كانت الدار بين رجلين فيها صفّة، وفي الصفّة بيت وطريق البيت في الصفة، ومسيل ماء ظهر البيت على ظهر الصفة، فاقتسما فأصاب أحدهما الصفة وقطعة من ساحة الدار، وأصاب الآخر البيت وقطعه من ساحة الدار، ولم يذكروا في القسمة الطريق ومسيل الماء، فأراد صاحب البيت أن يمر في الصفة على حاله ومسيل الماء على ظهر الصفة، فالمسألة على وجهين: أحدهما: أن يكون لصاحب البيت إمكان فتح الطريق ومسيل الماء في نصيبه في موضع آخر، وفي هذا الوجه القسمة جائزة، وليس لصاحب البيت حق المرور في الصفة، ولا حق تسييل الماء على ظهرها سواء ذكر في القسمة أن لكل واحد منهما نصيبه بحقوقه أو لم يذكرا ذلك. الوجه الثاني: إذا لم يكن لصاحب البيت إمكان فتح الطريق وتسييل الماء في نصيبه من موضع آخر، وفي هذا الوجه إن ذكروا أن لكل واحد منهما نصيبه بحقوقه دخل الطريق ومسيل الماء في القسمة وتجوز القسمة، وإن لم يذكرا ذلك لا يدخل الطريق ومسيل الماء في القسمة، وفسدت القسمة. والوجه في ذلك: أن عند ذكر الحقوق اجتمع في القسمة ما يوجب دخول الطريق ومسيل الماء في القسمة، وهو اشتراط الحقوق كما في البيع، وما يمنع دخولهما وهو لفظة القسمة، لأن القسمة للإقرار ولقطع كل واحد منهما عن نصيب صاحبه، وإنما ينقطع حق صاحب البيت عن الصفة من كل وجه إذا لم يكن لصاحب البيت حق المرور في الصفة وحق تسييل الماء على ظهر الصفة. والعمل بهما جميعاً في كل حال متعذر، فعملنا بلفظة القسمة إذا أمكنه فتح الطريق وتسييل الماء في نصيبه، وألغينا شرط الحقوق؛ لأن العمل بمقتضى القسمة في هذه الصورة لا يفسد القسمة والقسمة أصل والشروط أتباع، وعملنا شروط الحقوق؛ إذ لا يمكنه فتح الطريق وتسييل الماء في نصيبه، وإن كان الشروط أتباعاً لأنا لو نعمل بشرط الحقوق هاهنا تفسد القسمة؛ لأنها قسمة ضرر، ومتى فسدت القسمة فسد ما شرط فيها، ففي العمل بحقيقة القسمة في هذه الصورة إلغاء القسمة والشرط جميعاً، وفي العمل بالشرط اعتبار الشرط من كل وجه واعتبار القسمة من وجه، فكان هذا أولى، فإن لهم أن ينقضوا القسمة سواء كان الدين قليلاً أو كثيراً. يجب أن يعلم أن الورثة إذا طلبوا قسمة التركة من القاضي، وعلى الميت دين، والقاضي يعلم به، (8ب4) وصاحب الدين غائب، فإن كان الدين مستغرقاً للتركة، فإن

القاضي لا يقسمها بينهم؛ لأنه لا ملك لهم في التركة فلا يكون في القسمة فائدة فلا يقسمها، وإن كان الدين غير مستغرق للتركة فالقياس أن لا يقسمها أيضاً بل يوقف الكل. وفي الاستحسان يوقف مقدار الدين ويقسم الباقي، ولا يأخذ كفيلاً منهم بشيء من ذلك عند أبي حنيفة خلافاً لهما. وإن لم يعلم القاضي بالدين سألهم هل عليه دين؟ فإذا قالوا: نعم سألهم عن مقدار الدين؛ لأن الحكم يختلف، فإن فسروه بمقدار لا يستغرق التركة وقف بمقدار الدين وقسم الباقي، وإن قالوا: لا دين فالقول قولهم؛ لأن الورثة قائمون مقام الميت، والميت حال حياته لو قال: ليس علي دين كان القول قوله، فكذا إذا قال ورثته ذلك. ثم يسألهم هل فيها وصية؟ فإن قالوا: نعم سألهم إنها حصلت بالعين أو من ماله؛ لأن الحكم يختلف، فإن قالوا: لا وصية فيها قسمها القاضي بينهم، فإن ظهر بعد ذلك دين نقض القاضي القسمة؛ لأنه ظهر أنها حصلت في غير أوانها؛ لأن أوان قسمة الميراث ما بعد الدين. يوضحه: أن حق الغريم متعلق بالتركة، فكانت القسمة مصادفة حقهم فكان لهم النقض إذا كان النقض مفيداً، وفي النقض فائدة فإنه يباع شيء من التركة في دينه ولا يحتاج إلى أن يبيع كل واحد من الورثة بما يخصه، وكذلك لو أن القاضي لم يسأل الورثة عن الدين وقسم التركة بينهم حتى جازت القسمة ظاهراً ثم ظهر الدين فالقاضي ينقض القسمة إلا أن يقضوا الدين من مالهم يعني الورثة فالقاضي لا ينقض القسمة في الفصلين جميعاً، وكذلك لو أبرأ وظهر وارث الغريم الميت عن الدين لا تنقض القسمة لأن الموجب للنقض الغريم وقد زال حقه قبل النقض فيمتنع النقض، وهذا كله إذا لم يعزل الورثة نصيب الغريم ولم يكن للميت مال آخر سوى ما اقتسموا فالقاضي لا ينقض القسمة. وكذلك الجواب فيما إذا اقتسم الورثة التركة بأنفسهم ثم ظهر الغريم وكذلك آخر ولم يعرفه الشهود، أو ظهر موصى له بالثلث أو الربع وقد قسم الورثة التركة بأنفسهم، فإن القاضي ينقض القسمة ثم يستأنفها بعد ذلك؛ لأنه تبين أنها وقعت بغير محضر من بعض الشركاء. فإن قيل: أي فائدة في نقض القسمة واستئنافها من ساعته. قلنا: إذا لم ينقض القسمة يحتاج هذا الوارث أو الموصي له إلى أن يستوفي فما وصل إلى كل واحد منهم مقدار نصيبه فيتفرق نصيبه في مواضع، وإذا استؤنفت القسمة لا يتفرق نصيبه، وهذه فائدة ظاهرة. فإن قالت الورثة: نحن نقضي حق هذا الوارث والموصى له من مالنا ولا ننقض القسمة لا يلتفت إلى قولهم إلا أن يرضى هذا الوارث أو الموصى له. فرق بين هذا وبينما إذا ظهر غريم أو موصى له بألف من ماله فقالت الورثة: نحن نقضي حقه من مالنا، ولا ننقص القسمة إن لهم ذلك.

والفرق: أن حق الوارث والموصى له بالثلث أو الربع في عين التركة، فإذا أرادوا أن يعطوا حقه من مالهم فقد قصدوا شراء نصيبه من التركة فلا يصح إلا برضاه، ألا ترى أن في الابتداء لو أرادت الورثة أن يقتسموا جميع التركة فيما بينهم، ويقضوا حق وارث آخر وحق الموصى له بالثلث والربع من مالهم ليس لهم ذلك وطريقه ما قلنا، أما حق الغريم والموصى له بألف من ماله ليس في عين التركة بل في معنى التركة من حيث الاستيفاء من مال التركة، وأيضاً حقهم من التركة ومن مال الوارث سواء. ألا ترى أن في الابتداء لو أردوا أن يقسموا جميع التركة بينهم ويقضوا حقهما من مالهم كان لهم ذلك كذا ها هنا. قال: وكذلك لو قضى واحد من الورثة حق الغريم من ماله على أن لا يرجع في التركة، فالقاضي لا ينقض القسمة بل يمضيها؛ لأن حق الغريم قد سقط ولم يثبت للوارث دين آخر لما شرط أن لا يرجع، فأما إذا شرط الرجوع أو سكت فالقسمة مردودة إلا أن يقضوا حق القاضي من مالهم؛ لأن دين القاضي في التركة بمنزلة دين الغريم وهذا الجواب ظاهر فيما إذا شرط الرجوع مشكل فيما إذا سكت، وينبغي أن يجعل متطوعاً إذا سكت. والجواب إنما يجعل متطوعاً لأنه مضطر في القضاء، ألا ترى أن الغريم لو قدمه إلى القاضي قضى القاضي عليه بجميع الدين؛ لأنه لا ميراث إلا بعد الدين. ثم ما ذكر أن الورثة إذا قسموا التركة وظهر وارث آخر، أو موصى له بالثلث أو الربع فالقاضي ينقض القسمة فذلك إذا كانت القسمة بغير قضاء قاضي، فأما إذا كانت القسمة بقضاء القاضي، ثم ظهر وارث آخر أو موصى له بالثلث فالوارث لا ينقض القسمة إذا عزل القاضي نصيبه، وأما الموصى له فقد اختلف فيه المشايخ. قال بعضهم: لا ينقض وإليه أشار محمد في «الكتاب» فإنه قال في فصل الموصى له: له أن ينقض القسمة إذا كانت القسمة بغير أمر القاضي فهذا إشارة إلى أنها إذا كانت بقضاء فالقاضي لا ينقض القسمة، وهذا لأن الموصى له بالثلث شريك الورثة بمنزلة أحدهم، والوارث لا ينقض القسمة إذا كانت القسمة بقضاء، فكذا الموصى له. وبعضهم قالوا: ينقض، وفرقوا بين الموصى له وبين الوارث والأول أصحّ. ولو كان للميت وصي يقسم التركة، وعزل نصيب الوارث أو عزل نصيب الموصى له بالثلث صح قسمته على الوارث، ولم يصح على الموصى له، وإذا كان بعض التركة ديناً فاقتسموها، وشرطوا الدين في قسم بعضهم فالقسمة فاسدة؛ لأنهم باعوا الدين من غير من عليه الدين، وكذلك إذا اقتسموا الدين فيما بينهم فالقسمة فاسدة؛ لأن القسمة للإقرار وذلك لا يتحقق في الدين قبل القبض؛ لأن قبل القبض الدين مجتمع في مكان واحد، وإن كان الدين على الميت فاقتسموا على أن ضمن كل واحد منهم أو أحدهم الدين الذي على الميت، فهذا على وجهين: الأول: أن يكون الضمان مشروطاً في القسمة، والحكم فيه أن القسمة فاسدة؛ لأن

هذه قسمة شرط فيها كفالة بدين لم تجب القسمة. الثاني: إذا لم يكن الضمان مشروطاً في القسمة، إنما شرطوا بعد ذلك، والحكم فيه أنه إن ضمن بشرط أن يرجع في التركة لم تكن القسمة نافذة على معنى أن له أن ينقضها؛ لأنه قام مقام الغريم، وإن ضمن على أن لا يرجع في التركة بشيء، وعلى أن يبرأ الغرماء الميت، فهذا جائز إن رضي الغرماء بضمانه وإن أبوا أن يقبلوا ضمانه فلهم نقض القسمة؛ وهذا لأنه لما شرط في الضمان أن يبرئ الغريم الميت صارت الكفالة حوالة تخلف التركة عن الدين، والمانع من لزوم القسمة قيام التركة في الدين وإن لم يشرط، وعلى أن يبرئ الغريم الميت لا تنفذ القسمة وإن رضي الغرماء؛ لأنه يبقى كفالة فلا تخلوا التركة عن الدين. وإذا ادعى بعض الورثة دينا في التركة بعد تمام القسمة صح دعواه وله أن ينقض القسمة، أما صحة دعواه لأنه لو لم تصح أنها لا تصح لكونه متناقضاً بإقراره بصحة القسمة، ويكون المقسوم ملكاً للميت يقتضي الإقرار على القسمة ولا تناقض؛ لأن الدين لا يمنع صحة القسمة، ولكن يثبت للغريم حق النقض، وكذلك لا ينافي ملك الميت لأن ملك الميت باق بعد الدين، وأما له أن ينقص القسمة؛ لأن المانع من نفاذ القسمة ولزومها الدين، والدين بالقسمة لا يتحول إلى محل آخر، فكان المانع قائماً فيبقى المنع. ألا ترى أنه لو أجاز القسمة ثم أراد أن ينقصها فله ذلك، وهذا بخلاف لو بيع بالدين فأجاز فإنه تعمل إجازته؛ لأن المانع من اللزوم يزول؛ لأن حقه يتحول من العين إلى الثمن، ولو كان ادعى عيناً من أعيان التركة أنه له اشتراها من الميت أو وهبه الميت له وسلمه إليه، وكان ذلك بعد تمام القسمة لا تسمع دعواه لمكان التناقض؛ لأنه بالإقدام على القسمة أقر بصحة القسمة في هذا العين، ويكون هذا العين متروك الميت ميراثاً لهم، وبدعواه بعد ذلك لنفسه يدعى فساد القسمة في هذا العين، ويدعى أنه ليس بميراث لهم وهذا تناقض ظاهر. ولو ادعى أحد (9أ4) الورثة بعد تمام القسمة أن الميت أوصى لابنه الصغير بثلث ما له لا تسمع دعواه؛ لأنه صار متناقضاً بدعوى فساد القسمة بعد ما أقر بصحتها، ولو كبر الابن، وادعى الوصي بالثلث لنفسه، وأقام البينة سمعت بينته؛ لأنه لا تناقض منه. وإذا ادعى أحد الورثة بعد تمام القسمة على قدر ميراثهم عن أبيهم أن أخاً له من أبيه وأمه ورث أباهم معهم، وأنه مات بعد أبيهم فورثه هو، وأراد ميراثه لا تسمع دعواه لمكان التناقض؛ لأنه بالإقدام على القسمة على مقدار ميراثهم عن أبيهم صار مقراً بأن حقه في مقدار معين، وبدعواه الثاني بعد ذلك ادعى أن حقه أكثر من ذلك القدر فهذا تناقض ظاهر. إذا كانت الأراضي ميراثاً بين ثلاثة نفر عن أبيهم، مات أحدهم وترك ابناً كبيراً، فاقتسم هو وعماه الأراضي على ميراث الجد، ثم إن ابن الابن أقام بينة أن جده أوصى له بالثلث وأراد إبطال القسمة لم تسمع دعواه لمكان التناقض.

الفصل التاسع: في الغرور في القسمة

ولو لم يدع وصية من الجد ولكن ادعى ديناً على أبيه صحت دعواه؛ لأنه لا تناقض في دعوى الدين، فصحت دعواه الدين وثبت الدين بإقامته البينة، وصار الثابت بالبينة كالثابت عياناً، ولو كان الدين ثابتاً معاينة كان له أن ينقض القسمة، وليس لعمه أن يقول: إن دينك على أبيك ليس على الجد، وقد أعطينا نصيب أبيك، فإن شئت بعه بالدين، وإن شئت فأمسكه، وليس لك أن تنقض القسمة؛ لأنه لا فائدة لك في النقض؛ لأن بعد النقض نقض دينك من نصيب أبيك لا من ميراث الجد؛ لأن له أن يقول: لا بل لي في النقض فائدة؛ لأن الثلث مشاعاً ربما يشترى بأكثر مما يشترى به مفرزاً فكان في النقض فائدة؛ لأنه يزداد به مال الميت. وهذا كرجل مات وأوصى إلى رجل، وفي التركة دين غير مستغرق، وطلب الورثة من الوصي أن يفرز من التركة قدر الدين ويقسم الباقي بينهم كان له أن لا يقسم ذلك بينهم، ويبيع ذلك القدر مشاعاً، لأنه ربما يشترى بأكثر مما يشترى به المفرز؛ فيكون ذلك نظراً للميت كذا هاهنا. ولو ادعى الوارث أنه كان اشترى نصيب أبيه منه في حياته بثمن مسمّى، ونقد الثمن وأقام البينة على ذلك فهو جائز؛ لأنه غير متناقض في هذه الدعوى؛ لأن شراه نصيب أبيه لا يوجب فساد القسمة، ولا ينافي ملك الجديد يقرره، وتكون القسمة جائزة؛ لأن ما ادعى من الشراء لو ثبت معاينة بقيت القسمة على الصحة كذا إذا ثبت بالبينة. وإذا أقر الرجل أن فلاناً مات وترك هذه الدار وهذه الدار ميراثاً، ولم يقل لهم، ثم ادعى بعد ذلك أن الميت أوصى له بثلثه أو ادعى ديناً قبلت بينته؛ لأنه لم يصر متناقضاً في الدعوى؛ لأنه لم يسبق قبل هذا الدعوى سوى الإقرار الأول، أن هذه الدار متروك الميت؛ لأن ميراث الميت ما تركه الميت، والدين الوصية لا ينافي كونه متروك الميت؛ لأنهما إنما يقضيان من متروك الميت. الفصل التاسع: في الغرور في القسمة يجب أن يعلم أن كل قسمة يوجبها الحكم بأن كانت قسمة يجبر الآبي عليها كالقسمة في جنس واحد لا يثبت فيها حكم الغرور، وإن حصلت بتراضيهما، وكل قسمة لا يوجبها الحكم بأن كانت قسمة لا يجبر الآبي عليها يثبت فيها حكم الغرور كالقسمة في جنسين، أما في كل قسمة يوجبها الحكم، فإنما لا يثبت فيها حكم الغرور؛ إما لأن الحكم إذا كان يوجبها صار من حيث الحكم كالقاضي ألزمها؛ أو لأن كل واحد منهما مضطر في هذه القسمة وإن حصلت بتراضيهما على ما مرّ في مسألة «الكتاب» ، وبالاضطرار ينتفي معنى الغرور إنما يتحقق من المختار. ألا ترى أن الشفيع عند استحقاق الدار المشفوعة لا يرجع بقيمة ما بنى على

المشتري؛ لأن المشتري لم يكن مختاراً في الدفع إليه. وكذلك الأب إذا وطئ جارية ابنه، وعلقت منه واستحقها لم يرجع بقيمة الولد على الابن وطريقه ما قلنا؛ ولأن القسمة فيما عدا المكيل والموزون إذا كانت قسمة يوجبها الحكم إفراز لعين الحق من وجه، ومبايعة من وجه على ما مر في صدر الكتاب. فباعتبار أنها مبايعة إن كانت ثبت فيها حكم الغرور فباعتبار أنها إقرار لا يثبت فيها حكم الغرور فلا يثبت فيها حكم الغرور بالشك بخلاف البيع المحض، أما على المعنى الأول؛ لأن البائع مختار في البيع وليس بمضطر فيه، وإما على المعنى الثاني؛ فلأنه ليس فيه إقرار الحق بوجه من الوجوه إذا لم يكن للمشتري فيه عن قبل البيع بوجه من الوجوه، أما القسمة بخلافه. وأما كل قسمة لا يوجبها الحكم فإنما يثبت فيها حكم الغرور؛ لأن كل واحد منهما غير مضطر في هذه القسمة؛ لأن واحد متمكن من تمييز ملكه بقسمة كل جنس على حده؛ ولأن كل واحد منهما غير متوف لعين الحق حقيقة، فلا إشكال، ولا حكماً؛ لأن ما وصل إليه ليس بمثل لما كان له؛ لأن الدار ليست بمثل الأرض، والأرض ليست بمثل الدار حتى يجعل وصول المثل إليه كوصول عين الحق. وإذا اقتسم الرجلان داراً بينهما بشراء أو ميراث، وبنى أحدهما في قسمه الذي أخذها، ثم استحق من نصيب الثاني الموضع الذي فيه البناء، ورد القسمة وأبطلها لا يرجع على شريكه بشيء من قيمة البناء؛ لأن هذه قسمة يوجبها الحكم. وإن كان دارين بينهما فاقتسماها هذا واحد هذا داراً أو هذا داراً وبنى أحدهما في داره التي أخذها واستحقت تلك الدار رجع على شريكه بنصف قيمة البناء، ذكر المسالة في «الكتاب» مطلقاً من غير ذكر خلاف. من مشايخنا من قال: المذكور في «الكتاب» قول أبي حنيفة؛ لأن هذه قسمة لا يوجبها الحكم على قوله: أما على قولهما هذه قسمة يوجبها الحكم؛ ولهذا يجبر الآبي عليها فيثبت فيها حكم الغرور. ومنهم من قال: هذا قولهم جميعاً؛ لأن هذه القسمة لا يوجبها الحكم لا محالة عندهما إنما يوجبها الحكم إذا رأى القاضي الصلاح في أن يلقحها بالجنس الواحد، أما قبل رؤية القاضي ذلك فلا، والجواب في الأرضين كالجواب في الدارين. ولو كانا خادمين فاصطلحا على أن يأخذ هذا خادماً، وذلك خادماً فعلقت إحدى الخادمين من الذي أصابها، ثم استحقها رجل رجع على شريكه بنصف قيمة الولد، وهذا الجواب ظاهر على قول أبي حنيفة؛ لأن هذه قسمة لا يوجبها الحكم على قول من يقول من المشايخ: إن قسمة الرقيق قسمة جمع على قولهما موكول إلى رأي القاضي. وأما على قول من يقول من المشايخ: إن الرقيق عندهما يقسم قسمة جمع على كل حال لا يثبت حكم الغرور؛ لأن هذه قسمة يوجبها الحكم لا محالة. وإذا كانت دار واحدة وأرض بيضاء بين ورثة، فاقتسموا بغير قضاء وبنى أحدهما

الفصل العاشر: في القسمة يستحق منها شيء

في قسمه بناءً ثم استحق قسمه ونقض بناؤه ورد القسمة، لا يرجع على شريكه بقيمة البناء، ذكر في بعض نسخ كتاب القسمة وهو محمول على ما إذا اقتسما الدار على حده والأرض على حدة، فتكون هذه قسمة يوجبها الحكم، وذكر في بعض النسخ أنه يرجع على شريكه بنصف قيمة البناء، وهو محمول على ما إذا اقتسما فأخذ أحدهما الدار، وأخذ الآخر الأرض فتكون هذه قسمة لا يوجبها الحكم. وإذا كانت الدار بين قوم فقسمها القاضي بينهم وجمع نصيب كل واحد منهم في دار على حده، وأجبرهم على ذلك، وبنى أحدهم في الدار الذي أصابه بناءً ثم استحقت هذه الدار وهدم بناؤه، لا يرجع على شركائه بالقيمة. أما عندهما؛ فلأن هذه قسمة يوجبها الحكم عندهما متى رأى القاضي الصلاح فيها، وأما عند أبي حنيفة فلأن القاضي لما قسمها قسمة جمع فقد حصل قضاؤه في فصل محتمل فيه فالتحقت الدور بالدار الواحدة عندهم جميعاً. وفي «المنتقى» : هشام عن محمد: دار بين رجلين جاء رجل إلى أحدهما، وقال: وكلني شريكك أن أقاسمك فلم يصدقه ولم يكذبه فقاسمه ثم بنى فيها (9ب4) صار له بناء يعني الشريك الحاضر، ثم جاء الشريك الغائب، وأنكر أن يكون وكله بذلك، قال: يرجع صاحب البناء على الوكيل بقيمة البناء إن شاء؛ لأنه غره والله أعلم. الفصل العاشر: في القسمة يستحق منها شيء في «الأصل» : وإذا وقعت القسمة بين الشركاء في دار وأرض، ثم استحق شيء منها، فالمسألة على ثلاثة أوجه: الأول: أن يستحق جزء شائع من الكل بأن استحق نصف كل الدار أو ثلث كل الدار أو ما أشبه ذلك، وفي هذا الوجه القسمة فاسدة، واختلفت عبارة المشايخ في تعليل المسألة، بعضهم قالوا: إنما فسدت لحق المستحق؛ لأنها لو لم تفسد يحتاج المستحق إلى قسمة ما في يد كل واحد منهما، فيفرق عليه نصيبه في الموضعين. وبعضهم قالوا: إنما فسدت القسمة؛ لأنها لا يفيد فائدتها؛ لأن فائدة القسمة إقرار الأنصباء، ولما ظهر لهما شريك ثالث في النصيبين ظهر أن الإقرار لم يجعل؛ لأن نصيب الثالث شائع في النصيبين جميعاً. الوجه الثاني: إذا استحق جزء بعينه فيما أصاب واحد منهم، وفي هذا الوجه القسمة صحيحة فيما بقي بعد الاستحقاق، وكان للمستحق عليه الخيار إن شاء نقض القسمة وعاد الأمر إلى ما كان قبل القسمة، وإن شاء أمضى القسمة ورجع على صاحبه بعوض المستحق، وإن بقيت القسمة على الصحة؛ لأن ما هو المقصود من القسمة وهو الإقرار حاصل هنا، فيما وراء المستحق، لأن ما وراء المستحق لهما ليس لثالث فيه بعيب.

ألا ترى أن هذا المستحق لو كان حاضراً وقت القسمة، واقتسما الثاني صح إلا أن المستحق عليه بالخيار؛ لأنه تعيب نصيبه؛ لأن الباقي لا يشترى بمثل ما كان يشترى مع المستحق، فإن نقض القسمة عاد الأمر إلى ما كان قبل القسمة ويستأنفان القسمة فيما وراء المستحق. وإن أجاز القسمة رجع على صاحبه بعوض المستحق وذلك ربع ما في يد صاحبه مثلاً، إن كان المستحق نصف نصيب المستحق عليه؛ لأنا نعتبر استحقاق البعض باستحقاق الكل، ولو استحق كل نصيب أحدهما رجع على صاحبه بنصف ما في يده؛ لأن الذي أصاب المستحق عليه بالقسمة، نصفه كان له، ونصفه اشتراه من صاحبه بما ترك على صاحبه بما أصابه، فما كان ملكاً له لا يرجع به على أحد، وما اشتراه رجع على صاحبه بحصته، وذلك نصف ما في يد صاحبه، فإذا كان عند استحقاق الكل يرجع بنصف ما في يد صاحبه فعند استحقاق النصف يرجع بربع ما في يد صاحبه وعلى هذا القياس فافهم. الوجه الثالث: إذا استحق جزء شائع، فيما أصاب واحداً منهم وفي هذا الوجه القسمة لا تفسد عند أبي حنيفة رحمه الله، والمستحق عليه بالخيار على نحو ما بينا، فإن أجاز القسمة وكان المستحق نصف نصيبه مثلاً رجع على صاحبه بربع ما في يده، وقال أبو يوسف: تفسد القسمة ويستأنفان القسمة، وقول محمد رحمه الله مضطرب في نسخ أبي حفص مع أبي حنيفة، وفي نسخ أبي سليمان مع قول أبي يوسف، وهكذا أثبته الحاكم في «المختصر» والأول أصح، فقد روى ابن سماعة وابن رستم قول محمد مع قول أبي حنيفة. فوجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن المقصود من القسمة الإقرار، وبهذه القسمة إن حصل إقرار نصيب غير المستحق عليه لم يحصل إقرار نصيب المستحق عليه فتفسد القسمة كما لو استحق جزء شائع من جملة الدار. وجه قولهما: أن هذه قسمة أفادت مقصودها، لأن المقصود من هذه القسمة امتياز نصيب كل واحد من المتقاسمين، وانقطاع الشركة بينهما وبهذه القسمة أمتاز نصيب كل واحد منهما عن نصيب صاحبه إلا أنه ظهر لأحدهما شريك في نصيبه. ومثل هذه الشركة لو ضرب بعد القسمة لا يوجب زوال الإقرار الحاصل بالقسمة الأولى، فإن كرّي حنطة بين اثنين اقتسماها وأخذ كل واحد كراً فجاء آخر وخلط بكر أحدهما كر حنطة، فإن القسمة الأولى تبقى على حالها، فإذا قارب الإقرار لم يمنع ثبوته، ولو كان باع أحدهما نصف ما أصابه بالقسمة ثم استحق ما بقي له، فإنه يرجع على صاحبه بربع ما في يده، عند أبي حنيفة ومحمد ولا يجيّر بخلاف ما قبل البيع حيث يجيّر؛ لأن قبل البيع قادر على رد ما بقي بعد الاستحقاق، وبعد البيع عجز عن رد ما وراء المستحق؛ فلهذا سقط خياره. وأما على قول أبي يوسف: فالقسمة فاسدة لو كان ما وراء المستحق في يد

المستحق عليه، كان عليه رد نصفه بحكم الفساد، وقد عجز بالبيع عن رده؛ لأن البيع قد صح؛ لأن المقبوض بحكم العقد الفاسد مملوك للقابض، فيرد قيمة نصف ما باع، وذلك قيمة ربع نصيبه على صاحبه، وكان نصيب صاحبه بينهما، وسلم لصاحبه ربع نصيب المستحق عليه لما أخذ منه قيمة ربع نصيبه، وسلم للمستحق عليه أيضاً ربع نصيبه. وفي كتاب «الشروط» : جعل المسألة على ثلاثة أوجه أيضاً، لكن لم يذكر ثمة ما إذا استحق جزء شائع من كل الدار، وذكر مكانه ما إذا استحق جميع نصيب أحدهما، وذكر أن القسمة باطلة، ويقسم الباقي وهو الذي لم يستحق بينهما إن كان قائماً في يد الآخر لم يبعه، وإن كان باعه فالبيع باقي؛ لأن نصف ما باع قد تم ملكه، ونصفه عوض عما ترك لصاحبه، وتبين أن ذلك كان مستحقاً وبدل المستحق مملوك فبالبيع صارت ملكه، وعليه أن يرد على المستحق عليه نصف قيمة ما باع، وذكر ما إذا باع استحق جزء بعينه من نصيب أحدهما. وأجاب أن القسمة باطلة في الكل بخلاف ما كتبها في المتن، وذكر ما إذا استحق جزء شائع من نصيب أحدهما، وذكر المسألة خلافاً على ما كتبها في المتن على قول أبي حنيفة لا تنتقض القسمة، ولكن يخير المستحق عليه إن شاء نقض القسمة وضم ما بقي في يده إلى ما في يده إلى ما في يد الآخر، إن كان الآخر لم يبع ما أصابه، ويقسمان ذلك بينهما، وإن كان الآخر باع نصيبه يضم المستحق عليه ما بقى في يده إلى قيمة ما كان في يد الآخر فيقسمانه نصفين. وفي «المنتقى» إبراهيم عن محمد رحمه الله: ثلاثة إخوة ورثوا دوراً ثلاثة أخذ كل واحد منهم داراً، ثم استحق نصف دار أحدهم، قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله، وهو قولنا: المستحق عليه بالخيار إن شاء نقض القسمة كلها واستقبلوها، وإن شاء أمسك النصف ورجع عليهما بقدر ما استحق من يده. وإن كانت داراً واحدة اقتسموها أثلاثاً، ثم استحق نصف نصيب أحدهم، قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: هذا والأول سواء، وقال أبو يوسف: تنتقض القسمة ولا خيار للمستحق عليه وتستوي فيه القسمة بحكم وبغير حكم. وإذا كانت مئة شاة بين رجلين نصفين فاقتسما، فأخذ أحدهما أربعين منها تساوي خمسمائة درهم، وأخذ الآخر ستين تساوي خمسمائة درهم، فاستحق شاة من الأربعين تساوي عشرة، فإنه يرجع على صاحبه بخمسة دارهم في الستين شاة في قولهم، وتكون القسمة جائزة عندهم، ولا يخير المستحق عليه، أما القسمة جائزة فلأن المستحق شيء بعينه وأما لا يخير المستحق عليه لأن الباقي لم يصر معيناً باستحقاق ما استحق، وأما الرجوع بخمسة دراهم لأن المستحق شاة تساوي عشرة دارهم نصفها كان ملكاً له فلا رجوع به على أحد، ونصفها قد اشتراه من صاحبه بما ترك لصاحبه من نصيبه، فإذا استحق ذلك من يده كان له أن يرجع بقدر ذلك مما في يد صاحبه، وذلك خمسة دراهم.

الفصل الحادي عشر: في دعوى الغلط في القسمة

الفصل الحادي عشر: في دعوى الغلط في القسمة يجب أن يعلم بأن دعوى الغلط في القسمة نوعان: دعوى الغلط في التقويم، ودعوى الغلط في مقدار الواجب بالقسمة، فأما دعوى الغلط في القسمة فهو نوعان أيضاً: نوع يصح، ونوع لا يصح، والذي لا يصح أن يدعي أحد المتقاسمين الغلط في التقويم بغبن يسير بأن (10أ4) كان ما يدعي من الغلط يدخل تحت تقويم المتقومين، فهذه الدعوى لا تصح، ولو أقام البينة عليه لا تسمع بينته، حصلت القسمة بقضاء القاضي أو بتراضيهم لوجهين: أحدهما: أن الاحتراز عن مثل هذا الغلط غير ممكن. والثاني: أنه يؤدي إلى مالا يتناهى؛ لأنه يمكنه أن يدعي مثل ذلك في القسمة الثانية والثالثة، والذي يصح أن يدعي أحد المتقاسمين الغلط في التقويم بغبن فاحش، بأن كان ما يدعى من مقدار الغلط لا يدخل تحت تقويم المقومين، وإنه صحيح إن حصلت القسمة بقضاء القاضي؛ لأنا لو سمعنا هذه الدعوى ونقصنا هذه القسمة لا يؤدي إلى ما لا يتناهى؛ لأنه لا يقع مثل هذا الغبن في القسمة الثانية؛ لأنه يتصور التقويم في المرة الثانية على وجه لا يتحقق فيها الغبن الفاحش، وإن حصلت القسمة بالتراضي لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» . وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله: أنه كان يقول: لقائل أن يقول: لا تسمع هذه الدعوى؛ لأن القسمة في معنى البيع ودعوى الغبن في البيع من المالك لا يصح؛ لأنه لا فائدة فيه، فإن البيع من المالك لا ينقض بالغبن الفاحش. أما البيع من غير المالك ينقض بالغبن الفاحش كبيع الأب والوصي، ولقائل أن يقول: تسمع هذه الدعوى؛ لأن المعادلة شرط في القسمة، والتعديل في الأشياء المتقاربة يكون من حيث القيمة، فإذا ظهر في القيمة غبن فاحش فما هو شرط جواز القسمة، فاسد فيجب نقضها فكان الدعوى مفيداً من هذا الوجه فيصح. والصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله، كان يأخذ بالقول الأول، وبعض مشايخ عصره كانوا يأخذون بالقول الثاني، وذكر القاضي الإمام الإسبيجابي في «شرح أدب القاضي» : أن دعوى الغبن بعد القسمة غير صحيح إذا كانت القسمة بالتراضي، قال: وبعض المشايخ قالوا: تسمع كما لو كانت القسمة بقضاء القاضي، وذكر في شرح الإسبيجابي دقيقة في هذا الفصل، فقال: وهذا كله إذا لم يقر كل واحد منهما بالاستيفاء، فأما إذا أقر بذلك لا تسمع دعوى الغلط والغبن من واحد منهما بعد ذلك، إنما تسمع دعوى الغصب. وأما دعوى الغلط في مقدار الواجب بالقسمة فنوعان أيضاً: نوع يوجب التحالف، ونوع لا يوجب التحالف.

فالذي يوجب التحالف: أن يدعي أحد المتقاسمين غلطاً في مقدار الواجب بالقسمة على وجه لا يكون مدعياً الغصب بدعوى الغلط. كمئة شاة بين رجلين اقتسما، ثم قال أحدهما لصاحبه: قبضت خمسة وخمسين غلطاً، وأنا ما قبضت إلا خمسة وأربعين، وقال الآخر: ما قبضت شيئاً غلطاً، وإنما اقتسمنا على أن يكون لي خمسة وخمسين ولك خمسة وأربعين، ولم يقم لواحد منهما بينة، فهذا هو صورة دعوى الغلط في القسمة من غير دعوى الغصب؛ وهذا لأن غصب أحد العاقدين المعقود عليه من العاقد الآخر لا يتصور قبل قبض العاقد الآخر إياه منه، فإن البائع إذا منع المبيع من المشتري بعد نقد الثمن لا يصير غاصباً حتى لو هلك قائماً يهلك بالثمن كما قبل البيع، وإنما وجب التحالف؛ لأن القسمة بمعنى البيع، وفي البيع إذا وقع الاختلاف في مقدار المعقود عليه يتحالفان إذا كان المعقود عليه قائماً، فكذا في القسمة يتحالفان إذا كان المقسوم قائماً بعينه. وهذا كله إذا لم يسبق منهما إقرار باستيفاء الحق، فأما إذا سبق لا تسمع دعوى الغلط إلا من حيث الغصب. والذي لا يوجب التحالف: أن يدعي الغلط في مقدار الواجب بالقسمة على وجه يكون مدعياً الغصب بدعوى الغلط، بأن قال في المسألة: الشياة قسمتا بالسوية وأخذنا، ثم أخذت خمسة من نصيبي غلطاً، وقال الآخر: ما أخذت شيئاً من نصيبك غلطاً ولكن اقتسمنا على أن يكون لي خمسة وخمسين، ولك خمسة وأربعين، ولا بينة لواحد منهما، فإنهما لا يتحالفان، ويجعل القول قول المدعى عليه الغلط. وإن اختلفا في الحاصل في مقدار الواجب بالقسمة كما في المسألة الأولى وإنه يوجب التحالف؛ وذلك لأن بهذا الاعتبار إن كان يجب التحالف فباعتبار دعوى الغصب لا يجب التحالف كما في سائر المواضع، والتحالف أمر عرف بخلاف القياس، فإذا وجب من وجه دون وجه لا يجب؛ ولأنهما تصادقا على تمام القسمة وصحتها، وأحد الاعتبارين يوجب الفسخ بالتحالف، والآخر يمنع فلا يفسخ بالشك. قال محمد رحمه الله: إذا اقتسم القوم أرضاً أو داراً بينهم، وقبض كل واحد منهم حقه من ذلك، ثم ادعى أحدهما غلطاً، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال في ذلك: لا تعاد القسمة حتى يقيم البينة عل ما ادعى، فإذا أقام البينة اعيدت القسمة فيما بينهم حتى يستوفي كل ذي حق حقه، وكان لا يجب أن لا تعاد القسمة؛ لأن وضع المسألة أن كل واحد قبض حقه، ودعوى الغلط بعد القبض دعوى الغصب. وفي دعوى الغصب يقضى للمدعي بما قامت البينة عليه، ولا تعاد القسمة، والجواب عن هذا أن يقال: إن محمداً رحمه الله ذكر إعادة القسمة عند إقامة المدعي البينة على دعوى الغلط، ولم يبين كيفية الدعوى، فيحمل دعواه على وجه يجب إعادة القسمة عند إقامة البينة.l وبيان ذلك الوجه: أن يقول مدعي الغلط لصاحبه: قسمت الدار بيننا بالسوية على أن يكون لي ألف ذراع ولك ألف ذراع من نصيبين من مكان بعينه غلطاً، ويقول الآخر:

لا بل كانت القسمة على أن يكون لي ألف ومئة ذراع ولك تسعمئة ذراع، فشهد الشهود أن القسمة كانت بالسوية، ولم يشهدوا أن هذا أخذ مئة ذراع من مكان بعينه في نصيب المدعي، فيثبت بهذه البينة أن القسمة كانت بالسوية، وفي يد أحدهما زيادة، ولا يدري أن حق المدعي في أي جانب، فتجب الإعادة ليستويا، وتكون هذه الشهادة مسموعة وإن لم يشهدوا بالغصب؛ لأن مدعي الغلط في هذا الوجه يدعي بشيئين القسمة بالسوية وغصب مئة ذراع، والشهود شهدوا بأحدهما، وهو القسمة بالسوية. وإن لم يكن للمدعي بينة على ما ادعى يحلف المدعى عليه الغلط ولا يتحالفان؛ لأن المدعي بدعوى الغلط هاهنا ادعى الغصب، والتحالف لا يجري في مثل هذا، فإن حلف المدعي قبل الغلط لم يثبت الغلط، والقسمة ماضية على حالها، وإن نكل ثبت الغلط فيها والقسمة كما في فصل البينة. قال: وكذلك كل قسمة في غنم أو إبل أو بقر أو ثياب أو شيء من المكيل والموزون ادعى فيه أحدهم غلطاً بعد القسمة والقبض فهو على مثل ذلك، ولم يرد بهذه التسوية بين جميع هذه المسائل وبين المسألة الأولى في حق جميع الأحكام، وإنما أراد بها التسوية في حق بعض الأحكام، وهو أن لا تعاد القسمة بمجرد الدعوى. ألا ترى أن في المكيل والموزون إذا أقام مدعي الغلط البينة على ما ادعى لا تعال القسمة بل يقسم الباقي على قدر حقهما، وفي الغنم والبقر والثياب والأشياء التي تتفاوت يجب إعادة القسمة كما في مسألة الدار، وهذا لأن قسمة الباقي على قدر حقهما في الغنم وأشباهه توجب زيادة ضرر بالمدعي عسى لجواز أن يكون ما أخذ من نصيبه غلطاً كله خياراً، وفي قسمة الثاني لا يصل إليه الجياد فيها، والقسمة نفياً للضرر عن المدعي كما في مسألة الدار. فإن في مسألة الدار إنما لم يجب قسمة الباقي على قدر حقهما نفياً للضرر عن المدعي؛ لأنا لو قسمنا الباقي على قدر حصتهما ربما يقع له بالقسمة الثانية مئة ذراع في جانب لا يتصل بنصيبه، وكان في أصل القسمة متصلاً بنصيبه فيجب إعادة القسمة نفياً للضرر عن المدعي. أما في المكيل والموزون متى قسمنا الباقي على مقدار حقهما لا يتضرر به المدعي، فوجب قسمة الباقي عل قدر حقوقهما، ولم يجب إعادة القسمة ثانياً لهذا. وإذا اقتسم رجلان دارين، فأخذ أحدهما داراً والآخر داراً، ثم أدعى أحدهما لنفسه كذا وكذا ذراعاً من الدار التي في يد صاحبه فضلاً في قسمته، فإن أبا يوسف ومحمد رحمهما الله قالا: يقضى له بذلك (10ب4) ولا تعاد القسمة، وليست كالدار الواحدة في قول أبي يوسف ومحمد، يريد به أن في الدار الواحدة متى ادعى أحدهما أذرعاً مسماة في نصيب صاحبه، فإنه تعاد القسمة. وأما على قياس قول أبي حنيفة فالدعوى فاسدة سواء كان الدعوى في دار واحدة، أو في دارين، ومعنى هذه المسألة: أن أحد المتقاسمين ادعى على صاحبه أنه شرط له

كذا كذا ذراعاً من نصيبه في القسمة، وإنما كانت القسمة فاسدة عند أبي حنيفة؛ لأن الذي شرط زيادة أذرع من نصيبه لصاحبه صار بائعاً لذلك القدر من صاحبه. وبيع كذا أذرع من الدار لا يجوز عند أبي حنيفة، عرف ذلك في كتاب البيوع فلا تجوز القسمة، وإذا ثبت فساد الدعوى عند أبي حنيفة رحمه الله يجب إعادة القسمة دفعاً للفساد. وعندها بيع كذا أذرع من الدار جائز فتجوز القسمة، ثم إنهما فرقا بين الدارين، وبين الدار الواحدة، فقالا: في الدارين لا تعاد القسمة، وقالا: في الدار الواحدة تعاد القسمة، وكان يجب أن لا تعاد القسمة في الدار الواحدة أيضاً، ويقضى للمدعي بذلك القدر من نصيب المدعى عليه كما في الدارين؛ لأن الإعادة لنفي الضرر عن المدعي كيلا يتفرق نصيبه ولا وجه إليه؛ لأنه إن ادعى عشرة أذرع بعينه فلا ضرر عليه، فمتى قضى له بذلك؛ لأنه هكذا استحق بأصل القسمة، وإن ادعى عشرة أذرع شائعاً فكذلك؛ لأنه لما شرط لنفسه عشرة أذرع في نصيب صاحبه شائعاً علمه أنه ربما يتفرق نصيبه متى قسم نصيب صاحبه مرة أخرى صار راضياً بالتفرق، وإنما وجب الإعادة في الدار الواحدة؛ لأن المسألة محمولة على أنه ادعى أن صاحبه شرط له عشرة أذرع من نصيبه، قال: ولا أدري كيف شرط لي عشرة بعينها متصل نصفين أو شائع في جميع نصيب صاحبه؟ وشهد الشهود له بعشرة مطلقة ومتى كانت الحالة نفذه لا يثبت الرضا من المدعي بالتفرق؛ لأنه على تقدير أن يكون المشروط عشرة بعينها متصلة بنصيبه لا يكون راضياً بالتفرق. فإذا لم يعلم القاضي كيف كان الشرط سمي القضاء على ما هو المستحق لكل واحد منهما في الدار الواحدة بالقسمة، وهو أن يكون نصيب كل واحد منهما مجتمعاً في مكان واحد بخلاف الدارين، فإن في الدارين وإن حملنا المسألة على أن المدعي قال: لا أدري كيف شرط لي العشرة لا تعاد القسمة؛ لأن بإعادة القسمة في الدارين لا يزول ما كان يلحقه من زيادة ضرر بأن كان شرط لنفسه عشرة أذرع من مكان بعينه متصل بداره؛ لأنه ربما لا يقع له في القسمة الثانية عشرة أذرع متصلاً بداره، فلا يفيد إعادة القسمة، فيقضى له بعشرة أذرع شائع كما شهد به الشهود. وإذا اقتسم رجلان عشرة أثواب فأخذ أحدهما أربعة، وأخذ الآخر ستة، فادعى آخذ الأربعة ثوباً بعينه من الستة أنه أصابه في قسمه، وأقام على ذلك بينة فإنه يقضى له بذلك، سواء أقر بقبض ما ادعى من الزيادة أو لم يقر له، وإن لم يقم له بينة ذكر في «الكتاب» أن صاحبه يستحلف، ولم يوجب التحالف. وهذا محمول على ما إذا أقر بقبض ما ادعى، ثم ادعى أن صاحبه أخذ ذلك منه غلطاً، فيكون مدعياً الغصب على صاحبه، وفي مثل هذا لا يوجب التحالف، فإن ادعى آخذ الأربعة ثوباً بعينه من الستة إن أصابه في قسمته وأقام الآخر بينة أنه أصابه في قسمته قضي ببينة صاحب الأربعة؛ لأنه خارج فيه. قال: والإشهاد على القسمة لا يمنع دعوى الزيادة على صاحبه بخلاف الأشهاد

الفصل الثاني عشر: في المهايأة

على الاستيفاء، والفرق: أن الإشهاد على القسمة لا يتضمن إقرار القبض جميع الحق، فيصير متناقضاً بعد ذلك أنه لم يقبض بعض حقه. في «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: دار بين رجلين قسمها القاضي بينهما، فقال أحدهما لصاحبه: الذي في يدي هو الذي أصابك، والذي في يدك لي، وقال الآخر: لا بل الذي في يدي هو الذي أصابني، قال: لكل واحد منهما ما في يده، ولا يصدق على صاحبه. وفيه أيضاً إبراهيم عن محمد: رجلان بينهما دارين ميراثاً من أبيهما، قال كل واحد منهما لصاحبه: لك هذه الدار، ولي الأخرى على أن كل واحد منهما مئة أذرع، فإذا أحدهما مئة ذراع فلهما أن يبطلا القسمة، ولو قال كل واحد منهما لصاحبه: بعتك نصيبي من هذه الدار بنصيبك من الدار الأخرى على أن كل واحد منهما مئة ذراع أو أكثر جاز؛ لأن هذا بيع والأول قسمه، والله أعلم. الفصل الثاني عشر: في المهايأة يجب أن يعلم بأن المهايأة قسمة المنافع، وإنها جائزة في الأعيان المشتركة التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، واجبة إذا طلبها بعض الشركاء، ولم يطلب الشريك الآخر قسمة الأصل، وإنها قد تكون بالزمان وقد تكون بالمكان. وتكلم العلماء في كيفية جوازها بعضهم قالوا: إن جرت المهايأة في الجنس الواحد، والمنفعة متفاوتة تفاوتاً يسيراً كما في الثياب والأراضي، يعتبر إقراراً من وجه، مبادلة من وجه، حتى لا ينفرد أحدهما بهذه المهايأة، وإذا طلبها أحدهما ولم يطلب الآخر قسمة الأصل أجبر الآخر عليها. وإن جرت في الجنس المختلف كالدور والعبيد يعتبر مبادلة من كل وجه، حتى لا يجوز من غير رضاهما، وهذا لما ذكرنا أن المهايأة قسمة المنافع، فيعتبر بقسمة الأعيان وقسمة العين اعتبر مبادلة من كل وجه في الجنس المختلف، واعتبرت مبادلة من وجه، إقراراً من وجه في الجنس الواحد من الأعيان المتفاوتة تفاوتاً يسيراً كالثياب حتى لا ينفرد أحدهما بهذه القسمة؛ لأنها ليست من ذوات الأمثال، ولكن إذا طلب أحدهما أجبر الآخر عليه؛ لأن التفاوت يسير، فكذا في قسمة المنافع. وبعضهم قالوا: بأن المهايأة في الجنس الواحد من الأعيان المتفاوتة تفاوتاً يسيراً يعتبر إقراراً من وجه، عارية من وجه، كأن ما يستوفيه كل واحد منهما من المنافع بعضه نصيبه، وبعضه نصيب صاحبه عارية له من صاحبه، ولا تعتبر مبادلة بوجه ما حجّة هذا القائل: أن المهايأة جائزة في الجنس الواحد، ولو كانت مبادلة من وجه لما جازت في الجنس الواحد؛ لأنه يكون مبادلة المنفعة بجنسها، وإنه يحرم ربا النساء؛ لأن لكل واحد

منهما نقض المهايأة بعذر وبغير عذر، ولو كانت مبادلة من وجه لما جازت من غير ذكر بيان المدة، والأول أصحّ؛ لأن العارية ما يكون بغير عوض، وهذا بعوض؛ لأن كل واحد منهما ما يترك من المنفعة من نصيبه على صاحبه في ثوبه صاحبه إنما يترك بشرط أن يترك صاحبه نصيبه عليه في ثوبه، وإنما لم يحرم النساء؛ لأن القياس لا يحرم بأحد وصفي علة ربا النقد؛ لأن الدين مع العين يستويان في العدد إلا أن للعين فضلاً من حيث الجودة؛ لأن العين أفضل من الدين وأجود منه إلا أن الفضل من حيث الجودة لا يحرم عند وجود وصفي علة الربا، وهو القدر مع الجنس، فلأن لا يحرم عند وجود أحد وصفي علة ربا أولى، إلا أننا أثبتنا هذه الحرمة عند أحد وصفي علة ربا النقد، وهو القدر أو الجنس بالنص بخلاف القياس، والنص ورد فيما هو مبادلة من كل وجه، وهو البيع والمهايأة إقرار من وجه مبادلة من وجه فيعمل فيها بقضية القياس. وقوله: بأن لكل واحد منهما بعض المهايأة بعذر وبغير عذر سنبين الوجه فيه بعد ذلك إن شاء الله تعالى. وقوله: بأن المهايأة تجوز من غير بيان المدة، قلنا: إنما جازت لأنها قسمة المنافع، فتكون معتبرة بقسمة العين، ثم قسمة العين جائزة من غير بيان المدة فكذا قسمة المنفعة. قال أبو حنيفة رحمه الله: دار بين رجلين تهايأ على أن يسكن هذا منزلاً معلوماً، وهذا منزلاً معلوماً، وعلى أن يؤاجر (11أ4) كل واحد منهما منزله، ونأكل عليه فهو جائز كذا ذكر في بعض الروايات، وذكر في بعضها أو على أن يواجه كل واحد منهما منزله فعلى الرواية الأولى هذه مهايأة في السكنى والاستغلال جميعاً من حيث المكان. وبيان أنهما إذا تهايأ في السكنى، ولم يشترطا الإجارة أن كل واحد منهما لا يملك إجارة منزله؛ إذ لو ملك كل واحد منهما ذلك لم يكن لاشتراط الإجارة بيع السكنى معنى، وإلى هذا ذهب أبو علي الشاسي، وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي يقول: ظاهر المذهب أن كل واحد منهما يملك إجارة منزله، وإن لم يشرطا الإجارة وقت المهايأة. وعلى الرواية الثانية تكون هذه مهايأة، إما في السكنى أو في الاستغلال من حيث المكان، وبيان أن المهايأة في الاستغلال تجوز حالة الانفراد مقصوداً كما تجوز تبعاً لمهايأة في السكنى، وإنما ملك كل واحد منهما إجارة منزله من غير الشرط في ظاهر المذهب على ما ذكره شمس الأئمة رحمه الله؛ لأن المهايأة قسمة المنفعة فما يصيب كل واحد منهما من المنفعة يجعل مستحقاً له باعتبار قديم ملكه؛ لأن المنفعة جنس واحد لا يتفاوت بمنزلة قسمة المكيل والموزون، وهو يملك الاعتياض عن المنفعة المملوكة لا من جهة غير، شرط ذلك أو لم يشترط. وله أن يقسم العين ويبطل المهايأة إذا بدا لهما أو لأحدهما؛ لأن الأصل فيما هو المقصود وهو تمييز الملك قسمة العين والمهايأة خلف عنه، ألا ترى أن في الابتداء لو

طلب أحدهما قسمة العين، وطلب الآخر من القاضي المهايأة، فالقاضي لا يهايئ بينهما فكذا في الانتهاء إذا طلب أحدهما قسمة العين لاستدام المهايأة. وذكر محمد رحمه الله في باب المهايأة في الحيوان: ولكل واحد منهما نقض المهايأة بعذر وبغير عذر، قال شيخ الإسلام: هذا هو ظاهر الرواية. وقال شمس الأئمة الحلواني: إنما يكون لأحدهما نقض المهايأة إذا قال: أريد بيع نصيبي من الدار، أو قال: أريد أن نقسم العين حتى يتميز نصيب كل واحد منا، فأما إذا قال: أفسخ المهايأة لتعود المنافع مشتركة بيننا كما كانت فالقاضي لا يجيبه إلى ذلك،. وروى ابن سماعة عن محمد: أنه ليس لكل واحد منهما نقض المهايأة من غير رضا صاحبه إلا عند إرادة القسمة، وكان شمس الأئمة الحلواني مال إلى هذه الرواية. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وإنما يكون لأحدهما النقض بعذر وبغير عذر على ظاهر الرواية إن حصلت المهايأة بتراضيهما، أما إذا حصلت بحكم الحاكم ليس لأحدهما أن ينقض ما لم يصطلحا على النقص؛ لأنها إذا حصلت بحكم الحاكم لو نقضناها بنقض أحدهما احتجنا إلى إعادة مثلها ثانياً، فأما إذا حصلت بتراضيهما لو نقضناها لا نحتاج إلى إعادة مثلها ثانياً، وإنما يحتاج إلى ما هو أعدل من هذه القسمة، وهي القسمة بقضاء القاضي، وليس لواحد منهما أن يحدث في منزله بناء أو منقضة أو يفتح باباً؛ لأن العين بعد المهايأة باقي على التركة. وكذلك لو تهايئا على أن يكون السفل في يد أحدهما، والعلو في يد الآخر فهو جائز على ما بينا، هذا إذا تهايئا في دار واحدة من حيث المكان، وأما إذا تهايئا فيها من حيث الزمان، ذكر محمد رحمه الله في كتاب الصلح أنه يجوز سواء تهايئا في السكنى، أو في الاستغلال أو فيهما. وذكر محمد رحمه الله في «الرقيات» : أنه لا يجوز زماناً، ويجوز مكاناً، بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: إنما اختلف الجواب اختلاف الموضوع، وضع المسألة في كتاب الصلح أنهما فعلا ذلك بتراضيهما، وموضوع ما ذكر في «كتاب الرقيات» إن أحدهما طلب المهايأة من القاضي زماناً، وأبى الآخر، فالقاضي لا يجبره عليها، ومن المشايخ من قال: على رواية الرقيات: وإن فعلا ذلك بأنفسهما وتراضيهما لا يجوز فصار في المسألة روايتان. وأما في الدارين إذا تهايئا على أن يسكن أحدهما هذه الدار، والآخر الدار الأخرى، ويؤاجر كل واحد منهما ما في يده، فهذه القسمة جائزة سواء كانا في مصر واحد أو في مصرين، لأن قسمة العين على هذا الوجه بالتراضي جائزة فكذا قسمة المنفعة، ولو طلب أحدهما المهايأة من القاضي بهذه الصفة وأبى الآخر فالقاضي لا يجبر الآبى عليها عند أبي حنيفة. هكذا ذكره الكرخي في «كتابه» وإليه مال شيخ الإسلام؛ لأن قسمة الجبر لا تجري في غير الدور بهذه الصفة عند أبي حنيفة، فكذا المهايأة.

وذكر شمس الأئمة الحلواني، وشمس الأئمة السرخسي رحمهما الله: أن القاضي يجبر الآبي على هذه القسمة عند أبي حنيفة أيضاً، بخلاف قسمة العين على قوله. والفرق: أن القسمة في المهايأة تلافي المنفعة دون العين، ومنفعة السكنى تتفاوت، ولا تتفاوت إلا يسيراً فكانت المهايأة إقراراً لا مبادلة فجاز أن يجري الجبر عليها، بخلاف قسمة العين، فالقسمة هناك ملاقي العين والمالية والدور في المالية تختلف، فكانت القسمة مبادلة فلا يجري الجبر عليها. فإن غلت إحدى الدارين ولم تفل الدار الأخرى، فليس للذي لم تفل داره أن يشارك الآخر في نحلة داره؛ لأن الذي غلت داره إنما آجر داره لنفسه بإذن شريكه، ولو أجرها لنفسه بغير أذن شريكه كانت الغلة له، فكذا إذا أجرها بإذن شريكه، وتكون الغلة طيباً له؛ لأن الإجارة حصلت بإذن الشريك، وفي الدار الواحدة إذا تهايئا على الاستغلال زماناً، فأغلت في نوبة أحدهما أكثر، فالزيادة والفضل بينهما؛ لأن معنى الإقرار والقسمة في الدارين أرجح على معنى أن كل واحد منهما وصل إلى المنفعة والغلة في الوقت الذي يصل إليها صاحبه، فما يستوفيه كل واحد منهما عوض عن قديم ملكه استوجبه بعقده فيسلم له، وفي الدار الواحدة إذا تهايئا في الاستغلال زماناً، فأحدهما يصل إلى الغلة قبل وصول الآخر إليها، وذلك لا يكون قصة للقسمة فيجعل كل واحد منهما وكيلاً عن صاحبه في إجارة نصيب صاحبه، وما يقبضه كل واحد منهما يجعل عوضاً عما يقبض صاحبه من عوض نصيبه، والمعاوضة تقتضي التساوي، فعند التفاضل يثبت التراجح فيما بينهما فيستويا. وإذا آجر كل واحد منهما الدار التي في يديه، وأراد أحدهما أن ينقص المهايأة ويقسم رقبة الدار فله ذلك، وهذا إذا مضى مدة الإجارة، فأما إذا لم تمض فليس للآخر نقض المهايأة؛ صيانة لحق المستأجر. والمهايأة في النخل والشجر على أكل الغلة باطلة؛ لأن غلة النخل والشجرة عين تبقى بعد الحدوث، وإنما جوزنا المهايأة فيما لا تتأتى فيها القسمة بعد الوجود، أو ما يكون عوضاً عنه كغلة الدار ونحوه؛ ولهذا لا تجوز المهايأة في الغنم على الأولاد والألبان والأصواف؛ لأنه يتأتى فيها القسمة بعد الوجود حقيقة. وإذا تهايئا في استخدام عبد واحد على أن يستخدم العبد هذا شهراً ويستخدمه هذا شهراً فالتهايئ جائز، وكذلك إذا تهابئا في استخدام العبدين تهايئا على أن يستخدم هذا هذا العبد شهراً، ويستخدم هذا هذا العبد الآخر شهراً فهو جائز، أما في العبد الواحد؛ فلأن هذه قسمة يوجبها الحكم، ألا ترى لو طلب أحدهما المهايأة على هذا الوجه، وأبى الآخر يجبر الآبي عليها، ويجوز بتراضيهما ما لا يوجبها الحكم، فلأن يجوز ما يوجبه الحكم أولى؛ ولأن التفاوت من النصيبين إنما يتمكن من وجه واحد من حيث إن نصيب أحدهما بعد ونصيب الآخر بسنة أنها لم يتمكن التفاوت في مقدار الخدمة؛ لأن البادئ منهما إنما يستخدم العبد في نوبته بحكم الملك فلا مانع (11ب4) . في الاستخدام على

نصفه لأنه لا يضر بالعبد المشترك، فالخدمة في الشهر الأول لا يضعفه عن الخدمة في الشهر الثاني، وإذا كان التفاوت من وجه واحد كان يسيراً فلا يمنع اعتبار معنى الإقرار، فكان إقراراً من وجه مبادلة من وجه، فلا يحرم النساء بسبب الجنس. وهذا بخلاف ما لو وقع التهايؤ في العبد الواحد على الاستغلال تهايئاً على أن يؤاجره هذا شهراً ويأكل غلته حيث لا يجوز بلا خلاف؛ لأن التفاوت بين النصيبين مثال يكن من وجهين من حيث النقد والنسيئة، ومن حيث مقدار الغلة؛ لأن البادئ من المستأجرين يستخدم العبد بحكم الإجارة، فبالغ في الاستخدام فيضعف فلا يستأجر المستأجر الثاني، وقد ضعف بمثل ما استأجره الأول وإذا وقع التفاوت من وجهين كان فاحشاً، ومتى فحش التفاوت لا تعتبر القسمة إقراراً بل تعتبر مبادلة من كل وجه كما في قسمة العين في الجنس المختلف إذا فحش، وإذا اعتبر مبادلة من كل وجه كان هذا مبادلة منفعة بمنفعة من جنسها واحدهما نسيئة فيكون رباً فلا يجوز، وإن تراضيا عليه. وأما في العينين فإنما جاز التهايؤ على الاستخدام؛ لأن قسمة العين على هذا الوجه بتراضيهما جائزة عند الكل، وإن كانت لا تجوز من غير تراض عند أبي حنيفة، فكذا قسمة المنفعة على هذا الوجه؛ ولأن العينيين إذا استويا في النظر والمنظر لا يتفاوتان في الخدمة إلا يسيراً فلا يمنع ذلك اعتبار معنى الإقرار، فتكون المهايأة في خدمتهما إقراراً من وجه، فلا يحرم النساء بسبب الجنس لما بينا أن حرمة النساء بسبب الجنس تختص بالمبادلات من كل وجه، ولو تهايئا في العينين على الاستغلال تهايئا على أن يؤاجر هذا هذا العبد شهراً فيأكل غلته، ويؤاجر هذا هذا العبد الآخر شهر فيأكل غلته لم يجز في قول أبي حنيفة رحمه الله، وجاز في قول أبي يوسف ومحمد، هما يقولان: العبدان إذا استويا في النظر والمنظر والحرفة لا يتفاوتان في الغلة إلا يسيراً، فلا يمنع ذلك وقوع الإقرار، والتقريب ما ذكرنا في فصل الاستخدام. ولأبي حنيفة: أن التفاوت في العينين في الاستغلال تفاوت فاحش فإنا نرى عبدين يستويان في النظر والمنظر، ويستأجر أحدهما بأكثر مما يستأجر به الآخر لزيادة حذاقة في أحدهما، فتعتبر المهايأة فيها مبادلة من كل وجه، فيحرم النساء بسبب الجنس وإن تراضيا عليه. بخلاف ما لو تراضيا على قسمة العين على هذا الوجه حيث يجوز التهايؤ على استغلالهما مع فحش التفاوت عند أبي حنيفة؛ لأن التفاوت ثمة باعتبار معنى الدارية، فأما باعتبار الأرض فالتفاوت يسير بين الأرض والأرض، ولهذا كان قسمة الأراضين إقراراً من وجه مبادلة من وجه، فيمكن اعتبار معنى الإقرار في هذه المهايأة باعتبار معنى الأرض، ومهما أمكن اعتبار معنى الإقرار لا تثبت حرمة النساء بسبب الجنس، فأما ليس في العبد سنان يكون التفاوت باعتبار أحدهما فاحشاً وباعتبار الآخر يسيراً إنما هو شيء واحد خلق في الأصل على التفاوت تفاوتاً فاحشاً، فتعتبر المهايأة فيه مبادلة من كل وجه.g في «المنتقى» : جاريتان بين رجلين لهما ابن تهايئا على أن ترضع هذه ابن هذا

سنتين وترضع هذه ابن هذا سنتين كان جائزاً، قال: ولا يشبه هذا لبن البقر والإبل والغنم علل فقال: لأن ألبان بني آدم لا قيمة لها، وألبان هذه الأشياء لها قيمة. وإذا تهايئا في الدابتين ركوباً واستغلالاً على أن يركب هذا هذه الدابة شهراً، وهذا هذه الدابة الأخرى، وتهايئا على أن يؤاجر هذا هذه الدابة شهراً، وهذا هذه الدابة الأخرى شهراً، فهذا جائز في قول أبي يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: لا يجوز، والكلام في التهايؤ في استغلال الدابتين نظير الكلام في التهاني في استغلال العبدين، وقد مرّ هذا في الكلام في التهايىء في الركوب، فوجه قول أبو حنيفة أن التفاوت في الركوب تفاوت فاحش. ولهذا لو استأجر دابة للركوب، ولم يبين الراكب لا يجوز، فتعتبر المهايأة مبادلة من كل وجه فيتمكن الربا؛ لأنه مقابلة منفعة بمنفعة من جنسها، ولهما أن التفاوت من وجه واحد وهو الراكب لا من حيث النقد والنسيئة، فكان يسيراً فتعتبر المهايأة إقراراً من وجه، فلا يتمكن الربا، وأما في الدابة الواحدة لا يجوز التهايؤ استغلالاً بلا خلاف، وهل يجوز التهايؤ ركوباً للشك أن على قول أبي حنيفة لا يجوز، وأما على قولهما ذكر شيخ الإسلام: أنه لا يجوز لأن التفاوت يمكن من وجهين، فتعتبر المهايأة مبادلة من كل وجه. وذكر شمس الأئمة السرخسي أنه يجوز، وإذا تهايئا في مملوكين استخداماً فمات أحدهما، أو أبق انتقضت المهايأة؛ لأن كل واحد منهما إنما رضي بسلامة الخدمة للآخر بشرط أن يسلم له خدمة الذي في يديه، ولم يسلم، ولو استخدمه الشهر كله إلا ثلاثة أيام نقص الآخر من شهره ثلاثة أيام؛ لأنا لو زدناها زدناها بحكم الإتلاف لا بحكم العقد؛ لأن المهايأة لم تتناول ما زاد على الشهر، والمنافع لا تضمن بالإتلاف من غير عقد، فأما إذا نقضت ثلاثة أيام فلو نقضناها، نقضناها بحكم العقد؛ لأنه فات بعض المعقود عليه قبل القبض في مدة العقد فلا سلم الآخر ما بإزائه من البدل بحكم العقد، ولو أبق أحدهما الشهر كله، واستخدم الآخر الآخر الشهر كله فلا ضمان ولا أجر، وكان يجب أن يضمن أجر المثل؛ لأن المهايأة مبادلة من وجه والمبادلة من كل وجه لا تنفسخ بهلاك أحد العوضين قبل القبض بل تفسد. ولهذا قالوا: من استأجر داراً بعبد وقبض الدار ولم يسلم العبد حتى هلك العبد ثم سكن الدار كان عليه أجر المثل؛ لأن بهلاك العبد فسد العقد، ولم ينفسخ، فصار مستوفياً سكنى الدار بحكم عقد فاسد. والجواب: المهايأة مبادلة من وجه إقرار من وجه، فباعتبار المبادلة أن يتقوم المنافع، وباعتبار الإقرار لا يتقوم، فلا يتقوم بالشك، ولو عطب أحد الخادمين في خدمة من شرط له هذا الخادم فلا ضمان عليه؛ لأنه عطب من عمل مأذون فيه. وكذلك المنزل لو انهدم من سكنى من شرط له فلا ضمان لما قلنا، وكذلك لو احترق المنزل من نار أوقدها فيه فلا ضمان؛ لأن هذا من جملة السكنى، ألا ترى أن

المستأجر والمستعير يملكان ذلك والسكنى مأذون فيه. وكذلك لو توضأ فيها فزلق رجل بوضوئه، أو وضع فيه شيء فعثر به إنسان فلا ضمان، ولو بنى فيها بناء أو احتفر بئراً فيها ضمن بقدر ما كان يملك صاحبه، حتى أنه إن كان ملك صاحبه الثلث ضمن الثلث. وعندهما يضمن النصف على كل حال فقد جعله جانياً بالحفر، والثاني نصيب صاحبه وإن كان مأذوناً بالسكنى فيه، ومن أصحابنا من قال: هذا الجواب غلط في البناء، لأن البناء ليس إلا وضع الآجر والطين واللبن على بعض، ولو وضع جميع ذلك في الدار لا على وجه البناء لم يضمن كذا ها هنا. قال شمس الأئمة الحلواني: فإن كان ما قال هؤلاء حقاً يجب أن يكون الجواب في المستأجر هكذا إذا بنى فيها بناء فعطب بها إنسان لا يضمن كما لو وضع فيه شيء. قال رحمه الله: والرواية هاهنا بخلاف قولهم، والرواية هاهنا تكون رواية في فصل الإجارة إنه يكون مضموناً عليه. أمة بين رجلين فخاف كل واحد منهما صاحبه عليها، فقال أحدهما: تكون عندك يوماً وعندي يوماً، وقال الآخر: بل نضعها على يدي عدل، فإني أجعلها عند كل واحد منهما يوماً ولا أضعها على يدي عدل. قال مشايخنا رحمهم الله: ويحتاط في باب الروح في جميع المواضع نحو العتق في الجواري والطلاق في النساء في فصول الشهادة وغير ذلك، إلا في هذا الموضع فإنه لا يحتاط لحسن ملكه وهو نظير ما لو أخبر القاضي أن فلاناً يأتي جواريه في غير المأتي، أو يستعملهن في البغاء ويطأ زوجته في حالة الحيض وأمته من غير استبراء لا يكون (12أ4) للقاضي عليه سبيل لحسن ملكه هكذا، فإن تشاحا في البداية فالقاضي يبدأ بأيهما شاء وإن شاء أقرع، قال شمس الأئمة السرخسي: والأولى أن يقرع بينهما تطييباً لقلوبهما، وإليه مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. عبد وأمة بين رجلين فتهايئا فيهما على أن تخدم الأمة أحد هما ويخدم العبد الآخر على أن كل واحد منهما طعام الخادم الذي شرط له في المهايأة، فاعلم بأن ها هنا ثلاث مسائل في كل مسألة قياس واستحسان. أحدهما: إنهما إذا سكتا عن ذكر الطعام، في القياس يجب طعام العبد والأمة عليهما نصفان، وفي الاستحسان يجب على كل واحد طعام الخادم الذي شرط له في المهايأة، وفي الكسوة إن سكتا عن ذكرها يجب كسوة العبد والأمة عليهما نصفان، قياسا واستحساناً. والثانية: إذا شرطا في المهايأة أن يكون على كل واحد منهما طعام الخادم الذي شرط له في المهايأة ولم يقدر الطعام، القياس أن لا يجوز، وفي الاستحسان يجوز، وفي الكسوة إذا لم يبينا المقدار لم يجز قياساً واستحساناً. والثالثة: إذا بينا مقدار الطعام فالقياس أن لا يجوز، وفي الاستحسان يجوز،

الفصل الثالث عشر: في المتفرقات

وكذلك في الكسوة إذا شرطا شيئاً معلوماً لا يجوز قياساً ويجوز استحساناً. والمهايأة في رعي الدواب جائزة عندنا، وكذلك لو تهايئا على أن يستأجرا لهما أجيراً جاز، والمهايأة في دار وأرض على أن يسكن هذا الدار ويزرع هذا الأرض جائزة. وكذلك المهايأة في دار وحمام والمهايأة في دار ومملوك على أن يسكن هذه الدار سنة ويخدم هذا المملوك سنة جائزة، وعلى الغلة باطلة عند أبي حنيفة خلافاً لهما. الفصل الثالث عشر: في المتفرقات يجوز للقاضي أن يأخذ على القسمة أجراً ولكن المستحب له أن لا يأخذ، وهذا لأن القسمة ليست بقضاء على الحقيقة حتى لا يفترض على القاضي مباشرتها، وإنما الذي يفترض عليه جبر الآبي على القسمة إلا أن لها شبهاً بالقضاء من حيث إنها تستفاد بولاية القضاء حتى ملك جبر الآبي ولم يملك الأجنبي ذلك، فمن حيث إنها ليست بقضاء جاز أخذ الأجر عليها، ومن حيث إنها تشبه القضاء يتسحب أن لا يأخذ الأجر عليها. وقال أبو حنيفة رحمه الله: أجر قاسم الدور والأرضين على عدد الرقمين، وقالا: على قدر الأنصباء. وصورته: دار بين ثلاثة نفر، لأحدهم نصفها وللأخر ثلثها وللآخر سدسها. وجه قول أبي حنيفة: أن عمل القيام واقع لهم بالسوية، لأن عمل القيام تعيين نصيب كل واحد منهم ولا يمكنه ذلك إلا بمساحة الكل، فهو معنى قولنا: عمل القيام واقع لهم بالسوية، فيكون الأجر عليهم بالسوية، وهما يقولان: عمل القيام في نصيب صاحب الكثير أكثر لأن عمله المساحة والذرع، وأنه يكثر بكثرة المحل. قالوا: وهذا إذا طلبوا من القاضي القسمة بينهم فقسم بينهم قاسم القاضي، فأما إذا استأجروا رجلاً بأنفسهم فإن الأجرة عليهم بالسوية وهل يرجع صاحب القليل على صاحب الكثير بالزيادة، قال أبو حنيفة: لا يرجع، وقالا: يرجع، وكذلك إذا وكلوا رجلاً ليستأجر رجلاً يقسم بينهم فاستأجر الوكيل فإن الأجرة على الوكيل، واختلفوا في الرجوع قال أبو حنيفة يرجع عليهم بالأجرة على السواء، وقالا: يرجع على كل واحد منهما بقدر الملك، وإذا استأجروا ليبني حائطاً مشتركاً أو يطبق سطحاً مشتركاً أو يكري نهراً أو يصلح قناة فالأجر بينهما على قدر الأنصباء بالإجماع. وإذا استأجروا رجلاً لكيل طعام مشترك، أو لذرع ثوب مشترك إن كان الاستئجار للقسمة فهو على الخلاف الذي بينا، وإن كان الاستئجار على نفس الكيل والذرع ليصير الكل معلوم القدر فالأجر على قدر الانصباء. وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد في أكرار حنط بين رجلين، فأجر الكيال على الانصباء وأجر الحساب على الرؤوس، قال: ما كان من عمل فهو على الأنصباء، وما

كان من حساب فهو على الرؤوس في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما على الأنصباء، وإذا طلب أحد الشريكين القسمة وأبى الآخر فأمر القاضي قاسمه ليقسم بينهما، روى الحسن عن أبي حنيفة أن الأجرة على الطالب لأن القسمة واقعة للطالب، وعلى الآبي لأن الطالب إنما يطلب القسمة عادة لمنفعة له فيها، والممتنع إنما يمتنع عنها عادة لضرر يخافه، وقال أبو يوسف: الأجر عليهما. في «المنتقى» : إبراهيم عن محمد رحمه الله: قاسم قسم داراً بين اثنين، وأعطى أحدهما أكثر من الآخر غلطاً، وبنى بعضهم في نصيبه قال: يستقبلون القسمة فمن وقع بناءه في قسم غيره رفع بناءه ولا يرجعون على القاسم بقيمة البناء، ولكن يرجعون عليه بالأجر الذي أخذ. وفيه أيضاً هشام عن محمد: أرض بين رجلين بناها أحدهما فقال الآخر للباني: ارفع بناءك عنها، قال: يقسم الأرض بينهما فما وقع من البناء في نصيب غيره يرفع. وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب القسمة في أجرة أحد الشريكين إذا بنى في أرض مشتركة بغير إذن شريكه فلشريكه أن ينقص بناءه لأن له ولاية النقض في نصيبه والتمييز غير ممكن. وفيه أيضاً: عبدان بين رجلين غاب أحد الرجلين فجاء أجنبي إلى الشريك الحاضر، وقال: قاسمني هذين العبدين على فلان الغائب فإنه سيجيز قسمتي فقاسمه الحاضر وأخذ الحاضر عبداً وأخذ الأجنبي عبداً، ثم قدم الغائب وأجاز القسمة ثم مات العبد في يد الأجنبي فالقسمة جائزة، وقبض الأجنبي له جائز ولا ضمان عليه فيه، وإن مات قبل الإجازة بطلت القسمة وللغائب نصف العبد الباقي، فهو بالخيار في تضمين حقه من العبد الميت، إن شاء ضمن الذي مات في يده وإن شاء ضمن شريكه، وإنما ضمن لا يرجع على الآخر بما ضمن. قال في «نوادر ابن رستم» في المتقاسمين: إذا ميز نصيب أحدهما بالقسمة وفيه شجر أغصانها مطلة على قسم الآخر فله أن يطالبه بقطع الأغصان، رواه عن محمد، وروى ابن سماعة عنه أنه ليس له ذلك لأن الذي أصابه الشجر استحق الشجرة بجميع أغصانها. قال في «الأصل» : وإذا أصاب الرجل في القسمة ساحة لا بناء فيها وأصاب الآخر البناء فأراد صاحب الساحة أن يبني ساحته ويرفع بناءه فقال صاحب البناء: إنك تسد علي الريح والشمس فلا أدعك ترفع بناءك فلصاحب الساحة أن يرفع بناءه ما بدا له، وليس لصاحب البناء أن يمنعه من ذلك، وقال نصر بن يحيى وأبو القاسم الصفار: لصاحب البناء أن يمنعه من ذلك، والوجه بظاهر الرواية أن صاحب البناء كان ينتفع بهواء ملك صاحب الساحة قبل البناء فصاحب الحائط إذا سد الهواء بالبناء فإنما حقه من الانتفاع يملكه ولم يتلف عليه ملكاً ولا منفعة ملك، ولا يمنع من ذلك. فصار كما لو كان لرجل شجرة يستظل بها جاره أراد قلعها لا يمنع منه، وإن كان

فيه ضرر للجار؛ لأن صاحب الشجرة بالقلع يمنعه عن الانتفاع بملك نفسه، وتصير هذه المسألة رواية في فصل لا رواية لها في الكتب. وصورتها: دوخانة است حريكي يك سنية يكي راروزن نيست طاخمها است به روى بام خانه ويكن خدا وندد يكرسهدا مدتا خان حوشي رادو سنية كندا بن خدا وند طافحها بازمي داروش سيكريد طافحها من ستة ميشود هل له أن يمنعه؟ ينبغي أن لا يكون له المنع على قياس هذه المسألة، لأن صاحب البيت الآخر يجعل بيته ذي سقفين يمنع صاحب الطافحات عن الانتفاع بهواء ملك نفسه كما في هذه المسألة. وقد ذكر الصدر الشهيد في «فتاويه الصغرى» : إن كان البنيان في القديم لسقف واحد، فلصاحب الطافحات أن يمنعه من ذلك، وإن كانا في القديم بسقفين فليس له أن يمنعه. قال رحمه الله: وحد القديم أن لا يحفظ أقرانه وراء هذا الوقت كيف كان، فجعل أقصى الوقت الذي يحفظه الناس حد القديم، ويبنى عليه الأمر فعلى ما ذكره الصدر الشهيد يحتاج إلى الفرق بين المسألتين. والفرق: أن في مسألة البيتين الذي يريد البناء يمنع صاحبه عن الضوء والضوء من الحوائج الأصلية، وفي مسألتنا يمنعه عن الشمس والريح وذلك من الحوائج الزائدة، وكذلك لصاحب الساحة أن (12ب4) يتخذ فيها حماماً أو تنوراً أو بالوعة أو بئر ماء، لأنه يتصرف في خالص ملكه وينتفع به انتفاع مثله، وإن نزّمن بئره حائط جاره لا يجبر على تحويله ولا يضمن ما سقط من حائط جاره، وكذلك لو أراد أن يجعل فيها رحاً أو حداداً أو قصاراً فليس لصاحبه منعه. وحكي عن بعض مشايخنا: أن الدار إذا كانت مجاورة لدور، فأراد صاحب الدار أن يبني فيها تنوراً للخبز الدائم، أو رحاً للطحن، أو مدقاة للقصارين لم يجز لأنه يضر بجيرانه ضرراً فاحشاً، وإن أراد أن يعمل في داره تنوراً صغيراً على ما جرت به العادة جاز. وكان أبو عبيد الضميري إذا استفتي عمن أراد أن يبني في ملكة تنوراً للخبز في وسط البزازين تارة كان يفتي بأن له ذلك وتارة كان يفتي بأنه ليس له ذلك، والحاصل في هذه المسائل في أجناسها أن القياس أن من تصرف في خالص ملكه لا يمنع منه في، وإن كان يؤدي إلى إلحاق الضرر بالغير، لكن ترك القياس في موضع يتعدى ضرر يعود إلى غيره ضرراً بيناً. وقيل: بالمنع، وبه أخذ كثير من مشايخنا رحمهم الله وعليه الفتوى. إذا كانت الدار في سكة غير نافذة مات صاحب الدار وتركها ميراثاً بين ورثه فاقتسم ورثته فيما بينهم على أن يفتح كل واحد منهم في نصيبه باباً إلى السكة كان لهم ذلك، وإن أبى أهل السكة ذلك لأن الورثة قائمون مقام الميت، والميت لو كان حياً كان له أن يفتح باباً آخر إلى السكة وأن يكبر جميع الحائط الذي يلي السكة، لأنه يكبر جدار هو خالص

ملكه ويمر في طريق هو طريق هذه الدار فكذا ورثته، وإذا كانت مقصورة بين ورثته بابها في دار مشتركة ليس لأهل المقصورة فيها إلا طريقهم فاقتسموا المقصورة على أن يفتح كل واحد منهم باباً في نصيبه في هذه الدار، فإنه ينظر إن كان الطريق المرفوع للمقصورة ملازقاً لحائط المقصورة طولاً حتى يجعل فتح كل واحد منهم باباً في نصيبه إلى طريق المقصورة في الدار كان لهم ذلك. وإن لم يكن طريق المقصورة ملازقاً لحائط المقصورة طولاً بل كان بحذاء باب المقصورة طولاً إلى الباب العظمى من الدار لا يكون لهم ذلك؛ لأنهم بفتح الباب إلى الطريق لا يأخذون أكبر من حقهم من الدار التي فيها طريق المقصورة، أما بفتح الباب إلى ناحية أخرى من الدار سوى طريق المقصورة يأخذون أكثر من حقهم. يوضحه: أن لهم طريقاً واحداً في موضع معلوم من عرصة الدار، وهم يريدون أن يجعلوا جميع العرصة ممراً فيمنعون من ذلك. بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: معنى قوله في «الكتاب» في هذه الصورة أنهم يمنعون من ذلك أنهم يمنعون من التطرق في غير الموضع المعروف طريقاً لهم في صحن الدار ما لا يمنعون عن نفس فتح الباب، لأنهم يتصرفون في خلاص ملكهم. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة؟: بل يمنعون عن فتح الباب؛ لأنهم لو فتحوا فإذا تقادم العهد لا بما يدعون أن لهم طرقاً في صحن الدار ويبدلونها على ذلك بالباب المركب، فلهذا يمنعون عن فتح الباب، فإن كان لصاحب المقصورة دار أخرى إلى جنب هذه المقصورة بابها إلى سكة أخرى فصارت المقصورة والدار ميراثاً بين ورثة فوقعت المقصورة في قسم أحدهم والدار في قسم آخر، وحائط الدار لزيق طريق المقصورة فأراد صاحب الدار أن يفتح طريقاً إلى طريق المقصورة حتى يمر ويتطرق فيه إلى الدار منع منه. فإما إذا كان المالك للمقصورة والدار واحداً بأن كان الذي أصابه المقصورة اشترى الدار، أو كان الوارث للمقصورة والدار واحد، فأراد أن يفتح باباً لهذه الدار إلى طريق المقصورة ليس له ذلك نص عليه في كتاب الشرب، وهذا لأن متى فتح باباً إلى طريق المقصورة صار طريق المقصورة صار طريق المقصورة طريقاً للدار، وفي ذلك ضرر في الثاني على الشركاء في طريق المقصورة فإنه إذا بيع هذه الدار بحقوقها يدخل هذا الطريق في بيع الدار فيزداد شريك آخر في هذا الطريق بعد ما لم يكن، وفيه ضرر على أصحاب الطريق. فأما إذا كان المالك للمقصورة والدار واحداً، وأراد أن يفتح باباً من الدار إلى هذه المقصورة حتى يتطرق في الدار من طريق المقصورة، فإنه لا يمنع من ذلك إذا كان هو الساكن في الدار غير الساكن في المقصورة بأن أجر الدار من غيره وترك المقصورة لنفسه، فأراد أن يفتح للدار باباً في المقصورة حتى يمرّ المستأجر في طريق المقصورة إلى المقصورة ثم يمر إلى الدار يمنع عنه، لأنه يريد أن يزيد في طريق المقصورة شريكاً في

الحال. وإن كان أجر الدار والمقصورة جميعاً من رجل، ثم أراد أن يفتح للدار باباً في المقصورة لا يمنع؛ لأن الساكن في هذه الصورة واحد وهو المستأجر لأنه لا يبقى للآخر حق المرور فلا يزداد الشريك في طريق المقصورة. دار بين رجلين اقتسماها بينهما وفيها طريق لغيرهما، فأراد صاحب الطريق أن يمنعهما عن القسمة ليس له ذلك لأن الطريق إن كان محدوداً فهما إنما يقسمان ما وراء ذلك، وذلك حقهما على الخصوص، وإن لم يكن مقداره معلوماً يترك للطريق قدر عرض باب العظمى إلى باب منزل صاحب الطريق، ويقسمان ما وراء ذلك ولاحقّ لصاحب الطريق فيما وراء ذلك. ولو أراد بعضهم قسمة هذا الطريق وأبى البعض لا يقسم، لأن هذه القسمة تتضمن تفويت منفعة الطريق، وهو التطرق وإن باعوا هذه الدار وهذا الطريق برضاهم فالثمن يقسم بينهم أثلاثاً، ثلثاه لصاحبي الطريق وثلثه لصاحب الممر يريد به حصة الطريق من الثمن؛ لأن الثمن بدل الطريق، والطريق بينهم أثلاثاً إذا لم يعلم مقدار الأنصباء فيه فيكون ثمنه بينهم أثلاثاً أيضاً هكذا ذكر في «الأصل» . وهذا الجواب ظاهر فيما إذا كان رقبة الطريق مشتركة بينهم، فأما إذا كان رقبة الطريق مشتركاً بين الشريكين، ولصاحب الطريق حق المرور لا غير، كان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: الثمن لهما وقد سقط حق صاحب الاختيار، لأنه حق لا يجوز الاعتياض عنه ولهذا لا يجوز بيعه، فلما أذن في البيع أسقط حقه، وهذا إشارة إلى الرواية التي لا يجوز فيها بيع حق المرور على الانفراد. وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في شرح هذا الكتاب: أن الثمن بينهما أثلاثاً وإن كان لصاحب الطريق حق المرور، قال: لأن حق المرور وإن كان منفعة حقيقة فقد أعطي له حكم العين ولذلك جاز بيعه، ولو كان عيناً على الحقيقة كان الثمن بينهما أثلاثاً كذا هاهنا، وهذا إشارة إلى الرواية التي يجوز بيع حق المرور فيها بانفراده. وروي عن محمد في هذه الصورة: أن كل واحد من شريكي الطريق بحصته والبقعة وصاحب الطريق مضرب بحق الاستطراق. وطريق معرفة ذلك: أن ينظر إلى قيمة البقعة والطريق فيها وينظر إلى قيمتها وفيها طريق فيضرب صاحب الطريق بفضل القيمة فيما بين ذلك، ويضرب واحد من شريكي الطريق بنصف قيمة البقعة إذا كان فيها طريق. وإذا كانت الدار فيها طريق لرجل وطريق لآخر من ناحية أخرى، أراد أهل الدار قسمتها ومنعهم أهل الطريق، فإنه يترك لهما طريق واحد كما لو كان الحق لواحد، لأن الطريق إنما يرفع للمرور، والطريق الواحد يكفي لهما للمرور وصار هذا وما لو كان حق المرور للواحد سواء. والله تعالى أعلم بالصواب.

كتاب الإجارات

كتاب الإجارات هذا الكتاب يشتمل على أربعة وثلاثين فصلاً: 1 * في بيان الألفاظ التي تنعقد بها الإجارة، وفي بيان نوعها وشرائطها وحكمها وما يصلح أجرة وما لا يصلح. 2 * في بيان أنه متى تجب الأجرة. 3 * في الأوقات التي يقع عليها عقد الإجارة. 4 * في تصرف المؤجر في الأجرة. 5 * في الخيار في الإجارة والشرط فيها.d 6 * في الإجارة على أحد الشرطين أو على الشرطين أو أكثر. 7 * في إجارة المستأجر. 8 * في انعقاد (13أ4) الإجارة بغير لفظ وفي الحكم ببقاء الإجارة أو انعقادها مع وجود ماينافيها. 9 * فيما يكون الأجير مسلماً مع الفراغ منه، وما لا يكون. 10 * في إجارة الظئر. 11 * في الاستئجار للخدمة ويتصل به إجارة الصبي والاستئجار له. 12 * في صفة تسليم الإجارة. 13 * في المسائل التي تتعلق برد المستأجر على المالك. 14 * في تجديد الإجارة بعد صحتها والزيادة فيها. 15 * في بيان ما يجوز من الإجارة وما لا يجوز وإنه يشتمل على أنواع نوع يفسد العقد فيه لمكان الجهالة، ونوع يفسد العقد فيه لمكان الشرط، ونوع في قفيز الطحان وما هو في معناه، ونوع في فساد الإجارة إذا كان المستأجر مشغولاً بغيره، ويتصل به مسائل الشيوع في الإجارة، ونوع في الاستئجار على الطاعات، ونوع في الاستئجار على المعاصي، ونوع في المتفرقات.

16 * فيما يجب على المستأجر، وفيما يجب على الأجير، ويتصل به فصل التوابع. 17 * في الرجل يستأجر فيما هو شريك فيه. 18 * في فسخ الإجارة بالعذر وبيان ما يصلح عذراً وما يصلح. 19 * فيما يكون فسخاً وفي الأحكام المتعلقة بالفسخ وما لا يكون فسخاً. 20 * في إجارة النبات والأمتعة، والحلي والفسطاط وأشباهها. 21 * في إجارة لا يوجد فيها تسليم المعقود عليه إلى المستأجر. 22 * في بيان التصرفات التي يمنع المستأجر عنها والتي لا يمنع وفي تصرفات الآجر. 23 * في استئجار الحمام والرحى. 24 * في الكفالة بالأجر وبالمعقود عليه. 25 * في الاختلافات الواقع بين الآجر والمستأجر وفي الدعاوى في الخصومات وإقامة البينات وإنه يشتمل على أنواع: نوع منه في الاختلاف الواقع بين الشاهدين في الأجر، وفي اختلاف الواقع بين الآجر والمستأجر في المبدل أو في البدل. 26 * في استئجار الدواب. 27 * في مسائل الضمان بالخلاف والاستعمال والصياع والتلف وغير ذلك. 28 * في بيان حكم الأجير الخاص والمشترك، وإنه أنواع: نوع في الحد الفاصل بين الأجير المشترك والخاص، نوع في الحمال ومكاري الدابة والسفينة، نوع في النساج والخياط، نوع في المسائل العائدة إلى الحمام، نوع في البقار والراعي والحارس، نوع في القصار وتلميذه، نوع في المتفرقات. 29 * في التوكيل في الإجارة. 30 * في الإجارة الطويلة المرسومة ببخارى. 31 * في النصيف. 32 * يقرب من المسائل التي هي بمعنى قفيز الطحان. 33 * في الاستصناع. 34 * في المتفرقات.

الفصل الأول: في بيان الألفاظ التي تنعقد بها الإجارةوفي بيان نوعها وشرائطها وحكمها

الفصل الأول: في بيان الألفاظ التي تنعقد بها الإجارةوفي بيان نوعها وشرائطها وحكمها فأما بيان لفظها فنقول الإجارة إنما تنعقد بلفظين يعبر بهما عن الماضي نحو أن يقول أحدهما أجرت، ويقول الآخر: قبلت استأجرت، ولا تنعقد بلفظين أحدهما يعبر به عن المستقبل نحو: أجرتني، فيقول: أجرت، وهذا لأن الإجارة بيع المنفعة فتعتبر العين وفي بيع العين إنما ينعقد العقد بلفظين يعبر بهما عن الماضي، ولا تنعقد بلفظين يعبر بأحدهما عن المستقبل كذا هاهنا، وتنعقد بلفظ العارية أيضاً حتى أن من قال لغيره: أعرتك هذه الدار شهراً بكذا، أو قال: كل شهر بكذا، وقبل المخاطب كان ذلك إجارة صحيحة. ذكر شيخ الإسلام في كتاب الهبة في باب العطية: فأما العارية لا تنعقد بلفظ الإجارة حتى أن من قال لغيره: أجرتك داري هذه بغير شيء كان إجارة فاسدة لا عارية. وفي باب العوض في الهبة من شرح الصدر الشهيد رحمه الله: إذا وهب منفعة الدار من آجر شهراً بعشرة دراهم أو أعاره عيناً شهراً بعشرة دراهم حكى أبو طاهر الدباس رحمه الله عن أبي حنيفة رضى الله عنه أنه لا يلزم قبل استيفاء المنفعة، وبعد استيفاء المنفعة يعتبر إجارة. وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصلح: أن الإجارة تنعقد بلفظ الهبة والصلح، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الهبة أيضاً، والإجارة بلفظ الهبة وفي العطية من هبة «الأصل» إذا قال: داري هذه لك هبة إجارة كل شهر بدرهم، أو قال: إجارة هبة فهي إجارة في الوجهين، ولم يذكر في الكتاب أن هذه الإجارة هل تكون لازمة، وذكر الجصاص رحمه الله أنها لا تكون لازمة حتى كان لكل واحد منهما أن يرجع قبل القبض، ويكون لكل واحد منهما أن يفسخ قبل القبض، وإذا سكنها يجب عليه أجر المثل وإذا قال لغيره بعت منك منافع هذه الدار كل شهر بكذا، أو قال: شهراً بكذا ذكر في «العيون» : أن الإجارة فاسدة. وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح كتاب الصلح أن فيه اختلاف المشايخ، وهذا لأن القياس يأبى جواز الإجارة لأن محل حكم الإجارة المنفعة، وإنها معدومة والمعدومة لا تصلح محلاً لحكم العقد ولإضافة العقد إليه إلا أن الشرع ورد بجوازها إذا باشر العقد على العين بلفظي الإجارة، أو باشر على المنفعة بلفظ الإجارة، ولفظ الإجارة لا يختص بتمليك الأعيان ولا يلحق بلفظ الإجارة. والبيع يختص بتمليك الأعيان فلا يلحق به

العارية والهبة، والتمليك يختص بملك الأعيان فيلحق بها، وعن هذا قلنا: إذا قال أجرتك منافع هذه الدار شهراً بكذا، وهبت لك منافع هذه الدار شهراً بكذا، ملكتك منافع هذه الدار شهراً يجوز فيبقى لفظ البيع على القياس، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلح في آخر باب الصلح في العقار: إذا ادعى رجل شقصاً من دار في رجل وصالحه المدعى عليه على سكنى بيت معلوم من هذه الدار عشر سنين جاز، فلو آجره يعني هذا البيت المصالح عليه من الذي صالحه جاز عند أبي يوسف خلافا لمحمد. وهذا بناء على أن محمداً رحمه الله يعتبر هذا العقد إجارة، وليس للمستأجر أن يؤاجر من الآجر وأبو يوسف يقول: إن المدعي مالك منفعة هذا البيت بعقد بل ترك بعض حقه وقنع بالبعض، فإنما بقيت المنفعة على أصل ملكه فيملك أن يؤاجر من كل أحد، ولو باع المدعي هذا السكنى بيعاً من رجل لم يجز. بعض مشايخنا قالوا: إنما لم يجز بيع السكنى لترك التوقيت لا؛ لأن الإجارة لا تنعقد بلفظ البيع، وقال بعضهم: لا يجوز بيع السكنى وإن كان موقتاً، لأن الإجارة لا تنعقد بلفظ البيع. قال شيخ الإسلام: فصل بيع السكنى يشكل عندي، لأن لفظ البيع تمليك الرقبة وملك الرقبة سبب لملك المنفعة فكان ينبغي أن يجوز استعارة لفظ البيع لتمليك المنفعة به مجازاً. قال رحمه الله: والوجه في ذلك أن المنفعة معدومة في الحال واتخاذها ليس في وسع البشر، والمعدوم لا يصلح محلاً لإضافة العقد إليه إلا أن الشرع أقام العين الموجود وهو الدار المنتفع بها مقام المنفعة في جواز إضافة الإجارة إليها. إذا ثبت هذا فنقول: لفظ البيع إن أضيف إلى الدار فهو صالح لتمليك عينها فلا يجعل مجازاً عن غيره، وإن أضيف إلى المنفعة فالمنفعة معدومة والمعدوم لا يصلح لإضافة العقد إليه حتى لو قال لغيره: بعتك نفسي شهراً بكذا بعمل كذا فهو إجارة، لأنه لا يصلح لتمليك عين الحر فيجعل مجازاً عن تمليك المنفعة، هكذا ذكر رحمه الله وجه التخريج وإنه مشكل عندي، لأن علة عدم جواز البيع ها هنا لو كانت هي العدم ينبغي أن لا تنعقد الإجارة بلفظ الهبة والتمليك وبالإجماع تنعقد. وذكر شمس الأئمة الحلواني في شرح الحل: أن الإجارة لا تنعقد بلفظ البيع، وذكر ثمة عن الكرخي أنه كان يقول: الإجارة لا تنعقد بلفظ البيع، ثم رجع وقال: تنعقد. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا قال الرجل لغيره: أعطيتك هذا العبد لخدمتك منه بكذا جاز. وفيه أيضاً عن أبي يوسف رجل دفع إلى رجل ثوباً ليبيعه على أن ما زاد على كذا فهو له، قال: هذا على جهة الإجارة، وهذه إجارة فاسدة لو ضاع الثوب من يده ضمن. وتنعقد الإجارة بالتعاطي فيما ذكر محمد في إجارات الأصل في باب إجارة النبات إذا استأجر (13ب4) قدوراً بغير أعيانها لا يجوز للتفاوت بين القدور من حيث الصغر والكبر، فإن جاء بقدور وقبلها منه على الكراء الأول جاز، ويكون هذه إجارة مبتدأة بالتعاطي.

وأما بيان وقوعها فنقول: إنهما نوعان نوع يرد على منافع الأعيان كاستئجار الدور والأراضي والدواب والنبات وما أشبه ذلك، ونوع يرد على العمل كاستئجار المحترفين للأعمال نحو القصارة والخياطة وما أشبه ذلك. وأما بيان شرائطها فنقول يجب أن تكون الأجرة معلومة، والعمل إن وردت الإجارة على العمل، والمنفعة إن وردت الإجارة على المنفعة، وهذا لأن الأجرة معقود به والعمل أو المنفعة معقود عليه، وإعلام المعقود به وإعلام المعقود عليه شرط تحرزاً عن المنازعة كما في باب البيع، وإعلام المنفعة ببيان الوقت، وهو الأجل أو بيان المسافة. وإعلام العمل ببيان محل العمل، وإعلام الأجرة إن كانت الأجرة دراهم أو دنانير ببيان القدر، وببيان الصفة أنه جيد أو رديء وتقع على نقد البلد إن كان في البلد نقد واحد، وتقع على نقد البلد الذي وقع فيه الإجارة. حتى أن من استأجر دابة بالكوفة إلى الري بدراهم فعلى المستأجر نقد الكوفة، وإن كان في البلد نقود مختلفة، فإن كانت النقود في الرواج على السواء أولا فضل للبعض على البعض، أي: لا صرف للبعض على البعض فالعقد جائز، ويعطى المستأجر أي النقود شاء. وإن كانت الأجرة مجهولة، لأن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة، وإن كانت النقود في الرواج على السواء وللبعض صرف على البعض فالعقد فاسد، لأن هذه الجهالة تفضي إلى المنازعة وإن كان أحدهما أروج فالعقد جائز وينصرف إلى الأروج، وإن كان الآخر فضلاً عليه بحكم العرف. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: إذا كانت الأجرة فلساً فغلى أو رخص قبل القبض فلأجر الفلس لا غير، وإن كسد فعليه قيمة المعقود عليه، وكذلك كل شيء مما يكال أو يوزن فما ينقطع إذا كان استأجر بشيء منه وجعل أجله قبل انقطاعه فهل مثل الفلس، وإن كانت الأجرة مكيلاً أو موزوناً أو عددياً متقارباً فإعلامها ببيان القدر والصفة، ويحتاج إلى بيان مكان الإيفاء إذا كان له حمل ومؤنة وإن لم يكن له حمل ومؤنة لا يحتاج إليه، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: لا يحتاج إلى ذلك في الأحوال كلها. والاختلاف في هذا نظير الاختلاف في السلم لأن الأجرة دين لا يجب تسليمها عقيب العقد فصار نظير المسلم إليه غير أن عندهما في باب السلم يتعين موضع العقد للتسليم، وهاهنا لا يتعين في إجارة الأرض والدار سلم عند الأرض والدار المستأجرة، وفي العمل بيده حيث تم فيه العمل. وفي «نوادر هشام» عن أبي يوسف: رجل استأجر أرضاً بطعام إلى أجل ولم يسم أين يقبض الطعام، قال: هو جائز في قولي وقول أبي حنيفة، وقال محمد: هذا بخلاف السلم في قول أبي حنيفة. وإذا كانت الأجرة عروضاً أو ثياباً يشترط فيه جميع شرائط السلم لأن الأجرة نظير

المسلم فيه على ما مر، فيشترط فيه جميع شرائط السلم. يوضحه: أن وجوب الثياب ديناً في الذمة عرف بالشرع بخلاف القياس، وإنما جاء الشرع به بطريق السلم فيشترط فيه جميع شرائط السلم، وفي هذا كله إذا كانت الأجرة عيناً فإعلامه بالإشارة، لأن الإشارة أبلغ أسباب التعريف. وإذا كانت الأجرة حيواناً لا يجوز إلا إذا كان عيناً، لأن الحيوان لا يجب ديناً في الذمة بدلاً عما هو مال، وإذا كانت الأجرة منفعة إن كانت من جنس المعقود عليه لا يجوز عندنا خلافاً للشافعي، وإن كان من خلاف جنس المعقود عليه جاز بلا خلاف. بيان الأول: إذا استأجر سكنى دار بركوب دابة، والمسألة بيننا وبين الشافعي فرع مسألة أخرى عرفت في كتاب البيوع أن الجنس في المثمنين يحرم النساء عندنا خلافاً للشافعي، حتى لو أسلم فرهياً في مرمي لا يجوز عندنا خلافاً للشافعي، وبيع المنفعة بمنفعة من جنسها بمنزلة بيع العين بجنسه نساء، لأن النساء من البدل ما لا يكون عيناً والمنفعة ليست بمعين، لأنها معدومة فكان نساء، والجنسية في المثمنين تحرم النساء بخلاف ما إذا اختلف الجنس لأن النساء في الجنس المختلف ليس بحرام كما في بيع العين، حتى إنه لو أسلم فرهياً في مروي جاز، فهاهنا كذلك. فإن قيل: إذا اختلف الجنس إن كان لا يفسد من العقد من هذا العقد يفسد من وجه آخر، لأن المنفعة دين من الجانبين والدينية من الجانبين توجب الفساد، وإن اختلف البدل. قلنا: كلا البدلين من حيث الحقيقة إن لم يكن عيناً، لأنها معدومة إلا أن التي لم يصحبها حرف الباء تعتبر عيناً حكماً لأنها معقود عليه، ولا بد لانعقاد عقد المعاوضة من قيام المعقود عليه حالة العقد إذا لم يكن سلماً، وإذا كان كذلك أقيم محل المنفعة فيما لم يصحبه حرف الباء مقام المنفعة فيكون عيناً ولا ضرورة فيما صحبه حرف الباء، لأن ما صحبه حرف الباء يجوز أن يكون غير عين، ولا ضرورة بنا أن نعتبره عيناً ففي غير عين حقيقة وحكماً، والآخر اعتبر عيناً حكماً فكان بمنزلة بيع العين نساء بخلاف جنسه. وفي «فتاوى أبي الليث» : لا حتى في معاوضة الشران بالشران للأكداس لأنها استبدال منفعة بمنفعة من جنسها، ثم إذا قوبلت المنفعة بمنفعة من جنسها حتى فسد العقد واستوفى الآخر المنفعة كان عليه أجر المثل في ظاهر الرواية، وعن أبو يوسف أنه لا شيء عليه لأن المنفعة إنما تتقوم إذا قوبلت بالمتقوم. وجه ظاهر الرواية: أن لفظة الإجارة لفظة معاوضة، فصار كما لو استأجر داراً ولم يسم الأجر، ويسكنها هناك بحسب أجر المثل فهاهنا كذلك. ولو كان عبد واحد بين اثنين فتهايئا فخدم أحدهما يوماً ولم يخدم الآخر فلا أجر له، وقال أبو الحسن في «جامعه» : إذا كان عبد واحد بين اثنين آجر أحدهما نصيبه من صاحبه ليخيط معه شهراً على أن يصوغ نصيبه مع هذا شهراً، فإن هذا لا يجوز في العبد الواحد، ولا يجوز في العملين المختلفين إذا كان في عبدين.

وأما بيان حكم الإجارة فنقول: حكم الإجارة وقوع الملك في البدلين كما في بيع العين يقع معاً كما فرعا من العقد إلا لمانع، وفي الإجارة يقع الملك في البدلين ساعة فساعة عندنا، لأن المعاوضة تقتضي التساوي لأن الظاهر من حال العاقدين أن لا يرضيان بالتفاوت، والملك في المنفعة يقع ساعة فساعة على حسب حدوثها فكذا في بدلها وهو الأجرة، وهذا لأن حكم العقد مبني على انعقادها والعقد ينعقد على المنفعة شيئاً فشيئاً على حسب حدوثها، لأن المنافع فيما يستقبل معدومة حالة العقد. وشرط انعقاد العقد في حق الحكم إضافته إلى محل موجود، والأصل أن الشروط إذا تعذر اعتبارها إما أن يسقط اعتبارها، أو يقام غيرها مقامها كما في حق النائي عن الكعبة أقيمت جهة الكعبة مقام عين الكعبة وكما في حق عادم الماء أقيم التيمم مقام الماء، فكذا هاهنا محل المنفعة وهو الدار مقام المنافع في حق إضافة العقد إليها، ثم العقد في المنافع ينعقد ساعة فساعة على حسب حدوثها وهذا كله مذهبنا، وينبني جواز الإجارة على مذهبنا انعقاد العقد فيما بين المتعاقدين، وهو الدرجة الأولى وانعقاده في حق الحكم وهو الدرجة الثانية. ألا ترى أن البيع بشرط الخيار ينعقد فيما بين المتعاقدين ولا يعد الحكم في الحال، وتفسير انعقاد العقد في حق المتعاقدين أن يصير كلاهما.... وبعد الحكم في الثاني وكونه سبباً صفة للكلام والكلام مفتقر إلى وجود المتعاقدين لا إلى المحل. وتفسير انعقاد العقد في حق الحكم في المحل لا بد له من المحل ومحل الحكم وهو المنافع معدومة في الحال فلأجل ذلك قلنا: لأن الإجارة في الحال غير منعقدة في حق الحكم بل هي تنعقد في حق المتعاقدين (14أ4) كالمضاف إلى وقت وجود المنفعة والمنعقد غير والمضاف غير. ألا ترى أن من نذر وقال: لله علي أن أتصدق بدرهم يكون ناذراً في الحال ويلزمه ذلك، ولو قال: لله علي أن أتصدق يوم الخميس بدرهم لا يكون ناذراً في الحال بل يكون مضيفاً النذر إلى يوم الخميس كذا هاهنا العقد في حق الحكم مضاف إلى وقت وجود المنفعة، وليس بمنعقد في الحال أكثر ما فيه أن الصيغة مرسلة، إلا أنها مرسلة صورة أما مضافة معنى، وهذا لأن الأجر بعقد الإجارة تملك المنفعة لأن الإجارة لتمليك المنفعة وصار تقدير هذا العقد: ملكتك منافع هذه الدار والمنافع معدومة للحال فكان العقد مضافاً إلى وقت وجود المنفعة. إذا ثبت هذا فنقول: إضافة العقد إلى زمان يستدعي وجود المحل في ذلك الزمان، أما لا يستدعي وجوده في الحال إذا ثبت أن الملك في المنافع يقع ساعة فساعة على حسب حدوثها فكذا في بدلها وهو الأجرة تحقيقاً للتساوي بين المتعاقدين على ما مر. ومما يتصل بهذا الفصل بيان ما يصلح أجرة وما لا يصلح.

الفصل الثاني: في بيان أنه متى يجب الأجر

والأصل فيه: أن ما يصلح أن يكون ثمناً في البياعات يصلح أن يكون أجرة في الإجارات، وما لا يصلح أن يكون ثمناً في البياعات لا يصلح أجرة في الإجارات إلا المنفعة فإنها تصلح أجرة إذا اختلف الجنس ولا تصلح ثمناً، وإنما اعتبرنا الإجارة بالبيع لأن الإجارة بيع كسائر البياعات إلا أن سائر البياعات ترد على العين والإجارة ترد على المنفعة. وإنما وقع الفرق بينهما في المنفعة، لأن الثمن يجب أن يكون مملوكاً بنفس البيع إذا لم يكن فيه خيار، والمنفعة لا تصير مملوكة بنفس العقد، لأنها معدومة أما الأجرة فليس من شرطها أن تملك بنفس العقد وكانت الإجارة كالنكاح فإن المنفعة تصلح مهراً في النكاح؛ إذ ليس من شرط المهر أن يملك بنفس العقد، فإن تسمية عبد الغير مهراً صحيح. ومما يتصل بهذا الفصل بيان ما يصلح أجرة وما لا يصلح، إذا أضاف العقد إلى وقت في المستقبل بأن قال: أجرتك داري هذه غداً وما أشبهه، وأنه جائز بناء على الأصل الذي ذكرنا أن الإجارة تنعقد ساعة فساعة على حسب حدوث المنفعة، فالعقد في حق الحكم كالمضاف إلى وجود المنفعة فمبنى الإجارة في حق الحكم على الإضافة كيف تكون الإضافة مانعة صحة الإجارة، فلو أراد نقضها قبل مجيء ذلك الوقت، وعن محمد روايتان في رواية قال: لا يصح النقض، وفي رواية قال: يصح. وجه هذه الرواية: أنه لم يثبت للمستأجر حق في هذا العقد إليه غير منعقد أصلاً، ولهذا لا يملك الأجرة بالتعجيل في هذه الإجارة. وجه الرواية الأولى: أن العقد قد انعقد فيما بين المتعاقدين، وإن لم ينعقد في حق الحكم فالآجر بالنقص يريد إبطال العقد المنعقد حقاً للمستأجر فلا يقدر على ذلك، وعلى هذه الرواية يملك الأجرة بالتعجيل في هذه الإجارة، وكذلك إذا أراد الآجر بيع الدار قبل مجيء ذلك الوقت فيه روايتان، في رواية تنفذ إجارته ويبطل المضاف، وفي رواية قال: لا تنفذ كما في البيع كذا ذكره الطحاوي. وفي «فتاوى أبي الليث» : رحمه الله إذا قال لغيره: إذا جاء رأس الشهر فقد أجرتك هذه الدار، إذا جاء غد فقد أجرتك هذه الدار يجوز وإن كان فيه تعليقاً، وإذا قال: إذا جاء رأس الشهر فقد فاسختك هذه الإجارة لا يجوز. الفصل الثاني: في بيان أنه متى يجب الأجر قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في رجل استأجر بيتاً شهراً بدرهم، قال: كلما سكن يوماً أخذ من الأجر بحساب ذلك، وكذلك الكراة إلى مكة، وكذلك في

إجارة الأرض. يجب أن يعلم بأن الأجرة لا تملك بنفس العقد ولا يجب إيفاؤه إلا بعد استيفاء المنفعة إذا لم يشترط التعجيل، والأجرة سواء كانت الأجرة عيناً أو ديناً. هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» وفي كتاب «التحري» ، وذكر في الإجارات أن الأجرة إذا كانت عيناً لا تملك بنفس العقد، وإن كانت ديناً تملك بنفس العقد وتكون بمنزلة الدين المؤجل، عامة المشايخ على أن الصحيح ما ذكر في «الجامع» ، وفي كتاب «التحري» ، وبعضهم قالوا: ما ذكر في الإجارات قول محمد أولاً، وما ذكر في «الجامع» «والتحري» قوله آخراً، وهذا لما ذكرنا أن الإجارة عقد معاوضة فتوجب المساواة بين المتعاقدين ما أمكن ما لم يغير بالشرط، كما في بيع العين. ومتى قلنا إنه يجب إيفاء الأجر قبل استيفاء المنفعة تزول المساواة، ويفضل المؤاجر على المستأجر؛ لأن المؤجر يملك الأجرة بالقبض رقبة وتصرفاً، والمستأجر إن ملك المنفعة بقبض المستأجر تصرفاً لم يملك رقبة لما ذكرنا أن وقوع الملك في المنفعة يتأخر حال وجودها.p فلهذا قلنا: إن إيفاء الأجر يتأخر إلى ما بعد استيفاء المنفعة، وإذا ثبت أن إيفاء الأجر إنما يجب بعد استيفاء المنافع عندنا فنقول: كان أبو حنيفة أولاً يقول: لا يجب إيفاء شيء من الأجر إلا بعد استيفاء جميع المنفعة سواء كانت الإجارة معقودة على المدة كما في إجارة الدار والعبد، أو على قطع المسافة كما في كراء الدابة إلى مكان، أو على العمل كما في القصار والخياط والصباغ، فهو قول زفر ثم رجع. وقال: إن وقعت الإجارة على المدة كما في إجارة الأرض والدواب والعبد، أو على قطع المسافة كاستئجار الحمال والدابة، فإنه يجب إيفاء الأجر بحصة ما استوفى إذا كان لما استوفى حصة معلومة من الأجر ففي الدار يوفي أجر يوم فيوم، وفي قطع المسافة إذا سار من حلة من حلة يجب عليه حصة ما استوفى. قال القدوري: وهو قول أبي يوسف ومحمد وفي الإجارة التي تنعقد على العمل ويبقى له أثر في العين، فإنه لا يجب عليه إلغاء الأجر إلا بعد إيفاء العمل كله وإن كان حصة ما استوفى معلومة إلا أن يكون يعمل الخياط والصباغ في بيت صاحب المال يكون الجواب فيه كالجواب في الحمال على قوله الأجر، يجب على المؤجر إيفاء الأجر بقدر ما استوفى من المنفعة إذا كان له حصة معلومة من الأجر كما في الحمال. فوجه قوله الأول: أنه ثبت من أصلنا أن إيفاء الأجر لا يجب إلا بعد استيفاء المنفعة، والأصل أن إيفاء أحد البدلين في العقد إذا كان لا يجب إلا بعد استيفاء البدل الآخر، فإنه لا يجب إيفاء شيء منه إلا بعد وجود استيفاء جميع البدل، كما في باب البيع فإنه لما وجب تسليم البيع بناء على إيفاء الثمن لا يجب تسليم شيء من المبيع قبل إيفاء جميع الثمن كذا هاهنا. وجه قوله الآخر: أن القياس في باب البيع أن يجب على البائع تسليم المبيع بقدر ما استوفى من الثمن، حتى يستويا في ملك التصرف لأن المعاوضة تقتضي التساوي في

المسألتين جميعاً وقد استويا في ملك الرقبة فيجب أن يستويا في ملك التصرف، لا أنا تركنا هذا القياس في بيع العين لما فيه من معنى الرهن وهو حبس المبيع بالثمن، وحكم الرهن حبس الرهن بالدين، ومن حكم الرهن أن لا يجب على المرتهن تسليم شيء من الرهن ما لم يوجد إيفاء جميع الدين فتركنا هذا القياس في البيع لما فيه من معنى الرهن. وهذا المعنى لا يتأتى في كل إجارة ليس للمؤاجر حق الحبس بعد الفراغ من العمل وبعد إيفاء المنفعة لأن معنى الرهن إنما يثبت بثبوت حق الحبس للمؤاجر فكل إجارة ليس للمؤاجر فيها حق الحبس، كانت العبرة الحقيقة القياس. وحقيقة القياس أن يستويا في ملك الرقبة وإنما يستويا في ملك الرقبة إذا وجب إيفاء الأجر بقدر ما يستوفي من المنفعة كان القياس أن يجب إيفاء الأجر بقدر ما استوفى من المنفعة، وأن قل ذلك حتى يستويا لكن تركنا القياس في القليل لأنه لا يعرف حصته من الأجر، وفيما لا يعرف حصته من الأجر أخذنا بالقياس وفي كل إجارة للمؤاجر حق الحبس حتى يثبت فيه منفعة الرهن كان بمعنى البيع. وفي باب البيع إذا وجب (14ب4) تسليم المبيع بناء على إيفاء الثمن يعين وجوب التسليم بإيفاء جميع الثمن، ولا يجب تسليم شيء منه بإيفاء بعض الثمن فكذا في إجارة البيت للأجير حق الحبس وإيفاء الأجر في الإجارة بناء على إيفاء العمل، فيعلق إيفاء الأجر بإيفاء جميع العمل ولم يجب بإيفاء البعض. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: فيمن استأجر داراً يسكنها شهراً قال: لا يلزمه شيء من الأجر حتى يستكمل سكنى الشهر، وهو قياس ما لو استأجر حمالاً ليحمل له شيئاً من السوق إلى منزله فإنه لا يلزمه شيء من الأجر حتى تبلغ الحمولة إلى منزله، وكان القياس فيما إذا تكارى دابة إلى مكة بكذا، ولكن استحسن وقال: إذا سار نصف الطريق أو ثلثه لزمه التسليم بحساب ذلك. قال القدوري: وهو قوله الآخر، وإذا شرط في عقد الإجارة تعجيل البدل وجب تعجيله، لأنه بدون الشرط إنما لا يجب تحقيقاً للتساوي، فإذا شرط التعجيل فقد أبطل التساوي، وإنه مما يقبل البطلان فيبطل. ألا ترى أن في باب البيع وجب نقد الثمن قبل تسليم المبيع تحقيقاً للتساوي، ثم لو باع بثمن مؤجل يجب تسليم المبيع، لأنه أبطل التساوي، قال: وللمؤاجر حق حبس المنافع إلى أن يستوفي الأجر، لأن المنافع بمنزلة المبيع فكان له حبسها بما يقابلها من البدل كما في البيع، وله حق فسخ العقد إن لم يعجل، وكذا إذا عجل الأجرة من غير شرط ملكها؛ لأنه إذا عجل فقد أبطل ما يقتضيه مطلق العقد وذلك يحتمل البطلان، لأنه أثبت حقاً له وكما يجب الأجر باستيفاء المنافع يجب بالتمكن من استيفاء المنافع إذا كانت الإجارة صحيحة، حتى إن من استأجر داراً أو حانوتاً مدة معلومة ولم يسكن فيها في ذلك المدة مع تمكنه من ذلك يجب الأجر ولو لم يتمكن من السكنى بأن منعه المالك أو أجنبي لا تجب الإجارة.

وكذلك إذا أجر داراً وسلمها إليه فارغاً إلا بيتاً كان مشغولاً بمتاع الآجر أو سلم إليه جميع الدار ثم انتزع بيتاً منها من يده رفع عن الأجر حصة البيت ولكن يشترط التمكن من الاستيفاء في المدة التي ورد عليها العقد في المكان الذي أضيف إليه العقد، فأما إذا لم يتمكن من الاستيفاء أصلاً أو تمكن من الاستيفاء في المدة في غير المكان الذي أضيف إليه العقد، أو تمكن من الاستيفاء في المكان الذي أضيف العقد خارج المدة لا يجب الأجر. حتى أن من استأجر دابة يوماً لأجل الركوب فحبسها المستأجر في منزله ولم يركبها حتى مضى اليوم، فإن استأجرها للركوب في المصر يجب عليه الأجر لتمكنه من الاستيفاء في المكان الذي أضيف إليه العقد لأن المكان الذي أضيف إليه العقد من المصر. وإن استأجرها للركوب خارج المصر إلى مكان معلوم لا يجب الأجر إذا حبسها في المصر لعدم تمكنه من استيفاء المنافع في المكان الذي أضيف إليه العقد، لأن المكان الذي أضيف إليه العقد خارج المصر، ولا يتحقق التمكن خارج المصر من الركوب والدابة في بيته، فإن ذهب بالدابة إلى ذلك المكان في اليوم ولم يركب لا يجب الأجر لتمكنه من الاستيفاء في المكان الذي أضيف إليه العقد في المدة، وإن ذهب إلى ذلك المكان خارج المصر بعد مضي اليوم بالدابة ولم يركب لا يجب الأجر، وإن تمكن من الاستيفاء في المكان الذي أضيف إليه العقد لهذا إنه تمكن بعد مضي المدة. في «النوازل» : إذا استأجر دابة إلى مكة فلم يركبها بل مشى راجلاً، فإن كان بغير عذر في الدابة فعليه الأجر، لأن المعقود عليه ممكن الاستيفاء، وإن لم يركبها لعلة في الدابة أو لمرض بها بحيث لم يقدر على الركوب لا أجر عليه. وهكذا ذكر في «العيون» عن أبي يوسف، وفي «نوادر» هشام قال: سألت محمداً عمن اكترى محملاً ليركبه إلى مكة فخلفه في أهله من غير عذر ولم يركبه فلا أجر لعدم التمكن من استيفاء المنفعة في مكان الاستيفاء وهو ضامن للمحمل أن أصابة شيء، لأن صاحب المحمل لم يرض بإمساكه على وجه لا يجب به الأجر فيصير بإمساك المحمل في منزله مخالفاً عاصياً، وكذلك لو استأجر المحمل شهراً ليركبة إلى مكة فقد جمع في المسألة التالية بين الوقت وبين العمل وهو الركوب، ومع هذا بنى الحكم على العمل إذ لو بنى الحكم على الوقت لوجب الأجر هاهنا. كما لو استأجر حلياً يزين به عروسه فأمسك الحلي ولم يزينها يجب الأجر، إنما فعل كذلك لأن الغالب في هذه الصورة أن يراد بهذا العمل وهو الركوب إلى مكة، هذا كله في الإجارة الصحيحة. أما في الإجارة الفاسدة يشترط حقيقة استيفاء المنفعة لوجوب الأجر وبعدما وجد الاستيفاء حقيقة إنما يجب الأجر إذا وجد التسليم إلى المستأجر من جهة المؤاجر، أما إذا لم يوجد التسليم لا يجب الأجر. بيانه فيما ذكر في «الجامع» : رجل اشترى من آخر عبداً فلم يقبضه حتى أجره من

البائع شهراً كانت الإجارة باطلة، لأن الإجارة لتمليك المنفعة والمنفعة تابعة للعين، وتمليك العين قبل القبض من البائع باطل فكذا قليل المنافع التي هي مبيع، فإن استعمله البائع بحكم الإجارة لا يلزمه الأجر لأن في الإجارة الفاسدة إنما يجب الأجر باستيفاء المنافع إذا وجد التسليم إلى المستأجر، ولم يوجد ها هنا إذ ليس للمشتري آلة التسليم وهو اليد، إنما اليد للبائع والبائع لا يصلح نائباً عن المشتري في القبض لأن التسليم يستحق على البائع والشخص الواحد لا يصلح أن يكون مسلماً ومتسلماً، ولأن التسليم والقبض بمنزلة البيع إذا ملك التصرف يثبت به والواحد لا يصلح بائعاً ومشترياً، فكذلك لا يصلح قابضاً ومسلماً. وفي «الفتاوى» : استأجر ثوباً ليلبسه كل يوم بدانق، فوضعه في بيته ولم يلبسه حتى مضى عليه سنون فعليه لكل يوم دانق ما دام في الوقت الذي يعلم أنه لو لبسه لكان لا خرق، لأنه أمكن أن يجعل منتفعاً بالثوب في ذلك الوقت، فإذا مضى وقت يعلم أنه لو كان لبسه لتخرق سقط عنه الأجر؛ لأن بعد مضي ذلك الوقت تعذر جعله منتفعاً به. وروي عن محمد نحو هذا، وهو نظير المرأة إذا لم تستعمل الكسوة إنه إذا مضى من الوقت مقدار ما لو استعملتها استعمالاً معتاداً تخرقت الكسوة كان لها ولاية المطالبة بكسوة أخرى، وما لا فلا. ومما يتصل بهذا الفصلحبس العين بالأجر قال محمد رحمه الله: رجل دفع ثوباً ليصبغه بدرهم أو إلى قصار ليقصره فقصره أو صبغه، وقال: لا أعطيك حتى تعطيني الأجر فله ذلك، وقال: زفر ليس له ذلك. يجب أن يعلم أن كل صانع ليس بصنعه الوقاء ثم في العين كالحمال والملاح والغسال لا يكون له أن يحبس العبن بالأجر بالإجماع، وكل صانع لعلمه الرقائم في العين كالصباغ وما أشبهه إذا فرع من العمل فله أن يحبس العين بالأجر عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله خلافاً لزفر. من حجته في ذلك أن البيع وقع في يد المشتري برضا البائع فيبطل حقه في الحبس قياساً على ما لو عمل في بيت صاحب الثوب وقياساً على الملاح والمكاري، وإنما قلنا: أن المبيع وقع في يد المشتري لأن المبيع هنا إما أثر عمله في العين كما في الخياط، أو مال قائم الغسل بالثوب، لأن يد العامل على الثوب يد صاحب الثوب لأن العامل أمين في حق الثوب ويد الأمين يد صاحب المال كما في يد المودع. وإنما قلنا: برضاه لأنه لما عمل مع علمه يقع في يد المشتري صار راضياً بوقوعه في يد المشتري، حجتنا أن المبيع وقع في يد المشتري بغير رضا البائع فلا يبطل حق البائع في الحبس كما في بيع إذا قبض المشتري المبيع بغير رضا البائع، فإنه لا يبطل حق البائع في الحبس وإن جعل في يد المشتري، لأنه حصل بغير رضاه.

بيانه إنه لا يمكنه الاحتراز عن وقوع عمله في يد الحافظ لأنه لا بد له من الحفظ حالة العمل، ويد الحافظ يد صاحب المال، وإذا لم يمكنه الاحتراز عن وقوع العمل في يد الحفظ كان مضطراً في ذلك، والرضا لا يثبت مع الاضطرار كصاحب العلو إذا بنى السفل، وليس كما لو عمل في بيت صاحب الثوب (15أ4) وذلك لأن المبيع هناك وقع في يد المشتري برضا البائع، وذلك لأن الثوب في يد صاحب الثوب حكماً لقيام يده على الدار، ويمكن للعامل أن يعمل على وجه لا يقع عمله في هذه اليد بأن يعمل في بيت نفسه، وإذا أمكنه الاحتراز عن إيقاع المبيع في هذه اليد فإن لم يحترز صار راضياً بذلك فيبطل حقه في الحبس، فأما ها هنا لا يمكنه الاحتراز على ما بينا فيكون مضطراً في إيقاع العمل في يد الحافظ، والاضطرار ينافي الرضا. والاختلاف في هذه المسألة نظير الاختلاف في الوكيل إذا نقد الثمن من ماله وقبض المشترى كان له أن يحبس عن الموكل حتى يستوفي الثمن، وبنفس القبض وقع المبيع في يد الموكل، لأن يده يد الموكل قبل أحد أن الحبس ولم يبطل حقه في الحبس عندنا، لأنه مضطر في وقوع المشتري في هذا اليد لأنه لا يمكنه القبض على وجه لا يقع في يده فلم يبطله حقه في الحبس عندهم. وبطل عند زفر كذلك هاهنا وليس كالحمال والمكاري، لأن المبيع هاهنا ليس بقائم لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الاعتبار، من حيث الحقيقة فلا إشكال لأن المبيع حركات انقضت ومضت، ولا من حيث الاعتبار لأنه لم يبق لعمله أثر في العين حتى يقيم الأثر مقام العمل، وحق الحبس إنما يثبت في المبيع فلا بد من قيامه أما ها هنا بخلافه، وأما القصار إن كان يقصر بالنساسج أو كان ببياض البيض كان له حق الحبس لأنه اتصل بالثوب مال قائم كما في الصبغ. فأما إذا كان يبيض الثوب لا غير اختلف المشايخ فيه منهم من قال: له حق الحبس لأن البياض الذي حدث في الثوب أثر عمله فيقوم مقام المبيع فيكون له حق الحبس كما في الخياطة، ومنهم من يقول: لا يكون له حق الحبس لأن البياض الذي حدث في الثوب غير مضاف إلى عمله، لأنه غير حادث بعمله بل البياض كان حاصلاً لكن كان استترا بالوزن فزال ذلك بعمله وظهر البياض الذي كان في الأصل، وإذ ثبت له حق الحبس بالأجرة عندنا لم يصر بالحبس متعدياً. ففي العين عند أبي حنيفة أمانة في يده كما كان، فإذا هلك بغير صنعة لا يضمن شيئاً إلا أنه يسقط الأجر لأنه ملك العمل قبل التسليم، وهلاك المبيع قبل التسليم يوجب سقوط البدل كالمبيع العين إذا هلك في يد البائع. وأما عند أبي يوسف ومحمد فالعين كان مضموناً على القصار والصباغ بسبب القصر إذا حصل الهلاك بأمر يمكن التحرز عنه فيبقى بعد الحبس مضموناً كما كان، فإذا هلك فلصاحبه الخيار إن شاء ضمنه غير معمول لأنه لم يصر مسلماً العمل فلا يستحق الأجر، وإن شاء ضمنه معمولاً لأن العين مضمون عندهما بالقيمة والعمل بيع للعين والبيع

يوافق الأصل ولا يخالفه، فإذا كان الأصل مضموناً بالقيمة صار المبيع مضموناَ بالقيمة أيضاً. فإن قيل: العمل بيع هلك في يد البائع بغير منعة والمبيع لا يتصور أن يكون مضموناً على البائع بالقيمة بحال ما لا عند الهلاك ولا عند الاستهلاك كما في العين، المبيع إذا هلك عند البائع أو استهلك البائع لا يضمن القيمة فلم جعلتم العمل المبيع هنا مضموناً بالقيمة؟. قلنا: نحن ما جعلنا العمل مضموناً بالقيمة أصلاً ومقصوداً بل ضرورة وتبعاً للعين، ويجوز أن يثبت الحكم تبعاً لغيره ولا يثبت قصداً، وفي باب البيع لا ضرورة إلى جعله مضموناً بالقيمة، أما هاهنا بخلافه وإذا ضمنه قيمته معمولاً أعطاه الأجر لأن المبيع صار مسلماً تقديراً واعتباراً لوصول اليد إليه، ولو صار مسلماً حقيقة يعطيه الأجر كذلك هاهنا وهكذا الجواب أو أتلفه الأجر يخير صاحب الثوب، إن شاء ضمنه قيمته غير معمول ولا يعطيه الأجر، وإن شاء ضمنه قيمته معمولاً وأعطاه الأجر. وفي «شرح القدوري» : وقال أبو يوسف في الحمال: إذا طلب الأجرة بعدما بلغ المنزل قبل أن يضعه ليس له ذلك، لأن حق المطالبة إنما يثبت بعد تمام العمل والوضع من تمام العمل فلا يثبت له حق المطالبة قبل الوضع. ومما يتصل بمسائل الحبس إذا استأجر الرجل من آجر داراً بدين كان للمستأجر على الأجر يجوز، وكذا لو استأجر عبداً بدين كان للمستأجر على الآجر يجوز، فإن فسخا الإجارة فأراد المستأجر أن يحبس المستأجر بالدين السابق كان له ذلك، ولو كانت الإجارة فاسدة وفسخا الإجارة بحكم فساد السبب فأراد المستأجر أن يحبس المستأجر بالدين السابق ليس له ذلك. والفرق بينهما: أن العقد لا يتعلق بالدين وإنما يتعلق بمثله، ولا تصير الأجرة مثل الدين إلا بشرط التعجيل فيضمن ذلك شرط التعجيل لتصير الأجرة مثل الدين، ووقعت المقاصة بينهما وصار الآجر قابضاً الأجر بطريق المقاصة فيعتبر بما لو استوفاه حقيقة، فأما في الإجارة الفاسدة مثل الدين لا يجب بنفس العقد لأن أكثر ما في الباب أن يجعل الأجرة مشروطة التعجيل، ولكن الأجرة لا تملك ولا تصير ديناً باشتراط التعجيل في الإجارة الفاسدة ما لم يوجد استيفاء المنفعة حقيقة، ومتى لم تصر ديناً لا تقع المقاصة فلا يصر الأجير مستوفياً الأجرة أصلاً بمقابلة تسليم العبد فلا يملك العبد به. فإن مات الآجر والأجر دين عليه كان قبل العقد فهي الإجارة الجائزة لما ملك المستأجر حبس العبد كان أحق به من الأجر حال حياته فيكون أحق به من غرمائه بعد موته. وفي الإجارة الفاسدة كما لم يملك الحبس لم يكن المستأجر أحق به من الأجر حال حياته فلا يكون أحق به من غرمائه بعد الموت، ولكن يكون أسوة لغرمائه.

الفصل الثالث: في الأوقات التي يقع عليها عقد الإجارة

ولو هلكت العين في يد الأجير من غير صنعة ومن غير أن يحبسه بالأجر، فإن كان لعمله أثر في العين كالحمال والمكاري لا يسقط الأجر، والفرق أن العمل الذي له أثر في العين بمنزلة العين المعقود عليه والبدل في مقابلته فصار كالمبيع يهلك قبل التسليم، أماما لا أثر له في العين ليس هناك عين معقود عليه، وإنما يصير الحمال يوماً المعقود عليه حالاً فحالاً فإذا انتهى إلى المكان المشروط فقد أوفى العمل بتمامه فلا يسقط أجره بهلاك العين بعد ذلك. في «فتاوى أبي الليث» : نساج نسج ثوب رجل فذهب به إليه وطلب منه أن يقبض منه الثوب ويعطيه الأجر، فقال له صاحب الثوب: اذهب إلى منزلك حتى إذا رجعنا من الجمعة ضرب إلى منزلي ووفرت عليك الأجر فاختلس الثوب من يد النساج في الرجعة، قال: إن كان الحائك دفع الثوب إلى صاحب الثوب ولو ذهب به لم يكن الحائك يمنعه من ذلك، فإن دفع إلى الحائك على وجه الرهن هلك الثوب بالأجر كما هو حكم الرهن. وإن دفع إليه على وجه الوديعة هلك على الأمانة والأجر على حاله، لأنه سلم العمل إلى صاحب الثوب فتقرر عليه الأجر، وإن كان في الابتداء أو أراد صاحب الثوب أن يذهب بالثوب لم يكن يدعه النساج ولذلك تركه صاحب الثوب عنده فقد اختلف العلماء فيه، قال بعضهم: يضمن، وقال بعضهم: لا وهي مسألة الأجير المشترك إذا هلكت العين في يده من غير صنعة. وفي «المنتقى» : حائك عمل ثوباً لرجل فتعلق الآخر ليأخذه فأبى الحائك أن يدفعه حتى أخذ الأجر فتخرق من يد صاحبه لا ضمان على الحائك، وإن تخرق من يدهما فعلى الحائك نصف ضمان الخرق. وفي (15ب4) القدوري: استأجر حمالاً ليحمل له حملاً إلى بلد فحمله، فقال له صاحبه: أمسكه عندك فامسكه فهلك لا ضمان عليه بلا خلاف لأنه ليس له حق الحبس، فإذا قال: امسكه كان أمانة في يده وهلاك الأمانة في يد الأمين لا يوجب الضمان عليه، ولو كان هذا قصاراً فأمره بإمساكه يعني ليوفر الأجر فهلك فهو على الاختلاف، وعلى قياس مسألة النساج يجب أن تكون هذه المسألة على التفصيل أيضاً. الفصل الثالث: في الأوقات التي يقع عليها عقد الإجارة إذا استأجر داراً شهراً بأجر معلوم أو استأجرها منه أو كل شهر، فابتداء المدة من حين العقد وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا استأجرها كل شهر، لأن الإجارة تناول الأبد

فلا بد وأن يدخل الشهر من حين وقع عقد الإجارة، وإنما يشكل ما إذا استأجرها شهراً واحداً فإنه عين الإجارة الشهر الذي يلي العقد، وهما سميا شهراً منكراً لا شهراً معيناً، فالجواب الشهر الذي يلي العقد يعين بدلالة الحال أو بمقتضى مطلق العقد. أما بدلالة الحال فإن الظاهر من حال العاقل الذي أن يقصد بتصرفه الصحة، ولن تصح الإجارة أو لم يعين الشهر الذي يليها لأنه تكون الإجارة عل شهر لا بعينه. وأما بمقتضى مطلق العقد يوجب حكمه للحال كبيع العين المطلق، وحكم الإجارة وقوع الملك للمستأجر في المنفعة، وإنما يقع الملك في منفعة الدار للحال إذا تعين الشهر الذي يلي الإجارة، وإذا تعين الذي يلي الإجارة ينظر إن وجدت الإجارة في الوقت الذي يهل فيه الهلال يعتبر الشهر بالهلال، لأن الهلال أصل في الشهر والأيام كالبدل، وقد أمكن اعتبار الأصل فلا يصار إلى البدل. وإن وجدت الإجارة في وسط الشهر يعتبر الشهر بالأيام لأنه تعذر اعتبار الأصل فيعتبر البدل هذا إذا وقعت الإجارة على شهر واحد، وإن وقعت الإجارة على كل شهر وكان ذلك في وسط الشهر يعتبر الشهر الذي يلي العقد بالأيام، وكذلك كل شهر بعد ذلك بلا خلاف. أما عند أبي حنيفة فلأن عنده العبرة بالأيام إذا أوقعت الإجارة في وسط الشهر، وإن كان أجر المدة وأولها معلومة بأن استأجرها أشهراً مسماة عشرة أو ما أشبه ذلك أو استأجرها سنة، فإذا لم يكن أجر المدة معلوماً أولى.h وأما عند أبي يوسف ومحمد إنما يعتبر الشهر الأول بالأيام ويكمل من آخر المدة وما بعد ذلك بالهلال إذا كان آخر المدة معلوماً حتى أمكن إكمال الأول بأجره وهاهنا آخر المدة مجهولة فلا يمكن إكمال الأول بالآخر فيجب إكماله من الشهر الثاني. وإن وقعت الإجارة على اثني عشر شهراً أو ما أشبه ذلك من الأشهر المسماة وكانت الإجارة في وسط الشهر، فعلى قول أبي حنيفة تعتبر جميع الأشهر بالأيام، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يعتبر الشهر الأول بالأيام ويكمل من الشهر الأخير وباقي الشهور بالأهلّة. فوجه قولهما أن في الشهر الأول والآخر اعتبار ما هو الأصل، وهو الهلال غير ممكن فلا يعتبر، وفيما عدا ذلك أمكن اعتبار الأصل فيعتبر. وأبو حنيفة قال: كالعذر اعتبار الهلال في الشهر الأول تعذر اعتباره في الشهر الثاني والثالث، لأن الشهر الأول يجب إكماله من الشهر الثاني لأنه متصل به، وإذا وجب إكمال الشهر الأول من الشهر الثاني انتقص الشهر الثاني فيجب إكماله من الشهر الثالث، لأنه متصل به وثم وثم إلى آخر المدة، فقد تعذر اعتبار الهلال في جميع المدة فيعتبر بالأيام. روى الحسن بن زياد عن أبي يوسف: في رجل استأجر منزلاً كل شهر بثلاثة دراهم مثلاً، قال: في قياس قولي الإجارة فاسدة لكني استحسن إن أجرها في أول شهر، فأما

فيما عداه فلكل واحد منهما أن يفسخه. قال الحاكم أبو الفضل: أراد بقوله: في قياس قولي القياس على ما إذا اشترى كل قفيز من هذا الطعام بدرهم، فإنه على جميع الطعام عندهما وعمل كلمة كل في الشمول والإحاطة. فالقياس: أن يعمل كلمة كل منهما في الشمول والإحاطة ويتناول جميع الشهور، إلا أنها لو تناولت جميع الشهور فسد العقد، لأن جميع الشهور محمولة ولكن استحسن، وقال: يجوز العقد في الشهر الأول نصف اللزوم، لأنه لا جهالة فيه ولا مزاحم له، وفيما عدا ذلك يثبت العقد بطريق الإضافة، وفي العقد المضاف لكل واحد من المتعاقدين فسخ العقد، فإذا لم يفسخ حتى دخل الشهر الثاني لزم العقد فيه. وفي «الأصل» : إذا استأجر الرجل من آخر داراً كل شهرة بعشرة دراهم، فإن أبا حنيفة قال: هذا جائز ولكل واحد منهما أن ينقض الإجارة في رأس الشهر فإن سكن يوماً أو يومين لزمه الإجارة في الشهر الثاني: واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة بعضهم قالوا: أراد بقوله جائز أن الإجارة في الشهر الأول جائزة فأما فيما عدا ذلك من الشهور فالإجارة فاسدة لجهالة المدة، إلا أنه إذا جاء الشهر الثاني ولم يفسخ كل واحد منهما الإجارة في رأس الشهر جازت الإجارة في الشهر الثاني، لأن الشهر الثاني صار كالشهر الأول. وبعضهم قالوا: لا بل الإجارة جائزة في الشهر الثاني والثالث كما جازت في الشهر الأول، وإطلاق محمد رحمه الله في «الكتاب» : يدل عليه، وإنما جازت الإجارة فيما وراء الشهر الأول، وإن كانت المدة مجهولة لتعامل الناس من غير نكير منكر، وإنما يثبت الخيار لكل واحد منهما رأس الشهر كل شهر، وإن كانت الإجارة جائزة فيما زاد على الشهر الأول لنوع ضرورة. وبيانها: أن موضوع الإجارة أن لا يزيل الرقبة عن ملك المؤجر ولا يجعلها ملكاً للمستأجر، ومتى لم يثبت الخيار لكل واحد منهما رأس الشهر لزوال رقبة المستأجر عن ملك المؤجر، يعني لأنه لا يملك سكناها ولا بيعها ولا هبتها أبد الدهر لأنه لا نهاية لحد الشهور. وهذا لا يجوز فلهذه الضرورة يثبت لكل واحد منهما الخيار بين الفسخ والمضي في رأس كل شهر، وإن كانت الإجارة جائزة في الشهر فيما زاد على الشهر وكان ينبغي أن يثبت هذا الخيار في كل ساعة ليزول المعنى الذي ذكرنا إلا أنا لو أثبتنا ذلك لا تفيد الإجارة فائدتها لأن كل واحد من المتعاقدين يمتنع عن الإجارة مخافة الفسخ فلهذه الضرورة تأخر الفسخ إلى رأس الشهر، لأنه بهذا القدر تصير الإجارة منعقدة وليس ما وراء الشهر من الأوقات بعد ذلك بعضها بأولى من البعض فيثبت الخيار رأس كل شهر لهذه الضرورة. والثابت ضرورة والثابت شرطاً سواء، ولو شرطا الخيار رأس كل شهر تأخر الفسخ

إلى رأس كل شهر كذا هنا إلا أن المشايخ بعد هذا اختلفوا في كيفية إمكان الفسخ لكل واحد منهما رأس كل شهر. وإنما اختلفوا لأن رأس الشهر في الحقيقة عبارة عن الساعة التي يهل فيها الهلال فكما أهل الهلال مضى رأس الشهر فلا يمكن الفسخ بعد ذلك لمضي وقت الخيار، وقبل ذلك لا يمكنه الفسخ لأنه لم يجيء وقته. والصحيح في هذا أحد الطرق الثلاثة إما أن يقول: الذي يريد الفسخ قبل مضي المدة فسخت الإجارة فيتوقف هذا الفسخ إلى انقضاء الشهر فإذا انقضى الشهر وأهل الهلال عمل الفسخ عمله ونفذ، لأنه لم يجد نفاذاً في وقته يتوقف إلى وقت نفاذه، وبه كان يقول أبو نصر محمد بن محمد بن سلام البلخي. ونظير هذا ما قال (16أ4) محمد رحمه الله في البيوع: اشترى عبداً على أنه بالخيار فحم العبد وفسخ المشتري العقد بحكم الخيار لم ينفذ هذا الفسخ بل يتوقف إلى أن تزول الحمى في مدة الخيار. وقال في المضاربة: رب المال إذا فسخ المضاربة وقد صار مال المضاربة عروضاً لم ينفد الفسخ للحال بل يتوقف إلى أن يصير مال المضاربة دراهم أو دنانير فينفذ الفسخ كذا هنا، أو يقول الذي يريد الفسخ في خلال الشهر فسخت العقد رأس الشهر فينفسخ العقد إذا أهل الهلال، ويكون هذا فسخاً مضافاً إلى رأس الشهر وعقد الإجارة يصح مضافاً، فكذا فسخه يصح مضافاً، أو يفسخ الذي يريد الفسخ في الليلة التي يهل فيها الهلال ويومها. وهذا القائل يقول: لم يرد محمد رحمه الله بقوله لكل واحد منهما أن ينقض الإجارة رأس الشهر من حيث الحقيقة، وهو الساعة التي يهل فيها الهلال فإنما أراد به رأس الشهر من حيث العرف والعادة وهي الليلة التي يهل فيها الهلال ويومها. وهذا كما قال محمد رحمه الله في كتاب الإيمان: إذا حلف الرجل ليقضين حق فلان رأس الشهر فقضاه في الليلة التي يهل فيها الهلال أو في يومها لم يحنث استحساناً. وفي القدوري يقول: غرة الشهر ورأس الشهر أول ليلة ويومها، ثم إذا كان لكل واحد منهما أن يفسخ الإجارة رأس الشهر إذا فسخ أحدهما الإجارة من غير محضر من صاحبه هل يصح. من مشايخنا من قال: إنه على الخلاف على قول أبي حنيفة ومحمد لا يصح، وعلى قول أبي يوسف يصح، وهذا لأن الخيار ثبت لكل واحد منهما رأس الشهر لنوع ضرورة والثابت ضرورة والثابت شرطاً سواء ولو كان الخيار مشروطاً لكل واحد منهما كانت المسألة على الخلاف كذا هاهنا. ومنهم من قال: لا يصح الفسخ ها هنا إلا بمحضر من صاحبه بلا خلاف، والفرق لأبي يوسف أن المشروط له الخيار إنما ملك الفسخ بغير محضر من صاحبه، لأنه مسلط على الفسخ من جهة لأن الخيار مشروط للفسخ والمسلط على التصرف يملك التصرف من

غير محضر من المسلط كالوكيل بالبيع، فأما في مسألتنا كل واحد منهما غير مسلط على الفسخ من جهة صاحبه، وإنما هو مسلط على الانتفاع وإنما يثبت الخيار لنوع عذر فكان بمنزلة ما لو ثبث الخيار بسائر الأعذار، وفي ذلك لا يصح الفسخ إلا بمحضر من صاحبه كذا فهنا. وفي «شروط الحاكم أحمد السمرقندي» رحمه الله: أن أحد المتعاقدين في باب الإجارة إذا فسخ العقد في مدة الخيار يصح فسخه سواء كان بحضرة صاحبه أو بغيبة صاحبه، ولم يذكر فيه خلافاً. وإذا استأجر داراً سنة كل شهر بكذا فليس لواحد منهما فسخ الإجارة قبل إكمال السنة بغير عذر، لأن الإجارة ها هنا وقعت على جميع السنة وذكر كل شهر لتقسيم الأجر على الشهور لا لتجدد انعقاد العقد رأس كل شهر. وفي «شروط الحاكم أحمد السمر قندي» : إذا استأجر داراً كل شهر بكذا، فعجل أجرة شهرين أو ثلاثة وقبض الآجر ذلك لا يكون لأحدهما ولاية الفسخ بقدر ما عجل، وكان التعجيل منهما دلالة العقد في الشهر الثاني والثالث. قال في «الأصل» : وإذا استأجر عبداً ليخدمه كل شهر بكذا كان له أن يستخدمه من السحر إلى ما بعد عشاء الآخرة، والقياس أن يستخدمه آناء الليل والنهار لأن الشهر اسم للكل إلا أن ما بعد العشاء الآخرة إلى السحر صار مبيتاً بحكم العرف، فإن العرف فيما بين الناس أنهم لا يستخدمون المماليك بعد العشاء الآخرة إلى السحر والمعروف كالمشروط. وقال أيضاً: رجل تكارى رجلاً يوماً إلى الليل بعمل معلوم فإن على الأجير أن يعمل بعد صلاة الغداة إلى غروب الشمس، والقياس أن يعمل من وقت طلوع الفجر الثاني إلى ما بعد صلاة الغداة صار منهياً عن الإجارة عرفاً والمعروف كالمشروط. قال محمد رحمه الله: والعمال بالكوفة إنما يعملون إلى العصر وليس لهم ذلك لأن اسم اليوم ينطلق على هذا الزمان من حين طلوع الفجر إلى غروب الشمس، إلا أن ما بعد طلوع الفجر إلى ما بعد صلاة الغداة صار مثبتاً عن الإجارة يعرف غالباً، لأن الأجراء لا يعملون قبل صلاة الغداة، وليس فيما بعد العصر عرف غالب، فإن بعض الأجراء يعملون إلى العصر وبعضهم إلى غروب الشمس وليس أحد الوجهين بأغلب من الآخر، وتخصيص الاسم إنما يجوز بعرف غالب. قال أيضاً: وإذا تكارى دابة من الغدوة إلى العشي يردها بعد زوال الشمس ينتهي الإجارة بهما، لأنه كما زالت الشمس فقد دخل أول وقت العشاء عرفاً وشرعاً، أما شرعاً فلما روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بنا إحدى صلاتي العشاء أما الظهر وأما العصر.

الفصل الرابع: في تصرف المؤجر في الأجرة

وأما عرفاً فإن مخاطبات الناس تعتبر بعد زوال الشمس يقولون قبل الزوال: كيف أصبحت، ويقولون بعد الزوال: كيف أمسيت فثبت أن بعد زوال الشمس يدخل أول وقت العشاء والإجارة تنتهي بدخول أول جزء من الغاية. قالوا: وهذا في عرفهم أما في عرفنا الإجارة لا تنتهي بزوال الشمس وإنما تنتهي بغروب الشمس؛ لأن اسم العشاء في عرفنا إنما ينطلق على ما بعد غروب الشمس، وكذلك إذا قال بالفارسية: ابن خر نمر ذكر فتم بإشباعها فهذا إلى غروب الشمس في عرفنا. قال: إذا تكارى دابة يوماً ليركبها، فإنه يركبها من حين طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس عملاً بحقيقة اسم اليوم، وإنما تركنا العمل بحقيقة هذا الاسم فيما إذا استأجر رجلاً يوماً ليعمل له عمل كذا. وقلنا: إن على الأجير أن يعمل بعد صلاة الفجر بحكم العرف الغالب على ما مر، والعرف في الدابة بخلاف ذلك فإن الناس يركبون الدواب في عاداتهم بغلس ليصلوا إلى مقصدهم قبل الليل فيعمل فيها بحقيقة الاسم. وإن استأجر دابة ليلاً فإنه يركبها عند غروب الشمس إلى أن يطلع الفجر، لأن الليل في عرف لسان الشرع واللغة اسم لما بعد غروب الشمس إلى أن يطلع الفجر، فكأنه نص على ذلك ولو نص على ذلك كان الجواب كما قلنا فهاهنا كذلك. وفي «فتاوى أبي الليث» : أعطى رجلاً درهمين ليعمل له يومين فعمل له يوماً واحداً وامتنع عن العمل في اليوم الثاني، فإن كان سمى له عملاً فالإجارة جائزة ويجبر على العمل، وإن لم يعمل حتى مضى اليوم الثاني لا يطالب بالعمل، وإن كان سمى له العمل إلا أنه قال: يومين من الأيام فالإجارة فاسدة لجهالة الوقت وله أجر مثله إن عمل. وفي «فتاوى الفضل» : إذا استأجر رجلاً يوماً لعمل كذا فعليه أن يعمل ذلك العمل إلى تمام المدة، ولا يشتغل بشيء آخر سوى المكتوبة. وفي «فتاوي أهل سمرقند» : وقد قال بعض مشايخنا: إن له أن يؤدي السنة أيضاً، واتفقوا أنه لا يبتد نفلاً وعليه الفتوى، وفي غريب الرواية قال أبو علي الدقاق رحمه الله: المستأجر لا يمنع الأجير في المصر من إتيان الجمعة ويسقط من الأجر بقدر اشتغاله بذلك إن كان بعيداً، وإن كان قريباً لم يحط عنه شيء من الأجر، فإن كان بعيداً فاشتغل قدر ربع النهار حط عنه ربع الأجر، وإن قال الأجير حط من الربع مقدار اشتعاله بالصلاة لم يكن له ذلك، ثم قال: تحتمل أن يتحمل من الربع مقدار اشتغاله بالصلاة. الفصل الرابع: في تصرف المؤجر في الأجرة إذا أبرأ المؤاجر المستأجر من الأجرة أو وهبها منه أو تصدق بها عليه، وكان ذلك

قبل استيفاء المنفعة ولم يشترط تعجيل الأجرة في العقد لم يجز في قول أبي يوسف، عيناً كانت الأجرة أو ديناً والإجارة على حالها لا تنفسخ. وقال محمد رحمه الله: إن كانت الأجرة ديناً جاز ذلك قبل المستأجر أو لم (16ب4) يقبل ولا تنتقض الإجارة، وإن كانت عيناً فوهبها منه، فإن قبل الهبة تبطل الإجارة، وإن رد لم تبطل الإجارة، وعادت الأجرة على حالها. فأبو يوسف رحمه الله يقول: الابراء إسقاط الواجب، فيعتمد سابقة الوجوب، والهبة تمليك، فيعتمد سابقة الملك، ولا وجوب ولا ملك بدون استيفاء المنفعة واشتراط التعجيل، وإذا لم يصح تصرفه بقيت الأجرة على حالها فلا تنتقض الإجارة، بخلاف المشتري إذا وهب المبيع من البائع قبل القبض وقبله البائع حيث يبطل البيع؛ لأن هناك الهبة قد صحت لصدورها من المالك ويده من جنس القبض المستحق بالهبة فثبت الملك، وإذا ثبت الملك فإن القبض المستحق بالعقد فيبطل العقد. ومحمد رحمه الله يقول: سبب الوجوب ثابت فأقيم مقام الوجوب في حق صحة التصرف، ثم إن محمداً رحمه الله لم يشترط القبول في الإبراء والهبة إذا كانت الأجرة ديناً، ويشترط القبول في الهبة إذا كانت الأجرة عيناً. والفرق: أن الإبراء والهبة في الدين إسقاط فيه معنى التمليك، فمن حيث إنه إسقاط لم يتوقف على القبول، ومن حيث إنه تمليك يريد به الرد والهبة في العين تمليك محض والتمليك المحض لا يعمل بدون القبول، ثم إذا قبل الهبة وكانت الأجرة عيناً بطلت الإجارة عند محمد؛ لأن عقد الإجارة ينعقد موقوفاً في حق المحل على حسب حدوث المنفعة، فمتى كانت الأجرة عيناً، ووهبها من المستأجر، وقبل المستأجر لا يمكن القول ببقاء التوقف في حق المحل فصار ذلك مناقضة، فبطلت الإجارة ضرورة. وإذا كانت الأجرة ديناً ووهبها له أو أبرأه منها وقبل المستأجر ذلك أو لم يقبل لا تبطل الإجارة، لأن الحكم ببقاء الإجارة ممكن هناك؛ لأن محل الأجرة إذا كانت ديناً في الذمة، وذمته باقية فيقام قيام محل الأجرة مقام قيام الأجرة إبقاء للعقد بقدر الممكن، ولو وهبت بعض الأجرة أو أبرأ عن بعض الأجرة جاز بلا خلاف، أما على قول محمد فظاهر، وأما على قول أبي يوسف فلأنه يعتبر هذا خطأ، ويجعل كأن العقد من الابتداء ورد على ما بقي خاصة، ولا كذلك هبة الكل. وإن كانت هذه التصرفات من المؤاجر بعد استيفاء المنفعة أو بعد اشتراط التعجيل جازت بلا خلاف، لأن بعد استيفاء المنفعة، أو بعد اشتراط التعجيل ثبت الوجوب وثبت الملك، فيصح الإسقاط والتمليك على قول أبي يوسف رحمه الله. ذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» : رجل أجر أرضه من رجل بدراهم معلومة وقبض الأجرة، فلم يزرع المستأجر حتى وهب الآجر الأجر للمستأجر ودفعه إليه، ثم انتقضت الإجارة بوجه من الوجوه، فإن للمستأجر أن يرجع على الآجر بما أعطاه الأجر إلا حصة ما مضى من السنة والأرض في يد المستأجر، ولو كان وهب له قبل القبض لم يرجع

بشيء، وإذا تصارف الآجر والمستأجر بالأجرة فأخد بالدراهم دنانير، فإن كان ذلك بعد استيفاء المنفعة أو كانا شرطا التعجيل في الأجرة حتى وجبت الأجرة جازت المصارفة إجماعاً، وإن كان قبل استيفاء المنفعة ولم يشترطا التعجيل فالمسألة على الخلاف، على قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد يجوز، وعلى قول أبي يوسف الآخر لا يجوز، وهذا إذا كانت الأجرة ديناً. فأما إذا كانت الأجرة عيناً فإن كانت بقرة بعينها فأعطاه المستأجر مكانها دنانير لا يجوز سواء كان قبل استيفاء المنفعة أو بعدها، وسواء كان قبل اشتراط التعجيل أو بعده. وجه قوله الأول وهو قول محمد: أن هذه مصارفة بدين واجب حالة المصارفة، وإنه ما يجوز الاستبدال به فيجوز كما بعد استيفاء المنفعة. بيانه: أن المقصود من إضافه الشراء إلى الأجرة وقوع المقاصة من الأجرة وبدل الصرف لا الاستحقاق بعينه، ولن تثبت هذه المقاصة من الأجرة وبدل الصرف إلا بعد اشتراط التعجيل في الأجرة قبل الصرف؛ لأن المقاصة بدل الصرف بدين وجب حكماً بعد عقد الصرف لا يجوز. ألا ترى أن من اشترى ديناراً بعشرة دراهم، ثم إن مشتري الدينار باع من بائع الدينار ثوباً بعشرة دراهم لا تقع المقاصة بين ثمن الثوب وبين بدل الدينار تقاصا أو لم يتقاصا، لأنه دين وجب بعد عقد الصرف، وإذا كان هكذا اقتضت هذه الإضافة اشتراط التعجيل قبل عقد الصرف، فكأنهما اشتراطا التعجيل قبل الصرف ثم تصارفا بخلاف ما إذا كانت الأجرة عيناً؛ لأن أكثر ما في أن يثبت اشتراط التعجيل هناك مقتضى عقد الصرف مع هذا لا تجوز المصارفة؛ لأن الأجرة إذا كانت عيناً كانت مبيعاً، فيصير المستأجر بهذه المقاصة مستبدلاً بالبيع قبل القبض، وإنه لا يجوز، أما إذا كانت الأجرة دنياً في الذمة فالاستبدال به قبل القبض جائز. وجه قول أبي يوسف الآخر: أن هذه مصارفة بدين غير واجب حالة المصارفة؛ لأن الأجرة غير واجبة قبل استيفاء المنفعة وقبل اشتراط التعجيل، وأما ما قال محمد: بأن هذه الإضافة تضمنت اشتراط التعجيل، قلنا: غير المنصوص إنما يجعل منصوصاً لتصحيح أصل لا لإبقاء التصرف على الصحة وهذا لأن لا لإيفاء التصرف على الصحة؛ وهذا لأن جعل غير المنصوص منصوصاً خلاف الحقيقة، وخلاف الحقيقة لا يصار إليه إلا في وضع ورود الاستعمال، والاستعمال ورد في تصحيح أصل التصرف لا في إيفاء التصرف على الصحة. والفقه في ذلك: أن البقاء بيع الأصل والمقتضي يثبت بيعاً فلو أثبت المقتضى لإبقاء العقد على الصحة فقد جعلنا البيع وهو البقاء أصلاً وإنه لا يجوز، إذا قلت هذا فقول المصارفة بالإجارة صحيحة من غير اشتراط التعجيل، وإن لم تكن الأجرة واجبة إذا نفذ ما شرط من الأجرة، وإذا لم ينفذ يبطل العقد بعد الصحة، فلو أثبتنا اشتراط التعجيل، فإنما نثبته بمقتضى بقاء التصرف على الصحة لا يقتضي تصحيح أصل الصرف، وإنه لا يجوز.

فرّع محمد في «الأصل» على مسألة المصارفة فقال إذا وقعت المصارفة بالأجر على نحو ما ذكرنا وقد عقد عقد الإجارة على حمل شيء بعينه بعشرة دراهم، فمات قبل أن يكمل شيئاً أو بعد ما سار نصف الطريق وأجاب بأنه ترد الأجرة كلها على المستأجر إن لم يكن حمل شيئاً وإن سار نصف الطريق رد عليه بنصف الأجر، وذلك جملة دراهم، وهذا التفريع إنما يتأتى على قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد؛ لأنه على هذا القول صح الصرف ووقعت المصارفة بين الأجرة وبدل الصرف، وصار المستأجر موقناً الأجر بالمقاصة فيعتبر بما لو أوفاه باليد ثم انتقضت الإجارة، وهناك يرد الأجر كله على المستأجر إن كان الحمال لم يحمل شيئاً ونصف الأجر إن حمل نصف الطريق كذا هاهنا. أما على قوله الآخر الصرف لم يصح ولم تقع المقاصة، ولم يصر الأجر موقعاً الأجر، فإن مات الحمال قبل أن يحمل شيئاً كان على ورثة الحمال رد الدينار على المستأجر، لأن الحمال قبضه بحكم صرف فاسد، ولا شيء لورثة الحمال من الأجر، وإن مات في نصف الطريق فإن ورثة الحمال قد أوفاه نصف العمل. وفي «نوادر أبي سليمان» عن محمد: رجل أجر أرضه من رجل بألف درهم (17أ4) وقبضها وزرعها أو لم يزرعها فلم تمض السنة حتى أخذ رب الأرض من المستأجر خمسين ديناراً من الأجرة فهو جائز. علل فقال: لأن الإجارة كان أصلها صحيحاً فإن انتقضت الإجارة في شيء من السنة ردت الأرض على المستأجر من الدراهم التي أجرتها الأرض بقدر ما بقي من السنة، ولم يرد من الدينار شيئاً. علل فقال: لأن أصل الصرف كان صحيحاً ووجه ذلك: أن بسبب هذه المصارفة وقعت المقاصة بين الأجر وبين ثمن الدنانير، وصار المستأجر موقتاً الدراهم التي هي أجرة بالدراهم التي هي بدل الدنانير فيعتبر بما لو أوفاها حقيقة، وهناك إذا انقضت الإجارة في شيء من السنة يلزم الآجر رد بعض الدراهم فهاهنا كذلك، وهذا التفريع إنما يتأتى على قول محمد وأبي يوسف الأول، أما لا يتأتى على قوله الأخر هذه المصارفة لم تصح ولا حكم لها أصلاً. وإذا باع بالأجر ثوباً أو طعاماً كان ذلك قبل استيفاء المنفعة وقبل اشتراط التعجيل جاز البيع، لأن البيع بدين ليس بواجب في الحال ولا يجب في الثاني جائز، بأن باع بدين مظنون شيئاً ثم تصادقا على أنه لا دين فإنه يصح البيع، فلأن يصح البيع بالأجرة وإنها تجب في الثاني إن لم تجب في الحال أولى؛ وهذا لأنه ليس المقصود من إضافة البيع إلى الدين وإلى الأجرة استحقاق عينها وإنما المقصود المقاصة من الأجر ومن الثمن متعلق القدر بمثل الأجرة ديناً في الذمة.d وتقع المقاصة بين الأجر والثمن بعد هذا اختلف المشايخ في كيفية وقوع المقاصة، قال بعضهم: يقع الشراء بثمن مؤجل بسبب تأجيل الأجر، فإذا وجب الأجر وحل الإتيان تقاصا.

وقال بعضهم: يقع الشراء بثمن حال ويثبت اشتراط تعجيل الأجر من جانب المستأجر للحال فتقع المقاصة بينهما للحال لا في الثاني. وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا انتقضت الإجارة وبقي الشراء فمن يقول: الشراء يقع بثمن مؤجل لا يكون للمستأجر مطالبة الأجير بالثمن للحال، ومن يقول الشراء يقع بثمن حال يقول: للمستأجر حق مطالبة الأجير بالثمن للحال. وجه القول الأول: أن إضافة الشراء إلى الدين إذا كان دراهم إن لم تكن معتبرة لاستحقاق المضاف إليه بعينه فهو معتبر لتقدير الثمن به قدراً وصفاً، ألا ترى أنه لو أضاف الشراء إلى دراهم عين تعتبر الإضافة لتقدير الثمن به قدراً وصفة، فكذا هاهنا. قلنا: والمضاف إليه الشراء فهو الأجرة في معنى المؤجل فثبت صفة التأجيل في الثمن ثم تقع المقاصة إذا حل الدينار. وجه القول الأخر: أنا لو اعتبرنا هذه في إثبات صفة الأجل يفسد الشراء؛ لأنه يصير مشترياً بثمن يجب في الثاني لا في الحال؛ لأن الأجرة لا تحب في الحال، إنما تجب في الثاني، والشراء بمثل هذا الثمن لا يجوز فتركنا العمل بحقيقة هذه الإضافة، واعتبرنا الإضافة لوقوع المقاصة بينهما للحال بأن يقع الشراء بثمن حال، وثبت اشتراط تعجيل الأجر حتى يجب الأجر للحال، فإن الأجر يجب باشتراط التعجيل بعد الحكم. وإذا أمكننا تصحيح الإضافة على هذا الوجه وفيه جواز العقد اعتبرنا هكذا. قال: فإن أوفاه الحمل والشرط يسلم له ذلك، وإن لم يوفه ذلك لموت حدث أو غير ذلك من عذر فإن المستأجر يرجع على المؤاجر بالدراهم، ولا يرجع بالقرض لأن القرض صار ملكاً للمؤاجر بالشراء والشراء لم ينفسخ بانفساخ الإجارة؛ لأن الشراء ما كان متعلقاً بعين الأجر حتى ينفسخ بسقوط الأجر. وإذا بقى الشراء صحيحاً بعد انفساخ الإجارة لا يكون للمستأجر على المقرض سبيل كما قبل انفساخ الإجارة، ويرجع المستأجر على ورثته بالدراهم لأن المستأجر أوفاه الأجر حكماً للمقاصة فيعتبر بما أوفاه حقيقة هناك لو انتقضت الإجارة قبل إيفاء العمل كان للمستأجر حق الرجوع بالأجر كذا هاهنا. ولو أخذ بالأجرة رهناً أو كفيلاً جاز في قولهم جميعاً، أما على قول محمد: فظاهر، وأما على قول أبي يوسف: فلأن الرهن والكفالة وثيقتان وملائم هذا الدين كما لو رهن بالثمن في البيع المشروط فيها الخيار. قال محمد رحمه الله: وإذا استأجر الرجل داراً بثوب بعينه وسكنها فليس لرب الدار أن يبيع الثوب قبل أن يقبضه، لا من المستأجر ولا من غيره لأنه بمنزلة المبيع، ألا ترى أنه لو هلك قبل أن يدفعا إلى رب الدار انتقضت الإجارة وكان على المستأجر أجر مثلها، وبيع المبيع المنقول قبل القبض لا يجوز. وكذلك كل شيء يتعين بالتعيين، كالعروض والحيوان وغيره، وإن كانت الأجرة شيئاً من المكيل أو الموزون بغير عينه موصوفاً فلا بأس بأن يبيعه قبل أن يقبضه، لأنه ثمن

وهذا إذا وجب بالاستيفاء أو باشتراط التعجيل، وإن اشترى به منه شيئاً بعينه جاز، قبض ذلك في ذلك المجلس أو لم يقبض، وإن اشترى به منه شيئاً بغير عينه لا بد وإن قبض ذلك الشيء في المجلس حتى لا يقع الافتراق عن دين بدين. وإذا استأجر الرجل داراً بعبد بعينه منه وأعتق رب الدار العبد قبل أن يقبض العبد من المستأجر، وقبل أن يسلم الدار إلى المستأجر فعتقه باطلاً؛ لأنه لا ملك له في العبد لا ملكاً تاماً ولا ملكاً موقوفاً بناءً على ما قلنا: أن الأجرة لا تملك إلا باستيفاء المنافع أو بالتعجيل أو باشتراط التعجيل، ولم يوجد شيء من ذلك هاهنا وإن كان رب الدار قد قبض العبد إلا أنه لم يسلم الدار إلى المستأجر بعد حتى اعتق العبد جاز إعتاقه، لأنه ملك العبد بالتعجيل، فالأجرة تملك بالتعجيل فقد أعتق ملك نفسه فينفذ، فإن انهدمت قبل أن يقبضها المستأجر أو عرفت أو استحقت فعلى المعتق قيمة العبد كله؛ لأن المنزل لم يسلم للمستأجر، فيجب على رب الدار رد البدل وهو العبد، وتعذر رده صورة لسبب العتق فيجب رده معنى برد القيمة، وهذا وبيع العين في هذا الحكم على السواء. ومن باع عبداً بثوب وأعتق مشتري العبد العبد وملك الثوب قبل التسليم يجب على معتق العبد رد قيمة العبد وطريقه ما قلنا، ولو سكن المستأجر الدار شهراً وهلك العبد بعد ذلك في يد المستأجر قبل التسليم إلى رب الدار. قال: على المستأجر أجر مثل الدار يعني بحصة الشهر؛ لأن أحد البدلين هلك قبل القبض وهو عين، والبدل الأجر، وهو القيمة قائمة؛ لأنه يجب قيمته على المستأجر رد ما قبض من المنافع بحكم فساد العقد، وتعذر رد عينها فيجب رد قيمتها وقيمة المنافع أجر المثل إلا أنه يجب أجر المثل هاهنا بالغاً ما بلغ حتى إذا كان أجر المثل أكثر مما يخص الشهر من قيمة العبد يجب ذلك كله بخلاف ما إذا كانت الإجارة فاسدة من الابتداء، فإنه لا يراد أجر المثل على ما يخص الشهر من قيمة العبد. والفرق: أن المنافع إنما تتقوم بالعقد، وفي مسألتنا الاستيفاء في الشهر حصل بحكم عقد جائز من كل نوع؛ لأن العقد كان جائزاً حالة الاستيفاء في الشهر، وإنما فسد من بعد، فصار المستوفى متقوماً من كل وجه، فصار ملحقاً بالعين، ومتى وجب رد العين بسبب الفساد وتعذر رد عينه يجب رد قيمته بالغة ما بلغت، فأما إذا كان العقد فاسداً (17ب4) من الابتداء فالعقد وجد من وجه دون وجه، فإنه وجد بأصله لا بوصفه فيثبت التقوم للمنافع من وجه دون وجه فيثبت التقوم بقدر المسمى، ولا يثبت فيما زاد على المسمى، ففيما زاد على المسمى الاستيفاء يكون نص عقد فلا يجب بمقابلة شيء، ثم أوجب قيمة المنافع ولم يوجب قيمة العبد. فرق بين الإجارة وبين النكاح، فإن من تزوج امرأة على عبد وهلك العبد قبل التسليم أو استحق ترجع المرأة على الزوج بقيمة البدل وهو العبد لا بقيمة المبدل وهو منافع بضعها. وفي باب الإجارة قال: متى هلك العبد قبل التسليم فرب الدار يرجع بقيمة المبدل

الفصل الخامس: في الخيار في الإجارة والشرط فيها

وهو المنافع لا بقيمة البدل وهو العبد. والفرق: أن النكاح مما لا يحتمل الفسخ بسبب من الأسباب فلا ينفسخ بهلاك العبد قبل التسليم أو استحقاقه، ففي السبب الموجب لتسليم العبد وهو عاجز عن تسليمه فيجب تسليم قيمته، أما الإجارة تحتمل الفسخ بسائر أسباب الفسخ فتنفسخ بهلاك العبد قبل التسليم واستحقاقه أو يفسد، وإذا انفسخ أو فسد وجب رد المنافع وتعذر ردها صورة فيجب ردها معنى برد قيمتها. الفصل الخامس: في الخيار في الإجارة والشرط فيها ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «الفتاوى الصغرى» : إذا استأجر الرجل رجلاً ما نسيت ديك روبين تشايد ببدل معلوم ففعل ذلك بالعشرة وامتنع عن الباقي، قال: إن كان قد أراه القدور وقت الاستئجار تجبر على الباقي، وإن لم يره لا يجبر؛ لأن في الوجه الأول الإجارة قد صحت، وفي الوجه الثاني لم تصح لجهالة المعقود عليه. وعلى هذا إذا استأجر رجلاً ما مست ريد سحي قالوا ففعل ذلك بالعشرة وامتنع عن الباقي، فهو على الوجهين اللذين ذكرنا. وأصل هذه المسائل ما ذكر محمد في الإجارات: أن من شارط قصاراً على أن يقصر له عشرة أثواب ببدل معلوم ولم يره الثياب، ولم يكن عنده كان فاسداً، وإذا أراه الثياب كان جائزاً، وإذا سمى له جنساً من الثياب. ذكر الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله في «شرحه» : أن هذا نظير ما لم يرها يعني يكون فاسداً، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» : أنه إن بالغ في بيان الصفة على وجه يصير مقدار عمله معلوماً فهو وإن أراه الثياب سواء فيجوز أن يكون ذلك شمس الأئمة في مسألة القدر والرند تنحى، كقوله في القصار فيتأمل عند الفتوى. وفي «نوادر ابن سماعه» : عن أبي يوسف رحمه الله: قصار شارطه رجل على أن يقصر له ثوباً مروياً بينهم ورضي به القصار، فلما رأى القصار الثوب قال: لا أرضى به فله ذلك قال: وكذلك الخياط. والأصل فيه أن كل عمل يختلف في نفسه باختلاف المحل يثبت فيه خيار الرؤية عند رؤية المحل وكل عمل لا يختلف باختلاف المحل لا يثبت فيه خيار الرؤية عند رؤية المحل والقصارة تختلف باختلاف المحل، وكذلك الخياطة فلأجل ذلك أثبتنا خيار الرؤية فيهما. قال: ثمةولو استأجر رجلاً ليكتل له حنطة، فلما رأى الحنطة قال لا أرضى به فليس له ذلك، وكذلك إذا استأجر رجلاً ليحتجم له بدانق، ورضي به فلما كشف عن ظهره قال لا أرضى به فليس له ذلك لأن العمل هاهنا لا يختلف.

ذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» : رجل استأجر رجلاً بدرهم على أن يحلج له قطناً معلوماً وسماه فهو جائز إذا كان القطن عنده، وكذلك إذا قال قصر لي مائة ثوب مروي جاز إذا كانت الثياب عنده، فالأصل أن الاستئجار على عمل في محل هو عنده جائز والإستئجار على عمل في محل ليس عنده لا يجوز، كما لا يجوز بيع ما ليس عنده قال: وهو بالخيار إذا رأى الثياب ولا خيار له في مسألة القطن، وهو بناء على الأصل الذي قلنا. وفي «نوادر هشام» عن محمد: رجل استأجر غلاماً سنة بدار له فاستعمل الغلام ومضت السنة ونظر آجر الغلام إلى الدار ولم يكن رآها فقال لا حاجة لي فيها، قال: له ذلك وله أجر مثل غلامه وفي المسألة نوع إشكال. ووجهه: أن بالرد بخيار الروية ينفسخ العقد من الأصل وتصير المنافع مستوفاة بلا عقد، فكيف يتقوم والجواب أن الانفساخ لا يظهر في حق المستوفى أو نقول المنافع كما تقوم بالعقد تقوم بالشرط وبالرد بخيار الرؤية لا يتبين أن الشرط لم يكن ويثبت خيار العيب في الإجارة، كما في البيع إلا أن في الإجارة ينفرد المستأجر بالرد قبل القبض وبعد القبض وفي البيع ينفرد المشترى بالرد قبل القبض وبعد القبض يحتاج إلى القضاء أو الرضا. وروى إبراهيم عن محمد رجل آجر من آخر داراً أشهراً مسماة ببدل معلوم على أنه بالخيار فيها شهر ودفعها إلى المستأجر فسكنها المستأجر قبل إجازة رب الدار الإجارة فلا أجر عليه فيما سكن، وإنما يجب عليه الأجر فيما يسكن بعد إجازة المالك، وجعل الخيار للإجارة كالمعدوم في حق الحكم، كما في باب البيع. وعن إبراهيم عن محمد أيضاً رجل قال لغيره: استأجرتك اليوم على أن تنقل هذا الليل إلى موضع كذا، وذلك لا ينقل إلا في أيام كثيرة، قال: هذا على اليوم ولا يكون على العمل. والأصل: أن المستأجر متى جمع بين العمل وبين الإضافة إلى الزمان في العقد، ومثل ذلك العمل بما لا يقدر الأجير على تحصيله في ذلك الزمان، كان العقد على الزمان، وكان استحقاق الأجر معلقاً بتسليم النفس في ذلك الزمان؛ لأن الإجارة نوع بيع فيراعى له كون المبيع مقدوراً عليه. وفي «النوازل» : إذا قال لآخر: أجرتك هذه الدار كل شهر بدرهم على أن أهب لك أجر شهر رمضان، أو قال على أن لا أجر عليك في شهر رمضان، فهذه إجارة فاسدة. وفيه أيضاً: أجّر حمّاماً سنة ببدل معلوم على أن يحط عنه أجر شهرين للتعطيل، فالإجارة فاسدة؛ لأن هذا شرط بغير مقتضى العقد؛ لأن مقتضاه لا يلزمه أجرة أيام التعطيل شهراً كان أو أكثر أو أقل فتحكمه بحط أجرة شهرين يخالف مقتضى العقد، حتى لو قال: على أن مقدار ما كان معطلاً فلا أجر عليه فيه يجوز لك هذا، يوافق مقتضى العقد ويقرره. وهو نظير ما قال في «الجامع الصغير» إذا اشترى زيتاً على أن يحط عنه

لأجل الرق خمسون رطلاً لا يجوز، ولو قال على أن يحط مقدار وزن الرق جاز. وفيه أيضاً استأجر حماماً على أنه إن نابته نائبة فلا أجر له، فالإجارة فاسدة قال: لأن النائبة إن عرض أو يعرض له شغل فهذا شرط فاسد هكذا ذكر. ولم يذكر أن الهاء في قوله أن نائبة ضمير الأجير أو ضمير المستأجر فإن كان ضمير المستأجر، فإنما فسدت هذه الإجارة؛ لأنه شرط يخالف موجب العقد؛ لأن موجب العقد وجوب الأجر إذا سلم الأجير نفسه للعمل مرض المستأجر أو لم يمرض؛ لأن ذلك ليس بعذر هاهنا وإن كان ضمير الأجير فإنما فسدت هذه الإجارة؛ لأنه شرط انتفاء الأجر بمطلق المرض أو اعتراض الشغل، وذلك قد لا يعجزه عن العمل، وإن أعجزه فموجبه حق الفسخ لا انتفاء الأجر ابتداء أو إن كان موجبه انتفاء الأجر، ولكن مقصود أمده المرض أو الشغل وهو قد يفي الأجرة مطلقاً بالكلية، فلأجل ذلك فسد العقد. وفيه أيضاً: حانوت احترق، فاستأجره رجل كل شهر بخمسة دراهم، على أن يعمره على أن يحسب صفقة فعمره فهذه الإجارة فاسدة، وإنما فسدت هذه الإجارة؛ لأن هذا في معنى استئجار والمستأجر بالقيام على (18أ4) العمارة فكان إدخال صفقة في صفقة أخرى؛ ولأن شرط العمارة على المستأجر شرط يخالف قضية الشرع؛ لأن إصلاح الملك على المالك فيوجب فساد العقد، فإن سكن المستأجر الحانوت فعليه أجر المثل بالغاً ما بلغ؛ لأن الآجر لم يرض بالمسمى وحده، وللمستأجر النفقة التي أنفقها في العمارة وأجر مثله في قيامه على العمارة لما ذكرنا أن اشتراط العمارة على المستأجر في معنى استئجار المستأجر للقيام عليها أكثر ما فيه أن هذا عقد فاسد، إلا أن المنافع تتقوم بالعقد الفاسد. وفيه أيضاً: خانٌ بعضه خراب وفيه حوانيت عامرة استأجر رجلاً العامرة كل شهر بخمسة عشر، والخراب كل سنة بخمسة على أن يعمر الخراب بما له، ويحسب نفقته من جملة الأجر، فاعلم بأن استئجار الخراب ليعمره وينتفع به بعد ذلك فاسداً، إذا شرط أن تكون العمارة للآجر لما مر وللمستأجر على المؤاجر نفقته، وأجر مثله فيما عمل وللمؤاجر أن يسترد الحوانيت الذي عمرها المستأجر منه لمّا فسدت الإجارة. وأما الحوانيت العامرة فالإجارة فيها جائزة لعدم المفسد. وفيه أيضاً: أجر من آخر مرجلاً شهراً ليطبخ فيه العصير، واشترط على المستأجر أن يحمله إلى منزل المؤاجر عند الفراغ، فالإجارة فاسدة؛ لأن هذا شرط يخالف مقتضى العقد والشرع؛ لأن موجب العقد أن يكون رد المستأجر على الآجر، وهذا الحكم لا يختص بالرجل؛ لأن رد المستأجر على المؤاجر في المواضع كلها على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. فاشتراطه على المستأجر في أي موضع شرط موجب فساد الإجارة، قال: وإن لم يشترط ذلك على المستأجر لا تفسد الإجارة، وإذا فرغ من عمله قبل مضي الشهر فعليه الأجر إلى تمام الشهر، وإن كان استأجر كل يوم بكذا فإذا فرغ من عمله سقط الأجر عنه ردها إلى صاحبها أو لم يردّها؛ لأن العمل على صاحبها عند الفراغ.

وفيه أيضاً: رجل استأجر حياتاً وكيزاناً وقال له المؤاجر: ما لم تردها علي صحيحة، فلي عليك كل يوم درهم فقبضها قال: الإجارة في الحيات فاسدة وفي الكيزان جائزة، يريد به إذا سمى للحيات أجراً معلوماً، وسمي للكيزان أجراً معلوماً فيجب للكيزان المسمى وفي الحيات أجر المثل، وإنما فسدت الإجارة في الحيات؛ لأن لها حمل ومؤنة وما له حمل ومؤنة فاشتراط رده على المستأجر يوجب فساد الإجارة. وأما الكيزان فليس لها حمل ومؤنة فاشتراط ردها على المستأجر لا يوجب فساد الإجارة؛ لأن اشتراط ردها يقع لغواً؛ لأنه لا يجري فيه المماكسة إذا لم يكن له حمل ومؤنة. وقيل: بفساد الإجارة في الكيزان أيضاً لأن رد المستأجر على الأجير على كل حال فاشتراطه على المستأجر اشتراط ما لا يقتضيه العقد ولأحد المتعاقدين فيه منفعة لأنه تجري المماكسة في حمل الكيزان وردها خصوصاً إذا كثرت، وقيل: لا تفسد الإجارة في الكيزان إلا إذا علم أن لها حمل ومؤنة تجري المماكسة في حملها ونقلها. وفي «الأصل» رجل يكاري من رجل داراً منه على أنه بالخيار فيها ثلاثة أيام، فإن رضيها أخذها بمئة درهم وإن لم يرضها أخذها بخمسين درهماً، فذلك فاسد لوجهين: أحدهما أنهما صفقتان في صفقة أو شرطان في عقد واحد، وكل ذلك لا يجوز والثاني أن الأجر مجهول، فإنه مئة إن رضيها وخمسون إن لم يرضها ولا يدري أيرضاها أو لا يرضاها. فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذه المسألة وبينما إذا استأجر منزلاً على أنه إن قعد فيه خياطاً فأجره كل شهر عشرة، وإن قعد فيه حداداً أو قصاراً أو طحاناً فأجر كل شهر عشرون فإن الإجارة جائزة على قول الآجر، وهنا قال: لا يجوز. والفرق: أن هناك الإجارة وقعت على منفعتين مختلفتين، وسمي لكل واحدة بدلاً معلوماً وشرط لنفسه الخيار وهذا جائز في بيع العين، فإنه لو اشترى عبدين على أنه بالخيار، إن اختار هذا أخذه بألفين وإن اختار هذا أخذه بألف فهو جائز، وكذلك في الإجارة فإنه إذا دفع إلى خياط ثوباً على أنه إن خاطه رومياً فله درهم، وإن خاطه فارسياً فله نصف درهم، فذلك جائز فكذا هاهنا. أما في هذه المسألة أوقع العقدين على صفقة واحدة ببدلين مختلفين على أنه بالخيار. ومثل هذا لا يجوز في بيع العين فإنه لو اشترى عبداً على أنه بالخيار إن رضيه أخذه بألف درهم وإن لم يرضه أخذه بخمسمئة كان العقد فاسداً، فكذا في بيع المنفعة فإن سكنها وجب عليه أجر المثل في ثلاثة أيام، وبعد ثلاثة أيام أما بعد ثلاثة أيام فلأنه سكنها بحكم العقد، وأما في ثلاثة أيام؛ فلأن الفاسد من المعقود معتبر لتصبح الإجارة صحيحة، وللمستأجر فيه خيار إذا سكنها في الأيام الثلاثة وجب عليه الأجر وكانت السكنى منه دليل الاختيار كذا إذا كان فاسداً ولا يضمن ما انهدم من سكناه لا في مدة

الخيار، ولا بعد مضي مدة الخيار وليس لأحدهما فيه خيار الشرط فكان معتبراً بالصحيح من الإجارة التي ليس لأحد فيها خيار ولا يضمن ما انهدم من سكناه في مدة الخيار لأن الفاسد من المعقود معتبر بالصحيح. ولو كانت الإجارة جائزة والخيار فيها للمستأجر إذا سكن في مدة الخيار وانهدم الدار من سكناه لم يضمن؛ لأن بالسكنى سقط خياره وملكا عندهم جميعاً فصار مستوفياً بحكم الإجارة فلم يضمن ما انهدم من سكناه فكذلك هذا. كما في بيع العين إذا كان المشتري بالخيار وقبض ما اشترى وهلك شيء مما في يده لزمه البيع، وكان عليه الثمن كذا هاهنا وهذا بخلاف ما لو كان الخيار مشروطاً لصاحب الدار، فإنه يضمن المستأجر قيمة ما انهدم من سكناه في مدة الخيار، كما في بيع العين إذا هلك شيء في يد المشتري وكان الخيار للبائع، فإنه يضمن قيمة ذلك كما لو كان غاصباً فكذلك هذا. وإن قال: لنا بالخيار ثلاثة أيام فإن رضيتها أخذتها بمئة درهم كانت الإجارة جائزة، لأن البدل معلوم إلا أنه شرط فيها خيار وصار الشرط مما لا يفسد عقد الإجارة عندنا. وقال الشافعي: بأنه يفسدها وذهب في ذلك إلى أن خيار الشرط في الإجارة يجعل الإجارة بمعنى المضاف؛ لأن الخيار متى سقط لا يقع الملك من وقت العقد؛ لأن ما وجد من المنافع في مدة الخيار بثلاث، وإنما يقع من حين سقوط الخيار فيصير بمعنى المضاف ومن مذهبه أن إضافة الإجارة إلى وقت أبي لا يجوز بخلاف البيع؛ لأن البيع قائم وقت سقوط الخيار، فلا يصير بمعنى المضاف. وعلماؤنا رحمهم الله ذهبوا في ذلك إلى أنه من كأنه يصير بمنزلة المضاف إلى وقت سقوط الخيار إلا أن إضافة الإجارة إلى وقت أبي جائز عندنا؛ لأن الإجارة مما يتحدد انعقادها على حسب حدوث المنافع في نفسها فيصير مضافاً من حيث الاعتبار فتصير المسألة على هذا فرعاً لتلك المسألة، فإن سكنها في ثلاثة أيام فقد لزمته الإجارة وكان عليه أجر ما سكن ولا ضمان عليه فيما انهدم قالوا: أورد هذه المسألة عقيب الأولى ليثبت حكم إجارة صحيحة شرط فيها الخيار للمستأجر حتى يعتبر الفاسد به رجل استأجر ثوراً من رجل ليطحن عليه كل يوم عشرين قفيراً فوجده المستأجر لا يطحن إلا عشرة أقفرة كان المستأجر بالخيار، وإن شاء رضي به كذلك وإن شاء رد؛ لأنه لم يسلم له شرط منتفع به فيتخير. كما لو اشترى عبداً على أنه كاتب أو خباز فوجده غير كاتب وغير خباز فإن (18ب4) رضي به لزمه أجر كل يوم بتمامه كما في بيع العين إذا رضى بالعبد كذلك غير كاتب وغير خباز لزمه جميع الثمن، وإن كان عليه أجر اليوم الذي استعمله بتمامه ولا يحط عنه شيء بسبب النقصان عن العمل؛ لأن الإجارة وقعت على الوقت، ولهذا يستحق الأجر وإن لم يطحن عليها شيئاً وكان ذكر المقدار لبيان قوة الدابة ومبلغ عمله لا لتعليق

الفصل السادس: في الإجارة على أحد الشرطين أو على الشرطين أو أكثر

به، وإذا كان العقد واقعاً على الوقت لا على العمل يوزع الأجر على الأيام لا على العمل فلزمه أجر اليوم الذي استعمله بتمامه.h الفصل السادس: في الإجارة على أحد الشرطين أو على الشرطين أو أكثر الأصل إن الإجارة إذا وقعت على أحد شيئين وسمى لكل واحد أجراً معلوماً بأن قال: أجرتك هذه الدار بخمسة أو هذه الأخرى بعشرة أو كان هذا القول في حانوتين أو عبدين أو بستانين مختلفتين نحو أن يقول: إلى واسط بكذا أو إلى الكوفة بكذا، فذلك كله جائز عند علمائنا. وكذلك إذا خيره بين ثلاثة أشياء وإن ذكر أربعة أشياء لم يجز، وكذلك هذا في أنواع الصبغ والخياطة إذا ذكر ثلاثة جاز، فإن زاد عليها لم يجز استدلالاً بالبيع؛ وهذا لأن عقد الإجارة تسامح فيها من يحمل الجهالة والخطر ما لا يتحمل في البيع، فإذا جاز في البيع إلى ثلاثة فلأن يجوز في الإجارة أولى. إلا أن فرق ما بين الإجارة والبيع أن الإجارة تصح من غير شرط الخيار والبيع لا يصح من غير شرط الخيار، حتى إن من باع أحد العينين لا يجوز إلا بشرط الخيار وإجارة أحد الشيئين يجوز من غير شرط الخيار. والفرق: أن الأجرة لا تجب بنفس العقد وإنما تجب بالعمل فإذا أخذ في أحد العملين صار البدل معلوماً عند وجوبه بخلاف البيع؛ لأن الثمن يجب بنفس العقد وإنه مجهول أو نقول عقد الإجارة في حق المعقود عليه كالمضاف، وإنما ينعقد عند إقامة العمل وعند ذلك لا جهالة بخلاف البيع؛ لأن عقد البيع لازم في الحال وفي الحال الجهالة مستحقة ولو قال للخياط إن خطته فارسياً فلك درهم وإن خطته رومياً فلك درهمان، أو قال للصباغ: إن صبغته بعصفر فلك درهمان وإن صبغته بزعفران فلك درهم فهذا جائز، لما ذكرنا أن الأجرة حال وجوبها تصير معلومة. ولو قال: أجرتك هذه الدار على أنك إن قعدت فيها حداداً فالأجر عشرة، وإن قعدت فيها خياطاً فالأجر خمسة جاز في قول أبي حنيفة الآجر، وقال أبو يوسف ومحمد الإجارة فاسدة لأن الأجر هاهنا لا يجب بالسكنى بل بالتخلية. ألا ترى أنه لو لم يسكن الدار بعدما خل الآجر بينه وبين الدار يجب الأجر بالتخلية كان الأجر مجهولاً وقت الوجوب؛ لأنه لا يدري أن التخلية وقعت للحدادة فيجب عشرة أو للخياطة فيجب خمسة بخلاف الرومي والفارسي؛ لأن هناك الأجر لا يجب إلا بالعمل والعمل بعد وجوده معلوم في نفسه فكان الأجر معلوماً حالة الوجوب. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: على قوله الآخر الأجرة لا تملك بنفس العقد عندنا، وإنما تملك بالعمل وحالة العمل الأجرة معلومة. وعلى هذا إذا أجر دابة من إنسان إلى

مكان معلوم على أنه إن حمل عليها حنطة فالأجر عشرة وإن حمل عليها شعيراً فالأجر خمسة جاز في قول أبي حنيفة الآخر خلافاً لهما. وعلى هذا إذا استأجر دابة إلى مكان معلوم على أنه إن حمل عليها هذه الحمولة فالأجر عشرة وإن ركبها فالأجر خمسة فالعقد جائز في قول أبي حنيفة خلافاً لهما مما قالا، بأن الأجر قد يجب بدون الركوب. ألا ترى أنه لو ساقها ولم يركبها وقد شرط في العقد الركوب يجب الأجر، وكذلك إذا ساقها ولم يحمل عليها وقد شرط في العقد الحمل يجب الأجر، فإذا ساقها وقد شرط في العقد ما وضعت لك من الركوب أو الحمل لا يدري ما يعطيه من الأجر، ولأبي حنيفة رحمه الله ما ذكرنا أن الأجر لا يجب بنفس العقد وإنما يجب بالعمل وحال وجوده الأجر معلوم. واختلفت عبارة المشايخ على قول أبي حنيفة في تخريج مسألة الدابة والدار إذا سلم الدار ولم يسكن وإذا سلم الدابة ولم يحمل عليها شيئاً ولم يركبها. بعضهم قالوا: يجب أقل المسميين؛ لأن التسليم لا يكون لهما وإنما يكون لأحدهما فمتى جعلناه للخياطة أو للشعير أو للركوب فالخمسة واجبة، ومتى جعلناه للحدادة أو للحنطة أو للحمل، فالعشرة واجبة والخمسة منتفية، وما زاد عليها مشكوك والمال لا يجب بالشك. وإذا كان كذلك كان موجب هذا العقد خمسة متى وجب الأجر بالتسليم بدون العمل، والمسمى بمقابلة كل منفعة إن وجد استيفاء المنفعة وكل ذلك معلوم حالة الوجوب. وبعضهم قالوا: إذا وجد التسليم ولم يوجد استيفاء المنفعة يجعل التسليم لهما إذ ليس أحدهما بأن يجعل التسليم له بأولى من الآخر فيجعل النصف لهذا والنصف للآخر فيجب نصف أجر الحدادة ونصف أجر القصارة ونصف أجر الحمل ونصف أجر الركوب، إذا وجب هكذا صار موجب هذه الإجارة سبعة ونصف متى وجب الأجر بالتسليم بدون استيفاء المنفعة، وإن وجد استيفاء المنفعة يجب المسمى بمقابلة تلك المنفعة وكل ذلك معلوم حالة الوجوب. قال في «الجامع الصغير» : إذا استأجر من آخر دابة إلى الحيرة بنصف درهم، فإن جاوزتها إلى القادسية فدرهم فهو جائز، ذكر المسألة مطلقة من غير ذكر خلاف، فيحتمل أن يكون هذا قول الكل ويحتمل أن يكون قول أبي حنيفة خاصة كما في المسائل المتقدمة. وذكر الكرخي مثل هذه المسألة وفصّل الجواب فيها تفصيلاً. وصورة ما ذكر الكرخي: إذا استأجر دابة من بغداد إلى القصر بخمسة وإلى الكوفة بعشرة، فإن كانت المسافة إلى القصر نصف المسافة إلى الكوفة فالعقد جائز وإن كان قأل أو أكثر فالعقد فاسد، وهذا لأن المسافة إلى القصر إذا كانت نصف المسافة إلى الكوفة فحال ما يسير فالأجر معلوم، وهو خمسة إلى القصر جاوز القصر أو لم يجاوز، فأما إذا

كانت المسافة إلى القصر أقل من النصف أو أكثر فحال ما يسير الأجر مجهولاً؛ لأنه إذا لم يجاوز القصر فالأجر خمسة وإن جاوز فالأجر إلى القصر بقدر حصته وذلك دون الخمسة أو فوقها فكان الأجر مجهولاً حال سبب الوجوب، وهذا على «أصل» محمد؛ لأن عنده جهالة الأجر عند وجود سبب الوجوب يفسد العقد، فأما على أصل أبي حنيفة رحمه الله فالعقد جائز والوجه ما ذكرنا. وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» : أن من أجر دابة على أنه إن أتى عليها الكوفة فبعشرة وإن أتى القصر وهو المنتصف فبخمسة فهو جائز قال: وإن قال: وإن القصر وهو المنتصف فبستة لا يجوز قال: لأنه إذا أتى القصر لا يدري ما عليه ست أو خمسة. كتب ابن سماعة إلى محمد رحمه الله: في رجل استأجر رجلاً على عدل قطن وعدل هروي وقال احمل أي هذين العدلين شئت إلى منزلي على أنك إن حملت القطن فلك أجر درهم، وإن حملت الهروي فلك أجر درهمين، فحمل الهروي والقطن جميعاً إلى منزله فالإجارة جائزة، وأيهما حمل أول مرة فهو الذي ألقاه الإجارة وهو متطوع في حمل الآخر ضامن له إن ضاع في قولهم جميعاً؛ وهذا لأن الإجارة وقعت في أحدهما لا بعينه فإذا حمل أحدهما بعين هو معقوداً عليه وانتهت الإجارة بحمله فيكون متطوعاً في حمل الآخر ضرورة، وهو ضامن للآخر إن ضاع في يده؛ لأن حمل الآخر حصل بغير إذن وإن حملهما جملة فعليه نصف أجر كل واحد منهما وعليه ضمان نصف كل واحد منهما عند أبي حنيفة إن ضاعا واشترك كل واحد منهما عند أبي حنيفة إن ضاعا واعتبر كل واحد منهما معقوداً عليه من وجه دون وجه ونصف الحملان عنده. ألا ترى كيف ينصف الأجر بلا خلاف. وعلى قولهما خمنهما إن ضاعا؛ لأنه انعقد سبب الضمان على حق كل واحد منهما وهو القبض في أوانه. (19أ4) وفي «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله: إذا قال لغيره: إن حملت هذه الخشبة إلى موضع كذا فلك درهم، وإن حملت هذه الخشبة الأخرى إلى ذلك الموضع فلك درهمان، فحملهما حملة إلى ذلك الموضع، فله درهمان أوجب أكثر الأجرين بكماله وإنه يخالف رواية ابن سماعة في العدلين. ولو قال للخياط: إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك نصف درهم، فالشرط الأول صحيح في قول أبي حنيفة رحمه الله، حتى إنه لو خاطه في اليوم الأول وجب له درهم والشرط الثاني فاسد حتى لو خاطه في اليوم الثاني يجب أجر المثل. وقال أبو يوسف ومحمد: الشرطان جائزان حتى لو خاطه في اليوم الأول فله درهم ولو خاطه في اليوم الثاني فله نصف درهم. وقال زفر رحمه الله: الشرطان باطلان هكذا ذكر المسألة في «الجامع الصغير» . وذكر في إجازات «الأصل» : إذا دفع الرجل إلى رجل ثوباً ليخيطه له قميصاً وقال له: إن خطته اليوم فلك درهم وإن لم تفرغ منه اليوم فلك نصف درهم، وذكر الخلاف على نحو ما ذكر في «الجامع الصغير» حكي عن الفقيه أبي القاسم الصفار أنه قال:

الصحيح موضوع ما ذكر في «الجامع الصغير» أما على ما هو موضوع كتاب الإجارات ينبغي أن تفسد الإجارة في اليوم والغد جميعاً بلا خلاف. ووجه ذلك، لأن هذا عقد واحد شرط فيه شرط فاسد ومثل هذا الشرط لا يوجب فساد الإجارة. بيانه: أن قوله وإن لم تفرغ منه اليوم ليس بإجارة على حدة لأنه مما لا تبتدأ به الإجارة فتكون شرطاً مشروطاً في الإجارة المضافة إلى اليوم، وإنه شرط فاسد؛ لأنه يوجب تغير الأجر الواجب في اليوم إلى النقصان؛ لأنه متى خاط نصف الثوب في اليوم مثلاً يجب نصف الأجر قضية للعقد المضاف إلى اليوم، وإذا لم يخط الباقي اليوم يصير أجر ذلك النصف ربعاً بعد أن كان نصفاً. فهو معنى قولنا هذا عقد واحد فيه شرط فاسد بخلاف قوله: إن خطته اليوم فلك درهم، وإن خطته غداً فلك نصف درهم؛ لأنهما إجارتان؛ لأن قوله وإن خطته غدا مما تبتدأ به الإجارة لم يشترط في أحدهما شرط فاسد فعلم أن الصحيح موضوع ما ذكر في «الجامع الصغير» فرق أبو حنيفة بين هذه المسألة. وبينما إذا قال له: إن خطته تركية أو رومية فلك درهم وإن خطته فارسية فلك نصف درهم، فإن هناك يجوز الشرطان بلا خلاف. والفرق: أن في مسألة اليوم والغد علقا استحقاق نصف درهم بفوات العمل في اليوم وموجود العمل في الغد؛ لأن كلمة إن للشرط وتعليق الأجرة بالعمل في الغد إن كان يصح؛ لأنه تعليق البدل بإيفاء المعقود عليه فتعليقها بفوات العمل لا يصح كتعليقها بشرط آخر، فأما في اليوم استحقاق الأجرة معلق بإيفاء المعقود عليه، وهذا لا يوجب فساد العقد وفي التركية والفارسية ما علق الأجر بفوات شيءولا بوجوده فإنه يقدر أن يشتغل للحال بأي عمل شاء فيصير الأجر معلوماً. أما في المسألة اليوم والغد لا يقدر أن يشتغل بالعمل في الغد، إلا بفوت اليوم وفوات العمل في اليوم فيتعلق استحقاق نصف درهم بالشرط فيفسد العقد، فيجب أجر المثل في اليوم الثاني فإن خاطه في الغد فله أجر مثله لا يزاد على درهم ولا ينقص من نصف درهم فهذا يشير إلى أنه يجوز أن يراد على نصف درهم، وهو رواية الأصل «والجامع الصغير» . وروى ابن سماعه عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أن له أجر مثله لا يزاد على نصف درهم، فصار عن أبي حنيفة في المسألة روايتان وصحح القدوري رواية ابن سماعه، ولو خاطه في اليوم الثالث فله أجر مثله في قولهم، واختلفت الروايات عن أبي حنيفة رحمه الله في ذلك روي عنه أنه لا يزاد على درهم ولا ينقص من نصف درهم وروي عنه رواية أخرى أنه لا يجاوز به نصف درهم وينقص عن نصف درهم إن كان أجر مثله أقل من نصف درهم. واختلفت الروايات في ذلك عنهما أيضاً قال القدوري: في «شرحه» والصحيح عندهما أنه ينقص عن نصف درهم ولا يزاد عليه، ولو قال إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلا أجر لك.

قال محمد في «الأصل» : إن خاطه في اليوم الأول فله درهم وإن خاطه في اليوم الثاني فله أجر مثله لا يزاد على درهم في قولهم جميعاً؛ لأن إسقاط الأجر في اليوم الثاني لا ينفي وجوبه في اليوم الأول ونقي التسمية في اليوم الثاني لا ينفي أصل العقد، فكان في اليوم الثاني عقد لا تسمية فيه فيجب أجر المثل هذا الذي ذكرنا إذا جمع بين الأمرين، فأما إذا أفرد العقد على اليوم بأن قال: أن خطته اليوم فلك درهم ولم يزد على هذا فخاطه في الغد، هل يستحق الأجر لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في شيء من الكتب. وكان الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله يقول: إن على قولهما يستحق أجر المثل متى خاطه في الغد بلا شبهة وبمثل؛ لأن ذكر اليوم عندهما حالة الانفراد للاستعجال لا للتوقيت، ولهذا صحت هذه الإجارة عندهما حالة الانفراد عل ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وإذا كان ذكر الوقت حالة الانفراد عندهما للاستعجال لا للتوقيت، كان العقد ثابتاً في الغد على قولهما بلا بمثل فيكون عاملاً بحكم الإجارة فيستحق الأجر إلا أنه يستحق أجر المثل دون المسمى؛ لأن المستأجر إنما شرط له الدرهم بأداء خياطة معجلة في اليوم، وقد أتى بخياطة مؤجلة والخياطة المؤجلة أنقص عن الخياطة المعجلة من حيث المعنى، فكأنه أتى بما لقرنه في الغد ولكن خالفه في صفة من أوصاف ما لقرن ولو كان كذلك كان لصاحب الثوب أن يعطيه أجر المثل دون المسمى حتى يدفع ضرر النقصان عن نفسه كذا هاهنا. وأما على قول أبي حنيفة: فلقائل أن يقول: بأنه لا أجر له متى عمل في الغد؛ لأن أبا حنيفة رضى الله عنه يجعل ذكر العمل اليوم للتوقيت حالة الانفراد حتى قال بفساد هذه الإجارة لأنه باعتبار التوقيت تكون الإجارة منعقدة على تسليم النفس في المدة وباعتبار ذكر العمل تكون الإجارة منعقدة على العمل، فيصير المعقود عليه مجهولاً. وإذا ثبت هذا من مذهبه حالة الانفراد فيقول بأحد الاعتبارين وهو اعتبار العقد على العمل يجب الأجر إذا عمل في الغد، وباعتبار الأجر وهو التأقيت لا يجب الأجر؛ لأنه لم يبق العقد وأنه لم يكن واجباً فلا يجب بالشك والاحتمال ولقائل أن يقول: بأن عليه الأجر؛ لأن العقد منعقد في اليوم أي الأمرين ما اعتبرنا إلا أن بأحد الاعتبارين يبقى في الغد، وباعتبار الآخر لا يبقى والعقد كان ثابتاً فلا يرتفع بالشك وإذا نفي العقد كان قابلاً في الغد بحكم العقد، إلا أنه يجب أجر المثل؛ لأن العقد في الغد يبقى بوصف الفساد؛ لأنه يبقى من وجه دون وجه، ومثل هذا يوجب فساد العقد كما في بيع المقايضة إذا هلك أحد البدلين فإنه يبقى العقد ولكن وصف الفساد كذا هاهنا فكأن المنافع في الغد مستوفاة بحكم عقد فاسد، فيجب أجر المثل. ومما يتصل بهذا الفصل إذا جمع في عقد الإجارة بين الوقت والعمل.

قال محمد رحمه الله: في «الجامع الصغير» : رجل استأجر خبازاً ليخبز له هذه المحاسم دقيق هذا اليوم بدرهم فهو فاسد. وفي إجارات «الأصل» عن أبي يوسف ومحمد أنه جائز هما يقولان تصحيح العقود واجب ما أمكن وقد أمكن بأن يجعل العقد واقعاً على العمل وهو الخبز فيكون أجير مشترك، وهذا لأنه أوقع العقد على العمل ابتداء وقوله اليوم وإن كان ذكر الوقت إلا أنه يحتمل أنه أراد به إيقاع العقد على المنفعة فيكون أخر وحل فيفسد العقد لجهالة المعقود عليه، وتحمل أنه قصد بذكر الوقت الاستعجال لا إيقاع العقد على المنفعة فيبقى أجير مشترك فيصح العقد (19ب4) فيحمل ذكر اليوم على سبيل الاستعجال تصحيحاً للعقد بقدر الممكن. وأبو حنيفه رحمة الله عليه يقول: المعقود عليه مجهول وجهالة المعقود عليه تمنع جواز العقد. بيانه: إن ذكر الوقت يدل على أن المعقود عليه المنافع إذ الوقت يختص بتقدير المنافع، وذكر العمل في الابتداء يدل على أن المعقود عليه العمل والجمع بينهما غير ممكن؛ لأن العمل متى جاز معقوداً عليه لا يجب إلا بالعمل ومتى صار المعقود عليه المنفعة يجب الأجر بتسليم النفس وأغراض الناس مختلفة فيجهل المعقود عليه وإنه يوجب فساد العقد. وقولهما: بأن ذكر الوقت للتعجيل فيه نظر؛ لأن أغراض الناس ورغباتهم مختلفة قد يكون الغرض إيقاع العقد على المنفعة فلا يترجح أحدهما مع المماثلة في النوعية من غير دليل. وفي إجارات «الأصل» : إذا استأجر الرجل من آخر ثوراً يطحن عليه كل يوم عشرين قفيزاً فهذه الإجارة جائزة، ولم يذكر فيها خلافاً فمن مشايخنا، من قال: هذا الجواب يجب أن يكون قولهما، أما على قول أبي حنيفة ينبغي أن تفسد الإجارة على قياس مسألة الخبز؛ لأنه جمع بين الوقت والفعل في المسألتين جميعاً فكان المعقود عليه محهولاً. ومنهم من قال: لا بل هذه الإجارة جائزة على قول الكل فهذا القائل يحتاج إلى الفرق لأبي حنيفة رحمه الله بين هذه المسألة وبين مسألة الخبز. والفرق هو: أن ذكر مقدار العمل في باب الطحن في العرف والعادة لا يكون لتعليق العقد بالعمل حتى يصير العمل معقوداً عليه مع الوقت، فيوجب فساد الإجارة للجهالة، وإنما يكون لبيان قوة الدابة ومبلغ عمله، وإذا كان لهذا يذكر في العرف والعادة بقيت الإجارة على الوقت، فجاز عندهم جميعاً، فأما في الخباز مقدار العمل لا يذكر عرفاً وعادة لبيان قوة الخباز ومبلغ عمله، وإنما يذكر لتعليق العقد بالعمل وصيرورته معقوداً عليه، فيصير جامعاً بين الوقت والعمل، فيصير المعقود عليه مجهولاً فأوجب فساده حتى أن في مسألة الخباز لو كان يذكر مقدار العمل لبيان قوة الخباز ومبلغ عمله، تقول بجواز الإجارة على قول أبي حنيفة وفي مسألة الطحن لو كان يذكر مقدار العمل لتعليق العقد به

نقول بأنه لا تجوز الإجارة على قول أبي حنيفة. وفي «الأصل» أيضاً: لو شرط على الخباز أن يخبز له هذه العشرة المحاسم دقيق، وشرط عليه أن يفرغ منه اليوم تجوز هذه الإجارة عندهم جميعاً. وإن ذكر الوقت والعمل فأبو حنيفة رحمه الله يحتاج إلى الفرق بين هذه المسألة وبين المسألة الأولى. والفرق: أن في مسألة الفراغ اليوم ما ذكر مقصوداً وإنما ذكر الإثبات صفة في العمل وهو الفراغ منه في اليوم وصفة العمل تبع للعمل لا يصلح معقوداً عليه مقصوداً فكذا ما ذكر لأجله من اليوم لا يصلح معقوداً عليه مقصوداً فيعين العمل معقوداً عليه فجاز. بمنزلة ما لو اشترى عبداً على أنه كاتب أو خباز فإن الكتابة والخبازة لا تجعل معقوداً عليه مقصوداً حتى لا يكون بإزائها ثمن؛ لأنها ذكرت صفة للعبد فكانت تبعاً فكذا هاهنا فأما في تلك المسألة اليوم لم يذكر لإثبات صفة في العمل فكان مذكوراً مقصوداً كالعمل، وقد أضيف العقد إليهما إضافة على السواء ليس أحدهما بأن يجعل معقوداً عليه بأولى من الآخر فيصير المعقود عليه مجهولاً. قال في «الأصل» أيضاً: وإذا دفع الرجل عبده إلى حائك يعلمه النسيج وشرط عليه أن يحدقه في ثلاثة أشهر بكذا وكذا، فهذا لا يجوز؛ لأن التحديق ليس في وسعه وكان ينبغي أن يجوز هذا العقد على قولهما، وإن لم يكن التحديق في وسعه؛ لأن العقد وقع على المدة كما لو استأجره يوماً ليبيع ويشتري، فإنه يجوز وإن لم يكن ذلك في وسعه؛ لأن العقد وقع على المدة. والجواب وهو الأصل من جنس هذه المسائل عندهما أن العقد على المدة، إنما يصح عندهما إذا ذكر مع المدة نوعاً من العمل معلوماً في نفسه كما في البيع والشراء، فإنه معلوم في نفسه إلا أنه من غير ذكر المدة لا يجوز العقد؛ لأن من غير ذكر المدة العقد يقع على العمل، والعمل ليس في وسعه، وإذا ذكر المدة فالعقد يقع على تسليم النفس في المدة لهذا العمل، وذلك في وسعه. قلنا: والتحديق ليس بمعلوم في نفسه؛ إذ ليس له حد يعرف به لا للأقصى ولا للأدنى وإذا لم يكن معلوماً في نفسه صار ذكره والعدم بمنزلة، ولو انعدم ذكر العمل أليس أنه لا تجوز الإجارة. والأصل عند أبي حنيفة: أنه إذا جمع بين الوقت والعمل في عقد الإجارة إنما يفسد العقد إذا ذكر كل واحد منهما على وجه يصلح معقوداً عليه حالة الانفراد الوقت والعمل، أما إذا ذكر العمل على وجه لا يجوز إفراد العقد عليه لا يفسد العقد.

بيانه فيما ذكر في آخر باب إجارة البناء: إذا تكارى رجل رجلاً يوماً إلى الليل ليبني له بالجص والآجر جاز بلا خلاف، وإن جمع بين الوقت والعمل؛ لأنه ما ذكر العمل على وجه يجوز إفراد العقد عليه، فالعقد انعقد على المدة وكان ذكر البناء لبيان نوع العمل حتى لو ذكر العمل على وجه يجوز إفراد العقد عليه، بأن بين مقدار البناء لا تجوز الإجارة عند أبي حنيفة. وفي آخر إجارات «الأصل» إذا استأجر الرجل رجلاً كل شهر بدرهم على أن يطحن له كل يوم قفيزاً إلى الليل فهو فاسد، ذكر المسألة من غير ذكر خلاف وهذا الجواب مستقيم على قول أبي حنيفة؛ لأنه جمع بين الوقت وبين العمل وكل واحد منهما يصلح معقوداً عليه حالة الانفراد مشكل على قولهما، فقد ذكرنا قبل هذا في جنس هذه المسألة أن على قولهما العقد جائز.m فمن مشايخنا من قال بهذه المسألة ثبت رجوعهما إلى قول أبي حنيفة إذ لا يتضح الفرق بين هذه المسألة وبين تلك المسائل، ومنهم من قال: ما ذكر في هذه المسألة قياس قولهما، وما ذكر فيما تقدم استحسان على قولهما، إذ لا فرق بين هذه المسألة وبين تلك المسائل والله أعلم. قال محمد رحمه الله في «إملائه» : قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا اكترى إبلاً إلى مكة على أن يدخله إلى عشرين ليلة كل بعير بعشرة دنانير، ولم يزد على هذا فالإجارة جائزة فإن وفى بالشرط أخذ الأجر الذي شرط وإن لم يفي بالشرط فله أجر مثله لا يزاد على ما شرط له، وهو قول أبي يوسف ومحمد. وروى بشر عن أبي يوسف: في الرجل يستأجر الدابة إلى الكوفة أياماً مسماة أو قال استأجرتك اليوم لتخيط هذا القميص، فالعقد فاسد في رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة تخالف رواية محمد عنه. قال الكرخي: وليس في المسألتين اختلاف الرواية، وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع موضوع رواية محمد أنه ابتدأ بذكر العمل والمسير فيكون المقصود هو العمل وذكر المدة بعد ذلك للاستعجال، فكان المعقود عليه معلوماً وهو العمل فيجوز على قول أبي حنيفة رحمه الله فبعد ذلك إذا عجل فقد وفى بالشرط فاستحق المسمى، وإذا لم يعجل فلم يف بالشرط فيجب أجر المثل وموضوع رواية محمد أنه ذكر المدة أولاً فعلم أن المدة مقصودة بالعقد، وذكر العمل وأنه يصلح مقصوداً أيضاً فكان المعقود عليه مجهولاً عند أبي حنيفة فلم يجز. وقد ذكرنا في أول هذا الفصل مسألة «الجامع الصغير» : وهي ما إذا استأجر خبازاً ليخبز له هذه العشرة المحاسيم دقيق هذا اليوم أنه فاسد على قوله، وإن ابتدأ بذكر العمل، فعلم أن ما ذكره الكرخي ليس بصحيح، وأن في المسألة روايتين على قول أبي حنيفة. وقد قيل: الفتوى على قول أبي حنيفة على الفساد سواء ابتدأ بذكر المدة أو بذكر

الفصل السابع: في إجارة المستأجر

العمل إذا لم يتم العقد على المذكور أولاً، بأن لم يذكر الأجر معه، فأما إذا تم العقد على المذكور أولاً بأن ذكر الأجر معه، ثم ذكر الثاني لا يفسد العقد عند أبي حنيفة سواء ابتدأ بذكر العمل أو بذكر المدة، (20أ4) . وصورة ذلك إذا قال للخباز: استأجرتك اليوم بدرهم على أن تخبز لي كذا، أو قال: استأجرتك على أن تخبز لي كذا بدرهم اليوم، فهذه الإجارة جائزة عند أبي حنيفة في الوجهين جميعاً، ولو قال: استأجرتك اليوم على أن تخبز لي كذا بدرهم، أو قال: استأجرتك على أن تخبز اليوم كذا بدرهم فهذه الإجارة عند أبي حنيفة لا تجوز في الوجهين جميعاً؛ وهذا لأنه إذا لم يذكر الأجر مع الأول وإنما ذكر الأجر بعد ذكرهما فقد قابل الأجرتين كل واحد منهما يصلح معقوداً عليه وليس أحدهما بأولى من الآخر، فكان المعقود عليه مجهولاً يفسد العقد عنده، وأما إذا ذكر الأجر مع الأول، فقد تم العقد وتعين الأول مراداً من العقد بتمام العقد فالثاني لا يصلح من إجماله، ويكون ذكر الثاني إما لتعيين العمل أو للتعجيل فلا يفسد العقد عنده. وروى محمد عن أبي حنيفة: أنه إذا قال: في اليوم تجوز كيف ما كان بخلاف ما إذا قال: اليوم، وهذا لأن بقوله في اليوم يظهر أن مراده من ذكر المدة للاستعجال؛ لأن في الظرف والمظروف قد يستعمل جزءاً من الظرف لا جميعه، فلم يصلح ذكر اليوم مع حرف في تقدير العمل به. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا تقبل الرجل من رجل طعاماً على أن يحمله من موضع إلى موضع إلى اثنى عشر يوماً بكذا، فلم يحمله في اثنى عشر يوماً بل حمله في أكثر من ذلك قال: لا يلزمه الأجر، كمن استأجر رجلاً على أن يخيط ثوبه في يومه بدرهم فخاطه في الغد، وهذا الجواب مستقيم على قول أبي حنيفة غير مستقيم على قولهما؛ لأن من أصلهما: أن العقد في مثل هذا يقع على العمل دون الوقت. الفصل السابع: في إجارة المستأجر قال محمد رحمه الله: وللمستأجر أن يؤاجر البيت المستأجر من غيره، فالأصل عندنا: أن المستأجر يملك الإجارة فيما لا يتفاوت الناس في الانتفاع به؛ وهذا لأن الإجارة لتمليك المنفعة والمستأجر في حق المنفعة قام مقام الآجر، وكما صحت الإجارة من الآجر تصح من المستأجر أيضاً فإن أجره بأكثر مما استأجره به من جنس ذلك ولم يزد في الدار شيء ولا أجر معه شيئاً آخر من ماله مما يجوز عند الإجارة عليه، لا تطيب له الزيادة عند علمائنا رحمهم الله وعند الشافعي تطيب له الزيادة. حجته في ذلك: أن هذا ربح بما قد ضمن فيطيب له كما في بيع العين. فإنه إذا اشترى شيئاً فباعه بأكثر مما اشترى بعد القبض فإنه يطيب له الربح لأنه ربح؛ بما قد ضمن فكذلك هاهنا.

بيانه: أن الضمان من حكم القبض، وقبض المستأجر الثاني بمنزلة قبض المستأجر الأول، ولهذا وجب الأجر على الأول كما لو حدثت المنافع في قبضه، وإذا ناب قبض الثاني عن قبض الأول كانت المنافع حادثة في ضمان الأول فيكون ربح ما قد ضمن من وجه وربح ما لم يضمن من وجه فتحل من وجه ولا تحل من وجه فيرجح جانب الحرمة احتياطاً. بيانه: أن قبض الثاني قبض الأول حكماً فإن الأجرة تجب عليه وليس يقبض الأول حقيقة فإن المنافع لم تحدث في يد الأول حقيقة فالقبض وجد من وجه ولم يوجد من وجه والضمان حكم القبض فيكون ثابتاً من وجه غير ثابت من وجه. ونظير هذا ما قالوا: فيمن اشترى عبداً قيمته ألف درهم بألف درهم؛ فقتل قبل القبض خطأ، فاختار المشتري اتباع القاتل، وأخذ منه ألفي درهم فإنه يتصدق بألف درهم لأنه ربح ما لم يضمن من وجه وربح ما قد ضمن من وجه لأن القبض وجد من حيث الحكم لما اختار اتباع القاتل ولهذا تأكد عليه الثمن كما لو قتل نفسه ولكن من حيث الحقيقة لم يوجد القبض فلما وجد القبض من وجه دون وجه كان الضمان الذي هو حكم القبض ثابتاً من وجه دون وجه فيحل من وجه دون وجه فلا يحل احتياطاً، وأما (إذا) زاد في الدار شيئاً بأن جصّصها أو طينها أو ما أشبه ذلك أو أجر مع ما استأجر شيئاً من ماله يجوز أن يعقد عليه عقد الإجارة وتطيب له الزيادة، لأن زيادة الأجر تجعل بإزاء منفعة الزيادة وإذا ما أجر من ماله احتيالاً للطيبة، وإن كان لا يقتضيه ذلك بمطلق الانقسام. كما لو باع درهماً وديناراً بدرهمين ودينارين نصرف الجنس إلى خلاف الجنس احتيالاً للصحة، وإن كان مطلق الانقسام لا يقتضي ذلك فكذلك هاهنا، وإذا صرفنا إلى ذلك لا تبقى زيادة الأجر ربحاً حتى يكون ربح ما لم يضمن من وجه، وكذا إذا أجره بجنس آخر تطيب له الزيادة؛ لأن الربح لا يظهر عند اختلاف الجنس. وذكر الخصّاف في كتاب «الحيل» : أنه إذا كان المستأجر داراً فكنسها من التراب ثم أجرها بأكثر مما استأجر لا تطيب له الزيادة، وإن أجرها بأكثر مما استأجر، وقال به عند الإجارة على أن أكنس الدار يطيب لي الفضل ذكره شيخ الإسلام في «شرح كتاب الحيل» . وإن كان المستأجر أرضا فعمل لها مسقاة فذاك زيادة ويطيب له الفضل قال: وكذلك كل ما عمل فيها عملاً يكون قائماً فذاك زيادة ويطيب له الفضل وإن كرى أنهارها، ذكر الخصاف أنها زيادة توجب طيبة الفضل. المحيط البرهانى قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: أصحابنا في هذا مترددون بعضهم يعدون هذه زيادة، وقالوا: تيسر على المستأجر إجراء الماء إليها ويسهل العمل فيها فكان ذلك زيادة، وبعضهم لا يعدون هذه زيادة؛ لأنه لم يوجد إلا رفع التراب، وذلك نقصان وليس بزيادة ولو جاز أن تطيب الزيادة بهذا لجاز أن يقال: إذا استأجر دابة وأعطاها شعيراً أنه تطيب له الزيادة؛ لأن ذلك مما يزيد في قوتها ويتيسر على المستأجر العمل بها

ومع هذا لا تطيب الزيادة بذلك بالاتفاق. وهو نظير ما لو استأجر أرضاً لا يمكن زراعتها لما فيها من التراب فرفع التراب ثم أجر بأكثر مما استأجر فإنه لا يطيب له الفضل وإن تيسر بسبب هذا الفعل الزراعة، لكن لما يزد من عنده شيئاً بل نقص لم يوجب ذلك طيبة الزيادة كذا هاهنا. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: إذا استأجر الرجل بيتين صفقة واحدة، وزاد في أحدهما شيئاً وفي بعض النسخ وأصلح من أحدهما شيئاً له أن يؤاجرهما بأكثر مما استأجرهما، ولو كانت الصفقة متفرقة ليس له أن يؤاجرهما بأكثر مما استأجرهما وإذا أجر المستأجر الدار من آجره لا يجوز، لأنه لو جاز يصير الشخص الواحد مملكاً ومتملكاً في شيء واحد. بيانه: أن المنافع إنما تصير مملوكة للمستأجر على حسب حدوثها والعقد في حق الملك يتجدد انعقاده على حسب حدوث المنافع فيصير المستأجر من الآجر متملكاً ومملكاً لكل منفعة حدثت في تلك وهذا مما لا وجه له ولا سبيل إليه، وهل تنفسخ الإجارة الأولى بهذه الإجارة الثانية مع أن الثانية لم تصح، اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: تنفسخ. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذا غلط؛ لأن الثاني فاسد والأول صحيح والفاسد لا يقدر على رفع الصحيح، وعامتهم على أنه لا تنفسخ الأولى بالثانية، ولكن إذا قبض الأجر الأول المستأجر من المستأجر الأول حتى انتهت الإجارة الأولى تنتهي الإجارة الأولى؛ (20ب4) لأن الثانية فاسخة لهما ولكن؛ لأن المنافع تحدث ساعة فساعة وعلى حسب الحدوث يقع التسليم إلى المستأجر، فإذا استأجرها الآجر من المستأجر ثانياً واستردها منه فذاك يمنعه عن تسليم ما يحدث إلى المستأجر، فإذا داما على ذلك حتى انتهت المدة فقد انتهت المدة من غير تمكن المستأجر من استيفاء المعقود عليه، فتنفسخ الإجارة الأولى ضرورة حتى أن بعد مضي بعض المدة لو استرد المستأجر الأول المستأجر من الآجر الأول داراً، وأن يسكنه بقية الشهر فله ذلك؛ لأن العقد الأول إنما انفسخ في قدر ما تلف من المنفعة وقدر ما بقي من المنفعة هو على حاله وكذلك على هذا حكم الأجرة إذا أخذ الآجر الأول المستأجر من المستأجر الأول بحكم هذه الإجارة، ودام على ذلك حتى انتهت المدة، فالأجر على المستأجر الأول وإن لم يقبضه منه فعلى المستأجر الأول الأجر. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: ذكر في كتاب المزارعة إذا دفع أرضه مزارعة ثم إن رب الأرض أخذها مزارعة من المزارع فالمزارعة الثانية باطلة والأولى على حالها كذا في الإجارة، ولو أن المستأجر أعاد المستأجر من المالك لا يسقط عنه الأجر بلا خلاف بين المشايخ. وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد رحمهما الله: رجل استأجر داراً من رجل ثم إن المستأجر أجرها من صاحبها أو أعارها منه فذلك نقض للإجارة الأولى.

ولو استأجر أرضاً ثم دفعها إلى صاحبها مزارعة إن كان البذر من قبل رب الأرض لم يجز وهذه مناقضة، وإن كان البذر من قبل المستأجر جاز. أما الكلام في فصل الإجارة والإعارة بناء على أنه لا جواز للإجارة الثانية والعارية إلا بعد فسخ الإجارة الأولى فيتضمن إقدامها على العقد الثاني فسخاً للأول، وأما الكلام في المزارعة؛ فلأن البذر إذا كان من قبل رب الأرض فهو مستأجر الأرض فيتضمن إقدامه عليه فسخاً للإجارة الأولى. وذكر ابن رستم في «نوادره» عن محمد: أنه لا يجوز دفع الأرض المستأجرة مزارعة إلى رب الأرض سواء كان البذر من جهه رب الأرض أو من جهة المستأجر، ولو استأجر رب الأرض بالدراهم ليعمل في الأرض جاز. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل استأجر من آخر داراً أو أرضاً وزاد المستأجر فيها بناء ثم أجرها من الآخر أو أعارها منه كان هذا نقصاً للإجارة الأولى. قال في فصل الإجارة: في «نوادر ابن سماعة» وعلى رب الدار حصة بناء المستأجر من الأجر. قال الحاكم الشهيد رحمه الله وهذه المسألة دليل على جواز إجارة البناء وحده. وفي «فتاوى الفضل» استأجر من رجل داراً إجارة طويلة، ثم أجرها من الآخر مشاهرة لا تصح الإجارة الثانية وما أخذه المستأجر الأول من الآخر الأول فهو محسوب من رأس المال، والإجارة الأولى تنتقض في الشهر الأول من الإجارة الثانية، فأما فيما بعد الشهر الأول شك الفضل رحمه الله في انتقاضها؛ لأن الإجارة الثانية وقعت على شهر واحد، ثم قال: كلما دخل شهر بعد شهر يجب أن تنتقض الأولى؛ لأنه كلما دخل شهر انعقدت الإجارة الثانية. وهكذا قال القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله، وجعله نظير ما باع ثم باع فإن الثاني يفسخ الأول كذا هاهنا، فقيل لركن الإسلام: هذا ليس نظير ما لو باع ثم باع؛ لأن هناك كل واحد من البيعين صحيح فجاز أن ينفسخ الأول بالثاني، وهاهنا الإجارة الثانية فاسدة فكيف تنفسخ الأولى بالثانية فأشار وركن الإسلام إلى أنه يجوز أن يقع العقد فاسداً ويوجب انتقاض عقد وقع صحيحاً. فقال: ألا ترى أن المشتري إذا باع المشترى قبل القبض من بائعه فهذا العقد لا يصح ويوجب انتقاض العقد الأول على ما رواه خالد بن صبيح عن أبي يوسف رحمه الله، ورواية خالد بن صبيح مخالفة لظاهر الرواية، قال في ظاهر الرواية: لا ينتقص البيع الأول بهذا البيع. وذكر في كتاب الصلح مسألة تدل على أن المستأجر يملك الإجارة من المالك. وصورتها: الموصى له بغلة عبد بعينه إذا آجر العبد من أجنبي أو وارث الوصي إنه يجوز ووجه الدلالة: أن الوارث قائم مقام المورث وحال الموصى له بالغلة كحال المستأجر وإذا أجر المستأجر المستأجر من رجل ثم إن المستأجر الثاني أجره من المالك

كان القاضي أبو علي النسفي رحمه الله يحكي عن أستاذه أنه يجوز. وهكذا ذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في «المنتقى» : عن محمد، قال شمس الأئمة الحلواني: ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد أن الإجارة من المالك لا تجوز سواء كان المستأجر الأول آجر بنفسه أو آجر مستأجره. قال رحمه الله: وعليه عامة المشايخ. الغاصب إذا أجر المغصوب من غيره ثم إن المستأجر من الغاصب آجره من الغاصب وأخذ منه الأجر كان للغاصب أن يسترد منه ما دفع إليه من الأجر لوجهين: أحدهما: أن إجارة المستأجر من الغاصب رد للمغصوب، كما جعل بيع المشتري شراءً فاسداً من بائعه رداً للمشتري الثاني أن إجازة الغاصب العقد فيصير المستأجر من الغاصب أجر من أجره، وأنه لا يجوز للفقه الذي روينا وعلى هذا المستأجر من المالك إذا آجر من غيره ثم إن المستأجر الثاني آجره من المستأجر الأول لا يصح وطريقه ما قلنا: إذا استأجر كرماً ثم إن المستأجر دفع الكرم إلى المؤاجر معاملة فهذا على وجهين: إن كان المالك في الإجارة باع الأشجار كما هو أحد الطريقين جاز وإن كان دفع الأشجار معاملة كما هو الطريق الآخر لا يجوز وإذا استأجر إجارة فاسدة فآجر المستأجر من غيره إجارة صحيحة جاز إليه أشار في إجارات الفقيه أبي الليث رحمه الله. ومن المشايخ من قال: لا يجوز واستخرج الرواية من مسألة ذكرنا في كتاب الإجارات في باب إجارة الدور رجل دفع داره إلى رجل على أن يسكنها ويردها ولا أجر لها فأجرها هذا المستأجر من رجل وانهدم من سكنى الثاني ضمن الثاني بالاتفاق؛ لأنه صار غاصباً فهذا إشارة إلى أن الإجارة الثانية لم تصح. ألا ترى أنه أوجب الضمان على الثاني، وألا ترى أنه سماه غاصباً، وعامة المشايخ على أنه يملك قالوا: وما ذكر في كتاب الإجارات ليس برواية في هذه المسألة؛ لأن ذلك ليس بإجارة بل هو عارية؛ وهذا لأنه لم يذكر الحرمة على سبيل الشرط؛ لأنه لم يذكر كلمة الشرط إنما ذلك على سبيل المشورة إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل فكان الأول مستعيراً لا مستأجراً والمستعير يملك أن يؤاجر. وزان مسألتنا في تلك المستأجر، أن لو ذكر الحرمة على سبيل الشرط ولو كان هكذا حتى كان العقد الأول إجارة فاسدة لا يجب الضمان على الثاني، وتصح الإجارة من الثاني؛ وهذا لأن المستأجر إجارة فاسدة ملك المنفعة بقبض المستأجر فيملك تمليكها من غيره ملكاً صحيحاً كالمشتري شراءً فاسداً ملك التمليك من غيره صحيحاً، ثم على قول من يقول بأن المستأجر إجارة فاسدة يملك أن يؤاجر من غيره إجارة صحيحة إذا أجر كان الأول أن ينقض الثاني. كما إذا اشترى شيئاً شراءً فاسداً وأجره من غيره إجارة جائزة بخلاف ما إذا اشترى شراء فاسداً وباعه من غيره بيعاً صحيحاً.

والفرق أن الإجارة تنفسخ بالأعذار والنَّساء عذراً يرفع، أما البيع مما لا ينفسخ (21أ4) بالأعذار المستأجر إذا أجر من غيره أو دفع إلى غيره مزارعة، ثم إن المستأجر الأول فسخ العقد الأول هل ينفسخ العقد الثاني؟ اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه ينفسخ اتحدت المدة أو اختلفت، أما إذا اتحدت فظاهر، وأما إذا اختلفت فلأنه لما فسخ الإجارة الأولى تبين أن المستأجر فضولي في الإجارة من الثاني في هذه المدة وهو المدة بعد فسخ الأول، والفضولي في المعاوضات المالية يملك الفسخ قبل الإجازة. وفي «فتاوى الفضلي» : استأجر الرجل من غيره موضعاً إجارة طويلة ثم إن المستأجر أجره من عبد الآخر، فإن كان بغير إذن مولى العبد لم يحسب على المستأجر ما أخذ من العبد من رأس ماله؛ لأنه ليس للعبد أن يفسخ الإجارة بغير إذن المولى، وأما إذا كان العبد استأجره بإذن المولى، فقد توقف الشيخ الإمام فيه، والصحيح أن يقال: استئجار العبد بإذن المولى كاستئجار المولى بنفسه، وقد مرّ الكلام فيه من قبل. وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل أجر داره من رجل كل شهر بدرهم ثم باعها من آخر، فكان المشتري يأخذ أجرة الدار من هذا المستأجر وأتى على ذلك زمان، وقد كان وعد المشتري البائع أنه إن رد الثمن عليه رد عليه داره ويحتسب عليه ما قبض من المستأجر، ثم جاء البائع بالدرهم وأراد أن يحسب الأجر من ذلك. قال: لما طلب المشتري الأجر من المستأجر كان ذلك إجارة منه وصار بمنزلة إجارة مستقلة وجميع ما أخذ من الأجر للمشتري، وليس للبائع من الأجر لا قليل ولا كثير؛ لأن الأجر وجب بعقد المشتري على ما ذكرنا، ومواضعة المشتري على رد الدار وعد منه فإن أنجز فحسن وإلا فلا شيء عليه، وإن كان الشرط في البيع فالبيع فاسد؛ لأنه شرط يخالف مقتضى العقد، الأجر المستأجر من رجل آخر لا تنعقد الإجارة الثانية في حق الآجر حتى لو سقط حق المستأجر الأول لا يلزمه التسليم إلى المستأجر الثاني، لأن الإجارة تصادف المنفعة والمنفعة صادفت حقاً للأول، فالإجارة الثانية صادفت حق الغير فلم تنعقد، والإجارة تخالف البيع فإن بيع الآجر المستأجر ينعقد نافذاً في حق البائع حتى لو سقط حق المستأجر يلزمه التسليم إلى المشتري، إنما لا ينفذ في حق المستأجر حتى لا يكون للمشتري حق الأخذ من المستأجر؛ لأن البيع يصادف الرقبة والرقبة لم تصر حقاً للمستأجر، فالبيع ما صادف حق المستأجر إنما صادف حق البائع فانعقد صحيحاً لكن لا يؤمر المستأجر بتسليمه إلى المشتري صيانة لحق المستأجر، فإذا سقط حق المستأجر زال المانع فعمل ذلك البيع علمه. ثم المشتري في هذه المسألة بالخيار إن شاء تربص حتى انقضت مدة المستأجر، وإن شاء رفع الأمر إلى القاضي ويطلب التسليم هكذا ذكر في «الزيادات» ولم يفصل بينهما إذا علم المشتري بكونه مستأجراً أو لم يعلم وهذا قول محمد. وعلى قول أبي يوسف: إذا علم المشتري بكونه مستأجراً لا يجوز وقد ذكرنا المسألة في كتاب البيوع.

الفصل الثامن: في انعقاد الإجارة بغير لفظ، وفي الحكمببقاء الإجارة أو انعقادها مع وجود ما ينافيها

ولو أراد المستأجر فسخ هذا البيع ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «الفتاوي» أن في ظاهر الرواية له ذلك، وفي رواية الطحاوي ليس له ذلك وأحال إلى رهن الجامع لشمس الأئمة الحلواني في شرح «الإسبيجابي» إنه ليس للمستأجر حق الفسخ، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي، وهكذا ذكر في شرح القدوري، وفي شرح الساقي في رهن الجامع للسيد الإمام أبي شجاع، وذكر شيخ الإسلام أن في المسألة روايتين: في رواية للمستأجر حق الفسخ وهو القياس، وفي رواية ليس له حق الفسخ وهو الاستحسان وعليه الفتوى. الفصل الثامن: في انعقاد الإجارة بغير لفظ، وفي الحكمببقاء الإجارة أو انعقادها مع وجود ما ينافيها وإذا استأجر الرجل من آخر داراً شهراً فسكنها شهرين فعليه أجر الشهر الأول، وليس عليه في الشهر الثاني أجر؛ لأنه سكن في الشهر الثاني من غير إجارة من المالك فكان غاصباً هكذا ذكر في عامة روايات كتاب الإجارة.s وذكر في بعض الروايات: أنه يجب عليه الأجر في الشهر الثاني أيضاً، قال مشايخنا: ما ذكر في عامة الروايات محمول على ما إذا لم تكن الدار معدة للاستغلال، لأنها إذا لم تكن معدة للاستغلال لا تثبت الإجارة في الشهر الثاني لا نصاً ولا عرفاً وما ذكر في بعض الروايات محمول على ما إذا كانت الدار معدة للاستغلال؛ لأنها إذا كانت معدة للاستغلال في العقد في الشهر الثاني، إن لم يثبت نصاً فقد ثبت عرفاً والثابت عرفاً كالثابت نصاً. وعن هذا قلنا: إذا سكن الرجل في دار رجل ابتداء من غير عقد، فإن كانت الدار معدة للاستغلال يجب الأجر، وإن لم تكن معدة للاستغلال لا يجب الأجر إلا إذا تقاصا صاحب الدار بالأجر وسكن بعد ما تقاصاه؛ لأن سكناه تكون رضا بالأجر، قالوا: وفي المعدة للاستغلال إنما يجب الأجر على الساكن، إذا سكن على وجه الإجارة عرف ذلك عنه بطريق الدلالة أما إذا سكن بتأويل عقد أو تأويل ملك كبيت أو حانوت بين رجلين سكن أحدهما فيه لا يجب الأجر على الساكن، وإن كان ذلك معداً للاستغلال. وذكر محمد رحمه الله: في باب إجارة الحمام إذا استأجر حماماً ليعمل فيه شهراً فعمل فيه شهرين فلا أجر عليه في الشهر الثاني؛ لأنه لا عقد في الشهر الثاني، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذه المسألة دليل عل أن في مسألة الدار لا يجب الأجر بدون العقد، وإن كانت الدار معدة للاستغلال. ألا ترى أنه لم يوجب في الحمام أجر الشهر الثاني، وإن كان الحمام معداً للاستغلال والكراء قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: الجواب في

الحمام كالجواب في الدار وما ذكر في الحمام محمول على ما إذا لم يكن الحمام معداً للكراء والإنسان قد يبني الحمام للكراء، وقد يبني لحاجة نفسه ثم يؤاجره شهراً معارض أمر، وعلى هذا الاعتبار لا تكون مسألة الحمام مخالفة لمسألة الدار. وفي «الفتاوى» : خانٌ فيه نزل رجل يكون نزوله بأجر، ولا يصدق أنه سكن بغير أجر وهذا بناء على أن الخان غالباً يكون معداً للكراء فسكناه يكون رضا بالأجر وبه كان يفتي محمد بن سلمه وأبو نصر بن سلام والفقيه أبو بكر والفقيه أبو الليث. وكان نصر رحمه الله يقول: لا يجب الأجر بنزوله إلا أن يتقاصا عليه صاحب الخان فإذا تقاصاه وأجابه ولم يخرج الآن يجب الأجر ولكن من حين نزل؛ لأن إجابته بعد التقاصي دليل على أن سكناه كان بأجر. وبعض مشايخ زماننا قالوا: الفتوى على لزوم الأجر؛ لأن الظاهر السكنى بأجر فيجب اعتبار هذا الظاهر إلا إذا عرف بخلافه بأن صرح بأن نزل بطريق الغصب أو كان الساكن معروفاً بالظلم والغصب مشهوراً بالنزول في مساكن الناس لا بطريق الإجارة فلا يجب الأجر وذكر بعد هذا ما يخالف هذا القول فقال: رجل له حوانيت مشعلة، جاء إنسان وسكن في واحد منها يلزمه أجر المثل ولو قال: كنت غاصباً لا يصدق؛ لأنه ادعى بخلاف الظاهر فهو كمن دخل الحمام من غير أن يصرح له صاحب الحمام بالأذن، وقال: دخلت على وجه الغصب لا يصدق. وفي «الفتاوى» أيضاً: مقصرة يعمل فيها القصارون ولرجل فيها أحجار يؤاجرها منهم جاء قصار وعمل فيها ولم يشارط صاحب الأحجار بشيء، فإن لم يكن المعروف عندهم أن من شاغل عليها وأدى الأجر فلا أجر عليه إذا (21ب4) عمل بغير إذن رب الأحجار؛ لأنه لم يوجد العقد لا صربحاً ولا دلالة، وإن كان المعروف عندهم أن من شاء عمل عليها وأدى الأجر فعليه الأجر؛ لأن المعروف كالمشروط، ثم إن كان لهذا الحجر أجرة معروفة فيما بينهم يجب ذلك، وإلا يجب أجر المثل. وفي «المنتقى» : عن محمد صاحب الدار إذا قال للغاصب هذا داري فاخرج منها فإن نزلتها فهي عليك بكذا فجحدها الغاصب، ثم أقام المالك عليه البينة بعد أشهر فلا أجر؛ لأن النازل لم يزل جاحداً ومع الجحود لا يمكن القول بانعقاد الإجارة ولو كان مقراً بالدار للمدعي، والباقي بحاله كأن سكناه رضا بالإجارة ويجب الأجر؛ لأن المالك أجر منه إجارة مضافة وهو قد قبلها دلالة. وفيه أيضاً: اكترى داراً منه بألف درهم، فلما انقضت: السنة قال رب الدار: إن فرغتها اليوم وإلا فهي عليك كل شهر بألف درهم، فإنما يجعل في قدر ما ينقل متاعه منها بأجر المثل، فإن فرغها إلى ذلك الوقت وإلا جعلناها بعد ذلك بما قال المالك لأنه قبل ذلك دلالة. وفي «إجارات النوازل» : رجل استأجر حانوتاً كل شهر بثلاثة دراهم مثلاً، فلما مضى شهران قال له صاحب الحانوت: إن رضيت كل شهر بخمسة دراهم وإلا فأفرغ

الحانوت فلم يفرغ بل سكن فيه فعليه لكل شهر خمسة وسكناه رضا بما قال صاحب الحانوت، ولو قال المستأجر: لا أرضى بخمسة وسكنها لا يجب عليه إلا الأجر الأول. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا قال لغيره: بكم تؤاجر هذه الغرارة شهراً فقال بدرهمين فقال المستأجر: لا بل بدرهم، وقبضها ومضى الشهر يجب أجر المثل لا يزاد على درهمين ولا ينقص من درهم والصحيح أنه يجب درهم لما ذكرنا. وفي «فتاوي أبي الليث» : ومن رعى غنم إنسان إذا قال الراعي لصاحب الغنم: لا أرعى غنمك بعد هذا إلا أن تعطيني كل يوم درهماً فلم يقل صاحب الغنم شيئاً، وترك غنمه معه لزمه كل يوم درهم وترك صاحب الغنم غنمه معه رضاً منه بما قال الراعي. وفيه أيضاً: رجل استأجر أجيراً ليحفظ شهره كل شهر بكذا ثم مات المستأجر فقال الوصي للأجير: اعمل عملك على ما كنت تعمل، فإنا لا نحبس عنك الأجر فأتى على ذلك أيام ثم باع الوصي الضيعة فقال المشتري للأجير: اعمل عملك فإنا لا نحبس عنك الأجر فمقدار ما عمل الأجير في حياة الأول يجب الأجر في تركته ومن حين قال له الوصي: اعمل عملك يجب على الوصي ومن حين قال له المشتري: اعمل عملك يجب على المشتري، إلا أن الواجب في تركة الميت المسمى لوجود التسمية منه والواجب على الوصي وعلى المشتري أجر المثل إذا لم يعلما مقدار المشروط من الميت أما إذا علما ذلك وأمراه أن يعمل على ذلك الشرط فعليهما المسمى. وفيه أيضاً: رجل استأجر من رجل حماراً بعشرة بعضها جياد وبعضها زيوف فقال المكاري في الطريق: أنا أطلب الكل جياداً فقال المستأجر بالفارسية: حنان كتم له ترخوا مني، فهذا وعد منه ولا يلزمه بذلك شيء وكذلك لو استزاده في الأجر فأجابه بذلك شيء. قال في «الأصل» : وإذا استأجر دابة إلى مكان مسمى، فمات صاحب الدابة في وسط الطريق كان للمستكري أن يركب الدابة إلى المكان المسمى بالأجر، فإذا وصل إلى ذلك المكان يرفع الأمر إلى القاضي، وفي هذا الفصل إشكال؛ لأن المكاري يؤاجر وموت المؤاجر لا يوجب انتقاض الإجارة وإنما لا تنتقض الإجارة؛ لأن الحال حالة العذر، والإجارة تنعقد ابتداء بالعذر فإن من استأجر سفينة شهراً فمضت المدة، والمستأجر في وسط البحر، فإنه تنعقد بينهما إجارة مبتدأة فلأن تبقى حالة العذر كان أولى. وبيان العذر أنه يخاف على نفسه وماله؛ لأنه لا يجد دابة أخرى في وسط المفازة، ولا يكون ثمة قاضى حتى يرفع الأمر إليه فيؤاجر الدابة منه ثانياً حتى قال مشايخنا: لو وجد ثمة دابة أخرى يحمل عليه متاعه تنتقض الإجارة، وكذلك لو كان الموت في موضع ثمة قاض تنتقض الإجارة؛ لأنه لا ضرورة إلى إبقاء الإجارة مع وجود ما ينافي البقاء وهو

موت الآجر، لأنه يمكنه المرافقة إلى القاضي حتى يؤاجر الدابة منه. نص على هذا في الشروط وإليه أشار في «الأصل» ، فإنه قال في عين هذه المسألة فإذا وصل ذلك المكان يرفع الأمر إلى القاضي فقد أخر الأمر بالمرافعة إلى أن يصل إلى ذلك المكان، ولو كان الموت في موضع فيه قاض لم يكن لتأخير الأمر بالمرافعة معنى وفائدة، ثم إذا ركب المستكري الدابة إلى ذلك المكان وأنفق عليها في الطريق كان متبرعاً حتى لا يرجع على ورثة المكاري بذلك. وكذلك إذا استأجر المستكري رجلاً يقوم على الدابة كان أجره على المستكري ولا يرجع بذلك على ورثة المكاري؛ لأن الإنفاق والاستئجار حصل بغير إذن الورثة وبغير إذن من يلي على الورثة ثم إذا وصل إلى ذلك المكان رفع الأمر إلى الحاكم لأن الإجارة قد انفسخت لما وصل إلى ذلك المكان لأنه زال العذر لما وصل إلى ذلك المكان، وإذا انتقضت الإجارة بقيت دابة الغير في يده بغير إجارة ويرفع الأمر إلى القاضي ليقضي القاضي بها هو الأصلح لورثة الميت. فإن رأى القاضي الصلاح في أن يؤاجر منه ثانياً بأن عرف المستأجر ثقة أميناً ورأى الدابة قوية حتى عرف أن الورثة يصلون إلى عين ما لهم متى آجر منه وإن رأى الصلاح في بيع الدابة بأن أتهم المستأجر أو رأى الدابة ضعيفة ظاهراً يعلم أن الورثة لا يصلون إلى عين ما لهم وإن وصلوا يلحقهم ضرر عظيم ببيع الدابة ويكون بيعه حفظاً للمال على الغائب لا قضاء على الغائب. وإن كان المستأجر قد عجل الأجر إلى رب الدابة وفسخ القاضي الإجارة وباع الدابة، فادعى المستأجر ذلك، فالقاضي يأمره بإقامة البينة على دعواه؛ لأنه يدعى ديناً على الميت ومجرد الدعوى بدون البينة لا تكون معتبرة شرعاً وينصب القاضي وصياً عن الميت حتى يسمع البينة لأن البينة لا تسمع إلا على الخصم وللقاضي ولاية نصيب الوصي عن الميت. ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» : مسألة السفينة إذا انقضت مدة الإجارة في المفازة ولا يجد المستأجر سفينة أخرى، أو رأى أخر وأبى الآجر أن يؤاجر منه وقد حضرهم الإمام، إن الإمام يجعل ذلك للمستأجر كل يوم بكذا بشرط، أن تكون هذه الإجارة من الإمام. وقد ذكر ابن سماعة في «نوادره» هذه المسألة عن محمد ولم يشترط أن يكون المؤاجر هل الإمام بل شرط أن يقول المستأجر استأجرت هذه السفينة كل يوم بكذا أو يؤاجره واحد من أصحابه ورفقائه، فإن أبى الأجر بعد ذلك أن يعطيه السفينة أو الرق استعان المستأجر بأعوانه ورفقائه حتى يترك السفينة والرق عليه، إلى أن يجد سفينة أخرى ورقاً أخرى وإنما احتيج إلى إنشاء العقد في هذه الصورة؛ لأن وضع المسألة أن صاحب السفينة أو صاحب الرق أبى الإجارة صريحاً، ومع إبانة ذلك صريحاً لا يمكن إثبات العقد دلالة فلا بد من إنشائه صريحاً، وبهذه المسألة تبين أن من سكن دار غيره لا يجب الأجر إذا كان صاحب الدار يأبى ذلك، وإن كانت الدار معدة للاستغلال إلا

استأجر الساكن بنفسه فيقول: استأجرت كل شهر بكذا، ثم قال: ليس في مسألة السفينة والرق اختلاف الروايتين ما ذكر في السير محمول على ما إذا احضر الإمام. وما ذكر في (22أ4) «نوادر ابن سماعه» : محمول على ما إذا لم يحضر الإمام، وفي «الأصل» إذا انقضت مدة الإجارة وفي الأرض رطبة قلعت لو انقضت مدة الإجارة، وفي الأرض زرع لم يدرك يترك في يده إلى أن يستحصل بأجر المثل، ولو مات الآجر أو المستأجر في وسط المدة وفي الأرض زرع تترك الأرض في يد المستأجر أو ورثته بالأجر المسمى. وفي «المنتقى» : إذا انقضت الإجارة وفي الأرض رطاب تركت فيها بأجر مثلها حتى يحر وهو على أول جره يدرك انقضاء الإجارة، وقال في الموت إذا مات المؤاجر وفي الأرض رطاب تركت بالمسمى حتى يجر؛ لأن للجرة الأولى غاية معلومة، فصارت الرطبة نظير الزرع، وإنما اعتبرنا الجرة الأولى؛ لأن طريق الترك إما إبقاء ذلك العقد في الفصلين كما ذهب إليه بعض المشايخ؛ لأن القول بالانفساخ والتجديد من ساعته في صورة العيب وحاشا الشرع عن ذلك، وأما تجديد العقد فيهما؛ لأن حكم البقاء في هذا الباب يخالف حكم الابتداء؛ لأن العقد الأول إذا بقى يبقى المسمى، وإذا تجدد العقد يجب أجر المثل، وإذا اختلف الحكم لا يكون عيباً أو بقاء العقد في الفصل الثاني وتجديده في الفصل الأول؛ لأن الحاجة في الفصل الأول إلى الابتداء، وإلى الفصل الثاني إلى البقاء وأياً ما كان فهو ضروري، والثابت بالضرورة لا يراعى فيه النهاية فيقع على الجرية الأولى لهذا ومن هذا الجنس إذا استأجر من آخر زقاقاً، وجعل فيها خلاً ثم انقضت الإجارة في صحراء جعل عليه بأجر مثله إلى موضع يحد فيه زقاقاً، ولو مات المؤاجر قبل مضي المدة لا يجعل عليه بأجر مثلها لكنها تترك على الإجارة الأولى. وروى إبراهيم عن محمد: في رجل استأجر أرضاً سنة، وزرعها ثم اشتراها المستأجر ورجل آخر حتى انقضت الإجارة نترك الزرع في الأرض حتى يستحصد ويكون للشريك على صاحب الزرع أجر مثل نصف الأرض. وفي «الأمالي» : عن أبي يوسف إذا انقضت مدة الإجارة والزرع بقل فلم يختصموا فيه حتى استحصد فله من الأجر بحساب ذلك، ولا يتصدق رب الزرع بالفضل وإن انقضت مدة الإجارة، ولم يخرج الزرع فسخت الإجارة ورددت الأرض على صاحبها فإن خرج بعد ذلك رددت إلى صاحب البذر، فيكون له الزرع وعليه أجر مثل الأرض وكذلك لو لم يختصموا حتى يستحصد. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا استأجر أرضاً وغرس فيها أشجاراً ثم انقضى وفيها فعلى المؤجر قيمة الأشجار مقلوعة؛ لأن حق المستأجر أشجار مقلوعة؛ لأن لرب الأرض قلع أشجاره، إلا أنه يمنع عن ذلك دفعاً للضرر عن الغارس كذا ذكر هاهنا، والصحيح أنه إذا انقضت المدة فلرب للأرض أن يطالب المستأجر بتفريغ أرضه إذا كان فيها غرس بخلاف ما إذا كان فيها زرع حيث يترك لإدراك الزرع نهاية، ولا كذلك الغرس

وليس لرب الأرض أن يتملك الأشجار على الغارس إذا لم يكن في قلعها ضرر فاحش بالأرض. وفيه أيضاً: استأجر من آخر بيتاً ووضع فيه حبات خل فانقضت مدة الإجارة والمستأجر يأبى تفريغ الحانوت فإن كان الخل بلغ مبلغاً لا يفسد بالتحويل يؤمر بالتحويل، وإن كان يفسد لا يؤمر بالتحويل، ويقال للمستأجر: إن شئت فرّغ الحانوت، وإن شئت فاستأجر منه إلى وقت إدراكه والمراد من قوله استأجر منه الحكم بأجر المثل عليه لا الاستئجار ابتداء ببدل مسمى؛ لأن هذا بمنزلة مدة نقل المتاع وتفريغ الدار، والواجب هناك أجر المثل دون الإجارة ابتداء ولو مات المؤاجر أو المستأجر قبل انقضاء المدة، ولم يتيسر التفريغ يجب المسمى استحساناً والقياس أن يجب أجر المثل كما بعد انقضاء المدة. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا انقضت مدة الإجارة ورب الدار غائب فلم يرد المستأجر الدار بل سكن فيها سنة ثم حضر رب الدار لا يلزمه الأجر لما بعد انقضاء المدة؛ لأنه سكنها بلا عقد ولو مات المؤاجر فسكنه المستأجر اختلف المشايخ فيه منهم من قال: يجب الأجر؛ لأنه مات على الإجارة وليس بغاصب، ومنهم من قال: هو غاصب في الشهر الأول بعد الموت؛ لأن الإجارة تثبت صريحاً أو دلالة وقد عدم الأمران ويلزمه الأجر في الشهر الثاني إذا طلب صاحب الدار الأجر. وقيل: إذا سكن بعد الموت أو بعد انقضاء المدة فلا أجر عليه قبل الطلب، وإذا سكن بعد الطلب فعليه الأجر لما سكن بعد الطلب سواء كان في الشهر الأول أو في الشهر الثاني وهذا القائل يقول: لا فرق في هذا بين الدار المعدة للإجارة وغير المعدة للإجارة إنما ذلك في ابتداء السكنى على ما مر، والأصح أنه يلزمه الأجر إذا كانت الدار معدة للاستغلال على كل حال. وفي «الأمالي» عن محمد: رجل استأجر أرضاً بدراهم معلومة سنة، وزرعها ثم مات المؤاجر قبل أن يستحصد الزرع، واختار المستأجر المضي على الإجارة حتى يستحصد الزرع وبالأجر كفيل قال: لا يبرأ الكفيل من أجر ما بقي إلى أن يستحصد الزرع، وكذلك لو لم يمت الآجر ولكن مات المستأجر واختار ورثته ترك الزرع في الأرض حتى يستحصد لم يبرأ الكفيل من الكفالة، فإن قال المؤاجر: لا أرضى إلا أن يكون الأجر على ورثة الميت؛ لأن مال الميت لا يفي بالأجر ليس له ذلك؛ لأنها تركت على الإجارة الأولى والأجر في الإجارة الأولى في مال الميت وفى بالأجر أو لم يفِ ولو انقضت السنة، ثم مات المستأجر والزرع بقل واختار ورثته ترك الزرع بأجر المثل فالأجر عليهم في مالهم دون مال الميت والله أعلم بالصواب.

الفصل التاسع: فيما يكون الأجير مسلما مع الفراغ منه وما لا يكون

الفصل التاسع: فيما يكون الأجير مسلماً مع الفراغ منه وما لا يكون قال محمد رحمه الله: في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة: رجل استأجر رجلاً ليخبز له فخبز فلما أخرج الخبز من التنور احترق من غير عمله فلا ضمان عليه وله الأجر، وهذا إذا كان الخباز يخبز في بيت المستأجر؛ وهذا لأنه لما أخرج الخبز من التنور فقد أتم العمل؛ لأن عمله جعل الدقيق خبزاً ومتى أخرجه من التنور صار منتفعاً به انتفاع الخبز فيتم عمله، وصار مسلماً لقيام يد المستأجر على الخبز؛ لأن الخبز في بيته، والبيت في يده فتثبت يده على الخبز ضرورة ثبوت يده على البيت وإذا صار مسلماً إليه وجب الأجر، فإذا هلك بعد ذلك فقد هلك بعد ما صار مسلماً إلى المستأجر، فلهذا قال: فله الأجر ولا ضمان عليه. أما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ فلأنه لم يهلك من عمله وأما على قولهما: فلأن هلك بعد التسليم. وذكر القدوري في «شرحه» في هذه المسألة: أن عليه الضمان على قولهما لأن العين مضمون على الأجير بمنزلة المغصوب في يد الغاصب، فلا يبرأ عن الضمان إلا بالتسليم دون الوضع في بيته ثم على ما ذكره القدوري إذا وجب الضمان عندهما، كان لصاحب الدقيق الخيار إن شاء ضمنه دقيقاً مثل دقيقه، ولا أجر له وإن شاء ضمنه قيمة الخبز مخبوزاً وأعطاه الأجر. قال القدوري في «شرحه» : ولا ضمان عليه في الحطب والملح عندهما؛ لأن ذلك صار مستهلكاً قبل وجوب الضمان عليه وحال ما وجب الضمان فهو رماد لا قيمة له، وإن لم يخرج الخبز من التنور حتى احترق فلا أجر له؛ لأنه لم يتم عمله فإن ما عمل غير منتفع به فصار كأنه لم يوجد أصلاً فلهذا ما وجب الأجر. وفي القدوري: إذا استأجر (22ب4) رجلاً ليبني له بناء في داره أو فيما هو في يده أو يحفر له بئراً أو قناة في داره أو نهراً، فعمله ولم يفرغ منه حتى انهدم البناء، وانهارت البئر فله من الأجر بحصة ما عمل؛ لأن العمل بقدر ما عمل وقع مسلماً؛ لأن محل العمل في يد المستأجر فيستحق الأجر، وإن كان ذلك في غير ملكه ولا هو في يده فلا أجر له حتى يفرغ منه ويسلمه إليه؛ لأن التسليم لم يوجد، فإن العمل في المحل إنما يعتبر مسلماً إلى المستأجر على تقدير كون المحل في يده. وقال الحسن بن زياد: إذا أراه موضعاً من الصحراء ليحفر فيه بئراً فهو بمنزلة ما لو كان في ملكه ويده قال: وهو قياس قول أبي حنيفة فإنه تثبت يده عليه بالتعيين، لأنه يثبت له ضرب خصوصية فيجعل بمنزلة الملك فيما بينهما، وعن محمد أنه لا يصير قابضاً إلا بالتخلية وهو الصحيح؛ لأنه وإن عين لم تثبت يده على المحل. وفي «الأصل» يقول: إذا استأجر ليحفر له بئراً في الجبانة فحفرها فلا أجر له حتى يسلمها إلى صاحبه قال مشايخنا رحمهم الله: إن محمداً رحمه الله سلم هذه الإجارة ولم

يشترط بيان موضع الحفر قالوا: وهذه إشارة إلى أن بيان الموضع في غير ملكه ليس بشرط. قال في «الأصل» : وإذا استأجر الرجل رجلاً ليضرب له لبناً في داره وعين اللبن أو سمى ملبناً معلوماً فالإجارة جائزة؛ لأنه استأجره لعمل معلوم، وإن لم يعين الملبن ولا سمى ملبناً معلوماً، فإن كانت بلدة ملابينهم مختلفة، وكل الملابن في الاستعمال على السواء فالإجارة فاسدة وإن كانت بلدة لأهلها ملبن واحد أو ملابن مختلفة، إلا أنه غلب استعمالهم لواحد تجوز الإجارة؛ لأن الملبن معلوم في هذه الحالة عرفاً إن لم يكن معلوماً شرطاً، فإن لبنه وأصاب المطر اللبن فأفسده قبل أن يدفعه فلا أجر له، وإن كان يعمل في داره. فرق بين هذا وبينما إذا استأجر خياطاً ليخيط له ثوباً في داره فخاط بعض الثوب فسرق يستحق الأجر بقدره. وكذلك إذا استأجر حفاراً يحفر بئراً في داره فحفر بعضه فانهار استحق الأجر بقدر ما حفر، وكذلك إذا استأجر بنَّاء ليبني له بناء في أرضه فبنى البعض فانهدم، فإنه يستحق من الأجر بقدره. والفرق بين هذه المسائل وبين مسألة اللبن: أن في مسألة اللبن قدر ما وجد من العمل أن وقع مسلماً إلى المستأجر من الوجه الذي صار مسلماً في تلك المسائل، إلا أن هذا القدر من العمل في مسألة اللبن غير مقابل بالأجر؛ لأن الأجر مقابل بعمل الثلثين وليس بثلثين؛ لأن الثلثين لم يتم بعد. ألا ترى أنه يحتاج إلى إحداث عمل آخر فيما عمل، وهو النصب والتسوية فيكون ما يجد به من العمل فيما عمل إتماماً للعمل الأول؛ لأنه يجعل في محل عمل الأول فيكون إتماما لذلك العمل وإذا لم يتم الثلثين قبل النصب والإقامة والأجر مقابل بالثلثين لم يستحق شيئاً.u وإن كان يعمل في داره كما لو استأجر خياطاً ليخيط له ثوباً في داره فقطع الثوب، وقبل الخيط وسرق الثوب لا يستحق بإزاء ما عمل شيئاً وإن وقع ذلك القدر مسلماً، لأنه يعمل في داره إنما كان كذلك؛ لأن الأجر مشروط مقابل بالخياطة، وما صنع ليس بخياطة إنما هو عمل من أعمال الخياطة. وكذلك إذا استأجر رجلاً ليخبز له دقيقاً معلوماً في داره فنخل الدقيق وعجن ثم سرق قبل أن يخبزه لا يستحق أجراً وكذلك لو احترق الخبز في التنور قبل إخراجه من التنور لا أجر له، وإن كان يخبز في بيت المستأجر؛ لأن الأجر مقابل بالخبز ولم يوجد الخبز إنما وجد عمل من أعماله فكذا في مسألتنا. بخلاف ما إذا خاط بعض الثوب؛ لأن القدر الذي أتى به خياطة ألا ترى أنه لا يحتاج إلى فعل آخر فيما خاط، فإنما يحتاج إلى إحداث فعل آخر في محل آخر مثل الأول وما يوجد من الفعل في محل لا يكون إتماماً لما وجد من الفعل في محل آخر. وكذلك قدر ما حفر حفر تام، ألا ترى أنه لا يحتاج

الفصل العاشر: في إجارة الظئر

إلى إحداث فعل آخر فيما حفر وفي البناء كذلك، فإذا تم الفعل الذي صار الأجر به مقابلاً وقد وقع مسلماً إذا كان يعمل في داره استحق الأجر بقدره، وإن هلك بعد ذلك قياس مسألة اللبن من هذه المسائل أن لو أصابه المطر بعد ما نصبه وسواه عند أبي حنيفة وشرح وجمع على قولهما، ولو كان كذلك يستحق الأجر بقدر ما عمل إذا كان يعمل في داره كذا هاهنا، فأما إذا نصبه وسواه بعد الجفاف ولم يشرحه فأصابه المطر فأفسده، وعلى قول أبي حنيفة له الأجر إذا كان يعمل في داره، وعلى قولهما لا أجر له ما لم يشرحه، وأجمعوا على أنه إذا كان يعمل في دار نفسه لا يستحق الأجر وإن وجدت هذه الأعمال ما لم يسلمه إلى المستأجر منصوباً عند أبي حنيفة ومشروحاً عندهما، وحاصل الخلاف بينهم أن الثلثين بماذا يتم. قال أبو حنيفة رحمه الله: بالنصب والتسوية بعد الجفاف، وقالا: بهذه الأشياء وبالتشريح أيضاً. وفي «القدوري» الخياط إذا أخاط في بيت المستأجر، فإن خاط بعضه لم يكن له أجر؛ لأنه لا ينتفع به وإن هلك فلا ضمان عليه فلم يوجب الأجر بخياطة بعض الثوب، وإنه يخالف ما ذكر في «الأصل» قال في «القدوري» وإن فرغ منه فله الأجر، لأنه صار مسلماً للعمل، وعلى قولهما: إذا هلك قبل الفراغ من العمل أو بعده قبل التسليم إلى المالك فهو ضامن، فالمحل مضمون في يد الأجير عندهما فلا يخرج عن الضمان إلا بالتسليم إلى المالك، فإذا هلك كان صاحب الثوب بالخيار إن شاء ضمنه قيمة ثوب ولا أجر له، وإن شاء ضمنه قيمته مخيطاً وأعطاه الأجر. وفي «الأصل» : إذا استأجر رجلاً يضرب له لبناً بملبن معلوم، ويطبخ له في أتون المستأجر ببدل معلوم فهو بمنزلة الخيار وإخراجه من الأتون من تمام عمله، حتى لو هلك قبل الإخراج بعدما نضج وكف عنه النار فإنه لا أجر له؛ لأن غير اللبن لا يحسن إخراج ذلك من الأتون فكان كإخراج الخبز من التنور، ولو هلك بعد ما أخرج من التنور فله الأجر كما في مسألة الخبز وهذا إذا كان يعمل في دار المستأجر، وأما إذا كان يعمل في دار نفسه فلا أجر له حتى يسلمه إلى المالك كما في مسألة الخبز. الفصل العاشر: في إجارة الظئر القياس يأبى جواز إجارة الظئر: لأنها ترد على استهلاك العين مقصوداً وهو اللبن، فهو بمنزلة ما لو استأجر شاة أو بقرة مدة معلومة بأجرة معلومة ليشرب لبنها لكن جوزناها استحساناً بقوله تعالى: {فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن} (الطلاق: 6) ، وهذا العقد لا يرد

على العين وهو اللبن مقصوداً، وإنما يرد على فعل التربية والحضانة وخدمة الصبي، واللبن يدخل فيه تبعاً لهذه الأشياء، هذا جائز. كما لو استأجر صباغاً يصبغ له الثوب فإنها جائزة، وطريق الجواز: أن يجعل العقد وارداً على فعل الصبّاغ، والصبغ يدخل فيها تبعاً فلم تكن الإجارة واردة على استهلاك العين مقصوداً خرج على هذا فصل البقرة والشاة، لأن هناك عقد الإجارة يرد على استهلاك العين مقصوداً، وإذا جازت هذه الإجارة نظر بعد هذا إن لم يشترط في عقد الإجارة أنها ترضع الصبي في منزل الأب، ولم يكن العرف فيما بين الناس أنها ترضع الصبي في منزل الأب وإن شاءت أرضعته في منزلها، لأنه إنما يستحق على الأجير ما شرط عليه ولم يشترط عليها الإرضاع في منزل الأب لا نصاً ولا عرفاً، فلا يلزمها ذلك وإن شرط عليها الإرضاع في منزل الأب أرضعته في بيت الأب، وكان ينبغي أن لا يصح هذا الشرط؛ لأن هذا شرط لا يقتضيه مطلق العقد، ولأحد المتعاقدين فيه منفعة. والجواب: أن الثابت بهذا الشرط زيادة جودة في المعقود عليه، لأن الإرضاع في منزل الأب أجود للصبي من الإرضاع في منزل الظئر؛ لأن الظئر تخشى من الأب في منزله، فتحسن في الإرضاع ما لا تحسن في منزلها واشتراط زيادة الجودة في المعقود (23أ4) عليه الذي لا يقتضيه مطلق العقد لا يفسد العقد. كما لو اشترى عبداً على أنه كاتب أو اشترى بدراهم جياد، وكذلك إذا لم يشترط ذلك عليها صريحاً لكن كان العرف الظاهر فيما بين الناس أن الظئر ترضع الصبي في منزل أبيه لزمها ذلك، لأن المعروف فيما بين الناس كالمشروط ولو ضاع الصبي من يدها أو وقع فمات أو سرق شيء من حلي الصبي، أو ثيابه فلا ضمان على الظئر أما ضمان الصبي فلأنه ضمان آدمي، وضمان الآدمي لا يجب بالعقد. ألا ترى أن ضمان الآدمي تتحمله العاقلة، وضمان المعقود لا تتحمله العاقلة كالثمن والأجر وهذا ضمان عقد فإنه لولا عقد الإجارة لما ضمن الظئر، وأما ضمان ما على الصغير من الثياب والحلي؛ لأن ما عليه تبع له فإذا لم يجب الضمان للأصل. فكيف يجب ضمان البيع وطعام الظئر وكسوتها على الظئر إذا لم يشترط ذلك في عقد الإجارة على المستأجر، لأن الأجير بعقد الإجارة إنما يستحق على المستأجر ما شرط له. فإن قيل: الطعام إن لم يكن مشروطاً لها نصاً فهو مشروط لها عرفاً والمعروف كالمشروط. قلنا: إنما يجعل المعروف كالمشروط في العقد إذا كان فيه تجويز العقد وفي جعل الطعام مشروطاً لها في العقد فساد العقد عندهما قياساً واستحساناً، وعند أبي حنيفة رحمه الله قياساً فلا يجعل ذلك مشروطاً في العقد. ثم إذ استأجر بالدراهم فلا بد من بيان قدرها وصفتها، وإن استأجرها بمكيل أو موزون فلابد من بيان قدره وصفته وإن استأجرها بثياب يشترط فيه جميع شرائط السلم،

وقد مر ذلك في صدر الكتاب وإن استأجرها بطعامها وكسوتها ووصف ذلك جاز بالاتفاق، وإن لم يصف فالقياس أن لا يجوز وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله. وفي الاستحسان يجوز وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وجه القياس في ذلك: أن الأجرة مجهولة وجهالة الأجرة يوجب فساد العقد، كما في سائر الإجارات وجه الاستحسان قوله تعالى: {والوالدات يرضعن أولادهن} إلى قوله: {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف} (البقرة: 223) والمراد من قوله: {رزقهن وكسوتهن} أجرة الرضاع، لا نفقه النكاح لأن الله تعالى ذكر الإرضاع أولاً، ثم أوجب الرزق والكسوة ولم يذكر النكاح والحكم إذا نقل عقيب سبب قائماً يحال بالحكم على السبب المنقول، والسبب المنقول الإرضاع فعلم أن المراد من الآية الأجرة للرضاع. فوجه الاستدلال بالآية: أن الله تعالى أوجب الأجرة للرضاع مع الجهالة فإنه قال: {بالمعروف} ، وإنما يقال: هذا فيما كان مجهول الصفة والنوع كما في قوله عليه السلام لهند امرأة أبي سفيان: خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف» فأما ما يكون معلوم القدر والصفة من كل وجه لا يقال له ذلك بالمعروف، فهذا دليل على أن الطعام والكسوة يصلح أجرة الرضاع مع الجهالة، ولأن هذا يجري مجرى نفقة الولد لأن الواجب في الحاصل والحقيقة نفقة الولد، إلا أن إيصال النفقة إلى الولد بواسطة الظئر وإذا كان هذا يجري مجرى النفقة صح مع الجهالة، ولأن الجهالة لا توجب فساد العقد بعينها بل للإفضاء إلى المنازعة والجهالة هاهنا لا تفضي إلى المنازعة لأن العادة فيما بين الناس، في كل البلدان التوسعة على الظئر وترك المنازعة في طعامهن وكسوتهن، لأن البخس في ذلك يؤدي إلى الضرر بالولد ومثل هذه العادة معدومة في سائر الإجارات. وإذا صحت هذه الإجارة كان لها الوسط من الطعام والكسوة كما في نفقة الولد، والذي يجب على الظئر بعد الاستئجار الإرضاع والقيام بأمر الصبي فيما يصلحه من رضاعه وغسل ثيابه أما الإرضاع فظاهر، وأما القيام بأمر الصبي؛ فلأن القيام بأمر الصبي، وإن لم يكن من الارضاع إلا أن العادة فيما بين الناس أن الظئر هي التي تتولى ذلك فصار ذلك كالمشروط، وما يعالج به الصبيان من الريحان والدهن فهو على الظئر، وكان ذلك عرف ديارهم أما في عرفنا ما يصالح به الصبيان على أهله وطعام الصبي على أهله إن كان الصبي يأكل الطعام، والظئر أن يهبه والمرجع في جميع ذلك العرف وهذا لأن هذه الأشياء من توابع الإرضاع. والأصل: أن الإجارة إذا وقعت على عمل فكل ما كان من توابع ذلك العمل ولم يشترط ذلك على الأجير في الإجارة فالمرجع فيه العرف وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

وليس للظئر ولا للمسترضع أن تفسخ هذه الإجارة إلا بعذر كما في سائر الإجارات، وكان ينبغي أن تكون للظئر ولاية الفسخ من غير عذر، لأن المعقود عليه في جانبها اللبن وإنه عين واستهلاك العين عذر في فسخ العقد كما في باب المزارعة، فإن لمن كان البذر من جهته حق فسخ المزارعة لأنه يحتاج إلى استهلاك العين. وكما إذا استأجر جزاراً ليجزر له حقاً من هذا الأديم، ثم بدا له أن لا يقطع الأديم كان له فسخ العقد، لأنه يحتاج إلى استهلاك العين كذا هاهنا. والجواب هذا هكذا إذا كانت العين متقوماً يضمن بالاستهلاك، وما يستهلك من اللبن ليس بمال متقوم يضمن بالاستهلاك، فكان اللبن والمنفعة سواء فلا يعتبر استهلاكه عذراً في الفسخ والعذر لأجل الصبي أن لا يأخذ لبنها أو معناً، لأن المقصود لا يحصل متى كانت الحالة هذه وكذلك إذا حبلت لأن الحبل يفسد اللبن، وكذلك إذا مرضت لأن اللبن يفسد بسائر أنواع المرض. وكذلك إذا كانت سارقة لأنه يلحقهم زيادة ضرر، وكذلك إذا كانت فاجرة بينة الفجور لأنها ربما تحبل بما تدخل بيتهم فاجراً إن كانت ترضع في بيتهم، وفي ذلك ضرر على أهل الصبي ولأنها تتشاغل عن حفظ الصبي، وكذلك إذا أرادوا سفراً وأبت هي الخروج معهم وهذا لأنه لا يجب على الظئر بعقد الإجارة أن تسافر معهم، لا يجب على أهل الصغير ترك المسافرة وفي ترك الصغير عند الظئر ضرر لأهله، فيتعين الفسخ عند انتفاء هذه الوجوه. وكذلك إذا كانت سيئة الخلق بذيئة اللسان لأنه لا يمكنهم تسليم المعقود عليه إلا بتحمل الأذى، وفيه ضرر زائد والعذر من جانب الظئر أن تمرض مرضاً لا تستطيع معه الإرضاع إلا بمشقة تلحقها، لأنه لا يمكنها إيفاء المعقود عليه إلا بزيادة ضرر. وكذلك إذا حبلت وكذلك إذا آذوها بألسنتهم ولم يكفوا عنها لأنه لا يمكنها تسليم المعقود عليه إلا بضرر زائد، وهو ضرر تحمل الأذى. وكذلك إذا لم تكن معروفة بالظئورة وهي ممن يعاب عليها، فلها الفسخ بخلاف ما إذا كانت تعرف بذلك ومعنى قوله لا تعرف بذلك أن تكون هذه أول إجارة منها، وإن كان الصبي قد ألفها ولا يأخذ لبن غيرها وهي لا تعرف بالظئورة كان لها الفسخ أيضاً في ظاهر الرواية. وروي عن أبي يوسف: أنها ليس لها الفسخ إذا كان يخاف على الصبي من ذلك، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والاعتماد على رواية أبي يوسف، وتأويل قول محمد إذا كان الصبي يعالج بالغذاء من الفانيد والسمن ونحو ذلك مما يعالج به الصبيان أو يأخذ لبن الغير بنوع حيلة، أما إذا كان لا يعالج بالغذاء، ولا يأخذ لبن غيره فجواب محمد رحمه الله كجواب أبي يوسف وعليه الفتوى. وفي «العيون» : إذا استأجر ظئراً لصبي شهراً، فلما انقضى الشهر أبت أن ترضعه والصبي لا يقبل ثدي غيرها، قال محمد رحمه الله: أخبرها على أن ترضعه بأجر مثلها، قال الحاكم: يحتمل أن يكون هذا الجواب في المعروفة بهذا الغدر وإذا كان لها زوج معروف فأجرت نفسها للظئورة بغير إذن الزوج.

ذكر في «الأصل» مطلقاً أن للزوج حق الفسخ قيل: هذا إذا كان الزوج يشينه ذلك لشرفه، أما إذا كان ممن لا يشينه ذلك فليس له الفسخ، وقيل: له حق الفسخ في الحالين، وهو الصحيح أما إذا كان الزوج من الأشراف فلعلتين: أحدهما: أنه يعير بذلك، لأن الإجارة على الرضاع تعد دناءة (23ب4) والنكاح يفسخ لدفع ضرر العار حتى كان للأولياء حق الفسخ إذا زوجت نفسها من غير كفؤ مع أن النكاح لا يفسخ بسائر أسباب الفسخ أولى. ألا ترى أن الغلام المأذون أو البالغ إذا أجر نفسه من رجل ليخدمه ويكون معه كان للأولياء حق الفسخ، وإنما كان لهم حق الفسخ لدفع العار عن أنفسهم كذا هاهنا. ألا ترى أن المرأة إذا كانت من الأشراف، وأهل البيوتات فأجرت نفسها للظئورة، كان للأولياء حق الفسخ، وإنما كان لهم حق الفسخ لدفع العار عن أنفسهم. والثاني: أن هذه الإجارة مما يوجب خللاً بحق الزوج؛ لأنها حال ما تنتقل لخدمة الصبي لا يمكنها خدمة الزوج، وللزوج أن يمنع المرأة عما يوجب خللاً في حقه وأما إذا لم يكن الزوج من الأشراف فللعلة الثانية، وإن كان زوجها مجهولاً لا تعرف أنها امرأته إلا بقولها فليس له أن ينقض الإجارة وإذا كان لها زوج معروف وقد استؤجرت شهراً، فانقضى الشهر والصبي لا يأخذ لبن غيرها إن كانت أجرت نفسها بغير إذن الزوج، فللزوج أن يأباه وإن خيف أن يموت الصبي وإن كانت أجرت نفسها بإذن الزوج فليس للزوج أن يمنعها إذا كان الصبي ممن لا يأخذ لبن غيرها. في «العيون» : وإن كان الزوج قد سلم الإجارة فأراد أهل الصبي أن يمنعوه من غشائها مخافة الحبل وأن يضر ذلك تصبيهم فلهم أن يمنعوه عن ذلك في منزلهم، لا؛ لأن لهم ولاية منعه عن غشائها ولكن لأن غشيانها في منزلهم لا يكون إلا بعد الدخول في منزلهم ولهم ولاية منع الزوج عن الدخول في منزلهم وإن تغشها في منزله فله أن يغشها لأن الغشيان صار مستحقاً له بعقد النكاح لو سقط هذا الحق إنما سقط دفعاً للضرر عن الصبي والحبل أمر موهوم قد يكون وقد لا يكون ولا يجوز إسقاط الحق الثابت بيقين للأمر الموهوم ولا يسع للظئر أن تمنعه عن ذلك، لأن هذا الحق لم يسقط بسبب هذه الإجارة فلا يكون للمرأة منعه عن ذلك وكل ما يضر بالصبي نحو الخروج عن منزل الصبي زماناً كثيراً، وما أشبهه فلهم أن يمنعوها عنه وما لا يضر فليس لهم منعها عنه لحاجتها إلى ذلك، ويصير ذلك مستثناً من الإجارة كأوقات الصلاة ونحوها، ومعنى قوله: وكل ما يضر بالصبي لا محالة، أما ما كان فيه فهم الضرر فليس لهم منعها عنه ألا ترى أنها لا تمنع عن تمكين الزوج في منزله مع أن فيه وهم الضرر. وفي «الأصل» : إذا استأجر الرجل ظئراً لولده الصغير، ثم مات الرجل لا تنتقض إجارة الظئر لأن إجارة الظئر وقعت للصغير؛ لأن الأب فيما يتصرف للصغير وكيل عن الصغير شرعاً، فيعتبر بالوكيل الحقيقي، والوكيل الحقيقي في باب الإجارة إذا مات لا تبطل الإجارة، فكذا الوكيل الشرعي.

فكان الفقيه أبو بكر البلخي يقول: إنما لا تبطل إجارة الظئر بموت الأب وهذا لأنه إذا كان للصغير مال، فالإجارة وقعت للصغير باعتبار المنفعة والأجر جميعاً فإن أجر الإرضاع يجب في مال الصبي، فكانت الإجارة واقعة للصبي من كل وجه فبقي بقاء الصبي فأما إذا لم يكن للصبي مال فالأجر يجب على الأب؛ لأن مؤنة الإرضاع على الأب إذا لم يكن للصغير مال فتكون الإجارة واقعة للأب، فتبطل بموت الأب. ومنهم من قال: لا بل في الحالين جميعاً لا تبطل الإجارة بموت الأب وإطلاق محمد رحمه الله في «الكتاب» يدل عليه. ووجه ذلك: أن الإجارة وقعت للصبي من كل وجه، باعتبار المنفعة والأجر جميعاً فإن الأجر يجب في ذمة الصبي، والأب يقضي ما وجب على الصغير من ماله ألا ترى أنه لو ظهر للصغير مال كان للأب أن يقضي ذلك من ماله فعلم أن الإجارة وقعت للصغير من كل وجه فلا تبطل بموت الأب، أو نقول: إن وقعت الإجارة للأب باعتبار الأجر وقعت للصغير باعتبار المنفعة فمن حيث أنها وقعت للأب إن كانت تبطل بموت الأب، فمن حيث أنها وقعت للصغير لا تبطل فلا تبطل بالشك أو نقول: لا فائدة في نقض الإجارة بموت الأب؛ لأنه يحتاج إلى إعادة مثلها في الحال. ثم قال محمد رحمه الله: وأجر الظئر في ميراث الصبي قيل: أراد به أجر ما يستقبل من المدة بعد موت الأب أما ما وجب من الأجر حال حياة الأب يستوفى من جميع التركة وقيل: الكل يستوفى من نصيب الصغير، وهو الصحيح. وفي «النوازل» : استأجر الرجل ظئراً ليرضع ابنه الصغير، فلما أرضعته شهوراً مات أب الصغير فقالت عمة الصغير للظئر: أرضعيه حتى يعطيك الأجر فأرضعته شهوراً، قال: إن لم يكن للصبي مال حتى استأجرها الأب فمن يوم مات الأب الأجر على العمة ثم ينظر إن كانت وصية الصغير رجعت بذلك في مال الصغير وما لا فلا، وإن كان للصبي مال يوم استأجرها فالأجر كله في مال الصبي وأشار إلى المعنى فقال: لأن في الفصل الأول الإجارة قد انقضت بموت الأب فإذا قالت العمة: أرضعيه ووافقته على ذلك، انعقد بينهما إجارة مبتدأة فيكون الأجر على العمة من هذا الوجه وفي الفصل الثاني الإجارة لم تنتقض بموت الأب، بل بقيت على حالها لأن العقد وقع للصغير من كل وجه فيكون الأجر في مال الصبي. وإن ماتت الظئر انتقضت الإجارة كما في سائر الإجارات إذا مات الآجر وكذا إذا مات الصبي؛ لأن العقد وقع له فيبقى ببقائه ويبطل بموته، ولأنها عجزت عن إيفاء المعقود عليه عجزاً لا يرجى زواله، فهو بمنزلة العبد المستأجر إذا مات وذلك يوجب انفساخ العقد كذا هاهنا. وإذا استأجر الرجل ظئراً ترضع صبيين له فمات أحدهما فإنه يرفع عنه نصف الأجر؛ لأنها بقدر النصف عجزت عن إيفاء المعقود عليه. بيانه: أنه لا يمكن إيفاء المعقود عليه بدون الصبي، وليس لأب الصبي إقامة صبي

آخر مقام الصبي لما يقع بين الصبيين من التفاوت في الإرضاع، فهو معنى قولنا: عجزت عن إيفاء المعقود عليه بقدر النصف فتنفسخ الإجارة في النصف، فلهذا قال: يرفع عنه نصف الأجر. ولو استأجرت ظئرين يرضعان صبياً واحداً فماتت إحداهما، فالأخرى بنصف الأجر إن كان متفاوتاً فبحساب ذلك. والحاصل: أن الأجر يتوزع على لبنهما، وإن أجرت الظئر نفسها من قوم آخرين ترضع صبياً لهم ولا يعلم بذلك أهلها الأولون حتى يفسخوا هذه الإجارة، فأرضعت كل واحد منهما وفرغت فتداعت وهذه خيانة منها ولها الأجر كاملاً على الفريقين، ولا تتصدق بشيء، وهذا الجواب لا يشكل إذا قال أب الصغير للظئر: استأجرتك لترضعي ولدي هذا سنة بكذا؛ لأن الظئر في هذه الصورة تعتبر أجيرة مشترك؛ لأن الأب أوقع العقد أولاً على العمل إنما يشكل فيما إذا قال لها: استأجرتك سنة لترضعي ولدي هذا بكذا؛ لأنها أجيرة وجدت في هذه الصورة لأنه أوقع العقد على المدة أولاً، وسيأتي بيان ذلك في باب الراعي إن شاء الله تعالى. وليس للأجير الواحد أن يؤاجر نفسه من آخر، وإذا أجر لا يستحق تمام الأجر على المستأجر الأول ويأثم. والوجه في ذلك: أن أجير الواحد في الرضاع يشبه أجير المشترك من حيث إنه يمكنه إبقاء العمل إلى كل واحد منهما بتمامه كما في الخياط والقصار، وإن كانت أجير وعد من حيث إنه أوقع بالعقد في حقها على المدة ولو كانت أجيرة وعد من كل.... بل أوقع العقد في حقها على المدة والعمل عمل لا يمكنها إبقاؤها لكل واحد منهما على الكمال في تلك المدة، بأن أجرت نفسها يوماً للحصاد أو للخدمة فخدم في بعض اليوم الأول، وخدم في بعض اليوم (24أ4) الوحد، وقلنا بأنها تستحق الأجر كاملاً لشبهها بالأجير المشترك، وإذا دفعت الظئر الصبي إلى خادمتها حتى أرضعته فلها الأجر كاملاً استحساناً، لأنه لم يشترط عليها الإرضاع بلبنها. فهو نظير من استأجر قصاراً ليقصر له ثوباً أو خياطاً ليخيط له ثوباً ولم يشترط عليه العمل بنفسه فعمل بغيره فإن يستحق الأجر كذا هاهنا، والمعنى فيه أن قوله: ليخيط ليقصر لترضع كما تذكر ويراد به المباشر تذكر ويراد به النسب فلا تتعين المباشرة مراداً له إلا بالتنصيص عليه، فأما إذا شرط عليها الإرضاع بنفسه فدفعته إلى خادمتها حتى أرضعته، هل تستحق الأجر؟ فقد اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنها لا تستحق.r وإن أرضعته بلبن شاة أو غذته بطعام حتى انقضت المدة فلا أجر لها؛ لأن هذا لا يسمى إرضاعاً فلا يتحقق إيفاء المعقود عليه وبدونه لا تستحق الأجر وإن جحدت الظئر ذلك، وقالت: ما أرضعته بلبن البهائم وإنما أرضعته بلبني فالقول قولها مع يمينها استحساناً وإن قامت لأهل الصبي بينة على ما ادعوا فلا أجر لها.

قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: تأويل المسألة أنهم شهدوا أنها أرضعته بلبن الشاة، وما أرضعته بلبن نفسها أما لو اكتفوا بقولهم: ما أرضعته بلبن نفسها لا تقبل شهادتهم؛ لأن هذه شهادة قامت على النفي مقصوداً بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك النفي دخل في ضمن الإثبات وإن أقاما البينة أخذت ببينة الظئر. وإذا استأجر الأب أم الصغير لإرضاعه فهو على وجهين: إما أن يستأجرها بمال نفسه أو بمال الصغير، فإن استأجرها حال قيام النكاح بمال نفسه لا يجوز، واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة بعضهم قالوا: إرضاع الصبي حال قيام النكاح واجب عليها ديانة إن لم يكن واجباً حكماً؛ وهذا لأنه اجتمع ما يوجب أن يكون الرضاع واجباً عليها وما يمنع أن يكون الإرضاع واجباً عليها من حيث إن النكاح وضع لاستحقاق الوطئ على المرأة ولاستحقاق المهر على الزوج، لا الإرضاع يوجب أن لا يكون الإرضاع واجباً عليها ومن حيث إن الامتناع عن إرضاع الصغير حال قيام النكاح سبب النفرة والنفرة سبب فوات مصالح النكاح يوجب أن يكون الإرضاع واجباً عليها فجعلناه واجباً ديانة لا حكماً. إذا أثبت هذا فنقول: اعتبار الحكم إن كان يوجب جواز هذه الإجارة فاعتبار الديانة يمنع الجواز؛ لأن الإجارة بالاستحقاق قائماً بجوز إيرادها على ما ليس بمستحق، فلا يثبت الجواز بالشك وبعضهم قالوا: إنما لا يجوز هذا العقد؛ لأنه مهجور بين الناس. فإنك لا ترى امرأة في نكاح رجل تأخذ الأجر على إرضاع ولده منها ولعرف الناس أثراً في جواز العقد وفساده، ألا ترى لو استأجر الرجل مرآة ليسوي عمامته جاز، ولو استأجر حباً لذلك لا يجوز وما افترقا إلا من حيث إن الأول عمل الناس، والثاني ليس عمل الناس، وبعضهم قالوا: إنما لا يجوز هذا العقد؛ لأنه استأجرها هي فيه شريكة؛ لأنهما يشتركان في الولد والإجارة لمثل هذا العمل لا يجوز وكما لا يجوز استئجار خادمتها؛ لأن خادمتها مملوكة لها وما يجب من الأجر فهو لها فيكون استئجار خادمتها كاستئجارها، وكذا لا يجوز استئجار مدبرتها، ولو استأجر مكاتبة لها جاز. وإن استأجرها بمال الصغير روى ابن سماعة عن محمد: أنه يجوز وهو مشكل على العبادات كلها هذا استأجرها حال قيام النكاح وإذا استأجرها بعد الطلاق، فإن كان الطلاق رجعياً لا يجوز لأن الطلاق الرجعي لا يقطع ملك النكاح، فصار الحال بعد الطلاق الرجعي كالحال قبل الطلاق، وإن كان بائناً ففي ظاهر الرواية يجوز؛ وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجوز؛ لأن هذا منع ثبت بالنكاح فبقي ما بقيت العدة كمنع نكاح الأخت وأربع سواها ومنعها عن زوج آخر. وجواب ظاهر الرواية يخرج على العبارة الأولى والثانية أما على العبارة الأولى؛ فلأنا إنما أوجبنا الإرضاع عليها ديانة؛ لأن الامتناع عنه سبب لوقوع الخلل في مصالح النكاح بواسطة النفرة وهذا المعنى لا ينافي بعد الطلاق البائن؛ لأن مصالح النكاح لا حصول لها بعد البينونة، وأما على العبارة الثانية فلأن هذا العقد غير مهجور فيما بين

الفصل الحادي عشر: في الاستئجار للخدمة

الناس ولا يخرج على العبارة الثالثة، وإنه ظاهر هذا إذا استأجر زوجته لإرضاع ولده منها ولو استأجرها لإرضاع ولده من غيرها يجوز، وإنه يخرج على العبارات كلها. ولو استأجر الرجل أمته أو ابنته أو أخته ترضع صبياً له جاز، وكذلك كل ذات رحم محرم منه. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا استأجر ظئراً لترضع ولده سنة بمئة درهم على أنه إن مات الصبي قبل ذلك فالدراهم كلها للظئر فهذا شرط فاسد يفسد الإجارة؛ لأنه يخالف حكم الشرع؛ لأن حكم الشرع انفساخ الإجارة عند موت الصبي قبل المدة وعود الأجرة إلى المستأجر بقدر ما بقي من المدة، فإذا شرط خلافه فسد به العقد، فإن مات الصبي قبل ذلك فلها بقدر ما أرضعت أجر مثلها وترد البقية إلى المستأجر. وفي «فتاوى الفضلي» : استأجر ظئراً ترضع ولده سنة على أن أجرتها ليلة ويوماً خمسون درهماً، وباقي السنة ترضع مجاناً فأرضعت شهرين ونصف ثم مات الولد يحسب لها من ذلك أجر مثلها على رضاع شهرين ونصف وترد الباقي؛ لأن هذه إجارة فاسدة؛ لأن قضية العقد انقسام الأجرة على منافع المدة، وقد شرط خلافها أو لأنهما شرطا عقد التبرع في الإجارة. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: مسلمة ترضع ولده الكافر بالأجر فلا بأس به فقد صح أن علياً رضي الله عنه أجر نفسه من كافر، ليسقى له الماء والله أعلم. الفصل الحادي عشر: في الاستئجار للخدمة قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ويكره للرجل أن يستأجر امرأة حرة يستخدمها بخلوتها؛ لأن الخلوة بالأجنبية قبل الإجارة مكروه كيلاً تصير سبباً للوقوع في الفتنة، وهذا المعنى موجود بعد الإجارة لكن الإجارة جائزة؛ لأنها عقدت على الاستخدام وأنه مباح في الخلوة بها وقد يخلو بها وقد لا يخلو بها وكان بمنزلة الاستئجار على كتابة النوح والغناء، فإنها جائزة؛ لأن المعصية في القراءة وعسى تقرأ وعسى لا تقرأ كذا هاهنا، إلا أنه لم يذكر الكراهة ثمة وذكر هاهنا لأنه قد يخلو بها والخلوة بالأجنبية في الحمل على المعصية أبلغ من الكتابة في حمله على القراءة، فلهذا ذكر الكراهة هاهنا ولم يذكر ثمة. وفي «النوازل» : حرة أجرت نفسها من رجل ذي عيال فلا بأس به ولكن يكره أن يخلو بها؛ لأنه من احتمال الوقوع في الفساد، وهو تفسير ما ذكر في «الأصل» . وقال أبو حنيفة: إذا استأجر الرجل امرأته لتخدمه كل شهر بأجر مسمى لا يجوز؛ لأن خدمة الزوج مستحقة على المرأة ديانة لما فيه من حسن المعاشرة، أن لم يكن مستحقاً عليها حكماً، والإجارة على ما كان مستحقاً على الأجير ديانة لا حكماً لا تجوز،

كما لو استأجرها لتخدمه فيما ليس من جنس خدمة البيت كرعي دوابه، وما أشبه ذلك يجوز؛ لأن غير ذلك غير مستحق عليها لا حكماً ولا ديانةً. ولو استأجرت زوجها ليخدمها قال هو جائز هكذا ذكر (24ب4) في ظاهر الرواية وروى أبو عصمة سعد بن معاد المروري عن أبي حنيفة، أنه باطل وذكر في كتاب جعل الآبق أن المرأة متى استأجرت زوجها، فله أن لا يخدمها ومتى رفع إلى القاضي فإن القاضي يفسخ العقد وينقضه. فمن مشايخنا من قال: ليس في المسألة اختلاف الروايتين لكن تأويل ما روى أبو عصمة أنه باطل أنه سيبطل، ومنهم من قال: لا بل في المسألة روايتان على ظاهر الرواية يجوز وله حق الفسخ بالمرافعة إلى القاضي، وعلى رواية أبي عصمة لا يجوز، واتفقت الروايات أن الأب إذا أجر نفسه للخدمة من ابنه لا يجوز حتى كان له أن يفسخ من غير قضاء ولا رضا. واتفقت الروايات في الزوج والأب إذا أخدمهما أنهما يستحقان المسمى، نص على هذا في كتاب المزارعة، فإنه قال في المزارعة: كل من لا يجوز أن يستأجر للخدمة فله أجر المثل إلا الوالد والزوج فوجه أبو عصمة الاستخدام على سبيل القهر من غير عوض يجعل للخادم ذل ويقتضيه بالخادم. ولهذا قالوا: الكافر إذا اشترى عبداً مسلماً فإنه يجبر على بيعه حتى لا يستخدمه قهراً من غير عوض يحصل للعبد فيكون في ذلك إخلالاً بالمسلم وليس للكافر استذلال المسلم فدل أن الاستخدام على سبيل القهر من غير عوض يحصل للخادم ذل. وليس للمسلم أن يذل نفسه إذا ثبت هذا فنقول: بأن إجارة المرأة زوجها للخدمة لو صحت كان في ذلك استخدام الزوج على سبيل القهر من غير عوض يحصل له من وجه؛ لأنه إن حصل له عوض باعتبار ملك الرقبة فإن الأملاك من حيث الرقبة متباينة لم يحصل له العوض باعتبار المنافع متصلة ما للزوج كما للمرأة، وما للمرأة كأنه للزوج ولهذا لم يجز لواحد منهما أن يضع زكاة ما له في يد صاحبه فباعتبار المنفعة لا يحصل العوض فلا ينتفي الذل، وكان كالأب إذا أجر نفسه من ابنه للخدمة فإنه لا يجوز؛ لأنه من وجه كالحاصل بغير عوض من حيث إن للأب شبه ملك في مال ابنه، وهذا بخلاف المسلم إذا آجر نفسه من كافر للخدمة حيث يجوز باتفاق الروايات؛ لأنه وإن كان يستخدمه قهراً بعد الإجارة إلا أنه يستوجب عليه عوضاً من كل وجه على سبيل القهر، فينتفي الذل أما هاهنا بخلافه وجه ظاهر الرواية. وهو الفرق بين الزوج وبين الأب أن مال الزوج في مال امرأته دون ما للأب في مال ولده؛ لأن للأب في مال ولده شبهة ملك حتى لو وطئ جارية ابنه، وقال: علمت أنها علي حرام لا يحد وليس للزوج في مال امرأته شبهة ملك ولهذا لو وطئ في جارية زوجته، وقال: علمت أنها علي حرام يحد ولو كان للزوج في مال زوجته مثل ما للأب في مال ولده لكان لا تجوز الإجارة أصلاً ولو لم يكن للزوج في مال زوجته شيء أصلاً

لكانت تجوز الإجارة، كما لو أجر نفسه لخدمة أجنبية فإذا كان له في مال المرأة شيء، ولكن دون ما للأب في مال ابنه حكمنا بجواز الإجارة وأثبتنا له حق الفسخ بالمرافعة إلى القاضي توقيراً على الأمرين حطهما بقدر الممكن. وفي «الفتاوى» : امرأة قالت لزوجها اغمز رجلي على أن لك علي ألف درهم فغمز الزوج رجلها، إلى أن قالت: لا أريد الزيادة فالإجارة باطلة؛ لأن استئجار المرأة زوجها للخدمة باطلة، وهذا الجواب يوافق رواية أبي عصمة ويخالف ظاهر الرواية ثم الزوج أو الأب إذا خدم كان له المسمى اتفقت الروايات في ذلك، وهذا الحكم لا يشكل في الزوج على ظاهر الرواية؛ لأن على ظاهر الرواية هذه الإجارة جائزة أما يشكل على رواية أبي عصمة لأن على هذه الرواية الإجارة فاسدة، وكذلك يشكل في الأب على ظاهر الرواية لأن على ظاهر الرواية استئجار الابن أباه للخدمة فاسدة. وفي الإجارة الفاسدة يجب أجر المثل، والجواب أنا إنما حكمنا بفساد هذه الإجارة في الزوج على رواية أبي عصمة، وفي الأب على ظاهر الرواية نظراً للأب والزوج حتى لا يلحقه ذل بسبب الخدمة، والنظر في إيجاب المسمى متى خدم لا في إيجاب أجر المثل لا يزاد على المسمى، إن كان المسمى شيئاً معلوماً فلا يستحق الزيادة إن كان أجر مثله يريد على المسمى، وينقص عن المسمى إذا نقص أجر المثل عن المسمى، وإذا حكمنا بوجوب المسمى لا ينقص عنه شيء بعد ذلك فكان النظر في إيجاب المسمى من هذا الوجه، فلهذا أوجبنا المسمى. هذا كما قلنا في العبد المحجور إذا أجر نفسه أنه لا تجوز الإجارة، ولكن إذا عمل وسلم من العمل يستحق المسمى؛ لأنا إنما حكمنا بالفساد نظراً للمولى، وانظر متى عمل وسلم في التجويز حتى لا تزول منافع عبده مجاناً كذا هنا. وإن استأجرت المرأة زوجها ليرعى غنمها، أو يقوم على عمل لها جاز أما على ظاهر الرواية فظاهر، وأما على رواية أبي عصمة فلأنه لا ذل فيه. ولو استأجر الرجل ابنه للخدمة أو استأجرت المرأة ابنها للخدمة لم يجز، وإذا خدم فلا أجر له؛ لأن خدمة الأب واجبة على الابن فالإجارة وردت على ما هو المستحق فلا تعمل، قال: إلا إذا كان الابن عبداً للغير أو مكاتباً للغير فاستأجره أحدهما من المولى للخدمة، لأن خدمة الأب لا تلزم الابن إذا كان عبداً لغيره أو مكاتباً لغيره، وإن كان الابن حراً فاستأجره أحدهما ليرعى غنماً له أو استأجره لعمل آخر وراء الخدمة، فإنه يجوز. وإن استأجر الابن أمه، أو جدته، أو جده للخدمة لا يجوز ولو خدمت فلها المسمى، ويستوي ذلك أن يكون الابن حراً، أو عبداً مسلماً، أو كافراً؛ لأن خدمة الأب واجبة على الابن مع اختلاف الدين، ويجوز الاستئجار للخدمة فيما بين الأخوة وسائر القرابات. ومن مشايخنا من قال: إذا استأجر عمه للخدمة والعم أكبر أو استأجر أخاه الأكبر للخدمة لا يجوز.

ويكره للمسلم أن يؤاجر نفسه من الكافر للخدمة، ويجوز إذا فعل، أما الجواز فلما مرّ وأما الكراهة؛ لأنه استذلال صورة فإن لم يكن استذلالاً معنى، وليس للكافر استذلال المسلم صورة. «وفي فتاوي الفضلي» : لا تجوز إجارة المسلم نفسه من النصراني للخدمة، وفيما سوى الخدمة يجوز والأجير في سعة من ذلك ما لم يكن في ذلك إذلال. وإذا استأجر الرجل عبداً ليخدمه كل شهر بأجر مسمى فله أن يستخدمه من السحر إلى ما بعد العشاء الآخرة، والقياس أن يكون له استخدامه بالليل والنهار الشهر كله؛ لأن الشهر اسم لثلاثين يوماً وليلة إلا أن ما بعد العشاء الآخرة إلى السحر صار مستثنى عن الإجارة عرفاً، فإن العرف فيما بين الناس أنهم لا يستخدمون المماليك بعد العشاء الآخرة إلى السحر؛ لأنهم ينامون والمستثنى عرفاً كالمستثنى شرطاً. وإذا استأجر الرجل عبداً شهرين شهراً بخمسة وشهراً بستة، كان الشهر الأول بخمسة، والشهر الثاني بستة؛ لأن قوله: آجرتك شهراً بخمسة بمنزلة قوله: أجرتك هذا الشهر؛ لأن الإجارة شهراً تنصرف إلى الشهر الذي يلي العقد فصار كأنه قال: آجرتك هذا العبد في هذا الشهر بخمسة، وفي الشهر الثاني بستة. وإذا استأجر عبداً بالكوفة يستخدمه ولم يعين مكاناً للخدمة، كان له أن يستخدمه بالكوفة وليس له أن يستخدمه خارج الكوفة؛ لأن الاستخدام بالكوفة ثابت بدلالة الحال فيعتبر بما لو ثبت نصاً. بيانه: أن المستأجر له حمل ومؤنة فالظاهر من حال صاحب العبد، أنه يريد الاستخدام في مكان العقد حتى لا يلزمه مؤنة الردود بما يرى ذلك على الأجر فيتعين موضع العقد مكاناً للاستيفاء بدلالة الحال من هذا الوجه، فإن سافر بها ضمن (25أ4) لأن كونه تعين مكاناً للاستيفاء بدلالة الحال فيعتبر بما لو تعين بالنص وهناك لو سافر بالعبد يضمن كذا هاهنا، هكذا ذكر محمد رحمه الله في إجارات «الأصل» وذكر في صلح «الأصل» أن من ادعى داراً وصالحه المدعى عليه على خدمة عبده سنة إن له أن يخرج بالعبد إلى أهله؛ لأن الإذن بالاستخدام حصل مطلقاً واعتبره بالعبد الموصى له بالخدمة. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني في «شرح كتاب الصلح» : لم يرد بقوله يخرج بالعبد إلى أهله أن يسافر به، وإنما أراد به أن يخرج به إلى أهله في القرى، وأقرّ البلد قال رحمه الله: وهذا كما قلنا في باب الإجارة من استأجر عبداً للخدمة ليس له أن يسافر به، وله أن يخرج إلى أهله في القرى وما فيه البلدة. وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله يفرق بين مسألة الصلح وبين مسألة الإجارة وكان يقول في مسألة الصلح: لصاحب الخدمة أن يسافر بالعبد، وليس للمستأجر أن يسافر بالعبد المستأجر للخدمة. وحكي عن الفقير أبي إسحاق الحافظ أنه كان يقول: لا رواية عن محمد في فصل الإجارة فلقائل أن يقول: للمستأجر أن يخرج بالعبد عن المصر كما في الصلح ولقائل:

أن يفرق بينهما وقد عرنا على الرواية في «إجارات الأصل» على نحو ما كتبنا قال محمد رحمه الله: وليس للمستأجر أن يضرب الغلام لأن صاحب الغلام لم يأذن له بالضرب، إنما أذن له بالاستخدام والضرب ليس من الاستخدام في شيء، ولا ضرورة إليه أيضاً؛ لأنه يمكن استخراج الخدمة من العبد بدون الضرب بالملائمة فلا يصير الضرب مأذوناً فيه وخرج على هذا فصل الدابة فإن المستأجر الدابة للركوب أن يضرب الدابة لأنه لا يمكن استخراج السير من الدابة بدون الضرب فصار الضرب ثمة مأذوناً فيه أما هاهنا بخلافه. ولو دفع المستأجر الأجر إلى العبد فإن كان العبد هو العاقد فقد برأ عن الأجر، لأنه دفع الأجر إلى العاقد وإن لم يكن عاقداً لا يبرأ وإن حصل الرد إلى من يره يد المولى من حيث الحكم، فرق بين هذا وبين المودع إذا دفع الوديعة إلى عبد المودع حيث لا يضمن. والفرق: أن يد العبد يد المولى من حيث الحكم لا من حيث الحقيقة والأمر كان واجباً على المستأجر، فباعتبار الحكم إن كان يحصل له البراءة عنه فباعتبار الحقيقة لا تحصل فلا تحصل البراءة بالشك، أما الوديعة فلم تكن في ضمان المودع فباعتبار الحقيقة إن كان يجب الضمان، فباعتبار الحكم لا يجب فلا يجب الضمان بالشك. وإذا استأجر الرجل عبداً للخدمة فله أن يكلفه ما هو من أنواع الخدمة؛ لأن الخدمة اسم جنس فتتناول جميع أنواعه فله أن يكلفه أن يخيط له يوماً، وأن يخبز له هكذا ذكر في «الكتاب» قالوا: وهذا إذا كان خياطة وخبزاً لا بدّ للمستأجر منه، وأما إذا أراد أن يقعده خياطاً يخيط ثياب الناس أو يقعده خبازاً يخبز للناس ليس له ذلك؛ لأن هذا تجارة واكتساب المال فلا يدخل تحت اسم الخدمة. قال: وطعام العبد على صاحبه وليس على المستأجر من ذلك شيء؛ لأن المستحق على المستأجر المشروط عليه في العقد والطعام غير مشروط على المستأجر في العقد لا نصاً ولا عرفاً. قال: وإذا نزل بالمستأجر ضيفان ففي العبد المستأجر أن يخدمهم؛ لأن خدمة ضيفان المستأجر من جملة خدمة المستأجر ألا ترى أنه لولا هذا العبد كان على المستأجر أن يخدمهم ديانة ومروءة قال عليه السلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه أو فليخدم ضيفه» وإذا كان على المستأجر خدمة ضيفه، وإذا كان على المستأجر خدمة نفسه صار خدمة ضيفانه كخدمته. وإن تزوج المستأجر امرأة بعد ما استأجر العبد، فعلى العبد أن يخدم المستأجر ويخدم المرأة أيضاً؛ لأن حال المرأة لا يكون أقل من حال الضيف، وعلى العبد خدمة الضيف فكان عليه خدمة المرأة من الطريق الأولى. وفي رواية إبراهيم عن محمد: رجل أجر عبداً له سنة ثم إن العبد أقام البينة أن المولى كان أعتقه قبل الإجارة، فالأجرة للعبد؛ لأنه تبين أن المولى كان أجنبياً في هذه

الإجارة فتوقف على إجارة العبد، ونفذ بإجارته والمبدل وهو المنافع بعد العتق للعبد فكان البدل له أيضاً ولو قال العبد: إني حر، وقد فسخت الإجارة ولم يكن له بينة ودفعه القاضي إلى مولاه وأجبره المولى على العمل ثم أقام بينة أنه حر، وأن المولى أعتقه قبل الإجارة فلا أجر للعبد ولا للمولى ولو لم يقل فسخت كان الأجر للعبد، ولو كان غير بالغ فادعى العتق وقد أجره المولى وقال: قد فسخت ثم عمل، وباقي المسألة بحاله فالأجر للغلام. قال في «الكتاب» : وهو بمنزلة لقيط في حجر رجل أجره، وفي المسألة نوع إشكال؛ لأنه تبين أن المولى كان أجنبياً عنه، وأن عقده يوقف على إجارته فينبغي أن يعمل فسخه حتى لا يكون له الأجر ثم أشار إلى الجواب، وقال: هذا بمنزلة لقيط في حجر رجل أجره. وبيان ذلك: أن الملتقط إنما ملك إجارة اللقيط لأنه بالإجارة يجعل ما ليس بمتقوم في حقه متقوماً، وإنه نظر في حق الصغير وهذا المعنى يقتضي أن يملك المولى إجارة معتقة، إذا كان صغيراً في حجره فينفذ عقد المولى الإجارة عليه بصفة اللزوم فلا يملك فسخها بعد ذلك. قال في «القدوري» : وإذا أجر الرجل عبده سنة فلما مضت ستة أشهر أعتقه فعتقه جائز، لأنه اعتق ملك نفسه والرقبة بعد الإجارة باقية على ملك المولى فينفذ عتقه، وكان العبد بالخيار إن شاء مضى على الإجارة وإن شاء فسخ، وهذا بناء على ما قلنا: أن عقد الإجارة ينعقد ساعة فساعة على حسب حدوثها، والمنافع بعد العتق حدث على ملك العبد، فيصير العقد في حق المنافع الحادثة بعد العتق كأنه صدر من الفضولي فتوقف على الإجازة، وإذا أجاز لم يكن له أن ينقض بعد ذلك وأجر ما مضى للسيد وما بقي للعبد لأن الأجر بدل المنافع والمنافع بعد العتق ملك العبد، ونفذ العقد عليها بإجارة العبد فكان بدلها للعبد، وليس للعبد أن يقبض الأجرة إلا بوكالة من المولى؛ لأن قبض البدل من حقوق العقد، فثبت للعاقد والعاقد هو المولى، وإن كان المولى حين أجر العبد استعجل الأجرة ثم أجاز العبد بعد العتق، فالأجرة كلها للسيد؛ لأن الأجرة تملك بالتعجيل وفي تلك الحالة المبدل على حكم ملك المولى، فصارت الأجرة مملوكة للمولى، وبالإجارة عن العبد تقرر حكم ذلك الملك فلا يتغير بالعتق. ولو كان العبد هو الذي آجر نفسه بإذن المولى، ثم عتق بعد ما مضى مدة فله حق الفسخ، والعبد هو الذي يلي قبض الأجرة؛ لأن العقد كان منه ولو آجر المكاتب عبده، ثم عجز ورد في الرق، فالإجارة باقية في قول أبي يوسف وقال محمد: تنقض الإجارة.f ولو استأجر عبداً ثم عجز بطلت الإجارة في القولين، ولو أجر الرجل عبداً له ثم استحق وأجاز المستحق الإجارة، فإن كانت الإجارة قبل استيفاء المنفعة جاز وكانت الأجرة للمالك لأن الإجارة في الانتهاء كالأذن في الابتداء، وإن أجاز بعد استيفاء المنفعة لم تعتبر الإجارة والأجرة للعاقد؛ لأن المنافع قد مضت وتلاشت (25ب4) .

وابتداء العقد عليها لا يجوز فلا تلحقها الإجازة؛ لأن الإجازة في معنى ابتداء العقد وإن أجاز في بعض المدة، فالأجر في الماضي والباقي للمالك في قول أبي يوسف. وقال محمد: أجر ما مضى للغاصب وما بقي فهو للمالك. فوجه قول أبي يوسف: أن العقد قائم فتلحقه الإجازة، ووجه قول محمد: أن العقد ينعقد ساعة فساعة، ففي حق ما مضى من منفعة العقد قد انعدم فلا تلحقه الإجازة. وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا أجرت المرأة دارها من زوجها وسكناها جميعاً فلا أجر لها، قال وهو بمنزلة استئجارها لتطبخ، أو تخبز، هكذا ذكر. وقيل: في المعنى أن التسليم شرط لصحة الإجارة، ولوجوب الأجر وسكناها معه يمنع التسليم والحكم ممنوع والعلة مردودة، والقياس على استئجارها للطبخ والخبز غير صحيح؛ لأن الطبخ والخبز واستحق عليها ديانة إن لم يكن مستحقاً عليها حكماً. أما إسكان الزوج في منزلها غير مستحق عليها إلا ديانة ولا حكماً وقوله: بأن سكناها مع الزوج يمنع التسليم. قلنا: لا يمنع لأنها تابعة للزوج في السكنى ولو استأجر الرجل غلاماً ليخدمه فرفع الغلام شيئاً من متاع البيت، ووقع من يده على شيء آخر من متاع البيت فكسره فلا ضمان على الغلام، ولو وقع على وديعة كانت عند المستأجر وكسرها فالغلام ضامن. ومما يتصل بهذا الفصل إجارة الصبي والاستئجار له إذا أجر الأب أو الجد أو الوصي الصبي في عمل من الأعمال، فهو جائز؛ لأن لهؤلاء ولاية استعمال الصغير من غير عوض بطريق التهذيب والرياضة، فمع العوض أولى، ولا يجوز إجارة غيرهم إذا كان له واحد منهم؛ لأنه لا ولاية لغيرهم على الصغير حال قيام واحد منهم وإن لم يكن له واحد منهم فأجره ذو رحم محرم منه، وهو في حجره جاز بطريق التهذيب والرياضة فإن لصاحب الحجر ولاية تهذيب من في حجره، فإن كان في حجره ذو رحم محرم فأجره آخر هو أقرب كالصبي إذا كان في حجر عمه وله أم فأجرته الأم جاز في قول أبي يوسف وقال محمد: لا يجوز. فوجه قول محمد: أن هذه الولاية في حق غير الأب والجد ووصيهما بطريق التهذيب والرياضة، وإنما تثبت ولاية التهذيب والرياضة لمن كان الصبي في حجره، ولأبي يوسف أن القرابة مؤثرة في إثبات الولاية فإذا ملكه الأبعد ملكه الأقرب من الطريق الأولى، والذي ولي الإجارة على الصغير أن يقبض الأجرة؛ لأنه من حقوق العقد فيتعلق بالعاقد وليس له أن ينفقها عليه؛ لأنها مال الصغير وليس لغير الأب والجد ووصيهما؛ ولأنه التصرف في مال الصغير، وكذلك إذا وهب للصغير شيء فللذي الصغير في حجره أن يقبضه، ولكن لا ينفق عليه لما قلنا وللأب والجد ووصيهما إجارة عبد الصبي وسائر أمواله، فأما غير ممن هؤلاء ممن الصغير في حجره لا يمكن إجارة مال الصغير؛ لأنه ليس لغير هؤلاء ولاية التصرف في مال الصغير.

وعن محمد رحمه الله أنه قال: استحسن أن يؤاجروا عبده، لأنه ظهر ولا يتهم في نفس الصغير نظراً له فكذا تظهر ولايتهم في مال الصغير نظراً له قال: وكذلك استحسن أن ينفقوا عليه ما لا بد منه؛ لأن في تأخير ذلك ضرر بالصغير، ولو أجر الأب أو الجد أووصيهما الصغير ثم بلغ الصغير فهو بالخيار إن شاء مضى على الإجارة وإن شاء فسخ. فرق بين هذا وبينما إذا أجروا عبداً للصغير، ثم بلغ الصغير حيث لا يكون له ولاية الفسخ. والفرق: أن إجارة مال الصغير محض منفعة في حق الصغير إذ بها يحصل للصغير ما هو متقوم وهو الأجر بمقابلة ما ليس بمتقوم وهو المنافع فينوب الجد والوصي فيها مناب الصغير، وصار كأنه آجر بنفسه وهو بالغ، فأما إجارة الصغير لم يتمحض نفعاً في حق الصغير؛ لأنه أتعب بدنه فكان ينبغي أن لا يملكها هؤلاء لكن ملكوها من حيث التهذيب والرياضة، فلهؤلاء ولاية تهذيب الصبي ورياضته قلنا: وولاية التهذيب قد انقطعت بالبلوغ. وإذا أجر الوصي نفسه للصغير لا يجوز. أما على قول محمد؛ فلأن الوصي لا يملك بيع مال نفسه مع أنه مقابلة العين بالعين فلأن لا يملك إجارة نفسه منه وإنه مقابلة المنفعة بالعين أولى. وأما على قول أبي حنيفة: فلأنه إنما يملك بيع مال نفسه من الصغير إذا كان النفع ظاهراً للصغير ولا نفع في بيع المنفعة للصغير، وإن كان بأقل من قيمته بحيث لا يتغابن الناس في مثله؛ لأن ما يحصل للوصي غبن وما يحصل للصغير منفعة والعين خير من المنفعة. ولو استأجر الوصي الصغير لنفسه فينبغي أن يجوز في قول أبي حنيفة إذا كان بأجرة لا يتغابن الناس في مثلها؛ لأن في هذا التصرف نفع للصغير؛ لأنه يحصل له العين وهو الأجر بمقابلة المنفعة، وأما الأب إذا استأجر الصغير لنفسه لا شك في جواز هذه الإجارة، وأما إذا أجر نفسه للصغير بمثل القيمة ذكر في عامة الروايات أنه يجوز عندهم جميعاً؛ لأنه باع منفعة له من الصغير بمثل القيمة فيعتبر بما لو باع عيناً له من الصغير بمثل القيمة، وذلك جائز فكذا هذا. وذكر في بعض الروايات أنه لا يجوز، هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» . ووجه ذلك: أن العمل للصغير واجب على الأب ديانة، إن لم يكن واجباً من حيث الحكم، فالوجوب ديانة مانع جواز الإجارة لما هو قبل هذا. الوصي إذا استأجر من نفسه عبد اليتيم ليعمل ليتيم آخر هو في حجره، وهو وصيهما لا يجوز؛ لأنه باع منفعة أحد اليتيمين من الآخر فيعتبر بما لو باع عيناً من أعيان مال أحدهما من الآخر وذلك لا يجوز، فهذا كذلك الصبي المحجور إذا أجر نفسه لم يجز. وكذلك العبد المحجور إذا أجر نفسه لم يجز، وهذا؛ لأن الإجارة عقد المعاوضة كالبيع فلا يملكها المحجور عليه كما لا يملك البيع، فإن عمل فهذا على وجهين: إما إن سلم من العمل وفي هذا الوجه القياس أن لا يجب الأجر؛ لأن وجوب الأجر باعتبار العقد والعقد باطل.

وفي الاستحسان يجب الأجر المسمى؛ لأن بعدما سلم من العمل فتجويز العقد يتمحض نفعاً في حق المولى وفي حق الصبي؛ لأنا إذا جوزنا الإجارة يحصل للمولى وللصبي الأجر من غير ضرر يلزمهما، ولو لم تجوز لا يجب الأجر وتضيع على المولى منافع العبد وعلى الصبي منافع نفسه ولا يتقوم أصلاً، وعلم أن الجواز بعدما سلم من العمل تمحض نفعاً وامتناع الجواز من الابتداء لكون الإجارة مترددة بين الضرر والنفع لجواز أن يهلك العبد أو الصبي من العمل فيبطل ضمان العين إن حصل به الأجر، فكانت الإجارة نفعاً شائباً بالضرر فلم يجز من الابتداء؛ لهذا وبعد ما سلم من العمل بمحض الجواز نفعاً، والمحجور غير ممنوع عن استجلاب النفع كقبول الهبة وغير ذلك؛ فلهذا جازت الإجارة. وإما إن هلك المحجور من العمل، وفي هذا الوجه إن كان المحجور صبياً وعلى عاقلة المستأجر ديته وعليه الأجر فيما عمل قبل الهلاك. وإن كان المحجور عبداً فعلى المستأجر قيمته ولا أجر عليه فيما عمل له العبد، وهذا لأن المستأجر صار غاصباً للعبد كما استعمله، فإذا ضمن ملكه من ذلك الوقت وصار منتفعاً بملكه فلا يجب عليه أجر، فأما الصغير لا يضمن بالغصب، وإنما يضمن بالخيانة، وقد صار باستعماله، إلا أن ضمان الخيانة، لا يعيد الملك في المضمون إذا كان المضمون عبداً، فإذا كان حراً أولى، فلم يملكه المستأجر بهذا الضمان ولم يصر منتفعاً بملك نفسه، فكان عليه الأجر فيما عمل قبل الهلاك من هذا الوجه. قال في «القدودي» : وأحد الوصيين يملك أن يؤاجر الصبي في قول أبي حنيفة، ولا يؤاجر عبده. وقال محمد: يؤاجر عبده. وفي «المنتقى» إذا لم يكن أب الصبي حائكاً فليس لمن كان الصغير في حجره (26أ4) أن يسلمه إلى حائك؛ لأن التصرف في الصغير مفيد بشرط النظر، وفي هذا ضرر بالصغير لأن الحياكة من خبائس الحرف. الوصي إذا أجر منزل اليتيم بدون أجر المثل، أيلزم المستأجر أجر المثل أم يصير غاصباً بالسكنى ولا يلزمه الأجر. ذكر «الفضلي في فتاويه» : أنه يجب أن يصير غاصباً على أصول علمائنا، ولا يلزمه الأجر. فقد قال في كتاب المزارعة: الوكيل يدفع الأرض مزارعة إذا دفعها وشرط للزارع من الزرع ما لا يتغابن الناس في مثله، إن الوكيل يصير مخالفاً غاصباً، ويصير الزارع غاصباً، ولم نقل: هذه مزارعة فاسدة، ولم نحكم فيها بأحكام المزارعة الفاسدة. قال: وذكر الخصاف في «كتابه» أن المستأجر لا يكون غاصباً بل يلزمه أجر المثل، وهذا لأن الإجارة لو كانت من المالك ولم يسم بدلاً يجب أجر المثل بالغاً ما بلغ، ولو كان سمى فيه الأجر وجب المسمى، ولا يزاد عليه فالزيادة على المسمى إنما لم تجب على المستأجر؛ لأن المؤاجر أبطلها بالتسمية، فالوصي أيضاً لو لم يسم الأجر أصلاً يجب أجر المثل بالغاً ما بلغ، وإذا سمى الأجر لم تجب الزيادة على المسمى إنما لا

الفصل الثاني عشر: في صفة تسليم الإجارة

تجب لإبطال الوصي الزيادة بالتسمية وليس له إلى إبطالها سبيل، ويجعل في حق الزيادة كأن التسمية لم توجد أصلاً. والقاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي كان يفتي بقول الخصاف حتى حكى عنه أنه قال: لو غصب إنسان دار صبي يجب عليه أجر المثل، فما ظنك في هذا، والفتوى على أنه يجب أجر المثل في هذه الصورة بالغاً ما بلغ، لا إذا انتقص المنزل بسبب سكنى المستأجر، وكان ضمان النقصان أنفع لليتيم من أجر المثل فيجب ضمان النقصان، أما بدون ذلك يجب أجر المثل وهكذا يقول فيمن سكن دار صغير أو حانوت صغير، وإنه معد للاستغلال أنه يجب أجر المثل إلا إذا انتقص بسبب سكناه وضمان النقصان أنفع في حق الصغير فيجب ضمان النقصان. وفي «قضايا الفتاوى» : رجل أقعد صبياً مع رجل يعمل معه، فاتخذ له هذا الرجل كسوة ثم بدا للصبي أن لا يعمل معه قال: إن كان أعطاه كرباساً والصبي هو الذي تكلف خياطته لم يكن للرجل على الكسوة سبيل؛ لأن الصبي ملكه بخياطته فانقطع عنه حق الدافع والله أعلم. الفصل الثاني عشر: في صفة تسليم الإجارة إذا وقع عقد الإجارة صحيحاً على مدة أو مسافة، وجب تسليم ما وقع عليه العقد، وإنما مدة الإجارة لا مانع من الانتفاع لأن تسليم المعقود عليه واجب وذلك بالتمكين من الانتفاع، لأن تسليم عين المنفعة لا يتصور فيقام التمكين من الانتفاع مقامه، وذلك تسليم المحل إليه بحيث لا مانع من الانتفاع، فإن عرض في بعض المدة، أو المسافة ما يمنع الانتفاع سقط الأجر بقدر مدة المنع. وذلك بأن يغصبه غاصب أو يحدث فيه مرض، أو إباق، أو تغرق الأرض، أو يقطع عنها الشرب، لأنا أقمنا تسليم المحل قائم مقام تسليم المنفعة المستحقة بالعقد بسبب التمكين من الانتفاع، فإذا فات التمكين فإن التسليم ينفسخ العقد بقدره، فإن اختلفا بعد انقضاء المدة في تسليم ما استأجر في مدة الإجارة، فالقول قول المستأجر مع يمينه لأن الأجر للمدعى عليه تسليم المعقود عليه وتأكد الأجر، وهو ينكر، والبينة بينة الآجر تثبت التسليم وتقرر الأجر له على المستأجر، وبينة المستأجر تنفي ذلك. ولو اتفقا أنه سلم في أول المدة أو المسافة، واختلفا في حدوث العارض فقال المستأجر: عرض لي ما منعني عن الانتفاع به من مرض، أو غصب، أو إباق، وجحد المؤاجر ذلك، فإن كان ذلك العارض قائماً عند الخصومة فالقول قول المستأجر مع يمينه البتة، وإن لم يكن قائماً فالقول قول المؤاجر مع يمينه على علمه؛ لأن في الفصل الأول الظاهر شاهد للمستأجر، وفي الفصل الثاني الظاهر شاهد للمؤاجر وإنما يحلف المستأجر

البتة؛ لأنه يحلف على فعل نفسه وهو التسليم، وإنما يحلف المؤاجر على العلم لا يحلف على فعل نفسه. وإن اتفقا على حدوث المانع واختلفا في مدة بقاء المانع، فالقول قول المستأجر؛ لأن القبض الأول قد انقطع بحدوث العارض فكان هذا خلافاً في ابتداء القبض، فيكون القول فيه قول المستأجر. قال في «المنتقى» عن أبي يوسف: المستأجر إذا جاء بالعبد المستأجر مريضاً، أو قال: قد أبق، وأقام رب العبد البينة أنه عمل كذا وكذا، وأقام المستأجر بينة أنه كان أبق يومئذ، أو كان مريضاً، فالبينة بينة رب العبد؛ لأنها هي المبينة. وفي «الأصل» : رجل يكاري من رجل منزلاً فقال: دونك المنزل فانزله معناه بالفارسية أينك خان وجا فردد أيدن فردد أي ونيشين، إلا أنه لم يفتح الباب فجاء رأس الشهر وطلب صاحب المنزل الأجر، وقال المستأجر: لم يفتحه لي وأنزله، فإن كان يقدر على فتحه فالكراء واجب، وإن كان لا يقدر على فتحه لا يجب الكراء وذلك؛ لأنه متى كان قادراً على فتحه، وقد خلى الآجر بينه وبين الدار فقد أتى بالتسليم المستحق عليه؛ لأن التسليم المستحق بحكم العقد تسليم يتمكن المستأجر من تسلمه وقد تمكن المستأجر من تسلمه بهذه التخلية التي وجدت من الآجر، وكان إثباتاً لتسليم المستحق عليه فيتأكد عليه البدل، كالمنكوحة إذا خلى بها زوجها وهو ممن يقدر على الجماع، فإنه يجب المهر، وإن لم يوجد الجماع، وكالبائع إذا خلى بين المبيع وبين المشتري يصير قابضاً له، وإن لم يقبضه حقيقة؛ لأنه تمكن من قبضه بهذه التخلية كذا هاهنا. وإن كان لا يقدر على فتحة فلا أجر عليه لأنه لم يأت بالتسليم المستحق عليه بالعقد؛ لأن المستأجر لم يتمكن من التسليم بهذه التخلية إذا كان لا يقدر على فتحه، وبدون التسليم لا يستحق الأجر، وكان كالمنكوحة إذا خلى بها زوجها وهي بحال لا يتمكن الزوج من جماعها، بأن كانت رتقاء، أو حائضاً، أو نفساء، فإن المهر لا يتكرر بهذه التخلية؛ لأن التسليم لم يوجد كذا هاهنا ومعنى القدرة المذكورة في الكتاب القدرة على الفتح من غير مؤنة تلزمه، حتى لو لم يقدر على الفتح لا بمؤنة يلزمه لا تعتبر القدرة. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وكسر الغلق ليس بشيء حتى لا يكون للآجر أن يحتج على المستأجر، فيقول: هلا كسرت الغلق ودخلت الباب. وإذا استأجر داراً سنة فلم يسلمها إليه حتى مضى شهر، وقد طلب التسليم ثم تحاكما فليس للآجر أن يمنع المستأجر من القبض، وليس للمستأجر أن يمنع من القبض في باقي المدة؛ لأن الإجارة عندنا في حكم العقود المتفرقة يتجدد انعقادها بحسب حدوث المنافع ففوات المعقود عليه في عقد لا يؤثر في إثبات الخيار في عقد أجر، قالوا: هذا إذا لم يكن في مدة الإجارة وقت يرغب الإجارة لأجله يتخير في قبض الباقي، ولو سلم الدار إلا بيتاً كان مشغولاً بمتاع الآجر يرفع عنه الأخر بحساب ذلك بخلاف ما إذا انهدم بيت منها، أو حائط منها، وسكن المستأجر في الباقي حيث لا يسقط شيء من الأجر.

الفصل الثالث عشر: في المسائل التي تتعلق برد المستأجر على المالك

الفصل الثالث عشر: في المسائل التي تتعلق برد المستأجر على المالك قال رحمه الله: وليس على المستأجر رد ما استأجر على المالك، وعلى الذي آجر أن (26ب4) يقبض منزل المستأجر وليس هذا كالعارية، فإن رد العارية على المستعير. والفرق: أن الرد بعد القبض فكل من كان منفعة القبض عائدة إليه كان الرد عليه. قال عليه السلام: «الخراج بالضمان» ، وقال عليه السلام: «الغنم بالمغرم» ومنفعة قبض المستعار عائدة إلى المستعير؛ لأن المنفعة سلمت له مجاناً فكان مؤنة الرد عليه، ولهذا كان نفقة المستعار على المستعير، ومنفعة قبض المستأجر عائدة إلى المؤاجر، فإن حقه يتأكد في الأجرة فكان مؤنة الرد عليه. فإن قيل: منفعة قبض المستأجر عائدة إلى المستأجر أيضاً، فإن بالقبض يتمكن من الانتفاع. قلنا: الترجيح لجانب الآجر لأن منفعته فوق منفعة قبض المستأجر لأن الحاصل للأجر عين وإنها تبقى والحاصل للمستأجر مجرد منفعته وإنها لا تبقى وما بقي خير مما لا يبقى فكان الرجحان لجانب الآجر فكان هو أولى بإيجاد الرد عليه، الثاني أن يساوي الجانبان فلا جرم يقع التعارض بينما يوجب الرد على الآجر، وبينما يوجب الرد على المستأجر، فنقول: إيجابه على الآجر أولى؛ لأن المستأجر يملكه ومؤنة الملك على المالك يقتضيه الأصل. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا استأجر الرجل رحاً يطحن عليه شهراً بأجر مسمى، فحمله إلى منزله فمؤنة الرد على رب الرحى، وأراد بالرحى رحى اليد ويقال بالفارسية: دست آس، ثم قال: والمصر وفي غير المصر في ذلك سواء في القياس في الإجارة، والعارية في الإجارة تجب على رب المال، وفي العارية تجب على المستعير. قال مشايخنا: وتأويل هذا إذا كان الإخراج بإذن رب المال في الإجارة والعارية، ففي الإجارة تجب مؤنة الرد على رب المال، وفي العارية تجب مؤنة الرد على المستعير، فإن حصل الإخراج بغير إذن رب المال فمؤنة الرد على الذي أخرجه مستعيراً كان أو مستأجراً؛ لأنه صار غاصباً بالإخراج ومؤنة الرد على الغاصب. قال ابن سماعة في «نوادره عن محمد» : رجل استأجر من آخر دابة أياماً معلومة يركبها في المصر فانقضت الأيام، فأمسكها في منزله ولم يجيء صاحبها يأخذها ففقدت

الفصل الرابع عشر: في تجديد الإجارة بعد صحتها والزيادة فيها

الدابة فلا ضمان عليه، لأنه غير متعدي في هذا الإمساك، فإن على رب الدابة أن يجيء فيقبضها، فلو أن المستأجر ساق الدابة ليردها على المؤاجر في منزله مع أنه ليس عليه الرد، وهلكت في الطريق فلا ضمان عليه، ولو ذهب المالك إلى بلد آخر، وذهب هذا الرجل بالدابة ليردها على المالك فهلكت في الطريق كان عليه الضمان ويصير بالإخراج عن البلدة غاصباً. ولو استأجرها من موضع مسمى إلى موضع مسمى يذهب عليها ويجيء، فإن على المستأجر أن يرده إلى الموضع الذي استأجرها فيه، وهذا الشرط معتبر وهو بمنزلة بيان مكان الإيفاء في السلم، فإن ذهب بها إلى منزله وأمسكها ضمن إذا هلكت؛ لأنه متعدي في الذهاب بها إلى منزله. ولو قال: اركبها إلى موضع كذا، وارجع إلى منزلي فليس على المستأجر أن يردها إلى المكان الذي استأجرها فيه، وعلى الآجر أن يأتي منزل المستأجر ويقبضها منه. وفي «المنتقى» : استأجر دابة وردها إلى المنزل المستأجر وأدخلها مربطها فربطها أو أغلق عليها فلا ضمان عليه، يعني إذا هلكت أو ضاعت، كل شيء يفعل بها صاحبها إذا ردت عليه، فإذا فعل المستأجر يبرأ ولو أدخلها دار صاحبها أو أدخلها مربطها ولم يربطها، ولم يغلق عليها فهو ضامن يعني إذا هلكت أو ضاعت وستأتي بعض هذه المسائل في فصل إجارة الدواب. الفصل الرابع عشر: في تجديد الإجارة بعد صحتها والزيادة فيها وإذا زاد الآجر والمستأجر في المعقود عليه أو المعقود به، فهذا على وجهين: إن كانت الزيادة مجهولة لا تجوز الزيادة سواء كانت الزيادة من الآجر أو من المستأجر، وإن كانت الزيادة من جنس ما أجر أو من خلاف جنس ما أجر، وإن كانت الزيادة من جانب المستأجر إن كانت من جنس ما استأجر لا يجوز؛ لأنه تمليك منفعة بمنفعة من جنسها وإنه باطل عندنا، وإن كانت من خلاف جنس ما استأجر يجوز؛ لأنه تمليك منفعة بمنفعة بخلاف جنسها وإنه جائز. ذكر شيخ الإسلام هذه الجملة في «شرح كتاب الصلح» إبراهيم عن محمد استأجر من آخر أرضاً بأكرار حنطة فزاد رجل المؤاجر كراً فأخذه المؤاجر منه فذهب المستأجر الأول فزاده كراً أيضاً، وجدده الإجارة فالإجارة هي الثانية وانفسخت الأولى مقتضى تجديد الثانية، وذكر هذه المسألة عن أبي يوسف. ووضعها فيما إذا زاد المستأجر الأول على المستأجر الثاني في الأجر وسلمها رب الدار الأول بهذه الزيادة، وبالأجر الأول، وذكر أن الإجارة الأولى لا تنتقض وهذه زيادة زادها في الأجر، وحاصل الجواب أن صاحب الدار إذا جدد الإجارة تنتقض الأولى، وإذا لم يجدد لا تنتقض الأولى، وتكون الثانية زيادة.

الفصل الخامس عشر: في بيان ما يجوز من الإجارات، وما لا يجوز

عن محمد: استأجر رجلاً شهراً؛ ليعمل له عملاً مسمى بأجر معلوم، ثم أمره في خلال الشهر بعمل آخر مسمى بدرهم مثلاً، فالإجارة الثانية فاسخة للإجارة الأولى بالقدر الذي دخل في الإجارة الثانية، حتى لا يكون له أجرين، بل رفعه بحصة ذلك القدر، فإذا فرغ من العمل الثاني لزمه أجره، وذلك درهم، وتعود الإجارة الأولى. الفصل الخامس عشر: في بيان ما يجوز من الإجارات، وما لا يجوز هذا الفصل مشتمل على أنواع: نوع يفسد العقد فيه لمكان الجهالة. قال محمد في «الأصل» : إذا استأجر الرجل قِدراً بعينه ليطبخ فيه اللحم، فإن بين الوقت بأن قال: يوماً، أو بين مقدار اللحم يجوز، وإن لم يبين واحداً منهما لا يجوز لمكان الجهالة، وكذا في إجارة الموازين والمكاييل ينبغي أن يبين المدة، أو مقدار ما يكتله أو يزينه به، وإن لم يبين واحداً منهما لا يجوز لمكان الجهالة. قال في «الأصل» : إذا استأجر الرجل نصيباً من دار غير مسمى، بأن قال لغيره: استأجر منك نصيبك من هذه الدار أو من هذا العبد أو من هذه الدابة، ولم يبين نصيبه، على قول أبي حنيفة: لا يجوز وعلى قول أبي يوسف: يجوز إذا علم بالنصيب بعد ذلك، وهو قول محمد أما على قول أبي حنيفة لا يشكل أنه لا يجوز، لأن المستأجر مشاع مجهول لا يدري أنه ثلث أو ربع أو نصف. ولهذا قال: لو باع نصيباً من دار والمشتري لا يعلم لا يجوز البيع لجهالة المبيع فدل أن المستأجر مشاع مجهول، ولو كان مشاعاً معلوماً بأن أجر النصف أو الثلث لم يجز عنده، فإذا كان مشاعاً مجهولاً أولى أن لا يجوز. وعلى قول أبي يوسف لا يشكل أنه يجوز؛ لأن جهالة النصيب عند المشتري لا تمنع جواز البيع عنده، حتى قال: إذا اشترى نصيباً من دار ولم يعلم مقداره جاز وله الخيار إذا علم بالنصيب بعد ذلك فلا يمنع جواز الإجارة أيضاً، فإذا لم يجز أن يمنع الجواز؛ لأجل هذه الجهالة على مذهبه بقي بعد ذلك مجرد الشيوع والشيوع غير مانع من الإجارة، وإنما الأشكال على قول محمد، وذلك لأن جهالة النصيب عنده يمنع جواز البيع فيجب أن يمنع جواز الإجارة أيضاً، وإن كان الشيوع لا يمنع الجواز على مذهبه ولكن من مشايخنا من قال: بأن قول محمد ها هنا يلحق بقول أبي حنيفة لا بقول أبي يوسف؛ لأنه كما ذكر قول محمد عقيب قول أبي يوسف، فقد ذكر قول أبي حنيفة فيلحق قوله بقول أبي حنيفة، أن لا تجوز هذه الإجارة على قول أبي حنيفة وهو قول محمد، فعلى هذا لا يثبت الرجوع عن محمد في البيع. ومنهم (27أ4) » من قال: قول محمد يلحق بقول أبي يوسف، يعني تجوز الإجارة على قوله، واختلفوا فيما بينهم منهم من أثبت رجوع محمد عما ذكر في البيع؛ لأن جهالة

النصيب إذا لم يمنع جواز الإجارة لا يمنع جواز البيع، ومنهم من لم يثبت رجوع محمد عن فصل البيع وفرق على قوله بين الإجارة والبيع. والفرق: وهو أن الإجارة تنعقد ساعة فساعة في حق المنافع، والأجرة تجب عند استيفاء المنافع، وعند الاستيفاء النصيب معلوم، فأما البيع ينعقد حال وجوده والمبيع حال وجود البيع مجهول، فلا يجوز. قال: رجل استأجر أرضاً، ولم يذكر أنه يزرعها، أو ذكر أنه يزرعها ولكن لم يذكر أي شيء يزرعها، فالإجارة فاسدة، أما إذا لم يذكر أنه يزرعها فالإجارة فاسدة لجهالة المعقود عليه؛ لأن الأرض تستأجر تارة للزراعة، وتارة للبناء والغرس، ذكرهما ولا رجحان للبعض على البعض مما لم يبين لا يصير المعقود عليه معلوماً. وكذلك إذا ذكر أنه يزرعها إلا أنه لم يبين أي شيء يزرعها فالإجارة فاسدة لجهالة المعقود عليه؛ لأن الأرض تستأجر لزراعة الحنطة وتستأجر لزراعة الشعير وتستأجر لزراعة الذرة والأرز وتفاوت ذلك في حق الأرض تفاوتاً فاحشاً مما لم يبين شيئاً من ذلك لا يصير المعقود عليه معلوماً، فإن زرعها نوعاً من هذه الأنواع ومضت المدة فالقياس أن يجب أجر المثل؛ لأنه استوفى المعقود عليه بحكم عقد فاسد. وفي الاستحسان يجب المسمى، وينقلب العقد جائزاً؛ لأن المعقود عليه صار معلوماً بالاستعمال والإجارة بعد في الانعقاد، فصار ارتفاع الجهالة في هذه الحالة وارتفاعها لدى العقد سواء، فيجوز العقد. وعلى هذا إذا استأجر دابة إلى بغداد ليحمل عليها، ولم يذكر أي شيء يحمل عليها فالإجارة فاسدة؛ لأن الأحمال متفاوتة، فإن اختصما قبل أن يحمل عليها شيئاً أبطل القاضي الإجارة؛ لأن العقد الفاسد يجب نقضه وإبطاله، وإن حمل عليها ما يحمل الناس على مثلها، وهلكت في الطريق فلا ضمان؛ لأنه حمل عليها بإذن، وإن بلغ ذلك المكان المسمى فعليه أجر المثل قياساً، والمسمى استحساناً، وقد مر وجه القياس والاستحسان في المسألة المتقدمة. قال: وإذا استأجر الرجل إبلاً إلى مكة ليحمل عليها محملاً فيه رجلان وما يصلحهما من الغطاء والدثر، وقد رأى المكاري الرجلين، ولم ير الغطاء والدثر فهو فاسد قياساً لجهالة المحمول وفي الاستحسان يجوز وينصرف ذلك إلى ما يحتاج إليه مثلها في طريق مكة من الغطاء والدثر، وذلك معلوم عرفاً فيما بينهم، والمعلوم عرفاً كالمعلوم شرطاً. وكذلك إذا استأجر راحلة يحمل عليها كذا كذا من الدقيق والسويق وما يصلحهما من الخل والزيت، ويعلق بها من المعاليق من المطهرة وما أشبهها، ولم يبين شيئاً من ذلك فهو على القياس والاستحسان الذي ذكرنا. وإذا استأجر إبلاً أو حماراً ليحمل عليها الحنطة ولم يبين مقدار الحنطة، ولا أشار إليها ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» من كتاب الإجارات أنه لا يجوز، وذكر شمس الأئمة

الحلواني رحمه الله في «شرحه» أنه يجوز، وينصرف إلى المعتاد، وهذا القول أشبه بمسألة المحمل والراحلة. وقال محمد رحمه الله في كتاب الإجارات: إذا استأجر دابة يطحن عليها كل شهر بعشرة دراهم، ولم يسم كم يطحن عليها كل يوم جاز؛ لأنه بين جنس العمل إلا أنه لم يبين مقداره، وبيان جنس العمل يكفي لجواز الإجارة، وله أن يطحن عليها مقدار ما تحمل الدابة وتطيق وما يطحن مثلها قدراً في العرف. قال: وهو نظير ما لو استأجرها ليحمل عليها جاز، وله أن يحمل عليها قدر ما تحتمل، قال: رجل استأجر داراً أو بيتاً ولم يسم الذي يريدها له القياس أن تفسد الإجارة، وفي الاستحسان لا تفسد. وجه القياس: أن المقصود من الدار والبيت الانتفاع، ووجوه الانتفاعات مختلفة متفاوتة وقد يكون من حيث السكنى ووضع الأمتعة، وقد يكون من حيث الحدادة والقصارة، فإنه ما لم يبين شيئاً من ذلك، كما لو استأجر دابة للحمل، ولم يبين ما يحمل عليها، أو استأجر للركوب، ولم يبين من يركب. وجه الاستحسان: أن المعقود عليه معلوم عرفاً وهو السكنى؛ لأن البيت عرفاً يبنى ويؤاجر للسكنى فانصرف مطلق العقد إليه لما عرف أن المعلوم عرفاً كالمعلوم شرطاً، فكأنه استأجر داراً أو بيتاً للسكنى، ولو صرح بذلك أليس أنه يجوز وإن لم يبين من يسكن؛ لأن السكنى مما لا يقع فيه التفاوت بين ساكن وساكن. بخلاف ما إذا استأجر دابة للحمل أو الركوب، ولم يبين ماذا يحمل، ومن يركب؛ لأن حمل بعض الأشياء، وركوب بعض الأشخاص غير معلوم عرفاً لينصرف مطلق العقد إليه، بل الكل متعارف والحمل والركوب ما يقع فيه التفاوت، فما لم يبين لا يصير المعقود عليه معلوماً، فلا يحكم بجواز الإجارة. وإذا دفع الرجل الحر إلى سمسار درهماً وأمره أن يشتري له كذا وكذا على أن يكون الدرهم المدفوع إليه، أو دفع إليه ثوباً، وأمره أن يبيعه ويكون هذا الدرهم له أو استأجر الرجل ليبيع له أو يشتري فهذا فاسد؛ لأن البيع والشراء قد يتمان بكلمة واحدة، وقد يتمان بكلمات، فكان المعقود عليه مجهولاً، والجملة في ذلك من وجهين: أحدهما: أن يستأجره يوماً إلى الليل بأجر معلوم ليبيع له ويشتري؛ لأن المعقود عليه في هذه الصورة المنفعة، ولهذا يستحق الأجر متى سلم نفسه، وقد صارت المنفعة معلومة ببيان الوقت. الثانية: أن يأمره أن يبيع ويشتري ولا يشترط شيئاً، فيكون معيناً له ثم يعوضه بعد الفراغ من العمل بمثل ذلك الأجر؛ لأن هذا استعانة ابتداء إجارة انتهاء؛ ولهذا قال مشايخنا: يجبر على إعطاء العوض إذا امتنع، ثم في السمسار وجميع ما كان فاسداً من

ذلك إذا باع واشترى فله أجر المثل لا يجاوز به المسمى، كما في سائر الإجارات الفاسدة، ويطيب له ذلك؛ لأنه بدل عمله فيطيب له كما تطيب قيمة المبيع للبائع في البيع الفاسد عند عجز المشتري عن رد العين؛ لأنه بدل ملكه، لكن يأثم بمباشرته هذا العقد؛ لأنه معصية. وإذا استأجر نهراً يابساً ليجري فيه الماء إلى أرض له أو إلى رحاً ما له أو ليستأجر مسيل ماء ليسيل فيه ماء ميزابه، أو استأجر ميزاباً ليسيل فيه غسالته أو بالوعته ليصيب فيها بوله والنجاسات لا يجوز؛ لأن المعقود عليه مجهول، أما في الفصل الأول؛ فلأنه لا يمكنه إجراء الماء في كل النهر؛ لأن النهر لا يستمسك ذلك، فلا بد من أن ينقص شيئاً وقدر ما ينقص مجهول فيصير الباقي مجهولاً، وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد، إذا لم يكن للناس فيه تعامل، خرج على هذا الدخول في الحمام بأجر حيث يجوز مع جهالة المعقود عليه؛ لأن للناس فيه تعاملز وأما فيما عدا ذلك من الفصول؛ فلأن ما يسيل فيه من الماء والبول قد يقل وقد يكثر، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني: الحرف المعتمد في جنس هذه المسائل أن الإجارات جوزت بخلاف القياس لحاجة الناس، وهذه ليست من إجارات الناس فيعمل فيها بالقياس وروي عن محمد إذا استأجر موضع أرض معروف ليسيل ماؤه فهو جائز، كأنه ذهب إلى أن المانع من جواز العقد الجهالة؛ لأنه لا يدري كم يأخذ الماء من النهر ومن السطح، فإذا عين الموضع جاز. ولو استأجر ميزاباً ليركبه في داره جاز، ولو استأجره وهو في الحائط ليسيل الماء فيه لم يجز لما قلنا. وإذا استأجر (27ب4) موضعاً من حائط ليضع عليه جذعاً، أو استأجر موضع كوة من الحائط بنقبها ليدخل عليه منها الضوء والريح، أو استأجر حائطاً ليبني عليه ستره، أو استأجر موضع وتد في الحائط ليعلق به الأشياء أو استأجر موضع ميزاب في حائط لا يجوز. بعض مشايخنا قالوا: إنما لا يجوز إذا لم يبين موضع البناء والجذع والكوة والوتد حتى يكون المعقود عليه مجهولاً، أما إذا بين ذلك يجوز، ومنهم من قال: إنما لا يجوز إذا لم يبين مقدار الجذع والكوة والوتد حتى لا يجوز لمكان الجهالة، أما إذا بين جاز، ومنهم من قال: لا يجوز على كل حال، وإطلاق لفظ الكتاب يدل عليه، والمعنى ما ذكرنا أنه ليس من إجارات الناس. وإذا استأجر موضعاً معلوماً من الأرض لينبذ فيها الأوتاد يصلح بها الغزل كي ينسج جاز؛ لأنه من إجارات الناس، ولو استأجر حائطاً ليدق فيها الأوتاد ليصلح عليها الإبريسم به شعراً أو ديباجاً لا يجوز، كذا ذكره بعض مشايخنا؛ لأن هذا من إجارات الناس، وفي عرف ديارنا ينبغي أن يجوز؛ لأن الناس تعاملوا ذلك في الفصلين جميعاً. وإذا تكارى دابة إلى بغداد على أنه إن بلّغه إليها فله رضاه يعني ما يرضى من

الأجر، فالإجارة فاسدة لجهالة البدل، وكذلك إذا استأجرها بحكمة أو بحكم صاحب الدابة. فإن قيل: جهالة البدل إنما يوجب فساد الإجارة إذا لم يكن الخيار مشروطاً لصاحب البدل، فأما إذا كان مشروطاً له فلا، ألا ترى أن من قال لغيره: أجرت منك هذه الدابة إلى بغداد بهذين العبدين، على أنك بالخيار تأخذ أيهما تشاء وترد الأخر جاز، والآخر مجهول ولكن للشرط الخيار لصاحب البدل لم يمنع ذلك جواز الإجارة. قلنا: هذا هكذا إذا كان جنس البدل معلوماً، وها هنا جنس البدل مجهول، فإن قال: رضائي عشرون لا يزاد على العشرين؛ لأن المانع لا يتقوم بدون التسمية، وقد سمى عشرون فإنما قومها بهذا القدر فلا يزاد عليه ولأنه أبرأه عن الزيادة لما قال: رضائي عشرين ونقص عن العشرين لأنه لم يشترط لصاحب البدل مع العشرين منفعة أخرى، وفي مثل هذه الإجارة تنقص عن المسمى لما بعد هذا إن شاء الله تعالى. وكذلك إذا تكارى دابة بمثل ما يتكارى أصحابه مثل هذه الدابة معلوماً بل كان مختلفاً، بأن كان بعض أصحابه يكري مثل هذه الدابة بعشرة وبعضهم يكري بأقل من ذلك وبعضهم بأكثر من ذلك فأما إذا كان ذلك معلوماً بأن كان أصحابه يتكارون مثل هذه الدابة بعشرة لا يزيدون ولا ينقصون وقد عرف ذلك كان العقد جائزاً كما لو باع بمثل ما باع فلان، وكان ذلك معلوماً وقت العقد، أو علم في مجلس العقد وهناك البيع جائز هكذا هاهنا، وإن كان ذلك مختلفاً فعليه وسط من ذلك، يريد به أن أجر مثل هذه الدابة يختلف باختلاف الأحوال قد تكون عشرة، وقد تكون بأكثر من عشرة، وقد تكون أقل من عشرة فعليه الوسط من ذلك نظراً من الجانبين ومراعاة كلا الطرفين. نوع آخر يفسد العقد فيه لمكان الشرط: قال محمد رحمه الله في «الأصل» : رجل استأجر من آخر عبداً شهراً بأجر مسمى على أنه إن مرض فعليه أن يعمل بقدر الأيام التي مرض من الشهر الداخل لا تجوز هذه الإجارة؛ لأن ما شرط له من الشهر الداخل مجهول لجهالة مدة المرض في الشهر القائم. رجل تكارى من رجل بيتاً شهراً بعشرة دراهم على أنه إن سكنه يوماً ثم خرج فعليه عشرة دراهم، كانت الإجارة فاسدة؛ لأنه شرط في العقد ما لا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين فيه منفعة. بيانه: أنه شرط جميع بدل المعقود عليه بإزاء بعضه حال فوات الباقي قبل القبض، والعقد لا يقتضي ذلك وكان بمنزلة ما لو اشترى حنطة على أنه إن هلك شيء منها قبل القبض فعليه الثمن كله كان البيع فاسداً، وإنما كان فاسداً للمعنى الذي ذكرنا. وإذا تكارى دابة على أن كلما ركب الأمير ركب هو معه، فهذا فاسد أيضاً لجهالة المعقود عليه؛ لأن المعقود عليه في الدابة لا يصير معلوماً، إلا بذكر المدة أو بذكر

المكان، ولم يوجد أحد هذين، فكان المعقود عليه مجهولاً فلا يجوز. وإذا تكارى دابة بالكوفة إلى بغداد بخمسة دراهم إن بلغه، وإلا فلا شيء له فالإجارة فاسدة، لأنه شرط فيها ما لا يقتضيه العقد، ولأحدهما فيه منفعة. بيانه: أنه شرط أن لا يكون له أجر متى لم يبلغه، والعقد يقتضي وجوب الأجر بقدر ما سار، وإن لم يبلغه إلى بغداد. وفي «الأصل» : إذا استأجر أرضاً بدراهم مسماة وشرط خراجها على المستأجر، فإن هذا لا يجوز. واعلم بأن هذه المسألة على وجهين: إما إن كان الخراج خراج مقاسمة كلها، بأن كان الخراج نصف ما تخرجه الأرض، أو ما أشبهه، أو بعضها بأن كان وظيفة كل جريب درهم، وسدس ما يخرج منها أو ما أشبهه، أو كان الخراج خراجَ وظيفة كلها، بأن كانت وظيفة كل جريب درهماً فإن كان الخراج خراج مقاسمة كلها أو بعضها فعلى قول أبي حنيفة: لا يجوز؛ لأن خراج المقاسمة على المؤاجر عنده، فإذا شرطه على المستأجر فقد جعله أجراً وإنه مجهول كله أو بعضه؛ لأن مقدار ما تخرج الأرض مجهولاً. ونقول: شرطا شرطاً لا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين وهو الآجر فيه نفع فإن أداء الخراج لا ينفك عن ذل وهوان ومثل هذا الشرط يوجب فساد العقد وعندهما يجوز العقد لأن عندهما خراج المقاسمة على المستأجر فقد شرطا شرطاً يقتضيه العقد فلا يفسد العقد وإن كان الخراج خراج وظيفة كلها فالعقد جائز بلا خلاف بين العلماء لأن خراج الوظيفة معلوم فتكون الأجرة معلومة ومن مشايخنا قال: ينبغي أن لا يجوز وإن كان الخراج خراج وظيفة لأن النقصان من وظيفة عمر رضي الله عنه جائز إن كانت الأرض لا تطيق ذلك بالإجماع، فإذا شرطا ذلك على المستأجر فقد شرطا شرطاً لا يقتضيه العقد ولأحد المتعاقدين وهو الآجر فيه منفعة فيفسد به العقد ولو كانت أرضاً عشرية فأجرها، وشرط العشر على المستأجر جاز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله؛ لأن العشر عندهما على المستأجر فقد شرطا شرطاً يقتضيه العقد، فلا يوجب فساد العقد. وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يجوز؛ لأن العشر عنده على المؤاجر، فإذا شرط ذلك على المستأجر فقد جعله أجراً وإنه مجهول وشرط شرطاً لا يقتضيه العقد فيوجب فساد العقد. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل استأجر أرضاً بدراهم على أن يكريها ويزرعها، أو يسقيها ويزرعها فهذا جائز؛ لأن هذا شرط يقتضيه العقد، فإن العقد يقتضي السقي والكراب، لأن العقد عقد المزارعة ولا ينتفع بالأرض من حيث الزراعة غالباً إلا بالسقي والكراب، وإن شرط عليه أن يثنيها ويكري أنهارها أو يسرقيها فهو فاسد.

واختلفوا في تفسير التثنية قال بعضهم: أن يردها مكروبة، فإن كان تفسيره هذا، فهو شرط مخالف للعقد؛ لأنه شرط يعود منفعته إلى رب الأرض بعد انتهاء العقد، وقال بعضهم: تفسير التثنية أن يكربها مرتين ثم يزرعها، فإن كان تفسيره هكذا، فالفساد يختص بديارهم؛ لأن في ديارهم تخرج الأرض ريعاً تاماً بالكراب مرة وكذا في ديار سيف، فيكون هذا الشرط في مثل هذا الموضع شرطاً لا يقتضيه العقد، ولأحدهما فيه منفعة وهو رب الأرض؛ لأن منفعة الكراب بقي بعد مدة الإجارة فيوجب فساد العقد حتى لو كانت لا تبقى لا يفسد العقد. وأما إذا كان الأرض في بلدة تحتاج إلى تكرار الكراب فاشتراط التثنية لا يفسد العقد؛ لأنه يكون من مقتضيات العقد، وكذلك إذا شرط عليه (28أ4) إن يسرقيها فإن كان السرقين من عند المستأجر، فقد شرط عليه عيناً هو مال، فإن كان تبقى منفعته إلى العام الثاني يفسد العقد؛ لأنه شرط شرطاً لا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين فيه منفعة وهو الآجر، وإن كان لا تبقى منفعته إلى العام القابل لا يفسد العقد. وذكر شيخ الإسلام في «شرح الإجارات» : إذا شرط على المستأجر أن يردها مكروبة، فإن كان شرط أن يردها مكروبة بكراب في مدة الإجارة، فالعقد فاسد؛ لأن وقت الكراب مجهول قد يكون يوماً وقد يكون يومين أو ثلاثة، وذلك الوقت مستثنى عن الإجارة؛ لأن المستأجر فيه عامل لرب الأرض فيوجب جهالة مدة الإجارة، فتفسد الإجارة، وإن شرط أن يردها مكروبة بكراب يكون بعد الإجارة فالمسألة على وجهين. إما إن قال صاحب الأرض: أجرّتك هذه الأرض بكذا وبأن تكربها بعد مضي المدة وفي هذا الوجه العقد جائز. وأما إذا قال: أجرتك بكذا على أن تكربها بعد انقضاء مدة الإجارة وفي هذا الوجه العقد فاسد، وإن أطلق الكراب إطلاقاً ينصرف إلى الكراب بعد العقد، ويصح العقد ولكن جواب هذا الفصل يخالف ظاهر ما ذكرنا ها هنا، ولا يظن به رحمه الله أنه قال ذلك جزافاً، فالظاهر أنه عثر على رواية أخرى بخلاف ما ذكر ها هنا. وكذلك إذا شرط كري الأنهار على المستأجر يفسد العقد؛ لأنه شرط لا يقتضيه العقد على المستأجر، بل قضية العقد أن يكون على المؤاجر؛ لأنه من جملة التمكين من الانتفاع، فيكون على الآجر فاشتراطه على المستأجر يخالف مقتضى العقد. ومن مشايخنا من فرق بين الجداول والأنهار، فقال: اشتراط كري الجداول صحيح؛ لأنه لا يبقى أثره بعد مضي السنة أما أثر كري الأنهار يبقى بعد مضي السنة، فيصير الآجر شارطاً عليه عملاً يختص هو بمنفعته، والأول أصح. وإذا تكارى داراً من رجل سنة بمئة درهم على أن لا يسكنها فالإجارة فاسدة؛ لأنه شرط في الإجارة ما لا يقتضيه العقد، وللمؤاجر فيه منفعة، فإن المستأجر إذا لم يسكن الدار لم يمتلئ بئر الوضوء والمخرج، وإذا سكن بمثل ذلك، والتفريغ على رب الأرض فيتضرر فكان في هذا الشرط منفعة لرب الأرض من هذا الوجه.

وقال: فيمن استأجر داراً وشرط على المستأجر أن يسكن هو بنفسه، ولا يسكن معه غيره أن الإجارة جائزة، وللمؤاجر في هذا الشرط فائدة؛ لأنه متى يسكن معه غيره يمتلئ هو المخرج والوضوء أسرع مما يمتلئ لو سكن هو وحده، ومع هذا جوز العقد في هذه الصورة، ولم يجوزه في الصورة الأولى. قال شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» : لا بد من التأويل إذ لا يجئ بينهما فرق، نقول: تأويل الصورة الثانية أنه لم يكن في الدار بئر بالوعة، ولا بئر وضوء، ومتى لم يكن فيها البئر فلا منفعة للمؤاجر في هذا الشرط، لأنه لا يتضرر بإسكان غيره إذا كانت الحالة هذه؛ لأن ما يجتمع على ظاهر الدار فإخراج ذلك على المستأجر، وكثرة السكان لا يوهن البناء ولا يفسده. وتأويل الصورة الأولى، أنه كان في الدار بئر وضوء وبئر بالوعة، وإذا كان كذلك كان لرب الدار في هذا الشرط نوع منفعة، وإنه شرط لا يقتضيه العقد، فأوجب فسادها ثم إذا فسدت الإجارة في هذه الصورة الأولى فسكن فيها المستأجر، فعليه أجر المثل بالغاً ما بلغ.f رجل تكارى من رجل داراً كل شهر بعشرة، على أن ينزلها هو بنفسه وأهله، على أن يعمر الدار ويرمم ما كان فيها من خراب، ويعطي أجر حارسها، وما يأتيها من يأتيه من جهة سلطان أو غيره فالإجارة فاسدة؛ لأنه جعل بعض الأجر مجهولاً جهالة توقعهما في المنازعة المانعة من التسليم والتسلم؛ لأنه متى لم توجد الثانية ولم يخرب شيء من الدار حتى لم يحتج إلى المرمة لا يدري بأي قدر يعطيه وجهالة الأجر وإن قلت توجب فساد الإجارة، قالوا: وهذا الجواب صحيح في العمارة والثوابت؛ لأن العمارة والثوابت على رب الدار، وإنها مجهولة في نفسها فصار هو بهذا الشرط شارطاً لنفسه شيئاً مجهولاً. فأما أجر الحارس فهو على الساكن فلا يكون بهذا الشرط شارطاً لنفسه شيئاً مجهولاً، فلا يفسد العقد، فإن لم يسكنها فلا أجر عليه؛ لأن الإجارة فاسدة، والأجر في الفاسد من الإجارات لا يستحق إلا باستيفاء المنفعة، وإن سكنها فله أجر مثلها بالغاً ما بلغ يجاوز بها المسمى المعلوم. والأصل: أن العقد إذا فسد مع كون المسمى كله معلوماً بمعنى أجر المثل، ولا يزاد على المسمى حتى أن المسمى إذا كان خمسة وأجر المثل عشرة يجب خمسة لا غير؛ وهذا لأن المنافع عندنا غير متقومة بنفسها، وإنما ثبت لها حكم المتقوم بالعقد، وقد قوماها بالعقد بقدر التسمية، وأمكن اعتبار التسمية إذا كان المسمى معلوماً كله، فما زاد عليها تبقى غير متقومة على ما كانت الأصل. وإذا فسد العقد لجهالة المسمى أو لعدم المسمى يجب أجر المثل بالغاً ما بلغ، حتى أن المسمى، إذا كان خمسة وأجر المثل عشرة يجب عشرة؛ لأنه لا يمكن تقويم

المنافع في هذه الصورة بالمسمى فأوجبنا قيمتها بالعقد بالغاً ما بلغت، وكذلك إذا كان المسمى بعضه مجهولاً وبعضه معلوماً كما في مسألة المرمة، والثانية يجب أجر المثل بالغاً ما بلغ؛ لأنه لا يمكن تقدير القيمة بجميع المسمى؛ لأن بعضه مجهول ولا يمكن تقدير القيمة بقدر المعلوم؛ لأنهما ما قوماها به فحسب، إنما قوماها به وبالزيادة. وإذا تعذر تقويمها بجميع المسمى وبالقدر المعلوم أوجبنا قيمتها بالغة ما بلغت، هذا هو الكلام في طرف الزيادة على المسمى. وأما الكلام في طرف النقصان عن المسمى، نقول: إذا كان المسمى كله معلوم القدر وفسد العقد بسبب آخر من الأسباب ينقص عن المسمى حتى أنه إذا كان أجر المثل خمسة والمسمى عشرة يجب خمسة وإذا كان المسمى بعضه مجهولاً وبعضه معلوماً لا ينقص عن الأجر المعلوم حتى إن في المسألة الثانية والمرمة إذا كان أجر المثل خمسة يجب عشرة، وهو القدر المعلوم من المسمى؛ وهذا لأن قضية القياس فيما إذا كان المسمى كله معلوم القدر أن لا ينقص عن المسمى، لأن قيمة المنافع تثبت بسبب التسمية، فيجب التقدير بها ما أمكن كما في الجائز، والتقدير بها ممكن إذا كان المسمى كله معلوماً، فيجب التقدير بها، إلا أنا تركنا القياس لضرورة، وهو أن لا تقع التسوية بين الجائز والفاسد، ولا تجوز التسوية بينهما، وهذه الصورة معدومة فيما إذا كان المسمى بعضه معلوماً وبعضه مجهولاً؛ لأنا إذا أوجبنا مقدار المعلوم من المسمى، ولم ينقص عنه لا يؤدي إلى التسوية بين الجائز والفاسد، لأن حكم الجائز أن يجب جميع المسمى، وإن كان بعض المسمى معلوماً وبعضه مجهولاً يجب بعض المسمى وهو القدر المعلوم، ولا يجب شيء من المجهول فلا يؤدي إلى التسوية بين الجائز والفاسد. وعن هذا قلنا: إن من استأجر داراً سنة بمئة على أن لا يسكنها حتى فسدت الإجارة لو سكنها يجب أجر المثل، فإن كان أجر المثل أقل من مئة يجب مئة لأنا لو أوجبنا قدر المئة لا يؤدي إلى (28ب4) التسوية بين الجائز والفاسد؛ لأن فيه إيجاب بعض المسمى لا الكل؛ لأن المستأجر سكن الدار فعلى هذا الأصل يخرج جنس هذه المسائل. نوع آخر في قفيز الطحان، وما هو بمعناه صورة قفيز الطحان أن يستأجر الرجل من آخر ثوراً ليطحن بها الحنطة على أن يكون لصاحبها قفيز من دقيقها، أو يستأجر إنساناً ليطحن له الحنطة بنصف دقيقها أو ثلثه أو ربعه أو ما أشبه ذلك، وذلك فاسد؛ لأنه منهي عنه روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، «أنه نهى عن قفيز الطحان» وقال عليه السلام لرافع بن خديج في آخر حديث

معروف: لا يستأجره بشيء منه. والمعنى فيه: أنه جعل الأجر شيئاً معدوماً؛ لأنه جعل الأجر بعض الدقيق الذي يخرج من علمه، وإنه معدوم في الحال حقيقة، وليس له حكم الوجود؛ لأنه غير واجب في الذمة؛ لأنه إنما يجب في الذمة ما له وجود في العالم، والبدل في المعاملات يجب أن يكون موجوداً حقيقة كالعين أو حكماً كالثمن. والجملة في ذلك لمن أراد الجواز أن يشترط صاحب الحنطة قفيزاً من الدقيق الجيد؛ لأن الدقيق إذا لم يكن مضافاً إلى حنطة بعينها يجب في الذمة، والأجر كما يجوز أن يكون عيناً مشاراً إليه يجوز أن يكون فيها في الذمة، ثم إذا جاز يعطب ربع دقيق هذه الحنطة إن شاء وإنما شرط أن يقال: ربع هذه الحنطة من الدقيق الجيد؛ ليكون الأجر معلوم القدر. ولو استأجر حانوتاً بنصف ما يربح فيه فالإجارة فاسدة، وكان على المستأجر أجر مثل الحانوت، وإنما فسدت الإجارة أما؛ لأن ما يربح مجهول؛ أو لأنه جعل الأجر بعض ما يحدث من علمه، فيكون في معنى قفيز الطحان. وإذا دفع الرجل إلى حائك غزلاً لينسجه بالنصف أو ما أشبه ذلك فالإجارة فاسدة، أما لأنه في معنى قفيز الطحان لأنه جعل الأجر بعض ما يحدث من عمله؛ أو لأن هذه الإجارة في الابتداء إن صادفت محلاً غير مشترك بينه وبين المستأجر ففي الانتهاء صادفت محلاً مشتركاً، وهذا لأنه لا شركة في ابتداء العمل في المحل ولكن تم العمل والمحل مشترك، لأنه يجب بعض الأجر بابتداء العمل ولو كان صادفت محلاً مشتركاً ابتداء وانتهاء لم تنعقد الإجارة ولم يجوز الأجر لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، فإذا صادفت محلاً غير مشترك في الابتداء ومحلاً مشتركاً في الانتهاء لم يمنع انعقاد العقد ومنع الجواز. ومشايخ بلخ كنصيربن يحيى ومحمد بن سلمة وغيرهما كانوا يفتون بجواز هذه الإجارة في الثياب لتعامل أهل بلدهم في الثياب والتعامل حجة يترك به القياس ويخص به الأثر وتجويز هذه الإجارة في الثياب للتعامل بمعنى تخصيص النص الذي ورد في قفيز الطحان، لأن النص ورد في قفيز الطحان؛ لا في الحائك إلا أن الحائك نظيره فيكون وارداً فيه دلالة، فمتى تركنا العمل بدلالة هذا النص في الحائك وعملنا بالنص في قفيز الطحان كان تخصيصاً، لا تركاً أصلاً وتخصيص النص بالتعامل جائز. ألا ترى أنا جوزنا الاستصناع للتعامل والاستصناع بيع ما ليس عنده وإنه منهي عنه ولكن قيل: تجويز الاستصناع بالتعامل تخصيص منا للنص الذي ورد في النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان لا تركاً للنص أصلاً، لأنا عملنا بالنص في غير الاستصناع. قالوا: وهذا بخلاف ما لو تعامل أهل بلدة قفيز الطحان، فإنه لا يجوز ولا تكون لتعاملهم عبرة لأنا لو اعتبرنا تعاملهم كان تركاً للنص أصلاً لأنه متى انفسخ النص مما ورد فيه لا يجوز العمل بدلالته في غير ما ورد فيه فيكون تركاً للنص أصلاً وبالتعامل لا

يجوز ترك النص أصلاً وإنما يجوز تخصيصه، ولكن مشايخنا لم يجوزوا هذا التخصيص لأن ذلك تعامل أهل بلدة إن كان يجوز التخصيص فترك التعامل من أهل بلدة أخرى يمنع التخصيص؛ فلا يثبت التخصيص بالشك، بخلاف الاستصناع، فإنه وجد التعامل فيه في البلاد كلها، وإذا فسدت الإجارة كان للحائك أجر مثل عمله والثوب لصاحب الغزل. قال: وكذلك الطعام يحمله الرجل في سفينة أو على دابة بالنصف، لا يجوز ولا تجيء هاهنا العلة الأولى، التي ذكرناها في الحائك أن الأجر معدوم، لأن الأجر هاهنا موجود مشار إليه، وإنما تجيء العلة الثانية أن العمل في الانتهاء يقع في شيء مشترك، لأنه بابتداء العمل يصير بعض الطعام ملكاً للعامل فيقع العمل في محل مشترك وهذا يوجب الفساد إن كان لا يمنع الانعقاد. قال: وإذا دفع الرجل إلى رجل أرضاً ليغرسها أشجاراً أو كرماً من عند نفسه على أن الأرض والأشجار بينهما نصفان فالعقد فاسد، لأنه جعل نصف الأرض بمقابلة نصف الغرس بشرط أن يعمل في النصف الباقي فيكون البيع مشروطاً في الإجارة، والإجارة مشروطة في البيع، فيكون صفقتين في صفقة وإنه منهي والأشجار لصاحب الأرض، وعليه للغارس قيمة الأغراس وأجره مثل عمله، وإنما كان الأشجار لصاحب الأرض؛ لأن صاحب الأرض اشترى نصف الأغراس شراء فاسداً، لأن الأغراس مجهولة وصار قابضاً لما اشترى حكماً لاتصاله بأرضه فصار ذلك النصف ملكاً له والنصف الآخر بقي على ملك الغارس وقد غرسه في ملك الغير، إلا أنه تعذر عليه القلع لأن نصيبه غير ممتاز عن نصيب صاحب الأرض فلو قلع يتضرر صاحب الأرض وصاحب الأرض صاحب أصل، والغارس صاحب بيع، فيملك عليه نصيبه بالقيمة نفياً للضرر. فإن قيل: ينبغي أن يصير نصف الأرض ملكاً للغارس؛ لأنه اشترى نصف الأرض بنصف الأغراس شراء فاسداً وقبضه حقيقة، فيصير مملوكاً له، وإذا صار نصف الأرض مملوكاً للغارس كان نصف الأغراس الذي هو على ملكه مغروسة في ملكه فلا يكون لصاحب الأرض عليه سبيل. قلنا: صاحب الأرض ما دفع الأرض إلى الغارس بحكم عقد فاسد إنما دفع إليه الأرض ليغرسها، ثم جعل نصف الأرض له مغروساً عوضاً عن الغرس فلم تكن الأرض مقبوضة بحكم عقد فاسد قبل الغرس، فلهذا لا يملك نصف الأرض فكان الكل مغروساً على ملك رب الأرض وقد غرس بإذنه، إلا أنه ما غرسه مجاناً فيجب للغارس قيمة الغرس وأجر مثل عمله. وفي «شرح القدوري» : وإذا دفع الرجل إلى رجل دابة ليعمل عليها بالنصف فإن تقبل الطعام ثم حمل عليها كان الأجر كله للمتقبل، ولصاحب الدابة أجر مثل الدابة وإن أجر الدابة ليحمل عليها فهو لرب الدابة، ولهذا أجر مثل عمله وفي مضاربة الأصل. وإذا دفع الرجل إلى رجل دابة ليعمل عليها، ويؤاجرها على أن ما رزق الله من شيء فهو بينهما، فأجرها واحد عليها، فإن جميع غلة الدابة يكون لصاحب الدابة وللعامل أجر مثل عمله؛ فيما عمل لأن تصحيح هذا العقد مضاربة متعذر؛ لأنه جعل رأس مال المضاربة منافع الدابة ومنافع الدابة مما يتعين في العقود فلا يصلح رأس مال المضاربة، وإذا تعذر جعلها مضاربة جعلناها إجارة وإنها إجارة فاسدة لوجهين: أحدهما: أنه استأجر العامل ليؤاجر دابته بنصف أجر الدابة، وإنه معلوم فيه واجب في الذمة ولا عين مشار إليه فصار في معنى قفيز (29أ4) الطحان. والثاني: أنه استأجره ليؤاجر دابته ولم يبين لذلك مدة، وفي مثل هذا لا تجوز الإجارة وإن كان البدل معلوماً فلأن لا يجوز هاهنا والبدل مجهول أولى بعد هذا ننظر أن أجر العامل الدابة من الناس وأخد الأجر كان الأجر كله لرب الدابة، لأنه بدل منافع دابته، ألا ترى أنها لو هلكت قبل التسليم بطلت الإجارة. وألا ترى أنه لو حمل ذلك على دابة أخرى أو على ظهره لا يستحق الأجر دل أن ما أخذ بدل منافع دابته، وقد أجرها بإذنه فيكون له وكان بمنزلة ما لو أمره ليبيع دابته على أن يكون نصف الثمن له فباعها كان كل الثمن لصاحب الدابة، لأنه ثمن دابته كذا ها هنا وللعامل

أجر مثل عمله؛ لأنه ابتغى لعمله عوضاً لما شرط لنفسه نصف أجر الدابة فيكون له أجر مثل عمله لما فسدت الإجارة. وهذا بخلاف ما إذا كان العامل لا يؤاجر الدابة من الناس وإنما يقبل الأعمال من الناس ثم يستعمل الدابة في ذلك فإن الأجر يكون للعامل وعلى العامل أجر مثل الدابة؛ لأنه إذا كان يتقبل الأعمال من الناس فما يأخذ من الأجر يكون بدل عمله لا بدل منافع دابته. ألا ترى لو هلكت الدابة في هذه الصورة قبل التسليم لا تبطل الإجارة، وألا ترى أن له أن يحمل على دابة أخرى أو على ظهره فدل أن ما أخذ من الأجر بدل عمل العامل، فيكون له وعليه أجر مثل الدابة؛ لأنه استعمل دابة الغير بإذنه ببدل مجهول. قال: وإذا دفع الرجل إلى الرجل بعيراً ليسقي الماء ويبيع على أن ما رزق الله في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان فهذا فاسد، لأنه تعذر تصحيح هذا العقد مضاربة؛ لأنه جعل رأس مال المضاربة ما يتعين بالتعيين، وهو منافع الدابة، ولكن هذه الإجارة فاسدة؛ لأنه جعل الأجر نصف ثمن ما يبيع من الماء، وثمن ما يبيع من الماء مجهول، فكان الأجر مجهولاً؛ ولأنه جعل الأجر بعض ما يحصل من عمله، فكان في معنى قفيز الطحان. بعد هذا نقول: إذا استعمل البعير، والراوية وباع الماء كان الثمن كله للعامل؛ لأنه بدل الماء لا بدل منافع الدابة ألا ترى لو هلكت الدابة قبل التسليم لا يبطل البيع ولو هلك الماء قبل التسليم يبطل البيع دل أنه بدل الماء، والماء كان مملوكاً للعامل ملكه بالإحراز بالراوية فكان الثمن بدل ملك العامل، فيكون للعامل، وعلى العامل أجر مثل البعير والراوية بخلاف المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى ما أخذ العامل فهو بدل منافع الدابة فيكون لصاحب الدابة، وللعامل أجر مثل عمله على صاحب الدابة.

وهكذا الجواب: إذا أعطاه شبكة ليصيد بها على أن ما صاد بها من شيء فهو بينهما، فما اصطاد يكون للصائد؛ لأن الصيد مباح كالماء يملكه الصائد بالإحراز وعليه أجر مثل الشبكة؛ لأنه استعمل الشبكة بحكم إجارة فاسدة؛ لأنه جعل الأجر نصف ما يحصل من عمله. وإذا تكارى الرجل بعيراً ليحمل عليها أمتعة نفسه ويبيعها من الناس على أن يكون أجر البعير نصف ما يحصل بتجارته، فهذا فاسد وجميع ما اكتسب المستكري هو له، وعليه لصاحب البعير أجر مثل بعيره لاستيفائه منفعة البعير بحكم إجارة فاسدة. وإذا دفع الرجل إلى الرجل بيتاً ليبيع فيه البر، على أن ما رزق الله في ذلك من شيء فهو بينهما نصفان، فقبض البيت، وباع فيه البر، فأصاب مالاً، فإن جميع ذلك لصاحب البر، ولصاحب البيت عليه أجر مثل البيت. واعلم بأن هذه الإجارة فاسدة؛ لأنه لم يذكر فيها مدة؛ ولأن الأجر فهو نصف ما يربح مجهول، وإذا فسدت الإجارة كان على العامل أجر مثل البيت، وكان ما أصاب العامل من المال له؛ لأنه بدل بره، ولو كان صاحب البيت دفع البيت إليه ليؤاجر ويباع فيه البر على ما رزق الله من شيء فهو بينهما فهذا فاسد؛ لأن المدة مجهولة والأجر مجهول، فإذا أجر البيت وأخذ أجره، كان الأجر كله لصاحب البيت؛ لأنه بدل منافع بيته وقد أجره بإذنه؛ لأنه استأجره ليؤاجره بيته إجارة فاسدة، فإذا استوفى عمله؛ لأن على رب البيت أجر مثل عمله بخلاف المسألة الأولى، فإن ثمة ما أصاب العامل من المال يكون كله له؛ لأنه بدل بره أما ها هنا بخلافه. وفي «فتاوى الفضلي» : استأجر رجلاً ليحصل له القصب في الأجمة على أن يعطي أجره خمس حزمات من قصب هذه الأجمة لا يجوز؛ لأنه في معنى قفيز الطحان؛ ولأن الحزمات مجهولة، وإن عين خمس حزمات، وقال: استأجرتك بهذه الحزمات الخمس يجوز، ولو لم يضف الأجر إلى قصب الأجمة، بل قال: استأجرتك على أن تحصد هذه الأجمة بخمس حزمات من القصب لا يجوز لجهالة الحزمات. بخلاف بذرته الكدس واجتناء القطن بحيث يجوز إذا ذكر في الأجر حنطة أو قطناً من غير أن يضاف إلى حنطة الكدس أو القطن المجتنى، وإن كان لا يجوز إذا أضيف إليهما. والفرق: أن هناك المفسد عند الإضابة ليس هو الجهالة؛ لأن الحنطة والقطن لا يتفاوت الوسط منهما بل المفسد كون ذلك في معنى قفيز الطحان، وإذا لم يضف لم يكن في معنى قفيز الطحان، وها هنا المفسد عند الإضافة كونه في معنى قفيز الطحان، والجهالة وبعدم الإضافة لا يخرج عن حد الجهالة، فلم يجز. نوع آخر في فساد الإجارة إذا كان المستأجر مشغولاً بغيره.

قال محمد رحمه الله: إذا استأجر الرجل أرضاً فيها زرع أو رطبة أو قصب أو شجر أو كرم مما يمنع الزراعة، فهذا فاسد؛ لأنه أجر ما لا يمكن تسليمه إلا بضرر يلحقه؛ لأنه لا يمكن تسليم الأرض إلا بقلع الأشجار والزرع وفي قلع الأشجار والزرع ضرر بالآجر؛ لأن الأشجار على ملك الآجر، ومثل هذا يوجب فساد العقد كما في بيع العين. ألا ترى أنه لا يجوز بيع الجذع في السقف؟ وإنما لا يجوز؛ لأنه باع ما لا يمكنه تسليمه إلا بضرر يلزمه في غير ما دخل تحت العقد كذا ها هنا. والمراد من الزرع المذكور في هذه المسألة، الزرع الذي لم يدرك بحيث يضره الحصاد، أما إذا أدرك الزرع بحيث لا يضره الحصار. ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» في كتاب الإجارات: أنه يجوز ويؤمر الآجر بقلع الزرع، وهكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «شرح كتاب الإجارات» ، وهو نظير ما لو أجر داراً فيها متاع الآجر، فإن الإجارات جائزة ويجبر الآجر على التفريغ، كذا ها هنا، ثم إن محمداً رحمه الله نص على فساد هذه الإجارة، وهكذا حكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني أن هذا العقد فاسد، وبعض مشايخنا قالوا: إنه موقوف إلى تفريغ الأرض، وقاسوا هذه المسألة على مسألة بيع الجذع في السقف. والحاكم الشهيد رحمه الله: مال إلى ظاهر ما ذكر محمد رحمه الله، وفرق بين هذه المسألة وبين مسألة بيع الجذع في السقف. وفي «القدوري» : إذا استأجر أرضاً سنة فيها رطبة، فالإجارة فاسدة، فإن قلع رب الأرض وسلمها أرضاً بيضاء فهو جائز، وقاسه على ما إذا باع الجذع في السقف ثم نزع الجذع وسلمه إلى المشتري، وإن اختصما قبل ذلك فأبطل الحاكم الإجارة ثم قلع الرطبة، فالمستأجر بالخيار، إن شاء قبضها على تلك الإجارة وطرح عنه أجر ما لم يقبض، وإن شاء ترك، هذا جملة ما ذكره في «القدوري» ، ثم الزرع إذا لم يدرك، وأراد جواز الإجارة في الأرض. فالحيلة في ذلك: أن يدفع الزرع إليه معاملة، إن كان الزرع لرب الأرض على أن يعمل المدفوع إليه في ذلك بنفسه، وأجرائه وأعوانه على أن ما يرزق الله تعالى من الغلة، فهو بينهما على مئة سهم، سهم من ذلك للدافع، وتسعة وتسعون سهماً للمدفوع إليه، ثم يأذن له الدافع أن يصرف السهم الذي له إلى مؤنة هذه الضيعة أو شيء أراد، ثم يؤاجر الأرض منه، وإن كان الزرع لغير رب الأرض ينبغي أن يؤاجر الأرض منه بعد مضي السنة التي فيها الزرع (29ب4) فيجوز، وتصير الإجارة مضافة إلى وقت في المستقبل. وحيلة أخرى إذا كان الزرع لرب الأرض أن يبيع الزرع منه بثمن معلوم ويتقابضان ثم يؤاجر الأرض منه، وكذلك الحيلة في الشجر والكرم، يدفع الأشجار والكرم معاملة أو يبيع الأشجار والكرم منه، ثم يؤاجر الأرض منه، ثم إن بعض مشايخنا زينوا حيلة بيع الأشجار والكروم، وكانوا لا يجوزون إجارة الأراضي فيها أشجار وكروم بهذه الحيلة، وكانوا يقولون: بيع الأشجار هاهنا بيع تلجئة لا بيع رغبة بدليل أن المستأجر يمنع عن قلع الأشجار، وإذا كان بيع تلجئه لا يزيل الأشجار عن ملك صاحبها، فحين يؤاجر الأرض

كانت الأرض مشغولة بحق المؤاجر، فلا يجوز. ومن المشايخ من يقول: يحكم الثمن إن كان الثمن الذي قوبل بالأشجار مثل قيمة الأشجار أو أكثر يستدل به على أن بيع الأشجار بيع رغبة، فتجوز الإجارة بعد ذلك، ومالا فلا، وكان الحاكم الإمام عبد الرحمن الكاتب والشيخ الإمام إسماعيل الزاهد وغيرهما من المشايخ يقولون: إن الإجارة صحيحة، وبيع الأشجار بيع رغبة إلا أن المستأجر يمنع عن قلع الأشجار لمكان العرف والعادة، وقد يمنع الإنسان عن التصرف في ملكه كما يمنع عن بيع السلاح في أيام القسمة من أهل القسمة. وكان الطحاوى رحمه الله: يقول بصحة بيع الأشجار، وبصحة هذه الإجارة بشرط أن يبيع الأشجار بطريقها، ويبين طريقاً معلوماً لهما من جانب من جوانب الأرض، أما بدون ذلك لا يجوز البيع ولا الإجارة بعده. ومن المشايخ من زين حيلة بيع الأشجار من وجه آخر، فقال: في بيع الأشجار مطلقاً يدخل موضعها من الأرض في البيع على أصح الروايتين، فإذا دخل لا يمكن تجويز إجارة ذلك الموضع؛ إما لأن المستأجر يصير مستأجراً ملك نفسه؛ أو لأن استئجار الأرض لتنقية الأشجار وقد وقع الاستغناء عن استئجار موضع الأشجار لتنقية الأشجار لدخول ذلك الموضع في بيع الشجر، وإذا صار موضع الاستئجار ملك مشتري الأشجار، فإذا استأجر الأرض بعد ذلك صار مستأجراً ملك نفسه، وملك رب الأرض بصفقة واحدة، وإنه لا يجوز، ثم إذا فسخت الإجارة وكان فيها بيع الأشجار لا يشترط فسخ بيع الأشجار نصاً بعد فسخ الإجارة، بل ينفسخ البيع في الأشجار بطريق الدلالة، والفسخ مما يثبت بطريق الدلالة.u وإذا اشترى ثمرة في نخل، ثم استأجر النخل مدة لتنقيتها فيها لم يجز؛ لأنها ليست من إجارات الناس. وكذلك لو استأجر الأرض بدون النخلة لم يجز؛ لأن النخل حائل بينة وبين الثمرة، وإنه ملك المؤاجر، والمستأجر مشغول بملك المؤاجر. وكذلك إذا اشترى أطراف الرطبة دون أصلها، ثم استأجر الأرض لإبقاء الرطبة لا يجوز؛ لأن أصل الرطبة على ملك الآجر، فقد حال بينه وبين المستأجر ملك الآجر. ولو اشترى نخلة فيها، ثم ليقلعها، ثم استأجر الأرض لتنقينها جاز، وكذلك إذا اشترى الرطبة بأصلها ليقلعها، ثم استأجر الأرض لتنقيتها جاز؛ لأن الأرض مشغولة بملك المستأجر، وذلك لا يمنع جواز العقد. ولو استعار الأرض في ذلك كله جاز؛ لأن العارية تبرع لا يتعلق به اللزوم، فيجوز بيع الشيوع، وما هو في معنى الشيوع. ومما يتصل بهذا النوع مسائل الشيوع في الإجارة قال محمد رحمه الله: في رجل أجر نصف داره مشاعاً من أجنبي لم يجز، وإذا سكن المستأجر فيها يجب أجر المثل، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف

ومحمد والشافعي رحمهم الله: يجوز بلا خلاف في ظاهر الرواية. وروي في «النوادر» عن أبي حنيفة أنه لا يجوز ولو أجر داره من رجل ثم تقايلا العقد في النصف لا يبطل العقد في النصف الباقي بلا خلاف في ظاهر الرواية وفي «النوادر» عن أبي حنيفة أنه تبطل الإجارة في النصف الباقي، وإذا أجره داره من رجلين يجوز بلا خلاف، وإذا مات أحدهما تبطل الإجارة في نصيبه، وتبقى في نصيب الحي صحيحة. وكذلك إذا أجر الرجلان داراً من رجل، فمات أحد المؤاجرين، بطلت الإجارة في نصيبه، وفي نصيب الحي صحيحة، وكذا إذا مات أحد المتكاريين بطل الكراء في نصيبه، ويبقى في نصيب الآجر، وإذا كانت الدار بين الرجلين آجر أحدهما نصيبه من أجنبي، فقد اختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة. بعضهم قالوا: لا يجوز، وهكذا روى الحسن في «جامعه» عن أبي حنيفة وعندهما يجوز، ولو استأجر علو منزل ليمر فيه إلى حجرته لا يجوز عند أبي حنيفة، وعندهما يجوز. وكذلك إذا استأجر السفل ليمر فيه إلى سكنه لم يجز في قول أبي حنيفة، وعندهما يجوز، لأن المستأجر مشاع، وإجارة المشاع على الخلاف الذي قلنا. قال الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي رحمه الله: ينبغي أن لا تجوز هذه الإجارة إجماعاً؛ لأن المعقود عليه مجهول؛ لأن موضوع المسألة أن الطريق غير معين، وجهالة المعقود عليه تمنع جواز الإجارة إجماعاً، ولا يجوز إجارة البناء دون الأرض هكذا ذكر في «الأصل» وذكر محمد في «النوادر» في مواضع أنه يجوز، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي: وبه كان يفتي شيخنا وقاسه بإجارة الفسطاط والخيمة. نوع آخر في الاستئجار على الطاعات وإذا استأجر الرجل رجلاً ليعلمه القرآن، أو ليعلم ولده القرآن لا يجوز، ومعناه أنه لا ينعقد العقد أصلاً حتى لا يجب للأجير شيء بحال من الأحوال، هذا جواب «الكتاب» ، وإنما لم يجز؛ لأن الإجارة وقعت على عمل ليس في وسع الأجير إبقاؤه؛ لأن التعليم إنما يتم بالتعلم كالكسر بالانكسار، والتعلم ليس في وسع المعلم، ومثل هذا الاستئجار لا يجوز. ومشايخ بلخ جوزوا الاستئجار على تعليم القرآن، إذا ضرب لذلك مدة أفتوا بوجوب أجر المثل قالوا: وإنما كره تعليم القرآن بالأجر في الصدر الأول؛ لأن حملة القرآن كانوا قليلاً فكان التعليم واجباً حتى لا يذهب القرآن، فأما في زماننا كثر حملة القرآن ولم يبق التعليم واجباً، فجاز الاستئجار عليه. وذكر الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري كان المتأخرون من أصحابنا يجوزون ذلك، ويقولون إنما كان المتقدمون يكرهون ذلك لأنه كان للمعلمين عطيات من

بيت المال وكانوا مستغنين عما لا بد لهم من أمر معاشهم، وقد كان في الناس رغبة في التعليم بطريق الحسبة، وللمتعلمين مروءة في المجازاة بالإحسان من غير شرط أما اليوم ليس لهم عطيات من بيت المال والتعليم يشغلهم عن اكتساب ما لا بد لهم من أمر المعاش وانقطع رغبة المعلمين في الاحتساب ومجازاة المتعلمين من غير شرط، فتجوز الإجارة ويجبر المستأجر على دفع الأجرة ويحبس بها وبه يفتى. وكذلك يجبر المستأجر على الحَلْوَة المرسومة وهذا استحسان أيضاً استحسن المشايخ على ذلك. وكذلك يفتى بجواز الاستئجار على تعليم الفقه في زماننا والاستئجار على الإمامة والأذان لا يجوز لأنه استئجار على عمل للأجير فيه شركة لأن المقصود من الأذان والإمامة أداء الصلاة بجماعة وبأذان وإقامة وهذا النوع كما يحصل للمستأجر يحصل للأجير. وكذا الاستئجار على الحج والغزو وسائر الطاعات لا يجوز، لأنه لو جاز يوجب على القاضي جبر الأجير عليها ولا وجه إليه، لأن أخذها لا يجبر على الطاعات. وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني والقاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي لا يفتيان بجواز الاستئجار على تعليم القرآن، وهكذا حكي عن الشيخ الإمام ركن الدين أبي الفضل رحمه الله وفي روضة الزندويس، كان شيخنا أبو محمد عبد الله الحرافري يقول: في زماننا يجوز للإمام والمؤذن والمعلم أخذ الأجر. وسيأتي بيان الحيلة للجواز على قول الكل في فصل الاستئجار على (30أ4) التعليم، وفي روضة الزندويس أن المستأجر إذا استأجر رجلاً ليعلم ولده الكتابة. وفي «النوازل» : إذا استأجر مؤدباً مرة كل شهر بسبعة دراهم يعلم صبيين أحدهما العربية، والآخر القرآن، فقال المؤدَب: أنا لست من يأته تعليم القرآن فاستأجر معلَماً وضم الصبي إليه.... الناس، وأعطى منه أخرى فسلم الصبي إلى معلمه، فلما جاء رأس الشهر حبس عن المؤدب ثلاثة دراهم، فقال المؤدب: أنا لا أرضى بما حبست؛ لأن أجر المعلم يكون كل شهر نصف درهم، أو درهم. قال: خطاب المؤدب الذي خاطب به المستأجر قريب من توكيله إياه بذلك، فيحط من أجره قدر ما يستحقه المعلم الذي ضم إليه الصبي، وإذا استأجر المسلم من المسلم بيتاً يصلي فيه لم يجز؛ لأنه عيَن جهة القربة لصرف المنفعة إليها، ولا يحل المنع عن الانتفاع لأجل تلك الجهة، فلا يجوز أخذ الأجر عليه. متولي المسجد إذا تعذر عليه الحساب بسبب أنه أمي لا يكتب ولا يقرأ، فاستأجر

رجلاً يكتب له ذلك لا يحَل له أن يعطي أجر الكاتب من مال المسجد؛ لأن الحفظ عليه ونفع الكتابة راجع إليه. ولو استأجر رجلاً ليكنَس المسجد، ويغلق الباب ويفتحه بمال المسجد جاز؛ لأنه ليس على المتولي ذلك، أما حفظ الرجل والخرج عليه. نوع آخر في الاستئجار على المعاصي إذا استأجر الرجل حمالاً ليحمل له خمراً، فله الأجر في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا أجر له. فوجه قولهما: أن حمل الخمر معصية؛ لأن الخمر يحمل للشرب والشرب معصية، وقد «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم حامل الخمر والمحمول إليه» ، وذلك يدل على كون الحمل معصية، وأبو حنيفة رحمه الله يقول يحمل للإراقة وللتخليل كما يحمل للشرب، فلم يكن متعيناً للمعصية، فيجوز الاستئجار عليه. قال القدوري في «كتابه» : قال محمد رحمه الله: ابتلينا بمسألة ميت مات من المشركين، فاستأجروا له من يحمله إلى بلدة أخرى، قال أبو يوسف: لا أجر له، وقلت أنا: إن كان الحمال يعرف أنه جيفة فلا أجر له وإن لم يعلم فله الأجر، قال أبو يوسف: وهذا بخلاف ما لو استأجر لنقله إلى مقبرة البلدة حيث يجوز؛ لأن ذلك لدفع أذيته عنهم فصار كاستئجار الكناس واستئجار المسلم ليخرج له حماراً ميتاً من داره. وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا أجر نفسه من المجوسي ليوقد له ناراً فلا بأس به، فأبو حنيفة سوّى بين هذا وبينما إذا أجر نفسه من ذمّي ليحمل له خمراً، وهما فرقا بين المسألتين. ووجه الفرق: أن التصرف في النار والانتفاع بها جائز في الجملة، ولا كذلك التصرف في الخمر والانتفاع بها. وفي «العيون» : لو استأجر رجلاً ينحت له أصناماً أو يزخرف له بيتاً بتماثيل والأصباغ من رب البيت فلا أجر؛ لأن فعله معصية، وكذلك لو استأجر نائحة أو مغنية فلا أجر لها؛ لأن فعلها معصية. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : إذا استأجر رجلاً ينحت له طنبوراً أو بربطا ففعل يطيب له الأجر إلا أنه يأثم في الإعانة على المعصية، وإنما وجب الأجر في هذه المسألة ولم يجب في نحت الصنم؛ لأن جهة المعصية ثمة مستغنية؛ لأن الصنم لا ينحت إلا للمعصية

أما في نحت الطبل والطنبور جهة المعصية ليست بمتعينة؛ لأنها كما للمعصية تصلح لغير المعصية بأن يجعل وعاء للأشياء. ولو استأجر الذمي مسلماً ليبني له بيعة أو كنيسة جاز، ويطيب له الأجر. وكذلك لو أن امرأة استكتبته كتاباً، إلى حبها جاز ويطيب له الأجر؛ لأنه بدل عمله، وقال أبو حنيفة: لا تجوز الإجارة على شيء من اللهو والمزامير والطبل وغيره؛ لأنها معصية والإجارة على المعصية باطلة؛ ولأن الأجير مع المستأجر يشتركان في منفعة ذلك فتكون هذه الإجارة واقعة على عمل هو فيه شريك، قال: وإن أعطي المستأجر شيئاً من اللهو ليلهو به فضاع أو انكسر فلا ضمان عليه؛ لأن الإجارة لما لم تنعقد بقي مجرد الإذن، كما في استئجار النخيل وإذا بقي الأخذ بإذن المالك فمتى ضاع أو انكسر لا يكون عليه شيء، كما لو أذن ولم يؤاجر. قال: وإذا استأجر الذمي من المسلم بيعة يصلَي فيها فإن ذلك لا يجوز؛ لأنه استأجرها ليصلي فيها وصلاة الذميّ معصية عندنا وطاعة في زعمه، وأي ذلك ما اعتبرنا كانت الإجارة باطلة؛ لأن الإجارة على ما هو طاعة ومعصية لا يجوز، وكذلك المسلم إذا استأجر من المسلم بيتاً ليجعلها مسجداً يصلي فيها المكتوبة أو النافلة، فإن الإجارة لا تجوز في قول علمائنا، وعند الشافعي تجوز وهذا لأنها وقعت على ما هو طاعة، فإن تسليم الدار ليصلي فيها طاعة ومن مذهبنا أن الإجارة على ما هو طاعة لا تجوز، وعنده تجوز. وكان هذا بمنزلة ما لو استأجر رجلاً للآذان أو الإمامة لا يجوز عندنا؛ لأنه طاعة، وعند الشافعي يجوز فكذلك هذا وكذلك الذمي إذا استأجر رجلاً من أهل الذمة ليصلي بهم فإن ذلك لا يجوز لأن هذه معصية عندنا وطاعة في دينهم وأيّ ذلك ما اعتبرنا لا تجوز هذه الإجارة. قال: وإذا استأجر رجل من أهل الذمة مسلماً يضرب لهم الناقوس فإنه لا يجوز لما ذكرنا، وإذا استأجر مسلماً ليحمل له خمراً ولم يقل ليشرب، أو قال ليشرب جازت الإجارة في قول أبي حنيفة خلافاً لهما، وكذلك إذا استأجر الذمي بيتاً من مسلم ليبيع فيه الخمر، جازت الإجارة في قول أبي حنيفة خلافاً لهما. والوجه لأبي حنيفة فيما إذا نص على الشرب، إن هذه إجارة وقعت لأمر مباح؛ لأنها وقعت على حمل الخمر ليشربها الذمي، أو وقعت على الدار ليبيع الذميّ وشرب الخمر مباح؛ لأن خطاب التحريم كان غير نازل في حقه. وهذا بخلاف ما إذا استأجر الذمي من المسلم بيتاً يصلي فيه حيث لا يجوز؛ لأن ثمة صفة المعصية، إذا أمنت في حقه لديانته تبقى صفة الطاعة والاستئجار على الطاعة لا يجوز ومعنى صفة المعصية متى انتفت عن الشرب لديانته بقي فعلاً مباحاً في نفسه ليس بطاعة فتجوز الإجارة، وفيما إذا لم ينص على الشرب، فالوجه له أن الخمر كما يكون للشرب وإنه معصية في حق المسلم يكون للتخليل، وإنه مباح للكل فإذا لم ينص على

الشرب يجب أن يجعل التنقل للتخليل حملاً لهذا العقد على الصحة. وهو نظير ما لو استأجر الذميّ من المسلم بيتاً ولم يقل ليصلى فيه، فإنه يجوز، وإن كان له أن يصلي فيه ويتخذه بيعة وكنيسة. وإذا استأجر الذميّ مسلماً ليحمل له ميتة، أو دماً يجوز عندهم لأن نقل الميتة والدم؛ لإماطة الأذى عن الناس مباح فتكون الإجارة واقعة على أمر مباح فتجوز، وقد تكون للأكل فتكون الإجارة واقعة على فعل حرام فلا تجوز، فإذا أطلق تحمل الإجارة على الحمل لإماطة الأذى تجويزاً للإجارة. وإذا استأجر الذمي لنقل الخمر أو استأجر منه بيتاً ليبيع فيه الخمر جاز عندهم جميعاً؛ لأن الخمر عندهم كالخل عندنا وهذا بخلاف ما لو استأجر ذميّ من ذميّ بيتاً يصلّي فيه حيث لا يجوز؛ لأن صلاتهم طاعة عندهم معصية عندنا وأي ذلك كان لم تجز الإجارة، فأما في الخمر متى انتفت صفة المعصية بقي بعد ذلك صفة الإباحة، والاستئجار على فعل مباح جائز. ولو استأجر مسلماً ليرعى له خنازير يجب أن تكون على الخلاف كما في الخمر ولو استأجره ليبيع له ميتة لم يجز؛ لأن بيع الميتة لا تجوز في دين من الأديان لأنه لا ثمن لها، وإذا لم يجز بيعه فقد استأجر على فعل ليس في وسعه تحصيله بحال (30ب4) وإذا استأجر الذميّ من المسلم داراً ليسكنها فلا بأس بذلك؛ لأن الإجارة وقعت على أمر مباح فجازت وإن شرب فيها الخمر أو عبد فيها الصليب أو أدخل فيها الخنازير، لم يلحق المسلم في ذلك شيء لأن المسلم لم يؤاجر لها إنما يؤاجر للسكنى، وكان بمنزلة ما لو أجر داراً من فاسق كان مباحاً، وإن كان يعصي فيها، ولو اتخذ فيها بيعة أو كنيسة أو بيت نار يمكن من ذلك إن كان في السواد. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وأراد بهذا إذا استأجرها الذمي ليسكنها، ثم أراد بعد ذلك أن يتخذ كنيسة أو بيعة فيها، فأما إذا استأجرها في الابتداء ليتخذها بيعة أو كنيسة لا يجوز إلا إلى ما ذكر قبل هذا أن الذمي، إذا استأجر من المسلم بيعة يصلي فيها لم يجز بعض مشايخنا قالوا: وما ذكر في سواد الكوفة؛ لأن عامة سكانها أهل الذمة والروافض أما في سوادنا عامة سكانها المسلمون فيمنعون عن إحداث الكنائس كما يمنعون عنها في الأمصار، وكثير من المشايخ قالوا: لا يمتنعون عن إحداث الكنائس في سوادنا أيضاً. قال: وإذا استأجر كتاباً يقرأ فيه لا يجوز شعراً كان أو فقهاً أو غيره. وكذلك إذا استأجر مصحفاً وإنما لا يجوز، لأن الإجارة عقدت على القراءة والنظر، والإجارة على النظر والقراءة لا تنعقد؛ لأن القراءة فلا تخلو إما أن تكون طاعة أو معصية أو مباحاً. فإن كانت القراءة طاعة كقراءة القرآن والأحاديث، كان هذا إجارة على الطاعة، والإجارة على الطاعة لا تنعقد. وإن كانت معصية كالنياحة والغناء فهو إجارة على المعصية، والإجارة على المعاصي باطلة. وإن كان مباحاً كقراءة كتب الأدب، فلأن القراءة والنظر مباح له بغير إجارة، إنما لا يباح حمله وتقلب الأوراق والإجارة لا

تنعقد على ما كان يملكه المستأجر قبل الإجارة من غير إجارة، ولا تنعقد على حمله وتقليب الأوراق وإن كان لا يملكه المستأجر من غير إجارة؛ لأنه لا فائدة للمستأجر في ذلك، ألا ترى أنه لو نصّ فقال: استأجرت منك هذا الكتاب لأحمله وأقلب أوراقه، بأن الإجارة لا تصح فكذلك ها هنا. وكذلك إذا استأجر قارئاً ليقرأ عليه شيئاً لا يجوز؛ لأن القراءة التي وقعت الإجارة عليها إن كانت طاعة أو معصية لا تجوز الإجارة عليها، إما لأن الاستئجار على الطاعات والمعاصي باطلة وإما لأن القارىء مع السّامع يشتركان في منفعة القراءة؛ لأنه كما ينتفع السامع بالقراءة من حيث العظة والتلذّذ ينتفع بها القارىء لعمل فقد استأجره لعمل هو شريك فيه، ومثل هذا لا يجوز على ما مرّ، وإن كانت القراءة التي وقع عليها الإجارة مباحاً كقراءة كتب الأدب وما أشبه ذلك، لا تجوز الإجارة عليها للوجه الثاني. نوع منه في الاستئجار على الأفعال المباحة نحو تعليم الصناعة والتجارة والهدم والبناء والحفر وأشباه ذلك. وإذا دفع عبده إلى رجل يقوم عليه أشهراً مسماة في تعليم النسخ على إن أعطاه المولى كل شهر شيئاً مسمّى فهو جائز، أما على قول من قال: بأن الإجارة على تعليم القرآن لم تجز؛ لأن تعليم القرآن طاعة فظاهر؛ لأن تعليم النسخ مباح وليس بطاعة، وأما على قول من قال: بأن الإجارة على تعليم القرآن إنما لا تجوز؛ لأن التعليم ليس من عمل الأجير بل من فهم المتعلم، فلأن الإجارة هاهنا وقعت على أن يقوم عليه ويحفظه، ولكن ذكر الشيخ لرعب المولى فيما يحصل له في أثناء العقد عن عمل الحياكة، فإن الصبيّ ربما يأخذ ذلك لفهمه وذكائه، فهذا جاري مجرى البيع والمقصود هو القيام عليه وفي وسع الأستاذ الوقاية حتى لو شرط عليه تعليم الحياكة، ولم يقل ليقوم عليه في عمل كذا يجب أن لا يجوز كما في تعليم القرآن. ولو شرط على المعلم أن يقوم على ولده شهراً في تعليم القرآن يجب أن يجوز، وإن كان الأستاذ هو الذي شرط للمولى أن يعطيه ذلك ويقوم على غلامه في تعليم ذلك فهو جائز، وإن لم يشترط كل واحد منهما على صاحبه الأجر يعني الأستاذ مع الولي ودفعه على وجه الإجارة، فلما فرغ الأستاذ من التعليم، قال الأستاذ: لي الأجر على رب العبد وقال ربّ العبد: لا بل لي الأجر على الأستاذ، فإني أنظر في ذلك العمل إلى ما يصنع أهل تلك الصنعة في تلك البلدة فإن كان المولى هو الذي يعطي الأجر جعلت على الأستاذ أجر مثله للمولى. قال الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي رحمه الله: معنى قوله دفعه على وجه الإجارة أن ذلك العمل مما لا يعمل بغير بدل، إذا استأجر الرجل سمساراً ليشتري له

الكرابيس أو استأجر دلالاً ليبيع له ويشتري فإن لم يبيّن لذلك أجلاً لا يجوز، وقد ذكرنا المسألة مع ما فيها من الحيلة للجواز من قبل. وفي «واقعات الناطقي» : إذا قال الرجل: بع هذا المتاع ولك درهماً أو قال: أشتر لي هذا المتاع ولك درهم، ففعل فله أجر مثله لا يجاوز به الدرهم؛ لأن هذا الاستئجار وقع فاسداً فكان عاملاً له بإجارة فاسدة فيجب له أجر المثل، وفي الدلال والسمسار يجب أجر المثل وما تواضعوا عليه أن من كل عشرة دنانير كذا، فذلك حرام عليهم. وفي «العيون» : رجل دفع إلى أخر ثوباً فقال له: بعه بعشرة فما زاذ فهو بيني وبينك، قال أبو يوسف: إن باعه بعشرة أو لم يبعه فلا أجر له، وإن بعت في ذلك؛ لأنه نفى الأجر إذا باعه بعشرة لما علقه بأكثر من عشرة ولو باعه باثني عشر، أو أكثر أو أقل فله أجر مثل عمله. وقال محمد رحمه الله: له أجر مثل عمله، وإن لم يبع فإذا بعت في ذلك؛ لأنه عمل بحكم إجارة فاسدة، والفتوى على قول أبي يوسف؛ لأن الأجر مقابل بالبيع دون مقدماته، فلا يستحق الأجر بدون البيع وإن بعت في عمله بحكم إجارة فاسدة. وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا قال لدلال: إعرض صنعتي وبعها على أنك إذا بعتها فلك من الأجر كذا، فلم يقدر الدلال على إتمام الأمر فباعها دلال آخر. قال الفقيه أبو القاسم رحمه الله: إن كان الأول قد عرضها وذهب له في ذلك دور جار يعتد به فأجر المثل له واجب بقدر عنائه وعمله. وعن أبي نصر مثل ما قاله الفقيه أبو القاسم فإنه سئل عمّن دفع ثوباً إلى منادي ليبيعه بأجر فنادى، ولم يبع صاحبه قال: له أجر مثله؛ لأنه عمل بإجارة فاسدة. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: هذا هو القياس أمّا في الاستحسان لا يجب له الأجر؛ لأن العرف والعادة جرت أنهم لا يأخذون الأجر إلا بالبيع وهذا موافق لقول أبي يوسف في المسألة المتقدمة، وعليه الفتوى. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل يبيع ثياباً بالمزايدة، أجر منادياً ينادي ببيع ذلك، فإن بيّن له وقتاً أو قال ينادي كذا صوتاً فذلك جائز ومالا فلا. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل ضلّ شيئاً، فقال: من دلني عليه فله درهم فدلّه إنسان فلا شيء له؛ لأن الدلالة والإشارة ليست بعمل يستحق به الأجر، ولو قال لإنسان بعينه: إن دللتني عليه فلك درهم، فإن دلّه من غير شيء معه فكذلك الجواب لا يستحق به الأجر وإن مشى معه ودلّه فله أجر مثله، لأن هذا عمل يقابل الأجر عرفاً وعادة إلا أنه غير مقدر ففسد العقد ووجب به أجر المثل. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : استأجر رجلاً ليصيد له أو يحتطب له فإن كان وقّت لذلك وقتاً جاز، وإن لم يوقت ولكن عين الحطب، فالإجارة فاسدة وما اصطاد فهو للمستأجر (31أ4) وإن كان الحطب الذي عينه ملك المستأجر، فالإجارة جائزة. وفي «القدودي» وعن محمد فيمن قال لغيره: اقتل هذا الذئب أو هذا الأسد ولك

درهم، وهما صيد ليس للمستأجر فله أجر مثله لا يجاوز به درهماً، لأنه يحتاج في الصّيد إلى المعالجة، فيصير العمل مجهولاً باعتباره فيجب أجر المثل، قال: ويكون الصيد للمستأجر قال: لأن القتل سبب التملك وعمل الأجير يقع للمستأجر. وفي «فتاوى الفضلي» : إذا استأجر الرجل رجلاً ليهدم جداره، أو يبني حيطانه كل ذراع بكذا أو قال: بك تاجره بكذا، أو ليكسر حطبه جازت الإجارة، فإن لم يذكر الأجل. والأصل في جنس هذه المسائل: أن العمل إذا كان معلوماً، ولو أراد المستأجر أن يشرع في ذلك العمل في الحال يمكنه الشروع فيه ويقدر عليه، فإنه تجوز الإجارة من غير ذكر الأجل، وكذلك لو ذكر الأجل إلا أنه لم يبين مقدار العمل وهو يقدر على الشروع في الحال يجوز أيضاً. بيان الأول: ما ذكرنا من مسألة الهدم، وبناء الحائط، وكسر الحطب، وكذلك لو استأجر رجلاً ليخبز له عشرين طناً من الخبز بدرهم يجوز، وإن لم يذكر الأجل؛ لأن العمل معلوم. بيان الثاني: لو استأجره ليخبز له اليوم إلى المثل جاز، وإن لم يبيّن مقدار العمل؛ لأن العمل صار معلوماً بذكر الأجل. ولو استأجر رجلاً ليذري كدسه، أو قال: له بالفارسية باين يك خرمن من رابا وكن لا يجوز ولو قال يا ين يك درهم أين ويوار بابازكن جاز درهم أين لأن في الجدار وجنسها لو أراد الأجير أن يشرع في العمل في الحال يقدر أما يذريه الريح لا تتم به وحده وإنما يتم به، وبالريح فلم يكن قادراً على العمل المستأجر عليه فلا يصح. وفي «الأصل» : استأجره ليبني له حائطاً بالآجر والجص وسمى كذا كذا أجرة من هذه الأجرار وكذا كذا كراً والجص، ولم يسم الطول والعرض كانت الإجارة فاسدة قياساً، صحيحة استحساناً. وجه القياس: أن مقدار الطول والعرض مجهول، وهذه جهالة توقعهما في المنازعة. وجه الاستحسان: أن مقدار الطول والعرض معلوم عرفاً؛ لأن بعد بيان الآجر عدداً والجص كيلاً يعرف أهل هذه الصنعة مقدار طوله وعرضه ولو سمى كذا كذا عدداً من الآجرة أو اللبّنة ولم يسم الملبن ولم يره إياه إن كان ملبن أهل تلك البلدة واحداً أو كان لهم ملابن مختلفة إلا أن غالب عملهم على ملبن واحد جازت الإجارة استحساناً؛ لأن ملبنهم إذا كان واحداً ينصرف مطلق الاسم إليه. وكذلك إذا كانت لهم ملابن مختلفة، إلا أن غلبة أعمالهم على ملبن واحد ينصرف مطلق الاسم إليه عرفاً وعادة، وإن كان ملابنهم مختلفة ولم يغلب استعمال واحدة منها، كانت الإجارة فاسدة؛ لأن في هذه الصورة الملبن لا يصير معلوماً لا شرطاً ولا عرفاً وجهالة الملبن توجب فساد الإجارة؛ لأن العمل مما يتفاوت الملبن صغراً وكبراً.

وإذا استأجره ليبني له حائطاً بالمرمص وشرط عليه الطول والعرض وبدون بيان الطول والعرض لا يجوز؛ لأن العمل لا يصير معلوماً. وإذا استأجره ليعمر له في هذه الساحة بيتين ذي سقفين أو ذي سقف واحد، وبيّن طوله وعرضه السرد وغير ذلك، ويقال بالفارسية: شكروداون لا يجوز، هكذا ذكر في «فتاوى أبي الليث» ، والصواب أنه يجوز إذا كان بآلات المستأجر لتعامل الناس، ومسألة الاستئجار لبناء الحائط بالآجر والجصّ التي تقدم ذكرها يشهد لهذا القول. ولو استأجره ليحفر له بئراً في داره وسمى عمقها وسعتها، حتى جازت الإجارة، فلما حفر بعضها وجد حبلاً أشد عملاً وأشد مؤنة، فإن كان يقدر على حفرها بالآلة التي تحفر بها الآبار إلا أنه يلحقه زيادة مشقة وتعب، فإنه يجبر على العمل؛ لأنه ضمن بعقد الإجارة حفر هذا الموضع بالآلة التي تحفر بها الآبار، وقد أمكنه ذلك فقد قدر على الوفاء بما ضمن بعقد الإجارة فيجبر عليه، وإن كان لا يقدر على حفرها بالآلة التي تحفر بها الآبار لا يجبر عليه؛ لأنه ما قدر على الوفاء بما ضمن بعقد الإجارة، لأنه إنما ضمن الحفر بالآلة التي تحفر بها الآبار لا بآلة أخرى، وهل يستحق الأجر بقدر ما عمل؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في «الكتاب» . وحكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: أنه يستحق إذا كان يعمل في ملك المستأجر، بخلاف ما إذا كان يعمل في غير ملكه وقاس هذه المسألة على ما إذا استأجر خياطاً ليخيط له ثوباً في بيت المستأجر فخاط بعضه فسرق الثوب، أو حفاراً ليحفر له بئراً في دار المستأجر فحفر البعض فانهار يستحق من الأجر بقدره وإن كان يعمل ذلك في غير ملكه فله أجر له كذا هاهنا. وعلى قياس ما ذكرنا قبل هذا عن القدوديّ أن الخياط إذا خاطه في بيت المستأجر فخاط بعض الثوب أن لا أجر له؛ لأنه لا ينتفع به يجب أن يقال هاهنا: إنه لا ينتفع به وسيأتي بخلاف هذا عن أبي يوسف في فصل فسخ الإجارة بالعذر، وإن شرط عليه أن كل ذراع في لبن أو سهله بدرهم، وكل ذراع في جبل بدرهمين وكل ذراع في الماء بثلاثة وبينّ مقدار الطول والعرض فهو جائز، لأنه الأجر معلوم حال وجوبه؛ لأن الأجر إنما يجب بعد العمل وبالعمل يصير جميع الأجر معلوماً؛ لأنا نعلم بأي قدر حفر في السهلة وبأي قدر حفر في الجبل. ولو استأجره ليحفر له بئراً في داره وظهر الماء قبل أن يبلغ المسمى الذي شرط عليه، فإن أمكنه الحفر في الماء بالآلة التي تحفر بها الآبار أجبر على الحفر، وإن احتيج إلى اتخاذ آلة أخرى لا يجبر عليه على نحو ما ذكرنا في المسألة المتقدمة. وكذلك لو استأجره ليحفر له في حجارة مروة، فلما حفر البعض استقبله حجارة صفا أصم، فإن أمكنه حفر الصفا بالآلة التي يحفر بها المروّة أجبر على الحفر، ومالا فلا. وإن استأجر رجلاً ليحفر له حوضاً عشرة في عشرة وسمى عمقها وعرضها ببدل

معلوم فحفر خمسة في خمسة يجب ربع المسمى؛ لأنه أوفى ربع العمل؛ لأن عشرة في عشرة مائة، وخمسة في خمسة، خمسة وعشرون. وإذا استأجر الرجل رجلاً ليحفر له قبراً فحفر فانهار أو دفن فيها إنسان قبل أن يأتي المستأجر بجنازته فهو على التفصيل الذي ذكرنا في حفر بئر قبل هذا إن كان ذلك في ملك المستأجر فله الأجر، وإن كان في غير ملكه فلا أجر له، ولو استأجره ليحفر له قبراً ولم يسمّ في أيّ مقابر جاز استحساناً وينصرف إلى المكان الذي يدفن فيه أهل تلك المحلة موتاهم. قال مشايخنا رحمهم الله هذا الجواب بناءً على عرف أهل الكوفة، فإن لكل محلّة مقبرة خاصّة يدفنون موتاهم فيها، ولا ينقلون موتاهم إلى مدافن محلة أخرى، أما في ديارنا تنقل الموتى من محلة إلى مقابر محلة أخرى فلا بد من تسمية المكان حتى لو كان موضعاً لهم مقبرة واحدة تجوز الإجارة من غير تسمية المكان، وإذا عيّن المستأجر للأجير مكاناً يحفر فيها القبر فحفر في مكان آخر، فالمستأجر بالخيار إن شاء رضي بذلك وأعطاه الأجر، وإن شاء رد ذلك عليه ولا أجر له لأن الأجير موافق من وجه من حيث إنه أمر بحفر القبر وقد حفر، مخالف من وجه من حيث إنه لم يحفر في المكان الذي أمر بالحفر فيه، فإن شاء مال إلى جهة الوفاق وجعله عاملاً بعقد وأعطاه الأجر، وإن شاء مال إلى جهة الخلاف، وجعله عاملاً بغير عقد ولم يعطه الأجر، وإذا لم يصفوا له طول القبر وعمقه جاز الاستئجار استحساناً، ويوجد بأوسط ما يعمل الناس نوع منه في المتفرقات وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجوز أن يستأجر من عقار مائة أذرع أو من أرض جريباً أو جريبين إذا كان أكثر من ذلك، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يجوز، لأن من أصل أبي حنيفة أن بيع الذراع من الأرض لا يجوز وعندهما يجوز، لأنه عبارة عن النّصيب وإجارة المشاع جائزة عندهما (31ب4) . ولا يجوز استئجار القناة والبئر والنهر ليسقى منهما غنمه أو أرضه، لأن المقصود هو الماء وأنه عين والأعيان لا تستحق بعقد الإجارة، وكذلك إذا كان لرجل شرب في النهر فاستأجره ليسقي منه غنمه أو أرضه لم يجز لما قلنا، ولا تجوز إجارة الآحام والأنهار للسمك وغيره، أما للسمك فلأن هذه الإجارة لا تفيد إلا ما كان ثابتاً له من قبل؛ لأن المشروط في هذه اصطياد السمك والمستأجر كان يملك اصطياد السمك من غير إجارة، ولأن هذه الإجارة عقدت على استحقاق العين، وأما لغير السمك، فلأن غير السمك في الآحام والأنهار القصب والماء، وإنها عين. ولا تجوز. إجارة المراعي لم يرد به إجارة الأراضي، فإن إجارة الأرض جائزة وإنما أراد به إجارة الأراضي فإن إجارة الأرض جائزة، وإنما أراد إجارة الكلأ، وإنما لم يجز؛ لأنها وردت على العين. والحيلة في جوازها: أن يستأجر موضعاً من الأرض ليضرب فسطاطاً أو ليجعل حظيرة لغنمه فتصح الإجارة، ويبيح صاحب المرعى الانتفاع بالمرعى.

وإذا استأجر الرجل دراهم أو دنانير أو حنطة أو شعيراً أو ما أشبه ذلك من الوزنيات أو الكيلات ليعمل منها كل شهر بدرهم لا تجوز، لأن الإجارة جوزت بخلاف القياس لمنفعة مقصودة من الأعيان، والمنفعة المقصودة من الكيلات والموزونات لا يمكن استيفاؤها إلا باستهلاكها فتكون هذه الإجارة معقودة على استهلاك العين، والإجارة لا تنعقد على استهلاك العين. ولو استأجر الدراهم أو الدنانير شهراً ليتزين بهما أو استأجر الحنطة أو الشعير ليعير بها مكياله ذكر في «الأصل» أنه يجوز، قال أبو الحسن رحمه الله: وعندي أنه لا يجوز، بعض مشايخنا قالوا: ما ذكر في «الأصل» محمول على ما إذا استأجر ليعبر بهما مكيالاً بعينه، وما ذكر أبو الحسن محمول على ما إذا استأجرها ليعبر بهما مكيالاً بعينه. وبعضهم قالوا: في المسألة روايتان وجه الجواز أن هذه منفعة مطلوبة وجه عدم الجواز أن هذه المنفعة ليست بمقصودة من هذه الأعيان فلا تصح الإجارة عليها، ولو استأجر الدراهم أو الحنطة يوماً مطلقاً ولم يبّين لماذا يستأجرها لم يذكر هذه المسألة في «الأصل» . قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده: ولقائل أن يقول: لا يجوز ويحمل على الانتفاع بهما وزناً احتيالاً لجواز العقد، ولقائل أن يقول: يجوز وإليه مال الكرخيّ لأنا وإن حملناه على الانتفاع بهما وزناً لا يجوز العقد على قول الكرخيّ على ما مرّ. وإذا استأجر الرّجل نخلاً أو شجراً على أن يكون ما أثمر للمستأجر لا يجوز؛ لأن هذه إجارة عقدت على استحقاق العين ومحل الإجارة المنفعة دون العين على ما مرّ، ولا يمكن العمل بحقيقة الإجارة ولا يمكن أن تجعل مجازاً عن البيع، لأن الإجارة لا تصير سبباً لملك الرقبة قط فكيف يمكن أن تجعل كناية عن البيع، وإذا أطلق الإجارة على النخيل إطلاقاً ولم يشترط سبباً، لم يذكر محمّد هذه المسألة في «الأصل» . قال شيخ الإسلام: ولقائل أن يقول: يجوز وتصرف الإجارة إلى منفعة محضة تتحقق من الأشجار مع بقاء العين كبسط الثياب على أغصانها أو شد الدابة بها، والإجارة على مثل هذه المنفعة جائزة. وقد ذكر الكرخيّ في «مختصره» : أن من استأجر نخلاً أو شجراً ليبسط عليه ثيابه لا يجوز؛ لأن هذه ليست بمنفعة مقصودة من الأشجار والإجارة، إنما يجوز إيرادها على منافع مقصودة، ولأن هذه ليست من الإجارات فإنا لا نجد أحداً يستأجر أشجاراً ليبسط عليها ثيابه. وفي «المنتقى» : إذا استأجر الرجل سطحاً ليجفف ثيابه عليه جاز قال: ولا يشبه هذا إذا استأجر نخلاً ليجفف ثيابه عليه، وإذا استأجر الرجل علو منزل ليبني عليها لم يجز في قول أبي حنيفة، ويجوز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، فمن مشايخنا من قال: موضع المسألة إذا كان العلو لرجل والسفل لرجل آخر، أجر صاحب العلو من رجل ليبني عليه وتكون هذه المسألة فرع مسألة أخرى، أن صاحب العلو إذا أراد أن يحدث في العلو بناء.

قال أبو حنيفة: ليس له ذلك أضر بالسفل أو لم يضرّ، فإذا لم يملك صاحب العلو إحداث البناء لم يملك التمليك من غيره بالإجارة. وعندهما: له أن يحدث البناء إذا لم يضّر بالسفل فلما ملك صاحب العلو هذا بنفسه ملك التمليك من غيره بالإجارة حتى لو كان العلو والسفل لواحد، فإنه تجوز هذه الإجارة عندهم جميعاً؛ لأن الأجير يملك إحداث هذا البناء بنفسه فيملك التمليك من غيره بالإجارة، ومنهم من قال: لا بل المسألة على الخلاف وإن كان العلو والسفل لواحد فعلى هذا لا تكون المسألة بل تكون مسألة مبتدأة فلا بد أن يتكلم لكل واحد منهما بكلام مبتدأ، وإطلاق محمد رحمه الله يدلّ على هذا فكان الحجة لهما أن أرض العلو وهو سقف السفل في إجارة العلوّ للسكنى من غير ذكر، كأرض السفل ولما ألحق بالأرض في حق الإجارة للسكنى فكذا في حق الإجارة للبناء يلحق بالأرض. ومن استأجر أرضاً ليبني جازت الإجارة، وإن كان قدر البناء مجهولاً فكذا هذا بهذا تدائنا وأبو حنيفة يقول: إذا استأجر الأرض للبناء إنما جاز مع الجهالة؛ لأن جهالة قدر البناء مما لا يلحق بصاحب الأرض زيادة ضرر، فإن قل البناء أو كثر لا يتضرر به ربّ الأرض، فأما جهالة قدر البناء مما يضر بأرض العلو وهو سقف السفل فكانت جهالة قدر البناء هاهنا مانعاً جواز الإجارة من هذا الوجه. ولو استأجر سطحاً ليبيت عليه شهراً ذكر في كتاب الصلح وفي بعض روايات كتاب الإجارات أنه يجوز، وذكر في بعض المواضع أنه لا يجوز فمن مشايخنا من وفق فقال: ما ذكر في كتاب الصلح وفي بعض روايات كتاب الإجارات محمول على ما إذا كان العلو مسقفاً أو إن لم يكن مسقفاً يكون مجهولاً، بأن دور عليه الحائط؛ لأنه إذا كانت هذه الصفة فهو موضع السكنى عادة فجاز الاستئجار للبيتوتة عليه. وما ذكر في بعض المواضع محمول على ما إذا لم يكن مسقفاً ولا محجراً، لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة فهو ليس موضع السكنى عادة فلا يجوز الاستئجار للبيتوتة عليه، ومن المشايخ من قال: في المسألة روايتان ومن المشايخ من زيف ما ذكر في بعض المواضع، وقال: يجوز استئجار الشرط للبيتوتة على كل حال وإطلاق لفظ كتاب الصلح، وفي بعض روايات كتاب الإجارات يدل عليه ووجه ذلك أن السّطح مسكن يمكن السكنى فيه بنصب خيمة أو ما أشبهه، فتجوز الإجارة عليه. وإذا استأجر القاضي رجلاً ليقوم عليه في مجلس القضاء شهراً بأجر مسمى فهو جائز؛ لأنه استأجره مدّة معلومة بأجر معلوم لعمل مباح وهو قيامه في مجلسه فيصبح كما لو استأجره شهراً للخدمة ويدخل في ذلك الحدود والقصاص؛ لأنه مجرد القيام في مجلس لا يفيد للقاضي فائدة والإجارة لا تنعقد على مالا فائدة للمستأجر فيه وإنما يفيده القيام في مجلسه إذا قام لبعض ما يعرض للقاضي من هذه الأسباب فصار القيام إقامة هذه الأسباب مستحقاً للقاضي ثمرة من ثمرات ما وقعت عليه الإجارة وهو القيام في مجلسه لا أن يكون هذا معقوداً عليه حتى لا تجوز الإجارة عليه.

ولو استأجره القاضي لإقامة الحدود خاصّة أو لاستيفاء القصاص خاصة إن لم يذكر لذلك مدّة لا شك أنه لا يجوز، وإن ذكر لذلك مدّة لم يذكر محمّد رحمه الله في «الكتاب» هذا الفصل، وذكر الشيخ أبو الحسن الكرخي في كتابه أنه يجوز، وإليه مال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي في «شرح كتاب الإجارات» . وذكر الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام المعروف بخواهرزاده في «شرح كتاب الإجارات» أنه لا يجوز، وإنما اختلفوا لاختلافهم في علة عدم الجواز إذا لم يذكر لذلك مّدة فالكرخي ومن تابعه قالوا: إذا لم يذكر لذلك من مدّة إنما لا يجوز؛ لأن المعقود عليه العمل وإنه مجهول لا يدري كم يوجد ومع الجهالة (32أ4) فيه خطر لا يدري أيوجد أو لا يوجد، وهذا المعنى لا يتأتى فيما إذا ذكر لذلك مّدة؛ لأن عند ذكر المّدة المعقود عليه تسليم النفس لا العمل، والشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام قال: إذا لم يذكر لذلك مدة إنما لا يجوز إما لإقامة الحدود، فلأنها طاعة والاستئجار على الطاعة لا يجوز وإن ذكر لذلك مّدة. كما لو استأجر رجلاً سنة ليعلم ولده القرآن، وإما لاستيفاء القصاص إنما لا يجوز كيلا يصير الأجير كالمستوفي لنفسه من وجه متى استحق ما رآه أمراً، وسيقرر هذا إن شاء الله تعالى هذا المعنى موجود فيما إذا ذكر لذلك مّدة وإذا قضى القاضي لرجل على يد رجل بالقصاص في النفس، فاستأجر المقضي له رجلاً ليستوفي ذلك على قول أبي حنيفة وأبي يوسف لا يجوز وعلى قول محمد يجوز وفيما دون النفس تجوز الإجارة بالإجماع. محمد رحمه الله يقول: استأجره لعمل معلوم وهو حز الرقبة، فوجب أن يجوز قياساً على ما لو استأجر لذبح شاة له أو استأجره لاستيفاء القصاص فيما دون النفس. وأبو حنيفة وأبو يوسف ذهبا في ذلك إلى أن القصاص فيما لا يجري فيه التمليك، فإنه لو وهب من غير القاتل أو باع لم يجز ومتى انعقدت الإجارة على القتل ووجب البدل له، إما المسمى، أو أجر المثل يثبت التمليك من حيث المعنى؛ لأن الأجير فيما يعمل كالعامل لنفسه من حيث إنه يأخذ لذلك أجراً فيصير من وجه كالمستوفي لنفسه، فيحصل له نوع ملك والقتل لا يقبل ذلك، فلم يجب البدل حتى يصير معيناً له في القتل من كل وجه فلا يثبت له معنى التمليك، وهذا معنى ما يقول في «الكتاب» : إن القتل ليس بعمل أي: ليس بعمل يجوز فيه أخذ الأجر عليه، فأما لا شك أنه عمل في نفسه بخلاف الذبح؛ لأنه متى استحق به أجر ثبت الملك من حيث المعنى أكثر ما في الباب أنه يصير كالذابح لنفسه من وجه، ولكن الذبح لنفسه من كل وجه من جهته جائز بأن ملك الشاة منه فكذا يجوز من وجه، بأن استأجره للذبح بخلاف القصاص فيما دون النفس؛ لأن له حكم المال حتى جاز للوصي استيفاؤه وجاز القضاء بالنكول عند أبي حنيفة رحمه الله واعتبر فيه التساوي والتكافؤ ولو كان مالاً من كل وجه جاز التمليك من كل وجه. فإذا كان له حكم المال من وجه جاز التمليك من وجه بخلاف القصاص في

النفس؛ لأنه ليس حكم المال بوجه ما، فإذا لم يكن له حكم المال لا يكون قابلاً للتمليك بوجه ما، ومتى صحت الإجارة يثبت للآجر نوع ملك من حيث المعنى على ما بينا فامتنع جواز الإجارة، ولأن المستحق في القصاص في النفس لزهاق الروح مقصوداً وتخريب البنية طريق إليه، وإزهاق الروح من صنع الله تعالى لا صنع للعبد فيه وتخريب البنية، وإن كان من صنعه فهو ليس بمستحق مقصود الرد عليه عقد الإجارة، فهو ليس من صنع العبد وما هو صنع العبد ما ورد عليه عقد الإجارة بخلاف القصاص فيما دون النفس؛ لأن المستحق هناك إبانة الجزء فيرد عليه العقد وإنه من صنيع العباد وبخلاف الذبح؛ لأنه عبارة عن قطع الحلقوم والعروق، فيرد عليه العقد، وإنه من صنيع العباد. إذا استأجر سنوراً لأخذ الفأرة لا يجوز، ولو استأجر كلباً أو بازياً ليصيد به ذكر في أضاحي الزعفراني أنه يجوز؛ لأن الأول ليس من إجارات الناس والثاني من إجاراتهم وذكر في القدوريّ مسألة الكلب والبازي، وقال: لا يجوز؛ لأنه لا يقدر على تسليم المعقود عليه فإنه لا يمكن إجبار الكلب والبازي على الصّيد. قال في «المنتقى» : وكذلك إذا استأجر ديكاً ليصيح لا يجوز، وذكر ثمة أصلاً فقال: كل شيء، من هذا يكون فيه من غير فعل أحد لا يستطيع الإنسان أن يضربه حتى يفعل فلا يجوز البيع فيه والإجارة. ولو استأجر فحلاً للإنزاء فهو باطل، لقوله عليه السلام «وإن من السحت ثمن الكلب ومهر البغي وعسب التيس» والمراد به أخذ الأجرة؛ ولأن نفس الإنزاء ليس بمقصود إنما المقصود الإعلاق وليس في وسعه إبقاؤه، وعن أبي يوسف فيمن استأجر ثياباً ليبسطها في بيت ولا يجلس عليها أن الإجارة فاسدة، لأن هذه ليست بمنفعة مقصودة والإجارة جوزت بخلاف القياس لتحصيل منفعة مقصودة وكذا روي عن محمد رحمه الله فيمن استأجر دابة ليُجنيها مترين فلا أجر لها؛ لأن قود الدابة ليست بمنفعة مقصودة. وفي «المنتقى» : إذا استأجر تيساً أو كبشاً للدلالة ليسوق لها الغنم لا يجوز وفي «القدوديّ» لو استأجر شاة ليرضع منها جدياً أو صبياً لم يجز وليس هذا كالآدمي، وإذا استأجر من آخر عبداً أو دابة وشرط على المستأجر طعام العبد أو علف الدابة لم يجز؛ لأن ما شرط يصير أجره وإنه مجهول وجهالة الأجر توجب فساد الإجارة وعلى هذا إذا استأجر عبداً كل شهر بأجر معلوم وعلفها لا تجوز؛ لأن بعض الأجر مجهول ومعنى آخر في هذه المسائل أنه شرط شرطاً لا يقتضيه العقد؛ لأن طعام عبد المستأجر وعلف الدابة المستأجرة على الآجر على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، وفيه منفعة لأحد المتعاقدين ومثل هذا الشرط يوجب فساد الإجارة.

الفصل السادس عشر: فيما يجب على المستأجر وفيما يجب على الأجير

وفي «المنتقى» : استأجر سيفاً شهراً ليتقلده أو استأجر قوساً شهراً ليرمي به يجوز وإذا استأجر وتداً يوتد به ذكر هذه المسألة في «المنتقى» بهذه العبارة في موضع وذكر أنه يجوز وذكر في موضع آخر إذا استأجر وتداً، ليعلق به بعض الأمتعة لا تجوز هذه الإجارة.t ولو استأجر قوماً يحملون الجنازة أو يغسلون ميتاً، فإن كان في موضع لا يجد من يغسله غير هؤلاء فلا أجر لهم وإن كان ثمة أناساً غيرهم فلهم الأجر لأن في الوجه الأول قاموا وهم متعينون له ولا كذلك الوجه الثاني. الفصل السادس عشر: فيما يجبُ على المستأجر وفيما يجب على الأجير نفقة المستأجر على الآجر سواء كانت الأجرة عيناً أو كانت منفعة، حتى أن من استأجر دابة إلى بغداد بسكنى بيت شهراً أو بخدمة عبد شهراً، أو استأجر عبداً بسكنى بيت شهراً، كان علف الدابة ونفقة العبد على الآجر، وهذا الحكم ظاهر فيما إذا كانت الأجرة منفعة؛ لأن الأجرة إذا كانت عيناً إنما تجب النفقة على الآجر مع أن المستأجر في قبض المستأجر عامل لنفسه، وللآجر من حيث إنه يستوفي المنفعة والآجر من حيث إنه يحصل له الآجر إلا أن ما يحصل للآجر غير ما يحصل للمستأجر؛ لأن الحاصل للآجر عين وللمستأجر منفعة، والعين خير من المنفعة؛ لأن العين تبقى زمانين والمنفعة لا تبقى زمانين والباقي خير من الفاني فيرجح جانب الآجر على المستأجر، وجعل المستأجر في القبض عاملاً للآجر من كل وجه وصار المستأجر بمنزلة المودع فلهذا كانت النفقة على الآجر. فأما إذا كان الآجر منفعة فلا رجحان لأحد الجانبين على الآخر فيجب أن لا تكون النفقة على الآجر الجواب بلى إذا كانت الأجرةُ منفعة فلا رجحان لأحد الجانبين على الآخر في قبض المستأجر فلا حرم بقي ما كان، على ما كان والنفقة في الأصل كانت على المالك. فإذا لم يثبت الرجحان لأحد الجانبين في هذا القبض تبقى المنفعة على المالك، كما كان في الأصل وصارت نفقة المستأجر في هذه الصورة نظير نفقة المرهون، فإن نفقة المرهون تجب على الراهن، وإن كانت منفعة قبض المرهون مشتركة بين الراهن والمرتهن، فإن الراهن بقبض المرتهن يصير موفياً دينه والمرتهن بقبضه يصل إلى استيفاء الدين فإن قبض المرتهن بغير الراهن فيحمله ذلك على قضاء الدين، ولا رجحان لأحد الجانبين على الآخر فيبقى ما كان على ما كان كذا ها هنا. قال: وتطيين الدار وإصلاح ساريها وما وهي من ثيابها على رب الدار من المستأجر؛ لأن إصلاح الملك على المالك ولا أجر على ذلك (32ب4) ولكن

للمستأجر أن يخرج إذا لم يعمل؛ لأنه عيب حصل في المعقود عليه ولا يجب على المالك إزالة العيب وللمستأجر أن لا يرضى بذلك، وإن كان استأجرها وهي كذلك ورآها فلا خيار له؛ لأنه عقد مع العلم بالعيب فيلزم، قال: وإصلاح بئر الماء وبئر البالوعة والمخرج على ربّ الدار، وإن كان أصلاً من فعل المستأجر ولا يجبر على ذلك لما بينا. قال: ولو انقضت الإجارة وفي الدار تراب من كسبه فعليه أن يرقعه؛ لأنه اجتمع بفعله فصار بمنزلة متاع وضعه قال: وإن كان امتلأ جلاها ومجاريها من فعله، فالقياس أن يلزمه نقلها؛ لأنه حدث بفعله كالرماد والتراب وإنما استحسنوا فيما كان معنياً في الأرض فالانتفاع به لا يحصل، إلا من هذا الوجه فإن الانتفاع بالمجاري من حيث الأجراء، وبالجلاء من حيث التجلي فيه وإن كانت المنفعة من هذا الوجه تحصل كان مستحقاً بالعقد، فلم يجب عليه نقله، قال: فإن أصلح المستأجر شيئاً وذلك لم يحتسب له ما أنفق؛ لأنه فعل بغير أمر مالكه فكان متبرعاً والله أعلم. ومما يتصل بهذا الفصل فصل التوابع والأصل فيه: أن الإجارة إذا وقعت على عمل فكل ما كان من توابع ذلك العمل ولم يشترط ذلك في الإجارة على الأجير، فالمرجع فيه العرف. حتى قال في «الكتاب» : من استأجر رجلاً ليضرب له لبناً فالزنبيل والملبن على اللبان إن جرت العادة، وكذلك في الدقيق الذي يصلح الحائك الثوب يعتبر العرف والسلك الذي يخاط به الثوب والإبرة على الخياط، باعتبار العرف وإخراج الخبز من التنور على الخباز بحكم العرف وكذلك الطباخ إذا استؤجر في عرس، فإخراج المرقة من القدور إلى القصاع على الطباخ، وإن استؤجر لطبخ قدر خاص فإخراج المرقة من القدر ليس عليه. وإذا تكارى دابّة للحمل ففي الإكاف والحبال والجوالق يعتبر العرف، وكذلك إذا تكاراها للركوب ففي اللجام والسرج يعتبر العرف أيضاً، وإذا تكارى دابة لحمل الحنطة إلى منزله فإنزال الحمل عن ظهر الدابّة على المكاري وفي الإدخال في المنزل يعتبر العرف، وكذلك الحمال على ظهره، ففي الإدخال في المنزل يعتبر العرف، وليس على المكاري أن يصعد بها على السطح إلا أن يكون اشترط ذلك وبين له وفي سلك الخياط، إذا لم تكن عادة معروفة فهو على صاحب الثوب لأن الإجارة ما وضعت لاستيفاء العين، وهو كالصبغ إذا لم تكن فيه عادة معروفة يكون على صاحب الثوب لما ذكرنا وإذا استأجر وراقاً وشرط عليه الجر والبياض فاشتراط الجر صحيح واشتراط البياض باطل؛ لأنه لو صح يكون عاملاً في ملك نفسه فلا يكون أجيراً. وإذا استأجر قصاراً ليقصر له ألف ثوب فحملها على القصار، إلا أن يشترط القصار حملها على رب الثياب. حمال حمل أحمالاً بكذا فلما بلغ الموضع نزل في دار ووضع الحمال في موضع

الفصل السابع عشر: الرجل يستأجر فيما هو شريك فيه

منها ثم وزنها على صاحبها ويسلمها إليه فلم يرفعها أياماً ثم اختصموا في كراء ذلك الموضع، ورب الدار بأحد الحمال بالكراء فإن كانت الأحمال في موضع مستأجر بالعقد، فالكراء على من استأجر، وإن كانت الأحمال في موضع يستعمل بأجر غير معقود عليه فبعد الوزن والتسليم يحب الكراء على المسلم إليه وقبل ذلك يجب على الحمال؛ لأن ما يجب في هذه الصورة يجب بحكم الاستعمال لا بالعقد، والمستعمل بعد التسليم المسَلم إليه وقبل ذلك المستعمل هو الحمال. الفصل السابع عشر: الرَجل يستأجر فيما هو شريك فيه وإذا استأجر أحد الشريكين نصف دابة صاحبه أو نصف عبد صاحبه على أن يحمل نصيبه من الطعام المشترك إلى موضع كذا والطعام غير مقسوم فلا أجر له، وعلى هذا الإجارة على عمل في محل مشترك. ووجه ذلك: أن المقصود من هذه الإجارة ليس نفس العمل، بل المقصود وصف يحصل للمتحمل وهو ضرورة المحمل محيطاً ومحمولاً، وهذا الوصف لا يتصور تحصيله للبائع، فقد أضاف العقد إلى محل لا يمكن تحصيل المعقود عليه فيه فلغى العقد. قال محمد رحمه الله: لو استأجر أحدهما نصف سفينة صاحبه ليجعل الطعام المشترك، ولأحدهما رحى فاستأجر أحدهما نصف رحى شريكه ليطحن به الطعام المشترك، وكذلك لو استأجر منه نصف الجوالق على أن يحملا فيه هذا الطعام إلى موضع كذا. والفرق هو: أن الإجارة إذا وقعت على العمل فوجوب الأجرة يقف على العمل في محل شائع لا يتصور فلا ينعقد العقد، أما إذا وقعت على المنفعة فوجوب الأجر لا يقف على إيقاع النفع في ذلك المحلّ، ألا ترى أنه يجب الأجر بتسليم العين قبل الانتفاع، فيصبح العقد في قول من يجوز إجارة المشاع. ذكر هذه المسائل في «المنتقى» وفي «عيون المسائل» ، قال محمد رحمه الله في «العيون» عقيب ذكر هذه المسائل: كل شيء استأجره أحدهما من صاحبه مما يكون منه عمل، فإنه لا يجوز وإن عمل فلا أجر له وكل شيء استأجره أحدهما من صاحبه لا يكون منه العمل فهو جائز، وذلك نحو الجوالق وأشباهه، قال الفقيه رحمه الله: هذا خلاف رواية الأصل، فإنه ذكر محمد رحمه الله في كتاب المضاربة لو استأجر من صاحبه بيتاً أو حانوتاً لا يجب الأجر. وفي «نوادر ابن سماعة» : رجل استأجر رجلين يحملان له هذه الخشبة إلى منزله بدرهم، فحملها أحدهما فله نصف درهم وهو متطوع إذا لم يكونا شريكين قبل ذلك في الحمل والعمل.

وكذلك لو استأجر لبناء حائط وحفر بئر، ولو كانا شريكين قبل ذلك في العمل يجب الأجر كله، ويكون بين الشريكين ويصير عمل أحدهما بحكم الشركة كعملهما. وفي «الأصل» : إذا استأجر الرجل قوماً يحفرون له سرداباً إجارة جائزة، فعملوا إلا أن بعضهم عمل أكثر مما عمل الآخر كان الأجر مقسوماً بينهم على عدد الرؤوس، فرق بين هذا وبينما إذا استأجر دابتين ليحمل عليهما عشرون محتوماً من الحنطة بكذا، حتى لم يكن له أن يحمل على واحد منهما أكثر من العشرة؛ لأن العشرين أضيفت إليهما على السواء فلو حمل عليهما عشرون محتوماً إلا أنه حمل على أحدهما أكثر من العشرة، فإنه يقسم الأجر عليهما على قدر أجر مثلهما، وهاهنا قال: يقسم الأجر على عدد الرؤوس. والفرق: أن التفاوت بين الرواة تفاوت فاحش يختلف الأجر بمثله، اعتبار التفاوت وقسمة الأجر على قيمة عملهما وأما التفاوت بين الأجراء في عمل واحد تفاوت بيسير لا يعتبره الناس فيما بينهم فسقط اعتبار التفاوت وقسم الأجر بينهم على عدد رؤوسهم إذا اشتركوا في العمل. قال بعض مشايخنا: هذا إذا لم يكن التفاوت بين الأجراء في العمل في هذه الصورة تفاوتاً فاحشاً، أما إذا فحش التفاوت لا يقسم الأجر على عدد الرؤوس في مسألة الدابتين، وإن لم يعمل أحدهما لمرض أو عذر آخر إن لم يكن بينهم شركة، بأن لم يشتركوا في تقبل هذا العمل سقط حصة أجر المريض؛ لأنه لم يوف عمله لا بنفسه ولا نيابة؛ لأنه لم يسبق منه استعانة من أصحابه حتى يجعل ما زاد على نصيبهم من العمل بحكم الاستعانة وأفعاله، بل تجعل الزيادة واقعة لصاحب السرداب ويكون عملهم في الزيادة على نصيبه تطوعاً. فهو نظير رجل دفع أرضه إلى آخر مزارعة فما أجر وزرع ذلك الأرض متبرعاً كان الزرع لصاحب الأرض؛ لأنه لا يمكن أن يجعل عمله للمزارع؛ لأنه لم توجد منه الاستعانة به ولم يعمل في ملكه فجعلناه واقعاً لصاحب الأرض. وإن اشتركوا في تقبل هذا العمل يجب كل الأجر وتكون حصة المريض له؛ لأن المريض في هذه الصورة مُستعين بهم دلالة؛ لأن العادة فيما بين الناس أنهم إنما يعقدون عقد الشركة في تقبل الأعمال حتى إذا عجز واحد منهم يعينه الآخر، ولو وجدت الاستعانة صريحاً كان الجواب كما قلنا فهاهنا كذلك (33أ4) . وفي «فتاوى أبي الليث» : صباغان أجر أحدهما آلة عمله من الآخر ثم اشتركا، فإن كانت الإجارة وقعت على كل شهر يجب الأجر في الشهر الأول ولا يجب بعد ذلك؛ لأن في الشهر الأول الشركة جرت على إجارة صحيحة معدة فلا يبطلهما، وفي الشهر الثاني الشركة سبقت الإجارة فمنعت انعقادها فلا يجب الأجر بعد ذلك، لهذا وإن أجرها عشر سنين مثلاً، فالأجر واجب عليه في ذلك كله؛ لأن الإجارة قد صحت في كل المدّة المسمّى فلا يبطلها لجريان الشركة عليها. وعن محمد بن سلمة: أن الشركة توهن الإجارة وصورة ما نقل عنه رجل استأجر

الفصل الثامن عشر: في فسخ الإجارة بالعذر وبيان ما يصلح عذرا وما لا يصلح

من آخر حانوتاً، ثم اشتركا في عمل يعملا في ذلك الحانوت، ويقول محمّد بن سلمة: ويسقط الأجر إذا عملا فيه بحكم الشركة، لأنه لم يسلم المعقود عليه، وفي آخر باب إجارة الدور من إجارت الأصل إذا تكارى داراً شهراً، فأقام معه ربّ الدار فيها إلى آخر الشهر فقال المستأجر: لا أعطيك الأجر؛ لأنك لم تحل بيني وبين الدار، فعليه من الأجر بحساب ما كان في يده اعتباراً للبعض بالكل. الفصل الثامن عشر: في فسخ الإجارة بالعذر وبيان ما يصلح عذراً وما لا يصلح الإجارة تنفسخ بالأعذار عندنا؛ لأن الفسخ في باب الإجارة امتناع عن القبول من وجه وفسخ لعقد منعقد من وجه؛ لأن في حق المعقود عليه وهو المنافع يتجدد انعقادها ساعة فساعة على حسب حدوث المنافع، وفي حق الأجرة يعتبر منعقداً في الحال؛ لأنه لا ضرورة في حق الأجرة، وإنما تأخر وقوع الملك في الأجر لا لعدم انعقاد العقد في حقه للحال بل ضرورة بأمر الملك في المنفعة تحقيقاً للتساوي. ولهذا قلنا: إن الأجرة تملك بالتعجيل أو باشتراط التعجيل ولو لم يكن العقد منعقداً في طرف الأجرة، لما ملكت بالتعجيل أو اشتراط التعجيل كما إذا أضيفت إلى وقت آتي، وإذا اعتبرت الإجارة منعقدة في الحال في حق الأجرة وفي حق المنافع تعتبر متجدداً انعقادها ساعة فساعة، كان الفسخ امتناعاً عن القبول من وجه فسخاً لعقد منعقد من وجه ضمن بهما في حالين، فاعتبرناه امتناعاً عن القبول حال عذر يتمكن في العاقد فجوزناه من غير قضاء، ولا رضا صاحبه على ما عليه إشارات «الأصل» و «الجامع الصغير» ، واعتبرناه فسخاً لعقد منعقد حال عدم العذر فلم يجوزه بغير رضا صاحبه توقراً على الشبهين حظهما بقدر الإمكان، وإنما أظهرنا نسبة الامتناع عن القبول حالة عدم العذر؛ لأنا لو أظهرنا نسبة الامتناع عن القبول حالة عدم العذر، يلزمنا إظهاره حالة العذر من الطريق الأولى فحين يتعطل العمل بالشبهين فعملنا على الوجه الذي قلنا، لتمكننا العمل بالشبهين. واستفتح محمد رحمه الله قول من يقول: بأن الإجارة لا تنفسخ بالأعذار. فقال: أرأيت لو أن رجلاً استأجر رجلاً ليقلع سنّه لوجع أصابه، أو استأجر رجلاً ليقطع يده لآكلة وقعت فيها فسكن الوجع وبرأت اليد، أيجبر المستأجر على المضي في الإجارة، والتمكين من قلع السنّ وقطع اليد؟. أرأيت لو استأجر رجلاً ليتخذ له وليمة لعرس فماتت المرأة، أيجبر المستأجر على المضي؟ لا شك أنه لا يجبر لما في المضي من الضرر، وإنه قبيح ثم العذر إذا تحقق تنفسخ الإجارة بنفس العذر أو تحتاج فيه إلى الفسخ، لم يذكر محمد رحمه الله هذا نصاً في شيء من الكتب وإشارات الكتب متعارضة في بعضها يشير إلى أنها تنفسخ بنفس

العذر، وبه أخذ بعض المشايخ وفي عامتها يشير إلى أنه يحتاج فيه إلى الفسخ، وعليه عامة المشايخ وهو الصحيح. ومن المشايخ من قال: كل عذر يمنع المضي في موجب العقد شرعاً، تنتقض الإجارة بنفسه ولا تحتاج فيه إلى الفسخ كما في مسألة الآكلة وقلع السنّ، فإن بعد ما برأت اليد وسكن الوجع لا يجوز قلع السنّ وقطع اليد فلا فائدة في إبقاء العقد، فتنتقض ضرورة وكل عذر لا يمنع المضي في موجب العقد شرعاً ولكن يلحقه نوع ضرر يحتاج فيه إلى الفسخ، ثم إذا احتيج إلى الفسخ على ما عليه إشارات عامة الكتب مقر وصاحب العذر بالفسخ أو يحتاج فيه إلى قضاء القاضي أو رضا العاقد الآخر. ذكر في «الزيادات» : أنه يشترط القضاء أو الرضا وإليه أشار في «الجامع الصغير» وفي «الأصل» إلى أنه لا يشترط القضاء، أو الرضا ومن شرط النقض من المشايخ اختلفوا فيما بينهم، بعضهم قالوا: ما ذكر في «الزيادات» : محمول على عذر يحتمل الاشتباه كما إذا لحق الآخر دين وهو يدعي أنه لا وفاء له، إلا من ثمن الدار؛ إذ يحتمل أن له وفاء بعين الدار المستأجرة فيحتاج فيه إلى القضاء ليزول الاشتباه بالقضاء، وما ذكر في «الأصل» وفي «الجامع الصغير» محمول على ما إذا كان العذر أمراً واضحاً لا اشتباه فيه، فلا يحتاج فيه إلى القضاء. ومنهم من قال: في المسألة روايتان وجه رواية «الجامع الصغير» ، و «الأصل» أن هذا في معنى العيب قبل القبض، فإن المنافع لا تصير مقبوضة لقبض الدار حقيقة والعيب قبل القبض يوجب الفسخ من غير قضاء ولا رضا كما في بيع العين. وجه ما ذكر في «الزيادات» : أن هذا إن كان في معنى العيب قبل القبض حقيقة على الوجه الذي قلتم فهو في معنى العيب بعد القبض حكماً، فإنه أقيم قبض الدار مقام قبض المنافع في حق تمام العقد فيشترط فيه القضاء أو الرضا. إذا حدث في العين المستأجر عيب لا يوجب خللاً في المنافع، لم يكن للمستأجر أن يفسخ العقد وذلك نحو العبد المستأجر للخدمة إذا ذهبت إحدى عينيه، وذلك لا يضر بالخدمة أو سقط شعره أو سقط حائط من الدار لا ينتفع به في سكناها؛ وهذا لأن المعقود عليه في الإجارة المنفعة فإذا لم يتمكن الخلل في المنافع كان المعقود عليه قائماً من كل وجه فلا معنى لإيراد الخيار. وإن كان العيب يوجب خللاً في المنافع كالعبد إذا مرض والدابة إذا دبرت والدار إذا انهدمت بعض بنائها حتى أوجب نقصاناً في سكنى الباقي، كان للمستأجر أن يفسخ العقد؛ لأنه تعذر عليه استيفاء المعقود عليه على الوجه المستحق بالعقد لتمكن الخلل فيه، فإن شاء رضي بالخلل واستوفاه كذلك وإن شاء فسخ العقد، وإن شاء المؤاجر أسقط من الدار قبل فسخ المستأجر فلا خيار للمستأجر؛ لأن الخلل قد ارتفع والعقد يتجدد انتقاؤه على حسب المنافع فلم يتمكن الخلل في المعقود عليه في العقد الآتي فلا يكون له حق الفسخ.

ولو كان المؤاجر غائباً فليس للمستأجر أن يفسخ؛ لأن حضور العاقدين شرط صحة الفسخ عرف ذلك في كتاب البيوع ولو سقطت الدار كلها فله أن يخرج، سواء كان صاحب الدار شاهداً أو غائباً فهذا إشارة إلى أن عقد الإجارة ينفسخ بانهدام الدار، فإنه قال: فللمستأجر أن يخرج سواء كان صاحب الدار شاهداً أو غائباً ولو لم ينفسخ العقد واحتيج إلى الفسخ اشترط حضرة صاحبه، كما في المسألة المتقدمة. وهذا فصل اختلف أصحابنا فيه، بعضهم قال: ينفسخ العقد، بانهدام الدار وانقطاع الماء عن الرحى وانقطاع الشرب عن الأرض إذا كان لا يمكنه أن يزرع، واستدل هذا القائل باللفظ الذي ذكرنا، ومنهم من قال: لا ينفسخ العقد بانهدام الدار، واستدل هذا القائل بما ذكر محمد في كتاب الصّلح، أنه إذا صالح على سكنى دار فانهدمت لم ينفسخ الصّلح. واستدلوا أيضاً ما روى هشام عن محمّد فيمن استأجر بيتاً فانهدم ثم بناه الآخر فليس للمستأجر (33ب4) أن يمتنع ولا الآجر فهذا إشارة إلى أن العقد لا ينفسخ بانهدام الدار؛ وهذا لأن المنفعة ما فاتت من كل وجه فإن الانتفاع بالعرصة ممكن من وجه بأن ينصب خيمة فيها أو إن فاتت المنفعة من كل وجه، إلا أنها ما فاتت على سبيل التأبيد إنها فاتت على وجه يحتمل العود فأشبه إباق العبد المستأجر، وذلك لا يوجب انفساخ العقد. ونصّ في إجارات «الأصل» في باب الرحى أن الإجارة في الرحى لا تنفسخ بانقطاع الماء عنها. وفي «فتاوى الفضلي» : المؤاجر إذا نقض الدار المستأجرة برضا المستأجر أو بغير رضاه لا تنتقض الإجارة، لأن الأصل باق قال: وهذا بمنزلة ما لو غصب الدار المستأجرة من المستأجر، وهناك لا تنتقض الإجارة بل سقط الأجر على المستأجر مادامت الدار في يد الغاصب ومن المشايخ من قال: ينفسخ العقد بانهدام الدار ثم يعود بالبناء ومثل هذا جائز. ألا ترى أن الشاة المبيعة إذا ماتت في يد البائع ينفسخ العقد، ثم إذا دبغ جلدها يعود العقد بعذره كذا ها هنا، فإن بنى المؤاجر الدار كلها قبل الفسخ فللمستأجر أن يفسخ العقد إن شاء هكذا ذكر في «النوادر» ، وإنه يخالف راوية هشام عن محمد في مسألة البيت. ووجه هذه الرواية: أن التغير قائم فيها؛ لأن الدار إذا كانت جديدة تكون أبرد في بعض الأوقات وأحر في بعضها وعلى قياس هذه الرواية ينبغي أن يكون للمستأجر حق الفسخ إذا سقط بعض البناء وبناه الآخر قبل الفسخ، ويجوز أن يكون بينهما فرق فيتأمّل. وقال محمد رحمه الله: في السفينة المستأجرة إذا أنقضت وصارت ألواحاً، ثم ركبت واعتدّت سفينة لم يجبر على تسليمها إلى المستأجر، قال محمد: ولا يشبه هذا الدار؛ لأن السفينة بعد النقض إذا اعتدت صارت سفينة أخرى، ألا ترى أن من غصب

من آخر ألواحاً وجعلها سفينة ينقطع حق المالك فأما عرصة الدار لا تتغير بالبناء عليها. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف رحمه الله: رجل استأجر داراً وقبضها فانهدم بيت منها فرفع عنه من الأجر بحصته ولا يؤخذ منهما. بيانه: وإذا استأجر غلاماً ليخدمه في المصر ثم أراد المستأجر أن يسافر فهذا عذر له في فسخ الإجارة؛ لأنه لا يمكنه استيفاء المعقود عليه إلا بحبس نفسه في المصر؛ إذ لا يمكنه أن يخرج بالعبد؛ لأن خدمة السفر أشق من خدمة الحضر وحبس نفسه في مكان يعينه عقوبة فيصير عذراً له في فسخ الإجارة، وأما إذا استأجره ليخدمه مطلقاً ولم يقيده بالمصر ثم أراد المستأجر المسافر هل يكون له عذر في فسخ الإجارة فهذه المسألة تبنى على مسألة أخرى أن من استأجر عبداً في المصر للخدمة هل له أن يسافر؟ إن لم يكن له أن يسافر به كان عذراً له، وإن كان له أن يسافر لم يكن عذراً وقد مرت المسألة في فصل الاستئجار للخدمة. فإن قال المؤاجر للقاضي: إنه لا يريد السفر ولكنه يريد فسخ الإجارة، وقال المستأجر: أنا أريد السفر فالقاضي يقول: للمستأجر مع من يخرج فإن قال: مع فلان وفلان، فالقاضي يسألهم أن فلاناً هل يخرج معكم؟ وهل استعد للخروج؟ فإن قالوا: نعم ثبت العذر ومالا فلا، وهذا لأن الخروج لابد له من الاستعداد قال الله تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له العدة} (التوبة: 46) وبعض مشايخنا قالوا: القاضي يحكم زيه وسامه فإن كانت يداه شاق السفر يجعله مسافراً وهذا؛ لأن الزي والسيما حجة يجب العمل بها عند اشتباه الحال على ما عرف في موضعه، وبعضهم قالوا: إذا أنكر الآجر السفر فالقول قوله وبعضهم قالوا: القاضي يحلف المستأجر بالله إنك عزمت على السفر، وإليه مال الكرخي والقدوري وكذلك لو خرج من المصر ثم عاد يحلّف بالله إنك قد خرجت قاصداً إلى الموضع الذي ذكرت، ولو أراد ربّ العبد أن يسافر لا يكون ذلك عذراً في فسخ الإجارة؛ لأنه لا يمكنه إيفاء المعقود عليه من غير أن يحبس نفسه في مكان معين بأن يخرج إلى السفر، ويخلي بين المستأجر وبين العبد.d ونظير هذه المسألة إذا استأجر من آخر داراً ليسكنها ثم عزم على السفر لا يكون ذلك عذراً له في فسخ الإجارة، وإذا استأجر حانوتاً في سوق ليعمل فيه عملاً مثلاً بزازي فلحقه دين أو أفلس وقام عن السوق فهذا عذر في فسخ الإجارة؛ لأنه فات ما هو المقصود من هذه الإجارة؛ لأن المقصود منها أن يتجر في هذا الحانوت، ولا يمكنه ذلك بعد الإفلاس وبعد ما لحقه الديون لأن الغرماء يأخذون المال منه ويمنعونه عن التصرف فيه، ولم يكن شيء من ذلك ولكن أراد المستأجر أن يتحول إلى حانوت آخر هو أوسع إذا رخص ويعمل ذلك العمل لم يكن ذلك عذراً؛ لأن ما هو المقصود من هذه الإجارة لم يفت واستيفاء ما وقع عليه العقد ممكن من غير أن يلحق المستأجر ضرر لكن يفوته نفع طمعه، إلا أنّ تحصيل النفع ليس بواجب إنما الواجب دفع الضرر ولو أراد أن يقوم من هذا العمل ويعمل عملاً آخر.

ذكر في «الفتاوى الصغرى» : أن هذا عذر وفرق بين هذا وبينما إذا استأجر غلاماً ليعمل له عمل الخياطة، ثم بدا له أن يأخذ في عمل آخر فإن ذلك ليس بعذر؛ لأنه لا يمكنه أن يحمل الغلام في ناحية الدكان يعمل له عمل الخياطة وهو في ناحية أخرى يعمل عملاً آخر بخلاف ما إذا كان هو يعمل بنفسه. وذكر في فتاوى «الأصل» : هذه المسألة على التفصيل فقال: إن تهيأ له العمل الثاني على ذلك الدكان ليس له النقض، لأنه لم يتحقق القدر وإن لم يتهيأ فله النقض؛ لأنه تحقق العذر، وذكر في «الجامع الصغير» مطلقاً أنه ليس بعذر، كما ذكر في «الفتاوى الصغير» ومسألة «الجامع الصغير» تأتي بعد هذا والمؤاجر إذا وجد زيادة على الأجرة لا يكون ذلك عذراً له في فسخ الإجارة؛ لأنه لا يمكنه إنما المعقود عليه من غير ضرر يلزمه إنما يفوته نوع نفع طمعه غير أنه لا عبرة لفوات المنفعة على ما مرً. وفي «فتاوي أبي الليث» : رحمه الله رجل ساكن في قرية استأجر أرضاً في قرية أخرى ثم بدا له أن يترك هذه الأرض، ويزرع أرضاً أخرى في قرية أخرى قال: إن كان بينهما مسيرة سفر كان عذراً له في فسخ الإجارة، وما لا فلا وهذا؛ لأن المسافة إذا كانت بعيدة يلحقه الضرر وإذا كانت قريبة لا يلحقه الضرر، وقدرت البعيدة بمسيرة السفر وإذا لحق الآجر دين لا وفاء له إلا من ثمن الدار المستأجرة أو ثمن العبد المستأجر، فهذا عذر في فسخ الإجارة؛ لأنه لا يمكنه إيفاء المعقود عليه إلا بضرر يلحقه، وهو الحبس، فإنه يحبس فيصير ذلك عذراً له في فسخ الإجارة. فإن قيل: ينبغي أن لا يحبسه القاضي إذا تعلق بماله حق المستأجر بل يتأخر الحبس إلى أن تنقضي الإجارة. قلنا: القاضي لا يصدقه في أنه لا وفاء له إلا من ثمن المستأجر فيحبسه لهذا، وينبغي للآجر أن يرفع الأمر إلى القاضي ليفسخ العقد وليس للآجر أن يفسخ بنفسه، وقد مرّ هذا، ثم إذا رفع الأمر إلى القاضي إن طلب من القاضي أن ينقض الإجارة فالقاضي لا ينقضها؛ لأنه لاحق للآجر في نقض الإجارة إنما حقه في البيع قضاء لدينه وتخليصاً لرقبته فلو نقض القاضي الإجارة بطلبه ربما لا يتفق البيع بعد ذلك أو يكون احتيالاً فيصير النقض مقصوداً، أو يبطل حق المستأجر وإنه لا يجوز وإن طلب من القاضي أن يبيع المستأجر بنفسه أو بأمر الآجر أو غيره بالبيع، أجابه القاضي إلى ذلك وهذا الجواب إنما يتأتى على ظاهر الرواية؛ لأن على ظاهر الرواية حق المستأجر لا يمنع البيع ولكن يمنع التسليم. وللمشتري الخيار بين أن يتربص إلى أن تمضي هذه الإجارة، وبين أن يرفع الأمر إلى القاضي ويطلب التسليم أو الفسخ، فإذا رفع إلى القاضي (34أ4) وأثبت البائع الدين بالبيّنة، فالقاضي يمضي البيع ويتضمن ذلك نقض الإجارة فيأخذ الثمن من المشتري ويسلمه إلى الغريم. قال: وإلى أن يمضي القاضي البيع فالأجرة واجبة على المستأجر؛ لأن المستأجر

في يده وهو متمكن من الانتفاع به فيجب عليه الأجر، وكان الأجر للآجر؛ لأنه بدل ملكه ويكون طيباً له؛ لأنه وجب بحكم عقد صحيح وكذلك لو أن الآجر باع الدار بنفسه قبل أن يتقدموا إلى القاضي، ثم تقدموا إلى القاضي، فعلى المستأجر أجر الدار حتى ينقض القاضي الإجارة بإمضاء البيع وتنفيذه لما ذكرنا من المعنى. هذا إذا كان الدّين على الآجر ظاهراً معلوماً للقاضي، وأما إذا لم يكن ظاهراً معروفاً وإنما عرف بإقرار الآجر وصدقه المقر له في إقراره وكذبه المستأجر فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله بيعت الأرض، ونقضت الإجارة وعلى قولهما لا تباع الأرض ولا تنقض الإجارة فهما لا يقولان بصحة إقراره في حق المستأجر؛ لأنه يضمن احترازاً بالمستأجر بإبطال حقّه عن عين المستأجر؛ لأن حقّه تعلق بعين المستأجر لغيره فيكون إقراراً على المستأجر وإقرار الإنسان على غيره لا يصح. وأبو حنيفة يقول بصحة إقراره؛ لأنه يعرف في ذمّته؛ لأن محل الدين الذمّة ولاحق لأحد في ذمّته فكان إقراراً على نفسه، فيصح الإقرار ويثبت الدين مطلقاً، وما يقول بأن فيه ضرر المستأجر. قلنا: لا ضرر للمستأجر في نفس الإقرار وإنما ضرره في البيع والاستيفاء، وإنه فعل اختياري لا يضاف إلى الإقرار فلا يصير به مقراً على الغير، كإقرار العبد على نفسه بالقصاص ثم عند أبي حنيفة رحمه الله إذا ثبت الدّين مطلقاً بإقرار الآجر صار الآجر قادراً على قضاء الدين بواسطة البيع فيجب عليه البيع كما في المسألة الأولى، ويحبس إذا امتنع عنه وعندهما لما لم يثبت الدّين بإقراره في حق المستأجر لم يصر قادراً الآجر على قضاء الدين بواسطة البيع، فلا يجب عليه البيع ولا يحبس إذا امتنع عنه ولكن المقر له يلازم الآجر، ويدور معه حيث دار فإذا انقضت مدة الإجارة الآن يحبسه؛ لأنه صار قادراً على قضاء الدين بواسطة البيع. إذا أجر داره ثم أراد أن ينقص الإجارة ويبيع الدار؛ لأنه لا نفقة له ولعياله فله ذلك هكذا ذكر في «فتاوى أبي اللّيث» ؛ لأن هذا أشد من الحاجة إلى قضاء الدين وذلك عذر فهذا أولى. وفي «الأصل» : إذا انهدم منزل الآجر ولم يكن له منزل آخر، فأراد أن يسكن هذا المنزل لم يكن له ذلك. وفي «فتاوى أبي اللّيث» رحمه الله: إذا تكارى إبلاً من الكوفة إلى بغداد، ثم بدا له أن يتكارى بغلام فهذا ليس بعذر بل هذا تمني أما لو اشترى بعيراً أو دابة فهو عذر، لأنه استغنى عن الإجارة فصار كما لو ترك السفر. وفي «الأصل» : إذا استأجر من آجر منزلاً، ثم إن المستأجر اشترى منزلاً وأراد أن يتحول إليه ويفسخ الإجارة فليس له ذلك، وهذا ليس بعذر؛ لأنه يمكنه استيفاء المعقود عليه من غير ضرر يلحق نفسه فإنه يؤاجر منزله الذي اشترى، ويصرف كراه إلى الذي استأجر فلما أمكنه استيفاء المعقود عليه من غير ضرر يلحقه، وماله لم يصلح عذراً في

فسخ الإجارة، فعلى قياس ما ذكر في «الأصل» ينبغي أن يقال في مسألة «الفتاوى» ، إنه إذا اشترى بعيراً أو دابّة لا يكون عذراً. قال في «الجامع الصغير» : الخياط إذا استأجر غلاماً ليخيط معه، فأفلس الخياط وقام عن السوق فهذا عذر؛ لأن تجارته تنقطع بالإفلاس فتبقى التجارة غرامة عليه فيثبت له حق الفسخ دفعاً للغرامة عن نفسه. فإن قيل: الخياط يتوصل إلى الخياطة بمال قليل فكيف يتحقق إفلاسه. قلنا: الخياط إنما يتوصل إلى الخياطة بمال قليل إذا كان يعمل لغيره أما إذا كان يعمل لنفسه لا يتوصل إليها إلا بمال كثير، وكان محمد رحمه الله يقول هذا في خياط يعمل لنفسه على أن الخياط الذي يعمل لغيره، قد يتحقق إفلاسه بأن تظهر خيانته عند الناس فيمتنعون عن تسليم الثياب إليه أو يلحقه ديون كثيرة، ويصير بحال الناس لا يأتمنوه على أمتعتهم، وأما إذا أراد أن يترك الخياط ويعمل في الصرف، فهذا ليس بعذر تفسخ به الإجارة. وقال في كتاب الإجارات: إذا استأجر من آجر حانوتاً ليبيع فيه الطعام، ثم بدا له أن يقعد في سوق الصيارفة فهذا عذر. والفرق إن في مسألة كتاب الإجارات لا يمكنه استيفاء المعقود عليه، إلا أن يحبس نفسه في هذا السوق المعين؛ إذ لا يمكنه الجمع بين تجاريين في سوق واحد، وحبس نفسه في مكان معيّن عقوبة وعذاب فجعل ذلك عذراً دفعاً للعقوبة عن نفسه، أما في مسألة «الجامع الصغير» يمكنه استيفاء المعقود عليه من غير أن يحبس نفسه في هذا السوق المعيّن، بأن يقعد بنفسه في سوق الصيارفة ويستعمل الغلام في عمل الخياطة في ذلك السوق، فلم يجعل ذلك عذراً. وإذا استأجر إنساناً ليقصر ثياباً له أو ليخيط أو ليقطع قميصاً له أو ليبني له بناء أو ليزرع أرضاً له، ببذره ثم بدا له أن لا يفعل كان ذلك عذراً له؛ لأنه لا يمكنه المضي على الإجارة إلا باستهلاك المال في بعض الصور، وهو الزراعة والقطع والبناء أما الزراعة والقطع فظاهر وأما البناء؛ فلأن فيه إتلاف المالية، وكذلك إذا استأجر لحفر البئر؛ لأن في الحفر إتلاف جزء من الأرض وكذلك إذا استأجر للحجامة والفصد؛ لأن في الحجامة إيلام وإتلاف جزء من البدن، ولو امتنع الأجير عن العمل في هذه الصورة يجبر عليه، ولا تفسخ الإجارة؛ لأنه يمكنه المضي على الإجارة من غير ضرر يلزمه. وإذا استأجر أرضاً ليزرعها فغرقت الأرض أو نزّت كان ذلك عذراً له في فسخ الإجارة؛ لأن المعقود عليه قد فات قبل التسليم وإنه يثبت للعاقد حق الفسخ في بيع العبد إذا أبق العبد قبل القبض، فإنه يكون للمشتري حق الفسخ، وطريقه ما قلنا: فإن مرض المستأجر وعجز عن الزراعة، فإن كان ممّن يعمل بنفسه فهذا عذر؛ لأنه عجز عن الانتفاع بالأرض لمرضه، إذا كان يعمل بنفسه فهو بمنزلة ما لو عجز عن الانتفاع بالأرض بأن غرقت أو نزّت، وذلك عذر فهذا كذلك وإن كان إنما يعمل بأجرائه، فهذا ليس بعذر؛

لأن مرضه لا يمنع أجراه عن العمل في الأرض. وإذا أبق العبد المستأجر فللمستأجر أن يفسخ الإجارة فهو عذر؛ لأن المعقود عليه فات قبل التسليم فهو بمنزلة الأرض إذا غرقت أو نزّت، وإذا وجد العبد المستأجر للخدمة سارقاً فهذا عذر؛ لأن هذا بمنزلة العيب في المعقود عليه؛ لأنّ السرقة توجب نقصاناً في الخدمة؛ لأنه متى كان سارقاً لا يأتمنه المستأجر على ماله إذا خلى بينه وبين أعمال الخدمة في الدار خوفاً من سرقته على ماله، ويتعسر عليه ملازمته كل ساعة وأوان. فهو معنى قولنا هذا عيب في المعقود عليه، فيثبت للعاقد الخيار، كما إذا وجد العبد المشتري سارقاً، وإن كان العبد غير حاذق للعمل الذي استأجره عليه، فهذا لا يكون عذراً للمستأجر في فسخ الإجارة؛ لأنه لا عيب في المعقود عليه ولا نقصان إنما فات صفة الحذاقة وإنها بمنزلة الجودة فلا تصير مُستحقة بمطلق العقد بل يراعي في استحقاقها الشرط. ألا ترى أن من اشترى حنطة ولم يشترط جودتها فوجدها وسطاً، لا يكون له حق الفسخ كذا هاهنا، وإن كان عمله فاسداً كان له الخيار، لأن هذا عيب في المعقود عليه فهو بمنزلة ما لو وجد الحنطة عفنة وإذا وقعت الإجارة على دواب بعينها لحمل المتاع، فماتت انفسخت الإجارة بخلاف ما إذا وقعت على دواب لا بعينها. (34ب4) وسلم الآجر إليه دواباً فماتت لا ينفسخ العقد، وعلى الآجر أن يأتي بغير ذلك. والفرق: أن عند تعيين الدواب المعقود عليه منافع الدواب المعيّنة، فإذا هلكت فقد هلك المعقود عليه فيبطل أما عند انعدام التعيين المعقود فعمل الحمل في ذمّة الآجر والإبل آلة الحمل، وكما أن التي عينها الآجر بعد العقد آلة الحمل فغيرها آلة الحمل فلا معنى لانفساخ العقد، فإن وقعت الإجارة على دواب بعينها ومرضت فللمستأجر حق الفسخ؛ لأن منفعة الحمل تنتقض بالمرض فكان ذلك عيباً في المعقود عليه وعن أبي يوسف أن للمؤاجر حق الفسخ أيضاً؛ لأن الركوب والحمل مع المرض يوجب زيادة ضرر في ملكه وذلك غير مستحق بالعقد، وإن مرض الآجر في هذه الصورة. ذكر القدوريّ في «شرحه» : أن له حق الفسخ، وهذا خلاف رواية «الأصل» فعلى ما ذكره القدوري يحتاج إلى الفرق، بينما إذا مرض المؤاجر، وبينما إذا أراد أن يقعد ولا يخرج فإن ذلك لا يكون عذراً له في فسخ الإجارة. والفرق: أنه إذا مرض فقد عجز عن الخروج، وغيره لا يقوم مقامه في الخروج إلا بموته وضرر يلحقه فيكون ذلك عذراً له، أما إذا أراد أن يقعد ولا يخرج فما عجز عن الخروج بل هو قادر عليه، وإنما تركه باختياره فكان عليه أن يقيم غيره مقامه. وعن أبي يوسف: في امرأة ولدت يوم النحر قبل أن تطوف طواف الزيارة، وأبى الحمال أن يقيم معها مدة النّفاس فهذا عذر للحمال في فسخ الإجارة، ولو ولدت قبل يوم النحر فجاء يوم النحر وقد بقي من مدة نفاسها مدة الحيض عشرة أو أقل خيرّ الحمال على المقام معها، وهذا؛ لأنه لا يمكن جبر الحمال على المقام في الفصل الأول؛ لأنه ما

جرت العادة بالمقام بمكة بعد الفراغ من الحج مثل مدّة النفاس، فيتضرر الحمال بذلك فيفسخ العقد دفعاً للضرر عنهما، أما في الفصل الثاني جبر الحمال على المقام ممكن؛ لأن العادة جرت بالمقام بمكة بعد الفراغ من الحج مثل هذه المدة فلا يتضرر الحمال بذلك. ولو اشترى شيئاً وأجره من غيره ثم اطلع على عيب به فلا يرده بالعيب وتفسخ الإجارة؛ لأن لو نفينا عقد الإجارة يتضرّر الآجر من حيث إن يلزمه المبيع معيباً، وإذا أجر الرجل نفسه في عمل من الأعمال ثم بدا له أن يترك ذلك العمل وينتقل إلى غيره بأن كان حجاماً مثلاً أجر نفسه للحجامة ثم قال: أنفت من هذا العمل وأريد أن أتركه ليّس له ذلك؛ لأنه التزم العمل وصح الالتزام؛ ولا عار فيه وقت الالتزام لأنه من أهله إنما أراد أن يترفع الآن فيقال له: أوف ما التزمت. ثم تترفع وإن كان ذلك العمل ليس من عمله وهو مما يعاب بذلك فله أن يمتنع عن العمل، وأن يفسخ الإجارة؛ لأنه إذا لم يكن ذلك العمل من عمله يلحقه العار في المضي عليه، فيصير ذلك عذراً له في فسخ الإجارة، وكذلك المرأة إذا أجرت نفسها ظئراً ممن يعاب بذلك، فلأهلها أن يخرجوها وكذا إن انتهى لم يجبر عليه لما ذكرنا. وعن محمد رحمه الله، فيمن استأجر أرضاً ليزرع شيئاً سماه فزرعها وأصاب الزرع آفة وقد ذهب وقت زراعة ذلك النوع، فإن أراد أن يزرع ما هو أقل ضرراً من الأول أو مثله فله ذلك وإلا فسخت الإجارة، وألزمته ما مضى من الأجر وهذا؛ لأن في إيفاء العقد مع فوات المقصود اضرار بالمستأجر ولا ضرر للآجر في زراعة ما هو دون الأوّل أو مثله. وإذا انتقص الماء عن الرّحى، فإن كان النقصان فاحشاً فللمستأجر حق الفسخ وإن كان غير فاحش فليس له حق الفسخ؛ لأن مدة الإجارة لا تخلو عن نقصان غير فاحش غالباً وهذا لأن الماء يجري على سنن واحد وإنما بل ينتقص مرة ويزداد بأخرى غير أن النقصان الفاحش في مدة قليلة ليس بغالب وغير الفاحش غالب، فإذا أقدم على استئجار الرحى مع علمه بما قلنا يصير راضيااً بالغير الفاحش، ولا يصير راضياً بالفاحش فلا يثبت حق الفسخ في غير الفاحش لمكان الرضا، ويثبت في الفاحش لعدم الرضا. قال القدوري في «شرحه» : إذا صار يطحن أقل من نصف طحنه، فهو نقصان فاحش. وفي «واقعات الناطفي» : إذا قل الماء ويدور الرحى ويطحن على نصف ما كان يطحن، فللمستأجر ردّه أيضاً ولو لم يرده حتى طحن كان هذا رضاً منه، وليس له أن يرد الرحى بعد ذلك وهذه الرواية تخالف رواية القدوريّ هذا إذا انتقص الماء عن الرحى في بعض المدّة، نحو أن يستأجر رحاً ما كل شهر بأجر مسمّى فانقطع الماء عنها في بعض الشهر، فلم يعمل فللمستأجر الخيار هكذا ذكر في «الأصل» ، وهذا نص على أن الإجارة لا تنفسخ بانقطاع الماء عن الرحى؛ لأن المعقود عليه وهو منفعة الطّحن وإن فاتته قبل

القبض إلا أن العود موهوم، ومثله لا يوجب انفساخ العقد بل يثبت الخيار للعاقد كالعبد المستأجر إذا أبق في مدة الإجارة، فإن لم يفسخ حتى عاد الماء لزمته الإجارة فيما بقي من الشهر لزوال الموجب للفسخ، ويرفع عنه الأجر بحساب ذلك هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» . واختلف المشايخ في تفسير قوله: بحساب ذلك، بعضهم قالوا: معناه بحساب ما انقطع من الماء في الشهر حتى إذا انقطع الماء عشرة أيام يسقط بحصة عشرة أيام من الشهر، وذلك ثلث المسمى فيسقط عنه ثلث المسمى وهذا؛ لأن المعقود عليه في إجارة الرحى منفعة الطحن لا غير؛ لأن الرحى مستأجر للطحن لا غير فيجعل المعقود عليه منفعة الطحن وقد فاتت منفعة الطحن في مدة عشرة أيام، فيسقط الأجر بقدره. كما لو استأجر عبداً ليخدمه شهراً فأبق عشرة أيام، فإنه يسقط الأجر بقدره وذلك ثلث المسمّى فكذلك هذا وقال بعضهم: أراد بقوله بحساب ذلك أي بحصّة ما انقطع من الماء. وبيان ذلك: أن ينظر إلى بيت رحى عشرة أيام وهو يطحن بكم يستأجر؟ فإن كان يطحن يستأجر عشرة أيام بعشرة ولا يطحن يستأجر بخمسة يسقط خمسة دراهم، وهو حصة ما انقطع من الماء ولا يسقط ثلث المسمّى كما قاله الأولون، وذلك لأن منفعة الطحن إن فاتت بقيت منفعة السكنى وربط الدواب، فإن للمستأجر أن يسكن فيها ويربط فيها دوابه كما له أن يطحن فمنفعة الرحى إن فاتت بقيت منفعة السكنى وربط الدواب فيسقط الأجر بقدر ما فات، ويبقى بقدر ما بقي. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وما قاله الأولون أصح، لأن ظاهر الرواية يشهد لهذا فإنه قال في «الأصل» : الماء إذا انقطع الشهر كله ولم يفسخها المستأجر حتى مضى الشهر، فلا أجر عليه في ذلك فقد نفى الأجر عنه أصلاً، ولو كانت منفعة السُكنى معقوداً عليه مع منفعة الطحن لأوجب بقدر ما يخصّ منفعة السُكنى؛ وهذا لأن الرحى لا تستأجر لمنفعة السُكنى وإنما تستأجر لمنفعة الطحن فيجعل منفعة الطحن هو المعقود مقصوداً، وغيره يدخل تبعاً والبدل لا يقابل الاتباع فيكون الأجر كله بإزاء منفعة الطحن. وذكر القدوري في «شرحه» : أن من استأجر رحى ماء سنة، فانقطع الماء بعد ستة أشهر، فأمسك الرحى حتى مضت السنة فعليه الأجر لستة أشهر ولاشيء عليه لما بقي، وإن كان البيت ينتفع به لغير الطحن فعليه من الأجر بحصته لأنه بقي شيء من المعقود عليه فيبقى الأجر بحصته، وهذا يدلك على أن ما سوى منفعة الطحن داخل في هذا العقد أصلاً لاتبعاً فيكون دليلاً على ما قاله الآخرون فيه. (35أ4) . وفي «نوادر ابن سماعه» عن محمد رحمه الله رجل استأجر رحى ماء بأداتها وبيتها والماء جار ثم انقطع الماء عنها، فهذا عذر وقد مرّ هذا قال: ولو استأجرها والماء منقطع عنها وقال أنا أصرف ماء نهري إليها، وكان ذلك بلا حفر ولا مؤنه لزمه الأجر صرف الماء إليه أو لم يصرف، وإن كان ينبغي لذلك حفر نهر من نهره إلى نهر الرحى ومؤنته

فقال: بدا لي في حفر ها كان له أن يترك الإجارة، فإن حفر وأجرى الماء ثم بدا له أن يصرف الماء إلى زرعه ويترك الإجارة لم يكن له ذلك ويلزمه الأجر، فإن جاء من ذلك أمر فيه ضرر عظيم يذهب فيه زرعه ويضر بماله إضراراً عظيماً إن قطع الماء عنه جعلت هذا عذراً له أن يترك الإجارة. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إذا استأجر أرضاً وانقطع عنها شربها وقد بقي من الإجارة شيء، قال: إن كانت مما يصلح أن يزرع عرفاً فلم يخاصم في الإجارة ولم ينقضها حتى مضت المدة لزمه الأجر تاماً، وإن خاصم فيها كان له أن يردها ويعطيه من الأجر بحسابه، وإن كانت مما لا يزرع عرفاً لم يلزمه أجر ما بقي من السنة، وإن لم يخاصم في ردّها. وكذلك رجل استأجر عبداً من رجل كل شهر بدرهم مثلاً، فمرض العبد ولم يقدر على مثل ما كان يعمل إلا أنه قد يعمل عملاً دون العمل الذي كان يعمله في الصحة، فله أن ينقض الإجارة وإن لم ينقضها حتى مضى شهراً لزم الأجر، وإن مرض مرضاً لا يقدر على شيء من العمل فلا أجر عليه. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل استأجر رجلاً ليحفر له بئراً فلقي جبلاً قال: له الأجر بحساب ما حفر، فإن كانت بلدة يكون فيها ذلك فبلغ إلى ما هو أصلب مما رأى، فإن كان يعلم أن ذلك سيلقاه كان عليه أن يحفره، وإن قال: لم أعلم حلف بالله لم يعلم وكان له من الأجر بحساب ما حفر، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: هذا الجواب خلاف جواب «الأصل» وقد مرّ جنس هذه المسألة قبل هذا.l وعنه أيضاً: في رجل استأجر رجلاً ليحفر له بئراً في موضع أراه إياه وأراه قدر استدارتها، وشرط عليه أن يحفرها عشرة أذرع كل ذراع بكذا، فحفر منها أذرعاً ثم مات، فإنه يقوم ما حفر ويقوم ما بقي ثم يقسم الأجر على قيمتين فيعطى حصة ما حفر. علل فقال: لأن كل ذراع منها سابغ في أسفلها وأعلاها ومعنى هذا أنه ينظر إلى قيمة ذراع من الأعلى وإلى قيمة ذراع من الأسفل؛ لأن في الأعلى الحفر يكون أرخص وفي الأسفل الحفر يكون أغلى فلا بد من الجمع بين القيمتين لتحقيق معنى العدل، ثم إذا ظهر قيمة الأعلى وقيمة الأسفل يجعل كل ذراع منهما، فيكون كل ذراع من الذراعين وتكون حصته من القيمتين. وإذا تكارى دابة فوجدها لا تبصر بالليلّ أو وجدها جموحاً أو عضوضاً، فله أن يردها؛ لأنه وجد المعقود عليه معيبّاً فكان له الرد كما في بيع العين، فإن ردها فليس له أن يطالب المكاري بدابة أخرى إن وقعت الإجارة على هذه الدابة بعينها؛ لأن الإجارة انفسخت بردها وإن وقعت الإجارة على الدابة لا بعينها، فله أن يطالبه بدابة أخرى. وفي «مزارعة العيون» : إذا استأجر من آخر أرضاً وزرعها فلم يجد ماء ليسقيها، فيبس الزرع قال: إن كان استأجرها بغير شرب ولم ينقطع ماء النهر الذي يرجى منه السقي فعليه الأجر، وإن انقطع كان له الخيار، وإن كان استأجرها لشربها، فانقطع الشرب عنها

فمن يوم فسد الزرع من انقطاع الشرب فالأجر عنه ساقط كما لو انقطع الماء عن الرحى المستأجرة. وفي موضع آخر: إذا استأجر أرضاً وماء ليزرعها فجدب النهر الأعظم، فلم يستطع سقياً فهو بالخيار إن شاء ردها وإن شاء أمسكها، فإن لم يرد حتى مضت المدة فعليه الأجر إذا كان بحال يمكنه أن يحتال بحيلة ليزرع فيها شيئاً، أما إذا كان بحال لا يمكنه أن يزرع فيها شيئاً بعدما بوجه من الوجوه ولا حيلة له في ذلك، فلا أجر عليه. وفي «فتاوى الفضلي» : استأجر أرضاً فانقطع الماء إن كانت الأرض تسقى بماء الأرض، أو كانت تسقى بماء المطر لكن انقطع المطر أيضاً فلا أجر عليه؛ لأنه لم يتمكن من الانتفاع بها. وفي «الواقعات» : لو استأجر أرضاً فغرقت الأرض قبل أن يزرعها فلا أجر عليه كما لو غصبها من المستأجر رجل وزرعها، ولو زرعها المستأجر فأصاب الزرع آفة فهلك أو غرق ولم ينبت فعليه الأجر كاملاً؛ لأنه قد زرع رواه ابن رستم عن محمد رجل استأجر أرضاً فزرعها وقل ماؤها فانقطع فله أن يخاصم الآجر حتى يفسخ القاضي العقد بينهما، وبعدما فسخ القاضي العقد ترك الأرض في يد المستأجر بأجر المثل حتى يدرك زرعه، فإن سقى زرعه لا يكون له حق الفسخ بعد ذلك وكان ذلك منه رضاً والفتوى في مسألة هلاك الزرع أنه لا أجر على المستأجر فيما بقي من المدّة بعد هلاك الزرع، إلا إذا تمكن من إعادة زرع مثله أو دونه في الضرر بالأرض، وإذا اختّل الزرع بأن قل ماؤه وانقطع فالجواب فيه على نحو ما ذكره هشام وعليه الأجر إذا لم يرفعه إلى الحاكم وإن لم يسقه. وفي مزارعة «فتاوى أهل سمرقند» : رجل استأجر أرضاً من أراضي الجبل، فزرعها فلم يمطر عليه ولم ينبت حتى مضت السنة ثم مطر، ونبت فالزرع كله للمستأجر وليس عليه كراء الأرض ولا نقصانها، وأحاله إلى «نوادر ابن سماعة» أما لاكراء عليه فلتقرر العذر في كل المدّة وأما عدم النقصان، فلأن الزراعة حصلت بإذن المالك، قوله: لاكراء عليه قبل النبات فأما بعدما نبت يجب أن يترك الأرض في يد المستأجر بأجر المثل، كما لو انقضت المدة وفي الأرض زرع لم يستحصد بعد، فإن هناك تترك الأرض في يد المستأجر بأجر المثل كذا هاهنا. وفي «فتاوي أبي الليث» : رجل استأجر طاحونتين بالماء في موضع يكون الحفر على المؤاجر عادة فاجتاح النهر إلى الكراء وصار بحال لا يعمل إلا إحدى الرحاتين، فإن كان بحالٍ لو صرف الماء إليها جميعاً عملا عملاً ناقصاً، فله الخيار لاختلاف ما هو المقصود بالعقد وعليه أجرهما إن لم يفسخ لتمكنه من الانتفاع بهما، وإن كان بحال لو صرف الماء إليهما لم يعملا فعليه أجر إحداهما إن لم يفسخ؛ لأنه لا يتمكن من الانتفاع بالثانية فإن تفاوت أجرهما، فعليه أجر أكثرهما إذا كان كل الماء يكفيها؛ لأن الشك وقع في سقوط الزيادة وإن كان ذلك في موضع يكون الحفر على المستأجر، فعليه الأجر

الفصل التاسع عشر: فيما يكون فسخا وفي الأحكام المتعلقة بالفسخ وما لا يكون فسخا

كاملاً، لأنه هو المعطل لما لم يحفر مع أن الحفر عليه. ولو استأجر خيمة وانكسر أوتادها فالأجر واجب وليس للمستأجر حق الفسخ لأجله ولو انقطع الأطناب فلا أجر؛ لأن الأطناب على الآجر والأوتاد على المستأجر، وإذا قلع الآجر شجرة من أشجار الضياع المستأجر، فللمستأجر حق الفسخ إن كانت الشجرة مقصودة. وإذا استأجر الرّجل رجلاً ليذهب بحمولته إلى موضع كذا، فلما ذهب نصف الطريق بدا للمستأجر أن لا يذهب إلى ذلك الموضع ويترك الإجارة، وطلب من الآجر نصف الأجر قال: إن كان النصف الباقي من الطريق مثل الأوّل في الصعوبة والسهولة، فله ذلك وإلا يسترد بقدره والله أعلم. الفصل التاسع عشر: فيما يكون فسخاً وفي الأحكام المتعلقة بالفسخ وما لا يكون فسخا كل من وقع له عقد الإجارة، إذا مات تنفسخ الإجارة بموته. (35ب4) ومن لم يقع له العقد لا ينفسخ العقد بموته وإن كان عاقداً يريد به الوكيل والأب والوصي، وهذا لأن موت من وقع له العقد إنما يوجب انفساخ العقد؛ لأن ابتداء العقد انعقد موجباً للاستحقاق عليه، فإذا مات وثبت الملك للوارث سمّي يقيناً العقد يكون الاستحقاق واقعاً على الوارث فيكون خلاف ما وقع عليه العقد ابتداء، فأما إذا لم يقع له العقد لو يقيناً أو العقد بعد موته يكون الاستحقاق على وفاق ما وجد العقد؛ لأن المستحق عليه قائم وكذا المستحق وكذلك المتولي في الوقف إذا عقد ثم مات؛ لأن حكم العقد لم يقع له فموته لا يغير حكمه. وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده في آخر شرح كتاب «التحري» : إن من أجر ملك الغير ومات الآجر قبل إجارة المالك أنه تنفسخ الإجارة كما في بيع العين، فإن وقعت الإجارة على شيء بعينه فهلك ذلك الشيء بطلت الإجارة بهلاكه؛ لأن المعقود عليه قد هلك وهلاك المعقود عليه يوجب بطلان العقد. وإن وقعت الإجارة على دابة بغير عينها بأن استأجر رجلاً حتى يحمل هذا المتاع على إبل فهو جائز؛ لأن المعقود عليه الحمل، وإنه معلوم والإبل آلة الحمل وتعيين آلة الحمل ليس بشرط ثم إذا جاز هذا العقد، وجاء الآجر بإبل ودفعه إلى المستأجر، فمات في يده فعلى الأجير أن يأتي بغير ذلك ليحمل المتاع، وليس له أن يفسخ الإجارة بموت ما سلم؛ لأن المعقود عليه هاهنا إذا لم يعيّن الدابّة فعل الحمل وفعل الحمل كان واجباً عليه في الذمّة، والإبل آلة إيفاء ذلك فإذا هلكت بقي الإيفاء مستحقاً عليه في ذمته كما في الابتداء، فأما إذا عيّن الإبل فالمعقود عليه منفعة دابة بعينها، فإذا هلكت بطل العقد ضرورة.

وإذا قال الآجر للمستأجر بع المستأجر فقال:.... لا تنفسخ الإجارة ما لم يبع؛ لأن قوله: بع ليس بصريح في الفسخ بل هو وكيل بالبيع والفسخ من ضرورات البيع فما لم يبع لا يثبت ما هو من ضروراته، وحكي عن بعض المشايخ أن الآجر إذا قال للمستأجر: بع المستأجر من فلان فباعه من غيره جاز. ولو كان مكان الإجارة رهناً فقال الراهن للمرتهن: بع الرهن من فلان فباع من غيره لا يجوز. والفرق: إن ثمن الرهن رهن والناس يتفاوتون في اليسار والعسار ولا كذلك ثمن المستأجر، وفي الإجارة الطويلة إذا قال المستأجر للآجر: ما لا حازت يده فقال: بدرهم ينفسخ العقد، وإن لم يدفع وكذلك في باب البيع إذا قال المشتري للبائع: بعها، فقال البائع: هلا بدرهم ينفسخ العقد، إليه أشار محمد رحمه الله في الباب الرابع من «الزيادات» ، وعلى هذا قالوا: إذا قال المستأجر: للآجر في الإجارة الطويلة فإن أجازت يده فقال: روايا شد تنفسخ الإجارة، وفي الإجارة الطويلة إذا أخذ مال الإجارة من غير سابقة الطلب إن أخذ الكل تنفسخ الإجارة، وإن أخذ البعض دون البعض. قال بعض مشايخنا: إن أخذ الأكثر ينفسخ العقد، وإن أخذ الأقل لا ينفسخ وبه كان يفتي الصدر الشهيد رحمه الله وقال بعضهم: لا ينفسخ العقد بأخذ البعض من غير تفصيل، وقال بعضهم: ينفسخ العقد بقدر ما أخذ. وقال بعضهم: إن أخذ البعض بطريق الفسخ أي: بدلالة تدل على الفسخ ينفسخ العقد في الكل، وإن كان المأخوذ أقلّ وإن أخذ من غير دلالة تدل على الفسخ لا ينفسخ ما لم يأخذ الكل وبه كان يفتي الصدر الامام ظهير الدين المرغيناني. وإذا بعت المستأجر إلى الآجر سيتم نفد شده است تابيالي ويكبري، فلما جاء المستأجر قال الآجر: قد أنفقت الدراهم على نفسي لا تنفسخ الإجارة وإذا قال المستأجر للآجر عند الفسخ: فسخت الإجارة في المحدود الذي استأجرته منك صح الفسخ وإن لم يذكر حدود المستأجر ولا أضاف المستأجر إلى القبالة، وكذلك إذا قال الآجر للمستأجر: فسخت الإجارة في المحدود الذي آجرته منك صح الفسخ. وفي «فتاوى شمس الإسلام الأوزجندي» : رجل استأجر من رجلين داراً مشتركاً بينهما ثم دفع المفتاح إلى أحدهما وقبل هو انفسخت الإجارة في حصته؛ لأن دفع المستأجر المفتاح وقبول الآجر ذلك دلالة الفسخ والإجارة كما تنفسخ بصريح الفسخ تنفسخ بدلالة الفسخ. ألا ترى أن المستأجر والآجر لو كانا واحداً ودفع المستأجر المفتاح إلى الآجر، وقبل الآجر ذلك تنفسخ الإجارة بينهما وطريقه ما قلنا. وإذا باع الآجر المستأجر بغير إذن المستأجر نفذ البيع في حق البائع والمشتري، ولا ينفذ في حق المستأجر حتى لو سقط حق المستأجر يعمل ذلك البيع ولا يحتاج إلى تجديده.

الفصل العشرون: في إجارة النبات والأمتعة والحلي (36أ4) والفسطاط وأشباهها

وذكر الصدر الشهيد في الباب الأوّل من رهن «الجامع» في هذا الفصل روايتان، قال: والصحيح أنه لا يحتاج إلى تجديد البيع وإنما أجاز المستأجر البيع نفد البيع في حق الكلّ، ولكن لا تنزع العين من يد المستأجر إلى أن يصل إليه ماله، وإن رضي بالبيع واعتبر رضاه بالبيع تفسخ الإجارة لا للانتزاع من يده، وعن بعض مشايخنا أن الآجر إذا باع المستأجر بغير رضا المستأجر، وسلم ثم أجاز المستأجر البيع والتسليم بطل حقه في الحبس، وإذا باع الآجر بغير رضا المستأجر وأراد المستأجر فسخه فقد ذكرنا في كتاب البيوع أنه ليس له ذلك. وذكر الصدر الشهيد في «الفتاوى الصغرى» : أن له ذلك في ظاهر الرواية، وفي رواية الطحاوي ليس له ذلك، وأحاله إلى رهن الجامع لشمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وكان القاضي الامام الإسبيجابي يقول: ليس للمستأجر حق الفسخ وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وهكذا ذكره نجم الدين النسفي رحمه الله في شرح «الشافي» والسيد الإمام أبو شجاع في رهن الجامع. وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في «شرح الجامع» : إن في المسألة روايتان في رواية ليس له ذلك، وإنه استحسان وعليه الفتوى وقد ذكرنا هذه المسألة في الفصل السابع، وإذا باع الآجر المستأجر برضا المستأجر حتى انفسخت الإجارة أو تفاسخا العقد، أو انتهت المدّة والزرع بقل وقد صار بحال يجوز بيعه بلا خلاف أو كان بحال في جواز بيعه اختلاف المشايخ، فهو للمستأجر، فلو أبرأ المستأجر الآجر عن جميع الخصومات والدعاوي، ثم أدرك الزرع ورفع الآجر الغلة فجاء المستأجر وادعى الغلة لنفسه وخاصم الآجر فيها هل تصح دعواه، وهل تسمع خصومته؟. فقد قيل: ينبغي أن تسمع؛ لأن الغلة إنما حدثت بعد الإبراء فلا تدخل تحت الإبراء، ولو كان الآجر قد رفع الغلة ثم إن المستأجر أبرأه عن الخصومات والدعاوي، ثم ادعى الغلة بعد ذلك لا تسمع دعواه؛ لأن الغلة كانت موجودة وقت الإبراء فدخلت تحت الإبراء أكثر ما في الباب أن الغلة عين إلا أن الإبراء عن الأعيان، إنما لا تصح بمعنى أنه لا تصير العين ملكاً لمن وقع البراءة أما لا يصح دعوى المشتري العين بعد ذلك، وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. الفصل العشرون: في إجارة النباتِ والأمتعة والحلي (36أ4) والفسطاط وأشباهها إذا استأجر الرجل ثوباً ليلبسه إلى الليل بأجر معلوم فهو جائز، وكذلك إذا استأجر دابة ليركبها إلى مكان معلوم فهو جائز، ولو لم يبين من يلبس أو من يركب لا يجوز. وفرق بين هذا وبينما إذا استأجر عبداً للخدمة ولم يبين من يخدمه، أو استأجر داراً

للسكنى ولم يبين من يسكن حيث يجوز. والفرق: وهو الناس لا يتفاوتون في اللبس والركوب تفاوتاً فاحشاً فإنّ ربّ إنسان يفسد الثوب إذا ألبسه يوماً كالجزار وآخر لا يفسده، وإن لبسه أياماً كالبزاز وربّ راكب يفسد الدابة إذا ركب عليها يوماً، وآخر لا يفسد إذا ركب عليها شهراً بل يصلحها، ولهذا يبذل الإنسان الأجر للرابض ولا يرضى ركوب غيره دابته، وإذا كان التفاوت فاحشاً كان جهالة الراكب واللابس مفضية إلى المنازعة المانعة من التسليم والتسلم؛ لأن صاحب الدابة يقول للمستأجر: استأجرته ليلبسه ويركبه المستأجر يقول: استأجرته لألبس وأركب غيري فإن ألبسه غيره فهو ضامن إن أصابه شيء، وإن لم يصبه فلا أجر عليه، أما الضمان إذا أصابه شيء، فلأن إلباس غيره لم يدخل تحت العقد؛ لأنه شرط لبسه وفقد هذا الشرط لما ذكرنا أن الناس يتفاوتون في اللبس، وأما عدم الأجر إذا لم يصبه شيء؛ لأنه استوفى فيما ليس بداخل تحت العقد أصلاً والمنافع لا تتقوم بدون العقد. بيانه: أن التفاوت بين الملابس واللابس باختلاف الجنسين، فهو معنى قولنا: استوفى ما ليس بمعقود عليه، وإنه لا يوجب الأجر فرق بين هذا وبينما إذا استأجر قميصاً ليلبسه فأتزر به ولم يصب الثوب شيء فإنه يجب عليه الأجر استحساناً وقد صار مخالفاً حتى أنه إذا أصاب الثوب شيء، فإنه يضمن، وهاهنا قال: لا يجب الأجر. والفرق: أن التفاوت الذي بين لبسه وبين إتزاره تفاوت يسير، فلم يلتحقا بجنسين مختلفين فكان موافقاً في أصل المعقود عليه مخالفاً في صفته، فلمكان الوفاق أوجبنا الأجر إذا لم يصبه شيء؛ لأنه استوفاه بحكم العقد ولمكان الخلاف أوجبنا الضمان متى هلك عملاً بهما، فأما التفاوت بين لبسه ولبس غيره تفاوت فاحش فالتحقا بالجنسين المختلفين، فما استوفاه إنما استوفاه بغير عقد؛ فلهذا لم يجب الأجر. وفرق أيضاً: بين هذه المسألة وبينما إذا استأجر حانوتاً ليقعد فيه فاسياً فقعد فيه قصاراً وسلم الحانوت، فإنه يجب الأجر والتفاوت بين سكنى الفاسي وبين سكنى الحداد تفاوت فاحش ثم لم يجعل ما استوفى باعتبار التفاوت الفاحش جنساً آخر غير ما تناوله العقد. والفرق: وهو أن في تلك العقد انعقد على شيئين على السكنى وعلى العمل، ولا تفاوت في السكنى إنما التفاوت في حق العمل، والعقد انعقد على السكنى، فصار مستوفياً ما تناوله العقد وزيادة واستيفاء الزيادة لا تمنع وجوب الأجر، فأما هاهنا العقد انعقد على شيء واحد وهو اللبس ولبس غيره من يلبسه جنس آخر على ما ذكرنا، فلم يستوف المعقود عليه أصلاً فلهذا لا يجب الأجر. فإن قيل: يجب كأنه استوفى ما ليس بمعقود عليه إلا أنه كان متمكناً من استيفاء المعقود عليه بأن يلبس بنفسه والتمكن من استيفاء المعقود عليه، لا يمنع وجوب الأجر. قلنا: التمكن من استيفاء المعقود عليه إن أوجب الأجر إذا لم تزل يد الإجارة، وكما ألبس غيره فقد زالت يد الإجارة، ألا ترى أنه يضمن وإن هلك الثوب لا من لبس

الغير، ولما زالت يد الإجارة فلم يوجد التمكن من الاستيفاء حال قيام الإجارة، فلهذا لم يجب الأجر. ولو استأجر يوماً إلى الليل للبس ولم يبين اللابس أو استأجر دابّة يوماً إلى الليل للركوب ولم يبيّن الراكب حتى فسدت الإجارة، فاختصما إلى القاضي قبل أن يلبس هو أو يلبس غيره، فإن القاضي يفسخ الإجارة بينهما دفعاً للفساد ودفعاً للمعصية وإن لم يختصما حتى لبس هو يوماً إلى الليل، أو لبس غيره فالقياس أن لا تعود الإجارة جائزة ويجب عليه أجر المثل، وفي الاستحسان تعود جائزة ويجب المسمى؛ لأن المعقود عليه متعين حالة العقد من حيث الحكم، إن كان مجهولاً من حيث الحقيقة. بيانه: وهو أن الإجارة يتجدد انعقادها ساعة فساعة على حسب حدوث المنافع، فحال ما يستوفي المنفعة يتجدد العقد والمعقود عليه متعين في تلك الحالة، فهو معنى قولنا: أن المعقود عليه متعين حالة العقد من حيث الحكم ولو كان متعيناً من حيث الحقيقة أليس، إنه يجوز العقد فكذا إذا كان متعيناً من حيث الحكم إذ المقصود، من العقد الحكم لا عينه ولا يصير المستأجر غاصباً الثوب بإلباسه غيره. والفرق: أن الحاصل يجب العقد هاهنا إما بلبسه أو لبس غيره؛ لأنه استأجره للبس مطلقاً والجمع بين الأجرين في حالة واحدة متعذر، فيكون العقد متناولاً أحدهما، فإنهما مانعين كان هو الداخل تحت العقد، أما في المسألة الأولى الداخل تحت العقد لبسه، فأما لبس غيره فليس بداخل تحت العقد أصلاً فلهذا افترقا. وإذا استأجر الرجل قميصاً ليلبسه يوماً إلى الليل بدرهم فلم يلبسه ووضعه في منزله حتى مضى اليوم فعليه الأجر. كما لا فرق بين هذا وبينما إذا استأجر دابة ليركبها إلى مكان معلوم خارج المصر، فأمسكها في منزله في المصر حيث لا يجب الأجر، وقد تمكن من استيفاء المعقود عليه في الفصلين جميعاً، والفرق بناء على الأصل الذي تقدم ذكره في صدر الكتاب أن التمكن من استيفاء المعقود عليه، إنما يوجب الأجر إذا ثبت التمكن في المدّة التي ورد عليها العقد في المكان الذي أضيف إليه العقد. وفي مسألة الثوب وجد التمكن بهذه الصّفة، أما في مسألة الدابة لم يوجد التمكن في المكان الذي أضيف إليها العقد خارج المصر ولا يثبت التمكن من استيفاء المنفعة خارج المصر، والدابة في المصر حتى لو وجد التمكن بهذه الصفة في مسألة الدابة، بأن ساق الدابة إلى ذلك المكان ولم يركبها نقول بوجوب الأجر. قياس مسألة الدابة من مسألة الثوب، أن لو استأجرها ليركبها يوماً إلى الليل فحبسها في منزله ولم يركبها، وهناك يجب الأجر أيضاً ثم ذكر الضمان، وفرق فيه بين مسألة الثوب وبين مسألة الدابة، فقال: لو أمسك الثوب في منزله ولم يلبسه حتى هلك لا يصير ضامناً، وفي مسألة الدابة قال: يصير ضامناً. والفرق في أن مسألة الدابة الإمساك حصل بإذن صاحب الدابة لأن صاحب الدابة

إنما أذن له بإمساك يجب به الأجر، وفي مسألة الدابة لا يجب بهذا الإمساك على ما ذكرنا، أما في مسألة الثوب هذا الإمساك حصل بإذن المالك؛ لأن الأجر يجب به فيكون حاصلاً بإذن المالك حتى أن في مسألة الدابة لو وجب الأجر بالإمساك في منزله، بأن استأجرها ليركبها يوماً إلى الليل نقول: لا يجب الضمان، إذا هلكت الدابة ولو لم يفعل ذلك ولكن ارتد لي به يوماً إلى الليل فعليه الأجر كاملاً ولا ضمان؛ لأن اللبس على سبيل الإرتداء في إفساد الثوب ليس فوق لبسه قميصاً بل هو مثله (36ب4) أو دونه، فإن كان مثله فقد استوفى المعقود عليه بكماله، وإن كان دونه فقد استوفى بعض المعقود عليه ويمكن من استيفاء الباقي، وفي مثل هذه الصورة يجب الأجر كاملاً ولا يجب الضمان، وإن لم يفعل ذلك ولكنه إئتزر يوماً إلى الليل فهو ضامن إن هلك الثوب في يده ولا أجر؛ لأنه ملكه بالضمان من حين إئتزر به وإن لم يهلك فالقياس أن لا يجب الأجر، وفي الاستحسان يجب. وإذا استأجرت المرأة ذرعاً لتلبسه أياماً معلومة ببدل معلوم فهو جائز، ولها أن تلبسه النهار كله ومن الليل أوله وآخره تلبسه في طرفي الليل، ولا تلبس فيها بين ذلك إذا كان الثوب ثوب ضيافة وتجمل فقد جعل ما بين طرفي في الليل مستثنى مع أن اللفظ تناوله ظاهراً؛ لأن الأيام ذكرت باسم الجمع، فيتناول ما بإزائها من الليالي، إنما فعل هكذا بناء على الفرق، فإن العرف فيما بين الناس أنهم لا يلبسون ثوب الضيافة فيما بين طرفي الليل، والمعروف كالمشروط صريحاً، وإن لم يكن الثوب ثوب ضيافة وتجمل بأن كان ثوب بذلة ومهنة كان لها أن تلبس الليالي كلها لأن اللفظ تناول الليالي كما تناول الأيام ولا عرف بخلاف إذا كان الثوب ثوب بذلة ومهنة، فيعمل فيه لقبضه اللفظ. فرع على ثوب الضيافة فقال: إذا لبسته الليل كله فتخرق وإن تخرق في الليل فهو ضامن، وإن تخرق في غير الليل بأن تخرق في الغد فلا ضمان، وإن صارت مخالفة باللبس في كل الليل؛ لأن الخلاف ارتفع إذا جاء الغد وعقد الإجارة باق فيعود أميناً كالمودع إذا خالف في الوديعة، ثم عاد إلى الوفاق فقد سوى في حكم البراءة عن الضمان بالعود إلى الوفاق بين المستأجر وبين المودع، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا مع ما فيه من اختلاف المشايخ إن شاء الله تعالى.r قال: وليس له أن ينام فيه، يعني في ثوب الضيافة والمراد به النوم في النهار؛ لأنه ليس لها اللبس حالة اليقظة فيما بين طرفي الليل إذا كان الثوب ثوب ضيافة فحالة النوم أولى، فعلمنا أن المراد به النوم في النهار وإنما لم يكن لها ذلك؛ لأن اللبس حالة النوم في ثوب الضيافة صار مستثنى عرفاً؛ لأن اللبس حالة النوم أعنف بالثوب من اللبس حالة اليقظة؛ فإن فعلت ذلك يعني نامت فيه فتخرق الثوب من ذلك، فهي ضامنة وليس عليها أجر في تلك الساعة التي تخرق فيها؛ لأنها كانت غاصبة حال لبسها نائمة ولا أجر على الغاصب وعليها أجر ما قبله وما بعده، أما أجر ما قبله فلأنها استوفته بحكم العقد، وأما أجر ما بعده فلأنها لما انتهت فقد تركت الخلاف، وعقد الإجارة باقي فيعود أميناً وتكون

مستوفية بحكم الإجارة. وطريق معرفة أجر تلك الساعة الرجوع إلى من يعرف الساعات حتى يقسم الأجر على الساعات فيعرف حق تلك الساعة من الأجر، هذا إذا كان الثوب ثوب ضيافة، فأما إذا كان ثوب بذلة كان لها اللبس حالة النوم، لأن ثوب البذلة يلبس حالة النوم عرفاً فلم يصير ذلك مستثنى عن الإجارة لا عرفاً ولا شرطاً. ولو كانت استأجرته لمخرج يخرج به يوماً بدرهم فلبسته في بيتها فعليها الأجر، لأن اللبس وجد فيما قدر به المعقود عليه؛ لأن المعقود عليه مقدر باليوم لا بالمكان؛ لأنه لم يسم المكان الذي يخرج إليه فلم يصح لتقدير المعقود عليه فكان المعقود عليه مقدراً باليوم، وصار ذكر الخروج في حق التقدير هو العدم بمنزلة كأنها استأجرته لتلبسه يوماً إلى الليل، ولم تقل لمخرج تخرج به وهناك إذا لبسته في بيتها كان عليها الأجر بخلاف ما إذا استأجر دابة ليركبها إلى مكان معلوم خارج المصر فركبها في منزله حيث لا يجب الأجر؛ لأن هناك ذكر مكاناً معلوماً ولم يذكر المدة والمكان المعلوم يصلح لتقدير المعقود عليه، فصار المعقود عليه مقدراً بالمكان ولم يوجد الاستيفاء فيه، أما هاهنا بخلافه حتى أنه لو استأجر الدابة ليركبها يوماً إلى الليل، ولم يسم المكان إذا ركبها في منزله يجب الأجر كاملاً كما في مسألتنا، ولو ضاع الثوب منها في اليوم فلا أجر عليها؛ لأن الضياع حال بينها وبين الانتفاع بالثوب فيعتبر بما لو حال بينها وبين الانتفاع به غصب غاصب. وإن اختلفا في الضياع فقال رب الثوب: لم يضع في اليوم، وقالت هي بل ضاع في اليوم، فإنه يحكم الحال إن كان في يدها وقت المنازعة، فالقول: قول رب الثوب مع يمينه، وإن لم يكن في يدها وقت المنازعة فالقول: قولها هذا إذا ضاع ثم وجد، وإن لم يوجد لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» وينبغي أن يكون القول قولها أيضاً؛ لأنها تنكر وجوب الأجر وإن سرق الثوب منها فلا ضمان بخلاف الأجير المشترك إذا سرق العين من يده، فإنه يضمن على قولهما. والفرق: أن مستأجر الثوب فلم يقبض عامل لرب المال؛ لأن ما يستفيد رب الثوب من المنفعة بقبض المستأجر الثوب أكثر مما يستفيده المستأجر؛ لأن صاحب الثوب يستفيد العين وهو الأجرة والمستأجر يستفيد المنفعة والعين خير من المنفعة فجعل المستأجر في القبض عاملاً لنفسه فأشبه المودع والوديعة إذا سرقت من يد المودع لاضمان عليه، أما أجير المشترك في القبض عامل لنفسه؛ لأن ما يستفيد من المنفعة بسبب هذا القبض أكثر مما يستفيده صاحب المال لأن الأجير يستفيد به عيناً، وصاحب الثوب يستفيد به المنفعة فجعل قابضاً لنفسه، فأشبه الغاصب ولو تخرق الثوب من لبسها فلا ضمان عليها وإن حصل الهلاك بجناية يدها بخلاف الأجير المشترك إذا هلك المال من جناية يده حيث يضمن. والفرق: أن في مسألتنا الهلاك حصل من عمل ليس بإزائه أجر؛ لأن الفساد حصل من اللبس والأجر ليس بإزاء اللبس بل بإزاء تسليم الثوب للبس، ألا ترى أنه إذا سلم

الثوب يستحق الأجر لبست أو لم تلبس والهلاك متى حصل من عمل ليس بإزاء أجر لا يجب الضمان على العامل متى عمل كالعين وأجير الوحد إذا رق وتخرق، أما في الأجير المشترك الهلاك حصل من عمل بإزائه أجر، لأن الهلاك حصل من عمل بإزائه أجر؛ لأن الهلاك حصل من عمل الرق والأجير المشترك لا يستحق الأجر إلا بالرق، فصار الأجير المشترك معارضاً ومطلق المعارضة تقتضي السلامة عن العيب كما في بيع العين. وإذا استأجر الرجل قبة لينصبها في بيته ويبيت فيها شهراً بخمسة دراهم فهو جائز، وإن لم يسم مكان النصب لأن جهالة مكان النصب؛ لا يوقعها في المنازعة، لأن الأمكنة لا تتفاوت في حق الضرر بالغير تفاوتاً معتبراً أو إن نصبها في الشمس والمطر، وكان على القبة في ذلك ضرر فهو ضامن لأن النصب في الشمس والمطر مستثنى من الإجارة عرفاً، لأن الشمّس والمطر يضران بالقبة، ولو شرط أن ينصبها في دار فنصبها في دار أخرى من قبيلة أخرى، ولكن في ذلك المصر فلا ضمان، فرق بين هذا وبينما إذا أودع عند إنسان شيئاً وشرط عليه أن يحفظه في دار فحفظه في دار أخرى من ذلك المصر فإنه يضمن. والفرق: أن المقصود من الإيداع الحفظ والتحصين والداران متفاوتان في الحرز والتحصين، أما المقصود من الإجارة الانتفاع دون الإحراز والتحصين وفي حق الانتفاع. (37أ4) بالأمكنة على السواء، فإن أخرجها إلى مصر، أو إلى السواد فلا أجر عليه سلمت القبة أو هلكت؛ لأنه استوفى ما لم يتناوله العقد؛ لأن الانتفاع به خارج المصر مما يلحق بالمالك ضرراً كثيراً وهو مؤنة الرد فبحكم كثرة الضرر التحق الانتفاع خارج المصر بجنس آخر. فهو معنى قولنا: استوفى ما لم يتناوله العقد والمنافع لا تتقوم بدون العقد، ولو استأجر فسطاطاً يخرج به إلى مكة يستظل به بنفسه وبغيره لعدم تفاوت الناس فيه، وإن أسرج في الخيمة أو في الفسطاط أو القبة أو علق به فإنه يجوز وله أن يستظل به بنفسه قنديلاً فأفسد فلا ضمان عليه؛ لأنه صنع ما يصنع الناس فكان داخلاً تحت العقد فإن جاوز المعروف المعتاد فهو ضامن، وإن اتخذ فيه مطبخاً فهو ضامن؛ لأنه صنع ما لا يصنع الناس عادة إلا أن يكون معداً لذلك العمل، ولو استأجر فسطاطاً لما يخرج به إلى مكة ذاهباً وجائياً ويحج به ويخرج في يوم كذا فهو جائز، وإن لم يبّين متى يخرج فإن لم يكن لخروج الحاج وقت معلوم بحيث لا يتقدم خروجهم عليه، ولا يتأخر عنه فالإجارة فاسدة قياساً واستحساناً، وإن كان لخروجهم وقت معلوم بحيث لا يتقدم ولا يتأخر، فالإجارة جائرة استحساناً؛ لأن المعلوم عرفاً كالمعلوم شرطاً. وإن تخرق الفسطاط من غير عنف، ولا خلاف فلا ضمان وإن لم يتخرق ولكن قال المستأجر: لم أستظل تحته ولم أضربه وقد ذهب به إلى مكة فعليه الأجر؛ لأنه تمكن من استيفاء المعقود عليه في المكان الذي أضيف إليه العقد، ولو انقطع أطنابه أو انكسر عوده فلم يستطيع نصبه فلا أجر عليه، ولو اختلفا فيه فهذا على وجهين، إما أن يختلفا في مقدار الانقطاع مع اتفاقهما على أصل الانقطاع، وفي هذا الوجه القول قول المستأجر

وإن اختلفا في أصل الانقطاع. ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : أنه يحكم الحال كما لو وقع هذا الاختلاف في انقطاع الماء في إجارة الرحى، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى هكذا ذكر وهذا الجواب مشكل في مسألة الفسطاط ظاهر في مسألة الرحى؛ لأن الماء قد ينقطع ثم يعود فيمكن تحكيم الحال أما الإطناب إذا انقطع أو العود إذا انكسر يبقى إلى وقت الخصومة كذلك، فكيف يستقيم تحكيم الحال، فإن كان المستأجر اتخذ أطناباً من عند نفسه أو عموداً من عند نفسه ونصبه حتى رجع فعليه الأجر كله؛ لأنه استوفى المعقود؛ لأن المعقود عليه في إجارة الفسطاط السكنى، وقد سكن فيه ولو انكسر الأوتاد فلم يقدر على نصبه حتى رجع فعليه الأجر كله، فرق بين الأوتاد وبين الأطناب والعمود. والفرق: أن الأوتاد على المستأجر فلم يعجز عن الانتفاع بالفسطاط، أما العمود والأطناب على الآجر، فقد عجز المستأجر عن الانتفاع بالفسطاط، وإذا أوقد ناراً في الفسطاط كان كالسراج، إن أوقد مثل ما يوقد الناس عرفاً وعادة في الفسطاط وأفسد الفسطاط أو أحرق الفسطاط فلا ضمان، وإن جاوز المتعارف فهو ضامن فبعد ذلك ينظر إن أفسد كله بحيث لا ينتفع به ضمن قيمة الكل ولا أجر عليه، وإن أفسد بعضه لزمه ضمان النقصان وعليه الأجر كملاً، إذا كان قد انتفع بالباقي، لأن فساد البعض أوجب نقصاناً في الباقي، فإذا استوفاه مع النقصان صار راضياً بالعيب فيجب عليه جميع الأجر كما لو استأجر داراً فانهدم حائط منها، وأوجب نقصاناً في الباقي فسكن كذلك كان عليه جميع الأجر كذا هاهنا وإن لم يفسد شيء منه وسلم، وكان جاوز المعتاد فالمسألة على القياس والاستحسان، القياس أن لا يجب الأجر. وفي الاستحسان يجب وقد مر جنس هذه المسألة، وإن شرط رب الفسطاط على المستأجر أن لا يوقد فيه ولا يسرج فيه ففعل فهو ضامن وعليه الأجر كملاً إذا سلم الفسطاط؛ لأنه استوفى المعقود عليه وزيادة وإن كان المستأجر لم يخرج بنفسه، فأراد أن يؤاجر الفسطاط من رجل يخرج إلى مكة أو أراد أن يغير ذلك فله ذلك في قول محمد وعلى قولهما ليس له ذلك، وإذا فعل فهو ضامن ولا أجر عليه. محمد رحمه الله قال: الناس لا يتفاوتون في السكنى في الفسطاط فهو بمنزلة ما لو استأجر داراً أو منزلاً كان له أن يؤاجر من غيره؛ لأن الناس لا يتفاوتون في السكنى والدليل عليه أن من استأجر عبداً للخدمة في طريق مكة فأجره من غيره ليخدمه في طريق مكة أو أعاره منه، فإنه يجوز، إنما جاز لأن الناس لا يتفاوتون في الخدمة. وهما قالا: إن الفسطاط والخيمة مما ينقل ويحول وينصب ويرفع والناس يتفاوتون في ذلك تفاوتاً فاحشاً ربّ إنسان ينقل الفسطاط شهراً ولا يفسده لمعرفته بنصبه وآخر ينقله أسبوعاً ويفسده لهيبة وقلة مرانه في نصبه ورفعه، وإذا كان فاحشاً منع الإجارة والإعارة من غيره. كما لو كان المستأجر ملبوساً أو مركوباً بخلاف الدار؛ لأنها مما لا ينقل ولا يحول

ولا يرفع ولا ينصب وإنما يسكن فيها لا غير والناس لا يتفاوتون في ذلك تفاوتاً فاحشاً، إلا أن ما يلحقه من زيادة المشقة من جهة التالي يمكنه؛ لأنه حافظ نفسه، ولو أن المستأجر خلّف الفسطاط بالكوفة في بيته أو بيت غيره وخرج بنفسه فلا كراء عليه؛ لأنه لم يتمكن من استيفاء المعقود عليه في المكان الذي أضيف إليه العقد وهو ضامن لها بهذا الإمساك؛ لأن المالك لم يرض بإمساك لا يجب به الأجر والقول قول المستأجر مع يمينه في أنه لم يخرج الفسطاط؛ لأن حاصل اختلافهما في وجود التسليم في المكان الذي أضيف إليه العقد. قال: ولو كان المستأجر دفع الفسطاط إلى رجل أجنبي ليدفعه إلى صاحب الفسطاط فدفعه ذلك الرجل إلى صاحبه فقد برئا جميعاً، وإن أبى صاحب الفسطاط أن يقبله فليس له ذلك؛ لأن لمستأجر الفسطاط أن يترك الفسطاط ولا يخرجه من الكوفة، كما أن له أن يترك إجارة البيت إذا أراد سفراً، فإن هلك الفسطاط عند هذا الرجل قبل أن يحمله إلى صاحبه. ذكر أن على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: صاحب الفسطاط بالخيار إن شاء ضمن المستأجر، وإن شاء ضمن ذلك الرجل، ولم يذكر قول أبي حنيفة قالوا: وينبغي على قوله أن يقال: إن كان المستأجر دفع الفسطاط إلى ذلك الرجل قبل أن يصير المستأجر غاصباً، فإن أمسك الفسطاط قدر ما يمسكه الناس إلى أن يرتحل ويسوي أشبابه، إذا كانت الحالة هذه لاضمان على الثاني، لأنه مودع المودع بل أحسن حالاً من مودع المودع؛ لأن مودع المودع إنما أخذها ليحفظ للمودع وهذا إنما أخذ ليحفظ للمودع ويردها على المالك. ومن مذهب أبي حنيفة رحمه الله: أن المودع الثاني لا يضمن إنما يضمن المودع الأول، فأما إذا أمسك المستأجر الفسطاط زيادة على ما يمسكه الناس حتى يصير غاصباً ضامناً له ثم دفع إلى الثاني يجبر المالك، إن شاء ضمن الأول وإن شاء ضمن الثاني؛ لأن الثاني يكون مودع الغاصب لا مودع المودع ومودع الغاصب (37ب4) ضامن عندهم جميعاً، فإن ضمن المستأجر فالمستأجر لا يرجع بذلك على ذلك الرجل، وإن ضمن ذلك الرجل يرجع على المستأجر. قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا استأجر الرجلان أحدهما بصري والآخر كوفي فسطاطاً من الكوفة إلى مكة ذاهباً وجائياً بأجر معلوم وذهبا به إلى مكة واختلفا، فقال البصري: إني أريد أن آتي البصرة، وقال الكوفي: إني أريد أن أرجع إلى الكوفة وأراد كل واحد أن يذهب بالفسطاط إلى حيث قصد. فهذا على وجهين: إما أن يذهب البصري بالفسطاط إلى البصرة أو يذهب الكوفي إلى الكوفة، وكل وجه من ذلك على وجهين، إما إن ذهب به بأمر صاحبه أو بغير أمره، فإن ذهب البصري بالفسطاط إلى البصرة إن ذهب به بغير أمر صاحبه فالبصري ضامن للفسطاط كله ولا ضمان على الكوفي وليس عليهما أجر الرجعة، أما البصري فيضمن جميع الفسطاط أما نصيبه؛ لأنه أمسكها في موضع لا يجب عليه الأجر بإمساكه؛ لأن

الإجارة عقدت على أن ينتفع بها في طريق الكوفة فإذا انتفع بها في طريق البصرة صار غاضباً. وأما نصيب الكوفة؛ فلأنه صار غاضباً نصيب الكوفي لأنه ذهب بنصيبه بغير أمره فصار غاصباً نصيب الكوفي ولا أجر عليهما على الكوفي، لأنه غصب منه نصيبه وعلى البصري فلأنه أمسكها في موضع لم يأذن له صاحب الفسطاط بالإمساك فيه في طريق البصرة، فيصير ضامناً كما لو أمسكها بالكوفة هذا إذا ذهب به البصري إلى البصرة بغير أمر الكوفي فأما إذا ذهب به بأمر الكوفي، فالبصري يصير ضامناً لجميع الفسطاط، والكوفي يضمن نصيبه وهو النصف ولا أجر عليهما. أما البصري يضمن جميع الفسطاط نصيبه؛ لأنه أمسكها في موضع لم يأذن له المالك بالإمساك فيه ونصيب الكوفي؛ لأنه مودع الكوفي إن لم يأذن له بالانتفاع بنصيبه والكوفي غاصب ومودع الغاصب ومستعيره ضامن، وإنما قلنا ذلك؛ لأن الكوفي لما دفع نصيبه إلى البصري حتى يمسكها في طريق البصرة صار غاصباً، بهذا التسليم؛ لأنه ليس له أن يسلم نصيبه إلى أحد حتى يمسكه في طريق البصرة أو ينتفع به، وإذا صار الكوفي غاصباً بهذا التسليم صار البصري مودع الغاصب أو مستعيره، وإنه ضامن في حق المالك، فصار البصري ضامناً جميع الفسطاط من هذا الوجه، ويضمن الكوفي النصف؛ لأنه لم يوجد منه سبب ضمان في نصيب البصري، إنما وجد منه سبب الضمان في نصيبه ولا أجر عليهما في الرجعة؛ لأنهما أمسكا الفسطاط في موضع لم يأذن لهما المالك بالإمساك فيه فلا يكون عليهما أجر هذا الذي ذكرنا إذا ذهب البصري بالفسطاط إلى البصرة، فأما إذا ذهب الكوفي إلى الكوفة بغير أمر البصري يضمن نصف الفسطاط وهو نصيب البصري فلا يضمن نصيبه وعليه نصف الكراء في الرجعة، ولا يجب على البصري شيء في الرجعة أما يضمن نصيب البصري، لأنه غصب من البصري نصيبه فيصير ضامناً نصيب البصري ولا يضمن نصيب نفسه؛ لأنه لم يمسكها في موضع لم يؤذن له بالإمساك فيه وعليه نصف الكراء؛ لأنه انتفع بنصيبه في طريق الكوفة ولا أجر على البصري في نصيبه في الرجعة؛ لأنه غصب من المستأجر هذا إذا ذهب الكوفي به إلى الكوفة بغير أمر البصري، فأما إذا ذهب به إلى الكوفة بأمر البصري فلا ضمان على البصري في نصيبه على قول محمد رحمه الله سواء أعار منه نصيبه أو أودعه بأن قال: انتفع به يوماً في نوبتك واحفظها يوماً في نوبتي، لأن من مذهب محمد رحمه الله أن لمستأجر الفسطاط أن يعيره من غيره، وأن يودع في المكان الذي أضيف إليه العقد ولا يصير ضامناً بذلك؛ لأنه يجب عليه الأجر بذلك. وأما في قول أبي يوسف رحمه الله: فكذلك الجواب إن أودعها من الكوفي، لأن الفسطاط كان أمانة عندهما وكانا بمنزلة المودعين. ومن مذهب أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أن من أودع عند رجلين وديعة لما يقسم أو لا يقسم فأودع أحدهما نصيبه من صاحبه أنه لا يضمن عندهما، فهذا على ذلك.

فإن قيل: يجب أن يضمن البصري؛ لأن المستأجر شيء أودع ما استأجر من غيره يصير ضامناً فيجب أن يضمن البصري حصّته لمن دفع حصته إلى الكوفي وديعة. قلنا: إنما يضمن بالإيداع إذا كان إيداعاً لا يجب الأجر بإمساك المودع كإمساكه الأجر لا يصير ضامناً، ويكون إمساك المودع كإمساكه والإيداع هاهنا حصل على وجه لا يجب الأجر بإمساك المودع؛ لأنه يمسكها في طريق الكوفة فإمساكه كإمساكه، وإن كان أعار نصيبه من الكوفي أو آخر يجب أن يضمن البصريّ نصيبه على قول أبي يوسف؛ لأنه ليس لمستأجر الفسطاط عند أبي يوسف أن يعير وأن يؤاجر من غيره، والكلام في وجوب الضمان على الكوفي نظير الكلام في وجوب الضمان على البصريّ وعليهما الأجر كملاً. إن أودع البصريّ نصيبه؛ لأن إمساك الكوفي كإمساكه وإن كان أعار منه لا أجر على البصري؛ لأنه صار مخالفاً وإن ارتفعا إلى القاضي وقصّا عليه القصّة واختصما في ذلك، فإن القاضي إن شاء لم يلتفت إلى ما قالا ما لم يقيما بّينة على ذلك؛ لأنهما يريدان إيجاب حفظ على القاضي في مال الغائب، فكان للقاضي أن لا يلزم ذلك بمجرد قولهما لكن جاء بداية إلى القاضي وقال: وجدتها لقطة من هي بالإنفاق عليهما كان للقاضي أن لا يصدقه فيما قال ما لم يقم البينة، وإن شاء القاضي صدقهما فيما قالا، ثم هو بالخيار إن شاء ترك ذلك في أيديهما، وإن شاء فسخ الإجارة؛ لأن القاضي نصب ناظراً في مال الغائب فإن رأى القاضي النظر للغائب في فسخ الإجارة فسخ؛ لأنه لا يستحق على البصريّ الرجوع إلى الكوفة بسبب إجارته الفسطاط. ألا ترى أنه في أول الأمر حين استأجر الفسطاط لو قال: أقعد بالكوفة ولا أخرج إلى مكة كان له ذلك، فكذلك إذا بلغ مكة إذا قال: لا أخرج إلى الكوفة كان ذلك عذراً له في فسخ الإجارة فكان له أن يفسخ الإجارة، فإن فسخ الإجارة وبعد هذا يؤاجر نصيب البصري من الكوفي إن رغب في إجارة نصيب البصري، حتى يصل إلى الغائب عين الفسطاط مع الأجر ويكون هذا أولى من الإجارة من غيره؛ لأن الرد على صاحب الفسطاط مع الأجر يحصل مع مختار صاحب الفسطاط، فكان أولى من الإجارة من غيره وتجوز هذه الإجارة عندهم جميعاً وإن أجر المشاع؛ لأن إجارة المشاع ممن يملك الانتفاع بالكل جائز عندهم جميعاً. كما لو أجر من شريكه، وإن لم يرغب الكوفي في إجارة ذلك يؤاجر من غيره إن وجد، لأنه أنفع للغائب من أن يودعه، ولا يؤاجر وتجوز هذه الإجارة وإن أجر المشاع ممن لا يملك الانتفاع؛ لأنه قضى في موضع مختلف فيه فيفنذ قضاؤه بالكل، وإن لم يجد أحداً يؤاجر نصيبه يودع نصيب البصريّ من الكوفي إن رآه ثقة حتى يصل إلى المالك، وإن شاء ترك ذلك في أيديهما؛ لأن في الترك في أيديهما نظر للغائب؛ لأنه إن ذهب البصريّ بالفسطاط كان مضموناً على البصري لو هلك في يده ولو فسخت الإجارة، وبعث بها إلى صاحبه ربما يهلك في الطريق فلا يصل إلى صاحبه لا عينه ولا بدله، فإن مال إلى هذا وفيه نظر للغائب من وجه كان له ذلك.

وإذا تكارى الرجل فسطاطاً من الكوفة إلى مكة ذاهباً وجايئاً. (38أ4) ثم خرج به إلى مكة ثم خلفه بمكة ورجع فعليه الكراء ذاهباً، وهو ضامن لقيمة الفسطاط؛ لأنه أمسك الفسطاط في موضع لم يؤذن له بالإمساك فيه فيصير ضامناً فلو لم يضمنه صاحب الفسطاط ولم يختصما حتى حج من قابل فرجع بالفسطاط فلا أجر عليه في الرجعة؛ لأن العام الثاني غير داخل تحت الإجارة فلا يكون عليه أجر برجوعه في العام الثاني. وروي عن الحسن البصري أنه قال: لا بأس بأن يستأجر حلي الذهب بالذهب وحلي الفضة بالفضة؛ لأن ما يبدل من الأجر ليس ببدل عن العين ليقال: بيع ذهب بذهب على وجه يعود ذهب إليه فيكون ربا بل الأجر بإزاء منفعة العين والمنفعة مع العين جنسان مختلفان، والربا لا تجري في مختلفين. وهذا كما لو استأجر داراً فيها صفائح ذهب بذهب، فإنه يجوز وإنما جاز بالطريق الذي قلنا. وإذا استأجرت المرأة حلياً معلوماً لتلبسه يوماً إلى الليل ببدل معلوم فحبسته أكثر من يوم صارت غاصبة، قالوا: وهذا إذا حبسته بعد الطلب أو حبسته مستعملة، فأما إذا حبسته للحفظ لا تصير ضامنة قبل وجود الطلب من صاحبها وذلك لأن العين تقع أمانة في يدها فلا يصير مضموناً إلا بالاستعمال أو بالمنع بعد وجود الطلب كالوديعة. بخلاف المستعير، إذا أمسك العين بعد مضي المدة حيث يضمن؛ لأن هناك وجد الطلب من حيث الحكم، لأن من حكم الطلب وجوب الرد وقد وجب الرد عليه بعد مضي المدة، أما في الإجارة لم يوجد الطلب لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الحكم ولم يوجد الاستعمال، فلهذا لا يجب الضمان.m والحد الفاصل بين الإمساك للحفظ وبين الإمساك للاستعمال أنه إذا أمسك العين في موضع لا يمسك للاستعمال في ذلك الموضع فهو حفظ فعلى هذا قالوا: إذا تسورت بالخلخال أو تخلخلت بالسوار أو تعمم بالقميص أو وضع العمامة على العاتق، فهذا كله حفظ وليس باستعمال؛ لأن الإمساك وجد في موضع لا يمسك للاستعمال فكان حفظاً وليس باستعمال فلا تضمن، وإن ألبست غيرها في ذلك اليوم فهي ضامنة ولا أجر عليها؛ لأن الناس يتفاوتون في لبس الحلي، وإن استأجره كل يوم بأجر مسمى فحبسته شهراً ثم جاءت به فعليها أجر كل يوم حبسته لأن الإمساك في كل يوم حصل بحكم الإجارة، وإن استأجرته يوماً إلى الليل فإن بدا لها حبسته كل يوم بذلك الأجر فلم ترده عشرة أيام، فالإجارة على هذا الشرط فيما عدا اليوم فاسدة قياساً؛ لأن الإجارة فيما عدا اليوم معلقة بالشرط وهو أن يبدو لها ذلك، وفي الاستحسان يجوز؛ لأن هذا شرط متعارف محتاج إليه، فإنها إذا أخرجت إلى العرض أو إلى وليمة لا يدري كم يبقى فيحتاج إلى مثل هذا الشرط لدفع الضرر والضمان وتعليق الإجارة بمثل هذا الشرط جائز أو نقول: الإجارة فيما عدا اليوم معلق بالمشيئة فكان تفسيراً للقبول، كأنه قال: أجرت فيما عدا اليوم الأول إن قلت: ألا ترى أن من قال لغيره: بعت مثل هذا العبد بألف درهم إن شئت جاز وكان

الفصل الحادي والعشرون: في إجارة لا يوجد فيها تسليم المعقود عليه إلى المستأجر

تفسيراً للقبول؛ لأن القبول لا يكون إلا عن مشيئة وصار كأنه قال: بعت منك هذا العبد بألف درهم إن قبلت وذلك جائز كذا هذا والله أعلم. الفصل الحادي والعشرون: في إجارة لا يوجد فيها تسليم المعقود عليه إلى المستأجر وفي كتاب «الواقعات» رجل دفع ثوباً إلى خياط ليخيطه فقطعه ومات قبل أن يخيطه؛ قال عيسى بن أبان: لا أجر له؛ لأن الأجر مقابل بالخياطة والقطع ليس من الخياطة ولهذا لو أراد المشتري أن يرجع بنقصان العيب بعد القطع قبل الخياطة، فقال البائع: أنا أقبله كذلك فله ذلك ولو كان القطع بين الخياطة لم يكن له ذلك كما لو خاطه، وقال أبو سليمان: له أجر القطع؛ لأن الأجر مقابل باتخاذ الثوب والقطع من جملته. وعن أبي يوسف: فيمن استأجر دابة يذهب بها إلى منزله ويركبها إلى موضع قد سماه فدفعها إليه وذهب بها إلى منزله ثم بداله ذلك فردها فعليه من الأجر بحساب ذلك يعني بحساب ما ذهب إلى منزله. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد في خياط خاط ثوب رجل بأجر قبل أن يقبض رب الثوب فلا أجر للخياط؛ لأنه لم يسلم العمل إلى رب الثوب ولا يجبر الخياط على أن يعيد العمل؛ لأنه أجير بحكم العقد الذي جرى بينهما، وذلك العقد قد انتهى بتمام العمل وإن كان الخياط هو الذي فتق، فعليه أن يعيد العمل وهذا؛ لأن الخياط لما فتق الثوب وقد نقض عمله وصار كأن لم يكن بخلاف ما إذا فتقه أجنبي؛ لأنها بفتق الأجنبي لا يمكن أن يجعل كأن الخياط لم يعمل أصلاً وكذلك الإسكاف على هذا. وكذلك المكاري إذا حمل في بعض الطريق فخوفوه فرجع وأعاد الحمل إلى الموضع الأول لا أجر له هكذا ذكر في «الفتاوي» ولم يذكر الجبر على الإعادة وينبغي أن يجبر كما في المسائل المتقدمة ومسألة السفينة التي بعد هذا وكذلك الملاح إذا حمل الطعام إلى موضع سمي في العقد فصرف الريح السفينة وردها إلى مكان العقد فلا أجر للملاح إن لم يكن الذي اكتراها معه؛ لأن العمل لم يقع مسلماً إليه وإن كان معه فعليه الكراء؛ لأن العمل صار مسلماً إليه وإن لم يكن الذي اكترى معه حتى لم يجب الأجر لا يجبر الملاح على أن يعيد الحمل وإن كان الملاح هو الذي رد السفينة أجبر على الإعادة إلى الموضع المشروط لما قلنا: وإن كان الموضع الذي رجعت إليه السفينة لا يقدر رب الطعام على قبضه فيه، فعلى الملاح أن يسلمه في موضع يقدر رب الطعام على قبضه ويكون له أجر مثله فما سار من هذا المسير؛ لأنا لو صححنا التسليم وأجبرنا رب المال على القبض لتلف المال عليه وقد أمكن صون ماله مراعاة حق صاحب السفينة بإيجاب أجر المثل له، فإن قال الذي أكترى السفينة بعدما ردتها الريح: لا حاجة لي في سفينتك،

أنا أكتري غيرها فله ذلك رواه هشام عن محمد. ولو اكترى بغلاً إلى موضع معلوم فركبه فلما سار بعض الطريق جمح به فرده إلى موضعه، فعليه الأجر بقدر ما سار؛ لأن بذلك القدر صار مستوفياً المنفعة بنفسه فإن قال المستأجر للقاضي: مر صاحب البغل فليبلغني إلى حيث استأجرته وله علي الذي شارطته عليه، قال: إن شاء الآجر فعل ذلك وإلا قيل للمستأجر: استأجره إلى المكان الذي بلغت ثم هو يحملك من ثمة إلى حيث استأجرته هكذا رواه هشام عن محمد، قال: وعلى هذا السفينة. قال في «الجامع الصغير» : وإذا استأجر الرجل رجلاً ليذهب إلى البصرة ويجيء بعياله، فوجد بعضهم ميتاً وجاء بمن بقي فله من الأجر بحسابه؛ لأنه أوفاه بعض العمل فيجب من الأجر بحساب ذلك. حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله أنه قال: تأويل المسألة إذا كانت المؤنة قبل نقصان العدد أما إذا كانت مؤنة البعض ومؤنة الكل سواء يجب جميع الأجر، قال: وفيه أيضاً: رجل استأجر رجلاً ليذهب بكتاب له إلى البصرة إلى فلان ويجيء بجوابه فذهب فوجد فلاناً قد مات فرد الكتاب فلا أجر له وهذا قول أبي حنيفة. وقال محمد: له أجر الذهاب وقول أبي يوسف مضطرب واعلم بأن ها هنا مسألتان (38ب4) . أحدهما: إذا استأجر رجلاً ليذهب بكتاب له إلى البصرة إلى فلان ولم يشترط عليه المجيء بجوابه. والثانية: أن يشترط عليه المجيء بجوابه، ومحمد رحمه الله ذكر في «الكتاب» ما إذا شرط عليه المجيء بالجواب ولم يذكر ما إذا لم يشترط عليه المجيء بالجواب ولا بد من ذكرهما فنقول فيما إذا لم يشترط عليه المجيء بجوابه: إذا ترك الكتاب ثمة حتى يوصل إليه إذا حضر بأن كان غائباً وإلى ورثته بأن كان ميتاً، فإنه يستحق الأجر كملاً؛ لأنه أتى بأقصى ما في وسعه إذ لا وسع له في الاتصال بأبلغ من هذا الوجه إذا وجد المرسل إليه غائباً أو ميتاً. وكذلك إذا وجد المرسل إليه ودفع الكتاب إليه، فلم يقرأ حتى عاد من غير جواب فله الأجر؛ لأنه أتى بالمشروط عليه وإن لم يجده أو وجده ولكن لم يدفع الكتاب إليه بل رد الكتاب، فعلى قول أبي حنيفة لا أجر له، وقال محمد: له الأجر في الذهاب، وقول أبي يوسف يضطرب. وأجمعوا على أنه إذا استأجره ليذهب بطعام له إلى البصرة إلى فلان فذهب ولم يجد فلاناً أو وجده ولكن لم يدفع الطعام إليه بل رده أنه لا أجر له. وأجمعوا على أنه إذا استأجره ليبلغ رسالته إلى فلان بالبصرة فذهب الرجل ولم يجد المرسل إليه أو وجده إلا أنه لم يبلغه الرسالة ورجع أن له الأجر. وأجمعوا على أنه لو ذهب إلى فلان بالبصرة ولم يذهب بالكتاب أنه لا أجر له

وفيما إذا شرط المجيء بجوابه إذا دفع إلى فلان وأتى بالجواب، فله الأجر كاملاً؛ لأنه أوفى جميع المعقود عليه، ولو كان المكتوب إليه غائباً فدفع إلى آخر ليدفعه إليه أو دفع المكتوب إليه، فلم يقرأ ورجع هذا الرجل فله أجر الذهاب؛ لأنه استؤجر لإيصال الكتاب إليه وللمجيء بالجواب وقد وجد الاتصال بقدر الإمكان ولم يوجد المجيء بالجواب فيجب أجر الاتصال ولو مزق الكتاب. ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» : أن عليه أجر الذهاب في قولهم ولا يفتى به؛ لأنه قد أبطل عمله حيث مزقه وإن رد الكتاب، قال أبو حنيفة: لا شيء له من الأجر وقال محمد: له أجر الذهاب وقول أبي يوسف مضطرب، محمد رحمه الله يقول: رد الكتاب حصل بإذن المستأجر؛ ولأنه فلا يسقط له الأجر كما لو أذن له بذلك نصاً بأن قال: إن لم تجد فلاناً فأت إلي بالكتاب وإنما قلنا ذلك؛ لأنه ربما يكون في الكتاب سراً لا يرضى المرسل بأن يطلع عليه غير المرسل إليه ومتى ترك الكتاب ثمة ربما يفتحه غيره فيطلع عليه فبهذا الاعتبار يصير مأموراً برد الكتاب متى لم يجد فلاناً وربما لا يكون فيه سر فيكون مأموراً بالترك هناك إذا لم يجده حتى يوصل إليه إن كان غائباً وإلى ورثته إن كان ميتاً. فإذا لم ينص صاحب الكتاب على الترك ثم ولا على الرد ثانياً دخل كلا الأمرين تحت الإذن، كما في الرسالة فإن الرسول يكون مأموراً بترك التبليغ إلى غير المرسل إليه بأن يكون سراً لا يرضى أن يطلع عليه غير الرسول والمرسل إليه، وربما لا يكون سراً فيكون مأموراً بالتبليغ إلى غير المرسل إليه إذا لم يجده حتى يبلغ إليه متى حضر فيحصل مقصود المرسل فدخل كلا الأمرين تحت الإذن فكذلك هذا، وإذا كان كذلك صح قولنا: إن رد الكتاب حصل بإذن المستأجر دلالة. وهذا بخلاف ما لو كان المستأجر شيئاً له حمل ومؤنة، فلم يحمل المرسل إليه فرد ثانياً؛ لأنه غير مأمور بهذا الرد من جهة المالك لا نصا ولا دلالة؛ لأنه لا ضرر عليه متى ترك المحمول على يدي عدل حتى يوصله إليه فلم يثبت الإذن بالرد دلالة بل الثابت دلالة من جهته النهي عن الرد حتى لا يضيع ما لحقه من المؤنة بخلاف الكتاب؛ لأنه ربما يكون فيه سراً لا يرضى بأن يطلع غيره عليه، فإذا لم يأمره بالترك هناك يثبت الإذن بالرد إليه ثانياً فبهذا تعلق محمد رحمه الله وإنه واضح. وأبى أبو حنيفة رحمه الله ذلك في ذلك إلى أن الرد حصل بغير إذن المالك نصاً ولا دلالة فلا يستحق الأجر قياساً على ما لو أمره بالترك هناك إذا لم يجده وإنما قلنا: إنه حصل بغير إذنه نصاً؛ لأنه أمره بالاتصال إليه لا بالرد ولا دلالة لأن الإذن بالرد لو ثبت دلالة إنما يثبت ليوهم أن يكون في الكتاب سر لا يرضى أن يطلع عليه غيره ولا يجوز أن يثبت الإذن بالرد دلالة من جهة المالك بهذا؛ لأن الحال لا إما أن يكون الكتاب مختوماً أو غير مختوم، فإن كان مختوماً يجد عدلاً لا يفتح الختم فلا يطلع على ما فيه غير المرسل إليه وإن كان غير مختوم لا يكون فيه سراً فإذا أفشى السر لا يتحقق بالترك هناك فلا يثبت الإذن بالرد دلالة بهذا السبب ولم يأذن له بالرد نصاً فكان الرد حاصلاً بغير إذنه

وليس كالرسول وذلك؛ لأن الرجوع فبلغ التبليغ إلى غير المرسل إليه حصل بإذن المرسل دلالة وذلك؛ لأنه ربما تكون الرسالة سراً لا يرضى المرسل بأن يطلع عليه أحد ولا يمكنه التبليغ إلى المرسل إليه بحيث لا يطلع عليه غير المرسل إليه، فيصير مأذوناً بالرجوع من غير تبليغ إلى غير المرسل دلالة فأما التبليغ في باب الكتاب بقدر الإمكان بأن يترك الكتاب ثمة ممكن من غير إفشاء ما فيه من السر بأن كان مختوماً، وإن كان غير مختوم فلا يكون فيه سر فلا يثبت الإذن بالرد دلالة، فيكون الرد بغير إذن المالك فلا يستوجب الأجر كما لو كان المحمول شيئاً له حمل ومؤنة. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح إجارات «الأصل» : وينبغي أن لا يسلم فصل الرسالة على مذهب أبي حنيفة رحمه الله ثم الأجير يستحق الأجر على المرسل لا على المرسل إليه؛ لأن الأجر إنما يستحق على العاقد والعاقد هو المرسل لا على المرسل إليه. وذكر الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزودي رحمه الله هذه المسألة في تطبقه، وذكر قول أبي يوسف مع محمد في «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله رجل تكارى سفينة على أن يذهب بها إلى موضع كذا فلم يجد ذلك الشيء ثم رجع قال: يلزمه كراء السفينة في الذهاب فارغة فإن قال: اكتريتها منك على أن تحمل لي الطعام من موضع كذا إلى ها هنا فذهب بها فلم يجد الطعام فرجع بالسفينة فلا شيء له من الكراء. وروى إبراهيم: رجل استأجر دابة من بغداد ليذهب بها إلى المدائن ويحمل عليها طعاماً من المدائن، فذهب فلم يجد الطعام فإن على المستأجر أجر الذهاب، ولو استأجرها ليحمل عليها من المدائن ولم يستأجرها ليذهب من موضع العقد وباقي المسألة بحاله فإنه لا أجر عليه في الذهاب أيضاً. والفرق: أن في المسألة الأولى العقد انعقد على شيئين على الذهاب إلى ذلك الموضع والحمل منه إلى ها هنا، وقد ذهب إلى ذلك الموضع فقد استوفى بعض المعقود عليه فيجب الأجر بحصته. وفي المسألة الثانية: العقد انعقد على شيء واحد وهو الحمل من ذلك الموضع إلى ها هنا ولم ينعقد على الذهاب إلى ذلك الموضع، لأن الذهاب غير مذكور ولم يوجد حمل الطعام من ذلك الموضع فلم يوجد استيفاء المعقود عليه أصلاً فلهذا لا يجب شيء من الأجر. وعلى هاتين المسألتين قسنا مسألة صارت واقعة للفتوى. وصورتها: رجل اشترى من آخر شجراً في قرية واستأجر أجيراً لقلعها، وذهب إلى موضع الشجرة ثم إن البائع مع المشتري تقايلا البيع في الشجرة ولم يتهيأ (39أ4) قطع الشجرة هل يجب للأجير أجر الذهاب؟. فقلنا: إن استأجرا الأجير ليذهبوا إلى موضع الشجرة ويقلعوها فلهم أجر الذهاب؛ لأن العقد انعقد على شيئين على الذهاب والقلع، وإن استأجرهم لقلع الشجرة ولم يتعرض للذهاب في العقد فلا أجر لهم.

الفصل الثاني والعشرون: في بيان التصرفات التي يمنع المستأجر عنهاوالتي لا يمنع وفي تصرفات الآجر

وفي «النوازل» : رجل اشترى دابة إلى بلدة ليحمل من هناك حمولاً به، فجاء المكاري فقال: ذهبت فلم أجد الحمل فإن صدقه المستكري في ذلك فعليه أجر الذهاب خالياً من غير حمل وقوله: إلى بلدة كذا بمنزلة قوله: ليذهب بها إلى بلده كذا. وفي «فتاوى الفضلي» : استأجر دابة في المصر ليحمل الدقيق من الطاحونة أو ليحمل الحنطة من قرية كذا فذهب فلم يجد الحنطة طحنت أو لم يجد الحنطة من القرية، فعاد إلى المصر ينظر إن كان قال: استأجرت منك هذه الدابة من هذه البلدة حتى أحمل الدقيق من طاحونة كذا يجب نصف الأجر؛ لأن الإجارة وقعت صحيحة من البلدة إلى الطاحونة من غير حمل شيء فيجب نصف الأجر بالذهاب ثم الإجارة من الطاحونة إلى البلدة إنما كانت بشرط حمل الدقيق ولم يوجد فلا يجب الأجر، فأما إذا كان قال: استأجرت منك هذه الدابة بدرهم حتى أحمل الدقيق من الطاحونة فها هنا لا يجب الأجر في الذهاب. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : استأجر رجلاً ليذهب إلى موضع كذا ويدعو فلاناً بأجر مسمى فذهب الرجل إلى ذلك الموضع فلم يجد فلاناً يجب الأجر. وفي «فتاوى الأصل» : استأجر رجلاً ليقطع له الأشجار في قرية بعيدة ولم يتعرض للذهاب والمجيء فلا أجر على المستأجر في ذهابه ومجيئه؛ لأن المعقود عليه العمل وهو قطع الأشجار ولم يعمل في ذهابه ومجيئه. الفصل الثاني والعشرون: في بيان التصرفات التي يمنع المستأجر عنهاوالتي لا يمنع وفي تصرفات الآجر وإذا استأجر داراً أو بيتاً ولم يسم الذي يريدها له حتى صارت الإجارة استحساناً لا قياساً على ما مر قبل هذا كان للمستأجر أن يسكنها وأن يسكنها من شاء؛ لأن الإجارة انصرفت إلى السكنى عرفاً ولو انصرفت إلى السكنى نصاً كان له أن يسكنها وأن يسكنها من شاء؛ لأن الناس لا يتفاوتون في السكنى ولو وقع التفاوت كان يسيراً فلا يعتبر وله أن يضع متاعه فيها. لأن هذا من جملة السكنى وله أن يربط فيها دوابه. قال مشايخنا رحمهم الله: إنما يكون له ولاية ربط الدواب فيها إذا كان فيها موضعاً معداً لربط الدواب فأما إذا لم يكن فليس له ولاية ربط الدواب، وما ذكر في «الكتاب» فهو بناء على عرف ديارهم؛ لأن في ديارهم الربط يكون في الدار لسعة دورهم، أما في ديارنا فبخلافه وله أن يعمل فيها ما بدا له من العمل مما لا يضر بالبناء ولا يوهنه نحو الوضوء وغسل الثياب أما كل عمل يضر بالبناء ويوهنه نحو الرحى والحدادة والقصارة، فليس له ذلك إلا برضا صاحبه؛ لأن كل عمل هذا حاله فهو مستثنى عن الإجارة بحكم العرف فيعتبر ما لو كان مستثنى عن الإجارة بحكم الشرط.

يوضحه: أن الإجارة وضعت للانتفاع مع بقاء العين مما يؤدي إلى فساد العين لا يكون داخلاً تحت الإجارة. بعض مشايخنا قالوا: أراد بالرحى رحى الماء ورحى الثور لا رحى اليد، وبعض مشايخنا قالوا: يمنع عن الكل، وبعضهم قالوا: إن كان رحى اليد يضر بالبناء يمنع عنه وإلى هذا مال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وعليه الفتوى. وأما كسر الحطب فيها فقد ذكر بعض مشايخنا أنه لا يمنع عن المعتاد؛ لأنه من جملة السكنى وبعضهم قالوا: يمنع ويؤمر بالكسر خارج الدار؛ لأنه يؤثر في البناء والبناء لا محالة فلو أنه أقعد فيه قصاراً أو حداداً أو عمل ذلك بنفسه، فانهدم شيء من البناء ضمن قيمة ذلك لأن الانهدام أثر للحدادة والقصارة لا أثر السكنى؛ لأن مجرد السكنى لا يؤثر في الانهدام فيضاف بالانهدام على الحدادة والقصارة وإنها ليست بداخله تحت العقد فيكون متعدياً فيها فيضمن ما تلف بها ولا أجر عليه فيما ضمن؛ لأن الأجر مع الضمان لا يجتمعان وإن لم يهدم شيء من البناء من عمل الحدادة والقصارة لا يجب الأجر قياساً؛ لأن عمل الحدادة والقصارة غير داخل تحت العقد صار الحال فيه بعد العقد والحال قبل العقد سواء ويجب الأجر المسمى استحساناً؛ لأن المعقود عليه السكنى. وفي الحدادة سكنى وزيادة فقد استوفى المعقود عليه وزيادة فهو بمنزلة ما لو استأجر دابة ليحمل عليها عشرة مخاتم حنطة فحمل أحد عشر وسلمت الدابة وهناك يجب الأجر كذا ها هنا فإن اختلف الآجر والمستأجر في ذلك فقال المستأجر: استأجرت للحدادة وقال الآجر: أجرت للسكنى دون الحدادة فالقول قول الآجر، لأنه لو أنكر الإجارة أصلاً كان القول قوله، فكذا إذا أنكر الإجارة في نوع دون نوع؛ ولأن الحدادة والقصارة مما لا يستحق بمطلق العقد وإنما يستحق بالشرط والمستأجر يدعي زيادة شرط على مطلق العقد والآجر ينكر والقول قول المنكر وإن أقاما البينة فالبينة بينة المستأجر لأن المستأجر يثبت زيادة شرط. ومما يتصل بهذه المسألة: إذا استأجر الرجل من آخر داراً على أن يقعد فيها حداداً فأراد أن يقعد فيها قصاراً له ذلك إن كانت مضرتهما واحدة أو كانت مضرة القصارة أقل وكذلك الرحى على هذا وإنما كان كذلك؛ لأنه ليس في ذلك على صاحب الدار زيادة ضرر لم يرض به. فإن قيل: ينبغي أن لا يكون له ذلك؛ لأن هذا خلاف من حيث الجنس، فإن الحدادة مع القصارة جنسان مختلفان ولا عبرة للضرر والمنفعة حالة الخلاف في الجنس. ألا ترى إن وكل رجلاً بأن يبيع عبده بألف درهم فباع بألف دينار لم يجز؛ لأنه خالف الجنس، والجواب عنه أن المخالفة فيما يكن فيه في الصفة لا في الجنس؛ لأن أصل المعقود عليه في الموضعين جميعاً السكنى في الدار إلا أن صفة السكنى تختلف، والمخالفة متى كانت في الصفة لا في الجنس، فالعبرة في ذلك للضرر والمنفعة وكان بمنزلة ما لو وكله بأن يبيع بألف زيوف، فباع بألف جياد جاز ذلك.

قال: رجل تكارى منزلاً أو داراً من رجل على أن يسكن فيها فلم يسكنها ولكنه جعل فيها طعاماً حنطة وشعيراً وتمراً وغير ذلك وأراد رب الدار أن يمنعه قال: لأنه يخرب الدار فليس له ذلك. علل وقال: لأن وضع هذه الأشياء من جملة السكنى الذي يرتفق الناس بها من المساكن، فيكون داخلاً تحت العقد فلا يكون لصاحب الدار أن يمنعه من ذلك كما لا يمنعه من السكنى. رجل استأجر داراً أو حفر فيها بئراً للماء وليتوضأ فيها فعطب فيها إنسان ينظر إن كان حفر بإذن رب الدار فلا ضمان كما لو حفر رب الدار بنفسه وهذا؛ لأنه غير متعد في الحفر بإذن رب الدار؛ لأن لرب الدار حفره بنفسه فكان له الإذن بالحفر والتسبب إذا لم يكن متعدياً في التسبيب لا يضمن وإن كان قد حفر بغير إذن رب الدار فهو ضامن؛ لأنه متعد في الحفر بغير إذن رب الدار؛ لأنه حفر في موضع ليس له حق الحفر؛ لأن الحفر يصرف في رقبة الدار (39ب4) والمستأجر يملك التصرف في منفعة الدار لا في رقبته. رجل استأجر من رجل حانوتاً وحانوتاً آخر من رجل آخر فنقب أحدهما إلى الآخر يرتفق بذلك فإنه يضمن ما أفسد من الحائط ويضمن أجر الحانوتين بتمامه، أما يضمن ما نقب من الحائط؛ لأنه نقب حائط غيره بغير أمره وعليه أجر الحانوتين كملاً، وإن ضمن بعض ما استأجر، فرق بين هذا وبين مسألة تأتي بعد هذا. وصورتها: إذا استأجر بيتاً ولم يشترط أنه يقعد فيه قصاراً أو حداداً فقعد فيه قصاراً أو حداداً حتى انهدم البيت قال: يضمن ما انهدم ولا أجر عليه فيما ضمن فقد أسقط عنه أجر ما ضمن في تلك المسألة ولم يسقط شيئاً من الأجر ها هنا، وإنما فعل هكذا؛ لأن النقب في مسألتنا لم يضر بالسكنى. ألا ترى لو حصل مثل هذا بآفة سماوية فإنه لا يجبر المستأجر إذا لم يضر بالسكنى وإذا لم يضر هذا النقب بالسكنى صار مستوفياً جميع المعقود عليه من ملك الآجر بتمامه فكان عليه جميع الأجر فأما المسألة التي تأتي بعد هذا وضع المسألة أنه انهدم البيت كله وانهدام البيت كله مما يضر بالسكنى.k ألا ترى لو حصل هذا بآقة سماوية يجبر المستأجر المشتري، فإذا حصل بفعل المستأجر وصار قدر ما ضمن ملكاً له من وقت العقد سقطت حصته من الأجر؛ لأنه لم يستوف جميع ما ورد عليه العقد من ملك الآجر بل يستوفي البعض من ملكه والبعض من ملك الآجر. وإذا تكارى منزلاً من رجل سنة بعشرة دراهم فخرج الرجل من البيت وعمل أهله وأكروا من المنزل بيتاً أو أنزلوا إنساناً بغير أجر فانهدم البيت الذي أسكنوه فيه فهذا على وجهين: إما أن ينهدم من سكنى الساكن أو من غيره وفي الحالين لا ضمان على المستأجر؛ لأنه لم يوجد منه جناية وهل يضمن الأهل والساكن؟ إن حصل الانهدام لا من سكناه فلا ضمان على واحد منهما في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف الأجر، وعلى قول محمد يجب الضمان بناء على أن الدور والعقار لا تضمن بالغصب عند أبي حنيفة وأبي يوسف الأجر، وعلى قول محمد يضمن، والأهل غاصب والساكن غاصب الغاصب،

ويكون لصاحب الدار الخيار على قوله فإن ضمن الأهل فالأهل لا يرجع على الساكن وإن ضمن الساكن فالساكن يرجع على الأهل وإن انهدم من سكنى الساكن فالساكن يضمن بالإجماع فالعقار يضمن بالإتلاف بالإجماع والساكن يتلف ها هنا لما انهدم سكناه وهل له تضمين الأصل فالمسألة على الاختلاف الذي ذكرنا. وإذا تكارى منزلاً ولم يسم ما يعمل فيه فقعد فيه حداداً أو قصاراً فهذا على وجهين: إما إن انهدم الدار من عمله وفي هذا الوجه عكسه ضمان ما انهدم وقد مرت هذه المسألة في أول هذا الفصل قال: ولا أجر عليه فيما ضمن؛ لأنه ملك المضمون بالضمان من وقت العقد؛ لأن سبب الضمان مجموع عمل الحدادة والقصارة لا الحز والأخير الذي حصل الانهدام عقيبه وإذا صار الانهدام مضافاً إلى الكل صار هذا العمل من وقت العقد سبب ضمان فيملكه من ذلك الوقت، وإذا ملك المضمون من ذلك الوقت انقطعت به الإجارة فلا يكون عليه الأجر فيما ضمن ولم يقل في «الكتاب» إنه هل يجب الأجر فيما لم يضمن وهو الساحة وينبغي أن يجب؛ لأن امتناع الوجوب فيما ضمن لثبوت الملك للمستأجر فيما ضمن من وقت العقد ولم يثبت له الملك في الساحة؛ لأن الملك حكم الضمان ولا يجب الضمان في الساحة وإن لم تنهدم الدار من عمله يجب الأجر استحساناً وقد مرّ وجهه في أول هذا الفصل. وإذا ربط المستأجر دابته على باب الدار المستأجرة وضربت إنساناً فمات أو صدمت حائطاً، قال: الضمان عليه؛ لأن ربط الدابة على باب المنزل من مرافق المنزل عرفاً فالناس في عاداتهم يرتفقون بالساكن بربط الدواب، وإذا كان هذا من مرافق السكنى عرفاً ملكه المستأجر بالإجارة فلم يكن متعدياً في فعله ذلك فلا يصير ضامناً ولو أدخل صاحب الدار دابته في الدار المستأجرة أو ربطها على بابها فأوطأت إنساناً فهو ضامن إلا إذا فعل ذلك بإذن المستأجر أو دخل الدار متعمداً لزم منها ما انهدام. وهذا بخلاف ما لو أعار رجل داره من رجل ثم إن المعير ربط دابته على باب الدار أو ضربت إنساناً أو هدمت جداراً فإنه لا ضمان؛ لأن بعد الإعارة بقي للمعير ولأنه ربط الدابة على بابها فلا يكون متعدياً في فعل ذلك. وإذا تكارى داراً من رجل شهراً بدرهم وفي الدار بئر فأمر الآجر المستأجر أن يكنس البئر ويخرج ترابها منها فأخرج وأبقاها في صحن الدار فعطب به إنسان فلا ضمان على المستأجر سواء أذن له رب الدار أن يلقي التراب في صحن الدار أو لم يأذن لأن وضع التراب على ظاهر الدار من جملة الانتفاع بالدار وللمستأجر ذلك. ألا ترى أن له أن يضع لبنة نفسه وتراب نفسه في صحن الدار وكان له وضع هذا التراب في صحن الدار أيضاً، وإذا كان له ذلك لم يكن هو في هذا الفعل متعدياً فلا يضمن، كما لو وضع أمتعة أخرى لنفسه. فرق بين هذا وبينما إذا حفر المستأجر بئراً فيها بغير إذن رب الدار، والفرق: أن الحفر يصرف في رقبة الدار وليس بانتفاع بالدار وبعقد الإجارة لا يملك التصرف في رقبة

الفصل الثالث والعشرون: في استئجار الحمام والرحى

الدار فمتى كان بغير إذن رب الدار كان متعدياً فيه فيضمن ما هلك به هذا إذا كنس المستأجر وإلقاء الطين في صحن الدار وإن فعل الآجر البئر ذلك وألقى الطين في صحن الدار فعطب به إنسان إن فعل ذلك بإذن المستأجر فلا ضمان وإن فعل بغير إذن المستأجر فعليه الضمان. والجواب نظير الجواب فيما إذا وضع متاعاً آخر له في الدار المستأجرة فيعقل به إنسان وهذا لأن وضع الشيء به في الدار من جملة الانتفاع بالدار والانتفاع بالدار صار للمستأجر بعقد الإجارة فلم يبقى للآجر فيصير متعدياً فيما صنع هذا إذا حصل إلقاء التراب في صحن الدار وإن حصل إلقاء التراب خارج الدار في طريق المسلمين فعطب به إنسان، فالملقي ضامن الآجر والمستأجر في ذلك على السواء إذ ليس لواحد منهما ولاية شغل الطريق بالتراب وغيره. رجلان استكريا بيتين في دار كل واحد منهما بيتاً على حدة فعمد كل واحد منهما وأعطى صاحبه بيته وسكن فيه صاحبه فانهدم إحدى البيتين أو كلاهما فلا ضمان على واحد منهما؛ لأن كل واحد منهما مستأجراً سكن غيره فيما استأجر وإن سكن كل واحد منهما بيت صاحبه من غير إذن صاحبه، فإنه يضمن كل واحد منهما ما انهدم من سكناه عندهم جميعاً لأن كل واحد منهما صار غاصباً للبيت الذي سكن فيه وما انهدم من غير سكناه ففي وجوب الضمان خلاف معروف ولا أجر على المستأجر في بيته؛ لأن المستأجر قد غصب بيته. رجلان استأجرا حانوتاً يعملان فيه هما بأنفسهما فاستأجر أحدهما أجراء وأقعدهم في الحانوت مع نفسه وأبى صاحبه ذلك قال: له أن يقعد في نصيبه من شاء ما لم يدخل على شريكه ضرر بيّن بأن يصير آخذاً شيئاً من نصيب صاحبه معين بإقعاد أجرائه وهذا؛ لأن كل واحد منهما ملك منفعة نصف الحانوت، فكل لكل واحد الانتفاع به لا الزيادة على ذلك وإن أراد أحدهما أن يبني في وسط الحانوت بناء فليس له ذلك؛ لأنه تصرف في رقبة الحانوت وليس للمستأجر ذلك وإذا بنى المستأجر تنوراً أو كانوناً في الدار المستأجرة فاحترق (40أ4) بعض بيوت الجيران أو احترق بعض الدار لا ضمان عليه فعل بإذن رب الدار أو بغير إذنه؛ لأن هذا الانتفاع بظاهر الدار على وجه لا يغير هيئة الباقي إلى نقصان بخلاف الحفر؛ لأنه تصرف في رقبة الدار وبخلاف البناء؛ لأنه يوجب تغير هيئة الباقي إلى نقصان فإن صنع المستأجر في نصب التنور شيئاً لا يصنعه الناس من ترك الاحتياط في وضعه أو أوقد ناراً لا يوقد مثله في التنور في البيوت كان ضامناً. الفصل الثالث والعشرون: في استئجار الحمام والرحى وإذا استأجر الرجل حماماً شهوراً معلومة بأجر معلوم فهو جائز؛ لأنه استأجر ما

يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه فيجوز كما لو استأجر داراً أو بيتاً، فإن كان حماماً للرجال وحماماً للنساء وقد حددهما جميعاً إلا أنه سمى في الإجارة حماماً، فالقياس أن لا تجوز هذه الإجارة، وفي الاستحسان تجوز. وجه القياس: أن المعقود عليه مجهول وجهالة المعقود عليه توجب فساد الإجارة، كما لو قال: استأجرت منك هذين الحمامين وإنما قلنا ذلك؛ لأنه استأجر حماماً والحمام اسم للفرد لا للتثنية، وإذا كان اسماً للواحد كان المستأجر أحدهما فيكون المعقود عليه مجهولاً فهذا وجه القياس. ووجه الاستحسان أن المعقود عليه معلوم فتكون الإجارة جائزة، كما لو قال: استأجرت هذين الحمامين وإنما قلنا ذلك وذلك؛ لأن التثنية إن لم توجد نصاً وجد معنى بالتحديد فإن حدد الحمامين جميعاً والثابت بالتحديد كالثابت نصاً. فإن قيل: إن تثبت التثنية بالتحديد لم تثبت التثنية باعتبار التسمية، فإنه سمى الحمام وإنه اسم للفرد لا للتثنية، فإن جاز باعتبار التحديد لا يجوز باعتبار التسمية فلا يجوز. والجواب عنه: أن التثنية تثبت بالتحديد من حيث المعنى حقيقة وبالتسمية من حيث المجاز، فإن الحمام يذكر في العرف باسم الفرد، ويراد به التثنية فإنه يقال: هذا حمام فلان وإن كان حمامان، وإذا ثبتت التثنية باعتبار التحديد معنى، وباعتبار التسمية من حيث المجاز يرجع جانب الجواز قال مشايخنا: هذا إذا كان باب الحمامين واحداً والدهليز واحداً أما إذا كان لكل واحد منهما باب على حدة لا يجوز العقد حتى يسميهما، وعمارة الحمام في إصلاح قدره ومسيل مائة وما لا يتهيأ الانتفاع إلا به على الآجر؛ لأنه من مرافق الحمام فيكون في إصلاحه إصلاح الحمام وإن شرط المرمة على المستأجر فسدت الإجارة؛ لأن قدر المرمة يصير أجرة وإنه مجهول، ولو شرط رب الحمام على المستأجر وعشرة دراهم كل شهر لمرمته مع الأجر كان جائزاً؛ لأن جميع الأجر معلوم وهذا هو الحيلة لجواز الإجارة متى أراد أن يجعل بعض المرمة أجراً حين قدر ما يحتاج إليه للمرمة في الإجارة، ثم يأمره بصرف ذلك إلى المرمة فيصير وكيلاً من جهته بالإنفاق عليه. هكذا ذكر في «الكتاب» : ولم نجد فيه خلافاً من مشايخنا من قال ما ذكر في «الكتاب» قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز هذا التوكيل إذا لم يعين الآجر أو باعه الآلات؛ لأن المصروف إليه الدين يكون مجهولاً وهذا يمنع جواز الوكالة على مذهبه، كما لو قال: أسلم ما لي عليك من الدين ولم يبين المسلم إليه، ومنهم من قال: بأنه يجوز بلا خلاف فيحتاج أبو حنيفة رحمه الله إلى الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة البيوع. ووجه الفرق له وهو: أن حالة التوكيل بشراء الآلة واستئجار الأجراء للأجرة غير واجبة حتى يكون أمراً بصرف الدين إلى المجهول فلا يجوز وإذا لم تكن الأجرة حالة التوكيل كان بمنزلة ما لو وكله بهذا قبل الإجارة وقبل الإجارة لو وكله بهذا جازت هذه الوكالة وإن لم يعين بائع الآلة ولا الآجر إلا أنه ليس له على الوكيل دين حتى يصير أمراً

له بصرف الدين إلى المجهول، فجاز فكذلك بهذا الخلاف مسألة السلم، لأن الدين واجب حالة التوكيل فإذا وكله بذلك ولم يعين المسلم إليه فقد أمره بصرف ما عليه من الدين إلى المجهول فلم يجز. كما لو قال: أدّ ما لي عليك رجلاً من عرض الناس حتى لو كانت الأجرة واجبة وقت التوكيل يجب أن لا تجوز على قول أبي حنيفة ما لم يعين الأجراء وباعه الآلات كما في مسألة السلم، فإن قال المستأجر: قد رهنت الحمام بها لم يصدق والقول قول رب الحمام؛ لأنه يدعي إبقاء ما عليه من الأجر ورب الحمام ينكر فيكون القول قول رب الحمام إلا أن يقيم البينة على ذلك، كما لو ادعى الإيفاء حقيقة وإن أراد المستأجر أن يقبل قوله في ذلك من غير حجة. فالحيلة أن يدفع العشرة إلى رب الحمام ثم يدفعها رب الحمام إليه ويأمره بإنفاقها في مرمة الحمام، فيكون أميناً. وحيلة أخرى لإسقاط الحجة عن المستأجر أن يجعلا لمقدار المرمة عدلاً حتى يكون القول قول العدل فيما ينفق؛ لأن العدل أمين وليس لرب الحمام أن يمنع المستأجر بئر الماء ومسيل ماء الحمام أو موضع سرقينه وإن لم يشترط وكذلك كل شيء لا يتمكن المستأجر من الانتفاع بالحمام إلا به فهو على هذا وإنما كان كذلك؛ لأن هذه الأشياء من مرافق الحمام ومرافق المستأجر تدخل في الإجارة من غير شرط؛ لأنه لا يتهيأ الانتفاع بالمستأجر إلا به كما يدخل الطريق. قال: ولو أن مسيل الماء الحمام امتلأ فإنه يجب على المستأجر تفريغ ذلك ظاهراً كان أو باطناً، إن كان ظاهراً فلا إشكال، وإن كان باطناً فكذلك يجب على المستأجر بخلاف البالوعة إذا امتلأت من جهة المستأجر فإن التفريغ يجب على الآجر. ووجه الفرق: أن تفريغ مسيل الماء ممكن من غير نقص شيء من البناء؛ لأنه يكون مجصصاً مسقفاً يمكن تنقيصه بالدخول فيه من غير نقض شيء من البناء فأشبه ظاهر التعويض من هذا الوجه بخلاف بئر البالوعة؛ لأنه لا يمكن تفريغه إلا بنقض شيء من البناء ولا يملك المستأجر نقض شيء من البناء إنما يملكه رب الدار فجعل على رب الدار وإن حصل التكفل من جهته قال: ولو أن رب الحمام اشترط على المستأجر نقل الرماد والسرقين، فإن ذلك لا يفسد الإجارة فلأنه شرط في الإجارة ما تقتضيه الإجارة من غير شرط؛ لأن نقل الرماد والسرقين الذي اجتمع من عمل المستأجر عليه فلا يوجب فساد الإجارة، وإن شرط على رب الحمام أوجب فساد الإجارة؛ لأنه شرط فيها ما لا تقتضيه الإجارة ولأحد المتعاقدين فيه منفعة فيوجب فساد العقد. قال: وإذا استأجر الرجل من رجل حمامين أشهراً مسماة كل شهر بأجر معلوم فانهدم أحدهما، فهذا على وجهين: إما أن ينهدم أحدهما قبل القبض أو بعده، فإن انهدم أحدهما قبل القبض كان المستأجر بالخيار فيما بقى إن شاء أخذ الباقي، كما لو اشترى عبدين فهلك أحدهما قبل القبض كان له الخيار في الباقي إن شاء أخذه بحصته من الثمن

وإن شاء ترك فكذلك هذا. فرّق بين هذا وبينما إذا استأجر حماماً سنة بكذا فلم يسلم إلى المستأجر شهرين ثم سلم في الباقي وأبى المستأجر فإنه يجبر على قبضه والصفقة تفرقت على المشتري قبل التمام ولم يثبت الخيار للمستأجر ثمة وأثبت هاهنا. ووجه الفرق بينهما: أنه كان المستأجر حماماً واحداً ولم يسلم في بعض المدة فإنما تفرقت الصفقة في حق المنافع لا في حق العين، فإنه سلم العين كله؛ لأنه لم يفت من العين شيء وتفرق التسليم في حق المنافع لا يثبت للمشتري خياراً لأنه لم يستحق على الآجر تسليم المنافع جملة؛ لأنه ليس في وسع الآجر ذلك وإنما لا يستحق عليه تسليمه جملة (40ب4) لا يثبت للمشتري خياراً كما لو ملك أعياناً بصفقات متفرقة، فأما إذا هلك أحد الحمامين فقد تفرق على المستأجر تسليم ما استحق على الآجر تسليمه جملة وتسليم العين جملة ممكن ويفرق التسليم قبل إتمام على العاقد فيما استحق تسليمه جملة يثبت له خياراً، فقد فرق بين المسألتين من هذا الوجه هذا إذا انهدم أحدهما قبل القبض، فأما إذا انهدم أحدهما بعد القبض فلا خيار للمستأجر؛ لأن الصفقة تفرقت بعد التمام على وجه لم يوجب تعييب الباقي، فإن انهدم أحدهما لا يوجب خللاً في منفعة الباقي لتباين مرافقهما وتفرق الصفقة بعد التمام إذا لم يوجب تعييب الباقي لا يثبت للمشتري خياراً. كما لو اشترى عبدين وقبضهما ثم هلك أحدهما بعد القبض قالوا: وعليه إشكال كان يجب أن يثبت الخيار هاهنا، وإن انهدم أحدهما بعض القبض؛ لأن الصفقة تفرقت قبل التمام؛ لأن المنافع لم تصر مقبوضة بقبض الحمام ولا تتم الصفقة إلا بقبض المعقود عليه إلا أن الجواب عن هذا الإشكال ما ذكرنا أن الصفقة تفرقت قبل التمام في حق المنافع أما في حق العين تفرق بعد التمام وتفرق الصفقة في حق المنافع لا يثبت للمستأجر خياراً. لأنه لم يستحق على الآجر تسليمه جملة؛ لأنه ليس في وسع الآجر ذلك وإنما استحق تسليمه متفرقاً على حسب ما وجد وتفرق التسليم فيما استحق تسليمه متفرقاً لا يثبت للعاقد خياراً، فأما إذا انهدم قبل القبض فقد تفرق التسليم في حق العين قبل التمام وتفرق التسليم في حق العين يثبت للعاقد خيار الفسخ؛ لأنه استحق تسليمه جملة لما كان في وسع الآجر تسليمه جملة، هذا إذا كان المستأجر حمامين، فأما إذا كان المستأجر حماماً واحداً ثم انهدم بيت منها كان له الخيار سواء انهدم قبل القبض أو بعده أما قبل القبض فله الخيار لوجهين. أحدهما: أن الصفقة تفرقت في حق العين قبل التمام. والثاني: إن انهدام بيت منها يوجب تعيناً في منفعة الباقي؛ لأنه لا يمكن الانتفاع بها منفعة الحمام إلا بالكل وإن انهدم بعد القبض ثبت له الخيار بسبب العيب؛ لأن انهدام بيت منها أوجب خللاً في منفعة الباقي وإنه عيب حدث قبل قبض المعقود عليه، فأثبت للمستأجر خياراً.

قال: وإذا استأجر الرجل حماماً وعبداً ليقوم على الحمام فهلك العبد أو الحمام فهذا على وجهين: إما إن هلك أحدهما قبل القبض أو بعده، فإن هلك أحدهما قبل القبض أيهما ما كان عبداً أو حماماً كان له الخيار؛ لأن الصفقة تفرقت قبل التمام في حق العين وإنه يثبت للمشتري خياراً؛ لأنه يمكن تسليم العين جملة وإن قبضهما ثم هلك أحدهما إن هلك العبد فلا خيار له في الحمام؛ لأن هلاك العبد لا يوجب خللاً في منفعة الحمام ويمكنه استعمال الحمام فيما استأجر له بعبد آخر أو بنفسه والصفقة في حق العين تفرقت بعد التمام وإن انهدم الحمام كان له الخيار في العبد؛ لأنه عجز عن استعمال العبد فيما استأجره له؛ لأنه استأجره ليقوم في هذا الحمام، فإذا انهدم الحمام فقد عجز عن استعمال العبد فيما استأجره له فكان له الخيار كما لو استأجر دكاناً ليتجر فيه فأفلس. وإذا استأجر حماماً بغير قدر، واستأجر القدر من غيره فانكسر القدر فلم يعمل في الحمام أشهراً وقد استكراه سنة فطلب صاحب الحمام أجره وصاحب القدر أجر قدره قال: عليه أجر الحمام؛ لأنه متمكن من الانتفاع بعد انكسار القدر، فإنه يمكنه أن يستأجر قدراً آخر فينتفع به وإذا بقي التمكن من الانتفاع بعد انكسار القدر وجب الأجر وإن لم ينتفع به كما قبل انكسار القدر، فأما ليس عليه أجر القدر؛ لأنه لم يبق متمكناً من الانتفاع بالقدر بعد الانكسار ومتى فات التمكن من الانتفاع فإنه لا يجب الأجر كما لو هلك العبد المستأجر وستأتي بعض مسائل الحمام بعد هذا إن شاء الله تعالى. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا استأجر الرجل رحىً بالبيت الذي هو فيها ومتاعها بعشرة دراهم كل شهر ثم طحن فيها طحناً بثلاثين درهماً في الشهر فربح عشرين هل تطيب له الزيادة؟. فهذا على وجهين: إما إن أصلح فيه شيئاً ينتفع به في الرحى بأن كرى نهرها أو ثبت الحجر أو لم يصلح، فإن لم يصلح فإن كان يلي الطحن بنفسه تطيب له الزيادة؛ لأنه أجر الرحى ونفسه فالزيادة على أجر الرحى يجعل بإزاء منفعة نفسه فيجوز، فأما إذا كان رب الطعام هو الذي يلي الطحن بنفسه فإنه لا تطيب له الزيادة؛ لأنه ليس بإزاء الزيادة عوض فيكون ربح ما لم يضمن فلا تطيب وإن كان أصلح شيئاً فإنه يطيب له، وإن كان لا يلي الطحن بنفسه ويجعل الزيادة بإزاء منفعة ما أصلح فلا يكون ربحاً فتطيب له. قال في «الأصل» أيضاً: وإذا استأجر الرجل من الرجل موضعاً على نهر ليبني عليها بيتاً ويتخذ عليها رحى على أن الحجارة والحديد والمتاع من عند المستأجر فهو جائز؛ لأنه أجر أرضاً مملوكاً له ليبني فيها بناء مدة معلومة بأجر معلوم فيكون جائزاً، كما لو استأجر أرضاً ليبني عليها منزلاً أو داراً فإن انقطع ماء النهر كان عذراً في فسخ الإجارة؛ لأن بناء الرحى إنما يكون لمنفعة الطحن، فإذا فات منفعة الطحن كان عذراً في فسخ الإجارة. وكان بمنزلة ما لو استأجر حانوتاً ليتجر فيها فأفلس كان عذراً في فسخ الإجارة فكذلك هذا، فإن فسخ الإجارة لم يبق لواحد منهما على صاحبه سبيل وإن لم يفسخ حتى

عاد الماء سقط حقه في الفسخ كما لو زال الإفلاس في مسألة الحانوت قبل الفسخ وهل تسقط عنه الإجارة بحساب ما انقطع من الماء أولا يسقط لم يذكر في «الكتاب» قالوا: ويجب أن لا يسقط؛ لأن ما هو المعقود عليه قائم بها جميعه؛ لأن المعقود عليه منفعة وضع البناء على هذا المكان لا منفعة الطحن فإنه لم يستأجر الرحى إلا أن المعقود من موضع هذا البناء الطحن فكان الطحن ثمرة من ثمرات هذا العقد والأجر يقابل المعقود عليه لا الثمرة. وكان بمنزلة ما لو استأجر حانوتاً ليتجر فيه فأفلس فلم يفسخ حتى مضى الشهر لم يسقط شيء من الأجر؛ لأن المعقود عليه السكنى وإنه قائم إلا أن السكنى كان للتجارة ففوات التجارة في بعض مدة الإجارة أثبت للمستأجر حق الفسخ ولم يوجب سقوط شيء من الأجر. فكذلك هذا الخلاف ما لو استأجر الرحى؛ لأن الإجارة وقعت على منفعة الطحن وقد فات في مدة انقطاع الماء فلا بد من أن يسقط الأجر بقدره. وإذا خاف أن ينقطع الماء فيفسخ الإجارة فأكرى البيت والحجرين والمتاع خاصة فهو جائز لما ذكرنا وإن انقطع الماء يكون عذراً؛ لأن بيت الرحى مستأجر لمنفعة الطحن، وكذلك لو شرط أن لا خيار متى انقطع الماء لا يكون لهذا الشرط غيره؛ لأنه شرط عليه الأجر حال فوات المعقود عليه قبل القبض وهذا شرط باطل، كما لو شرط البائع الثمن على المشتري متى هلك المبيع في يده كان هذا الشرط باطلاً فكذلك هذا. وإذا استأجر الرجل رحى ماء على أن يطحن فيها حنطة فطحن فيها غير الحنطة هل يصير مخالفاً؟ إن كان ضرر ما طحن مثل ضرر الحنطة أو دونه لا يكون مخالفاً؛ لأنه خلاف صورة لا معنى وإن كان في الضرر فوق ضرر الحنطة يكون مخالفاً فيصير فيه أحكام الغصب.H قال: وإذا استأجر الرجل رحى من رجل وبيت من آخر وبعيراً من آخر فاستأجر الكل صفقة واحدة كل شهر بأجر معلوم فأجروا ذلك فهو جائز؛ لأنه لو أفرد العقد على كل واحد من هذه الأشياء جاز فكذا إذا جمع بين الكل في عقد (41أ4) واحد. وصار كما لو اشترى هذه الأشياء جملة منهم صفقة واحدة فإنه يجوز ويقسم الثمن بينهم على قدر قيم أموالهم فكذا ها هنا فإن لم يؤاجروا ولكن اشتركوا على أن يكون من عند أحدهم الرحى ومن الآخر الجمل على أن يؤاجروا ذلك فما رزق الله تعالى من شيء كان بينهم أثلاثاً كانت الشركة فاسدة لما ذكرنا في كتاب الشركة أن الشركة مبناها على الوكالة والتوكيل على هذا الوجه باطل. كما لو حصل التوكيل بمثل هذا في بيع العين بأن قال: بع عبدي ليكون الثمن بيني وبينك كان التوكيل باطلاً، وإذا كان التوكيل باطلاً فسدت الشركة بعد هذا ننظر إن أجروا الجمل بعينه دون البيت والرحى فإن أجر الجمل لصاحب الجمل؛ لأنه عوض ملكه ويكون على صاحب الجمل أجر مثل البيت وأجر مثل الرحى لا يجاوز ثلث البعير عند أبي يوسف وعند محمد رحمه الله يجاوز بالغاً ما بلغ.

الفصل الرابع والعشرون: في الكفالة بالأجر وبالمعقود عليه

كما لو قال: بع عبدي ليكون الثمن بيني وبينك يكون الثمن كله لصاحب العبد لأنه عوض ملكه ويكون للبائع أجر مثل عمله لا يجاوز نصف الثمن في قول أبي يوسف وعند محمد يجب بالغاً ما بلغ وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الشركة وكذلك إن أجروا البيت بعينه أو أجروا الرحى، فالأجر كله لصاحب البيت أو لصاحب الرحى وعلى صاحب البيت أجر مثل الجمل وأجر مثل الرحى وإن اشتركوا على أن يتقبلوا الأعمال من الناس كان جائزاً؛ لأن الشركة مبناها على الوكالة والتوكيل بتقبل الأعمال جائز وكانت شركة لفعل جائزاً بخلاف الفعل الأول؛ لأنهم ما اشتركوا ليتقبلوا الأعمال، وإنما اشتركوا ليؤاجروا ومال كل واحد منهم ليكون أجر ذلك بينهم والشركة على هذا الوجه فاسدة. قال: وإذا كان لرجل بيت ونهر ورحى ومتاعها فانكسر الحجر الأعلى فجاء رجل فنصب مكانه حجراً بغير أمر صاحبه وجعل يطحن للناس بأجر معلوم وينتقل الطعام بالأجر فهو مستثنى في ذلك ولا أجر عليه والأجر يكون له ويكون مستثنياً فكذلك هذا والوكالة وضع الحجر الأعلى برضا من صاحبه على أن الكسب بينهما نصفان وعلى أن يعملا بأنفسهما كان هذا مثل الباب الأول يعني متى أجروا الحجر الأعلى كان جميع الأجر لصاحب الحجر الأعلى وإن تقبل كل واحد منهم فهو بينهم على قياس مسألة الجمل لا فرق بينهما. فإن قيل: ليس على قياسه فإن الحجر الأعلى لا يمكن أن ينتفع به وحده. قلنا: والجمل مما لا يمكن أن ينتفع به وحده في عمل الطحن فلا فرق بينه وبين الحجر. فإن قلت: ينتفع به في غير الطحن. قلنا: والحجر ينتفع به في غير الطحن فلا فرق بينهما. قال: ولو أن رجلاً بنى على نهر بيتاً ونصب فيه رحى بغير رضا صاحب النهر ثم يقبل الطعام فطحنه فكسب مالاً كان الكسب له؛ لأنه هو العاقد للأجرة فيكون الأجر له ويصير غاصباً لأرضه فتعتبر فيه أحكام الغصب فيضمن ما انتقص من أرضه كغاصب الأرض ولكن لا يضمن الماء؛ لأن الماء قبل الإجرار غير مملوك لصاحب النهر فلا يضمن للماء شيئاً والله أعلم. الفصل الرابع والعشرون: في الكفالة بالأجر وبالمعقود عليه وتجوز الحوالة والكفالة بالأجر في جميع الإجارات سواء كانت الأجرة واجبة وقت الكفالة باستيفاء المنافع أو باشتراط التعجيل، أو لم تكن واجبة إن كانت واجبة، فلأن الكفالة جعلت بدين مضمون على الأصيل يجبر الأصيل على إيفائه ويمكن استيفاؤه من الكفيل، فإن يمكنه الإيفاء من ماله وهذا هو الأصل في باب الكفالة، أن الكفالة متى

حصلت بمضمون يجبر الأصيل على إيفائه ويمكن استيفاؤه من الكفيل أنها تصح. ومتى حصلت بما ليس بمضمون على الأصيل لا يجبر الأصيل على إيفائه أو حصلت بما هو مضمون على الأصيل يجبر الأصيل على إيفائه إلا أنه لا يمكن استيفاءه من الكفيل فالكفالة لا تصح وموضع معرفة هذا الأصل كتاب الكفالة، وأما إذا لم تكن الأجرة واجبة وقت الكفالة فلأن الكفالة حصلت بدين وجد سبب وجوبه إلا أنها لم تجب بعد ولو حصلت بدين سمحت في الثاني ولم يوجد سبب وجوبه بعد كالكفالة بما له على فلان تصح الكفالة فها هنا أولى. ويكون على الكفيل مثل ما على الأصيل إن لم يشترط خلافه في تعجيل أو تأجيل؛ لأن الكفيل متحمل عن الأصيل فإنما يتحمل عنه ما كان عليه وليس للكفيل أن يأخذ المستأجر بالأجر حتى يؤديه. والحاصل: أن الكفيل في الحال يعرض ذمته للمطالبة والملازمة ويعرض المال بعد الأداء فمتى طولب أو لوزم ثم العرض في حق المطالبة والملازمة فرجع بمثل ذلك على الأصيل ومتى إذا تم العرض في حق المال فرجع بمثل ذلك على الأصيل وسيأتي بيان ذلك في كتاب الكفالة إن شاء الله تعالى. وإن عجّل الكفيل الأجر لم يرجع على الأصيل حتى يحل الأجر؛ لأن الكفيل متبرع في التعجيل فإنما ينفذ تبرعه عليه لا على المكفول عنه ولو اختلف الآجر والكفيل والمستأجر في مقدار الأجر، فقال الكفيل: هو درهم، وقال الآجر: هو درهمان، وقال المستأجر: هو نصف درهم، فالقول قول المستأجر؛ لإنكاره الزيادة ويؤخذ بدرهم؛ لأن إقراره ليس بحجة على المستأجر، ولو أقاموا جميعاً البينة فالبينة للآجر؛ لأنه ثبتت الزيادة ببينة، وإذا قبلت بينته صار الثابت بالبينة كالثابت معاينة، وإن كانت الأجرة شيئاً بعينه بأن كانت يوماً معينة وكفل به كفيل فهو جائز؛ لأن الكفالة حصلت بمضمون على الأصيل يجبر الأصيل على إيفائه والكفيل قادر على إيفائه؛ لأنه مال موجود فيمكنه أن يخلي بينه وبين الآجر أو يأخذه من المستأجر ويسلمه إلى الآجر فإن هلك الثوب عند المستأجر برئ الكفيل؛ لأنه برأ المستأجر عن تسليم الثوب. ألا ترى أنه يجب عليه تسليم قيمته وبراءة الأصيل توجب براءة الكفيل ويقضي على المستأجر بأجر المثل؛ لأن الإجارة قد فسدت؛ لأنه قد هلك أحد البدلين الذي تعلق العقد به قبل القبض، وهذا يوجب فساد العقد في البلد الأخر، وإذا فسدت الإجارة وجب على المستأجر رد ما استوفى وتعذر رده صورة فيجب رده معنى برد قيمته وهو أجر المثل ولا يؤخذ الكفيل بأجر المثل؛ لأنه لم يكفل به إنما كفل بالثوب. ولو استأجر داراً بخدمة عبد شهراً وكفل بالعبد إنسان لصاحب الدار إن كفل بتسليم العبد يجوز؛ لأن الكفيل يقدر على إيفائه؛ لأنه مال موجود وإن كفل بخدمة العبد لا يجوز؛ لأن الكفيل لا يقدر على إيفائه؛ لأنه ليس في وسعه تسليم خدمته وخدمة غيره لا تقوم مقام خدمته.

وهو نظير ما لو استأجر خياطاً ليخيط له ثوباً وشرط عليه خياطته بنفسه فكفل به إنسان إن كفل بتسليم نفس الخياط صح وإن كفل بخياطته لا يصح؛ لأنه كفل بما لا يقدر على إيفائه؛ لأنه لا يمكنه أن يأخذ بيده حتى يخيطه وخياطة غيره لا تقوم مقام خياطته وفي مسألة الخياط إن لم يشترط عليه خياطته فكفل إنسان بالخياطة صح؛ لأن الكفالة في هذه الصورة حصلت بما يقدر الكفيل على إيفائه؛ لأن المشروط خياطة مطلقة وخياطة الكفيل خياطة فيتمكن الكفيل من إيفاء ذلك من عند نفسه ثم في مسألة الخياطة إذا لم تصح الكفالة بالخياطة وخاط الكفيل رجع على صاحب الثوب بأجر مثل عمله وإذا صحت الكفالة وخاط الكفيل رجع على المكفول عنه بأجر مثل عمله بالغاً ما بلغ، وإذا كانت الكفالة بأمره؛ لأنه لو أمكنه الرجوع بعين ما ادعى، فإن كان المؤدى من ذوات الأمثال كان له الرجوع على المكفول عنه بعين ما أدى، فإذا عجز عن ذلك بأن لم يكن المؤدى من ذوات الأمثال كان له الرجوع بقيمته وقيمة العمل أجر المثل من هذا الوجه وكذلك هذا الحكم في نظائره. وإذا استأجر الرجل من رجل محملاً وراحلة إلى مكة بأجر مسمى وكفل له رجل بالحمولة فهذا على وجهين:.... (41ب4) ومحمد فالجواب فيه كالجواب في العصفرة والزعفران؛ لأن للسواد موجباً معلوماً على قولهما لو حصل بغير عقد وهو قيمة ما زاد الصبغ فيه فيجعل ذلك موجب العقد حال اختلافهما في مقدار الأجر كأنهما اتفقا على ذلك ثم اختلفا فيما يغيره إما إلى زيادة أو إلى نقصان كما في الحمرة. فأما على قول أبي حنيفة: ليس لهذا الصبغ موجب معلوم لو حصل لغير عقد فإن صاحب الثوب لا يضمن شيئاً وإذا لم يمكن أن يجعل شيء آخر موجب العقد غير المسمى اعتبرنا اختلافهما في مقدار المسمى، والاختلاف بين المتعاقدين متى وقع في مقدار المسمى وفسخ العقد متعذر فعند أبي حنيفة رحمه الله يجعل القول قول المنكر للزيادة كما في بيع العين بعد الهلاك، وكما لو وقع الاختلاف في مقدار الأجر للأعمال التي ليس لها موجب معلوم لو حصل تغير عقد عند الكل كما في الحمل والقصارة ويجعل القول قول المنكر للزيادة ولا يتحالفان متى اختلفا في حال ما لا يمكن فسخ العقد فكذلك ها هنا هذا إذا اختلفا في مقدار الأجر. فأما إذا اختلفا في أصل الأجر في السواد فقال صاحب الثوب: عملته لي بغير أجر، وقال الصباغ: لا بل عملته بأجر ذكر أن القول قول صاحب الثوب مع يمينه ولا يتحالفان عند أبي حنيفة رحمه الله وكان يجب أن يتحالفان؛ لأنهما اختلفا في نوع العقد ادعى أحدهما الهبة والآخر البيع فيجب أن يتحالفا عندهم وإن كان فسخ العقد متعذراً كما في صبغ يوجب الزيادة.

وكما في بيع العين إذا اختلفا في نوع العقد بعد الهلاك إلا أن الجواب عنه أن الاختلاف في نوع العقد بعد القبض إنما يوجب التحالف إذا كان إيجاب التحالف يفيد ثمرته وهو التراد كما في صبغ يوجب الزيادة وكما في بيع العين فإنهما متى حلفا ولم يثبت واحد من العقدين، فإنه يجب رد العين إن كان قائماً ورد القيمة إن كان هالكاً، فكان التحالف مفيداً ثمرته أما ها هنا التحالف لا يفيد ثمرته التراد، ولا يجب التراد متى حلفا ولم يثبت واحد من العقدين عند أبي حنيفة رحمه الله لا يجب رد العمل؛ لأنه غير ممكن ولا رد القيمة لأن مجرد العمل لا يتقوم بغير عقد وهنا يصير بغير عقد متى حلفا، فلهذا لم يجب التحالف وإذا لم يجب التحالف جعلنا القول قول رب الثوب؛ لأنه ينكر الأجر ويقوم عمله. وكان الجواب في هذه المسألة عند أبي حنيفة كالجواب عند الكل فيما إذا اختلفا في نوع العقد في مسألة الحمل والقصارة وثمة لا يتحالفان عندهم جميعاً وعندهما يتحالفان ومتى حلفا يجب على رب الثوب قيمة ما زاد الصبغ، فيه فيفيد التحالف، ثمرته وهو التراد عندهما فيتحالفان عندهما كما في بيع عين بعد الهلاك عند الكل. قال: ولو أن رجلاً اختلف هو والقصار في أجر ثوب، فقال: القصار عملته بربع درهم وقال رب الثوب: عملته بقيراط فهذا على وجهين: إما أن يختلفا في مقدار الأجر قبل الشروع في العمل أو بعد الفراغ من العمل، فإن اختلفا في مقدار الأجر قبل الشروع في العمل أو بعد الفراغ من العمل، فإن اختلفا في مقدار الأجر قبل الشروع في العمل فإنهما يتحالفان ويترادان وهكذا الجواب فيما تقدم من المسائل لو اختلفا في مقدار الأجر قبل الشروع في العمل تحالفا وترادا وذلك؛ لأن الإجارة نوع بيع فإنه بيع المنفعة فيعتبر بيع العين. ولهذا لم يثبت الحيوان ديناً في الذمة في الإجارة كما في بيع العين وفي بيع العين، لو اختلفا في مقدار البدل حال إمكان الفسخ يتحالفان ويترادان فكذلك هذا فأما إذا اختلفا في مقدار الأجر بعد الفراغ من العمل، ذكر أن القول قول رب الثوب مع يمينه ولم يحكم قيمة ما زاد القصارة فيه. فرق بين هذا وبين مسألة الصباغ إذا صبغه بعصفر أو زعفران، ثم اختلفا في مقدار الأجر فإنه يعتبر قيمة ما زاد الصبغ فيه. ووجه الفرق بينهما أن يحكم قيمة ما زاد الصبغ فيه حال اختلافهما في مقدار الأجر ممكن؛ لأن لإيصال هذا الصبغ ثبوته موجب معلوم على صاحب الثوب لو حصل من غير عقد وهو قيمة ما زاد الصبغ فيه فيجعل ذلك موجب العقد حال اختلافهما في التسمية كأنهما تصادقا على ذلك، ثم ادعى أحدهما ما يغيره إما إلى زيادة أو نقصان ما ليس لاتصال القصارة وينوب غيره موجب معلوم لو جعل بغير عقد فإن من قصر ثوب إنسان بغير عقد فإنه لا يضمن صاحب الثوب له شيئاً إن قصر من غير مال اتصل به فلا إشكال؛ لأن المتصل ثبوته مجرد عمل ومجرد العمل لا يتقوم من غير عقد فلا شبهة عقد وإن قصر

بمال اتصل به من بياض البيضة وغيره فكذلك أيضاً؛ لأن ما اتصل ثبوته ليس عين مال قائم لا في الحال ولا في الثاني في الحال فلا إشكال؛ لأن المتصل بالثوب أثر مال لا عين مال وكذلك في الثاني إذا فصل من الثوب ما اتصل من بياض البيضة وغيره بالغسل لا يكون المنفصل منه في نفسه مالاً متقوماً وإذا لم يكن المتصل بالثوب عين مال قائم وإنما هو أثر مال لا غير لم يجب على صاحب الثوب شيء متى حصل بغير عقد بخلاف الصبغ؛ لأن ما اتصل بالثوب من الصبغ عين مال. ألا ترى أنه متى فصل عن الثوب كان مالاً متقوماً لا بأس ثم استأجر ثوب آخر وعين المال القائم متقوم من غير عقد ولا شبهة عقد، وإذا لم يكن للقصارة موجب معلوم على صاحب الثوب لو حصل بغير عقد لم يمكن أن يجعل ذلك موجب حال اختلافهما في مقدار المسمى حتى يجعل كأنهما اتفقا عليه ثم ادعى أحدهما ما يغيره إما إلى زيادة أو نقصان. وإذا لم يكن إثبات شيء آخر سوى المسمّى، يوجب العقد وجب اعتبار اختلافهما في المسمى والاختلاف متى وقع في مقدار المسمى حال ما لا يمكن فسخ العقد فإنه يجعل القول قول المنكر للزيادة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ولا يتحالفان كما في بيع العين. فأما على قول محمد رحمه الله: هل يتحالفان؟ لم يذكر هذا في الكتاب ومشايخنا في ذلك مختلفون فمن مشايخنا قال يتحالفان على قول محمد على قيمة العمل وهو أجر المثل وما ذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومنهم من يقول على قول محمد لا يتحالفان في باب الإجارة بعد الفراغ من العمل وظاهر ما ذكر في «الكتاب» يدل على هذا فإنه لم يذكر خلافاً، وإنما اختلفوا على قوله اختلافهم في ثكنة محمد رحمه الله في بيع العين إذا اختلفا في الثمن بعد هلاك السلعة بأي سبب تجب القيمة على المشتري عند بعضهم إنما تجب القيمة حكماً لفساد العقد؛ لأنهما اتفقا على العقد واختلفا في التسمية. وإذا تخالفا لم يثبت واحد من المسميين فكأنه باع ولم يسم الثمن ولو باع ولم يسم الثمن كان البيع فاسداً فيجب رد العين إذا كان هالكاً فمن قال بإن مكنه في تلك المسألة بهذا قال: يجب هاهنا أن يتحالفا؛ لأن التسمية إذا لم تثبت تفسد الإجارة كأنه استأجره ولم يسم له أجراً فيجب رد أجر المثل بعد استيفاء العمل فيكون التحالف مفيداً على قول محمد، فيتحالفان عنده أيضاً. ومنهم من قال: مكنه في تلك المسألة أن القاضي يفسخ العقد بعد التحالف متى طلبا أو طلب أحدهما فيجب على قابض العين رد العين إن كان قائماً ورد القيمة إن كان هالكاً بسبب انفساخ العقد أو لأنه لما لم يثبت واحد من العقدين لما حلفا في العين في

يده بغير عقد إلا أن العين (42أ4) متقوم بعقد وبغير عقد، فمن قال بأن مكنه هذه في تلك المسألة يقول: هاهنا لا يتحالفان؛ لأن القاضي إما أن يفسخ الإجارة أو لا يقض بواحد من العقدين متى حلفا، ومتى فسخ الإجارة أو لم يقض بواحد من العقدين فإنه لا يجب رد القيمة؛ لأن العمل يبقي بغير عقد والعمل لا يتقوم بغير عقد، وإذا لم تجب القيمة لم يجب التحالف؛ لأن ثمرته التراد إما رد العين أو رد القيمة حتى يصل كل واحد منهما إلى رأس ماله فيجيء حق كل واحد منهما وها هنا يبطل حق القصار أصلاً، وهذا لا وجه له إنما ذكرنا اختلاف المشايخ على قول محمد رحمه الله في مسألة القصارة ولم يذكره في الصبغ وذلك؛ لأن اختلاف المتعاقدين في الصبغ ليس في موجب العقد بل فيما يغير موجب العقد لما ذكرنا أن موجب العقد في باب الصبغ حال اختلافهما في مقدار التسمية ما يكون موجب الصبغ لو حصل بغير عقد كأنهما اتفقا أن العقد على ذلك عقد ثم اختلفا فيما يغيره إلى زيادة أو إلى نقصان ومثل هذا الاختلاف في بيع العين لا يوجب التحالف متى لم توجد الدعوى والإنكار من الجانبين وفي فعل القصارة الاختلاف وقع في موجب العقد لا في المغير؛ إذ ليس ها هنا موجب آخر سوى التسمية والاختلاف متى وقع في مقدار المسمى فإنه يجب التحالف. إذا أمكن رد المعقود عليه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أو رد قيمته عند محمد. فإن قيل: كيف يقال ليس للقصارة موجب والقصار متى قصر الثوب، فإن له أن يحبس الثوب بالأجر كما في الصباغ فإذا لحقت القصارة في حق الحبس بالصبغ فكذا في حق أن يجعل له موجب حال اختلافهما في مقدار التسمية يجب أن يلحق بالصبغ. والجواب عنه من وجهين: الأولى: أن يقال: بأن القصارة إنما لحقت بالصبغ في حق الحبس لأن الحبس؛ إنما يكون حال قيام العقد والقصارة متقومة حال قيام العقد فإذا كان له أثر في الثوب وهو متقوم حال قيام العقد كان الأجر مقابلاً به فكان له الحبس بالأجر كما في الثوب المصبوغ، فأما في غير حالة العقد فلا قيمة له لما ذكرنا وإنما يجعل موجب العقد حال اختلافهما في مقدار التسمية ما يجب في غيرها حالة العقد كأنهما اتفقا عليه فإذا لم يكن لاتصال القصارة بالثوب في غيرها حالة العقد موجب لم يكن تحكيمه وجعله موجب العقد حال اختلافهما في مقدار الأجر فوجب اعتبار اختلافهما في مقدار المسمى. والثاني: أن القصار يشبه الحمال والمكاري من حيث إنه ليس في الثوب عين مال قائم ويشبه الصباغ من حيث إن له عمل وأثر مال فوفرنا على الشبهين حظهما، فألحقناه بالحمال والمكاري في حق التحالف فلم يجب التحالف كما في المكاري والحمال وجعلنا القول قول صاحب المال وفي حق الحبس ألحقناه بالصبغ توفيراً على الشبهين حظهما هذا إذا اختلفا في مقدار الأجر. وكذلك إذا اختلفا في حبس الأجر أنه دراهم أو دنانير أو في صفته أنه جيداً ورديء يتحالفان إذا كان الاختلاف قبل الشروع في العمل، وإن كان الأجرة عيناً إن اختلفا

في حبسه أو قدره يتحالفان، ولو اختلفا في صفته لا يتحالفان والقول قول المستأجر بخلاف ما إذا كانت الأجرة ديناً. وقد ذكر الفرق في كتاب البيوع متى إذا اختلفا في صفة الثمن وهو دين وبينما إذا اختلفا في صفته وهو عين فهذا بناء على ذلك، وإذا اختلفا في مقدار الترك وكان ذلك قبل استيفاء المنفعة تحالفا كما في بيع العين فبعد ذلك إن كان الاختلاف في الأجر بدأ بيمين المستأجر وإن كان الخلاف في المنفعة بدأ بيمين المؤاجر؛ وهذا لأن اليمين حجة المنكر فمن كان اسهما إنكاراً بدأ بيمينه وأيهما نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه، وإن أقاما البينة فالبينة بينة المؤاجر كان الخلاف في الأجرة وإن كان الخلاف في المنفعة فالبينة بينة المستأجر؛ لأن النيات شرعت الإثبات مما كان أكثر إثباتاً كانت أولى بالقبول. ولو ادعى المؤاجر فضلاً فيما يستحقه من الأجر وادعى المستأجر فضلاً فيما يستحقه من المنفعة، فالأمر في الاستحلاف على ما بينا، وإن أقاما البينة قبلت بينة كل واحد منهما على الفصل الذي يستحقه نحو أن يدعي الأجر شهراً بعشرة والمستأجر شهرين بخمسة وأقاما البينة يقضي بشهرين بعشرة؛ لأن بينة كل واحد منهما تثبت زيادة فتقبل بينة كل واحد منهما على تلك الزيادة فإن لم يكن لواحد منهما بينة وقد استوفى بعض المنفعة فالقول قول المستأجر فيما مضى مع يمينه ويتحالفان ويفسخ العقد فيما بقي؛ لأن العقد ينعقد ساعة فساعة فيصير في حق كل جزء من المنفعة كان العقد انفرد فيه. وإن كان اختلافهما في الأجر في نوعين بأن ادعى أحدهما دراهم والآخر دنانير فالأمر في التحالف والنكول وإقامة أحدهما البينة على ما بينا، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الآجر؛ لأن الآجر ثبت حقاً له فكان هو أشبه المدعين فتكون بينته أولى بالقبول، وإن اختلفا في المدة مع ذلك أو في المسافة بأن قال المؤاجر: أجرتك إلى القصر بدينار وقال المستأجر: بل إلى الكوفة بعشرة دراهم وأقاما البينة فهي إلى الكوفة بدينار وخمسة دراهم لأنهما اختلفا في الأجر إلى القصر وكما بينه الآجر أولى لأنها أكثر إثباتاً فقضينا إلى القصر بدينار، ثم المستأجر يدعي من القصر إلى الكوفة بخمسة دراهم والآجر ينكر أصل العقد فكانت بينة المستأجر أولى؛ لأنها تثبت الإجارة.k نوع آخر إذا اختلف الخياط ورب الثوب فقال رب الثوب: أمرتك أن تقطعه قباء، وقال الخياط: أمرتني أن أقطعه قميصاً، فالقول قول رب الثوب؛ لأن الأذن من قبله يستفاد فكان القول قوله فيما أذن فيه قال: والخياط ضامن وقال ابن أبي ليلى: القول قول الخياط ولا ضمان عليه؛ لأنهما اتفقا على الأذن في القطع فرب الثوب يدّعي عليه تقييده بصفة زائدة ويدعي وجوب الضمان عليه وهو ينكر وإنما يقول القول قول رب الثوب في الإذن وإن ادعى تقييداً؛ لأنه ما أقر بحصول الإذن على ذلك الوصف. ولو أنكر الإذن أصلاً كان القول قوله، فإذا أنكر الإذن إلا بصفة تكون قول قوله

فإذا لم يوجد على الوصف الذي أذن يجب الضمان عليه قال: وإن شاري الثوب أخذه وأعطاه أجر مثله؛ لأنه أمتثل لأمر في أصل ما أمره وهو القطع والخياطة ولكن قد يغير الوصف، فكان لصاحب الثوب الرضا به. وقال بعض أصحابنا: بأن منفعة القميص والقباء يقع على وجه واحد وإنما تختلف الأعراض فقد وجد المعقود عليه مع العيب وكانوا يقولون: لو قطعه سراويلاً لم تجب الأجرة؛ لأنه نوع آخر من المنفعة فلم يوجد المعقود عليه قالوا: والرواية بخلاف هذا فإنه روي عن محمد أنه لو دفع شبهاً إلى رجل ليضرب له طستاً فضرب كوزاً فارسياً ضمنه مثل شبهه، فإن شاء أخذه وأعطاه أجر مثل ما عمل فكذا في السراويل يجب أن يكون كذلك وإنما أوجبنا أجر المثل؛ لأن المستعمل لم يرض بالمسمى إلا على صفة مخصوصة، فإذا لم يسلم له على ذلك وجب أجر المثل ولا يجاوز المسمى. وروي عن أبي يوسف إذا أمره أن ينزع غرساً له بأجر فنزع فقال الآمر: أمرتك بغير هذا فالقول قول الآمر مع يمينه (42ب4) وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وكذا لو أمره أن يقطع شيئاً من جسده أو يبط فرجه لما بينا أن الأمر من قبله يستفاد، فكان القول قوله. قال: ولو أعطى صباغاً ثوباً ليصبغه ثم اختلفا فقال رب الثوب: أمرتك أن تصبغه بالعصفر، وقال الصباغ: بالزعفران، فالقول قول رب الثوب لما ذكرنا أن الأمر من قبله يستفاد قال ولو دفع إلى نداف ثوباً يندف عليه قطناً وأمره أن يزيد من عنده ما رأى فجاء وقد ندف عشرين أستار، فقال صاحب الثوب: دفعت إليك خمسة عشر أستار وأمرتك أن تزيد، فلم تزد إلا خمسة وقال النداف: دفعت إلي عشرة وأمرتني أن أزيد عشرة وقد زدت فالقول قول النداف وعلى صاحب القباء أن يدفع إليه عشرة أساتير من قطن؛ لأن صاحب الثوب مقراً به لم يخالف لكنه يدعي أنه دفع إليه خمسة أستاراً فكان القول قول النداف في مقدار ما قبض فتبقى العشرة زيادة فيضمنها صاحب الثوب. ولو اختلفا فيما أمر به أيضاً، فقال لصاحب الثوب: دفعت إليك خمسة عشر وأمرتك أن تزيد خمسة عشر، وقال النداف: دفعت إلى عشرة وأمرتني أن أزيد عشرة فزدت وصاحب الثوب بالخيار إن شاء صدقه ودفع إليه عشرة أساتير وإن شاء أخذ قيمة ثوبه ومثل عشرة أساتير، وكان الثوب للنداف؛ لأن صاحب الثوب يدعي الخلاف فكان القول قوله فيما أمر به، والقول قول النداف في مقدار ما قبض والله أعلم. نوع آخر ولو دفع إلى خياط ثوباً ليقطعه قباء ودفعه إليه البطانة القطن فجاء به فقال رب الثوب: البطانة ليست ببطانتي، فالقول قول الخياط مع يمينه ألبسه أنها بطانته؛ لأن البطانة أمانة في يده أو مضمون عليه وأيهما كان كان القول قوله قال: ويسع لرب الثوب أن يأخذ البطانة ويلبسها؛ لأنها إن كانت بطانته حل له لبسها وإن كانت غيرها فقد دفع إليه الخياط بدل بطانته فيجعل له اللبس. قال: وكذلك لو أعطى حمالاً متاعاً ليحمل من موضع إلى موضع ثم اختلفا، فقال

رب المتاع: ليس هذا متاعي، وقال الحمال: هذا متاعك، فالقول قول الحمال مع يمينه لما ذكرنا ولا يكون على الآجر أجر إلا أن يصدقه ويأخذه؛ لأنه لم يعترف باستيفاء المنافع. قال: والنوع الآخر والنوعان في هذا سواء إلا أنه في النوع الواحد أفحش وأقبح يريد بهذا أنه لو حمله طعاماً أو زيتاً، فقال الحمال: هذا طعامك بعينه، وقال رب الطعام: كان طعامي أجود من هذا فإن يفحش أن يكون القول قول رب الطعام ويبطل الأجر ويحسن أن يكون القول قول الحمال ويأخذ الأجر إذا كان قد حمله، فأما إذا كانا نوعين مختلفين بأن جاء به شعيراً، وقال رب الطعام: كان طعامي حنطة لم يجب له الأجر حتى يصدقه؛ لأنه إذا اتحد الجنس فرب الطعام يملك أن يأخذه عوضاً عن طعامه؛ لأن الحمال قد بدل ذلك فإذا حصل له العوض سلمت له المنفعة، فأما في النوعين فلا يسعه أن يأخذ النوع الآخر إلا بالتراضي والبيع مما لم يصدقه لا يستحق عليه الأجرة. نوع آخر المؤاجر إذا وجد بالآخر عيباً وأراد أن يرده على المستأجر فهذا على وجهين: إما أن يصدقه المستأجر في ذلك أو يكذبه والأجرة عين كثوب بعينه أو حنطة بعينها أو كان ديناً بأن كانت الأجرة دراهم أو دنانير أو مكيلاً أو موزوناً في الذمة سوى الدراهم والدنانير، فإن صدقه المستأجر كان له أن يرده على المستأجر سواء كانت الأجرة ديناً أو عيناً؛ لأن العيب يثبت بتصادقهما كما في بيع العين وإن كذبه المستأجر وقال: ما أعطيتك هذا إن كانت الأجرة ديناً ولم يكن أقر المؤاجر بقبض الجياد ولا بالاستيفاء وإنما أقر بقبض الدراهم لا غير. فالقياس أن يكون القول قول المردود عليه وهو المستأجر. وفي الاستحسان يكون القول قول الراد مع يمينه وهو المؤاجر، وقد ذكرنا جنس هذا في كتاب البيوع هذا إذا لم يقر بقبض الجياد، فأما إذا أقر بقبض الجياد بأن قال: قبضت الجياد، أو قال: قبضت الأجر أو استوفيت فإنه لا يصدق؛ لأن الاستيفاء عبارة عن أخذ الحق بتمامه فيصير مقراً بقبض الجياد، وكذلك إذا قال: قبضت الأجر؛ لأنه أضاف القبض إلى الأجر والأجر سليم عن العيب فيضمن ذلك إقراراً بالجياد ولا تقبل بينة المؤاجر على ذلك؛ لأنه مناقض في الدعوى، فأما إذا كان عيناً فالقول قول المردود عليه قياساً واستحساناً كما في بيع العين وقد ذكرنا الفرق بين الأمرين في كتاب البيوع فلا نعيد ذكره. ولو استأجر فاميّ من رجل بيتاً فباع فيه زماناً ثم خرج منه، واختلفا فيما فيه من الرفوف وأشباهه فقال رب البيت: كان هذا في بيتي حين استأجرته، وقال المستأجر: لا

بل أحدثته، فالقياس أن يكون القول قول رب الدار مع يمينه؛ لأنه بائع الأرض والبناء تكون هذه الأشياء مركباً بالأرض، والبناء والأرض لرب الدار فكذلك ما كان تبعاً للبناء والأرض يكون له. ألا ترى أنهما لو اختلفا في خشب السقف أو في الباب المركب أو في العلو كان القول قول المستأجر. ووجهه أن العرف فيما بين الناس أن المستأجر هو الذي يحدث هذه الأشياء فكان العرف شاهد للمستأجر فالتبعية بسبب التركيب شاهد لرب الدار أنه له فلم صار شاهد المستأجر أولى من شاهد رب الدار. والجواب عنه أن يقال: بأن التركيب محتمل بين أن يكون من المستأجر وبين أن يكون من صاحب العمل؛ لأن كل واحد منهما يحدث ذلك وله فعله فقد استويا في التركيب ثم يرجح الحدوث من المستأجر بدلالة العرف فصار شاهد المستأجر أولى من هذا الوجه، وهكذا الجواب في الطحان وسائر الصناع إذا اختلفا فيما يحدثه الصناع في العرف والعادة دون الآجر، فالمسألة على القياس والاستحسان، والحاصل في جنس هذه المسائل أن كل شيء يحدثه المستأجر عادة لحاجته إليه، فالقول قول المستأجر. ولو اختلف رب الدار والمستأجر في بناء من بناء الدار غير ما ذكرنا أو في باب أو في خشبة أدخلها في السقف، فقال رب الدار: أنا أجرتك وهذا فيها وقال المستأجر: بل أنا أحدثت فإن القول في هذا قول رب الدار مع يمينه؛ لأنه تابع لأرضه وبنائه ولا عرف أن المستأجر هو الذي يحدث ذلك فيكون لرب الدار وما كان له في الدار من لبن موضوع رطب أو يابس أو جذع موضوع أو آجر أو جص فهو للمستأجر؛ لأنه في يده حقيقة وحكماً ولم يعرف كونه في يد صاحب الدار فيكون القول قول المستأجر. وإنما قلنا: إنه في يده أما حقيقة فلا إشكال وأما حكماً فلأنه ليس بتابع للدار؛ لأنه غير مركب فيه بل موضوع فيه، فإن أقاما جميعاً البينة على ذلك ففي كل شيء جعل قول المستأجر قال: ألحقه رب الدار؛ لأن رب الدار يدعي خلاف الظاهر. ولو اختلفا في الجص أو في السيرة أو في التنور، فالقول فيه قول رب الدار قيل: هذا في التنور، بناء على عرفهم أما في عرفنا فالقول قول المستأجر؛ لأن المستأجر هو الذي في يده في عرفنا. ولو انهدم بيت من الدار فقال المستأجر: نقضه لي وقال رب الدار: بل هو لي إذا عرف انهدام فالقول قول رب الدار وإن كان النقض منقولاً فالقول قول المستأجر لكونه في يده لأن هذا مشغول وإن كان في يد المستأجر حقيقة إلا أنه عرف كونه في يد صاحب الدار إذا عرف أنه ينقض بيت انهدم، وفي المنقول إنما يجعل القول قول ذي اليد إذا لم يعرف أنه في يد المدعي (43آ4) فأما إذا علم فالقول قول المدعي وإن كان لا يعرف فالقول قول المستأجر؛ لأنه في يده ولم يعرف أنه في يد المدعي وإن كان رب الدار أمر المستأجر أن يبني في الدار على أن يحسب له ذلك من الأجر واختلفا فقال المستأجر: أمرتني بالبناء وقد بنيت وقال رب الدار: لم يبن فالقول قول رب الدار مع يمينه؛ لأنه

يدعي عليه زيادة ورب الدار ينكر قالوا: هذا إذا كان مشكل الحال بأن اختلف في ذلك أهل تلك الصناعة. فقال بعضهم: كما يقول رب البيت إنه يذهب في نفقة مثل هذا البناء قدر ما يدعيه رب البيت، وقال بعضهم: لا بل يذهب قدر ما يقوله المستأجر حتى يقدر معرفة قول أحدهما من جهة العين فتعتبر الدعوى والإنكار والمستأجر يدعي زيادة إيفاء ورب الدار ينكر فيكون القول قوله فأما إذا أجمع أهل تلك الصناعة على قول أحدهما، وقالوا: يذهب من التفت في مثل هذا البناء ما يقوله أحدهما، فالقول قوله؛ لأنه أمكن معرفة ما وقع التنازع فيه من جهة غيرها لا يلتفت إلى قولهما. ولو كان على باب بيتهما مصراعين أحدهما ساقط والآخر معلق بالباب واختلفا في الساقط فالقول قول رب الدار إذا عرف أنه أجود وإن كان منقولاً فالقول قول المستأجر في المنقول إنما كان كذلك؛ لأنه عرف كونه في يدرب الدار لما عرف أنه أخ المعلق وفي مثل هذا القول قول رب الدار على ما مر. ولو كان بيتاً سقفه مصور لجذوع مصورة فسقط جذع منها فكان مطروحاً في البيت فاختلف رب الدار والمستأجر فيه فقال رب الدار: هو سقف هذا البيت وقال المستأجر: بل هو لي وهو يقرأن تصاويره يوافق لتصاوير البيت فإن القول في ذلك قول رب الدار مع يمينه وإن كان منقولاً؛ لأنه منقول عرف كونه في يدرب الدار لما كان تصاويره موافقاً للتصاوير التي كان على السقف. إذا تكارى منزلاً من رجل في الدار وفي الدار ساكن كل شهر بدرهم فأدخله في الدار وخلى بينه وبين المنزل وقال: اسكنه فلما جاء رأس الشهر طلب رب المنزل الأجر فقال المستأجر: ما سكنه حال بيني وبين المنزل ففيه كان يسكن في الدار أو غاصب ولا بينة له بذلك والساكن مقر بذلك أو جاحد لا يلتفت إلى قول الساكن؛ لأنه شاهد على الغير أو مقر وشهادة الفرد والإقرار على الغير لا يقبل قول الساكن يبقى بالاختلاف بين الآجر والمستأجر ينظر في ذلك إن كان المستأجر هو الساكن في الدار حالة المنازعة، فالقول قول رب الدار وعليه الأجر. وإن كان الساكن في المنزل غير المستأجر، فالقول قول المستأجر ولا أجر عليه وذلك لأن كل الأجر لا يستحق بنفس العقد ولا بأصل التسليم وإنما يستحق كل الأجر بدوام التسليم من ابتداء المدة إلى آخرها ودوام التسليم ثابت باستصحاب الحال لا بدليل يوجب الدوام وذلك؛ لأن ما ثبت إن كان على البقاء ما لم يقم دليل الزوال فمن الجائز أنه زال التسليم بعدما وجب بدليل أوجب زواله بأن غصب منه غاصب. وهذا هو حد استصحاب الحال والثابت باستصحاب الحال ثابت من وجه غير ثابت من وجه ولهذا صلح الدفع ولم يصلح الاستحقاق وجميع الأجر غير واجب فلا يمكننا إيجابه بدوام تسليم ما ثبت باستصحاب الحال ما لم يترجح ما يوجب دوام التسليم على ما يوجب زواله فحكمنا في ذلك الخلل.

وقلنا: بأن كان الساكن هو المستأجر يرجح ما يوجب داوم التسليم على ما يوجب زواله فكان الحكم له وإذا كان الساكن غير يرجح ما يوجب زوال الدوام على ما يوجب دوامه، فكان الحكم له. ونظير ما لو وقع الاختلاف بين مستأجر الطاحونة والآجر بعد انقضاء مدة الإجارة في جريان الماء وانقطاعه فيما مضى فإنه يحكم الحال إن كان الماء جارياً حالة المنازعة فالقول قول من يدعي دوام التسليم وإن كان الماء منقطعاً، فالقول قول من يدعي زوال الدوام فكذلك هذا. فإن قيل: المستأجر أقر بالتسليم في الابتداء، فهذا جعل ذلك حكماً على بقاء التسليم في آخر المدة وحكمنا على بقاء التسليم فيما مضى والجواب عنه أن كل الأجر مما لا يستحق بأصل التسليم؛ لأن منافع المدة معدومة للمال وإنما يوجد ساعة فساعة فيجعل التسليم موجوداً ساعة فساعة كالعقد سواء وإذا كان لا يستحق كل الأجر بأصل التسليم الموجود في الابتداء لا يمكننا أن نجعل التسليم الموجود في الابتداء حكماً على دوامه وإذا كان يستحق بدوام التسليم إلى آخر المدة أمكننا أن نجعل قيام التسليم في آخر المدة حكماً على وجوده فيما مضى إذا لم يعرف وجود المانع من التسليم فيما مضى. رجل تكارى من رجل بيتاً كل شهر بدرهم، فلما جاء رأس الشهر طلب رب البيت أجر البيت فقال المستأجر: إنما أعرتنيه بغير أجر أو أسكنتيه بغير أجر وصاحب الدار ينكر ذلك ولا بينة بينهما، فالقول قول الساكن مع يمينه؛ لأن صاحب البيت يدعي عليه أجراً والمستأجر ينكر فيكون القول قوله وإن أقاما جميعاً البينة، فالبينة بينة صاحب المنزل؛ لأنه هو المدعي فإنه ادعى عليه أجراً وأثبته بالبينة. وكذلك إذا قال الساكن: إن الدار داري ولا حق لك فيها فالقول قول الساكن مع يمينه؛ لأن الآجر ادعى عليه سين الأجر وكون الدار ملكاً له أو الساكن أنكر الأمرين جميعاً، فيكون القول قوله فيهما في الأجر؛ لأنه ينكر وجوب الأجر في ذمته وفي الدار؛ لأن الدار في يده فإن قال الساكن: الدار لفلان وكلني بالقيام عليها، فالقول قول الساكن ويكون خصماً للمدعي؛ لأنه ادعى عليه الأجر وكون الدار ملكاً له والمستأجر أنكر الأجر فكان القول قوله. وادعى أن يده في الدار يد غيره حتى يندفع عن نفسه خصومته في الدار فلا تندفع عنه الخصومة بمجرد قوله: إن يده في الدار يد غيره ما لم يقم البينة على ما ادعى عندنا. وإن قال المستأجر: إنك وهبتني المنزل فلا أجر لك وقال الآجر: بل أجرتك فالقول قول المستأجر في الأجرة، لأن صاحب المنزل يدعي عليه الأجر والمستأجر ينكر وفي الدار القول قول صاحب المنزل؛ لأن المستأجر أقر بكون الدار ملكاً له وادعى التملك من جهة وأنكر صاحب المنزل، فيكون القول قوله وإن أقاما جميعاً البينة تؤخذ ببينة الموهوب له؛ لأنا نجعل كأن الأمرين كانا يجعل كأنه أجر منه ثم وهب له بعد العقد.

ولو كان كذلك ثتبت الهبة ولم يكن عليه أجر، فكذا هذا بخلاف ما إذا ادعى الساكن العارية وصاحب المنزل يدعى الإجارة وأقاما جميعاً، فإن البينة هناك بينة صاحب المنزل وفي الحقيقة لا فرق؛ لأنا نجعل كأن الأمرين كانا أجر منه ثم أعار منه بعد الإجارة إلا أن الإجارة لا ترتفع بالإجارة وترتفع بالهبة وهذا كله إذا لم يكن أقر الساكن بأصل الكراء. فأما إذا أقر بأصل الكراء ثم ادعى الهبة أو العارية فإنه لا يصدق وعليه الأجر إلا أن يقيم بينة؛ لأن الإجارة تثبت بإقراره والهبة والعارية لم تثبت بمجرد دعواه إلا أن يقيم البينة على الهبة فحينئذٍ لا أجر عليه؛ لأن الهبة تثبت بالبينة وللمستأجر خيار الرؤية إن لم يكن رأى المستأجر اعتباراً لبيع المنفعة ببيع العين فإن اختلفا فقال صاحب الدار قد كنت رأيت وقال المستأجر: لم أر فالقول قوله، لأنه متمسك بالأصل فإن عدم الرؤية أصل فإذا حلف أنه لم يرها يردها إلا أن تقوم بينة أنه قد راًها. رجل تكارى منزلاً من رجل في داره على أن أجره أن يكفيه وعياله نفقتهم ومؤنتهم ما دام في الدار، فالإجارة فاسدة؛ لأن الأجر مجهول فإنه لا يدري قدر ما يكفيهم وجهالة الأجر مما يوجب فساد الإجارة؛ فإن سكن كان عليه أجر المثل (43ب4) كما في سائر الإجارات الفاسدة؛ فإن قال المستأجر: أنفقت على عيالك وقال صاحب المنزل: لم تنفق فالقول قول صاحب المنزل؛ لأنه يدعى عليه الإيفاء؛ لأن ما أنفق على عياله بأمره يكون ديناً عليه وله عليه مثله فيلتقيان قصاصاً فيدعي الإيفاء من هذا الوجه وإنه ينكر، وإن أقاما البينة فالبينة بينة المستأجر؛ لأنه يدعي الإيفاء وبينته بالبينة ويحسب له ما قامت من البينة من أجر مثلها؛ لأن ما أنفق صار ديناً على رب المنزل وأجر المثل دين لرب المنزل عليه فيلتقيان قصاصاً. رجل تكارى داراً شهراً بعشرة دراهم فسكنها يوماً أو يومين ثم تحول إلى دار أخرى كان للآجر أن يطالبه بأجر جميع الشهر؛ لأن الإجارة لازمة في الشهر فلا يملك فسخها إلا بعذر وأن يتحول من دار إلى دار أخرى لا يكون عذراً فإن قال إنما استأجرتها يوماً واحداً فالقول قوله؛ لأنه أقر بالإجارة في يوم وأنكر الإجارة في باقي الشهر، ولو أنكر الإجارة أصلاً ورأساً كان القول قوله، فكذا إذا أقر بالبعض وأنكر البعض، فإن أقاما البينة فالبينة بينة الآجر؛ لأنه يثبت الإجارة فيما زاد على اليوم ببينة. وإذا استأجر من آخر داراً شهراً بدرهم فسكنها شهرين فعليه أجر الشهر الأول دون الشهر الثاني وقد مرت المسألة من قبل، فإن انهدم شيء من سكناه في الشهر الثاني يضمن ولا ضمان فيمن لا ينهدم من سكناه في الشهر الأول فإن اختلفا فيما انهدم فقال المستأجر: إنما انهدم من سكناك في الشهر الثاني فعليك الضمان، فالقول قول المستأجر مع يمينه؛ لأنه يدعي عليه ضمان ما انهدم وهو ينكر فيكون القول قوله والبينة بينة صاحب الدار؛ لأنه هو المدعي. رجل تكارى بيتاً أو داراً على أن يسكنها شهراً فأعطاه صاحب المنزل المفتاح فلما

مضى الشهر جاء رب المنزل يطلب الأجر فقال المستأجر: لم أقدر على فتحه وقال الآجر: بل قدرت على فتحه وسكنت ولا بينة لهما، فإنه ينظر إلى المفتاح الذي دفع إليه للحال إن كان مفتاحاً يلائم هذا الغلق ويمكن فتح الباب به فالقول قول رب الدار ولا يصدق المستأجر في قوله لم أقدر على فتحه، وإن كان ما دفع من المفتاح مفتاحاً لا يلائم الغلق ولا يمكن فتح الباب به فالقول قول المستأجر وإن أقاما جميعاً البينة فالبينة بينة رب المنزل، وإن كان المفتاح مفتاحاً لا يلائم الغلق؛ لأنه لا عبرة لتحكيم الحال متى جاءت البينة بخلافه كما في مسألة الطاحونة لو أقام المستأجر بينة أن الماء كان منقطعاً فيما مضى، فإنه يقضي بالبينة وإن كان جازماً للحال فكذلك هذا. فإن قيل: إذا كان المفتاح لا يلائم الغلق فكيف تقبل البينة على أنه كان يقدر على فتحه قلنا: إنما يقبل إذا كان رب المنزل يدعي أنه كان يلائم الغلق ولكن غيره والمستأجر يقول: لا بل لم يكن ملائماً من الأصل فتقبل البينة على ما يدعيه رب البيت والله أعلم. نوع آخر إذا استأجر الرجل من آخر حماماً مدة معلومة ثم اختلفا في قدر الحمام إنه للمستأجر أو لصاحب الحمام فالقول قول صاحب الحمام؛ لأنه مركب في بنائه ولا عرف في أن المستأجر يحدث ذلك بخلاف الآتون؛ لأن العرف أن المستأجر هو الذي يتولى ذلك فكان الحكم في الموضعين جميعاً العرف ولو انقضت مدة الإجارة وفي الحمام رماد كثير وسرقين كثير فقال رب الحمام: السرقين لي وقال المستأجر: هو لي وأنا أتقلد فالقول قول المستأجر إذا لم يعرف كون المدعي به في يد صاحب الحمام على ما مر قبل هذا، فأما الرماد فإن كان ذلك من عمل المستأجر وكان مقراً بذلك فعليه أن ينقله، لأنه صار مشغولاً من جهته وقد أمكن تفريغه من غير نقض شيء من البناء فيكون على المستأجر تفريغه كما لو كان مشغولاً بأمتعته، فإن جحد أن يكون من عمله فالقول قوله لأن صاحب الحمام يدعي عليه تفريغ هذا المكان وهو ينكر؛ ولأنه يدعي تسليم هذا المكان في الحاصل والمستأجر ينكر؛ لأن الشغل يمنع التسليم فيكون القول قوله.w نوع آخر وإذا استأجرت المرأة حلياً معطوفاً لتلبسه يوماً إلى الليل فهو جائز، فإن ألبست غيرها في ذلك اليوم فهي ضامنة ولا أجر عليها؛ لأن الناس يتفاوتون في لبس الحلي فإن اختلفا فقال رب الحلي: لبسته وقالت: لا بل ألبست غيري، ذكر أن القول قول صاحب الحلي هذا إن هما اختلفا في الأجر، فقال رب الحلي: لبسته بنفسك فعليك الأجر، وقالت المرأة: ألبست غيري فلا أجر علي، قالوا: ويجب أن يكون الجواب فيه على قياس ما ذكر في الدار إذا ادعى أنه غصب منه قال: يُحَكَّم الحال إن لم يكن فيها ساكن غيره وقت المنازعة كان القول قول رب الدار وإن كان فيها ساكن غيره كان القول قول المستأجر.

وكما في مسألة الرحى إذا اختلفا في انقطاع الماء وجريانه فكذا ها هنا يجب أن يحكم الحال إن كان في يدها وقت المنازعة، فالقول قول رب الحلي وإن كان في يد غيرها فالقول قولها، فإن هلك الحلي كان لرب الحلي أن يصدقها ويضمنها؛ لأنه يقر بوجوب الضمان على نفسها فكان لرب الحلي أن يصدقها ويضمنها ولا أجر له كما لو ثبت الإلباس معاينة وإن كذبها فقد أبرأها من الضمان ثم يكون القول قول صاحب الحلي؛ لأن تحكيم الحال متعذر بعد الهلاك وإذا تعذر تحكيم الحال جعل القول قول رب الحلي؛ لأن المستأجر يدعي زوال التسليم بعدما وجد التسليم وصاحب الحلي ينكر فيكون القول صاحب الحلي. نوع آخر إذا اختلف رب الدابة والمستأجر ولم يركب بعد فقال المستأجر: أكريتني من الكوفة إلى بغداد بعشرة، وقال رب الدابة: أكريتك من الكوفة بعشرة دراهم إلى قصر والقصر هو المنتصف إن لم يقم لأحدهما بينة فإنهما يتحالفان ويترادان؛ لأنهما اختلفا في بدل عقدي تجارة حال ما يحتمل العقد الفسخ، فيتحالفان ويترادان وإن قامت لأحدهما بينة؛ فإنه يقضي بينة لأنه ادعى أمراً حادثاً وأثبته بالبينة، فإن أقاما جميعاً البينة كان أبو حنيفة يقول أولاً: يقضي إلى بغداد بخمسة عشر درهماً وهو قول زفر رحمهم الله، ثم رجع وقال: يقضي إلى بغداد بعشرة دراهم وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله. وجه قوله الأول: لأن كل واحد منهما ادعى عقداً غير ما يدعيه صاحبه، صاحب الدابة ادعى عقداً إلى المنتصف بعشرة والآخر بخمسة فيجب القضاء بهذا العقد إلى المنتصف بعشرة ببينة صاحب الدابة، وادعى المستأجر من المنتصف إلى بغداد عقداً بخمسة أنكرها رب الدار وأثبتها بالبينة فلا بد من القضاء بها فيجب القضاء بعقدين من هذا الوجه. ووجه قول الآخر: وهو أنهما اتفقا على أنه ما جرى ما بينهما إلا عقد واحد وقد أمكن القضاء على وفق ما اتفقا عليه بأن لا تقبل بينة رب الدابة، لأنها قامت على إثبات العشرة وإنها ثابتة له بإقرار المستأجر وإذا أمكن رد بينته بقيت بينة المستأجر لا غير، وقد أثبت الإجارة إلى بغداد بعشرة دارهم فيقضى بذلك كما لو تفرد المستأجر بإقامة البينة لا غير. ونظير هذا ما قالوا جميعاً في بيع العين: إذا ادعى البائع أنه باع منه هذا العبد بألف وادعى المشتري أنه اشترى هذا العبد وهذه الجارية بألف درهم وأقاما جميعاً البينة يقضى بعقد واحد ببينة المشتري؛ لأنهما اتفقا على أنه ما جرى بينهما إلا عقد واحد وقد أمكن القضاء بعقد واحد بأن لا تقبل بينة البائع؛ لأنها قامت على إثبات الألف وهو ثابت له بإقرار المشتري والمشتري ادعى زيادة في المعقود عليه لم يثبت له بإقرار البائع وأثبتها بالبينة فوجب القضاء بعقد واحد فكذلك ها هنا ثم أبو يوسف لا يحتاج إلى الفرق بين هذا وبين (44ب4) السلم؛ لأن المذهب عنده أنه يقضى بعقد واحد ما أمكن وقد أمكن

القضاء بعقد واحد، فأما محمد رحمه الله يحتاج إلى الفرق، ووجه الفرق أنه إنما يقضى بعقدين إذا أمكن (و) القضاء بهما غير ممكن؛ لأن للمنافع حكم العين فمتى صار مستحقاً بعقد لا يمكن أن يجعل مستحقاً بعقد آخر ومنافع هذه الدابة إلى القصر صار مستحقاً بعقد فلا يمكن أن يجعل مستحقاً بعقد آخر فيتعذر القضاء بالعقدين ها هنا. فأما في باب السلم فرأس المال والمسلم فيه دين ومحل الدين الذمة وفي الذمة سعة فكان القضاء بالعقدين ممكناً فقضينا بهما عملاً بالبينتين. وإذا استأجر الرجل من آخر دابة ودفعها إليه بغير سرج ولا لجام، وقال: أكريتك عرياناً ولم أكرك بسرج ولا لجام، وقال المستكري: استكريتك بسرج ولجام كان القول قول صاحب الدابة؛ لأنه لو أنكر الإجارة أصلاً كان القول قوله، فكذا إذا أقر بإجارة الدابة وأنكر إجارة السرج والإكاف وهذا بخلاف المسألة الأولى قال: ثمة يتحالفان وهنا قال: لا يتحالفان. ووجه الفرق بينهما أن في المسألة الأولى اختلفا في بدل المعقود عليه والاختلاف في بدل المعقود عليه يوجب التحالف، فأما في مسألتنا لم يختلفا في بدل المعقود عليه ولا في المعقود عليه بل اختلفا في بيع من توابع المعقود عليه، فكان بمنزلة ما لو اختلفا في بيع العين في شرط يلحق به وثمة لا يتحالفان؛ لأن المشروط اتباع فكذلك هذا. وإذا تكارى الرجل: دواب من بغداد إلى مدينة الري بأعيانها كانت الإجارة جائزة؛ لأن المعقود عليه معلوم والأجر معلوم، فجازت الإجارة وإنما شرط مدينة الري؛ لأنه لو استأجرها إلى الري كان لا تصح الإجارة على ما يذكره في ظاهر الرواية؛ لأن اسم الري يشتمل على المدينة وعلى الرستاق فإن جوار الري يسمى رياً وهي من مدينة الري بمراحل، وكان بمنزلة من استأجر دابة إلى خراسان لم يجز؛ لأن خراسان تشتمل على أمصار كثيرة فكذلك هذا. وإذا جازت الإجارة لو أن المكاري باع هذه الدواب من غيره أو وهب أو تصدق أو أجر أو أعار أو أودع فجاء المستكري ووجد الدواب في يد غيره، فأراد أن يقيم البينة على إجارته هل تقبل بينته؟ فهذا على وجهين: إما أن يكون المكاري حاضراً أو غائباً فإن كان المكاري حاضراً فإنه يقبل بينته عليه، وإن كان يقر أنه أجرها منه، لأن بينة المستأجر قامت على خصم حاضر؛ لأن المستأجر مع الذي في يده الدابة تصادقا أن الملك في الدابة كان للمكاري، والمكاري صدقهما في ذلك فيثبت الملك للمكاري في الدابة بتصادقهم جميعاً فكان المكاري خصماً للمستأجر فتقبل بينته عليه فإن قيل: كيف تقبل بينته والمكاري يقر أنه أجر هذه الدواب منه أولاً كما يدعيه المستكري والبينة لا تقبل على المقر قلنا: المكاري وإن أقر بذلك إلا أنه لم يصح إقراره بحق ذي اليد، وإذا لم يصح إقراره صار وجود هذا الإقرار منه وعدمه بمنزلة. ونظير هذا ما قالوا فيمن باع من آخر شيئاً ثم ادعى البائع أنه كان باع من غيره أولاً

فإنه لا يصدق فيما أقربه ولو أن الأول أقام البينة على ما ادعى سمعت بينته وإن كان البائع مقراً بذلك؛ لأن إقراره غير مقبول لحق الثاني فصار وجود إقراره وعدمه بمنزلة فقبلت البينة عليه، فكذلك هذا وإذا سمعت بينه المستأجر وكأن المكاري باعه من غيره إن كان باعه بعذر فإن كان عليه دين فادح لم يكن للمستأجر سبيل على الدابة؛ لأن الإجارة تنتقض متى حصل البيع حالة العذر بقضاء قاضٍ على الروايات كلها وبغير قضاء القاضي على عامة الروايات، وفي رواية «الزيادات» لا تنتقض وإذا انتقضت الإجارة لا يبقى للمستأجر على الدابة سبيل. وإن كان باعها بغير عذر كان المستأجر أحق بها إلى أن تنقضي مدة إجارته؛ لأن بيع المستأجر من غير عذر لا يوجب انتقاض الإجارة وإذا أبقى إجارة المستأجر وقد ثبت بالبينة أن إجارته كانت جامعة على بيع الذي في يده الدابة؛ كان المستأجر أحق بها إلى أن تنقضي مدة إجارته وما يقول في الكتاب أن البيع مردود، فتأويله إذا فسخ المشتري البيع. وذلك لأن المستأجر لما كان أحق بالدابة بأجر قبض المشتري فيتخير إن شاء يتربص إلى أن تنقضي مدة إجارته وإن شاء فسخ البيع كما لو اشترى عبداً فأبق قبل القبض فإذا تربص حتى انقضت مدة الإجارة يكون البيع جائز أو لا يكون للمستأجر حق الفسخ؛ لأنه توصل إلى حقه من غير فسخ وإن كان أجر من غيره أو أعار أو وهب أو تصدق كان المستأجر الأول أحق بها إلى أن يستوفي إجارته ثمة تجوز هذه التصرفات ويكون الجواب في حق هذه التصرفات كالجواب فيما إذا باعه بغير عذر؛ لأن العذر لا يستحق في حق هذه الأشياء حتى تنتقض الإجارة هذا الذي ذكرنا إذا كان المكاري حاضراً. فأما إذا كان المكاري غائباً فإن بينة المستأجر تقبل إذا كان الذي في يديه الدابة مشترياً أو متصدقاً عليه أو موهوباً له؛ لأن الذي في يديه الدابة متى كان مشترياً أو متصدقاً عليه يدعي الملك لنفسه فيما في يده فينتصب خصماً لكل من ادعى حقاً في يده وقد ادعى المستأجر حقاً فيما في يده فينتصب خصماً له وقبلت بينته بعد هذا إن كان باعه المكاري بعذر فلا سبيل له على الدابة؛ لأن الإجارة انتقضت فإن كان باعه بغير عذر أو وهب أو تصدق كان المستأجر أحق به إلى أن يستوفي إجارته؛ لأن إجارته سابقة على هذه التصرفات فكان المستأجر أحق بها إلى أن يستوفي إجارته، فأما إذا كان الذي في يده الدابة مستأجراً أو مستعيراً أو مودعاً وقد صدقه المستكري فيما قال، قال: لا تقبل بينته عليه؛ لأنه ثبت بتصادقهما أن ذا اليد مستأجر أو مستعير أو مودع من رجل معروف والمودع والمستعير والمستأجر لا ينتصب خصماً، فالبينة قامت لا على خصم فلا تقبل. ثمة يقول في «الكتاب» : والمستأجر أحق بها حتى يستوفي إجارته ولم يذكر أن المستأجر الأول أحق بها أم الثاني، ويجب أن يكون الجواب على التفصيل إن كان المكاري حاضراً فالمستأجر الأول أحق بها، وإن كان غائباً فالمستأجر الثاني أحق بها لأن المكاري إذا كان حاضراً فبينة المستأجر الأول مقبولة في هذه الحالة والثابت بالبينة

أفاد له كالثابت معاينة ولو عاين القاضي إجارته أولاً جعل الأول أحق بها، فكذا إذا ثبت بالبينة، وأما إذا كان المكاري غائباً فبينة المستأجر الأول لا تقبل في هذه الحالة فيكون الثاني أحق بها إلى أن يستوفي إجارته. ذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده المسألة على هذا الوجه فلم يجعل المستأجر الثاني خصماً للمستأجر الأول. وذكر الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي والشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي أن بينة المستأجر على صاحب اليد إذا كان مستأجراً مقبولة وجعله خصماً له، وفرقا بين المستأجر وبين المستعير والمودع. رجل استأجر دابة من رجل إلى واسط بعشرة دراهم وقال المكاري للمستكري: استكر علي غلاماً يتبعك ويتبع الدابة وأجره علي وأعطه نفقة ينفق على نفسه وعلّى الدابة من كراء الدابة كان ذلك جائز، فإن اختلفا فقال المستكري: استكريت الغلام وأعطيت نفقته ونفقة الدابة من كراء الدابة وقد برئت من الأجر بذلك القدر وأنكر صاحب (44ب4) الدابة استئجار العبد، فالقول قول صاحب الدابة أنه لم يستأجر وعلى المستكري البينة أنه استأجر الغلام، وإن كان المستكري وكيلاً بالاستئجار؛ لأن الوكيل بالاستئجار بمنزلة الوكيل بالشراء إذا قال: اشتريت وهلك الثمن عندي وأراد أن يرجع بالثمن على موكله والوكيل بالشراء إذا أقر أنه اشترى وهلك عنده ولم يكن الثمن مدفوعاً إليه وأنكر الموكل فالقول قول الموكل مع يمينه وعلى الوكيل البينة أنه اشترى فكذلك ها هنا، فإن أقام البينة على أنه استأجر الغلام بعد هذا وأقر الغلام أنه قبض النفقة إلا أنه ضاع أو سرق منه وأنكر المكاري كان القول قوله، يعني: قول الغلام؛ لأنه لما ثبت استئجار الغلام صار الغلام وكيلاً من جهة المكاري يقبض ما عليه من الكراء بمقدار النفقة الوكيل بقبض الدين إذا قال: قبضت وهلك عندي كان القول قوله فكذا هذا. فإن قيل: كيف يصير الغلام وكيلاً من جهة المكاري بقبض ما عليه من الكراء بمقدار نفقته ونفقة الدابة وهو لم يعلم بهذه الوكالة؟ قلنا: المستكري أخبره بذلك؛ لأنه حال ما يستأجر يجبره أنه يستأجره ليفعل كذا، فيصير وكيلاً كرجل وكل غائباً فبلغه الوكالة فإنه يصير وكيلاً، فكذلك هذا. رجل استأجر دابة ذاهباً وجائياً فمات المكاري في الطريق فإن الإجارة لا تنتقض فإن استأجر المستكري رجلاً حتى يقوم على الدابة جاز وكان أجره على المستكري ولا يرجع بذلك على الورثة والمسألة قد مرت فإن اختلف الورثة والمستكري فقالت الورثة: إنما أجرك أبونا هذه الدابة على أن مؤنة الدابة عليك وأنكر المستكري ذلك فالقول قوله؛ لأنهم يدعون على المستكري زيادة والمستكري ينكر فيكون القول قوله مع يمينه، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الورثة؛ لأنهم يدعون زيادة في الأجر منها بينة المستأجر فتكون البينة بينة الورثة وإن كانوا لا يستحقون هذه الزيادة ببينتهم لفساد العقد. هذا كما ذكر في كتاب المزارعة: إذا اختلف المزارع وصاحب الأرض في مقدار

المشروط فأقام الذي ليس البذر من عنده البينة أنه شرط النصف وزيادة عشرة أقفزة، وأقام الآجر البينة أنه شرط له النصف فالبينة بينة من يثبت الزيادة، وإن كان لا يستحق هذه الزيادة متى أقام البينة لفساد العقد فكذلك هذا. وإذا استأجر رجل دابة من رجلين إلى بغداد ذاهباً وجائياً فقال أحدهما: أكريناكها بعشرة دراهم وقال الآخر: بخمسة عشر فهذا على وجهين: إما أن يصدق المستأجر أحدهما، فيقول: أكريتها بعشرة أو لا يصدق أحدهما فيما يدعي ويقول: أكريتها بخمسة وقد اختلفا قبل استيفاء المعقود عليه، أو بعد استيفاء المعقود عليه، فإن اختلفا قبل استيفاء المعقود عليه وليستلم بينة والمستأجر يكذب كل واحد منهما ويدعي الإجارة بخمسة فإنه يجب التحالف في نصيب كل واحد منها؛ لأن الاختلاف وقع في بدل عقدين تجارة حال ما يحتمل العقد الفسخ؛ لأن المعقود عليه قائم فيجب التحالف في النصيبين جميعاً فإذا تحالفوا فسخ القاضي العقد في جميع الدابة كما في بيع العين، وإن كان المستأجر يصدق أحدهما بأن كان يدعي العقد بعشرة فإنه لا يجب التحالف في حصته الذي صدقه؛ لأنهما لم يختلفا في بدل المعقود عليه في حصته ويتحالفان في حصة الذي يدع العقد بخمسة عشر، فإذا تحالفا وطلب أحدهما الفسخ من القاضي أو طلبا جميعاً، فإن القاضي يفسخ العقد في حصته وتبقى الإجارة في حصة الآخر بخمسة دراهم عندهم جميعاً، كما لو مات أحدهما. وإن وقع الاختلاف بعد استيفاء المعقود عليه فالقول قول المستأجر مع يمينه كما في بيع العين، إذا اختلفا بعد هلاك السلعة فالقول قول المشتري مع يمينه فكذلك هذا، وهذا الجواب على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا يشكل، فأما على قول أبي حنيفة ففيه اختلاف المشايخ وإن أقاما جميعاً البينة فإن يقضى لكل واحد منهما بنصف ما ادعى من الأجر، لأن كل واحد منهما ببينته يثبت نصف ما ادعى من الأجر لنفسه ونصفه لصاحبه إلا أنه خصم فيما يدعيه لنفسه وليس بخصم فيما يدعي لصاحبه فتقبل بينة كل واحد منهما في نصف ما ادعى من الأجر لنفسه لا غير فيقضى لمدعي خمسة عشر تسعة ونصف، ويقضى للآخر بخمسة دراهم هذا إذا اختلفا في بدل المعقود عليه. فأما إذا اختلفا قي قدر المعقود عليه في السير فقال أحدهما: أكريناها إلى المدائن وقال الآخر: إلى بغداد واتفقوا على الكري فهذا على وجهين: إما أن يختلفا قبل السير أو بعد السير والمستأجر يصدق أحدهما فيما يدعي أو يكذب ويدعي المسير إلى مكان أو غير ما يدعيان، فإن كانوا اختلفوا قبل السير والمستأجر يكذب كل واحد منهما فيما يدعي، ويدعي مكاناً آخر أبعد مما يقران، فإنه يجب التحالف في نصيب كل واحد منهما؛ لأنهم اختلفوا في قدر المعقود عليه في عقدي تجارة حال ما يحمل العقد الفسخ فيجب التحالف كما في بيع العين، فإن اختلفوا وطلبوا الفسخ من القاضي فسخ القاضي العقد في جميع الدابة وإن كان المستأجر يصدق أحدهما فيما يدعي فإنه لا يجب التحالف في نصيب الآخر؛ لأن التحالف يجري بين المتكاذبين لا بين المتصادقين فيجب التحالف

في نصيب الذي يكذبه، فإذا حلفا يفسخ القاضي في نصيبه وتبقى الإجارة في نصيب الآخر جائزة عندهم جميعاً هذا إذا اختلفا قبل المسير. فإن اختلفا بعد المسير إلى أحد المكانين فالقول قول الآجر مع يمينه؛ لأن المستأجر يدعي زيادة في المعقود عليه وصاحب الدابة ينكر حال مالا يحتمل الفسخ فيكون القول قوله مع يمينه كما في بيع العين إذا اختلفا في قدر المعقود عليه واتفقا على الثمن حال مالا يحمل العقد الفسخ وهناك القول قول البائع مع يمينه فكذلك هذا، ولم يذكر محمد رحمه الله جواب هذه المسألة بتمامها في الكتاب، وإن أقاموا جميعاً فالبينة بينة المستأجر إذا كان يدعي زيادة مسير على ما يقولان؛ لأنه يثبت زيادة في المسير تنفيها بينة صاحبي الدابة فتكون البينة بينته. وما ذكر في الكتاب أن القول قول الذي استأجر مع يمينه جواب المسألة الأولى لا جواب الثانية. إذا استأجر الرجل دابة وغلاماً ليذهب به بكتاب إلى بغداد، فاختلف المستأجر والأجير فهذا على وجهين: إما أن يختلفا في إيفاء العمل بأن قال العبد: دفعت الكتاب إلى فلان وقال المرسل: ما دفعت إليه أو اختلفا في إبقاء الأجر بأن قال المرسل أعطيتك الأجر أو قال: أعطاك المرسل إليه وأنكر الغلام ذلك فإن اختلفا في إيفاء العمل والمرسل ينكر يكون القول قوله كالبائع إذا ادعى تسليم المبيع والمشتري ينكر وإن اختلفا في إيفاء الأجر فالقول قول الغلام؛ لأن المرسل يدعي إيفاء الأجر والغلام ينكر فيكون القول قوله، كالمشتري إذا ادعى إيفاء الثمن وأنكر البائع كان القول قوله مع اليمين، كذا هذا. رجل تكارى دابة من رجل ولم يسم بغلاً أو حماراً فجاءه بحمار فاختلفا فقال المستكري: إنما استكريت منك هذا البغل بخمسة دراهم وقال المكاري: بل أكريتك هذا الحمار بخمسة دارهم فهذا على وجهين: إما إن يختلفا قبل (45آ4) الركوب أو بعد الركوب، فإن اختلفا قبل الركوب وليس لأحدهما بينة فإنهما يتحالفان؛ لأنهما اختلفا في المعقود عليه حال قيام المعقود عليه وهو قابل للفسخ فيتحالفان وإنما قلنا ذلك؛ لأن البغل مع الحمار مختلفان فتكون منفعتهما مختلفة فكان الاختلاف في المعقود عليه، وإن اختلفا بعد الركوب ولم يتم لأحدهما بينة فالقول قول المستأجر، لأن المكاري يدعي عليه إجارة الحمار وهو ينكر ويقول: ما استأجرت الحمار ولم يجب علي شيء بركوبه فيكون القول قوله مع يمينه، فأما إذا أقاما جميعاً البينة إن وقع الاختلاف في المعقود عليه وهي المنفعة، فإن اختلفا قبل الركوب فالبينة بينة المستأجر وذلك، لأن المستأجر ببينته يثبت استحقاق منفعة البغل لنفسه والمكاري يثبت استحقاق منفعة الحمار لغيره، فكان المستأجر أثبته بالمدعين فكانت بينته أولى بالقبول وكان كالبائع والمشتري إذا اختلفا في المعقود عليه وأقاما جميعاً البينة فالبينة بينة المشتري؛ لأنه يثبت لنفسه والبائع لغيره وإن وقع الاختلاف بينهما في الأجر بأن اختلفا بعد الركوب فالبينة بينة المكاري أولى بالقبول.

وإذا تكارى الرجل دابة من الكوفة إلى فارس وسمى مدينة معلومة فالإجارة جائزة؛ لأن المعقود عليه معلوم، والأجر معلوم فإن اختلفا في النقد فقال لمستأجر: أعطيتك نقد فارس؛ لأن الوجوب كان بفارس أنقص، وقال المكاري: لا بل عليك نقد كوفة؛ لأن العقد بالكوفة ونقد الكوفة أزيد كان عليه نقد المكان الذي فيه العقد لا نقد المكان الذي حصل فيه الوجوب وذلك؛ لأن الوجوب تبع للعقد؛ لأنه حكم من أحكام العقد والأحكام تابعة لأسبابها، وإذا كان الوجوب تبعاً للعقد كان العقد أصلاً فكان إيجاب مكان العقد وإنه أصل أولى من إيجاب نقد مكان الوجوب، وكان هذا بمنزلة ما لو اشتري عبداً بألف درهم إلى ستين ثم تغير النقد فما كان وقت العقد فإنه يجب نقد ما كان وقت العقد لا نقد ما كان وقت المطالبة لأن المطالبة تبع للعقد لأنه يوجب بسبب العقد فكان اعتبار مكان وقت العقد وإنه أصل أولي من اعتبار مكان وقت المطالبة وإنه تبع فكذلك هذا. وإذا استأجر الرجل دابة إلى الحيرة فقال رب الدابة: هذه الدابة دونك فاركبها فلما كان يقدر ما يرجع من الحيرة اختلفا فقال المستكري: لم أذهب بها إلى الحيرة فلا أجر علي وقال صاحب الدابة: لا بل ذهبت بها إلى الحيرة ولي عليك الأجر فهذا على وجهين: إما إن يعلم خروجه إلى الحيرة أو لم يعلم خروجه، فإن لم يعلم خروجه وتوجهه إلى الحيرة فالقول قول المستأجر؛ لأنه متى لم يعلم خروجه فحاصل اختلافهما وقع في التسليم في المكان الذي أضيف إليه العقد صاحب الدابة يدعى تسليمها في المكان الذي أضيف العقد إليه والمستأجر ينكر فيكون القول قول المستأجر، وإن علم خروجه إلى الحيرة فالقول قول صاحب الدابة؛ لأنه متى علم خروجه إلى الحيرة فقد ثبت التسليم في المكان الذي أضيف إليه العقد حاصل اختلافهما بعد ذلك إنما وقع في انقطاع التسليم. المستأجر يدعي انقطاع التسليم بعدما وجد، وصاحب الدابة ينكر فيكون القول قوله، وكان المستأجر الدار إذا ادعى أنه غصب الدابة منه بعد ما سلم للدار إليه وصاحب الدار ينكر وهناك القول قول صاحب الدار إذا لم يكن في الدار غاصب وقت المنازعة فكذلك هذا. نوع آخر إذا وقع الاختلاف بين المستأجر وصاحب الرحى فهذا على وجهين: إما أن يختلفا في مقدار مدة الانقطاع بأن قال صاحب الرحى: انقطع خمسة أيام وقال المستأجر: انقطع عشرة أيام أو يختلفا في أصل الانقطاع بأن قال المستأجر: انقطع الماء عشرة أيام وقال صاحب الرحى: لم ينقطع. فإن اختلفا في مقدار مدة الانقطاع بعدما اتفقا على الانقطاع فالقول قول المستأجر مع يمينه لوجوه ثلاثة: الأول: وهو أن صاحب الرحى مع المستأجر اتفقا على زوال التسليم بعد ما كان ثابتاً حين اتفقا على انقطاع الماء لأن انقطاع الماء يوجب زوال التسليم ولهذا سقط الأجر

بقدره فصاحب الرحى بعد ذلك يدعي تسليماً مبتدأ بعود الماء بعد خمسة أيام والمستأجر ينكر فيكون القول قوله، كما لو لم يكن التسليم ثابتاً ادعى صاحب الرحى التسليم والمستأجر ينكر فيكون القول قوله فكذلك هذا. والثاني: أن صاحب الرحى يدعي على المستأجر زيادة أجر والمستأجر ينكر فكان القول قول المستأجر مع يمينه. والثالث: أن العقد انفسخ في مدة خمسة أيام باتفاقهما؛ لأن انقطاع الماء يوجب انفساخ العقد ولهذا يسقط الأجر بقدره فصاحب الرحى بعد مضي خمسة أيام يدعي عود العقد والمستأجر ينكر، فعلى العبارات الثلاث القول قول المستأجر مع يمينه. فأما إذا اختلفا في أصل الانقطاع فإنه يُحَكَّم الحال إن كان الماء جارياً وقت الخصومة فالقول قول صاحب الرحى مع يمينه؛ لأن ظاهر الحال يشهد له؛ لأن الماء كان جارياً في الابتداء ووقت الخصومة جاري فالظاهر أنه لم ينقطع فيما بين ذلك، فمن ادعى الانقطاع فقد ادعى خلاف الظاهر فكان مدعياً والآخر منكراً، وإن كان الماء منقطعاً وقت الخصومة فالقول قول المستأجر؛ لأن الظاهر يشهد للمستأجر؛ لأن الانقطاع للحال يدل على انقطاعه فيما مضى من حيث الظاهر فيجعل القول قول المستأجر. وإذا استأجر الرجل رحى ماء فأنكر أحد الحجرين أو الدوارة فهذا عذر وله أن يفسخ الإجارة لما ذكرنا من قبل، وكذلك إذا انكسر البيت فإن اختلفا فهذا على وجهين: إما أن يختلفا في مدة الانكسار بعد ما اتفقا على الانكسار، أو يختلفا في أصل الانكسار والجواب فيه كالجواب فيما إذا اختلفا في قدر مدة الانقطاع وفي أصل الانقطاع. وإذا تكارى رجل من غيره إبلاً مسماة من الكوفة إلى مكة ثم اختلفا في الخروج فقال أحدهما: أخرج لعشرة ذي القعدة وقال الآجر: لا بل يخرج بعد خمس يمضين من ذي القعدة، فإنه يؤخذ بقول من يقول أخرج بعد خمس يمضين من ذي القعدة وذلك لأن ما يقوله هذا أقرب إلى المعروف المعتاد فيما بينهم؛ لأن المعروف المعتاد فيما بينهم أنهم كانوا يخرجون بعد عشر يمضين من ذي القعدة؛ لأنهم كانوا لا يخافون فوات الحج ولا يلحقهم تعب السرعة في السير بطي المراحل؛ لأن من الكوفة إلى مكة سبعة وعشرين مرحلة فيحتاج إلى سبعة وعشرين يوماً، وقد بقي من ذي القعدة عشرين إن كُمِلَّ الشهر وإن أنقص تبقى تسعة عشر فيحتاج إلى سبعة أو إلى ثمانية من عشر ذي الحجة فيكونون يوم التروية بمكة لا محالة، وإذا كان الوقت المعروف للخروج فيما بينهم بعد عشر يمضين من ذي القعدة، فمن قال: أخرج بعد عشر يمضين كان ما يقول أقرب إلى المعروف المعتاد مما يقوله الآخر؛ لأنه يدعي التقدم على الوقت المعتاد بخمسة، والآخر يدعي التقدم بعشرة، فكان الأخذ بقوله أولى إذ ليس في الأخذ بقوله فوات الحج ولا تعب السرعة بطي المراحل وهذا بخلاف ما لو قال أحدهما: أخرج بعد النصف من ذي القعدة وقال الآخر: بل أخرج بعد خمس يمضين، فإنه لا يؤخذ بقول واحد منهما ويؤخد بالوقت المعتاد وذلك؛ لأن ما يقوله كل واحد منهما في المقارنة في الوقت المعتاد وفي المخالفة

على السواء (45ب4) لأن أحدهما يدعي التقدم على الوقت المعتاد بخمسة والآخر يدعي التأخر عن الوقت المعتاد بخمسة فلم يمكن ترجيح قول أحدهما على الآخر فتساقط القولان للتعارض فوجب الأخذ بالوقت المعتاد وذلك بعد عشر يمضين بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك أمكن ترجيح قول أحدهما على الآخر من الوجه الذي ذكرنا وهذا كله إذا لم يتفقا على شيء، فأما إذا اتفقا على وقت فإنه يجب الأخذ بذلك، وإن كان ما اتفقا عليه خلاف المعروف المعتاد؛ لأنه لا عبرة للعرف متى جاء الشرط بخلافه، كما في نقد البلد في البياعات لا عبرة بها متى جاء الشرط بخلافه فكذلك هذا. نوع آخر الأصل في هذا النوع أن التنازع متى وقع بين اثنين لم يصر قول أحدهما حجة على الآخر وهذا ظاهر. والثاني: أن القضاء بالبينة على الغائب وللغائب من غير أن يكون عنه خصم حاضر إما حكمي أو قصدي لا يجوز، والقضاء للغائب بإقرار الحاضر جائز. والثالث: لأن البينة متى قامت لحفظ مال الغائب ودفع الهلاك والفساد عن ماله فالقاضي بالخيار إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل؛ لأنها قامت على إثبات حق الغائب من وجه ليس عنه خصم حاضر إلا أن فيه وقع الفساد والهلاك عن أموال من كان عاجزاً عن الحفظ بنفسه، والقاضي نصب ناظراً للمسلمين فإن شاء مال إلى هذا الجانب وإن شاء مال إلى ذلك الجانب. قال: رجلان استأجرا دابة من الري إلى الكوفة بأجر مسمى، فلما ذهبا إلى الكوفة اختصما عند القاضي فقال أحدهما: اكتريناها من فلان إلى الكوفة ذاهباً وجائياً وقال الآخر: اكتريناها من فلان إلى مكة ذاهباً وجائياً ولا بينة لواحد منهما فإن القاضي يقضي بالدابة ملكاً للمقر له الغائب؛ لأنهما أقرا أنها مملوكة للغائب والدابة في أيديهما وإقرار صاحب اليد بما في يده للغائب صحيح فصّح القضاء به للغائب ولا يقضي فيها بالإجارة؛ لأنهما يدعيان الإجارة فيها على الغائب والقضاء على الغائب بالبينة لا يجوز، فكيف بمجرد دعواهما، ويمنع القاضي كل واحد منها من الذهاب إلى الموضع الذي يدعي؛ لأن كل واحد منهما ينازع الآخر، وقد بينا أن قول كل واحد من المنازعين ليس بحجة على صاحبه، فإن اجتمعا على شيء تركهما القاضي وما اجتمعا عليه؛ لأن الدابة في أيديهما وقولهما فيما لا منازع لهما حجة وليس للقاضي إنشاء الخصومة للغائب فيدعهما وما اجتمعا عليه، كرجل في يده مال وهو يقول: وهبه لي فلان أو قال: دفع إلي فلان أو دفعه إلي فلان أجر، فالقاضي لا يتعرض له لما قلنا كذا ها هنا. فإن طلبا من القاضي أن يأمرهما بالنفقة عليها أو بيعها، فالقاضي لا يأمرهما بذلك؛ لأن القاضي إنما يجوز له الأمر بالإنفاق على الدابة والأمر بالبيع نظراً للغائب وإنما يكون نظراً للغائب إن كانا أمينين في الدابة بحيث لو لم ينفقا وهلكت الدابة لا يكون عليها ضمان، وهذا محتمل يجوز أن يكونا ضامنين فلهذا لا يأمرهما القاضي بذلك قبل إقامة البينة، فإن أقام كل

واحد منهما البينة على ما ادعاه من الكراء وركب البغال وقف القاضي الدابة في أيديهما؛ لأنهما أمنا أن صاحب الدابة رضي بأمانتهما ولا يأذن القاضي لواحد منهما في الركوب إلى الموضع الذي يدعي لما فيه من إزالة يد أحدهما وقد استويا فيه ولما فيه من الحكم على الغائب بالبينة ولكن يأمرهما أن ينفقا عليه على ما يرى أن رجاء قدوم صاحبها وإن لم يرج لا يأمرهما بالنفقة بل يأمرهما بالبيع؛ لأنه ثبت كونها أمانة للغائب في أيديهما، والقاضي نصب ناظراً للمسلمين فيأمرهما بما هو نظر للغائب، ففي الوجه الأول: الانفاق أنظر للغائب، وفي الوجه الثاني: البيع أنظر؛ لأنه إذا كان لا يرجو قدوم صاحبها لو أمرهما بالإنفاق ربما تأتي النفقة على قيمة الدابة فيأمرهما بالبيع احتياطاً، وإذا باعا الدابة بأمر القاضي وقف القاضي الثمن في أيديهما؛ لأنه كان يقف الدابة في أيديهما فيقف بدلها أيضاً في أيديهما، فإن كانا قد أنفقا عليها بأمر القاضي ويثبت ذلك عند القاضي، فالقاضي يعطيهما من الثمن مقدار ذلك؛ لأنه ثبت عند القاضي وجوب هذا القدر ديناً على الغائب؛ لأن أمر القاضي بالإنفاق وله ولاية كأمر الغائب بنفسه وثمن الدابة مال الغائب وأنه من جنس حقهما وكان للقاضي أن يعطيهما من ذلك مقدار دين الغائب. وإن أقاما جميعاً البينة على أنهما أوفيا الكراء وطلبا من القاضي أن يقضي من الثمن بقية حقهما من الكراء لم يقبل القاضي ذلك؛ لأن هذا دين لم يثبت عند القاضي بما أقاما من البينة لأنهما أقاما البينة؛ على إثبات دين على الغائب وليس عنه خصم حاضر لا قصدي ولا حكمي، فصار وجودها وعدمها بمنزلة. فإن أقاما البينة على موت صاحب الدابة قبل القاضي ذلك ولقي في بقية حقهما فيما عجلا من الأجرة ويأخذ منهما ما بقي من الثمن ويضعه في يدي ثقة حتى يحضر ورثة الميت. فرق بين هذا وبينما إذا أقاما البينة على إيفاء الكراء حال حياة الآجر حيث لا يقبل القاضي ذلك، والفرق بينهما أن بعد موت الغائب بينتهما قامت على خصم حاضر وهو القاضي فإن للقاضي بعد موت الغائب ولاية نصب الوصي للميت إذا لم يكن للميت وصي ولا وارث حاضر وما لم ينصب الوصي فالقاضي بمنزلة الوصي للميت، فقامت البينة على خصم حاضر فثبت ما أعطى من فضل الكراء فأما قبل وفاته فليس للقاضي ولاية نصب خصم عن الغائب؛ لأنه يمكن للمدعي الخصومة مع الحي في الجملة فكانت البينة في حق إعطاء فصل الكراء فإنه على غير خصم فلا تقبل وإنما يأخذ القاضي ما بقي من الثمن منهما ويضعه في يدي العدل؛ لأنه يثبت بهذه البينة أن المال صار للوارث ولم يثبت الرضا من الوارث بأمانتهما بخلاف حالة الحياة؛ لأن هناك ثبت كون المال للغائب وقد ثبت أنه رضي بأمانتهما فلا يخرج القاضي العين ولا الثمن بعد البيع عن أيديهما وإن أحب القاضي في جميع هذه المسائل أن لا يتعرض بأمرهما ببيع ولا نفقة ويبيعه ذلك؛ لأن فيه قضاء على الغائب من وجه وفيه حفظ المال على الغائب من وجه أيضاً، فيميل إلى أيهما شاء.

ولو اكتريا دابة من بغداد إلى الكوفة ذاهباً وجائياً فلما بلغا الكوفة بدا لأحدهما أن لا يرجع إلى بغداد كان ذلك عذراً في فسخ الإجارة؛ لأنه قصد ترك السفر إلى بغداد في الانتهاء فيكون ذلك عذراً كما لو ترك السفر في الابتداء فإن رفعا الأمر إلى القاضي في فسخ الإجارة وتصادقا على ذلك ولم يقيما بينة فالقاضي لا يعرض بشيء من ذلك لأن قولهما ليس بحجة على القاضي فإن أقاما البينة مع تصادقهما على ذلك فالقاضي لا يفسخ الإجارة لما في ذلك من القضاء على الغائب لكنه إن شاء أجر ذلك النصف من شريكه على سبيل النظر؛ لأن الإجارة على الغائب من باب النظر فيفعله القاضي ذلك كما في اللقطة إذا كانت دابة فإذا فعل ذلك يضمن ذلك انفساخ الإجارة الأولى في حق صاحب العذر مقتضى صحة ما يفعله، ويجوز أن يثبت الشيء ضرورة وإن كان لا يثبت مقصوداً. وفي الكتاب يقول: إن شاء القاضي يكري للدابة كلها من الذي يرجع إلى بغداد ومعناه أن القاضي يكري النصف الذي كان لصاحب العذر من الذي يريد الرجوع إلى بغداد، ويقرر الكراء في النصف الذي كان له، وإن شاء أكرى نصفها من آخر فتركناها جميعاً أو على سبيل الثاني كما كانا يفعلان مع الأول، وأشار في بعض روايات هذا الكتاب أنهما إذا تصادقا على ما ادعيا في هذه المسألة ولم يقيما بينة أن القاضي يتعرض إما إن شاء أجر ذلك النصف من شريكه الذي يريد الرجعة إلى بغداد أو من رجل آخر على سبيل النظر، كما يفعل مثل هذا إذا أقاما البينة، وذكر في مسألة أول النوع أنهما إذا أجمعا على شيء فالقاضي يتركهما وما أجمعا عليه ولا يتعرض لهما، وليس في المسألة روايتان لكن ما ذكر في مسألة أول النوع (46آ4) جواب القياس. وما ذكر هاهنا جواب الاستحسان وهذا لأن تصادقهما والدابة في أيديهما بمنزلة إقامة البينة، ولو أقاما البينة، القياس أن لا يتعرض لهما، وفي الاستحسان إن فعل كان أحسن وأفضل، وإذا كان فعل البينة على القياس والاستحسان فكذا فصل التصادق. ثم لم يذكر في الكتاب أنه إذا لم يجد من يكتري ذلك النصف هل له أن يودع ذلك النصف من الذي يريد الرجوع إلى بغداد؟ وذكر في موضع آخر أنه إن شاء فعل ذلك فيكون النصف في يده بالوديعة والنصف بالإجارة فيركب يوماً وينزل يوماً وهذا الإطلاق على قولهما أما على قول أبي حنيفة إجارة النصف من رجل آخر لا يجوز لمكان البيوع ابن سماعة عن محمد: رجل دفع إلى قصار ثوباً ليقصره له بدرهم فقال القصار: هذا ثوبك وقد قصرته بدرهم كما أمرتني وقال دافع الثوب: ليس هذا ثوبي، وثوبي غير هذا فالقول قول القصار أن هذا ثوبه ولا يضمن بقول الدافع، والقول قول دافع الثوب فيما ادعى عليه القصار من الأجر ولا أجر للقصار، أما القول قول القابض في تعيين المقبوض ولا أجر للقصار؛ لأن الأجر إنما يستحق بإقامة العمل في المحل المأذون فيه وقد اختلفا فيه، وإن قال رب الثوب هذا ثوبي ولم آمرك أن تقصره والذي دفعت إليك ليقصر غير هذا فإنه يأخذ هذا الثوب ولا أجر عليه قال: ولو كان هذا في القطع والخياطة لم يأخذه ولكنه يضمن الخياط قيمته ويتركه على الخياط إن شاء ولم يثبت مثل هذا الخيار

في فصل القصار؛ لأن الخياط وجد منه نوع استهلاك والقصار لم يوجد منه الاستهلاك أصلاً. هشام قال: سألت محمد عن رجل دفع إلى قصار ثوباً فقصره له بدرهم فأعطاه القصار ثوباً وقال: هذا ثوبك وقال رب الثوب: ويراه عوضاً عن ثوبه قال: لا يسعه لبسه أو قال: بيعه إلا أن يقول رب الثوب للقصار: أخذته عوضاً عن ثوبي فيقول القصار: نعم؛ لأن عند ذلك ينعقد بينهما مبادلة ويصير هذا الثوب ملكاً للدافع بالمبادلة. هشام قال: سألت محمداً رحمه الله عن القصار ومن بمعناه إذا دفع إليهم الشيء بأجر إذا ادعى وذلك الشيء على الدافع لا يصدق عليه إلا ببينة، وكذلك الأجير المشترك في رعي البقر والغنم وهذا الجواب مستقيم على قول محمد ومن يرى أن يد أجير المشترك يد ضمان، أما من يرى أن يده يد أمانة وهو أبو حنيفة رحمه الله يقول: يقبل قوله في الرد كالمودع وكذلك إن ادعى الموت كان كما إذا ادعى الرد قال: ولو تكاراه على أن يحمل له مملوكاً، فادعى أنه مات صدق بلا بينة وليس ولد آدم كالبهائم. ابن سماعة عن محمد: في رجل أجر رجلاً داراً بعشرة دراهم فاستحقها رجل ببينة قامت له على الدار وقال: كنت دفعتها إلى الآجر وأمرته أن يؤجرها لي فالأجرة لي وقال الآجر: كنت غصبتها منه وأجرتها فالأجرة لي، فالقول قول رب الدار ويأخذ الأجر؛ لأن الظاهر شاهد لرب الدار فإن الظاهر أن الإنسان يتصرف في ملك الغير لذلك الغير وإن أقام الآجر بينة على ما ادعى من الغصب لم تقبل بينته؛ لأن بهذه البينة يريد إبطال قول المستحق والبينات شرعت للإثبات لا للإبطال، وإن أقام بينة على إقرار المستحق بما ادعى من الغصب قبلت بينته وكانت الأجرة له؛ لأنه البينة لا تبطل حق المستحق إنما يثبت إقراره بالغصب ثم إذا ثبت الغصب ترتب عليه حكم الآجر. وذكر الحاكم الشهيد في «المنتقى» عن هذه المسألة في الدابة برواية هشام عن محمد رحمه الله، وذكر الجواب فيها على نحو ما ذكرنا في مسألة الدار. ولو كان الآجر بنى في الأرض بناء ثم أجرها بسببه فقال رب الأرض أمرتك أن تبني وتؤاجر وقال الآجر: غصبتك وبنيتها وأجرتها قال: يقسم الأجر على قيمة الأرض غير مبنية وعلى البناء فما أصاب الأرض فهو لرب الأرض وما أصاب البناء في يده. إبراهيم وهشام عن محمد رحمه الله: في رجل في يديه أرض زرعها فقال رب الأرض: أمرتك أن تزرع فزرعت بأمري، وقال المزارع: غصبتها وزرعتها لنفسي فالقول قول الزارع يأخذ منه قدر بذره ونفقته ويتصدق بالفضل وهذا؛ لأن الزارع زرعه ببذر كان في يده والزرع نما ذلك البذر فالظاهر كما يشهد له في البذر يشهد له في نمائه فيقبل قوله فيه. وفي «فتاوى الفضلي» : فيمن استأجر ضياعاً بعضها مزروعة، وبعضها فارغة قال: يجوز في الفارغة دون المشغولة، وإذا اختلفا فالقول للمؤاجر بخلاف البيع، فإن هناك القول لمن يدعي الصحة، لأن هناك اتفقا على أصل العقد واختلفا في وصف الصحة،

أما ها هنا المؤاجر ينكر العقد أصلاً. قال القاضي: الإمام ركن الإسلام علي السغدي: ينبغي أن يُحَكِّم الحال إن كانت فارغة فالقول للآجر وإن لم يكن فللمستأجر. وفي الدعوى من الفتاوي: أرسل صاحب الكرابيس إلى قصار رسولاً ليسترد ثيابه الأربع، فلما أتى به فإذا هو ثلاثة قال القصار: دفعت إليه أربعة، وقال الرسول: دفع إلي ولم يعده قال: يسأل صاحب الثياب فأيهما صدقه منهما برئ عن خصومته وأيهما كذبه يحلفه، فإن حلف برئ وإن أبى لزمه ما ادعاه فإن صدق القصار وجب عليه أجر الثوب الرابع وإن كذبه وحلف القصار، فللقصار على صاحب الثوب اليمين على الآجر، فإن حلف برئ عن الأجر بحصة الثوب الرابع. قاله أبو بكر: استأجر من آخر دابة، وذهب إلى سمرقند فجاء آخر وادعاها لنفسه ولم يصدقه أنه مستأجر واستحق عليه هل للآجر أن يرجع على بائعه؟ قيل لا أشار إليه في الباب الثاني من الزيادات فإنه قال: جاريته في يد عبد الله فقال إبراهيم لمحمد: هذه الجارية بعتها منك وسلمتها إليك وقد غصبها منك عبد الله وصدقه محمد، فلإبراهيم أن يأخذ الثمن من محمد، ولو استحق إنسان الجارية بالبينة من يد عبد الله ليس لمحمد أن يرجع على إبراهيم؛ لأن في زعم البائع وهو إبراهيم والمشتري وهو محمد أن عبد الله غاصب والغاصب لا ينتصب خصماً في إثبات الاستحقاق عليه، فلم يثبت الاستحقاق في حقهما فلا يرجع عليه، فإن كان المدعي للدابة فعلاً على الذي في يديه الدابة بأن قال: هذه الدابة ملكي غصبتها مني ينتصب هو خصماً ويسمع عليه البينة ويكون للآجر حق الرجوع على بائعه إذا ادعى على آجر أني استأجرت هذه الدابة التي في يدك من فلان بتاريخ كذا قبل أن تستأجرها أنت هل ينتصب صاحب اليد خصماً للمدعي في حق إثبات الإجارة عليه؟ حتى لو أقام بينة على الإجارة هل تسمع بينته؟ فهذا على وجهين: إن ادعى المدعي على صاحب اليد فعلاً بأن قال: استأجرت هذه الدار من فلان وقبضتها فأخذتها مني بغير حق أو غصبتها مني تسمع بينته، وأما إذا قال: استأجرت من فلان قبل أن تستأجر أنت وقد سلم إليك ولم يدع عليه فعلاً لا تسمع بينته؛ لأن المستأجر لا ينتصب خصماً لا في إثبات الكل المطلق ولا في إثبات الإجارة عليه إلا بدعوى الفعل عليه، ويشترط دعوى فعل موجب للرد لا دعوى الفعل المطلق. ألا ترى أنه لو قال المدعي: هذه الدار ملكي اشتريته من الذي أجرها منك لا ينتصب هو خصماً للمدعي وهو نظير مسألة الوديعة إذا ادعى رجل الوديعة وادعى أنه اشتراها من المودع لا ينتصب المودع خصماً له بخلاف ما إذا ادعى الوراثة وقد ذكرنا قبل هذا في مثل هذه المسألة أن المستأجر ينتصب خصماً لمن يدعي الاستئجار قبله على قول الشيخ الإمام الزاهد علي (46ب4) البزدوي، والشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي من غير تفصيل ولا ينتصب خصماً على ما ذكره شيخ الإسلام من غير تفصيل. والله أعلم.

الفصل السادس والعشرون: في استئجار الدواب

الفصل السادس والعشرون: في استئجار الدواب قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا تكارى الرجل من رجل إبلاً مسماة بغير أعيانها من الكوفة إلى مكة فالإجارة جائزة. قال الشيخ الإمام الزاهد خواهرزاده رحمه الله: ليس تفسير المسألة أنه استأجر إبلاً بغير أعيانها؛ لأن استئجار إبل بغير أعيانها لا يجوز؛ لجهالة المعقود عليه. ألا ترى أنه لو استأجر عبداً للخدمة لا بعينه لا يجوز وإنما لا يجوز لمكان جهالة المعقود عليه. وإنما تفسير المسألة أن يقبل المكاري الحمل، فيقول له المستكري: احملني إلى مكة بكذا على إبل فيكون المعقود عليه الحمل في ذمة المكاري وإنه معلوم، والإبل آلة الحمل. وجهالة الآلة لا توجب فساد الإجارة، كما في الخياط والقصار وما أشبه ذلك. قال الصدر الشهيد رحمه الله: ونحن نفتي بالجواز كما ذكر في الكتاب، وتفسير ذلك ما قلنا وخيار ذلك معتاد، حتى لو لم يكن كذلك لا يجوز. وفي «الفتاوى» : إذا تكارى دابة إلى موضع معلوم بأربعة دارهم على أن يرجع في يومه فلم يرجع إلى خمسة أيام، قال يجب درهمان أجرة الذهاب؛ لأنه مخالف في الرجوع. [ إذا استأجر بعيراً إلى مكة، فهذا على الذهاب دون المجيء، وفي العارية على الذهاب والمجيء؛ لأن في الإجارة مؤنة الرد على المؤاجر، وفي العارية مؤنة الرد على المستعير. وفي «الأصل» : رجل تكارى دابتين من رجل صفقة واحدة على أن يحمل عليهما عشرين مختوماً، فحمل على كل واحد منهما عشرة مخاتيم قال: يقسم الأجر على أجر شك كل دابة منهما، ولا ينظر إلى ما حمل عليهما؛ لأن أجر الدابة على قدر سيرها وقوتها وسرعتها وإبطائها وإذا اتكارى قوم مشاة إبلاً على أن المكاري يحمل عليه من مرض منهم، أو من أعيا منهم فهذا فاسد؛ لأن الراكب مجهول. في «الأصل» أيضاً: ولو شرطوا عليه عينه الأجير وتفسيرها: أن يركب واحد منهم ثم ينزل ثم يركب الآجر ثم ينزل، فذلك جائز؛ لأن الراكب معلوم. وإذا أجر الرجل دابة إلى الجبانة أو إلى الجنازة، فهذا لا يجوز. قالوا: إنما لا يجوز إلى الجبانة في بلدة لا مثلها جبانتان، أحديهما: بعيدة والأخرى قريبة. كما كان في بلاد محمد رحمه الله جبانتان أحدهما قريبة والأخرى بعيدة، ولا يدري إلى أيتهما أجر أما إذا كانت جبانة

واحدة يجوز وتقع الإجارة على أول حدود من تلك الجباية كما لو استأجر دابة من محلة إلى محلة وفي الجنازة إنما لا يجوز إذا كان المصلى اثنين أو ثلاثة، ولا يدري إلى أيهم أجر أما إذا كان المصلى واحداً أو أكثر إلا أنه يعلم أنه إلى أيهم أجر يجوز. وإذا استأجر دابة لسبع عليها رجلاً، أو لتلقى عليها رجلاً، لا يجوز لأن المعقود عليه في الدابة إنما يصير معلوماً إما ببيان مدة معلومة إذا كان الركوب مستغرقاً جميع المدة، أو بتسمية مكان معلوم، ولم يوجد واحد منهما. أما المدة فظاهر، وأما المكان فلأنه لم يذكر أنه إلى مكان يسعه وفي أي مكان يتلقاه فيبقى المعقود عليه مجهولاً. وهذه جهالة توقعهما في المنازعة، فلهذا لا يجوز. ومن هذا الجنس إذا استأجر دابة من رجل كل شهر بعشرة، على أنه متى بدأ به من ليل أو نهار حاجة ركبها، فإن كان سمي بالكوفة ناحية من نواحيها فهو جائز، وإن لم يسم مكاناً لا يجوز؛ لأن المعقود عليه مجهول؛ لأن المعقود عليه في الدابة لا يصير معلوماً ببيان المدة إذا لم يكن الركوب مستغرقاً جميع المدة وإنما يصير معلوماً ببيان المكان، فأما إذا استأجر يوماً ليقضي بها حوائجه في المصر فهو جائز وإن لم يبين مكاناً، لأن الركوب هاهنا مستغرق جميع المدة فهو بمنزلة ما لو استأجر رجلاً يوماً للخدمة أو للخياطة وذلك جائز. وإذا تكارى الرجل دابة من رجل على أن يركب مع فلان تسعه إلى مكان معلوم حتى جازت الإجارة، فحبسها من الغد إلى انتصاف النهار، ثم بدا للرجل أن لا يخرج فرد الدابة عند الظهر، فلا أجر لعدم تمكنه من استيفاء المعقود عليه في المكان الذي أضيف إليه العقد، وهل يضمن بهذا الحبس؟ إن حبسها قدر ما يحبس الناس لانتظار خروج ذلك الرجل لا يضمن، وإن كان أكثر من ذلك يضمن؛ لأن المالك لم يأذن بحبس لا يستوجب الأجر به، لكن قدر ما يحبس الناس لخروج ذلك يحتاج إليه فصار ذلك مستثنى عرفاً وبقي ما ورائه على أصل القياس. وإذا تكارى الرجل دابة من الكوفة ليركبها إلى مكة أو إلى مصر آخر كان له أن يبلغ بها منزله سواء استأجرها للركوب أو للحمل وهذا استحسان. والقياس أن يقال: كما انتهى إلى أول حدود تلك البلدة تنتهي الإجارة. وجه القياس: أن الإجارة وقعت إلى الكوفة لا إلى منزله، فإذا انتهى إلى أول حدود الكوفة، وجب أن تنتهي الإجارة كما لو استأجر في المصر من محلة إلى محلة، ونزل المستأجر في المحلة المشروط إليها، فإنه تنتهي الإجارة إذا انتهى أول تلك المحلة، ولا يبلغ بها منزله كذا هاهنا. وجه الاستحسان: أن العرف الظاهر فيما بين الناس، أن من استأجر دابة إلى مصر أو قرية إنه يبلغ بها منزله، وكذلك في الأحمال العرف فيما بين الناس أنهم يبلغون حمولاتهم إلى منازلهم وحوانيتهم والعرف كالمشروط، هذا العرف معدوم في المحلة، والمعنى في ذلك أنه ربما تكون المسافة من المحلة المشروطة إليها إلى منزل المستأجر

الفصل السابع والعشرون: في مسائل الضمان بالخلاف والاستعمال والضياع والتلف وغير ذلك

المضاف ما يكون فيما بين المحلتين ويفتح أن يستأجر الرجل دابة إلى موضع ويدخل في الإجارة أضعاف ما ورد عليه الإجارة، أو نقول: هذا العرف فيما بين الناس إذا كانت الزيادة على المكان المشروط دونه أما لا عرف فيما إذا كانت الزيادة فوقه أو مثله، فترد هذه الزيادة إلى ما يقتضيه القياس. وإذا استأجر دابة للحمل فله أن يركبها، وإذا استأجرها للركوب لم يكن له أن يحمل عليها، وإذا حمل عليها لا يستحق الأجر والفرق أن اسم الحمل يقع على الركوب، يقال حمل فلان فلاناً على دابته إذا ركبه، وإذا كان اسم الحمل يقع على الركوب دخل الركوب تحت اسم الحمل، أما اسم الركوب لا يقع على الحمل، ولهذا لا يقال: فلان ركب دابته إذا حمل عليها، وإنما يقال حمل فلا يدخل الحمل تحت اسم الركوب. وفي «البقالي» : إذا استأجر دابة لحمل، فحمل عليها رجلاً لا يضمن؛ لأنه أخف. وإذا استأجر دابة يطحن عليها كل شهر بعشرة دراهم، ولم يسم كم يطحن عليها كل يوم، فالإجارة جائزة إذا سمى ما يطحن؛ لأنه إذا سمى ما يطحن، فالإجارة وقعت على عمل معلوم، إلا أنه لم يبين مقدار العمل، وبيان مقدار العمل بعد بيان جنس العمل ليس بشرط، ولأن يطحن عليها مقدار ما تحمل الدابة ويطيق، وما يطحن مثلها قدراً فى العرف، وهو نظير ما لو استأجرها ليحمل عليها الحنطة، ولم يبين مقدار ما يحمل، فإنه يجوز على ما ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. وله أن يحمل عليها قدر ما تحتمل كذا هاهنا. وإذا تكارى دابة من رجل إلى بغداد على أن يعطيه الأجر إذا رجع من بغداد، فمات المستأجر ببغداد ولم يرجع منها، كان للمكاري أن يأخذ أجر الذهاب من تركته لأن أجر الذهاب قد وجب بالذهاب إلى بغداد، إلا أن المكاري كان لا يطالبه بذلك قبل الرجوع؛ لأنه ضرب لذلك أجلاً وهو قدر رجوعه من بغداد، فإذا مات فقد حل الأجل فكان له المطالبة بذلك، كما في سائر الديون المؤجلة إذا مات من عليه قبل حلول الأجل والله أعلم. الفصل السابع والعشرون: في مسائل الضمان بالخلاف والاستعمال والضياع والتلف وغير ذلك هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : رجل استأجر حماراً بسرج، فنزع ذلك السرج وأسرجه بسرج مثل الحمر، فلا ضمان عليه. الأصل فيما تذكر من جنس هذه

المسألة: أن المستأجر إذا خالف فيما شرطه من الحمل على الدابة ينظر إن كان الجنس واحداً وضرر الثاني أقل من ضرر (47آ4) المشروط أو مثله، فلا ضمان؛ لأن الجنس إذا كان واحداً وقد استوى الضرران، أو كان ضرر أقل لم يوجد الخلاف إلا من حيث الصورة والخلاف من حيث الصورة، لا يكفي لوجوب الضمان، وإن كان ضرر الثاني أكثر من ضرر المشروط يجب الضمان بقدر الزيادة؛ لأنه في الزيادة خالف صورة ومعنى، وإن كان الجنس مختلفاً يجب ضمان كل الدابة، ولا يعتبر فيه قلة الضرر ولا كثرته؛ لأن هذا خلاف صورة ومعنى، لأن هذا الجنس له يدخل تحت العقد أصلاً، وصار الحال فيه بعد العقد كالحال قبله. بيان هذا الأصل في تخريج المسائل: إذا استأجر دابة ليحمل عليها حنطة بكيل معلوم إلى مكان معلوم فحمل عليها شعيراً بمثل ذلك الكيل إلى ذلك المكان، وهلكت الدابة لا يضمن؛ لأن الشعير بمثل ذلك الكيل من الحنطة يكون أخف على الدابة من الحنطة، فهذا خلاف صورة لا معنى. وإن كان الشعير بمثل قدر الحنطة، وباقي المسألة بحاله يضمن؛ لأن الشعير بوزن الحنطة يكون أكثر كيلاً من الحنطة، فيأخذ من ظهر الدابة أكثر مما تأخذ الحنطة، فيكون هذا خلافاً صورة ومعنى. وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح كتاب «العارية» إذا استعار دابة عليها كذا مناً من الحنطة، فحمل عليها مثل ذلك الوزن من الشعير والسمسم والأرز إنه يضمن قيمتها. وذكر شيخ الإسلام * رحمه الله * في شرحه: أنه لا يضمن استحساناً، وهو الأصح؛ لأن ضرر الشعير مثل ضرر الحنطة في حق الدابة عند استوائهما وزناً؛ لأنه يأخذ من موضع الحمل من ظهر الدابة أكثر مما تأخذ الحنطة، فكان داخلاً تحت الإذن، وبه كان يفتي الصدر الشهيد رحمه الله. ولو استأجرها ليحمل عليها عشرة أقفزة شعير، فحمل عليها خمسة أقفزة حنطة ضمن قيمتها، وقيل: فيه روايتان. وإذا استأجر دابة ليحمل عليها شعيراً بكيل معلوم، فحمل عليها حنطة بمثل ذلك الكيل ضمن قيمتها؛ لأن الحنطة بمثل كيل الشعير يكون أثقل على الدابة من الشعير، فيكون ضررها أكثر، فكان خلافاً صورة ومعنى وإن كان بمثل وزن الشعير لا يضمن فرق بين هذه المسألة، وبينما إذا استأجرها ليحمل عليها عشرة أقفزة شعير، فحمل عليها أحد عشر قفيزاً من شعير، حيث يضمن جزءاً من أحد عشر جزءاً من قيمتها إذا كانت الدابة مما يقوى على حمل أحد عشر قفيزاً، وفيما إذا حمل عليها حنطة بمثل كيل الشعير. قال: يضمن جميع قيمتها؛ لأن هناك المحمول عليه من جنس المسمى، فإنما هلكت الدابة بنقل أحد عشر قفيزاً وعشرة منها مأذون فيها والحادي عشر ليس بمأذون فيه، فيضمن بذلك المقدار، أما ههنا بخلافه. وإذا استأجرها ليحمل عليها حنطة أو شعيراً بوزن معلوم، فحمل عليها لبناً أو رملاً أو حديداً، بمثل وزن الحنطة أو الشعير، ضمن؛ لأن الحنطة أو الشعير ينبسط على ظهر الدابة، والحديد والرمل واللبن يجتمع في مكان واحد، فيكون أدق بظهر الدابة، فيكون

(خلافاً) صورة ومعنى، وكذلك إذا حمل عليها تبناً أو حطباً أو قطناً بمثل ذلك وزناً، ضمن لأن اللبن والحطب والقطن يأخذ من ظهر الدابة من غير موضع الحمل، فيكون أشق على الدابة، فيكون خلافاً صورة ومعنى. ولو استأجر ليحمل عليها تبناً أو حطباً أو قطناً أو رملاً أو حديداً أو لبناً فحمل عليها حنطة أو شعيراً بمثل وزن هذه الأشياء لا يضمن؛ لأن ضرر الحنطة والشعير دون ضرر هذه الأشياء لأنهما لا يأخذان من ظهر الدابة شيئاً من غير موضع الحمل في موضع الحمل ينبسطان، فيكون حمله أيسر على الدابة، فيكون خلافاً صورة ومعنى. نوع آخر وإذا استأجر من آجر دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة، فحمل عليها أحد عشر مختوماً، فعطبت الدابة من ذلك بعدما بلغت المكان المشروط، فعليه الأجر كاملاً ويضمن جزءاً من أحد عشر جزءاً من قيمة الدابة، أما عليه الأجر كاملاً؛ لأنه استوفى المعقود عليه وزيادة، ولم يملك شيئاً من المستأجر، فكان عليه الأجر كملاً كما لو استأجر داراً ليسكن فيها ما سكن فيها حداداً أو قصاراً، ولم ينهدم شيء من الدار من عمله، فإن عليه الأجر كذا ههنا، وإنما قلنا استوفى المعقود عليه وزيادة؛ لأن المعقود عليه حمل عشرة مخاتيم حنطة، وقد استوفى ذلك وزيادة حيث حمل أحد عشر مختوماً، والزيادة لا تمنع استيفاء المعقود عليه كما لو حمل عليها عشرة مخاتيم حنطة، وركب دابة أخرى للآجر، وكما لو استأجر داراً ليسكن فيها فسكن فيها حداداً أو قصاراً، ولم يملك شيئاً من المستأجر، وإن ضمن جزءاً من أحد عشر جزءاً من قيمته، والمضمون يصير ملكاً للضامن بأداء الضمان؛ لأن الجزء المضمون ليس بمستأجر؛ لأن المستأجر عنده من هذه الدابة قدر حمل عشرة مخاتيم حنطة لأنه قدر المعقود عليه بالحمل لا بالمدة، فيصير المستحق له من هذه الدابة قدر حمل عشرة مخاتيم حنطة، كما في الأجير المشترك المستحق عليه قدر ما يسمي من العمل؛ لأن المعقود عليه مقدر بالعمل قدر حمل عشرة مخاتيم حنطة مستأجراً، وما زاد على ذلك غير مستأجر، وحكم المستأجر يخالف حكم غير المستأجر، فيجعل كل بعض من حيث الحكم بمنزلة دابة على حدة، كما في باب الرهن: إذا كان بعض الرهن مضموناً، وبعضه أمانة يعتبر كل بعض في حق الجناية عليه بمنزلة عبد على حدة؛ لأن حكم الأمانة يخالف حكم المضمون، كذا هاهنا. وإذا كان كل بعض بمنزلة دابة على حدة من حيث الحكم جعل كأنه كان عنده دابتان، أحدهما مستأجرة، والأخرى غير مستأجرة، وقد حمل على المستأجر عشرة مخاتيم حنطة وعلى غير المستأجرة مختوماً، وهناك لا يصير شيئاً من المستأجر مضموناً مملوكاً للمستأجر كذا ههنا، فهو معنى قولنا: الجزء المضمون ليس بمملوك للمستأجر، والتقريب ما ذكرنا وأما يضمن جزءاً من أحد عشر جزءاً من قيمة الدابة لأن الدابة بلغت بسبب الثقل وثقل العشرة من ذلك مأذون فيه، وثقل الحادي عشر غير مأذون فيه قالوا: تأويل المسألة من وجهين:

أحدهما: إذا كانت الدابة تطيق حمل ما زاد، وكانت تسير مع الحمل، أما إذا كانت لا تطيق، يضمن جميع قيمتها على قياس مسألة تأتي بعد هذا. والثاني: أن يحمل عليها أحد عشر مختوماً دفعة واحدة أما إذا حمل عليها عشرة مخاتيم حنطة ثم حمل عليها مختوماً، وعطبت الدابة يضمن قيمتها بتمامها، إذا حمل الحادي عشر في المكان الذي حمل العشرة، أما إذا حمل في مكان براً ويجب يضمن بقدر الزيادة على قياس مسألة تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى. فرق بين هذه المسألة، وبينما إذا استأجر ثوراً ليطحن به عشرة مخاتيم حنطة، فطحن أحد عشر مختوماً وعطبت الدابة، أو استأجرها ليكري بها جريباً، فكريت جريباً ونصف جريب، وهلك الثور، فإنه يضمن جميع القيمة؛ لأن الطحن يكون شيئاً فشيئاً. فكلما طحن عشرة انتهى العقد، فبعد ذلك هو في طحن الحادي عشر مخالف من كل وجه، فيضمن جميع قيمتها، كما لو طحن عليها قفيزاً ابتداء فأما الحمل يكون دفعة واحدة، وبعض المجهول مأذون فيه، فلا يضمن بقدره. قال: وإذا استأجر دابة ليركبها، فركب هو وحمل مع نفسه آخر، إن سلمت الدابة، فعليه الأجر كاملاً لأنه استوفى المعقود عليه وزيادة، ولم يملك شيئاً من المستأجر؛ لأنه لا ضمان لما سلمت الدابة، ولو ثبت الملك ليست بالضمان، فإن هلكت الدابة من ركوبهما بعدما بلغا المكان المشروط، فعليه الأجر كملاً ويضمن نصف قيمة الدابة. وإنما ضمن نصف القيمة؛ لأن الدابة تلفت من ركوبهما، فيكون التالف بركوب كل واحد منهما النصف، وركوب أحدهما مأذون فيه وركوب الآخر ليس بمأذون فيه، فيعطي لكل ركوب حكم نفسه، ويكون للمالك في ذلك الخيار، فإن شاء ضمن المستأجر، وإن شاء ضمن ذلك الغير. فإن ضمن المستأجر (47ب4) لا يرجع على ذلك الغير مستأجراً كان أو مستعيراً، وإن ضمن ذلك الغير رجع على المستأجر إن كان ذلك الغير مستأجراً أو إن كان مستعيراً لا يرجع عليه، ثم في حق الضمان يستوي أن يكون ذلك الغير أخف أو أثقل؛ لأن العبرة في باب الركوب للعدد؛ لأن التلف لا يحصل بالثقل؛ لأن رب بخف ركوبه يفسد الدابة، لقلة هدايته بأمر الركوب؛ لحركاته واضطرابه، ورب جسيم لا يفسدها، هداية بأمر الركوب لقلة حركاته واضطرابه على الدابة فسقط اعتبار الوزن في الراكب، وثبتت العبرة للعدد. قالوا: وإنما يضمن نصف قيمة الدابة إذا كانت الدابة تطيق ركوب اثنين، أما إذا كانت لا تطيق ركوب اثنين يضمن جميع قيمة الدابة؛ لأن ركوبهما والحالة هذه، قيل: معنى إن كان ركوباً صورة، والعبرة للمعنى، وإنما كان على المستأجر الأجر كاملاً وإن ضمن نصف القيمة وصار نصف الدابة ملكاً له بالضمان، لأن القدر المضمون ليس بمستأجر، لأن المستأجر من هذه الدابة قدر ركوبه؛ لأن المعقود عليه متعذر بالعمل، فصار قدر ركوبه من هذه الدابة مستأجراً ومازاد على ذلك غير مستأجر، والتقريب ما ذكرنا.

ثم إن محمداً رحمه الله أوجب في هذه المسألة نصف القيمة مطلقاً، وذكر في «الجامع الصغير» فيمن استأجر دابة إلى القادسية فأردف رجلاً خلفه، فعطبت الدابة ضمن بقدر الزيادة. وذكر في «الجامع الصغير» أيضاً بعد مسالة القادسية بكثير واعتبر فيها الحزر والظن. وفي «القدوري» يقول: المستأجر يضمن النصف، سواء كان الثاني أخف أو أثقل. قال الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله: وحاصل ذلك: أن يعتبر الحزر والظن، فإن أشكل يعتبر العدد، وإن حمل عليها مع نفسه صغيراً لا يمكنه استعمال الدابة، ولا تصريفها ضمن بحساب ما زاد، لأن الصغير إذا كان بهذه المثابة، فحمله وحمل شيئاً آخر سواء. وإن حمل عليها مع نفسه شيئاً آخر، وبلغت الدابة ضمن بقدر الزيادة تحرر القاضي الراكب ويزن ما حمل مع نفسه أو يرجع في ذلك إلى من له مهارة يعرف أن هذا الحمل كم يزيد على قدر ركوبه، كذا هاهنا. ثم إذا ركب وحمل عليها مع نفسه حملاً يضمن بقدر ما زاد إذا ركب في غير مكان الحمل؛ لأن ثقل الراكب مع ثقل الحمل لا يجتمعان في مكان واحد، فيبقى موافقاً في البعض مخالفاً في البعض، فيضمن بحساب ما خالف فأما إذا ركب على مكان الحمل يضمن جميع القيمة؛ لأن ثقل الراكب مع ثقل الحمل يجتمعان في مكان واحد، فيكون أدق على الدابة. فعلى هذه المسألة نقول: إذا استأجر دابة ليركبها، فركبها وحمل على عاتقه غيره، يضمن جميع القيمة، وهذا إذا كانت الدابة تطيق أن يركب عليها مع الحمل، أما إذا كانت لا تطيق ذلك يجب جميع الضمان في الأحوال كلها. ولو استأجر ليركبها فلبس من الثياب أكثر مما كان عليه حين استأجرها إن لبس من ذلك مثل ما يلبسه الناس، فلا ضمان، وإن لبس ما لا يلبسه الناس ضمن بحساب ما زاد؛ لأن في الفعل الأول ما زاد من الثياب داخل تحت الإجارة عرفاً، والمعروف كالمشروط. وفي الفعل الثاني: ما زاد من الثياب ليس بداخل تحت الإجارة أصلاً لا عرفاً ولا شرطاً، فيضمن بحساب ذلك، كما لو حمل عليها شيئاً آخر. وإذا استأجر دابة ليركبها فلم يركبها بنفسه بل ركب غيره، ضمن قيمة الدابة؛ لأن ركوب غيره ليس بداخل تحت العقد لأن الناس يتفاوتون في الركوب. وفي «الأصل» : إذا تكارى الرجل من غيره دابة يحمل عليها إنساناً بأجر معلوم، فحمل عليها امرأة ثقيلة، فعطبت الدابة، فإن كانت الدابة بحال تطيق حملها، فإنه لا ضمان؛ لأنه حمل عليها إنساناً كما سمى في العقد؛ لأن اسم الإنسان يقع على الرجل والمرأة وعليه الأجر استحساناً، لأنه استأجرها للركوب ولم يتبين الراكب فوقعت الإجارة فاسدة. فإذا ركب إنساناً انقلبت الإجارة جائزة استحساناً. وإن كانت الدابة بحال لا تطيق حملها يكون ضامناً، لأن الدابة إذا كانت لا تطيق حملها كان حملها عليه إتلافاً لا حملاً، والإتلاف لم يدخل تحت الإذن إذا استأجر دابة ليركبها، فحمل عليها صبياً صغيراً

فعثرت الدابة من حمله فهو ضامن؛ لأنه خالف، لأن الصبي الذي لا يستمسك نفسه على الدابة ضمن نصف القيمة، فثبت أن وضع الصبي على الدابة حمل، وليس إركاب، والحمل مع الركوب جنسان مختلفان، فصار به غاصباً ضامناً. وإذا استأجر حماراً بسرج، فأسرجه بسرج لا يسرج بمثله الحمر، فهو ضامن بقدر ما زاد باتفاق الروايات بالإجماع، لأنه موافق في البعض صورة ومعنى؛ لأنه أسرج كما شرط في العقد، إلا أن هذا السرج أثقل من الذي شرط في العقد، فهو بمنزلة ما لو استأجر دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم حنطة، فحمل عليها أحد عشر مختوماً. وإن كان السرج الثاني أخف من الأول، أو مثله فلا ضمان؛ لأنه ليس بمخالف معنى وكذلك لو استأجره بإكاف، تنزع ذلك الإكاف وأوكفه بإكاف هو أخف من الأول، أو مثله فلا ضمان، وإن أوكفه بإكاف هو أثقل ضمن بقدر الزيادة، وإذا استأجر حماراً بإكاف ليركبه، فنزع الإكاف وأسرجه، فلا ضمان ولأن السرج أخف على الدابة من الإكاف، فلم يكن هذا خلافاً معنى. ولو استأجر حماراً بسرج فحمل عليه مكان السرج إكافا وركبه، فهو ضامن هكذا ذكر في «الجامع الصغير» قالوا: هذا قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد: هو ضامن بقدر ما زاد، وذكر في «الأصل» وقال: هو ضامن بقدر ما زاد ولم يذكر الخلاف، فمن مشايخنا من قال: لا اختلاف بين الروايتين عند أبي حنيفة، فإنه ذكر في «الجامع الصغير» أن قول أبي حنيفة هو ضامن ولم يذكر أنه ضامن جميع القيمة أو بقدر ما زاد، فصار ما ذكر في «الأصل» تفسيراً لما ذكر في «الجامع الصغير» . ومنهم من قال: في المسألة روايتان على قول أبي حنيفة على رواية «الأصل» يضمن بقدر ما زاد، هو قولهما. وعلى رواية «الجامع الصغير» يضمن جميع القيمة، وهذا إذا كانت الدابة تؤكف بمثل هذا الإكاف، أما إذا كانت دابة لا تؤكف أصلاً أو لا يؤكف بمثل هذا الإكاف؛ يضمن جميع القيمة في قولهم جميعاً.s وكان الفقيه أبو بكر محمد رحمه الله يوفق بين الروايتين، ويقول: رواية «الجامع الصغير» محمولة على دابة تصلح للإكاف والسرج وبرواية «الأصل» محمولة على دابة لا تصلح للإكاف. ومن المشايخ من لم يوفق بين الروايتين من هذا الوجه، وذكر لكل رواية وجهاً. وجه ما ذكر في «الأصل» وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أن المستأجر فيما يسع، موافق في البعض صورة ومعنى، ومخالف في البعض معنى؛ لأن الإكاف والسرج جنس واحد؛ لأن كل واحد منهما آلة الركوب، وكل واحد منهما متخذ من الخشب، إلا أن الإكاف أثقل من السرج، فكان بمنزلة ما لو حمل عليها سرجاً آخر أثقل من السرج المأمور به. وجه ما ذكر في «الجامع الصغير» وهو الأصح: أنه مخالف في الكل صورة ومعنى؛ أما صورة: فلأن الإكاف غير السرج صورة واسماً وهيئة. وأما معنى: فلأن الإكاف أثقل من السرج على الدابة، فكان مخالفاً صورة ومعنى؛ فيضمن جميع قيمة الدابة إذا هلكت

من ذلك قياساً على ما إذا استأجر دابة ليحمل عليها شعيراً، فحمل عليها بمثل ذلك الكيل حنطة. ولو استأجر حماراً عرياناً فأسرجه وركبه فهو ضامن. قال مشايخنا: إذا استأجره من موضع إلى موضع لا يمكن الركوب إليه إلا بسرج، نحو: إن استأجره من بلد إلى بلد لا يضمن؛ لأن الإذن بالإسراج يثبت دلالة، وكذلك لو استأجره ليركب في المصر، والمستأجر ممن لا يركب في المصر عرياناً، فلا ضمان ويثبت (48أ4) الإذن بالإسراج في حقه دلالة وإن كان المستأجر ممن يركب في المصر عرياناً فعليه الضمان إذا لم يثبت الإذن بالإسراج في حقه لا نصاً ولا دلالة ثم إذا ضمن يضمن جميع القيمة أو بقدر ما زاد لا ذكر لهذه المسألة في الأصل. وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يضمن بقدر ما زاد كما لو ركبها واركب مع نفسه غيره، وبعضهم قالوا: يضمن جميع القيمة وهو الصحيح لأنه بما صنع مخالف في الكل صورة ومعنى، فأما صورة فلأنه أمره أن يركبها عرياناً وقد ركبها مع السرج وأما معنى فلأن الركوب على السرج أضر بالدابة؛ لأن ثقل الراكب والسرج يجتمعان في مكان واحد فكان أدق لظهر الدابة، بخلاف ما إذا ركب وأركب مع نفسه غيره؛ لأن ثقل الآخر لم يجتمع في المكان الذي ركبه بنفسه. ولو أستأجر دابة بغير لجام وألجمها، لا ضمان عليه؛ إذا كانت دابة تلجم مثلها؛ لأن اللجام في الأصل وضع لضبط الدابة عن السير، ولا بد للراكب من ذلك إذا كانت دابة تلجم مثلها، فيصير مأذوناً باللجام، حتى لو كانت دابة لا تلجم يصير ضامناً لإمكان الضبط من غير لجام، ولو كان عليها لجام فأبدلها بلجام آخر، فلا ضمان. هكذا ذكر القدوري في شرحه. قال محمد رحمه الله: إذا استأجر من آخر دابة إلى الحيرة بدرهم، فجاوزتها إلى القادسية، ثم ردها إلى الحيرة، فنفقت فهو ضامن. قال: وكذلك العارية. هكذا ذكر في «الجامع الصغير» قيل: هذا إذا استأجرها واستعارها إلى الحيرة ذاهباً لا جايئاً. فأما إذا أستأجرها أو استعارها ذاهباً وجائياً وإذا ردها إلى الحيرة، ونفقت فلا ضمان عليه وهذا التفصيل على هذا الوجه مذكور في «الشروط» و «النوادر» . وقيل: هو ضامن في الوجهين. وإليه أشار في «الجامع الصغير» حيث أطلق المسألة إطلاقاً، ولقت المسألة أن المستأجر أو المستعير، إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق هل يبرأ عن الضمان؟ وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يبرأ كالمودع. وإليه أشار محمد رحمه الله في كتاب العارية، وبعضهم قالوا: لا يبرأ بخلاف المودع، وإليه أشار في «الجامع الصغير» . وهكذا أطلق المسالة في القدوري، وروى ابن سماعة عن محمد: أن المستأجر يبرأ بالعود إلى الوفاق. وصورة ما ذكر ابن سماعة: رجل استأجر من آخر دابة أياماً معلومة، يركبها في المصر، فخرج عليها من المصر ثم ردها إلى المصر في تلك الأيام، فبقيت في يده لم

يضمن بمنزلة المودع. وجه قول من فرق بينهما: إذا استأجر أو استعار ذاهباً لا جائياً: أنه إذا استعار ذاهباً وجائياً، فإذا جاوز الحيرة لم يبين العقد، فإذا عاد إلى الحيرة عاد وعقد الإجارة والإعارة تأبى والمستأجر والمستعير كل واحد منهما مأمور بالحفظ بمقتضى الإجارة والعارية؛ لأنه لا يمكنها استيفاء المنفعة إلا بالحفظ، فما بقي العقد يبقى الأمر بالحفظ، فإذا عاد إلى الوفاق عاد والأمر بالحفظ قائم، فصار ممتثلاً أمر المالك، ويد المأمور، يد الآمر فكان الرد إلى يد المأمور كالرد إلى الآمر، وهذا هو الطريق في المودع إذا خالف، ثم عاد إلى الوفاق، أن يبرأ عن الضمان؛ لأن الأمر بالحفظ في حق المودع مطلق، فيتناول كل زمان، وبعدما خالفه دخل العير في ضمانه لم يرتفع الأمر بالحفظ؛ لتصور المأمور به بعد ذلك، فإذا عاد إلى الوفاق عاد والأمر بالحفظ قائم، فصار ممتثلاً والتقريب ما مر. وأما إذا استأجر أو استعار ذاهباً لا جائياً فإذا جاوز بها إلى الحيرة انتهى العقد نهايته، وإذا انتهى العقد انتهى الأمر بالحفظ ما ثبت نصاً إنما يثبت بمقتضى الإجارة والعارية، فيرتفع بارتفاع الإجارة والعارية، فأما إذا عاد إلى الحيرة عاد والأمر بالحفظ ليس بقائم، فلا يصير ممتثلاً أمر المالك، فلا يعود أميناً بخلاف المودع؛ لأن الأمر بالحفظ في الوديعة ثابت مقصوداً وإنه مطلق فيتناول كل زمان، والتقريب بما مر. وجه قول من سوى بينهما أن المالك ما أمر المستعير والمستأجر بالحفظ مقصوداً إنما أمرهما بالاستعمال والانتفاع وإنما يثبت لهما ولاية الحفظ تبعاً للاستعمال لا بأمر ثابت من جهة المالك، فإذا جاوز الحيرة صار غاصباً للدابة، ودخلت في ضمانه، والغاصب لا يبرأ عن الضمان إلا بالرد إما على المالك أو على من هو مأمور بالحفظ من جهة المالك، ولم يوجد هاهنا ذلك. والصدر الشهيد رحمه الله: كان يميل إلى القول الثاني. وغيره من مشايخ زماننا: كانوا يميلون إلى القول الأول. وعن أبي يوسف في «النوادر» رواية أخرى: أنه إذا استعار أو استأجر ذاهباً وجائياً لا يبرأ عن الضمان؛ لأنه إذا استأجر أو استعار ذاهباً وجائياً فالرد على المستأجر، فيكون المستأجر والمستعير بمنزلة المودع، فيبرأ عن الضمان بالعود إلى الوفاق. وفي «القدوري» : وقال أبو يوسف ومحمد فيمن استأجر دابة إلى مكان معلوم، فلما سار بعض الطريق ادعاها لنفسه، وجحد أن يكون استأجرها، وصاحب الدابة يدعي الإجارة: فإن نفقت من ركوبه فلا ضمان، وإن نفقت قبل أن يركب ضمن. ولو انقضت المسافة فجاء بها ليردها على صاحبها، فتلفت وجب الضمان، فقد جعلاه ضامناً بالجحود، ثم أسقطا عنه الضمان بالركوب، وهذا يقتضي أن تكون يد المستأجر قائمة مقام يد الآجر. وعلل محمد رحمه الله لهذا فقال: لأنه ليس لرب الدابة أخذها منه، فلم يكن بجحوده مانعاً حقه. بخلاف المودع إذا جحد الوديعة؛ لأن هناك لصاحبها أخذها فبالجحود منعها منه، ثم عقب هذا التعليل فقال: لو انكسرت أو ضعفت حتى لا يمكن

ركوبها ضمن قيمتها منكسرة، وعاصه، لأن الرد واجب إذا كانت الدابة بهذه الصفة، فتعلق بالجحود الضمان كما في الوديعة. وذكر في «المنتقى» برواية ابن سماعة عين هذه المسألة، وأجاب على التفصيل الذي ذكره القدوري: أن الدابة إن هلكت قبل الركوب ضمنها وإن ركبها وهلكت من ركوبه فلا ضمان. ويخرج عن ضمان الغصب قال ثمة: ألا ترى أنه لو غصب من آخر دابة، ثم إن المالك أجرها منه إلى الكوفة بعشرة دراهم جاز، وبرئ عن الضمان إذا ركبها كذا ههنا، وهذا لأن بجحود المستأجر الإجارة إن انفسخ العقد في حق المستأجر، وصار المستأجر غاصباً العين لم ينفسخ في حق الآجر، فإذا ركبها إلى المكان المسمى وعقد الإجارة قائم في حق الآجر فإنما ركبها بحكم العقد في حق الآجر والضمان جميعاً. هشام عن محمد: رجل استأجر من رجل غلاماً سنة، كل شهر بعشرة دراهم، وقبض العبد، فلما مضى نصف السنة جحد المستأجر أن يكون استأجر العبد، وقيمته يوم جحد ألف درهم، فمضت السنة وقيمته ألف درهم، ثم مات العبد. قال: الإجارة لازمة له، ويلزمه أجر جميع السنة، ويضمن قيمة العبد بعد السنة. قال هشام: قلت لمحمد: كيف اجتمع الأجر والضمان؟ قال محمد: لم يجتمعا، ففسر هشام ذلك، فقال: الأجر وجب لاستعماله العبد في السنة، والضمان وجب بعد مضي السنة؛ لأن بعد مضي السنة وجب عليه رد العبد على المالك، ولم يرد، فوجب الضمان فاختلف سبب وجوبهما واختلف الزمان، فكيف يظهر الاجتماع؛ وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: ينبغي أن يلزمه الأجر قبل الإنكار، ويبطل عنه الأجر بعد الإنكار. استأجر قميصاً ليلبسه ويذهب إلى مكان كذا فلم يذهب إلى ذلك الموضع، ولبسه في منزله. قال أبو بكر: هو مخالف ولا أجر عليه وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: عندي أنه غير مخالف، وعليه الأجر؛ لأن هذا خلاف إلى خير فلا يصير به ضامناً، فلا يسقط الأجر، ولأن الأجر مقابل بمنفعة اللبس دون الحمل إلى ذلك المكان وإنما ذكر (48ب4) المكان لازماً في حق الآجر دون المستأجر. قال أبو الليث رحمه الله: وهذا بخلاف ما لو استأجر دابة ليذهب إلى موضع كذا، فركبها في المصر في حوائجه فهو مخالف؛ لأن في الدابة لا تجوز الإجارة إلا أن يبين المكان، وفي الثوب يحتاج إلى بيان الوقت دون المكان، فوقعت الإجارة في الدابة على المكان المذكور، والركوب في المصر ليس خلافاً إلى خير فصار مخالفاً، أما ههنا بخلافه. استكرى دابة لمسيرة فرسخ، فسار عليها سبعة فراسخ وعليه من الكراء مقدار ما شرط وفيما زاد على الفرسخ هو غاصب، فلا أجر عليه. ولو أرضى صاحب الدابة كان له خيراً في الأجرة؛ لأنه تقاص في الأجرة بالحساب. استأجر حماراً ليحمل عليه وقر حنطة إلى المدينة، فحمل الحنطة إلى المدينة

وباعها، وانصرف إلى منزله، فوضع على الحمار مقدار قفيز من الملح، فأخذه مرض في الطريق، فمات فعليه ضمان الحمار إذا حمل عليه الملح بغير إذن صاحب الحمار؛ لأنه صار غاصباً بذلك، فدخل في ضمانه. استأجر دابة ليحمل عليها حنطة من موضع إلى منزله يوماً إلى الليل، فكان يحمل الحنطة إلى منزله، وإذا أراد الذهاب ثانياً كان يركبها، فعطبت الدابة. ذكر عن أبي بكر رحمه الله: أنه يضمن لأنه استأجرها للحمل بدون الركوب، فكان غاصباً في الركوب. قال أبو الليث رحمه الله: هو القياس، لكن في الاستحسان لا يضمن؛ لأن العادة جرت فيما بين الناس بذلك فصار كأنه إذن له في ذلك من طريق الدلالة، وإن لم يأذن بالإقصاء. استأجر حماراً ليحمل عليه اثني عشر وقراً من التراب إلى أرضه بدرهم، وله في أرضه لبن فكما عاد من أرضه يحمل عليه وقراً من اللبن، فإن هلك الحمار في الرجوع مع اللبن يضمن قيمة الحمار دون الأجر؛ لأنهما لا يجتمعان، ولو سلم الحمار حتى تم العمل، فعلى المستأجر تمام الدرهم، في كل وقر من التراب نصف دانق ويجوز أن يخالف في العمل ثم يجب الأجر المسمى، إذا سلمت الدابة عن ذلك العمل كما في مسألة فرسخ وسبعة فراسخ التي مرت. وكمن استأجر دابة إلى موضع معين، فجاوزه ثم عاد إلى الوثاق لا يعود أميناً بل هو ضمين، حتى لو هلكت الدابة في طريق ذلك الموضع المعين، يضمن قيمتها، ثم إذا سلمت الدابة يحسب تمام الأجر؛ وكذا لو استأجر دابة ليركب هو بنفسه إلى مكان كذا، فركب وأردف معه غيره صار غاصباً في النصف إذا كانت الدابة فيما تطيق مثلهما، ولو سلمت الدابة يجب تمام الأجر كذا ههنا. ولو استأجر حماراً ليحمل عليه كذا كذا حملاً، فزاد على ما سمى وحمل الحمولة إلى ذلك المكان، فلما وضع الحمولة وجاء بالحمار سليماً، ضاع قبل أن يرده إلى صاحبه، ينظر إلى مقدار ما زاد من الحمولة، فيضمن من قيمة الحمار بذلك القدر؛ لأنه صار غاصباً من الحمار بذلك القدر فلا يبرأ عن ضمان ما صار غاصباً منه إلا بالرد. رواه بشر عن أبي يوسف ورواه أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله. وهذا كما ذكر في اختلاف وقران. أن من استأجر حماراً من الكوفة إلى القادسية ذاهباً وجائياً فجاوزته القادسية، ثم عاد به سليماً إلى الكوفة، فعليه نصف ما سمى من الأجر عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأنه صار غاصباً فلا يبرأ عن الضمان إلا بالرد. وعن أبي يوسف: فيمن استأجر دابة من مصر إلى مصره، فأمسكها في بيته فهلكت. قال: إن أمسكها مقدار ما يمسك ليتهيئوا أمورهم، فلا ضمان والأجر ثابت، وإن أمسكها أكثر من ذلك خرجت من الإجارة، وهي معلومة عنده. نوع آخر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: رجل جاء بدابته إلى بيطار، وقال: انظر فيها فإن

بها علة، فنظر فيها فقال: بجنب إذنها علة يقال لها: فارة يعني بوش، فأمره صاحب الدابة بإخراجها، فأخرج ذلك بأمر صاحب الدابة وتلفت الدابة، فلا ضمان على البيطار؛ لأنه مأذون في ذلك. وفي «المنتقى» : رجل قال لصيرفي: انقد لي عشرة دراهم بكذا، ففعل ثم وجد صاحب الدراهم فيها زيوفاً أو ستوقاً، فلا ضمان على الصيرفي؛ لا لأنه يبطل عليه حقاً، ولكن يرد من الأجر بحساب ما وجد زائفاً، حتى إن في مسألتنا يرد عشر الأجر، ولو وجد الكل زائفاً يرد كل الأجر؛ لأنه لم يوف المعقود يد القدر. في «فتاوى النسفي» : إذا أخذ من له الدراهم دراهمه ممن عليه، وقد استعدها الناقد، ثم خرج بعض الدراهم زيوفاً أو ستوقاً فلا ضمان على الناقد؛ ولكن يرد القابض الزيوف على الدافع، فإن أنكر الدافع وقال: ليس هذا من دراهمي، فالقول قول القابض؛ لأنه لو أنكر القبض أصلاً كان القول قوله، فكذا إذا أنكر القبض فيما عدا هذا العين. سأل وراقاً أن يكتب له جامع القرآن وينقطه ويعشره ويعجمه، وأعطاه الكاغد والحبر، وشرط له أربعون درهماً، فكتب وترك بعض العواشر وأخطاء في النقط، قال إن فعل ذلك في كل ورقة فالدافع بالخيار، إن شاء أخذ المكتوب وأعطاه أجر مثل عمله لا يجاوز به أربعين، وإن شاء ترك المكتوب وضمنه مثل بياضه وحبره، وهو نظير ما لو دفع إلى خياط ثوباً، ليخيط له فخاط قباء وطاق واحد. يقال له: قرطق، يخير المالك بين أن يضمنه قيمة ثوبه ويترك القرطق عليه، وبين أن يأخذ القباء ويعطيه أجر مثله لا يجاوز به الأجر المسمى. وإن كان الوراق وافقه في بعضه وخالفه في بعضه، أخذ وأعطاه حصة ما وافق من المسمى، وحصة ما خالفه من أجر المثل؛ لأنه فيما وافق جرى على موجب العقد، فاستحق حصته من المسمى، وفيما خالف لم يجرِ على موجب العقد من كل وجه، فكأنه عمل بإجازة فاسدة فيستحق أجر المثل؛ ولو دفع إلى صباغ ثوباً ليصبغه بعصفر بربع الهاشمي؛ فصبغة قفيز عصفر فهذا على وجهين: إن صبغه أولاً بربع الهاشمي؛ فصاحب الثوب بالخيار، إن شاء ضمنه قيمة ثوب أبيض ولا أجر، وإن شاء مصبوغاً بربع الهاشمي وأعطاه المسمى، وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه المسمى، وما زاد ثلاثة أرباع القفيز في الثوب، وهذا لأنه حين صبغ بالربع فقد وفى بالشرط، فإذا صبغ بعد ذلك فهو متعدٍ في هذا الصبغ، فيصير كأنه غصب ثوباً مصبوغاً بعصفر بالربع، فصبغه بعد ذلك بثلاثة الأرباع، وهذا لأن الصبغ في حكم المقبوض من وجه، إلا أنه لم يكمل القبض فيه؛ لأنه لم يصل إلى يده، فكان له أن يضمنه الثوب أبيض، وله أن يضمنه مصبوغاً بعصفر، وإن كان صبغه ابتداء بقفيز، فله ما زاد الصبغ فيه ولا أجر له؛ لأنه لم يوف العمل على الوجه المأذون فيه، فيصير كأنه غصب ثوباً وصبغه بعصفر. هكذا ذكر «القدوري» . وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله بخلافه، فقال: له أن يضمنه قيمة ثوبه أبيض، وله أن يأخذ الثوب ويغرم الأجر. وما زاد ثلاثة أرباع القفيز فيه مجتمعاً كان أو

متفرقاً. وهذا لأن الثوب لا يتشرب الصبغ دفعة واحدة؛ ولكن شيئاً فشيئاً فلا يقع الفرق بين أن يكون مجتمعاً أو متفرقاً. وستأتي هذه المسألة مع زيادة تفريعات في فصل المتفرقات إن شاء الله تعالى. ولو دفع إلى صباغ ثوباً، وأمره بصبغه بزعفران أو ببقم، فخالف بصبغه غير ما سمى، إلا أنه من ذلك الصبغ يريد به أنه لم يسبغ صبغة، وقد كان أمره صاحب الثوب أن يسبغه، فالمالك بالخيار، إن شاء ضمنه قيمة ثوبه أبيض، ويسلم له الثوب، وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه أجر مثله، لا يزاد به المسمى. في «الأصل» وفي «القدوري» إذا أمر إنساناً أن ينقش اسمه في فص خاتمه، فغلط ونقش اسم غيره، ضمن الخاتم؛ لأنه فوت عليه الغرض المطلوب من الخاتم، وهو الختم به فصار كالمستهلك له. ومنه لو أمره أن يحمر له بيتاً فخضر، فقال: (49أ4) يعطيه ما زاد الخضرة فيه ولا أجر له؛ لأنه عمل ما لم يستأجر له، فلا يستحق الأجر، ولكن يعطيه من قيمة الصبغ ما زاد في البيت. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» عن أبي حنيفة رحمه الله: في رجل استأجر أرضاً ليزرعها حنطة، فزرعها رطبة، قال: هو ضامن يريد به أن يمكن في الأرض نقصان ولا أجر عليه، وهذا لأن الرطبة لا يعرف نهايتها وضررها بالأرض ظاهر، وإنه يخالف ضرر سائر وجوه الزراعة، فصار غاصباً فلا يجب الأجر. قال محمد رحمه الله فيه أيضاً: في رجل دفع إلى خياط ثوباً، وأمره أن يخيطه قميصاً بدرهم، فخاطه قباء، وأقر بالخلاف فلصاحب الثوب الخيار إن شاء ضمنه قيمة ثوبه وترك القباء عليه، وإن شاء أخذ القباء وأعطاه أجر مثل ما عليه لا يجاوز به المسمى هكذا ذكر ههنا. وفي «الأصل» . وروى الحسن عن أبي حنيفة: أنه لا خيار لصاحب الثوب والخياط ضامن قيمة ثوبه. بعض مشايخنا قالوا: أراد بالقباء العرطق الذي هو ذو طاق واحد، فإن هذا القباء يشبه القميص، فإن بعض الناس يستعملونه استعمال القميص، فكان موافقاً من وجه مخالفاً من وجه، فإن شاء رضي به باعتبار جهة الموافقة، وإن شاء تركه باعتبار جهة المخالفة إلا أن في الكتاب أطلق القباء إطلاقاً فيدل على أن الحكم في الكل واحد. وجه ما روى الحسن: أن الخياط مخالف من كل وجه؛ لأنه خالفه في جنس ما أمر به، فإنه أمره بخياطة القميص وهو قد خاط القباء، والقباء ليس من جنس القميص، فكان مخالفاً من كل وجه، فيكون غاصباً من كل وجه. وحكم الغاصب من كل وجه أنه متى قطع ثوب غيره، وخاطه يملكه بالضمان ولا يبقى لصاحب الثوب الخيار، فكذلك هذا. وجه ظاهر الرواية هو: أن الخياط فيما صبغ موافق من وجه، مخالف من وجه، فيتخير كما لو خالفه في خياطة القميص من حيث الطول والقصر، إلا أن عبارة مشايخنا اختلفت في إثبات الموافقة من وجه منهم من يقول: إن خياطة القباء تشبه خياطة القميص من وجه

من حيث الدخاريص والكمين وإن كان يخالف خياطة القميص فيما عدا ذلك. وإذا كان يوافق خياطة القميص من وجه، ويخالفه من وجه، كان موافقاً من وجه مخالفاً من وجه، فيتخير كما فيما تقدم ذكره من المسائل. ومنهم من يقول: في إثبات المخالفة والموافقة من وجه. صاحب الثوب أمره بإدخال الخيوط في ثوبه بخياطة القميص، وهذا أدخل الخيوط في ثوبه بخياطة القباء، فكان مخالفاً من وجه موافقاً من وجه. والموافقة إن قلت: يجب إثبات الخيار حتى لا يلغو إثبات الإذن والموافقة من وجه بخلاف ما لو غصب ثوباً فقطعه وخاطه قباء؛ لأنه مخالف في القطع، وفي إدخال الخيوط في ثوبه، فكان مخالفاً من كل وجه، بخلاف ما نحن فيه. ومنهم من يقول: إنه موافق في الخياطة، فإن الخيوط الذي استعملها فيه داخل تحت الإذن، وإنما حصل الخلاف في نفس القطع، والغاصب إذا قطع الثوب ولم يخط لم يمنع صاحبه من أخذه فكذلك هذا لا يمنع رب الثوب من أخذه، بخلاف الغاصب فإنه مخالف في القطع والخياطة، فكان مخالفاً من كل وجه، وقد استهلك الثوب وأحدث صنعة متفرقة بغير أمره، فهو معنى قولنا: إنه موافق من وجه مخالف من وجه. وإذا كان موافقاً من وجه مخالفاً من وجه، كان لصاحب الثوب الخيار، إن شاء ترك القباء عليه، وضمنه قيمة ثوبه ولا أجر له، وإن شاء أخذ القباء وأعطاه أجر مثل عمله ولا يجاوز به ما سمى، وهذا على قول من يقول: بأنه يعطيه أجر المثل متى خالفه من وجه؛ لأن العقد يفسد بالخلاف من وجه ظاهر. وعلى قول من يقول: يعطيه المسمى إذا رضي بالعيب، نقول: ما ذكر في الكتاب محمول على ما إذا اختار وأخذ القباء ولم يرض بالعيب وله أن يأخذ القباء ولا يرضى بالعيب، ومتى كانت الحالة هذه، فإنه يعطيه أجر المثل، فأما إذا رضي بالعيب يعطيه المسمى.l وسيأتي بيان القولين بعد هذا إن شاء الله تعالى. وإن اختلفا، فقال الخياط: أمرتني بهذا. وقال رب الثوب: أمرتك بقميص، فالقول قول رب الثوب مع يمينه؛ لأن الأمر استفيد من جهته، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الخياط، أقر بسبب الضمان وادعى ما يبرئه عنه، وهو الإذن وذلك غير ثابت، فهو ببينته يثبت ما ليس بثابت، وصاحب الثوب يثبت ما هو ثابت، وهو الضمان فكانت بينة الخياط أولى. ولو أمره بأن يخيط له قميصاً فخاطه سراويلاً، هل يتخير رب الثوب؟ فعلى مرد العبارة الأولى في مسألة القباء لا يتخير؛ لأن السراويل لا يشبه القميص أصلاً إذ ليس له كم ولا دخريص وعلى مرد العبارة الثانية والثالثة يتخير وإنه أقرب إلى الصواب. فقد روي عن محمد فيمن دفع إلى رجل شيئاً ليضرب له طيناً، فضرب له كوزاً، إن له أن يأخذه ويعطيه أجر المثل، فكذا في السراويل. وقد مرت مسألة السراويل. قال: إذا دفع إلى حائك غزلاً لينسجه له سبعاً في أربع، يريد به أن يكون طوله سبعاً وعرضه أربعاً، فخالف، فهذا على وجهين: إما أن يكون الخلاف من حيث القدر، أو من

حيث الصفة، والخلاف من حيث القدر على وجهين: إما أن يكون زيادة بأن حاك ثمان في أربع، أو إلى نقصان بأن حاك ستاً في أربع والخلاف من حيث الصفة على وجهين أيضاً: إما أن يكون من حيث الزيادة، بأن أمره أن ينسجه رقيقاً فنسجه صفيقاً أو من حيث النقصان، بأن أمره، أن ينسجه صفيقاً فنسجه رقيقاً، وفي الفصول كلها صاحب الغزل بالخيار، إن شاء ترك الثوب على النساج وضمنه غزلاً مثل غزله، وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه الأجر، وإنما خير صاحب الغزل؛ لأن النساج موافق في أصل العمل مخالف في الصفة في الفصول كلها. أما إذا كان الخلاف من حيث الزيادة والنقصان في الصفة، فلا إشكال؛ أنه موافق في أصل العمل مخالف في الصفة، وإن كان الخلاف من حيث الزيادة والنقصان في القدر، فكذلك مخالف في الصفة إن زاد في الدرع، فلأنه لو استعمل جميع الغزل بقدر ما أمر به، وإن نقص عن القدر فلأنه لو استعمل الغزل في جميع ما أمر به كان يحصل الثوب أرق. وبسبب النقصان في الذرع يحصل الثوب أصفق، والصفاقة والرقة مقصودة في الثياب، فصح قولنا: إنه موافق في أصل العمل مخالف في الصفة، فيتخير صاحب الثوب إن شاء مال إلى الخلاف، وجعله عاملاً لغير عقد وترك الثوب عليه، وضمنه غزله، وإن شاء مال إلى الوفاق وأخذ الثوب وأعطاه الأجر. ولم يذكر محمد رحمه الله: أنه يعطيه المسمى أم أجر المثل. وقد اختلف المشايخ: قال بعضهم: بأنه يعطيه أجر المثل على كل حال لا يجاوز به ما سمي إن كان أجر مثله أكثر، وإن كان أقل أو مثل المسمى يعطيه ذلك. وقال بعضهم: يعطيه المسمى إذا أخذ الثوب ورضي بالعيب، وإذا أخذ الثوب ولم يرض بالعيب، فإنه يعطيه أجر المثل لا يجاوز به ما سمى. وإلى هذا ذهب أبو بكر الأعمش، ومحمد بن سلمة رحمهما الله. وجه من قال بأنه يعطيه أجر المثل: أن الحائك مخالف من وجه موافق من وجه، باعتبار أصل العمل موافق، وباعتبار الصفة مخالف، والصفة في الغائب معتبرة؛ لأن الغائب بالصفة يعرف، ولو كان مخالفاً من كل وجه، بأن كان الخلاف في الجنس لا في الصفة كان العمل متعرياً عن العقد، ولو كان موافقاً من كل وجه في حق أهل العمل أو الصفة جميعاً، كان العمل واقعاً بجهة العقد من كل وجه، فإذا كان مخالفاً من وجه موافقاً من وجه، فكان العقد قائم من وجه فائت من وجه، والعقد إذا كان قائماً من وجه غير قائم من وجه، فإنه يجعل عقداً فاسداً كما قال في بيع (49ب4) المقايضة: إذا هلك أحد العوضين قبل القبض، فإن البيع يفسد لأن البيع على القائم قائم من وجه، منفسخ من وجه فحكم بفساده على ما عرف في موضعه، فلذلك هنا لما كان العقد قائماً من وجه غير قائم من وجه يحكم بفساد الإجارة والمستحق في الإجارة الفاسدة أجر المثل لا ينقص عن المسمى، ولا يجاوز به المسمى. وإذا وجب أجر المثل على قول هذا القائل، فإن كان الخلاف من حيث الزيادة في القدر، فإنه يعتبر أجر مثل العمل المأمور به وهو سبعة أذرع في أربعة، لا أجر مثل العمل المأتي به ثمانية أذرع في أربعة؛ لأن الزيادة على

السبع حصل بغير عقد، فلا يجب زيادة أجر بسبب ذلك الزيادة، ولكن لا يجاوز به المسمى كما في سائر الإجارات الفاسدة. وإن كان الخلاف من حيث النقصان في القدر فإنه يعطيه أجر مثل ما عمل مقدراً بحصته من المسمى؛ لأن بعض المسمى قد سقط لأنه أتى ببعض العمل ولم يأت بالبعض فتسقط حصته ما لم يعمل من المسمى، ويبقى بعض المسمى، وينظر إلى أجر مثل عمله فيما عمل، فإن كان أقل أو مثل حصة الباقي، من المسمى فإنه يعطيه ذلك، وإن كان زيادة يعطيه بقدر حصته من المسمى، ولا يجاوز به، وإن كان الخلاف من حيث الصفة، إن كان من حيث الزيادة فإنه يعطيه أجر مثل عمله بقدر العمل المأمور به، ولا تعتبر الزيادة؛ لأن الزيادة حصلت بغير عقد، فإن كان ذلك مثل المسمى يعطيه ذلك، وإن كان أكثر من ذلك لا يجاوز به المسمى. وإن كان من حيث النقصان: فإنه يعطيه أجر مثل عمله مقدراً بجميع المسمى، لا ينقص بخلاف ما إذا كان النقصان من حيث القدر، فإنه بقدر أجر المثل ينقص المسمى، وذلك لأن النقصان متى حصل من حيث القدر فقد سقط بعض المسمى وبقي البعض، فيعتبر أجر المثل الباقي، فأما إذا كان النقصان من حيث الصفة، فإنه لا يسقط شيء من المسمى؛ لأنه لا حصة للأوصاف من المسمى فيكون جميع المسمى على حاله، فيعتبر أجر المثل به إن كان مثله، أو أقل، فإنه يعطيه ذلك وإن كان أكثر لا يجاوز به المسمى، وأما من قال بأنه يعطيه المسمى متى رضي بأخذ الثوب معيباً، وإن لم يرضى بالعيب وأخذ الثوب فإنه يعطيه أجر المثل، ذهب في ذلك إلى أن الأمر كما قاله الأولون: إن هذا مخالف من وجه موافق من وجه، فيكون العقد قائماً من وجه وليس بقائم من وجه، إلا أنه في مثل هذا الموضع إنما يحكم بفساد العقد متى تعذر العمل بهما في الحالين. كما في مسألة بيع المقايضة، فجعلناه بيعاً فاسداً عملاً بالأمرين من الوجه الذي قلتم إذا أمكن العمل بهما في الحالين، فإنه لا يجعل العقد فاسداً وقد أمكننا العمل في الحالين بأن يعتبر الوفاق، متى اختار أخذ الثوب ورضي بالعيب، ويعتبر العقد جائزاً في هذه الحالة ويعطيه المسمى، ويعتبر الخلاف متى اختار أخذ الثوب ولم يرض بالعيب ويوجب عليه أجر المثل؛ لأنه لم يوجد من العامل ما يوجب زوال ملك صاحب الغزل عن الثوب؛ لأن أصل العمل جعل بإذن صاحب الغزل، إلا أن فيه عيباً وله أن لا يرضى بالعيب، ولا تتوفر على صاحب الغزل في المعيب إلا بأن يعطيه أجر مثل عمله، فيعطيه أجر مثل عمله عملاً بالخلاف، ولأنه متى رضي بالعيب سقط اعتبار العيب حكماً، أو صار كأنه أتى بالمأمور به فلزمه المسمى إلا في النقصان. وإذا لم يرض بالعيب لم يسقط اعتباره، فكان موافقاً من وجه مخالفاً من وجه، فوجب أجر المثل، ثم على قول هذا القائل: إذا وجب اعتبار المسمى، إن كان الخلاف من حيث القدر إن كان إلى زيادة يجب المسمى لا غير، ولا يجب بسبب الزيادة شيء، وإن كان إلى نقصان ينقص عن المسمى لكنه ما نقص من العمل، وإن كان الخلاف من

حيث الوصف إن كان إلى زيادة يجب المسمى ولا يجب بسبب الزيادة شيء، وإن كان إلى نقصان يجب جميع المسمى، إذا الفائت وصف وللأجر لا يقابل الأوصاف. قال: وإذا دفع إلى خياط ثوباً، وقال: انظر إلى هذا الثوب، فإن كفاني قميصاً فاقطعه وخيطه بدرهم فقال: نعم، ثم قطعه، وقال بعد ما قطعه: إنه لا يكفيك، فالخياط ضامن قيمة الثوب، وإنما كان كذلك لأن القطع حصل بغير إذن صاحب الثوب، لأن الإذن بالقطع معلق بشرط الكفاية؛ لأنه ذكر الشرط وحرف التعليق، والمعلق بالشرط عدم قبل الشرط، فهو معنى قولنا: القطع حصل بغير إذن صاحب الثوب. ولو كان قال للخياط: انظر إلى هذا الثوب أيكفيني قميصاً، فقال: نعم. فقال له: اقطعه، فقطعه. فإذا هو لا يكفيه قميصاً، لا ضمان عليه؛ لأن القطع ههنا حصل بإذن المالك؛ لأن الإذن بالقطع ههنا مطلق لا تعليق فيه؛ لأنه لم يذكر حرف التعليق، فبقي الإذن مفصولاً عن أول الكلام، ألا ترى أن من قال لإمرأته: إن دخلت الدار أنت طالق يقع الطلاق في الحال. ولو قال: فأنت طالق لا يقع إلا بعد الدخول. وما افترقا إلا بما قلنا. ولو قال: انظر إلى هذا الثوب أيكفيني قميصاً. فقال: نعم. فقال صاحب الثوب: فاقطعه، أو قال: اقطعه إذاً فلما قطعه إذا لا يكفيه، لا ذكر لهذه المسألة في الكتب. وحكي عن الفقيه أبي بكر البلخي رحمه الله أنه قال: يضمن أما في قوله: اقطعه إذاً فلأنه مما لا يبتدأ به الكلام وإنما يذكر جواباً للشرط فاقتضى شرطاً وصار كأنه قال: إن كان يكفيني فاقطعه إذاً وأما في قوله: فاقطعه لأن حرف الفاء للتعليق فاقتضى شرطاً، وصار كأنه قال: إن كان يكفيني فاقطعه إذاً وأما في قوله: فاقطعه لأن حرف الفاء للتغليف فاقتضى شرطاً، وصار كأنه قال إن كان يكفيني قميصاً فاقطعه، ونظير هذا ما روي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية الأصول فيمن قال لآخر: بعت منك هذا العبد بألف درهم فقال المشتري: فهو حر، كان قبولاً وإعتاقاً بعد القبول ولو قال: هو حر لم يكن قبولاً وإعتاقاً بعد القبول بل ولو قال: هو حر لم يكن قبولاً وإعتاقاً بعد القبول بل كان إعتاقاً قبل القبول، وذلك لأن قوله فهو حر إخبار عن حكم الإيجاب فقال: حررته فهو حر. كما يقال: كسرته فانكسر. وإذا كان إخباراً عن حكم الإيجاب، اقتضى إيجاباً، والثابت اقتضاء كالثابت نصاً، كأنه قال بعد قول البائع: بعت حررت. ولو قال: حررت يضمن قبولاً؛ لأن القبول شرط صحته، فاقتصى قبولاً ليصح كمن قال لآخر: أعتق عبدك عني على الألف درهم. فقال: أعتقت اقتضى بيعاً؛ لأنه شرط صحته فكذا هذا. وقوله: هو حر، ليس بإخبار عن حكم الإيجاب، فإنه لا يعر عن حكم الإيجاب بهذه العبارة. لا يقال: حررته هو حر. كما لا يقال: كسرته انكسر. وإذا لم يكن إخباراً عن حكم الإيجاب لم يقتض إيجاباً، فبقى إخباراً عن الحرية مطلقاً. وليس من ضرورة صحة الإخبار عن الحرية القبول؛ لأنه يصح من غير قبول فأما من ضرورة صحة الإيجاب القبول، فكذلك هذا في «فتاوى الفضلي» . استأجر حماراً وتركه على باب منزله، ودخل المنزل ليرفع خشبة الحمار، فخرج ولم يجد الحمار. قال: إن غاب الحمار عن بصره ضمن، إلا أن يكون ذلك في موضع

لا يعد هذا القدر من الذهاب تضييعاً مثل، أن يكون في سكة غير نافذة، أو يكون في بعض القرى فحينئذ لا ضمان. ورأيت في بعض الفتاوى: إذا ربط الحمار المستأجر على باب داره، ودخل داره ولم يجد الحمار، فهو ضامن إن غاب عن بصره من غير فعل. وإذا كان للمستأجر حماران فاشتغل بحمل أحدهما فضاع الآخر، إن غاب عن بصره فهو ضامن. وفي فتاوي «الأصل» إذا استأجر حماراً فضل في الطريق، فتركه ولم يطلبه حتى ضاع، قال: (50أ4) إن ذهب الحمار من حيث لا يشعر به، وهو حافظ له فإذا علم فطلبه ولم يظفر به، فلا ضمان عليه. وكذلك لو لم يطلب، وكان آيساً من وجوده، لو طلب بالقرب في حوالي الموضع الذي ذهب منه لا ضمان؛ لأن المطلوب من الأمين الحفظ، وإن ذهب وهو يراه ولم يمنعه، فهو ضامن يريد به إذا غاب عن بصره؛ لأنه لم يمنعه، فقد قصر في الحفظ فيصير ضامناً. وعلى هذا مستأجر الحمار إذا جاء بالحمار إلى الخباز، وترك الحمار واشتغل بشراء الخبز فضاع الحمار، إن غاب عن بصره فهو ضامن، وإن لم يغب عن بصره فلا ضمان. وفي «فتاوى الفضلي» : إذا استأجر حماراً وربطه على رأى في سكة نافذة، وهناك قوم نيام ليسوا من عيال المستأجر، ولا من أجرائه فسرق الحمار، فإن كان المستأجر لم يستحفظهم ضمن لتركه الحفظ الواجب عليه. وإن كان استحفظهم أو بعضهم وقبلوا حفظه ولم يكن اشترط ركوب نفسه في عقد الإجارة، وكان الأغلب في مثل ذلك الموضع إن لزم من يحفظ الدواب فيه لا يكون إضاعة لها، لم يضمن لأنه ليس بمضيع ولا تارك الحفظ. وإن كان الموضع موضعاً يلزم من يحفظ الدواب، يكون إضاعة لها فهو ضامن. يعنى: إذا لم يستحفظهم، فأما إذا استحفظهم وقبلوا حفظه، فالضمان على الذي قبل الحفظ لا على المستأجر؛ لأن الذي قبل الحفظ هو المضيع. هذا كله إذا لم يشترط المستأجر ركوب نفسه أما إذا اشترط ركوب نفسه ضمن على كل حال لأنه إذا شرط ركوب نفسه ليس له أن يودعها من أجنبي، لأنه ليس له أن يعيرها أو يؤجرها من غيره. ومن ليس له الإعارة والإجارة، ليس له الإيداع؛ لأن الإعارة والإجارة نوع ائتمان فإذا لم يشترط ركوب نفسه فله أن يودع؛ لأن له أن يعير ويؤاجر فله أن يودع. ومن هذا الجنس: رجل استأجر حماراً واستأجر رجلاً؛ ليحفظ الدابة فهلكت الدابة في يد الأجير، إن كان المستأجر استأجرها ليركب بنفسه يضمن. وإن لم يسم الراكب فلا ضمان. والمعنى ما ذكرنا. وفيه أيضاً استأجر حماراً ليحمل عليها إلى المدينة، فحمل وساقه في طريق المدينة، ثم تخلف لحاجة بول أو غائط أو حديث مع غيره، فذهب الحمار قبله وعطب، فإن لم يتعمد عنه الحمار ولم يتوار عنه فلا ضمان. وإن توارى عنه فهو ضامن لأنه مضيع.

وفي فتاوى «الأصل» مستأجر الحمار إذا أوقف الحمار وصلى الفجر فذهب الحمار وانتهت، فإن رأه ينتهب أو يذهب فلم يقطع الصلاة ضمن؛ لأنه ترك الحفظ الواجب مع القدرة عليه؛ لأن خوف فواته يبيح قطع الصلاة. وفيه أيضاً وسئل أبو بكر عن من أمر رجلاً أن يستكري له حماراً ويذهب إلى مكان كذا، على أن يوفر الآمر الأجرة، ففعل المأمور ذلك وأدخله رباطاً، فهجم عليه اللصوص في ذلك الرباط، واستولوا على الحمار قال: فإن كان الرباط على الطريق الذي كان يمر المستأجر عليه، فلا ضمان وعليه الأجر إن كان فرغ من استعماله؛ لأنه لم يخالف. رجل استأجر رجلاً ودفع إليه حماراً ليذهب إلى بلد كذا، ويشتري له شيئاً فذهب المأمور وأخذ السلطان حمر القافلة، فذهب بعض أصحاب الحمر في طلب الحمر، ولم يذهب البعض، وهذا الأجير لم يذهب أيضاً. قال: إن كان الذي بقي ذهبوا في طلب الدواب منهم من وجد دابته، ومنهم من لم يجد، ولا يلام على من لم يذهب في ترك الذهاب بسبب ما لزم من ذهب من الشدة والمشقة فلا ضمان. وفي «فتاوى الفضلي» أيضاً رجل استأجر من آخر حماراً ليذهب به إلى موضع معلوم فأخبر أن في الطريق لصوص، فلم يلتفت إلى ذلك الخبر، فذهب وأخذه اللصوص وذهبوا بالحمار. قال الفقيه أبو بكر رحمه الله: إن كان الناس يسلكون ذلك الطريق مع هذا الخبر بدوابهم وأموالهم فلا ضمان، وإلا فهو ضامن؛ لأنه في الفصل الأول ليس بمضيع، وفي الفصل الثاني مضيع. سئل الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن جماعة أجر كل واحد منهم حماره رجلاً وأمروا رجلاً يذهب معه يتعاهد الدواب، فإنه لا يعرفه فذهب معه، فقال له المستأجر: قف هاهنا حتى أذهب أنا بحمار واحد، وأحمل الجوالق، فذهب بالحمار فلم يقدر عليه، فلا ضمان على المتعاهد؛ لأنهم أمروه بتعاهد ما في يد الغير وهو المستأجر، فلا يلزمه العهدة. ومن هذا الجنس في «فتاوي النسفي» : رجلاً استكرى دابة من القرية إلى المصر، فبعث صاحب الدابة رجلاً مع المستكري، فاشتغل المبعوث في الطريق بأمر وذهب المستكري وحده وضاع الحمار من يده، فلا ضمان على الرجل المبعوث؛ لأن صاحب الدابة ما سلم الدابة إليه؛ ولأنه ما ضيع الدابة إنما تركها في يد المستكري الذي هو أمين صاحب الدابة، وإنه لا يوجب الضمان. وفي «فتاوي الفضلي» : أكترى رجل حماراً من بلدة كسرى إلى بخارى فبقي الحمار في الطريق وصاحب الحمار ببخارى فأمر المستكري رجلاً أن ينفق على الحمار في علفه كل يوم مقداراً معلوماً، وقاطعه أجرته إلى أن يقبض صاحب الحمار حماره، فأمسك الأجير الحمار أياماً وأنفق عليه في علفه، ثم هلكت الدابة في يد الأجير، ففي المسألة حكمان: حكم النفقة، وحكم الضمان، أما حكم النفقة: فقد مر من قبل، وأما حكم الضمان فإن كان المستكري اكتراه لركوبه فهو ضامن قيمة الحمار؛ لأنه إذا اكتراه لركوبه

فليس له أن يودع على ما مر قبل هذا. وإن كان اكتراه للركوب ولم يسم الراكب فلا ضمان عليه؛ لأن له أن يودع في هذه الصورة. وفيه أيضاً: وإذا دفع الرجل فرسه إلى رجل ليذهب به إلى ولده، فذهب به وسار مرحلة، ثم إنه سيب الفرس في رباط، ومضى لوجهه، فجاء رجل من أهل تلك القرية، فذهب الأمير بالفرس فهلك الفرس في الطريق، فضمان الفرس على من يجب؟ قال: لا شك أن الأول ضامن بتسيبه، وأما مستأجر الأجير الذي ذهب بالفرس إلى منزله، إن كان لم يأخذ الفرس فلا ضمان عليه؛ لأنه لم تثبت يده على الفرس، وإن أخذه ثم دفعه إلى الأجير، فإن أشهد أنه إنما أخذ ليرده على صاحبه، وكان الأجير من في عياله لا ضمان أيضاً؛ لأن الملتقط بالإشهاد يصير أميناً، والأمين أن يدفع الأمانة إلى من في عياله، ويحفظه بيده. وإن ترك الإشهاد أو أشهد، لكن الأجير لم يكن في عياله ضمن؛ لأنه صار غاصباً بالأخذ من غير إشهادو صار ضامناً بالدفع إلى من ليس في عياله، وأما الأجير فهو ضامن على كل حال؛ لأنه أثبت يده على مال الغير بغير إذنه، لا على وجه الجنسية، هكذا ذكره. وهذا الجواب في حق الأجير، مشكل إذا كان المستأجر أشهد على أنه أخذه ليرده على المالك، والأجير في عيال المستأجر. وإن سلم الفرس في ذلك الرباط إلى ابن أخ صاحب الفرس، لا يبرأ عن الضمان. وإذا ضمن الأجير لا يرجع بما ضمن على المستأجر بخلاف المودع والمستأجر، فإنهما يرجعان بما ضمنا على المودع والمؤاجر؛ لأنهما يمسكان العين لصاحب العين. أما المودع فظاهر، وأما المستأجر فلأن صاحب العين يستحق عليه الأجرة بهذه الإمساك وإنها عين، والمستأجر يستحق المنفعة والعين خير من المنفعة، فكانا عاملين لصاحب العين في إمساك العين، فيرجعان بما لحقهما من الضمان على صاحب العين، فأما الأجير فإنما يمسك العين لنفسه؛ لأنه بهذا الإمساك يستحق الأجر على الغير بمقابلة منفعة نفسه، فكان في هذا الإمساك عاملاً لنفسه، فلا يرجع بما لحقه من الغرم على غيره. وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل استأجر حماراً لينقل التراب من خربة، فأخذ في النقل، فانهدمت الخربة وهلك الحمار، فإن انهدمت من معالجة المستأجر ضمن قيمة الحمار؛ لأن الحمار تلف بصنعه، وإن انهدمت من غير معالجة المستأجر بل لرخاوة فيها ولم يعلم المستأجر به فلا ضمان؛ لأنه (50ب4) لم يتلف بصنعه ولا قصر في حفظه. وفيه أيضاً اكترى حماراً ليحمل عليه الشوك، فدخل في سكة فيها نهر، فبلغ موضعاً ضيقاً، فضرب الحمار فوقع الحمار في النهر مع الحمل، فاشتغل المستأجر بقطع الحبل فهلك الحمار، إن كان المكان بحال لا يسع فيه مثل ذلك الحمار فهو ضامن؛ لأنه عرض الحمار للتلف، وإن كان الحمار يسع في ذلك الموضع مع الحمل، إن عنف في الضرب حتى وثب الحمار بضربه يصير ضامناً أيضاً، لما ذكرنا، وإن وقع لا من ضربه فلا ضمان

عليه؛ لأنه لم يتلفه لا بمباشرة ولا تسيباً. وفيه أيضاً استأجر حماراً لينقل عليه الحطب من الكرم، وكان ينقل عليه الحطب ويوقره كما يوقر مثله، فعدم الحمار على حائط ووقع في النهر وهلك، إن لم يعنف عليه في السوق بل ساق مثل ما يسوق الناس مثل ذلك الحمار في مثل ذلك الطريق، فلا ضمان؛ لأنه ما تلف بفعله، وإن كان بخلافه فهو ضامن. رجل استأجر حماراً وقبضه ما رحله في كرمه وتركه، فسرقت بردعته فأصابه البرد، فمرض فرده على صاحبه فمات من ذلك المرض، إن كان الكرم حصيناً والبرد بحال لا يصير بالحمار، ولو كان عليه البردعة لا ضمان عليه؛ لأنه لم يقصر في حفظهما؛ لأنهما محفوظان البردعة محفوظة عن السارق بحصن الكرم، والحمار محفوظ عن البردعة. وإن كان الكرم غير حصين، والبرد بحال يضر بالحمار مع البردعة، ضمن قيمتها. أما ضمان البردعة فبتضييعه وتركه الحفظ الواجب عليه، وأما ضمان الحمار؛ لأن إرساله في برد مهلك بمنزلة إلقائه في النار وذلك استهلاك، فلا يبرأ بالرد إلى المالك عن شيء من ضمانه، كما لو خرج المغصوب ثم رده إلى المالك، فمات من ذلك. بخلاف ضمان الغصب. وإن كان البرد بحال يضر بالحمار مع البردعة والكرم حصين، فعليه قيمة الحمار دون البردعة.x لأنه أتلف الحمار دون البردعة ولو كان الكرم غير حصين وكان البرد بحال لا يخاف التلف مع بردعته، فهو ضامن لقيمة البردعة، وعليه نقصان الحمار وقت الرد على صاحبه؛ لأنه بمنزلة الغاصب للحمار حين أرسله في الكرم، فإذا ارسله إلى صاحبه برئ من الضمان بقدر ما رد، ويقرر عليه ضمان النقصان بموت الحمار. زرع بين ثلاثة نفر بالشركة حصدوها، فاستأجر واحد منهم حماراً لينقل عليه حرم البر فدفع الحمار إلى الشريك لينقل الحرم فعطب الحمار، وكانت معاملاتهم أنه يستأجر أحدهم البقر أو الحمار، ويستعمله هو وشريكه، لا ضمان عليه؛ لأن المعروف كالمشروط. ولو شرط أن يستعمله شريكه لا يضمن، فكذا إذا كان المعروف منهم ذلك. قد ذكرنا قبل هذا أن الرجل إذا استقرض دراهم وسلم إلى المقرض حماره ليمسكه ويستعمله حتى يوفي له دراهم، فالحمار عند القرض بمنزلة المستأجر إجارة فاسدة، فإن سلمه المقرض إلى بقار فعقره الذنب فالمقرض ضامن قيمة الحمار؛ لأن من استأجر حماراً أو ثوراً ليس له أن يبعث إلى السرح ليعتلف، فإذا علف كان مخالفاً فيضمن. استأجر قباناً ليزن به حملاً، وكان في عمود القبان عيب لم يعلم المستأجر، فوزن به وانكسر، فإن كان مثل ذلك الحمل يوزن بمثل ذلك القبان مع العيب فلا ضمان؛ لأنه لم يوجد منه سبب التلف، وإن كان بخلافه فهو ضامن. هكذا في «فتاوى أبي الليث» . وينبغي أن يقال: إذا لم يعلم الآجر المستأجر بالعيب، فقد أذن له في أن يزن به القدر الذي يوزن فيه بدون ذلك العيب، فإذا وزن ذلك القدر لا يجب الضمان عليه. استأجر قدراً فلما فرغ حملها على حمار ليردها على الآجر، فزلق رجل الحمار

الفصل الثامن والعشرون: في بيان حكم الأجير الخاص والمشترك

وانكسر القدر، فإن كان الحمار يطيق حمل تلك القدر فلا ضمان عليه؛ لأن رد القدر وإن كان على الآجر إلا أن العادة جرت فيما بين الناس أن بحمله المستأجر إلى الآجر. إما من طريق المروءة وإما خوفاً من أن يلحقه بسببه ضمان. والمعروف كالمشروط. ولأن المؤاجر راض بهذا آذن فيه دلالة، فلا يضمن المستأجر، وإن كان الحمار لا يطيق حمل تلك القدر فهو ضامن؛ لأنه سبب لتلفها. إذا استأجر فأساً واستأجر أجيراً ليعمل فيه، فدفع إليه الفأس فذهب الأجير بالفأس قد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: المستأجر ضامن لأنه صار مخالفاً بالدفع إليه وبعضهم قالوا: إن كان استأجر الفأس أولاً فهو ضامن. هكذا ذكر في فتاوى أهل سمرقند وينبغي أن يقال: إن كان الناس يتفاوتون في استعمال الفأس، فلا بد لصحة الإجارة من تعيين مستعمل الفأس، كما لو استأجر دابة للركوب يشترط لصحة الإجارة تعيين الراكب؛ لأن الناس يتفاوتون في الركوب. وإذا عين نفسه حتى صحت الإجارة يصير مخالفاً بالدفع إلى الأجير، وإذا لم يعين المستعمل حتى فسد العقد، فإن استعمل الفأس أولاً بنفسه، ثم دفعه إلى الأجير يضمن عند بعض المشايخ. لما تبين لأنه تعين مستعملاً، وصار كأنه عين نفسه عند العقد، فيضمن بالدفع إلى الأجير وإن دفعه إلى الأجير قبل أن يستعمله بنفسه، فهو ليس بمخالف فإن استعمله المستأجر بعد ذلك بنفسه هل يضمن؟ يجب أن يكون في المسألة اختلاف المشايخ، كما في العارية. فإن استعار دابة للركوب، ولم يعين نفسه فركب بنفسه، أو لبس بنفسه فليس له أن يعيره بعد ذلك من غيره. ولو فعل فقد اختلف المشايخ في تضمينه. وكذلك لو ألبس غيره أولاً، أو أركب غيره أولاً، فليس له أن يلبس ويركب بنفسه بعد ذلك، ولو فعل ففي تضمينه اختلاف المشايخ فهنا يجب أن يكون كذلك. وإن كان الناس لا يتفاوتون في استعمال الفأس، فالإجارة صحيحة، عين المستعمل أو لم يعين، ولا ضمان على المستأجر إذا دفعها إلى الأجير، سواء دفعها إليه قبل أن يستعملها بنفسه، أو بعدما استعملها بنفسه. وفيه أيضاً: استأجر من رجل مرا وجعله في الطريق، ثم صرف وجهه من الطريق، ودعا أجيراً له ولم يبرح عن مكانه ذلك، ثم نظر إلى المر فإذا قد ذهب به. قال: إن كان تحويل وجهه لم يطل حتى لا يسمى به مضيعاً للمر لا ضمان عليه، والقول في ذلك قوله مع يمينه، إن كذبه الآجر. وإن طال إلتفاته فهو ضامن. الفصل الثامن والعشرون: في بيان حكم الأجير الخاص والمشترك هذا الفصل مشتمل على أنواع أيضاً.

الأول: في الحد الفاصل بين الأجير المشترك والخاص، وبيان أحكامهما فنقول وبالله التوفيق. اختلف عبارة المشايخ في الحد الفاصل بينهما بعضهم قالوا: الأجير المشترك من يستحق الأجر بالعمل لا بتسليم نفسه للعمل. والأجير الخاص: من يستحق الأجر بتسليم النفس. وبمضي المدة، ولا يشترط العمل في حقه لاستحقاق الأجر. وبعضهم قالوا: الأجير المشترك: من يقبل العمل من غير واحد. والأجير الخاص: من يقبل العمل من واحد. وإنما يعرف استحقاق الأجر بالعمل على العبارة الأولى؛ بإيقاع العقد على العمل. كما لو أستأجر خياطاً ليخيط له هذا الثوب بدرهم، أو استأجر قصاراً ليقصر له هذا الثوب بدرهم. وإنما يعرف استحقاق الأجر بتسليم النفس وبمضي المدة بإيقاع العقد على المدة. كما لو استأجر إنساناً شهراً ليخدمه، والإجارة على العمل إذا كان معلوماً صحيح بدون بيان المدة، والإجارة على المدة لا تصح إلا ببيان نوع العمل وإذا جمع بين العمل وبين المدة وذكر العمل أولاً نحو: أن يستأجر راعياً مثلاً ليرعى له غنماً مسماة بدرهم شهراً يعتبر هو أجيراً مشتركاً؛ لأنه جعله أجير مشترك بأول الكلام. لأنه أوقع العقد على العمل في أول كلامه. وقوله شهراً في آخر كلامه يحتمل أن يكون لإيقاع العقد على المدة، فيصير أجير واحد، ويحتمل أن يكون تقديراً للعمل الذي أوقع (51أ4) العقد عليه، فإنه لا بد من تقديره، ولا يمكننا تقديره إلا ببيان المدة في هذه الصورة، فلا يتغير أول الكلام بالاحتمال، إلا إذا صرح في آخر كلامه بما هو حكم أجير الوحد، بأن قال: على أن لا يرعى غنم غيري مع غنمي؛ لأنه بما صرح جعله أجير واحد، وبين أنه ذكر المدة لإيقاع العقد على المدة، لا لتقدير العمل المذكور في أول الشهر، وإذا كان صريحاً في جعله أجير واحد بأول الكلام؛ لأنه أوقع العقد على المدة في أول الكلام، وقوله: ليرعى هذه الأغنام محتمل بين أن يكون لإيقاع العقد على العمل، فيصير أجيراً مشتركاً، وبين أن يكون لبيان نوع العمل الذي يستحق على الأجير في المدة، فإن الإجارة على المدة لا تصح ما لم يبين نوع العمل. فنقول: استأجرتك شهراً للخدمة أو للرعي أو للحصاد؛ لأن أنواع العمل متفاوت. وإذا كان كذلك لا يتغير حكم أول الكلام بالاحتمال، فبقي أجير واحد، إلا إذا نص في آخر كلامه بما حكم الأجير المشترك. فيقول: ويرعى غنم غيري مع غنمي، فيكون تصريحاً منه أنه جعله أجيراً مشتركاً، فيتغير به أول الكلام، ويصير أجيراً مشتركاً من هذا الوجه. إذا عرفت الحد الفاصل بين الأجير الخاص، وبين الأجير المشترك، فنقول: من حكم الأجر الخاص، أن ما هلك على يده من غير صنعه فلا ضمان عليه بالإجماع، وكذلك ما هلك من عمله المأذون فيه فلا ضمان عليه بالإجماع. ومن حكم الأجير المشترك: أن ما هلك على يده من غير صنعة فلا ضمان عليه،

في قول أبي حنيفة. وهو قول زفر والحسن، وإنه قياس سواء هلك بأمر يمكن التحرز عنه كالسرقة والغصب، أو بأمر لا يمكن التحرز عنه كالحريق الغالب، والغارة الغالبة والمكابرة. وقال أبو يوسف ومحمد: إن هلك بأمر يمكن التحرز عنه فهو ضامن، وإن هلك بأمر لا يمكن التحرز عنه فلا ضمان. وما هلك في يده بعمله، كالقصار إذا دق الثوب، فتخرق أو ألقاه في النورة فاحترق، أو الملاح إذا غرقت السفينة من يده، والحمال إذا بعثر فهو ضامن عند علمائنا رحمهم الله؛ لأن الهلاك حصل من عمل غير مأذون فيه؛ لأن الهلاك حصل من دون محرق، والدق المخرق غير مأذون فيه؛ لأنه لم يدخل تحت العقد. بيانه: أن المعقود عليه في حق الأجير عمل في الذمة، وإنه نوعان: سليم، ومعيب والمستحق بحكم المعاوضات السليم دون المعيب، وفي وسعه تسليم السليم؛ لأن العيب إنما يحصل بحرق، وعنف يكون من العامل، والتحرز عنه متمكن فلم يدخل المخرق تحت العقد والإذن بخلاف المعين؛ لأن المعين متبرع في العمل، فلا يستحق عليه عمل سليم عن العيب بمطلق الإعانة. كما في هبة العين بخلاف ما نحن فيه وبخلاف النزاع والختان؛ لأنه ليس في وسعهما تسليم السليم؛ لأن السلامة بعد وجود القطع بحده إنما يكون بدفع السراية، ودفع السراية إنما يكون بقوة طبع المعقود به النزع، فلا يكون دفع في وسع الفاعل، فلا يصير مستحقاً عليه. بخلاف ما نحن فيه، فإن الدق السليم عن الخرق في وسعه، فيصير مستحقاً عليه بحكم المعاوضة. وبخلاف الأجير لواحد؛ لأن المعقود عليه في حق الأجير لواحد بتسلم النفس لا بمقابلة العمل. وإذا لم يكن الأجر في حقه بمقابلة العمل كان معيناً في حق العمل، فلا يستحق عليه عمل سليم، ثم إذا وجب الضمان على الأجير المشترك بما جنت يده عند علمائنا الثلاثة، كان المستأجر بالخيار: إن شاء ضمنه قيمته معمولاً، وعليه أجر المثل؛ لأنه موافق في أصل العمل مخالف في الصفة. فإن شاء صاحب الثوب مال إلى الخلاف، وضمنه قيمة ثوبه غير معمول، ولا أجر له؛ لأنه لم يتسلم العمل. وإن شاء مال إلى الوفاق وأخذ الثوب وأعطاه أجر مثله. ثم الأجير المشترك إنما يضمن ما جنت يده عندنا إذا كان محل العمل مسلماً إليه تسليماً يكفي لنقل ضمان العقد لو كان مشتركاً، والمضمون ما يجوز أن يضمن بالعقد، وفي وسع الأجير دفعه، وإنما شرط أن يكون محل العمل مسلماً إليه. لأن ما يجب على الأجير المشترك من الضمان بجناية يده إذا لم يتعمد، ولم يخالف ضمان العقد فإنه لولا هذا العقد بأن كان معيناً لا يضمن، وضمان العقد لا يستوفى من العاقد إلا بالتخلية، كما في بيع العين. وإنما شرطنا أن يكون المضمون بحال يجوز أن يضمن بالعقد لما ذكرنا: أن ما يجب على الأجير المشترك من الضمان بجناية يده، إذا لم يتعمد، ولم يخالف ضمان عقد، وإنما يضمن بالعقد ماله أثر في إيجابه وهو المال، فأما المضمون إذا كان شيئاً لا

يضمن بالعقد كمال كالدم، فإنه لا يجب الضمان فيه على الأجير. وإنما شرطنا أن يكون في وسع الأجير دفع ذلك الفساد؛ لأن العقد إنما ينعقد على ما في وسع الأجير لا على ما ليس في وسعه. نوع آخر في الحمال ومكاري الدابة والسفينة قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في رجل استأجر حمالاً ليحمل له دناً من القراب إلى مكان معلوم بأجر معلوم، فوقع الحمال في بعض الطريق وانكسر الدن. فإن شاء ضمنه قيمته في المكان الذي حمله ولا أجر له. وإن شاء ضمنه في المكان الذي انكسر وأعطاه من الأجر بحساب ذلك. وهذا مذهب علمائنا الثلاثة رحمهم الله؛ لأن الحمال أجير مشترك هلك العين في يده لوقوعه، وعثاره، والتحزر عنه ممكن في الجملة، فيجب عليه الضمان عندنا لما مر والمستأجر بالخيار على ما بينا؛ لأن الحمال موافق من وجه فإنه أمر بالحمل، وقد حمل مخالف من وجه؛ لأنه أمره بالحمل على وجه يصير الدن محمولاً إلى مكان معين، ولم يأت بذلك الحمل. فإن شاء مال إلى جهة الخلاف، وضمنه في المكان الذي حمل ولا أجر؛ لأنه لم يسلمه العمل. وإن شاء مال إلى جهة الوفاق وضمنه في المكان الذي انكسر، وأعطاه من الأجر بحساب ذلك. وفي هذه المسألة إشكالان: أحدهما: أنه قال له أن يضمنه قيمته في المكان الذي حمل، ولم يوجد منه سبب ضمان في ذلك المكان. والثاني: أنه قال: إذا ضمنه قيمته في المكان الذي انكسر أعطاه الأجر بحسابه جمع بين الأجر والضمان، والأجر مع الضمان لا يجتمعان على مذهبنا والجواب عن الإشكال الأول: لا بل وجد سبب الضمان في ذلك المكان. وهذا لأن سبب الضمان وإن كان هو من عمله ذلك حالة الانكسار، إلا أن الفساد الحاصل من عمله استبدالي حالة العقد؛ لأن الانكسار من عمله إنما أوجب الضمان باعتبار العقد، فإنه بدون عقد الإجارة الأجير يكون معيناً في الحمل، ولا ضمان على المعين ولما كان وجوب الضمان باعتبار العقد كان سبب وجوب الضمان العقد من حيث الاعتبار، والحكم يضاف إلى السبب، فقد وجد سبب الضمان في المكان الذي انكسر من عمله، فلهذا يخير. والجواب عن الإشكال الثاني: الأجر مع الضمان إنما لا يجتمعان عندنا في حالة واحدة، وقد اختلف الحالة هاهنا بيانه: أنه إذا ضمنته قيمته في المكان الذي انكسر، فقد جعل المتاع أمانة عنده من حيث حمل إلى المكان الذي انكسر، فالأجر يجب له في حالة الأمانة، وإنما صار مضموناً عند الكسر. وهذه حالة أخرى بعد انقضاء حالة الأمانة. ومثل هذا جائز. ألا ترى أنه لو حمل المتاع إلى ذلك المكان المعين، ثم أحرقه أو طرحه فإنه يضمن قيمته في ذلك المكان الذي أحرقه أو طرحه، ولا يبطل الأجر، لأن الأجر

واجب في حالة الأمانة، وهذه حالة أخرى فلم يجتمع الأجر والضمان إذاً. ومن وجه آخر أن الأجر مع الضمان إنما لا يجتمعان؛ لأن بالضمان يصير المضمون ملكاً للآخر، فيتبين أنه عمل في ملك نفسه وهذا المعنى لا يتأتى ههنا؛ لأنه إذا ضمنه في المكان الذي انكسر، فإنما يملكه الحمال في المكان الذي انكسر فيبقى حاملاً إلى هذا المكان ملك الغير، فيستحق الأجر (51ب4) وصار كما لو استهلك المتاع بعدما سلمه إلى المالك، هذا إذا انكسر في وسط الطريق. فأما إذا سقط من رأسه أو زلق رجله بعدما انتهى إلى المكان المشروط، وانكسر الدن فله الأجر ولا ضمان عليه. حكي عن القاضي صاعد النيسابوري هكذا؛ لأنه حين انتهى إلى المكان المشروط لم يبق الحمل مضموناً عليه. فإما يتوجب جميع الأجر وصار الحمل مسلماً إلى صاحب الدن، حتى لا يستحق الحبس، والمتولد من عمل غير مضمون لا يكون مضموناً عليه بخلاف ما إذا انكسر في وسط الطريق؛ لأن الحمل مضمون لأنه لم يقع الفراغ عنه بعد، وهذا الذي حكي عن القاضي صاعد يوافق قول محمد أخيراً على قول أبي يوسف، وهو قول محمد. أو لأن الحمال يجب أن يكون ضامناً، فقد ذكر بعد هذا عن ابن سماعة: في رجل استأجر حمالاً يحمل له فرقاً من سمن إلى بيته، ثم أنزله الحمال مع صاحب الفرق من رأس الحمال، فوقع من أيديهما وهلك، فالحمال ضامن في قول أبي يوسف. وهو قول محمد أولاً. فأبو يوسف ما اعتبر الوصول إلى بيت صاحب الفرق إذ لو اعتبرها قال: بوجوب الضمان، وإنما بيته معنى آخر أن يد الحمال قد بتت، وصار الفرق في ضمانه، فلا تبرأ عن الضمان إلا إذا أزال يد الحمال من كل وجه، وإذا وضعاه عن رأس الحمال، فما زال يد الحمال من كل وجه وفي مسألة: ما لم يزل يد الحمال أصلاً. فأولى أن لا يبرأ عن الضمان عنده ههنا. ثم رجع محمد عن هذا. وقال: لا ضمان على الحمال، وأشار إلى المعنى: أن السمن وصل إلى صاحبه فيبرأ عن الضمان. هذا إذا حصل التلف بجناية يده. أما إذا حصل التلف لا بجناية يده إن حصل بأمر لا يمكن بالتحرز عنه لا ضمان عليه بالإجماع. وله الأجر لأن عمل الحمال يعتبر مسلماً إلى المالك في موضع لم يجب الضمان على الحمال. فإنما هلك المتاع بعد التسليم، فلا يسقط الأجر. وإن هلك بأمر يمكن التحرز عنه. فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله لا ضمان عليه وله الأجر بحساب ذلك. وعندهما يجب الضمان وللمالك الخيار. كما لو حصل التلف بجناية يده. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : في الملاح إذا أخذ الأجر وغرقت السفينة من موج، أو ريح أو مطر، أو من شيء ليس في وسعه دفعه، فلا ضمان عليه. وإن حصل الغرق من عمله بأن غرقت من يده أو من خرقه يضمن، إذا لم يكن صاحب المتاع فيها؛ لأن محل العمل سلم إليه والمضمون لا يجوز أن يضمن بالعقد، وفي وسع الأجير دفع

ذلك. وإن كان صاحب المتاع في السفينة، أو وكيله وغرقت السفينة من يده ومعالجته فلا ضمان عليه، إلا أن يخالف لأن محل العمل غير مسلم إليه. إذا كان صاحب الطعام في السفينة وكان بمنزلة ما لو عثرت الدابة المستأجرة من سوق أجير المشترك، فسقط الحمل ففسد، وصاحب المتاع راكب على الدابة؛ فإنه لا يضمن الأجير لأنه لم يحل بينه وبين المتاع، فكذلك هذا بخلاف ما لو عثرت الدابة المستأجرة، فسقط المتاع فهلك وصاحب المتاع يسير معه خلف الدابة، فإن الأجير يضمن؛ لأن الهلاك حصل من جناية يده، ومحل العمل مسلم إليه؛ لأنه سلم المتاع إليه وسيره معه خلف الدابة، ليس باسترداد لما دفع إليه. ألا ترى أنه بهذا السير غير متمكن من الدابة، فكيف يتمكن ما عليها، بخلاف راكب السفينة؛ لأنه متمكن من السفينة فيكون متمكناً مما كان في السفينة، فلا تحصل التخلية. قياس مسألة السفينة من الدابة: أن لو كان صاحب المتاع راكباً على الدابة، فعثرت الدابة من مسافة، وسقط المتاع وهلك، ولو كان كذلك لا يضمن. وفي «المنتقى» لو حمل متاعاً على حمال وصاحب المتاع يمشي معه، فعثر الحمال وسقط المتاع وفسد فهو ضامن؛ لأن عثاره من جناية يده. وقال أبو حنيفة رحمه الله: وإن كان على الدابة مملوك صغير لرب المتاع، واستأجر الدابة ليحملهما فعثرت الدابة فوقعا، فمات المملوك، وإن كان الهلاك من جناية يده؛ لأن المضمون هو الدم لأنه صار قاتلاً للعبد. وما يجب بقتل العبد ضمان دم، والدم مما لا يضمن بالعقد. بخلاف المتاع، ثم إنما يضمن المتاع إذا كان العبد بحيث لا يصلح لحفظ المتاع، فأما إذا كان يصلح لحفظ المتاع لا يضمن المتاع؛ لأنه في يد العبد ويد العبد يد المالك، فكان بمنزلة ما لو كان على الدابة وكيل المولى. وقد نص على هذا في مسألة السفينة فقال: وكذلك السفينة لو حمل فيها رقيقاً له مع متاعه، ومثلهم لا يحفظ شيئاً فغرقت السفينة من فعله وهلك المتاع وهلك الرقيق، فإن الملاح يضمن المتاع، ولا يضمن الرقيق شرطه لضمان المتاع أن لا يصلح مثل هذا الرقيق للحفظ، فهذا يبين لك أنه إذا كان يصلح أن لا يضمن المتاع، وكذلك ما هلك من غير صنع الأجير المشترك، إنما يجب عليه ضمانه عندهما إذا صار العين مسلماً إلى الأجير، حتى قال محمد رحمه الله: وإذا كان رب المتاع والمكاري راكبين على الدابة المستأجرة، أو سابقين أو قائدين عثرت الدابة وهلك المتاع الذي عليه، لا ضمان على المكاري. وكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله: أنه إذا سرق المتاع من رأس الحمال ورب المتاع معه، فلا ضمان عليه؛ لأن يد صاحب المتاع قائم على المتاع بعد وقيام يده يمنع وقوع التسليم إلى غيره. قال القدوري رحمه الله في كتابه: ولو كان الطعام في سفينتين مقرونتين إلا أنهما يسيران معاً، ويحبسان معاً، وصاحب المتاع في أحدهما فلا ضمان على الملاح فيما هلك.

وفي «المنتقى» لو كانت سفن كثيرة وصاحب المتاع أو الوكيل في إحداها فلاضمان على الملاح، فيما ذهب من السفينة التي فيها صاحب المتاع أو وكيله، وضمن ما سوى ذلك. قال: هذا كله قول أبي يوسف ومحمد قال ثمة ولأبي يوسف: فيما إذا كانت السفن كثيرة قول آخر. فقال: إذا كانت السفن تنزل معاً وتسير معاً، حتى يكونوا في رفقة واحدة، فلا ضمان على الملاح وإن تقدم بعضها بعضاً وكذلك القطار إذا كان عليها حمولة ورب الحمولة على بعير فلا ضمان على الحمال، لأن يد صاحب المتاع ثابتة على جميع ذلك. وعن أبي يوسف: فيمن استأجر حمالاً ليحمل له هو فرقاً من سمن فحمله صاحبه، والحمال ليضعاه على رأس الحمال، فوقع وتخرق الزق، لا يضمن الحمال؛ لأنه لم يسلم إليه السمن، فإن السمن بعد في يد صاحبه ولا ضمان على الحمال بدون التسليم وهكذا روى ابن سماعة في نوادره عن محمد. قال: في نوادر ابن سماعه: ولو حمله ثم وضعه في بعض الطريق، ثم أراد رفعه فاستعان برب الزق فرفعا بصعابه، فوقع فتخرق، فالحمال ضامن لأنه صار في ضمانه حين حمله، ولم يبرأ منه بعد؛ لأنه لم يسلمه إلى صاحبه. وإن حمله إلى بيت صاحبه، ثم أنزله الحمال مع صاحب الفرق من رأس الحمال فوقع من أيديهما، فالحمال ضامن عند أبي يوسف. وهو قول محمد أولاً؛ لأن يد الحمال قد ثبتت وصار في ضمانه فلا يبرأ إلا إذا أزال يد الحمال من كل وجه وإذا وضعاه جميعاً فيد الحمال لم تزل، فلا يزول الضمان. ثم رجع محمد رحمه الله وقال: لا ضمان على الحمال، لأن السمن قد وصل إلى يد صاحبه فيبرأ عن الضمان.h قال الفقيه أبو الليث: القياس أن يضمن الحمال النصف؛ لأن الفرق وقع من فعلهما، وكثير من مشايخنا افتوا به. وروى ابن سماعة عن محمد: إذا كان رب المتاع والمكاري يسوقان الدابة، فلا ضمان على المكاري. وعن أبي يوسف: إذا كان رب المتاع مع المكاري، فعثرت الدابة فلا ضمان على المكاري. وإن كان عثار الدابة من سياقه أو قياده. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا انقطع حبل الحمال وسقط الحمل، ضمن الحمال بالاتفاق؛ لأنه لما شده بحبل لا يحتمله فكأنه هو المسقط للحمل، وكان التلف حاصلاً من جناية يده معنى. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: الحمال إذا أنزل في مفازة وتهيأ له الانتقال فلم (52أ4) ينتقل حتى فسد المتاع بسرق أو مطر، فهو ضامن وتأويله: إذا كان السرقة والمطر غالبا؛ لأنه يكون مضيعاً. وفي «الواقعات» : استأجر حمالاً يحمل له طعاماً في طريق كذا، فأخذ في طريق آخر يسلكه الناس، فهلك المتاع فلا ضمان. وهكذا ذكر في «الجامع الصغير» قالوا: وهذا إذا كان الطريقين متقاربين لأنه لا يصح التعيين لعدم الفائدة.

فأما إذا كان بينهما تفاوت ظاهر من حيث الطول والقصر أو السهولة والصعوبة، ضمن الأجير. وهو رواية هشام عن محمد غير أنه أطلق في الكتاب؛ لأن الطريق إذا كان يسلكها الناس، قل ما يقع التفاوت فيها حتى لو حمله في البحر ضمن، وإن كان مما يحمله الناس لما كان بينهما تفاوت فاحش، ولكن إذا بلغ فله الأجر في البحر وغيره؛ لأنه إذا سلم يبقى التفاوت صورة، فلا يمنع وجوب الأجر. قال الناطفي: وهكذا الجواب عندي في البضاعة، إلا أن يأذن صاحبه في الحمل في البحر. وفي «فتاوى أبي الليث» : إذا استأجر مكارياً يحمل له عصيراً على دابته إلى موضع معلوم، فلما أراد أن يضعه عن الدابة أخذ أحد العدلين من جانب ورمى بالعدل الآخر من الجانب الآخر فانشق العدل من رميه وخرج العصير. فالمكاري ضامن لنقصان الزق، وللعصير؛ لأن الهلال كان بصنعه. استأجر حمالاً ليحمل حقيبته إلى مكان معلوم، فانشقت الحقيبة بنفسها وخرج ما فيها. قال الفقيه أبو بكر: الحمال ضامن، كالحمال إذا انقطع حبله. قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله لا يضمن الحمال، ويشبه هذا انقطاع الحبل؛ لأن ثمة التفريط كان من قبل الحمال، حيث شد الحمل بحبل واه، وههنا التقصير من قبل صاحب الحقيبة، حيث جعل ماله في حقيبة لا يستمسك ما فيها. قال الفقيه رحمه الله: وتأخذ ونحن نفتي به أيضاً. وفي «فتاوى الفضلي» رحمه الله: إذا رفع حملاً إلى مكار ليحمله إلى موضع، وشرط عليه أن يسير ليلاً، وصاحب الحمل معه يسيران ليلاً، فضاعت الدابة مع الحمل. قال: إن كان المكاري ضيع بترك الحفظ ضمن بلا خلاف. وإن ضاعت الدابة من غير تضييع من المكاري، لم يضمن المكاري في قول أبي حنيفة خلافاً لهما. وينبغي أن لا يضمن إذا كان رب المتاع يسير معه، بلا خلاف بدليل ما مر قبل هذا. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: مكار حمل كرابيس رجل، فاستقبله اللصوص فطرح الكرابيس وذهب بالحمار. قال: إن كان لا يمكنه التخلص منهم بالحمار والكرابيس، وكان يعلم أنه لو حمله أخذ اللصوص الحمار والكرابيس فلا ضمان؛ لأنه لم يترك الحفظ مع القدرة عليه. نوع آخر في النساج والخياط قد ذكرنا بعض مسائل النساج في فصل الحبس بالأجر. ومن جملة ما لم نذكر ثمة نساج كان ساكناً مع صهره، ثم اكترى داراً وانتقل إليها وترك الغزل ثمة، فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة؛ لأن الغزل ما دام ثمة فهو ساكن عنده، فالسكنى عنده لا تبطل ما دام بعض المتاع باقياً. وعندهما: هو ضامن على كل حال. وفي «فتاوى الفضلي» : إذا دفع إلى نساج غزلاً لينسجه كرباساً، فدفع النساج إلى آخر لينسجه فسرق من عند الآجر، إن

كان الآجر أجير الأول فلا ضمان على واحد منهما، وإن لم يكن أجير الأول وكان أجنبياً ضمن الأول بلا خلاف، ولا يضمن الآجر في قول أبي حنيفة خلافاً له. وهو نظير المودع إذا أودع الوديعة من أجنبي بغير إذن المالك. وفي «القدوري» : ومن استأجر على عمل فله أن يعمل بنفسه وأجرائه إلا إذا شرط عليه العمل بنفسه فعلى ما ذكر القدوري: إذا كان الآجر أجيراً للأول، إنما لا يضمن الأول بالرفع إليه إذا لم يشترط على الأول عمله بنفسه. أما إذا شرط عليه العمل بنفسه يضمن بالرفع إلى الآجر. وإن كان الأجير أجيراً للأول. وفي فتاوى أهل سمرقند: نساج ترك كرباس رجل في بيت الطراز فسرق ليلاً، فإن كان بيت الطراز حصيناً يمسك الثياب في مثله لا يضمن، وإن لم يكن حصيناً ولا يمسك الثياب في مثله، إن رضي صاحب الكرباس فيه فلا ضمان، وإلا فهو ضامن. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: دفع إلى نساج كرباساً بعضه منسوج وبعضه غير منسوج، فسرق من عنده. فعلى قول من يقول: بأن الأجير المشترك يضمن ما هلك على يده من غير صنعه، يضمن النساج كل الثوب؛ لأن المنسوج مع غير المنسوج كشيء واحد لاتصاله به، وكذا نسج الباقي يزيد في قيمة المنسوج، فكان أجيراً مشتركاً في الكل. وفي هذا الموضع أيضاً: إذا دفع إلى خياط كرباساً فخاطه قميصاً، وبقي منه قطعة فسرقت القطعة فهو ضامن. وكذا لو دفع صرمياً إلى إسكاف ففضل عنه شيء، فسرق منه لأنه أثبت يده على مال الغير بغير إذنه؛ لأن المالك إنما سلم إليه للقطع لا غير. فإذا قطع يجب عليه رد الزيادة. وذكر الحاكم في «المنتقى» إذا دفع إلى خياط ثوباً، وقال: اقطعه حتى يصيب القدم، وكمه خمسة أشبار وعرضه كذا، فجاء به ناقصاً كان قدر أصبع ونحوه، فليس بشيء، وإن كان أكثر منه فله أن يضمنه، وكثير من مسائل الخياط مرت في الفصل السابع والعشرين. نوع آخر في المسائل العائدة إلى الحمام قد ذكرنا بعض المسائل العائدة إلى الحمام في فصل إجارة الحمام. ومن جملة ما لم نذكر ثمة رجل دخل الحمام، وقال لصاحب الحمام: احفظ الثياب، فلما خرج لم يجد ثيابه، فإن أقر صاحب الحمام أن غيره رفعه وهو يراه، ويظن أنه يرفع ثياب نفسه فهو ضامن؛ لأنه تارك الحفظ، حيث لم يمنع القاصد وهو يراه. وإن سرق وهو لا يعلم به فلا ضمان عليه، إن لم يذهب من ذلك الموضع، ولم يضيعه. وهذا قول الكل؛ لأن صاحب الحمام مودع في حق الثياب، إذا لم يشترط له بازاء حفظه الثياب أجر. فأما إذا شرط له بإزاء الحفظ أجر، ودفع الثياب إلى الثاني: وهو الذي يحفظ

الثياب بأجرة وفارسيته دار فلا ضمان عليه فيما سرق، عند أبي حنيفة خلافاً لهما؛ لأنه أجير مشترك. وفي «فتاوى الفضلي» : امرأة دخلت الحمام، فأعطت ثيابها إلى المرأة التي تمسك الثياب بأجر وفارسيتها جابة دار فلما خرجت لم تجد عندها ثوباً من ثيابها. قال: إن كانت هذه المرأة قبل هذه المرة تدخل الحمام وتدفع ثيابها إلى هذه الممسكة، وتعطيها الأجر على حفظ ثيابها فلا ضمان عليها عند أبي حنيفة رحمه الله، خلافاً لهما، وإن كان هذا أول مرة دخلت هذه الحمام، ودفعت ثيابها إلى هذه الممسكة فلا ضمان عليها في قولهم جميعاً؛ لأنه إذا كان هذا أول مرة، ولم يدفع الأجر أولاً، شرط لها أجراً فهي مودعة لا أجيرة مشتركة. هكذا ذكر وعلى قياس ما ذكرنا عن محمد: أن كل عمل لا يعمل إلا بأجر، فالأجر به ثمن يرصد له ... ينبغي أن يكون الثانية أجيرة مشتركة عند محمد، حتى تضمن عنده والفتوى على قول أبي حنيفة: أن الثاني لا يضمن إلا بما يضمن المودع. رجل دخل الحمام، وقال لصاحب الحمام: أين أضع الثياب؟ فأشار صاحب الحمام إلى موضع؟ فوضع ثمة ودخل الحمام، ثم خرج رجل وأخذ الثياب، فلم يمنعه صاحب الحمام؛ لأنه ظنه صاحب الثياب، ضمن صاحب الحمام؛ لأن هذا استحفاظ له، فصار مودعاً. وقد قصر في الحفظ فيصير ضامناً. وهذا قول ابن سلمة وابن نصر الدبوسي. وكان أبو القاسم يقول: لا ضمان على صاحب الحمام. والأول: أصح. وهو نظير ما لو دخل رجل بدابته خاناً، وقال لصاحب الخان: أين أربطها؟ فقال: هناك، فربطها وخرج فلما رجع، لم يجد دابته، فقال صاحب الخان لصاحب الدابة: إن صاحبك قد أخرج الدابة ليسقيها ولم يكن له صاحب، ضمن صاحب الخان؛ لأن قوله: أين أربطها؟ استحفاظ لصاحب الخان، فإذا أشار إلى موضع الربط (52ب4) فقد أجابه إلى الحفظ، فصار مودعاً. وقد قصر في الحفظ فصار ضامناً كذا ههنا. رجل دخل الحمام ونزع الثياب من يدي صاحب الحمام، ولم يقل بلسانه شيئاً فدخل الحمام ثم خرج، ولم يجد ثيابه، فالمسألة على وجهين: إن لم يكن للحمام ثيابي يضمن صاحب الحمام ما يضمن المودع بأن وضع الثوب برأي عين صاحب الحمام ما يضمن المودع؛ لأن وضع الثوب برأي عين صاحب الحمام، إذا لم يكن ثيابي استحفاظ له. وإن كان للحمام ثيابي إلا أنه لم يكن حاضراً، فكذلك الجواب أيضاً. وإن كان حاضراً لا يضمن صاحب الحمام؛ لأن هذا استحفاظ للثيابي دلالة دون صاحب الحمام، فلا يضمن صاحب الحمام إلا إذا صاحبه الثياب على استحفاظ صاحب الحمام، بأن قال

له: أين أضع الثياب؟ فحينئذ يصير صاحب الحمام مودعاً، فيضمن ما يضمن المودع. وإذا دخل رجل الحمام ودفع ثيابه إلى صاحب الحمام، واستأجره للحفظ واشترط عليه الضمان إذا تلف فضاع الثياب، كان الفقيه أبو بكر يقول: يضمن الحمامي إجماعاً. وكان يقول: الأجير المشترك إنما لا يضمن عند أبي حنيفة، إذا لم يشترط عليه الضمان. أما إذا شرط عليه الضمان يضمن، وكان الفقيه أبو جعفر يسوي بين شرط الضمان وعدم الشرط، وكان يقول: بعدم الضمان لأن شرط الضمان في الأمانة شرط مخالف لقضيه الشرع، فيكون باطلاً. قال الفقيه أبو الليث: وبه نأخذ ونحن نفتي أيضاً بما قال الفقيه أبو الليث. ونوع آخر في البقار والراعي والحارس قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا استأجر الرجل راعياً يرعى معلوماً له مدة معلومة، بأجر معلوم، فهذا جائز، ويكون الراعي أجيراً مشتركاً؛ لأنه أوقع العقد على العمل لما ذكر العمل أولاً، إلا إذا قال: على أن لا ترعى غنم غيري مع غنمي، فحينئذ يصر أجير وحد. وقد مر هذا في أول هذا الفصل ولو كان استأجره مدة معلومة على أن يرعى غنماً معلوماً له بأجر معلوم، فهو جائز، ويكون أجير وحد لأنه أوقع العقد في حقه على المدة، لما ذكر المدة أولاً. إلا إذا قال: ويرعى غنم غيري مع غنمي، فحينئذ يكون أجير مشترك. ثم الراعي إذا كان أجير وحد وماتت من الأغنام واحدة، حتى لم يضمن لا ينقص من الأجر بحسابه، وذلك لأن الغنم لو ماتت كلها لا يسقط من الأجر شيء إذا سلم نفسه في المدة للرعي، وكان للآجر أن يمكنه رعي أغنام أجر؛ لأنه أجير وحد وأجير الوحد يستحق الأجر بتسليم نفسه في المدة، لا بحقيقة العمل فإذا ماتت شاة منها أولى أن لا يسقط من الأجر شيء. ولو ضرب شاة منها ففقأ عينها أو كسر يدها ضمن؛ لأن أجير الوحد يضمن بالخلاف. وقد خالف لأنه ضرب والضرب غير داخل تحت الإجارة. إنما دخل كلها الرعي والرعي يتحقق بدون الضرب، وإذا لم يدخل الضرب تحت الإجارة صار الحال في حق الضرب، بعد الإجارة كالحال قبلها وقبل الإجارة لو ضرب شاة هذا، أو تلف من ضربه شيء ضمن، فكذلك هذا. ولو هلك منها شيء في السقي أو الرعي لم يضمن؛ لأنه أجير وحد وأجير الوحد لا يضمن ما لم يخالف، ولم يخالف لأنه فعل ما أذن له في ذلك؛ لأن السقي داخل تحت العقد؛ لأن الرعي لا يتحقق بدونه، وإذا دخل تحت العقد لم يضمن ما هلك منها كأجير الوحد إذا دق فتخرق وهو مصدق فيما هلك منها لأنه أمين والقول قول الأمين مع اليمين هذا إذا كان الراعي أجير واحد. فأما إذا كان أجير مشترك فإنه لا يضمن ما مات من الأغنام عندهم جميعاً؛ لأن الهلاك حصل من أمر لا يمكن التحرز عنه؛ لأن الموت حتف أنف مما لا يمكن التحرز

عنه. فإنه ليس في هذا الراعي ذلك. وهذا إذا ثبت الموت بتصادقهما أو بالبينة فأما إذا ادعى الراعي الموت وجحد رب الأغنام فعلى قول أبي حنيفة: القول قول الراعي؛ لأنه أمين فيكون القول قوله أنه مات كالمودع. وأما عندهما القول قول رب الأغنام. وكان يجب أن يكون القول قول الراعي؛ لأنه أمين، لأن المال أمانة في يده عندهما. وإنما لا يضمن إذا هلك بآفة يمكن التحرز عنه؛ لأنه يعد ذلك تضييعاً منه، فيضمن بالتضييع. ولهذا قالا: إذا خلط خلطا لا يمكن التمييز فإنه يضمن قيمته يوم الخلط، ولو كان قبضه قبض ضمان عندهما لكان يضمن قيمته يوم القبض كالغاصب، فدل أن المال أمانة في يد أجير المشترك عندهما. وإنما يضمن بالتضييع إذا حصل الهلاك بأمر يمكن التحرز عنه. ولهذا علل محمد رحمه الله في الكتاب فقال: لأنه ضيع حيث لم يحفظها من السبع والسرقة. وإذا كان المال أمانة في يده وإنما يضمن بالتضييع كان يجب أن يكون القول قوله ما لم يقر بالتضييع. ولم يوجد منه الإقرار بالتضييع إلا أنه جعل القول قول رب الغنم، وذلك لأنه وجب على أجير المشترك زيادة حفظ لم يجب على المودع. وعلى أجير الوحد مخافة أن لا يضيعوا أموال الناس، فإنه يجتمع في أيديهم أموال الناس على ما أشار في حديث علي رضى الله عنه. وإنما تأتى بزيادة حفظ لم يجب على المودع، وعلى أجير الوحد إذا لم يجعل القول قوله عند الهلاك وإن لم يوجد منه الإقرار بسبب الضمان؛ لأنه متى علم أن القول قوله عند الهلاك. كما في المودع لا يجد في الحفظ، فلهذه الضرورة لم يجعل القول قوله عند الهلاك وإن كانت المال أمانة عنده ليحصل ما هو المقصود من زيادة حفظ وجب عليه، لم يجب على المودع وعلى أجير الوحد. ولو ساقها إلى المرعى فعطب منها شاة لا من سياقة بأن صعدت الجبل أو مكاناً مرتفعاً، فتردى منه فعطبت فلا ضمان عليه في قول أبي حنيفة؛ لأن الهلاك ما كان من قبله وعلى قولهما ضمن؛ لأن الهلاك حصل من أمر يمكن التحرز عنه بأن لا يأتي هذا المكان، أو إن أتى هذا المكان بحفظها عن الصعود على الجبل، وعلى المكان المرتفع. وكذا لو أوردها نهراً ليسقيها، وغرق شاة منها على قول أبي حنيفة لا ضمان. وعلى قولهما ضمن. وكذلك لو أكل منها سبع أو سرق منها، فالمسألة على الخلاف. ولو ساقها وعطبت شاة منها من سياقه بأن استعجل عليها، فعثرت وانكسر رجلها، أو أندق عنقها فعليه الضمان عند علمائنا الثلاثة. وإذا ساق الراعي الغنم فتناطحت بعضها بعضاً من سياقه، أو وطئ بعضها بعضاً من سياقة. فإن كان الراعي مشتركاً فهو ضامن على كل حال؛ لأن هذا من جناية يده. وإن كان خاصاً: إن كانت الأغنام لواحد فلا ضمان عليه. وإن كانت الأغنام لاثنين أو ثلاثة فهو ضامن. وصورة الأجير الخاص في حق الاثنين والثلاثة: أن يستأجر رجلان أو ثلاثة راعياً

شهراً ليرعى غنماً لهم، أو لهما فقد فرق في حق الأجير الخاص بينهما، إذا كانت الأغنام لواحد، وفيما إذا كانت الأغنام لاثنين أو ثلاثة. والفرق بينهما وهو أن الأغنام كلها لما كانت لواحد ففعل الأجير في السوق منقول إلى صاحب الأغنام، باعتبار القاتل والمقتول فإنه عامل له فيهما، فصار فعله في السوق منقولاً إلى صاحب الأغنام، فكأن صاحب الأغنام ساق بنفسه. ولو ساق بنفسه فقتل بعضها بعضاً لا يجب الضمان إذا كانت الأغنام كلها للسائق، فكذلك هذا. فأما إذا كانت لرجلين بأن كان بعضها لزيد وبعضها لعمرو ففعل الأجير إن صار منقولاً إلى زيد باعتبار القاتل، فإنه عامل لزيد في حق القاتل، فإن بالقاتل ملك زيد. فباعتبار المقتول لا ينتقل فعله في السوق إلى زيد لأنه في سوق المقتول أجير عمرو، وإذا انتقل فعله إلى صاحب القاتل باعتبار القاتل، ولم ينتقل باعتبار المقتول لم يثبت الانتقال، فبقي مقصوراً عليه وللراعي أن يبعثه بالأغنام على يدي غلامه أو أجيره أو ولده الكبير الذي في عياله؛ لأن بالرد من الحفظ. وله الحفظ بيد من في عياله. فإن هلك في يده (53أ4) حالة الرد. فإن كان الراعي مشتركاً فلا ضمان عليه في قوله أبي حنيفة على كل حال. وعندهما إن هلك بأمر يمكن التحرز منه فهو ضامن كما لو رد بنفسه وهلك في يده حالة الرد، وإن كان الراعي أجير خاص، فلا ضمان على كل حال، كما لو رد بنفسه وهلك في يده حالة الرد. ويشترط أن يكون الراد كبيراً يقدر على الحفظ؛ لأنه متى كان صغيراً لا يقدر على الحفظ يكون هذا تضييعاً منه، والأجير يضمن بالتضييع عندهم جميعاً. وشرط أن يكون في عياله؛ لأنه متى لم يكن في عياله كان الرد بيده وبيد أجنبي سواء، ليس له الرد بيد الأجنبي هكذا بيد من ليس في عياله. وذكر الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي: أن للمشترك أن يرد بيد من ليس في عياله وليس للخاص ذلك. والحاكم يرد به يتولى بينهما وقال: ليس لهما ذلك. الراعي المشترك إذا خلط الأغنام بعضها ببعض، فإن كان يمكنه التمييز بأن كان يعرف غنم كل واحد، فلا ضمان عليه؛ لأن مثل هذا الخلط ليس باستهلاك، ويكون بمنزلة خلط السود بالبيض. والقول قول الراعي في تعيين الغنم لكل واحد، لأن اليد له، فيكون القول قوله: إن هذا لهذا، وإن كان لا يمكنه التمييز، بأن يقول: لا أعرف غنم كل واحد، فهو ضامن قيمة الأغنام، لأن مثل هذا الخلط استهلاك بمنزلة خلط السود بالسود والقول قول الراعي في مقدار القيمة؛ لأن صاحب الغنم يدعي عليه زيادة وهو ينكر. وتعتبر قيمة الأغنام يوم الخلط وهذا على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يشكل. وعلى قولهما اختلف المشايخ بعضهم قالوا: تعتبر القيمة يوم القبض. وقال بعضهم: يوم الخلط وهو الصحيح؛ لأن الأجير المشترك عندهما لا يضمن بالقبض، وإنما يضمن بترك الحفظ والتضييع. وقيل: يجب أن يتخير أرباب الغنم إن شاءوا ضمنوه، وإن شاءوا أخذوها مشتركة كما في خلط الحنطة بالحنطة. وإذا ادعى بعضهم طائفة من الغنم، فإن الراعي يحلف ما

هذه غنم هذا؛ لأنه يدعي عليه معنى لو أقرَّ به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف. فإن حلف برئ وإن نكل ضمن القيمة لصاحبه. إذا خاف الراعي على شاة منها فذبحها فهو ضامن قيمتها يوم ذبحها؛ لأن الذبح ليس من عمل الرعي في شيء، فلا يكون داخلاً تحت العقد قال مشايخ بلخ: هذا إذا كان يرجى حياتها بأن كان شكل الحال يرجى حياتها وموتها. أما إذا تيقن لموتها فلا ضمان عليه؛ لأن الأمر بالرعي أمر بالحفظ، والحفظ الممكن حالة التيقن بالموت بالذبح. فيصير مأموراً بالذبح في هذه الحالة. وذكر الصدر الشهيد رحمه الله في الباب الأول من شركة «واقعاته» : أن من ذبح شاة إنسان لا يرجى حياتها يضمن، والبقار والراعي لا يضمن في مثل هذا. وفرق بين الأجنبي والراعي والبقار والفقيه أبو الليث سوى بينهما فقال: لا يضمن الأجنبي كما لا يضمن الراعي والبقار لوجود الإذن بالذبح دلالة في حق الكل في هذه الحالة وهو الصحيح، وكذلك الجواب في البعير؛ لأن الذبح في هذه المواضع إصلاح اللحم، فأما في الحمار فلا يذبح. وكذا في البغل؛ لأن الذبح لا يصلح اللحم فيهما. وفي الفرس أيضاً لا يذبح عند أبي حنيفة؛ لأن الصحيح من مذهبه أن لحم الفرس مكروه كراهة التحريم. وإذا باع المالك بعض الأغنام، فإن كان الراعي خاصاً لم يبطل شيء من الأجر وإن كان مشتركاً يبطل من الأجير بحصة ما باع. والكلام فيه نظير الكلام. فيما إذا مات بعض الأغنام وهذا لأن الخاص يستحق الأجر بتسليم النفس، وقد سلم نفسه للرعي بأقصى ما في وسعه، فأما المشترك يستحق الأجر بالعمل ولم يوجد عمل الرعي فيما باع. وإذا أراد رب الغنم أن يزيد في الغنم ما يطيق الراعي، كان له ذلك إذا كان الراعي خاصاً؛ لأن رب الغنم ملك جميع منافعه في حق الرعي في هذه الإجارة، فصار الأجير في حق الرعي بمنزلة العبد له وله أن يكلف عبده من الرعي ما يطيق، فكذا ههنا ولا يكلفه فوق طاقته؛ لأن الأجير الخاص لا يكون أشقى حالاً من عبده، وليس له أن يكلف عبده من الرعي ما لا يطيق فهاهنا أولى. وسواء سمى له الغنم أو لم يسم فالعقد جائز إذا بين المدة؛ لأنه إذا بين المدة وصار أجير وحد تنصرف الإجارة إلى أقصى ما في وسع الأجير من الرعي في هذه المدة. وصار كأنه نص عليه. ولو نص عليه جاز العقد، وإن لم يسم الغنم كذا ههنا هذا إذا استأجر شهراً ليرعى غنمه ولم يشر إلى الغنم فأما إذا أشار إلى الغنم، بأن قال استأجرتك لترعى هذه الأغنام ثم أراد المستأجر أن يزيد في الغنم فالقياس أن ليس له ذلك، كما في الراعي المشترك.l وفي الاستحسان له ذلك؛ لأنه لو لم يشر إلى هذه الأغنام كان المستحق عليه بحكم هذه الإجارة من الرعي ما في وسعه وطاقته. فلو تغير موجب هذا العقد إنما يتغير بهذه الإشارة، ولا وجه إلى ذلك؛ لأن قوله: هذه الأغنام بعض ما شمله أول الكلام على موافقة حكمه؛ لأن مطلق العقد يقتضي رعي هذه وغير هذه فبقوله: هذه الأغنام ذكر رعي هذه لا غير. وذكر بعض ما شمله أول الكلام على موافقة حكمه لا يوجب تغيير أول الكلام،

صار وجوده والعدم بمنزله. ولو انعدم قوله هذه الأغنام كان له أن يكلفه من الرعي ما يطيق كذا ههنا بخلاف الأجير المشترك؛ لأن الإشارة في الأجير المشترك ليس بذكر لبعض ما شمله مطلق العقد، بل هو ذكر لجميع ما تناوله العقد؛ لأن العقد في الأجير المشترك لا يجوز إلا بالإشارة إلى الأغنام، أو بذكر العدد. وإذا كانت الإشارة بياناً ما تناوله العقد بمطلق العقد بالمشار إليه، فلم يكن له أن يكلفه مقدار الزيادة. أما ههنا فالعقد يجوز، وإن لم يشر إلى الأغنام ولم يسم عددها، ويستحق عليه من الرعي مقدار ما يطيق، فكانت الإشارة ذكر البعض لشمله أول الكلام، والتقريب ما ذكرنا. وإذا ولدت الأغنام أولاداً فإن كان الراعي أجير خاص فعليه رعي الأولاد، وإن كان الراعي أجير مشترك فليس عليه رعي الأولاد. وإن شرط على الأجير المشترك رعي ما يحدث من الأولاد فهو شرط فاسد. لو فارق العقد يفسد به العقد قياساً. وفي الاستحسان يجوز وجه القياس في ذلك وهو أن بعض المعقود عليه مجهول، وهو رعي الأولاد؛ لأنه لا يدري كم ظهر الأغنام وكذلك الأجر بإزاء الأغنام والأولاد، وإذا كان الأولاد مجهولاً كانت حصة الأولاد من الأجر مجهولة فيكون حصة الأمهات مجهولة أيضاً. ومع الجهالة تمكن الخطر في هذا العقد؛ لأنه لا يدري أن الأغنام تلد أولا تلد. وجه الاستحسان في ذلك: أن الجهالة إنما توجب فساد العقد؛ لكونها مانعة من التسليم والتسلم. وهذا المعنى لا يتأتى ههنا؛ لأن تسليم الأولاد وتسلمها مما لا يحتاج إليه في الحالة حتى يقال في الحال مجهولة. وإنما يحتاج إليهم بعد الحدوث وبعد الحدوث هي معلومة، والأجر في الحال معلوم؛ لأن الأجر كله بإزاء الأمهات في الحال؛ لأن رعي الأولاد شرط على سبيل الزيادة وما يكون زيادة على المعقود عليه لا يكون لها حصة من البدل ما لم يوجد، بل يكون كله بمقابلة الأصل، وحال وجود الأولاد الذي هو حال انقسام البدل الأولاد معلومة، فكان الأجر معلوماً والخطر المتمكن في وجود الأولاد لا يوجب فساد العقد في الأمهات، لأن الأولاد جعلت معقوداً عليها على سبيل الزيادة والخطر في الزيادة لا يوجب خطراً (53ب4) في الأصل، والخطر في محل المبيع انعقاد العقد في محل آخر، فالخطر في الأولاد لا تمنع العقد على الأمهات للحال، وليس للراعي أن يبرئ على شيء منها بغير أمر صاحبها، وإن فعل ذلك يضمن ما عطب منها؛ لأن الإبراء لم يدخل تحت العقد؛ لأن الإجارة عقدت على الراعي، والإبراء ليس من الرعي، فصار الحال فيه بعد العقد كالحال قبله. ولو أن الراعي لم يفعل ذلك، ولكن الفحل الذي في الغنم نزا على واحدة منها، فعطبت فلا ضمان على الراعي في ذلك بالإجماع، إن كان الراعي أجير خاص. وإن كان الراعي أجير مشترك فكذا الجواب عنده. وعندهما: هو ضامن لأن الهلاك حصل بأمر يمكن التحرز (عنه) ، وإن مدت واحدة منها، وترك اتباعها حتى لا يضيع الباقي فهو في سعة من ذلك، ولاضمان عليه فيما مدت

بالإجماع، إن كان الرعي خاصاً وعند أبي حنيفة إن كان الراعي أجير مشترك. وإن ترك حفظ ما مدت والأمين يضمن بترك الحفظ؛ لأن الأمين إنما يضمن بترك الحفظ إذا ترك بغير عذر، فأما إذا ترك بعذر، فإنه لا يضمن، كما لو دفع الوديعة إلى أجنبي حالة الحريق فإنه لا يضمن وإن ترك حفظها؛ لأنه تركها بعذر، فكذلك ههنا إنما ترك حفظها كيلا يضيع الباقي، وعندهما يضمن؛ لأنه ترك الحفظ بعذر يمكن الاحتراز عنه. ورأيت في بعض النسخ: لا ضمان عليه فيما مدت إذا لم يجد من سعته يردها، أو سعته ليجر صاحبها بذلك. وإن تكارى من يجيء بالواحدة متطوع؛ لأنه لم يؤمر باستئجار هذا، وإن تفرقت الغنم والبقر عليه فرقاً لم يقدر على اتباعها كلها، وأقبل على فرقة منها وترك على ما سوى ذلك، فهو في سعة من ذلك ولا ضمان عليه؛ لأنه ترك حفظ البعض بعذر، وعلى قولهما: يضمن لأنه ترك بعذر يمكن الاحتراز عنه في الجملة. وإذا كان الراعي أجير مشترك فرعاها في بلد، فعطبت واحدة منها أي هلكت بآفة نحو الغرق في الماء، وافتراس الفرس والسقوط من الحرّ وما أشبه ذلك. فقال ربّ الغنم: إنما شرطت عليك أن ترعى في موضع كذا وكذا عين موضعاً آخر غير هذا الموضع، وقال الراعي بل شرطت علي الرعي في الموضع الذي رعيتها، فالقول قول ربّ الغنم بالإجماع حتى يضمن الراعي بالإجماع؛ لأن الإذن يستفاد من جهته، والبينة بينة الراعي حتى لا يضمن في قول أبي حنيفة؛ لأنه هو المدعي؛ لأنه يثبت ما ليس بثابت. وكذلك إذا كان الراعي أجير خاص، واختلف على نحو ما بينا فالقول قول رب الأغنام لما ذكرنا. وإذا خالف الراعي ورعاها في غير المكان الذي أمره، فعطبت فهو ضامن ولا أجر له وإن سلمت الغنم القياس أن لا أجر له. وفي الاستحسان: يجب الأجر لأن الراعي، موافق في أصل الرّعي، مخالف في صفته. فإن الرعي في بعض الأماكن ربما يكون أجود من البعض. فعملنا بجانب الخلاف إن عطبت الأغنام فأوجبنا الضمان، ولم نوجب الأجر وعملنا بجانب الوفاق، إن سلمت الأغنام فأوجبنا الأجر. راعي الرماك إذا يومق الرمكة، فوقع الرمق في عنقها، فجدبها فعطبت فهو ضامن؛ لأن التوميق لم يدخل تحت الإذن لأنه ليس من عمل الرعي فكان التلف حاصلاً من عمل غير مأذون فيه، وإن فعل ذلك بإذن صاحب الرمكة فلا ضمان هكذا ذكر في الأصل. قال بعض مشايخنا: هذا إذا كان الراعي أجير واحد، فإما إذا كان أجير مشترك فهو ضامن؛ لأن هذا من جناية يده، فيكون بمنزلة ما لو دق فتخرق وعامتهم على أنه لاضمان على كل حال؛ لأن هذا ليس من عمل الرعي، فكان الراعي معيناً فيه، ولاضمان على المعين على كل حال. وإذا شرطوا على الراعي ضمان ما عطبت بفعله فهو

جائز. ولا يفسد به العقد؛ لأن هذا شرط يقتضيه العقد من غير شرط، وإن شرطوا عليه ضمان ما مات منها، إن كان الشرط في العقد يفسد العقد؛ لأن هذا شرط لا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين فيه النفق وإن شرطه بعد العقد لم يصح الشرط، ولا يفسد العقد. هكذا ذكر شيخ الإسلام في شرح إجاراته. وعلى قياس ما ذكر القدوريّ في بيوعه أنه إذا لحق بالعقد الصحيح شيء من الشروط المفسدة، التحقت بأصل العقد، وفسد العقد في قول أبي حنيفة يجب أن يقال على قول أبي حنيفة في فصل الإجارة، أنه إذا لحق هذا الشرط بالعقد أن يفسد العقد، وإذا شرط على الراعي إن مات منها يأتي بسمنها، وإلا فهو ضامن فليس عليه إثبات السمنة؛ لأن إثبات السمنة عمل شرط في هذه الشاة بعد إنفساخ العقد فيها؛ لأن الإجارة فيما ماتت قد انفسخت بموتها، فلا يلزمه ذلك كما قبل الإجارة. ولا يصير ضامناً بهذا الشرط لما مرّ قبل هذا وهل يفسد العقد بهذا الشرط فهو على التفصيل الذي ذكرنا في المسألة المتقدمة. وإذا قال ربّ الغنم للراعي: دفعت إليك مئة شاة، وقال الراعي لا بل تسعون. فالقول قول الراعي لإنكاره القبض فيما زاد على التسعين. وإن أقاما البينة فالبينة بينة صاحب الغنم؛ لأنها تثبت له زيادة في القبض على الراعي، وليس للراعي أن يسقى من ألبان الغنم. وأن يأكل لأن هذا التصرف لم يدخل تحت العقد؛ لأنها ليست من الرعي في شيء. وليس للراعي إذا كان خاصاً أن يرعى غنم غيره بأجر، فلو أنه أجر نفسه من غيره لعمل الرعي ومضى على ذلك شهور. ولم يعلم الأول به فله الأجر كاملاً على كل واحدة منهما لا يتصدق بشيء من ذلك، إلا أنه يأثم. وإن كان هذا أجير وحد وليس لأجير الوحد أن يؤاجر نفسه من غيره، بخلاف الأجير المشترك لأن أجير الوحد في الرعي يشبه أجير المشترك من وجه، من حيث إنه يمكنه إيفاء العمل إلى كل واحد منهما بتمامه في المدة، بأن يرعى غنم الأول في المدة ويرعى غنم الثاني. فمن حيث إنه يقدر على إيفاء العمل لكل واحد منهما بتمامه، كان أجير مشترك، ومن حيث إنه أوقع العقد على المدة لا على العمل كان أجير وحد، ولو كان مشترك من كل وجه كما في القصار والخياط كان له أن يؤاجر نفسه من غيره، ويستحق الأجر على كل واحد منهما كاملاً، ولا يأثم ولا يتصدق بشيء من ذلك، ولو كان أجير وحد من كل وجه بأن أوقع العقد على المدة لعمل لا يمكنه الإيفاء إلى كل واحد منهما بتمامه في المدة بأن أجر نفسه يوماً بدرهم للحصاد، أو للخدمة فخدم وحصد في بعض اليوم لغيره، فإنه لا يستحق الأجر كاملاً على الأول ويأثم، فإذا كان له شبهاً تأجير المشترك وقوما على الشبهين حظهما فقلنا: لشبهه بأجير المشترك يستحق الأجر كاملاً على كل واحدة منهما، ولا يتصدق، ومن حيث إنه أجير وحد يأثم توقيراً على الشبهين حظهما بقدر الإمكان، وإنما أظهرنا شبه أجير الوحد في حق الإثم لا في حق نقصان الأجر؛ لتمكننا العمل بالشبهين؛ لأنا لو أظهرنا شبه أجير الوحد في حق نقصان الأجر، كان يأثم أيضاً؛ لأن الأجر إنما يسقط لمنعه بعض المعقود عليه عن الأول، وهذا

موجب الإثم، فيتعطل العمل بالشبهين، فلهذا أظمها شبه أجير الوحد في حق الإثم، وفيما عدا ذلك من الأحكام ألحقناها بأجير المشترك. ونظير هذا ما قلنا في باب الظئر إذا استأجر ظئراً شهراً لترضع ولده، كانت أجيرة وحد حتى لا يكون لها أن تؤاجر نفسها فإن أجرت نفسها، من قوم آخرين ولم يعلم الأولون حتى مضت المدة، وقد أرضعت ولد كل واحد فإنها تستحق الأجر كاملاً على كل واحدة منهما. ولا تتصدق بشيء من ذلك، وتأثم. وإن كانت أجيرة وحد، لأنها أوقعت العقد على المدة لا على العمل، إلا أن لها شبهاً بأجير المشترك في الرضاع من حيث إنه يمكنها إيفاء الرضاع إلى كل واحد منهما بتمامه فوقر ما على الشبهين حظهما، فقال: تأثم؛ لأنها أجيرة وحد، ولشبهها بأجير المشترك قلنا: تستحق الأجر كاملاً ولا تتصدق بشيء فكذلك (45أ4) هذا. قال: ولو كان تبطّل يوماً أو يومين في الشهر، أو مرض يسقط الأجر بقدره؛ لأنه لم يسلم نفسه للرعي في مدة التبطل والمرض، وأجير الوحد إنما يستحق من الأجر بقدره؛ ولو دفع إليه غنمه ليرعى على أنه أجرها ألبانها وأصوافها، فإن هذا فاسد؛ لأنه استأجره بمجهول ومعدوم؛ لأن الأصواف والألبان الموجودة للحال مجهول المقدار، وما يزداد ويحدث بعد ذلك ساعة فساعة معدوم. وأحدهما مانع جواز الإجارة، فمجموعها أولى أن يمنع. قال: ولو دفع رجل غنمه إلى راعي واشترط على الراعي جبناً معلوماً وسمناً معلوماً، وما بقي من ألبانها وسمونها وأصوافها، فهو للراعي فهذا فاسد؛ لأن فيه ما في الأول فإنه استأجره بمجهول ومعدوم؛ فإن ما بقي بعد المشروط مجهول ومعدوم، وفيه زيادة غرر ليس في الأول. وهو: أنه يجوز أن لا يبقى للراعي شيء بعد المشروط لربّ الغنم فكان في هذا الفصل زيادة منع ليس في الأول، فإذا لم تجز الإجارة في الفصل الأول فههنا أولى وما أصاب الراعي من ألبانها وسمونها فهو ضامن؛ لأنه استهلكها بحكم عقد فاسد، وله على صاحب الغنم أجر المثل؛ لأنه استوفى عمله بحكم إجارة فاسدة. وإن دفع الراعي غنم رجل إلى غيره فأستهلكها المدفوع إليه، وأقر بذلك الراعي فإن لصاحب الغنم أن يضمن الراعي، وليس له أن يضمن القابض إذا لم يقر أن المقبوض ملك المدعي، ولم يقم للمدعي بينة، أما الراعي فيضمن؛ لأنه لا يخلو إما إن كان يعتبر أميناً أو ضميناً، وأي ذلك ما اعتبر لابد من إيجاب الضمان عليه متى دفع المال إلى من ليس في عياله. ولا يضمن القابض للمدعي؛ لأنه لم يثبت كون ما قبض القابض ملكاً للمدعي لا بإقرار القابض، ولا بالبينة لو ثبت إنما يثبت بإقرار الراعي، وإقرار الراعي أن ما دفع كان لغيره مقبول في حقه، ولا تقبل في حق المدفوع إليه إذا أنكر، فلم يكن له

تضمين القابض، فإن أقام المدعي البينة أن ما قبض كان له أو أقرَّ القابض بذلك أن كان ما قبض قائماً بعينه في يد القابض، كان للمدعي أن يأخذه؛ لأنه وجد عين ماله وإن كان مستهلكاً كان المالك بالخيار إن شاء ضمن القابض وإن شاء ضمن الراعي أما تضمين الراعي فلا إشكال؛ لأنه دفع ماله إلى غيره، وأما القابض فتضمينه مشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن الراعي دفع إليه على سبيل الإيداع. ومن مذهبه أن مودع المودع لا يضمن، إنما كان كذلك؛ لأنه وضع المسألة إن استهلكها المدفوع إليه، ومودع المودع يضمن إذا استهلك عندهم جميعاً، إنما الخلاف فيما إذا هلك في يده، وإذا رعى الراعي في مكان لم يؤذن بالرعي فيه، هل يستحق الأجر؟ فهذا على وجهين: إما إن عطبت الغنم أو سلمت فإن عطبت فإنه لا أجر عليه؛ لأنها لما عطبت الغنم صار ضامناً، فصار الغنم ملكاً له من وقت الخلاف فصار راعياً ملك نفسه، فلا يستحق الأجر. وإن سلمت فالقياس أن لا يستحق الأجر. وفي الاستحسان يستحق الأجر. وجه القياس في ذلك أنه خالف فلا يستحق الأجر، وإن لم يضمن قياساً على ما لو استأجر دابة لتذهب في مكان كذا، فذهب بها في مكان آخر، وسلمت الدابة فإنه لا أجر عليه، وإن لم يضمن فكذلك هذا. ووجه الاستحسان أن الراعي فيما صنع موافق من وجه مخالف من وجه؛ لأنه موافق في الأصل المعقود عليه مخالف في الصفة؛ لأن التفاوت بين المكانين في حق الرعي تفاوت يسير فلا يلحقها بجنسين مختلفين، ولهذا قيل بأن الإجارة صحيحة وإن لم يبين المكان وإذا لم يلتحقا بجنسين مختلفين بسبب التفاوت مع الجنس واحداً، إنما اختلفا في الصفة لا غير، فإن الرعي في بعض الأمكنة ربما يكون أجود، وكان موافقاً في حق الأصل مخالفاً في حق الصفة والعمل بهما في حالة واحدة متعذر؛ لأن أحدهما يوجب الأجر والآخر يمنع ولم يوجب فعملها في حالين. إن لم يسلم عملنا بجانب الخلاف، وأوجبنا الضمان ولم يوجب الأجر، وإن سلم عملنا بجانب الموافقة وأوجبنا الأجر، فأما في باب الدابة فالمستأجر مخالف من كل وجه؛ لأن الطرق في حق الركوب متفاوتة تفاوتاً فاحشاً، رب طريق يفسد الدابة يوماً يسير فيه لصعوبته، ورب طريق لا يفسدها بالسير فيه شهراً لسهولته، فالتحقا بجنسين مختلفين باعتبار التفاوت، وإن جمعهما اسم واحد وهو الركوب واختلاف المجانسة بين الشيئين متى بدت بسبب التفاوت دون الاسم، كاختلاف المجانسة الثانية من حيث الحقيقة. ولو استوفى جنساً آخر حقيقة، بأن استأجر دابة للركوب فاستخدم عبده، أو لبس ثوبه لا أجر عليه سلم أو لم يسلم، فكذلك هذا. فإن قيل: هذا يشكل بما لو دفع ماله إلى رجل مضاربة على أن يعمل به في الكوفة فأخرجه من الكوفة، فباع واشترى حتى ربح، فإن المضاربة فاسدة، ويضمن. وهذا موافق من وجه مخالف من وجه؛ لأن التفاوت بين الأماكن في حق التجارة تفاوت يسير، ولهذا صحت المضاربة من غير بيان المكان، ومع هذا قال: بأنه إذا تصرف

في غير ذلك المكان، وربح فإنه يضمن كما لو خسر. قلنا: في المضاربة استهلك المضارب المال الذي وقعت فيه المضاربة بالبيع والشراء، فعاد إلى الكوفة، وفي يده مال آخر سوى ما وقعت عليه المضاربة. ولو أنه لم يستهلك المال، وعاد بالمال بعينه لم يكن عليه ضمان، وكان على المضاربة، فقياس مسألة المضاربة من مسألتنا أن لو عطبت الأغنام، وقياس مسألتنا من المضاربة أن لو لم يبع حتى عاد بالمال بعينه إلى الكوفة. وفي «فتاوى أهل سمرقند» : بقار لأهل قرية ومرعاهم بين أشجار ملتفة لا يقدر البقار على النظر إلى جميع الدواب، فذهبت من دواب مرحه لا ضمان عليه؛ لأنه إنما يرعى دوابهم في هذا المرعى بأمرهم، وهم إنما يستحفظون البقار بما في وسعه، فإذا لم يكن في وسعه النظر إلى جميع الدواب في ذلك المرعى لم يلزمه، فلا يكون تاركاً حفظاً لرميه، فلا يضمن. وفيه أيضاً: أهل موضع جرى العرف بينهم إن البقار إذا أدخل السرح في السكك أرسل كل بقرة في سكة صاحبها، ولا يسلمها إلى صاحبها، ففعل الراعي كذلك فضاعت بقرة أو شاة، قبل أن تصل إلى صاحبها، فقال أبو نصر الدبوسي: لا ضمان عليه لما مرّ غير مرّة، أن المعروف كالمشروط. وقال بعضهم: إذا لم يعد ذلك خلافاً لا ضمان عليه. وذكر في «النوازل» : أن من أرسل بقرة إلى بقار ليرعاها فجاء ليله، وزعم أنه رد بقرتة، وأدخلها القرية فطلبها صاحبها في القرية، فلم يجدها ثم وجدها بعد أيام، وقد وقعت في نهر في الجناية. قال: إن كان أهل القرية رضوا من البقار بأن يأتي بالبقور إلى القرية، ولم يكلفوه أن يدخل كل بقرة في منزل صاحبها، فالقول للبقار: أني قد جئت بالبقرة إلى القرية مع يمينه، ولا ضمان عليه إذا حلف، وإن أبى أن يحلف ضمن قيمتها. وفي «المنتقى» : اشترط البقار على أصحابها أني إذا دخلت البقر القرية إلى موضع منها مسمى فأنا بريء منها، فالشرط جائز وهو بريء. فإن مات بقر رجل منهم، فجاء بمثلها إلى موضع البقر الذي اجتمع فيه البقر لم يخرجها. قال: فهو على الشرط الأول، وإن بعث رجل بقرة إلى ذلك الموضع، ولم يسمع بالشرط الذي كان بينه وبين أهل القرية لم يرى البقار حتى يرد عليه، وإن كان يسمع الشرط فالشرط جائز عليه استحساناً. وفي «النوازل» : امرأة بعثت ثوراً إلى بقار ثم جاء الرسول إليه فقال: الثور لي وأخذ منه، فهلك الثور إن قامت لها بينة، فلها أن ترجع على البقار؛ لأنه ظهر أن البقار دفع مالها إلى الغير بغير إذنها، ثم لا يرجع البقار على الرسول إن كان يعلم أنه لها، ومع ذلك دفع إليه وإن لم يكن علم بذلك يرجع؛ لأنه ترك الباقورة في جناية وغاب عنها، فوقعت الباقورة في زرع رجل فأفسدته (54ب4) لا ضمان عليه إلا أن يكون البقار هو الذي أرسلها في الزرع، إنما تلف بفعل الباقورة وذلك غير مضاف إلى البقار، إذا لم يرسلها في الزرع وقد مرّ. في «الأجناس» في كتاب الغصب والضمان: أهل قرية يرعون دوابهم بالنوبة فذهبت منها بقرة في نوبة أحدهم، قال إبراهيم بن يوسف: هو ضامن في قول من يضمن الأجير

المشترك وقال أبو الليث: عندي أنه لا يضمن في قولهم جميعاً؛ لأن كل واحد منهم معين في رعيه لا أجير؛ لأنه إن جعل أجير كان ذلك مبادلة منفعة بمنفعة من جنسها وذلك لا يجوز، فكان معيناً لا أجيراً والمعني لا يضمن. ذكر المسألة في «مجموع النوازل» قال ثمة: وإذا كان نوبة أحدهم فلم يذهب هو لكن استأجر رجلاً ليحفظها فأخرج الباقورة إلى المفازة، ثم رجع إلى الأكل، يعني: الأخير ثم عاد فضاع بقر منها، ينظر إن كان ضاع بعدما رجع من الأكل فلا ضمان عليه، وإن ضاع قبل ذلك فهو ضامن، ولا ضمان على صاحب النوبة بحال، لأن له أن يحفظها بأجرائه، ولكن هذا إذا لم يشترط عليه الحفظ بنفسه على ما مر قبل هذا. رجل استؤجر لحفظ الخان فسرق من الخان شيء لا ضمان عليه؛ لأنه يحرس الأبواب، أما الأموال فهو في يد أربابها فلا يضمن إلا بالتضييع ولم يوجد، هذا جواب الفقيه أبي جعفر رحمه الله. وذكر عن أحمد بن محمد القاضي: في حارس يحرس الحوانيت في السوق فنقب حانوت وسرق منه شيء، أنه ضامن؛ لأنه في معنى الأجير المشترك، لأن كل واحد حانوت على حدة، فصار بمنزلة من يرعى غنماً لكل إنسان شاة ونحو ذلك. قال الفقيه أبو بكر: عندي أن الحارس أجير خاص، ألا ترى أنه لو أراد أن يشغل نفسه في صنف أجر لم يكن له ذلك، والفتوى على قول أبي بكر، والفقيه أبي جعفر. وإذا استأجر الحارس واحد من أهل السوق فله أن يأخذ الأجر منهم جميعاً، ويجعل له ما يأخذ منهم إذا كان المستأجر رئيسهم؛ لأن في هذا جرت المعاملة، وصار كأنهم استأجروه جميعاً، وإن كرهوا ولم يرضوا بذلك فكراهتهم باطلة؛ لأن في ذلك مصلحتهم، فإذا استأجر رئيسهم جاز ذلك؛ لأنهم جعلوه كالسيد على أنفسهم فكان استئجاره بمنزلة استئجارهم. ولا يصير البقار تاركاً للحفظ وإن نام ما لم يغب البقور عن بصره، وإذا غاب عن بصره يصير تاركاً للحفظ. وتأويله: إذا نام جالساً أما إذا نام مضجعاً يصير تاركاً للحفظ، وقد ذكرنا في كتاب الوديعة الفرق بين النوم مضجعاً وبين النوم جالساً في غير السفر وسوينا بينهما في السفر، فقلنا لا ضمان على كل حال فهاهنا يكون كذلك وبه ختم.h نوع آخر في القصار وتلميذه في «فتاوى أبي الليث» : قصار وضع الثوب على.... في الحانوت، وأقعد ابن أخيه حَافظ وغاب القصار، فدخل ابن أخيه الحانوت الأسفل فطر الطرار الثوب فهذا على وجهين: إن كان البيت الأسفل بحال لو دخله إنسان غاب عن عينه الموضع الذي

كان فيه الثوب وإنه هلى وجهين أيضاً: إن كان ابن الأخت ضمه إلى القصار أبوه أو أمه أو لم يكن له أب ولا أم وضمه الخال إلى نفسه فالضمان على الصبي؛ لأنه منعه بترك الحفظ الواجب عليه، ولا ضمان على القصار؛ لأن له أن يحفظ الثياب بيد ذلك الصبي، ولا يضمن القصار بترك الثياب عند الصبي. وإن كان الصبي غير منضم إلى القصار من جهة من ذكرنا، لكن القصار أخذ بيده وأقعده محافظاً للحانوت فالضمان على القصار؛ لأنه مخالف في استحفاظ من ليس في عياله. وإن كان الصبي بحيث يراه مع دخوله ذلك الموضع، فإن كان الصبي منضماً إليه فلا ضمان على واحد منها. أما القصار فلأن له حفظه بيد الصبي، وأما الصبي فلأنه لم يترك الحفظ لما كان الموضع الذي دخل فيه بحيث يرى الثوب فيه. قصار سلّم ثياب الناس إلى أجيره ليشمسها في المقصرة ويحفظها، فنام الأجير ثم رجع بالثياب، وقد ضاع منها خمس قطع لا يدري كيف ضاعت ومتى ضاعت، قال الفقيه أبو جعفر: إذا لم يعلم أنه ضاع في حال نومه، فالضمان على القصار دون الأجير، وإن علم أنه ضاع في حال نومه، فالأجير ضامن بترك الحفظ الواجب عليه، وإن شاء صاحب الثياب ضمن القصار في الوجهين جميعاً. قال الفقيه أبو الليث: إنما قال له أن يضمن القصار لأنه كان يأخذ في مسألة الأجير المشترك بقول أبي يوسف ومحمد، أما في قول أبي حنيفة فلا ضمان على القصار؛ لأن الهلاك لم يكن بعلمه وبه نأخذ. قصار رهن ثوب قصاره ثم فكه وقد أصاب الثوب نجاسة عند المرتهن فلما نظر إليه صاحب الثوب كلفه القصار بتنقيته فامتنع القصار من ذلك وتشاجرا فترك الثوب في يد القصار فهلك عنده، إن كانت النجاسة لم تنقص من قيمة الثوب فلا شيء على القصار، لأنه إن خالف بالرهن فإذا أفكه وخلى بينه وبين المال خرج عن ضمان قيمة الثوب. والنجاسة إذا لم تنقص من قيمته لا يلزمه بسببها شيء بمنزلة من صب على عبد غيره نجاسة، فجعل صاحب العبد عنده ليغسل تلك النجاسة فهلك، لا ضمان عليه. وإن كانت تنقص قيمته فليس على القصار إلا نقصان الثوب، والثوب بذلك أمانة لما ذكرنا، أنه بالتخلية خرج عن ضمان الثوب. وهو نظير من خرق ثوب إنسان خرقاً يسيراً، قال له رب الثوب: أصلح هذا الخرق فإن ترك الثوب عنده فهلك لم يكن على المخرق إلا نقصان الخرق هاهنا. وإذا دق أجير القصار ثوباً من ثياب القصارة فخرقه أو عصره فتخرق فلا ضمان عليه؛ لأن الخرق حصل من عمل القصارة في ثوب القصارة، والأجير مأذون في ذلك، لأن الإذن يثبت بالإجارة، وإنه أجير بالقصارة فيما كان من ثياب القصارة، وأجير القصار لا يضمن بالخرق من عمله المأذون فيه، إلا أن يخالف، لأنه أجير وحد في حق القصار ولم يخالف، والإستاد ضامن لأن عمل الأجير منقول إليه فيصير كأن الإستاد عمل

بنفسه من حيث الحكم، ولو عمل الإستاد بنفسه حقيقة كان عليه الضمان كذا هاهنا. وإذا وطىء ثوباً فتخرقه إن كان ثوباً يوطأ مثله فلا ضمان عليه بذلك؛ لأنه مأذون فيه من جهة الإستاد دلالة، وإن كان ثوباً لا يوطأ مثله، فإنه يضمن سواء كان الثوب ثوب القصارة أو لم يكن، لأنه غير مأذون لوطىء ما لا يوطأ مثله من جهة الإستاد، وهذا بخلاف ما لو حمل شيئاً في بيت القصار بإذن الإستاد فسقط على ثوب فتخرق، إن كان من ثياب القصارة لا يضمن الأجير فإنما يضمن الإستاد وإن لم يكن من ثياب القصارة ضمن الأجير، وفي الوطىء يضمن في الحالين إذا كان مما لا يوطأ مثله. وجه الفرق بينهما: أن الوطىء غير مأذون فيه من جهة الإستاد لا نصاً ولا دلالة، أما نصاً فلأنه ليس من أعمال القصارة، ودلالة فلأنه إذا كان الثوب رقيقاً لا يوطأ مثله فالثابت بدلالة الحال النهي عن وطئه لا الإذن بوطئه، فأما الحمل من أعمال القصارة وأسبابها، فإذا سقط على ثوب القصارة فالفساد حصل من عمل القصارة في ثوب القصارة، والأجير مأمور بأعمال القصارة في ثياب القصارة، فيصير عمله منقولاً إلى الإستاد فلا يضمن الأجير، ويضمن الإستاد، كما لو دق فتخرق. وإن وقع على ما ليس من ثوب القصارة، فالفساد حصل من عمل غير مأذون فيه؛ لأنه إنما أذن فيه بالقصارة، فيما كان من ثياب القصارة، لا فيما ليس من ثياب القصارة، وليس بأجير فيما لم يكن من ثياب القصارة، وإذا هذا تحت الإذن كان هو والأجنبي في ذلك سواء، وكذلك لو دخل بنار أو سراج بأمر القصار فوقعت شرارة فأحرقته، إن كان من ثياب القصارة فلا ضمان على الأجير وإنما الضمان على الإستاد (55أ4) وإن لم يكن من ثياب القصارة ضمن الأجير، أما ما كان من ثياب القصارة لا يضمن الأجير؛ لأنه أجير فيما كان من ثياب القصارة بالقصارة، وهذا من أسبابه فما تولد منه يكون ضمان ذلك على الإسناد لا على الأجير، كما لو دق فتخرق. ويضمن ما ليس من ثياب القصارة؛ لأنه ليس بأجير فما ليس من ثياب القصارة، فيكون الأجير والأجنبي في ذلك سواء. وكذلك إذا استأجر رجلاً ليخدمه، فوقع شيء من يده من متاع البيت، وسقط على شيءٍ من متاع البيت، فأفسده فإنه لاضمان عليه؛ لأنه أجير في حق الواقع، والوقع عليه؛ لأنه استؤجر للخدمة، وإنما يستأجر للخدمة ليرفع متاع البيت ويضع، فيكون بمنزلة أجير القصار إذا دق فتخرق ثوباً من ثياب القصارة، بخلاف ما لو سقط على وديعة كان عند صاحب البيت فأفسد، كان الضمان على الخادم؛ لأنه ليس بأجير فيما كان عنده من الوديعة، فيكون هو والأجنبي سواء. وكان بمنزلة أجير القصار إذا سقط من يده شيء فوقع على ثوب ليس من ثياب القصار فأفسده. ولو كان كذلك يضمن فكذلك هذا. وهذا بخلاف المودع إذا سقط من يده شيء فوقع على الوديعة فأفسدها يضمن، وههنا قال: لا يضمن، وذلك لأن المودع مأمور بالحفظ والإمساك في الوديعة غير مأمور بالتصرف فيها، فإذا سقط من يده عليها شيء كان ضامناً؛ لأنه لم يتولد هذا من الحفظ،

فأما الأجير للخدمة مأمور بالعمل في متاع البيت؛ لأنه هو الذي يتولى رفعها ووضعها، فإذا تولد من ذلك فساد لا يكون عليه ضمان؛ لأنه تولد من عمل مأذون فيه. وكان قياس الوديعة من مسألتنا أن لو سقطت الوديعة من يد المودع، فهلكت وهناك لاضمان لأن الهلاك حصل من الإمساك. وإنه مأذون فيه فكذلك هذا. ولو أن أجير القصار فيما يدق من الثياب انقلبت منه المدقية، فوقعت على ثوب فتخرق، فهذا على وجهين: أما إن انقلبت المدقة أولاً على الثوب قبل أن يقع على الخشبة التي يدق عليها، أو انقلبت بعدما وقعت على الخشبة التي يدق عليها، فإن انقلبت قبل أن يقع على ثوب القصارة وخرق ثوباً. إن كان من ثياب القصارة فلا ضمان عليه، وإنما الضمان على الإستاد، لأن الخرق حصل من عمل القصارة فيما كان من ثياب القصارة فيكون بإذن الإستاد؛ لأنه أجير بالقصارة في حق هذا الثوب، وأجير القصار لا يضمن ما جنت يده، وإنما يضمن الإستاد. وإن وقع على ثوب ليس من ثياب القصارة، فإن الأجير يضمن لأن الخرق حصل بغير إذن الإستاد؛ لأن الإذن بالعمل يثبت بالإجارة، وإنه أجير فيما كان من ثياب القصارة، ليس بأجير فيما ليس من ثياب القصارة، فيكون هو والأجنبي في ذلك سواء. فأما إذا انقلبت المدقة بعدما وقعت على الخشبة التي يدق عليها ثياب القصارة، فأصابت ثوباً آخر، ذكر في «ظاهر الرواية» : أنه لا يضمن بلا تفصيل، بين أن يكون ذلك الثوب من ثياب القصارة أو لم يكن من ثيابه. حكي عن أبي بكر البلخي رحمه الله أنه كان يقول: يجب أن يكون الجواب فيه، كالجواب فيما إذا وقعت المدقة ابتداء على هذا الثوب، وقد ذكر الجواب فيه على التفصيل، فكذلك هذا. وهذا لأن الإذن بالعمل ثبت بالإجارة، وإنه أجير بالقصارة فيما كان من ثياب القصارة، وليس بأجير فيما ليس من ثياب القصارة، ولكن في «ظاهر الرواية» لم يفصل. فكأنه فرق بين انقلاب المدقة على الثوب الذي ليس من ثياب القصارة قبل وقوعها على الخشبة، وبين انقلابها بعدما وقعت على الخشبة، وعليها ثياب القصارة. ووجه الفرق بينهما أن الانقلاب متى حصل أولاً على الثوب الذي ليس من ثياب التجارة، فهذا العمل غير مأذون فيه أصلاً؛ لأن الإذن ثبت بالإجارة، وإنه أجير فيما كان من ثياب القصارة، لا فيما ليس من ثياب القصارة فإذا حصل هذا بغير إذن بقي مقصوراً على الأجير. ولم ينتقل إلى الإستاد، فكان الضمان على الأجير لا على الإستاد. فأما إذا وقع أولاً على الخشبة التي يدق عليها وعليها ثوب القصارة ثم انقلبت إلى ثوب آخر ليس من ثياب القصارة وتخرق فهذا العمل حصل بإذن الأستاد لأنها وقعت على ثوب القصارة أولاً، وإنه أجير في حقه، فيكون مأذوناً في دقه. وإذا كان هذا العمل حاصلاً بإذن الإستاد انتقل هذا القدر من العمل إلى الإستاد، فكأن الإستاد دق بنفسه ثم انقلبت المدقة بعد ما وقعت على الخشبة التي يدق عليها، وأصاب الثوب فتخرق. ولو كان كذلك يجب الضمان على الإستاد لا على الأجير، فكذلك هذا.

وإن أصابت آدمياً يجب أن يكون الجواب فيه على التفصيل الذي ذكرنا في الثوب. إن كان الانقلاب على الآدمي قبل أن يقع على الخشبة فالضمان على الغلام، وإن كان بعد ما وقعت على الخشبة يجب أن يكون الضمان على الإستاد لا على الأجير، كأن الإستاد فعل بنفسه. ولو كسر شيئاً من أداة القصارة على هذا الوجه، إن كان مما يدق ويدق عليه فلا ضمان عليه؛ لأنه سلط على استعمال ما يدق، ويدق عليه من جهة الإستاد، فيكون الكسر حاصلاً بإذن الإستاد فلا يضمن فأما إذا كان مما لا يدق ولا يدق عليه. فالأجير ضامن لأن الكسر حصل بغير أذن الإستاد فإنه غير مسلط من جهة الإستاد على استعمال مالا يدق ولا يدق عليه. ولو جفف القصار الثوب على حبل فجرت به حموله فخرقته لا ضمان عليه في قول أبي حنيفة؛ لأن الهلاك لم يكن من فعله وعمله. وعندهما يضمن لأن هذا مما يمكن التحرز عنه، والسابق ضامن لأن مشي الدابة منقول إلى السابق، فما تولد من مشيها كان ضمان ذلك على السابق. وفي «العيون» : قصار استعان برب الثوب لدقه معه، فأعانه وتخرق الثوب ولا يدري من أي الدقيق تخرق، فالضمان كله على القصار، رواه ابن سماعة عن محمد. وروى بشر عن أبي يوسف: أن على القصار نصف القيمة باعتبار الأحوال، لمحمد: أن الثوب في ضمان القصار بالقبض، فما يحدث فيه يكون في ضمانه إلا أن يعلم أنه من فعل غيره، وهذا يجب أن يكون على قولهما خاصة. أما على قول أبي حنيفة: ينبغي أن لا يضمن القصار أصلاً ما لم يعلم أنه تخرق من دقه بناء على أن الأجير المشترك يد أمانة عنده، يد ضمان عندهما، أو يكون قوله كقول أبي يوسف اعتباراً للأحوال. وفي «النوازل» : سلم ثوباً إلى قصار أو خياط، ثم وَكَلَّ رجلاً بقبضه، فدفع إليه القصار غير ذلك الثوب؛ لم يلزم ذلك رب الثوب لأن القصار لا يستند بالمعاوضة ولا بالتمليك من ربّ الثوب، ولا ضمان على الوكيل إذا هلك الثوب في يده؛ لأنه قبض مال القصار بأمره، فكان أميناً، ولرب الثوب أن يبيع القصار بثوبه. وفي «المنتقى» : رجل عنده ثياب وديعة، فجعل فيها ثوباً له ثم طلبها صاحبها، فدفعها كلها إليه، فضاع ثوب المستودع فالآخذ ضامن له، كلُ من أخذ شيئاً على أنه له، فضاع فهو ضامن له. وإن كان رب الثوب بعث رجلاً ليأخذ ثوبه فدفع القصار إليه ثوباً غير ثوب المرسل إن كان الثوب للقصار فلا ضمان على الرسول، وإن كان لغيره ضمن رب الثوب أيهما شاء فإن ضمن القصار لم يرجع على الرسول، وإن ضمن الرسول لم يرجع على القصار. وسئل القاضي الإمام شمس الإسلام الأوزجندي عمن دفع ثوبه إلى قصار ليقصره اليوم، فلم يفعل اليوم حتى هلك الثوب، هل يضمن القصار؟ قال: نعم. بعث ثوباً إلى قصار بيد تلميذه، ثم قال للقصار: إذا أصلحت فلا تدفعه إلى تلميذي فلما أصلحه دفعه

إلى تلميذه، فذهب التلميذ بالثوب هل يضمن القصار فقيل: إن كان التلميذ حين دفع الثوب إلى القصار لم يقل له هذا ثوب فلان بعث به إليك لا يضمن، وإن كان قال: ذلك للقصار، فإن صدق القصار التلميذ في ذلك ضمن، وما لا فلا. والله أعلم. نوع آخر في المتفرقات وفي «النوازل» (55ب4) : دفع إلى رجل مصحفاً ليعمل فيه، ودفع الغلاف معه أو دفع سيفاً إلى صيقل ليصقله، ودفع الجفن معه، فسرق لا يضمن الغلاف لأنه في الغلاف مودع؛ لا أجير والمودع لا يضمن إلا ما جنت يده. وفي «القدوري» عن محمد أنه قال: يضمن المصحف والغلاف والسيف والجفن؛ لأن السيف لا يستغني عن الجفن، والمصحف عن الغلاف، فصار الشيء واحد، وإن أعطاه مصحفاً يعمل له غلافاً، أو سكيناً يعمل له نصاباً، فضاع المصحف أو السكين لم يضمن؛ لأنه أستأجره على إيقاع العمل في غيرها لا فيها وهما ليسا بتبع لذلك الغير، بخلاف ما تقدم، فكان فيهما كالمودع، وهذا كله على قول محمد. أما على قول أبي حنيفة لا يضمن، إلا ما هلك بصنعه أو بالتقصير في الحفظ، كالمودع. والفتوى على قول أبي حنيفة لا يضمن إلا ما هلك، كما ذكرنا. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: دفع إلى رجل سيفاً ليصلح من جفنه شيئاً، فضاع نصله لم يضمن؛ لأن النصل عنده وديعة؛ لأن العمل في الجفن وكذلك لو دفع إليه مصحفاً ينقطه بأجر، فضاع غلافه لا يضمن. وكذلك إذا دفع إليه ثوباً لرقوه في منديل، فضاع بالمنديل وكذلك إذا دفع إليه ميزاناً ليصلح كفيه، فضاع العود الذي يكون فيه الميزان. ولو دفع إليه ثوباً يقطعه صفة على سرجه، فهو ضامن للصفة والسرج جميعاً؛ لأن العمل فيهما والله أعلم. دفع إلى صانع ذهباً ليتخذ له سواراً منسوجاً، والنسج لم يكن من عمله، فأصلح الذهب وطوله ودفعه إلى من ينسجه، فسرق من الثاني، فإن كان الصانع الأول دفعه إلى الثاني بغير أمر مالكه، ولم يكن الثاني أجيراً ولا تلميذاً، كان للمالك أن يضمن أيهما شاّء في قولهما. وعند أبي حنيفة: الصانع الأول ضامن، أما الأجير فإن ذكر أنه سرق منه بعد العمل لم يضمن؛ لأنه إذا فرغ من العمل صارت يده يد وديعة، أما ما دام في العمل، فيده يد ضمان؛ لأنه يتصرف في مال الغير بغير أمره، ومودع المودع إنما لا يضمن عند أبي حنيفة إذا لم يتصرف في الوديعة بغير أمر مالكها. نوع آخر الرد في أجير المشترك، نحو القصّار والخياط والنساج، على الأجير لان الرد بقبض القبض، فإنما يجب على من كان منفعة القبض له، ومنفعة القبض في هذه المواضع

للأجير لأن للأجير عين، وهو الأجرة، ولرب الثوب منفعة، والعين خير من المنفعة، فكان منفعة الأجير أكثر فكان الرد عليه وهذا بخلاف ما لو أجر عبداً أو دابة، وفرغ المستأجر، فإنه يجب الرد على صاحب الدابة؛ لأن ثمة للأجير عين، وللمستأجر منفعة، فكانت منفعة الأجير أكثر، فكان الرد عليه. نوع آخر النحاس أجير مشترك؛ لأنه يبيع للناس ويشتري لهم بأجر، حتى لو ضاع جارية أو غلام عنه لا بصنعه لا يضمن عند أبي حنيفة. وكذلك تم بأن أجير مشترك؛ لأنه يحفظ مال الناس بأجر فمتى ضاع شيء لا يصنعه، كان وجوب الضمان عليه خلافاً بين أبي حنيفة وصاحبيه. وكذلك الدلال أجير مشترك فلو دفع الدلال الثوب إلى رجل ليراه، ويشتري فذهب بالثوب ولم يظفر به، فلا ضمان على الدلال؛ لأن هذا أمر لابدّ منه في البيع، ولو كان في يد الدلال ثوب فقال له رجل: هذا مالي سرق مني، فدفع الدلال ذلك إلى من أعطاه فلا ضمان عليه؛ لأن أكثر ما فيه أن الدلال غاصب، إلا أنه قد رده على الغاصب، وغاصب الغاصب يبرأ بالرد على الغاصب. نوع آخر إذا دفع إلى قصار ثوباً، فلما سلمه القصار إليه قال: ليس هذا ثوبي قال محمد: القول قول القصار مع يمينه، في قول من يضمن القصار، وفي قول من لا يضمنه، ولكن لا يصدق في الأجر ولا أجر عليه، وإنما كان القول قول القصار؛ لأنه إن اعتبر ضميناً، فالقول قول الضمين في مثل هذا، كالغاصب يقول هذا الذي غصبه، وإن اعتبر أميناً فكذلك كالمودع إذا قال: هذا هو الذي أودعني، إلا أنه لا يستحق الأجر، لأن الضمين والأمين إنما لا يصدقان في حق دفع الضمان عن أنفسهما، أما في إيجاب الضمان على غيرهما، فلا لأن المدعي في ذلك الأجير، والمنكر هو المستأجر؛ لأن الأجرة لا تملك بنفس العقد، إنما تجب باستيفاء المنفعة المعقود عليها، ولم يعلم استيفاؤها. وفي «فتاوى الفضلي» : استأجر حمالاً ليحمل له حمولة إلى بلد كذا، ويسلمها إلى السمسار، فحملها فقال السمسار للحمال: إن وزن الحمولة في الغار ما صح كذا قد نقصت في الوزن، فإنما لا أعطيك من الأجر بحساب ما نقص، ثم اختلفا بعد ذلك، فقال السمسار: أوفيتك الأجر، وكذبه الحمال فالقول للحمال، ولا خصومة لكل واحد منهما قبل صاحبه؛ لأنه لا شغل بينهما، إنما الخصومة بين الحمال وبين صاحب الحمل. وفي «العيون» عن محمد: فيمن دفع إلى ملاح أكرار حنطة فحمل كل كر بكذا، فلما بلغا موضع الشرط، قال رب الطعام: نقص طعامي. وقد كان كاله على الملاح. وقال الملاح: لم ينقص فالقول لصاحب الطعام. ويقال للملاح: كله حتى يأخذ منه من كل كر مقدار ما سمي ولو طلب ضمان الملاح، وقد كان دفع إليه أجره، فالقول للملاح أن الطعام وافر ويقال لصاحب الطعام: كله حتى يضمنه ما نقص من طعامك؛ لأن في

الوجه الأول الملاح يدعي زيادة الأجر، وصاحب الطعام منكر لما ذكرنا، أن الأجرة إنما تجب بالعمل لا بنفس العقد. وفي الوجه الثاني صاحب الطعام يدعي وجوب رد شيء من الأجر بحسابه، والملاح ينكر، ثم قال هاهنا: يقال لصاحب الطعام: كله، حتى تضمنه ما نقص من طعامك، فيحتمل أن يكون المراد به حتى يسترده من الأجر بقدر ما نقص من طعامك ويحتمل أنه أراد به تضمين ما انتقص من الطعام كما هو ظاهر اللفظ، فإن كان المراد به الأول فهو ظاهر على قول الكل وإن كان المراد به الثاني فهذا على قول محمد خاصة، أو على قوله وقول أبي يوسف على ما ذكرنا، فيما إذا قال الأجير المشترك: قد رددت. أما على قول أبي حنيفة ليس لصاحب الطعام تضمين الملاح، إلا بجناية أو تقصير منه على ما ذكرنا غير مرّة. والفتوى على قوله. وفي «النوازل» : ركب سفينة قال له صاحب السفينة: حملتك بدرهمين، فهات الدرهمين. وقال الراكب: بل استأجرتني لأحفظ السكان بدرهمين، فهات الدرهمين. وأقاما البينة، تقبل بينة الراكب؛ لأن صاحب السفينة حيث استأجره لحفظ السكان، فقد أذن له بأن يركب كذا ذكر ههنا. وذكر بعد هذا: رجل ادعى على إجارتك استأجرتني لأمسك السكان في سفينتك، من ترمذ إلي آمل بعشرة دراهم، وادعى عليه رب السفينة أني حملتك في سفينتي من ترمذ إلى آمل بخمسة دراهم، فالقول لكل واحد منهما مع يمينه، والبداية بيميني أحدهما ليست بأولى من البداية بيمين الآخر، لاستواء حالهما في الدعوى والإنكار، فللقاضي أن يبدأ بأحدهما، وإن أقرع نفياً للتهمة فحسن ولا أجر لكل واحد منهما على صاحبه. وإن أقاما البيّنة، فالبينة بيّنة الملاح، وله على صاحب السفينة عشرة دراهم، ولا أجر لصاحب السفينة على الملاح؛ لأن الأمرين جميعاً لو كانا لكانت إجارة صاحب السفينة انتقضت؛ لأنه لا بد للملاح من كونه في السفينة. ولو ادعى رجل على آخر أني أكريتك، بغلاً من ترمذ إلى بلخ بعشرة دراهم، وادعى عليه الأجر أنك استأجرتني لأبلغه إلى فلان ببلخ بخمسة دراهم، فالقول لكل واحد منهما مع يمينه، ولا أجر. وإن أقاما البينة، فبينة صاحب البغل أولى؛ لأن حفظ البغل واجب على غير صاحب البغل على تقدير ثبوت الأمرين، فلا تجوز الإجارة على ذلك تقدمت أو تأخرت، فلا يجب الأجر. وفي «النوازل» : أجر داره سنة، فلما انقضت السنة أخذ الدار وكنسها وسكنها، فقال المستأجر: كان لي فيها دراهم فكنستها وألقيتها، فإن صدقه رب الدار في ذلك ضمن وإن أنكر فالقول (56آ4) قوله مع يمينه؛ لأن المستأجر يدعي عليه ضماناً، وهو ينكر. نوع آخر إذا دفع غزلاً إلى نساج لينسجه، أو دفع ثوباً إلى قصار ليقصره، أو إلى صباغ

الفصل التاسع والعشرون: في التوكيل في الإجارة

ليصبغه، فجحد المدفوع الغزل والثوب وحلف على ذلك ثم أقر وجاء به منسوجاً أو مقصوراً أو مصبوغاً، فإن كان قد عمل قبل الجحود فله الأجر؛ لأنه عمل حال قيام الإجارة، فاستحق الأجر وإن كان عمل بعد الجحود، ففي النساج الثوبُ للنساج، وهو ضامن للمالك غزلاً مثل غزله؛ لأنه بالجحود صار غاصباً للغزل؛ ومن غصب غزلاً ونسجه يبطل حق المالك، وضمن مثل ذلك الغزل؛ لأن الغزل من ذوات الأمثال ولا أجر له؛ لأنه عمل لنفسه وفي القصار الثوبُ لصاحبه ولا أجر له؛ لأنه ليس له في الثوب عين مال قائم، وقد عمل بعد بطلان الإجارة. وفي الصباغ يخير رب الثوب إن شاء أعطاه قيمة ما زاد الصبغ فيه؛ لأن له عين مال قائم في الثوب وهو الصبغ، بخلاف القصار، وإن شاء ترك عليه ثوبه وضمنه قيمته أبيض كما في الغاصب. هذه الجملة في «العيون» . وفي «واقعات الناطقي» : ثوب مخيط قال رب الثوب: أنا خطته وقال الخياط: أنا خطته فإن كان في يد رب الثوب، أو في داره فالقول قول رب الثوب مع يمينه، لأنه ينكر ما يدعيه، فإذا حلف لا أجر عليه، وإن كان في يد الخياط أو في يديهما، فالقول للخياط مع يمينه؛ لأن الظاهر شاهد له، فإذا حلف فله الأجر على رب الثوب. الفصل التاسع والعشرون: في التوكيل في الإجارة وإذا وكل الرجل رجلاً بأن يستأجر له داراً بعينها ببدل معلوم ففعل، فالآجر يطالب الوكيل بالأجرة، والوكيل يطالب الموكل وللوكيل أن يطالب الموكل بالأجرة، وإن لم يطالبه الآجر. وإذا وهب الآجر الأجر من الوكيل، وأبرأه صح. وللوكيل أن يرجع بالأجر على الآمر. الوكيل باستئجار الدار، إذا ناقص الإجارة مع الآجر إن لم يكن الوكيل قبض المستأجر، فمناقصته صحيحة قياساً أو استحساناً وإن قبضه فالقياس أن تصح المناقصة. وفي الاستحسان لا تصح وإذا وكله أن يستأجر أرضاً له شهراً، فأستأجره شهرين، فالشهر الأول للموكل، والشهر الثاني للوكيل. وإذا وكل رجلين باستئجار دار وأرض فأستأجر أحدهما وقع العقد له لأن أحد الوكيلين لا ينفرد بالاستئجار فيعذر إيقاع العقد للموكل فيقع للوكيل فإن دفعها الوكيل إلى الموكل انعقدت بينه وبين الموكل إجارة مبتدأة بالتعاطي. وهذه المسألة نص أن الإجارة تنعقد بالتعاطي. وفي «نوادر» ابن سماعة عن محمد. وفي «الأمالي» عن أبي يوسف: رجل أمر رجلاً أن يؤاجر داره أو أرضه من رجل بأجر معلوم ففعل، ثم إن المؤاجر نقص المستأجر الإجارة، فالنقص جائز ولا ضمان على المؤاجر. ولو كان الأجر شيئاً بعينه ويعجل الأجر ذلك لا تجوز مناقصته على الآمر.

والفرق أن في المسألة الثانية: الأجر صار مملوكاً للآمر، فالمؤاجر بالقبض يريد إزالة ذلك عن ملك الآمر، أما في المسألة الأولى الآمر لم يملك شيئاً، فالمؤاجر بالنقص لا يزيل ملكه عن شيء، فافترقا. وإذا وكل الرجل رجلاً أن يستأجر له داراً بعينها من رجل هذه السنة بمئة درهم، فأستأجرها الوكيل وقبضها من المؤاجر، وأراد الموكل أخذها من الوكيل، فمنعها الوكيل من الموكل حتى يأخذ الأجر، فهذه المسألة على وجوه: الأول: أن تكون الأجرة مطلقة، وفي هذا الوجه ليس للوكيل أن يحبس الدار من الموكل؛ لأن الوكيل بالاستئجار في حق الحقوق كأنه أستأجره لنفسه، ثم أجر من الموكل، ولو كان هكذا وكان الأجر مطلقاً لم يكن للوكيل منع الدار؛ لأجل الأجرة لأن الأجرة لا تملك بنفس العقد، فكذا ههنا. فإن منعها الوكيل مع أنه ليس له حق المبيع حتى مضت السنة، فالأجر واجب على الوكيل؛ لأن الوكيل في حق الحقوق بمنزلة العاقد لنفسه. والأجر من حقوق العقد ولو أستأجر الدار لنفسه سنة، وقبض الدار مدة الإجارة كان عليه الأجر، وإن لم يسكن كذا ههنا. ويرجع الوكيل على الموكل بالأجرة؛ لأن الوكيل قبض الدار من الآجر وله حق القبض، وقبض الوكيل متى حصل بحق، فهو بمنزلة قبض الموكل في حق المعقود عليه لأن يد الوكيل في حق المعقود عليه الذي يقابله البذل يد أمانة ونيابة، وللمنفعة حكم الوجود شيئاً فشيئاً في حق حكم العقد. فإذا صار يد الوكيل كيد الموكل صار كأن المنافع وجدت شيئاً فشيئاً في يد الموكل، فلا يسقط شيء من الأجر إلا إذا خرجت يد الوكيل من أن تكون يد الموكل، وذلك يأخذ معينين، بأن يحبس الوكيل العين بالبدل حتى تصير يد الوكيل يد ضمان بحكم العقد، وذلك لم يوجد ههنا؛ لأنه ليس للوكيل ههنا حق الحبس بالأجرة. والثاني: أن يصير الوكيل غاصباً، ولا يمكن تحقيق الغصب ههنا لا في حق المنافع، لأن المنافع ليست بمحل الغصب عندنا، ولا في حق العين؛ لأنه لو اعتبر غاصباً للعين إما أن يعتبر من الآجر، أو من الموكل، لا وجه إلى الأول؛ لأن قبض الوكيل الدار من الأجر حصل بحكم العقد ولا وجه إلى الثاني؛ لأن الموكل ليس بمالك للعين والغصب من غير المالك لا يتصور. وإذا لم تنقلب يد الوكيل يد غاصب، ولا يد ضمان بحكم الحبس تثبت يد الوكيل يد أمانة، فصار حدوث المنافع في يد الوكيل ووجودها في يد الموكل سواء. الوجه الثاني: أن يكون الأجر مؤجلاً إلى سنة، والجواب في هذا الوجه نظير الجواب في الوجه الأول. والكلام في هذا الوجه أظهر؛ لأن العقد إذا كان مطلقاً، فالأجرة لا تجب إلا بالسكنى، وإذا كان الأجر مؤجلاً لا يجب إلا بعد السنة، فكان انعدام حق الحبس للوكيل ههنا أظهر وأبين، فكان أولى بأن لا تتبدل يده عن النيابة، والأمانة بالضمان. ولو غصب رجل أجنبي الدار من المستأجر، أو من الآجر حتى تمت السنة لم يجب عليها أجر؛ لأن يد الغاصب ليس كيد الوكيل، ولا كيد الآمر فيما يرجع إلى حكم العقد،

والمنافع تحدث شيئاً فشيئاً، فحصل هلاك المعقود قبل قبض العاقد، وقبل قبض من وقع له العقد، فأوجب سقوط الأجر. بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك الدار في يد الوكيل عند حدوث المنفعة حقيقة، ويد الوكيل يد الموكل حكماً، فحصل هلاك المعقود عليه بعد قبض من وقع له العقد، من حيث الحكم فلهذا لم يسقط الأجر. ورأيت في تعليق جدي القاضي الإمام الأجل جمال الدين ذكر في بعض الروايات: أن الوكيل في هذه الصورة لا يرجع بالأجر على الآمر استحساناً. قال: ثمة وهو الصحيح، فكأنه مال إلى الوكيل بالحبس صار غاصباً الدار من الآمر، والغصب من غير المالك منصور في الجملة، فصار هذا وما لو غصبه أجنبي سواء. وهكذا روى ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف، وأشار جدي إلى المعنى فقال: قبض الوكيل كقبض الموكل، فوقع قبض الوكيل أولاً للموكل، وصار الوكيل بالسكنى بعد ذلك غاصبا السكنى من الموكل، فيوجب ذلك سقوط الأجر عن الموكل. وأشار ابن سماعة إلى المعنى لأبي يوسف فقال: الوكيل بالاستئجار في حق الحقوق كأنه استأجر لنفسه، ثم أجر من الموكل حكماً. ولو كان هكذا حقيقة، ولم يسلم الوكيل الدار إلى الموكل حتى مضت المدة لم يستحق الوكيل الأجر على الموكل، كذا ههنا. قال: وكذلك لو كان الآمر قبض الدار من الوكيل، ثم تعدى عليها الوكيل فأخرجها من يد الآمر حتى مضت السنة، لزم الأجر لرب الدار على الوكيل، ويرجع الوكيل بها على الآمر؛ لأن الوكيل قبض الدار وله حق القبض، فصار الموكل قابضاً بقبضه حكماً، فلو سقط الأجر عن الآمر، إنما يسقط إذا خرج يد الوكيل من أن يكون يد الموكل، ولم يخرج على ما مر. فإن إنهدمت الدار من سكنى الوكيل، فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يصر غاصباً الدار (56ب4) من الآمر ولما مر ولم يصر غاصباً من الآجر، وله حق القبض، وكذلك لم يصر غاصباً بالسكنى؛ لأن أكثر ما في الباب أنه شرط سكنى الآمر إلا أن السكنى مثل السكنى، إلا أن من أستأجر داراً ليسكنها بنفسه، فأسكنها غيره بأجر وبغير أجر، لم يصر مخالفاً حتى يلزمه الأجر فههنا كذلك. ثم قال محمد رحمه الله في هذه المسألة، وفي المسألة الأولى: أن الوكيل يرجع بالأجر على الآجر في القياس. وإنما أراد به والله أعلم القياس على الوكيل بالشراء فإن الوكيل بالشراء إذا حبس، وليس له حق الحبس حتى هلك، لا يسقط الثمن عن الآجر، فكذا لا يسقط الأجر عن الموكل ههنا هذا الذي ذكرنا إذا استأجر الوكيل الدار سنة بمئة درهم مؤجلة، أو مطلقاً. فأما إذا شرط الوكيل تعجيل الأجر لا يصح عليه وعلى الآمر؛ لأن الأجر مطلق وتعجيل الأجر معتاد، فيملك الوكيل ذلك، فالوكيل بالبيع المطلق يملك البيع بالأجل المعتاد بالاتفاق فههنا كذلك فإن قبض الوكيل الدار ودفع الأجرة، أو لم يدفع فله أن يمنع الدار من الآجر حتى يستوفي الأجر، لما ذكرنا أن الوكيل بالاستئجار في حق حقوق، العقد كأنه استأجره لنفسه ثم أجره من موكله. ولو أستأجر لنفسه ثم أجره من موكله بشرط

تعجيل الأجر كان له حق حبس الدار، كذا هنا. فإذا منع الوكيل الدار من الموكل بعدما طلب الموكل حتى مضت السنة، والدار في يد الوكيل، فالأجر للآجر على الوكيل لما مرّ ولا يرجع به على الآمر؛ لأنه لما حبس الدار من الآجر، وله حق الحبس خرجت يد الوكيل من أن تكون يد أمانة ونيابة، فلم تصر لمنافع حادثة في يد الموكل حكماً، فلم يجب الأجر على الموكل، وصار كالوكيل بشراء العين إذا قبض العين، وطلبه الآمر فمنعه عنه الوكيل، ثم هلك في يد الوكيل. وهناك يبطل عن الآمر اليمين ليبدل يده كذا ههنا، فلو لم يطلب الآمر الدار حتى مضت السنة لزم الوكيل الأجر؛ ورجع به على الآجر؛ لأن الآمر صار قابضاً للدار بقبض الوكيل. فلو بدلت يد الوكيل، إنما تبدل بالمنع، وذلك إنما يكون بعد الطلب، ولم يوجد فصار يد الوكيل باقياً على حكم النيابة، كما في الوكيل بشراء العين. وإن مضت نصف السنة، ثم طلب الآمر الدار، فمنع الوكيل منه حتى تمت السنة، وجب الأجر كله على الوكيل، ويرجع على الآمر بحصة ما كان قبل الطلب، ولا يرجع بحصة ما بعد الطلب، والمنع اعتباراً للبعض بالكل، فصار كالوكيل بشراء الأعيان إذا هلك بعضها في يده قبل طلب الموكل، وبعضها بعد طلب الموكل، وسع الوكيل، فالوكيل يؤاخذ بالثمن كله، ويرجع على الآمر بحصة ما هلك بعد المنع، والطلب كذا ههنا. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل أمر رجلاً أن يستأجر له أرضاً بعينها، فاستأجره المأمور كما أمره الآمر به، ثم إن الآمر اشترى الأرض لنفسه بعد ذلك من صاحبها، وهو لا يعلم بالإجارة ثم علم، فإنه لا يكون له أن يردها، ويكون في يده بحكم الإجارة. معنى قوله لا يردها: لا يرد الإجارة؛ لأن استئجار المأمور الآمر قد صح، ونفذ على الآمر، ويعلق به حق الآمر فلا يملك إبطال حقه بالنقص والرد عليه. وفيه أيضاً: الوكيل باستئجار الدار بعينها بعشرة إذا استأجرها بخمسة عشر، ودفعها إلى الموكل. وقال: إنما استأجرتها بعشرة، فلا أجر على الآمر، وعلى الوكيل الأجر لرب الدار؛ لأن العقد ههنا نفذ على الوكيل لمكان الخلاف. وهذه المسألة دليل أن الإجارة لا تنعقد بالتعاطي. وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد: الوكيل بإجارة الأراضي إذا دفع الأراضي مزارعة، إن كان البذر من قبل الوكيل لا يجوز، وإن كان من قبل المزارع جاز؛ لأن البذر إن كان من قبل المزارع يصير المزارع مستأجراً، والوكيل مؤاجراً ولا كذلك ما إذا كان البذر من قبل الوكيل، وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف في الوكيل بإجارة الدار بعشرة، إذا أجرها بخمسة عشر، فهو فاسد، ويتصدق بالخمسة إن كان قد أخذها. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل أجر رجلاً داراً ثم إنه استحقها رجل ببينة قامت له على الدار، وقال: كنت دفعتها إلى الآجر، وأمر به أن يؤاجرها لي، فالأجر لي، قال الآجر: كنت غصبتها منه، وأجرتها فالأجر لي فالقول قول رب الدار؛ لأن

الفصل الثلاثون: في الإجارة الطويلة المرسومة ببخارى

الظاهر شاهد له؛ لأن الظاهر أن الإنسان إنما يتصرف في ملك الغير لذلك الغير، وإن أقام الآجر بينة على ما ادعى من الغصب لا تقبل بينته؛ لأنه بهذه البينة يريد إبطال قول المستحق، والبينات شرعت للإثبات لا للإبطال. وإن أقام بينة على إقرار المستحق بما ادعى من الغضب قبلت بينته، وكانت الأجرة له؛ لأنه بهذه البينة لا يبطل قول المستحق إنما يثبت إقراره بالغصب، ثم إذا ثبت الغصب يترتب عليه حكم الأجرة. ولو كان الآجر بنى في الأرض بناء، ثم أجرها مبنية. فقال رب الأرض: أمرتك أن تبني وتؤاجر وقال الآجر: غصبتك وبنيتها وأجرتها، قال: يقسم الأجر على قيمة الأرض غير مبنية. وعلى البناء، فما أصاب الأرض فهو لرب الأرض، وما أصاب البناء فهو للغاصب؛ لأن في البناء الظاهر شاهد للغاصب؛ لأن البناء في يده. الفصل الثلاثون: في الإجارة الطويلة المرسومة ببخارى قال محمد رحمه الله في كتاب الشروط: في الرجلين أجرا من رجل داراً عشر سنين، فخاف المستأجر أن يخرجاه منها، فأراد أن يستوثق من ذلك، فالحيلة: أن يستأجر كل شهر من الشهور الأول بدرهم، والشهر الآخر مقسم الأجر، فإن معظم الأجر إذا كان للشهر الآخر، فهما لا يخرجانه من الدار. وعن هذه المسألة استخرجوا الإجارة الطويلة المرسومة ببخارى، أو جعلوا أجر السنين المتقدمة شيئاً قليلاً، وجعلوا معظم الأجر للسنة الأخيرة. وحكي أن في الابتداء كانوا يكتبون بيع المعاملة مثلما كان في زمن الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني، كره ذلك لمكان شبة الربا، وأخذت هذا النوع من الإجارة ليصل الناس إلى الاسترباح بأموالهم، فيحصل لهم منفعة الدار والأرض مع الأمن عن ذهاب شيء من مقصود المال. وقد أخبرني من أثق به: أني وجدت الإجارة الطويلة المرسومة في فتاوى قديمة مروّية عن محمد، برواية الشيخ الإمام الزاهد أبي جعفر الكبير، وإنما شرط الخيار لكل واحد منهما؛ ليتمكن كل واحد منهما من الفسخ، فيصل إلى أصل ماله بواسطة الفسخ، وإنما اشتبه ثلاثة أيام من آخر كل شهر حتى يشترط الخيار في هذه الأيام المستثناة فيكون شرط في غير الأيام الداخلة في العقد، إذ لو كان شرط الخيار في الأيام الداخلة في العقد يزيد الخيار على ثلاثة أيام في العقد. وإنه يفسد العقد عند أبي حنيفة. أما إذا شرط الخيار في الأيام المستثناة عن العقد، كان هذا اشتراط زيادة على ثلاثة أيام في غير العقد، ولأنه لا يفسد العقد؛ ولأنا إذا شرطنا الخيار في الأيام الداخلة في العقد، لا يصح الفسخ من غير محضر من صاحبه عند أبي حنيفة ومحمد، فشرطنا الخيار في هذه الأيام المستثناة عن العقد؛ لتمكن كل واحد منهما من الفسخ بغير محضر من صاحبه؛ لأن الفسخ يكون امتناعاً من لزوم العقد بعد هذه الأيام، فلا يشترط حضرة صاحبه.

وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل البخاري: يفتي بجواز هذه الإجارة. وكذا من بعده من الأئمة ببخارا إلى يومنا هذا. وكان الزهاد من مشايخنا، كالشيخ الإمام أبي بكر بن حامد، والشيخ الإمام أبي حفص السفكردري وأمثالهما، كانوا لا يفتون بجواز هذه الإجارة وكانوا يقولون فيها شبهة، وليس الأمر كما قالوا. وبيان الشبهة: أن هذا عقد واحد؛ لأنه حصل بإيجاب واحد، فإذا شرط الخيار ثلاثة أيام في آخر كل ستة أشهر، وفي آخر كل سنة نزيد مدة الخيار على ثلاثة أيام، واشتراط الخيار في عقد واحد زيادة على (57أ4) ثلاثة أيام يوجب فساد العقد على قول أبي حنيفة، وعلى قول أبي يوسف يجيء شبهة أخرى. وبيان ذلك: أنهما إذا عقدا عقد الإجارة في غرة الشهر، أو في وسط الشهر. وشرط الخيار في آخر كل سنة، فإن تلك السنة كلها تصير أيام خيار عنده، وكذلك السنة الثانية والثالثة إلى آخر المدة، فلا يفيد العقد فائدة. وقاسوا هذه المسألة على مسألة أخرى على مذهب أبي يوسف. وصورتها: رجل اشترى من آخر عبداً أو ثوباً على رأس شهر على أنه بالخيار فيه آخر يوم من هذا الشهر، إن ذلك الشهر خيار كله، والمعنى المجوز دفع حاجة الناس بأموال الغير؛ لأن الإنسان لا يعرض غيره شيئاً كبيراً من ماله من غير أن يطمع فيه وصول نفع مالي إلا نادراً، وبذلك النادر لا تقوم الحوائج، فكان في تجويز هذه الإجارة تعديل النظر من الجانبين. ثم اختلف المشايخ الذين قالوا بجواز هذه الإجارة: أنهما يعتبر عقداً واحداً، أو عقوداً مختلفة. بعضهم قالوا: يعتبر عقوداً مختلفة حتى يزيد مدة الخيار ثلاثة أيام في عقد واحد فيفسد به العقد عند أبي حنيفة. وبعضهم قالوا: يعتبر عقداً واحداً؛ لأنا لو اعتبرناها عقوداً فما سوى العقد الأول يكون مضافاً، وفي الإجارة المضافة لا تملك الأجرة بالتعجيل، ولا باشتراط التعجيل. والغرض من هذه الإجارة تلك الأجرة، ويبتني على هذا الاختلاف إجارة دار اليتيم إجارة طويلة، واستئجار الدار لليتيم إجارة طويلة. ووجه البناء: أن هذا العقد لاشك أنه لا يجوز في المدة التي يصيبها قليل الأجرة في الإجارة، وكثير الأجرة في الاستئجار، وهل يتعدى الفساد إلى الباقي؟ فمن جعله عقوداً قال: لا يتعدى، ومن جعله عقداً واحداً، قال: يتعدى. وبعض المحققين من مشايخنا قالوا: يتعدى الفساد إلى الكل، اعتبرناها عقداً واحداً أو عقوداً إن اعتبرناها عقداً واحداً، فظاهر، وإن اعتبرناها عقوداً متفرقة فكذلك؛ لأنها إنما تعتبر عقوداً متفرقة باعتبار استثناء بعض هذه الأيام. أما من حيث اللفظ، ومقصود المتعاقدين فهما عقد واحد، أما من حيث اللفظ فلأن الآجر يقول: أجرتك هذه الدار بكذا هذه المدة بهذه الشرائط، والمستأجر يقول: قبلت، استأجرت. وأما من حيث مقصود المتعاقدين، فلأن مقصود المتعاقدين مباشرة عقد واحد، واستثناء بعض هذه المدّة

من هذا العقد لإتمام ما هو مقصودهما من هذا العقد، وهو التوثيق بالمال مع حصول النفع للمستأجر، ويمكن كل واحد منهما من الفسخ قبل تمام المدة. فهو معنى قولنا: العقد واحد مقصوداً ولفظاً فإذا فسد البعض ثبت الفساد في الباقي من وجه، فيلحق بالفاسد من كل وجه احتياطاً، فإن طلبا حيلة في جواز هذه الإجارة، فالحيلة إذا كانت الدار للصغير أن يجعل مال الإجارة بتمامه للسنة الأخيرة، ويجعل بمقابلة السنين المتقدمة مالاً هو أجر مثله، أو أكثر. ثم يبرء والد الصغير المستأجر عن أجر السنين المتقدمة، ويصح إبراؤه عند أبي حنيفة ومحمد، خلافاً لأبي يوسف، وإن أراد أن يصير مجمعاً عليه يلحق به حكم الحاكم، والحيلة: إذا أستأجر الأب للصغير أن ينظر إلى أجر مثله كل سنة لهذه الدار، فيجعل مال الإجارة على اعتباره للسنين المستأجرة، ولسنين المتقدمة شيئاً قليلاً. صورته: إذا كان مال الإجارة ألف درهم مثلاً، وأجر مثل هذه الدار كل سنة مئة، يجعل بمقابله عشرين سنة من أوائل هذه السنين شيء قليل ويجعل بمقابلة العشر سنين المستأجرة ألف إلا شيء قليل، فيجوز، ويجعل المقصود. قال الصدر الشهيد رحمه الله: والأصح عندي أنه يعتبر عقوداً في سائر الأحكام عقداً واحداً في حق تلك الأجرة بالتعجيل أو باشتراط التعجيل. وعندي لا حاجة إلى هذا التكلف، فإنه يمكن اعتبارها عقداً واحداً. قوله: يزيد الخيار على ثلاثة أيام في عقد واحد. قلنا: نعم، يزيد الخيار على ثلاثة أيام، لكن لا في العقد فإن من جوز هذه الإجارة شرط أن يشترط الخيار في هذه الأيام الثلاثة المستثناة التي هي غير داخلة تحت العقد، كيلا يريد الخيار في الأيام المستثناة، وإنها غير داخلة في العقد، كان هذا اشتراط الخيار زيادة على ثلاثة أيام في غير أيام العقد، وإنه لا يفسد العقد بالإجماع، وكذا يمكن اعتبارها عقوداً إن اعتبرناها عقوداً. قوله: بأن الأجرة لا تملك في الإجارة المضافة قلنا عن أصحابنا فيه روايتان على ما ذكرنا، فنأخذ بالرواية التي تملك فيها الأجرة بالتعجيل، واشتراط التعجيل. وكما تجوز الإجارة الطويلة في العقار والضياع، تجوز في الدواب والمماليك أيضاً، إذ المعنى لا يوجب الفصل. وهذا كله في الأملاك. جئنا إلى الأوقاف. فنقول: إذا استأجر الأوقاف من المتولي مدة طويلة، فإن كان الواقف شرط أن لا يؤاجر أكثر من سنة يجب مراعاة شرطه لا محالة، ولا نفتي بجواز هذه الإجارة، وإن كان لم يشترط شيئاً، نقل عن جماعة من مشايخنا أنه لا يجوز أكثر من سنة واحدة. وقال الفقيه أبو جعفر: إنما أجوز في ثلاث سنين، ولا أجوز فيما زاد على ذلك. والصدر الشهيد الكبير هشام الدين تغمده الله بالرحمة، كان يقول: في الضياع، يفتى بالجواز في ثلاث سنين إلا إذا كانت المصلحة في عدم الجواز. وفي غير الضياع يفتى بعدم الجواز فيما زاد على سنة واحدة، إلا إذا كانت المصلحة في الجواز، وهذا أمر مختلف باختلاف الزمان والموضع، ثم إذا استأجر على

الوجه الذي جاز من حصة أجرتها، لا تفسخ الإجارة، وإذا ازداد أجر مثلها بعد مضي بعض المدة ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» أنه لا يفسخ العقد، وذكر في «شرح الطحاوي» : أنه يفسخ العقد، ويجدد على ما ازداد. وإلى وقت الفسخ يجب المسمّى لما مضى. ولو كانت الأرض بحال لا يمكن فسخ الإجارة فيها، بأن كان فيها زرع لم يحصد بعد، فإلى وقت الزيادة يجب المسمى بحساب ذلك، وبعد الزيادة إلى تمام السنة يجب أجر مثلها، وزيادة الأجر إنما تعرف إذا ازدادت عند الكل.f ذكر الطحاوي هذه الجملة في كتاب المزارعة. وأما في الأملاك لا يفسخ العقد، رخص أجر المثل أو غلا باتفاق الروايات. وإذا أستأجر من آخر داراً أو أرضاً مقاطعة مدة قصيرة سنة مثلاً، ثم إن الآجر أجرها من غيره إجارة طويلة، لاشك أن الإجارة الطويلة لا تجوز في مدة الإجارة القصيرة، لما ذكرنا أن إجارة المستأجر لا تنعقد أصلاً. وهل يجوز فيما ورائها؟ فمن جعلها عقداً واحداً يقول: لا تجوز، ومن جعلها عقوداً متفرقة يقول: تجوز؛ لأن العقد فيما وراء المدة القصيرة مضاف، وإضافة الإجارة إلى وقت في المستقبل جائزة، فإذا انقضت المدة القصيرة تنعقد الطويلة ضرورة، وإذا باع المستأجر في الإجارة الطويلة، ثم جاء وقت الاختيار، هل ينفذ البيع؟ حكي عن الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد البسّتاني: إن في المسألة روايتين؛ لأن الإجارة فيما وراء الأيام المستثناة مضافة، فإذا نفذ البيع في أيام الخيار تنفسخ تلك الإجارة، وفي فسخ الإجارة المضافة روايتان على ما مرّ، بعض مشايخ زماننا قالوا: يجب أن يفتى بعدم النفاذ احترازاً عن التلبيس والاحتيال، فإنهم قد يحتالون، ويقولون: قد بعنا قبل الأيام، وانفسخت الإجارة في الأيام، ويطلبون أجرة ما مضى بعد الفسخ، وعسى يزداد على مال الإجارة، فيؤدي إلى الإضرار بالمسلمين. وإن باع الآجر المستأجر في الإجارة الطويلة في أيام الفسخ قبل الفسخ ذكر شمس الأئمة السرخسي إن هذا الفصل يجب (57ب) 4أن يكون على الروايتين. كما لو باع قبل الفسخ؛ لأن الإجارة في المدة الثانية مضافة. وقال الصدر الشهيد حسّام الدين: يجب أن يكون نفاذ هذا البيع باتفاق الروايات؛ لأن للآجر ولاية في الفسخ في الأيام المستثناة، والبيع دلالة الفسخ، ولا كذلك الإجارة المضافة؛ لأنه ليس للآجر ولاية الفسخ في الإجارة المضافة، فجاز أن يكون في نفاذ بيعه اختلاف الروايتين، وبه ختم نوع آخر من هذا الفصل قد ذكرنا أن الأيام المستثناة في الإجارة الطويلة غير داخلة تحت العقد، فلو أجر المستأجر المستأجر من غيره يبين تلك الأيام في الإجارة الثانية، أنها اليوم العاشر والحادي عشر والثاني عشر من شهر كذا، ويستثني نصاً لتبين الداخل من الأيام في العقد

الثاني من غير الداخل، هكذا ذكر الحاكم السمرقندي رحمه الله في كتاب الشروط، وهذا إذا كتب ذكر الإجارة الثانية على هذه أما إذا كتب في الذكر الأول، أو على ظهره فذكر فيه سوى الأيام المستثناة المذكورة فيه، يكفي بجواز الإجارة الثانية، والله أعلم. نوع آخر اختلف المشايخ فيمن يجوز الإجارة الطويلة في فصل، وهو أنه: إذا كان من أحد العاقدين بحيث لا يعيش إلى مدة ثلاثين سنة معه غالباً، هل تصح هذه الإجارة؟ فبعضهم لم يجوزوا ذلك، وممن لم يجوزوا القاضي الإمام أبو عاصم العامري، ووجهه: أن الغالب يلحق بالتيقن في الأحكام حتى يحكم بموت المفقود بموت أقربائه، فإذا كان الظاهر والغالب أنه لا يعيش إلى هذه المدة تيقناً بفساد العقد، لأن تلك المدة التي خرجت من الإجارة مجهولة؛ ليتمكن الجهالة في الباقي، فلا يجوز. ولأن منفعة الأرض فيما سوى مدة عمره لا تكون مملوكة له، فقد جمع بين المملوك وغيره، والمملوك مجهول، فلا يجوز هذا العقد؛ ولأنه بمنزلة التأبيد في الإجارة لما ذكرنا. والتأقيت شرط جوازها والتأبيد يبطلها. أقصى ما في الباب: أن حياته إلى هذه المدة غير مستحيلة، ولكن ذكرنا أن في الأحكام تصير الغالب، والظاهر. وبعضهم جوزوا ذلك، وممن جوز ذلك الخصاف؛ لأن العبرة في هذا الباب بصيغة كلام العاقدين، وإنه يقتضي التوقيت، فصح ذلك ولا عبرة لموت أحد العاقدين قبل أسماء المدة؛ لأن ذلك عسى يوجد فيما إذا كانت المدة مقدار ما يعيش الإنسان إليها غالباً، ولا عبرة له. ونظير هذا: ما إذا تزوج امرأة إلى مئة سنة، أنه يكون متعة، ولا يكون نكاحاً صحيحاً في الروايات الظاهرة عن أصحابنا، وإن كان لا يعيش إلى هذه المدّة غالباً وجعل ذلك بمنزلة نكاح مؤقت، واعتبر ظاهر حياته في الحال، وجعل ذلك بمنزلة الوقت اليسير، وإنما فعلنا كذلك لما ذكرنا أن الاعتبار للفظ وإنه يقتضي التأقيت، فصار النكاح مؤقتاً. والنكاح المؤقت باطل. وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يقول: بأن مشايخنا يترددون في فصل النكاح في مثل هذه الصورة. بعضهم قالوا: يجوز النكاح في مثل هذه الصورة، ويجعل ذلك التأقيت بمنزلة التأبيد، وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة فكأنهم قاسوا هذا على ما ذكر في كتاب الطلاق في باب الإيلاء، إذا قال: والله لا أقربك إلى خروج الدجال إلى طلوع الشمس من مغربها، فإن هناك لا يصير في القياس مولياً، ويصير مولياً استحساناً ويجعل في الاستحسان ذلك التأقيت بمنزلة التأبيد كذا ههنا. وإذا استأجر شيئاً إجارة طويلة صحيحة بدنانير دين موصوفة، فأعطاه مكان الدنانير دراهم، ثم تفاسخا العقد، فالآجر يطالب بالدنانير لا بالدراهم؛ لأن التعجيل مشروط في الإجارة الطويلة، والأجرة تجب باشتراط التعجيل في الإجارة الصحيحة، فإذا قبض مكان

الدنانير دراهم، كانت هذه مصارفة بدين واجب فيصح، وصار المستأجر بائعاً الدراهم مؤقتاً الدنانير. ولو كان العقد فاسداً. وباقي المسألة بحاله يطالب الآجر بإعطاء الدراهم؛ لأن الأجرة لا تملك باشتراط التعجيل في الإجارة الفاسدة، فلم تصح المصارفة، فلا يصير المستأجر مؤقتاً الدنانير فلا يجب على الآجر إيفاء الدنانير. وإذا أجر أرضاً، وفي الأرض زرع أو أشجار لا يجوز، وإن أراد الحيلة في ذلك فقد مرّ ذكره في الفصل الخامس عشر من هذا الكتاب. وإذا أستأجر كرماً لم يره، وقد باع صاحب الكرم الأشجار قبل الإجارة صحت الإجارة، كان للمستأجر خيار الرؤية في الكرم، ولو تصرف في الكرم تصرف الملاك بطل خيار الرؤية كما في البيع. ولو أكل من ثمار الكرم، فقد قيل: لا يبطل خيار الرؤية؛ لأنه تصرف في المشترى وهو الثمار لا في المستأجر، وهو الكرم. ولو قيل يبطل فله وجه أيضاً. وإذا قال لغيره: أجرتك داري هذه، أو قال: أرضي هذه على أنك تفسخ العقد متى شئت كانت الإجارة فاسدة، لأن مدة الخيار تزيد على ثلاثة أيام. وفي «فتاوى الفضلي» : إذا أجر الرجل حانوته مشاهرة، ثم أجره من غيره إجارة طويلة، وأمر الآجر المستأجر إجارة طويلة أن يكون هو الذي يقبض الأجر من المستأجر مشاهرة ثم مات الآجر بعد ذلك، والمستأجر إجارة طويلة هو الذي يقبض الأجرة، فما قبض فهو له إلا أجرة الشهر الذي وقعت الإجارة الأولى فيه؛ لأن الإجارة الثانية إنما تصح عند الشهر الثاني؛ لأن بمجيئه تنفسخ الأولى. ومعنى المسألة: أن الإجارة الأولى وقعت صحيحة، وإنما تمنع صحة الإجارة الثانية ولكن للآجر حق الفسخ عند الشهر الثاني، وإقدامه على الإجارة الثانية دليل الفسخ، فانفسخ العقد الأول عند الشهر الثاني. وصحت الإجارة الطويلة، فإذا طلب المستأجر إجارة طويلة الأجر من المستأجر الأول وأجابه المستأجر الأول إلى ذلك، فقد انعقد بين الأول وبين المستأجر إجارة طويلة إجارة جديدة مشاهرة. فهو معنى قوله: ما قبض المستأجر الثاني من الأجرة فهي له، إلا أجر الشهر الذي وقعت فيه الإجارة. قال القاضي الإمام ركن الإسلام علي السعدي رحمه الله: أراد بقوله: ما قبض المستأجر من الأجرة فهي له، ما قبض في حال حياة الآجر؛ لأن بموت الآجر تنفسخ الإجارة، فما يأخذ بعد ذلك يأخذ بغير حق، فيلزمه رده على من أخذ منه. وفي «الفتاوى الصغرى» : إذا أجر داره من رجل إجارة طويلة، ثم أجر من آجر طويلة لا يجوز، ولا ينقلب جائزاً بعدما انفسخت الأولى بفسخها، وإنه مشكل. وينبغي أن تكون المسألة على روايتين، لأن في الإجارة الطويلة بعض العقود مضافة، وفي صحة فسخ الإجارة المضافة قبل مجيء الوقت المضاف إليه روايتان. والإجارة الثانية دليل فسخ الإجارة الأولى كالبيع، فيجب أن تكون في المسألة روايتان كما في البيع.

الفصل الحادي والثلاثون: في النصيف

الفصل الحادي والثلاثون: في النصيف إذا استأجر الرجل داراً، ولم يسم بالعمل فيها، ينصرف إلى السكنى، وليس له أن يعمل فيها عمل القصارين والحدادين، فإن عمل فانهدم كان عليه الضمان ولا أجر عليه، وإن سلم الأجر عليه قياساً، وعليه الأجر استحساناً. والراعي إذا رعى في مكان لم يؤذن له بالرعي فيه، فعطب الغنم أو ما أشبه ذلك، صار الراعي ضامناً لما عطب ولا أجر له. وإن سلمت الغنم كان في وجوب الأجر له قياساً واستحساناً على ما مر. وإذا استأجر ثوباً ليلبسه مدة معلومة بأجر معلوم، ليس له أن يلبس غيره فإن ألبس غيره في ذلك الوقت إن هلك ضمنه اللبس ولا أجر عليه، وإن سلم لا أجر عليه أيضاً. وإذا استأجر دابة بعينها ليركبها إلى مكان معلوم بأجر معلوم، ليس له أن يركب غيره فإن حمل (58أ4) عليها غيره ضمن، ولا أجر عليه وإن ركب هو وحمل معه آخر، فسلمت فعليه الكراء كله وإن عطبت بعد بلوغها ذلك المكان من ذلك الركوب، فعليه الأجر كله، وهو ضامن لنصف قيمته. وإذا استأجر دابة ليذهب في مكان كذا، فذهب بها في مكان آخر وسلمت الدابة، أو هلكت فلا أجر عليه. والأصل في جنس هذه المسائل: أن استيفاء المعقود عليه يوجب الأجر على المستأجر، وعند استيفاء ما ليس بمعقود عليه، إنما يجب الأجر على المستأجر إذا تمكن المستأجر من استيفاء ما هو معقود عليه، أما إذا لم يتمكن فلا. ألا ترى أن من استأجر من آخر ثوباً ليلبسه، وغصب هذا المستأجر من هذا الأجر ثوباً آخر، ثم إن المستأجر لبس الثوب المغصوب دون الثوب المستأجر، فإن كان متمكناً، من لبس الثوب المستأجر بأن كان في بيته فإنه يجب الأجر على المستأجر في الثوب المستأجر وإن لم يكن متمكناً بأن غصب رجل الثوب المستأجر من المستأجر الأجر على المستأجر أصلاً؛ لهذا إن في الوجه الأول: استوفى ما ليس بمعقود عليه، وهو منافع الثوب المغصوب مع تمكنه من استيفاء ما هو معقود عليه. وفي الوجه الثاني: استوفى ما ليس بمعقود عليه وزيادة، فإن سلم العين يسقط اعتبار الزيادة، فيجب الأجر ولا يجب الضمان، وإن هلك العين ليست استيفاء تلك الزيادة، إن صار المستأجر بسبب استيفاء الزيادة مستعملاً كل العين يجب ضمان كل العين، وإن صار مستعجلاً بعض العين يجب ضمان البعض، وهل يجب الأجر؟ ففيما إذا وجب ضمان كل العين لا يجب شيء من الأجر، فيما إذا وجب ضمان العين بقدر الزيادة يجب كل الأجر، ومتى كان المستوفى مع ما دخل تحت العقد جنساً واحداً من حيث الاسم، إلا أن بينهما تفاوت فإن كان تفاوتاً فاحشاً، التحقا بجنسين مختلفين، ولا يعتبر

معقوداً عليه فباستيفائه لا يجب الأجر، وإن كان التفاوت يسيراً لا يلحقا بجنسين مختلفين، بل يعتبر الجنس واحداً، ويكون التفاوت راجعاً إلى الصفة، فإن لم يسلم يجب الضمان، ولا يجب الأجر وإن سلم يجب الأجر ولا يجب الضمان. إذا ثبت هذا جئنا إلى مسألة البيت فنقول: المعقود عليه لما كان هو السكنى، فإذا سكن وعمل فيها عمل القصارين والحدادين، فقد استوفى زيادة شيء بسبب عمل القصارين والحدادين، فإن سلمت الدار سقط اعتبار الزيادة، وإن هلك الدار لا يجب الأجر ويجب كل الضمان؛ لأنه باستيفاء هذه الزيادة صار مستعملاً كل الدار، فيجب كل الضمان عند الهلاك، ولم يجب شيء من الأجر. وأما مسألة الراعي قلنا: الراعي في هذا المكان والرعي في المكان الذي أذن بالرعي فيه واحد اسماً إلا أن بينهما تفاوتاً، وهذا التفاوت يسير في الرعي، ولهذا صحت الإجارة على الرعي، وإن لم يبين المكان، فيبقى الجنس واحداً فكان هذا اختلافاً في الصفة، فإن الرعي في بعض الأمكنة ربّما يكون أجود، فلهذا كان كما قلنا. وأما مسألة الثوب قلنا: التفاوت بين اللبسين تفاوت فاحش، فالتحقا بجنسين مختلفين، وإن جمعهما الاسم، والداخل تحت العقد لبسه مكان لبس غيره، باعتبار هذا التفاوت غير داخل تحت العقد، فكان هذا استيفاء ما ليس بمعقود عليه، ولم يكن المستأجر متمكناً من استيفاء ما هو معقود عليه، وهو لبسه في المدة؛ لأن ذلك إنما يكون إذا لم يكن في يد غيره وكذلك الوجه فيما إذا استأجر دابة ليركب إلى مكان معلوم، فحمل عليها غيره وفيما إذا استأجر دابة ليركب إلى مكان معلوم، فأردف غيره إلى ذلك المكان، لم يسقط اعتبار الزيادة فيجب كل الأجر، وإن هلكت من الركوب بعد بلوغها إلى ذلك المكان لم يسقط اعتبار الزيادة، فيجب الضمان. ولكن إنما يضمن نصف قيمته؛ لأنه باستيفاء الزيادة صار مستعملاً بعض الدابة، وهو ما زاد على مقدار ركوب المستأجر، أما قدر ركوب المستأجر فهو داخل في الإجارة؛ لأن المعقود عليه هنا مقدر بالركوب لا بالمدة فصار قدر ركوبه من هذه الدابة مستأجراً والبعض غير مستأجر، فصار باستيفاء هذه الزيادة مستعملاً هذا القدر، فلهذا يجب عليه ضمان ذلك القدر، وجب كل الأجر. وفيما إذا استأجر دابة ليذهب في مكان كذا، فذهب بها في مكان آخر فنقول: بين المكانين تفاوت فاحش في الركوب، فاعتبر الجنسين مختلفين، فلم يكن الركوب في مكان آخر معقوداً عليه، واستيفاء غير المعقود عليه لا يوجب الأجر أصلاً، إذا لم يمكن من استيفاء المعقود عليه في المكان الذي أضيف إليه العقد، وإذا ذهب بها في مكان آخر فما تمكن من استيفاء المعقود عليه في المكان الذي أضيف إليه العقد، وعلى هذا يخرج جنس هذه المسائل.

الفصل الثاني والثلاثون: يقرب إلى المسائل التي هي في معنى قفيز الطحان

الفصل الثاني والثلاثون: يقرب إلى المسائل التي هي في معنى قفيز الطحان إذا دفع إلى آخر بقرة بالعلف؛ ليكون الحادث بينهما نصفان، فالحادث كله لصاحب البقرة وعليه أجر مثل عمل المدفوع إليه، وثمن العلف وهذا لأن المدفوع إليه غير متبرع فيما صنع؛ لأنه إنما فعل ذلك رجاء أن يسلم له نصف الحادث، ولا يسلم له نصف الحادث منها لفساد العقد ليكون البدل مجهولاً. قال: فلو مضى على ذلك زمان واتخذ المدفوع إليه بعض اللبن مصلاً، والعين قائم في يده، فما كان قائماً من اللبن فهو للمالك، وما اتخذه المدفوع إليه مصلاً فهو للمدفوع إليه وانقطع حق المالك عنه لتبدل الاسم والمعنى، وعلى المدفوع إليه لصاحب البقرة مثل ذلك اللبن لأن اللبن مثلي، وما ذكر من انقطاع حق المالك عن المصل مشكل؛ لأن الاسم والمعنى وإن تبدلا، ولكن يصنع ما دون فيه من جهة المالك، وعلى هذا: إذا دفع الدجاجة إلى رجل لتكون البيضات بينهما، فلو أن المدفوع إليه دفع البقرة أو الدجاجة إلى رجل آخر بالنصف، فهلك في يده، فالمدفوع إليه الأول ضامن؛ لأن العين أمانة في يده وليس للآجر أن يدفع الأمانة إلى غيره من غير ضرورة، فلو أن المدفوع إليه بعث البقرة إلى السرح، فلا ضمان لمكان العرف. وفي بيوع الفتاوى: امرأة أعطت بذر العلق إلى امرأة بالنصف، فقامت عليه حتى أدرك فالعلق لصاحب البذر؛ لأنه حدث من بذره ولها على صاحب البذر قيمة الأوراق، وأجر مثلها. وفي إجارات الفتاوى: إذا دفعت بذر العلق إلى أختها وأخيها على أن العلق بينهم، فلما خرج الدود قالا: إن أكثرها قد هلك، فقال لهما: ادفعا إلي ثمن البذر وأنا منه بريء وهما كاذبان فقد خرج العلق كله، فالعلق كله لها، ولهما عليها قيمة ورق الفرصاد، إن كان له قيمة وأجر مثل عملهما في ذلك. وفي مضاربة «فتاوى أبي الليث» رحمه الله إذا دفعت إلى امرأة دوداً لتقوم عليه بنفقتها على أن العلق بينهما نصفان، فهو بمنزلة المضاربة فكل العلق لصاحب الدود وعليها أجر مثل العاملة، وثمن الأوراق، ولو صب من آجر دود القزّ أو بيض الدجاجة، فأمسكها حتى خرج العلق أو الفرخ لمن يكون الفرخ والعلق؟ حكي عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنه قال: إن خرج بنفسه فهو لصاحبه. والحيلة في جنس هذه المسائل: أن يبيع صاحب البيضة نصف البيضة، وصاحب الدجاجة والبقرة من المدفوع إليه، ويبرئه عن ثمن ما اشترى، فيكون بينهما. رجل له غريم في مصر آخر، قال لرجل: اذهب وطالبه بالذي لي عليه، وهو كذا فإن قبضته فلك عشرة من ذلك، ففعل فله أجر المثل؛ لأن هذا في معنى قفيز الطحان، فلم يصح هذا العقد، وقد استوفى منافعه بحكم هذا العقد، فيجب أجر المثل.

الفصل الثالث والثلاثون: في الاستصناع

الفصل الثالث والثلاثون: في الاستصناع ذكرنا في كتاب البيوع كيفية الاستصناع وصفته، وما يجوز فيه وما لا يجوز، ولم نذكر ثمة المسائل فنذكرها ههنا، ومحمد رحمه الله أورد باب الاستصناع في البيوع والإجارات، فنحن فعلنا هكذا أيضاً اتباعاً له. والاستصناع (58ب4) أن تكون العين والعمل من الصانع، فأما إذا كان العين من المستصنع لا من الصانع يكون إجارة، ولا يكون استصناعاً. قال محمد رحمه الله: وإذا سلم الرجل إلى حائك في ثوب من قطن ينسجه له، وسمى عرضه وطوله وجنسه ودقته، والغزل من الحائك حتى كان استصناعاً، فالقياس أن يجوز؛ لأنه استصناع في عمل معلوم، ببدل معلوم فيجوز، كما في الخفاف والأواني استحسن. وقال: لا يجوز؛ لأن جواز الاستصناع بخلاف القياس؛ لأنه بيع المعدوم، لتعامل الناس ولا تعامل في الثياب فيبقى على أصل القياس. وإن ضرب لذلك أجلاً يصير سلماً، ذكر المسألة في كتاب الإجارات من غير ذكر خلاف. وفي كتاب البيوع في شرح شيخ الإسلام: أن الاستصناع مما للناس فيه تعامل يصير سلماً، يضرب الأجل في قول أبي حنيفة، وعندهما لا يصير سلماً، وفيما لا تعامل للناس فيه نحو: الثياب يصير سلماً بضرب الأجل بالإجماع. وفي «القدوري» : وإن ضرب للاستصناع أجلاً فهو بمنزلة السلم، يحتاج فيه إلى قبض البدل في المجلس ولا خيار لواحد منهما في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: ليس بسلم من غير فصل بينما، للناس فيه تعامل وبينما لا تعامل لهم فيه فذكر المسألة في كتاب الإجارات من غير خلاف. يؤيد ما ذكره شيخ الإسلام في شرح كتاب البيوع: أن فيما لا تعامل فيه يصير الاستصناع سلماً بضرب الأجل بالإجماع. قال محمد رحمه الله: وإذا دفع حديداً إلى حداد يصنعه أناءً، بأجر مسمى فجاء به الحداد على ما أمره به صاحب الحديد، ويجبر على القبول. ولو خالفه فيما أمره به، فإن خالفه من حيث الجنس بأن أمره بأن يصنع له قدوماً، فصنع له مراءً ضمن حديداً، مثل حديده، وإلا ناله ولا خيار لصاحب الحديد. فإن خالفه من حيث الوصف، بأن أمره أن يصنع له منه قدوماً يصلح للنجارة، فصنع له منه قدوماً يصلح لكسر الحطب، فصاحب الحديد بالخيار إن شاء ضمنه حديداً مثل حديده، وترك القدوم عليه، ولا أجر، وإن شاء أخذ القدوم وأعطاه الأجر، وكذلك الحكم في كل ما يسلمه إلى عامل ليصنع منه شيئاً مسماه، كالجلد يسلمه إلى الإسكاف ليصنعه خفين، أو ما أشبهه.

رجل سلم غزلاً إلى حائك لينسجه، وأمره أن يزيد في الغزل رطلاً من غزله، فهذا على أربعة أوجه: الأول: أن يقول: أقرضني رطلاً من غزلك على أن أعطيك مثله، وأمره أن ينسج منه ثوباً على صفة معلومة بأجرة معلومة، وإنه جائز استحساناً، سواء كان الاستقراض مشروطاً في عقد الإجارة، أو لم يكن. والقياس فيما إذا كان الاستقراض مشروطاً في عقد الإجارة أن لا تجوز الإجارة؛ لأن هذه إجارة شرط فيها مالا يقتضيه العقد، ولأحد المتعاقدين فيه منفعة، ولكن تركنا القياس للتعارف والتعامل. فإن العرف جار فيما بين الناس، أنهم يدفعون غزلاً، ويأمرون الحائك بنسج ثوب مقدر ولا يفي الغزل للثوب المأمور به ويشترطون قرض ما يتم به الثوب من عند الحائك، فهذا شرط متعامل فيما بين الناس من غير نكير، فيجوز ويترك القياس لأجله كما ترك القياس في الاستصناع للتعامل، وترك القياس فيما إذا اشترى نعلاً على أن يشركه البائع ويحدده كان الشراء جائزاً وإن شرط فيما اشترى أجراً، وأجازه لأنه شرط متعارف فيما بين الناس، فكذلك هذا. وأما الوجه الثاني: إذا قال زدني رطلاً من غزلك على أن أعطيك مثل غزلك، وإنه جائز ويكون قرضاً. وإنما جعل قرضاً، أما إذا قال: على أن أعطيك مثل غزلك؛ لأنه وإن احتمل البيع يحتمل القرض، فكان حمله على القرض حتى لا يصير بائعاً ما ليس عنده أولى من حمله على البيع ويصير بائعاً ما ليس عنده، وإنه منهي عنه شرعاً. وأما إذا سكت إنما جعل قرضاً، وإن احتمل الهبة؛ لأنه كما يحتمل الهبة يحتمل القرض والقرض أقل التبرعين؛ لأنه لتمليك المنفعة دون العين على ما عرف، والهبة لتمليك العين والمنفعة جميعاً، فكان الأقل منتفياً، فكان الأقل أولى بالإثبات. ثم إن لم يكن مشروطاً في عقد الإجارة جازت الإجارة قياساً واستحساناً. وإن كان مشروطاً، فالمسألة على القياس والاستحسان الذي ذكرنا؛ لأن رفع الاختلاف بين رب الثوب وبين الحائك بعد ما فرغ الحائك من العمل، فقال رب الثوب: لم يزد فيه شيئاً، وقال الحائك: لا بل زدت، والثوب مستهلك، فإن باعه صاحبه قبل أن يعلم وزنه، فالقول قول ربّ الثوب مع يمينه، وعلى الحائك البيّنة. فإن نكل رب الثوب عن اليمين يثبت ما ادعاه الحائك، فيلزم رب الثوب ذلك. وإن حلفه برئ عما ادعاه الحائك، وإن كان الثوب قائماً سيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى. الرابع: أن يقول: زد رطلاً من مالك على أن أعطيك ثمن الغزل، وأجر عملك كذا كذا درهماً. فالقياس: أن لا يجوز وفي الاستحسان يجوز ويجيء للقياس طرق ثلاثة إن كان شراء الغزل مشروطاً في الإجارة. أحدها: أنه باع ما ليس عنده لا على وجه السلم، فيكون فاسداً. والثاني: أنه شرط بيعاً في إجارة، وهذا يوجب فساد الإجارة، كما في إجارة الدار. والثالث: أنه استصنع في حق الزيادة؛ لأن العمل والعين من الحائك، والاستصناع في الثياب لا يجوز كما لو استصنع في أصل الثوب، وإن لم يكن مشروطاً، فلا يجوز

قياساً لعلتين أحداهما: وهو أنه باع ما ليس عنده وبيع ما ليس عند الإنسان لا يجوز إلا سلماً ولم يوجد. ولأنه استصنع في حق الزيادة والاستصناع في الثياب لا يجوز، إلا أنه في الاستحسان يجوز لتعامل الناس فإن الإنسان قد يدفع غزلاً إلى حائك ويأمره بنسج ثوب، ويعلم أنه لا يكفي الغزل المدفوع للثوب المأمور به فيشترط عليه زيادة غزل على سبيل الشراء، أو يدفع غزلاً وعنده أنه يفي هذا الغزل، فينتقص الغزل عن القدر المأمور به ولا يجد رب الثوب غزلاً مثله، فنقول للحائك: زد فيه غزلاً من عندك على أن أعطيك ثمنه، فإذا كان كلا الأمرين متعارفاً فيما بين الناس، ترك القياس فيهما وخص به الأثر وهو النهي الوارد عن بيع ما ليس عنده. وإذا جاز هذا، فإن اختلفا بعد الفراغ من الثوب، فقال رب الثوب: لم يزد فيه شيئاً. وقال الحائك: زدت فيه ما أمرتني فهذا على وجهين أيضاً. فإن كان مستهلكاً ذكر أن القول قول رب الثوب مع يمينه على عمله؛ لأنهما تنازعا في شيء، ولم يمكن معرفة ما وقع التنازع فيه من جهة غيرهما، فتعتبر فيه الدعوى والإنكار. والحائك يدعي على صاحب الغزل زيادة ثمن الغزل، وزيادة الأجر. ورب الثوب ينكر، فيكون القول قوله مع يمينه على علمه؛ لأنه يحلف على فعل الغير، فيحلف على العلم، فإن نكل عن اليمين تثبت الزيادة، فكان عليه جميع ما سمي للحائك بعضه بإزاء العمل، وبعضه ثمن الغزل؛ لأن ما ادعاه الحائك ثبت بنكول رب الثوب، فكان كالثابت بإقراره. وإن حلف ولم تثبت الزيادة، ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : أنه يطرح عنه ثمن الغزل، ويلزمه أجر الثوب؛ لأنه لم يثبت الزيادة من عند الحائك لما حلف رب الثوب، فلا يكون له ثمن الغزل، فيطرح عنه ما يخص الغزل. ومعرفة ذلك: أن يقسم المسمى على أجر مثل عمله، فيما أمر به وذلك عمله في من ونصف قيمة الغزل المشروط على الحائك؛ لأنه قابل المسمّى بالغزل، وبالعمل في منّ، ونصف؛ لأن مناً من غزل أعطاه المستأجر، ونصف من اشترى منه، فيطرح عنه ثمنه وأصاب العمل هو آجر الثوب يلزمه، حتى أنه كان المسمى، مثلاً ثلاثة دراهم بإزاء الغزل وبإزاء العمل. وقيمة الغزل درهم مثل عمله فيما أمر به درهمان من المسمى، يطرح عنه درهم ثمن الغزل، ويقسم ما بقي من المسمى على أجر مثل عمله، فيما عمل، وفيما لم يعمل؛ لأنه جعل الأجر بإزاء عمله فيما دفع إليه من الغزل، وفيما أمره بالزيادة (59أ4) ولم يوف العمل فيما أمره بالزيادة، فلا بد أن يطرح عنه حصة ذلك من الأجر. وكيف تعرف حصة ما لم يعمل في الزيادة من الأجر مما عمل؟ اختلف فيه المشايخ. قال بعضهم: يعرف باعتبار الوزن، إن كان ما دفع إليه مناً من غزل، وما شرط عليه نصف من يقسم الباقي من المسمّى بعد ثمن الغزل وذلك درهمان عليهما أثلاثا ثلثاه بازاء ما عمل، وثلثه بازاء ما لم يعمل فيطرح عنه الثلث، ولا تعتبر السهولة والصعوبة في العمل بسبب صغر الثوب، وكبره كما في المراحل إذا ماتت الدابة المستأجرة في وسط الطريق، فإنه يطرح بعض الأجر، ويبقى البعض، ثم يتعرف قدر الساقط من القائم باعتبار

قدر المراحل لا عبرة فيهما للسهولة والصعوبة فكذلك هذا. فقال بعضهم: بأنه يتعرف قدر الساقط من القائم باعتبار السهولة والصّعوبة في العمل بسبب صغر الثوب وكبره، وهذا لأن العمل قد يسهل على الحائك بطول الثوب، ويصعب بقصره، فإنه متى قصر يحتاج إلى الوصل، وإلى عمل الدقيق مراراً، ومتى طال يحتاج إلى ذلك مرة واحدة وهذا التفاوت معتبر فيما بين العمل من هذه الصناعة في زيادة الأجر بسبب صغر الثوب، ونقصانها بسبب الكبر، فلا بد من اعتبارها. وإذا وجب اعتبارهما يجب أن يقيم الباقي من المسمى، وذلك درهمان على أجر مثل عمله في من، وأجر مثل عمله في منّ ونصف درهمان ونصف، وفي منّ درهمان يكون بازاء الزيادة نصف درهم، فيطرح عنه من درهمين نصف درهم حصة ما لم يعمل، بخلاف المراحل؛ لأن الصعوبة والسهولة في المراحل ساقط الاعتبار، فيما بين أهلها إذا اشتملت على المراحل السهل والصعب، فلهذا وجب قدر المراحل في قسمة الأجر بخلاف ما نحن فيه؛ لأن التفاوت في القصر والكبر معتبرة في التفاوت في الأجرة، فلا بد من اعتبارها اللهم إلا أن يكون التفاوت بين القصير والطويل بذرع أو بذرعين حتى لا يكون لهذا التفاوت عبرة في زيادة الأجر ونقصانه. ولم يذكر محمد رحمه الله أن صاحب الثوب يخير وإنما لم يذكر الخيار. وإن خالفه الحائك في صفة ما أمر به، لأنه متى نسج الثوب من منّ ونصف، يكون أطول مما إذا نسجه من منّ واحد، والطول في الثياب صفة مرغوبة كالصفاء والرقة، لأن الطويل يصلح لنوع لا يصلح له القصير، إلا أن التخير غير ممكن بعد هلاك الثوب؛ لأنه لا يمكنه ترك الثوب عليه حتى يضمنه غزلاً مثل غزله، فتعين وجوب الأجر، ثم ماذا يجب أجر المثل، أو المسمى؟ فعلى قول بعضهم: أجر المثل لا يجاوز حصته من المسمى، وعلى قول بعضهم: إن رضي بالعيب فعليه المسمى بحساب ذلك، وإن لم يرض بالعيب فعليه أجر مثل العمل لا يجاوز حصته من المسمى، كما قلنا فيما تقدم من المسائل. ومحمد رحمه الله ذكر الأجر في هذه المسألة مطلقاً ولم يقل المسمّى يخرجها على حسب ما ذكرنا في المسألة الأولى، فأما إذا كان قائماً: إن كان لا يعرف مقدار ما دفع إليه صاحب الغزل، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كان هالكاً من أوله إلى آخره؛ لأنه تعذر معرفة ما وقع التنازع فيه من حيث الوزن، وإن كان الثوب قائماً فكان الجواب فيه كالجواب فيما إذا كان الثوب مستهلكاً، فأما إذا كان الثوب قائماً وقد عرف مقدار ما دفع إليه من الغزل، بأن تصادقا على أن ما دفع إليه منّ إذا كان الثوب قائماً، فإنه يوزن الثوب؛ لأن معرفة ما وقع التنازع فيه ممكن من حيث العنان بالوزن؛ لأن ما وقع إليه إذا كان معروفاً يعرف الزيادة من حيث الوزن، فلا يلتفت إلى قول واحد منهما، بل يوزن الثوب فإن وزن فإذا هو من واحد لم تثبت الزيادة بيقين، فيكون القول قول صاحب الثوب من غير يمين وإن كان منوينّ فالقول قول الحائك، إن لم يدع رب الثوب إن الزيادة من الدقيق؛ لأن الزيادة تثبت بتصديق صاحب الثوب. وإن أدعى أن الزيادة من الدقيق، فلم يرى أهل البصر من

تلك الصناعة، فإن قالوا: قد يزيد الدقيق مثل هذا، فالقول قول صاحب الثوب مع يمينه؛ لأن الظاهر صار شاهداً لرب المال، لما قال أهل تلك الصناعة. أن الدقيق يزيد هذا القدر، إلا أنه يجعل القول قوله مع اليمين؛ لأن الزيادة لم تثبت بيقين أنه من الدقيق. وإنما يثبت بنوع من الظاهر وإن قالوا: الدقيق لا يزيد هذا القدر صار الظاهر شاهداً للحائك، فيكون القول قوله لكن مع اليمين، لأنه لم تثبت بيقين الزيادة بسبب الغزل، وإنما تثبت بنوع من الظاهر، فجعل القول قوله مع اليمين. قال: ولو أن رجلاً دفع سمسماً إلى رجل فقال أقشره وزنه ببنفسج واعصره على أن أعطيك أجرك درهماً، كان هذا فاسداً؛ لأنه أستأجره لعمل مجهول، لأنه أستأجره لتربية السمسم بالبنفسج، وقدر ما يربي بالسمسم من البنفسج مجهول قد يقل وقد يكثر، فيكون العمل مجهولاً، وجهالة العمل يوجب الفساد إلا أن يكون قدر ما يربى به مثل هذا السمسم من البنفسج معرفاً، فيما بين الناس فحينئذ يكون جائزاً، لأن المعروف كالمشروط كما في نقد البلد، فيكون العمل معلوماً وقد أستأجره لما يصلح أجراً فرق بين هذا وبينما إذا دفع ثوباً إلى صباغ ليصبغه بعصفره كانت الإجارة جائزة، وإن لم يتبين قدر العصفر، وهنا قال: لا تجوز الإجارة إذا لم يبين قدر البنفسج، ووجه الفرق بينهما من وجهين: الأول: وهو قدر ما يصنع به مثل هذا الثوب من الصبغ معروف فيما بين الصباغين، بحيث لو زادوا على ذلك المقدار فسد الثوب، والمعروف كالمشروط. ولو كان قدر العصفر مشروطاً جازت الإجارة؛ لأن العمل معلوم، وهنا ليس لمثل هذا السمسم مقدار معروف من البنفسج بين أهل الصنعة، بحيث لا يزاد عليه، فإنه كلما ازداد البنفسج يزداد السمسم حراً، حتى لو كان معروفاً فيما بين التجار بحيث لا يزاد عليه جاز أيضاً لأن المعروف كالمشروط. والثاني: أن المعروف والمتعامل فيما بين الصباغين أنهم يجمعون الثياب من الناس، ويصبغون الكل بدفعة واحدة في وعاء واحد، ولا يفردون ثوب كل واحد من الناس بالصبغ على حدة، فلو شرطنا لجواز هذا العقد بيان مقدار العصفر ولأنهما للصباغ الإمساك بذلك، إلا بعد أن يفرد كل ثوب بالصبغ على حدة ضاق الأمر عليهم، وما ضاق على الناس اتسع. حكمة هذا التعامل معدوم في تربية السمسم، لأنهم يفردون سمسم كل رجل على حدة في التربية، ولا يخلطون سمسم هذا بسمسم الآخر، ومتى خلطوا ضمنوا؛ لأنه يتهيأ لهم التمييز، فلو شرطنا بيان مقدار البنفسج لكل سمسم لا يؤدي إلى أن يضيق الأمر عليهم، فأخذنا في البنفسج بالقياس. قال: وإذا دفع الرجل جلداً إلى الإسكاف، وأستأجره بأجر مسمى على أن يحرم به خفين وسمى له المقدار، والصفة على أن نعلة الإسكاف وسطية من عنده، ووصف له

البطانة والنعل، فهو جائز استحساناً. والقياس أن لا يجوز. ووجه القياس في ذلك أن هذا إجارة شرط فيها شراء، فتفسد. كما لو أستأجر داراً، وشرط فيها شراء، ولأنه صار مشترياً ما ليس عنده لا على وجه السلم، وشراء ما ليس عند الإنسان لا يجوز إلا سلماً، وكان بمنزلة ما لو دفع ثوباً إلى خياط ليخيط له جبّة على أن يحشو وسطه من عنده بأجر مسمّى، فإنه لا يجوز لما ذكرنا، فكذلك هذا. ذكر محمد مسألة الجبة في الأصل على هذا الوجه، إلا أنه ترك هذا القياس في باب الخفّ للتعامل، ولا تعامل في فصل الخياط، فيرد فصل الخياط إلى ما يقتضيه القياس. وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد: رجل دفع إلى خياط ظهارة، وقال: بطنها لي من عندك فهو جائز، وقاسه على ما إذا اشترى خفاً، وقال للبائع: انعله بنعل من عندك، فصار في المسألة روايتان. ولو دفع إليه بطانة. وقال: ظهرها لي من عندك فهو فاسد باتفاق الروايات، ثم إن محمداً رحمه الله جوز هذا التصّرف، وإن لم ير صاحب الجلد النعل والبطانة وصرفه إلى نعل وبطانة يليق بتلك الخف، وكذا إذا أمر الرجل إسكافاً أن يحرر على خفيه ومكعبيه أربع قطع من هرم بكذا، ولم ير الرجل القطع فهو جائز استحساناً (59ب4) وكذا ترقيع الخرق في الخفاف يجوز من غير أن يرى الإسكاف الرقاع. وفي نوادر ابن سماعة: شرط الإراءة في النعل. وهكذا ذكر في القطع الأربع، وهكذا في ترقيع الخرق، فإذا في الخف نعل وفي النعل يخصف روايتان، وإذا جازت هذه الإجارة استحساناً، فإذا عمل الإسكاف وأتى به إن كان عمله متعارفاً صالحاً لا فساد فيه أجبر صاحب الجلد على القبول، ولم يكن له خيار، فقد اعتبر المقارنة للزوم لا حقيقة الموافقة من كل وجه، بين المسمّى في الذمة، وبين ما عين الأجير غير ممكن؛ لأنه لا بد من أدنى تفاوت يقع بين الموصوف في الذمة وبين العين، فسقط اعتبار الموافقة من كل وجه للزوم، وقامت المقارنة مقام الموافقة من كل وجه كما في السلم، لا يشترط الموافقة بين المسمّى في الذمة وبين العين للزوم، وإنما يشترط المقارنة؛ لأن الموافقة من كل وجه غير ممكن، فكذلك هذا وليس لصاحب الجلد خيار الرؤية لا في حق العمل ولا في حق النعل في حق العمل لا إشكال؛ لأن العمل كان واجباً في ذمة الأجير، وما ثبت في الذمة لا يثبت فيه خيار الرؤية، كما في السلم، ولا يثبت في حق النعل، وإن صار مشترياً للنعل لا على وجه السلم لوجهين: أحدهما: أن شراء النعل إنما جاز تبعاً للإجارة، فإنه مشروط في الإجارة، فيكون تبعاً له وحكم البيع لا يفارق حكم البيوع، فإذا لم يثبت في الإجارة خيار الرؤية لما ذكرنا، لم يثبت فيما صار تبعاً للإجارة. والثاني: أن العمل بخيار الرؤية غير ممكن؛ لأن العمل بخيار الرؤية أن يرد ما اشترى إلا بزيادة ضرر يلحق أحدهما فإنه متى رد النعل وحده يحتاج فيه إلى نقص الصفة،

وإذا رد مع الخف يضمن الإسكاف قيمة الخف، وكل ذلك ضرر بالإسكاف هذا إذا عمل عملاً مقاوماً صالحاً، فأمّا إذا فسد بأن خالف في صفة ما أمر به ذكر أن صاحب الجلد بالخيار إن شاء ترك الخف عليه وضمنه قيمة جلده، وإن شاء أخذ الخف وأعطاه الأجر. وإنما يجبر لما ذكرنا أن العامل موافق من وجه مخالف من وجه فإن شاء مال إلى الخلاف وضمنه وإن شاء مال إلى الوفاق، وأخذ الخف، فإن ترك الخف عليه وضمنه فلا أجر عليه؛ لأن العمل حصل للعامل متى ترك الخف عليه، فلا يكون عليه أجر. وإن مال إلى الوفاق وأخذ الخف، فإنه يعطيه أجر مثل عمله في حرز الخف أجر مثل عمله؛ لأن الثابت في حرز الخف إجارة محضة، وفي الإجارة المحضة متى تعذر إيجاب المسمّى يجب أجر المثل، ولا يجب ما زاد العمل فيه. وفي النعل عمل وعين حال اتصل بملك صاحب الخف، وفي هذا يجب قيمة ما زاد كما في الصبغ، إذا حصل بحكم الغصب، واختار المالك أخذ الثوب، فإن صاحب الثوب يضمن قيمة ما زاد الصبغ فيه، فلهذا اعتبر أجر مثل عمله في حزر الخف وفي حق النعل اعتبر قيمة ما زاد ومعرفة ما زاد النعل فيه أن ينظر إلى قيمة الخف محرراً غير منعل، ومبطن وإلى قيمته مبطناً منعلاً. فإن كان قيمته غير منعل ولا مبطن عشرة، وقيمته منعلاً اثنا عشر، علم أن قيمة ما زاد فيه درهمان، فيكون درهمان قدر ما زاد النعل فيه، ثم ينظر أجر مثل عمله في حزر الخف غير منعل ومبطن، فإن كان ثلثه مثلاً يضم إلى قيمة الخف ما زاد، فيصير خمسة، ثم يقابل بالمسمى فإن كان خمسة مثل المسمى أو أقل من المسمّى، فللإسكاف ذلك. وإن كان المسمى أقل من خمسة بأن كان المسمى أربعة، فإنه يعطي له أربعة؛ لأنه أبرأه عن الزيادة على أربعة لما رضي بأربعة. وإذا اعتبر قيمة ما زاد النعل والبطانة فيه لا يعتبر أجر مثل عمله في حزر النعل؛ لأن أجر عمله في حزر النعل قد اعتبر لما اعتبرنا قيمة ما زاد النعل فيه؛ لأن قيمة ما زاد النعل أن يعتبر الخف منعلاً ومبطناً وغير منعل وإنما صار منعلاً بالعمل والنعل، فيكون قدر ما زاد النعل قيمة العمل والنعل، فمتى أوجبنا أجر مثل عمله في حزر النعل لا ينتقص أجر مثل عمله مرتين. وفرق بين هذه المسألة وبينما إذا دفع خفاً محرزاً إلى إسكاف لينعله بنعل من عنده بأجر معلوم، حتى جازت الإجارة استحساناً؛ للتعامل فنعله بنعل لا ينعل به الخفاف، حتى أفسد الخف بذلك ثبت لصاحب الخف الخيار، كما في هذه المسألة. واختار الأخذ فإنه يعطيه أجر مثل عمل وقيمة ما اتصل به من النعل من ابلا غير محرز لا يجاوز بهما ما سمي، وهنا أوجب مع أجر المثل قيمة ما زاد العمل فيه، ولم يوجب عليه قيمة النعل. والبطانة من ابلا غير محرز، والمتصل بخف الإسكاف في الموضعين عين مال وعمل، ثم أخذ في الموضعين أوجب قيمة ما زاد النعل فيه. وفي الموضع الآخر أوجب قيمة النعل من ابلا غير محرز من مشايخنا قال: لا فرق بين المسألتين ما ذكر في تلك المسألة يكون

ذكراً في هذه المسألة: أن صاحب الخف إذا أراد أن يعطيه أجر مثل عمله في حزر الخف والنعل والبطانة، ثم قيمة النعل والبطانة من ايلا فله ذلك كما في تلك المسألة وذلك لأن للصباغ في الخف في المسألتين سيان، عين مال وعمل، فإن شاء صاحب الخف أعطاه أجر مثل عمله في الخف، وقيمة العين من ابلا غير محزر. وإن شاء أعطاه مع أجر مثل عمله في الخف ما زاد العمل فيه في الموضعين جميعاً. ومنهم من فرق، وقال في مسألتنا: أمكن إيجاب قيمة ما زاد النعل والبطانة فيه، لأن النعل والبطانة أوجب زيادة في الخف وفي تلك المسألة لم يكن إيجاب قيمة ما زاد النعل فيه؛ لأن نعل الخف بما لا ينعل به الخفاف يوجب فساداً في الخف، ولا يوجب زيادة في الخف وإذا تعذر إيجاب ما زاد العمل فيه، أوجب قيمة النعل من ابلا غير محزر، قياس هذه المسألة من تلك المسألة: أن لو شرط عليه نعلاً جيداً، فحرز بنعل غير جيد، ولكن ينعل بمثله الخفاف، وهناك صاحب الخف إذا اختار الأخذ يعطيه أجر مثل عمله، وقيمة ما زاد فيه لا يجاوز به ما سمي، كما في هذه المسألة ثم قال محمّد في المسألتين جميعاً: لا يجاوز به ما سمّي. فمن مشايخنا من قال: أراد بقوله: لا يجاوز به ما سمى فيما يخص العمل، فأما ما يخص العمل فإنه يجب بالغاً ما بلغ وذلّك؛ لأن ما يخص العمل إجارة، وفي الإجارة متى وجب قيمة العين، فإنه يجب بالغاً ما بلغ. كما في الشراء الفاسد. ومنهم من قال: بأنه لا يجاوز به ما سمي في حق النعل والعمل جميعاً وإنما كان كذلك وذلك لأن ما يخص النعل إن كان بدل عين من حيث الصورة والحقيقة، فهو بدل منفعة حكماً؛ لأن العين إنما تملك تبعاً للإجارة، والمملوك بالإجارة منفعة فكذا ما ملك تبعاً للإجارة، ولهذا لم يثبت فيه خيار الرؤية، وجاز وإن لم يكن عنده تبعاً للإجارة، وفرق محمد بين هذه المسألة وبين مسألة الصبغ، فإنه قال: إذا دفع الثوب إلى صباغ ليصبغه بعصفر من عنده، فصبغه بما سمي إلا أنه خالف في صفة ما أمر به بأن اتسع، أو قصر في الإشباع حتى تعيب الثوب، قال: صاحب الثوب بالخيار إن شاء ترك الثوب عليه وضمنه قيمته أبيض، ولو شاء أخذ الثوب وأعطاه أجر مثل عمله لا يجاوز به ما سمي، ولم يقل يعطيه قيمة ما زاد الصبغ، كما قال في مسألة الخف يعطيه قيمة ما زاد النعل فيه، والعمل في الموضعين حصل بحكم العقد، والصانع في الموضعين جميعاً موافق من وجه مخالف من وجه في أصل العمل موافق، وفي وصفه مخالف. ثم قال: في الصبغ يعطيه أجر مثل عمله، ولم يوجب قيمة ما زاد الصبغ فيه، وفي النعل أوجب قيمة ما زاد النعل فيه مع أجر مثل عمله، ووجه الفرق بينهما: أنا متى أوجبنا في مسألة الصبغ قيمة ما زاد الصبغ فيه لسوينا، فيه بين حالة الغصب وبين حالة العقد؛ لأن الواجب بحكم الغصب * وهو مخالف من كل وجه في الصبغ * قيمة ما زاد الصبغ فيه فلو أوجبنا ههنا قيمة ما زاد الصبغ فيه أيضاً، والصبغ في مسألتنا حصل بحكم العقد من وجه لسوينا بين حالة الغصب، وبين حالة العقد، وألغينا اعتبار العقد وعمل الصانع أسند إلى عقد قائم بينهما؛ لأنّ. (60أ4) الصانع لم يخالف من كل وجه، وإنما خالف من

وجه في اللون، فأما في أصل الصبغ موافق، فيكون مخالفاً من وجه موافقاً من وجه، فيجب أن لا يحكم عليه بالخلاف العام، ولا يحصل كأنه صبغ بغير عقد، فأوجب أجر المثل في مسألة الصبغ حتى لا يلغو اعتبار العقد والتسمية، فيكون في إيجاب أجر مثل عمله قيمة العمل، وقيمة الصبغ؛ لأن أجر مثل عمله أن ينظر أنه بكم يستأجر لهذا والصبغ من عنده بخلاف مسألة النعل، لأنا وإن أوجبنا قيمة ما زاد النعل فيه، ولم يوجب أجر مثل عمله في حرز النعل لا يقع التسوية بين حالة الغصب وحالة، العقد حتى يلغو اعتبار العقد؛ لأن الواجب حالة الغصب في مسألة النعل قيمة النعل مزايلاً لا قيمة ما زاد النعل فيه كمن غصب ساحة وأدخلها في بناية، يضمن قيمة ساحته مزايلاً لا قيمة ما زاد الساحة في بنائة، فكذلك ههنا.q فإن قيل: إن كان إيجاب أجر المثل في مسألة الصبغ لتقع التفرقة بين حالة العقد، وحالة الغصب حتى لا يلغو اعتبار العقد، ولا يصير الصباغ كالعامل بغير عقد وأجر أصلاً، كان يجب أن يوجب أجر عمله في الصبغ من غير أن يكون الصبغ من عنده، وقيمة الصبغ مزايلاً كما اعتبره في مسألة النعل: إذا أنعله بما لا ينعل به الخفاف، فالمفارقة تقع بهذا الطريق بين حالة الغصب، وحالة العقد. والجواب عنه: أن المفارقة بين الغصب والعقد تقع بهذا الطريق، إلا أنه غير ممكن اعتبار هذا الوجه في مسألة الصبغ لأنا لو أوجبنا قيمة العمل على حدة، وقيمة الصبغ مزايلاً احتجنا إلى تقويم الصبغ مزايلاً حال ما يتصل بالثوب، ولا يمكن تقويمه في ذلك الوقت، لأنه مخلوط بالماء حال ما يتصل بالثوب، فلا يمكن تقويمه؛ لأن قيمة الصبغ تتفاوت بتفاوت الماء ولا يعرف قدر الماء، فقد تعذر اعتبار هذا الوجه للتفرقة بين حالة العقد، وبين حالة الغصب، فلم يبق للتفرقة وجه إيجاب أجر المثل في مسألة الصبغ، بخلاف مسألة النعل؛ لأن تقويمه مزايلاً ممكن حال ما يتصل بالخف، فمتى أوجبنا أجر عمله على حدة أمكننا إيجاب قيمة النعل مزايلاً فبالوجهين جميعاً تقع التفرقة بين حالة الغصب والعقد في مسألة النعل، فذكر الوجهين جميعاً ثمة، ولم يذكر في الصبغ إلا وجهاً واحداً، وهو إيجاب أجر المثل؛ لأن التفرقة بين حالة الغصب وحالة العقد لا تقع إلا به. ثم أوجب محمد رحمه الله أجر مثل عمله متى اختار أخذ الخف، ولم يوجب المسمى، وهذا على قول من يقول بإيجاب المسمى في مثل هذه المسائل متى رضي بالعيب واختار أخذ الخف محمول على ما إذا اختار أخذ الخف ولم يرض بالعيب. وفي مثل هذه الحالة يجب أجر المثل على قول هذا القائل، وعلى قول من قال بإيجاب أجر المثل على كل حال متى خالف لا يحتاج إلى هذا التأويل. ولو أن رجلاً دفع خفه إلى رجل لينعله من عنده بأجر مسمى فأنعله بنعل تنعل بمثله الخفاف، فهو جائز عليه، وإن لم يكن جيداً ولا خيار له؛ لأنه وافق شرطه من حيث العرف، ولو وافق شرطه من حيث الشرط، بأن سماه نعلاً موصوفاً، فأتى بذلك لم يكن له خيار، فكذا إذا وافق شرطه من حيث العرف فقد وافق شرطه عرفاً لما نعله بنعل تنعل

به الخفاف في العرف والعادة، وإن شرط الجودة وأتى بما يطلق عليه اسم الجيد أجبر على القبول، ولا خيار له؛ لأن مطلق اسم الجيد ينصرف إلى ما ينطلق عليه اسم الجيد، لا إلى المتناهي في الجودة الذي لا يعدل في العرف والعادة، كما في السلم. وإن لم يكن جيد يجبر لأنه خالف شروطه من حيث الشرط، ولو خالف مشروطه من حيث العرف يجبر على ما بينا، فإذا خالف مشروطه من حيث الشرط أولى أن يجبر. قال: ولو اختلفا في قدر الأجر، بأن قال الإسكاف: شرط لي درهماً، وقال رب الخفّ: شرطت لك دانقين، وقد حرره على وصفه له، ولم يختلفا في ذلك وأقاما جميعاً البينة فالبينة بينة العامل؛ لأنه يثبت ببينته زيادة أجر، فكان أولى بالقبول. كما في البائع والمشتري إذا أقاما جميعاً البينة. ولم يذكر الجواب فيما إذا لم تقم لهما بينة. ويجب أن يحكم في ذلك قيمة النعل بخفه موجب معلوم مزايلاً، ويجعل القول قول من شهد له قيمة النعل كما في الصبغ؛ لأن لاتصال النعل بخفه موجب معلوم، لو جعل بغير عقد وهو قيمته مزايلاً لا يقع البراءة عنه إلا بالتسمية، فيجعل ذلك موجب العقد حالة الاختلاف في التسمية، كما في مسألة الصبغ. وكما في النكاح على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله إذا اختلفا في مقدار المسمى، فإن كانت قيمة النعل درهماً كما يدعيه الإسكاف، فالقول قوله مع اليمين لأن قيمة النعل تجعل موجب العقد حال اختلافهما في مقدار البدل، كأنهما اتفقا على أن العقد عقد به إلا أن ربّ الخف ادعى أنه حط عنه أربعة دوانق، وأنكر الإسكاف فيكون القول قول الإسكاف مع يمينه. ولو كانت قيمة النعل يشهد لصاحب الخف بأن كان دانقين، كما يدعيه صاحب الخف جعل القول قوله مع يمينه؛ لأن قيمة النعل يجعل موجب العقد حال اختلافهما في مقدار البدل، كأنهما اتفقا أن العقد عقد به، إلا أن الإسكاف ادعى أنه زاد أربعة دوانق، ولما حلف صاحب الخف لم تثبت الزيادة، فيقضى له بدانقين ولا يتحالفان. وإن كان المبيع قائماً عندهم جميعاً لأنهما لم يختلفا في موجب العقد، إنما اختلفا فيما يغير موجب العقد، إما إلى زيادة أو إلى نقصان. والاختلاف متى وقع فيما يغير موجب العقد بعدما ثبت الموجب، فإنه لا يجب التحالف إذا لم توجد الدعوى، والإنكار من الجانبين. كما في بيع العين إذا تصادقا أن الثمن كان ألفاً، إلا أن البائع ادعى زيادة خمس مئة على الألف، وأنكر المشتري، أو ادعى المشتري براءة خمس مئة. وأنكر البائع لا يجب التحالف عندهم جميعاً، فكذلك هذا. وإن كانت قيمة النعل لا تشهد لأحدهما بأن كان نصف درهم، فإنه يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، كما ذكر في فصل الصبغ في بعض روايات هذا الكتاب. وذلك لما ذكرنا أن قيمة النعل تجعل موجب العقد حال اختلافهما في مقدار البدل، كأنهما اتفقا أن العقد عقد به إلا أنهما اختلفا فيما يغير موجب العقد. ادعى الإسكاف أن رب الخف زاده على هذا الموجب نصف درهم، وانكر رب الخف وادعى صاحب الخف براءة دانق، وأنكر الإسكاف ذلك، فجعل كل واحد مدعياً

ومدعى عليه، فيحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، بخلاف ما إذا كانت قيمة النعل تشهد لأحدهما؛ لأنّ من يشهد له قيمة النعل لا يدعي نغيراً إنما يدعي الذي لا يشّهد له موجب العقد، إما إبراء أو زيادة، وإذا لم تتحقق الدعوى والإنكار من الجانبين لم يجب التحالف، هذا إذا اختلفا في مقدار الأجر، فأما إذا اختلفا في أصل الأجر، قال صاحب الخف: عملته لي بغير أجر. وقال الإسكاف: لا بل عملت لك بأجر ذكر أنه يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه؛ لأن كل واحد منهما حصل مدعياً ومدعى عليه، أما صاحب الخف فلأنه مدعي على الإسكاف هبة العمل والنعل والإسكاف أنكر ذلك. والإسكاف يدعي بيع العمل والنعل وصاحب الخف أنكر ذلك فكل واحد منهما ادعى عقداً أنكره صاحبه، فيجب التحالف. وإن كان الفسخ متعذراً كما في بيع العين إذا اختلفا في نوع العقد لا في مقداره، ادعى أحدهما الهبة والآخر البيع والمال هالك، يجب التحالف لأن كل واحد منهما مدع ومدعى عليه، فكذلك هذا فإن حلفا ولم يثبت واحد من الأمرين، ذكر أن صاحب الخف يغرم قيمة ما زاد النعل فيه، وكان يجب أن يضمن قيمة نعله مزايلاً؛ لأنهما لما تحالفا لم يثبت واحد من الأمرين، فيبقى عاملاً بغير عقد، وإلا يقال: متى حصل بغير عقد واختار المالك أخذ الخف فإنه يضمن قيمة النعل مزايلاً إلا أن الجواب أن الأمر كما قلت لم يثبت واحد من الأمرين إلا أن الإذن لم ينتف، لأنهما مع اختلافهما في كيفية العقد أنه كان هبة أو بيعاً انتفاء على الإذن. وإذا كان الإنعال (60ب4) حاصلاً بإذن يعذر القول بأنه يعطيه قيمة النعل مزايلاً؛ لأن هذا حكم الغاصب، وهذا كان مأذوناً في العمل، ولم يكن غاصباً، فأوجب قيمة ما زاد النعل فيه، وهو من حيث الحكم قيمته مزايلاً، ولا يكون شيء منه بدل العمل ألا ترى في مسألة الصبغ أوجب قيمة ما زاد الصبغ فيه إذا كان غاصباً، وأنه قيمة الصبغ لا غير؛ لأنه لا قيمة للعمل بغير عقد ولكن لما تعذر إيجاب قيمة الصبغ مزايلاً حال ما يتصل بالثوب، أوجب قيمة ما زاد الصبغ فيه، وجعله قيمة الصبغ لا قيمة العمل، فكذلك ههنا أوجب قيمة ما زاد النعل فيه، وهو قيمة النعل لا قيمة العمل ضرورة أن لا يصير المأذون في العمل غاصباً، ولم يخير صاحب الخف ههنا مثل ما كان يخير فيما مضى لأن فيما مضى كان العامل مخالفاً من وجه موافقاً من وجه، وكان له أن يميل إلى الخلاف وإلى الوفاق، وههنا موافق من كل وجه، إلا أن الخلاف وقع أنه بأجر أو بغير أجر، وإذا لم يكن مخالفاً لم يخير، ولكن قال: يأخذ الخف ويعطيه قيمة النعل، وكان الجواب فيه كالجواب في الثوب، إذا هبت به الريح وألقته في صبغ إنسان، والصبغ لا يكون لصاحب الثوب تضمين الثوب، بل يأخذ الثوب ويعطيه قيمة ما زاد الصبغ فيه، فكذلك هذا. قال: ولو عمل الخف كله من عند حتى كان استصناعاً، ثم اختلفا قبل القبض في مقدار الأجر كان القول قول الإسكاف، وكان يجب أن يتحالفا؛ لأن الاستصناع يصير بيعاً في الانتهاء وفي بيع العين إذا اختلفا في مقدار الثمن قبل القبض يتحالفان قياساً، إلا أنه قال: لا يتحالفا، ن ويكون القول قول الإسكاف؛ لأن يمينه يفيد، لأن المستصبغ يدعي

على الإسكاف ما لو أقر الإسكاف به لزمه، فإذا أنكر يستحلف فأما يمين المستصبغ لا يفيد؛ لأنه لو نكل لا يلزمه شيء، كما لو أقر به. قال: وإذا اختلف الصباغ ورب الثوب فقال رب الثوب: أمرتك بأن تصبغه بعصفر، وقال الصّباغ: أمرتني بأن أصبغه بزعفران. قال: القول قول رب الثوب مع يمينه. وهذا قول علمائنا. وقال ابن أبي ليلى: القول قول الصباغ مع يمينه. والخلاف في هذه المسألة، نظير الخلاف فيما إذا قال: أكلت مالك بإذنك، أو هدمت دارك بأذنك، وأنكر صاحب المال الإذن، فعلى قول علمائنا رحمهم الله: القول قول صاحب المال مع يمينه، ويضمن المقر. وعلى قول ابن أبي ليلى القول قول المقر مع اليمين، ولا ضمان عليه. وذهب في ذلك أن المقر ينكر سبب الضمان، وصاحب المال يدعي عليه، فيكون القول قول المنكر. كما لو أنكر الأكل أصلاً، وإنما قلنا: إنه ينكر سبب الضمان؛ لأنه أقر بأكل موصوف بالإذن، وصبغ وخياطة موصوف بالإذن وهذا غير موجب للضمان، فكان منكراً للضمان من الأصل، كما لو قال: أقررت لك بألف درهم وأنا صبي أو مجنون، وقال المقر له: لا بل أقررت، وأنت بالع أو صفيق. وعلماؤنا: ذهبوا إلى أنه أقر بالسبب الموجب للضمان، وادعى ما يبرئه وأنكر صاحب المال البراءة، فيكون القول قوله كما لو أقر بالدين وادعى القضاء والإبراء وأنكر صاحب الدين، وإنما قلنا: أقر بالسبب الموجب للضمان، وذلك لأنه أقر بالأكل وبالصبغ في ثوب الغير، وهذا سبب الضمان في الصبغ متى اختار المالك ترك الثوب على الصباغ، وادعى الإذن إلا أن الإذن لم يثبت بمجرد دعواه، لما أنكر صاحب المال؛ لأنه دعوي عليه وإذا لم يثبت الإذن بقي مقراً بأكل مطلق بغير إذن، وإنه سبب ضمان. بخلاف ما لو أضاف الإقرار إلى حال الصبي؛ لأن الخلاف ثمة وقع أن السّبب قد وجد، أو لم يوجد، المقر يقول: لم يوجد لأن إقرار الصبي والمجنون لا يكون إقراراً، فكان المقر منكرا الإقرار من حيث المعنى، والمقر له مدعياً، فكان بمنزلة ما لو أدعى أنه أقرّ له والمدعى عليه قال: لم أقرّ لك وكان كما لو قالت المرأة: تزوجتني وأنا صبية، وقال: لا بل تزوجتك وأنت بالغة كان القول قول المرأة؛ لأنها أنكرت النكاح معنى، وأما ههنا سبب الضمان قد تحقق، وهو الأكل والصبغ والقطع والخياطة، وإنه سبب ضمان إلا أنه ادعى البراءة بدعوى الإذن وأنكر صاحبه، فيكون القول قول صاحب المال، ووجه آخر للفرق وهو أن إضافة الإقرار إلى حالة الصبي ليس بدعوى على المقر له، ولكن حكاية عن فعله فيثبت فعله بقوله، أما ههنا يدعي إذن صاحب المال، وإنه فعل يوجد من صاحب المال، فيكون دعوى عليه، فلا يثبت إذا أنكر. قال: وإذا استصنع الرجل خفين عند إسكاف، فعمله ثم فرغ منه، قال المستصنع: ليس هذا على المقدار والخرر والتقطيع الذي أمرتك، وقال الإسكاف: بل هذا أمرتني وأراد الإسكاف أن يحلف صاحب المال ليس له ذلك، بخلاف الصباغ إذا ادعى أن ما صبغ كان بأمره، وأراد صاحب الثوب كان له ذلك، وذلك لأن الصباغ يدعي على

الفصل الرابع والثلاثون: في المتفرقات

صاحب الثوب، معنى لو أقر به لزمه، ولم يكن خيار، فإذا أنكر يستحلف على ذلك لأن الاستحلاف بعيد فأما ههنا الصابغ يدعي على المستصبغ معنى لو أقر به لا يلزمه، فإن المستصنع لو أقر بالموافقة، أو ثبت ما ادعى بالبينة كان لا يلزمه، وكان له خيار، ومن ادعى على آخر معنى لو أقر به لا يلزمه، فإذا أنكر لا يستحلف على ذلك؛ لأن الاستحلاف لا يفيد وستأتي بعض مسائل الاستصناع في المتفرقات إن شاء الله تعالى. الفصل الرابع والثلاثون: في المتفرقات ذكر في «النوازل» : إذا قال لآخر: أجرتك هذه الدار سنة بألف درهم، كل شهر بمئة. تقع الإجارة على ألف ومائتي درهم، ويصير القول الثاني فسخاً للأول، كما لو باع بألف، ثم باع بأكثر. قال الفقيه أبو الليث: هذا إذا قصد أن تكون الإجارة كل شهر بمئة. أما إذا غلطا في التفسير، لا يلزمه الألف درهم؛ لأنه لم يقصدا فسخ العقد الأول، فإن ادعى الآجر أنه كان قصدهما فسخ الأول، وادعى المستأجر الغلط في التفسير فالقول قول مدعي الفسخ مع يمينه، كما لو تواضعا على بيع تلجئة ثم باشر البيع مطلقاً من غير شرط، يثبت البيع بينهما مطلقاً، إلا أن يتفقا على أنهما باشرا على ما تواضعا عليه، كذا ههنا. وفيه أيضاً: إذا قال لآخر: أجرتك داري هذه يوماً واحداً بكذا وسنة مجاناً، أو قال: أجرتك داري هذه سنة يوماً بكذا. وباقي السنة مجاناً، أو قال: أجرتك داري هذه سنة يوماً بكذا، وباقي السنة مجاناً، فسكنها سنة كان عليه أجر مثله في يوم واحد، ولا شيء له في الباقي؛ لأنه بقي الإجارة في الباقي، وإنما وجب أجر المثل في يوم واحد؛ لأن الإجارة في يوم واحد وقعت بصفة الفساد؛ لجهالة اليوم، وإذا دفع الرجل إلى قصار ثوباً ليقصره فقصره وتصادقا أن الدفع حصل مطلقاً، وأنهما لا يشترطا شيئاً، لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في «الأصل» . وذكر في «النوازل» : أن على قول أبي حنيفة القصار متبرع، ولا أجر له وعلى قول محمد: إن اتخذ دكاناً وانتصب لعمل القصارة بالأجر، يجب الأجر وما لا فلا. وعلى قول أبي يوسف هو متبرع، إلا أن يكون خليط، وهو أن يكون يدفع إليه ثيابه للقصارة بالأجر عادة. وفي باب الخلع من شرح «الكافي» إذا قال للحمال: احمل هذا إلى بيتي، وقال للخياط: خط إن كان الخياط معروفاً أنه يخيط بأجر، والحمال كذلك يجب الأجر وما لا فلا. وفي إجارات المنتقى: مثل محمد رحمه الله: عن رجل دفع إلى قصار ثوباً ليقصره، فقصره وقال: قصرت بغير أجر وضاع، قال: أما في قولي إذا كان قصاراً قد نصب نفسه للقصارة، لم أصدقه وأضمنه كما لا أصدق رب الثوب في هذه الصورة إذا

قال: قصرت لي مجاناً. وقال القصّار: قصرت بغير أجر. وفي نكاح «النوازل» : إذا دفع إلى قصار ثوباً ليقصره ولم يذكر الأجر يحمل على الأجرة لمكان العرف. وفي باب. (61أ4) الأجر من صرف «الكافي» : إذا دفع الرجل إلى رجل ذهباً أو فضة، وأمره أن يصوغه كذلك، ثم اختلفا فقال الدافع: عملته لي بغير أجر، وقال العامل: عملته بأجر ذكر في الرواية: أن القول قول الدافع لإنكاره وجوب الأجر في ذمته. وفي «الشرح» عن أبي يوسف: أن هذا الرجل إن كان أعلم على باب دكانه بعلامة، أو نحو ذلك بحيث يعلم أنه لا يعمل إلا بأجر، فالقول قول العامل. وإن لم يكن كذلك، فالقول قول الدافع. وعن محمد أنه إذا كان بين هذا الرجل، وبين العامل خلطة، وإعطاء بحيث اعتادا أنهما لا يفندان كل مرة، ولا يشترطان شرطاً فالقول قول العامل. وإن لم يكن بينهما خلطة على نحو ما ذكرنا، فالقول قول الدافع. قال: وكذلك لو اختلفا في مقدار الأجر، فالقول قول الدافع؛ لإنكاره الزيادة على ما أمر به. وفي هذا الباب أيضاً: إذا استقرض من آخر كر حنطة. وقال: اطحنها لي بدرهم، فطحنها، وكان ذلك قبل أن يقبضها المستقرض، فذلك باطل. ولا أجر للمقرض؛ لأنه لما لم يقبضها المستقرض لم يصر ملكاً له، فصار المقرض عاملاً لنفسه بطحن حنطة نفسه، فكيف يستحق الأجر على غيره. وإذا باع الدلال صبغة رجل بأمره، فقال صاحب الصبغة: بعتها بغير أجر. وقال الدلال: لا بل بعت بأجر، فإن كان هذا الدلال معروفاً بأنه يبيع أموال الناس بأجر لا يصدق الآمر على دعواه، ويجب أجر المثل. وفي «النوازل» : استقرض من آخر دراهم، وسلم إلى المقرض حماره ليمسكه، ويستعمله إلى شهرين حتى يوفر عليه الدراهم، فالحمار عند المقرض بمنزلة المستأجر إجارة فاسدة، فإن استعمله فعليه أجر مثله. وكذلك إذا سلم إلى المقرض داره ليسكنها فهذه إجارة فاسدة. ولا يكون رهناً. وفيه أيضاً: لو استقرض دراهم من رجل، وقال: اسكن حانوتي هذا، فما لم أرد عليك درهمك، فلا أطالبك بأجرة الدار، والأجرة التي تجب عليك هبة لك، فدفع المقرض الدراهم، وسكن الحانوت مدة، قال: إن كان ذكر ترك الأجرة عليه مع استقراضه منه المال، فالأجرة واجبة على المقرض يريد به أجر المثل، وإن كان ذكر ترك الأجرة قبل استقراض أو بعده فلا أجر على المقرض، والحانوت عنده عارية؛ لأن في الوجه الأول قصد التوسل بمنافع الدار إلى القرض، فما رضي باستيفائها مجاناً، والمستقرض وافقه على ذلك. حيث أقرضه على تلك المواضعة، فكان إجارة فاسدة. فأما في الوجه الثاني: لم يطمع في مقابله منافع الدار شيئاً فكانت الدار عارية. قيل الصحيح: إنه يجب أجر المثل في الوجهين؛ لأنا نعلم يقيناً أن عرضه من دفع الدار، وترك الأجرة والتوسل إلى القرض، فما رضي باستيفاء منافع الدار مجاناً في

الحالين جميعاً، فوجب أجر المثل في الحالين جميعاً من هذا الوجه. وفي «نوادر ابن سماعة» ، عن أبي يوسف: رجل استأجر من آخر أرضاً، على أنها عشرة أجربه بعشرة دراهم، فزرعها، ثم وجدها خمسة عشر جريباً، أو وجدها تسعة أجربة، قال: فله الأجر الذي سمي. ولو قال: كل جريب بدرهم. حسب عليه كل جريب بدرهم. ذكر الحاكم استأجر عبداً للخدمة مدة معلومة، وعجل الأجرة، ثم مات المؤاجر كان للمستأجر أن يمسك العبد حتى يرد الأجر عليه، وإن مات العبد في يده لم يكن عليه فيه ضمان. ويرجع بالأجر، فيأخذه قوله حتى يرد الأجر عليه أي حصة ما بقي من المدة، وإنما كان له حق إمساك العبد إلى أن يستوفي الأجر بحصة ما بقي من المدة إظهاراً للعدل والإنصاف فإن بموت الآجر تنفسخ الإجارة، ويتعين حق ورثة الأجر في العبد فيجب تعيين حق المستأجر في حصة ما بقي من المدّة من الأجر، وذلك بالاستيفاء. ابن سماعة عن محمد رحمهما الله رجل اكترى من رجل داراً بعبد سنة، فسكن الدار، ثم ناقصه الإجارة في العقد، فإنه يرد العبد ويعطيه أجر مثل الدار، وإنما كان كذلك؛ لأن جعل العبد أجرة صحيح، كجعله ثمناً، فصارت الأجرة عوضاً وصارت هذه الإجارة في معنى بيع العوض بالعوض. وأحذ العوضين وهو العبد باقي. فيصح النقص والإقالة عليه؛ لأن في بيع العوض بالعوض بعد هلاك العوضين تصح الإقالة، والنقص على العرض القائم. وإذا صحت الإقالة على العبد عاد العبد إلى ملك المستأجر، فوجب على الآجر رد العبد على المستأجر، ووجب على المستأجر رد المنافع على الآجر، وتعذر ردها صورة فيجب ردها معنى برد أجر المثل. وفي «الأصل» إذا أستأجر عشراً من الإبل إلى مكة بعبد بعينه، أو بغير عينه، فإن كان العبد بعينه فالإجارة جائزة، وإن كان العبد بغير عينه، فالإجارة فاسدة، ثم إذا كان العبد بعينه حتى جازت الإجارة، فهلك العبد قبل التسليم بعدما استوفى المعقود عليه كان على المستأجر أجر مثل الإبل لما عرف أن العقد يفسد بهلاك أحد البدلين قبل القبض، إذا كانا عينيين، فإذا فسد العقد كان عليه رد ما استوفى بعينه من المنافع، وقد عجز عن ردها بعينها، فكان عليه رد قيمتها وقيمة المنافع أجر المثل، وإذا كان العبد بغير عينه حتى فسدت الإجارة كان على المستأجر أجر المثل مات العبد، أو لم يمت. رجل تكارى منزلاً كل شهر بدراهم معلومة، وطلق الرجل المستكري المرأة، وخرج من المصر، وذهب هل لصاحب المنزل سبيل على المرأة قالا: لا، لأن المرأة ليست بعاقدة، وليست بكفيلة عن العاقد بالأجر، والأجر إنما يجب بأحد هذين، وليس لصاحب الدار أن يخرج المرأة من الدار حتى الهلال؛ لأن الإجارة لازمة قبل مجيء الهلال ألا ترى لو كان المستأجر حاضراً لم يكن له أن يفسخ الإجارة قبل مجيء الهلال، فإذا كان غائباً أولى. فإن جاء الهلال والزوج غائب هل لصاحب الدار أن يفسخ الإجارة ويخرج المرأة من الدار يجب أن تكون المسألة على الاختلاف على قول أبي حنيفة ومحمد ليس له

ذلك. وعلى قول أبي يوسف: له ذلك. إذا تكارى منزلاً كل شهر بدرهم على أن ينزله، ولا ينزل غيره، فتزوج امرأة أو امرأتين، فله أن ينزلهما وليس لصاحب الدار أن يأبى؛ لأن هذا شرط مانع لا منفعة فيه لصاحب الدار؛ لأن سكنى غيره لا يصير بالدار حتى يكون في ترك سكنى غير المستأجر منفعة للمستأجر، فقد حكم بجواز هذا العقد مع هذا الشرط، وإن كان هذا شرطاً لا يقتضيه العقد إلا أنه ليس لأحد المتعاقدين فيه منفعة، ومثل هذا الشرط لا يفسد العقد كما لو اشترى ثوباً بشرط أن لا يلبس، أو اشترى دابة بشرط أن لا يركبها وهذه المسألة مأولة تأويله أن لا يكون للمنزل بئر بالوعة ولا بئر وضوء وقد ذكرنا هذا التأويل في المسائل المتقدمة. وفي «الأصل» : إذا أستأجر الرجل من آخر داراً، ودفعها إليه رب الدار إلا بيتاً منها، كان فيه متاع له وسكنها المستأجر قال: يرفع عنه بحصة ذلك وهذا مشكل؛ لأن الغائب صفة؛ لأن البيت صفة للدار. ولهذا قالوا: لو أستأجر داراً على أن فيها ثلاثة بيوت، فإذا فيها بيتان، فإنه يتخير، ولا يسقط شيء من الأجر كما لو اشترى عبداً على أنه كاتب أو خباز، والجواب: أن الفائت إن كان صفة، إلا أن الفوات بفعل البائع، والوصف له حصة من البدل، إذا فات بفعل البائع. كما في بيع العين بخلاف ما لو انهدم بيت منها، أو حائط وسكن المستأجر في الباقي، حيث لا يسقط شيء من الأجر؛ لأن الوصف هناك فات بآفة سماوية، والوصف متى فات بآفة سماوية لا يوجب سقوط شيء من البدل. وما ذكرنا من الجواب: فيما إذا أستأجر داراً على أن فيها ثلاث بيوت، فإذا فيها بيتان أنه يتخير، ولا يسقط شيء من الأجر، فذلك فيما إذا لم يقل كل بيت بكذا، فأما إذا قال: كل بيت بكذا، يرفع عنه بحساب ذلك، على قياس مسألة الجريب التي تقدم ذكرها في هذا الفصل. قال: وإذا أستأجر الرجل داراً شهوراً مسماة بأجر معلوم، ثم أراد رب الدار أن يشتري من المستأجر بالأجر شيئاً قبل القبض جاز؛ لأن الأجر دين لم يجب بعقد صرف، ولا سلم، فيجوز الاستبدال به. قيل: كما في سائر الديون. وقد مرت المسألة من قبل. وكذلك الثاني يستأجر البيت ليبيع فيه كل شهر بأجر معلوم، فكان رب البيت يأخذ منه الدقيق. (61ب4) والسويق يشرى، ذلك شيء يعني بالأجر، قبل استيفاء المنفعة، كان جائزاً، لما ذكرنا في أول الكتاب أن الشراء بالأجر جائز قبل الوجوب وبعد الوجوب، ولو أن رب البيت أراد أن يتعجل الأجر كله قبل الهلال فأبى المستأجر أن يعطيه، فإنه يجبر المستأجر على أن يعطيه بقدر ما سكن لأنه بقدر ما سكن وجب الأجر فيجر على اتفاقه، فأما حصة ما لم يسكن لا يجبر على إلغائه، لأن أجرة ما لم يسكن غير واجب عليه بعد، فلا يجر على اتفاقه. قال ولو أن رجلاً استقرض من رب البيت أجر هذين الشهرين ما من رب البيت الثاني أن يعطيه ذلك، فكان الرجل يشتري به الثاني السويق والدقيق والزيت والسمن حتى

استوفى أجر الشهرين فهو جائز، وذلك لأن المستقرض قام مقام المقرض والمقرض لو اشترى من الثاني شيئاً بالأجر يصح الشراء، ويري الثاني من الأجر لوقوع المقاصة بين الأجر والثمن فكذا إذا اشتراه المستقرض. وإنما قلنا أن المستقرض قام مقام المقرض، لأن المقرض أقرضه الأجر منه وسلطه على قبضه يصح ذلك وصار الموهوب له وكيلاً عن رب البيت في القبض أولاً ثم قابضاً لنفسه بحكم الهبة، لأن الهبة لا تصح إلا بملك الواهب، ولا يصير ما وهب ملكاً للواهب إلا بالقبض فكذا ههنا لا يصح القرض إلا بملك المقرض وما أقرض لا يصير ملكاً له، إلا بالقبض فصار ثابتاً عنه في القبض أولاً ثم قابضاً لنفسه بحكم القرض، وإذا كان كذلك صح أن المستقرض قام مقام المقرض وليس للثاني على المستقرض شيء، لما ذكرنا أن المستقرض قام مقام المقرض والمقرض لو اشترى بالأجر شيئاً لم يكن للثاني على المقرض شيء؛ لوقوع المقاصة بين الأجر والثمن، فكذلك هذا، ولرب البيت على المستقرض أجر هذين الشهرين، لأن رب البيت ما ملكه الأجر هبة، وإنما ملكه قرضاً، والقرض مضمون بالمثل، فكان لرب البيت عليه أجر هذين الشهرين. قال: ولو اشترى المستقرض من الثاني بالأجر ديناراً فإنه يجوز إذا اشترى الدينار بعد وجوب الأجر، بأن مضت المدة أو شرط التعجيل عندهم جميعاً، وإن لم يكن وجب الأجر بأن كان قبل مضي المدة واشتراط التعجيل، فعلى قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمه الله يجوز، وعلى قول أبي يوسف الآخر لا يجوز، لأن المستقرض قام مقام المقرض والمقرض لو صادف مع الثاني كان الجواب على هذا التفصيل فكذلك هذا. قال: ولو كان للثاني على الرجل المستقرض دينار أو أجر البيت عشرة دراهم كل شهر، فمضى شهر ثم أمر رب البيت الثاني أن يدفع أجر هذين الشهرين إلى هذا الرجل قرضاً عليه، ورضى الرجل بذلك فهو جائز، لأنه ملكه الدين الذي له على الثاني، وسلطه على قبضه قرضاً، فيصح كما لو وجب منه، وسلطه على قبضه فإن قاصه بالدينار الذي له عليه وأخذ بالفضل حوائجه، قال فهو جائز وهذا الجواب لا يشكل فيما اشترى من الحوائج لأنه اشترى الحوائج بالأجر بما وجب من الأجر وبما لم يجب فيجوز كما يجوز من رب البيت، وإنما يشكل فيما إذا قاصه بالدينار ذكر أنه جائز إذا رضى بذلك الثاني، وإن كان الجنس مختلفاً، فإن أحدهما دينار والآخر دراهم، لأن المقاصة في الجنس المختلف، إنما لا يجوز إذا لم يوجد التراضي على المقاصة، فأما إذا وجد يجوز إلا أنه يكون صرفاً، ثم يجوز هذا الصرف عندهم بحصة ما وجب من أجر شهر عندهم جميعاً، لأن المستقرض قائم مقام المقرض، والمصارفة من المقرض بأجر واجب جائز عندهم، فكذا من المستقرض، فأما بحصة ما لم يجب من الأجر وهو الشهر الثاني يجب أن يكون المسألة على الخلاف، يجوز عند محمد وهو قول أبي يوسف الأول، ولا يجوز في قول أبي يوسف الآخر كما لو باشر المقرض الصرف بأجر لم يجب بعد، وهو الشهر الثاني. ثم قال: وليس هذا بصرف فيما بين رب البيت والمستقرض ولكنه صرف فيما بين

المستقرض والثاني، وذلك لأن رب البيت ما عقد عقد الصرف مع المستقرض، إنما أقرضه الآخر الذي له على الثاني، وعقد المصارف إنما جرت بين المستقرض والثاني، ثم قال وهذا كله قول أبي يوسف وهو قول محمد، فأما على قوله الآخر فإنه لا يجوز، وقد ذكرنا هذا في أول الكتاب. قال: ولو كان رب البيت أقرضه الدراهم على أن يرد عليه ديناراً بعشرة دراهم فإنه لا يجوز لأن بجوازه قرضاً غير ممكن؛ لأن القرض يكون مضموناً لجنسه، فإذا شرط جنساً آخر فقد شرط ما لا يقتضيه القرض فكان قرضاً فاسداً، ولا وجه إلى أن جوزنا مصارفه، لأنهما صرف مشبه، فيكون باطلاً. قال: فإن أحاله على هذا الوجه بالدراهم الأجر على الثاني، يريد به أنه أحاله على الثاني ليأخذ الأجر منه ليعطيه ديناراً. فقال: فقاصه الثاني بالدينار، الذي له على المستقرض وأخذ بالبعض حوائجه قائماً لرب البيت على المستقرض عشرون درهماً تأويله، إذا وجب أجر هذين الشهرين حتى صار الصرف عندهم جميعاً، وصار المستقرض مستقرضاً عشرين درهماً من الثاني بالمقاصة، فيكون لرب البيت على المستقرض ما اقتضى من الثاني وذلك عشرون درهماً ولا يكون عليه دينار، كما شرط عليه لأن اشتراط الدينار اشتراط باطل لأنه صرف مشبه. قال: ولو أن هذا الثاني لم يكن وجب عليه أجر هذين الشهرين ولكن رجل استقرض من رب البيت أجر هذين الشهرين، فأمر هذا الثاني أن يعطيه إياه وأن يعجل له، وطابت نفس الثاني بذلك، فأعطى الرجل دقيقاً أو زيتاً أو ديناراً بعشرة، ثم مات رب البيت قبل أن يسكن الثاني شيئاً من هذين الشهرين أو انهدم البيت، فإن الثاني لا يرجع على الرجل بعشرين درهماً فرضاً عليه، وذلك لما ذكرنا أن المستقرض صار وكيلاً عنه بالقبض أولاً، حتى يصح القرض ثم لنفسه فإذا قبض ناب قبضه مناب قبضين، فصار قابضاً له أولاً ثم لنفسه بحكم القرض، وإذا صار قابضاً للأمر صار كأن الأمر قبض بنفسه ثم أقرضه ولو أن صاحب البيت قبض العشرين بيده، ثم أقرضه من المستقرض ثم انفسخت الإجارة لم يكن للثاني أن يرجع على المستقرض بشيء، وإنما يرجع على رب البيت، ثم رب البيت يرجع على المستقرض بحكم القرض فكذلك هذا، ثم يرجع بعشرين درهماً على رب البيت في قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد فأما على قول أبي يوسف الآخر ما كانت حصة الحوائج يرجع عليه بالدراهم، لأن الشراء قد صح فصار مقضياً للدراهم، فأما ما يخص الدينار فإنه لا يرجع على رب البيت بالدراهم ولكن يرجع على المستقرض فيأخذ منه الدينار؛ لأنه قبضه بحكم صرف فاسد. وفي «فتاوى الفضلي» : رجل اكترى حماراً من كسر إلى بخارى فبقى الحمار في الطريق وصاحب الحمار ببخارى فأمر المستكري رجلاً حتى ينفق على الحمار في علفه كل يوم مقداراً معلوماً وقاطعه أجره إلى أن يقبض صاحب الحمار حماره، فأمسكه الأجير أياماً وأنفق عليه في علفه. إن علم المأمور بالنفقة، أن الحمار لغير الآمر فهو متطوع، فما

أنفق لا يرجع على أحد بشيء إلا أن يكون الآمر ضمن له النفقة. فإن كان لا يعلم بذلك رجع على الآمر بالنفقة، وإن كان لم يضمن له الآمر النفقة، فإن كان استأجر أجيراً لحفظه فالأجر عليه. وفي «الفتاوى» : إذا استأجر مشاطة ليزين العروس فالإجارة فاسدة، والأجر مكروه غير طيب لها إلا أن يكون على وجه الهدية من غير شرط ولا يتقاضى، فيكون أهون وفيه نظر. والصواب أن يقال إذا استأجرها مدة معلومة أو كان العمل معلوماً أنه يجوز الإجارة ويطيب لها الأجر لأن تزيين العروس ليس بمعصية، بل هو مباح فصار كسائر الأعمال المباحة. وفي «فتاوى الفضلي» : الدلالة في النكاح لا يستوجب الأجر وبه كان يفتي رحمه الله، وغيره من (62آ4) مشايخ زمانه كانوا يفتون بوجوب أجر المثل لهما، لأن معظم الأمر في النكاح يقوم بها، ولها سعي في إصلاح مقدمات النكاح، فيستوجب أجر المثل بمنزلة الدلال في باب البيع، وبه يفتى. وفيه أيضاً أهل بلدة ثقل عليهم مؤنات العمال فاستأجروا رجلاً بأجرة معلومة ليذهب ويرفع أمرهم إلى السلطان الأعظم، ليخفف عنهم بعض التخفيف، وأخذ الأجرة من عامتهم غنيهم وفقيرهم، ذكر أنه إن كان بحال لو ذهب إلى بلد السلطان يتهيأ له إصلاح الأمر بيوم أو بيومين جازت الإجارة، وإن كان بحال لا يحصل ذلك إلا بمدة وقتوا للإجارة وقتاً معلومة، فالإجارة جائزة، والأجر كله له، وإن لم يوقتوا فالإجارة فاسدة وله أجر مثله والأجر عليهم على قدر مونتهم، وهذا نوع توسيع واستحسان، أما على جواب الكتاب لا تجوز هذه الإجارة إلا مؤقتة، وبه يفتى. وهكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي في باب الرشوة من شرح «أدب القاضي» أن هذه الإجارة لا يجوز إلا مؤقتة، وإن كان مدة الإصلاح يوماً أو يومين. قال في «الأصل» : رجل تزوج امرأة فنزل عليها وهي في منزل بكر، فمكث عندها سنة فجاء صاحب المنزل يطلب أجر منزله، فقالت المرأة: أجر منزله عليك. فقال الزوج: إنما استكريت بأجرة عليك. وقالت المرأة: قد أخبرتك أنه معي بأجر. وقال الرجل: ما أخبرتني أنها تسكن بأجر، فإنه لا عبرة لإنكار الزوج إنها لم تخبره لأنها وإن أخبرته فلا أجر عليه، وإنما لم يكن على الزوج أجر لأن الزوج ليس بعاقد ولا بضامن عنها الأجر لرب المنزل، فلا يجب عليه الأجر فإن ضمن الأجر عنها لرب البيت، الآن يؤاخذ الزوج بالأجر لأنه كفل عنها بالأجر لرب المنزل، والكفيل يؤاخذ بما كفل به، فإن أدى لا يرجع سواء كفل بإذنها أو بغير إذنها، إن كان بغير إذنها فلا إشكال، كما لو كفل عنها بدين آخر، وإن كان بإذنها فكذلك، وذلك لأن العرف أن الزوج إنما يضمن عنها أجر المسكن على سبيل الصلة، لا ليرجع بذلك عليها لأن الإسكان عليه، والمعروف كالمشروط فكأنه شرط في الكفالة أن يكفل عنها، ولا يرجع بذلك عليها ولو صرح أن لا

يرجع بذلك عليها لا يرجع، فكذلك هذا. ونظير هذا قال محمد رحمه الله في «كتاب النكاح» : أن الأب إذا ضمن المهر عن الصغير فإنه لا يرجع في مال الصغير استحساناً، لأنه في العرف إنما يبذل ذلك صلة للصغير لا ليرجع في ماله، فكذلك هذا، فإن لم يضمن لرب المنزل ذلك، ولكن أشهد لها بأن قال: أضمن لك الأجر ولم يضمن لرب البيت، فإنه لا يلزمه الأجر؛ لأنه لم يضمن عنها لرب البيت حتى يصير كفيلاً عنها بالأجر، فيؤخذ بذلك إنما ضمن لها ما عليها من الأجر، ومن ضمن للمديون ما عليه، ولم يضمن عنه لصاحب الدين لا يكون كفيلاً. الكفيل أن يضمن عن المديون ما عليه لصاحب الدين، ولم يوجد هذا فلم يمكن بجواز هذا كفالة، وإذا لم يكن كفالة، فإما أن يعتبر بعد ذلك هبة من الزوج لها أو عدة فإن كان هبة، فهي هبة، لم يقبض فلا يجر على الوفاء بها، وإن كان عدة فلا يجر على إنجاز هذا الوعد. قال في الأصل: رجلان استأجرا منزلاً من رجل، كل شهر بدرهم، واشترطا فيما بينهما على أن ينزل أحدهما في أقصى الحانوت، والأجر في مقدمه، ولم يشترطا ذلك في أصل الإجارة. قال: الإجارة جائزة، ولكل واحد منهما أن يرجع عن ذلك، أما الإجارة جائزة لأنها خلت عن شرط يفسدها، فإنه قال: ولم يشترطا ذلك في أصل الإجارة ولكل واحد منهما أن يرجع عن ذلك؛ لأن هذا مواضعه منهما على المهاياة، ولكل واحد من الشريكين أن ينقض المهاياه وإنما كان لكل واحد منهما نقض المهاياة، وذلك لأن المهايأة قسمة المنفعة فيعتمر بقسمة العين، وفي قسمة العين لكل واحد منهما، أن ينقص القسمة قبل التمام فإنهما إذا أفرزا أو عزلا الأنصب. فقلَّ أن يتعين نصيب كل واحد منهما بالإقراع. إذا أراد أحدهما نقص القيمة، كان له ذلك، فلان يكون لكل واحد منهما نقص القسمة ولم يتعين حق واحد منهما في المنفعة قبل وجودها، ولم ينفرز نصيب أحدهما من الآخر أولى وأحرى، ثم ذكر في «الكتاب» : أن الإجارة لا تفسد إذا لم يكن اشترطا ذلك في أصل الإجارة، ولم يذكر أنهما إذا شرطا ذلك في الإجارة هل يفسد الإجارة، قال مشايخنا: ولقائل أن يقول بأنه يفسد الإجارة، أما القائل أن يقول بأن الإجارة تفسد لأنه شرط في العقد ما لا يقتضيه العقد؛ لأن هذه المهايأة منها، والمهايأة على هذا الوجه الذي شرطا، وهو أن يسكن أحدهما في المقدم، والآخر في المؤخر مما لا يقتضيه الإجارة ألا ترى أن الآبي منهما لا يجير على ذلك، ولأحدهما في هذا الشرط منفعة، يوجب فساد العقد، وإليه أشار في «الكتاب» ؛ فإنه قال: ولم يشترطا ذلك في الإجارة فمفهوم ما ذكر يقتضي أنه إذا شرط ذلك في العقد أوجب فساده، وأما من قال بأنه لا يفسد ذهب في ذلك إلى أن هذا الشرط متى شرط في العقد، يكون اشتراطاً على المالك، صار كل واحد منهما مستأجراً ما عين من المالك فكان الأجر، قال: أجرت من هذا

مقدم الحانوت، ومن الآخر مؤخره، ولو نص على هذا كان جائزاً. ومفهوم قول محمد: ولم يشترط ذلك في أصل العقد، أنهما متى شرطا ذلك في العقد لا يكون لكل واحد منهما أن يرجع، لأن كل واحد يصير مستأجراً ما عين من المالك، ومتى لم يكن مشروطاً في العقد يكون مهاياة منهما ولكل واحد منهما أن ينقض المهاياة. وروى بشر عن أبي يوسف في رجل استأجر رجلاً ليبني له حائطاً أراه موضعه، وسمى طوله في السماء، وطوله على الأرض وعرضه، على أن يبني كل ألف آجرة بكذا، وكذا من الجص بكذا، وكذا من الدراهم، فبنى في السفل فأدخل ألف أجرة بالجص المسمى لها، ثم مات البنّاء، فإن الآجر يقسم على موضع ما بقي من الحائط، وما بنى فيعطي بحصة ما بنى من القيمة؛ لأن كل ألف آجرة شرط بناؤها فهي في أعلى الحائط وأسفله، يدركها رخص الأسفل، وعلا الأعلى، فلا بد من الجمع بين القيمتين ليجتمع الرخص مع الغلاء، فيظهر في التوزيع العدل. وعنه أيضاً أجر الرجل عبده، وسلمه ثم باعه من غير عذر، وسلمه إلى المشتري، فقتل، لم يكن للمستأجر أن يضمن المشتري قيمته، والمستأجر في هذا الحرف مخالف للمرتهن، والفرق وهو أن حق المستأجر في المنافع والقبض لا يلاقيها، وحق المرتهن في العين والقبض يلاقيه. ذكر الحاكم استأجر عبداً للخدمة مدة معلومة، وعجل الأجرة، ثم مات المؤاجر، كان للمستأجر أن يمسك العبد حتى يرد الأجر عليه، وإن مات العبد في يده لم يكن عليه فيه ضمان، ويرجع بالأجر فيأخذه. قوله حتى يرد الأجر عليه، أي حصة ما بقي من المدة، وإنما كان له حق إمساك العبد إلى أن يستوفي الأجر بحصة ما بقي من المدة، إظهاراً للعدل والإنصاف، فإن بموت الآجر تنفسخ الإجارة، ويتعين حق ورثة الآجر في العبد، فيجب تعيين حق المستأجر، في حصة ما بقي من المدة من الأجر، وذلك بالاستيفاء. وإذا غصب رجل الدار المستأجرة من المستأجر ثم تركها الغاصب، فأراد المستأجر أن يمتنع عن قبضها في باقي المدة، أو أراد الآجر أن يمتنع من التسليم فليس للمستأجر أن يمتنع من التسليم في باقي السنة، وللآجر أن يمتنع عن التسليم. قال بعض مشايخنا: هذا إذا لم يكن في السنة وقت يرغب في الاستئجار لأجله، أما إذا كان ولم يسلم في ذلك الوقت، فإن المستأجر يتخير، وقد مرّ جنس هذا فيما تقدم. وفي «القدوري» : لو استأجر من آجر دارين فانهدمت أحداهما أو غصبت أو ما أشبه ذلك، فله أن يترك الأخرى؛ لأن الصفقة وقعت متحدة، وقد تفرقت فيثبت الخيار. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا استأجر دابة ليلاً ليزف عليها عروساً إلى بيت زوجها، فهذا على وجهين: إما أن تكون العروس بعينها أو بغير عينها، فإن كان

العروس بعينها، وبيَّن المكان، فإنه يجوز الإجارة، كما لو استأجر رجلاً دابة ليركبها إلى مكان معلوم بأجر معلوم، كانت الإجارة جائزة، فكذلك هذا، وإن كان العروس بغير عينها فالإجارة فاسدة، كما لو استأجر دابة للركوب ولم يبين من يركب كانت الإجارة فاسدة فإن أركب عروساً فالقياس. (62ب4) أن لا يعود العقد جائزاً، وفي الاستحسان يعود العقد جائزاً، وعليه المسمى كما لو استأجر دابة للركوب، ولم يبين من يركب، ثم يركب هو أو أركب غيره، فإنه يعود العقد جائزاً استحساناً، وفي القياس لا يعود جائزاً، وقد ذكرنا هذا، فإن حبسوا الدابة حتى أصبحوا من الغد، هل يجب الأجر، إن كان استأجر هذه الدابة لركوب عروس بعينها في المصر، فإنه يجب الأجر، وإن استأجرها لركوب عروس بعينها خارج المصر، فإنه لا يجب الأجر لأنه لم يكن من الركوب في المكان الذي أضيف إليه العقد، فإنه لا يجب الأجر، وهذا لأن تسمية المكان في باب الدابة، وأنه شرط لجواز العقد عليها بمنزلة تسمية المدة في غيرها من الإجارات، والتمكن من الاستيفاء متى وجد في غير المدة المضاف إليها العقد، فإنه لا يجب الأجر، وهل يعتبر ضامناً بالحبس إن وقعت الإجارة على الركوب خارج المصر يضمن لأنه لم يجب الأجر بهذا الإمساك، ولم يؤذن له بإمساك لا يجب الآجر. وإن وقعت الإجارة على أن يركبها في المصر لا يصير ضامناً بهذا الحبس؛ لأنه يجب الأجر بهذا الإمساك، وإن كان استأجروها لركوب عروس بغير عينها، فإنه لا يجب الأجر متى حبسوها سواء استأجروها للركوب في المصر أو خارج المصر، لأن الإجارة فاسدة متى لم يعينوا العروس، وفي الإجارات الفاسدة الأجرة لا تجب بالتمكن من الاستيفاء، وإنما تجب بحقيقة الاستيفاء ولم يوجد، فإن استأجر لحمل عروس بعينها، فأركب غيرها صار ضامناً ولا يجب الأجر سلمت الدابة أم ملكت، كما لو استأجر دابة ليركب بنفسه فاركب غيره، وإن كان لحمل عروس بغير عينها، لم يضمن، كما لو استأجر دابة للركوب فاركب غيره، إذا اشترى بيتاً وأجره من غيره قبل القبض لا يجوز كما لو باعه، وهذا إذا كان منقولاً، فإن كان عقاراً، فقيل هو على الخلاف في البيع، وقيل لا يجوز الإجارة إجماعاً. في «الجامع الصغير» : رجلان استأجرا شيئاً ودفع أحدهما إلى صاحبه ليمسكه فلا ضمان عليه، إذا كان شيئاً لا يحتمل القسمة؛ لأن ما لا يحتمل القسمة فلأحد المستأجرين أن يدفعه إلى صاحبه ليمسكه، في «إجارة الفسطاط» استأجر قدراً ليطبخ فيه شيئاً معلوماً، فطبخ في البيت، وأخذ القدر بحجره مع ما فيه ليخرج إلى الدكان فانزلقت رجله في الطين، فوقع وانكسر القدر فعليه ضمان القدر بمنزلة الحمال، إذا انزلقت رجله، ووقع الحمل، وانكسر، وقيل: ينبغي أن لا يجب الضمان في هذه الصورة قياساً على ما إذا استأجرت المرأة ثوباً لتلبسه فلبسته وتخرق من لبسها، وقد مرت مسألة الثوب من قبل وهو الصحيح.u استأجر رجلاً شهراً معيناً ليعمل له عملاً معلوماً، فعمل له ذلك العمل بشهرين، هل

يستحق الأجر في الشهر الثاني؟ يجب أن تكون المسألة على الخلاف المعروف في القصار أو الخياط، إذا عمل من غير عقد، وقد كان انتصب نفسه لذلك، وإذا تكارى دابة ليحمل عليها عشرة مخاتيم، فجعل في جوالق عشرين مختوماً، ثم أخر المستأجر رب الدابة، وكان هو الذي وضعها على الدابة، فلا ضمان؛ لأن صاحب الدابة هو المباشر لحمل الزيادة على دابته، وإن حملاها جميعاً، ووضعاها على الدابة، ضمن المستأجر ربع قيمة الدابة؛ لأن نصف الحمل يستحق بالعقد ونصفه غير مستحق، وفعل كل واحد منهما في الحمل شائع في النصفين، فما حمله المستأجر نصفه وهو ربع الكل مستحق بالعقد، ونصفه وهو الربع غير مستحق، فلهذا ضمن ربع قيمتها، وإن كان الحمل في عدلين، فحمل كل واحد عدلاً ووضعاها على الدابة جميعاً، لا يضمن المستأجر شيئاً ويجعل حمل المستأجر مما كان مستحقاً بالعقد في باب ما يضمن الأجر، ويعرف عن هذه المسألة كثير من المسائل، رجل يبيع بالمزايدة، فاستأجر رجلاً لينادي عليه أن وقت له وقتاً، أو قال كذا صوتاً، يجوز إذا دفع إلى صباغ لبداً ليصبغه أحمر، فقد قيل إن قال بكذا من العصفر يجوز، وإن لم يبين مقدار العصفر لا يجوز، وهذا ليس بصواب فقد ذكرنا الرواية في فصل الاستصناع، إن بان مقدار الصبغ ليس بشطر، فلو صبغه رديئاً هل يضمن؟ فقال: قيل إن انتقص الثوب، وكان النقصان فاحشاً عند أهل البصر فلصاحب اللبد أن يضمنه قيمة لبده أبيض، وإن كان النقصان يسيراً فله أن يضمنه النقصان. وعلى هذا التفصيل القصار إذا قصر الثوب رديئاً. إذا استأجر حماراً أو بقراً، ليس له أن يبعث به إلى السراح، هكذا ذكر في الفتاوى، وقيل إن كان المتعارف فيما بين الناس أن المستأجر يبعث ذلك إلى السراح، فله أن يبعث ومالا فلا. وذكر الصدر الشهيد في «فتاويه الصغرى» ، أن للمستأجر أن يؤاجر، وأن يعير، وأن يودع، والبعث إلى السرح إيداع، فهلكه المستأجر. وفي «مجموع النوازل» زوج أمته، ثم أجرها من زوجها، جاز لأن خدمة الزوج ليست عليها، فالإجارة وردت على ما ليس بمستحق فيصح. استأجر أرضاً ليلبن فيه لنفسه عليها، فالإجارة فاسدة، بعد ذلك ينظر إن كان للتراب قيمة في ذلك الموضع يضمن قيمة التراب، ويكون اللبن له؛ لأن الإجارة لما لم تصح، صار المستأجر غاصباً للتراب، ولما حوله لبناً فقد هلك على المالك، وإن لم يكن للتراب قيمة لا شيء عليه، واللبن له لأنه حصل بصنعه. رجل يقبل من رجل طعاماً على أن يحمله من موضع إلى موضع باثني عشر درهماً اليوم، فحمله في أكثر من ذلك لا يلزمه الأجر المسمى، بل يجب أجر المثل بمنزلة ما لو استأجر رجلاً لينجز له عشر مخاتيم دقيق اليوم، هكذا ذكر في الفتاوي، وهذا يجب أن يكون على قول أبي حنيفة؛ لأن على قوله هذه الإجارة وقعت فاسدة، لأنه جمع فيها بين الوقت والعمل، أما على قولهما هذه الإجارة وقعت جائزة، فيجب الأجر المسمى. رجل حمل رجلاً كرنا إلى بعض البلدان، فعلى الحامل كراؤه حتى يرده إلى الذي

حمله منه، وكذا في كل ما له حمل ومؤنة. رجل استأجر من آخر كرماً إجارة طويلة، وقبضها وأجرها من غيره مقاطعة كل ستة أشهر، ببدل معلوم فلما رآه المستأجر الثاني، وجد الأشجار قد احترق من البرد ولم يجد أجره ليرده عليه، حتى جاء أيام الفسخ وحضر آجره وفسخ الإجارة، وطلب مال المقاطعة، وأبى المستأجر الثاني، واعتل بعلة أن الأشجار محترقة، سمع علته وسقط عنه مال المقاطعة إذا لم يعمل في الكرم عملاً يدل على الرضا، ولو كان آخذه حاضراً حتى أمكنه الرد ولم يرد لا يسقط مال المقاطعة، وعلى هذا إذا أجر داره وأراد المستأجر ردها بخيار رؤية، أو بخيار عيب، إن لم يمكنه الرد بأن كان المؤاجر غائباً، كان له الرد إذا حضر المؤاجر، ولا يجب الأجر إذا لم يكن عمل في الدار عملاً يدل على الرضا، وإذا وجب الأجر على المستأجر مالاً بالقرض أو نحوه، فقال المستأجر للآجر: احسب هذا من مال الإجارة وفارسيته فرورواز مال إجارت فقال الأجر: فرور فتم فقد قيل: ينفسخ الإجارة بقدره. استأجر رجلاً ليذهب محمولاته إلى موضع كذا بكذا فلما سار نصف الطريق بدا للحمال أن يذهب فترك الحمولة على المستأجر ثمَّ وطلب نصف الأجر، قال: له ذلك إذا كان الباقي من الطريق مثل الأول في السهولة، هكذا ذكر في الفتاوي. وقد ذكرنا في فصل الاستصناع أن العبرة في قسمة الأجر بقدر المراحل للسهولة والصعوبة، فيتأمل عند الفتوى. قال في «الأصل» : ولو أن رجلاً دفع إلى صباغ ثوباً ليصبغه بعصفر بربع الهاشمي بدرهم فصبغه بقفيز، فهذا على وجهين أما إن صدقه رب الثوب في ذلك فصاحب الثوب بالخيار، إن شك ترك الثوب عليه وضمنه قيمة الثوب، وقد ذكرنا وجه ذلك فيما تقدم، وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه ما زاد العصفر فيه مع الأجر، ولم يذكر أنه أراد به المسمى (63أ4) أو أجر المثل قال بعضهم: أراد به أجر المثل. وقال بعضهم: أراد به المسمى. من قال بأنه يعطيه أجر المثل، تقول بأن العمل وإن لم يصر معيناً من حيث الحقيقة بالزيادة، بل الزيادة تزيده جوده، لكن من حيث الحكم صار معيناً، لما كان لا يتوصل إليه إلا بزيادة عزم، ولهذا ثبت له الخيار كما لو يكن في العمل عيب من حيث الحقيقة، ولو يكن في العمل به عيب من حيث الحقيقة بأن خالف في صفة المأمور به، كان الجواب على ما عرف من الخلاف بين المشايخ، فكذلك هذا، وقال بعضهم: بأنه أراد به المسمى لأنه لا عيب في العمل المأمور به من حيث الحقيقة، فإنه أتى بما أمر به وزيادة، فالزيادة تزيده جودة، وإذا لم يتمكن في القدر المأمور به عيب من حيث الحقيقة، لا يكون له عطاء أجر المثل، لأن أجر المثل إنما يعطيه في مثل ذلك الموضع ليدفع عن نفسه ضرر العيب، ثم قال: يعطيه ما زاد العصفر في قيمة الثوب، يريد به ما زاد العصفر في قيمة الثوب من الثلاثة الأرباع، لا قيمة ما زاد القفيز فيه؛ لأنه ضمن للربع بدلاً، وهو الآجر فلا يضمن مرة أخرى، ثم إنما يعرف قيمة

ما زاد العصفر فيه، وهو أن يغرم الثوب مصبوغاً بربع قفيز ومصبوغاً بقفيز فإن كانت قيمته ربع قفيز عشرة، وقيمته مصبوغاً بقفير اثنى عشر، علم أن الصبغ زاد فيه بقدر درهمين، فإن قيل في إيجاب قيمة ما زاد الصبغ فيه إيجاب قيمة العمل؛ لأن قيمة ما زاد الصبغ فيه أن يقوم مصبوغاً، وغير مصبوغ، وفي تقويمه مصبوغاً وغير مصبوغ اعتبار قيمة العمل والعمل لا يتقوم من غير عقد، ولا شبهة عقد، والجواب عنه أن قيمة ما زاد الصبغ فيه بدل الصبغ، من حيث الحكم لا قيمة العمل، لأن إيجاب قيمة الصبغ مزايلاً متعذر؛ لأنه لا يعرف قيمة الصبغ بقيمة العمل، مزايلاً حال ما يتصل بالثوب لأنه مخلوط بالماء، وإذا تعذر إيجاب قيمة الصبغ مزيلاً أوجبنا قيمة ما زاد الصبغ فيه، واعتبرنا ذلك كله قيمة الصنع. والدليل عليه أن محمداً أوجب أجر المثل حيث احتاج إلى إيجاب قيمة العمل مع قيمة الصنع، وهنا لما أوجب قيمة ما زاد الصبغ فيه، علمنا أنه جعل ذلك قيمة الصبغ مزايلاً، ومنهم من قال بأن الصباغ ملك رب الأرض صنعاً معمولاً وهو مال فلا بد من أن يغرم قيمته، كذلك على الوصف الذي ملكه كمن بنى في أرض رجل، ورضي به صاحب الأرض بأخذه، فإنه يغرم له قيمة البناء مبنياً لأنه ملك ذلك البناء وهو مبني معمول، فلزمه قيمة بناء مبني، فكذلك هذا، وإلى هذا ذهب الفقيه أبو بكر البلخي هذا إذا صدقه في الزيادة، فأما إذا كذبه في الزيادة، فإنه يري أهل البصر من تلك الصناعة، لأنه أمكن معرفة فيما وقع التنازع فيه لا من جهتها، فلا يلتفت إلى قول واحد منهما، فإن قالوا مثل هذا الصبغ قد يكون بربع قفيز كان القول قول رب الثوب لأن الظاهر معه، لكن مع يمينه بالله ما يعلم أنه زاد، لأنه لم يثبت من حيث اليقين أنه لم يرد فيه على الربع، وإن قالوا لا يكون إلا بالقفير صار الظاهر مع الصباغ مع اليمين؛ لأنه لم يثبت ما قالوا من حيث اليقين، فإن حلف تثبت الزيادة، وإذا ثبت الزيادة كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا صدقه رب الثوب الخياط إذا فرغ من الخياط وبعث الثوب على يدي ابنه، وهو ليس ببالغ، فطر الطرار منه في الطريق، فإن كان الصبي عاقلاً ضابطاً يمكنه حفظه لا يضمن، وإن لم يكن ضابطاً ولا يمكنه حفظه ضمن. في «مجموع النوازل» مثل شمس الأئمة الأوزجندي رحمه الله عن رجل استأجر رجلاً ليوقد النار في المطمورة ليلة، ففعل ونام في بعض الليل فاحترقت المطمورة وما فيها، هل يضمن الأجر؟ قال: لا قيل له فإن أوقد النار ثانياً، بغير أمر هل يضمن؟ قال: نعم. رجل دفع عيناً إلى رجل على أنه إن شاء قبضه بالشراء بكذا وإن شاء أخذه إجارة سنة بكذا، فقبض وملك عنده، إن ملك بعد الاستعمال فهو على الإجارة، ولو قال أردت الملك إن كانت قيمته مثل الآخر، أو أكثر قبل قوله وإن كان الأجر أكثر لا يصدق، ولو لم يستعمله حتى هلك فلا ضمان عليه، لأنه لم يقبضه على الضمان. في «مجموع النوازل» : رجل يبيع شيئاً في السوق فاستعان بواحد من أهل السوق

على بيعه، فأعانه، ثم طلب منه الأجر، فإن العبرة في ذلك لعادة أهل السوق، فإن كان عادتهم أنهم يعملون بأجر يجب أجر المثل، وإن كان عادتهم أنهم يعملون بغير أجر فلا شيء له. رجل قال لخياط: خط هذا الثوب لأعطيك أجرك، فقال الخياط: لا أريد الأجر، ثم خاطه فلا أجر له. ولو أن صباغين أجر أحدهما آلة عمله من الآخر، ثم اشتركا في ذلك العمل، إن كان أجر كل شهر بكذا يجب الأجر في الشهر الأول، ولا يجب فيما بعده شيء، لأن الإجارة في الشهر الأول، وقعت صحيحة، وإنما ينعقد في كل شهر بعده بدخول ذلك الشهر، والشركة سبقت بأول الشهر الأول؛ فمنعت انعقادها فلا يجب أجر ما سوى الشهر الأول من هذا الوجه، وإن أجرها عشر سنين مثلاً، كل شهر بكذا، وجب أجر كل المدة؛ لأن الإجارة انعقدت على كل المدة في الحال، فلا يبطلها الشركة بعد ذلك، وإذا استأجر رجلاً ليبني له في هذه الساحة بيتين ذي سقفين أو ذي سقف واحد، وبيّن طوله وعرضه، وما أشبه ذلك وفارسيته، شكر درادن، ذكر في «فتاوي أبي الليث» : أنه لا يجوز، وينبغي أن يجوز إذا كان بآلات المستأجر للتعامل. وفي «مجموع النوازل» : رجل دفع إلى سراج بعض آلات السرج، وأمره أن يتخذ له سرجاً بهذه الآلات، وبآلات أخرى يحتاج إليها من عند نفسه، على أن يدفع إليه أجر عمله وثمن آلاته، ودفع إليه عشرة دراهم، فلما أتم السرج، استولى على السرج بعض الظلمة وذهب به، قال: يسترد من السراج قيمة آلاته، وما دفع إليه من الأجر؛ لأن العمل لم يصر سلماً إليه، ولم يصر المستأجر قابضاً آلات السرج، باتصاله بآلاته؛ لأنه يمكن تمييزها من غير ضرر، وهذه الإجارة فاسدة؛ لأنه لا يعامل في السرج بخلاف القلنسوة والخف، لأن فيهما تعاملاً. ومثل شمس الإسلام الأوزحندي رحمه الله عمن دفع إلى طبيب جارية مريضة، وقال له: عالجها بمالك فما يزداد من قيمتها بسبب الصحة، فالزيادة لك، ففعل الطبيب ذلك، وبرأت الجارية، فللطبيب على المالك أجر مثل المعالجة، وثمن الأدوية والنفقة، وليس له سوى ذلك. وسئل أيضاً عمن قال لطيان أصلح هذا الخراب بعشرة، فلما شرع في العمارة ازداد الخراب فأصلح الكل فلا شيء له سوى العشرة. وسئل هو أيضاً: رجل استأجر رجلاً شهراً، قال: لا يدخل يوم الجمعة في العقد بحكم العرف. وفي «مجموع النوازل» : معلم طلب من الصبيان ثمن الحصير، وصرف البعض إلى حاجة نفسه، أو اشترى به الحصير، واستعمله في الكتب زماناً، ثم رفعه وجعله في بيته، هل يسعه ذلك قال: نعم؛ لأن هذا في الحقيقة تمليك من آباء الصبيان للمعلمين وفيه أيضاً: دفع الرجل ولده الصغير إلى أستاذ ليعلمه حرفة كذا، في أربع سنين، وشرط على الأب أنه لو حبسه قبل أربع سنين، فللأستاذ عليه مائة درهم فحبسه بعد ثلاث سنين،

فليس للأستاذ أن يطالب الأب بالمائة، ولكن يطالبه بأجر مثل عمله. وقيل في الصغير يدفع شيئاً من المأكول إلى المعلم، إنه لا يحل للمعلم أكله، وقيل يحل، وهو الأصح لأن الآباء والأمهات راضون بذلك. استأجر رجلاً، ليكتب له عيناً بالعربية أو بالفارسية، يطيب له الأجر، وكذا لو استأجرت امرأة لتكتب لها إلى حبيبها، يجب الأجر ويطيب له، لأنه بدل كسبه هذا إذا بين ثم ... الجواز بأن بين مقدار الخط، وما أشبه ذلك، أما إذا لم يبين كانت الإجارة فاسدة. استأجر وراقاً ليكتب له جميع القرآن وينقطه ويعجمه. (63ب4) ويعشره وأعطاه الكاغد والحبر، وشرط له بدلاً معلوماً، فأصاب الوراق البعض وأخطأ في البعض، فإن فعل ذلك في كل ورقة فله الخيار، إن شاء أخذه وأعطاه أجر مثل عمله، لا يجاوز ما سمى، وإن شاء ترك عليه وأخذ منه قيمة ما أعطاه، وإن كان ذلك في بعض المصحف دون البعض، يعطيه حصة ما أصاب من المسمى، ويعطيه مثل عمله، لأنه وافق في البعض، وخالف في البعض، وقيل في النكال إذا غلط في جميع حدوده أو في بعضه، فإن لم يصلحه فلا أجر له وإن أصلحه فللآجر الخيار، وإن رضي به فللكاتب أجر مثله. رجل له أجيران يعملان له عمل الزراعة بنفور له عين أحدهما بقرين، ولآخر بقرين، فاستعمل أحدهما غير ما عين له، فهلك ضمن المستعمل قيمته، وهل يضمن الأجر بالدفع؟ فقد قيل: يضمن وقيل: لا يضمن؛ لأن مودع في البقر، وقد دفعه إلى من يقوم على الدواب، والقول الأول أصح؛ وأنه جواب ظاهر الرواية وبه كان يفتي شمس الأئمة السرخسي. في «مجموع النوازل» : رجل أودع عند رجل أحمالاً من الطعام، ففرغ المودع الظروف، وجعل فيها طعاماً له، ثم إن المودع سأل المودع أن يرد عليه أحماله حتى يحمل إلى مكة، فدفع إليه طعام نفسه، ولم يعلمه به، فحملها المودع على إبله حتى أتى مكة، كان للمودع أن يأخذ طعامه ولا أجر عليه. سئل شمس الأئمة الحلواني: عمن استأجر حماماً في قرية مدة معلومة، فنفر الناس، ووقع الخلا، ومضت مدة الإجارة، هل يلزم المستأجر الأجر؟ قال: إن لم يستطع الرفق بالحمام فلا وأجاب ركن الإسلام السعدي بلا مطلقاً، ولو بقي بعض الناس، وذهب البعض، يجب الأجر، كذا أجابا. وفي «مجموع النوازل» : استأجر من آجر طاحونة ببدل معلوم، على أن عليه ما سمى من الأجر أيام جريان الماء وانقطاعه، فهذا الشرط يخالف مقتضى العقد؛ لأنه لا ينتفع بالرحا زمان انقطاع الماء، والأجرة بدل المنفعة فيفسد به العقد. وفي «النوازل» سئل الفقيه أبو القاسم عن طحان ركب في الطاحونة حجراً من ماله،

واتخذ فيه حديداً وأشياء أخر كلها من ماله، فانقضت مدة إجارته، هل له أن يدفع ذلك؟ قال: إن كان فعل ذلك بإذن صاحب الطاحونة على أن يرجع في العلة يرجع فيها، وأن فعل بغير أمره إن كان غير مركب فهو له، وإن كان مركباً يدفع إليه قيمته. وفي «فتاوى الفضلي» : وصي أو متولي أجر منزل اليتيم، أو منزل الوقف بدون أجر المثل، أيلزم المستأجر أجر المثل أم يصير غاصباً بالسكنى، فلا يلزمه الأجر بالسكنى، ذكر هنا أنه يجب على أصول علمائنا أن يصير غاصباً، ولا يلزمه الأجر لأنه قال في كتاب المزارعة الوكيل يدفع الأرض مزارعة: إذا دفعها مزارعة وشرط للمزارع من الزرع ما لا يتغابن الناس في مثلة، أن الوكيل يصير مخالفاً غاصباً ويصير الزارع غاصباً، ولم يقل أن هذه مزارعة فاسدة، فيحكم فيها بما يحكم في المزارعة الفاسدة، قال: وذكر الخصاف في كتابه: أن المستأجر لا يكون غاصباً، ويلزمه أجر المثل، وجعل حكمه حكم الإجارة الفاسدة، فقيل له الفتى بما ذكره الخصاف؟ فقال: نعم، وذكر بعد هذا أيضاً أنه يلزم المستأجر أجر المثل بكماله، لأن الإجارة لو كانت من مالك المنزل، ولم يكن سمى الأجر فيها، كان يجب على المستأجر أجر المثل بالغاً ما بلغ، ولو كان سمى فيها الأجر وجب الأجر، ولا يزاد على المسمى، فالزيادة على المسمى إنما لم تجب على المستأجر، لأن المؤاجر أبطلها بالتسمية، فالوصي والقيم أيضاً لولا يسميان فيها الأجر يجب فيها أجر المثل بالغا ما بلغ، فإذا سميا الأجر لو لم تجب الزيادة على المسمى لكان سقوط الزيادة لإبطالهما إياها بالتسمية وليس لهما إلى إبطالهما سبيل، فيجعل كأن التسمية لم توجد في الزيادة، فوجب وذكر قبل هذا إذا أجر منديلاً لابنه الصغير بدون أجر المثل. قال القاضي الإمام على السعدي لو غصب إنسان دار صبي، قال بعض الناس يجب عليه أجر المثل، فما ظنك في هذا، وهكذا فيمن غصب الوقف قال بعضهم: يجب أجر المثل. قال الفضلي رحمه الله: والذي يصح عندي أن المستأجر يصير غاصباً عند من يرى غصب الدور، ويجب جميع المسمى عنده، أما عند من يرى غصب الدور فعلى مذهبه جميع المسمى لازم له على كل حال. وكان الشيخ الإمام ظهير الدين يفتي بوجوب أجر المثل في أرض الوقف، في الغصب، وفي أرض الصبي لا. ومن المشايخ من يفتى بوجوب أجر المثل، أما إذا كان ضمان النقصان خير لليتيم وللوقف، وهكذا فيمن سكن داراً له، أو حانوتاً له وذلك وعد للإجارة، يجب أجر المثل، إلا إذا كان النقصان خيراً له. وفي «فتاوى الفضلي» أيضاً: أجر منزلاً إجارة طويلة، وهذا المنزل موقوف عليه، كان وقف والده عليه وعلى أولاده أبداً ما تناسلوا، وأنفق المستأجر في عمارة هذا المنزل بعض النفقات بأمر المؤاجر، فإن لم يكن للمؤاجر ولاية في الوقف، كان غاصباً، ولم يكن على المستأجر إلا المسمى، وذلك للمؤاجر يتصدق به، وإن كان له ولاية في الوقف وعلى المستأجر أجر المثل في المدة التي كانت في يده لا عبرة لما سمى من قليل الأجر

في السنين الأولى، ويرجع المستأجر بالذي أنفق في غلة الوقف، إن كان للمؤاجر ولاية في الوقف، وإلا فهو متطوع فيما أنفق لا يرجع به على المؤاجر ولا في علة الوقف، لأنه إذا لم يكن له ولاية، صار وجود الأمن منه كعدمه، ولو أنفق بدون أمره لا يرجع بذلك على أحد، كذا ههنا، وقد ذكرنا فيما تقدم أن مكتري الحمار إذا أمر غيره أن ينفق على الحمار المكترى الذي بقي في الطريق ففعل، إن كان المأمور يعلم أن الحمار لغير الأمر فهو متطوع، لا يرجع بما أنفق علي أحد، إلا أن يكون الأمر ضمن له النفقة، وإن كان لا يعلم أن الحمار لغير الآمر فليس بمتطوع، فكذا في مسألة البناء، في الوقف بأمر الآجر يجب أن يكون الجواب على ذلك التفصيل. مريض أجر داره من رجل بدون أجر المثل، يعتبر من جميع المال؛ لأن حق الورثة لا يتعلق بالمنافع، وما لا يتعلق به حق الورثة، فالمريض والصحيح فيه على السواء. استأجر حانوتاً موقوفاً على الفقراء وأراد أن يبني عليه غرفة من ماله، وينتفع بها من غير أن يزيد في أجره، فحينئذ يبني على مقدار ما لا يخاف على البناء القديم من ضرر، وإن كان هذا حانوتاً يكون معطلاً في أكثر الأوقات، وإنما رغب فيه المستأجر لأجل البناء عليه، فإنه يطلق له في ذلك من غير زيادة في الأجر؛ لأن فيه مصلحة الوقف. رجل استأجر حجرة من أوقاف المسجد، ويكسر فيها الحطب بالقدوم، والجيران لا يرضون بذلك، والمتولي يرضى به، فإن كان في ذلك ضرر بين بالحجرة مثل القصارة والحدادة، والمتولي يجد من يستأجرها بذلك الأجر، فعليه أن يمنعه من ذلك، فإن لم يمنع أخرجه من الحجرة، وأجرها من غيره، وإن كان غيره لا يستأجر بتلك الأجرة، فالقيم يتركها في يده، إلا إذا خاف تلف بناء الوقف من ذلك العمل. وفي «فتاوي الفضلى» : متولي الوقف أجر ضيعة الوقف من رجل سنين، ثم مات الآجر، ثم مات المستأجر قبل انقضاء المدة، ودفع المستأجر غلة الضيعة، فإن كانت الغلة زرعا زرعها الورثة ببذرهم كانت الغلة لهم، وعليهم ما نقصت الزراعة الأرض، تصرف ذلك إلى مصالح أرض الوقف لا حق للموقوف عليهم الأرض في ذلك، لأن هذا النقصان إنما وجب لنقصان في عين الأرض، وهو الموقوف عليهم في منفعة الأرض لا في عينها، وإنما وجب نقصان الأرض دون الأجر؛ لأن الإجارة قد انفسخت بالموت، وصارت الورثة بالزراعة بعد ذلك غاصبين، فوجب النقصان دون الأجر لهذا. وفي «النوازل» ساحة (64أ4) بين يدي حانوت لرجل في الشارع، فأجرها من رجل يبيع الفاكهة كل شهر بدرهم، فما يأخذ من الأجرة فهو للعاقد؛ لأنه غاصب، وفي الغضب الأجرة للعاقد.v قال الفقيه أبو الليث: هذا إذا كان ثمة بناء أو دكان؛ لأن بذلك يصير غاصباً، أما بدونه لا يصير غاصباً؛ لأن غصب العقار عندهما لا يتحقق، وعندي أن الصحيح هو الأول، لأن عندهما الغصب إنما لا يتحقق في العقار في حق حكم الضمان، لا فيما وراء ذلك يتحقق، ألا ترى أن في حق الرد يتحقق، فكذا في حق استحقاق الأجرة.

رجل استأجر أرضاً، وانفسخت الإجارة بينهما بمضي المدة أو بالفسخ، قبل مضى المدة وفي الأرض زرع، والزرع يغل، فالزرع للمستأجر، فإن أبى المستأجر الآجر عن جميع الخصومات والدعاوي، ثم بعد ذلك أدرك الزرع، ودفع الآجر الغلة، وادعى المستأجر الغلة وخاصم الآجر فيها، هل يسمع دعواه؟ فقد قيل يسمع دعواه، وقد قيل لا يسمع دعواه، وهو الأشبه، وكذلك لو كان الآجر دفع الغلة أولاً، ثم أبرأه المستأجر عن الدعاوي لا يصح دعوى المستأجر الغلة، وهذا إذا جحد الآجر أن الزرع زرعه، فأما إذا كان مقراً أن الزرع للمستأجر يؤمر بالرد عليه، وعلى هذا إذا أبرأ أحد الورثة الباقين، ثم ادعى التركة، وجحد باقي الورثة التركة، لا يسمع دعواه، ولو أقروا بالتركة يؤمرون بالرد عليه. استأجر طاحونة، وأجرها من غيره، فانهدم بعضه، فقال المستأجر الأول للثاني: أنفق في عمارة هذه الطاحونة، فأنفق هل يرجع بذلك على المستأجر الأول إن علم الثاني أنه مستأجر وليس بمالك، لا يرجع وإن ظنه مالكاً فيه روايتان، في رواية لا يرجع ما لم يشترط الرجوع، وفي رواية يرجع بدون الشرط. دار فيها بئر استأجر رجل الدار، فله أن يتوضأ بذلك الماء، ويشرب. استأجر حجرة كل شهر ببدل معلوم، وغاب وترك امرأته في الدار، فليس للآجر أن يخرجها؛ لأنه ليس له أن يفسخ الإجارة، من غير محضر من صاحبه، والحيلة في ذلك أن يؤاجر هذه الدار من إنسان، في بعض الشهور فإذا مضى ذلك الشهر ينفسخ الإجارة الأولى وتنعقد الثانية، وكان للمستأجر الثاني أن يخرج المرأة من الدار. وإذا استأجر من آجر داراً، ثم إن الآجر وهب له أجر شهر رمضان، إن استأجرها سنة جاز الهبة عند محمد رحمه الله لأنه أبرأ بعد وجود سبب الوجوب، وإن استأجرها كل شهر لا يجوز الهبة عند محمد، إلا إذا دخل شهر رمضان. استأجر داراً وبنى فيها حائطاً من تراب، كان فيها بغير أمر صاحب الدار، ثم أراد الخروج وأراد نقض الحائط، هل له ذلك، ينظر إن كان اتخذ من التراب لبنا، وبنى الحائط من اللبن، فله ذلك وعليه قيمة التراب؛ لأن باتخاذ اللبن صار اللبن ملكاً له، فله أن يأخذ ملك نفسه، وإن كان بنى الحائط من الطين له يأخره بنايا شد فليس له أن ينقض الحائط، لأن ما نقض يعود على ملك المالك؛ لأنه يصير تراباً. رجل اشترى شجرة وقطعها، واستأجر أرضاً ليضع فيها الأشجار حتى تيبس، والأرض المستأجر لها طريق في أرض رجل آخر، فأراد مشتري الأشجار أن يمر في الأرض التي فيها طريق إلى الأرض المستأجرة بخشبه وحمولاته، وأراد صاحب الأرض أن يمنعه من ذلك، ليس له أن يمنعه، لأنه يحتاج إلى الإخراج والإخراج يكون بطريقة، وطريقه هذا. وبه ختم كتاب الإجارات بعون الله وحسن توفيقه والحمد لله رب العالمين.

كتاب القضاء

كتاب القضاء هذا الكتاب يشتمل على ثلاثة وثلاثين فصلاً 1 * في بيان من يجوز له تقليد القضاء منه. 2 * في الدخول في القضاء. 3 * في ترتيب الدلائل للعمل بها. 4 * في اختلاف العلماء في اجتهاد الصحابة. 5 * في التقليد والعزل. 6 * في بعض التقليد وما يقع للقاضي نفسه وحكم الأمراء. 7 * في جلوس القاضي، ومكان جلوسه. 8 * في أفعال القاضي وصفاته. 9 * في رزقه ومدته ودعوته. 10 * في بيان ما يكون حكماً، وما لا يكون حكماً، وما يبطل به الحاكم بعد وقوعه صحيحاً وما لا يبطل. 11 * في العدو. 12 * فيما يقضي القاضي بعلمه، وفي القضاء بشهادة من أقل من اثنين. 13 * في القاضي يجد في ديوانه شيئاً لا يحفظه وفي نسيانه قضاءه وفي الشاهد يرى شهادته ولا يحفظ. 14 * في القاضي يقضي بقضيته ثم بدا له أن يرجع عنه وفي وقوع القضاء بغير حق. 15 * فيما إذا وقع القضاء بشهادة الزور، ولم يعلم القاضي. 16 * في القضاء بخلاف ما يعتقده المحكوم له أو المحكوم عليه وفيه بعض مسائل الفتوى. 17 * في أقوال القاضي، وما ينبغي للقاضي أن يقول وما لا ينبغي. 18 * في قبض المحاضر من ديوان القاضي المعزول. 19 * في القضاء في المجتهدات،

20 * فيما يجوز فيه قضاء القاضي وما لا يجوز. 21 * في الجرح والتعديل. 22 * فيما ينبغي للقاضي أن يضعه على يدي عدل. 23 * في الرجلين يحكمان بينهما حكماً. 24 * في كتاب القضاة إلى القضاة. 25 * في اليمين. 26 * في إثبات الوكالة والوراثة وفي إثبات الدين. 27 * وفي الحبس والملازمة. 28 * فيما يقضي به القاضي ويرد قضاءه وما لا يرد. 29 * في بيان ما يحدث بعد إقامة البينة قبل القضاء. 30 * في بيان من يشترط حضرته بسماع الخصومة والبينة وحكم القاضي وما يتصل بذلك. 31 * في نصب الوصي والقيم وإثبات الوصاة عند القاضي. 32 * في القضاء على الغائب والقضاء الذي يتعدى إلى غير المقضى عليه، وقيام بعض أهل الحق عن البعض في إقامة البينة. 33 * في المتفرقات.

الفصل الأول: في بيان من يجوز له تقليد القضاء منه

الفصل الأول: في بيان من يجوز له تقليد القضاء منه قال الخصاف في «أدب القاضي» : إنما يجوز تقليد القضاء لمن كان عالماً بالكتاب والسنة واجتهاد الرأي؛ لأن القاضي مأمور بالقضاء بحق، قال الله تعالى: {يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق} (ص: 26) ، وإنما يمكنه القضاء بالحق، إذا كان عالماً بالكتاب والسنة واجتهاد الرأي، أما العلم بالكتاب والسنة؛ فلأن الاجتهاد في موضع النص باطل، فكان العمل بالنص في موضع النص متعيناً، وإنما يمكنه العمل بالنص، إذا كان عالماً به، وأما اجتهاد الرأي فلأن النصوص معدودة، والحوادث مهدودة، والإنسان لا يحد في كل حادثة تفصل به تلك الحادثة، فيحتاج إلى استنباط المعنى من المنصوص عليه، وإنما يمكنه ذلك، إذا كان عالماً باجتهاد الرأي، وعندنا العلم بالأدلة شرط الأولوية، وليس شرط جواز تقليد القضاء، حتى لو قلد جاهل وقضى هذا الجاهل بفتوى غيره، يجوز والصحيح مذهبنا؛ لأن المأمور في حق القاضي القضاء بالحق، والقضاء بما أنزل الله، والقضاء بفتوى الغير قضاء بالحق وبما أنزل الله تعالى. والخصاف لم يشترط العدالة، وصاحب كتاب «الأقضية» أبو جعفر، شرط العدالة، وكذلك الخصاف شرط العدالة وهي شرط لازم عند الشافعي، وهكذا روي عن أصحابنا في غير رواية الأصول، وبه أخذ بعض مشايخنا، حتى إن قلد القضاء وهو غير عدل، لا يصير قاضياً. وعلى ظاهر رواية أصحابنا العدالة شرط الأولوية، وهو اختيار عامة مشايخنا رحمهم الله، حتى أن الأولى أن لا يقلد الفاسق، ومع هذا لو قلد يصر قاضياً، اعتباراً للقضاء بالشهادة، فإن الأولى أن لا تقبل شهادة الفاسق، ومع هذا لو قبلت وقضى بها نفذ القضاء. ولو قلد القضاء وهو عدل ثم فسق، فعلى قول الشافعي رحمه الله ينعزل، وإشارات محمد رحمه الله في الكتب متعارضة في بعضها يشير إلى أنه ينعزل، وبه أخذ بعض مشايخنا، وفي بعضها يشير إلى أنه لا ينعزل، ولكن به يستحق العزل، وبه أخذ عامة المشايخ، إلا إذا شرط في التقليد أنه متى خان ينعزل، فحينئذ ينعزل لأنها غايته لا بالجور وبعض مشايخنا قالوا: (64ب4) إن كان عدلاً حين قلده السلطان ثم فسق ينعزل، وإن كان فاسقاً حين قلده يصير قاضياً، وهذا لأنه إذا كان عدلاً يوم قلده فإنما، قلده اعتماداً

الفصل الثاني: في الدخول في القضاء

منه على عدالته، تنفيذ التقليد بحال عدالته، ولا يبقى التقليد بعد ارتفاع العدالة، وإذا قلده فيما هو عدل، فلم يعقد على عدالته، فصح التقليد. ثم من شرط العدالة في القضاء، يحتاج إلى الفرق بين القضاء والإمارة، فإن الإمام يصير إماماً، وإن كان فاسقاً، وإذا كان عدلاً، ثم فسق لا يخرج عن الإمارة والإمامة، والفرق أن مبنى الإمارة على السلطنة والغلبة، ألا ترى أن من الأمراء من قد غلب، وجاز أحكامه، وصلى خلفه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبنى القضاء على الأمانة والعدالة، فإذا بطلت العدالة بطل القضاء ضرورة، هذا بيان من يجوز له تقلد القضاء. جئنا إلى بيان من يجوز تقلد القضاء منه، فنقول: يجوز تقلد القضاء من السلطان العادل والجائر، أما من السلطان العادل فظاهر، وأما من السلطان الجائر، فلأن الصحابة تقلدوا الأعمال من معاوية بعد ما أظهر الخلاف مع علي رضي الله عنه، والحق مع علي رضي الله عنه في قومته، وتقلدوا من يزيد مع جوره وفسقه، والتابعين تقلدوا من حجاج بعد ما تبين منه اللجاج، ومع أنه كان أفسق أهل زمانه، حتى قال الحسن البصري: لو كان كلامه بحيث أنها وصية بأبي محمد قبلناه، ولكن أن يجوز تقلد القضاء من السلطان الجائر، إذا كان يمكنه من القضاء بحق، ولا يخوض في قضاياه بشر، ولا ينهاه عن تنفيذ بعض الأحكام كما ينبغي، أما إذا كان لا يمكنه من القضاء بحق ويخوض في قضاياه بشر، ولا يمكنه من تنفيذ بعض الأحكام كما ينبغي، لا يتقلد منه. قال القاضي الإمام أبو جعفر رحمه الله وهو صاحب كتاب «الأقضية» بعد ما تبين أهل القضاء: ولا ينبغي لأحد أن يفتى للناس إلا من كان هكذا، يريد به أن المفتي ينبغي أن يكون عدلاً، عالماً بالكتاب والسنة واجتهاد الرأي، أما اشتراط العلم بهذه الأشياء؛ فلأن المفتي بفتواه يبين أحكام الشرع، وإنما يمكنه بيان أحكام الشرع إذا علم بالأدلة الشرعية، وأما اشتراط العدالة فمؤتمن عليه، قال: إلا أن يفتي بشيء قد سمعه فإنه يجوز، وإن لم يكن عالماً بما ذكرنا من الأدلة، لأنه حاك ما سمع من غيره، فهو بمنزلة الراوي في باب الأحاديث، فشرط فيه ما يشترط في الراوي، من العقل والضبط والعدالة والقهر على ما عرف في موضعه. الفصل الثاني: في الدخول في القضاء أورد الخصاف في «أدب القاضي» أحاديثاً في كراهة الدخول في القضاء، وفي الرخصة فيه، قال: وقد دخل فيه قوم صالحون، وامتنع عنه قوم صالحون، وترك الدخول أمثل وأسلم وأصلح في الدين، وهذا فصل اختلف فيه المشايخ أن بعد استجماع شرائط القضاء في شخص هل يجوز له تقلد القضاء؟ قال بعضهم: يكره له التقليد، ألا ترى كيف

الفصل الثالث: في ترتيب الدلائل للعمل بها

امتنع عنه أبو حنيفة رحمه الله حتى ضرب ثلاث مرات في كل مرة ثلاثين سوطاً، وألا ترى أن محمداً رحمه الله كيف أباه حتى قيد نيفاً وخمسين يوماً، وفي رواية نيفاً وأربعين يوماً، وقال بعضهم: له أن يقلد إذا كان يمكنه القيام بحقه، ألا ترى أن الأنبياء عليهم السلام اشتغلوا به حتى نبينا عليه السلام والصحابة رضي الله عنهم اشتغلوا به، ولأن في القضاء إظهار سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإحياء شريعته، ولهذا يطلق على القاضي اسم خليفة رسول الله بلا خلاف، وإن اختلفوا أنه هل يطلق عليه اسم خليفة الله، وفيه إيصال الحق إلى مستحقيه، وفيه نصرة المظلومين، وكل ذلك حسن عقلاً وشرعاً، وقال بعضهم: من قلد بغير مسألة فلا بأس بالقبول، ومن سأل يكره له ذلك، وهذا لأن من سأل فقد اعتمد على نفسه، ووكل إليه، ومن أجبر عليه فقد اعتمد على الله، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، والذي عليه عامة المشايخ أن الدخول في القضاء رخصة، والامتناع عنه عزيمة، أما الدخول فيه رخصة لما ذكرنا أن فيه إيصال الحق إلى المستحق، وفيه نصرة المظلومين، وأما الامتناع عنه عزيمة، لوجهين أحدهما أن القاضي مأمور بالقضاء بحق وعسى يظن في الابتداء أنه يقضي بحق، ثم لا يقضى في الانتهاء بحق، والثاني أنه عسى لا يمكنه القضاء إلا بإعانة غيره، وذلك الغير عسى لا يعينه على القضاء، ولكن هذا إذا كان في البلد قوم صالحون للقضاء، أما إذا لم يكن في البلد قوم يصلحون للقضاء سواه، يدخل في القضاء لا محالة؛ لأنه لو لم يدخل ربما تقلد الجاهل فيضيع أحكام الله تعالى، وعلى هذا حكم الإثم، إذا كان في البلد قوم يصلحون للقضاء، وامتنع واحد منهم لا يأثم، وإذا لم يكن في البلد من يصلح للقضاء إلا واحد وامتنع هو يأثم، وإذا كان في البلد قوم يصلحون للقضاء فامتنعوا جملة عن القضاء، فإن كان الوالي بحيث يفصل الخصومات بنفسه، كما ينبغي، فإنهم لا يأثمون، وإن كان الوالي بحيث لا يفصل الخصومات بنفسه كما ينبغي، فإنهم يأثمون، لأنهم ضيعوا حقوق الله تعالى وحقوق العباد، فإنهم يشتركون في الإثم. الفصل الثالث: في ترتيب الدلائل للعمل بها قال: ينبغي للقاضي أن يقضي بما في كتاب الله تعالى، وينبغي أن يعرف ما في كتاب الله تعالى من الناسخ والمنسوخ، لأنه إنما يجب العمل بالناسخ دون المنسوخ وينبغي أن يعرف من الناسخ ما هو محكم، وما هو متشابه، وفي تأويله اختلاف، كالأقراء فإن الله تعالى نص على الأقراء في مضي العدة، وقد اختلف العلماء في تأويلها، فمنهم من جعلها عبارة عن الأطهار، فينبغي أن يعرف المتشابه، وما فيه اختلاف العلماء؛ ليترجح قول البعض على البعض باجتهاده، فإن لم يجد في كتاب الله تعالى، يقضي بما جاء عن رسول الله عليه والسلام، قال الله تعالى: {ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (الحشر: 7)) وينبغي أن يعرف الناسخ والمنسوخ من الأخبار، لما ذكرنا

أنه يجب العمل بالناسخ دون المنسوخ، فإن اختلفت الأخبار يأخذ بما هو الأشبه، ويحيل اجتهاده إليه، ويجب أن يعلم المتواتر والمشهور، وما كان من خبر الآحاد؛ لأن المتواتر واجب العمل به قطعاً، يكفر جاحده، ولكن يخشى عليه المأثم، وما كان من خبر الآحاد يخطّأ جاحده. ويجب أن يعلم مراتب الرواة، فإن منهم من عرف بالفقه والعدالة كالخلفاء الراشدين، والعبادلة وغيرهم، ومنهم من عرف بطول الصحبة وحسن الضبط، والأخذ براوية من عرف بالفقه أولى من الأخذ برواية من لم يعرف بالفقه، وكذلك الأخذ برواية من عرف بطول الصحبة، أولى من الأخذ برواية من لم يعرف بطول الصحبة، وإن كان حادثة لم يرد فيها سنة رسول الله، يقضي فيها بما اجتمع عليه الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن العمل بإجماع الصحابة واجب، فإن كان الصحابة فيها مختلفين، يجتهد في ذلك، ويرجح قول بعضهم على البعض باجتهاده، إذا كان من أهل الاجتهاد، وليس له أن يخالفهم جميعاً باختراع قول ثالث؛ لأنهم مع اختلافهم اتفقوا على أن ما عدا القولين باطل، وكأن الخصاف رحمه الله يقول له ذلك، لأن اختلافهم اتفقوا على أن ما عدا القولين باطل، وكان الجصاص رحمه الله يقول: ذلك لأن اختلافهم يدل على أن للاجتهاد فيه مجالاً، والصحيح ما ذكرنا، ولا يفضل قول الجماعة على قول الواحد، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: وهذا على أصل أبي حنيفة رحمه الله، أما على أصل محمد: يفضل قول الجماعة على قول الواحد، وقد ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» في مسألة: قال أهل العراق وأهل الحجاز كذا، وقال أهل الشام: كذا، فأخذنا بقول أهل العراق والحجاز لكثرتهم ولانتفاء التهمة عن قولهم. ثم الإجماع (65أ4) ينعقد بطريقين: أحدهما: اتفاق كل الصحابة على حكم بأقوالهم، وهذا متفق عليه. والثاني: تنصيص البعض، وسكوت الباقين، بأن اشتهر قول البعض وبلغ الباقون ذلك، فسكتوا ولم ينكروا ذلك، وهذا مذهبنا، وإنما كان كذلك لأنه لو كان عند الباقين خلاف ذلك، لما حل لهم السكوت فيحمل سكوتهم على الموافقة حملاً لأمرهم على ما يحل لهم شرعاً، ولكن هذا الإجماع في المرتبة دون الأول، لأن الأول مجمع عليه، والثاني مختلف فيه، فإن وجد من كل الصحابة اتفاق إلا واحد، فإنه خالفهم فعلى قول الكرخي لا يثبت حكم الإجماع، وهو قول الشافعي، والصحيح عندنا أنهم إن سوّغوا له الاجتهاد، ولا ينعقد الإجماع مع مخالفته، نحو خلاف ابن عباس رضي الله عنهما في زوج وأبوين، قال: للأم ثلث جميع المال، وإن لم يسوغوا له الاجتهاد، بل أنكروا عليه ذلك، يثبت حكم الإجماع بدون قوله حتى لو قضى قاض بجواز بيع الدرهم بالدرهمين، لا ينعقد قضاؤه. وحكي عن القاضي أبي حازم رحمه الله: أن الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا على شيء

لا يلتفت إلى خلاف من خالفهم، حتى لم يعتبر خلاف زيد في توريث ذوي الأرحام، وأمر المعتصم برد الأموال التي اجتمعت من تركات ذوي الأرحام، فقال له أبو سعيد البردعي: هذا شيء يفتى فيه على قول زيد، فقال أبو حازم: لا يعتبر خلاف زيد في مقابلة الخلفاء الراشدين. ولكن الصحيح ما ذكرنا، فإن جاء حديث من واحد من الصحابة ولم ينقل عن غيره خلاف ذلك، فعن أبي حنيفة رحمه الله ثلاث روايات: في رواية قال: أقلد منهم من كان من القضاة المفتيين لقوله عليه السلام: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما» ، وقد اجتمع في حقهما القضاء والفتوى، فمن كان منهما كعثمان وعليّ والعبادلة الثلاثة وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، ومن كان بمثابتهم أقلدهم، ولا أستجر خلافهم. وفي رواية قال: أقلد جميع الصحابة إلا ثلاثة منهم أنس بن مالك، وأبو هريرة، وسمرة بن جندب رضى الله عنهم. أما أنس فقد بلغني أنه اختلط عقله في آخر عمره، وكان يستفتي من علقمة، وإنما لا أقلد علقمة فكيف أقلد من يستفتي علقمة، وأما أبو هريرة فإنه لم يكن من أئمة الفتوى، بل كان من الرواة فيما كان يروى لا يتأمل في المعنى، وكان لا يعرف الناسخ والمنسوخ، ولأجل ذلك حجر عليه عمر رضي الله عنه، عن الفتوى في آخر عمره، وأما سمرة بن جندب فقد بلغني عنه أمر يتأبى، والذي بلغ عنه، إنه كان يتوسع في الأشربة المسكرة سوى الخمر، وكان يتدلك في الحمام بالخمر، فلم نقلدهم في فتواهم لهذا، أما فيما روي عن النبي عليه السلام أنه كان يأخذ بروايتهم، لأن كل واحد موثوق به فيما يروي. وفي رواية قال: أقلد جميع الصحابيين ولا أستجر خلافهم، وهو الظاهر من المذهب، فقد قال في كتاب الحيض: أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام، بلغنا ذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وقال في كتاب الأيمان: إذا نذر بذبح ولده يصح نذره عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، بلغنا نحو ذلك، عن ابن عباس رضى الله عنهما، وقال: في شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن، أنه لا يجوز، بلغنا ذلك عن عائشة رضى الله عنها، ونظائره في الكتب كثيرة، وهذا لأنهم ما كانوا يفتون جزافاً، وإنما كانوا يفتون سماعاً أو اجتهاداً، فإن كان سماعاً يلزمنا اتباعهم، وهذا ظاهر، وإن كان اجتهاداً فكذلك، لأنهم صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاينوا وشهدوا التنزيل، وشهد لهم رسول الله عليه السلام بالخيرية، بقوله: «خير القرون قرني الذي أنا فيهم» . فيوفقون في الصواب بسبب صحبة رسول الله عليه السلام ولكونهم خير القرون

مالا يوفق غيرهم، ولأنهم عرفوا طريق رسول الله في بيان الأحكام، وشاهدوا الأحوال التي نزلت فيها النصوص، والمحال التي تعتبر باعتبارها الأحكام، فيكون رأيهم أقوى، واجتهادهم أصوب. وإن اجتمعت الصحابة على حكم، وخالفهم واحد من التابعين، إن كان المخالف ممن لم يدرك عهد الصحابة، لا يفيد خلافه، حتى لو قضى القاضي بقوله، بخلاف إجماع الصحابة كان باطلاً، وإن كان ممن أدرك عهد الصحابة، وزاحمهم في الفتوى، وسوغوا له الاجتهاد، كشريح والنخعي والشعبي رضي الله عنهم، لا ينعقد الإجماع مع مخالفته. ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يثبت إجماع الصحابة في الأسعار؛ لأن إبراهيم النخعي كان يكرهه وهو ممن أدرك عهد الصحابة، فلا يثبت الإجماع بدون قوله، وهذا لأنه لما أدرك عهد الصحابة وسوغوا له الاجتهاد، حتى زاحمهم في الفتوى، فقد جعلوه كواحد منهم فصار خلافه كخلاف واحد منهم. فإن كانت حادثة ليس فيها إجماع الصحابة، ولا قول واحد من الصحابة، ولكن فيه إجماع التابعين، فإنه يقضى بإجماعهم؛ لأن إجماع التابعين حجة قال الله تعالي: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى} (النساء: 15) الآية، وخلاف إجماعهم اتباع غير سبيل المؤمنين، إلا أن إجماع التابعين في كونه حجة دون إجماع الصحابة، لأن بعض الناس قالوا: إجماعهم ليس بحجة، إنما ذلك للصحابة، وكذلك إجماع كل فريق بعد ذلك حجة، ولكنه دون الأول في كونه حجة. [ وإن كانت حادثة فيها اختلاف التابعين، يجتهد القاضي في ذلك، إذا كان من أهل الاجتهاد، ويقضي بما هو أقرب للصواب، وأشبه بالحق، وليس له أن يخالفهم باختراع قول ثالث عندنا، على نحو ما ذكرنا في الصحابة، وإن جاء عن بعض التابعين ولم ينقل عن غيرهم فيه شيء، فعن أبي حنيفة رحمه الله فيه روايتان: في رواية قال: لا أقلدهم، رجال اجتهدوا، ونحن رجال نجتهد، وهو ظاهر المذهب، وفي رواية «النوادر» قال: من كان منهم أفتى في زمن الصحابة، وسوغوا له الاجتهاد، مثل شريح، ومسروق بن الأجدع، والحسن، فأنا أقلدهم، وهذا لأن من أفتى في زمن الصحابة وسوغوا له الاجتهاد، فقد جعلوه كواحد منهم، فإن لم يجد عنهم بإجماع، يعمل بإجماع من بعدهم، إن كان في الزمان الذي هو فيه، وهذا لأن إجماع كل عصر حجة بالنص الذي تلونا وبقوله عليه السلام: «لا تجتمع أمتي على الضلالة» . فإن لم يجد في ذلك إجماعاً، وكان فيه اتفاق بين أصحابنا أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله، يأخذ بقولهم ولا يسعه أن يخالفهم برأيه؛ لأن الحق لا يعدوهم.

فإن أبا يوسف رحمه الله كان صاحب حديث، حتى روي عنه أنه قال: أحفظ عشرين ألف حديث من المنسوخ، وإذا كان هذا يحفظ هذا من المنسوخ، فما ظنك من الناسخ، وكان صاحب فقه ومعنى أيضاً. ومحمد رحمه الله كان صاحب فقه ومعنى، وكان صاحب قريحة أيضاً، ولهذا قال في «المسائل» رجوعه وأبا حنيفة رحمه الله كان مقدماً في هذا كله إلا أنه قلّت روايته لمذهب يقول به، في باب الحديث: إنما يحل رواية الحديث لمن يحفظ من حين يسمع إلى أن يروي. وإن اختلفوا فيما بينهم، قال عبد الله بن مبارك: يأخذ بقول أبي حنيفة لا محالة لأنه كان في زمن التابعين وزاحمهم في الفتوى، وقد شهد رسول الله عليه السلام بالخيرية فالظاهر أن يوفق للصواب، ما لا يوفق غيره، والمتأخرون من مشايخنا رحمهم الله اختلفوا وقالوا: إذا اجتمع اثنان منهم على شيء وفيهما أبو حنيفة رحمه الله، أنه يأخذ بقول أبي حنيفة رحمه الله، وإن كان أبو حنيفة من جانب وأبو يوسف ومحمد رحمها الله من جانب، فإن كان القاضي من أهل الاجتهاد يجتهد، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد يستفتي غيره، ويأخذ بقول المفتي بمنزلة العامي، وإن كان أبو حنيفة رحمه الله أعلى رتبة؛ لأنه قد يرزق الرجل الصواب، وإن كان غيره أعلى رتبة، فإن أدراك الصواب فضيلة يرزقه الله تعالى من عباده من يشاء وإن لم يكن من أهل الاجتهاد يأخذ بقول (65ب4) أبي حنيفة، ولا يترك مذهبه؛ لأنه أفقه عنده من غيره، فلا يترك متابعته. وإن اختلف المتقدمون على قولين، ثم أجمع من بعدهم على أحد هذين القولين فهذا الإجماع، هل يرفع الخلاف المتقدم؟ فقد قيل على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، لا يرفع، وعلى قول محمد رحمه الله: أنه يرفع، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنه يرفع الخلاف المتقدم بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله، وإنما يخالف في ذلك بعض العلماء، على ما يأتي بيانه بعد هذا، إن شاء الله. وإن اتفق أهل عصر على قول،.....، فخرج هذا القاضي عن قولهم، وقضى بخلاف قولهم لما رأى الصواب بخلافه، فإن كان قد سبق هذا الاتفاق، اختلاف العلماء، فقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: لا يسعه الخلاف. وبعضهم قالوا: يسعه. فإن لم يسبق هذا الاتفاق اختلاف لا يسعه الخلاف بالاتفاق، بقي الكلام بعد هذا في تفسير الاجتهاد، وفي أهلية الاجتهاد. أما تفسيره فالاجتهاد بذل المجهود لطلب المقصود، وأما أهله: فأهل الاجتهاد من يكون عالماً بالكتاب، والسنة، والآثار، ووجوه الفقه، ويشترط مع ذلك، أن يكون صاحب قريحة يعرف عرف الناس، وعاداتهم، ومعاملاتهم، فالعرف قد يغلب على

الناس، كما في الاستصناع، والحكم قد يتغير بتغير العصر والزمان، ويشترط مع ذلك أن يكون عالماً بلغة العرب؛ لأن القرآن والأخبار جاءت بلغتهم. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: إذا كان يحفظ المنسوخ من أقوال المتقدمين له أن يجتهد. قال: وإذا كان في البلد قوم من أهل الفقه شاورهم في ذلك؛ لأن القاضي لا يكون أفطن في نفسه من رسول الله عليه السلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالمشاورة، قال الله تعالى: {وشاورهم} (آل عمران: 159) وقال عليه السلام: «من العزم أن تستشير ذا رأي ثم تطيعه» ، وقال عليه السلام: «المستشير يصيب» أو قال: «كاد أن يصيب» . وشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، وعمر رضى الله عنهما في شيء، فسكتا مهابة منه فقال عليه السلام: «قولا فإني فيما لم يوح إلي مثلكما» . ولأن بالمشاورة تجتمع الآراء، وظهور الحق عند اجتماع الآراء أَبْيَنُ، ولهذا قيل: في المشاورة تلقيح العقول، فإذا شاورهم، واتفق رأيه ورأيهم على شيء، حكم به؛ لأنه لما اتفق رأيه ورأيهم صار ذلك كالإجماع، والإجماع من جملة الحجج، وإن وقع الاختلاف بين هؤلاء الذين شاورهم، نظر إلى أقرب الأقاويل عنده من الحق، وأمضى على ذلك باجتهاده، إذا كان من أهل الاجتهاد، ولا يعتبر في ذلك كبر السن، ألا ترى أن عمر رضي الله عنه كان شاور ابن عباس رضي الله عنهما، وكان يقول له: «غص يا غّواص» ، وكان يأخذ بقوله وعمر كان أكبر سناً منه، وكذلك لا يعتبر كثرة العدد، فالواحد قد يوفق للصواب ما لا يوفق الجماعة، ولأجل ذلك قبلنا شهادة الواحد على رؤية الهلال، إذا كانت السماء متغيمة، وينبغي أن يكون ههنا قول أبي حنيفة رحمه الله، أما على قول محمد رحمه الله يعتبر كثرة العدد على ما مر قبل هذا، وإن لم يقع اجتهاده على شيء، وبقيت الحادثة مختلفة ومشكلة عليه، كتب إلى فقهاء غير المصر الذي هو فيه، فالمشاورة بالكتاب سنة قديمة في الحوادث الشرعية. وروي عن ابن مسعود وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما أنهما كانا يكتبان إلى عمر رضي الله عنه يستشيرانه، وعمر كان يكتب إلى ابن مسعود رضي الله عنه يستشيره، وكان ابن سماعة يكتب إلى محمد رحمه الله، وهذا لأن المشورة من الغائب بالكتاب بمنزلة المشورة من الحاضر بالخطاب، فإن اتفق الذين كتب إليهم القاضي على شيء ورأي القاضي يوافق رأيهم، وهو من أهل الرأي والاجتهاد، مضى ذلك برأيه، وإن اختلفوا أيضاً فيما بينهم نظر إلي أقرب الأقوال عنده من الحق، إذا كان من أهل الاجتهاد، وإن لم يكن القاضي من أهل الاجتهاد في هذه الصورة، وقد وقع الاختلاف

الفصل الرابع: في اختلاف العلماء في اجتهاد الصحابة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم

بين أهل الفقه، أخذ بقول من هو أفقه وأورع عنده كذا هنا، لأنه بمنزلة العامي والعامي إذا استفتى في حادثة، وقد وقع الاختلاف فيما بين الفقهاء، أخذ بقول من هو أفقه عنده، كذا هنا، وإن كان القاضي شاور قوماً من أهل الفقه، فاتفقوا على شيء، ورأي القاضي بخلاف رأيهم، لا ينبغي للقاضي أن يترك رأي نفسه، ويقضي برأيهم، لأن عنده أن هؤلاء على الخطأ، ولا متابعة في الخطأ، فإن قيل: إذا كان لا يأخذ برأيهم فأي فائدة في المشورة. قلنا: احتمال انضمام رأي غيره إلى رأيه فيقوى بذلك رأيه إلى هذا أشار عبيدة السلماني حين قال علي: اتفق رأي ورأي عمر في أمهات الأولاد، أن لا يبعن، ثم رأيت بعد ذلك أن يبعن فقال عمر رضي الله عنه: رأيك مع رأي عمر خير من رأيك وحده. أشار إلى أن عند اجتماع الرأيين يحدث زيادة قوة، وإن شاور القاضي رجلاً واحداً كفى، ولكن مشاورة الفقهاء أحوط، فإن شاور ذلك الرجل إلى شيء، ورأي القاضي بخلاف رأيه، فالقاضي لا يترك رأي نفسه، لما قلنا، فإن اتهم القاضي رأيه لما إن ذلك الرجل أفضل وافقه عنده، لم يذكر هذه المسألة ههنا. وذكر في كتاب «الحدود» وقال: لو قضى برأي ذلك الرجل أرجو أن يكون في سعة من ذلك وإن لم يتهم القاضي رأيه، لا ينبغي له أن يترك رأي نفسه، وقضى برأي غيره لما قلنا، ولو ترك رأي نفسه وقضى برأي غيره، هل ينفذ قضاؤه؟ سيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى. الفصل الرابع: في اختلاف العلماء في اجتهاد الصحابة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجب أن يعلم بأن العلماء اختلفوا في هذا الفصل على ثلاثة أقوال، منهم من قال: ما كان له أن يجتهد لأنه كان يمكنه أن يرجع إلى رسول الله عليه السلام، فيسأله فكان الاجتهاد في ذلك الزمان اجتهاداً في موضع النص وإنه باطل، ومنهم من قال: من كان بعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له الاجتهاد، ومنهم من قال: كان له الاجتهاد مطلقاً ويستدل هذا القائل بما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: «قولا فإني فيما لم يوح إلي مثلكما» ؛ وقال عليه السلام لعمرو بن العاص: «اقض بين هذين» ، فقال علي: ماذا؟ فقال عليه السلام: «على أنك إن أصبت فلك أجران، وإن أخطأت فلك أجر واحد» .

الفصل الخامس: في التقليد والعزل

واختلفوا أيضاً أن رسول الله عليه السلام هل كان يجتهد فيما لم يوح إليه، ويوصل الحكم باجتهاده، بعضهم قالوا: ما كان يجتهد بل كان ينتظر الوحي، ومنهم من قال: كان يرجع فيه إلى شريعة من قبله؛ لأن شريعة من قبلنا شريعة لنا ما لم يعرف نسخه، ومنهم من قال: كان لا يعمل بالاجتهاد إلى أن ينقطع طمعه عن الوحي، فإذا انقطع كان يجتهد، فإذا اجتهد صار ذلك شريعة له، فإذا أنزل الوحي بخلافه يصير ناسخاً له، ونسخ السنة بالكتاب جائز عندنا، وكان لا ينقض ما أمضى بالاجتهاد، وكان يستأنف القضاء في المستقبل. الفصل الخامس: في التقليد والعزل ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» في باب القاضي يقضي بعلمه، إذا قلّد السلطان رجلاً قضاء بلدة كذا، لا يصير قاضياً في سواد تلك البلدة ما لم يقلده قضاء البلدة ونواحيها، ويكتب في رسمه ومنشوره أنا قلدناه قضاء بلدة كذا ونواحيها. وهذا الجواب إنما يستقيم على رواية «النوادر» ، لأن على رواية «النوادر» المصر ليس بشرط النفاذ القضاء فأما على ظاهر الرواية المصر شرط نفاد (66أ4) القضاء فلا يصر مقلداً على القرى، وإن كتب في منشوره ذلك. وإذا علق السلطان القضاء والإمارة بالشرط وأضافهما إلى وقت في المستقبل، بأن قال للرجل إذا قدمت بلدة كذا فأنت قاضيها إذا أتيت مكة فأنت أمير الموسم، أو قال جعلناك قاضياً رأس الشهر أو قال جعلتك أمير رأس الشهر فذلك جائز والأصل فيه ما روي أن رسول الله عليه السلام بعث جيشاً وأمر عليه زيد بن حارثة وقال: «إن قتل زيد فجعفر أميركم وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة أميركم» . وأما تعليق الحكومة بين اثنين وإضافتها إلى وقت في المستقبل، ففيه خلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وسيأتي بيانه في باب التحكيم إن شاء الله تعالى، ويجوز تعليق عزل القاضي بالشرط، إليه أشار في «أدب القاضي» للخصاف في باب ثبوت الخليفة، والمذكور ثمة إذا كتب الخليفة إلى القاضي: إذا وصل كتابي إليك فأنت معزول، فوصل إليه الكتاب انعزل؛ لأن هذا عزل معلق بالشرط، وقد وجد الشرط وإذا قلد السلطان رجلاً قضاء يوم يجوز وتأقت في هذا وإذا قيده بالمكان يجوز ويتقيد بذلك المكان أيضاً. ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرح كتاب الصلح» في باب الحكمين وإنه معقول؛ لأنه أنابه فثبت بقدر ما أنابه وللمقلد في هذا التقليد فائدة؛ لأنه عسى يجوز

النائب في موضع آخر، ولا يمكنه الخيانة في ذلك الموضع، وربما يكون أقدر على إحضار الخصوم، وتتقيد الأحكام في ذلك الموضع، فعلى هذا لو قلد القاضي أنابه نائبه بمسجد معين لا يكون للنائب أن يقضي في مسجد آخر، وإذا استقضى الصبي، ثم أدرك ليس له أن يقضي بذلك الأمر. في باب الجمعة من صلاة «المنتقى» ، رواه إبراهيم عن محمد رحمه الله. والعبد إذا استقضى ثم أعتق كان له أن يقضي بذلك الأمر. والفرق أن العبد أهل حقيقة فيصح تقليده إلا أنه لم يجز حكمه لقيام الرق، فإذا زال الرق بالعتق فقد زال المانع من نفاذ حكمه، فنفذ حكمه من غير تقليد جديد ولا كذلك الصبي، وسيأتي فصل العبد بخلاف هذا في فصل التحكيم إن شاء الله تعالى وفي «فتاوي المنتقى» : سئل عن سلطان مات، واتفقت الرعية على ابن صغير له جعلوه سلطاناً ما حال القضاء والخطباء وتقليده أيامهم، مع عدم ولايته قال ينبغي أن يكون الاتفاق على والي عظيم فيصير سلطاناً لهم، ويكون السلطان في الحقيقة هو الوالي. وفي «نوادر هشام» : عن محمد رحمه الله في قاضٍ أو والٍ ارتد عن الإسلام والعياذ بالله، أو عمي، أو فسق، ثم مات أو أبصر أو أسلم، فهو على عمله، وهكذا روى داوود بن رشيد عن محمد رحمه الله، وفي رواية هشام زيادة وهي وإن كان قضى بقضاء في حال فسقه، ثم صلح أبطلته، قال هشام: قلت لمحمد: والي من ولاة المسلمين ولى قاضياً مشركاً يقضي بين المسلمين ثم أسلم، قال: هو قاض على حاله ولا يحتاج إلي توليه ثانية. وروى هشام عن محمد رحمه الله: النصراني إذا استقضي ثم أسلم لم يجز حكمه. في «كتاب الأقضية» في باب الحكمين: القاضي إذا ارتد عن الإسلام خرج عن الحكومة، وعن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: لا ينبغي أن يستقضي فاسق ولا مرتشٍ، ولا آكل ربا ولا ينبغي أن يستقضى شارب خمر معاود للشرب ولا صاحب مغنيات، ولا يستقضى ذمي من أهل الذمة، ولا تستقضى المرأة على حال فإن كان ما ذكر في حق المرأة جواب الحكم لا جواب الأولوية، فهذه الرواية مخالفة لظاهر الرواية، وستأتي مسألة المرأة بعد هذا إن شاء الله تعالى. وإذا أقر السلطان غلاماً من غلمانه على بلده، وأمره نصب القاضي جاز له نصب القاضي بطريق النيابة من السلطان، ويصير نصب الغلام بأمر السلطان كنصب السلطان بنفسه، وإذا قال الخليفة لوالي بلدة (مذكراً في ما بدت قضاء تقليدكن وعن مئة قلد من شئت صح، ولو قال كسرى قضاء تقليدكن وعرهية قلد أحداً لا يصح) . وهو نظير الموكل إذا قال للوكيل وكل من شئت صح، ولو قال: وكل أحداً لا يصح وإذا قال السلطان لأمير من أمرائه فلان ولاية بنود آدم أو قال تراد آدم لا يملك تقلد القضاء لأنه لا يراد بمثل هذا الكلام في المتعارف تفويض الأمور الشرعية، وإنما يراد به

تفويض الأمور الحسية وتخليص أموال تلك البلدة من الجنايات وغير ذلك، وإن جعله أميراً على بلدة وجعل خراجها له فأطلق له التصرف في الشرعية على العموم كما تقتضيه الإمارة، فله أن يقلده وأن يعزل لأنه لما فوض إليه أمور هذه البلدة مطلقاً، أو على الأمور فقد قام مقام السلطان فكان له أن يقلد، وأن يعزل كالسلطان وههنا دقيقة مروية عن أبي يوسف رحمه الله تأتي في الفصل الذي يلي هذا الفصل. وإذا قال السلطان لرجل: جعلتك قاضياً ولم يعين بلدة وللسلطان بلاد كثيرة لا شك أنه لا يصير قاضياً على البلاد كلها وهل يصير قاضياً على البلدة التي هو فيها؟ فقد قيل لا يصير وقيل يصير وهو الأظهر والأشبه. وإذا اجتمع أهل بلدة على رجل وجعلوه قاضياً يقضي فيما بينهم لا يصير قاضياً، ولو اجتمعوا على رجل وعقدوا معه عقد السلطنة أو عقد الخلافة يصر خليفة وسلطاناً. وإذا قلد السلطان رجلاً قضاء بلدة واستثنى من ذلك خصومة رجل بعينه لو استثنى نوعاً من أنواع الخصوم صح التقليد والاستثناء ولا يصير قاضياً في المستثنى وهذا لأن التقليد إنابة فإنما يثبت بقدر ما أناب، وعلى هذا إذا قال السلطان للقاضي لا تسمع خصومة فلان حتى أرجع من سفري، لا يجوز للقاضي أن يسمع خصومته قبل رجوع السلطان عن السفر ولو سمع وقضى لا ينفذ قضاؤه، لأنه أخرج خصومة فلان عن ولايته في الانتهاء فيعتبر بما لو أخرجها في الابتداء بالاستثناء، وذلك صحيح فهاهنا كذلك. السلطان إذا قال لرجل جعلتك قاضياً فليس له أن يستخلف إلا إذا أذن له بذلك صريحاً، ولو قال له جعلتك قاضي القضاة فله أن يستخلف، وإن لم يأذن له بذلك صريحاً لأن قاضي القضاة هو الذي يتصرف في القضاء عزلاً وتقليداً. وكان القاضي الإمام شمس الإسلام الأوزجندي يقول إذا كتب السجل من الحاكم ينبغي أن يكتب فيه خليفة الحاكم، من قبل فلان وفلان مأذون بالاستخلاف بحكم المثال الصحيح من جهة فلان. إذا قال السلطان لرجل جعلتك نائبي في القضاء بشرط أن لا ترتشي ولا تشرب الخمر ولا تميل أمر أحد على خلاف الشرع فالتقليد صحيح والشرط صحيح، وإذا فعل شيئاً من ذلك لا يبقى قاضياً لأن تقدير هذا الكلام أنت نائبي ما دمت لا تشرب ولا ترتشي ولا تميل أمر أحد على مخالفة الشرع، فهذا تقليد مؤقت معنى، ومثل هذا التقليد صحيح، فإذا وجد الوقت ينتهي التقليد. السلطان إذا قال: قلدت قضاء بلدة كذا زيداً، أو عمرواً لا يصح؛ لأن هذا تقليد للمجهول المرأة فيما تصلح شاهدة تصلح قاضية، لأن القضاء من باب الولاء كالشهادة ذكره الخصاف في «أدب القاضي» في باب القاضي يستخلف رجلاً وما يجوز له من ذلك. إذا وقع القضاء، في حادثة بحق، فأمر السلطان القاضي أن يسمع تلك الحادثة ثانياً بحضرة فلان لا يفترض على القاضي ذلك، لأنه لا فائدة فيه. أهل البغي إذا غلبوا على بلاد أهل العدل، فالقضاة قضاة على حالهم ما لم يعزلهم

الفصل السادس: فيه بعض التقليد وما يقع لمقاضي نفسه وحكم الأمراء

الباغي، فإذا عزلوهم خرجوا عن القضاء حتى لو انهزم البغاة بعد ذلك، لا ينفذ قضاؤهم ما لم يقلدهم سلطان أهل العدل (66ب4) ثانياً، لأن الباغي صار سلطاناً بحكم القهر ألا ترى أن تقلد القضاء منه يجوز، فيصح العزل منه. السلطان إذا قلد رجلاً قضاء بلدة لها قاض، ولم يعزل الأول صريحاً، إن قيل ينعزل الأول فله وجه؛ لأن تقليد قاضيين في مصر واحد غير معتاد، فيضمن تقليد الثاني عزل الأول، فإن قيل لا ينعزل الأول، فله وجه وهو الأظهر والأشبه؛ لأنه لا تنافي بينهما. ألا ترى أن السلطان من الابتداء لو قلد رجلين قضاء بلدة يجوز وللسلطان أن يعزل القاضي، ويستبدل مكانه آخر لرتبة، ولغير رتبة؛ لأن للسلطان ولاية عامة، فيملك التقليد والصرف في أي زمان أراد، وقد صح عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: لا يترك القاضي على القضاء أكثر من سنة؛ لأنه لا يتفرغ للتعليم والتعلم حال اشتغاله بالقضاء، فنسى العلم. السلطان إذا عزل قاضياً لا ينعزل ما لم يصل إليه الخبر حتى لو قضى بقضايا بعد العزل قبل وصول الخبر إليه، جازت قضاياه، وهو نظير الوكيل إذا عزل لا ينعزل قبل وصول الخبر إليه. وعن أبي يوسف رحمه الله، أنه لا ينعزل، وإن لم يعزله حتى يقلد غيره مكانه، ويقدم صبيانه لحق العباد، واعتبره بإمام الجمعة إذا عزل، وهذا إذا حصل العزل مطلقاً، فأما إذا حصل العزل مطلقاً بشرط وصول الكتاب إليه لا ينعزل ما لم يصل إليه الكتاب، علم بالعزل قبل وصول الكتاب إليه، أو لم يعلم، ورواية أبي يوسف ستأتي ها هنا، وإذا مات الخليفة وله قضاة وأمراء وولاة، فهم على حالهم قضاة وأمراء وولاة، رواه هشام وداود بن رشيد عن محمد، وليس هذا كالوكالة. إذا عزل السلطان القاضي انعزل نائبه بخلاف ما إذا مات القاضي حيث لا ينعزل صاحبه، هكذا قيل، وينبغي أن لا ينعزل النائب بعزل القاضي؛ لأنه نائب السلطان، أو نائب العامة، ألا ترى أنه لا ينعزل بموت الخليفة، وعليه كثير من المشايخ، وإذا عزل السلطان نائب القاضي لا يعزل القاضي. الفصل السادس: فيه بعض التقليد وما يقع لمقاضي نفسه وحكم الأمراء قال أبو حنيفة رحمه الله إذا غلب الخوارج على بلدة، واستقضوا عليها قاضياً من أهل البلدة ليس من الخوارج، ثم غلب عليهم أهل العدل يمضي قاضي أهل العدل من قضاياه، كل ما تخالف فيه الفقهاء، قال محمد رحمه الله: ولا يجوز قضاء أهل الخوارج، وشهادتهم علل وقال لأنهم إذا اخرجوا فقد استحلوا دماءنا وأموالنا.

وفي «أدب القاضي» للخصاف: إذا كان القاضي من أهل البغي لا تنفذ قضاياه، وأشار في كتاب الأقضية إلى أنه تنفذ قضاياه، فإنه قال: هو بمنزلة فساق أهل العدل، وقد ذكرنا أن الفاسق يصلح قاضياً على أصح الأقاويل، وفي «واقعات الناطفي» الإمام إذا لم يكن عادلاً فأحكامه جائزة، فإن كثيراً من العلماء تقلدوا الأعمال والقضاء من معاوية مع أنه كان جائراً وكان في الصحابة من هو أفضل منه. وفي «فتاوى أهل سمرقند» ،: إذا كان الأمير الذي يولى القضاء جائراً لم يجز حكمه ويجوز حكم قضاته وسيأتي عن أبي يوسف رحمه الله ما يؤكد هذا القول، والصواب ما ذكر في «واقعات الناطقي» أن حكم الإمام جائز، وإن كان جائراً السلطان إذا قضى بين اثنين.g ذكر في «شهادات فتاوي أبي الليث» رحمه الله: قول بعض المشايخ: أنه لا يجوز، وذكر الخصاف في «أدب القاضي» أنه يجوز، ومسألة الواقعات التي مرت تشهد لقول الخصاف، والصحيح ما ذكر الخصاف، لأن القاضي استفاد الولاية من جهة السلطان وتقلد القضاء منه، فمن المحال أن ينفذ من القاضي ولا ينفذ من السلطان. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف: الأمير إذا كان يولى القضاء من قبله، فيقضي ذلك الأمير، أو كتب إلى القاضي فهو جائز إذا كان عدلاً، وإذا كان جائراً فلا، فهذه الرواية عن أبي يوسف رحمه الله تؤكد ما ذكر الخصاف من نفاذ قضاء الأمير، ويؤكد ما ذكر في «فتاوى أهل سمرقند» من عدم جواز حكم الأمير إذا كان جائراً، وإذا كان القاضي من قبل الخليفة لا من قبل الأمير، فليس للأمير أن يقضي، ولو قضى لا ينفذ قضاؤه. قال هشام رحمه الله سمعت أبا يوسف رحمه الله يقول: إذا كان القاضي من الأصل يعني من الخليفة ثم مات، فليس للأمير أن يولي قاضياً، وإن كان أمير عشرها وخراجها؛ لأنه قد عزل عنه الحكم، حيث كان القاضي من الأصل، وإن حكم هذا الأمير لم يجز حكمه وكذلك إن ولي هذا الأمير قاضياً من قبله لم يجز حكمه، وإن جاء هذا القاضي الذي ولاه هذا الأمير كتاب الخليفة إليه من الأصل لا يكون ذلك إمضاء للقضاء، وإذا كان للقاضي خصومة على إنسان، أو كان لغيره عليه خصومة، فترافعا إلى خليفة هذا القاضي، فقضى للقاضي أو عليه، اختلف المشايخ فيه. قال بعضهم: لا يجوز، وقال بعضهم: يجوز، وجه هذا القول أن خليفة القاضي ليس بنائب عن القاضي، ليصير حكم الخليفة كحكم القاضي بل هو نائب عن الله، أو عن جماعة المسلمين، ألا ترى أنه لا ينعزل بموت القاضي؟ فيجوز حكمه له وعليه. وقد صح أن علياً رضى الله عنه قلد شريحاً رضى الله عنه، وخاصم عنده في حادثة، وذكر الخصاف في «أدب القاضي» لو أن قاضياً قضى للإمام الذي ولاه بقضية، أو قضى عليه جائز ذلك، وكذلك لو قضى لولد الإمام أو والده أو زوجته، وكذلك قاضي القضاء لو خوصم إلى قاضي ولاه، فقضى له أو عليه جاز، وكذلك لو أن الإمام ولى قاضياً على مثل خراسان والمروان، فولى قضاة على الكور، ففعل ثم خاصم القاضي إلى

الفصل السابع: في جلوس القاضي ومكان جلوسه

بعض من ولاه فقضاؤه جائز له وعليه، وسيأتي في الفصل الذي يلي هذا الفصل ما يؤكد هذا القول. والذي يشهد للقول الأول ما ذكر هشام في «نوادره» قال سألت محمداً رحمه الله عن قاض وجب له الشفعة قبل رجل فلم يعطها إياه، وجحد، والوالي الذي في بلاده ليس بمن يولي القضاء، كيف يصنع؟ قال: ينبغي للوالي أن يقول لهما: اختارا رجلاً يحكم بينكما، قلت: فإن أبى الرجل ذلك أجبره عليه قال: نعم، فقد أشار محمد رحمه الله إلى التحكيم في هذه الصورة، ولو صار حكم الخليفة للقاضي لا حاجة إلى التحكيم. قال هشام: سألته عن قاضي البلدة إذا مات وواليها ممن لا يولى القضاء أيجبر الخصوم على رجل يحكم بينهم؟ قال: أما كل شيء يحتاج فيه إلى أن يرجع المقضي عليه إلى آخر فلا يجوز، ولا يجبر عليه، وأما ما كان من قرض، أو غصب يجبر عليه. وفي «المنتقى» : إذا خاصم ابن القاضي غيره إليه، أو خاصم غيره ابنه إليه ينظر فيه، فإن توجه القضاء على ابنه يقضي على ابنه، وإن توجه لابنه تركهما، ويقول لهما: اختصما إلى غيري. الفصل السابع: في جلوس القاضي ومكان جلوسه قال الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» قال أبو حنيفة: وينبغي للقاضي أن يجلس للحكم في المسجد الجامع وبين المعنى، فقال: لأنه أشهر المجالس، ومعناه أنه في المصر الغرباء وأهل البلدة، فينبغي أن يختار للجلوس موضعاً هو أشهر المواضع، حتى لا يخفى على أحد مجلسه، والمسجد الجامع في كل موضع أشهر المواضع، قال الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله: هذا إذا كان المسجد الجامع في وسط البلدة؛ كيلا يلحق بعض الخصوم زيادة مشقة بالذهاب إلى طرف البلدة، وإن جلس في مسجد حيه فلا بأس به، هكذا روي عن بعض السلف أنهم يجلسون في مسجد حيهم. وكذلك إن جلس في بيته لا بأس به، قال فخر الإسلام: هذا إذا كان مسجد حيه أو بيته في وسط البلدة، ويختار مسجد السوق؛ لأنه أشهر، قال الخصاف في «أدب القاضي» : أيضاً وإذا دخل المسجد لا بأس بأن يسلم على الخصوم فقد صح أن شريحاً رضي الله عنه كان يسلم على الخصوم وهذا، لأن السلام سنة متبعة، والقاضي (67آ4) بسبب قضائه لا يمتنع عن سائر السنن كصلاة الجنازة، وعيادة المريض، فكذا عن هذه السنة، والمراد من السلام المذكور التسليم العام، ولا ينبغي له أن يسلم على أحد الخصمين؛ لأن الذي سلم عليه القاضي قد يجترئ على صاحبه فيطمع الجور في القاضي. واختلف المشايخ في التسليم العام، ذكر الخصاف رحمه الله أنه لا بأس به وبعض

مشايخنا قالوا عليه أن يسلم؛ لأن السلام سنة متبعة، ولا يجوز ترك السنة لأجل العلم، وهذا القائل يقول: إن الأمير والوالي إذا دخل المسجد، فالأولى أن لا يسلم لما قلنا، وإذا دخل المسجد، وجلس ناحية منه لفصل الخصومة، لا ينبغي له أن يسلم على الخصوم، ولا ينبغي للخصوم أن يسلم عليه أما لا ينبغي له أن يسلم، لأنه إنما جلس لفصل الخصومة فينبغي أن يشتغل بما جلس له لا بغيره، ولأن القاضي جالس، والسنة في السلام أن يسلم القائم على الجالس، والماشي على القائم، والراكب على الماشي، وأما لا ينبغي للقوم أن يسلموا عليه لأن السلام تحية الزائرين، والخصوم ما تقدموا إليه لأجل الزيارة، إنما تقدموا إليه لأجل الخصومة، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» . وبعض مشايخنا يقيسون الأمراء والولاة على القضاة، فقالوا: هم لا يسلمون على الرعية، والرعية لا يسلمون عليهم، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي: والصحيح هو الفرق بين القضاة والأمراء والولاة، والرعية يسلمون على الأمراء والولاة، والخصوم لا يسلمون على القضاة، والفرق وهو أن القاضي ما جلس للزيارة، والخصوم ما تقدموا إليه لأجل الزيارة والسلام تحية الزائرين فلا يسلمون عليه لهذا، وأما الأمراء والولاة يجلسون للزيارة لا لفصل الخصومات، والناس يدخلون عليهم لأجل الزيارة، فيسلمون عليهم لما ذكرنا أن السلام تحية الزائرين، فعلى قول هذا لو جلس الأمير لفصل الخصومة لا يسلمون عليه، ولو جلس القاضي لزيارة الناس يسلمون عليه، ولو سلم الخصوم على القاضي بعد ما جلس ناحية من المسجد لفصل الخصومات، فلا بأس بأن يرد عليهم السلام، هكذا ذكر الخصاف، وهذا إشارة إلى أنه لا يجب عليه رد السلام، وهذا لأن الرد جواب السلام، والسلام إنما يستحق الجواب إذا كان في أوانه، أما إذا كان في غير أوانه فلا. ألا ترى أن من سلم على المصلي لا يستحق الجواب، وإنما لا يستحق لما قلنا حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد الفضل البخاري رحمه الله أنه كان يقول: من جلس لنفع تلامذته فدخل عليه داخل وسلم، وسعه أن لا يرد، لأنه إنما جلس للتعليم لا لرد السلام فلا يكون السلام في أوانه، وإذا جلس القاضي لفصل الخصومات ينبغي أن يقيم بين يديه رجلاً يمنع الناس عن التقدم بين يديه في غير وقتها، ويمنعهم عن إساءة الأدب، ويقال له صاحب المجلس، وله أسامي الشرطي، والعريف، والحلوان. وينبغي أن يكون معه سوط؛ لأنه يحتاج إلى تأديب السفهاء، والتأديب عادة يكون بالسوط، وقد كان لرسول الله عليه السلام قضيب يأخذ بيده، وكان ذلك القضيب معه إلى أن توفي عليه السلام، ثم صار القضيب في يد أبي بكر رضي الله عنه، ثم صار في زمن عمر رضي الله عنه الدرة، ثم صار بعده السياط. وينبغي أن يكون أميناً لأن مجلس القاضي بحضرة النسوان، فيؤدي إلى الفتنة لو لم يكن أميناً، وينبغي أن لا يكون طماعاً حتى لا يرتشي، فلا يميل إلى بعض الخصوم، ولا يترك إذا أساء الأدب. وإذا جلس الخصمان بين يدي القاضي، ورأى القاضي أن يأمر صاحب المجلس

ليقوم معدتيه حتى لا يعرف ما يدور بين الخصمين وبين القاضي، ولا يعلم به أحد الخصمين ولا يلق شيئاً فعل ذلك، وإن كان ثقة مأموناً، فتركه بقرب منه، فلا بأس والقاضي أن القاضي يعمل ما فيه النظر والاحتياط في أمور الناس، ولا ينبغي لهذا الرجل أن يسار لأحد الخصمين، لأنه ربما يتهم الخصم الآخر أنه واضعه على شيء، فيجر بذلك تهمة إلى القاضي، وينبغي للقاضي إذا تقدم إليه الخصمان أن يسوي بينهما في النظر، والمجلس فيجلسهما بين يديه، لأن القاضي مأمور بالعدل والإنصاف بين الخصوم وعين العدل التسوية بينهما في المجلس إذا أجلسهما بين يديه، لأنه إذا لم يجلسهما بين يديه أما إن أجلسهما من جانب واحد وفيه تفويت التسوية، لأن أحدهما يكون أقرب إلى القاضي، وأما إن أجلس أحدهما من جانب، والآخر من جانب وفيه تفويت التسوية أيضاً؛ لأن لليمين فضلاً على الشمال. وفي «النوازل» : رجل خاصم السلطان إلى القاضي، فجلس السلطان مع القاضي في مجلسه، والخصم على الأرض ينبغي للقاضي أن يقوم من مكانه، ويجلس خصم السلطان فيه، ويقعد على الأرض، ثم يقضي بينهما حتى لا يكون مفضلاً أحد الخصمين على الآخر، وهذه المسألة دليل على أن القاضي إذا وقع له خصومة، أو عليه لا بأس أن يحكم فيه خليفته، وقد صح أن يهودياً ادعى على الرشيد دعوى في زمن أبي يوسف بين يدي أبي يوسف، وقد سمع أبو يوسف رحمه الله خصومتهما، وقضى على الرشيد، وإنه دليل على دليل القول أيضاً. وحكي عن الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله أنه كان يقول: إذا وقع الدعوى بين الرجل وابنه ينبغي أن يسوي بينهما في المجلس، لأن الدليل الموجب للتسوية لا يوجب الفضل بين خصم وخصم، وينبغي للخصمين أن يجثوا بين يدي القاضي، أو صاحب مجلسه تعظيماً للحكم، كما يجلس المتعلم بين يدي المعلم تعظيماً للمعلم. وينبغي للقاضي أن يسوي بينهما في النظر، ولا ينظر إلى أحدهما دون الآخر؛ لأن نظره إلى أحدهما إن كان نظر شفقة ورأفة، فقد مر تهمة الميل إلى نفسه، وإن كان نظر هيبة ينكر، قلت: المنظر فعسى يذهب ويترك حقه، فيكون القاضي هو المضيع لحقه، وكذلك لا ينبغي له أن يرفع صوته على أحدهما؛ لأنه ينكسر قلب الذي رفع صوته عليه، لأنه يجر به تهمة الميل إلى خصم الآخر، وكذلك لا ينبغي له أن يطلق بوجهه إلى أحدهما في شيء من المنطق ما لا يفعل ما لآخر مثله لما ذكرنا. وكذلك لا ينبغي له أن يسأل على أحدهما، ويلقنه حجته، لأنه مكسرة لقلب الخصم الآخر، وسبباً لتهمة الميل.

والحاصل: أن القاضي مأمور بالتسوية فيما يقدر على التسوية وفيما في وسعه، وكل شيء يقدر على التسوية بينهما فيه لا يعذر تركها فيه، وما لا يقدر على التسوية فيه لا يؤاخذ بترك التسوية فيه، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسوي في القسم بين نسائه وكان يقول: «هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك» يعني: بميل القلب إلى عائشة رضى الله عنها. قال صاحب «الأقضية» : وينبغي أن يكون جلوسهما بين يدي القاضي على قدر ذراعين، أو نحو ذلك بحيث يسمع كلامهما من غير أن يرفع أصواتهما، وهذا لأن القاضي لا يمكن من القضاء بحق على الوجه الذي أمر إلا بعد سماع كلامهما، والخصوم نهوا عن رفع الصوت بين يدي القاضي لما فيه من إسقاط حشمته، فقدرنا موضع جلوسهما بما قدرنا ليتمكن القاضي من القضاء على الوجه الذي أمر من غير أن يكون إسقاط حشمته وهيبته. وينبغي للقاضي إذا جلس في المسجد أن يسند ظهره إلى المحراب، وكان الرسم في زمن الخصاف وغيره أن يجلس مستقبلاً القبلة بوجهه، ورسم زماننا أحسن؛ لأن القاضي إذا جلس مستقبل القبلة كان القوم والخصوم بين يده مستدبرة في القبلة، وإذا أسند القاضي ظهره إلى المحراب كان الخصوم والقوم بين يديه مستقبل القبلة، ويقف أعوان للقاضي بين يدي القاضي ليكون أهيب في أعين الناس، ويجب أن يكون قيامهم بعيد من القاضي حتى لا يسمعوا ما يدور بين القاضي وبين من تقدم إليه من الخصوم، ولا يعرفون رأي القاضي في بعض ما يقع لهم من المسائل، ولا يحتالون لإبطاله ويجلس كاتبه ناحية منه بحيث يراه حتى إذا احتاج إليه كان قادراً عليه (67ب4) ولأنه إذا كان يراه لا يخشى منه الزيادة والنقصان في الكتابة. قال الخصاف في «أدب القاضي» : وإذا جلس القاضي للقضاء فلا بأس بأن يجلس مع نفسه من يثق بدينه، وأمانته وفقهه في مجلس الحكم قريباً منه، بحيث يسمعون كلامه وكلام من يحضره من الخصوم. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: ينبغي للقاضي أن ينظر لنفسه وإن كان رأى رجلاً حيياً، ورأى جلوسه بانفراده أحسن لنفسه لا يجلس مع غيره؛ لأن الرجل إذا كان حييّاً ربما يحتشم ممن معه فينقطع، ويعجز عن أدراك الصواب، ولا يتبين له الحق لحيائه وحشمته ممن معه، وإذا كان معه يكون مجتمع الرأي يدرك الصواب، ولا يغيب عنه الصواب فإذا كان هكذا فالأصل أن لا يجلس معه غيره، وإن كان جريء القلب غريم الصواب والنصرة، فلا بأس بأن يجلس معه قوماً من أهل العلم والرأي والتدبير لمنافع. أحدها: أن يكون أعظم لأمر القضاء وأهيب في أعين الناظرين.

والثاني: أنه إذا اشتبه إليه شيء يشاورهم وإذا أشكل عليه شيء سألهم. والثالث: أنه إذا ضل يرشدونه وإذا زل ينبهونه، وقد جاء على هذا أثار من الصحابة والتابعين، ثم شرط الخصاف في الذي جلس مع القاضي الأمانة والديانة والفقه، أما اشتراط الأمانة، والديانة؛ فلأن مجلس القضاء يحضره الشبان من النسوان فلو لم يكن أميناً متديناً ربما يمكن فيه فساد، وأما الفقه فلأن المقصود من إجلاس غيره معه المشورة وإصابة الحق واستخراج الحكم، وإنما يحصل من الفقيه لا من غيره. قال الخصاف: ولا ينبغي للقاضي أن يشاورهم بمحضر من الخصوم، حتى لا يقع في قلب من كان جاهلاً أن القاضي لا يدري ويسأل عن غيره فيذهب حرمته وماء وجهه، ثم إذا تقدم إليه الخصمان سأل المدعي دعواه هكذا ذكر الخصاف وصاحب كتاب «الأقضية» أبو جعفر رحمه الله. وهذا فصل اختلف فيه المشايخ بعضهم قالوا: ليس للقاضي أن يسأل المدعي عن دعواه، لأن فيه تهيج الخصومة، والقاضي نصب لقطع الخصومة لا لتهييجها، ولكن يسكت ويستمع ما ادعاه المدعي، وبعضهم قالوا يسأل وبه أخذ الخصاف، وصاحب كتاب «الأقضية» ، وهذا لأن مجلس القضاء مجلس هيبة وحشمة، فمن لم ير مثل هذا المجلس يتحير وعسى يعجز عن بيان دعواه، فينبغي للقاضي أن يسأل ولو نسبه لكلامه حتى يقدر على بيان دعواه، وهكذا ذكر في «محاضر ابن سماعة» وهكذا ذكر في «المنتقي» . وروي عن محمد رحمه الله: إن القاضي بالخيار إن شاء سأل وإن شاء سكت، وذكر الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله أن على قول أبي يوسف رحمه الله القاضي يسأل، وعلى قول محمد رحمه الله لا يسأل بل يسكت، ثم إذا سأله أو لم يسأله ولكن ادعى بنفسه سأل القاضي المدعى عليه عن دعوى المدعي في صحيفة وينظر فيه، أصحيح هو أو فاسد؟ فإن كان فاسداً لا تقبل على المدعى عليه؛ لأن الدعوى إذا لم تكن صحيحة لا يتوجه الجواب على المدعى عليه، ولكن يقول للمدعي قم فصحح دعواك هكذا ذكر الخصاف في موضع من «أدب القاضي» . وذكر في موضع آخر أن القاضي لا يقول له ذلك، وبه أخذ بعض مشايخنا رحمهم الله، لأن هذا من القاضي تلقين، ولكن يقول له: دعواك هذه فاسدة، فلا يلزمني سماعها وهذا ليس تلقين بل هو فتوى بالفساد، وإنما يقول له: إن دعواك فاسدة؛ لأنه لو لم يقل له ذلك ربما يتهمه المدعي بالميل إلى خصمه حيث لم يقبل عليه، ولم يسأل الجواب فيبين ذلك، ليعلم المدعي أنه إنما لم يسأله؛ لأن السؤال لم يكن مستحقاً عليه، وإن كانت دعواه صحيحة فالقاضي يسأل المدعي عليه ويقول له: إن خصمك ادعى عليك كذا أو كذا فماذا تقول هكذا ذكر الخصاف، وصاحب كتاب «الأقضية» . وفيه اختلاف المشايخ على نحو ما ذكرنا في جانب المدعي فإن عند بعض المشايخ لا يسأله القاضي الجواب، حتى لا يكون تلقينا، ولكن ينظر إليه ليأتي بالجواب ثم إذا

سمع جواب المدعى عليه كتب جوابه في قرطاس، أو أمر الكاتب أن يكتب ذلك بين يديه: بسم الله الرحمن الرحيم حضر القاضي فلان بن فلان يوم كذا بكذا ليلة خلت من شهر كذا من سنة كذا فأما الكتابة ليقع الأمن عن الزيادة والنقصان في جواب المدعى عليه، فيمكن الرجوع إليه عند مساس الحاجة، ولأجل ذلك قال: يكتب الكاتب بين يدي القاضي حتى يقع الأمن عن الزيادة والنقصان من الكاتب وأما كتابة التاريخ فلأن المدعي عليه، ربما يأتي بالدفع والحكم فيه يختلف، بينما قبل الدعوى، وبينما بعد الدعوى. ثم إن كان القاضي يعرف المدعى عليه والمدعي أثبتهما في رقعه معروفة، وكتب حضر فلان وأحضر معه فلاناً وإن لم يعرفهما أرسل الكتابة إرسالاً وكتب حضر رجل ذكر أنه فلان بن فلان، ينسبه إلى أبيه وجده أو إلى مواليه فكتب ذكر أنه مولى فلان بن فلان فإن كان له تجارة أو صناعة يعرف بها ينسبه إليها زيادة في التعريف، وكذلك بحملة زيادة في التعريف ولكن يحليه بما يره لا بما يشبه، وأحضر رجلاً ذكر أنه فلان على نحو ما بينا في جانب المدعي ثم يكتب فادعى فلان بن فلان يعني المدعي، ثم يكتب فادعى فلان بن فلان يعني المدعي الذي حضر على فلان بن فلان يعني المدعى عليه، الذي أحضره معه كذا وكذا يكتب دعواه من غير زيادة ونقصان، ثم يكتب، فسأل القاضي المدعي عليه فلان بن فلان عما ادعي عليه فلان بن فلان من الدعوى الموصوفة في هذا الكتاب، فإن كان قد أقر به كتب إقراره، وإن كان قد جحد يكتب جحوده، ليعلم بعد ذلك أنه هل ينبغي له أن يسمع البينة عليه أم لا، وينبغي أن يكتب الجحود بلفظه، ولا يحوله إلى لسان العربية إلا إذا أمكنه أن يحوله من غير زيادة ونقصان، ومن غير أن يدخل فيه كلمة مبهمة مشتركة، فإن الجحود يختلف حكمه باختلاف أنواعه. فإن في الوديعة لو جحد الإيداع أصلاً ثم ادعى الرد أو الهلاك لا تسمع دعواه، ولو قال: ليس علي تسليم ما ادعيت ولا قيمتها ثم ادعى الرد أو الهلاك لا تسمع دعواه، فكتب عبارته بلسانه من غير زيادة ونقصان حتى يبني عليه حكمه، وهذا الذي ذكرنا رسم قضاة ديار الخصاف، وصاحب كتاب «الأقضية» ، وعرف زماهما والقضاة في زماننا على رسم أحسن من هذا، فإن المدعي في زماننا ما في كاتب باب القاضي حتى يكتب دعواه في بياض، وكتب حضر القاضي يكتب اسم القاضي الذي ترفع إليه الحادثة، ويترك موضع التاريخ، ثم يكتب اسم المدعي، ونسبه ويكتب اسم المدعى عليه ونسبه ويكتب دعواه بشرائطه، ثم يترك موضع الجواب، فإذا جلس المدعي ووكيله للخصومة يدعى وكيله من ذلك الكتاب، ويسأل القاضي المدعى عليه الجواب عن دعواه، فإذا أجابه بالإقرار أو بالإنكار دفع البياض إلى القاضي حتى يكتب التاريخ في أوله والجواب في آخره، بعبارة المدعى عليه، ثم إن كان الجواب بالإقرار أمره القاضي بالخروج عن عهده بالقرينة، وإن كان بالجحود فالقاضي يقول للمدعي: إن خصمك قد جحد دعواك فماذا تريد؟. هكذا ذكر الخصاف، وصاحب كتاب «الأقضية» ، وهو اختيار بعض المشايخ وإنه

على الاختلاف، فإن قال المدعي: حَلِّفه فالقاضي يقول للمدعي: ألك بينة على ما هو رأي الخصاف وصاحب كتاب الأقضية، وهو قول بعض المشايخ فإن قال: لا حلف القاضي المدعي عليه، وإن قال نعم لي بينة فالقاضي يأمر بإحضارها، ويكتب أسماء الشهود وأنسابهم وحلاهم ومحالهم، أو يأمر الكاتب حتى يكتب ذلك فإذا أحضر المدعي شهوده يكتب الكاتب لفظ شهادتهم (67آ4) من غير زيادة ونقصان، فإذا جلس الشهود بين يدي القاضي، وجاء أوان الشهادة أخذ للقاضي البياض، وسألهم عن شهادتهم، وإن كتب القاضي لفظ شهادتهم بنفسه فهو أوثق وأحوط، ثم يقلد القاضي لفظ شهادتهم بالدعوى فإن كانت موافقة للدعوى، وعرف القاضي الشهود بالعدالة يقول للمدعي عليه هل لك دفع؟ فإن قال نعم ولكن أمهلني حتى آتي به أمهله. وإن قال: لا وجه عليه القضاء، وإن لم يعرف القاضي إياهم بالعدالة يتوقف وإن قال المدعي لي بينه حاضرة إلا أني أطلب يمين المدعى عليه، إن قال حاضر في المجلس فالقاضي لا يجيبه ولا يحلف المدعى عليه بالإجماع كذا ذكره القدوري رحمه الله في «شرحه» ، وإن قال حاضره في بلدته، فالقاضي لا يجيبه ولا يحلف المدعى عليه، في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: يجيبه وقول محمد مضطرب ذكره القدوري رحمه الله مع قول أبي حنيفة رحمه الله، وذكره الخصاف مع قول أبي يوسف، وذكر الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله أن القاضي يحلفه في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمد لا يحلفه.h وجه من قال يجيبه، أن المدعي عسى يقدر عليه الوصول إلى حقه بالبينة بأن لا يعدل شهوده، فيجيبه إلى طلب التحليف حتى لا يصير معرضاً لحقه على الهوى والتلف. وجه قول من قال: لا يجيبه أن القياس يأبى استحقاق اليمين على المدعى عليه، لأنها تستحق بمجرد الدعوى، ومجرد الدعوى لا يصلح سبباً للاستحقاق لكن عرفنا الاستحقاق قريباً على البينة في قصة الخضري والكندي فيبقى الاستحقاق لا بهذه الصفة، على أصل القياس وإذا كانت المسألة مختلفة، فإن كان القاضي لا يرى استحلافه لا يحلفه، وإن كان يرى استحلافه يحلفه وإذا حلفه، وحلف وطلب من القاضي أن يعطيه رقعة أن فلاناً ادعى على فلان كذا وحلفه وحلف حتى لا يقدمه إلى هذا القاضي ثانياً، أو إلى قاض آخر، فيحلفه مرة أخرى، أعطاه نظراً له والقاضي بالخيار إن شاء كتب ذلك في رقعة على حدة وإن شاء كتب ذلك في البياض الذي كتب فيه الدعوى والإنكار، وكتب فيه التاريخ وأعطاه. ثم الدعوى لا تخلو أما أن تقع في العين، أو في الدين فإن وقع الدين والمدعى مكيل، فإنما يصح الدعوى إذا ذكر المدعي جنسه أي أنه حنطة أو شعير، ويذكر نوعه أنه صيفي أو بري، أو خريفي أو ربيعي، وصفته أنه وسط أو جيد أو رديء، ويذكر الحمراء أو البيضاء في الحنطة، ويذكر قدره فيقول: كذا قفيزاً؛ لأن الحنطة تكال بالقفيز ويذكر بقفيز، كذا لأن القفيزات تتفاوت في ذاتها، ويذكر سبب الوجوب لأن أحكام الديون

تختلف باختلاف أسبابها، فإنه إذا كان بسبب السلم لا يجوز الاستبدال به، ويحتاج إلى بيان مكان الإيفاء فيه، ليقع التحرر عن موضع الخلاف. وإن كان من ثمن بيع جاز الاستبدال به، وبيان مكان الإيفاء فيه، ليس بشرط، وإن كان من قرض لا يجوز التأجيل فيه بمعنى أنه لا يلزم، ويذكر في السلم شرائط صحته من أعلام جنس رأس المال ووزنه، إن كان وزنياً وإيفائه في المجلس حتى يصح عند أبي حنيفة رحمه الله وتأجيل المسلم فيه شهراً، أو أكثر حتى يخرج عن حد الاختلاف، وكذا ما سوى ذلك من شرائط السلم، على ما عرف في البيوع. ويذكر في القرض القبض وصرف المستقرض إلى حاجته، لأن عند أبي حنيفة رحمه الله لا يصير ديناً عليه إلا بالاستهلاك، وينبغي أن يذكر في دعوى القرض أيضاً أنه أقرضه كذا من مال نفسه، لجواز أن يكون وكيلاً في الإقراض، والوكيل في الإقراض سفير ومعبّر، ولا يكون له حق الأخذ، ولا حق المطالبة بالأداء، وكذلك في كل سبب من الأسباب يذكر شرائط أيضاً لأن كل أحد لا يهتدي إلى العقد شرائط. العقد فينبغي أن يبين ذلك للقاضي حتى يتأمل فيه القاضي إن وجده صحيحاً عمل به وإلا رده، وإن كان المدعي به وزنياً يذكر جنسه، فإن كان ذهباً وكان مضروباً، ويذكر كذا ديناراً، ويذكر نوعه أنه نيسابوري الضرب أو بخاري الضرب، أو ما أشبه ذلك، ولم يذكر صفته أنه جيد أوردئ أو وسط، وإذا ذكر البخاري والنيسابوري لا يحتاج إلى ذكر الأحمر، لأن البخاري أو النيسابوري لا يكون إلا حمراء، ولا بد من ذكر الجيد، عليه عامة المشايخ. وفي «فتاوي النسفي» : إذا ذكر أحمر خالص كفى ولا يحتاج إلى ذكر الجيد، ولا بد أنه يبين أن من ضرب أي والي عند بعض المشايخ؛ لأن في مضروب الولاة تفاوتاً، وبعضهم لم يشترطوا ذلك، وأنه أوسع، ويذكر المثقال مع ذلك، فإن الدنانير توزن بالمثقال، ويذكر نوع المثقال؛ لأن مثاقيل البلدان مختلفة، وإن لم يذكر مضروباً لا يذكر كذا ديناراً بل يذكر مثقالاً، فإن كان خالصاً من الغش تذكر كذلك، وإن كان فيه غش ذكر ذلك أيضاً نحو والده نوصي أوده متى والده شتى، أو ما أشبه ذلك. فإن كان المدعي به نقرة، وكان مضروباً ذكر نوعها وهو ما يضاف إليه، وصفتها أنها جيد أو وسط أو رديئة، وكذا ذكر قدرها كذا درهماً وزن سبعة؛ لأن وزن الدراهم مختلف باختلاف البلدان، والذي في ديارنا وزن سبعة، وهو الذي كل عشرة منها يزن سبعة مثاقيل، وإن كانت فضة غير مضروبة ذكر فضة خالصة من الغش، إن كانت خالية من الغش، ويذكر نوعها نقرة كليخة أو نقرة طمغاجي، ويذكر صفتها أنها جيدة أو وسط أورديء، ويذكر قدرها كذا كذا درهماً، وقيل: إذا ذكر كذا كذا طمغاجي كفى، ولا يحتاج إلى ذكر الجيد، وإن كان المدعي به دراهم مضروبة والغش فيها غالب فإن كان يعامل بها وزناً يذكر نوعها وصفتها ومقدار وزنها، وإن كان يعامل بها عدداً، ومنها أشياء أخر تأتي في كتاب «الدعوى» إن شاء الله. وإن كان الدعوى في العين، فإن كان المدعى به منقولاً وهو هالك، ففي الحقيقة

الدعوى في الدين وهو القيمة فيشترط بيان القدر والصفة والنوع والجنس على ما بينا. وإن كان قائماً فإن كان بحال يمكن إحضار مجلس الحكم، فلا بد من الإحضار مجلس الحكم، ولا بد من الإشارة إليه في الدعوى والشهادة، وستأتي المسألة مع فروعها في كتاب الدعوى إن شاء الله. وإن وقع الدعوى في عين غائب لا يعرف مكانه بأن ادعى رجل على رجل أنه غصب منه ثوباً، أو صار به لا يدري أنه قائم أو هالك، فإن بين الجنس والصفة والقيمة، فدعواه مسموعة وبينته مقبولة، وإن لم يبين القيمة بأن لم يعلم قيمته أشار في عامة الكتب إلى أنها مسموعة. فإنه ذكر في كتاب الرهن: إذا ادعى على رجل آخر أنه رهن عنده ثوباً، وهو ينكر قال تسمع دعواه، وقال في كتاب الغصب: رجل ادعى على غيره أنه غصب منه جارية، وأقام بينة على ما ادعى تسمع دعواه، وتسمع بينته، بعض مشايخنا قالوا: إنما تسمع دعواه إذا ذكر القيمة، وهذا القائل يقول ما ذكر في الكتاب هذا. وكان الفقيه أبو بكر الأعمش رحمه الله يقول: تأويل المسألة أن الشهود على إقرار المدعى عليه بالغصب، فثبت غصب الجارية بإقراره في حق الحبس والقضاء جميعاً، وعامة المشايخ على أن هذه الدعوى صحيحة والبينة مقبولة، ولكن في حق الحبس، وإطلاق محمد رحمه الله في «الكتاب» يدل عليه. قال فخر الإسلام علي رحمه الله، إذا كان المسألة مختلفة ينبغي للقاضي أن يكلف المدعي بيان القيمة، فإذا كلفه ولم يبين يسمع دعواه، وهذا لأن الإنسان قد لا يعرف قيمة ما له، فلو كلفه بيان القيمة فقد أضر به، أو تعذر عليه الوصول إلى حقه، وإذا سقط بيان القيمة من المدعي سقط من الشهود من الطريق الأولى وتمام المسألة مرت في كتاب الغصب. وإن وقع الدعوى في العقار، فلا بد من ذكر البلدة التي فيها الدار المدعى به، ثم من ذكر المحلة، ثم من ذكر السكة بدأ بالأعم وهو البلد ثم بالأخص، وهذا فصل اختلف فيه أهل الشروط، قال بعضهم: يبدأ بالأعم، وقال بعضهم: يبدأ (68ب4) بالأخص وعند أهل العلم له الخيار إن شاء بدأ بالأعم، وإن شاء بدأ بالأخص؛ لأن المقصود هو التعريف، والتعريف حاصل بالكل، فلا بد من ذكر حدود الدار بعد هذا. قال جماعة من أهل الشروط: ينبغي أن يذكر في الحد يدخل في المحدود، وعندنا كلا اللفظتين على السواء أيهما ذكر فهو حسن؛ لأن المقصود تعريف للدار المدعى به باتصالها بدار فلان، وإنه حاصل باللفظين جميعاً وما يقول بأن الحد يدخل في المحدود ليس كذلك لأن الحد غاية والغاية لا تدخل تحت المضروب له غاية، فإن ذكر الحدين لا يكفي في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله، وإن ذكر ثلاثة حدود كفاه وكذلك في الشهادة

الفصل الثامن: في أفعال القاضي وصفاته

إذا ذكر الشهود ثلاثة حدود قبلت شهادتهم، وكيف يحكم بالحد الرابع في هذه الصورة إذا قبلت شهادة الشهود، قال الخصاف في «وقفه» : أجعل الحد الرابع بإزاء الحد الثالث، حتى ينتهي إلى مبتدأ الجزء الأول أي بإزاء الحد، الأول وإن ذكر المدعى الحدود الأربعة وأخطأ في واحد منهما لا تقبل شهادتهم عندنا، خلافاً لزفر رحمهم الله وزفر رحمه الله قاس ترك ذكر أحد الحدود بوقوع الغلط، ونحن فرقنا بينهما، والفرق أن بالغلط يختلف المدعى به، وبالترك لا تختلف دعواه والله أعلم. الفصل الثامن: في أفعال القاضي وصفاته قال صاحب «الأقضية» : وأكره للقاضي أن يفتي في القضاء للخصوم، وهذا فصل اختلف فيه العلماء، قال بعضهم: لا يفتي في مجلس القضاء أصلاً كيلا يشغله ذلك عن سماع الخصومات، وقال بعضهم يفتي في العبادات، ولا يفتي في المعاملات، مجلس القضاء وغيره في ذلك على السواء، وهذا لأنه لو أفتى في المعاملات، فالناس يقفون على رأيه في المعاملات، فيشغلون بالتلبيس فيما يقع بينهم من المعاملات والخصومات، فيصير القاضي كالملقن والمعلم لهم، وهذا المعنى لا يتأتى في العبادات، وبعضهم قالوا: يفتي في المعاملات، والعبادات جميعاً في مجلس القضاء وغيره، فقد كان رسول الله عليه السلام يفتي، وكذلك الخلفاء بعده. واتفقوا على أنه لا يفتى للخصوم حتى لا يفتون على رأيه فيشغلون بالتلبيس. وفي «المنتقى» : الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله لا ينبغي للقاضي أن يفتي في شيء من أمر الخصومات، ولا يفتي أحداً يرى أنه من قبل خصم يخاصم إليه، وإن كان رجل يثق به، وهو لا يخاصم، ولا يتهم أنه يستفتى لخصم يخاصم إليه، فلا بأس بأن يفتيه. وروى ابن سماعة عن أبي يوسف في رجلين تقدما إلى القاضي في أمر، فظن القاضي أنهما إنما تقدما إليه ليعلما ما يقضي به في ذلك، أقامهما من عند نفسه، لأنه نصب لفصل الخصومات لا لتلقين الخصوم وتعليم المخارج. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ولا ينبغي له أن يبيع ويشتري ليتيم أو ميت مديون؛ لأن ذلك من عمل القضاء، ومباشرته في باب القضاء أنفى للتهمة، وإنما لم يكن له أن يبيع ويشتري في مجلس القضاء لنفسه، لأن البيع والشراء يجري فيهما المماكسة عادة فتذهب حشمة المجلس، ولو باع واشترى لنفسه في غير مجلس القضاء جاز عندنا، فقد باشر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وكذلك الخلفاء بعده، والمعنى فيه أن حاجته إلى البيع والشراء بعد تقلد القضاء، كحاجته إليه قبل تقلد القضاء وقبل القضاء ملك البيع والشراء لحاجته فبعد القضاء يملك، ولحاجته أيضاً، ومن المشايخ من قال: إن كان يكفى المؤنة من جهة بيت المال، أو يبيع ويشتري ممن يعلم أنه يحابيه لحشمة

القضاء، يكره له أن يبيع ويشتري بنفسه، وإن لم يكن يكفى المؤنة من جهة بيت المال ويبيع ويشتري ممن يعلم أنه لا يحابه لحشمة القضاء، فلا يكره له ذلك. وأطلق المسألة في «المنتقى» فقال: ولا ينبغي له أن يشتري ويبيع ما دام قاضياً، وينبغي ذلك غيره ممن يثق به، ولا ينبغي له أن يستقرض إلا من صديق له أو خليط له، كان قبل أن يستقرض، ولا يخاصم إليه ولا يتهم أنه تعين خصماً، وكذلك الاستعارة، وتشييع الجنازة ويعود المريض؛ لأن هذه الأشياء من حقوق المسلم على المسلم، قال عليه السلام: «ست من حقوق المسلم على المسلم» ، وذكر من جملتها «أن يشيع جنازته، وأن يعوده مريضاً» وما كان على الإنسان من حق لا يسقط بتقليده القضاء، ولكن لا يطيل مكثه في ذلك المجلس، لأن الذين حضروا مجلسه ينتظرونه، ولا يمكن أحداً من الخصوم يتكلم معه في ذلك المجلس بشيء من الخصومات لأن الخصم الآخر يتهمه. ولا يقضي وهو غضبان. قال عليه السلام: «لا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان» ، واختلف عبارة المشايخ في تخريج المسألة بعضهم قالوا: لأنه ينتقم من أحد الخصمين إذا تقدما إليه هكذا، هو العادة أن الإنسان إذا غضب ينتقم ممن يتقدم إليه فيكون ذلك ظلماً منه، وهذا القائل لا يفصل فيما إذا كان وجه القضاء بيناً، وبينما إذا لم يكن بيناً، وإطلاق الحديث يشهد لهذا القائل. وبعضهم قالوا: بسبب الغضب يتفرق رأيه، فتشتبه عليه جهة الصواب، وهذا القائل يفصل بينما إذا كان وجه القضاء بيناً، وبينما إذا لم يكن وجه القضاء بيناً، لأن وجه القضاء إذا لم يكن بيناً يحتاج فيه إلى التأمل، والاجتهاد فيه مرة يفرق الرأي، بخلاف ما إذا كان بيناً، لأنه لا يحتاج فيه إلى التأمل والاجتهاد وهذا القائل يقول: بأن الحديث محمول على ما إذا لم يكن وجه القضاء بيناً. وكذلك لا يقضي إذا دخله نعاس؛ لأن الذي دخله نعاس لا يفهم ما يذكر عنده، فلا يدري بأيّ شيء يقضي. ولا يقضي وهو جائع أو عطشان، لأن الجوع يقطع الرأي، والعطش كذلك فيشتبه عليه جهة الصواب، قالوا: وهذا إذا لم يكن وجه القضاء بيناً فأما إذا كان وجه القضاء بيناً فلا بأس بأن يقضي. وعن هذا قال مشايخنا: لا ينبغي له أن يتطوع في اليوم الذي يريد المجلس للقضاء، لأنه ربما يلحقه جوع مفرط فيضعف رأيه، ويعجز عن إدراك الصواب، وكذلك لا يقضي، وهو كضبط الطعام لأنه إذا كان هكذا يمل القوم ويحب النوم، ولكن ينبغي أن

يكون على اعتدال الأحوال لا يكون كضبط الطعام، ولا يكون به جوع مفرط، أو عطش مفرط، وكذلك لا يقضي وهو يدافع أحد الأخبثين، لأنه يتفرق برأيه قالوا إذا كان وجه القضاء بيناً لا بأس بأن يقضي. قال مشايخنا: وينبغي للقاضي إذا كان شاباً أن يقضي شهوته في أهله قبل أن يجلس للقضاء، حتى إذا حضرته الشبان من النساء لا يشغل قلبه بهن، فيقدر على إدراك الصواب، ولا ينبغي له أن يتعب نفسه في طول المجلس، ولكن يجلس في طرفي النهار أو ما أطاق. وكذلك الفقيه والمفتي. ولا يمازح الخصوم ولا أحدهما، لأن المزاح يذهب مهابة المجلس، ولا يضحك في وجه أحدهما لأنه بسببه يجترئ على خصمه، وكذلك لا يومىء إلى أحدهما إنما لهذا المعني، ولا يعبس وجهه عليهما، ولا على أحدهما ولا يعجل للخصوم الإتيان بحججهم، لأن ذلك يضر بهم. وفي «الأصل» : ولا يخوف الخصم، ومعناه أن يتكلف لتخويف الخصوم، لأن ذلك يمنعهم عن إظهار الحق بالحجة، ولا يقضي وهو يمشي أو يسير على الدابة، لأنه قل ما يمكنه تأمله الحجج في هذه الحالة، وكذلك قال مشايخنا في المفتي: لا ينبغي أن يفتي وهو يمشي، ولكن يجلس في موضع، فإذا استقر فيه أفتى، ومنهم من قال: لا بأس بأن يفتي في الطريق إذا كانت المسألة واضحة، قال في «الأصل» : ويقدم على منازلهم في المجيء إليه الأول فالأول، ولا يبتدئ بأحد جاء قبله غيره يعني في سماع الخصومة، فقد اعتبر محمد رحمه الله السبق، والمتقدمون من المشايخ قبل الخصاف كانوا يعتبرون السبق أيضاً. والخصاف اعتمد على الرقاع، وصورة الرقاع: أن يأمر القاضي كل مدعى، حتى يكتب اسمه واسم خصمه، ثم يرفعه ثم يقرع بينهم، فمن خرجت قرعته أولاً يسمع خصومته. وصورة القرعة: أن يكتب القاضي الرقاع في جراب أو في كمه، ثم يدخل يده، ويخرج رقعة منها فمن خرجت قرعته (69أ4) أولاً يسمع خصومته، ثم يدخل يده ويخرج رقعة أخرى ويفصل تلك الخصومة، هكذا يفعل حتى يأتي على الكل، وهذا إذا كان الخصوم عدداً يعرف القاضي من طريق الحزر، والظن أنه يقدر على فصل خصومتهم في هذا اليوم، فأما إذا أكثروا وعلم القاضي (أنه) لا يقدر على فصل الكل في هذا اليوم يأخذ القاضي أو كاتبه الرقاع ويجعل كل عشرين أو نحو ذلك * قدر طاقة القاضي الجلوس لهم، والصبر عليهم * اختيارة ويكتب لكل اختياره منها رقعة فيها اسم أشهرهم، ثم يجعل كل رقعة منها في جراب ونحو ما بينا، ويقرع بين الكل جملة، فكل رقعة اختار خرجت بعد ذلك، فلهم يوم الأخذ إلى آخره، ويعلم الخصوم التي في كل اختياره أن أسماءهم في اختيار كذا التي نوبتها يوم كذا حتى لا يكثر ترددهم على باب القاضي، ويحتاج في هذا إلى الإقراع مرتين مرة بين الاختيارات، ومرة بين الخصوم التي في كل اختياره، فيكون أحدهما على طريق الجمل، والأخرى على طريق الإفراد.

وله أصل في الشرع، فإن الإمام في باب الغنيمة، يعزل أنصباء الغرماء، فيقرع بينهم ثم يقسم فيما بين الرايات، ويقرع فيما بينهم مرة أخرى، ويكون أحدهما على طريق الجمل والأخرى على طريق الإفراد، كذا هاهنا. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله ما قاله الخصاف حسن، لأن القاضي متى اعتمد على القرعة، وأعلم الخصوم نوبتهم يوم كذا عسى لا يمكنه فصل تلك الخصومات في ذلك اليوم لمعنى من المعاني، فيصير القاضي مخلفاً في وعده، والخلف في الوعد مذموم، والتحرز عنه واجب فيجب الاعتماد على السبق وبه يفتى، وإن اشتبه على القاضي من سبقه أقرع بينهم. قال الخصاف في «أدب القاضي» : وإن اجتمع على باب القاضي أرباب الشهود والأيمان والغرباء، ورأى القاضي أن يقدم أرباب الشهود على الكل فله ذلك، لأنه لو طال مكثهم ربما يملون ويذهبون قبل أداء الشهادة، فيضيع حق المدعي، وإن رأى أن يقدم أرباب الأيمان على أرباب الشهود فله ذلك أيضاً، لأن فصل الخصومة بالأيمان أسهل، وإن رأى أن يقدم الغرباء على الكل فله ذلك، لأن قلب الغريب يكون مع أهله وولده، فمن كثر مكثه وتردده يمل فيترك حقه ويذهب، فيكون القاضي هو المضيع لحقه ولكن هذا إذا لم يكن بالغرباء كثرة، فالقاضي لا يقدمهم لأجل الغربة، ولكن يعتمد السبق على نحو ما بينا لأن تقدمهم في هذه الصورة يؤدي إلى الإضرار بالمقيمين، وإنه لا يجوز. وهذا التفصيل منقول عن محمد رحمه الله فقد ذكر هشام في «نوادره» : سألت ابتداء الحكم بالغرباء، قال: نعم ما لم يضر بالمقيمين وقال: الذي يرجع من ليله إلى أهله بمنزلة المقيم، والذي يبيت عن أهله بمنزلة الغريب إلا أن الغريب يعني المسافر أشد حالاً. فإن قال واحد من الخصوم للقاضي: أنا غريب عازم على الرجوع إلى وطني، فقدمني على سائر الخصوم لأجل الغربة، فالقاضي لا يقبل قوله بدون البينة، لأنه ادعى لنفسه حق التقدم، فيعتبر بما لو ادعى لنفسه حقاً آخر، وهناك لا يقبل قوله بدون البينة، فكذا هنا. ولا يشترط العدالة في هذه البينة حتى لو أقام شاهدين مستورين قبل القاضي ذلك منه، إذ ليس في هذا كبير التزام، وللقاضي ولاية تقدمه في الجملة بدون البينة، ومن أصحابنا من قال: يسأله مع من يريد السفر فإن أخبر بذلك سأل الرفقة متى يخرجون، وأن فلاناً هل يخرج معكم وهل استعد لسفره، لأن الاستعداد للسفر يصلح علامة على السفر قال الله تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة} (التوبة: 46) . فإن قالوا: نعم يثبت ما ادعاه فيقدمه القاضي، وعلى هذا أمر المستأجر إذا زعم المستأجر أنه يريد السفر، وأراد نقض الإجارة بعذر السفر، فالقاضي لا يقبل قوله بدون البينة، ولكن يسأله مع من يريد السفر والخروج؟ وإذا أخبر بذلك سأل رفقته متى يخرجون، وأن فلاناً هل يخرج معكم، وهل استعد للخروج: فإن قالوا: نعم تحقق العقد، ويجب الفسخ، وإن رأى القاضي تقديم النسوان يعمل ذلك، لأن مبنى حالهن على الستر، وتأخيرهن يؤدي إلى التشهير، لأنه يجتمع على باب القاضي أناس مختلفون والتشهير ينافي الستر، وإن رأى القاضي أن يجعل لهن نوبة على حدة في يوم واحد من أيام الجمعة فعمل ذلك، لأن في اختلاطهن بالرجال فتنة، فيجعل لهن نوبة على حدة نفياً للفتنة، وهذا إذا كانت الخصومات بين النسوان، فأما إذا كانت بين النسوان والرجال يعتمد في ذلك على الإقراع والسبق على نحو ما بينا والله أعلم. وهذا التفصيل منقول عن محمد رحمه الله فقد ذكر هشام في «نوادره» : سألت ابتداء الحكم بالغرباء، قال: نعم ما لم يضر بالمقيمين وقال: الذي يرجع من ليله إلى أهله بمنزلة المقيم، والذي يبيت عن أهله بمنزلة الغريب إلا أن الغريب يعني المسافر أشد حالاً. فإن قال واحد من الخصوم للقاضي: أنا غريب عازم على الرجوع إلى وطني، فقدمني على سائر الخصوم لأجل الغربة، فالقاضي لا يقبل قوله بدون البينة، لأنه ادعى لنفسه حق التقدم، فيعتبر بما لو ادعى لنفسه حقاً آخر، وهناك لا يقبل قوله بدون البينة، فكذا هنا. ولا يشترط العدالة في هذه البينة حتى لو أقام شاهدين مستورين قبل القاضي ذلك منه، إذ ليس في هذا كبير التزام، وللقاضي ولاية تقدمه في الجملة بدون البينة، ومن أصحابنا من قال: يسأله مع من يريد السفر فإن أخبر بذلك سأل الرفقة متى يخرجون، وأن فلاناً هل يخرج معكم وهل استعد لسفره، لأن الاستعداد للسفر يصلح علامة على السفر قال الله تعالى: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة} (التوبة: 46) . فإن قالوا: نعم يثبت ما ادعاه فيقدمه القاضي، وعلى هذا أمر المستأجر إذا زعم المستأجر أنه يريد السفر، وأراد نقض الإجارة بعذر السفر، فالقاضي لا يقبل قوله بدون البينة، ولكن يسأله مع من يريد السفر والخروج؟ وإذا أخبر بذلك سأل رفقته متى يخرجون، وأن فلاناً هل يخرج معكم، وهل استعد للخروج: فإن قالوا: نعم تحقق العقد، ويجب الفسخ، وإن رأى

الفصل التاسع: في رزق القاضي وهديته ودعوته وما يتصل به

القاضي تقديم النسوان يعمل ذلك، لأن مبنى حالهن على الستر، وتأخيرهن يؤدي إلى التشهير، لأنه يجتمع على باب القاضي أناس مختلفون والتشهير ينافي الستر، وإن رأى القاضي أن يجعل لهن نوبة على حدة في يوم واحد من أيام الجمعة فعمل ذلك، لأن في اختلاطهن بالرجال فتنة، فيجعل لهن نوبة على حدة نفياً للفتنة، وهذا إذا كانت الخصومات بين النسوان، فأما إذا كانت بين النسوان والرجال يعتمد في ذلك على الإقراع والسبق على نحو ما بينا والله أعلم. الفصل التاسع: في رزق القاضي وهديته ودعوته وما يتصل به ولا بأس أن يأخذ القاضي رزقاً من مال بيت المال، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» ، وعلل فقال: لأنه عامل من عمال المسلمين، وقاسه على عماله عامل الصدقات. قال: وقد ذكر هشام عن محمد أنه كان لا يرى بأساً بأن يأخذ القاضي رزقاً من مال بيت المال، ويروي تعليل محمد رحمه الله أن القضاة من السلف قل أن يرزقوا من بيت المال، فلا بأس بأن يرزق القاضي في زماننا، وأن يتعفف ويتنزه ولم يرتزق فذاك أفضل، لأن القضاة من السلف منهم من لم يرتزق كمسروق وقاسم. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: حاصل الجواب في هذه المسألة أن القاضي إذا كان ذا ثروة ويسار، فالأولى أن لا يرزق، كما فعل عثمان رضي الله عنه، وإن كان صاحب حاجة، فالأولى أن يرزق كما فعل أبو بكر وعمر وعليّ رضي الله عنهم، وهذا لأنه فرّغ نفسه لعمل المسلمين، وعجز عن الكسب، فمتى لم يأخذ كفايته من مال بيت مال المسلمين إما أن يقصر في عمل المسلمين، أو يطمع في مال المسلمين، وفساد ذلك مما لا يخفى. وكان الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله قال: إن القاضي إن كان فقيراً لا يترك حتى لا يرتزق وإن كان غنياً، فبعض مشايخنا على أن الأولى أن يرتزق حتى لا يصير ذلك سنة، لمن يكون بعده، وقد يكون من بعده فقير فيضيق عليهم الأمر، وكما يجعل كفاية القاضي في مال بيت المال يجعل كفاية عياله ومن يمونه من أهله وأعوانه في مال بيت المال، لأن المعنى لا يوجب الفصل.Y ولم ينقل عن محمد رحمه الله أن القاضي هل يأخذ الرزق في يوم البطالة؟ وقد اختلف المتأخرون فيه، والصحيح أنه يأخذ. فأما أجر كاتب القاضي وأجر قسامه، فإن رأى القاضي أن يجعل ذلك على العموم فله ذلك، وإن رأى أن يجعل ذلك في مال بيت المال، وفيه سعة فلا بأس به، وعلى هذا الصحيفة التي يكتب فيها الدعوى الذي يدعي المدعى وشهادتهم إن رأى القاضي أن يطلب ذلك من المدعي فله ذلك، لأن منفعة ذلك

تعود إليه، وإن كان في بيت المال سعة ورأى أن يجعل ذلك في بيت المال فلا بأس به. وقال أبو يوسف رحمه الله في قاض أجري له ثلاثون درهماً لثمن القرطاس والمصحف: أكره له أن يصرف شيئاً من ذلك إلى غير ما جعل إليه. وأما الكلام في هديته، فنقول: هدايا القاضي أنواع: هدية ممن له خصومة، وليس له أن يقبلها سواء كان بينهما قرابة أو لم يكن؛ لأنها شبه الرشوة، والأكل بسبب القضاء. وهدية ممن لا خصومة له، وإنها على نوعين: إما أن يكون بينهما مهاداة قبل القضاء بسبب القرابة أو الصداقة أو لم يكن، فإن لم يكن لا ينبغي له أن يقبلها، لأنه إنما أهداه لأجل القضاء، فيشبه الرشوة والأكل بسبب القضاء، وإن كان بينهما مهاداة قبل القضاء، فإن أهداه بعد القضاء بمثل ما كان يهديه قبل القضاء فلا بأس بأن (69ب4) يقبلها، ويحمل ذلك على المباسطة السابقة حملاً لأمر المسلمين على الصلاح والسداد فيقبلها، وإن كان أهداه بالزيادة على ما يهديه قبل القضاء فإنه لا يأخذه، لأن الزيادة كانت لقضائه. قال الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزوديّ رحمه الله: إلا أن يكون مال المهدي قد ازداد، فبقدر ما ازداد ماله إذا ازداد في الهدية فلا بأس بقبولها. وإن لم يكن بينهما مهاداة، وكان بينهما قرابة، فللقاضي أن يقبل هديته، هكذا ذكر القدوري رحمه الله، لأن في قبول هديته صلة الرحم، وإنها فرض. ثم إذا أخذ الهدية فلم يكن له أخذها أو أخذ الزيادة، فلم يكن له أخذها، ماذا يصنع بها؟ اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: وضعها في بيت المال، وبعضهم قالوا: يردها على أربابها إن عرفهم، وإليه أشار في «السير الكبير» . وإن لم يعرف مهديها أو عرفه إلا أنه كان بعيداً حتى تعذر عليه الرد يضعها في بيت المال، ويكون حكمها حكم اللقطة، وإنما وضعها في بيت المال، لأنه إنما أهدي إليه لعمله وحشمته، وهو في هذا العمل نائب عن المسلمين وحشمته بالمسلمين، فكانت الهدايا من حيث المعنى للمسلمين، فيوضع في بيت مال المسلمين، وهذا بخلاف هدايا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له خاصة، لأن منعته وحشمته كانت لنفسه، على ما قال الله تعالى: {والله يعصمك من الناس} (المائدة: 97) فكانت الهدية لمنعة له بخلاف هدايا القضاء. وهو نظير ما ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» : أمير أهل الحرب إذا أهدى إلى أمير أهل الجيش هدية، فأمير الجيش لا يختص بها بل تكون بينه وبين الجيش، وإذا أهدي إلى واحد من المبارزين شيئاً يختص بها ذلك المبارز، لأنه إنما يهدى إلى أمير الجيش لقوته ومنعته بالجيش، فكانت الهدية للجيش معنى، فأما قوة المبارز ومنعته بذاته فكانت الهدية له خاصة فيختص به، وعلى هذا لو أهدى الرجل إلى مفتى أو واعظ شيئاً كان له أن يقبل ويختص به، لأنه إنما يهدي إليه لعلمه بخلاف هدية القضاء. فأما الكلام في دعوة القاضي. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ولا بأس للقاضي أن يجيب الدعوة العامة، ولا يجيب الدعوة الخاصة، لأنه بمعنى الرشوة، قال: ظاهر أن الناس يميلون إلى القاضي باتخاذ الدعوة له على الخصوص طمعاً في ميل

القاضي إليهم، وتكلموا في الحد الفاصل بين الدعوة الخاصة والعامة، بعضهم قالوا: إن كان خمسة نفر أو ستة نفر إلى العشرة فهذه دعوة خاصة، وإن جاوز العشرة فهذه دعوة عامة، وحكي عن القاضي الإمام أبي علي النسفي رحمه الله أنه قال: الدعوة العامة دعوة عرس أو ختان وما سوى ذلك دعوى خاصة. وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» ، وحكي عن الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أن صاحب الدعوة إن كان بحال لو علم أن القاضي لا يحضر لا يتخذ الدعوة، فهذه دعوة خاصة لا يجيبها، وإن كان الداعي بحال لو علم أن القاضي لا يحضر يتخذ الدعوة، فهذه دعوة عامة فيجيبها، ولم يفصل بين الدعوة الخاصة بين القريب وبين الأجنبي، وكذا لم يفصل بينما إذا كان بين القاضي وبين صاحب الدعوة مباسطة قبل القضاء وكان يتخذ الدعوة لأجله أو لم يكن، وذكر القدوري أن القاضي يجيب الدعوة الخاصة في المحرم. وهكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في «شرح أدب القاضي» . وذكر الطحاوي في «مختصره» ، أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف لا يجيب الدعوة الخاصة من القريب، وعلى قول محمد رحمه الله يجيب، وذكر شيخ الأئمة السرخسي، وشيخ الإسلام رحمهما الله أن صاحب الدعوة إن كان ممن لا يتخذ الدعوة للقاضي قبل تقلده القضاء لا يجيب دعوته، القريب والأجنبي فيه سواء، لأن الظاهر أنما فعل ذلك لأجل القضاء خاصة، وإن كان ممن يتخذ الدعوى للقاضي قبل تقلده القضاء، فالقاضي يجيب دعوته، القريب والأجنبي في ذلك على السواء، لأنه لا يكون ذلك بسبب القضاء ظاهراً. وقيل: صاحب الدعوة إذا كان يتخذ الدعوة قبل القضاء في شهر مرة، وبعد القضاء في كل أسبوع مرة، فالقاضي لا يجيب دعوته إلا في كل شهر مرة، وكذا إذا كان صاحب الدعوة زاد في المباحات بعد القضاء على ما قبل القضاء، فالقاضي يجيب الدعوة له، إلا أن يكون مال صاحب الدعوة قد ازداد فبقدر ما زاد من ماله ازداد في المباحات، فالقاضي يجيبه. وهذا كله إذا لم يكن لصاحب الدعوة خصومة، فأما إذا كان لصاحب الدعوة خصومة لا يجيب دعوته، وإن كان بينهما قرابة أو مباسطة قبل القضاء، لأنه يصير آكلاً لقضائه معنى. ومما يتصل بهذا الفصل فصل الرشوة واعلم بأن الرشوة أنواع نوع منها أن يهدي الرجل إلى الرجل مالاً لإبقاء التودد والتحبّب، وهذا النوع حلال من جانب المهدي والمهدى إليه، قال عليه السلام: «تهادوا تحابوا» .

ونوع منها: أن يهدي الرجل إلى رجل مالاً، لأن ذلك الرجل قد خوفه فيهدي إليه مالاً ليدفع الخوف من نفسه، أو يهدي إلى السلطان مالاً ليدفع ظلمه عن نفسه أو ماله، وهذا نوع لا يحل للآخذ الأخذ، وإذا أخذ يدخل تحت الوعيد المذكور في هذا الباب، لأنه يأخذ المال للكف عن التخويف والظلم، والكف عن التخويف والظلم واجب بحكم الإسلام، ولا يحل أخذ المال بمقابلة الواجب. وهل يحل للمعطي الإعطاء؟ عامة المشايخ على أنه يحلّ، لأنه يجعل ماله وقاية لنفسه، أو يجعل بعض ماله وقاية للباقي، وكل ذلك جائز وموافق للشرع، وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه رشى دينارين بالحبشة، ونجى نفسه، وعن جابر رضي الله عنه أنه قال: لم نجد في زمن بني أمية أنفع لنا من الرشا. قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: فعلى هذا إذا كان الرجل في قرية فيها ظالم، وكان الرجل يهدي إلى الظالم شيئاً من الفواكه، أو من المطعومات ليدفع ظلمه عن نفسه لا بأس به، والخصاف علق حل الإعطاء بالرجاء، فقال: رجونا أن لا يكون إثماً، ووجه ذلك أن القبض حرام، والإعطاء تمكين من القبض، والتمكين من الحرام حرام، إلا أن قصد المعطي في هذا دفع الظلم عن نفسه لا التمكين من الحرام، فمن هذا الوجه لا يكون حراماً، ومن ذلك الوجه يكون حراماً، فعلقه بالرجاء لهذا. ونوع منها: أن يهدي الرجل إلى رجل مالاً ليسوي أمره فيما بينه وبين السلطان، ويعفه في حاجته، وإنه على وجهين: الأول: أن تكون حاجته حراماً، وفي هذا الوجه لا يحل للمعطي الإهداء، ولا للمهدى إليه الأخذ، لأن المهدي يعطي ليتوصّل به إلى الحرام، والمهدى إليه يأخذ ليعينه على الحرام. الثاني: أن تكون حاجته مباحاً، وإنه على وجهين أيضاً: الأول: أن يشترط أنه إنما يهدي إليه ليعينه عند السلطان، وفي هذا الوجه لا يحل للآخذ الأخذ، لأن القيام بمعونة المسلمين واجب بدون المال، فهذا مما أخذ لإقامة ما هو واجب عليه، فلا يحل. وهل يحلّ للمعطي الإعطاء؟ تكلموا فيه، منهم من قال: لا يحل؛ لأن هذا تمكين من القبض الذي هو حرام، ومنهم من قال: يحل؛ لأن غرضه دفع الظلم عن نفسه، وعلى قياس قول الخصاف يجب أن يكون حل الإعطاء معلقاً بالرجاء، على ما بيّنا والحيلة في حل الأخذ، وفي حل الإعطاء عند الكل أن يستأجره صاحب الحادثة يوماً، إلى الليل ليقوم بعمله بالمال الذي يريد الدفع إليه فتصح الإجارة ويستحق الأجير الأجر، ثم المستأجر بالخيار إن شاء استعمله في هذا العمل، وإن شاء استعمله في عمل آخر، قالوا: وهذه الحيلة إنما يصلح إذا كان العمل الذي أستأجره عليه عملاً يصلح الاستئجار عليه. الوجه الثاني: إذا (70أ4) لم يشترط ذلك صريحاً، ولم يعلم أنه إنما يهدي إليه ليعينه عند السلطان، وفي هذا الوجه اختلف المشايخ عامتهم على أنه لا يكره على قياس

مسألة المؤذن والإمام على ما يأتي بيانهما بعد هذا إن شاء الله تعالى، وبعضهم قالوا: يكره، وهذا نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه. ونوع آخر: أن يهدي الرجل إلى رجل مالاً، لأنه سوى أمره عند ذي سلطان، فأعانه في حاجته، ولا يصرح عند الإهداء أنه إنما أهدى إليه، لأنه سوى أمره عند السلطان وهذا نوع يحل للمعطي الإعطاء؛ لأنه أنعم عليه بالنجاة من الظلم، وقد قال عليه السلام: «من أزلت عليه نعمة فليشكرها» . هل يحل للآخذ الأخذ؟ تكلموا فيه منهم من قال: لا يحل، لأنه أقام الواجب ولا يجوز أخذ المال على إقامة الواجب. وقد جاء عن عبد الله جعفر أنه أعان مظلوماً، وخلصه من الظلم وأهدى إليه هدية تبلغ أربعين ألف درهم، فقال عبد الله: إنما لا يأكل منه دانقاً، ومنهم من قال: يحل؛ لأن هذا برّ وصلة، وقاسوه بما ذكر محمد رحمه الله في كتاب الصّلاة أن الإمام أو المؤذن إذا جمع لهم القوم شيئاً وأعطوه من غير أن يشترط عليهم، فما أحسن هذا، فقد سمى ذلك حسناً، وإن كان يعلم أنهم إنما أعطوه بسبب الإمامة والأذان مع ذلك سماه حسناً، وجعل بمنزلة البر والصّلة لما كان الإعطاء بغير شرط كذا هاهنا. وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يحكي عن أستاذه القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: أنه ينظر في هذا إلى العمل الذي أقامه، فإن كان شيئاً لو أستأجره على ذلك يستحق الأجر بأن بعثه رسولاً إلى ظالم، فلما بلغه الرسالة أعطاه المرسل يحل له الأخذ، وما لا فلا هذا إذا لم يكن بينهما تهاد قبل ذلك بسبب من الأسباب، فأما إذا كان بينهما تهادي قبل ذلك بسبب صداقة أو قرابة، فأهدى إليه كما كان يهدي قبل ذلك، ثم إن المهدى إليه قام لإصلاح أمره، فهذا أمر حسن؛ لأنه مجازاة الإحسان بالإحسان، ومقابلة الكرم بالكرم. ونوع من ذلك: أن يهدي الرجل إلى سلطان ليقلد القضاء له أو عملاً آخر، وهذا نوع لا يحل للآخذ الأخذ، ولا للمعطي الإعطاء، لأن المعطي إنما يعطي ليأخذ أموال الناس، ويظلم عليهم، والآخذ إنما يأخذ ليسلطه على الظلم، ومن أخذ القضاء بالرشوة، هل يصير قاضياً؟ فالصحيح أنه لا يصير قاضياً، ولو قضى لا ينفد قضاؤه. ونوع من ذلك: أن يهدي الرجل إلى قاض ليقضى له، وهذا نوع لا يحل للآخذ الأخذ ولا للمهدي الإعطاء، أما لا يحل للآخذ الأخذ، لأن القضاء إن كان بالجور، فالقضاء بالجور حرام، فإنما أخذ المال لمباشرة الحرام، وإن كان القضاء بحق، فلأن القضاء بالحق عبادة، وأخذ المال على العبادات لا يجوز، وأما لا يجوز الإعطاء؛ لأنه إن كان القضاء له بالجور، فإنما يعطى المال لأجل الحرام، وإن كان القضاء بالحق؛

الفصل العاشر: في بيان ما يكون حكما وما لا يكون حكماوما يبطل به الحكم بعد وقوعه صحيحا وما لا يبطل

فلأن إعطاء المال لمقصود المحصول له، فيكون سفهاً والسفه حرام. بيان هذا: أن المقصود من هذا الإعطاء أن يقضي له، فيصير المدعى به حقاً وملكاً له، وإنما يصير المدعى به حقاً وملكاً على تقدير نفاذ القضاء، وقضاء القاضي فيما ارتشى باطل لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى. قال الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : فإذا قبل القاضي الرشوة، وقضى للراشي، فقضاؤه فيما ارتشى باطل، وقضاياه فيما لم يرتش نافذة، وبه أخذ شمس الأئمة السرخسيّ رحمه الله، وذكر الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزوديّ رحمه الله أن قضاياه باطلة فيما ارتشى وفيما لم يرتش. واعلم بأن القاضي بأكل الرشوة يصير فاسقاً؛ لأنه آكل السحت، وإنه يوجب الفسق، والقاضي بالفسق ينعزل عند بعض مشايخ العراق، وعند بعض مشايخ العراق وعامة مشايخنا أنه لا ينعزل ولكن يستحق العزل، وقد ذكرنا هذا في صدر الكتاب. ثم على قول بعض مشايخنا إذا انعزل لا شك أنه لا تنفذ قضاياه أصلاً لا فيما ارتشى ولا فيما لا يرتشي، وعند مشايخنا، وبعض مشايخ العراق: إذا لم ينعزل تنفذ قضاياه فيما لم يرتش بلا خلاف، وفيما ارتشى اختلفوا على نحو ما بينا، فوجه قول من قال: إنه ينفذ؛ لأنه على قضائه بعد، وجه قول من قال: لا ينفذ أنه قضى بخلاف أمر الشرع؛ لأن الشرع أمره بقضاء لا يعتاض عنه، فقضاء يعتاض عنه يكون بخلاف أمر الشرع فيكون باطلاً، حتى قالوا: لو رد الرشوة، ثم حكم ينفذ حكمه، لأنه ما اعتاض عن قضائه، وإن ارتشى ولد القاضي أو كاتبه أو من أشبههما، فإن كان ذلك بأمر القاضي ورضاه، فهذا وما لو ارتشى القاضي بنفسه سواء، وإن كان بغير أمر القاضي ورضاه نفد قضاياه، لأنه ما أعتاض عن قضائه، فلم يكن قضاؤه بخلاف أمر الشرع والله أعلم. الفصل العاشر: في بيان ما يكون حكماً وما لا يكون حكماًوما يبطل به الحكم بعد وقوعه صحيحاً وما لا يبطل قال مشايخنا: ينبغي للقاضي إذا أراد الحكم أن يقول للخصمين أحكم بينكما، وهذا على وجه الاحتياط، حتى إذا كان في التقليد خللاً يصير حكماً بتحكيمهما، وإذا قال القاضي: ثبت عندي أن لهذا على هذا كذا هل يكون هذا حكماً من القاضي؟ كان القاضي الإمام أبو عاصم العامري رحمه الله يفتي بأنه حكم، وهو اختيار شمس الأئمة الحلواني، واختيار الصدر الشهيد رحمهما الله، وكان القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله يقول: لا بد وأن يقول القاضي: قضيت، أو يقول: حكمت، أو يقول: أنفذت عليك القضاء، وهكذا ذكر الناطفي في «واقعاته» ، والمذكور به: إذا ادعى رجل داراً في يدي رجل، فقال القاضي للمدعى عليه: لا أرى لك حقاً في

هذه الدار، فهذا لا يكون حكماً، وهكذا كان يفتي الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، وكان يقول: إذا ظهرت عدالة الشهود في دعوى عين، وطلب المدعي الحكم من القاضي، فقال القاضي للمدعى عليه: أين محدود ودباين مدعى ده، فهذا لا يكون حكماً، وينبغي أن يقول: حكم كردم مرأين محدود مرأين مدعى راوا. والصحيح أن قوله: حكمت وقضيت ليس بشرط، وأن قوله ثبت عندي يكفي، وكذلك إذا قال: ظهر عندي، أو قال: صح عندي، أو قال: علمت، فهذا كله حكم. وإذا قال القاضي بعدما قضى في حادثة: رجعت عن قضائي، أو قال: بدا لي غير ذلك، أو قال: وقفت على تلبيس من الشهود، وأراد أن يبطل حكمه لا يعتبر هذا الكلام منه، والقضاء ماض على حاله، إذا كان بعد دعوى صحيحة، وشهادة مستقيمة، وعدالة الشهود ظاهرة. في «فتاوى النسفي» رحمه الله: ادعى حرية نفسه، وقضى القاضي بها ببينة أقامها العبد، ثم قال العبد: كذبت أنا عبد، هل يبطل القضاء بالحرية؟ فلا رواية لهذه المسألة في شيء من الكتب، قالوا: وينبغي أن لا يبطل القضاء. وهذا بخلاف ما لو ادعى رجل على رجل مالاً، وقضى القاضي بالمال للمدعي ببينة، ثم قال المدعي: كنت كاذباً فيما ادعيت، حيث يبطل القضاء. والفرق: أن في الحرية حق الله تعالى والعبد لا يقدر على إبطال حق الله تعالى، ولا كذلك المال، لأن المال من العبد، والعبد يقدر على إبطال حقه، وإذا قال المدعي بعد القضاء: المقضي به ليس بملكي لا يملك القضاء بخلاف ما إذا قال: لم يكن بملكي، وهذا لأن قوله: ليس ملكي يتناول الحال، وليس من ضرورة نفي الملك للحال إنتفاؤه من الأصل، بخلاف قوله: لم يكن ملكي. المقضي له إذا قال: ما قضي به فهو حرام لي، وأمر إنساناً أن يشتري ذلك له من المقضي عليه، فهذا يبطل الحكم؛ لأن الأمر بالشراء دليل على أن لا حق له في المشترى والإنسان لا يشتري ملك نفسه ولا يأمر غيره بذلك. تكذيب المشهود له الشهود وتفسيقه إياهم قبل القضاء يمنع القضاء، وتكذيبه وتفسيقه إياهم بعد القضاء يبطل القضاء على ما عليه «إشارات الأصل» في «الجامع» ، وكان. (70ب4) القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: لا يبطل القضاء وعلل فقال: لأن الفاسق ربما يكون صادقاً، ولهذا يصلح شاهداً عندنا، فعلى اعتبار أنه كان صادقاً لا يجوز إبطال القضاء، وعلى اعتبار أنه كان كاذباً يجوز إبطال القضاء، ولا يجوز إبطال القضاء بالشك كما لا يجوز القضاء بالشك، فظن بعض مشايخنا أن ما قاله القاضي الإمام مخالف «لإشارات الجامع» وليس كذلك؛ لأن المراد مما ذكر في «الجامع» تفسيق ينشأ عن تكذيب المشهود له، وإنه يوجب بطلان القضاء كما يمنع جواز القضاء، والمراد مما قاله القاضي الإمام بفسق التفسيق بأن قال: هم زناة، هم شاربوا خمر، لا بفسق ينشأ عن التكذيب، ونفس التفسيق يمنع القضاء.

ما لا يبطل القضاء قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا قضى القاضي بالدار للمدعي ببينة أقامها، فأقر المقضي له بالدار أن الدار دار فلان لا حق له فيها، وصدقه فلان في ذلك فقال المقضي عليه للمقضي له: قد أكذبت شاهديك، حين أقررت أنها لفلان لا حق لك فيها، وأقررت بخطأ القاضي في قضائه، فرد الدار عليّ أو قيمتها فالقضاء ماض، ولا سبيل للمقضي عليه لا على الدار، ولا على المقضي له، لأن القضاء نفذ من حيث الظاهر وقع الشك في نقضه، لأن قول المقضي له: هي لفلان محتمل يحتمل أن يكون نفياً لحقه عنها بسبب سابق على القضاء، ويحتمل أن يكون نفياً لحقه عنها بسبب حادث بعد القضاء أوجب نقله إلى فلان، وقع الشك في نقض القضاء، فلا ينقض بالشك. فإن قيل: هذا الاحتمال إن كان يتأتى فيما إذا أقرّ به بعدما غابا عن مجلس القضاء، لا يتأتى قبل الغيبة والجواب فيهما واحد. قلنا: لا بل يتأتى قبل الغيبة أيضاً بأن يقول المدعي: الدار كانت لي من الأصل، وقد كنت بعتها قبل القضاء من المقر له على أني بالخيار ثلاثة أيام حتى بقيت الدار على ملكي في مدة الخيار، ثم إن المقضي عليه استولى على الدار وغصبها، ثم لما قضى القاضي بالدار لي انقضت مدة الخيار عقيبه بلا فصل، فأمكن الجمع بين هذا الإقرار وبين الدعوة الأولى والشهادة على هذا الوجه، وإذا كان محتملاً لا يجوز نقض القضاء بالشك، ولو لم يقل على هذا الوجه، ولكن قال بعد القضاء له: هذا الإقرار لفلان ولم يكن لي قط بدأ بالإقرار لفلان، ثم بالنفي عن نفسه أو بدأ بالنفي عن نفسه، ثم بالإقرار لفلان، بأن قال: هذه الدار لم تكن لي قط وإنما هي لفلان، فإن صدقه المقر له في جميع ذلك يرد الدار على المقضي عليه في الوجهين جميعاً، لأنه أكذب شهوده وأقر ببطلان القضاء إذا لم يمكن الجمع بين هذا الإقرار وبين الدعوى الأولى والشهادة، ولا بقي على المقر للمقر له، لأنه أدعى ما يبطل إقراره؛ لأنه أدعى أنه لم يكن له قط، وعلى هذا الاعتبار لا يصح إقراره بالملك لغيره، وقد صدقه المقر له في ذلك فبطل إقراره. وأما إذا صدقه المقر له في الإقرار، وكذبه في النفي بأن قال المقر له الدار كانت للمقر وهبها لي بعد القضاء وقبضتها منه، ذكر في «الكتاب» أن الدار تدفع إلى المقر له، وهذا الجواب ظاهر فيما إذا بدأ بالإقرار، ثم بالنفي؛ لأنه يدعي بطلان الإقرار بعد صحته ظاهراً، والمقر له كذبه في بطلان إقراره، فلم يبطل إقراره، ويضمن قيمة الدار في هذا الوجه للمقضي عليه؛ لأن في زعمه أنه صاحب الدار، وقد عجز عن تسليمها بسبب إقراره الأول، فيضمن قيمتها كما لو انهدمت الدار. يشكل فيما إذا بدأ بالنفي، وفي هذا الوجه ينبغي أن لا يصح إقراره، لأنه لما بدأ بالنفي، فقد أكذب شهوده فيما شهدوا به؛ لأنهم شهدوا أن الدار من الأصل له، وقد أقر أنها ليست له من الأصل، وأقر ببطلان القضاء، وأن الدار ملك للمقضي عليه، فإذا قال بعد ذلك: ولكنها لفلان حصل مقراً بملك الغير، فينبغي أن لا يصح إقراره والجواب: أن تصحيح إقراره واجب ما أمكن، وأمكن تصحيح

إقراره بتقديم إقراره على النفي، والتقديم والتأخير شائع في الكلام، فقدمنا إقراره تصحيحاً، ولكن يجب أن يكون قوله: ولكنها لفلان موصولاً بالنفي؛ لأنه إنما يقدم الإقرار ويؤخره تصحيحاً إذا كان الكلام بعضه موصولاً بالبعض. قالوا: ما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» أن المقر له إذا قال: وهبها لي بعد القضاء، وقبضتها منه فهي لي بالهبة، إنما يصح هذا إذا غابا عن مجلس القضاء حتى أمكن للقاضي تصديق المقر له فيما ادعى من الهبة، فأما إذا قال هذا في مجلس القضاء، فقد علم القاضي كذبه؛ لأنه علم أنه لم يجر بينهما هبة، وما يكون كذباً كان وجوده والعدم بمنزلة، فينبغي أن لا يصح إقرار المقر في هذا الوجه. قالوا أيضاً: قول محمد في «الكتاب» أن القاضي يقضي بقيمة الدار للمقضي عليه على المقضي له قول محمد، وهو قول أبي يوسف الأول؛ لأن العقار إنما يضمن بالغصب عند محمد وأبي يوسف الأول رحمهما الله. ومنهم من قال: هذا قول الكل؛ لأن العقار عند أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر يضمن بإتلاف الملك إن كان لا يضمن بالغصب، ألا ترى أنه يضمن بالشهادة بالملك عند الرجوع؟ وإنما يضمن لإتلاف الملك، والمقضي له أتلف الملك على المقضي عليه هاهنا. ولو قال المقضي له: هذه الدار ليست لي إنما هي لفلان، فهذا وما لو قال: هذه الدار لفلان لا حق لي فيها سواء، حتى لا يبطل قضاء القاضي بالدار للمقضي له، لأن قوله: ليست لي نفي للملك للحال، فيحمل أنه إنما نفاه للحال؛ لأنه ملكه من المقر له بعد القضاء، ويحتمل أنه نفاه للحال؛ لأنه لم يكن له من الأصل، ولا ينقض القضاء بالشك. وفي «الجامع» أيضاً: رجل في يديه دار جاء رجل وادعى أنها كانت لأبيه، مات وتركها ميراثاً له، وأقام على ذلك بينة، وقضى القاضي له بالدار، ثم جاء رجل آخر وادعى أنها داره اشتراها من أب المقضي له، في حال حياته وصدقه المقضي له بذلك، فإن الدار ترد على المقضي عليه ويبطل القضاء، لأن المقضي له أكذب شهوده على وجه لا يمكن التوفيق؛ لأن وراثه من أبيه داراً باعها الأب في حال حياة لا تصور فيبطل القضاء، وإذا بطل القضاء وجب رد الدار على المقضي عليه، ويقال لمدعي الشراء: أقم البينة على المقضي عليه أنها كانت لأب المقضي له، وأنك اشتريتها منه، فإن أقام البينة على هذا الوجه قضى بالدار له، وما لا فلا، والله أعلم.

الفصل الحادي عشر: في العدوى وتسمير الباب والهجوم على الخصم وما يتصل بذلك

الفصل الحادي عشر: في العدوى وتسمير الباب والهجوم على الخصم وما يتصل بذلك وإذا تقدم رجل إلى القاضي وادعى على رجل حقاً، والقاضي لا يعرف أنه محق أو مبطل وأراد الاعداء على خصمه، يريد به أنه طلب من القاضي أن يحضر خصمه، فهذا على وجهين: الأول: أن يكون المدعى عليه في المصر، وإنه على وجهين أيضاً: الأول: أن يكون المدعى عليه رجلاً صحيحاً، أو امرأة برزة تخالط الرجال، وفي هذا الوجه: القياس أن لا يعديه؛ لأنه يتضرر به المدعى عليه؛ لأنه ينقطع عن أشغاله، ومجرد الدعوى لا تصلح سبباً للاستحقاق، خصوصاً إذا كان فيه إضراراً بالغير، وفي الاستحسان يعديه بالآثار المشهورة في هذا الباب من جملة ذلك: ما روي: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدا أبا جهل» وعن عثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم عدوا، وجرى التوارث بهذا إلى يومنا من غير نكير منكر، ولأن القاضي مأمور في فصل الخصومة، وفصل الخصومة إما بالبينة، والبينة لا تسمع إلا على الخصم الحاضر، وإما بالإقرار واليمين، وذلك لا يتحقق بدون حضرة المدعى عليه، والمدعى عليه لا يحضر بنفسه، والمدعي لا يتمكن من إحضاره؛ لأنه يقابله، فيقبض القاضي لإحضاره. ثم الإعداء، على نوعين: أحدهما: أن يذهب القاضي بنفسه، والثاني: أن يبعث من يحضره، ورسول الله عليه السلام فعل كلا النوعين، إلا أن في زماننا القاضي لا يذهب بنفسه، إما لأن الخصومات تكثر على باب القاضي، فلو ذهب في كل خصومة (72آ) بنفسه لا يتفرغ لفصل الخصومات، أو لأن حشمة القاضي بأعوانه، فلو ذهب مع كل الأعوان كان حرجاً، ولو ذهب بنفسه يستخف به، فلا يحصل المقصود بالذهاب بنفسه، وأما حشمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوته كانت بنفسه، فكان يحصل المقصود بذهابه بنفسه. الوجه الثاني: من هذا الوجه، وهو ما إذا كان المدعى عليه في المصر، ويكون مريضاً، أو امرأة مخدرة، وهي التي لم تعتد لها الخروج، فالقاضي لا يعديهما، أما المريض فلأنه معذور، قال الله تعالى: {ولا على المريض حرج} (النور: 61) وأما المرأة المخدرة، فلأنه لا فائدة في إحضارها؛ لأن الحياء يمنعها عن التكلم، وعن جواب الخصم، وربما يصير ذلك سبباً لفوات حقها، بخلاف ما إذا كانت برزة تخالط الرجال، لأنها تتمكن من الجواب، ومن إقامة الحجة، فكان في إحضارها فائدة.

وتكلم المشايخ في مقدار المرض الذي لا يعيد به القاضي، قال بعضهم: أن يكون بحال لا يمكنه من الحضور بنفسه والمشي على قدميه، ولو حمل أو ركب على أيدي الناس يزداد مرضه، وقال بعضهم: أن يكون بحال لا يمكنه الحضور بنفسه، وإن كان يمكنه الحضور بالركوب وحمل الناس من غير أن يزداد مرضه، لأن بهذا القدر حل التخلف عن الجماعة، فكذا من الحضور مجلس الحكم، وهذا القول أوضح وأوفق، ثم إذا لم يحضرهما يعني المريض والمخدرة ما يصنع القاضي؟ فالمسألة على وجهين: إن كان القاضي مأذوناً بالاستخلاف، يبعث خليفته إليهما ليقضي بينهما وبين خصومهما، لأن مجلس الخليفة مجلس القاضي لكون الخليفة قائم بمقام القاضي، وإن لم يكن القاضي مأذوناً بالاستخلاف يبعث القاضي إليه أميناً من أمنائه فقيهاً، ويبعث معه شاهدين عدلين حتى يخبرا القاضي بما يجري، لأنه لا يثبت بقول الأمين ذلك؛ لأنه شهد على فعل نفسه، ولأنه واحد، وإنما يبعث معه شاهدين عدلين ممن يعرفان المرأة وَالمريض، لأن المقصود من بعث الشاهدين أن يخبرا القاضي بما جرى بين المريض والمرأة، والمدعى عليهما، وهذا المقصود إنما يحصل إذا كانا يعرفانهما. وينبغي للقاضي إذا بعث الأمين أن يبين له صورة الاستحلاف وكيفيته، حتى إذا أنكر المدعى عليه حلفه على ما هو رأي القاضي، فالناس يختلفون في كيفية الاستحلاف، فلهذا قال: يبين له ذلك. ثم إذا ذهبوا إلى المدعى عليه، فالأمين يخبره بما ادعى عليه، فإن أقر بذلك أشهد عليه الشاهدين بما أقر به بحضرة وكيله، فيقضي القاضي بحضرة وكيله، وإن أنكر فالأمين يقول للمدعي: ألك بينة؟ فإن قال: نعم، يأمر المدعى عليه أن يوكل وكيلاً ليحضر مع خصمه في مجلس القضاء، فتقام عليه البينة بحضرة وكيله، وإن قال: ليس لي بينة، فالأمين يحلف المدعى عليه، وإن حلف أخبر الشاهدان القاضي بذلك حتى يمنع المدعي من الدعوى إلى أن يجد بينة، وإن نكل عن اليمين ثلاث مرات أمره الأمين أن يوكل وكيلاً يحضر مع خصمه مجلس الحكم ويشهد عليه الشاهدين بنكوله، ويقضي القاضي عليه بالنكول. هكذا ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» ، وهذا إشارة إلى أنه لا يشترط للقضاء بالنكول أن يكون على فور النكول، وهو مذهب الخصاف، كما لا يشترط للقضاء بالبينة والإقرار أن يكون على فورهما، ولا يمكن للقاضي أن يقضي بنكول كان عند الأمين، وهذا لأن النكول قد يكون تورعاً عن اليمين الكاذبة، وعلى هذا التقدير القاضي يقضي، وقد يكون ترفعاً عن اليمين الصادقة. قالوا: وعلى هذا التقدير القاضي لا يقضي وإنما يعين التورع عن اليمين الكاذبة بقضاء القاضي، فيجب أن يكون القضاء على فوره حتى يعين التورع عن اليمين الكاذبة، فعلى قول هذا القائل: الأمين يقضي عليه بنكوله، ثم ينقل الشاهدان قضاء الأمين إلى مجلس القاضي، فيمضي القاضي قضاء الأمين بمحضر من وكيله، وبعض مشايخنا،

قالوا: إذا لم يكن القاضي مأذوناً بالاستخلاف ينبغي أن يقول للمدعي أتريد هذا حكماً يحكم بينكما. فإن قال: نعم يبعثه إلى المدعى عليه، فإن رضي بحكومته، فحكم بينهما جاز، والتحكيم جائز وحكم الحاكم نافذ، وسيأتي بيانه بعد إن يشاء الله تعالى هذا إذا كان المدعي عليه خارج المصر وهو الوجه الثاني من هذا الفصل. وإنه على وجهين أيضاً: الأول: أن يكون قريباً من المصر، والجواب فيه كالجواب فيما إذا كان في المصر، فيعديه بمجرد الدعوى استحساناً لما مر، (الثاني) وإن كان بعيداً من المصر لا يعديه بمجرد الدعوى، والفاصلة بين القريب والبعيد إنه إذا كان بحيث لو ابتكر من أهله أمكنه أن يحضر مجلس الحكم، وبحيث يبيت في منزله، فهذا قريب، وإن كان يحتاج إلى أن يبيت في الطريق، فهذا بعيد وإنما لا يعديه إذا كان بعيداً على هذا التفسير، لأن في الإعداء إضراراً به، فإنه يتضرر بالبيتوتة في غير أهله. ونظير هذا ما قال أصحابنا رحمهم الله: في الفرقة، إذا وقعت الفرقة بين الزوجين وبينهما ولد، فأرادت أن تنقل ولدها إلى قريتها، إن كان بحيث يمكن للزوج أن يزور ولده وينظر في أمره، ويبيت في أهله، فلها أن تنقل وإلا فلا. وكذلك المضارب ينفق من مال نفسه في المصر لا من مال المضاربة، وإذا سافر ينفق من مال المضاربة، وإن خرج إلى قرية فإن كان بحيث يمكنه أن يعود إلى أهله في يومه ويتعيش عندهم، فإن نفقته لا تكون في مال المضاربة، وهو والمسافر سواء، ولهذا قال أصحابنا رحمهم الله: إنه ينبغي للقاضي أن ينصب قاضياً على مسيرة يومين من المصر، لأنه إذا كان بين المصر والقرية مسيرة يومين يحتاج إلى إحضار الخصم بالدعوى وفيه ضرر؛ لأنه يحتاج إلى أن يبيت في الطريق، وينقطع عن أشغاله. ثم على قول من أخذ بالقياس في هذه الفصول إذا لم يعده بمجرد الدعوى، إذا كان بعيداً من المصر ماذا يصنع؟ ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أن القاضي يأمر المدعي بإقامة البينة على ما ادعاه، ولا تكون هذه البينة لأجل القضاء، وإنما تكون الأصل الإحضار، وقد يكون البينة لا لأجل القضاء كما في كتاب القاضي، فإن هناك المدعي يقيم البينة ليكتب له، لا ليقضي له، فإذا أقام بينة على ما ادعى أمر بإحضاره، والمستور في هذا يكفي، فإذا حضر أمر المدعي بإعادة البينة ليقضي بها. وبعض مشايخنا قالوا: القاضي يحلف المدعي على ما أدعى، فإن حلف أحضره، وإن أرسل القاضي إلى المدعى عليه من يحضره، فلم يجده، فقال المدعي للقاضي: إنه توارى عني، وطلب التسمير والختم يعني على باب داره فالقاضي يكلفه إقامة البينة، على أنه في منزله؛ لأن القاضي بالتسمير يجعل الدار سجناً عليه، إن كان هو في الدار، وإن لم يكن في الدار يمنع الدار عنه، وكل ذلك عقوبة فلا بدّ من الجناية، وإنما تتحقق الجناية إذا كان في الدار، وأبى الحضور، فإن جاء شاهدان يشهدان أنه في منزله، فالقاضي يسألهما: من أين علمتما؟ لما ذكرنا أن التسمير عقوبة، والاحتياط في العقوبات

واجب، فإن قالا: رأيناه فيه اليوم أو أمس أو منذ ثلاثة أيام قبل القاضي ذلك، وأمر بالختم؛ لأن الظاهر أنه حاضر، فتتحقق الجناية لكنه أخفى نفسه كما قال المدعي، وإن كانت الرؤية قد تقادمت لا يقبل ذلك منهما؛ لأن الرؤية إذا تقادمت يحتمل أنه سافر بعد الرؤية، قبل الدعوى، فلم تتحقق الجناية، ثم جعل ما زاد على ثلاثة أيام متقادماً، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: الصحيح أن ذلك مفوض إلى رأي القاضي. وإن تقادمت رؤية الشاهدين، إلا أنه كان لا يمكن للمدعي الدعوى لتأخر خروج قرعته، بأن كان القاضي أقرع بين الخصوم ليعلم كل أحد نوبة (71ب4) دعواه فقبل ذلك منه، لأنه عذر. ثم إذا أراد القاضي التسمير، فكما إذا سمر الباب من جانب السكة سمر الباب الذي هو من جانب السّطح؛ لأن المقصود جعل الدار سجناً عليه؛ لأنه لو ظفر به حبسه في السجن، فإذا لم يظفر به جعل الدار سجناً عليه، وإنما يصير البيت سجناً عليه بتسمير كلا البابين. فإن قال الخصم للقاضي بعد ما ختم الباب ومضى أيام: قد حبس في الدار ولا يحضر فانصب لي عنه وكيلاً، أقيم عليه البينة، فإن أبا يوسف رحمه الله كان يقول القاضي يبعث رسولاً، ومعه شاهدان؛ لأن قوله غير مقبول على فعل نفسه، فيحتاج إلى شاهدين ليشهدا له بما يجري عند القاضي، فينادي الرسول على باب الخصم ثلاثة أيام كل يوم ثلاث مرات: يا فلان بن فلان القاضي يقول: احضر مع خصمك فلان بن فلان مجلس الحكم، وإلا نصبت عنك وكيلاً، وقبلت البينة عليك بحضرة وكيلك، فإذا فعل ذلك ولم يحضر نصب القاضي عنه وكيلاً، وسمع البينة عليه، وأمضى الحكم عليه بحضرة وكيله. قال الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : وقال غير أبي يوسف رحمه الله: لا أرى أن أنصب عنه وكيلاً، فقد بين أن هاهنا مخالف لأبي يوسف، ولم يذكر المخالف، فقيل: المخالف أبو حنيفة لا محمد رحمهما الله، فقد روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله مثل قول أبي يوسف، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: رأيت في بعض روايات «النوادر» عن أبي حنيفة رحمه الله مثل قول أبي يوسف. ونصّ في «المنتقى» عن أبي حنيفة رحمه الله، أن القاضي لا يقضي عليه حتى يحضر. وفي «نوادر هشام» : سألت محمداً رحمه الله ما تقول في سلطان لإنسان قبله حق، فلا يجيب إلى القاضي، فأخبرني أن أبا يوسف رحمه الله كان يعمل بالأعذار، وهو قول أهل البصرة، قال: وصورة ذلك: أن يبعث القاضي رسولاً إليه من قبله ينادي على بابه، أن القاضي يقول: أجب ينادي بذلك أياماً، فإن أجاب، وإلا جعل القاضي لذلك السلطان الذي أبى أن يجيب وكيلاً، فيخاصم هذا المدعي فقلت له: فهل أنت تجعل له وكيلاً؟ فقال: نعم، فقلت: فلا تكون قضيت على الغائب، فقال: لا، قال: وكان أبو حنيفة لا يعمل بالأعذار.

وأما الهجوم على الخصم، وصورته: أن يكون لرجل على رجل دين، فيتوارى المديون في منزله، ويبين ذلك للقاضي فيبعث أمينين من رفاقه، ومعهما جماعة من أعوان القاضي ومن النساء إلى منزله بعثه حتى يهجموا إلى منزله، ويقف الأعوان بالباب، وحول المنزل وعلى السطح حتى لا يمكنه الهرب، ثم تدخل النساء المنزل من غير استئذان وحشمه فيأمرن حرم المطلوب حتى يدخلن في زاوية، ثم يدخل أعوان القاضي، ويفتشون الدار غرفها وما تحت السرر حتى إذا وجدوه أخرجوه، وإذا لم يجدوه يأمرون النساء حتى يفتشن النساء فربما تزيّا بزي النساء، فهذا هو صورة الهجوم فإذا طلب المدعي ذلك من القاضي، هل يفعل القاضي؟ قال صاحب «الأقضية» : وسع فيه بعض أصحابنا قالوا: أراد به أبا يوسف رحمه الله، فقد روى عنه أنه كان يفعل ذلك في زمن قضائه، وقد روي عن هشام عن محمد رحمه الله مثل هذا أيضاً، وأصل ذلك ما روي عن عمر رضي الله عنه: أنه هجم على بيت رجلين أحدهما قرشي، والآخر ثقفي بلغه أن في بيتهما شراب، فوجد في بيت أحدهما دون الآخر، وكذلك هجم على بيت ناصبة بالمدينة، وأخرجها وعلاها بالدرة حتى سقط الخمار عن رأسها، وعن هذا قال أصحابنا رحمهم الله: لا بأس بالهجوم على بيت المفسدين، والدخول فيه من غير استئذان، إذا سمع منه صوت فساد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ظاهر المذهب عندنا أنه لا يجوز الهجوم للقاضي؛ لأن فيه هتك ستر المسلم، وهتك حرمة محارم المسلم، وذلك لا يجوز. وإن رأى القاضي أن يعطي المدعي طينة أو خاتماً لإحضار الخصم جاز؛ لأن المقصود إحضار الخصم، وكما يحصل هذا المقصود بالراحل يحصل بالعلامة، وفي العلامة لا يحتاج المدعي إلى أن يحمل مؤنة الراحل، فكما جاز بعث الراحل فكذا يجوز بعث العلامة من طريق الأولى، والقضاة في هذا مختلفون، بعضهم اختاروا دفع طينة، وبعضهم اختاروا قطع قرطاس، وبعضهم اختاروا دفع الخاتم، والخصاف اختار بذل العلامة في المصر، والأشخاص خارج المصر؛ لأن في المصر نقل مؤنة الراحل، فاختاروا بذل العلامة خارج المصر لهذا. ولو أعطاه القاضي طينة أو خاتماً وذهب به إلى الخصم ينبغي له أن يقول للخصم: هذا خاتم القاضي فلان يدعوك أتعرفه، فإن قال نعم أعرفه، ولكن لا أحضر، أشهد المدعي على ذلك شاهدين حتى يشهدان عند القاضي بتمرده، فإذا شهدا بذلك بعث القاضي من يحضره، أو يستعين على ذلك بالوالي، لأن الوالي نصب لإحياء حقوق الناس. واختلف العلماء في أجرة الشخص، بعضهم قالوا: هي في بيت المال، وبعضهم قالوا: على المتمرد؛ لأنه صار جانياً بالتمرد، ولأجل ذلك احتيج إلى الشخص، فسبب وجوب هذه الأجرة كان منه، فيكون في ماله، وهو نظير ما قلنا في السارق: إذا قطعت

يده فأجرة الحداد، وثمن الدهن الذي يحسم به عروقه على السارق، لأنه تقدم منه سبب وجوبها وهو السرقة كذا هاهنا. ثم إذا حضر المدعى عليه مجلس القاضي، فالقاضي يأمر المدعي بإعادة البينة على تمرده، لأنه يريد معاقبته، فلا بد من إثبات الجناية عليه، وتلك البينة قامت على الغائب، فلا يكتفي بها لعقوبته، فإذا أعاد البينة عاقبه على ما صنع من التمرد وإساءة الأدب، وكذلك لو كان المدعى عليه في الابتداء قال: أحضر، ثم لم يحضر، لأنه ظهر تمرده بفعله، إلا أنه يعاقبه في هذه الصورة دون ما يعاقبه في الصورة الأولى؛ لأن هذا انقاد قولاً لا فعلاً، والأول ما انقاد قولاً، ولا فعلاً. ثم قال: ولا يشترط التعديل في هذه الشهادة يعني في الشهادة على التمرد، والمستور يكفي، وهذا قول الخصاف رحمه الله، وهكذا نقل عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة رحمهم الله. وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يشترط التعديل، وهكذا روي عن محمد رحمه الله، ووجهه أن في هذه الشهادة إلزام العقوبة على المدعى عليه، فيشترط التعديل في الشهادة على سائر العقوبات. ولو كان القاضي من الابتداء أمر المدعي أن يأخذ طينة الأمير لإحضار المدعي، فذلك جائز؛ لأن المقصود ربما لا يحصل بطينة القاضي، ويحصل بطينة الأمير؛ لأن للأمير من الحشمة ما ليس للقاضي، فكانت طينة الأمير أقرب إلى حصول المقصود. وفي «الفتاوى» : أن من أراد أن يستوفي حقه من باب السلطان، ولا يذهب (إلى) باب القاضي فهو مطلق فيه شرعاً، ولكن لا يفتى به، وبعض مشايخ زماننا على أنه إنما يطلق له في ذلك إذا ذهب إلى القاضي أولاً، وعجز عن الاستيفاء من جهته، أما لو أراد الذهاب إلى باب السلطان أولاً لا يطلق له في ذلك، وبه يفتى، وإذا ذهب إلى باب السلطان، والتمس حوب داره لإحضار خصمه، وأخذ حوب دار من خصمه زيادة على الرسم، هل للخصم أن يرجع بالزيادة على المدعي؟ ينظر إن ذهب المدعي إلى القاضي أولاً، وعجز عن استيفاء حقه من جهة القاضي، لا يرجع الخصم بالزيادة على المدعي، وإن لم يذهب إلى القاضي أولاً يرجع. وإذا كان المديون يسكن في دار بأجر، وطالبه الغريم بالخروج إلى باب الحاكم، فامتنع، فالقاضي هل يسمر الباب عليه؟ اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه يسمر. في «فتاوي أبي الليث» في كتاب الشهادات، وفي «مجموع النوازل» إذا كان المديون يسكن في دار زوجته. (72أ4) وأبى الخروج إلى الحاكم، فالقاضي يسمر الباب عليه؛ لأن في هذا الباب العبرة للمساكنة، حتى لو ثبت عند القاضي أنه نقل الأمتعة عنها، ولم يبق ساكناً فيه لا يسمر الباب، والله أعلم.

الفصل الثاني عشر: فيما يقضي القاضي بعلمه، وفي القضاء بأقل من شهادة الاثنين

الفصل الثاني عشر: فيما يقضي القاضي بعلمه، وفي القضاء بأقل من شهادة الاثنين القاضي إذا علم بحادثة في البلدة التي هو فيها قاض في حال قضائه، ثم رفعت إليه تلك الحادثة في البلدة، وهو في قضائه بعد، يقضي بعمله في حقوق العباد قياساً واستحساناً، في الأموال وغيرها، كالنكاح والطلاق وغير ذلك فيه على السواء، لأن العلم الحاصل له بمعاينة السبب فوق العلم الحاصل بالشهادة؛ لأن في الشهادة احتمال الكذب، ولا احتمال في المعاينة، ثم القاضي يقضي بالشهادة في هذه الحقوق، فبمعاينة السبب أولى. ثم إن صاحب «الأقضية» ذكر في هذه المسألة إذا علم بحادثة في حال قضائه، وفي مجلس قضائه. وذكر الخصاف في هذه المسألة إذا علم في البلدة التي هو فيها قاضي في حال قضائه في مجلس قضائه، أو في غير مجلس قضائه. وفي «المنتقى» عمرو بن أبي عمرو عن محمد رحمه الله في «الإملاء» : قال أبو حنيفة رحمه الله: ما أقرّ به رجل بين يدي القاضي أخذه به إلا الحدود الخالصة للهِ تعالى نحو الزنا وشرب الخمر والسرقة، قال: هذا إذا أقرّ به عند القاضي في مجلس القضاء، أما إذا أقرّ به في غير مجلس القضاء لم يأخذه بشيء من ذلك، وهذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله هذا الذي ذكرنا في حقوق العباد، أما في الحدود الخالصة لله تعالى يقضي بعلمه قياساً، ولا يقضي بعلمه استحساناً؛ لأن الحدود الخالصة لله تعالى، يستوفيها الإمام من غير أن يكون هناك خصم مطالب، فلو قضى بعلم نفسه يتهمه بعض الناس بالحدود، وبالإقامة بغير حق، وعليه أن يصون نفسه عنه، بخلاف القصاص وحد القذف؛ لأن هناك خصم مطالب، إلا أنه إذا أتى بالسكران، فالقاضي يعزره لأجل التهمة، لما به من أمارات السكر، ولا يكون ذلك حداً. وأما إذا علم بحادثة قبل أن يستقضى، ثم استقضي، ورفعت إليه تلك الحادثة، وهو قاض فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يقضي بذلك العلم، وعلى قول أبي يوسف: ما ذكرنا أن العلم الحاصل بالمعاينة فوق العلم الحاصل بالشهادة، ومذهب أبي حنيفة رحمه الله مذهب شريح والشعبي. والمعنى فيه أن العلم الحاصل قبل القضاء علم شهادة، وأنه دون علم القضاء؛ لأن علم القضاء علم بما هو ملزم، فإن القضاء ملزم وعلم الشهادة ليس بملزم؛ لأن الشهادة لا تصير ملزمة إلا بقضاء القاضي، فلو جاز القضاء إما أن يجوز بذلك القدر، ولا وجه إليه، وإما أن يقال يزداد علمه ولا وجه إليه؛ لأن الموجود ليس إلا تقلد القضاء، وإنه لا يوجب زيادة العلم. وأبو يوسف رحمه الله احتج على أبي حنيفة رحمه الله، فقال: ألا ترى أن رجلاً لو سمع رجلاً طلق امرأته أو أعتق أمته، وهو يقدر على أن يحول بين المرأة والأمة، وبين

الزوج والمولى، يجب عليه أن يحول بينهما فإذا استقضي لا يحول، قال: وألا ترى أن رجلاً لو رأى رجلاً يغصب ثوباً من غيره، وهو يقدر على نزع الثوب من الغاصب ورده إلى المالك يلزم النزع والرد عليه، فإذا استقضي لا يلزمه ذلك. وأبو حنيفة رحمه الله، يقول في المسألة الأولى: إذا استقضي يحول بين الزوج والمولى، وبين المرأة والعبد، ولكن لا يقضي بالطلاق والعتاق كما كان يفعل قبل الاستقضاء، وفي المسألة الثانية يقول: إن رده لا على وجه الحكم فله ذلك، وهو فيما صنع مأجور، وإن رده على وجه الحكم فليس له ذلك، وهو فيما صنع مخطئ كما قبل القضاء. فالحاصل: أن على قول أبي حنيفة ما كان له قبل القضاء وهو الحيلولة ورد الثوب لا على وجه الحكم، فهو باق بعد القضاء، وما لم يكن له قبل القضاء ليس له ذلك بعد القضاء، والحكم بذلك العلم لم يكن له قبل القضاء؛ فلا يجوز أن يستفيده، بتقلد القضاء. ولو علم بحادثة وهو قاض، ولكن في مصر هو ليس بقاض فيه، ثم حضر مصره الذي هو قاض فيه، ثم رفعت إليه تلك الحادثة، وأراد أن يقضي بهذا العلم، فهو على الخلاف الذي مرّ، وهذا لأنه في المصر الذي ليس بقاض فيه بمنزلة واحد من الرعايا، فلا يكون علمه في ذلك المصر علم قضاء، فلا يصير علم قضاء بدخوله في المصر الذي هو فيه قاض. ولو علم بحادثة وهو قاض، ولكن في رساتيق المصر الذي هو قاض (فيه) ، ثم دخل المصر، ورفعت إليه تلك الحادثة لا شك على قولهما أنه يقضي بذلك العلم. فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: إذا لم يكن مقلداً على القرى حتى كان له أن يقضي في المصر، وليس له أن يقضي في القرى لا يقضي، بمنزلة ما لو علم بحادثة في مصر، هو ليس بقاض فيه، ثم رجع إلى مصره الذي هو فيه قاض، فأما إذا كان مقلداً على القرى، بأن كان في منشوره تقليد البلدة ونواحيها كان له أن يقضي؛ لأنه إذا كان مقلداً على القرى كما هو مقلد على النواحي، كان له أن يقضي في القرى كما له أن يقضي في البلدة، فإنما استفاد العلم في حال قضائه، فيقضي به، وهذا القول يرجع إلى أن المصر ليس بشرط لنفاذ القضاء، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله. وقال بعض مشايخنا: وإن كان مقلداً على القرى ليس له أن يقضي بذلك العلم على قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه وإن كان مقلداً على القرى ليس له أن يقضي في القرى فما استفاد العلم في مكان قضائه، فكان علم شهادة لا علم قضاء، فلا يكون له أن يقضي بذلك العلم، وهذا القول يرجع إلى أن المصر شرط لنفاذ القضاء، وهو ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله، وهذا لأن القضاء من معالم الدين مختص بالأمصار كالجمعة والعيدين. وفي «المنتقى» وما سمع خارجاً من المصر في أي وجه خرج لم يحكم به إلا أن

الفصل الثالث عشر: في القاضي يجد في ديوانه شيئا لا يحفظوفي نسيانه قضاءه، وفي الشاهد يرى شهادته ولا يحفظ

يكون خرج للعيدين، فكأنه سمع في مجلس قضائه وهذا على قياس قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله. وأما إذا علم وهو قاض في مصره، ثم عزل عن القضاء، ثم أعيد عليه بعد ذلك هل يقضي بذلك العلم؟ لا شك أن على قولهما يقضي، فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يقضي، لأن بالعزل صار ذلك العلم علم شهادة، ولم يبق علم قضاء، فلا ينقلب علم قضاء بعد ذلك بالتقليد، وصار كما لو شهد الشهود عند القاضي في حادثة وهو قاض، ثم عزل عن القضاء، ثم أعيد عليه، فإنه لا يقضي بتلك الشهادة كذا هاهنا. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله في حاكم أخبر بإعتاق رجل عبده، أو بطلاق رجل امرأته ثلاثاً، قال: إن أخبره بذلك عدلان، فينبغي أن يجتهد في طلب ذلك أشد الطلب حتى يظفر به، وينظر في أمره، يريد بهذا إذا أخبر أن فلاناً أعتق عبده ثم استرقه، أو طلق امرأته ثلاثاً ولا يعزل عنها، وإنما كان الجواب كذلك؛ لأن خبر العدلين حجة مطلقة يقطع الأحكام بها ويلزم القضاء بها، فيثبت المخبر به في حق القاضي؛ فلهذا كان عليه الطلب، وإن كان المخبر واحداً عدلاً وكان أكثر رأيه أنه صادق، فالأفضل في ذلك طلبه، وإن لم يفعل رجوت أن يكون في سعة منه، وهذا لأن خبر الواحد العدل حجة في الديانات حتى عمل به في طهارة الماء ونجاسته، إلا أنه ليس بحجة مطلقة، فمن حيث إنه حجة وكان أكثر رأيه أنه صدق فالأفضل هو الطلب، ومن حيث إنه ليس بحجة مطلقة، قلنا: إن لم يطلب كان في سعة. ونظير هذا رجل أخبره رجلان عدلان أنه مع امرأته ارتضعا من امرأة واحدة، لزمه الاجتناب عنها، ولو أخبره بذلك رجل واحد، فالأفضل أن يجتنب عنها، وإن أقام عليها فهو في سعة منها، والمعنى ما ذكرنا، ولو كان المخبر للحاكم رجل واحد لا يدري صدقه من كذبه، يعني لا يدري عدالته، فليس عليه الطلب (72ب4) أصلاً؛ لأن الخبر إنما يصير حجة بوصف الصدق، وإنما يثبت هذا الوصف للخبر بالعدالة، فإذا لم توجد العدالة لا يثبت هذا الوصف للخبر في حق الحكم، فلا يلزم الطلب أصلاً والله أعلم. الفصل الثالث عشر: في القاضي يجد في ديوانه شيئاً لا يحفظوفي نسيانه قضاءه، وفي الشاهد يرى شهادته ولا يحفظ إذا قضى القاضي بقضيته، وأتى على ذلك زمان، ثم احتاج المقضي له إلى تلك القضية، فشهد شاهدان عند ذلك القاضي أنك قد قضيت لهذا على هذا بكذا، ولا يتذكر القاضي ذلك، قال أبو حنيفة رحمه الله: لا تقبل هذه الشهادة، ولا يقضي إلا بما يحفظه، وكان أبو يوسف رحمه الله أولاً يقول: القاضي يقبل هذه الشهادة، ثم رجع فقال: لا يقبل، روى رجوعه بشر في «نوادره» ، ومحمد رحمه الله يقول: القاضي يقبل

شهادتهما، ويلزم المشهود عليه ذلك، وهو قول حسن بن زياد، وإسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة. واجمعوا على أنه إذا لم يبينا المقضي عليه بأن شهدا عند القاضي أنك قضيت لهذا بكذا، ولم يقولا على من قضيت، أن القاضي لا يقبل شهادتها. حجة محمد رحمه الله: أن الأقضية تكثر، ولكثرتها لا يمكن للقاضي حفظها، فلو لم يمكن إثباتها بالبينة لتعطلت الحقوق، ألا ترى أنه يمكن إثباتها بالبينة عند قاض آخر، وإنما أمكن إثباتها لما قلنا، وهذا الطريق موجود في هذا القاضي. ولأبي حنيفة رحمه الله أنه لو قبلت هذه البينة صار القاضي خصماً؛ لأنه بهذه البينة يثبت عليه فعله، والقاضي لا يصلح خصماً، ألا ترى أن رجلاً لو أقام عليه بينة، أنك غصبت مني كذا، أو استقرضت مني كذا لا يقبل هذه الشهادة، وطريقه ما قلنا؛ ولأن القضاء أعلى مرتبة من الشهادة. ولو شهد شاهدان عند رجل أنك تحملت شهادة كذا وهو لا يتذكر، لا يسعه أن يشهد بقولهما، فأولى أن لا يقضي القاضي بشهادتها. وإذا وجد القاضي شهادة شهود في ديوانه، أي في خريطته، والخريطة مختومة بختم القاضي، والشهادة مكتوبة بخطه أو بخط نائبه، إلا أنه لا يتذكر تلك الشهادة فعلى قول أبي حنيفة: لا يقضي بتلك الشهادة، وعلى قولهما يقضي. وكذلك إذا وجد سجلاً في خريطته، والخريطة مختومة بختمه والسجل مكتوب بخطه، أو بخط نائبه، فالقاضي لا يمضي ذلك السجل عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندها يمضي. وإذا وجد الشاهد شهادته مكتوبة بخطه، وهو لا يتذكر الحادثة، فعامة المشايخ على أن هذا الفصل على الخلاف الذي مرّ ذكرهُ، وهو الظاهر، وذكر شمس الأئمة السرخسي أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا يسعه أن يشهد، وعلى قول محمد يسعه. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف، كما ذكره شمس الأئمة، ومن هذا الجنس رواية الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا وجد الرجل سماعه مكتوباً في موضع لكن لا يتذكر ذلك لا يحل له أن يروي عند أبي حنيفة، وعندهما له أن يروي، فشرط الرواية عند أبي حنيفة أن يحفظ الحديث من حين سمع إلى أن يروي، وعندهما الحفظ ليس بشرط. فمحمد رحمه الله وسع في هذه الفصول كلها، وجوز للقاضي قبول الشهادة على قضائه، وجوز الاعتماد على المكتوب، وقال: النسيان مركب في الآدمي، فلو لم يجز الاعتماد على هذه الأشياء، عند النسيان لتعطلت الحقوق، وأبو حنيفة شدد في الكل، فلم يجوِّز للقاضي قبول الشهادة على قضائه، ولم يجوز الاعتماد على المكتوب في الفصول الثلاث، والوجه في ذلك: أن الشهادة والقضاء يثبتان على العلم، وكذلك رواية

الأخبار؛ لأنها شهادة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا علم بدون التذكر، والكتاب لأجل التذكر لا لأجل الاعتماد عليه؛ لأنه لا يؤمن فيه الزيادة والنقصان، فبدون التذكر وجوده والعدم بمنزلة. وأبو يوسف رحمه الله وسع فيما يجد القاضي في ديوانه مختوماً بخاتمه، وفي رواية الأخبار، وضيق في قبول القاضي الشهادة على قضائه، وفي الشاهد يجد شهادته مكتوبة بخطه على ما ذكره شمس الأئمة السرخسي، قال: الأخذ بالعزيمة فيما قاله أبو حنيفة رحمه الله إلا أن رواية الأحاديث ضرورة، لأن الإنسان سمع مثلاً عشرين ألف حديث، ولا يمكنه حفظ الكل، فلو لم يكن له أن يعتمد على خط سماعه لتعطل ذكر الحديث، وما يتوهم من التزويد في كتابة السماع نادر غاية الندرة، إذ لا يقع فيه ولا ضرر لأحد، وكذلك فيما يجده القاضي في ديوانه مختوماً، بختمه ضرورة؛ لأن القضاء يكثر ولا يحفظ الكل، فيقع الحاجة إلى الاعتماد على الخط، واحتمال الترديد منتف ظاهراً؛ لأنه في يده مختوم بخاتمه، فالظاهر أنه لم يغير شيئاً منه، بخلاف الصك على ما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله؛ لأن الصك لا يكون في يد الشاهد، فلا يأمن فيه الزيادة والنقصان حتى روي عنه أنه قال: لو كان الصك في يد الشاهد جاز له، أن يشهد وإن لم يتذكر. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد قال: سألت محمداً رحمه الله، عن قاض يخرج من البلدة التي هو قاض فيها، ولم يخلف عيالاً هل له أن يضع قماطره عند من يثق به، من أهل البلدة وإذا رجع عمل بما فيه إذ القماطر بخاتمه والكتب الذي في جوف القماطر مختمة أو غير مختمة، والقاضي يذكر قضاياه أو لا؟ قال: لا بأس بهذا، وهذا أمر لا بأس به، ولا يمنع منه، ولو لم يجز ذلك لم يجز أن يحكم بما في بيته، لأنه لا يؤمن أن يغير شيئاً من ذلك بعض أهله. قال في «كتاب الأقضية» : ولو أن قاضياً عزل عن القضاء ثم رد عليه، فإنه لا يعمل بشيء مما كان في ديوانه الأول إلا شيئاً يتذكره، اعلم بأن هذه المسألة على وجهين: الأول: أن يتذكر ذلك، وفي هذا الوجه لا يقضي للخلاف، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله؛ فلأن على قوله لا يقضي بما يجد في ديوانه الحالي، إذا كان لا يتذكر ذلك، فأولى أن لا يقضي بما يجد في ديوانه الأول، والفرق لهما: أن قضية القياس أن لا يقضي بما يجد في ديوانه الحالي إذا كان لا يحفظ ذلك كما قال أبو حنيفة رحمه الله؛ لأن القضاء بغير علم لا يجوز، لكن تركنا القياس في ديوانه الحالي ضرورة؛ لأن القاضي لكثرة اشتغاله لا يمكنه حفظ جميع الأشياء، فلو لم يجز العمل بما في الديوان

الفصل الرابع عشر: في القاضي يقضي بقضية ثم بدا لهأن يرجع عنه، وفي وقوع القضاء بغير حق

عند النسيان ضاق الأمر على الناس مثل هذه الصورة، لا يتأتى في ديوانه الأول؛ لأن بالعزل يبطل حكم ذلك الديوان؛ لأنه لا يمكن العمل به، والباطل لا يعود، خصوصاً إذا كان ثبوته مع المنافي، فعمل بالقياس فيما يجد في ديوانه الأول كما عمل أبو حنيفة رحمه الله. الفصل الرابع عشر: في القاضي يقضي بقضية ثم بدا لهأن يرجع عنه، وفي وقوع القضاء بغير حق وإذا قضى القاضي بقضية، ثم بدا له أن يرجع عنها، فإن كان الذي قضى به خطأ لا يختلف فيه ردّه لا محالة؛ لأنه باطل، وإن كان ذلك مما يختلف فيه الفقهاء أمضاه لا محالة، وقضى في المستقبل بما يرى أنه أفضل. واعلم بأن التحول من رأي إلى رأي في المجتهدات جائز؛ لأن المجتهد فيما اجتهد لا يكون مصيباً الحق لا محالة، لأنه لا يعمل فيه بدليل قطعي، وإنما يعمل فيه بغالب الظن، فالدليل الموجب للعلم بالرأي الأول: غلبة الظن أنه هو الصواب، فإذا غلب على ظنه أن الصواب هو الثاني دون الأول، فقد وجد الدليل الموجب للعمل بالرأي الثاني فيعمل به، إلا أنه يعمل بالرأي الثاني في المستقبل دون الماضي؛ لأن الرأي الثاني حدث الآن، ولم يكن موجوداً في الماضي، فلا يجب العمل به حال عدمه يوضحه: أن الرأي الثاني ناسخ للأول، وإنما يعمل بالناسخ في المستقبل دون الماضي، وإليه أشار عمر رضي الله عنه حين قضى في حادثة بقضية، وقضى بعد ذلك في مثلها بخلافه، فقيل له في ذلك فقال تلك كما قضينا وهذه كما نقضي. ثم قضاء القاضي إذا وقع بخلاف الحق لا يخلو عن وجهين: إما أن (73أ4) أخطأ فيما قضى أو يعتمد الجور فيما قضى وأقر بذلك، أو أخطأ وكل ذلك على وجهين: إما أن يكون ذلك في حقوق الله تعالى، أو في حقوق العباد. فإن أخطأ وكان ذلك في حقوق إن أمكن التدارك والرد، بأن قضى بمال أو صدقة أو بطلاق أو عتاق، ثم ظهر أن الشهود عبيد أو كفار أو محدودون في القذف، فإنه يبطل ذلك القضاء، ويرد العبد رقيقاً ويرد المرأة إلى زوجها، ويرد المال إلى من أخذ منه؛ لأنه لما بطل القضاء عاد الأمر إلى ما كان قبله، وإن كان خطأ لا يمكن رده بأن كان قضى بالقصاص واستوفى، لا يقتل المقضي له بالقصاص، وإن تبين أنه قتل بغير حق ويصير صُورة القضاء شبهة مانعة وجوب القصاص، ولكن تجب الدية في مال المقضي له؛ لأن القتل الحرام في دار الإسلام لا يخلو عن عقوبة أو غرامة، وتعذر إيجاب العقوبة فتجب الغرامة، ويكون في مال المقضي له؛ لأنه تعذر الإيجاب على القاضي لأن خطأه موضوع عنه، إما لأنه مأمور بإتباع الظاهر، وقد اتبع الظاهر فقد أتى بالمأمور والإتيان بالمأمور به

الفصل الخامس عشر: فيما إذا وقع القضاء بشهادة الزور، ولم يعلم القاضي به

ينافي وجوب الضمان على المأمور، وإما لأنه يتقاعد عن أمر القضاء حتى لا يلزمه الضمان عند ظهور الخطأ الذي ليس في وسعه الاحتراز عنه، فيؤدي إلى تعطيل الأحكام؛ وإنه لا يجوز، وإذا تعذر إيجاب الغرامة على القاضي أوجبناها على المقضي له، لأن القاضي عامل له فكان عمل القضاء له فيكون الغرم عليه، ليكون الغرم بمقابلة الغنم، وهذا كله إذا ظهر خطأ القاضي بالبينة أو بإقرار من المقضي له. فأما إذا ظهر ذلك بإقرار القاضي لا يظهر ذلك في حق المقضي له، حتى لا يبطل قضاؤه في حق المقضي له، لأن حق المقضي له قد تعلق بذلك، والقاضي بما قال يريد إبطاله. وهو نظير الشاهد إذا رجع عن شهادته لا يعمل رجوعه في حق المقضي له، لا ينقضي القضاء، ولكن الشاهد يضمن كذا هنا. وإن أخطأ وكان ذلك في حقوق الله تعالى، بأن قضى بحد الزنا أو بحد السرقة أو بحد شرب الخمر، واستوفى القطع والرجم والحد، ثم ظهر أن الشهود عبيد أو كفار أو محدودون في القذف، فضمان ذلك في بيت المال؛ لأنه تعذر إيجاب الضمان على القاضي لما مر، وهذا القضاء كان لجماعة من المسلمين، فيكون الغرم في مالهم، وإن كان القاضي تعمد الجور فيما قضى وأقر به فالضمان في ماله في هذه الوجوه كلها، بالجناية والإتلاف على المقضي عليه، فجناية القاضي وإتلافه على الغير سبب لوجوب الضمان، ويعزر القاضي على ذلك لإرتكابه الجريمة العظيمة، قال: ويعزل عن القضاء ولم يقل وينعزل عن القضاء، فهذا إشارة إلى أن القاضي بمجرد الفسق لا ينعزل، ولكن يستحق العزل، وقد مرّ هذا في صدر الكتاب والله أعلم. الفصل الخامس عشر: فيما إذا وقع القضاء بشهادة الزور، ولم يعلم القاضي به الكلام في هذا الفصل في مواضع: أحدها في العقود والفسوخ، وفيها اختلاف على قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول، قضاء القاضي في العقود والفسوخ بشهادة الزور ينفذ ظاهراً وباطناً، وعلى قول محمد وأبي يوسف الآخر ينفذ ظاهراً لا باطناً صورة المسألة، في العقود كثيرة من جملتها: رجل ادعى على امرأة النكاح وهي تجحد، وأقام عليها شاهدي الزور، وقضى القاضي بالنكاح بينهما، حل للرجل وطؤها وللمرأة التمكين منه عند أبي حنيفة وأبي يوسف الأول، وعندهما لا يحل لهما ذلك، والوجه لأبي حنيفة أن القاضي قضى بأمر الشرع، فيجب تنفيذه ظاهراً وباطناً ما أمكن، بيان الوصف: أن دليل الأمر بالقضاء شهادة شهودهم صدقة ظاهراً كان الصدق حقيقة، فيما لا يوقف عليه، والشهود هاهنا صدقة

ظاهراً بيان التأثير أن القضاء وقع بأمر الشرع علم أنه وقع بحق، لأن الأمر بالباطل لا يكون، وإنما يكون هذا القضاء بحق إذا نفذ ظاهراً وباطناً وأمكن القول بنفاذه باطناً، بإنشائه النكاح مقتضى القضاء سابقاً عليه، وللقاضي ولاية إنشاء النكاح في الجملة، وقد مست الحاجة هاهنا إلى الإنشاء حتى لا يقع قضاؤه تمكيناً من الحد له، فيثبت الإنشاء سابقاً على القضاء، وإذا ثبت الإنشاء كان الرجل واطئاً لامرأته، وكانت المرأة ممكنة من زوجها، وكل ذلك جائز وصورة المسألة في الفسخ كثيرة من جملتها: امرأة ادعت على زوجها أنه طلقها ثلاثاً، وأقامت على ذلك شهود زور، وقضى القاضي بالتفرقة بينهما، وتزوجت بزوج آخر بعد انقضاء العدة، فعلى قول أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف الأول: لا يحل للزوج الأول وطؤها ظاهراً وباطناً، ويحل للزوج الثاني وطؤها ظاهراً وباطناً، علم بحقيقة الحال أن الزوج الأول لم يطلقها بأن كان الزوج الثاني أحد الشاهدين، أو لم يعلم بحقيقة الحال، بأن كان الزوج الثاني أجنبياً وأما على قول أبي يوسف الآخر، وهو قول محمد رحمه الله: لا يحل للثاني وطؤها إذا كان عالماً بحقيقة الحال لأن الفرقة عندهما لم تقع باطناً، وإن لم يعلم بحقيقة الحال يحل له وطؤها، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الرجوع، وهل يحل للأول وطؤها؟ على قول أبي يوسف الآخر: لا يحل مع أنه لم تقع الفرقة عنده باطناً، لأنه لو فعل ذلك كان زانياً عند الناس فيحدونه، هكذا ذكر في بعض المواضع. وذكر شيخ الإسلام في كتاب الرجوع عن الشهادات: أن على قول أبي يوسف الآخر يحل للأول وطؤها سراً، وعلى قول محمد: يحل للأول وطؤها ما لم يدخل بها الثاني، الآن يحل للأول وطؤها سواء كان الثاني يعلم بحقيقة الحال أو لم يعلم، وهذا الجواب على قول محمد رحمه الله ظاهر فيما إذا لم يعلم الثاني بحقيقة الحال؛ لأن الثاني تزوجها وهي في الباطن منكوحة الأول عند محمد إلا أن الثاني لم يعلم به، فكان النكاح الثاني فاسداً عنده، فإذا دخل بها الثاني وجب عليها العدة من الثاني، فلا يحل للأول وطؤها وإن كانت امرأة الأول حتى تنقضي عدتها من الثاني، يشكل فيما إذا كان الثاني عالماً بحقيقة الحال، لأنه إذا كان عالماً بحقيقة الحال لا تجب العدة من الثاني بهذا الدخول؛ لأنه تزوجها وهو يعلم أنها منكوحة الأول فوقع نكاحه باطلاً، وكان هذا الوطء زناً، ومنكوحة الإنسان إذا زنت لا يجب عليها العدة، ولا يحرم على الزوج وطؤها، والوجه في ذلك: أن هذا النكاح اختلف العلماء في جوازه، وكل نكاح هذا حاله، فالمدخول منه يوجب العدة، لأن أحداً لم يقل بجواز ذلك النكاح، فلم ينعقد أصلاً، أما هاهنا بخلافه، ومن جملة صور الفسخ: صبّي وصبيّة سبيا وهما صغيران فكبرا وأعتقا، ثم تزوج أحدهما الآخر، ثم جاء حربيّ مسلماً وأقام بيّنة أنهما ولداه، فالقاضي يقضي بنسبهما ويفرق بينهما، فإن رجع الشاهدان عن شهادتهما حتى تبين أنهما شهدا بزور لا يسع الزوج وطؤها عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه يقضي عليه بالحرمة، وقد نفذ القضاء ظاهراً وباطناً، وكذلك على قول

محمد لا يسع للزوج وطؤها؛ لأنه لا يعلم بحقيقة كذب الشهود، فإن كان تزوجها أحد الشاهدين يجب أن تكون المسألة على الخلاف، ومن جملة صور العقد: إذا قضى القاضي بالبيع بشهادة الزور وإنه على وجهين: 5 أحدهما: أن تكون الدعوى من جانب المشتري بأن ادعى رجل على غيره، أنك بعت مني هذه الجارية بكذا، وأقام على ذلك شهود زور، قضى القاضي بالجارية للمشتري نفد قضاؤه باطناً عند أبي حنيفة حتى يحل للمشتري وطؤها، خلافاً لمحمد رحمه الله. بعض مشايخنا قالوا: يجب أن تكون مسألة البيع على التفصيل عند أبي حنيفة رحمه الله إن كان الثمن المذكور مثل قيمة الجارية أو أقل مقدار ما يتغابن الناس فيه، ينفذ قضاؤه باطناً، (73ب4) وهكذا ذكر في «المنتقى» نصاً عن أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن طريق تصحيح القضاء عند أبي حنيفة رحمه الله في العقود والفسوخ، أن القاضي بقضائه يصير منشئاً لذلك التصرف، وإنما يصير القاضي منشئاً فيما له ولاية الإنشاء للبيع وله ولاية الإنشاء بمثل القيمة أو أقل مقدار ما يتغابن الناس فيه، وأما ليس له ولاية إنشاء البيع بأقل من القيمة قدر ما لا يتغابن الناس فيه؛ لأنه تبرع بمقدار العين فليس للقاضي ولاية إنشاء التبرع وبعضهم قالوا: لا بل ينفذ القضاء على كل حال؛ لأن البيع وإن كان تعين فهو مبادلة، ألا ترى أنه يملكه المكاتب والعبد المأذون، وإن كانا لا يملكان التبرع، فينفذ قضاؤه باطناً عنده، كما في سائر المبادلات. الوجه الثاني: أن تكون الدعوى من جانب البائع: وصورته: رجل ادعى على آخر أنك اشتريت مني هذه الجارية، وأقام على ذلك شهود زور، وقضى القاضي بذلك، حل للمشتري وطء الجارية، عند أبي حنيفة رحمه الله إن عزم المشتري على ترك الخصومة حل له وطؤها، لأن بدعوى البائع وجد أحد شطري العقد والقاضي بقضائه تولى الشطر الآخر من جهة المشتري بغير رضاه، فتوقف على اختياره، فإذا عزم على ترك الخصومة فقد اختاره، فينفذ في حقه، هذا إذا أقام المدّعي شهود زور، ولو لم يقم المدعي شهوداً وحلف المشتري ورد الجارية على البائع، إن عزم البائع على ترك الخصومة حل له وطؤها، لأن بجحود المشتري انفسخ الشراء في حقه، لأن جحوده ما عدا النكاح فسخ له، وتوقف الفسخ في حق البائع، على اجتهاده، فإذا عزم على ترك الخصومة فقد اختاره فتم الفسخ بينهما، فيحل للبائع وطؤها. ثم اختلف المشايخ في تفسير العزم على ترك الخصومة قال بعضهم: تفسيره العزم بالقلب، فقد أثبت الفسخ من جهة البائع بمجرد العزم على الفسخ وإنه مشكل؛ لأن فسخ شيء من العقود لا يثبت بمجرد النية، ألا ترى أنه لو كان في البيع خيار شرط أو خيار رؤية ونوى بقلبه الفسخ لا ينفسخ بمجرد النية إلا أن يكون معنى المسألة: عزم على ترك الخصومة بالوطء، فيكون الفسخ بفعل اقترنت به النية لا بمجرد النية. ومن جملة صور العقد: رجل ادعي على رجل هبة مقبوضة، وأقام على ذلك شهود زور، وقضى القاضي للمدعي، فعلى قول محمد رحمه الله ينفد القضاء ظاهراً لا باطناً

حتى لا يحل للمقضي له الانتفاع به، وعن أبي حنيفة رحمه الله فيه روايتان بناء على أن قضاء القاضي بالتبرعات بشهادة الزور هل تنفذ باطناً، فعن أبي حنيفة فيه روايتان. في رواية لا ينفذ إذ ليس للقاضي ولاية إنشاء التبرع في الجملة، وأما الأملاك المرسلة، فالقضاء فيها بشهادة الزور لا ينفد باطناً بالإجماع؛ لأن هناك لا يمكن تصحيح القضاء باطناً، لأنه لا يمكن إنشاء الملك سابقاً؛ لأن إنشاء الملك مطلقاً بلا سبب ليس في وسع العباد، وتعذر إنشاء السبب لأن في أسباب الملك كثرة، وليس البعض أولى من البعض، وأما قضاء القاضي بالنسب بشهادة الزور فقد قيل إنه على الخلاف وقيل: إنه لا ينفد باطناً بلا خلاف. صورة المسألة: أمة ادعت على مولاها أنها ابنته وأنه أقر بذلك وأقام على ذلك شهود زور وقضى القاضي بذلك، حرم على المولى وطؤها عند أبي حنيفة خلافاً لمحمد رحمهما الله فإن مات الأب وترك ميراثاً هل يحل لها أكله؟ ذكر في كتاب الرجوع أنه يحل لها أكله من غير ذكر خلاف، واختلف المشايخ فيه. بعضهم قالوا هو على الخلاف. وبعضهم قالوا: لا يحل لها أكله بلا خلاف، فعلى قول هذا القائل يحتاج أبو حنيفة رحمه الله إلى الفرق بين النسب والنكاح، والفرق أنه في قضاء النكاح أمكن تصحيح قضائه باطناً بإنشاء السبب، لأنه ادعى السبب، ففعله كذلك تصحيحاً لقضائه بقدر الممكن، أما هاهنا ما ادعى السبب؛ لأنه ادعى الملك بالإرث، والثابت للوارث. عين ما كان ثابتاً للمورث على ما عرف، والثابت للمورث ملك مطلق، فكذا الثابت للوارث فعلم أن هذا دعوى ملك مطلق وقضاء القاضي في الأملاك المرسلة، لا ينفذ باطناً. وبعضهم قالوا: يحل لها أكل ميراثه بلا خلاف، فعلى قول هذا القائل يحتاج محمد رحمه الله إلى الفرق بين النسب وما تقدم، والفرق أن المرأة لا تعرف ثبات النسب وعلوقها حقيقة؛ لأن العلوق غيب عنها، وإنما يعرف بشهادة الشهود، فصار حالها كحال القاضي، من حيث أن كل واحد منهما يعتمد شهادة الشهود، فيحل لها أن تأكل ميراثه، أما في ما تقدم المدعي يعرف حقيقة الحال، ويعرف بطلانه في الدعوى وخطأ القاضي في قضائه، فلا يثبت القضاء في حقها ما لم يكن ثابتاً من قبل، وإن ماتت ذكر محمد هذه المسألة في كتاب الرجوع، وذكر أنه يحل له أكل ميراثها. قال شيخ الإسلام رحمه الله وهذا الجواب على قول الكل؛ لأن الحال لا يخلو إما لو كانت أمته أو ابنته فإن كانت أمته، فهذا إرث أمته، فيحل له بالإجماع، وإن كانت ابنته كان ميراثاً حلالاً لها بالإجماع، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن هذا الجواب مشكل عند الكل لو كان المذكور قول الكل، أما عند محمد فظاهر، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ فلأن طريق تصحيح قضاء القاضي عنده باطناً إنشاء السبب، وليس للقاضي ولاية الإنشاء في الميراث والنسب قال محمد رحمه الله حتى قال بعض مشايخنا رحمهم الله: ما ذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة وتأويله أنه يأكل ميراثها بسبب الولاء، لأن القاضي قضى بالحرية، وله فيه ولاية الإنشاء، فيثبت الولاء له بقضاء القاضي هذه فيأكل ميراثها بسبب القرابة.

الفصل السادس عشر: في القضاء بخلاف ما يعتقده المحكوم أو المحكوم عليه

قال محمد رحمه الله: والأصح عندي أنه يأكل ميراثها عند أبي حنيفة رحمه الله بسبب القرابة، لأنه لما كان للقاضي ولاية الإنشاء في قطع النسب باللعان، كان له ولاية الإنشاء في القضاء بالنسب إذا صادف محله، وقد صادف محله هاهنا لأن ليس لها نسب معروف، فلهذا قال: يأكل ميراثها، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الرجوع في موضع آخر أن النسب يثبت بقضاء القاضي باطناً بشهادة الزور عند أبي حنيفة رحمه الله، وذكر وجه ذلك فقال: إن كان القاضي لا يملك إنشاء النسب لولاية القضاء من غير بينة يملك الإنشاء بشهادَةِ الزور، فيما يملك الخصمان إنشاءه على إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله، فإنه يقول على إحدى الروايتين: القاضي يملك إنشاء الهبة بشهادة الزور. حتى قال: بأن قضاء القاضي بشهادة الزور ينفذ باطناً على هذه الرواية، والقاضي لا يملك إنشاء الهبة بولاية القضاء من غير بينة، ولكن طريقه أن الخصمان يملكان إنشاءها فيملك القاضي إنشاءها بشهادة الزور. الفصل السّادس عشر: في القضاء بخلاف ما يعتقده المحكوم أو المحكوم عليه وفيهِ بعض مسائل الفتوى: رجل فقيه قال لامرأته: أنت طالق البتة، وهو نواها واحدة رجعية فراجعها ورافعته إلى قاضي، يراها ثلاثاً فجعلها ثلاثاً، وفرق بينهما، أو كان الزوج نواها واحدة بائنة فتزوجها، ورفعته إلى القاضي يراها ثلاثاً، وفرق بينهما نفد هذا القضاء ظاهراً وباطناً، حتى لا يحل له المقام معها، ولا يسعها أن تمكنه من نفسها، فإن كان الزوج نواها ثلاثاً، فرافعته إلى القاضي الذي يراها واحدة بائنة أو واحدة رجعية، فجعلها واحدة بائنة أو واحدة رجعية نفد هذا القضاء باطناً، عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى يسعه أن يراجعها أو يتزوجها، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا ينفذ هذا القضاء باطناً فالحاصل أن المبتلى بالحادثة إن كان عامياً لا رأي له، فعليه أن يتبع حكم القاضي فيما يقضي في تلك الحادثة سواء حصل الحكم له بأن. (74أ4) حصل الحكم بالحل، أو حصل الحكم عليه بأن حصل الحكم بالحرمة، وإن كان المبتلى بالحادثة فقيهاً له رأي، وحكم القاضي بخلاف رأيه إن حصل الحكم عليه بأن كان هو يعتقد الحل، وقضى القاضي بالحرمة فعليه أن يتبع حكم القاضي، ويترك رأي نفسه بلا خلاف، وإن حصل الحكم له بأن كان هو يعتقد الحرمة وقضى القاضي بالحل، ذكر في بعض المواضع أنه يتبع حكم القاضي، ويترك رأي نفسه من غير ذكر خلاف، وذكر في بعض المواضع أن على قول أبي يوسف لا يترك رأي نفسه، ولا يلتفت إلى إباحة القاضي فيما يعتقد حراماً. فوجه قولهما: أنا أجمعنا على أن المبتلى بالحادثة، إذا كان عامياً وقضى القاضي له ينفذ قضاؤه، فكذا إذا كان عالماً، لأن قضاء القاضي يلزم في حق الناس كافة يوضحه أن القاضي يقضي بأمر الشرع، وما يصير مضافاً إلى الشرع، فهو بمنزلة النصّ، فلا يترك

ذلك بالرأي، كما لا يترك النصّ بالاجتهاد، وأبو يوسف يقول: الإلزام في جانب المقضي عليه فأما في حق المقضي له فلا إلزام، ولهذا لا يقضي القاضي بدون طلبه وفي زعمه أن القاضي مخطئ في هذا القضاء فلا يتبعه في ذلك. وفي «نوادر هشام» عن محمد رجل تزوج امرأة، ثم جن جنوناً مطبقاً وله والد فادعت المرأة أنه كان حلف قبل أن يتزوج بطلاق كل امرأة يتزوجها ثلاثاً، قال: نصب القاضي والده خصماً، فإن نصبه ورأى أن هذا القول ليس بشيء فأبطله وأمضى النكاح ثم برئ الزوج، وهو يرى وقوع الطلاق بهذا القول، هل يسعه المقام معها؟ قال: نعم، ولكن على قياس قول أبي يوسف لا يسعه المقام معها، لأن الحكم وقع له. ولو أن فقيهاً قال لامرأته: أنت طالق البتة، وهو يراها ثلاثاً فأمضى رأيه فيما بينه وبينها وعزم على أنها حرمت عليه، ثم رأى بعد ذلك أنها تطليقة رجعية أمضى رأيه، الذي كان عزم عليه ولا يردها لأنه لما أمضى رأيه في ذلك صار بمنزلة انضمام الحكم إليه، فلا ينقضه بما حدث، بخلاف ما إذا قضى القاضي بخلاف رأيه الذي عزم عليه؛ لأن قضاء القاضي أقوى من رأيه وإمضائه، فجاز النقض به، وكذلك لو كان في الابتداء يرى أنها تطليقه رجعّية فعزم على أنها امرأته، ثم رأى بعد ذلك أنها ثلاث تطليقات لم يحرم عليه لما ذكرنا أن الرأي إذا اتصل به الإمضاء لم ينفسخ باجتهاد آخر، ولو كان في الابتداء لم يعزم على ذلك لم يمض رأيه حتى رآها ثلاثاً لم يسعه المقام معها، لأن مجرد الاجتهاد يجوز أن ينقض باجتهاد مثله، ويصير كالفاسخ له في حق وجوب العمل، إلا إذا كان الإمضاء متصلاً بالأول، وإذا المبتلى بالحادثة فقيه له رأي، فاستفتى فقيهاً آخر، فأفتى له بخلاف رأيه يعمل بعلم نفسه، وإن كان المبتلى جاهلاً يأخذ بفتوى أفضل الرجال عند العامة فقهاً، ويكون ذلك بمنزلة الاجتهاد له، فإن أفتاه مضى في تلك الحادثة، وقضى القاضي في تلك الحادثة بخلاف الفتوى، إن كان القضاء عليه يتبع رأي القاضي، ولا يلتفت إلى فتوى المفتي، وإن كان المفتي أعلم من القاضي في تلك الحادثة عند العامة، وإن كان القضاء له، فهو على الاختلاف الذي مرّ ذكره، لأن قول المفتي في حق الجاهل بمنزلة رأيه واجتهاده فصارت هذه المسألة عين تلك المسألة. وفي «القدوري» إذا لم يكن الرجل المبتلى بالحادثة فقيهاً، واستفتى إنساناً فأفتاه بحلال أو حرام، فإن لم يعزم على ذلك حتى أفتاه غيره بخلافه فأخذ بقول الثاني، وأمضاه في منكوحته لم يجز له أن يترك ما أمضاه فيه، ويرجع إلى ما أفتى به الأول، لأنه متعبد بالتقليد كما يتعبد المجتهد بالاجتهاد، فلا يجب على المجتهد أن يعمل بما أمضاه، ولم يجز نقض ذلك ببدل الرأي، فكذا المقلد إذا عزم على العمل بفتوى واحد من المفتين لم يسعه أن ينقض ذلك بفتوى آخر. وفي «النوادر» إذا حلف الرجل بطلاق كل امرأة يتزوجها، فتزوج امرأة فاستفتى فقيهاً عدلاً، من أهل الفتوى، فأفتاه ببطلان اليمين وسعه اتباع فتواه وإمساك المرأة. وفيه أيضاً: إذا استفتى فقيهاً، فأفتاه ببطلان اليمين فتزوج امرأة أخرى، ثم استفتى

الفصل السابع عشر: في أقوال القاضي وما ينبغي للقاضي أن يقول وما لا ينبغي

فقيهاً آخر، فأفتاه بصحة اليمين يفارق الأخرى، ويمسك الأولى عملاً بفتواهما، والله أعلم. الفصل السابع عشر: في أقوال القاضي وما ينبغي للقاضي أن يقول وما لا ينبغي ذكر ابن سماعة عن محمد رحمه الله أنه قال: لا يجوز للقاضي أن يقول أقر فلان عندي بكذا الشيء يقضى به عليه من قتل، أو مال أو طلاق حتى يشهد معه على ذلك رجل عدل ليس لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: أقر بقتل أقر بسرقة فتقطع، لو أجزت هذا لزعمت أن طاعته مفترضة بمنزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هذا لأحد لا قاض ولا غيره. قال: ولا أقيم حداً على أحد بقول قاض: أقر عندي بكذا حتى يقول معه ذلك الرجل العدل، فإن كان القاضي عندي عدلاً، والشاهد معه على ذلك عدلاً، وسعني أن أقيم عليه، وإلا لم يصدق قولهما، ولو كان هذا الحاكم هو الذي ولي قطع يد هذا بإقرار زعم منه عنده كان في القياس أن أقطع يده بيده، لكني أدرأ عنه القصاص لاختلاف الفقهاء في أن قول القاضي أقر عندي بكذا نافذ عليه، قال: واجعل الدية في ماله عليه هذا جملة ما ذكره ابن سماعة عن محمد رحمه الله. واعلم بأن بإخبار القاضي عن إقرار رجل بشيء لا يخلو، إما أن يكون الإخبار عن إقراره بشيء يصح رجوعه عنه كالحد في باب الزنا والسرقة وشرب الخمر، في هذا الوجه لا يقبل قول القاضي بالإجماع، لأنه إنما يحتاج في الرجوع إلى قول القاضي عند جحود الخصم، وإذا جحد الخصم، فقد رجع عن الإقرار، وإمّا أن يكون الإخبار عن إقراره بشيء لا يصح عنه الرجوع كالقصاص وحد القذف، وسائر الحقوق التي هي للعباد، وفي هذا الوجه قبل قوله في الروايات الظاهرة عن أصحابنا رحمهم الله. وروى ابن سماعة عن محمد رحمه الله أنه قال: لا يقبل قوله، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ما ذكر في ظاهر الروايات قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أولاً، وما روى ابن سماعة فهو قوله آخراً، ثم في بعض النسخ وقع رواية ابن سماعة مطلقة، وفي بعضها مقيدة لا يقبل قوله، وفي بعضها لا يقبل قوله ما لم يضم إليه عدل آخر وهو الصحيح، وجه هذه الرواية أن القاضي ليس بمعصوم عن الكذب، فإخباره بانفراده لا يكون حجة، وكثير من مشايخنا أخذوا بهذه الرواية في زماننا لما رأوا من فساد القضاة، وذكر بعض مشايخنا رجوعه عن هذه الرواية برواية هشام. وجه الروايات الظاهرة أن القاضي أمين ألا ترى أنه تنفذ قضاياه، ولو كان متهماً لما نفد قضاؤه، لأن كونه متهماً ينافي كونه قاضياً، وألا ترى أنه ينافي كونه شاهداً، وألا ترى أنه لا تنفذ قضاياه في حق الوالدين والمولودين، وإنما لا ينفذ لمكان التهمة وهاهنا

لما نفذ قضاياه علمنا أنه ليس بمتهم، وقول الأمين مقبول كالوكيل والمودَع. وكان الشيخ الإمام الزاهد إمام الهدى أبو منصور الماتريدي رحمه الله يجعل هذه المسألة على وجوه: إن كان القاضي عالماً عدلاً نقبل قوله؛ لأن علمه يؤمنه عن الغلط، وعدالته تؤمنه عن الجور، وإن كان عدلاً غير عالم لم يستفسر إن أحسن ذلك قبل قوله، وإن كان جاهلاً فاسقاً أو فاسقاً غير جاهل لا يقبل قوله إلا أن يعاين السبب. وأنكر بعض مشايخنا ذلك، وقال: مع جهله أو فسقه لا يقبل قوله أصلاً؛ لأنه يخاف عليه إما الغلط أو الجور، وهذا إذا أخبر القاضي عن ثبوت الحق بالإقرار، فأما إذا أخبر عن ثبوت الحق بالبينة بأن قال: قامت بذلك بينة عندي وعدلوا وقبلت شهادتهم على ذلك، قبل قوله وله أن يحكم بها بخلاف الإقرار لأن رجوع الخصم ثمة يعمل، وهاهنا رجوع الخصم لا يعمل هذا الذي ذكرنا إذا أخبر القاضي عن شيء وهو قاض. فأما إذا أخبر عن شيء بعد العزل وصورته، إذا عزل القاضي فجاء رجل وخاصمه إلى القاضي المقلد، وقال: إنه وقع مالي، (74ب4) وذلك كذا وكذا إلى هذا بغير حق أو قال: إنه قتل ولي فلاناً، وهو قاض بغير حق وقال القاضي المعزول فعلت ما فعلت بقضاء قضيته عليه بإقراره، أو ببينته فعلى رواية ابن سماعة لا يقبل قوله: لأنه على روايته لا يقبل قوله، وهو قاض فأولى أن لا يقبل قوله بعد العزل. فأما على الرواياتِ الظاهرة المسألة على وجهين: إما أن كان العين الذي وقع فيه الخصومة قائماً أو كان هالكاً، وفي الوجهين جميعاً، لا ضمان على القاضي، وكذلك إذا قال القاضي المعزول لرجل: قضيت عليك لفلان بألف وأخذتها منك ودفعتها إليه حين ما كنت قاضياً، وقال الرجل: لا بل أخذتها مني بعد العزل ظلماً، فالقول قول القاضي على الروايات الظاهرة؛ لأن القاضي أضاف إقراره إلى حالة معهودة له ينافي في تلك الحالة وجوب الضمان عليه، فإن فعل القاضي على وجه القضاء لا يوجب الضمان بحال من الأحوال، فيكون بالإضافة إلى تلك الحالة منكراً للضمان، والقول للمنكر في الشرع وصار كالوكيل بالبيع إذا قال بعد العزل: قد كنت بعت وقبضت الثمن وهلك الثمن في يدي وكان ذلك قبل العزل، وقال الموكل: استهلكت ببيعه لا يوجب الضمان على الوكيل، وإنما لا يضمن؛ لأن فعل الوكيل على وجه الموافقة لا يوجب الضمان بحال فيكون بالإضافة إلى تلك الحالة منكراً للضمان، وكذلك إذا قال الوصي للصبي بعد البلوغ: أنفقت عليك من مالك كذا وكذا وذلك نفقة مثله، وقال الصبي: لا بل استهلكت مالي، فالقول قول الوصي؛ لأن فعل الوصي بالمعروف لا يوجب الضمان بحال فيكون بالإضافة إلى تلك الحالة منكراً للضمان وهل ينزع ذلك الشيء من يد المقضي له إن كان قائماً؟ فهو على وجهين. إن كان صاحب اليد يقول هذا العين ملكي من الأصل لم آخذه من هذا، ولم يقض القاضي المعزول لي به لا ينزع من يده؛ لأن المال في يده، واليد دليل الملك، فيحال الملك عليه إلا إذا وجد دليلاً آخر بخلافه.

وإن كان صاحب اليد يقول: هذا العين ملكي؛ لأن القاضي المعزول قضى لي به على هذا الرّجل كونه قاضياً ينزع من يده، ويسلم إلى المقضي عليه لأنهم تصادقوا على وصول هذا العين إلى المقضي له من جهة المقضي عليه بفعل ذلك القاضي والمقضي له بالإضافة إلى القضاء في تلك الحالة يدعيان التملك عليه وهو منكر، فالقول قول المنكر، أما إذا كان العين مستهلكاً، فالدعوى في الحاصل في الضمان، والقاضي بالإضافة إلى تلك الحالة منكر للضمان، والقول قول المنكر في الشرع، ولهذه المسألة أجناس كثيرة موضعها «إقرار الأصل» و «الزيادات» . قال في «أدب القاضي» : وللقاضي أن يقرض أموال اليتامى، وهذا مذهبنا خلافاً للشافعي، وهذا لأن القاضي يحتاج إلى حفظ أموال اليتيم، وقل ما يمكنه الحفظ بنفسه فيحتاج إلى الدفع إلى غيره، والدفع بطريق الإقراض أنفع لليتيم من الدفع بطريق الإيداع، لأن الوديعة إذا هلكت في يد المودع هلكت من مال اليتيم، والقرض إذا هلك في يد المستقرض يهلك من مال المستقرض، فهو معنى قولنا: إن الإقراض أنفع لليتيم، فإذا ملك القاضي الإيداع أولى أن يملك الإقراض. قال في «الأقضية» : وإنما يملك القاضي الإقراض إذا لم يجد ما يشتري به لليتيم (و) يكون لليتيم منه غلة، فأما إذا وجد لا يملك الإقراض بل يتعين عليه الشراء، قال هكذا روي عن محمد رحمه الله، وكذلك إذا وجد من يدفع إليه ماله مضاربة يدفع ماله مضاربة، ولا يقرض؛ لأنها أنفع في حق الصغير؛ لأنه يجعل به الربح للصغير وبالقرض لا يحصل، وإذا أقرض ينبغي أن يقرض من المليء لا من المفلس؛ لأن المال في ذمة المفلس يأوي، وينبغي أن يكتب من أقرضه صكاً خوفاً عن النسيان كيلا يفوت حق الصبيان، وينبغي أن يتفقد عن أحوالهم في كل وقت حتى إذا أفلس واحد منهم يسترد منه المال، إذ كما لا يجوز أن يقرض المفلس لا يجوز أن يترك المال على المفلس. قال هشام: يذكرنا عن محمد رحمه الله في الأموال التي تجمع عند القاضي لأيتام أي ذلك أفضل للقاضي دفعها بوديعة أو بضمان؟ فأخبرنا أن أبا حنيفة وابن أبي ليلى وأبا يوسف رحمهم الله، كانوا يرون أن يدفعها بضمان، قال: وكذلك قول محمد رحمه الله إذا كان الذي يضمن يوفي المحيا والممات، قال: وليس للقاضي أن يستقرض لنفسه ذلك. في «المنتقى» لو أن قاضياً باع مال يتيم بنفسه، أو أودع مال يتيم أو باع أمينه بأمره، وهو يعلم بذلك من رجل، ثم مات هذا القاضي واستقضي غيره، فشهد قوم أنهم سمعوا القاضي الأول يقول: استودعت فلاناً مال اليتيم، أو يقول: بعت فلاناً مال فلان اليتيم بكذا وكذا فجحد فلان، قال: يقبل القاضي الثاني هذه الشهادة، ويأخذ المستودع والمشتري بالمال وإن لم يكن الأول أشهدهم أنه قضى بذلك، قضاؤه وقوله عليه سواء، وإذا قبض القاضي مال يتيم أو غائب ووضعه في بيته، ولا يعلم أين هو؟ فهو ضامن، وإن

علم أنه دفعه إلى قوم ولا يدري إلى من دفعه؟ فلا ضمان عليه، وكذلك إذا قال القاضي: دفعت إلى ولي من أولياء الأيتام، ولا أدري إلى من دفعته فلا ضمان عليه.h في «المنتقى» أيضاً ذكر في «الأصل» وسبيل القاضي أن يرد الخصوم إلى إذا لم يستبين له فصل القضاء وإذا استبان له فصل القضاء، ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أنه إذا طمع في الصلح حال استبيانه القضاء ردهم إلى الصلح ولا يقضى ما لم ييأس عن الصلح. وذكر في «أدب القاضي» وإذا طمع القاضِي في اصطلاح الخصمين، فلا بأس بأن يردهم، ولا ينفذ الحكم عليهم، ولا ينبغي أن يردهم بأكثر من مرتين، فإن لم يطمع في الصلح أنفذ القضاء بينهم، وإن أنفذ القضاء بينهم من غير أن يردهم، فهو في سعة منهم، يريد به، وإن طمع في الصلح، وإذا أراد القاضي كتابة السجلات والمحاضر بنفسه، وأراد أن يأخذ على ذلك أجراً فله ذلك، لأن هذا ليس من عمل القضاء فإن تمام القضاء بالحكم، وكتابة السجل أمر زايد عليه، ولكن إنما يأخذ بقدر ما يجوز أخذه لغيره، والتقدير فيما يجوز أخذه لغيره. يحكى عن السيد الإمام الأجل أبي شجاع رحمه الله عن أبي حنيفة رحمه الله، وعن بعض المتقدمين: في كل ألف درهم خمسة دراهم، وفيما دون الألف إذا كان مشقة كتابته مثل مشقة كتابة الألف خمسة أيضاً، وإن كان على النصف من ذلك، ففيه درهمان ونصف وإن كان ضعف ذلك عشرة دراهم. وفي «فتاوى النسفي» وإذا كان القاضي يتولى القسمة بنفسه حل له أخذ الأجر وكل نكاح باشره القاضي وقد وجب مباشرته عليه كنكاح الصغار والصغائر، فلا يحل له أخذ الأجرة عليه، وما لم يجب مباشرته عليه حل له أخذ الأجرة عليه، وأراد أن يبيع مال اليتيم لمصلحة اليتيم لا ينبغي له أن يأخذ الأجر من مال اليتيم لأجل هذا الأذن، ولو أخذ وأذن بالبيع لا ينفذ بيعه، وإذا غاب الرجل عن امرأته، وتزوجت بزوج آخر، ثم حضر الزوج الأول وأقام البينة على النكاح، والمرأة تدعي الطلاق فالقاضي لا يعزرها، هكذا حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله؛ لأنه يمكنها أن تقول: طلقني إلا أني ما وجدت البينة على الطلاق. غريب مات في بلدة وترك أموالاً، فقاضي البلدة يتربص مدة يقع في قلبه أنه لو كان له وارث يحضر في هذه المدة، فإذا تربص هذه المدة، ولم يحضر له وارث يضعها في بيت المال ويصرفها إلى القناطر، ونفقة الأيتام وأشباه ذلك، وإذا حضر الوارث بعدما صرفها إلى المصارف يقضي حقه من مال بيت (75أ4) المال قال في «الأصل» . قال أبو حنيفة رحمه الله: ويكره للقاضي تلقين الشهود بأن يقول له اشهد بكذا، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا بأس به. وقال في «المنتقى» : قال أبو يوسف رحمه الله: لا بأس بتلقين الشاهد إذا كان عدلاً، وإنما قال أبو يوسف ذلك حين ابتلي بالقضاء، ورأى بعض الشهود عجزاً عن أداء

الفصل الثامن عشر: في قبض المحاضر من ديوان القاضي المعزول

الشهادة، وهذا لأن بمجلس القضاء هيبة، وللقاضي حشمة، ومن لم يتعود التكلم في هذا المجلس يتعذر عليه البيان إذا لم يسعه على البيان القاضي. قال في «الأصل» : وإذا ارتاب القاضي في أمر الشهود فرق بينهم لا يسعه غير ذلك، ويسألهم أيضاً أين كان هذا؟ ومتى كان هذا؟ ويكون هذا السؤال بطريق الاحتياط، وإن كان لا يجب هذا على الشهود في الأصل، فإذا فرقهم، فإن اختلفوا في ذلك اختلافاً يفسد الشهادة ردها، وإن كان لا يفسدها لا يردها، وإن كان يتهمهم، فالشهادة لا ترد بمجرد التهمة. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا اتهم الشهود فرق بينهم، ولا يلتفت إلى اختلافهم في لبس الثياب، وعدد من كان معهم من الرجال والنساء، ولا إلى اختلاف المواضع بعد أن يكُون الشهادة على الأقوال، وإن كانت الشهادة على الأفعال، فالاختلاف في المواضع اختلاف في الشهادة. وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا اتهمتهم ورأيت الريبة، وظننت أنهم شهود الزور أفرق، وأسألهم عن المواضع والثياب ومن كان معهم، فإذا اختلفوا في ذلك، فهذا عندي أبطل به الشهادة. وعن إبراهيم عن محمد رحمه الله في شاهدين شهدا لرجل بدار، فالقاضي يسألهما كيف هي العلة لا يقطع بشهادتهما شيئاً، فإن قال الشاهد: لا أخبرك، ولا أزيد على هذا هي له، أمضيت الشهادة. وعن أبي يوسف: رجل ادعى عبداً في يد إنسان فالقاضي لا يسأل صاحب اليد من أين هذا لك؟ وقال أبو حنيفة رحمه الله: ليس للقاضي أن يقول للشهود بشيء لرجل لا يعلمونه باع أو وهب، وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله إذا شهد عند القاضي شاهدان بدار لرجل فله أن يسألهما عن البناء، والله أعلم. الفصل الثامن عشر: في قبضِ المحاضِر من ديوان القاضي المعزول إذا عزل القاضي وقلد غيره ينبغي للقاضي المقلد أن يبعث أمينين من أمنائه ليقبضا من القاضي المعزول ديوانه، وديوان القاضي خريطته التي فيها الصكوك والمحاضر، ونصب الأوصياء والقُوام في الأوقاف، وتقدير النفقات وما يشاكله؛ لأن القاضي يكتب لهذه الأشياء نسختين يضع إحداهما في يد الخصم والقيم، والأخرى يجلدها في ديوانه، حتى إذا احتاج إلى الرجوع إليها أمكنه العمل بها عن إيقان، فما في يد الخصم لا يؤمن عليه التغير والتبديل، والقاضي المقلد يحتاج إلى قبض ذلك؛ لأنه يحتاج إلى الرجوع إلى ذلك في الحوادث التي ترفع إليه، فيبعث أمينين من أمنائه ليقبضا ذلك، وإن أبى القاضِي المعزول الدفع، فإن كان البياض الذي كتب عليه نسخة هذه الأشياء من بيت المال يجبر

على الدفع، لأنه إنما اتخذ ذلك للعمل به، وقد صار العمل لغيره، فلا يترك في يده، وإن كان ذلك من مال القاضي أو من مال الخصوم فقد اختلف المشايخ فيه. والأصح أنه يجبر على الدفع؛ لأنه ما اتخذه للتمويل بل للعمل به إحياء لحق المسّلمين، وقد صار العمل إلى غيره، وإذا قبضا ديوانه يقبضان الودائع وأموال اليتامى أيضاً ويكون عند المقلد، ويأخذان أسماءَ المحبوسين أيضاً، فالقاضي إذا حبس رجلاً بحق ينبغي أن يكتب اسمه واسم أبيه وجده، والسبب الذي لأجله حبسه، وتاريخ الحبس، لأنه يحتاج إليه لسماع البينة على الإفلاس، فيأخذان ذلك أيضاً، ويجعل القاضي المقلد ذلك في ديوانه، وينبغي أن يذكر في تذكرته تاريخ الحبس من الوقت الذي أثبته المعزول لا من وقت عمله، لأنه بناء على ذلك الحبس، ويسألان القاضي المعزول عن المحبوسين، وأسباب الحبس لا، لأن قول القاضي المعزول حجة، وكيف يكون حجة وإنه بالعزل التحق بواحد من الرعايا؟ ولكن ليكشف ويسأل المحبوسين عن أسباب الحبس، ويجمع بينهم وبين خصومهم، وإن كان في المحبوسين جماعة لم يحضر لهم خصماً، وقالوا: حبسنا بغير حق، فالقاضي المقلد لا يطلقهم تحسيناً للظن بالقاضي المعزول فيما باشر من حبسهم، ويأمر منادياً بالنداء أنا وجدنا فلاناً وفلاناً محبوسين، فمن كان له عليهم حق فليأتنا، فإن حضر رجل فصل الخصومة بينهما على وجهه، وإلا أطلقهم بكفيل. وتقدير مدة النداء والمدة التي يسع فيها الإطلاق موكول إلى رأي القاضي قبل ما ذكر هاهنا من أخذ الكفيل قولهما، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يأخذ بناءً على مسألتين: إحداهما: إذا قسم القاضي التركة بين الورثة لا يحتاط بأخذ الكفيل عند أبي حنيفة، خلافاً لهما. الثانية: إذا قضى القاضي دين الغرماء من التركة لا يحتاط بأخذ الكفيل عند أبي حنيفة خلافاً لهما. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: يأخذ الكفيل هاهنا على قول الكل، والفرق لأبي حنيفة رحمه الله أن في مسألة القسمة، وقضاء الدين حق هذا الذي حضر ظاهر، وحق الآخر موهوم، ولا يجوز تأخير هذا الحق الظاهر، إلى وقت أخذ الكفيل لحق موهوم، أما في هذه المسألة الحق ظاهر؛ لأنَا نحمل فعل القاضي المعزول على السّداد، فلا يكون في أخذ الكفيل تأخير حق ظاهر لحق موهوم. ثم اعلم بأن الحبس أنواع أحدها: الحبس بالدين وإنه يشتمل على فصول. الأول: إذا قال المحبوس: حبست بدين فلان أقررت به عند القاضي المعزول، فالقاضي المقلد يجمع بين المحبوس وبين خصمه، فإن صدقه خصمه في ذلك أعاده إلى الحبس إذا طلب خصمه ذلك، وأما إذا أنكر المحبوس بالدين، وقال: إن هذا يدعي علي شيئاً بغير حق وقد حبسني ظلماً وخصمه يقول: لي عليه كذا، وقد حبسته بحق، فالقاضي

يأمر خصمه بإقامة البينة على ما ادعى، فإذا أقام وعرفهم القاضي بالعدالة أدام حبسه، وإن لم يعرفهم بالعدالة واحتاج إلى السؤال أخذ كفيلاً بنفسه، ويطلقه ولا يحبسه، أما لا يحبسه لأنه لم يظهر سبب حبسه، وأما لا يطلق بدون الكفيل نظراً للمدعي، لأنه لو حضر البينة لم يجد المدعى عليه. وإن قال بعض المحبوسين: أنا محبوس بدين فلان، فمره يأخذ مني كفيلاً ويطلقني، فالقاضي يأمر بإحضار خصمه، فإذا حضر وصدق المحبوس في إقراره، والقاضي يعرف المقر له باسمه ونسبه أو لم يعرفه، ولكن شهد الشهود بذلك، أو لم يشهد الشهود بذلك، وفي الوجوه كلها القاضي يأمر المحبوس بأداء المال إليه؛ لأن إقراره حجة عليه، ولا يطلق لتهمة المواضعة، ويأمر منادياً بالنداء على ما بينا، فإن لم يحضره خصم آخر أطلقه في الوجوه كلها، ولم يذكر الخصاف أخذ الكفيل في الوجه الأول والثاني، وذكر في الوجه الثالث، وبعض مشايخنا ذكروا أخذ الكفيل في الوجوه كلها؛ لأن أخذ الكفيل للتوثق، وفي هذا المعنى الوجوه الثلاثة سواء، وكذلك إذا لم يجيء المحبوس بالمال، ولكن قال المقر له: أنا أختار الرفق، وأمهله مدة كذا، وأطلقه، فالقاضي لا يطلقه، ويحتاطه بالطريق الذي قلنا، ثم يطلق بكفيل، وإن قال المحبوس: لا كفيل لي، أو قال: لا يجب علي إعطاء الكفيل إذ ليس لي خصم يطلب مني الكفيل، فالقاضي يتأنى في ذلك، ولم يعجل بإطلاقه حتى ينادي، فإن لم يحضر له خصم بعد ذلك أطلقه. الوجه الثاني: الحبس بسبب العقوبات الخالصة حقاً للعبد، كالقصاص، فإذا قال بعض المحبوسين: إنما حبست لأني أقررت بالقصاص لفلان، وجمع القاضي بينه وبين خصمه، وصدقه خصمه فيما أقر، ولا يخلو ذلك من أحد وجهين: إما أن يكونَ (75ب4) القصاص في النفس أو في الطرف، فإن كان في النفس يخرجه القاضي من السّجن، ويمكن خصمه من الاستيفاء، ولا يتأنى بخلاف ما لو أقر بمال؛ لأن هناك يتأتى تهمة المواضعة بأن تواضعا حتى يقر لهذا الرجل بالمال، ويدفع إليه المال، حتى يتخلف عن السجن، ثم إذا خرج من السجن أخذ ما دفع، ويكون الخصم غيره، أما هاهنا لا يتأتى تهمة المواضعة؛ لأن الإنسان لا يجود بنفسه ليتخلص عن السجن، فلهذا افترقا، وإن كان القصاص في الطرف يخرجه القاضِي من السّجن أيضاً، ويمكن خصمه من الاستيفاء، ولكن لا يعجل في إطلاقه لجواز أن يكون لرجل آخر عليه حق في نفسه، فتواضع مع هذا الرجل ليغر له بطرفه ليتخلص عن السجن، فيبطل حق الآخر في النفس. الثالث: الحبس بسبب العقوبات الخالصة حقاً لِلّهِ تعالى نحو الزنا، وشرب الخمر والسرقة، إذا قال بعض المحبوسين: إنما حبست، لأني أقررت بالزنا عند القاضي

المعزول أربع مرات في أربع مجالس، فحبسني ليقيم عليّ الحدّ، فالقاضي المقلد لا يقيم عليه الحدّ بتلك الأقارير؛ لأن تلك الأقارير لا تكون حجة في حق القاضي المولى، فيستأنف الأمر، فإن أقر عنده أربع مرات في أربع مجالس، أقام عليه الحد، تقادم العهد أو لم يتقادم؛ لأن تقادم العهد يمنع صحة الشهادة، أما لا يمنع صحة الإقرار فيرجمه إن كان محصناً، ويجلده إن كان غير محصن، ولكن لا يعجل في إطلاقه لجواز أنه يجيء خصم في نفسه، وإن رجع عن الإقرار صح رجوعه، كما لو رجع عند القاضي الأول، ولكن لا يعجل القاضي في إطلاقه لتوهم الحيلة. وإن قال: إنما حبست لأنه قامت البينة علي بالزنا، فحبسني القاضي المعزول ليقيم علي الحد، فيقول: البينة القائمة عند القاضي المعزول غير معتبرة في حق هذا القاضي، فلا يقيم عليه الحد بتلك البينة، ولو شهد الشهود عند هذا القاضي بزناه لا يقيم عليه الحد أيضاً، إذا كان العهد قد تقادم؛ لأن تقادم العهد يمنع صحة الشهادة، ولا يعجل في إطلاقه لتوهم الحيلة بل يتأنى، ويطلقه بعد ذلك بكفيل لما ذكرنا. فإن قال بعض المحبوسين: إنما حبست لأني أقررت بشرب الخمر عنده، أو لأنه قامت البينة عليّ بشرب الخمر فحبسني ليقيم عليّ الحدّ، فهذا القاضي لا يقيم عليه الحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن حد الشرب إنما يقام على الشارب إذا كان الخمر في بطنه، والرائحة توجد منه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله البينة والإقرار في ذلك على السواء، والمسألة معروفة في الحدود. وإن قال: إنما حبست لأني أقررت بالسرقة من فلان، أو لأنه قامت البينة عليّ بالسرقة من فلان، فإن هذا القاضي يجمع بينه وبين خصمه؛ لأن الدعوى في السرقة شرط كما في باب المال، ولا يقضى عليه بالقطع تقادم العهد أو لم يتقادم، ولا يعجل في إطلاقه، ولو قامت البينة ثانياً لا يقضي عليه بالقطع إذا تقادم العهد فحد السرقة وحد الزنا في حق هذا الحكم على السواء. الرابع: الحبس بسبب عقوبة هي بين حق الله تعالى وبين حق العبد، وهو حد القذف، إذا قال بعض المحبوسين: إنما حبست لأني قذفت هذا الرجل بالزنا، وصدقه ذلك الرجل في إقراره استوفى منه حد القذف، ولا يعجل القاضي في إطلاقه، ولو رجع عما أقر لا يصح رجوعه بخلاف الرجوع عن الحدود الخالصة لله تعالى. جئنا إلى حكم الودائع والأموال. إذا قال القاضي المعزول: على يدي فلان كذا وكذا دفعته من المال إليه، وهو لفلان بن فلان، فإن صدقه الذي في يديه المال في جميع ذلك أمر بالتسليم إلى المقر له، وهذا ظاهر، وإن قال: دفع إلي فلان القاضي المعزول هذا القدر من المال لكن لا أدري أنه لمن، وفي هذا الوجه أمر بالتسليم إلى المقر له أيضاً، لأنه أقر أن المال وصل إليه من جهة القاضي المعزول، فكان يده يد القاضي المعزول معنىً، وقد أقر القاضي المعزول أنه لفلان، وصاحب اليد إذا أقر بما في يده لغيره أمر بالتسليم إليه، وإن كان صاحب اليد

كذب القاضي المعزول في جميع ما قال، فالقول قوله، وهذا ظاهر أيضاً، وإن كان صاحب اليد قال: دفع إلي القاضي المعزول هذا القدر من المال، وهو لفلان آخر غير الذي أقر له القاضي، فهذا على وجهين: أحدهما: هذا، وفي هذا الوجه يؤمر بالتسليم إلى الذي أقر له القاضي؛ لأنه لما أقر بالوصول إليه من جهة القاضي، فقد أقر باليد للقاضي من حيث المعنى، فلو كان في يد القاضِي حقيقة وهو يقول: إنه لفلان يؤمر بالتسليم كذا هاهنا. الوجه الثاني: إذا بدأ بالإقرار بالملك بأن قال: المال الذي في يدي لفلان غير الذي أقر له القاضي المعزول دفعه إلى القاضي المعزول أمر بالتسليم إلى الذي أقر له صاحب اليد؛ لأن إقراره بالملك الأول قد صح لأنه أقر بما في يده، وتعلق به حق المقر له، فإذا قال بعد ذلك: دفع إلى القاضِي المعزول، فقد أقر باليد للقاضي المعزول، والقاضي المعزول يقر أنه لفلان، فقد أقر لمن أقر له القاضي به بعد ما أقر به الأول، فلا يصح إقراره للثاني في حق الأول، فإن دفع إلى الأول بغير قضاء ضمن للثاني، وإن دفع بقضاء، فكذلك عند محمد، وعند أبي يوسف لا يضمن. أصل المسألة: إذا أقر الرجل أن هذا المال الذي في يدي لفلان دفعه إلى فلان آخر، وقال الدافع: هو ملكي، فإن هناك يؤمر المقر بالتسليم إلى المقر له الأول، وهل يضمن للثاني؟ فهو على التفصيل والاختلاف الذي ذكرنا، والمسألة معروفة في كتاب الإقرار. وإن قال القاضي المعزول: في يدي ألف درهم أصابه فلان اليتيم من تركة أبيه، وصدقه ذو اليد في ذلك، فإن لم يدع أحد من باقي الورثة ذلك المال فهو لليتيم؛ لأن صاحب اليد أقر للقاضي المعزول، والقاضي المعزول يقر به لليتيم، ولم ينازعه في ذلك أحد، فيكون ذلك لليتيم، وإن قال باقي الورثة: لم يستوف منا أحد حقه من تركة الميت كان ذلك المال مشتركاً بين جميع الورثة، واليتيم من جملتهم؛ لأن اليد للقاضي المعزول معنى، وهو قد أقر أن المال كان لوالد اليتيم، وما كان للإنسان يصير ميراثاً لجميع ورثته، ولا يختص به البعض إلا إذا ثبت استيفاء الباقين حقوقهم، ولم يثبت ذلك بقول القاضي المعزول لما أنكروا الاستيفاء؛ لأن القاضي المعزول بالعزل التحق بواحد من الرعايا، فقد صح إقرار القاضي المعزول أن هذا ملك والدهم باعتبار اليد المقر به، ولم يصح إقراره على سائر الورثة بالاستيفاء باعتباره يده المعنوية، وإذا لم يثبت هذا الاستيفاء، فإن هذا المال تركة الميت، فيقسم بين سائر الورثة، واليتيم من جملتهم، إلا أنه ينبغي للقاضي المقلد أن ينظر لليتيم ويحلف باقي الورثة بالله: ما استوفيتم حقوقكم من تركة والدكم فلان؛ لأنه عاجز عن النظر بنفسه فينظر له القاضي المقلد. وإن قال القاضي المعزول: هذا المال لفلان اليتيم، ولم يقل: أصابه من تركة والده، وادعى باقي الورثة أنه من تركة والدهم فالمال لليتيم؛ لأن القاضي المعزول هاهنا ما أقر بالملك لوالد اليتيم ليصير مقراً بكونه ميراثاً لورثته، بل أقر لليتيم بالملك مطلقاً،

وليس من ضرورة كونه مملوكاً لليتيم أن يكون من تركة والده، فيعمل ذلك باقي الورثة يدعون لنفسهم حقاً في هذا المال، فلا يصدقون إلا بحجة. وإن كان مالاً بصك على رجل قد كان القاضي بين في الصك بينة، وأشهد في الصك أنه لفلان اليتيم أصابه من تركة والده فلان، وأن سائر الورثة استوفوا حقوقهم، فنقول: مجرد الصك ليس بحجة، وكذلك قول القاضي المعزول على استيفاء باقي الورثة حقوقهم ليس بحجة، وإنما الحجة شهادة شهود يشهدون على إشهاد القاضي عليهم بالاستيفاء، أو على إقرارهم بالاستيفاء، فإن شهد الشهود بذلك كان هذا المال (76أ4) لليتيم وإلا فهو لسائر الورثة. وإذا قال القاضي المعزول: ثبت عندي بشهادة الشهود، أن فلاناً وقف ضيعة كذا على كذا، وحكمت بذلك، ووضعتها على يدي فلان، وأمرته بصرف غلاتها إلى السبيل المشروط في الوقف، وصدقه بذلك صاحب اليد، فإن أقر ورثة الواقف بذلك أنفذ القاضي المقلد هذا الوقف؛ لأن اليد على الضياع للقاضي المعزول، وهو قد أقر بوقفيته من جهة من زعمه مالكاً، وصدقه خلفاؤه في ذلك، فيعتبر تصديقهم بتصديق الميت لو كان حياً، وإن كان الورثة قد جحدوا ذلك، ولم يقم عليهم بينة كان ميراثاً بينهم؛ لأن بإقرار القاضي يثبت كون الضيعة ملكاً للميت، ولم تثبت الوقفية، فيبقى على ملكه ميراثاً بين ورثته، ولكن يستحلف الورثة على علمهم، فإن حلفوا فالأمر ماض، وإن نكلوا قضي عليهم بالوقفية بإقرارهم، وإن قامت البينة عليهم بذلك قضى القاضي عليهم بالوقفية، كما لو قامت البينة على الواقف حال حياته. وإن قال القاضي المعزول: إنه وقف على أرباب، أو قال: على المسجد، وبين وجهاً آخر من وجوه البر، ولم يقل: وقفها فلان، فالقاضي المقلد ينفذه، ولا يسأل عن التفسير؛ لأن التفسير يضر بالوقف، عسى فإنه ربما ينكر ورثة الواقف الوقف، ولا يوجد على ذلك بينه فيردونه ميراثاً، وهذا هو السبيل في كل موضع يقع الاستفسار ضاراً، فالقاضي المقلد يتركه ويكتفي بالإجمال، وينبغي للقاضي أن يحاسب الأمناء ما جرى على أيديهم، من أموال اليتامى وغلاتهم كل ستة أشهر، وكل سنة على حسب ما يرى حتى ينظر هل أدى الأمانة فيما فوض إليه أو خان؟ فإن أدى الأمانة قرره عليه، وإن خان استبدل غيره. بلغنا أن عمر رضي الله عنه كان يحاسب الأمناء كل سنة، وكذلك يحاسب القوام على الأوقاف، لما ذكرنا، ويقبل قولهم في مقدار ما حصل في أيديهم من الغلات والأموال، الوصي والقيم في ذلك على السواء، فإن الأصل في الشرع أن القول قول القاضي في مقدار المقبوض، وفيما يخبر من الأوقاف على اليتيم، أو على الضيعة، وما صرف منها في مؤنات الأراضي، إن كان وصياً يقبل قوله في المحتمل، وإن كان فيما لا يحتمل لا يقبل قوله، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» ، وفرق بين الوصي وبين القيم.

فالوصي: من فوض إليه الحفظ والتصرف. والقيم: من فوض إليه الحفظ دون التصرف. وإذا عرفت الفرق بين الوصي وبين القيم، فإذا ادعى الوصي الإنفاق، فقد ادعى ما دخل تحت ولايته، فيقبل قوله، وكثير من مشايخنا سووا بين الوصي وبين القيم فيما لم يكن للضيعة منه بد، وقالوا: يقبل قول القيم في ذلك كما يقبل قول الوصي، وقاسوا على قيم المسجد، أو واحد من أهل المسجد إذا اشترى للمسجد ما لا بد منه نحو الحصير والحشيش والدهن، أو صرف شيئاً من غلات المسجد إلى أجر الخادم، لا يضمن لكونه مأذوناً فيه دلالة، فإنه لو لم يفعل ذلك يتعطل المسجد كذا ههنا، ومشايخ زماننا قالوا: لا فرق بين الوصي والقيم في زماننا، فالقيم في زماننا من فوض إليه التصرف والحفظ جميعاً كالوصي.5 قال: وإن اتهم القاضي واحداً منهم، يريد به واحداً من الأوصياء فيما ادعى من الإنفاق على اليتيم، أو على الوقف، حلفه القاضي على ذلك، وإن كان أميناً كالمودع إذا ادعى هلاك الوديعة، أو ردها، قال بعض مشايخنا: إنما يستحلف إذا ادعى عليه شيئاً معلوماً؛ لأن الاستحلاف يصح على دعوى صحيحة ودعوى المجهول لا يصح. وقال بعضهم: يحلف على كل حال؛ لأنه إنما يحلف نظراً لليتيم واحتياطاً له، وفي مثله يستحلف على كل حال، وإن أخبروا أنهم أنفقوا على الضيعة واليتيم من أموال الأراضي والغلات كذا وبقي في أيدينا كذا هذا القدر إن كان منهم معروفاً بالأمانة، فالقاضي يقبل منه الإجمال، ولا يجبره على التفسير؛ لأنه لو أجبره على التفسير ربما لا يمكنه الخروج عن العهدة مع صدقه في الإخبار، والإنسان قد يعجز عن حفظ حسابه وعن الخروج منها فيتضرر، وليس للقاضي ولاية الإضرار بالغير، ومن كان منهم متهماً، فالقاضي يجبرهم على التفسير شيئاً فشيئاً، ولا يقبل منه الإجمال، وليس تفسير الجبر ههنا الجبر وإنما تفسيره أن يحضره القاضي يومين أو ثلاثة ويخوفه، ويهدده إن لم يفسر احتياطاً في حق اليتيم، فإن فعل ذلك، ومع هذا لم يفسر، فالقاضي يكتفي منه باليمين ويتركه. قال: وإن قال الوصي للقاضي المقلد إن القاضي المعزول حاسبه، فالقاضي المقلد: لا يكف عنه إلا بالبينة؛ لأنه يدعي بطلان حق المحاسبة على القاضي، فلا يصدق عليه إلا بحجة، وإن قال الوصي أو القيم: أنفقت على اليتيم، أو قال: على الوقف كذا من مالي وأراد أن يرجع بذلك في مال اليتيم، والوقف، لا يقبل قوله بخلاف ما ادعى الإنفاق من مال اليتيم أو من مال الوقف، حيث يقبل قوله في المحتمل؛ لأنه أمين فيما في يديه من مال اليتيم والوقف، ويدعي الخروج عن عهدة الأمانة بدعوى الإنفاق، من غير أن يثبت لنفسه استحقاق شيء، وقول الأمين في مثل هذا مقبول، فأما إذا ادعى الإنفاق من مال نفسه، فما ادعى الخروج عن عهدة الأمانة، بل ادعى الاستحقاق لنفسه على الصغير والوقف، ودعوى الاستحقاق لا يقبل من غير حجة.

الفصل التاسع عشر: في القضاء في المجتهدات

قال: وإن ادعى القيم أو الوصي أن القاضي المعزول أجرى له مشاهرة في كل شهر كذا وكذا، في كل سنة كذا وكذا، وصدقه القاضي المعزول في ذلك، أو لم يصدقه، فالقاضي لا ينفذ ذلك؛ لأن مجرد الدعوى ليس بحجة، وكذلك قول القاضي المعزول في الحال ليس بحجة، فإن قامت له بينة على فعل القاضي في حال قضائه قبلت، وأنفذ القاضي المقلد ذلك، لأن للقاضي ولاية تقدير كفايته، وأجراها له في مال اليتيم والوقف، فهذه البينة قامت على إثبات فعل القاضي المعزول في حال قضائه، وفيما هو داخل تحت ولايته، وقوله في حال قضائه فيما هو داخل تحت ولايته مقبول، فهذه البينة قامت على ما هو حجة، فقبلت. بعد هذا القاضي المقلد ينظر في ذلك إن كان ذلك مقدار أجر عمله أو دونه أنفذ ذلك كله، وإن كان أكثر أنفذ مقدار أجر مثل عمله، وأبطل الزيادة؛ لأنه لم يكن للقاضي المعزول أن يزيد على أجر مثل عمله، فلا يكون للمقلد تنفيذ الزيادة. وإن كان القيم قد استوفى الزيادة، أمره القاضي بالرد علي اليتيم؛ لأنه استوفى ما ليس له ذلك، قال في «الأصل» : وما وجد في ديوان القاضي المعزول من شهادة، أو قضاء أو إقرار، فهو باطل لا يعمل به القاضي المقلد، إلا أن يقوم بينة أنه قضى به وأنفذه، وهو قاض يومئذ؛ لأن القاضي الثاني لا يعلم حقيقة شيء من ذلك، فلا بد من طريق يقع العلم له بحقيقة تلك البينة، ويشرط أن يشهدوا أنه قضى به، وهو يومئذ قاض لجواز أنه قضى به بعد العزل، وقضاؤه بعد العزل باطل. الفصل التاسع عشر: في القضاء في المجتهدات قال في «أدب القاضي» : وما اختلف فيه القضاة، وقضى فيه قاض بقضية ثم رجع إلى قاض آخر، يرى خلاف ذلك أمضى قضاء الأول ولا ينقضه، ولو نقضه كان باطلاً، والأصل فيه: ما روي أنه لما انتهت الخلافة إلي علي رضي الله عنه رفع إليه قضايا عمر وقضايا عثمان رضى الله عنهما، وطلب منه نقضها، لما أن رأي علي رضى الله عنه في تلك القضايا كان بخلاف ذلك، فلم ينقض علي رضى الله عنه شيئاً من ذلك، وحين قدم الكوفة قام خطيباً وقال: إني لم أقدم عليكم لأحل عقدة عقدها عمر، أو لأعقد عقدة حلها عمر رضي الله عنه، والمعنى في ذلك أن قضاء القاضي في موضع الاجتهاد نافد بالإجماع، فكان القضاء الثاني ينقض الأول مخالفاً للإجماع، ومخالفة الإجماع ضلال وباطل؛ ولأن القضاء إذا جعل في محل الاجتهاد، فقد يرجح الجانب الذي اتصل به القضاء بالقضاء، فلا يعارض من الجانب الآخر؛ ولأنه لو جاز للثاني نقض الأول يجوز للثالث نقض الثاني إذا كان رأيه بخلافه، وكذا للرابع والخامس إلى ما لا يتناهى وليس في أحكام الله تعالى ما لا يتناهى.

واعلم (76ب4) بأن قضاء القضاة التي يرفع إلى قاض آخر لا يخلو، إما أن يكون جوراً بخلاف الكتاب والسنة والإجماع، أو يكون في محل الاجتهاد، واجتهد فيه الفقهاء، واختلف فيه العلماء أو يكون بقول مهجور، فإن كان في محل الاجتهاد وحكمه ما ذكرنا، وإن كان جوراً فالقاضي الذي رفع إليه لا ينفذه وينقضه، ولو نفذه كان لقاضي آخر أن يبطله، لأن ما يخالف الكتاب والسنة والإجماع باطل، ولا يجوز تقرير الباطل والضلال، وإن كان بقول مهجور، فالقاضي الذي يرفع إليه ينقضه، ولا ينفذه، ولو نفذه كان لقاض آخر بعد ذلك أن يبطله، وسيأتي بعد هذا بيانه إن شاء الله تعالى. وبعد هذا يحتاج إلى بيان محل الاجتهاد، قال ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: كل أمر جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله، وجاء عنه غير ذلك الفعل، أو جاء عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء عن ذلك الرجل، أو غيره من الصحابة بخلافه وعمل في الناس بأحد الأمرين دون الآخر، أو عمل بأحد القولين، ولم يعمل بالأخر، ولم يحكم به أحد، فهو متروك منسوخ، فإن حكم به حاكم من أهل زماننا لم يجز، أشار إلى أنه وإن قضى بالنص لكن ثبت بإجماع الأمة انتساخه، حيث لم يعمل به أحد من الأمة، والعمل بالمنسوخ باطل غير جائز. قال: وإنما يجز من ذلك ما اختلف فيه الناس، وحكم به حاكم من حكام أهل الأمصار، فأخذ بعضهم بقوله، وأخذ بعضهم بقول الآخر، يعني بعض الحكام أشار إلى أن بمجرد خلاف بعض العلماء لا يصير المحل محل الاجتهاد ما لم يعتبر العلماء، وسوغوا له الاجتهاد فيه. ألا ترى أن عبد الله ابن عباس كان من الفقهاء، ثم لما لم يسوغوا الاجتهاد له في ربا النقد، حتى أنكر عليه أبو سعيد الخدري رضى الله عنه لم يعتبر خلافه على ما بينا قبل هذا، ثم قوله: وإنما يجز من ذلك ما اختلف فيه الناس، يشير إلى أن العبرة بحقيقة الاختلاف في صيرورة المحل مجتهداً فيه، وفي بعض المواضع يشير إلى أن العبرة لإنشاء الدليل، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في «السير الكبير» في أبواب الأنفال، وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى. ثم إن الخصاف لم يعتبر الخلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله، وإنما اعتبر الخلاف بين المتقدمين، والمراد من المتقدمين الصحابة ومن معهم، ومن بعدهم من السلف. قال صاحب «الأقضية» : فإذا زنى رجل بأم امرأته، ولم يدخل بها، فجلده القاضي، ورأى أن لا يحرمها عليه فأقرها معه، وقضى بذلك نفذ قضاؤه؛ لأنه قضى في فصل مجتهد فيه، فإن بين الصحابة اختلافاً في هذه الصورة، فعلي وابن مسعود وعمران بن الحصين وأبي بن كعب رضي الله عنهم قالوا بالحرمة، وابن عباس كان لا يقول بالحرمة، وكان يقول: الحرام لا يحرم الحلال، وربما كان برواية مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نفا، وهذا القضاء في حق هذا المقضي عليه متفق عليه، وفي حق

المقضي له إن كان جاهلاً فكذلك، وإن كان عالماً فعلى الخلاف لما مر. وحكى القدوري في «شرحه» ، فيمن تزوج امرأة زنى بها أبوه أو ابنه، وقضى القاضي بنفاذ هذا النكاح، وفي نفاذ هذا خلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، فعلى قول أبي يوسف لا ينفذ قضاؤه، لأن الحادثة منصوص عليها في «الكتاب» ، فإن النكاح في اللغة الوطء، ولا ينفذ حكم الحاكم على خلاف النص، وعلى قول محمد رحمه الله ينفذ؛ لأن هذا النص ظاهر وللتأويل فيه مشاع، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما على ما روينا يؤيده فكان محل الاجتهاد، فينفذ قضاؤه فيه. وإذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها، أو اختارت نفسها فهذه المسألة مختلفة في الصدر الأول، فعلى قول عمر وابن مسعود رضى الله عنهما إن اختارت زوجها فهي امرأته، وإن اختارت نفسها فهي تطليقة بائنة، وعلى قول أهل المدينة إن اختارت زوجها فقد بانت منه، وإذا كانت المسألة مختلفة في الصدر الأول من هذا الوجه، فبأي قول من هذه الأقوال قضى كان قضاؤه في فصل مجتهد فيه فينفذ، وإذا قضى القاضي بجواز بيع أمهات الأولاد لا ينفذ قضاؤه. واعلم بأن جواز بيع أمهات الأولاد مختلف في الصدر الأول، فعمر وعلي رضى الله عنهما أولاً كانا لا يجوزان بيعها، وهكذا روي عن عائشة رضى الله عنها، وقال علي رضى الله عنه آخراً: يجوز بيعها. ثم أجمع المتأخرون على أنه لا يجوز بيعها، وتركوا قول علي آخراً بعد هذا. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ما ذكر في «الكتاب» أنه لا ينفذ قضاؤه قول محمد رحمه الله، أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف ينبغي أن ينفذ، فكأنه مال إلى قول من قال: إن المتقدمين إذا اختلفوا في شيء على قولين، ثم أجمع من بعدهم على أحد القولين، فهذا الإجماع رفع الخلاف المتقدم عند محمد رحمه الله خلافاً لأبي حنيفة وأبي يوسف، وإذا ارتفع الخلاف المتقدم على قول محمد لم يكن قضاء هذا القاضي في فصل مجتهد فيه، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا لم يرتفع الخلاف المتقدم كان هذا قضاء في فصل مجتهد فيه فنفذ. هما يقولان: لو ثبت الإجماع باتفاق من بعدهم لا بد من تعليل؛ لأن مخالفة الإجماع ضلال، وتضليل بعض الصحابة أو بعض السلف محال، يوضحه أن المخالف لو كان حياً لا ينعقد الإجماع مع مخالفته، فكذا إذا مات؛ لأن بالموت فات المستدل لا الدليل، والمانع الدليل دون المستدل والدليل قائم، فيمنع انعقاد الإجماع حجة لا يوجب الفصل بينما إذا سبقه مخالف، وبين ما إذا لم يسبقه مخالف، ألا ترى أنه لو اجتمع علماء عصر على حكم واحد، وانعقد إجماعهم على ذلك، ثم اجتمع أهل عصر بعدهم على خلاف ذلك يصح؟ وانتسخ الأول بالثاني كأنه ورد آية مضادة لحكم آية قبلها. ثم قول الكل لم يصلح مانعاً انعقاد الإجماع والإجماع، فقول الواحد أولى وقولهما: بأنه يودي إلى تضليل بعض السلف، فليس كذلك؛ لأن الإجماع إنما انعقد

الآن والتضليل في مخالفة الإجماع، فإذا انعقد الإجماع لا تتحقق المخالفة، فلا يؤدي إلى الإضلال، كان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله يقول: لا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله، أن إجماع المتأخرين يرفع الخلاف المتقدم؛ لأن حد الإجماع قد وجد والدليل الموجب لكون الإجماع حجة لا يوجب الفصل، فكان هذا القضاء في غير محل الاجتهاد، فلا ينفذ عند الكل، فكان ما ذكر في «الكتاب» أنه لا ينفذ قضاؤه قول الكل، وما يقول بأنه يؤدي إلى تضليل بعض السلف. قلنا: لا يؤدي لأنا نجعل هذا الإجماع بمنزلة البيان، أن ما أدى إليه اجتهاد المخالف في الصدر الأول يبدل الآن، وصار بمنزلة ما لو كان حياً، وتحول رأيه إلى خلاف ذلك، وإنما حملنا على هذا حملاً لأمر المسلمين على إجماعهم على ما يحل لهم على تعين الحق والصواب في قولهم، وصيانة لهم عن تضليل من كان قبلهم، قال القاضي الإمام الكبير أبو زيد رحمه الله في «تقويمه» في آخر فصول الإجماع: إن محمداً رحمه الله روى عنهم أنه لا ينفذ القضاء أنه لا ينفذ من غير ذكر خلاف. وفي الباب الأول من أقضية «الجامع الكبير» أن قضاء القاضي بجواز بيع أم الولد يتوقف على إمضاء قاض آخر، وهو الأصح، والوجه في ذلك: أن العلماء اختلفوا على أن بيع أم الولد هل بقي مختلفاً فيه؟ قال أصحابنا: لم يبق مختلفاً فيه كما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن الإجماع المتأخر يرفع الخلاف المتقدم. ومن العلماء من قال: لا يرفع، فبقي مختلفاً، فكان في كونه مختلفاً فيه اختلاف، فيتوقف على قضاء قاض آخر، فإن أمضاه قاض آخر بعده لا يكون لأحد بعد ذلك إبطاله، وإن أبطل قاض آخر بطل، لا يكون لأحد بعد ذلك أمضاؤه، وهو كذلك هذا الحكم في كل حادثة اختلف (77أ4) الناس فيها أنها مختلفة، أو ليست بمختلفة أن قضاء القاضي فيها يتوقف على إمضاء قاض آخر، إن إمضاه قاض آخر ينفذ، وليس لأحد بعد ذلك إبطاله، وإن أبطل قاض آخر بطل، وليس لأحد بعد ذلك إمضاؤه. وفي «الزيادات» : لو أن المسلمين أسروا أسارى من أهل الحرب، وأحرزوهم بدار الإسلام، ثم يظهر عليهم المشركون، ولم يحرزوهم بدار الحرب حتى ظهر عليهم قوم آخرون من المسلمين، وأخذوهم من أيديهم في دار الإسلام، فإنهم يردون على الطريق الأول اقتسم الفريق الثاني، أو لم يقتسموا؛ لأنه لم يثبت للكفار فيهم ملك ولاحق ما داموا في دار الإسلام، لبقائهم في أيدي الفريق الأول من حيث الحكم والاعتبار، فصار أخذ الفريق الثاني من الكفار في دار الإسلام كأخذهم من الفريق الأول على الفريق الأول. قال: في «الكتاب» : إلا أن يكون الذي قسم بين الفريق الثاني يرى ما صنع المشركون ملكاً وإحرازاً فحينئذ كان الفريق الثاني أولى بملك فقال: لأن هذا مما يختلف فيه الفقهاء. ومعناه أن العلماء اختلفوا في أن مجرد الاستيلاء من الكفار ملكاً، وقسم بين

الفريق الثاني بناء على ذلك حصل قسمة في محل مجتهد فيه، فينفذ كقسمة الغنائم في دار الحرب. وذكر في «السير الكبير» إذا استولى المشركون على مال المسلمين وأحرزوه بعسكرهم في دار الإسلام، ثم استنقذه منهم جيش من المسلمين قبل الإحراز بدار الحرب، فذلك مردود على صاحبه، وكذلك لو لم يقل الإمام بذلك حتى قسم المال بين من أصابه فالقسمة باطلة والمال، وهو المتاع مردود عل صاحبه. وإن علم الإمام للحال ورأى إحرازهم بالعسكر إحرازاً يأمر فخمسه وقسمه مع غنائم المشركين بين من أصابه من المسلمين، ثم رفع إلى قاض يرى ذلك غير إحراز جاز ما صنع الأول، ولم يبطل، لأن هذا مما يختلف فيه الفقهاء ومعناه ما ذكرنا. فإن قيل كيف يستقيم هذا ومن قال بأن نفس الاستيلاء سبب الملك، ومن قال بأن مال المسلمين محل لتملك الكفار بالاستيلاء، وهو أصحابنا ما جعلوا مجرد الاستيلاء سبباً؟ قلنا: كون مال المسلمين محلاً بالاستيلاء مختلف فيه، وكون مجرد الاستيلاء سبباً مختلف فيه أيضاً، والإمام في هذه المسألة أخذ بقول من قال بأن مال المسلمين محل لتملك الكفار بالاستيلاء، وبقول من قال: بأن مجرد الاستيلاء سبب، فكان اجتهاده من الطرفين مصادفاً محلا مجتهداً فيه. ونظير هذا ما قلنا فيمن قضى بشهادة الفاسق على الغائب، أو شهادة رجل وامرأتين بالنكاح على الغائب ينفذ قضاؤه، وإن كان من يجوز القضاء على الغائب يقول: ليس للنسوان شهادة في باب النكاح، وليس للفساق شهادة أصلاً، ولكن قيل كل واحد من الفصلين مجتهد فيه، فينفذ القضاء من القاضي باجتهاده فيهما، فكذا في مسألتنا والمعنى فيه أن المجتهد يتبع الدليل القائل به ما ذكر، ثم في «الزيادات» وفي «السير الكبير» نص على أن قضاء القاضي بالملك للكافر بمجرد الاستيلاء، وقبل الإحراز بدار الحرب نافذ، قيل: وقد ذكر في «سير الجامع الكبير» : أنه لا ينفذ، لأنه لم يثبت فيه اختلاف المتقدمين، قال: ولو قضى قاض بشاهد ويمين لا ينفذ قضاؤه، قال: لأنه خلاف التنزيل؛ لأن ظاهر قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} (البقرة: 282) يقتضي أن يكون حجة الاستحقاق من جانب المدعي بشهادة رجلين، أو شهادة رجل وامرأتين، ومن جعل الحجة شهادة شاهد واحد ويمين المدعي، فقد خالف النص. وإنما قال الزهري: إنه بدعة؛ لأنه لم يعمل به أحد من الصحابة، وإنما أحدثه معاوية، فكان بدعة منه، وذكر في كتاب الاستحلاف أن على قول أبي حنيفة، وسفيان الثوري رحمهما الله ينفذ قضاؤه لما روي عن رسول الله عليه السلام، «أنه قضى بشاهد ويمين الطالب» ، وقد أخذ به بعض العلماء، فكان قضاء في فصل مجتهد فيه فينفذ،

وعلى قول أبي يوسف لا ينفذ؛ لأنه خلاف التنزيل. وفي «أقضية الجامع» من تعليقي أن القضاء بشاهد ويمين يتوقف على إمضاء قاض آخر، ولو قضى كل متروك التسمية عمداً ذكر في «النوادر» أن على قول أبي حنيفة ومحمد ينفذ قضاؤه، وعلى قول أبي يوسف لا ينفذ؛ لأنه خلاف التنزيل، ولو قضى في حد أو قصاص بشهادة رجل وامرأتين، ثم رفع إلى قاض آخر يرى خلاف رأيه، فإنه ينفذ قضاؤه، ولا يبطله، وليس طريق نفاذ القضاء الأول في هذه الصورة حصول في محل مجتهد فيه؛ لأنه لم يبلغنا الاختلاف فيه إلا ما روي شاذاً عن شريح رضي الله عنه، وإنما طريقه أن القضاء الأول حصل في موضع اشتباه الدليل. بيانه أن المرأة من أهل الشهادة شهادة مطلقة، لأن الأهلية بمعان قائمة بها وتلك المعاني لا تختلف وظاهر قوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} (البقرة: 282) يدل على قبول شهادة النساء مع الرجال مطلقاً، نظراً إلى اللفظ وأنه وإن ورد في باب المداينة، إلا أن العبرة عندنا لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ولو لم يرد نص قاطع في إبطال شهادة النساء مع الرجال في هذه الصورة، وما روي عن الزهري، وهو قوله: مضت السنة الحديث ليس بدليل قطعي، فكان موضع الاجتهاد، فكان قضاؤه في فصل مجتهد فيه. وفي «السير الكبير» اشترى الرجل دابة وغزا عليها، فوجد بها في دار الحرب عيباً، فإن كان البائع معه في العسكر خاصمه، وإن لم يكن ينبغي له أن لا يركبها، ولكن يسوقها معه حتى يخرجها إلى دار الإسلام، ولو ركبها لحاجة نفسه، أو حمل أمتعة عليها سقط حقه في الرد وجد دابة أخرى أو لم يجد، فإن أتى الإمام وأخبره فأمره بالركوب فركب سقط حقه في الرد، ولو أكرهه على الركوب لما أنه كان يخاف الهلاك، فركب ولم ينقصها ركوبه فله الرد؛ لأن عند الإكراه ينعدم الفصل من المكره، وينعدم الرضا به، وإن لم يكرهه الإمام على الركوب ولكن قال: اركبها وأنت على ردك فركبها سقط حقه في الرد، فإن ارتفعا إلى القاضي بعد ذلك، فردها بالعيب على طريق الاجتهاد، لما قال له الأمير من ذلك، ثم رفعت إلى قاض آخر يري ما صنع الأول خطأ، فإنه يمضي قضاء الأول لأن قضاء الأول حصل في موضع الإجتهاد؛ لأن ظاهر النصوص الموجبة لطاعة الأمير يخرج ركوبه من أن يكون رضاً بالعيب، وكذلك التنصيص من الأمير، بقوله وأنت على ردك يسقط اعتبار دليل الرضا منه بالعيب ولو قضى بإبطال طلاق المكره، نفذ قضاؤه؛ لأن قضاءه في فصل مجتهد، لأنه موضع اشتباه الدليل، لأن اعتبار الطلاق بسائر التصرفات يبقى حكمه. وإذا قضى قاض بأمر مختلف فيه، ثم رفع إلي قاض آخر فأبطله، ثم رفع إلى قاض ثالث، فهذا القاضي يمضي القضاء الأول إلا الترك ويرد الثاني؛ لأن الأول نفذ بالإجماع لحصوله في فصل مجتهد فيه، فكان قضاء الثاني بالرد في غير محل لاجتهاد فلا ينفذ، ولو كان نفس القضاء الأول مجتهدا فيه بعض المشايخ قالوا هو مختلف فيه، وبعضهم

قالوا: لا اختلاف فيه فرده القاضي الثاني، فإن القاضي الثالث يمضي الرد، لأن القضاء بإبطاله حصل في فصل مجتهد فيه، وهو لا يعلم بذلك اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: ينفذ قضاؤه وإليه أشار محمد في كتاب الإكراه. وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة، وعامتهم على أنه لا يجوز وإليه أشار في «السير الكبير» ، فقد ذكر في «السير الكبير» في أبواب الفداء إذا مات الرجل وترك رقيقاً، وعليه الديون فباع القاضي رقيقه، وقضى ديونه ثم قامت البينة لبعضهم أن مولاه كان دبره كان بيع القاضي فيه كان باطلاً، ولو كان القاضي عالماً بتدبيره، فاجتهد وأبطل تدبيره؛ لأنه وصية وباعه في الدين، ثم ولي قاض آخر، يرى ذلك خطأ ينفذ قضاء الأول، وقد حصل قضاؤه بالبيع في فصل مجتهد فيه في الفصلين، مع هذا ينفذ قضاؤه في الفصل الأول لما لم يعلم، ونفذ في الفصل الثاني لما علم. وهكذا ذكر في كتاب الرجوع عن الشهادات، والمذكور ثمة وإذا شهد محدودان في قذف ولم يعلم القاضي بذلك، حتى قضى بشهادتهما ثم (77ب4) علم فإن كان من رأيه أن شهادة المحدود في القذف بعد التوبة حجة أمضي قضاؤه، وإن لم يكن من رأيه ذلك نقض قضاؤه، وهذا لأن القضاء بشهادة المحدود في القذف ينفذ ظاهراً لا باطناً على ما عرف في موضعه، فكانت هذه الحالة بمنزلة ابتداء الشهادة، ولو علم القاضي بكون الشاهد محدوداً في القذف في حال ابتداء الشهادة، إن كان من رأيه أنه حجة يقضى بها، ومالا فلا على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، فهذا تنصيص على أن قضاء القاضي في المجتهد أن ينفذ إذا علم بكونه مجتهداً فيه فيما عدا الترك، أشار في «الجامع» أيضاً، وهكذا ذكر الخصاف في كتابه، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح «كتاب الرجوع» : هذا هو ظاهر المذهب، وها هنا شرط آخر لنفاذ القضاء في المجتهد أن يصير الحكم حادثة، فيجري خصومة صحيحة بين يدي القاضي على خصمه، ثم إذا قضى القاضي بشهادة المحدود في القذف بعد التوبة، وهو يرى أن شهادته حجة إنما ينفذ قضاؤه؛ لأن هذا فصل مجتهد فيه، إما لأن فيه اختلافاً في الصدر الأول، فعمر رضى الله عنه كان يراها حجة، وإما لأن الموضع موضع اشتباه الدليل؛ لأن الآية مؤولة والخلاف بين العلماء في حرف الاستثناء إلى أو إلى رد الشهادة ظاهر. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: لا ينفذ هذا القضاء، فإذا رفع إلى قاض آخر يبطله، فكأنه رأى قضاء الأول مخالفاً لظاهر الآية، فلهذا قال: أبطله الثاني. وفي «أقضية الجامع» من تعليقي عن الشيخ الإمام الزاهد عبد الله الحدادي رحمه الله: إذا قضى القاضي بشهادة المحدود في القذف بعد التوبة، ورفع قضاؤه إلى قاض آخر، إنما لا يبطل الثاني قضاء الأول إذا كان الأول يراه حقاً، وعلم الثاني أن الأول رآه حقاً، بأن أظهر الأول ذلك للثاني، أو لم يعرف الثاني أن الأول رآه حقاً، أم لا؛ لأن الظاهر إنما يقضي بشيء إذا رأى ذلك حقاً، أما إذا علم الثاني أن الأول لم يرد ذلك حقاً بأن قال الأول: الصحيح قول ابن عباس أن شهادته لا تقبل، وإن مات كان للثاني أن يبطله؛ لأنه بين أن الأول ما كان قضى حيث قضى بخلاف رأيه، وسيأتي الكلام بعد هذا في القاضي يقضي بخلاف رأيه. ولو كان القاضي هو المحدود في القذف، فقضى لرجل بقضية، ثم رفع قضاؤه إلى قاض آخر، يري ذلك باطلاً يرد قضاؤه: يجب أن يعلم بأن المحدود في القذف لا يصلح قاضياً قبل التوبة، ولا تنفذ قضاياه بالإجماع، وإذا رفع قضاياه إلى قاض آخر أبطله القاضي الثاني لا محالة، فلو نفذه القاضي الثاني، فالقاضي الثالث يبطله؛ لأن تنفيذ القاضي الثاني حصل بخلاف الإجماع فكان باطلاً، فكان للثاني أن

يبطله، وبعد التوبة لا يصلح قاضياً عندنا، خلافاً للشافعي فإذا رفع قضاؤه إلى قاض آخر يرى بطلانه أبطله، فقد فرق بين قضاء المحدود في القذف، وبين القضاء بشهادة المحدود في القذف. فقال: القاضي إذا كان محدوداً في القذف، ورفع قضاياه إلى قاض آخر يرى بطلانه أبطله، والفرق أن قضاء المحدود في القذف نفسه مختلف فيه عندنا لا يصلح قاضياً، وعند من خالفنا يصلح قاضياً، ونفس القضاء إذا كان مختلفاً يتوقف على إمضاء قاض آخر، فأما القضاء بشهادة المحدود في القذف نفسه ليس بمختلف، بل المختلف شهادة المحدود في القذف، أنها هل تصلح حجة؟ فالقضاء بشهادة المحدود في القذف يكون حاصلاً في المختلف فيه فينفذ. توضيح ما قلنا، أن قضاء المحدود في القذف إذا كان نفسه مختلفاً فيه لو نفذ كان القاضي ملزماً قول نفسه، فيكون عاملاً لنفسه، والإنسان فيما يعمل لنفسه لا يصلح قاضياً، فعلى قول من لا يرى ذلك قضاء تنعدم صورة القضاء، ونفاذ القضاء من غير وجود صورته لا يكون، فأما القضاء بشهادة المحدود في القذف لو نفذ كان القاضي ملزماً قول الشاهد، فيكون عاملاً لغيره لا لنفسه، فيوجد صورة القضاء، فيمكن تنفيذه، ولو رفع قضاء القاضي المحدود في القذف إلى قاض يرى جوازه فأمضاه، ثم رفع إلى قاض آخر يرى بطلانه، فالقاضي الثالث يمضي إمضاء القاضي الثاني، ولا يبطل قضاء الأول؛ لأن إمضاء الثاني حصل في محل مجتهد فيه، فنفذ فلا يكون لأحد إبطاله. قال في «المنتقى» : وإذا كان القاضي محدوداً في القذف لا يسعه أن يقضي على وجه الحكم، ولكن يبين المغصوب من يد الغاصب ويرفعه إلى الطالب بمنزلة من ليس بقاض، فيكون معيناً للطالب، واستشهد صاحب «الأقضية» لإيضاح الفرق بين قضاء القاضي المحدود في القذف، وبين القضاء المحدود بشهادة المحدود في القذف، فقال ألا ترى أن القاضي لو قضى للزوج بشهادة زوجته ينفذ قضاؤه لوجود صورة القضاء مصادفته محلا مجتهداً فيه، لأن هذا مجتهد فيه، أن الزوج هل يصلح شاهداً لزوجته؟ وعلي رضى الله عنه كان يرى ذلك، ولو قضى لامرأة نفسه بشهادة شهود لا يجوز لانعدام صورة القضاء لكونه عاملاً لنفسه، بل يتوقف على إمضاء قاض آخر، كذا ههنا. ولو أن قاضياً قضى بشهادة شاهدين ثم علم أنهما كافران، رد قضاؤه أو ظهر أن قضاءه وقع بخلاف الإجماع، وإن علم أنهما عبدان، فكذلك الجواب وإنه مشكل؛ لأن

شريحاً رضى الله عنه كان يجيز شهادة العبد وكذلك مالك وداود بن علي، والجواب أن الصحابة أجمعوا على عدم قبول شهادة العبد، فإن علياً وزيد بن ثابت رضي الله عنهما لما اختلفا في المكاتب إذا أدى بعض بدل الكتابة هل يعتق بقدره؟ قال علي رضي الله عنه: يعتق فاحتج عليه زيد بفصل الشهادة، فقال أرأيت لو شهد أتجوز شهادته في البعض دون البعض؟ فلولا أنهم كانوا متفقين على عدم قبول شهادة العبيد، وإلا لما احتج زيد بفصل الشهادة، وقول بعض المتأخرين بخلاف إجماع الصحابة لا يعتبر، ولا تصير الحادثة به مجتهداً فيه بخلاف شهادة المحدود في القذف، لأنه كان مختلفاً بين السلف. ولو علم أنهما أعميان فقد ذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب الرجوع أن الجواب فيهما كالجواب في العبدين وظاهر ما ذكر في «المختصر» يدل عليه. عبد أو صبي أو نصراني استقضى وقضى نفسه، ثم رفع قضاؤه إلى قاض آخر فأمضاه، فإنه لا يجوز إمضاؤه، وهذا الجواب ظاهر في حق الصبي والنصراني مشكل في حق العبد، بناءً على ما ذكرنا أن القضاء معتبر بالشهادة، والصبي لا يصلح شاهداً أصلاً، والنصراني لا يصلح شاهداً في حق المسلمين فلا يصلح قاضياً، فأما العبد يصلح شاهداً عند مالك وشريح فيصلح قاضياً، فإذا اتصل به أمضاه قاض آخر ينبغي أن ينفذ كما في المحدود في القذف، والجواب ما ذكرنا، ولو أن أعمى قضى بقضية، ورفع إلى قاض آخر فأمضى ينفذ قضاؤه؛ لأن في أهلية شهادته خلاف ظاهر، إن كان بصيراً وقت التحمل، فالخلاف بين أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وبين أبي يوسف رحمه الله وإن كان أعمى وقت التحمل فالخلاف بينهما وبين مالك وقد اعتبر خلافه؛ لأن الموضع موضع اشتباه الدليل؛ لأن التمييز شرط في الشهادة، فمالك اعتبر أصل التمييز وقد وجد، ونحن اعتبرنا كمال التمييز، ولم يوجد. وهذا مما يشتبه وللاجتهاد فيه مجال، وليس فيه إجماع السلف بخلافه، بخلاف فصل العبد على ما مر، ولو رفع قضاؤه إلى قاض لا يرى جواز قضائه (78آ4) أبطله؛ لأن نفس القضاء مجتهد فيه، لأن الخلاف في أهلية شهادته خلاف في أهلية قضائه، ثم قال: ولو رفع قضاؤه إلى قاض يرى شهادته وقضاءه جائزاً، أو لا يدري أنه هل يرى ذلك، فانفذ حكمه ثم رجع إلى قاض يرى ذلك باطلاً، فليس له أن يبطله؛ لأن إمضاءه حصل في محل مجتهد فيه، ثم سوى بينما إذا كان شهادته ترى جائزة، وبينما إذا كان لا يدري؛ لأنه إذا كان لا يدري يحمل على أنه يرى جوازه، لأن الظاهر أن القاضي لا يقضي بخلاف ما يعتقده. ولو أن امرأة استقضت جاز قضاؤها في كل شيء، إلا الحدود والقصاص؛ لأنها تصلح شاهدة فيما عدا الحدود والقصاص، فتصلح قاضية فيها، ولا تصلح شاهدة في الحدود والقصاص، فلا تصلح قاضية فيها، فإن قضت في الحدود والقصاص، ثم رفع قضاؤها إلى قاض آخر، فأمضاه نفذ قضاؤها؛ لأن في أهليتها للشهادة اشتباه الدليل، فكان مجتهداً فيه، وإذا قضى القاضي في المجتهد فيه بخلاف رأيه ذكر الشيخ الإمام

الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله في «مقدمة قضاء الجامع» ، أنه لا ينفذ، وهكذا ذكر في وقف «فتاوى الفضلي» ، وإليه أشار محمد رحمه الله في قضاء «الجامع» ، فإنه قال: إذا شهد محدودان في قذف بعدما تابا عند قاض، فرأى القاضي أن يجيز شهادتهما، وقضى بذلك نفذ قضاؤه بشرط رؤية القاضي جواز شهادتهما لنفاذ قضائه بشهادتهما. وذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أن القاضي إذا قضى بخلاف رأيه ينفذ عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما، وكان الفقيه أبو عبد الله الجرجاني رحمه الله يقول لا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند محمد رحمه الله يجوز وفي «شرح الجامع» لأبي بكر الرازي رحمه الله أن القاضي إذا قضى بخلاف مذهبه مع العلم لا يجوز في قولهم وذكر الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله في شرح كتاب «الأقضية» أن على قول أبي حنيفة ينفذ قضاؤه، وعلى قول أبي يوسف لا ينفذ، ولا رواية في هذا عن محمد رحمه الله، قال: هكذا ذكر في بعض المواضع، وذكر في بعض المواضع أن على قول أبي حنيفة رحمه الله يجوز، وعلى قول أبي يوسف لا يجوز. وذكر القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله أن على قول أبي يوسف وأبي حنيفة لا يجوز، وعلى قول محمد يجوز، قال رحمه الله ذكر الخلاف في بعض المواضع في نفاذ القضاء، وفي بعض المواضع ذكر الخلاف في حل الأقدام على القضاء، وذكر في كتاب القسمة في الوصايا التي ازدادت على الثلث عند أبي حنيفة بطريق المنازعة، وعندهما بطريق العول والمضاربة، ثم قال: وبأي ذلك أحدث فهو حسن، فإن كان الخلاف في جواز الأخذ برأي الغير، فوجه قول من قال بالجواز أن القاضي أمر بالمشاورة، فلو لم يجز له الأخذ برأي غيره إذا كان مخالفاً لرأيه لم يكن للأمر بالمشاورة فائدة، وجه قول من قال بعدم الجواز قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} (المائدة: 49) الله تعالى نهى القاضي عن اتباع هوى الغير، وإن كان الخلاف في نفاد القضاء، فوجه قول من قال بعدم النفاذ، أنه زعم فساد قضائه فيعامل في حقه بزعمه، وجه من قال بالنفاذ أنه قضى في محل الاجتهاد فينفذ قضاؤه، كما لو قضى برأي نفسه، وهذا لأن القضاء إنما يرد لمكان الخطأ، ولا يتيقن بالخطأ في موضع الاجتهاد؛ لأن كل مجتهد لا يقطع القول بأن الصواب ما أدى إليه اجتهاده، ولا ما أدى إليه اجتهاد خصمه، بل الأمر محتمل عنده، فإذا كان الأمر محتملاً عنده يتعين الصواب في الجانب الذي يتصل به القضاء حملاً لأمره على الصلاح فينفذ. وفي «رجوع الجامع» إذا قضى على الغائب، وهو لا يرى ذلك لا ينفذ عند محمد رحمه الله، وذكر في هذه المسألة في «فتاوى الفضلي» وذكر أنه ينفذ في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وكان القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله يفتي بعدم نفاذ القضاء في هذه الصورة، وكان الصدر الشهيد رحمه الله يفتي بنفاذ القضاء، وكان الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني يفتي بالنفاذ أيضاً، وما يفعله قضاة

زماننا مع تقليدهم شفعوي المذهب في اليمين المضاف، وبيع المدبّر وأشباه ذلك، إن كان التقليد للحكم ببطلان اليمين وبجواز بيع المدبر كانت المسألة على الاختلاف، وكان جواز حكم الشفعوي على الخلاف، كما لو فعل المقلد بنفسه ذلك، وإن كان التقليد للحكم بما يرى كان جواز الحكم من الشفعوي بالاتفاق، ألا ترى أن السلف كانوا يقلدون الأعمال والقضاء من الخلفاء العباسية، ويرون ما يحكمون به على آرائهم نافذاً وإن كان ذلك مخالفاً لرأي الخلفاء لاتباعهم في المسائل جدهم ابن عباس. وإذا قضى القاضي بقتل في قسامة لا ينفذ قضاؤه، وصورته: قتيل وجد في محلة، وادعى أولياء القتيل على رجل أنك قتلته، قال بعض العلماء وهو مالك والشافعي رحمهما الله في القديم: إذا كان بين المدعى عليه، وبين القتيل عداوة ظاهرة، ولا يعرف له عداوة على غير المدعى عليه، وبين دخوله في المحلة ووجوده قتيلاً مدة قريبة، فالقاضي يحلف ولي القتيل على دعواه، فإذا حلف قضى بالقصاص، وعندنا فيه الدية والقسامة، فهذا هو صورة هذه المسألة، وإنما لم ينفذ القضاء؛ لأنه خلاف السنة وخلاف إجماع الصحابة، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه ينفذ القضاء، ولكن إذا رفع إلى قاض آخر أبطله إذا لم يستوف القود لماذ ذكرنا أنه خلاف السنة وخلاف إجماع الصحابة وأول من قضى به معاوية، وقد ردوا عليه فلهذا كان للثاني أن يبطله، ولو قضى قاض بجواز بيع الدرهم بالدرهمين لا يجوز وقد مر هذا. وكذلك لو قضى قاض بجواز متعة النساء لا يجوز وصورته: إذا قال الرجل لامرأة: أتمتع بك إلى كذا، وقال: شهراً أو ما أشبه ذلك، وإنما قال: لا يجوز القضاء بجوازها؛ لأنها منسوخة، قالت عائشة رضي الله عنها: نسختها آية الطلاق، وقيل: نسختها السنة، وقيل: إجماع الصحابة، وابن عباس رضي الله عنهما وإن قال بجوازها إلا أن قوله بخلاف الكتاب والسنة لا يعتبر، كيف وقد صح رجوعه عنها؟ وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يجوز قضاؤه، وهكذا روى خالد عن محمد عن أبي حنيفة رحمه الله، ولو كان مكان لفظة الخلع لفظة التزويج، بأن قال الرجل لامرأة: تزوجتك إلى كذا، فقضى قاض بجواز هذا النكاح، وأبطل الأجل جاز قضاؤه؛ لأنه محل الاجتهاد، فإن عند زفر هذا النكاح صحيح، واشتراط الأجل باطل، وهذا لأن اشتراط الأجل شرط فاسد، والنكاح مما لا يبطل بالشروط الفاسدة. وعن أبي يوسف رحمه الله برواية بشر أنه لا يجوز قضاؤه في هذه الصورة أيضاً. وإذا نسي القاضي مذهبه قضى بمذهب غيره، قال أبو حنيفة رحمه الله: ينفذ القضاء، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا ينفذ، هكذا روى الخصاف في «أدب القاضي» ، وهكذا ذكر في «العيون» في آخر «أدب القاضي» ، وهكذا ذكر القاضي أبو علي النسفي رحمه الله، وصورة ما ذكره القاضي أبو علي رحمه الله: إذا نسي القاضي رأيه، وقضى

برأي غيره، لم يذكر رأيه قال أبو حنيفة: يأخذ برأيه في المستقبل، ولا يبطل ذلك القضاء، وقال أبو يوسف: يبطله، وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السعدي، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي قول محمد مع أبي يوسف رحمهما الله. وجعل القاضي الإمام ركن الإسلام هذا هذه المسألة فرعاً لمسألة تقدم (78ب4) ذكرها، وهو ما إذا قضى القاضي بمذهب غيره، وهو عالم بمذهب نفسه، وذكر أن تلك المسألة على الخلاف بين أبي حنيفة وبين صاحبيه كذا هذه، ولو أن قاضياً قضى بخلاف في دار استحقت من يد المشتري، وأخذ الضامن بدار مثلها، ثم رفع إلى قاض آخر أبطله، وصورة المسألة رجل باع داراً له، وضمن البائع للمشتري الخلاص، أو ضمن أجنبي له الخلاص، وتفسيره: أن يقول الضامن للمشتري: إن استحقت الدار المشتراة من يدك فأنا ضامن لك استخلاص الدار، أحتال حتى استخلص ذلك الدار بالبيع أو بالهبة، وأسلمها إليك، فهذا الضمان باطل عندنا؛ لأنه ضمن ما يعجز عن الوفاء به، وعند بعض الناس يصح هذا الضمان، وهذا القول لا يستند إلى قياس صحيح، وقد استنكره المتقدمون، فقد قال شريح: من شرط الخلاص، فهو أحمق سلم ما بعت وخذ ما اشتريت، ولا خلاص، وإذا قضى قاض بجواز هذا الضمان، فقد قضى بما هو باطل. ثم ما ذكرنا من تفسير ضمان الخلاص قول أبي حنيفة، وهو اختيار صاحب كتاب «الأقضية» ، فأما على قول أبي يوسف ومحمد تفسير ضمان الخلاص والعهدة والدرك واحد، وهو الرجوع بالثمن عند الاستحقاق، وعند أبي حنيفة تفسير ضمان الخلاص ما ذكرنا، وتفسير ضمان الدرك ما قالا، وتفسير ضمان العهدة ضمان الصك القديم الذي عند البائع، ثم عندهما تفسير هذه الأشياء إذا كان واحداً وهو الرجوع بالثمن عند الاستحقاق كان هذا الضمان صحيحاً، وإذا استحق المبيع من يد المشتري يرجع بالثمن على الضمان، فمتى قضى قاض بصحة هذا الضمان، وأثبت للمشتري حق الخصومة مع الكفيل ينفذ هذا القضاء، فإذا رفع إلى قاض آخر لا يبطله، فأما إذا ضمن تسليم الدار إلى المشتري لا يصح ضمانه، فلا يصح القضاء به، لما ذكرنا. ولو أن امرأة رجل أو نفسه عفت عن دم العمد، وأبطل ذلك قاض لما أن من رأيه أنه لا عفو للنساء؛ لأنه لاحق لهن في القصاص، كما هو مذهب بعض العلماء، وقضى بالقود للرجال، فقبل أن يقاد الرجل رفع إلى قاض يرى عفو النساء صحيحاً، فالقاضي ينفذ ذلك العفو، ويبطل القضاء بالقود، لأن القضاء الأول باطل؛ لأنه بخلاف الكتاب، وهو قوله تعالى: {ولهن الربع مما تركتم} (النساء: 12) وبخلاف قول الجمهور، وإن كان هذا الرجل قد قتل بعمده، فالقاضي الثاني لا يتعرض لشيء هكذا ذكر الخصاف، وصاحب كتاب «الأقضية» . قالوا: وينبغي أن يقال: إن كان المقضي له بالقصاص عالماً يقتص منه؛ لأنه قتل شخصاً محقون الدم، وإن كان جاهلاً يقضي عليه بالدية، أصل المسألة ما ذكر في «الأصل» إن الدم إذا كان بين اثنين، فعفى أحدهما، ثم قتل الآخر، إن كان القاتل جاهلاً

تجب الدية، وإن كان عالماً يجب القصاص. ولو أن امرأة طلقها زوجها قبل الدخول بها، وقد كانت قبضت المهر وتجهزت بذلك، فقضى القاضي للزوج بنصف الجهاز؛ لأنه كان يرى ذلك كما قال بعض الناس، بناء على أن الزوج لما دفع الصداق إليها، فقد رضي بتصرفها برضا الزوج كتصرف الزوج بنفسه، ولو أن الزوج اشترى ذلك بنفسه، وساق إليها، ثم طلقها قبل الدخول بها كان لها نصف الجهاز، فكذا هاهنا، فإذا قضى قاض لا ينفذ قضاؤه؛ لأنه بخلاف قول الجمهور، وبخلاف كتاب الله تعالى، فإن الله تعالى جعل للزوج الطلاق قبل الدخول نصف المفروض، والمفروض هو المسمى في العقد، والجهاز لم يكن مسمى في العقد فلا ينصف، فكان هذا قضاء بخلاف النص فكان باطلاً. ولو قضى قاض بإبطال المهر من غير بينة ولا إقرار أخذ بقول بعض الناس، إن قدم النكاح يوجب سقوط المهر إما بإيفاء من الزوج، أو بإبراء من المرأة، وترك المرأة الطلب في هذه المدة دليل عليه، فهذا القضاء باطل؛ لأنه مخالف لإجماع السلف. ولو طلق امرأته في حال الحيض، أو في طهر جامعها فيه أو طلقها بكلمة واحدة، وقضى قاض بإبطال كله، فهو باطل؛ لأنه يخالف السنة والإجماع فكان باطلاً. ولو أن رجلاً قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، فتزوجها ورفع الأمر إلى قاض يرى بطلان ذلك القضاء فأبطله، نفذ قضاؤه؛ لأنه فصل مجتهد فيه في الصدر الأول، وإذا قضى القاضي في الخلع أنه فسخ أو طلاق نفذ قضاؤه؛ لأن المسألة مختلفة في الصدر الأول. هكذا ذكره شيخ الإسلام. ولو قضى قاض بالقرعة في رقيق أعتق الميت واحداً منهم لم ينقض قضاؤه، لأنه مجتهد فيه، فمالك والشافعي يقولان بالقرعة، واعتمدا حديث الحسن البصري «أن رجلاً أعتق ستة أعبد له في مرضه، ولا مال له غيرهم، فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، وأعتق اثنين منهم» ، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا ينفذ قضاؤه؛ لأن استعمال القرعة نوع قمار وإنه حرام، وأنه كان ثم انتسخ، والعمل بالمنسوخ باطل، ولو قضى برد نكاح امرأة بعيب غم أو جنون أو نحو ذلك لم ينقض قضاؤه؛ لأنه مجتهد فيه في الصدر الأول كان عمر رضي الله عنه يقول برد المرأة بالعيوب الخمسة، وكان علي وابن مسعود رضى الله عنهما يقولان: لا ترد، ولو ردت المرأة الزوج بواحد من هذه العيوب، وقضى قاض بجوازه نفذ قضاؤه؛ لأن هذا فصل مختلف فيه بين أصحابنا رحمهم الله، فمحمد رحمه الله يقول بالرد، فالقضاء صادف محلاً مجتهداً فيه، ولو قضى بجواز نكاح بغير الشهود نفذ قضاؤه؛ لأن المسألة مختلفة، فمالك وعثمان البتي كانا

يشرطان الإعلان حتى لو حصل الإعلان بحضور الصبيان والمجانين يصح النكاح عندهما، وقد اعتبر خلافهما؛ لأن الموضع موضع اشتباه الدليل لأن اعتبار النكاح بسائر تصرفاته، أو بفسخه يقتضي أن لا يشترط الشهادة ولأن الشهادة بعض الدلائل المقتضية لجواز النكاح مطلقة عن اشتراط الشهادة، ولو قضى بجواز بيع المدبر نفذ قضاؤه؛ لأن المسألة مختلفة، الموضع موضع الاشتباه؛ لأن التدبير إن اعتبر سبباً للحرية للحال كانت الحرية ثابتة من وجهة، فيمنع جواز البيع، وإن اعتبر فرصة أو تعليقاً للحرية لا يمنع جواز البيع، فكان الموضع موضع الاشتباه من هذا الوجه، ولو قضى بشهادة الابن لأبيه، أو قضى بشهادة الأب لابنه نفذ قضاؤه عند أبي يوسف خلافاً لمحمد، هكذا ذكر في «الأقضية» . واعلم بأن هذه المسألة كانت مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم، فعلي رضي الله عنه كان يرى جوازها، ثم أجمع المتأخرون على بطلانه، ورفع الخلاف عند محمد رحمه الله، فلم يكن قضاؤه في فصل مجتهد فيه، ولم يرفع الخلاف المتقدم عند أبي يوسف، فكان قضاؤه في فصل مجتهد فيه، وهذا تنصيص أن الخلاف بين أصحابنا في إيقاع الخلاف المتقدم بالإجماع المتأخر على نحو ما ذكره شمس الأئمة على ما بينا. وإذا قضى بالشهادة على الشهادة فيما دون مسيرة سفر نفذ قضاؤه؛ لأنه مجتهد فيه، فأبو يوسف رحمه الله لا يشترط مسيرة السفر، وإذا قضى بشهادة شاهد شهد على خط أبيه، نفذ قضاؤه، وإذا قضى بأن العين لا يؤجل أبطل قضاؤه، وإذا قضى بشهادة شهود على وصية مختومة من غير أن تقرأ عليهم أمضاه الآخر، وكذلك إذا قضى بما في ديوانه وقد نسي، أو قضى بشهادة شهود على صك لا يذكرون ما فيه، إلا أنهم يعرفون خطوطهم وخاتمهم أمضاه الآخر، ولم يكن ينبغي للأول أن يفعل ذلك، وهذا كله قياس قول أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف. وإذا قال الغريم للطالب: إن لم أفصل مالك اليوم فامرأته طالق، فعيب وخشي الغريم أن لا يظهر اليوم، فيجب في عينه، فأتى القاضي وأخبره فنصب القاضي عن الغائب وكيلاً، وأمر الوكيل بقبض المال من المطلوب حتى يبرء، فقبض المال وحكم بحاكم آخر (79أ4) فإن أبا يوسف رحمه الله قال: لا يجوز هذا، هكذا ذكر في «الأقضية» وهذا قولهم، وإن خص قول أبي يوسف بالذكر، وذكر الناطفي في «الواقعات» ذكر في كتاب الحسن بن زياد، أن القاضي ينصب وكيلاً عن الغائب، ويقبض ما عليه ولا يجب، قال الناطفي: وعليه الفتوي وجه ما ذكر، في «الأقضية» : أنه لو جاز هذا إنما يجوز من حيث إن نصب الوكيل عن الغائب مختلف فيه، إلا أن الخلاف فيما إذا ادعى رجل عن الغائب حقاً، وقامت البينة عليه، فعندنا القاضي لا ينصب عنه وكيلاً، وعند بعض العلماء ينصب عنه وكيلاً، ولم يوجد ذلك ها هنا، فلا يكون هذا قضاء على الغائب، لكن هذا تكلف تحرزاً عن الحنث، وكذلك لو قدم رجل رجلاً إلى القاضي، وقال: لأبي على هذا ألف درهم، وأبي غائب. وأخاف أن يتوارى هذا، ورأى القاضي

أن يجعل الابن وكيلاً له، فجعله وكيلاً قبل البينة عليه على المال، وحكم بالمال، ثم رفع إلى قاض آخر، فإنه لا يجيزه، قال: وإنما أستحسن في المفقود خاصة أن أجعل ابنه وكيلاً في طلب حقوقه، وإنما لم يجز القضاء لما ذكرنا أن هذا ليس بقضاء على الغائب، إنما هذا الذي أتى القاضي أخبر أن للغائب على هذا كذا، وإنه ليس بخصمه عن الغائب، بل هو فضولي، فلا ينفذ قضاؤه له؛ لأنه خارج عن أقوال الأئمة وأما المفقود، فهو كالميت في حق بعض الأحكام، وللقاضي ولاية نصب القيم في مسألة أما هنا بخلافه. وروي عن محمد رحمه الله أنه قال: يجوز قضاؤه لاشتباه الدليل، فإن للقاضي ولاية نصب الوكيل عن الغائب في الجملة، ونظير هذا لو جاء رجل إلى القاضي، وقال: كان لفلان علي كذا من المال، وقد أوفيته، وإنه في بلد كذا، وإني أريد أن أقدم تلك البلدة، وأخاف أن يجحد ويأخذني بذلك، فإن القاضي يجعل عن الغائب خصماً، ويسمع عليه البينة، كذا لو جاءت امرأة إلى القاضي، وقالت: إن زوجي طلقني ثلاثاً، وإنه في بلد كذا، وإني أريد أن أقدم تلك البلدة، وأخاف أن يجحد الطلاق، فاسمع من شهودي، واكتب لي حجة، فإن القاضي يجعل عن الغائب خصماً، ويسمع عليه البينة لما مر. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله في قاض حجر على مستحق الحجر للفساد، فرفع ذلك إلى قاض آخر فأبطل الحجر، وأجاز البيع جاز قضاؤه، وبطل الحجر؛ لأن نفس القضاء بالحجر مختلف فيه، فلم ينفذ من الأول، وكان للثاني أن يبطله، وسيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى بخلافه، ولو رفع إلى قاض يرى جواز الحجر، فأجاز القضاء الأول بالحجر، وأبطل تصرفات المحجور، ثم رفع إلى غيره من القضاء، فليس له أن يبطل ذلك القضاء، ويجيز تصرفات المحجور؛ لأن ذلك القضاء صادف محلاً للاجتهاد، وهو نفاذ القضاء الأول، فينفذ ظاهراً وباطناً، فليس لأحد بعد ذلك أن يبطله. وإذا قضى القاضي في المأذون في نوع أنه مأذون في نوع واحد، كما هو مذهب الشافعي عند شرائط القضاء من الخصومة والدعوى يصير مستفتاً عليه حتى لو رفع إلى قاض آخر يرى خلافه لا يبطله، ذكره محمد رحمه الله في أول «المأذون الكبير» ؛ لأن هذا الفصل مختلف بين السلف، قال شريح رضي الله عنه: لا يعتبر مأذوناً في الأنواع كلها، وبهذه المسألة تبين أن المختلف بين السلف كالمختلف بين الصحابة. وفي «إقرار الأصل» إذا حجر القاضي على رجل حر، ثم أقر المحجور عليه بدين، فعلى قول أبي حنيفة إقراره صحيح؛ لأن على قول الحجر لم يصح، فصار الحال بعد الحجر كالحال قبله، وعلى قولهما لا يصح إقراره؛ لأن على قولهما: الحجر صحيح في التصرفات التي يبطله الهزل والكره، فالتحق بالصبي. فإن قيل: ينبغي أن لا يصح الإقرار عندهم جميعاً؛ لأن القاضي بالقضاء بالحجر، فإذا قضى القاضي بالحجر فقد جعله موجباً، وهذا إشارة إلى أن يقضي القضاء بالحجر، ليس بمختلف فيه. قلنا: هذا ليس بقضاء على الحقيقة؛ لأن القضاء لا بد له من مقضي عليه ومن

الفصل العشرون: فيما يجوز فيه قضاء القاضي وما لا يجوز

مقضي له ومن مقضي به، وها هنا إن وجد المقضي عليه، وهو السفيه، والمقضي به وهو السفه لم يوجد المقضي له؛ لأن الولي الذي رفع الأمر إلى القاضي لا يصلح مقضياً له؛ لأن القاضي بهذا الحجر لا يقضى له على المحجور بشيء حتى لو وجد القضاء بأن وجد المقضي له أيضاً، بأن يصرف المحجور بعد الحجر تصرفاً، ورفع إلى هذا القاضي، أو إلى قاض آخر، وصححه، أو أبطله بعد ذلك عند الكل حتى لم يكن لقاض آخر بعد ذلك أن يبطله. فإن قيل: إذا لم يكن هذا قضاء على الحقيقة كان بمنزلة الفتوى، فينبغي أن لا يتحجر عندها كما لو أفتى به مفت آخر. قلنا: الحجر يثبت من غير قضاء، إذا كان للحاجر ولاية الحجر، وإن لم يكن الحجر نصاً كالحجر من المولى على عبده، وكالحجر من الولي على الصبي عن التجارة، فإن ذلك صحيح، وإن لم يكن قضاء على الحقيقة؛ لأن له ولاية الحجر كذا ها هنا للقاضي ولاية الحجر على السفيه بحكم القضاء، فيصح حجره، وإن لم يكن حجره قضاء على الحقيقة. الفصل العشرون: فيما يجوز فيه قضاء القاضي وما لا يجوز يجوز بأن يعلم بأن الإنسان لا يصلح قاضياً في حق نفسه. إما لأنه لا يصلح شاهداً لنفسه، ومن لا يصلح شاهداً في شيء لا يصلح قاضياً فيه؛ لأن كل واحد منهما من باب الولاية؛ لأن فيه تنفيذ القول على الغير، إلا أن ولاية القضاء أقوى، وتنفيذ القول فيه أبلغ، فمن لا يصلح لأولى الولايتين كيف يصلح لأعلاهما؟ وإما لأن القضاء لا بد له من مقضي له ومن مقضي عليه، فإذا قضى القاضي لنفسه من كل وجه، أو من وجه لا ينفذ قضاؤه غير أنه إذا قضى لنفسه من كل وجه لا ينفذ بإمضاء قاض آخر، وإذا قضى لغيره من كل وجه، فإن لم يصلح قاضياً بيقين لا ينفذ قضاؤه، وإن أمضاه قاض آخر، وإن كان في صلاحه اختلاف، فإذا أمضاه قاض نفذ قضاؤه بالإجماع. وإن وقع الخلاف في قضاء القاضي أنه قضى لغيره من كل وجه، أو قضى لغيره من وجه لنفسه، يتوقف على إمضاء قاض آخر، وسيأتي بيانه في خلال المسائل إن شاء الله تعالى. قال في كتاب الوكالة: وإذا وكل القاضي رجلاً ببيع دار أو بإجارتها، وبالخصومة له في كل حق يطلبه قبل رجل، أو بطلب حق قبله رجل، فهو جائز وهذا ظاهر، ولا يجوز للقاضي أن يقضي لوكيله، أما إذا كان وكيلاً بالخصومة؛ لأن الوكيل في الخصومة

سفير ومعبر، فيكون القضاء للموكل، والقضاء لنفسه باطل لما ذكر، ولمعنى الآخر وهو التهمة، وأما إذا كان وكيلاً بالبيع والإجارة فكان حكم العقد وما هو المقصود منه يقع للموكل، فكان القضاء واقعاً للموكل، وكذلك لا يقضي لوكيل أبيه وإن علا، ولا لوكيل ابنه وإن سفل؛ لأنه قضاء لنفسه من وجه؛ لأن بينهما شبه بعضية، ولأجلها لم تقبل شهادته لهؤلاء، ولا يجوز قضاؤه لهم من الطريق الأول، ثم فرق بين القاضي نفسه وبين من لا يقبل شهادته له في حق القضا، ء والشهادة، فقال: قضاء الإنسان وشهادته لنفسه وعلى نفسه لا يجوز، وقضاء الإنسان لمن لا تقبل شهادته له لا يجوز، وعليه يجوز. والفرق أن شهادة الإنسان لنفسه، وقضاءه لنفسه إنما لا يجوز؛ لأن القضاء لا بد له من مقضي له، ومن مقضي عليه، والشهادة لا بد لها من مشهود له، ومن مشهود عليه، وفي حق هذا المعنى الوجهان على السواء، فأما قضاء القاضي لمن لا تقبل شهادته له، إنما لا يجوز لمكان التهمة، ولا تهمة إذا كان القضاء عليه، فلهذا افترقا، ولا يجوز للقاضي أن يقضي لعبده ولا لمكاتبه، ولا لعبد من لا تقبل شهادته لهم ولا لمكاتبهم؛ لأن القضاء يقع للموكل، وكذلك لا يجوز له أن يقضي لشريكه شركة عنان، أو مفاوضة إذا كانت الخصومة في مال هذه الشركة؛ لأن القضاء يقع للقاضي من وجه. ولو مات رجل وأوصى للقاضي بثلث ماله، وأوصى إلى رجل آخر لم يجز قضاؤه للميت بشيء من الأشياء؛ لأن بقدر الثلث يقع القضاء للقاضي، وكذلك إذا كان القاضي أحد الورثة لا يقضي، للميت بشيء، لا يكون قضاء لنفسه من وجه، وكذلك لو كان الموصى له ابن القاضي أو امرأته أو غيرهما من لا تقبل شهادته لهما، وكان عبيد هؤلاء؛ لأن القضاء لهؤلاء لا يجوز (79ب4) وكذلك لو كان القاضي وكيل الوصي في ميراث الميت؛ لأن القضاء يقع له من حيث الظاهر، وكذلك لو كان للقاضي على الميت دين لا يجوز قضاؤه للميت بشيء، وفرق بين قضاء القاضي لغريمه بعد موت الغريم، وبين قضائه له في حال حياته. والفرق أن الدين لا يتعلق بمال الصحيح، فبقي ماله بعد لحوق الدين خالص ملكه، فكان القضاء واقعاً للغريم من كل وجه، فأما بعد الموت، فالدين يتعلق بماله، فكان المال المقضي به حقاً لرب الدين من ذلك الوجه، وإذا وكل أحد الخصمين عند القاضي، أو مكاتبه، أو بعض من لا تقبل شهادته له لا يجوز له أن يقضي للوكيل على خصمه؛ لأن القضاء يقع للوكيل من حيث الظاهر، وإنه لا يصلح قاضياً في حق هؤلاء والله أعلم. وإذا وكل رجل رجلاً بالخصومة، فاستقضى الوكيل، فليس له أن يقضي في ذلك؛ لأن القضاء يقع للوكيل من حيث الظاهر، وليس له أن يقيم وكيلاً عن موكله؛ لأنه إن أقام بحكم القضاء كان هذا قضاء للغائب، وإن أقام بحكم الوكالة، فهذا وكيل لم يقل له الموكل: ما صنعت من شيء فهو جائز، فوكل رجلاً بالخصومة جاز، وليس له أن يقضي لهذا الوكيل، وإن صار الوكيل الثاني مع الوكيل الأول وكيلين للموكل الأول، ولهذا ملك عزلهما وينعزلان بموته، ولكن من حيث إن الوكالة الثانية مستفادة من جهة الأول؛ وإنه

يملك عزله كان وكيل الأول، فيكون هذا من القاضي قضاء لوكيل نفسه من وجه، وإنه لا يجوز. فرق بين هذا، وبينما إذا أمر القاضي رجلاً أن يبيع مال اليتيم، فخاصم الوكيل في شيء من حقوق ذلك العقد إلى هذا القاضي، فإنه يجوز له أن يقضي لهذا الوكيل، والفرق أن القاضي في تصرف مال اليتيم ليس بخصم، وكذا نائبه، ولهذا لا يلحق العهدة، فانتقل العقد إلى اليتيم من كل وجه، فصار قضاء لليتيم من كل وجه لا لوكيل القاضي، أما هاهنا بخلافه. وإذا وكَّل رجل القاضي، ثم عزل عن القضاء، أو كانت الوكالة قبل القضاء، ثم استقضي وعزل، فهو وكيل على حاله، حتى كان له أن يخاصم عند قاض آخر. قال: في «الجامع الكبير» : وإذا مات الرجل، وله ديون على الناس بعضها على القاضي، وبعضها على من لا يقبل شهادته له بحق امرأته أو ابنه، فادعى رجل عند هذا القاضي أن الميت أوصى إليه، فاعلم بأن ها هنا ثلاث مسائل: إحداها: هذه، والحكم فيها أن القاضي إذا قضى بوصايته صح قضاؤه استحساناً حتى لو قضى بعض من سمينا الدين إلى هذا الوصي يبرأ، ولو رفع قضاؤه إلى قاض آخر، فإن القاضي الآخر يمضيه ولا ينقضه، وبمثله لو أن القاضي لم يقض له بالوصاية لا يصح قضاؤه حتى كان للورثة ولاية مطالبته بالدين. والفرق أن القاضي بالقضاء في الفصل الثاني يعمل لنفسه؛ لأنه يثبت براءة نفسه ويصحح دفعه إليه، والقضاء لنفسه باطل، ولا كذلك في الفصل الأول. يوضحه أن القضاء معتبر بالشهادة، والغريم لو شهد بالوصاية لهذا الرجل بعد ما أدى الدين إليه لا تقبل شهادته لمكان التهمة، فكذا لا يصح قضاؤه، وقيل: قضاء الدين لو شهد الغريم بالوصاية لهذا الرجل تقبل شهادته إذا كان الموت ظاهراً استحساناً؛ لأنه لا تهمة في هذه الشهادة؛ لأن للقاضي ولاية نصب الوصي إذا كان الموت ظاهراً بدون الشهادة، فكذا يصح قضاؤه أيضاً. ثم إن محمداً رحمه الله سوى في الفصل الثاني بين القاضي وبين امرأته وأبيه، وقال: إذا رفع قضاؤه إلى قاض آخر أبطله، ولو أمضاه كان باطلاً، بعض مشايخنا قالوا: ينبغي أن يكون الجواب في امرأته وأبيه بخلاف الجواب في حق نفسه؛ لأن قضاء القاضي لنفسه باطل بالإجماع، فلا يجوز لأحد أن يمضيه، أما قضاؤه لامرأته وابنه مختلف فيه؛ لأن شهادته له لا يختلف فيه، فكذا قضاؤه، فالقضاء بالإمضاء مصادف محلاً مجتهداً فيه، فكان لغيره أن يمضيه إذا كان من رأيه ذلك، ولو لم يبلغ أحد الأوصياء، حتى جعل له القاضي وصياً، ثم إن القاضي، أو بعض من سميناه رفع الدين إليه يجوز الأنصباء، والنصيب، ويجوز الرفع إليه، وبمثله لو قضى الدين إليه أولاً، ثم نصب وصياً عن الميت لا يصح النصب، والوجه في ذلك أن للقاضي ولاية نصب الوصي عن الميت برأيه، ويكون هذا النصب قضاء؛ لأن القاضي في هذا النصب عامل لنفسه، ولا كذلك النصب قبل قضاء الدين.

المسألة الثانية: مسألة دعوى الميت إذا كان مكان دعوى الوصاية دعوى النسب في هذه المسألة، بأن جاء رجل، وادعى أنه ابن الميت ووارثه، وأقام على ذلك بينة، وقضى القاضي بالنسب منه، إن كان القضاء بنسبه بعد قضاء الدين إليه لا ينفذ قضاؤه، وإن كان قبل قضاء الدين إليه، نفذ قضاؤه. والفرق بينما قبل القضاء، وبينما بعد القضاء ما ذكرنا من الوجهين، وفي هذه المسألة على الفرق الثاني نوع إشكال؛ لأن انتفاء التهمة في شهادة الغريم بالإيصاء وقضائه، إنما كان؛ لأن للقاضي ولاية نصب الوصي بدون الشهادة، فلم يكن هذا النصب مضافاً إلى الشهادة، فأما ليس للقاضي ولاية إثبات النسب من غير شهادة، فكان ثبوت النسب مضافاً إلى الشهادة إلى ولاية القضاء، فكان قاضياً وشاهداً لنفسه من وجه. قلنا: لا بل التهمة منتفية هنا أيضاً؛ لأنه لم يكن للقاضي ولاية إثبات النسب ابتداء، وله ولاية إثبات ولاية الاستيفاء للغير، وفي إثبات النسب إثبات ولاية الاستيفاء، وله ذلك، إن لم يكن له ولاية إثبات النسب، فيصلح قاضياً وشاهداً في القضاء بالنسب من حيث إن فيه إثبات ولاية الاستيفاء للغير، واثبات النسب أمر زائد على هذه الولاية، فتنفى التهمة من هذا الوجه. المسألة الثالثة: إذا كان مكان دعوى الوصاية والنسب دعوى الوكالة، بأن غاب رب الدين، وجاء رجل، وأقام بينة أن رب الدين وكله بقبض الدين الذي له على القاضي، أو على من سميناه من قرابته، فقضى القاضي بوكالته لا يجوز سواء كان القضاء قبل دفع الدين إليه. فرق بين الوصاية والوكالة قبل دفع الدين. والفرق أن للقاضي ولاية نصب الوصي، وإن لم يكن على الميت دين، فلا يكون في هذا النصب عاملاً لنفسه أصلاً، فلا يكون قضاؤه لنفسه أصلاً، فأما ليس للقاضي ولاية نصب الوكيل عن الغائب، فهو بهذا القضاء يعمل لنفسه من حيث إنه يثبت من يقتضي منه فيبرأ بدفعه إليه، فيكون قاضياً لنفسه، فلهذا لا يصح، فإن رفع قضاه بالوكالة إلى قاض آخر، فإن كان القضاء بالوكالة بعد قضاء الدين رده لا محالة، ولو أمضاه لا يجوز إمضاؤه؛ لأنه وقع باطلاً، لأنه قضى لنفسه من كل وجه، وإن كان القضاء بالوكالة من الأول قبل قضاء الدين إليه، فأمضاه الثاني جاز إمضاؤه. علل محمد رحمه الله في «الكتاب» فقال: لأن إمضاء الثاني جعل في فصل مجتهد فيه. واختلف عبارة المشايخ فيه، بعضهم قالوا: أراد به حقيقة الاختلاف، فمن المشايخ من يجيز القضاء بالوصاية، وبعضهم قالوا: أراد به اشتباه الدليل. ووجه ذلك أن الوكالة أمانة في حال الحياة، والوصاية أمانة بعد الموت، فالقياس الظاهر يوجب التسوية، فينبغي أن يملك القاضي نصب الوكيل كما يملك نصب الوصي، وينبغي أن يملك القضاء بالوكالة، قبل قضاء الدين كما يملك القضاء بالوصاية، فإذا أخذ بالقياس الظاهر، وقضى بالوكالة قبل قضاء الدين، جعل قضاؤه في محل مجتهد فيه. أو

نقول: هذا قضاء على الغائب مجتهد فيه، فإن قيل: هذا القضاء إذا كان مجتهداً فيه ينبغي أن لا يتوقف على إمضاء قاض آخر، على ما مر. قلنا: هذا هكذا إذا كان قضاء للغير من كل وجه، أما إذا كان قضاء لنفسه من وجه لا ينفذ بل يتوقف على إمضاء قاض آخر؛ لأن القضاء لنفسه باطل بلا خلاف، وهذا قضاء لنفسه من وجه من حيث إن به يحصل النفع لنفسه من حيث (80أ4) أن يقضيه الدين فيبرأ، وقضاء للغير من وجه من حيث إنه مما لا يقضيه الدين، وينتظر حضور الموكل، فيتوقف على إمضاء قاض آخر، فإن أدى اجتهاده إلى أنه قضاء للغير، وأمضاه نفذ؛ لأنه صادف محلاً مجتهداً فيه، فلا ينبغي لما يحصل له من النفع غيره. ونظير هذا إذا قضى لامرأته يتوقف على إمضاء قاض آخر، وإن كان هذا القضاء مجتهداً فيه لهذا إن القضاء لنفسه باطل بلا خلاف، والخلاف في أن قضاء الرجل لامرأته، هل هو قضاء لنفسه من وجه؟ فإذا أمضاه قاض آخر يترجح جانب كونه قضاء للغير على كونه قضاء لنفسه، فينفذ ما صادفه محلاً مجتهداً فيه. وقيل: ذلك لا ينفذ كذا هنا على أن في نفاذ القضاء على الغائب روايتان، فعلى إحدى الروايتين لا ينفذ؛ لأن نفس القضاء مختلف فيه، فيتوقف على هذه الرواية على إمضاء قاض آخر، وعلى إحدى الروايتين ينفذ ولا يتوقف؛ لأن على إحدى الروايتين لا خلاف في نفس القضاء، وإنما الخلاف في أن الإنكار على سبيل اليقين، هل هو شرط؟ فعلى قياس هذه الرواية ينبغي أن لا يتوقف القضاء بالوكالة هنا على إمضاء قاض آخر، والله أعلم. إذا نصب القاضي مسخراً على الغائب لا يجوز، ولو حكم عليه لا يجوز، وتفسير المسخر أن ينصب القاضي وكيلاً عن الغائب ليسمع الخصومة عليه، والقاضي يعلم أن المحضر ليس بخصم، فالقاضي لا يسمع الخصومة عليه، وإنما يجوز نصب الوكيل عن خصم اختفى في بيته ولا يحضر مجلس الحكم، فالقاضي ينصب عنه وكيلاً، ولكن بعد ما بعث أمناءه إلى داره، ونودي على باب داره على ما ذكرنا، قبل ذلك، أما في ذلك الموضع فلا. والدليل على أن نصب المسخر لا يجوز ما ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : رجل ادعى عقاراً في يدي رجل، وأقام البينة على الملك، فالقاضي لا يسمع بينته، ولا يقضي له بالملك ما لم يعلم أن العقار المدعى به في يد المدعى عليه، أو يشهد الشهود بذلك لجواز أن المدعي واضع رجلاً حتى يقر بأن العقار المدعى به في يده، فيقضي القاضي بذلك عليه، ويكون بذلك استحقاقاً عليه، وعلى غيره، والعقار في الحقيقة في يد غيره. وذكر محمد رحمه الله في «شهادات الجامع» : رجل غاب، فجاء رجل وادعى على رجل ذكر أنه غريم الغائب، وأن الغائب وكله بطلب كل حق له على غرمائه بالكوفة والخصومة فيه، والمدعى عليه ينكر وكالته، فأقام المدعي بينته على وكالته، قضى القاضي عليه بالوكالة.

قال شيخ الإسلام رحمه الله هذه المسألة دليل على جواز الحكم على المسخر فإنه قال: ادعى على رجل ذكر أنه غريم الغائب، ولم يقل: ادعى على رجل هو غريم الغائب، قال الصدر الشهيد رحمه الله: ولكن هذا عندنا محمول على ما إذا لم يعلم القاضي بكونه مسخراً قبل، وينبغي أن تكون هذه المسألة على روايتين؛ لأن هذا في الحاصل قضاء على الغائب، وفي القضاء على الغائب روايتان، في إحدى الروايتين لا ينفذ؛ لأن نفس القضاء مختلف فيه، وفي الرواية الأخرى ينفذ؛ لأن نقض القضاء ليس بمختلف فيه، وإلى هذا مال شيخ الإسلام رحمه الله، والمسألة في شرح كتاب المفقود. وكان الشيخ الإمام ظهير الدين رحمه الله يقول في القضاء على الغائب: يفتى بعدم الجواز والنفاذ كيلا يتطرقوا إلى هدم مذهب أصحابنا رحمهم الله، فلو أن القاضي حكم على المسخر، وأمضى قاض آخر صح الإمضاء، ولا يكون لأحد بعد ذلك إبطاله. إذا قضى القاضي بعين في يدي رجل، والمقضي به ليس في ولايته صح القضاء، ولكن لا يصح التسليم. صورة المسألة: بخاريّ ادعى داراً على سمرقندي عند قاض بخاري، أن الدار الذي في يديه بسمرقند في محلة كذا إلى أخره ملكي وحقي، وفي يديه بغير حق، وأقام بينة على دعواه، فالقاضي يقضي بالدار للمدعي، ويصح قضاؤه؛ لأن المقضي له والمقضي عليه حاضر إلا أن التسليم لا يصح؛ لأن الدار ليست في ولايته، فكتب إلى قاضي سمرقند لأجل التسليم. وإذا أمر القاضي إنساناً أن يقضي بين اثنين لم يجز قضاؤه، إلا أن يكون الخليفة أذن للقاضي بذلك؛ لأن القضاء أمر يحتاج فيه إلى العلم والأمانة والرأي، والخليفة بالتفويض إلى هذا القاضي من غير إذن بالاستخلاف رضي بعلمه وأمانته ورأيه، أما ما رضى بغيره، فرق بين القاضي وبين إمام الجمعة، فإن الخليفة إذا فوض إلى إنسان إقامة الجمعة مطلقاً، فاستخلف غيره جاز. والفرق أن هناك الإذن بالاستخلاف إن لم يوجد نصاً وجد دلالة؛ لأن الخليفة إنما فوض إلىه إقامة الجمعة مطلقاً مع علمه أن العوارض المانعة من إقامة الجمعة نحو المرض، والحدث في الجمعة، وغير ذلك يتوهم مقصور وعلى تقدير التحقق، لا يمكن انتظار إذن الإمام لضيق الوقت، فقد أذن له بالاستخلاف دلالة، أما ها هنا لما لم يوجد الإذن صريحاً لم يوجد دلالة؛ لأن أكبر ما فيه أن العوارض المانعة من القضاء موهوم مقصور في حق هذا القاضي، ولكن انتظار إذن الإمام هنا ممكن؛ لأن تأخير سماع الخصومات ممكن؛ لأنه غير مقدر بوقت، فلهذا افترقا. وفرق بين القاضي وبين الوصي أيضاً، فإن الوصي يملك التفويض إلى غيره، وإن لم يأذن له الوصي، والفرق أن في حق الوصي الإذن بالتفويض ثابت دلالة أيضاً؛ لأن الوصي إنما يعمل بعد موت الوصي، فإذا أوصي إليه مع علمه أنه قد يعجز على التصرف بنفسه، وعلى تقدير العجز لا يمكنه استطلاع رأيه في التفويض إلى غيره، فقد أذن له

بالتفويض إلى غيره، دلالة أما هنا استطلاع رأي الخليفة، والاستخلاف ممكن للقاضي إن عجز عن القضاء، فلا حاجة إلى إثبات الإذن دلالة بالتفويض إلى غيره فإن كان الخليفة أذن للقاضي في الاستخلاف إما نصاً أو دلالة بأن قال له: ما صنعت من شيء فهو جائز، ملك الاستخلاف؛ لأنه صار راضياً بغيره. وهو نظير الوكيل بالبيع لا يملك أن يوكل غيره، وإذا أذن الموكل في التوكيل إما نصاً أو دلالة بأن قال له: ما صنعت من شيء، فهو جائز يملك توكيل غيره، إلا أن بين مسألة التوكيل، وبين مسألة القاضي فرق من وجه، فإن الموكل إذا أذن للوكيل أن يوكل فوكل، وقال الوكيل الأول للوكيل الثاني: ما صنعت من شيء فهو جائز، لا يكون للوكيل الثاني أن يوكل غيره. والخليفة إذا أذن للقاضي في الاستخلاف فاستخلف، وقال الخليفة: ما صنعت من شيء فهو جائز، كان له أن يستخلف غيره، فلو أن الخليفة لم يأذن له بالاستخلاف، فأمر رجلاً فحكم بين اثنين حتى لم يجز حكمه، ثم إن القاضي أجاز ذلك الحكم ننظر إن كان بحال يجوز حكمه لو كان قاضياً جاز إمضاء القاضي حكمه، وإن كان بحال لا يجوز حكمه لو كان قاضياً ينظر إن كان ممن يختلف فيه الفقهاء، كالمحدود في القذف جاز إمضاؤه ذلك، وإن كان عبداً أو صبياً لم يجز؛ لأن القاضي إذا لم يؤذن في الاستخلاف صار الحال في حقه بعد الاستخلاف كالحال قبل الاستخلاف، وقبل الاستخلاف لو قضى وهو من أهل القضاء توقف نفاذه على إجازة قاض آخر، وإن لم يكن من أهل القضاء لا يتوقف، كذا ها هنا. ولو أن الخليفة أذن للقاضي في الاستخلاف فاستخلف رجلاً، ثم أراد أن يعزله، لم يكن له ذلك إلا إذا كان الخليفة أذن له بالعزل أيضاً، بأن قال: له ولِّ من شئت، واستبدل من شئت. ولو أذن له في الاستخلاف فاستخلف رجلاً، فهذا القاضي الثاني يصير قاضياً من جهة الخليفة لا من جهة القاضي الأول، حتى لو أراد القاضي الأول أن يعزل الثاني لم يكن له ذلك، إلا إذا قال الخليفة للقاضي الأول: استبدل من شئت. ولو أن الخليفة أمر القاضي أن يستخلف رجلاً يسمع (80ب4) من الخصوم ويسمع من الشهود، ويكتب الإقرار، ولا يقطع الحكم، وأمر القاضي رجلاً يقوم بذلك لا يجاوز ذلك، فإن لهذا الرجل أن يسمع من الشهود، ويكتب إقرار من أقر عنده، ويسأل عن الشهود، ثم ينهي ذلك للقاضي، فيكون القاضي هو الذي يحكم بعد أن يعرف صحة ذلك؛ لأن الخليفة لو أمر القاضي أن يسمع من الشهود، ويكتب الإقرار، ولا يقطع الحكم، بل يرفع الأمر إلى الخليفة حتى يحكم الخليفة بنفسه، كان صحيحاً، فكذلك إذا أمره بالاستخلاف على هذا الوجه. ثم الخليفة إذا رفع الأمر إلى القاضي، فالقاضي لا يقضي بتلك البينة بل يأمر بإحضار المدعي، والمدعى عليه بإحضار الشهود، ويأمر الشهود أن يشهدوا ثانياً عنده بحضرة المدعي والمدعى عليه، فإذا صحت الشهادة عنده قضى بتلك الشهادة، وهذا

فصلٌ الناس عنه غافلون، فإن نائب القاضي يسمع البينة، ويكتب الإقرار، ويبعث إلى القاضي والقاضي يقضي بذلك، ولا ينبغي له أن يقضي بذلك، وإنما عليه أن يأمر بإعادة البينة، وأن يحضر المقر حتى يقر عنده، ثم يحكم بما يصح عنده، وإن كان الشهود شهدوا عند الخليفة بالحق، ثم غابوا فأعلم الخليفة القاضي بما شهدوا عنده، لهذا على هذا، فالقاضي لا يقبل، ولا يحكم حتى يعيدوا الشهادة عنده. وكذلك إذا كان المدعى عليه أقر عند الخليفة، ثم جحد بعد ذلك فأخبر الخليفة القاضي بإقراره عنده، فالقاضي لا يقبل ذلك على طريق الشهادة؛ لأنه لو شهد على إقراره غير خليفته مع رجل آخر يقبل ذلك، فخليفته أولى. وسئل القاضي الإمام شمس الأئمة الأوزجندي رحمه الله عن القاضي إذا سمع الدعوى، ويسمع النائب الشهادة هل يقضي النائب بالشهادة بدون إعادة الدعوى؟ قال: لا إلا أن يأمر القاضي بالحكم بتلك البينة، وسئل أيضاً عن القاضي إذا سمع الدعوى والشهادة ولم يحكم، وأمر نائبه بالحكم، وهو مأذون بالاستخلاف بحكم المثال الصحيح هل يصح هذا الأمر؟ وإذا حكم النائب هل يصح حكمه؟ قال: نعم. وفي «الفتاوى» عن الفقيه أبي القاسم: أن القضاة على قسمين: قاض قلده قاض ولي بسبب من دفع الرشوة أو الشفعاء، فالأول إذا قضى، ثم رفع بقضيته إلى قاض يرى خلافه، فإنه لا يبطل قضاؤه، وإذا حصل في محل الاجتهاد، والثاني إذا قضى، ثم رفع قضاؤه إلى قاض يرى خلافه له أن ينقضه. بعض مشايخ زماننا قالوا: إن من تقلد القضاء بالرشوة لا يصير قاضياً، وإذا قضى لا ينفذ حكمه، ولا يحتاج فيه إلى النقض، وأما الذي طلب القضاء بالشفعاء، فهو والذي قلد سواء في حق نفاذ قضائه في المجتهدات. وإذا كان القاضي مأذوناً بالاستخلاف فحكم خليفته في حادثة، ووقعت الحاجة إلى إثبات حكمه عند القاضي الأصل، ينبغي أن يثبتوا ذلك بشرائط من نفذ، ثم دعوى صحيحة على خصم كما لو ثبتوا قضاء قاض آخر. ومما يتصل بهذا الفصل ما ذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : أن في ظاهر الرواية المصر شرط نفاذ القضاء، وفي «النوادر» ليس بشرط وذكر الخصاف في «أدب القاضي» في باب القاضي يقضي بعلمه: إن المصر شرط نفاذ القضاء وإليه أشار محمد في «الأصل» . وفي «المنتقى» إشارة عن أبي يوسف إلى أن المصر شرط نفاذ القضاء، فإنه قال: قضاة أمير المؤمنين إذا خرج أمير المؤمنين، فخرجوا معه، فلهم أن يقضوا؛ لأن هؤلاء ليسوا بقضاة أرض إنما هم قضاة الخليفة، فأينما خرج الخليفة فلقضاته أن يقضوا، وإن خرج القاضي وحده، فليس له أن يقضي، وعن أبي يوسف في «الإملاء» أن المصر ليس بشرط، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وكثير من مشايخنا أخذوا برواية «النوادر»

الفصل الحادي والعشرون: في الجرح والتعديل

أن المصر ليس بشرط باعتبار الحاجة، فإنه عسى تقع الحاجة إلى أن يخرج القاضي إلى محدود، ويسمع الدعوى ثمة، ويقضي هناك، وإذا أمر القاضي إنساناً بالقسمة في الرستاق، فقسم صحت قسمته باختلاف الروايات؛ لأن القسمة ليست من أعمال القضاء حتى يشترط لصحتها المصر في ظاهر الرواية، والله أعلم. الفصل الحادي والعشرون: في الجرح والتعديل ولا يسأل القاضي عن الشهود عند أبي حنيفة إلا أن يطعن الخصم فيهم، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يسأل عنهم من غير أن يطعن الخصم فيهم، وهذا في غير الحدود والقصاص، أما في الحدود والقصاص يسأل عنهم وإن لم يطعن الخصم فيهم، قيل: هذا اختلاف عصر وزمان، فأبو حنيفة رحمه الله كان في القرن الثالث الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، فكان الغالب فيهم العدالة، فبقي الحكم على الغالب، وهما كانا في القرن الرابع الذي شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم بالكذب، فكان الغالب فيهم الكذب، فأمر بالسؤال لهذا. وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: ينبغي للقاضي أن يحكم زي الشهود وسيماهم، إن كان عليهم زي الصالحين عمل فيهم بقول أبي حنيفة، وإن كان عليهم زي الفسقة عمل فيهم بقولهما، وقيل لا بل هذا اختلاف على الحقيقة، حجتهما أن التعديل حق القاضي؛ لأن القاضي منهي عن القضاء بشهادة الفاسق، مأمور بالتثبت فيه، فلا يتوقف استيفاؤه على طلب الخصم قياساً على سائر الحقوق، ولأبي حنيفة رحمه الله الحديث المعروف وهو قوله عليه السلام: «المسلمون عدول بعضهم على بعض» ولأن الظاهر من حال المسلمين العدالة، والبناء على الظاهر واجب ما لم يعارضه ظاهر آخر، ففيما إذا طعن الخصم فيهم ظاهر آخر، فوجب السؤال بخلاف ما قبل الطعن، كان قضيته ما قلنا: أن الإنسان في الحدود وفي القصاص أيضاً إلا أنا إذا تركنا القياس، ثمة؛ لأن الظاهر لا يخلو عن نوع احتمال وشبهه، والحدود تدرأ بالشبهات، فشرطنا السؤال ثمة احتيالاً لدرئها قبل السؤال، فأما المال يثبت مع الشبهات؛ ولأن في الحدود لو وقع الخطأ لا يمكن التدارك بخلاف المال. فلو أن الخصم عدل الشهود، فهذا على وجهين: أما إن عدلهم قبل أن يشهدوا عليه، فقال: هم شهود عدول، فلما شهدوا عليه أنكرهما، أو عدلهم بعدما شهدوا عليه، فإن عدلهم بما شهدوا عليه، فهو على وجوه:

إن قال: صدقوا فيما شهدوا به علي، أو قال: شهدوا علي بالحق، أو قال: الذي شهدوا به في هذه الشهادة حق، وفي هذه الوجوه الأربعة القاضي يقضي عليه بما شهدوا لأن بهذه الألفاظ إقرار منه بالمال، ويكون القضاء بالإقرار لا بالشهادة، وإن قال: هم عدول إلا أنهم أخطؤوا، أو قال: هم عدول، ولم يزد على هذا، فإن كان المشهود عليه عدلاً من أهل التعديل، فالقاضي يقضي بشهادتهما، عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله من غير أن يسأل من المزكي بناء على أن العدد في المزكي عندهما ليس بشرط، وعند محمد ما لم يسأل القاضي عن المزكي لا يقضي بشهادتهما. بيانه أن العدد في المزكي شرط عنده، هكذا ذكر في «كتاب التزكية» وفي كتاب «الأقضية» في أوله وفي «أدب القاضي» للخصاف، في آخر باب المدعى عليه يعدل الشهود وفي «الرقيات» ، فعلى هذه الروايات اعتبر تعديل الشهود عليه تعديلاً، وذكر في «الجامع الصغير» وفي كتاب «الأقضية» قريباً من الثلث الأول، وفي «أدب القاضي» للخصاف في أول باب المدعى عليه يعدل الشهود: أن القاضي لا يقضى بشهادتهما حتى يسأل عنهما وهكذا روي عن أبي يوسف في «الأمالي» ، وهكذا روى هشام عن محمد، فعلى هذه الروايات (81أ4) لم يعتبر تعديل المشهود عليه تعديلاً. ووجه هذه الروايات أن المدعى عليه إن عدلهما بقوله: هم عدول، فقد جرحهما بإنكاره ما شهدا به بنسبته إياهما إلى الكذب؛ ولأن تعديل الشهود حق المدعي، وفي زعم المدعي أن هذا التعديل لم يصح؛ لأن المدعى عليه ظالم ليس من أهل التعديل، والمنقول عن محمد رحمه الله في هذا أن المدعى عليه حين قال: أولهما لم يزكهما. قال الصدر الشهيد رحمه الله: فإما أن يقال: في المسألة روايتان، أو يحمل ما ذكر في بعض الروايات أن القاضي لا يقضي بشهادتهما حتى يسأل أنه قول محمد خاصة، لا لأن تعديله ليس بتعديل، ولكن لأن العدد في المزكي عنده شرط على ما يأتي بيانه بعد هذا، أو يقال: ما ذكر في بعض الروايات أن تعديل المشهود عليه ليس بتعديل محمول على ما إذا كان جاحداً، أما إذا كان ساكتاً، وهو من أهل التعديل يصح تعديله، هكذا أول رحمه الله في «شرح الجامع الصغير» وإن لم يكن المدعى عليه من أهل التزكية والتعديل بأن كان فاسقاً أو مستور الحال، لا يصح تعديله، ولا يقضي القاضي بشهادتهما. فإن قيل: يجب أن يصح تعديل المشهود عليه، وإن كان فاسقاً، أو مستور الحال؛ لأنه إقرار على نفسه، وإقرار الفاسق أو مستور الحال على نفسه صحيح. قلنا: كما أن هذا إقرار على نفسه، فهذا إقرار بوجوب القضاء على القاضي لا يصح، ثم إذا لم يثبت التعديل بقول الفاسق ومستور الحال، فالقاضي يسأل المشهود عليه: أصدقوا أم لا؟ إن قال: صدقوا، فقد أقر على نفسه، فيقضي عليه بإقراره، وإن قال: أوهموا أو أخطأوا، فالقاضي لا يقضي عليه. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله ينبغي للقاضي إذا أقام المدعي البينة أن

يسأل عن الشهود، فإن عدلهم المشهود عليه بعدما شهدوا عليه قضى عليه، ولم يلتفت إلى طعنه بعد ذلك، هذا إذا عدلهما المشهود عليه بعد الشهادة، فأما إذا عدلهما قبل أن يشهدوا عليه، ثم شهدا عليه، فأنكر المشهود عليه ما شهدا به، فالقاضي لا ينفذ ذلك عليه، ولا يكتفي بذلك التعديل. أما على الرواية التي لا تعتبر تعديل المشهود عليه بعد الشهادة فظاهر، وأما على الرواية الأخرى؛ لأنه يمكنه أن يقول: كنت ظننت أنهما عدلان، وأنهما لا يشهدان على زور غير أنهما تغيراً أو فسقا، هكذا ذكر المسألة في «كتاب الأقضية» ، وروى الحسن عن أبي حنيفة ما يدل على أن تعديله قبل الشهادة معتبر، فإنه روى أن المشهود عليه إذا عدل الشهود بعدما شهدوا عليه، ثم طعن فيهم، قال: لا يقبل طعنه، وقضى عليه بشهادتهم، وإن كان قد عدلهم قبل أن يشهدوا عليه، فلما شهدوا عليه طعن فيهم، قال: لم يقض عليه بتعديله إياهم قبل أن يشهدوا قبل الجواب بالطعن، فهذا يبين لك أن بدون الطعن يقضي عليه بذلك التعديل السابق. ثم التزكية نوعان: تزكية السر، وتزكية العلانية. فتزكية العلانية: أن يحضر العدل مجلس الحكم ويسأله القاضي عن الشهود بحضرتهم فيزكيهم، ويقول بحضرتهم: هؤلاء عدول. والتزكية في السر أن يسأل القاضي المعدل عن الشاهد في السر، فيعدله ويجرحه وقد كانت التزكية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم أن القوم كانوا صلحاء، وكان المعدل لا يخاف من المدعي والشهود؛ لأنهم كانوا منقادين للحق، وبعد ذلك فسد أحوال الناس، وآل الأمر إلى أن المزكي لو جرح الشهود بحضرتهم قاتلوه بالأذى، وظهر عجز المعدل عن تزكية العلانية، فأحدثوا تزكية السر، وهو معنى ما نقل عن محمد رحمه الله في «النوادر» : تزكية السر عناء وبلاء، وقيل: أول من أحدث تزكية السر شريح، وحين أحدثها قيل له: أحدثت ما لم يكن، فقال: أحدثتم فأحدثنا، يعني: أظهرتم إحداث العداوة والخصومة مع المعدل، فأحدثنا تزكية السر. قال في «أدب القاضي» : لو جمع القاضي بين تزكية السر وبين تزكية العلانية، فذلك أحسن، وتفسير الجمع أن المزكي عدل الشهود في السر، فالقاضي يجمع بين الشهود وبين المزكي في مجلسه، ويقول للمزكي: أهؤلاء الذين زكيتهم؟. قال في كتاب «الأقضية» وينبغي أن يكون المعدل في العلانية هو المعدل في السر، وإنما كان هذا حسن حتى لا يتسمى الرجل باسم غيره، إذ لا يتفق اثنان على اسم واحد. قال في «أدب القاضي» : وينبغي للقاضي أن يختار للمساءلة عن الشهود من كان عدلاً؛ لأنه يعدل غيره فلا بد من أن يكون عدلاً في نفسه، وينبغي أن يكون صاحب خبرة بالناس؛ لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة لا يعرف العدل من غير العدل، وينبغي أن لا يكون طماعاً حتى لا يخدع بالمال، وينبغي أن يكون فقيهاً يعرف أسباب الجرح وأسباب التعديل؛ لأنه اختلف أقاويل أهل العلم في أسباب التعديل والجرح، فمنهم من ضيق كل

التضييق حتى قال: من سمع الأذان وانتظر الإقامة سقطت عدالته، ومنهم من وسع كل التوسيع، ولا يضيق كل التضييق ولا يعدل مردود الشهادة من غير علم، ولا يجرح عدلاً من غير علم. وينبغي أن يكون غنياً حتى لا يخدع بالمال، وإن وجد عالماً فقيراً، وغنياً غير عالم اختار العالم، وإن وجد عالماً ثقة لا يخالط الناس، ووجد ثقة غير عالم يخالط الناس يختار العالم؛ لأن العالم لا يقدم في شيء حتى يصح ذلك عنده، فهو بعلمه يقدر على الجرح والتعديل، وغير العالم لا يعرف العدل من غير العدل، فكان العالم أولى من هذا الوجه. الأولى أن لا يكون المزكي مغفلاً، ولا يكون منزوياً لا يخالط الناس؛ لأنه إذا كان مغفلاً، أولا يخالط الناس لا يعرف معاملاتهم، ولا ينكشف له حالهم، ولا يمكنه تمييز العدل. والعدد في المزكي ورسول القاضي إلى المزكي، وفي المترجم عن الأعجمي، وعن الشاهد أو الخصم الأعجمي ليس بشرط عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، والواحد يكفي، وعند محمد رحمه الله العدد شرط، والواحد لا يكفي، ويكفيه الاثنان إن كان المشهود به حقاً يثبت بشهادة رجلين عدلين، وإن كان حقاً لا يثبت إلا بشهادة الأربع، وأجمعوا على أن ما سوى العدد من سائر شرائط الشهادة سوى التلفظ بلفظة الشهادة من العدالة والبلوغ والبصر، وأن لا يكون محدوداً في القذف شرطه، والحرية شرط بالإجماع في ظاهر الرواية، والإسلام شرط بالإجماع، إذا كان المشهود عليه مسلماً. وأجمعوا على أن التلفظ بلفظة الشهادة ليس بشرط، فوجه قول محمد رحمه الله: أن التزكية والترجمة شهادة معنى؛ لأن القضاء لا يجب إلا بهما كما لا يجب إلا بالشهادة؛ لأن العلم للقاضي لا يثبت إلا بهما، فكانت شهادة معنى، فيعتبر بالشهادة حقيقة، والواحد لا يكفي في الشهادة حقيقة، فكذا في التزكية والترجمة، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمها الله أنهما قالا: إن التزكية والترجمة شهادة معنى كما قاله محمد رحمه الله إلا أنه خبر حقيقة، ولهذا لا يشترط فيهما لفظة الشهادة، وهو قوله: أشهد. فمن حيث إنه خبر لم يشترط فيها العدد، ومن حيث الشهادة شرطنا فيها سائر شرائط الشهادة، ولحقيقة أن اشتراط سائر الشرائط ما سوى العدد في الشهادة على موافقة القياس، أما العدالة فلأن بها يترجح الصدق، ولهذا شرطت العدالة في سائر الإجارات، وأما البلوغ عن عقل والحرية؛ فلأن الشهادة ولاية على الغير، وإنها متفرع عن الولاية عن نفسه، والولاية على نفسه لا تثبت إلا بالبلوغ عن عقل والحرية. وأما البصر؛ فلأن (81ب4) القدرة على التمييز إنما يثبت به، وأما الإسلام إنما شرط إذا كان المشهود عليه مسلماً؛ لأنه لا ولاية للكافر على المسلم، أو لأن الكافر متهم بالخيانة في حق المسلمين، دل أن اشتراط هذه الشرائط في الشهادة على موافقة

القياس، فيمكن اشتراطها فيما هو في معناها قياساً عليها. وأما اشتراط العدد في الشهادة كان على مخالفة القياس، ولهذا لا يشترط في سائر الإخبارات، فيقتصر عليها، ثم هذا الاختلاف في تزكية السر، فأما في تزكية العلانية فالعدد شرط بالإجماع؛ لأن معنى الشهادة فيها أبين وأظهر ألا ترى أنه يختص بمجلس القضاء، بخلاف تزكية السر عندهما. وذكر أبو علي النسفي رحمه الله في «كتابه» عن محمد رحمه الله ما يدل على أن العدد في تزكية السر عنده ليس بشرط، والذي ذكر فيما إذا عرف المزكي الشهود بالعدالة، أو لم يعرفهم بها، لكن سأل ممن عرفهم وأخبره بعدالتهم ينبغي للمزكي أن يعدلهم قطعاً، فيقول: هم عدول، ولا يقول: هم عدول؛ لأن الثقاة أخبروا بعدالتهم؛ لأن هذا ليس بتعديل بل هذا إخبار عن تعديل الغير، وهذا الإخبار لم يثبت عند القاضي لكون المخبر واحد رواه عن محمد رحمه الله. وروى عنه رواية أخرى: أن القاضي يقبل ذلك منه؛ لأنه أحال بالتعديل على حجته، وهذه الرواية دليل على أن العدد في المزكي عند محمد رحمه الله ليس بشرط، أما الترجمان، إذا كان أعمى ذكر في غير رواية «الأصول» عن أبي حنيفة: أنه لا تجوز ترجمته؛ لأن العمى جرح، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه تجوز ترجمته، والمرأة الواحدة إذا كانت ثقة حرة جازت ترجمتها عندهما لرجل، وهذا في الأموال وما يجوز شهادتها فيه أما فيما لا تجوز شهادتها فيه لا تجوز ترجمتها.q قال في كتاب «الأقضية» : إذا أراد المزكي أن يعدل الشهود ينبغي أن يقول إنهم عدول ثقات جائزوا الشهادة، قال: هذا هو أبلغ الألفاظ في التعديل. وقال ابن سلمة: المزكي يقول في التزكية: هو عندي عدل مرضي جائز الشهادة، وفي «العيون» ذكر لفظ: عندي أيضاً، وبعض المشايخ قالوا: إذا قال: عندي لا يكون هذا تعديلاً بقوله: عندي وقع الشك، والفقيه أبو الليث رحمه الله زين هذا القول، وقال: هذا عندي ليس شيء؛ لأن العالم بالحقائق هو الله تعالى، وإنما يخبر المكلف عما عنده ووقع اجتهاده، وقال أبو يوسف رحمه الله: يقول المزكي: ما أعلم منه إلا خيراً كما ذكر عمر رضي الله عنه، ولو قال: لا بأس به فقد عدله. وفي القاضي إذا قال المزكي: هم عدول، فهذا ليس بتعديل؛ لأن المحدود في القذف بعد التوبة عدل ولا تقبل شهادته، وما وراه أبو علي النسفي عن محمد رحمه الله دليل على أنه تعديل، وكذلك إذا قال: هم ثقات، فالقاضي لا يكتفي به فقد يطلق هذا اللفظ على المستور، وبعض مشايخنا قالوا: إنه تعديل، ولو قال: إنه مزكى يكتفي به؛ لأنه طلب منه التزكية، وقد أتى بلفظ التزكية، وصار كالشاهد بعد الاستشهاد يأتي بلفظة الشهادة، ولو قال: لا أعلم منه إلا خيراً فقد ذكر في «أدب القاضي» أنه تعديل، وإنه موافق لما روينا عن أبي يوسف ومن المشايخ من قال: إنه ليس بتعديل، والأصح أنه تعديل؛ لأنه نفى ما سوى الخير عنه، فكان مثبتاً صفة الخيرية له، إلا أنه يثبت بقدر ما

علم من حيث الظاهر، وهو المأخوذ به في حق العباد، أما العلم بالحقائق لله تعالى. وعن محمد أن المزكي إذا كان عالماً بصيراً يكتفي به منه، وإذا كان غير عالم لا يكتفي به منه؛ لأن غير العالم ربما لا يعرف هذا تعديل، وإن قال: لا أعلم منه إلا خصلة من أنواع الخير، لا يكون هذا تعديلاً؛ لأنه لم يثبت له إلا خصلة من أنواع الخير، وبهذا القدر لا تثبت العدالة. وإن قال: هو عدل فيما علمنا، فقد قال بعض العلماء: إنه تعديل، وهكذا روي عن شريح، والأصح أنه ليس بتعديل؛ لأن قول الإنسان: فيما أعلم إذا اقترن بالإخبار بخرجه من أن يكون إثباتاً، ألا ترى أن الشاهد إذا شهد أن لفلان على فلان كذا فيما أعلم، لا تقبل شهادته؛ لأنه لا يكون إثباتاً وكذلك قال أبو حنيفة ومحمد: إذا قال: لفلان علي ألف درهم فيما أعلم لا يكون إقراراً، تأويل حديث شريح أنه كان لا يقبل شهادة المستور كما هو قول أبي حنيفة. وإن قال: هو عدل إن لم يكن شرب الخمر، فهذا ليس بتعديل؛ لأن فيما ذكر تعريض لوصفه بذلك النوع من الفسق، وإن قال: الله أعلم لا يكون تعديلاً بل يكون جرحاً؛ لأنه نفى علم نفسه حيث أحال بالعلم على الله تعالى. قال ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف قال: أجيز في تزكية السر تزكية العبد والمرأة والمحدود في القذف والأعمى، إذا كانوا عدولاً، ولا أقبل في تزكية العلانية إلا من كنت أقبل شهادته؛ لأن تزكية السر من باب الإخبار، ألا ترى أنه لا يشترط فيه العدد عندهما، والمخبر به أمر ديني، وقول المرأة والعبد والمحدود في القذف في الأمور الدينية مقبول، إذا كانوا عدولاً، ألا ترى أنه تقبل روايتهم في الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب الصوم بقولهم، فأما تزكية العلانية نظير الشهادة حيث شرط فيها العدد، وهؤلاء لا يصلحون للشهادة. قال: وأقبل فيها رجل وامرأتان يعني في تزكية العلانية؛ لأن شهادة رجل وامرأتين في الأموال مقبولة، فكذلك التزكية، وعلى هذا تزكية الوالد لولده في السر جائزة، لأنها من باب الإخبار، أقصى ما فيه أنه تزكية لنفسه من حيث المعنى، ولكن يجوز للإنسان أن يزكي نفسه إذا احتاج إليه، ألا ترى أنه كيف زكى يوسف صلوات الله عليه في قوله تعالى: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} (يوسف: 55) وأما في العلانية فلا تجوز إلا تزكية من تقبل شهادته له، وكذلك على هذا تزكية العبد مولاه في السر جائزة وروى محمد عن أبي حنيفة أن يجوز تعديل العبد والمرأة والأعمى، وعن محمد: لا يجوز تعديل هؤلاء. قال: وينبغي للمعدل أن يختار السؤال ممن اتصف بالأوصاف التي شرطناها في المزكي، وإنما يسأل جيرانه وأهل سوقه؛ لأنهم أعرف بحاله، هكذا ذكر في «أدب القاضي» . قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: إنه يسأل عن جيرانه، إذا لم يكن

بينه وبينهم عداوة ظاهرة، ولا يتحامل هو عليهم، يعني: لا يكون يده فوق أيديهم بنحو أن لا يعطى الجباية وما أشبهه، وهو اختيار أبي علي النسفي، ورواه عن محمد، وذكر من جملة من يسأل عنه رفيق الشاهد وقريبه، فقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا كان في المرء ثلاث خصال فلا تشكوا في صلاحه إذا حمده ذوو قرابته، وجاره، ورفيقه. وإن لم يجد في جيرانه، وأهل سوقه من يصلح للتعديل، يسأل أهل محلته، وإن وجد كلهم غير ثقات يعتمد في ذلك تواتر الأخبار، وكذلك إذا سأل جيرانه، أو أهل محلته، وهم غير ثقات، فاتفقوا على تعديله أو جرحه، ووقع في قلبه صدقه كان ذلك بمنزلة تواتر الأخبار، وإن أخبر بعضهم بعدالته وبعضهم بجرحه، فالحكم فيه كالحكم في اختلاف المزكي في التعديل والجرح، وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى. وإن كان الشاهد غريباً لا يعرف إذا سأل عنه في السر، فالقاضي يسأل الشاهد عن معارفه، فإذا سماهم سأل عن معارفه في السر حتى يظهر عنده أنهم هل يصلحون للتعريف، فإن عدلوا سأل عنهم عن الشاهد، واعتمد على خبرهم في الجرح والتعديل، ولا يوقف فيه، وسأل عن العدل الذي في بلدته، إن كان في ولاية هذا القاضي وإن لم يكن كتب إلى قاضي ولايته تعرف عن حاله. قال هشام: سألت محمداً عن رجل شهد عند القاضي، وهو على رأس خمسين فرسخاً، فبعث القاضي أميناً على جعل يسأل المعدل عن الشاهد، فالجعل على من؟ قال: على المدعي، وهذا ظاهر؛ لأن منفعة عمل الأمين راجعة إلى المدعي. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: لا ينبغي للقاضي أن يسأل عن الشاهد رجلاً له على المشهود له مال، إذا كان المشهود له مفلساً فلسه القاضي، أو ميتاً أقام وصية على غيره بينة؛ لأنه متهم في هذا التعديل بيانه: إذا أظهر عدالة الشهود لزم القاضي القضاء بشهادتهم، وعند ذلك يزول الإفلاس، وزوال الإفلاس يقع في حقه؛ لأن ماله في ذمته بمنزلة النادي زيول ذلك النوي بزوال الإفلاس، ثبت أن في التعديل نفعاً له فكان متهماً فيه. ونظير هذه رواية في الشاهد، إذا كان له على المشهود له مال، وأنه مفلس أنه لا تقبل شهادته له، لهذه التهمة، وإن لم يكن مفلساً تقبل شهادته له، ويصح تعديله لشهوده؛ لعدم هذه التهمة، إذ لا يثبت بهذه الشهادة أمر لم يكن ثابتاً؛ لأنه كان متمكناً من استيفاء حقه قبل الشهادة وقبل التعديل، حسب تمكنه منه بعد ذلك. قال: ولو أن غريباً نزل بين ظهراني قوم، وشهد هذا الغريب عند القاضي في حادثة، فسألهم القاضي، أو العدول عن حاله، وقد عرفوه بالصلاح، ولم يظهر منه ما يسقط عدالته هل يسعهم أن يعدلوه؟ كان أبو يوسف رحمه الله أولاً (82أ4) يقول: إن مكث بينهم ستة أشهر، ولم يعرفوا منه إلا الصلاح، يسعهم أن يعدلوه، وإن كان ذلك

فليس لهم أن يعدلوه، ثم رجع وقال: إذا مكث بينهم سنة، ولم يعرفوا منه إلا الصلاح جاز لهم أن يعدلوه، ومالا فلا؛ لأن الحاجة إلى معرفة حاله بالتجربة، وقد ورد الشرع بتقدير مدة التجربة بالسنة، كما في العين. يوضحه: أن من الفرائض ما لا يجب إلا بعد كمال الحول، كالزكاة وصوم رمضان، فما لم يحل عليه الحول لا يقفون عليه أنه متهتك أو ممن يراعي حق الله تعالى، في الزكاة والصوم، وروى هشام عن محمد رحمه الله أنه على قدر ما يقع في القلب صلاحه. ورورى إبراهيم عن محمد أنه قال: من وقت في التزكية فهو مخطئ، وهذا على ما يقع في القلب، ربما يعرف الرجل في شهرين، والآخر لا يعرف في سنة، لأنه يرائي ويتصنع، وهذا القول أشبه بالفقه، وينبغي أن يكون على قياس أبي حنيفة كذلك؛ لأنه يفوض إلى رأي المجتهد في مثله، ولا يقدر فيه بشيء كما في الكثير الفاحش، وفي المدة التي يصير الكلب معلماً فيه. ولو أن صبياً بلغ، وشهد شهادة، فحكمه حكم هذا الغريب الذي نزل من ظهراني القوم لا يعدلوه حتى يظهر فيها عندهم صلاحه وعدالته، والمدة التي يظهر فيها حاله عندهم، مقدرة على قول أبي يوسف كما بينا، ولا تقدر عند محمد بل هي على ما يقع في القلب؛ لأن العدالة مبناها على توجه الخطاب، حتى يعرف ازدجاره عن محظورات دينه وائتماره بالأوامر، والخطاب إنما توجه عليه الآن. ولو أن نصرانياً أسلم ثم شهد، فإن كان القاضي عرفه عدلاً في النصرانية يقبل شهادته ولا يبالي، وإن لم يعرفه بالعدالة يسأل فيمن عرفه بالعدالة في النصرانية، ويسعه أن يعدله من غير تأني، وإنما وقع الفرق بين الصبي والبالغ، لما ذكرنا أن العدالة والفسق إنما يعرف بتوجه الخطاب، والخطاب متوجه على النصراني، وإذا رأيناه مزدجراً عما اعتقده محظور دينه، يستدل به على عدالته، فلا يتغير ذلك بالإسلام، فأما الصبي فإنما يتوجه عليه الخطاب بعد البلوغ، ولا يعرف انزجاره عن محظورات دينه قبل ذلك ليستدل به على عدالته، فلا بد من مدة بعد البلوغ ليعرف انزجاره عن محظورات دينه. وقال بعض مشايخنا: الصبي إذا رهق الحلم، ولم يزل رشيداً حتى بلغ أن شهادته مقبولة، ويسع للمعدل أن يعدله، وإن لم يعرف سنه رشداً إلى أن بلغ، فإنه يتأنى فيه، ويتربص مدة يظهر صلاحه، ويقع في القلب أنه عدل لما ذكر في الغريب، وهذا القائل سوى بين الصبي وبين النصراني في اعتبار العدالة السابقة، وهو اختيار أبي علي النسفي رحمه الله، وجه التسوية: أن النصراني لا شهادة له على المسلم كالصبي، وإنما حدث لهما أهلية الشهادة على المسلمين بالبلوغ والإسلام، ثم لما اعتبر بالعدالة التي قبل الإسلام فلأن يعتبر العدالة التي قبل البلوغ في حق المراهق أولى، وهذا لأن المراهق مأمور بالصلاة، ويؤدب على تركها، ويؤمر بالقضاء إذا أفسدها، وكذلك الصوم وغيرهما من الأحكام المختصة بأهلية الشرائع، ما لم يكن النصراني، ثم لما بنى الحكم على

العدالة قبل الإسلام، فلأن يبني على العدالة التي للصبي قبل البلوغ أولى، ولكن المشهور ما ذكرنا. في كتاب «الأقضية» عن محمد رحمه الله في نصرانيين شهدا على نصراني وعدلا في النصرانية، ثم أسلم المشهود عليه، ثم أسلم الشاهدان، فالقاضي لا يقضي بتلك الشهادة؛ لأنهما كافران وقت الأداء، فإن شهدا بذلك بعد الإسلام يعني أعادا شهادتهما بعد الإسلام، فالقاضي يسأل المعدل المسلم عن حالهما؛ لأن ذلك التعديل لم يعتبر حجة على المشهود عليه بعد الإسلام، لكونه تعديل الكافر حتى لو كان ذلك التعديل السابق من المسلمين قضى القاضي بشهادتهما؛ لأن ذلك التعديل وقع معتبراً. وفي «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله، قال: سألت محمداً عن شاهدين مشركين شهدا على مشرك بشهادة، فعدلا فلم يقض القاضي بشهادتهما حتى أسلم المشهود عليه، ثم أسلم الشاهدان، قال: أسأل الشاهدين أن يعيدا الشهادة، قلت: أتسأل عن تعديلهما قال: لا لأنهما عدلا في الشرك، قلت: فمسألة الشاهدين المشركين من المسلمين أو من المشركين، قال: من المسلمين قلت: فإن لم يعرفهما قال: يسأل المسلمون عن العدول من أهل الشرك، ثم يسأل أولئك المشركون عن الشهود. قال محمد رحمه الله: في رجل ارتكب ما يصير به ساقط الشهادة من الكبائر، ثم تاب، وشهد عند القاضي قبل أن يأتي عليه زمان، لا ينبغي للمعدل أن يعدله، حتى يأتي عليه زمان، وهو على توبته يقع في القلب أنه صحت توبته، وهذا لأن التوبة أمر باطن لا تعرف إلا بدليلها، والامتناع عن ارتكاب الجناية محتمل بين أن يكون على وجه التوبة (وبه) يصير عدلاً، وبين أن يكون لا على وجه التوبة؛ لأن الفاسق لا يداوم على معصية، على سبيل الموالاة، وبه لا يصير عدلاً، فلا بد من انضمام شيء آخر يدل على أن الامتناع على سبيل التوبة، فضممنا مضي مدة، وهو على توبته فيها يقع في قلب المجتهد أنه صح التوبة، وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف فيما تقدم ينبغي أن تقدر تلك المدة لسنة أو لستة أشهر. وإن كان هذا الفاسق شهد وهو فاسق ثم تاب، ومضى عليه زمان، وهو على توبته على نحو ما ذكرنا، فالقاضي لا يقضي بتلك الشهادة بل يأمر بإعادتها، فإن أعادها وعدله المعدل، فالقاضي يقبل شهادته إن كان لم يرد شهادته التي شهدها في حال فسقه، أما قبل الرد إنما يقبل شهادته؛ لأنه طهر شهادته بإخبار المعدل، وأما بعد الرد إنما لا يقبل شهادته؛ لأن بعد رده الشهادة هو متهم في التوبة، لجواز أنه قصد بها تنفيذ شهادته، ورفع ضرر عاد رد الشهادة عن نفسه، وهو في الباطن بخلافه. ولو أن فاسقاً معروفاً غاب غيبة منقطعة سنة أو سنتين، ثم قدم، ولا يرى منه إلا الصلاح، فشهد عند القاضي، وسأل القاضي العدل عنه، فلا ينبغي للعدل أن يجرحه لما كان رأى فيه من قبل، ولا ينبغي له أن يعدله أيضاً حتى يتبين عدالته، وهو بمنزلة الغريب نزل بين ظهراني قوم.

وكذلك الذمي إذا أسلم، وقد عرف منه ما هو جرح قبل الإسلام لا ينبغي للمعدل أن يجرحه لما رأى فيه من قبل، ولا يعدله أيضاً حتى يظهر عدالته لما مرّ. قال: ولو أن رجلاً عدلاً مشهوراً بالرضا غاب، ثم حضر وشهد، وسئل المعدل عنه، فإن كانت الغيبة قريبة كان للمعدل أن يعدله؛ لأنه ظهر عدالته، ولم يظهر بخلافه إذ لو كان منه شيء بخلافه لوصل الخبر؛ لأن المدة قريبة، وإن كانت الغيبة منقطعة مسيرة ستة أشهر أو نحوه، فإن كان الرجل مشهوراً بالرضا والعدالة كشهرة أبي حنيفة وابن أبي ليلى، فله أن يعدله، لأنه لم يظهر بخلاف ما عرف منه إذ لو كان منه شيء بخلاف ذلك لتحدث الناس به؛ ولو تحدثوا به لوصل الخبر ألا ترى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يغيبون، وكانوا لا يبطل حكم عدالتهم وطريقه ما قلنا. وإن لم يكن الرجل مشهوراً، فالمعدل لا يعدله؛ لأن هذه مدة يجوز أن يتغير المرء بها، وإذا لم يكن مشهوراً فالناس لا يتحدثون بأفعاله وأحواله ليستدل بعدم وصول الخبر على عدم التغيير، وذلك ما إذا كان الرجل معروفاً مشهوراً. وإذا عدل الشهود عند القاضي، وعرفهم القاضي بالعدالة، فشهدوا مرة أخرى، فإن كان بين التعديل وبين الشهادة الثانية مدة قريبة قضى القاضي بشهادتهم من غير سؤال، وإن طال الزمان، وقادم العهد سأل القاضي عنهم، يريد به على قول من يرى السؤال عن الشهود؛ وهذا لأن الإنسان لا يبقى على صفة واحدة في جميع الأزمان، بل يتغير على ما عليه الغالب، ولا يكون التغيير في زمان قريب وإنما يكون في زمان طويل. فبعد ذلك اختلف المشايخ فيما بينهم، منهم من قدر الطويل بسنة، وهو قول أبي يوسف آخراً وهو اختيار أبي علي النسفي رحمه الله، ومنهم من قدر الطويل بستة أشهر، وهو قول أبي يوسف أولاً، واختيار الخصاف رحمه الله، ومنهم من قدره بأربعة أشهر، ومنهم من قدره بشهر، ومنهم من كره التقدير، وفوضه إلى رأي القاضي، إن وقع في رأيه بعد الاجتهاد والتأمل أنه تغير في هذه المدة، ورأى هذه المدة طويلة يسأل عنه، وإن وقع في رأيه أن لم يتغير في هذه المدة، ورأى هذه المدة قريبة لا يسأل عنه، وهذا القول أشبه بأصول أصحابنا رحمهم الله، وهو مروي عن محمد رحمه الله. وإن عرف المزكي الشهود بالعدالة، غير أنه علم أن دعوى المدعي كان باطلاً، وأن الشهود أوهموا في بعض الشهادة، فينبغي أن يبين للقاضي بما صح عنده من عدالة الشهود، وإيهامهم في الشهادة أو بطلان دعوى المدعي، فالعدل قد ينسى، وقد يغلط، والمزكي قد يقف على بطلان دعوى المدعي بما يعترض على أصل سبب الاستحقاق من الإبراء أو الإيفاء في الديون، أو تلقي صاحب اليد الملك من المدعي أو ما أشبه ذلك، والشاهد لا يعرف ذلك، ويشهد بناء على ما عاين من سبب الاستحقاق، وبهذا لا تسقط عدالته (82ب4) فلهذا قال: يذكر عدالة الشهود وبطلان دعوى المدعي. ثم القاضي يتفحص عما أخبره المزكي غاية التفحص، فإن تبين له حقيقة ما أخبره المزكي رد شهادة الشهود، وإن تبين له حقيقة ما أخبره المزكي قبل شهادة الشهود؛ ولأنه

قد تثبت صحة دعوى المدعي بشهادة شهود عدول ولم يثبت بهذا الخبر بطلان دعواه؛ لأنه لا يصلح تعارضاً لشهادتهم، فلهذا قبل القاضي بشهادتهم. فإن عرف المعدل من الشهود ما هو جرح، فلا ينبغي أن يذكر جرحه صريحاً، بل يذكره بالتعريض أو الكتابة بأن يقول الله أعلم أو ما أشبهه، تحرزاً عن هتك الستر على المسلم بقدر الممكن، وبعض مشايخنا قالوا: لا بد أن يذكر الجرح ويذكر سببه؛ لأن أسباب الجرح كثيرة فلعل أن المعدل ظن شيئاً سبب جرح ولا يكون سبب جرح، فلا بد من البيان لينظر القاضي فيه فإن رآه جرحاً رد شهادته وما لا فلا. قال: وينبغي للقاضي إذا جرح الشهود أن يكتم الجرح ويقول للمدعي: زد في شهودك احترازاً عن هتك الستر قال بعض مشايخنا على قياس ما ذكر هاهنا: إذا عدل بعض الشهود وجرح البعض ينبغي للقاضي أن يكتب أسماء الذين عدلوا، ويترك أسماء المجروحين في السجل والمحضر؛ لأنه حينئذ يظهر المجروح لا محالة فيهتك ستره، ولكن هذا ليس بصواب؛ لأن الخصم ربما يطعن وعند ذلك يحتاج القاضي إلى معرفة الشهود، فإذا لم تكن أساميهم مذكورة في السجل ولا في الديوان لا تجدهم حتى تتعرف عن حالهم ثانياً، فالصواب كتابة أساميهم، ولكن يكتب أسماء المعدلين لا غير تحرزاً عن هتك الستر بقدر الممكن، وإن كان المعدل لا يعرف الشهود بالعدالة فأخبره رجلان عدلان وسعه أن يعدلهما، هكذا ذكر في كتاب «الأقضية» ؛ لأن خبر العدلين حجة مطلقة يجوز للقاضي أن يقطع الحكم به، فيجوز للمعدل التعديل به. ألا ترى أنه إذا شهد عند رجل عدلان على النسب وسعه أن يشهد على النسب، فكذا هاهنا قالوا: هذا الاستشهاد مستقيم على ما ذكر محمد رحمه الله في مسألة النسب في الكتب الظاهرة، أما على ما ذكر بشر بن الوليد أن على قول أبي يوسف تجوز الشهادة على النسب بشهادة الرجلين العدلين، ولا تجوز عند أبي حنيفة رحمه الله حتى يسمع من العامة، فهاهنا يجب أن يكون الجواب على الخلاف أيضاً، على قول أبي حنيفة لا يسعه التعديل بإخبار العدلين حتى يسمع ذلك من العامة. وروى هشام عن محمد رحمه الله مسألة التعديل بإخبار العدلين، وذكر فيها زيادة، فقال: إذا كان اللذان عدلاه يعرفان التعديل وسعه أن يعدله. وروى إبراهيم عن محمد رجل عدل عند القاضي وأنا لا أعرفه إلا أنه وصف هل يسعني أن أزكيه وقد عرفت أن القاضي زكاه، قال: لا يسعك إلا أن تعرفه. وإذا شهد شاهدان لرجل على رجل بحق وعدلهما المعدل بعد موتهما فالقاضي يقضي بشهادتهما، وكذلك لو عدلهما بعدما غابا. ولو عدلهما بعدما خرسا أو عييا فالقاضي لا يقضي بشهادتهما، والفرق أن الموت ليس بجرح في الشاهد ألا ترى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موتهم على العدالة، وكذلك من بعدهم وكذلك الغيبة ليست بجرح في الشهادة، فأما الخرس والعمى في معنى الجرح في الشاهد لو اقترن بالأداء يمنع الأداء، فيمنع القضاء أيضاً.

وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: شاهدان شهدا عند القاضي والحاكم يعرف أحدهما بالعدالة ولا يعرف الآخر فزكاه المعروف بالعدالة، قال بصير: لا يقبل تعديله وعن ابن سلمة روايتان. وعن الفقيه أبي بكر البلخي رحمه الله في ثلاثة شهدوا عند الحاكم وهو يعرف اثنين ولم يعرف الثالث، فعدله الإثنان، قال: يجوز تعديلهما إياه في شهادة أخرى ولا يجوز في هذه الشهادة بأنه موافق لقول بصير وبه يفتى. وفي «النوازل» : إذا سأل المعدل عن الشاهد، فسكت فهو جرح وهذا ظاهر؛ لأن الإنسان لا يمتنع لإظهار ما هو حسن، وإنما يمتنع عن إظهار ما هو قبيح وهذا هو الظاهر من حال المسلم. وفيه أيضاً: الشاهد إذا كان في السر فاسقاً وفي الظاهر عدلاً، فأراد القاضي أن يقضي، فأخبر عن نفسه أنه ليس بعدل صح إقراره على نفسه، ولكن لا يسعه ذلك الكلام في ذلك الوقت؛ لأنه يتضمن إبطال حق المدعي وهتك ستر نفسه، وإذا سأل القاضي المعدل عن حال الشهود، فأخبره بما علم من حالهم، ثم أراد أن يسأل عن غيره، فلا ينبغي له أن يعلم أنه سأل غيره عن حالهم؛ لأنه متى أعلم بذلك ربما يعتمد الثاني على قول الأول فيتهاون بالسؤال، ولا يبالغ في التفحص.Y وإذا اختلف أصحاب المسائل في الجرح والتزكية، فحاصل الجواب في هذا الفصل أن المخبر بأحد الأمرين إذا كان المثنى والمخبر بالأمر الآخر الواحد، فالقاضي يأخذ بقول المثنى تزكية كان أو جرحاً؛ لأن قول المثنى حجة مطلقة، يعني به في جميع الأحوال، وقول الواحد ليس بحجة مطلقاً فلا يعارض قول المثنى، وإن كان من كل واحد من الجانبين ما هو حجة مطلقة بأن كان من كل واحد (من) الجانبين مثنى فالترجيح للجارح، لأن الجارح مثبت والمعدل ناف فإنه يقول لا أعلم فيه إلا خيراً؛ ولأن المعدل اعتمد ظاهر الحال، فإن ظاهر حال المسلم العدالة، والجارح وقف على أمر بخلاف الظاهر خفي عن المعدل، والقاضي إنما يسأل ليقف على خلاف الظاهر وذلك في خبر الجارح، وكذلك إذا كان من أحد الجانبين مثنى ومن الجانب الآخر عشرة رهط، أو فوقها أو دونها لكنها فوق المثنى كان الترجيح للجارح؛ لأن المثنى حجة متكاملة والزيادة عليها فضل، ألا ترى أن في باب المال جعلنا الزيادة على المثنى فضلاً، كذا هاهنا، وإذا كانت الزيادة على المثنى فضلاً صار كأن من كل جانب مثنى، وإن كان من كل جانب رجل واحد أعاد المسألة من غيرهما هكذا اذكر المسألة في الأصل. وفي «الأقضية» : إذ ليس من كل جانب حجة وتعذر على القاضي الحكم، فيسأل عن غيرهما رجلان ينضم إلى المخبر من أحد الجانبين ما يتم به الحجة، فيترجح الجارح وإن استكشف القاضي منهما يعني من المعدل ومن الجارح الأول، فيقول للمعدل بأي سبب عدلته ويقول للجارح: بأي سبب جرحته، فهو حسن؛ لأن أسباب الجرح مما يختلف فيه فلعل هذا الجارح اعتمد سبباً لا يكون الجرح عند القاضي والمعدل اعتمد سبباً لا يكون سبب تعديل عند القاضي، فيسأل القاضي حتى يعمل فيه برأيه.

ثم ما ذكر من الجواب فيما إذا كان من كل جانب واحد أن القاضي أعاد المسألة عليها ظاهر على قول محمد رحمه الله، لأن العدد في المزكي شرط عنده، فإذا كان من كل جانب واحد لم يثبت واحد منهما لا العدالة ولا الجرح فيتوقف القاضي كشاهد واحد شهد عند القاضي فإن القاضي يتوقف إلى أن يشهد شاهد آخر كذا هاهنا، وأما على أصل أبي حنيفة وأبي يوسف مشكل؛ لأن عندهما العدد في المزكي ليس بشرط، فتتم الحجة من الجانبين، فينبغي أن يكون الجرح أولى، كما لو كان من كل جانب مثنى، عامة المشايخ على أن المذكور في الأصل والأقضية قول محمد رحمه الله، فأما على قولهما فالجرح أولى هكذا ذكر في «المنتقى» . وصورة ما ذكر في «المنتقى» إذا زكى الشهود واحد وجرحه واحد، قال أبو حنيفة وأبو يوسف الجرح أولى، وقال محمد: الشهادة موقوفة على حالها حتى يجرح آخر أو يعدل آخر، ومن المشايخ من قال: ما ذكر في «الأصل» و «الأقضية» قول الكل وهذا القائل يقول: في المسألة روايتان عنهما، ويفرق هذا القائل على قولهما بينما إذا كان من كل جانب واحد، وبينما إذا كان من كل جانب اثنان على رواية «الأصل» . ووجه الفرق: أن الاثنين مما تتم بهما الشهادة، فإذا كان من كل جانب اثنين فقد بلغ كل فريق حد الشهادة وفي الجرح معنى الإثبات، وفي التعديل معنى النفي، والشهادة شرعت للإثبات لا للنفي، فرجحنا الجرح للتعديل لهذا، أما الواحد مما لا تتم به الشهادة بل كلامه خبر، والنفي والإثبات يستويان في الخبر، فلا يمكن ترجيح الجرح فيستقبل القاضي السؤال استقبالاً، فإذا سأل القاضي عن الشهود وطعن فيهم لا ينبغي للقاضي أن يصرح للمدعي بأن شهودك جرحوا، بل يقول له: زد في شهودك أو يقول له لم يجد شهودك ليكون ذلك أقرب إلى السنن، فإن قال المدعي أنا آتي بمن يعدلهم ويسمي قوماً يصلحون للمسألة، فإن القاضي يسمع ذلك منه ويسألهم. ذكر المسألة في «العيون» وفي «أدب القاضي» ، فإن عدلهم ذلك القوم سأل القاضي الطاعنين بما طعنوا فيهم؛ لأنه يجوز أنهم طعنوا بما لا يصلح وجه الطعن عند القاضي والمدعي، فإن بينوا ما هو جرح عند الكل كان الجرح أولى، وإن بينوا سبباً لا يصلح للطعن عند القاضي لا يلتفت إليهم ويقبل شهادة الشهود وكذلك لو عدلهم المزكي فطعن الشهود عليه، وقال القاضي: اسأل فلاناً وفلاناً سمى قوماً صالحين للمسألة يسأل عنهم، فإن جرحوا وبينوا سبباً صالحاً، فالجرح أولى هكذا ذكر في «العيون» وفي «أدب القاضي» أيضاً. وفي «نوادر ابن سماعة» : قلت لمحمد رحمه الله إذا سأل القاضي في السر عن الشهود فلم يعدلوا ثم أتاه المشهود له بالمعدلين في العلانية، قال لا يقبل ذلك منه، وهذه الرواية تخالف رواية «العيون» وبه يفتى؛ لأن العبرة لتزكية السر ويتمكن تهمة المواضعة بينهم؛ ولأن في التفحص عن ذلك إشاعة الفاحشة وتهييج العداوة بينهم....

وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله إذا عدل الشاهد (84أ4) في السر فقال المشهود عليه أنا أجيء بالبينة في العلانية أنه صاحب كذا وكذا ... ، إذا كان كذلك لا تقبل شهادته، فإنى لا أقبل ذلك من المدعي، إذا عدل الشاهد في السر أشار إلى أن العبرة لتزكية السر وإنه يخالف رواية «العيون» أيضاً. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد أيضاً قلت: لمحمد رحمه الله أما من القاضي المشهود له أن تأتيه من يعدل شهوده، قالا: لأن العبرة لتزكية السر ولتمكن التهمة في حق من يعدل الشاهد بأمر المشهود عليه، فلعله واضعه على ذلك ولا تهمة في حق مزكي القاضي. وإذا شهد شاهدان على رجل بمال فقال المشهود عليه: هما عبدان، وقال الشاهدان: نحن أحرار الأصل لم نملك قط، فالقاضي لا يقبل شهادتهما حتى يعلم أنهما حران. روى ابن سماعة عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه قال: الناس أحرار إلا في أربع مواضع: الشهادة والحدود والقصاص والعقل، ونحوه ورد عن عمر رضي الله عنه. صورته في الشهادة ما ذكرنا. صورته في الحد: رجل قذف إنساناً وزعم القاذف أن المقذوف عبد، فالقاضي لا يحد القاذف حتى يعلم حرية المقذوف. صورته في القصاص: رجل قطع يد إنسان وزعم القاطع أن المقطوعة يده عبد، فالقاضي لا يقطع يد القاطع حتى يعلم حرية المقطوعة يده. صورته في العقل: رجل قتل رجلاً خطأً، وزعم العاقلة أن المقتول عبد، فالقاضي لا يقضي على العاقلة بالدية حتى يعلم حرية المقتول، وهذا كله إذا لم تكن حرية الشاهدين وحرية المقذوف وحرية المقطوع والمقتول معلومة للقاضي بيقين بأن كانوا مجهولين في النسب، ولم يعاين القاضي إعتاقهم من جهة أحد، فأما إذا كانت معلومة للقاضي يتعين بأن عرف حرية أبويهم من الأصل أو عرف حريتهم بالإعتاق، فالقاضي لا يلتفت إلى طعنهم؛ لأنه عرف كذبهم في طعنهم بيقين، فإن سأل القاضي عن الشهود وأخبر المزكون أنهم أحرار الأصل أجزت شهادتهم، ولم أكلفهم البينة، أشار إلى أن الإخبار عن حرية الشهود يكفي للعمل بالشهادة، هكذا ذكر في «كتاب الأقضية» ، وهذا لأن القاضي لا يحتاج إلى القضاء بالحرية؛ لأن ذلك إنما يكون بعد ثبوت الرق، والرق غير ثابت وإنما يحتاج إلى ما يعرف به أن شهادتهم حجة، فصارت الحرية كالعدالة ثم العدالة تثبت، بالإخبار فكذا الحرية. وذكر في شهادات «الأصل» : أن القاضي إذا اكتفى بالإخبار فحسن وإن طلب على ذلك بينة فهو أحب وأحسن؛ لأن الحاجة إلى معرفة الحرية فوق الحاجة إلى معرفة العدالة؛ لأن أهلية الشهادة لا تثبت بدون الحرية وتثبت بدون العدالة؛ ولأن الحرية

أخذت سببها من أصلين مختلفين من العدالة، باعتباراتها من أسباب قبول الشهادة ومن الملك باعتبار أنه تجري فيها الخصومة وفيها حق العباد، فلشبهها بالعدالة قلنا بأنها تثبت بمجرد الإخبار ولشبهها بالملك، قلنا بأن الإثبات بالبينة أولى؛ لأن الحرية تصير مقضياً بها. ولو جاء إنسان وادعى رقبة هذا الشاهد بعد ذلك لا ذكر لهذه المسألة في الكتب، قال فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله وفيه شبهه يجب أن لا يسمع إذا قام البينة على حرية ويسمع إذا لم يقم. ثم إن أصحابنا رحمهم الله فرقوا بين فصل الشهادة وبينما عداها من الفصول وهو فصل الحد والقصاص والقتل. فقال: في فصل الشهادة: إذا أخبر المزكون بحرية الشهود فالقاضي يجيز شهادتهم ولم يشترط إقامة البينة، وقال في الفصول الثلاث القاضي لا يقضي بالحد والقصاص والعقد ما لم يقم البينة على الحرية. والفرق أن الحرية من أسباب قبول الشهادة وليست من حقوق العباد التي تدخل تحت القضاء، فكانت كالعدالة ثم العدالة تثبت بالسؤال فكذا الحرية، فأما الحد والقصاص والعقل من الحقوق التي تدخل تحت القضاء، فلما لا يمكن إثباتها إلا بالبينة فكذا في الحرية التي لا يجب حد القذف ولا يجب العقل والقصاص؛ لأنها لا يمكن إثباتها إلا بالبينة، هذا إذا قال الشهود: نحن أحرار، فأما إذا قالوا: كنا عبيد فلان أعتقنا قاض لا يقضي بشهادتهم حق تقوم البينة على العتق، بخلاف الفصل الأول. والفرق أنهم إذا قالوا: كنا عبيد فلان فقد أقروا على أنفسهم بالرق، وإقرارهم حجة عليهم، فيثبت الرق عليهم بإقرارهم فيحتاج القاضي بعد هذا إلى القضاء بالعتق، والقضاء بالعتق لا يكون إلا بالبينة فأما في الفصل الأول، فالرق لم يثبت، فلا حاجة إلى القضاء بالعتق، وإنما الحاجة إلى ما يعرف به أن شهادتهم هل صارت حجة؟ والتقريب ما ذكرنا، وكذلك إذا قال الشهود: نحن أحرار الأصل، وقال المزكون: كانوا عبيداً لفلان أعتقهم، فالقاضي لا يقضي بشهادتهم حتى تقوم البينة على العتق؛ لأن الرق قد ثبت عليهم بإخبار المزكين، فيحتاج القاضي إلى القضاء بالعتق والتقريب ما ذكرنا. وإن أقام المشهود له بينة على المشهود عليه أن فلاناً أعتقهم وهو يملكهم، وقضى القاضي بعتقهم كان ذلك قضاء على العتق، حتى لو حضر وأنكر الإعتاق لا يحتاج إلى إقامة البينة عليه؛ لأن المشهود عليه انتصب خصماً عن المولى؛ لأن المشهود له ادعى حرية الشاهد على المشهود عليه، وقد صح منه هذا الدعوى؛ لأنه لا يتمكن من إثبات حقه على المشهود عليه إلا بها والمشهود عليه أنكر ذلك وصح منه الإنكار؛ لأنه لا يتمكن من دفع الشهود عن نفسه إلا بإنكار الحرية. والأصل أن من ادعى حقاً على الحاضر لا يتوصل إلى إثباته إلا بإثبات سببه على الغائب، ينتصب خصماً عن الغائب فصار إقامة البينة على المشهود عليه كإقامتها على المولى الغائب. وإذا شهد الشهود على رجل بمال أو دم فطعن فيهم المدعى عليه، فالقاضي لا

يقضي بشهادتهم حتى يسأل عنهم، فإن سأل عنهم وزكوا في السر والعلانية، فأراد القاضي أن يقضي بشهادتهم، فقال المشهود عليه أنا أجرحهم وأقيم البينة على ذلك، فهذه المسألة على وجهين: الأول أن يقيم البينة على جرح مفرد لا يدخل تحت حكم الحاكم، وهو أن يقيم البينة على أنهم فسقة أو رماة، وعلى إقرارهم أن المدعي استأجرهم على هذه الشهادة أو على إقرارهم، أنهم قالوا: لا شهادة للمدعي على المدعى عليه قلنا في هذه الحادثة أو على إقرارهم أنهم قالوا: شهدنا بالزور أو على إقرارهم أنهم لم يحضروا المجلس الذي كان فيه هذا الأمر، وفي هذا الوجه القاضي لا يقبل هذه الشهادة عندنا خلافاً لابن أبي ليلى والشافعي رحمهما الله. الوجه الثاني: أن يقيم البينة أن الشهود زنوا ووصفوا أو يقيم بينة أنهم سرقوا مني كذا، أو شربوا الخمر، أو أنهم شركاء في المشهود به، أو أنهم صالحوني على كذا درهماً حتى لا يشهدوا علي ودفعت ذلك إليهم، أو أنهم عبيد أو محدودون في القذف، أو على أن المدعي أقر أن الشهود شهدوا بزور، أو على أن المدعي أقر أنه استأجرهم على هذه الشهادة أو على إقراره أنهم لم يحضروا المجلس الذي كان فيه هذا الأمر، وفي هذا الوجه القاضي يقبل هذه الشهادة بالاتفاق. وجه قول ابن أبي ليلى: أن هذه شهادة قامت على الجرح، والمدعي قد يحتاج إلى إثباته بالبينة ليدفع خصومة المدعي عن نفسه، وجب أن يقبل قياساً على وجه الثاني. ولعلمائنا رحمهم الله في المسألة طرق وأصحها وأوضحها ما اختاره القاضي الإمام صاعد النيسابوري، والشيخ الإمام شيخ الإسلام خواهر زاده، والصدر الشهيد رحمهم الله، وإليه أشار محمد رحمه الله في كتاب التزكية أن الشاهد بالشهادة على الجرح المفرد صار فاسقاً؛ لأنه ارتكب كبيرة ألحق بفاعلها الوعيد في الدنيا والآخرة بنص القرآن؛ لأنه أظهر. قال الله تعالى: {إن الذي يحبون أن تشيع الفاحشة} (النور: 19) ، علم أن الشاهد صار فاسقاً والمشهود به لا يثبت بشهادة الفاسق، فإن قيل: في إثبات إظهار الفاحشة ضرورة، وهي دفع الخصومة عن المدعي، وصار كالوجه الثاني. قلنا: لا ضرورة، لأنها تندفع بقولهم سراً للقاضي أو للمدعي من غير أن يظهر ذلك في مجلس الحكم. وهذا بخلاف ما لو شهدوا أنهم.... وصفوا الزنا؛ لأن في إظهار الفاحشة هناك ضرورة وهو إقامة الحد واسترداد المسروق، بخلاف ما إذا شهدوا أنهم شركاء في المشهود به؛ لأنه ليس في ذلك إظهار الفاحشة من جانب الشهود، وإنما فيه حكاية ظهور الفاحشة من غيرهم وهم شهود القذف أو القاضي والحاكي لإظهار الفاحشة، لا يكون يظهر الفاحشة فلم يصيروا فسقة وبخلاف ما إذا شهدوا على إقرار المدعي أنهم فسقة، وما شاكله؛ لأنهم بشهادتهم ما أظهروا الفاحشة إنما حكوا إظهار

الفاحشة من غيره وهو المدعي، فلم يصيروا فسقة، بخلاف ما إذا أقام البينة أنهم صالحهم على كذا، حتى لا يشهدوا عليه ودفع ذلك إليهم؛ لأنهم وإن أظهروا الفاحشة وكان فيه ضرورة ليصل إلى المال حتى لو قال: لم أعطهم لم يقبل؛ لأن فيه إظهار الفاحشة من غير ضرورة. ثم المدعى عليه إذا أقام البينة أن شاهد المدعي محدود في القذف فالقاضي يسأل الشهود من حده هكذا ذكر في حدود «الأصل» ؛ لأن إقامة حد القذف إن حصل من السلطان (84ب4) أو من نائبه تبطل شهادته، وإن حصل من واحد من الرعايا بغير إذن السلطان لا تبطل شهادته، فلا بد من السؤال عن ذلك. وإن قالوا حده قاضي كوة كذا، فالقاضي هل يسأله في أي وقت حده؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الأصل» . في «كتاب الأقضية» : أن القاضي يسأل ليعلم أنه هل كان قاضياً في ذلك الوقت، فإن قال المشهود عليه بحد القذف: أنا أقيم البينة على إقرار ذلك القاضي أنه ما حدني ولم يؤقت واحدة من البينتين وقتاً، فإن القاضي يقضي بكونه محدوداً في القذف. ولا يمتنع القاضي من القضاء بكونه محدوداً في القذف، بسبب بينة الإقرار لوجهين: أحدهما أن العمل بالبينتين ممكن إذا لم يوقت واحدة من البينتين، وما يحمل بينة الإقرار، على ما قبل إقامة الحد وبينة إقامة الحد تحمل على ما بعد الإقرار، كان القاضي أقر قبل إقامة الحد أنه لم يحده حد القذف، ثم أقام عليه الحد بعد ذلك ومهما أمكن العمل بالبينتين لا يعطل واحدة منهما. والثاني: أن البينة على الإقرار قامت على النفي من حيث المقصود؛ لأن المقصود من إثبات هذا الإقرار على القاضي نفي شهادة اللذين شهدا عليه لا بموت حكم آخر، فكانت هذه البينة باعتبار المقصود قائم على النفي، والبينة على النفي لا تقبل، فصار وجوده وعدمه بمنزلة، فإن كان شهود القذف قد وقتوا وقتاً بأن شهدوا أن قاضي بلد كذا حده حد القذف سنة سبع وخمسين وأربعمائة، فأقام المشهود عليه البينة أن ذلك القاضي مات سنة خمسة وخمسين وأربعمائة، وأقام البينة أنه كان غائباً في أرض كذا سنة سبع وخمسين، فإن القاضي يقضي بكونه محدوداً في القذف، ولا يلتفت إلى بينته ولا تجيء في هذه المسألة الطريقة الأولى الذي ذكرناها في المسألة الأولى، من إمكان العمل بالبينتين؛ لأن العمل بالبينتين غير ممكن وإنما تجيء الطريقة الأخرى، وهو أن بينة المشهود عليه من حيث المعنى قائمة على النفي؛ لأن المقصود من إثبات موت القاضي قبل ذلك، ومن إثبات الغيبة نفي شهادة الشهود الذين شهدوا عليه لا حكم آخر يثبت بالغيبة، فكانت بينة المشهود عليه باعتبار المقصود قائمة على النفي، والبينة على النفي غير مقبولة، فصار وجود هذه البينة وعدمه بمنزلة، إلا أن يكون أمراً مشهوراً في ذلك فحينئذ لا يقضي بكونه محدوداً في قذف، بأن كان موت القاضي قبل الوقت الذي شهد الشهود بإقامة الحد فيه مستفيضاً ظاهراً فيما بين الناس علمه كل صغير وكبير، وكل جاهل

الفصل الثاني والعشرون: فيما ينبغي للقاضي أن يضعه على يدي عدل وما لا يضعه

وعالم وكان كون القاضي في أرض كذا في الوقت الذي شهد الشهود بإقامة الحد فيه ظاهر مستفيض عرفه كل صغير وكبير وعالم وجاهل فح لا يقضي بكون الشاهد محدوداً في قذف، ويقضي على المشهود عليه بالمال، وذلك لأن بينة ... المشهود عليه بالحد على ما أقامها قائمة على النفي فصار وجودها وعدمها بمنزلة، فبقي بينة المشهود له بالمال على كونه محدوداً في قذف، وإنها قائمة على الإثبات إلا أن البينة وإن قامت على الإثبات فإنه يثبت كذب الشاهد فيما شهد به بيقين. كرجل ادعى عبداً في يد إنسان ادعى أنه ملكه منذ عشر سنين وشهد الشهود بذلك، والعبد طفل رضيع، فإن الشهادة لا تقبل وإن قامت على الإثبات؛ لأنها كاذبة، بيقين فكذا هنا عرف القاضي كذب هذه الشهادة بيقين لما ثبت عنده موت هذا القاضي قبل الوقت الذي شهدوا بإقامة الحد فيه بيقين، وثبت كونه في أرض كذا في الوقت الذي شهدوا بإقامة الحد فيه. فرق بين هذا وبينما إذا شهد شاهدان أن فلاناً طلق امرأته يوم النحر بمكة، وشهد آخران أنه أعتق عبده في ذلك اليوم بعينه بالكوفة، فإن القاضي لا يقضي بواحدة من البينتين، وها هنا لو شهد شاهدان على الشاهد أن قاضي الكوفة حده يوم النحر من سنة كذا بالكوفة، وأقام المشهود عليه بينة أنه يوم النحر من سنة كذا تلك السنة كان بمكة، فإن القاضي يقضي ببينة الحد ولا يلتفت إلى البينة الأخرى. والفرق بينهما أن كلتا البينتين في مسألة الطلاق والعتاق قامت في محلها، فإن كل واحدة منهما قامت على الإثبات، فكانت كل واحدة من البينتين معارضة للأخرى وإحداهما كاذبة وليست إحداهما بأن تجعل صادقة والأخرى كاذبة، بأولى من الأخرى، فتهاترتا فأما هاهنا بينة المشهود عليه على الموت والبينة قامت على النفي باعتبار المقصود، وإنها على النفي ليست بحجة، فصار وجودها وعدمها بمنزلة ولو عدم وجب القضاء بالأولى؛ لأنه لا معارض لها، فكذا هاهنا. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل ادعى داراً في يدي رجل وأقام على ذلك شهوداً، وأقام المشهود عليه شهوداً أن هذا الشاهد كان مدعياً ويزعم أنها له، فهذا جرح إن عدلت بينته بذلك، وكذلك لو أقام بينة أن الشاهد كان يدعي الشركة فيها. الفصل الثاني والعشرون: فيما ينبغي للقاضي أن يضعه على يدي عدل وما لا يضعه وإذا ادعت المرأة الطلاق على الزوج وجاءت بشاهد واحد، وطلبت من القاضي أن يضعها على يدي عدل حتى تأتي بالشاهد الآخر ينظر إن كان الطلاق رجعياً لا يحول بينها وبين الزوج؛ لأن الطلاق رجعي لا يزيل النكاح، ألا ترى أنه لو أقامت شاهدين على

الطلاق الرجعي، فالقاضي لا يحول بينها وبين الزوج، فهاهنا أولى. وإن كان الطلاق بائناً إن قالت المرأة: شاهدي الآخر غائب وليس في المصر، فكذلك الجواب لا يحول بينها وبين الزوج؛ لأن في الحيلولة بينها وبين الزوج إزالة يد الزوج واليد مقصود كالملك، فكما لا يزال بشهادة الواحد ملك الإنسان، فكذا لا تزال يده بشهادة الواحد. وإن قالت: شاهدي الآخر في المصر إن كان الشاهد الحاضر فاسقاً، فكذلك الجواب لا يحال بينها وبين زوجها؛ لأن شهادة الفاسق ليست بحجة أصلاً، لا في حقوق الله تعالى ولا في حقوق العباد، فصار وجودها والمعدوم بمنزلة. فأما إذا كان عدلاً قال في «الأصل» : يؤجلها ثلاثة أيام وإن حال بينها وبين زوجها فحسن، هكذا ذكر في «الأصل» . وذكر في «الجامع» بخلافه، وسيأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. أما يؤجله ثلاثة أيام؛ لأنه لا يمكن لكل مدع إحضار شهوده جمله في أول المجلس، ولا بعد يوم ولا بعد يومين ويمكنه الإحضار بعد أيام، فقدرنا بالثلاثة على ما عرف، وأما الحيلولة بطريق الاستحباب؛ لأن إيقاع الطلاق البائن يوجب تحريم الفرج وإزالة ملك الزوج، وشهادة الواحد إذا كان عدلاً حجة في حقوق الله تعالى وليست بحجة في حقوق العباد، فاعتبار حق الله تعالى يوجب الحيلولة واعتبار حق الزوج لا يوجب، فاستحب الحيلولة.j ولم يوجب إذا كان الشاهد الآخر في المصر؛ لأنه متى كان في المصر لا تطول هذه الحيلولة، ولا يتضرر الزوج بها كثير ضرر، فأما إذا كان غائباً فمدة الحيلولة تطول ويكثر الضرر على الزوج، فاعتبر حق الزوج في هذه الحالة ولم يعتبر حق الله تعالى، وإذا كان مدة الحيلولة لا تطول راعى الجهتين بقدر الممكن، فقال: إن حال كان حسناً. فأما إذا أقامت شاهدين على الطلاق البائن أو على الطلقات الثلاث لم يذكر هذا الفصل في «الأصل» . وذكر في «الجامع» أن القاضي يمنع الزوج عن الدخول عليها والخلوة معها ما دام مشغولاً بتزكية الشهود، وهذا استحسان والقياس أن لا يحول بينهما؛ لأنها امرأته بعد. وجه الاستحسان: أن الشهود يحتمل أن يكونوا صدقة وعلى هذا التقدير يجب المنع، فوجب المنع احتياطاً لأمر الفرج ولا يخرجها القاضي من منزل زوجها؛ لأن تيقناً إخراجها؛ لأنها منكوحة أو معتدة، وأياً ما كانت يحرم إخراجها، ولكن يجعل القاضي معها امرأة أمينة تمنع الزوج من الدخول عليها، وإن كان الزوج عدلاً. فرق بين هذا وبينما إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً ومنزله ضيق، فجعل بينهما سترة أو حائلاً يكتفى به، ولا يحتاج إلى امرأة أمينة إذا كان الزوج عدلاً، والفرق بينهما أن الزوج في مسألتنا ينكر الحرمة ويستحلها، والعدل لا يمتنع عما يستحله بدينه، أما في تلك المسألة الزوج يعتقد الحرمة فلا يخاف عليها إذا كان عدلاً ونفقة الأمينة في بيت المال؛ لأنها مشغولة بمنع الزوج عن الدخول عليها حقاً لله تعالى، فتكون نفقتها في مال الله

تعالى؛ لأنها عاملة لله تعالى احتياطاً لأمر الله تعالى، ومال الله تعالى مال بيت المال. قال في «الجامع» : وكذلك إذا شهد شاهد واحد عدل، فالقاضي يمنع الزوج عن الدخول عليها استحساناً، وإنه يخالف ما ذكر في «الأصل» ، فقد ذكر في «الأصل» في هذه الصورة أن القاضي إن حال بينهما فهو حسن، ثم قال فإن زكيت الشهود فرق بينهما وإلا ردت المرأة على الزوج، فإن طالت المدة وطلبت من القاضي أن يفرض لها النفقة أو كان لها نفقة مفروضة لكل شهر، فالقاضي يفرض لها النفقة ويأمر الزوج بإعطاء المفروض. ولكن إنما يفرض لها نفقة مدة العدة لا غير؛ لأنها إن كانت مطلقة فهي معتدة ولها نفقة العدة، وإن لم تكن مطلقة فهي منكوحة ممنوعة من الزوج لا لمعنى من جهة الزوج، هذا يوجب سقوط النفقة، ولكن النفقة كانت واجبة وقع الشك في سقوطها، فلا تسقط بالشك إلا أن هذا الشك في مقدار نفقة العدة، فأما الزيادة على نفقة العدة فقد تيقنا بسقوطها. فإذا أخذت قدر (85أ4) نفقة العدة إن عدلت الشهود سلم لها ما أخذت؛ لأنه تبين أنها استوفت العدة وهي حقها، وإن ردت الشهادة وردت المرأة على زوجها رجع الزوج عليها بما أخذت؛ لأنه تبين أنها كانت منكوحة ممنوعة عن الزوج لا لمعنى من جهة الزوج تبين أنها ما كانت مستحقة للنفقة، وأن القاضي أخطأ في قضائه وأنها أخذت ما أخذت بغير حق. قال محمد رحمه الله في عتاق «الأصل» : إذا ادعى العبد أو الأمة العتق على مولاه وليس لهما بينة حاضرة، فإنه لا يحال بينهما وبين المولى، لما ذكرنا أن في الحيلولة إزالة اليد واليد حق مقصود كالملك، فكما لا يجوز إزالة ملك الإنسان بمجرد الدعوى، فكذا لا يجوز إزالة يده بمجرد الدعوى. وإن أقاما شاهداً واحداً، فإن قالا: الشاهد الآخر غائب عن المصر، فكذلك الجواب لما قلنا في الطلاق، وإن كان (حاضراً في المصر) ذكر أنه لا يحال بينهما أيضاً، وهذا الذي ذكره صحيح في حق العبد، أما في الأمة ينبغي أن يقال: إن حال بينهما فحسن على رواية «الأصل» ، وعلى رواية «الجامع» يحال بينهما على نحو ما ذكرنا في الطلاق، وهذا لأن عتق الأمة يتضمن حرمة الفرج كالطلاق، فكان الجواب في عتق الأمة نظير الجواب في طلاق المرأة. وأما إذا أقاما شاهدين مستورين يحال بينهما جميعاً، إلى أن تظهر عدالة الشهود؛ لأن شهادة المستورين حجة في حق الله تعالى والعباد. ألا ترى أن القاضي لو قضى بشهادتهما، بظاهر العدالة ينفذ قضاؤه بالإجماع، فيجوز إزالة يد المولى بشهادتهما، وهذا الجواب في الأمة يجري على إطلاقه؛ لأن في الأمة يحال بشهادة الواحد إذا لم يكن الشاهد فاسقاً، فشهادة المستورين أولى، وفي العبد محمول على ما إذا كان المولى مخوفاً عليه، يخاف منه الاستهلاك وتعيب العبد وكان

معروفاً بذلك، فأما إذا لم يكن بهذه الصفة لا يحال بينه وبين العبد، وإنما يؤخذ منه كفيل بنفسه وبنفس العبد. ثم طريق الحيلولة في الأمة الوضع على يدي امرأة ثقة، والأمة تخالف المرأة الحرة، فإن هناك طريق الحيلولة أن يجعل معها امرأة ثقة ولا تخرجها من بيت الزوج والفرق أن وضع الحرة على يدي العدل أمر مفيد؛ لأنه لا يثبت للحر يد على الحرة إلا بالنكاح، ولا نكاح، فإذا لم يفد لم يوضع، أما هاهنا إن كانت البينة كاذبة كانت هي أمة ووضع الأمة على يد الحر مفيد لا يثبت للحر يد على الأمة بدون النكاح، فلهذا وضعنا. ثم في فصل الأمة وفي فصل الطلاق قال بالحيلولة وإن كان الزوج والمولى عدلاً، هكذا ذكر في «الأصل» و «الجامع» . وفي «المنتقى» قال: إنما توضع الجارية على يدي العدل إذا لم يكن المدعى عليه مأموناً يخاف على الجارية أن يجامعها، فأما إذا كان مأموناً ثقة والقاضي يعرفه بذلك لا يعزلها. ثم قال: وكذلك إذا أقامت المرأة بينة على طلاقها. فإن وضعت الجارية على يدي العدل وطلبت من القاضي النفقة، فالقاضي يأمر المولى بالإنفاق عليها؛ لأن نفقتها كانت واجبة على المولى وقع الشك في سقوطها إن كانت البينة صدقت تسقط نفقتها، وإن كانت كذبت لا تسقط نفقتها وإن صارت ممنوعة عن المولى؛ لأن نفقة المملوك لا تسقط عن المولى، وإن كانت ممنوعة عنه فلا تسقط نفقتها بالشك. وإن أخذت نفقتها شهراً ثم لم تزك الشهود وردت الأمة على مولاها لا يرجع المولى عليها بما أنفق بخلاف المسألة التي تقدم ذكرها، فإن هناك إذا لم تزك الشهود وردت المرأة على الزوج، فإنه يرجع عليها بما أنفق والفرق أن نفقة الملك إنما تجب باعتبار الملك نفسه وملك المولى باق في هذه الحالة، وأما نفقة المرأة إنما تجب إذا لم تصر ممنوعة عن الزوج لا لمعنى من جهة الزوج، وقد بين أنها صارت ممنوعة عن الزوج لا لمعنى من جهة الزوج. وإن زكت البينة فإن أنفق المولى عليها على وجه التبرع، أو أكلت في بيت المولى فلا رجوع له عليها كما في سائر التبرعات وإن أجبر القاضي المولى على ذلك يرجع عليها بخلاف الطلاق. والفرق أنا بنينا الاستحقاق بحكم الملك، وتبين أنه لا ملك وثمة الاستحقاق بالاحتباس حق الزوج، وتبين أنها محبوسة لحق الزوج في العدة. وفي «المنتقى» ، يقول فيما إذا زكت البينة وأعتقهما القاضي، فإن قال المدعى عليه: قد كنت أنفق عليها كما أنفق على عبيدي فهو متطوع، وإن قال: دفعت ذلك إليهما قرضاً لهما على أنهما حران رجع عليهما بالكسوة والدراهم ولا يرجع عليهما بالطعام، لا استحسن أن يرجع بالطعام. وإن كان الشاهدان على عتق العبد والأمة فاسقين، فلا شك أن في الأمة يحال بينها وبين المولى؛ لأن في الأمة يحال بشهادة الشاهد الواحد إذا كان عدلاً مع أنها ليست

بحجة في حقوق العباد، فلأن يحال بشهادة الفاسقين وشهادتهما حجة في حقوق العباد، حتى لو قضى القاضي بشهادة الفاسق على تحر أنه صادق ينفذ قضاؤه أولى. وأما في العبد ففيه اختلاف الروايات. ذكر في بعض الروايات أنه يحال؛ لأنها حجة القضاء في الجملة، فكان بمنزلة المستورين، وفي المستورين يحال في العبد إذا كان المدعى عليه ممن يخاف على العبد، وإن كان ممن لا يخاف عليه يكتفى بأخذ الكفيل على ما بينا، فكذا شهادة الفاسقين وفي رواية لا يحال؛ لأن زيادة العدد تقام مقام العدالة فيصير الفاسقان بسبب زيادة العدد كشاهد واحد عدل، وبشهادة واحد عدل لا تجب الحيلولة في العبد. أمة في يدي رجل ادعاها رجل أنها له، وأقام على ذلك شاهدين لا يعرفهما القاضي، فالقاضي يخرجها عن يده ويضعها على يدي عدل لما مر. ولو طلب النفقة وأمر القاضي المشهود عليه بالإنفاق، ثم لم يزك الشهود وردت الجارية على المولى فالمولى لا يرجع بما أنفق على أحد، وإن زكت الشهود، وقضى القاضي بالجارية للمدعي لم يكن للمشهود عليه أن يرجع على المدعي؛ لأنه أنفق على جاريته بغير إذنه. وهل يرجع بذلك؟ على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يرجع، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يرجع ويكون ذلك ديناً على ذمة الجارية تباع فيه الجارية إلا أن يعدلهما المقضي له؛ لأنه لما قضى بها للمدعي ظهر أن المدعى عليه كان غاصباً في حال ما أنفق عليها؛ لأنها في يد العدل ويد العدل يد المدعى عليه ولهذا لو هلكت في يد العدل ضمن المدعى عليه قيمتها، فتبين أنها استهلكت شيئاً من مال الغاصب، ومن أصل أبي حنيفة أن جناية المغصوب على مال الغاصب هدر كجناية المملوك على مالكه، وعندهما معتبرة كالجناية على الأجنبي وهي من مسائل الديات. عبد في يدي رجل ادعاه رجل أنه عبده، وأقام على ذلك شاهدين لا يعرفهما القاضي لم يؤخذ من يد المدعى عليه؛ لأن الأخذ من يده والوضع على يدي عدل في فصل الأمة، إنما كان صيانة للفرج وإنه معدوم هاهنا، ولكن يأخذ القاضي كفيلاً من المدعى عليه بنفسه وكيلاً بنفس العبد. أما أخذ الكفيل بنفس العبد؛ لأن المدعي استحق القضاء بالعبد عند تزكية الشهود والإشارة إلى العبد أمر لا بد منها لصحة القضاء، فلو لم يأخذ كفيلاً بالعبد ربما يغيب العبد، فيعجز القاضي عن القضاء بالعبد، وأما أخذ الكفيل بنفس المدعى عليه كيلا يغيب، فإن القضاء لا يجوز على الغائب، ثم يأمر القاضي المدعى عليه أن يجعل الكفيل بنفسه وكيلاً بالخصومة حتى إنه إذا غاب ولم يقدر الكفيل على إحضاره فالمدعي يخاصم الكفيل ويقضي القاضي عليه ولكن إن أبى المدعى عليه أن يجعله وكيلاً فالقاضي لا يجبره بخلاف ما إذا أبى إعطاء الكفيل حيث يجبر عليه وإن لم يجد المدعى عليه كفيلاً، فالقاضي يقول للمدعي: الزم المدعى عليه والعبد. ولو كان المدعي لا يقدر على ذلك وكان المدعى عليه مخوفاً على ما في يده

بالإتلاف، فرأى القاضي أن يضع العبد على يدي عدل يضعه صيانة لحق المدعي، وكذلك إذا كان المدعى عليه فاسقاً معروفاً بالفجور مع الغلمان يخرجه القاضي عن يده ويضعه على يدي عدل بطريق الأمر بالمعروف، ولكن هذا لا يختص بالدعوى والبينة بل في كل موضع كان صاحب الغلام معروفاً بالفجور مع الغلمان يخرجه القاضي عن يده ويضعه على يدي عدل بطريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم إذا وضعه على يدي عدل أمره أن يكتسب وينفق على نفسه إذا كان قادراً على الكسب، ولم يذكر مثل هذا في الأمة؛ لأنها عاجزة عن الكسب عادة حتى لو كانت الأمة قادرة على الكسب بأن كانت غسالة معروفة بذلك، أو خبازة توصى بالكسب أيضاً، ولو كان العبد عاجزاً عن الكسب لزمنه أو صغره يؤمر المدعى (85ب4) عليه بالنفقة، فإذاً لا فرق بين الأمة وبين العبد، هكذا حكي عن الفقيه أبي بكر البلخي وأبي اسحق الحافظ. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل ادعى جارية في يدي رجل أنها له، وأقام على دعواه بينة وزكت بينته، وقد كان القاضي وضعها في يدي عدل وهرب المدعى عليه، قال: أمر الذي بقي على يديه يعني العدل أن يؤاجرها وينفق عليها من أجرها، فإن كان لا يؤاجر مثلها آمر به أن يستدين بالنفقة عليها، فإذا حصل اليأس الناس من صاحبها أمرت ببيعها، فبدأت من الثمن بالدين فأديته ووقفت الباقي من الثمن، فإذا جاء الذي كانت في يديه قضيت عليه بقيمة الجارية لأني بعتها على الذي كانت في يده، فإن كان على المقضي عليه دين فمستحق الجارية أحق بهذا الثمن من الغرماء لأنها بمنزلة الرهين حين وضعها القاضي على يدي عدل. دابة أو ثوب في يدي رجل ادعاها آخر، وأقام بينة وطلب المدعي من القاضي أن يضعه على يدي عدل لم يجبه القاضي إلى ذلك؛ لأن فيه قصر يد المدعى عليه من غير حجة، فلا يشتغل القاضي به إلا لضرورة، ولا ضرورة في هذه الأشياء على ما مر في العبد، ولكن القاضي يأخذ من العدل عليه كفيلاً بنفسه وبما وقع فيه الدعوى، ويجعل الكفيل بالنفس وكيلاً بالخصومة إذا طابت نفس المدعى عليه وقد مر هذا، ولا يجبر ذو اليد على نفقته عندنا بخلاف الرقيق والخلاف في موضعه قد عرف. وإن قال المدعى عليه: لا كفيل لي قيل للمدعي: الزم المدعى عليه والمدعى به آناء الليل والنهار لتصون به حقك، فإن كان الذي في يده فاسقاً مخوفاً على ما في يده وأبى أن يعطيه كفيلاً وكان المدعي لا يطيقه في الملازمة، فالقاضي يقول للمدعي: أنا لا أجبر المدعى عليه على أن ينفقه لكن إن شئت أن أضعه على يدي عدل فأنفق عليه، وإلا لا أضعه، لأن المقصود من الوضع على يد العدل صيانة لحق المدعي وهو القضاء له بالعبد متى زكت شهوده، وهذا المقصود يفوت متى أبى المدعي الإنفاق؛ لأن المدعى عليه لا يجبر على إنفاقه، وإن كان هو المالك في الظاهر فلو لم ينفق المدعي على الدابة تتلف الدابة فلا يحصل مقصود المدعي من الوضع على يدي العدل.

وفي «المنتقى» : رجل ادعى لؤلؤة في يدي رجل وأقام شاهدين وسأل وضع اللؤلؤة على يدي العدل، فإن لم يعدل شاهديه، أقام شاهدين آخرين؛ لأنه كان يتخوف أن يعينها ولا يشهد شهوده إلا بالمعاينة، فإني أستحسن أن أضعها على يدي عدل، وكذلك كل شيء يحول من مكانه والخوف عليه أن يعينه، فإن كانت جارية أو دابة فنفقتها عليه، وإن كان مثلها تؤاجر أجرتها، أو أمرت العدل أن يؤاجرها. قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن رجل في يده رطب أو سمك طري أو ما أشبه ذلك، فادعاه إنسان أنه له وقدمه إلى القاضي، وهو مما يفسد إن تركه، وقال المدعي بينتي في المصر أحضرهم، قال: لا أقف إلى ذلك ولكن أقول له يعني للمدعي: إن شئت أحلفه على دعواك، فإن حلف لم تكن لك، وإن قال: أنا أحضر البينة يعني اليوم، فإني أؤجل إلى قيام القاضي، وأقول للمدعى عليه لا تبرح إلى قيامه فإن فسد الشيء في ذلك الوقت لا يضمنه المدعي لحبسه عليه. عمرو بن أبي عمرو، عن محمد رحمه الله: رجل اشترى من آخر سمكاً أو لحماً طرياً أو فاكهة ونحو ما يتسارع إليه الفساد ثم جحده أحدهما وادعاه الآخر وأقام على ذلك بينة واحتاج القاضي إلى أن يسأل عن الشهود فقال الجاحد: هذا يفسد إن ترك حتى يسأل عن الشهود، قال: إن كان شهد للمدعي شاهد واحد، وقال: الشاهد الآخر (حاضر) ، أجّل في شهادة الآخر، ما لم يخف الفساد فإن أحضر شاهده الآخر وإلا خلي بينة وبين البائع، ونهى المشتري أن يتعرض له. ولو كان أقام شاهدين أمر البائع بدفعه إلى المشتري إذا خيف عليه الفساد، فإذا قبضه المشتري أخذه القاضي وأمر أميناً ببيعه وقبض ثمنه ووضع الثمن على يدي عدل، فإن زكت البينة قضى للمشتري بالثمن وأمر العدل بدفع الثمن إلى الذي شهدت له الشهود، وإن لم تزك البينة سلم القاضي ذلك الثمن الذي على يدي العدل إلى البائع. ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده إذا كان المدعى به منقولاً، وطلب المدعي من القاضى أن يضعه على يدي عدل ولم يكتف بإعطاء المدعى عليه كفيلاً بنفسه وبنفس المدعى به، فإن كان عدلاً، فالقاضي لا يجيبه وإن كان فاسقاً أجابه، وفي العقار لا يجيبه إلا في الشجر الذي عليه ثمر؛ لأنه تفلي. وفي «أدب القاضي» للخصاف في باب ما لا يضعه القاضي على يدي عدل إذا قالت المرأة للقاضي: لست آمن على نفسي من زوجي أن يقربني في حالة الحيض، فضعني على يدي عدل، فالقاضي لا يلتفت إلى ذلك، وإذا ادعى على امرأة كبيرة نكاحاً وهي تجحد فأقام بينة عليها وسأل من القاضي أن يضعها على يدي عدل حتى يسأل عن شهوده، فالقاضي لا يفعل ذلك في هذا الباب أيضاً، وكذا الجارية البكر إذا كانت في منزل أبيها جاء رجل وادعى نكاحها، فالقاضي لا يضعها على يدي (عدل) لأنه لا تهمة هنا في هذا الباب أيضاً. وفي باب المهاياة في كتاب الصلح: أمة بين رجلين خاف كل واحد منهما صاحبه

الفصل الثالث والعشرون: في الرجلين يحكمان بينهما حكما

عليها، وقال أحدهما: تكون عندك يوماً وعندي يوماً، وقال الآخر: لا بل نضعها على يدي عدل، فإني أجعلها عند كل واحد منهما يوماً ولا أضعها على يد عدل، قال مشايخنا: ويحتاط في باب الفروج في جميع المواضع نحو العتق في الجواري، والطلاق في النساء في الشهادة وغير ذلك إلا في هذا الموضع، فإنه لا يحتاط لحشمة ملكه وهو نظير ما لو أخبر القاضي أن فلاناً يأتي جواريه في غير المأتى، ويستعملن في البغاء ويطأ زوجته حالة الحيض وأمته من غير استبراء لا يكون للقاضي عليه سبيل لحشمة ملكه ها هنا. الفصل الثالث والعشرون: في الرجلين يحكمان بينهما حكما يجب أن يعلم بأن التحكيم جائز ثبت جوازه بقوله تعالى: {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} (النساء: 35) ، وبما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه أنزل بني قريظة على حكم سعد بن معاذ» وبأثر عمر وعلي رضى الله عنهما؛ وشرط جوازه أن يكون الحكم من أهل الشهادة، لأن الحكم فيما بين المحكمين بمنزلة القاضي المولى في حق الكل، وإنما يصح تقليد القضاء لمن صلح شاهداً، فكذا هاهنا ويشترط أن يكون أهلاً للشهادة وقت التحكيم، ووقت الحكم جميعاً حتى أنه إذا لم يكن أهلاً للشهادة وقت التحكيم فصار أهلاً للشهادة وقت الحكم، بأن كان الحكم عبداً فأعتق وحكم لا ينفذ حكمه، هكذا ذكر صاحب الأقضية في الأقضية، والشيخ الإمام شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلح. وهذا لما ذكرنا أن الحكم فيما بين المحكمين بمنزلة القاضي الموَلَّى في حق الكل، ثم أهلية الشهادة وقت التقليد فكذا هاهنا، وقد ذكرنا مسألة العبد في فصل التقليد والعزل بخلاف هذا وشرط آخر، أن يكون التحكيم فيما يملك المحكم إقامته بنفسه؛ لأن ولاية الحكم بحكم التحكيم فيقتصر على ما يملك الحكم فيه إقامته بنفسه، وحكم هذا الحكم يفارق حكم القاضي المولَّى من حيث إن حكم هذا الحكم إنما ينفذ في حق الخصمين، ومن رضي بحكمه ولا يتعدى إلى من لم يحكم، وجعل في حق من لم يرض بحكمه كأنه حكم واحد من الرعايا بخلاف القاضي المولى. ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله في رجلين حكّما بينهما حكماً في خصومة، قال: لا يجوز حكم من لا تجوز شهادته له لا عبد ولا صبي ولا محدود في قذف ولا ذمي، فقد ذكرنا أن من شرط جواز التحكيم أن يكون الحكم من أهل الشهادة، وهؤلاء لا يصلحون شهوداً، فلا يصلحون حكماً وكما لا يصح التحكيم للحال لا يصح

مضافاً أيضاً حتى لو عتق العبد أو بلغ الصبي أو أسلم الذمي، وحكم لا ينفذ حكمه. فرق بين هذا وبينما إذا وكل العبدَ رجل بالشراء حيث تصح الوكالة مضافاً إلى ما بعد العتق، وإن كان لا يصح للحال، والفرق أما عند أبي يوسف رحمه الله فلأن عنده إضافة التحكيم إلى وقت في المستقبل لا يصح فلا يمكن تصحيحها مضافاً عند تعذر تصحيحها للحال، وأما على قول محمد رحمه الله فلأن عنده إضافة التحكيم إلى وقت في المستقبل وإن كانت صحيحة إلا أن التحكيم هاهنا حصل مرسلاً، والمرسل لا يصير مضافاً أصلاً. ألا ترى أنه لو قال لها أنت طالق ونوى الإضافة إلى العبد لا يصح، ولا يقول إن الوكالة تصح باعتبار الإضافة بل تصح باعتبار الحال؛ لأن العبد من أهل الشراء ولهذا لو اشترى يجوز شراؤه إلا أن الشراء يتوقف على إجازة المولى والمأمور من أهل الشراء أيضاً فصح الأمر من العبد بالشراء للحال، إلا أنه توقف نفاذه إلى ما بعد العتق لمانع، وهو أن العبد ليس من أهل أن يلزمه حكم الشراء، فأما تحكيم العبد في الحال لم يصح؛ لأن العبد ليس من أهل الحكم. فرق في العبد (86أ4) بين هذه الصورة وبينما إذا تحمل الشهادة وهو عبد ثم عتق يجوز له أن يشهد، وإن حصل التحمل حال عدم الأهلية، والفرق أن التحمل لحصول العلم، والعبد في حق حصول العلم له بالسماع أو بالمعاينة والحر سواء فصح التحمل وإذا صح التحمل أمكنه الأداء عند صيرورته أهلاً للأداء بالحرية، فأما التحكيم أمر بالقضاء والأمر لطلب المأمور به، وإنما يصح طلب الشيء ممن يتصور منه ذلك الشيء للحال والقضاء من العبد لا يتصور له في الحال؛ لأنه ليس من أهل القضاء للحال، وإذا لم يصح الأمر صار وجوده والعدم بمنزلة. قياس مسألة التحميل من مسألتنا: أن لو وقع الخلل في التحمل حتى لم يقع للعبد العلم بسبب التحمل وهناك لو أراد أداء الشهادة بذلك التحمل بعد العتق لم يقدر عليه. ولو حكما أعمى أو فاسقاً. ذكر في الأقضية أنه لا يجوز، وهذا الجواب في حق الفاسق مستقيم على الرواية التي قال: إن الفاسق لا يصلح قاضياً، أما على الرواية التي قال يصلح قاضياً لكن غيره أولى يصلح حكماً من الطريق الأولى. قال في الأقضية: ويجوز أن يجعلا بينهما امرأة يعني يجوز إذا حكما بينهما امرأة وأراد به فيما سوى الحدود والقصاص، لما ذكرنا أن التحكيم ينبني على الشهادة والمرأة تصلح شاهدة فيما سوى الحدود والقصاص فتصلح حكماً. وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يجوز التحكيم معلقاً بالأخطار ولا مضافاً إلى وقت في المستقبل. وقال محمد رحمه الله: يصح صورة التعليق إذا قالا لعبد: إذا أعتقت فاحكم بيننا أو قالا لرجل: إذا أهل الهلال فاحكم بيننا، صورة الإضافة إذا قال الرجل: جعلناك حكماً غداً، أو قالا: رأس الشهر فوجه قول محمد رحمه الله أن التحكيم تولية وتفويض؛ لأن كل واحد من الخصمين بالتحكيم مُعرض إلى الحكم ما كان يملك فعل ذلك بنفسه،

فأشبه القضاء وتقليد القضاء يجوز مضافاً ومعلقاً، فكذا الخصومة. وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن التحكيم صح معنى؛ لأنه لا يثبت إلا بتراضي الخصمين والمقصود منه قطع منازعة تحققت بينهما هاهنا، وهذا هو معنى الصلح فلا يصح معلقاً ومضافاً قياساً على سائر المصالحات بخلاف القضاء والإمارة؛ لأنه تفويض وتزكية حقيقة ومعنى ليس فيهما معنى الصلح؛ لأن الصلح لا يثبت إلا بالتراضي، ولا يصلح إليه إلا بقطع منازعة تحققت وهذا الحد لا يوجد في القضاء والإمارة، فأما التحكيم إن كان تفويضاً من الوجه الذي قلتم، ففيه معنى الصلح من الوجه الذي قلنا، فلئن كان يصح تعليقه وإضافته من الوجه الذي قلتم لا يصح من الوجه الذي قلنا فلا يصح بالشك. وإذا اصطلحا على حكم يحكم بينهما على أن يسأل فلاناً الفقيه ثم يحكم بينهما بقوله جاز. وكذلك إذا اصطلحا على حكم بينهما على أن يسأل الفقهاء ثم يحكم بينهما بما أحصوا عليه جاز، لما ذكرنا أن الحاكم المحكم فيما بين المتخاصمين بمنزلة القاضي المولَّى، ولو شرط هذا الشرط في تقليد القضاء يجوز، فكذا إذا شرط في التحكيم، فإن سأل ذلك الفقيه في الفصل الأول وحكم بينهما بقوله جاز وهذا ظاهر، وإذا سأل فقيهاً واحداً في الفصل الثاني وحكم بقوله جاز أيضاً، لأن اللام إذا لم تكن لتعريف المعهود تكون لاستغراق الجنس والحكم المعلق في الجنس يتعلق بأدنى ما يطلق عليه اسم الجنس، عرف ذلك في موضعه. وإذا اصطلحا على حكم يحكم بينهما في يومه هذا أو في مجلسه هذا فهو جائز. ألا ترى أنه جاز تقليد القضاء مؤقتاً فكذا التحكيم، فإن مضى ذلك اليوم أو قام عن مجلس ذلك، لا يبقى حكماً. فرق بين المحكوم وبين الوكالة على إحدى الروايتين، فإن الوكالة لا تتوقت على إحدى الروايتين، حتى إن من قال لغيره بع عبدي اليوم، فباعه غداً جاز استحساناً على إحدى الروايتين، والفرق أن اليوم في الوكالة تذكر للتعجيل عرفاً وعادة، فكأنه قال للوكيل: بع عبدي هذا ولو قال هكذا ولم يعجل لا يبقى وكيلاً كذا هنا. أما ذكر اليوم في باب الحكومة إن كان يراد به التعجيل في جانب من يتوجه الحكم له لا يراد به التعجيل في جانب من يتوجه عليه الحكم؛ لأنه لا يريد التعجيل إنما يريد التأقيت، فبعد مضي الوقت إن كان بقي حكماً في حق من يتوجه له القضاء لا يبقى حكماً في حق من يتوجه عليه القضاء، فلا يبقى حكماً بالشك وإذا رفع حكم الحاكم إلى القاضي المولى، فالقاضي المولى ينظر في حكمه، فإن كان موافقاً لرأيه نفذه، وإن كان مخالفاً لرأيه أبطله وإن كانت مما يختلف فيه الفقهاء. فرق بين هذا وبين القاضي المولى إذا قضى في حادثة اختلف فيه الفقهاء ورفع ذلك إلى قاض آخر، يرى خلافه ليس له أن يبطله.

والفرق أن كون الأول قاضياً ظهر في حق الناس كافة لما أن الأول استفاد الولاية ممن له ولاية على الناس كافة، فكما ينفذ قضاء الأول في حق المخاصمين نفذ في حق سائر المسلمين وقضائهم، فلو جاز لقاض آخر نقضه إذا كان مخالفاً لرأيه أدى إلى نقض ما أدي بالاجتهاد، باجتهاد مثله وإنه لا يجوز أما كون الحكم حكماً لم يظهر في حق غير المتخاصمين؛ لأنه استفاد الولاية من جهة المتخاصمين، وولاؤهما مقصورة عليهما، وقد كان للقاضي المولى قبل هذا الحكم رأياً في هذه الحادثة كان يحكم به فلو لم يجز نقض هذا الحكم، إذا كان مخالفاً لرأيه لظهر نفاذ حكم الحاكم في حقه وأظهر كونه حكماً في حقه، وإنه لا يجوز. وإذا اصطلح الرجلان على حكم يحكم بينهما ولم يعلماه ولكنهما قد اختصما إليه وحكم بينهما جاز؛ لأنهما لما توجها إليه للخصومة فقد أعلماه فصار حكماً بينهما فيجوز الصلح. وإذا اصطلحا على غائب يحكم بينهما فقدم وحكم بينهما جاز وإذا اصطلحا على أن يحكم بينهما فلان أو فلان فأيهما حكم بينهما جاز، لأن التحكيم صلح أو تفويض وأياً ما كان يجوز مع هذا النوع من الجهالة، أما الصلح فلأنه لو صالح على عبدين على أن المدعي بالخيار يأخذ أيهما شاء ويترك الآخر جاز. وأما الوكالة فإنه لو قال رجل: وكلت هذا أو هذا ببيع عبدي هذا يجوز، وإذا تقدما إلى أحدهما عيناه للخصومة، فلا يبقى الآخر حكماً كما في مسألة الوكالة. إذا باع أحدهما العبد الذي وكل ببيعه، فإنه يخرج الآخر عن الوكالة، وإذا اصطلحا على أن يحكم بينهما أول من يدخل المسجد فذلك باطل؛ لأن الجهالة هاهنا أبين وأظهر. ألا ترى أنه لو قال أول من يدخل المسجد هذا فقد وكلته ببيع هذا العبد لا يجوز، وهو نظير ما لو قال إذا جاءت بضاعتي فقد وكلت رجلاً من عرض الناس ببيعها، وذلك لا يجوز كذا هاهنا. ولو سافر الحكم أو مرض فأعمي ثم قدم من سفره أو برئ ثم حكم جاز، والأصل في هذا أن الحكومة متى صحت لا يخرج الحكم عن الحكومة إلا بانتهاء الحكومة بأن كانت مؤقتة أو تفصل الخصومة أو يخرج الحكم من أن يكون أهلاً للحكومة باعتراض الردة أو ما أشبه ذلك أو بالعزل؛ لأن الحكم فيما بين المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى لا يخرج عن القضاء إلا بأحد ما ذكرنا من الأسباب كذا هاهنا إذا ثبت هذا فنقول بالسفر والمرض لا يخرج من أن يكون أهلاً للحكومة، فبقي على حكومته. ولو عمي الحكم ثم ذهب العمى وحكم لم يجز؛ لأن بالعمى خرج من أن يكون أهلاً للحكومة. ألا ترى أن القاضي المولى يخرج عن القضاء بالعمى فكذا الحكم. ثم فرق بين الحكم والقاضي وبين الشاهد إذا عمي بعد تحمل الشهادة، ثم زال العمى وشهد جاز، والفرق أن كونه غير شاهد لا يمنع ابتداء التحمل، ألا ترى أنه لو تحمل وهو صبي أو عبد ثم بلغ الصبي أو أعتق العبد وأدّى جاز فلأن لا يمنع بقاء التحمل أولى، أما كونه غير شاهد يمنع ابتداء القضاء والتحكيم فيمنع البقاء، لأن ما ليس

بلازم فلبقائه حكم الإنشاء، ولو ارتد عن الإسلام ثم أسلم وحكم لا يجوز حكمه؛ لأن بالارتداء يخرج من أن يكون أهلاً للقضاء بالارتداد، فكذا الحكم وقد ذكرنا فصل العمى والارتداد في فصل التقليد والعزل بخلاف ما ذكر هاهنا. ولو وجه الحكم الفصل على أحدهما يريد به أن الحكم قال لأحد الخصمين: قامت عندي الحجة بما ادعي عليك من الحق، ثم إن الذي توجه عليه الحكم عزله ثم حكم بعد ذلك عليه لم ينفذ حكمه عليه، فقد صحح العزل من أحدهما وإنه مشكل؛ لأنه صارحكماً بإتفاقهما، فينبغي أن لا يخرج من الحكومة إلا باتفاقهما، والوجه في ذلك اتفاقهما إنما شرط لصيرورته حكماً، لأن في التحكيم إثبات الولاية عليهما فلا بد من اتفاقهما إذ ليس (86ب4) لأحدهما ولاية على صاحبه، أما ليس في العزل إثبات الولاية على الغير بل فيه إبطال ما ثبت للحكم عليه من الولاية بتحكيمه، وإبطال ما ثبت له من الولاية بتحكيمه قبل تنفيذ القضاء جائز، وكان بمنزلة الشركات لا تثبت إلا بتراضيهما لما فيه من إثبات الولاية على الغير، ثم ينتقض بنقض أحدهما إذ ليس في النقض إثبات الولاية على الغير كذا هنا. وإذا وكل أحد الخصمين الحكم بالخصومة وقبل الحكم الوكالة خرج عن الحكومة، لأنه بقبول الوكالة خرج من أن يكون شاهداً لصيرورته خصماً، والخصم لا يصلح شاهداً، فيخرج من أن يكون حكماً أيضاً، هكذا ذكر في الأقضية. بعض مشايخنا قالوا: هذا الجواب إنما يستقيم على قول أبي يوسف رحمه الله؛ لأن على قوله الوكيل بمجرد قبول الوكالة يصير خصماً، حتى لو عزل قبل الخصومة، فشهد لموكله لا تقبل الشهادة. أما لا يستقيم على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن على قولهما الوكيل بمجرد قبول الوكالة لا يصير خصماً حتى لو عزل قبل الخصومة، ثم شهد لموكله قبلت شهادته وإذا لم يصر خصماً بمجرد قبول الوكالة لا يخرج من الحكومة بمجرد قبول الوكالة له، حتى لو عزل في الحال وحكم ينفذ حكمه. ومنهم من قال لا بل ما ذكر هاهنا قول الكل، وجه ذلك أن التوكيل بالخصومة توكيل بالخصومة في مجلس القاضي؛ لأن مجلس الخصومة مجلس القاضي، فيصير وكيلاً بالخصومة، إذا حضر مجلس القاضي للخصومة، فصار التوكيل كالمضاف إلى حضوره، فإذا عزل قبل حضوره مجلس القاضي، فقد عزل قبل صيرورته وكيلاً وقبل صيرورته خصماً، فأما الحاكم المحكم يصير خصماً بمجرد قبول الوكالة؛ لأنه فيما بينهما بمنزلة القاضي المولى، فمجلسه كمجلس القاضي، وإنه لا يكون غائباً عن مجلسه فكما قبل الوكالة يصير خصماً، فيخرج عن الحكومة. وإذا اشترى الحكم العبد الذي اختصما إليه فيه أو اشتراه ابنه أو أحد ممن لا تجوز شهادته له فقد خرج من الحكومة، أما إذا اشترى العبد هو، فلأنه صار خصماً عن أحد الخصمين، فإن بعد ما اشتراه الحكم يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه ليمكنه الإثبات لنفسه

بالتلقي منه، وأما إذا اشتراه أحد ممن لا تجوز شهادته له، فلأنه يصير حاكماً له، وهو لا يصلح حاكماً؛ لأنه لا يصلح شاهداً له. وإذا قال الحكم: قامت لفلان بينه عندي على فلان بكذا وكذا قضيت له به على فلان، فأنكر فلان البينة والقضاء، فإن قضاءه ماض عليه. وكذلك إذا قال الحكم: أقر فلان عندي لفلان بكذا وقضيت بها عليه، فإن قضاءه ماض عليه لأن الحكم فيما بين المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى، لو قال على نحو ما قاله الحكم، كان قوله حجة فكذا قول الحكم. فإن قيل: أليس أن الحكم قد خرج عن الحكومة بالحكم فحين أخبر أنه قضى عليه بإقراره من ليس يحكم، فينبغي أن لا يصدق في ذلك كالقاضي بعد العزل، إذا قال قضيت لهذا على هذا بكذا، قلنا: الحكم إنما يخرج عن الحكومة إذا حكم فيما بين المتخاصمين، وفي زعم المدعى عليه أنه لم يقض بعد لأنه أنكر القضاء، وإنه على حكومته ففي زعم المدعى عليه أنه يجبر على الحكم وهو حكم فيعامل معه بزعمه، وصار كالوكيل بالبيع إذا قال كنت بعت أمس فكذبه الموكل، فإنه يصدق الوكيل وإن كانت الوكالة تنتهي بالبيع؛ لأن في زعم الموكل أنه لم يبع وأن وكالته لم تنته، فإنه خبر عن البيع حال قيام الوكالة، فعومل معه بزعمه كذا ها هنا، وإذا شهد شاهدان أن هذا الحكم قضى ليلاً على هذا بألف درهم وشهد آخران أن هذا الحكم أبرأ هذا عن الألف التي ادعاها هذا والحاكم ميت أو غائب أو حاضر، إلا أنه يجحد البعض ويقر بالبعض فإني أقضي بالبراءة؛ لأن المدعى عليه لما ادعى البراءة فقد أقر بالدين فوقع الاستغناء عن قبول بينة الطالب لإقرار المدعى عليه، والمدعى عليه بعد ذلك أثبت البراءة بالبينة من غير معارضة فتقبل بينته، ألا ترى أنه لو كان الحكم قاض مولى كان الحكم ما ذكرنا للمعنى الذي أشرنا إليه كذا هنا. ولو كانت الخصومة في دار وشهد شاهدان آخران للخصم الآخر أن الحكم قضى بها لهذا تهاترت البينتان وتترك الدار في يد من كانت قبل هذا قضاء ترك؛ لأنه تعذر العمل بالبينتين؛ لأن إحداهما كاذبة بيقين وتعذر العمل بإحداهما إذ ليست إحداهما للعمل بها أولى من الأخرى. ولو كانت الخصومة بينهما في ألف درهم وأقام المدعي بينة أن الحكم قضى له على المدعى عليه بالألف التي ادعاها يوم السبت، وأقام المدعى عليه بينة أن المدعى عليه أخرجه عن الحكومة قبل ذلك فحكمه باطل؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت عياناً ولو عاينا أن المدعى عليه أخرج الحكم عن الحكومة قبل يوم السبت، ثم إن الحكم حكم عليه بعد ذلك يوم السبت كان حكمه باطلاً كذا هنا. قال: ولو كان المدعي أقام البينة أن الحكم قضى له بالمال يوم الجمعة، وأقام المدع (عليه) البينة أن الحكم قضى له بالمال يوم السبت، فإن القضاء الأول نافذ والقضاء الثاني باطل وهذا لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت عياناً ولو عاينا القضاءين على الترتيب

الذي ادعيا كان الأول نافذاً والثاني باطلاً، لأن الحكومة قد انتهت بالقضاء الأول بحصول المقصود وهو فعل الخصومة، والحكم الثاني يكون بعد خروجه عن الحكومة فيقع باطلاً. وحكم الحكم بالطلاق والنكاح والعتاق والكتابة والكفالة بالنفس والكفالة بالمال والشفعة والنفقة والديون والقروض والتبرع والقصاص وأرش الجراحات وقطع يد عمد وسائر حقوق العباد بينهم، فهو جائز إذا وافق رأي القاضي، أما الطلاق والعتاق وسائر الحقوق المالية فلا شك في جواز التحكيم فيها؛ لأن حكم الحكم صلح من وجه وتفويض من وجه، وأياً ما كان فهو جائز. وأما القصاص فقد نص على جواز التحكيم فيها هاهنا وفي صلح «الأصل» : وعن أبي حنيفة رحمه الله، أنه لا يجوز، وهكذا ذكره الخصاف في «أدب القاضي» ، ووجه ذلك: أنه صلح من وجه ولا يجوز استيفاء القصاص بالصلح؛ ولأنه ليس بحجة في حق غير الحكمين فكان فيه شبهة، والقصاص لا يستوفى مع الشبهات. وجه ما ذكر هنا: وفي «الأصل» أن القصاص من حقوق العباد وهما يملكان الاستيفاء بأنفسهما، فيملكان التفويض إلى غيرهما قياساً على سائر حقوق العباد. وأما أروش الجراحات، فإن كانت بحيث لا يتحملهما العاقلة وتجب في مال الجاني بأن كانت دون أرش الموضحة وهو خمسمائة درهم أو ثبت ذلك بالإقرار أو النكول أو كان عبداً وقضى على الجاني جاز؛ لأنه لا يخالف حكم الشرع وقد رضي الجاني بحكمه عليه فيجوز، وإن كانت بحيث يتحملها العاقلة بأن كان خمسمائة فصاعداً، وقد ثبت بالبينة وكان خطأ لا يجوز قضاؤه أصلاً؛ لأنه إن قضى بها على الجاني فقد قضى بخلاف حكم الشرع، وإن قضى بها على العاقلة فالعاقلة ما رضوا به. وفي «أدب القاضي» للحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: الحكم في قتل الخطأ، إن قضى بالدية على العاقلة لم يجز، وإن قضى بها على القاتل جاز وأما قطع اليد عبداً إن قطع يد الحر فحكمه وجوب القصاص، وقد بينا الكلام في جواز التحكيم، وإن قطع يد عبد فحكمه وجوب نصف القيمة في مال القاطع فجاز قضاؤه عليه بالمال؛ لأنه رضي بحكومته وحكم الحاكم جائز في الأموال باتفاق الروايات. وقوله في «الكتاب» فهو جائز، إذا وافق رأي القاضي، معناه: أن للقاضي المولى أن يبطل حكم الحاكم إذا خالف رأيه. قال: ولا يجوز التحكيم في شيء من الحدود لا زنا ولا شرب خمر ولا سرقة ولا لعان ولا قذف، وإن فعل ذلك فهو باطل؛ لأنهما لا يملكان إقامة ذلك بأنفسهما، فلا يملكان التفويض إلى الغير ويجوز التحكيم في تضمين السرقة؛ لأنه خالص حق المسروق منه، وله ولاية الاستيفاء ويجوز تحكيم المكاتب والعبد المأذون صحيح وإن اعتبرناه بالتفويض فهما في تفويض ما يملكان بأنفسهما إلى غيرهما بمنزلة الحر. ولا يجوز كتاب الحكم بحكم إلى القاضي؛ لأنه في حقه بمنزلة واحد من الرعايا

والقاضي لا يقضي بكتاب واحد من الرعايا وكذلك لا يجوز كتاب القاضي إلى حكم حكمه رجلان بشهادة شهود شهدوا عنده؛ لأنه في حقه بمنزلة واحد من الرعايا، وكذلك لا ينبغي للحكم أن يقضي بكتاب كتبه قاض إلى قاض آخر. وإذا حكما رجلاً فجعل الحكم الحكم إلى غيره لم يجز إلا برضا الخصمين؛ لأنهما إنما رضيا بحكمه، أمّا ما رضيا بحكم غيره، فلو أن الثاني حكم بينهما بغير رضاهما وأجاز الأول حكمه ذكر في «الكتاب» أنه باطل. بعض مشايخنا قالوا: ما ذكر من الجواب لا يكاد يصح على قول علمائنا؛ لأن الحكم إما أن يعتبر بالوكيل الذي لم يؤذن له بالتوكيل، أو بالقاضي الذي لم يؤذن له بالاستخلاف وأي الأمرين اعتبرنا يجب أن يكون إجازة الأول حكم الثاني صحيح، فإن القاضي الذي لم يؤذن بالاستخلاف إذا أجاز حكم خليفته جاز، والوكيل الذي لم يؤذن له في التوكيل، إذا أجاز تصرف وكيله يجوز. والذي يؤيد هذا القول مسألة ذكرها محمد رحمه الله (87أ4) في «السير الكبير» وصورتها: إذا نزل قوم من أهل الحرب على حكم رجل من المسلمين، فحكم فيهم غيره بغير رضاهم لا يجوز، وإن أجاز ذلك الحكم يجوز. ومنهم من قال: هذا الجواب صحيح على قياس ما ذكر في بعض روايات كتاب الوكالة، أن الوكيل الذي لم يؤذن له في التوكيل إذا أجاز تصرف وكيله لا يجوز، وعلى قياس هذه الرواية لو أجاز القاضي الذي لم يؤذن له في الاستخلاف حكم خليفته لا يجوز أيضاً، وعلى قياس الرواية الأخرى، أن الوكيل لو أجاز تصرف وكيله يجوز لو أجاز القاضي حكم خليفته أو أجاز الحكم حكم حاكمه يجوز أيضاً، فإذاً في الحاصل في المسائل كلها روايتان، وسيأتي وجه الروايتين في وكالة «الأصل» ، فإن الوكيل بالخصومة لا يملك التحكيم لأن التحكيم صلح معنى والوكيل بالخصومة لا يملك الصلح، وإن وكله بالخصومة والصلح جميعاً أو وكله بالخصومة وأجاز منعه جاز التحكيم وهذا ظاهر. ولو حكم رجلان رجلاً بينهما وحكم لأحدهما ثم اصطلحا على حَكَم آخر، فالثاني ينظر في حكم الأول إن كان عدلاً أمضاه وإن كان جوراً أبطله؛ لأن الحكم فيما بين المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى، والقاضي المولى إذا قضى بين اثنين ثم رفع قضاؤه إلى قاض آخر نظر القاضي الثاني في قضائه على نحو ما بينا، وإذا رد شهادة شهود شهدوا عنده بتهمة ثم شهد أولئك الشهود عند قاض آخر، أو عند حاكم آخر، فإنه يسأل عنهم فإن عدلوا أجازهم، وإن جرحوا ردهم؛ لأن الحكم في حق غير المتخاصمين بمنزلة واحد من الرعايا فلا يعمل رده في حق القاضي، ولا في حق حاكم آخر بخلاف ما إذا رد القاضي المولى شهادتهم؛ لأن رده يظهر في حق الناس كافة فلا يكون لأحد أن يعمل بتلك الشهادة بعد ذلك. وإذا أبى الخصمان حكم الحكم، وقالا: لم يحكم بيننا وقال الحاكم: لا، بل قد حكمت بينهما، فإنه يصدق الحكم ما دام في مجلس الحكومة، وبعدما قام عن مجلس الحكومة لا يصدق؛ لأنه حكى ما لم يملك استئنافه.

وإذا اصطلحا على حكم حكم بينهما وأجاز القاضي حكومته قبل أن يحكم بينهما، فهذه الإجازة من القاضي لغو، حتى لو حكم الحاكم بخلاف رأي القاضي فللقاضي أن يبطله؛ لأن هذه الإجازة لو اعتبرت إما أن يعتبر إنفاذ التحكيم ولا وجه إليه؛ لأن التحكيم نفذ بين الخصمين لا يوقف فيها، فلا تعمل الإجازة فيها؛ لأن الإجازة إنما تعمل في الموقوف لا في غير الموقوف، وإما أن يعتبر إنقاذ الحكم ولا وجه إليه أيضاً؛ لأن الحكم لم يوجد وإجازه الشيء قبل وجوده باطلة، فصار وجود هذه الإجازة والعدم بمنزلة. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وهذا الجواب صحيح فيما إذا لم يكن القاضي مأذوناً في الاستخلاف، فأما إذا كان مأذوناً في الاستخلاف يجب أن تجوز إجازته، ويجعل إجازة القاضي بمنزلة استخلافه إياه في الحكم بينهما فلا يكون له أن يبطل حكمه بعد ذلك. وإذا حكم رجل بين رجلين ولم يكونا حكماه، فقالا بعد حكمه: رضينا بحكمه وأجزنا عليه، فهو جائز؛ لأن الإجازة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء، ولو أذنا له بالحكم بينهما في الابتداء جاز، فكذا إذا أجازا حكمه في الانتهاء. وإذا اصطلح رجلان على أن يبعث كل واحد منهما حكماً من أهله فهو جائز، وإذا قضى أحدهما على أحد الخصمين وقضى الآخر على الخصم الآخر لا يجوز، لما ذكرنا أن الحكم في حق المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى، والقاضي المولى إذا كان اثنين لا ينفرد أحدهما بالقضاء؛ لأن القضاء أمر يحتاج فيه إلى الرأي والخليفة رضي برأي المثنى لا برأي الواحد كذا هاهنا الخصمان رضيا برأي المثنى، فلا ينفرد أحدهما بالحكم. وعن هذا قلنا إذا اصطلح مسلم وذمي على مسلم وذمي يحكمان بينهما وحكما جميعاً للمسلم على الذمي جاز؛ لأنهما يصلحان حكماً على الذمي، فيصلحا شاهداً عليه، ولو حكما للذمي على المسلم لا يجوز؛ لأن الذمي لا يصلح حكماً على المسلم فخرج من البين وتعذر تنفيذ حكم المسلم أيضاً، وإن صلح حكماً عليه؛ لأنه ما رضى برأيه وحده. وعلى هذا المسلمان إذا حكما حراً وعبداً بينهما فحكم الحر بينهما لم يجز؛ لأن العبد لا يصلح حكماً، فخرج هو من البين بقي الحر منفرداً وهما ما رضيا برأي المنفرد، وإذا حكم الذميان ذمياً يحكم بينهما، ثم أسلم أحد الخصمين فقد خرج الحكم من الحكومة، هكذا ذكر في «الكتاب» ، وأراد بقوله خرج من الحكومة يعني خرج عن الحكومة في حق الحكم على المسلم، أما في حق الحكم على الذمي يبقى حكماً، وهذا لما عرف أن البقاء معتبر بالابتداء، والذمي يصلح لابتداء التحكيم على الذمي فيصلح لبقائه حكماً عليه، ولا يصلح لابتداء التحكيم على المسلم فلا يصلح لبقائه حكماً، ويجوز حكم الحاكم المحكم في الطلاق المضاف إليه أشار في صلح «الأصل» وفي «أدب القاضي» للخصاف، فإنه استثنى من حكمه في صلح «الأصل» الحدود. وفي «أدب القاضي» استثنى الحدود والقصاص، فهذا إشارة إلى أن ما عدا ذلك داخل في حكمه،

وهو الصحيح من المذهب، لكن كثير من مشايخنا امتنعوا عن الفتوى في الطلاق المضاف وأمثاله كيلا يتجاسر العوام، فيؤدي إلى التهاون بأحكام الشرع. وإذا حلف الحكم أحد الخصمين ونكل عن اليمين وقضى عليه، فقال المقضي عليه: لا أجيز حكمه علي وحلفه، فحكمه عليه ماض، ألا ترى أن المقضي عليه بالنكول من جهة القاضي لو أراد أن يرد قضاءه عليه، ليس له ذلك كذا هاهنا لما مر أن الحكم فيما بين المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى، ولو كان المدعي من الابتداء أقام البينة على دعواه وعدلوا وحكم الحاكم بها على المدعى عليه جاز كما يجوز من القاضي المولى، فإن أنكر المقضي عليه الحكم أو أنكر التحكيم وادعى المدعي ذلك كان للمدعي أن يحلفه؛ لأنه يدعي عليه معنى لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف عليه كما في سائر الدعاوي، فإن نكل عن اليمين لزمه دعوى صاحبه، وإن كان المدعي أقام بينة على ما ادعى من التحكيم والحكم ينظر إن كان الشهود الذين شهدوا على التحكيم والحكم (غير) الذين يجري الحكم بشهادتهم، لا تقبل شهادتهم لتمكن التهمة في الفصل الثاني؛ لأنهم يريدون تصحيح شهادتهم الأولى وإلزام حكمهما بواسطة ما قالا، ومثل هذه التهمة منتفية عن شهادتهم في الفصل الأول. وفي «الزيادات» : إذا رفع حكم الحاكم في المجتهدات إلى قاض يرى خلاف ما حكم فنفذه مع ذلك، ثم رفع إلى قاض آخر يرى رد حكم الحكم أيضاً فالقاضي الثاني لا يرده؛ لأن إجازة القاضي حكم الحكم بمنزلة إنشاء القضاء منه، والقاضي إذا قضى في المجتهدات بخلاف رأيه ينفذ قضاؤه، وقد ذكرنا هذا الفصل مع ما فيه من الخلاف فيما تقدم، وإذا لم يكن القاضي مأذوناً في الاستخلاف فأمر رجلاً حتى حكم بين اثنين، وأجاز القاضي حكم ذلك الحكم، قد ذكرنا أنه ينفذ حكمه على إحدى الروايتين ولكن هذا إذا كان الحاكم ممن يصلح قاضياً، وإن كان لا يصلح قاضياً كالعبد والصبي وغيرهما لا ينفذ حكمه بإجازته باتفاق الروايات، وإن كان ممن يختلف الفقهاء في صلاحيته للحكومة نفذ حكمه بإجازته؛ لأن إجازة القاضي حكم الحكم قضاء منه بأصالته، وإنه مجتهد فيه وقضاء القاضي في المجتهدات نافذ. وإذا حكما رجلاً فيما بينهما فقضى لأحدهما على صاحبه باجتهاده، ثم رجع عن قضائه وقضى للآخر، فإن القضاء الأول ماض والقضاء الثاني باطل، لما ذكرنا إن الحكم في حق الخصمين بمنزلة القاضي المولى في حق الناس كافة، والقاضي المولى متى قضى بحادثة باجتهاده ثم أراد أن ينقض ذلك القضاء ويقضي بخلافه في تلك الحادثة ليس له ذلك كذا هنا. وإذا اصطلح الرجلان على حكم يحكم فيها بينهما، فقضى لأحدهما على صاحبه في بعض الدعاوي الذي حكماه في ذلك، ثم رجع المقضي عليه عن تحكيم هذا الحكم فيما بقى من الدعاوي، فإن قضاء الأول نافذ وما يقضى بعد ذلك لا ينفذ كما ذكرنا إن عزل كل واحد منهما للحكم عامل فيما لم يقض بعد، فأما فيما قضى نفذ ووقع الفراغ

عليه، فإنه لا يعمل عزله وكان كالوكيل ببيع عبدين إذا باع أحدهما ثم عزل الموكل عمل عزله فيما لم يبع، ولم يعمل فيما باع وكذلك هاهنا. قال: وإذا اصطلح الخصمان على حكم بينهما، فأقام المدعي شاهدين عنده، أن له على هذا الرجل وعلى كفيله الغائب فلان ألف درهم فقال المدعى عليه: الشاهدان عبدان فإنه يسمع طعن المشهود عليه؛ لأنه فيما بين المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى والقاضي يسمع مثل هذا الطعن، فكذا الحكم. فإن أقام الشاهدان بينة أن مولاهما كان أعتقهما وعدلت بينة العتق، فالحكم يقضي بعتقهما في حق المشهود عليه ويقضي بالمال عليه ولا يقضي به على الكفيل، ولا يثبت العتق في حق المولى بحكم الحكم، وإن كان لو حصل هذا من القاضي المولى يثبت العتق في حق المولى، ويثبت المال على الكفيل (87ب4) لما ذكرنا أن حكم الحكم إنما يظهر في حق من قضى بحكمه، دون من لم يرض بحكمه، والمولى والكفيل ما رضيا بحكمه فلا يظهر حكمه في حقهما، أما المتخاصمان فقد رضيا بحكمه فظهر حكمه في حقهما. فإن جاء مولى العبدين وأنكر العتق وقدمهما إلى القاضي، فإن شهد هذان الشاهدان على عتقهما أو غيرهما يريد بقوله: هذان الشاهدان اللذان شهدا على عتقهما عند الحكم قضى القاضي به فشهادتهما بالمال جائزة؛ لأنه لم يظهر عنده خطأ حكم الحاكم فيما حكم ولا ينقض حكمه، وإن لم تكن بيتهما بينة على العتق وقضى القاضي برقهما للمولى أبطل حكم الحكم فيما حكم؛ لأنه ظهر عند القاضي أن الحكم حكم بشهادة العبد والحكم بشهادة العبد باطل فكان له أن يبطل. قال: ولو ادعى رجل قبل رجلين أنهما غصباه ثوباً أو شيئاً من الكيلي أو الوزني فغاب أحدهما، ورضي الآخر والمدعى عليه بحكم يحكم بينهما، فأقام المدعي بينة على حقه عليهما، فإنه يلزم الحاضر نصف ذلك ولا يلزم الغائب منه شيء؛ لأن الحاضر رضي بحكمه، أما الغائب فلم يرض بحكمه. وكذلك على هذا إذا ادعى رجل على ميت ديناً وورثته غيب إلا واحد، فاصطلح هذا الوارث الحاضر مع المدعي على حكم يحكم بينهما، وأقام المدعي بينة على الميت بحقه وحكم الحاكم بذلك لا يظهر حكمه في حق الغيب؛ لأنهم ما رضوا بحكمه. غير أن في مسألة الورثة يقضي على الحاضر بجميع الدين ويستوفي ذلك مما في يده وفي مسألة الغصب يقضي على الحاضر بالنصف. والوجه في ذلك: أن الحكم فيما بين المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى في حق الناس كافة، ثم القاضي يقضي بجميع الدين على الميت بحضرة أحد الورثة لما عرف أن أحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت في جميع ما يدعى على الميت، وصار من حيث المعنى كأن المورث حي وهو حاضر. وإذا قضى القاضي بجميع الدين والدين مقدم على الميراث وما في يده من الميراث يؤخذ جميع الدين مما في يده، فإذا عرفت الجواب في حق القاضي المولى، فكذا الجواب في الحكم، أما في الغصب القاضي المولى لا يقضي إلا بنصف القيمة؛ لأن أحدهما ليس بخصم عن الآخر، فإذا عرفت هذا في القاضي المولى، فكذا الجواب في الحكم.

وإذا اشترى من آخر عبداً وقبضه ونقد الثمن، ثم طعن بعيب، واصطلحا على حكم، فقضى بالرد على البائع فهو جائز؛ لأن التحكيم حصل بما يملك الخصمان فعله بأنفسهما، فيصح كما في سائر الصور، وإذا صح التحكيم صار الحكم فيما بينهما بمنزلة القاضي المولى لو قضى بالرد على البائع يجوز، فكذا ها هنا، فإن أراد البائع أن يخاصم بائعه في ذلك العيب لا يجوز لما ذكرنا أن حكم الحكم في حق غير المتخاصمين بمنزلة صلح باشره، ولو حصل الرد على البائع بطريق الصلح ليس للبائع أن يخاصم بائعه في ذلك العيب، ويجعل هذا الرد بمنزلة بيع جديد في حق البائع الأول فكذا هنا، ولو اصطلحوا جميعاً (على حكم هذا الحكم) المشتري الثاني والمشتري الأول والبائع الأول على حكم هذا الحكم، ورد هو العبد على البائع الثاني، فأراد البائع الثاني أن يرده على البائع الأول، ليس له ذلك قياساً، وله ذلك استحساناً. وجه القياس أن البائع الأول ليس بخصم للحال إذ لا خصومة معه في العيب قبل الرد على البائع الثاني، فلا يصح تحكيمه، فصار وجود هذا التحكيم والعدم بمنزلة. وجه الاستحسان: أن البائع الأول، إن لم يكن خصماً في هذا العيب في الحال فهو يعرض أن يصير خصماً بسبب هذا العيب، فإنه إذا رد العبد على البائع الثاني، كان للبائع الثاني أن يخاصم البائع الأول فيه، فصار الحكم في حقهم بمنزلة القاضي المولى، والقاضي المولى لو رد العبد على البائع الثاني، كان للبائع الثاني أن يرده على البائع الأول، فكذا الحكم. ولو نقض البائع الأول الحكومة بعدما رد العبد على البائع الثاني قبل أن يرده عليه صح النقض؛ لأن هذا نقض قبل الحكم عليه وإنه جائز، وإذا صح العزل لا يملك الحكم رد العبد على البائع الأول بعد ذلك. وإن خاصم البائع الثاني البائع الأول بعد ذلك بسبب هذا العيب عند قاض من القضاة، فالقياس أن لا يرده القاضي على البائع الأول؛ لأن التحكيم من البائع الأول لم يصح على جواب الاستحسان، فصار وجوده والعدم بمنزلة، وفي الاستحسان يرده؛ لأن الحكم حين رد على البائع الثاني، فهو حكم في حق البائع الأول، فصح حكمه بالرد في حق البائع الأول فلا يبطل هذا الحكم بعزل الحكم، ألا ترى أنه لا يبطل هذا الحق بعزل القاضي المولى، حتى إن القاضي المولى إذا رد العبد على البائع الثاني، ثم عزل هذا القاضي وولي قاض آخر فرفعت إليه هذه الحادثة رد العبد على البائع الأول كذا هنا. ولو أن رجلاً باع سلعة لرجل بأمره فطعن المشتري بعيب، فحكما بينهما حكماً برضا الآمر، وردها الحكم على البائع بسبب ذلك العيب بإقرار البائع أو بنكوله أو ببينة قامت، فإن كان الرد بالبينة أو بنكول الوكيل فله أن يرده على الموكل وإن كان الرد بإقراره بالعيب، وذلك عيب لا يحدث مثله رده على الموكل أيضاً، وإن كان يحدث مثله لم يرد على الموكل حتى يقيم البينة أن هذا العيب كان عند الموكل؛ لأنه صار حكماً في حقهم بتراضيهم، فصار بمنزلة القاضي المولى والحكم فيما إذا كان الرد من القاضي المولى على نحو ما ذكرنا، فكذا إذا كان الرد من الحكم.

الفصل الرابع والعشرون: في كتاب القضاة إلى القضاة

ولم يذكر القياس والاستحسان في هذه المسألة، كما في المسألة المتقدمة؛ لأن هناك البائع الأول ليس بخصم في العيب للحال، فلا يصح تحكيمه للحال قياساً، أما هنا الآمر خصم في الحال؛ لأن الرد على الوكيل رد على الآمر، فصح التحكيم من الآمر في الحال قياساً واستحساناً، وإن كانت الحكومة بغير رضا الآمر لا يلزم الآمر من ذلك شيء إلا ببينة أو كان عيباً لا يحدث مثله وهذا لأن التحكيم في حق الآمر لما لم يصح لعدم رضاه صار بمنزلة ما لو قبل المأمور المبيع بالعيب بغير قضاء، وهناك الجواب على التفصيل إن كان يحدث منه يلزم المأمور دون الآمر، باتفاق الروايات، وإن كان عيباً لا يحدث مثله، ففيه اختلاف الروايات في بعضها يلزم الأمر، وفي بعضها يلزم المأمور، كذا هنا. ولو كان هذا الرجل اشترى عبداً لرجل بأمره وطعن المشتري بعيب به وحكما فيما بينهما رجلاً برضا الآمر ورده ببينة أو بإقرار أو بنكول كان ذلك جائزاً على الآمر وهذا ظاهر، ولو كان التحكيم بغير رضا الآمر ورد ببعض ما ذكرنا، فكذلك الجواب كان الرد جائزاً على الآمر. فرق بين الوكيل بالشراء وبين الوكيل بالبيع، فإن في الوكيل بالبيع إذا حصل التحكيم بغير رضا الآمر ورد المشتري على الوكيل نفذ الرد على الوكيل دون الموكل، والفرق أن حكم الحكم في حق غير الممكن بمنزلة الصلح الذي باشراه، ولو كان مكان الرد في الوكيل بالبيع صلحاً باشراه بغير قضاء نفذ عليه وعلى الآمر جميعاً لفقه، وهو أن الرد بالعيب بغير قضاء بمنزلة الإقالة في حق الثالث، والآمر ثالثهما، والإقالة في حق الوكيل بالبيع في هذه الحالة لا يصح؛ لأن الوكالة انتهت نهايتها بالبيع والتسليم والتحق الوكيل بالإصابة، فأما الإقالة من الوكيل بالشراء ما دام المشترى في يده صحيحة، لأن الوكالة بالشراء لا تنتهى ما دام المشترى في يد الوكيل بالشراء. الفصل الرابع والعشرون: في كتاب القضاة إلى القضاة يجب أن يعلم بأن كتاب القاضي إلى القاضي صار حجة شرعاً في المعاملات بخلاف القياس؛ لأن الكتاب قد ينقل ويزور، والخط يشبه الخط والخاتم يشبه الخاتم؛ ولأن القاضي لا ولاية له على الخصم الذي في غير بلده، فكيف يكون كتابه حجة عليه؟ ولأن القاضي الكاتب بكتابه ينقل شهادة الشهود إلى المكتوب إليه والشهود بأنفسهم لو حضروا مجلس القاضي وكتبوا شهادتهم بين يدي القاضي، فالقاضي لا يعمل به، فكيف يعمل بكتاب غيره لكن جعلناه حجة بالإجماع، فقد روي عن علي رضي الله عنه وجماعة من التابعين، منهم عمر بن عبد العزيز والحسن والشعبي وإبراهيم النخعي رضي الله عنهم، أنهم جوزوا ذلك في المعاملات ولم ينقل عن غيرهم بخلافه.

والمعنى في ذلك الحاجة، فإن الإنسان قد يكون غائباً والشهود حضور ويتعذر عليه الجمع بين الشهود والخصم لما أنه لا يمكنه إحضار الشهود بلد الخصم، ولا يمكنه نقل الشهود إلى الخصم، فلا يمكنه أن يصل إلى حقه بالشهادة على الشهادة؛ لأن قاضي تلك البلدة عسى لا يعرف عدالة الأصول، وعسى لا يجد هناك من يعدل الأصول، وفي تعديل الفروع الأصول كلام على ما يأتي بيانه في موضعه، فلو لم يقبل كتاب القاضي إلى القاضي لنقل الشهادة وإثبات عدالتهم لتعطلت الحقوق وضاعت فقبلناه صيانة للحقوق عن الضياع والبطلان، ولكن إنما يقبله القاضي المكتوب إليه عند وجود الشرائط، ومن جملة الشرائط البينة، حتى إن القاضي المكتوب إليه (88أ4) لا يقبل كتاب القاضي ما لم يثبت عنده بالبينة أنه كتاب القاضي، به ورد الأثر عن علي رضي الله عنه. والمعنى في ذلك أن كتاب القاضي لا يخلو عن نوع احتمال لما ذكرنا أن الخط يشبه الخط، فلا يجوز العمل به ما لم ينتف هذا الاحتمال وذلك بالبينة، ولأن كتاب القاضي يقع ملزماً في حق المكتوب (إليه) حتى يلزمه العمل به، وإذا عمل به وقضى على المدعى عليه بما فيه يلزمه ذلك، واللزوم يعتمد الحجة والحجة هي البينة، وبهذا يقع الفرق بين كتاب القاضي وبين كتاب المزكي إلى القاضي، فإن في كتاب المزكي إلى القاضي لا يحتاج إلى البينة، لأنه ليس في كتاب المزكي إلزام، فالقضاء مضاف إلى شهادة الشهود لا إلى التزكية، إنما التزكية لنوع رجحان الصدق، ولهذا لو قضى القاضي بالشهادة بدون التزكية صح قضاؤه، وبه يقع الفرق أيضاً بين كتاب القاضي وبين كتاب ملك أهل الحرب، إذا طلب الأمان فيه فإنه مقبول بغير البينة حتى لو أمنه الإمام صح أمانُه؛ لأن كتاب أهل الحرب ليس بملزم؛ لأن للإمام رأياً في الأمان وتركه. ومن جملة ما عمل فيه بالقياس الحدود والقصاص، حتى لم يجوزوا كتاب القاضي إلى القاضي في المعاملات (إلا) بالأثر والإجماع، ولا أثر ولا إجماع في الحدود والقصاص، فبقي على أصل القياس. ومن جملة ما عمل فيه بالقياس المنقولات نحو العروض والثياب والعبيد والجواري، على قول أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف، وقال: يجوز في العبيد في الإباق، ولا يجوز في غيرهم، وعنه رواية أخرى أنه يجوز في جميع المنقولات، وبه أخذ بعض المتأخرين من مشايخنا. وحكي عن القاضي الإمام المنتسب إلى إسبيجاب أنه كان يفتى به، وأجمعوا على أنه يجوز كتاب القاضي إلى القاضي في العقار والديون. فوجه قول أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف الأول، وهو الفرق بين الديون وسائر المنقولات: أن في الدين توهُّم الشركة تمكَّن في موضع واحد وهو المقضي عليه؛ لأنه ربما يتفق رجلان بذلك الاسم والنسب، أما لم يتمكن في المقضي به وهو الدين؛ ولا في المقضي له وهو المدعي، فإن كل واحد منهما معلوم، ويمكن الشركة في المقضي عليه حالة العذر إذا كان المقضي له والمقضي به معلوماً لا يمنع القضاء، ألا ترى أن حوالة المقضي عليه لا تمنع القضاء حالة العذر إذا كان المقضى به والمقضى له معلوماً كما لو

شهد شاهدان على رجل أنه طلق إحدى امرأتيه قبل الدخول ومات قبل البيان، فإنه يقضي بسقوط نصف المهر مع أن المقضي عليه بسقوط نصف الصداق مجهول أنها زينب أو عمرة لما كان المقضي له معلوماً وهو الزوج والمقضي به معلوماً وهو نصف الصداق. والمعنى في ذلك كله أن المقضي به والمقضي له إذا كان معلوماً كان الرجحان لجانب العلم والعبرة للراجح في الأحكام، فأما في عين العبد فتوهم الشركة تمكن في موضعين، أحدهما: في المقضي به، وهو العبد، فإنه يتفق اثنان من العلماء في الاسم والنسب والحلية، وفي المقضي عليه، وهو الذي في يديه العبد، فكان الرجحان لجانب الجهل فيمنع القضاء. ألا ترى أن تمكن الجهالة في موضعين مانع من القضاء، وإن كان الحال حال عذر بأن كان لرجلين عبدان، لكل واحد منهما عبد على حدة قال أحدهما: إن لم يدخل فلان هذه الدار اليوم فعبدي حر وقال الآخر: إن دخل فلان الدار اليوم فعبدي حر، ومضى اليوم ولا يدرى أنه دخل أو لم يدخل وكل واحد ينكر شرط الحنث، فالقاضي لا يقضي بعتقهما ولا بعتق أحدهما؛ لأن المقضي عليه وهو أحد الموليين مجهول والمقضي به وهو أحد العينين كذلك، فيترجح جانب الجهل على جانب العلم فيمنع القضاء، كذا هنا وبل أولى؛ لأن قطع الشركة في المقضي به * وهو العبد * بالإشارة إليه ممكن؛ لأن العبد يمكن إحضاره مجلس الحكم بخلاف العقار حيث يجوز فيه كتاب القاضي، وإن كان يوهم الشركة ثمة في موضعين أيضاً؛ لأنه قد يتفق محدودان بحد واحد، وفي المقضي عليه؛ لأنه قد يتفق رجلان بالاسم والنسب؛ لأن قطع هذه الشبهة بالإحضار غير ممكن؛ لأنه لا يمكن إحضار العقار، فسقط اعتبار الجهالة في المقضي به بالإحضار، فكأن الشركة ما تمكنت إلا في موضع وهو المقضي به، وإنها غير مانعة كما في الدين. وجه ما روي عن أبي يوسف: أنه يجوز كتاب القاضي في العبيد في الإباق أن القياس أن لا يكتب في العبيد كما في سائر المنقولات، كما قلتم: إن توهم الشركة تمكن في موضعين إلا أنا تركنا القياس في العبيد (في) الإباق للضرورة؛ لأن الإباق مما يكثر من العبيد، وربما لا يكون للمولى شهود في البلدة التي فيها العبد، لو لم يُجز كتاب القاضي تبطل حقوق الناس. مثل هذه الصورة لا تتحقق في الجواري والدواب، لأن الإباق من الجواري لا يكثر، وكذلك الند من الدواب من بلدة إلى بلدة لا تكثر، فيعمل فيهن بقضية القياس. وذكر محمد رحمه الله في كتاب الإباق مسألة تدل على أن كتاب القاضي إلى القاضي في النقليات جائز، فإنه ذكر أنه إذا أخذ عبداً آبقاً أو جاريةً إلى القاضي، وأقام البينة على أنه وجده آبقاً، فأخذه وطلب من القاضي أن يفرض نفقته على مالكه، فإن علم القاضي أن المصلحة في بيع هذا العبد وحفظ ثمنه على مالكه فعل ذلك، فإذا باعه وأمسك ثمنه، فجاء مالكه وأتى بكتاب القاضي ليأخذ الدراهم الثمن كان له ذلك، فقد جوز كتاب القاضي في الدراهم الثمن، وإنه منقول.

وتأويل المسألة أن بيع الآبق من القاضي لما نفذ بولاية شرعية انتقل حق صاحب العبد إلى ثمنه، وإنه دين على المشتري، فهو إنما جاء بكتاب القاضي لإثبات أن ذلك الدين حقه، وكتاب القاضي في الديون جائز، ثم القاضي قبض الدراهم المعين عوضاً عن ذلك، فإذا أثبت بكتاب القاضي أن ذلك الدين له وأراد أخذ الدراهم التي قبضها القاضي، وقد أجاز قبض القاضي تلك الدراهم عوضاً عن الدين الذي هو حقه فلا يظهر بهذا أن هذا الكتاب في العوض. ويجوز كتاب القاضي في النكاح والطلاق وفي كل حكم يمكن تحقيق شرائط كتاب القاضي فيه من إعلام المشهود به، وغير ذلك على ما يأتي بيانه جائز. وفي سائر النقليات إنما لم يجز كتاب القاضي عندهما؛ لأن إعلام المشهود به في هذه الأشياء بالإشارة، والإشارة في غير الكتاب، فلا تصح الدعوى والشهادة فلم يجز الكتاب.d ونظير هذه المسألة النسب وصورتها رجل وامرأة ادعيا ابناً أو ابنة عند قاض من القضاة، وقالا: هو معروف النسب منا وهو اليوم في يد فلان في بلد كذا قد استرقه، وأقاما البينة عند القاضي، فطلبا منه أن يكتب لهما بذلك كتاباً إلى القاضي في ذلك البلد، لا يكتب عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأنهما يريدان قطع الملك والرق الثابت لصاحب اليد بالظاهر، وانتزاعه من يد صاحب اليد بدعوى الملك، وثمة الإشارة من المدعي والشهود شرط لسماع الدعوى والشهادة، ولا يتحقق ذلك في الغائب، فلا يكتب عندهما لهذا، فكذا هنا. وعلى قول أبي يوسف: يكتب، لأن النسب لا يشار إليه وهو المدعي، فكان كدعوى الدين، وثمة يكتب فكذا هذا. وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يكتب في النسب إلا في الأبوة والأمومة والبنوة؛ لأن دعوى هذه الأنساب دعوى حق مقصود. ألا ترى أنه يسمع فيها الدعوى حالة الحياة وإن لم يدع بسببه مالاً أو حقاً، فيمكن إثباتها بالبينة بخلاف الأخوة والعمومة وأشباههما، إذ ليس فيهما حق مقصود، ألا ترى أنه لا تسمع فيهما الدعوى حالة الحياة إلا إذا ادعى بسببها مالاً كالنفقة وأشباهها، فلا يمكن إثباتها بالبينة. بعد هذا تحتاج إلى بيان شرائط صحة كتاب القاضي إلى القاضي، فنقول: العلوم الخمسة شرط جوازه، وهو أن يكون الكتاب من معلوم يعني القاضي الكاتب إلى معلوم * يعني القاضي المكتوب إليه * في معلوم * يعني المدعى به * لمعلوم * يعني المدعى * على معلوم * يعني المدعى عليه. أما القاضي الكاتب ينبغي أن يكون معلوماً؛ لأن الحجة كتاب القاضي لا بد وأن يعلم المكتوب إليه أنه كتاب القاضي حتى يقبله. وإعلامه إنما يكون بكتابة اسم القاضي واسم أبيه واسم جده أو قبيلته؛ لأن إعلام الإنسان إذا كان غائباً بهذه الأشياء، وإذا لم يذكر اسم أبيه وجده لا يحصل التعريف بالاتفاق، وإن ذكر اسم أبيه ولم يذكر اسم جده

أو قبيلته، فعند أبي حنيفة رحمه الله لا يحصل التعريف، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى، وإن كان مشهوراً اكتفى بالاسم الذي كان مشهوراً بذلك؛ لأن كتابة ما زاد على ذلك للتعريف، فإذا حصل التعريف بدونه اكتفى بذلك، وكذلك إذا كتب: من أبي فلان إذا كان مشهوراً بذلك الكنية كأبي حنيفة، وكذلك إذا كتب من ابن أبي فلان، وهو مشهور به، كابن أبي ليلى يكتفى به، ولا تقبل شهادة الشهود على اسم القاضي ونسبه ما لم يكن مكتوباً في الكتاب؛ لأنهم لو شهدوا على ما في (88ب4) الكتاب بدون الكتاب لا يقبل ذلك منهم فكذلك على التعريف. وكذلك إعلام القاضي المكتوب إليه شرط؛ لأنه ما لم يثبت عنده أنه مكتوب إليه، لا يجب العمل به، بل لا يجوز العمل له به، وإنما يصير معلوماً بما يوجب تعريفه من ذكر الاسم والنسب على ما ذكرنا ولا يكتفي بالشهادة على الاسم والنسب إذا لم يكن مكتوباً لما ذكرنا. وكذلك إعلام المدعي والمدعى به والمدعى عليه شرط؛ لأن كتاب القاضي لنقل الشهادة، وهذه العلوم الثلاثة شرط لصحة الشهادة وإعلام المدعي والمدعى عليه بما يوجب تعريفهما من ذكر الاسم والنسب على حسب ما بينا في القاضي. ثم عند أبي حنيفة رحمه الله لا يحصل التعريف بذكر اسمه واسم أبيه، بل يشترط مع ذلك اسم الجد. وعند أبي يوسف رحمه الله ذكر الجد ليس بشرط، وقول محمد رحمه الله مضطرب: واختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: إنه كقول أبي يوسف، وبعضهم قالوا: إنه كقول أبي حنيفة. وجه قول أبي يوسف أنا أجمعنا على أنه يحصل التعريف بثلاثة أشياء: بذكر الاسم والنسب إلى الأب والجد، وقد وجد هنا المثنى وهو النسب والاسم، والمثنى أكثر الثلاث وللأكثر حكم الكل في كثير من الأحكام. ولأبي حنيفة رحمه الله أن المقصود هو الإعلام والتمييز وذلك لا يحصل بمجرد الاسم والنسب إلى الأب، فأما (إلى الجد) قل ما يتفق الرجلان في الاسم والنسب إلى الأب والجد، فيحصل به الإعلام. وفي شرح كتاب «الأقضية» أن ذكر الجد عند أبي حنيفة * وهو رواية ابن سماعة عن أبي يوسف * شرط، وفي قول محمد رحمه الله * وهو قول أبي يوسف في ظاهر الرواية ليس بشرط. وكان القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله يقول في الابتداء: لا يشترط ذكر الجد، ثم رجع في آخر عمره، وكان يشترط ذكر الجد وهو الصحيح وعليه الفتوى. وإن لم يذكر اسم الجد ونسبه إلى القبيلة، فإن كان أدنى القبائل والأفخاذ الذي يعرف به بذلك، فقد كفى بلا خلاف، ويقوم مقام اسم الجد لحصول الإعلام به، فإنه قل ما يتفقان في أدنى الأفخاذ في اسمهما واسم أبيهما، وإن نسبه إلى أعلى الأفخاذ والقبائل بأن قال: تميمي، أو ما أشبهه لا يكتفى به، لأنه لا يقع به التعريف في الغالب، فصار

كأنه قال: عربي أو عجمي، وإن نسبه إلى بلده ولم ينسبه إلى جده ولا إلى قبيلته، فقال: كوفي أو مصري، فذاك لا يكفي؛ لأن الاسم يجمع الألوف ولا يحصل به التعريف، وإن نسبه إلى حرفته وصناعته ولم ينسبه إلى قبيلته، والجد لا يكفي عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الصناعة ليست بشيء لازم، فالإنسان قد يشغل بصناعة في زمان ثم يتحول منها إلى غيرها بعد ذلك، فلا يحصل بها التعريف، وعندهما إذا كانت صناعة يعرف بها لا محالة يكفي. وإن ذكر اسم أبيه ولقبه وإنه يعرف بذلك اللقب لا محالة فإنه يكفي وبدون ذلك لا يكفي؛ لأن اللقب ليس بلازم كالصناعة، وإن ذكر اسمه واسم جده ولم يذكر اسم أبيه لا يكفي؛ لأن الإنسان إنما يتصل إلى الجد بواسطة الأب، فلا يصح النسب إلى الجد بدون النسب إلى الأب، وإن كتب من قاضي بلد كذا فلان بن فلان إلى قاضي بلد كذا فلان بن فلان فذلك يكفي بلا خلاف عند بعض مشايخنا؛ لأن كونه قاضياً من أسباب التعريف، فيستغنى به عن ذكر الجد. وعن أبي يوسف رحمه الله آخراً أنه إذا كتب إلى قاضي بلد كذا، ولم يذكر اسمه ولا اسم أبيه فذلك يكفي؛ لأن القاضي في كل بلدة معروف فيقع الاستغناء عن ذكر الاسم والنسب. وزاد في «المنتقى» في هذه الرواية فقال: إذا كان تاريخ الكتاب نفذه إلى المكتوب إليه. ولو كتب من فلان بن فلان قاضي بلد كذا إلى كل من يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين وحكامهم، فذلك لا يجوز في قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي قول أبي يوسف رحمه الله يجوز، والظاهر أن محمداً رحمه الله مع أبي حنيفة رحمه الله، فأبو يوسف رحمه الله توسع حين ابتلي بالقضاء، ورأى أحوال الناس، واستحسن في كثير من المسائل تسهيلاً للأمر على الناس، من جملتها هذه المسألة، فإن القاضي يحتاج إلى الكتابة إلى الآفاق ولا يمكنه معرفة اسم قاضي الآفاق ونسبه لبعد المسافة، فلو شرطنا ذلك ضاق الأمر على الناس. ألا ترى أنه لو كتب إلى فلان بن فلان وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم، فكل من يصل إليه من قضاة المسلمين يعمل به، وإن لم يكتب اسمه ونسبه كذا هنا. وأبو حنيفة رحمه الله أخذ بالاحتياط، فإن إعلام الكاتب والمكتوب إليه شرط لصحة الكتاب بالاتفاق وتمام الإعلام لا يحصل بهذا القدر، فلا يصح الكتاب، بخلاف ما إذا عين قاضياً وعرفه، ثم كتب: وإلى كل من يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين؛ لأنه لما عرف الأول صحت كتابة القاضي إليه، فيجعل المضموم إليه تبعاً له فيجوز، ويجوز أن يصح الشيء تبعاً وإن كان لا يصح مقصوداً. وإن كتب أن لفلان على فلان السندي غلام فلان بن فلان الفلاني كذا جاز؛ لأن تعريف المملوك بالنسبة إلى المالك، فإذا نسبه إلى مالك معروف بالشهرة أو ذكر اسم المولى ونسبه إلى أبيه وجده وإلى قبيلته، فقد تم تعريفه بذلك، وإن ذكر اسم العبد واسم المولى، ولم يذكر اسم جد المولى ولا قبيلته. ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن

ذلك لا يكفي، وذكر شيخ الإسلام أنه يكفي؛ لأن التعريف يحصل بذكر ثلاثة أشياء كما في الحر، وقد وجد ذكر ثلاثة أشياء، وهو اسم العبد واسم المولى واسم أب المولى، وإن ذكر اسم العبد واسم المولى إن لم ينسب المولى إلى قبيلته الخاص لا يكفي، وإن نسبه إلى قبيلته الخاص، فعلى قياس ما ذكره شيخ الإسلام يكفي. وإن كتب أن لفلان على فلان وهو العبد السندي الحائك الذي في يدي فلان بن فلان أو الساكن في دار فلان بن فلان، فذلك لا يكفي؛ لأن التعريف إنما يقع بالنسبة اللازمة وذلك بالملك دون السندي؛ لأنها عسى أن تكون بغير حق. قد ذكرنا أن إعلام المدعى عليه في كتاب القاضي شرط، وروي عن محمد في «النوادر» ما يدل على أن إعلام المدعى عليه في الكتاب ليس بشرط، والذي روي عنه: رجل له ضيعة بخراسان وهو بالعراق وشهوده على الضيعة بالعراق، فأقام بينة عند قاضي الكوفة أن ضيعة كذا بمرو بحدودها له، وأن له مانعاً منها لا يعرفه فإنه يكتب قاضي الكوفة إلى قاضي مرو ويكتب فيه، فإذا قدم بالكتاب فكل من منعه من الناس فاقض عليه. قال مشايخنا: ويجوز أن يكون هذا في العقار خاصة؛ لأنه ربما لا يعلم لبعد المسافة أن العقار في يد من هو، فاستحسن وجوده للحاجة والضرورة، ألا ترى أنه لو شهد شاهدان بملكية العقار لرجل وشهد آخران أنها في يد فلان قضى بها له لما ذكرنا، فأما المدعي به إذا كان ديناً فهو في ذمة المدعى عليه، وإنه عالم بذلك، فلم تمس الحاجة إلى ترك إعلام المدعى عليه، فشرط إعلام المدعى عليه حتى يصير الخصم و (هو) محل وجوب الدين معلوماً. وذكرنا أيضاً أن إعلام المدعى به شرط، بعد هذا ينظر إن كان المدعي به ديناً، وكان مكيلاً يذكر جنسه أنه حنطة أو شعير، وبعدما ذكر الجنس أنه حنطة يذكر النوع أنها سقية أو برية خريفية أو ربيعية ويذكر الصفة أنها حمراء أو بيضاء جيدة أو رديئة أو وسط ويذكر السبب، وقد مرت هذه الفصول في فصل جلوس القاضي أيضاً. وإن كانت الدعوى في عقار يذكر موضعها، وحدودها الأربعة، ولو ذكر حدين لا يكفي، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا ذكر حدين أحدهما طولاً والآخر عرضاً يجوز؛ لأن به يصير الطول والعرض معلوماً، وإن ذكر حدين متقابلين لا يجوز، وبعض مشايخنا قالوا: إن ذكر حدين متقابلين يجوز، وإن ذكر حدين متلازقين لا يجوز، وإن ذكر الحدود الثلاثة، فذلك يكفي عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وقد مر هذا أيضاً في فصل جلوس القاضي. وإن كان العقار معروفاً مشهوراً كدار الوليد بكوفة، وكدار الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل ببخارى لابد لتعريفه من ذكر الحدود عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد ذكر الحدود في هذا ليس بشرط، ويكتفي بذكر اسم الدار، فأبو يوسف ومحمد قاسا شهرة الدار على شهرة الرجل، والرجل إذا كان مشهوراً يقع التعريف بمجرد اسم العقار، وأبو حنيفة رحمه الله يقول بذكر الاسم عند الشهرة في العقار يصير أصل العرصة

معلوماً، أما مقدار العرصة لا يصير معلوماً، والدار مما يزاد فيها وينقص عنها، وبه لا يتعين الاسم، وإذا لم يصر المقدار معلوماً تبقى الجهالة فلا بد من ذكر الحدود، وأما الآدمي لا يزاد فيه ولا ينقص عنه، فيصير بجملته معلوماً بذكر الاسم، إذا كان مشهوراً بذلك الاسم فلا حاجة إلى اشتراط آخر. ومن شرائط صحة الكتاب أن يقرأ القاضي الكتاب على الشهود الذين يشهدهم على الكتاب أو يخبرهم بما في الكتاب، وأن يختم الكتاب بحضرتهم وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وهذا بناء على أن عندهما يشترط أن يشهد الشهود عند المكتوب إليه بما في (89أ4) الكتاب. وإنما يمكنهم الشهادة بما في الكتاب إذا علموا بما في الكتاب، وذلك إما بقراءة القاضي الكتاب عليهم أو بإخباره إياهم بما في الكتاب، وكذلك يشترط عندهما أن يشهدوا عند المكتوب إليه أن القاضي الكاتب ختم الكتاب بحضرتهم، وإنما يمكنهم الشهادة على ذلك إذا ختم بحضرتهم. وعند أبي يوسف أخراً شيء من ذلك ليس بشرط، بل إذا أشهدهم أن هذا كتابه وخاتمه وهم شهدوا عند المكتوب إليه أن هذا كتاب القاضي فلان، وهذا خاتمه كفى، فوجه هذا القول أن المشهود به الكتاب والختم وكل ذلك يصير معلوماً للشاهد، بقول القاضي الكاتب، ويصير معلوماً للمكتوب إليه بإشارة الشاهد إلى الكتاب والختم، فلا حاجة إلى اشتراط شيء آخر. ولهما أن المقصود من الكتاب أن يقضي المكتوب إليه بما في الكتاب، وإنما يجوز له القضاء بما في الكتاب إذا حصل له العلم بما في الكتاب بشهادة الشهود على ما في الكتاب، أما لا يحصل العلم بمجرد الشهادة على الكتاب والختم؛ لأن الكتاب في يد المدعي لا يؤمن من التغيير والتبديل، والخط يشبه الخط، والختم يشبه الختم، فلا يجوز الاعتماد على مجرد الكتاب بدون الشهادة بما عليه. وإذا ثبت من مذهب أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن شهادة الشهود بما في الكتاب شرط ينبغي للقاضي الكاتب أن يدفع إلى الشهود نسخة ما في الكتاب، ليكون عندهم، فيمكنهم الشهادة على ما في الكتاب قبل فتح الكتاب، فما قاله أبو حنيفة ومحمد احتياط، وما قاله أبو يوسف توسع، وكذلك يشترط عند أبي حنيفة رحمه الله أن يحفظ الشهود شهادتهم بما في الكتاب من وقت التحمل إلى وقت الأداء، ولكن هذا شرط لا يختص بكتاب القاضي، بل في جميع الشهادات يشترط حفظ الشاهد شهادته من وقت التحمل إلى وقت الأداء عند أبي حنيفة رحمه الله. ومن الشرائط عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أن يكون الكتاب معنوناً بأن يكتب فيه: هذا كتاب من فلان بن فلان القاضي إلى فلان بن فلان القاضي حتى إنه إذا لم يكتب فيه ذلك، وإنما كتب فيه عافانا الله وإياك، فالقاضي المكتوب إليه لا يقبله. وعند أبي يوسف رحمه الله: العنوان ليس بشرط، إنما الشرط أن يشهد الشهود أن هذا كتاب القاضي فلان إليك وختمه، فوجب قوله إن شهادة الشهود تثبت كون الكتاب

كتاب القاضي، فثبت كون المكتوب فيه مكتوب القاضي، فلا حاجة إلى اشتراط شيء آخر. ولهما أن الكتاب إذا لم يكن معنوناً فيكون هذا الكتاب مكتوب القاضي إلى هذا القاضي لا يكون مكتوباً في الكتاب، وما لم يكن مكتوباً في الكتاب لا يثبت بمجرد الشهادة من الشهود عند هذا القاضي، إذا لم يكن مكتوباً في الكتاب بأن يشهدوا عند هذا القاضي أن فلاناً وفلاناً شهدا عند قاض (على) فلان بهذا الحق لهذا المدعي، فكذا كون هذا الكتاب من الكاتب إلى المكتوب إليه، لا يثبت بمجرد شهادة الشهود، وإذا لم يثبت ذلك بشهادتهم، فكأنهم لم يشهدوا، وبدون شهادتهم أن هذا كتاب فلان إليك، فالمكتوب إليه لا يقبل الكتاب كذا هنا. وإذا ثبت أن العنوان شرط عندهما، فنقول: إن كان العنوان في الباطن، وعلى الظاهر، فالقاضي المكتوب إليه يعمل؛ لأنه يعمل به إذا كان العنوان في الباطن لا غير فهاهنا أولى. وإن كان العنوان في الباطن لا غير، فإنه يعمل به؛ لأنه يجب ختمه فيؤمن التبديل والتغيير وثبت كونه كتاب القاضي إليه لكونه مكتوباً في الكتاب كأصل الحادثة. وإن كان العنوان على الظاهر لا غير، فالقاضي المكتوب إليه لا يعمل به؛ لأنه لا يؤمن التبديل والتغيير. ألا ترى أن أصل الحادثة إذا لم يكن تحت ختم القاضي بأن لم يكن الكتاب مختوماً، فالقاضي المكتوب إليه لا يعمل به؛ لأنه لا يؤمن التغيير والتبديل، فكذا كونه كتاب القاضي إذا لم يكن تحت خاتمه. وبعض المتأخرين من مشايخنا اكتفوا بعنوان الظاهر وقالوا: كتابة أصل العنوان إذا لم يشترط عند أبي يوسف؛ فلأن لا يشترط عنوان الباطن ويكتفى بعنوان الظاهر أولى، وأخذوا بقول أبي يوسف رحمه الله في هذا الفصل تسهيلاً. ثم إذا أراد القاضي الكتاب يكتب في العنوان من الجانب الأيمن من الكتاب إلى القاضي فلان بن فلان بن فلان بن فلان الفلاني قاضي كورة كذا ونواحيها نافذ القضاء والإمضاء بها بين أهلها، ويكتب من الجانب الأيسر من الكتاب من القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي كورة كذا ونواحيها نافذ القضاء والإمضاء بها بين أهلها، وإنما يكتب قاضي كورة كذا وإن كان التعريف حاصلاً بالاسم والنسب؛ لأنه إنما يقبل كتابه إذا كان قاضياً، فأما إذا لم يكن فلا، ثم يكتب التسمية ثم يكتب بعد التسمية: كتابي أطال الله بقاء فلان القاضي إلى آخره كما هو الرسم في الكتاب. ثم يكتب أما بعد، وهذه كلمة فصل الخطاب، جاء في تفسير قوله تعالى: {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} (ص: 20) أن المراد من فصل الخطاب كلمة: أما بعد، فذكر هذا للفصل بينما تقدم ذكره من الكلام وبينما تأخر من الكلام. ثم يكتب: حضرني في مجلس قضائي بكورة كذا في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا أطال الله بقاء القاضي، وإنما يكتب حضرني؛ لأنه يريد حكاية دعوى المدعي، وينبغي أن تكون الدعوى عند القاضي، وكذا شهادة الشهود حتى يجوز له أن يكتب إلى قاض آخر، ويقول: في مجلس قضائي؛

لأن صحة الدعوى تنفذ بمجلس القضاء هكذا وقع في بعض الكتب. والصحيح أن قوله في مجلس قضائي ليس بأمر لازم، بل إذا كتب في مجلس الحكم في كورة كذا كفاه، هكذا ذكر صاحب «الأقضية» . إلا إذا كان بلدة فيها قاضيان، كل قاض على ناحية على حدة فحينئذ يكتب في مجلس قضائي، حتى لا يظن ظان أن القاضي الكاتب كان في مجلس حكم القاضي الآخر، وهو ليس بقاضي تلك الناحية، ويكتب: في كورة كذا، لما عرف من اختلاف الروايات، أن القضاء هل يتقيد بالمصر، ففي ظاهر الرواية يتقيد حتى لا ينفذ القضاء في الرساتيق. وروى أصحاب «الأمالي» عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يتقيد حتى ينفذ القضاء في السواد، وكتاب القاضي إلى القاضي بمنزلة القضاء من وجه فيجب أن يكون في المصر، فيكتب: كورة كذا حتى يزول الوهم، أن القاضي الكاتب ظن أن القضاء في غير المصر جائز، فيكون غير مجلس القضاء فيكتب في مجلس قضائي، فإذا كتب في كورة كذا يزول هذا الوهم. بعد هذا المسألة على وجهين: إن عرف القاضي المدعي باسمه ونسبه يكتب حضرني فلان ابن فلان الفلاني، يذكر اسمه واسم أبيه واسم جده، ويثبت معرفته في الكتاب، فيكتب: وقد عرفته بوجهه واسمه ونسبه؛ لأن تمام التعريف بهذا؛ لأن بدون معرفة الوجه لا يحصل تمام التعريف، والاسم والنسب أمر لازم للتعريف لمن كان غائباً، وإنه غائب عن القاضي المكتوب إليه في الحال، وإن لم يعرفه القاضي باسمه ونسبه سأله البينة على اسمه ونسبه حتى لا يتسمى رجل باسم غيره، فيؤخذ بحق صاحب الحق، فإذا قامت البينة عنده بشرائطه كتب: حضرني رجل ذكر أنه فلان بن فلان بن فلان وسألته البينة على الاسم والنسب، فأقام بينة عدولاً وثبت عندي بشهادتهم أنه فلان بن فلان بن فلان. وإن كان المدعي لا يقدر على إثبات نسبه بالبينة كتب القاضي: حضرني مجلس الحكم رجل ذكر أنه فلان ولم أعرفه ولم يقم بينة عندي على نسبه، فيكتب على هذا الوجه حتى إذا أقر المدعى عليه عند القاضي المكتوب إليه باسمه ونسبه كما ذكرنا وقامت البينة عند المكتوب إليه على اسمه ونسبه أنفذه عليه وما لا فلا، فبعد ذلك إن حكى المدعي في الكتاب كان أولى وأبلغ في الاحتياط، وأوثق في قلب القاضي المكتوب إليه فالتعريف ببيان الوصف والهيئة، والسيمى تفيد زيادة علم، قال الله تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم} () ، ثم يكتب من غير خصم أحضره معه؛ لأن كتاب القاضي لإثبات الحجة على الغائب لنقل شهادة الشهود، حتى يقضي القاضي المكتوب إليه عليه بحضرته أو بحضرة وكيله، ولا حاجة إلى الكتاب، ثم يكتب: فادعى على رجل ذكر أنه يسمى فلان بن فلان الفلاني، وإن كان رجلاً مشهوراً لا يحتاج إلى هذا بل يكتب فادعى على فلان ولا بد وأن يذكر المدعي أنه غائب عن هذه البلدة مسيرة سفر؛ لأن بين العلماء اختلافاً في تقدير المسافة التي يجوز كتاب القاضي فيها ولا رواية لهذه المسألة، في «المبسوط» . والصحيح أن قوله في مجلس قضائي ليس بأمر لازم، بل إذا كتب في مجلس الحكم في كورة كذا كفاه، هكذا ذكر صاحب «الأقضية» . إلا إذا كان بلدة فيها قاضيان، كل قاض على ناحية على حدة فحينئذ يكتب في مجلس قضائي، حتى لا يظن ظان أن القاضي الكاتب كان في مجلس حكم القاضي الآخر، وهو ليس بقاضي تلك الناحية، ويكتب: في كورة كذا، لما عرف من اختلاف الروايات، أن القضاء هل يتقيد بالمصر، ففي ظاهر الرواية يتقيد حتى لا ينفذ القضاء في الرساتيق. وروى أصحاب «الأمالي» عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يتقيد حتى ينفذ القضاء في السواد، وكتاب القاضي إلى القاضي بمنزلة القضاء من وجه فيجب أن يكون في المصر، فيكتب: كورة كذا حتى يزول الوهم، أن القاضي الكاتب ظن أن القضاء في غير المصر جائز، فيكون غير مجلس القضاء فيكتب في مجلس قضائي، فإذا كتب في كورة كذا يزول هذا الوهم. بعد هذا المسألة على وجهين: إن عرف القاضي المدعي باسمه ونسبه يكتب حضرني فلان ابن فلان الفلاني، يذكر اسمه واسم أبيه واسم جده، ويثبت معرفته في الكتاب، فيكتب: وقد عرفته بوجهه واسمه ونسبه؛ لأن تمام التعريف بهذا؛ لأن بدون معرفة الوجه لا يحصل تمام التعريف، والاسم والنسب أمر لازم للتعريف لمن كان غائباً، وإنه غائب عن القاضي المكتوب إليه في الحال، وإن لم يعرفه القاضي باسمه ونسبه سأله البينة على اسمه ونسبه حتى لا يتسمى رجل باسم غيره، فيؤخذ بحق صاحب الحق، فإذا قامت البينة عنده بشرائطه كتب: حضرني رجل ذكر أنه فلان بن فلان بن فلان وسألته البينة على الاسم والنسب، فأقام بينة عدولاً وثبت عندي بشهادتهم أنه فلان بن فلان بن فلان. وإن كان المدعي لا يقدر على إثبات نسبه بالبينة كتب القاضي: حضرني مجلس الحكم رجل ذكر أنه فلان ولم أعرفه ولم يقم بينة عندي على نسبه، فيكتب على هذا الوجه حتى إذا أقر المدعى عليه عند القاضي المكتوب إليه باسمه ونسبه كما ذكرنا وقامت البينة عند المكتوب إليه على اسمه ونسبه أنفذه عليه وما لا فلا، فبعد ذلك إن حكى المدعي في الكتاب كان أولى وأبلغ في الاحتياط، وأوثق في قلب القاضي المكتوب إليه فالتعريف ببيان الوصف والهيئة، والسيمى تفيد زيادة علم، قال الله تعالى: {ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم} () ، ثم يكتب من غير خصم أحضره معه؛ لأن كتاب القاضي لإثبات الحجة على الغائب لنقل شهادة الشهود، حتى يقضي القاضي المكتوب إليه عليه بحضرته أو بحضرة وكيله، ولا حاجة إلى الكتاب، ثم يكتب: فادعى على رجل ذكر أنه يسمى فلان بن فلان الفلاني، وإن كان رجلاً مشهوراً لا يحتاج إلى هذا بل يكتب فادعى على فلان ولا بد وأن يذكر المدعي أنه غائب عن هذه البلدة مسيرة سفر؛ لأن بين العلماء اختلافاً في تقدير المسافة التي يجوز كتاب القاضي فيها ولا رواية لهذه المسألة، في «المبسوط» .

وكثير من مشايخنا قالوا: لا يجوز فيما دون مسيرة السفر كما في الشهادة على الشهادة؛ لأن كتاب القاضي لنقل الشهادة، فكان هو والشهادة على الشهادة سواء، والمعنى فيه أن جواز كتاب القاضي إلى القاضي باعتبار الحاجة، فإنه ربما يتعذر على المدعي الجمع بين خصمه وشهوده لبعد المسافة فيحتاج إلى الكتاب، وهذا المعنى لا يتأتى فيما دون مسيرة السفر، وبعض مشايخنا جوزوا ذلك (89ب4) . وهكذا ذكر صاحب الأقضية. والذي ذكره صاحب الأقضية إذا كان في مصر واحد قاضيان، كل قاض يقضي على ناحية خاصة دون ناحية صاحبه، حتى صار كل واحد منهما في ذلك بمنزلة قاض في مصر على حدة، فيكتب أحدهما إلى صاحبه في حق لرجل قامت له بينة عليه، قال على قياس قول أبي يوسف: أجزأ المكتوب إليه فيقبل الكتاب إذا شهد عنده شاهدان أنه كتابه وخاتمه، وعلى قياس قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا يقبل حتى يشهدا عنده أنه قرأه عليهما، أو أشهدهم على ما فيه وختم بحضرتهما، وهو رواية ابن سماعة عن أبي يوسف ورواية هشام عن محمد، وهكذا ذكر الطحاوي في اختلاف العلماء. ووجهه: أن نقل القاضي في حكم القضاء، لا في حكم الشهادة، ألا ترى أنه يختص هذا النقل بولاية القضاء، ثم يجوز القضاء من قاضيين في مصر واحد، فكذا هذا. وإذا كانت مسألة مختلفة لا بد من ذكر الغيبة مدة السفر ليخرج عن حد الاختلاف، فإذا ذكر ذلك ولم يعلم القاضي يسأله البينة على ذلك، فإذا أقامها كتب القاضي، وذكر أنه غائب عن هذه البلدة مدة سفر، وكتب: وقد ثبت عندي غيبة مدة السفر بالبينة العادلة ليعلم القاضي الكاتب أن كتابة الكتاب كانت بشرطه. ثم يكتب المدعى به، ويبالغ في إعلامه على نحو ما بينا، ثم يكتب: وإنه اليوم مقيم بكورة كذا، يريد به كورة القاضي المكتوب إليه؛ لأنه لو لم يكن في كورته لا يفيد كتاب القاضي، ثم يكتب: وإنه جاحد دعواه هذه؛ لأن كتاب القاضي لنقل الشهادة، والشهادة إنما تقبل على الجاحد. ثم يكتب: ويشهد شهوده على صحة دعواه هاهنا، ويتعذر عليه الجمع بينهم وبين المدعى عليه؛ لأن نقل الشهادة إنما يحتاج إليه حال غيبة الشهود عن المدعى عليه، وتعذر الجمع بين الشهود وبين المدعى عليه؛ حتى لا يصل إلى حقهم بالشهادة، فتمس الحاجة إلى كتاب القاضي لنقل الشهادة. ثم يكتب: فسألني الاستماع إلى شهادتهم لأكتب بما صح عندي من شهادتهم إلى القاضي فلان، فأجبت إليه، ثم يكتب: فأحضرهم وهم فلان بن فلان، يكتب اسم كل واحد منهم، ونسبه وقبيلته وتجارته إن كان تاجراً، ومسكنه ومصلاه ومحلته مقام التعريف تذكر هذه الأشياء، ثم يكتب: فشهد كل واحد منهم بعد الدعوى عقيب الاستشهاد بشهادة صحيحة متفقة اللفظ والمعنى. وإنما يذكر هذه الأشياء؛ لأن الشهادة الصحيحة هي التي يجب العمل بها دون

الفاسدة، هكذا روي عن محمد رحمه الله. قالوا: وينبغي أن لا يكتفي بهذا القدر بل يفسر الشهادة ويبينها؛ لأن صحة الشهادة واتفاق المعنى وموافقة الدعوى فيما ادعي لا يثبت بمجرد ... ؛ لأنه ربما يظنها صحيحة موافقة للدعوى، وتكون فاسدة مخالفة الدعوى، فلا بد من البيان ليكون المكتوب إليه على بصيرة، فينظر إليها فإن عرفها صحيحة عمل بها، وإن عرفها فاسدة ردها، فلهذا يبين ويفسر شهادته ويصححها على الوجه الذي ذكرنا في الدعوى، ويتبين الدين ويعلمه على نحو ما بينا، ويذكر في شهادتهم إعلام المدعي والمدعى عليه. وإعلام الحاضر بالإشارة، وإعلام الغائب بذكر الاسم والنسب والمدعي حاضر، فإعلامه بالإشارة إليه والمدعى عليه غائب، فإعلامه بذكر الاسم والنسب، فيكتب شهدوا أن لفلان المدعي هذا علي فلان بن فلان هذا الذي ذكر اسمه ونسبه في هذا الكتاب في دعوى المدعي هذا كذا وكذا، يذكر جنس الدين ونوعه وصفته وقدره وجميع ما ذكرنا في الدعوى ثم يكتب فواجب على فلان هذا تسليم المال إلى هذا المدعي ليقبضه لنفسه. وقد اختلف المتأخرون في أنه هل يشترط ذكر هذا؟ والصحيح أنه لا يشترط؛ لأن حاجة القاضي إلى نقل الشهادة وبيان شهادة الشهود لا إلى بيان حكم ما ثبت عنده من جهة الشهود، وهذا ليس من صلب شهادتهم، ولا يشترط ذكره، ويشترط بيان سبب الدين لما ذكرنا في الدعوى، ولتكون الشهادة موافقة للدعوى. وإن كانت الدعوى في العقار يكتب في شهادتهم العقار، يذكر موضعها وحدودها على نحو ما ذكرنا في الدعوى، ويذكر أنها في يد المدعى عليه هذا بغير حق. ولا بد للشهود في العقار أن يشهدوا أنها في يد هذا المدعى عليه بغير حق، لأن المدعى عليه في العقار إنما ينتصب خصماً باعتبار يده، فما لم تثبت يده على العقار عند القاضي، فالقاضي لا يجعله خصماً ثم يكتب وشهد كل واحد من الباقين بمثل شهادته هذه، وأشار في جميع مواضع الإشارات ولا يكتب على مثل شهادته؛ لأن كلمة مثل صفة في الكلام قال الله تعالى: {ليس كمثله شيء} (الشورى: 11) ، أي كهو شيء فيصير هذا شهادة على شهادة الأول، وإنه لا يقبل هاهنا، ولكن يكتب بمثل شهادته، كما قلنا لم يكتب: فأتوا بالشهادة على وجهها وساقوها على سببها، فسمعتها وأثبتها في المحضر المخلد ديوان الحكم؛ لأنه ينبغي أن يكون ذكر الدعوى والشهادة مكتوباً في بياض، ويكون في خريطة القاضي حتى يؤمن عن التغيير والتبديل، فعسى يحتاج إلى الرجوع إليه، حتى يكون عن بصيرة وطمأنينة. ثم بعد ذلك إن عرف القاضي الشهود أثبت ذلك في الكتاب، فيكتب: وهم معروفون عندي بالعدالة والرضا وقبول القول، فإن لم يعرفهم سأل المزكي عن حالهم الواحد يكفي، والاثنان أحوط وأبعد عن الخلاف، فإن أتوا عليهم بالعدالة يكتب:

ورجعت في التعريف عن حالهم إلى من إليه التزكية والتعديل بالناحية، وهم فلان وفلان، فنسباهم إلى العدالة والرضا وقبول الشهادة. فإن عدل بعضهم وجرح البعض، فإنه يكتب اسم من عدلاه؛ لأن القاضي المكتوب إليه إنما يقضي بشهادة العدلين، وكذلك يذكر اسم المزكين؛ لأن العدالة إنما تثبت بقولهم، فينبغي أن يعرفهم القاضي المكتوب إليه حتى يعلم أنه هل يجوز الاعتماد على قولهم في التزكية؟ وإنما كتب القاضي الكاتب السؤال عن الشهود وتعرف عن حالهم؛ لأنه لو لم يكتب ذلك احتاج القاضي المكتوب إليه إلى السؤال عنهم حتى يمكنه القضاء بشهادتهم، والسؤال عنهم، وعسى لا يمكنه ذلك في مصره، فيكتب القاضي ذلك حتى يعلم القاضي المكتوب إليه أن لا حاجة إلى السؤال عن حالهم. قال الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : ولو لم يكتب القاضي الكاتب في الكتاب أسماء الشهود الذين شهدوا عنده، وأخفى واكتفى بقوله شهد بذلك عندي شهود عدول كفى. قال: وهذا لما قلنا في القاضي إذا كتب في السجل إن شاء أظهر فيه أسماء الشهود وأنسابهم وإن شاء أخفى، واكتفى بقوله بعدما ثبت عندي شهادة شهود عدول كذا هاهنا. ثم القاضي الكاتب بعدما ظهرت عنده عدالة الشهود الذين شهدوا عنده بالحق للمدعي يحلف المدعي، فإن كان المدعى ديناً يستحلفه بالله ما قبضتَ هذا المال منه، ولا تعلم أن رسولاً لك أو وكيلاً لك قبض منه، أما أصل الاستحلاف مع أنه ليس هاهنا أحد يدعيه؛ لأن القاضي ناظر الكل من عجز عن النظر لنفسه بنفسه، والغائب عاجز عن النظر لنفسه بنفسه، فينظر له القاضي باستحلاف خصمه. هذا كما نقول فيمن ادعى ديناً على ميت وأقام البينة: إن القاضي يحلِّفع بالله بما استوفيت هذا الدين ولا أبرأته منه؛ لأن الميت عاجز عن النظر لنفسه بنفسه، فينظر له القاضي بالاستحلاف، وإذا استحلفه يحلف بالله ما قبضت هذا المال من هذا المدعى عليه، ولا يعلم أن رسولك أو وكيلك قبض هذا المال منه ولا أبرأته ولا أحلته به على أحد ولا اغتصبت مثله من جنسه ولا اغتصبت به؛ لأن الواحد من هذا لا تحصل براءة المدعى عليه، فيحلفه على جميع ذلك على الثبات والأصح ما ذكرنا؛ لأن الحلف على فعل الغير يكون على العلم، وسيأتي بيان ذلك في فصل اليمين إن شاء الله تعالى. وإذا عرفت حكم الاستحلاف في الدين فكذا في جميع الدعاوي التي يجوز فيها الكتاب؛ لأن الاستحلاف لنظر الغائب وإنه موجود في جميع هذه الفصول، ويحتاط القاضي في كل فصل حتى لا يستحلفه على ما يبطل دعواه، ويذكر في كتابه استحلاف المدعي، وكيفية استحلافه وما كان منه على وجه النظر للغائب ليكون أبلغ في العذر وأقرب إلى تحقيق معنى العدل، وهذا إذا لم يذهب المدعي بالكتاب بنفسه بل نصب وكيلاً. فأما إذا ذهب بالكتاب بنفسه، فالقاضي الكاتب لا يحتاج إلى هذا الاحتياط وإلى

تحليف المدعي، فإنه لو أراد المدعى عليه استحلافه يمكنه عند القاضي ذلك، ثم يكتب فقبلت شهادتهم قبول مثلها، وسألني المدعي هذا مكاتبة في ذلك الإشهاد عليه وعلى مضمونه وعلى ختمه فأجبته (90أ4) إليه، لإيجاب العلم للإجابة إليه، فأجزت كتابي هذا مسهلاً إليه ما جرى من عندي، ذلك على ما طويت كتابي هذا، وحكيت فيه معلماً بذلك إباءه حتى إذا وصل كتابي هذا إليه صحيح الختم وثبت عنده من الوجه الذي يوجب العلم قبوله قبله وقدم في باب مورده بالحق لله تعالى عليه تقديمه فيه معاناً بالتوفيق، وإنما يكتب سؤال المدعي؛ لأن القاضي نصب لفصل الخصومات لا لإحيائها، فتبين أن كتابة هذا الكتاب كان لسؤال المدعي ليكون معذوراً، ولأن كتاب القاضي حق المدعي، وحق الإنسان إنما يوفى بعد طلبه. وروي عن محمد رحمه الله أن القاضي الكاتب يذكر في الكتاب أسماء الشهود الذين أشهدهم على الكتاب، فيكتب: وأشهدت فلاناً وفلاناً وفلاناً على كتابي ومضمونه، وسأختم على كتابي بحضرتهم والإشهاد على مضمون الكتاب أمر لازم، لما ذكرنا أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله القاضي المكتوب إليه لا يقبل الكتاب حتى يشهد الشهود على مضمون الكتاب، وكذلك الختم بحضرتهم شرط لازم حتى يمكنهم الشهادة على الختم شرط عندهما، واختار بعض المتأخرين كتابة علامته على أوصال قطاع الكتاب وإنه زيادة لا بأس بها، ولا يحتاج إليها؛ لأن بالختم على الكتاب ينتفي احتمال إدخال قطعة فيها وإخراج قطعة عنها، كما ينتفي احتمال التغيير والتبديل. ولو وقع القاضي على صدر الكتاب وآخره كما في السجلات وغيره، ويكتب في آخره هذا الكتاب كتب عني بأمري بما جرى فيه مني وعندي، وإنه يشتمل على كذا وكذا قطعة وعلى الأوصال على ظاهره مكتوب كذا، وعلى الباطن مكتوب كذا، وسأختمه بخاتمي ونقش خاتمي كذا بذكر هذه الأشياء مبالغة في التوثيق، ولو لم يتوثق به لا بأس به؛ لأنه وقع الأمن بسبب الختم عن الاحتمال. ثم إذا انتهى الكتاب إلى المكتوب إليه ينبغي للمكتوب إليه أن يجمع بين الذي خاصمه بالكتاب وبين خصمه، يطلبه ولا ينبغي له أن يقبل البينة على أنه كتابة القاضي إلا ومعه خصمه، وإنما يجمع للمكتوب إليه بين المدعي وبين خصمه؛ لأنه يحتاج إلى فصل الخصومة بينهما، وإنما يمكنه ذلك عند حضورهما. ثم إذا جمع بينهما والمدعي يدعي حقه عليه، ويسأل القاضي المدعى عليه في دعواه، فإن أقر به ألزمه القاضي ذلك بإقراره، ووقع الاستغناء عن الكتاب، وإن جحد دعواه حتى إذا احتاج المدعي إلى إقامة الحجة يعرض الكتاب على القاضي، فإذا عرض، فالقاضي يقول له: ما هذا؟ فيقول كتاب القاضي فلان، فيقول له القاضي: هات البينة على أن هذا كتاب ذلك القاضي لأيعرف حقيقة الحال، فيسأله الحجة على ذلك، والحجة الشهادة. ولو قبل الكتاب من غير حضرة خصمه جاز، ولو سمع البينة على أن هذا كتاب

القاضي من غير حضرة خصمه لا يجوز فحضرة الخصم شرط قبول البينة على الكتاب لا شرط قبول الكتاب، وإنما كان حضرة الخصم شرط قبول البينة على الكتاب؛ لأن القضاء مضاف إلى هذه الشهادة، فلا بد لقبولها من حضرة (الخصم) كما لا بد للقضاء من حضرة الخصم؛ ولأن هذه شهادة في حقوق العباد ولا تقبل الشهادة في حقوق العباد إلا بحضرة الخصم. وقول محمد رحمه الله في الشروط: وإن قبل ذلك وليس معه خصم حاضر أراد به قبول الكتاب، لا قبول البينة على الكتاب. ثم إذا اشهد الشهود أن هذا كتاب القاضي فلان، مختوم بخاتمه ختمه بحضرتنا، وقرأه علينا وفسروا ما في الكتاب على وجهه وشهدوا به، فالقاضي يقبله. وفي «نوادر ابن رستم» أنه إذا وصل كتاب إلى القاضي ينبغي للمكتوب إليه أن يسأل الشهود عن القاضي الكاتب أهو عدل؟ فإن عدلوه عمل به وقبله وإن لم يعدلوه لا يقبله ولا يعمل به، وهذا السؤال لازم على الرواية التي تشترط العدالة لصيرورته قاضياً، وعليه الفتوى هذا السؤال بطريق الاحتياط ليكون أبعد عن الخلاف، قال ابن رستم: قلت لمحمد رحمه الله: إن قالوا: هو جاحد، قال: أنظر فيما قضى به، فإن كان موافقاً للحق أمضيته. ثم القاضي إذا قبل الكتاب ماذا يصنع؟ على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله يفتحه، والأولى أن يكون الفتح بحضرة الخصم؛ لأن الفتح لإمكان القضاء مكان القضاء، وإن فتح بغير محضر منه جاز؛ لأن الفتح ليس بقضاء حقيقة. ثم إذا فتحه نظر فيه إن كان ما فيه موافقاً لما شهد به الشهود، ختم الكتاب بخاتمه ووضعه عنده كما يفعل بالسجلات والمحاضر، وإن كان مخالفاً وهذه الشهادة، فإن كان موافقاً سأل عن الشهود اسم عدل إن كان القاضي لا يعرفهم بالعدالة. وذكر الخصاف في «أدب القاضي» لا يفتح الكتاب قبل حضور عدالة الشهود؛ لأن الفتح للقضاء وقبل ظهور عدالة الشهود لا يجوز القضاء؛ ولأن الشهود ربما لا يعدلون فيحتاج إلى شهود آخرين ولا يمكنهم أداء الشهادة بعد فتح الكتاب؛ لأنه ليس عليه خاتمه، فيؤدي إلى تضييع الحقوق وما قاله محمد رحمه الله أصح؛ لأن عندهما الشهادة على ما في الكتاب شرط، فلو لم يصح الكتاب حتى يشهدوا بما فيه، فإن ماتوا قبل ظهور عدالتهم أمكن للقاضي القضاء بها؛ لأن الموت بعد تمام الأداء لا يمنع القضاء، وعلى قول أبي يوسف لما لم يشترط شهادتهم على ما في الكتاب واكتفى بشهادتهم على الكتاب والختم لا يحتاج إلى فتح الكتاب قبل ظهور عدالتهم. وذكر ابن سماعة عن محمد رحمه الله أن في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله إذا جاء الرجل بكتاب في حق ينبغي للقاضي أن يحضر المدعى عليه، فإذا أحضره سأل الذي جاء بالكتاب أهو هذا الذي يدعى عليه؟ فإن قال: نعم سأله بعد ذلك أوَكيل أنت في الكتاب أو صاحب الكتاب؟ فإن قال: أنا صاحب الكتاب سأله البينة على أنه كتاب

القاضي، وإن قال: أنا وكيل الطالب وأنا فلان بن فلان، فإنه يسأل البينة أنه فلان بن فلان وأن فلاناً وكله. فرق بين هذا وبينما إذا قال: أنا صاحب الحق حيث لا يسأله القاضي البينة أنه فلان بن فلان؛ لأن شهود الكتاب يشهدون أن القاضي الكاتب كتب هذا الكتاب لأجله، وإذا أشاروا إليه وقع الاستغناء عن الاسم والنسب، فأما إذا قال: أنا وكيل فلان فشهود الكتاب لا يشيرون إليه في شهادتهم بل يشهدون أن القاضي الكاتب كتب الكتاب لأجل فلان الغائب، وأن الغائب وكل المسمى بالاسم والنسب، فلا بد من إثبات اسمه، فلعله وجد الكتاب مطروحاً فأخذه وأراد أن يأخذ بحق غيره، فلا بد من إثبات اسمه ونسبه ومن إثبات الوكالة حتى يصير خصماً يسمع منه دعوى الكتاب، فإن أقام بينة على الكتاب قبل أن يقضى ببينة وكالته القياس أن لا يقبله، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي الاستحسان: يقبل، وهو قول محمد، وعن أبي يوسف روايتان، وسيأتي الكلام بعد هذا إن شاء الله تعالى. قال ابن سماعة عن محمد رحمه الله: إذا سمع القاضي البينة على الوكالة والكتاب، فقبل أن تظهر عدالة الشهود عزل القاضي الكاتب، ثم ظهر عدالتهم، قضى القاضي بالأمرين جميعاً، أما بالوكالة فظاهر، وأما بالكتاب: فلأن كتاب القاضي لنقل الشهادة، فحيث شهدوا بالكتاب وأتوا بجميع الشرائط فقد تم النقل فلا يمنع القضاء بعد ذلك لمكان العزل؛ لأن ذلك لا يخل بالنقل الذي تم به. وإن عدلت بينة الوكالة ولم تعدل بينة الكتاب حتى عزل القاضي الكاتب، فأراد الوكيل أن يقيم بينة أخرى على الكتاب والختم، لا يقبل ذلك منه؛ لأن العزل وجد قبل تمام النقل، فصار كالعزل قبل الكتاب، وذلك يضيع الكتاب، فهذا يمتنع القضاء به. وإن عدلت بينة الكتاب ولم تعدل بينة الوكالة حتى عزل الكاتب، فأراد الوكيل أن يقيم البينة على أن فلاناً قد كان وكله يومئذ، وعدلت الشهود، قبلت البينة، وقضى بالوكالة؛ لأنه يقضي بالوكالة في زمان متقدم، وظهر أن بينة الكتاب والختم قامت من الخصم. وهذا التفريع إنما يتأتى على قول محمد رحمه الله، لا على قول أبي حنيفة؛ لأن على قوله البينة على الكتاب قبل القضاء بالوكالة غير مقبولة. ثم إذا قبل القاضي الكتاب وفتحه وأتى بجميع الشرائط على نحو ما بينا. هل يقضي بما في الكتاب؟ إن علم القاضي أن الذي جاء بالكتاب فلان بن فلان الفلاني، أو أقربه الخصم، أو شهد الشهود أنه صاحب الكتاب يقضي، وإن لم يكن شيء من هذا سأله البينة أنه فلان بن فلان؛ لأن الكتاب ينطق بالحق لفلان بن فلان، فلا بد من أن يعلم المكتوب إليه أنه فلان بن فلان، فلعل الذي جاء بالكتاب غير صاحب الحق تسمى باسم صاحب الحق ليأخذ حقه، وإن سأل البينة قبل ذلك فهو أحسن قصراً للمسافة. وإن كان المدعي يدعي داراً بالإرث فالقاضي الكاتب كتب في كتابه، وذكر أن فلان بن فلان بن فلان مات، فقد ذكر في تعريف من يتلقى الملك منه (90ب4) بالإرث؛ لأن

القضاء بالملك للوارث يحتمه الإرث إنما يكون بواسطة ثبوتها للمورث، فلا بد من معرفته ليمكنه القضاء له ثم ينتقل منه إلى الوارث، وتعريفه بذكر اسمه ونسبه، ثم يكتب: وترك داراً بالكوفة في بني فلان إلى آخر ما ذكرنا، ثم يكتب: وكانت هذه الدار ملكاً وحقاً لفلان بن فلان بن فلان وفي يده وتحت تصرفه إلى أن توفي وخلف فلاناً لا وارث له غيره، وترك هذه الدار المحدودة ميراثاً له، ولا ينبغي أن يكتفي بذكر المدعي لا أعلم له وارثاً غيري؛ لأنه إذا قال: لا أعلم له وارثاً، فما ادعى استحقاق جميع الدار لنفسه بل أظهر الشك في ذلك بالإضافة إلى علمه، فكيف يقضي له بملكية جميع الدار ثم يذكر، وأتاني فلان المدعي بفلان وفلان فشهدوا أن فلان بن فلان توفي إلى آخر ما ذكرنا. وإذا وقع الدعوى في العقار وطلب المدعي من القاضي أن يكتب له (في) ذلك كتاباً، فهذا على وجهين: إما أن يكون العقار في بلد المدعي ويكون المدعى عليه في بلد آخر، وإما أن يكون العقار في بلد آخر غير البلد الذي فيه المدعي، وإنه على وجهين: إما أن يكون في البلد الذي فيه المدعى عليه أو يكون في بلد آخر غير البلد الذي فيه المدعى عليه، وفي الوجوه كلها القاضي يكتب له بذلك كتاباً؛ لأن العبرة في هذه الغيبة للمدعى عليه. فبعد ذلك إن كان العقار في البلد الذي فيه المدعى عليه ووصل الكتاب إلى المكتوب إليه يعمل به بشرائطه على ما بينا، ويحكم به للمدعي، وأمر المحكوم إليه بتسليمه إلى المدعي، وإن امتنع المدعى عليه عن التسليم فالقاضي يسلم بنفسه؛ لأن العقار في ولايته فيقدر على تسليمه. وإن كان العقار في البلد الذي فيه المدعي، فالقاضي المكتوب إليه بالخيار، إن شاء يبعث المدعى عليه، أو وكيله مع المدعي إلى القاضي الكاتب حتى يقضي له عليه، ويسلم العقار إليه، وإن شاء حكم به لوجود الحجة وسجل له وكتب له قضية العقار، ليكون في يده وأشهد على ذلك ولكن لا يسلم العقار إليه؛ لأن العقار ليس في ولايته فلا يقدر على التسليم إلا أن العجز يمنع التسليم، أما لا يمنع الحكم بالملك، فلهذا قال: يحكم بالعقار للمدعي ولكن لا يسلم إليه. ثم إذا أورد المدعي قضية القاضي المكتوب إليه إلى القاضي الكاتب وأقام بينة على قضائه، فالقاضي الكاتب لا يقبل هذه البينة؛ لأنه يحتاج إلى تنفيذ ذلك القضاء، وتنفيذ القضاء بمنزلة القضاء، فلا يجوز على الغائب ولكن ينبغي للقاضي المكتوب إليه، أنه إذا قضى للمدعي وسجل له بأمر المدعي المدعى عليه أن يبعث مع المدعي أميناً لتسليم الدار إلى المدعي، فإن أبى ذلك كتب المكتوب إليه إلى الكاتب كتاباً، ويحكي كيفية كتابه الذي وصل إليه ويخبره بجميع ما جرى بين المدعي وبين المدعى عليه بحضور المدعي وبحكمه عليه بالعقار وأمره إياه، أن يبعث معه أحداً ليسلم العقار إليه، وامتناعه عن ذلك ثم يكتب، وذلك قبلك وسألني المدعي الكتاب إليك وإعلامك بحكمي له على فلان بذلك ليسلم إليه هذا العقار، فاعمل في ذلك يرحمك الله وإيانا بما يحق لله عليك ويسلم

العقار المحدود في الكتاب إلى المدعي فلان بن فلان موصل كتابي هذا إليك، فإذا وصل هذا الكتاب إلى القاضي الكاتب سلم العقار إلى المدعي وأخرجه من يد المدعى عليه. وإن كان العقار في بلد آخر غير البلد الذي فيه المدعى عليه، فالقاضي المكتوب إليه بالخيار إن شاء بعث المدعى عليه، أو وكيله مع المدعي إلى قاضب البلد الذي فيه العقار، ويكتب إليه كتاباً حتى يقضي للمدعي بالعقار بحضرة المدعى عليه، وإن شاء حكم به للمدعي وسجل له، ولكن لا يسلم العقار إليه على نحو ما بينا فيما إذا كان العقار في البلد الذي فيه المدعي. فإذا أراد القاضي أن يكتب في العبد الآبق عند أبي يوسف رحمه الله كيف يكتب؟ صورته: إذا كان لرجل بخاري عبد أبق إلى سمرقند فأخذه رجل سمرقنديٌ فأخبر به المولى، وليس للمولى شهود بسمرقند إنما شهوده ببخارى، فطلب المولى من قاض ببخارى أن يكتب بما شهد الشهود عنده، فالقاضي يجيبه إلى ذلك ويكتب له كتاباً إلى قاضي سمرقند على نحو ما بينا في الديون غير أنه يكتب: شهد عندي فلان وفلان وفلان، أن العبد السندي الذي يقال له فلان حليته كذا وقامته كذا ملك فلان المدعي هذا، وقد أبق إلى سمرقند واليوم في يد فلان بسمرقند بغير حق وشهد على كتابه شاهدان إلى (. ... ) إلى سمرقند، ويعلمهما ما في الكتاب حتى يشهدا عند قاضي سمرقند بالكتاب، وبما فيه فإذا انتهى هذا الكتاب إلى قاضي سمرقند يحضر العبد مع الذي في يديه حتى يشهدا عند قاضي سمرقند بالكتاب وبما فيه حتى تقبل شهادتهما بالإجماع. فإذا قبل القاضي شهادتهما، وثبتت عدالتهما عنده فتح الكتاب، فإن وجد حلية العبد المذكور فيه مخالفاً لما شهد به الشهود عند القاضي الكاتب رد هذا الكتاب إذ ظهر أن هذا العبد غير المشهود به في الكتاب، وإن كان موافقاً قُبِل الكتاب ودفع العبد إلى المدعي من غير أن يقضي له بالعبد، لأن الشهود لم يشهدوا بحضرة العبد ويأخذ كفيلاً من المدعي بنفس العبد، ويجعل في عنق العبد خاتماً من رصاص حتى لا يتعرض له أحد في الطريق، أنه سرق ويكتب كتاباً إلى قاضي بخارى بذلك ويشهد شاهدين على كتابه وختمه وعلى ما في الكتاب، فإذا وصل الكتاب إلى قاضي بخارى، وشهد الشهود أن هذا الكتاب كتاب قاضي سمرقند وخاتمه، أمر المدعي أن يحضر شهوده الذين شهدوا عنده أول مرة فيشهدون بحضرة العبد أنه ملك هذا المدعي. فإذا شهدوا بذلك ماذا يصنع قاضي بخارى؟، اختلفت الروايات عن أبي يوسف ذكر في بعض الروايات أن قاضي بخارى لا يقضي للمدعي بالعبد؛ لأن الخصم غائب ولكن يكتب كتاباً آخر إلى قاضي سمرقند، ويكتب فيه ما جرى عنده، ويشهد شاهدين على كتابه وختمه وما فيه ويبعث بالعبد معه إلى سمرقند حتى يقضي له قاضي سمرقند، وشهد الشاهدان عنده بالكتاب والختم وبما في الكتاب وظهرت عدالة الشاهدين، قضى

للمدعي بالعبد بحضرة المدعى عليه وأبرأ كفيل المدعي. وقال في رواية أخرى: إن قاضي بخارى يقضي بالعبد للمدعي ويكتب إلى قاضي سمرقند حتى يبرئ كفيل المدعي، وعلى الرواية التي جوّز أبو يوسف كتاب القاضي في «الأمالي» وصورته ما ذكرنا في العبد غير أن المدعي إذا لم يكن ثقة مأموناً، فالقاضي المكتوب إليه لا يدفعها إليه ولكن يأمر المدعي حتى يجيء برجل ثقة مأمون، فالقاضي المكتوب إليه بدينه وعقله يبعث بها معه؛ لأن الاحتياط في باب الجرح واجب، وإذا مات القاضي الكاتب قبل أن يصل الكتاب إلى المكتوب إليه، فالمكتوب إليه لا يعمل بهذا الكتاب عندنا. وقال أبو يوسف في «الأمالي» : يعمل وهو قول الشافعي، ووجهه: أن كتاب القاضي إلى القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة، لأنه بكتابه ينقل شهادة الشاهدين الذين شهدوا عنده بالحق إلى القاضي المكتوب إليه، والنقل قد تم بالكتابة فكان بمنزلة شهود الفرع إذا ماتوا بعد أداء الشهادة قبل القضاء، وإنه لا يمنع القضاء. ولنا: أن القاضي الكاتب وإن كان نقل أداء شهادة الذين شهدوا عنده إلا أن لهذا النقل حكم القضاء، ألا ترى أنه لا يصح هذا النقل إلا من القاضي، ولم يشترط فيه العدد ولفظه: الشهادة، ووجب على القاضي الكاتب هذا النقل بسماع البينة، وما يجب على القاضي بسماع البينة قضاء، فدل أن لهذا النقل حكم القضاء ولم يتم بعد؛ لأن تمامه بوجوب القضاء على المكتوب إليه، ولا يجب القضاء على المكتوب إليه قبل وصول الكتاب إليه وقبل قراءته فلم يكن النقل تاماً، فيبطل بموت القاضي كما في سائر الأقضية إذا مات القاضي قبل إتمامها بخلاف شهود الفرع، إذا ماتوا بعد الشهادة قبل القضاء؛ لأن ما يتوقع من جهتهما أداء موجب للقضاء وقد تم، أما المتوقع من جهة القاضي الكاتب نقل موجب القضاء ولم يتم بعد، ولأن مسألة الكتاب من مسألة الشهادة، إذا قال الشاهد: أشهد ومات قبل تمام الأداء وهناك تبطل الشهادة أيضاً، ولو قبل مع هذا وقضي به ثم رفع إلى قاض آخر أمضاه؛ لأن قضاءه صادف محل الاجتهاد. وكذلك الجواب فيما إذا مات بعد وصول الكتاب إليه قبل القراءة، لأن وجوب القضاء على المكتوب إليه إنما يكون عند القراءة فقبل القراءة لم يكن النقل تاماً، فيبطل بالموت. وأما إذا مات بعد وصول الكتاب والقراءة، فإن المكتوب إليه يعمل به هكذا ذكر في «ظاهر الرواية» ، وذكر في اختلاف زفر ويعقوب عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يقضي، والصحيح ما ذكر في «ظاهر الرواية» ؛ لأن المتوقع من قبل القاضي الكاتب نقل الشهادة، وقد تم النقل منه فموته بعد ذلك لا يضر، والمتوقع من قبل المكتوب إليه القضاء وإنه حي، فأمكن القول بوجوب القضاء عليه إذا مات القاضي الكاتب. فإن عزل الكاتب فالجواب فيه كالجواب فيما إذا مات إذ المعنى لا يوجب الفصل. وأما إذا مات المكتوب إليه أو عزل واستعمل مكانه قاضٍ آخر، فوصل الكتاب إلى

الذي استعمل، هل يعمل به؟ ينظر إن كان في الكتاب وإلى كل من يصل إليه، من قضاة المسلمين يعمل به، وإن كان بخلافه لا يعمل به عندنا خلافاً للشافعي رحمه الله، والصحيح قولنا؛ لأن القاضي الكاتب اعتمد على (91أ4) علم الأول وأمانته، والقضاة يتفاوتون في أداء الأمانات؛ لأنهم غير معصومين عن الخيانة، فصاروا كالأمناء في الأموال، وثمة التعيين صحيح، فكذا هاهنا. وإذا صح التعيين ظهر أن الثاني غير المكتوب إليه وغير المكتوب إليه، لا يملك القضاء بالكتاب، بخلاف ما إذا كان في الكتاب، وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين؛ لأن هناك اعتمد على علم الكل وأمانتهم فكان الكل مكتوباً إليهم، أما هاهنا بخلافه. وقال في كتاب الحوالة: وإذا جاء الرجل بكتاب القاضي إلى قاضٍ آخر، فلم يجد خصمه ثمة، فسأل الطالب القاضي المكتوب إليه أن يكتب له إلى قاض آخر بما أتاه من القاضي الأول فعل إذا ثبت عنده ذلك، وشرط الثبوت ما ذكرنا؛ وهذا لأن شهادة الشهود الذين شهدوا عند القاضي الكاتب صار منقولاً إلى المكتوب إليه حكماً، فيعتبر بما لو شهدوا عنده حقيقة ولو شهدوا عنده حقيقة وطلب المدعي من القاضي أن يكتب له كتاباً إلى قاضي البلد الذي خصمه هناك، أليس أنه يكتب له كتاباً؟ كذا هنا، إلا أن القاضي المكتوب إليه إنما يكتب بقدر ما ثبت عنده، والثابت عنده كتاب القاضي الأول بالحق على الغائب لا نفس الحق، فيكتب ويفسخ كتاب القاضي الأول؛ لأنه هو أصل الحجة وإن شاء حكاه ذلك في كتابه، وكذلك إن كان المدعي، قال للقاضي الأول: إني لا آخذ من الشهود من يصحبني إلى بلد الخصم فاكتب إلى قاضي بلد كذا، فكتب ذلك القاضي إلى قاضي بلد الخصم، أجابه القاضي إلى ذلك، فإن الإنسان عسى يصير مبتلى بهذه فربما لا يجد من بلد الكاتب، فلعله يذهب إلى بلد الخصم، ويجد قافلة من بلدة أخرى يذهب إلى بلد الخصم، ومن هذه البلدة إلى تلك البلدة، وكذلك على هذا لو عرض الشهود الذين على الكتاب فأشهدوا على شهادتهم جاز ذلك. وإذا شهد الفروع على شهادة الأصول على الكتاب بما ذكرنا من الشرائط عند المكتوب إليه فإنه يقبله؛ لأن الشهادة على الشهادة حجة في إثبات الحقوق التي تثبت مع الشبهات، فجاز أن يثبت بالشهادة على الشهادة، فيثبت بشهادة الفروع شهادة الأصول، ويثبت بشهادة الأصول كتاب القاضي إليه، فلو كان المدعي قال للقاضي الأول: اكتب لي إلى قاضي مرو أو إلى قاضي نيسابور حتى أذهب إلى مرو، فإن وجدت خصمي ثمة وإلا ذهبت إلى قاضي نيسابور، فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: القاضي يجيبه (إلى) ذلك؛ لأنه توسع في هذا الباب حتى جوّز الكتاب إلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين للحاجة، والجهالة فيه أعظم، فإن كان يجوز ثمة فهاهنا أولى، وعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا يكتب على هذا الوجه؛ لأن جهالة المكتوب إليه عندهما مانعة صحة الكتاب. ولو كان كتب إلى قاضي مرو فوجد الطالب خصمه هناك وأقام البينة على الكتاب

بشرائطه عند قاضي مرو بحضرة المطلوب ثم هرب المطلوب قبل أن تظهر عدالة الشهود، وذهب إلى سرخس، ثم ظهرت عدالة الشهود، قال أبو يوسف رحمه الله: ليس للقاضي المكتوب إليه أن يكتب إلى قاضي سرخس. وقال محمد رحمه الله: له ذلك، وهذه المسألة فرع مسألة ذكرها محمد رحمه الله في «الزيادات» ، وهو أن الرجل إذا ادعى على آخر مالاً، وأقام البينة بمحضر من المطلوب وجحوده، ثم هرب المطلوب ليس للقاضي أن يقضي بتلك البينة عند محمد رحمه الله؛ لأن القضاء لإلزام الحق، وليس للقاضي ولاية على الغائب فلا يصح الإلزام عليه بالقضاء؛ ولأنه لم يظهر عجزه عن الطعن بسبب الغيبة، فلعله ذهب ليأتي بالدفع فلا يجوز القضاء. وقال أبو يوسف رحمه الله: له أن يقضي عليه بتلك البينة؛ لأن حضرة الخصم لأجل سماع البينة عليه، إنما شرطت للجحود الذي هو شرط سماع البينة وليصير الحال معلوماً للمدعى عليه، حتى لو كان له دفع يأتي به وقد جحد ولم يأت يدفع حتى هرب، فدل على عجزه عن الدفع، فكان للقاضي أن يقضي عليه وقياسه على ما لو أقر المدعى عليه ثم غاب، وهناك القاضي يقضي عليه بإقراره كذا هنا. ومحمد رحمه الله فرق بين الإقرار وبين البينة، والفرق أن الإقرار يوجب الحق بنفسه من غير اتصال القضاء به، فلم يكن في القضاء حال غيية الخصم إلزام الحكم على الغائب، فأما الشهادة لا توجب الحق بنفسها قبل اتصال القضاء بها، فلو قضى بها حال غيبة الخصم كان فيه إلزام الحكم على الغائب، وإنه لا يجوز ولاية لو جاز القضاء بالبينة مع غيبة الخصم يفسد عليه الطعن مع البينة، فلا يقضى حتى لا يفوت حقه في الدفع والطعن بخلاف الإقرار، فإنه لاحق له في الطعن، فلهذا اختار، والظاهر من قول أبي حنيفة أنه مع محمد رحمهما الله، وإذا كان له أن يقضي مع غيبة المطلوب عند أبي يوسف رحمه الله لا حاجة إلى الكتاب فلا يكتب. وعند محمد رحمه الله لما لم يكن له أن يقضي، وقد ظهر عنده وثبت كتاب القاضي وما فيه كان له أن يكتب إلى غيره إحياء لحق المدعي، فإن رجع الطالب إلى القاضي الكاتب الأول وقال: اكتب لي إلى قاضي بلدة أخرى؛ لأني لم أجد خصمي في تلك البلدة، فإنه لا يكتب له في ذلك حتى يرد عليه ذلك الكتاب؛ لأنه مبهم فيما يقول إذ يجوز أنه وجد خصمه واستوفى حقه، فلما ارتحل خصمه إلى بلدة أخرى أراد أن يحتال بهذه الحيلة ليأخذ منه ثانياً، فيحتاط القاضي ولا يكتب حتى يرد عليه ذلك الكتاب، فإذا رد الآن يكتب، فالإنسان قد يصير مبتلى بهذا بأن يرتحل خصمه من بلدة المكتوب إليه إلى بلدة أخرى، وما ذكرنا من الاحتمال قد زال برد الكتاب؛ لأن القاضي المكتوب إليه لو أخذ المدعى عليه بحق المدعي لا يترك المدعي حتى يذهب بالكتاب، فيكتب ثانياً إحياء لحق المدعي. ولو أن القاضي الكاتب أراد أن يكتب له ثانياً قبل رد ذلك الكتاب عليه مع أنه ليس

(ينبغي) ذلك ينبغي أن يبين في الكتاب، أنه قد كتب له مرة إلى قاضي بلدة كذا بهذه النسخة ليزول به الالتباس، وكذلك لو أن الطالب قال: قد ضاع مني الكتاب وطلب من القاضي أن يكتب له ثانياً، يكتب لما قلنا وبين في الكتاب أنه قد كتب له بهذه النسخة مرة وإنه زعم أنه ضاع حتى يزول به الالتباس. قال في «أدب القاضي» : وإذا كتب كتاباً بحق لرجل، فلم يخرج الكتاب من يده حتى حضر الخصم الذي أخذ الكتاب عليه، فقدمه إليه فإنه لا ينبغي للقاضي أن يقضي عليه بذلك حتى يعيد المدعي البينة على ذلك بحضرته؛ لأنه إنما سمع تلك البينة للنقل لا للقضاء، فصار بمنزلة شاهد الفرع إذا تحمل الشهادة عن الأصل ثم استقضى لم يكن له أن يقضي بشهادة الأصل حتى يشهدوا عنده ثانياً على الحق؛ لأنه إنما سمع منهم تلك الشهادة ليتحمل شهادته عليها لا ليقضي بها، فلم يجز له أن يقضي بها، وهذا لأن البينة للقضاء شرط صحتها حضرة الخصم وتقدير جحوده ولم يوجد فلا يجوز القضاء بها. وإن كتب القاضي إلى الأمير الذي استعمله أي قلده، وهو معه في المصر: أصلح الله الأمير وقص القصة والشهادة وبعث بالكتاب معه ثقة يعرفه الأمير، فإن أمضاه الأمير فهو جائز، وإن لم يكن معنوناً ولا مختوماً، ولا شهد عليه الشهود أنه كتاب القاضي وختمه وهذا استحسان. والقياس أن لا يجوز إذا لم يكن عليه عنوان باسم القاضي، واسم الأمير واسم آبائهما وأجدادهما، ولا يكون مختوماً ولا شهد عليه شاهدان؛ لأن الكتاب إذا لم يكن مختوماً لا يؤمن فيه الزيادة والنقصان والتغيير والتبديل؛ ولأنه بدون الشهادة والعنوان لا يثبت أنه كتاب القاضي إليه فوجب أن لا يقبل كما إذا كان الأمير في مصر آخر وكما في كتاب القاضي إلى القاضي. وجه الاستحسان: أن كتاب القاضي إلى الأمير في المصر ينكر؛ لأنه يستعين به في كل ما يعجز بنفسه، فلو شرطنا هذه الشرائط أدى (إلى) حرج بخلاف ما إذا كانا في مصرين؛ ولأنه قل ما يتجاسر أحد على التغيير في الكتاب إلى الأمير إذا كانا في مصر واحد؛ لأنهما يلتقيان عن قريب، فيتذاكران ما نقل أحدهما إلى الآخر فيقفان على التغيير لو حصل فلا يتجاسر أحد على ذلك، بخلاف ما إذا كان في مصر آخر؛ لأنه لا يقف على التغيير فيبالغ في الاحتياط. قال في «الأصل» : ولا يُقبل كتاب برستاق أو قرية ولا كتاب عاملها، وإنما يقبل كتاب قاضي مدينة فيها منبر وجماعة. وهذا على «ظاهر الرواية» ؛ لأن على «ظاهر الرواية» : المصر شرط لنفاذ القضاء، ولكتاب القاضي حكم القضاء، أما على الرواية التي لم يشترط المصر فيها لنفاذ القضاء يقبل كتاب الرستاق وقاضي القرية. ولو أن رجلاً في يديه أمة أقام الآخر البينة أنها له، وقضى القاضي له فقال الذي في يديه: إني اشتريتها من فلان وهو في بلد كذا وقد دفعت الثمن إليه فاسمع شهودي واكتب لي، فإنه يكتب له في ذلك بما يصح عنده، لأنه يريد الرجوع بالثمن وإنه دين،

فصار بمنزلة سائر الديون، فيكتب فيه القاضي كما في سائر الديون. ولو أن جارية في يدي رجل ادعت أنها حرة الأصل (91ب4) بعد ما أقرت بالرق وأقامت البينة قضى القاضي بحريتها؛ إما لأن التناقض لا يمنع صحة الدعوى في الحرية؛ لأنها لا تحتمل الفسخ؛ أو لأن دعوى الأمة ليست بشرط لسماع البينة على حريتها. فإن أقام الذي في يديه البينة على أنه اشتراها من فلان الغائب بكذا ونقده الثمن، وطلب من القاضي الكتاب يجيبه إلى ذلك؛ لأنه يريد الرجوع بالثمن وإنه دين. ولو أنها لم تقم البينة على حريتها ولكن ادعت الحرية وأنكرت إقرارها بالرق، ولم يكن لذي اليد بينة على إقرارها بالرق جعلها القاضي حرة؛ لأنها في يد نفسها، والقول قولها بغير يمين عند أبي حنيفة خلافاً لهما، فإنهما يجعلان عليها اليمين. فإن قال ذو اليد: إني اشتريتها من فلان ونقدته الثمن فاسمع من شهودي لأرجع عليه بالثمن لا يجيبه إلى ذلك بخلاف المسألة الأولى. والفرق أن في هذه المسألة القاضي ما قضى بحريتها بل تركها على ما كانت، وقد كانت على الحرية بحكم ظاهر الدار؛ لأن الدار دار الإسلام، ومن كانت في دار الإسلام فالظاهر أنها حرة، لكن لم يكن يحكم بحريتها قبل دعواها؛ لأن سكوتها مخالف لذلك الظاهر، فإذا ادعت الحرية فقد تقرر حكم ذلك الظاهر فتركها القاضي على ما أوجبه الظاهر، لا أن الحرية وجبت بقضائه، وإذا لم يكن هذا قضاء بالحرية لم تظهر الحرية في حق البائع، فلا يكون للمشتري حق الرجوع على البائع أما في المسألة الأولى القاضي قضى بالحرية وأوجبها بالبينة، وإنه قضاء على الناس كافة، فتظهر الحرية في حق البائع فيستحق لهما الرجوع على البائع. وكذلك إذا ادعت حرية الأصل بعدما أقرت بالرق وصدقها صاحب اليد لا يرجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن الحرية إنما ظهرت بإقرار صاحب اليد، وإقراره لا يكون حجة على البائع، وكذلك إذا أنكرت الرق ابتداء، وادعت حرية الأصل حتى كان القول قولها لا يكون للمشتري أن يرجع بالثمن على البائع، فإن أراد المشتري أن يحلف البائع في هذين الفصلين ما يعلم أنها حرة الأصل يريد به الرجوع بالثمن على البائع فله ذلك؛ لأنه يدعي عليه معنى لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف فإن حلف لا شيء عليه، وإن نكل فقد أقر بما ادعاه المشتري فيلزمه رد جميع الثمن. فإن قيل: كيف يحلف البائع هاهنا، وإن التحليف يترتب على دعوى صحيحة ودعوى الحرية من المشتري لم تصح لمكان التناقض، فإن الإقدام على الشراء إقرار بالرق عليها قلنا: لا بل دعوى الحرية من المشتري صحيحة مع تناقضها لما عرف أن التناقض لا تمنع صحة دعوى الحرية، فلو أن المشتري في هذين الفصلين لم يطلب تحليف البائع ولكنه أراد أن يقيم البينة على حريتها يريد به الرجوع بالثمن على البائع، سمعت بينته. فرق بين هذا وبينما إذا ادعى رجل عيناً في يدي رجل وأقر صاحب اليد بالعين له لا يكون لصاحب اليد أن يرجع على بائعه بالثمن، فلو قال صاحب اليد: أنا أقيم البينة على

أنه ملك المدعي يريد به الرجوع على البائع لا تسمع بينته، والفرق من وجهين: أحدهما: أن في فصل الاستحقاق بينة المشتري قامت على إثبات ما هو ثابت؛ لأنها قامت على إثبات الملك للمستحق والملك للمستحق ثابت بإقرار المشتري، أما في فصل الحرية بينة المشتري قامت على إثبات ما ليس بثابت؛ لأن المشتري بينته تثبت أن البائع غاصب للثمن، لأن الحرة لا تدخل تحت العقد أصلاً وبدلها لا يصير ملكاً للبائع، فهو بهذه البينة يثبت أن البائع قبض مال المشتري بغير حق، وهذا هو تفسير الغصب والغصب لم يكن ثابتاً. أما المشتري في فصل الاستحقاق لا يثبت غصب البائع الثمن؛ لأنه لا يثبت أن ما أخذه البائع أخذه بغير حق؛ لأن بدل المستحق مملوك ولكن يثبت الملك للمستحق في المحل ليثبت لنفسه حق فسخ العقد، وفيما يرجع إلى الملك البينة قامت على إثبات ما هو ثابت. الفرق الثاني: أن في الفصلين جميعاً المشتري متناقض إلا أن التناقض لا يمنع دعوى الحرية ويمنع دعوى الملك. ولو أن رجلاً أورد على قاض كتاباً من قاض على رجل بحق فوافى البلد وقد مات المطلوب، فأحضر الطالب ورثة المطلوب أو وصيه وجاء بالكتاب إلى القاضي وأحضر شهوده على الكتاب بمحضر من الوارث أو القاضي، فالقاضي يقبل الكتاب ويسمع من شهوده على الكتاب بمحضر من الوارث أو الوصي وينفذ ذلك، سواء كان تاريخ الكتاب بعد موت المطلوب أو قبله؛ لأن الوارث خليفة المورث والوصي نائب عن الميت، فيكون قائماً مقام الميت. ألا ترى أن الطالب لو أقام بينة بالحق على الميت كان الوارث والوصي هو الخصم كذا هنا. وإذا ورد على قاض كتاب قاض آخر بشيء لا يراه هذا القاضي وهو مما اختلف فيه الفقهاء، فإنه لا ينفذه؛ لأن كتاب القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة، ثم شهود الفرع إذا شهدوا بحق عند القاضي وهو لا يرى ثبوت ذلك الحق وهو مما اختلف فيه العلماء فإنه ينفذه ويمضيه. والفرق وهو أن السجل لا يكون إلا بعد القضاء، والقضاء صادف محلاً مجتهداً فيه، فينفذ فلا يكون لأحد بعد ذلك إبطاله، فأما الكتاب يكون قبل القضاء، فكان للقاضي الذي ورد عليه الكتاب أن يتبع رأي نفسه. وإلى هذا الفرق أشار الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» ، فقال: لأن كتاب القاضي ليس بقضية، إنما هو بمنزلة الشهادة ولئن سلمنا أن كتاب القاضي قضاء إلا أنه ليس بقضاء من كل وجه بل هو قضاء من وجه دون وجه، فمن حيث إنه قضاء إن كان يجب على الثاني العمل به، فمن حيث إنه ليس بقضاء لا يجب فلا يجب العمل به على الثاني بالشك. ولو أن رجلاً أورد على قاضٍ كتاباً من قاض بحق على رجل، وكان في الكتاب اسم المدعى عليه ونسبه وصناعته وفخذه، وفي تلك الصناعة أو في تلك الفخذ اثنان على ذلك الاسم والنسب لم يقبل القاضي الكتاب حتى يقيم البينة على المطلوب أنه هو الذي

كتب فيه الكتاب؛ لأن التعريف لا يقع بهذا إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر، وإن لم يكن في تلك القبيلة أو الصناعة اثنان على ذلك الاسم أنفذ القاضي الحكم عليه؛ لأنه وقع التعريف بهذا. فإن قال: المطلوب في هذا الفخذ، أو في هذه التجارة رجل على هذا الاسم والنسب، فهذا على وجهين: إن قال: أنا أقيم البينة أن في هذا الفخذ أو في هذه التجارة رجل على هذا الاسم والنسب تقبل هذه الشهادة وتندفع الخصومة؛ لأنه إذا كان فيه رجل آخر بهذا الاسم في الحال لا يتعين هو المطلوب. وإن قال أنا أقيم البينة أنه كان في هذا الفخذ أو في هذه التجارة رجل على هذا الاسم والنسب وأنه مات لم أقبل ذلك منه إلا أن يكون موت فلان بعد تاريخ الكتاب وشهادة الشهود بالحق في كتاب القاضي الآن، وتندفع الخصومة؛ لأنه إذا كان فلان مات قبل تاريخ الكتاب تعين الباقي مطلوباً، وإذا مات فلان بعد تاريخ الكتاب لم يتعين فيبقى الاشتباه.k وإن قال الخصم: أنا فلان بن فلان الفلاني وليس لهذا علي شيء لم أقبل ذلك منه ولم يكن في هذا حجة له؛ لأنه أقر أن المكتوب في الكتاب هو، فلا يكون جحوده الحق حجة له. ولو قال: لي حجة، أني دفعت المال إليه أو أبرأني، وإني مخرج قبل القاضي منه، لأنه يدعي المخرج منه وإسقاط الحق فتقبل حجته على ذلك. وإن قال الخصم لست بفلان بن فلان الفلاني والقاضي المكتوب إليه لا يعرفه، فعلى الرجل الذي يأتي بالكتاب أن يقيم البينة أنه فلان بن فلان بعينه؛ لأن القاضي لم يعرف المطلوب، فيحتاج المدعي إلى إقامة البينة على أنه بعينه حتى يتمكن القاضي من القضاء عليه، وإن كان الكتاب على ميت أحضر القاضي بعض ورثته وسمع من الشهود وقبل الكتاب؛ لأن بعض الورثة ينتصب خصماً فيما يدعى على الميت. ولو أن هذا القاضي لم يأته بالكتاب من القاضي لكنه أتاه برسالة من القاضي مع رجل بمثل ما يكون في الكتاب، وأشهد على ذلك، لم يقبل القاضي هذه الرسالة. وفرق بين الرسالة والكتاب، والفرق من وجهين. أحدهما: أن القياس يأبى الرسالة كما يأبى الكتاب لبعض ما ذكرنا من المعاني في الكتاب، لكن عرفنا جواز الكتاب بالأثر وبإجماع التابعين (92أ4) ولا أثر ولا إجماع في الرسالة فيعمل فيها بالقياس. الفرق الثاني: أن الكتاب من القاضي الكاتب جعل كالخطاب بنفسه للقاضي المكتوب إليه، والكتاب وجد من موضع القضاء، فكان الخطاب موجوداً من موضع القضاء فيكون حجة، أما في الرسالة، الرسول ينقل خطاب المرسل في هذا الموضع، والمرسل في هذا الموضع ليس بقاض، وقول القاضي في غير موضع قضائه كقول واحد من الرعايا.

ونظير هذا ما روي عن محمد في مصر فيه قاضيان في كل جانب منه قاض على حدة، فيكتب أحدهما إلى الآخر كتاباً قبل المكتوب إليه. ولو أتى أحدهما إلى صاحبه وأخبره بالحادثة بنفسه لم يقبل قوله؛ لأن في الوجه الأول الكاتب خاطبه من موضع القضاء وفي هذا الوجه الأول خاطبه من غير موضع القضاء. وكذلك لو أن قاضيين التقيا في عمل أحدهما أو في مصر ليس من عملهما، فقال أحدهما للآخر: قد ثبت عندي لفلان بن فلان بن فلان الفلاني كذا كذا، فاعمل بذلك بما يحق لله تعالى عليك، لم يقبل ذلك منه ولم ينفذه؛ لأن في الوجه الأول: الخطاب أو السماع وجد في موضع لا ينفذ قضاؤه فيه، فصار كخطاب غير القاضي أو كسماعه وهو غير قاض، فلا يجوز أن يعتمد في القضاء به. وفي الوجه الثاني: الخطاب والسماع وجدا في موضع لا ينفذ قضاؤه فيه، فكان كخطاب غير القاضي لغير القاضي بخلاف كتاب القاضي إلى القاضي؛ لأن خطاب الكاتب وجد في موضع ينفذ قضاؤه فيه، وسماع المكتوب إليه وجد أيضاً في موضع ينفذ قضاؤه فيه. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل له على رجل غائب مال مؤجل، سأل من القاضي أن يكتب له بذلك كتاباً، فإنه يجيبه إلى ذلك ويكتب له، ويذكر فيه الأجل على ما شهد به الشهود؛ وهذا لأن الطالب يحتاج إلى إثبات المال المؤجل كما يحتاج إلى إثبات المال الحال؛ لأن الدين كما يكون حالاً يكون مؤجلاً، ولو انتظر محل الأجل عسى يغيب شهوده فيتعذر إليه الوصول إلى حقه، فقلنا بأنه يكتب إحياء لحقه، ولكن ينبغي أن يذكر الأجل في الكتاب كما شهد به الشهود حتى لا يطالبه قبل محل الأجل، فمطلق الدين يتصرف إلى الحال التي يثبت فيه التأجيل. قال: وإذا ادعى المطلوب أن الطالب قد أبرأني عن كل قليل وكثير، وقال: قضيت الدين الذي له علي وأقام على ذلك بينة، وقال للقاضي: إني أريد أن أقدم البلدة التي فيها الطالب وأخاف أن يأخذني بالمال ويجحد الإبراء والاستيفاء وشهودي هاهنا فاسمع من شهودي واكتب لي إلى ذلك القاضي، فإنه لا يسمع من شهوده ولا يكتب له في ذلك على قول أبي يوسف، وقال محمد رحمه الله: يكتب، وأجمعوا على أنه لو قال: جحدني الاستيفاء مرة وخاصمني مرة، فأنا أخاف أن يخاصمني مرة أخرى، فاسمع من شهودي واكتب لي إلى قاضي ذلك البلد إنه يكتب، فوجه قول محمد: أن جواز كتاب القاضي إلى القاضي باعتبار الحاجة، والحاجة هنا ثابتة، فإنه لو حضر تلك البلدة ربما يأخذه الطالب بالمال، وليس له ثمة شهود على الإبراء، فيحتاج إلى العود إلى بلد الشهود وإقامة الشهود عند القاضي، وأخذ الكتاب منه وفيه من الحرج ما لا يخفى على أحد. وأبو يوسف رحمه الله يقول: قبول البينة يعتمد جحوداً حقيقة أو جحوداً مخبراً به ولم يوجد كلاهما بخلاف ما إذا قال: جحدني الاستيفاء مرة أخرى؛ لأن الجحود صار مخبراً به إن لم يوجد حقيقة.

فالحاصل: أن حقيقة الجحود من الحاضر يشترط لسماع البينة عليه ليقضي عليه، ومن الغائب يشترط خبر الجحود ليسمع البينة عليه ويكتب؛ ولأن القاضي نصب لفصل الخصومات لا لتهييجها، وفي هذا تهييج الخصومة؛ لأن الخصومة ما توجهت بعد، فلهذا لا يجيبه إليه، ألا ترى أن الطالب لو كان حاضراً وقدمه المطلوب إلى القاضي وادعى عليه الإبراء أو الاستيفاء وطلب من القاضي أن يسأله عن ذلك حتى لو أنكر أقام عليه البينة، فإنه لا يجيبه إلى ذلك، فلما لم يسمع منه ذلك حال حضرته، فحال غيبته أولى. بخلاف ما لو قال: خاصمني مرة؛ لأن هناك الخصومة قد هاجت، فكانت الكتابة لفصلها وقوانين مسألة الاستشهاد، وبينما إذا أحضرت المرأة زوجها إلى القاضي، وقالت: إنه طلقني ثلاثاً وانقضت عدتي وتزوجت بزوج وإني أخاف أن ينكر الطلاق بعد ذلك، فاسأله حتى إذا أنكر أقمت عليه البينة فإن القاضي يسأله، والفرق ظاهر وهو أن القياس فيهما واحد وهو ما ذكرنا، إلا أنا تركناه ثمة احتياطاً؛ لأن الباب باب الفرج، والاحتياط في باب الفرج واجب. ومن جنس مسألة دعوى الإبراء على الغائب مسألتان أخراوان: إحداهما: مسألة الشفعة. وصورتها: رجل قال للقاضي: إني اشتريت داراً وفلان الغائب شفيعها وقد سلم الشفعة، وأجازني إذا ذهبت ثم يأخذني بالشفعة وينكر التسليم ويطلب منه أن يسمع البينة على التسليم ويكتب بذلك فهو على الخلاف الذي قلنا. الثانية: مسألة الطلاق. وصورتها: امرأة قالت للقاضي: طلقني زوجي ثلاثاً وهو في بلد كذا اليوم، وأنا أريد أن أذهب إلى تلك البلدة وأخاف أن زوجي ينكر طلاقي فاسمع من شهودي، واكتب إلى قاضي تلك البلدة، فالقاضي هل يجيبها؟ فهو على الخلاف الذي ذكرنا. فإن كان هذا الذي حضر القاضي أخبره عن الجحود والخصومة مرة سمع بينته وكتب له بذلك بلا خلاف. ولو كان الطالب أبرأ المطلوب عند القاضي أو كان الشفيع سلم الشفعة عند القاضي أو كان الزوج طلق المرأة عند القاضي، فالقاضي يكتب ما سمع منهم وهذا على أصل محمد رحمه الله ظاهر؛ لأن العلم الحاصل بالمعاينة فوق العلم الحاصل بالبينة، فلما كان القاضي يكتب ثمة فهاهنا أولى. قالوا: وعلى قياس قول أبي يوسف رحمه الله ينبغي أن لا يكتب لما مر. وإذا أراد القاضي أن يكتب بعلمه فاعلم بأن كتاب القاضي بعلمه بمنزلة قضائه بعلمه؛ لأن كتاب القاضي له حكم القضاء من وجه، ففي كل موضع جاز له أن يقضي بعلمه جاز له أن يكتب بعلمه، وقد ذكرنا فصل القضاء بالعلم قبل هذا ما فيه اتفاق وما فيه خلاف، فهذا بناء على ذلك. إلا أن في فصل الكتابة اختلف المشايخ على قول أبي حنيفة في صورة، وهو ما إذا علم بالحادثة قبل أن يستقضي ثم استقضى بعضهم، قالوا: لا يكتب بذلك العلم، كما لا

يقضي بذلك العلم، وبعضهم قالوا: يكتب. وفرق هذا القائل على قول أبي حنيفة بين الكتابة والقضاء، والفرق أن جواز القضاء ينبني على علم القضاء، والعلم الحاصل قبل الاستقضاء علم شهادة لا علم قضاء، أما جواز كتاب القاضي لا ينبني على علم القضاء بل يكتفى به بعلم الشهادة، ألا ترى أنه لو شهد عند القاضي شاهدان وكتب ثم حضر المكتوب عليه ليس له أن يقضي بذلك العلم، وقد جاز له الكتابة به، علم أن جواز الكتابة لا ينبني على علم القضاء. قال محمد رحمه الله في كتاب الوكالة: رجل وكل رجلاً بالخصومة في دار في غير مصره بقبضها أو بإجارتها، وأراد كتاب القاضي فالقاضي يكتب له في ذلك؛ لأن الوكالة تثبت مع الشبهات فتثبت بكتاب القاضي إلى القاضي، فبعد ذلك إن كان القاضي عرف الموكل أثبت معرفته، وإن لم يعرف يكتب وقد سألته البينة على أنه فلان بن فلان على نحو ما بينا ثم يكتب وقد وكل فلان بن فلان يذكر اسم الوكيل ونسبه على ما قد بينا من رسم الكتابة، فإن كان وكله بقبض الدار يكتب وكله بقبض داره التي بالكوفة في بني فلان، وإذا كان وكله بالخصومة فيها يكتب وكله بالخصومة في داره التي بالكوفة، فالحاصل أنه ينبغي للقاضي أن يذكر في الكتاب ما يوكله به؛ لأنه هو المقصود، ثم إن كان الوكيل حاضراً أجاز زيادة في التعريف، وإن ترك لم يضره، وإن كان غائباً بالكوفة يكتب وكل رجلاً، ذكر أنه فلان بن فلان بن فلان الفلاني، فهذا إشارة إلى أن توكيل الغائب صحيح، وهو المذهب لعلمائنا إلا أنه لا يلزم الوكيل قبل قبوله دفعاً للضرر عنه، كما في توكيل الخاص. ثم إذا وصل الكتاب إلى المكتوب إليه، فالقاضي يحضر الذي في يديه الدار ويسأل البينة على الكتاب والحاكم بحضرته ويفتح الكتاب بعدما قامت البينة عليه ويقرؤه على الشهود حتى يشهدوا على ما فيه، وبعدما زكوا سأل الوكيل البينة أنه فلان (92ب4) بن فلان، فإن أقامها سأل الذي في يديه الدار عن الدار فإن أقربها للموكل أمر بدفعها إليه، وإن سأل الوكيل البينة أنه فلان بن فلان بن فلان قبل أن يسأل البينة على الكتاب فحسن وهذا على قول محمد رحمه الله. أما على قول أبي حنيفة رحمه الله: ينبغي أن يسأل الوكيل أنه فلان بن فلان بن فلان الفلاني، ثم يسأل البينة على الكتاب، وقد ذكرنا جنس المسألة فيما تقدم، وكذلك الجواب في الوكالة في الدواب والرقيق والعروض والوديعة والدين، لأن الوكالة جائزة في جميع هذه الأشياء فيقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي. قال: وللوكيل بالخصومة في الدار أن يخاصم من نازعه عملاً بإطلاق التوكيل، ولو كان الموكل سمى رجلاً بعينه فليس له أن يخاصم غيره، لأن التعيين في الخصومة مفيد فلعل الموكل عرف أن الوكيل يقدر على الخصومة مع هذا الرجل ولا يقدر عليها مع رجل آخر، وليس للوكيل بالإجارة إلا أن يؤاجر الدار ويكون خصماً لمن أجرها منه؛ لأن

حقوق العقد ترجع إلى العاقد وهو العاقد، ولا يكون له أن يخاصم مع غيره؛ لأنه لم يوكله بالخصومة مع غيره. قال: وإذا وكلت المرأة بمهرها ونفقتها وكيلاً وطلب من القاضي كتاباً في ذلك ينبغي للقاضي أن يذكر في كتابه: وذكرت أن لها على زوجها فلان بن فلان من المهر كذا وقد وكلت فلان بن فلان بقبض ذلك من زوجها، وبالخصومة فيه إن أنكر، وإنما كتب: وبالخصومة فيه تحرزاً عن قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله؛ لأن عندهما الوكيل بقبض الدين لا يملك الخصومة، ويكتب أيضاً: يطلب نفقتها من زوجها وبالخصومة فيها، فإذا وصل الكتاب إلى القاضي بحضرة الزوج وسأله عن المهر، فإن أقربه أمر بدفعه إلى الوكيل. ولو كانت وكلته بمهرها وبالخصومة في نفقتها، حتى يفرض لها كل شهر نفقة مسماة، فإذا وصل الكتاب إلى المكتوب إليه لا تقبل البينة إلا بحضرة الزوج؛ لأنه هو الخصم، فإذا ثبت ذلك عنده سأله عن المهر، فإن أقر به أخذ منه ويفرض من النفقة والكسوة ما يصلحها؛ لأن الموكلة لو حضرت وطالبته بذلك، ويثبت النكاح بالمهر عند القاضي أمره بأداء المهر وفرض عليه نفقتها، وكذلك يفعل ذلك بخصومته عنها بوكالتها. قال في كتاب «الأقضية» : وإذا وكل الرجل رجلاً بالخصومة في عيب خادم (استرده) وأخذ بذلك كتاب القاضي لم يجز؛ لأن الخادم لا يرد حتى يحضر الموكل وهو المشتري فيحلف بالله ما رضي بالعيب؛ وذلك لأنه لو لم ينتظر يمين الموكل ورد بالعيب يلحق البائع ضرر ولا يمكن تداركه؛ لأن الفسخ ينفذ ظاهراً وباطناً فلا يقع التدارك بالنكوك بخلاف فصل الدين، وقد ذكرنا ذلك في موضع فلهذا لا يرد، وإذا لم يكن للوكيل ولاية الرد إلى أن يحضر الموكل وهو المشتري ويحلف لم يكن في كتاب القاضي فائدة، فلهذا لم يجز. ثم ذكر هاهنا أن الوكيل لا يملك الرد بالعيب إلى أن يحضر المشتري ويحلف بالله ما رضي بالعيب، وإن لم يدع البائع رضا المشتري، هكذا ذكر الخصاف والجصاص وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهم الله. وذكر محمد رحمه الله في «المبسوط» أن الوكيل يملك الرد بالعيب إلا إذا ادعى البائع رضا المشتري وحد ما ذكر هنا أن على القاضي صيانة قضائه عن النقص وجميع أنواع البينة وصيانة حق العباد، وذلك بانتظاره المشتري واعتبر بما إذا أراد المشتري الرد بالعيب بعد موت البائع، فإن القاضي يستحلف المشتري بالله ما رضي بالعيب وإن لم يدع الوارث ذلك. وجه ما ذكر في «المبسوط» : أن القاضي نصب لفصل الخصومات، لا لإنشائها، وفي الاستحلاف بدون طلب المدعي إنشاء الخصومة، وهذا لا يجوز، ألا ترى أنه لا يستحلف الولي في باب القصاص بالله ما عفى بدون طلب القاتل، والقصاص مما يدرئ

بالشبهات، فلأن لا يستحلف هاهنا أولى؛ ولأن الاستحلاف لنظر البائع، والبائع قادر على النظر لنفسه، بأن يدعي الرضا على البائع، فإذا ترك الدعوى لم ينظر لنفسه والقاضي نصب ناظراً لكل من عجز عن النظر بنفسه، فلهذا يستحلف له الولي على بلدة من بلاد المسلمين إذا أراد أن يكتب الكتاب الحكمية، فإن كان الخليفة قد ولاه القضاء جاز وإن لم يوله لم يجز، وهذا لأن الولاية تقبل التخصيص والتعميم فينظر إلى سببها وهو التقليد، فإن كان التقليد خاصاً تتخصص ولايته، وإن كان عاماً تتعمم ولايته، وإن لم يكن فيه ما يدل على التعميم لا تتعمم ولايته؛ لأنه عديم الولاية في الأصل، فإنما يثبت له بقدر ما أثبت له، وإذا لم يدخل القضاء في ولايته لا يصح فيه الكتاب الحكمي، إنما يصح ممن يصح منه القضاء؛ لأن له حكم القضاء. ولو كان هذا الوالي قلد إنساناً وأجاز له أن يقضي هل يقبل كتاب هذا القاضي؟ ينظر إن كان الخليفة أذن لهذا الوالي بالتقليد قبل كتابه وما لا فلا؛ لأنه إذا لم يؤذن بالتقليد لم يصح منه التقليد ولم يصر المقلد قاضياً وكتاب غير القاضي لا يقبل، فأما إذا فوض إليه التقليد صح منه التقليد، وصار المقلد قاضياً فيقبل كتابه. ذكر في كتاب «الأقضية» : إن كتب الخليفة إلى قضاته إذا كان الكتاب في الحكم بشهادة شاهدين شهدا عنده بمنزلة كتاب القاضي إلى القاضي لا يقبل إلا بالشرائط التي ذكرناها، وأما كتابه أنه ولى فلاناً أو عزل فلاناً يقبل عنه بدون تلك الشرائط ويعمل به المكتوب إليه إذا وقع في قلبه أنه حق ويمضي عليه، وهو نظير كتاب سائر الرعايا بشيء من المعاملات؛ فإنه يقبل بدون تلك الشرائط ويعمل به المكتوب إليه إذا وقع في قلبه أنه حق كذا هنا في الكتاب. ولا تقبل شهادة أهل الذمة على كتاب قاضي المسلمين لذمي على ذمي؛ لأن لكتاب القاضي إلى القاضي حكم القضاء، ثم سائر الأقضية لذمي على ذمي لا تثبت بشهادة أهل الذمة، فكذا كتاب القاضي. والمعنى في ذلك أنهم يشهدون على فعل المسلم وهو القاضي، وشهادة أهل الذمة لا تكون حجة في إثبات فعل المسلمين. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف رحمه الله: رجل جاء بكتاب قاض إلى قاض وقبل المكتوب إليه الكتاب، وشهد الشهود على الكتاب، ثم قَدِمت بينة صاحب الحق على أصل الحق ينتظر المكتوب إليه، فإن المكتوب إليه لا يعمل بالكتاب ويأمر الطالب أن يحضر البينة على أصل الحق من قبل أن كتاب القاضي إلى القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة، وشهود الأصل إذا حضروا بأنفسهم لم تقبل شهادة الفروع على شهادتهم كذا هنا. في «المنتقى» : ويكتب القاضي في كتابه الشهادة على الشهادة كما يكتب. ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : وإذا تكسر خاتم القاضي الذي على الكتاب أو كان الكتاب مقشوراً وفي أسفله خاتم القاضي، فإن القاضي المكتوب إليه يقبل

الكتاب إذا شهد الشهود أن هذا كتاب قاضي فلان، وأنه قرأه عليهم، فإن الخصاف رحمه الله عقيب هاتين المسألتين (قال:) وهذا قول أبي يوسف رحمه الله، فأما على قول أبي حنيفة ومحمد القاضي المكتوب إليه لا يقبل الكتاب إذا لم يكن مختوماً، غير أن أبا يوسف يقول: إذا كان الكتاب غير مختوم لا تصح الشهادة على الكتاب ما لم يشهد الشهود بما في الكتاب؛ لأنه إذا كان غير مختوم فهو بمنزلة الصك، وعلم الشهود بما في الصك شرط صحة الشهادة عنده، وإذا كان الكتاب مختوماً فعلم الشهود بما في الكتاب ليس بشرط. ذكر الفقيه الإمام أبو بكر الرازي والشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني أن قبول الكتاب مع كسر الخاتم قولهم جميعاً؛ لأن هذا مما يبتلى به الناس قالا رحمهما الله: والإضافة إلى أبي يوسف من الخصاف يحتمل أن يكون منصرفاً إلى المسألة الثانية، وهو ما إذا كان الخاتم في أسفل الكتاب ولكن هذا ليس بصواب، فقد ذكر الحسن بن زياد في كتاب الاختلاف إذا انكسر خاتم القاضي الذي على الكتاب، فالقاضي المكتوب إليه لا ينفذه عند أبي حنيفة وزفر رحمهما الله كما إذا لم يكن مختوماً في الأصل، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه ينفذه إذا قامت عليه البينة كما لو لم يكن مختوماً في الأصل. وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله، كان نقول: إن كتاب القاضي إذا لم يكن مختوماً لا يقبل عند أبي يوسف رحمه الله حتى وقفنا على رواية الخصاف أنه يقبل، والرواية هذه؛ لأنه إذا انكسر خاتم القاضي أو كان الخاتم في أسفل الكتاب كان كأنه لم يختم ومع هذا جاز قبوله، وقد ذكرنا رواية الحسن عن أبي يوسف في هذا نصاً، قال أبو يوسف رحمه الله: ويكتب القاضي بشاهد واحد إلى قاض آخر، يريد به أن يجوز نقل شهادة شاهد واحد (93أ4) بالكتاب؛ وهذا لأن كتاب القاضي إنما جوز باعتبار الحاجة وقد تمس الحاجة إلى هذا بأن يكون إحدى شاهدي المدعي هاهنا، والشاهد الآخر في بلد المطلوب، فيحتاج إلى نقل شهادة هذا الشاهد حتى تنضم معه شهادة ذلك الشاهد الذي في بلد المطلوب. إبراهيم عن محمد رحمه الله: إذا غلب الخوارج على بلدة واستقضوا عليها قاضياً من أهل البلدة، فكتب هذا القاضي كتاباً إلى قاضي أهل العدل، فإن المكتوب إليه يعلم أن الشهود الذين شهدوا عند الكاتب من أهل البغي لا يقبل الكتاب؛ لأن الكتاب لنقل الشهود وأولئك الشهود لو حضروا عند هذا القاضي وشهدوا لا تقبل شهادتهم لفقه، وهو أن الخوارج يستحلون دمائنا وأموالنا فلو قبلنا شهادتهم علينا ذهبوا بدمائنا وأموالنا، وإذا لم يقبل شهادتهم لو حضروا فكذا لا يعمل بشهادتهم إذا صارت منقولة إليه وإن كان يعلم أن الشهود من أهل العدل قبل الكتاب، فإن لم يعلم أن الشهود من أهل العدل أو من أهل الخوارج لا يقبل الكتاب؛ لأن على أحد الاعتبارين لا يقبل فلا يقبل بالشك أو يقول من كان في منعة الخوارج، فالظاهر أنه منهم.

الفصل الخامس والعشرون: في اليمين

الفصل الخامس والعشرون: في اليمين يجب أن يعلم بأن الاستحلاف في الدعاوي مشروعة، ثبت شروعه بالسنة وهو قوله عليه السلام: «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» وقوله عليه السلام في قصة الحضرمي والكندي للمدعي منهما «ألك بينة» فقال: لا، فقال: «لك يمينه» والمعنى فيه: أن المدعى عليه أنوى حقه بإنكاره فالشرع شرع اليمين في جائز المدعى عليه حتى أن الأمر إن كان كما زعم المدعي كان هذا إتواء للمدعى عليه، لأن اليمين الكاذبة مهلكة للنفس والمال جميعاً فيكون إتواءان، وإن كان الأمر كما زعم المدعى عليه فالمدعى عليه بيمينه يدفع خصومة المدعي عن نفسه من غير ضرر يلحقه فيتحقق العدل والإنصاف، بعد هذا يحتاج إلى بيان موضع شرعيته وصفته وكيفيته. أما بيان موضع شرعيته فنقول: الدعاوى نوعان: صحيحة وفاسدة، فالاستحلاف إنما يجري في الصحيحة منهما لا في الفاسدة، وإذا ادعى المدعي عند القاضي دعوى فعلى القاضي أن ينظر فيه، فإن كان فاسداً لا يلتفت إليه، وأمر المدعي بالكف عنه، وإن كان صحيحاً سمعه وأقبل على المدعى عليه، فإن أقر بما ادعاه المدعي ألزمه ما أقربه وإن أنكر أقبل على المدعي وقال له: إلك بينة؟، فإن قال: لا أو قال: شهودي غيّب أو مرضى حلّف المدعى عليه. هكذا ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : قيل هذا السؤال إنما يستقيم على قول أبي حنيفة رحمه الله (لا يستقيم) على قولهما؛ لأن على قولهما القاضي يستحلف المدعى عليه بطلب المدعي وإن قال لي بينة حاضرة في المصر فلا فائدة لهذا السؤال على قولهما، وقال مشايخنا إذا قال المدعي: شهودي غيب أو مرضى إنما يحلف المدعى عليه إذا بعث القاضي أميناً من أمنائه إلى محلة الشهود الذين سماهم المدعي حتى يسأل عن الشهود، قال: وأخبر أنهم غيب أو مرضى أما بدون ذلك لا يحلفه على قول من لا يرى الاستحلاف إذا كان له بينة حاضرة في المصر؛ لأنه وقع الشك في الاستحلاف على قوله ثم بعد صحة الدعوى إنما يستحلف فيما سوى القصاص في النفس في موضع جاز القضاء بالنكول فيه، وفي كل موضع لا يجوز القضاء فيه، وبالنكوك لا يستخلف فيه وفي القصاص بالنفس يستحلف ولا يقضى فيه بالنكول تعظيماً لأمر الدم.

وأما بيان صفته فيقول: إن اكتفى بذكر اسم الله تعالى وحده بأن قال: بالله والله جاز؛ لأنه هو الأصل في اليمين وبه ورد الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} (الأنعام: 109) ، وأما السنة فما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم «حلف ابن ركانة حين طلق امرأته بلفظ ألبتة بالله ما أردت به ثلاثاً وحلف يهود خيبر بالله ما قتلتموه ولا علمتم له قاتلاً» . وإن غلظ في اليمين جاز، والتغليظ في اليمين عرف بالكتاب والسنة. أما الكتاب: فإن الله شرع اللعان، وأما السنة: فما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «حلف بن يهودياً بالله الذي أنزل التوراة على موسى، كيف تجدون حد الزنا في كتابكم» والمعنى في ذلك أن التغليظ في اليمين في معنى الزجر عن اليمين الكاذبة، فالإنسان قد يمتنع عن اليمين الكاذبة عند التغليظ ولا يمتنع عنها بدون التغليظ. ثم اختلف المشايخ فيه بعد ذلك، بعضهم قالوا: القاضي بالخيار في كل مدعى به وعلى كل مدعى عليه إن شاء غلظ وإن شاء لم يغلظ، وبعضهم قالوا: القاضي ينظر إلى المدعى عليه إن عرفه بالخير والصلاح أو رأى عليه سيما الخير ولم يتهمه اكتفى بذكر اسم الله وحده، وإن كان على خلاف ذلك غلظ، وبعضهم قالوا: نظر إلى المدعى به إن كان مالاً عظيماً غلظ عليه، وإن كان حقيراً اكتفى بذكر اسم الله وحده، وإن كان على خلاف ذلك غلظ، وبعضهم قالوا: نظر إلى المدعى به إن كان مالاً، ثم بعضهم قدروا العظيم بنصاب الزكاة، وبعضهم قدروا بنصاب السرقة. وإذا غلظ بصفات الله وأسمائه ينبغي أن يتأمل حتى لا يكرر عليه اليمين بتكرار حرف القسم، فإن تكرر حرف القسم يتكرر اليمين، فإنه لو حلف بالله الرحمن الرحيم كان يميناً واحداً، وإذا حلف والله والرحمن والرحيم كانت ثلاثة أيمان ولا يجوز الاستحلاف في الدعوى الواحدة إلا بيمين واحدة. ثم القضاة مختلفون في كيفية التغليظ وصفته واختار كل واحد لنفسه شيئاً ومختار الخصاف رحمه الله أن يقول له: قل والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب المدرك الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، فهذا هو مختار الخصاف، فإن شاء القاضي اختار هذا وإن شاء زاد عليه وإن شاء نقص عنه، ولا يغلظ بالمكان عند علمائنا رحمهم الله. وقال الشافعي رحمه الله: إن كان المدعى به دم عمد أو مالاً عظيماً يبلغ عشرين مثقالاً من الذهب يغلظ بالمكان، فيحلف بأشرف الأماكن، فإن كان بمكة يحلف بين المقام والبيت، وإن كان بالمدينة يحلف بين الروضة والمنبر، وفي سائر الأمصار يحلف

في المسجد الجامع عند المنبر، وإن كان في موضع ليس فيه مسجد جامع يحلف في مسجد من المساجد، وهو قول أهل المدينة وأهل مكة، وهكذا روي عن أبي يوسف إلا أنه زاد فقال: يوضع المصحف في حجره ويقرأ عليه {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً} (آل عمران: 77) الآية، حجتهم في ذلك أن التغليظ بذكر صفات الله تعالى، إنما يشرع للمبالغة في الزجر عن اليمين الكاذبة، وهذا المعنى يقتضي شرع التغليظ بالتحليف في أشرف الأماكن من غير نكير منكر؛ ولأن النصوص المقتضية للاستحلاف مطلقة عن المكان، فالتقييد بالمكان يكون زيادة على النص والزيادة بمعنى الفسخ. وإن أراد التغليظ على اليهود يحلفه بالله الذي أنزل التوراة على موسى؛ لأنه يعتقد حرمة التوراة ونبوة موسى عليه السلام. وإن أراد التغليظ على النصراني يحلفه بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى؛ لأنه يعتقد حرمة الإنجيل ونبوة عيسى عليه السلام. وإن أراد أن يغلظ على المجوسي يحلفه بالله الذي خلق النار؛ لأنهم يعظمون النار، هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ، ولم ينقل عن أبي حنيفة رحمه الله فيه شيء في ظاهر الرواية. وروي في «النوادر» عنه أنه لا ينبغي أن يستحلف أحداً إلا بالله. وذكر الخصاف أن غير اليهودي والنصراني يستحلف بالله، فهذا إشارة إلى أنه لا يذكر النار في استحلاف المجوسي، وعليه بعض المتأخرين من مشايخنا؛ لأن ذكره يشير إلى تعظيمه، وإنه لا يجوز. ألا ترى أن المسلم لا يستحلف بالله الذي خلق الشمس بخلاف اليهودي والنصراني حيث يذكر في استحلافهم التوراة والإنجيل؛ لأن التوراة والإنجيل كلام الله تعالى فلا يكون فيه تعظيم غير الله تعالى بخلاف النار، أما سائر المشركين يستحلفون بالله لأنهم يقرون بالله تعالى، قال الله تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} (الزخرف:87) . وأما بيان كيفيته فنقول: إن وقع الدعوى على فعل المدعى عليه من كل وجه بأن ادعى عليه أنك سرقت هذا العين مني، غصبت هذا العين مني يستحلف على الثبات، وإن وقع الدعوى على فعل الغير من كل وجه حلف على العلم، حتى لو ادعى المدعي ديناً على ميت بحضرة وارثه بسبب الاستهلاك، أو ادعى أن أباك سرق هذا العين مني غصبه مني، حلف على العلم، وهذا مذهبنا والأصل فيه: حديث القسامة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف اليهود على فعل أنفسهم على الثبات وعلى فعل غيرهم على العلم (93ب4) . قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: هذا الأصل مستقيم في المسائل كلها أن التحليف على فعل الغير يكون على العلم إلا في الرد بالعيب، يريد به: أن المشتري إذا ادعى أن العبد سارق أو آبق وأثبت إباقه أو سرقته في يد نفسه وادعى أنه أبق

أو سرق في يد البائع وأراد تحليف البائع يحلف البائع على الثبات بالله ما سرق في يدك على ما عرف، وهذا تحليف على فعل الغير، قال الله تعالى إنما كان كذلك؛ لأن البائع التزم تسليم المعقود عليه سليماً عن العيوب، فالاستحلاف يرجع إلى ما ضمن بنفسه، فلذلك كان على الثبات. وحكي عن الشيخ الإمام فخر الإسلام رحمه الله أنه كان يريد في هذا الأصل حرفاً كان يقول: التحليف على فعل نفسه على الثبات، والتحليف على فعل الغير يكون على العلم إلا إذا كان شيئاً يتصل يحلف على الثبات، خرج على هذا فصل الرد بالعيب؛ لأن ذلك مما يتصل به؛ لأن تسليم العبد سليماً واجب على البائع، وقد قيل بأن التحليف على فعل الغير إنما يكون على العلم إذا قال الذي استحلف: لا علم لي بذلك، فأما إذا قال: لي علم بذلك يحلف على الثبات. ألا ترى أن المودع إذا قال: قبض صاحب الوديعة مني الوديعة، فإنه يحلف المودع على الثبات وألا ترى أن ما ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا وكل الرجل رجلاً ببيع عبده بألف درهم فباعه وسلمه إلى المشتري ثم أقر البائع الوكيل أن الآمر قبض الثمن، وجحد الآمر فالقول قول الوكيل في ذلك: أن الآمر قد قبض مع يمينه، فإذا حلف برئ المشتري عن الثمن ويحلف الوكيل على الثبات بالله لقد قبض الآمر وهذا تحليف على فعل الغير، ولكن الوكيل يدعي أن له علماً بذلك، فإنه قال: قبض الموكل الثمن وما كان له علم بذلك فيحلف على الثبات لهذا. وإن وقع الدعوى على فعل المدعى عليه من وجه وعلى فعل غيره من وجه بأن قال: اشتريت مني استأجرت مني استقرضت مني، فإن هذه الأفعال فعله وفعل غيره، فإنها تقوم باثنين يحلف على الثبات، وهذا مشكل؛ لأن اعتبار فعل الغير يوجب التحليف على العلم، إن كان اعتبار فعله يوجب التحليف على الثبات، إلا أنه يرجح جانب الثبات؛ لأنه يوجب زيادة زجر، لأنه متى حلف على الثبات وقد اشترى حنث في يمينه علم بالشراء أو لم يعلم، ومتى حلف على العلم وقد اشترى إن كان عالماً بالشراء حنث في يمينه، وإن لم يكن عالماً به لا يحنث فكان في هذا زيادة زجر، فكان الترجيح لجانب الثبات بعد هذه المسألة على وجوه: أما إن ادعى المدعي ديناً أو ملكاً في عين أو حقاً وكل ذلك على وجهين: إما أن يدعيه مطلقاً ولم يذكر له سبباً أو ادعاه بناء على السبب، فإن ادعى ديناً ولم يذكر له سبباً يحلف على الحاصل فيحلف بالله ما لهذا عليك ولا قبلك هذا المال الذي ادعاه وهو كذا وكذا ولا شيء منه فقد جمع بين قوله: عليك وقبلك وإليه أشار محمد رحمه الله، وهكذا ذكر الخصاف رحمه الله في كتاب الصلح وإنما جمع بينهما؛ لأنه لو اقتصر على قوله: عليك إنما يتأول أنه ليس على رأسه أو عاتقه شيء، ولو اقتصر على قوله: قبلك عسى يتأول الأمانة؛ لأن قوله قبلك يستعمل في الأمانات كما

يستعمل في الديون فيجمع بينهما احتياطاً، وجمع أيضاً بين كل المدعى به وبين بعضه؛ لأنه ربما أداه بعض هذا المال وأبرأه عن بعض المال، فلو حلفناه على الكل يحلف، ويكون صادقاً في الحلف ولا يلزم الحنث، فيجمع بين الكل وبين البعض احتياطاً. قال أبو عمرو الطبري: لا ينبغي للحاكم أن يقول في الاستحلاف: ولا شيء منه؛ لأن التحليف بناء على الدعوى، فلا يزاد على مقدار الدعوى. وكذلك إذا ادعى ملكاً في عين حاضر أو حقاً في عين حاضر ادعاه مطلقاً، ولم يذكر له سبباً يحلف على الحاصل، فيحلف بالله ما هذا العين لفلان بن فلان، ولا شيء منه يجمع بين الكل وبين البعض احتياطاً، وإن ادعاه بناء على السبب بأن ادعى عليه ديناً بسبب القرض أو بسبب الشراء، أو ادعى ملكاً بسبب البيع أو الهبة، أو ادعى غصباً أو وديعة أو عارية يستحلف على حاصل الدعوى في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله، ولا يستحلف على السبب قضى عليه في كتاب الحوالة والكفالة حتى لا يستحلف: ما استقرضت منه هذا المال، ما غصبته، ما أودعته، ما اشتريت منه هذا العين بكذا، ما بعت منه هذا العين. ووجه ذلك: أن في الاستحلاف على السبب ضرراً بالمدعى عليه، فالسبب قد يوجد ويثبت حكمه ثم ينفسخ السبب ويبطل حكمه، أو يبطل الدين بالإبراء والإيفاء، ويعود الملك إليه في العين بالهبة أو البيع ويبطل حكم الغصب والوديعة والعارية بالرد، فلو حلف على السبب لا يمكنه أن يحلف على انتفاء السبب لوجوده، ولو أقر بالسبب وادعى الناقض والمبطل لكانت الحجة عليه، وربما لا يمكنه إقامة الحجة وفيه من الضرر ما لا يخفى، وليس في الاستحلاف على الحاصل ضرر بالمدعي، فيحلف على الحاصل لهذا حتى لو كان في الاستحلاف على الحاصل ضرر بالمدعي بأن كان بين العلماء اختلاف أن ما يدعيه هل هو سبب لذلك الحكم؟ يحلف على السبب؛ لأنه لو حلف على الحاصل يحلف ويتأول قول من يقول بأنه ليس بسبب، وإن الحكم ليس ثابت فيحلف على السبب دفعاً للضرر عن المدعي، وكذلك إذا لم يكن في التحليف على السبب ضرر بالمدعى عليه بأن كان ما يدعيه شيئاً لا يحتمل الانفساخ وحكمه لا يحتمل البطلان كإعتاق العبد المسلم يحلف على السبب ليكون التحليف موافقاً للدعوى والإنكار. وروي عن أبي يوسف أنه يستحلف على السبب في هذه الصورة؛ لأن الاستحلاف يترتب على الدعوى، فيكون على وفق الدعوى والإنكار. وما ذكر من وهم الضرر يندفع بالتعريض بأن يقول المدعى عليه للقاضي: الإنسان قد يلزمه المال بسبب ثم يبطل المال عنه، إما بانفساخ السبب أو بالإيفاء أو بالإبراء، ولو أقر بالسبب عسى لا يمكنه إثبات ذلك الفسخ، أو الإبراء فيلزمه المال فإذا عرض على هذا الوجه، فالقاضي لا يحلفه على السبب، بل يحلفه على الحاصل. وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح هذا الكتاب رواية أخرى عن أبي يوسف رحمه الله: أنه إذا أنكر المدعى عليه السبب بأن أنكر

الاستقراض، وقال: ما استقرضت يحلف على السبب بالله ما استقرضت، وإن قال: ليس له علي ما يدعي، يحلف على الحاصل بالله ليس له عليك ولا قبلك هذا المال الذي يدعي ولا شيء منه، قال رحمه الله: هذا أحسن الأقاويل عندي وعليه أكثر القضاة. وقال الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام على البزدوي رحمه الله: ينبغي أن يفوض الأمر إلى رأي القاضي في هذا إن رأى المصلحة في التحليف على السبب حلف على السبب، وإن رأى المصلحة في التحليف على الحاصل حلف على الحاصل، قال: لأن من الناس من يكون تحليفه على السبب أولىو منهم من يكون تحليفه على الحاصل أولى، فيفوض إلى رأي القاضي. لهذا قال الخصاف في «أدب القاضي» وفي الوديعة: إذا حلف الوديعة (ليست في يديك) ولا شيء منه ولا له قبلك حق منه؛ لأنه متى استهلكها أو دل إنساناً عليها، فلا تكون في يديه ولكن ضمان القيمة في ذمته، فلا يكتفى بقوله: في يديك بل يضم إليه ولا له قبلك حق منه احتياطاً، وهذا الجواب إنما يستقيم على ظاهر الرواية؛ لأن على ظاهر الرواية؛ التحليف على الحاصل، أما على (ما) روي عن أبي يوسف رحمه الله يستحلف بالله ما أودعك هذا كذا وكذا. وإن ادعى قبله ضيعة أو عقاراً وحدده وسمى موضعه وبلده على نحو ما بينا يحلفه بالله ما هذه الضيعة ولا هذه الدار التي حدد وسمى لفلان بن فلان هذا في يديك ولا شيء منها ولا له قبلك منها حق ولا بسببها، جمع بين هذا؛ لأنه أحوط. وإن ادعى جارية أو غلاماً أو عرضاً من العروض مما ينقل ويحول، فإن كان حاضراً في مجلس القاضي، فالقاضي يحلفه بالله ما هذا العبد ملك هذا المدعي من الوجه الذي ادعاه ولا شيء منه لجواز أن يكون بعضه ملك المدعي، فلو لم يقل ولا شيء منه يتأول ذلك، فيكون صادقاً في يمينه ولا يلزمه الحنث. وذكر في كتاب الاستحلاف: أنه يحلف المدعى عليه بالله ما لهذا (94أ4) المدعي في هذا العبد حق، والصحيح ما ذكرنا؛ لأن لفظة الحق تنطلق على غير الملك من حق الإجارة والرهن، والمدعي ادعى الملك فيه دون الحق، وإنما يجب الاستحلاف على ما ادعاه المدعي، ولكن إن زاد في آخر اليمين ولا له فيها حق، كان مستقيماً، فإنه يكون تأكيداً للأول، وإن كان غائباً عن مجلس القاضي بأن كان المدعى عليه مقراً أنه في يده، إلا أنه ينكر كونه ملك المدعي كلفه القاضي الإحضار حتى يمكنه الإشارة إليه في الدعوى؛ وهذا لأن الدعوى إنما تسمع في المعلوم، فيشترط إعلام المدعي به بأبلغ وجوه الإعلام ما أمكن، والإشارة أبلغ في وجوه الإعلام، وإنما تكون الإشارة بعد الإحضار. وإن أنكر المدعى عليه أن يكون ذلك في يديه. ذكر الخصاف رحمه الله: أن القاضي يقول للمدعي: سمه وانسبه إلى جنسه، وسم قيمته، شرط بيان القيمة لسماع الدعوى، وقد ذكرنا هذا الفصل وما فيه من الاختلاف قبل هذا ثم إذا سمى جميع ذلك حتى صح دعواه بلا خلاف، وأراد استحلاف المدعى عليه استحلفه القاضي بالله ما لهذا

لديك هذه الجارية التي ذكرها ولا شيئاً منها ولا بقي له عليك ولا قبلك ولا قيمتها التي سمى وهي كذا وكذا، بذكر شيء منه لجواز أن في يديه بعض الجارية فيتأول، وإنما يذكر القيمة لجواز أنها مستهلكة، فلا تكون في يديه ولكن يجب عليه القيمة، وإنما يذكر شيئاً من القيمة لجواز أنه سقط بعض القيمة عنه فيتأول، وإنما يذكر ولا شيء له عليك ولا قبلك؛ لأن من مذهب بعض العلماء أن الحيوان يكون مغصوباً بالمثل فربما يتأول ذلك القول. وإن ادعى شراء ضيعة وبين حدودها وموضعها وبين الثمن، وأنكر المدعى عليه أنه باعه ذلك، وأراد القاضي أن يحلفه على الحاصل كما هو جواب ظاهر الرواية كيف يحلفه؟ قال: يحلفه بالله ما بينك وبين هذا البيع قائم الساعة فيما ادعاه، أو يحلفه بالله ما هذه الضيعة شراء لهذا الساعة بما ادعاه من الثمن أو يحلفه بالله ما عليك تسليم هذه الضيعة إلى هذا بهذا البيع الذي ادعاه وهاهنا أشياء أخر تأتي بعد هذا. وإن ادعت امرأة على زوجها أنه طلقها فهو على وجوه: الأول: تدعي الطلاق الثلاث، وفي هذا الوجه إذ أراد القاضي أن يحلفه حلّفه بالله ما هذه المرأة بائن منك بثلاث تطليقات كما ادعت، وهذا تحليف على الحاصل، وإنه جواب ظاهر الراوية. قالوا: وإن شاء القاضي حلفه على السبب بالله ما طلقتها ثلاثاً في هذا النكاح الذي تدعي أنك مقيم عليها فيه؛ لأن هذا سبب لا يحتمل الانتقاض إلا أنه لا يستحلف بالله ما طلقتها ثلاثاً ثم عادت إليه بنكاح مستقبل بعدما تزوجت بزوج آخر، فلو حلفناه كذلك لتضرر وكذلك إذا لم تدع المرأة ذلك ولكن شهد عند القاضي شاهد واحد عدل أو جماعة من الفساق بذلك؛ لأن حرمة الفرج حق الشرع، فكان على القاضي الاحتياط في مثله بالاستحلاف. الوجه الثاني: أن تدعي تطليقة، كما ادعت أنما هي محرمة عليك بتطليقة كما ادعت؛ يستحلف على حاصل الدعوى في ظاهر الرواية، قال مشايخنا: وفي هذا الجواب نوع نظر؛ لأن عند الشافعي الكنايات رواجع فلو حلفناه على الحاصل ربما يتأول قول الشافعي رحمه الله، فيحلف على السبب بالله ما طلقتها بلفظ كذا، كما ادعت في هذا النكاح الذي تدعي أنك مقيم عليها فيه حتى لا يمكنه التأويل إلا إذا ادعت الخلع أو ادعت تطليقة بائنة قبل الدخول، فإن هناك تثبت البينونة بلا خلاف، فلا يمكنه التأويل فيحلف على الحاصل. الوجه الثالث: أن تدعي تطليقة رجعية، وفي هذا الوجه يحلف على الحاصل في ظاهر الرواية، فيحلف ما هي طالق منك الساعة، وهذا لأن الطلاق الرجعي يزيل النكاح بعد انقضاء العدة، إن كان لا يزيل النكاح في الحال ويؤثر في إزالة حل المحلية عند انضمام تطليقتين إليه، فيفيد الاستحلاف. وإن ادعت أمة على مولاها أنه اعتقها، ففي ظاهر الرواية يستحلف على الحاصل بالله ما هي حرة الساعة بما ادعت من العتق؛ لأنه يتصور زوال الحرية عنها بعد ثبوتها

بالإعتاق بالارتداد والالتحاق بدار الحرب والسبي بعد ذلك، فلو حلفناه على السبب بالله ما أعتقها لتضرر به المدعى عليه، فيحلف على الحاصل. وعلى رواية أبي يوسف: يحلف على السبب بالله ما أعتقتها إلا إذا عرض المدعى عليه ونقول: الرجل قد يعتق أمته ثم ترتد وتلتحق بدار الحرب وتسبى وتعود إلى ملكه ثانياً فلا يمكنه أن يحلف ما أعتقتها، فإذا عرض على هذا الوجه يحلف على الحاصل وإن كان المدعي للعتق عبداً، فإن كان العبد ذمياً فكذلك الجواب يحلف على الحاصل في «ظاهر الرواية» : لأن حرمته تحتمل الانتقاض بعد الثبوت بالإعتاق بأن تنقض العهد ويلتحق بدار الحرب ثم يسبى ويسترق، وإن كان العبد مسلماً فالقاضي بالخيار إن شاء حلفه على الحاصل بالله ما هو حر الساعة كما هو جواب «ظاهر الرواية» وإن شاء حلفه على السبب كما هو قول أبي يوسف رحمه الله؛ لأن حريته لا تحتمل الانتقاض بعد ثبوتها؛ لأن أكثر ما فيه أنه يرتد إلا أن المرتد لا يسترق.d وإن ادعت امرأة على رجل نكاحاً أو ادعى رجل على امرأة نكاحاً، فاعلم بأن الاستحلاف لا يجري في الأشياء السبعة عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما، والأشياء السبعة النكاح والرجعة والفيء في الإيلاء والرق والولاء والنسب وأمية الولد. وصورة أمومية الولد: إذا ادعت جارية على مولاها أنها أسقطت منه سقطاً مستبين الخلق والمولى ينكر فأرادت أن تستحلف المولى على دعواها؛ وهذا لأن الاستحلاف لرجاء النكول فإنما يجري الاستحلاف فيما يقضى فيه بالنكول، ولا يقضى بالنكول في هذه الأشياء عند أبي حنيفة رحمه الله: وعندهما يقضى وهذا بناء على أصل معروف أن النكول عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله بمنزلة الإقرار، فكل ما يجوز فيه الإقرار يجوز فيه القضاء بالنكول، والإقرار بالنكاح والرجعة والفيء في الإيلاء والولاء وأمومية الولد صحيح، فكان النكول فيها حجة فيجري فيها الاستحلاف. ومن هذا قلنا: أن من ادعى على ولي صغيرة أنه زوجها منه وأنكر الولي ذلك استحلفه القاضي عندهما؛ لأن النكول عندهما إقرار وإقرار الولي على وليته الصغيرة بالنكاح صحيح عندهما، وكذلك لو كان الدعوى بالرضا بالنكاح أو في الأمر بالنكاح يستحلف عندهما، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله: فالنكول بدل وكل ما يجري فيه البدل كان النكول فيه حجة فلا يجري فيها الاستحلاف، وعن هذا قال أبو حنيفة رحمه الله: إن من ادعى على ولي صغيرة أنه زوجها منه وأنكر الولي ذلك فالقاضي لا يستحلفه؛ لأن النكول عنده بدل، والبدل لا يجري من الولي في النكاح فلا يجري فيه الاستحلاف، ثم على قول أبي حنيفة إذا كان الاستحلاف لا يجري في النكاح لو كان دعوى النكاح من المرأة، وقالت المرأة للقاضي: لا يمكنني أن أتزوج؛ لأن هذا زوجي وقد أنكر النكاح فمره ليطلقني لأتزوج، والزوج لا يمكنه أن يطلقها؛ لأن بالطلاق يصير

مقراً بالنكاح، ماذا يصنع القاضي؟ ذكر فخر الإسلام علي رحمه الله يقول للزوج قل لها إن كنت امرأتي فأنت طالق، فإنّ على هذا التقدير لا يصير الزوج مقراً بالنكاح ولا يلزمه شيء، ولو كانت له امرأة تتخلص عن خيالته ويمكنها التزوج بغيره، وهذا كله إذا لم يدع المدعي بدعوى هذه الأشياء مالاً، فأما إذا ادعي مالاً بدعوى هذه الأشياء كالمرأة تدعي على رجل أنه تزوجها على كذا وطلقها قبل الدخول بها وادعت نصف المهر، أو لم تدع الطلاق وادعت النفقة حلفه القاضي بلا خلاف؛ لأن المقصود دعوى المال والاستحلاف يجري في دعوى المال بلا خلاف، ثم عندهما إذا كان يستحلف بدون دعوى المال وكيف الاستحلاف في هذه الأشياء مع دعوى المال؟ ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : الاستحلاف على الحاصل: تحلف المرأة بالله ما هذا زوجك كما ادعى ويحلف الزوج بالله ما هذه امرأتك كما ادعت، ولم يذكر أن هذا جواب «ظاهر الرواية» فيحتمل أن يكون جواب «ظاهر الرواية» : أما على قياس ما يروى عن أبي يوسف يحلف على السبب تحلف المرأة بالله ما زوجت نفسها منه بكذا، ويحلف الزوج بالله ما تزوجتها على كذا إلا إذا عرض المدعى عليه ويحتمل أن يكون، ذكر الخصاف رحمه الله قول الكل احتياطاً لأمر الفرج. وفي كتاب الأقضية أن على «ظاهر الرواية» يحلف على الحاصل وعن أبي يوسف أنه يحلف (94ب4) الزوج بالله ما هذه امرأتك، وإن كانت امرأتك فهي طالق ثلاثاً، وهذا حسن؛ لأن بيمينه لا يقع الفرق بينهما وبين الله تعالى ولا يسعها أن تتزوج فتبقى معلقة فتطلق منه، فكان النظر في الاستحلاف على هذا الوجه. ولو ادعى على رجل أنه زوج ابنته الكبيرة منه وأنكر الأب ذلك لا يستحلف الأب عندهما بخلاف ما إذا كانت الابنة صغيرة؛ لأن الاستحلاف للنكول عندهما، وإقرار الولي على وليته البالغة بالنكاح عندهما لا يصح وعلى وليته الصغيرة صحيحة، ولكن تستحلف الابنة إذا كانت كبيرة وتستحلف على العلم؛ لأنها تستحلف على فعل الغير. ولو ادعي على رجل أنه زوج أمته منه يستحلف المولى عندهما، وإن كانت كبيرة؛ لأن إقرار المولى على أمته بالنكاح صحيح عندهما وإن كانت الأمة كبيرة، عرف ذلك في كتاب النكاح. جئنا إلى النسب فنقول: إقرار الرجل يصح بأربعة: بالأب والابن والزوجة والمولى، وإقرار المرأة يصح بثلاثة: بالأب والزوج والمولى، ولا يصح إقرارهما بغير هؤلاء وأراد بهذه الصحة الصحة مطلقاً فيما يلزم المقر والمقر له من الأحكام، وفيما يلزم غيرهما، وأراد بعدم الصحة عدم الصحة فيما يلزم غيرهما من الأحكام، أما فيما يلزمهما من الأحكام فالإقرار صحيح، إذا وجد التصديق من المقر له وهو من أهل التصديق في

جميع الصور، حتى إن من أقر بأخ وله أخ معروف وصدقه المقر له في إقراره وكذبه الأخ المعروف، صح إقراره في حق نفسه، حتى لا يشارك المقر له الأخ المعروف في نصيبه. فقد فرق بين الرجل وبين المرأة في الإقرار بالابن، فصححه من الرجل ولم يصححه من المرأة، وكان ينبغي أن لا يفرق بينهما؛ لأن علة انتساب الولد بانخلاق الماء، وهما في ذلك على السواء، والجواب: أن هذا من حيث الحقيقة هكذا، أما من حيث الحكم فالنسبة إلى الآباء، قال الله: {ادعوهم لآبائهم} (الأحزاب: 5) وقال الله تعالى: {وعلى المولود له} (البقرة: 233) فالأب في هذا الباب أصل والأم تابع، فإذا أقر الرجل بالابن فقد أقر على نفسه، وإذا أقرت المرأة بذلك فقد أقرت على الغير فلا يصح. وفرق في حق الرجل بين الإقرار بالابن وبين الإقرار بالأخ والعم وما أشبههما، والفرق أن الإقرار بالبنوة إقرار على نفسه وإقرار الإنسان على نفسه صحيح، فأما الإقرار بالأخ والعم إقرار على الغير ابتداء وهو الأب أو الجد فإنما يصير أخاً له بواسطة ثبوت البنوة من الأب بإقراره، فكيف يثبت بواسطة الأخوة وكذا الإقرار بابن الابن غير صحيح؛ لأنه لا بد له من ثبوت البنوة من أبيه، ولا يجوز أن يثبت البنوة من أبيه بإقراره، وإنما صح الإقرار بالأب والزوجة والزوج والمولى؛ لأنه ليس بإقرار على الغير وهذا كله إذا لم يدع مالاً بدعوى النسب، فأما إذا ادعى مالاً بدعوى النسب، بأن ادعى رجل وامرأة على رجل أنه أخوه لأبيه أو أخته لأبيه وقد مات الأب وترك أموالاً كثيرة في يد هذا وطلب الميراث وادعى رجل وهو زمن على رجل أنه أخوه لأبيه وطلب من القاضي أن يفرض النفقة عليه، وأنكر المدعى عليه ذلك، فالقاضي يحلفه، لأن المقصود دعوى المال وفي دعوى المال يستحلف بلا خلاف. وكذلك إذا لم يدع مالاً بدعوى النسب ولكن ادعى حقاً في ضمن دعوى النسب لا يثبت له ذلك الحق إلا بثبوت ذلك النسب فستحلف على دعوى النسب فقد ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : إذا ادعى الرجل حجراً على رجل بأن التقط رجل لقيطاً فجاء رجل وقال للملتقط: هذا الصغير الذي التقطته أخي وأنا أحق به، وأنكر ذو اليد أنه أخوه، حلف ذو اليد على ذلك. وكذلك إذا وهب رجل لرجل شيئاً، وأراد الواهب الرجوع في الهبة فقال الموهوب له: أنا أخوك ولا حق لك في الرجوع، وأنكر الواهب أخوته كان للموهوب له أن يحلفه؛ لأن المقصود إثبات ذلك الحق ثم في دعوى النسب مع المال في موضع لا يصح الإقرار بالنسب إذا جرى الاستحلاف، يستحلف على النسب أو على المال، ذكر في الأقضية أنه يستحلف على المال، وذكر الخصاف أنه يستحلف على النسب فإذا نكل يقضى بالمال ولا يقضى بالنسب. وإن ادعى رجل على رجل إجارة ضيعة أو دار أو حانوت أو إجارة عبد أو دابة أو نحو ذلك مما يؤاجر، أو ادعى مزارعة أرض أو معاملة في النخل والشجر، أو ادعى عارية في عين أو وديعة وأنكر المدعى عليه ذلك حلفه القاضي على الحاصل، أما الوديعة

والعارية فقد مر الكلام فيهما، وإنما ذكرناهما ثانياً لزيادة فوائد، ثم إن كان العين حاضراً يستحلف بالله ما هذا العين ملك هذا المدعي، ولا شيء منه. وكان الإمام الحاكم أبو محمد رحمه الله يقول: الأحوط أن يحلف بالله ما هذا الثوب لهذا ولا عليك تسليمه ولا تسليم شيء منه إلى هذا المدعي من الوجه الذي يدعيه المدعي، وإن كان غائباً أو كان مستهلكاً يستحلف بالله ما عليك تسليم هذا العين ولا تسليم قيمته ولا جزء منه ولا تسليم مثله إلى هذا المدعي، وهذا الجواب جواب ظاهر الرواية لما ذكرنا، وإن كان العين مستهلكاً وأقر المدعي بالهلاك يستحلف المدعى عليه على القيمة عند بعض المشايخ، وقال بعضهم: يستحلف على العين والقيمة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما على القيمة وأما الإجارة فيستحلف بالله ما بينك وبين هذا المدعي إجارة قائمة بأمته لازمة اليوم، في هذا العين المدعى ولا له قبلك فيها حق بالإجارة التي وصف، قيل هذا الجواب على ظاهر الرواية، أما على قياس رواية أبي يوسف رحمه الله: ينبغي أن يستحلف على السبب وهو الإجارة وإليه مال فخر الإسلام علي البزدوي وقيل: لا بل في الإجارة يستحلف على الحاصل على قول الكل فرق هذا القائل لأبي يوسف رحمه الله على الرواية التي قيل، يستحلف على السبب في جنس هذه المسائل بين الإجارة وبينما تقدم. والفرق: أن في التحليف على السبب هاهنا ضرراً للمدعي؛ لأن المنافع لا تتقوم بنفسها، وإنما تتقوم بالعقد فإذا حلفناه على السبب وحلف ينتفي العقد ولم يثبت تقوم المنافع فلا يثبت للمدعي حق الرجوع بشيء فلا يكون الاستحلاف على النسب مفيداً بخلاف ما تقدم؛ لأن العين متقوم في نفسه، فإذا حلفناه على السبب وحلف وانتفى العقد يبقى العقد مضموناً بنفسه، فيمكن الرجوع بضمان العين، فكان التحليف على السبب مفيداً والأول أصح، وكذلك الجواب في المزارعة والمعاملة؛ لأنها إجارة إلا أن الأجرة فيهما جزء من الخارج. وإن ادعى المدعي أجرة الدار وجحد المدعى عليه يستحلفه القاضي بالله ماله قبلك هذا الأجر الذي يدعيه؛ لأن الدعوى وقع فيه، إلا أنه إنما استحلفه على الأجر والدار والوقف الذي ادعى كيلا يتأول الحالف متى حلف على الأجر غير أنه لا أجر عليه بسبب شيء آخر سوى الدار، أو يتأول أنه لا أجر عليه بسبب وقف آخر غير الوقف الذي ادعاه المدعي، قالوا: وإن شاء القاضي حلفه بالله ما له قبلك هذا الأجر الذي سمى بهذا السبب الذي ادعى أو من هذا الوجه الذي ادعى. قال: ولو ادعت امرأة على زوجها، أنها سألته أن يطلقها فقال لها: أمرك بيدك، وإنها اختارت نفسها وأنكر الزوج ذلك، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه: الوجه الأول أن ينكر الزوج الأمر والاختيار جميعاً، وفي هذا الوجه القاضي لا يحلف الزوج على الحاصل بلا خلاف لا يحلفه بالله، ما هي بائن منك الساعة من الوجه الذي ادعت، لأن عند بعض العلماء الواقع بلفظ الأمر باليد رجعي، فلو حلفناه ما هي

بائن منك ربما يتأول قول هذا القائل فيحلف على السبب ولكن يحتاط فيه للزوج فيحلف بالله ما قلت لها منذ أن تزوجها أمرك بيدك بعد مسألتها الطلاق وما يعلم أنها اختارت نفسها بعد ذلك في مجلس الأمر بجواز أنه تزوجها بعد ما اختارت نفسها بحكم ذلك الأمر، فلا يمكنه الحلف على ذلك الأمر، ولو أقر بذلك ثم ادعى النكاح بعده لم يصدق ويلزمه الطلاق فيحلفه على الوجه الذي ذكرنا احتياطاً. وإن أقر بالأمر وأنكر اختيارها نفسها بخلاف الزوج أيضاً؛ لأنه لا يقبل قولها أنها اختارت نفسها لأنها اخبرت عما لا تملك الإنشاء؛ لأنها لا تملك اختيارها نفسها، بعدما قامت عن المجلس فلا يقبل قولها ولكن يحلف الزوج بالله ما يعلم أنها اختارت نفسها في مجلس الأمر الذي ادعت. وإن أقر بالاختيار وأنكر (95أ4) الأمر يحلف الزوج بالله ما جعلت أمر امرأتك هذه بيدها قبل أن تختار نفسها في مجلس الأمر يقع الطلاق، فالمرأة تدعي عليه معنى لازماً فيحلف على الوجه الذي قلنا، ذلك إذا ادعت أن الزوج حلف بطلاقها أن لا يفعل كذا وقد فعل، وهو على التفصيل الذي قلنا إن أنكر الزوج الأمرين يستحلف؛ لأن المرأة ادعت البينونة بسبب التعليق ووجود الشرط والزوج ينكر فيعتبر بما لو ادعت البينونة بسبب المتجر، وهناك يستحلف الزوج بلا خلاف والاستحلاف يجري في الفرقة والطلاق بلا خلاف ثم في ظاهر الرواية يحلف على الحاصل بالله ما هي بائنة بثلاثة تطليقات من الوجه الذي ادعت، وعلى قياس رواية أبي يوسف يحلف على السبب بالله ما حلفت بطلاقها، أن لا تفعل كذا ثم فعلت وإن أقر باليمين وأنكر الفعل كذا، هكذا ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» . بعض مشايخنا قالوا: هذا على رواية أبي يوسف رحمه الله، أما على ظاهر الرواية يحلف على الحاصل: بالله ما هذه المرأة بائنة منك بثلاث تطليقات، وإن أنكر اليمين وأقر بالفعل يحلف بالله ما حلفت بطلاق امرأتك هذه ثلاثاً أن لا تفعل كذا قبل أن تفعله، بعض مشايخنا قالوا: هذا رواية أبي يوسف، أما على ظاهر الرواية: يحلف على الحاصل على نحو ما بينا؛ وهذا لأنه من الجائز أنه حلف ولكن أبانها بواحدة ثم فعل ذلك الفعل ثم تزوجها. وعلى هذا إذا ادعى العبد والأمة على المولى أنه حلف أن لا يفعل كذا وقد فعل. ذكر في كتاب الأقضية: ولو ادعى رجل على رجل أني اشتريت منك أمتك هذه بعبدي هذا، وأنكر المدعى عليه فالقاضي يحلف المدعى عليه بالله ما هذه الأمة له شراء بهذا العبد ولا يحلف ما بعت، وهذا على ظاهر الرواية على ما ذكرنا. ذكر بعد هذه المسألة دعوى الشراء من المشتري، وذكر فيها تفصيلاً، فقال: إن ذكر

المشتري نقد الثمن يحلف المدعى عليه بالله ما هذا العبد ملك هذا المدعي ولا شيء منه بالسبب الذي ادعى، ولا يحلف ما بعت، وإن لم يذكر المشتري نقد الثمن يقال له: أحضر الثمن، فإذا أحضره يستحلفه القاضي بالله ما عليك قبض هذا الثمن وتسليم هذا العبد من الوجه الذي ادعى، وإن شاء حلفه بالله ما بينك وبين هذا شراء قائم الساعة. والحاصل: أن دعوى الشراء مع نقد الثمن دعوى المبيع ملكاً مطلقاً معي، وليس بدعوى العقد ولهذا يصح مع جهالة الثمن، فيحلف على ملك المبيع ودعوى البيع مع تسليم المبيع دون الثمن. قال في كتاب الاستحلاف: ولو أن رجلاً ادعى أنه اشترى من رجل داراً بألف درهم أو عبداً أو ثوباً وقدمه إلى القاضي فادعى ذلك كله وجحد المدعى قبله ذلك، وقال: ما بعت منك شيئاً قط وطلب المدعي يمين المدعى قبله، فالقاضي يحلفه بالله ما هذه الدار للمدعي بهذا الشراء الذي ادعى أنه اشتراها بهذا الثمن الذي سمى، يستحلف على الحاصل، ولا يستحلف على الفعل بالله ما بعت منه وهذا جواب ظاهر الرواية، ثم ذكر أنه يستحلف على العين والثمن جميعاً، وكان يجب أن يستحلف على العين لا على الثمن لأنه إنما يستحلف على ما وقع فيه الدعوى، والدعوى وقعت في العين لا في الثمن إلا أنه استحلفه على الثمن والعين والبيع جميعاً، وذلك لأنه من الجائز أن يقر الجاحد بالبيع بعدما حلف فيصح إقراره، إلا أنه يدعي أن ثمنه كان ألفي درهم والمشتري يقول كان الثمن ألف درهم، فيجب التحالف؛ لأنهما اختلفا في مقدار الثمن والمعقود عليه قائم، والاختلاف في الثمن متى وقع على هذا الوجه، فإنه يجب التحالف، ومتى كان حلف الجاحد على البيع والثمن الذي ادعاه المشتري لا يحتاج القاضي إلى أن يحلف البائع ثانياً، وإنما يحتاج إلى أن يحلف المشتري بالله ما اشتريت بألفي درهم لا غير ففي الاستحلاف على العين لا غير تكرير اليمين، وفي الاستحلاف على العين والثمن تقليل اليمين، فكان هذا أولى، فلهذا استحلف البائع على البيع والثمن جميعاً. هذا الذي ذكرنا إذا ادعى المدعي أنه اشترى وأنكر البائع، فأما إذا ادعى أنه باع من المدعى قبله ذلك بألف درهم وجحد المدعى قبله ذلك، وقال: ما اشتريت منه شيئاً قط، وسأل المدعي من القاضي أن يحلف المدعى قبله على ذلك كيف يحلفه؟ فهذا لا يصح من وجهين: أما إن ادعى المدعى أنه سلم ما باع منه إلى المدعي قبله ولم يقبض منه الثمن، أو ادعي أنه لم يسلم ما باع منه، ولا قبض منه ثمنه، فإن ادعى أنه باع وسلم ولم يقبض منه الثمن ذكر أنه يحلف بالله ما له قبلك هذا الثوب ولا ثمنه أو هذه الدار التي يدعيها ولا ثمنها، فيستحلفه على الحاصل ولا يستحلفه بالله ما اشتريت بالثمن الذي ادعاه وهذا جواب ظاهر الرواية، فيستحلف على العين والثمن جميعاً، وكان يجب أن يستحلف على الثمن؛ لأن الدعوى وقع في الثمن إذا كان المبيع مسلماً في العين، لكن

إنما استحلفه على العين والثمن والبيع وذلك لأنه يجوز أن يقر المدعى عليه بعدما حلف بالشراء، ويصح إقراره ثم يختلفان في المعقود عليه، فيقول المدعى قبله: اشتريت منك ثوباً أو داراً آخر، فيجب التحالف؛ لأنهما اختلفا في المعقود عليه والمعقود عليه قائم، والاختلاف في المعقود عليه حال قيامه يوجب التحالف، فمتى حلف على الثمن لا غير متى احتيج إلى التحالف يحتاج البائع إلى أن يحلف المدعى عليه ثانياً بالله ما اشتريت الدار التي يدعيه المدعى بالثمن الذي سماه. وإذا حلفناه على البيع والعين والثمن الذي سماه فمتى وجب التحالف يحتاج أن يحلف البائع بالله ما بعت من هذا المشتري ما يدعيه البائع، فيكون في الاستحلاف على العين والثمن تقليل اليمين، وفي الاستحلاف على الثمن تكرير اليمين، فكان الاستحلاف على وجه فيه تقليل اليمين أولى، ثم قال في «الكتاب» : وإن حلفه بالله ماله منها قليل ولا كثير جاز، والأولى أجود أما يجوز؛ لأن قوله بالله ماله منها قليل ولا كثير بما يتناول العين والثمن جميعاً؛ لأن قوله منها كناية عن العين والثمن إلا أن الأول أجود؛ لأن العين والثمن صارا مذكورين على سبيل الاقتصار، فكان ذكرهما على سبيل التصريح أجود، هذا إذا ادعى أنه كان باع وسلم ولم يقبض منه الثمن، وإن ادعى أنه باع ولم يسلم ولم يقبض منه الثمن قال: يحلفه القاضي بالله ما هذه الدار لك بهذا البيع الذي يدعي بهذا الثمن الذي سمى، فقد استحلفه على الحاصل وهذا جواب ظاهر الرواية، وإذا وجب الاستحلاف على الحاصل في ظاهر الرواية استحلفه على العين والثمن جميعاً، لما ذكرنا أنه يجوز أن يقر المدعى قبله بالشراء بعد ما حلف، فيصح إقراره إلا أنه يقول: ما اشتريت منك هذه الدار الأخرى، فيقع بينهما اختلاف المعقود عليه، فيجب التحالف فمتى لم يحلف المدعى قبله بالله ما هذه الدار لك بهذا البيع الذي يدعي بهذا الثمن الذي سمى يحتاج القاضي إلى أن يحلف المدعى قبله ثانياً، فيتكرر اليمين عليه، ومتى حلفناه على ذلك يحتاج إلى أن يحلف البائع لا غير، فكان تحليفه على البيع والعين وفيه تقليل اليمين أولى. وإذا استصنع الرجل عند رجل قلنسوة أو خفاً، وجاء به العامل مفروغاً عنه، فقال الآمر: ليس هذا على المقدار الذي أمرتك به. وقال الصانع: هو كما أمرتني به، ذكر في كتاب الاستحلاف أنه لا يستحلف الصانع وهذا الجواب لا يشكل على قول من يقول بأن الاستصناع مواعدة وليست بمعاقدة وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الاستحلاف لا يجري في المواعيد، وأما على قول من يقول باب الاستصناع معاقدة فقد اختلفت عبارة المشايخ فيه، وأصح ما قيل: أن الاستصناع ينعقد إجارة ابتداء وبيعاً انتهاء متى سلم، ولكن قيل: التسليم فحال ما جاء الصانع به في المستصنع، واختلفا قبل التسليم إلى الآمر فهذا آجر ومستأجر اختلفا بعد انقضاء مدة الإجارة، وفي مسألة لا يجري (فيها) الاستحلاف على ما عرف. وإذا قال لغيره: أخذك غلامي حتى كتبت لي بفلان حلف على حاصل الدعوى،

ولكن إنما يحلف إذا ادعى كفالة صحيحة منجزة أو معلقة بشرط متعارف، وذكر أن الكفالة له كانت بإذنه، أو ذكر إجازته لتلك الكفالة في مجلس الكفالة أما بدون ذلك لا يكون مدعياً كفالة صحيحة، فلا يترتب عليه التحليف ثم كيفية التحليف على الحاصل في هذا: أن الكفالة إن كانت بالمال، حلفه بالله ماله قبلك هذه الألف درهم بسبب هذه الكفالة التي يدعيها يذكر بسبب هذه الكفالة التي يدعيها حتى لا تتناول كفالة أخرى غير ما وقع فيه الدعوى وإن كانت كفالة بعرض يحلفه (95ب4) بالله ماله قبلك تسليم نفس فلان بسبب هذه الكفالة التي يدعيها. رجل في يديه سلعة لا يعلم لأحد فيها حقاً، جاء رجل وادعى فيها دعوى وسع الذي في يديه أن يحلفه البتة بالله ماله فيها حق، لأنه وجد سبب الملك في حقه وهو الاستيلاء، وإنه يقضي انتفاء حق الغير، فكان له أن يعتمد على هذا السبب ويحلف. ألا ترى أنه لو كان مكان ذلك في يديه جارية كان له أن يعتمد على هذا السبب ويطأها، فكذا يجوز الاعتماد عليه في حق الحلف ولو كان المدعي مع المدعى عليه تصالحاً من دعوى المدعي على دارهم، ثم إن المدعى عليه جحد حق المدعي فيه لا يسعه أن يحلف ما له قبله حق، فعلم أنه لا حق له في ذلك الشيء. وإذا أحال الرجل غريماً من غرمائه على رجل بألف درهم، ثم إن المحتال له قدم المحيل إلى القاضي وهو لا يرى الحوالة توجب براءة الأصل وذلك قبل أن يجحد المحتال له، وقبل أن يفلس، حل للمحيل أن يحلف ما له عليه حق، إذا كان من رأي المحيل أن الحوالة توجب براءة الأصيل؛ لأن لكل أحد أن يتبع رأي نفسه في المجتهدات ما لم يصر مقضياً عليه، وإن قضى للمحتال له بمطالبة المحيل وجعل الحوالة بمنزلة الكفالة به أراد المحيل أن يحلف على براءة نفسه، لا يسعه ذلك؛ لأن قضاء القاضي حصل في محل مجتهد فيه؛ لأن من مذهب زفر والقاسم بن معن، أن الحوالة لا توجب براءة الأصيل فصار المحيل مقضياً عليه فلا يتبع رأي نفسه بعد ذلك، ولا يحلف على براءة نفسه. رجل في يديه دار يزعم أن طائفة منها له يعلم مقدارها أو لا يعلم، فادعى رجل لنفسه فيها حقاً معلوماً بأن قال أدعي الثلث والربع، فقال المدعى عليه للقاضي: إنا نعلم للمدعي فيها حقاً ولكن لا أدري مقدار حقه فادع إليه ما أحسنت لا ينبغي للقاضي أن يتعرض لذلك بشيء، ولكن يحلف المدعى عليه على ما ادعى المدعي، فإن نكل فقد صار مقراً بذلك القدر أو صار باذلاً لذلك القدر، وأياً ما كان فهو حجة، وإن حلف على ذلك المقدار المعين، فالقاضي يسكن المدعي مع المدعى عليه في الدار بإقراره، أن له فيها حقاً؛ لأنه قد أقر للمدعي بالشركة فيها ولكن أنكر قدر ما ادعاه المدعي، ولم يثبت القدر كما حلف عليه بقي أصل الشركة، وفي حكم الشركة في الدار بين اثنين أو بين جماعة أن يسكنوا فيها، حتى ينتفع كل واحد بنصيبه بقدر الممكن. قال في كتاب الصلح: رجل ادعى على رجل ديناً أو عيناً والمدعى عليه ينكر ذلك،

فاصطلحا على أن يحلف المدعى عليه وهو بريء من المال فحلف المدعى عليه فالصلح باطل والمدعي على دعواه إن أقام بينة أخذه بها؛ وهذا لأن المدعى عليه لو استفاد البراءة إما أن يستفيد بهذا الصلح ولا وجه إليه لأن هذا صلح مخالف قضية الشرع، لأن قضية الشرع أن يمين المدعى عليه لا يمنع المدعي من إقامة البينة، وإما أن يستفيد البراءة بطريق إسقاط الحق ولا وجه إليه أيضاً؛ لأن حق المدعي في إثبات ما ادعاه بالبينة ثابت شرعاً على وجه لا يتمكن من إسقاطه مع بقاء أصل حقه، وإنه لم يسقط أصل حقه حين طلب يمين المدعى عليه لا يمنع المدعي من إقامة (البينة) ، وإما أن يستفيد البراءة بالتنصيص على البراءة عند الحلف ولا وجه إليه؛ لأن البراءة معلوم بالشرط وتعليق البراءات بالشرط باطل، فإن لم يجد البينة وأراد أن يستحلف المدعى عليه عند القاضي بعد ذلك ينظر إن لم يكن الاستحلاف الأول بين يدي القاضي، فالقاضي يستحلفه ثانياً؛ لأن اليمين عند غير القاضي غير معتبرة؛ لأن المعتبر يمين قاطعة للخصومة، وإن كان الاستحلاف الأول من القاضي لا يحلفه ثانياً؛ لأن اليمين الأولى وقعت معتبرة؛ لأنها وقعت قاطعة للخصومة. وكذلك لو اصطلحا على أن المدعي لو حلف فالمدعى عليه ضامن للمال، وحلف فالصلح باطل ولا شيء على المدعى عليه لأنه صلح على مخالفة الشرع لأنهما بهذا الصلح جعلا اليمين حجة للمدعي واليمين في الشرع لم تجعل حجة للمدعي. قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن رجل له على رجل مال مؤجل فقدمه إلى القاضي قبل أن يحل المال الذي يدعيه قبله، فحلف الرجل بالله ما له اليوم عليه شيء، وجهل القاضي وقبل ذلك منه هل يسع الحالف ذلك؟ قال: إن كان لا يرى أن يذهب بحقه فأرجو أن لا يكون بأس فقلت: فهل ينبغي للقاضي أن يقبل ذلك منه؟ قال: لا ولكنه يحلفه بالله ما له قبله شيء. وذكر في «المنتقى» في باب الاستحلاف: رجل له على رجل ألف درهم نسيئةً، فأراد أن يحلفه بها عند القاضي ينبغي للمدعى عليه أن يقول للقاضي: سله أيدعي حالاً أو نسيئةً، فإذا قال: حالاً يحلف بالله ماله عليّ هذه الألف التي يدعيها ويسعه. وإذا ادعى رجل على رجل دعوى وجحده المدعى عليه واستحلفه القاضي على ذلك فأبى أن يحلف، فإنه ينبغي للقاضي أن يقول له: إنك نكلت عن اليمين، ومن رأي القاضي بالنكول فأعرض عليك اليمين ثلاث مرات، فإن حلفت وإلا قضيت عليك بالمال، فلو عرض عليه اليمين بعد ذلك ثلاث مرات وأبى أن يحلف قضى عليه بالمال هكذا ذكر الخصاف في كتابه، وهو مروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله، ذكر روايتهم في كتاب الاستحلاف، وشرط الخصاف رحمه الله أن يقول له القاضي في كل مرة: احلف وإلا قضيت عليك. واختلف المشايخ أن التقدير بالثلاث في عرض اليمين هل هو أمر لازم؟ وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا قضى القاضي عليه بالنكول في المرة الأولى، هل ينفذ قضاؤه؟

كان الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي رحمه الله يقول: العرض ثلاث مرات أمر لازم، قيل: وهكذا روي عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وبعض مشايخنا قالوا: إنه ليس بلازم. وذكر شيخ الإسلام في شرح «السير الكبير» : أن القاضي إذا عرض اليمين على المدعى عليه ولم يحلف، إن صرح بأنه لا يحلف، فالقاضي لا يعرض عليه اليمين مرة أخرى، بل يقضي عليه، وإن سكت فالقاضي يعرض عليه اليمين ثلاث مرات ويقول في كل مرة: إن حلفت وإلا قضيت عليك بالمال. وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح كتاب الدعوى أن القاضي لو قضى في المرة الأولى، عامة المشايخ على أنه ينفذ قضاؤه، وبعضهم قالوا: لا ينفذ قضاؤه. قال محمد رحمه الله: والصحيح ما عليه عامة المشايخ. وجه قول من قال: بأن التقدير بالثلاث ليس بأمر لازم: أن يكون له متسع للتورع عن اليمين الكاذبة إلا أنه يستحب العرض ثلاث مرات حتى يتأمل هل عليه شيء أم لا؛ أو لأنه يحتمل أنه لم يفهم كلام القاضي فالقاضي يبلي عذره فيه، والثلاث حسن لإبلاء العذر. ألا ترى أن المرتد يمهل ثلاثة أيام ولو لم يمهل وقتل في اليوم الأول جاز كذا ها هنا. وجه القول الآخر: أن النكول حجة محتملة؛ لأنه يحتمل أنه نكل تورعاً عن اليمين الكاذبة، ويحتمل أنه نكل لاشتباه الحال، فما لم يتأيد بمؤيد لا يعمل به فإذا نكل ثلاث مرات فقد وجد المؤيد وقبل ذلك لم يوجد المؤيد فلو أن القاضي عرض عليه اليمين ثلاث مرات وأبى أن يحلف فقضى عليه بالنكول ثم قال أنا أحلف لا يلتفت إليه؛ لأن قضاء القاضي قد نفذ وأفاد حكمه، فلا يمكن نقضه بعد ذلك من غير حجة وهو معنى قول شريح رضي الله عنه في مثل هذه الصورة: قد مضى قضاء لي. ولو قال: أنا أحلف قبل أن يقضي عليه قبل ذلك منه؛ وهذا لأن النكول لا يكون حجة قبل إيصال القضاء به، فلم يلزمه بسببه شيء فكان له أن يحلف بخلاف الإقرار، ويقبل ذلك؛ لأنه عسى كان النكول، ليتأمل هل الأمر كما يزعم المدعي وإنه صادق في الإنكار حلف، فلهذا يقبل ذلك منه. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وهو نظير ما قلنا في أحد الزوجين إذا أسلم أنه يعرض الإسلام على الآخر ثلاث مرات، ويقول له القاضي: إن امتنعت عن الإسلام أفرق بينك وبين صاحبك فإن امتنع في المرة الثالثة، فالقاضي يفرق بينهما، فإن قال: بعد ذلك أنا أسلم لا ينفعه إسلامه في هذا النكاح، وإن قال: أنا أسلم قبل قضاء القاضي بالفرقة، فالقاضي لا يفرق بينهما. ثم النكول الذي يترتب عليه القضاء عندنا مختص بمجلس القضاء؛ لأن النكول الذي يترتب عليه القضاء النكول عن اليمين القاطعة للخصومة، واليمين القاطعة للخصومة مختص بمجلس القضاء ويشترط أن يكون القضاء على فور النكول عند بعض المشايخ، وعلى قول الخصاف لا يشترط وقد مر هذا من قبل.

قال الخصاف رحمه الله: وإن استمهل المدعى عليه من القاضي يومين أو ثلاثة بعدما عرض عليه القاضي اليمين ثلاث (96أ4) مرات ونكل عن اليمين في كل مرة فلا بأس بأن يمهله القاضي؛ لأنه طلب من القاضي أن ينظر له بالتأخير حتى ينظر فيه، ويتأمل فيزول الاشتباه عنه والقاضي نصب ناظراً، فلهذا قال: لا بأس بأن يمهله القاضي، وإن لم يمهله وأمضى الحكم جاز؛ لأن دليل القضاء قد وجد وعسى يكون مراده من الإمهال تضييع حقه بالتأخير وهو نظير أمر المرتد (إذا) استمهل يمهل له ثلاثة أيام، وإن لم يمهل له وقتل جاز كذا ها هنا، فلو أن القاضي عرض عليه اليمين في المرة الأولى فقال: لا أحلف، فلما عرض عليه اليمين في المرة الثانية قال: أحلف ثم لم يحلف، فالقاضي يحتسب بما سبق حتى يعرض عليه اليمين مرة واحدة بعد ذلك، وإذا نكل قضى عليه، ولو أن القاضي (عرض) عليه اليمين في المرة الأولى فقال: لا أحلف ثم استمهل ثلاثة أيام فأمهله القاضي، فلما مضت الأيام الثلاثة، فالقاضي يستقبل العرض عليه ثلاث مرات ولا يحتسب بما سبق. والفرق: أن في المسألة الأولى لو لم يحتسب بما سبق لا يمكن القاضي من القضاء بالنكول أصلاً؛ لأنه كلما أراد أن يقضي عليه بالنكول يقول: أنا أحلف، فيحتاج إلى استقبال عرض اليمين ثلاث مرات فيتعذر عليه القضاء، أما في مسألة الاستمهال لو لم يحتسب بما سبق لا يتعذر عليه القضاء بالنكول؛ لأنه لو استمهل مرة أخرى فالقاضي لا يمهله، ولأن عرض اليمين إنما يبقى معتبراً إذا بقي للاستحلاف حقاً مستحقاً للمدعي فبقي العرض معتبراً. قال: ولو أن المدعى عليه حين أنكر دعوى المدعي، وعرض عليه القاضي اليمين لم يقل: لا أحلف ولكنه سكت، فالقاضي يقول: إني أعرض عليك اليمين ثلاثاً، فإن لم تحلف قضيت عليك بما ادعى ثم يعرض عليه اليمين ثلاثاً، فإن حلف وإلا ألزمه ذلك، فقد جعل الساكت ناكلاً وإنما جعل كذلك؛ لأنه بالسكوت امتنع عن اليمين المستحقة فصار به ظالماً فيجعله القاضي ناكلاً ليقضي عليه هل يظلمه؟ ألا ترى أنه لو امتنع عن جواب المدعى عليه بالسكوت، فالقاضي يجعله ناكلاً فكذا هاهنا. وبهذا يتبين أن النكول نوعان: حقيقي وحكمي، فالحقيقي: أن يقول لا أحلف والحكمي: أن يمتنع عن اليمين، ولكن إنما يجعل الإباء عن اليمين نكولاً إذا عرف أنه ليس في لسانه آفة تمنعه عن اليمين، وإذا عرف أنه ليس في أذنه آفة تمنعه عن سماع كلام القاضي، وهذا لأن الإنسان قد يسمع كلام القاضي، ولكن لا يمكنه أن يجيب؛ لأن في لسانه آفة وقد يمكنه أن يجيب إلا أنه لا يمكنه أن يسمع لآفة في سمعه وما لم يسمع ولم يقدر على الجواب لا يصير ظالماً بالإباء عن اليمين، فلا يجعل امتناعه عن اليمين نكولاً حكماً، وفي مسألتنا هذه عرف أنه لا آفة في لسانه ولا في سمعه؛ لأنه سمع كلام الخصم وأجابه في مجلس القاضي بالإنكار، فلهذا جعله ناكلاً حكماً. ولو أن المدعي حين قدم المدعى عليه مجلس القاضي وادعى عليه الحلف الذي

زعم أنه قبله فسأله القاضي عن دعواه فسكت ولم يجب القاضي لا بقليل ولا بكثير، وكلما كلمه القاضي بشيء لم يرد عليه الجواب، فإن القاضي لا يجعله ناكلاً لجواز أنه كان بسمعه آفة فلم يسمع كلام القاضي أو لم يكن بسمعه آفة إلا أنه كان بلسانه آفة فسمع كلام القاضي، إلا أنه لم يقدر على الجواب فلا يظهر ظلمه فلا يجعله القاضي ناكلاً، ولكن إذا كان في مجلس القاضي من يعرفه، فالقاضي يسألهم عنه، فإن شهدوا أنه عاقل ناطق سميع غير أبكم ولا أصم، فالقاضي يجعله ناكلاً ويقضي عليه، لأنه ظهر في الامتناع عن اليمين، وأما إذا لم يكن في مجلس القاضي من يعرفه فإن القاضي يقيمه عن مجلسه ويأخذ منه كفيلاً حتى يسأل عن معارفه وجيرانه، فإن سأل وأخبروا أنه لا آفة به أعاده إلي مجلسه، فإذا أعاده إلى مجلسه وهو ساكت بعد لا يتكلم: أجمعوا على أن القاضي ينزله منكراً في حق سماع البينة عليه حتى لو أقام المدعى عليه بينة قبلت بينته وقضى عليه بالمال المدعى به، وأما في حق عرض اليمين عليه ثلاث مرات والقضاء عليه بالنكول هل ينزله منكراً؟ بعض مشايخنا قالوا: هذا على قولهم فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله فالقاضي يحبسه ولا يقضي عليه بالنكول. وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أن ما ذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أما على قول أبي يوسف: فالقاضي لا يقضي عليه بل يحبسه حتى يجيب أو يحلف، وجه قول من قال: يستحلف ويقضي عليه: أنه جعل منكر في حق سماع البينة عليه فكذا في حق عرض (اليمين) ؛ لأن المعنى لا يختلف، وجه قول من قال لا يعرض عليه اليمين: أن الإنكار لم يوجد حقيقة، والشرع إنما شرع عرض اليمين والقضاء بعد ذلك بناء على الإنكار الحقيقي ولم يوجد. وإن علم القاضي أن بلسانه آفة بأن علم أنه أخرس أمره أن يجيب بالإشارة ويعمل بإشارته، لأن الإشارة من الأخرس قائمة مقام الكلام من الناطق، ألا ترى أنه يعمل بإشارته في حق النكاح والطلاق، فإن أشار بالإقرار تم الإقرار وإن أشار بالإنكار عرض عليه اليمين، فإن أشار بالإجابة كان يميناً، وإن أشار بالإباء يكون نكولاً، فيقضي عليه بالنكول. حكي عن موسى بن سليمان قال: سمعت محمد بن الحسن رحمه الله (يقول) إذا أراد القاضي أن يستحلف الأخرس يقول له: عليك عهد الله إن كان لهذا عليك هذا الحق ويشير الأخرس برأسه أي نعم ولا يستحلفه بالله ما لهذا عليك هذا الحق فيشير برأسه أي نعم؛ وهذا لأن قوله بالله ما لهذا عليك هذا الحق، لا بد وأن يقول القاضي: قل بالله ليعرف الأخرس أنه يطلب منه اليمين؛ لأن قوله بالله ليس يخاطب الأخرس ولا يعني إلزام الأخرس، فلا بد من خطابه بقوله قل ليعرف أنه طلب منه اليمين. بخلاف قوله: عليك عهد الله، فإن هناك لا يحتاج إلى أن يقول له القاضي قل علي عهد الله؛ لأن قوله عليك خطاب الأخرس وفيه ما يفتي عن إلزامه عليه فيعرف الأخرس أن القاضي يطلب منه، فلا حاجة إلى الخطاب بكلمة قل ثم إنما الفرق جاء بين الصورتين

باعتبار أن الإشارة من الأخرس صحت إذا كانت معروفة كالكلام من الناطق. ولو قال للناطق: عليك عهد الله إن كان لهذا عليك كذا، فقال نعم (انعقدت) يميناً؛ لأن نعم تتضمن إعادة ما في السؤال في غير الأول في الإيجابات، وقوله: عليك عهد الله ليس بإيجاب فيصير معاداً قوله عليه إن كان، وكأنه قال: علي عهد الله إن كان لهذا علي كذا ولو كان هكذا كان يميناً. وإذا عرفت هذا في الناطق فكذا في الأخرس وإشارتهم عندهم نعم، ولو كان قال للناطق: قل بالله هذا أمر، وقوله نعم في جواب الأمر لا يجعل جواباً ولا يتضمن إعادة ما في الأمر. ألا ترى أنه إذا قيل في العرف: لرجل أدخل هذه الدار، فقال: نعم لا يجعل جواباً وإذا لم يتضمن إعادة ما في الأمر لا تصير إشارة الأخرس جواباً متضمناً إعادة ما في الأمر فلا يصير الأخرس حالفاً. وعن بعض المتأخرين من مشايخنا أن من ادعى عيناً في يدي أخرس، فالأخرس يحلف على الإثبات بالله كه أين عين ملك تواست، ولا يحلف على النفي بالله كه أين عين ملك اين مدعى بنست؛ لأنه لو حلف على النفي فهو مشير بالنفي بالله كه أين عين ملك ابن مدعي بنست، وفيه احتمال يحتمل أن يكون نفياً لليمين يعني سموكند نمى خورم، فيحلف على الإثبات تحرزاً عن هذا الاحتمال، وإن كان المدعي أخرس وله إشارات معروفة وخصمه صحيح يحلفه بطلب الأخرس ويحلفه بالله الذي لا إله إلا هو كما إذا كانا صحيحين. وإن كان المدعى عليه أصم مع كونه أخرس والقاضي يعرفه أنه أصم، فإن القاضي يكتب له ويأمره أن يجيب بالكتابة، وإن كان لا يعرف الكتابة وله إشارة معروفة يؤمر بالإشارة ليجيب وتعامل معه كما تعامل مع الأخرس، وإن كان المدعى عليه مع كونه أخرس وأصم وأعمى، فالقاضي ينصب عنه وصياً ويأمر المدعي بالخصومة معه إذا كان له أب أو جد أو وصيهما، وإن عرف القاضي خللاً في عقله أو عرفه عديم العقل، فإن كان له أب أو جد أو وصي أب أو وصي جد يحضره مجلس الحكم حتى يدعي عليه، وإن لم يكن له واحد من هؤلاء نصب عنه خصماً ثم يسمع الخصومة عليه، نظراً للمدعي بقدر الممكن. ولو ادعى رجل على رجل مالاً بحكم الشركة وجحد المدعى عليه ذلك، ثم إن المدعى عليه قال: كان في يدي من مالك كذا وكذا بحكم الشركة ولكن قد دفعته إليك وأنكر المدعي الدفع والقبض هل يحلف المدعي على الدفع والقبض؟ ينظر إن كان المدعى عليه أنكر الشركة وكون مال الشركة في يده أصلاً بأن قال: (96ب4) لم يكن بيني وبينك شركة قط وما قبضت منك شيئاً بحكم الشركة لا يحلف المدعي على القبض، وإن كان المدعى عليه قال وقت الإنكار: ليس في يدي من مال الشركة شيء يحلف المدعي؛ وهذا لأن التحليف يترتب على دعوى صحيحة وفي الوجه الأول الدعوى لم تصح لمكان التناقض؛ لأن الجمع بين إنكار الشركة أصلاً وبين دعوى رد مال الشركة غير

ممكن، أما في الوجه الثاني الدعوى قد صح لانعدام التناقض؛ لأنه يمكنه أن يقول ليس في يدي من مال شركتك لا أني قد دفعت إليك مال الشرك قبل هذا. ولو ادعى عبداً في يد غيره، فقال صاحب اليد: إنه لفلان الغائب أودعنيه لا تندفع الخصومة عنه ما لم يقم البينة على ما ادعى عندنا وهي المسألة المخمسة، وإذا لم يقم بينه على ما ادعى حتى اختصما كان للمدعي أن يستحلفه على دعواه، فإن حلف برأ عن الخصومة وإن نكل قضى عليه بما ادعاه المدعي، فإن جاء المقر له الأول كان له أن يأخذ العبد من المدعي؛ لأن إقرار صاحب اليد الأول كان سابقاً على إقراره للمدعي فيثبت حق الأول في زمان لا مزاحم للمدعي فيه، ثم يقال للمدعي: أنت على خصومتك مع الأول، فإن أقام بينة على أنه له أخذه منه وإن لم يكن له بينة على ذلك استحلف الأول، فإن حلف برأ عن خصومة المدعي، وإن نكل قضى عليه بالعبد للمدعي؛ لأنه صار هو الخصم وترتيب الحجج بين الخصوم ما ذكرنا هذا أقر به الأول ونكل المدعي بعد ذلك، ولو لم يقل شيئاً حتى استحلفه المدعي ونكل وقضى به للمدعي ثم أقر به للغير، لا يصح إقراره ولا يضمن لذلك الغير شيئاً. ولو أن رجلاً في يديه أمة أو عبد أو عرض من العروض، جاء رجلان وادعى كل واحد منهما أنه له وقدماه إلى القاضي، فسأله القاضي دعواهما فإن أقر به لأحدهما وجحد الآخر يؤمر بالتسليم إلى المقر له؛ لأن بدعواهما لا يبطل ملكه ويده فإقراره يكون إقراراً على نفسه، فيصح ويؤمر بالتسليم إليه، فإن أراد الآخر استحلافه فلا سبيل له عليه وتكون خصومة الآخر مع المقر له؛ لأن فائدة الاستحلاف النكول الذي هو إقرار وبدل وبعد ما خرج عن ملكه لا يصح منه البدل ولا الإقرار، فإن قال الآخر للقاضي: إنما أقر به له ليدفع اليمين عن نفسه فحلفه لي، فالقاضي يحلفه على ذلك، هكذا ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : وإنه ليس بصواب، والصواب أنه لا يحلفه لما ذكرنا أن فائدة الاستحلاف النكول الذي هو بدل أو إقرار. ولو كان مكان دعوى الملك المطلق دعوى الغصب بأن ادعى رجلان عيناً في يدي ثالث ادعى كل واحد العين له غصبه صاحب اليد منه وقدماه إلى القاضي فأقر بالغصب من أحدهما، وأمر بالتسليم إليه، فأراد الآخر أن يستحلفه كان له ذلك؛ لأنه لو أقر للثاني يصح إقراره؛ لأنه يعيد الضمان عليه إن كان لا يفيد استحقاق العين؛ لأنه يقر للثاني بالغصب حسب إقراره الأول وقد عجز عن رده إلى الثاني والعجز عن رد المغصوب يوجب الضمان على الغاصب، حصل العجز من جهة الغاصب أو جهة القاضي بخلاف مسألة دعوى الملك المطلق فإن هناك لو أقر للثاني بعدما أقر للأول ودفع إلى الأول بقضاء لا يضمن للثاني شيئاً؛ لأنه ما أقر للثاني بلا ضمان؛ لأن مجرد الإقرار لا يصلح سبباً للضمان في حق الثاني، لأنه لا يزيل ملكه، ألا ترى أن الثاني لو أقام بينة أنه ملكه أخذه من الأول، وإذا خرج من الإقرار من البين بقي التسليم وأنه حصل بقضاء وأنه لا يصلح سبب ضمان، وإذا كان لا يضمن للثاني لو أقر بالعين له لم يكن الاستحلاف مفيداً

لاستحقاق العين واستحقاق القيمة، فلا يستحلف. ولو كان مكان دعوى الغصب دعوى الإيداع بأن ادعى كل واحد الوديعة في العين، فقال كل واحد: هذا العين لي أودعته من هذا فأقر به لأحدهما وأمره القاضي بالدفع إليه، فأراد الآخر أن يستحلفه لا يكون له ذلك؛ لأنه لو أقر للآخر بالعين بعد ذلك لا يضمن له، وإن صار العين تالفاً على الآخر؛ لأنه ما صار تالفاً بمجرد إقراره إنما صار تالفاً بالدفع إلى الأول والدفع إلى الأول حصل بقضاء قاض، وإذا كان لا يلزمه الضمان لو أقر به للثاني لم يكن الاستحلاف مفيداً.s وعلى قول محمد رحمه الله كان له أن يستحلفه؛ لأنه لو أقر للثاني يلزمه الضمان بترك الحفظ، فإذا أقر به للأول فقد سلطه على الآخر فصار تاركاً الحفظ في حق الثاني، فيلزمه الضمان كما لو دل سارقاً على سرقة الوديعة، وإذا كان يلزمه الضمان لو أقر للثاني كان الاستحلاف مفيداً فيستحلفه هذا إذا أقر به لأحدهما، فأما إذا أقر لهما أمر بالتسليم إليهما ولا يضمن لواحد منهما شيئاً، أما في دعوى الملك المطلق فظاهر، وأما في دعوى الوديعة، أما على قول أبي يوسف فظاهر أيضاً، وأما على قول محمد رحمه الله: فلأنه إنما يصير مقراً لكل واحد منهما بالنصف، وقد سلم إلى كل واحد منهما ما أقر به فلم يصر تاركاً الحفظ الملتزم في حق كل واحد منهما بخلاف ما إذا أقر لأحدهما أولاً، ثم أقر به للآخر؛ لأن هناك لم يسلم إلى الثاني ما أقر له، فصار تاركاً للحفظ الملتزم في حق الثاني فضمن له عند محمد رحمه الله وأما في دعوى الغصب فلأنه صار مقراً لكل واحد منهما بالنصف، وقد سلم إلى كل واحد منهما ما أقر له بخلاف ما إذا أقر به لأحدهما ثم أقر به للثاني، فإن أراد أحدهما أن يحلفه على النصف الآخر لنفسه، ففي دعوى الملك المطلق لا يحلف، وفي دعوى الغصب يحلف، وفي دعوى الوديعة على قول أبي يوسف لا يحلف، وعلى قول محمد يحلف، وأما إذا جحد لهما وطلب كل واحد منهما من القاضي أن يحلفه له، فالقاضي لا يحلفه بالله ما هذا العبد لهما؛ لأن كل واحد منهما يدعى جميع العبد فكيف يستحلف له في نصفه، وهذا تحليف لكل واحد منهما في النصف ولكن يستحلف لكل واحد منهما بعد هذا اختلف المشايخ: بعضهم قالوا: يحلف لهما يميناً واحدة بالله ما هذا العبد لهما لا لهذا ولا يحلف لكل واحد منهما يميناً على حدة؛ لأن عهد ذلك يحتاج إلى البداية بأحدهما وفيه تفويت التسوية، وبعضهم قالوا: يحلف لكل واحد منهما يميناً على حدة والرأي في ذلك للقاضي إن شاء بدأ بأحدهما من غير إقراع، وإن شاء أقرع بينهما تطييباً لقلوبهما ونفياً للتهمة عن القاضي، ثم إذا حلف لكل واحد منهما يميناً على حدة فالمسألة على ثلاثة أوجه: الأول: إذا حلف لكل واحد منهما يميناً على حدة وفي هذا الوجه برأ عن دعواهما وهذا ظاهر. الثاني: إذا حلف لأحدهما ونكل عن الآخر وإنه على وجهين: إن حلف للأول برأ عن دعواه، وإذا نكل للآخر قضى للآخر بكل العين كما إذا ادعاه وهو وحده فحلف ونكل، وإن نكل للأول فالقاضي لا يقضي بنكوله للأول بل يحلف للآخر وينتظر حاله مع

الآخر بخلاف ما لو أقر به لأحدهما، فإن هناك القاضي يقضي بالعين للمقر له، وفي النكول قال: لا يقضي للذي نكل له، والفرق: أن الإقرار حجة موجبة الحق بنفسه لا تتوقف على قضاء القاضي، فحين أقر به للأول فقد ثبت الحق للأول فيؤمر بالتسليم إليه، فأما النكول لا يوجب الحق بنفسه بل يتوقف على قضاء القاضي، فإن القاضي بالقضاء به له مقراً أو ناكلاً على حسب ما اختلفوا فيه، فحين نكل للأول لم يثبت الحق بنكوله بل يتوقف على القضاء ولا يمكن للقاضي القضاء للأول ما لم يستحلفه للثاني. فلو أنه قضى للذي نكل له أولاً مع أنه لا ينبغي له أن يفعل ذلك نفذ قضاؤه؛ لأنه حصل في محل مجتهد فيه، فإن الموضع موضع اشتباه الدليل؛ لأن النكول إقرار؛ ولأنه من العلماء من قال يجوز للقاضي، نكل أو لا، وهو مروي عن أبي يوسف رحمه الله. ولو نكل لهما فهو على وجهين إما إن نكل لهما جملة بأن حلفه القاضي لهما يميناً واحدة كما هو قول بعض المشايخ، أو نكل لهما على التعاقب، فإن حلف القاضي لكل واحد منهما يميناً على حدة، كما هو قول المشايخ والحكم في الوجهين واحد، وإنما كان الحكم في الوجهين واحد؛ لأن النكول ليس بحجة في نفسه، وإنما يصير حجة بقضاء القاضي وحال ما يقضي القاضي فقد اجتمع النكولان، فكأنه نكل لهما جملة. جئنا إلى بيان الحكم فنقول: في دعوى الملك المطلق، القاضي يقضي بالعين بينهما. وفي دعوى الغصب القاضي يقضي بالعين بينهما وبقيمة العين بينهما، ولا يضمن شيئاً من قيمة العبد لا لهما ولا لأحدهما، والفرق: وهو أن الإقرار حجة في نفسه لا يبنى على الدعوى ولهذا يصح قبل الدعوى، فإذا أقر بغصب العبد منهما فقد أقر بغصب النصف من كل واحد منهما، فإذا دفع العبد إليهما فقد وصل إلى كل واحد منهما نصف العبد فلا يلزمه شيء آخر، فأما النكول يبنى على الدعوى فكل واحد من المدعيين ادعى لنفسه جميع العبد فيكون نكوله لكل واحد منهما في جميع العبد فاستحق كل (97أ4) واحد منهما عليه جميع العبد ولم يصل إلى كل واحد منهما نصف العبد معنى. وفي دعوى الوديعة القاضي يقضي بالعبد لهما ولا يقضي بشيء من قيمة العبد عند أبي يوسف، وعند محمد رحمه الله: يقضي بقيمة العبد بينهما كما في دعوى الغصب. ولو أن رجلاً في يديه عبد ورثه من أبيه جاء رجل وادعى أن هذا العبد عبده أودعه أباه الميت وأنكر صاحب اليد، فإنه يستحلف صاحب اليد على دعواه ولكن يستحلف على العلم وهذا ظاهر، فإن حلف برأ وإن نكل قضى به عليه، ثم إذا قضى به عليه وأمر بالتسليم إلى المدعي وسلم جاء رجل وادعى بمثل ما ادعاه الأول، وأراد أن يستحلف المدعى عليه ليس له ذلك. فرق محمد رحمه الله بين هذه المسألة وبينما إذا ادعى كل واحد من المدعيين أنه أودعه من صاحب اليد، واستحلف الأول فنكل له فإنه يستحلف للثاني عند محمد رحمه

الله؛ لأن الاستحلاف مفيد؛ لأنه لو أقر للثاني يضمن للثاني لتركه الحفظ الملتزم بعقد الوديعة في حق الثاني؛ لأن الابن ليس بمودع بل حصل المال أمانة في يده، وفي مثله لا يجب الضمان بترك الحفظ فلم يكن في الاستحلاف فائدة ها هنا، فلا يستحلف. قالوا: وهذا إذا لم يكن في يدي الابن شيء من تركة الأب سوى هذا العبد يستحلف للثاني عند محمد رحمه الله؛ لأنه يصح إقراره للثاني فيستحلف له أيضاً وهذا؛ لأن المدعي يدعي على الميت تجهيل الوديعة وتجهيل الوديعة سبب وجوب الضمان، فكان هذا الدعوى الدين على الميت وإقرار الوارث بالدين على الميت إذا كان في يده شيء من التركة صحيح، فيستحلف وإذا نكل يقضى عليه بنكوله ويؤخذ ذلك مما في يده ولو كان دعوى هذا العبد؛ لأنه لو أقر للثاني في هذه الصورة لا يصح إقراره ولا يضمن له شيئاً؛ لأنه ليس بغاصب حتى يضمن للثاني بالأخذ السابق والتسليم ما كان عن اختيار، فلهذا لا يضمن للثاني، وإذا لم يكن عليه ضمان للثاني لم يكن استحلافه للثاني مفيداً فلا يستحلف له، وإذا ادعى على عبد محجور عليه مالاً أو حقاً من الحقوق فالخصم في ذلك العبد حتى كان للمدعي حق إحضاره، فإذا أحضر وأنكر دعواه فله أن يستحلفه أما إذا كان المدعى به مالاً يؤاخذ العبد به في الحال كدين الاستهلاك وما أشبهه، فظاهر؛ لأن دين الاستهلاك ظاهر في حق المولى حتى يباع العبد فيه فصار كدين التجارة في حق المأذون وأما إذا كان مالاً يؤاخذ به العبد للحال وإنما يؤاخذ به بعد العتق كدين الكفالة وكمهر امرأة تزوجها بغير إذن المولى، ودخل بها فلأنه يدعي عليه معنى لو أقر به يلزمه وأنه يؤاخذ به بعد العتق، فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول، فإن حلف برأ عن الدعوى، وإن نكل ثبت الحق ويصبر المدعي إلى أن يعتق، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» . قال الصدر الشهيد رحمه الله: وتصير مسألة العبد المحجور رواية في الدين المؤجل إذا ادعاه صاحب الدين وأنكره المديون، فأراد صاحب الدين أن يحلفه هل له ذلك؟ فقد اختلف المشايخ فيه: بعضهم قالوا: يحلف استدلالاً بمسألة العبد المحجور، فإنه في الموضعين جميعاً المال واجب في الحال وإنما ما جرت المطالبة وهكذا روي عن أبي يوسف ومحمد وقد ذكرنا روايتهما في صدر هذا الفصل. وبعضهم قالوا: لا يحلف وهذا القائل يفرق بين المسألتين والفرق أن التأخر في الدين المؤجل بدليل موجب له، وهو التأجيل فأوجب التأخر مطلقاً، فلم يبق واجب الأداء في الحال فلم تصح مطالبة المدعي إياه في الحال، فلم يتوجه اليمين، أما في العبد لا تأجيل في الدين فكان واجب الأداء للحال، ولهذا لو جاء إنسان وكفل به صح ويطالب الكفيل به للحال لكن تأخر المطالبة ضرورة العسرة، فلا يظهر التأخر في حق توجه اليمين عليه كما لو ادعى على المعسر الحر وجحده، فإنه يتوجه عليه اليمين، وإن كان لا يطالب به للحال، ومن العلماء من قال إذا كان المدعى به مالاً لا يؤاخذ به العبد المحجور عليه في الحال، وأراد المدعي أن يحضر العبد مجلس الحكم فللمولى أن يمنعه من ذلك ويقول له: لي حق استخدامه، فإذا أحضر به باب القاضي عجزت عن استخدامه والاستخدام مستحق لي

فليس لك إبطاله، هذا كما قلنا في الرجل زوج أمته من إنسان كان له أن يمنعها من الزوج وإن كان للزوج حق الاستمتاع بها بحق النكاح كيلا يفوت حق الاستخدام على المولى كذا ها هنا، وإلى هذا القول مال الشيخ الإمام فخر الإسلام علي رحمه الله. وإن وقع الدعوى على عبد مأذون له في التجارة فالجواب فيه كالجواب في العبد المحجور يحلف العبد سواء كان المدعى به مالاً يؤاخذ به المأذون في الحال أو يؤاخذ به بعد العتق، هكذا ذكر الخصاف رحمه الله. ومن قال في العبد المحجور إذا كان المدعى به مالاً لا يؤاخذ به العبد للحال إذا أراد أن يحضر العبد مجلس الحكم فللمولى أن يمنعه، يقول في المأذون كذلك؛ لأن المدعي لا ينتفع بحلفه للحال وللمولى فيه ضرر، فإن الخصومة مع العبد وجره إلى باب القاضي شغله عن خدمة المولى وخدمة المولى حقه، فكان للمولى أن يمنع المدعي من ذلك. وإن وقع الدعوى على صبي محجور عليه، فإن لم يكن للمدعي بينة لا يكون له حق إحضاره؛ لأنه لا فائدة في إحضاره؛ لأنه لو أقر لا يصح إقراره ولا يتوجه عليه اليمين؛ لأن اليمين للنكول ونكوله ليس بحجة؛ لأنه لا يرتقي درجته على صريح الإقرار منه، وصريح الإقرار منه ليس بحجة فكذلك النكول، وإن كان للمدعي بينة وكان يدعي عليه بسبب الاستهلاك هل يشترط إحضاره؟ فالكلام فيه يأتي بعد هذا في فصل آخر إن شاء الله تعالى. وإن وقع الدعوى على صبي مأذون فقد ذكر في «الفتاوى» : صبي مأذون باع شيئاً ووجد المشتري به عيباً وأراد رده على الصبي لكون هذا العيب في يده وأراد المشتري أن يحلفه قال: لا يمين عليه حتى يدرك، وعن محمد رحمه الله: لو حلف وهو صبي ثم أدرك لا يحلف، فهذا دليل أن يمينه معتبرة. وفي «النوادر» : يحلف الصبي المأذون ويقضى عليه بنكوله بمنزلة البائع، وفي إقرار «الأصل» في باب الإقرار بترك اليمين: الصبي التاجر يستحلف، وكذا العبد التاجر، وفي كتاب «الأقضية» : الصبي المأذون إذا أقر بدين التجارة يصح إقراره، وإذا ادعي ذلك عليه وأنكر يستحلف، وإذا أقر بدين ليس هو دين التجارة لا يصح إقراره، وإذا ادعى ذلك عليه وأنكر لا يستحلف. وفيه أيضاً: إذا وقع الدعوى على الصبي التاجر فيما ورثه عن أبيه يستحلف في ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يستحلف. وفي «الفتاوى» : دار في يد صبي يدعي رجل أن أباه غصبها منه لا يحلف الصبي عليه؛ لأنه لا فائدة فيه ولا ينزع الدار من يده؛ لأنه مالكها ظاهراً. وذكر أبو الحسن بن عمار الطبري في كتابه: إذا كان صبي مأذون ادعى عليه رجل

لا يمين عليه، ولو أقر به جاز. وإذا ادعى مسلم على ذمي خمراً بعينه يصح، وإذا أنكر يستحلف؛ لأنه لو أقر به يصح فكان الاستحلاف مفيداً، وإذا ادعى عليه استهلاك خمر لا يحلف؛ لأنه لو أقر به لا يلزمه شيء فلا يفيد الاستحلاف. قال: ويجوز الافتداء عن اليمين بالدراهم، وكذا يجوز الصلح عن اليمين على دراهم حتى لا يكون للمدعي أن يحلف المدعى عليه بعد ذلك، لأن الافتداء عن اليمين والصلح عن اليمين صلح عن إنكار وبعد الصلح على الإنكار لا يسمع دعوى المدعي فيما وقع الصلح عنه. قال: رجل ادعى عيناً في يدي رجل وأراد استحلاف المدعى عليه، فإن قال المدعى عليه: العين في يدي بميراث وعلم القاضي ذلك، أو لم يعلم ولكن أقر بذلك أو لم يقر المدعي بذلك، ولكن أقام المدعى عليه بينة على ذلك، ففي هذه الوجوه كلها التحليف على العلم يحلف المدعى عليه بالله ما لم يعلم أن عليك تسليم هذا العبد إلى هذا المدعي؛ لأنه في الحاصل تحليف على فعل الغير؛ لأن الوارث يملك الموروث بفعل غيره وهو موت المورث لا بفعله ولهذا ملكه قبل أو لم يقبل، وإن لم يعلم القاضي حقيقة الحال ولا أقر المدعي بذلك ولا أقام المدعى عليه بينة على ذلك، فالقاضي يحلفه البتة، لأن سبب استحقاق اليمين الثبات قد تقرر وهو كون العبد في يده فهو بقوله: وصل إلي بالميراث يريد إسقاط يمين الثبات عن نفسه الميراث فلا يصدق عليه إلا بحجة فإن طلب المدعى عليه من القاضي أن يحلف المدعي ما وصل إليه من جهة (97ب4) فالقاضي يحلفه؛ لأنه يدعي سقوط يمين الثبات عن نفسه، والمدعي لو أقر بذلك يلزمه، فإذا أنكر يستحلف، ولكن يحلف على العلم بالله ما يعلم أنه وصل إليه بالميراث؛ لأنه تحليف على فعل الغير، فإن حلف المدعي على ذلك انتفى الوصول إلى المدعى عليه بجهة الميراث، فيحلف المدعى عليه على العلم، وإن قال المدعى عليه: وصل العين إلى يدي بالشراء أو بالهبة أو بالصدقة من جهة فلان يحلف على الثبات بالله ما عليك تسليم هذا العين إلى هذا المدعي وهذا مذهبنا، والمسألة قد مرت في صدر هذا الفصل. وإن كان المدعى عليه يدعي لنفسه ملكاً مطلقاً يحلف على الثبات أيضاً، وإن احتمل دعوى الملك المطلق دعوى التمليك بفعل غيره من كل وجه وهو الميراث ودعوى التملك بفعل نفسه من كل وجه بالاصطياد والإحتشاش؛ لأن فيه زيادة زجر وقد مر نظير هذا في صدر هذا الفصل. قال الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : العبد المأذون له في التجارة، إذا اشترى جارية ووطئها ثم استحقت من يده وهي ثيّب أن إقرار العبد بذلك الساعة لا يلزمه شيء، وإن أنكر وأراد استحلافه على علمه أحلفه بالله، فإن نكل جعلته عليه إذا عتق. معنى قوله: أن إقرار العبد بذلك الساعة لا يلزمه شيء، أنه لو أقر بالوطء بعدما استحقت لا يلزمه العقد في الحال، وإنما يلزم بعد العتق.

ومعنى قوله: إن أنكر وأراد استحلافه أن العبد لو أنكر الوطئ بعدما استحقت الجارية، وأراد المستحق استحلاف العبد على الوطء بعد استحقاقها حلف بالله. يجب أن يعلم بأن المأذون بمنزلة الحر في حق بعض الأحكام، وبمنزلة المحجور في حق البعض، ألا ترى أنه لو أقر بثمن جارية اشتراها يؤاخذ به للحال كالحر، ولو أقر بمهر امرأة أو أقر بالجناية لا يؤاخذ به في الحال، وإنما يؤاخذ بعد العتق، ولكن إذا جحد المأذون ما يلزمه في الحال وما يؤاخذ بعد العتق، وأراد المدعي استحلافه يحلف كما في المحجور عليه على ما ذكرنا قبل هذا وهو اختيار الخصاف رحمه الله. ثم إن الخصاف لم يصحح إقرار المأذون بوطء الثيب بعدما ورد عليها الاستحقاق في حق لزوم العقد للحال وجعله في هذا كالمحجور، ومن المتأخرين من صحح ما ذكره الخصاف رحمه الله، وفرق بين الثيب وبين البكر، فإن الجارية المشتراة إذا كانت بكراً واستحقت من يد المأذون وأقر بوطئها بعد الاستحقاق، يلزمه العقر في الحال، والفرق: أن المستوفى بوطء البكر صفة البكارة، وصفة البكارة مال ولهذا تزداد مالية الجارية، باعتبار هذه الصفة وتنقص بفواتها، وتصير هذه الصفة مستحقة بالشرط كما في باب البيع فثبت أنها مال، فقد أقر العبد بوجوب المال بدلاً عما هو مال، فيؤاخذ به في الحال، كما لو أقر بثمن جارية اشتراها، أما المستوفى بوطئ الثيب ليس بمال، فإنما أقر بوجوب المال بدلاً عما ليس بمال فلا يؤاخذ به في الحال كما لو أقر بجناية أو بمهر امرأة تزوجها، فالمأذون في فصل البكر كالحر، وفي فصل الثيب كالمحجور. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ما ذكره الخصاف أن إقرار المأذون بوطئ الثيب غير صحيح في حق لزوم العقد للحال خلاف ما نص عليه محمد رحمه الله في المأذون، والصحيح ما ذكره محمد رحمه الله في المأذون أن إقراره بوطء الثيب صحيح يؤاخذ بالعقد في الحال؛ وهذا لأن العقد إنما يلزم بسبب مقدمة الشراء فكان من توابع الشراء والشراء تجارة، فكان هذا من توابع التجارة، وما كان من توابع التجارة فإقرار المأذون به صحيح ويؤاخذ به في الحال بخلاف ما إذا أقر بمهر امرأة تزوجها عليه لأن ذلك ليس بتجارة، ولا هو من توابع التجارة فلا يؤاخذ به للحال. الدليل على صحة ما قلنا: أن أحد المتفاوضين إذا اشترى جارية واستحقت من يده، فأقر المشتري أنه كان وطئها وهي ثيب يلزمه العقر ويؤاخذ به صاحبه، وإنما يؤاخذ صاحبه بالمهر. وفي «الجامع الصغير» : المكاتب إذا وطئ أمة على وجه الملك بغير إذن المولى ثم استحقها رجل فعليه العقر، ويؤاخذ به للحال فقد جعله من توابع التجارة. ولو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي، وادعى عليه ألف درهم، وأنكر المدعى عليه ذلك فأراد المدعي استحلافه فقال المدعى عليه للقاضي: إن المدعي حلفني على هذه الدعوى عند قاضي بلد كذا، وأنكر المدعي ذلك، فأقام المدعى عليه بينة على ما ادعى، قبل القاضي بينته؛ لأنه بهذه البينة يثبت إيفاء حق المدعي في اليمين، ولو أثبت إيفاء حقه

في المال بالبينة أليس أنه يقبل ذلك منه، كذلك ها هنا، وإن لم يكن للمدعى عليه بينة على ذلك وأراد أن يحلف المدعي فله ذلك، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» ؛ لأن المدعى عليه يدعي أيضاً حق المدعي في اليمين، ولو ادعى أيضاً حقه في المال وأنكر المدعي ذلك أليس أنه يحلف كذا هنا. وإذا حلفنا المدعي إن نكل صار مقراً أنه حلف المدعى عليه مرة فلا يحلفه ثانياً، وإن حلف ثبت أنه لم يحلفه مرة، فكان له أن يحلفه ثانياً. حكى القاضي أبو الهيثم عن القاضي أبي حازم: أنه لا ينبغي للقاضي أن يحلف المدعي على ما ادعاه المدعى عليه في هذه الصورة، ولكن ينبغي للقاضي أن يحلف المدعى عليه في الابتداء بالله ما لهذا المدعي عليك مال لا يحلفك عليه، قالوا: وما قاله أبو حازم أحسن مما قاله الخصاف؛ لأنا لو حلفنا المدعي بالله ما حلفت هذا المدعى عليه على دعواك هذا قبل قاضي بلد كذا، كان للمدعى عليه أن يقول: إنه حلفني على هذا مرة أخرى عند قاضي بلد كذا، ويطلب يمين المدعى عليه على ذلك ثم وثم إلى ما لا يتناهى، فكان ما قاله أبو حازم أحسن من هذا الوجه. قال: ولو كان المدعي حين ادعى عليه ألف درهم قال المدعى عليه للقاضي: إن هذا المدعي قد كان ادعى علي بهذه الدعوى عند قاضي بلد كذا وكذا ثم خرج عن دعواه إذا برأ منها فحلفه أنه لم يبرأ عن هذا، لا ينبغي للقاضي أن يحلف المدعى عليه بالله ما أبرأت هذا المدعى عليه عن هذه الألف ولا عن شيء منها، وهكذا ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» وأشار إلى الفرق بين دعوى المدعى عليه أن المدعي قد أبرأه وبين دعواه أن المدعي قد حلفه مرة. واختلف المشايخ فيه منهم من قال: لا فرق بينهما من حيث المعنى وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع. موضوع هذه المسألة: أن المدعى عليه ادعى البراءة عن الدعوى لا عن الألف، وذكر في الجواب: أن المدعي لا يحلف بالله ما أبرأته عن هذه الألف ولا عن شيء منها وهذا مستقيم؛ لأن الاستحلاف يكون على وفاق الدعوى لا على خلافه، والمدعى عليه ادعي الإبراء عن الدعوى لا عن المال، فلو حلفناه على الإبراء عن المال لا يكون التحليف على موافقة الدعوى. وموضوع تلك المسألة: أن المدعى عليه ادعى على المدعي أنه حلفه مرة وذكر في الجواب أنه يحلف المدعي بالله ما حلفه، فكان هذا استحلافاً على وفق الدعوى فيحلف. وزان مسألتنا من تلك المسألة أنه لو أراد القاضي أن يحلفه على الإبراء عن الدعوى كان له ذلك؛ لأنه على موافقة الدعوى، ومنهم من قال: لا يحلف المدعي على البراءة أيضاً، قال فخر الإسلام رحمه الله: وهكذا ذكر محمد رحمه الله في كتاب الكفالة وبين وجه ذلك أن قول المدعى عليه: المدعي أبرَأَني عن هذه الدعوى محتمل، فإنه يذكر ويراد به الإبراء عن العين المدعى به، وإنه لا يصح؛ لأن الإبراء عن الأعيان باطل، ويذكر

ويراد به الإبراء عن نفس الدعوى وإنه صحيح، فدعوى حينئذ من جهة المدعي لا يجوز إبطاله بالشك.b قالوا: وهذا لا يقوى؛ لأنه وضع المسألة في دعوى الدين، والإبراء عن المدعى به إذا كان ديناً صحيح، ولو كان وضع المسألة في دعوى العين فالإبراء عن الأعيان لا يصح، بمعنى: أن لا تصير العين ملكاً للمدعى عليه، أما لا تصح دعوى المدعي ذلك العين بعد ذلك، ولكن الوجه الصحيح لبيان أنه لا يحلف المدعى عليه دعوى الإبراء عن دعوى المال: أن المدعي بالدعوى استحق الجواب على المدعى عليه، والجواب إما الإقرار أو الإنكار وقوله: أبرَأَني عن الدعوى ليس بإقرار ولا إنكار، فلا يكون مسموعاً بل يقال: أجب خصمك ثم ادع عليه ما شئت إن كان لك عليه دعوى، وإذا لم يكن دعوى الإبراء مسموعاً من المدعى عليه لا يترتب عليه التحليف وهذا بخلاف ما إذا قال المدعى عليه في هذه الصورة: أبرأني عن هذه الألف، فإنه يحلف المدعي؛ لأن دعوى البراءة عن المال إقرار بوجوب المال، والإقرار جواب ثم دعوى المسقط وهو الإبراء يصح بعد الدعوى من المدعى عليه فيترتب عليها الاستحلاف، ومن المشايخ من قال: الصحيح أنه يحلف المدعي على دعوى البراءة، كما يحلف على دعوى التحليف وإليه مال شمس الأئمة (98أ4) الحلواني رحمه الله. قال رحمه الله: وعليه أكثر قضاة زماننا، لكون هذا استحلاف على وفاق الدعوى، وإنما كان له الاستحلاف على ذلك، لأن المدعى البراءة عن الدعوى، والبراءة عن الدعوى صحيحة، فتسقط به الخصومة، ألا ترى أنه لو أقر بذلك يلزمه وتسقط به خصومته، وألا ترى أنه لو أبرأه عن الدعوى بين يدي القاضي، لا يسمع القاضي خصومته بعد ذلك، فجاز أن يحلف عليه. وإذا ادعى رجل على رجل أنه قتل ابناً له عمداً أو عبداً له عمداً أو ما أشبهه وأراد استحلافه على ذلك، ذكر في «أدب القاضي» للخصاف: أنه يحلف على الحاصل ولم يزد على هذا. يجب أن يعلم بأن دعوى الجناية على النفس أو فيما دون النفس، وإما أن تكون دعوى الجناية عمداً أو خطأ، فإن كانت دعوى الجناية على العبد: فإن كانت الجناية في النفس إذا كانت عمداً القصاص، والقصاص يلاقي العبد من حيث أنه مال، والعبد من حيث إنه آدمي حق نفسه لاحق المولى، ولهذا لو أقر العبد على نفسه بالقصاص صح إقراره، ولو أقر المولى عليه بالقصاص لا يصح إقراره، فكان الخصم في ذلك العبد، فيستحلف العبد، فإن كانت الجناية في النفس وكانت خطأ فالخصم هو المولى؛ لأن موجب هذه الجناية الدفع أو الفداء، وكلاهما يختص بالمولى لا تعلق للعبد به، فكان الخصم فيه المولى، فكان اليمين عليه ولكن يحلف على العلم؛ لأنه تحليف على فعل الغير، وإن كانت الجناية فيما دون النفس، فالخصم في ذلك المولى عمداً كانت أو خطأ وهو الخطاب بالدفع أو الفداء، وكل ذلك يختص بالمولى لا تعلق للعبد به فكان الخصم فيه المولى، فيحلف المولى ولكن يحلف على العلم لما ذكرنا، وأما إذا كان دعوى

الجناية على الحر، فإن كانت الجناية على النفس وهي عمد. بأن ادعى رجل على رجل أنه قتل ابنه عمداً فالخصم هو المدعى عليه، ويحلف المدعى عليه على الحاصل هكذا ذكر الخصاف ولم يزد على هذا، وذكر في كتاب الاستحلاف أنه يستحلف على السبب، بعض مشايخنا قالوا: ما ذكر الخصاف جواب لظاهر الرواية، وما ذكر في كتاب الاستحلاف رواية أبي يوسف ولكن هذا ليس بصواب، فالمذكور في كتاب الاستحلاف: وقال أصحابنا: اليمين في القصاص بالنفس بالله ما قتلت إباه الذي يدعى أنك قتلته، وبعض مشايخنا قالوا: ما ذكر الخصاف قول الكل، وما ذكر في الاستحلاف قول الكل أيضاً، فصار في القتل روايتان، فعلى ما ذكره الخصاف لا يحتاج إلى الفرق. والفرق: أن قضيته الدليل أن يكون التحليف على الحاصل في القتل أيضاً؛ لأن في التحليف على السبب ضرر فالإنسان قد يقتل ولي غيره عمداً ولا يجب عليه القصاص بأن قتله لردته أو لدفع قصده قتله، أو ما أشبهه فلو حلف على السبب يمكنه الحلف على انتفاء السبب مع وجوده، ولا يمكنه أن يقر به فيدعي المانع من القصاص؛ لأنه عسى لا يمكنه إثبات ذلك كما فيما تقدم، ولكن تركنا الدليل في باب القتل بالنص، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم «حلف اليهود على القتل بالله ما قتلتموه ولا علمتم له قاتلاً» ولا نص فيما تقدم فيعمل فيها بقضية الدليل. وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف فيما تقدم: أن التحليف على السبب لا يحتاج أبو يوسف إلى الفرق بين القتل وفيما تقدم في كتاب الاستحلاف وعلى رواية «أدب القاضي» : يحتاج إلى الفرق، له: أن قضية القياس أن يكون التحليف على السبب في الفصول ليكون التحليف على موافقة الدعوى وما ذكروا من احتمال الضرر يمكن دفعه بالتعريض فأسقطنا اعتبار الاحتمال عمداً مكان الدفع، ليكون التحليف على موافقة الدعوى لكن أسقطنا اعتبار الاحتمال في باب النفس تعظيماً لأمر النفس؛ لأن الإنسان قد يفعل عن التعريض، وإذا فاتت النفس لا يخلفه شيء آخر ولا كذلك المال وفي كتاب «الأقضية» على قول أبي يوسف يحلف على السبب، وعن محمد روايتان. وكان الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي رحمه الله يقول: الصحيح أن يقال بأن على قول أبي حنيفة رحمه الله يحلف على السبب؛ لأنه لا ضرر على المدعى عليه في ذلك؛ لأنه وإن قتله وسقط القصاص ولم يجب بسبب من الأسباب، وامتنع عن الحلف على نفس الفعل لا يقضي عليه بشيء لا بالقصاص ولا بالدية، وعن محمد: يستحلف على الحاصل؛ لأن في التحليف على السبب ضرر بالمدعى عليه، فإنه متى امتنع عن الحلف يقضي عليه بنكوله عند محمد رحمه الله، ولكن بالدية ولكن هذا ليس بصحيح فإنه عند أبي حنيفة رحمه الله إن كان لا يقضى عليه بنكوله لا بالقصاص ولا بالدية ولكن يحبس حتى يحلف أو يقر وفيه ضرر.

ثم إذا حلف على الحاصل يحلف بالله ما لهذا عليك دم وليه ولا له قبلك حق بسبب هذا الدم لجواز أنه عفى عنه على مال، أو كان الدم بين وليين عفى الآخر وانقلب الدم مالاً، فلو لم يذكر ولا له قبلك حق بسبب هذا الدم، يحلف ولا يحنث؛ لأنه لم يبق له عليه الدم، ثم إذا حلف على هذا الوجه، إن حلف برأ عن الخصومة، وإن نكل فعند أبي حنيفة رحمه الله يحبس حتى يقر أو يحلف وعندهما يقضي عليه بنكوله ولكن بالدية. وإن كانت الجناية فيما دون النفس وكانت عمداً توجب القصاص، فعلى رواية «أدب القاضي» يحلف على الحاصل، وعلى رواية كتاب الاستحلاف يحلف على السبب، واختلف المشايخ فيه على نحو ما ذكرنا في النفس: قال الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي رحمه الله: والصحيح أنه يستحلف في هذه الصورة على الحاصل عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأنه متى استحلف على السبب ونكل يقضى عليه بالقصاص عند أبي حنيفة رحمه الله وبالدية عند محمد. وإن كان دعوى الجناية على النفس وهي خطأ أو على الطرف وهي خطأ نحو قطع اليد والموضحة وما أشبه ذلك مما تتحمله العاقلة. ذكر في «أدب القاضي» للخصاف وفي كتاب «الأقضية» : أنه يستحلف على السبب عند أبي يوسف ومحمد في كتاب الاستحلاف أنه يستحلف على السبب عند أصحابنا رحمهم الله؛ وهذا لأن في التحليف على الحاصل ضرراً للمدعي؛ لأن بين العلماء اختلافاً أن الدية تجب على القاتل ابتداء والعاقلة يتحملون عنه، أو تجب على العاقلة ابتداء والعاقلة يتحملون عنه، أو تجب على العاقلة ابتداء فمتى حلفناه على الحاصل بالله ما لهذا عليك هذا الحق الذي يدعي عليك من الوجه الذي يدعي يحلف، ويتأول قول من يقول: بأن الدية تجب على العاقلة ابتداء، فلا يحنث في يمينه فلا يفيد الاستحلاف، حتى قلنا: إذا كان موجب الجناية شيئاً لا تتحملها العاقلة بأن كان دون أرش الموضحة يحلف على الحاصل؛ لأنه لا يمكنه التأويل ها هنا، فإن قيل: يمكن التأويل على الحاصل على وجه لا يتضرر به المدعي بأن يحلف بالله ما لهذا عليك هذا الحق الذي يدعي ولا شيء منه، وعلى هذا الوجه لا يمكنه التأويل؛ لأن من يقول بوجوب الدية على العاقلة يقول بأن القاتل من جملة العاقلة، فيتأول قول هذا القائل، ومن العلماء من قال: يمكن دفع التأويل مع التحليف على الحاصل بأن يزاد في التحليف زيادة شيء آخر، فيحلف بالله ما لهذا عليك هذا الحق الذي يدعي من الوجه الذي يدعي، ولا شيء منه، ويسمى الأرش والدية ولا قبل عاقلته ولا شيء منه وهذا حسن وبه يندفع التأويل. وكان الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي رحمه الله يقول: الصحيح أنه يحلفه على الحاصل بالله ما لهذا قبلك مال بالسبب الذي يدعي، وكان راعى جانب المدعى عليه، والصحيح ما قلنا؛ لأن في كل نوع ضرر لأحد الجانبين فلا بد من رعاية أحد الجانبين، فنقول رعاية جانب المدعى عليه أولى؛ لأنه ليس بجان. ولو أن رجلاً ادعى على رجل أنه اشترى داراً بجنب داري وأني شفيعها بداري، وأراد استحلافه، فالقاضي يحلفه على السبب بالله ما اشتريت هذه الدار التي سماها

وحدودها كذا وكذا ولا شيء منها، وإنما حلفناه على السبب نظراً للمدعي؛ لأن بين العلماء اختلافاً ظاهراً أن الشفعة هل تستحق بالجوار، فإن حلف على الحاصل ربما يتأول قول من لا يرى الشفعة بالجوار، فلا يلزمه الجنب (98ب4) فيبطل حق المدعي أكثر ما في الباب: أن في التحليف على السبب ضرراً بالمدعى عليه، لجواز أن المدعي لم يطلب الشفعة أو طلبها ثم سلمها ويطلب شفعته، فلو حلف على السبب لا يمكنه أن يحلف المشتري ولو أقر بالشراء وادعى بطلان حقه بعد ذلك عسى لا يمكنه الإثبات بالبينة، فيتضرر به المدعى عليه إلا أن الترجيح لجانب المدعي؛ لأن الشراء سبب استحقاق الشفعة وسقوط الحق بعد وجود السبب إنما يكون لعارض المسقط، فيجب التمسك بالأصل حتى يقوم الدليل على خلافه. وإن أقر المدعى عليه بالشراء والجوار، إلا أنه يقول: الشفيع لم يطلب الشفعة حين علم بالشراء وقال الشفيع: لا بل طلبت، فالقول قول الشفيع مع اليمين؛ وهذا لأن الشفيع إن كان مدعياً صورة؛ لأنه يدعي الطلب، والطلب عارض إلا أنه منكر معنى، فإن المشتري يدعي على الشفيع إبطال حقه في الشفعة بعد ما أقر له بثبوت حقه والشفيع منكر إذا كان القول قول الشفيع مع اليمين إذا طلب المشتري من القاضي يمين الشفيع، قال: القاضي يحلفه بالله، لقد طلبت شفعة هذه الدار حين بلغك شراؤها، وأشهدت على ذلك بحضرة أحد المتبايعين أو الدار، هكذا ذكر في كتاب الاستحلاف، ولكن هذا إنما يستقيم إذا ادعى المشتري أنه بلغه الشرى وهو بين ملأ من الناس، أما إذا لم يكن عنده من أشهده لم تبطل شفعته بترك الإشهاد للحال، فإذا أقر بذلك حلفه بالله لقد طلبت الشفعة حين علمت بالشراء، وخرجت إلى الشهود حين قدرت وطلبتها بحضرة أحد المتعاقدين أو الدار وأشهدت على ذلك. وإذا ادعى الشفيع أنه بلغه الخبر ليلاً وأنه طلب الشفعة وأشهد عليها حين أصبح، حلفه القاضي بالله ما بلغك الخبر إلا في الوقت الذي تدعي، وقد طلبت الشفعة وأشهدت على ذلك حين أصبحت؛ لأن الإشهاد إنما يشترط على حسب الإمكان ولا يمكنه أن يطوف على الأبواب ليلاً للإشهاد والطلب، فكان الإمكان إذا أصبح. وفي كتاب الاستحلاف قال محمد رحمه الله: إذا كان لرجل دار إلى جنب دار رجل فيصدق أحدهما على رجل بالحائط الذي يلي حائط جاره، وقبضه المتصدق عليه ثم اشترى المتصدق عليه ما بقي من الدار من المتصدق فليس للجار فيها شفعة؛ لأن صاحب الحائط أقرب جواراً من الجار الذي وراء الحائط، فإن طلب الجار الذي وراء الحائط يمين البائع والمشتري حلفه بالله ما باع الحائط ضراراً ولا فراراً من الشفعة على وجه التلجئة، وإبطال الشفعة حلفه القاضي على ذلك، يريد بهذا والله أعلم أن الجار الذي وراء الحائط ادعى، وقال: إن صدقة الحائط كانت تلجئة وقد بعت الكل وخاصم المشتري سواء كانت الدار في يده أو لم تكن؛ لأنه يدعي عليه معنى لو أقربه يلزمه، فإذا أنكر يستحلف عليه، فإن حلف لم يثبت تلجئة الحائط وانقطع خصومة الجار عن

المتصدق عليه والمشتري، وإن نكل ثبت تلجئة الصدقة في الحائط فكان للجار الشفعة. قال في كتاب الاستحلاف أيضاً: إذا وكل الرجل رجلاً بطلب شفعته فادعى المشتري على الوكيل أن موكله قد سلم الشفعة وطلب من القاضي أن يحلف الوكيل، فالقاضي لا يحلفه؛ لأن الوكيل لو حلف حلف بطريق النيابة عن الموكل؛ لأن الشفيع لا يدعي التسليم على الوكيل، إنما يدعيه على الموكل، والاستحلاف لا يجري فيه النيابة؛ وهذا لأن اليمين شرعت بدل حق المدعي بالنص بخلاف القياس؛ لأنه لا مماثلة بين أصل حقه وبين اليمين وما عرف شرعاً بخلاف القياس يراعى لصحة جميع ما ورد به الشرع، والشرع جعلها بدل حقه إذا كان المدعى قبله أصلاً في الحلف، فبينما إذا كان المدعي قبله ثانياً يبقى على حاصل القياس. ونظير هذه المسألة: ما قالوا في الوكيل بقبض الدين إذا أراد أن يقبض الدين من الغريم أن موكله أبرأني عن هذا الدين أو أدى دينه إليه، وأنكر الوكيل ذلك فطلب الغريم من القاضي أن يحلف الوكيل بالله ما يعلم ذلك من موكلك، فإنه لا يمين على الوكيل ويقول القاضي للغريم: أد الدين إلى الوكيل وأنت على خصومتك مع الموكل، والمعنى ما ذكرنا، هذا إذا ادعى المشتري تسليم الموكل، وإن ادعى تسليم الوكيل، إن ادعي تسليمه في غير مجلس الحكم: لا يحلف الوكيل، وإن كان لو استحلف استحلف بطريق الأصالة؛ لأن المشتري ادعى تسليم الوكيل إلا أنه ادعى عليه معنى لو أقر به لا يلزمه؛ لأن تسليم الوكيل الشفعة في غير مجلس الحكم لا يصح بالإجماع وإذا أقر فإنما أقر بما ليس بصحيح شرعاً فلا يلزمه، وكل من ادعى على آخر معنى لو أقر به لا يلزمه، فإذا أنكر لا يستحلف عليه، وإن ادعى تسليمه في مجلس الحكم، وأنكر الوكيل، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: يستحلف؛ لأن تسليمه في مجلس الحكم صحيح عندهما، فإنما ادعى عليه معنى لو أقر به يلزمه فيستحلف عند الإنكار وعند محمد: لا يستحلف، لأن تسليمه في مجلس الحكم غير صحيح أيضاً عند محمد رحمه الله فإنما المدعى عليه معنى لو أقر به لا يلزمه فلا يستحلف عند الإنكار. والمجبرة تختار البلوغ في حق اختيارها نفسها بمنزلة الشفيع في طلب الشفعة، فإنها كما بلغت بالحيض أو بالسن، ينبغي لها أن تختار نفسها كما أن الشفيع إذا بلغه الخبر ينبغي أن يطلب الشفعة، وأشهدت على اختيارها نفسها إن كان عندها من يمكن إشهاده وتقبل شهادته، وإن لم يكن عندها من يمكن إشهاده تخرج إلى الناس واختارت نائباً وأشهدت، وإن الجر في بيتها حتى خرجت إلى الناس بطل اختيارها، والإشهاد ليس بشرط لاختيارها نفسها، لكن شرط الإشهاد حتى يثبت اختيارها نفسها نظير استحلاف الشفيع على طلب الشفعة، فإن قالت للقاضي: قد اخترت نفسي حين بلغت، أو قالت حين بلغت طلبت القرفة قبل قولها مع اليمين، وإذا قالت: بلغت أمس وطلبت الفرقة، لا يقبل قولها وتحتاج إلى إقامة البينة، والجواب في الشفعة هكذا. إذا قال الشفيع: طلبت حين علمت فالقول قوله ولو قال: علمت أمس وطلبت،

كلف إقامة البينة ولا يقبل قوله ذكر المسألتين على هذا الوجه في كتاب الاستحلاف قيل أنهما من خصائص كتاب الاستحلاف، وإنما جاء الفرق باعتبار أنهما إذا أضافا الطلب والاختيار إلى وقت ماض، فقد حكما ما لا يملكان استئنافه للحال، ومن حكى ما لا يملك استئنافه لا يصدق فيما حكى من غير بينة، وإذا لم يضيفا الاختيار والطلب إلى وقت ماض، بل أطلقا الكلام إطلاقاً فقد حكيا ما يملكان استئنافه للحال، لأنما يجعل في الجارية كأنها بلغت الآن واختارت نفسها الآن والشفيع علم بالشراء الآن وطلب الشفعة الآن، فلهذا جعل القول قولهما إذا أطلقا. وإذا ادعت المرأة على زوجها أنه آلى منها ومضت أربعة أشهر ولم يفىء إليها، وإنها بانت منه وأنكر الزوج الإيلاء، فالقاضي لا يحلف الزوج علي الحاصل بالله ما هي بائنة منك اليوم، وهذا لأن بين العلماء اختلافاً ظاهراً أن تمضي مدة الإيلاء هل تقع الفرقة؟ بعضهم قالوا: لا تقع ويقال للزوج إما أن تفيء إليها أو يفرق القاضي بينكما، فلو حلفناه على الحاصل يؤول قول هذا القائل، ويكون صادقاً في يمينه فلا يلزمه حكم الحنث، وتتضرر به المرأة فيحلف على السبب: بالله ما قلت لها: والله لا أقربك أربعة أشهر على ما ادعت دفعاً للضرر عن المرأة، أكثر ما في الباب، أن في التحليف على السبب ضرراً للزوج فإنه قد (99أ4) يفيء إليها ولا تقع الفرقة بمضي المدة بأن يفيء إليها في المدة، إلا أن الترجيح لجانب المرأة، لأن الإيلاء إذا وجد تصير الفرقة مستحقة نظراً إلى السبب وهو الإيلاء، فامتناع الفرقة بعد ذلك يكون بعارض أمر ولا يعتبر بالعوارض، فإن أقر الزوج بالإيلاء وادعى أنه فاء إليها في المدة، وأنكرت هي الفيء في المدة فالقول قولها مع اليمين؛ لأنها تنكر ثبوت ملك الزوج عليها بعد وجود سبب البينونة، وتحلف على الحاصل عند محمد رحمه الله، فتحلف بالله لست بامرأة له اليوم بالسبب الذي يدعي ولا تحلف بالله لم يفىء إليك قبل مضي الأربعة الأشهر؛ وهذا لأنه يجوز أنه آلى منها ولم يفىء إليها حتى مضت أربعة أشهر وبانت منه ثم تزوجها ثم آلى منها وفاء إليها في المدة، فمتى استحلف بالله لم يفىء إليك قبل مضي الأربعة الأشهر يحلف ويتأول عدم الفيء في النكاح الأول، فيبطل حق الزوج فيستحلف على الحاصل لهذا. وفي كتاب الاستحلاف قال بشر: سمعت أبا يوسف قال: يستحلف بالله أنه لم يفىء إليك قبل مضي الأربعة الأشهر، قال بشر: والأحوط على قوله: أن يزاد في اليمين فيحلف بالله لم يفىء إليك في الأربعة الأشهر في النكاح الذي يدعيه الزوج حتى لا يتأتى المعنى الذي قلنا لمحمد رحمه الله. ولو أن امرأة ادعت على زوجها نفقة العدة وأنكر الزوج فالقاضي لا يحلف الزوج بالله ما عليك تسليم النفقة إليها من الوجه الذي يدعي؛ لأن الشافعي رحمه الله: لا يرى النفقة للبينونة، فلو حلفناه على الحاصل يتأول قول الشافعي رحمه الله، فيحلف على السبب بالله ما هي معتدة عنك من الوجه الذي تدعي.

وحكي عن القاضي الإمام أبي علي النسفي رحمه الله أنه قال: خرجت حاجّاً فدخلت على القاضي الإمام أبي عاصم العامري رحمه الله وهو يدرس، والخليفة يحكم، فادعت امرأة على زوجها نفقة العدة وأنكر الزوج، فحلّف الخليفة الرجل بالله ما عليك تسليم النفقة من الوجه الذي يدعي فيها الرجل ليحلف، فنظرت إلى القاضي، فعلم القاضي أني لماذا أنظر فنادى الخليفة إن يسأل الرجل من أي المحلة هو حتى إنه إن كان من أصحاب الحديث حلفه بالله ما هي معتدة منك. وفي كتاب الاستحلاف: امرأة اختلعت من زوجها بمهرها، وجحد الزوج ذلك فالقول قول الزوج ثم كيف يحلف الزوج؟ فعلى ما روي عن أبي يوسف يستحلف على السبب بالله، ما خلعتها منذ ملكتها، وعلى ظاهر الرواية يستحلف على الحاصل. ولو أن رجلاً ادعى على رجل أنه خرق ثوباً له، فإن كان الثوب حاضراً ينظر إلى الخرق، فإن كان يسيراً فموجبه النقصان بلا خلاف يقوم الثوب صحيحاً، ويقوم منخرقاً، فتفاوت ما بينهما موجبه بلا خلاف فيحلف المدعى عليه بالله ما له عليك هذا القدر من المال الذي ادعى، ولا يحلف على السبب، نظراً للمدعى عليه، لجواز أن المدعى عليه خرقه إلا أنه لا شيء عليه؛ لأن صاحب الثوب أبرأه عنه أو صالحه على شيء أو أعطاه النقصان، وليس في التحليف على الحاصل ضرر للمدعي؛ لأن موجب هذا الخرق النقصان فلا يمكنه التأويل، هكذا ذكر الخصاف وصاحب «الأقضية» رحمهما الله، وذكر هذه المسألة في كتاب الاستحلاف وقال: يحلف على السبب؛ لأن انفساخ السبب هنا لا يتصور، والصحيح ما ذكر الخصاف وصاحب «الأقضية» ؛ لأن انفساخ السبب إن كان لا يتصور فبطلان الحكم بالإبراء وما أشبهه يتصور، وإذا كان الخرق فاحشاً، فالقاضي يحلفه على السبب؛ لأن عندنا مثل هذا الخرق يوجب الخيار للمالك إن شاء ترك الثوب على الجاني وضمنه جميع القيمة، وإن شاء أخذ الثوب وضمنه النقصان، وعند الشافعي رحمه الله يوجب النقصان لا محالة، فمتى حلفنا على الحاصل يتأول قول الشافعي رحمه الله، عسى يتضرر المدعي فيحلف على الحاصل نظراً للمدعي، وإن كان الثوب غائباً فالقاضي لا يسمع دعوى المدعي إلا بعد بيان قدر النقصان حتى يصير المدعى معلوماً؛ لأن الدعوى لا تصح إذا لم يكن المدعى معلوماً. ولو أن رجلاً ادعى على رجل أنه وضع على حائط له خشباً، أو نصب على سطحه ميزاباً في داره، أو بنى على حائط له بناء، أو أخرج من داره تراباً ورمى به في أرضه، أو ألقى في أرضه دابة ميتة، أو ما أشبه ذلك مما يكون فساداً في أرضه، ويجب على صاحب الأرض نقله، وأراد أن يحلفه حلفه (على) السبب، إذ ليس في التحليف على السبب ضرر للمدعى عليه وفيه موافقة دعوى المدعى عليه.g بيانه: أن بعدما ثبت للمدعي حق مطالبة المدعى عليه برفع هذه الأشياء لا يتصور سقوطه بسبب من الأسباب، فإنه لو أذن له في الابتداء بذلك كان ذلك منه إعارة للحائط والأرض، فمتى بدا له كان له أن يطالبه بالرفع؛ لأن الإعارة ليست بلازمه وإن باع منه

ذلك لا يجوز؛ لأن هذا بيع الحق وبيع الحق لا يجوز، وكذلك لو أجر لا يجوز؛ لأن إجارة رأس الحائط لوضع الخشبة عليه، وإجارة الأرض لإلقاء الميتة أو التراب فيها لا يجوز عرف ذلك في كتاب الإجارات، وكذلك لو صالح عليه لا يجوز؛ لأن الصلح على مال ليضع الخشبة على رأس الحائط وما أشبه ذلك بمنزلة الإجارة والإجارة لا تجوز، فكذا الصلح دل أنه ليس في التحليف على السبب ضرر للمدعى عليه، فيحلف على السبب جرياً على موجب الدعوى. ولو كان صاحب الخشبة هو المدعي وقدم صاحب الحائط إلى القاضي، وقال: كان لي على هذا الحائط خشبة فوقع أو قال قلعتها لأعمل غيرها، وقد منعني صاحب الحائط وهو حق لي في هذا الحائط، وأنكر صاحب الحائط دعواه، فطلب صاحب الخشبة من القاضي أن يحلف المدعى عليه ولا يقول: بأن القاضي يأمر المدعي بتصحيح دعواه، وذلك أن يبين أن له حق وضع خشبة أو خشبتين أو ما أشبه ذلك، ويبين موضع الخشبة ويبين غلظ الخشبة؛ لأن الدعوى لا تصح إلا بعد بيان المدعى به، وبيانه في هذه الصورة ببيان ما ذكرنا، ثم إذا بين هذه الأشياء حتى صح دعواه وطلب من القاضي أن يحلفه، فالقاضي يحلفه؛ لأن هذا حق لازم قد يكون الحائط مملوك الإنسان ولغيره حق وضع الخشب عليه، ثم يحلف بالله ما لهذا المدعي في هذا الحائط حق وضع خشبة كذا وكذا ولا يحلفه بالله ما كان له عليه خشبة، أو بالله ما طرحت الخشبة لجواز أنه كان، إلا أنه لم يكن بحق وجواز أنه طرح الخشبة ولم يكن له حق وضع الخشبة فلا يمكنه أن يحلف على ذلك، ولكن يحلف على نحو ما بينا، فإن حلف انقطعت الخصومة، وإن نكل صار مقراً بما ادعى فيلزمه دعواه. قال: ولو ادعى مسيل ماء في أرض رجل، فالقاضي يأمره أن يصحح دعواه وتصحيح الدعوى في أن يبين أن له مسيل ماء المطر أو ماء الوضوء، فإن هذا مما يتفاوت، فإن المطر لا يكون أدوم ويكون أكثر، وماء الوضوء والغسالات يكون أدوم، ويكون أقل وينبغي أن يبين موضع مسيل الماء في مقدم البيت أو في مؤخره. وكذلك إذا ادعى طريقاً في دار رجل فالقاضي يأمره أن يصحح دعواه، وتصحيح الدعوى أن يبين مقدار عرضه وطوله، يبين موضعه من الدار، فإذا بين ذلك وصحح دعواه حلفه على الحاصل بالله: ما لهذا هذا الحق الذي ادعاه في هذه الأرض الذي في يديك أو في هذه الدار التي في يدك. وذكر في كتاب الدعوى: إذا ادعى مسيل ماء في دار رجل، أو ادعى طريقاً في دار رجل وشهد الشهود أن له مسيل ماء في هذه الدار أو طريقاً في هذه الدار وقع في بعض النسخ أنه يقبل البينة، وإن لم يبينوا ووقع في بعض النسخ أنه لا يقبل البينة ما لم يبينوا. قال شمس الأئمة الحلواني: تأويل ما وقع في بعض النسخ أنه يقبل البينة إذا شهدوا على إقرار صاحب الدار؛ لأن جهالة المقر به لا يمنع صحة الإقرار، وتأويل ما وقع في بعض النسخ أنه لا يقبل البينة إذا شهدوا على نفس الطريق وعلى

نفس المسيل لا على إقرار المدعى عليه. قال: ولو ادعى على رجل أنه شق في أرضه نهراً وساق الماء فيه إلى أرضه أمره أن يصحح دعواه وذلك بأن يبين الأرض الذي شق فيها النهر، ويبين قدر طول النهر وعرضه، فإذا بين ذلك وصحح دعواه وجحد المدعى عليه دعواه حلفه القاضي على (99ب4) السبب بالله ما أخذ من أرض هذا الرجل هذا النهر الذي وصف ولا يحلف على الحاصل؛ لأنه ليس في التحليف على السبب ضرر للمدعى عليه؛ لأنه إذا ثبت لا يسقط حق صاحب الأرض في مطالبة حافر النهر بسبب من الأسباب من الإذن في الابتداء والبيع والإجارة وغير ذلك، فإنه لو أذن له في الابتداء كان إعارة، فكان له أن يطالبه بذلك متى بدا له ذلك، ولا يجوز بيع ذلك؛ لأنه بيع الحق وبيع الحق لا يجوز، ولا تجوز الإجارة، ولا ضرر للمدعى عليه في التحليف على السبب ليكون التحليف على وفق الدعوى. ولو ادعى رجل على رجل أنه حفر حفيرة في أرض له أضر ذلك بأرضه وأراد استحلافه على ذلك، فيقول: لا بد من معرفة حكم هذه المسألة أولاً، فعند علمائنا رحمهم الله: يلزم الحافر النقصان، فيحلفه على الحاصل بالله ماله عليك هذا الحق الذي يدعي من الوجه الذي يدعي، لا يحلفه على السبب بالله ما فعلت كذا؛ لأن في التحليف على السبب ضرر للمدعى عليه لجواز أنه فعل ذلك، إلا أن صاحب الأرض أبرأه عن النقصان أو الفاعل أَوْفاه ضمان النقصان مرة، ولا ضرر للمدعي في التحليف على الحاصل فيحلف على الحاصل. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: من العلماء من قال من حفر حفرة في أرض غيره لا يضمن النقصان ولكن يؤمر بكبس الحفيرة، فلو حلفناه على الحاصل، ربما يؤول قول هذا القائل، ثم قوله في الكتاب: أضر ذلك بأرضه، إشارة إلى أنه لو لم يضر ذلك بأرضه أنه لا شيء عليه، فاعلم بأن من رفع التراب من أرض إنسان وكان ذلك في موضع للتراب قيمة فيه، ضمن فيه التراب، سواء تمكن النقصان في الأرض أو لم يتمكن؛ لأن الأرض بجميع أجزائها مملوكة، ومن أخذ ملك غيره يضمن قيمته. وقد روي عن محمد رحمه الله: أنه إذا أدخل الماء في أرض رجل واجتمع الطين في أرضه بذلك لا يكون لأحد أن يأخذ ذلك الطين ويرفعه عن أرضه، لأنه صار مملوكه تبعاً لأرضه فهذا كذلك على أن الأرض مملوكة بجميع أجزائها وهذا بخلاف ما لو دخل صيد في ملكه كان لكل أحد أن يأخذه؛ لأنه لم يصر مملوكاً لصاحب الأرض تبعاً لأرضه، وكذلك إذا دخل في أرض لرجل ودخل معه السمك كان لكل أحد أن يأخذ السمك؛ لأنه لم يصر ملكاً له تبعاً لأرضه بخلاف الطين على ما بينا، هذا إذا أخذ التراب من أرض الغير وله قيمة في ذلك الموضع، فأما إذا لم يكن قيمة له في ذلك الموضع ينظر إن تمكن النقصان في الأرض بذلك الصنع، ضمن النقصان وما لا فلا، إذا عرفت حكم المسألة فنقول: إذا كان للتراب قيمة في ذلك الموضع يحلف المدعى عليه وما لا فلا.

ومن هذا الجنس: إذا ادعى رجل على رجل أنه نقض حائطاً له، وأراد استحلافه فنقول: من هدم جدار غيره لا يجبر على بنيانه؛ لأن الجدار ليس من ذوات الأمثال ويكون لصاحب الحائط الخيار، إن شاء ضمنه قيمة الحائط والنقص للضامن، وإن شاء أخذ النقص وضمنه النقصان، لأن الحائط قائم من وجه هالك من وجه فيميل إلى أي الوجهين شاء فإن أراد تحليفه حلفه على الحاصل، هكذا ذكر الخصاف رحمه الله. قال شمس الأئمة الحلواني: ينبغي للقاضي أن يحلفه على السبب ولا يحلفه على الحاصل هو الصحيح؛ لأن مذهب بعض العلماء أن الحائط إذا كان جديداً يجب عليه الإعادة، وإذا كان خلقاً عتيقاً لا يجب عليه الإعادة؛ لأنه لو أعاده كان أفضل من الأول وضمان العدوان مقيد بالمثل. فلو حلفناه على الحاصل ربما يؤول قول هذا القائل فيحلف ويكون صادقاً في حلفه، فيتضرر المدعي، فيحلف على السبب كيلا يتأول قول هذا القائل. قال: ولو ادعى رجل على رجل ألف درهم، وللمدعى عليه عند المدعي رهن بالمال، فخاف المدعى عليه أنه إن أقر بالمال جحد المدعي الرهن، ينبغي للمدعى عليه أن يطلب من القاضي حتى يسأل المدعي: هل عنده بهذا المال الذي يدعيه رهن، فإن قال: نعم فقد حصل مقصود المدعى عليه وإن قال: لا رهن له، وأراد استحلاف المدعى عليه، فالقاضي لا يحلفه بالله ماله عليك هذا المال الذي يدعي؛ لأنه لا يمكنه أن يحلف على هذا الوجه؛ لأن المال واجب عليه فلو حلف يكون كاذباً، ولو أقر بالمال وادعى الرهن ربما لا يمكنه إثبات الرهن فيتضرر به، ولكن يحلفه بالله ما لفلان عليك ألف درهم لا رهن بها، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» ؛ وهذا لأن المال الذي ليس له رهن ليس عليه، فإذا حلف على هذا الوجه لهذا. وكان الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: يحلفه بالله ليس عليك أداء هذا المال وتسليمه إلى المدعي هذا، ولا ضرر للمدعي في ذلك؛ لأنه يمكنه أن يحلف كذلك؛ لأنه إنما يجب على الراهن أداء الدين إذا أحضر المرتهن الرهن، فأما قبل إحضاره فلا يجب عليه تسليم الدين، فإذا لم يكن الرهن حاضراً يمكن للمدعى عليه أن يحلف بالله ليس عليه أداء هذا المال، وتسليمه إلى هذا المدعي، فيحلف على هذا الوجه ولا حاجة إلى ما وراءه. وبعض مشايخنا قالوا: لا حاجة إلى هذه التكلفات؛ لأن جحود الرهن إهلاك الرهن وهلاك الرهن يصير المرتهن مستوفياً دينه، وبعد الاستيفاء لا يبقى له عليه شيء فيمكنه أن يحلف ولا شيء لهذا المدعى عليه، فيحلفه القاضي بالله ماله عليك هذا المال الذي يدعي. قال في كتاب الاستحلاف: رجل وهب ثوباً له من رجل أو عبد وأقر أن الموهوب له قبضه في المجلس أو بعده بأمره ثم قال الواهب بعد ذلك: إن الموهوب له ما قبضه، وكتب أقررت بقبضه كاذباً، وسأل القاضي أن يحلف الموهوب له بالله لقد قبضته عن هذه الهبة التي يدعي، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد القاضي لا يحلفه؛ لأن التحليف يترتب

على دعوى صحيحة، والدعوى لم تصح هنا لمكان التناقض، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يحلفه بالله لقد قبضته بحكم الهبة التي يدعى. وعلى هذا الخلاف إذا اشترى شيئاً وأقر المشتري بقبض المشترى، ثم ادعى أنه لم يقبضه وطلب من القاضي أن يحلف البائع بالله لقد سلمته إلى المشتري بحكم هذا الشراء الذي يدعيه. وعلى هذا الخلاف إذا أقر البائع بالبيع ثم أنكر البيع وقال: أقررت بالبيع كاذباً، وأراد تحليف المشتري. وعلى هذا الخلاف رب الدين إذا أقر بقبض الدين من المديون وأشهد عليه ثم أنكر القبض، فأراد تحليف المديون. وعلى هذا الخلاف إذا أقر رجل على نفسه بالدين لرجل ثم أنكر الدين وقال: لا شيء له علي، وإنما أقررت بذلك كاذباً وطلبت يمين المقر. أبو يوسف رحمه الله يقول: المعروف المعتاد فيما بين الناس أن البائع يقر بقبض الثمن والمشتري بقبض المشترى للإشهاد، وإن لم يكن قبض حقيقة، وكذلك المعتاد فيما بين الناس أن من استقرض من غيره شيئاً، فالمقروض أولاً يأمره بكتابة الصك والإشهاد عليه قبل دفع المال، فلو اعتبرنا التناقض في هذه الصورة مانعاً صحة الدعوى والاستحلاف لبطلت حقوق الناس، وإن أشهد البائع على البيع وقبض الثمن ثم ادعى أن البيع كان تلجئة وطلب تحليف المشتري، ذكر في كتاب الاستحلاف: أنه يحلف عندهم جميعاً؛ لأن البائع لم يصر متناقضاً في الدعوى؛ لأنه لم يوجد منه إلا الإقرار بالبيع مطلقاً والبيع قد يكون تلجئة وقد يكون جداً، وإذا لم يصر متناقضاً صحت الدعوى منه فيترتب عليه التحليف. ثم كيفية التحليف بالله ما شرطت أن يكون هذا البيع الذي تلجية. وفي كتاب الأقضية أن في هذه المسألة روايتين عن أبي حنيفة رحمه الله في رواية قال: إذا تواضعا في السر أن يظهر البيع تلجئة ثم تعاقدا في العلانية مطلقاً، ولم يذكرا شيئاً وقت العقد، فهذا البيع تلجئة ثم تعاقدا في العلانية مطلقاً، ولم يذكرا شيئاً وقت العقد، فهذا البيع تلجئة وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، فعلى هذا يستحلف المشتري؛ لأن البائع يدعي ما يوجب حق الفسخ والمشتري ينكر، وفي رواية أخرى قال: إذا تواضعا في السر أن يظهر البيع تلجئة ثم تعاقدا في العلانية، ولم يذكرا شيئاً وقت العقد، فالعقد صحيح، فعلى هذا لا يستحلف المشتري؛ لأن أكثر ما فيه أنه نكل فيصير مقراً بما ادعاه البائع إلا أنه لو كان الأمر كما ادعاه البائع، فالعقد (100أ4) صحيح فلا معنى للاستحلاف. قال أبو يوسف في كتاب الاستحلاف: أربعة أشياء يستحلف القاضي الخصم فيها قبل أن يسأل المدعي ذلك: أحدها: الشفعة، فإن الشفيع إذا طلب من القاضي أن يقضي بالشفعة، فالقاضي يحلفه بالله: لقد طلبت الشفعة حين علمت بالشراء، وإن لم يكن يطلب الشراء وهذا قول ابن أبي ليلى، وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا يستحلفه القاضي ما لم يدع المشتري ذلك.

الثاني: البكر إذا بلغت، فاختارت الفرقة وطلبت من القاضي أن يفرق بينهما، يستحلفها القاضي بالله لقد اخترت الفرقة حين بلغت وإن لم يدع الزوج ذلك. الثالث: إذا أراد المشتري أن يرد المشترى بالعيب، فالقاضي يحلفه بالله لم يرض بهذا ولا عرضه على البيع منذ رأيته. والرابع: المرأة إذا سألت من القاضي أن يفرض لها النفقة في مال الزوج، والزوج غائب يستحلف بالله ما أعطاك نفقتك حين خرج، ويجب أن تكون مسألة النفقة على قولهم جميعاً؛ لأن الزوج عاجز عن طلب اليمين بنفسه، إذا كان غائباً. رجل ادعى على رجل ألف درهم وإقرار هذه الألف بيني وبين فلان، فقال المقر له بعد ذلك: إن المدعي وهو المقر قد قبض الألف المشترك بيني وبينه وطالبه بالخمسمائة، التي قبضته، وقال المقر: ما قبضت، فالقول قول المقر مع يمينه، فيستحلف بالله ما قبضت الألف التي لكما على فلان لا قليل ولا كثير منها، ويستحلف بالله ماله قبلك ما يدعي ولا شيء منها يستحلف على الحاصل لجواز أنه قبض ثم يملك من جهته بسبب من الأسباب. وإذا ادعى على ميت مالاً وله ورثة فله أن يحلف الورثة كلهم على علمهم ولا يكتفي بيمين واحد منهم. ولو ادعى الورثة مالاً للميت على رجل وحلف أحدهم المدعى عليه عند القاضي اكتفى به حتى لم يكن لبقية الورثة أن يحلفوه، والفرق أن الدعوى إذا وقعت على الميت لو اكتفى بيمين أحد الورثة إنما يكتفي إذا صار هو نائباً عن بقية الورثة في الحلف إلا أن النيابة لا تجري في الحلف وإذا وقعت الدعوى للميت لو اكتفى باستحلاف أحد الورثة إنما يكتفي من حيث إنه صار نائباً عن بقية الورثة في الاستحلاف، والنيابة تجري في استحلاف أحد الورثة. وهو نظير ما لو ادعى أحد شريكي العنان أو أحد شريكي المفاوضة حقاً على رجل للشركة، وحلف المدعى عليه لا يكون للشريك الآخر أن يحلفه وبمثله لو ادعى رجل حقاً من شركتهما حتى يوجه اليمين عليهما وحلف أحدهما كان له أن يحلف الآخر، والطريق ما قلنا وفرق بين الورثة إذا ادعوا على رجل حقاً بحكم الميراث وبين جماعة ادعوا على رجل حقاً بحكم بالشراء، فإن أحد الورثة إذا حلف المدعى عليه لم يكن لبقية الورثة أن يحلفوه وأحد المشتريين إذا حلف المدعى عليه كان لبقية المشتريين أن يحلفوه، والفرق: أن أحد الورثة ينصب خصماً عن بقية الورثة فيما يدعي للميت، فصار استحلاف أحدهم كاستحلاف الباقين، فإنما أحد المشتريين لا ينتصب خصماً عن الباقين فلا يكون استحلاف أحدهم كاستحلاف الباقين. وإذا ادعى الرق مطلقاً ففي قول من يرى الاستحلاف في الرق: يحلف المدعى عليه مطلقاً بالله ماله في رقبتك رق، أو يحلفه بالله ما أنت برقيق له وإن ادعى الرق بسبب بأن قال: ولدت من أمتي أو قال كنت حربياً فاسترققتك، يذكر السبب في الحلف، فيستحلف بالله ماله في رقبتك رق بهذا السبب الذي يدعي.

قال محمد رحمه الله: لا يمين في حد إلا أن السارق يستحلف لأخذ المال، فإن نكل ضمن ولم يقطع. يجب أن يعلم بأن الحدود أنواع. نوع هو خالص حق الله تعالى نحو حد الزنا وحد السرقة وحد شرب الخمر، وفي هذا النوع لا يجري الاستحلاف؛ لأن اليمين فيما سوى القصاص في النفس ما شرعت نفسها بل القضاء بالنكول؛ لأن اليمين شرعت حقاً للمدعي، واليمين حق المدعي من حيث أن المدعى عليه ينكل فيقضى عليه بالنكول فيحيى حقه لا من حيث أن يحلف فلا يقضى عليه، فعلمنا أن اليمين شرع للقضاء بالنكول والقضاء بالنكول في الحدود الخالصة لله تعالى متعذر؛ لأن النكول عند أبي حنيفة رحمه الله بدل، وعندهما بدل عن الإقرار فالقضاء بالحدود الخالصة لله تعالى بكلا الأمرين متعذر، وأما في السرقة يستحلف السارق لأجل المال يريد به إذا أراد المسروق منه أخذ المال دون القطع؛ لأن المال حق العبد، والاستحلاف يجري في حقوق العباد. وعن محمد رحمه الله في «النوادر» : أن القاضي يقول للمدعي: ماذا تريد فإن قال أريد القطع يقول له القاضي: إن في الحدود لا يستحلف فليس لك عليه يمين، فإن قال: أنا أريد المال، فالقاضي يقول له: دع ذكر السرقة وادع تناول ما لك فيكون عليه يمين. وفي كتاب الاستحلاف يقول: إذا طلب المسروق منه ضمان السرقة لا القطع يستحلف بالله ما عليك تسليم هذا المال الذي يدعي ولا قيمته، بالسبب الذي يدعي، فإن حلف برئ وإن نكل ضمنه السرقة. ونوع آخر: هو خالص حق العبد نحو القصاص في النفس والطرف وقد مر الكلام فيه قبل هذا. ونوع آخر: هو حق الله تعالى وحق العبد وهو حد القذف، وفي هذا النوع لا يجري الاستحلاف عندنا حتى إن من ادعى على آخر أنه قذفه وأنكر المدعى عليه ذلك لا يستحلف عندنا؛ لأن المغلب في حد القذف عندنا حق الله تعالى فالتحق بالحدود الخالصة حقاً لله تعالى. ولو أن رجلاً ادعى على رجل أنه قال له: يا منافق يا زنديق يا كافر، أو ادعى أنه ضربه أو لطمه أو ما أشبه ذلك من الأمور التي توجب التعزير وأراد تحليفه، فالقاضي يحلفه؛ لأن التعزير محض حق العبد، ولهذا ملك العبد إسقاطه بالعفو، والصغر لا يمنع وجوبه عليه إن أمكن صاحب الحق منه أقامه، ولو كان حق الله سبحانه وتعالى لكانت هذه الأحكام على عكس هذا، والاستحلاف يجري في حقوق العباد سواء كان عقوبة أو مالاً، فإن حلف لا شيء عليه وإن نكل يقضى عليه بالتعزير؛ لأن التعزير يثبت مع الشبهات، فجاز أن يقضى عليه بالنكول، ويكون التحليف فيه على الحاصل؛ لأن في التحليف على السبب ضرراً للمدعى عليه لجواز أن المدعى عليه فعل ذلك الفعل إلا أن المدعي أبرأه وعفى عنه، وهذا مما يسقط بالعفو فلو حلف على السبب يتضرر المدعى عليه، فيحلف على الحاصل لهذا وأدنى التعزير مفوض إلى رأي القاضي يقيمه بقدر ما يرى حصول الانزجار به.

وفي «السير الكبير» : إذا أمر الأمير أهل العسكر بشيء، فعصاه في ذلك واحد من أهل العسكر، فالأمير لا يؤدبه في أول الوهلة ولكن ينصحه حتى لا يعود إلى مثل ذلك، وإن عصاه بعد ذلك أدبه لأنه ارتكب مالا يحل شرعاً، ومن ارتكب ما لا يحل شرعاً يؤدب عليه زجراً له، فإن بين في ذلك عذراً فالإمام يخلي سبيله، لأن ارتكاب مالا يحل شرعاً إذا كان بعذر لا يوجب التعزير ولكن يحلفه بالله، لقد فعلت هذا بعذر؛ لأنه يدعي ما يمنع وجوب التعزير عليه ولا يعرف ذلك إلا بقوله، والتعزير يدخل في القضاء فلا يصدق من غير يمين. وإذا ادعى رجل على رجل أنه غصب منه ثوباً، وأقر الغاصب بذلك، ثم اختلفا في قيمته ولكن علم أن قيمته لم تكن مائة فالقول قول الغاصب مع يمينه، ويؤمر بالبيان؛ لأنه أقرّ بقيمة مجهول، وإن لم يبين يحلف الغاصب على ما ادعاه المغصوب منه، من الزيادة فإن حلف ولم يثبت ما ادعاه المغصوب منه: ذكر في كتاب الاستحلاف أن المغصوب منه يحلف أن قيمة الثوب مائة، ويأخذ من الغاصب مائة. وكان الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي رحمه الله يقول ما ذكر من تحليف المغصوب منه وأخذ المائة من الغاصب بيمينه لا يكاد يصح؛ لأن المغصوب منه يدعي، واليمين عندنا لم يشرع حجة للمدعي، وكان يقول الصحيح من الجواب أن يقال: القاضي يوقف الغاصب ويذكر له كل ما يصلح قيمة الثوب، فيقول أولاً: أكانت قيمته مائة فإن قال: لا، يقول: أكان خمسون، فإن قال: لا، يقول: أكانت خمسة وعشرون، هكذا إلى أن ينتهي إلى أقل مالا يجوز أن ينقص قيمة الثوب منه في العرف والعادة، فإذا انتهى إلى ذلك ألزمه ذلك وجعل القول قوله في الزيادة مع يمينه، وجعل الجواب فيه كالجواب فيمن أقر بحق مجهول في عين في يديه لغيرٍ، فالقاضي يأمره ببيان مقداره وإذا لم يبين فالقاضي يسمي السهام إلى أن ينتهي إلى أقصى السهام الذي لا يقصد دونه (100ب4) بالتملك في العرف والعادة فيلزمه ذلك ويجعل القول في الزيادة قوله مع يمينه. ومن المشايخ من اشتغل بتصحيح ما ذكر في الكتاب وقال: الإقرار من الغاصب بقيمة مجهولة قد صح ووجب على القاضي إيصال المقر له إلى حقه، وقد عجز القاضي عن إيصال المائة إليه كما يدعيه المغصوب منه؛ لأن الغاصب قد حلف على ذلك ولا وجه إلى أن يوقفه وسمى له قيمة كل ما يصلح أن يكون قيمة الثوب؛ لأن الغاصب في إقراره ذكر الثوب مطلقاً ولم يبين الجنس ولا النوع، والثياب أجناس مختلفة فلا يدري القاضي أقل ما تكون قيمة الثوب؛ لأنه لا يدري أن الثوب المقر به من أي نوع بخلاف ما لو أقر بحق مجهول في عين في يده؛ لأن أقل المقدار الذي يقصد بالتملك عرفاً وعادة، يكون معلوماً فأمكن إلزام ذلك على المقر له أما هنا بخلافه، فلم يبق للقاضي طريق يوصل المقر له وهو المغصوب منه إلى حقه سوى يمينه، حتى لو كان النوع سمي في الإقرار.Y وفي الدعوى يقول بأن القاضي يوقعه ويسمي له كل ما يصلح قيمة الثوب، كما قال

الحاكم الإمام رحمه الله، وما يقول بأن يمين المغصوب منه يمين المدعي، ويمين المدعي لم تشرع حجة، قلنا: يمين المغصوب منه يمين المدعي من وجه من حيث أنه يدعي أن قيمة الثوب مائة، ولم يثبت ذلك لما أنكره الغاصب ويمين المدعى عليه من وجه من حيث أن الاستحقاق ثابت بإقرار الغاصب، فإن الإقرار بقيمته مجهولة صحيحة والحاجة إلى فصل الخصومة لا غير، واليمين شرع في الأصل لفصل الخصومات، فمن هذا الوجه يكون بمنزلة يمين المدعى عليه ويمين المدعى عليه من كل وجه مما يجوز أن يفصل بها الخصومة فكذا يمين المدعى عليه من وجه، قالوا: يجب أن تحفظ هذه المسألة فإنها من الغرائب. وإذا اشترك الرجلان على أن ما اشتريا اليوم أو هذا الشهر أو هذه السنة ومضا صفاً من التجارة ووقتا أو لم يوقتا فهذه الشركة جائزة على ما عرف في موضعه، فإن قال أحدهما: اشتريت متاعاً فهلك، وأراد أن يبيع شريكه بنصف الثمن وأنكر الشريك الشراء، فالقول قول الشريك مع يمينه؛ لأن هذا وكيل من جهة صاحبه في نصف ما اشترى والوكيل بالشراء إذا قال: اشتريت وهلك عندي، ولم يكن الثمن مفقوداً، أو أراد أن يرجع بالثمن على الموكل وأنكر الموكل الشراء كان القول قول الموكل مع يمينه كذا ها هنا، فيحلف المنكر الشراء بالله ما لم يعلم أنه اشترى ذلك المتاع، يحلفه على العلم؛ لأنه يحلفه على فعل الغير. وكان الحاكم أبو محمد رحمه الله يقول: يجب أن يزاد على هذا فيحلف بالله ما يعلم أنه اشترى ذلك المتاع على شركتكما؛ لأن بدون هذه الزيادة يتضرر منكر الشراء لجواز أنه كان اشترى ذلك المتاع قبل شركتهما، وعلم بذلك منكر الشراء فمتى حلفناه على مطلق الشراء لا يمكنه أن يحلف، فيمتنع عن اليمين، فيقضي عليه بنكول ويرجع بالثمن عليه فيتضرر منكر الشراء فيزاد ما قلنا دفعاً للضرر عنه. ولو أن رجلاً اشترى من آخر جارية بألف درهم وتقابضا ثم طعن المشتري بشجة في رأسها، فاستحلف القاضي البائع على ذلك بالجارية، وقال: هذه الجارية حبلى وهذا الحبل حدث عند المشتري، فالقاضي يسأل المشتري عن ذلك أنها حبلى وهذا الحبل حدث عند المشتري، فإن أقر به قيل للبائع: أنت بالخيار إن شئت حبستها ولا شيء لك وإن شئت رددتها على المشتري ورددت عليه نقصان الشجة؛ وهذا لأن من شرط الرد على البائع الرد على الوجه الذي خرج عن ملكه، وقد خرج عن ملكه معيباً بعيب واحد ورد عليه معيباً بعيبين، فإن شاء البائع رضي بالعيب الزائد وحبس الجارية، وإن شاء ردها على المشتري ورد معها نقصان الشجة التي كانت عنده، وإن قال المشتري: مالي بهذا علم، فالقاضي يريها النساء، فإن قلن: هي حبلى فالقاضي يحلف المشتري بالله ما حدث هذا الحبل عندك، فإن حلف لا شيء عليه والرد ماض؛ لأنه تبين أن المشتري ردها على الوجه الذي خرج من ملك البائع، وإن نكل صار مقراً أن الحبل كان عنده، وقد ذكرنا الكلام في فصل الإقرار، وإن قال المشتري للقاضي: قد كان هذا الحبل عند البائع،

فإقراره عند البائع إقرار منه أنه عنده، فيثبت الحبل عند المشتري ولا يثبت عند البائع؛ لأن إقراره حجة على نفسه غير حجة على البائع، فيستحلف البائع بالله لقد بعتها من هذا المشتري وسلمتها إليه وما بها هذا الحبل، فإن حلف ردها على المشتري ورد عليه نقصان الشجة، وإن نكل لزمته الجارية؛ لأنه تبين أن كلا العيبين كانا في يد البائع هكذا قال الخصاف رحمه الله. وطعنوا على الخصاف وقالوا: ينبغي أن لا يحلف بالله لقد بعتها من هذا المشتري وسلمتها إليه وما بها هذا الحبل؛ لأن شرط الحنث في هذا اليمين وجود الحبل عند الأمرين عند البيع وعند التسليم، ويجوز أن يكون الحبل حادثاً بعد البيع قبل التسليم، وذلك يثبت حق الرد فلو حلفناه على هذا الوجه، فعلى تقدير أن يكون الحبل حادثاً بعد البيع قبل التسليم يحلف، ولا يحنث في يمينه، فيتضرر به المشتري فلا يحلف على هذا الوجه، ولكن يحلف بالله لقد سلمتها بحكم هذا البيع وما بها هذا العيب. قالوا: ولو كانت الجارية في يد المشتري فخاصم البائع في الشجة التي بها فلما حكم الحاكم على البائع بردها عليه بالشجة قال البائع: إنها حبلى فهذا الحبل حادث عند المشتري وقال المشتري: لا بل كان عندك، فإن القاضي يحلف البائع على ذلك ولا يحلف المشتري بخلاف المسألة الأولى، والفرق من وجهين: أحدهما: أشار إليه صاحب «الكتاب» أن القاضي في المسألة الأولى قضى برد الجارية على البائع بعيب الشجة، فصارت الجارية في يد البائع، فالبائع بعد ذلك يريد أن يرد ما صارت في يده على المشتري بحبل ظهر عند المشتري، فلا يمكنه الرد بيمين نفسه، بل كان اليمين على المشتري بالله ما حدث هذا الحبل عندك، أما ها هنا المشتري هو الذي لم يرد على البائع؛ لأن الجارية في يد المشتري والبائع ينكر أن يكون له حق الرد بهذا السبب فيكون اليمين على البائع ولكن هذا الفرق ليس بسديد، فإن في الوجه الثاني قضى القاضي بالرد على البائع وصارت الجارية في يد البائع مع هذا يحلف البائع، وإنما الفرق السديد أن في المسألة الأولى المشتري ينكر كون الحبل عنده، فيحلف على ذلك وفي هذه المسألة المشتري مقر بكون الحبل عنده؛ لأنه ادعى كونه عند البائع فيكون مقراً بكونه عنده، فلا يحلف على ذلك لكن ادعى حدوث هذا القائم عنده عند البائع، والبائع ينكر فيحلف على ذلك كما في الوجه الثاني. قال: ولو أن رجلاً في يده غلام أو جارية أو عرض من العروض، فقدمه رجلان إلى القاضي، وادعى كل واحد منهما أنه اشتراه من الذي هو في يده، فسأله القاضي عن دعواهما فهذه المسألة على وجهين: إما إن أقر أنه باع ذلك من أحدهما بعينه وهو هذا، أو جحد لهما، فإن أقر أنه باع من أحدهما بعينه، فالقاضي يأمره بالتسليم إليه فإن قال الآخر للقاضي: حلفه أنه لم يبعه مني، فلا يمين عليه في ذلك؛ لأن بعد ما أقر بالبيع من هذا لو أقر به الآخر أو نكل لا يملك فلا يفيد الاستحلاف، وكذلك لو جحد لهما جميعاً فحلفه القاضي لأحدهما ونكل عن اليمين وجعله القاضي له، فقال الآخر: حلفه لي فإنه

لا يمين له عليه في ذلك؛ لأن القاضي مع أنه لا ينبغي له أن يقضي للأول حتى يحلف للثاني لما جعل للأول، فالقضاء صادف محلاً مجتهداً فيه على ما مر فنفذ قضاؤه، فصار المدعى عليه خارجاً فلا يملك الإقرار والبدل ولا يتوجه عليه اليمين. قال: ولو ادعى رجلان على امرأة نكاحاً وقدماها إلى الحاكم، فأقرت بالنكاح لأحدهما لا يستحلف الآخر، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله فلأن الاستحلاف لا يجري في النكاح عنده أصلاً، وأما على قولهما، فلأنها لو أقرت للثاني بالنكاح بعدما أقرت للأول لا يصح إقرارها، فلا يفيد الاستحلاف. وهل يستحلف الزوج المقر له ذكر؟ فخر الإسلام علي رحمه الله في «شرحه» أن فيه اختلاف المشايخ، بعضهم قالوا: لا يستحلف؛ لأنه لو أقرت بالنكاح للثاني لا يصح، فلا يفيد استحلافه، وبعضهم قالوا: يستحلف لرجاء النكول الذي هو إقرار معنى، لأنه لو أقر به يلزمه ويأمره القاضي أن يخلي عنها، فإن حلف لا تستحلف المرأة بعد (101أ4) ذلك، وإن نكل تستحلف المرأة؛ لأنها لو أقرت بالنكاح للآخر في هذه الحالة يلزمها حكم إقرارها، فإن نكلت قضي بالنكاح للثاني، وبطل نكاح الأول؛ لأنه ثبت بنكولها تقدم نكاح الثاني فكان نكاح المقر له أولاً باطلاً، وإن نكلت لأحدهما وحلفت (للآخر) يقضى بالنكاح للذي نكلت له وإن نكلت لهما لا يقضى بنكاح أحدهما؛ لأنه يصير كأنها أقرت بنكاحهما جميعاً، فلا يثبت نكاحها ولا نكاح أحدهما بل يتوقف إلى إقامة البينة. قال: وإذا ادعى كل واحد منهما هبة العبد والأمة من الذي في يده وأنه قد قبضه منه، أو ادعى كل واحد منهما الصدقة مع القبض، فهو مثل الشراء في حق الحكم الذي ذكرنا أنه إذا ثبت الملك لأحدهما بإقرار أو نكول فلا يمين للآخر عليه. ولو ادعى أحدهما أنه اشتراه من صاحب اليد بألف، وادعى الآخر أنه ارتهنه منه بألف أو استأجره منه بألف، فسأله القاضي فأقربه للمرتهن أو للمستأجر أولاً يحلف لمدعي الشراء إذا طلب ذلك؛ لأن بعد ما أقر بالرهن والإجارة لو أقر بالبيع يصح إقراره؛ لأن بيع المرهون والمستأجر ينعقد صحيحاً لازماً في حق البائع، وإذا كان بيعه ينعقد صحيحاً لازماً في حقه يملك البائع الإقرار به فيفيد استحلافه، ثم إذا حلف إن حلف انتهى الكلام وإن نكل يثبت البيع، وكان للمشتري الخيار إن شاء صبر إلى وقت النكال في الرهن، وفي الإجارة إلى مضي وقت الإجارة، وإن شاء فسخ؛ لأنه لم يرض بتأخير حقه هذا الذي ذكرنا إذا أقر للمرتهن أو للمستأجر أولاً، وإن أقر لمدعي الشراء أولاً، لا يحلف لمدعي الإجارة والرهن بعد ذلك؛ لأنه بعد ذلك أقر بالبيع لو أقر بالإجارة أو بالرهن لا يصح؛ لأن بعد البيع لا يملك الإجارة والرهن فلا يفيد استحلافه. ولو ادعى كل واحد منهما الإجارة وأقر به لأحدهما لا يحلف للآخر؛ لأنه بعد ما أقر بالإجارة لأحدهما لو أقر بها للآخر لا يصح؛ لأن إجارة المستأجر غير صحيح فلا يفيد الاستحلاف، فلا يحلف.

ولو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي، وقال: هذا اشترى الدار التي في موضع كذا حدها الأول والثاني والثالث والرابع كذا بألف درهم، وأنا شفيعها بدار لي تلاصقها، فقال القاضي للمدعى عليه: ما تقول فيما ادعى، فقال المدعى عليه: هذه الدار في يدي لابني هذا الطفل صح إقراره لابنه؛ لأن الدار في يده واليد دليل الملك، فكانت الدار مملوكة له فكان هذا إقراراً على نفسه، فيصح، فإن قال الشفيع للقاضي: حلفه بالله ما أنا شفيعها، فالقاضي لا يحلفه؛ لأن إقرار الأب بالشفعة على ابنه الصغير لا يصح فلا يفيد الاستحلاف، وهذا من جملة الحيل والمخارج في دفع الخصومة وسيأتي من جنس هذا إن شاء الله تعالى. وإن أراد الشفيع أن يقيم على الأب البينة على الشركاء كان الأب خصماً وسمع البينة عليه؛ لأن الأب قائم مقام الابن شرعاً، ولو كان الابن كبيراً كان خصماً للمدعي حتى يسمع بينته عليه ويقضى للشفيع بالشفعة، هكذا إذا كان الأب قائماً مقامه شرعاً. ولو كان رجل ادعى على رجل أن فلاناً مات وأوصى إلى هذا الرجل وقال المدعى عليه: لم يوص إلي فإنه لا يستحلف، وكذلك لو ادعى رجل على غيره أن فلاناً وكل هذا وقال المدعى عليه: لم يوكلني لا يستحلف المدعى عليه، لأنه لو أقر به لا يصح؛ لأنه إقرار على الغير فلا يفيد الاستحلاف، وإن أقام المدعي بينة على أنه وصيّ فلان أو على أنه وكيل فلان قبلت بينته فقد جعله خصماً في حق سماع البينة، ولم يجعله خصماً في حق الاستحلاف. وكذلك لو أن وصي الميت قدم رجلاً إلى القاضي وقال: إن فلاناً الميت أوصى إليّ وإلى هذا الرجل أو قدم رجلاً إلى القاضي، وقال: إن فلاناً وكلني وهذا الرجل بقبض ديونه، وأنكر ذلك الرجل فالقاضي لا يحلفه، وإن كان المدعي للوصاية أقام بينة أن فلاناً أوصى إليّ وإلى هذا الرجل فالقاضي يقبل بينته، فقد جعله خصماً في حق سماع البينة، ولم يجعله خصماً في الاستحلاف ومثل هذا جائز. ألا ترى أن الأب فيما يدعي على ابنه الصغير خصم في حق سماع البينة حتى يسمع البينة عليه، ولا يكون خصماً في حق اليمين كذلك ها هنا. ولو أن رجلاً حلف بعتق عبده أن لا يزني أبداً فقدمه العبد إلى القاضي، وقال: إن هذا حلف بعتقي أن لا يزني، وقد أتى بالذي حلف عليه وحنث وعتقت، فالقاضي يحلف المولى بالله ما زنيت بعدما حلفت بعتق عبدك أن لا تزني أبداً، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» وذكر الخصاف في شرح هذا الكتاب أن المولى لا يستحلف بالله ما زنيت على ما يدعيه العبد. قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: الرواية محفوظة في الكتب أن القاذف إذا ادعى على المقذوف أنه صدقه أنه قد زنى، وأقام البينة على ذلك تقبل بينته، وإن لم يكن له بينة وأراد استحلاف المقذوف بالله ما صدقه في ذلك القذف يسقط الحد عن نفسه، فإنه لا يستحلف المقذوف على ذلك، ولا فرق بين المسألتين فإن

مقصود القاذف من هذه الدعوى إسقاط الحد عن نفسه لا إيجاب الحد على المقذوف، كما أن مقصود العبد هاهنا إثبات الحرية لنفسه لا إيجاب الحد عليه فلا فرق بينهما. فتصير الرواية في القذف أن المقذوف لا يستحلف. رواية في مسألة العبد، أن المولى يستحلف رواية في مسألة المقذوف أنه يستحلف فيصير في كل مسألة روايتان. وجه الرواية التي قال يستحلف: إن مقصود العبد إثبات الحرية لنفسه لإيجاب الحد على المولى، ومقصود القاذف إسقاط الحد عن نفسه لا إيجاب الحد على المقذوف وإثبات الحرية وإسقاط الحد ممكن مع الشبهة، ألا ترى أن القاذف إذا أقام رجلاً وامرأتين على تصديق المقذوف، أو العبد إذا أقام رجلاً وامرأتين على العتق، يقبل وكل حكم يثبت مع الشبهات يجري فيه الاستحلاف. وجه الرواية التي قال لا يستحلف: إنه لا عبرة لمقصود العبد والقاذف وإنما العبرة لأصل ما يتعلق به من الحكم وأصل ما تعلق بالزنا من الحكم الحد، وإنه مما لا يجري فيه الاستحلاف ثم لم يذكر في «الكتاب» نصاً أن العبد هل يصير قاذفاً للمولى بما ذكر ولكن أشار إلى أنه لا يصير قاذفاً؛ لأنه قال: وقد أتى بالذي حلف عليه ولم يقل وقد زنى ولو صار قاذفاً بهذا القول لما ترك قوله: وقد زنى، ولما تحول إلى قوله وقد أتى بالذي حلف عليه وقد نص في كتاب الحدود: أن من قذف غيره بالزنا وقال آخر: هو كما قلت يصير قاذفاً؛ لأنه تقدم ذكر الزنا فيصرف قوله: هو كما قلت إلى الزنا، وصار كأنه قذفه صريحاً بالزنا، فقياس هذه المسألة على تلك المسألة أن يصير قاذفاً؛ لأنه تقدم ذكر الزنا فإن موضوع المسألة أن العبد قال في دعواه: إن هذا حلف بعتقي أن لا يزني وقد أتى بالذي حلف أي الزنا وصار كأنه قال: وقد زنى، فينبغي أن يصير قاذفاً. ثم ذكر كيفية التحليف على المولى، فقال: يحلف بالله ما زنيت بعدما حلفت بعتق عبدك أن لا تزني أبداً، فقد حلفه على السبب، أما على ما روي عن أبي يوسف رحمه الله فظاهر، وأما على ظاهر الرواية فلأن العتق في العبد المسلم لا يحتمل النقض بعد ثبوته، فلا يكون في التحليف على السبب ضرر المدعى عليه وهو المولى. وقد ذكرنا أن في مثل هذا، التحليف على الحاصل، ثم إذا حلف المولى، إن حلف لا شيء عليه، وإن نكل لزمه العتق ولا يلزمه الحد، وإن أقر بالزنا؛ لأنه إنما أقر به مرة. قال: ولو أن رجلاً اشترى من رجل جراب هروي بمائة درهم فقبضه المشتري فوجد فيه أحد عشر ثوباً، فقال البائع: بعت منك هذا الجراب على أن فيه عشرة أثواب بمئة درهم، وقال المشتري: لا بل اشتريته على أن فيه أحد عشر ثوباً بمائة درهم، وأراد كل واحد منهما تحليف صاحبه، فالقاضي يحلف البائع بالله ما بعته هذا الجراب على أن فيه أحد عشر ثوباً لأن المشتري يدعي العقد في الثوب الحادي عشر والبائع ينكر، ولو أنكر العقد في جميع الأثواب كان القول قوله مع اليمين، فكذا إذا أنكر العقد في الثوب الحادي عشر، فإذا حلف إن نكل لزمه، وإن حلف رد المشتري الجراب على البائع؛ لأنه

لما حلف فسد البيع في الجراب؛ لأنه انتفى البيع عن الثوب الحادي عشر بحلفه ومبين أنه باع عشرة أثواب من أحد عشر من الجراب، وإنها مجهولة وجهالة المبيع يوجب فساد العقد وفي هذه المسألة إشكال من وجهين: أحدهما: أنه قال: يحلف البائع، ولم يقل يتحالفان وكان ينبغي أن يتحالفا لأنهما اختلفا (101ب4) في مقدار المعقود عليه، والاختلاف في مقدار المعقود عليه بمنزلة الاختلاف في مقدار الثمن، ولو اختلفا في مقدار الثمن يتحالفان، فكذا إذا اختلفا في مقدار المعقود عليه. والثاني: أنه جعل القول قول البائع مع اليمين فكان ينبغي أن يقول: القول قول المشتري، لأن المشتري يزعم جواز العقد والبائع يزعم فساده، والمتبايعان إذا اختلفا في جواز العقد وفساده كان القول قول من يدعي الصحة. والجواب: أما الإشكال الأول قلنا: إنما لم يقل يتحالفان؛ لأن بحلف البائع يفسد العقد وبعدما فسد العقد لا يفيد تحليف المشتري، لأن التحليف لرجاء النكول الذي هو إقرار، ولو أقر بما ادعاه البائع صريحاً كان العقد فاسداً، لأن فيه ثوباً أبداً لم يدخل تحت العقد فلم يكن في تحليفه فائدة، فلهذا لا يحلف المشتري وأما الإشكال الثاني، قلنا: الاختلاف هاهنا ما وقع في فساد العقد وجوازه، وإنما وقع في وجود العقد وعدمه في الثوب الحادي عشر، فهو المقصود من هذه الخصومة. والاختلاف إذا وقع في وجود العقد وعدمه، كان القول قول من ينكر الوجود، والمنكر لوجود العقد في الثوب الحادي عشر هو البائع، فيجعل القول قوله، وإذا جعل القول قول البائع ينتفي البيع عن الثوب الحادي عشر، ومن ضرورته فساد العقد في الباقي، ففساد العقد في الباقي من نتائج اختلافهما في وجود العقد وعدمه في الثوب الحادي عشر، لا أن يكون الاختلاف في صحة العقد وفساده. وفي كتاب «الأقضية» : سئل أبو سليمان عن رجل قال: اشهدوا أن امرأتي فلانة بنت فلان طالق، فجاءت امرأة وخاصمته في المهر والنفقة، فقال الزوج: هذه ليست هي التي كانت امرأتي، ولا هي فلانة بنت فلان، فإن كانت لها بينة على ذلك أخذ بينتها وإن لم يكن لها بينة وأرادت استحلافه لا يحلف على أنها ليست فلانة بنت فلان وإنما يحلف على حاصل الدعوى فيحلف بالله مالها قبلك حق في المهر والنفقة التي تدعي. وهذا لأن الاستحلاف إنما يكون على أصل الحق وعلى سبب الحق والسبب ليس بحقها، وليس بسبب لاستحقاق المهر والنفقة، فلا يستحلف عليه، ولكن يستحلف على الحاصل وبه يقع الاستغناء عما سواه، ويحصل النظر من الجانبين. وكذلك إذا أقر رجل عند القاضي أن لفلان بن فلان علي ألف درهم، فجاء رجل وقال: أنا فلان بن فلان، وقال المقر: هذا ليس بفلان بن فلان، والمال ليس له فالقاضي لا يحلف المقر على السبب وإنما يحلفه على أصل الحق، والمعنى ما ذكرنا. وقال ابن سماعة: في رجل أقر أن فلان بن فلان أودعني ألفاً ثم جاء رجل وادعى

أنه فلان بن فلان، وأن الوديعة له، وأنكر المقر أنه فلان وأن الوديعة له، فالقاضي يحلف المقر بالله ما لهذا قبلك حق من الوجه الذي يدعيه في هذه الوديعة، ولا يحلفه على السبب لما ذكرنا، وإذا طلب المدعى عليه من القاضي أن يحلف المدعي بالله أن ما يأخذ، يأخذ بحق فالقاضي لا يجيبه إليه، لأنه لو أجابه إليه وحلفه كان له أن يطلب من القاضي أن يحلفه بالله أنك حلفت صادقاً، ثم وثم إلى ما لا يتناهى. وإذا وقعت الدعوى في دار، واحتيج إلى تحليف المدعى عليه يحلف بالله ما هذه الدار ولا بعضها ملك هذا المدعي، ولا يحلف بالله ما لهذا المدعي في هذه الدار حق، ولو حلف على هذا الوجه، ونكل وقضى القاضي بالدار للمدعي لا ينفذ قضاؤه، هكذا حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله، إذ يجوز أن لا تكون الدار ملكاً للمدعي ويكون له فيها حقاً من حيث التطرق أو ما أشبهه، فبنكوله لا يصير مقراً بالدار للمدعي لا محالة، فلا يجوز القضاء بملكية الدار للمدعي. وإذا ادعى الرجل عيناً في يدي رجل وأراد استحلافه، فقال صاحب اليد: هذا العين لفلان الغائب لا تندفع عنه اليمين ما لم يقم البينة على ذلك، بخلاف ما إذا قال: هذا لابني الصغير. والفرق: أن إقراره للغاصب يوقف عمله على تصديق الغائب، فلا تصير العين مملوكاً للغائب بمجرد إقرار صاحب اليد فلا يندفع عنه اليمين فأما إقراره للصبي لا يتوقف على تصديق الصبي، فتصير العين ملكاً للصبي بمجرد إقراره، فلا يصح إقراره بعد ذلك لغيره فلا يفيد التحليف؛ لأن فائدة التحليف النكول الذي هو إقرار. وذكر في موضع آخر إذا قال صاحب اليد: هذا العين لابني الصغير أو قال لفلان الغائب يحلف بالاتفاق، فإن نكل يقضى له به ثم ينتظر بلوغ الصبي في مسألة الصبي، فإن صدق المدعي في دعواه فالأمر ماض، وإن كذبه تؤخذ العين من يد المدعي وتدفع إلى الصبي ويضمن للمدعي قيمة العين. بعض مشايخ زماننا فرقوا بين الإقرار للصبي، وبين الإقرار للغائب، كما ذكر في بعض المواضع، وبعضهم سووا بينهما وقالوا: يحلف في الفصلين جميعاً كما ذكر في بعض المواضع دفعاً للحيلة، وهذا القائل يستدل بمسألة الوقف.g وصورة مسألة الوقف: دار في يدي رجل ادعاها رجل أنها ملكه، فقال صاحب اليد: إنه وقف على كذا، فإقراره بالوقف جائز، ويصير المنزل وقفاً لكن لا يندفع اليمين عن صاحب اليد، فيحلف للمدعي، فإن حلف برئ عن دعواه، وإن نكل ضمن قيمة المنزل للمدعي، ولو جاء صاحب اليد ببينة شهدوا على وقفيته لا تندفع اليمين بهذا عن المدعي ولا تندفع خصومة المدعي، لأنه صار وقفاً قبل إقامة البينة بإقراره فصار وجود هذه البينة وعدمه بمنزلة، وإذا ادعى على تركة ميت ديناً وقدم الوصي إلى القاضي ولا بينة له فإن كان الوصي وارثاً يحلف؛ لأن إقراره في نصيبه جائز، وإن لم يكن وارثاً لا يحلف؛ لأن إقراره في هذه الصورة لا يصح أصلاً؛ لأنه إقرار على الغير من كل وجه،

وإذا أنكر الشاهد الشهادة فالقاضي لا يحلفه؛ لأنه لا فائدة في تحليفه. في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: إذا قال المدعى عليه: إن الشاهد كاذب، وأراد تحليف المدعي بالله ما يعلم أنه كاذب، فالقاضي لا يحلفه إذا طعن المدعى عليه في الشاهد وقال: أين كواه بس إز كواهر بقوا هذه أست له أين محدود ملك منست وأراد تحليف الشاهد والمدعي على ذلك لا يحلف. وكذلك إذا قال المدعى عليه: ابن شاهد ابن محدود يدعي به راد دعوى كريه أست برين بيس لزاين كواهي، وأراد أن يحلف الشاهد أو المدعي على ذلك لا يحلف. قال أبو يوسف رحمه الله في رجل جاء بعبد آبق فأخذه السلطان فسجنه، فجاء رجل وأقام البينة أنه عبده فإن القاضي ينتصب خصماً له، ثم القاضي لا يقضي للمدعي ما لم يستحلفه بالله ما بعته ولا وهبته، ولا أذنت في بيعه وهبته وهذا عندهم جميعاً لأن الخصم عاجز عن طلب اليمين من المدعي على هذا الوجه بنفسه، وكان للقاضي أن يطلب ذلك من المدعي نظراً للغائب؛ لأن القاضي نصب ناظراً لمن عجز عن النظر لنفسه بنفسه، وقد نص على هذا في كتاب جعل الآبق. قال مشايخنا رحمهم الله: والاحتياط أن يزاد على هذا حرف بالله ما بعته ولا وهبته ولا أذنت بهما، ولا هو خارج من ملكي للحال بجواز أن يكون باع ثم تملك وأذن ثم نهى، فمتى حلف على ذلك يمتنع عن اليمين، لأنه يحنث في يمينه فيقضى عليه فيتضرر به، والاحتياط أن يزاد في هذا ولا هو خارج عن ملكه للحال حتى إذا كان باع ثم تملك أو أذن ثم نهى لا يحنث إذا حلف؛ لأن شرط حنثه شيئان البيع والخروج عن ملكه للحال، ووجد أحدهما ولم يوجد الآخر وبأحد شطري الحنث، لا يثبت الحنث ثم ذكر في كتاب الاستحلاف أن المدعي إذا حلف فإن القاضي يدفع إليه، ولم يقل يأخذ منه كفيلاً أصلاً. وذكر في كتاب جعل الآبق في رواية أبي سليمان وقال: ما أحب أن يأخذ منه كفيلاً، وقد ذكرنا هذا في كتاب جعل الآبق. قال ولو أن رجلاً: أعار من رجل دابة أو أودعها إياه أو آجرها منه فهلكت في يده فجاء مدع وأقام البينة أنها كانت له، قال أبو يوسف رحمه الله لا يقضي له بشيء حتى يحلف بالله ما بعت ولا وهبت ولا أذنت فيها، ولا هي خارج عن ملكك للحال، قالوا وهذا يجب (102أ4) أن يكون على قول أبي يوسف خاصة، فأما على قول أبي حنيفة ومحمد فإنه لا يستحلف المدعي بالله ما بعت حتى يطلب صاحب الدابة يمينه، وذلك لأن موضوع المسألة أن صاحب العبد حاضر بدليل أنه سمع خصومة المدعي، ولو كان غائباً لا يسمع خصومته؛ لأن اليمين لا ينتصب خصماً للمدعي إذا كان من يجعل بالخصومة عليه معلوماً، فحين سمع خصومة المدعي علمنا أنه إنما سمع لأن صاحب المال وهو المعير والمؤاجر حاضر، وإذا كان صاحب المال حاضراً أمكن لصاحب المال طلب اليمين من المدعي، ومهما أمكن للذي المال في يده طلب اليمين من المدعي، فإن

القاضي لا يستحلف المدعي بالله ما بعت ولا أذنت في بيعه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وإنما يستحلف على قول أبي يوسف وابن أبي ليلى رحمهما الله. بخلاف مسألة أول الفصل؛ لأن صاحب العبد هناك غائب عاجز عن طلب اليمين بنفسه، فكان للقاضي أن يطلب اليمين من المدعي نظراً له، ولكن الصحيح أن ما ذكر قول الكل وما قالوا: بأن موضوع المسألة أن صاحب المال حاضر هذا ممنوع مطلقاً، وعلى قولهما عند طلب المدعي على ما قالوا، وقولهم: بأن القاضي سمع خصومة المدعي، والأمين لا ينتصب خصماً للمدعي حال غيبة المالك قلنا: الأمين، إنما لا ينتصب (خصماً) للمدعي إذا ثبت كونه مودعاً أو مستعيراً إذ لو أقام صاحب اليد البينة على ذلك لا يدفع خصومته المدعي. ولما احتيج إلى تحليف المدعي بالله ما بعت وما وهبت، فإن حلف على قول أبي يوسف رحمه الله، وقضى بالمال للمدعي، فقبل أن يقبضه المدعي هلك، فالمدعي بالخيار إن شاء ضمن الدافع وإن شاء ضمن القابض؛ لأن كل واحد منهما جانٍ متعد في حقه، فكان له أن يضمن أيهما شاء كما في الغاصب وغاصب الغاصب، فإن ضمن الدافع، فالدافع لا يرجع على أحد لأنه ملك المضمون بالضمان، فصار معيراً ومؤاجراً ومودعاً ملك نفسه، وإن ضمن القابض إن كان القابض مودعاً أو مستأجراً، فإنه يرجع بما ضمن على الدافع؛ لأنه كان عاملاً للدافع، وقد لحقه في ذلك ضمان فيكون قرار ذلك على المعمول له وإن كان مستعيراً، فإنه لا يرجع بما ضمن على أحد؛ لأنه كان عاملاً لنفسه، ومن عمل لنفسه عملاً ولحقه بسبب ذلك ضمان لا يرجع بما ضمن على أحد. رجل في يديه عبد جاء رجل وادعاه وأقام البينة أنه عبده، والذي في يديه العبد يدعي أنه اشتراه من فلان، يعني رجلاً آخر وسلم لي والمدعى به المبيع، فالمدعي يستحلف على دعواه؛ لأنه ادعى عليه معنى لو أقر به يلزمه فإذا أنكر يستحلف. ثم على قياس ما روي عن أبي يوسف: يستحلف بالله ما أذنت له في بيع دارك هذه أو في بيع غلامك هذا، وعلى ظاهر الرواية: يحلف على الحاصل بالله ما هذا العين لذي اليد وإنما يحلف على الحاصل نظراً للمدعي، إذ يجوز أن يكون المدعي أذن في البيع ثم تملك بعد ذلك بوجه من الوجوه، فمتى حلف بالله ما أذنت يحنث في يمينه، فيمتنع عن اليمين فيقضى عليه بالعين والعين له فيتضرر. وإذا أخذ رجل من رجل مالاً وقال: كان لي عنده فإنما أخذت مالي، وقال المأخوذ منه: المال مالي، ولم يكن للآخذ بينة فإنه يرد المال على المأخوذ منه؛ لأن أخذ المال من يدي الغير يوجب الرد على المأخوذ منه، فالآخذ بقوله: المأخوذ مالي، يريد إسقاط ما يوجب عليه من الرد فلا يصدق إلا بحجة، ثم إذا رد المال على المأخوذ منه طلب الآخذ من القاضي أن يحلف المردود عليه على دعواه، أجابه القاضي إليه، ويحلف بالله ما كان لفلان عليك أو عندك شيء قالوا: والأحوط أن يستحلف بالله ما هذا المال ماله من الوجه الذي ادعاه.

وإذا أدان رجل ما أعيره رجلاً وادعى المدين أن رب المال أذن له في الإدانة وطلب يمينه، يحلف بالله ما أذنت له بالإدانة وأنه ملكك للحال، بجواز أن يكون أذن بالإدانة ثم نهى عنها، فمتى حلف على الإذن لا يمكنه أن يحلف فيقضي عليه فيتضرر به. وإن ادعى غريم الميت إيفاء الدين إلى الميت يحلف الورثة بالله ما يعلم أن أباهم قبض هذا المال ولا شيئاً منه، ولا برئ إليه منه. القاضي إذا حلف المدعى عليه بالطلاق فنكل لا يقضي عليه بنكوله؛ لأن طريق القضاء بالنكول أن المدعى عليه بالنكول منع بدل حقه، فيعاد إلى أصل حقه، واليمين بالطلاق ليس بدل حقه، بل هو منهي عنه شرعاً. وعن هذا قلنا: إن القاضي إذا حلف المدعى عليه وحلف ثم حلفه بالله: له أين سوكندرا ست خوردي فنكل عن هذه اليمين لا يقضي عليه، لأن طريق القضاء بالنكول أن المدعى عليه بالنكول منع بدل حقه. وبالنكول في اليمين الثانية ما منع بدل حقه لأن حقه في اليمين مرة وقد حلفه مرة. رجل ادعى على آخر أنك بعت مني الدار التي كانت لك وبين حدود الدار بكذا، وقد سلمت الثمن إليك، وطلب من القاضي أن يأمره بتسليم الدار إليه فأنكر المدعى عليه البيع، فحلفهُ القاضي فنكل عن اليمين وقضى القاضي عليه بنكوله ثم إنه قال بعد ذلك: ما قبضت الثمن، هل يسمع قوله؟ فالمسألة على وجهين: إن حلفه القاضي على نفس البيع ولم يتعرض اليمين بأن حلفه بالله ما بعت هذه الدار التي ادعاها هذا المدعي يسمع قوله؛ لأنه منكر بقبض الثمن حقيقة وجعله مقراً بالبيع وبالنكول عن البيع لا يوجب جعله مقراً لقبض الثمن، وإن كان القاضي يعرض الثمن في التحليف فإن حلفه بالله ما بعتها من هذا المدعي وما قبضت ثمنها منه، لا يسمع قوله؛ لأنه كما نكل عن البيع ينكل عن الثمن فكما صار مقراً بالبيع يصير مقراً بقبض الثمن فلا يسمع قوله بعد ذلك أنه لم يقبض الثمن في كتاب الاستحلاف. رجل أوصى إلى رجل، وله مائة دينار فدفعها إليه وأوصاه أن يتصدق عنه بعشرين منها ففعل، ثم إن الورثة خاصموا الوصي عند القاضي وادعوا أن المتروك من الميت كان مئة، وأنكر الوصي ذلك فأرادوا تحليفه فالقاضي يحلفه بالله ما لهم قبلك من تركة أبيهم إلا ثمانين دينار، ولا يستحلفه بالله ما ترك أبوهم إلا ثمانين؛ لأنه ترك أكثر من ثمانين ولكن يستحلفهم على نحو ما بينا، ثم ذكر بالله ما لهم قبلك لأن كلمة عند تستعمل في الأمانات وكلمة على تستعمل في الديون وكلمة قبل تعم الأمرين، فيكون تفسير ما لهم قبلك ما لهم في يدك أو في ذمتك من تركة أبيهم إلا ثمانين ديناراً. رجل ادعى على آخر شيء من العروض والدراهم والدنانير والضياع وأنكر المدعى عليه ذلك كله فالقاضي يجمع الكل ويحلفه يميناً واحدة ذكره في «الفتاوي» وستأتي بعض مسائل اليمين في فصل المتفرقات. قال في «أدب القاضي» : ولو أن رجلاً اشترى من آخر جارية، ثم إن رجلاً آخر

الفصل السادس والعشرون: في إثبات الوكالة والوراثة وفي إثبات الدين

ادعى أنه اشترى ذلك من البائع قبل أن يشتريه هذا منه، وقدم هذا المشتري للقاضي وأراد تحليفه فالقاضي يحلفه على العلم بالله ما يعلم أن هذا اشترى من هذا البائع قبل شرائك إياها منه، لأنه يدعي عليه سبق تاريخ شرائه وهو لو أقر بذلك يلزمه فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول، ولكن يحلف على العلم لأن هذا تحليف على فعل الغير، فإن عرض المدعى عليه للقاضي وقال: إن الرجل قد يشتري شيئاً ثم ينتقض البيع بينهما بإقالة أو غيره، ولا يمكنه أن يقر مخافة أن يلزمه شيء، فالقاضي يحلف المدعى عليه بالله ما يعلم أن بينهما شراء قائم في الساعة في هذه الجارية، وهذا لأن المدعى عليه لما عرض للقاضي فقد طلب من القاضي أن ينظر له فينظر له. حكي عن القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله أنه قال: تمام النظر في أن يحلفه بالله ما هذا الشيء لهذا المدعي من الوجه الذي يدعي، ثم ما ذكر في «أدب القاضي» إنما يتأتى هذا على قول أبي يوسف رحمه الله، فأما على ظاهر الرواية فالتحليف على الحاصل على كل حال على ما مر والله أعلم. الفصل السادس والعشرون: في إثبات الوكالة والوراثة وفي إثبات الدين ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : لو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي وادعى أن عليه ألف درهم باسم فلان بن فلان الفلاني وأن هذا المال لي، فإن فلاناً الذي باسمه المال أقر أن هذا المال لي، وأن اسمه عارية في ذلك وإنه قد وكلني بقبض ذلك منه بالخصومة فيه فالقاضي يسأل المدعى عليه عن هذه الدعوى، فإن أقر بجميع ذلك أمره القاضي بدفع المال إلى المدعي وهذا لما عرف أن الديون تقضى من مال المديون، فإقراره بذلك تصرف منه على نفسه وفي ماله فينفذ، فقد شرط الخصاف أن يدعي أن فلاناً الذي باسمه المال وكله بقبض المال وهذا جواب ظاهر الرواية. وروي عن أبي يوسف أن ذلك ليس بشرط بل إذا أقر أن المال الذي عليه باسم فلان ملك هذا المدعي أمره بالدفع إليه. وذكر هذه المسألة في كتاب الأقضية وذكر جوابها على نحو ما ذكر الخصاف عن أبي يوسف إلا أن في الأقضية لم ينسب هذا الجواب إلى أحد. ووجه ذلك: أن الدين في الذمة مال مملوك كالعين، ثم لو ثبت كون العين مملوكاً (102ب4) للمدعي بأن ادعى عيناً في يدي رجل أنه ملكه وأقر المدعى عليه بذلك أمر بالدفع إليه، وإن لم يثبت كون المدعي وكيلاً بالقبض من جهة أحد، فكذا إذا ثبت كون الدين مملوكاً للمدعي في الذمة يجب أن يؤمر بالدفع إليه، وإن لم يثبت كون المدعي وكيلاً بالقبض من جهة أحد. يوضحه: أن المقر أقر له بالدين مطلقاً، والمطلق ينصرف إلى الكامل وهو الثلث

من كل وجه، وإنما يكون الدين مملوكاً للمقر له من كل وجه إذا كان مملوكاً له رقبة وتصرفاً في كل شيء. وجه ظاهر الرواية: أن أصل الدين قد يكون مملوكاً لإنسان ولا يكون له حق القبض حتى لو امتنع المشتري عن تسليم الثمن إلى الموكل كان له ذلك إذا ثبت هذا فنقول: إن ثبت كون المال مملوكاً للمدعي بإقرار المدعى عليه ما ثبت له حق القبض لا محالة، فيحتاج إلى دعوى الوكالة بالقبض، وإذا أقر المدعى عليه بذلك أيضاً فله حق القبض كما يثبت له الملك، ثم إذا أقر المدعى عليه بجميع ذلك، وأمره القاضي بدفع المال إلى المدعي، لا يكون هذا قضاء على الغائب حتى لو جاء الغائب، وأنكر التوكيل كان له أن يأخذ ماله من المدعى عليه وهذا لأن إقرار الإنسان حجة عليه وليس بحجة على غيره، فثبت التوكيل بإقرار المدعى عليه في حقه فأمرناه بالتسليم إلى المدعي؛ لأن ذلك أمر عليه ولم يتعد ذلك إلى الغائب لأنه أمر على غيره، وإن جحد المدعى عليه الدعوى كلها فقال المدعي للقاضي: حلفه لي فالقاضي يقول للمدعي: ألك بينة على ما ادعيت من إقرار الرجل بالمال، ومن توكيله بقبض ذلك المال لأنه يدعي لنفسه حق الخصومة وحق القبض، والمدعى عليه ينكر ذلك كله، فيحتاج المدعي إلى إقامة البينة عليه. ثم شرط في الكتاب أن يقيم المدعي بينة على إقرار ذلك الرجل بالمال، وعلى توكيله إياه بالقبض، وإقامة البينة على المال ليس بشرط لثبوت حق الخصومة وإنما الشرط إقامة البينة على الوكالة، فيطلب للقاضي منه البينة على الوكالة بعد هذا المسألة على وجهين: إن أقام بينة على الوكالة ثبت كونه خصماً فيطلب القاضي منه البينة على المال على نحو ما ادعى، فإن أقام أحد المال منه وتعدى هذه القضاء إلى الغائب حتى لو جاء الغائب وأنكر التوكيل لا يكون له أن يأخذ المال من المدعى عليه لأن التوكيل ثبت بالبينة والبينة حجة في حق الناس كافة، والمدعى عليه انتصب خصماً عن الغائب في إثبات هذه الوكالة لأن المدعي على الغائب سبب للمدعي على الحاضر، وفي مثل هذا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، فكما ثبتت الوكالة في حق المدعى عليه تثبت الوكالة في حق الغائب أيضاً. وإن لم يكن للمدعي بينة على المال وأراد استحلاف المدعى عليه حلفه القاضي بالله ما لفلان بن فلان الفلاني ولا باسمه عليك هذا المال الذي سماه فلان بن فلان ولا شيء منه، وهذا لأن المدعي لما أثبت وكالته بالبينة، صار خصماً للمدعى عليه في دعوى المال، فهذا خصم ادعى مالاً على من هو خصم له فكان له أن يحلفه. هذا إذا أقام المدعي البينة على الوكالة وإن لم يكن للمدعي بينة على الوكالة، فقال للقاضي: إن هذا المدعى عليه يعلم أن فلاناً الذي باسمه المال قد وكلني بقبض هذا المال فاستحلفه لي على ذلك، فالقاضي يستحلفه بالله على ذلك ما يعلم أن فلان بن فلان الفلاني وكل هذا بقبض المال على ما ادعى. هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» وأضاف هذا الجواب إلى أبي يوسف ومحمد.

واختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: هذا الجواب على قول الكل إلا أن الخصاف رحمه الله خص أبا يوسف ومحمداً بالذكر لأنه لم يحفظ قول أبي حنيفة رحمه الله، لا لأن قوله بخلاف قولهما وإلى هذا مال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. ومنهم من قال: ما ذكر في «الكتاب» قولهما أما أبي حنيفة ينبغي أن لا يحلف المدعى عليه بناء على مسألة ذكرها في «الجامع الكبير» أن من اشترى عبداً وطعن المشتري فيه بعيب الإباق أو غيره، وجحد البائع أن يكون به هذا العيب فالقاضي يأمر المدعي إقامة البينة على وجود هذا العيب به في الحال، فإن أقام بينة على ذلك ثبت العيب للحال وصار البائع خصماً له وإن لم يكن له بينة فأراد استحلاف البائع بالله ما لم يعلم وجود هذا العيب به للحال، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يستحلف وعلى قولهما يستحلف ولا فرق بين المسألتين، فإن وجود العيب بالمشترى للحال شرط سماع الخصومة كما أن الوكالة بالقبض ها هنا شرط سماع الخصومة، وإلى هذا مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله. ثم إذا حلف إما على اتفاق أو على اختلاف إن حلف انتهى الأمر، وإن نكل صار مقراً بالوكالة فيقضي القاضي بالوكالة بحكم إقراره، ثم سأله القاضي عن المال فإن أقر بالمال على الوجه الذي ادعى أمره بالتسليم، وإن أنكر المال صار خصماً للمدعي في حق استحلافه على المال وأخذ المال، ولا يصير خصماً في حق إثبات المال عليه بالبينة حتى لو أراد المدعي أن يقيم عليه البينة بالمال، فالقاضي لا يسمع بينته، وكذلك لو كان المدعى عليه أقر بالوكالة من الابتداء صريحاً إلا أنه أنكر المال صار خصماً للمدعي في حق الاستحلاف، وأخذ المال لا في حق إثبات المال عليه بالبينة، وإنما كان كذلك لأن المدعى عليه إنما صار خصماً بالوكالة، والوكالة إنما تثبت بإقرار المدعى عليه، وإقراره حجة على نفسه وليس بحجة على غيره، فثبتت وكالة المدعي في حق استحلافه على المال، إن كان جاحداً المال وفي حق أخذ المال منه إن كان مقراً بالمال، لأنه يقتصر عليه ولا يتعدى إلى غيره ولا تثبت وكالته في حق إثبات المال عليه بالبينة، لأنه لو ثبت تعدى قوله إلى الغائب وفي ذلك قضاء على الغائب، وإنه لا يجوز. ونظير هذا ما قال أصحابنا رحمهم الله: في رجل ادعى أن فلان بن فلان الفلاني وكله بطلب كل حق له قبل هذا وأن له عليه ألف درهم فأقر المدعى عليه بالوكالة، وأنكر المال فقال المدعي: أنا أقيم البينة أن هذا المال عليه، لم يكن خصماً له في ذلك ولكن يكون خصماً في حق استحلافه وفي حق أخذ المال منه إن أقر بالمال، والمعنى ما بينا، وإن كان المدعى عليه أقر بالمال وجحد الوكالة فالقاضي يسأل من المدعي بينة على الوكالة فإن أقام تثبت الوكالة بالبينة وصار خصماً مطلقاً، وإن لم يكن له بينة وأراد استحلاف المدعى عليه على الوكالة حلفه وهو على الاختلاف الذي قلنا، فإن حلف فقد انتهى الأمر وإن نكل ثبتت الوكالة، ولكن في حق أخذ المال عنه لا في حق القضاء على الغائب لما قلنا.

قال: ولو أن رجلاً جاء إلى القاضي فأحضر معه رجلاً آخر وادعى أنه وكيل فلان الغائب وكله بقبض الدين الذي له على هذا، وبقبض العين الذي في يد هذا، والخصومة فيه وديعة وصدقه المدعى عليه في جميع ذلك، فإنه يؤمر بدفع الدين إلى المدعي ولم يؤمر بدفع العين إليه، وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يؤمر بدفع الوديعة أيضاً كما يؤمر بدفع الدين. وهكذا روي عن محمد، فعلى هذه الرواية لا يحتاج إلى الفرق بين العين والدين، وعلى ظاهر الرواية يحتاج إلى الفرق بينهما. والفرق: أن الدين إنما يقضى من مال المديون فإقراره بالوكالة في فصل الدين إقرار بثبوت حق القبض للوكيل في مال نفسه، فيكون إقراراً على نفسه فيصح أما إقراره بالوكالة في فصل العين إقرار بثبوت حق القبض له في ملك الغير، ليكون إقراراً على الغير فلا يصح فإن كذبه المدعى عليه في جميع ما ادعى أو صدقه في دعوى الوكالة وكذبه في المال أو صدقه في المال، فهو على ما ذكرنا في المسألة المتقدمة، فإن كذبه في جميع ذلك فأقام الوكيل البينة على الوكالة والمال جملة، ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» أن على قول أبي حنيفة رحمه الله: القاضي لا يقبل الشهادة على المال بل يقبل، وعلى قول أبي يوسف: القاضي يقبل البينة على الوكالة وعلى المال فإذا عدلت البينة يقضي بالوكالة أولاً ثم بالمال، ولم يذكر قول محمد رحمه الله ثمة. وفي موضع آخر أن على قول محمد: القاضي يقبل البينة على الوكالة والمال جميعاً، وذكر فيه: لأن قول أبي يوسف رحمه الله مضطرب. وجه من قال بقول البينة على الوكالة والمال: أن البينة لا توجب الحق بنفسها، وإنما توجب بواسطة إيصال القضاء بها فيعتبر هذا الترتيب في القضاء فلا جرم عندي، القاضي يقضي بالوكالة أولاً، ثم بالمال، ولكن يقبل البينة على الأمرين في الابتداء.b وجه قول أبي حنيفة: أن البينة وإن كانت لا توجب الحق بنفسها ولكن إنما يسمع من الخصم، وإنما يصير المدعي خصماً في دعوى المال إذا كان وكيلاً ولم يثبت ذكر بعد هذا ما إذا وكله بقبض الدين، ولم يتعرض للخصومة فجحد المديون الوكالة والمال، قبلت بينة الوكيل على الوكالة والمال عند أبي حنيفة وعندهما (103أ4) قبل بينته على الوكالة ولا تقبل بينته على المال، بناء على أن الوكيل بقبض الدين هل يملك الخصومة؟ عند أبي حنيفة رحمه الله يملك، وعندهما لا يملك. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل وكل رجلاً بالخصومة في كل حق له على الناس، فأحضر الوكيل رجلاً يدعي قبله حقاً للموكل، وهو جاحد الوكالة مقر بالحق، وأقام عليه البينة بالوكالة، فقبل أن تظهر عدالة الشهود غاب الرجل، ثم عدلت الشهود، فالقاضي لا يقضي بالوكالة ما لم يحضر، لأن القضاء لا بد له من خصم حاضر ليقضي عليه، فإن أحضر رجلاً آخر يدعي عليه حقاً للموكل، وهو جاحد الوكالة، فيقضي القاضي عليه بالبينة الأولى، كان المدعى عليه الأول خصماً عن جميع الناس في حق سماع البينة عليه، لأن مدعي الوكالة يحتاج إلى إثبات الوكالة على الجميع لكون الوكالة واحدة،

وانتصب الذي أحضر خصماً عن الناس كافة، وصار إقامة البينة عليه كإقامة البينة على الكل، ولو أقام على الكل ثم غاب واحد منهم أليس أنه يقضي بها على الحاضر كذا ها هنا. واعتبره في «الكتاب» بينة فإن قامت على الوكيل، فغاب الوكيل أو قامت على المورث حال حياته، فمات وحضر الوارث أو قامت على وارث فغاب هذا الوارث وحضر وارث آخر، فإن في هذه الفصول يقضي بتلك البينة على الذي حضر ثانياً، والمعنى ما ذكرنا في «الزيادات» أيضاً. وإذا أقام بينة على رجل أن فلاناً وكله بالخصومة وطلب ماله من الحق عليه، فلم تظهر عدالة الشهود حتى أقام الوكيل بينة على رجل بحق للموكل. القياس: أن لا يقبل بينته، وفي الاستحسان: يقبل وهكذا القياس والاستحسان إنما يتأتى على قول أبي يوسف رحمه الله إن كان الخلاف فيما إذا أقام البينة على الوكالة والمال جملة، بين أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: أما لا يتأتى على قول أبي حنيفة رحمه الله وقد مر الكلام فيه، فبعد ذلك المسألة على وجوه: إن زكيت البينتان قضى بالأمرين، ولكن على الترتيب الذي شهد به الشهود يقضي بالوكالة أولاً، ثم بالمال، وإن زكيت بينة الوكالة ولم تزك بينة الحق يقضي بالوكالة، ويؤمر إعادة البينة على الحق له، فإن لم تزك بينة الحق صار كأنه لم يقمها، وإن زكيت بينة الحق ولم تزك بينة الوكالة، لم يقض بالحق، لأنه لما لم تزك بينة الوكالة ظهر أن بينة الحق قامت على غير خصم. ولو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي وقال: إن أبي فلان مات ولم يترك وارثاً غيري وله على هذا كذا كذا من المال، فاعلم بأن هذه المسألة على وجهين. أحدهما: يدعي ديناً على نحو ما بيننا أو يدعي عيناً في يده أنه كان لأبيه عليه هذا من أبيه، أو أودعه إياه أبوه أولاً تعرض لشيء فذكر أنه لأبيه، مات أبوه وترك ميراثاً له لا وارث له غيره، فإن القاضي يسأل المدعى عليه عن ذلك، فإن أقر بجميع ما ادعى المدعي صح إقراره وأمر بتسليم الدين والعين إليه، أما صحة إقراره بالدين، فلما ذكرنا في فصل الوكالة، وأما صحة الإقرار بالعين بخلاف مسألة الوكيل. والفرق أن العين الذي في يديه صار ملكاً للذي حضر بسبب الوراثة في زعم صاحب اليد، فإنه زعم أنه وارث الميت، وإنما أقر له بحق القبض في ملكه فيؤمر بالتسليم إليه ولا كذلك، فصل الوكيل هذا أقر بذلك، فأما إذا أنكر ذلك كله، فإن أقام المدعي بينة على ما ادعى قبلت بينته، وأمر المدعى عليه بتسليم الدين والعين جميعاً؛ لأنه أثبت بالحجة موت فلان ووراثة نصيبه، وكون المدعي به متروك فلان ومتروك الإنسان يصرف إلى ورثته، وينبغي أن يقيم البينة أولاً على الموت والنسب حتى يعتبر، ثم يقيم البينة على المال، ولو أقام البينة على الموت والنسب والمال فهو على الخلاف على ما ذكرنا في فصل الوكالة. إذا أقام مدعي الوكالة البينة على الوكالة والمال جملة، وإن لم يكن للمدعي بينة

وأراد أن يحلف المدعى عليه على ما ادعى ذكر الخصاف أنه روي عن بعض أصحابنا أنه لا يحلف، قال الخصاف: وفيها قول آخر أنه يحلف ولم يبين القائل. بعض مشايخنا قالوا: الأول: قول أبي حنيفة، والثاني: قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله بناء على مسألة «الجامع الكبير» : على ما مر فإن قيام العيب بالمشترى للحال شرط سماع الخصومة كما أن موت المورث يعد، وإلى هذا مال شمس الأئمة السرخسي، فهو جعل مسألة الوارث نظير مسألة الوكيل على ما مر. وقال الشيخ الإمام علي الرازي والشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمهما الله: القول الثاني أنه يحلف قول الكل أيضاً قالا: وهو الصحيح، فهما جعلا هذه المسألة نظير مسألة الوكالة أيضاً، وذكر في موضع آخر أن أبا حنيفة رحمه الله كان يقول أولاً لا يستحلف ثم رجع وقال يستحلف، فعلى ما ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن مسألة الوكالة على الخلاف يحتاج إلى الفرق لأبي حنيفة بين مسألة الوكالة وبين مسألة الوراثة على قوله الآخر، على ما ذكره في بعض المواضع. والفرق أن الوارث يدعي العين والدين فينتصب خصماً في الاستحلاف؛ لأن الاستحلاف في دعوى الإنسان لنفسه حقه، والإنسان ينتصب خصماً في حقوقه، وأما في مسألة الوكالة فقد أقر بالحق للغائب فلا ينتصب خصماً إلا بعد إثبات الوكالة والنيابة عنه، ولم يثبت عنه بعد فلا يكون له حق الاستحلاف، ثم إذا استحلف يستحلف على حاصل الدعوى، وإنه جواب ظاهر الرواية على ما ذكرنا. وإن أقام المدعي بينة على النسب والموت يثبت كون المدعي خصماً له فيحلف بدعواه كما في سائر الدعاوى، وإن أقام البينة على المال دون الموت والنسب لا تقبل بينته، لأنه إنما ينتصب خصماً في المال بواسطة النسب دون الموت والمال لا تقبل بينته لما قلنا، ثم إذا أقر بدعوى المدعي كله وأمر بتسليم الدين والعين إلى المدعي لا يكون هذا على الأب حتى لو ظهر الابن حياً كان له أن يبيع المدعى عليه بحقه، والمدعى عليه يبيع الابن، وإنما كان كذلك؛ لأن بالإرث لا يتجدد الملك بل يتقرر الملك الذي كان للمورث؛ لأن الوارث يخلف المورث في ملاكه، فكان هذا تقرير ملك الموت، ولا يتصور أن يكون قضاء عليه، ولو أقر بالوراثة والموت وأنكر المال يحلف على المال؛ لأنه يثبت كونه خصماً بإقراره بالموت والوراثة، فالدعوى صدر من الخصم فيحلف كما في سائر الدعاوى. ولو أقر بالمال وأنكر النسب والموت لا يحلف؛ لأنه إنما ينتصب خصماً بواسطة ثبوت النسب والموت، ولم يثبت بعد، واليمين لا يتوجه إلا بعد دعوى صحيحة من الخصم، وهذا الجواب قول أبي حنيفة رحمه الله على ما ذكر شمس الأئمة السرخسي أو على قول أبي حنيفة أو على ما ذكر في بعض المواضع. أما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على ما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله. أو قول أبي حنيفة إجراءٌ على ما ذكره في بعض المواضع ينبغي أن يحلف، ولكن يحلف على العلم؛ لأن هذا

تحليف لا على فعل نفسه، والتحليف لا، فعلى فعل نفسه يكون على العلم. المحيط البرهانى قال: لو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي، وقال: إن أب هذا قد مات ولي عليه ألف درهم دين، فإنه ينبغي للقاضي أن يسأل المدعى عليه أولاً أنه هل مات أبوه، ولا يأمره بجواب دعوى المدعي أولاً، وهذا لأن الجواب إنما يتوجه على الخصم، وإنما ينتصب الابن خصماً إذا مات الأب، فبعد ذلك المسألة على وجهين: أما إن أقر الابن، فقال: نعم مات أبي أو أنكر موت الأب، فإن أقر وقال: نعم مات أبي سأله القاضي عن دعوى الرجل على أبيه؛ لأنه صار خصماً والجواب يتوجه على الخصم، فإن أقر له بالدين على أبيه استوفى الدين من نصيبه لإقراره على نفسه بذلك. وإن أنكر فأقام المدعي بينة على ذلك قبلت بينته وقضى بالدين ويستوفي الدين من جميع التركة لا من نصيب هذا الوارث خاصة؛ وهذا لأن أحد الورثة ينتصب خصماً عن جميع الورثة فيما يدعى على الميت، فصارت البينة القائمة على هذا الوارث بمنزلة البينة على سائر الورثة، وعلى الميت لو كان حياً، فيثبت الدين بهذه البينة في جميع التركة بخلاف الإقرار. ثم إنما يقضي القاضي بالدين في تركة الميت بهذه البينة بعد ما يستحلف المدعي على القبض والإبراء، وإن لم يدع الوارث ذلك؛ لأن القاضي نصب ناظراً لكل من عجز عن النظر بنفسه وهذه الدعوى في الحقيقة على الميت وهو عاجز عن النظر لنفسه، فينظر له القاضي باستحلاف المدعي بخلاف ما إذا وقع الدعوى على الحي؛ لأن الحي قادر على الدعوى فلا يستحلف بدون دعواه، بخلاف الميت. هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» . وذكر في «أدب القاضي» : من «أجناس الناطفي» في الجنس الرابع أن من ادعى ديناً في تركة الميت، وأقام بينة على ذلك، فالقاضي لا يحلفه على الاستيفاء عند أبي حنيفة ما لم يدع ذلك أحد الورثة وعلى (103ب4) قول أبي يوسف ومحمد يحلف فيما ذكر الخصاف قولهما، وهو اختيار الخصاف، ثم إذا أراد استحلافه يستحلفه بالله ما قبضت ولا شيئاً منه، ولا ارتهنت به منه رهناً ولا شيء منه، ولا احتلت به على أحد ولا لشيء منه، ولا يعلم رسولاً أو وكيلاً لك قبض هذا المال ولا شيء منه، وإن ذكر مع ذلك ولا وصل إليك بوجه من الوجوه كان أحوط. وروى الحسن بن زياد رحمه الله أنه قال: يستحلف بالله أنك تأخذه بحق؛ لأن في الأسباب المسقطة للدين كثيرة فلا يمكن حصرها، فيحلف على هذا الوجه، وإن لم يكن للمدعي بينة، وأراد استحلاف هذا الوارث، يستحلف على العلم عند علمائنا رحمهم الله بالله ما يعلم أن لهذا على أبيك هذا المال الذي ادعى وهو ألف درهم ولا شيئاً منه، فإن حلف انتهى الأمر، وإن نكل يستوفي الدين من نصيبه، فإن كان هذا الوارث المدعى عليه أقر بالدين على الأب وأنكر، فلما حلف نكل حتى صار مقراً بالدين، إلا أنه قال: لم

يصل إلي شيء من تركة الأب، فإن صدقه المدعي في ذلك فلا شيء له؛ وهذا لأن الدين كان في ذمة المورث وبالموت يتحول إلى التركة فيوفى من تركته، فإذا لم يصل إلى هذا الابن شيء أو أخذناه ليوفي دين الأب من مال نفسه، وهذا مما لا وجه له ولا سبيل إليه. وإن كذبه وقال: لا بل وصل إليه ألف درهم أو أكثر وأراد أن يحلفه، يحلفه على الثبات بالله ما وصل إليك من مال أبيك هذا الألف ولا شيء منه، لأنه يحلف على فعل نفسه والتحليف على فعل نفسه يكون على الثبات لما مر. فإن نكل لزمه القضاء؛ لأنه ثبت وصول التركة إليه، والدين في التركة يقدم على الميراث، وإن حلف لا شيء عليه، هذا إذا حلف المدعي على الدين أولاً ثم حلفه على الوصول، فلو أن المدعي من الابتداء حين أراد أن يحلف هذا الوارث على الدين قال له الوارث: ليس لك علي يمين، فإنه لم يصل إلي من تركة الأب شيء، وكذبه المدعي وقال: لا بل وصل إليك من تركة الأب كذا وكذا أو صدقه في ذلك، إلا أنه مع هذا أراد استحلافه على الدين، فالقاضي لا يلتفت إلى قول الوارث ويحلفه على الدين؛ لأن الحاجة إلى إثبات الدين وفي إثبات الدين لا عبرة لوصول شيء من التركة إلى يده، وإنما العبرة الفائدة وفي إثبات الدين فائدة، فإنه إذا ثبت الدين بأن نكل عن اليمين حتى صار مقراً به لو ظهر للميت وديعة أو بضاعة عند إنسان يستوفي الدين منها من غير أن يحتاج إلى الإثبات، فكان فيه فائدة، فيحلف لهذه الفائدة وإن كانت منتظرة. ألا ترى أن هذا العبد المحجور يستحلف وإنما يستحلف لاستيفاء الدين بعد العتق، وإنه فائدة منتظرة كذا هاهنا، وإن أنكر الابن الدين ووصول شيء من التركة إلى يده وكذبه المدعي في ذلك كله، وأراد استحلافه على الدين والوصول جميعاً لم يذكر الخصاف رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» . وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يحلف يميناً واحدة بالله ما وصل إليك ألف درهم ولا شيء منه من تركة أبيك، ولا يعلم أن لهذا الرجل على أبيك دين من الوجه الذي ادعى، فقد جمع بين اليمين على الثبات وبين اليمين على العلم أنه جائز كما في حديث القسامة وعامتهم على أنه يحلف مرتين، لأنه إنما يجوز الجمع بين اليمينين إذا كانا من جنس واحد، وإن كانا من جنسين لكن سببهما واحد، ولا مجانسة بين اليمين على العلم وبين اليمين على الثبات، والسبب مختلف ها هنا أيضاً؛ لأن سبب الوجوب المداينة السابقة وسبب الاستيفاء من الوارث وصول التركة إليه، فلا يجمع بينهما بل يحلف مرتين مرة على الوصول على الثبات ومرة على الدين على العلم، بخلاف القسامة؛ لأن السبب هناك متحد وهو القتل هذا الذي ذكرنا، إذا أقر بموت الأب. وأما إذا أنكر موت الأب ووصول التركة إليه وأراد الغريم استحلافه وقع هذه المسألة في بعض نسخ هذا الكتاب، وأجاب فيها أنه يحلف على الوصول والموت يميناً واحداً، لكن على الموت على العلم وعلى الوصول على الثبات بالله ما تعلم أن أباك مات، ولا وصل إليك شيء من ميراثه، وبه أخذ أولئك المشايخ وعامة المشايخ على أنه

يحلف مرتين مرة على الموت على العلم، ومرة على الوصول على الثبات، فإن نكل حتى ثبت الموت وثبت وصول الميراث إليه، يحلف على الدين على علمه لما مر. فلو أنه أقر بالدين والموت، وإن هذه الألف تركة إلا أنه أحضر جماعة وقال: هؤلاء إخوتي، فهذه المسألة على وجوه: إما إن بدأ وقال: هذه الألف تركة ثم قال: هؤلاء إخوتي، وفي هذا الوجه يؤمر بتسليم الألف إلى رب الدين؛ لأنه بإقراره أولاً صار الألف مستحقاً لرب الدين؛ لأن الدين متعلق بالتركة بعد الموت، فلا يصح إقراره بالإخوة بعد ذلك فيما يرجع إلى إبطال الاستحقاق الثابت له، وإن بدأ بالإقرار بالإخوة ثم بالتركة والدين، فقد أقر لهم بالشركة معه في التركة فصارت التركة مقسومة بينهم بالحصص، فإذا أقر بالدين والتركة بعد ذلك، فإنما يعمل إقراره في حقه فيسبق في الدين من نصيبه خاصة. قال: ولو أن رجلاً مات فادعى وارثه على رجل أنه كان لأبيه عليه ألف درهم دين وصار ميراثاً له، وأقر المدعى عليه بالموت وأنكر الدين، فأراد الوارث أن يحلفه، حلفه بالله ما كان لأبي عليك ألف درهم ولا شيء منه من الوجه الذي ادعى، وعلى قول شريح رضي الله عنه يحلف الوارث أولاً على الثبات بالله ما قبض الأب منه شيئاً، هو يقول: بأن الدين إنما ينتقل إلى الابن إذا لم يقبضه الأب منه، أما إذا قبض فلا. وإنا نقول: إذا ثبت الدين للأب على المديون يبقى إلى أن يوجد المسقط والقبض مسقط، وأنه ليس بمعلوم فيبقى الدين يقبضه الأصل، ألا ترى أن في حالة الحياة الأب يحلف المدعى عليه على الدين، ولا يحلف الأب بالله ما قبض المال وطريقه ما قلنا، وكذلك إذا أقام الابن بينة على الدين لا يحلف الابن على قبض الأب عندنا، خلافاً لشريح على ما بينا، وإن أقر المديون بالدين وادعى أن الأب قد قبض منه الدين أو عرض المديون، فقال: قد يكون على الإنسان دين ثم لا يقضي باعتبار أن صاحب الدين يقبض ذلك، وأنا لا أحب أن أقر بشيء مخافة أن يلزمني، وأراد استحلافه فيحلف الابن حينئذ على العلم بالله ما يعلم أن أباه قد قبض هذا المال، أما إذا ادعى المدعى عليه القبض فلأنه انقلب مدعياً والمدعي انقلب مدعى عليه، وأما إذا عرض المدعى عليه، فلأنه طلب من القاضي أن ينظر له، فينظر له. قال في «الزيادات» : رجل مات، فجاء رجل وادعى أنه وارث الميت، لا وارث له غيره، وإن قاضي بلد كذا قضى بكونه وارث الميت، وجاء شاهدين شهدا أن قاضي بلد كذا أشهدنا على قضائه أن هذا وارث فلان الميت لا وارث له غيره، وقال الشهود: لا ندري بأي سبب قضى، فإن القاضي الثاني يجعله وارثاً؛ وهذا لأنه ثبت بالبينة قضاء القاضي الأول بوراثته، وقضاء القاضي إذا ثبت يحمل على الصحة وعلى موافقة الشرع، وذلك ها هنا في أن يحمل على أنه استقضى في سبب وراثته على الميت، ولم يقدم على القضاء إلا بعدما علم بالحجة سبب وراثته، وينبغي للقاضي الثاني أن يسأل المدعي ما نسبه عن الميت، وهذا السؤال ليس بشرط لتنفيذ القضاء حتى لو لم يبين المدعي شيئاً نفذ

القاضي الثاني قضاء الأول حملاً له على الحق، ولكن هذا السؤال من القاضي الثاني على سبيل الاحتياط ليعلم أنه بأي سبب يستحق، حتى لو ظهر وارث آخر يعرف القاضي الثاني أن أيهما أولى بالميراث؛ ولأنه ربما يبين سبباً لا يستحق الميراث بأن جيرانه مولى الميت من أسفل، فيبطل قضاء الأول؛ لأن هذا خطأ عندنا وقد ظهر فيما هو حجة عليه وهو إقراره، فإن أخبر المدعي بسبب يكون وارثاً على وجه من الوجوه أمضى قضاء الأول بالميراث ودفع الميراث إليه، ولكن لا يقضي بالسبب الذي ادعى؛ لأن الموجود في حق السبب ليس إلا مجرد الدعوى إذا لم يعرف قضاء القاضي بهذا السبب. أما القضاء بأصل الوراثة ثابت بشهادة الشاهدين، فلهذا قضى القاضي الثاني بالميراث دون السبب، فإن جاء رجل بعد ذلك وادعى أنه أب الميت لا وارث له غيره، وأقام على ذلك بينة، ينظر إن كان الأول بين سبباً لا يرث مع الأب بذلك السبب، جعل القاضي الثاني الميراث كله للثاني؛ لأن أبوة الثاني ثبت عند هذا القاضي بالبينة، والأول لما بين سبباً لا يرث مع الأب بذلك السبب صار مقراً أنه (104أ4) لا حق له في الميراث، وإقرار كل مقر حجة في حقه. وإن كان الأول بين سبباً يرث مع الأب بذلك، فإن بين أنه ابن الميت جعل القاضي للأب سدس الميراث؛ لأن القاضي الأول قضى للأول بكل الميراث، فإنما ينقض قضاؤه بالقدر المتيقن، والقدر المتيقن ها هنا السدس، فإن احتمال كون الأول ابناً كما ذكر قائم ومع الاحتمال ابنه تيقن بالخطأ، وإن ذكر الأول أنه أب الميت، وأقام الثاني أنه ابن الميت يعطى الثاني خمسة الأسداس؛ لأنه بين خطأ القاضي الأول بهذا القدر ينتقض قضاؤه، والسدس سالم للأول، وإن ذكر أنه أب الميت، وادعى الثاني أنه أب الميت وأقام على ذلك بينة قضى القاضي بأبوته جعل الميراث له؛ لأن أبوة الثاني ثبت بالقضاء بالبينة وأبوة الأب لم يثبت إلا بإقراره، وما يثبت بالبينة المفردة أقوى، فكيف إذا اتصل بها القضاء، فإن قيل: ينبغي أن يقضي القاضي بالميراث بينهما؛ لأن القاضي الأول قضى بكل الميراث الأول، فلا ينقض قضاؤه إلا بقدر المتيقن، والتيقن في مقدار النصف، فإن احتمال كون الأول أباً قائم إذ يجوز أن يكون للشخص الواحد أبوان. ألا ترى أن الجارية المشتركة بين رجلين إذا جاءت بولد فادعياه كان الولد لهما وهما أبوه، قلنا لا يجوز أن يكون للشخص الواحد أبوان؛ لأن الأبوة بسبب الإلحاق من الماء، ولا يتصور إلا بخلاف من ماء الذكرين، ألا ترى أن في مسألة الجارية المشتركة لو مات يرثانه ميراث أب واحد، إلا أن أحكام الأبوة تثبت بينهما عند الدعوى لاستوائهما في الحجة وعدم الأولوية، وفي مسألتنا لا مساواة؛ لأن أبوة الأول تثبت بالدعوى، وأبوة الثاني تثبت بالبينة، ولا مساواة بين الدعوى والبينة حتى لو تحققت المساواة يقضى بالميراث بينهما على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. واستوضح هذا بما لو جاء رجل وأقام بينة أنه أب هذا الميت، وقضى القاضي

بأبوته، وجعل الميراث له، ثم جاء آخر وأقام بينة أنه أب الميت، فالقاضي لا يقبل بينته ولا يدخل مع الأول، ولو جاز أن يكون واحد منهما أباً، لدخل الثاني مع الأول كما في الأبناء مع البنات. قال في «الكتاب» : ولو أن القاضي الثاني حين قضى بالميراث الثاني قال الأول: أنا أقيم بينة عندك أني أب الميت لا يلتفت إليه، لأن تقدم الحكم للثاني بالأبوة يمنع دعوة الأول الأبوة والقضاء له بها، وإن أقام الأول بينة على أن القاضي الأول قضى بأبوته، جعل القاضي الثاني الميراث للأول إذ تبين أنه تقدم الحكم للأول بالأبوة وأنه يمنع الحكم للثاني بالأبوة. ولو أن القاضي لم يقض بأبوة الثاني حتى أقام الأول بينة على أبوته قضى القاضي بالميراث بينهما لاستوائهما في الدعوى والحجة. والجواب في ولاء العتق: كالجواب في الأبوة، بأن ادعى الأول أنه متولي الميت أعتقه، وأن القاضي الثاني إنما قضى له بالميراث لذلك، وادعى الثاني أنه متولي الميت أعتقه؛ لأنه لا يتصور أن يكون الشخص معتقاً من الاثنين مَنَّ كل واحد منهما عليه؟ فصار الولاء كالنسب من هذا الوجه، إن سبق الحكم لأحدهما بالميراث بسبب الولاء فهو أولى، وإن اجتمعا قضى بينهما على نحو ما ذكرنا وإن زعم الأول أنه ابن الميت في الميراث وإن سبق الحكم لأحدهما؛ لأن سبق الحكم لأحدهما لا يدفع الثاني، لإمكان الجمع بخلاف فصل الأبوة، لأن هناك الجمع غير ممكن على ما مر.s وإن زعم الأول أنه ابن الميت فأقامت المرأة بينة أنها بنت الميت، فالميراث بينهما أثلاثاً، وإن تقدم الحكم للأول لأن تقدم الحكم للأول؛ لا يدفع الثاني لإمكان الجمع. ولو ادعى الأول أنه ابن أو أب وأقام الآخر بينة، أنه أخو الميت لا شيء للثاني؛ لأن الإخوة لا يرثون مع الابن والأب، ولو كان المقضي له امرأة زعمت أنها زوجة الميت، ثم جاء رجل وأقام بينة أنه أخ الميت أخذ منها ما زاد على الربع؛ لأنه كان وصار الحاصل أن القاضي الأول إذا قضى بوراثة الأول ولم يبين سبب الوراثة، وأقام الآخر بينة عند القاضي الثاني على نسبه عن الميت، سأل القاضي الثاني الأول عن نسبه، إن ذكر نسباً لا يرث مع الثاني فالميراث كله للثاني، وإن ذكر نسباً لا يرث الثاني معه فلا شيء للثاني، وإن ذكر نسباً يرث مع الثاني يجمع بينهما في الميراث. قال: فإن كان المقضي له الأول معتوهاً أو صغيراً لا يعبر عن نفسه، فأقام بعض من ذكرنا بينة على أنه وارثه وبين نسبه عن الميت، فإن كان الثاني ممن يحتمل السقوط بحال نحو الأخ والعم جعله القاضي ساقطاً بالأول، وإن كان الثاني لا يحتمل السقوط، فإن القاضي يجعل للأول أفضل الأشياء ويقضي للثاني بأقل ما يكون. بيانه: فيما إذا كان الأول ذكراً يجعل ابن الميت حتى لو كان الثاني إنما يعطى له السدس لكونه أقل، ولو كان الثاني زوجة الميت يعطى لها الثمن لكونه أقل؛ لأن الأول

يرجح تقدم الحكم له، وإبطال القضاء لا يجوز إلا في القدر المتيقن، والتيقن في الأقل. قال: ولو أن امرأة أقامت بينة أن قاضي بلد كذا، قضى بأنها وارث هذا الميت، وجعل كل الميراث لها، نفذ القاضي الثاني ذلك كما ينفذ للرجل؛ لأن المرأة قد تستحق جميع الميراث، ألا ترى أن مولاة المعتق تستحق جميع الإرث لمولى المعتق، وكذلك البنت تستحق جميع الميراث، النصف بالفرض، والنصف بالرد إذا لم يكن ثمة صاحب فرض أو عصبة. فلعل القاضي الأول إنما قضى لها بجميع الميراث لهذا، وهو الظاهر، فلهذا نفذ القاضي الثاني ذلك، فإن أقام بعد ذلك رجل بينة أنه ابن الميت أو أبوه، أو أقامت امرأة بينة أنها زوجته، سأل القاضي الثاني المرأة الأولى عن سبب القضاء لها، فإن زعمت أنها بنت الميت عامل معها بزعمها، وإن كانت المرأة الأولى صغيرة لا تعبر عن نفسها، أو كانت معتوهة جعل القاضي لها أكثر ما يكون لها، وجعل لهؤلاء أقل ما يكون لهم مع المرأة الأولى حتى لا ينتقض القضاء الأول إلا في القدر المتيقن. وإذا ادعى رجل على ورثة ميت ديناً على الميت وقال: إن أب هؤلاء قد مات ولي عليه كذا وكذا، وقد أقر بذلك في حياته طائعاً، ومات قبل أن يوفي شيئاً من ذلك، وخلف من التركة في يد هؤلاء ما بقي بالدين المدعى به وزيادة ولم يبين أعيان التركة، فالقاضي هل يسمع منه هذه الدعوى؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا في «الأصل» وفي شيء من الكتب. وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم شرطوا بيان أعيان التركة شيئاً، فشيء لسماع القاضي دعواه. والحاكم الإمام أحمد السمرقندي ذكر في شروطه في سجل إثبات الدين: أن المدعي إن أجمل التركة كان كافياً، وإن بين وفسر كان أحوط، والفقيه أبو الليث رحمه الله لم يشترط بيان أعيان التركة واكتفى بذكر الوفاء بالدين. والخصاف رحمه الله ذكر في «أدب القاضي» في باب اليمين على العلم: مثل ما ذكره الفقيه أبو الليث رحمه الله، والمختار في الفتوى هذا أن لا يشترط بيان أعيان التركة لإثبات الدين والقضاء به، ولكن إنما يأمر القاضي الوارث بقضاء الدين إذا ثبت وصول التركة إليهم، وعند إنكارهم وصول التركة إليهم، لا يمكن للمدعي إثباته إلا بعد بيان أعيان التركة في أيديهم بما يحصل به الإعلام. وهكذا حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: رجل ادعى داراً في يد رجل وقال في دعواه: هذه الدار كانت لأبي فلان، مات وتركها ميراثاً بيني وبين أختي فلانة لا وارث له غيرنا، وترك مع هذه الدار مالاً ودواباً فقسمنا الميراث ووقعت هذه الدار في نصيبي بالقسمة، واليوم جميع الدار ملكي بهذا السبب، وفي يد هذا المدعى عليه بغير حق، فدعواه صحيحة؛ لأنه ادعى جميع الدار لنفسه بسبب صحيح ادعى ثلثاها

بسبب الميراث وادعى الثلث بسبب القسمة، وكل ذلك سبب صحيح للملك، ولكن لا بد وأن يقول أخذت أختي نصيبها من تلك الأموال حتى يصح منه مطالبة المدعى عليه بتسليم كل الدار إليه. ولو قال في دعواه: مات أبي وتركها ميراثاً لي ولأختي ثم أقرت أختي بجميعها لي وصدقتها في ذلك، حكي عن شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله أن دعواه صحيحة والصحيح من الجواب أن القاضي لا يسمع دعواه في الثلث؛ لأن هذه دعوى الملك في الثلث بسبب الإقرار، ودعوى الملك بسبب الإقرار غير صحيح، عليه فتوى عامة المشايخ، والمسألة في الأقضية: من له الدين المؤجل إذا أراد إثباته فله ذلك، وإن لم يكن له حق المطالبة بالأداء في الحال، إذا أرادت إثبات بقية مهرها على الزوج فلها ذلك، وإن لم يكن لها حق المطالبة به في الحال؛ وهذا لأن إثبات الحق لا يعتمد المطالبة لا محالة، ألا ترى أن إثبات الدين على الميت من وارث لم يصل إليه شيء من التركة، وإن لم يكن لرب الدين حق المطالبة من هذا الوارث (104ب4) إذا لم يصل إليه شيء من تركة الميت وإنما يعتمد الفائدة، وفي إثبات الدين المؤجل في الحال فائدة، وكذلك في إثبات بقية مهرها في الحال فائدة، فإن شهوده عسى يغيبون ولا يقدر على إثباته عند محل الأجل، سأل القاضي الإمام شمس الإسلام الأوزحندي رحمه الله: عمن ادعى على آخر عيناً في يده، وقال: هذا كان ملك أبي مات وتركها ميراثاً لي ولفلان، وسمى عدد الورثة ولم يبين حصة نفسه، قال: صح منه هذه الدعوى، وإذا أقام البينة على دعواه، فالقاضي يسمع بينته، ولكن إذا آل الأمر إلى المطالبة بالتسليم لا بد وأن يبين حصته؛ لأنه لا يملك المطالبة بالتسليم إلا بقدر حصته، فيبين حصته عند ذلك، ولو كان بين حصته ولم يبين عدد الورثة، بأن قال: مات أبي وترك هذا العين ميراثاً لي ولجماعة سواي وحصتي منه كذا، وطالبه تسليم ذلك قال: لا تصح منه هذه الدعوى، ولا بد من بيان عدد الورثة لجواز أنه لو بين كان نصيبه أنقص. قال في «الأقضية» : وإذا وقع الدعوى في دار في يدي رجل بسبب الميراث عن الأب وللميت ورثة سوى هذا المدعي وطلب من القاضي أن يكتب له يعني محضر الدعوى، فالقاضي يكتب: حضر فلان وأحضر معه فلان يصف المدعي والمدعى عليه، ثم يكتب: وذكر فلان الذي حضر أن أباه فلان، يذكر اسم أبيه وينسبه إلى أبيه وجده؛ لأنه يريد إثبات الملك للأب ليمكنه النقل إلى نفسه بالإرث، فلا بد وأن يصير الأب معلوماً ليمكن إثبات الملك له، والنقل منه بالدعوى وأنه غائب والغائب لا يعلم إلا بذكر الاسم والنسب، ثم يكتب: أنه مات وخلف من الورثة ابناً له وهو هذا الذي حضر، وزوجة له وهي فلانة بنت فلان بن فلان وبنت له وهي فلانة لا وارث له سواه؛ وهذا لأنه يريد إثبات الوراثة لنفسه فلا بد من بيان سببها لنفسه، والبنوة سبب، ولا بد من بيان عدد الورثة، ليعلم نصيبه فيقع القضاء بما هو معلوم، ثم يكتب وترك من ماله الدار التي في بلدة كذا في محلة كذا في سكة كذا، أحد حدودها كذا والثاني والثالث والرابع كذا، ثم يذكر في الحد لزيق دار فلان، وإن شاء يذكر دار فلان، وقد مر هذا في فصل جلوس

القاضي، بعد ذلك ينظر إن كان في ذكر الحد ذكر إلى دار فلان لا يكتب بحدودها؛ لأنه بين من جوز ذكر دار فلان في الحد اختلافاً أنه إذا كتب بحدودها هل تجوز الدعوى؟ وهل يصح المكتوب؟ بعضهم قالوا: لا يصح؛ لأن دار فلان تدخل في الدعوى، وقال علماؤنا: يصح ولا تدخل دار فلان في الدعوى؛ لأن الناس في عرفهم وعاداتهم لا يريدون به أن يكون دار فلان داخلاً في الدعوى، واعتبار العرف واجب وإن كان بين العلماء اختلاف على نحو ما قلنا. والكتابة للتوثيق يجب أن يكون على أحوط الوجوه ليقع الأمن عن إبطاله، وإن كان في ذكر الحد لزيق دار فلان يكتب بحدودها إن شاء ويجوز بلا خلاف؛ لأنه لا يؤدي إلى أن تدخل دار فلان في الدعوى، ثم إذا كتب في الحد الزيق لا فرق بين أكثر جماعة من أهل الشروط أن يكتب لزيق دار فلان، وبين أن يكتب لزيق دار تنسب إلى فلان، كل ذلك جائز وقال بعضهم: ينبغي أن يكتب لزيق دار تنسب إلى فلان حتى أنها إذا لم تكن مملوكة لفلان لا يكون كاذباً فيه، وعامة مشايخنا جوزوا ذلك، لأن الإضافة بحكم الظاهر جائزة. ألا ترى أن في الشهادة جوزنا الإضافة بالظاهر، وأكثر أحكام الشرع مبنية على الظواهر، ثم يكتب بحدودها كلها وحقوقها؛ لأن بدون ذكر الحدود والحقوق لا يدخل المسيل والطريق، فلا يفيده استحقاق الدار؛ لأنها تتعطل عليه، ولا يمكنه الانتفاع بها، ولا ينبغي أن يكتب وطريقها ومسيل مائها؛ لأنه لو كان باب الدار على طريق العامة يصير مدعياً ملكية ذلك الموضع لنفسه، وأنه لا يجوز، ثم يكتب ومرافقها التي هي لها من حقوقها، لأن الخلاف ظاهر في تفسير المرافق، فعلي قول أبي يوسف المرافق غير الحقوق وإنها عبارة عن منافع الدار، وفي ظاهر الرواية المرافق عبارة عن الحقوق، فكان الأحوط أن يكتب من حقوقها ليكون ذكراً للحقوق بالاتفاق، ثم يكتب وكل قليل وكثير هو فيها ومنها، هكذا ذكر محمد رحمه الله: في كتاب الشفعة، وذكر في موضع آخر: وكل قليل وكثير هو فيها ومنها، وهكذا ذكر في كتاب الوقف. قال أبو زيد الشروطي رحمه الله: لا ينبغي أن يكتب أو لها بها للتشكيك، فكان المراد به أحد المذكورين، وباعتباره يصير المدعى به مجهولاً ولكن يقول كلمة أو يراد بها في مثل هذا الموضع الجمع لا التشكيك عرفاً، ومعناه: أن جميع الحقوق داخلة في الدعوى، قلت أو كثر يقال: وهبت لك ما في كيسي درهماً كان أو ديناراً، ثم يكتب في آخره من حقوقها؛ لأنه لو لم يذكر ذلك، ففي ظاهر الرواية إن كان هذا منصرفاً إلى ما كان من موانع الدار فعند أبي يوسف رحمه الله: يدخل فيه كل ما في الدار، مما يحتمل التملك حتى أن عند أبي يوسف: يدخل فيه جواري المدعى عليه اللاتي في الدار ومتاعه الموضوع فيها من حقوقها لينتفي به ما توهمه أبو يوسف، ثم يكتب: وكل حق لها داخل فيها وخارج منها، هكذا ذكر الطحاوي رحمه الله، وينبغي أن يكتب أرضها وبنائها سفلها وعلوها ولا يكتب سفله وعلوه، ثم العلو والسفل يدخلان في دعوى الدار من غير ذلك،

وفي دعوى المنزل لا يدخل العلو إلا بالذكر أو يذكر الحقوق، وفي دعوى البيت لا يدخل بذكر الحقوق، ويشترط ذكره، والكشف الشارع يدخل في دعوى الدار من غير ذلك، والظلة وهي الساباط الذي على الطريق أحد جانبيه على هذه الدار، عند أبي حنيفة: لا يدخل من غير ذكر الحقوق، وعند أبي يوسف ومحمد: يدخل إذا كان مفتحها إلى الدار، والمربط والمطبخ يدخلان في دعوى الدار إذا ذكر الحقوق والمرافق، ثم يكتب ميزاباً عنه لورثته هؤلاء المسمون على فرائض الله تعالى كذا بينهما نصيب المرأة كذا وكذا الابن كذا ونصيب البنت كذا؛ وهذا لأنه يريد إثبات الاستحقاق لنفسه بالإرث ولا يمكنه ذلك إلا من الميراث عند أبي حنيفة ومحمد على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وهو أن يقول تركها ميراثاً لورثته فلهذا يكتب ميراثاً عنه لورثته ثم يسمي الفريضة وأنصباء الورثة من ذلك، ليعلم قدر ما نصيب المدعي من ذلك، فيكون المدعي به معلوماً، ثم بعد ذلك لا يخلو إما أن يدعي لنفسه نصيبه من الدار، أو يدعي جميع الدار بحكم القسمة مع الورثة، فإن ادعى نصيبه من الدار يكفيه هذا المقدار الذي ذكر في الكتاب، وإن ادعى جميع الدار يكتب، وترك أيضاً مع الدار سواها من العقار والعروض والأراضي والنقود، وقد جرت القسمة الصحيحة بين هؤلاء الورثة بالتراضي، فوقعت هذه الدار في نصيب هذا الابن المدعي وأنها اليوم ملك هذا الابن المدعي بهذين السهمين، ويذكر أيضاً: قبض باقي الورثة حصصهم على ما مر قبل هذا، وأنها في يدي فلان بن فلان هذا المدعى عليه الذي أحضره بغير حق وأنه يمنع جميع ذلك منه، إن كان يدعي جميعها وإن كان يدعي نصيبه يذكر: وأنه يمنع نصيبه بغير حق، فواجب عليه قصر يده عما ادعى، وتسليمه إلى هذا المدعي. وإنما شرطنا أن يقول في الدعوى وأنها في يد هذا المدعى عليه الذي أحضره؛ لأن الذي أحضره إنما يكون خصماً باعتبار يده، فلا بد من أن يثبت يده عليها، حتى ينتصب خصماً، فسمع القاضي الدعوى عليه، وإن شئت كتبت من وجه آخر. فكتبت: حضر وأحضر فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه: أن جميع الدار التي في محلة كذا في سكة كذا حدودها كذا بحدودها وحقوقها، أرضها، وبنائها، سفلها وعلوها، وكل حق هو لها داخل فيها، وكل حق هو لها خارج منها، كانت ملكاً لفلان ابن فلان والد هذا المدعي وحقه وملكه إلى أن توفي، وخلف من الورثة أبناء له هذا المدعي وورثة أخرى من البنين فلان وفلان ومن البنات: فلانة وفلانة لا وارث له سواهم، وصارت هذه الدار المحدودة الموصوفة فيه ميراثاً عنه لورثته هؤلاء المسمون فيه، على فرائض الله تعالى على كذا سهماً. ثم يتم كتاب الدعوى على نحو ما بيننا، ثم إذا صح الدعوى سأل القاضي المدعى عليه عن دعواه، فإن أجابه بالإقرار أثبت إقراره في محضر الدعوى بلفظه، وألزمه الخروج عن دعواه، فإن أجابه بالإنكار لجميع ما ادعى، سأل المدعي البينة، فإن زعم المدعي أن

له بينة أمره أن يحضرهم مجلس القاضي، ثم على رسم القضاة اليوم في ديارنا يكتب أسامي الشهود وأنسابهم وحلاهم ومساكنهم وما يعرفون به. فيكتب: وأحضر من الشهود رجلاً ذكر أنه فلان وبحليته ويستقصي في تعريفه، وهذا إذا كان لا يعرفه القاضي. وإن كان يعرفه يكتب فأحضر من الشهود فلان بن فلان ينسبه إلى (105أ4) أبيه وجده، ويستغني عن التحلية ويجعل بين كل سهم شاهدين، فرجة من البياض يمكنه كتابة لفظة الشهادة التي سمعها منه فيها، ثم إن كان الشهود ممن لا يقدرون على أداء الشهادة عن ظهر القلب يحضرهم، أو لهيبته مجلس القضاء يكتب الكاتب لفظة الشهادة على موافقة الدعوى كما ذكره الشاهد للكاتب في بياض. وإن كانوا ممن لا يعرفهم حضر ولا يهيبه مجلس القضاء، فالقاضي يتولى كتابة الشهود في تلك الفرصة، ويسأل شهود المدعي واحداً بعد واحد عن شهادته بحضرة المدعى عليه؛ لأنه يحتاج إلى تصحيح شهادته، والإشارة إلى المدعى عليه فلا بد من حضرة المدعي ليمكنه الإشارة إليه، ثم إذا شهد شهود المدعي، فالقاضي يسألهم هل كانوا يعرفون فلاناً والد المدعي؛ لأن المدعي يحتاج إلى إثبات ثلاثة أشياء، موت المورث ووراثته منه، وانتقال الدار إليه منه بالإرث، وإثبات الملك للمورث فيها يوم الموت. وإنما تصح الشهادة على الموت ممن يعرف الميت، وكذلك الشهادة على وراثة المدعي من الميت بالإرث، إنما تصح ممن يعرف الميت، فأما من لا يعرف كيف يشهد على ذلك كله؟ فيسأله عن والد المدعي لهذا، فإن قالوا نعرفه: سألهم عن الموت، فإن شهدوا بذلك كتب فشهدوا أن فلان بن فلان الفلاني المعروف بكذا من التجارة من الصباغة توفي، وكأنه يعرفونه معرفة قديمة باسمه ونسبه، وإنهم يشهدون عن معرفة قديمة ثم سأل عن وارثه، فإن شهدوا بذلك كتب وترك من البنين فلاناً الذي حضر وهو هذا المدعي وفلان وفلان، ومن البنات فلانة وفلانة، وامرأته فلانة بنت فلان بن فلان بن فلان، وهذا إذا كانوا يعرفون جميع الورثة، فأما إذا كانوا يعرفون بعض الورثة كتب شهادتهم عمن يعرفون من الورثة، ثم يكتب لا يعرفون له وارثاً غير هؤلاء، ويكون وارثه من سوى المدعي الذي أقر له المدعي بالوراثة ثابتاً بإقرار المدعي؛ لأنه صار وارثاً بالبينة، وإقرار الوارث بورثة أخر صحيح في حقه، فإذا شهدوا بذلك سألهم هل تعرفون الدار التي ادعاها أنها كانت لوالده؟ فإن ذكروا معرفتها وشهدوا أنها كانت لوالده إلى أن مات وتركها ميراثاً لورثته هؤلاء، وأتوا بالشهادة على وجهها كتب ذلك على ما شهدوا به وأنها اليوم في يد المدعى عليه، ولا بد لتصحيح الشهادة من حر الميراث عند أبي حنيفة ومحمد. وكذلك لا بد لتصحيح الشهادة على ملكية الدار أن يذكر الشهود في شهادتهم أنها في يد المدعى عليه، والإقرار لا يكفي، حجة لإثبات يده، حتى أن المدعي والمدعى عليه إذا تصادقا أن الدار المدعى به في يد المدعى عليه لا تقبل البينة على ملكية الدار إلا

بعد شهادة الشهود على يد المدعى عليه، بأن شهدوا أنها في يده اليوم، هكذا ذكر الخصاف بخلاف المنقول. فإنه إذا أقر المدعى عليه أنه في يده يكفي؛ لأن في المنقول لا يخلو إما أن يكون العين قائماً أو مستهلكاً في يد المدعى عليه، فإن كان قائماً فلا بد من الإحضار لتصحيح الدعوى والشهادة، وعند الإحضار يعرف القاضي معاينة أنه في يد المدعى عليه، وإن كان مستهلكاً وقال المدعى عليه: استهلكتها، أو قال: هلك عندي، فقد أقر على نفسه بوجوب الضمان، وإقرار الإنسان على نفسه صحيح، فلا حاجة إلى الشهادة على أنه في يده. فأما في العقار يمكن تهمة المواضعة، ووجه ذلك أن المدعي ربما تواضع رجلاً ويحضره مجلس القضاء، ويدعي عليه العقار، فيقر بأن العقار في يده فيقضي القاضي عليه، والعقار في يد غيره، فيكون قضاء على الغائب؛ لأن العقار لم يكن في يد المدعى عليه حقيقة، فلمكان هذه التهمة لا يكتفي القاضي بمجرد الإقرار حتى يشهد الشهود على ذلك، فتنتفي هذه الرتبة بخلاف المنقول على ما ذكرنا، فإن شهدوا أنها في يد المدعى عليه، هل يسألهم القاضي عن سماع يشهدون أنها في يده أو عن معاينه؟ حكي عن القاضي الإمام الخليل بن أحمد أن القاضي يسألهم وهو الصحيح؛ لأنهم ربما سمعوا إقراره أنها في يده فظنوا أن ذلك يطلق لهم أداء الشهادة على يده عليها وإنه موضع الاشتباه، فقد اشتبه على كثير من الفقهاء اشتراط إقامة البينة لإثبات يده، وما لم يعاينوا يد المدعى عليه لا يحل لهم أداء الشهادة على أنها في يده، فلهذا أوجب السؤال، فإن ذكروا أنهم يشهدون عن معاينة قبلها وإلا لم يقبل. قال القاضي هذا رحمه الله: وهكذا إذا شهدوا على البيع والتسليم، فالقاضي يسألهم أيشهدون على التسليم بإقرار البائع أو عن معاينة؛ لأن الحكم فيها يختلف فإنهم إذا شهدوا عن معاينة البيع والتسليم كانت شهادته بملك البائع يوم البيع، وإن شهدوا على إقراره لا تكون شهادة على ملك البائع فوجب السؤال إزالة لهذه الشبهة. ولو أن الشهود لم يشهدوا أن هذه الدار في يد المدعى عليه، وقال المدعي: أنا آتي بشاهدين آخرين يشهدان أنها في يد المدعى عليه، فإن القاضي يقبل منه؛ لأن الحاجة إلى القضاء بالملك للمدعي بسبب الوراثة باليد للمدعى عليه لينتصب لإثبات دعواه، ولا فرق بين أن يثبت كلا الأمرين بشهادة فريق واحد، وبين أن يثبت كل أمر بشهادة فريق واحد، هذا كما ذكروا أن الشهود إذا شهدوا بالملك في المحدود وشهد فريق آخر على الحدود أنه يقبل الشهادتان جميعاً. وكذلك إذا شهد شاهدان على الاسم والنسب ولم يعرفا الرجل بعينه، وشهد آخران أن هذا الرجل هو المسمى بذلك الاسم والنسب أنه يقبل ذلك، ويجعل كما لو ثبت الإقراران بشهادة فريق واحد كذلك ها هنا، ولو قالت الشهود: نشهد أن الدار التي بالكوفة في بني فلان ويذكر حدودها الأربعة ملك المدعي بهذا السبب ولكنا لا نعرف

حدودها ولا نقف عليها. وقال المدعي: أنا آتي بشاهدين آخرين يشهدان أن هذه الدار المدعى بها على هذه الحدود ويعرفون لذلك، هل يقبل القاضي ذلك منه؟ فهذه ثلاث مسائل. إحداها هذه، وجوابها أنه ذكر في بعض الروايات أنه لا يقبل، وذكر في عامة الروايات أنه يقبل وهو الأصح، وجه ذلك أن تحمل الشهادة على الأملاك غالباً يكون على هذا الوجه؛ لأن الشاهد إنما يتحمل الشهادة على الملك إذا علم بسبب الملك، والبائع يقر بين يدي الشاهد ببيع الدار التي في محلة كذا في سكة كذا، ويذكر الحدود الأربعة، والشهود في الغائب لا يعرفون جميع ذلك، لو اعتبرنا علمهم بالحدود يحتاجون إلى الذهاب إلى موضع الدار، وعسى لا يذهبون فيؤدي ذلك إلى الجرح، فإذا قالوا للقاضي: تحملنا هذه الشهادة بهذه الحدود ولكنا لا نقف على الحدود وما رأيناها، وقال المدعي: أنا آتي بشاهدين آخرين يشهدان أن هذه الدار المدعى بها بهذه الحدود، فالقاضي يقبل ذلك منه، وإن لم يأت المدعي بشهود آخرين يشهدون أن هذه الدار المدعى به على هذه الحدود، فطلب من القاضي أن يبعث أمينين من أمنائه إلى الدار حتى يتعرفا عن حدودها وأسماء جيرانها، أجابه القاضي إلى ذلك، فإذا أقامهما القاضي وتعرفا عن حدود الدار وأسماء جيرانها، فوافق ذكر الحدود التي ذكرها الشهود، قضى القاضي بالدار للمدعي بشهادتهم، لأنهم شهدوا بملكية دار معلومة؛ لأن العقار إذا كان غائباً فإعلامه بذكر الحدود وقد وجد، فبعد ذلك الحاجة إلى تعيين الدار المحدودة للتسليم، فإذا علم القاضي بإخبار الأمينين أن هذه الدار المعينة التي في يد المدعى عليه هي ما شهدت به الشهود فقد علم بوجوب تسليمها إلى المدعي، فيقضي بها للمدعي، ويأمر المدعى عليه بتسليمها إلى المدعي.f وإن خالف ذلك الحدود التي ذكرها الشهود وأخبر الأمينان القاضي بذلك لا يقضي بشهادتهم؛ لأنهم شهدوا بما لم يعلموا؛ ولأن الدار التي في يد المدعى عليه إذا لم تكن بتلك الحدود ظهر أن الشهود شهدوا بما ليس في يد المدعى عليه، فكانت هذه شهادة على غير خصم، فلا يقبل. والمسألة الثانية: لو قال الشهود: نحن نعرف الدار ونقف عليها، ونشير إلى حدودها إذا قمنا ثمة ولكن لا ندري من جيرانها، فالروايات مضطربة في هذه المسألة، ذكر في بعضها يبعث القاضي أمينين من أمنائه مع المدعي والمدعى عليه إلى الدار حتى يشهد الشهود بحضرة الدار، ويشيروا إلى حدودها، ثم يتعرف الأمينان أسماء الجيران ويخبران القاضي، فإن وافق ما قاله المدعي يحكم القاضي بذلك، وذكر في بعضها أنه يبعث الأمينين مع الشهود حتى يسيروا إليهما بالدار وحدودها، فيتعرفان أسماء جيرانها ثم يشهدوا جميعاً عند القاضي، فيقضي بشهادتهم التي كانت عنده، وأظهر الجواب شهادة الشهود بحضرة الأمينين والدار؛ لأن الأمين نائب القاضي فكانت الشهادة عنده كالشهادة عند القاضي، ولو كانوا بحضرة العقار لا يحتاج إلى بيان الحدود؛ لأن الإشارة كافية

للتعريف كما في المنقول، إلا أن يتعرف الأمينان لأسماء الجيران (105ب4) لكتابة السجل لا لتنفيذ القضاء، فالقضاء بدونه ماض على المدعى عليه. المسألة الثالثة: إذا قال الشهود نحن نعرف أن هذه الدار ميراث لهؤلاء الورثة عن هذا المورث، ولكن لا نعلم أسماء الجيران إنما نعرف أن تلك الدار في محلة كذا في سكة كذا بحضرة مسجد كذا يلاصق دار فلان في زيقه كذا، وجاء المدعي بشاهدين يشهدان على الحدود، فإن القاضي لا يقضي بشيء؛ لأن الذين شهدوا بالملك لم يشهدوا إلا بحد واحد، فاللذان شهدوا بالحدود لم يشهدوا بالملك، فلا يمكن القضاء بها أصلاً بخلاف ما تقدم، لأن ثمة إنما شهدوا بملك الدار عند معاينة الدار بالإشارة إليها، فوقع الاستغناء عن ذكر الحدود للقضاء بالملك أما ها هنا بخلافه، ثم إذا شهد شهود المدعي عند القاضي، وكان فيمن شهد رجلان عدلان يعرفهما القاضي بالعدالة والرضى، سأل القاضي المدعى عليه عن حجة يدفع بها ما شهد به الشاهدان ويبين أنه عرفهما بالعدالة، وأنه يريد القضاء عليه، حتى لو كانت له حجة يأتي بها أن القاضي إنما ينبغي له أن يقضي بحجة المدعي إذا لم يأت المدعى عليه بحجة تعارضها، وإن لم يعرفهما القاضي وعدلهما شاهدان في السر والعلانية تبين للخصم أنه سأل عنهما المزكين فنسبوهما إلى العدالة، ثم يسأله الدفع إن كان له، فإن أحضر حجة صلحت دافعة لدعوى المدعي قبلها، ودفع دعوى المدعي به وذلك مثلاً بأن كان المدعي يدعي ملكاً مطلقاً ويقيم عليه البينة، فيدعي المدعى عليه أنه اشتراه منه، ويقيم البينة عليه، وإن ذكر في ذلك كله أن له حجة يحضرها، يمهله بقدر ثلاثة أيام، وما أشبهه مما لا يبطل به حق المدعي أنه إن أتى بدفع في هذه المدة قبل منه، وأبطل دعوى المدعي. وإن لم يأت بدفع حتى مضت هذه المدة وجه عليه القضاء؛ وهذا لأنه لا يمكنه إقامة الحجة إلا بمدة؛ لأن الشهود ربما كانا غيباً، فيحتاج إلى مدة ليمكنه إحضارهم، فيمهله ثلاثة أيام أو ما أشبهه، فإن مضى الوقت ولم يأت بحجة أمر المدعي حتى يحضر المدعى عليه؛ لأنه جاء أوان الحكم ولا بد لصحة الحكم من حضرتهما، ثم يكتب حضورهما في الكتاب لما ذكرنا أن حضرتهما شرط لصحة القضاء ويكتب، فسأل فلان المدعي هذا المذكور اسمه ونسبه في هذا الكتاب هذا القاضي إنفاذ القضاء بما يثبت عنده على فلان بن فلان؛ لأن القضاء حق المدعي وحق الإنسان لا يوفى إلا بطلبه، ثم يكتب فأنفذ القاضي القضاء بوفاة فلان، وأنه ترك من الورثة فلان وفلان وجعل الدار المحدودة المذكورة في هذا الكتاب ميراثاً منه لورثته فلان بن فلان؛ لأن القضاء بالميراث يقع لهم، فلا بد من ذكرهم لبيان المقضي له ثم يكتب، وكان ذلك مني بعدما استحلفت المدعي بالله ما يعلم أن أباك قد باع هذه الدار، ولا وهبها، ولا خرجت عن ملكه، ولا شيء منها بوجه من الوجوه، حتى توفي وفي هذا الاستحلاف إنما يتأتى على قول أبي يوسف. وإن كان المدعي ادعى ديناً دراهم أو دنانير كتب بعد سؤال المدعي إنفاذ القضاء، فاستحلف القاضي فلان هذا المدعي الذي حضر أنه ما قبض من الألف الدراهم أو

الدنانير التي ادعت على فلان بن فلان هذا الذي أحضر معه قليلاً ولا كثيراً، ولكن هذا التفريع على قول أبي يوسف رحمه الله، فإنه يستحلف المدعي من غير طلب المدعى عليه. فأما أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله لا يريان ذلك بدون طلب المدعى عليه، وفرقا بين هذا وبينما إذا ادعى رجل على ميت ديناً، فإن القاضي يستحلف المدعى عليه الإبراء والقبض على ما وصفناه، وإن لم يدعيه الوارث؛ لأن الدعوى هناك في الحقيقة على الميت، والميت عاجز عن النظر لنفسه بنفسه، فيمكنه أن يطلب من القاضي أن يحلف المدعى عليه فلا يحلفه القاضي بدون طلبه. ولو كان إنما ادعى داراً أو ثوباً أو غير ذلك من العروض سوى الدور. كتب: فسأل فلان الذي حضر يعني المدعي إنفاذ القضاء بما ثبت له على فلان بن فلان المدعى عليه في الدار المحدودة في هذا الكتاب أو في الثوب، فاستحلف القاضي فلان بن فلان المدعي بالله ما باع هذه الدار ولا وهبها ولا تصدق بها ولا خرجت عن ملكه بوجه من الوجوه ولا شيء منها، وهذا الاستحلاف على قول أبي يوسف أيضاً على ما مر. وإن كان إنما يدعى ميراثاً إنما كتب: فأنفذ القاضي القضاء بوفاة فلان وأنه ترك من الورثة جماعة وهم فلان المدعي هذا وفلان وفلان حتى يسمع جميع الورثة ما شهد به الشهود، ثم يكتب واستحلف القاضي المدعي بالله ما يعلم أن أباه فلان ما باع هذه الدار ولا وهبها ولا خرجت عن ملكه ولا شيء منها بوجه من الوجوه حتى توفي، وهذا أيضاً على قول أبي يوسف رحمه الله في دعوى الدين إذا كتب تحليف المدعي يكتب بعد ذلك: فأنفذ القاضي القضاء لفلان المدعي هذا على فلان المدعى عليه هذا بألف درهم وزن سبعة وضحا؛ لأنه لا بد من إعلام ما صار مقضياً به لتصحيح القضاء، وذلك بذكر الجنس وهو الدراهم، وبالقدر وهو الألف، وبالنوع وهو وزن سبعة، والصفة وهو قوله وضحا، فالدين يصير معلوماً بهذه الأشياء، ولا يصير معلوماً دونها، أصله: السلم والمراد من الوضح: الجيد الصافي، فهذه إشارة إلى الجودة، والجودة صفة. وقوله: وزن سبعة اختلفوا في تفسيره، قال بعضهم: ما كل مائة منها سبع مثاقيل، والأصح أن المراد منه ما يزن كل عشرة منها سبع مثاقيل وهو وزن الدراهم في ديارنا. واختلفوا في وزن الدراهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: أنها كانت على وزن سبعة، وقال أهل الحديث: أنها كانت على وزن ستة، والأصح أنها كانت على وزن خمسة، وكذلك على عهد أبي بكر الصديق رضى الله عنه، ثم صار وزن سبعة على عهد عمر رضي الله عنه هو المشهور، وكذلك اختلفوا أن الدرهم متى صارت مدورة على عهد عمر رضي الله عنه، وقبل ذلك كانت شبيه النواة. وإن كانت الدعوى في الميراث كتب وأنفذ القاضي القضاء لفلان بن فلان الميت يعني أب المدعي على فلان بن فلان الذي أحضره يعني المدعى عليه بالدار المحدود في هذا الكتاب؛ لأن المقضي له هو الميت والوارث يحلف الميت في حقوقه، فيكون

الفصل السابع والعشرون: في الحبس والملازمة

القضاء للأصل لكن عند دعوى الحلف، ولهذا المعنى يقضي منه ديون الميت وينفذ وصاياه، ثم يكتب: في ذلك على ما شهد به الشهود؛ لأن القضاء بناء على الحجة وهي الشهادة، فينبغي أن يكتب: أن القضاء حصل على موافقة الشهادة ليعلم أنه على نهج الحجة، ثم يكتب: وجعل فلان بن فلان الذي أحضر يعني المدعى عليه على حجته إن كانت له حجة في ذلك، أو مخرج؛ لأن بينة الدفع بعد القضاء مشروعة، فتبين للخصم ذلك حتى أنه إذا كان جاهلاً بذلك يصير معلوماً له تحقيقاً لمعنى العدل، ثم يكتب: وأنفذ ذلك كله وقضى به على ما سمى ووصف في هذا الكتاب بمحضر من فلان وفلان، يعني المدعي والمدعى عليه بالإشارة إليهما ليتحقق إعلامه المقضي والمقضي عليه، وإنما يمكنه الإشارة إذا كانا حاضرين. وإن كان ميراثاً يكتب بعد قوله: على ما شهد به الشاهدان عنده في ذلك وجعلتها ميراثاً منه لورثته المسلمين في هذا الكتاب، لأنه إنما يقع القضاء بالميراث لهم، فلا بد من ذكرهم لبيان المقضي له، ثم يكتب بعد ذلك: وجعل فلاناً المدعى عليه على حجة ودفعه متى أتى به يوماً من الدهر أنفذ القاضي ذلك، وقضى به بمحضر من فلان بن فلان يذكر المدعي والمدعى عليه ثم يذكر وأمره يعني المدعي بقبض الدار؛ لأن تمام القضاء بملك الدار بتسليم إلى المقضي له، فهو المقصود من دعوى الدار؛ وهذا لأن الملك لا يثبت للمدعي بقضاء القاضي؛ لأن الملك ثابت له قبل القضاء فلا حاجة إلى الدعوى والقضاء لأجله، وإنما الحاجة إليه لأجل التسليم؛ لأن يده قاصرة عن ردها فيرفع الأمر إلى القاضي فيثبت حقه إلى الدار ليوصله القاضي إلى الدار، وإن كتب وأمر فلاناً المدعى عليه بتسليم هذه الدار المحدودة في هذا الكتاب إلى فلان المدعي هذا، فسلمها إليه بأمر القاضي كان أبلغ ليعلم تمام القضاء بإيصال الحق إلى المدعي بالتسليم إليه، ثم يكتب في آخره وذلك كله في مجلس القضاء بين الناس في كورة، يكتب الكورة لما ذكرنا أن المصر شرط صحة القضاء في ظاهر الرواية، فكتب الكورة حتى لا يبقى للطاعن مجال الطعن. ومن جنس هذه المسائل رجل ادعى على رجل أن له على فلان ألف درهم دين، وأنه مات قبل أن يؤديها إليه، وأن في يدك ألف درهم من ماله وطالبه بقضاء الدين من ذلك المال، فالقاضي لا يسمع دعواه؛ لأن الدعوى إنما تسمع على الخصم والمدعى عليه ليس بخصم له في هذه (106آ4) الصورة؛ لأنه لا يدعي عليه شيئاً ولا في يده شيء، وإنما يدعي ديناً على الغير وأنه ليس يحلف عن ذلك الغير ليسمع الدعوى عليه بطريق الخلافة فلا يسمع دعواه، وإذا لم يسمع دعواه لا يحلف المدعى عليه، ولو أقام بينة لا تسمع بينته والله أعلم. الفصل السابع والعشرون: في الحبس والملازمة يجب أن يعلم بأن الحبس لأجل الدين مشروع ثبت شرعيته بقوله عليه السلام

«لصاحب الحق اليد واللسان» ، والمراد من اليد الحبس وقال عليه السلام: «مطل الغني ظلم يحل عقوبته» ، والحبس نوع عقوبة، والخلفاء الراشدون حبسوا من غير نكير منكر، والمعنى في ذلك أن المديون تعدى على صاحب الحق بمنع ماله عنه، وحال بينه وبين منافع ماله، فيحال بينه وبين منافع نفسه، ليكون حيلولة بإزاء حيلولة قال الله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة: 149) . وإذا جاء رجل برجل إلى القاضي وأثبت عليه ماله ببية أو أقر الرجل له، فالقاضي لا يحبسه من غير سؤال المدعي هذا هو مذهبنا. وقال شريح رضي الله عنه: يحبسه من غير سؤال المدعي، وإذا سأل المدعي عن ذلك، ذكر في كتاب «الأقضية» إن القاضي لا يحبسه في أول الوهلة ولكن يقول له قم فارضه، فإن عاد مرة أخرى حبسه، ولم يفصل بين الدين الثابت بالإقرار، وبين الدين الثابت بالبينة وهو اختيار الخصاف رحمه الله؛ لأن الحبس جزاء الظلم بمنع الحق، وذلك لا يظهر في أول الوهلة؛ لأن من حجة المديون أن يقول في فصل الإقرار إنما لم أؤد الدين لظني أنك تمهلني، فإن أثبت أن يمهلني أؤدي في الحال، وفي فصل البينة يقول ما كنت عالماً بالدين قبل هذا. والمذهب عندنا أن في فصل البينة يحبس في أول الوهلة، وفي فصل الإقرار لا يحبس في أول الوهلة؛ لأن الحبس جزاء الظلم ولم يظهر الظلم في فصل الإقرار لما مر، وفي فصل البينة ظهر الظلم؛ لأنه ظهر المماطلة، حتى احتيج إلى البينة. ثم في فصل الإقرار إذا لم يحبسه في أول الوهلة هل يحبسه في المرة الثانية؟ ذكر في بعض الروايات أنه يحبسه، وذكر في بعضها أنه لا يحبسه إنما يحبسه في المرة الثالثة. وفي «نوادر هشام» قال سألت محمد رحمه الله عن الحاكم إذا تقدم إليه الرجل وعليه دين أقر به، فأخبرني أن أبا حنيفة رضي الله عنه قال: لا أحبسه أول ما قدم به، قال: وهو قول محمد رحمه الله، إلا أن محمداً رحمه الله قال: أقدم وأقول: إن أعادك إليّ ولم تعطه حبستك، قلت: فإن أعاده إليك من يومه ولم يعطه قال: هذا قريب قلت: قرب وقت ثلاثة أيام فكأنه لم يره إلا أنه قال: هو حسن ثم إذا جاء أوان الحبس، فإن عرف القاضي يساره حبسه، وإن لم يعرف يساره لا يسأله ألك مال هذا هو ظاهر مذهب أصحابنا رحمهم الله. وقال الخصاف رحمه الله: الصواب عندي أن القاضي يحبسه حتى يسأله ألك مال ويستحلف على ذلك، فإن أقر أن له مالاً حبسه وإن قال: لا مال لي قال للطالب أثبت أن

له مالاً حتى أحبسه وهو مذهب بعض القضاة، وهكذا روي في «النوادر» : عن أصحابنا رحمهم الله أن القاضي يسأله ألك مال وهل يسأل المدعي أله مال؟ فظاهر مذهب أصحابنا أنه لا يسأل إلا إذا طلب المدعى عليه ذلك، فإن طلب المدعى عليه ذلك، وسأل القاضي المدعي، فإن قال: لا مال له ثبتت عسرته بإقراره، والمعسر ينظر بإنظار الله تعالى. وإن قال المدعي: إنه موسر وقال المطلوب: لا بل أنا معسر فقد اختلفت الروايات فيه، واختلف فيه المشايخ أيضاً: فاختيار الخصاف وهو رواية عن أصحابنا أن القول قول المديون؛ لأنه متمسك بالأصل؛ لأن الفقر أصل في الآدمي، فإنه يولد ولا مال له وصاحب الدين يدعي أمراً عارضاً والتمسك بالأصل واجب، حتى يظهر خلافه، وكان القول قول المديون مع اليمين وهو اختيار أبي عبد الله البلخي. وهكذا روي في بعض الروايات عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمها الله أن كل دين أصله مالاً كثمن البياعات والعروض، فالقول قول المدعي في يساره وعسرته؛ لأنه عرف دخول شيء في ملكه وعرف قدرته على قضاء الدين بما دخل في ملكه وزوال ذلك عن قضاء الدين بما دخل في ملكه، وزوال ذلك عن ملكه محتمل، فكان القول فيه قول المدعي وكل دين لم يكن أصلاً مال كالمهر وبدل الخلع وما أشبه ذلك، فالقول فيه قول المدعى عليه؛ لأنه لما لم يدخل شيء في ملكه لم يعرف قدرته على قضاء الدين، فبقي متمسكاً بالأصل وهو العسار، فيكون القول قوله. وذكر محمد رحمه الله في النكاح والعتاق ما يدل على هذا، فإنه قال في النكاح: وإذا ادعت المرأة على زوجها أنه موسر، وادعت نفقة الموسرين، وزعم الزوج أنه معسر، فالقول قول الزوج لأنه لم يدخل بسبب وجوب النفقة في ملكه ما يثبت به يساره. وقال في العتاق في أحد الشريكين إذا أعتق العبد المشترك وزعم أنه معسر فالقول قوله؛ لأنه لم يدخل في ملكه شيء يثبت به قدرته على قضاء الدين بما وجب عليه من الضمان، فكان متمسكاً بأصل العسرة، فيكون القول قوله، وقال بعضهم: ما كان سبيله سبيل البر والصلة، فالقول فيه قوله أنه معسر كما في نفقة المحارم وما أشبه ذلك، وفيما سوى ذلك القول قول المدعي. وقال بعضهم: كل دين لزم بمعاقدته، فالقول فيه قول المدعي، وإن لزم حكماً لا لمباشرته العقد، فالقول فيه قول المديون، والفرق أن فيما لزمه بمعاقدته وجد ما يدل على قدرته على قضائه ظاهراً؛ لأن الظاهر أن الإنسان لا يشرع في أمر لا يقدر على الخروج منه، ولا يلتزم ما لا يمكنه الوفاء به، فإذا ادعى أنه عاجز، فقد ادعى أمر الخلاف الظاهر فلا يقبل ذلك منه، فأما فيما يلزمه حكماً لا بمباشرته، فلم يوجد ما يدل على قدرته، ومسألة النفقة بالموت وكذلك ضمان العتق صلة على قول أبي حنيفة. وقال الفقيه أبو جعفر البلخي: يحكم فيه الزّي والهيئة إن كان عليه ثياب رديئة، وأتى الحاكم حافياً على صفة تشهد أنه فقير كان القول قوله أنه فقير، وإن رآه حسن

الثياب مرتفع السلب، فالقول قول المدعي في أنه موسر إلا في أهل العلم والأشراف كالعلوية والعباسية، فإنهم يتكلفون للباسهم مع حاجتهم حتى لا يذهب ماء وجههم فلا يكون الزيّ فيهم دليلاً على اليسار. وتحكيم الزي ممهد في أصول الشرع حتى حكم الزي في باب الزكاة في جواز الصرف إلى من رأى عليه زي الفقر فكذلك هذا، فإن كان على المطلوب زي الفقر، فادعى الطالب أنه قد كان عليه زي الأغنياء ولكن غير زيه حين حضر مجلس الحكم، فإن القاضي يسأله البينة، فإن أقام البينة سمع منه وكان القول قوله، وإن لم يقم يحكم زيه في الحال ويكون القول قول المديون. قال محمد رحمه الله في كتاب الحوالة: ويحبس في الديون كلها كائناً من كان من أم أو عم أو خال أو زوج أو زوجة أو امرأة، أو رجل مسلماً كان أو ذمياً أو حربياً مستأمناً أو صحيحاً أو زمنا أو مقعداً أو أشل أو أقطع اليدين؛ لأن الدين على هؤلاء، وبهذه العوارض لا تسقط المطالبة، فكان الامتناع منهم مع القدرة على الأداء ظلماً فاستوجب، قال إلا أن يكون أباً أو أماً فإنه لا يحبس واحد من الأبوين بدين الابن، وكذلك لا يحبس الجد والجدة وإن علوا. عن أبي يوسف رحمه الله أنه يحبس؛ لأن سبب الحبس الظلم لمنع الحق عن المستحق، وقد وجد، وجه ظاهر الرواية أن الحبس هلاك معنى باعتبار انقطاع منافع نفسه عنه. ولا يجوز للابن أن يسعى إلى إهلاك واحد من أبويه وأجداده، قال: إلا أن تجب عليها نفقته فكل من أجبرته على النفقة، وإني حبسته أباً أو أماً أو جداً أو جدة أو زوجاً؛ لأن في ترك الإنفاق عليهم سعي إلى إهلاكهم، ويجوز أن يحبس الوالد لقصد إتلاف الولد، أو يعاقب لدفع التلف عن ولده، يوضحه: أن النفقة إنما تجب عليه، لأولاده الصغار أو الإناث أو الرجال الكبار الزمنى إذا كانوا معسرين؛ لأنهم عاجزون عن الكسب فبمنع الإنفاق عليهم سعى إلى إهلاكهم، فلهذا يحبسون بذلك. والمكاتب والعبد التاجر والصبي الحر المأذون له في الحبس بمنزلة ما وصفت لك، أما المكاتب فلأنه هو بدأ فإذا كان عنده من الكسب ما يقدر على قضاء الدين، ولم يقض صار ظالماً فيستحق العقوبة، وكذلك العبد التاجر؛ لأنه هو المخاطب بقضاء من كسبه، وأما الصبي الحر فقد ذكر في بعض المواضع: الغلام التاجر الذي لم يحتلم بمنزلة الرجل في الحبس. وذكر في بعض المواضع لو أن غلاماً لم يراهق الحلم (106ب4) استهلك مالاً لرجل وله دار وأرض ولا أب له ولا وصي لم يحبس لذلك، ولكن إن شاء القاضي جعل له وكيلاً ببيع بعض ماله حتى يوفي الطالب دينه، وإن كان له أب أو وصي ممن يجوز بيعه بأنه يحبس، وبعض مشايخنا رحمهم الله مالوا إلى الحبس مطلقاً وجعلوه كالبائع؛ لأنه لزمه قضاء الدين، وبالامتناع صار ظالماً فيحبس؛ ولأنه لو لم يحبس وعرف الناس منه ذلك لا يبايعونه حتى لا يمتنع من قضاء الدين، فلا يمكنهم الوصول إلى حقهم، فشرع

الحبس تتميماً لمعنى الإذن كما جوزنا الإعادة والضيافة اليسيرة منه، حتى لا تفسد عليه التجارة فها هنا أولى أو يقول: يحبس تأديباً حتى ينزجر ولا يعود لمثله لا أن يكون عقوبة، فإنه ليس من أهله هذا كما قلنا: إنه يضرب على ترك الصلاة تأديباً حتى يعتاد الصلاة هكذا قاله بعض مشايخنا. وكان شيخ الإسلام يقول: تحبس الصغير إذا كان له وصي تأديباً حتى لا يعود لمثله، وينصح الوصي حتى يتسارع إلى قضاء الدين؛ (لأن الوصي يلازم على إيفاء الوصي في الحبس، فيصح لأجله) ، فيعجل في قضاء الدين وحبس الصبي أولى من حبسه؛ لأن الجناية إنما وجدت من الصبي لا منه، وإن لم يكن له أب أو وصي لا يحبس لنا ثمة أن أحبس تأديباً وإضجاراً للأب أو الوصي وهنا لا يمكن تحقيق معنى الإضجار والحبس في الصبي، فلم يشرع للتأديب وحده بدون الإضجار، فلم يحبس لهذا. فأما إذا كان محجوراً عليه واستهلك لرجل مالاً فإن كان له أب أو وصي يحبس بدينه؛ لأن قضاء الدين الذي على الصغير على أبيه ووصيه فبالامتناع يصير ظالماً فيحبس، وإن لم يكن له أب أو وصي نصب القاضي قيماً ليبيع ما له بقدر الدين ويوفي الغرماء حقهم؛ لأن الحبس جزاء منع المال مع القدرة عليه عند استحقاق القضاء، ولم يستحق عليه لمكان حجره فلا يعاقب بالحبس، ولكن القاضي يوفي الغرماء حقوقهم بالطريق الذي قلنا. والعبد لا يحبس لمولاه، لأن المولى لا يستوجب على عبده ديناً، وكذلك لا يحبس المولى لعبده إذا لم يكن عليه، فكسبه ملك المولى، فكيف يستحق على المولى قضاء الدين إياه، وإن كان مديوناً حبس فيه؛ لأن اكتسابه حق الغرماء فإنما يحبس المولى بحق الغرماء حتى يصلوا إلى ديونهم مما عليه، ويجوز حبس المولى لجانب الأجانب، ويحبس مولى المكاتب للمكاتب إذا لم يكن الدين من جنس بدل الكتابة؛ لأنه إذا كان من جنس بدل الكتابة، فقد ظفر بحبس حقه فيلتقيان قصاصاً، فلم يكن للمكاتب ولاية مطالبته بذلك الدين.v فأما إذا كان من غير جنس بدل الكتابة فلا تقع المقاصة، والمكاتب في حق اكتسابه بمنزلة الحر، فيكون له مطالبة المولى بذلك فيحبس له عند مطله. قال بعض مشايخنا رحمهم الله: ينبغي أن لا يحبس المولى فيه أصلاً؛ لأن للمولى في مكاتبه حقاً، فلم يتحقق الظلم من كل وجه بالمنع، والأصح ما ذكرنا أنه ليس للمولى استخلاص شيء من المكاتبة لنفسه، والمكاتب أحق من المولى يطالبه متى شاء، فإذا منع حقه يحبس له ولا يحبس المكاتب لمولاه بدين الكتابة؛ لأنه لا يصير ظالماً بالامتناع عن بدل الكتابة، فإن له أن لا يؤدي ويرد نفسه في الرق والحبس جزاء الظلم ولم يوجد، وإن كان عليه دين غير بدل الكتابة يحبس فيه؛ لأنه لا يتمكن من فسخ بسبب ذلك الدين. قال بعض مشايخنا رحمهم الله: يجب أن يكون الجواب فيهما سواء، فإن في جميع الأحكام لم يفرق بينهما في حق المولى، ألا ترى أن الكفالة ببدل الكتابة للمولى كما لا تجوز الكفالة بدين آخر للمولى عليه، والجامع بينهما أنه متمكن من إسقاط الدين

عن نفسه، فإن تعجزه نفسه يرد رقيقاً فيسقط الدين عنه، ولكن في ظاهر الرواية لم يعتبر ديناً على الحقيقة، فإنه صلة من وجه بخلاف سائر الديون، فلا يحبس فيه ويحبس في سائر الديون؛ ولأن القاضي إنما يحبس المديون إذا عجز القاضي عن إيصال حق المدعي إليه بدون الحبس، حتى إذا قدر لم يكن له أن يحبسه؛ لأنه لا حاجة إلى الحبس، وها هنا قدر على ذلك؛ لأنه متى امتنع عن أداء بدل الكتابة، فللقاضي أن يفسخ الكتابة فيصل إليه الرقية ووصول الرقية كوصول بدل الكتابة بخلاف دين آخر؛ لأنه متى امتنع عن أداء ذلك الدين ولم يمتنع عن أداء بدل الكتابة ليس للقاضي أن يفسخ الكتابة، حتى تصل إليه الرقية، فتعين الحبس طريقاً للوصول إلى حقه. فأما في الكفالة فالكفيل إنما يتحمل ما على الأصيل والأصيل مخير في جميع الديون إن شاء أدى وإن شاء عجز، وأسقط عن ذمته ولا يمكن إيجابه على الكفيل على هذا الوجه؛ لأنه لا يفيد فيطلب الكفالة وهذا المعنى يشتمل دين الكتابة وسائر الديون، فلهذا سوي بينهما. ويحبس في الحدود القصاص إذا قامت البينة حتى يسأل عن الشهود؛ لأنه صار بهما، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «حبس رجلاً بالتهمة» ، فأما قبل إقامة البينة فإنه لا يحبسه؛ لأن الحبس عقوبة، فلا يجوز أن يثبت بمجرد الدعوى، فإن شهد شاهد واحد عدل بذلك حبسه عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما لا يحبسه في حد القذف والقصاص؛ لأن عندهما في حد القذف والقصاص يأخذ منه كفيلاً، فقد حصل التوثق فلا حاجة إلى الحبس، وعند أبي حنيفة لا تجوز الكفالة في جميع الحدود، فيحتاج إلى التوثق فحبسه؛ لأنه صار متهماً بارتكاب الكبيرة بشهادة هذا الشاهد؛ لأنه وجد أحد شطري الشهادة وهي العدالة إن لم يوجد العدد دون العدالة، بأن شهد شاهدان مستوران وثمة يحبسه كذا هاهنا، ولا يحبس العاقلة في الدية والأرش؛ لأنه وجب ليؤخذ من عطائهم وقد أمكن إذا كانوا من أهل الديوان فلا معنى للحبس حتى إذا لم يكونوا من أهل الديوان ولا عطاء لهم فيه يحبسون؛ لأن الدية في أموالهم فحبسون إذا امتنعوا عن الأداء، لأنه تحقق ظلمهم يمنع الحق عن المستحق، فصار كسائر الديون، فيحبسون. وإن طلب المدعي اليمين في القصاص، فامتنع عنه المدعى عليه ونكل، فإنه يحبس عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وقد مرت المسألة؛ لأنه يقضي عليه بالمال بالنكول عن اليمين في القصاص بالنفس، فكان اليمين مستحقاً عليه، لعيبه فيحبس عند الامتناع منه وكذلك في اليمين في القسامة ويحبس الدعار، والذين هم مخوفون على المسلمين وأهل الفساد حتى يعرف منهم التوبة، والداعر من يقصد إتلاف أموال الناس وأنفسهم أوكلاهما، فإذا كان يخاف على الناس منه في النفس والمال حبس في السجن، حتى

تظهر منه التوبة؛ لأنه إنما يندفع شره عن الناس بالحبس. ألا ترى أن الله تعالى أمر في حق قطاع الطريق بالحبس الدائم، قوله تعالى: {أو ينفوا من الأرض} (المائدة: 33) لما أنه يخاف الناس منهم على أموالهم في الطريق، فكذا ها هنا يحبس أيضاً؛ لأنه يخاف منه وينبغي أن يكون للنساء محبس على حدة تحرزاً عن الفتنة. وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أن المرأة تحبس في مجلس النساء ولكن يحفظها الرجال؛ لأن الرجال أقدر على الحفظ من النساء ولا تتحقق معنى الفتنة في الحفظ. وإذا حبس كفيل الرجل بأمره بالمال فللكفيل أن يحبس الذي عليه الأصل؛ لأن الأصيل هو الذي أوقعه في هذه الورطة، فكان له أن يحبسه حتى يخلصه عنها. ألا ترى أن الكفيل لو طولب بالمال كان له أن يطالب الأصيل، فإذا لوزم كان له أن يلازم الأصيل، وإذا أخذ من الكفيل كان له أن يأخذ من الأصيل وطريقه ما قلنا. فإن حبس رجل في دين فجاء آخر يطالبه بالدين، فإن القاضي يخرج المطلوب حتى يجمع بينه وبين المدعي، لأنه إنما يحبس بدين الأول نظراً للأول حتى يصل إلى حقه، فلا ينظر له على وجه يضر بغيره؛ ولأنه لا ضرر على الأول في الإخراج من السجن لسماع الدعوى عليه ثم يعاد فيه، فقلنا: بأنه يخرج من السجن ويجمع بينه وبين المدعي، فإن قامت للمدعي بينة عادلة أو أقر أعاده إلى السجن، وكتب في ديوانه أنه محبوس بحق هذا المدعي أيضاً مع الأول؛ لأنه ظهر أنه ظلمه بمنع حقه عنه، فاستحق الحبس ليضجر فيسارع إلى قضاء دينه ولا تنافي بين أن يكون محبوس الأول والثاني، فلهذا يحبسه لهما حتى يقضي دينهما جميعاً، ولكن ينبغي أن يكتب في ديوانه أنه محبوس بدين فلان وفلان يسميهما حتى إذا قضى دين أحدهما يبقى محبوساً بالآخر. قال محمد رحمه الله في كتاب الحوالة: إذا حبس الرجل بالدين شهرين أو ثلاثة سأل القاضي عنه في السر وإن شاء سأل عنه في السر أول ما يحبسه، ذكر في كتاب الحوالة شهرين أو ثلاثة، وذكر في بعض المواضع أربعة أشهر، وفي رواية الحسن عن أبي (107أ4) حنيفة رضي الله عنه ستة أشهر. وفي رواية الطحاوي عن أبي حنيفة رضي الله عنه شهراً، وكثير من مشايخنا أخذوا برواية الطحاوي، وبعض مشايخنا قالوا: القاضي ينظر إلى المحبوس إن رأى عليه زي أهل الفقر وهو صاحب عيال، فشكوا عياله إلى القاضي البؤس وضيق النفقة وكان ليناً عند جواب خصمه خلاه شهراً، ثم يسأل وإن رأى في عمل جواب خصمه وعرف تمرده ورأى أن عليه علامة اليسار حبسه أربعة أشهر إلى ستة أشهر، ثم يسأل وإن كان فيما بين ذلك حبسه شهرين إلى ثلاثة أشهر ثم يسأل وبه يفتي الشيخ الإمام الأجل ظهير الدين المرغنياني، وكثير من مشايخنا قالوا: ليس في هذا التقدير تقدير لازم. وفي رواية هشام عن محمد رحمه الله ما يدل على هذا القول، فقد روى هشام عن محمد رحمه الله أن القاضي يسأل عن حال المحبوس ولا يعتبر في ذلك مدة؛ وهذا لأن

الحبس للإضجار وذلك مما يختلف فيه أحوال الناس، فيكون ذلك مفوضاً إلى رأي القاضي، فإن وقع في رأيه أن هذا الرجل يضجر بهذه المدة ويظهر المال إن كان له مال ولم يظهر فيسأل عن حاله بعد ذلك، فإن سأل عنه وقام البينة على عسرته أخرجه القاضي من السجن ولا يحتاج إلى لفظة الشهادة، بل إذا أخبر بذلك كفى وإن أخبره بذلك ثقة عدل أخرجه بقوله من السجن، لأن ما سبيله سبيل الأخيار يكتفي فيه بقول الواحد كالأخبار بالتوكيل والعزل وأشباه ذلك، ثم إذا سأل القاضي عنه فإنما يسأل عنه أهل الجيرة من جيرانه ومن يخالطهم في المعاملة؛ لأن الجيران أعرف بحاله؛ لأنهم يعرفون أنه يتَصدق أو يتصدق عليه، ويعرفون مدخله ومخرجه، وكذلك من يخالطه في المعاملة والتجارة؛ لأنه أعلم بيساره وعسرته، وكذلك أصدقاؤه وإنما يسأل الثقاة منهم؛ لأنه لا يجوز الاعتماد على خبر الفساق. قال شيخ الإسلام رحمه الله في «شرحه» : هذا السؤال بالنفي والشهادة، بالنفي ليست بحجة، وكان للقاضي أن لا يسأل ويعمل برأيه، ولكن لو سأل مع هذا كان أحوط وأنفى للتهمة عن القاضي، ثم إذا أخبر أنه معسر، وأخرجه القاضي من السجن لا يحول بين الطالب وبين ملازمته عند بابه، ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ربما يظهر له مال، فإذا لازمه أمكنه الوصول إلى حقه، ثم تفسير الملازمة أن يدور معه حيث دار ويكون معه لا يفارقه، وليس له أن يحبسه في موضع جلوسه؛ لأن ذلك حبس وليس له حق الحبس؛ هكذا ذكر في الأصل. وذكر ابن سماعة في «نوادره» : عن محمد رحمه الله أنه قال للمدعي: أن يحبسه في مسجد حيه، وإن شاء في بيته؛ لأنه ربما يطوف به في الأسواق والسكك من غير حاجة وفي ذلك ضرر للمدعي، وعن عمرو ابن أبي عمر عن محمد رحمه الله قال: قالوا في المصر: لصاحب الحق أن يلزمه حيث أحب من المصر، فإن كان الملزوم لا معيشة له إلا من كد يده لم يكن لصاحب الحق أن يمنعه من أن يسعى في مقدار قوته يوماً فيوماً، فإذا اكتسب في ذلك القدر في يومه، فله أن يمنعه من الذهاب في ذلك ويحبسه. قال هشام: سألت محمد رحمه الله عن رجل أخرج من الحبس على تفلس، فرأى محمد رحمه الله الملازمة مع التفليس، وأشار إلى المعنى فقال لعل عنده شيء لا علم لنا به، ذكر الملازمة وأراد بها الحبس في موضع، بدليل تفريعات المسألة قال هشام: قلت له: فإن كانت الملازمة تضير بعياله وهو ممن يكتسب في سقي الماء في طوفه، قال: آمر صاحب الحق أن يوكل غلاماً له يكون معه ولا يمنعه عن طلب قدر قوت يومه له ولعياله، وكذلك إن كان يعمل في سوقه قال: وإن شاء تركه أياماً يعني هذا المفلس ثم لازمه على قدر ذلك، قلت: فإن كان عاملاً يعمل بيده قال: إن كان عملاً يقدر أن يعمله حيث يحبس لازموه، ويعمل هو ثمة، وإن كان عملاً لا يقدر إلا على الطلب خرج وطلب، فإن كان في ملازمته ذهاب قوته وقوت عياله أمر به أن يقيم له كفيلاً بنفسه ثم يخلي سبيله فليسترزق الله تعالى.

وفي كتاب «الأقضية» : إن كان العمل سقي الماء ونحوه ليس لصاحب الحق أن يمنعه من ذلك، ولكن إما أن يلزمه أو يلزمه نائبه أو أجيره أو غلامه إلا إذا كفاه نفقته ونفقة عياله، وأعطاه حينئذٍ كان له أن يمنعه من ذلك؛ لأنه لا ضرر على الملزوم في هذه الصورة، وفيه أيضاً ليس لصاحب الحق أن يمنع الملزوم أن يدخل في بيته لغائط أو غداء إلا إذا أعطاه الغداء وأعد موضعاً آخر له لأجل الغائط حينئذٍ أن يمنعه من ذلك حتى لا يهرب. وفي نوادر أبي يوسف رحمه الله إذا لازم الطالب المطلوب بغلامه، فأبى الغريم أن يحبس مع الغلام وقال: لا أحبس إلا مع الطالب، فله ذلك، وفيه أيضاً إذا كان المطلوب يطوف بالطالب من غير حاجة وعلم ذلك منه كان للطالب أن يهيئ له بيتاً ويلزمه فيه، ولكن إذا أعطاه نفقته ونفقة عياله؛ لأنه لا ضرر على المطلوب حينئذٍ. وحكى عن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله: أن الطالب لا يلازم المطلوب بالليالي؛ لأن الملازمة بالليالي لا تفيد؛ لأن فائدة الملازمة أن المطلوب إذا اكتسب شيئاً فالطالب يأخذ ذلك، والليالي ليست وقت الكسب، فلا يتوجه وقوع المال في يده فيها، حتى لو كان الرجل ممن يكتسب في الليالي يلازمه وسيأتي بعد هذا في حق المرأة الملازمة في الليالي من غير فصل. وعن محمد رحمه الله أن للطالب أن يلازم الغريم، وإن لم يأمره القاضي بملازمته، ولأفلته إذا كان مقراً بحقه، فإن قال الغريم: احبسني وأبى الطالب إلا الملازمة قال: يلازمه، وعنه أنه سئل عن ملازمة المرأة، فقال: آمر غريمها أن يأمر امرأة حتى تلازمها، فقيل إن لم يقدر الغريم على امرأة تلازمها قال أقول لغريمها: اجعل معها امرأة تكون معها في بيتها وتكون أنت على الباب أو تكون المرأة في بيت نفسها وحدها ويكون الغريم على الباب، قيل له: إذا هربت المرأة وتذهب قال: ليس له إلا ذلك. وذكر ابن رستم عن محمد رحمه الله أنه يلازم في موضع لا يخاف عليها الفتنة كالمساجد والأسواق ونحو ذلك إن شاء برجال، وإن شاء بنساء، وهذا في النهار، فأما في الليل فيلازمها بالنساء لا محالة والحاصل أنها تلازم على وجه يقع الأمن عن الفتنة من كل وجه. ذكر هلال في كتاب الوقف إذا شهد الشهود بعد مضي المدة أنه فقير، فالقاضي لا يخلي سبيله حتى يسأل في السر وأنه حسن، فإن وافق خبر السر شهادة والشهود لا يخلي سبيله أيضاً: حتى يستحلف المحبوس؛ لأنه لا يعرف مال المحبوس وغناه على الحقيقة غيره إنما يعرفه هو فيستحلف، ثم يخلي سبيله، وإن خالف خبر السر بشهادة الشهود أخذ بخبر العدل في السر؛ لأنه مثبت والشهادة باقية، فإن أقام المحبوس بينة على عسرته، وأقام صاحب الحق بينة على يساره أخذ بينته؛ لأنه يثبت أمراً أصلياً وهو الفقر، وكانت بينة صاحب الحق أكثر إثباتاً، فكانت أولى بالقبول، ولم يذكر محمد رحمه الله في شيء من الكتب كيفية الشهادة على الإفلاس.

وذكر الخصاف رحمه الله في «كتاب الوقف» أنه ينبغي أن يشهدوا أنه فقير لا يعلم له مالاً ولا عرضاً من العروض يخرج بذلك عن حالة الفقر. وحكي عن الفقيه أبي القاسم رحمه الله أنه قال: ينبغي أن يقولوا: إنه مفلس معدم لا نعلم له مالاً سوى كسوته التي عليه وثياب ليله، وقد اختبرنا أمره في السر والعلانية وهذا أتم وأبلغ، ثم إذا ثبت عسرته، فالقاضي لا يحبسه بعد ذلك ما لم يعرف له مالاً؛ لأنه علم أنه ينظر بأنظار الله تعالى. وإن قامت البينة على عسرته قبل الحبس هل يقبلها القاضي؟ فيه روايتان: في رواية يقبل وهو اختيار الشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله. وفي رواية أخرى لا يقبل وهو اختيار المشايخ؛ لأنها قامت على النفي، فلا يقبل إلا إذا تأيدت بمؤيد، فإذا مضت في الحبس مدة لو كان قادراً على القضاء لما تحمل مرارة الحبس إلى هذه المدة، ولتسارع إلى قضاء الدين ولم يقض، فالظاهر أنه معسر فقد تأيدت هذه البينة بمؤيد فيقبل، وإن قامت البينة على عسرته بعدما مضت مدة في الحبس، وكان الطالب غائباً فالقاضي لا ينتظر حضور الغائب بل يخرجه من السجن؛ لأنه إذا ثبت عسرته كان استدامة حبسه ظلماً، والقاضي نصب لدفع الظلم إلا لأسبابه فيخلي سبيله، ولكن يأخذ منه كفيلاً؛ لأنه لو لم يأخذ منه كفيلاً ربما يهرب (فبقي حضر) الغائب لا يتوصل إلى حقه بالملازمة وغيرها. وإذا كان الرجل محبوساً بدين رجلين، فأدى إلى أحدهما لم يخرج من السجن حتى يؤدي حق الآخر حتى لو تفرد بالدعوى كان له أن يحبسه؛ لأنه ظلمه بمنع حقه عنه، فكان له أن يديم الحبس لذلك. وفي نوادر «ابن سماعة» : عن محمد رحمه الله: إذا مات الرجل وفي الورثة صغير وكبير وللميت على رجل دين، فحبسه الابن الكبير ثم أراد أن يطلقه لم يطلقه القاضي حتى يستوثق للصغار؛ لأن للصغار فيه نصيباً (107ب4) . والقاضي نصب ناظراً لهم، فيستوثق لهم لإحياء حقوقهم، ولا يسقط حقهم بإسقاط الكبير؛ لأنه لا ولاية للكبير عليهم، ولا يخرج المحبوس في الدين لمجيء شهر رمضان، ولا لفطر ولا لأضحى ولا لجمعة ولا لصلاة مكتوبة ولا لحجة مفروضة ولا لحضور جنازة بعض أهله، وإن أعطى كفيلاً بنفسه؛ لأن الحبس إنما شرع ليضجر، فيتسارع إلى قضاء الدين، وإنما يلحقه الضجر إذا منع عن الخروج أصلاً. وذكر علي بن يزيد الطبري في «نوادره» ، فقال: سألت محمد بن الحسن رحمه الله عن المحبوس إذا مات له والد أو ولد، هل يخرج من حبسه؟ قال: لا إلا أن لا يجد من يكفنه ويغسله ولم يكن بحضرته أحد فليخرج حينئذٍ، وهذا صحيح؛ لأنه لزم القياس بذلك

لحق الوالدين، وليس في هذا القدر من الإخراج شيء كثير ضرر بالطالب فيخرج، أما إذا كان ثمة من يقوم بذلك لا معنى لإخراجه من السجن، لأن من حقوق الميت تصير مقاماً بغيره وفي الخروج تفويت حق الطالب في الحبس. قال علي بن زيد: ولا يخرج لغير الوالدين والمولودين؛ لأنه لا حق لهم عليه في ذلك، ألا ترى إذا مات للمسلم أب كافر يتولى غسله ويكفنه ويدفنه، ولا يفعل لغيرهما، فكذلك لا يخرج. وحكي عن الشيخ أبي بكر الإسكاف أنه قال في المحبوس في السجن إذا جن: لم يخرجه الحاكم من السجن، فقيل له: أليس قد رفع القلم عنه قال: النائم قد رفع عنه القلم، ومع هذا لا يخرج، قيل له: المقضي عليه بالقصاص إذا جن لا يمضي عليه القصاص، فإذا سقط عنه القصاص بحياته لم لا يسقط عنه عقوبة الحبس بعذر الجنون، قال: لأن القصاص يندرئ بالشبهات، ولعله لو كان مغيباً يدعي ما يوجب سقوط القصاص، فأوجب ذلك شبهة، فأما الحبس بالدين بخلافه؛ لأنه لا يندرئ بالشبهات. وذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : أن المحبوس في السجن إذا مرض مرضاً أعياه إن كان له خادم يخدمه لا يخرج من السجن؛ لأن الحبس إنما شرع ليضجر قلبه، فيتسارع إلى قضاء الدين وبالمرض يزداد الضجر فيزداد مسارعته إلى قضاء الدين، فلا يخرج من السجن لهذا. ولا يخرج للمعالجة، فإن المعالجة في السجن وفي منزله سواء. وهكذا روي عن محمد حتى قيل له: وإن مات فيها، قال: وإن مات فيها، فقيل له: وإن لم يكن له من يخدمه وإن أخرجوه احتسبوا عليه قال: أخرجوه إذاً، لأنه إذا لم يكن ثمة من يمرضه ربما يموت بسببه، ولا يجوز إهلاكه لمكان الدين، ألا ترى أنه إذا توجه الهلاك عليه بالمخمصة، كان له أن يدفع بمال الغير، فكيف يجوز إهلاكه لأجل مال الغير، عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يخرجه من السجن؛ لأن الهلاك لو كان، إنما يكون بسبب المرض، وهو في الحبس وغيره سواء، فلا معنى للإخراج. وذكر في «الكيسانيات» قال محمد رحمه الله: والمحبوس يبول في السجن ولا يخرج إلى الحمّام؛ لأنه ليس في التبويل إبطال حق المدعي، وفيه إزالة التفت عنه فأما لا يخرج إلى الحمام كما لا يخرج لسائر الحوائج ولو احتاج إلى الجماع، لا بأس بأن يدخل زوجته وجاريته في السجن فيطأهما حيث لا يطلع عليه أحد؛ لأنه غير ممنوع عن اقتضاء شهوة البطن، فلذلك لا يمنع من اقتضاء شهوة الفرج. وذكر ابن شجاع في «نوادره» عن الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رضي الله عنهم، قال: يمنع المحبوس عن وطء الحرائر والإماء؛ لأنه ليس من أصول الحوائج، ألا ترى أن بدون ذلك يعيش ويبقى، فيمنع ليضجر قلبه، فيتسارع إلى قضاء الدين، بخلاف الأكل والشرب؛ لأنه لا حياة بدونهما، فلو منع منهما كان سعياً إلى إهلاكه وإنه لا يجوز.

قال بعض مشايخنا رحمهم الله: ولا يترك المحبوس حتى يأتي بوطاء فتلقى تحته في السجن حتى يكون ذلك أشق عليه، وأبلغ في الضجر، فيحصل المقصود. وهل يترك ليكتسب في السجن؟ اختلف فيه المشايخ، قال بعضهم: لا يمنع من الاكتساب في السجن؛ لأن فيه نظراً من الجانبين من جانب المديون، لأنه ينفق على نفسه وعياله، ولرب الدين فإنه إذا فضل منه يصرف ذلك إليه، وقال بعضهم: يمنع عن ذلك، وهو الأصح وإليه أشار الخصاف رحمه الله؛ لأن المقصود من الحبس أن يضجر فيتسارع إلى قضاء الدين. ولو ترك يكتسب في السجن لا يلحقه الضجر؛ لأن الحبس يصير بمنزلة الحانوت، فلا يضجر بالمقام فيه، فلا يحصل المقصود. ولا يمنع المسجون من دخول أغلمه وجيرانه عليه؛ لأنه يحتاج إلى دخولهم عليه ليشاورهم في قضاء الدين، ولا يتضرر الطالب بذلك فلا يمنع عنه، ولكن لا يمكنون من أن يمكثوا فيه طويلاً ولا أن يسكنوا معه؛ لأنه يستأنس بهم ويزيل الوحشة عن نفسه، فلا يلحقه الضجر في الحبس. ولا ينبغي للقاضي أن يضرب محبوساً في دين، ولا يقيده ولا يقيمه، به ورد الأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه، وروي عن أبي حنيفة رضى الله عنه ما يدل على أن للقاضي أن يقيده، والذي روي عنه: إذا حبس القاضي رجلاً في أمر قد استوجب الحبس، فأقر بمال أوحد أو قصاص لزمه ذلك، وكذلك إن قيد مع ذلك. ولو قال: لا أخرجك من السجن، أو قال: لا أحل القيد عنك أو تصدق، وقد قيده وحبسه في حق مما أقر به لزمه، وإن كان حبسه في غير حق فهذا القول منه تهديد، فلا يجوز ما أمر به في تلك الحالة. قال هشام: سمعت أبا يوسف رحمه الله يقول: إذا قال المدعي: لا أقر ولا أنكر فإن حبسه من يرى حبسه إذا قال لا أقر ولا أنكر حتى يقر أو ينكر، فأقر في الحبس ألزمته المال، قال: وكان أبو يوسف رحمه الله قال قبل ذلك: لا ألزمه المال، ثم رجع عن قوله لا ألزمه، قال: لأني حبسته ليقر أو لينكر، فإن شاء أنكر، قال: إنما يبطل إقراره إذا حبسه ليقر، هذا لفظ أبي يوسف رحمه الله إشارة إلى أن الحبس إذا كان لأجل الإقرار، كان المحبوس مجبراً على الإقرار؛ لأن له أن ينكر فيصح إقراره، فإن كان هذا المحبوس لا يزال يهرب من السجن، يؤدّبه القاضي بأسواط؛ لأنه ظهر منه هتك حرمة سجن القاضي وتمرده وعناده، فيؤدبه بأسواط حتى يمتنع عن ذلك، ويكون عظة لغيره، هكذا روى ابن سماعة عن محمد رحمه الله، وذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أن القاضي إذا خاف على المحبوس أن يفر من سجنه، حق له إلى سجن اللصوص إذا كان لا يخاف عليه منهم؛ لأن القاضي يحتاج إلى حفظه وسجن اللصوص أحصن، والرقباء ثمة أكثر فيحوله إليه، فإن كان يخاف عليه من جهة اللصوص لما أن بينه وبين اللصوص عداوة وعرف أنه لو حوله إليهم، لقصدوه لا يحوله؛ لأن فيه إهلاكه وما استحق عليه الهلاك.g قال محمد رحمه الله عن أبي حنيفة رضي الله عنه في رجل حبسه القاضي في دين

لرجل عليه ألف درهم وله دنانير، قال: يبيعها القاضي ويوفي الغريم، ولو كان عرضاً لم يبعها، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يبيع العروض والعقار حتى يوفي الغريم حقه. اعلم بأن المحبوس في الدين إذا امتنع عن قضاء الدين وله أموال، فإن كان ماله من جنس الدين بأن كان ماله دراهم والدين دراهم، فالقاضي يقضي من دراهمه بلا خلاف؛ لأن صاحب الدين لو ظفر بهذه الدراهم له أن يأخذها قضاء من دينه؛ لأنه ظفر بجنس حقه، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان: «خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف» فكان قضاء القاضي دينه بهذه الدراهم إعانة له على حقه، وللقاضي ولاية إعانة صاحب الحق على استيفاء حقه. وإن كان ماله من خلاف جنس دينه بأن كان الدين دراهم، وماله عروض أو عقار أو دنانير، فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه: لا يبيع العروض والعقار، وفي بيع الدنانير قياس واستحسان، ولكنه يستديم حبسه إلى أن يبيع بنفسه ويقضي الدين، وعندها ببيع القاضي دنانيره وعروضه رواية واحدة، وفي العقار روايتان، ويكون البيع على الترتيب يبيع الدنانير أولاً ثم العروض ثم وثم على ما يأتي بيانه. فالأصل عندها: أن كل من وجب عليه حق وامتنع من إيفاء ما صار مستحقاً عليه، وذلك مما يجري فيه النيابة، فإن القاضي يقوم مقامه في إيفاء ذلك الحق المستحق عليه كالذمي إذا أسلم عنده، فإن القاضي يجبره على البيع، فإن امتنع عن ذلك، فإن القاضي يبيعه عليه، وكالعنين بعد مضي المدة يأمر القاضي بالتفريق، فإن امتنع يفرق بينهما وكذلك امرأة الذمي إذا أسلمت، فإن القاضي يعرض الإسلام على الزوج، فإن أبى أمره بالتفريق، فإن امتنع ناب منابه في التفريق كذا هنا، ولكن أبا حنيفة يقول: المستحق عليه قضاء الدين، أما بيع ماله فغير مستحق عليه؛ لأن القدرة على قضاء الدين يثبت بأسباب: منها الاستفراش (108أ4) والاستيهاب وقبول الصدقة والبيع بالنسبة والاكتساب، فليس للقاضي أن يعين عليه البيع؛ لأن في ذلك إضراراً بالمدعى عليه، ألا ترى أن القاضي لا يزوج المديونة ليقضي الدين من مهرها، وإن كان يتوصل إلى قضاء الدين بذلك؛ لأن النكاح عليها لم يتعين لقضاء الدين، وكذلك لا يؤاجر المديون ليقضي الدين من الأجرة، وإن كان يتوصل إلى قضاء الدين منه؛ لأن الإجارة لم يتعين طريقاً لقضاء الدين، كذا هنا. وهذا لأنه ما دام حياً فالدين واجب في ذمته لا تعلق له بماله، فلا يثبت القاضي اليد عليه فلا يملك البيع. وإن كان الدين دراهم وماله دنانير، فالقياس أن لا يقضي منه دينه في قول أبي

حنيفة، وفي الاستحسان: يبيع الدنانير بالدراهم، ويقضي دينه منها. وجه القياس: أنهما جنسان مختلفان حقيقة وحكماً، فلا يكون له أن يبيعها بذلك الدين كالعروض، ولا شك في اختلاف المجانسة بينهما حقيقة، وكذلك الحكم فإنه لا تجري الربا منهما، وفي مسألتنا ليس لصاحب الدين أن يأخذ الدنانير مكان الدراهم، ولو كانا جنساً واحداً لأخذها كما قلنا فيما إذا كان مال المديون دراهم، فإذا ثبت اختلاف المجانسة بينهما ينبغي أن لا يكون للقاضي ولاية البيع والمبادلة؛ لأنه تصرف في ملك المديون بغير رضاه، وإنه لا يجوز وصار كالعروض والعقار. وجه الاستحسان: أنهما جنسان مختلفان من حيث العين، ولهذا لا يجري الربا بينهما، ولكنهما من حيث المالية جنس واحد، فإنهما خلقا للتقلب والتصرف، ولهذا يكمل نصاب أحدهما بالآخر في الزكاة، وكل حكم يرجع إلى العين فهما جنسان وغيران فيه، وكل حكم يرجع إلى المالية جعلا فيه جنساً واحداً، وحق صاحب الدين في العين ثابت، ولهذا لم يكن له ولاية المطالبة إلا لعين الدراهم، وإن كان له حق في المالية من وجه، ولكن من حيث أن حقه في العين لا يثبت له حق الأخذ، وباعتبار حقه في المالية يثبت له حق الأخذ، فلا يثبت له الأخذ بالشك، فأما ولاية القاضي إنما تثبت من حيث المالية، وهما في المالية كشيء واحد، فكان له ولاية المصارفة وقضاء الدين. وقد ذكرنا في «الجامع» في باب المساومة ذكر في كتاب العين والدين: أن صاحب الدنانير إذا ظفر بدراهم من عليه الدين أو على العكس، كان له أن يأخذ هذا بيان مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه. وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: القاضي يبيع مال المديون بدينه، لكن هذا بدنانيره إذا كان الدين دراهم، فإن فضل الدين عن ذلك يبيع العروض أولاً دون العقار؛ لأن العروض معدة للتقلب والتصرف والاسترباح عليه، فلا يلحقه كسر ضرر في بيعه، فإن لم يف ثمنه بدينه وفضل عنه الدين حينئذٍ يبيع العقار، أما بدون ذلك لا يبيع العقار لأن العقار أعد للاقتناء، فيلحقه ضرر بين في بيعها، فلا يبيع العقار من غير ضرورة، فإذا فضل الدين عن ثمن العروض تحققت الضرورة فيبيع العقار ويقضي الدين من ثمن العقار، وهذا على إحدى الروايتين عنهما. وفي رواية أخرى: لا يبيع العقار أصلاً؛ لأنه غير معدة للبيع، وإنه ما جرى العادة باستحداث الملك في العقار في كل وقت، فأما العروض مال معد للبيع، فإذا امتنع من بيعها ناب القاضي منابه في البيع. وقال بعضهم: يبدأ ببيع ما يخشى عليه التوى والتلف من عروضه، ثم يبيع ما يخشى عليه التلف، ثم يبيع العقار. والحاصل: أن القاضي نصب ناظراً فينبغي أن ينظر للمديون، كما ينظر للغرماء فيبيع ما كان انظر إليه، وبيع ما يخشى عليه التلف أنظر من بيع مالا يخشى عليه فيبدأ به، فإن لم يف ثمنه بالديون يبيع مالا يخشى عليه التلف من العروض؛ لأنه أنظر من بيع العقار، فإن لم يف ثمنه بالديون حينئذ يبيع العقار.

وإذا كان للمديون ثياب يلبسها، ويمكنه أن يجري بدون ذلك، فإنه يبيع ثيابه ويقضي الدين ببعض ثمنها، ويشتري بما بقي ثوباً يلبسه؛ لأن لبس ذلك للتجمل، وقضاء الدين فرض عليه وعلى هذا القياس، ويمكنه أن يجري بما دون ذلك المسكن يبيع ذلك المسكن، ويصرف بعض الثمن إلى الغرماء ويشتري بالباقي سكناً لنفسه، وعن هذا قال مشايخنا: إنه يبيع ما لا يحتاج إليه للحال حتى إنه يبيع اللبد في الصيف والنطع في الشتاء، وإذا كان له كانوناً من حديد أو صفر يبيعه ويتخذ كانوناً من طين، وعن محمد رحمه الله: أن المديون إذا وجد من يدينه إلى أجل، ولا يستدين ولا يقضي يدخل تحت قوله عليه السلام: «لي الواجد يحل عرضه وماله» ، وهذا لأن الواجد ليس هو الغني، بل الواجد من يمكنه قضاء الدين، وقد أمكنه قضاء الدين بهذا الطريق. ثم أي قدر يترك للمديون من ماله ويباع ما سواه؟ لم يذكر محمد هذه المسألة في شيء من الكتب، وقدروي عن عمر بن عبد العزيز ثلاث روايات: في رواية قال: يترك ثيابه وسكنه وخادمه ومركبه؛ لأنه يحتاج إلى ذلك كله، وفي رواية أخرى قال: يترك ثيابه ومسكنه وخادمه، وبهذه الرواية أخذ بعض القضاة، وفي رواية قال: يباع جميع ماله ويؤاجر ويصرف غلته إلى غرمائه. وفي ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله: لا يؤاجر إلا رواية روي عن أبي يوسف رحمه الله وجه ظاهر الرواية أنه لم يتعلق حق الغرماء بمنافع يديه، فلا يؤاجر ولكن إن أجر هو نفسه وأخذ الأجرة ترك له قوت يومه وعياله، ويصرف ما سوى ذلك إلى رب الدين، ومن القضاة من قال: إن كان في موضع الحر يباع ما فوق الإزار، لأن هناك الحاجة إلى ستر العورة لا غير وإنه يحصل بالإزار، وإن كان في موضع البرد يترك له ما يدفع به من البرد حتى لا تباع جبته وعمامته ويباع ما سوى ذلك، ومن المشايخ من قال: يترك له دستاً من الثياب، ويباع ما سوى ذلك، وبه أخذ شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، ومنهم من قال يترك له دستين من الثياب حتى إذا غسل أحدهما لبس الآخر، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله. في «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل عليه دين وهو معسر وله دين على رجل مليء، فإن الحاكم يحبس المعسر حتى يتقاضى ماله على غريمه الموسر، فإن فعل وحبس غريمه الموسر، فإن الحاكم لا يحبس المعسر بما عليه؛ لأنه قضى ما عليه في تقاضي دينه، وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا كان للمعسر دين على غريمه أخذ القاضي غريمه بدينه، وقضى دين غرمائه. وفيه أيضاً: رجل حبس في الكفالة بنفس رجل، ثم علم أن المكفول بنفسه غائب

الفصل الثامن والعشرون: فيما يقضي به القاضي ويرد قضاؤه، وما لا يرد

ببعض الأمصار، قال: آمره أن يأخذ كفيلاً بنفسه ويخرجه من السجن حتى يجيء بالذي كفل به، وكذلك المحبوس بالدين إذا علم أنه لا مال له في هذه البلدة وله مال ببلدة أخرى يؤمر رب الدين أن يخرجه من السجن، ويأخذ منه كفيلاً بنفسه على قدر المسافة، ويأمر أن يبيع ماله ويقضي دينه، ولم يذكر ههنا أن رب الدين لو كان غائباً، ورأيت في موضع آخر أن القاضي يخرج المحبوس من السجن، ويأخذ منه كفيلاً. الحسن عن أبي يوسف: إذا باع أمين القاضي عروض المديون في دينه وقبض الثمن، وهلك، ثم استحق المبيع، رجع المشتري على الغريم، ويرجع الغريم على المطلوب، ويجوز إقرار المحبوس بالدين لغيره بعد أن يحلف بالله ما أقر به على وجه التلجئة، وهذا قول أبي يوسف رحمه الله، وإذا أقر المحبوس بالبيع يحلف المشتري بالله أنه اشترى منه شراء صحيحاً ودفع الثمن إليه، وما كان ذلك تلجئة والله أعلم. الفصل الثامن والعشرون: فيما يقضي به القاضي ويرد قضاؤه، وما لا يرد ما يجب اعتباره في هذا الفصل شيئان، أحدهما: أن قضاء القاضي متى اعتمد سبباً صحيحاً ثم بطل السبب من بعد لا يبطل القضاء؛ لأن بقاء السبب ليس بشرط لبقاء القضاء، ألا ترى أن بقاء السبب لم يشترط لبقاء الحكم، فكذا لا يشترط لبقاء القضاء، وإذا ثبت عدم السبب من الأصل بعد وجوده من حيث الظاهر، فكذلك عند أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر، وعند أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمه الله: يبطل القضاء، وهي مسألة قضاة القاضي في العقود والفسوخ بشهادة الزور، والمسألة معروفة. والثاني: أن استحقاق المبيع على المشتري، يوجب توقف البيع السابق على إجازة المستحق، ولا يوجب نقضه وفسخه في ظاهر الرواية، وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أن الخصومة من المستحق، وطلب الحكم من القاضي ذلك النقض فينقض به البيع كما ينتقض بصريح النقض، حتى لا يعمل إجازة المستحق بعد ذلك، عن أبي يوسف رحمه الله أن أخذه العين بحكم القاضي دليل الفسخ والنقض، فينتقض به حتى لا يعمل إجازته بعد ذلك، وفي ظاهر الرواية لا يكون شيء من ذلك دليل النقض أما الخصومة وطلب (108ب4) الحكم، فلأنهما لإثبات الاستحقاق وإظهاره، والاستحقاق لو كان ثابتاً ظاهراً وقت البيع لا يمنع انعقاد البيع، فظهوره في الانتهاء، لأن لا يوجب النقض والفسخ أولى، والأخذ بحكم القاضي أيضاً محتمل يحتمل التلوم ويحتمل النقض والفسخ والعقد جائز بيقين، فلا يثبت النقض بالشك. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل اشترى من آخر جارية ولم يقبضها حتى استحقها رجل بالبينة، والبائع والمشتري حاضران، وقضى القاضي بها للمستحق، ثم ادعى البائع والمشتري أن المستحق باعها من هذا البائع وسلمها إليه، ثم باعها البائع من

المشتري وأقام البينة قبلت بينته، فقد شرط محمد رحمه الله في «الكتاب» للقضاء بالجارية للمستحق حضرة البائع والمشتري، وأنه شرط لازم حتى لو حضر البائع دون المشتري، أو حضر المشتري دون البائع، فالقاضي لا يقضي بها للمستحق وإنما كان كذلك لأن للبائع يداً وللمشتري ملكاً، والقاضي بالقضاء يبطل الملك واليد، فيكون قضاء عليهما، والقضاء على الغائب لا يجوز، فيشترط حضرتهما ثم إذا قضى القاضي بالجارية للمستحق، فأقام البائع أو المشتري بينة على ما بينا قبلت بينته؛ لأن القضاء بالاستحقاق لم ينقض ذلك البيع في ظاهر الرواية فيبقى البيع بين البائع والمشتري، فكانا خصمين في إثبات هذا البيع، أما البائع فلأنه يؤكد يده في الجارية، وهو محتاج إلى تأكيد يده لمقدرتها على التسليم، وليؤكد حقه في الثمن قبل المشتري. وأما المشتري فلأنه يؤكد ملكه في الجارية، فإنه يثبت الانتقال إلى بائعه، فانتصب خصماً عن بائعه في حق إثبات الانتقال إليه، فهذه بينة صدرت عن خصم على خصم، فقبلت وإذا قبلت هذه البينة تبين أن البائع باع ملك نفسه، وأنها صارت مملوكة للمشتري، فيؤمر بتسليمها إلى المشتري، وإن لم يكن لهما بينة على ما ادعيا، وطلب المشتري من القاضي أن يفسخ العقد بينهما لعجز البائع عن التسليم أجابه القاضي إلى ذلك؛ لأن عجز البائع عن التسليم مطلق للفسخ. أصله: إذا أبق المبيع أو غصب قبل القبض، فإن فسخ القاضي العقد بينهما ثم وجد البائع بينته، وأقامها على المستحق أنه كان اشتراها وقبضها من المستحق قبل أن يبيعها من هذا المشتري قضى القاضي بالجارية للبائع فظاهر، وأما عدم إلتزام المشتري باعتبار أن القاضي فسخ العقد بينهما بسبب قائم، وهو عجز البائع عن التسليم فصح الفسخ ونفذ، وبثبوت الملك للبائع في الحال لا يستبين أن العجز لم يكن، بل كان ثم ارتفع وارتفاع سبب القضاء بعد نفاذ القضاء وصحته لا يوجب بطلان القضاء، كما لو قضى القاضي بفسخ البيع بسبب العيب ثم زال العيب، أو قضى بالفرقة بسبب العنة ثم زالت العنة. وقول محمد في الكتاب ثم وجد البائع البينة، وأقامها على المشتري. يشير إلى أن شرط قبول هذه البينة إقامتها على المستحق، ولو كان المشتري قبض الجارية من البائع واستحقها مستحق بالبينة قضى بها للمستحق، ويشترط ههنا حضرة المشتري لا غير، لاجتماع ملك الرقبة واليد له، وينقض القاضي البيع بينهما على ظاهر الرواية، وإذا طلب المشتري، ويرجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن المبيع استحق من يد المشتري بسبب سابق على الشراء فإن أقام البائع بعد ذلك بينة على المستحق أنه كان اشتراها منه وقبضها قبل أن يبيعها قضى القاضي بها للبائع، وبطل نقض القاضي حتى كان للبائع أن يلزم الجارية المشتري؛ لأن الجارية إذا كانت مسلمة إلى المشتري لم يكن قضاء القاضي بالفسخ بسبب عجز البائع عن التسليم، وإنما كان باستحقاق الملك على المشتري، وبإقامة البائع البينة تبين أن الملك لم يكن مستحقاً عليه، فانعدم سبب الفسخ من الأصل،

فأوجب بطلان القضاء بالفسخ، وهذا قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد رحمه الله. أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر لا يبطل قضاء القاضي بالفسخ، ولا يكون للبائع أن يلزم المشتري لما مر في أول الفصل، ثم عند محمد رحمه الله لما كان للبائع أن يلزم المشتري الجارية وإن أبى، هل للمشتري أن يأخذها من البائع إذا أبى البائع ذلك؟ لم يذكر هذا الفصل هنا. قال مشايخنا: وينبغي أن لا يكون له ذلك، وإليه أشار بعد هذا؛ لأن المشتري لما طلب من القاضي أن يفسخ العقد بينهما، فقد رضي بانفساخ البيع وانفسخ العقد في حقه إن لم ينفسخ في حق البائع فلهذا كان للبائع أن يلزم المشتري ولا يكون للمشتري أن يلزم البائع. هذا إذا فسخ القاضي العقد بينهما، فلو أن القاضي لم يفسخ العقد بينهما، ولكن البائع مع المشتري أجمعا على الفسخ حين استحقت الجارية من يد المشتري، ثم أقام البائع بينة على المستحق على ما قلنا، وقضى القاضي له بالجارية لا يكون له أن يلزم المشتري بلا خلاف؛ لأن الفسخ بالتراضي يثبت مطلقاً، فلا يبطل بعد ذلك، وإن أراد المشتري أن ينقض البيع بعد الاستحقاق من غير قضاء ولا رضى، ليس له ذلك، فالمذهب أنه لا بد لصحة النقض ههنا من قضاء أو تراض منهما، وهذا لأن حق المشتري في العين بعد الاستحقاق على ظاهر الرواية إذ العقد لم ينتقض بمجرد الاستحقاق على ظاهر الرواية، فالمشتري بالنقض يريد نقض حقه من العين إلى الثمن، فلا يملك إلا بقضاء القاضي أو برضى خصمه، وهو نظير ما قلنا في العبد المغصوب إذا أبق من يد الغاصب، وأراد المالك أن يضمنه قيمته ليس له ذلك إلا بقضاء القاضي أو برضى الغاصب، وكذلك المغصوب إذا كان شيئاً مثلياً وانقطع أوانه وأراد المالك أن يضمن الغاصب قيمته ليس له ذلك إلا بقضاء أو رضى الغاصب، والمعنى في الكل ما بينا. وإن كان المشتري لم يطلب من القاضي فسخ العقد بعد الاستحقاق، ولكن طلب من البائع أن يرد الثمن عليه، ورده عليه ثم أقام البائع بينة على المستحق على ما ذكرنا، وأخذ الجارية من المستحق ليس له أن يلزم المشتري إياها؛ لأن الإلزام ينبني على البيع، والبيع قد انفسخ بينهما بتراضيهما؛ لأن المشتري بطلب الثمن رضي بالفسخ، وكذلك باليد بإعطاء الثمن رضي بالفسخ، والفسخ ينفذ بالتراضي ويصح بالتعاطي ظاهراً وباطناً فلا يبقى للبائع ولاية الإلزام بعد ذلك. ولو كان البائع لم يرد الثمن حتى خاصمه المشتري إلى القاضي ففسخ العقد بينهما وألزم البائع الثمن للمشتري فيأخذه منه أو لم يأخذه حتى أقام بينة على المستحق على ما قلنا، وأخذ الجارية، كان له أن يلزم المشتري عند محمد وأبي يوسف الأول؛ لأن الفسخ ههنا لو ثبت ثبت بالقضاء، والقضاء حصل بناء على سبب ظهر انعدامه من الأصل، فأوجب بطلان القضاء عند محمد وأبي يوسف الأول على ما مر. فرع محمد رحمه الله على الفصل الأخير، وهو ما إذا رجع المشتري بالثمن على البائع بقضاء القاضي، فقال: لو أقر البائع أنه نوى الفسخ حين رجع المشتري

عليه وباقي المسألة بحاله لم يكن للبائع أن يلزم المشتري بلا خلاف؛ لأنه حين نوى الفسخ فقد رضي بالفسخ، والعقد متى انفسخ بالتراضي لا يعود أصلاً، فقد أثبت الفسخ من جهة البائع بمجرد النية. وذكر في «الجامع الصغير» : في مشتري الجارية: إذا جحد الشري، وعزم البائع على الفسخ، وهذا مشكل؛ لأن فسخ شيء من العقود لا يقع بمجرد النية، ألا ترى أنه لو كان في البيع خيار شرط أو خيار رؤية، ونوى بقلبه فسخ العقد لا ينفسخ بمجرد نيته، من مشايخنا من قال: لم يرد محمد نوى الفسخ أن يقصد بقلبه الفسخ، وإنما أراد به أن يظهر منه أمارات الرضى بالفسخ بأن عرض الجارية على البيع أو وطئها بعد ما استردها من يد المستحق بإقامة البينة على نحو ما بينا، ولكن هذا بعيد فإنه وضع المسألة فيما إذا أقر البائع أنه نوى الفسخ حين رجع المشتري عليه بالثمن والعرض على البيع والوطء، لا يتصور في تلك الحالة؛ لأن في تلك الحالة الجارية ملك المستحق وفي يديه. ومنهم من قال: تأويله أن البائع حين رد الثمن على المشتري نوى فسخ العقد، وفي مسألة «الجامع الصغير» : عزم على ترك الخصومة بالوطء، فيكون الفسخ بفعل اقترن به النية لا بمجرد النية، وقوله في «الكتاب» : نوى الفسخ حين رجع عليه المشتري أراد به رجوعاً اتصل به الرد. ومنهم من قال الفسخ هنا وقع بقضاء القاضي، إلا أن للبائع أن يبين بالبينة أن الفسخ لم يقع عند محمد وأبي يوسف الأول على نحو ما بينا، وهذا حق له فله تركه وله استيفاؤه فإذا عزم على الفسخ فقد ترك هذا الحق، فعملت بينته في هذا. أما الفسخ بقضاء القاضي رجل اشترى من آخر عبداً بمائة دينار وقبضه وباعه من آخره وقبضة المشتري الثاني، ثم (109أ4) استحقها رجل على المشتري الثاني، فأقام المشتري بينة على المستحق أنه كان باعه من البائع الأول بكذا وسلمه إليه، قبلت بينته في ظاهر الرواية، لأن بالاستحقاق لا تفسخ العقود، فبقيت العقود موقوفة، فيحتاج المشتري الأخير إلى تقرير الملك للبائع الأول والثاني ليتقرر ملكه، فينتصب خصماً فيه، فهذه بينة قامت من خصم على خصم، وليس فيه تغيير القضاء الأول، بل فيه تقرير له وقد أقامها لا على الوجه الذي استحق عليه، فقبلت بينته، وقضى بالغلام له بهذا، فإن لم يقم المشتري بينة علىه ولكن خاصم بائعة، وهو المشتري الأول في الثمن وقضى عليه بذلك ثم إن المشتري الأول أقام بينة على أن المستحق باعه من البائع الأول، وسلمه إليه قبل أن يبيعه منه، وأخذ الغلام منه، هل له أن يلزم المشتري الثاني؟ على قول محمد وأبي يوسف الأول له ذلك، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر (له) ذلك لما ذكرنا، فإن لم يجد المشتري الأول بينة على ذلك، ورجع على البائع الأول بالثمن وقضي له به عليه، فأقام البائع الأول بينة على المستحق على ما ذكرنا، ويأخذ العبد من المستحق كان له أن يلزم المشتري الثاني عند محمد وأبي يوسف الأول لما مر.H وهل للمشتري الأول أن يلزم المشتري الثاني؟ لما رجع على المشتري الأول فقد رضى بانفساخ العقد بينه وبين المشتري الأول، فانفسخ العقد في حقه، لكن لم يظهر الانفساخ في حق المشتري الأول

لعدم الرضى فيه، ولهذا احتيج إلى القضاء عليه بالثمن فإذا رجع هو على البائع الأول فقد رضي بانفساخ العقد، فتم الفسخ بينهما بتراضيهما، وقد ذكرنا أن الفسخ الحاصل بالتراضي يثبت مطلقاً فلا يبطل بعد ذلك. رجل اشترى من آخر غلاماً وقبضه ونقد الثمن، فجاء مستحق واستحقه من يد المشتري بالبينة وقضى القاضي بالغلام للمستحق، ثم أقام المشتري بينة على المستحق أنه كان أمر البائع ببيعه، فباعه بأمره قبلت بينته، لأنه خصم فيه؛ لأنه بهذه البينة تقرر ملكه؛ فإنه يثبت كون البائع وكيلاً من جهة المستحق، وبيع الوكيل يوجب الملك للمشتري، وليس فيه تغيير القضاء الأول، بل هو تقرير له؛ لأن بيع العبد بأمر المستحق إنما ينفذ باعتبار ملكه فقبلت لهذا، فإن لم يقم المشتري بينة على ذلك، ورجع بائعة بالثمن وقضى به، ثم إن البائع أقام بينة على المستحق أنه كان أمره ببيع هذا العبد قبل أن يبيعه ينظر إن كان ما دفع المشتري عين ما قبضه منه أو أمسك المقبوض وردّ مثله، أو استهلك المقبوض وضمن مثله لا تقبل بينته؛ لأنه لا فائدة في قبول هذه البينة؛ لأن فائدة القبول في هذه الصورة، إما إلزام المشتري الغلام أو استرداد ما وقع إلى المشتري، وكل ذلك ممتنع هنا، أما إلزام المشتري الغلام، فلأن البائع لما أثبت الوكالة ظهر أن المستحق كان موكلاً، وقد فسخ العقد مع المشتري حين جحد الشراء، والمشتري قد رضى بذلك الفسخ حين رجع بالثمن على البائع، والعقد متى انفسخ فيما بين الموكل والمشتري بتراضيهما، فالوكيل لا يتمكن من إلزام المشتري ذلك العقد عرف ذلك في موضعه. ولا وجه إلى الثاني؛ لأن العقد لما انفسخ فيما بين الموكل والمشتري بتراضيهما عاد الثمن إلى ملك المشتري، فإن كان قائماً وجب على البائع وهو الوكيل أن يرد عينه، وإن شاء أمسكه ورد مثله، وإن كان الوكيل قد استهلكه ضمن مثله؛ لأن الوكيل يضمن بالاستهلاك فإنما دفع الوكيل للمشتري ما هو عين حقه فلا يكون له ولاية الاسترداد، وإن كان الثمن قد هلك عند الوكيل وضمن الوكيل للمشتري مثله من ماله قبلت بينته؛ لأن له في هذه البينة فائدة، وهو استرداد ما دفع إلى المشتري؛ لأن بهذه البينة يثبت أنه كان وكيلاً، وهلاك الثمن في يد الوكيل لا يوجب عليه ضماناً، فيظهر أن المشتري أخذ ما أخذ بغير حق، فكان للوكيل ولاية الاسترداد، فلهذا قبلت بينته، وإذا قبلت بينته يسترد من المشتري ما دفع إليه، فيأخذ الغلام من المستحق ويدفعه إلى المشتري عند محمد وأبي يوسف الأول. فإن قيل: ينبغي أن لا يكون للوكيل ولاية أخذ الغلام من المستحق لأن العقد انفسخ فيما بين الموكل والمشتري بتراضيهما، فلا يعود بعد ذلك فيقبل بينته على استرداد ما دفع إلى المشتري لا على أخذ الغلام من المستحق، ويرجع الوكيل على المستحق بمثل ذلك الثمن ويدفعه إلى المشتري، لا على أخذ الغلام من المستحق، ويرجع الوكيل على المستحق بمثل ذلك الثمن ويدفعه إلى المشتري؛ لأنه تبين أنه كان للقبض عاملاً للمستحق، فعند عدم سلامة الغلام للمشتري يكون ضمان المقبوض على من وقع القبض له وهو المستحق.

قلنا: الموكل إنما رضي بالفسخ بشرط أن لا يلحقه الغرم في الآخرة، فإذا آل الأمر إلى أن يلحقه غرم في الآخرة لا يكون راضياً، والمشتري إنما رضي بالفسخ بشرط أن المقبوض له، فإذا آل الأمر إلى أن لا يسلم له لا يكون راضياً، فلا ينفسخ العقد بتراضيهما، لو انفسخ إنما ينفسخ بقضاء القاضي وقد ظهر أن قضاء القاضي وقع باطلاً من الأصل عند محمد وأبى يوسف الآخر. وأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول: قضاء القاضي بالفسخ نفذ من كل وجه، فلا يعود العقد بعد ذلك فتقبل بينة الوكيل على استرداد ما دفع إلى المشتري لا على أخذ الغلام من المستحق، ثم يرجع الوكيل على المستحق بمثل ذلك الثمن، ويدفعه إلى المشتري لما ذكرنا. وإن كان المشتري باع الغلام من آخر ثم استحق من يد المشتري الأخير بالبينة، ويرجع المشتري الأخير على المشتري الأول بالثمن قضى له، فأقام المشتري الأول بينة على أمر المستحق البائع بالبيع قبلت بينته لما ذكرنا، ويأخذ العبد من يد المستحق ويلزمه المشتري الأخير عند محمد وأبي يوسف الآخر؛ لأن قضاء القاضي بالفسخ اعتمد سبباً ظاهر وقد انعدم ما يوجب بطلان القضاء وارتفاع الفسخ، ولو أن المشتري الأول لم يجد بينة على ذلك ولكن رجع على بائعه بقضاء القاضي أو بغير قضاء القاضي، وأقام البائع الأول بينة على أمر المستحق، فهو على الوجوه التي ذكرنا في المسألة الأولى؛ لأن العقد الثاني انفسخ بين المشتري الثاني وبين المشتري الأول بتراضيهما على وجه لا يحتمل العود، فخرج هو من البين، بقي الكلام في العقد الأول وقد مر الوجه فيه. رجل رهن من آخر جارية بألف درهم عليه للمرتهن، وقبضها المرتهن ثم أخذها الراهن بغير إذن المرتهن وباعها من إنسان وسلمها إليه، ثم إن المرتهن أقام بينة على الرهن قبلت بينته؛ لأن عقد الرهن باق، فكان خصماً فيه فقبلت بينته، ويدفع العبد إليه فيكون رهناً عنده؛ لأنه أثبت فيها ملك اليد لنفسه وحق الحبس، وبهذا كان أحق، من البائع فيكون أحق ممن يلقي الملك من جهته، وهل يتمكن المرتهن من فسخ هذا البيع؟ روي عن محمد رحمه الله أنه تمكن. ووجه ذلك: أن حق المرتهن بمنزلة الملك، فإن الثابت له ملك اليد والحبس ومن باع ملك الغير فإن أجازه المالك يتم البيع، وإن فسخه ينفسخ، فهذا مثله والصحيح أنه لا يتمكن؛ لأنه لاحق له حتى إذا أجازه كان المشتري متملكاً العين على الراهن لا على المرتهن، وإنما الثابت للمرتهن حق دفع الضرر عن نفسه بالحبس إلى أن يصل دينه إليه، وهذا المعنى يوجب توقيف العقد أما لا يثبت حق الفسخ، والمشتري بالخيار إن شاء فسخ؛ لأن التسليم فات بسبب كان عند البائع فجعل كأن لم يكن، وإن شاء صبر حتى يفكها الراهن فيأخذها؛ لأن فوات التسليم بسبب يرجى زواله، فله أن ينتظر ذلك، كما لو أبق العبد المبيع قبل القبض، فإن اختار المشتري فسخ العقد، وفسخ القاضي العقد وقضى له بالثمن على البائع، ثم إن البائع قضى المرتهن المال واستردها ليس له أن يلزم

الفصل التاسع والعشرون: في بيان ما يحدث بعد إقامة البينة قبل القضاء

المشتري؛ لأن قضاء القاضي بالفسخ اعتمد سبباً ظاهراً، وهو كونها مرهونة، وهذا لم ينعدم من الأصل بل زال بعد تحققه، فلا يوجب بطلان القضاء على ما مر. ولو كان الراهن قد قضى الدين وقبض الجارية ثم باعها من هذا المشتري، ثم إن المرتهن جحد القضاء، وقضى القاضي له بالعبد رهناً، وطلب المشتري من القاضي أن يفسخ العقد، وفسخ ورد الثمن على المشتري، ثم أقام البائع بينة على قضاء الدين واستردادها قبل البيع وبأخذها، وأراد أن يلزم المشتري هل له ذلك؟ وقع في بعض نسخ محمد رحمه الله أن المسألة على التفصيل. ولو كان المشتري (109ب4) لم يقبضها حتى استحقها المرتهن ليس له ذلك؛ لأن قضاء القاضي بالفسخ كان باعتبار سبب قائم، وهو عجز البائع عن التسليم، وهذا لم ينعدم من الأصل، بل ارتفع بعد تحققه، فلا يوجب بطلان القضاء، وإن كان المشتري قبضها فله أن يلزم المشتري عند محمد وأبي يوسف الأول، خلافاً لأبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهم الله؛ لأن الجارية إذا كانت مسلمة إلى المشتري لم يكن قضاء القاضي بالفسخ باعتبار العجز عن التسليم، بل لكونها مرهونة، وهذا قد انعدم من الأصل، فيبطل قضاء القاضي عند محمد وأبي يوسف الأول على ما مر. ووقع في بعض النسخ أن له أن يلزم المشتري عند محمد وأبي يوسف الأول مطلقاً من غير تفصيل، وهكذا ذكر صاحب «الكتابٍ» فهذا الإطلاق يدل على ولاية الإلزام عند محمد وأبي يوسف الأول، سواء كانت الجارية مسلمة إلى المشتري أو لم تكن، وهو الصحيح، أما إذا كانت الجارية مسلمة فلما قلنا، وأما إذا لم تكن مسلمة فلأن عجز البائع عن التسليم قد انعدم من الأصل؛ لأن عجز البائع عن التسليم لكونها مرهونة، وقد انعدم ذلك من الأصل، والله أعلم. الفصل التاسع والعشرون: في بيان ما يحدث بعد إقامة البينة قبل القضاء قال محمد رحمه الله في «الجامع» : عبد في يدي رجل جاء رجل وادعى أنه عبده، وأنكر صاحب اليد دعواه، فذهب المدعي ليأتي بالشهود فباع صاحب اليد العبد من رجل وسلمه إليه، ثم أودع المشتري العبد من البائع، وغاب ثم إن المدعي أعاد صاحب اليد عند القاضي هذا ليقيم عليه البينة بحقه، فهذه المسألة على وجوه: إما إن علم القاضي بما صنع ذو اليد أو لم يعلم، ولكن أقر المدعي بذلك، وفي الوجهين جميعاً لا خصومة للمدعي مع صاحب اليد، وسيأتي جنس هذه المسائل في كتاب الدعوى إن شاء الله تعالى. وكذلك إذا أقام صاحب اليد بينة على إقرار المدعي بذلك؛ لأن الثابت بالبينة إذا صحت كالثابت عياناً، فكأن القاضي عاين إقرار المدعي بذلك؛ وإن لم يكن شيء من

ذلك ولكن صاحب اليد أقام بينة على ما صنع، وذكر أنه وديعة في يده لفلان بشراء كان بعد الخصومة، فإن القاضي لا يقبل بينته ولا تندفع عنه الخصومة، وإذا لم تندفع عنه خصومة المدعي، وقضى القاضي عليه بالعبد ببينة المدعي لو حضر المشتري بعد ذلك، وأقام البينة على الشراء من صاحب اليد لا تسمع بينته، لا يدعي تلقياً من جهة ذي اليد، وذو اليد صار مقضياً عليه بالملك المطلق، فكذا من يدعي تلقي الملك من جهة ذي اليد، والذي ذكرنا من دعوى البيع من الغائب، وإيداع الغائب منه كذلك في دعوى الهبة والصدقة. ولو كان القاضي لم يقض بشهادة شهود المدعي حتى حضر المشتري دفع ذو اليد العبد إليه، ويجعل القاضي المشتري خصماً للمدعي، ولا يكلف المدعي إقامة البينة؛ لأن إقامتها على ذي اليد صحت ظاهراً، فلا يبطل بإقرار ذي اليد، ويجعل المشتري كالوكيل من ذي اليد، وإذا قضى القاضي بالعبد على المشتري للمدعي يبطل البيع الذي جرى بينه وبين ذي اليد، ورجع عليه المشتري بالثمن لاستحقاق المبيع من يده. وكذلك لو شهد على صاحب اليد رجل واحد، ثم حضر المشتري ودفع العبد إليه فأقام المدعي شاهداً آخر على المشتري قضى له بالعبد، ولا يكلفه إعادة الشاهد الأول وكذلك لو أن ذا اليد باع العبد من غيره، ولم يسلمه إلى المشتري حتى حضر المدعي، فأقام الذي في يده البينة أنه باع من فلان، ولم يسلمه إليه لا يلتفت إلى بينة ذي اليد، ويكون الجواب فيه كالجواب فيما إذا أقام البينة على البيع والقبض ثم الإيداع منه. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل في يديه عبد، أقام رجل بينة على أنه عبده اشتراه من الذي في يده بألف درهم ونقده الثمن، وأقام ذو اليد بينة إنه عبد فلان أودعه، فإن الخصومة لا تندفع عنه، وستأتي هذه المسألة مع أجناسها في كتاب الدعوى، فلو لم يقض القاضي بالعبد حتى حضر المقر له وصدق ذو اليد فيما أقر له به، فالقاضي يأمر ذا اليد بدفع العبد إلى المقر له؛ لأن الإقرار من ذي اليد وجد في حال العبد مملوك له ظاهراً ثم يقضي القاضي لمدعي الشراء بالعبد، ولا يكلفه إعادة البينة على المقر له، لأن بينته صحت ظاهراً لكون ذي اليد خصماً له من حيث الظاهر، ولم يبطل بإقرار ذي اليد بالعبد للمقر له؛ لأن إقراره حجة في حقه لا في حق غيره، ويصير الغائب إذا حضر كأنه هو الوكيل بالخصومة عن ذي اليد؛ لأنه لما أقر له بالملك والخصومة يكون إلى المالك فقد فوض الخصومة إليه، وصار حاصل مسألتنا في حق المدعي كأنه أقام شاهدين على ذي اليد بالشري منه، فقبل: إن ترك بينته ويقضي له بالعبد، وكلَّ ذي اليد رجلاً حتى تخاصم مع المدعي، ولو كان كذلك كان لا يكلف المدعي إعادة البينة ثانياً كذا هنا. فإن قال المدعي: أنا أعيد البينة على المقر له كان له ذلك، وكان المقضي عليه في هذه الحالة المقر له إلا ذو اليد، بخلاف ما إذا قال المدعي: أنا لا أعيد البينة، فإن المقضي عليه في هذه الصورة ذو اليد لا المقر له. والفرق: أن المدعي إذا لم يرض بإعادة البينة لم ينفذ إقرار ذي اليد في حق المدعي

كيلا يلزمه إعادة البينة، فكأن صاحب اليد لم يقر بذلك، ولو لم يقر كان المدعى عليه ذو اليد، لأن البينة قامت عليه وهو لم يكن وكيلاً عن المقر له، فأما إذا قال أنا أعيد البينة، فقد رضي ببطلان ما أقام من البينة على ذي اليد، فنفذ إقرار ذي اليد في حق المدعي، فصار المقضي عليه في هذه الصورة المقر له، فلو أن القاضي لم يقض بالعبد للمدعي على الذي حضر حتى أقام للذي حضر بينته ويطلب بينته ويطلب بينة مدعي الشراء؛ لأن ببينته بين أن المدعي أقام البينة على غير الخصم، وهذه البينة من رب العبد ما قبلت لإثبات الملك لرب العبد؛ لأن العبد في يده والملك ثابت له بظاهر اليد، فلا حاجة له إلى البينة لإثبات الملك لنفسه في العبد، وإنما قبل لإبطال بينة المدعي، فإن رب العبد بما أقام من البينة أثبت أن المدعي أقام البينة على غير خصم، والبينة من صاحب اليد على إبطال بينة المدعي مقبولة، كما لو أقام البينة أن شهود المدعي كفار أو عبيد أو محدودون في قذف، فإن أقام رب العبد بينة على ما قلنا، ثم أعاد مدعي الشراء البينة على رب العبد أن العبد كان للذي في يديه، وأنه اشتراه منه بألف درهم، ونقده الثمن، فهذا على وجهين. إما أن أعاد البينة على رب العبد بعدما قضى القاضي لرب العبد ببنيته وفي هذا الوجه لا تقبل بينته؛ لأن مدعي الشراء صار مقضياً عليه من جهة رب العبد؛ لأن رب العبد إنما أقام البينة على مدعي الشراء، والمقضي عليه إذا أقام البينة في عين ما قضى عليه لا تقبل بينته إلا أن يدعي تلقي الملك من جهة المقضي له، ولم يوجد كذا ههنا. وإن كان قبل القضاء تقبل بينة مدعي الشراء متى أعادها على المقر له، ثم هنا ثلاث مسائل. أحدها: ما ذكرنا أن مدعي الشراء أقام شاهدين فقبل القضاء له أقر صاحب اليد بالعبد لإنسان، وصدقه المقر له. المسألة الثانية: إذا أقام المدعي شاهداً واحداً على الشراء من ذي اليد، وأقر ذو اليد بالعبد لفلان الغائب، ثم حضر فلان وصدق المقر في إقراره، فإنه يؤمر بدفع العبد إلى المقر له لما مر في المسألة الأولى، فإن أقام مدعي الشراء شاهداً آخر على الشراء قضى بالعبد له، ولا يكلفه القاضي إعادة الشاهد الأول على المقر له لما قلنا في الشاهدين في المسألة الأولى، ويكون المقضي عليه ذو اليد دون المقر له؛ لأن الشاهد الأول قام على ذي اليد، والشاهد الثاني قام على المقر له، وأمكن جعل المقر له تابعاً لذي اليد؛ لأنه رضي بتفويض الخصومة إليه، فجعل الشاهد القائم على المقر له قائماً على ذي اليد كالقائم على المقر له؛ لأن المقر له لم يرض بكون ذي اليد نائباً عنه في الخصومة، فلهذا جعلنا المقضي عليه ذو اليد دون المقر له، وما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» أن القاضي يقضي بشهادة شاهدين على رب العبد أراد بذلك القضاء في حق الأخذ والانتزاع من يده، لا في حق القضاء بالملك، بدليل أنه ذكر أن المقر له لو أقام بينة أن العبد عبده قبلت بينته، ولو صار مقضياً عليه لما قبلت بينته.

المسألة الثالثة: مدعي الشراء إذا لم يقم البينة على ذي اليد حتى أقر ذو اليد أن العبد لفلان الغائب أودعه إياه، ثم حضر المقر له وصدقه ودفع العبد إليه، ثم أقام مدعي الشراء البينة على المقر له، وقضى القاضي بذلك، كان المقضي عليه في هذه الصورة المقر له (110أ4) لأن إقرار ذي اليد قبل إقامة مدعي الشراء البينة أصلاً صحيح في حق المدعي، إذ ليس فيه إضرار بالمدعي، فصح وصار الثابت بالإقرار كالثابت بالبينة. ولو ثبت بالبينة أن الملك له ثم ادعى أن العبد كان لفلان اشتراه منه يقضى به له، ويصير المقر له مقضياً عليه دون ذي اليد كذا هنا، بخلاف المسألة الأولى والثانية؛ لأن ثمة إقرار ذي اليد لم يصح في حق المدعي، لأنه لو صح بطل ما أقام المدعي من البينة، فيتضرر به المدعي بإعادة البينة، هذه الجملة في الباب الثاني من دعوى «الجامع» . وفي آخر دعوى الجامع رجل في يده دار، جاء رجل ادعى أنها داره، فطلب القاضي من المدعي البينة، فقاما من عند القاضي وباع المدعي عليه الدار من رجل فبيعه صحيح، حتى لو تقدما بعد ذلك إلى القاضي وجاء المدع بشهود يشهدون على الدار له، وقد علم القاضي ببيع المدعي عليه، أو أقر المدعي بذلك فلا خصومة بينهما، وإن كانت الدار في يد المدعي عليه. ولو أقام المدعي شاهداً واحداً، ثم قاما من عند القاضي فباع المدعى عليه الدار من رجل فبيعه صحيح، حتى لو تقدما بعد ذلك إلى القاضي، وجاء المدعي بالشاهد الآخر، فالقاضي لا يسمع خصومة المدعي إذا علم القاضي بالبيع أو أقر المدعي بذلك. ولو كان المدعي أقام شاهدين فعدلا، فلم يقض القاضي بشهادتهما، ثم قاما من عند القاضي، وباع المدعي عليه الدار من المدعي لا يصح بيعه، حتى لو تقدما بعد ذلك إلى القاضي، فالقاضي يقضي عليه بتلك البينة، وإن أقر المدعي ببيعه أو علم القاضي بذلك فرق بين الشاهد وبين الشاهدين. وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: أنه سوى بين الشاهد الواحد وبين الشاهدين، وأبطل بيع المدعى عليه وبينته في الفصلين جميعاً، ووجه الفرق على ظاهر الرواية: أن بإقامة الشاهدين إن لم يثبت حقيقة الملك للمدعي في المدعى به يثبت حق الملك لوجود الحجة بكمالها، ولا حق الملك للمدعي في المدعى به بمنع صحة بيع المدعى عليه صيانة لحق المدعي، فالمدعي إنما أقر ببيع باطل، والقاضي علم بيعاً باطلاً، فلا يصلح ذلك دافعاً خصومة المدعي لها بإقامة الشاهد الواحد، كما لم يثبت حقيقة الملك للمدعي لم يثبت حق الملك لنقصان في الحجة، فكان تصرف المدعى عليه حاصلاً في خالص ملكه فصح، فالمدعي أقر ببيع صحيح، والقاضي علم بيعاً صحيحاً فصلح دافعاً خصومة المدعي. وقد فرق في هذه المسألة بين الشاهد الواحد وبين الشاهدين وفي مسألة الإقرار التي تقدم ذكرها، وهو ما إذا ادعى رجل داراً في يدي رجل وأقام المدعي بالدار لرجل آخر، ثم جاء المدعي بالشاهد الآخر أو ظهرت عدالة الشاهدين والدار في يد المقر بعد،

فالقاضي يقضي على المقر، وسوى بين الشاهدين وبين الشاهد الواحد، والفرق أن الإقرار إخبار، وفي الإخبار الأصل أنه إذا تضمن إلحاق الضرر بالغير أن يعتبر كذباً في حق ذلك الغير، والإقرار بعد الشاهد الواحد يضمن إلحاق الضرر بالمدعي، فإنه متى صح الإقرار يلزم المدعي إعادة ما أقام من الشاهد الواحد على المقر له، عسى يمكنه ذلك وعسى لا يمكنه، فاعتبر كذباً في حق المدعي فلم يصح، فأما البيع وما أشبهه أشياء تصرف، وتهمة الكذب لا تتأتى في الأنساب، فلا يمكننا رد بيعه من هذا الوجه، وطلبنا للرد وجهاً آخر، فقلنا: إذا تضمن تصرف المدعى عليه إبطال ملك أو حق ملك أو يد استحقه على الغير يرد ومالا فلا، وبعد إقامة الشاهد الواحد لم يضمن تصرفه إبطال شيء من ذلك فلم يصح. وفي «نوادر هشام» : عن محمد رحمه الله رجل: ادعى داراً في يدي رجل وجحد المدعى عليه، فسئل الطالب البينة فذهب في طلب البينة وباع المدعى عليه الدار فالبيع جائز، وإن كان قد أقام المدعي البينة، ثم باعها المدعى عليه، قال محمد رحمه الله: إن قدرت على المشتري أبطلت البيع، وإن لم أقدر عليه وعدلت البينة خيرت المدعي، فإن شاء أخذ من البائع قيمتها، وإن شاء وقف الأمر حتى يقدم المشتري به. قال: رجل في يديه عبد ادعاه رجلان، كل واحد منهما يقيم البينة أنه عبده، أودعه الذي هو في يديه، وذو اليد يجحد ذلك أولا يجحد، ولا يقر بل يسكت، فلم يقض القاضي بشهادة الشهود، لعدم ظهور عدالتهم، حتى أقر ذو اليد لأحدهما بعينه أنه عبده أودعنيه، فإن القاضي يدفع العبد إلى المقر له لما مر. فإذا عدلت الشهود قضى بالعبد بينهما نصفين، وكان ينبغي أن يقضي بجميع العبد للذي لم يقر له ذو اليد؛ لأن المقر له لما صدق ذا اليد فيما أقر وأخذ العبد صار العبد ملكاً له رقبة ويداً، فصار المقر له مع صاحبه بمنزلة الخارج مع ذي اليد إذا أقاما البينة على الملك المطلق، فيقضى بكل العبد للخارج.f واعتبره بما لو أقر ذو اليد لأحدهما قبل أن يقيما البينة، ثم أقام كل واحد منهما بينة على ما ادعى كان العبد كله للذي لم يقر له ذو اليد، لما قلنا فههنا كذلك. والجواب: وهو الفرق بينما قبل إقامة البينة وبينما بعدها أن التزكية لا تجعل البينة حجة، بل يظهر من ذلك الوقت أن كونها حجة مبنية للاستحقاق من ذلك الوقت، فمتى كان الإقرار بعد إقامة البينة، فعند ظهور العدالة يظهر الاستحقاق قبل الإقرار، فيظهر أن الإقرار كان باطلاً لصدوره عن شخص ظهر أنه ليس بمالك، ومتى بطل الإقرار بطل التصديق ضرورة؛ لأنه مبني عليه، فصار وجود الإقرار وعدمه بمنزلة، فأما إذا كانت الشهادة بعد الإقرار فبظهور العدالة لا يظهر الاستحقاق قبل الإقرار، فلا يتبين بطلان الإقرار، وإذا لم يبطل الإقرار صار المقر له صاحب يد، وغير المقر له خارجاً، فيقضي ببينة الخارج. ولو أقام كل واحد من المدعيين شاهداً واحداً على ما ادعاه، ثم أقر ذو اليد بالعبد لأحدهما يدفع العبد إليه، ولا يبطل ما أقام كل واحد منهما من الشاهد الواحد، فإن أقام

غير المقر له شاهداً آخر قضى بالعبد له؛ لأن الشاهد الثاني يضاف إلى الشاهد الأول، فصار كأنه أقام شاهدين، ولم يقم الآخر إلا شاهداً واحداً، فإن لم يقض له حتى جاء المقر له بشاهد آخر قضى بالعبد بينهما نصفان؛ لأن إقرار المقر يلحق بالعدم فيما يرجع إلى إبطال ما أدى من الشهادة، ولو انعدم حقيقة، وأضاف كل واحد منهما إلى شهادة شاهد آخر قضى بينهما كذا هنا، إلا أن يقول الذي لم يقر له ذو اليد قبل أن يقضي القاضي بالعبد نصفان: أنا أعيد شاهدي الأول وأقيمها مع الشاهد الآخر على المقر له قبل أن يقضي القاضي بالعبد بينهما فحينئذٍ يقضي بكل العبد له؛ لأنه حينئذٍ إيراد اليد عن الخصومة، وأبطل ما أقام عليه من الشهادة، وعدم نفاذ إقرار ذي اليد في حق غير المقر له، إنما كان نظراً له كيلا يبطل ما أقام من الشهادة، فإذا رضي به نفذ ووقع الدعوى بين المقر له وهو ذو اليد وبين غير المقر له وهو الخارج، فعند إقامتهما البينة يقضى للخارج. ولو قال غير المقر له قد مات شاهدي الأول أو غاب، يقال له: هات بشاهد آخر على المقر له يقضى لك بكل العبد؛ لأن شهادة الأول لم يبطل بالموت والغيبة، فكان موته وغيبته وبقاؤه حياً على السواء، فإذا أقام شاهداً آخر مع شهادة الأول أو يقيم شاهدين مستقلين، فيكون بينهما فرق، بينما لو أقام غير المقر له شاهدين مستقلين على المقر له وبينما لو أقام المقر له، شاهدين مستقلين يقضى بكل العبد له، وقال: إذا أقام المقر له شاهدين مستقلين يقضى بالبينة بينهما، والفرق بينهما: وهو أن لغير المقر له أن يستأنف الخصومة مع المقر له ويبرئ المقر عن الخصومة؛ لأن ما يدعيه غير المقر له، في يد المقر له فإذا أقام شاهدين مستقلين فقد أبرأ المقر، وخاصم المقر له، فصار المقر له خصماً، وهو ذو اليد، وغير المقر له خارج، فيقضى بالعبد للخارج، فأما المقر له لا يمكنه أن يجعل للذي ليس بمقر له خصماً، فيستأنف الخصومة معه لأنه لا يد لغير المقر له، فاعتبر إقامة الشاهدين على الخصومة الأولى فبقيا خارجين فيقضي بالعبد بينهما. لهذا فإن قيل: إن لم يمكن أن يجعل إقامة شاهدين مستقلين من المقر له على سبيل استئناف الخصومة مع المدعي لاستحقاق العبد عليه، يمكن أن يجعل هذا منه إبطالاً لما أقام غير المقر له من الشاهد الأول الذي أقامها على المقر، كما جعل فيما تقدم. وهو ما إذا ادعى رجل على ذي اليد الشراء منه وأقام البينة على ذلك وادعى ذو اليد أنه لفلان أودعه، فقبل أن يقضي القاضي ببينة مدعي الشراء، حضر فلان وأقام البينة أنه له أودعه (110ب4) من ذي اليد حيث يبطل به بينة مدعي الشراء فهاهنا كذلك، والجواب ثمة أمكن، فيقول بينته على إبطال بينة مدعي الشراء؛ لأن المقر له بينته تثبت أن مدعي الشراء أقام البينة على مودعه وهو غائب، وبينة المدعي على المودع حال غيبة المودع باطلة، فأمكن قبول بينته لإبطال بينة المدعي، أما في مسألتنا لا يمكن قبول بينة المقر له على إبطال ما أقام على المقر له من الشاهد؛ لأن أكثر ما في الباب أنه يثبت أن غير المقر له أقام البينة على المودع، لكن المقر له حاضر، وبينة المدعي على المودع حال حضرة المودع مقبولة، ولهذا افترقا.

عبد في يدي رجل أقام رجلان كل واحد منهما البينة على أنه عبده، أودعه إياه وذو اليد جاحد أو ساكت، فقضى بالعبد بينهما نصفان، ثم إن أحدهما أقام على صاحبه تلك البينة أو غيرهما أن العبد عبده لم ينتفع بتلك البينة، ولا يقضي له على صاحبه بشيء؛ لأن كل واحد منهما صار مقضياً عليه في النصف الذي قضى به لصاحبه، لأنه ببينته استحق الكل، ولولا بينة صاحبه لقضي له بكل العبد، فإنما حرم كل واحد عن النصف بينة صاحبه، فصار هو مقضياً عليه في شيء لا يصير مقضياً له في غير ذلك الشيء. فإن قيل: كيف يجعل كل واحد من المدعيين مقضياً عليه في النصف الذي صار لصاحبه، ولم يكن له في ذلك النصف ملك قبل القضاء لصاحبه؟ قلنا: إن لم يكن فيه ملك كان له حق الملك؛ لأنه أقام البينة أن الكل له، وإنها توجب حقيقة الملك عند اتصال القضاء بها يوجب حق الملك، وحق الملك معتبر بحقيقة الملك، ولو ثبتت الحقيقة يصير مقضياً عليه، فكذا هنا ولو عدلت بينة أحدهما ولم تعدل بينة الآخر، أو لم يقم الآخر شاهداً أصلاً أو أقام شاهداً واحداً، فقضى به لمن عدل بينته، ثم جاء الآخر ببينة عادلة قضى له به لأنه لم يصر مقضياً عليه به من جهة صاحبه؛ لأنه لم يكن له في المقضي به لا حقيقة الملك ولا حق الملك لعدم الحجة الموجبة للقضاء، والقضاء على الإنسان بإزالة الاستحقاق الثابت له، فإذا لم يكن الحق ثابتاً له كيف يتصور إزالته؟ فعلم أنه لم يصر مقضياً عليه، فيسمع دعواه وبينته بعد ذلك، فلو أقام أحدهما البينة، فلم تزكَ بينته حتى أقر ذو اليد أن العبد الذي لم يقم البينة أودعه إياه، ودفع القاضي العبد إلى المقر له، ثم زكيت بينة الذي أقامها وأخذ صاحب البينة العبد من المقر له، ثم إن المقر له أتى ببينته أنه عبده أودعه إياه ذو اليد، قبلت بينته وقضى له بالعبد؛ لأن المقر له لم يصر مقضياً عليه؛ لأن بينة غير المقر له، قامت على ذي اليد وجعل المقر له كالوكيل له لما مر. فإن قيل: الملك يثبت للمقر له بإقرار ذي اليد وتصديق المقر له إياه، ثم استحق عليه بالقضاء ببينة المدعي، فيجعل المقر له مقضياً عليه، قلنا: إقرار ذي اليد كان بعد إقامة المدعي البينة على ذي اليد، وعند ظهور عدالة الشهود يثبت الاستحقاق من وقت الشهادة، فيظهر أن إقرار ذي اليد كان باطلاً؛ لأنه ظهر أنه لم يكن مالكاً للعبد، وإذا بطل إقراره بطل تصديق المقر له لكونه بناء عليه، وإذا بطل الإقرار والتصديق صار وجوده والعدم بمنزلة. ولو عدما وباقي المسألة بحاله كان المقضي عليه الذي كان العبد في يده، دون المقر له كذا هنا. وكذا لو أقام المقر له البينة على ما ذكرنا قبل القضاء لصاحبه ببينته، يقضي للمقر له ويبطل بينة صاحبه؛ لأن بينة المقر له ظهر أن بينة صاحبه قامت على مودع المقر له، وهو ليس بخصم، والبينة متى قامت على غير خصم كان باطلاً. فإن قيل: بينة المدعي متى قامت على مودع المقر له إنما يبطل إذا كان المقر له

الفصل الثلاثون: في بيان من يشترط حضرته لسماع الخصومةوالبينة وحكم القاضي وما يتصل بذلك

غائباً وقت إقامة البينة على مودعه، أما إذا كان حاضراً كانت مقبولة فيما تقدم كإقامة البينة على المقر له، وهنا المقر له كان حاضراً وقت إقامة المدعي البينة. قلنا: المقر له وإن كان حاضراً وقت إقامة البينة على الذي كان العبد في يده حقيقة هنا لكنه غائب حكماً، لأنه ليس بخصم للمدعي وقت إقامة البينة؛ لأنه لم يكن للمقر له في العبد لا ملك ولا حق، ولم يثبت له زيادة خصوصية بهذا العبد من بين سائر الأجانب، وهو كونه بحال لو أقام شاهداً واحداً يقضى له، فصار غائباً حكماً بخلاف ما تقدم، لأن ثمة إن لم يكن للمقر له حقيقة الملك ولا حق الملك بإقامة الشاهد الواحد، لكن له زيادة خصوصية في هذا العبد من سائر الأجانب، لأنه صار بحال يستحق هذا العبد بإقامة شاهد واحد، وكانت خصومته معتبرة وقت إقامة المدعي البينة على مودعه، فكان حاضراً حقيقة واعتباراً بخلاف ما نحن فيه على ما مر. فإن قال المدعي فهو غير المقر له أنا أعيد شهودي على المقر له، هل يقبل بينته؟ فهذا على وجهين: إن كان ذلك قبل القضاء بينة المقر له قبلت بينة المدعي؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه، ثم يقضي له بجميع العبد؛ لأنه لما أعاد البينة فقد أراد اليد عن الخصومة، ورضي بنفاذ إقراره واستأنف الخصومة، مع المقر له على ما مر، فتقررت يد المقر له واجتمع بينة الخارج وبينة ذي اليد، فكانت بينة الخارج أولى بالقبول. الفصل الثلاثون: في بيان من يشترط حضرته لسماع الخصومةوالبينة وحكم القاضي وما يتصل بذلك إذا استحق العبد من يد مشتريه بالملك المطلق، وقضى القاضي بالعبد للمستحق، وقصر يد المشتري عن العبد، ورجع المشتري على بائعه بالثمن، فأقام البائع البينة أن هذا العبد نتج في ملكي من أمتي، وإن القضاء للمستحق وقع باطلاً، وليس لك حق الرجوع علي بالثمن، قبلت بينته إذا أقامها بحضرة المستحق. إليه أشار في «السير الكبير» في آخر باب صاحب الساق وإنما قبلت بينته؛ لأنه بهذه البينة يدفع استحقاق الثمن، فكان خصماً في إقامتها فقبلت بينته. وكذلك إذا أقام البائع البينة على أن هذا العبد نتج في ملك بائعي من أبيه قبلت بينته إذا أقامها بحضرة المستحق لما قلنا. فإن قيل: كيف يقبل بينة البائع في هاتين الصورتين وإن البائع صار مقضياً عليه بالقضاء على المشتري لما مر أن القضاء بالملك المطلق على ذي اليد قضاء عليه، وعلى من تلقى ذو اليد الملك من جهته. قلنا: نعم، البائع صار مقضياً عليه ولكن بالملك المطلق لا بالنتاج، والبائع هنا لا يقيم البينة على الملك المطلق، وإنما يقيم البينة على النتاج، والمقضي عليه بجهة إنما لا يقبل بينته في الجهة التي صار مقضياً عليه، لا في جهة أخرى، ألا ترى أن من ادعى دابة

في يد إنسان ملكاً مطلقاً، وصاحب اليد يدعي النتاج، فلم يجد بينة على النتاج، حتى قضى القاضي بالدابة للمستحق، ثم وجد صاحب اليد بينة على النتاج، وأقامها قبل بينته وقضى بالدابة له، وإن صار ذو اليد مقضياً عليه؛ لأنه صار مقضياً عليه بالملك لا بالنتاج، فقبلت بينته على النتاج لهذا. ثم إن محمداً رحمه الله شرط حضرة المستحق لقبول هذه البينة من البائع. وبعض مشايخنا أبو ذلك، وقالوا: ينبغي أن لا يشترط حضرة المستحق، وهكذا حكى شمس الأئمة السرخسي رحمه الله نوعان وهذا لأن هذه البينة من البائع لدفع استحقاق المشتري الثمن عن نفسه، وهذا معنى يخص المشتري، فلا حاجة إلى إشراط حضرة المستحق، وبعض مشايخنا قالوا: لا بل حضرة المستحق شرط، كما أشار محمد رحمه الله؛ لأن هذه البينة تتعدى إلى المستحق، فإن هذه البينة متى قبلت بأخذ المشتري العبد من المستحق، فلا بد من حضرته وقيل على قياس قول محمد وأبي يوسف الآخر: حضرة المستحق شرط، وعلى قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول رحمهما الله: لا يشترط حضرته، وهذا القول أشبه وأظهر. ووجه ذلك أن قضاء القاضي بالعبد للمستحق في هذه الصورة نفذ ظاهراً لا باطناً، وانفسخ العقد ظاهراً لا باطناً، فكان للمشتري أن يأخذ العبد من المستحق، فهذه البينة تتعدى إلى المستحق، فيشترط حضرته، فأما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول فقضاء القاضي نفذ ظاهراً وباطناً وانفسخ العقد ظاهراً وباطناً، فلا يتمكن المشتري من أخذ العبد من المستحق، فهذه البينة لا تتعدى إلى المستحق، فلا يشترط حضرته. قال في الزيادات: وإذا اشترى الرجل من أخر جارية، ولم يقبضها حتى استحقها رجل بالبينة، فالقاضي لا يسمع بينة المستحق، ولا يقضي له بالجارية، ما لم يحضر البائع المشتري، وقد مرت هذه المسألة في الفصل المتقدم. ولو كان الاستحقاق (111أ4) بعد القبض لا يشترط حضرة البائع، وفي دعوى المستأجر يشترط حضرة الآجر والمستأجر؛ لأن الملك للآجر، واليد للمستأجر، وكذلك في دعوى الرهن يشترط حضرة الراهن والمرتهن؛ لأن الملك للراهن واليد للمرتهن، وإذا أراد الشفيع الأخذ بالشفعة، وكان ذلك قبل قبض المشتري المشترى يشترط حضرة البائع والمشتري للقضاء بالشفعة؛ لأن الملك للمشتري واليد للبائع، وإذا استحق المستعار رجل بالبينة يشترط للقضاء له حضرة المعير والمستعير جميعاً. وفي دعوى الضياع هل يشترط حضرة الزارعين؟ اختلف المشايخ فيه. بعضهم شرطوا وبعضهم لم يشترطوا، وبعضهم قالوا: إن كان البذر من قبلهم يشترط حضرتهم؛ لأنهم مستأجرون للأراضي، وإن كان البذر من قبل رب الأرض لا يشترط حضرتهم؛ لأنهم أجروا رب الأرض، وكذلك اختلف المشايخ في اشتراط حضرة غلة (داد در) دعوى بقمحها.

وإذا ادعى رجل نكاح امرأة ولها زوج ظاهر يشترط حضرة الزوج الظاهر لسماع الدعوى والبينة، وإذا مات الرجل وترك أشياء يمكن نقلها وعليه دين مستغرق لتركته، وليس له وارث ولا وصي، فالقاضي ينصب له وصياً ليبيع تركته، ولا يشترط إحضار التركة لنصب الوصي، وهل يشترط إحضارها لإثبات التركة؟ فقد قيل: يشترط، وقد قيل: لا يشترط وإذا قامت البينة على إفلاس المحبوس لا يشترط لسماعها حضرة رب الدين، ولكن إن كان رب الدين حاضراً أو وكيله حاضراً، فالقاضي يطلقه بكفيل. ذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : رجل قدم رجلاً إلى القاضي، وقال إني زوجت أمتي هذا على صداق كذا بأمرها وهي بكر، وأنا أريد صداقها، فإن أقر الزوج بالنكاح والمهر ولم يدع الدخول بها، فالقاضي يأمر الزوج أن يدفع المهر إلى الأب، ولا يشترط إحضار المرأة عند أبي حنيفة ومحمد، وهو قول أبي يوسف الأول. وقال زفر: يشترط حضرتها، وهو قول أبي يوسف آخراً، والصحيح قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن العادة الظاهرة فيما بين الناس أن الزوج يسلم الصداق أولاً، ويجهز الولي المرأة بذلك، ثم يسلمها مع جهازها إلى الزوج، فصار الزوج راضياً بتأخير تسليم المرأة، فلا معنى لاشتراط إحضارها. ولو ادعى رجل على صغير شيئاً وله وصي حاضر يريد به الصغير المحجور عليه، لا يشترط حضرة الصغير، هكذا ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب القسمة، ولم يفصل بينما، إذا كان المدعى به ديناً أو عيناً وجب الدين بمباشرة هذا الوصي، أو وجب لا بمباشرته، وذكر الناطفي في «أجناسه» : إذا كان الدين واجباً بمباشرة هذا الوصي لا يشترط إحضار الصغير. وفي «أدب القاضي» للخصاف: إذا وقع الدعوى على الصبي المحجور إن لم يكن للمدعي بينة لا يكون له حق إحضار الصغير، وإن كان للمدعي بينة، والمدعي يدعى الاستهلاك فله حق إحضاره؛ لأن الصبي مؤاخذ بأفعاله، والشهود يحتاجون إلى الإشارة إليه، فكان له حق إحضاره، ولكن يحضر معه أبوه حتى إذا لزم الصبي شيء يؤدي عنه أبوه من ماله. وفي كتاب «الأقضية» : أن إحضار الصبي في الدعاوى شرط، وبعض المتأخرين من مشايخنا من شرط ذلك، سواء كان الصغير مدعياً أو مدعى عليه، ومنهم من أبى ذلك. وإذا لم يكن للصبي وصي يطلب المدعي من القاضي أن ينصب عنه وصياً، أجابه القاضي إلى ذلك، ويشترط حضرة الصغير عند نصب الوصي للإشارة إليه هكذا ذكر في «الفتاوى» وفي كتاب «الأقضية» : ومن مشايخ زماننا من أبى ذلك وقال: أو كان الصبي في المهد اشترط إحضار المهد لا شك أن اشتراط بعيد، وقال: ألا ترى أنه لو وقع الدعوى على امرأة مخدرة أو على مريض لا يشترط إحضارهما، والصبي أعذر، والأول أقرب إلى الصواب وأشبه بالفقه؛ لأن المعنى الذي لأجله شرط حضرة البائع إذا كان مدعياً أو مدعى عليه، وهو قطع الشبهة والتهمة بالإشارة، وذلك المعنى موجود في حق

الصبي، ولا يبعد إحضار المهد إذا وقعت الحاجة إليه. وفيما إذا وقع الدعوى على مريض أو امرأة مخدرة، فقد ذكرنا قبل هذا أن القاضي يبعث أميناً من أمنائه مع شاهدين، يشهدان على إقرارهما ونكولهما، فإذا أقرا أو نكلا أمرهما الأمين أن يوكلا وكيلاً، ويكون توكيلهما بمحضر من الأمين بمنزلة توكيلهما بمحضر من القاضي، فتنقطع الشبهة والتهمة على أن ثمة ضرورة، وهو إيفاء الستر على المرأة، وصيانة المريض عن ضرر زائد يلحقه بسبب الحضور بمجلس الحكم، ولا ضرورة في الصبي، حتى لو انعدمت الضرورة ثمة أيضاً بأن كانت بزرة تخالط الرجال، ولا يلحق المريض ضرر زائد بالحضور مجلس الحكم، يشترط إحضارهما أيضاً. وفي «المأذون الكبير:» العبد المأذون إذا لحقه دين التجارة، وطلب الغرماء من القاضي بيع العبد، فالقاضي لا يبيع العبد إلا بحضرة المولى، فرق بين رقبة العبد وبين كسبه، فإن كسب العبد يباع وإن لم يكن المولى حاضراً، والفرق أن الخصم في رقبة العبد المأذون المولى دون العبد، ألا ترى أنه لو ادعى إنسان حقاً في رقبة العبد كان الخصم هو المولى، فيشترط حضرة المولى أو حضرة نائبه لبيع العبد لهذا، فأما الخصم في كسب العبد هو العبد دون المولى، ألا ترى أنه لو ادعى إنسان في كسبه حقاً كان الخصم في ذلك هو العبد، ولما كان الخصم في أكساب العبد هو العبد يشترط حضرة العبد. وفيه أيضاً: إذا شهد شاهدان على العبد المأذون بغصب اغتصبه أو بوديعة استهلكها أو جحدها، أو شهدوا عليه ببيع أو شراء أو بإجارة، وأنكر العبد ذلك ومولاه غائب قبلت شهادتهما، ولا يشترط حضور المولى؛ لأنهم شهدوا على المأذون بضمان التجارة، لأن ما يجب بالأسباب التي شهد بها الشهود ضمان التجارة، والخصم في ضمان التجارة المأذون. ولو كان مكان العبد المأذون عبد محجور عليه إذا شهد عليه شاهدان باستهلاك مال أو غصب اغتصبه، وجحد العبد ذلك لا تقبل هذه الشهادة، إلا بحضرة المولى؛ لأن العبد المحجور فيما يدعى عليه من استهلاك المال ليس بخصم، وقول محمد في هذه المسألة: إن الشهادة لا تقبل. معناه: أنها لا تقبل على المولى، حتى لا يخاطب المولى ببيع العبد، أما تقبل الشهادة على العبد، ويقضي القاضي عليه حتى يؤاخذ به بعد العتق، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في «شرح المأذون» ، وهذا لأن المدعي ادعى على العبد الاستهلاك ووجوب الدين في ذمته، وادعى على المولى بيع العبد بالدين، فلئن تعذر القضاء على المولى لغيبته أمكن القضاء على العبد، فيقضي القاضي على العبد، حتى إذا عتق يؤاخذ به. وإن كان المولى حاضراً مع العبد فإن كان المدعي ادعى استهلاك الوديعة أو استهلاك بضاعة على العبد المحجور، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله القاضي لا يسمع هذه البينة على المولى؛ لأن المدعي لا يدعى شيئاً على المولى في هذه

الصورة، فإن العبد المحجور إذا استهلك وديعة عنده، أو بضاعة عنده لا يجب على المولى شيء، ولكن يؤاخذ به بعد العتق، وعند أبي يوسف رحمه الله تسمع البينة على المولى؛ لأن المدعي يدعي على المولى بيع العبد في الدين، أو قضاء الدين من ماله، ألا ترى أنه لو ثبت ذلك من العبد معاينة يؤاخذ المولى عبده ببيع العبد، وإن شهد الشهود على إقرار العبد بذلك لا يقضي على المولى بهذه البينة، سواء كان حاضراً أو غائباً، ألا ترى أنه لو ثبت إقرار العبد بذلك معاينة لا يؤاخذ المولى بشيء، فكذلك إذا ثبت بالبينة، والصبي الذي أذن له أبوه أو وصي أبيه في التجارة بمنزلة العبد المأذون له في التجارة، إذا شهد الشهود عليه بما هو من ضمان التجارات قبلت شهادتهم عليه، وإن كان الذي أذن له غائباً. وإذا شهد الشهود على العبد المأذون بقتل عمد أو قذف امرأة أو زنى أو بشرب خمر والعبد ينكر، فإن كان المولى حاضراً قضى بذلك على العبد بلا خلاف، وإن كان العبد حاضراً والمولى غائباً، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله القاضي لا يقضي عليه بشيء، لأن المستحق بعض هذه الأشياء دم العبد ومال المولى، وبعضها نفس العبد ومال المولى، فكان الخصم العبد والمولى جميعاً وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: القاضي يقضي عليه بالحد والقصاص، كما لو أقام البينة عليه بالحد أو القصاص قبل الإذن، وإن كان الشهود شهدوا على إقرار العبد، وإن شهدوا على إقراره بالحدود الخالصة لله تعالى كحد الزنا، وشرب الخمر، لا تقبل هذه الشهادة بالإجماع، لأنهم شهدوا على إقرار مرجوع عنه، وإن شهدوا على إقراره بالقذف أو بالقتل العمد تقبل البينة حال حضرة المولى، ويقضي بالقصاص، وحد القذف وإن كان المولى غائباً فالمسألة على الخلاف، وإن قامت البينة على إقرار العبد؛ لأن إقرار الذي هو سبب لثبوت القصاص على.g ....... ثبت بالبينة فيعتبر كما لو قامت البينة على (111ب4) القتل والقذف، وهناك يشترط حضرة المولى عندهما، خلافاً لأبي يوسف كذا هنا. ولو شهد الشهود على صبي مأذون له، أو معتوه مأذون له بقتل عمد أو قذف أو شرب خمر أو زنى، ففيما عدا القتل لا تقبل الشهادة، سواء كان الآذن حاضراً أو غائباً، وفيما إذا شهدوا بالقتل إن كان الآذن حاضراً تقبل الشهادة، ويقضى بالدية على العاقلة، وإن كان الآذن غائباً لا تقبل الشهادة؛ لأن القتل غير داخل تحت الآذن؛ لأن الداخل تحت الإذن التجارة والقتل ليس بتجارة، وما لم يدخل تحت الإذن، فالحال فيه بعد الإذن والحال فيه قبله سواء، وقبل الآذن قامت البينة وقضى بالدية على العاقلة، وإن كان غائباً لا تقبل، فكذا بعد الآذن. وإن شهدوا على إقرار الصبي والمعتوه بعض ما ذكرنا لا تقبل الشهادة، سواء كان الآذن حاضراً أو غائباً، وإن شهدوا على عبد مأذون له بسرقة عشرة دراهم أو أكثر وهو

يجحد، فإن كان مولاه حاضراً قطع عندهم جميعاً، وهل يضمن السرقة إن كان استهلكها؟ لا يضمن، وإن كانت قائمة ردها على المسروق منه، وإن كان المولى غائباً لا يقطع العبد عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، ويضمن السرقة الخصم في القطع المولى والعبد، والخصم في مال العبد، وعند أبي يوسف رحمه الله يقضي بالقطع؛ لأن الخصم في حق القطع العبد لا غير والعبد حاضر وإن كان الشهود شهدوا بسرقة أقل من عشرة دارهم قضى القاضي بالمال، ولا يقضي بالقطع سواء كان المولى حاضراً أو غائباً. وإن كان الشهود شهدوا على إقرار المأذون بسرقة عشرة دراهم والمولى غائب، فالقاضي يقضي بالمال على العبد، ولا يقضي بالقطع في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف رحمه بالله: يقضي بالقطع ولو شهدوا على عبد محجور بسرقة عشرة دراهم أو أكثر، فإن كان المولى غائباً، فالقاضي لا يقضي عليه بشيء لا بالقطع ولا بالمال عند أبي حنيفة ومحمد رحمها الله؛ لأن الخصم في حق القطع العبد لا غير، والعبد حاضر وإن كان الشهود شهدوا على إقرار العبد المحجور بالسرقة، فالقاضي لا يقبل هذه البينة أصلاً، إن كان المولى غائباً وإن كان حاضراً لا يسمع البينة على المولى حتى لا يقطع العبد، ولا يؤاخذ المولى ببيعه لأجل المال، ولكن يؤاخذ العبد به بعد العتق. وإذا وهب الرجل لعبد رجل جارية، ثم أراد الدخول فيها، واختصموا إلى القاضي، ومولى العبد غائب فإن كان العبد مأذوناً فالقاضي يقضي له بالرجوع، وإن كان محجوراً لا يقضي له بالرجوع ما لم يحضر المولى. أما الأول فلأن الواهب يدعي حقاً فيما في يد المأذون من كسبه، ويده يد معتبرة على ما في يده، ولهذا لو باع ما في يده يجوز، فكان رجوع الواهب إبطال يد العبد فكان هو الخصم في ذلك، فلا يشترط حضرة المولى. وأما الثاني فلأن يد المحجور على ما في يده ليست بيد معتبرة، ألا ترى أنه لو باع ما في يده لا يجوز، بل يده يد المولى حكماً، فكان رجوع الواهب إبطال يد المولى حكماً، فيشترط حضرة المولى، فإن قال العبد: أنا محجور، وقال الواهب: أنت مأذون، ولي أن أرجع فيها قبل حضور مولاك، فالقول قول الواهب مع يمينه استحساناً؛ لأن الهبة حين وقعت وقعت موجبة للرجوع، فالعبد بقوله: أنا محجور يدعي تأخير حق الواهب في الرجوع إلى أن يحضر المولى، والتأخير نوع إبطال، فكان القول قول الواهب، وإن أقام العبد البينة أنه محجور لا تقبل بينته، هذا إذا كان المولى غائباً والعبد حاضر، فإن كان المولى حاضراً والعبد غائب، فإن كان الموهوب في يد العبد لم يكن المولى خصماً، لأن الواهب لا يدعي على المولى عيناً في يده، ولا حقاً في عين في يده ولا ديناً في ذمته، والإنسان إنما ينتصب خصماً لغيره، يأخذ هذه الوجوه، وإن كانت الهبة في يد المولى، فهو خصم، لأن المولى يزعم أن ما في يده ملكه؛ لأن الموهوب من العبد ملك المولى إذا لم يكن على العبد دين، ولم يعرف دين هنا.

الفصل الحادي والثلاثون: في نصب الوصي والقيم وإثبات الوصاية عند القاضي

ومن ادعى حقاً في عين في يد إنسان، وذو اليد يدعى أنه ملك له ينتصب خصماً للمدعي وإن قال المولى: أودعني هذه الجارية عبدي فلان، ولا أدري أوهبتها له أم لا، فأقام المدعي بينة على الهبة، فالمولى خصم؛ لأن المولى يزعم أن ما في يده ملكه، فينتصب خصماً لمن يدعي أنه ملكه، والله أعلم. الفصل الحادي والثلاثون: في نصب الوصي والقيم وإثبات الوصاية عند القاضي وإذا ترك الرجل مالاً في البلدة التي فيها، وورثته في بلدة أخرى، فادعى عليه قوم حقوقاً وأموالاً، هل ينصب القاضي عن الميت وصياً ليثبت الغرماء الديون والحقوق على الميت؟ ذكر الخصاف في «أدب القاضي» أن هذه البلدة إن كانت منقطعة عن تلك البلدة، ولا يذهب الغير من ههنا إلى ثمة، ولا يأتي كتاب، للقاضي أن ينصب وصياً. وذكر الخصاف في «نفقاته» في باب نفقة المرأة إذا مات الرجل، ولم يوصي إلى أحد، وله أولاد صغار وكبار، فالقاضي ينصب وصياً في ما له. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وللقاضي أن ينصب الوصي في مال الميت في ثلاث مواضع. أحدها: أن يكون على الميت دين، أو يكون الورثة صغار، أو يكون الميت أوصى بوصايا، فينصب وصياً لينفذ وصاياه، فإنما ينصب الوصي في هذه المواضع، وفيما عداها فلا. وما ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : لا يخالف ما ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله؛ لأن المراد مما ذكره شمس الأئمة نصب الوصي لقضاء الدين، والمراد مما ذكر الخصاف ونصب الوصي لإثبات الدين. وإذا هلك الرجل وترك عروضاً وعقاراً، وعليه ديون وله ورثة كبار، فامتنعت الورثة عن قضاء الدين وعن بيع التركة، وقالوا لرب الدين سلمها التركة إليك وأعلم به فالقاضي هل ينصب وصياً للميت؟ فقد قيل: ينصب، وقد قيل: لا ينصب، ويأمر الورثة بالبيع، فإن أبوا حبسهم حتى يبيعوا، وهذا القائل يقيس هذا على العدل في باب الرهن إذا كان سلطان على البيع وأبى البيع فالقاضي يجبره على البيع بالحبس؛ لأنه امتنع عن إيفاء ما هو مستحق عليه كذا هنا، فإذا حبسه القاضي ولم يبع الآن يبيع بنفسه أو ينصب وصياً للميت ليبيع الوصي إيفاء صاحب الدين بقدر الممكن، وسئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عمن مات ولم يترك شيئاً، وعليه دين وأراد الغريم إثبات دينه فله ذلك، يقيم البينة على الورثة إن كان له ورثة وكانوا حضوراً، وإن لم يكن له ورثة إذا كانوا غيباً، فالقاضي ينصب له وصياً حتى يثبت الدين عليه، وهذا الجواب يخالف ما ذكره الخصاف رحمه الله في المسألة المتقدمة. وإذا انصب القاضي وصياً في تركة الأيتام والأيتام في ولايته، ولم تكن التركة في ولايته أو كانت التركة في ولايته، حكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه

الله إنه قال: يصح النصب على كل حال، ويعتبر التظالم والاستعداء، ويصير الوصي وصياً في جميع التركة، أينما كانت التركة. وقال القاضي الإمام علي السغدي رحمه الله: ما كان من التركة في ولايته يصير وصياً فيه ومالا فلا، وقيل أيضاً: شرط صحة النصب كون اليتيم في ولايته، ولا يشترط كون التركة في ولايته. وإذا نصب القاضي متولياً في وقف ولم يكن الوقف والموقوف عليه في ولايته، قال شمس الأئمة هذا إذا وقعت المطالبة في مجلسه صح النصب، وقال ركن الإسلام رحمه الله: لا يصح، وإن كان الموقوف عليهم في ولايته بأن كانوا طلبة العلم أو أهل قرية أو أهل بلدة أو...... معدودين أو كان رباطاً أو مسجداً، ولم تكن الضيعة الموقوفة في ولايته قال شمس الأئمة رحمه الله: تعتبر المرافعة والتظالم، وقال ركن الإسلام: إن كان المقضي عليه حاضراً يجوز عما قدمه تقدموا إلى القاضي، وقالوا: إن فلاناً مات ولم يوص إلى أحد، والحاكم لا يعلم بذلك، فيقول لهم إن كنتم صادقين فقد جعلت هذا وصياً، فإنه يصير وصياً إن كان يعرف هو بالعدالة. في «فتاوى أبي الليث» وفي «فتاوى أهل سمرقند» : رجل جاء إلى قاض من القضاة، وقال: إن أبي فلانا مات وعليه ديون وترك عروضاً وعقاراً ولم يوص إلى أحد، وأنا لا أستطيع بيع ما ترك لأقضي دينه، لأن أهل الناحية لا يعرفونه، لا بأس للقاضي أن يقول: إن كنت صادقاً فبع المال، واقض الدين، إن كان صادقاً وقع ترفعه، وإن كان كاذباً لا يعمل أمر القاضي، وإذا مات الرجل وقد كان أوصى إلى رجل، أي: جعله وصياً وقبل الوصي الوصاية في حياته أو بعد وفاته، وجاء إلى القاضي يريد إثبات وصايته، فالقاضي ينظر فيه (112أ4) إن كان أهلاً للوصاية تسمع دعواه إذا أحضر مع نفسه من يصلح خصماً، حتى إن المدعي إذا كان عبداً أو صبياً، فالقاضي لا يسمع دعواهما؛ لأنهما ليسا من أهل الوصاية، أما العبد فلأنه مشغول بخدمة المولى، وأما الصبي فلأنه لا يهتدي إلى التجارات، وهل ينفذ تصرفهما اختلف المشايخ فيه، والأصح أنه لا ينفذ؛ لأنه لو نفذ تصرفهما: إما أن ترجع العهدة إلى الميت ولا وجه إليه وإنه ظاهر، وإما أن ترجع إليهما، ولا وجه إليه أيضاً؛ لأنهما ليسا من أهل لزوم العهدة، فإن عتق العبد، فالقاضي يسمع دعواه بعد ذلك، ويقضي بوصايته. وإن كبر الصبي فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: القاضي يسمع دعواه وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يسمع، وهنا كلمات كثيرة تأتي في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى، والخصم في ذلك وارث أو موصى له، أو رجل للميت عليه دين، أو رجل له على الميت دين، أما الوارث فلأن الوصي يدعي أن يده فوق يد الوارث في مال الميت رأياً وتدبيراً وتصرفاً، والوارث ينكر ذلك، فيكون خصماً له، وأما الموصى له فلأنه بمنزلة الوارث، وأما الغريم الذي للميت عليه دين فلأنه يدعي حق استيفاء ما عليه من الدين

وهو ينكر، وأما الغريم الذي له على الميت دين، فقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله: إنه لا يكون خصماً له، وقال الخصاف: يكون خصماً؛ لأنه يريد أن يدفع خصومته في الدين، وإنما يكون له ذلك بعد إثبات الوصاية. هذه الجملة من كتاب «الأقضية» . وفي «المنتقى» رواية إبراهيم: رجل مات وعليه دين وأوصى بثلث ماله أو بدراهم مسماة لرجل، وأخذه الموصى له ثم جاء الغريم، والورثة شهوداً وغيب وقدم الموصى له إلى القاضي، فالموصى له لا يكون خصماً له وأشار إلى أن الوصية متى حصلت بقدر الثلث فالموصى له لا يعتبر بالوارث، وإذا حصلت الوصية بما زاد على الثلث وصحت الوصية بأن لم يكن ثمة وارث فالموصى له خصم الغريم في هذه الحالة، ويعتبر الموصى له في هذه الحالة بالوارث؛ لأن استحقاق ما زاد على الثلاث من خصائص الوارث، والوارث ينتصب خصماً للغريم، ففي حق الوصي يجب أن يكون الجواب كذلك، وصاحب «الأقضية» ذكر الموصى له مطلقاً من غير فصل، بينما إذا كان موصى له بالثلث أو بالزيادة على الثلاث، فيحتمل أن يكون المراد منه ما إذا كان موصى له بالزيادة على الثلث. ثم إذا أقام بينة على بعض هؤلاء أن الميت قد أوصى إليه، وأنه قد قبل وصايته، نظر فيه القاضي: فإن كان عدلاً مرضي السيرة مهتدياً في التجارة جعله القاضي وصياً، وقضى بوصايته، وإن عرفه بالفسق والخيانة لا يمضي إيصاءه. وإن عرف منه ضعف رأي وقلة هداية في التصرف يمضي وصايته، ولكن يضم إليه أميناً مهتدياً في التجارة حتى يتظاهر في التجارة، فلا يتلف مال الصبي. وإن لم يظهر منه فسق، ولم يعرف بذلك لكن يتهم به، فالقاضي يسد بمسرف أو يضم إليه وصياً آخر، حتى لا ينفرد أحدهما بالتصرف، فيظهر النظر لليتيم، ثم إذا أثبت وصايته بالبينة. وفي كتاب «الوصاية» : إن أقر الميت بالديون، وأوصى بأنواع البر وحضر غريم، وقضى له بحقه، ثم حضر آخر هل يقضى له بتلك البينة؟ قال أبو حنيفة رضي الله: عنه لا يقضى، وقال أبو يوسف: يقضي، ولم يذكر قول محمد في الكتاب، فأما في الوصايا بأنواع البر يكتفي بهذه البينة بالإجماع، وقال أبو يوسف رحمه الله ليس هذا على الوصية بأنواع البر، ووجهه أن ثمة إنما اكتفى بتلك الوصية؛ لأن الوصي انتصب خصماً في إثبات كتاب الوصية، فإذا ثبت ذلك ينتصب جميع ما في «الكتاب» ، وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول بأن الغريم الآخر لم يكن حاضراً وقت إثبات كتاب الوصية ولا حضر نائبة، فلا يصح ذلك أما هنا بخلافه. قال في كتاب «الأقضية» : ولو أن رجلاً حضر عند القاضي وادعى أن أخاه فلان بن فلان مات وترك من الورثة أباه فلان بن فلان، وأمه فلانة بنت فلانة، ومن البنين فلاناً وفلاناً، ومن البنات فلانة وفلانة، وامرأته فلانة بنت فلان، لا وارث له غيرهم، وأنه أوصى إلي في صحة عقله وجواز أموره في جميع تركته، وأني قبلت منه هذه الوصية، وتوليت القيام بذلك، وأنه كان لأخي هذا على هذا الرجل الذي حضر كذا من الدين،

وإن أخي هذا مات قبل قبضه شيئاً من هذا الدين، وإنّ على هذا الذي حضر قضاء هذا الدين إلي لأصرفه إلى ورثته، وإلى امرأته، فالقاضي يسمع دعواه ويسأل الخصم أولاً عن الموت؛ لأنه لا يصير وصياً قبل الموت، فإن أقر بالموت توجهت عليه المطالبة من جهة الوصي؛ لأن حق المطالبة كان ثابتاً للميت، وبالموت يحول إلى الوصي، ثم يسأله عن الدين؛ لأنه إنما يصير خصماً له في إثبات الوصاية لكونه غريم الميت، فإن أقر بالدين حينئذٍ يسأله عن الوصاية، فإن أقر بها أيضاً لا يؤمر بدفع المال إليه حتى يثبت وصايته بالبينة. وذكر الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : رجل ادعى أن فلاناً مات وأنه كان أوصى إليه بقبض دينه الذي له على هذا الرجل، والعين الذي في يديه وصدقه المدعى عليه في جميع ذلك، أمر بتسليم الدين والعين إليه، وفرق بين الوصي والوكيل على ظاهر الرواية، والفرق أن للقاضي ولاية نصب الوصي عن الميت، وأمر المديون والمودع بقضاء الدين وتسليم الوديعة إليه من غير إقرارهما، فلا يكون الأمر بالتسليم في هذه الصورة بحكم إقرارهما ليقال بأن إقراره في حق العين صادف ملك الغير، أما ليس للقاضي ولاية نصب الوكيل عن الغائب، وأمر المودع والمديون بقضاء الدين، وتسليم الوديعة إليه فكان الأمر بالتسليم بحكم إقرار المدعى عليه، وإقراره في حق العين صادف ملك الغير فلهذا افترقا. وفي «الجامع الكبير» أن على قول محمد رحمه الله أولاً: يؤمر المدعى عليه بتسليم الدين التي أوصى، ولا يؤمر بتسليم العين، فما ذكر في «الأقضية» يوافق قول محمد رحمه الله آخراً على ما ذكر في «الجامع» ، فعلى هذا القول يحتاج إلى الفرق بين الوكالة وبين الوصاية في الدين، والفرق وهو: أن الوصاية لا تثبت إلا بعد موت الوصي، فلو قضينا بإقراره وأمرناه بتسليم الدين إليه، فقد حكمنا بموت الوصي متعدية إلى الميت من عتق أمهات أولاده وغير ذلك، فيؤدي إلى إثبات تلك الأحكام وإقرار رجوع الموكل على المديون إذا حضر وجحد الوكالة، وهذا الحكم غير ثابت، فإن صاحب الدين إذا حضر وجحد الوكالة كان له أن يرجع على المديون، فالعمل بإقراره لا يؤدي إلى إثبات أحكام متعدية إلى الغير، فلهذا افترقا. ولو كان الغريم أقر بالموت وأنكر الوصاية والمال، كلف المدعي إقامة البينة على الوصاية أولاً؛ لأن دعوى المال إنما تسمع من الخصم، وإنما ينتصب هذا المدعي خصماً بإثبات الوصاية، فإذا ثبت الوصاية بالبينة حينئذٍ يقيم البينة على المال، وكذلك إذا أنكر جميع ذلك كلف الوصي إقامة البينة على الوصاية والموت جميعاً، فينتصب خصماً، فإذا أقامها حينئذٍ يسمع البينة منه على المال ولو أقام البينة أولاً على المال، ثم أقام البينة على الوصاية لا تقبل بينته على المال لما مر، ويؤمر بإعادتها، لأنها قامت من غير خصم؛ لأنه لم يثبت كونه خصماً في تلك الحالة، وإن كان الشهود على الوصاية والموت والمال فريقاً واحداً، فأقام بينة على ذلك كله جملة، قال أبو حنيفة رضى الله: عنه لا

تقبل بينته على المال ويؤمر بإعادتها، وقال أبو يوسف رحمه الله: تقبل بينته عليهما، ولا يؤمر بالإعادة، ولكن إذا آل الأمر إلى القضاء، فالقاضي يقضي بالوصاية أولاً ثم بالمال، هكذا ذكر الخصاف، وفي موضع آخر أن القاضي لا يقبل البينة على المال عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند محمد يقبل، قال: ثمة، وقول أبي يوسف رحمه الله مضطرب على نحو ما ذكرنا في الوصاية. وإن أقر بالوصاية والموت فأنكر المال ولم يكن للمدعي بينة، وطلب من القاضي أن يحلفه على المال أجابه القاضي إليه، وإن أقر بالمال والموت وأنكر الوصاية، كان للقاضي أن ينصب وصياً، ولو لم ينصب ليس له أن يستحلفه لأنه لم يصر خصماً بعد، وإن أقر بالوصاية والمال، وأنكر الموت هل يستحلف عليه؟ فالجواب فيه: نظير الجواب في الوارث قبل هذا، ولو كان المدعى عليه أقر بالمال وأنكر الوصاية والموت، وأقام المدعي البينة عليهما وقضى القاضي بالوصاية وبالموت بالشرائط التي ذكرنا؛ وأراد أن يكتب بذلك كتاباً يكتب: هذا كتاب أشهد عليه القاضي فلان بن فلان إلى قولك حضر في يوم كذا من شهر كذا في سنة كذا فلان بن فلان، ويثبت (112ب4) معرفته عنده باسمه ونسبه ووجهه وذكر: وحضر معه فلان، أثبت معرفة المدعى عليه بالاسم والنسب؛ لأن المدعى عليه حاضر مشار إليه يلزمه ما أقر به المدعي، هذا الذي حضر أن أخاه فلان بن فلان ينسبه إلى أبيه وجده. عند أبي حنيفة رضي الله عنه توفي وترك من الورثة أباه فلان وأمه فلانة، ومن البنين فلاناً وفلاناً، ومن البنات فلانة وفلانة لا وارث غيرهم إنما يذكر الورثة؛ لأن التركة بعد الموت صارت حقاً وملكاً للورثة، فهو يدعي ديناً على غيره لهم، فلا بد من بيان مستحقيه، ثم ذكر فإنه أوصى إليه في صحة عقله وبدنه وجواز أمره، لا بد من ذكر صحة العقل وجواز الأمر، لأن الإيصاء تصرف قولي، والتصرفات القولية لا تتحقق إلا ممن له عقل، ولا يعتبر شرعاً إلا ممن هو جائز الأمر، فأما ذكر صحة البدن غير محتاج إليه؛ لأن الإيصاء يصح في المرض كما يصح في الصحة. ثم ذكر في جميع تركته وما يخلف بعده من قليل وكثير إنما قال: في جميع تركته احترازاً عن قول محمد، فإن عنده الوصاية لا تقبل التخصيص. ثم ذكر وقبل وصيته إليه وتولى القيام بذلك؛ لأن الوصاية تمامها بالقبول فلا بد من القبول ليعلم أنها تممت، ثم ذكر وإن لأخيه فلان الميت هذا على فلان بن فلان، هذا الذي أحضره معه كذا درهماً وزن سبعة حالاً إنما يذكر حلول الدين؛ لأنه إنما ينتصب خصماً باعتبار حق المطالبة إياه وذلك إذا كان الدين حالاً، أما إذا كان مؤجلاً لا يثبت له حق المطالبة، فلا تسمع دعواه ولا بينته على الوصاية. ثم ذكر: وإن البينة على ما ادعى ولم يبدأ الجواب المدعى عليه؛ لأنه وإن أقر بالوصاية فإنها لا تثبت بإقراره على أدائه كتاب «الأقضية» ، وهو قول محمد رحمه الله حتى لا يبرأ عن الدين بالدفع إليه، ولأن الجواب إنما يستحق بعد دعوى الخصم، وإنما

يعرف كونه خصماً بإثبات الوصاية. ثم ذكر وأحضر من الشهود رجلين، فشهدا أن فلان بن فلان أخا فلان بن فلان الوصي حضر وقد عرفاه معرفة قديمة باسمه ونسبه ووجهه إنما ذكرا لمعرفة ليعلم أنهم إنما شهدوا لمعلوم معروف عندهم، فالقضاء بالدين والوصاية نفع للميت، فلا بد من معرفتهم ليمكنهم الشهادة بذلك الاسم والنسب بعد الموت. ثم ذكر توفي وترك من الورثة أباه فلان بن فلان، وأمه فلانة بنت فلان وابنتين يقال لهما: فلانة وفلانة، وابنين يقال لهما فلان وفلان وامرأة اسمها فلانة بنت فلان ولم يحضروا لا يعرفان له وارثاً غيرهم، فعرف القاضي هذين الشاهدين بالعدالة والرضى فقبل شهادتهما فيما شهدا به، وشهد أحد هذين الشاهدين وشاهد آخر، فشهدوا جميعاً أن فلان ابن فلان أشهدهم في صحة عقله وبدنه وجواز أمره أنه جعل أخاه فلان بن فلان الذي حضر وهو حاضر في مجلس الإشهاد ووصيه بعد وفاته، في جميع ما يخلف، فقيل فلأن الذي حضر وصيته إليه، وإنما ذكر وصيته بعد وفاته، وإن كان ينصرف مطلق لفظ الإيصاء إلى ما بعد الموت، ولكن لو قيده بحال حياته بأن قال: وصيي في حياتي كان توكيلالاً فذكر بعد وفاته ليعلم أنه لم يرد به الوكيل بل أراد به كونه وصياً بعد الموت. ثم ذكر فعرف هذا القاضي هذين الشاهدين بالعدالة والرضى في الشهادة وإنما قيد الرضى في الشهادة؛ لأنه يجوز أن يكون مرضياً ولا تقبل شهادته لمكان عقلية قال الحسن البصري رحمه الله: من الناس من أرجو شفاعته ولا أقبل شهادته.x ثم ذكر فسأل القاضي فلان بن فلان يعني المدعى عليه عما ادعى عليه فلان بن فلان لأخيه فلان من الدراهم الموصوفة فيه، أما سؤال المدعى عليه عما ادعى عليه فلان؛ لأنه لما ثبت الوصاية وثبت موت الموصي بهاتين الشهادتين توجهت الخصومة عليه؛ لأنه ظهر أن الدعوى صدرت عن الخصم، فيلزمه الجواب فيسأله عن ذلك، وأما لأخيه لأنه قد ثبت الموت والوصاية وعدة ورثته بهاتين، فلا حاجة إلى السؤال عن ذلك إنما الحاجة إلى السؤال عن الدين الذي يطالب بها المدعى، وإنما يطالب لأجل الميت، فلهذا قال لأخيه فلان بن فلان. ثم ذكر: فأقر عنده يعني المدعى عليه أن لفلان بن فلان أخي هذا الذي حضر عليه كذا وكذا درهماً وزن سعة نفذ كذا حاله، فيسأل فلان الذي حضر يعني المدعي القاضي إنفاذ القضاء بما ثبت عنده من وفاة أخيه وعدة ورثته ووصيته إليه، وإلزام فلان يعني المدعى عليه، ما أقر به عنده لفلان بن فلان من الدراهم الموصوفة فيه والقضاء بذلك كله عليه ويأمره بدفعها إليه، وإنما خصم وثبت وصايته بالبينة وصار القضاء بالمال مستحقاً عليه إلا أن القاضي إنما يقضي ويلزم المدعى عليه ما أقر به عنده بطلب الخصم، فذكر سؤال المدعي لهذا. ثم ذكر وأنفذ القاضي فلان بن فلان إلى أخيه فلان في جميع تركته وقبوله هذه الوصاية بما اجتمع عليه الشاهدان اللذان شهدا بذلك عنده في شهادتهم، وهذا لأن شهود

الفصل الثاني والثلاثون: في القضاء على الغائب والقضاء الذي ينفذ به إلى غير المقضي عليه، وقيام بعض أهل الحق عن البعض في إقامة البينة

الوصاية لما كان غير شهود الوفاة، وعدة الورثة والقضاء بناء على الشهادة بذكر القاضي القضاء بما اجتمع عليه كل فريق على حدة ليعلم أن القضاء واقع بأي شهادة، ثم قال: وذلك بعد أن انتهت إليه عدالته وأمانته وإنه موضع لذلك؛ لأن القاضي لو عرف فسقه أو خيانته لا يقضي بوصايته، فيذكر ذلك ليعلم أن قضاءه وقع في محله. ثم ذكر وأنه أمره أن يقوم في جميع تركة أخيه فلان بن فلان مقام الوصي فيما يجب في ذلك ثبت عليه، وألزام القاضي فلان بن فلان الذي حضر يعني المدعى عليه ما أقر به عنده لفلان من الدراهم الموصوفة فيه، وقضى بذلك كله عليه، وأمره بدفعها إلى فلان بن فلان الذي حضر وصي أخيه فلان، وهذا لأن المال قبل القسمة مبقاة على حكم ملك الميت، فيكون الدين للميت، فلهذا أضاف الدين إليه، ولكن إذا آل الأمر إلى الآمر بالدفع، يأمر القاضي بدفعها إلى الوصي لأنه قائم مقام الميت في قبض حقوقه. ثم يذكر وأنفذ ذلك كله وقضى به على ما سمى، ووصف في هذا الكتاب بمحضر من فلان وفلان، وهو يومئذ قاضي عبد الله فلان أمير المؤمنين على مدينة كذا، إنما ذكر ذلك لأن الإشهاد على الحكم إنما يصح من القاضي، والقضاء لا ينفذ إلا من القاضي، فشرط أن يذكر أنه قاض يوم الحكم ليعلم أن القضاء وقع صحيحاً ثم يكتب التاريخ والله أعلم. وليس للقاضي ولاية نصب الأوصياء، ولا ولاية نصب قيّم الأوقاف إذا لم يكن في منشوره ذلك إذا قال القاضي لرجل جعلتك وكيلاً في تركة فلان فهو وكيل بالحفظ خاصة، إلا أن يكون به ما يدل على الوكالة بأن يقول: تبيع ونشتري فحينئذٍ يكون وكيلاً تاماً، ولو قال جعلتك وصياً في تركة فلان فهو وصي تام، وهذا لأن القاضي بمنزلة المالك ولو قال المالك لرجل أنت وكيل في مالي فهو وكيل بالحفظ، ولو قال أنت وصي في مالي فهو وصي تام له بعد الموت، فكذا إذا قال القاضي ذلك. القاضي إذا خرج إلى القرية ونصب فيما في أمور الصبي أو في وقف أو في نكاح أيتام، حكى فتوى ظهير الدين رحمه الله أنه يجوز لأنه ليس بقضاء ولا هو من عمل القضاء، فلا يشترط له المصر وإنه مشكل عندنا لأن القاضي إنما يفعل ذلك بولاية القضاء، ألا ترى أنه لو لم يؤذن له في ذلك لا يملك فكان من جملة القضاء والله أعلم. الفصل الثاني والثلاثون: في القضاء على الغائب والقضاء الذي ينفذ به إلى غير المقضي عليه، وقيام بعض أهل الحق عن البعض في إقامة البينة قال: القضاء على الغائب وللغائب لا يجوز إلا إذا كان عنه خصم حاضر، أما قصدي في ذلك بتوكيل الغائب أما هو إما حكمي، وذلك بأن يكون المدعي على الغائب سبباً لثبوت المدعي على الحاضر لا محالة أو شرطاً له على ما ذكره فخر الإسلام رحمه الله، وعند عامة المشايخ أن يكون المدعي على الغائب سبباً لثبوت المدعى عليه على

الحاضر لا محالة، وإليه أشار محمد رحمه الله في الكتب في مواضع، وقد ذكرنا هذا الأصل بتمامه في كتاب النكاح من «الفتاوي» وبعض المتأخرين من مشايخنا وافقوا فخر الإسلام في انتصاب الحاضر خصماً عن الغائب إذا كان المدعي على الغائب شرطاً لثبوت المدعي على الحاضر، وبه كان يفتى شمس الإسلام محمود الأوزجندي. حكى عنه ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، وذكر في طلاق «الجامع الأصغر» رجل قال لامرأته إن طلق فلان امرأته فأنت طالق، ثم إن امرأة الحالف ادعت على الحالف أن فلاناً طلق امرأته وفلان غائب وأقامت البينة لا تقبل بينتها هذه، ولا يحكم بوقوع الطلاق عليها، وقد أفتى بعض المتأخرين بقبول هذه البينة وبوقوع الطلاق. فإن قيل أليس إنه لو قال لامرأته إن دخل فلان الدار، فأنت طالق ثم إن المرأة أقامت البينة أن فلاناً دخل ليس بقضاء على الغائب إذ ليس فيه إبطال حق على الغائب، بخلاف مسألة «الجامع الأصغر» ، لأن ذلك قضاء على الغائب، لأن فيه إبطال نكاح الغائب والحاصل أن الإنسان إذا أقام البينة على شرط حقه بإثبات فعل على الغائب، فإن لم يكن فيه إبطال حق على الغائب أفتى بعض المتأخرين أنه تقبل البينة، ويقضي على الحاضر والغائب جميعاً والأصح أنه لا تقبل (113أ4) هذه البينة ولا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب وبه كان يفتى ظهير الدين المرغيناني، ومسألة «الجامع الأصغر» تدل على صحة هذا القول. وما يفعله الوكلاء على باب القضاة اليوم من إثبات البيع أو الوقف أو الطلاق على الغائب يجعله شرطاً لوكالة الحاضر، وصورته: أن يقول زيد مثلاً لجعفر: إن كان عمرو مثلاً باع داره أو طلق امرأته أو وقف ضياعه على سبيل كذا فأنت وكيلي في إثبات حقوقي على الناس، والخصومة فيها وقبضها، ثم إن جعفراً يحضر رجلاً لزيد عليه مال ويدعي أن زيداً قد وكله بقبض حقوقه على الناس وإثباتها والخصومة وكالة معلقة بشرط كامن، وهو بيع عمرو ضياعه من فلان أو طلاق عمرو امرأته، وإن عمراً قد كان باع ضياعه أو طلق امرأته قبل توكيل زيد إياي، وقد صرت وكيلاً من زيد بالخصومة في حقوقه وقبضها، وإن لزيد عليك كذا وكذا فيقول المدعى عليه نعم، إن زيداً قد وكلك على الوجه الذي قلت، إلا أني لا أعلم أن هذا الشرط هل كان؟ وهل صرت أنت وكيلاً؟ فيقيم جعفر البينة على بيع عمرو داره أو على طلاق امرأته، فيقضي القاضي بالبيع على عمرو وبوكالة الحاضر، فهذا فتوى بعض المتأخرين. وذكر في كتاب الحوالة والكفالة: إذا كفل رجل عن رجل بألف درهم وغاب المكفول عنه، فادعى الكفيل على الطالب أن الألف التي كفلت بها دين فلان من ثمن الخمر، وقال الطالب: لا بل كان من ثمن عبد، فالقول قول الطالب. فإن أراد الكفيل أن يقيم بينة على الطالب بذلك لا تقبل بينته، ولا ينصب الطالب خصماً له في ذلك بخلاف ما لو كان المطلوب حاضراً، وأقام البينة على الطالب على أن الألف التي يدعي عليَّ من

ثمن خمر، حيث تقبل بينته؛ لأن المطلوب عاقد، فإن المدامة جرت بين الطالب والمطلوب وأحد المتعاقدين إذا ادعى فساد العقد وأقر صاحبه، كان له الإثبات على صاحبه بالبينة، وأما الكفيل أجنبيٌّ عن العقد الذي جرى بين الطالب والمطلوب، والأجنبي إذا ادعى فساد عقد الغير وأراد إثباته بالبينة لا يسمع منه، لأنه ليس يدعي لنفسه حقاً بدعوى هذا الفساد، فأما الكفيل بدعوى الفساد يدعى لنفسه حقاً، وهو براءة نفسه عن ضمان الكفالة، فإنه يقول الألف التي كفلت بها عن الأصيل كان من ثمن خمر وثمن الخمر لا يصير ديناً للمسلم على المسلم، ومتى لم يكن الدين واجباً على الأصيل لا يصح الكفالة، فالكفيل بما يدعى من فساد عقد الغير يدعي براءة نفسه عن الكفالة فكان دعوى الفساد سبباً لثبوت ما يدعيه على الطالب من براءته عن ضمان الكفالة. والأصل: أن من ادعى حقاً على حاضر بسبب على الغائب، فإنه ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب ويقوم إنكار الحاضر مقام إنكار الغائب، كما لو ادعى عيناً في يد إنسان أنه اشتراه من فلان الغائب وأنكر ذو اليد وأقام البينة على الشراء والملك للغائب، فإنه يقبل بينته وينتصب الحاضر خصماً عن الغائب في إثبات الشراء، حتى لو حضر الغائب وأنكر الشراء لا يكلف إقامة البينة؛ لأنه ادعى حقاً على الحاضر، وهو استحقاق يده بسبب ادعاه على الغائب إذا كان ما يدعى من سبب حقه على الغائب دعوى على الغائب، فأما إذا كان ما يدعي من سبب حقه دعوى للغائب من كل وجه، فأما ما كان يدعي من سبب حقه دعوى على الغائب يمكنه الإثبات بإنكار الغائب متى حضر، فأمكنه الإثبات بإنكار الحاضر الذي قام مقامه. والدليل على الأصل الأول مسألة الشراء، فإن الحاضر انتصب خصماً في دعوى الشراء على الغائب؛ لأن الشراء من الغائب سبب لثبوت حقه على الحاضر، وإنه دعوى على الغائب، لأنه بالشراء يدعي عليه استحقاق، ويمكنه الإثبات على الغائب بإنكاره متى حضر، فكذا بإنكار ذي اليد الذي قام مقامه. والدليل على الأصل الثاني: ما قالوا فيمن اشترى عبداً من إنسان شراء فاسداً، فجاء البائع يريد أن يسترده من المشتري فقال المشتري أقررت به لفلان الغائب، وانقطع حقك في الاسترداد، وأنكر البائع ذلك فأراد إقامة البينة على إقراره للغائب لم تسمع بينته ولا ينتصب الحاضر * وهو البائع * خصماً عن الغائب، لأن ما يدعى من سبب الحق وهو الإقرار للغائب دعوى للغائب من كل وجه لا عليه بوجه ما، ولهذا لا يمكنه إثبات ما ادعى على الغائب متى حضر وأنكر بالبينة، وإن كان لو ثبت ذلك للغائب كان سبباً لثبوت ما يدعي من الحق على الحاضر وهو انقطاع حقه في الاسترداد. إذا ثبت هذا فنقول: ما يدعي الكفيل من فساد العقد الذي بين الطالب والمطلوب وإن كان سبباً لثبوت ما يدعيه على الطالب من براءته عن ضمان الكفالة، إلا أنه ليس

بدعوى على الغائب بل له، فإنه يقر له ببراءته عن اليمين وإنه دعوى له من كل وجه ألا ترى أنه لو حضر المطلوب، وأنكر أن يكون عليه من ثمن خمر، وإنما كان من ثمن عبد لا يمكن للكفيل إثبات ذلك عليه بالبينة، وإذا لم يمكنه إثبات ما ادعى من سبب الحق على الغائب لو حضر وأنكر، فبإنكار الطالب الذي يقوم إنكاره مقام إنكاره أولى، وإذا لم تصح دعوى الكفيل؛ لأن الطالب لم ينتصب خصماً له، فصار دعوى الكفيل فساد العقد، ودعوى أجنبي آخر سواء. قال في «الأقضية» وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل ادعى على رجل ألف درهم لنفسه ولغائب من ثمن عبد أو ثوب باعاه وأقام البينة. قال أبو حنيفة رضي الله عنه: يقضى بنصيب الحاضر دون الغائب، حتى لو حضر الغائب كلف إعادة البينة، وقال أبو يوسف يقضى بنصيب الحاضر والغائب جميعاً، حتى لا يحتاج الغائب إلى إعادة البينة إذا حضر قال صاحب «شرح الأقضية» وذكر بعد هذا ما يدل على رجوع أبي يوسف إلى قول أبي حنيفة ومحمد في الظاهر، وعلى ما عليه عامة الروايات مع أبي حنيفة، وذكر في «المنتقى» قول محمد مع أبي يوسف قال في «المنتقى» : وإن كان الألف ميراثاً بينه وبين الغائب لا يكلف الغائب إعادة البينة إذا حضر بلا خلاف. قال في «المنتقى» : والحاصل أن الدين إذا كان مشتركاً بين رجلين لا بجهة الوراثة بل بجهة أخرى، فأحد الشريكين لا ينتصب خصماً عن الآخر عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وإن كان مشتركاً بجهة الإرث ينتصب خصماً، وعند أبي يوسف ينتصب خصماً على كل حال. قال محمد رحمه الله في «المنتقى» : ما قال أبو حنيفة قياس، وما قاله أبو يوسف استحسان، ومحمد رحمه الله أخذ بالاستحسان كأبي يوسف. وجه قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على ما ذكر في «المنتقى» : أن الحاضر لا يتمكن من إثبات حقه إلا بإثبات حق الغائب، لأن البينة قامت على إثبات دين مشترك بينه وبين الغائب، ولا يتمكن من إثبات حقه في ذلك الدين إلا بإثبات حق الغائب فيه ليكون الدين مشتركاً، وفي مثل هذا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب. ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن البينة إنما تقبل على الخصم من الخصم، وهنا لا خصم في حق نصيب الغائب، لأن الخصم على طريق الأصالة من الغائب لم بوجد وبطريق النيابة كذلك؛ لأنه لم توجد الإنابة من جهته، ولا ينتصب خصماً باعتبار إيصال حقه بحق الغائب؛ لأن حقه يمتاز عن حق الغائب في الجملة، فلم يكن من ضرورة الحكم له الحكم للغائب، فيقتصر القضاء له. ثم على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله على ما ذكر في «المنتقى» إذا حضر الغائب وصدق الحاضر فيما ادعى كان بالخيار: إن شاء شارك المدعي فيما قبض ثم يتبعان المطلوب، وإن شاء اتبع المطلوب ويأخذ نصيبه منه. وإن لم يحضر الغائب حتى رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإن على قول أبي حنيفة

رضي الله عنه: يبطل حق الغائب ولا يقضى له بشيء لأن القضاء لم ينفذ في حق الغائب، ورجوع الشاهد قبل القضاء يمنع القضاء، ولا يعمل هذا الرجوع في حق الحاضر، لأنه بعد تمام القضاء له. ثم يشارك الغائب إذا حضر فيما قبض؛ لأنهما تصادقا على الشركة بينهما، وأحد الشريكين إذا قبض نصيبه من الدين المشترك كان للآخر حق المشاركة معه، ثم إذا شاركه فالحاضر لا يرجع على المطلوب بشيء؛ لأن حق المشاركة إنما ثبت بإقرار الحاضر. وإنه ليس بحجة في حق المطلوب. قال في «إملاء بشر بن الوليد» : قال أبو يوسف رحمه الله: إذا صار الشاهدان بحال لا يجوز القضاء بشهادتهما بأن عمي أو خرس قبل قدوم الغائب، ثم قدم (113ب4) الغائب لم يقض له بشيء، وهذا يدل على رجوع أبي يوسف إلى قول أبي حنيفة لأنه لو نفذ القضاء له قبل حضرته لم يبطل باعتراض هذه العوارض في الشهود. وإذا ادعى رجل أني وفلان الغائب اشترينا هذه الدار من هذا الرجل بألف درهم ونقدنا له الثمن، وأقام البينة على ذلك، فعلى قياس قول أبي حنيفة رضي الله عنه: يقضي للحاضر بنصف الدار، فإذا قدم الغائب كلف إعادة البينة، وعلى قول أبي يوسف: يقضي بالدار كلها للحاضر والغائب، ويدفع إلى الحاضر نصف الدار ويوضع النصف الباقي على يدي رجل ثقة. قال أبو يوسف ولا أقسمها حتى يحضر الغائب، قال في «المنتقى» : فإن قدم الغائب وجحد الشراء بطل نصيبه من ذلك، وجاز نصيب الحاضر، وهذا بلا خلاف وذكر أصل المسألة في «المنتقى» على الخلاف، وذكر هذه المسألة في «المبسوط» : وقال: يقبل هذه البينة في حق الحاضر، ولا يقبل في حق الغائب، ولم يذكر فيها خلافاً، وذكر الجصاص المسألة على الخلاف على حسب ما ذكرنا، وذكرنا في «المنتقى» على قول أبي يوسف: ينزع نصيب الغائب من يد المدعى عليه، بعض مشايخنا قالوا: هذا إذا وصل الثمن إلى البائع، أما إذا لم يصل لا ينزع؛ لأنه لو كان حاضراً، وأراد قبض نصيبه قبل إعطاء الثمن لم يكن له ذلك، فحال غيبته أولى، وبعضهم قالوا: نقد الثمن يحتاج إليه للدفع إلى المشتري، ونحن لا ندفعه إلى المشتري، بل نضعه على يدي العدل، ويد العدل في الحبس نظير يد البائع، كما أن يد العدل في يد الرهن نظير يد المرتهن في الحبس. قال في كتاب «الأقضية» : وإذا ادعى رجل على رجل أنه كان لأبي على هذا الرجل ألف درهم، وقد مات أبي قبل استيفاء شيء منها وترك من الورثة أباً وابناً آخر هو غائب، وأقام البينة وطلب نصيبه منه فالقاضي يقضي بنصيب الحاضر والغائب حتى إذا حضر الغائب لا يكلف إعادة البينة ولم يحك خلافاً، وذكر في كتاب «المبسوط» أن أحد الورثة إذا أقام البينة على القصاص على رجل يثبت ذلك في حق جميع الورثة، حتى لا يكلف بقية الورثة على إقامة البينة إذا حضروا عند أبي يوسف ومحمد. وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: يثبت حق الحاضر بهذه البينة، ولا يثبت حق الغائب حتى يكلف الغائب إذا حضر إعادة البينة. وذكر في دعوى «المبسوط» : دار في يدي رجل، أقام رجل البينة أن أباه مات وترك

هذه الدار ميراثاً له ولأخيه فلان، لا وارث له غيرهما وأخوه غائب، فإن القاضي يقضي بحصة الحاضر وينزع نصيبه من يده ويسلمه إليه، وأما نصيب الغائب، فيترك في يد ذي اليد حتى يحضر الغائب في قول أبي حنيفة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: إن كان صاحب اليد منكراً كما هو موضوع المسألة حتى احتيج إلى إقامة البينة يخرج نصيب الغائب من يده، ويضعه على يدي عدل. وإن كان مقراً يترك نصيب الغائب في يده، قالا: وهذا استحسان. فإن ترك نصيب الغائب في يد ذي اليد ثم حضر الغائب، هل يكلف إعادة البينة؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في كتاب الدعوى، واختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة رحمه الله، منهم من قال: يكلفه إعادة البينة كما في مسألة القصاص، ومنهم من قال: لا يكلفه إعادة البينة، وجعل هذه المسألة على الوفاق، وهو الصحيح. وقيل مسألة دعوى الدين بالإرث يحتمل أن تكون على الاختلاف أيضاً كمسألة القصاص، وصاحب «الأقضية» ذكرها مطلقة من غير ذكر خلاف، ولكن هذا ليس بصحيح، فقد حكينا آنفا عن «المنتقى» أنها على الوفاق، فيحتاج أبو حنيفة رحمه الله إلى الفرق (بين مسألة القصاص و) بين الدين الموروث، ويحتاج أيضاً إلى الفرق بين الدين المشترك بجهة الإرث وبين الدين المشترك لا بجهة الإرث. أما الفرق بين الدين الموروث وبين القصاص أن في فصل الدين الوارث يثبت الدين لمورثه؛ لأن التركة قبل القسمة مبقاة على حكم ملك الميت على ما عرف في موضعه، فالدعوى تقع للمورث، وأحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت في جميع ما يدعي للميت أو يدعى عليه، فيثبت بدعواه وبينته جميع الدين للورثة، فلا يحتاج الغائب إلى إعادة البينة، ولأجل هذا المعنى قلنا: إن الصحيح في مسألة الدار أن الغائب لا يكلف إعادة البينة على قول أبي حنيفة. فأما في فصل القصاص، فالوارث لا يثبت القصاص للمورث؛ لأن ملك القصاص ملك استيفاء، فيستحيل ثبوته لمن لا يقدر على الاستيفاء، وإنما يثبت القصاص للورثة ابتداء، وأحد الورثة لا ينتصب خصماً عن باقي الورثة فيما يثبت لهم ابتداء. وأما الفرق بين الدين المشترك بجهة الإرث وبين الدين المشترك لا بجهة الإرث أن في الدين المشترك بجهة الإرث الوارث يثبت الدين للمورث، وهو خصم عن المورث في جميع ما يثبته له، فأما في الدين المشترك لا بجهة الإرث يثبت الملك لهما ابتداء، وأحد الشريكين ليس بخصم عن الآخر في إثبات ذلك له. ومن جنس هذه المسائل مسألة الهبة، وصورتها: رجل ادعى على رجل أنه وهب له ولفلان هذا وسلمه إليهما، فإن كان الموهوب شيئاً لا يحتمل القسمة صحت هذه الدعوى وقبلت بينته في حق الحاضر دون الغائب عند أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تقبل بينته في حق الحاضر دون الغائب أيضاً، كما في الشراء، وإن كان الموهوب شيئاً يحتمل القسمة بأن كانت داراً لم تصح هذه الدعوى عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن عنده هبة الدار من رجلين فاسدة، وعندها هبة الدار من رجلين صحيحة، فتصح هذه الدعوى.

ومن جنس هذا: مسألة الرهن، وصورتها: رجل (ادعى) أني وفلان الغائب ارتهنا من هذا الرجل الدار التي في يديه بدين لهما عليه، ثم إنه استولى عليها وأقام على ذلك بينة، فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه: لا تقبل هذه البينة؛ لأن عنده إنما تقبل البينة في نصيب الحاضر لا غير، وذلك متعذر ههنا؛ لأنه يصير رهن المشاع، ورهن المشاع لا يجوز، ما يحتمل القسمة وما لا يحتمل القسمة فيه على السواء. ومن هذا الجنس مسألة الوصية: رجل مات وأوصى بوصايا بشيء لأناس مختلفين في كتاب وصيته، فحضر واحد منهم، وقدم بعض الورثة، وأقام البينة على الوصية، فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه يقضى بنصيب الحاضر دون الغائب، وعلى قول أبي يوسف: يقضى بجميع الوصية، حتى إذا حضر الغائب لا يكلف إعادة البينة ثانياً.t ذكر في كتاب «الأقضية» عن أبي يوسف: لو أن رجلاً ادعى على رجلين مالاً في صك، أحدهما حاضر فجحد والآخر غائب، وأقام على ذلك بينة، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه قال: أقضي بالمال على الشاهد والغائب جميعاً، قال الشيخ أبو بكر الرازي الكبير رحمه الله: هذا الجواب على أصل أبي حنيفة لا يستقيم؛ لأن الحاضر لا ينتصب خصماً عن الغائب عنده في جنس هذه المسائل. قال المصنف: ورأيت في «المنتقى» عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: أقضي على الحاضر بنصف المال، وقال أبو يوسف: أقضي على الحاضر والغائب بجميع المال، واعلم بأن محمداً رحمه الله ذكر هذه المسائل في «المبسوط» وأجاب في الكل على نمط واحد أن عند أبي حنيفة رضي الله عنه القضاء على الحاضر وللحاضر يقتصر عليه، وصاحب «الأقضية» ذكر في بعض هذه المسائل أن على قول أبي حنيفة: القضاء على الحاضر، وذكر في بعضها أنه يتعدى القضاء إلى الغائب وتارة ذكر قول أبي يوسف مثل قول أبي حنيفة، وتارة ذكر قول محمد مع أبي يوسف بخلاف قول أبي حنيفة فكان عن أبي حنيفة فيه روايتان. وأما الفرق فلا وجه له، قال: وكذلك عن أبي يوسف روايتان، وأما الفرق فلا وجه له، قال: وكذلك لو كان كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه، أو كان الحاضر كفيلاً عن الغائب، أو كان الأصل على الحاضر والغائب كفيل عنه، فهذا كله سواء وينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، هكذا ذكر في «الأقضية» . قال الشيخ أبو بكر الرازي رحمه الله: إن كان كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه بأمره، فالجواب كما ذكر في «الكتاب» ، وينتصب الحاضر عن الغائب؛ لأن المال الذي (114أ4) يدعيه على الكفيل عين ما يثبت على المكفول عنه؛ لأنه يثبت حق الرجوع بذلك، فيكون خصماً عن الغائب في إثبات الدين عليه، ألا ترى أن من ادعى عبداً في يد رجل أنه اشتراه من فلان الغائب، فإن الحاضر خصم عنه؛ لأن ما يدعيه على الغائب عين ما يدعيه على الحاضر، فكذلك ههنا فتقبل بينته على الحاضر، ويقضى عليه بالألف،

النصف عليه بالأصالة، والنصف بما على صاحبه بحكم الكفالة بأمره، ولأن هذه الكفالة ما كانت موجبة حق الرجوع على الغائب. وأما إذا كان كل واحد منهما كفيلاً عن صاحبه بغير أمر صاحبه، فالحاضر لا ينتصب خصماً عن الغائب، لأن ما يدعي على الكفيل الحاضر ليس بسبب لما يدعي على الغائب، ألا ترى أنه لا يرجع به على الغائب، فلم ينتصب الحاضر خصماً عنه، وقوله: أو كان الأصل على الحاضر والغائب كفيلٌ عنه فيه نظر؛ لأنه يجوز أن يكون المال على الأصيل دون الكفيل، كما قبل الكفالة، بخلاف ما إذا كان الأصل على الغائب والحاضر كفيل عنه؛ لأنه لا يجوز أن يكون المال على الكفيل دون الأصيل، فكان من ضرورة وجوب المال على الكفيل وجوبه على الأصيل، فانتصب الحاضر خصماً عن الغائب. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله من هذا الجنس مسألة، وصورتها: رجل باع عبداً من رجلين بألف درهم على أن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه، ثم إن البائع لقي أحد الرجلين وأقام عليه البينة أن له على هذا وعلى فلان الغائب ألف درهم، وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه بأمره، فإنه يقضي له على الحاضر بألف درهم، فإن حضر الغائب قبل أن يأخذ البائع من الحاضر شيئاً لا يكون للبائع أن يأخذ الذي حضر إلا بالخمسمائة، وهي الأصلية عليه؛ لأن القضاء على كفيله له بها قضاء عليه، والقضاء على المكفول عنه لا يكون قضاء على الكفيل. ولو كان لرجل على رجل ألف درهم، وبها كفيل بأمر الطالب، والطالب لقي الأصيل قبل أن يلقى الكفيل، وأقام عليه بينة أن لي عليك ألفاً وفلان كفيل بها بأمرك، فإنه يقضى عليه بألف درهم ولا يكون هذا قضاء على الكفيل، حتى لو لقي الكفيل ليس له أن يأخذ منه شيء قبل أن يعيد البينة عليه. قال ابن سماعة رحمه الله: وقد يلزم الذي عليه الأصيل، ولا يلزم الكفيل، ألا ترى أنه إذا أبرأ الكفيل لا يبرأ الكفيل، أمالا يجوز أن يلزم الكفيل بحكم الكفالة، ولا يلزم الأصيل، ألا ترى أنه إذا أبرأ الأصيل يبرأ الكفيل، وإذا لم يكن من ضرورة القضاء بالمال على الأصيل وجوبه على الكفيل لا ينتصب الأصيل خصماً عن الكفيل في إثبات الكفالة عنه وإذا كان من ضرورة وجوب المال على الكفيل بحكم الكفالة وجوبه على الأصيل ينتصب الكفيل خصماً عن الأصيل. ولو ادعى رجل على رجل أنك كفلت لي وفلان الغائب عن رجل بألف درهم، وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه وأقام على ذلك بينة وقضى له عليه بألف درهم ثم حضر الغائب، فله أن يأخذ الغائب بجميع الألف؛ لأنه حين قضى بها على الحاضر قضى بها على أنه كفيل عن المطلوب وعن الكفيل، ألا ترى أني لو لم أجعله كفيلاً عن كل واحد منهما لم يكن له إذا أدى أن يرجع بها كلها على الذي عليه الأصيل. وفي «نوادر بشربن الوليد» عن أبي يوسف في رجل ادعى شراء دار من نفر هي في أيديهم، وبعضهم حضور وبعضهم غيب، والحاضر مقر للغائب بنصيبه جاحد للبيع، فأقام المدعي بينة على دعواه، فالقاضي لا يقضي إلا على الحاضر في حصته عند أبي حنيفة

رضي الله عنه، وهو قول أبي يوسف أيضاً فأبو حنيفة رضي الله عنه مر على أصله، فإن من أصله أن الحاضر لا ينتصب خصماً عن الغائب في مثل هذا، فلا يكون القضاء على الحاضر قضاء على الغائب، ألا ترى أن البائع لو كان واحداً، والمشتري اثنان حاضر وغائب، فالحاضر لا ينتصب خصماً عن الغائب. وأبو يوسف رحمه الله فرق بينما إذا كان المشتري واحداً، والبائع اثنان، وبينما إذا كان البائع واحداً والمشتري اثنان، فقال فيما إذا كان المشتري واحداً والبائع اثنان: إن القضاء لا يتعدى إلى الغائب، والفرق أن البائع إذا كان اثنين فحق الغائب غير متصل بحق الحاضر؛ لأن الصفقة متفرقة، فلا ينتصب الحاضر خصماً عن ذلك، فأما إذا كان المشتري اثنين فحق الحاضر متصل بحق الغائب، ألا ترى أنه لو خاطب اثنين بالبيع، فقبل أحدهما لم يصح، فجاز أن ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب. هذا إذا كان الحاضر مقراً بنصيب الغائب، وإن كان جاحداً نصيب الغائب، فالقاضي يقضي بالدار كلها للمدعي، أما في نصيب الحاضر فلا يشكل، وأما في نصيب الغائب، فلأن ذا اليد انتصب خصماً في نصيب الغائب في إثبات الملك له في نصيبه؛ لأنه لا يتوصل إلى إثبات ملكه على الحاضر في نصيب الغائب إلا بإثبات الملك للغائب ثم بإثبات الشراء عليه. وإذا ادعى هبة أو صدقة أو رهناً من رجلين، وأحد الرجلين حاضر، والدار في يد الحاضر، فأقام بينة على الهبة والقبض، أو على الصدقة والقبض، فإن على قول أبي حنيفة رضي الله عنه: لا تقبل هذه البينة في فصل الرهن؛ لأن عنده القضاء يقتصر على نصيب الحاضر، ورهن المشاع باطل. فأما في الهبة، فإن كان مما لا يحتمل القسمة قبلت بينته في حق الحاضر دون الغائب؛ لأن القضاء بنصيب الحاضر ههنا ممكن؛ لأن الشيوع فيه لا يمنع جواز الهبة. وأما على قول أبي يوسف رحمه الله ففي فصل الرهن: القاضي لا يقبل هذه البينة أصلاً، وفي الهبة والصدقة إن كانت الهبة والصدقة مما لا يقسم يقضي على الحاضر والغائب جميعاً، حتى إذا حضر الغائب لا يكلف المدعي إعادة البينة عليه، ويقضي عليه بتلك البينة، وإن كانت الهبة والصدقة مما يقسم، فالقاضي يقضي بهبة الملك، ولكن ينفذ في النصف في الحال، وفي النصف الآخر يتوقف حتى يحضر الغائب، فينفذ عليه. والفرق له بين الرهن والهبة: أن إثبات الملك في الشائع بالهبة ممكن في الجملة، ألا ترى أنه إذا وهب داره من رجلين، وسلم إليهما صح على قولهما، وثبت لكل واحد منهما الملك في النصف بالهبة شائعاً، وإذا أجاز هذا في الجملة جاز القبول في القضاء بالهبة بجميعها ولكنه لا ينفذ على الغائب حتى يحضر فإذا حضر نفذ عليه، فأما الرهن فلا يجوز بيع الشيوع بحال ما فلا يجوز القول بنفاذ القضاء وثبوته في البعض دون البعض، فلهذا يبطل في الكل. قال ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: رجل ادعى على رجل مالاً، فقضى

القاضي له على المدعى عليه ببينة أقامها، ثم غاب المقضي عليه أو مات، وله ورثة وله مال في المصر في يد أقوام وهم مقرون به للمقضي عليه، قال: لا أدفع إلى المدعي من ذلك شيئاً، حتى يحضر هو إن كان غائباً أو ورثته إن كان ميتاً؛ لأن القاضي نصب ناظراً، وليس من النظر في حق الغائب دفع ماله إلى المقضي له، فلعل أنه قضى هذا الدين أو وارثه فوقفنا الأمر لهذا، وإلى هذا أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» ، حيث قال: لأني لا أدري لعل الذي قضيت عليه قضاه إياه أو وارثه. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد أيضاً: وإذا غاب المدعى عليه أو مات بعد إقامة البينة عليه قبل قضاء القاضي عليه وقد زكيت البينة في السر والعلانية، فالقاضي لا يقضي بتلك البينة حتى يحضر الغائب أو نائبه أو يحضر وارث الميت، فإذا حضر واحد من هؤلاء، فالقاضي يقضي عليه بتلك البينة، ولا يحتاج إلى إعادة البينة للقضاء. ولو كان المدعى عليه أقر بما ادعاه المدعي ثم غاب، فالقاضي يقضي عليه بإقراره في حال غيبته، بعد هذا ينظر إن كان المقر له عيناً، فالقاضي يأمر من في يديه بالتسليم إذا كان الذي في يديه مقراً أنه ملك المقر، وفي الدين إذا ظفر بجنس حقه يأمره بالأخذ، ولا يبيع في ذلك العروض والعقار، وهذا قول أبي حنيفة، وهو قول محمد رحمه الله، قال محمد رحمه الله: وقال أبو يوسف: لا يقضي القاضي حتى يحضر الغائب في البينة والإقرار جميعاً، ذكر قول أبي يوسف رحمه الله هكذا، والمحفوظ عن قول أبي يوسف رحمه الله المذكور عنه في عامة الكتب غير هذا، فالمذكور عنه في عامة الكتب أنه كان يقول أولاً: إن القاضي (114ب4) لا يقضي في فصل البينة حتى يحضر الغائب، وفي فصل الإقرار يقضي، ثم رجع حين ابتلي بالقضاء وقال: يقضي فيها جميعاً استحسن ذلك حفظاً لأموال الناس وصيانة لحقوقهم. وجه ما ذكر من قول أبي يوسف رحمه الله في «نوادر ابن سماعة» : أن القضاء احتمل الولاية، ولا ولاية للقاضي على الغائب فلا ينفذ قضاؤه عليه، ألا ترى أنه لو قضى عليه في المصر الذي هو فيه، وإنه ليس بقاضي ذلك المصر لا ينفذ قضاؤه عليه لعدم الولاية، كذا هنا. وجه ما ذكر من قول أبي يوسف في عامة الكتب: أن القاضي يقضي على الغائب في البينة والإقرار جميعاً إن حضره المدعى عليه، إنما كان شرطاً ليسمع القاضي كلام الخصمين، فيقضي عن علم أو ليعلم إنكاره الذي هو شرط سماع البينة وقد وجد، فلا معنى لتوقيف القضاء. يوضحه: أن كل مدعى عليه لا يعجز من أن يخفي نفسه متى توجه عليه الحكم، لو لم يجز القضاء حال غيبته تضيع حقوق الناس. ولأبي حنيفة رضي الله عنه في الفرق بين الإقرار والبينة: أن للمدعى عليه حق الطعن في الشهود والقضاء عليه حال غيبته لا يبطل عليه حقاً، فلهذا افترقا. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : أمة في يدي رجل يقال له عبد الله، فقال

رجل يقال له: إبراهيم لرجل يقال له محمد: يا محمد، الأمة التي في يد عبد الله كانت أمتي بعتها منك بألف درهم، وسلمتها إليك، إلا أن عبد الله قد غصبها منك، وصدقه محمد في ذلك كله، وعبد الله ينكر ذلك كله، ويقول: الجارية جاريتي، فالقول في الجارية قول عبد الله؛ لأن اليد عليها لعبد الله، ويقضى بالثمن لإبراهيم على محمد؛ لأنهما تصادقا على البيع والتسليم وتصادقهما حجة في حقهما، فلو استحق رجل الأمة من يد عبد الله بعدما أخذ إبراهيم الثمن من محمد، فأراد محمد أن يرجع بالثمن على إبراهيم، وقال: الجارية التي اشتريتها منك ورد عليها الاستحقاق لا يلتفت إلى ذلك؛ لأن القضاء بالاستحقاق على عبد الله اقتصر على عبد الله، ولم يتعد إلى محمد. والأصل: أن القضاء بالملك المطلق على ذي اليد، قضاء على ذي اليد، وعلى من تلقى ذو اليد الملك من جهته، ولا يكون قضاء على الناس كافة لما يتبين بعد هذا، وذو اليد وهو عبد الله لا يدعي تلقي الملك من جهة محمد، فلم يصر محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله، وما لم يصر محمد مقضياً عليه، لا يرجع بالثمن على إبراهيم. والدليل على أن محمداً لم يصر مقضياً عليه في هذه الصورة: أن محمداً لو أقام البينة على المستحق أن الجارية جاريته اشتراها من إبراهيم، وهو يملكها قبلت بينته ولو صار مقضياً عليه لما قبلت بينته، وكذلك لو أن الذي استحقها على عبد الله استحقها بالنتاج بأن أقام بينة على أنها جاريته، ولدت في ملكه، وقضى القاضي بها للمستحق لم يرجع محمد بالثمن على إبراهيم، وإن ظهر بينة المستحق أن إبراهيم باع جارية الغير؛ لأن القضاء بالاستحقاق اقتصر على عبد الله، ولم يصر محمد مقضياً عليه. بيانه: وهو دعوى النتاج هنا غير محتاج إليه؛ لأن المستحق خارج ألا ترى أنه لو أقام البينة على الملك المطلق قبلت بينته، فسقط اعتبار دعوى النتاج ونفى دعوى الملك المطلق، وفي دعوى الملك المطلق لا يصير محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله، فكذا هنا، قال في «الكتاب» ألا ترى أن محمداً لو أقام البينة على المستحق أن الجارية جاريته اشتراها من إبراهيم بكذا، وهو يملكها أن يقضي بها لمحمد، ولو صار محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله لما قضى له. فرّع على مسألة الاستشهاد، فقال: لو أعاد المستحق البينة على محمد أنها أمته ولدت في ملكة، قضى بها للمستحق، وترجحت بينته على بينة محمد؛ لأن بينة النتاج لا تعارضها بينة الملك المطلق؛ لأن بينة النتاج أكثر إثباتاً فيما يرجع إلى إثبات أولوية الملك، ويرجع محمد بالثمن على إبراهيم في هذه الصورة؛ لأن محمداً صار مقضياً عليه بهذا القضاء. قال: ولو لم يستحق الجارية أحد، ولكن أقامت الجارية البينة على عبد الله أنها حرة الأصل، وقضى القاضي بحريتها رجع محمد بالثمن على إبراهيم، لأن محمداً صار مقضياً عليه في هذه الصورة، والقضاء بالحرية وما ألحق بها قضاء على الناس كافة، ولهذا لو أقام محمد البينة على الملك والشراء من إبراهيم لا تقبل بينته، ولو لم يثبت عليه

بالاستحقاق لقبلت بينته، واستحقاق المشتري على المشترى بسبب سابق على الشراء، يوجب الرجوع على البائع بالثمن. ثم إنما وقع الفرق بين القضاء بالملك المطلق على ذي اليد وبين القضاء بالحرية وما لحق بها، حتى اقتصر القضاء بالملك المطلق على ذي اليد، وتعدى القضاء بالحرية وما لحق بها إلى الناس كافة؛ لأن الحرية تعلق بها أحكام متعدية إلى الناس من أهلية الشهادة والقضاء والولاية وغير ذلك، فانتصب ذو اليد خصماً عن الناس كافة، فكان القضاء على ذي اليد قضاء على الناس كافة أما الملك المطلق فلم يتعلق به أحكام متعدية إلى الناس كافة، فلم ينتصب ذو اليد خصماً عن الناس كافة. وكذلك لو أقامت بالبينة على عبد الله أنها كانت أمته أعتقها، وقضى القاضي بذلك رجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأن دعوى الملك هنا ليست بمقصود، إنما المقصود دعوى العتق ودعوى الملك لكونه وسيلة إلى دعوى العتق، ولما كان المقصود دعوى العتق، وليس بعض الأوقات للقضاء فيه بالعتق بأولى من البعض لما أنه لم يعين وقتاً في الدعوى، فكان هذا والقضاء بحرية الأصل سواء. وأما القضاء بالوقفية على ذي اليد، هل يكون قضاء على الناس كافة؟ وصورتها: رجل (ادعى أرضاً) في يدي رجل أنها وقف على جهة كذا وقفها فلان، وأنا متولي أوقافها، وأثبت الوقفية بالبينة وقضى القاضي بها على ذي اليد هل يكون قضاء على الناس كافة؟ حكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، والقاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله أنه يكون قضاء على الناس كافة، حتى لو ادعى رجل بعد ذلك هذه الأرض لنفسه لا يسمع دعواه وإلحاقه بالقضاء بحرية الأصل. وذكر في «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: أنه لا يكون قضاء على الناس كافة، حتى لو ادعاه رجل بعد ذلك هذه الأرض لنفسه ملكاً مطلقاً يسمع دعواه وألحقه بالقضاء بالملك المطلق، وبه أخذ الصدر الشهيد رحمه الله، وذكر في شهادات «الجامع» : أن في دعوى العين أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الميت للمدعي في عين في يد ذلك الوارث، لا في عين ليس في يده، حتى إن من ادعى عيناً من التركة وأحضر وارثاً ليس ذلك العين في يد هذا الوارث الذي أحضره، لا تسمع دعواه عليه، وفي دعوى الدين أحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت وإن لم يصل إليه شيء من التركة. عبد مأذون ادعى داراً في يدي رجل، واستحقها ببينة أقامها، فأقام المدعى عليه بينة على إقرار العبد أنه لاحق له في الدار ليبطل بينة العبد وحقه، فإن جاء مولاه بعد ذلك، وقال: عبدي استحق الدار بالبينة ولست أجيز إقراره، لأنه كان محجوراً عليه، فإنه يقال له أعد البينة على المدعى عليه، فإن أعادها (و) استحقها وما لا فلا. رجل ادعى داراً في يدي رجل أن أباه مات وتركها ميراثاً له ولأخيه فلان، وأخوه منكر دعواه، ويزعم أنه لا شيء له من الدار، فأقام المدعي البينة على دعواه وقضى له بنصف الدار، ثم رجع أخوه إلى تصديقه، لم يقض له بشيء، فإن جاء غريم للميت بعد

الفصل الثالث والثلاثون: في المتفرقات

ذلك، وأثبت دينه بمحضر من الوارث ببينته، وسأل القضاء للميت بالدار، فإن القاضي يستقبل القضاء، فيقضي للميت بالدار كلها بالشهادة الأولى، فتباع الدار ويقضى الغريم حقه من ثمنها، فإن فضل شيء من ثمنها يجعل نصفه للابن المدعي، ويرد الباقي على المقضي عليه بالدار، ولا أجعل للابن المنكر من الفضل شيئاً. رجل ادعى داراً في يدي رجل أن أب هذا الذي في يديه غصبها إياه، وقال الذي في يديه: الدار داري وله أخوة غيب فأقام المدعي بينة على ما ادعى، وقضى له بالدار، ثم حضر إخوة الذي كان الدار في يديه، لا يكلف المقضي له إعادة البينة عليهم، ولكن يقال لهم: أنتم على حجتكم. إبراهيم عن محمد: رجلان ورثا داراً عن أبيهما، باع أحدهما نصفها من رجل، ثم أقام رجل بينة أنها داره ورثها من أبيه قال: القضاء على المشتري قضاء على البائع، والقضاء على الأخ قضاء على المشتري إلا أن يقول المشتري: لم يرث هذا عن أبيه. رجل ادعى أن ميتاً غصب منه شيء وأحضر بعض ورثته وأقام عليه (115أ4) البينة بذلك، وبعض هذا الشيء في يد هذا الذي حضر، وبعضه في يد وكيل الغائب، ولو كان ذلك في يد هذا الذي حضر قضيت عليه بذلك كله، ودفعته إلى المدعي، فإن قدم الغائب، فقال: كان هذا في يد أخ لنا من غير الوالد لم يقبل قوله، وهذه المسألة إشارة إلى أن في دعوى العين من التركة أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الميت إذا كان العين في يديه. هشام قال سألت محمداً رحمه الله عن قناة في يد قوم كثير، فيهم الشاهد والغائب والصغير والكبير، فأقام رجل البينة على بعضهم أنهم احتفروا هذه القناة في أرضه غصباً، وهم قوم كثير لا يقدر على أن يجمعهم، قال: جعلت لهم وكيلاً وقضيت على وكيلهم. ابن سماعة عن محمد: رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم، وقبض المشتري العبد، ثم أخذ البائع العبد بالثمن، فأقام المشتري بينة أنه قد أحاله بالثمن على فلان بن فلان الفلاني وفلان المحتال عليه غائب فحضر، فإن المال لازم له بالبينة التي قامت على الحوالة والله أعلم. الفصل الثالث والثلاثون: في المتفرقات شفعوي المذهب إذا جاء إلى القاضي، وادعى الشفعة بالجوار، فالقاضي هل يقضي له بالشفعة؟ لا ذكر لهذه المسألة في شيء من الكتب، وقد اختلف المشايخ فيها، قال: بعضهم لا يقضي؛ لأن المدعي يزعم أنه لاحق له فيما يدعي، فيتعامل القاضي معه بزعمه واعتقاده، ومنهم من قال: يقضي؛ لأنه لما طلب الشفعة بالجوار فقد ركن إلى مذهبنا في هذه المسألة، فتقبل دعواه ويقضي له.

هذا كما قلنا في أحد الزوجين من أهل الذمة إذا رفع إلى القاضي أنه محرم صاحبه، فالقاضي يفرق بينهما عند أبي يوسف؛ لأنه ركن إلى ديننا، وإن رفعا الأمر إلى القاضي، فالقاضي يفرق بينهما بلا خلاف، والمعنى ما قلنا، ومنهم من قال: إذا تقدم إلى القاضي، فالقاضي يقول له: هل تعتقد الشفعة بالجوار، (فإن) قال: نعم يقضي له بها، وإن قال لا، أقامه من ذلك الموضع ولم يسمع كلامه قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني: هذا أوجه الأقاويل وأحسنها.h وفي «المنتقى» : قضاة ثلاثة ببغداد كل قاض على موضع معلوم، فادعى رجل على رجل دعوى واختلفا فيمن يتخاصمان إليه منهم، فإن كان منزل المدعي والمدعى عليه في موضع واحد يختصمان إلى القاضي الذي هو في موضعهما، وإن كان منزلهما مختلفاً، أحدهما من هذا الجانب، والآخر من ذلك الجانب، قال أبو يوسف رحمه الله: ذلك إلى المدعى عليه. القاضي يقبل البينة على عتق العبد بدون الدعوى عند أبي حنيفة رضي الله عنه، خلافاً لهما، ويقبل البينة على عتق الأمة وطلاق المرأة حسبة من غير الدعوى. ولا يحلف على عتق العبد حسبة بدون الدعوى بالاتفاق، وهل يحلف على عتق الأمة وطلاق المرأة حسبة بدون الدعوى؟ أشار محمد رحمه الله في آخر كتاب التحري إلى أنه يحلف، فإنه قال: إذا طلق الرجل واحدة من نسائه بعينها ثلاثاً ونسيها، فتبين كلهن إلا واحدة، فالقاضي يمنعه عنها حتى يخبر أنها ليست بمطلقة، فالقاضي يحلفه البتة بالله أنها ليست بمطلقة، ولم يشترط دعواها، وهكذا ذكر في «شرح القدوري» : وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي في مقدمة باب السلسلة أنه لا يحلف، فيتأمل عند الفتوى. وإذا قضى القاضي بحضرة وكيل الغائب أو بحضرة وصي الميت؛ يقضى على الغائب وعلى الميت، ولا يقضي على الوكيل والوصي ويكتب في السجل أنه قضى على الميت وعلى الغائب ولكن بحضرة وصيه وبحضره وكيله. ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : في باب العدوى: إذا أمر القاضي رجلاً بملازمة المدعى عليه، لاستخراج المال، ويسمى بالفارسية موكل فمؤنته على المدعى عليه، كذا ذكره القاضي الإمام صدر الإسلام رحمه الله، وعليه بعض القضاة، وبعض مشايخ زماننا قالوا: هي على المدعي وهو الأصح؛ لأن منفعته تعود إلى المدعي المديون إذا كان له عقار يحبس لبيعه، ويقضى الدين، وإن كان لا يشترى إلا بثمن قليل، كذا ذكره الخصاف في باب الحبس. وإن امتنع المديون عن البيع بنفسه، فالقاضي هل يبيعه؟ ذكر في «الجامع الصغير» وفي كتاب «الأقضية» : أن القاضي لا يبيع مال المديون المحبوس لا العروض ولا العقار عند أبي حنيفة رضي الله عنه، لكن يحبسه ويأمره بالبيع، ويستديم الحبس ليبيع بنفسه، وعندهما يبيع العروض رواية واحدة، وفي بيع العقار روايتان، ذكر الروايتين في شرح كتاب «الأقضية» .

وإذا أقر رجل لإنسان بمال ومات المقر، فقال ورثته بعد موته: إن أبانا قد أقر بما أقر كاذباً، فلم يصح إقراره، وأنت أيها المقر له عالم بذلك، وأرادوا تحليفه على ذلك لم يكن لهم أن يحلفوه؛ لأن وقت الإقرار حق الورثة لم يكن متعلقاً بمال المقر، فصح الإقرار وحيث تعلق حقهم لم يتعلق بما صار حقاً للمقر له، فلا يكون لهم ولاية تحليفه. وإذا حبست المرأة زوجها بدين المهر أو بدين آخر، فقال الزوج للقاضي: احبسها معي في السجن، فإن لي موضعاً في المحبس، فتكون معي، فالقاضي لا يحبسها، ولكنها تصير إلى منزل الزوج، ذكره الخصاف في مطالبة المهر، وقيل: ينبغي للقاضي أن يحبسها؛ لأنها إذا حبست زوجها فلم تحبس هي تذهب حيث تريد، وقيل: القاضي يقول لها: إذا أردت حبس الزوج لو حبست زوجك بحقك (و) لحبستك معه وإلا لا أحبس الزوج، وعلى التقديرين جميعاً يقع الأمن عن ذهابها إلى ما تريد. وإذا قال المديون: أبيع عبدي هذا وأقضي حقه، ذكر صاحب «شرح مختصر العصام» : في أول مكاتبه أن القاضي لا يحبسه، بل يؤجله يومين أو ثلاثة. ادعى على آخر مالاً وأنكر المدعى عليه ذلك ثم ادعى عليه ذلك في مجلس آخر أنك استمهلت مني هذا المال، وصرت مقراً بالمال، والمدعى عليه ينكر المال والاستمهال جميعاً، فالقاضي يحلفه على المال أو على الاستمهال، وقد قيل: يحلفه على المال؛ لأنه بالاستمهال يصير مقراً، والإقرار حجة المدعي، والمدعى عليه لا يحلف على حجر المدعي، فإنه لا يحلف بالله ما للمدعي بينة، وألا ترى أنه لو ادعى عليه الاستام أو الإقرار أو ادعى عليه حقاً بسبب الخط، وأنكر المدعى عليه أن يكون هذا خطه، فإنه لا يحلف على ذلك، والمعنى ما ذكرنا. وفي «نوادر ابن رستم» عن محمد رحمه الله: رجل قال لآخر: لي عليك ألف درهم، فقال ذلك الرجل: إن حلفت أنها لك علي أديتها، فحلف الرجل فأداها إليه، إن أداها على الشرط الذي شرط كان له أن يرجع فيما دفع إليه. في «واقعات الناطفي» في كتاب الدعوى: ولو أن السلطان أو الخليفة قلد رجلاً القضاء ورد القاضي ذلك هل له أن يقبل بعد ذلك، لا رواية لهذه المسألة في الكتب. وينبغي أن يكون الجواب على التفصيل: إن قلده مشافهة مواجهة ورد لا يمكنه قبول ذلك الأمر وذلك التقليد بعد ذلك، ولو قلده بطريق المعاينة إن بعث إليه فرده، ثم قبل: كان له ذلك استدلالاً بما ذكر في كتاب النكاح أن امرأة لو كتبت إلى رجل أني زوجت نفسي منك، فلم يقبل الزوج في ذلك المجلس، وقبل في مجلس آخر كان له ذلك؛ لأن الخطاب بالكتاب، والكتاب باق معه، فيكون الخطاب باقياً، فكان له أن يقبل، فكذا في حق المنشور للقاضي، ولو كان بطريق المعاينة ولكن بالرسالة لا بالكتابة فكذلك أيضاً: استدلالاً بالموكَّل والموصى إليه إذا ردّا في غير وجه الموكل والموصي كان لهما أن يقبلا بعد ذلك ما لم يعلم الموكل برده والموصي بالرد؛ لأن الرد من غير علم الموكل والموصي لم يصح، وإذا لم يصح الرد كان حكم التوكيل والإيصاء باقياً، فيعمل قبولهما،

فكذا أيضاً ههنا يجب أن يكون كذلك. رجل أخرج صكاً بإقرار رجل، فقال المقر: قد أقررت لك بهذا المال، إلا أنك رددت إقراري، يحلف المقر له، كمن ادعى البيع على إنسان، فقال البائع: بعته منك إلا أنك أقلتني، فإنه يحلف مدعي الشراء. التحليف بالطلاق والأيمان المغلظة لم يجوزه أكثر مشايخنا رحمهم الله، وإن بالغ المستفتي في ذلك نفتي بأن الرأي فيه للقاضي. رجل تزوج امرأة وابنتها في عقدين، وقال: لا يدري أيتهما أولى؛ يحلف لكل واحدة منهما بالله ما تزوجتها قبل صاحبتها، فالقاضي في التحليف يبدأ (115ب4) بأيتهما شاء، فإذا حلّف لأحدهما وحلف ثبت نكاح الأخرى، وإن نكل لزمه نكاح هذه وبطل نكاح الأخرى، وهذا على قولهما، أما على قول أبي حنيفة رضي الله عنه: لا (يحترف) الاستحلاف في النكاح، فلا يتأتى هذا الفصل على قوله. المدعى عليه الدار إذا قال: أنا بنيت بناء هذه الدار، والمدعي يعلم بذلك، وطلب يمين المدعي لا يحلف المدعي، لجواز أن يكون المدعى عليه هو الباني، ويكون البناء للمدعي، فإن بنى المدعى عليه بأمر المدعي حتى لو قال المدعى عليه: بنيت الدار لنفسي بغير أمر المدعي يحلف المدعي الحاكم. المحكم إذا حلف المدعى عليه وحلف ثم ترافعا إلى قاض متولى، فالقاضي المولى لا يحلفه ثانياً. دار في يد رجل ادعاها رجل أنه غصبها منه، وقال المدعى عليه: هذه الدار كانت لي وقفتها على كذا وكذا، وأراد المدعي تحليفه يحلف عند محمد رحمه الله، خلافاً لهما بناء على أن غصب الدار يتحقق عند محمد رحمه الله، فكان في التحليف فائدة، حتى لو نكل يقضي عليه بالقيمة. ولو أراد أن يحلفه ليأخذ العين لا يأخذ بالاتفاق؛ لأن الدار صارت مستهلكة لصيرورتها وقفاً، والفتوى على قول محمد رحمه الله دفعاً للحيلة، وهذا كرجل في يديه عبد قال: هذا العبد لفلان اغتصبه من فلان، ويصدق في حق نفسه حتى يضمن قيمته للثاني. رجل في يديه ضيعة يزعم أنها وقف جده، ووقفه على ابنه وأولاد ابنه خاصة فجاء رجل وادعاها، وقال: إن الواقف هذا وقفها على جميع أولاده، وأنا من جملة أولاده وأراد تحليف صاحب اليد لا يحلف، فإن كان في يد صاحب اليد شيء من غلة هذه الضيعة فحينئذٍ يحلف على نصيب المدعي؛ لأنه يدعي ملك ذلك القدر لنفسه، وذو اليد ينكر، فيحلف على ذلك، ولا كذلك الوجه الأول، وهذا الجواب مستقيم على قول من يقول: ليس له حق الخصومة ينبغي أن تكون الدعوى من المتولي حتى يحلف المدعى عليه في الوجه الثاني، والقاضي إذا حلف المدعى عليه على العلم في موضع وجب التحليف على الثبات يبقى للمدعي حق التحليف على الثبات، ولا يحتسب بما حلف. ولو نكل عن اليمين في هذه الصورة وقضى القاضي عليه بنكوله لا ينفذ قضاؤه،

وبمثله لو حلفه القاضي على الثبات في موضع وجب التحليف على العلم يحتسب بما حلف لا أوفى المستحق عليه، وزيادة طلب المدعي يمين المدعى عليه أخرج كراسة حسابك لأنظر فيه، والتمس من القاضي أن يأمره بذلك أجابه القاضي إليه، ولكن لو أبى لا يجبر عليه، وهو نظير ما لو طلب المدعى عليه من القاضي أن يأمر المدعي ببيان السبب. قاضي العسكر لا ولاية له على غير أهل العسكر، ولا ينفذ قضاؤه على غير أهل العسكر إلا إذا شرط ذلك عند التقليد، وإذا كان الرجل من أهل العسكر وهو يعمل في السوق ويحترف فهو من أهل العسكر. سئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عمن وقف ضيعة على علماء خواقند، وسلم إلى المتولي، ثم ادعى على المتولي فساد الوقفية بسبب الشيوع بين يدي قاضي خواقند، فحكم بصحة الوقفية على قول من يرى ذلك وقاضي خواقند من علماء خواقند، هل ينفذ قضاؤه؟ قال ينفذ قضاؤه؛ لأنه يصلح شاهداً في هذا، فيصلح قاضياً، وإنما يصلح شاهداً في هذا استدلالاً بما ذكر هلال في «وقفه» إذا وقف الرجل على فقراء جيرانه، ثم شهد بعض فقراء جيرانه على الوقف قبلت شهادتهم؛ لأن الجوار ليس بلا زم. القاضي لا يملك تزويج الصغار إلا إذا كتب في منشوره ذلك. إذا مات القاضي قبل استيفاء الرزق من بيت المال يسقط رزقه، ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في أول النفقات من «أدب القاضي» . قاضي كرخ وقاضي حسر إذا ألتقيا وقال أحدهما للآخر: إن فلاناً أقر لفلان بكذا لا يقضي به حتى يبعث إليه الرقعة اتباعاً للسنة في كتاب القاضي إلى القاضي، قالوا: هذا إذا لم يكن كل واحد منهما زمان الإخبار في مكان هو قاض فيه، أما إذا كان كل واحد منهما في مكان هو قاض فيه ينبغي أن يقضي به؛ لأن القول أقوى من الرقعة، والله أعلم.

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات هذا الكتاب يشتمل على أربعة وعشرين فصلاً: 1 * في تحمل الشهادة وحل أدائها والامتناع عن ذلك. 2 * في أقسام الشهادة وفي شهادة النساء. 3 * في بيان من تقبل شهادته، ومن لا تقبل. 4 * في الاستماع إلى الشهود وصفة أداء الشهادة. 5 * في شهادة الرجل على فعل من أفعاله أو صفة من صفاته. 6 * في شهادة الرجل على فعل من أفعال ابنه وشهادته لأبيه أو لأمه 7 * فيما يجوز من الشهادات، وما لا يجوز. 8 * في الشهادات في المواريث. 9 * في الشهادة على الشهادة. 10 * في شهادة الشهود بعضهم لبعض. 11 * في شهادة أهل الكفر والشهادة عليهم. 12 * في المسائل التي تتعلق بحدود المدعي والمشهود به. 13 * في شهادة الوارث على الوصية والرجوع عنها. 14 * في الشك في الشهادة والزيادة فيها والنقصان عنها، ووجود الشاهد بعد القضاء بشهادته بصفة لا تجوز شهادته، وشهادة الشهود بعد قضاء القاضي بخلاف ما قضى. 15 * في الشهادة على الوكالة والوصاية. 16 * في شهادة ولد الملاعنة. 17 * في التهاتر بين الشهادات. 18 * في ترجيح أحد البينتين على الأخرى والعمل بالشيئين المتضادين. 19 * في شاهدي الزور.

20 * في الدعوى إذا خالف الشهادة. 21 * في الاختلاف الواقع بين الشاهدين. 22 * في التناقض في الدعوى والشهادة. 23 * في الشهادة على النسب. 24 * في المتفرقات.

الفصل الأول: في بيان تحمل الشهادة وحل أدائها والامتناع عن ذلك

الفصل الأول: في بيان تحمل الشهادة وحل أدائها والامتناع عن ذلك في «فتاوي أهل سمرقند» ذكر أن الإشهاد على المداينة والبيع فرض على العباد؛ لأن بدونه يخاف تلف المال وفي تلف الأموال تلف الأبدان، وحرام على الآدمي إتلاف البدن، فيفرض عليه الإشهاد الذي هو طريق الصيانة، إلا إذا كان شيئاً حقيراً لا يخاف عليه التلف، وبعض المشايخ على أن الإشهاد مندوب، وليس بفرض، وهذا القائل يحمل الأمر المذكور في كتاب الله تعالى نحو قوله: {استشهدوا شهيدين من رجالكم} (البقرة: 282) ونحو قوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (الطلاق: 2) على الندب. واختلف المشايخ في أنه هل يصح تحمل الشهادة على المرأة إذا كانت منتقبة؟ بعض مشايخنا وسعوا وقالوا: يصح عند التعريف، وقالوا: تعريف الواحد كاف، كما في المزكي والمترجم، والاثنان أحوط، وإلى هذا القول مال الشيخ الإمام خواهرزاده رحمه الله، وبعضهم قالوا لا يصح التحمل عليها بدون رؤية وجهها، وبه كان يفتي القاضي الإمام شمس الإسلام الأوزجندي والشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني. ووجه ذلك: أن العلم شرط جواز الشهادة، قال الله تعالى: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} (الزخرف: 86) وقال عليه السلام: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد» العلم لا يحصل إلا بالدليل القطعي، غير أن في كل موضع تعذر الوصول إلى الدليل القطعي يكتفى بالدليل الظاهر، وههنا الوصول إلى العلم وإلى معرفة وجهها ممكن بكشف وجهها، فلا ضرورة إلى إقامة التعريف من الواحد أو المثنى مقامه. والدليل عليه: أنا أجمعنا على أنه يجوز النظر إلى وجهها للتحمل، والنظر إلى الأجنبية مع ما فيه من خوف الفتنة لا يجوز إلا لضرورة، لو صح تحمل الشهادة عليها بدون رؤية وجهها لتحمل الشهادة، فأما معرفة الاسم والنسب للشهادة حالة الغيبة والعلم بذلك لا يحصل بالمعاينة، فتجوز الشهادة على النسب والاسم بإخبار الغير، ثم على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: إذا أخبره عدلان أنها فلانة فذلك يكفي، ألا ترى أنهما لو شهدا عند القاضي كان للقاضي أن يقضي بشهادتهما، والقضاء فوق الشهادة، فلأن يجوز الشهادة بإخبارهما أولى، وعلى قول أبي حنيفة: لا يحل له الشهادة على الاسم ما لم يسمع من جماعة لا يتصور تواطئهم على الكذب؛ لأنا قد ذكرنا أن الشهادة بناء على العلم، ولا يقع العلم إلا بالخبر المتواتر، فأما خبر المثنى ففيه احتمال، والفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله كان يفتى بقولهما في هذه المسألة، وهو اختيار نجم الدين النسفي رحمه الله، وعليه الفتوى. فإن عرفها باسمها ونسبها عدلان فينبغي للعدلين أن يشهدا على شهادتهما، وهؤلاء

الشهود كما هو طريق الإشهاد على الشهادة حتى شهدوا عند القاضي على شهادتهما بالاسم والنسب، وشهدوا بأصل الحق بطريق الأصالة، فيجوز ذلك بلا خلاف. وفي «الجامع الأصغر» قال أبو بكر الإسكاف رحمه الله: المرأة إذا ضرب وجهها، وقالت: أنا فلانة بنت فلان وقد (116أ4) وهبت زوجي مهري فإن الشهود لا يحتاجون إلى شهادة عدلين أنها فلانة بنت فلان ما دامت حية؛ لأنه يمكن للشاهدين أن يسرا لها، فإن ماتت حينئذٍ يحتاج الشهود إلى شهادة شاهدين أنها كانت فلانة بنت فلان. قال نجم الدين النسفي: ويصلح تعريف من لا يصلح شاهداً لها كان الإشهاد لها أو عليها؛ لأن هذا خبر وليس بشهادة، ولهذا لم يشترط لفظة الشهادة، وفي الخبر الحاجة إلى موثق يوثق به، ومن المشايخ من قال: إذا كان الإشهاد لها لا يصلح تعريف من لا يصلح شاهداً لهما. وعن محمد بن مقاتل رحمه الله: إذا سمع الرجل صوت امرأة من وراء الحجاب، وشهد عنده اثنان أنه فلانة بنت فلان لا يجوز أن يشهد عليها أطلق الجواب إطلاقاً وكان الفقيه أبو الليث رحمه الله يقول: إذا أقرت المرأة من وراء حجاب وشهد عنده اثنان أنها فلانة لا يجوز لمن سمع إقرارها أن يشهد على إقرارها، إلا إذا رأى شخصها يعني حال ما أقرت فحينئذٍ يجوز له أن يشهد على إقرارها بشرط رؤية شخصها لا رؤية وجهها. وذكر الخصاف في «أدب القاضي» إذا أراد الرجل أن يعرف المرأة التي تريد أن يشهد لها بوكالة أو بأمر من الأمور ينبغي أن يدخل عليها وعندها جماعة من النساء ممن يوثق بهن ذلك الرجل، فيسألهن: أهذه فلانة بنت فلان؟ فإن قلن نعم يتركها أياماً، ثم نظر إليها بحضرة نسوة أخرى، فيصنع بها مثل ذلك، وكذلك يتردد إليها مراراً شهرين أو ثلاثة، فإذا وقع معرفتها في قلبه بقول نساء ورجال ومن أمكنه شهد عليها بذلك. وفي «فتاوى النسفي» : إذا شهدا على امرأة سمياها ونسبا وكانت حاضرة وقال القاضي للمشهود: هل تعرفون المدعى عليها؟ فقالوا: لا فالقاضي لا يقبل شهادتهم، ولو قالا: تحملنا الشهادة على امرأة اسمها ونسبها كذا، ولكن لا ندري أن هذه المرأة هل هي تلك المرأة بعينها أم لا؟ صحت شهادتهما على المسماة، فكان على المدعي إقامة البينة أن هذه هي التي سموها ونسبوها بخلاف الأول؛ لأن في الأول أقروا بالجهالة، فبطلت شهادتهم، ولا كذلك هذا الوجه. وفي «فتاوى أبي الليث» : سئل نصير رحمهما الله عن الشاهد إذا دعي إلى شهادة وهو في الرستاق، إن كان بحال لو حضر مجلس الحكم وشهد يمكنه الرجوع إلى أهله في يومه يجب عليه الحضور؛ لأنه لا ضرر عليه في الحضور، وإن كان لا يمكنه الرجوع إلى أهله في يومه لا يجب عليه الحضور، وإن كان الشاهد شيخاً كبيراً لا يقدر على المشي بالأقدام، وليس عنده ما يركب فكلف المشهود له بدابة يركب ويحضر فلا بأس به، وهذا من إكرام الشهود. وعن أبي سليمان الجوزجاني: رجل أخرج شهوداً إلى ضيعة قد اشتراها، فاستأجر

دواباً لهم، فركبوا وذهبوا لم تقبل شهادتهم، ولو أكلوا طعامهم قبلت شهادتهم، وهو قول أبي يوسف رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: لا تقبل شهادتهم فيهما جميعاً. وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: أما في الركوب إذا كان للشهود قوة المشي أو قال: يستكرون به الدواب لا تقبل شهادتهم كما قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله. وأما في الطعام، فإن اتخذها الطعام لأجلهم، فأكلوا تقبل شهادتهم، فإن كان الطعام مهيأ عنده، فقدم إليهم فأكلوا تقبل شهادتهم وفيه نظر، فالكبار من الأئمة يباشرون عقود النكاح في ديارنا، ويحضرون الناس للشهادة ويقدمون لهم ماء السكر، وجرت العادة في بعض البلدان أنهم يعطون الشهود السكر واللوز وغير ذلك، ويرون ذلك حسناً. وقال عليه السلام: «ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن» وكذلك جرت العادة أن من أخرج الشاهد إلى الرستاق يعطيه دابته، خصوصاً إذا لم يكن للشاهد دابة، وإذا ذهب به لا يمكنه من الرجوع قبل أن يطعمه ورأوا ذلك فيما بينهم حسناً أيضاً. سئل خلق عمن له شهادة وقعت الخصومة عند قاض وهو غير عدل، هل يسعه أن يكتم الشهادة حتى يشهد عند قاض عدل، قال: له ذلك، وسئل أبو بكر الإسكاف عمن له شهادة عند عدل، وهو مماطل في أدائها قال: إن كان يحفظ الشهادة على وجهها ولا يضطرب قلبه على شيء من أمر شهادته لا يسعه ذلك، وإن فعل فهو سيئ، وسئل الفقيه أبو بكر أيضاً: عمن امتنع عن ذلك لأن القاضي لا يعرفه، قال: إن علم أن القاضي لا يقبل شهادته أرجو أن يسعه أن لا يشهد. في كراهية «العيون» : إذا امتنع الشاهد عن الشهادة، فإن كان في الصك جماعة ممن تقبل شهادتهم سواه وأجابوه يسعه أن يمتنع عن الشهادة، وإن لم يكن في الصك جماعة سواه أو كانوا لكن ممن لا يظهر الحق بشهادتهم عند القاضي، أو كان يظهر لكن شهادة هذا الشاهد أسرع قبولاً لم يسعه الامتناع؛ لأنه عسى يضيع حق المشهود له لو امتنع عن الشهادة. وفي شرح سرقة شيخ الإسلام رحمه الله: أن في حقوق العباد إذا طلب المدعي الشاهد، فشهد له فاجر من غير عذر ظاهر، ثم أدى لا تقبل شهادته، وأشار إلى المعنى، فقال: لما ترك الأداء مع إمكان الأداء فقد احتمل أنه ترك الأداء بعذر بأن نسي أو كان به شغل مانع، واحتمل أنه ترك الأداء؛ لأنه أراد على الأداء أجراً، ولم يسلم له الأجر، فإذا أخذ الأجر بعد ذلك أدى، فتمكن في شهادته نوع تهمة، والتهمة مانعة قبول الشهادة. وفي أول الوصايا من «أدب القاضي» : لا بأس للإنسان أن يحترز عن قبول الشهادة ويحملها. وفي العين من كراهة «الواقعات» : رجل طلب منه أن يكتب شهادة أو يشهد على

عقد، فأبى ذلك، فإن كان الطالب يجد غيره، فللشاهد أن يمتنع، وإلا فلا يسعه الامتناع عنه، وعلى هذا أمر التعديل إذا سئل عن إنسان فإن كان هناك سواه من يعدله يسعه أن لا يجيب، وإلا لم يسعه أن لا يقول فيه الحق، حتى لا يكون مبطلاً للحق عسى.l وفي وصايا «الفتاوي» : كتب صك وصيته وقال للشهود: اشهدوا بما فيه، ولم يقرأ عليهم قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: لا يجوز لهم أن يشهدوا حتى يعلموا ما فيه في قول علمائنا المتقدمين، وفي قول نصير رحمه الله: يجوز، وبه كان يأخذ علي بن أحمد رحمه الله. وفي «أدب القاضي» للخصاف: رجل أشهد على صك أو كتاب وصية، ولم يقرأ عليه، فإن ذلك لا يجوز وفرق على قول أبي يوسف بين هذا وبين كتاب القاضي، فإن على قوله علم الشهود بما في الكتاب والختم، لا على ما فيه، وقد وجد الإشهاد على الكتاب والختم، أما في الصك والوصية الإشهاد يقع على البيع، أو على الحق الذي في الصك. والإشهاد على ما في الصك بأحد أمور ثلاثة: بأن يقرأ الكتاب على الشهود حتى يكون ذلك إقراراً منه، أو بأن يقرأان الكتاب بين يدي الكاتب، وهو يقول: اشهدوا علي بما فيه، أو بأن يكتب بين يدي الشاهد، والشاهد يعلم ما كتب فيه. وفي شهادات «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف: إذا كتب الرجل على نفسه لحق، وقال لقوم: اشهدوا عليّ بما في هذا الصك جاز لهم أن يشهدوا عليه، وإن كتب غيره وقال هو اشهدوا علي بما فيه، لم يجز حتى يقرأه عليهم، ثم يشهدهم. وفي «الأقضية» عن أبي يوسف: إذا كتب الصك والوصية قدام الشاهد ودفعه إليه، وأثبت الشاهد شهادته فيه وبقي الصك في يد الشاهد إلى وقت الشهادة حل له أن يشهد على ذلك؛ لأن الصك إذا كان في يد الشاهد يؤمن على التغيير فيه، بخلاف ما إذا كان في يد غير الشاهد. وفي «المنتقى» : رجل كتب كتاب رسالة إلى رجل، فكتب من فلان بن فلان إلى فلان بن فلان سلام عليكم، أما بعد: فإنك قد كتبت إليّ تتقاضى بالألف التي كانت لك علي، وقد كنت قضيت منها خمسمائة وبقي لك علي خمسمائة، جاز لمن علمه أن يشهد عليه بذلك، وإن لم يشهده على نفسه بذلك، وهذا بخلاف ما لو أراه كتب على نفسه ذكر حقاً لرجل، ولم يشهده على نفسه لم يكن له أن يشهد عليه؛ لأن الرجل قد يكتب على نفسه كتاباً لحق قبل أن يلزمه المال، ولا يكتب الرسالة بذلك إلا بعد ما لزم المال. وإذا رأى الرجل خطه على الصك، ولم يتذكر الحادثة ذكر الخصاف في «أدب القاضي» في باب الرجل يرى اسمه وخطه: أنه لا يجوز له أن يشهد في قول أصحابنا، وذكر هناك أيضاً لو تذكر مجلس الكتابة، وأنه كتب وختم عليه ولم يتذكر أنه شهد على المال لا يشهد أيضاً، وذكر (116ب4) الفقيه أبو الليث والقاضي المنتسب إلى إسبيجاب، والشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني أن على قول أبي حنيفة رحمه الله: لا

يحل له أن يشهد ما لم يتذكر الحادثة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: يحل، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله قول أبي يوسف مع أبي حنيفة، وهكذا ذكر في «المنتقى» : والمذكور في «المنتقى» بشر عن أبي يوسف: لا ينبغي للشاهد أن يشهد وإن رأى في الصك خطه واسمه إذا لم يذكر الشهادة قال: وكذلك قال أبو حنيفة. وإذا سمع الرجل إقرار رجل بحق، وطلب صاحب الحق منه أن يشهد له بالحق، جاز له أن يشهد بالحق، وإن لم يعاين سبب الحق، ويكفيه الإقرار، وكذا إذا سمع إقرار إنسان بحق حل له أن يشهد وإن لم يشهد عليه. وسئل ابن مقاتل عن اثنين يحاسبا بين يدي جماعة، وقالا لهم: لا تشهدوا علينا بما تسمعون بيننا، ثم أقر أحدهما للآخر، قال: ينبغي للشاهد أن يشهد بما سمع من إقراره، وهو قول ابن سيرين قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وهكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله، وبه نأخذ. وإذا دخل في البيت وعلم أنه ليس فيه غير الواحد، ثم خرج وقعد على الباب، وعلم أنه ليس للبيت مسلك آخر، فأقر من في البيت حل له أن يشهد على إقراره. وفي «واقعات الناطفي» : إذا أشهدت المرأة شهوداً على نفسها لأبيها أو لأختها بمال تريد بذلك إضرار الزوج، أو أشهد الرجل شهوداً على نفسه لبعض الأولاد، ويريد به إضرار باقي الأولاد، والشهود يعلمون ذلك وسعهم أن يقبلوا الشهادة، ويشهدوا بذلك وفيه نظر، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا قال: «هذا جور فإنا لا نشهد على الجور» فالصحيح أنه لا ينبغي للمرء أن يتحمل هذه الشهادة، ولكن إذا تحمل، فله أن يؤدي. وفي «فتاوي أبي الليث» : رحمه الله سئل أبو الهيثم الصفار رحمه الله عن رجل أجر سوق النحاسين مقاطعة من السلطان، وكتب بذلك كتاباً، وأشهد شهوداً، هل يحل للشهود أن يشهدوا بذلك؟ فقال: لو شهدوا حل بهم اللعن؛ لأنهم شهدوا بباطل، ولو شهدوا على إقراره ولكنهم عرفوا السبب، فهم ملعونون أيضاً، ويجب أن يتحروا تحمل هذه الشهادة، وكذا في كل إقرار هو بناء على الحرام، وهذا يؤيد ما ذكرنا في المسألة المتقدمة. جاء رجل إلى رجلين مع أعوان السلطان، وأقر عندهما أن لفلان علي دين كذا،

وفلان من أناس السلطان، ثم طلب منهما الشهادة على إقرار هذا المقر، والمقر يزعم أنه أقر خوفاً من المقر له، فإن على الشاهدين أن يشهدا عن هذا الأمر، وإن وقفا على أمر فيه خوف أو إكراه امتنعا عن الشهادة لأن قوله تأيد بمؤيد وإن لم يع على ذلك يشهدان على إقراره ويخبران القاضي أنه أقر، ومعه عوان السلطان حتى يتأمل القاضي فيه. رجل أقر بين يدي قوم إقراراً صحيحاً أن لفلان عليه كذا وكذا درهماً، فمضت على ذلك مدة ثم جاء عدلان أو ثلاثة إلى هؤلاء الشهود، وقال: شهدوا لفلان على فلان بالدين، فإنه قضاه كله، فالشهود بالخيار إن شاؤوا امتنعوا عن الشهادة، وإن شاؤوا شهدوا بذلك وأخبروا الحاكم بالقصة ثم لا يقضي القاضي بالمال حتى يتفحص، كذا ذكره في «فتاوي أبي الليث» عن الفقيه أبي جعفر وأبي نصر ابن سلام. وفي «العيون» عن محمد: إذا شهد عدلان عند شاهد الدين أن صاحبه قد استوفاه، لا يسعه أن لا يشهد بالدين إذا طلب منه صاحبه، ولكن يشهد أيضاً بما أشهده بالشاهدين على شهادتهما بالاستيفاء، أراد به أنه يخبر القاضي بذلك، أما لا يشهد على شهادتهما لأنهما ما أشهداه على شهادتهما. وفي «الواقعات» عن محمد أنهما يشهدان أنه كان عليه ذلك ولا يشهدان أن له عليه. وفي «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله أنهما بالخيار إن شاءا شهدا، وإن شاءا لم يشهدا. وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف رحمه الله: إذا شهد الرجل على حق لرجل ثم أخبره رجلان يثق بهما أنه قد قبض حقه، فليس له أن يمتنع عن أداء الشهادة إذا سأله الطالب أن يشهد بحقه؛ لأنه ليس إليه إن سمع من الشهود أن يحكم به، قال أبو يوسف رحمه الله: وكذلك في النكاح إذا أشهد الرجل على نكاح امرأة ثم أخبره رجلان يثق بهما أنه طلقها والمرأة تجحد النكاح، فسأله الرجل أن يشهد له بالنكاح لم يكن له أن يمتنع عن الشهادة ولو كان الطالب أخبره بالطلاق أو القبض ثم دعاه إلى تلك الشهادة لم يشهد بها. وفي «المنتقى» قال محمد رحمه الله: إذا شهدت أقبل البيع أو النكاح أو قبل العمد أو الإقرار بشيء من ذلك، ثم شهد عندك عدلان على الزوج أنه طلقها ثلاثاً بحضرتنا، أو أن امرأة واحدة أرضعتهما وهما صغيران في الحول، أو أن المشتري أعتق الجارية أو أن البائع أعتقها قبل أن يبيعها من هذا المشتري، أو أن الميت قد عفى بنفسه قبل أن يموت، وقد أنكرت المرأة أن تكون امرأته وأنكرت الجارية أن تكون أمة المشتري لم يسعك أن تشهد على أصل القود وأشباه ذلك، ألا ترى أنهما لو شهدا عند الزوجة بالطلاق، أو شهدا عند الأمة بالعتق لم يسعهما أن يدعاهما بجامعاهما، فكذا لا يسع للشاهد أن يشهد وإن كان ذلك بحق قبله. وإن كان الشاهد بذلك واحداً عدلاً لم يسع للشاهدين أن يمتنعا عن أداء الشهادة الأولى، ولم يسع الزوجة والأمة منع الزوج والمولى الجماع. قال: وما أقر به الرجل من مال أو ما أشير به بين يدي رجل لرجل آخر ثم أنكر

وطلب المقر له شهادة، وأخبر الشاهد عدلان بأن ذلك الذي أقر به المقر قد صار له ببيع أو هبة، قال: يشهد الشاهد بما كان يعلم من ذلك، ولا يلتفت إلى قول العدلين، وقيل: لو وقع في قلبه أن المخبرين صادقان لا يسعه أن يشهد بما كان يعلم من ذلك. وفي «فتاوى الفضلي» : إذا شهد عند شاهد الدين عدلان أن الطالب أبرأ المطلوب لا يسعهما أن يمسكا عن الشهادة، إلا أن يكونا سمعا إقرار الطالب بالإبراء والاستيفاء. وفي «الواقعات» : إذا علم الشاهدان أن الدار للمدعي، فشهد عندهما شاهدان عدلان أن المدعي باع الدار من الذي في يديه، قال محمد رحمه الله يشهدان بما علما، ولا يلتفتان إلى شاهدي البيع ولو شهد عند شاهدي النكاح أو شاهدي شراء العبد عدلان أنه طلقها ثلاثاً، أو بالعتق على البائع لا يشهدان في هاتين الخصلتين، وبعض مشايخ زماننا اختاروا في هذه المسائل كلها أنه إن شهد عند الشاهد بذلك عدلان ووقع في قلبه أنهما صادقان ليس له أن يشهد بما علم من أصل الحق، فإن شهد عنده شاهد واحد أو شاهدان إلا أنه لم يقع في قلبه صدقهما، فله أن يشهد بما علم من أصل الحق. وإذا تزوج الرجل امرأة بشهادة شاهدين على مهر مسمى، ومضى على ذلك سنون، وولدت الأولاد أو مضى سنون ثم مات الزوج، ثم إنها استشهدت الشهود أن يشهدوا على ذلك المسمى وهم يتذكرون استحسن مشايخنا أنه لا يسعهم أن يشهدوا بعد اعتراض هذه العوارض، من ولادة الأولاد ومضيّ الزمان؛ لاحتمال سقوط كله أو بعضه، وبه كان يفتي الصدر الكبير برهان الأئمة رحمه الله، ثم أفتى كما هو جواب الكتاب أنه يسعهم أن يشهدوا، وعليه الفتوى. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: في رجل باع واشترى وهو على حال فساد يستحق أن يحجر عليه، لم ينبغ للرجل إذا دعي للشهادة على مثل هذا أن يشهد؛ لأن من رأي الحاكم أن لا يجر ذلك، قال: قلت: فإن كان الذي يريد أن يشهدني على دفع المال إلى الوارث وهو على حال فساد، يجب أن يحكم الحاكم عليه، قال: وسعك أن تشهد عليه وسعك أن لا تجيب إلى الشهادة على ذلك، فكأنه خيره بين أن يجيب وبين أن لا يجيب. وفي «المنتقى» : رجل في يديه عبد لا يقر عن نفسه، قال الذي في يديه (117أ4) هو عبدي وسمع ذلك منه رجل، ثم تكلم الغلام، وقال: أنا حر وسع لذلك الرجل أن يشهد أنه عبده وإن لم يكن سمع منه ذلك لم يسعه أن يشهد أنه عبده. وفيه أيضاً عن محمد: رجل عنده شهادة لرجل، وهو محدود في قذف أو عبد وسعه أن يشهد ويكتم أنه عبد أو محدود في قذف حتى يقضي للشهود له بالألف الذي يدعيه. إذا أشهد الرجل على ملك دار بعينها إلا أنه لا يعرف الحدود، يجوز أن يسأل الثقات عن حدودها للشهادة، لكن يشهد بالدار على إقراره، ولا يشهد بالحدود على إقراره حتى لا يكون كذباً، بل يفسر الحدود من ذات نفسه. ونحو ذلك: قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» :

رجل في يديه شيء سوى العبد والأمة وسعك أن تشهد أنه له، قد ذكرنا قبل هذا إن علم الشاهد بالمشهود به شرط جواز أداء الشهادة، وأقوى الأدلة التي يحصل بها العلم المعاينة فيجب اعتبارها الأداء إذا تعذر فحينئذٍ يعدل عنها، ويعدل إلى دليل آخر دونها والملك في الأشياء المعينة لأشخاص معنيين لا يعرف من طريق الإحاطة، وإنما يعرف بطريق الظاهر بدليله، واليد بلا منازعة دليل الملك بل لا دليل لمعرفة الملك في حق الشاهد سوى اليد؛ لأن أكثر ما في الباب أن يعاين أسباب الملك من الشراء والهبة أو ما أشبه ذلك، إلا أن الشراء والهبة ما يصل الملك إذا كان البائع أو الواهب مالكاً، وإنما يعرف كون الواهب مالكاً بيده بلا منازعة، وإذا كان اليد بلا منازعة دليلاً على الملك، كان للشاهد أن يعتمد عليه، ويشهد بالملك لصاحب اليد اعتباراً للظاهر عند تعذر الوقوف على الحقيقة، ثم إن محمداً رحمه الله على رواية «الجامع» جعل اليد فيما سوى العبد والأمة دليل الملك، ولم يجعله في العبد والأمة دليل الملك، ولم يفصل بين الصغير والكبير، وروى ابن سماعة عنه: أنه فرق بينما إذا كان العبد صغيراً لا يعبر عنه نفسه، وبينما إذا كان كبيراً أو صغيراً يعبر عن نفسه، فجعل اليد على الصغير الذي لا يعبر عن نفسه دليل الملك، ولم يجعل اليد على الكبير وعلى الصغير الذي يعبر عن نفسه دليل الملك. وجه ما ذكر في «الجامع الصغير» : أن العبد في يد نفسه حتى إذا ادعى أنه حر الأصل قبل قوله فلا يثبت لغيره عليه يدعى الحقيقة، حتى يعتبر لإطلاق الشهادة والاستخدام لا يصلح دليلاً على الملك أيضاً لأن الحر قد يستخدم الحر، وقد يخدمه طوعاً، إلا إذا كان العبد بحال لا يعبر عن نفسه، كما هو رواية ابن سماعة فحينئذٍ يجوز له أن يشهد بالملك؛ لأنه لا يد له على نفسه، فثبت يد المولى عليه حقيقة، وصار كالثياب والبهائم. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه سوى بين العبد والإماء، وبين سائر الأشياء، وجعل اليد في الكل كيد الملك، وهكذا روي عن محمد، وهكذا روى أبو يوسف في «الأمالي» عن أبي حنيفة رحمه الله. وذكر بعض المشايخ في «شرح الجامع الصغير» : فصل العبد والأمة، وقال: إن كان الرائي يعرف أنه رقيق يسع له أن يشهد لذي اليد بالملك؛ لأن الرقيق لا يكون في يد نفسه، بل يكون في يد من هو مستولي عليه من حيث الظاهر، أما إذا لم يعرف أنه رقيق لا يسعه أن يشهد لذي اليد بالملك مجرد اليد؛ لأن الحر قد يخدم الحر طوعاً كأنه عبده، فلا يصح الاستدلال به على الملك. ثم إن محمداً رحمه الله شرط في بعض الروايات مع اليد شيئاً آخر، وهو أن يقع في قلب الرائي أن العين لصاحب اليد، فقال: إذا رأيت في يدي رجل ثوباً أو متاعاً، فوقع في قلبك أنه له، ثم رأيته بعد ذلك في يدي غيره وسعك أن تشهد أنه للأول، فإن لم يقع في قلبك أنه له برؤيتك إياه في يده، لم يسعك أن تشهد أنه له، وهكذا روي عن أبي

يوسف، وهذا لأن الأصل اعتبار علم اليقين لجواز الشهادة، فلأن بقدر اعتبار علم اليقين أمكن اعتبار علم الفتوى. وعن هذا قلنا: إذا رأى درة في يد كناس أو حجام، أو رأى كتاباً في يدي جاهل ليس في آبائه من هو أهل لذلك، لا يحل له أن يشهد بالملك له؛ لأن الذي يشير إلى قلب كل أحد أنه كاذب في دعواه، وأبو حنيفة لم يشترط ذلك في رواية، فإنه روي عنه أنه قال: إذا كانت الدار أو العبد أو الثوب في يدي رجل وسعك أن تشهد أن ذلك له ولم يقل: ووقع في قلبه أنه له، وذكر الصدر الشهيد حسام الدين في «شرح الجامع» في آخره: أنه لا يحل له الشهادة بمجرد اليد، وإنما يحل له إذا رآه في يده يتصرف فيه، وكان الفقيه أبو القاسم الصفار يقول: إن كان الكوز في يده على ممر الزمان، وكانت الشبهة عنها مرتفعة، ولم يكن رأى هناك خصماً يخاصم فيها، فالشهادة جائزة. وذكر القدوري في «شرحه» عن أبي حنيفة وأبي يوسف: إذا رأى الرجل في يدي رجل وعلم أنه له يعرفه بالقلب، ويكتب ذلك عنده زماناً، فليشهد له بالملك، قال القدوري رحمه الله: وإنما اعتبر أن يبقى في يده زماناً، فيحصل تصرفه تصرف المالكين، فيغلب على الظن أنه له، وشرط الخصاف شرائط آخر لم يشترط أحد تلك الشرائط، فقال: إنما يشهد على الملك إذا رآه في الدار يرمها ويبني فيها ويسكنها ويؤاجرها ويحدث فيها أشياء لا يضرب أحد على يده في ذلك، ويقال فيما بين الناس: إن هذا ملكه. وبعض مشايخنا شرطوا شرطاً آخر، وهو أن يدعي ذو اليد الملك لنفسه بأن يقول حال ما رآه في يده: هذا ملكي، فأما إذا لم يعلم منه دعوى الملك حال ما رآه في يده، فإنه لا يشهد له بالملك وإن رآه يتصرف فيه. وفي «المنتقى» : لم يشترط هذا الشرط في بعض هذه المسائل، وقال في مسألة منها ولم يقل هو لي، وصورة ذلك: إذا رأى ثوباً في يدي رجل، ولم يقل: هو ثوبي، ثم ادعاه رجل وسعه أن يشهد أنه ثوبه، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي يقول: لا بد لحل الشهادة من أن يقع في قلب الرائي أنه ملكه، وكان يقول وإن رآه يتصرف فيه والناس يقولون أنه ملكه، إلا أنه وقع في قلب الرائي أنه ملك غيره لا ملكه، وأنه يتصرف بأمر ذلك الغير لا يحل له أن يشهد بالملك وعليه فتوى كثير من مشايخنا. ثم هذه المسالة على أربعة أوجه. أحدها: أن يعاين الشاهد المالك والملك، بأن عرف المالك بوجهه واسمه ونسبه، وعرف الملك بحدوده وحقوقه، ورآه في يده يتصرف تصرف الملاك ويقع في قلبه أن له، حل له أن يشهد له بالملك؛ لأن هذه شهادة عن علم وبصيرة، وإن لم يعاين الملك ولا المالك، ولكن سمع من الناس قالوا: لفلان بن فلان في قرية كذا ضيعة، حدها كذا وكذا، لا يحل له أن يشهد له بالملك؛ لأنه مجازف في هذه الشهادة فإن عاين المالك

وعرفه معرفة تامة ولكن لم يعاين الملك، بأن سمع من الناس أن لهذا في قرية كذا ضيعة حدودها كذا، وهو لم يعرف تلك الضيعة، ولم يعاين يده عليها، لا يحل له أن يشهد له بالملك، وإن عاين الملك دون المالك بأن عاين ملكاً محدوداً وينسب هذا الملك إلى فلان بن فلان الفلاني وهو لم يعاين فلاناً بوجهه ولا يعرفه بنسبه، فالقياس: أن لا تحل له الشهادة، وفي الاستحسان تحل لأن الملك معلوم والنسبة تثبت بالشهرة والتسامع، فكانت هذه شهادة بمعلوم. توضيحه: أن صاحب الملك ربما يكون امرأة لا تبرز ولا تخرج، فلو اعتبرنا تصرفها بنفسها لجواز الشهادة بالملك يبطل حقها فاكتفى فيه بالتسامع، فإذا سمع أن هذه الضيعة لفلانة وفي يدها، ووقع في قلبه أن الأمر كما سمع، حل له أن يشهد بالملك لها، هكذا ذكره الخصاف في «أدب القاضي» . وفي «المنتقى» : إذا رأيت رجلاً على حمار يوماً لم أشهد أنه له، ولو رأيته على حمار خمسين يوماً أو أكثر، ووقع في قلبي أنه له شهدت أنه له، ولو وقع في قلبي أنه عارية لم أشهد له قال محمد رحمه الله في «المنتقى» : إذا رأيت ثوباً أو متاعاً في يدي رجل، ووقع في قلبك أنه له. ثم رأيته بعد ذلك في يد غيره فشهد عندك شاهد عدل أنه للذي في يديه اليوم، كأن أودعه الأول بمحضر منها لم يسعك أن تشهد أنه للأول، قال: لأن هذا ينبغي أن يقع في قلبك إذا شهد العدلان بما وصفت لك أنه ليس للأول، فلا يسعك أن تشهد أنه للأول، وإن شهد بذلك عندك واحد وسعك أن تشهد أنه للأول ما لم يقع في قلبك أنه صادق، وإذا وقع في قلبك إنه صادق فلا تشهد به للأول؛ لأن الذي وسعك أن تشهد به للأول لكأنه قد زال عن قلبك بهذه الشهادة، فكأنه لم يقع في قلبك قط أنه للأول. وفي «شرح شهادات الجامع» : أن من عاين دابة تتبع دابة، وترضع منها حل له أن يشهد بالدابة المرتضعة لصاحب الدابة الأخرى وبالنتاج، وهكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرح دعوى الأصل» (117ب4) . نوع آخر من هذا الفصل قال محمد رحمه الله: ولا تجوز الشهادة على الأملاك وعلى أسبابها، نحو: البيع والهبة والصدقة بالشهرة والتسامع. وتجوز الشهادة بالشهرة والتسامع في أربعة أشياء: النسب والنكاح والقضاء والموت، والقياس في هذه الأشياء أيضاً أن لا تحل الشهادة بالتسامع؛ لأن شرط جواز الشهادة علم معاينة، قال عليه السلام: «إذا علمت مثل الشمس فاشهدوا وإلا فدع» ، فقد شرط لحل الشهادة علم معاينة، ولم توجد، إلا أنا استحسنا وجوزنا الشهادة بالشهرة

والتسامع في هذه الأشياء الأربعة للتوارث والتعامل بين الناس، ولأنه يتعذر الوقوف على حقيقتها فاكتفى فيها بالدليل الظاهر، فهو الشهرة والتسامع فإنه اقترن بهذه الأشياء ما يوجب الشهرة والشهرة أقيمت مقام العيان في بعض الصور، كما في باب الأخبار، فإن الأخبار إذا اشتهرت من رسول الله عليه السلام كانت بمنزلة المسموع من النبي عليه السلام، حتى جاز التخصيص والنسخ بها. ثم الشهرة التي تقوم مقام المعاينة الشهرة في الطرفين، فإن الأصل في هذا الباب أخبار رسول الله عليه السلام وإنما يثبت حد الشهرة بأخبار النبي عليه السلام، بوجود التواتر في الطرفين، أما في الطرف الأول والأوسط أو في طرف الأوسط والآخر، أو في الطرف الأول والآخر وفي هذه الأشياء وجد الاشتهار في طرفين أيضاً، في طرف الوقوع وفي طرف البقاء فتقام الشهرة مقام المعاينة. جئنا إلى بيان صور هذه المسائل. فأما النسب فصورته: إذا سمع الرجل من الناس أن فلان بن فلان الفلاني، وسعه أن يشهد بذلك وإن لم يعاين الولادة على فراشه للتوارث والتعامل، فإنا نشهد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ابن قحافة، وعمر رضى الله عنه ابن الخطاب، وعثمان رضي الله عنه ابن عفان، وعلي رضي الله عنه ابن أبي طالب، ونحن ما رأينا أبا قحافة ولا الخطاب ولا أبا طالب، وما أدركناهم، وكذلك الغلام منا إذا أدرك فسمع الناس يقولون: فلان بن فلان ولم يدرك هذا الغلام أباه، فإنه يشهد أنه فلان بن فلان ولأن سبب النسب العلوق منه، وإنه لا يمكن الوقوف عليه حقيقة؛ لأنه أمر باطن لا يعلمه إلا الله تعالى، وسبب العلوق وهو الوطء يكون سراً من الناس لا يعرفه إلا الواطئان، والولادة لا يعرفها غير القابلة، فتعذر الوقوف على حقيقته، فلم يكلف الشهود معرفته حقيقة، واكتفى فيه بالدليل الظاهر، وهو الشهرة وقوعاً وبقاء، فالنسب مشتهر وقوعاً وبقاء، وقوعاً بأن الولادة تكون بين جماعة من النسوان غالباً، ثم يهيأ بعد ذلك لأجلها ويتخذ لذلك وليمة، وهو العقيقة. وأما بقاء: فلأن بمضي الزمان يشتهر نسبه فيما بين الناس، فيقولون هذا ابن فلان، فيقوم مقام المعاينة. وأما النكاح فصورته: إذا رأى رجلاً يدخل على امرأة وسمع من الناس أن فلانة زوجة فلان يسعه أن يشهد أنها زوجته وإن لم يعاين عقد النكاح للتوارث، وإنا نشهد أن عائشة رضي الله عنها كانت زوجة النبي عليه السلام، وفاطمة رضي الله عنها كانت زوجة علي رضي الله عنه، ولم نعاين نكاحهما ولأنه تعذر الوقوف على حقيقته؛ لأن جواز النكاح يبنى على المسألة بدليل أن نكاح المرتد لا يجوز، وإنه لأمر في باطنه؛ لأن اعتقاده لا يقف على حقيقته غير الله تعالى، فاعتبر الظاهر عند تعذر الوقوف على الحقيقة والنفساء بالشهرة والتسامع فيه فالنكاح يشتهر وقوعاً وبقاء، أما وقوعاً: فلأنه يكون بمحضر من الشهود ويتخذ لذلك وليمة، وأما بقاء: فلأن الناس يرونه يدخل عليها كما

يفعل الأزواج، ويقولون فيما بينهم: هذا زوج هذه. وأما القضاء فصورته: إذا رأى رجلاً قضى لرجل بحق من الحقوق، ويسمع من الناس أنه قاضي هذه البلدة وسعه أن يشهد أن قاضي بلدة كذا قضى لفلان، وإن لم يعاين تقليد الإمام إياه قضاء هذه البلدة للتوارث، فإنا نشهد أن شريحاً كان قاضياً، وعلياً رضى الله عنه كان قاضياً، ولم ندركهما، ولم نعاين تقليدهما، ولأنه تعذر الوقوف على حقيقته؛ لأن صورته قاضياً ينبني على المسألة، فإنه إذا كان مسلماً صلح قاضياً ونفذ قضاؤه بين المسلمين، وإلا فلا في اعتقاده لا يطلع عليه إلا الله تعالى، فاعتبر الظاهر وهو الشهرة وقوعاً وبقاء، فالقضاء يشتهر وقوعاً وبقاء، أما وقوعاً: فلأن التقليد غالباً يكون بين يدي جماعة، وبعد ذلك يكتب له منشور، ويقرأ على رؤوس الخلائق ويجتمع الناس إليه كل يوم لفصل الخصومات بينهم، وذلك يفيد من العلم مثل ما يفيد العيان، فجازت الشهادة عليه بالشهرة. أما الموت فصورته: إذا سمع الناس يقولون: إن فلاناً مات، أو رآهم صنعوا به ما يصنع بالموتى، يسعه أن يشهد على موته وإن لم يعاين ذلك للتوارث، فإنا نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وتوفي الصحابة ولم ندرك زمانهم ولم نعاين ذلك، ولأنه تعذر الوقوف على حقيقته؛ لأنك ترى إنساناً عليه زي الموتى وسيماهم وهو حي حقيقة، كالذي أخذته السكينة ونحوه، ونرى آخر في صورة الأحياء وهو ميت حقيقة، كما كان سليمان عليه السلام، مات ومضى عليه زمان طويل، ولا يعلم به أحد من أصحابه، فإذا تعذر الوقوف على حقيقته اكتفينا بالظاهر، وهو الشهرة وقوعاً وبقاء، فالموت يكون بمحضر جماعة من الناس، وبعد ذلك يجتمع الناس للصلاة عليه، ولدفنه وتعزيته، فيكتفى بها لجواز الشهادة عليها بالتسامع، ولأن لهذه الأشياء أحكاماً تبقى بعد القضاء قروناً، فلو لم تجز الشهادة بالتسامع لتغلظت تلك الأحكام. قال ابن سماعة عن محمد رحمه الله في الموت: إذا أخبرك واحد عدل بالموت وسعك أن تشهد به، وأما في النسب فلا يسعك أن تشهد به حتى يشهد عندك عدلان، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وعلى قول أبي حنيفة رحمهم الله هذا على ما يقع في القلب، وهكذا روى بشر ابن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يحل له أن يشهد بالنسب حتى يسمع ذلك من العامة، والجواب في النكاح والقضاء نظير الجواب في النسب، وقد فرقوا جميعاً بين الموت وبين الأشياء الثلاثة، فاكتفوا بخبر الواحد في الموت دون الأشياء الثلاثة. ووجه الفرق: أن الموت قد يتفق في موضع لا يكون ثمة إلا واحد، فلو قلنا إنه لا يسمع الشهادة على الموت بإخباره ضاعت الحقوق المتعلقة بالموت وبطلت بخلاف هذه الأشياء الثلاثة؛ لأن الغالب فيها أن تكون بين الجماعة، أما النكاح فلأنه لا ينعقد إلا بشهادة الاثنين، وتقليد الإمام القضاء يكون بين الجماعة في الغالب، وكذلك الولادة، فاشتراط العدد فيها لا يؤدي إلى تضييع الحقوق.

وكان الفقيه أبو جعفر البلخي رحمه الله: يفرق بين الموت والنسب من حيث أن الموت مما يعاين، فقد أخبر عن عيان، فكان فيه زيادة قوة، فلا يشترط العدد، فأما النسب فلا يتصور فيه المعاينة، فيمكن في خبره نوع شبهة، فلا يكتفي فيه بقول الواحد ومن المشايخ من قال: لا فرق بين الموت والنسب والقضاء والنكاح، وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع. موضوع مسألة الموت أنه أخبره واحد عدل موثوق به، ولم يذكر العدل والموثوق به في الأشياء الثلاثة، ولو كان الواحد المخبر في الأشياء الثلاثة عدلاً موثوقاً به حل له أن يشهد، ومنهم من قال بالفرق والفرق ما ذكرنا. ثم عند أبي يوسف ومحمد يجوز الشهادة بخبر المثنى في النسب والقضاء والنكاح، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا تجوز الشهادة ما لم يسمع ذلك من العامة بحيث يقع في قلبه صدق الخبر. وجه قولهما: أن خبر الاثنين للعدل حجة مطلقة لو شهدا به عند القاضي قضى بشهادتهما، فإذا شهدا عنده حل له أداء الشهادة أيضاً؛ لأن جواز الشهادة يبنى على العلم، كما أن جواز القضاء يبنى على العلم، فإذا جاز القضاء بهذا العلم لأن تجوز الشهادة به والقضاء أقوى؛ لأن فيه إلزاماً أول، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: بأن جواز الشهادة يبنى على العلم، وبخبر المثنى لا يحصل العلم لبقاء شبهة الكذب في خبرهما وإن كانا عدلين، وأما بخبر الجماعة التي لا يتصور تواطؤهم على الكذب يحصل العلم، بحيث لا يشك السامع في وجود المخبر به، فإذا أخبره جماعة يحصل له العلم بخبرهم ويقع في قلبه صدقهم، حل له أداء الشهادة وإلا فلا يحل له، ثم في الأشياء الثلاثة إذا ثبت والشهرة والاستفاضة عندهما بخبر عدلين، بشرط أن يكون الإخبار بلفظة الشهادة، كذا ذكره الخصاف وشيخ الإسلام رحمهما الله، وبه أخذ الصدر الشهيد برهان الدين جدي رحمه الله لأنه إخبار بالشهادة يوجب زيادة علم شرعاً لا توجبه لفظة الخبر، ألا ترى أن القاضي لا يقضي ما لم يأت الشاهد بلفظة الشهادة، وفي فصل (118أ4) . الموت لما ثبتت الشهرة بخبر الواحد بالإجماع لا يشترط فيه لفظية الشهادة، بل يكتفى فيه بمجرد الإخبار، إما لأن لفظ الشهادة من الواحد لا توجب زيادة العلم حتى لا يقضي القاضي بها، أو لأنه لما سقط اعتبار العدد وتأثير العدد في إفادة زيادة العلم أكثر من تأثير لفظة الشهادة، لأن يسقط اعتبار لفظة الشهادة أولى. وأما الشهادة على الدخول بالشهرة والتسامع ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أنه يجوز؛ لأن هذا أمر يشتهر، ويتعلق به أحكام مشهورة من النسب والمهر والعدة وثبوت الإحصان، بخلاف الزنا، حيث لا تجوز الشهادة فيها بالتسامع، لأن الزنا فاحشة، والشهادة بالتسامع إنما جازت احتيالاً لإحياء حقوق الناس؛ لأن الذين عاينوا لو ماتوا ومضى عليه قرن بعد قرن لو لم تجز الشهادة بالتسامع أدى إلى إبطال حقوق الناس، والفاحشة لا يحتال لإثباتها.

وأما الشهادة على المهر بالشهرة والتسامع فقد ذكر في نكاح «المنتقى» أنه يجوز، وهكذا ذكر في شهادات «المنتقى» وصورة ما ذكر في الشهادات: قال هشام: سمعت محمداً رحمه الله يقول في قوم خرجوا من ملاك رجل وفي الخارج قوم يشهدوا الملاك، فأخبروهم أنها زوجت على كذا من المهر وسع الخارجين أن يشهدوا بالمهر، ويثبتون الشهادة أن المهر كذا، وكذا ولو قالوا: سمعنا الذين شهدوا الملاك يقولون: المهر كذا وكذا تقبل شهادتهم. وفي «الإملاء» عن محمد رحمه الله: أن الشهادة على المهر بالشهرة لا تجوز، وأما الشهادة في الأملاك لا تحل بالشهرة والتسامع في قول علمائنا، إلا في فصل واحد ذكره الخصاف في «أدب القاضي» ، وقال الشافعي رحمه الله: يحل. وأجمعوا على أن الشهادة بالشهرة والتسامع في أسباب ملك اليمين لا تحل، كالبيع والهبة والصدقة، وذهب في ذلك أن الشهرة والاستفاضة تتحقق في الأملاك كما تتحقق في الأشياء الأربعة، وإنا قول: غصباً كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا دار أبي نعمان ود السامانية، كما في النسب نقول عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، والشهرة والاستفاضة أقيم مقام العيان، كما في الأشياء الأربعة، بخلاف الأسباب من البيع وغيره، لأنها لا تبقى في نفسها لتشتهر، لأنها كلام قد انقضى ومضى، ووقوعاً قد يشتهر وقد لا يشتهر، فإنه قد يقع بين جماعة وقد لا يقع، فلا تثبت الشهرة والاستفاضة في حق الأسباب، فأما الملك مما يبقى وما بقي اشتهر واستفاض. وعلماؤنا ذهبوا في ذلك إلى أن الشهرة أقيم مقام العيان فيما يشتهر وقوعاً وبقاء، والاشتهار في الأملاك إن كان يوجد بقاء لا يوجد وقوعاً في الغالب قد يشتهر وقوعاً وبقاء في الغالب، فيثبت حد الشهرة في الأشياء الأربعة، والشهرة أقيمت مقام العيان كما في الأخبار. وإذا شهد شاهدان أن فلاناً مات، وترك هذه الدار ميراثاً لابنه، وهذا لا يعلم له وارثاً آخر، إلا أنهما لم يدركا فلاناً الميت لا تقبل شهادتهما، لأنهما يشهدان بالملك للميت بالشهرة والتسامع. بيانه: أن الوراثة خلافة، فما لم يثبت الملك للميت لا يتصور فيه الخلافة للوارث، والشهود إذا لم يدركوا الميت لم يعاينوا سبب الملك في حقه، ولا اليد المتصرفة، فتعين أن تكون الشهادة بالشهرة والتسامع، والشهادة على الملك بالشهرة والتسامع لا تجوز. وأما الشهادة في الوقف هل تحل بالشهرة والتسامع؟ فلا رواية لهذا، وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: تحل بالشهرة والتسامع لأنه مما يشتهر وقوعاً في الغالب، وبقاء لا محالة، فصار كالأشياء الأربعة، وبعضهم قالوا: لا تحل، لأنه إن كان يشتهر بقاء

لأن ما بقي اشتهر لا يشتهر وقوعاً لا محالة قد يشتهر وقد لا يشتهر، لأن الوقف قربة يتقرب بها إلى الله تعالى والإخفاء بالقرب أكثر من الإعلان بها، فيصير بمنزلة الأملاك من هذا الوجه، ومن المشايخ من قال: تجوز الشهادة على أصل الوقف بالتسامع، أما على شرائط الوقف لا، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وهو الأصح، لأن أصله يشتهر، أما شرائطه لا تشتهر، وأما الشهادة بالعتق بالشهرة والتسامع لا تحل عندنا، وعند الشافعي: تحل، لأنه مما يشتهر بقاء عنده يكفي لحل الشهادة، وعندنا لا يكفي، بل نشترط الشهرة بقاء ووقوعاً، والعتق إن كان يشتهر بقاء لا يشتهر وقوعاً لا محالة، لأن العتق قربة، وقد ذكرنا أن الإخفاء بالقرب أكثر من الإعلان بها. فأما الشهادة بالولاء بالشهرة والتسامع لا تحل عند أبي حنيفة رحمه الله ما لم يعاين عتق المولى، وهو قول أبي يوسف الأول، وعلى قوله الآخر: تحل، وقول محمد مضطرب في بعض الروايات مع أبي حنيفة، وفي بعضها مع أبي يوسف، فأبو يوسف ذهب في ذلك إلى أن الولاء بمنزلة النسب، على ما قال عليه السلام: «الولاء لحمة كلحمة النسب» . والشهادة في الأنساب تحل بالشهرة والتسامع، وكذا فيما له حكم النسب، ألا ترى أنا نقول: نافع مولى ابن عمر، وعكرمة مولى عبد الله بن عباس، كما نقول: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأبو حنيفة رحمه الله قال: إنما تحل الشهادة بالشهرة والتسامع في النسب، لأنه يشتهر وقوعاً وبقاء في الغالب على ما بيّنا، فأما الولاء، فإن كان يشتهر بقاء، لأن ما بقي يشتهر لا محالة، لا يشتهر وقوعاً لا محالة في الغالب، لأن الولاء يثبت بالعتق، والعتق قد يوقع على سبيل الشهرة، وقد يقع على سبيل الخفية، لأنهما قربة، والإخفاء في القرب التي يتطوع بها أصل، وإذا كان يشتهر بقاء لا وقوعاً كان الولاء بمنزلة الأملاك من هذا الوجه. وذكر شمس الأئمة الحلواني في «شرح أدب القاضي» للخصاف: أن الشهادة على العتق مختلف فيه بين أصحابنا رحمهم الله، كالشهادة على الولاء، قال في كتاب «الأقضية» : وأما الولاء، فلا أشهد به، وإن كان مشهوراً إذا كان بعض الورثة الذين أضافوا إليه الولاء يزعمون أنه رقيق لهم عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وإن لم يدّعوا رقه شهدت به، لأنهم إذا ادعوا رقه وهو يدعي الولاء، فقد أقر بملك أبيهم، حيث ادعى الولاء بسبب إعتاقه، فيثبت الملك عليه بإقراره، ولم يثبت الإعتاق مع إنكار الورثة، فحاجته بعد ذلك إلى زوال الملك الثابت لهم، ولا تحل الشهادة على ذلك إلا لمعاينة

فأما إذا لم يدعوا رقه لم يثبت لهم عليه ملك، ولا حق ملك، فبعد ذلك هو يدعي عليهم الانتساب إلى أبيهم بسبب الولاء وهم ينكرون، فتقبل الشهادة عليهم بالشهرة، كما في النسب. وإذا شهد شاهدان على موت رجل، فهذا على وجهين: أما إن أطلقا الشهادة إطلاقاً ولم يثبتا شيئاً، أو قالا: لم نعاين موته، وإنما سمعنا من الناس، ففي الوجه الأول: تقبل شهادتهما، ويحمل على سبب يطلق لهما أداء الشهادة، وهو الشهرة أو المعاينة، وفي الوجه الثاني: إن لم يكن موت فلان مشهوراً لا تقبل الشهادة بلا خلاف؛ لأن المطلق الشهرة ولم توجد المعاينة، والشهرة لم تثبت بقولهما: سمعنا من الناس؛ لأن السماع قد يكون على وجه يثبت به الشهرة بأن سمعا من جماعة لا يتصور تواطؤهم على الكذب أو سمعا من واحد عدل أو جماعة ليسوا بعدول، فلهذا لا تقبل الشهادة. وإن كان موت فلان مشهوراً ذكر في «الأصل» وفي كتاب «الأقضية» : أنه لا تقبل الشهادة، وهكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» ، وقد قال بعض مشايخنا: لا تقبل شهادته، وبه أخذ الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله، فإن قالا: نشهد أن فلاناً مات، أخبرنا بذلك من شهد موته ممن يوثق به جازت شهادتهما، هكذا ذكر في كتاب «الأقضية» ؛ لأنهما بينا أنهما شهدا عند وجود ما يطلق لهما أداء الشهادة، فلا يكون قد جاؤوا طمعاً في شهادتهما، وهذا فصل اختلف فيه المشايخ، بعضهم قالوا: لا تجوز هذه الشهادة؛ لأنهما ما أسندا هذه الشهادة إلى دليل يوجب العلم قطعاً، والعلم قطعاً شرط لجواز الشهادة لما تلونا من نص الكتاب، فإن اكتفى بهذا الدليل مع هذه الشبهة لإطلاق أداء الشهادة لا يدل على أنه إذا بين القاضي أن القاضي يكتفي فيه؛ لأن الضرورة تمكنت في حق الشاهد، لا في حق القاضي. ونظيره: أن من رأى عيناً في يد إنسان يتصرف تصرف الملاك، حل له أن يشهد بالملك لذي اليد، ولو شهد عند القاضي، وقال: إن هذا العين ملكه، لأني رأيته في يده يتصرف فيه تصرف الملاك لا تقبل شهادته لما ذكرنا، كذا هنا. وقد عثرنا على الرواية أنه تجوز الشهادة، وهي رواية كتاب «الأقضية» وكذلك إذا قالا: دفناه أو شهدنا جنازته، لأنه لا يدفن إلا الميت ولا يوضع على الجنازة إلا الميت، فكانت شهادة بالموت، فتقبل هذه الشهادة، ولا يقال عليه بأن هذه شهادة على فعل نفسه، فلا تقبل لأنا نقول: المشهود به في الحقيقة الموت، وأنه ليس من فعلهما، فلا يمنع قبول شهادتهما، وههنا مسألة عجيبة لا رواية لها: أنه إذا لم يعاين. (118ب4) الموت إلا واحد، ولو شهد عند القاضي لا يقضي بشهادته وحده، ماذا يصنع؟ قالوا: يخبر بذلك عدلاً مثله، فإذا سمع منه حل له أن يشهد على موته، فيشهد هو مع ذلك الشاهد، حتى يقضي القاضي بشهادتهما. وإذا جاء موت الرجل من أرض أخرى، وصنع أهله ما يصنعون على الميت لم يسع أحداً أن يشهد على موته إلا من شهد موته أو سمع ذلك ممن شهد موته؛ لأن مثل هذا

الفصل الثاني: في أقسام الشهادة وفي شهادة النساء

الخبر قد يكون كذباً، وعند بعد المسافة يغلب مثل هذا، فلا يعتمد عليه حتى يخبره من يثق به عن معاينته فحينئذٍ يسعه أن يشهد. وإذا رأى رجلاً وامرأة سكنا في بيت واحد (وينقط) كل واحد منهما على صاحبه، كما يكون من الأزواج وسعه أن يشهد لهما بالنكاح؛ لأن هذا القدر يكفي لتحمل الشهادَةِ بملك اليمين، فإنه إذا رأى شيئاً في يدي أحد يتصرف فيه تصرف الملاك وسعه أن يشهد بملك ذلك الشيء له، فهذا أولى، ألا ترى لو أن رجلاً يسكن مع امرأة في دار، وحدث بينهما أولاد، وخاصمته في النفقة أو طلقها وراجعها، وقضى القاضي بذلك، أو ظاهر منها وكفّر، ثم مات وجحد أولياؤه ميراثها وأنكروا النكاح لم يسع للجيران ومن معهم في الدار أن يشهدوا أنها امرأته وهذا؛ لأن بعد هذا النوع من الاشتهار الذي يسبق إلى قلب كل أحد قيام النكاح بينهما، لو لم تجز الشهادة على النكاح تعطلت الحقوق، وبطل ميراثها، وإنه أمر قبيح. وإذا قدم عليه رجل من بلد آخر وانتسب إليه، وأقام معه دهراً لم يسعه أن يشهد على نسبه حتى يشهد له رجلان من أهل بلده عدلان أو يكون النسب مشهوراً، وذكر الخصاف هذه المسألة، وشرط لجواز الشهادة شرطين: أحدهما: أن يشتهر الخبر ويعم، الثاني: أن يمكث فيهم سنة، فإنه قال: لا يسعهم أن يشهدوا على نسبه حتى تقع معرفة ذلك في قلوبهم، وذلك بأن يقيم معهم سنة؛ لأن السنة مدة (معتبرة شرعاً) ، ألا ترى أنه قُدِّرَ به أجل العنّين وكثير من الأحكام، فالظاهر أنه لو كان الأمر على خلافه يظهر في هذه المدة، وإن وقع في قلبه معرفة ذلك قبل مضي السنة، لا يجوز له أن يشهد، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قدر ذلك بستة أشهر. والصحيح: أنه إذا سمع من أهل بلده من رجلين عدلين حل له أداء الشهادة وإلا فلا، فإذا سمع ذلك ممن سمع من المدعي لا يحل له أن يشهد وإن اشتهر ذلك بين الناس؛ لأنه لما لم يحل له الشهادة بالسماع منه، فكيف يجوز بإخبار من سمع منه، لكن إنه شهد عنده جماعة حتى تقع الشهرة حقيقة وعرفاً، ووقع عنده أنه ثابت النسب من فلان، أو شهد عنده عدلان حتى يثبت الاشتهار شرعاً حتى له أن يشهد. الفصل الثاني: في أقسَام الشهادة وفي شهادة النسَاء أقل ما يجوز في حقوق الناس فيما بينهم من الطلاق والعتاق والنكاح، وكفالة النفس وكفالة الأموال والإبراء، وقضاء القاضي وكتاب القاضي إلى القاضي، والوكالات والرهون والوصايا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، والقياس في ذلك كله: أن يكتفى

بشهادة الواحد إذا كان عدلاً لظهور الصدق في شهادته لعدالته، والصدق واجب القبول، وبانضمام شاهد آخر لا يزداد دليل الصدق في خبر الأول، لكن عرفنا اشتراط العدد بالنصوص، منها قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} (البقرة: 282) وقوله: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} (النساء: 15) وقوله: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} (الطلاق: 20) وقوله عليه السلام: «ليس لك إلا شاهداك أو يمينه» وتقدير الشرع إما يكون لمنع الزيادة، كأكثر مدة الحيض، أو لمنع النقصان. كأقل مدة الحيض والسفر، وهذا التقدير ليس لمنع الزيادة، فيكون لمنع النقصان، ولأن طمأنينة القلب إلى قول العدد أبلغ منه إلى قول الواحد، فشرط العدد صيانة للحقوق المعصومة، لكثرة ما يكون في الخصومات من التلبيس والتزوير. وإذا ثبت أن العدد شرط فنقول: الحوادث أقسام ثلاثة، في قسم منها يشترط الأربعة، وهو: الزنا الموجب للحد، عرف ذلك بقوله تعالى: {فاستشهدوا عليهن أربعة منكم} (النساء: 15) ولا يشترط ذلك في غيره، وفي قسم منها يشترط رجلين، وهو العقوبات التي تقدر بالشبهات، نحو: القصاص وسائر الحدود ما خلا حد الزنا، حتى لا تثبت هذه الأشياء بشهادة رجل وامرأتين، بدليل ما روي عن الزهري رحمه الله أنه قال: مضت السنّة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفة من بعده أن لا شهادة للنساء في الحدود.u وفي قسم منها يكتفى بشهادة رجل وامرأتين، وهو المال وما كان من توابع المال؛ لأن الله تعالى قال في آية المداينة {واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان} (البقرة: 282) وإذا ثبت هذا الحكم في المال ثبت فيما هو تبع المال ضرورة، والحقوق المجردة كالنكاح والطلاق والعتاق والرجعة من هذا القسم، حتى يكتفى فيه بشهادة رجل وامرأتين، بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أجاز شهادة النساء في النكاح» ، وعن عمر وعلي رضي الله عنهما مثل ذلك، وكذلك ما يتوقف عليه كمال العقوبة، وهو الإحصان من هذا القسم، حتى يثبت الإحصان بشهادة رجل وامرأتين عندنا؛ لأن الإحصان عبارة عن خصال حميدة، بعضها مأمور به وبعضها مندوب إليه، فيثبت بشهادة النساء مع الرجال كسائر الحقوق، ولا تقبل شهادة النساء بانفرادهن فيما يطلع عليه الرجال بالإجماع، وفيما لا يطلع عليه الرجال: تقبل شهادتهن بانفرادهن بالإجماع. والوجه في ذلك: أن القياس يأبى كون شهادة النساء حجة؛ لأنه تمكن في شهادتهن زيادة تهمة بسبب الغفلة أو النسيان يمكن الاحتراز عنها بالرجال، لكن جعلناها حجة فيما يطلع عليه الرجال إذا قامت مع الرجال بالنَصّ، والنص الوارد يجعل شهادتِهنّ حجة مع

الرجال، وقد تمكنت زيادة تهمة في شرط الشهادة لا يكون وارداً بجعلها حجة بانفرادهن، وقد تمكنت التهمة في كل الشهادة، وفيما لا يطلع عليه الرجال جعلنا شهادتهن حجة على الانفراد بالنص، وقد روى مجاهد، وسعيد بن المسّيب، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح رضي الله عنهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم «أجاز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال النظر إليه» ، أي: فيما لا يحل للرجال النظر إليه، والمعنى فيه: أنه لو لم تجز شهادة النساء بانفرادهن فيما لا يطلع عليه الرجال أدى إلى إبطال حقوق تعلقت بهذه الأسباب، والعدد ليس بشرط عندنا في هذا الباب، حتى يثبت ذلك بشهادة امرأة واحدة، وإن كانت امرأتان أو ثلاث فذلك أحب. وهل يشترط لفظة الشهادة؟ قال مشايخ بلخ، ومشايخ بخارى: يشترط، وقال مشايخ عراق: لا يشترط، وأجمعوا على أنه يشترط الحرية والبلوغ عن عقل والإسلام إن قامت على مسلم، وكذلك يشترط العدالة، ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وإنما لم يشترط العدد عندنا لما روينا من حديث مجاهد وسعيد بن المسيب. ووجه الاستدلال به: أن النساء اسم جنس واسم الجنس يتناول الأدنى مع احتمال الكل، فصار تقدير أن النبي صلى الله عليه وسلم «أجاز شهادة الواحد من النساء فيما لا يطلع عليه الرجال» ، وفي حديث حذيفة رضي الله عنه: أن النبي عليه السلام «أجاز شهادة القابلة على الولادة» . والمعنى في ذلك: أنه إنما سقط اعتبار الذكورة في هذا الباب مع أن نظر الرجال إلى هذا الموضع غير متعذر ولا ممتنع؛ لأن نظر الجنس أخف، فإذا أمكن تحصيل المقصود بالأخف وهو شهادة النساء سقط اعتبار الأغلظ، وهو الذكورة، ولهذا لا يسقط اعتبار الحرية والعدالة؛ لأن نظر المملوك وغير العدل ليس أخف من نظر الحر والعدل، وهذا المعنى يقتضي سقوط اعتبار العدد؛ لأن نظر الفرد أخف من نظر العدد، وكذا لم يسقط اعتبار الإسلام؛ لأن نظر الكافر ليس أخف من نظر المسلم. جئنا إلى اشتراط لفظة الشهادة، وفيه اختلاف المشايخ على ما ذكرنا، وجه قول من قال: إن لفظة الشهادة ليست بشرط: أن هذا خبر وليس بشهادة، ألا ترى أنه لم يشترط فيه العدد، فلم تشترط لفظة الشهادة أيضاً، وجه قول من قال: إن لفظة الشهادة شرط: أن هذه شهادة على الحقيقة، وليست بخبر، ألا ترى أنه تقع ملزمة على الغير كان القياس فيه أن يشترط العدد، كما في سائر الشهادات، لكن تركنا القياس في اشتراط العدد، لحديث مجاهد وسعيد بن المسيب على نحو ما بينا، وأنه يقتضي إسقاط اعتبار العدد، أما لا يقتضي إسقاط اعتبار لفظة الشهادة، بل يقتضي اعتبارها؛ لأن تقدير الحديث شهادة

الواحدة من النساء فيما لا يحل للرجال النظر حجة، ولو (119أ4) نص على هذا لسقط اعتبار العدد، ولا يسقط اعتبار لفظة الشهادة، لأن النبي عليه السلام سماها شهادة، لما فيها من لفظة الشهادة، وعبارة بعض المشايخ في هذا: إن هذا أخذ شبهاً من أصلين من الشهادات لمعنى الإلزام ومن الإخبارات، حتى لم يشترط فيه صفة الذكورة، فلشبهها بالشهادات شرطنا لفظة الشهادة والحرية والبلوغ عن عقل، ولشبهها بالإخبارات لم يشترط فيه العدد عملاً بالشبهين بقدر الإمكان. وإن كان مكان المرأة رجلاً واحداً والحادثة مما يطلع عليها الرجال، لم يذكر هذا الفصل في «الكتاب» ، وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: تقبل لأن شهادة الرجل أقوى من شهادة المرأة، فإذا قبلت شهادة المرأة الواحدة في هذا الباب، فشهادة الرجل الواحد أولى، وبعضهم قالوا: لا تقبل؛ لأن القياس أن لا تكون شهادة المرأة الواحدة حجة فيما لا يطلع عليه الرجال كما في سائر الشهادات، وإنما جعلناها حجة بالنص الذي روينا، والنص الوارد بجعل شهادة المرأة الواحدة حجة فيما لا يطلع عليه الرجال لا يكون وارداً بجعل شهادة الرجل الواحد حجة؛ لأن في حق الرجل نصّ بخلافه، وهو قوله تعالى {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتين} (البقرة: 282) ثم متى تجعل شهادة الرجل الواحد حجة في هذا الباب؟ من المشايخ اختلفوا فيما بينهم قال بعضهم: إنما تقبل شهادته إذا قال: فاجأتها واتفق نظري إليها، أما إذا قال: تعمدت النظر إليها لا تقبل شهادته؛ لأنه يصير فاسقاً بالنظر إليها متعمداً، وقال بعضهم: وإن تعمد النظر إليها تقبل شهادته كما في الزنا، وأما شهادة النساء بانفرادهن على استهلال الصبي، وهو: صياح الولد بعد الانفصال عن الأمّ، أو على تحرك عضو من أعضائه بعد الانفصال عن الأم مقبولة في حق الصلاة عليه بالإجماع؛ لأنه أمر من أمور الدين. وأما في حق الميراث فقد اختلفوا فيه، قال أبو حنيفة رحمه الله: لا تقبل، ويشترط شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، وقال أبو يوسف ومحمد: تقبل شهادة امرأة واحدة إذا كانت عدلة، فهما يقولان: استهلال الصبي صياحه عند الولادة، وتلك حالة لا يحضرها الرجال، وفيما لا يطلع عليه الرجال شهادة المرأة الواحدة حجة، ألا ترى أنه تقبل شهادتها في حق الصلاة عليه، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الاستهلال صوت مسموع، وفي السماع الرجال يشاركون النساء بانفرادهن ليست بحجة. وإن وقع ذلك في حالة لا يحضرها الرجال كشهادة النساء على الجراحات في حمامات النساء، وأما شهادتهن على تحرك الولد قبل الانفصال عنها، وشهادة رجل وامرأتين أو رجلين على تحرك الولد قبل الانفصال أو على تحركه حالة الانفصال عند الكل لا تقبل؛ لأن تحرك الولد قبل الانفصال قد يكون بحياة نفسه وقد يكون بحياة الأم، إلا أنه ينفصل ميتاً، وكذلك حالة الانفصال قد يكون تحركه بحياة نفسه، وقد يكون بانتقاله من موضع إلى موضع، فلا يدل ذلك على حياته، أما بعد الانفصال فتحركه لا يكون إلا بحياة نفسه.

الفصل الثالث: في بيان من تقبل شهادته ومن لا تقبل

الفصل الثالث: في بيان من تقبل شهادته ومن لا تقبل يجب أن يعلم أن العدالة شرط لتصير الشهادة واجبة القبول؛ لأنه ما لم يظهر الحق عند القاضي للمدعي لا يجوز له القضاء به، فضلاً عن الوجوب، وظهور الحق بالشهادة باعتبار صدق الشهود، ودليل صدق الشهود العدالة. وتكلم العلماء في تفسير العدل، منهم من ضيّق فيه غاية التضييق، فشرط انزجار الشاهد عن جميع المحظورات، حتى قال: من سمع الأذان وانتظر الإقامة سقطت عدالته؛ لأنه مشترك بينه وبين غيره، فلا يجوز له أن يمشي عليه من غير رضى ذلك الغير، وعن عبد الله بن المبارك أنه قال: (من زادت) حسناته على سيئاته قبلت شهادته، وقال إبراهيم النخعي: العدل من المسلمين من لم يطعن عليه في بطن أو فرج، وأراد بعدم الطعن في البطن أن لا يقال: إنه أكل مال الربا أوأكل مال المغصوب، وما أشبهه، وأراد بعدم الطعن في الفرج أن لا يقال: أنه زانٍ، وما أشبه ذلك، فموضع الطعن فيهما ولهما توابع، فإذا سلم عنهما وعن توابعهما كان عدلاً مقبول الشهادة. وقال الشعبي رحمه الله: العدل من لم يعلم منه خير في دينه أو فساد في دينه، وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: العدل من كان منزهاً عن الكبائر، منزهاً عن الفواحش، متيقظاً، فغلب حسناته على سيئاته. وحكي أن عبد الله (بن) سليمان وزير المعتضد بالله سأل القاضي أبا حازم عن العدل في الشهادة، فقال: أحسن ما قيل في هذا الباب ما نقل عن أبي يوسف فإن العدل في الشهادة أن يكون مجتنباً عن الكبائر، ولا يكون مصرّاً على الصغائر، ويكون صلاحه أكثر من فساده، وصوابه أكثر من خطئه، وأن يستعمل الصدق ديانة ومروءة، ويجتنب عن الكذب ديانة ومروءة. والحاصل: أن ارتكاب الكبيرة يوجب زوال العدالة، وارتكاب الصغيرة لا يوجب زوال العدالة؛ لأن ارتكاب الكبيرة يدل على شهادة الزور؛ لأن حرمة ما ارتكب من الكبيرة كحرمة شهادة الزور أيضاً، قياساً واستدلالاً بها، فأما ارتكاب الصغيرة لا يدل على شهادة الزور، لأن شهادة الزور كبيرة، والإنسان قد يجتنب عن الصغائر، فارتكاب الصغائر لا يدل على شهادة الزور، فلا يوجب زوال العدالة، ولا يكون جرحاً إلا أن يصرَّ على ذلك؛ لأن الصغيرة تصير كبيرة بالإصرار، على ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار» وحكي عن الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنه قال: الناس لا تخلو عن ارتكاب الصغائر،

ولا تخلو عن إتيان ما هو مأذون به في الشرع، فيعتبر في ذلك الغالب يريد به في حق الصغائر، فإن كان غالب حاله أن يأتي بما هو مأذون به في الشرع، ويحترز عما لا يحل به في الشرع من الصغائر، كان جائز الشهادة بعد أن يحترز عن كل الكبائر، وإن كان غالب حاله لا يحترز عن الصغائر لا يكون جائز الشهادة، وإن كان يأتي بالمأذون به شرعاً. ثم اختلفوا في تفسير الكبائر، قال بعضهم: هي السبع التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف، وهو الإشراك بالله تعالى، والفرار من الزحف، وعقوق الوالدين، وقتل النفس بغير حق، ونهب المؤمن، والزنا، وشرب الخمر، وهو قول أهل الحجاز وأهل الحديث، وزاد بعضهم على السبع التي ذكرها: أكل الربا، وأكل مال اليتيم بغير حق، وقال بعضهم: ما فيه حد أو قتل فهو كبيرة، وقال بعضهم: ما كان حراماً لعينه فهو كبيرة، وما كان حراماً لغيره فهو صغيرة. وأصح ما قيل في هذا الباب: ما نقل عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنه قال: ما كان شنيعاً بين المسلمين وفيه هتك حرمة الله تعالى والدين، فهو من جملة الكبائر، وكذلك الإعانة على المعاصي والفجور والحث عليها من جملة الكبائر يوجب سقوط العدالة، وإذا كان حدّ الكبائر هذه الأشياء كان ما عداها من جملة الصغائر. قال الخصاف في «أدب القاضي» : إذا تَرك الرجل الصلاة بالجماعة استخفافاً بذلك أو مجانة أو فسقاً لا تجوز شهادته، لم يرد بهذا الاستخفاف بالدين؛ لأن المستخف بالدين كافر، بل أراد به أن لا يستعظم تفويت الجماعة كما يفعله العوام، وإنما تسقط به العدالة؛ لأن الصلاة بالجماعة ألحقت بالفرائض، ولهذا لو ترك أهل بلدة الصلاة بجماعة قوتلوا عليهم بالسلاح، كما لو تركوا فرضاً من الفرائض، وقد صح أن رجلاً سأل ابن عباس عن رجل يصوم النهار ويقوم بالليل ولا يحضر الجماعات، فقال ابن عباس: هو في النار، فاختلف إليه ذلك الرجل شهراً، وكان سأله، فكان يقول: هو في النار. وقال مكحول رحمه الله: السنة سنتان: سنة أخذها هدي وتركها لا بأس به، وسنة أخذها هدي وتركها ضلالة، وذكر من جملتها الصلاة بجماعة، فثبت أنها ملحقة بالفرائض، وتارك الفرض فاسق، فكذا هذا، هذا إذا تركها استخفافاً أو مجانة أو فسقاً، وإن تركها متأوّلاً بأن كان الإمام فاسقاً، فكره الاقتداء به، ولا يمكنه أن يصرفه، فصلى في بيته وحده، أو كان ممن يضلل الإمام، ولا يرى الاقتداء به جائزاً، فهذا مما لا يسقط العدالة، أما الأول: فلا شك، وأما الثاني: فلأنه صاحب هوى، وشهادة أهل الأهواء مقبولة على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وكذلك شهادة تارك الصلوات في أوقاتها لا تقبل؛ لأن أداء الصّلاة في الوقت أداء الأمانة في وقتها؛ لأن الصلاة أمانة وأداء الأمانة (119ب4) في وقتها لازم، ولأن أداء الصّلاة في الوقت عهد له عِندَ اللهِ تعالى، قال صَلى الله عليه وسلم «من حافظ الصلوات

الخمس في مواقيتها كان له عند الله تعالى عهداً يؤديه إليه يوم القيامة وتلا قوله تعالى {إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً} (مريم: 87) » فإذا ظهرت منه الخيانة في هذه الأمانة بتفويتها عن الوقت، لا يؤمن به الخيانة في أمانة الشهادة. وكذلك من ترك الجمعة لا تقبل شهادته لما روى قتادة عن عبد الملك بن يعلى أنه قال: لا أجيز شهادة من تقوم البينة عليه أنه ترك الجمعة ثلاث مرات، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: «من ترك الجمعة ثلاث مرات طبع الله تعالى على قلبه» ، ولأن شهود الجمعة فرض لقوله تعالى {فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} (الجمعة: 9) فكان تاركاً الفرض، فصار مرتكباً الكبيرة، فلا تقبل شهادته، فهذا إذا تركها رغبة عنها، أما إذا تركها بعذر كالمرض أو بعده من المصر، أو بتأويل بأن كان يفسق الإمام أو ما أشبهه، لا ترد شهادته على ما ذكرنا في تارك الجماعة. ثم إن الخصاف وضع المسألة في ترك الجمعة ثلاث مرات، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: التقدير بالثلاث شرط كما ذكر الخصاف، وقال شمس الأئمة الحلواني: هذا ليس بشرط لازم، بل إذا ترك مرة كفى لرد الشهادة، وإليه أشار الخصاف رحمه الله في بعض المواضع. ولا تقبل شهادة آكل الربا المشهور بذلك المقيم عليه؛ لأن أكل الربا كبيرة، وإنه حرام بنص الكتاب، وورد النص بالوعيد فيه بنار جهنم، قال الله تعالى {يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة} إلى قوله {واتقوا النار التي أعدت للكافرين} (آل عمران: 130 * 131) وقال عليه السلام: «لعن الله آكل الربا وموكله» وارتكاب الكبيرة توجب سقوط العدالة، ثم شرط لرد الشهادة أن يكون مقيماً عليه مشهوراً بذلك، وكان ينبغي أن تزول العدالة بالأكل مرة، كأكل مال اليتيم؛ لأن كل واحد من هذه الأشياء كبيرة، مع هذا شرط الإدمان. واختلف المشايخ رحمهم الله في علته: قال بعضهم: إنما شرط ذلك؛ لأن الإنسان عسى يبتلى بذلك؛ لأن البياعات الفاسدة كلها ربا، ولا يمكنه التحرز عن جميع الأسباب المفسدة للعقد، فقد لا يهتدي إلى ذلك، فلو ردت شهادته إذا ابتلي به مرّة لا يبقى في الدنيا مقبولة الشهادة، فلهذا شرط أن يكون مشهوراً بذلك مقيماً عليه. وقال بعضهم: بأن الربا ليس بحرام محض؛ لأن الربا يفيد الملك عندنا بعد اتصال القبض، والملك مبيح للأكل في غير الخمر إن كانت حرمة السبب بمنع الأكل، فلم يكن

حراماً محضاً، فكان ناقضاً في كونها كبيرة، فصارت كالملحقة بالصغيرة من هذا الوجه، وهذا لأن حرمة ما ارتكب الشاهد في دينه من التعاطي يجب أن يكون مثل حرمة شهادة الزور حتى يستدل به على شهادة الزور، وشهادة الزور حرام محض؛ لأنه كذب والكذب حرام محض، فارتكاب ما لا يكون حراماً محضاً لا يدل عليه، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: آكل الربا إنما يسقط العدالة إذا أكله مع علمه بكونه ربا. ولا تجوز شهادة مدمن الخمر، فحرمة الخمر ثابتة بالنص، وشرع عليه عقوبة في الدنيا، وهو الحد، فكان من جملة الكبائر، فتسقط العدالة، ثم شرط الإدمان ولم يرد به الإدمان في الشرب؛ لأنه لا يطيق، وإنما أراد به الإدمان في النية، يعني: يشرب ومن نيته أن يشرب بعد ذلك إذا وجده، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: ويشترط مع الإدمان أن يظهر ذلك للناس أو يخرج سكراناً، فيسخر منه الصبيان، حتى إن شرب الخمر في السر لا يسقط العدالة، قال في «الأصل» : ولا تجوز شهادة مدمن السكر، وأراد به في سائر الأشربة السكر، فشرط الإدمان على السكر، والمحرم في الخمر نفس الشرب، فشرط الإدمان على الشرب. وكذلك من يجلس مجالس الفجور والمجانة والشرب، لا تقبل شهادته، وإن لم يشرب؛ لأنه تشبه بهم، وقد قال عليه السلام: «من تشبه بقوم فهو منهم» ، ولأنه رضي بصنيعهم ولم يحترز أن يظهر عليه ما يظهر عليهم، فلا يحترز عن شهادة الزور. ولا تقبل شهادة المخنث؛ لأن التخنث معصية، قال عليه السلام: «لعن الله المؤنثين من الرجال، والمذكرات من النساء» قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وهذا إذا كان تخنثه باختياره، أو كان يأتي بالأفعال الرديئة، فأما إذا كان في كلامه تكسر، وفي أعضائه لين بأصل الخلقة، ولا يأتي بشيء من الأفعال الرديئة فهو عدل مقبول الشهادة. ولا تقبل شهادة من يلعب بالحمام ويطيرهن؛ لأنه يرتكب ما هو حرام؛ لأن اللعب حرام، قال عليه السلام: «ما أنا من ددٍ ولا الدد منّي» ولأنه يصعد العوالي من السطوح، فيطلع على العورات، وذلك منه فسق، ولأن قلبه مع ذلك في عامة أحواله ففسد به عقله، وذكر شيخ الإسلام في «شرح كتاب الكفالة» : في باب الشهادة في الدين: إن كان لا يطيرهن، ولكن يخليهن حتى يخرجن من بيته لا تقبل شهادته، وعلل فقال: لأنه يأتي بيت حمامته حمامات غيره، فيفرخ فيه ثم هو يبيع ذلك ويأكل، ولا يعرف

حمامته من حمامة غيره، فيصير حراماً ومرتكباً ما لا يحل، قال ثمة: وهذا كما قال مشايخنا رحمهم الله: إن شهادة صاحب الحمام لا تقبل؛ لأنه ينظر إلى عورات الناس، ويجمع قماسات الأعمار للآثار ولا يبالي بذلك، ومن المشايخ من قال: لا تسقط عدالته في هذه الصورة، ويستدل باتخاذ الناس بروج الحمامات من غير نكير منكر، وإن كان يمسكهن في بيته ولا يطيرهن ولا يخليهن لا تسقط عدالته بلا خلاف. ولا تقبل شهادة المغنيِّ والمغنيّة إذا كان يجمع الناس ويؤنسهم، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» ؛ لأنه ملعون على لسان صاحب الشرع، قال عليه السلام: «لعن المغنيات» ومن يكون ملعوناً على لسان صاحب الشرع يكون ساقط شهادة لا محالة، قال: فأما إذا كان لا يسمع غيره ولكن يسمع نفسه لإزالة الوحشة قبلت شهادته، يجب أن يعلم بأن المغني لإجماع الغير وإيناسه مكروه عند عامة المشايخ، ومن الناس من جوز ذلك في العرس والوليمة، ألا ترى أنّه لا بأس بضرب الدف في العرس والوليمة وإن كان فيه نوع لهو، وإنما لم يكن به بأس؛ لأن فيه إظهار النكاح وإعلانه، وبه أمرنا صاحب الشرع، قال عليه السلام: «أعلنوا النكاح ولو بالدف» فكذا التغني، ومنهم من قال: إذا كان يتغنى ليستفيد به نظم القوافي، ويصير فصيح اللسان لا بأس به. وأما التغني لإسماع نفسه ودفع الوحشة عن نفسه، هل هو مكروه؟ فقد اختلف المشايخ، منهم من قال: لا يكره، وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وإنما المكروه على قول هذا القائل ما يكون على سبيل اللهو، وهذا القائل يحتج بما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وهو كان يتغنى، والبراء من زهاد الصحابة، ومن المشايخ من قال: جميع ذلك مكروه، وبه أخذ شيخ الإسلام خواهر زاده، وهذا القائل يحمل حديث البراء على أنه كان ينشد الأشعار المباحة التي فيها ذكر الوعظ والحكمة، وهذا لأن اسم الغناء كما ينطلق على الغناء المعروف ينطلق على غيره، قال عليه السلام: «من لم يتغنّ بالقرآن فليس منا» قلنا: وإنشادنا هو مباح من الأشعار لا بأس به، وإذا كان في الشعر صفة المرأة إن كانت امرأة بعينها وكانت حية يكره، وإن كانت ميتة أو كانت امرأة مرسلة لا يكره. وكذلك لا تقبل شهادة النائحات، ولم يرد به التي تنوح في مصيبتها، وإنما أراد التي تنوح في مصيبة غيرها، اتخذت ذلك مكسبة، وهذا لقوله عليه السلام: «لعن الله النائحات» ولأنها لما ارتكبت ما لا يحل في الشرع، وهو الغناء والنوح لطمعها في

المال، لا تؤمن من أن ترتكب شهادة الزور لأجل المال، فذلك أيسر عليها من الغناء والنوح في مدة طويلة.Y وكذلك لا تقبل شهادة من يلعب بالشطرنج لكن شرط: بانضمام إحدى معاني ثلاثة: إذا قامر عليه، أو شغله عن الصلوات، أو أكثر الحلف عليها بالكذب والباطل؛ لأن القمار حرام وتفويت الصلاة من أعظم الكبائر، واليمين الكاذبة من جملة الكبائر، فأما بدون انضمام إحدى معاني ثلاثة إليه لا تسقط العدالة؛ لأن العلماء اختلفوا في حرمة اللعب بالشطرنج وإباحته عند انعدام هذه المعاني، قال مالك والشافعي: يحل وأبو زيد الحكيم كان يختار قولهما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله فخف حكمه، فمباشرته على الانفراد لا يصلح لسقوط العدالة. ومن يلعب بالنرد فهو مردود الشهادة على كل حال، قال عليه السلام: «الملعون من لعب بالنرد» ومن كان ملعوناً كيف يكون عدلاً؟ وإذا كان الرجل يلعب بشيء من الملاهي وذلك لا يشغله عن الصّلاة، ولا عمّا (120أ4) يلزمه من الفرائض، ينظر: إن كانت يستشقيه بين الناس، كالمزامير والطنابير لم تجز شهادته؛ لأن أصحاب هذه الملاهي أهل فسق فيما بين الناس، وإن لم يكن يستشقيه نحو الحد أو ضرب القضيب جازت شهادتهم، والأصل ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر والحادي يحدو بين يديه، فلم ينهه عن ذلك، فلما طلع الفجر قال عليه السلام: «أمسك، فإن هذه ساعة ذكر» وكذلك القضيب، فإن صوته مباح عند البعض، فلا يوجب سقوط العدالة، قال: إلا إن تفاحش بأن يرقصون به فيدخل في حد المعاصي والكبائر فحينئذٍ تسقط به العدالة. وإذا كان الرجل معروفاً بالكذب الفاحش لم تقبل شهادته، يريد به إذا اعتاد الكذب؛ لأنه إذا اعتاد ذلك لا يصبر عنه فلا يؤمن من أن يكذب في هذه الشهادة، فأما إذا كان يقع فيه أحياناً قبلت شهادته؛ لأنه لا يسلم أحد من ذلك، وفي «الأقضية» : والذي اعتاد الكذب إذا تاب لا تقبل شهادته؛ لأن من اعتاد الكذب قلّ ما يصبر. وكذلك لا تقبل شهادة الداعر، وهو الفاسق المتهتك الذي لا يبالي ما يصنع؛ لأنه لا يؤمن عليه أن لا يبالي من شهادة الزور، قال محمد رحمه اللهُ في «الأصل» : وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلى: شهادة أهل الهوى جائزة، قال: هو قول أصحابنا أجمعين. قال شمس الأئمة السرخسي: ومنهم من يفصل بين من يكفر في هواه، وبين من لا يكفر، فكأنه أراد أبا يوسف، فقد روي عنه أنه قال: من كفر به لم أقبل شهادته، ومن أضللته قبلت شهادته، وذكر شيخ الإسلام في «شرحه» : وشهادة أهل الهوى مقبولة عندنا

إذا كان هوى لا يكفر به صاحبه، ولا يكون ماجناً وَيكون عدلاً في تعاطيه، وهو الصحيح، وما ذكر في «الأصل» ؛ فهو محمول على هذا إلا الخطابية. واستدل محمد رحمه الله في «الكتاب» لبيان ذلك فقال: أرأيت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين ساعدوا معاوية مع مخالفة علي رضي الله عنه، ثم شدوا بين يدي علي رضي الله عنه، أكان يرد شهادتهم؟ ولا شك أن مخالفة عليّ رضي الله عنه بعد عثمان رضي الله عنه بدعة وهوى، فكيف الخروج عليه بالمسايفة لكن لما كان عن تأويل وتدين، لم يمنع قبول الشهادة، فكذا هذا؛ ولأنه مسلم عدل في تعاطيه شهد لغيره من كل وجه، وهو من أهل الشهادة، فتقبل شهادته قياساً على غير صاحب الهوى، وإنما قلنا: مسلم؛ لأن الكلام في هوى لا يكفر به صاحبه، وإنما قلنا: عدل في تعاطيه؛ لأنه لم يرتكب ما هو محرم في دينه واعتقاده حرمته مثل حرمة شهادة الزور، حتى يستدل به ما في شهادة الزور ما وجد من فسق الاعتقاد لا يدل على شهادة الزور، لأنه اعتقده مباحاً، فلا يدل على شهادة الزور الذي يعتقده حراماً، وكان كشهادة الكافر مقبولة على كافر مثله إذا كان عدلاً في تعاطيه، وإن كان فاسقاً من حيث الاعتقاد وهو الكفر؛ لأن اعتقاد الكفر وهو يعتقده مباحاً، وإن كان رأس الفسوق لا يدل على شهادة الزور، وهو يعتقده حراماً في دينه، وكذلك هذا، وليس كالخطابية لأن الخطابية قوم من الروافضة يستجيزون أداء الشهادة بالحلف، ولو تحقق هذا من المسلم لا تقبل شهادته لكونه ماجناً. وإن لم يكن صاحب هوى، فمن هو صاحب الهوى أولى، وليس كما لو كان ماجناً في هوى، فإنه لا تقبل شهادته لكونه ماجناً لا لهواه، فإن غير صاحب الهوى من المسلمين إذا كان ماجناً لا تقبل شهادته؛ لأن الماجن بين العاقل والمجنون، فإن الماجن من شابه بعض أقواله وأفعاله أقوال العقلاء وأفعالهم. ولا تجوز شهادة الرجل على الرجل إذا كان بينهما عداوة؛ لأن طبع كل واحد داع إلى الانتقام من عدوه، فعسى يريد بهذه الشهادة الانتقام منه، فتمكنت الشبهة في هذه الشهادة، فلم تقبل. قالوا: هذا إذا كانت العداوة بينهما بسبب شيء من أمر الدنيا، فأما إذا كانت العداوة بسبب شيء من أمر الدين، فإنه تقبل شهادته عليه لانتفاء تهمة الكذب؛ لأن من تحتمله قوة دينه على أن يعادي غيره بمجاوزة حدّ الدين، لا يقدم على شهادة الزور مع ما علم من الوعيد لشاهد الزور. وفي كتاب «الأقضية» : إذا أسلم الرجل وهو لا يقرأ القرآن، فشهادته جائزة، يريد بقوله: لا يقرأ القرآن لا يتعلم القرآن للحال، فإنما جازت شهادته، لأنه عدل مسلم، فإن لم يتعلّم القرآن للحال لا يصير فاسقاً.

وأمّا شهادة عمال السلطان، فهي مسألة «الجامع الصغير» ، وقد ذكر أنها جائزة، من العلماء من قال: أراد به الأُجراء؛ لأنه لا يختار للإمارة إلا عدل، وشهادة العدل مقبولة، ولأن نفس العمل ليس بجرح، إنما الجرح هو الظلم، فإن العامل إذا كان عدلاً يستحق به ثواباً عظيماً، على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سبعة يظلهم الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله» ، وذكر فيه إماماً مقسطاً، وألا ترى أن الكبراء من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كانوا عمالاً، ولو كان نفس العمل جرحاً لتنزهوا عن ذلك. ومنهم من قال: أراد به أعمال الصدقة، وتقبل شهادته إذا كان عدلاً لما بينا أن العمل ليس بجرح، الجرح هو الظلم أو الجور، وروي عن الحسن البصريّ أنه قال: لا تجوز شهادة العاشر؛ لأنه هو الذي يأخذ بغير حق، وزيادة على قدر الحق. والحاصل: أن العمال إذا كانوا عدولاً ولا يأخذون من الناس بغير حق تقبل شهادتهم، وإن أخذوا بغير حق من الناس، ولم يكونوا عدولاً، فالصحيح من الجواب أنه لا تقبل شهادتهم، وإن كان قد قال بعض المشايخ بقبولها، وجه الصحيح من الجواب: ظاهر وجه من قبلها أن الفسق لا يمنع قبول الشهادة لعينه، بل لمكان تهمة الكذب، فالغالب منهم الترفع عن الكذب. وذكر الصدر الشهيد حسام الدين في «واقعاته» : أن شهادة الرئيس والجاني في السكة أو في البلدة الذي يأخذ الدراهم في الجنايات، والصراف الذين يجمعون الدراهم إليه، ويأخذ طوعاً لا تقبل. وتجوز شهادة شريك المفاوض لشريكه إذا لم يكن المشهود مشتركاً بينهما، كالحدود والقصاص والنكاح والوصية؛ لأنها شهادة عدل لغيره من كل وجه، وإن كان المشهود به مشتركاً بينهما لم تقبل؛ لأنه يصير شاهداً لنفسه في البعض، وشهادة الإنسان لنفسه لا تقبل، وإذا لم تقبل شهادته لنفسه في نصيبه لا تقبل لشريكه أيضاً في نصيب شريكه؛ لأن هذه شهادة واحدة، فإذا بطل بعضها بطل كلها. وشهادة أحد شريكي العنان لشريكه تقبل فيما ليس من شركتهما، وفيما كان من شركتهما لا تقبل، ذكر المسألة على هذا الوجه في كتاب «الأقضية» ، وفي «الأصل» يقول: شهادة أحد المتفاوضين لصاحبه لا تقبل إلا في الحدود والقصاص والنكاح؛ لأن ما عدا الحدود والقصاص مشتركة بينهما، فكان شاهداً لنفسه من وجه، وشهادة الإنسان لنفسه لا تفيد، وشهادة أحد شريكي العنان لصاحبه فيما كان من تجارتهما لا تقبل، وفيما لم يكن من تجارتهما مقبولة، ولم يذكر مثل هذا التفصيل في المفاوضة؛ لأن العنان قد يكون خاصاً وقد يكون عاماً، فأما المفاوضة لا تكون إلا في جميع الأموال، وقد عرف

ذلك في كتاب الشركة. وعلى قياس ما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الشركة أن المفاوضة تجوز خاصة يجب أن يكون الجواب في المفاوضة على التفصيل الذي ذكرنا في العنان، وشهادة الأجير المشترك لأستاذه مقبولة، وشهادة أجير الوحد لأستاذه لا تقبل استحساناً، سواء كان أجير مناوبة أو مشاهرة أو مشابهة، وفي كفالة الأصل: لا يجوز شهادة الأجير لأستاذه، وفي كتاب الديات: تجوز شهادة الأجير لأستاذه، والمراد من المذكور في الديات الأجير المشترك. والقياس: أن تقبل شهادة أجير الوحد أيضاً؛ لأنه عدل شهد لغيره من كل وجه، فتقبل قياساً على الأجير المشترك، وقياساً على شهادة الأستاذ لأجيره، فإنها تقبل، وإن كان أجيراً خاصاً له، ولا شك أنه شهد لغيره من كل وجه؛ لأنه ليس له فيما شهد لا ملك ولا حق ولا شبهة ملك، ولا شبهة اشتباه بسبب اتصال المنافع، ولهذا جاز للأستاذ وضع الزكاة فيه. وجه الاستحسان: ما أشار إليه محمد رحمه الله فقال: لما بلغنا في ذلك عن شريح، وبحال الناس التي هم عليها اليوم، أشار إلى أنه إنما ترك القياس لقول شريح، والإجماع المنعقد من أهل زمانه على قول شريح، والإجماع المنعقد على قول واحد من السلف حجة، يترك (بها) القياس ويخص بها الأثر، فإنما ترك القياس في الأجير الوحد لهذا، وبنوع من المعنى: أن الأجير الوحد مملوك للأستاذ من وجه، أعني به منفعة، ألا ترى أنه لا يملك أن يؤاجر نفسه من غيره في مدة الإجارة، فهذا مملوك من وجه شهد لمالكه فلا تقبل، ألا ترى أن شهادة المرأة لزوجها لا تقبل، لأنها مملوكة لزوجها من وجه ملك النكاح، بخلاف الأجير المشترك؛ لأنه غير مملوك للأستاذ منفعة، ألا ترى أن له أن يؤاجر نفسه من غيره في مدة الإجارة، وبخلاف الأستاذ إذا شهد لأجيره؛ لأنه ليس بمملوك لأجيره أصلاً؛ فهذا هو (120ب4) الحرف المعتمد في المسألة. ومن مشايخنا من يقول: الأجير الوحد يستحق الأجر بتسليم النفس في المدة لا بحقيقة العمل، وحال ما يشهد سلم نفسه إلى المستأجر، فيكون مستحقاً بعض الأجر بإزاء ذلك، فيصير شاهداً بأجر، فلا تقبل شهادته، بخلاف الأجير المشترك، إلا أن هذا الوجه لا يكاد يصح؛ لأن الأجير الوحد إنما يستحق الأجر بتسليم نفسه إلى المستأجر في مدة الإجارة إذا سلم نفسه للعمل الذي شرط عليه في العقد، أما إذا سلم نفسه في مدة الإجارة لعمل آخر لا يستحق الأجر، ألا ترى أنه إذا أستأجر إنساناً شهراً ليرعى غنماً له، ثم استخدم في الشهر لا يستحق الأجر، وإنما لا يستحق لما قلنا، كذا هاهنا. وذكر الخصاف في «أدب القاضي» إذا شهد أجير القاتل على المولى أنه عناد عن الدم، ذكر في «المجرد» عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يجوز، وفي ديات «الأصل» :

أنه يجوز، فيجوز أن يكون المراد من المذكور في «المجرد» الأجير الخاص، ومن المذكور في «الديات» : الأجير المشترك أن لو كان أجيراً خاصاً مشاهرة، فلم يرد القاضي شهادته، ولم تظهر عدالته حتى مضى الشهر، ثم عدّل قال: أبطل شهادته كمن شهد لامرأته ثم طلقها قبل أن تعدل، ولو شهد ولم يكن أجيراً ثم صار أجيراً قبل أن أقضي أبطل شهادته، فإن لم أبطلها حتى بطلت الإجارة، ثم أعادها جاز، هكذا ذكر في «العيون» . وشهادة أهل الصناعات جائزة إذا كانوا عدولالاً قال بعض العلماء: لا تجوز لكثرة خلافهم وكثرة ما يجري من الأيمان الفاجرة بينهم، وعامة العلماء يقولون: المجوز العدالة وقد وجدت. قال الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : شهادة بائع الأكفان لا تقبل، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: عندنا إنما لا تقبل شهادته إذا ابتكر لذلك وترصد لذلك العزل؛ لأنه حينئذٍ يتمنى الموت والطاعون، وأما إذا كان يبيع الثياب هكذا، ويشترى منه الأكفان تجوز شهادتهم، وذكر القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله في شرح كتاب الشفعة في أوله: وقد قال بعض مشايخنا: إن شهادة الصكاكين لا تقبل؛ لأنهم يكتبون: هذا ما اشترى فلان من فلان، وقبض المشتري ما اشترى وسلم البائع ما باع، وضمن الدرك، وكذا يكتبون مثل هذه الألفاظ في الإجارة، وإن لم يكن شيء من ذلك منهما، فيكون هذا منهم كذباً محضاً، ولا فرق بين الكذب بالقول وبين الكذب بالكتابة، فيكونون فسقة، فلا تقبل شهادتهم، والصحيح أنه تقبل شهادتهم إذا كان غالب حالهم الصلاح. وإذا كان الرجل يبيع الثياب المصورة، أو ينسج الثياب المصورة لا تقبل شهادته، هكذا ذكر في «الأقضية» . وفيه أيضاً: ومن كثر لغوه لا تقبل شهادته: قال عليه السلام: «من كثر كلامه كثر سقطه» فكيف إذا كثر لغوه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: لا تجوز شهادة أصحاب الحمير، وأراد به النخاسون، وإنما قال ذلك لكثرة ما يكذبون ولأيمانهم الفاجرة، وإن علم من واحد منهم أنه لا يجري منه الكذب واليمين الفاجرة وكان عدلاً قبلت شهادتهم. وفي مناقب أبي حنيفة رحمه الله أن شهادة البخيل لا تقبل؛ لأنه لبخله يستقضي فيما يقتص من الناس، فيأخذ زيادة على حقه، فلا يكون عدلاً. قال أبو يوسف رحمه الله: وتجوز شهادة الأقلف إذا كان عدلاً، وهكذا روى الحسن البصري رحمه الله، وهذا لأن قبول الشهادة يعتمد العدالة، والعدالة لا تنعدم

بترك الختان إذا كان ترك الختان بعذر، وهذا لأن الختان وإن كان سنة عندنا إلا أن ترك السنة إنما توجب الفسق إذا كان الترك على وجه الإعراض عن السنة، وعندنا: لو ترك الختان على وجه الإعراض عن السنة لا تقبل شهادته، وإنما تقبل شهادته إذا تركه بعذر، قيل: العذر في ذلك الكبر وخوف الهلاك. ثم لا بد من معرفة صفة الختان ووقته، فأما صفته: فقد اختلف العلماء فيه، بعضهم قالوا: إنه فريضة، وقال علماؤنا رحمهم الله: إنه سنة. قال عليه السلام: «الختان للرجال سنة وللنساء مكرمة» ، وأراد به سنة إبراهيم عليه السلام، لأنه أول من ختن واختتن. وأما وقته: فلم يقدر فيه أبو حنيفة رحمه الله في ذلك تقديراً، لأنه لم ينزل فيه قرآن ولم يدر فيه سنة، ولم ينقل فيه إجماع الصحابة، وطريق معرفة المقادير السماع، فلهذا لم يقدر فيه تقديراً، والمتأخرون من مشايخنا اختلفوا فيه، بعضهم قالوا: من سبع سنين إلى عشر سنين، وبعضهم قالوا: اليوم السابع من ولادته أو بعد السابع، بعد أن يحتمل الصبي ولا يهلك، لما روي أن الحسن والحسين رضي الله عنهما ختنا يوم السابع أو بعد السابع ولكنه شاذ. وشهادة الخصي مقبولة، فقد صح أن عمر رضي الله عنه قبل شهادة علقمة الخصي على قدامة بن مظعون؛ ولأن الذي فات عضو من أعضائه، فصار كما لو فات يده أو عينه، وذلك لا يمنع قبول الشهادة، كذا ههنا. قال أبو يوسف رحمه الله: وظاهر شهادة من يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تقبل) لأنه لو شتم واحداً من الناس لا تجوز شهادته فههنا أولى، وكذلك لا تقبل شهادة قاذف المحصنات؛ لأنه محكوم عليه بالكذب، قال الله تعالى {فإذ لم يأتوا بالشهادة فأولئك عند الله هم الكاذبون} (النور: 13) ثم المتهم بالكذب لا تقبل شهادته، فالمحكوم عليه بالكذب أولى أن لا تقبل، وحكي عن نصر بن يحيى أنه سئل عمن يشتم أهله ومماليكه وأولاده لا تقبل شهادته، قال: إذا كان في كل يوم وكل ساعة، وإن كان أحياناً تقبل إن شاء الله، قال الفقيه أبو الليث: هذا في شتم دون القذف، فأما القذف فكبيرة فتسقط به العدالة. وإن كان يتبرأ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا هوى، وقد بينا حكم شهادة أهل الأهواء، وكان رجل يشتم الناس ويشتمونه، فهذا ماجن ولا شهادة لماجن، ومن سألت عنه، فقالوا: يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم أقبل ذلك وأجيز شهادته، ولو قالوا: يتهمه بالفسق والفجور، ويظن ذلك به، ولم يره، قبلت ذلك، ولم أجز شهادته؛ لأنهم إذا اتهموا بالفسق مطلقاً فقد بينوا أنه عندهم غير عدل بوجه، فلم تظهر عدالته بوجهه من الوجوه، بخلاف ما إذا قالوا: يتهمه بشتم

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هناك عدلوه فيما سواه، ولم يثبت هذا الجرح بمجرد التهمة، فبقي اعتبار العدالة، ذكر المسألة على هذا الوجه في «الأقضية» . وتجوز شهادة المحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر إذا تابوا، بخلاف المحدود في القذف، فإنه لا تقبل شهادته وإن تاب، والفرق: أن رد شهادة المحدود في القذف من تمام الحد، عرف ذلك بالنص، وأصل الحد لا يرتفع بالتوبة، فكذا ما كان من تمام الحد، وأما رد شهادة هؤلاء ليس من تمام الحد؛ لأن النص لم يرد به، ولا يدخل القياس في الحدود، وإنما رد شهادة هؤلاء لفسقهم وقد زال الفسق بالتوبة. ولا تجوز شهادة المتهم به ورد الأثر عن رسول الله عليه السلام، ولا تجوز شهادة الفاسق عندنا، وعن أبي يوسف رحمه الله أن الفاسق إن كان ذا مروءة وكان وجيهاً تقبل شهادته؛ لأنه لو جاء بيته لا يتجاسر أحد على استئجاره، ولمروءته لا يرتكب الكذب من غير منفعة له، إلا أن في ظاهر الرواية لم يفصل، بل أطلق الجواب إطلاقاً وهو الأصح؛ لأن في قبول الشهادة والعمل بها إكرام الشهود، والفاسق يستحق الإهانة، ولو قضى قاض بشهادة الفاسق نفذ قضاؤه عندنا، والمسألة مرت في كتاب «أدب القاضي» . ولا تقبل شهادة الأخرس عند علمائنا رحمهم الله، ولا تقبل شهادة الأعمى في شيء من الحقوق في المسموعات والمنقولات عند علمائنا رحمهم الله، وقد صح عن عليّ رضي الله عنه أنه رد شهادة الأعمى، فهذا قد روي عن علي رضي الله عنه، ولم يرو عن أقرانه خلافاً يحل محل الإجماع، ولأنه تحمل الشهادة من وراء الحجاب وأداها من وراء الحجاب، فلا تقبل شهادته قياساً على البصير إذا تحمل الشهادة وأداها من وراء الحجاب، وإنما لا تقبل ثمة؛ لأنه تتمكن فيها زيادة تهمة لا تتمكن متى عاين المشهود له وعليه؛ لأنه متى لم يعاين إنما يشير إلى المشهود له والمشهود عليه بالسماع والاسم والنسب، وإنه مما لا يقطع الشركة، ومتى عاين حالة التحمل وأشار حالة الأداء ينقطع الشركة، أو لما تمكن زيادة تهمة بالحجاب، وأمكن الاحتراز عنه بأن يتحمل ويؤدي من غير حجاب منع قبول الشهادة، فكذا مما تمكنت زيادة تهمة في شهادة الأعمى يمكن الاحتراز عنها بحبس الشهود وهم البصراء، فإن إشهاد البصراء على الحوادث ممكن من غير حرج. هذا إذا تحمل الشهادة وهو أعمى وشهد وهو أعمى، فأما إذا تحمل الشهادة وهو بصير، ثم أدى وهو أعمى، هل تقبل شهادته عند علمائنا رحمهم الله؟ أجمعوا على أنه في المنقول لا تقبل؛ لأن الإشارة إلى المنقول شرط لصحة الشهادة، ولا يقوم الوصف مقام الإشارة في المنقول عندهم جميعاً، ولا عبرة لإشارة الأعمى؛ لأنه لا يعاين المشهود به، فصار وجود الإشارة منه والعدم بمنزلة وبدون الإشارة لا تقبل الشهادة في المنقول (121أ4) . أما إذا كان المشهود به ديناً أو عقاراً اختلفوا فيه، قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما

الله: لا تقبل هذه الشهادة، وقال أبو يوسف رحمه الله: تقبل، فأبو يوسف جعل العمى مانعاً صحة التحمل، ولم يجعله مانعاً صحة الأداء، وإنما فعل كذلك؛ لأن الاحتراز عن عمى الشاهد ممكن لصاحب الحق حالة التحمل من غير حرج بإشهاد البصراء، فيكون العمى مانعاً صحة التحمل، وإنه حاجز بين المشهود له وبين المشهود عليه، فأما إذا صح التحمل من البصير، فالاحتراز عن العمى غير ممكن لصاحب الحق، فقام الاسم والنسبة حالة الأداء مقام الإشارة كما في الميت والغائب، وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله احتجا بما روينا من حديث علي رضي الله عنه أنه رد شهادة الأعمى، ولم يفصل ولم يستفسر أنه تحمل وهو بصير أو عمي، فدل أن الحكم لا يختلف. والمعنى في ذلك أن التحرز عن العمى حالة الأداء ممكن لصاحب الحق من غير حرج، بأن يشهد على حقه جماعة كثيرة من البصراء، حتى إذا عمي البعض يمكنه إثبات الحق بالبعض، ولما أمكنه الاحتراز عنه من غير حرج لم يسقط اعتبار الإشارة إلى المشهود والمشهود عليه، ولم يكتف بالاسم والنسب، كالبصير إذا شهد من وراء الحجاب بالاسم والنسب والإشارة إلى نائب من عليه الحق مقام الإشارة إلى من عليه الحق. ولو كان بصيراً وقت التحمل والأداء إلا أنه إذا عمي قبل القضاء، فكذلك الجواب على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: القاضي لا يقضي بشهادته، وعلى قول أبي يوسف: يقضي.m وأجمعوا على أن الشاهد إذا خرس أو ذهب عقله أو ارتد بعد الشهادة قبل القضاء أن القاضي لا يقضي بشهادته، والوجه في ذلك: أن المقصود من الشهادة القضاء بما يمنع الأداء يمنع القضاء، والخرس والردة وذهاب العقل يمنع الأداء بالإجماع، فيمنع القضاء، والعمى بعد التحمل يمنع الأداء عندهما، فيمنع القضاء أيضاً، وعند أبي يوسف رحمه الله: لا يمنع الأداء، فلا يمنع القضاء. قال مشايخنا: وهذا كله فيما لا يجوز الشهادة عليه بالشهرة والتسامع، أما فيما يجوز الشهادة عليها بالشهرة والتسامع فشهادة الأعمى مقبولة بلا خلاف، واستشهد في كتاب «الأقضية» حجة لأبي حنيفة ومحمد على أبي يوسف بمسألة، فقال: ألا ترى أن الشاهدين لو قالا نشهد أن فلاناً أشهدنا أنه جعل لابنه فلان هذا العبد وهذه الدار، وقد عرفناه يومئذ بوجهه واسمه ونسبه، إلا أنا لا نعرفه الساعة؛ لأنه شيخ أو لأنه قد نبتت لحيته، لم يجز القضاء بشهادتهما، ووجه الاحتجاج: أن في تلك المسألة لم يكتف بالمعرفة وقت التحمل، بل شرط المعرفة وقت الأداء، فكذا ههنا لا يكتفي بآلة التمييز وقت التحمل، ويشترط وجودها وقت الأداء. ثم فرق بين شهادة الأعمى وبين شهادة الشهود على غائب لأجل كتاب القاضي، والفرق: أن ثمة الشهود يعرفون المدعى عليه، ويقولون: لو رأيناه عرفناه، ولا يكون ذلك شهادة على من لا يعلمون بوجوب الحق عليه، حتى لو قالوا: لا نعرفه اليوم لا تقبل

شهادتهم، فأما الأعمى لا يشهد على من علم بوجوب الحق على الحقيقة، فلا يصح منه أداء الشهادة. وعن أبي حنيفة رحمه الله في رواية: أن المدعي والمدعى عليه إذا كانا معروفين ليس على اسمهما ونسبهما غيرهما تقبل شهادة الأعمى عند بيان الاسم والنسب. وإذا كان الرجل يجن ساعة ويفيق ساعة، فشهد في حال إفاقته تقبل شهادته، وقدّر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله بيومين، وقال: إذا كان جنونه يومين أو أقل من ذلك ثم يفيق هكذا، فشهد في حال إفاقته تقبل شهادته، ذكر في «شرح أدب القاضي» في باب شهادة الأعمى. نوع آخَرَ مِن هذا الفصْل وتجوز شهادة الرجل لمن أرضعته امرأته؛ لأن الرضاع تأثيره في الحرمة خاصة دون ما سواه من الأحكام، ألا ترى أنه لا يستحق بها النفقة والإرث، وكذلك حكم الشهادة، وحقيقة النفقة في ذلك أنه ليس لأحدهما تأويل ملك، ولا بسوطة يد في مال صاحبه، فلم تكن التهمة في هذه الشهادة فقبلت، كما في شهادة الأجانب. وكذلك تقبل شهادته لأخيه وأخته، وعمه وعمته، وخاله وخالته من الرضاع والنسب، أما من الرضاع: لأنه لما قبلت شهادته لهؤلاء من الرضاع أولى، وأما من النسب: فلما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى. ولا تجوز شهادة الوالد لولده، ولا شهادة الولد لوالده، ولا شهادة الزوج لزوجته، ولا شهادة المرأة لزوجها، به ورد الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: تمكنت التهمة في هذه الشهادات. بيان تمكن التهمة في شهادة الوالد لولده. إن كان المشهود به مالاً، فلوجهين: أحدهما أن للأب شبهة الملك في مال الولد قال عليه السلام: «أنت ومالك لأبيك» فصار الأب كالشاهد لنفسه، والإنسان متهم فيما شهد لنفسه، وهذه تهمة يمكن الاحتراز عنها بحبس الشهود، بأن يشهد له غير الوالد. والثاني: أن الأب وافر الشفقة على ولده، فيتهم بالميل إليه. وإن كان المشهود به نكاحاً أو قصاصاً فالتهمة من وجه واحد، وهو الوجه الثاني. بيان تمكن التهمة في شهادة الولد لوالده: إن كان المشهود به مالاً من وجهين: أحدهما: أن منافع الأملاك متصلة بينهما عرفاً وعادة، فصار الشاهد شاهداً لنفسه من وجه، والثاني: أن الولد وافر الشفقة على والديه، فيتهم بالميل إليه، فإن (كان) المشهود به نكاحاً أو قصاصاً، فالتهمة من وجه واحد، وهو الوجه الثاني. بيان تمكن التهمة في شهادة الزوج لامرأته، وشهادة المرأة لزوجها من وجهين:

أحدهما: أن كل واحد من الزوجين شديد الشفقة على صاحبه، وإليه أشار عز وجل، فقال {وجعل بينكم مودة ورحمة} (الروم: 21) فيتهم كل واحد منهما بالميل إلى صاحبه، كما في الوالدين والمولودين، وهذه تهمة يمكن الاحتراز عنها بحبس الشهود بأن يشهد لكل واحد منهما الأجنبي. والثاني: أن الأملاك بينهما متصلة عرفاً وشرعاً في حق المنافع بسبب الزوجية أيضاً؛ لأنه يمنع وضع كل واحد منهما زكاة ماله عند صاحبه عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد: يمنع الزوج صرف زكاته إلى امرأته إن كان لا يمنع صرف زكاتها إلى الزوج، ويثبت بسبب هذا الاتصال للزوج شبهة الاشتباه في مال امرأته حتى لو وطئ جارية امرأته وقال: ظننت بأنها تحل لي، فإنه لا يحد، كالابن إذا وطئ جارية أبيه، ثبت أن الأملاك بينهما متصلة في حق المنافع نظير الاتصال فيما بين الوالدين والمولودين، لا نظير الاتصال فيما بين الأخوة والأخوات، فمتى قبلنا شهادة كل واحد منهما لصاحبه حصل لكل واحد منهما نوع منفعة في المشهود به مضافاً إلى الشهادة، وهذا يمنع قبول الشهادة. والدليل عليه: أن يد كل واحد منهما ثابتة في مال صاحبه، فيصير كل واحد منهما شاهداً لنفسه باليد، ولا يلزم صاحب الدين إذا شهد لغريمه بحبس حقه تقبل شهادته، وإن كان يثبت لنفسه منفعة، فإنه يأخذ المشهود به فيصير ملكاً له؛ لأنا نقول: حصول المنفعة للشاهد فيما شهد به إنما يمنع قبول الشهادة إذا كان حصول المنفعة مضافاً إلى الشهادة، وإذا لم يكن مضافاً إلى الشهادةِ، بل كان مضافاً إلى سبب آخر يحدثه الشاهد بعد الشهادة باختياره، فإنه لا يمنع قبول الشهادة، وفي مسألة الغريم: لا يملك شيئاً من المشهود به بنفس الشهادة، وإنما يملكه أخذ يحدثه بعد الشهادة باختياره، فإن الأخذ في حبس حقه سبب ملك، كقبول الهبة والبيع، وفي مسألتنا: ما يحصل من المنفعة لأحد الزوجين يحصل بنفس الشهادة؛ لأنه يحصل بالزوجيّة والملك، والملك آخرهما وجوداً، فيكون مضافاً إلى الملك الثابت، كما في الوالدين والمولودين ما يحصل من المنفعة يحصل بالولاد والملك، إلا أن الملك آخرهما وجوداً، فكان حصول المنفعة إلى الملك الثابت بالشهادة. وشهادة الأخ لأخيه مقبولة، والأصل قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} (البقرة: 282) من غير فصل بين القريب والأجنبي، فهو على الكل إلا ما صار مخصوصاً عنه، ولما خص عنه شهادة الوالد والمولودين بالإجماع، وتخصيص الوالدين والمولودين لا يوجب تخصيص الأخ والأخت؛ لأن الظاهر فيما بين الأخوة والأخوات العداوة، دليله: قصة يوسف عليه السلام، وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا شهد لأخيه والأب مّيت، إنما يشكل فيما إذا شهد لأخيه والأب حيّ، وينبغي أن لا تقبل شهادته، لأن منافع الأملاك بين أبيه وأخيه متصلة، وإذا شهد لأخيه فكأنه شهد لأبيه، والجواب: شهادة الإنسان لأبيه إنما لا تقبل؛ لأن منافع الأملاك بين الأب وبين الابن متصلة، فكانت الشهادة للأب شهادة لنفسه من وجه، وشهادة الإنسان لنفسه لا تقبل، وأما شهادته لأخيه ليست بشهادة لنفسه

أصلاً؛ لأن منافع الأملاك بين الأخوين متباينة لا ينتفع الأخ بمال أخيه لا ابتداءً ولا بواسطة الأب، فلم تكن هذه شهادة لنفسه (121ب4) بوجه ما فقبلت. وإذا ثبت الكلام في الكلام في الأخ ثبت في الأخت؛ لأنهما سيان في القرابة، وثبت الكلام في سائر القرابات، نحو العمّ والخال والعمة والخالة؛ لأن الأخ أقرب من هؤلاء، فإذا قبلت شهادته للأخ، فلهؤلاء أولى. ولا تجوز شهادة الرجل لولد ولده وإن سفل، ولا لجده وإن علا، وتجوز شهادته لأم امرأته وابنتها، ولزوج ابنته وامرأة أبيه وأخت امرأته؛ لأن الثابت بينه وبين هؤلاء حرمة المناكحة لا غير، وإنها لا تمنع قبول الشهادة كما في الرضاع، ومن لا تجوز شهادته له لا تجوز شهادته لعبده، ولا لمكاتبه ولا أم ولده ولا المدبّر، ولا تجوز شهادة العبد والمكاتب والمدبر وأم الولد في حقوق العباد عندنا، وكذلك شهادة معتق البعض عند أبي حنيفة؛ لأنه بمنزلة المكاتب ما دام يسعى. نوع آخَر من هذا الفصل العبد إذا شهد في حادثة، ورد القاضي شهادته، ثم أعتق وأعاد تلك الشهادة قبلت شهادته، وكذلك الصبي والكافر إذا شهدا على مسلم، فرد القاضي شهادتهما، ثم أسلم الكافر وبلغ الصبي، ثم أعاد تلك الشهادة، فإنه تقبل شهادتهما. فرق بين هذا وبين الفاسق إذا شهد في حادثة ورد القاضي شهادته، ثم زال الفسق بالتوبة، فأعاد تلك الشهادة، فإنه لا تقبل شهادته وكذلك الزوج إذا شهد لزوجته وهو حر، والزوجة لزوجها وهي حرة، فرد القاضي شهادتهما، ثم ارتفعت الزوجية فأعاد تلكَ الشهادة لا تقبل شهادته. ووجه الفرق بينهما: أن رد الشهادة في الفاسق والزوج والزوجة إذا كانا حرين محال على تهمة الكذب، غير محال على كونه غير أهل الشهادة؛ لأن الفاسق أهل للشهادة، والزوج والزوجة كذلك؛ لقيام ولاية كل واحد منهم على نفسه على الكمال، إلا أنه تمكنت في شهادتهم زيادة تهمة بسبب الفسق، أو بسبب وصلة الزوجية، فكان الرد محالاً على تهمة الكذب، وإذا كان الرد محالاً إلى تهمة الكذب صار الشاهد بِرَدِّ القاضي شهادته بتهمة الكذب مكذّباً من جهة الشرع فيما شهد به، وتكذيب الشرع ينزل منزلة التكذيب من حيث العيان، ولو ثبت الكذب من حيث العيان لا يكون لشهادته عبرة بعد ذلك، فكذلك هذا. فأما في العبد إن كان عدلاً، فرد الشهادة غير محال له على تهمة الكذب؛ لأنه عدل فيكون محالاً على كونه غير أهل، فلم يصر مكذباً فيما أخبر من جهة الشرع، وقيل خبره إذا صار من أهل الشهادة بالعتق كما قبل الشهادة، وإن كان العبد فاسقاً فقد تمكن في شهادته عدم الأهلية وتهمة الكذب، فكان الرد محالاً على عدم الأهلية، لا على تهمة الكذب، حتى يتوقف الرد ولا يتأبد، فيكون تقليلاً للرد بقدر الإمكان.

وفي الصبي عدم الأهلية وتمكن تهمة الكذب أيضاً؛ لأنه لا يبالي من الكذب من حيث إنه لا يحرم عليه. وفي الكافر تمكن تهمة الكذب؛ لأن عداوته مع المسلم أمر ظاهر وتمكن عدم الأهلية؛ لأنه لا ولاية له على المسلم، فأحيل بالرد على عدم الأهلية لا على تهمة الكذب، فلم يصر مكذباً فيما أخبر من جهة الشرع، فقبل خبرُه إذا صار أهلاً. النصراني إذا حُدَّ حَد القذف ثم أسلم، فإن شهادته جائزة، والعبد إذا حُدَّ حَد القذف ثم عتق، فإن شهادته جائزة، والفرق: أن رد الشهادة موجب القذف، وإنه من تمام الحد، والنصراني حال ما قذف كانت له شهادة أخرى لم تكن، وأما العبد حال ما قذف لم تكن له شهادة، فتوقف كون القذف هو موجباً رد الشهادة على حدوث الشهادة. وإذا تحمل العبد شهادة لمولاه، فلم يؤدها حتى عتق، ثم شهد بها جازت؛ لأن التحمل منه قد صح؛ لأن التحمل بالمعاينة والسماع والرق لا ينافي ذلك، وعند الأداء هو من أهل الشهادة، ولا تهمة في شهادته، فقلنا بقولها وكذلك إذا تحمل أحد الزوجين شهادة لصاحبه، ثم وقعت الفرقة بينهما، وأدى تلك الشهادة جاز لما قلنا. ولو شهد لصاحبه حال قيام النكاح، فلم يقبل القاضي شهادته ولم يردها حتى وقعت الفرقة بينهما، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الأصل» ، وعن أبي يوسف أن القاضي لا يقضي بتلك الشهادة إلا أن يعيدها. وإذا شهد المولى لعبده بشيء أو شهد لمكاتبه، فرد القاضي شهادته ثم أعتقا وأعاد المولى تلك الشهادة لا تقبل شهادته؛ لأن رد الشهادة في هذه الصورة محال على تهمة الكذب، لا على عدم الأهلية، فالمولى أهل للشهادة، والتقريب ما ذكرنا. ولو شهد العبد أو المكاتب لمولاه، ورد القاضي شهادته، ثم عتقا، وأعاد تلك الشهادة تقبل شهادتهما، والمعنى ما ذكرنا. وفي «المنتقى» : إذا أشهد الأعمى على شيء، فشهد به عند القاضي، ورد القاضي شهادته، ثم ذهب العمى، فأشهد المشهود عليه ثانياً، فشهد بها عند القاضي جاز؛ لأنه إنما رد الأولى؛ لأنه لم تكن شهادة. وإن أشهد على شهادة وهو بصير، فشهد عليها عند القاضي في حالة العمى، فردها القاضي ثم ذهب العمى، فشهد بها ثانية، فعلى قول أبي يوسف: لا تقبل؛ لأنها كانت شهادة قاطعة فردت. وإذا شهد حران مسلمان بالغان في حق من الحقوق، وكانا يوم أشهدا صغيرين أو كافرين أو عبدين قبلت شهادتهما؛ لأن هؤلاء من أهل التحمل للشهادة؛ لأن مبناها وقت السماع والمعاينة، وهؤلاء من أهله لكنهم ليسوا من أهل الأداء بسبب الرق والكفر والصبا، فإذا زال الرق والكفر والصبا صاروا من أهل الأداء، فتحققت الشهادة عن تحمل صحيح ممن هو من أهل الأداء فقبلت الشهادة، والله أعلم.

الفصل الرابع: في الاستماع إلى الشهود وصفة أداء الشهادة

الفَصْل الرابِع: في الاستماع إلىَ الشُهُود وَصِفَةِ أداء الشَّهَادَة ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: شاهدان شهدا على رجل بمال، فقبل أن يقضي القاضي بشهادتهما شهد عليهما رجلان أنهما رجعا عن شهادتهما، فإن كان الذي أخبر عن رجوعهما ممن يعرفه القاضي ويعدله وقف في أمرهما، ولم ينفذ شهادتهما، وإذا شهد شاهد على الحق مفسراً، وشهد الآخر على شهادته لا تقبل، وكذلك إذا شهد الآخر على مثل شهادته؛ لأن مثلها قد يكون صلة، فصَار هذا وما لو قال: أشهد على شهادته سواء، أما إذا قال الآخر: أشهد بمثل ما شهد به الأول، فعند الخصاف لا تقبل شهادة الشهادة؛ لأن قوله أشهد بمثل ما شهد به الأول محتمل: يحتمل أشهد بمثل ما شهد الأول كملاً، ويحتمل بمثل ما شهد به الأول نقصاً، وعند عامة المشايخ: تقبل هذه الشهادة، وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله يقول: إن كان الشاهد الأخير فصيحاً يمكنه أداء الشهادة على وجهها إلا أنه دخله حصر بسبب هيبة مجلس القضاء، أو كان عجمياً غير فصيح، إلا أنه يمكنه بيان الشهادة بلسانه على وجهها لولا حشمة مجلس القضاء، لا يكلف تفسير الشهادة، وإذا شهد بمثل ما شهد به الأول يقبل. وإن كان الشاهد عجمياً لا يمكنه بيان الشهادة بلسانه أصلاً لا يقبل منه الإجمال، وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي يقول: إن أحس القاضي بخيانة من الشهود لا بد وأن يفسر الثاني الشهادة على الوجه الذي شهد به الأول، وإن لم يحس بخيانة لا يكلفه تفسير الشهادة، وإذا شهد بمثل ما شهد به الأول تقبل، قال الصدر الشهيد رحمه الله في «شرح أدب القاضي» : وعليه الفتوى، وكان شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله يقول: إنما يقبل الإجمال من الشاهد الآخر إذا قال في شهادته: لهذا المدعي على هذا المدعى عليه، هذه الجملة في «شرح أدب القاضي» للخصاف، في باب القاضي يقضي في المسجد. وفي هذا الباب أيضاً: إذا كتب شهادة الشاهدين في بياض وقُرِئ عليه ذلك، فقال: أشهد أن لهذا المدعي جميع ما سمى ووصف في هذا الكتاب على هذا المدعى عليه الذي قرئ ووصف في هذا الكتاب في يد هذا المدعى عليه بغير حق وواجب عليه تسليمه إلى هذا المدعي، فهذه شهادة صحيحة، وهذا لأن الشهادة قد تكون طويلة على وجه لا يمكن للشاهد ضبطها وأداؤها على ظهر القلب، لو لم يجز أداؤها عن نسخة أو صك لتعطلت الحقوق، وحكى فتوى شيخ الإسلام شمس الأئمة السرخسي في رجل ادعى داراً من نسخة أو صك قرأها، فقال الشهود وهم آمنون ما هم جنين كواهي سيد هيم لهذا المدعي على هذا المدعى عليه: إن شهادتهم صحيحة، وسئل شمس الإسلام الأوزجندي عن الشهود إذا قالوا بالفارسية: ما كواهي وهيم كه أين عين مدعي به ملك أين مدعي است، هل تقبل شهادتهم؟ قال: نعم. وقيل: ينبغي أن لا تقبل؛ لأن قوله: ما كواهي

دهيم في العرف للاستقبال، وللحال ما كواهي سيد هيم. وفي «فتاوى المنتقى» : سئل عن شهود كان في لفظ شهادة كل واحد منهم: ما كواهي سيد هيم كه فلان جبرآن فلانست، هل يكون هذا بمنزلة قوله: ملك فلا ينست، قال: نعم؛ لأن الناس اعتادوا استعمال كلا اللفظين استعمالاً واحداً، وكان الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله يقول: ينبغي للقاضي أن يستفسرهم أنهم أرادوا به الملك أو غيره، فإن فسروا أخذ بتفسيرهم، وإن لم يفسروا (122أ4) وغابوا أو ماتوا، فالقاضي يقضي بشهادتهم بالملك، وسيأتي بعد هذا من هذا الجنس إن شاء الله تعالى. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: وإذا وقع البيع بين رجلين بالتعاطي، ووقعت الحاجة إلى الشهادة، فالشهود كيف يشهدون قيل: يشهدون على الأخذ والإعطاء ولا يشهدون على البيع؛ لأنّ التعاطي بيع حكمي، وليس ببيع حقيقي، وقيل: لو شهدوا على البيع يجوز. شهد الشهود بعين في يد رجل أنه ملك هذا المدعي، ولم يشهدوا أنه في يد المدعى عليه بغير حق، حكي عن الشيخ شمس الأئمة الحلواني أنه قال: لا تقبل هذه الشهادة، وكان الصدر الشهيد رحمه الله يفتي بقبول هذه الشهادة، وهكذا حكى فتوى جماعة من المشايخ، وبعض مشايخنا قالوا: تقبل هذه الشهادة في حق القضايا بالملك، ولا تقبل في حق إيجاب التسليم إلى المدعي، وهو الأشبه والأقرب إلى الصواب؛ لأن وجوب التسليم ينفك عن الملك في الجملة، وهذا القائل يقول: لو سأل القاضي الشاهد، أهو في يد هذا المدعى عليه بغير حق، فقال الشاهد: لا أدري، أنه تقبل الشهادة على الملك؛ لأن القضاء بالملك لا يستدعي كون المدعى عليه مبطلاً في يده لا محالة؛ لجواز أن تكون العين ملكاً لإنسان، وتكون في يد غيره بحق، بأن كان رهناً أو مستأجراً أو ما أشبه، وسَيَأتي بعد هذا من هذا الجنس إن شاء الله تعالى. في «فتاوى النسفي» : أدعى على آخر عشرة دراهم، وشهد الشهود أن لهذا المدعي على هذا المدعى عليه مبلغ عشرة دراهم أو بمبلغ عشرة دراهم، لا تقبل الشهادة؛ لأن الشهود شهدوا بخلاف ما ادعاه المدعي؛ لأن المدعي أدعى عشرة دراهم، والشهود شهدوا بمبلغ عشرة دراهم، ومبلغ عشرة دراهم مال سوى الدراهم، يبلغ قيمته دراهم، وقيل: يقبل، وهو الأصح؛ لأن المبلغ عبارة عما ينتهي إليه العدد المذكور. ولو ادعى بالفارسّية: ده درهم، وشهد الشهود بهذه العبارة أن لهذا المدعي على هذا المدعى عليه: ده دوازده درهم، لا تقبل لمكان الجهالة، وكذلك: إذا ذكر الشهود التاريخ في شهادتهم على هذا الوجه لا تقبل شهادتهم. وفي فتاوى شمس الإسلام الأوزجندي: إذا شهد الشهود أن هذا العين حق هذا المدعي، ولم يقولوا ملكه قبلت الشهادة؛ لأن الحق مع الملك يستعملان استعمالاً واحداً، وقيل: لا تقبل، وقيل: ينبغي للقاضي أن يستفسرهم عن الحق أرادوا به الملك أو ما هو حقيقة الحق، ويبنى الأمر على ما فسروا.

وعلى هذا الاختلاف دعوى الحق إذا ادعى أن هذه الدار حقي، ولم يقل: ملكي، هل تصح منه هذه الدعوى؟ وفي «الفتاوى» : سئل شداد عن ثلاثة نفر شهدوا في حادثة، ثم قال أحدهم قبل القضاء: أستغفر الله قد كذبت في شهادتي، فسمع القاضي ذلك ولم يعلم أيّهم قال ذلك، فسألهم القاضي بعد ذلك، فقالوا: كلنا على شهادتنا، فالقاضي لا يقضي بشهادتهم، ويقيمهم من عنده حتى ينظر في ذلك، فإن جاء المدعي باثنين في اليوم الثاني يشهدان له بذلك قبلت شهادتهما. إذا شهد في حادثة قبل الدعوى، ثم أعادها بعد الدعوى قبلت شهادته وإذا شهد الشهود على إقرار رجل بشراء محدود أو ما أشبه ذلك، لا بد وأن يذكروا في الشهادة أنه أقر على نفسه، أو يقولوا: أقر بشرائه لنفسه، أو ببيعه بنفسه؛ لأن إقراره كما يكون على نفسه يكون على غيره، وما على غيره لا يكون حجة، فلا بد من ذكره. وإذا شهد الشهود أن هذا العين ملك هذا المدعي، وفي يد هذا المدعى عليه بغير حق، ولم يقولوا: فواجب عليه قصر يده عنه، وتسليمه إلى هذا المدعي. حكي عن شيخ الإسلام أبي الحسن السغديّ أن فيه اختلاف المشايخ، منهم من قال: لا بد وأن يقولوا ذلك، يعنى للقضاء بالتسليم؛ لأنه لا يجوز أن يكون الشيء ملك إنسان، ولا يجب على صاحب اليد تسليمه إليه، ويكون معنى قوله: وفي يده بغير حقٍ حقُ الملك، ومنهم من قال: لا حاجة إلى ذكره، وتكون الشهادة مقبولة، ويجبر المدعى عليه على التسليم إذا طلب المدعي ذلك؛ لأن كون العين مملوكة لإنسان تقتضي وجوب التسليم إليه يقتضيه الأصل، إلا لعارض، ولم يثبت العارض كما قالوا، وفي يد هذا المدعى عليه بغير حق، وإن كان التسليم واجباً يقضيه الملك، كان قولهم: فواجب عليه تسليمه إلى هذا المدعي بيان هذا الحكم، فلا حاجة إلى ذكره، وعليه أدركنا كثيراً من مشايخ زماننا، قال شيخ الإسلام: هذا، وأنا أفتي أن في تلك الشهادة قصوراً.h ادعى على آخر عشرة أقفزة حنطة ديناً، وذكر جميع شرائطه، وجاء بشهود شهدوا على إقرار المدعى عليه أن هذا المدعي أرسل إليه عشرة أقفزة حنطة لا تقبل هذه الشهادة؛ لأنه بمجرد الإرسال لا يثبت وصول العين إلى المدعي، ألا ترى أنه في العرف والعادة يقال: فلان أرسل إلي كذا، ولكن لم يصل إلي، وبعد أن يثبت الوصول إليه لا تثبت جهة الدينية. وإذا قال المدعي للقاضي: لا بينة لي، وحلَّف القاضي المدعى عليه بطلب المدعي، ثم جاء المدعي ببينة، روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه يقبل بينته، وعن محمد رحمه الله: لا يقبل بينته لمكان التناقض، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الجمع بين الكلامين ممكن؛ لجواز أنه لم تكن بينة له حال ما قال: لا بينة لي، ثم حدث له بعد ذلك بأن أقر المدعى عليه بعد ذلك بين يدي الشهود بما ادعاه المدعي، فلا يثبت التناقض. ذكر الخصّاف هذه المسألة على هذا الوجه في «أدب القاضي» ، وذكر الطحاوي

رحمه الله في «مختصره» أن المدعي إذا قال لا بينة لي، أو قال الشهود: ما لنا شهادة، ثم جاء المدعي بشهود، أو شهد الذين قالوا: لا شهادة لنا، أي: على أصحابنا فيه روايتان، في رواية: لا تقبل لمكان التناقض، وفي رواية: تقبل. وعلى هذا إذا قال المدعي: كل بينة آتي بها فهم شهود زور، ثم أتى ببينة. وعلى هذا إذا قال: ليس لي عند فلان شهادة فيما ادعى على هذا، فلما حلفه القاضي جاء بفلان شهد. وعلى هذا الخلاف إذا قال: ما لي عند فلان وفلان شهادة على هذا ثم ادعى بعد ذلك شهادتهما. رجل له دعوى في عبد في يدي رجل، وله على ذلك شهود، فقال واحد من الشهود عند القاضي لعبد من عبيد المدعى عليه: هذا العبد ليس هو العبد الذي لفلان فيه الدعوى، ثم المدعي ادعى ذلك العبد بعينه لنفسه، وشهد له ذلك الذي قال تلك المقالة بين يدي القاضي، فقد قيل: يجب أن لا تقبل شهادته لمكان التناقض، وقيل: يجب أن تقبل في إحدى الروايتين على ما ذكره الطحاوي؛ لأنه ليس في كلام الشاهد أكثر من أنه لا شهادة لي في هذا العبد، ومن قال: لا شهادة له في هذه الحادثة، ثم شهد بعد ذلك، ففي قبولها روايتان على ما ذكره الطحاوي، وعلى ما ذكره الخصاف تقبل على قول أبي حنيفة رحمه الله، فههنا كذلك. وفي «فتاوى النسفي» وينبغي للشاهد أن يقول في شهادته: أين عين تلك أين يدعي است وحق ويست، حتى لا يمكن أن يلحق به، وحق وي ني، وكان الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزدوي يقول: إذا قال المدعي فلان جيبر ملك ينست، وحق من، لا يكتفى به، وينبغي أن يقول: وحق ينست، ويقول في قوله: وبدست فلان بنا حق است، وكذلك في نظائره، حتى لا يلتحق به كلمة النفي، قال: الاحتياط في هذا، ولكن هذا الاحتياط في موضع يطالب بالتسليم، وقد ذكرنا جنس هذا قبل هذا. وفي «فتاوى الفقيه أبي الليث» رحمه الله: إذا ادعى على آخر أنه استهلك دواباً له عدداً معلوماً، وأقام البينة على ذلك ينبغي أن يبين الشهود الذكر والأنثى وإن لم يثبتوا ذلك، قال الفقيه أبو بكر: أخاف أن يبطل الشهادة، ولا يقضي للمدعي بشيء من دعواه، وإن بينوا الذكور والإناث جازت شهادتهم. ولا يحتاج إلى ذكر اللون؛ لأنَّ باختلاف اللون لا تختلف المنافع، فلا يصير المشهود به مجهولاً، ولا كذلك الذكورة والأنوثة، قيل اشتراط ذكر الذكورة والأنوثة في هذه الصورة مستقيم، خصوصاً على أصل أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن القضاء بالقيمة عنده بناءٌ على القضاء بملك المستهلك، لما عرف أن حق المالك باق في العين بعد الاستهلاك على أصله، وإنما ينتقل الحق إلى القيمة بقبض القيمة أو بقضاء القاضي، وهذا القائل يقول: مع ذكر الأنوثة والذكورة لا بد من ذكر النوع بأن يقولوا فرس أو حمار ونحوه، ولا يكتفى بذكر اسم الدابة؛ لأنها مجهول النوع، ولا يحتاج إلى ذكر اللّون كما في الوكالة، ومن المشايخ من أبى ذكر الذكورة والأنوثة، وقال: المقصود من دعوى الدابة المستهلكة القيمة والمدعي والشهود لا يستغنون عن بيان القيمة، والشهادة على القيمة

مقبولة، فلا يشترط بيان الذكورة والأنوثة كما في اللون، ألا ترى أن من أدعى على رجل مالاً مقدراً، وشهد الشهود له بذلك، فسألهم القاضِي عن السبب، فقالوا: استهلك عليه دابة، فالقاضي يقبل ذلك منهم، وطريقه ما قلنا. وكذلك الرجلان إذا ادعيا نكاح امرأة معينة (122ب4) وأقاما البيّنة، فالقاضي يقضي لهما بالميراث والقضاء بالنكاح لرجلين على امرأة واحدة متعذر، ولكن طريق القبول أن المقصود من دعوى النكاح بعد الموت دعوى الميراث، ولا تنافي في الميراث، فقضى بالميراث لهما لهذا، والأول أصح. ووجه الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة النكاح: أن دعوى النكاح من كل واحد من المدعيين صحيح، والشهادة من كل فريق صحيحة، إلا أن في حالة الحياة لا يقضي بالنكاح؛ لأن المقصود من النكاح حالة الحياة الحل، وإنه لا يقبل الشركة، فلم يقض بالنكاح حالة الحياة لهذا المعنى، لا لخلل في الدعوى أو الشهادة، أما بعد الموت: المقصود هو الميراث، والقضاء لهما بالميراث ممكن فقضينا، أما في مسألتنا الدعوى لم تصح، وكذلك الشهادة، لأنهم شهدوا بملك المتلف، والمدعي ادعى ملك المتلف، والقاضي يقضي بذلك، ثم القضاء بالقيمة بناء على القضاء بملك المتلف، والقضاء بالمجهول لا يصح، فلا يقضي، وفيما ادعي مقدراً وشهد الشهود بمال مقدر، وأثبتوا السبب استهلاك الدابة نقول: بأن القاضي لا يقضي بشهادتهم، إنما يقضي إذا أثبتوا صفة الذكورة والأنوثة، وأثبتوا مع ذلك نوع الدابة. رجل ادعى على غيره أنك أبرأتني عن جميع الدعاوى والخصومات، والمدعى عليه لم يخاصمه بعد، ولم يدع عليه شيئاً، وجاء المدعي بشاهدين شهدا على ما ادعاه، فقد قيل: لا تقبل هذه الشهادة وقد قيل: تقبل، وعلى قياس مسألة ذكرناها في «أدب القاضي» أن المطلوب إذا ادعى عند القاضي: أن الطالب أبرأني عن كل قليل وكثير، وهو اليوم في بلد كذا، وشهودي ههنا حضور، فاسمع من شهودي واكتب لي إلى قاضي تلك البلدة أن على قول أبي يوسف القاضي لا يسمع من شهوده، ولا يكتب له على ذلك، وعلى قول محمد يسمع ويكتب، يجب أن تكون هذه المسألة على ذلك الخلاف. ولو قال المدعي في هذه المسألة: خاصمني وجحد الابراء مرة يجب أن تقبل شهادة شهوده بلا خلاف، كما في تلك المسألة. رجل ادعى عبداً في يدي رجل أنك بعتني هذا العبد، ونقدتك الثمن، وهو ألف درهم، فجحد البائع البيع وقبض الثمن، فشهد له شاهدان على إقراره بالبيع، وقبض الثمن، وقالا: لا نعرف العبد، ولكنه قال لنا: عبدي زيد، وشهد آخران (أن) هذا العبد اسمه زيد أو شهدا على إقرار البائع أن هذا العبد اسمه زيد، فالبيع لا يتم بهذه الشهادة ويحلف البائع، فإن حلف رد الثمن، وإن نكل لزمه البيع بنكوله، هكذا قال أبو يوسف رحمه الله، فإن شهد شاهدا البيع أنه أقر أنه باعه عبده زيداً المولود، نسبوه إلى شيء يعرف، من عمل أو صناعة أو حلية، فوافق ذلك هذا العبد، فهذا والأول سواء في

القياس، لكني أستحسن إذا نسبوه إلى أمر معروف أن أجيزه، وكذلك الأمة. وفي «المنتقى» : شهد شاهدان أن لهذا في هذه الدار ألف ذراع، فإذا الدار خمسمائة ذراع أو شهدا أن له في هذا القراح عشرة أجربة، فإذا القراح خمسمائة أجربة، فالشهادة باطلة، ولو كان أقر بذلك أخذ المقر له كلها. وفيه أيضاً: شاهدان شهدا أن شاة هذا دخل غنم هذا، ولم يعرف الشاة لا تقبل شهادتهما، ولو شهدا أنه غصب شاة وأدخلها في غنمه قضيت عليه بالقيمة، ولو شهدا أن داره في دار هذا، ولم يجدوا من أي موضع هي، فالشهادة باطلة. ولو شهدوا أنه غصب داره، وأدخلها في داره قضيت عليه بالقيمة. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمه الله في ثلاث نفر، لهم على رجل دين بألف درهم، فشهد اثنان منهم على الثالث أنه قد أبرأه من حصته لا يجوز؛ لأنهما يدفعان عن أنفسهما شركته إذا قبضا حصتهما، وهو بمنزلة ما لو قبضا نصيبهما، ثم شهدا أنه قد أبرأه عن نصيبه، وقال محمد رحمه الله: إن كانا قد قبضا نصيبهما، فشهادتهما باطلة، وإن كانا لم يقبضا، فشهادتهما جائزة. إذا شهدا على رجل أنه أقر أن اسمه عارية في هذا الدين، وهو لفلان، وفلان يدعيه فهو جائز. نوع آخر منه قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا شهد رجلان أن لهما ولفلان على هذا الرجل ألف درهم، فهذا على وجوه: الأول: أن ينصا على الشركة، بأن شهدا أن لفلان ولهما على هذا الرجل ألف درهم مشترك بينهم، وفي هذا الوجه لا تقبل شهادتهما أصلاً؛ لأن المشهود به مشترك بينهم، بحيث لا يمكن تمييز نصيب فلان عن نصيبهما، وقد تعذر قبول شهادتهما في نصيبهما، فيمنع قبولهما في نصيب فلان ضرورة. الثاني: إذا نصا على قطع الشركة، بأن قالا: نشهد أن لفلان على هذا خمسمائة، وجبت بسبب على حدة، ولنا عليه خمسمائة وجبت بسبب على حدة، وفي هذا الوجه تقبل شهادتهما في حق فلان، فهذا ظاهر. الثالث: إذا أطلقا الشهادة إطلاقاً، وفي هذا الوجه لا تقبل الشهادة أصلاً؛ لأنه يحتمل أن المشهود مشترك بينهم، وعلى هذا التقدير لا تقبل شهادتهما، فلا تقبل بالشك. وإذا كان لرجل ألف درهم على ثلاثة نفر شهد اثنان منهم أن صاحب الدين أبرأهما وفلاناً عن الألف التي كانت له عليه وعليهما، فإن كان البعض كفلاً عن البعض لا تقبل شهادتهما أصلاً؛ لأنهما يدفعان بهذه الشهادة عن أنفسهما مغرماً؛ لأن براءة فلان عما عليه، وهو أصل في حقهما يوجب براءتهما، وإن لم يكن البعض كفلاً عن البعض، فإن شهدا أنه أبرأهما وفلاناً بكلمة واحدة لا تقبل شهادتهما أصلاً؛ لأن الشهادة حصلت

بكلمة واحدة، وقد بطلت في البعض فيبطل في الباقي ضرورة. وإن شهدا أنه أبرأهما على حدة، وفلاناً على حدة تقبل شهادتهما في حق فلان، ونظير هذا ما ذكر في كتاب الحدود إذا شهد رجلان أن فلاناً قذف....، وهذه بكلمة واحدة لا تقبل شهادتهما ولو شهدا أنه قذف.... على حدة، وهذا على حدة قبلت شهادتهما في حق هذه، وطريقه ما قلنا. وفي «المنتقى» : إذا شهد رجل وامرأتان أن زوج المرأتين قال لنسائه: أنتن طوالق لم تجز الشهادة على طلاقهما وعلى طلاق غيرهما. ولو شهد شاهدان أنه أوصى بثلث ماله لفقراء بني تميم، وهما من بني تميم، وهما فقيران جازت الشهادة، ولا يعطيان شيئاً، لأنه لو قسم في بعضهم جاز. ولو شهدا أنه أوصى بثلث ماله لفقراء أهل بيته وهما فقيران من أهل بيته، أو ولد لهما فقير من أهل بيته لم تجز الشهادة لهما ولا لغيرهما، وإن كانا غنيين ولا ولد لهما فقير جازت الشهادة. وفي الوصايا لو أوصى بثلث ماله لفقراء جيرانه، فشهد على ذلك رجلان لهما أولاد يحتاجون في جوار الموصي، قال محمد: لا تقبل هذهِ الشهادة أصلالاً أما في حق أولاد الشهود فظاهر، وأما في حق الباقين فلأن الشهادة واحدة. وفي «وقف هلال» : لو وقف على فقراء جيرانه، فشهد على ذلك شاهدان من فقراء جيرانه قبلت شهادتهما، وإذا شهد أهل مسجد على وقفية كراسة على مسجدهم أو على أهل مسجدهم وهم يحصون، حتى يجوز الوقف، هل تقبل شهادتهم؟ ينظر إن كان الشاهد ممن يقرأ أو له ولد يقرأ لا تقبل شهادته، وإن كان ممن لا يقرأ، وليس له ولد يقرأ تقبل شهادته، وهو نظير أهل مدرسة شهدوا على وقف تلك المدرسة، أو أهل محلة شهدوا على وقف تلك المحلة. وهناك بعض المشايخ فصلوا الجواب تفصيلاً، فقالوا في شهادة أهل المدرسة إن كانوا يأخذون الوظيفة من ذلك الوقف لا تقبل شهادتهم، وإن كانوا لا يأخذون تقبل، وكذلك في أهل المحلة من شهد وهو ممن يأخذ شيئاً من ذلك لا تقبل شهادته؛ لأنه حينئذٍ يكون هذا شهادة جار المغنم، وعلى هذا الشهادة على وقف المكتب وللشاهد صبي في المكتب، أو ليس له صبي في المكتب. وبعض مشايخنا قالوا: يجب أن تقبل الشهادة في هذه المسائل كيف ما كان، لأن كون الفقيه في المدرسة أو كون الداخل في المحلة أو كون الصبيّ في المكتب ليس بأمر لازم، بل ينتقل الفقيه من مدرسة إلى مدرسة، ومن محلة إلى محلة، وينتقل الصبي من مكتب إلى مكتب، ومثل هذا لا يمنع قبول الشهادة، بخلاف ما إذا كان أمراً لازماً، وهذا القائل يقول: ولأجل هذا المعنى وقع الفرق بينما إذا شهدا أنه أوصى لفقراء جيرانه على ما ذكره هلال، وفيما إذا شهدا أنه أوصى لفقراء

الفصل الخامس: في شهادة الرجل على فعل من أفعاله أو صفة من صفاته

قرابته؛ لأن الجوار ليس بلازم، والقرابة لازمة، ولكن هذا الفرق لا يشكل بما إذا شهدا أنه أوصى لفقراء بني تميم، وهم من فقراء بني تميم، حيث تقبل شهادتهما، وكونهما من بني تميم أمر لازم. إذا شهدوا أن جميع ما في قرية فلان من الدور والأراضي وغيرهما، التي هي معروفة لفلان ميراث من جهته لفلان ابنه، هذا المدعي لا وارث له غيره، ذكر الصدر الشهيد في «فتاوى الصغرى» أن الشهود إن كانوا يعرفون حدود ذلك جاز، وإن كانوا لا يعرفون لا يجوز؛ لأنهم شهدوا بالمجهول، وقيل: إذا كان الشهود لا يعرفون حدود ذلك لا يحل لهم أداء الشهادة، وإن عرفوا إلا أنهم لم يشهدوا بها، فالقاضي لا يقبل شهادتهم، وهو الأصوب. إذا ادعى على رجل نقرة جيدة موروثة بوزن معلوم، وشهد الشهود بالنقرة بذلك الوزن، ولم يذكروا صفة الجودة في شهادتهم، ولا صفة الرداءة، فالقاضي يقبل (123آ4) شهادتهم، ويقضي بالنقرة الرديئة بذلك الوزن، هكذا كان يفتي بعض مشايخنا؛ لأنهم شهدوا بأقل مما ادعاه المدعي، وعلى هذا القياس إذا ادعى مقداراً معلوماً من دقيق غير منخول، وشهد الشهود بالدقيق مطلقاً، وقيل: لا بل بينهما فرق؛ لأن الدقيق مع النخالة متفاوت، بخلاف النقرة الرديئة، ولو أدعى دقيقاً مع النخالة وشهد الشهود بدقيق منخول لا تقبل. الفصل الخامس: في شهادة الرجل على فعل من أفعاله أو صفة من صفاته يجب أن يعلم بأن شهادة الإنسان على فعل من أفعاله أو صفة من صفاته أو نفي ذلك لا تقبل؛ لأنه شهادة لنفسه، والشهادة لنفسه دعوى، وبالدعوى لا يقطع الحكم، قال ابن سماعة عن محمد: كان أبو حنيفة رحمه الله يجيز شهادة القاسمين على قسمتهما، وكان أبو يوسف رحمه الله لا يجيز ذلك، ثم رجع إلى قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: لا تجوز شهادتهما، وذكر الخصاف قول محمد مع قول أبي حنيفة رحمهما اللهُ، ولم يذكر فيه الاختلاف، قالوا: إن ما ذكره الخصاف آخر قول محمد، فقد رجع إلى قول أبي حنيفة، فأما في ظاهر الرواية، فقول محمد يخالف قولهما في هذه المسألة. ووجه قول محمد أنهما شهدا على فعل أنفسهما، فلا تقبل شهادتهما، سواء كان فيه منفعة لهما أو لم تكن، كالوكيل بالنكاح إذا شهد بعقده، وكما إذا قال لرجلين: إن كلمهما عبدي فهو حر، فشهدا أنهما كلماه لا تقبل شهادتهما، وإن لم يكن فيه جر منفعة إليهما؛ لأن ما أتيا به دعوى لا شهادة على ما ذكرنا، كذا هذا. كيف وإن ههنا فيه جر منفعة إليهما؛ لأنه إذا ثبتت قسمتهما يستحقان أجر القاسمين، ولا تقبل شهادة من يجرّ إلى نفسه مغنماً.

وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله قالا: إن هذه الشهادة قامت لإثبات الملك للغير؛ لأنه لا حق له في المقسوم ولا ملك، وقد خلت عن التهمة لانتفاء سبب التهمة من السبب أو اتصال الملكين، فوجب أن تقبل هذه الشهادة، ولأن الحاجة ماسة إلى قبول شهادتهما، لأنه لا يمكن للقاضي أن يبعث معهما شاهدين عدلين يشهدان على فعلهما، ولو فعل يلحق المؤنة على أصحاب القسمة، فلو لم تقبل شهادتهما لضاق الأمر على الناس، ولأن قاسم القاضي أمين القاضي ونائبه في القسمة، فكان فعله كفعل القاضي، والدليل على أن فعله كفعل القاضي أن القاضي وإن لم يكن مأذوناً في الاستخلاف يملك أن يفوض القسمة إلى غيره، فلولا أن فعله كفعل القاضي، وإلا لما ملك التفويض؛ لأنه ليس للقاضي أن يولي غيره الحكم بدون إذن الإمام، فثبت أن فعله منقول إليه حكماً، والدليل عليه أنه لا تلحقه العهدة، ولولا أن فعله منقول إلى القاضي حتى كان من القضاء وإلا للحقه العهدة والدليل على أنه من القضاء أن للقاسم أن يجبر الممتنع من القسمة، ولو لم يكن من القضاء لما كان له ولاية الجبر فإنه ليس لغير القاضي ولاية الجبر. إذا ثبت هذا فنقول: تقريره من وجهين: أحدهما: أنه لما كان فعله منقولاً إلى القاضي يعتبر فعله بفعل القاضي بنفسه، ثم القاضي إذا تذكر القضاء لرجل، والمقضي عليه ينكر، كان له أن يلزمه القضاء بقوله، فكذلك القاسم يملك أن يثبته بشهادته. والثاني: أن فعله لما كان منقولاً إلى القاضي لم تكن هذه شهادة على نفسه من حيث التقدير، بل كان على فعل القاضي حكماً، وشهادتهما على فعل القاضي مسموعة، على أن هذه الشهادة في الحقيقة ما قامت على فعلهما، فإن فعلهما تعيين الأنصباء، فأما ثبوت الملك لكل واحد منهما في نصيبه لقبوله وقبض نصيبه، وذلك فعل أصحاب الأملاك، وشهادة الإنسان على فعل غيره مقبولة. وقوله إنهما يجران إلى أنفسهما مغنماً؛ لأنهما يستحقان الأجر بالقسمة، قلنا: إنما تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا كانا لا يطلبان الأجر، وأما إذا طلبا الأجر لا تقبل شهادتهما، هذا كما قلنا في شهادة الشفيعين على بيع الدار: إنهما إن طلبا الشفعة لا تقبل شهادتهما، وإن كانا لا يطلبان الشفعة تقبل شهادتهما إذا شهدا على القسمة لا غير، ثم قالا بعد ذلك: نحن قسمنا واشتغلا بالتفصيل، فأما إذا شهدا على أنفسهما من الابتداء لا تقبل شهادتهما، ولكن إطلاق ما ذكر في «الكتاب» يدل على أنه تقبل شهادتهما في الأحوال كلها، وأن الصحيح ما ذكر من جواز شهادتهما على الإطلاق على قسمة أنفسهما لما ذكرنا من المعاني. قال: فإن فرزا الأرض وقوماها ثم عرضا ذلك على القاضي، ثم حضرت الورثة وأقروا بالتحديد والقيمة، فأقرع القاضي بينهم، ثم أجبر عن قسمته فذلك جائز؛ لأن هذه قسمة من القاضي، وإنه بمنزلة القضاء منه، والقاضي إذا قال: قضيت على فلان بكذا قبل قوله بالاتفاق كذا هذا، بخلاف شهادة قاسمي القاضي على قول محمد؛ لأنه ليس بقضاء

من القاضي، بل هي شهادة على فعلهما. وذكر ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف: إذا شهد شاهدان أن فلاناً أمرنا أن نبلغ فلاناً أنه قد وكله ببيع عبده وقد أعلمناه، أو أمرنا أن نبلغ امرأته أنه جعل أمرهَا في يدها وبمعناها، وقد طلقت نفسها جازت شهادتهما؛ لأنهما شهدا على فعل المرسل، فالرسول ينقل كلام المرسل فقد شهدا على فعل غيرهما، وقوله: فيقبل شهادتهما، وبمثله لو قالا: نشهد أنه قال لنا خيّرا امرأتي فخيرناها فاختارت نفسها، لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما شهدا على فعل أنفسهما، وهو التخيير، فلا تقبل منهما، لأنه دعوى لا شهادة، بخلاف الأول، فإنهما شهدا على فعل المرسل على ما ذكرنا. وفيه أيضاً: إذا شهدا على فعل المرسل على ما ذكرنا. وفيه أيضاً: إذا شهدا على رجل بمال أنه قبضه من آخر وهو ينكر، فشهدا على قبضه، وقالا: نحن وزناها عليه، قال إن كانا زعما أن ربّ المال كان حاضراً جازت شهادتهما، وإن لم يكن حاضراً عند الوزن لم تقبل شهادتهما، لأنه إذا كان حاضراً ينقل فعل الوزن إليه، فكان شاهداً على فعل غيره، فأما إذا كان غائباً تعذر إضافته إليه، فبقي الفعل مقصوراً عليه، فكان شاهداً على فعل نفسه، فلا تقبل شهادتهما، فالحاصل أن شهادة الإنسان على فعل نفسه لا تقبل إذا لم يكن ذلك الفعل منتقلاً إلى غيره سواء كان له منفعة في المشهود به أو لم يكن، فإذا كان فعله منقولاً إلى غيره تقبل شهادته عليه. قال في «المنتقى» على طريق الاستشهاد: ألا ترى أنه لو وزن له الغريم ألف درهم ووضعها، وقال: خذها لك قد وفيتك، فقال المقضي له لرجل: ناولني هذه الدراهم فناوله، ثم شهدا على المقضي له أنه هو الذي دفع الدراهم إليه إن شهادته جائزة، وذكر هلال البصري في «الشروط» أنه لا تقبل شهادة الذي كال في المكيل، وتقبل شهادة الذي ذرع في المذروع. ووجهه: أن الكيل من القبض؛ لأن للكيل أثراً في التعيين؛ لأن قدر المبيع إنما يعرف بالكيل، حتى لا يجوز البيع فيما سواه، ألا ترى أنه إذا اشترى صبرة حنطة على أنها كرّ، فوجدها كرين إن الزيادة لا تكون له بل تكون للبائع، والقبض لا يصح ولا يتم بدون التعيين والتقدير، فكان الكيل من جملة القبض، فكانت الشهادة على التعيين شهادة على فعل نفسه، وهو الكيل فلا تقبل، وأما الذرع لا يفيد التعيين والتقدير، ألا ترى أنه إذا اشترى أرضاً على أنها مائة ذراع، فوجدها مائتي ذراع إن الزيادة للمشتري أيضاً، فلم يكن الذرع من القبض في شيء، فكانت هذه شهادة على فعل غيرهما فقبلت. وفي «المنتقى» رواية بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أن شهادة الكيالين باطلة. ادعى على آخر أنه أقرضه كر حنطة، وشهد شاهدان بهذا اللفظ: أين كندم بخران ما آورد وماكد أكس بودنم، فقيل: لا تقبل هذه الشهادة؛ لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما، وقيل: تقبل؛ لأنهما أضافا الفعل إلى المدعى عليه، حيث قالا: بخران ما آورد حتى لو قالا: ما آورديم بترديك دي بي دستوري دي، لا تقبل هذه الشهادة على قياس

مسألة الكيال، وقيل: ينبغي أن يقال: إن قالا: مدعى عليه باما بود تقبل شهادتهما، وإن قالا: بأماني بود لا تقبل على قياس مسألة الوزان. قال ابن سماعة عن محمد في رجل اشترى من رجل عبدين شراءً صحيحاً أو فاسداً، فقبضهما المشتري وأعتقهما، ثم اختلف والمشتري في ثمن العبدين في البيع الصحيح، وفي قيمتهما في البيع الفاسد يوم قبضهما، فشهد هذان العبدان على ثمنهما أو على قيمتهما يوم قبضهما المشتري، فإنه لا تقبل شهادتهما. أما إذا شهدا على قيمتهما، فلأن هذه شهادة على صفتهما؛ لأن القيمة تزداد بزيادة وصف مرغوب وتنقص بنقصانه، فكانت الشهادة على زيادة القيمة شهادة على زيادة وصف مرغوب، وعلى نقصان القيمة شهادة بنقصان الوصف، فكانت هذه الشهادة قائمة لإثبات وصف فيهما، فكانت الشهادة لأنفسهما من حيث الحقيقة، فلا تقبل. وأما إذا شهدا على ثمنهما، فلأن الثمن تقدير لقيمة المبيع والمماثلة في ثمنه في جميع البياعات لتحقق المعادلة، وذلك (123ب4) بأن لا يزول ملكه عن المبيع إلا ببدل يَعْدِله، وهو قدر قيمته، فالمتعاقدان إذا قدرا شيئاً من الأثمان صار ذلك بمنزلة تسمية القيمة التي هي للعين، وقد ذكرنا أن شهادتهما على قيمتهما غير مقبولة. وروي عن أبي يوسف أنه يقبل شهادتهما على زيادة الثمن أو نقصانه، ووجهه: أن الشهادة على الثمن شهادة على عقد جرى بين البائع والمشتري أوجب ذلك الثمن على المشتري، وذلك العقد وحكمه ليس بواقع للعبد، لتكون شهادته عليه شهادة على فعله، أو وصفه حتى يصير شاهداً لنفسه، يوضحه أن وجوبه وصحته يعتمد صحة القسمة في العقد، لا زيادة وصف ولا نقصانه، وقيام العقد بالعاقدين، فكانت شهادة على فعل غيرهما فتقبل. قال: ولو شهد العبدان بعد العتق أن المشتري وفّى البائع الثمن وهو يجحد ذلك، قبلت شهادتهما لأن هذه الشهادة لغيرهما، وهو المشتري ببراءته عن الثمن بسبب الإيفاء، وليس بينهما ما يمنع قبول الشهادة، فقبلت شهادتهما، قال: أرأيت لو شهدا أن البائع أبرأه عن الثمن ألم يكن جائزاً؟ وهذا إشارة إلى ما قلنا: إن المشهود به برأه المشتري من حيث الحقيقة، والبراءة عسى تكون بالاستيفاء، وعسى تكون بالإبراء، وكيف ما كان فهذه شهادة لغيرهما، وقد استجمع شرائط الجواز، فقبلت. قال: ولو أن رجلين شهدا أن فلاناً أمرهما أن يزوجا فلانة منه فزوجاها، أو شهدا أنه أمرهما أن يخلعا منه فلانة فخلعا، أو أمرهما أن يشتريا له عبداً فاشتريا فكل مسألة من هذه المسائل على ثلاثة أوجه: أن يجحد الموكل الأمر والعقد جميعاً، أو يقر بالأمر ويجحد العقد، أو يقر بهما، وكل وجه على وجهين: إما أن يكون الخصم يدعي العقد مع الوكيل في الفصول كلها أو يجحد. فإن كان الموكل جحد الأمر والعقد جميعاً لا تقبل هذه الشهادة في الفصول كلها؛ لأنها إن كانت شهادة صورة، فهي دعوى معنى؛ لأن الشاهد من يثبت الحق لغيره وههنا

هما يثبتان الوكالة لأنفسهما، فكانا مدعيين لا شاهدين، فلا تقبل شهادتهما. فإن كان الآمر يقر بهما، فإن كان الخصم مقراً بالعقد، فالقاضي يقضي بذلك لا بشهادتهما، بل بتصادقهم، البيع والنكاح والخلع في ذلك على السواء. وإن كان الخصم يجحد العقد، فالقاضي لا يقضي بالبيع والنكاح، ويقضي في الخلع بالطلاق بغير مال لا بشهادتهما، ولكن بإقرار الزوج، وإنما لا يقضي بسائر العقود بشهادتهما؛ لأنهما يثبتان فعل أنفسهما، فكانا شاهدين لأنفسهما. وإن كان الآمر يقر بالأمر ولكن يجحد العقد، فإن (كان) الخصم مقراً، فإنه يقضي لأنفسهما في العقود كلها، إلا في النكاح عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن التوكيل ثبت بتصادقهما، والوكيل في هذه العقود إذا قال: فعلت وساعده الخصم، فإنه يثبت العقد وإن جحد الموكل إلا في النكاح، فإنه لا ينفذ إقرار الوكيل على الموكل بالنكاح عند أبي حنيفة رحمه الله من غير تصديق الموكل، ويحتاج فيه إلى إثباته بالبينة، وإذا احتيج إلى البينة لا تقبل شهادة الوكيلين؛ لأنه يثبت فعل نفسه، فكان شاهداً لنفسه، وعندهما ينفذ إقرار الوكيل على الموكل، وإن كان الخصم جاحداً لا يقضى بشيء من العقد؛ لأنه إذا كان جاحداً يحتاج لإثباتهما إلى البينة، وشهادة الوكيلين لا تقبل؛ لأنهما يثبتان فعل أنفسهما. وإذا شهد رجلان بالمهر لأختهما بسبب تزويجهما وقالا: نشهد أنا زوجنا هذا أختنا بألف درهم، والزوج يجحد النكاح، أو قال كان المهر خمسمائة، لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما شهدا بالمهر لأختهما بسبب تزويجها، فكان السبب مشهوداً به كالمهر، والشهادة على السبب شهادة على فعل نفسه، فلا تقبل. ولو أقر الزوج بالمهر والنكاح وادعى البراءة أو الأداء، فشهدا بذلك للزوج قبلت شهادتهما، لأنه لا تعلق لهذه الأشياء بفعلهما. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا اشترى الرجل عبدين وقبضهما وأعتقهما، وأراد أن يرجع بنقصان عيب قد أنكره البائع، فشهد العبدان أن هذا العيب كان بهما لا تقبل شهادتهما؛ لأن هذه شهادة بإثبات وصف فيهما وهو العيب، أو زوال صفة السلامة، وكيف ما كان لا يثبت بهذه الشهادة؛ لأنهما يشهدان لأنفسهما. وكذلك لو شهدا لرجل على المشتري أنه كان له نصفهما، فشهادتهما باطلة لوجهين: أحدهما: أنهما يشهدان لأنفسهما، فإنهما يثبتان انتقاض البيع في نصفهما لمكان الاستحقاق، والثاني: أن في قبول شهادتهما ابتداء إبطالها انتهاء؛ لأنا إذا قلنا: شهادتهما أبطلتا الإعتاق عن أنصافهما، فكانا معتقي البعض، ومعتق البعض بمنزلة المكاتب، ولا شهادة للمكاتب. وهذا على قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن عنده الإعتاق متجزئ. وكذلك لو شهدا أن المشتري قد كان وهب نصف كل واحد منهما لرجل قبل أن يعتقهما لم أقبل شهادتهما، لأنا لو قبلنا شهادتهما بطل العتق عن أنصافهما، فكان بمنزلة

المكاتب ولا شهادة للمكاتب، فكان في تصحيحها في الابتداء إبطالها في الانتهاء، ولأنهما يريدان إبطال العتق عن بعضه بعد ما كان ثابتاً من طريق الحكم، وقد ذكرنا أن شهادة الإنسان على إثبات صفة لنفسه، أو على نفي صفة عن نفسه لا تقبل. وكذلك أم ولد الرجل مات عنها أو أعتقها، فشهدت هي وامرأة ورجل أنها كانت بين الميت ورجل آخر لا أقبل شهادتها، ولا أقضي على المستولد بنصف قيمتها ونصف عقرها وهذه المسألة لا تخرّج على الطريقة الأولى في المسألة المتقدمة؛ لأنه ليس في تصحيح هذه الشهادة ابتداء إبطالها انتهاء، فإن أحد الشريكين إذا استولد الجارية المشتركة بينهما ملك نصيب صاحبه بالضمان، فنفذ الاستيلاد عليه حتى تعتق بموته، فلا يكون في قبولها ابتداء إبطالها انتهاء، وإنما تخرج على الطريقة الثانية؛ لأنهما بهذه الشهادة ينفيان ملك المستولد عن نصفهما، والملك صفة، وقد ذكرنا أن شهادة الإنسان على نفي صفة عن نفسه لا تقبل. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: قال أبو حنيفة رحمه الله: رجل قال لعبده إن دخلت دار هذين الرجلين أو قال: إن مسست ثوبهما فأنت حر، ففعل العبد ذلك، فجاء الرجلان يشهدان على ذلك، فشهادتهما جائزة، لكن هذه الشهادة قامت على فعل العبد، وهو الدخول والمس، ولا تهمة في شهادتهما للعبد فقبلت، بخلاف ما إذا قال: إن كلمتما عبدي أو مسستما ثوبه فهو حر، فشهدا أنهما فعلا ذلك لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما. ولو قال لعبده: إن كلمت فلاناً وفلاناً فأنت حر، فشهدا أنه كلمهما لا تقبل شهادتهما، بخلاف ما لو قال له: إن دخلت دارهما، فشهدا على الدخول، حيث تقبل شهادتهما، والفرق: أن شهادتهما بكلامهما شهود بحضورهما؛ لأنه لا يتصور الكلام معهما إلا بحضورهما، ألا ترى أن من حلف لا يكلم فلاناً فكلمه وهو غائب لا يحنث في يمينه، وحضورهما فعلهما، فكانا شاهدين بفعل أنفسهما، فأما شهادتهما بدخوله الدار شهادة بفعل غيرهما؛ لأنه لا تعلق لدخوله الدار بهما، فكانا شاهدين بفعل غيرهما من كل وجه. وفي شهادات «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل قال: إن دخل داري هذه أحد، (فامرأتي طالق) ، فشهد ثلاثة نفر أو أربعة نفر أنهم دخلوا، فهذا على وجهين: إن قالوا دخلنا لا يقبل قولهم، ولا يحكم بحرية العبد؛ لأنهم شهدوا على فعل أنفسهم. وإن قال اثنان منهم: دخلنا ودخل هذا الثالث والرابع معنا قبل قولهم، وحكم بحرية العبد؛ لأن قول كل واحد منهم إخبار وشهادة، فيقبل قول كل واحد منهم في حق القضاء بالحرية من حيث إنه شهادة لا من حيث إنه خبر. وروى الحسن بن زياد فيمن حلف بعتق مماليكه أن لا يستقرض أبداً شيئاً، فشهد رجلان أنهما أقرضاه لا تقبل شهادتهما، لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما، ولهما في هذه الشهادة منفعة، وكل ذلك مانع قبول الشهادة. ولو شهدا أنه طلب ذلك منهما، ولم

الفصل السادس: في شهادة الرجل على فعل من أفعال (124أ4) ابنه، وشهادته لأبيه وأمه

يقرضاه قبلت شهادتهما؛ لأنهما يشهدان على فعل غيرهما؛ لأن الاستقراض طلب القرض، وإنه فعل المستقرض، ولا منفعة لهما في هذه الشهادة؛ لأنهما قالا: ما أقرضناه. ولو كان حلف لا يقرض فلاناً وفلاناً شيئاً، فشهدا أنه أقرضهما حنث في يمينه؛ لأنهما يشهدان على فعل غيرهما وهو الإقراض ولا تهمة فيها، فقبلت. وعن أبي يوسف رحمه الله في رجل ادعى داراً في يدي رجل وشهد له شاهدان بها، وأنه كان أستأجرهما على بنائه وغير ذلك قبلت شهادتهما. ولو قالا: استأجرنا على هدمها، فهدمناها لم تقبل شهادتهما، وضمن المدعى عليه قيمة البناء؛ لأن في الفصل الثاني يدفعان عن أنفسهما مغرماً بشهادتهما؛ لأنهما يريدان بذلك إسقاط ضمان لزمهما بالهدم؛ لأن البناء للمدعى عليه، فظاهر اليد وهدم بناء الغير سبب للضمان، وشهادة دافع المغرم لا تقبل، فأما في الفصل الأول لا يدفعان عن أنفسهما مغرماً، ولا يجران إلى أنفسهما مغنماً، فقبلت شهادتهما، وعلى هذا يقاس نظائره. الفصل السادس: في شهادة الرجل على فعل من أفعال (124أ4) ابنه، وشهادته لأبيه وأمّه وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا شهد ابنا القاضي على كتابه إلى قاض آخر من القضاة، أو على قضائه أو على شهادته وهو مدع أو ميت جاز ذلك. وفي «المنتقى» رواية إبراهيم عن محمد أنه لا يجوز شهادة الابن على قضاء أبيه وعلى كتابه، كما لا يجوز شهادة الابن على شهادة أبيه. وفي «المنتقى» في باب من لا تجوز شهادته له: رواية الحسن بن مالك عن أبي حنيفة أنه قال: لا تجوز شهادة الولد على قضاء أبيه بأن شهدا أن أباه قضى لفلان بكذا، وتجوز شهادته على شهادة أبيه، قال: وهو قول أبي يوسف رحمه الله: وذكر بعد هذا في هذا الباب أيضاً: لو كان قاضياً يوم ما شهد الابن على قضائه أنه تجوز شهادته. وفي آخر هذا الباب عن أبي حنيفة أنه لا تجوز شهادة الابن على قضاء أبيه وإن كان الأب قاضياً يوم الشهادة. والحاصل: أن شهادتهما على فعل أبيهما فعلاً ملزماً لا يقبل إذا كان للأب فيها منفعة بالاتفاق، يعني بها المنفعة المطلوبة من الشهادة، وإن لم يكن للأب فيه منفعة، فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا تقبل شهادتهما، وعن محمد روايتان. وجه رواية القبول عنه أن شهادة الابن لأبيه إنما تقبل لمكان تهمة الميل، وذلك إنما تحقق فيما للأب فيه منفعة، والمنفعة المطلوبة من الشهادة في هذه الصورة إنما تحصل للمدعي لا للأب، ومنفعة نفاذ القول على الغير وظهور صدقه عند الناس غير معتبرة في إفادة التهمة المانعة من قبول الشهادة، ألا ترى أن الأب إذا شهد مع ابنه في حادثة قبلت

شهادتهما، ولولا شهادة الابن لكان لا تقبل شهادة الأب، فالابن بهذه الشهادة يسعى إلى إظهار صدقة، وتنفيذ قوله على الخصم، ولم يمنع ذلك قبول شهادته كذا ههنا. وجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف قوله عليه السلام: «لا تقبل شهادة الولد لوالده» ، وإذا شهد على فعل والده فقد شهد له بإثبات فعله، ولأنه متهم في هذه الشهادة، لأن للأب فيه منفعة، وهو نفاذ قضائه وظهور صدقه إذا كان يدعى، ومنفعة ظهور الصدق فوق سائر المنافع، وأقوى في إيراث الشبهة وإيقاع التهمة. ثم إن أبا حنيفة وأبا يوسف فرقا بين شهادتهما على شهادة أبيهما وبين شهادتهما على قضاء أبيهما، والفرق أن الشهادة ليست بملزمة والقضاء ملزم، وقد احتج أبو يوسف على محمد فقال: الابن جزء الأب، فشهادته على فعل أبيه كشهادة الأب على نفسه من حيث الحكم والاعتبار، وشهادة الأب على فعل نفسه لا تقبل، فكذا شهادة الابن على فعله. ولو قال لعبده إن كلمك فلان فأنت حر، فادعى فلان أنه كلمه العبد، وشهد ابناه بذلك لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وفي إحدى الروايتين عن محمد تقبل. وإذا قال لرجلين: إذا دخلتما هذه الدار فعبدي حر فماتا، فشهد ابناهما أن أبويهما قد دخلا الدار فهو على الخلاف الذي ذكرنا، قال: ولو أنكر الأبوان وهما حيان جازت شهادة الابنين على دخولهما بلا خلاف؛ لأنهما صارا مشهوداً عليهما بالدخول عند الجحود، وتلك المنفعة التي صورناها عند دعواهما، وهو ظهور صدقهما، وتنفيذ قولهما لا تتحقق ههنا، فكانت شهادة على الأب فقبلت، وهذا هو الحكم في كل شيء شهد الابن به يثبت بشهادته فعلاً من أبيه: من نكاح أو طلاق أو بيع أو غير ذلك إنه لا تجوز شهادته إذا كان الأب حياً يدعي أو ميتاً كان عندهما، وإن كان حياً وهو ينكر تقبل شهادتهما بلا خلاف؛ لأن مع جحوده لا يمكن أن يجعل هذا شهادة للأب، بل يكون شهادة على الأب. وإذا شهد ابنا الوكيل على عقد الوكيل، فهو على ثلاثة أوجه، الأول: أن يقر الموكل والوكيل بالأمر والعقد جميعاً، وإنه على وجهين: إن كان الخصم يدعي ذلك كله، فالقاضي يقضي بالعقود كلها، ولكن بتصادقهم لا بالشهادة، وإن كان الخصم ينكر ذلك، فإن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف لا تقبل شهادتهما، ولا يقضي بشيء من هذه العقود إلا في الخلع، فإن هناك يقضى بالطلاق بغير مال لإقرار الزوج وهو الموكل. وعلى قول محمد رحمه الله في إحدى الروايتين: يقضى بالعقود كلها إلا بعقد ترجع الحقوق فيه إلى العاقد، كالبيع وما أشبهه؛ لأن الحقوق إذا كانت ترجع إلى الأب كان للأب فيه منفعة، وكان الشهادة واقعة للأب، فأما كل عقد لا ترجع حقوقه إلى العاقد

لا يكون للأب فيه منفعة سوى تنفيذ القول، وهذه المنفعة عند محمد رحمه الله لا تصلح مانعة قبول الشهادة في إحدى الروايتين. وإن كان الوكيل والموكل يجحدان ذلك كله، فإن كان الخصم يجحد أيضاً لا يلتفت إلى هذه الشهادة، لأنها خلت عن الدعوى. وإن كان الخصم يدعي تقبل شهادتهما عندهم جميعاً، لأنه لا منفعة للأب في هذه الشهادة، بل له فيه ضرر؛ لأنه ثبت كذبه، فكانت شهادة على الأب، والشهادة على الأب مقبولة. وإن كان الوكيل يقر بكلا الأمرين والموكل يدعي الأمر ويجحد العقد، فإن كان الخصم يدعي ذلك، فإنه يقضي بالعقود كلها إلا في النكاح على قول أبي حنيفة؛ لأن عنده إقرار الوكيل على موكله بالعقود كلها صحيح إلا بالنكاح، فتقع الحاجة إلى إثباته بالبينة، وشهادة ابن الوكيل على ذلك لا تقبل. وعندهما القاضي يقضي بالعقود كلها؛ لأن إقرار الوكيل على الموكل بالعقود كلها صحيح، ولا يحتاج فيه إلى البينة. وإذا جعل الرجل أمر امرأته بيد أبيها و (..........) أنه طلقها والآمر حي يدعي ذلك، أو ميت لا تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة (وأبي) يوسف رحمهما الله، يقول جعل أمر امرأته بيد أجنبي توكيل له بالطلاق، وقد بينا هذه المسألة، ثم جعل موت الموكل بمنزلة ادعائه حال حياته، وعن أبي يوسف أن غيبته بمنزلة موته، ووجه ذلك: أن المانع من القبول وقوع الشهادة للأب، فإذا كان الأب حياً يدعي، فالشهادة واقعة بإثبات فعله، وإذا كان حياً وهو يجحد، فالشهادة واقعة عليه. وإذا لم يعرف جحوده بأن مات أو غاب كانت الشهادة واقعة للأب باعتبار الأصل حيث إن فيها إثبات فعله فلا تقبل. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجلان شهدا أن أباهما طلق أمهما، فإن كان الأب يدعي، فلا حاجة إلى الشهادة؛ لأنه أقر على نفسه بالطلاق، وإن كان الأب يجحد تقبل شهادتهما، لأن الطلاق في حق الأم دائر بين الضرر والنفع، من حيث إن به يحصل لها الخلاص عن حبالة الزوج، ويرتفع عنها قيد النكاح نفع، من حيث إن ثمرات النكاح ومقاصده وحقوقه مشتركة بين الزوجين، والطلاق يبطل ذلك عليها ضرر، وكل منفعة يشوبها ضرر تترجح المنفعة بالدعوى والضرر بالجحود؛ لأن أحداً لا يجحد ما ينفعه ولا يدعي ما يضره، فإن ادعت الأم الطلاق يرجح النفع فيها على الضرر، فكانت الشهادة واقعة للأم، وإن جحدت ذلك يرجح الضرر على النفع، فكانت الشهادة واقعة على الأم فقبلت. وفي «فتاوى شمس الإسلام الأوزجندي» رحمه الله أن الأم إذا ادعت الطلاق تقبل شهادتهما، قال: وهو الأصح؛ لأن دعواها لغو، فإن الشهادة على الطلاق تقبل حسبة من غير دعواها، فصار دعواها لغواً، فجعل وجودها وعدمها بمنزلة، ولو عدم دعواها تقبل

شهادتهما فههنا كذلك. قال مولانا تغمده الله بالرحمة: وعندي أن ما ذكرنا في «الجامع» أصح. ولو أن رجلين شهدا أن امرأة أبيهما ارتدت عن الإسلام، والمرأة تنكر ذلك، فإن كانت أمّهما حية وهي في نكاح أبيهما لا تقبل الشهادة ادعى الأب ذلك أو جحد، أما إذا ادعى فلأن هذه الشهادة وقعت للأب، بيانه: أن الأب لما ادعى الردّة عليها، فقد ادعى سقوط جميع الصداق إن لم يكن مدخولاً بها، وسقوط نفقة العدة إن كانت مدخولاً بها، إلا أنه لا يصدق على ذلك إذا لم تصدقه المرأة فهما بهذه الشهادة يثبتان ذلك. وأما إذا كان الأب يجحد، فلأن هذه الشهادة وقعت للأم لخلوص الفراش لها، وهذه منفعة لا يشوبها ضرر فمنعت قبول الشهادة ادعت الأم ذلك أو جحدت. وإن كانت أمهما ميتة، فإن ادعى الأب ذلك لا تقبل شهادتهما، وإن جحد تقبل؛ لأنه لا منفعة للأمّ في هذه الشهادة، فتعين جانب الأب، وفي جانب الأب يترجح النفع بالدعوى والضرر بالجحود. وإن شهدا أن أباهما خالع أمهما على صداقها، فإِن ادعى الأب ذلك لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما يشهدان لأبيهما، لأن الطلاق قد وقع بإقرار الأب، بقيت هذه الشهادة لبراءة الأب عن الصداق كلاً أو بعضاً، فلا تقبل. وإن جحد الأب ذلك، فإِن كانت الأم تدعي ذلك لا تقبل شهادتهما، وإِن كانت تجحد تقبل شهادتهما لما ذكرنا. وإن شهدا أن أباهما خالع امرأته وأنها ميتة، فإن كان الأب يدعي لا تقبل شهادتهما، وإن كان يجحد تقبل شهادتهما. ولو أن رجلاً تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول بها، ثم تزوجها مرة أخرى، فشهد ابناه أنه كان طلقها ثلاثاً في (124ب4) النكاح الأول، وتزوجت ثانياً قبل أن تتزوج بزوج آخر، فهذه المسألة أيضاً لا تخلو من الوجوه التي ذكرناها من دعوى الأب أو إنكاره، ومن دعوى المرأة أو إنكارها، فإن صدقته المرأة ثبتت الفرقة وسقط جميع المهر بتصادقهما، فوقع الاستغناء عن الشهادة، وإن أنكرت المرأة لا تقبل شهادتهما؛ لأن هذه الشهادة واقعة للأب. بيانه: أن الحرمة وإِن ثبتت بإقرار الزوج إلا أنه لزمه نصف المهر؛ لأن النكاح صحيح بظاهر الحال، فالفرقة فيه بالطلاق قبل الدخول توجب نصف المهر، فلو قبلنا شهادتهما سقط المهر كله؛ لأن النكاح في المطلقة ثلاثاً لا يوجب المهر، إلا إذا اتصل به الدخول، ولم يوجد الدخول، فكانت هذه شهادة للأب من هذا الوجه، فلم يقبل. وإن أنكر الأب تقبل شهادتهما ادعت المرأة بذلك أو أنكرت؛ لأنه إن كان في هذه الشهادة منفعة الأب لسقوط جميع الصداق، ففيه ضرر له أيضاً بزوال ملك النكاح، وقد بينا أن فيما يدور بين النفع والضرر تعتبر الدعوى والإنكار، وعند الإنكار يترجح جانب الضرر، فكانت شهادة على الأب، وسقط جميع الصداق عنه ضرورة قبول الشهادة على الطلاقات. ثم في هذه المسائل إنما قلنا: (تقبل) شهادتهما وإن لم يسبق دعوى أحد ما شهدا به؛

لأنه شهادة على تحريم الفرج، وإنه حق الله تعالى، والشهادة في حقوق الله تعالى تقبل حسبة من غير دعوى. ولو أن أمة لرجل شهد ابناها وهما حران مسلمان أن مولاها أعتقها على ألف درهم، فإن ادعى المولى ذلك، فالعتق واقع بإقراره، فتمحض هذا شهادة على أمهما بالمال فقبلت، وإن أنكر المولى، فإِن ادعت لا تقبل شهادتهما وإِن أنكرت تقبل شهادتهما؛ لأن العتق على مال دار بين الضرر والنفع في زوال الملك والرق عنها والضرر في لزوم المال عليها، فيعتبر جانب النفع عند الدعوى، فتكون الشهادة لها، ويعتبر جانب الضرر عند الإنكار، فتكون شهادة عليها فتقبل، أكثر ما فيه أن هذه الشهادة خلت عن الدعوى، إلا أن الشهادة على عتق الأمة تقبل من غير الدعوى، ومتى ثبت العتق وجب المال؛ لأنه بيع المعتق. وإِن شهد ابنا المولى بذلك، فإن ادعى المولى لا تقبل؛ لأن العتق يقع بإقراره والشهادة بالمال شهادة لأبيهما، وإن أنكر المولى قبلت شهادتهما؛ لأن العتق دائر بين الضرر والنفع في حق المولى، فيترجح جانب الضرر بالإنكار في حقه، فكان شهادة على الأب. ولو كان مكان الجارية غلاماً، وقد شهد ابنا المولى بذلك، وأنكر المولى والغلام ذلك لا تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن هذه شهادة على عتق، وعنده الدعوى من العبد على شرط قبول الشهادة، وعندهما تقبل الشهادة؛ لأن دعوى العبد عندهما ليس بشرط. ولو شهد رجلان أن أباهما باع هذه الجارية من هذا الرجل، أو قال هذا العبد، فأعتقه المشتري هذا، فإن ادعى الأب ذلك لا تقبل شهادتهما؛ لأن البيع دائر بين الضرر والنفع في حق المولى، لما فيه من زوال ملكه إلى خلف، فيعتبر النفع عند الدعوى، فكانت هذه شهادة لأبيهما، ولكن يعتق العبد؛ لأن البائع مالكه ظاهراً وقد أضاف المعتق بإقراره إلى من زعمه مالكاً، فنفذ إقراره عليه، والولاء موقوف؛ لأنه تعذر إثباته من جهة المشتري لإنكاره ومن البائع؛ لأنه أقر بالعتق على غيره، ويعتبر قبول الشهادة على الولاء على المشتري؛ لأنه لا بد لذلك من إثبات الشراء منه، وفي ذلك نفع للبائع، فلا تقبل شهادة ابنيه في ذلك. وإِن أنكر الأب وادعت الجارية وأنكر المشتري أيضاً أو هو غائب، فشهادتهما جائزة؛ لأن عند الإنكار يترجح جانب الضرر، فكانت شهادة على أبيهما فقبلت، ولا يقال بأنه قضاء على الغائب بالشراء أو للغائب، أو قضاء بالشراء عند حضرة المشتري من غير دعوى، والبينة في الشراء لا تقبل من غير دعوى الخصم؛ لأنه من حقوق العباد؛ لأنا نقول هذه البينة قامت بعد دعوى صحيحة من خصم، وهي الجارية؛ لأنها ادعت العين من جهة المشتري، ولا يتوصل إلى إثبات العتق لنفسه، فكأن هذه البينة قائمة من خصم على خصم فقبلت وقضي بالشراء؛ لأنه يثبت بيعاً للعتق، ووجب للبائع الثمن على المشتري ضرورة إثبات الشراء.

وفي كتاب «الأقضية» : ذكر ابن سماعة عن محمد رحمه الله في رجل ضمن لرجل ما باع فلاناً من شيء، فقال الطالب: قد بايعت فلاناً بيعاً بألف درهم، فجحد الضامن ذلك، فشهد عليه ابناه أنه قد بايعه بيعاً بألف درهم، فإن شهادتهما جائزة؛ لأن هذه شهادة على أبيهما فقبلت، وكذلك إذا جحد الضامن، فشهد ابناه أن فلاناً أمرك أن تضمن عنه وأنك ضمنت عنه لفلان ما باعه من شيء، وقد باعه بيعاً بألف درهم، قال: شهادتهما جائزة، ويؤخذ بالألف ويرجع بها على الذي أمره أن يضمن عليه، فقد جوزت شهادتهما على الضمان وعلى الأمر، حتى قال: يؤخذ بالألف ويرجع بها على الذي أمره أن يضمن عنه. أما قبول الشهادة على الضمان فظاهر، وأما قبول الشهادة على الأمر ورجوع الأب على الأمر بالضمان مشكل، أما الشهادة على الأمر فوجهين: أحدهما: أن الشهادة في حقوق العبد لا تقبل إلا بعد سابقة الدعوى ولم يوجد؛ لأن الضامن يجحد الأمر والضمان جميعاً، ولا حق للطالب في الأمر ليدعيه، فكيف تقبل هذه الشهادة. والثاني: أن الشهادة على الأمر شهادة لأبيهما؛ لأن فيه منفعة خالصة من غير شوب مضرة، فإنه يرجع بما يؤدي على الأمر والشهادة لأبيهما لا يجوز أن تقبل. وأما رجوع الأب على الذي عليه الأصل مشكل؛ لأن في زعمه أنه لا رجوع له على الذي عليه الأصل الجواب عنه: أما الأول فنقول هذه شهادة بعدَ دعوى صحيحة من الطالب، فإنه يدعي الضمان بأمر، وهو أحد نوعي الضمان، وقد أثبت ذلك بهذه البينة. قوله: لا حق للطالب في الأمر، فكيف يعتبر دعواه، قلنا: ليس كذلك، بل للطالب فيه حق، فإنه لو ثبت الأمر بتساهل الكفيل في الأداء لأنه إنما يؤدي بعوض، وإذا لم يثبت الأمر يؤدي بغير عوض، فيتعاسر في المدا فثبت أن له حقاً في الكفالة والأمر جميعاً، فصحت دعواه وقبلت هذه البينة لما قلنا إنهما شهادة على أبيهما. قوله: بأن الشهادة بالأمر شهادة لأبيهما، فإنه يرجع بما يؤدي على الأمر، قلنا: فيه روايتان، في رواية: لا يرجع به عند الأداء، ووجهه ما ذكرنا في الإشكال، وعلى هذه الرواية يرجع به، ووجه قبول هذه الشهادة أن هذه شهادة على الأب؛ لأن الكفالة بأمر دائر بين الضرر والنفع من حيث إنه يجب عليه الأداء من ماله فيه ضرر، ومن حيث إنه يستوجب الرجوع به على الأصيل فيه نفع، ولكن قد ذكرنا أن المنفعة المجحودة لا عبرة لها، وهي مجحودة ههنا، فلهذا اعتبرناها شهادة على أبيهما. وقوله: بأن من زعمه أنه ليس له حق الرجوع على الأصيل، فكيف يرجع إليه، قلنا: صار مكذباً في زعمه، حيث قضى القاضي بخلافه عليه، فلا يعتبر زعمه أصلاً. قال في كتاب «الحوالة» : رجل كفل عن رجل بمال بأمره، فشهد على ذلك ابنا المطلوب الذي عليه الأصل، فهو جائز ويؤاخذ الكفيل بالمال، وإذا أدى يرجع على الذي عليه الأصل، أما جواز شهادتهما في حق الكفيل، فلأنهما أجنبيان عنه غير متهمين في حقه، فقبلت شهادتهما، وأما في حق الأصيل بالرجوع عليه؛ لأنها شهادة على أبيهما، فقبلت.

ولو كان الشهود أبناء الكفيل، فإِن ادعى الكفيل ذلك فقد ثبتت الكفالة بإقراره، فوقع الاستغناء عن الشهادة، وإنما يحتاج إلى الشهادة لإثبات الأمر، وإنه شهادة لأبيهما من حيث إنه يثبت له حق الرجوع على الذي عليه الأصل، فلم تقبل. وإن جحد الكفالة قبلت شهادتهما، لأنها شهادة على أبيهما، فإِن أدى رجع على الأصيل؛ لأن الثابت بشهادتهما أحد نوعي الكفالة، وهو الكفالة بأمر، وقد ثبتت شهادتهما؛ لأنها عليه؛ لأن هذه الكفالة وإن ترددت بين الضرر والنفع في حقه باعتبار حق الرجوع عند الأداء، ولكنها لما كانت مجحودة لم يعتبر النفع، فبقي شهادة على أبيهما فقبلت لهذا. وإذا ثبتت الكفالة والأمر استحق الرجوع لما ذكرنا من الأمثلة. قال ابن سماعة عن محمد رحمه الله في رجل ادعى أن له على رجل ألف درهم، وضمنها عنه ثلاثة نفر، قال ابن سماعة: وكل واحد منهم كفيل ضامن عن صاحبه بأمره، فأخذ الطالب أحد الضمناء الثلاثة، فشهد عليه ابنا الضامنين الأخيرين أن لهذا الطالب على فلان ألف درهم، وأن أبوينا وهذا ضمنوا عنه لهذا بأمره، وكل واحد منهم ضامن عن صاحبه بأمره، وأبواهما غائبين، فإني أقضي الساعة على هذا الضامن الحاضر بألف درهم، وإذا (125أ4) أدى رجع بها على الذي عليه الأصل؛ لأنه لا تهمة في شهادتهما لا على الحاضر ولا على الأصيل؛ لأنهما أجنبيان عنه لا ينتفعان بشهادتهما بوجه ما، فلا يكونان متهمين فيها، فقبلت شهادتهما ثبت المشهود به، والمشهود به الكفالة بأمره، وإنه يقتضي الرجوع عند الأداء، فإذا أدى رجع بها على الأصيل، وأما شهادتهما على أبويهما بالضمان، فحكمها موقوف؛ لأن الكفالة بأمرهِ مترددة بين النفع والضرر، وإنما يترجح أحدهما على الآخر بالدعوى أو الإنكار، فيوقف إلى حضورهما حتى يُنظر أيقران بذلك أم ينكران؟ فإذا حضرا فإن جحدا ذلك قبلت شهادتهما؛ لأنه يرجح جانب الضرر، فكانت شهادة عليهما وإن ادعيا لم تقبل؛ لأنه ترجح جانب النفع في شهادتهما، فكانت شهادة لأبيهما فلا تقبل، ولكن بقيت الشهادة على الضامن الثالث مقبولة لخلوها عن التهمة، فإن أداها الثالث وأراد أن يرجع على أبوي الشاهدين بحصتهما كان له ذلك؛ لأنهما قد أقرا بالضمان والأمر، وإقرارهما حجة عليهما، فإن رجع عليهما لم يرجعا على الأصيل بشيء إذا جحد الأصيل أن يكونا ضمنا عنه بأمره؛ لأن إقرارهما بالضمان صح؛ لأنه إقرار على أنفسهما، فأما بالأمر فلأنه إقرار على الأصيل، ولا يجوز أن يكون الإقرار حجة على غير المقر، وكذلك إذا ضمنهما الطالب لم يرجعا على الأصيل، ولا على الضامن الثالث إذا جحد الأمر؛ لأن ضمانهما إنما ثبت بالإقرار، وإنه حجة قاصرة، فلا يعدوهما، فلا يثبت الأمر به، والرجوع من حكم الأمر بالضمان. قال ابن سماعة عن محمد رحمهما الله في رجل اشترى من رجل عبداً فأعتقه، فاشترى ذلك العبد عبداً فأعتقه، فاشترى ذلك العبد عبداً فأعتقه فمات المولى الأسفل، والأوسط والأعلى حيان، فأقام رجل البينة أن الميت عبده، وأراد أخذ تركته، فشهد ابنا المولى الأعلى أن الأوسط اشتراه من فلان وهو يملكه، فأعتقه جازت شهادتهما؛ لأن

هذه الشهادة إنما قامت من حيث الحقيقة لإثبات الولاء لمولى أبيهما دون أبيهما فقبلت، أقصى ما في الباب أنه يثبت نسبة الولاء إلى أبيهما إذا ثبت الولاء لمولى أبيهما، ولكن المعتبر في رد الشهادة وقبولها النظر إلى ما وقعت عليه الشهادة دون غيرهما، وباعتباره ما قامت هذه الشهادة لأبيهما فقبلت. ألا ترى أنه إذا شهدا لأخيه بمال تقبل شهادته، والمشهود به إذا ثبت للأخ ثبت للأب فيه حق بملك، وشهادته لأبيه غير مقبولة، لكن لما كان نفس المشهود به حق الأخ دون الأب تقبل شهادته، وإن كان يفضي إلى إثبات الحق للأب، كذا هذا. وإن كان المولى الأوسط مات أيضاً ولم يترك وارثاً إلا المولى الأعلى؛ لأن بموت الأوسط أنجز الولاء إلى الأعلى فقد شهدا لأبيهما بالميراث فلا تقبل، ولا تعتبر الدعوى والإنكار من المولى الأعلى؛ لأن هذه شهادة بما ينفعه من كل وجه، وإنما يعتبر الإنكار والدعوى فيما يدور بين الضرر والنفع. ولو مات المولى الأوسط ثم مات المولى الأسفل، ولم يترك وارثاً إلا ابنتاً له والمولى الأعلى، فادعى رجل أن المولى الأسفل كان عبداً له، وأقام البينة وادعت الابنة أنه كان حراً، وأن المولى الأوسط اعتقه وهو يملكه، والمولى الأعلى ينكر ذلك، فشهد ابنا المولى الأعلى أن الأوسط اشتراه من فلان وهو يملكه ثم أعتقه، فإني أجيز شهادتهما وأجعله حراً من المولى الأوسط، ويكون الميراث بين ابنته والمولى الأعلى نصفان، وإنما شرط إنكار الأب لجواز شهادتهما؛ لأن عند إنكاره تمحض هذه الشهادة للأبنة فوجب قبولها. وإذا قضى بها ثبت الولاء للمولى الأعلى بواسطة الأوسط، فكان الميراث للابنة ونصفه للمولى الأعلى بالعصوبة من جهة الولاء. واستشهد لهذا برجل شهد عليه ابناه أن هذا ابنه وهو ينكر ذلك، إني أجيز شهادتهما لأن شهادتهما؛ قامت على الأب، وإذا جازت شهادتهما ثبت نسبه منه، فإن مات هذا الابن ورثه منه وإن أنكر ثبوته؛ لأنه صار مكذباً بقضاء القاضي، فلا يبقى لزعمه عبرة. وإذا اشترى الرجل عبداً وقبضه ودفع الثمن، فادعى العبد أن البائع كان اعتقه قبل أن يبيعه منه، وشهد له بذلك ابنا البائع، فإني لا أعجل بعتق العبد حتى يقدم البائع وأسأله؛ لأن فيه منفعة للبائع، من حيث ثبوت الولاء له، ومضرة له، فإنه يسترد الثمن من يده لبطلان البيع، وقد ذكرنا أن شهادة الابن فيما يتردد بين الضرر والنفع يتوقف على إنكار الأب. وإِذا حضر وأنكر العتق قبلت شهادتهما وبطل البيع؛ لأنه ظهر أنه باع الحر، ووجب على البائع رد الثمن؛ لأنه قبضه على جهة الوجوب بحكم البيع، وقد ظهر أنه لم يكن فيرده عليه، وليس لأحد أن يقول: ينبغي أن يقضي القاضي بعتق العبد للحال؛ لأن الحال لا يخلو إما أن يكون البائع مقراً بالعتق أو كان جاحداً له، إن كان جاحداً له كانت البينة مقبولة عليه، فيقضي القاضي عليه بالعتق بالبينة، وإن كان مقراً فالقاضي يقضي عليه بإقراره، فجواز القضاء بالعتق عليه متيقن؛ لأنا نقول: حكم الإقرار يخالف حكم البينة، فيتوقف القاضي في القضاء بالعتق إلى حضرة البائع ليعلم أنه يقضي بالإقرار أو بالبينة.

قال في كتاب «الأقضية» رجل عليه مال لرجل شهد ابنا المطلوب أن الطالب أبرأ أبانا عنه، أو احتال به على فلان والطالب منكر، فنقول: لا شك أن شهادتهما بالإبراء لا تقبل؛ لأنهما يشهدان للأب، وأما الشهادة بالحوالة، فإن كانت الحوالة بغير أمر لا تقبل؛ لأنهما شهدا بإبراء الأب بغير عوض؛ لأن الحوالة إذا كانت بغير أمر حتى أدى المحتال عليه المال لا يرجع على الأصيل بشيء، وإن كانت الحوالة بأمر، فقد تردد بين أن تكون شهادة لأبيهما وبين (حيث) أن يرجع المحتال عليه عند الأداء إن لم يكن له على المحتال عليه دين، ويسقط دينه عن المحتال عليه إن كان له دين عليه كانت شهادة على أبيهما، فيعتبر فيه الدعوى والإنكار للرد والقبول، هكذا ذكر في كتاب «الأقضية» : وعندي أن الشهادة لا تقبل في هذه الصورة ادعى الأب أو جحد، إن ادعى فلأن هذه شهادة للأب، وإن جحد فلأن هذه شهادة خلت عن الدعوى. ولو كان المال على غير أبيهما، فشهدا أن الطالب احتال به على أبيهما والطالب ينكر، والمطلوب يدعي، إن كانت الحوالة بغير أمر تقبل شهادتهما؛ لأن هذه شهادة على أبيهما، فإنه لا رجوع له عند الأداء، وإن كانت الحوالة بأمر فقد تردد بين أن تكون شهادة لأبيهما أو على أبيهما، فإن ادعى لا تقبل شهادتهما، وإِن أنكر تقبل. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل باع داراً ولم يقبضها المشتري حتى جاء شفيع الدار وخاصم فيها، فشهد ابنا البائع أن المشتري قد سلم الدار للشفيع بشفعته، ثم اشتراه منه بالثمن لا تقبل شهادتهما، أما على قول من لا يرى بيع العقار قبل القبض، فلأنهما بهذه الشهادة يدفعان خصومة الشفيع عن أبيهما؛ لأن الخصم في الشفعة قبل قبض البائع، ولهذا كانت العهدة عليه. وكذلك لو شهدا أن الشفيع سلم الشفعة في الدار لا تقبل شهادتهما لما ذكرنا، وهذا إذا دعي الأب ما شهدا به، فأما إذا جحد ما شهدا به تقبل شهادتهما، لأنهما يشهدان على الأب بوجوب تسليم الدار إلى المشتري، فكانت شهادة على أبيهما من هذا الوجه، ولو كان المشتري قبض الدار من البائع، ثم شهد ابنا البائع على تسليم المشتري الدار إلى الشفيع بشفعة لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما بهذه الشهادة يريدان تنفيذ العهدة عن أبيهما، فكانا شاهدين لأبيهما، وسواء ادعى البائع ما شهدا به أو جحد ذلك، لأن تسليم المشتري للدار إلى الشفيع محض منفعة في حق البائع، لا يشوبه ضرر. وإِن شهدا أن الشفيع سلم الشفعة في الدار للمشتري تقبل الشهادة؛ لأن هذه الشهادة على الأب بتقريب العهدة إليه. قال في كتاب «الحوالة» : رجلان عليهما مال لرجل أحالا به على غريم لهما، وجحد الطالب الحوالة، فشهد على الطالب ابناه أو أبواه أو أمه أو امرأته قبلت شهادتهم؛ لأن هذه شهادة على الطالب بسقوط مطالبته عن الأولين، فلم تتمكن التهمة في شهادتهم فقبلت. ولو شهد ابنا المطلوبين الأولين، فإن ادعى أبوهما ذلك لا تقبل شهادتهما، وإن

جحدا ذلك تقبل شهادتهما؛ لأنها دائرة في حق أبيهما بين النفع، وهو براءتهما وبين الضرر وهو ثقل الدين لو كان لهما على المحتال عليه دين وثبوت حق الرجوع عليهما، ولو لم يكن لهما عليه دين، فتعتبر فيه الدعوى والإنكار. وأما شهادة ابني المحتال عليه إن ادعى ذلك أبوهما لا تقبل شهادتهما؛ لأنه يدور بين النفع في حق أبيّهما وهو سقوط مطالبة المحتالين عنه، والضرر، فهو يوجه مطالبة المحتال له نحوه، فيعتبر فيه الدعوى والإنكار. وقال محمد رحمه الله في «الجامع» : جارية في يدي رجل ادعى رجل أنه اشترى هذه الجارية من فلان بمائة دينار، وأن فلاناً ذلك اشتراها منك بألف درهم، وقبضها قبل أن تبيعها مني، وأنكر الذي في يده الجارية، والمشتري الأول فشهد ابنا الذي في يديه الجارية بذلك قبلت شهادتهما؛ لأنهما شهدا بمعنى اشتمل على النفع والضرر والمنفعة مجحودة فقبلت (125ب4) . شهادتهما على أبيهما وعلى المشتري الأول بالبيع، وإذا قبلت قضي لصاحب اليد على المشتري الأول بألف درهم، وقضى للمشتري الأول على المشتري الثاني بمائة دينار، وإن كان المولى والمشتري الأول ينكران ذلك بصيرورتهما مكذبين في إنكارهما بالبينة العادلة، وإن كان الذي في يديه الجارية مالك الجارية ظاهراً وقد أقر بكونها مملوكة للمشتري الأخير، فصح إقراره بذلك ولا يقضي للذي في يديه على المشتري الأول بشيء، لأن الشهادة إن لم تقبل خرجت من البين، بقي إقرار الذي في يديه، وإقرار الإنسان حجة عليه، وليس بحجة على غيره ولا يكون لذي اليد أن يحبس الجارية من المشتري الآخر حتى يستوفي الثمن منه سواء ادعى المشتري الآخر أنه قبض الجارية من المشتري الأول وصدقه صاحب اليد في ذلك، أو لم يدع ذلك؛ لأن حق حبس المبيع من حقوق العقد، فإنما يثبت للبائع، أو لمن قام مقام البائع، وذو اليد لم يبع الجارية من المشتري الآخر، وليس هو قائم مقام البائع فيه، فلهذا لا يكون له ذلك، ولا يكون لذي اليد أن يقبض المائة دينار من المشتري الآخر قضاء بدينه الذي وجب له على المشتري الأول في زعم المشتري الآخر ألف درهم، والواجب للمشتري الأول على المشتري الآخر في زعمه مائة دينار، وعند اختلاف الجنس لو وجد عينها عند من عليه الدين أو عند غيره لا يكون له حق الأخذ، فإذا وجد ديناً عند غيره أولى أن لا يكون له حق الأخذ، ولو كان المشتري الآخر ادعى أنه اشتراها بألف وخمسمائة حتى كان الثمنان من جنس واحد والمشتري الأول يجحد ذلك فالذي في يديه الجارية صدق المشتري الآخر فيما قال، فإن ادعى المشتري الآخر أنه قبض الجارية من المشتري الأول بإذنه وصدقه ذو اليد في ذلك، لا يكون لذي اليد أن يحبس الجارية من المشتري الآخر؛ لما قلنا، ولا يعطيه المشتري الآخر من الثمن شيئاً لما ذكرنا أن ذا اليد لم يبعها منه، ولكنَّ المشتري الآخر إن خلى بين المشتري الأول وبين الثمن حتى صار الثمن ملكاً للمشتري الأول بتصادق ذي اليد والمشتري الآخر، كان لذي اليد أن يأخذه، لأنه ظفر بحبس حقه من مال المشتري الأول، وإن لم يكن خلى لا يؤمر المشتري الآخر بالتخلية؛ لأن الحق في ذلك للمشتري الأول وهو ينكر.

ولو أن المشتري الآخر أقر أنه لم يقبض الجارية من المشتري الأول، ففي القياس الجواب كذلك لا يكون لذي اليد أن يحبس الجارية من المشتري الآخر، وفي الاستحسان: يكون له حق حبس الجارية من المشتري الآخر حتى يستوفي منه ألفاً إن كان المشتري الآخر اشتراها بألف أو بألف وخمسمائة. وجه القياس ما مرّ أن الحبس بالثمن من حقوق العقد، فلا يثبت إلا للعاقد، أو لمن قام مقام العاقد ولم يوجد شيء من ذلك في حق ذي اليد، فلا يكون له حق الحبس كما في المسألة المتقدمة. وجه الاستحسان: أن صاحب اليد بائع للجارية من المشتري الآخر من وجه، من حيث إن البيع من المشتري الآخر إنما ظهر بتصديق ذي اليد إياه، فيما إذا ادعياه ليس ببائع لها من وجه حيث إنه لم يجر بينهما بيع حقيقة، ولو كان بائعاً لها من كل وجه، ولم يكن المشتري الآخر قبضها منه كان له حبسها من المشتري الآخر حتى يستوفي الثمن منه سواء باعها بدراهم أو بدنانير، ولو لم يكن بائعاً لها منه من كل وجه لم يكن له حق الحبس من المشتري الآخر، سواء باعها بدراهم أو بدنانير، فإذا كان بائعاً لها من وجه دون وجه عملنا بهما، فمن حيث إنه ليس ببائع لها منه من وجه لا يثبت له حق الحبس إذا كان الثمنان من جنسين مختلفين ومن حيث إنه بائع لها من وجه كان له حق الحبس عند اتحاذ جنس الثمنين عملاً بالدليلين بقدر الإمكان، ولو تصادق ذو اليد والمشتري الأول على شراء المشتري الأول وتسليم الجارية إليه إلا أنهما جحدا شراء المشتري الآخر، فأقام المشتري الآخر أننى ذي اليد، فشهدا له قبلت شهادتهما وثبت البيع الثاني، ثم ينظر: إن كان المشتري الآخر ادعى القبض يأخذ العبد، ولا يكون لذي اليد حق الحبس، وإن لم يدع القبض فإن كان الثمنان من جنسين مختلفين فكذلك الجواب وإن كانا من جنس واحد، ففي القياس الجواب كذلك، وفي الاستحسان: له حق الحبس.b وأصل هذه الجملة ما قال محمد رحمه الله في رجل اشترى جارية وقبضها ونقد الثمن، ثم جاء رجل وادعى على المشتري الأول أنه كان اشتراها بكذا قبل شرائه ولم يقبضها ولم ينقد ثمنها وكذبه البائع وصدقه المشتري المعروف: قضى القاضي بالجارية للذي ادعى الشراء أولاً، ثم إن كان الثمن من جنسين مختلفين لم يملك المشتري المعروف حبسها بالثمن، سواء ادعى المجهول أنه قبضها من البائع بإذنه إلا أنه لم ينقد الثمن فكذلك، وإن ادعى أنه لم يكن قبضها ففي القياس: ليس له حق الحبس، وفي الاستحسان: له ذلك والمعنى: ما مر كذا ههنا. قال: وإذا شهدا أنه أباهما وكَّل هذا الرجل بقبض ديونه بالكوفة، لا يقبل شهادتهما؛ لأنهما بشهادتهما ينصبان من يقوم بحقوق الأب واستيفائه، فكانا شاهدين لأبيهما فلا تقبل شهادتهما، ولكنَّ هذا إذا كان المطلوب يجحد الوكالة، فأما إذا أقر المطلوب بها جازت الشهادة. فرق بين هذه المسألة وبين مسألة ذكرها في كتاب الوكالة: أن من وَكَّل رجلاً بالخصومة في دار بعينها وقبضها وغاب، فشهد ابنا الوكيل أن أباهما وَكَّل هذا الرجل

بالخصومة في هذه الدار وقبضها: لا يقبل شهادتهما، سواء جحد المطلوب الوكالة أو أقر بها. ووجه الفرق أن في مسألة الدين المطلوب إذا كان مقراً بوكالته يجبر على دفع المال بإقراره بدون الشهادة، فإنما قامت الشهادة لإبراء المطلوب عند الدفع إلى الوكيل إذا حضر الطالب وأنكر الوكالة، فكانت هذه شهادة على أبيهما، وشهادة الانسان على أبيه مقبولة، أما في مسألة كتاب الوكالة: المطلوب وإن كان مقراً لا يجبر على دفع الدار إلى الوكيل بحكم إقراره، وإنما يجبر عليه بالشهادة، فكانت هذه الشهادة واقعة لأبيهما فلا يقبل. أصل هذه المسألة: أن من جاء إلى مديون رجل وقال: أنا وكيل فلان بقبض الدين منك وصدقه المديون بذلك يؤمر بتسليم الدين إليه، وإن قال لآخر: أنا وكيلُ فلان بقبض الوديعة منك لا يجبر على الدفع إليه وإن صدقه في ذلك لأن المديون مقر على نفسه، لأنه مقرٌ بحق القبض له في ملكه، فكان إقراراً على نفسه فصح، وفي الوديعة إنما يقر بحق قبض ملك الغير وإقراره على غيره لا يصح. وروي عن أبي يوسف رحمه الله: أن في الوديعة أيضا يجبر المودع على الدفع إلى الوكيل؛ لأنه يقر على نفسه بأن الوكيل أولى منه بقبض العين، وأنه ضامن لهذا العين إذا منعه عن الوكيل، فكان مقراً على نفسه فيصح إقراره عليه، فعلى قياس هذه الرواية: يجب أن يكون الجواب في الوكالة بالخصومة في الدار وفي الدين سواء، هذا إذا كان الموكل هو الطالب، فإن كان الموكل هو المطلوب وقد ادعى الطالب في داره دعوى فشهد ابنا المطلوب أن أباهما وكل هذا الرجل بخصومة، فإن كان الوكيل يجحد الوكالة لا تقبل هذه الشهادة، لأن هذه شهادة خلت عن الدعوى، وبدون الدعوى لا تقبل الشهادة في حقوق العباد، وإن كان الوكيل يدعي الوكالة لا تقبل شهادتهما أيضا، أقر الطالب بالوكالة أو جحدها؛ لأن هذه بينة قامت على غير الخصم، لأن الطالب لا يكون مجبراً على الدعوى، وإن كان هو وكيلاً عن المطلوب كما لا يجبر عند حضرة المطلوب، فلم يكن خصماً في حق إثبات الوكالة، والبينة لا تقبلُ إلا على خصم، ولأنهما بهذه الشهادة ينصبان نائباً عن أبيهما، لأن بإقرار الطالب لا تثبت وكالة الوكيل، وإنما تثبت بالشهادة، فهما ينصبان بشهادتهما نائباً عن أبيهما ليخاصم عنه ويقيم حجة الدفع حتى يستقر ملك ابيهما فيما وقعت فيه الخصومة، فكانا شاهدين لأبيهما، فلا تقبل شهادتهما. وإن شهد ابنا المطلوب على أن فلانا وكّل هذا الرجل بالخصومة مع أبيهما في هذه الدار والطالب غائب، فإن جحد الأب الوكالة قبلت هذه الشهادة، لأنه شهادة على أبيهما، لأنه يستحق الجواب عن الخصومة عليه بدعواه، والشهادة على أبيهما مقبولة. وإن أقر الأب بالوكالة لا تقبل شهادتهما، لأن هذه شهادة خلت عن الدعوى، فإن الوكيل لا يجبر على الدعوى كالموكل، فلا يدعي المطلوب بهذه الوكالة شيئا يلزم الوكيل فلم يصح الدعوى.

وذكر ابن سماعه في «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله: لو أن رجلاً ادعى على غائب دعوى زعم أن هذا الرجل وكيله في الخصومة، فشهد ابنا الغائب أن أباهما وكل هذا الرجل بالخصومة مع المدعي إن كان الوكيل منكراً للوكالة فشهادتهما جائزة، لأن هذه شهادة على أبيهما، لأن الدعوى (126 أ4) وقعت على الأب. بيانه: أن المدعي بإثبات وكالة الحاضر يريد إلزام الحق على الغائب؛ لأنه يتضرر به من حيث يلزمه الحق عند إقامة البينة على الوكيل في غير حضرته، والشهادة على أبيهما مقبولة، فهو معنى قولنا: إن الدعوى وقعت على الأب، فكانت الشهادة واقعة على الأب، وإن كان الوكيل يدعي الوكالة والطالب يجحد لا تقبل شهادتهما، لأن هذه شهادةٌ قامت لأبيهما بإثبات من يخاصم عنه ويدفع عنه ويقيم حجة الدفع فلا تقبل. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: إذا شهد شاهدان أن فلاناً وكّل أباهما ببيع هذا العبد، فباعه من رجل والمشتري يجحد والأب يدعي لم أقبل شهادتهما، وإن جحد الأب البيع وادعاه المشتري قبلت شهادتهما، لأن البيع دائر بين الضرر والنفع، لأنه يثبت حقوقاً له وحقوقاً عليه، فيعتبر فيه الدعوى والإنكار. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله في رجلين شهدا أن الميت أوصى إلى أبينا وورثة الميت يقرون بذلك أو ينكرون، فإن كان أبوهما يدعي الوصاية لا تقبل شهادتهما، وإن جحد الوصاية قبلت شهادتهما؛ لأن الوصاية تتضمن أحكاماً على الوصي والموصى، لأنها تفيد ولاية التصرف في مال الميت وإنها للوصي وتفيد رجوع العهدة إليه ولزوم أمر المدعى عليه من يتعمد وصاياه وقضاء ديونه، ويوجه المطالبة بتلك الحقوق عليه ومن هذا الوجه عليه، فيعتبر قيمة الدعوى والإنكار. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله قال: وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا شهد ابنا الميت أو رجلان أوصى لهما الميت بوصية أو رجلان للميت عليهما دين أو رجلان لهما على الميت دين أن الميت أوصى إلى هذا الرجل، والموصى إليه يدعي الوصية، فالشهادة جائزة. يجب أن تعلم جنس هذه المسائل خمسة أقسام: الغريمان اللذان للميت عليهما دين إذا شهدا بالوصاية أو الوصية أو الوارث إن كان الخصم جاحداً لا تقبل شهادتهما، إما لأن هذه الشهادة خلت عن الدعوى في حقوق العباد، وإما لأنهما يثبتان لأنفسهما من يحصل لهما البراءة لأداء الدين إليه، فكانا متهمين في هذه الشهادة، فلا تقبل شهادتهما، وإن كان الخصم يدعي ذلك قبلت شهادتهما سواء كان الموت ظاهراً أو لم يكن، أما إذا كان الموت ظاهراً فلأنه زال ملك الموت بالموت وانتقل إلى الوارث، فقد أقر بهذه الشهادة أن حق القبض لهذا المدعي بحكم الوصاية أو الوراثة، فصح إقراره على نفسه، وأما إذا كان الموت غير ظاهر، فلأنهما يقولان: إن رب الدين قد مات، فإن الدين الذي علينا حقك وإن ولاية الاستيفاء لك، وهذا إقرار منهما على أنفسهما لأن الدين إنما يقضى من مال المديون، فصح إقراره بما عليه، فإذا استوفى منهما، فإن ظهر أنه ميت فقد

تم الاستيفاء، وإن ظهر أنه حي استرد ما دفع إليه. وأما الغريمان اللذان لهما على الميت دين إذا شهدا بالوراثة والوصاية أو الوصية، فان كان الموت غير ظاهر لا تقبل شهادتهما لأنهما يريدان إثبات الموت ليحل الدين في التركة، وفي ذلك نفع لهما فلا تقبل شهادتهما، فإن كان الموت ظاهراً فإن كان المشهود له لا يدعي، فكذلك لا تقبل شهادتهما؛ لأن الشهادة في حقوق العباد بدون سابقة الدعوى، ولأنهما يثبتان خليفة للميت يمكنهما مطالبته بإيفاء الدين، ولهما فيه منفعة ظاهرة، ولا تقبل شهادتهما لما ذكرنا من تمكن التهمة في شهادتهما؛ لأنهما ينصبان لأنفسهما بهذه الشهادة خصماً يطالبانه بإيفاء الدين. وفي الاستحسان: تقبل شهادتهما؛ لأن الموت إذا كان ظاهراً كان للقاضي ولاية نصب الوصي ليقوم بما هو من حقوق الميت نحو قضاء الديون وتنفيذ الوصايا وما أشبه ذلك، إلا أن القاضي يحتاج إلى التعيين، فمتى شهدا بوصايته فقد كفياه مؤنة التعيين، فتقبل شهادتهما، وبه ظهر انتفاء التهمة عن شهادتهما من هذا الوجه، بخلاف ما إذا كان الموصى لا يدعي ذلك؛ لأنه ليس للقاضي ولاية نصب الإنسان وصياً على كره منه؛ فإذا كان لا يدعي الإيصاء لو قضى القاضي عليه إنما يقضي بشهادتهما، فيحصل المنفعة للشاهدين بشهادتهما على ما مر، وأما الوارثان إذا شهد للموصى إليه وكان الموت غير ظاهر لا يقبل شهادتهما سواء كان المشهود له طالباً بذلك أو كان جاحداً؛ لأنهما يثبتان لأنفسهما وجوب الميراث بالموت وينصبان لأنفسهما من يقوم بحقوقهما، وعلى التصرف لهما فقد جرّا إلى أنفسهما مغنماً فلا تقبل شهادتهما، وإن كان الموت ظاهراً وكان المشهود له مخالفاً لذلك يقبل ذلك استحساناً لما مر: أن للقاضي ولاية نصب الوصي، لكنه يحتاج إلى التعيين فقد تحملا عنه مؤنة التعيين فيقبل شهادتهما، بخلاف ما إذا شهدا بالوكالة حالة حياة الأب، إذ ليس للقاضي أن ينصب عنه وكيلاً في حياته، فلو نصبه نصبه بشهادتهما وهما يشهدان لأبيهما، وبخلاف ما إذا لم يكن ظاهراً، فليس للقاضي أن ينصب عنه وصياً، فلو نصبه، نصبه بشهادتهما، وهما يشهدان لأبيهما فلا تقبل شهادتهما، وأما الموصى إليهما إذا شهدا لوصي آخر معهما، فإن كان الموت غير ظاهر لا تقبل الشهادة؛ لأنهما يثبتان حلول الوصاية بالموت ويثبتان عوناً معهما فلا تقبل شهادتهما، وإن كان الموت ظاهراً وكان المشهود له طالباً لذلك تقبل شهادتهما استحساناً، لأنهما يثبتان بشهادتهما، إلا ما كان للقاضي أن يفعله بدون شهادتهما، وهو نصب الوصي إذا أحس بخلل، وإذا ذكروا وصاية آخر فقد نسبوا أنفسهم إلى العجز، حيث لم يكتف الميت بهما وصياً، فيقبل شهادتهما. وأما الموصى لهما إذا شهدا بالموصى إليه، فهو على الأقسام التي ذكرناها، فإن كان الموت ظاهراً، والمشهود له يطلب ذلك قبلت بشهادتهما، وإن كان الموت غير ظاهر لا تقبل شهادتهما، لأنهما شهدا بحلول حقهما بالموت وأثبتا للميت ما يمكنهما من

الفصل السابع: فيما يجوز من الشهادات وما لا يجوز

مطالبته بالوصية، فكانا متهمين فيه فلا يقبل. وإن كان المشهود له طالباً لذلك لا تقبل شهادتهما في الفصول كلها، لانعدام الشهادة فيما هو حقوق العباد. الفصل السابع: فيما يجوز من الشهادات وما لا يجوز قال محمد رحمه الله: رجلان في أيديهما مال وديعة لرجل، فادعاه رجل فشهد المودعان بذلك جازت شهادتهما. وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا تجوز شهادتهما؛ لأن بقبول الوديعة صارا مقرَّين بالملك للمودع، فكانا متناقضين في أن هذا العين ملك المدعي، فيطلب شهادتهما لمكان التناقض. وجه ظاهر الرواية أن هذه شهادة خلت عن التهمة؛ لأنها شهادة للغير من كل وجه، وليس فيهما جرُّ منفعة إلى الشاهد، ولا دفع مغرم عنه، وشهادة العدل إذا خلت عن التهمة، فالأصل فيها القبول، وما يقول بأن بقبول الوديعة صار مقراً بالملك للمودع هذا ممنوع؛ فإن الإيداع كما يكون من المالك يكون من نائب المالك، فلم تنتف جهة النيابة ههنا إذ لم يمكن للمودعين أن يقولا: قبلنا الوديعة من فلان، إلا أنه كان نائبا عن هذا المدعي في الإيداع، ومهما أمكن التوفيق لا يحمل على وجه التناقض، ولئن سلمنا أن قبول الوديعة إقرارٌ بالملك للمودع لكن هذا ليس بإقرار مفصح به، بل هو إقرار في ضمن الوديعة، وقد يطلب الوديعة بهذه الشهادة، فيبطل ما ثبت في ضمنه، ولو أن المدعي أقام شاهدين سوى هذين المودعين، ثم شهد المودعان على إقرار المدعي أن هذا العين للمودع لا تقبل شهادتهما، سواء كانت الوديعة قائمة أو مستهلكة إن كانت قائمة؛ لأنهما بهذه الشهادة يجران إلى أنفسهما مغنماً وهو.... يدهما على هذا المال وإن كانت مستهلكة لأنهما يدفعان بهذه الشهادة عن أنفسهما مغرماً، لأنه ظهر أنهما كانا مودعا الغاصب والمودع الغاصب ضامن، فهما بهذه الشهادة يبرآن أنفسهما عن الضمان بخلاف المسألة الأولى، لأن هناك المودعان بشهادتهما يبطلان يد أنفسهما إن كانت الوديعة قائمة، ويوجبان الضمان على أنفسهما إن كانت الوديعة مستهلكةً، ولو أنهما كانا ردا الوديعة على المودع ثم شهدا على إقرار المودع أن الوديعة خرجت عن أيديهما بالرد ولا يبرآن ذمتهما عن الضمان لبراءتها عن الضمان بالرد، لأن مودع الغاصب يبرأ بالرد على الغاصب. وفي «المنتقى» وإذا شهد المودع أن الذي أودعه أقر أنه عبد جازت شهادته، وكذلك الجارية؛ لأنه لم يشهد على الوديعة والعارية بعينها، ولو شهدا أن الذي استودعها أو أعارها باعها من هذا المدعي لم تجز شهادتهما، لأنه يبطل سبيل رب الوديعة عليه، حتى لا يجوز دفعها إليه، وفيما إذا شهدا على إقرار المودع أنه عبد ما أبطلا سبيله: (126ب4) لأن العبد يأخذها ويبرأ بالدفع إليه، وإذا كان العبد وديعة في يدي الرجلين

شهدا أن المولى كاتبه أو دبّره أو أعتقه والعبد يدعي ذلك جاز، ولا يشبه هذا البيع؛ لأن العتق خروج عن ملك إلى غير ملك. قال في «الجامع» : رجلان ارتهنا من رجل غلاماً بألف درهم لهما عليهما، ثم ادعى رجل أن الرهن له، وشهد له المرتهنان بذلك جازت شهادتهما؛ لأنهما لم يشهدا لأنفسهما، بل شهدا على أنفسهما بإبطال اليد والحبس، ولم يصيرا متناقضين أيضاً؛ لأن قبول الرهن لا يكون إقراراً بالملك للأمن، لأن الرهن كما يكون من المالك يكون من غير المالك، بأن يستعير رجل من آخر عيناً ليرهن بالدين. ولو شهد المرتهنان على إقرار المدعي أن العبد للراهنين والعبد قائم في يده أو هلك، لا يقبل شهادتهما؛ لأنهما يدفعان عن أنفسهما مغرماً، وهو: الضمان إن كان قد هلك، ويجران إلى أنفسهما مغنماً وهو تقرير اليد التي هي حقهما، وإن كانا قد ردا الرهن إلى الراهن تقبل شهادتهما، ولو أنكر المرتهنان ما ادعاه المدعي وشهد به الراهنان لا تقبل شهادتهما على المرتهنين، لأنهما بعقد الرهن أوجبا حقاً للمرتهنين في المرهون، وإذا شهدا أنه ملك المدعي فقد سعيا في نقض ما تم بهما، فلا تقبل شهادتهما، بخلاف المرتهنين حيث تقبل شهادتهما وإن صارا ساعيين في نقض ما تم بالإنسان، إنما يمنع قبول الشهادة إذا كان لا يملك البعض إلا بالشهادة، والمرتهن يملك النقض من غير رضا الراهن بالرد، إذ الرهن من جانب المرتهن غير لازم فلا يمنع قبول الشهادة، بخلاف جانب الراهن، وإذا لم تقبل شهادة الراهنين على المرتهن ضمن الراهنان قيمة العبد للمرعي؛ لأنهما لما شهدا للمدعي فقد صارا مقرين أنهما كانا غاصبين لهذا العبد وقد عجزا عن رده إلى المدعي لحق المرتهنين فيضمنان القيمة. ولو ارتهن رجلان من رجل جارية قيمتها ألف درهم بألف درهم وقبضاها، فماتت في أيديهما ثم ادعاها رجل، فشهد المرتهنان أنها كانت لهذا المدعي لا تقبل شهادتهما، لأنهما بشهادتهما يجران إلى أنفسهما مغنماً، فإنهما صارا مستوفين دينهما بالهلاك، وبهذه الشهادة يعيدان الدين على الراهن بعدما سقط من حيث الظاهر، إلا أنهما يضمنان قيمتها للمدعي؛ لأنهما أقرا أنهما كانا غاصبين للجارية وقد عجزا عن رد الجارية، فكان عليهما قيمة الجارية، بخلاف ما لو شهد المرتهنان بذلك حال قيام الرهن، حيث تقبل شهادتهما؛ لأنهما بشهادتهما لا يعيدان ديناً على الراهن بعد السقوط؛ لأن الدين في ذمة الراهن قبل هلاك الرهن وإنما يسقط بالهلاك، ولا يحولان ضماناً وجب عليهما للراهن إلى المدعي، لأن الرهن مضمون عليهما بالدين لا بالقيمة، وبشهادتهما لا يتحول ضمان الدين إلى المدعي بل تجب عليهما القيمة للمدعي على اعتبار الهلاك، ويسقط ملك اليد الثابت لهما، فكانا جارَّين إلى أنفسهما مغرماً لا مغنماً. رجلان غصبا من رجل عبداً وثبت ذلك عند القاضي بإقرارهما أو ببينة قامت عليهما، ثم ادعى رجل آخر العبد المغصوب، وشهد له الغاصبان بذلك، فإن شهدا بعدما رد المغصوب قبلت شهادتهما لخلو شهادتهما عن المناقضة والتهمة، أما المناقضة

مظاهر، وأما التهمة: فلأنه ليس فيها جر مغنم، ولا دفع مغرم لبراءة الشاهدين عن الضمان بالرد عن المغصوب منه. ولو شهدا والعبد في أيديهما لا تقبل هذه الشهادة، لتمكن التهمة في هذه الشهادة؛ لما فيها من تحويل ضمان الرد إلى غير المغصوب منه، وللشاهدين في ذلك فائدة للتفاوت بين الناس في المطالبة والخصومة. وكذلك لو شهدا بعد هلاك المغصوب في أيديهما لا تقبل شهادتهما، سواء قضى القاضي بالقيمة أو لم يقض، وسواء دفعا القيمة إلى المغصوب منه أو لم يدفعا، أما قبل القضاء فلتحويلهما ما وجب عليهما من الضمان للمغصوب منه إلى المدعي، ولهما فيه فائدة على ما مر، فكانت في هذه الشهادة نوع تهمة، وأما بعد القضاء قبل دفع القيمة، فلهذه العلة ولعلة أخرى: وهي أن الشاهدين عند قضاء القاضي ملكا العبد بمقابلة الضمان، فصار من حيث الحكم كأنهما اشتريا العبد، ولو صارا مشتريين للعبد حقيقة ثم شهدا بالعبد للمدعي لا تقبل شهادتهما، فكذا إذا ثبت بينهما بيع حكمي، وأما بعد دفع القيمة فللعلة الثانية. ثم قال: وكذلك العرض وكل دين فشهادتهما في ذلك باطلة قضياه أو لم يقضيا، وصورته: إذا شهد المستقرضان أن ما أقرضهما المقرض كان للمدعي لا تقبل شهادتهما، أما قبل قضاء الدين فلوجهين، أحدهما: أنهما يحولان ما وجب عليهما من الضمان للمقرض إلى المدعي، والثاني: أن الاستقراض بدأ حقيقة إن كان استعاره حكماً، فكان المستقرض بمعنى المشتري، والمشتري إذا شهد بالمشترى لغيره لا تقبل شهادته لما قلنا، كذا ههنا، وأما بعد القضاء فللعلة الثانية. رجلان اشتريا من رجل جارية شراء فاسداً بألف، وقبضاها ثم ادعاها الآخر، فشهد المشتريان أنها للمدعي، فهو على التفاصيل التي قلنا في الغصب، لأن المشترى شراء فاسداً مضمون على المشتري بنفسه لا بغيره فكان كالغاصب، إلا أن بين هذه المسألة وبين مسألة الغصب فرق من وجه أن في مسألة الشراء، المدعي يأخذ الجارية من المشتريين قبل نقض البيع، وفي الغصب لا يأخذ، لأن في الغاصب إنما أقر بالجارية للمدعي، وهي ملك غيره ظاهراً، فلم يصح إقراره، والمشترى شراء فاسداً أقر بالجارية للمدعي وهي ملكه في الظاهر فيؤمران بردها إلى المدعي، ثم يضمن المشتريان قيمة الجارية للبائع لعجزهما عن رد عين الجارية إليه. قال محمد في «الأصل» : ولو كان المشتريان مع بائعهما نقضا البيع أو نقض القاضي البيع فلم يقبض البائع الجارية حتى شهدا للمدعي بالجارية يعني المشتريان، لم يلزمهما تسليم الجارية، لإقرارهما بالجارية للمدعي وهي ملك غيرهما. رجل اشترى من رجل جارية شراء صحيحاً، وتقابضا وتقالا البيع أوردَّها المشتري بالعيب بغير قضاء وقبلها البائع، ثم جاء رجل وادعى أن الجارية له، فشهد المشتري ورجل آخر أن الجارية للمدعي، فشهادتهما باطلة، سواء كانت هي محبوسة بالثمن عند المشتري أو دفعا إلى البائع، لأن الرد بالعيب بعد القبض بتراضيهما، والإقالة بمنزلة بيع

جديد في حق غيرهما والمدعي غيرهما، فصار في حق المدعي كأن المشتري باعها من البائع ثانياً، ثم شهد بها بعد ذلك للمدعي، وعلى هذا الاعتبار كان في زعم المدعي أن شهادته باطلة، لكونها متضمنة السعي إلى نقض ما تم به، والمدعي متى زعم بطلان الشهادة القائمة له لا تقبل الشهادة. ولو كان الرد بالعيب بعد القبض بقضاء أو قبل القبض بغير قضاء أو كان الرد بخيار رؤية أو بخيار شرط ثم شهد بها للمدعي مع غيره جازت شهادتهما؛ لأن الرد بهذه الأسباب فسخ من كل وجه، ولهذا لا يتجدد للبيع حق الشفعة، فإذا انفسخ البيع من كل وجه صار كأن لم يكن، فلم يكن مبطلاً بشهادته ما أوجب قبل ذلك ولا محولاً ضمانه إلى المدعي، لأنه إذا ردها إلى البائع لم يبق مضموناً عليه وإذا حبسها بالثمن، فكذلك الجواب. وإن كانت مضمونة عليه إلا أنها مضمونة عليه بغيرها وهو الثمن لا بنفسها، فكانت بمنزلة الرهن وشهادة المرتهن للمدعي بالجارية حال قيام الرهن يقبل كذا ههنا، فلو حبسها بالثمن فماتت الجارية في يدي المشتري ثم شهدا بالجارية للمدعي بطلت شهادتهما؛ لأنها لما (ما) تت في يدي المشتري بطل الفسخ، وعاد حكم البيع، فصار هذا الشاهد شاهداً بما اشتراه لغيره، فلا يصح لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.k رجل اشترى من آخر جارية بعبد وتقابضا، فوجد مشتري الجارية بها عيباً فردها بالعيب، إلا أنه حبسها بالعبد، ثم جاء رجل وادعاها، فشهد المشتري بالجارية مع رجل آخر للمدعي لا تقبل شهادتهما، ولو شهدا بعدما دفعها إلى البائع تقبل؛ لأن الجارية مضمونة عليه بنفسها، حتى لو هلكت في يد المشتري ضمن المشتري قيمتها لبائع الجارية، فيأخذ العبد ولا تنتقض الإقالة، فكانت شبيهة المغصوب وشهادة المغصوب، وشهادة الغاصب بالمغصوب للمدعي قبل الرد لا تقبل، وبعد الرد تقبل كذا ههنا، بخلاف ما إذا كانت الجارية مشتراة بالدراهم والجارية محبوسة بالثمن، حيث تقبل شهادة المشتري، لأنها مضمونة عليه بالثمن لا بنفسها، فكانت شبيهة المرهون على ما مر. فإن مات العبد في يد مشتريه قبل رد الجارية، ثم رد الجارية بالعيب بقضاء قاض صح الرد؛ لأن الرد لا يمتنع بهلاك أحد العوضين، عرف هذا في كتاب البيوع فإذا حبسها المشتري حتى يأخذ قيمة العبد ثم شهد بها مع غيره للمدعي صحت شهادتهما؛ لأنها مضمونة عليه بغيرها وهو قيمة العبد، ولهذا لو هلكت الجارية لا تضمن لبائعها قيمتها بل سقط عن بائعها قيمة العبد، فكانت شبيهة المرهون. وفي «المنتقى» : رجلان استأجرا من رجل داراً شهراً بأجر معلوم وسكنا فيها الشهر كله، ثم جاء مدع يدعي الدار فشهد له المستأجران جازت شهادتهما، (127أ4) فإن قضى القاضي بالدار للمدعي ثم إن المدعي ادعى أنه كان أمر الذي أجر بإجارتها، وأراد أخذ الغلة، فإنه ينبغي للقاضي أن يبطل قضاءه بالدار للمدعي ويردها إلى الذي كانت الدار في يديه، وينبغي للقاضي أن يسأل المدعي في أول الأمر عن الإجارة: أكانت بأمرك أو بغير أمرك؟ فإن قال: كانت بأمري لا تقبل شهادة المستأجر، وإن قال: كانت

بغير أمري تقبل شهادة المستأجر، ولو لم يسكن المستأجر الشهر كله حتى ادعى المدعي الدار، فشهد به المستأجر ولم يدع المدعي أن الإجارة كانت بأمره لم تجز شهادة المستأجر. وفيه أيضاً: رجل له دار وفيه سكان بغير أجر، فشهد السكان في الدار شهادة يثبتون الدار له، أو شهدوا بالدار عليه الأجر، فشهادتهم جائزة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وإن كان هؤلاء السكان بأجر معلوم لشهور معلومة بأجر رخيص، أو بأجر عال، فشهدوا للذي أجر لتحقيق الإجارة أو شهدوا لإنسان عليه ليفسخوا الإجارة، فإن أبا حنيفة رحمه الله قال: جازت شهادتهما في الموضعين جميعاً، وشهادتهم في هذا كإقرار رب الدار أنها لفلان، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا تقبل شهادتهم لا فيما يثبتونها ولا فيما ينقضونها. رجل اشترى من آخر جارية، ثم جاء رجل وادعى أنه اشترى هذه الجارية من هذا المشتري، والمشتري يجحد ذلك، فشهد البائع ورجل آخر للمشتري بالشراء من المشتري لا تقبل شهادته، وكذلك لو ادعى المشتري أنه باعه من فلان وفلان يجحد، فشهد له البائع لم تقبل. ولو أن رجلاً اشترى من آخر عبداً وبرء البائع عن عيوبه، فباعه المشتري من رجل آخر، ودلس العيب الذي به، فخاصم المشتري الآخر المشتري الأول فيه، فشهد البائع الأول ورجل آخر أن هذا العيب كان به عند البائع، قال: أقبل شهادة البائع الأول في رده على البائع الثاني ولا أقبل في تبرئته منه. رجل له على رجل ألف درهم، فشهد الذي عليه المال ورجل آخر أن الطالب أقر أن هذا الألف لهذا الرجل والرجل يدعي ذلك لا تقبل شهادة الذي عليه المال، ذكره في «المنتقى» في موضع، وذكر في موضع آخر منه أنه لا تقبل شهادته إذا كان لم يؤده، فإن كان أداه تقبل. ولو مات رجل وترك مالاً على رجلين وترك أخاً، فشهد الرجلان لغلام يدعي أنه ابن الميت أنه ابنه لا يعلم له وارثاً آخر غيره، أجزت شهادتهما، ولا يشبه هذا الدّين في المسألة الأولى من قبل أن الدين لم يثبت عليهما للأخ، ولم يجعله القاضي وارث الميت. ولو أن رجلين اشتريا ثوباً من رجل ونقدا الثمن أو لم ينقدا، فجاء رجل وادعى أن الثوب له فشهد المشتريان له بالثوب، أو شهدا على إقرار البائع أن الثوب له لم تجز شهادتهما. أما قبل نقد الثمن: أما إذا أجاز البيع، فلأنهما يريدان تحويل ما وجب عليهما للبائع من حيث الظاهر إلى غيره، ولهما فيه منفعة؛ لأن الناس يتفاوتون في المطالبة، وأما إذا لم يجز البيع، فلأنهما سعيا في نقض ما تم بهما. وأما بعد نقد الثمن: أما إذا لم يجز البيع فلما قلنا، وأما إذا أجاز وقال: باع بأمري، فلأن الثمن الذي نقداه صار ملكاً للبائع بتمليكهما، فهما بهذه الشهادة يريدان نقض ذلك التمليك.

وذكر في كتاب «الأقضية» لو أن رجلاً مات، وله على رجلين ألف درهم أو كان له في أيديهما عبد غصب أو وديعة، جاء رجل وادعى أنه أخوه لأبيه وأمه ووارثه لا وارث له غيره، وقضى القاضي بذلك بشهادة شهود شهدوا عليه، وجعله وارثاً له وقضى له بالمال العين والدين، فقضى الغريمان دينهما للأخ بقضاء قاض أو بغير قضاء قاض، أو لم يكونا قضياه لو كانا صارفاه على دنانير أو كان الأخ وهب لهما المال على عوض، أو كانا اشتريا من الأخ جارية من تركة الميت أو تصدق عليهما بصدقة على عوض، ثم جاء رجل آخر وادعى أنه ابن الميت ووارثه، ولا وارث له غيره، وشهد الغريمان له بذلك فشهادتهما باطلة، أما قبل قضاء الدين فلأنهما يريدان تحويل المال الذي وجب عليهما للأخ إلى الابن، وقد ذكرنا أن الشهادة تبطل به، وأما بعد القضاء فلأنهما يريدان أن ينقضا أمراً تم بهما؛ لأن القضاء قد تم. ولو ظهر أن الأخ ليس بوارث وأن الوارث هو الابن كان للغريم أن يسترد ما كان دفعه إلى الأخ، لأنه ظهر أنه قبض ما ليس له، ومن سعى في نقض ما تم به لم يقبل سعيه، وكذلك المصارفة لأن هذا العقد قد تم به، فلا يقبل منه نقضه، وكذلك أخذ العوض عنه لما قلنا. هذا هو الكلام في الدين. جئنا إلى العين فنقول في الغصب: إذا شهد الغاصبان بالابن، وكان العبد قائماً بعينه في أيديهما لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما يحولان الضمان من الابن إلى الأخ، وإن كانا دفعا العبد إلى الأخ ثم شهدا بذلك فإنه لا يخلو، إما إن دفعا بقضاء أو بغير قضاء، فإن كان بقضاء فشهادتهما جائزة، وإن كان بغير قضاء لا تقبل شهادتهما. فرق بين هذا وبينما إذا دفعا المغصوب إلى المغصوب منه، ثم شهدا بالملك لغيره تقبل سواء كان الدفع والرد بقضاء أو بغير قضاء، وههنا فرق بين القضاء وغير القضاء. ووجه الفرق: أن في تلك المسألة الضمان إنما وجب باعتبار تفويت يد المغصوب منه، فإذا أعاده إلى يده انفسخ حكم فعله وانعدمت الجناية فارتفع الضمان، فلم يحولا بهذه الشهادة ضماناً وجب للمغصوب منه إلى المدعي. وفي مسألتنا: الضمان وجب باعتبار تفويت يد الميت ولم توجد الإعادة إلى يد الميت حقيقة، وإنما ظاهر وكذا حكماً، لأنه إنما يتحقق الرد إليه حكماً بالرد إلى خليفته ونائبه، وليس من ضرورة القضاء بنسب الأخ ثبوت نيابته وخلافته عن الميت في الرد عليه لجواز أن يكون هناك من يحجب عن الميراث، أو يكون في التركة دين مستغرق، فاحتمل أن يكون خليفة عن الميت في الحكم واحتمل أن لا يكون، فلا يبطل الضمان الواجب عليه بالاحتمال، وإذا لم يبطل الضمان عنهما كانا بهذه الشهادة محولين ذلك إلى الابن. فأما إذا كان الرد بقضاء القاضي وبأمره فقد تحقق الرد إلى الميت حكماً، لأن للقاضي ولاية في مال الميت بالحفظ وأن يضعه حيث أحب، فإذا أمره بالرد إليه صارا تعييناً من جهة القاضي، فخرج عن جهة الضمان بالرد إليه، فلم يحولا بهذه الشهادة الضمان من الأخ إلى الابن، وإن كان الغصب وديعة قبلت شهادتهما، سواء كان الدفع بأمر القاضي أو بغير أمره؛ لأن الضمان لم يكن واجباً وقع الشك في وجوب الضمان لاحتمال أنه خليفة الميت ووارثه، فلا يجب الضمان عليه بالاحتمال.

ولو أن رجلين شهدا أن فلاناً توفي وترك هذا الرجل أخاه لأبيه وأمه ووارثه، فقضى القاضي بشهادتهما، ثم شهد هذان الرجلان لآخر أنه ابنه ووارثه، لم تجز شهادتهما للابن؛ لأنهما شهدا أول مرة بأن الأخ وارثه، ثم شهدا بوراثة الابن، وبين كون الأخ وارثاً وكون الابن وارثاً تناف إن لم يكن بين كون الأول أخاً والثاني ابناً تناف، وقد اتصل القضاء بالشهادة الأول فتأيدت بها، فلا يمكن إبطالها بالثانية. ونظير هذه: مسألة الملكية والكوفية أن القضاء لو اتصل بالأولى صحت الأولى وبطلت الثانية لما قلنا، وإن لم يتصل القضاء بالأولى بطلتا جميعاً فكذلك ههنا، ولكنهما يضمنان الابن ما قبض الأخ من الميراث؛ لأنهما زعما أن الميراث للابن دون الأخ، وأنهما أتلفا على الابن ذلك بشهادتهما، فقد أقرا بسبب الضمان على أنفسهما فيضمنان، فصار هذا كما لو رجعا عن شهادتهما، واعتبر في «الكتاب» الشهادة الثانية رجوعاً عن الأولى؛ لأن بينهما تناف، فكانت الثانية رجوعاً عن الأولى ضرورة ولو شهد بالابن غير الأولين وقد استهلك الأخ، فالابن بالخيار إن شاء ضمن الشاهدين الأولين ورجعا بذلك على الأخ، وإن شاء ضمن الأخ ولم يرجع على أحد، إما يقبل شهادتهم لأنه ليس بينهما مناقضة، فكل فريق اعتمد دليلاً مطلقاً لأداء الشهادة، فالشهادة على النسب: جواز أدائها بناء على الشهرة والتسامع، فقد علم الأولان بنسب الأخ بالشهرة، ولم يشتهر عندهما، ولم يبلغهما نسب الابن، فشهدا بوراثة الأخ، ثم الفريق الثاني علموا من طريق الشهرة نسب الابن، ولم يسبق منهم ما يناقض شهادتهم فقبلت شهادتهم، وقضي بنسب الابن، لأنه ليس بين الأخ والابن منافاة، وإذا ثبت نسب الابن كان أولى بالميراث من الأخ، فإن كان المال قائماً في يد الأخ يسترده منه، وإن كان قد استهلكه، فالابن بالخيار إن شاء ضمن الأخ، لأنه قبض ماله بغير حق، وإن شاء ضمن الشهود، لأنهم بشهادتهم أتلفوا ماله وظهر بطلان شهادتهم بشهادة الآخرين، فصار كما لو ظهرت ذلك برجوعهم، وصار هذا كما لو شهدوا بالقتل واقتصَّ منه بقضاء القاضي (127ب4) ثم جاء المشهود بقتله حياً إنهم يضمنون كما لو رجعوا بذلك على الأخ؛ لأنهم ملكوا المضمون بأداء الضمان، فصار الأخ غاصباً مالهم، فكان لهم حق تضمينه. ولو كان الأولان أو غيرهما شهدا أن الثاني أخو الميت لأبيه وأمه ووارثه مع الأول قبلت شهادتهما سواء كان قبل القضاء الأول أو بعد القضاء، لأنه لا تناف بين الشهادتين لجواز أن يكون له أخوان، وكل واحد منهما يرث مع الآخر، ولا يضمنان لأنه لم يظهر كذبهما، لعدم التنافي بينهما، ولكن لو كان الأول قبض المال دفعا نصفه إلى الثاني: لأنه ظهر أن المستحق لهذا النصف هو الثاني، وقبلت شهادتهما؛ لعدم التنافي. فإن قيل: إذا كان الشاهدان بالثاني هما اللذان شهدا بالأول ينبغي أن لا تقبل شهادتهما بالثاني، لأنهما شهدا للأول أنه وارثه لا وارث له غيره، وكما شهد بالوراثة للثاني كانا متناقضين، قلنا: قوله: لا وارث له غيره، ليس من صلب الشهادة؛ لأنه نفي والشهادة على النفي لا تقبل، ألا ترى أنهما لو لم يذكرا ذلك في الشهادة قبل القاضي

شهادتهما أيضاً، إنما هذا لإسقاط التلوم عن القاضي، فلا يوجب مناقضته بين الشهادة الأولى والثانية، فقلنا جميعاً ولا يضمنان لأحد لما ذكرنا. إذا شهد الكفيلان بنفس المدعى عليه على المدعي أن المدعى عليه أوفاه الدين، فقد قيل: تقبل شهادتهما، وقد قيل: لا تقبل لأنهما يريدان إخراج أنفسهما عن عهدة الكفالة بالنفس بهذه الشهادة، والصحيح من الجواب: أنها إن شهدا بإيفاء الدين الذي حصلت الكفالة بالنفس لأجله لا تقبل، وإن شهدا بإيفاء دين آخر لم تحصل الكفالة بالنفس لأجله تقبل. الوكيل شراء شيء بغير عينه إذا اشترى وقال: اشتريت لنفسي، وقال الموكل: لا بل اشتراه لي، فأقام الموكل البينة على إقرار الوكيل أنه اشتراه للموكل وأحد الشهود البائع، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة من البائع لأنه متهم فيها، لأنه يبعد العهدة عن نفسه، فإن الوكيل بالشراء إذا سلم المشترى إلى الموكل لا ينفرد بالرد بالعيب، بل يشترط رضا الموكل الشاهد إذا كتب شهادته على صك البيع أو على صك الشراء ثم إن رجلاً آخر ادعى العين المشترى لنفسه، وشهد له الذي كتب شهادته على الصك، فإن كتب الشهادة على وجه يمنع الكاتب عن دعوى الملك لنفسه في ذلك العين لا تقبل شهادته للمدعي، وإن كتب الشهادة على وجه لا يمنع الكاتب عن دعوى الملك لنفسه في ذلك العين تقبل شهادته للمدعي، ومسألة دعوى الشاهد على الصك تأتي في كتاب الدعوى إن شاء الله تعالى. عشرة وكَّلوا رجلا بشراء محدود معين، فذهب الوكيل واشترى فأنكر واحد من العشرة كونه وكيلاً من جهته، فشهد التسعة على العاشر أنك وكلته معنا بالشراء تقبل هذه الشهادة، ولو كان هذا وكيلاً بالبيع وباقي المسألة بحالها لا تقبل شهادة التسع؛ لأنهم يشهدون لأنفسهم لأنهم يريدون إثبات لزوم البيع في نصيبهم، وأما في الفصل الأول لا يشهدون لأنفسهم، وفي «فتاوى النسفى» سئل عن وكيل مجلس القضاء إذا ادعى بحضرة المدعي الذي وكله على آخر أن لهذا المدعي علي مثلاً كذا، فأجاب المدعى عليه: إنه قد قضاه ذلك، فأنكر المدعي، فشهد هذا الوكيل مع رجل آخر على القضاء لا تقبل شهادة هذا الوكيل؛ لأنه هو الذي ادعى عليه هذا المال في الحال، وذلك يمنعه عن الشهادة بالقضاء، فقيل له: أليس ثبت عن أصحابنا رحمهم الله أن من ادعى على آخر مالاً فقد أقرضه فشهد له شاهدان أنه أقرضه، وشهد آخر أنه أقرضه ثم قضاه ثبت القرض ولم يثبت القضاء ولم تصر شهادته بالقضاء مبطلة شهادته بالإقراض، قال: هناك شهد بالإقراض وشهد مرتباً عليه والقضاء مرتباً على الإقراض يقرر الإقراض ولا ينافيه، أما هذا شهد بقيام الدين عليه للحال وقيام الدين عليه ينافي القضاء قبله، فصار دعوى قيام الدين عليه للحال من هذا الوجه مبطلاً شهادته بالقضاء قبل هذا. رجلان باعا عبداً من رجل ثم إن البائعين شهدا أن المشتري أعتق هذا العبد لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما بهذه الشهادة يخرجان عن العهدة، فإن المشتري إذا أعتق العبد

المشترى ثم اطّلع على عيب به قد كان عند البائع لا يمكنه الرد على البائع. شهادة أهل القرية بعضهم على بعضهم بزيادة الخراج على ضيعة المشهود عليه لا تقبل؛ لأن الشاهد بهذه الشهادة يريد إثبات نقصان خراجه حتى لو شهد من لا خراج عليه تقبل شهادته، وكذلك إذا كان لكل ضيعة خراج على حدة فشهد بعضهم على البعض بزيادة الخراج تقبل شهادتهم؛ لأن الشاهد بهذه الشهادة لا يثبت نقصان خراجه. ولو أن أهل قرية شهدوا على بعض ضياع بجوار قريتهم أنه من ضياع قريتهم لا يجوز؛ لأنهم يريدون إثبات نقصان خراج ضيعتهم، ويجب أن يكون في هذا الفصل على التفصيل الذي ذكرنا في الفصل الأول. وإذا شهد أهل السكة بشيء من مصالح السكة إن كانت السكة غير نافذة لا تقبل شهادتهم، وإن كانت نافذة تقبل شهادتهم؛ لأن السكة إذا كانت غير نافذة فهي كالمملوكة لأهل السكة، فهذه الشهادة راجعة الى مصلحة أملاكهم، وإذا كانت نافذة فهي حق العامة والشهادة على حق العامة مقبولة. وإذا شهدا أن فلاناً غصب من أب هذا المدعي هذه القرية وهذه القرية في يد غير الغاصب، والغاصب غائب أو ميت، فهذه الشهادة ليست بشيء حتى شهدا أنها وصلت إلى هذا المدعى عليه من قبل الغاصب أو يشهد بذلك غيرهما. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل شهد عليه شاهدان أنه باع هذه الدار من هذا الرجل بألف درهم على أنهما ضمنا للمشتري الدرك يعني الشاهدين، قال: إن كان الضمان في أصل البيع لا تقبل شهادتهما؛ لأن البيع لا يتم إلا بضمانهما، فكأنهما شهدا على فعلهما، وإن لم يكن الضمان في أصل البيع جازت شهادتهما؛ لأن البيع ههنا تام بدون ضمانهما. وفي «المنتقى» : ادعى رجل داراً في يدي رجل أنها له اشتراها من فلان، وقبضها فشهد له شاهدان بذلك إلا أنهما لم يسميا ثمناً، فإني أسألهما قبضها بأمره أو بغير أمره؟ فإن قالا: لا نزيد على هذا، لا تقبل شهادتهما، وإنما وجب السؤال عن الشهود أنه قبضها بأمره أو بغير أمره؛ لأنه تعذر القضاء بالشراء بثمن معلوم؛ لأن الشهود لم يشهدوا بذلك، فلا بد أن يقضي بالشراء بغير ثمن والشراء بغير ثمن شراء فاسدٌ والشراء الفاسد لا يفيد الملك بدون القبض، والقبض بغير إذن البائع في البيع الفاسد ليس بصحيح، فلهذا وجب السؤال عن الشهود، وأنه قبضها بأمره أو بغير أمره، وإذا قالا: لا نزيد على هذا إنما لا تقبل شهادتهما؛ لأنهما لم يشهدا بما هو سبب الملك لما لم يشهدا بإذن البائع بالقبض، وإن ماتا قبل أن يسألهما، فهذا عندنا على أنه قبضها بإذن البائع وأمره؛ لأن الظاهر أنه إنما تمكن من قبضها بتسليم البائع، لولا ذلك لتعذر عليه القبض؛ لأن البائع يمنعه عن ذلك، وليس له ولاية القبض شرعاً حتى يقدر على قبضها بقوة القاضي والناس و ... ؟ على الظاهر واجب حتى يقوم الدليل على خلافه.

قال: ولا العرض له في الثمن يعني لا أقف التسليم على قبض الثمن؛ لأن القبض حصل بأمر البائع، والقبض متى كان بأمر البائع لا يتمكن من استرداد لأجل الثمن، فلا يتوقف القبض ههنا على أخذ الثمن، وكذلك لو أن الشاهدين قالا من الابتداء: إنه قبضها بأمر البائع؛ لأن هذا الشراء فاسد لما لم يشهدا بالثمن والشراء الفاسد يفيد الملك عند القبض فإن لم يسم الشاهدان الثمن ولا قبض المدعي الدار فالقاضي لا يقضي للمدعي؛ لأنه تعذر القضاء بالعقد لأنه فاسد، ولا يجوز القضاء بالعقد الفاسد وتعذر القضاء بالملك؛ لأن البيع الفاسد لا يفيد الملك بدون القبض. وفي «الأقضية» قال محمد رحمه الله: ولو أن رجلاً ادعى داراً في يدي رجل أنها داره اشتراها من فلان وهو يملكها بألف درهم، فشهد الشهود له بذلك إلا أنهم لم يقولوا: إنه قبضها بأمره، قال: فإني لا آخذ الدار من صاحب اليد ولا أدفعها إليه حتى يدفع إلى صاحب اليد، ثم أدفع الدار إليه، وقد روي عنه رجوعه عن هذا القول، وقال: تؤخذ الدار من يده ولا تدفع إلى المدعي حتى يؤخذ الثمن من يده، فقد أشار إلى سماع دعوى المدعي في هذه المسألة، وذكر في «المنتقى» أنه لا تصح هذه الدعوى منه أصلاً حتى ينقد الثمن عند القاضي. ووجه ذلك: أن صحة الدعوى في هذه الصورة تعتمد نقد الثمن، وهذا لأن المرافعة إلى القاضي غير محتاج إليها لإثبات الملك في العين؛ لأن الملك لا يثبت بقضاء القاضي وإنما ثبت بسببه، فإذا (128أ4) وجد سبب الملك ثبت الملك وجد القضاء أو لم يوجد وإنما يحتاج إلى المرافعة ليقصر القاضي يد المدعى عليه بولاية القضاء فإنما تصح الدعوى إذا كان له ولاية مطالبة القاضي بقصر يد المدعى عليه، وقبل نقد الثمن ليس للمشتري ولاية قبض المبيع فلا يكون له ولاية دعوى الملك. ووجه ما ذكر في «الأقضية» : أن المدعي ادعى على ذي اليد حقاً لنفسه لا يمكنه إثبات ذلك الحق إلا بإثبات أمر على الغائب وهو الشراء منه؛ لأنه ادعى الملك بسبب الشراء منه، فانتصب ذو اليد خصماً عن الغائب، فكأنه حضر وأنكر الشراء، ولو كان كذلك تسمع دعوى المدعي كذا ههنا. وإذا سمع دعواه وقبلت بينته لا تدفع الدار إليه حتى ينقد الثمن، كما لو كان حاضراً وقضي عليه بالشراء لا يدفع الدار إلى المدعي قبل نقد الثمن كذا ههنا، إلا أن على القول المرجوع إليه يقول: لمّا صح القضاء عليه بالملك ظهر أنه مبطل في إمساك المدعي له ظالم في منعه، فيخرجه القاضي عن يده إزالة لظلمه ثم إذا أخرجه من يده لا يدفعه إلى المدعي قبل نقد الثمن، إذ ليس للمشتري ولاية أخذ المبيع قبل نقد الثمن، وإن حضر الذي ادعى المدعي الشراء منه، وأنكر أن يكون باعه إياه أخذ القاضي الدار من المدعي، وسلمها إلى الذي حضر؛ لأن الذي حضر لم يصر مقضياً عليه بالشراء؛ لأن صاحب اليد لم ينتصب خصماً عنه في إثبات الشراء عليه؛ وهذا لأن القضاء لابد له من الدعوى والإنكار، وذو اليد لا يمكن أن يجعل منكراً بطريق الأصالة؛ لأن الأصل في الإنكار أن لا يتعدى ضرر إنكاره إلى غيره، وضرر إنكار

صاحب اليد ههنا يتعدى إلى الغائب بإثبات البيع عليه، ولا يمكن أن يجعل ذو اليد نائباً عن الغائب في الإنكار؛ لأن الحاضر إنما يجعل خصماً عن غيره في الإنكار إذا جرى بينهما سبب له اتصال بما وقع فيه الدعوى، ولم يجر بين الغائب وذو اليد ههنا سبب حتى يقام إنكار ذي اليد مقام إنكار الغائب، فظهر أن البينة على البيع قامت على غير خصم.n فرق بين هذا وبينما إذا شهد شاهدان على رجل بمال فطعن المشهود عليه أنهما عبدان لفلان، وادعى الشاهدان أن فلاناً أعتقهما وأقاما البينة قبلت بينتهما وقضي بعتقهما على الغائب، ولم يجر بين المشهود عليه وبين الغائب سبب حتى يقام إنكاره مقام إنكار الغائب، ومع هذا قضى بعتقهما وظهر ذلك في حق الغائب، حتى لو حضر لا يحتاج إلى إعادة البينة. والفرق: أن في مسألة العتق المشهود عليه أصل في إنكار العتق، وليس بنائب عن المولى؛ لأن دعوى العتق على المولى دعوى على كافة الناس، ألا ترى أن كل واحد من آحاد الناس يصير مقضياً عليه بالعتق، بالقضاء على واحد من الناس فكان دعوى العتق على المولى ودعوى العتق على المشهود عليه من حيث الاعتبار على السواء، وأما دعوى الملك على ذي اليد فدعوى عليه خاصة، ألا ترى أن غير ذي اليد لا يصير مقضياً عليه بالقضاء على ذي اليد في الملك المطلق، وإنما يتعدى القضاء من ذي اليد إلى الغائب، إذا كان ذو اليد نائباً عن الغائب، وإنما ثبتت النيابة إذا جرى بينهما سبب، ولم يجر بينهما سبب ههنا، فلم يصر الغائب مقضياً عليه، فكان للذي حضر أن يأخذها من يد المدعي لإقرار له بذلك. وقد ذكر في «الجامع» وفي «الأصل» ما يدعي على أن الغائب يصير مقضياً عليه في مسألتنا حتى لا يكون له أن يأخذ الدار من يد المدعي، فقد ذكر في «الجامع» : رجل في يديه دار ادعاها رجل أنها له اشتراها من عبد الله بألف درهم ونقده الثمن، وقال ذو اليد: أودعنيها عبد الله، فإنه تندفع عنه الخصومة، ولكن للمدعي أن يحلفه بالله لقد أودعك عبد الله، فإن قال حين حلفه: ما أودعنيها عبد الله ولكن غصبتها منه وحلف على ذلك، فإن القاضي لا يلتفت إلى مقالته للتناقض بين كلاميه، ويجعله خصماً ويقضي بالدار للمدعي على ذي اليد، فإن قضى بذلك ثم قدم عبد الله وادعى أن الدار داره أودعها من ذي اليد، وأراد أن يأخذها من المدعي حتى يعيد المدعي البينة عليه ليس له ذلك؛ لأن القاضي لما جعل ذا اليد خصماً، وأنزله منكراً حكماً وقضى بالشراء عليه انتصب خصماً عن الغائب، فصار كما لو أقام البينة عليه حقيقة فنفذ القضاء عليه، فكذا ههنا ذو اليد خصم له حتى سمعت البينة عليه، وقضى بالملك والبيع عليهما، فانتصب خصماً عن الغائب ضرورة، فصار كما لو أقيم البينة عليه حقيقة. وهكذا ذكر في دعوة «الأصل» إلا أن ثمة وضع المسألة فيما إذا شهدوا بقبض الثمن وذلك يصير رواية فيما إذا لم يشهدوا بقبض الثمن، إذ المعنى يجمعهما، فإن كان في المسألة اختلاف الروايتين ووجهه ما ذكرنا، وإن كان اختلاف الجواب لاختلاف

الموضوع فإن موضوع مسألة «الجامع» و «الأصل» : أن الشهود شهدوا بقبض الثمن، وموضوع مسألة الأقضية أن الشهود لم يشهدوا بقبض الثمن. فوجه الفرق أن البيع قبل قبض المبيع وتسليم الثمن قائم حكماً لبقاء أحكامه، فلا بد من القضاء به، وذو اليد لا يصلح خصماً في العقد عن الغائب لما قلنا، فيتعذر القضاء بالبيع فلا يقضى به، فأما بعد قبض الثمن وتسليم المبيع البيع قد انتهى نهايته، فكان هذا دعوى الملك فحسب، وذو اليد خصم فيه، فصلح القضاء عليه بالملك من كل وجه، ومن ضرورته صيرورة الغائب مقضياً عليه؛ لأن المدعي يدعي الملك من جهته. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل تزوج امرأة على مهر مسمى ثم إن هذا الرجل شهد مع رجل آخر أنها أمة هذا الرجل والرجل يدعيها، فهذه المسألة على وجهين: إما أن يقول المدعي أمرتها بالتزوج أو يقول: ما أمرتها بالتزوج، فإن قال: لم آمرها بالتزوج فالقاضي لا يقبل، أما إذا لم يكن دخل بها؛ فلأنه يشهد ببطلان نكاحها، وأن لا مهر لها عليه إن لم يدفع لها المهر، وبثبوت الرجوع لنفسه عليها إن دفع إليها المهر، أما إذا دخل بها؛ فلأنه يريد تحويل ما وجب عليه لها بحكم الدخول إلى غيرها، وهو المولى إن لم يكن دفع إليها ذلك، وإن كان دفع إليها ذلك فلأنه يثبت لنفسه حق الرجوع عليها بعد العتق بما قبضت، وإن قال: أمرتها بالتزوج لا أقبل شهادة الزوج أيضاً لما قلنا، وإن كان الرجل المشهود له قال: قد كنت أمرتها بالتزوج وأذنت لها في قبض المهر فإن كان الزوج لم يدفع إليها المهر لا تقبل شهادته، وإن كان الزوج قد دفع إليها المهر قبلت شهادتهما؛ لأنه إذا ثبت الإذن لها بقبض المهر فقد برء الزوج عن المهر بالدفع إليها ولم يبق لها عليه شيء حتى يحوله إلى غيرها، ولا يثبت لنفسه حق الرجوع عليها أيضاً؛ لأنه استفاد البراءة فالمولى لا يرجع عليه حتى يرجع هو عليها بما دفع إليها. قالوا: وهذا إذا كان تزوجها على مهر مثلها أو أكثر، فإن خطب عن مهر مثلها بما يتغابن الناس فيه كانت مخالفة لأمره ولا يصلح النكاح، فينبغي أن لا تقبل الشهادة؛ لأنه بهذه الشهادة يريد إبطال عقد باشره وإسقاط المهر عن نفسه إن لم يدخل بها وتحويل ما وجب عليه بحكم الدخول بها إلى غيرها إن لم يكن دفع المهر إليها أو إثبات حق الرجوع لنفسه دفع إليها إن كان دفع المهر إليها، ثم هذا الذي ذكرنا يحتمل أنه قول أبي يوسف ومحمد لا قول أبي حنيفة بناء على مسألة الوكيل بالنكاح، فإن الوكيل بالنكاح عند أبي حنيفة رحمه الله يملك النكاح بأي مهر شاء، وعندهما تنفيذ التوكيل بمهر المثل. وإن كان هذا قول الكل يحتاج أبو حنيفة رحمه الله إلى الفرق بين أمر المولى عبده أو أمته بالتزوج وبين أمره أجنبياً. والفرق: أن عند أبي حنيفة رحمه الله تصرف المأمور بغبن فاحش إنما ينفذ على الأمر إذا انتفت التهمة، أما إذا لم تنتفِ فلا، ألا ترى أن الوكيل بالشراء لا يتحمل منه الغبن الفاحش لما كان متهماً. إذا ثبت هذا فقبول التهمة في حق الوكيل بالنكاح منتفية؛ لأنه لا يرجع إليه بشيء

من منافع العقد ليتحمل العين لتحصيل منفعة تعود إليه، أما العبد والأمة فهما متهمان في حق أنفسهما؛ لأن منافع النكاح تعود إليهما، فلعل أنهما تحملا العين لتحصيل نفع يعود إليهما، فلا يصح نكاح كل واحد منهما على هذا الوجه. وفي «المنتقى» : رجل شهد مع آخر على امرأته أنها أقرت أنها آمة هذا المدعي وهي مجهولة النسب، والزوج يصدقها في إقرارها أو يكذبها وقد دخل بها أو لم يدخل بها، والمدعي يجز النكاح (128ب4) أو يقول لا آمره، فإن الشهادة في جميع ذلك جائزة كان الزوج نقد المهر أو لم ينقد، وليس للمولى أن يفرق بينهما إلا إذا صدق الزوج المرأة في الإقرار، وله أن ينقض النكاح في هذا الوجه، وله في هذا الوجه أن يضمن الزوج إن كان قد دخل بها، ولا يرجع على المرأة بما أعطاها. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: في عبد مأذون له في التجارة، عليه دين شهد رجلان من غرماء العبد أن مولاه أعتقه والمولى ينكر، فالمسألة على وجهين: إما أن يختار الشاهدان اتباع المولى بتضمينهما القيمة إياها، أو يختاران استسعاء العبد، وهذا لأن قبل الإعتاق للغرماء حق بيع العبد في ديونهم أو حق استسعاء العبد، والمولى بالإعتاق أبطل محلية أحد الحقين، وهو البيع دون الاستسعاء فإن شاءا ضمنا المولى لإتلافه محلية وهو أخذ حقهم، وإن شاءا استسعى العبد لبقاء محلية الاستسعاء، فإن اختار التضمين فلا تقبل شهادتهما؛ لأنهما شاهدان لأنفسهما بإثبات حق التضمين، فلا تقبل شهادتهما، وإن أبرأاه عن القيمة واختارا إتباع العبد المعتق بدينهما قبلت شهادتهما؛ لأن التهمة منتفية، فإنهما لا يستفيدان بهذه الشهادة ما لم يكن لهما قبل ذلك، فإن حق لاستسعاء قبل ذلك ثابت لهما كما هو ثابت بعد الإعتاق، فقبلت شهادتهما. قال: ولو شهد رجلان أن هذا أعتق عبده فجنى العبد على أحدهما ففقأ عينه والمولى ينكر العتق، فلا شيء للمجني عليه فلا تقبل شهادتهما، أما لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن المجني عليه يريد إلزام القصص عليه بهذه الشهادة؛ لأن قبل العتق كان لا يجري القصاص؛ لأن القصاص لا يجري في أطراف العبد؛ لأنه يسلك بها مسلك الأموال، والقصاص لا يجري في المال، فكان شاهداً لنفسه من حيث إثبات القصاص لنفسه، فلا تقبل شهادته ولا يثبت العتق ولا شيء للمجني عليه، وإن كانت جناية العبد فيما دون النفس موجباً للمال على مولاه حتى خوطب بالدفع أو الفداء أو قد أقر المولى بلزوم هذا الحق على نفسه، ولكن لم يثبت حكم إقراره لتكذيب المجني عليه إياه؛ لأنه زعم أن الجاني جنى، وأن عليه القصاص ولا شيء على المولى بسبب هذه الجناية، والمقر له إذا أكذب المقر لا يبقى لإقراره غيره، فما ادعاه لم يثبت لعدم الحجة، وما أقر به المولى لم يثبت؛ لتكذيب المجني عليه، فلهذا لا شيء عليه. وفي «نوادر ابن سماعة» قال: قلت لمحمد رحمه الله: أرأيت شركاء في أرض اقتسموها فصار في يد كل واحد منهم حق معلوم، وادعى رجل من غير أهل هذه الأرض قطعة منها وقعت في نصيب واحد منهم، فشهد أهل المقاسمة أن الذي وقعت تلك

الأرض في يده أقر بهذه الأرض للمدعي، قال: الشهادة باطلة؛ لأنه يجد بها إلى نفسه مغنماً أو يدفع عن نفسه مغرماً؛ لأنه يريد بهذه الشهادة سد طريق الرد عليه بأسباب الرد والفسخ كالعيب ونحوه، وصار هذا كرجل باع من آخر جارية بثمن معلوم وتقابضا، فادعى الجارية رجل فشهد البائع مع آخر أن المشتري أقر أن هذه الجارية لفلان المدعي هذا لا تقبل شهادة البائع؛ لأنه متهم في هذه الشهادة، لأنه يريد بشهادته أن يسد طريق الرد عليه حتى لا يملك ردها وإن وجد عيناً بهذا كذا ههنا. وإنما قلنا: إنه يسد عليه طريق الرد؛ لأن الإقرار حجة على المقر خاصة دون من سواه، ففي حق البائع في المسألة الثانية وشركائه في المقاسمة في المسألة الأولى، كأنه ملكها من المدعي بسبب مبتدأ، ولو كان كذلك كان لا يقدر على الرد بالعيب، ولا الرجوع بنقصان العيب؛ لأن ذلك الملك الذي استفاده بالبيع قد زال فيثبت أنه يجر بشهادته مغنماً أو يدفع عن نفسه مغرماً فلا تقبل شهادته. قال ابن سماعة: قلت لمحمد رحمه الله: إن ادعى جار لهم حقاً في يد الأقضى، فشهد شركاء المدعي أن هذا حدهم الذين اقتسموا عليه، وأن ما وراءه للمدعي والمدعي يدعيه، أو قالوا: نشهد أن هذه الأرض للمدعي والمدعي يدعيه، والمدعى عليه ينكر ذلك ويقول: إنما شهدوا به لينقصوا من حقي، فإن الشهادة جائزة؛ لأنه لا تهمة فيها، إذ ليس فيه جر منفعة ولا دفع مضرة بوجه ما، وكذلك ليس فيها سعي إلى نقص ما تم بهم؛ لأنهم يقولون: إن المشهود به مما لم يدخل تحت القسمة، وإن ما قاسموه عليه وراء ذلك، فهم عدول شهدوا لغيرهم، ولا تهمة في شهادتهم فقبلت شهادتهم. قال ابن سماعة: سمعت أبا يوسف رحمه الله قال في خمسة نفر بينهم دار وطعام، فشهد أربعة منهم على الخامس أن فلاناً غصب حصته من الدار والطعام وذلك غير مقسوم، فالشهادة باطلة، لأنهم يجرون إلى أنفسهم بذلك منفعة، لأنهم يريدون قطع ولاية طلب شريكهم القسمة فيه، وفي ذلك منفعة لهم. بيانه: أنه إلى الآن كان للمشهود عليه أن يأخذهم بالمقاسمة، ولو ثبت غصب الغاصب تعذرت القسمة معه حتى يستخلصه من الغاصب؛ لأن القسمة نوع بيع، وإنه لا يجوز في المغصوب، ولأنه يريد أن يشاركهم فيما في أيديهم من غير أن يكون لهم مما في يده شيء، وإنه خلاف طريق المعادلة فلا يجوز. وهذه المسألة دليل على أن غصب المشاع متصور، بخلاف ما يقول بعض المشايخ. قال ابن سماعة: سمعت محمداً قال في قوم لهم أرضون على نهر بينهم، فباع رجل أرضه في أسفل الشرب بحقوقها وشربها، فشهد هذا البائع لبعض أهل النهر بزيادة في شرب بينهم وبين أهل أسفل الشرب. إنه لا يجوز شهادته؛ لأنه لما ذكر الشرب في البيع

صار مبيعاً حتى قابله الثمن، نص عليه في كتاب الشرب، فإنه ذكر فيه: إذا شهد شاهدان على أنه باع منه هذه الأرض بألف درهم، وذكر أحدهما شربها ولم يذكر الآخر لا تجوز هذه الشهادة، لأنهما اختلفا في الثمن من حيث الحقيقة، لأن من شهد أنه باعه بشربها، فقد شهد أن بعض الألف بمقابلة الشرب، والباقي بالأرض، والآخر يشهد أن جميع الألف بمقابلة الأرض، والاختلاف بين الشاهدين في الثمن يمنع قبول شهادتهما على البيع، فثبت أن الشرب مبيع، فإذا شهد بزيادة شرب لهم فقد شهد لنفسه بشيء من ذلك أولاً ثم بمشربه بحكم الشراء منه، فلا تقبل شهادته. ولا تقبل شهادة الصبيان على الجراحات وتمزيق الثياب بينهم في الملاعب، وكذلك شهادة النساء على الجراحات في الحمامات لا تقبل. رجل في يديه شاة مر به رجل فقال الذي في يديه الشاة للمار: اذبح هذه الشاة فذبحها، فجاءه رجل وادعى أنها شاته اغتصبها منه الذي كانت في يديه، وأقام على ذلك شاهدين، أحدهما الذابح لم تجز شهادة الذابح، علل فقال: لأنه دفع عن نفسه مغرماً، طعن عيسى في هذا فقال: يجب أن تقبل شهادته؛ لأنه جر إلى نفسه مغرماً؛ لأنه لما استحقها المدعي ظهر أن الآمر كان غاصباً، وأن الذابح ذبح شاة الغير بغير إذن ذلك الغير، وذبح شاة الغير بغير إذنه سبب الضمان، فعلم أنه جار إلى نفسه بهذه الشهادة مغرماً. والجواب: لا بل هو دافع مغرماً عن نفسه بهذه الشهادة؛ لأنا لو لم نقبل شهادته يجب الضمان عليه خاصة؛ لأنه يجب بحكم إقراره أن الملك للمدعي، وأن الآمر كان غاصباً وإقراره حجة في حقه، وليس بحجة في حق غيره، وإذا قبلنا الشهادة يظهر ملك المدعي، وكون الآمر غاصباً في حق الكل، ويتخير المدعي بين تضمين الآمر وبين تضمين الذابح، وإذا ضمن الذابح كان له الرجوع على الآمر، فكان دافع مغرم من هذا الوجه، فلهذا لا تقبل شهادته. وإذا شهد الوصي بالدين، إن شهد بالدين للميت على غيره لا يقبل؛ لأنه يثبت لنفسه حق القبض والاستيفاء فيصير شاهداً لنفسه، وإن شهد على الميت بالدين تقبل لأنه يطالب به، فيصير شاهداً على نفسه لا لنفسه فيقبل، قال: إلا أن يكون قضى الدين أولاً من التركة ثم شهد بعد ذلك فحينئذ تقبل شهادته، لأنه يقصد به إسقاط الضمان عن نفسه، فيكون شاهداً لنفسه، وإن شهد لبعض ورثة الميت على الميت أو على أجنبي أو على بعض الورثة بدين، فإن كان المشهود له صغيراً لا تقبل، لأنه يثبت حق القبض والاستيفاء لنفسه، فيصير شاهداً لنفسه، وإن كان المشهود له كبيراً، ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن الشهادة مقبولة ولم يذكر فيه خلافاً، وذكر شيخ الاسلام رحمه الله أن على قول أبي حنيفة رحمه الله لا تقبل، وعلى قولهما: تقبل، وأحال المسألة إلى كتاب الوصايا.

الفصل الثامن: في الشهادات في المواريث

الفصل الثامن: في الشهادات في المواريث قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : وإذا شهد شاهدان عند القاضي أن هذا الرجل وارث هذا الميت لا وارث له غيره ولم يخبرا بسبب الميراث، ثم إنهما ماتا أو غابا قبل أن يسألهما القاضي عن السبب، فالقاضي لا يقضي بشهادتهما؛ لأنهما شهدا (129أ4) بالمجهول؛ لأن الوارث مجهول غاية الجهالة؛ لأن أسباب الإرث كثيرة؛ أحكامها مختلفة، فكانت الجهالة ساحة لا يمكن تداركها، فيعجز القاضي عن القضاء؛ لأنه لا يدري بأي سبب يقضي، ألا ترى أنه لو جاء آخر وادعى أنه ابن الميت أو أبوه، فالقاضي لا يدري أنه يشاركه في الميراث أو لا يشاركه، فكيف يشاركه، وهذا بخلاف ما لو شهدا بالدين أو بملك الغير، فإنه تقبل شهادتهما، وإن لم يبينا سبب ذلك؛ لأن الدين لا يختلف باختلاف سببه، وكذلك ملك الغير لا يختلف باختلاف سببه، فلا يكون المشهود به مجهولاً بخلاف الإرث؛ لأنه يختلف باختلاف أسبابه، فلا بد من بيان السبب، فإن قالا: هو ابنه ووارثه لا يعلم له وارثاً آخر صار المشهود به معلوماً للقاضي فيقضي بشهادتهما، فقد شرط مع بيان السبب أن يقول هو وارثه لا نعلم له وارثاً سواه، ولا شك أن قولهما: ووارثه شرط فيمن يحتمل الحجب والسقوط بحال، فأما من لا يحتمل الحجب والسقوط بحال نحو الأب والأم والابن والبنت هل هو شرط؟ فقد اختلف المشايخ فيه. وإشارات محمد رحمه الله في «الكتاب» : متعارضة، فوجه قول من قال: إنه شرط هؤلاء قد لا يرثون بعارض القتل والكفر والرق؛ ولأنهم قد يكونون بجهة الرضاع، فيشرط ذكره ليزول الاحتمال، وجه قول من قال بأنه ليس بشرط وهو الصحيح: أن هذه العوارض ليست بظاهرة، فلا يلتفت إليها، والنسبة المطلقة بهذه الأشياء هي بجهة الرضاع غير ثابتة عادة فلا تورث شبهة، وقول الشاهدين: لا نعلم وارثاً آخر ليس من صلب الشهادة، وإنما هو لإسقاط مؤنة التلوم عن القاضي، فإنه يدونه القاضي يتلوم زماناً، ولو شهدوا أنه عم الميت لابد وأن ينسبا الميت والوارث حتى يلتقيا إلى أب واحد؛ ليعلم أنه عمه، ويتسامع ذلك أنه عمه لأبيه وأمه، أو لأبيه أو لأمه، حتى إذا جاء آخر وادعى ميراث الميت يعلم أن الأول حاجب للعالي أو ليس بحاجب له، وبعد أن لا يكون حاجباً له في أي قدر يشاركه الثاني، وينبغي أن يتسامع ذلك أنه وارثه لا يعلم له وارثاً غيره؛ لأن العمل يحتمل الحجب والسقوط بغيره، والذي ذكرنا من الجواب فيما إذا شهدوا أنه عم الميت وكذلك إذا شهد أنه أخ الميت، لا بد وأن يبينا أنه أخوه لأبيه وأمه أو لأبيه أو لأمه لأن الأخّوة في نفسها مختلفة، وقد يتعلق بها العصوبة، وهو ما إذا كان لأب وأم أو لأب، وقد تتعلق بها الفرضية، وهو ما إذا كانت لأم وأحكامها مختلفة، فلا بد من بيان ذلك ليصير المشهود به معلوماً للقاضي، ويشترط مع ذلك أن يقولا ووارثه: لا نعلم له

وارثاً غيره، لما قلنا في العم، ولو شهدوا أنه مولاه ووارثه لا يقبل القاضي هذه الشهادة حتى يشهد أنه مولاه أعتقه؛ لأن المولى اسم مشترك يتناول الأعلى وهو المعِتق، ويتناول الأسفل وهو المعَتق، ومن الناس من يورث الأسفل. وعندنا: لا ميراث للأسفل ولعل الشاهدين أرادا الأسفل، فلو قضى القاضي بهذه الشهادة قبل البيان يقع القضاء لغير الوارث وإنه لا يجوز، ولو شهدا أن هذا ابن ابن الميت أو هذه بنت ابن الميت لا بد أن يقولا: وهو وارثه، لأنهما يسقطان بحال، فلا بد منه لينقطع الاحتمال، ولو شهدا أنه جد الميت لابد وأن يبينا أنه جده من قبل الأب أو من قبل الأم؛ لأن كل واحد منهما جد على الحقيقة وأحدهما صحيح، والآخر فاسد ويتسامع ذلك أيضاً أنه وارثه؛ لأنه يحتمل السقوط والحجب لغيره، وكذلك إذا شهدوا أن هذه جدته لابد وأن يبينا أنها أم أم الميت أو أم أبيه؛ لأن الجدة قد تكون صحيحة وقد تكون فاسدة، ويبينا مع ذلك أنها وارثته لما قلنا في الجد. ولو شهدا أنه جده أب أبيه ووارثه لا نعلم له وارثاً سواه، وقضى القاضي بذلك ثم جاء رجل وادعى أنه أب الميت، وأقام على ذلك بينة قضى القاضي به؛ لأنه لا تنافي بين كون الأول جد الميت، وبين كون الثاني أباً له، ويجعل الميراث للأب وينقض القضاء بالمال للجد؛ لوقوعه خطأً أو الجد محجوب بالأب، ويجعل الجد أباً لهذا الذي ادعى الأبوة، فإن قال الأب للقاضي: إن هذا الذي أقام البينة أنه جد الميت ليس بأب لي فمره بإعادة البينة، فالقاضي لا يكلفه ذلك؛ لأن نسب الجد ثابت بقضاء القاضي بالبينة القائمة على النسب، عند وجود شرطها، وهو دعوى الميراث ولم يوجد ما يوجب النقض في حق النسب فبقي نسبه كما كان. فإن قيل: القضاء بالنسب ثبت في ضمن القضاء بالوراثة، وقد تبين بطلان القضاء بالوراثة فتبين بطلان القضاء بالنسب أيضاً. قلنا: القضاء بالوراثة، لم يبطل إنما بطل القضاء بدفع المال إليه، وهذا لأن الجد وارث مع الأب لوجود سبب الوراثة في حقه إلا أن الأب أقرب، والميراث يدفع إلى أقرب الوارثين مع كون الأبعد وارثاً، فإنما يبطل القضاء بدفع المال، أما لا يبطل القضاء بالوراثة، وإذا لم يبطل القضاء بالوراثة كيف يبطل ما ثبت في ضمنه من القضاء بالنسب، نظيره الجار مع الشريك، فإن الشريك مقدم على الجار، وإن اجتمعا عند القاضي فالقاضي يقضي بالشفعة للشريك مع كون الجار شفيعاً في نفسه حتى لو سلم الجار الشفعة يصح تسليمه كذا ههنا. واستشهد في «الكتاب» لإيضاح ما قلنا بمثله فقال: ألا ترى أن الأول لو أقام بينة أنه أخو الميت لأب وأم، وقضى القاضي بذلك وجعل الميراث له، ثم جاء آخر وأقام البينة أنه ابن الميت، جعل القاضي الميراث للابن، ويجعل الأول عماً لهذا الابن فإن قال الابن: إنه ليس بعمي، فمره بإعادة البينة، لا يكلفه القاضي ذلك. [ والمعنى ما ذكرنا، وكتاب القاضي إلى القاضي في نقل الشهادة في هذا الباب

مقبول؛ لأنه ثبت مع الشبهات، فيقبل فيه كتاب القاضي كما في سائر الحقوق التي تثبت مع الشبهات. وإذا مات الرجل فأقام رجل البينة أنه فلان ابن فلان الفلاني، وأن الميت فلان بن فلان الفلاني حتى التقيا إلى أب واحد من قبيلة واحدة، وهو عصبة الميت ووارثه، لا نعلم له وارثاً غيره قضى له بالميراث؛ لأنه أثبت بالبينة أنه ابن عم الميت لأبيه وأمه، أو لأبيه؛ لأنهما التقيا إلى أب واحد وإنما يلتقيان إلى أب واحد إذا كان المدعي ابن عم الميت من جهة الأب والأم أو من جهة الأب، فأما إذا كان ابن عمه لأم لا يلتقيان إلى أب واحد، وهو معنى قولنا: إنه أثبت بالبينة أنه ابن عم الميت لأبيه وأمه أو لأبيه وقد شهدوا أنه وارثه لا نعلم له وارثاً غيره له فوجب القضاء له بالميراث، فإن جاء آخر بعد ذلك وأقام بينة أنه عصبة الميت، فإن أثبت الثاني مثل ما أثبته الأول بأن أثبت أنه فلان بن فلان الفلاني، والميت فلان بن فلان الفلاني حتى التقيا إلى أب واحد قبلت بينة الثاني، إذا التقيا إلى أب واحد من قبيلة واحدة وإن كانا من قبيلتين بأن ادعى الأول أنه من العرب، وادعى الثاني أنه من العجم لا تقبل بينة الثاني؛ لأن العمل بالبينة متعذر، إذ يستحيل أن يكون للرجل ابنا عم من قبيلتين، فترجحت البينة الأولى بالقضاء، وإن أثبت الثاني نسباً أبعد عن الأول بأن أثبت الثاني أنه ابن ابن عمه، فالقاضي لا يلتفت إلى بينته التقيا إلى أب واحد من قبيلة واحدة، أو من قبيلتين؛ لأنه لا يستحق شيئاً من الميراث مع الأقرب. وإن أثبت الثاني نسباً فوق الأول، بأن ادعى الثاني أن الميت ابنه ولد على فراشه، وأنه أبوه لا وارث له غيره. فهذا على وجهين: إن ادعى الأب نسبه من القبيلة التي ادعاها ابن العم تقبل بينة الأب، وينقض القضاء الأول في حق الميراث دون النسب حتى لا يبقى الأول ابن عم له حتى لو مات هذا الأب يرث الأول منه إذا لم يكن له وارث أقرب منه؛ لأن العمل بالبينتين في حق ثبات النسب ممكن، إذ يجوز أن يكون للإنسان أب وابن عم من قبيلة واحدة، وإذا أمكن العمل في حق ثبات النسب لم ينقض القضاء الأول في حق النسب، وينقضه في حق الميراث؛ لأن ابن العم لا يرث مع الأب. وإن ادعى الأب نسبه من قبيلة أخرى قبلت بينة الأب وينقض القضاء الأول في حق الميراث والنسب جميعاً؛ لأن العمل بالبينتين في حق النسب متعذر ههنا، لأن.... دعواهما أن للميت أبوان، هذا المدعي وأخ أب ابن العم، ولا يتصور من حيث الحقيقة أن يكون للشخص الواحد أبوان، وإذا تعذر العمل بهما في حق النسب وجب العمل ببينة الأب، لأن في بينة (129ب4) الأب زيادة إثبات؛ لأن الأب أقرب. فإن قيل: لا بل العمل بالبينتين في حق النسب ممكن بأن كان بين رجلين جارية جاءت بولد فادعياه، فينبغي أن لا ينقض القضاء الأول في حق النسب، فلا يجوز أن

يكون للولد الواحد أبوان من حيث الحكم كما قلتم، إلا أن من شرط ثبوت أبوتهما للواحد أن يدعيا معاً، أما إذا سبق أحدهم الآخر في الدعوة لا يصح دعوة الثاني، وههنا مدعي الأبوة صار سابقاً معنى وإن كان ابن العم سابقاً في الدعوة صورة؛ لأن الأب ادعى لنفسه زيادة قرب لم يدعيه ابن العم، فصار الأب منفرداً بهذه الزيادة ولم يزاحمه ابن العم في ذلك، فصار سابقاً معنى، فيعتبر بما لو كان سابقاً حقيقة لا تصح دعوى ابن العم في ذلك كذا ههنا، فإن قيل: إذا تعذر العمل بها من حيث الحقيقة والحكم كان يجب أن تترجح البينة التي اتصل بها القضاء كما ادعى الثاني أنه ابن عمه من قبيلة أخرى. قلنا: إنما تترجح البينة التي اتصل بها القضاء حالة التنافي إذا لم يكن في البينة الثانية زيادة إثبات كما في ابني العم، فعند الاستواء في الإثبات تترجح الأولى بحكم اتصال القضاء بها، وههنا في البينة الثانية زيادة إثبات، وفي مثل هذا، الترجيح بزيادة الإثبات لا باتصال القضاء؛ لأن الترجيح من حيث زيادة الإثبات ترجيح في نفس الشهادة، والترجيح من حيث القضاء ترجيح من حيث الحكم. وخرج على المعنى الذي قلنا الولد إذا تنازع فيه رجلان، فأقام أحدهما البينة وقضى القاضي بالولد، ثم أقام الآخر بينة بعد ذلك لم تقبل بينته، وترجح الأول بالقضاء؛ لأنه ليس في البينة الثانية زيادة إثبات، والجمع بينهما غير ممكن، فرجحنا الأول باتصال القضاء بها. وإذا شهد شاهدان أن فلاناً أعتق هذا الميت وأن الرجل عصبة الذي أعتق، وأنه عصبة المعتق لذلك لا تقبل شهادتهما ما لم يبينا سبب العصوبة (من) أنه ابن الذي أعتق أو أبوه أو أخوه أو ما أشبه ذلك، وهذا لأن أسباب العصوبة كثيرة، ومن العصبات من لا يصير محجوباً بغيره، ومنهم من يصير محجوبا بغيره، فلا بد من أن يعلم القاضي سبب عصوبته حتى إذا جاء آخر فادعى عصوبته، فالقاضي يعلم أن الثاني محجوب بالأول وهو حاجب له، وصارت الشهادة على الميراث، ودعوى الميراث دعوى تلقي الملك من جهة الميت، نظير الشهادة على دعوى تلقي الملك من جهة حالة الحياة. ومن ادعى تلقي الملك من جهة الحيوة وشهد الشهود بذلك ولم يبينوا سببه، فالقاضي لا يقضي بشهادتهم؛ لأن في أسباب الملك كثيرة وأحكامها مختلفة، فالبيع لا يوجب ملكاً لأنه جاء بعوض، والهبة توجب ملكاً غير لازم بغير عوض، فكذا في دعوى الميراث. وإذا شهد الشهود بوراثة رجل وبينوا سببه ولم يزيدوا عليه، فاعلم بأن ههنا فصول: أحدها: هذا، والحكم فيه أن الشهادة مقبولة إلا أن القاضي لا يدفع المال إلى المشهود له للحال بل يتلوم زماناً لجواز أن يظهر وارث آخر للميت هو مزاحم للمشهود له، أو هو مقدم عليه.

الثاني: إذا شهدوا بوراثته وبينوا سببه وقالوا: لا نعلم له وارثاً آخر، وهذه الشهادة مقبولة، ويدفع القاضي المال إليه للحال من غير تلوم، وقوله: لا نعلم له وارثاً سوى هذا ليس من صلب الشهادة، بل هو لإسقاط مؤنة التلوم عن القاضي؛ لأن بدون ذكر هذه الزيادة القاضي يتلوم، وبعد ذكر هذه الزيادة لا يتلوم. الثالث: إذا شهد أنه وارثه لا وارث له غيره، وهذه الشهادة مردودة قياساً مقبولة استحساناً، وجه القياس: أن هذه شهادة بما يعلم القاضي أنه لا علم للشاهد به لا من حيث الحقيقة، ولا من حيث الحكم بمعاينة الحكم، أما من حيث الحقيقة فظاهر، وأما من حيث الحكم بمعاينة السبب؛ لأنه لا يوجد في النفي سبب موضوع يوجب النفي بخلاف الشهادة على الإثبات؛ لأن من الإثبات ما يعلم حقيقة، كالأفعال نحو الغصب والقتل، ومنها ما يعلم من حيث الظاهر بمعاينة الأسباب كالأملاك، فلم تكن الشهادة على الإثبات شهادة بما يعلم القاضي أنه لا علم للشاهد به وبخلاف قوله: لا نعلم له وارثاً غيره لأن قوله لا نعلم له وارثاً غيره إخبار عن عدم علمه بوارث آخر، وهو يعلم عدم علمه بوارث آخر، فلم تكن هذه شهادة بعلم القاضي أنه لا علم للشاهد به، وأما قوله: لا وارث له غيره إخبار عن نفي وارث آخر في نفسه، ولا علم له بذلك لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الظاهر بمعاينة السبب على ما ذكرنا. وجه الاستحسان: أن العمل بحقيقة هذه الشهادة إن تعذر من الوجه الذي قلتم أمكن العمل بمجازها بأن يجعل قولهما: لا وارث له غيره، كناية عن قولهما: لا نعلم وارثاً غيره، لأن عدم وارث آخر غير هذا المدعي متى ثبت على الحقيقة ثبت عدم العلم بوارث آخر غيره، فيمكن أن يجعل نفسه على الحقيقة كناية عن نفي علم. الرابع: إذا قالا: لا نعلم له وارثاً آخر بأرض كذا غير فلان، قال أبو حنيفة رحمه الله: هذه الشهادة جائزة ويقضي له بالميراث، وقالا: لا تجوز هذه الشهادة ولا يقضى له بالميراث، وجه قولهما، أن وجود وارث في مكان آخر إن لم يثبت بشهادتهما نصاً فقد ثبت مقتضى تخصيصهما هذا المكان بنفي وارث آخر فيه، لأنه لو لم يكن له وارث آخر في مكان آخر لم يكن لتخصيص هذا المكان بالنفي فائدة والثابت اقتضاءً والثابت نصاً سواء، ولو ثبت وجود وارث آخر في مكان آخر نصاً بأن قالا: لا نعلم له وارثاً آخر في مكان كذا وله وارث آخر في مكان كذا، أليس إن القاضي لا يدفع المال إليه؟ كذا ههنا، ألا ترى أنهما لو قالا: لا نعلم له وارثاً آخر في هذا المجلس لا يقضى بالميراث له وطريقه ما قلنا، ولأبي حنيفة رحمه الله أن وجود آخر في مكان آخر لم يثبت بشهادتهما لا نصاً، ولا يقتضي تخصيصهما هذا المكان بالنفي فيه؛ لأن بهذا التخصيص فائدة أخرى. ووجه ذلك: أنما لما لم يكن له وارث آخر في هذا المكان مع أنه مسقط رأسه، أولى أن لا يكون له وارث آخر في مكان آخر، ثم يقول: إن في هذا الكلام تقديم وتأخير يمكن تصحيح الشهادة لو حمل عليه، فيحمل عليه إذ يحتال بتصحيح الشهادة بقدر

الممكن، ووجه التقديم والتأخير أنا لا نعلم له وارثاً آخر غير فلان بأرض كذا، فيكون ذكر الأرض لكون فلان فيها، ونفي غيره على العموم، أما أن يكون ذكر الأرض لتخصيصه بالنفي فيه فلا، ثم الشهود إذا شهدوا على وراثة شخص وبينوا سببها، وهذا الشخص ممن يستحق جميع المال، ولا يصير محجوباً بغيره، كالابن والبنت والأب إن قالوا: لا نعلم له وارثاً آخر غيره، فالقاضي يدفع جميع المال إليه من غير تلوم؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت بعلم القاضي، ولو علم القاضي بذلك كان يدفع المال إليه كذا ههنا. فإن قيل: نفي وارث آخر ثابت بعضه بالأصل، فإن الأصل هو العدم، فلماذا يشترط نفيه بالشهادة؟. قلنا: نعم الأصل هو العدم، إلا أن العدم ثابت باستصحاب الحال لا بدليله، والثابت باستصحاب الحال يصلح للدفع لا للاستحقاق، فلهذا شرطنا ثبوت النفي بدليله حتى يصلح لاثبات استحقاق ما لم يكن ثابتاً، فأما إذا شهدوا أنه ابنه ولم يزيدوا على هذا، فالقاضي لا يدفع جميع المال إليه بل يتلوم زماناً يقع في غالب رأي القاضي أنه لو كان معه وارث آخر لظهر في هذه المدة، ولم يقدر محمد رحمه الله في «الأصل» لذلك مقداراً، ولكن فوض ذلك إلى رأي القاضي، وهكذا ذكر في «الجامع» فالمذكور في «الجامع الكبير» : أن القاضي يتأنى ويتلوم في ذلك زماناً قدر ما يقع في غالب رأيه أنه لو كان له وارث آخر لظهر في مثل هذه المدة، وذكر الطحاوي رحمه الله في مختصره وقدر لذلك حولاً؛ لأن الغيبة قد تمتد إلى حول، قالوا: ما ذكر الطحاوي قولهما؛ لأنهما يثبتان المقدار فيما لا نص فيه ولا إجماع بالاجتهاد، وما ذكر في «الأصل» وفي «الجامع» قول أبي حنيفة؛ لأنه لا يثبت المقدار فيما لا نص فيه ولا إجماع بالاجتهاد، بل يفوضه إلى رأي من ابتلي به، فإنه إذا تلوم حولاً أو مقداراً وقع في قلبه أنه لو كان له وارث آخر لظهر دفع المال إليه؛ لأن نفي وارث آخر ثبت بنوع دليل وهو التلوم، فصار كما لو ثبت بالشهادة، فأما قبل التلوم لا يدفع المال إليه؛ لأن نفي وارث آخر قبل التلوم ثابت باستصحاب الحال (130أ4) وإنه لا يصح لإثبات استحقاق ما لم يكن ثابتا فرق بين هذا وبينما إذا شهدوا أنه جد الميت أب أبيه أو أخوه لأبيه وأمه ولم يزيدوا على هذا فإن القاضي لا يدفع المال إليه بالتلوم ما لم يشهد الشهود بالنفي، وفي الابن قال: يدفع المال اليه بالتلوم والفرق أن في مسألة الابن وقع الشك في دفع بعض المال لا في دفع الكل لأنه مستحق للبعض على كل حال، وفي مسألة الجد والأخ الشك وقع في الكل لأنهما يحجبان بوارث آخر ولا شك أن الشك للتمكن في دفع الكل فوق الشك المتمكن في دفع البعض، والنفي الثابت بالتلوم دون النفي الثابت بالشهادة من حيث الحقيقة؛ فاكتفى بالتلوم للنفي متى وقع الشك في دفع البعض، ولم يكتف متى وقع الشك في دفع الكل ليظهر نقصان ريبة التلوم عن ريبة الشهادة وصار وزان مسألة الجد والأخ مسألة الابن: أن لو شهد أنه جده أب أبيه ووارثه، أو شهدا أنه أخوه لأبيه وأمه ووارثه حتى

ثبت له استحقاق البعض ووقع الشك في الباقي، ولو كان كذلك كان يدفع المال إليه بالتلوم، وإذا عرفت الجواب في الابن فهو الجواب في الابنة والأبوين؛ لأن الشك في حقهم يمكن في البعض؛ لأنهم لا يحجبون بحال، والجواب في ابن الابن وفي ابن الأخ والعم وابن العم، كالجواب في الجد والأخ؛ لأن في حق هؤلاء وقع الشك في دفع الكل؛ لأنهم يحجبون بغيرهم هذا الذي ذكرنا إذا كان المدعي استحق جميع المال، وهو ممن لا يحجب بغيره كالابن والابنة أو ممن يحجب بغيره كالأخ والعم وابن الأب وأشباههم، وأما إذا كان المدعي وارثاً لا يستحق جميع المال ولكن لا يصير محجوباً بغيره. كالزوج والزوجة إن شهدا أنه زوجها أو أنها زوجته لا يعلم له وارثاً غيره دفع إلى الزوج النصف وإلى المرأة الربع، لأن نفي وارث آخر ثبت بالشهادة فصار كالثابت بعلم القاضي، وأما إذا شهدوا أنه زوجها أو شهدوا أنها زوجته ولم يزيدوا على هذا؛ أجمعوا على أن قبل التلوم لا يدفع إليه أكثر النصيبين؛ لأن استحقاق أكثر النصيبين معلق بعدم الولد وأنه لم يثبت بدليله، والعدم الثابت باستصحاب الحال لا يكفي، وأما إذا تلوم زماناً ولم يظهر وارث آخر. قال محمد رحمه الله في دعوى «الأصل» : إن القاضي يدفع إليه أكثر النصيبين، إن كان زوجاً يدفع إليه النصف، وإن كان زوجة يدفع إليها الربع، وقال أبو يوسف رحمه الله: يدفع إليه أقل النصيبين؛ إن كان زوجاً الربع وإن كان زوجة الثمن، ولم يذكر قول أبي حنيفة مع أبي يوسف في «المبسوط» و «الطحاوي» : في مختصره ذكر قول أبي حنيفة مع أبي يوسف والخصاف ذكر قوله مع قول محمد. وإذا ادعى داراً في يدي إنسان أنها له ورثها عن أبيه وجاء شهود وشهدوا أنها كانت لأبيه إلى أن مات وتركها ميراثاً له لا يعلم له وارثاً غيره، فالقاضي يقبل هذه الشهادة ويقضي بالدار للمدعي وهذا ظاهر، وكذلك إذا شهدوا أنها كانت لأبيه يوم الموت، فالقاضي يقبل هذه الشهادة ويقضي بالدار للمدعي، وإن لم يشهدوا أنه تركها ميراثاً له؛ لأنهم إن لم يشهدوا بذلك صريحاً فقد شهدوا بذلك دلالة، لأن ما كان للإنسان يوم الموت يصير ميراثا لورثته لا محالة، وكذلك إذا شهدوا أنها كانت في يد أبيه إلى أن مات، أو شهدوا أنها كانت في يد أبيه يوم الموت فالقاضي يقبل هذه الشهادة ويقضي بالدار للمدعي؛ لأن الشهادة باليد يوم الموت شهادة بالملك له يوم الموت، لأن اليد المجهولة تنقلب يد ملك عند الموت؛ لأن الظاهر من حال من حضره الموت أن يسوي أسبابه، ويبين ما كان عنده من الودائع أو الغصوب، فإذا لم يبين فالظاهر أن ما في يده ملكه فجعلنا اليد عند الموت ملك من هذا الوجه، وروى الحسن بن زياد وعلي بن يزيد الطبري صاحب محمد بن الحسن رحمهم الله، أنه لا تقبل الشهادة في هذه الصورة؛ لأنهم شهدوا بيد عَرَف القاضي زوالها، ولم يشهدوا بالملك للمورث، ولكن ما ذكر في ظاهر الرواية أصح لما ذكرنا أن الأيدي المجهولة تنقلب عند الموت يد ملك، فكانت

هذه شهادة بالملك من حيث المعنى، ولو شهدوا أنها كانت لأبيه ولم يجروا الميراث الى المدعي، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة في قول أبي حنيفة رحمه الله، وهو قول أبي يوسف رحمه الله أولاً، رجع أبو يوسف عن هذا القول وقال: تقبل هذه الشهادة ويقضي بالدار للمدعي. وجه قول أبي يوسف آخر: أن كون هذه الدار ملكاً للميت يوم الموت إن لم يثبت بنص الشهادة ثبت بمقتضى الشهادة أنها كانت لأبيه؛ لأن ما كان للانسان يبقى له إلى أن يوجد ما يزيله فيبقى إلى يوم الموت، فصار هذا وما لو شهد بكونه له يوم الموت سواء، والدليل عليه أن الأب لو كان حياً وادعى الدار لنفسه، وجاء المدعي بشهود وشهدوا أنها كانت للمدعي، فالقاضي يقبل هذه الشهادة؛ لأن الشهادة بأنها كانت للمدعي شهادة بأنها للمدعي في الحال. والدليل عليه ما لو شهدوا على إقرار ذي اليد أنها كانت للميت فإنه تقبل هذه الشهادة، وجعل هذا بمنزلة إقراره أنها كانت للميت يوم الموت بالطريق الذي قلنا. والدليل عليه: من ادعى عيناً في يد إنسان أنه له اشتراه من فلان الغائب وجاء بشهود ولا بد للشهود أن يذكروا في شهادتهم ملك البائع، فلو شهد شهوده أنه كان للبائع فإنه يقضي للمشتري وإن لم يشهدوا بكونه ملكاً للبائع يوم البيع ما كان الطريق إلا ما قلنا. وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أن كون هذه الدار ملكاً للميت يوم الموت باستصحاب الحال لا بالبينة، فإنهم لم يشهدوا أنها كانت لأبيه يوم الموت، وإنما شهدوا أنها كانت لأبيه لا غير، إلا أن ما ثبت للأب فإنه يبقى إلى يوم الموت ما لم يوجد دليل الزوال باستصحاب الحال لا بدليل يوجب قيام. قلنا: والثابت باستصحاب الحال يصلح لإبقاء ما هو ثابت ولا يصلح لإثبات ما هو غير ثابت على ما عرف، فاعتبرنا كون الثابت يوم الموت باستصحاب الحال لا بالبينة لإبقاء ما كان ثابتاً وهو الملك للميت، فإنه لا يثبت الوارث بالموت ملك جديد بل يبقي عين ما كان للميت حتى يرد بالعيب، ويرد عليه ولم يصر في حق مالكية الوارث؛ لأن اعتباره في حق مالكية الوارث لم يكن ثابتاً، وإنما ثبت للحال فيأخذ الاعتبارين إن وجب القضاء بهذه البينة، فباعتبار الآخر لا يجب فلا يجب بالشك والاحتمال، وليس كما شهدوا أنها كانت لأبيه يوم الموت للميت ثابت بالبينة يصلح لإثبات ما لم يكن ثابتاً، أما في مسألتنا هذه فتكون هذه الدار للميت يوم الموت غير ثابت بالبينة والتقريب ما مر، وبخلاف ما إذا شهدوا أنه كان في يده يوم الموت، لأن الشهادة باليد للميت يوم الموت شهادة بالملك له على ما بينا. وإذا كانت شهادة بالملك له فيكون هذا الشيء ملكاً للميت يوم الموت ثبت بنص البينة، وليس كما لو ادعى الملك لنفسه، وشهدوا أنها كانت للمدعي، فإنه يقضي بها للمدعي، وإن ثبت كونها ملكاً للمدعي للحال باستصحاب الحال لا بالبينة، لأن هناك لا

يعتبر الكون الثابت للحال باستصحاب الحال لإثبات ما لم يكن ثابتاً، بل يعيده لإبقاء ما كان ثابتا له من الملك والمالكية جميعاً، بخلاف ما نحن فيه. وليس كمسألة الشراء لأن ملك المشتري مضاف الى الشراء الثابت بالبينة لا إلى بقاء ملك البائع في البيع الثابت له وقت الشراء باستصحاب الحال، وإن كان لابد لإثبات ملك المشتري من بقاء ملك البائع إلى يوم الشراء أحدهما: وجود، أو أنه لا يوجد حكماً لبقاء ملك البائع يوم الشراء، وإنما يوجد بالمباشرة عن اختيار، وإنه للملك فإنه موضوع كذلك، ألا ترى أنه لا يتحقق من غير إيجاب الملك فيكون الملك الثابت للمشتري مضافا إلى الشراء الذي ثبت بالبينة، لا إلى بقاء ملك البائع الثابت باستصحاب الحال، وما ثبت بالبينة يصلح لإثبات ما لم يكن ثابتاً. وأما معنى ثبوت الملك للوارث مضاف إلى كون المال ملكاً للميت وقت الموت، لا إلى الموت الثابت معاينة، لأن الموت ليس بسبب للملك، فإنه موضوع لإبطال الحياة لا لإيجاب الملك حتى يتحقق من غير إيجاب ملك لأحد، وبقاء ملك الميت إلى يوم الموت فيما نحن فيه ثابت باستصحاب الحال لأن الشهود لم يشهدوا بذلك (130ب4) والثابت باستصحاب الحال لا يصلح لإثبات ما لم يكن ثابتاً إن صلح، لإبقاء ما كان ثابتاً. وأما مسألة الإقرار قلنا: الملك الثابت للوارث هناك مضاف إلى إقرار ذي اليد الثابت بالبينة لا إلى بقاء ملك أبيه يوم الموت الثابت باستصحاب الحال، وإن كان لابد للميراث من الأمرين جميعاً كما في الشراء إلا أن الإقرار أحدهما: وجود أو أنه يصلح سبب ملك من وجه لأنه تمليك من جهة المقر إن كان إخباراً من وجه، ولهذا لا يصلح إذا لم يعد للمقر له ملكاً والإقرار ثابت بالبينة والثابت بالبينة يصلح لإثبات ما لم يكن تاماً، فأما ما ملك الوارث مضاف إلى كون هذه الدار ملكاً للأب يوم الموت لا إلى الموت الثابت معاينة، وكون هذا المال لأبيه يوم الموت ثابت باستصحاب الحال، وأنه لا يصلح لإثبات ما لم يكن ثابتاً فهذا هو الفرق بين هذا وبين الإقرار. فإذا شهد أنها لأبيه لا تقبل هذه الشهادة، ذكر محمد رحمه الله المسألة في كتاب «الدعوى» من غير ذكر خلاف، وقد اختلف المشايخ فيه، من قال: المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: تقبل لأنهم شهدوا بالملك للميت والثابت للوارث عين ما كان ثابتاً للمورث.g والحاصل: أن أبا يوسف اعتبر جانب الملك ولا استحالة في جانب الملك، وهما اعتبرا جانب المالكية فقالا: أثبتنا المالكية للميت في الحال ولا مالكية للميت في الحال فكانت هذه شهادة بالمستحيل، ومنهم من قال: لا تقبل هذه الشهادة بلا خلاف وإليه ذهب الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله فكان يقول بأن محمداً رحمه الله ذكر كلا الفصلين في «الكتاب» ثم خص رجوع أبي يوسف في مسألة الكون للميت، ولو كان الخلاف فيهما واحداً لذكر رجوعه فيهما، فعلى هذا: أبو يوسف يحتاج إلى الفرق

بين هذه المسألة وبين تلك المسألة، ووجه الفرق له أن يقال: بأن الاستحالة في هذه المسألة إن لم تتحقق في جانب الملك؛ لأن الملك لم يتجدد للوارث بل قام مقام الميت كأنه وكيله فتحقق الاستحالة في إثبات المالكية للميت للحال يمنع قبول الشهادة واعتبار إثبات الملك للورثة للحال، وأنه غير مستحيل للحال يوجب قبوله، فلا يجب القبول بالشك، بخلاف ما لو شهدا أنه كان لأبيه لأنها غير مستحيلة باعتبار الملك والمالكية جميعاً؛ لأنهم أثبتوا كلا الأمرين في حالة الحياة فوجب القبول، فإذا وجب القبول نفى الملك إلى يوم الميت باستصحاب الحال، ثم ثبت مالكية الوارث حكماً ثم هذا الاختلاف فيما إذا لم يجروا الميراث، فأما إذا جروا وقالوا: هذا لأبيه مات وتركها ميراثاً له، تقبل هذه الشهادة بلا خلاف، وذكر محمد رحمه الله مثل هذا في مسألة الحد في «الأصل» على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وفي «فتاوى النسفي» رحمه الله: إذا شهد الشهود بالوراثة وقالوا: أين محدود ملك فلان يود وحق وي وريدست وي تا أول ترك بمرد وميراث ما ندخر وندان بشر رأ فلان وفلان رأى أنه ليس بتام ولا بد من أن يقول: ميراث ما نداين محدود رأى ويقول: ميراث ما ندش حتى يتم حكم الميراث في المحدود المدعى. قال الشيخ الإمام نجم الدين عمر النسفي رحمه الله: وكتبت الفتوى في حد الميراث وبالغت في شرائط الحد غير أني تركت الهاء عند قوله: وتركه ميراثاً، وكتبت: وترك ميراثاً فقال لي السيد الإمام: ألحق بالهاء واجعل وتركه ميراثاً حتى أفتي بالصحة. وينبغي أن يقال إذا شهدوا: أنه ملكه يوم موته أو شهدوا أنه كان في يده يوم مات أن لا يحتاج فيه إلى؟ الميراث، وإنما يحتاج إليه إذا شهدوا أنه كان ملكه ولم يتعرضوا ليوم الموت، بدليل المسائل التي تقدم ذكرها. قال: وإذا شهد شاهدان أن فلاناً (مات) وترك هذه الدار ميراثاً لفلان ابنه هذا، لا يعلمون له وارثاً غيره، ولم يدركا فلاناً الميت لا تقبل شهادتهما لا تحلل في جر الميراث؛ لأنهم جروا الميراث إليه على وجهه، حيث قالوا: وتركها ميراثاً له، ولا يحلل في الشهادة بالنسب والموت من حيث أنهم شهدوا بالشهرة والتسامع؛ لأن الشهادة بالنسب والموت بالشهرة جائزة، ولكن إنما لم تقبل شهادتهما لخلل في شهادتهما بالملك؛ لأنهم شهدوا بالملك للميت بالشهرة والتسامع فإن ما لا يكون مملوكاً للميت لا يصير ميراثاً لورثته، وإذا لم يدركوا الميت، لم يعاينوا سبب الملك منه في الدار، ولا كون الدار في يده يتصرف فيه تصرف الملاك، فعلم أن شهادتهما بالملك للميت بحكم الشهرة والتسامع لا تجوز هذا إذا كان نسب المدعي معروفاً من الميت، وإن لم يكن نسبه معروفاً من الميت فشهدا أنه فلان بن فلان الميت، وأن فلان الميت ترك هذه الدار ميراثاً له ولم يدركا الميت لم يذكر هذا الفصل ههنا، وذكر في «المنتقى» أجرى شهادتهما في النسب، وأبطلها في الميراث.

ولو شهدوا على دار في يدي رجل أنها لفلان جد هذا الرجل المدعي وخطيه وقد أدركوا الجد، والمدعي يدعي أنها كانت لأمه فاعلم بأن ههنا فصلان: أحدهما: إذا شهدوا أنها كانت لجد المدعي، وأنه على وجهين، الأول: إذا جروا الميراث بأن شهدوا أنها كانت لجد هذا المدعي فلان، مات الجد وتركها ميراثاً لهذا المدعي، وفي هذا الوجه تقبل الشهادة، ويقضي بالدار للمدعي. الوجه الثاني: إذا لم يجروا الميراث بأن شهدوا أنها كانت لجد المدعي ولم يزيدوا على هذا، وفي هذا الوجه إن لم يعلم تقدم موت الجد على موت الأب لا يقضى بالدار للمدعي بالإجماع، وإن علم فكذلك الجواب عند أبي حنيفة ومحمد وأبي يوسف رحمهم الله أولاً، ثم رجع أبو يوسف وقال: يقضى بالدار للمدعي. والاختلاف في هذا نظير الاختلاف فيما إذا شهدوا أنها كانت لأبيه، ولو شهدوا على إقرار ذي اليد أن هذه الدار كانت لجد المدعي ولم يجروا الميراث، فإن القاضي يقضي بالدار للمدعي إذا لم يكن له وارث آخر، كما لو شهدوا على إقرار ذي اليد أنها كانت لأبيه وبعض مشايخنا قالوا في مسألة الجد: لا تقبل الشهادة بلا خلاف. الفصل الثاني: إذا شهدوا أن هذه الدار لجد هذا المدعي ولم يقولوا كانت لجده، فإن جروا الميراث تقبل الشهادة ويقضى بالدار للمدعي؛ لأن تفسير الجر أن يقولوا: هذه الدار لجده، مات الجد وتركها ميراثاً لأبيه، ثم مات أبوه وتركها ميراثاً لهذا المدعي، ومتى قالوا: مات الجد وتركها ميراثاً لأبيه فقد شهدوا بالملك لأبيه حال حياته، وصار من حيث المعنى كأنه قال: كانت لأبيه وجروا الميراث، فأما إذا لم يجروا الميراث فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة ومحمد فههنا أولى، وأما على قول أبي يوسف الآخر رحمه الله: فقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: تقبل هذه الشهادة؛ لأن معنى قول الشاهد: إنها لجده عرفاً وعادة أنها كانت لجده، ولو شهدوا أنها كانت لجده أليس أنه يقضى بها للمدعي عنده كذا ههنا، ومنهم من قال: لا تقبل الشهادة ولا يقضى بالدار للمدعي عنده أيضا. والفرق: لأبي يوسف: بينما إذا شهدا أنها كانت لجد المدعي وبينما إذا شهدا أنها لجد المدعي، والفرق: أنهم إذا شهدوا أنها كانت لجد المدعي فقد أثبتوا الملك لجده حال حياته وهو من أهل الملك في حياته، فيثبت الملك للجد في حياته بهذه الشهادة، وما ثبت للجد ينتقل إلى المدعي ما لم يثبت الزوال من الجد قبل موته إلى غيره، وأما في هذه المسألة أثبتوا الملك للجد بعد الموت لأن قولهم: له عبارة عن الحال، وهو ميت في الحال، والميت ليس من أهل الملك فلم يثبت الملك للجد، فكيف ينتقل إلى المدعي؟. وإن شهدوا أن الدار كانت لجد هذا المدعي مات الجد، وقد ترك أب هذا المدعي

وارثاً لا وارث له غيره، ولم يزيدوا على هذا يعني: لم يشهدوا أن أب هذا المدعي مات وتركها ميراثاً له، فالمسألة على الخلاف الذي ذكرنا؛ لأنهم شهدوا بملك الجد والانتقال إلى ابنه فكأنهم شهدوا أنها كانت لأبيه، كلفتهم البينة على عدد الورثة، ثم نفذت القضاء لأنهم ما لم يشهدوا على عدد الورثة لا يصير نصيب المدعي معلوماً والقضاء بالمجهول لا يجوز؛ وكذلك إذا شهدوا أنها كانت لجد المدعي، كلفتهم البينة على عدد الورثة ثم نفذت القضية (131أ4) بحصة هذا المدعي، وهذا لأن الشهادة على أنها كانت لأبيه أو على أنها كانت لجده شهادة معتبرة عند أبي يوسف رحمه الله، وبها يثبت كون الدار مملوكاً للأب أو للجد عند الموت، وما كان للمورث عند الموت يصير ميراثاً لورثته، إلا أنا نعلم كم نصيب هذا المدعي من الميراث، فشرط بيان عدد الورثة ليعلم مقدار نصيب المدعي. قال في كتاب «الأقضية» : دار في يدي رجل، أقام أحد البينة أن أبي اشتراها منه بألف درهم، وقد مات أبي والبائع يجحد ذلك، فإني لا أكلفه البينة أن أباه مات وتركها ميراثاً له ولكن أسأله البينة أنهم لا يعلمون له وارثاً غيره، فإن أقامها أمرته بدفع الدار إليه. وإنما لم يكلفه إقامة البينة أن أباه مات وتركها ميراثاً له لأنه لما أقام البينة على الشراء منه، ومعلوم أن كل مانع مقر بالملك لمورثه وقد ذكرنا أن صاحب الدين إذا أقام البينة على إقرار ذي اليد بالملك لمورثه، كفى ذلك حجة للقضاء ولا يحتاج إلى جر الميراث كذا ههنا، وإنما سأله البينة على أنهم لا يعلمون له وارثاً غيره لدفع شبهة التلوم عن نفسه، وإلا هذا القدر كاف لتوجه القضاء به. وإن كانت الدار في يد غير البائع سألته البينة أن أباه مات وترك هذه الدار ميراثاً له، لأن المدعي على ذي اليد ههنا نفس الملك للمورث والانتقال إلى نفسه بسبب الإرث، لا إقرار ذي اليد بالملك للمورث وهذا لأن دعوى القرار على ذي اليد في المسألة الأولى في ضمن دعوى البيع عليه، والمدعي ههنا لا يدعي البيع على ذي اليد فكان هذا في حق ذي اليد دعوى نفس الملك للمورث فلا بد من جر الميراث. وفي «الكتاب» يقول على وجه التعليل للمسألة الأولى: أن البائع بمنزلة المرتهن، ولو أقام البينة أن أباه رهن العبد عنده وجاء بالمال لينقده ويقبض الرهن، كلف إقامة البينة على عدد الورثة ولا يكلف جر الميراث كذا ههنا، فقد أشار إلى أن البيع في يد البائع محبوس لينقد الثمن، كالرهن محبوس في يد المرتهن لينقد الدين، وحكم الرهن ما ذكرنا. وحقيقة المعنى: أن المرتهن مقر بالملك للراهن أيضاً، لأنه مقر بصحة الرهن وذلك ملك الراهن فيعتبر بما لو أقر به صريحاً، ولو ادعى إقراره صريحاً قبلت البينة من غير جر الميراث كذا ههنا. فكذا في مسألة البيع: البائع مقر بصحة البيع، فيكون مقراً بملك المشتري ضرورة. قال في «الأصل» : دار في يدي رجل جاء ابن أخ صاحب اليد وأقام بينة أن هذه الدار كانت لجده، مات وتركها ميراثاً بين أبيه وبين عمه هذا الذي الدار في يده نصفان،

ثم مات أبوه وترك نصيبه ميراثاً له، فالقاضي يقبل هذه البينة ويقضي بالدار بين المدعي وبين عمه نصفان. وإن لم يقض القاضي ببينة ابن الأخ، حتى أقام العم بينة أن أخاه وهو أب هذا المدعي مات قبل موت الجد وورث الجد منه السدس، ثم مات الجد وصار جميع الدار ميراثاً لي فهذه المسألة على وجهين: الأول: أن لا يكون في يد ابن الأخ شيء من تركة أبيه، وفي هذا الوجه بينة ابن الأخ أولى، لأن العمل بالبينتين جميعاً متعذر، لأن ابن الأخ ببينته يثبت موت الجد لاحتماله، فلا يتصور أن يكون موت الجد سابقاً على أب المدعي ولاحتماله، فلا بد من العمل بالراجح منها فنقول: بينة ابن الأخ راجح لوجهين أحدهما: ما أشار إليه في «الكتاب» فقال: لأن ابن الأخ هو المدعي، ومعنى هذا الكلام أن ابن الأخ يثبت الملك لنفسه في نصف الدار ببينة ابن العم والعم لا يثبت لنفسه شيئاً على ابن الأخ ببينته، وإنما بقي بينة ما أثبت هو لنفسه من نصف الدار، والبينات شرعت للإثبات لا للنفي. الثاني: إن كانت بينة العم مثبتة أيضاً، إلا أن بينة ابن الأخ أكثر إثباتاً لأنها تثبت الملك لأبيه في نصف الدار أولاً، ثم يثبت الملك له في نصف الدار من جهة الإرث، وبينة العم تثبت الملك للعم أما لا تثبت الملك لأبيه والجد لأن الملك ثابت للجد باتفاقهما، والبينات شُرعت للإثبات فما كانت أكثر إثباتاً، كان أولى بالقبول فإن قيل: إن كانت لبينة ابن الأخ رجحاناً من هذا الوجه فلبينة العم رجحاناً من وجه آخر، فإن للعم مع البينة اليد واليد مما يقع بها الترجيح إذا كان الدعوى في تلقي الملك من جهة الثالث. كما في دعوى الشراء من ثالث، فإن الرجلين إذا ادعيا شراء عين من ثالث، وأقاما البينة والعين في يد أحدهما فإنه يقضي بالعين لصاحب اليد. والجواب عن هذا أن يقال: بأن الملك فوق اليد، ألا ترى أن الشهود إذا شهدوا أن هذه الدار كانت لهذا المدعي، تقبل الشهادة ويقضي بالدار للمدعي، ولو شهدوا أن هذه الدار كانت في يد المدعي كانت المسألة على الاختلاف، وإذا كان الملك فوق اليد كان الترجيح بالملك أولى من الترجيح باليد. بخلاف ما إذا ادعيا الشراء من ثالث لأن هناك استوى المدعيان في إثبات الملك ولأحدهما يد فكان هو أولى، كما في دعوى الأخ أما ههنا بخلافه. الوجه الثاني: إذا كان في يد ابن الأخ بشيء من ميراث أبيه، وباقي المسألة بحالها وفي هذا الوجه ميراث الجد كلها للعم وميراث الأخ كلها لابن الأخ، ويجعل كأنهما ماتا معاً، وهذا لأن البينتين استويا في الإثبات من كل وجه؛ لأن بينة ابن الأخ أثبتت موت الجد سابقاً على موت أبيه وأثبت لأبيه ميراثاً من الجد وهو: نصف الدار التي في يد العم وأثبت ذلك لنفسه من جهة أبيه، وبينة العم تثبت بموت الأخ سابقاً على موت الجد وأثبت الجد ميراثاً من أخيه وهو سدس ما في يد ابن الأخ، ثم أثبت ذلك لنفسه من الجد. وهو معنى قولنا: البينتان استويا في الإثبات من كل وجه، والمدعيان استويا في اليد أيضاً فلا ترجيح لأحد البينتين على الأخرى، ولا لأحد المدعيين على صاحبه، فلا يعمل بينة كل

واحد منهما فخرجت البينتان من البين، وموت كل واحد منهما قد ظهر والتاريخ بينهما ليس بمعلوم، فيجعل كأنهما ماتا معاً في الغرقى والحرقى، ولو ماتا معاً لا يرث أحدهما من صاحبه، ويجعل مال كل واحد منهما لورثته كذا ههنا، بخلاف ما إذا لم يكن في يد ابن الأخ شيء من تركة أبيه، لأن هناك ترجحت بينة ابن الأخ بكثرة الإثبات أما ههنا بخلافه. قال في «الأصل» أيضاً: لو أقام رجل البينة على ميراث رجل أنه مات سنة خمسين وأنه ابنه ووارثه لا وارث له غيره وقضى القاضي بذلك، ثم أقامت امرأة البينة أنه زوجها سنة إحدى وخمسين، ومات بعد ذلك ذكر أنه تقبل بينة المرأة وتشارك الابن في الميراث ويقضي لها بالمهر هكذا ذكر، ويجب أن لا تقبل بينة المرأة؛ لأن العمل بالبينتين جميعاً متعذر لأن الابن أثبت موت أبيه سنة خمسين وقضى القاضي بذلك، وإذا صار موته مقضياً به في سنة خمسين، لا يتصور أن يكون مقضياً به في سنة إحدى وخمسين، لأن الموت مما لا يتكرر، وكل واحدة منهما في الإثبات مثل صاحبتها؛ لأن كل واحد من البينتين أثبت موت مورثه وسبب وراثته من الميت، وهو النسب والنكاح فكان يجب أن تترجح الأولى بإيصال القضاء بها، لما تعذر العمل بها قياساً على ما إذا أقامت امرأة بينة أنه تزوجها يوم النحر بمكة وقضى القاضي بذلك، ثم أقامت امرأة أخرى بينة أنه تزوجها يوم النحر بخراسان، قال: لا تقبل البينة الثانية وتترجح الأولى باتصال القضاء بها؛ لأن كل واحدة منهما في الإثبات مثل صاحبتها والعمل بها متعذر لأن الشخص الواحد في يوم واحد لا يكون بمكة وخراسان، فترجحت الأولى باتصال القضاء بها فكذا هذا. والدليل عليه: ما لو كان مكان الموت قتلاً لو أقام الابن البينة أن فلاناً قتل أباه سنة خمسين وأنه ابنه ووارثه وقضى القاضي بذلك، ثم جاءت امرأة وأقامت البينة أنه تزوجها سنة إحدى وخمسين ثم قتله فلان بعد ذلك؛ فإنه لا تقبل بينة المرأة وتترجح الأولى باتصال القضاء بها لأن كل واحدة منهما في الإثبات مثل الأخرى والعمل بهما متعذر، فترجحت الأولى باتصال القضاء بها. إلا أن الجواب عنه، وهو الفرق بين مسألة الموت والقتل، وبين مسألة مكة وخراسان، أن يقال: بأن البينة الأولى إنما ترجحت بالقضاء في مسألة القتل؛ لأن القتل صار مقضي به بالبينة الأولى لأن القاضي قضى بالضمان على القاتل فلا بد للقضاء بضمان القتل من القضاء بالقتل لأنه سببه، كما لا بد للقضاء بالملك بالشراء من القضاء بالشراء؛ لأن الشراء مسببه. وإذا صار القتل مقضياً به ضرورة القضاء بضمان القتل صار التاريخ معه مقضياً به لأن القتل لابد وأن يكون في الزمان كما في الشراء، وإذا صار القتل مقضياً به في سنة (131ب4) خمسين لم يتصور ثانياً في سنة إحدى وخمسين؛ لأنه لا يتكرر فترجحت الأولى بالقضاء لهذا، وكذلك كون المتزوج بمكة في مسألة مكة وخراسان صار مقضياً به مع النكاح وإن لم يكن كونه بمكة سبباً للاستحقاق، بل سبب الاستحقاق هو النكاح لأنه

لا يمكن القضاء بالنكاح بدون المكان، فإنه لابد للنكاح من كون الناكح في مكان، وإذا لم يكن للنكاح بد من المكان صار المكان الذي ذكره الشهود أولى بالقضاء من غيرها من الأمكنة، وإذا صار كونه بمكة مقضياً به يوم النحر، لم يتصور أن يصير كونه بخراسان مقضياً به في ذلك اليوم مرة أخرى فترجحت الأولى بالقضاء. وأما في مسألة الموت: فالموت لم يصر مقضيا به لضرورة القضاء بالنسب فإنه يتصور القضاء بالنسب من غير موت أصلاً، كما لو أقام البينة أنه ابنه في حال حياة أبيه، وأما ضرورة القضاء بالميراث لأن استحقاق الميراث مضافاً إلى النسب خاصة، لا إلى الموت والنسب؛ لأن النسب يكفي لإضافة استحقاق الميراث إليه فإن النسب إذا تأخر عن الموت بأن كان الموت ظاهراً والنسب غير ظاهر. فإذا ثبت النسب بشهادة الشهود بعد الموت، كان الاستحقاق مضافاً إلى النسب حتى لو رجع الشهود ضمنوا، وإذا كان النسب كافياً لاستحقاق الميراث لم يصر الموت مقضياً به ضرورة القضاء بالنسب لم يصر التاريخ مقضياً به بالبينة أيضاً، لأن التاريخ صفته، وإذا لم يصر التاريخ مقضيا به بالبينة الأولى صار وجود التاريخ وعدمه بمنزلة، فكأن الابن أقام البينة على الموت والنسب من غير تاريخ، وقضى القاضي له بذلك ثم أقامت المرأة البينة على النكاح والموت، ولو كان كذلك قضى بالأمرين جميعاً لأنه لا تنافي بينهما وكذلك هذا. فإن قيل: كما يضاف استحقاق الميراث إلى النسب وحده إذا تأخر فكذا يضاف إلى الميت إذا تأخر، فإن النسب إذا كان ثابتاً ثم ثبت الموت بالبينة بعد ذلك فإن الاستحقاق يضاف إلى الموت، حتى لو رجع الشهود ضمنوا فإذا كان كل واحد منهما مما يضاف الاستحقاق إليه إذا انفرد فحالة الاجتماع يكون الاستحقاق مضافاً إليهما لا إلى النسب خاصة، وإذا أضيف إليهما صار الموت مقضياً به مع التاريخ فوجب أن لا تقبل بينة المرأة بعد ذلك. والجواب عنه أن يقال: بل الموت يصلح لإضافة استحقاق الميراث إليه إذا تأخر عن النسب إلا أن عند اجتماع النسب أولى بإضافة الاستحقاق إليه من الموت؛ لأن النسب في الأصل مشروع للاستحقاق، استحقاق ضره ونفعه وكثير من الأمور لا يخلو إثبات النسب عن استحقاق شيء من الحقوق التي ذكرنا، فأما الموت غير مشروع للاستحقاق لا محالة، بل مشروع لإبطال الحياة حتى يتحقق من غير إيجاب حق أصلاً لأحد، فيكون الإضافة إلى النسب أولى إذا ثبتا معاً، وقد يجوز أن يضاف الحكم إلى الشيء حالة الانفراد، ثم مع غيره لا يضاف إليه بل يضاف إلى ذلك الغير، كالخر يصلح سبباً لإضافة التلف إليه فكذلك مسألتنا: إذا اجتمع الموت والنسب، يضاف الاستحقاق إلى النسب وإن كان يضاف إلى الموت إذا انفرد وتأخر عن النسب.

وإذا أضيف استحقاق الميراث ولا في حق إمكان القضاء بالنسب لأن الإمكان يثبت بدون الموت أصلاً، وإليه أشار محمد رحمه الله في «الكتاب» فإنه قال في مسألة الموت: لأني لم أوجب بموته يعني لم أقض به. قالوا: وقال في مسألة مكة وخراسان: لأني جعلته في ذلك اليوم بمكة أي نصبت بكونه بمكة ضرورة إمكان القضاء بالنكاح، بهذا فرق محمد رحمه الله. وكذلك لو أقامت امرأة أخرى البينة بعدما قضيت بموته في توريث امرأته وأنه تزوجها بعد ذلك الوقت، فإنه تقبل بينتها لما ذكرنا أن الموت لم يصر مقضياً به لا في حق إضافة الاستحقاق ولا في حق إمكان القضاء بالنكاح؛ لأن القضاء بالنكاح ممكن بدون الموت وإذا لم يصر الموت مقضياً به لم يصر التاريخ مقضياً به فكأن الأول أثبت العقد والموت والثانية كذلك، ولم يؤرخا ولو كان كذلك قضى بالأمرين لأنه لا تنافي بينهما، فكذلك هذا. ولهذه المسألة بطل ما يقول بعض مشايخنا في الفرق بين مسألة الموت ومكة وخراسان: أن بنية المرأة إنما قبلت لأن فيها زيادة إثبات، وهو إيجاب المهر ليس ذلك في بينة الابن، والأولى إنما يترجح بالقضاء حال تعذر العمل بهما إذا لم يكن في الثانية زيادة إثبات بخلاف مسألة مكة وخراسان؛ لأنهما استويا في الإثبات وبين الأمرين تنافي، فترجحت الأولى بالقضاء لأن هذا يشكل ما لو أقامت المرأة الأخرى بينة أنه تزوجها بعد الوقت ثم مات، فإنه لم يقبل بينة المرأة الثانية، والمرأتان قد استويا في الإثبات. ويشكل بمسألة القتل فإنه لم يقبل بينة المرأة وإن كانت في بينتها زيادة إثبات ولأن الثانية متى ترجحت بسبب الزيادة تبطل الأولى وإن اتصل بها القضاء متى كان بين الأمرين منافاة كما في مسألة العم والأب من قبيلين مختلفين، وههنا القضاء للابن لا يبطل علمنا أن الصحيح من الطريقة ما أشار إليها محمد رحمه الله، وفي «المنتقى» : إذا شهد الشهود على رجل أنه قتل أب هذا عمداً ولا وارث له غيره، وأن القتل كان في شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين ومائة، وأقام المدعى عليه بينة أن أباه كان حياً وأنه أقرضه في محرم سنة ست وثمانين ومئة، مئة درهم وأنها دين عليه، فالبينة بينة الابن؛ لأنهما أمران لا يستقيم أن يكونا فيؤخذ بالوقت الأول إلا أن أبا حنيفة رحمه الله استحسن في هذا الباب شيئاً واحداً فقال: إذا أقام الابن البينة أن هذا قتل أباه عمداً بالسيف منذ عشر سنين، وأنه لا وارث له غيره.w وجاءت امرأة وأقامت البينة أنه تزوجها منذ خمس عشر، وأن هذا ولده منها وأن هذا وارثه مع أبيه هذا قال أبو حنيفة رحمه الله: أستحسن في هذا أن أجر بينة المرأة وأبطل بينة الابن على القتل، ولو أقامت المرأة البينة على النكاح ولم تأت بولد فالبينة بينة الابن والميراث للابن دون المرأة ويقتل القاتل إنما استحسن في النسب خاصة وهو قول أبي يوسف ومحمد، ولو شهدوا أن أباه مات في هذه الدار لا تقبل الشهادة. والأصل في حبس هذه المسائل أن الشهود شهدوا على فعل من المورث في العين عند موته فهذا على وجهين: إما إن شهدوا بفعل هو دليل اليد أو بفعل ليس هو دليل اليد فعل يوجد من المالك في الغالب كالسكنى في الدور، فهذا النوع من الفعل إذا قامت البينة على وجوده من المورث في العين عند موته يقضي بالمدعي للمدعى؛ لأن هذه الأفعال لما كانت دليل اليد صارت الشهادة عليها عند الموت، والشهادة على اليد سواء والدين ليس بدليل اليد في التقلبات فعل يتأتى بدون الفعل، ولا يحصل في الغالب للنقل كالجلوس على البساط وفي جر التقلبات الذي ليس بدليل اليد، فعل يوجد من غير الملاك في الغالب كالجلوس والنوم في الدار فهذا النوع من الفعل إذا قامت

الشهادة على وجوده من المورث في العين عند موته، لا يقضي بالعين للمدعي، لعدم دليل الملك، وعدم دليل اليد التي هي دلالة الملك إذا ثبت هذا. جئنا إلى المسائل فنقول: إذا شهد الشهود أن أباه مات، وهو لابس هذا القميص أو لابس هذا الخاتم، تقبل الشهادة لأنهما فعلان لا يتهيأ ثبوتها إلا بالنقل وهو دليل اليد، وكذلك لو شهدوا أنه مات وهو حامل لهذا الثوب، تقبل الشهادة لأن الحمل لا يتهيأ بدون النقل. أطلق محمد رحمه الله الجواب في الخاتم، وحكى عن القاضي أبي الهيثم عن القضاة الثلاثة رحمهم الله أنهم كانوا يفصلون الجواب في ذلك ويقولون: إن شهدوا أن الخاتم كان في خنصره أو بنصره يوم الموت، تقبل الشهادة وإن شهدوا أنه كان في السبابة أو في الوسطى أو في الإبهام لا تقبل الشهادة، ولكن الصحيح أن يجري في إطلاقه كما ذكره محمد رحمه الله؛ لأن الفعل الذي لا يتهيأ إلا بالنقل والتحويل في النقليات أقيم مقام اليد على ما قر، ولبس الخاتم في أي موضع كان لا يتهيأ إلا بالنقل والتحويل، ولو شهدوا أن أباه مات وهو راكب على هذه الدابة قضي بالدابة للوارث، وإن كان الركوب يتحقق بدون النقل إلا أنه لا يحصل في الغالب إلا بالنقل، ولو شهدوا أن أباه مات وهو ساكن في هذه الدار تقبل الشهادة لأن السكنى إنما تكون من المالك غالباً لأن الساكن في الدار من إليه إسكان غيره (132أ4) وإزعاجه، وفتح الباب وإغلاقه، وهذا عادة لا يكون إلا من الملك، وعن أبي يوسف برواية «المعلى» رحمه الله: إذا شهد شاهدان أن فلاناً مات وهو ساكن في هذه الدار، لا يقضي بالدار لورثته، ولو شهدوا أن أباه مات في هذه الدار، لا تقبل الشهادة لأنه ليس بفعل يفعله الملاك غالباً؛ لأن الدار قد يموت فيها الملاك، وقد يموت فيها الضيفان فلا يكون دليلاً على اليد، بخلاف السكنى على ما هو. ولو شهدوا أن أباه مات وهو قاعد على هذا الفرس أو على هذا البساط أو نائم عليه، لا تقبل هذه الشهادة لأن هذه الأفعال تتصور بدون النقل فلا يكون دليلاً على اليد. ولو شهدوا أن أباه مات وهذا الثوب موضوع على رأسه، ولم يشهدوا أنه كان حاملاً له، لا تقبل هذه الشهادة ولا يقضى للوارث، لأن الوضع قد يكون منه فثبت منه النقل والتحويل فيكون ذلك دليل يده، وقد يكون من غيره فلا يثبت منه النقل والتحويل فيكون ذلك دليل يده، فقد وقع الشك في يده فلا تثبت يده بالشك حتى لو قالوا: لو شهدوا أنه كان هو الواضع على رأسه تقبل شهادتهم؛ لأن الوضع من فعل لا يتأتى إلا بالنقل فكان دليلاً على اليد. هكذا حكي عن القاضي أبي الهيثم.

ثم قال محمد رحمه الله عقيب هذه المسائل: أرأيت لو أن رجلاً في يديه دار قال لآخر: كنت أمس ساكن هذه الدار فقال الآخر: صدقت وهي لي، فقال المقر: ليست لك، كان للمقر له بالسكنى أن يأخذها أشار ما قلنا: أن السكنى دليل الملك، فكان الإقرار بالسكنى إقرار له بالملك. قال في دعوى الأصل: إذا كانت الدار في يدي رجل وابن أخيه، فادعى العم أن أباه مات وتركها ميراثاً له، لا وارث له غيره، وادعى ابن الأخ أن أباه مات وتركها لا وارث له غيره قضي بالدار بينهما نصفان؛ لأن كل واحد منهما أثبت الملك لأبيه في الدار، ثم أثبت الانتقال إلى نفسه فكأن الأبوين حيان حضرا وادعى كل واحد الدار لنفسه والدار في أيديهما، وهناك يقضي لكل واحد منهما بنصف الدار بالقضاء لأب كل واحد منهما تصير ميراثاً لولده، فإن قال العم: هذه الدار كانت بين أبي وبين أخي نصفان، وصدقه ابن الأخ في ذلك إلا أن العم قال لابن الأخ: مات أخي قبل موت الجد، وصار النصف الذي كان لأخي ميراثاً بين الجد وبينك أسداساً، ثم مات الجد فورثت ذلك السدس منه، وقال ابن الأخ: مات الجد أولاً وصار النصف الذي للجد ميراثاً بينك وبين أبي نصفان، ثم مات أبي فورثت ذلك منه. فنقول: حاصل المسألة: أن العم يدعي لنفسه سدس ما في يد ابن الأخ، وابن الأخ يدعي لنفسه نصف ما في يد العم، فحصل كل واحد منهما مدعياً ومدعى عليه، فإن لم تقم لهما بينة ولا لأحدهما، حلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه فإن حلفا برئا، وصار الحال بعد الحلف كالحال قبل الحلف، وقبل الحلف كانت الدار بينهما نصفان لكونها في أيديهما، فكذا ههنا فإن حلف أحدهما ونكل الآخر يقضي للحالف بما نكل له صاحبه، وإن أقام أحدهما بينة قضى بما شهد له ببينته، وإن أقاما جميعا البينة قضي بالدار بينهما نصفان؛ لأنه قد ظهر الموتان ولم يعرف سبق أحدهما، فيجعل كأنهما وقعا معاً فلا يرث ميت من ميت، وإنما يرث من كل ميت ورثته الأحياء، ووارث الجد العم فنصيبه من الدار يصير له، وذلك النصف يصير له أيضاً. قال: وإذا كانت الدار في يدي رجل، جاء رجل وادعى أن أباه مات، وترك هذه الدار ميراثاً له ولأخوته فلان وفلان وفلان، لا يعلمون له وارثاً غيرهم وإخوته كلهم غيب، أجمعوا على أن هذه البينة في حق استحقاق جميع الدار للميت مقبولة، لأن آخذ الورثة ينتصب خصماً عن الميت فيما يستحق أو عليه، ألا ترى أنه لو ادعى على ميت ديناً بحضرة أحدهم وأقيم عليه البينة ثبت الدين في حق الكل، وكذلك لو ادعى أحد الورثة ديناً على إنسان للميت وأقام على ذلك بينة، ثبت الدين في حق الكل، وأجمعوا على أنه يدفع إلى الحاضر نصيب الحاضر، وأجمعوا على أنه لا يدفع إلى الحاضر نصيب الغائب. بعد هذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يؤخذ نصيب الغائب ويوضع على يدي عدل، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يؤخذ. وأجمعوا على أن صاحب اليد لو كان

مقراً لا يؤخذ نصيب الغائب من يده هذا هو الكلام في العقار. وأما المنقول: فلا شك أن على قولهما يؤخذ نصيب الحاضر من يده، وأما على قول أبي حنيفة: اختلف المشايخ فيه، وإنما اختلفوا لاختلافهم في علة أبي حنيفة في فصل العقار، فمن قال: بأن طريق أبي حنيفة في فصل العقار أن هذا مال غائب، لا يخشى عليه التلف بإنكار ذي اليد، فلا يأخذه القاضي من يد صاحب اليد لأن الأخذ لا يؤرخ، وبهذا الطريق لا يؤخذ إذا كان صاحب اليد مقراً بيان أنه لا يخشى عليه التلف بإنكار ذي اليد، لأن الدعوى بعد قضاء القاضي بإنكار ذي اليد إنما يكون بموت القاضي، أو بموت الشهود الذين عاينوا القضاء، أو بنسيان القاضي القضاء. وضياع الكتاب وكل ذلك نادر ولا عبرة للنادر في الشرع، فهذا القائل يقول: لا ينزع المنقول من يد صاحب اليد عنده، لأنه لا يخشى عليه التلف بإنكار ذي اليد، من قال بأن طريق أبي حنيفة في العقار: أن القاضي لا يملك حفظ هذا المال على الغائب بالبيع، فلا يملك حفظه بالنقل من يد إلى يد يقول: بأن المنقول ينزع من يد صاحب اليد، لأن القاضي يملك حفظ المنقول على الغايب بالبيع، فيملك الحفظ بالنقل من يد إلى يد. ثم في فصل العقار إذا حضر الغائب هل يحتاج إلى إعادة البينة؟ قال بعض مشايخنا: يحتاج، والأصح لا يحتاج لما ذكرنا أن أحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت، والحاضر أثبت كل الدار للميت بما أقام من البينة، فلا يحتاج الغائب إلى إعادة البينة. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجلان أقام كل واحد منهما بينة على دار في يدي رجل أنها كانت لأبيه، مات وتركها ميراثاً له لا يعلمون له وارثاً غيره، وأحد هذين الرجلين ابن أخ ذي اليد ووارثه لا وارث له غيره، فلم يترك البينتان حتى مات المدعى عليه، فصار الدار في يد ابن أخيه، ولم يوص إلى أحد ثم إن البينتين جميعاً زكيتا، فالقاضي يقضي بالدار بين الأخ وبين الرجل الأجنبي نصفين، وإن صار ابن الأخ ذو اليد والآخر خارج، لأن ابن الأخ ملك الدار بحكم الإرث مع هذا قال: يقضى بالدار بينهما لوجهين: أحدهما: أنه لما زكيت البينتان، ظهر أن الأجنبي أقام البينة العادلة، وهي سبب للاستحقاق فثبت له بإقامة البينة العادلة حق الملك، وكون التركة مشغولة بحق الأجنبي يمنع الإرث فلم تصر الدار ميراثاً لابن الأخ، فيثبت الدار على حكم ملك الميت، وجعل يد ابن الأخ كيد الميت، فصار ابن الأخ في حق نفسه خارجاً. والثاني: إن ثبت الملك لابن الأخ في الدار بالإرث إلا أن هذا الملك غير الملك الذي يدعيه وله في الملك الذي يدعي فائدة، وهو أن يتعلق بالدار دين عمه ولا وصية، فاعتبر خارجاً إذ الخارج من يحتاج إلى إثبات ما يدعي بالبينة، وذو اليد من يحتاج إلى إثبات ذلك بالبينة، لقيام ظاهر يده على ما يدعي، فإذا اعتبر ابن الأخ خارجاً قضي بالدار بينهما نصفان لو أقام الأجنبي البينة على ابن الأخ أن الدار داره ورثها من أبيه، لم تسمع بينته لأن القاضي لما قضى بالدار نصفان صار كل واحد منهما مقضياً عليه في النصف من

جهة صاحبه لأن كل واحد منهما أقام البينة على كل الدار، ولولا بينة صاحبه لما حرم من النصف فثبت أن كل واحد منهم صار مقضيا عليه في النصف من جهة صاحبه، وقد عرف أن من صار مقضياً عليه في شيء لا يسمع دعواه في عين ذلك الشيء، إلا أن يدعي تلقي الملك من جهة المقضي له ولم يوجد. ولو أن القاضي زكى شهود الأجنبي بعد موت العم ولم يزك شهود ابن الأخ فقضى بالدار كلها للأجنبي، ثم زكيت بينة ابن الأخ لم يقض له بشيء وقد بطلت بينته؛ لأنه لما قضى بالدار كلها للأجنبي ولا يجوز القضاء بالدار كلها للأجنبي مع قيام ما يوجب القضاء بالنصف لابن الأخ فضمن القضاء بكل الدار للأجنبي إبطال شهود ابن الأخ، وللقاضي ولاية إبطال الشهادة إذا وجد دليل الإبطال، والقاضي متى رد شهادة إنسان في حادثة فإنه يتأيد الرد في تلك الحادثة فإن أعاد ابن الأخ شهوده على الأجنبي، فشهدوا أن الدار داره بسبب الإرث على ما ادعى، قضى بجميع الدار لابن الأخ لأنه لم يصر مقضياً عليه ببينه الأجنبي (132ب4) لأن تلك البينة قامت على العم دون ابن الأخ، وهذا لا يشكل فيما إذا أقام ابن العم شهوداً آخرين، إنما يشكل فيما إذا أعاد تلك الشهود وإنما كان هكذا، وذلك لأن القاضي ما رد شهادتهم لتهمة الكذب، بل لضرورة القضاء للأجنبي، وما ثبت بطريق الضرورة لا يعمل وموضع الضرورة، فلم يصر محكومه يكذبها، ولأن المشهود عليه في المرة الثانية غير المشهود عليه في المرة الأولى في هذا لا يتأيد الرد، كفاسقين إذا شهدا وردت شهادتهم ثم تابا، وشهدا للمشهود له الأول في حادثة أخرى قبلت شهادتهما كذا ههنا، وإن أقام الأجنبي بعد هذا بينة أن الدار داره لم تقبل؛ لأنه صار مقضياً عليه ببينة الأخ فلا يقضى له فيما قضي به عليه، ولو زكى شهود ابن الأخ ولم يزك شهود الأجنبي فقضى بالدار لابن الأخ ثم زكى شهود الأجنبي بعد ذلك لم يلتفت إلى ذلك لما مر، ولو أعاد الأجنبي شهوده على ابن الأخ قضى بجميع الدار لما مر، فإن قال ابن الأخ: أنا أعيد شهودي، لم يلتفت إلى ذلك لأنه صار مقضياً عليه لما مر، ولو كان الأجنبي أقام البينة في حياة العم ولم يقم ابن الأخ حتى مات العم قبل تزكيته شهود الأجنبي، ثم أقام ابن الأخ البينة أنها دار ورثها من أبيه وزكيت البينتان جميعاً قضى بالدار بينهما نصفان لما مر من الوجهين، ولو أن ابن الأخ لم يقم البينة على شيء حتى قضى بالدار للأجنبي، ثم ابن الأخ أقام على الأجنبي بينة أنها داره ورثها من أبيه قضى بالدار لابن الأخ؛ لأن ابن الأخ لم يصر مقضياً ببينة الأجنبي؛ لأن تلك البينة قامت على العم لا على ابن الأخ، ولو كان ابن الأخ هو الذي أقام البينة في حياة العم، ومات العم ثم أقام الأجنبي البينة فزكيت البينتان يقضى بالدار للأجنبي، فرق بين هذا وبينما إذا أقام الأجنبي البينة في حياة العم وأقام ابن الأخ البينة بعد موت العم حيث يقضى بالدار بينهما نصفان. والفرق بينهما: إما على المعنى الأول فلأن إقامة الأجنبي البينة العادلة أو حيث شغل الدار بحق الأجنبي، وهذا يمنع جريان الإرث، فبقي ابن الأخ خارجاً كالأجنبي

فقضى بالدار بينهما وإقامة ابن الأخ البينة وإن أوجبت شغلاً في الدار بحق ابن الأخ، ولكن حقه لا يمنع ثبوت حقه بالإرث فصار ابن الأخ ذا يد والأجنبي خارج فيقضى بها للخارج، وإما على المعنى الثاني: فلأن الإرث وإن جرى إلا أن ابن الأخ إنما اعتبر خارجاً تحقيقاً لعرضه بشرط قيام المنازع، وعند إقامة الأجنبي البينة وجد له المنازع فاعتبر ابن الأخ خارجاً، فأما عند عدم إقامة الأجنبي البينة لم يوجد المنازع إذ الأجنبي لا يعتبر منازعاً لعدم ثبوت الخصوصية له من بين سائر الناس بمجرد الدعوى، فاعتبر ابن الأخ ذا يد فقضي بالدار للأجنبي لهذا، ولو أقام كل واحد منهما شاهداً واحداً على العم، فمات العم فورثه ابن الأخ ثم أحضر كل واحد منهما شاهداً آخر فزكيت البينتان يقضى بالدار بينهما نصفان، وهذا لا يشكل على الوجه الثاني؛ لأن ابن الأخ اعتبر خارجاً على الوجه الثاني، وإن ملك الدار بالإرث على ما مر، إنما يشكل على الوجه الأول لأن إقامة الأجنبي شاهداً واحداً لا يوجب شغلا في الدار لحق الأجنبي فيملك ابن الأخ الدار بالإرث فيصير هو ذا اليد، والوجه في هذا أن يقال: بأن إقامة الأجنبي شاهداً واحداً وإن لم تصر الدار مشغولاً لحق الأجنبي مع هذا ابن الأخ لا يرث الدار من عمه؛ لأنه لو ورثها أدى إلى أمر محال. بيانه: أن شهادة الشاهد الواحد انعقدت معتبرة في الجملة فلو ورث ابن الأخ الدار وصار ذا اليد لا بد وأن يجعل القول قوله في أنه ورثها عن أبيه لأن قول الإنسان فيما في يده مقبول ومتى جعلنا القول قوله في أنه ورثها من أبيه وإبطال الشهادة المنعقدة بقول يحتمل الصدق والكذب محال فإن قال أحدهما: بعد ما قضى بالدار بينهما نصفان: أنا أقيم البينة على صاحبي لا يلتفت إلى ذلك؛ لأن كل واحد منهما صار مقضياً عليه فيما قضي به لصاحبه على ما مر، ولو كان كل واحد منهما أقام شاهداً واحداً على العم فلما مات العم أقام الأجنبي شاهداً آخر، فزكيت شاهده وقضى له بشهادتهما ثم جاء الابن بشاهد آخر لا يلتفت إلى ذلك؛ لأنه لو أقام شاهدين على العم بطلب القضاء للأجنبي فإذا أقام شاهداً واحداً أولى، فإن أعاد ابن الأخ شاهدين على الأجنبي قضي بها لابن الأخ؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه ببينة الأجنبي؛ لأنها قامت على العم لا عليه. وفي «المنتقى» : رجل توفي فادعى رجلان ميراثه، يدعي كل واحد منهما أن الميت مولاه أعتقه ولا وارث له غيره وأقام اليينة على ما ادعى ولم يؤقتوا للعتق وقتاً فالميراث بينهما، ولو وقتوا للعتق وقتاً فصاحب الوقت الأول أولى. وفي «نوادر بشر» : عن أبي يوسف رحمه الله رجلان أخوان لأب وأم في أيديهما دار، أقام أحدهما بينة أن هذه الدار كانت لأمي مات وتركتها ميراثاً بيني وبين أبي أرباعاً ثم مات الأب وترك ذلك الربع بيني وبينك، وأقام الآخر بينة أن هذه الدار كانت لأبي وتركها ميراثاً بين وبينك قال: آخذ ببينته الذي ادعى ثلاثة أرباع الدار له، ولا أقبل بينة الآخر؛ لأن الآخر يدعي النصف لنفسه وهي في يده ولا يدعي شيئاً مما في يد مدعي ثلاثة الأرباع فلا يسمع بينته، ومدعي ثلاثة الأرباع مدعي لنفسه بعض ما في يد الآخر

فتقبل بينته فيكون له ثلاثة أرباع الدار من قبل أمه ونصف الربع الآخر له من قبل أبيه ونصف الربع الآخر للآخر؛ لأنه مدعي ذلك لنفسه ولا يتنازع له فيه. المعلى عن أبي يوسف رحمه الله رجل أقام بينة على ميت أنه أخوه لأبيه وأمه، لا يعلمون له وارثاً غيره وأقامت امرأة البينة أنها ابنة الميت جعلت الميراث بينهما نصفان، ولا أسألهما بينة أنهم لا يعلمون له وارثاً غيرهما، فكل أحد أقام بينة على نسبه أشركته في الميراث، ولا أسأله بينة على عدد جميع الورثة. قال: وإذا ادعى رجل داراً ميراثاً من أبيه أو أمه ولم يذكر اسم المورث ونسبه، حكي عن شيخ الاسلام الأوزجندي: أنه لا يسمع دعواه. في «فتاوى أبي الليث» : رجل زوج ابنة امرأة وسمى لها منزلاً وباعه منها بيعاً صحيحاً، ثم إن هذا الرجل مات وادعى ورثته أن أباهم باع هذا المنزل من فلان قبل أن يسميه لها، يعني قبل أن يبيعها من امرأة الابن فإنهم لا يصدقون على ذلك والمنزل لها، وعلى فلان أن يقيم البينة على شرائه قبل تاريخ شراء المرأة ولا تقبل شهادة الثانية في ذلك؛ لأنهم يريدون بشهادتهم إبراء أنفسهم عن عهدة شراء المرأة، فإن المرأة لو وجدت بالمنزل عيباً ردته عليهم وحاصصتهم. قال: رجل ادعى داراً في يدي إنسان وقال في دعواه: هذه الدار كانت لأبي فلان مات وتركها ميراثاً لي ولأختي فلانة لا وارث له غيرنا ترك ثياباً ودواباً فقسمنا الميراث، ووقعت هذه الدار في نصيبي بالقسمة واليوم جميع هذه الدار ملكي، بهذا السبب وفي يد هذا بغير حق فدعواه صحيحة؛ لأنه ادعى جميع الدار لنفسه ثلثاها بسبب الإرث وثلثها بسبب القسمة، ولكن لابد وأن يقول: وأخذت أختي نصيبها من تلك الأموال حتى يصح منه مطالبة المدعي بتسليم كل الدار إليه، ولو كان قال في دعواه: مات أبي وتركها ميراثاً لي ولأختي، ثم إن أختي أقرت بجميعه لي وصدقتها في إقرارها، حكي عن شيخ الإسلام الأول الأوزجندي رحمه الله أنه قال: دعواه صحيحة، والصحيح أن لا يصح دعواه في الثلث؛ لأن هذا دعوى الملك في الثلث بسبب الإقرار ودعوى الملك بسبب القرار غير صحيح، عليه عامة المشايخ، والمسألة في «الأقضية» : سئل شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله عمن ادعى عيناً في يده وقال: هذا كان ملك أبي وتركه ميراثاً لي ولفلان وفلان سمى الورثة ولم يبين حصة نفسه صح منه هذه الدعوى، وإذا أقام البينة على هذا الوجه قبلت بينته، ولكن إذا آل الأمر إلى المطالبة بالتسليم لابد وأن يبين حصته، ولكن لم يبين عدد الورثة بأن قال: مات أبي وترك هذا العين ميراثاً لي ولجماعة سواي، وحصتي منه كذا وطالبه بتسليم ذلك لا يصح منه الدعوى ولابد من بيان عدد الورثة لجواز أنه لو بين كان نصيبه أنقص مما سمى، وإذا شهد الرجل بوراثة رجل فقال: لا وارث لهذا الميت غيره لا يعلم له وارثاً غيره ثم شهد بعد ذلك بوراثة رجل آخر عن هذا الميت قبلت هذه الشهادة؛ لأن (133أ4) قوله لا وارث له غيره ليس من صلب الشهادة بل هو أمر زائد؛ لأن الشهادة مقبولة بدونه على ما مر، فصار ذكره ولا ذكر سواء؛ ولأن التوفيق ممكن فإنه

الفصل التاسع: في الشهادة على الشهادة

يمكنه أن يقول: ما علمت له وارثاً آخر حال ما شهدت، ثم علمت بعد ذلك. ذكر في «دعوى المنتقى» : دار في يدي رجل ادعى رجل أنها بينه وبين الذي في يديه نصفان ميراثاً عن أبيه وجحد ذلك الذي هو في يده وادعى أن كلها له فجاء المدعي بشهود شهدوا أن هذه الدار كانت لأب المدعي فلان، مات وتركها ميراثاً له خاصة لا وارث له غيره قال: إن لم يدع المدعي أن النصف خرج إلى الذي الدار في يده بسبب من قبله فشهادة شهوده باطلة، وإن قال: كنت بعت نصيبها بألف درهم لم يصدقه القاضي على البيع ولم يجعله مكذباً لشهوده وقضى له بنصف الدار ميراثاً عن أبيه وإن أحضر بينة على أنه باع النصف من المدعى عليه بألف درهم، أو أنه صالحه من الدار على أن يسلم له النصف منها قبلت بينته على ذلك، وقضى بالدار كلها ميراثاً للمدعي من الوالد وقضى بنصف الدار بيعاً من المدعى عليه إن كان ادعى البيع، وكان للمدعي على المدعى الثمن، وإن كان أقام البينة على الصلح أبطلت الصلح أو ردت الدار كلها إلى المدعي، لأنه لم يأخذ للنصف عوضاً والله أعلم. الفصل التاسع: في الشهادة على الشهادة الأصل إن كل ما يثبت بشهادة النساء مع الرجال يثبت بالشهادة على الشهادة؛ لأن الشهادة على الشهادة نظير شهادة النساء مع الرجال؛ لأن المتمكن في الشهادة على الشهادة تهمتان تهمة الكذب في الأصول وتهمة الكذب في الفروع، والمتمكن في شهادة النساء مع الرجال تهمتان أيضاً، تهمة الكذب بسبب عدم الصحة وتهمة الضلال والنسيان، فكانا نظيرين إلا أن الشهادة على الشهادة إنما تقبل حالة العجز عن شهادة الأصول وشهادة النساء مع الرجال تقبل مع القدرة على شهادة الرجال؛ لأن شهادة الفروع بدل من كل وجه لأن الفرع لا يعاين سبب الحق إنما عاينه الأصل، وأما شهادة النساء نظير شهادة الرجال من حيث معاينة سبب الحق وإنما البدلية من حيث الصورة فلهذا افترقا. وإنما يقع العجز عن شهادة الأصول بأحد أسباب ثلاث: أما بمرض الأصول مرضاً لا تستطيع الحضور معه مجلس الحكم، أو بغيبة الأصول غيبة سفر هكذا، قال صاحب «الأقضية» والشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني، والشيخ القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي، والشيخ الإمام شيخ الإسلام خواهر زاده رحمهم الله. وعن أبي يوسف رحمه الله: أن الأصل إذا كان في موضع لو حضر مجلس الحكم وشهد لا يمكنه البيتوتة في أهله أجازت الشهادة على شهادته، وإن أمكنه البيتونة في منزله لا يجوز الشهادة على شهادته؛ لأن الشاهد في هذه الصورة لايكلف بالحضور مجلس

الحكم لأداء الشهادة؛ لأنه يخرج بالبيتوتة في غير أهله والشاهد محتسب في أداء الشهادة، والمحتسب لا يكلف بما فيه حرج، لو لم يجز الشهادة على شهادته في هذه الصورة لتعطلت الحقوق وكثير من المشايخ أخذوا بهذه الرواية. وروي عن محمد رحمه الله: أن الشهادة على الشهادة يجوز كيف ما كان حتى روي عنه: إذا كان الأصل في زاوية المسجد فشهد الفرع على شهادته في زاوية أخرى من ذلك المجلس المسجد تقبل شهادتهم. وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمهما الله في شرح «أدب القاضي» للخصاف: إذا شهد الفرع على شهادة الأصول والأصول في المصر يجب أن تجوز على قولهما، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا تجوز بناء على أن التوكيل بغير رضى الخصم عند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يجوز وعندهما يجوز، ووجه البناء على تلك المسألة أن الجواب في تلك المسألة مستحق على المدعى عليه بلسانه فاستحق عليه الحضور مجلس الحكم للجواب، كما أن في هذه المسألة استحق على الشاهد أداء الشهادة، فاستحق عليه الحضور مجلس الحكم لأداء الشهادة، ثم إن عند أبي حنيفة رحمه الله: لما لم يملك المدعى عليه أنابه غيره مناب نفسه في الجواب إلا بعذر، فكذا لا يملك الأصل إنابة غيره مناب نفسه في الشهادة إلا بعذر وعندهما لما ملك المدعى عليه أنابه غيره مناب نفسه، وفي الجواب من غير عذر فكذا يملك الأصل إقامة الفرع مقام نفسه في أداء الشهادة من غير عذر. وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً رحمه الله عن رجل خرج وتبعه قوم وهو يريد مكة أو سفراً آخر سماه، ثم ودعه القوم وانصرفوا ثم شهد قوم آخر على شهادته، وادعى المشهود عليه أنه حاضر وقد شهدت البينة على ما سمينا، ولم يزيدوا على ذلك هل تقبل الشهادة على شهادته في قول من لا يقبل الشهادة على حاضر؟ قال: بلى؛ لأن الغيبة تكون هكذا، فإن كان ودعهم وهو في منزله لم يرده حين خرج لا أقبل شهادتهم؛ لأنه كان في منزل، هذا هو الكلام في طرف الأداء. جئنا إلى طرف الإشهاد فنقول الإشهاد على الشهادة صحيح، وإن كان الأصل في المصر بلا خلاف حتى إذا غاب الأصل بعد ذلك أو مات فالفرع يشهد على شهادته وتقبل شهادته؛ لأن العبرة لحالة الأداء لأن الحكم يقطع عند الأداء فيشترط غيبة الأصل حالة الأداء، وإن كان الأصل محبوساً في المصر فأشهد على شهادته هل يجوز للفرع أن يشهد على شهادته؟ وإذا شهد عند القاضي فالقاضي هل يعمل بشهادته؟ لا، ذكر لهذه المسألة في شيء من الكتب، فقد اختلف مشايخ زماننا بعضهم قالوا: إن كان محبوساً في سجن هذا القاضي لا يجوز؛ لأن القاضي يخرجه من سجنه حتى يشهد ثم يعيد إلى السجن، وإن كان محبوساً في سجن الوالي ولا يمكنه من الإخراج من الحبس للخصومة يجوز، لأن عجزه بسبب الحبس أبلغ من عجزه بسبب المرض وإذا جازت الشهادة على الشهادة بعذر المرض، فكذلك بعذر الحبس ويستدل هذا القائل بمسألة التوكيل بغير رضى الخصم على

مذهبه لا يجوز إلا بعذره، وجعل الحبس في السجن الوالي عذراً كالمرض حتى قال بجواز التوكيل من غير رضى الخصم إذا كان المطلوب محبوساً في سجن الوالي كما قال بجوازه إذا كان المطلوب مريضاً، وقيل: ينبغي أن لا يجوز ويستدل هذا القائل بما ذكر محمد رحمه الله في كفالة «الأصل» : إذا كان المكفول بالنفس محبوساً بالدين في سجن هذا القاضي الذي تخاصما إليه، لا يؤاخذ الكفيل به، وإن كان محبوساً في سجن قاض آخر في المصر الذي وقعت فيه الكفالة أو كان محبوساً في سجن والي هذا المصر، فالقياس أن يؤاخذ الكفيل بتسليم النفس؛ لأن المكفول بالنفس ليس في يد هذا القاضي لا حقيقة، وهذا ظاهر ولا حكماً لأن سجن الوالي وسجن قاض آخر ليس في يد هذا القاضي حتى يجعل من في السجن كأنه في يده، فيطالب الكفيل بالتسليم إذا كان قادراً عليه وهو قادر على تسليمه بأن يؤدي ما عليه. وفي الاستحسان لا يطلب الكفيل بتسليمه، لأن سجن أمير البلد وسجن قاضي آخر في هذا المنزل بمنزلة سجنه؛ لأن له ولاية على أهل المصر كلهم، إلا أنه نصب قاض آخر من جانب آخر إذا كانت البلدة عظيمة؛ لأنه ربما لا يمكنه القيام بأمور جميع أهل البلدة أو يتعذر على الناس الذهاب من جانب إلى جانب لبعد المسافة لا لقصور ولاية هذا القاضي عن بعض أهل المصر، وإذا كان كذلك صار سجن القاضي الآخر في هذا المصر وسجن الوالي بمنزلة سجن هذا القاضي أفلا ترى أن سجن الوالي جعل كسجن هذا القاضي في أن لا نطالب الكفيل بتسليم المكفول له، فكذا في حق الشهادة على الشهادة يجعل سجن الوالي كسجن هذا القاضي، ولو كان الأصل في سجن هذا القاضي، لم يجز الشهادة على الشهادة، فكذا إذا كان في سجن هذا الوالي، ثم جواز الشهادة على الشهادة استحساناً أخذ به علماؤنا رحمهم الله، والقياس يأبى جوازها؛ لأنه لا يمكن تجويزها بطريق نيابة الفروع عن الأصول؛ لأن الشهادة فرض يتأدى بالبدن وفي مثله لا تجري النيابة كما في الصوم والصلاة ولا يمكن تجويزها باعتبار أنه يقع العلم للفروع بشهادة الأصول، لأن شهادة الأصول وجدت في غير مجلس القضاء والشهادة في غير مجلس القضاء لا يفيد علماً يوجب العمل ولا يمكن تجويزها من حيث أن الفروع بشهادتهم يثبتون شهادة الأصول؛ لأن الشهادة ليست من قبيل الحقوق التي يمكن إثباتها بالشهادة عند القاضي، ألا ترى أن الشاهد إذا أنكر أن يكون له شهادة لفلان فأراد المشهود له أن يثبت ذلك بالبينة لا يقدر عليه؟ إلا أنا استحسنا وقلنا بجوازها لتعامل الناس، والناس إنما تعاملوا ذلك لإحياء الحقوق؛ لأن الأصل قد نجز عن أداء الشهادة إما بموت أو سفر، فلو لم تجز الشهادة على الشهادة لتعطلت الحقوق، وطريق الجواز أن ينقل الفرع بشهادته شهادة الأصول عند القاضي ويقطع القاضي بشهادة الأصول (133ب4) القائمة في مجلس القاضي بنقل الفروع إياها في مجلس القاضي، ومن جملة ما عملوا فيها بالقياس القصاص والحدود حتى قلنا: لا تجوز الشهادة على الشهادة في القصاص والحدود، قال محمد: رحمه الله والمعني فيه أن في الشهادة على الشهادة زيادة شبهة،

إما لأن الخبر إذا تداولته الألسنة تمكن فيها زيادة أو نقصان، أو لأنه تمكن في الشهادة على الشهادة تهمة الكذب في موضعين، والحدود والقصاص لا تجب مع الشبهات، وفي «شهادات الأصل» : لو شهد شاهدان على شهادة شاهدين أن قاضي كذا ضرب فلاناً حداً في قذف فهو جائز، وذكر في «زيادات الأصل» : أنه لا يجوز وجه ما ذكر في الشهادات أن الشهادة على الشهادة قامت على استيفاء الحد لا على إيجابه، واستيفاء الحد يثبت بالشهادة على الشهادة إنما لا يثبت الإيجاب وإنما قلنا: أنها قامت على استيفاء الحد لأنهم شهدوا أنه حده حد القذف، وحد القذف يثبت بالجلد ورد الشهادة والجلد قد استوفي، ورد الشهادة استوفي فيما مضى إذا لم يستوف في المستقبل، فكان المستوفي أكثر، وعلى رواية الديات اعتبر ما يستقبل من المدة وفيما يستقبل من المدة رد الشهادة لم يستوف بعد فتكون شهادة على إيجاب الحد بهذا القدر، والشهادة على الشهادة لا تقبل في إيجاب الحد قل أو كثر ولا تثبت شهادة الأصلين عند القاضي ما لم يشهد على شهادة كل واحد منهما اثنان من الفروع. وقال مالك: إذا شهد على شهادة كل أصل فرع واحد كفاه، والكلام بيننا وبينه في هذه المسألة فرع لمسألة أخرى بيننا وبينه: أن الفرعين إذا سمعا شهادة الأصلين بحق من الحقوق وهما عدلان هل لكلا الفرعين أن يشهدا بأصل الحق فيقولان: نشهد أن لفلان على فلان كذا ولا ينقلان شهادة الأصل وعلى قول علمائنا رحمهم الله: لا يحل لهما ذلك بل ينقلان شهادة الأصلين وعلى قول مالك يحل لهما أن يشهدا بأصل الحق ويقضي القاضي بشهادتهما، فإذا كان على قوله يقضي بشهادة الفرعين بأصل المال، فلأن يقضي بشهادتهما وقد شهد كل واحد بشهادة الأصل أولى. وعندنا الفرع لا يشهد على أصل الحق ولكن ينقل شهادة الأصل إلى مجلس القاضي، ونقل الشهادة إلى مجلس القاضي لا يثبت إلا بشهادة المثنى كنقل الإقرار، وكنقل البيع وسائر التصرفات، وجه قوله في تلك المسألة: أن شهادة العدلين في إفادة العلم بمنزلة معاينة سبب أصل الحق أو الإقرار به ألا ترى إلى ما ذكر في كتاب الاستحسان: إذا شهد عند المرأة عدلان أن زوجها طلقها ثلاثاً فإنه لا يحل لها أن تمكن نفسها من زوجها، كما لو سمعت الطلاق من زوجها أو أقر الزوج أنه طلقها ثلاثاً، ولو عاين الفرعان سبب الحق أو إقرار من عليه حل لهما الشهادة بأصل الحق فكذا هذا، وعلماؤنا احتجوا في هذه المسألة بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «لا تجوز على شهادة رجل إلا شهادة رجلين» ولم ينقل عن غيره خلافه، واحتجوا في تلك وقالوا: القياس أن لا تكون الشهادة حجة وإنما جعلت حجة شرعاً إذا اتصل بها قضاء القاضي، فبدون اتصال القضاء لا تكون حجة فلا تفيد العلم بأصل الحق، فلا يحل له الشهادة بأصل الحق وليس كمسألة الطلاق؛ لأن في الطلاق حق لله تعالى لما فيه من تحريم الفرج، ولهذا قبلت الشهادة عليه من غير دعوى، وحق الله تعالى يثبت بقول الشاهد الواحد إذا كان عدلاً بلفظ الخبر من غير قضاء قاض، كما في حرمة الأكل، فإنها تثبت

بقول الواحد العدل حتى إن عدلاً لو أخبر: أن هذا اللحم متروك التسمية، أو ذبيحة مجوسي يحرم تناوله؛ لأن حرمة الأكل من حق الله تعالى، إلا أن في الطلاق حق العبد أيضاً وهو إزالة ملك النكاح، فأثبتنا ما هو حق الله تعالى وهو الحرمة بنفس الشهادة قبل القضاء، ولم نثبت ما هو حق العبد ما لم يتصل القضاء بالشهادة. ولو شهد فرعان على شهادة أصلين جاز؛ لأن شهادة كل أصل تثبت شهادة المثنى، ولو شهد رجل بأصل الحق، ثم شهد هو مع فرع آخر بشهادة أصل آخر فالقياس أن يقضي بهذه الشهادة لأن شهادة الأصل الغائب قد ثبت بشهادة الفرعين فكان الأصل الغائب حضر بنفسه وشهدا مع هذا الأصل الآخر، وفي الاستحسان لا يقضي بهذه الشهادة؛ لأن شهادة الأصل الغائب لم يثبت عند القاضي، فكأنه شهد عنده أصل واحد ولو كان كذلك لا يقضي بالمال فكذلك هذا، وإنما قلنا ذلك لأن شهادة الأصل الحاضر على شهادة الأصل الغائب غير مقبولة؛ لأنه لو قبل أدى إلى أن يثبت بشهادته ثلاثة أرباع الحق، نصف الحق بشهادته، وربع الحق بشهادته مع آخر على شهادة الغائب، ولا يجوز أن يثبت بشهادة الواحد ثلاثة أرباع الحق، كما لا يجوز أن يثبت به أصل الحق، وإذا لم تقبل شهادته على شهادة الأصل الغائب بقي على شهادة الأصل الغائب شاهد واحد وبالشاهد الواحد لا تثبت شهادة الأصل. قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : لو أن رجلين سمعا من رجلين يقولان: نشهد أن لفلان على فلان كذا، لم يسعهما أن يشهدا على شهادة الرجلين حتى يقول لهما الرجلان: اشهدا على شهادتنا، ولو سمعا قاضيا يقول لرجل: قضيت عليك لهذا الرجل بكذا، وسعهما أن يشهدا على قضائه وإن لم يقل لهما القاضي: اشهدا على قضائي بذلك، فقد شرط لصحة تحمل الشهادة على الشهادة الأمر بالشهادة، ولم يشترط لصحة تحمل الشهادة على القضاء الأمر بالشهادة. واختلفت عبارة المشايخ في الفرق بعضهم قالوا: قضاء القاضي وقوله حجة تلزمه المال على المدعي بمنزلة الإقرار وسائر الأفاعيل والأقاويل الملزمة، وقد عاين ذلك بيقين ومن عاين حجة أو سمعها وسعه أن يشهد ذلك بيقين عليها بدون إشهاده وأما الشهادة غير حجة إلا في مجلس القاضي فلا يحصل العلم للفرع بقيام الحق بمجرد شهادة الأصل في غير مجلس القاضي حتى يشهد الفرع على أصل الحق فتعذر كونه شهادة الفرع على أصل الحق فتتعين جهة نقل شهادة الأصل إلى مجلس القاضي لجواز الشهادة على الشهادة، فصار شاهد الفرع بمنزلة الوكيل عن الأصل والوكالة لابد لها من التوكيل وزان مسئلتنا من مسألة القضاء ما إذا عاين قضاء القاضي في غير المصر الذي هو قاض (فيه) وهناك لا يجوز له أن يشهد على قضائه كذا ههنا، وبعضهم قالوا: الأصل له منفعة في نقل الفرع شهادته من وجه ومضرة من وجه منفعة؛ لأن الشهادة حق على الأصل يلزمه الأداء متى وجد الطلب من صاحب الحق، كما لو كان عليه دين، فمن هذا الوجه يكون قاضياً ما عليه فيكون الأصل منفعة، كما لو قضى عليه ديناً وجب عليه لغيره، فبهذا

الاعتبار لا يحتاج إلى الأمر، ولكن له مضرة من حيث زوال ولائه في تنفيذ قوله على المشهود عليه؛ لأنه لما عاين سبب وجوب الحق فقد ثبت له ولاية على المشهود عليه، فإذا نقله الفرع من غير أمره، لو صح النقل زال ما ثبت له من الولاية على المشهود عليه، وإزالة الولاية الثانية للغير ضرر عليه، فبهذا الاعتبار لا يصح إلا بالأمر. كما قالوا في الأجنبي: إذا زوج وليه إنسان بغير أمره؛ فإنه لا يجوز وإن قضى حقاً عليه وله في ذلك منفعة؛ لأنه مضرة من وجه فإنه أزال ولايته عن وليته نفذ عقده، وفي هذا ضرر عليه؛ لأنه إبطال حق عليه فاحتيج إلى الأمر من جهته فكذا هذا احتيج إلى الأمر من جهته ليصح التحمل هذا المعنى لا يتأتى في فصل القضاء، فلا يحتاج فيه إلى الأمر. ولو قال رجلان لرجلين: نشهد أن لفلان على فلان ألف درهم فاشهدا على شهادتنا ذلك، فسمع هذه المقالة رجلان آخران لم يسعهما أن يشهدا على شهادتهما، لما ذكرنا أن الفرع بمنزلة الوكيل، ولا وكالة له بدون التوكيل، ولا توكيل في حق الآخرين. قد ذكرنا أن من سمع قاضياً يقول لرجل: قضيت عليك لهذا الرجل ألف درهم وسعه أن يشهد على قضائه وإن لم يشهده على قضائه ولو بينا للقاضي فقالا: سمعنا قاضي كذا قال: قضيت على هذا الرجل لهذا الرجل بكذا، ولكن لم يشهدنا على قضائه لا يوجب ذلك خللاً في شهادتهما، فرق بين هذا وبينما إذا رأى عيناً في يد إنسان يتصرف فيه تصرف الملاك حل له أن يشهد بالملك له بظاهر يده، فلو بينا ذلك للقاضي أنهما شهدا بالملك له لأنهما (134أ4) رأياه في يده لا تقبل شهادتهما. والفرق: أن قضاء القاضي حجة بيقين وقد أخبر عن معاينته فقد أخبر عن معاينة ما هو حجة، فلا يوجب خللاً في الشهادة، كما أخبر عن معاينة الإقرار أو البيع، وأما اليد فليس بدليل على الملك يقيناً، إنما كان دليلاً بنوع ظاهر مع الاحتمال، ولكن مع هذا كان للشاهد أن يعتمد على ذلك الظاهر للشهادة عند عدم المنازع ضرورة أنه لا دليل للشهادة سوى ذلك، ولا ضرورة في حق القاضي أن يعتمد على هذا الظاهر؛ لأن في حقه دليل آخر أقوى، وهو الشهادة بالملك مطلقاً كيف وإن القاضي لو اعتمد على هذا الظاهر فإنما اعتمد عليه عند وجود المنازع؟ لأن الشهادة إنما يحتاج إليها عند وجود المنازع، واليد ليس بحجة عند وجود المنازع، فلا يقضي بشهادتهما لهذا، وإن بينا أنهما سمعا منه في غير البلد الذي هو فيه قاض، لا تقبل شهادتهما ولا ينبغي لهما أن يشهدا؛ لأنه في غير بلده بمنزلة سائر الرعايا فلم يقبل منه إقراره بالقضاء؛ لأن كلامه ليس بحجة وقوله ليس بقضاء، ثم إن كثيراً من مشايخنا كالخصاف وغيره طولوا لفظ الشهادة على الشهادة ولفظ أداء الشهادة وبالغوا فيه قالوا في الإشهاد: يقول شاهد الأصل بين يدي شاهد الفرع: اشهد أن لفلان على فلان كذا، وأنا أشهدك على شهادتي أنت على شهادتي بذلك فيحتاج إلى خمس شينات.

وقالوا في أداء الشهادة على الشهادة: أن الفرع يقول بين يدي القاضي: أشهد أن فلاناً عندي شهد أن لفلان على فلان كذا من المال، وأشهدني على شهادته وأمرني أن أشهد على شهادته، وأنا أشهد على شهادته بذلك الآن فيحتاج إلى ثماني شينات. قال الخصاف وجماعة من المحققين من مشايخنا كالفقيه أبي جعفر الهندواني وغيرهم: تكلف وما دونه يكفي وهو أن يقول الأصل في الإشهاد: اشهد أن لفلان على فلان كذا، فاشهد أنت على شهادتي بذلك فيكون ثلاث شينات، وفي الأداء يقول شاهد الفرع بين يدي القاضي: اشهد أن فلاناً شهد عندي أن لفلان على فلان كذا، وأشهدني على شهادته بذلك فيكفيه ست شينات. واختار الشيخ الإمام الأجَلّ شمس الأئمة الحلواني رحمه الله على لفظ آخر، وهو أن يقول في الأداء: أشهد على شهادة فلان أن لفلان على فلان كذا، أشهدنا على شهادته وأمرنا أن نشهد بها، فيكفيه ذكر خمس شينات، أو يقول: أشهد أن فلاناً شهد عندي أن لفلان على فلان كذا فأشهدني على شهادته بذلك وأنا أشهد بذلك كله. وفي «الفتاوى» : للفقيه أبي الليث عن الفقيه أبي جعفر إذا قال الفرع: أشهد على شهادة فلان بكذا جاز، ولا يحتاج إلى زيادة شيء، وهكذا حكى فتوى شمس الأئمة السرخسي فلو اعتمدا أحد على هذا كان في سعة من ذلك وهو أسهل وأيسر، وعن أبي القاسم الصفار أنه قال: لابد للفرع أنه يقول: أمرني فلان أن أشهد على شهادته، وإذا قال رجلان: نشهد أنا سمعنا فلاناً يقر لفلان بألف درهم فاشهدا بذلك كان باطلاً؛ لأنه إما أن يجعل المشهود به المال وقوله: ذلك إشارة إلى المال وإنه باطل؛ لأنه قبل نقل الشهادة إلى مجلس القضاء لم يكن شهادة الأصول وقوله: ذلك إشارة إلى شهادة الأصول وأنه باطل أيضاً؛ لأن شهادة الأصول لا تصلح مشهوداً بها لما مر، فتعين جهة البطلان فيه، وكذلك إذا قال: فاشهدا علينا بذلك؛ لأنه تنصيص على أن الأصل مشهود عليه وقوله بذلك إن كان إشارة إلى المال فيكون هذا أمراً بالشهادة بالمال على الأصل وأنه لا يجوز، وإن كان إشارة إلى شهادة الأصل، فهي لا تصلح مشهوداً بها فكان باطلاً، وكذلك إذا قالا: فاشهدا علينا أنا نشهد بذلك لفلان على فلان؛ لأنهما جعلا أنفسهما مشهوداً عليه بشهادة الفرع، وأنه باطل؛ لأنه يخالف اللفظ المنصوص، وهذا لما ذكرنا أن القياس إلى جواز الشهادة على الشهادة، لكن تركنا القياس بالأثر وتعامل الناس، فيراعى فيه اللفظ الذي ورد به الأثر وجرى به التعامل وهو لفظ الشهادة على الشهادة وكذلك إذا قالا: فاشهدا بما شهدنا به؛ لأنه إن جعل المشهود به المال فهو باطل لما قلنا، وكذلك إن جعل المشهود به الشهادة؛ لأنها لا تصلح مشهوداً بها، وكذلك إذا قالا: فاشهدا علينا بما شهدنا به أو بما أشهدناكما به؛ لأنه تنصيص على أن الأصل مشهود عليه وقوله: بذلك إن كان إشارة إلى المال يكون هذا أمراً بالشهادة بالمال على الأصل وأنه لا يجوز، وإن كان إشارة إلى شهادة الأصل عليه وأنه باطل وكذلك إذا قالا: فاشهدا أن شهادتنا عليه بذلك لأنه غير تام فيحتمل أن يكون تأويله شهادتنا عليه بذلك

الحق، ويحتمل باطل وعلى كلا الوجهين لا يجوز؛ لأنه لم يوجد إشهادهما وتحميلهما شهادة بالمال، وكذلك إذا قال الأصلان: نشهد أن لفلان على فلان كذا، فاشهدا أنا نشهد بذلك، أو قالا: فاشهدا علينا أنا نشهد بذلك لفلان على فلان كذا فاشهدا أنا نشهد بذلك، أو قالا: فاشهدا علينا أنا نشهد بذلك لفلان على فلان، كان ذلك باطلاً؛ لأن قول الأصلين: فاشهدا أنا نشهد بذلك عليه، يحتمل الاستقبال يعني اشهدا أنا نشهد في الزمان الثاني بذلك، فيكون هذا أمراً بالشهادة أنه وعد أن يشهد، لا أن يكون هذا إشهاداً على الشهادة.v وقال أبو يوسف رحمه الله في «الأملاك» : أقبل ذلك. ووجهه: أن المقصود من هذه الشهادة على الشهادة فلو اعتبرنا المقصود يصح تصرفهما، ولو اعتبرنا الحقيقة يبطل تصرفهما وكلام العاقل محمول على الصحة ما أمكن وإن قال الأصلان للفرعين: نشهد أن فلاناً أشهدنا أن لفلان عليه ألف فاشهدا على شهادتنا بذلك، فشهد الفرعان بما وصفت لك، وقد غاب الأصلان فشهادة الفرعين جائزة؛ لأنه موافق للفظ المنصوص الوارد في باب الشهادة على الشهادة، لأن قوله على شهادتنا لبناء الشهادة عليه، كما تقول شهد على إقراره وما أشبه ذلك، وصورة الشهادة على الشهادة وتفسيرها ليس إلا هذا. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: إذا قال الفرع: أشهد أن فلاناً أشهدني أنه يشهد بكذا، أو قال: أشهدني فلان أنه يشهد بكذا، فهو باطل لانعدام اللفظ المنصوص الوارد في باب الشهادة على الشهادة. قال الخصاف رحمه الله في «أدب القاضي» : وإذا شهد الرجلان عند القاضي على شهادة رجل وصححا الشهادة، فينبغي للقاضي أن يسألهما عن عدالة الذي شهدا على شهادته، ولم يشترط محمد رحمه الله في «المبسوط» هذا، فهو أن يسألهما القاضي عن عدالة الأصول، وإنما عرف هذا من جهة الخصاف، وهذا لأن القاضي إنما يقضي بشهادة الفروع إذا كان الأصل عدلا، أما إذا لم يكن فلا ينبغي للقاضي أن يسأل عن ذلك حتى يعرف أيجوز له القضاء بشهادة الفروع فيلتفت إليها أو لا يجوز، فلا يلتفت إليها؟ فإن قالا: هم عدول، أثبت ذلك في موضع شهادتهما في المحضر، فإن كان القاضي لا يعرفهما بالعدالة يعني الفرعين سأل عنهما فإن عدلا تثبت عدالة الأصل أيضاً، هكذا ذكر في ظاهر الرواية. وروي عن محمد: أن تعديلهما الأصل لا يكون صحيحاً، وهكذا روي عن أبي يوسف لأن الفرع نائب عن الأصل فتعديله الأصل يكون بمنزلة تعديل الأصل نفسه، والأصل لو عدل نفسه لا يكون هذا التعديل صحيحاً، فكذلك الفرع إذا عدله لا يعتبر، وجه ظاهر الرواية وذلك لأن الفرع نائب عن الأصل في نقل عبارته إلى مجلس القاضي فكما نقل عبارته إلى مجلس القاضي فقد انتهى حكم الأمانة، وصار هو بمنزلة سائر الأجانب، فكما أن التعديل من سائر الأجانب يكون صحيحاً، فكذلك التعديل من الفروع ينبغي أن يكون معتبراً، وهذا لأن الشهادة على الشهادة إنما تعرف بقول الفروع، فأما

القاضي لا يعرف الأصول وربما لا يظفر بمن يعرف الأصول لأن الشهادة على الشهادة غالباً إنما تكون من بلدة إلى بلدة فلو لم يعتبر تعديل الفروع يؤدي إلى تعطيل الحقوق، وإنما جعل الشهادة على الشهادة حجة صيانة لحقوق الناس (134ب4) عن التعطيل وهذا المعنى يقتضي اعتبار تعديل الفروع فإن قالوا: هم ليسوا بعدول، فالقاضي لا يقضي بشهادتهما، وإن قالا: لا نعرفه، ذكر الخصاف: أن القاضي لا يقضي بشهادتهما، وكذلك إذا قالا: لا نخبرك، لأنهما حملا شهادتهما ولم يعدّلا الأصول، فكأنهما لم يصدقاهم فيما شهدوا به؛ لأن دليل الصدق العدالة فصار كأنهما قالا: إنا نتهمها في الشهادة، ولو قالا هكذا فالقاضي لا يقبل شهادتهم فكذلك هذا. وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: أن القاضي يقبل شهادتهما ويسأل الأصل، وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله، وهو الصحيح لأن الأصل بقي مستوراً وينبغي أن يذكر الفرع اسم الشاهد الأصل واسم أبيه وجده، ذكر القاضي أبو علي النسفي رحمه الله في «شرحه» : وإذا قضى القاضي بشهادة الفروع يجب أن يكتب في السجل أسماء الأصول ذكره الخصاف في «أدب القاضي» ، وفي «الأصل» . وتجوز الشهادة على الشهادة في كتب القضاء وصورتها: أن يكتب القاضي كتاباً إلى قاض آخر لحقٍ من الحقوق، وأشهد على كتابه شاهدين ثم بدا للشاهدين عذر، فأشهدا على شهادتهما شاهدين. وإذا أراد الرجل أن يشهد غيره على شهادته ينبغي أن يحضر الطالب والمطلوب ويشير إليهما، وإن أراد أن يشهد عند غيبتهما ينبغي أن يذكر اسمهما ونسبهما؛ وهذا لأن الشهادة عند الشاهد ليتحمل الشهادة بمنزلة أداء الشهادة عند القاضي ليقضي به، وكما أن في الشهادة عند القاضي يعتبر الإعلام بأقصى ما يمكن، فكذلك يشترط هذا المعنى عند الشاهد ليتحمل عنه الشهادة إلا أنه إذا كان المشهود عليه غائباً فذكر الاسم والنسب يجوز الإشهاد ولا يكفي هذا القدر للقضاء؛ لأن القضاء للإلزام والإلزام على الغائب لا يتحقق، فلا بد من الخصم للإلزام عليه بالبينة، والقضاء بخلاف الإشهاد على الشهادة؛ لأن الشهادة ليست بموجبة شيئاً ما لم يتصل بها قضاء القاضي فلا يتحقق فيه معنى الإلزام على الغائب. فقلنا: بأنه إذا نفي الاسم والنسب فإنه يجوز، وفي «المنتقى» : إذا قال الشاهد لغيره: اشهد ولم يقل على شهادتي لم يجز، وقال أبو يوسف رحمه الله: يجوز؛ لأن معناه اشهد على شهادتي، وكذلك لو قال: فاشهد بذلك، ومعنى المسألة أن يحكي الرجل لغيره شهادة نفسه في حادثة لرجل على رجل فقال له: اشهد أو قال: فاشهد بذلك. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين فقالا: نشهد أن فلاناً أشهدنا أنه يشهد أن لفلان على فلان كذا، ولم يقولا: أشهدنا على شهادته، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا أقبل ذلك حتى يقولا: أشهدنا على شهادته، وقال

أبو يوسف: أنا أقبل ذلك. قال في كتاب «الأقضية» : وإذا أشهد الرجل رجلاً على شهادته ثم صار بحال لا تجوز شهادته يعني الأصل، ثم صار بحال تجوز شهادته بأن فسق ثم تاب، ثم إن الفرع شهد على شهادة الأصل جازت شهادته، لأنا إن نظرنا إلى حالة التحمل فالأصل أهل للشهادة والإشهاد، فصح منه التحمل وإن نظرنا إلى حالة الأداء فالأصل أهل للشهادة فتقبل شهادته، وكذلك إن أشهد على شهادته رجلاً بعد ما تاب جازت لصحة الإشهاد باعتبار أهلية الأداء للأصل حالة الإشهاد، وإن أشهد رجلان على شهادتهما وهما عدلان * يعني الفرعان * ثم صارا عدلين، فشهدا أو أشهدا على شهادتهما فهو جائز؛ لأن تأثير الفسق في رد الشهادة مع صحتها لا في بطلان الشهادة، وإن شهد الفرعان عند القاضي شهادتهما لتهمة في الأولين لا نقبلهما بعد ذلك، لا من الأولين ولا ممن يشهد على شهادتهما؛ لأن الفرعين ينقلان شهادة الأصلين فصار كما لو حضرا وشهدا، ورد القاضي شهادتهما لتهمة الفسق، وهناك لا تقبل منهما تلك الشهادة بعد ذلك وإن تابا كذا ههنا، وإن كان رد شهادة الآخرين لتهمة فيهما فشهادة الأولين جائزة إذا كانا عدلين، وكذلك إن أشهدا رجلين عدلين آخرين بخلاف المسألة الأولى. والفرق: أن في هذه المسألة القاضي أبطل نقل الفرعين لأجل فسقهما، أما ما أبطل شهادة الأصلين؛ لأن شهادة الأصلين لم تصر منقولة إلى مجلسه بنقل الفاسقين، فجازت شهادة الأصل بنفسه، وكذلك جاز له أن يشهد غيره على شهادة نفسه، أما في المسألة الأولى: النقل ثبت بشهادة الفرعين؛ لأنهما عدلان من أجل الشهادة، وقد أبطل القاضي المنقول لفسق الأصلين، فلا يقبلهما بعد ذلك أصلاً. قال في كتاب الوكالة: إذا أشهد الفاسقان على شهادتهما لم يجز؛ لأن أداء الشهادة عند الفرعين كأدائهما عند القاضي، ثم فسق الشاهد يمنع القاضي عن العمل بشهادته، فكذا فسق الأصلين يمنع الفرعين عن نقل شهادتهما، وإن تابا وأصلحا وشهدا بأنفسهما جاز، وكذلك لو أشهدا على شهادتهما ذلك الشاهدين أو غيرهما جاز. ولو أن شاهدي الأصل ارتدا ثم أسلما لم تجز شهادة الفرعين على شهادتهما، ولو شهد الأصلان بأنفسهما بعدما أسلما تقبل شهادتهما. والفرق: أن بالردة لا تبطل أصل شهادة الأصلين؛ لأن سببها المعاينة، وذلك لا ينعدم بالردة، ألا ترى أن اقتران الردة بالتحمل لا يمنع صحة التحمل فلا يمنع البقاء من الطريق الأولى، ولكن بالردة يبطل الأداء، ألا ترى أن اقتران الردة بالأداء يمنع صحة الأداء، فاعتراضها على الأداء قبل حصول المقصود يبطل الأداء أيضاً، وبالإسلام يحدث له أهلية الأداء فيجوز له الأداء، فأما الفرع مأمور من جهة الأصل بنقل شهادته، ولهذا يشترط لصحة الإشهاد الأمر بالنقل من الأصل، قلنا: ولبقاء الأمر حكم الإبتداء إذا كان غير لازم وهذا الأمر غير لازم؛ لأن نهي الأصل عامل، وإذا كان لبقاء هذا الأمر حكم الإبتداء صار كأنه وجد الأمر بالنقل في حالة الإرتداد، والأمر بالنقل بعد الإرتداد لا يصح، وإذا لم يصح صار وجوده والعدم بمنزلة.

وبدون الأمر بالنقل من الأصل لا تصح شهادة الفرع، وهذا الفرق مشكل عندي ثم في هذا الفرق يشير إلى أن نهي الأصل الفرع يعمل. وهذا فصل اختلف فيه المشايخ بعضهم قالوا: لا يعمل وإليه مال الشيخ شمس الأئمة السرخسي رحمه الله ذكر في «شرح الجامع» الذي علقه على القاضي الإمام أبي عاصم العامري رحمه الله: وإذا شهد شاهدان على شهادة عبدين أو مكاتبين أو كافرين على مسلم فردها القاضي بذلك ثم عتق العبدان والمكاتبان وأسلم الكافران وشهدا بذلك أو أشهداهما أو غيرهما على شهادتهما جاز؛ لأن المنقول شهادة الفرعين شهادة الأصلين، ولا شهادة للعبدين ولا للمكاتبين ولا للكافرين على المسلم فلا يكون المردود شهادة، وقد حدث لهما بالإسلام والعتق أهلية أداء الشهادة، فجاز لهما الأداء والإشهاد على شهادتهما. قال في «الجامع» : إذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين على القتل خطأ، وقضى القاضي بالدية على العاقلة ثم جاء المشهود بقتله حياً فلا ضمان على الفروع؛ لأنه لم يثبت كذبهما إذ ليس من ضرورة حياته عدم إشهاد الأصول الفروع على شهادتهم، ولكن يرد الوالي الدية على العاقلة؛ لأنه ظهر أنه أخذها منهم بغير حق، ولو جاء الشاهدان الأصلان وأنكرا الشهادة لم يصح إقرارهما في حق الفرعين، حتى لا يجب عليهما الضمان، ولا ضمان على الأصلين أيضاً، وهذا لا يشكل على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأن الأصلين لو رجعا عن شهادتهما بأن أقرا أنهما أشهداهما بباطل لا ضمان عليهما عندهما فههنا أحق، وإنما يشكل على قول محمد رحمه الله؛ لأن عنده لو رجع الأصلان عن شهادتهما ضمنا عنده؛ لأن شهادة الأصلين صارت منقولة إلى مجلس القضاء بشهادة الفرعين، فكأنهما شهدا بأنفسهما ثم رجعا حتى ظن بعض مشايخنا أن قول محمد رحمه الله محمول على ما إذا أنكر الأصلان الشهادة، ولم يظهر المشهود بقتله حياً، وبعضهم قالوا: لا بل قول محمد في الكل واحد، والعذر لمحمد أن شهادة الأصلين إنما تصير منقولة إلى مجلس القضاء حكماً لا حقيقة لأنها موجودة في غير مجلس القضاء (135أ4) حقيقة، والشهادة في غير مجلس القضاء لا يكون سبباً للضمان وأن ظهر كذب الشهود في الشهادة فاعتبر الحكم حال رجوع الأصلين فاعتبرنا الحقيقة متى أنكر الأصلان الشهادة ولم يرجعا عن شهادتهما عملاً بالدليلين بقدر الإمكان، وإن قال: الأصول قد أشهدناهما بباطل ونحن نعلم يومئذ أنا كاذبين، لم يضمنا شيئاً في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد العاقلة بالخيار إن شاؤوا ضمنوا الأصول، وإن شاؤوا ضمنوا الولي فإن ضمنوا الأصلين رجعا على الولي، وإن ضمنوا الولي لم يرجع على الأصلين، وجه قول محمد رحمه الله: أن شهادة الأصلين منقولة إلى مجلس القضاء حكماً لا حقيقة فعملنا بالحقيقة والحكم على الوجه الذي مر وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا: القياس يأبى قبول الشهادة على الشهادة؛ لأن المنقول إلى مجلس القضاء شهادة الأصلين في غير مجلس القضاء والشهادة في غير مجلس القضاء ليست بحجة، والقضاء

بما ليس بحجة لا يجوز، لكن تركنا قصة هذا القياس وجوزنا القضاء بها وجعلنا شهادة الأصلين كالموجود في مجلس القضاء، وفي حق إيجاب الضمان بعد الرجوع يبقى على أصل القياس. في «المنتقى» : إذا قال الفروع: لا نعرف المشهود عليه بالحق، قبلت شهادتهم نريد به إذا قال الفروع: أشهدنا الأصول على شهادتهم لفلان بن فلان على فلان بن فلان بكذا، إلا أنا لا نعرف فلان بن فلان المشهود عليه بكذا وكذا، فالقاضي يقبل الشهادة ويأمر المدعي أن يقيم بينة أن الذي أحضره فلان بن فلان هذا هو الكلام في الشهادة على الشهادة وأما الشهادة على الشهادة، فقد ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» مسألة تدل على أنها مقبولة. وصورة تلك المسألة: رجل ادعى على رجل ألف درهم وجاء بشهود ثلاثة شهد واحد منهم على شهادة شاهدين، على شهادة ثلاثة نفر أنهم شهدوا على إقرار المدعى عليه بألف درهم وشهد من الثلاثة على شهادة أحد الشاهدين بعينه على شهادة الثلاثة الذين هم شهدوا على إقرار المدعى عليه بالألف وشهدوا وشهد واحد آخر من الثلاثة الذين هم أصول بعينه، فالقاضي يقطع بهذه الشهادة حقاً، واعلم بأن هذه المسألة من المسائل التي ظهرت الرواية فيها ظهرت الثلاثة، وإنما تظهر الرواية فيها لو سمينا الأصول الثلاثة على أصل الحق وسمينا الفرعين الذي يشهدان على شهادة الأصول الثلاثة على أصل الحق، فنقول أسماء الأصول الثلاثة: عبد الله ومحمد وصالح، واسم الفرعين اللذين يشهدان على شهادة الأصول الثلاثة زيد وعمرو، وحضر مجلس الحكم ثلاثة، شهد واحد من الذين حضروا مجلس الحكم على شهادة زيد بعينه على شهادة محمد وعبد الله وصالح، فثبت بشهادتهما شهادة زيد، فكأن زيداً وهو أحد الفرعين حضر نفسه وشهد على شهادة محمد وعبد الله وصالح، فإذا شهد واحد من الثلاثة الذين حضروا مجلس الحكم على شهادة واحد من الأصول بعينه وهو صالح مثلاً، فقد ثبت شهادة صالح؛ لأنه شهد على شهادته اثنان زيد والذي يشهد على شهادته من الذين حضروا مجلس الحكم أما لم يثبت شهادة محمد وعبد الله؛ لأنه لم يشهد على شهادتهما شاهد واحد وهو أحد الفرعين زيد، فلم يثبت بهذه الشهادة من شهادة الأصول إلا شهادة واحد وهو صالح، وبشهادة الواحد لا يقطع الحكم، فلا يقضي القاضي للمدعي بشيء ما لم يحضر محمد وعبد الله مجلس الحكم، وشهد بنفسه أو شهد شاهد آخر على شهادة عمرو وهو أحد الفرعين على شهادة الأصول الثلاثة لتثبت شهادة عمرو بشهادة شاهدين ويصير كأن عمراً بنفسه حضر مجلس الحكم وشهد على شهادة محمد وعبد الله وصالح، فتثبت شهادة محمد وعبد الله وصالح بشهادة شاهدين وهما زيد وعمرو، فهذه الثلاثة تدل على أن الشهادة على الشهادة مقبولة والله أعلم.

الفصل العاشر: في شهادة الشهود بعضهم لبعض

الفصل العاشر: في شهادة الشهود بعضهم لبعض وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: في رجل مات ولا يعرف له، فجاء أربعة نفر فشهد كل اثنين منهم للآخرين أن الميت أوصى لهما بثلث ماله، أو شهد كل اثنين منهم للآخرين أنهما ابنا الميت والمشهود لهما يصدقهما في الوصية وفي أنهما ابنا الميت، أو يكذبهما لا تقبل شهادتهما، أما شهادة كل فريق للفريق الآخر بالوصية بالثلث فلأنهما يثبتان الشركة؛ لأن الوصية محل التركة حتى أن الوارث لو أراد أن يعطي الوصية من غير التركة ويستخلص التركة لنفسه لا يملك، وإذا كان من حكم الوصيتين اشتراكهما كانت شهادة كل فريق شهادة لنفسه من وجه، وأما شهادة كل فريق للفريق الآخر بالوراثة يشتركون في التركة، فكانت هذه شهادة لنفسه أيضاً. وفيه أيضاً: عن محمد رحمه الله في شاهدين شهدا على رجل لرجلين بألف درهم وشهد المشهود لهما للشاهدين على هذا الرجل بدين ألف درهم والمشهود عليه حي فشهادتهما جائزة، لأن الدين يجب في ذمة الحي غير متعلق بماله، فلم تتحقق الشركة بينهما، ولهذا لا يشارك بعضهم بعضاً فيما قبض، فانعدم معنى التهمة فقبلت شهادتهما، ولو كان المشهود عليه ميتاً لا تقبل هذه الشهادة، وقال محمد رحمه الله: هي عندي جائزة، هكذا ذكر ابن سماعة فقد ذكر محمد أولاً أن شهادة الفريقين على الميت غير مقبولة، وقال بعد ذلك: وهي عندي جائزة، أشار إلى أن ما ذكرنا أولاً قول غيره، ولم يذكر أنه قول من، وقد ذكر الخصاص: أن على قول أبي حنيفة رحمه الله لا تقبل هذه الشهادة، وهكذا ذكر في «الأمالي» وذكر في «الجامع الصغير» أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تقبل هذه الشهادة وهكذا ذكر في وصايا «المبسوط» . وجه الرواية التي قال: إن الشهادة باطلة ما ذكرنا أن الدين بعد الموت على التركة، وتصير التركة مشتركة بين الغرماء معنى، ألا ترى أن الدين إذا كان مستغرقاً إذا قبض أحد الغرماء شيئاً كان للباقين حق المشاركة، فقد شهدا بما لهما فيه شركة. وجه رواية الجواز: أن الدين حالة الحياة يجب في الذمة، وبعد الموت يتحول إلى التركة يعني أن التركة تصير مستحقة به، ألا ترى أن الوارث لو أراد أن يقضي الدين من ماله ويستخلص التركة لنفسه كان له ذلك فكانت هذه شهادة بما لا شركة لهما فيه فتقبل. وروى الخصاف عن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله: أنهم إذا جاءوا معاً لا تقبل شهادتهم وإن جاءوا متفرقين تقبل؛ لأنهم إذا جاءوا مجتمعين فقد تمكنت تهمة المواضعة، يصير كأن كل فريق يقول للفريق الآخر: اشهدوا لنا على أن نشهد لكم، فتتفاحش التهمة فيمنع قبول الشهادة، فأما إذا جاءوا متفرقين تقل التهمة ولا تتفاحش، فلا

يمنع قبول الشهادة ولو لم يكن الأمر على هذا الوجه. ولكن ادعى رجلان داراً أو عبداً أو عرضاً من العروض في يدي ورثة الميت أن الميت غصبه ذلك، وشهد لهما شاهدان بذلك، ثم شهد المشهود لهما للشاهدين على الميت بدين ألف درهم فإن الشهادة كلها جائزة، كذا ذكره الخصاف رحمه الله، وهذا يجب أن يكون على الروايات كلها؛ لأن تهمة الشركة لا تتأتى ههنا، وكذلك لو لم يدعيا الغصب ولكن ادعيا الشراء من الميت ونقد الثمن، كان الجواب كما قلنا في دعوى الغصب؛ لأن ما باعه الميت في حياته لا يكون تركة له، فلا يتعلق حق الغرماء بذلك العين فلا تتأتى تهمة الشركة، وهذا يجب أن يكون على الروايات كلها، وكذلك إذا ادعى أحد الفريقين عيناً وادعى الفريق الآخر عيناً آخر تقبل شهادتهم، وهذا أيضاً يجب أن يكون على الروايات كلها، وكذلك إذا ادعى أحد الفريقين الوصية بعد تعيينه، وادعى الفريق الآخر الوصية بعين آخر قبلت شهادتهم بالاتفاق، ولو ادعى أحدهما الوصية بالثلث وادعى الآخر الوصية بعد بعينه أو بعين آخر لا تقبل شهادة الفريقين؛ لأن صاحب الثلث يشارك الآخر في العبد فيتمكن تهمة الشركة وفي المسألة إشكال، وكذلك لو ادعى أحدهما الوصية بالثلث وادعى الآخر الوصية بالسدس لا تقبل شهادة الفريقين؛ لان تهمة الشركة تتأتى ههنا، وفي كل موضع لا تقبل شهادة الفريقين لا تقبل شهادة ابنيهما وأبويهما ونسوتهما مع رجل آخر، وفي كل موضع تقبل شهادتهما تقبل شهادة ابنيهما وأبويهما وامرأتيهما مع رجل، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا وقعت الشركة في المشهود به لا تقبل شهادتهما، وإذا لم يقع في المشهود به شركة، فإن كان القاضي يعرفهما بالعدالة قبلت شهادتهما (135ب4) . وإن لم يعرفهما بالعدالة أو شك في أمرهما، لا تقبل شهادتهما، لأن كل فريق يجر النفع إلى الآخر فيتمكن تهمة المواضعة، فيتفحص القاضي من حالهما ولا تقبل شهادتهما حتى يظهر عنده عدالتهما، وهو نظير ما روي عن أبي يوسف رحمه الله فيمن ادعى عيناً في يدي إنسان فقال ذو اليد: إنه لفلان أودعنيه، وأقام البينة على ذلك لا تندفع عنه الخصومة إن كان معروفاً بالحيل والأباطيل، وإن كان معروفاً، بالعدالة والأمانة، تندفع عنه الخصومة، فما روي عنه هاهنا مستقيم على أصله، ولو شهد أحد الفريقين لصاحبه بالدراهم، وشهد الآخر بالدنانير، تقبل شهادة الفريقين، ذكره في «البقالي» . وفي «المنتقى» رجل في يديه دار مات فجاء أربعة رجال وادعى رجلان منهم نصف الدار شائعاً أنهما اشترياه من الميت، وشهد لهما الآخران بذلك ثم ادعى الآخران أنهما اشتريا النصف الباقي من الميت، وشهد لهما المدعيان الأوليان، فإن شهادتهم باطلة؛ لأنهم يصيرون شريك في الدار، وكذلك إذا كان القاضي قد قضى للأولين ثم ادعى الآخران وشهد لهما الأولان، فإني أبطل القضاء كله، وإن كانت الشهادة على نصف دار مقسومة لهذين، وعلى نصف دار مقسومة لهذين فإن كان لكل نصف باب على حده وطريق على حده فالشهادتان جائزتان، وإن كان بابهم واحداً وطريقهم واحداً أبطلت

الفصل الحادي عشر: في شهادة أهل الكفر والشهادة عليهم

شهادتهم، وإن أشهدا أبناء الميت أو غيرهما لرجلين على الميت بدين، ثم شهد هذان المشهود لهما لرجلين آخرين على الميت بدين جازت شهادتهم، لأنه لا تهمة في هذه الشهادة؛ لأنه عسى يلحقهما ضرر بنقصان حقهما إذا لم تف التركة بحقهما ولا تعلق لدين الغير بدينهما فقبلت شهادتهما لهذا.5 وذكر الخصاف في «أدب القاضي» إذا شهد رجلان لرجلين أنهما ابنا الميت، ثم شهد المشهود لهما للشاهدين على الميت بدين، لا تقبل شهادتهما؛ لأن حق الغريم يثبت في التركة كما أن حق الوارث يثبت في التركة، فيتمكن تهمة الشركة في هذه الشهادة. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: في رجل له على ميت دين فقضى القاضي له بدينه، وقد ترك الميت وفاء مما عليه من الدين، ثم إن المقضي له شهد لورثة الميت بحق للميت لا تجوز شهادته؛ لأن ذمة الميت إذا حرمت بالموت يتعلق الدين بتركته، فإذا شهد الغريم بحق للميت فقد شهد بما هو متعلق حقه، فكانت هذه شهادة لنفسه فتقبل. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: في رجلين لهما على رجل ألف درهم بينهما نصفان، فشهد أحدهما على صاحبه ورجل آخر أنه أقر أن اسمه في الصك عارية وأن حصته من ذلك المال لفلان، قال: شهادة الشريك جائزة؛ لأن هذه شهادة استجمعت شرائطها ولا تهمة فيها، لأن الشريك بهذه الشهادة لا يجّر إلى نفسه مغنماً، ولا يدفع عن نفسه مغرماً، أقصى ما في الباب أنه يتوهم له نوع منفعة هاهنا بإبطال حق الرجوع على المشهود عليه في الثاني إذا قبض الشاهد نصيبه من الألف، إلا أن هذا وهم عسى أن لا يكون بأن يقبضا جميعاً أو يبرئا الأجراء فهو عن نصيبه، ولا يجوز رد شهادة استجمعت شرائطها بالوهم ولو كان قبض من المال نصفه أو شيئاً منه ثم شهدا لهذا لم أقبل شهادتهما، لأنه ثبت لشريكه حق مشاركته فيما قبض، فهو بهذه الشهادة يريد إبطال ذلك الحق. قال: وإنما هذا بمنزلة ثلاثة نفر لهم على رجل ألف درهم، فشهد اثنان منهم على الثالث أنه أبرأ الغريم عن حصته، إن شهدا قبل أن يقبضا شيئاً من المال، قبلت شهادتهما وإن شهدا بعدما قبضا شيئاً من المال، لا تقبل شهادتهما؛ لأن بعد القبض بشهادتهما يريدان إبطال حق المشاركة على الشريك فيما قبضا، ولا كذلك قبل القبض فكذا هاهنا. الفصل الحادي عشر: في شهادة أهل الكفر والشهادة عليهم شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض مقبولة، اتفقت مللهم أو اختلفت وكذلك شهادة أهل الذمة على المستأمنين مقبولة، وشهادة المستأمنين بعضهم على بعض مقبولة، إذا كانوا من أهل دار واحدة، وإن كانوا من أهل دارين مختلفين، كالروم والترك لا تقبل

وأما شهادة المرتد والمرتدة فلا ذكر لها في شيء من الكتب، وقد اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: تقبل على الكفار، وقال بعضهم: تقبل على مرتد مثله، والأصح أنها لا تقبل على كل حال، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: لا أجيز شهادة اليهودي والنصراني وغيرهما من أهل الذمة إذا سكروا؛ لأن السكر حرام في الأديان كلها، فيوجب سقوط العدالة، وإذا شهد شاهدان من أهل الكفر على شهادة شاهدين من أهل الإسلام على كافر لا تقبل شهادتهما؛ لأنها شهادة على كافر قامت على إثبات أمر على المسلم؛ لأنها قامت على إثبات شهادة المسلم، فلا تقبل قياساً على ما لو شهدا على المسلم بمال، وكذلك إذا شهدا على قضاء قاض من قضاة المسلمين لكافر على كافر، لا تقبل شهادتهما لأنها قامت على إثبات أمر على المسلم، لأنها قامت على القاضي بإثبات قضائه، وهذا بخلاف ما لو شهدا على كافر بمال، فإنه تقبل شهادتهما وإن كان فيه إيجاب القضاء على القاضي المسلم، وذلك لأن إيجاب القضاء على القاضي غير مضاف إلى شهادتهما لا نصاً ولا اقتضاءً. أما نصاً: فلا شك، وأما اقتضاء: فلأن المقتضي ما يثبت ضرورة المنصوص عليه ولا ضرورة للمنصوص عليه وهو الوجوب على المشهود عليه، إلى وجوب القضاء بذلك على هذا القاضي المعين؛ لأنه مما ينفك عنه في الجملة بأن لا يكون قاضياً، والمقضي إنما يثبت ضرورة المنصوص عليه إذا كان لا ينفك عنه بحال، فهو معنى قولنا: إن وجوب القضاء على القاضي غير مضاف إلى شهادتهما لا نصاً ولا اقتضاءً فلا يمنع قبول شهادتهما؛ ولا هاهنا شهدا على إثبات أمر على المسلم نصاً ومثل هذه الشهادة لا تقبل، ونظير هذا ما قال محمد رحمه الله في كافر مات وأوصى إلى مسلم، فشهد كافران بدين على الميت، فإن القاضي يقبل شهادتهما وإن كان لو قبل هذه الشهادة يجب قضاء الدين على الوصي وهو مسلم؛ لأن وجوب قضاء الدين على هذا الوصي غير مضاف إلى شهادتهما لا نصاً وهذا ظاهر، ولا يقتضي وجوب الدين على الميت؛ لأنه ليس من ضرورة وجوب الدين على الميت وجوب القضاء على هذا الوصي، فإنه لو لم يكن هو وصياً لا يجب عليه قضاء الدين، فلم يمتنع قبول شهادتهما كذا هاهنا. قال: أمة في يدي رجل كافر اشتراها من مسلم، أو وهبها من مسلم، أو تصدق بها عليه مسلم، ثم جاء كافر وادعى لنفسه ملكاً مطلقاً، وأقام على ذلك شاهدين كافرين، فشهدا له بالملك المطلق، قال أبو حنيفة ومحمد، وهو قول أبي يوسف أولاً: لا تقبل هذه الشهادة أصلاً، وقال أبو يوسف آخراً: تقبل هذه الشهادة ويقضى لها على المشتري خاصة، ولا يقضي بها على غيره حتى لا يكون للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن. وجه قول أبي يوسف آخراً: أن هذه شهادة كافر قامت على كافر وهو المشتري باستحقاق الملك عليه، وقامت على مسلم وهو البائع بالرجوع عليه بالثمن، وأمكن القضاء بها في حق الكافر فيقضى بها للكافر، قياساً على ما لو شهد كافران على كافر ومسلم بدين ألف درهم، فإنه تقبل شهادتهما على الكافر، ولا تقبل شهادتهما على

المسلم، بيان إمكان القضاء في حق الكافر: أن يقضي بالملك للمدعي بسبب جديد من جهة المدعى عليه، وهذا لأن الشهود وإن شهدوا بالملك المطلق إلا أن الملك المطلق يحتمل الملك الحادث، فيحتمل أن الشهود عاينوا بسبب الملك فيما بينهما، لكن لم يذكر السبب في شهادتهما، فيحمل على هذا الوجه، تصحيحاً للشهادة بقدر الممكن، ولهما أن هذه شهادة كافر قامت على كافر ومسلم، وتعذر القضاء بها في حق الكافر، فلا تقبل أصلاً قياساً على ما لو شهد كافران لكافر على كافر، أن القاضي قضى لهذا على هذا بكذا، فإنه لا تقبل هذه الشهادة أصلاً، وإنها لا تقبل لما قلنا. وبيان تعذر القضاء بها في حق الكافر: أن الشهود شهدوا بالملك المطلق للمدعي والشهادة بالملك المطلق شهادة بالملك من الأصل؛ ألا ترى أنه يستحق العين بزوائده المتصلة والمنفصلة جميعاً، ولا يمكن القضاء بالملك في حق المشتري من الأصل إلا بالقضاء بالملك من الأصل في حق البائع؛ لأنه ما بقي الملك للبائع لا يكون الملك لهذا المدعي من الأصل فإن قيل الشهادة بالملك المطلق إنما تكون شهادة بالملك من الأصل إذا كانت الشهادة (136أ4) حجة للقضاء بالملك من الأصل، كشهادة المسلمين أما إذا لم يكن حجة للقضاء بالملك من الأصل يجعل شهادة بالملك الحادث بسبب حادث من جهة المدعى عليه، ألا ترى أن الإقرار بالملك المطلق جعل إقراراً بملك حادث، وإن كان الإقرار إخباراً في موضوعه حتى صح بالحق. والجواب: أن الإقرار يخالف الشهادة، لأن الإقرار بالملك المطلق فيما يقبل النقل من ملك إلى ملك جعل إقراراً بملك جديد من حيث الحكم كأن المقر قال: هذا لفلان؛ لأني ممكنه منه، ولهذا لا يستحق المقر له المقر به بالزوائد المتصلة والمنفصلة، ولا يكون للمقر الرجوع على بائعه، ولو أن المقر نصّ على ملك جديد للمقر له بسبب جديد من جهة يتعذر القضاء بالملك من الأصل من حيث الحكم كأن الشهود قالوا: هذا ملك هذا المدعي من الأصل حتى يستحق العين بالزوائد المتصلة والمنفصلة ويرجع المستحق عليه على بائعه بالثمن، ولو نص الشهود على هذا يتعذر القضاء بالملك الجديد بالسبب الجديد من جهة المستحق عليه، فكذا إذا جعل في الحكم هكذا إذا مات الكافر وترك اثنين وترك ألفي درهم فاقتسماهما بينهما، ثم أسلم أحدهما ثم جاء كافر وادعى لنفسه ديناً على الميت، وأقام على ذلك شاهدين كافرين، قال في «الكتاب» : أجزت ذلك في حصة الكافر خاصة؛ لأن شهادة الكافر حجة في حق الكافر دون المسلم، فثبت الدين بهذه الشهادة في حق استحقاق نصيب الكافر وإبطال يده عليه، لا في حق استحقاق نصيب المسلم وإبطال يده عليه، إذا مات الكافر وجاء مسلم وكافر وادعى كل واحد منهما ديناً، وأقام كل واحد منهما بينة من أهل الكفر، قال في «الكتاب» أجزت بينة المسلم وأعطيت حقه فإن بقي شيء كان للكافر، وروى الحسن بن زياد وعن أبي حنيفة أن التركة تقسم بينهما على مقدار دينهما؛ لأن كل واحد منهما يثبت دينه على الميت، وما أقام كل واحد منهما حجة على الميت، وجه ظاهر الرواية: أن دين الكافر ثبت في حق

الميت وفي حق الغريم الكافر ودين الكافر ثبت في حق الميت أما لم يثبت في حق الغريم المسلم؛ لأن حجة المسلم حجة على الميت والكافر؛ وحجة الكافر حجة على الميت وليس بحجة على المسلم، أو المزاحمة إنما تثبت عند المساواة وإنما تثبت المساواة إذا ثبت دين كل واحد من الغريمين في حق صاحبه، فهو بمنزلة الدين المقر به في حالة الصحة مع الدين المقر به في حالة المرض. مسلم له عبد كافر أذن له بالبيع والشراء، فشهد عليه شاهدان كافران بشراء أو بيع جازت شهادتهما عليه؛ لأن هذه شهادة كافر قامت على إثبات أمر على الكافر. فإن قيل: هذه الشهادة كما قامت على العبد قامت على المولى، فإنه يستحق مالية المولى متى ثبت الدين على العبد المأذون والمولى مسلم. قلنا: استحقاق مالية العبد غير مضاف إلى الشهادة لا نصاً وهذا الظاهر ولا اقتضاء؛ لأنه ليس من ضرورة وجوب الدين على العبد بسبب البيع والشراء استحقاق مالية المولى، وألا ترى أن العبد لو كان محجوراً، واشترى لا يستحق به مالية المولى مع أن الثمن وجب عليه بالشراء حتى يؤاخذ به بعد العتق، إذا لم يكن استحقاق مالية المولى مضافاً إلى شهادة الكافر لا تمنع بسببه قبول شهادة الكافر، ولو كان الكافر كافراً والعبد المأذون مسلم لا تقبل شهادة الكافر؛ لأن هذه شهادة كافر قامت على إثبات أمر على المسلم نصاً. ولو كان كافر وكل مسلماً بشراء أو بيع لم أجز على الوكيل الشهود إلا مسلمين، ولو أن مسلماً وكل كافراً بذلك أجزت على الوكيل الشهود من أهل الكفر، وهو يخرج على ما ذكرنا من المعنى في فصل العبد. وفي «النوادر» : وقال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: إذا وكل النصراني مسلماً يبيع له ثوباً، أو اشترى له ثوباً، فشهد عليه نصرانيان بالبيع وهو يجحد أن ذلك جائز وكذا الشراء. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : نصراني مات وترك مئة درهم لا غير، فأقام مسلم شاهدين نصرانيين عليه بمئة درهم بينهما يقضي للمسلم المتفرد بثلثي المئة، ويقضي بثلث المئة بين الشريكين نصفان؛ لأن النصراني الشريك أقام ما ليس بحجة على المسلم المنفرد؛ لأنه يتضرر به فيطلب بينة النصراني للشريك، فإذا بطلت بينة النصراني للشريك، بقي المسلم الشريك والمسلم المنفرد وكل واحد منهما أقام ما هو حجة على الميت دون صاحبه فاستويا، فنصرت المسلم المنفرد بحقه وذلك مئة، والمسلم الشريك بحقه وذلك خمسون، فقسمت المئة بينهما أثلاثاً، ثم النصراني الشريك يأخذ من شريكه المسلم نصف ما أخذ لتصادقهما أن الدين مشترك بينهما. فإن قيل: أليس إن كل واحد من المسلمين يتضرر بشهادة شهود صاحبه وهم كفار، فينبغي أن لا تقبل؟. قلنا: الضرر عليهما في امتناع القبول فوق الضرر عليهما في القبول، فإن عند قبول

الشهادتين يصل إلى كل واحد من المسلمين بعض حقه، وعند عدم القبول لا يصل إلى كل واحد من المسلمين شيء، وعند التعارض يتحمل الأدنى لدفع الأعلى، ولو كان مكان المسلم المنفرد نصرانياً منفرداً وباقي المسألة بحاله فالمئة تقسم بينهم أثلاثاً لكل واحد الثلث، لأن بينة النصراني المنفرد غير مقبولة على المسلم الشريك لما مر، وبينة المسلم الشريك حجة في حق النصراني المنفرد، فيأخذ المسلم الشريك حقه وذلك خمسون، بقي من التركة خمسون وقد تنازع فيهما نصرانيان، وأقام كل واحد ما هو حجة على صاحبه إلا أن حق النصراني المنفرد في المئة، وحق النصراني الشريك في خمسين فيقسم للنصراني الشريك، وذلك ستة عشر وثلثان، ثم ما في يد النصراني الشريك يضم إلى ما في يد شريكه المسلم فيصير ستة وستون وثلثاً، تقسم بينهما نصفين لتصادقهما على التركة فنصيب كل واحد في الحاصل ثلث المئة فلهذا قال: تقسم المئة بينهم أثلاثاً ولو كان شهود الشريكين مسلمين، وشهود النصراني المنفرد نصراني، وباقي المسألة بحاله كان هذا والأول سواء؛ لأن المسلم الشريك أقام ما هو حجة في حق النصراني المنفرد؛ والنصراني المنفرد أقام ما ليس بحجة في حق المسلم الشريك، فيطلب بينة النصراني المنفرد في حق المسلم فيأخذ المسلم حقه وذلك خمسون بقي من التركة خمسون، وقد تنازع فيه نصرانيان وأقام كل واحد ما هو حجة على صاحبه فيقسم بينهما على قدر حقوقهما أثلاثاً، ثم الباقي إلى آخر ما مر قبل هذا، فإن كان شهود النصراني المنفرد مسلمين وشهود الشريكين نصارى، وباقي المسألة بحالها يقضي للنصراني المنفرد بنصف المئة ويقضي بالنصف الآخر للشريكين؛ لأن المنفرد أقام ما هو حجة على الشريكين، وهما أقاما ما هو حجة على المنفرد فلهذا قسمت المئة نصفين. قال: نصراني مات وترك مئتي درهم وترك ابنين نصرانيين فأسلم أحدهما، ثم جاء رجل وادعى على الميت مئة درهم فأقام شاهدين نصرانيين، فإن القاضي يقضي بذلك في نصيب الكافر؛ لأن ما أقام المدعي حجة على الابن النصراني دون الابن المسلم لما فيها من الضرر للمسلم، فلم تصح على المسلم وصحت على الكافر فيستوفي الدين من نصيب من صحت البينة عليه، كما لو أقر أحد الابنين بذلك ولا يدخل الابن النصراني على أخيه المسلم في نصيبه، قال محمد في الكتاب: ولا يشبه هذا الدين وأراد به المسألة الأولى، فإن هناك المسلم الشريك إذا أخذ شيئاً من المئة يدخل عليه الشريك النصراني، وهاهنا الابن النصراني لا يدخل على أخيه المسلم في نصيبه. والفرق بينهما: أن النصراني الشريك إنما يزاحم المسلم الشريك بسبب الدين، ودين النصراني ثابت في ذمة الميت، لم يرد عليه الاستحقاق، إنما ورد الاستحقاق على المال الذي نفع به القضاء، فيبقى دينه في ذمة الميت، ويجعل ما أخذه المسلم كالهالك، وإذا بقي دين النصراني الشريك وجبت الشركة في باقي المال، فأما الميراث إنما يجب بعد الدين، فإذا ثبت الدين في حق الابن الكافر بطل به ميراثه والشركة بناء عليه، فإذا بطل الميراث بطلت الشركة، وفي مسألة الدين إذا بقي تثبت الشركة في محل الحق فلهذا

(136ب4) افترقا وذكر عين هذه المسألة في «المنتقى» . وذكر عن أبي حنيفة رحمه الله: إني أقضي بنصف الدين في حصة النصراني وأبطل النصف، وذكر عن أبي يوسف رحمه الله أني أقضي بذلك في حصة النصراني، ولا أقضي على المسلم بشيء وتبين بما ذكر في «المنتقى» أن المذكور في قول أبي يوسف ومحمد وستأتي هذه المسألة بعد هذا إن شاء الله تعالى. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : مسلم ادعى أن فلاناً النصراني مات، وأوصى إليه وأقام شهوداً من نصارى فإن أحضر غريماً نصرانياً قبلت الشهادة عليه قياساً واستحساناً، وعدى إلى غيره لما نبين بعد هذا في الوكالة، وأما إذا أحضر غريماً مسلماً، القياس: أن لا تقبل شهادتهم عليه، وهو قول محمد رحمه الله أولاً وفي الاستحسان تقبل. وجه القياس: أن هذه شهادة الكافر على المسلم مقصوداً فلا تقبل، وجه الاستحسان: ما أشار إليه محمد في «الكتاب» : أن موت النصارى لا يحضره المسلمون، ومعنى هذا الكلام أن الإيصاء غالباً إنما يكون حالة الموت في دورهم، والمسلمون لا يحضرون دورهم عند موتهم غالباً، فلو لم تقبل شهادتهم على المسلم في إثبات الموت والإيصاء أدى إلى ضياع حقوقهم المتعلقة بالموت والإيصاء فتقبل إحياءً لحقوقهم، وإن كان الإحياء قد يحصل بحضرة المسلمين اعتباراً للغالب، ألا ترى أن شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال صارت حجة للضرورة، وإن كان الحادثة بحال يجوز للرجال حضور تلك الحادثة لتحمل الشهادة اعتباراً للغالب، كذا هاهنا والذي بينا من الجواب في الوصاية فهو الجواب في النسب، حتى لو أقام نصراني بينة من النصارى، أن فلاناً مات وأنه ابنه ووارثه لا يعلمون وارثاً غيره وأحضر غريماً للميت كافراً، تقبل شهادتهم قياساً واستحساناً، فإن أحضر غريماً مسلماً، القياس: أن لا تقبل لما مر، وفي الاستحسان تقبل؛ لأن النسب إنما يثبت بالفراش والفراش إنما يثبت بالنكاح ونكاح أهل الذمة إنما تكون في دورهم غالباً ولا يحضره المسلمون في الغالب فلو لم تقبل شهادتهم أدى إلى تضييع حقوقهم المتعلقة بالنسب. ولو أن مسلماً أدى وكالة من نصراني بكل حق له بالكوفة وأحضر غريماً مسلماً وأقام عليه شهوداً نصرانياً لا تقبل؛ لأن هذه (شهادة) نصراني قامت على المسلم مقصوداً فلا تقبل، فرق بين الوصاية والوكالة، والفرق ما ذكرنا: أن الإيصاء غالباً يكون حالة الموت في دورهم والمسلمون لا يحضرون دورهم عند موتهم غالباً، فقبلنا شهادتهم صيانة لحقهم عن البطلان، أما الوكالة فتقع خارج دورهم غالباً، والمسلمون يخالطوهم خارج دورهم، فأمكن إشهاد المسلمين عليها، فلا ضرورة إلى قبول شهادة أهل الذمة، فإن أحضر نصرانياً قبلت شهادتهم لكونها حجة على النصراني، وإذا قبل القاضي هذه الشهادة وقضى له بالوكالة كان ذلك قضاءً على جميع الغرماء من المسلمين وغيرهم، حتى لو أحضر غريماً مسلماً بعد ذلك، وهو يجحد وكالته، لم يكلفه القاضي إقامة البينة على

الوكالة في حق جميع من كان بالكوفة لما مر قبل هذا، وقد يثبت الشيء ضرورة غيره، وإن كان لا يثبت مقصوداً بينته، كعزل الوكيل لا يثبت حال غيبة الوكيل مقصوداً، ويثبت ضرورة نفاذ بيع ما يوكل ببيعه كذا هاهنا. قال ابن سماعة عن محمد رحمه الله: في رجل مات وترك ابنين، أحدهما مسلم والآخر نصراني، فقال المسلم منهما: أسلم أبي قبل موته وأنا وارثه، وقال النصراني: إنه لم يسلم وأنا وارثه، فالقول قول النصراني منهما؛ لأنه عرف كونه كافراً، فالنصراني تمسك بالأصل وهو بقاء الكفر، والمسلم يدعي زواله بالإسلام، فكان القول قول من يدعي البقاء، ولأن اختلاف الدينين مانع من جريان الإرث وقد عرف وجود، فإذا ادعى الابن المسلم الإسلام فقد ادعى زوال المانع، والابن ينكر، والقول قول المنكر ولكنه يصلي على الميت بإخبار الابن المسلم أنه أسلم لأنه أخبر بخبر ديني وهو وجوب الصلاة عليه، وخبر المسلم الواحد في أمور الدين مقبول، فيصلي عليه وليس من ضرورة الصلاة عليه ثبوت استحقاق الميراث للابن المسلم، لأنه ينفصل أمر الصلاة عن الميراث في الجملة فلم يكن من ضرورة استحقاق الميراث للابن المسلم، ولو أقام المسلم نصرانيين أنه مات مسلماً وأقام النصراني مسلمين أو نصرانيين أنه مات نصرانياً قضيت بالميراث للمسلم منهما، أما إذا أقام النصراني نصرانيين؛ لأن الابن المسلم أقام ما هو حجة على النصراني، والابن النصراني أقام ما ليس بحجة على الابن المسلم، وأما إذا أقام النصراني مسلمين؛ فلأنه وإن أقام ما هو حجة على المسلم ولكن مع هذا ترجحت بينة المسلم لوجهين. أحدهما: أن البينات للإثبات وبينة المسلم تثبت أمراً حادثاً وهو الإسلام ويثبت استحقاق الميراث للابن المسلم وبينة النصراني تنفي ذلك، فلهذا جعلنا القول قول الابن النصراني، لأنه ينفي استحقاق الابن المسلم، فتكون البينة بينة المسلم؛ لأنه يثبت الاستحقاق لنفسه. الوجه الثاني: أن الإسلام أقوى قال عليه السلام: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه» فكان الترجيح لبينة المسلم من هذه الوجوه، ولهذا قلنا: إن المولود بين مسلم وكافر يكون مسلماً تبعاً للمسلم بهما لقوة الإسلام، كذا بهذا، وأما حكم الصلاة فإنه يصلى عليه لا بالشهادة فإن الشهود نصارى فلا تقبل شهادتهم في الأمور الدينية، والصلاة أمر ديني، ولكن لإخبار الابن المسلم بإسلامه، وخبره حجة في حق الصلاة عليه كما ذكرنا، فإن كان للميت بنون صغار ورثتهم عن الميت مع ابنه المسلم، وجعلتهم مسلمين؛ لأنه لما قضى بالميراث للابن المسلم بالبينة فقد قضى بإسلام الأب لا محالة ليمكن توريث

المسلم منه، فإذا جعلناه مسلماً لابد من الحكم بإسلام أولاده الصغار تبعاً له؛ لأنهم يتبعون خير الأبوين في الدين، قال في «المنتقى» : فلو لم يقم الابن المسلم بينة على إسلام أبيه قبل موته حتى ادعى رجل على الميت ديناً، وأقام بينة من النصارى على إسلام الأب قبل موته قال محمد رحمه الله: إن كان الغريم مسلماً لم أبطل دينه بشهادة أهل الذمة ولم أرد القضاء، وإن كان ذمياً رددت القضاء وأنفدت للابن المسلم جميع الميراث، أما إذا كان الغريم ذمياً؛ فلأن الابن المسلم أقام ما هو حجة على الابن النصراني وعلى الغريم فثبت وراثته واستحقاقه التركة، ولم يثبت استحقاق الغريم بما أقام من الحجة؛ لأن ما أقام من الحجة، ليست بحجة لا في حق الابن المسلم ولا في حق الميت لأنا حكمنا بإسلامه ضرورة الحكم بميراثه للابن المسلم، وأما إذا كان الغريم مسلما فلأن ما أقام الابن المسلم من الحجة ليست حجة في حق الغريم، فلم تثبت وراثة الابن المسلم في حق الغريم، فلا يحتاج الغريم إلى إقامة البينة على الابن المسلم، وإنما يحتاج إلى إقامتها على الابن النصراني، وما أقام الغريم حجة في حق الابن النصراني.a قال: ولو لم يكن يترك الميت مالاً وأقام الابن المسلم شهادة من النصارى على أنه مات مسلماً، وأراد أحد أخويه الصغار لم تقبل بينته عل ذلك، بخلاف ما إذا ترك مالاً. والفرق: أنه إذا ترك مالاً فبينة الابن المسلم من أهل الذمة إنما تقبل على المال وعلى الميراث، ومن ضرورة قبولها على الميراث القضاء بإسلام الميت، فيتعدى ذلك إلى أولاده الصغار، فأما إذا لم يترك مالاً لا يمكن قبول بينة أهل الذمة على المال لانعدامه، ولا يمكن قبولها على إسلام الميت وحده، لأنه أمر ديني، وشهادة أهل الذمة لا تقبل في الأمور الدينية، وهذا الحكم لا يختص بهذا الموضع بل في كل موضع يشهد قوم من أهل الذمة على إسلام ميت، إن كان الميت لم يترك مالاً تقام البينة لأجله لا تقبل شهادتهم ولا يحكم بإسلامه، وروى «المعلى» عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: لا أقبل شهادة أهل الذمة على إسلام الكافر في حالة الحياة وأقبلها بعد الموت، وإن لم يكن له ميراث يجب لأحد بشهادتهم، وروى عمرو عن محمد رحمه الله في «الإملاء» رجل من أهل الذمة مات فشهد مسلم عدل أو مسلمة أنه أسلم قبل موته (137أ4) وأنكر أولياؤه من أهل الذمة ذلك، فميراثه لأوليائه من أهل الذمة بحاله وإنه ظاهر، قال: وينبغي للمسلمين أن يغسلوه ويكفنوه ويصلون عليه، وكذلك إن كان محدوداً في قذف يعني المخبر بعد أن يكون عدلاً، قال: وشهادة الفساق من المسلمين على إسلامه لا تقبل ولا يصلى عليه بشهادتهم، قال: ولو شهد على إسلام النصراني رجل وامرأتان من المسلمين، وهو يجحد أجبر على الإسلام ولا تقبل. ولو شهد عليه رجلان من أهل دينه وهو يجحد فشهادتهما باطلة، قال: لأن في زعمهم أنه مرتد ولا شهادة لأهل الذمة على المرتد، ولو قال الابن المسلم: لم يزل كان مسلمااً وقال النصراني: لم يزل كان نصرانياً، فالقول قول المسلم، لأن كل واحد منهما يدعي ما هو أصل من وجه حادث من وجه، أما الابن المسلم فلأنه يدعي الإسلام

والإسلام أصل في بني آدم من وجه من حيث إنهم أولاد آدم وحواء وهما كانا مسلمين وحادث من وجه، من حيث إنه علم بالله تعالى ورسله وكتبه والعلم حادث، وأما الابن النصراني فلأنه يدعي الكفر، والكفر أصل من وجه من حيث إنه جهل والجهل أصل في الأدمي حادث من وجه من حيث إن الأصل في الأدمي الإسلام تبعاً لآدم وحواء، فهو معنى قولنا: إن كل واحد منهما يدعي ما هو الأصل من وجه، وما هو حادث من وجه، فاستويا من هذا الوجه وترجح دعوى الابن المسلم لقوة الإسلام وعلوه، فجعلنا القول قول الابن المسلم، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الابن المسلم أيضاً، لأنها تثبت أمرا حادثاً وهو العلم. ولو أن الابن المسلم، أقام بينة على إسلام الأب قبل موته من المسلمين، لم أقبل ذلك حتى يصفوا الإسلام. وكذلك إذا أشهد شاهداً ادعى على نصراني حي أنه أسلم لا تقبل شهادتهما حتى يصفوا الإسلام، وهذا لأن الشاهدين عسى لا يعرفان ما يصير الكافر به مسلماً وما يحتاج إليه لدخوله في الإسلام، فإن لذلك شرائط وبعضها خفية، ويحمل ما عندهما غير ما هو عند القاضي، فلا بد من الوصف حتى ينظر القاضي فيه إن كان ذلك يوجب دخوله في الإسلام، يجعله مسلماً ومالا فلا، ألا ترى أنا شرطنا لقبول الشهادة على الزنا أن يفسر الشهود الزنا، لأنهم عسى يعرفون من أنواع الزنا أنه يوجب الحد، ولا يكون كذلك كذا هاهنا. وذكر القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله في آخر «شرح السير» أن الشاهد إذا كان فقيهاً تقبل شهادته من غير أن يصف الإسلام، وإذا كان جاهلاً لا تقبل شهادته ما لم يصف الإسلام. قال ابن سماعة: قلت لمحمد رحمه الله: فإن كان الشهود غريم المسلم من المسلمين وقضيت بشهادتهم بحضرة الابن النصراني، ثم جاء الابن المسلم ببينة من أهل الذمة أن الأب مات مسلماً؟ قال محمد رحمه الله: هو الوارث فيما كان للنصراني الميت من المال، ولا يقضي على الغريم بشيء، لأن الابن المسلم أقام ما هو حجة على الابن النصراني دون الغريم المسلم، والقضاء بحسب الحجة، فيقتصر القضاء على الابن النصراني، واستشهد بما إذا كان البنون ثلاثة: أحدهم مسلم والآخران نصرانيان، فاقتسم النصرانيان الميراث نصفين، ثم أسلم أحد الابنين النصرانيين، ثم أقام الابن المسلم بينة من أهل الذمة أن الأب مات مسلماً، فإني أقضي له على الوارث الذي لم يسلم ولا أقضي له على الذي أسلم، وطريقه ما قلنا. قال ابن سماعة: قلت لمحمد رحمه الله: فإذا كان الغريم والابن المسلم أقام كل واحد منهما شاهدين ذميين، قال: إذا جاؤوا معاً فالخصم هو المسلم، لأنه يثبت وارثه بما أقام من البينة، وإنما تقبل بينة الغريم على الوارث، فإذا كان الوارث مسلماً فشهادة أهل الذمة ليست بحجة عليه، فلا يستحق الغريم بها شيئاً.

قال ابن سماعة: سمعت أبا يوسف رحمه الله قال في نصراني مات وترك ألف درهم، فأقام مسلم شهوداً من النصارى على ألف درهم له على الميت، وأقام نصراني شاهدين من النصارى على ألف درهم له على الميت، وأقام نصراني شاهدين من النصارى على ألف درهم على الميت، فإنه يدفع الألف المتروك إلى المسلم، ولا يتحاصان فيها عند أبي حنيفة وقال أبو يوسف رحمه الله: يتحاصان في الألف، وقول محمد كقول أبي حنيفة، وحاصل الخلاف راجع إلى أن بينة الغريم النصراني هل هي مقبولة في هذه الصورة؟ على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: هي غير مقبولة وعلى قول أبي يوسف هي مقبولة، فأبو يوسف يقول: إن هذه شهادة قامت على الميت؛ لأنهم شهدوا بدين على الميت، والميت ذمي فتقبل شهادة أهل الذمة عليه، اقصى ما في الباب أنه إذا قبلت بينته وثبت دينه على الميت بشهادتهم، تضرر به الغريم المسلم، فإنه بخاصة في الألف المتروكة فينتقص حقه حيث لا يصل إليه تمام الأصل، ولكن لا يجوز أن يمتنع قبول الشهادة لأجلها، لأنه إنما يعتبر من قامت عليه الشهادة لا من يتعدى إليه في الجملة، ألا ترى أن شهادة أهل الذمة على الذمي بإعتاق عبده المسلم جائزة، وإن كان يتوهم تعدي الضرر إلى المسلم؟ فإنه تقبل شهادته بعد ذلك على سائر المسلمين، ولم يعتبر ذلك شهادة على المسلم فكذا هذا، وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا بأن هذه شهادة قامت على الميت من وجه، وعلى الغريم المسلم من وجه، فتقبل في حق الميت الكافر، ولا تقبل في حق المسلم الغريم، وهذا لأن هذه الشهادة من حيث إنما قامت على أصل الدين، فهي شهادة على الميت، ومن حيث إن الدين بعد الموت إنما يتعلق بالتركة، والتركة مشغولة بدين الغريم المسلم، كانت هذه شهادة على المسلم، فهذه الشهادة حجة على الكافر دون المسلم، فقلنا: بأنه تقبل هذه الشهادة على الميت بثبوت الدين، ولم يظهر ذلك في حق المسلم، حتى لا يزاحمه في التركة، فإذا قضي دين الغريم المسلم، فإن فضل شيء كان ذلك لأن دينه ثبت على الميت، وليس في ظهوره في حق التركة بعد فراغها عن دين المسلم إبطال حق المسلم، فقبلت بخلاف ما قبل فراغ التركة عن دين المسلم، لأن هناك في إظهاره في التركة إبطال حق المسلم عن التركة بشهادة الكفار، وإنه لا يجوز، قال ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله: في نصراني مات وترك ابنين فأسلم أحدهما بعد موت أبيه، ثم إن رجلاً نصرانياً أقام بينته من النصارى أنه ابن الميت النصراني، قال: فإني أقبل بينته على النسب، فأجعله شريك النصراني منهما، ولا أجعله شريك المسلم فيما في يديه، لأن هذه الشهادة تضمنت إثبات النسب من الميت، وإنه مختص بالميت الذمي، فتقبل شهادتهم لإثبات هذا الحكم، وتضمنت استحقاق بعض ما في يد الاثنين؛ لأنه ظهر لهما شريك ثالث، فيكون له حق مشاركتهما وإنه حجة في حق الذي لم يسلم، فيثبت له حق مشاركته، وليست بحجة في حق الذي أسلم، فلا يثبت له حق مشاركته أيّاً ولعذر الحجة في حقه. وكذلك لو ترك ابنا واحداً نصرانياً، فأسلم بعد موت أبيه، ثم جاء نصراني وادعى أنه ابن الميت وأقام بينة من النصارى، فإني أقضي بنسبه من الميت، لأن النسب أمر يختص الميت، وهذه الشهادة حجة في حقه ولا أعطيه شيئاً مما في يد الابن المسلم، لأنها ليست بحجة في حقه، فلا يجوز استحقاق شيء مما في يد المسلم بشهادتهم. استشهد بمسألة الغريمين، أحدهما مسلم والآخر ذمي، وأقاما بينة بدين لهما على ميت ذمي من أهل الذمة، أنه يقبل بينتهما في حق المديون الميت وأما في حق المزاحمة فلا تقبل بينة الذمي على المسلم، لأنها ليست بحجة في حقه، وإن خرج للميت النصراني مال فضل على دين المسلم، كان للغريم الذمي، لأن مزاحمة المسلم انقطعت فبقي هذا المال للذمي وهذه البينة حجة في حقه. وكذلك أمر الابنين الوارثين أحدهما ذمي والآخر مسلم بعد موت المورث إذا لم تكن بينة الذمي حجة على المسلم، وأنهما حجة في حق الميت الذمي الذي ثبت بسبب الذمي من الميت بهذه البينة؛ لأنها حجة في حقه، ولكن لما لم تكن حجة في حق المسلم لم يكن له حق مشاركته. وكذلك لو ترك ابنا واحداً نصرانياً، فأسلم بعد موت أبيه، ثم جاء نصراني وادعى أنه ابن الميت وأقام بينة من النصارى، فإني أقضي بنسبه من الميت، لأن النسب أمر

يختص الميت، وهذه الشهادة حجة في حقه ولا أعطيه شيئاً مما في يد الابن المسلم، لأنها ليست بحجة في حقه، فلا يجوز استحقاق شيء مما في يد المسلم بشهادتهم. استشهد بمسألة الغريمين، أحدهما مسلم والآخر ذمي، وأقاما بينة بدين لهما على ميت ذمي من أهل الذمة، أنه يقبل بينتهما في حق المديون الميت وأما في حق المزاحمة فلا تقبل بينة الذمي على المسلم، لأنها ليست بحجة في حقه، وإن خرج للميت النصراني مال فضل على دين المسلم، كان للغريم الذمي، لأن مزاحمة المسلم انقطعت فبقي هذا المال للذمي وهذه البينة حجة في حقه. وكذلك أمر الابنين الوارثين أحدهما ذمي والآخر مسلم بعد موت المورث إذا لم تكن بينة الذمي حجة على المسلم، وأنهما حجة في حق الميت الذمي الذي ثبت بسبب الذمي من الميت بهذه البينة؛ لأنها حجة في حقه، ولكن لما لم تكن حجة في حق المسلم لم يكن له حق مشاركته. فرع على ما إذا كان الابن واحدا قال: وإن خرج للميت مال كان ذلك كله للمسلم؛ لأن وراثته ثابتة (137ب4) مطلقاً ووراثة الذمي غير ثابتة في حق الابن المسلم، فلا يكون له أن يشاركه فيه، قال: فإن مات المسلم ورث أخاه يريد به أن بعدما مات الابن المسلم فميراث الميت الذمي للابن الذمي؛ لأن نسبه لما ثبت من الميت ثبتت وراثته، إلا أنها لم تظهر في حق المسلم لمزاحمته إياه، فإذا مات انقطعت مزاحمته فورث هذا الابن. قال ابن سماعة: إنما لا يكون للابن الذمي حق المزاحمة مع الابن المسلم في هذه المسألة إذا أسلم قبل أن يثبت نسب الابن الذمي، أما لو ثبت نسبه قبل إسلامه بهذه البينة كان له مزاحمة الابن المسلم؛ لأنه حال ما أقام البينة هو في مثل حال ذمي فيقبل بينة أهل الذمة عليه فكان له أن يشاركه، فأما بعدما أسلم لم يثبت حق المشاركة بهذه البينة؛ لأنها ليست بحجة في حقه. ولو مات مولى النصراني الميت ولم يمت الابن، فإني أجعل ميراثه من المسلم والنصراني. قال ابن سماعة: يعني إذا كان أسلم بعد موته، قال: لأن هذا مال حدث الساعة وليس بمنزلة مال تركه النصراني ميراثاً، أشار إلى ما ذكرنا أن بينة النصراني مقبولة في حق الميت حتى يثبت نسبه منه، وإنما لم يشاركه الابن المسلم فيما قبض؛ لأن هذه البينة ليست بحجة عليه، فبقي ما أخذه الابن المسلم لا يظهر وراثته في حقه حتى لا يكون قضاء على المسلم بشهادة النصراني، فأما فيما سواه فالتركة مبقاة على حكم ملك الميت قبل القسمة على ما عرف في موضعه، فكانت هذه شهادة على الميت وإنما يستحق بها مال الميت، وشهادة أهل الذمة حجة في حقه، وكذلك إنما يرث من مولى النصراني بحكم الولاد أنه ثابت له بهذه البينة، فهذه الشهادة حجة في حقه؛ لأنه ذمي مثله فصلح أن يكون مستحقاً لميراثه بهذه البينة، وهذا استحقاق عليه لا على الابن المسلم لما قلنا، فلهذا كان ميراثه بينهما، وإنما فسره ابن سماعة بأنه أسلم بعد موته؛ لأنه لو كان أسلم قبل موته لا يرث منه لاختلاف دينهما.

قال في «المنتقى» : وإذا شهد رجل على امرأته مع آخر أنها ارتدت والعياذ بالله، وهي تجحد وتقر بالإسلام فرقت بينهما وجعلت عليه نصف المهر إن لم يكن دخل بها، قال: أقبل شهادة الزوج في الردة، ولا أبرئه عن المهر وأجعل جحودها للردة وإقرارها بالإسلام توبة، ولو شهدا عليه أنها أسلمت وهي تجحد، وأصل دينها كان النصرانية قبلت شهادتهما على الإسلام وأجعل جحودها وبيانها على النصرانية ردة ولا يبرأ من نصف المهر. وفيه أيضاً: مسلم قال: إن دخل عبدي هذه الدار فهو حر، وقال نصراني: إن دخل هذا العبد هذه الدار فامرأته طالق، فشهد نصرانيين أنه دخلها بعد اليمينين، فإن كان العبد مسلماً لا تقبل هذه الشهادة، لأنهما شهدا على فعل مسلم، وإن كان العبد نصرانياً قبلت الشهادة على طلاق المرأة، ولا تقبل على عتق العبد، وهذا بناء على ما مر أن شهادة النصراني حجة في حق النصارى، وليست بحجة في حق المسلمين. قال ابن سماعة عن محمد رحمهما الله في النصرانيين شهدا على مسلم ونصراني أنهما قتلا مسلماً عمداً، قال: لا أجوز شهادتهما على المسلم وأدرأ عن النصراني القتل، وأجعل عليه الدية في ماله، أما لا تقبل شهادتهما على المسلم فظاهر، وأما درء القتل عن النصراني؛ لأن القتل واحد ولم يثبت في حق المسلم لقصور الحجة، فتورث الشبهة في حق الكافر والقصاص لا يستوفى مع الشبهات، قال: وأجعل عليه الدية في ماله، لأن الشهادة على قتلهما ليست بشهادة على اشتراكهما في جرح واحد، لكن هذه شهادة على جرح موجود من الكافر، وجرح من المسلم، فإذا شاهدا ظهور الموت عقيب الجرحين كان لهما أن يشهدا عليهما بالقتل، فأقصى ما في الباب: أن الجرح من المسلم لم يثبت لقصور الحجة، ولكنه قد تكاملت الحجة على الكافر، فيثبت جرحه، وظهور الموت عقيبه وتعذر إيجاب القصاص به للشبهة فوجبت الدية، ثم تجب الدية في ماله، لأن المشهود به القتل العمد، والعاقلة لا تعقل العمد. قال ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: في مسلم ادعى على مسلم ونصراني ألف درهم من ثمن متاع باعه منهما، وأن كل واحد منهما كفيل عن صاحبه وأقام شاهدين من النصارى عليهما بذلك، قبلت بينته على النصارى ويأخذ منه جميع الألف، ولا يرجع النصراني بذلك على المسلم، وإنما تقبل بينته على النصراني؛ لأن بينته حجة في حقه، ويأخذ منه جميع الألف، النصف بحكم الأصالة لقيام الحجة عليه، والنصف بحكم الكفالة؛ لأن هذه البينة تقتضي ثبوت الألف كلها عليهما، إلا أنها إن لم تعمل في حق المسلم؛ لأنها ليست بحجة عليه، أما هي حجة على الكفيل، فيعمل في حق الكفيل فيثبت المال عل المسلم فيما يرجع إلى استحقاق المطالبة والأخذ من يد الكفيل، وإن كان لا يثبت فيما يرجع إلى استحقاق مطالبة المسلم الأصيل والأخذ من يده. واستشهد في «الكتاب» فقال: ألا ترى أن رجلاً لو ضمن مالاً على رجل، والمدعى عليه ينكر المال، ولم تقم عليه بينة أن الضمان جائز؟ لأن شرط صحة الضمان

وجوب المضمون على الأصيل في حق الكفيل وقد وجد؛ لأنه أقر بذلك وإقراره حجة عليه، إن لم (يكن) حجة على الأصيل، فكذا في مسألتنا ظهر وجوب الدين على المسلم في حق النصراني، وإن لم يظهر في حق المسلم لقيام ما هو حجة في حق الكفيل إن لم يكن حجة في حق المسلم الأصيل، فجاز أن يؤاخذ الكفيل بذلك، ثم لا يرجع الكفيل على المسلم، لأن الرجوع عليه من حكم ظهور الاستحقاق في حقه ولم يظهر؛ لأن هذه البينة ليست بحجة عليه. قال ابن سماعة: عن محمد رحمهما الله: في نصراني اشترى من مسلم عبدا وقبضه وباعه من نصراني آخر، ثم إن المشتري الثاني وجد به عيباً بعدما قبضه، وأقام بينة من النصارى، أن هذا العيب كان به عند المسلم قبل أن يبيعه من النصراني المشترى، كان له أن يرده على بائعه النصراني، وإن كان بائعه لا يقدر على رده على بائعه المسلم بهذه البينة، وبهذه المسألة يحتج أبو يوسف رحمه الله في مسألة الاستحقاق التي مرت في أول هذا الفصل، وقال: الشهادة في هذه المسألة لما تضمنت حكمين: الرد على النصراني، وولاية الرد لذلك النصراني على المسلم، وهذه البينة حجة في حق النصراني ليست بحجة في حق المسلم، ثبت حكمه في حق النصراني لقيام الحجة في حق النصراني، وإن امتنع ثبوت حكمه في حق المسلم فكذلك في المسألة المختلفة، ولكن الجواب عنه وهو الفرق أن في هذه المسألة المشهود به العيب وإذا كان مما يحدث مثله لم تكن البينة عليه مقتضية كون العيب ثابتاً من الأصل، ولكنه يليق بقدر ما يحتاج إليه الرد، فلم تكن هذه البينة مستمعة حكماً على البائع المسلم ليمتنع قبولها. يوضحه: أن هذه البينة لا تثبت حق (الرد) إلا للمشتري الآخر؛ لأن المشتري الأول لا يقدر على رده إلا بعد عود قد تم ملكه إليه ولم يعد إليه بعد، وإذا لم تكن هذه البينة مثبتة حق الرد للمشتري الأول للحال، لم تكن هذه البينة قائمة على البائع المسلم بل هي قائمة على هذا البائع النصراني، وإنها حجة في حقه، فسمعت عليه وأما في المسألة المختلفة، فالمشهود به الملك المطلق، وهو الملك من الأصل، فإذا ظهر بالبينة أن الملك من الأصل للمستحق، ظهر بطلان ملك الباعة كلهم، فكانت قائمة على الباعة جميعاً، فيكون القضاء بها قضاء على جميع الباعة، فيكون قضاء على البائع المسلم، ولهذا لا تقبل بينة واحد من الباعة على الملك المطلق لنفسه، لأنه صار مقضياً عليه، ولهذا كان لكل واحد أن يرجع على بائعه قبل أن يرجع عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافاً لمحمد. والدليل عليه أنه انفسخ البياعات الواقعة عندهما على ما روى الخصاف رحمه الله، فثبت أنه قضاء على المسلم البائع، ولا يجوز القضاء على المسلم ببينة أهل الكفر. ثم استشهد لإيضاح الفرق فقال: ألا ترى أن رجلاً اشترى عبداً فباعه من آخر فاستحقه رجل من يد المشتري، فرجع المشتري بالثمن على بائعه إن لبائعه أن يرجع على بائعه من غير إعادة البينة، وبمثله لو رده المشتري على بائعه بالعيب بالبينة لم يكن لبائعه أن يرده على

من اشتراه منه حتى يعيد البينة عليه، وهذا إشارة إلى أن ما ذكرنا من الفرق، أن القضاء بالملك المطلق للمستحق قضاء على جميع الباعة، فاستغنى عن إعادة البينة؛ لأن تلك البينة قائمة (138أ4) عليه لأنها قامت على من انتصب خصماً منه وهو المشتري بخلاف مسألة العيب، لأن البينة على العيب قائمة على البائع دون بائع البائع؛ لأنه لا يتعدى حكمه إليه للحال كما ذكرنا. والذي يوضح الفرق أن القضاء بالملك، لما كان قضاء بالملك من الأصل لابد وأن يكون البائع المسلم مقضياً عليه بشهادة الكفار وإنه لا يجوز، وأما شهادة الشهود على أن هذا العيب كان عند البائع المسلم، شهادة أنه كان في يد البائع الكافر الذي اشتراه من المسلم، لأنهم شهدوا ببقاء ذلك العيب إلى هذا الوقت، فقد شهدوا بقيام العيب عند البائع النصراني وشهادتهم حجة عليه، فقبلت وثبت قيام هذا العيب في يده وشهدوا أيضاً بإسناد عيب إلى زمان سابق، وهو حال ما كان في يد المسلم وشهادتهم ليست بحجة عليه، فيثبت قدر ما أمكن إثباته بشهادتهم، وهو كون العيب موجوداً في يد الكافر دون المسلم، وإنه غير مستحيل، ليكون عملاً بقدر الدليل. قال ابن سماعة: سمعت محمداً رحمه الله يقول في المسلم قطع يد النصراني عمداً، وادعى القاطع أنه يعني القاطع عبد لنصراني، وادعى المقطوعة يده أنه حر، فأقام رجل وامرأتين من المسلمين على أنه أعتقه مولاه منذ سنة، قال: أجعله حراً وأقتص منه وهذا لأنه ادعى لنفسه حق استيفاء القصاص من القاطع، ولا يمكنه ذلك إلا بإثبات حرية القاطع، فالقصاص في الأطراف لا يجري بين العبيد ولا بين العبد والحر، وإذا كان لا يمكنه إثبات القصاص إلا بإثبات العتق صار خصماً في حق إثبات العتق، فهذه بينة قامت على خصم فقبلت. وكذلك العبد لا يمكنه دفع القصاص إلا بإنكار العتق فانتصب خصماً عن مولاه في إنكار العتق، فقامت هذه البينة على خصم فقبلت هذه البينة. ثم الثابت بهذه البينة في صورة جريان القصاص فكان كاللإحصان في باب الرجم، وأنه يثبت بشهادة رجل وامرأتين عندنا كذا هذا. وإن أقام المقطوعة يده شاهدين نصرانيين أن مولاه اأعتقه عند شهر وأراد أن يقتص له، فإنه يعتق بهذه الشهادة ولا أقتص من القاطع المسلم بشهادة النصرانيين؛ لأن هذه الشهادة حجة على المولى النصراني، فثبت العتق في حقه بهذه الشهادة، وليست بحجة على القاطع، فلم يظهر العتق في حقه لاستيفاء القصاص منه، وقالوا: ينبغي أن يكون القضاء بالعتق في هذه الصورة قولهما؛ لا قول أبي حنيفة رحمه الله فإن أبا حنيفة رحمه الله، لا يرى قبول الشهادة على عتق العبد بدون دعواه، ولم يوجد هاهنا دعوى العبد فإنه منكر لذلك. قال: ألا ترى لو أن مسلماً قال: إن طلق فلان النصراني امرأته فعبدي حر فشهد نصرانيان أن فلاناً طلق امرأته بعد هذا القول أني أطلق امرأة النصراني، ولا أعتق عبد

المسلم؟ لأن الشهادة حجة في حق النصارى دون المسلم، والطلاق منفصل عن العتق فأمكن إثبات أحدهما دون الآخر، فيثبت الطلاق دون العتق ويجعل في حق العين كأن الطلاق غير نازل لعدم الحجة على ظهوره في حق المسلم كذا هذا.6 قال: ألا ترى أن نصرانياً لو مات وترك ألفاً لا مال له غيره فأقام كل واحد من مسلم ونصراني بينة من النصارى أن له عليه ألفاً، أنه يقضي بها للمسلم ولا يشاركه النصراني، لأن شهادة النصراني حجة على النصراني دون المسلم، فثبت بقدر الحجة فكذا هاهنا قال: ألا ترى أن نصرانياً في يده طيلسان أقام كل واحد من مسلم ونصراني نصرانيين أن النصراني أقر بالطيلسان له، أني أقضي به للمسلم؟ لما قلنا كذا هذا. ألا ترى أن رجلاً لو شهد عليه ابناه أن لفلان عليه ألف درهم، فقال: إن كان لفلان علي ألف درهم فأمهما طالق، فشهد ابناه بالمال، أني أقضي بالمال ولا أطلق الأم إذا ادعت؟، لأن شهادتهما للأم غير مقبولة، وللأجنبي مقبولة، فتقبل شهادتهما للأجنبي بالمال على وجه لا يظهر في حق أمهما كذا هذا. وما ذكر محمد رحمه الله في ابتداء المسألة أن المقطوعة يده إذا أقام رجلاً وامرأتين من المسلمين على أن المولى أعتقه اقتصصت منه قوله. وفي «نوادر هشام» : قال: سألت أبا يوسف عن رجل قال: إن اشتريت خمراً فعبدي حر، فشهد رجل وامرأتان أنه قد شرب الخمر، قال: أعتق العبد ولا أحده، ولا فرق بين المسألتين لأن الثابت في المسألتين بهذه البينة في صورة الشرط جريان القصاص، وفي صورة الشرط جريان الحد. ولو شهد رجل وامرأتان أن لفلان على زوج إحدى المرأتين ألف درهم، وقد كان قال الزوج: إن كان لفلان علي ألف فأنت طالق، فإني أقضي بالمال ولا أطلق المرأة؛ لأنها شهدت لنفسها بوقوع الطلاق، ولأجنبي بالمال فتقبل الشهادة للأجنبي ولم أثبت المال عليه في حق كونه شرطاً لوقوع الطلاق لما ذكرنا من المعنى كذا هذا. قال في كتاب الرهن: ذمي مات وادعى ذمي بعض متاعه رهناً وأقام بينة من أهل الذمة، وادعى مسلم عليه ديناً، وأقام بينة من المسلمين، أو من أهل الذمة فإني آخذ بينة المسلم فأبدأ بدينه حتى يستوفي المسلم ماله، فإن بقي شيء كان للذمي، وهذا لأن بينة الذمي قامت بالدين على الميت وعلى الغريم المسلم بالمزاحمة، وإنها حجة تامة في حق الميت لأنه كافر، وليست بحجة في حق المسلم، فلم يظهر الدين بهذه البينة في حق المزاحمة للمسلم، وبينة المسلم حجة على الميت والغريم النصراني فكانت أولى، فلهذا يبدأ بدين الميت، ثم قال: ولا يجوز رهن الذمي حتى يستوفي المسلم دينه؛ لأن الحجة على الرهن بشهادة أهل الذمة، وإنها ليست بحجة على المسلم، فلم يثبت الرهن في حقه فكأن أخص به كما في غيره من التركة، فإن كان شهود الذمي مسلمين وشهود المسلم

ذميين أو مسلمين كان الذمي أحق بالرهن حتى يستوفي دينه، لأن كل واحد منهما أقام ما هو حجة على الميت وعلى صاحبه فقبلت بينتهما، وثبت ببينة الذمي اختصاص الذمي بالرهن، ولم يعرف مثل هذا الاختصاص للمسلم به فصار الذمي أولى بالرهن من هذا الوجه. قال في «المنتقى» : عبد باعه نصراني من نصراني، ثم باعه المشتري من نصراني آخر ثم وثم، حتى تداولته عشرة أيد من الباعة كلهم نصارى، ثم أسلم واحد منهم، ثم ادعى العبد أنه حر الأصل وأقام على ذلك شهوداً من النصارى، قال زفر رحمه الله: لا تقبل بينته سواء أسلم أولهم أو آخرهم أو أوسطهم حتى يقيم بينة من المسلمين، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن كان المشتري الآخر هو الذي أسلم لم تقبل بينته، وإن كان غيره أسلم قضي بعتقه، ويرادون الثمن فيما بينهم حتى ينتهوا إلى المسلم، فلا يؤمر برد الثمن ولا من قبله من الباعة، فإن كان العبد أقام البينة على الإعتاق فإن أقام بينة أن البائع الأول قد أعتقه وقد أسلم الأول والشهود نصارى لا أقبل بينته، وكذلك إن كان الأوسط هو الذي أسلم لا تقبل بينته على عتق الأوسط وعلى عتق من بعده، وتقبل بينته على عتق من قبله وهذا قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: أي الباعة أقام عليه البينة من النصارى أنه أعتقه، الذي قبل المسلم والذي بعده سواء تقبل شهادته وقضى بعتقه إلا أن تقوم البينة على المسلم فلا تقبل، وإذا أقام على غيره يتراجعون حتى ينتهوا إلى المسلم فلا يرجع عليه ولا على من قبله إلا أن يقر بذلك، ويترادون بالثمن حتى ينتهوا إلى الذي أعتقه. قال محمد رحمه الله في كتاب الحوالة والكفالة: إذا ادعى مسلم على كافر مالاً، وادعى ضمان مسلم عنه، وأقام بينة من أهل الكفر بأصل المال وبكفالة المسلم عنه، فإن المال ثبت في حق الأصيل، ولا يثبت في حق الكفيل؛ لأن شهادة أهل الذمة حجة في حق الأصيل؛ لأنه ذمي وليس بحجة في حق الكفيل لأنه مسلم، فصار في حق الكفيل كأنه لم يقم البينة أصلاً وإنما وجد في حقه مجرد الدعوى. ولو أن رجلاً مسلماً كفل لكافر عن كافر بألف درهم، فقال الكافر الذي عليه الأصل: لم آمره أن يضمن عني، فجاء المسلم بشاهدين من أهل الكفر (138ب4) أنه قد أمر بالضمان، وأقر الطالب أنه قد استوفى منه المال كان (له) أن يرجع عليه؛ لأن شهادة الذمي حجة على الذمي كشهادة المسلم، ولو شهد بذلك الأمر شاهدان مسلمان، وأقر الطالب أنه استوفى رجع الكفيل بذلك على الذي عليه الأصل فكذلك هذا. قال: وإذا ادعى رجل مسلم على رجل مسلم مالاً وجحده المطلوب، وادعى الطالب كفالة رجل من أهل الذمة بالمال بأمره وجحد الكفيل ذلك، فشهد رجلان من أهل الذمة على ذلك، فإنه لا يجوز على المسلم شيء من ذلك، ويجوز على الذمي حتى يؤخذ الكفيل بالمال، وإذا أدى لا يرجع على الأصيل، هكذا ذكر في عامة روايات هذا الكتاب، وذكر في بعض روايات هذا الكتاب، وقال: لا تقبل الشهادة أصلاً، وجه ما

ذكر في بعض روايات هذا الكتاب وهو أن الكفيل يتحمل عن الأصيل ولا يلزم الأصيل شيء بهذه الشهادة فلا يلزم الكفيل، وجه ما ذكر في بعض الروايات: أن شهادة أهل الذمة حجة في حق الذمي الكفيل وليس بحجة في حق الأصيل، فيثبت بهذه الشهادة المال على الأصيل في حق الكفيل، وإن كان لا يثبت في حق الأصيل نفسه، ويجوز أن يعتبر الدين واجباً في حق الكفيل، ولا يعتبر في حق الأصيل كمن قال: لك على فلان ألف درهم فكفلت لك عنه، وأنكر الأصيل أخذ الكفيل به ولم يؤاخذ به الأصيل فكذلك هذا. وإذا كان الصك عليهما فكل واحد منهما كفيل ضامن عن صاحبه بجميع المال بشهادة أهل الذمة وهما يجحدان، فإن الذمي يؤخذ بالمال كله ولا يؤخذ المسلم، وإذا أدي لا يرجع على المسلم وقد مرت المسألة من قبل، وإذا كفل مسلم بنفس ذمي أو بمال عليه لمسلم أو لذمي وشهد عليه أهل الذمة فإن جحد المسلم الكفالة لم يجز ذلك عليه؛ لأن شهادة أهل الذمة ليست بحجة على المسلم، وإن أقر بها جاز ذلك عليه لإقراره، فإن أدى المال وشهد شهود من أهل الذمة أنه كفل بأمره، رجع به لأن شهادة أهل الذمة حجة على الذمي، وفي إثبات الأمر قامت على ذمي لمسلم فقبلت. قال ابن سماعة: عن محمد رحمهما الله في رجل مسلم أذن لعبده النصراني في التجارة فشهد عليه نصرانيان أنه اشترى متاعاً بألف درهم، جاز وقد مرت المسألة من قبل. ولو شهد نصرانيان عليه أنه قتل هذا الرجل أو فرسه، لا تجوز شهادتهما على قتل الرجل ويجوز على قتل الفرس، لأن ضمان استهلاك الفرس يلزم العبد فكان هو الخصم، والشهادة إنما تقوم حجة عليه وهو كافر، فصح ولزم، وأما حكم القتل وهو وجوب القصاص إن كان عمداً وإن كان خطأ، فالتخيير بين الدفع والفداء، إنما يلزم المولى باعتبار أنه تلف بمال نفسه في القصاص، ويستحق عليه دفع العبد الذي هو ملكه في الخطأ، وعلى كلا الوجهين، هذه الشهادة قامت على المولى وهو المسلم، فلا تقبل شهادتهما عليه فهذا عندهما، فأما عند أبي يوسف رحمه الله، تقبل البينة عليه في القصاص دون المال في الخطأ. قال محمد رحمه الله: وأصل ذلك أن كل شيء أجزت إقراره فيه لو أقر به أجري عليه شهادة أهل ذمته إذا أنكره؛ لأن مولاه أذن له في ذلك وإقراره فيه جارٍ، وبيانه: أن إقرار الإنسان إنما يصح على نفسه لا على غيره، وإذا صححنا إقراره علم أن المقر به بحصته، ولا يتعدى بسببه شيء إلى غيره؛ إذ لو كان كذلك لامتنع صحة الإقرار لمكان ذلك الغير، فلما جاز إقراره في ضمان المبايعة وضمان استهلاك الفرس علم أن هذا حكم بحصته، فإذا أنكر وقامت عليه البينة بذلك من أهل الكفر، فهذه شهادة قامت عليه لا على المسلم فقبلت، وما لا يصح إقراره فيه علم أنه حق غيره، فإذا أنكر لا يمكن إثباته إلا على ذلك الخصم. قال: ألا ترى لو أن رجلاً أمر هذا العبد وهو محجور عليه أن يشتري له عبد فلان

بثمن مسمى، فأذن له المولى في ذلك فاشترى منه إنه جائز؟ لأن العبد من أهل الشراء لأنه كلام وهو من أهل الكلام الصحيح وإنما امتنع نفاذ تصرفه لضرر يلحق المولى، فإذا رضي له بعد ذلك، فإن جحد أن يكون اشتراه فشهدت عليه بينة من النصارى أنه اشتراه جازت شهادتهم، لأن هذه شهادة على العبد وهو كافر، والضرر الذي يلحق المولى من جهة العبد قد وصى بذلك حين أذن له. قال: عبد أو صبي مأذون له في التجارة شهد عليه ذميان بغصب أو وديعة أو بضاعة أو مضاربة استهلكها أو جحدها أو شهدا بإقراره بذلك أو شهدا عليه ببيع أو شراء، أو قرض، أو رهن وهو يجحد فإنه لا يخلو، إما أن كان المشهود عليه مسلماً والآذن وهو المولى أو الوصي كافراً، أو كان الآذن مسلماً أو المشهود عليه كافراً فان كان المشهود عليه مسلما لا تقبل شهادتهما، لأن هذه شهادة عليه دون الآذن وهو مسلم، ولا شهادة للكافر على المسلم، وإن كان المشهود عليه كافراً تقبل شهادتهما، لأن هذه شهادة عليه دون الآذن، وإنه كافر فيقبل شهادتهما، ولا يمنع قبول هذه الشهادة لمكان ضرر المولى؛ لأنه قد رضي به حين أذن، ألا ترى أنه جاز إقراره على نفسه بذلك وإن لحق المولى ضرر لما ذكرنا. ثم إذا قبلت هذه الشهادة فظهر عليه الدين تباع رقبته فيه، لأن الدين إنما يجب في ذمة العبد شاغلاً بالبينة، فإن باع العبد بألف درهم وأوفى الغريم دينه وهو ألف درهم ثم أقام مسلم شاهدين مسلمين أن له على العبد ألف درهم دين قبل أن يباع، فإنه يأخذ الألف من الغريم الذي كان قضاه ويدفعه إلى هذا المسلم، لأن شهادة شهود الغريم المسلم حجة على العبد والغريم الأول وشهادة شهود الغريم الأول ليست بحجة في حق الغريم المسلم لأنهم كفار، فلم يكن له أن يزاحمه فكان المسلم أولى به، ألا ترى أنه لو حضر وأقام شهوده قبل القضاء كان مقدماً عليه فكذلك بعده فصار هذا كالمقضي عليه بالملك المطلق لو أقام بنية على التاج رد عليه لأنه لو أقامها قبل القضاء قضي له، فكذلك بعده كذا هذا. ولو كان شهود الغريم الأول مسلمين، والغريم الأول كافر ثم أقام مسلم أو كافر كافرين أنه كان له على العبد ألف درهم اشتركا فيه؛ لأن شهادة كل فريق حجة على الفريق الآخر، فاستويا في الاستحقاق فيشتركان في الألف ويكون بينهما نصفين، ألا ترى أن الغريم الثاني لو أقام شهوده قبل القضاء اشتركا فيه؟ فكذلك بعده. قال: ألا ترى أن كافراً لو هلك فأسلم وارثه فأقام كافر مسلمين أن له على الميت ألف درهم فإن القاضي يقضي بالألف له قضاء من دينه، فإن قضى له بذلك، ثم إن مسلماً أو كافراً أقام كافرين أن له على الميت ألف درهم إن الغريم الثاني يشارك الغريم الأول على قدر دينهما؛ لأن هذه البينة قامت على الميت وإنه كافر فيقبل شهادة أهل الكفر عليه كما تقبل شهادة المسلمين، والغريمان كافران وشهادة أهل الكفر عليهما حجة كشهادة المسلمين، ولم تعتبر الشهادة الثانية قائمة على الابن إذ لو اعتبرت قائمة على الابن لما

قبلت، لأن الابن مسلم إنما لم يفعل كذلك؛ لأن الغريم الأول لما استحق ألف بما هو حجة على الابن المسلم خرجت تلك الألف من أن تكون لذلك الابن فيه حق، فكان هذا استحقاقاً على الغريم لا على الابن، والغريم كافر فتقبل هذه الشهادة عليه. فإن أذن المسلم لعبده الذمي في التجارة، فادعى عليه مسلمان كل واحد منهما ألفاً وأقام أحدهما مسلمين والآخر ذميين، فإن القاضي يقضي بالدين كله؛ لأن هذا قضاء على العبد وإنه كافر وقد أقام كل واحد منهما ما هو حجة عليه، ولكنه يبدأ فيوفي الذي شهد له المسلمان؛ لأن شهادة شهود المسلمين حجة على العبد وعلى صاحبه، وشهادة شهود صاحبه ليست بحجة عليه، لأنه مسلم وهو كافر، فلم (يجب أداء) دين صاحبه في حق مزاحمته، فإن فضل شيء كان للذي شهد له الكافر لأنه ثبت دينه على العبد فيستوفيه منه، فإن صدق العبد للذي شهد له الكافران اشتركا (139أ4) فيه؛ لأنه سقط حكم شهادة الكافرين؛ لأن شرط قبول الشهادة الإنكار من الخصم وقد انعدم وثبت الدين له على العبد بإقراره، وما يثبت بإقرار العبد في حالة الإذن والصحة مساو للدين الثابت بالبينة فلهذا اشتركا. وكذلك إن كان الذي شهد له الكافران مسلماً، والذي شهد له المسلمان كافراً، لأن كل واحد منهما أقام ما هو حجة على صاحبه، فاستويا فاشتركا. ولو أقام مسلم مسلمين بألف درهم على العبد، وأقام ذمي مسلمين أيضا بألف درهم، وأقام ذمي ذميين أيضا بألف درهم، فإن القاضي يقضي بدينهم على العبد فيباع العبد وما في يديه، فيعطى المسلم والذمي الذي شهد له المسلمان كل واحد منهما نصف ذلك، وإنما قضى القاضي بدينهم على العبد؛ لأن كل واحد منهما أقام ما هو حجة على العبد، فوجب القضاء بها عليه إذ لا تنافي في الوجوب عليه فلا تقع المزاحمة، وإذا آل الأمر إلى الاستيفاء ووقعت المزاحمة وبيع العبد وما في يده ولم يف ذلك بالديون يقدم دين المسلم والذمي الذي شهد له شاهدان مسلمان، لأن ما أقام الذمي الآخر ليس بحجة في حق المسلم، فلم يظهر دينه في حق المسلم فلا يشاركه، والذمي الذي أقام مسلمين مع المسلم، أقام كل واحد منهما ما هو حجة في حقه، فقسم ثمن العبد وما في يده بينهما، ثم الذي شهد له الكافران يرجع على الذمي الذي شهد له المسلمان، فيأخذ نصف ما في يده، لأن دين المسلم يثبت بما هو حجة في حق هذا الذمي، ودين هذا الذمي ثبت بما ليس بحجة في حق هذا المسلم، فأي شيء يكون من ثمن العبد لا يكون لهذا الذمي حق المشاركة فيه معه، كان ينبغي أن يأخذ جميع ما في يده؛ لأن جميع ما في يده ثمن العبد وحق المسلم في ثمن العبد يقدم على حق الذمي، إلا أنه لا يأخذ جميع ذلك؛ لأنه أخذ كان للذمي الذي شهد له مسلمان أن يأخذ منه نصفه لأنه يساويه في ثمن العبد فلا يفيد أخذ الكل، أما إذا أخذ المسلم نصف ذلك لا يكون للذمي الذي شهد له مسلمان أن يأخذ شيئاً، لأن من حجة المسلم أن يقول: حصتك مما كان في يد هذا الذمي باق في يده ولا سبيل لك عليه.

ولو كان أحد الغرماء كافراً شهد له مسلمان، والآخران مسلمان شهد لأحد المسلمين مسلمان، وللمسلم الآخر كافران، فإن ثمن العبد يقسم بين المسلم الذي شهد له مسلمان وبين الكافر نصفين لاستوائهما، فإن كل واحد منهما أقام ما هو حجة على صاحبه، ثم يدخل المسلم الذي شهد له الكافران على الكافر، فيأخذ منه نصف ما في يده، لأن حجة كل واحد منهما حجة على صاحبه فيستويان في الاستحقاق. ولو كان العبد مسلماً والمولى كافراً وأحد غريمي العبد مسلم شهد له كافران والغريم الآخر كافر شهد له مسلمان، فإنه يقضي للكافر دون المسلم لأن الكافر أقام ما هو حجة على العبد؛ لأن العبد مسلم وشهود الكافر مسلمون، والمسلم أقام ما ليس بحجة على العبد؛ لأن شهود المسلم كافران وليس للمسلم أن يشارك الكافر ويقول: شهودي حجة عليك كما فيما تقدم من المسائل؛ لأن المشاركة إنما تكون بعد ثبوت أصل الدين، وفي المسألة المتقدمة أصل الدين ثابت على العبد لأنه كافر وشهادة الكفار على الكافر حجة وفي هذه المسألة أصل الدين غير ثابت لأن العبد مسلم وشهادة الكفار على المسلم ليست بحجة. ولو كان العبد مسلماً محجوراً عليه والمولى كافراً كان بمنزلة ما وصفت، يعني لا تقبل شهادة الكافر على العبد فيقضي للكافر الذي شهد له مسلمان ولا يقضي للمسلم الذي شهد له كافران، وهذا يشكل لأن المولى في العبد المحجور عليه هو المقضي عليه والضرر راجع عليه والمولى كافر فيكون شهادة الكفار حجة عليه ولكن الوجه في ذلك أن هذه الشهادة على إثبات فعل المسلم لا تقبل وقد مر هذا. ولو كان العبد المحجور كافراً والمولى مسلماً فأقام مسلم ذميين على العبد بغصب ألف درهم، وأقام ذمي مسلمين عليه بغصب ألف درهم، فإن القاضي يقضي بثمن العبد للذمي؛ لأن الذمي أقام ما هو حجة على العبد وعلى المولى، فأما المسلم أقام ما ليس بحجة على المولى، والمقضي عليه في المحجور هو المولى. قال: ثم إذا قبض الكافر دينه يشاركه المسلم فيما قبض؛ لأن أصل دينه قد ثبت على العبد، لأن شهوده حجة على العبد وعلى شريكه الذمي، فيثبت له حق المشاركة مع الذمي، لأن أصل دينه لم يثبت، لأن الخصم فيه المولى، وهو مسلم وصار هذا نظير العبد المأذون المسلم إذا شهد عليه كافران لمسلم بدين ألف درهم، وشهد عليه مسلمان لكافر بدين ألف وقضى القاضي بدين الكافر، وإذا قبض الكافر دينه فليس للمسلم أن يشاركه فيما يقبض؛ لأن دين المسلم لم يثبت، لأن العبد مسلم وشهود المسلم كفار. والجواب عن هذا الطعن وهو الفرق بين المسألتين: أن في تلك المسألة العبد مسلم وشهود المسلم كفار، وشهادة الكافر ليست بحجة على المسلم، فلم يثبت دون المسلم على العبد، ولم يستحق المسلم شيئاً من كسبه، فلا يثبت للمسلم حق المشاركة في الكسب إنما يثبت بعد استحقاق الكسب بناء على ثبوت الدين على العبد، أما هاهنا العبد كافر، فأمكن القول بثبوت الدين على العبد، إلا أنه لا يقضى للمسلم بالمشاركة في

الابتداء؛ لأن في الابتداء الاستحقاق على المولى، ودين المسلم لم يثبت على العبد في حق المولى، لأن المولى مسلم وشهود الغريم المسلم كفار، فإذا قضينا بدين الكافر وخلص ثمن العبد للكافر والمشاركة في هذه الحالة تقع استحقاقاً على الكافر. قال: مسلم أو حربي أو ذمي أذن لعبده الذي ليس بمسلم في التجارة، فشهد عليه مسلمان لمسلم بدين، وذميان لمسلم بدين، وحربيان مستأمنان لمسلم بدين، فإن شهادة الحربيين لا تقبل. أما إذا كان المولى مسلماً أو ذمياً، لأن العبد ذمي في هذه الصورة، لأنه بقي في دارنا على التأبيد تبعاً لمولاه، وهذه الشهادة على العبد، وشهادة أهل الحرب على الذمي لا تقبل. وأما إذا كان المولى حربياً مستأمناً، فلأن المسألة متصورة فيما إذا اشترى الحربي عبداً في دار الإسلام، والحربي المستأمن لا يمكن من إدخال رقيق اشتراهم في دار الإسلام دار الحرب، بل يبقى في دارنا على التأبيد ويصير ذمياً، ولكن يقضى عليه بشهادة المسلمين والذميين، لأن شهادتهم حجة على العبد وعلى الغريم الآخر، وشهادة الغريم الآخر إن كانت حجة على العبد فهي ليست بحجة على الآخر، ثم يبدأ بدين المسلم الذي شهد له مسلمان، لأن شهادة شهوده حجة على العبد وعلى المسلم الآخر، وشهادة شهود المسلم الآخر ليست بحجة على هذا المسلم. ولو كان العبد ومولاه حربيين قضي بدينهم جملة، يريد به: إذا دخل الحربي دار الإسلام ومعه عبد حربي استأمن على نفسه وعلى العبد، والعبد يكون حربياً في هذه الصورة مثل المولى، ألا ترى أن المولى عن من إدخاله دار الحرب؟ وشهادة الحربي حجة على الحربي، كما أن شهادة المسلم والذمي حجة عليه، ولكن يبدأ بدين المسلم الذي ثبت بشهادة المسلمين؛ لأن شهادة شهوده حجة على العبد وعلى الغريمين الآخرين، وشهادة شهود الغريمين الآخرين إن كانت حجة على العبد فليست بحجة على هذا المسلم، فلم يثبت دين الغريمين الآخرين في حق هذا المسلم، فلهذا بدأ بدينه. كافران شهدا على كافر بدين أو وديعة أو طلاق أو إعتاق فأنفذ القضاء ذلك، ثم أسلم المشهود عليه، فإني أجيز ذلك، ولا أرده لأن القضاء قد تم لاستجماع شرائطه، وقيام حجة القضاء، وهي الشهادة، فإن شهادة الكافر حجة القضاء على الكافر، وإنه كان كافراً وقت القضاء فيلزمه ذلك بشهادتهم، وبإسلامه من بعده يظهر أن تلك الشهادة لم تكن حجة عليه فلا يظهر بطلان القضاء. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : نصراني مات فجاءت امرأته مسلمة، فقالت: أسلمت بعد موته ولي الميراث، وقالت الورثة: لا بل أسلمت قبل موته، فالقول قول الورثة، لأن المرأة ادعت ما هو حادث من كل وجه، لأن الإسلام بعد الكفر حادث من كل وجه، فكانت مدعية فلا يقبل قولها إلا بحجة.l فإن قيل: لماذا لا تترجح دعواها بسبب الإسلام؟ قلنا: الإسلام إنما يعتبر ترجيحاً

حالة المساواة في الدعوى ولا مساواة هاهنا. فإن قيل: إذا كان الإسلام بعد الكفر حادثاً من كل وجه، والأصل في الحوادث أن يحال لحدوثها على أقرب الأوقات وأقرب الأوقات ما بعد موت الزوج يجب أن يجعل القول قولها لتمسكها بما هو الأصل، قلنا: هذا الأصل معارض بأصل آخر، فإن الأصل أن يجعل القول قول من يشهد له الظاهر، والظاهر شاهد للوارث، فإنها مسلمة للحال، والحال حكم في التعرف عما مضى في الدفع دون الإلزام كما في مسألة الطاحونة، فالحال يشهد للورثة وفي اعتبار الحال دفع الميراث لا إبطال شيء أو إلزام شيء على الغير، فوقعت المعارضة بين الأصلين فتساقطا، بقي ما ذكرنا وهو (139ب4) دعواها أمراً حادثاً من كل وجه خالياً عن المعارض فلا يقبل قولها إلا بحجة. ولو مات المسلم وله امرأة نصرانية، فتقول وهي مسلمة وقت الخصومة: أسلمت قبل موته، وقالت الورثة: لا بل أسلمت بعد موته، فالقول قول الورثة أيضاً لما ذكرنا: أنها تدعي أمراً حادثاً من كل وجه. فإن قيل: ينبغي أن يجعل الحال حكماً في معرفة حكم ما مضى كما في المسألة المتقدمة، وهي مسلمة في الحال فيحكم بإسلامها فيما مضى، قلنا: الحال حكم ظاهر في الدلالة على الماضي، وليست بدليل قطعي والظاهر يصلح حجة للدفع، لا لإثبات شيء لم يكن، والورثة هم الدافعون في المسألتين جميعاً أما في المسألة الأولى فظاهر، وأما في المسألة الثانية فلأنهم ينكرون إسلامها فيما مضى لدفع الميراث تحقق أن سبب الحرمان ظهر في الفصلين وهو اختلاف الدين فهي تدعي الوراثة بعد ظهور سبب الحرمان بدعوى أمر حادث من كل وجه، والورثة ينكرون ذلك فكان القول قولهم. قال في «الأصل» : وإذا مات الرجل وترك ابنين مسلمين، فقال أحدهما: مات أبي مسلماً وقد كنت مسلماً أسلمت حال حياة الأب، فقال الآخر: صدقت وقد كنت أيضاً مسلماً أسلمت حال حياة الأب وكذبه الابن المتفق على إسلامه وقال: إنما أسلمت بعد موت الأب، فإن الميراث للابن المتفق على إسلامه؛ لأن وراثة الابن المتفق على إسلامه ثابت باتفاقهما، فإنهما يصدقان على موت الأب مسلماً وعلى إسلامه قبل موت أبيه. وعلى الآخر البينة وذلك لأن الآخر ادعى أنه أسلم قبل موت أبيه، والابن المتفق عليه يقول: أسلمت بعد موت الأب، والإسلام أمر حادث من كل وجه، بعدما اتفقا على الكفر، والأصل في الحوادث أنه يحكم بحدوثها لأقرب ما ظهر، والابن المتفق على إسلامه بدعوى حدوث الإسلام لأقرب ما ظهر متمسك بما هو الأصل في الحوادث، فيكون منكراً والآخر مدعياً فكان عليه البينة ولا يحكم الحال. وإن وقع الاختلاف في إسلام الابن المختلف فيه فيما مضى وهو مسلم للحال، فالحال يدل على ما مضى إذا لم يعرف حدوثه للحال، بخلاف مسألة الطاحونة، ووجه الفرق بينهما وهو: أن تحكيم الحال إنما يجوز لإثبات ما مضى إذا كان ما ثبت في الماضي ثابتاً للحال، لأن الحال يدل على الماضي إذا لم يعرف حدوثه للحال فأما إذا لم

يكن ثابتاً للحال لا يجعل حكماً على ما مضى، ألا ترى أن في مسألة الطاحونة لو اتفقا على انقطاع في بعض مدة الإجارة واختلفا في مقداره، فإن قال المستأجر: كان الماء منقطعاً شهرين، وقال صاحب الطاحونة: لا بل انقطع شهراً، فإنه لا يحكم الحال ولكن القول قول المستأجر مع يمينه، لأنهما اختلفا في مقدار مدة الانقطاع، ومقدار مدة الانقطاع للحال غير ثابت إنما الثابت للحال نفس الانقطاع إن كان الماء للحال منقطعاً لا انقطاع، مقدار شهر أو شهرين، وكذلك إن كان القيام هو الحرمان، وفي مسألتنا حاصل الخلاف وقع في مقدار مدة الإسلام لا في نفس الإسلام إنه كان أو لم يكن، والثابت في الحال نفس الإسلام لا إسلام مقدر بقدر شهر أو شهرين، بخلاف ما لو اختلفا في انقطاع الماء، ادعى المستأجر انقطاعه وأنكر صاحب الطاحونة، وذلك لأن الاختلاف وقع في نفس الانقطاع فيما مضى لا في مقداره، ونفس الانقطاع للحال يدل على ثبوته فيما مضى، إذا لم يحدث للحال معاينة، فوجب تحكيم الحال على ما مضى. وإذا كانت الدار في يدي ذمي، فادعى رجل مسلم أن أباه مات وتركها ميراثاً له لا يعلمون له وارثاً غيره، وأقام بينة على ذلك من أهل الذمة، وادعى ذمي فيها مثل ذلك، وأقام بينة من أهل الذمة، فإنه يقضي بها للمسلم، وذلك لأن بينة المسلم حجة على ذي اليد وعلى من ينازعه وهو الذمي الخارج، وبينة الذمي إن كانت حجة على ذي اليد؛ لأن ذا اليد ذمي، فليس بحجة على المسلم الخارج، وكما يصير ذو اليد مقضياً عليه ببينة كل واحد من المدعين، فكل واحد من المدعيين الخارجين يصير مقضياً عليه في النصف من جهة صاحبه، ولهذا قالوا: لو ادعى أحد المدعيين النصف الذي قضي به لصاحبه، وأراد أن يقيم البينة على ذلك لا يسمع ما لم يدع تلقي الملك من جهة المدعيين، وإذا لم تكن هذه البينة حجة في حق الاستحقاق على المسلم، صار وجود مدة البينة في حق المسلم وعدمه بمنزلة، ولو عدم بينة الذمي أصلاً كان يقضي بجميع الدار للمسلم فكذا هذا، ولو كانت بينة الذمي مسلمين قضيت بالدار بينهما نصفان. فرق بين هذا وبينما إذا مات الرجل وترك ابنين أحدهما مسلم والآخر ذمي، أقام كل واحد من الابنين بينة أن أباه مات على دينه، كانت بينة المسلم أولى، ولم تترجح بينة المسلم منهما، وذلك لأن في تلك المسألة البينتان إنما قامتا لإثبات إسلام الميت وكفره، وقد استويا في الإثبات من الوجه الذي ذكرنا، ويرجح ما يوجب الإسلام على ما يوجب الكفر على ما مر، فأما هاهنا البينتان قامتا لإثبات الملك لا لإثبات الإسلام والكفر، فإن ذلك ثابت باتفاق الخصمين، إلا أن أحدهما يثبت الملك للمسلم، والآخر للكافر، ولم يوجد ما يوجب ترجيح بينة المسلم في حق إثبات الملك له، فإن الكافر في تملك الأموال والمسلم سواء، ألا ترى أنهما لو أخذا صيداً أو اشتريا مالاً كان بينهما نصفين؟ فلهذا يقضى بينهما نصفين. وإذا مات الرجل وترك داراً فقال ابن الميت وهو مسلم: مات أبي وهو مسلم وترك هذه الدار ميراثاً لي، وجاء أخ الميت وهو ذمي فقال: مات أخي وهو كافر على ديني

وابنه هذا مسلم، فالقول قول الابن وله الميراث، وذلك لأن مدعي الكفر لو كان مساوياً للمسلم في الدعوى وسبب الاستحقاق، بأن كان ابناً كان القول قول المسلم بسبب الإسلام، فإذا كان دونه في سبب الاستحقاق أولى أن يكون القول قول المسلم. ولو أقاما جميعاً على مقالتهما بينة أخذت بينة المسلم؛ لأن المدعي بكفر الميت لو كان مساوياً لمدعي الإسلام في الاستحقاق، بأن كان ابناً كانت بينة المسلم أولى، فإذا لم يكن مساوياً له في الاستحقاق أولى أن تكون البينة بينته. ولو أقام الأخ بينة من أهل الذمة على ما قال ولم يقم الابن البينة لم أجز بينة الأخ ليست بحجة على الابن، لأنه مسلم ولا شهادة للكافر على المسلم، فصار وجودها وعدمها بمنزلة، فأما إذا أقام الأخ مسلمين على ما ادعى من كفر الميت الآن يقضى بالميراث للأخ؛ لأن سبب الحرمان يثبت في حق الابن وهو كفر الميت؛ لأن الأخ أقام البينة على الكفر ولم يقم الابن بينة إنما له مجرد الدعوى ولا عبرة للدعوى بمقابلة البينة، وكان بمنزلة ما لو أقام الأخ البينة أن الابن قتل الأب والابن يقول: لم أقتل كان الميراث للأخ، بخلاف ما لو أقام البينة ولم يقم لهما بينة، لأن هناك الموجود مجرد الدعوى من الجانبين أو الدعوى مع البينة، ولا مساواة بين الدعوتين، وسبب الاستحقاق وحالة المسلم منهما أولى فحال عدم المساواة أولى أن يكون أولى. وإذا كانت الدار ميراثاً في يدي ورثة فقالت امرأة الميت وهي مسلمة: زوجي كان على ديني في الأصل ومات وهو مسلم، وقال أولاده وهم كفار: بل مات أبونا وهو كافر وللميت أخ مسلم، فإن القول قول المرأة وذلك لأن المرأة ساوت الأولاد في الدعوى وسبب الاستحقاق، وعند الاستواء في الدعوى وسبب الاستحقاق يترجح قول المسلم منهما بسبب الإسلام، كما (لو) كان للميت ابنان وأحدهما مسلم يدعي إسلامه والآخر كافر يدعي كفره وإنما قلنا: استويا في الدعوى، لأن كل واحد منهما تمسك بما هو ثابت في الأصل من وجه وبما هو حادث من وجه، فاستويا في الدعوى والإنكار، وإنما قلنا: استويا في سبب الاستحقاق؛ لأن الزوجية سبب استحقاق الإرث كالولاد، ألا ترى أن المرأة تستحق الميراث على كل حال لا تحجب بوارث آخر كالولد إلا أن الولد يستحق الأكثر والمرأة الأقل؟ إلا أن العبرة لاستوائهما في أصل الاستحقاق لا في مقدار المستحق، ألا ترى أن المدعي لإسلام الميت لو كانت ابنته مسلمة والمدعي للكفر ابناً كافراً، كان القول قول الابنة لأنها ساوته في الدعوى والإنكار، وفي أصل الاستحقاق إن لم تساوه في قدر الاستحقاق فكذلك هذا، وإذا جعلنا القول قول المرأة يثبت إسلام الميت بقولها، فكان كالثابت بالبينة ولو ثبت بالبينة كان ما بقي بعد فرض المرأة للأخ لا للولد، فكذلك إذا ثبت بقولها. ولو لم يكن له امرأة وكان له ابن كافر وأخ مسلم، فقال الأخ المسلم: مات على ديني، وقال الابن: لا بل مات كافراً، فإن القول قول الابن ولم يترجح قول الأخ بسبب الإسلام، وقد استويا في الدعوى فإن كل واحد منهما ادعى ما هو ثابت في الأصل من

الفصل الثاني عشر: في المسائل التي تتعلق بحدود المدعي والمشهود به

وجه وما هو حادث من وجه، وفي مسألة الزوجة مع الولد، وفي مسألة الابنين لما استويا في الدعوى والإنكار يرجح قول المسلم (140أ4) منهما بسبب الإسلام، ووجه الفرق بينهما: أن في مسألة الابنين إنما اعتبرنا الإسلام مرجحاً لأنهما استويا في الدعوى والإنكار وفي سبب الاستحقاق أيضاً، فإن سبب الاستحقاق لكل واحد منهما البنوة، فرجحنا قول أحدهما بسبب الإسلام، والابن والأخ إن استويا في الدعوى والإنكار لم يستويا في سبب الاستحقاق، فإن سبب الاستحقاق للابن البنوة وسبب الاستحقاق للأخ الأخوة ولا مساواة بينهما في الاستحقاق، فإن الابن لا يحجب بأحد والأخ يحجب بالابن، ولما لم يستويا في الدعوى وسبب الاستحقاق لم يمكن أن يعتبر للإسلام ترجيحاً، وكان كالولد الحادث بين أبوين كافرين وله جد مسلم، فإنه لا يحكم بإسلامه تبعاً للجد، لأنه لا مساواة بين الجد والأبوين في سبب التبعية، وهي الولاد؛ لأن الولاد بين الأبوين ثابت بغير واسطة وللجد مع الواسطة، ولما لم يستويا في سبب التبعية لم يعتبر للإسلام ترجيحاً فكذلك هذا. الفصل الثاني عشر: في المسائل التي تتعلق بحدود المدعي والمشهود به بعض مسائل هذا الفصل ذكرناه في كتاب «أدب القاضي» فنذكر هاهنا ما لم يذكر ثمة، ذكر في «فتاوى النسفي» : إذا قال الشاهد بالفارسية: أين تدعي عليه أين محدود باسمه حدها وحقها دعي بفروخت بدين مدعى، ولم يقل: بهمه حدها وحقها فالشهادة صحيحة، قال ثمة: وقد وقعت هذه المسألة مرة بسمرقند، ومشايخنا أجابوا بالصحة، وهذا لأن معنى قوله بحدوده، مع حدوده لأن الحديد يدخل تحت البيع، ولو شهدوا بهمسه حدها دعي أليس أنه تصح الشهادة كذا هنا. قالوا: فالصحيح من الجواب أن يقال: إن ذكر في الحدود لزيق دار فلان، أو ينتهي إلى دار فلان أو ما أشبهه فالشهادة صحيحة. وإن ذكروا دار فلان أو ذكروا في الحدود الطريق أو المسجد لا تصح الشهادة، وفي كتاب الشروط: إذا كتب أحد حدود هذه الدار دار فلان والثاني والثالث والرابع كذلك لا يكتب اشتريتها بحدودها، لأن الحد يدخل وإذا كتب أحد حدوده ينتهي إلى دار فلان أو ملازق دار فلان كتب اشتريتها بحدودها، وإذا غلظ الشاهد في أحد الحدود لا تقبل شهادته بخلاف ما إذا ترك أحد الحدود وقد ذكرنا هذا في كتاب «أدب القاضي» وإنما يثبت غلط الشاهد في ذلك بإقرار الشاهد: أني قد غلظت في ذلك، أما لو ادعى المدعى عليه أن الشاهد قد غلظ في الحدود أو في بعضها، لا يسمع دعواه، ولو أقام البينة على ذلك لا يسمع بينته، هكذا حكي فتوى شمس الأئمة السرخسي وشمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله، وهذا لأن دعوى الغلط من المدعى عليه على الشاهد إنما دعوى المدعي والجواب من المدعى عليه لأن الشهادة لا تكون إلا بعد دعوى المدعي، والجواب من المدعى عليه، والمدعى عليه

حين أجاب المدعي عن دعواه فقد صدقه أن المدعي بهذه الحدود، فيصير بدعوى الخطأ بعد ذلك في الحدود كلاً أو بعضاً متناقضاً. أو يقول: تفسير دعوى الغلط في أحد الحدود، أن يقول المدعى عليه: أحد الحدود ليس ما ذكره الشهود، أو يقول: صاحب أحد الحدود ليس بهذا الاسم الذي ذكره الشهود، وكل ذلك نفي والشهادة على النفي لا تقبل. وكذلك لو ادعى المدعى عليه إقرار المدعي بغلط الشاهد في الحد لا يسمع دعواه، وحكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنه قال: إذا أخطأ الشاهد في بعض الحد، ثم تدارك وأعاد الشهادة وأصاب ذلك، قبلت شهادته عند إمكان التوفيق، سواء تدارك في ذلك المجلس أو في مجلس آخر وتفسير إمكان التوفيق، أنه قال: كان صاحب الحد فلان إلا أنه باع داره من فلان ونحن ما علمنا به، أو يقول: كان اسم صاحب الحد ما قلنا، إلا أنه سمي بعد ذلك بهذا الاسم ونحن ما علمنا وعلى هذا فافهم، هذا إذا ترك الشاهد أحد الحدود أو غلط، وأما إذا ترك المدعي أحد الحدود أو غلط فيه، فهو على نحو ما ذكرنا في الشاهد. وإذا ادعى المدعى عليه أن المدعي أخطأ في أحد الحدود وكان ذلك بعدما قضي على المدعى عليه بنكوله أو ببينته لا تصح دعواه لوجهين. أحدهما: ما ذكرنا في فصل الشاهد: أن المدعى عليه في دعوى الغلط بعدما أجاب المدعي عن دعواه متناقض. والثاني: أن دعواه الخطأ في الحدود ليس فيه أكثر من إنكاره أن المحدود المدعى في يده، أو أن المحدود الذي يدعي ليس ملك ولا يندفع عنه دعوى المدعي من هذين الوجهين، وإن أقام على ذلك بينة كذا هاهنا. إذا قال القاضي لمدعي العقار: هل تعرف حدود المدعى؟ قال: لا، ثم أعاد الدعوى وذكر الحدود لا يسمع دعواه، ولو قال: لا أعرف أسماء أصحاب الحدود يعني الجيران، ثم أعاد الدعوى وذكر أسماءهم يسمع دعواهم. ولو أنه قال: لا أعرف الحدود ثم ذكر الحدود بعد ذلك وقال: عنيت بقولي لا أعرف الحدود، ولا أعرف أصحاب الحدود، قبل ذلك منه وسمع دعواه ثانياً إذا ذكر في الدعوى أو الشهادة أحد حدود الأرض المدعى لزيق أرض فلان، ولفلان في القرية التي فيها الأرض المدعى أراض كثيرة مختلفة متفرقة، صحت الدعوى وصحت الشهادة، وإن كان فيه نوع جهالة إلا أنها تحملت لضرورة، فإنه عسى لا تكون لأرض فلان علامة لكن يعرفها بتلك العلامة، وهذا هو الغالب من حال الأراضي في القرى، فيتعين للتعريف ذكر اسم صاحبه، ألا ترى أنه إذا ذكر في اسم صاحب الحد بناء محمد بن أحمد بن محمد فذلك يكفي وإن كان فيه نوع جهالة؛ لأن كثيراً من الناس يكونون بهذا الاسم والنسب، وقد تحمل ذلك لمكان الضرورة؟ فكذا هاهنا. ولو ذكر في الحدود كنية صاحب الحد أبو فلان أو ذكر ابن فلان، فذلك لا يكفي

إلا إذا كان صاحب الحد مشهوراً بذلك، كشهرة أبي حنيفة وابن أبي ليلى رحمهما الله، وقد ذكرنا نظير هذا في كتاب «أدب القاضي» . ولو ذكر في الحدود: لزيق أرض سيان ديهي فذلك لا يكفي؛ لأن سيان ديهي مجهول جهالة متفاحشة، فالأراضي التي غاب أربابها، أو مات أربابها ولا ولد لهم، تسمى: ديهي، وكذلك الأراضي تركت لرعي الدواب، ولم تدخل تحت القسمة تسمى: سيان ديهي، وكذلك إذا ذكر في الحد لزيق أرض وقف، فذلك لا يكفي وينبغي أن يذكر أنها وقف على الفقراء أو على مسجد كذا أو ما أشبهه. وكذلك إذا ذكر في الحد أرض لزيق أرض ورثة فلان فذلك لا يكفي؛ لأن الورثة مجهولون، فمنهم صاحب فرض ومنهم عصبة ومنهم ذووا الأرحام، فكان مجهولاً جهالة متفاحشة، ألا ترى أن الشهود لو شهدوا أن هذا وارث فلان، فالقاضي لا يقبل شهادتهم؟ وإنما لا تقبل لمكان الجهالة في الوارث. يوضحه: أن المقصود من ذكر الحدود، وذكر صاحب الحد، التعريف، وربما يكون صاحب الحد من جملة ذوي أرحام فلان، ويكون بعيداً عنه بحيث لا يعرفه الناس وارثاً لفلان مع كونه وارثاً له حقيقة فلا يحصل به التعريف. وإذا ادعى أرضاً مثلثة وذكر حدين لا غير والشهود أيضاً ذكروا حدين لا غير تصح الدعوى وتصح الشهادة، وهذا وما لو ذكر الحدود الثلاثة في الأرض المربعة على السواء، وإذا شهدوا بملكية الأرض وبينوا حدودها، وقالوا: هي مقدار خمس مكاييل بذر، والمدعي يدعي ذلك ذكر ذلك في دعواه وأصابوا في بيان الحدود إلا أنهم أخطؤوا في بيان المقدار فهي تسع قدر ثلاث مكاييل بذر، حكي عن شيخ الإسلام أبي الحسن السغدي أنه قال: لا تبطل دعوى المدعي ولا شهادة شهوده، لأن بيان مقدار البذر بعد ذكر الحدود غير محتاج إليه، فصار ذكره ولا ذكره سواء، وأجاب بعض مشايخ زمانه ببطلان الدعوى والشهادة. وقد يجب أن تكون المسألة على التفصيل إن شهدوا بحضرة الأرض المدعى به وأشاروا إليها تقبل (140ب4) وبلغوا ذكر الوصف، وهو بيان قبول مقدار البذر، وإن شهدوا بغيبة الأرض لا تثبت بهذه الشهادة ملكية أرض تسع فيها خمس مكاييل بذر. وقيل: لا تقبل البينة على كل حال وهو الأظهر والأشبه بالفقه. وإذا جعل الحد طريق العامة لا يشترط أن يذكر طريق القرية أو طريق البلد، ويجب أن يعلم أن الطريق يصلح حداً، ولا حاجة فيه إلى بيان الطول والعرض إلا على قول لشمس الأئمة السرخسي رحمه الله فإنه كان يقول: يبين الطريق بالذراع، والنهر لا يصلح حداً عند بعض أهل الشروط، وكذلك التنور وهو رواية عن أبي حنيفة، وظاهر المذهب أنه يصلح حداً وفي اشتراط حدود المستثنيات نحو الطريق والمقبرة والحياض اختلاف المشايخ، فمنهم من شرط ذلك ومنهم من لم يشترط، وكان الشيخ الإمام ظهير الدين رحمه الله يقول: إذا كانت المقبرة تلاً لا يحتاج إلى ذكر حدودها وإذا لم تكن تلاً يحتاج لأنها عسى تزداد.

وإذا ادعى محدوداً في يد رجل وأحد حدوده أو جميع حدوده متصل بملك المدعي هل يحتاج إلى ذكر الفاصل؟ فقيل: لا يحتاج، ولو كان متصلاً بملك المدعى عليه يحتاج إلى ذكر الفاصل؛ لأن في الوجه الأول اختلاف اليد فاصل ولا كذلك في الوجه الثاني، وقيل: إن كان المدعى أرضاً فكذلك الجواب، وإن كان بيتاً أو داراً أو منزلاً فلا حاجة إلى الفاصل والجدار فاصل، وإذا كان المدعى أرضاً واحتيج إلى ذكر الفاصل، فذكروا الفاصل شجرة، فذلك لا يكفي هكذا حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي، وهذا لأن الشجرة لا تحيط بجميع المدعى به، والفاصل يجب أن يكون محيطاً بجميع المدعى به حتى يصير المدعى به معلوماً، فإذا ادعى أرضين محدودة معلومة، ثم ترك الدعوى في أحد الأرضين، وأدعى الأرض الأخرى ولم يذكر الحدود فقد قيل: لا تصح الدعوى ولا الشهادة لمكان الجهالة. وإذا ادعى محدود في موضع كذا وبين الحدود ولم يبين أن المحدود ما هو كرم أو أرض أو دار، هل يوجب هذا جهالة في المدعى به؟ وإذا شهد الشهود على هذا الوجه هل تقبل شهادتهم؟ حكي فتوى شمس الأئمة السرخسي: أنه لا تصح هذه الدعوى، ولا تقبل هذه الشهادة، وحكى فتوى شمس الإسلام الأوجندي: أن المدعي إذا بين المصر والمحلة والموضع والحدود يصح الدعوى، ولا يوجب ترك بيان المحدود جهالة في المدعى به، وكان الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني يكتب في جواب الفتوى: لو سمع قاضي هذه الدعوى يجوز، وقيل: ذكر القرية والمصر والمحلة والسكة ليس بلازم. وإذا ادعى ألف درهم ثمن لدار مقبوضة، ولم يذكر حدود الدار والشهود شهدوا كذلك، فالدعوى صحيحة والشهادة مقبولة، لأن الدار إذا كانت مقبوضة فلا حاجة إلى القضاء بها، فترك الحد فيها لا يضره. وإذا قال الشهود في شهادتهم: أحد حدود هذه الأرض لزيق شط الوادي، ثم أقر المدعي أن بين شط الوادي وبين أرض المدعى طريق عامة بطلت الشهادة؛ لأنه أكذب الشهود في بعض ما شهدوا، وإنه يوجب بطلان الشهادة في الكل، وإن ظهر ذلك عند القاضي بما هو طريق حصول العلم، بطلت الشهادة في مقدار الطريق وتقبل فيما سواه، وقيل: لا تقبل الشهادة لأنه اختلف الحد، وكذلك إذا شهد الشهود أن هذه الأراضي ملك المدعي، ثم ظهر أن في الأراضي طريق العامة، إن ظهر ذلك بإقرار المدعي، لا تقبل شهادة الشهود، وإن ظهر ذلك بإخبار واحد من المسلمين لا يمنع قبول الشهادة، وإن حصل العلم للقاضي بما هو طريق حصول العلم، لا تقبل الشهادة في الطريق، وتقبل فيما سواه، وإذا كانت الدار معروفة لابد من ذكر الحدود عند الدعوى والشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: إذا كانت الدار معروفة مثل دار عمرو بن الحارث بالكوفة تقبل الشهادة من غير ذكر الحدود، وتصح الدعوة أيضاً.Y

الفصل الثالث عشر: في شهادة الوارث بالوصية والرجوع عنها وفي شهادةالوصي للميت وفي شهادة الوكيل للموكل

الفصل الثالث عشر: في شهادة الوارث بالوصية والرجوع عنها وفي شهادةالوصي للميت وفي شهادة الوكيل للموكل قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : إذا هلك الرجل، وترك ثلاثة أعبد قيمتهم على السواء لا مال له غيرهم، فشهد شاهدان أن الميت أوصى بهذا العبد لهذا الرجل، وشهد وارثان أن الميت أوصى بهذا العبد الآخر لهذا الرجل الآخر فهذا على وجهين. الأول: أن تكون هذه الشهادة من الوارثين قبل قضاء القاضي بالوصية الأولى، وفي هذا الوجه القاضي يقبل شهادة الوارثين ذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى أو (لم) يذكرا رجوعاً عنها، غير أنهما إن لم يذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى، بقيت الوصية الأولى، ووجبت الوصية الثانية، ووجب تنفيذهما من الثلث؛ لأن محل الوصية الثلث، فيأخذ كل واحد منهما نصف العبد الموصى به له. فإن ذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى بطلت الوصية الأولى، ويكون العبد الثاني للموصى له الآخر اعتباراً للثابت بالبينة بالثابت عياناً، وإن كان القاضي قضى بالوصية الأولى، ثم شهد الوارثان بما ذكرنا، لا تقبل شهادتهما ذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى، أو لم يذكرا رجوعاً، إن ذكرا رجوعاً؛ لأنهما بشهادتهما يبطلان قضاء القاضي عليهما؛ لأن الوارث يصير مقضياً عليه بطريق الخلافة عن الميت. ولهذا قلنا: إن الوارث لو ادعاه لنفسه ملكاً مطلقاً لا يصح لصيرورته مقضياً عليه، ولأنهما بهذه الشهادة يعيدان العبد الأول إلى ملكهما، لأن العبد الأول قد زال عن ملكهما بقضاء القاضي، وكل ذلك مانع قبول الشهادة ولا شيء للثاني بحكم إقرارهما، لأنهما أقرا بحق الثاني من الثلث بطريق الوصية، والقاضي جعل كل الثلث للأول فلم يبقي محل حق الثاني فلهذا لا يسلم له شيء. وأما إذا لم يذكرا رجوعاً فلأنهما بهذه الشهادة يعيدان نصف العبد الأول إلى ملكهما بنصف العبد الثاني فيكون في معنى البيع، والبيع لا يثبت بشهادتهما بخلاف ما قبل القضاء لأن قبل القضاء العبد الأول لم يزل عن ملكهما فلا يتصور البيع أما هاهنا بخلافه. وكذلك لو كان مكان الوصية الثانية عتقاً بأن شهد الوارثان أن الميت أعتق هذا العبد الآخر في مرض موته إن كان شهادتهما بعدما قضى القاضي بالوصية الأولى لا تقبل شهادتهما، وإن كان قبل قضاء القاضي تقبل شهادتهما. لأن بعد القضاء لو قبلت شهادتهما احتجنا إلى نقض قضاء أمضى عليهما وذلك لا يجوز ولا كلذلك قبل القضاء، ولكن مع أنه لا تقبل شهادتهما بحكم بعتق العبد؛ لأنهما مالكان أقرا بعتق مملوك لهما ويسعى العبد في قيمته؛ لأنهما أقرا بعتقه بطريق الوصية من الثلث، والثلث صار مستحقاً

للأول بقضاء ألقاضي فيجب رد العتق، وتعذر رده صورة فيجب رده معنى بإيجاب السعاية. وإن كان الوارثان شهدا بذلك العبد وصية للثاني من جهة الميت إن كان قبل قضاء القاضي بالوصية الأولى قبلت شهادتهما والكلام هاهنا أظهر؛ لأن هاهنا لا يصل إليهما شيء من العبد فبعد ذلك إن ذكرا رجوعاً فالعبد للثاني خاصة، وإن لم يذكرا رجوعاً كان العبد بينهما إذا لا تنافي بين الوصيتين. وإن شهدا بذلك بعدما قضى القاضي بالوصية الأولى إن لم يذكرا رجوعاً قبلت شهادتهما وقضي بالعبد بينهما؛ لأن هذه الشهادة لم تتضمن نقض القضاء ولا إعادة شيء من العبد إلى ملكهما ليصير في معنى البيع. أما إعادة شيء من العبد إلى ملكهما فظاهر، وأما نقض القضاء فلأنها لا تبطل شيئاً من حق الأول بل توجب الحق للثاني، فتثبت الوصية الثانية مع بقاء الوصية الأولى بجميع العبد، وهذا لأن الوصية عقد خلافة في المال المسمى في الوصية، وكون الثاني خليفة في المال لا ينافي كون الأول خليفة ولهذا يضرب كل واحد منهما بجميع حقه ولهذا لو رد أحدهما الوصية كان العبد كله للآخر، ولما كان هكذا فقد أثبت حق الثاني مع بقاء حق الأول بينهما وقضي بالعبد بينهما لاستوائهما في سبب الاستحقاق وضيق المحل. وإن ذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى لا تقبل شهادتهما على الرجوع لما فيه من إبطال قضاء أمضى عليهما، وقبلت شهادتهما على الوصية الثانية إذ ليس فيه إبطال قضاء أمضى عليهما، ولو كان القاضي دفع العبد إلى الموصى له الأول بشهادة الفريق الأول، ودفع العبدين (141أ4) إلى الوارثين على وجه القسمة ثم شهد الوارثان أن الميت أوصى بهذا العبد بعينه لهذا الآخر، لا تقبل شهادتهما وإن لم يذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى، لأن هذه الشهادة تتضمن نقض تسليم القاضي في بعض العبد، وبعض قسمته لأن القاضي قسم العبد بينهم أثلاثاً، فلو قبلت هذه الشهادة تصير القسمة أسداساً، وتسليم القاضي وقسمته قضاء منه، وكما لم تقبل شهادتهما إذا تضمنت إبطال القضاء، فكذا إذا تضمنت إبطال التسليم والقسمة. وكذا لو أن القاضي قضى بالوصية الأولى، ثم شهد الوارثان أن الميت أعتق هذا العبد بعينه في مرضه، لا تقبل شهادتهما؛ لأنها لو قبلت تضمنت بعض القضاء بالوصية الأولى، لأن العتق الموقع أولى بالاعتبار من سائر الوصايا. ولو أن رجلاً مات وترك ثلاثة أعبد قيمتهم على السواء لا مال له غيرهم، فشهد شاهدان أن الميت أوصى بثلث ماله لهذا الرجل الآخر، إن كانت شهادة الوارثين قبل قضاء القاضي بالوصية الأولى قبلت شهادتهما، لأن هذه الشهادة لا تتضمن نقض القضاء ولا إعادة شيء زال عن ملكهما إليهما، وإن كانت شهادتهما بعد قضاء القاضي بالوصية

الأولى، إن لم يذكرا رجوعاً عن الوصية الأولى قبلت شهادتهما، لأن هذه الشهادة لا تتضمن نقض القضاء ولا إعادة شيء زال عن ملكهما إليهما، وإن ذكرا رجوعاً لا تقبل شهادتهما على الوصية الثانية؛ لأنها لا تتضمن إبطال القضاء وتقبل شهادتهما على الوصية الثانية، لأنها لا تتضمن إبطال القضاء، ثم يشتركان في الثلث بحكم المزاحمة وضيق المحل. ولو أن الوارثين شهدا أن الميت أعتق هذا العبد في مرضه، وكان ذلك بعد قضاء القاضي بالوصية الأولى لا تقبل شهادتهما؛ لأنها لو قبلت بطل قضاء القاضي بالوصية الأولى، لأن العتق الموقع يقدم على سائر الوصايا، ولكن يعتق العبد؛ لأنهما أقرا بعتقه ولهما فيه ملك ويجب على العبد السعاية لما ذكرنا، ويكون ثلثا السعاية للموصي له؛ لأنه استحق الثلث من كل التركة والثلثان للورثة، فإن قال الموصى له بالثلث: قد وجب في ثلث العبد وصية وقد أتلف الوارثان، على حين أقرا بعتقه، فلي أن أضمنهما ليس له ذلك، لأن الوارثين ما أعتقا هذا العبد وما أقرا بعتقه بإعتاق منهما، وإنما حكيا الإعتاق من جهة الميت ولا ضمان في مثل هذا كرجلين اشتريا عبداً وأقر أحدهما أن البائع كان أعتقه، فإنه لا يضمن لشريكه شيئاً. كذا هنا ولو أن القاضي قسم العبد بين الورثة وبين الموصى له الأول، فأعطى الموصى له بالثلث والورثة الثلثين، وشهد الوارثان أن الميت أوصى بثلث ماله لهذا الرجل الآخر، لا تقبل شهادتهما، لأن هذه الشهادة تتضمن نقض تسليم القاضي وقسمته. قال في «الكتاب» : ألا ترى أن الوارثين لو أقرا بدين لرجل ومعهما ورثة غيرهما، فلم يقض القاضي بشيء بحكم إقرارهما، حتى شهدا لذلك الرجل على الميت بذلك الدين قبلت شهادتهما عليهما وعلى باقي الورثة، حتى يستوفي جميع الدين من جميع التركة، ولو كان القاضي قضى بالدين عليهما في نصيبهما حين أقرا بالدين، ثم شهدا بعد ذلك لصاحب الدين بالدين على الميت، فالقاضي لا يقبل شهادتهما على باقي الورثة، لأن بقضاء القاضي ثبت الدين على الميت في حقهما، واستحق جميع ذلك في نصيبهما، فهما إلى باقي الورثة، أورد هذه المسألة لبيان أن الشهادة إذا تضمنت نقض القضاء لا تقبل، والفصل الأول يصير حجة للشافعي رحمه الله في مسألة أحد الورثة إذا أقر بدين على الميت وكذبه باقي الورثة، فعندنا يستوفي كل الدين من نصيب الوارث المقر، وعند الشافعي رحمه الله يلزمه بقدر حصته. ووجه الاحتجاج بها: أنه لو كان يلزم المقر كل الدين في نصيبه كان بالشهادة محولا بعض ما لزمه إلى غيره فينبغي ألا يقبل شهادة الوارثين بالدين لصاحب الدين على الميت قبل قضاء القاضي عليهما بالدين في نصيبهما، وهذا لأن الإقرار يلزم بنفسه فكان الحال فيه قبل القضاء وبعد القضاء سواء، ولا كذلك الشهادة لأن الشهادة لا يكون ملزمه بنفسها، ما لم يتصل بها قضاء القاضي، فجاز أن يفرق الحال فيها قبل القضاء وبعده والجواب لعلمائنا رحمهم الله: أن بمجرد الإقرار لا يلزم كل الدين في نصيب المقر ما لم يتصل به قضاء القاضي.

وبيان ذلك من وجهين، أحدهما: أن هذا الإقرار في معنى الشهادة فإنه إقرار على الغير وهو الميت فكما أن الشهادة التي فيها تنفيذ القول على الغير لا تصير موجبة إلا بقضاء القاضي، فكذا الإقرار الذي هو في معنى الشهادة. والثاني: أنه يحتمل أن رب الدين يجد بينة على ذلك، أو يصدقه باقي الورثة، فلو ألزمنا المقر جميع الدين في نصيبه للحال فقد ألزمناه مع الاحتمال، وإنه لا يجوز وإنما ينقطع هذا الاحتمال، ويلزمه كل المال في نصيبه بقضاء القاضي، فإذا شهدا قبل القضاء يحولا إلى غيرهما بعض ما لزمهما فتقبل شهادتهما، وإذا شهدا بعد القضاء فقد حولا إلى غيرهما بعض ما لزمهما فلا تقبل شهادتهما. فإن قيل: إذا كان لا يلزم المقر كل الدين في نصيبه بمجرد إقراره فبأي طريق يقضي القاضي عليه بكل الدين؟ قلنا: طريقه أن الدين يقضى من أيسر المالين قضاء، ألا ترى أنه إذا كان في التركة دين وعين فالدين يقضى من العين دون الدين؟ وكذا إذا كان بعض التركة حاضراً وبعضها غائباً فالدين يقضى من الحاضر. إذا ثبت هذا فنقول: إذا لم يجد رب المال الدين بينة ولم يصدقه باقي الورثة، فقضاء القاضي من نصيب المقر أيسر فقضى عليه، وإن كان الدين متعلقاً بكل التركة، قال في «الكتاب» أيضاً: ألا ترى لو أن رجلا مات، وشهد شاهدان أن الميت أوصى إلى هذا، فقبل أن يقضي القاضي بشهادتهما، شهد الوارثان أنه رجع عنه وأوصى إلى هذا الثاني، قبل القاضي شهادتهما، إذا كان الثاني يدعي ذلك ولو كان القاضي قضى للأول ثم شهد الوارثان بذلك فالقاضي لا يقبل شهادتهما؛ لأنها تضمنت إبطال قضاء القاضي. أورد هذا الفصل إيضاحاً لما تقدم أيضاً، ثم لم يقل هاهنا: إن شهادة الوارثين تقبل في حق الإيصاء إلى الثاني دون الرجوع عن الإيصاء الأول كما ذكرنا فيما تقدم، قال مشايخنا: وينبغي على قول أبي يوسف: أن تقبل شهادتهما في حق الإيصاء إلى الثاني دون الرجوع عن الأول؛ لأن عنده أحد الوصيين ينفرد بالوصية فلم تكن في قبول شهادتهما في حق الإيصاء إلى الثاني دون الرجوع عن الأول، أما في قبول شهادتهما في حق الرجوع عن الأول نقض القضاء الأول، وأما على قولهما لا تقبل هذه الشهادة أصلاً؛ لأن عندهما أحد الوصيين لا ينفرد بالتصرف إلا في أشياء معهودة استحسنا في ذلك على ما عرف في موضعه فلو قبلت الشهادة في حق الإيصاء إلى الثاني لم يبق الأول منفرداً بالتصرف بعد أن كان منفرداً فكان في قبولها نقض القضاء الأول من حيث إن الأول لا يبقى منفرداً فلا تقبل شهادتهما عندهما أصلاً. قال: رجل هلك وترك ثلاثة أعبد قيمتهم على السواء لا مال له غيرهم، وترك ابناً لا وارث له غيره، فأقر الابن أن أباه أوصى بهذا العبد لفلان، فسمع القاضي إقراره ولم يقض عليه شيء حتى شهد هو ورجل آخر أن الميت أوصى بهذا العبد الآخر لهذا الرجل الآخر، قبل القاضي هذه الشهادة؛ لأن الوارث أقر على الميت بالوصية بالعبد الأول، وإقراره على الميت لا يلزمه شيء ما لم يتصل به قضاء القاضي على ما مر قبل هذا.

فلم تكن الشهادة منه بالوصية بالعبد الآخر إعادة إلى نفسه بعض ما صار مستحقاً عليه، فلم يكن بهذه الشهادة دافعاً عن نفسه مغرماً ولا جاراً إلى نفسه مغنماً ولا ساعياً في نقض ما تم قضاء أمضى عليه، فقبلت وإذا قبلت لا شيء للموصى له الأول؛ لأن وصيته تثبت بالإقرار، والإقرار لا يعارض الشهادة؛ لأن الإقرار (حجة) قاصرة والشهادة حجة متعدية، فعند تعذر اعتبارهما كان اعتبار الشهادة أولى، وإذا اعتبرت الشهادة صار كل الثلث مستحقاً للموصى له الثاني، فلا يكون للموصى له الأول شيئاً. ولو كان القاضي قضى على الوارث بالعبد بإقراره، ثم شهد مع أجنبي آخر على نحو ما بينا لا تقبل هذه الشهادة؛ لأنها لو قبلت بطل قضاء القاضي بالإقرار لكون الشهادة أقوى من الإقرار، واندفع عن الشاهد ما لزمه بإقراره فلهذا لا تقبل هذه الشهادة وإذا لم تقبل هذه الشهادة لا شيء (141ب4) للموصى له الثاني؛ لأن الثلث صار مستحقاً للأول بكماله بتسليم القاضي إليه، ومحل الوصايا الثلث فلم يبق للثاني شيء، وكذلك لو كانت الشهادة الثانية في العبد المقر بعينه. كان الجواب على التفصيل الذي قلنا: إن كانت الشهادة قبل قضاء القاضي عليه بإقراره قبلت، وإن كانت بعد القضاء لا تقبل، وإذا لم تقبل الشهادة لا يضمن الوارث للمشهود له فيما سلم القاضي إلى المقر له حصلت الشهادة في العبد المقر بعينه، أو في عبد آخر، لأنه لو ضمن إما أن يضمن بالإقرار أو بالتسليم، لا وجه إلى الأول لأن مجرد الإقرار لا يوجب شيئاً منها على ما مر، ولا وجه إلى الثاني؛ لأن التسليم حصل بقضاء القاضي. ولو كان الوارث حين أقر سلم العبد المقر به إلى المقر له بنفسه من غير قضاء القاضي، ثم شهد الثاني بذلك العبد بعينه أو بعبد آخر لا تقبل هذه الشهادة لأنه سعى في نقض ما تم به وهو التسليم وسعي الإنسان في نقض ما تم به مردود. وإذا لم تقبل شهادته ضمن للثاني نصف قيمة العبد المقر به إن كان العبد واحداً، وإن كان عبدين ضمن نصف قيمة العبد المشهود به للثاني، لأنه لما شهد للثاني فقد أقر أنه يسلم إلى الأول ما هو حق الثاني بغير حق فيصير ضامناً له، ولو كان الوارث أقر بثلث المال وصية لرجل، ثم شهد مع أجنبي بالثلث وصية لرجل آخر، إن كانت الشهادة قبل قضاء القاضي عليه بالإقرار قبلت، وإن كانت بعد القضاء لا تقبل لما قلنا. ولو شهد الوارثان مع أجنبي بالثلث وصية لرجل، ثم شهدا بالثلث وصية لرجل آخر قبل القاضي شهادتهما سواء شهدا للثاني قبل قضاء القاضي للأول أو بعده، لأن الشهادة الثانية هاهنا لا تتضمن بطلان القضاء لأن الشهادة تعارض الشهادة، ألا ترى أنهما يتحاصان في الثلث؟ بخلاف ما إذا أقر الوارث بالثلث وصية لرجل وقضى به القاضي، ثم شهد هو مع أجنبي وصية بالثلث لرجل آخر، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة؛ لأن هذه الشهادة هنا تتضمن بطلان القضاء الأول؛ لأن الإقرار لا يعارض الشهادة. قال في «الكتاب» : ألا ترى أن الوارث لو شهد مع أجنبي بدين على الميت وقضى

به القاضي، ثم شهد ابنن آخر لرجل على الميت، وليس في التركة وفاء بالدينين قبل القاضي شهادتهما، لأن الشهادة الثانية لا تتضمن بطلان القضاء الأول بل يتحاصان إذا ثبت الدينان. ولو كان الوارث أقر بدين لرجل على الميت وقضى به القاضي، ثم شهد هو مع أجنبي لرجل آخر بدين على الميت، وليس في التركة وفاء بالدينين، فالقاضي لا يقبل الشهادة لأن هذه الشهادة تتضمن بطلان القضاء فكذا فيما تقدم. ولو كان الوارث أقر بالدين وسلم إلى الغريم بنفسه، ثم شهد مع آخر بالدين لرجل آخر لا تقبل شهادتهما، لما ذكرنا أنه ساع في نقض ما تم به من التسليم ويضمن نصف ما سلم إلى الأول للثاني إن كان الدينان سواء والتركة لا تفي إلا بواحد منهما؛ لأنه أتلف ذلك القدر على الثاني بغير حق، بخلاف ما إذا كان التسليم بقضاء القاضي حيث لا يضمن للثاني شيئاً، والمعنى ما ذكرنا. قال: رجلان شهدا أن الميت أوصى بثلث ماله لهذا الرجل، ثم شهد وارثان أن الميت رجع عن ذلك الوصية، وأوصى بالثلث لوارثه فلان، وأنهما يعني: الشاهدان وجميع الورثة أجازوا ذلك بعد الموت، فشهادة الوارثين جائزة، والثلث للوارث في قول أبي يوسف الأول لأنه لا تهمة في شهادتهما؛ لأن الثلث بالرجوع ينتقل من الموصى له الأول إلى الوارث الموصى له، ولا حق للشاهدين فيه، فصار النقل إلى الوارث والنقل إلى الأجنبي سواء، وعلى قوله الآخر وهو قول محمد رحمه الله: شهادة الوارثين على الرجوع باطلة، لأنهما بشهادتهما على الرجوع يثبتان لأنفسهما حقاً في الثلث، حتى إنهما إن شاءا أجازا الوصية للوارث، وإن شاءا لم يجيزا فكانا متهمين في هذه الشهادة، بخلاف ما إذا شهدا لأجنبي لان هناك لا يتعلق نفاذ الوصية الثانية بإجازتهما فانتفت تهمة الحق أما هاهنا بخلافه. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل مات وقد كان أوصى إلى رجل، وقبل الوصي الوصاية بعد موته، فلم يخاصم الوصي عند القاضي حتى عزله القاضي عن الوصاية ونصب للميت وصياً آخر، ثم إن الموصى (له) الأول شهد للميت بمال أو غيره على إنسان فشهادته باطلة؛ لأن الميت بالإيصاء أقامه مقام نفسه بطريق الخلافة وله ولاية الخلافة، فإذا مات وقبل الموصى الوصاية فقد قبل الخلافة فتمت الخلافة ونفدت الإقامة، فصار الوصي قائماً مقام الموصي كالوارث، ومن ضرورة قيامه مقام الموصي صيرورته خصماً فيما كان الموصي فيه خصماً، وإذا صار خصماً خرج من أن يكون شاهداً، وبعد ما خرج الإنسان من أن يكون شاهداً في حادثة لا يعود فيها شاهداً أبداً هكذا ذكر المسألة في «الزيادات» . وفي «شرح حيل الخصاف» أن شهادة الوصي بعدما خرج عن الوصاية للميت مقبولة فيصير في المسألة روايتان، هذا إذا قبل الوصي الوصاية بعد موت الموصي، ولو أنه لم يقبل ولم يرد حتى شهد عند القاضي، فالقاضي يقول له أتقبل الوصاية أم تردها؟ فإن قبل

بطلت شهادته لصيرورته خصماً من وقت الموت، وإن رد أمضى شهادته لعدم صيرورته خصماً، وإن سكت ولم يجز بشيء، توقف القاضي في شهادته، لأن سبب الرد موقوف، لأن سبب الرد صيرورته خصماً بثبوت الخلافة، والخلافة لا تثبت إلا بالقبول، وإذا كان في سبب الرد توقفاً كان في الشهادة توقفاً وصار كالشفيع إذا شهد بالبيع إن طلب الشفعة بطلت شهادته، وإن سلم قبلت شهادته، وإن سكت ولم يجز بشيء توقف القاضي في شهادته كذا هاهنا. قال: رجل وكل رجلاً بالخصومة في شيء قبل رجل وقبل الوكيل الوكالة، ثم عزله الموكل فشهد للموكل في ذلك الشيء ينظر: إن كان الوكيل خاصم فيه قبل أن يعزله لم تقبل شهادته، وإن كان لم يخاصم فيه قبلت شهادته عند أبي حنيفة ومحمد، وعلى قول أبي يوسف لا تقبل وهذا بناء على أن عند أبي يوسف بمجرد قبول الوكالة يصير خصماً خاصم أو لم يخاصم، ولهذا لو أقر على موكله في غير مجلس القضاء نفد إقراره عليه، وهذا لأن الموكل بالتوكيل أقامه مقام نفسه فإذا قبلت الوكالة تمت الإقامة فقام مقامه كما في الوصاية، ألا ترى أن الإيصاء توكيل بعد الموت فكان كالتوكيل في حالة الخصومة، وعندهما بمجرد قبول الوكالة لا يصير خصماً ولهذا لو أقر على موكله في غير مجلس القضاء لا ينفذ إقراره عليه عندهما، وفرقا بين التوكيل والإيصاء. والفرق: وهو أن الإيصاء إقامة نفس الوصي مقام نفسه بطريق الخلافة، فلا يتعلق ثبوتها وتمامها للفعل وهو الخصومة قياساً على الإرث، فإن نفس الوارث لما كان يقوم مقام نفس المورث بطريق الخلافة لا يتوقف تمامه على الخصومة حتى يصير الوارث خصماً بنفس موت المورث خاصم أولم يخاصم، فكذا الوصي. فأما التوكيل اعتبر بالفعل وإقامة فعل الوكيل وهو الخصم مقام فعل نفسه لا إقامة نفس الوكيل مقام نفسه ولكن إذا فعل الوكيل وقام فعله مقام فعل الموكل تقوم نفسه مقام نفسه، فقبل الفعل وهو الخصومة لم تقم مقام الموكل أصلاً فلم يصر خصماً فتقبل شهادته، أما إذا خاصم قامت خصومته مقام خصومة الموكل فصار خصماً كالموكل وخرج من أن يكون شاهداً فلا تقبل شهادته بعد ذلك أبداً فهذا هو الفرق بينهما، ثم الشرط عندهما الخصومة في مجلس القضاء حتى لو خاصم في غير مجلس القضاء وعزله الموكل قبل الخصومة عند القاضي فشهد الموكل تقبل شهادته له عندهما، فصار تقدير المسألة عندهما كأن الموكل قال له: أنت وكيلي بالخصومة في مجلس القاضي، فلا يصير خصماً قبله. قال: رجل وكل رجلاً بالخصومة مع فلان في كل حق هو له، قبله بمحضر من القاضي، والقاضي يعرفهم، فقبل الوكيل الوكالة ولم يخاصم فلاناً في شيء من ذلك حتى عزله الموكل عن الوكالة، ثم شهد الوكيل للموكل بشيء من ذلك الذي وكله به، قبلت شهادته عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، لأن المانع من قبول الشهادة صيرورته خصماً، والوكيل إنما يصير عندهما خصماً بالخصومة، ولم توجد الخصومة، وإنما شرط

علم القاضي بالتوكيل حتى لا يحتاج الوكيل في إثباتها لو أنكر الخصم الوكالة. وإن كان الوكيل خاصم فلاناً في ألف درهم للموكل وقضى القاضي أو لم يقض حتى عزل ثم شهد للموكل أنه شهد (142أ4) بتلك الألف التي خاصم فيها لا تقبل شهادته إجماعاً، وإن شهد بمال آخر تقبل شهادته عندهما لأنه إنما يصير خصما عندهما بالخصومة، والخصومة خصت بتلك الألف، فصار خصماً فيها لا في مال آخر ففي مال آخر انعدم المانع من قبول الشهادة فقبلت. ولو كان التوكيل بغير محضر من القاضي، فخاصم الوكيل فلاناً في ألف قبله للموكل فأنكر وكالته، فأقام الوكيل بينة عليه بالوكالة، وقضى القاضي بالوكالة، وقضى بالألف أولم يقض حتى عزل الموكل الوكيل، ثم شهد الوكيل للموكل على فلان بتلك الألف أو بمال آخر، لا تقبل شهادته، بخلاف الوجه الأول وهو ما إذا كان التوكيل بعلم القاضي. والفرق: أن القاضي إذا لم يعلم بالوكالة، والوكيل يحتاج إلى إثباتها بالبينة، ومن ضرورة إثباتها في هذا الحق بالبينة ثبوتها في سائر الحقوق؛ لأن التوكيل واحد وقد حصل عاماً بكل حق، فلا يثبت بشيء حتى يثبت جملته، كما أثبته الموكل، والبينة إنما تعمل بعد الدعوى والخصومة، فإذا صار إثبات الوكالة بالبينة في هذا الحق إثباتاً لها في سائر الحقوق وصارت الخصومة في هذا الحق خصومة في سائر الحقوق لإثبات الوكالة فيها فسقطت شهادته في عامة الحقوق بالخصومة فيها، إلا أن يشهد بمال حادث بعد تاريخ الوكالة، لأن التوكيل بالخصومة في كل حق له قبل فلان إنما يتناول الحقوق الموجودة، ولا يتناول الحادث بعد التوكيل، فلا يصير خصماً في الحادث بعد التوكيل فلا تبطل شهادته، فأما إذا كان التوكيل بعلم القاضي فالوكيل لا يحتاج إلى إثبات الوكالة عند القاضي بعلم القاضي ذلك ليصير إثبات الوكالة في بعض الحقوق إثباتاً في جميع الحقوق، فيصير خصومته في بعض الحقوق خصومة في جميع الحقوق فلهذا افترقا. واستشهد في «الكتاب» لإيضاح الفرق بين الوجهين فقال: ألا ترى أن القاضي لو قضى بوكالته بالبينة ثم مات أو عزل ورفع حكمه إلى قاض آخر وثبت ذلك عنده أمضى قضاء الأول وجعل لهذا خصماً في كل حق يدعيه قبل فلان؟ ولو ثبت عند القاضي الثاني علم القاضي الأول بما جرى عنده من الوكالة لم يجعله خصماً، ولم يمض قضاء الأول؛ لأن علم القاضي حجة في حقه، وليس بحجة في حق غيره، فأما حكمه حجة في حق الكل، فإذا ظهرت التفرقة بين علم القاضي وحكمه في حق قاض آخر جاز أن يظهر التفرقة بينهما في حق مال آخر في حق قبول الشهادة. قال: ولو أن رجلاً وكل رجلاً بكل حق له قبل فلان وفلان وفلان بغير محضر من القاضي، فأحضر الوكيل واحداً من هؤلاء، وأقام بينة على أن فلاناً وكله بكل حق له قبل فلان وفلان وفلان، وقضى القاضي بوكالته، ثم عزل الموكل الوكيل، فشهد الوكيل بعد ذلك للموكل على هذا الذي أحضره بحق أو على الآخرين لا تقبل شهادته، وكذلك لو

وكله بكل حق له في مصر كذا وبالخصومة فيه، فأحضر الوكيل رجلاً من أهل ذلك المصر، وادعى عليه حقاً للموكل فجحد وكالته، فأقام الوكيل بينة على أن فلاناً وكله بكل حق له في ذلك المصر وبالخصومة فيه، وقضى القاضي بوكالته، ثم عزل الموكل الوكيل، فشهد الوكيل للموكل بعد ذلك بحق أو مال على ذلك الرجل أو على غيره من أهل ذلك المصر، لم تقبل شهادته، لأنه صار خصماً للغائبين كما صار خصماً للحاضر، لأن الخصومة مع الحاضر خصومة مع الغائبين لكون الحاضر نائباً عن الغائبين. بيانه: أن ما ادعى على الحاضر من الوكالة لا يثبت إلا بإثباتها على الغائبين؛ لأن التوكيل واحد، وقد حصل عاماً فصار المدعي على الغائبين سبباً لثبوت المدعي الحاضر فانتصب الحاضر خصماً عن الغائبين ألا ترى أن القضاء على الحاضر صار قضاء على الغائبين؟ فكذا الخصومة مع الحاضر يكون خصومة مع الغائبين فبطلت شهادته في حقهم جميعاً. إلا أن بين المسألتين فرقاً: فإن في مسألة المصر كما لا تقبل شهادة الوكيل للموكل بحق قائم وقت الوكالة لا تقبل شهادته له بحق حدث بعد الوكالة، والقياس في مسألة المصر أن لا تقبل شهادته بحق قائم وقت التوكيل لا بحق يحدث بعد التوكيل، اعتباراً للتقييد بالمكان بالتقييد بالشخص، إلا أنهم استحسنوا في مسألة المصر لمكان العرف، فإن العرف الظاهر فيما بين الناس أن من أراد سفراً يقيم غيره مقام نفسه، بطلب كل حق له في مصر ومراده من ذلك أن يقوم مقامه فيما هو واجب له وفيما يحدث، كيلا يضيع شيء من حقوقه، فلمكان العرف صرفنا الوكالة إلى الكل. وهو نظير من وكل إنساناً بقبض غلاته، يريد به الواجب وما يحدث كيلا يحتاج إلى تجديد الوكالة في كل زمان فلا يقع في الحرج، وإذا انصرفت الوكالة إلى الكل صار خصماً في الكل، فلا تقبل شهادته في شيء من ذلك، مثل هذا العرف لا يوجد فيما إذا كانت الوكالة بكل حق له قبل شخص بعينه، أو قبل أشخاص بأعيانهم فيعمل بظاهر اللفظ وظاهر اللفظ يتناول القائم وقت التوكيل، لا ما يحدث بعد ذلك، فلم يصر خصماً فيما حدث بعد التوكيل، فجاز أن تقبل شهادته فيه. فرع على مسألة المصر فقال: لو شهد بحق حدث بعد العزل قبلت شهادته، لأنه لم يصر خصماً فيه بظاهر اللفظ، لأن التوكيل لم ينصرف إليه؛ لأن انصراف التوكيل إلى الحادث بعد التوكيل بحكم العرف، ولا عرف في الحادث بعد العزل، فيعمل فيه بظاهر اللفظ، وظاهر اللفظ لا يتناول الحادث بعد التوكيل ولا الحادث بعد العزل، قال: ولو كان هذا التوكيل بعلم القاضي، لم يبطل القضاء بشهادته بعد العزل إلا فيما كان خاصم فيه بعينه قبل العزل، والفرق ما ذكرنا. قال: والتوكيل بكل حق له قبل الناس في انصرافه إلى القائم وقت التوكيل، والحادث بعده نظير التوكيل بكل حق له في مصر كذا بل أولى، لأن هذا أعم لأن هذا يتناول جميع الناس في كل مصر.

الفصل الرابع عشر: في الشك في الشهادة والزيادة فيها والنقصان عنها ووجود الشاهد بعد القضاء بشهادته بصفة لا تجوز شهادته، وشهادة الشهود بعد قضاء القاضي بخلاف ما قضى

وإذا ادعى رجل أن فلاناً وكله وفلاناً الغائب في كل حق له قبل الناس، وأحضر رجلاً وادعى عليه حقاً للموكل، وأقام البينة على وكالته على نحو ما ذكرنا، وقضى القاضي بها صار الحاضر مع الغائب وكيلين، حتى إن الغائب إذا حضر وادعى حقاً على أحد لا يكلف إعادة البينة على الوكالة، فإن عزلهما الموكل ثم شهدا بحق قبل هذا الرجل، أو قبل رجل آخر لا يقبل شهادتهما، القائم وقت الوكالة والحادث بعد الوكالة في ذلك على السواء، لأن خصومة أحدهما لما جعل كخصومتهما صار كأنه وجدت الخصومة منهما، ولو وجدت الخصومة منهما في حق من الحقوق كان ذلك بمنزلة الخصومة في سائر الحقوق، القائم وقت الوكالة والحادث بعدها سواء لما مر، فهاهنا كذلك والله أعلم. الفصل الرابع عشر: في الشك في الشهادة والزيادة فيها والنقصان عنها ووجود الشاهد بعد القضاء بشهادته بصفة لا تجوز شهادته، وشهادة الشهود بعد قضاء القاضي بخلاف ما قضى إبراهيم عن محمد في شاهدين شهدا لرجل أن له على هذا درهماً أو درهمين، فالشهادة جائزة على درهم، وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: في رجل في يديه درهمان صغير وكبير وأقر بأحدهما لرجل، ثم جحد فشهد عليه بذلك شاهدان، أجزت الشهادة على الصغير منهما استحساناً، وسواء أقر بأحدهما بغير عينه أو بعينه ثم نساه، هكذا ذكر، وفصل الإقرار بأحدهما بعينه والنسيان مشكل يعرف بالتأمل، قال: وكذلك الكيل كله، والوزن كله إذا كانا صنفاً واحداً فإني أقضي بالأوكس، وإذا اختلف النوعان فإني أبطلت الإقرار. قال: وكل شيء يضمن فيه القيمة وقد صارت ديناً جعلت عليه أوكس القيمتين، نحو أن يشهد أنه غصب منه ثوباً همروياً أو مروياً وأحرقه قالا: أسمي لنا هكذا، أو قال: سمي لنا أحدهما بعينه فنسيناه، قضيت عليه بأوكس القيمتين. روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمهما الله: في رجلين شهدا لرجل بشهادة، ثم زاد فيها قبل أن يقضي القاضي بها أو بعده وقالا: أوهمنا، وهما غير متهمين قبل ذلك منهما. وروى بشر في «الإملاء» عن أبي يوسف رحمهما الله: في رجل يشهد عند القاضي بشهادة ثم يجيء بعد ذلك بيوم فيقول: شككت في كذا وكذا مبهماً، قال: إذا كان القاضي يعرفه بالصلاح قبل شهادته فيما بقي، وإن كان لا يعرفه فهذه تهمة ألغى شهادته، وكذلك لو قال: رجعت عن شهادتي في كذا وكذا من هذا المال غلطت في ذلك أو نسيت، فهو مثل قوله: شككت، وإذا لم يقل الشاهد: قد شككت، ولكن قال: قد

تعمدت ولم أغلط ثم بدا لي أن أرجع عن ذلك، لم تقبل شهادته فيما بقي، ولا في غير ذلك حتى يحدث توبة ويعاقبه القاضي، وقال محمد رحمه الله (142ب4) . فيمن شهد عند القاضي، فلا يبرح مكانه حتى يقول أوهمت بعض شهادتي جاز ذلك وقبل شهادته إذا كان عدلاً، قال: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، وهكذا ذكر في «الجامع الصغير» ، وفي «المنتقى» : إذا شهد رجل على دارٍ بحدودها، أو شهد بمال ثم رجع عن بعض تلك الدار أو بعض المال، قال محمد: إن كان عدلاً ورجع في مكانه، وقال أوهمت أستحسن أن أجيز شهادته إذا لم يكن في ذلك إكذاب من الشهود له. وفي «نوادر هشام» : عن محمد رحمه الله: رجل ادعى داراً في يدي رجل، وأقام شاهدين شهدا أن الدار له، ثم قال الشاهدان بعد ذلك قبل القضاء: إن البناء ليس للمدعي إنما هو للمدعى عليه، قال: إذا قال ذلك قبل أن يتفرقا عن مجلس القضاء، قبلت شهادتهما، وهذا استحسان ما لم يطل ذلك، وإذا قاما أو طال ذلك بطلت شهادتهما. وفي «نوادر بن سماعة» عن محمد رحمهما الله: إذا شهد الشهود بالدار للمدعي، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم إن الشهود قالوا: لا ندري لمن البناء، فإني لا أضمنهم قالوا: قد شككنا في شهادتنا، وإن قالوا: ليس البناء للمدعي ضمنوا قيمة البناء، كأنهم قالوا: قد شككنا في شهادتنا، وإن قالوا: ليس البناء للمدعي ضمنوا قيمة البناء للمشهود عليه. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد أيضاً: رجل مات وترك عبداً لا مال له غيره، وقيمته ألف درهم، ولا يعلم عليه دين، فأعتقه الوارث، ثم شهد العبد بشهادات واستقضى فقضي بقضايا، ثم أقام رجل بينة على الميت بالدين، فإن العبد يرد رقيقاً ويبطل عتقه، وما شهد به من الشهادة فإن أبرأ الغريم العبد من الدين جاز عتقه وحده، ولم يجز شيء من شهادته وقضاياه، وإن كان رجل قتل هذا لعبد غرم قيمته لورثة العبد، ولا يجعلهما لورثة المولى، قال: ألا ترى أنا لا نرده في الرق؟. وروى إبراهيم عن محمد رحمه الله: في رجل أقام بينته أنه وصي فلان الميت وقضى القاضي بوصايته، وأخذ ما للميت من الديون على الناس، ثم وجد البينة عبيداً فقد برىء الغرماء، ولو كان مثله في الوكالة لم يبرؤوا. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل شهد عليه شاهدان: أن هذه الدار التي في يديه لفلان، فلم يقض القاضي بها حتى قالا: إنما شهدنا على العرصة، أجزت شهادتهما على ذلك ولم يكن هذا رجوعاً، ولو قضى القاضي بها وبالبناء، وقالا: شهدنا على العرصة ضمنتهما قيمة البناء. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف رحمهما الله: رجل مات فقاسمت امرأته ولده الميراث، وهم كبار، وأقروا أنها زوجة الميت، ثم وجدوا شهوداً أن زوجها قد كان طلقها ثلاثاً في صحته، فإنهم يرجعون عليها بما أخذت من الميراث.

الفصل الخامس عشر: في الشهادة على الوكالة والوصاية

وكذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله في امرأة اختلعت من زوجها بمال، ثم أقامت البينة أنه كان طلقها ثلاثاً قبل الخلع وكذلك أمة كاتبها مولاها فأدت ثم أقامت البينة على إعتاق كان من المولى قبل الكتابة، وكذلك العبد. وكذلك الزوج إذا قاسم أخ المرأة ميراثها، وأقر أن هذا ميراث، وأن هذا زوج الميت وهذا أخوها، ثم إن الأخ أقام بينة أن الزوج قد كان طلقها ثلاثاً في حال حياته، فذلك جائز ويرجع الأخ فيما أخذ الزوج من الميراث، وقد تحقق التناقض في هذه المسائل إلا أن هذا تناقض فيما طريقه طريق الخفاء؛ لأن الطلاق مما يستند به الزوج، والعتاق مما يستند به المولى، والتناقض فيما طريقه طريقة الخفاء لا يمنع صحة الدعوى وسماع البينة. الفصل الخامس عشر: في الشهادة على الوكالة والوصاية رجل أقام بينة عند القاضي أن فلاناً وكله بطلب كل حق له بالكوفة وبالخصومة فيه، جائز ما صنع فيه وليس معه خصم يدعي عليه حقاً، لم يسمع القاضي منه هذه البينة لقيامها على غائب ليس عنه خصم حاضر؛ وإن أحضر رجلاً يدعي الوكيل أن للموكل عليه حقاً وهو ينكر كونه وكيلاً، فأقام الوكيل بينة على وكالته، قضى القاضي عليه، لكونه وكيلاً لقيام البينة على خصم حاضر، وصار الثابت بالبينة كالثابت عيانا، ولو عاين القاضي توكيله قضى بكونه وكيلاً كذا هاهنا، فإن أحضر الوكيل رجلاً آخر من أهل الكوفة يدعي الموكل قبله حقاً، فأنكر الوكالة، لا يحتاج الوكيل إلى إقامة البينة على الوكالة؛ لأن القاضي حين قضى بوكالته ببينة قامت على الأول فإنما قضى بوكالته في حق جميع من بالكوفة؛ لأنه كان لا يتوصل إلى إثبات الوكالة على الأول إلا بإثبات الوكالة على الكل، لكون الوكالة واحدة بلفظ عام، فانتصب الذي حضر مجلس القاضي خصماً عن جميع من بالكوفة، فصار القضاء عليه بالوكالة قضاءً على الكل. وهو نظير ما لو مات رجل، فجاء رجل إلى القاضي وأحضر معه رجلاً، وأقام بينة أنه ابن الميت، وأن للميت على هذا الذي أحضر مجلس القاضي دين، وقضى القاضي بنسبه يثبت نسبه عاماً في حق هذا المديون وفي حق مديون آخر لما قلنا من المعنى كذا هنا. ولو كان الشهود شهدوا أن فلاناً وكله بطلب حقه قبل فلان بن فلان الفلاني، وبالخصومة فيه لم يسمع القاضي شهادتهم ما لم يحضر فلان بن فلان؛ لأن الخصم في هذه الوكالة متعين فلا يصير غيره قائماً مقامه إلا بإقامته ولم يوجد، ولو أن الموكل حضر عند القاضي فقال: إني وكلت هذا الرجل بطلب كل حق لي بالكوفة وبالخصومة، وليس

معهما خصم ثم جاء الوكيل برجل وادعى أن للموكل قبله حقاً، فإن كان القاضي يعلم الموكل باسمه ونسبه يقضي بوكالته، ولا يكلفه إقامة البينة على الوكالة؛ لأن علم القاضي بالمعاينة فوق علمه بالخبر، فإذا كان يقضي بوكالته عند حصول العلم له بالخبر، فهذا أولى ولا يشترط حضرة الخصم عند التوكيل بصحة التوكيل عند القاضي، لأن حضرة الخصم إنما يحتاج إليه للجحود ليمكن إثبات الوكالة بالبينة، فيحصل العلم للقاضي بالبينة بكونه وكيلاً، فإذا كان العلم حاصلاً للقاضي بالمعاينة لا حاجة إلى اعتبار حضرة الخصم، فإن كان القاضي لا يعرف الموكل باسمه ونسبه لا يقضي بالوكالة؛ لأن الموكل غائب وقت القضاء بالوكالة، والغائب إنما يعرف بالاسم والنسب، فإذا لم يعرف القاضي ذلك بقي الموكل مجهولاً، والقضاء للمجهول وعلى المجهول باطل، بخلاف ما لو كان الموكل حاضراً حيث يقضى القاضي بوكالته، وإن لم يعرف اسمه ونسبه؛ لأنه معلوم لكونه حاضراً، فإن لم يعرف القاضي الموكل باسمه ونسبه فقال الموكل: أنا أقيم البينة أني فلان بن فلان ليقضي بالوكالة متى جئت، لا يلتفت القاضي إليه؛ لأن شرط سماع البينة على النسب، الخصومة في النسب ولم توجد، فإن غاب الموكل فأحضر الوكيل رجلاً فادعى أن للموكل عنده حقاً وأقام الوكيل البينة عليه أن فلان بن فلان الفلاني وكله بالخصومة في كل حق له عند الناس بالكوفة، وأنكر ذلك الخصم وكالته، قبلت بينته وصار وكيلاً في حق جميع من كان بالكوفة لما قلنا. وإن أرادوا من القاضي في هذه الوجوه كلها أن يسمع من الشهود بغير محضر من الخصم، ليكتب الكتاب بشهادتهم إلى قاضي آخر أجابهم القاضي إلى ذلك، لأن كتاب القاضي إلى القاضي ليس بقضاء ليحتاج فيه إلى حضرة الخصم، إنما هو من القاضي الكاتب نقل شهادة الشهود إلى مجلس القاضي المكتوب إليه، بمنزلة الشهادة على الشهادة، ثم الإشهاد على الشهادة صحيح من غير حضرة الخصم، فكذا كتاب القاضي إلى القاضي قد يجوز للقاضي المكتوب إليه القضاء بكتاب للقاضي وحده، وإن لم يجز له القضاء بشهادة هذا القاضي الكاتب بانفراده، بأن ذهب بنفسه إلى بلدة القاضي المكتوب إليه، وشهد بين يديه على شهادة هؤلاء، والفرق وهو أن القاضي الكاتب نقل شهادة الشهود إلى القاضي المكتوب إليه بكتابه وهو قاض، وقوله وهو قاض بمنزلة شهادة الشاهدين فكذلك كتابه، أما إذا ذهب بنفسه إلى تلك البلدة وشهد فقد نقل شهادة الشهود بقوله وهو ليس بقاض؛ لأنه بعدما خرج من البلدة التي هو قاض فيها لا يبقى قاضياً ويلتحق بواحد من الرعايا، فلا يثبت النقل بمجرد قوله، حتى لو كان قاضي تلك البلدة أيضاً بأن كان قاضي القضاة تثبت شهادة الشهود بمجرد قوله في مجلس القاضي الثاني. ثم ما ذكر من الجواب قول أبي حنيفة وأبي يوسف وهو قول محمد الأول، وأما على قوله الآخر الذي رجع إليه لا تثبت شهادة الأصول عند المكتوب إليه بكتاب القاضي ما لم يشهد معه شاهد آخر والمسألة معروفة، والذي ذكرنا من الجواب في الوكيل، فكذا في الوصي في الفصول كلها؛ لأن الوصي وكيل بعد الوفاة فيعتبر بالوكيل حالة الحياة إلا

الفصل السادس عشر: في شهادة ولد الملاعنة

أنهما يفترقان في فصل وهو: أن الوكيل إن أثبت الوكالة عاماً يثبت عامة وإن اثبت خاصة، يثبت خاصة والوصي إذا أثبت الوصاية تثبت عامة عند أبي حنيفة رحمه الله، سواء أثبتها خاصة أو عامة (143أ4) لأن الوصي في نوع عنده وصي في الأنواع كلها، ولا كذلك الوكيل والله أعلم. الفصل السادس عشر: في شهادة ولد الملاعنة قال محمد رحمه الله في «الجامع» : امرأة جاءت بابنين في بطن واحد فنفاهما الزوج، ولاعن القاضي بينهما وألزم الابنين الأم، ثم كبرا وشهدا للذي نفاهما لم تقبل شهادتهما؛ لأن نسبهما كان ثابتاً من الزوج؛ لأنهما ولدا على فراشه، وقد قال عليه السلام: «الولد للفراش وللعاهر الحجر» وتعلق به أحكام منها: انتفاع قبول الشهادة وهذا أمر عليه، ومنها حرمة وضع الركن، وحرمة المناكحة والعتق عند التملك، وهذه الأحكام إنما تثبت حقاً للشرع ومنها الإرث، فهو بهذا القذف واللعان يريد إبطال هذه الأحكام فلا يقدر على إبطال ما عليه وعلى إبطال ما هو حق الشرع، ويجعل النسب باقياً في حق الأحكام الثابتة حقاً للشرع، وفي حق الأحكام التي تثبت عليه، فأما الانتساب يبطل؛ لأنه كما هو حق الولد فهو حق الوالد فيبطل بإبطاله ما هو حقه، ثم يبطل حق الولد ضرورة أن النسب لا يثبت من أحد الجانبين، وإذا بطل الانتساب بطل الإرث؛ لأن الانتساب أمر لابد منه لجريان الميراث. وكذلك لو مات هذان الولدان ولهما أولاد فشهدوا للملاعن كانت الشهادة باطلة؛ لأن النسب باق في حق آخر عليه. وكذلك لو تزوج أحد الابنين اللذين تقاسما بنتاً للزوج من امرأة أخرى كان النكاح باطلاً لبقاء النسب في حق الحرمان الثانية حقاً للشرع. امرأة لم يدخل بها زوجها جاءت بولد، فنفاه فإن القاضي يلاعن بينهما، ويلزم الولد أمه، لأن النكاح في حق من هو من أهل الماء في مدة تتصور الولادة فيها أقيم مقام الإنخلاق من مائه حكماً، ولو كان الإنخلاق من مائه حقيقة يعمل نفيه ويلاعن بينهما، ويلزم الولد أمه فكذا هنا، وعلى الزوج المهر كاملاً لوجود الدخول من حيث الحكم، لما حكم بثبات نسب الولد منه، فإن قيل إنما يثبت الدخول من طريق الحكم لما حكم بثبات النسب، وقد تبين النسب لم يكن ثابتاً منه فتبين أن الدخول لم يكن ثابتاً، قلنا: النسب

إنما ينقطع بعدما ثبت من حيث الظاهر لحدوثه على فراشه، لا أن يظهر أنه لم يكن ثابتاً، ألا ترى أنه نفي بعض أحكام النسب ولو تبين أنه لم (يكن) ثابتاً لكان لا يثبت شيء من الأحكام، وإذا لم يتبين أن النسب لم يكن ثابتاً لا يتبين أن الدخول لم يكن ثابتاً، ولا يتزوج الزوج ولا أحد من ولده الولد الذي ولدته المرأة إن كانت جارية، ولا يعطيه زكاة ماله، ولا يشهد له لما مر أن النسب باق في حق الحرمان الثانية حقاً للشرع، ولا يرث كل واحد منهما من صاحبه لما مر، ولا يستحق كل واحد منهما النفقة على صاحبه، لما قلنا في الإرث. جارية لرجل جاءت بولد فادعاه المولى حتى يثبت النسب منه، وصارت الجارية أم ولد له، ثم ولدت بعد ذلك ابنين في بطن واحد فنفاهما جاز نفيه؛ لأنه لو نفى نسب الولد المنكوحة جاز نفيه، وإن كان فراشه أقوى فلأن يجوز نفي ولد أم الولد وفراشها أضعف كان أولى، إلا أن بينهما فرقاً وهو أن نسب ولد المنكوحة لا ينتفي بمجرد النفي إنما ينتفي باللعان، وقضاء القاضي بالقطع، ونسب ولد أم الولد ينتفي مجرد النفي وموضع الفرق كتاب الدعوى وإذا انتفى نسبها من المولى بمجرد النفي كانا عبدين له بمنزلة أمهما؛ لأن ولد أم الولد يكون بمثل حالها، وكان النفي عاملاً في إبطال ما ثبت لهما من الحرمة من حيث الظاهر؛ لأن العتق ليس من الأحكام المختصة بالنسب الذي لا ينفك عنه النسب، ألا ترى أن الأب لو كان مكاتباً أو عبداً مأذوناً فذلك ولده لا يعتق عليه؟ والنفي عامل فيما ليس من الأحكام المختصة بالنسب، كما في حق الميراث، فإن أعتقهما المولى ثم شهدا للمولى كانت شهادتهما باطلة، وكذا شهادة أولادهما، وكذا لو أعطاهما من زكاة ماله لم يجز، وكذا لا يرثان من الرجل ولا يرث الرجل منهما بحكم القرابة، كما في ولدي المنكوحة ولكن الرجل يرث منهما بحكم الولاء لأنهما معتقاه.r أمة لرجل جاءت بولدين في بطن واحد فباع المولى أحد الولدين فأعتقه المشتري، ثم إن المعتق بعدما كبر شهد مع رجل جازت شهادتهما؛ لأن نسب هذا الولد ما كان ثابتاً من المولى قبل البيع؛ لأنه ولد الأمة ونسب ولد الأمة لا يثبت بدون الدعوة، فلم يثبت امتناع قبول الشهادة، بخلاف ولد أم الولد والمنكوحة على ما مر، وإن قضى القاضي بشهادتهما، ثم إن البائع ادعى الولد الذي عنده جازت الدعوة لاتصال علوقه بملكه، وإذا ثبت نسب هذا الولد ثبت نسب الولد الآخر ضرورة لأنهما توأم، وإذا ثبت نسب الآخر ظهر أنه علق حراً، وأن المولى باع الحر فانتقض البيع ورجع المشتري بالثمن على بائعه؛ لأنه لم يسلم له المبيع فلا يسلم للمشتري الثمن، وظهر بطلان الشهادة للبائع؛ لأنه ظهر أنه كان شهد لأبيه ويرجع المشهود عليه على البائع بما أخذ منه إن كان قائماً بعينه، وإن كان استهلكه ضمن له مثله إن كان مثلياً، وقيمته إن لم يكن مثلياً؛ لأنه ظهر أن القاضي أخطأ في قضائه والقاضي متى أخطأ في قضائه كان قرار الضمان على المقضي له، وإن كان المشهود به قطع يد أو رجل غرم البائع للمشهود عليه أرش ذلك في ماله في سنين، وإن كان المشهود به قتل نفس، غرم الدية في ماله في ثلاث سنين، لأن البائع كان مخطئاً

في القتل والقطع والعقل، لأنه إنما قطع وقتل على حسبان أن له ذلك، وقد ظهر خلاف ذلك، وموجب جناية الخطأ المال، إلا أنه يكون في ماله لا على العاقلة لأنه وجب بسبب دعوته وهو غير مصدق في ذلك في حق العاقلة، فصار من هذا الوجه كالثابت بإقراره. فإن قيل: جناية مالية معاينة لا بإقراره إنما الثابت بقوله بسبب الولد إلا أن إيصال العلوق في ملكه بمنزلة البينة العادلة على صدق مقالته، ولو ثبت نسب هذا الولد بالبينة كان موجب هذه الجناية على عاقلته، كذا هاهنا. قلنا: هذا هكذا فيما كان من الأحكام المختصة بالنسب الذي لا ينفك النسب عنه بحال فأما في حق الأحكام التي ينفك النسب عنه فالدعوة بمنزلة الإقرار ألا ترى أن رجلاً لو كان قطع يد هذا الولد خطأً حتى وجب على الجاني نصف القيمة، ثم ادعاه البائع حتى صحت دعوته لا يجب على الجاني نصف الدية؟ وإن اتصل العلوق بملكه وجعل دعوته في حق الجاني بمنزلة الإقرار لا بمنزلة البينة، لهذا إن وجوب الدية ليس من الأحكام المختصة بالنسب الذي لا ينفك النسب عنه فجعل في هذا دعوة البائع بمنزلة الإقرار لا بمنزلة البينة كذا ههنا، الوجوب على العاقلة ليس من الأحكام المختصة بالنسب الذي لا ينفك عنه فجعل في حق هذا دعوة البائع بمنزلة الإقرار وما يجب بحكم الإقرار لا يجب على العاقلة. كل بينة لا تكون حجة شرعاً فهي من التهاتر فمن جملة ذلك ما ذكر ابن سماعة عن أبي يوسف: في شاهدين شهدا على رجل بقول، أو بفعل يلزمه بذلك إجازة أو كتابة أو بيع أو قصاص أو مال أو طلاق أو عتاق في موضع وصفاه أو في يوم سمياه، فأقام المشهود عليه بينة أنه لم يكن في ذلك الموضع ولا في ذلك اليوم في الموضع الذي وصفاه، لم يقبل منه البينة على ذلك؛ لأنها بينة في غير موضعها فكانت ساقطة. بيانه أن الشرع شرع البينات للإثبات لا للنفي؛ لأنه شرعها في جانب المدعي والمدعي يحتاج إلى إثبات الحق فلا يكون حجة في موضع النفي وموضع مسألتنا هذه موضع النفي، فلا تكون البينة حجة فيها فلا يلزم على ما قلنا. إذا شهدوا أن هذا وارثه لا وارث له غيره حيث تقبل شهادتهم، فهذه شهادة على نفي وارث آخر، لأنا نقول: المقصود من هذا النفي إثبات جميع المال له، فكانت هذه

الشهادة على الإثبات باعتبار المقصود، وكذلك كل بينة قامت على أن فلاناً لم يقل لم يفعل لم يقر فهذا كله من التهاتر؛ لأنها قامت على النفي. رجل أقام على رجل بينة على أنه جرحه يوم النحر بمكة هذا الجرح وقضيت بذلك، ثم أقام المدعى عليه الجراحة على أحد الشاهدين بينة أنه جرحه يوم النحر بكوفة، لم أقبل بينته على ذلك قال: لأني قد قضيت بجراحته يوم النحر بمكة، ولا يكون في يوم واحد بكوفة ومكة، وقد ثبت بالبينة الأولى كونه بمكة يوم النحر وتأيدت تلك البينة بإيصال القضاء بها، فتعين البطلان في البينة الثانية (143ب4) ولو لم يكن قضيت بالأولى حتى اجتمعت البينتان، والدعوتان أبطلهما لأن القاضي تيقن بكذب أحدهما لأن الشخص الواحد في وقت واحد لا يكون بكوفة ومكة. قال في كتاب الحدود: لو شهد أربعة على رجل أنه زنى بفلانة يوم النحر بمكة، وشهد أربعة أنه قتل فلاناً يوم النحر بكوفة، أو كانت الشهادة الثانية في نكاح أو طلاق أو عتاق أو جراحة، أو قال رجل لعبديه: أيكما أكل هذا الرغيف فهو حر، فشهد شاهدان أن هذا أكله، وشهد الآخران أن هذا الآخر أكله، لم أقبل شهادتهما، لأن القاضي تيقن بكذب أحد الفريقين، وإن شهد أحد الفريقين أولاً وقضى القاضي بشهادتهم، ثم شهد الفريق الآخر بما وصفنا، لا تقبل شهادة الفريق الثاني؛ لأن شهادة الفريق الثاني تعينت للكذب، وإن رد القاضي الشهود جميعاً ثم مات أحد الفريقين، ثم شهد الفريق الثاني بما شهدوا به وأعادوا شهادتهم لا تقبل شهادتهم؛ لأن الشهادة متى صارت مردودة في الحكم لا تقبل بعد ذلك أبداً، فإن جاء الآخر بشاهدين آخرين قبلت شهادتهما؛ لأنها لم ترد ولم تعارضها البينة الأولى لأنها مردودة في الحكم فوجب القضاء. وعلى هذا إذا شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته غدوة يوم النحر بكوفة؛ وشهد آخران أنه طلقها يوم النحر بمكة أو كانوا شهدوا على امرأتين، لم تقبل شهادتهما، ولو شهد أحد الفريقين أولاً، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم شهد الفريق الثاني فالقاضي لا يقضي بشهادة الفريق الثاني لما قلنا. ولو ادعى رجلان ولاء رجل، وأقام كل واحد منهما بينة أنه أعتقه وهو يملكه، ثم مات ولا يعلمون له وارثاً غيره جعلنا الولاء بينهما، وإن ادعى أحدهما أولاً وقضى القاضي بالولاء له، ثم أقام الآخر بعد ذلك بينة على دعواه، فالقاضي لا يقبل بينة الثاني؛ لأن الواحد يستحيل أن يكون مُعتَق اثنين، لكل واحد منهما على الكمال، والبينة الأولى تأكدت باتصال القضاء بها فتعينت الثانية للبطلان، وإذا شهد أربعة أخرى على هؤلاء الشهود أنهم زناة فهذا باطل على قول أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله يحد الفريق الأول بشهادة الفريق الثاني، وإنما لا يحد المشهود عليه الأول، أما على قولهما؛ فلأن عندهما قبل شهادة الفريق الثاني على الأول، وظهر أنهم زناة فتعطلت شهادتهم لفسقهم، وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله للشبهة التي دخلت لمكان شهادة الفريق الثاني، والشبهة كافية لدرء الحدود، فأما حجتهما في إقامة الحد على

الفريق الأول بشهادة الفريق الثاني، أن حجة إقامة الحد عليهم قد تمت، فوجب أن يقام الحد عليهم وهذا لأن الحجة شهادة الأربع العدول، وقد وجد عدد الأربع ووجدت العدالة، لأنهم لم يطعن فيهم، وإنما وجد الطعن في الفريق الأول بشهادة الفريق الثاني، أما الفريق الثاني فشهادة الأوليين لا توجب طعناً، وقد جاء فيهم فقبلت لظهور عدالتهم، ولا يقال: إن هذه شهادة قامت لنفي الحد عن المشهود عليه الأول، والبينات للإثبات لا للنفي لأنا نقول: ظاهر شهادتهم لإثبات الحد على الفريق الأول فإن تضمن نفياً لا يقدح ذلك في شهادتهم، فما من إثبات إلا وتحته النفي. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: إن قصد الفريق الثاني إبطال شهادة الفريق الأول، لا إقامة الحسبة فلا تقبل شهادتهم، كما لو شهدوا بعد تقادم العهد. بيانه: أنهم لما لم يشهدوا حتى شهد الفريق الأول فأما أن يقال كانوا كاذبين قصدوا إبطال شهادة الفريق الأول وعلى هذا التقدير لا تقبل شهادتهم، أو يقال: كانوا صادقين وكانوا اختاروا الستر، فلما شهد الفريق الأول حملتهم الضغينة على الشهادة عليهم، وعلى هذا التقدير لا تقبل شهادتهم أيضاً؛ لأن شهادة ذي الضعن مردودة ولأنه يؤدي إلى التهاتر، فإنا لو قبلنا شهادتهم كان يشهد فريق ثالث عليهم أنهم زناة ويشهد فريق رابع على الفريق الثالث، إلى ما لا يتناهى فكان من التهاتر وهو التكاثر فلا تقبل شهادتهم. وإذا قضى القاضي لرجل بحق ببينة أقامها فيقول المقضي عليه: أنا أقيم البينة أنه لي، لم يقبل ذلك منه، أشار في «الأصل» فقال: لو قبلت من هذا لقبلت من الآخر مثلها فيؤدي إلى ما لا يتناهى، أشار إلى أن المدعى عليه لو تمكن من إقامة البينة على ملكه لنقض القضاء الأول، كان للمدعي أن يقيم البينة أنه لي، ثم يقيم المدعى عليه بعد ذلك أنه لي فيؤدي إلى ما لا يتناهي، فكان من التهاتر والتكاثر فلا تقبل، ولكن هذا القدر لا يصلح عليه لرد الشهادة، فإنه تقبل بينة المدعى عليه على التملك من المدعي، وإنه يؤدي إلى ما لا يتناهي، لأنا لو قبلنا منه ربما يقيم المدعي بينة على التملك من المدعى عليه، ثم المدعى عليه يقيم البينة على المدعي إلى ما لا يتناهي، ومع هذا قبلت بينته على تلقي الملك من جهته، ولكن الصحيح أن هذه بينة قامت على نقض القضاء الأول لا للإثبات، فليس في بينة المدعى عليه إثبات، والبينة القائمة على نقض القضاء مطلقاً لا تقبل، كيف وإنه يضمن أمراً لا يتناهي من الوجه الذي ذكر، فما ذكر في الكتاب لبيان الأولوية لا لرد الشهادة. قال في كتاب الوصايا: إذا شهد شاهدان أنه دبر فلاناً بعينه إن قتل، وإنه قد قتل وشهد آخران أنه مات موتاً فإنه يقضي بعتق المدبر من الثلث، ولا تجوز شهادة الشهود على الموت، لأن شهود القتل أثبتوا عتق المدبر وشهود الموت نفوا عتقه، وهو المقصود من الشهادة، فأما الموت فإنه غير مقصود، والبينات للإثبات لا للنفي، فلا تقبل شهادة شهود الموت.

وكذلك إن شهدا أنه أعتق عبده فلاناً إن حدث به حادث من مرضه أو سفره وأنه مات في ذلك السفر والمرض، وشهد آخران أنه رجع من سفره ومات في أهله، أو برأ من مرضه ومات من مرض آخر بعد ذلك؛ لأن الوقت في البينة الأولى صار مقضياً به، فإنه لو مات بعد رجوعه من سفره لا يعتق العبد؛ لأنه علق العتق بموت يوجد في السفر فإذا صار الوقت مقضياً به في البينة الأولى تعذر القضاء بموته بعد ذلك؛ لأن الموت لا يحتمل التكرار. وإن شهد شاهدان أنه قال: إن حدث في سفره هذا حدث فأنت حر وأنه مات في سفره ذلك وشهد آخران أنه قال: إن رجعت من سفري هذا فمت في أهلي ففلان حر وأنه رجع من سفره ومات في أهله، وجاء الشهود إلى القاضي فإنه يجيز شهادة الفريق الأول أنه مات في سفره، لأن كليهما شهدا بموته، وذكروا لذلك تاريخاً والموت حادث فأسبق التاريخين أثبت موته في زمان لا يعارضه أحد، فثبت موته في ذلك الزمان فصار الموت مقضياً به في ذلك الزمان ضرورة القضاء بالعتق المعلق به، فتعذر القضاء بالبينة الأخرى؛ لأن الموت لا يحتمل التكرار. وأوضح هذا بما إذا ذكروا تاريخاً وأفصحوا بالوقت فقال: لو أن رجلاً قال إن مت في جمادى الأولى ففلان حر، وإن مت في رجب ففلان الآخر حر؛ فشهد شاهدان أنه مات في جمادى الأولى، وشهد آخران أنه مات في رجب، أخذت بقول من شهد على الميت الأول، ولا ألتفت إلى قول الآخرين لما قلنا كذلك هاهنا، فإن شهد شاهدان أنه قال لعبده: إن مت من مرضي فأنت حر، وقالا: لا ندري مات من ذلك المرض أم لا؟ وقال العبد: مات من ذلك المرض، وقالت الورثة: لا بل برئ، فإن القول قول الورثة مع اليمين، لأن المقصود من هذه الدعوى العتق وانتفاؤه لا الموت من المرض أو بعدما برئ منه، والورثة ينكرون العتق لإنكارهم وجود شرط العتق، فكان القول قولهم، وإن قامت لهما بينة أخذت ببينة العبد، لأن البينات للإثبات، وذلك في بينة العبد؛ لأنها تثبت العتق دون بينة المولى فإنها تنفي العتق، وهو المقصود بالدعوى والإنكار. فإن قال: إن مت من مرضي هذا فلان حر، وإن برئت ففلان الآخر حر، فقال العبد الذي قال له: إن مت من مرضي هذا فأنت حر: مات منه، وقال الورثة: برئ فالقول قول الورثة مع أيمانهم لما قلنا إنهم ينكرون نزول العتق في العبد الذي قال له: إن مت من مرضي هذا فأنت حر، ويعتق العبد الآخر لإقرارهم بوجود شرط عتقه وهو البرء من ذلك المرض، فإن أقام العبد الذي قال له: إن مت من مرضي فأنت حر البينة أنه مات من مرضه ذلك، قبلت بينته ويقضي بعتقه؛ لأنه أثبت ما ادعاه ببينة، وعتق الآخر بإقرار الوارث له فإن قامت البينتان جميعاً أخذت بالبينة التي شهدت على موته من ذلك المرض ولا أقبل بينة الآخر، وهذا بخلاف الوارث يقيم البينة على موته في زمان، ثم تقيم المرأة على النكاح بعد الزمان الأول أنه تقبل بينتها؛ لأن في تلك المسألة لم يتعلق بالموت في ذلك الزمان حكم فلم يصر الموت (144أ4) في ذلك الزمان مقضياً به فقبلت بينة

المرأة، أما ههنا لابد من القضاء بالموت في ذلك المرض لإثبات العتق في العبد الأول لأنه معلق به، ولابد من القضاء شرط العتق ليمكن القول بنزول العتق، فصار موته من ذلك المرض مقضياً به، فلم تقبل بينة الآخر؛ لأن بعدما ثبت موته في زمان لا يتصور أن يكون حياً بعد ذلك. ذكر في كتاب محمد رحمه الله إعمالاً لرقه. قال محمد رحمه الله: كل مدع على صاحبه بشيء من الأشياء مما يلزمه فيه حق، وأقام البينة أنه فعل يوم كذا في موضع كذا، وأقام المدعى عليه البينة أنه كان في ذلك اليوم في موضع كذا، المكان لا يستقيم أن يكون فيه وفي الموضع الآخر في يوم واحد وليس ذلك بأمر مكشوف فالبينة بينة المدعي، ولا تقبل من المدعى عليه بينة، والأصل فيه ما ذكرنا غير مرة: أن البينات للإثبات، فمن لا يقصد بإقامة بينته إلا النفي لا تقبل منه البينة؛ لأنه أراد أن يضعها في غير ما وضعت في الشرع فلم يكن له ذلك. قال: فمن جملة ذلك رجل أقام البينة على آخر أنه قتل أباه عمداً في ربيع الأول، وأقام المدعى عليه البينة أنهم رأوا أباههم حياً بعد ذلك الوقت، أو أنه كان حياً وأقرضه ألف درهم بعد ذلك الوقت وأنها دين عليه، أو أقام رجل على آخر البينة أنه أقرض فلاناً أباه أمس ألف درهم، وأقام الآخر بينة أن أباه مات قبل ذلك، أو أقامت امرأة رجلين أن فلاناً طلق امرأته يوم النحر بالرقة؛ وأقام فلان البينة أنه كان في ذلك اليوم حاجاً بمنى، فالبينة في جميع ذلك بينة المدعي، ولا يلتفت إلى بينة المدعى عليه؛ لأن الإثبات في بينة المدعي، والمدعى عليه لا يريد ببينته إلا نفي القتل والقرض والطلاق، والبينات لا تقبل للنفي، إنما تقبل للإثبات فلم يلتفت إلى بينته إلا أن يأبى العامة وشهد بذلك، ويكون أمراً مكشوفاً فيؤخذ بشهادتهم، لأن الخبر المتواتر موجب للعلم قطعاً، فإذا شهدوا به على التواتر لم تقبل البينة على خلافه، لأنها محتملة للكذب وقد ظهر كذبهم بخبر العامة، بخلاف ما إذا لم يشهد به العامة ولكن قامت بينة مثله على خلافه لأنها مثل الأولى، وترجحت الأولى عليه بقوة الحكم؛ لأنها مبنية وليس في هذه البينة إثبات، فلم تصلح معارضة لها فبطلت، ولكن إنما بطلت الترجيح من حيث الحكم بعد مساواتهما في شهادتهما وشهادة شاهدين لا تصلح معارضة لخبر العامة في أدائها لما فيها من احتمال الكذب، وانتفاء الاحتمال في خبر العامة فلهذا أخذ بخبرهم. قال: ألا ترى أن العامة لو شهدت أن المدعى عليه كان معهم في الموسم، وأنه شهد معهم عرفات، لم تقبل بينة المدعية على ما ادعت من الطلاق لما ذكرنا من ظهور الكذب في البينة على ما قلنا، فإن أقامت المرأة البينة أن زوجها طلقها يوم النحر بالرقة، وأقام عبده البينة أنه أعتقه في ذلك اليوم بمنى، وجاءت البينتان جميعاً والرجل يجحد ذلك كله، فالبينتان باطلتان لتيقن القاضي بكذب أحد الفريقين، وجهالته الصادق من الكاذب منهما، وانعدام الترجيح لأحدهما على الأخرى، فإن صدق الرجل إحدى البينتين وجحد الأخرى قضى عليه بالطلاق والعتاق جميعاً أماما أقر به فلإقراره والآخر بالبينة،

والبينة الأخرى قد بطلت؛ لأنها إنما تقبل على المنكر فإذا أقر به فقد فات شرط قبولها وهو الإنكار فبطلت، فتقبل البينة الأخرى لاستجماع شرائطها وخلوها عن المعارضة. وهذه المسألة دليل على أن المدعى عليه بعدما أقام المدعي البينة إذا أقر بما ادعاه المدعي أن القاضي يقضي عليه بالإقرار، وهذا فصل اختلف المشايخ فيه. ولو شهد اثنان أنه طلق امرأته يوم النحر بمنى وشهد آخران أنه أعتق عبده بعد ذلك اليوم بالرقة، فإن القاضي يقضي بالطلاق بالوقت الأول؛ لأنهما شهدا به بذلك التاريخ ولا تعارضه البينة الأخرى؛ لأنها لا تقبل تاريخاً بعده، فلم تعارضه فقضى بالبينة الأولى، ثم ينظر بعد ذلك إن كان بين الوقتين ما يستقيم أن يكون في المكانين جميعاً بأسرع ما يقدر عليه من السير قضى بشهادتهم جميعاً؛ لأنه لا تنافي بينهما فأمكن العمل بهما فيعمل، وإن كان لا يستقيم بطل الوقت الثاني؛ لأنه لما وجب قبول البينة الأولى لإثباته تاريخاً سابقاً تعين جهة البطلان في الثانية لتعذر الجميع بينهما. ولا يقال: بأن العمل بالبينتين ممكن، لأنه لا يستحيل كونه في يوم واحد بهذين المكانين وكذلك في هذين الوقتين؛ لأنه يبعد (كونه) من الأولياء وكرامة الأولياء حق، لأنا نقول: إن الولي لا يجحد ما قد فعله حتى تقام عليه البينة، فلا يمكن تصور المسألة فيه، ولأن الأحكام إنما تنبني على ما عليه قدرة الناس باعتبار العادة، فإنما لا يبتني على ما يتصور من إقدار الله تعالى، ألا ترى أن من حلف وقال: والله لأمس السماء، فإنه يحنث في الحال لمكان العجز الثابت للحال باعتبار العادة ولا يعتبر ما يتصور من إقدار الله تعالى إياه فكذا هذا، والاستحالة عادة ثابتة ههنا، وباعتبارها تعذر القضاء بالبينتين على ما ذكرنا فبطلتا. ولو شهد شاهدان أنه قال: إن مت من مرضي هذا فأنت حر، وأنه مات من ذلك المرض، وشهد آخران أنه قال: إن برئت من ذلك المرض ففلان آخر حر، فقد ذكرنا هذه المسألة أعادها لزيادة تفريع لم نذكرها ثمة، وهو أن الورثة إذا قالوا: برئ من ذلك المرض عتق العبد المقر له من جميع المال، وعتق العبد المشهود له من ثلث ماله، لأنهم أقروا بعتق ذلك العبد في حالة الصحة من المولى والعتق في صحته ينفذ من جميع ماله، والشهود إنما شهدوا بعتق هذا العبد عند موته وأنه لا ينفذ إلا من في الثلث لأنه عتق بجهة التدبير، فإن لم يكن للميت مال غير العبدين وقيمة العبدين على السواء يسعى المعتق في المرض في ثلث قيمته، لأنه يجعل في حقه كأن المال هذان العبدان، وان ذلك العبد لم يعتق من جهة الميت؛ لأنه لا يعمل إقرار الورثة في حقه، فصار في حقه كأن الورثة أعتقوا ذلك العبد بعد موته، وإذا جعل في حقه كأن مال الميت هذان العبدان، ووجب اعتبار عتقه من الثلث وقيمتهما سواء كان الثلث ماله ثلثا رقبته لا محالة، فيعتق مجاناً ويسعى فيما سواه وهو الثلث. فإن قالت الورثة: مات من مرضه قبل أن يبرأ، فإنه يعتق هذا العبد المقر له من ثلث مال الميت بعد عتق الآخر؛ وعتق الآخر بشهادة الشهود من جميع المال، لأنه عتق المشهود لعتقه بالبرء من المرض بالبينة لخلوها عن المعارضة،

الفصل الثامن عشر: في ترجيح إحدى البينتين على الأخرى والعمل بالبينتين المضادتين

فإن البينة الأخرى لم تقبل لعدم شرط قبولها وهو الإنكار، والعتق في الصحة ينفذ من جميع المال، وإنما عتق الآخر بإقرار الوارث، وقد أقروا بعتقه في المرض، فيكون من ثلث مال الميت، وقد خرج العبد الأول من أن يكون مال الميت حتى قضى بعتقه في الصحة، فيعتبر ثلث ماله فيما سواه لنفاذ العتق فيه، حتى إن العبد المقر له يعتق ثلثه مجاناً ويسعى في ثلثي قيمته. قال: ولو أقام رجل البينة أن هذا الرجل قتل أباه منذ عشرين سنة، فأقامت امرأة البينة أنه تزوجها منذ خمس عشرة سنة، وأن هؤلاء ولده منها، استحسن أبو حنيفة رحمه الله في هذا أن أجاز بينة المرأة، وأثبت النسب وأبطل بينة الابن على القتل، والقياس: أن يقضي ببينة القتل، وقد مر هذا من قبل. وجه الاستحسان: أن الحكم بثبوت النسب لا يتصور نقضه، وإنه بعدما حكم به لا يبطل حكمه بالإبراء وغيره، ولا يعمل فيه التكذيب بخلاف القتل، فإن حكمه يبطل بالعفو وما أشبهه، وكذلك بتكذيب الولي ينتقض الحكم. وإذا ثبت هذا فنقول: النسب قد ثبت بنفس هذه الشهادة؛ لأنه يثبت بالشهرة عند الناس ولا يفتقر ثبوته عند الناس إلى قضاء القاضي، حتى حل لهم الشهادة بنسبه بمجرد السماع، فلو قبلنا بينة القتل لنقضنا النسب بعد ثبوته وإنه لا يجوز فلهذا لم تقبل بينة القتل، بخلاف ما لو لم تقم بينة على الولد، لأن النكاح مما يحتمل القطع بالطلاق وغيره، فإذا أمكن نقضه وقد قامت الحجة على انتقاض النكاح، وهو بينة القتل في وقت قبل وقت النكاح، قضي ببينة القتل وبطلب بينة النكاح لهذا، والله أعلم بالصواب.g الفصل الثامن عشر: في ترجيح إحدى البينتين على الأخرى والعمل بالبينتين المضادتين بشر عن أبي يوسف رحمهما الله: رجلان شهدا على رجل أنه وكل فلاناً ببيع هذا الشيء وشهد آخران على الوكيل ببيعه ووقتوا أو لم يوقتوا، فالبيع باطل إلا أن يوقت بينة البيع وقتاً بعد وقت الوكالة، فلو أن الموكل أخرج الوكيل من الوكالة وهو حاضر بشهادة شهود، فشهد شاهدان عليه بالبيع، وقد وقت بينة العزل وبينة البيع أو لم يوقتوا، فالإخراج عن الوكالة أولى في جميع ذلك، والبيع باطل إلا أن يكون وقت البيع قبل وقت الإخراج من الوكالة (144ب4) وكذلك هذا في التوكيل بالطلاق والعتاق، وهذا كله قياس الشهادة على البراءة والشهادة على الدين، فإن الشهادة على الإبراء أولى ما لم يوقتا للدين وقتاً بعد البراءة. ولو شهد شاهدان على النكاح وشاهدان على الطلاق فالطلاق لازم للزوج؛ لأنه إقرار من الزوج بالنكاح إلا أن يوقتوا للطلاق وقتاً قبل النكاح، فلا يجوز الطلاق، وكذلك العتاق في هذا مثل الطلاق، ما خلا خصلة واحدة: أن يكون بإقرار من المشتري

الفصل التاسع عشر: في شاهدي الزور

بعتاق الأصل فهذا يعتق، وإن كان قبل الشراء. رجل مات فشهد شاهدان أن هذا كان أعتق أعبده، أو شهدا أنه كان طلق امرأته ثلاثاً، لا يدرى أنه كان ذلك في صحة أو مرض وقد وقتوا أو لم يوقتوا فهذا على المرض في جميع ذلك، حتى (ولو) شهدا أنه كان في الصحة. شهد شاهدان على وكالة في بيع، وشهدا على البيع وأغفل القاضي أن يسألهما بعد الوكالة كان البيع أو قبلها حتى مات الشاهدان، أو شهدا على الوكالة بطلاق أو عتاق فشهدا بالطلاق والعتاق وماتا قبل السؤال، فهذا والباب الأول سواء في القياس، لكن أستحسن في هذا أن أجيز الطلاق والعتاق والبيع، ولو شهدا أنه جعل أمر امرأته بيدها فطلقت نفسها، وأغفل القاضي أن يسألهما في ذلك المجلس أو بعدما قامت من المجلس فإن هذا لا يجوز الطلاق فيه ولا نسبة الوكالة. ابن سماعة: عن أبي يوسف امرأة ادعت بعد وفاة زوجها مهراً ألف درهم وذلك مهر مثلها وقالت الورثة: نحن علمنا أن أبانا تزوجها ولا ندري ما فرض لها، وحلفوا بالله ما يعلمون مهرها، فإني أجعل لها الصداق عشرة دراهم، وهذه الرواية تشهد لما قاله بعض مشايخنا من تفسير المستنكر حداً على قول أبي يوسف رحمه الله: إن المراد منه أن يدعي الزوج أو ورثته أقل من عشرة دراهم. ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله: رجل ادعى على رجل ألف درهم ومئة دينار، فكانت الألف بصك وقد كتب عليه وكتب أنه لا شيء عليه غيرها، وكانت المئة دينار بصك قد كتب عليه وكتب له لا شيء عليه غيرها، والوقت واحد أو لا وقت فيهما فالمال كله لازم، قال: ألا ترى أنه لو قال: لي عليه ألف درهم ولا مال لي عليك غير ذلك، ولي عليه مئة دينار ولا مال لي عليه غير ذلك، وجعل على ذلك بينة إني أقبل البينة وألزمه المال كذا ههنا. وذكر عن المعلى قال: سألت محمداً عن رجل ادعى على رجل ألف درهم في صك، ومئة دينار في صك، وفي كل واحد من الصكين: فهو جميع مالي عليه، وأقام بينة على كل واحد من الصكين، قال: عليه أحد المالين يعطيه أيهما شاء، وروى هشام عنه: أنه لا يلزمه شيء من ذلك والله أعلم. الفصل التاسع عشر: في شاهدي الزور اتفق العلماء على أن شاهد الزور يعزر، لأنه ارتكب كبيرة، قال عليه السلام «عودلت شهادة الزور بالشرك بالله» ثم قرأ قوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان

واجتنبوا قول الزور} (الحج: 30) وليس فيها حد مقدر شرعاً وهذا ظاهر فكل من ارتكب كبيرة ليس فيها حد مقدر يعزر، غير أن أصحابنا رحمهم الله اختلفوا في تعزيره. قال أبو حنيفة رحمه الله في المشهور: يطاف به ويشهر ولا يضرب، فإن كان سوقياً يبعث به القاضي إلى أهل سوقه وقت الضحوة أجمع ما كانوا، وإن لم يكن سوقياً يبعث به إلى محلته أجمع ما كانوا، ويقول أمين القاضي: إن القاضي يقرئكم السلام ويقول: إنا وجدنا هذا شاهداً للزور فاحذروه وحذروه الناس. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يعزر بالضرب ولا يبلغ به أربعين سوطاً، ثم رجع أبو يوسف وقال: يبلغ خمسة وسبعين، حجتهما في ذلك: أنا أجمعنا على أن التعزير في سائر المعاصي بالضرب فكذلك هذا. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: إنما أقدم على الشهادة ليحصل له ماء الوجه عند الناس، وبالتشهير يذهب ماء وجهه، فكان هذا تعزيراً لائقاً لجريمته فكان أولى. وروى أبو يوسف ومحمد رحمهما الله عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يضرب ثم يطاف به ويشهر. وذكر الخصاف في كتابه: أنه يشهر على قولهما بعد الضرب أيضاً والكلام في مقدار الضرب في التعزير عرف في كتاب الحدود، ولا يسخم وجهه أي: لا يسود، يروى هذا اللفظ بالخاء والحاء جميعاً، فالذي روي عن عمر رضي الله عنه في «شاهد الزور يسخم وجهه» فتأويله عند شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أنه قال: ذلك بطريق السياسة إذا رأى الإمام المصلحة فيه، وتأويله عند شيخ الإسلام: أنه لم يرد به حقيقة التسويد إنما أراد به التخجيل بالتفضيح والتشهير، فإن الخجل سمي سوداً، قال الله تعالى: {إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً} (النحل: 58) . وإنما لم ير أصحابنا رحمهم الله تسخيم وجهه لأن المقصود من تعزيره شيئان: أحدهما: امتناعه عن شهادة الزور في المستقبل، والثاني: أن يعرفه الناس أنه شاهد زور فيحذروه، وإذا سخم وجهه لا يعرف فلا يحذروه فلا يحصل المقصود، قال صاحب «الأقضية» : وشاهد الزور عندنا المقر على نفسه بذلك، فيقول: كذبت فيما شهدت متعمداً، ويشهد بقتل رجل أو بموته، فيجيء المشهود بقتله وموته حياً، فأما من ردت شهادته لتهمة أو لدفع مضرة عن نفسه أو لجر منفعة إلى نفسه، أو لمخافة وقعت بين الشاهدين فليس شاهد زور. ثم ذكر في الشاهدين إذا اختلفا في الموطن الذي شهدا بالفعل فيه أو اختلفا في الفعل نفسه أو في الإنسان والإقرار في الفعل، قال أبو حنيفة رحمه الله: لا تعزير عليه ولا ضرب؛ لأنه لا يعرف الصادق من الكاذب، ولا يجوز إيجاب العقوبة مع الاحتمال. وإذا رجع شاهد الزور عن صنعه فتاب، هل تقبل شهادته بعد ذلك؟ فلا ذكر لهذه

الفصل العشرون: في الدعوى إذا خالف الشهادة

المسألة في شيء من الكتب، وحكي عن الفقيه أبي بكر محمد بن أحمد الحجراني رحمه الله أنه قال: إن كان فاسقاً يعلن الفسق لا تقبل شهادته بعد ذلك، وإن لم يكن معلناً تقبل شهادته. وفي «الحاوي» عن أبي يوسف رحمه الله مثل هذا، والمذكور في «الحاوي» شاهد هو عدل بين الناس ممن تجوز شهادته، فشهد بزور لا تقبل شهادته بعد ذلك؛ لأنه لا يعرف له توبة، وإن لم يكن عدلاً فشهد بزور تقبل شهادته والله أعلم. الفصل العشرون: في الدعوى إذا خالف الشهادة إذا ادعى على آخر مئة أقفزه حنطة بسبب سلم مستجمعاً شرائطه، وشهد الشهود أن المدعى عليه أقر أن له عليه مئة أقفزة حنطة ولم يزيدوا على هذا، فقد قيل: لا تقبل شهادتهم، لأن الشهود لم يذكروا إقراره بسبب السلم، ودين السلم بخلاف سائر الديون حتى لا يجوز الاستبدال بدين السلم قبل القبض، ويجوز الاستبدال بسائر الديون، وقيل: ينبغي أن تقبل شهادتهم، لأن هذا اختلاف في سبب الدين، إنما لا يمنع قبول الشهادة إذا لم يختلف الدين باختلاف السبب، ودين السلم مع دين آخر يختلفان إن كانت الدعوى بلفظ مرابحة والشهود شهدوا بلفظ التسبب. حكي عن شيخ الإسلام أبي الحسن السغدي رحمه الله: أن الشهادة لا تقبل لأنهما غيرا فيما شهد به الشهود لم يدخل تحت الدعوى، وقيل: ينبغي أن يقبل في عرفنا وهو الأشبه والأظهر؛ لأن في عرفنا البيت والدار واحد، يقال: خانة فلان كما يقال: سراي فلان. وإذا ادعى ملكاً بسبب حق الشراء من رجل آخر والإرث عن أبيه أو ما أشبه ذلك، وأقام البينة على الملك المطلق لا تقبل بينته لوجهين: أحدهما: أن الشهود شهدوا بأكثر مما ادعاه المدعي، لأن المدعي ادعى الملك بسبب حادث يكون حادثاً ضرورة، والشهود شهدوا بملك قديم؛ لأنهم شهدوا بالملك المطلق والملك المطلق قديم، ولهذا قلنا: إن في دعوى الملك يستحق العين بالزوائد المتصلة والمنفصلة جميعاً، ويرجع الباعة بعضهم على البعض، ولا شك أن الملك القديم أكثر من الملك الحادث، والشهود إذا شهدوا بأكثر مما ادعاه المدعي لا تقبل شهادتهم، لأن المدعي يصير مكذباً شهوده في بعض ما شهدوا به وهو الزيادة على ما ادعى، وتكذيب المدعي شهوده في بعض ما شهدوا به يمنع قبول الشهادة. الوجه الثاني: ما أشار إليه محمد رحمه الله في «الكتاب» فقال: لما ادعى أنه

اشتراها من فلان وهو يملكها فقد أقر بالملك لفلان إما صريحاً أو بمقتضى الإقدام على الشراء، فإن كل مشتر مقر بالملك في المشترى للمشتري وقت البيع، ثم يدعي الانتقال إليه، ولم يثبت الشراء ههنا؛ لأن الشهود لم يشهدوا به، وهذا إذا ادعى الشراء من رجل معروف. فأما إذا ادعى الشراء من رجل مجهول ثم أقام البينة على الملك المطلق تقبل شهادتهم؛ لأن أكثر ما فيه أنه صار مقراً بالملك لبائعه إلا أن هذا الإقرار منه لم يصح، لأنه أقر بالملك للمجهول والإقرار للمجهول باطل، فصار كأنه لم يقر له بالملك ولم يدع الشراء منه أصلاً، وهناك تقبل منه البينة على الكلام المطلق كذا ههنا، بخلاف ما إذا ادعى الشراء من رجل معروف؛ لأن هناك الإقرار للبائع بالملك صح لكونه إقراراً للمعلوم، ثم ادعى الانتقال إلى نفسه بالشراء ولم يثبت بالشراء إذ الشهود لم يشهدوا به، فلو كان المدعي ادعى الملك لنفسه مطلقاً، وشهد الشهود له بالسبب فالقاضي يقبل شهادتهم. أما على المعنى الأول: فلأن الشهود شهدوا بأقل مما ادعاه المدعي؛ لأنهم شهدوا بملك حادث والمدعي ادعى ملكا قديماً، والشاهد إذا شهد (145أ4) بأقل ما ادعى المدعي تقبل شهادته. يوضيح الفرق بينهما: أن الملك القديم يجوز أن يصير ملكاً حادثا؛ لأن المملوك أول من أمس يجوز أن يصير مملوكاً أمس ملكاً حادثاً بسبب حادث، بأن يبعيه ثم يشتريه، فالتوفيق بين الدعوى والشهادة ممكن فتقبل الشهادة، أما الملك الحادث فلا يجوز أن يصير ملكاً قديماً؛ لأن المملوك أمس لا يتصور أن يصير مملوكاً من أمس، فالتوفيق بين الدعوى والشهادة غير ممكن فلا تقبل الشهادة. وأما المعنى الثاني: فلأنه ما أقر بالملك لغيره، إنما ادعى الملك لنفسه ملكاً مطلقاً، والشهود شهدوا له بالملك إلا أنهم زادوا في الشهادة سبب الملك، وزيادة سبب الملك في الشهادة لا توجب خللاً في الشهادة، لأنا نعلم أنه لابد للملك من سبب فقد بينوا ما هو معلوم من غير شهادتهم، فلا يوجب خللاً في شهادتهم. ثم إذا ادعى الملك مطلقاً والشهود شهدوا بالملك بسبب، ينبغي للقاضي أن يسأل المدعي: أتدعى الملك بهذا السبب الذي شهد به الشهود أو تدعيه بسبب آخر؟ إن قال: أدعيه بهذا السبب فالقاضي يقبل شهادة شهوده ويقضي له بالملك. ولو ادعى الشراء مع القبض وشهد له الشهود بالملك المطلق ففيه اختلاف المشايخ: بعضهم قالوا: تقبل الشهادة؛ لأن دعوى الشراء مع القبض ليس دعوى الشراء من حيث المعنى، بل هو دعوى الملك المطلق، ألا ترى أنه لو كان هذه الدعوى من جهة البائع كان دعوى الثمن لا دعوى البيع، حتى لا يشترط لصحة هذه الدعوى إعلام المبيع حتى إن من قال لغيره: بعت منك عبداً بكذا وسلمته إليك، صح دعواه وإن كان العبد مجهولاً، فكذا من جانب المشتري يكون دعوى الملك المطلق، ولما كان دعوى الشراء

مع القبض دعوى الملك المطلق صار كأنه ادعى ملكاً مطلقاً وشهد له الشهود كذلك. وبعضهم قال: لا تقبل الشهادة؛ لأن دعوى الشراء معتبر في نفسه في هذه الصورة، ولم يصر بمنزلة دعوى الملك المطلق، ألا ترى أنه لا يقضى للمدعي في هذه الصورة بالزوائد. ولو ادعى الملك بالنتاج وشهد له الشهود بالملك بسبب من جهة صاحب اليد أو من جهة غيره، لا تقبل الشهادة، بخلاف ما إذا ادعى الملك مطلقاً وشهد له الشهود بالسبب، حيث تقبل، والفرق أن دعوى النتاج على دعوى اليد لا يحتمل دعوى ملك حادث من جهته، أو من جهة غيره إذ لا يتصور التملك بالنتاج من جهة غيره، ألا ترى أنه لا يصح أن يقول: هذا ملكي بالنتاج من جهة ذي اليد أو من جهة فلان، ولما كان هكذا، فإذا شهد له الشهود بالملك بسبب من جهة ذي اليد أو من غيره فقد شهدوا بما لم يدخل تحت دعوى المدعي فلا تقبل شهادتهم، فأما دعوى الملك المطلق على ذي اليد فيحتمل دعوى ملك حادث من جهة ذي اليد أو من غيره، ألا ترى أنه لو قال هذا الشيء لي بالشراء من فلان أو من ذي اليد كان صحيحاً، ولهذا ترجح بينة الخارج على بينة ذي اليد، ولما كان هكذا، فإذا شهد له الشهود بالملك بسبب من جهة ذي اليد فقد شهدوا بما صلح داخلاً تحت دعوى الملك، فلا تثبت المخالفة بين الدعوى والشهادة. وسئل شيخ الإسلام أبو الحسن السغدي رحمه الله: عمن ادعى عيناً في يدي إنسان ملكاً مطلقاً، وشهد له الشهود أنه ملكه بسبب أنه ورثه من أبيه، قال: لا تقبل الشهادة، فقيل له: إن محمداً رحمه الله ذكر في «الأصل» وفي «الجامع» أن من ادعى ملكاً مطلقاً وشهد الشهود له بالسبب أن الشهادة مقبولة، قال: هذا هكذا في موضع صحت الشهادة على السبب، والشهادة على السبب ههنا لم تصح، لأنهم شهدوا بالميراث ولم يجروا الميراث، ولكن هذا ليس بصواب، فإن قولهم: ورثه من أبيه، كاف لإثبات الملك بسبب الميراث كقولهم: اشتراه من فلان، وهو معنى جر الميراث، فكانت الشهادة على السبب صحيحة فيجب قبولها. ولو ادعى ديناً بسبب نحو القرض أو ما أشبهه، وشهد له الشهود بالدين المطلق، كان القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي يقول: لا تقبل شهادته، كما في العين إذا ادعى الملك فيه بسبب، وشهد الشهود له بالملك مطلقاً، وفي كتاب «الأقضية» مسألتان تدلان على القبول. وإذا ادعى على امرأة أنها منكوحة ولم يدع الزوج، فشهد له الشهود على أنه تزوجها، أو ادعى على امرأة أنه تزوجها، وشهد له الشهود أنها منكوحة قبلت الشهادة، لأن النكاح سبب متعين لصيرورة المرأة منكوحة، فكان ذكره وترك ذكره سواء. وإذا ادعى عيناً في يدي رجل أنه ملكه، وأن صاحب اليد قبضه مني بغير حق منذ شهر، وشهد له الشهود بالقبض مطلقاً لا تقبل الشهادة، واختلفت عبارة المشايخ في ذلك، قال بعضهم: لأن شهادتهم على القبض مطلقاً من غير ذكر تاريخ محمولة على

الحال، فالمدعي ادعى الفعل في زمان ماض، والشهود شهدوا على الفعل في الحال، والفعل في الزمان الماضي غير الفعل في الحال، فهو نظير ما لو ادعى على غيره الفعل منذ شهر، وشهد الشهود له بالفعل في الحال، وقال بعضهم: المطلق أكبر وأقوى من المؤرخ، والشهود شهدوا بأكثر مما ادعاه المدعي. وكذلك إذا ادعى المدعي القبض مطلقاً وشهد له الشهود بالقبض منذ سنة، لأنه ادعى الفعل في الحال والشهود شهدوا له بالفعل في الماضي، فلا تقبل شهادتهم، إلا إذا وفق المدعي وقال: أردت بالمطلق القبض من ذلك الوقت الذي شهد به الشهود فحينئذ تقبل، وقيل: تقبل الشهادة في هذا الوجه من غير توفيق المدعي؛ لأن المطلق أكبر وأقوى من المؤرخ فقد شهد الشهود بأقل مما ادعاه المدعي فيقبل. وإذا ادعى عيناً في يدي رجل وقال: هي لي منذ سنة، وشهد الشهود أنها له منذ عشر سنين، لا تقبل شهادتهم، ولو قال: هي لي منذ عشر سنين وشهد الشهود أنها له منذ سنة تقبل شهادتهم، لأن في الوجه الأول الشهود شهدوا بأكثر مما ادعاه المدعي، وفي الوجه الثاني شهدوا بأقل مما ادعاه المدعي. وإذا ادعى الملك بسبب الشراء منذ سنة وشهد الشهود له بالشراء من غير تاريخ، فقد قيل: لا تقبل لأن المطلق أقوى من المؤرخ، وقد قيل: تقبل لأن الشراء حادث فإذا لم يذكر الشهود له تاريخاً يحمل على الشراء للحال، فقد شهد الشهود بأقل مما ادعاه المدعي. ولو كان المدعي ادعى الملك بسبب الشراء مطلقاً، ولم يذكر التاريخ في الشراء، والشهود شهدوا بتاريخ سنة أو ما أشبه ذل، فقد قيل: لا تقبل؛ لأن دعوى المدعي محمول على الحال إذا لم يذكر للشراء تاريخاً، وإذا حمل على الحال ظهر أن الشهود شهدوا بأكثر مما ادعاه المدعي وقيل: تقبل لأن المطلق أقوى من المؤرخ، فقد شهدوا بأقل مما ادعاه المدعي فتقبل. وفي «الجامع الكبير» قال محمد رحمه الله: رجل في يديه عبد ذكر أنه عبده ورثه من أبيه، فادعى رجل آخر أنه عبده، وجاء بشاهدين شهدا على إقرار صاحب اليد أنه عبد المدعي، قبلت الشهادة وقضي بالعبد للمدعي، اعتباراً للإقرار الثابت بالبينة بالثابت عياناً. وإذا ادعى على رجل خمسمئة وشهد له الشهود بألف درهم، لا تقبل شهادتهم؛ لأنه صار مكذباً شهوده فيما زاد على الخمسمئة إلا أن يوفق فقال: كان له عليه ألف درهم كما شهد به الشهود إلا أنه قضى خمسمئة، أو قال: أبرأته عن خمسمئة ولم يعلم الشهود بذلك، فإذا وفق على هذا الوجه تقبل الشهادة ويقضي له بالخمسمئة لزوال التكذيب، ولا يحتاج إلى إقامة البينة على التوفيق؛ لأن التوفيق بدعوى الإبراء أو القضاء وكل ذلك يثبت بإقرار المدعي؛ لأنه إقرار على نفسه، فلا يحتاج إلى إقامة البينة عليه. وإذا ادعى الغريم على صاحب المال أنه أبرأه أو حلله، وجاء شهود شهدوا على

إقرار صاحب المال بالاستيفاء، فإن القاضي يسأل الغريم عن البراءة والتحليل، أكانت بالإسقاط أو بالاستيفاء، فإن قال: كانت بالاستيفاء قبلت الشهادة لوجود الموافقة بين الدعوى والشهادة، وإن قال: كان بالإسقاط لا تقبل لتحقق المخالفة. وإن سكت ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : أنه لا يجبر على البيان؛ لأن الإنسان لا يجبر على تحصيل حق نفسه، ولكن لا تقبل شهادته ما لم يوفق، فقد رجع في هذه المسألة في البيان إلى المدعي وفيما إذا ادعى الغريم الإيفاء وشهد له شاهدان أنه أبرأه أو حلله ذكر أنه تقبل شهادتهما ولم يقل: رجع في البيان الى الشاهدين إن البراءة كانت بالإيفاء أو بالاستيفاء. والفرق: أن الشهادة إنما شرعت لتحقيق دعوى المدعي، فإذا وقع الدعوى في شيء معين، فشهدت الشهود بشهادة محتملة حملت الشهادة على وجه الموافقة، إذ الظاهر أن الشهود بشهادتهم المحتملة يريدون الجهة التي تكون الشهادة بها مؤكدة للدعوى دون الجهة الأخرى فبقيت جهة الموافقة بدلالة الحال، فلا حاجة إلى الرجوع في البيان إلى الشاهد، فأما الدعوى إذا كانت محتملة، فالشهود لا يقدرون على إزالة ذلك الاحتمال، فيكون البيان إلى المدعي، فإن بيّن قبل قوله وما لا فلا، وههنا كلمات تأتي بعد إن شاء الله تعالى. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : شاهدان شهدا على رجل لرجل بقرض ألف (145ب4) درهم، فشهد أحدهما أنه قضاها، وقال المدعي: لم يقضها فالشهادة على القرض جائزة ويقضي القاضي بالقرض على المدعى عليه. وروى الطحاوي عن أصحابنا رحمهم الله: أنه لا يقضي القاضي بالقرض، لأن الذي شهد بالقضاء لم يشهد بمال واجب. وجه ما ذكر في «الجامع الصغير» : أن القضاء لا يتصور إلا بعد سابقة، فهما اتفقا على القرض والوجوب فثبت القرض والوجوب، ثم تفرد أحدهما بالقضاء ولم يثبت. وفي «الأصل» : إذا شهد شاهدان لرجل على رجل بألف درهم، فشهد أحدهما أنه قضى خمسمئة درهم منها وأنكر الطالب القبض، فإن شهادتهما بالألف جائزة، لاتفاقهما على ذلك، وشهادة الواحد بالقبض لا تقبل لتفرده بذلك، فإن قيل: أليس أن المدعي لما أنكر القضاء فقد أكذب أحد الشاهدين فوجب أن لا يقضى له بالألف كما لو شهد له أحد الشاهدين بمئة، والآخر بمئة وخمسين والمدعي يدعي المئة لم يقض له بشيء؛ لأنه كذب أحد شاهديه فكذا ههنا؟ قلنا: تكذيب المدعي شهوده إنما وجد فيما كان مشهوداً عليه؛ لأنه كذب أحدهما في القبض، وإنه في القبض مشهود عليه، وتكذيب المشهود عليه الشاهد لا يمنع قبول الشهادة، لأنه لو منع ما قبلت شهادة في الدنيا؛ لأن كل مشهود عليه يكذب شهوده، فإن قيل: تكذيب المشهود عليه إنما لا يمنع قبول الشهادة إذا شهد عليه ولم يشهد له، والشاهد يقبض بخمسمئة كما شهد عليه يشهد له، فإذا كذبه وفسقه فيما شهد عليه يجب أن لا تقبل شهادته فيما شهد له؛ لأنه فاسق عنده إلا أن يكذبه ويفسقه

فيما شهد عليه لم يعمل فوجب أن يعمل فيما شهد له والجواب: أن التكذيب فيما شهد له لو ثبت إنما يثبت مقتضى التكذيب فيما شهد عليه، وقد كذب شرعاً في حق التكذيب على ما عليه، على معنى أنه لم يعتبر تكذيبه فيما شهد عليه والمتكلم متى كذب في كلامه سقط اعتبار كلامه والتحق كلامه بالعدم، وإذا سقط اعتبار هذا التكذيب في حق ما عليه فكذا فيما له، أو تقول بعبارة أخرى: لم يعتبر تكذيبه فيما شهد عليه شرعاً؛ لأن تكذيب المشهود عليه الشاهد غير معتبر شرعاً، فلا يعتبر تكذيبه فيما ثبت مقتضاه وهو التكذيب فيما شهد له.b ولهذا قلنا: لو شهد شاهدان على رجل لرجل بألف درهم وشهدا للمشهود عليه بمئة دينار قبلت شهادتهما، وإن كذبهما وفسقهما؛ لأنه صار مكذباً في هذا التكذيب شرعاً لما قضي عليه بالدراهم، كذا ههنا بخلاف ما أقررتم من المسألة؛ لأن بدعوى المئة صار مكذباً أحد شاهديه، ولم يكذب في هذا التكذيب شرعاً فلم يسقط اعتبار تكذيبه أما ههنا فبخلافه. وفي آخر شهادات «المنتقى» : شهدا أن لهذا على هذا ألف درهم وقد أقضى منها مئة والطالب يقول: لم أقبض منها شيئاً، قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: يقضي بالألف ويجعل مقضياً للمئة. وفي «العيون» : إذا شهدا لرجلان على آخر بألف درهم وشهدا أنه قد قضاه خمسمئة وقال للطالب: لي عليه ألف وما قضاني شيئاً وشهودي صدقوا في الشهادة على الألف، وأوهموا في الشهادة على القضاء تقبل شهادتهما إن عدلاً ولو قال: شهادتهم بالألف حق وبالقضاء باطل وزور لا تقبل شهادتهما؛ لأنه نسبهما إلى الفسق. ولو شهدا على رجل بألف درهم، والمدعي يدعي ذلك وشهدا أيضاً للمدعى عليه على المدعي بمئة دينار والمدعي ينكر ذلك، قبلت شهادتهما وهي المسألة التي مرت على سبيل الاستشهاد، ثم يكذب المشهود له الشهود وتفسيقه إياهم قبل القضاء يمنع القضاء، وتكذيبه وتفسيقه بعد القضاء يوجب بطلان القضاء على ما عليه إشارات «الأصل» و «الجامع» وحكي عن القاضي أبي علي النسفي رحمه الله أنه لا يوجب بطلان القضاء، قال: لأن الفاسق ربما يكون صادقاً ولهذا يصلح شاهداً عندنا، فعلى اعتبار أنه كان صادقاً لا يجوز إبطال القضاء على اعتبار أنه كان كاذباً يجوز، فلا يجوز إبطال القضاء بالشك، فظن بعض مشايخنا أن ما ذكر القاضي الإمام مخالف لإشارات «الجامع» وليس كذلك؛ لأن المراد من إشارات «الجامع» بفسق تبني عن تكذيب المشهود له وإنه يوجب بطلان القضاء، كما يمنع جوازه، وما قاله القاضي الإمام محمول على نفس التفسيق، بأن يقول المشهود له: إنهم أكلوا ربا أو شربوا الخمر، لا تفسيق ينبني عن التكذيب، ونفس التفسيق يمنع القضاء، أما لا يبطل القضاء والله أعلم. نوع آخر: وإذا ادعى رجل جارية في يدي رجل وقال: هذه الجارية كانت لي وشهد الشهود أنها له هل تقبل هذه الشهادة؟ لا ذكر لهذه المسألة في الكتب، وقد اختلف

المشايخ فيه بعضهم قالوا: تقبل؛ لأن هذا الاختلاف لو وقع بين المدعي وبين الشاهدين على العكس، بأن ادعى المدعي أنها له وشهد الشهود أنها كانت له تقبل الشهادة فكذا ههنا، وكذلك لو وقع هذا الاختلاف بين الشاهدين، بأن ادعى أنها له وشهد أحد الشاهدين أنها له، وشهد الآخر أنها كانت له لم يمنع قبول الشهادة، فكذا إذا وقع بين المدعي والشاهدين. ومنهم من قال: لا تقبل وهو الأصح؛ لأن دعوة المدعي إنما كانت له إقرار منه دلالة أنه لا ملك له في الحال إذ لا فائدة للمدعي في الإسناد مع قيام الملك له في الحال سوى نفي الملك في الحال، وهذا لأنه كما لا يعلم ثبوت ملكه يقيناً يعلم بقاء ملكه يقيناً، فيكون دعواه الملك فيما مضى نفياً للملك في الحال حتى يكون الإسناد مفيداً، بخلاف الشاهد؛ لأن إسناده لا يدل على النفي للحال، لأن له فائدة سوى النفي في الحال، وهو أن يشهد بما عاين من سبب الملك بيقين، ولا يشهد ببقاء الملك في الحال؛ لأن بقاء الملك في حقه للحال ثابت باستصحاب الحال، والشاهد قد يحترز عن الشهادة بما ثبت عنده من استصحاب الحال، وعلى قياس ما قالوا يجب أن لا تقبل الشهادة، وإن شهدا أنها كانت للمدعي؛ لأن إسناد المدعي دليل على نفي الملك في الحال، فلو نفى المدعي الملك للحال، وشهد شاهدان أنها كانت له لا تقبل الشهادة كذا ههنا. وإذا شهد الشهود أن هذا العين كانت ملك المدعي والمدعي يدعي الملك في الحال تقبل شهادتهم؛ لأن شهادتهم تثبت الملك في زمان الماضي، وما عرف ثبوته في زمان يحكم ببقائه ما لم يوجد المزيل، ولا يقال بأن شهادة الشهود بالملك في الماضي دليل على نفي الملك في الحال لأنا نقول: هذا ممنوع. وبيانه ما ذكرنا: أن للشاهد في الإسناد فائدة أخرى سوى نفي الملك في الحال، ذكر المسألة في «الأقضية» . في «أدب القاضي» للخصاف في باب دعوة الرجلين، وعلى هذا إذا ادعى المدعي عيناً ملكاً مطلقاً فشهد الشهود له بسبب الملك، بأن شهدوا أن المدعي ورثها من أبيه، ولم يتعرضوا للحال بأن لم يقولوا: هو ملكه للحال، تقبل الشهادة ويقضى بالعين للمدعي. وكذلك إذا ادعى رجل نكاح امرأة بأن قال: هذه امرأتي أو قال: هذه منكوحتي والشهود شهدوا أنه كان زوجها، ولم يتعرضوا للحال بأن لم يقولوا: إنها منكوحته في الحال فالقاضي يقبل الشهادة، ولكن ينبغي للقاضي أن يسأل الشهود في مسألة الإرث، والشراء هل يعلمون أنها أخرجت عن ملكه؟ ومما يتصل بهذا النوع: إذا ادعى رجل داراً في يد رجل وجاء بشاهدين شهدا أن هذه الدار كانت في يد هذا المدعي لا تقبل هذه الشهادة، ولا يقضى للمدعي بشيء في ظاهر الرواية، وروى أصحاب «الأمالي» عن أبي يوسف رحمه الله: أن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة، ولو عاين القاضي هذه الدار في يد المدعي، ثم رآه بعد ذلك في

يد المدعى عليه، أو أقر المدعى عليه أن الدار كانت في يد هذا المدعي، أمره القاضي بالتسليم إلى المدعي كذا هنا، ولأن الشهود شهدوا بأخذ المدعي الدار من المدعي؛ لأنهم شهدوا أنها كانت في يد المدعي، وما كان في يد الإنسان لا يصير في يد غيره إلا بالأخذ منه، فصار الأخذ من المدعي مشهوداً به اقتضاءً، فيعتبر بما لو كان الأخذ مشهوداً به نصاً بأن قالوا: هذه الدار كانت في يد المدعي أخذها هذا منه وهناك يقضي بالدار للمدعي كذا ههنا. وجه «ظاهر الرواية» : أن يد المدعى عليه على العين الذي وقع فيه النزاع ثابتة بيقين ولم تثبت ببينة المدعي ما يوجب نقضها، وهو الأخذ من المدعي لا بنصّ الشهادة وهذا ظاهر؛ لأن الشهود لم يشهدوا أن المدعى عليه أخذها من المدعي، ولم يثبت ذلك أيضاً، مقتضى ما شهدوا به من كونها في يده أمس؛ لأنه لم يثبت كونها في يده أمس بهذه الشهادة؛ لأن المشهود به لا يثبت إلا بقضاء القاضي والقاضي لا يمكنه القضاء بكونها في يد المدعي؛ لأن كونه في يده محتمل أن يكون بحق بأن تكون يد ملك، ويحتمل أن تكون بغير حق بأن كان يد غصب فعلى أحد الاحتمالين يجوز القضاء، وعلى الاحتمال الآخر لا يجوز القضاء، فلا يجوز القضاء بالشك، ولأن قبول الشهادة على أمر (146أ4) في الماضي، باعتبار ما عرف ثبوته في الحال، والحكم ببقائه باعتبار استصحاب الحال، وذلك فيما لم يتيقن بزواله، وقد تيقن القاضي بزوال اليد ههنا، فإذا لم يقض القاضي بكونها في يده لم يثبت كونها في يده، فلا يثبت الأخذ منه. وقوله بأن الأخذ مشهود به على حسب ما قرر. قلنا: إنما يكون الأخذ مشهوداً به، إذا ثبتت اليد فيما مضى ولم (تثبت) بهذه الشهادة؛ لأن اليد محتملة، ولا يجوز القضاء بما هو محتمل على ما مر، وإذا لم تثبت اليد للمدعي بهذه الشهادة كيف يثبت الأخذ منه؟ بخلاف ما إذا شهدوا على إقرار المدعى عليه أنها كانت في يد المدعي، لأن الإقرار حجة تلزمه بنفسه لا تتوقف على قضاء القاضي، فتثبت يد المدعي بنفس الإقرار، ويثبت الأخذ من المدعي، أما البينة فلا تصير حجة إلا بالقضاء، والقضاء باليد فيما مضى مع الاحتمال، فلا يثبت الأخذ منه، أو نقول: إقرار ذي اليد صدق في حقه من كل وجه غير محتمل من الصدق والكذب، فوجب القضاء بالإقرار لا محالة، وما ثبت بالإقرار فهو كالثابت معاينة، ولو عاين القاضي إقرار المدعى عليه أنها كانت في يده أمس، يثبت أخذه من المدعي لا محالة، كذا ههنا. وبخلاف ما إذا عاين القاضي كونه في يد المدعي أمس هناك ثابت من غير قضاء، ومن ضرورته الأخذ منه، وبخلاف ما إذا شهدوا أنه أخذها من المدعي؛ لأن الأخذ هناك قد ثبت بنص الشهادة. أما هنا بخلافه وبخلاف ما إذا شهدوا أنه أخذها من المدعي؛ لأن الأخذ هناك قد ثبت بنص الشهادة. أما هاهنا بخلافه. وبخلاف ما إذا تنازع رجلان في دار، كل واحد يدعي أنها له وفي يديه، وأقاما البينة على أنها كانت في أيديهما، فإن القاضي يقضي بكون الدار في أيديهما للحال، مع

الاحتمال الذي ذكرنا؛ لأن هناك القاضي لم يتيقن بزوال يدهما، بخلاف ما إذا كانت في يد ثالث. وحقيقة الفقه في ذلك، وهو أن اليد إذا كانت ثابتة للغير بيقين، لا يجوز نقضها بحجة محتملة، فإذا كانت الدار في يد ثالث فاليد للمدعى عليه ثابتة بيقين، و (لا) حاجة إلى نقضها، ويد المدعي فيما مضى محتملة فلا يجوز نقض يد المدعى عليه الثابت بيد محتملة للمدعي فيما مضى، فأما إذا لم تكن الدار في يد ثالث، فليس في جعلها في أيدي المدعيين إبطال يد ثابتة بيقين، فكان القضاء بكونها في أيديهما، وقد قام لهما نوع دليل أولى من جعلها في يد الغير وليس عليه دليل. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: في أجمة أو غيضة تنازع فريقان، كل فريق يدعي أنها له وفي يده، فشهد الشهود لأحد الفريقين أنها في يده، أو شهدوا لهما أنها في أيديهما فإن لم يسألهم القاضي عن تفسير ذلك، ولم يزيدوا عليه فهو مستقيم، وإن سألهم عن تفسير ذلك فهو أوثق وأحسن، وهذا لأن اليد على الأجمة إنما تعرف بالدليل، وعسى يرى الشاهد شيئاً يظنه دليلاً على اليد، ولا يكون دليلاً، فإن سأله ليزول الاشتباه فهو أحسن، وإن لم يسأله واكتفى به فله ذلك، لأن السؤال عسى يفضي إلى بطلان الشهادة مع كون الشاهد محقاً، ألا ترى أن الشهود لو شهدوا بالملك المطلق في العين أو الدين، وقضى القاضي بشهادتهم من غير أن يسألهم عن تفسير ذلك جاز، كذا ههنا. ثم بيَّن ما تُعرف به اليد على الغيضة والأجمة فقال في الغيضة: إذا كان يقطعون الأشجار ويبيعونها، أو ينتفعون بها منفعة أقرب من هذا أو ما أشبهه، فهذا مما يستدل به على أنها في أيديهم، وقال في الأجمة: إذا كانوا يأخذون القصب ويقطعونها للصرف إلى حوائج أنفسهم أو للبيع أو ما أشبهه، فهذا مما يستدل به على أنها في أيديهم، وهذا لأن اليد في عرف لسان الفقهاء القدرة على التصرف من حيث الآلة واليد التي هي دليل الملك والقدرة على التصرفات التي تختص بالملك، يعني به: الانتفاع المطلوب من العين من غير منازع، فإذا شاهدنا قدرته على الانتفاع بالعين انتفاعاً بطلت من ذلك العين علمنا أن اليد الذي هو دليل الملك ثابت في حقه. إذا ثبت هذا فنقول: الانتفاع المطلوب من الأجمة والغيضة الحطب والقصب لا الزراعة والسكنى، فإذا شاهدناهم يقطعون الشجر والقصب، ويصرفونه إلى حاجة أو يبيعونه أو ما أشبه ذلك من غير منازع، علمنا أن اليد الذي هو دليل الملك ثابت في حقهم. قال محمد رحمه الله: وإذا تنازع الرجلان في دار، كل واحد منهما يدعي أنها في يده، فأقام أحدهما بيِّنة أنهم رأوا دابته في هذه الدار، ورأوا غلمانه يدخلونها ويخرجون منها، فالقاضي لا يقضي بيد الذي شهد له الشهود بما وصفنا حتى يقولوا: كانوا سكاناً فيها، وإذا قالوا ذلك قضيت بأنها في يد صاحب الغلمان والدواب، وهذا لما ذكرنا أن

الفصل الحادي والعشرون: في الاختلاف الواقع بين الشاهدين

العبرة في هذا الباب القدرة على الانتفاع بما هو المطلوب من العين، والدار لا تتخذ لدخول الغلمان وخروجهم منها ولربط الدواب فيها، وإنما تتخذ للسكنى فيها، فما لم يشهدوا بذلك لم يشهدوا باليد عليها والله اعلم. الفصل الحادي والعشرون: في الاختلاف الواقع بين الشاهدين قال محمد رحمه الله في كتاب الغَصْب: وإذا ادعى رجل جارية في يدي رجل، وجاء بشاهدين شهد أحدهما أنها جاريته غصبها منه هذا، وشهد الآخر أنها جاريته، ولم يقل غصبها منه هذا قبلت شهادتهما لأنهما شهدا جمعاً بمطلق الملك إلا أن أحدهما (شهد) أنها جاريته، وشهد الآخر أنها كانت جاريته تقبل هذه الشهادة أيضاً ويقضى بالجارية للمدعي؛ لأنهما اتفقا على الملك له في الحال، لأن أحدهما شهد أنها له وهذا اللفظ للحال، والآخر شهد أنها كانت له، وما ثبت للمشهود له من الملك يبقى إلى أن يوجد المزيل، فقد اتفقا على الحال من هذا الوجه فتقبل شهادتهما. وهذا بخلاف ما لو شهد أحدهما أنها كانت في يده، وشهد الآخر أنها في يده، فإنه لا تقبل هذه الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله، وقد شهدا له باليد في الحال. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في الرجل يشهد له الشاهدان على رجل بمال فشهد أحدهما على ألف وخمسمئة، والمدعي يدعي الألف، فشهادة الذي شهد بالألف والخمسمئة باطلة، يجب أن يعلم بأن موافقة الشاهدين فيما شهدا به شرط جواز القضاء بشهادتهما، لأن القضاء إنما يجوز بالحجة، والحجة شهادة المثنى، فيما لم يتفقا على ما شهدا به لا توجد الحجة وهي شهادة المثنى، وبدون الحجة لا يقطع الحكم، وإذا ثبت أن الموافقة شرط كانت المخالفة مانعة للقبول. فبعد ذلك نقول: إن كانت المخالفة بينهما في اللفظ دون المعنى تقبل الشهادة، وذلك نحو أن يشهد أحدهما على الهبة والآخر على العطية، وهذا لأن نفس اللفظ ليس بمقصود في الشهادة، بل المقصود ما تضمنه اللفظ، وهو ما صار اللفظ علماً عليه، فإذا وجدت الموافقة في ذلك لا تصير المخالفة فيما سواها. جئنا إلى بيان حكم المسألة فنقول: لايخلو، إما أن يدعي المدعي أقل المالين ألف درهم أو يدعي أكثرهما ألفاً وخمسمئة، فإن ادعى أكثر المالين تقبل شهادتهما على الألف؛ لأنهما اتفقا على الألف لفظاً ومعنى، إلا أن أحدهما عطف عليه زيادة، فتقبل شهادتهما على ما اتفقا عليه وهو الألف، وانتفت الزيادة لتفرد أحد الشاهدين بها، وإن ادعى أقل المالين لا يقضى بشهادتهما أصلاً، لأن المدعي صار مكذِّباً أحد شاهديه، وهو الذي شهد بالأكثر، فلم يبق له إلا شاهد واحد فلا يقضى بهذه الشهادة إلا إذا وافق المدعي، فقال: كان لي على هذا المدعى عليه ألف وخمسمئة كما شهد به هذا الشاهد،

إلا أنه قضاني خمسمئة ولم يعلم هذا الشاهد به، فإذا وافق على هذا الوجه يزول التكذيب، ويقضى بشهادتهما. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل ادعى على رجل ألف درهم، فشهد له شاهد بألف درهم، وشهد آخر بألف وخمسمئة فالقاضي يسأل المدعي: أكان لك عليه في الابتداء ألف وخمسمئة واستوفيت خمسمئة، أو أبرأته عن خمسمئة أو لم يكن لك عليه من الابتداء ألف درهم؟ ويبنى الحكم على قوله، وعلى هذا إذا شهد أحدهما بمئة وخمسين، إن كان المدعي يدعي مئة لا تقبل الشهادة أصلاً، وإن كان يدعي مئة وخمسين تقبل الشهادة على مئة، وأما إذا شهد أحدهما بألف والآخر بألفين، أو شهد أحدهما بمئة والآخر بمئتين، والمدعي يدعي أكثر المالين لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله أصلاً، وعندهما تقبل على الأول وهو الألف، وإذا شهد أحدهما بتطليقة والآخر بتطليقتين فهو على هذا الخلاف أيضاً. فوجه قولهم: أنهما اتفقا على الأقل (146ب4) لأن الذي شهد بالألفين وبالمئتين وبالتطليقتين شاهد بالألف وبالمئة وبالطلقة، لأن في الألفين ألف وفي المئتين مئة وفي الطلقتين طلقة لا محالة، فهو معنى قولنا: اتفقا على الأقل فتقبل الشهادة على الأقل كما في المسائل المتقدمة، وكما في تطليقة ونصف تطليقة، أو تطليقة وتطليقة، ولأبي حنيفة أنهما اختلفا لفظاً ومعنى، أما لفظاً فظاهر؛ لأن لفظ الألفين غير لفظ الألف، فكذا لفظ المئتين غير لفظ المئة، وأما معنى؛ فإن ما يراد بالمثنى غير ما يراد بالواحد، وإذا ثبت الاختلاف لفظاً ومعنى لا يثبت واحد منهما، إذ ليس في كل واحد منهما إلا شاهد واحد، وقوله: بأن الألف في الألفين والمئة في المئتين قلنا: نعم إذا ثبت الألفان والمئتان ولم يثبت ههنا، لأنه لم يقم عليه إلا شاهد واحد، ولو شهد أحدهما بخمسة وعشرين وشهد الآخر بعشرين، والمدعي يدعي خمسة وعشرين، تقبل الشهادة على عشرين. فرق أبو حنيفة رحمه الله بين هذا وبينما إذا شهد أحدهما بخمسة عشر والآخر بعشرة والمدعي يدعي خمسة عشر، حيث لا تقبل الشهادة عنده أصلاً، والفرق أن خمسة عشر اسم واحد، وإنه غير العشرة لفظاً ومعنى، فلم يتفقا على أقل المالين لفظاً ومعنى، فأما الخمسة والعشرون فاسمان مختلفان، ألا ترى كيف عطف أحدهما على الآخر، والعطف يقتضي المغايرة، فاتفقا على أقل المالين، فجاز أن يقضي بشهادتهما بالأقل. وإذا شهد شاهدان لرجل على رجل بألف درهم إلا أن أحدهما قال: إنه سود، وقال الآخر: بيض، وللبيض فضل على السود، فإن كان المدعي يدعي السود لا تقبل شهادتهما أصلاً، لأنه ادعى أقل المالين فصار مكذباً الشاهد الذي شهد بالبيض، فلا تقبل شهادتهما إلا أن يوفق المدعي فيقول: كان لي عليه بيض كما شهد به هذا الشاهد إلا أني أبرأته عن صفة الجودة، وعلم به ذلك الشاهد ولم يعلم به هذا الشاهد، فإذا وفق على هذا الوجه تقبل شهادتهما على السود لأنه زال التكذيب، وإن كان يدعي البيض تقبل

شهادتهما على السود؛ لأنهما اتفقا على الأقل لفظاً ومعنى، ولم يصر المدعي مكذباً أحدهما، فلابد من قبول شهادتهما على ما اتفقا عليه. وكذلك هذا الحكم في جميع المواضع في الجنس الواحد إذا اتفقا على قدر أو وصف، واختلفا فيما زاد على ذلك تقبل الشهادة فيما اتفقا عليه إن ادعى المدعي أفضلهما، وإن ادعى أقلهما لا تقبل شهادتهما إذا اختلفا، كيف ما اختلفا، بأن شهد أحدهما مثلاً على كر حنطة والآخر على كر شعير؛ لأن الشعير غير الحنطة، فلم يتفقا على شيء واحد، إنما على الحنطة شاهد واحد وعلى الشعير كذلك، ولا يقضى بشهادة الفرد في موضع ما. وإذا شهد أحدهما بتطليقة بائنة، وشهد الآخر بثلاث تطليقات، فهي تطليقة واحدة يملك الرجعة عندهما، لأن الشاهدين اتفقا على تطليقة واحدة فيثبت ما اتفقا عليه، ثم اختلفا في صفة هذه التطليقة، شهد شاهد الثلاثة بهذه الطلقة خالية عن صفة البينونة؛ لأن صريح الطلاق لا يفيد البينونة للحال، وإذا أوجد الثلاث فالبينونة مضافة الى الطلقة الأخيرة، ولم يقض بالطلقة الأخيرة بعد، والشاهد الآخر شهد بكونها بائنة، فقد شهدا بأصل هذه الطلقة، وتفرد أحدهما بصفة البينونة فلم تثبت صفة البينونة، وصريح الطلاق العاري عن صفة البينونة يكون رجعياً. ولو شهد ثلاثة، شهد أحدهم بتطليقة واحدة، وشهد آخر بتطليقتين، وشهد آخر بثلاث تطليقات، وقد دخل بها فهي طالق ثلاثاً، لأن الشاهد بالثلاث والشاهد بالطلقتين اتفقا على الطلقتين، فيقضى بوقوع ما اتفقا عليه، فيقع تطليقتان بقي الشاهد بالثلاث شاهداً بتطليقة أخرى، وقد انضم إلى شهادته شهادة الذي شهد أولاً بتطليقة، فتقع هذه الطلقة بشهادتهما أيضاً فتقع ثلاث تطليقات لهذا، وإن كان لم يدخل بها تقع تطليقتان، لأنا لمّا قضينا بوقوع التطليقتين فقد بانت منه، ولا يتصور وقوع تطليقة أخرى بعد ذلك، فلهذا قال: تقع تطليقتان. قال في كتاب «الأقضية» : وإذا شهد شاهدان على إقرار رجل بدين أو قتل أو براءة من مال أو كفالة بمال أو بنفس، أو حوالة أو ما أشبه ذلك واختلفا في الساعات والأيام والشهور والسنين والبلدان، فالشهادة مقبولة فلا يضرهما هذا الاختلاف. يجب أن يعلم بأن الشاهدين إذا اتفقا على المشهود به، لكنهما اختلفا في الزمان والمكان، فإن كان المشهود به فعلاً لا تقبل شهادتهما؛ لأن الفعل في زمان أو مكان غير الفعل في زمان ومكان آخر، فقد اختلف المشهود به، واختلافهما في المشهود به يمنع القضاء بشهادتهما، وإن كان المشهود به قولاً فإن كان قولاً يستغني صحته عن الفعل نحو الإقرار وما أشبهه فإن كان هذا القول مما كان صيغته الإنشاء والإقرار فيه واحد كالبيع والطلاق، فإنه يقول في الإنشاء: بعت وطلقت وكذلك في الإقرار تقول: طلقت وبعت فإذا اختلفا في الزمان والمكان فيه لا يمنع ذلك قبول شهادتهما؛ لأن الإقرار يعاد ويكرر وكان الثاني عين الأول فلم يختلف المشهود به باختلاف المكان أو الزمان، وكذلك في

البيع والطلاق وما أشبهه، لأن الثاني يكون إقراراً بما سبق منه من الإنشاء والمقرّ به ليس غير الأول فأمكن القضاء به بشهادتهما، فأما إذا كانت صيغة الإنشاء والإقرار به مختلفاً، نحو القذف فإنه يقول في إنشاء القذف: يا زاني، وفي الإقرار يقول: قذفت فلاناً بالزنا، فإذا اختلف الشاهدان في الزمان أو المكان فيه لا تقبل شهادتهما عند أبي يوسف ومحمد لما تبين.t وإن كان المشهود به قولاً كان الفعل شرطاً لصحته كالنكاح، فإنه قول ولكن حضور الشاهدين شرط صحته، وإنه فعل، فإذا اختلف الشاهدان في الأوقات والأماكن فيه، لا يقضي بشهادتهما، لأنه لما لم يتصور وجود النكاح الصحيح إلا بوجود الفعل كان اختلافهما في الزمان والمكان فيه نظير اختلافهما في الزمان والمكان، فيما إذا كان المشهود به فعلاً؛ وقد ذكرنا ثمة أنه لا يجوز القضاء بشهادتهما كذا ههنا. وإن كان المشهود به فعلاً واختلفا في آلة ذلك الفعل، بأن شهدا بالقتل، غير أن أحدهما شهد بالقتل بالعصا، وشهد الآخر بالقتل بالسيف لا تقبل شهادتهما، لأن المشهود به مختلف، فالقتل بالعصا غير القتل بالسيف حقيقةً وحكماً، واختلافهما في المشهود به يمنع القضاء بشهادتهما. إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسألة فنقول: إذا شهد شاهدان على إقرار الرجل بدين أو قتل أو براءة من مال أو كفالة بمال أو بنفس وأمثالها، واختلفا في الساعات والأيام والشهور والسنين والبلدان، تقبل شهادتهما؛ لأن الإقرار مما يعاد ويكرر، ويكون الثاني عين الأول، فلم يختلف المشهود به فتقبل شهادتهما، وكذلك إذا شهدا بالبيع واختلفا في الزمان والمكان، قبلت شهادتهما لما ذكرنا، وكذلك إذا شهد أحدهما بالبيع والآخر على الإقرار بالبيع تقبل؛ لأن لفظ الإقرار والإنشاء في البيع سواء، لأنه يقول في الإنشاء: بعت، وكذلك يقول في الإقرار: بعت فلم يختلف المشهود به، فلا يمنع ذلك صحة الشهادة والقضاء بها. وفي «المنتقى» : إذا شهد شاهدان على الإقرار بالمال، واختلفا في المكان والأيام إنَّ على قول أبي حنيفة رحمه الله الشهادة مقبولة، قال أبو يوسف رحمه الله: (هذا) قياس، لكني أستحسن فأبطل الشهادة بالتهمة ولكثرة الشهادات بالزور، فإن قيل: أليس أن القرض فعل؛ لأنه إنما يتم الإقراض ويجب عليه ضمانه بالقبض، فصار كما لو شهد أحدهما على الفعل والآخر على الإقرار به، وثمة لا تقبل؟ قلنا: (147أ4) ليس كذلك بل القرض قول؛ لأن المستقرض إنما يصير مملوكاً للمستقرض، ويباح له التصرف بالقول وهو قوله: أقرضت، فإن المقرض وإن سلم إليه الدراهم وقبض لا يصير مضموناً عليه ولا يملك التصرف فيه ما لم يقل أقرضت، فعرفنا أن الإقراض قول، وصيغة الإنشاء والإقرار فيه سواء، لأنه يقول في الإقرار: استقرضت، كما يقول في الإنشاء، فلم يكن المشهود به مختلفاً فلا يمنع قبول الشهادة. قال محمد رحمه الله في كتاب الرهن: وإذا شهد شاهدان على الرهن ومعاينة

القبض، واختلتفا في الزمان أو في المكان، فاعلم بأنه وقع في بعض رهن «الأصل» أن الشهادة مقبولة ولم يذكر فيه خلافاً ووقع في بعضها أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تقبل هذه الشهادة، وعلى قول محمد رحمه الله لا تقبل، وذكر في شهادات «الأصل» : أن هذه الشهادة لا تقبل عند محمد رحمه الله، وهو القياس وعلى هذا الاختلاف، الهبة والصدقة والقبض في البيع الفاسد. وإن شهدا على الإقرار بالقبض واختلفا في الزمان والمكان، تقبل الشهادة بلا خلاف، حجة محمد رحمه الله ظاهر أن هذه شهادة قامت على الفعل وهو القبض، فاختلاف الشهود في المكان والزمان يمنع قبولها قياساً على القتل والغصب، بخلاف ما إذا شهدا على الإقرار بالقبض لأن هناك الشهادة قامت على القول وهو الإقرار ولهما طريقان، أحدهما: يخص مسألة الرهن، والثاني: يعم المسائل. أما الذي يخص الرهن؛ لأن الشهادة قامت على ما يعاد ويكرر فاختلاف الشهود من حيث الزمان والمكان لا يمنع قبولها قياساً على ما لو قامت على القول، بيانه: أن القبض في باب الرهن مما يعاد ويكرر في زمن واحد، فإن المرتهن قد يعدّ الرهن من الراهن، أو يغصب منه الراهن، ويبقى الرهن على حاله، فيعيد المرتهن القبض مرة أخرى، ويكون القبض الثاني عين الأول من حيث الحكم؛ لأنه لا يعيد من الحكم، وهو الضمان إلا ما أوجبه القبض الأول حتى إذا كان بقيمة الرهن وفاء بالدين وقت القبض الثاني إذا هلك يهلك بالدين، وكذلك إذا لم يكن بقيمته وفاء وقت القبض الأول وصار بقيمتها وفاء وقت القبض الثاني، إذا هلك يعتبر قيمته يوم القبض الأول، فكان كالقول من هذا الوجه بخلاف القتل، فإنه لا يتكرر في شخص واحد والغصب إن كان يتكرر، إلا أن الثاني غير الأول حقيقة وحكماً؛ لأنه لا يفيد حكماً آخر غير الأول، ألا ترى أنه لو ازداد قيمته بعد الغصب الأول فإنه يضمن الزيادة بالغصب الثاني وههنا بخلافه، ولكن هذه الطريقة لا تخرج عليها الهبة والصدقة، فإن القبض الأول أفاد الملك، والثاني لا يفيد الملك. والطريقة الثانية: أن القبض وإن كان فعلاً من حيث الحقيقة فهو قول حكماً؛ لأن القبض في هذه العقود إنما يفيد حكمه باعتبار العقد المتقدم، فإن العقد المتقدم إذا كان هبة أو صدقة أفاد القبض الملك وإذا كان رهناً صار مضموناً بأقل من قيمته ومن الدين، وإنما تثبت هذه الأحكام بالقبض بسبب العقد المتقدم، لولا العقد المتقدم لصار غاصباً بهذا القبض، فكان الفعل في هذه المسائل تبعاً للعقد؛ لأن ما يبنى على الشيء يكون تبعاً له، وحكم البيع حكم المبيوع فيصير في حكم القول من هذا الوجه، بخلاف القتل والغصب لأن ثبوت حكمهما ما كان باعتبار القول، حتى يجعل في حكم القول تبعاً للقول. قال في كتاب الطلاق: إذا شهد أحد الشاهدين أنه طلقها يوم الخميس واحدة، وشهد الآخر أنه طلقها يوم الجمعة واحدة، أو شهد أحدهما أنه طلقها واحدة في

رمضان، وشهد آخر أنه طلقها في شوال، تقبل هذه الشهادة؛ لأن الطلاق قول، والقول مما يعاد ويكرر، وصيغة الإنشاء والإقرار فيه واحد، فيكون الثاني عين الأول، فلم يوجب اختلافهما في الزمان اختلاف المشهود به، فلا يمنع ذلك قبول شهادتهما. ولو شهد أحدهما أنه طلق امرأته يوم النحر بمكة، وشهد الآخر أنه طلقها في يوم النحر من ذلك العام بكوفة، لا تقبل شهادتهما لا لاختلاف المكان فقد ذكرنا أنه لا يمنع قبول الشهادة في الطلاق، ولكن لأن القاضي قد تيقن (كذب) أحد الفريقين، فإن الشخص الواحد لا يكون بمكة وكوفة في يوم واحد على مجرى العادة. ولو شهدا على يومين متفرقين، وبينهما قدر سير الراكب من كوفة إلى مكة قبلت شهادتهما لجواز أن يكون في هذين اليومين في كلا الموضعين، فلم يبق إلا اختلاف الشهود في المكان، وإنه لا يمنع قبول الشهادة في الأقوال كما قررنا، وصار هذا كما إذا قال أحدهما: طلقها في يوم الجمعة في داره، وقال الآخر: طلقها في هذا اليوم في بيته فإنه يقبل هذه الشهادة لما ذكرنا، كذا هذا. قال في «الأصل» : وإذا شهد أحد الشاهدين أنه تزوج فلانة يوم الجمعة، وشهد الآخر أنه تزوجها يوم الخميس لا تقبل هذه الشهادة، وكذلك إذا اختلفا في المكان أو في الإنشاء والإقرار، لأن النكاح وإن كان قولاً إلا أنه يتضمن فعلاً وهو إحضار الشهود، فكان بمنزلة الفعل من حيث إنه لا صحة له بالفعل، واختلاف الشهود في المكان والزمان والإنشاء والإقرار في الأفعال يمنع قبول الشهادة. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف في شاهدين قال أحدهما: أشهدني هذا منذ عشرين سنة أنه زوجه أمته هذه، وشهد الآخر أنه أشهدني منذ أحد عشر سنة أنه زوجه أمته هذه، فالشهادة باطلة إذا لم يشهد على العقد رجلان. وإن قال: أشهدني منذ عشرين سنة ومعي غيري، وقال الآخر: أشهدني منذ أحد عشر سنة ومعي غيري فالشهادة جائزة. وقد ذكر في المسألة المتقدمة وهي مسألة «الأصل» : أن الشاهدين إذا اختلفا في النكاح في الأيام لا تقبل شهادتهما، ولم يفصل الجواب فيها على هذا التفصيل وههنا فصل، فإن كانت تلك الرواية محمولة على هذا التفصيل، فليس بينهما اختلاف، وإن كانت مطلقة من غير تفصيل كان فيه اختلاف الروايتين. فوجه هذه الرواية: أنه إذا قال كل واحد منهما: ومعي غيري، فقد شهدا بنكاح صحيح عُلِمَ، إلا اختلافهما في الأزمان، والنكاح قول واختلاف الشهود في الزمان في الأقوال لا يمنع قبول الشهادة، كما إذا شهدا بالبيع واختلفا في الزمان، بخلاف ما إذا لم يقولا: كان معنا غيرنا؛ لأنه لما ثبت حضرة غيرهما فقد شهد كل واحد منهما على نكاح لم يحضره إلا واحد، وإنه فاسد، والقاضي لا يقضي بالنكاح الفاسد فلا يسمع البينة عليه، فلهذا لا تقبل شهادتهما. وجه رواية «الأصل» : أن النكاح إن كان قولاً ولكن شرط صحته بالفعل، وهو حضرة الشهود، فمنع الاختلاف فيه قبول الشهادة، كما لو شهدا بالفعل كالغصب ونحوه،

واختلفا في الزمان، وهذا لأن اختلافهما في الزمان في الفعل إنما منع قبول الشهادة؛ لأنه يوجب اختلاف المشهود به؛ لأن الفعل لا يعاد ولا يكرر، فكان الموجود في الزمان الثاني غير الموجود في الزمان الأول، بخلاف القول فإنه يعاد ويكرر، فكان الموجود في الزمان الثاني غير الأول، فلم يختلف المشهود به، فإذا كان قولاً شرط صحته الفعل، ولا وجود له على صفة الصحة بدون ذلك الفعل يصير مختلفاً لاختلاف الفعل ضرورة، فاختلاف الزمان يوجب اختلاف الفعل، فوجب اختلاف هذا القول فاختلف المشهود به، فلا تقبل شهادتهما. قال في كتاب الحدود: إذا شهد أحد الشاهدين على القذف، والآخر على الإقرار بالقذف لا تقبل الشهادة وهذا بلا خلاف. ولو اتفقا على القذف واختلفا في الزمان أو المكان، قال أبو حنيفة رحمه الله: تقبل هذه الشهادة ويقضي على القاذف بالحد، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا تقبل هذه الشهادة، فوجه قولهما: أن المشهود به إن كان متَّحداً باعتبار الإعادة والتكرار لأن المشهود به كلام، والكلام مما يعاد ويكرر، ويكون الثاني غير الأول فهو مختلف من حيث الحقيقة، لأن تكلمه بالقذف يوم الجمعة غير تكلمه بالقذف يوم السبت حقيقة، فباعتبار الحقيقة تثبت شبهة البينة في المشهود به، والشبهة في باب الحد كالحقيقة. والدليل عليه أنه لو شهد أحدهما بالقذف بالعربية، وشهد الآخر بالقذف بالفارسية لا تقبل الشهادة وإن اتحد المشهود به من حيث المعنى باعتبار الإعادة والتكرار في الكلام، لأن الكلام قد يكون بلغتين (147ب4) مختلفتين ويراد بالثاني عين الأول إلا أنهما اختلفا من حيث الحقيقة، فتثبت شبهة البينة باعتبار الحقيقة، والدليل عليه أنه إذا شهد أحدهما بالإقرار والآخر بالإنشاء لا تقبل الشهادة، وإن اتحد المشهود به باعتبار المعنى كذا ههنا، وأبو حنيفة رحمه الله يقول: بأن في حد القذف حق الله تعالى، وحق العبد، وشبهة البينة لا تمنع القضاء بما هو خالص حق العبد متى يثبت الاتحاد من حيث المعنى، كما في الطلاق والعتاق والبيع ويمنع القضاء بما هو خالص حق الله تعالى من الحدود، فيوفر على الشبهين حظهما، فنقول: متى ثبت الاتحاد في المشهود به من وجهين وثبتت البينة من وجه واحد، فإنه يجب القضاء عملاً بحق العبد، ومتى ثبتت البينة في المشهود به من وجهين، وثبت الاتحاد من وجه واحد، فإنه لا يجب القضاء عملاً بحق الله تعالى، وفيما تنازعنا فيه الاتحاد في المشهود به ثابت، من وجهين من حيث المعنى باعتبار الإعادة والتكرار باعتبار اللفظ والصيغة، وهو كلمة القذف، فانه قال في الوقتين جميعاً: يا زاني وإنها تثبت البينة من وجه واحد من حيث الحقيقة، فإن تكلمه يوم الجمعة بهذه الكلمة غير تكلمه بها يوم السبت، وبثبوت البينة من وجه لا يمنع القضاء لما فيه من حق العبد، فأما في الفارسية غير تكلمه بالعربية، فإنما ثبت الاتحاد من وجه واحد باعتبار الإعادة والتكرار، فيرجح جانب البينة فامتنع القضاء بحق الله تعالى؛ لأن معظم الحق في هذا الحد لله تعالى، فكذلك في الإنشاء والإقرار البينة تثبت من وجهين: من

حيث التكلم ومن حيث اللفظ، فإن كلمة الإنشاء في القذف غير كلمة الإقرار في الإنشاء، تقول: زنيت، أنت زان، وفي الإقرار تقول: قذفته بالزنا، ففيما قال أبو حنيفة في حد القذف عمل بالشبهين لحق الله تعالى وحق العبد بقدر الإمكان، وهما أسقطا باعتبار حق العبد في باب القذف عند اختلاف الشاهدين في الشهادة أصلاً وألحقاه بالحدود الخالصة لله تعالى، ومهما أمكن العمل بالحجتين في المواضع لا يجوز تعطيل أحدهما، فكان ما قاله أبو حنيفة رحمه الله أولى من هذا الوجه. وإذا شهد أحد الشاهدين على القتل، والآخر على إقرار القاتل بالقتل، لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن القتل فعل والإقرار قول، والقول غير الفعل فاختلف المشهود به، وكذلك لو اتفقا على القتل، واختلفا في المكان أو الزمان لا تقبل الشهادة؛ لأن المشهود به قد اختلف، لأن الفعل الثاني غير الفعل الأول حقيقةً وحكماً أما حقيقةً فظاهر؛ لأن الأول حركات مضت، والثاني حركات يحدثها الآن وأما حكماً؛ فلأنه لا يمكن أن يجعل الثاني إخباراً عن الأول حتى يصير تكراراً للأول وإعادة له؛ لأن الإخبار عن الفعل بالفعل لا يكون، فكان الثاني فعلاً آخر غير الأول حقيقةً وحكماً. وكذلك كل ما يكون من باب الفعل نحو السحر وغير ذلك فاختلاف الشهود في الإنشاء والإقرار وفي الزمان أو في المكان يمنع قبول الشهادة. وكذلك إذا اختلفا في الآلة التي كان بها القتل، بأن شهد أحدهما أنه قتله بحجر، وقال الآخر: قتله بعصا كبيرة، أو شهد أحدهما أنه قتله بحجر وقال الآخر: قتله بيده، لا تقبل الشهادة؛ لأن المشهود به قد اختلف، لأن القتل يختلف باختلاف الآلة، ولأن القتل الواحد لا يتصور بآلتين كما لا يتصور في زمانين أو في مكانين. وكذلك إذا شهد أحدهما أنه قتله عمداً وشهد الآخر أنه قتله خطأً لا تقبل شهادتهما، لأن المشهود به مختلف؛ لأن العمد غير الخطأ وحكمهما مختلف، وإن قال أحدهما: قتله بالسيف، وقال الآخر: لا أحفظ الذي كان به القتل لا تقبل شهادتهما؛ لأن الذي قال: لا أحفظ أقر على نفسه بالغفلة والنسيان، وإنه يبطل الشهادة، وفي كتاب الإجارة كل شهادة اختلف فيه الشاهدان في المكان، ويبنى على فعل فإنها لا تقبل إلا مسألة واحدة. وذكرها داود بن رشيد عن محمد، صورتها: ذمي شهد عليه شاهد أنه رآه يصلي في مسجد بني راس شهراً، وشهد آخر أنه يصلي في مسجد بني عامر شهراً، أو شهد أحد أنه: رأيته يصلي بالكوفة، وقال الآخر: رأيته يصلي بالشام، فإني أجيز شهادتهما وأجبره على الإسلام ولكن لا أقتله. قال محمد رحمه الله في «المأذون الكبير» : وإذا لحق العبد دين فقال المولى: عبدي محجور عليه، وقال الغريم: هو مأذون، فالقول قول المولى: فإن جاء الغريم بشاهدين، شهد أحدهما أن المولى أذن له في شراء البر، وقال الآخر: إنه أذن له في شراء الطعام فشهادتهما جائزة، وكذلك لو شهد أحدهما أن المولى قال له: اشتر البر

وبع، وشهد الآخر أن المولى قال له: اشتر الطعام وبع، تقبل الشهادة لأنهما اتفقا على ما يوجب الإذن وهو قول المولى: اشتر وبع، واختلفا فيما لا يحتاج إليه لصحة الإذن فيثبت بشهادتهما ما اتفقا عليه. يوضحه: وهو أن قوله: اشتر البّر وبع، إذن في جميع التجارات، فكل واحد منهما كان شاهداً بالإذن في عموم التجارات معنى، فتثبت الموافقة بينهما، ولو شهد أحدهما أنه أذن له في شراء البر، وشهد الآخر أنه رآه يبيع ويشتري فسكت لا تقبل شهادتهما؛ فلا يثبت الإذن؛ لأنهما شهدا بأمرين مختلفين، شهد أحدهما على القول، وشهد الآخر على الفعل، ولو شهد أحدهما أن المولى رآه يشتري البر ويبيع ولم ينهه عن ذلك، وشهد الآخر أنه رآه يشتري الطعام ولم ينهه عن ذلك، لا تقبل الشهادة، واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة، فعبارة بعضهم أن كل واحد منهما شهد بفعل غير الفعل الذي شهد به صاحبه، ولم يثبت كل واحد منهما لعدم الحجة فلا يثبت الإذن بخلاف ما إذا شهد أحدهما أنه أذن له في شراء البر وشهد الآخر أنه أذن له في شراء الطعام؛ لأن هناك انعقد على شيء واحد وهو قول المولى: اشتر وبع، وعبارة بعضهم أن الإذن هنا إنما يثبت بالرؤية وترك النهي، والرؤية لا تتحقق بدون المرئي ولم يكن إثبات المرئي هنا؛ لأن المرئي شراء البر وشراء الطعام، وليس على كل واحد من الشرائين إلا شاهد واحد، وإذا لم يمكن إثبات المرئي وهو الشراء لم يثبت الإذن بخلاف تلك المسألة؛ لأن هناك الإذن يثبت بقول المولى: أذنت له أو بقوله: اشتر وبع وقد أمكن إثبات ذلك؛ لأن الشاهدين اتفقا عليه. قال في كتاب السرقة: إذا شهد شاهدان على رجل بسرقة بقرة، واختلفا في لونها، فقال أحدهما: هي بيضاء وقال الآخر: هي سوداء، قال أبو حنيفة رحمه الله: تقبل شهادتهما، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا تقبل شهادتهما، وذكر الكرخي في كتابه هذا الاختلاف في لونين متشابهين كالحمرة والصفرة، وفي لونين لا يتشابهان، ذكر أن الشهادة لا تقبل إجماعاً، والأصح أن الخلاف في كل واحد. فوجه قولهما: أن المشهود به قد اختلف من حيث الحقيقة على وجه لا يمكن التوفيق، فلاتقبل الشهادة، كما لو شهد أحدهما أنه سرق بقرة وشهد الآخر أنه سرق ثوراً أو شهد أنه سرق بقرة وشهد الآخر أنه سرق حماراً، والدليل عليه إذا شهدا بالغصب واختلفا في لون البقرة فإنه لا تقبل الشهادة، مع أن الدعوى هناك في الضمان، والضمان لا يندرئ بالشبهات؛ فلأن لا تقبل الشهادة على السرقة، وقد تعلق بها ما يندرئ بالشبهات أولى. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: اختلفا فيما لم يكلفا نقله؛ لأن بيان لون البقرة ههنا ليس من صلب الشهادة حتى لو سكتا عن بيانه فالقاضي لا يكلفهما ذلك ويقضي بشهادتهما، والتوفيق ممكن هنا بأن كان إحدى شقيها بيضاء والأخرى سوداء قلنا: والاختلاف فيما لم يكلف الشاهد نقله إذا أمكن التوفيق لا يمنع قبول الشهادة، فإن قيل:

التوفيق على هذا الوجه غير ممكن، لأن تلك البقرة تسمى بلقاء ولا تسمى سوداء ولا بيضاء، قلنا تلك البقرة إنما سمي في حق من يعرف قيام كلا اللونين، أما في حق من لم يعرف إلا قيام لون واحد فهو على ذلك اللون عنده، وتسميتها بذلك اللون، وشهود السرقة لا يمكنهم (148أ4) أن يقربوا من السارق ليتأملوا كل جانب من البقرة، إنما ينظرون من بعيد فلا يمكنهم الوقوف على قيام اللونين بخلاف الغصب، لأن الغصب يقع جهاراً، فيمكن للشاهد أن يقرب من الغاصب فيتأمل جميع ألوان المغصوب، فلا يشتغل بالتوفيق في حقه، وبخلاف ما إذا اختلفا في البقرة والحمار؛ لأن ذلك اختلاف فيما كلفا نقله، وبخلاف الاختلاف في صفة الذكورة والأنوثة، لأن التوفيق هناك غير ممكن لأن الحيوان لا يجتمع فيه صفة الذكورة والأنوثة، وشيء من صفات العين لا تدل على ذلك حتى يصح الاستدلال عليه من بعيد فلا يحل له البيان، فالاشتعال بالبيان يدل على أنه قرب من البقرة، وعند القرب لا يقع الاشتباه فلا يشتغل بالتوفيق. فإن قيل: الاشتغال بالتوفيق بين كلام الشاهدين احتيال لإيجاب الحد وهو القطع، والحد مما يحتال لدرئه. قلنا: الشهادة حجة من حجج الشرع والأصل في حجج الشرع قبولها لا ردها، فالاشتغال بالتوفيق لصيانة الحجة عن الإبطال لا لإيجاب الحد، ثم إذا وقعنا وقبلت الشهادة يجب الحد ضرورة لا قصداً. ولو شهدا على رجل بسرقة ثوب وقال أحدهما: إنه هروي، وقال الآخر: إنه مَرَوي، ففيه اختلاف النسخ، ففي نسخ أبي سليمان ذكر هذه على الخلاف الذي ذكرنا في البقرة، وفي نسخ أبي حفص ذكر أن الشهادة لا تقبل عندهم، وأبو حنيفة يحتاج إلى الفرق بين المسألتين على ما ذكر في نسخ أبي حفص. والفرق: وهو الهروي والمروي جنسان مختلفان، والشهود كلفوا قبل بيان الجنس، فقد اختلفوا فيما كلفوا نقله، فلا تقبل شهادتهم، فأما لم يكلفوا نقل لون البقرة فذاك اختلاف فيما لم يكلفوا نقله. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: إذا شهد شاهد على رجل أنه أقر أن لهذا المدعي عليه ألف درهم من قرض، وشهد الآخر أنه أقر أن هذا المدعي أودعه ألف درهم، قال: هذا جائز، ومعنى المسألة أن المدعي يدعي عليه ألف درهم ديناً مطلقاً من غير أن يتعرض بسبب، فأما إذا ادعى أحد السببين فقد كذب أحد شاهديه، فلا تقبل شهادتهما، ودلت هذه المسألة أن المدعي إذا ادعى الدين مطلقاً وشهد له الشهود بالسبب أن الشهادة تقبل، فرق بين هذه المسألة وبينما إذا لم يشهد الشهود على إقراره، ولكن شهد أحدهما أن لهذا المدعي عليه ألف درهم من قرض، وشهد الآخر أن لهذا المدعي عنده ألف درهم وديعة أنه لا تقبل شهادتهما.t ووجه الفرق: أن الشهادة على الإقرار إذا قبلت صار المشهود به كالمعاين، فصار كأنه أقر، ثم في الإقرار الاختلاف في السبب لا يمنع وجوب المال حتى إذا قال المقر:

إن له علي ألف درهم من قرض، وقال الطالب: لا، بل من بيع لا يكون هذا الاختلاف مانعاً من وجوب المال، ولم يكن ذلك تكذيباً للمقر، فأما اختلاف السبب في الشهادة مانع قبول الشهادة. والفرق: أن الشهادة لا تكون ملزمة بنفسها فلا تكون لها صحة إلا عند اتصال القضاء بها، فلابد للقضاء بالمال من سبب، لأن الحكم لا يمكن إثباته إلا بسبب، ومع اختلافهما في السبب لا يمكن القضاء به، فأما الإقرار حجة ملزمة فلا حاجة فيه إلى إثبات السبب إنما الحاجة إلى إثبات الحكم، وقد ثبت الحكم بشهادتهما على الإقرار به فقد حصل المقصود فلا يلتفت إلى السبب بعد ذلك. قال: ألا ترى أن أحدهما لو شهد أن الكساء الذي عليه للمدعي اغتصبه منه، وشهد الآخر أنه أقر أنه أودعه إياه والمدعى عليه يجحد أن الكساء للمدعي يقضي به للمدعي؛ لأن المقصود إثبات ذلك الكساء للمدعي، وقد ثبت ذلك بشهادتهما فاختلافهما فيما سوى ذلك لا يضره. قال في كتاب الإجارات: رجل ادعى على رجل أنه أجر عبده، وجحد رب العبد، فأقام المستأجر شاهدين شهد أحدهما أنه استأجره بخمسة، وهو يدعي أربعة أو خمسة، وشهد الآخر أنه استأجره بستة، فالشهادة باطلة إن ادعى أربعة، فلأنه كذب شاهديه، وإن ادعى خمسة فلأنه كذب أحد شاهديه، وهو الذي شهد بستة؛ ولأن حاجتهما إلى إثبات عقد الإجارة، وعقد الإجارة بخمسة غير عقد الإجارة بستة؛ لأن الأجر بدل عن المنفعة كالثمن في البياعات، وكما أن البيع يختلف باختلاف الثمن، فكذلك الإجارة تختلف باختلاف الأجر فاختلف المشهود به، وقد بينا أن اختلاف الشهود يمنع قبول الشهادة. فإن ادعى المستأجر أنه يكاري دابة إلى بغداد بعشرة ليركبها ويحمل عليها، وأقام شاهدين شهد أحدهما: أنه تكاراها ليركبها بعشرة، وشهد الآخر أنه تكاراها ليركبها ويحمل عليها هذا المتاع المعروف بعشرة فالشهادة باطلة، لأن في شهادة أحدهما أن العشرة جميع بدل منفعة الركوب، وفي شهادة الآخر أن بعض العشرة بمقابلة منفعة الركوب؛ لأنه قابل العشرة بالركوب وحمل المتاع، فتوزع عليهما فاختلف شهادتهما في أجر الركوب، وقد ذكرنا أن اختلاف الشاهدين في الأجر يمنع قبول شهادتهما. ولو شهد أحدهما أنه تكارى دابة بعينها بأجر مسمى إلى بغداد، وشهد الآخر أنه تكاراها ليحمل عليها حمولة معروفة إلى بغداد بعشرة دراهم، لا تقبل هذه الشهادة سواء ادعاها المستأجر أو رب الدابة، لأنه إذا لم يبين أحد الشاهدين أنه يركبها أو يحمل عليها، كانت هذه شهادة بإجارة فاسدة، لأنه إذا لم يبين جنس المعقود عليه فمنفعة الركوب غير منفعة الحمل، والضرر الذي يلحق الدابة يختلف، وجهالة المعقود عليه يوجب فساد الإجارة، وكذلك إذا شهد أحدهما أنه تكاراها ليركبها، وشهد الآخر أنه تكاراها ليحمل عليها، لأنهما اختلفا في المعقود عليه، واختلاف المعقود عليه يوجب اختلافاً في العقد، فيكون هذا اختلافاً في المشهود به، فلو ادعى أنه سلم ثوباً إلى صباغ

والصباغ يجحد وجاء بشاهدين شهد أحدهما أنه دفعه ليصبغه أحمر، وشهد الآخر أنه دفعه ليصبغه أصفر، فالشهادة باطلة لأنه اختلف المعقود عليه باختلاف الصبغ، واختلاف المعقود عليه يوجب اختلاف العقد، فاختلف المشهود به. وكذلك اذا جحد رب الثوب وادعاها الصباغ؛ لأنه لما اختلف المشهود به لابد وأن يدعي أحدهما، وعند ذلك يصير مكذباً شاهده الآخر فلا تقبل شهادة ذلك الشاهد للتكذيب، ولا يمكن القضاء بشهادة الفرد فلا يقضى لهما. قال في كتاب الرهن: رجل ادعى رهناً فشهد له شاهدان، شهد أحدهما أنه رهنه بمئة وشهد الآخر أنه رهنه بمئتين لا تقبل شهادته عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهم الله تقبل شهادتهما، فقد جعل حكم الاختلاف في الرهن حكم الاختلاف في الدين، وفرق بين الرهن وبين البيع، فإنه إذا شهد أحد الشاهدين على البيع بمئة وشهد الآخر على البيع بمئتين لا تقبل الشهادة بالاتفاق؛ لأن البيع يختلف باختلاف الثمن، ولم يجعل الرهن مختلفاً باختلاف الدين بل جعله اختلافاً في نفس الدين، وإنما كان كذلك لأن حكم الرهن ثبوت يد الاستيفاء بقدر الدين، فكان هذا اختلافاً في قدر الدين وفي مقدار ما صار مستوفياً من الدين بالرهن، فيكون هذا على الاختلاف الذي ذكر، ولا كذلك فصل البيع. وإن شهد أحدهما بكر حنطة والآخر بكر شعير فشهادتهما باطلة؛ لأن المشهود به مختلف، وإن شهد أحدهما أنه رهنه بمئة وخمسين، فإن ادعى المرتهن أقلهما لا تقبل الشهادة بالاتفاق، وإن ادعى أكثرهما قبلت شهادتهما على مئة لاتفاق الشاهدين على المئة، وكان العين رهناً بمئة، وإن كانت قيمة الرهن مئة وخمسين، وقال المرتهن بعدما شهد الشاهدان على نحو ما بينا من اختلافهما فيه: لي عليه مئة وخمسون وهذا رهن بمئة، فالقول قول المرتهن؛ لأنه ينكر ثبوت يد الاستيفاء فيما زاد على المئة، فإن أقام الراهن بينة أنه رهنه بمئة وخمسين، وأقام المرتهن بينة أنه رهنه المئة، فالبينة بينة الراهن؛ لأنها تثبت زيادة في الاستيفاء، وإن اختلفا في قيمة الرهن بعدما هلك كله أو بعضه، فالقول قول المرتهن في قيمة الهالك مع يمينه، والبينة بينة الراهن. قال في كتاب الحوالة: إذا شهد رجلان على رجل أنه كفل بألف درهم لفلان عن فلان، فقال أحدهما: إلى شهر كذا، وقال الآخر: حالة، وادعى (148ب4) الطالب الحلول، وجحد الكفيل ذلك كله أو أقر بالكفالة وادعى الأجل، فالمال حالّ في الوجهين، أما إذا أقر بالكفالة وادعى الأجل فلأن الأصل في المال الحلول، والأجل عارض، وليس عليه إلا شاهد واحد، وأما إذا جحد الكفيل ذلك كله، فلأن الشاهدين اتفقا على الألف، وتفرد أحدهما بالأجل فيثبت ما اتفقا عليه، ولا يثبت ما تفرد به أحدهما، وفي كتاب الحوالة أيضاً: إذا أقام شاهداً واحداً أن فلاناً أحاله على هذا بألف درهم، وأقام شاهداً آخر أنه بمئة دينار لا تقبل شهادتهما، وإن شهد أحدهما بألف درهم وشهد الآخر بألف ومئة دينار، تقبل شهادتهما على الألف؛ لأنهما اتفقا على الألف لفظاً

ومعنى وتفرد أحدهما بزيادة مئة دينار، وليس هذا نظير البيع؛ لأن البيع يختلف باختلاف الثمن، أما حوالة الدراهم لا تختلف بحوالة الدنانير لا نفسها ولا حكمها، فكان نظير الاختلاف في الدين المطلق، وتأويل المسألة إذا كان المدعي يدعي الدراهم والدنانير جملة، أما إذا كان يدعي الدراهم وحدها لا تقبل الشهادة، لأنه يصير مكذباً الذي شهد له بالدنانير. قال في «أدب القاضي» إذا طلب الشفيع الشفعة وأقام شاهدين، شهد أحدهما أنه اشترى بألف، وشهد الآخر أنه اشترى بألفين، والمشتري يقول: اشتريتها بثلاثة آلاف لا تقبل شهادتهما؛ لأن عقد الشراء بألف غير عقد الشراء بألفين، وكذلك لو شهد أحدهما بالشراء بألف درهم وشهد الآخر بمئة دينار لا تقبل الشهادة، وكذلك لو شهد أحدهما أنه اشترى من فلان، وشهد الآخر أنه اشترى من فلان آخر لا تقبل شهادتهما لأن الشراء من عمرو غير الشراء من زيد، وليس على كل واحد منهما إلا شاهد واحد. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: إذا شهد شاهد على رجل أنه أقر به أخذ هذا العبد من فلان، وشهد آخر أن هذا العبد لفلان لم يقض للمشهود له بشيء؛ لأنهما اختلفا. بيانه: أن أحدهما شهد على الإقرار بالأخذ منه، وأنها شهادة على الإقرار بفعله، والآخر إنما شهد بالملك، وهو وصف في المحل وهما مختلفان، ولأن أحدهما شهد بالملك له والآخر لم يشهد بالملك له إنما شهد على أنه أخذه منه فكانت شهادة على قيام يده وأنها وصلت إليه من جهته، ولو ثبت ذلك يؤمر بالتسليم إليه من غير أن يقضى له بالملك، فلم يتفق الشاهدان لا على الملك ولا على الأخذ فلهذا لا يقضى للمشهود له بشيء. ولو شهد أحدهما أنه أقر أنه أخذه منه، وشهد الآخر أنه أقر أنه أودعه إياه جازت شهادتهما، حتى يؤمر المدعى عليه برد العبد على المدعي؛ لأنهما أجمعا على إقراره أنه أخذه منه، لكن شهد أحدهما على إقراره بأخذ مفرد، وشهد الآخر على إقراره بالوديعة فوجب القضاء بما اتفقا عليه، وهو الأخذ من المدعي، وإذا ثبت يؤمر بالرد على المدعي ولكن لا يقضى له بالملك لعدم الحجة على الملك، وكذلك لو أن الذي شهد بالوديعة لم يشهد بالوديعة إنما شهد أنه أقر أنه دفعه إليه فلان، وفيما إذا شهد أحدهما أنه أقر أنه أخذه منه، وشهد الآخر أنه أقر أنه أودعه إياه. نوع إشكال، لأن المشهود به في شهادة أحدهما الإقرار بالأخذ من المدعي، والمشهود به في شهادة الآخر الإقرار بالإيداع، والإقرار بالإيداع لا يكون إقراراً بالأخذ منه، ألا ترى أن من قال لغيره: أخذت منك هذا العين وديعة وقال المقر له: لا بل غصبته مني غصباً، إن القول قول المقر له، وهو ضامن للعبد إن هلك في يده؟ ولو قال: أودعتني هذا العبد، وقال المقر له: لا بل غصبته مني، فالقول قول المقر. وما افترقا إلا باعتبار أنه في المسألة الأولى أقر بفعل نفسه، وهو الأخذ منه وادعى

الإذن، وأنكر المالك الإذن فلم يثبت الإذن، وبقي إقراره بالأخذ، والأخذ إذا خلي عن الإذن كان سبباً للضمان، وفي المسألة الثانية لم يقر بفعل نفسه، وهو الأخذ، إنما أقر بفعل المالك وهو الإيداع فلم يكن مقراً بسبب وجوب الضمان، فلا يجب عليه الضمان، فكذلك مسألتنا، الذي شهد على الإقرار بفعل المدعي وهو الإيداع لا بفعل ذي اليد، والذي شهد على الإقرار بالأخذ شهد على الإقرار بفعل ذي اليد وهو الأخذ، فينبغي أن لا يقضي بشهادتهما، وسيأتي بعد هذا مسألة أخرى بخلاف ما ذكر ههنا، وكذلك لو شهد أحدهما أن صاحب اليد أقر أنه اغتصبه من هذا المدعي، وشهد الآخر أنه أقر أن هذا المدعي أودعه إياه، أو شهد الآخر أنه أقر أنه أخذه من هذا المدعي قبلت شهادتهما، وأُمر المدعى عليه بالرد على المدعي؛ لأنهما اتفقا على يد المدعي فيما مضى من الزمان، وعلى وصوله إلى المدعى عليه من جهة المدعي، فيقضي بما اتفقا عليه وهو وصول العين إلى المدعى عليه من جهة المدعي، وعند ذلك يؤمر بالرد عليه، ولكن لا يقضى بالملك للمدعي؛ لأن الشهود لم يشهدوا له بالملك، وبقي المدعى عليه لم يصر مقضياً عليه بالملك إنما صار مقضياً عليه بالأخذ من المدعي، وليس من ضرورة الأخذ منه أن يكون المأخوذ ملكاً للمأخوذ منه. وذكر في «المنتقى» عين مسألة العبد ووضعها في الثوب، وذكر أنه إذا شهد أحد الشاهدين على إقرار صاحب اليد أنه غصبه من المدعي، وشهد الآخر على إقراره أن المدعي أودعه إياه، فزاد ههنا زيادة على ما ذكر في مسألة العبد فقال: وقال المدعي: قد أقر بما قالا جميعاً ولكنه اغتصب مني، قال: قبلت الشهادة، وجعلت الذي في يديه الثوب مقراً بملكه للمدعي، ولم أقبل منه بعد ذلك بينة على الثوب، يعني من صاحب اليد، وإنه بخلاف ما ذكر في مسألة العبد. ووجه ذلك: أن الغصب يقع من الملاك، والإيداع يكون من الملاك بحكم الغالب، فكان الإقرار بالإيداع والغصب إقراراً بملك المستودع والمغصوب منه من هذا الوجه، ثم قال: وإن شهد أحدهما على إقراره أنه اغتصبه من المدعي، وشهد الآخر على إقراره أنه أخذه، قضيت به للمدعي، وجعلت المدعى عليه على حجته من قبل، أن الإقرار منه بالأخذ ليس بإقرار بالملك، ثم قال: ولو شهد أحدهما على إقرار ذي اليد أنه أخذه منه هذا الثوب وشهد الآخر على إقراره أنه أودعه إياه وقال المدعي: قد أقر هو بما قالا، لكني أودعته منه، قال: لا تقبل هذه الشهادة، وعلَّل وقال: لأن ههنا لم يجمعا على الإقرار بالملك ولا على الإقرار بالأخذ؛ لأن الذي شهد بالوديعة ما شهد بالأخذ، وما ذكر من الجواب والتعليل في مسألة العبد يخالف ما ذكر من الجواب والتعليل في مسألة الثوب؛ لأن في مسألة الثوب لم يجعل الإقرار بالإيداع إقراراً بالأخذ، ولم تقبل هذه الشهادة، وفي مسألة العبد جعل الإقرار بالإيداع إقراراً بالأخذ، وقبل الشهادة للرد على المدعي، فإن كان في المسألة روايتان فوجه الرواية التي قال فيها: لا تقبل هذه الشهادة، أن الشهادة على الإقرار بالإيداع ليست بشهادة على الإقرار بأخذه منه؛ لأن

الإيداع يتحقق بدون أخذه على ما مر، فلم يقع الاتفاق منهما على شيء فلا تقبل شهادتهما. وجه الرواية التي قال فيها: تقبل هذه الشهادة على الرد أن الأخذ بهذه الشهادة إن لم يثبت، فقد ثبت وصول العين إلى المدعى عليه من يد المدعي، وهذا القدر كاف للقضاء بالرد على المدعي، وإن لم يكن في المسألة روايتان فوجه الفرق بينهما، وبيان جهة التوفيق: أن موضوع مسألة الثوب: أن المدعي ادعى الإيداع، ودعوى الإيداع دعوى فعل نفسه فليس فيه دعوى الأخذ على المدعى عليه، فلا يمكن القضاء بالأخذ على المدعى عليه، إذ لا دعوى فيه. موضوع مسألة العبد، أن المدعي ادعى الأخذ على المدعى عليه فكان مدعياً الفعل عليه فليس في شهادة الإيداع ما ينافيه، وقد اتفقا على وصول العين إلى المدعى عليه من جهة المدعي فيمكن القضاء بها، يوضحه: أن الشهادة على الإيداع شهادة على وصول العين إلى يده فحسب من غير أن يكون منه فعل في العين يكون ذلك الفعل سبباً لوجوب الضمان عليه، ومتى ادعى الأخذ فقد ادعى وصوله الى يده بفعل ذلك الفعل سبباً لوجوب الضمان عليه، فكانت هذه شهادة بأقل مما ادعاه المدعي، فقبلت، فأما إذا ادعى الإيداع فهو لم يدع على المدعى عليه إلا مجرد وصول العبد إليه من غير أن يدعي عليه فعلاً، كان سبباً لوجوب الضمان، فإذا شهد على الإقرار بالأخذ، والأخذ سبب لوجوب الضمان، كانت هذه الشهادة بأفضل مما ادعاه المدعي، فلا تقبل، ولو شهد شاهد أن صاحب (149أ4) اليد أقر أنه لهذا المدعي، وشهد آخر أنه أقر أن المدعي أودعه منه تقبل هذه الشهادة، وقضى بالعين للمدعي، لما ذكرنا: أن الإقرار بالإيداع إقرار بالملك للمودع، فالشاهدان اتفقا على الإقرار بالملك للمدعي فتقبل شهادتهما. ولو أن رجلاً ادعى على رجل أنه قتل وليَّه عمداً وجاء بشاهدين، شهد أحدهما أنه قتله عمداً بالسيف، وشهد الآخر أنه قتله عمداً بالسكين لا تقبل هذه الشهادة؛ لأنهما اختلفا في آلة القتل وقد مرت هذه المسألة من قبل، وإنما أعادها ليذكر الفرق بينه، وبينما إذا شهد أحدهما على إقراره أنه قتله عمداً بالسكين، فقال ولي القتيل: أنه أقر بما قال، ولكنه والله ما قتله إلا بالسيف، أو قال: صدقا جميعاً لكنه والله ما قتله إلا بالرمح فهذا كله سواء، ويقتص من القاتل. والفرق من وجهين: أحدهما: أن في تلك المسألة: القاضي إنما يقضي بوجوب القصاص إذا ثبت القتل عنده، ولم يثبت القتل بهذه الشهادة لأن باختلاف الآلة يختلف القتل، فلا يقع الاتفاق على قتل واحد، فلا يمكن القضاء بشهادتهما، أما في هذه المسألة: القاضي إنما يقضي بوجوب القصاص بناء على إقراره بوجوب القصاص، والشاهدان مع اختلافهما في الآلة اتفقا على إقراره بوجوب القصاص عليه فلهذا اقتص منه، ولأن الدعوى في حقوق العباد شرط قبول البينة في تلك المسألة، لابد وأن يدعي المدعي القتل بإحدى الآلتين إذ لا يمكنه القتل بكلا الآلتين، لأن في دعواه ذلك تكذيب

لهما لتعذر وجود قتل واحد بكلا الآلتين، وإذا ادعى بإحدى الآلتين فقد كذب شاهده الآخر، وههنا أمكنه تصديق الشاهدين مع دعواه القتل بإحدى الآلتين وبآلة أخرى والقتل بكل واحدة من هاتين الآلتين يوجب القصاص، فيكون مقراً على نفسه بوجوب القصاص فلهذا افترقا. قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : رجل في يديه عبد ذكر أنه عبده ورثه من أبيه فادعى رجل آخر أنه عبده، وأقام البينة على إقرار صاحب العبد: أنه للمدعي قبلت بينته، وقضي بالعبد للمدعي اعتباراً للإقرار الثابت بالبينة الثابتة عياناً، وقد مرت هذه المسألة من قبل، وكذلك إذا شهدا على إقراره أنه اشتراه من المدعي بألف درهم، وقال المدعي: قد أقر بما قال ولكنه لم يشتره مني، قبلت الشهادة وقضي بالعبد للمدعي؛ لأن إقراره بالشراء من المدعي إقرار بالملك للمدعي، وقد مرت هذه المسألة أيضاً، وإنما أوردناها ههنا لزيادة تفريع، وكذلك لو أقام شاهداً أن الذي في يديه العبد أقر أن العبد عبد المدعي، وأقام شاهداً آخر أن الذي في يديه العبد أقر أنه اشترى العبد من المدعي بألف درهم، وقال المدعي صاحب اليد: أُقِرُّ بما قال الشاهدان إلا أني لم أبع منه شيئاً، تقبل هذه الشهادة ويقضي بالعبد للمدعي، لأن الشاهدين اتفقا فيما هو المقصود من هذه الشهادة لأن المقصود من هذه الشهادة إقرار ذي اليد بأن العبد للمدعي دون إثبات الشراء بدليل أنهما لو شهدا على الشراء في هذه الصورة فالقاضي لا يقضي بالشراء؛ إذ لو قضى بالشراء حصل القضاء لذي اليد، وهما إنما شهدا عليه لا له فعلم أن المقصود من هذه الشهادة إقرار ذي اليد بأن العبد للمدعي دون إثبات الشراء وهما اتفقا في هذا المقصود أما الأول: فلا شك وأما الثاني: فلأنه شهد على إقراره بالشراء من المدعي والإقرار بالشراء من المدعي إقرار بالملك للمدعي، وهذا الجواب مستقيم على رواية «الجامع» : أن الشراء والاستيام إقرار بالملك للبائع، أما على رواية «الزيادات» : فليس بإقرار بالملك للبائع فيحمل أن تكون المسألة على روايتين، فإن لم تكن المسألة على روايتين فوجهه على رواية «الزيادات» : أن الشراء إقرار من المشتري أنه لا ملك له في المحل، فخرج من البين، فيأخذه المدعي لأنه يدعيه ولا مزاحمة له فيه، ثم شرط القبول هذه الشهادة أن يقول المدعي: إن ذا اليد أقر بأمرين جميعاً إلا أني لم أبعه منه، حتى لو قال المدعي: إن صاحب اليد أقر بأحد هذين الأمرين دون الآخر لا تقبل هذه الشهادة؛ لأنه يصير مكذباً أحد شاهديه، وكذلك إذا شهد أحد الشاهدين أن الذي في يديه العبد أقر أن المدعي وهب العبد له، وشهد الآخر أن ذا اليد أقر أن المدعي تصدق به عليه، وقال المدعي صاحب اليد: أقر بالأمرين إلا أني ما وهبته وما تصدقت به عليه، فإنه يقضي بالعبد للمدعي؛ لأن كل مستوهب ومتصدق عليه مقر بالملك للواهب والمتصدق. وكذلك لو شهد أحد الشاهدين أن الذي في يديه العبد أقر أنه اشتراه من المدعي بألف درهم، وشهد الآخر أنه اشتراه بمئة دينار، أو شهد أحدهما على إقرار ذي اليد أنه قد استأجره من المدعي بعشرة دراهم، وشهد الآخر أنه أقر ذو اليد أنه اشتراه منه بألف

درهم أو شهد أحدهما أنه سمع ذا اليد يقول للمدعي: هب هذا العبد لي، وشهد الآخر أنه سمع ذا اليد يقول للمدعي: تصدق علي بهذا العبد، أو شهد أحد الشاهدين أن ذا اليد قال للمدعي: بعني بألف درهم، وشهد الآخر أن ذا اليد قال للمدعي: بعني بمئة دينار، وقال المدعي: أقر ذو اليد بذلك كله، إلا أني ما بعت منه ولا أجّرت، فالقاضي يقضي في هذه الوجوه كلها بالعبد للمدعي. وكذلك إذا شهد أحدهما على إقرار الذي في يديه العبد أن العبد للمدعي، وشهد الآخر على إقراره أن المدعي أودعه إياه، قبلت شهادتهما، وقضي بالعبد للمدعي لأنهما اتفقا على إقرار ذي اليد أن العبد ملك المدعي؛ لأن الإقرار بالإيداع إقرار بالملك للمودع لأن الإيداع عقد شرعي لا يصح شرعاً إلا من المالك. وكذلك إذا شهدا على الإقرار ذي اليد بالإيداع قضي للمودع؛ لأنهما شهدا على إقراره بالملك للمدعي، ولو شهد أحدهما على إقرار ذي اليد أن العبد للمدعي، وشهد الآخر على إقراره أنه عبد المدعي أودعه إياه، قضي به للمدعي؛ لأنهما اتفقا على إقرار ذي اليد، يكون العبد للمدعي، لكن زاد أحدهما الإقرار بالإيداع منه، ولو شهد أحدهما على إقرار ذي اليد أن العبد للمدعي، وشهد الآخر على إقراره أن المدعي دفع العبد إليه لا يقضى بالعبد للمدعي. وكذلك إذا شهد على إقراره أن المدعي دفع العبد إليه لا يقضى بالعبد للمدعي، فلم يجعل الإقرار بالدفع إقراراً بالملك للدافع وجعل الإقرار بالإيداع إقراراً بالملك للمودع. والفرق: أن الإيداع عقد شرعي يوجب ثبوت اليد للمودع وثبوت ولاية الحفظ وأنه لا يصح إلا من المالك باعتبار الأصل فكان إقراراً بالملك له، فأما الدفع ففعل حتى يؤخذ من المالك ومن غير المالك، وصحته بوجوده حياً فلم يكن مفتقراً إلى الملك، فلم يكن الإقرار بالدفع إقراراً بالملك للدافع، فلا يقضى بالعبد للمدعي ولكن يؤمر المدعى عليه بالدفع إلى المدعي، وقد ذكرنا هذا الفصل في المسألة التي حكينا عن ابن سماعة فيما تقدم.6 وكذلك لو شهد أحدهما على إقرار ذي اليد أن العبد للمدعي، وشهد الآخر على إقراره أنه غصبه من المدعي، فالقاضي يقضي بالعبد للمدعي؛ لأن الإنسان لا يغصب ملك نفسه، فكان الإقرار بالغصب إقراراً بالملك للمغصوب منه. وكذلك إذا شهد أحدهما على إقرار ذي اليد أن العبد للمدعي وشهد الآخر على إقراره أنه رهنه منه أو استأجره منه، قضى بالعبد للمدعي؛ لأن الرهن والإجارة كل واحد منهما عقد شرعي لا صحة له إلا بقيام الملك للراهن والأجر على اعتبار الأصل، وكان الإقرار بهما إقراراً بالملك للمدعي، وهذا كله إذا قال المدعي: إنه أقر بما قال الشاهدان إلى آخر ما ذكرنا قبل هذا، ولو كان الذي في يديه العبد أقر أن العبد كان للمدعي، وادعى أن المدعي أعطاه صلة وجاء بشاهدين، شهد أحدهما أن المدعي أقر أنه تصدق بهذا العبد على المدعى عليه، والآخر شهد أن المدعي أقر أنه وهب هذا العبد من

المدعى عليه، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة إلا أن يأتي شاهد آخر يشهد على الهبة أو على الصدقة، بخلاف ما تقدم. والفرق أن (149ب4) صاحب اليد ههنا أقر بالملك للمدعي في العبد، وادعى تلقي الملك فيه من المدعي فلابد لذلك من سبب، والسبب أحد العقدين إذ لا يجوز أن يتملك كل العبد من شخص واحد في حالة واحدة، كله بالهبة، وكله بالصدقة، فلابد من أن يدعي أحدهما، ومتى ادعى أحدهما يصير مكذباً شاهده الآخر، فلا يبقى له على ما ادعى إلا شاهد واحد. أما فيما تقدم فالمدعي لا يدعي تلقي الملك من جهة ذي اليد حتى يحتاج إلى إثبات سبب الملك، وإنما ادعى أن العبد ملكه من الأصل، ولم يكن محتاجاً إلى إثبات سبب الملك، بل حاجته إلى إقرار ذي اليد أن العبد ملكه وقد ثبت ذلك من الوجه الذي بينا، وهذا بخلاف ما لو شهد أحدهما أن المدعي أقر أنه وهبه للذي في يديه وقبضه؛ لأنهما اتفقا على الإقرار بالهبة، وإنما اختلفا في اللفظ، وهذا لأن النحلى والعمرى والهبة من أسماء الهبة، يقال: نحله كذا وعمره كذا، ووهبه كذا، والاختلاف في اللفظ لا يمنع قبول الشهادة بعد الاتفاق على المعنى كما لو شهد أحدهما بالنكاح والآخر بالتزويج بخلاف الهبة والصدقة؛ لأنهما يختلفان لفظاً ومعنى، أما لفظاً: فلا شك؛ وأما معنى: فلأن الصدقة يراد بها وجه الله تعالى ولا رجوع فيها، والهبة يراد بها وجه العبد وفيها رجوع، وكانا مختلفين لفظاً ومعنى وليس على أحدهما شهادة شاهدين. وزعم بعض مشايخنا أن الاختلاف بين الهبة والصدقة من حيث أن في الهبة رجوع ولا رجوع في الصدقة وليس كما ظنوا، ألا ترى أنه لو شهد أحدهما بالهبة من فقير أو من ذي رحم محرم وشهد الآخر بالصدقة لا تقبل الشهادة ولا رجوع له، وإنما الاختلاف من حيث الذات، فذات الهبة غير ذات الصدقة. وكذلك إذا شهد أحدهما أنه باعه من الذي هو في يديه وقبض الثمن، وشهد الآخر على أنه وهبه من الذي في يديه لا تقبل شهادتهما؛ لاختلاف ظاهر بين البيع والهبة. وكذلك لو شهد أحدهما أنه باعه وشهد الآخر أنه باعه بمئة دينار وقبض الثمن لا تقبل شهادتهما، لأن البيع يختلف باختلاف الثمن فيختلف المشهود به وكذلك إن كانت الشهادة على الإقرار بالبيع كما وصفنا؛ لأنهما لم يجتمعا على بيع واحد، ولو كان صاحب اليد ادعى أنه اشتراه من المدعي بألف درهم وقبض الثمن وجاء بشاهدين شهدا على البيع وقبض الثمن، إلا أنهما لم يبينا مقدار الثمن، فالقاضي يقبل هذه الشهادة؛ لأنهما اتفقا على البيع وقبض الثمن كما ادعاه المدعي وسكوتهما عن بيان مقدار الثمن احتمل الموافقة، لجواز أنهما لو استفسرا هنا الثمن ألفاً كما ادعاه المدعي، ويحتمل أنهما هنا بخلاف ذلك، فلا تثبت المخالفة فيما اتفقا عليه لتوهم الخلاف. وكذلك لو شهدا على إقرار المدعي بالبيع وقبض الثمن ولم يبينا مقدار الثمن وذو اليد يقول اشتريته بألف درهم ونقدت الثمن، فالقاضي يقبل الشهادة، وهذا بخلاف ما لو

شهدا على قبض الثمن فإنه لا تقبل شهادتهما، لأن الثمن إذا كان مقبوضاً فلا حاجة إلى القضاء بالثمن، لأنه وقع الفراغ منه، إنما الحاجة إلى إثبات الملك في المبيع فحسب، وأمكن القضاء بالملك في المبيع، لاتفاق الشاهدين على ذلك، فأما إذا لم يكن الثمن مقبوضاً فكما مست الحاجة إلى القضاء بالملك مست الحاجة إلى القضاء بالثمن وتعذر القضاء بالثمن لجهالته. يوضح ما ذكرنا أن الشهادة على البيع وقبض الثمن شهادة بالملك المطلق للمدعي، لا أنه شهادة بالعقد، ألا ترى أن شاهدين لو شهدا على رجل أنه باع عبده بخمسمئة درهم من فلان، وقبض الثمن فقضى القاضي بالملك للمدعي ثم رجعا عن شهادتهما، وقيمة العبد ألف درهم أنهما يضمنان قيمة العبد دون الثمن، ولو حصل القضاء بزوال الملك عن العبد بالثمن لضمنا الثمن فعرفت أن القضاء بزوال الملك غير مقابل بالثمن حتى يضمنا قيمة العبد الذي تلف بشهادتهما، وإذا كان هكذا لم يصر الثمن مشهوداً به عند الشهادة بقبض الثمن فلا يمتنع القبول بترك بيان الثمن، فأما الشهادة على البيع بدون قبض الثمن شهادة بالعقد بدليل عكس ما ذكرنا، وتعذر القضاء بالعقد لكون الثمن مجهولاً؛ ولأن الجهالة إنما تمنع جواز البيع باعتبار أنها مانعة من التسليم والتسلم، وإذا كان الثمن مقبوضاً فلا حاجة إلى التسليم والتسلم، لأنه وقع الفراغ عنه فلا يمتنع القاضي من القضاء به، وإن بين أحدهما الثمن وهو ألف كما ادعاه المدعي وسكت الآخر عن بيان الثمن، ولكن كل واحد منهما شهد بقبض الثمن قبلت شهادتهما، لأنهما اتفقا على البيع وقبض الثمن وسكوت من سكت عن بيان الثمن يحتمل الموافقة لجواز أنه لو استفسر لبين أن الثمن ألف واحتمل المخالفة فلا تثبت المخالفة فيما اتفقا عليه لتوهم الخلاف، وإن لم يبين المدعي مقدار الثمن، وإنما ادعى البيع وقبض البائع الثمن، وشهدا على الشراء بألف، وذكرا قبض الثمن قبل القاضي شهادتهما، لأن الثمن إذا كان مقبوضاً فالشهادة لا تقع بالثمن وكذا القضاء لا يقع بالثمن فكان ذكره والسكوت عنه سواء، فقد اتفقت الدعوى والشهادة والمخالفة موهوم، فإن المدعي لو استفسر ربما بين أن الثمن ألف كما شهد به الشهود، فلا تبطل شهادتهما بألف درهم، وإن بين أحدهما أن الثمن ألف درهم وبين الآخر أن الثمن مئة دينار لا تقبل شهادتهما، وإن شهدا بقبض الثمن؛ لأنه لابد وأن يدعي أحد العقدين، وعند ذلك يصير مكذباً شاهده الآخر. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله في رجل ادعى داراً في يدي رجل وجاء بشاهدين شهد أحدهما أنها دار المدعي وشهد الآخر على إقرار صاحب اليد إنها للمدعي فالشهادة مختلفة. بيانه أن أحدهما شهد للمدعي بالملك وأنه ليس بقول، والآخر شهد على إقرار المدعى عليه بالملك للمدعي والإقرار قول، فاختلف المشهود به من حيث الصورة، وكذلك من حيث المعنى، لأن الإقرار حجة الملك على المدعى عليه وهو المقر لا أن يكون نفس الملك، ولم يقم على الإقرار حجة حتى صار كالمعاين، فيقضي به ولم يقم على الملك شاهدان حتى يمكن القضاء بالملك للمدعي بشهادتهما، فتعذر

القضاء بشهادتهما فلا يقض بهما، فرق بين هذا وبينما إذا شهد أحدهما للمدعي على المدعى عليه بألف وشهد الآخر على إقرار المدعي عليه بالألف قال: هذا جائز لأنه إقرار كله، وهكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله ذكر. الناطفي رواية أبي يوسف في «واقعاته» فقد فرق بينهما وأشار إلى الفرق أن شهادة الشاهد بالملك المطلق يعتمد دليلاً يطلق له أداء الشهادة بالملك المطلق، ولا دليل عليه سوى اليد، فالذي شهد بالملك للمدعي شهد على يد المدعي من حيث الحقيقة، والآخر شهد على إقرار المدعى عليه بالملك فاختلف المشهود به، فلا يمكن القضاء بشهادتهما، وللشهادة على وجوب الدين على المدعى عليه مطلقاً من غير أن يعرف سبب وجوبه يعتمد دليلاً يطلق له ذلك، وذلك الدليل ليس إلا هو الإقرار، فهو الحجة لوجوب الدين عليه مطلقاً كما أقر به، فأما ما سواه من الأدلة فذلك يسير إلى سبب وجوب الدين فلم يكن ديناً مطلقاً خالياً عن السبب، فالذي شهد بالدين للمدعي مطلقاً شهد على إقرار المطلوب بهذا الدين معنى ولو شهد به صريحاً حصلت الموافقة بين الشاهدين في شهادتهما كذلك. هذا وفي غصب «الأصل» : إذا شهد أحد الشاهدين أن قيمة الثوب المغصوب المستهلك كذا وشهد الآخر على إقرار الغاصب أن قيمته كذا لا تقبل شهادتهما. قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : إذا ادعى الرجل داراً في يد غيره وأقام شاهدين شهد أحدهما أنها داره ورثها من أبيه، وشهد الآخر أنها داره ورثها من أمه فالشهادة باطلة، لأنهما اختلفا في سبب الملك، والأملاك تختلف (150أ4) باختلاف أسبابها، واختلاف المشهود به يمنع قبول الشهادة فرق بين هذا وبين الإقرار، فإنه إذا أقر أن هذه الدار له ورثها من أبيه فقال المقر له: لا بل ورثتها من أمي، كان للمقر له أن يأخذ الدار من المقر، وإن اختلفا في السبب والفرق أن الإقرار حجة تلزمه بنفسه، لو بطل حكمه إنما يبطل بتكذيب المقر له، وإنه لم يكذبه في أصل الملك فثبت أقصى ما في الباب أنه كذبه في السبب، ولكن لا حاجة إلى إثبات السبب بعد ثبوت الحكم، فأما في مسألتنا فالشهادة إنما تصير حجة بقضاء القاضي وكانت حالة القضاء حال ثبوت الحكم، وثبوت الحكم لابد له من سبب ولا يمكن إثبات السببين جميعاً؛ للتنافي ولعدم الحجة عليهما، ولا إثبات أحدهما؛ لأنه لم يقم عليه حجة كاملة وفي شهادة المثنى، ولأنه لابد من الدعوى لقبول الشهادة، ولا يمكنه دعوى السببين للتنافي، ولو ادعى أحدهما كان مكذباً لشاهده الآخر فبطلت شهادته لتكذيبه، فتعذر القضاء بها. وكذلك إذا شهد أحدهما أنه اشتراها من فلان وهو يملكها، وشهد الآخر أن فلاناً آخر وهبها له وهو يملكها وقبضها منه، فإنه لا تقبل شهادتهما لما ذكرنا، ولأنه إنما تلقى الملك من جهة الواهب أو المشتري، ما لم يثبت الملك له لا ينتقل إليه ولم يثبت، لا ملك البائع ولا ملك الواهب؛ لأنه لم يشهد على كل واحد منهما إلا شاهد واحد، وهذه العلة تصلح علة في المسألة الأولى لمنع قبول الشهادة، ثم في هذه المسألة أنه يختلف الجواب مما إذا لم يوفق المدعي، وبينما إذا وفق فقال: كنت اشتريتها من فلان كما شهد

به هذا الشاهد وقبضتها ثم بعتها من فلان وسلمتها إليه ثم استوهبتها فوهبها لي وقبضتها منه، فإنه لا تقبل شهادتهما في الوجهين جميعاً، فرق بين هذا وبينما إذا ادعى أنه اشتراها من فلان، وشهد شاهدان أنه وهبها وقبضها منه فإنه لا تقبل شهادتهما قبل التوفيق، ولو وفق فقال: كنت اشتريتها من فلان ثم جحدني الشراء فاستوهبتها منه فوهبا لي وأعاد البينة، قبلت هذه الشهادة. ووجه الفرق: أنه في تلك المسألة أقام على الهبة شاهدين، وقد زالت المخالفة بين الدعوى والشهادة بالتوفيق، فقبلت شهادتهما وقضي بالهبة لكمال الحجة عليها، أما ههنا إن زالت المخالفة بالتوفيق ولكن لم يشهد بالهبة إلا شاهد واحد فيعذر القضاء به، لأن القضاء بشهادة الفرد لا تجوز، حتى لو شهد معه شاهد آخر على الهبة قضي له بالهبة. قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم، فادعى الغريم أنه أوفاها صاحبها، وصاحب المال يجحد ذلك فشهد للغريم شاهدان، شهد أحدهما: أن صاحب الحق أبرأ الغريم من المال، وشهد الآخر أن صاحب المال أقر بالاستيفاء، لم تقبل شهادتهما لأنهما اختلفا لفظاً ومعنى، أما لفظاً فلا شك وكذلك معنى، لأن الذي شهد بالإبراء إن عنى به الإبراء بغير عوض، فهو إسقاط وليس في الاستيفاء معنى الإسقاط، فجاب المخالفة وإن عنى به الإبراء الذي هو حكم الاستيفاء صار هو شاهداً بمعاينة الاستيفاء، وإنه فعل، والآخر شاهد بالإقرار به وإنه قول، ومثل هذا مانع قبول الشهادة كما لو شهد أحد الشاهدين على الغصب، وشهد الآخر على الإقرار بالغصب ولو كان الذي شهد بالإبراء شهد أن صاحب الحق أقر أن الغريم برئ إليه قبلت الشهادة؛ لأن البراءة التي ابتداؤها من الغريم وانتهاؤها بصاحب الدين تكون بطريق الإيفاء والاستيفاء، فكانت الشهادة بمثل هذه البراءة شهادة على الإقرار بالاستيفاء أيضاً، فقد اتفقا في المعنى وما شهد به داخل تحت دعوى المدعي أيضاً، فلهذا تقبل. ولو شهد أحدهما أنه أقر أنه استوفى الألف وشهد الآخر أنه حلله له، أو أجله أو وهبه له أو تصدق به عليه فالشهادة باطلة، لأن الاستيفاء أخذ الحق، وهذه الأشياء شيء تبنى عن التبرع فاختلف المشهود به، ولأن هذه الأشياء لا تصلح حكماً للاستيفاء ثم لما لم تقبل شهادة البراءة مع أنها تصلح حكماً للاستيفاء، لأَن لا تقبل هنا أولى وأنه لا يصلح حكماً له، ولو ادعى المطلوب الأداء فشهد له شاهدان أن صاحب الحق أبرأه من دينه أو أنه حلله فالشهادة جائزة، لأن المشهود به واحد وما شهد أنه داخل تحت دعوى المدعي من وجه، لأن المدعي وهو المطلوب بدعوى الاستيفاء ادعى براءة معيدة بالاستيفاء؛ لأن الإبراء من حكم الاستيفاء، فإنه يقال: أبرأه براءة قبض واستيفاء وهما شهدا ببراءة مطلقة للبراءة بالإبراء وللبراءة بالإيفاء، فكانت هذه شهادة ببعض ما ادعاه فقبلت وفرق بين هذه المسألة وبين المسألة الأولى فإنه اعتبر هذا مخالفة بين الشاهدين

حتى أبطل شهادتهما، كذلك ولم يعتبره مخالفة بين الدعوى والشهادة. ووجه الفرق: أن في تلك المسألة المخالفة بين الإيفاء والإبراء ظاهرة صورة أو تثبت الموافقة، إنما تثبت باعتبار الضمن فإنما يمكن إثباتها ضمنا إذا ثبت المتَضمَّن ولم يثبت المتَضمَّن وهو الاستيفاء بشهادة أحدهما، لأن شهادة الفرد ليست بحجة، فلا يثبت ما في ضمنه، فلم تحصل الموافقة فأما ههنا كلام المدعي معتبر وأنه ثابت، ولكنه دعوى فثبت ما في ضمنه، وهو الإبراء فحصلت الموافقة بينه وبين الشهادة بالإبراء. والثاني: أن امتناع القبول ثمة باعتبار أن أحدهما شهد بالفعل وهو الاستيفاء، والآخر بالقبول وهو الإبراء، واختلاف الشاهدين على هذا الوجه يمنع صحة شهادتهما وقبولها، ومثل هذا الاختلاف في الدعوى والشهادة لا يمنع القبول، ألا ترى أن أحد الشاهدين لو شهد بالغصب وشهد الآخر على الإقرار به لا تقبل. ولو ادعى الغصب وشهد الشهود بالإقرار بالغصب قبلت شهادتهم، ولو شهدوا على الهبة أو الصدقة أو النحلى أو العطية أو الإحلال لا تقبل شهادتهم؛ لأن الغريم يدعي الاستيفاء، وهذه الأشياء ليست من أحكام الإيفاء؛ لأن الهبة تبنى على التبرع وكذا الصدقة والإحلال عبارة عما ينتفع به بتمكينه إياه، وبالإيفاء إنما ينتفع حكماً لملكه ما في ذمته لا بإحلاله فبطلت الشهادتان؛ لاختلاف بينهما بخلاف الإبراء، فإنه يصلح حكماً للإيفاء على ما ذكرنا. قال ولو ادعى الغريم البراءة أي ادعى أن رب المال أبرأه فشهد أحد الشاهدين بذلك وشهد الآخر أنه وهب له الحق أو تصدق عليه أو نحله أو حلله منه أو أجله له قبلت الشهادة؛ لأنهما اتفقا معنى من كل وجه في بعض هذه الألفاظ، ومن وجه في بعض هذه الألفاظ، وما شهد أنه داخل تحت دعوى المدعي من كل وجه أو من وجه. بيانه: أن المدعي ادعى براءة مطلقة، وأنها تحتمل البراءة بالإبراء، وقد اتفق الشاهدان على الإبراء معنى من كل وجه أو من وجه، لأنه شهد أحدهما بالإبراء والآخر بالتحليل، والتحليل مما يعبر به عن الإبراء أو يقام مقام الإبراء، فالذي شهد بالتحليل شهد بالإبراء معنى، فتثبت الموافقة بين الشاهدين معنى من كل وجه فتدخل تحت دعوى المدعي من كل وجه، وأما من وجه، فلأنه شهد أحدهما بالإبراء وأنه يحتمل الإبراء الذي ثبت حكماً للاستيفاء، ويحتمل الإبراء الذي هو إسقاط، وشهد الآخر بالهبة والصدقة والنحلى والإحلال، وهذه الألفاظ إنما تستعمل للبراءة بالإبراء لا للبراءة بالإيفاء، وشاهد الإبراء شهد ببراءة محتملة الأمرين فتثبت الموافقة بين الشاهدين من وجه فيدخل تحت الدعوى من وجه وهذا كاف للقبول؛ لأن الشهادات حجج الله تعالى يجب العمل بها ما أمكن. فإن قيل: إذا شهد أحدهما بالإبراء والآخر بالهبة ينبغي أن لا تقبل، لأن الإبراء مع الهبة يختلفان لفظاً ومعنى؛ لأن الإبراء موضوع الإسقاط والهبة موضوع للتمليك، ولهذا صاحب الدين إذا أبرأ الكفيل فرد الكفيل لا يريد ولو وهب له فرد يريد، فإذا اختلفا لفظاً

ومعنى يجب أن لا تقبل وإن اتحد حكمهما شرعاً كما لو شهد أحدهما بالحلية والآخر بالبرية. قلنا: الإبراء مع الهبة تختلفان معنى في حق الكفيل على (150ب4) الوجه الذي قلتم، إما يتفقان يعني في حق المطلوب فإن إبراء المطلوب والهبة منه كل واحد منهما إسقاط من وجه حتى يصح من غير قبول وتمليك من وجه حتى يرتد برده. قال: ولو ادعى الغريم الهبة فشهد له شاهد بالهبة والآخر بالصدقة، لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن الهبة مع الصدقة تختلفان لفظاً ومعنى، أما لفظا فظاهر وأما معنى، فلأن الهبة يقصد بها وجه الموهوب له ومكافأته، والصدقة يقصد بها رضى الله تعالى وثوابه، وطعن أبو حازم القاضي رحمه الله وقال: وجب أن يقال، لأن الصدقة مع الهبة لا يختلفان في هذا الباب، ألا ترى أن المدعي لو ادعى البراءة وشهد أحد الشاهدين بها، والآخر بالهبة أو بالصدقة تقبل الشهادة، وجعلت الشهادة بالصدقة في تلك المسألة كالشهادة بالهبة. والجواب عن هذا الطعن أن يقال: إن الغريم إذا ادعى البراءة وشهد أحدهما بالبراءة، والآخر بالهبة أو بالصدقة إنما قبلت الشهادة باعتبار أن البراءة لفظة عامة تذكر، ويراد بها براءة يقصد بها وجه الغريم وطلب المكافأة منه، ويذكر ويراد بها براءة يقصد بها وجه الله تعالى وثوابه، والمدعي ادعى البراءة مطلقاً. فإذا شهد أحدهما بالبراءة والآخر بالصدقة فقد شهدا بما دخل تحت الدعوى من وجه، ووُجِدت الموافقة بين الشاهدين معنى فيما دخل تحت الدعوى فتقبل، أما ههنا: فالغريم ادعى الهبة وهو اسم لبراءة مخصوصة يراد بها وجه الغريم، والشاهد بالصدقة شهد ببراءة يقصد بها وجه الله تعالى ورضاه، وهذا لم يدخل تحت الدعوى أصلاً، ولم تثبت الموافقة أيضاً بين الشاهدين لا لفظاً ولا معنى فلا تقبل، وكذلك إذا ادعى الغريم البراءة فشهد له شاهد بالهبة والآخر بالصدقة لا تقبل هذه الشهادة. فإن قيل: وجب أن تقبل هذه الشهادة، لأن يشهد أن دخل تحت دعوى المدعي من وجه، لأن المدعي ادعى براءة مطلقة فيدخل تحتها براءة يقصد بها وجه الغريم، وبراءة يقصد بها وجه الله تعالى. قلنا: بل الأمر كما قلتم إلا أنهما اختلفا لفظاً ومعنى، لما مر أن الهبة مع الصدقة تختلفان لفظاً ومعنى فكان الشهود به شيئين، وليس على كل واحد منهما إلا شاهد واحد فلهذا لا تقبل. قال: ولو ادعى الغريم الهبة فشهد له شاهد بالبراءة وشاهد بالهبة أو بالنحلى أو العطية؛ فالشهادة جائزة، لأن الذي شهد له بالهبة وافقه فيما ادعى، وشاهد البراءة شهد ببعض ما ادعى؛ لما ذكرنا أن الهبة تتضمن الإبراء فحصلت الموافقة بين الشاهدين في

الأول فيقبل شهادتهما، ولو شهد أحدهما ببعض ما ذكرنا، وشهد الآخر بالصدقة لم تقبل شهادتهما، لأنهما شهدا بالتمليك والهبة والصدقة مختلفة على ما مر، فاختلفت شهادتهما وثبت الاختلاف بين الدعوى والشهادة أيضاً، لأن الشاهد على الصدقة يشهد على خلاف ما ادعاه المدعي من الهبة والمخالفة بين الدعوى والشهادة ولو ادعى العطية أو الهبة أو النحلى أو الصدقة، وشهد شاهدان على الإستيفاء لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن الهبة ليست من حكم الاستيفاء، وكذلك الاستيفاء ليس من حكم الهبة فلا يمكن القبول بتحقيق الموافقة بينهما. ولو ادعى أنه أحل له ماله عليه فشهدا بالاستيفاء قال: الشهادة باطلة ولم يذكر أن القاضي يسأل، وذكر فيما ادعى أنه أبرأه أو أحل، له وشهد شاهدان على إقرار صاحب الحق بالاستيفاء أن القاضي يسأل الغريم عن البراءة والتحليل أنه بالاستيفاء أو بغيرها، والسؤال في دعوى البراءة في تلك المسألة متفق عليه، أما في دعوى البراءة يسأل؛ لأن الإبراء عسى يكون بطريق الاستيفاء يقال: أبرأه براءة قبض واستيفاء، فإذا احتمل الموافقة وجب السؤال وأما في دعوى الإحلال فالسؤال مختلف فيه، فمن أصحابنا من قال بأن السؤال واجب فيه أيضاً؛ لأن الإحلال يتضمن معنى الاستيفاء، لأنه متى استوفى فقد أحله منه، لأنه باشر سببه وهو الاستيفاء فاحتمل الموافقة فوجب السؤال كما في دعوى الإبراء ومنهم من فرق بينهما فقال: الإقرار بالاستيفاء له حكم الإبراء من وجه وحكم الاستيفاء من وجه، حتى أن المريض إذا أقر باستيفاء الدين من وارثه لا يصح، ولو أقر بالاستيفاء من الأجنبي صح من جميع المال، فإذا احتمل الوجهان جميعاً وجب السؤال، فأما الشهادة على نفس الاستيفاء فلا يحتمل، لأن الاستيفاء يكون بقبض الحق معاينة وأنه يخالف الإبراء، وكذا الإحلال لأنه يكون بالإسقاط، فكانت المخالفة ظاهرة فلا معنى للسؤال بل وجب رد الشهادة للمخالفة، ثم في كل موضع وجب السؤال فإن سأله فقال بالاستيفاء أمضى الشهادة، لظهور الموافقة، وإن لم يجبره بشيء لم يجبره على شيء، لأنه لا يجوز جبر المدعي على الدعوى ولم تجز شهادتهما، لأن ظاهره المخالفة وإنما ثبتت الموافقة بإخباره أنه أراد به البراءة بجهة الاستيفاء ولم يوجد فلا تقبل شهادتهما.h وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله في رجل له على رجل ألف درهم، فأقام المطلوب على الطالب شاهدين، شهد أحدهما أنه أقر أنه أبرأ فلاناً من جميع ماله عليه من حق، وشهد الآخر أنه قبض من فلان جميع ماله عليه من حق قال: لا أقبل ذلك لأنهما اختلفا؛ لأن الإبراء قول والقبض فعل، والإبراء إسقاط للحق والقبض يضاده فاختلف المشهود به ولو كان له على رجل ألف درهم وبها كفيل فجاء المطلوب بشاهدين شهد أحدهما على إقرار الطالب أنه قبضها من الكفيل لم أقبل ذلك؛ لأن القبض من الكفيل غير القبض من الأصيل فاختلف المشهود به. ولو كان له على رجل ألف درهم، فادعى المطلوب أن الطالب أبرأه منها وجاء بشاهدين شهد أحدهما على الإبراء والآخر على إقرار الطالب أنه قبض منه جميع ماله

عليه، لا تقبل شهادتهما، لأن المشهود به مختلف؛ لأن الإبراء قول والقبض فعل، ولم يقل بأن القاضي يسأل شاهد الإبراء أن الإبراء أكان بالاستيفاء أو بالإسقاط، وقال في المديون إذا ادعى الإبراء على الطالب وشهد له شاهدان على إقرار الطالب بالاستيفاء أن القاضي يسأل المدعي عن البراءة أنها كانت بالاستيفاء أو بغيره. والفرق وهو أن دعوى البراءة تحتمل دعوى الإيفاء على ما ذكرنا، وعلى اعتبار دعواه الإبراء ألا يتحقق الموافقة بين الدعوى وبين الشهادة ويجب قبول الشهادة، وعلى اعتبار دعواه الإبراء لا يتحقق الموافقة ولا يجب قبول الشهادة، فكان السؤال مقيداً، أما هنا فالسؤال لا يفيد لأنه لا قبول لهذه الشهادة على كل حال أراد شاهد البراءة البراءة بالإبراء أو بالاستيفاء إن أراد البراءة بالإبراء فظاهر وإن أراد البراءة بالاستيفاء؛ فلأن الاستيفاء فعل وأحدهما شهد بالفعل، والآخر شهد بالإقرار بالقبض، وإنه قول فيختلف المشهود به فلا قبول لهذه الشهادة على كل حال، فلم يكن السؤال مفيداً. قال: ولو شهد أحدهما على إقرار الطالب أنه وهب له الألف، وشهد الآخر أنه أبرأه من جميع ماله عليه لا تقبل الشهادة، وفرق بين هذا وبين ما إذا ادعى المديون الإبراء على الطالب، فشهد له شاهد بالهبة، وشاهد بالإبراء، حيث تقبل شهادتهما. والفرق أن هناك المشهود به نفس الإبراء والهبة، وهما متفقان في المعنى؛ لأن الهبة إذا أضيفت إلى الدين تفيد البراءة، وأحدهما شهد على الحكم وهو البراءة والآخر شهد على البراءة بسبب وهو الهبة، وقد ذكرنا غير مرة أن العبرة في مثل هذا لاتحاد المعنى لا لاختلاف اللفظ، أما في مسألتنا فالمشهود به الإقرار، وإنه حكاه عن لفظ الطالب، وقد اختلف اللفظ واختلف المشهود به، ألا ترى أنه لو شهد أحد الشاهدين بالتخلية والآخر بالتبرئة لا تقبل الشهادة، لأنه حكاية عن اللفظ المطلق، وقد اختلف اللفظ فقد اختلف المشهود به. ولو شهد أحدهما أنه أقر أنه اشترى منه بالألف عبداً وشهد الآخر أنه أبرأه من جميع ماله عليه والمطلوب يقول (151أ4) أقر عندهما كذلك، ويدعي البراءة لا تقبل شهادتهما، لأنهما اختلفا في سبب البراءة، فأحدهما يشهد بالبراءة بالمقاصة التي هي بمعنى الاستيفاء، والآخر يشهد بالبراءة بالإبراء الذي هو إسقاط. وفي «نوادر ابن سماعة» : عن محمد في رجلين شهدا على وصية رجل، فشهد أحدهما أنه قال: جميع مالي لفلان بعد موتي، وشهد الآخر أنه قال: جميع مالي صدقة على فلان بعد موتي، وذلك في مجلس أو في مجلسين فالشهادة جائزة، فرق بين هذا وبينما إذا شهد أحدهما بالهبة والآخر بالصدقة في حالة الحياة، حيث لا تقبل شهادتهما، واعتبر المشهود به مختلفاً لمكان الاختلاف الذي بين الهبة والصدقة، ولم يوجب هذا اختلاف المشهود به، وإن شهد أحدهما بالصدقة. والفرق: أن في تلك المسألة اختلفا في سبب الملك لما ذكرنا من المغايرة بين الهبة والصدقة، فلابد من أن يصدق المدعي أحدهما لأنه لابد من دعوى سبب لإثبات

الملك بسبب، وفي تصديق أحدهما تكذيب الآخر فبطلت شهادتهما، أما ههنا لم يختلفا في سبب الملك لأن السبب هو الوصاية، وقد اتفقا على الوصاية، لكن تفرد أحدهما بزيادة لفظة الصدقة، وتفرد أحدهما بزيادة لفظ لا يمنع قبول الشهادة فيما اتفقا عليه. وفي «نوادر إبراهيم» : عن محمد رحمهما الله: رجل شهد على رجل أنه أعتق أمته هذه وتزوجها، وشهد آخر أنه أقر أنه اعتق أمته وتزوجها قال: تعتق الأمة ولا يثبت النكاح، وهذا بناء على أن الإعتاق قول لا تختلف فيه صيغة الإنشاء والإقرار، وفي مثل هذا اختلاف الشاهدين في الإقرار والإنشاء لا يضر، والنكاح وإن كان قولاً إلا أنه ألحق بالأفعال من حيث إنه يتضمن فعلاً فاختلاف الشاهدين في الإقرار والإنشاء والأفعال صائر، فلهذا قال: يثبت العتق ولا يثبت النكاح. وفي «المنتقى» : إذا شهد رجل لرجل أن زيداً أقر أنه اشترى هذه الدار له بأمره، وشهد آخر أن زيداً أقر أن هذه الدار له، فهذه الشهادة جائزة عندنا وقد ذكرنا قبل هذا رواية ابن سماعة عن محمد رحمهما الله فيما إذا شهد أحد الشاهدين أن الدار المدعى (بها) لهذا المدعي، وشهد الآخر على إقرار المدعى عليه أن الدار المدعى بها لهذا المدعي، إن الشهادة لا تقبل. وقال أبو يوسف رحمه الله: في رجل ادعى على رجل ألف درهم فشهد شاهدان أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم قرضاً وشهد آخر أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم من ثمن متاع اشتراه وقبضه، وقال الطالب: إنما مالي عليه قرض ولم يشهد لي إلا بالقرض، فقد أكذب الشاهد الذي شهد له أنها من ثمن متاع، ولو قال: قد أشهد على هاتين الشهادتين المختلفتين، لكن أصل مالي كان قرضاً، قضى له عليه ألف درهم، ولو قال: مالي من ثمن متاع بعته وقبضه مني، وقد أشهد هذين على ما شهدا به، لا يقضى له بشيء حتى يأتي بشاهد آخر يشهد له على مثل شهادة الذي يشهد له من ثمن المتاع إذا أقر الطالب أن ماله من ثمن متاع، فلابد من شاهدين على قبضه. ولو شهد شاهد أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم قرضا وشهد آخر أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم من ضمان ضمن له عن فلان بأمره، فان قال الطالب: اشهد لي بهاتين الشهادتين على ما وصفنا وأن مالي عليه قرض، فإنه يقضي له بالمال، وإن قال: مالي من ضمان كما شهد به الآخر، لا يقضى عليه بشيء والضمان في هذا والبيع سواء، وأما في قياس قول أبي حنيفة: المال اللازم في الوجهين جميعاً. ولو شهد شاهد أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم من ثمن جارية اشتريتها منه وقبضتها، وشهد آخر أن المطلوب أقر أن له عليه ألف درهم من ثمن بر اشتريته وقبضته، وقال الطالب: هذا شهد على هاتين الشهادتين لكن مالي عليه قرض فالقاضي يقضي بالمال، ولو ادعى أحد هذين الوجهين فالقاضي لا يقضي بشيء، وكذلك لو شهدا بالمال من ضمان مختلف فهو مثل البيع المختلف. ولو ادعى المطلوب الدفع والبراءة وشهد له شاهد أن الطالب أقر أنه قبضها منه،

الفصل الثاني والعشرون: في التناقض في الدعوى والشهادة

وشهد آخر أن الطالب أقر أن وكيلاً له قبضها منه، وقال المطلوب: لم يشهد لي على قبض الوكيل، فقد أكذب شاهد الوكالة، ولو قال: قد أشهد لي بهاتين الشهادتين إلا أني دفعتها إليه في يده، فإنه يقضي له بالبراءة منها، ولو لم يقل دفعتها إليه في يده ولكن قال: دفعتها إلى وكيله لم يقض له بالبراءة منها حتى يأتي بشاهد آخر على دفعها إلى الوكيل من قبل أنه أقر أنه دفعها إلى غيره، ولم يشهد على وكالته إلا واحداً. وإذا ادعى عبداً في يدي رجل أنه، له وشهد آخر أن فلاناً وهبه منه وهو يملكه فهو جائز، وكذلك الصدقة، وإن جاء فلان وأنكر ذلك قال: يجيء بشاهد آخر على الهبة والصدقة، ولو شهد واحد أنه له وشهد آخر أنه اشتراه من فلان وهو يملكه لا تقبل الشهادة؛ لأن المشهود به قد اختلف، هذه الجملة من «المنتقى» . ولو شهد أحد الشاهدين على الشراء مع العيب، وشهد الآخر على الإقرار على الشراء مع العيب لا تقبل، وكذا لو شهد أحدهما على قيمة الثوب المغصوب الهالك أنها كذا وشهد الآخر على الإقرار بذلك لا تقبل. وإذا ادعى على رجل ألف درهم وقال: خمسمئة منها ثمن عبد اشتراه مني وقبضه، وخمسمئة منها من ثمن متاع اشتراه مني وقبضه، وشهد الشهود له بالخمسمئة مطلقاً قبلت الشهادة على الخمسمئة؛ لأنهما اتفقا على هذا المقدار، وذكر السبب ليس بشرط، فهذه المسألة تنصيص على أن المدعي إذا ادعى الدين بسبب وشهد الشهود بالدين مطلقاً أنه تقبل ويقضى بالدين، وبه كان يفتي الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، والمسألة مرت من قبل والله أعلم. الفصل الثاني والعشرون: في التناقض في الدعوى والشهادة قال محمد في «الجامع» : رجل في يديه دار جاء رجل وادعى أنها داره اشتراها من فلان، وجاء بشاهدين شهدا أن فلاناً ذلك وهبها وقبضها منه وهو يملكها، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة، لأنها خالفت الدعوى صورة ومعنى، أما صورة: فظاهر، وأما معنى: فلان الشراء يوجب الملك بعوض، والهبة توجب الملك بغير عوض، ويثبت في الشراء خيار الرؤية وخيار العيب ولا يثبت في الهبة، وإذا استحق المشترى من يد المشتري يرجع على البائع بالثمن، والموهوب له عند الاستحقاق لا يرجع على الواهب بشيء، فان وفق المدعي فقال: كنت اشتريته منه إلا أنه جحدني الشراء وعجزت عن إثباته بالبينة، فتشفعت له حتى يهبها مني فوهبها مني بعد ذلك وقبضتها، وأعاد البينة قبلت بينته، وليس معنى قول محمد رحمه الله في «الكتاب» : وأعاد البينة على ذلك أعاد البينة على أنه كان اشتراها من فلان وجحد فلان البيع، ثم وهبها منه كما ذهب إليه الفقيه أبو القاسم الصفار البلخي رحمه الله؛ لأنه لو وجد بينة على الشراء لاستغنى عن إقامة البينة على الهبة،

وإنما معناه إقامة البينة على الهبة والقبض، وإنما قبلت هذه البينة بعد التوفيق على هذا الوجه؛ لأن التوفيق يزيل المخالفة، ويكون ذلك ابتداء الدعوى الهبة من حيث الحقيقة. فإن قيل: ينبغي أن لا تقبل البينة على الهبة؛ لأنه يدعي هبة فاسدة، فانه ادعى أنه وهبه ملكه، فإنه يملكه بالشراء، والشراء لا ينفسخ بجحود أحد المتبايعين، قلنا: البائع قد جحد البيع وجحود أحد المتبايعين فسخ للعقد، فكأن البائع قال: فسخت البيع، فيقف على قبول المشتري، فلما استوهبه منه المشتري فقد أجابه إلى الفسخ؛ لأنه لا صحة للهبة منه إلا على تقدير فسخ الشراء بمقتضي طلب الهبة من المشتري، فانفسخ الشراء فيما بينهما، وصار المدعى عليه واهباً ملك نفسه، فكانت الهبة صحيحة. وقال في «الجامع الصغير» : رجل ادعى داراً في يدي رجل أنه وهبها له وسلمها إليه في وقت كذا، فسأله القاضي البينة قال: إنه جحدني الهبة، فاشتريتها منه في وقت كذا، ذكر وقتاً قبل الوقت الذي ادعى فيه الهبة وأقام على ذلك بينة قُبلت بينته؛ لأنه في (151ب4) الوجه الاول التوفيق بين الكلامين لا يمكن إذ لا يمكنه أن يقول وهبها لي في الوقت الذي ادعيت الهبة، ثم جحد لي الهبة فاشتريتها منه قبل ذلك الوقت، وإذا لم يكن التوفيق ظهر التناقض، والناقض مانع صحة الدعوى، فأما في الوجه الثاني فالتوفيق ممكن، فلا يظهر التناقض فتصح الدعوى. فإن قيل: ينبغي أن لا تصح دعواه في الوجه الثاني، لأنه ادعى شراء باطلاً؛ لأنه ادعى شراء ما ملكه بالهبة، قلنا: الواهب لما جحد الهبة فقد فسخها؛ لأن جحود ما عدا النكاح من العقود فسخ له، فانفسخت الهبة في حقه وتوقف في حق الموهوب له على إجازته، فإذا طلب الشراء منه فقد أجاز ذلك الفسخ فانفسخت الهبة في حقهما وصار المشتري مشترياً ما ليس بملك له فصح. فإن لم يذكر للشراء تاريخاً، لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في «الجامع الصغير» ، وفي كتاب «الأقضية» ذكر عين هذه المسألة في الصدقة وأجابه في هذا الفصل أنه تقبل بينته؛ لأن التوفيق ممكن؛ لأن الشراء حادث، فيحال بحدوثه على أقرب الأوقات، وهو ما بعد تاريخ الصدقة، فكأنه ادعى الشراء بعد تاريخ الصدقة وعند إمكان التوفيق لا يظهر التناقض، هذا أصل كبير لأصحابنا رحمهم الله. وفي «الأصل» : وإذا كانت الدار في يدي رجل، جاء رجل وادعى أنها داره ورثها من أبيه منذ سنة، وأقام البينة أنه اشتراها من الذي في يديه منذ سنتين والمدعي يدعي ذلك، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة، ولا يقضى بالدار للمدعي، لأنه ادعى الملك في جميع هذه الدار منذ سنة بالشراء، وادعى الملك في جميعها منذ سنة بالميراث أيضاً، والإنسان لا يتصور أن يكون مالكاً لعين واحد في وقت واحد بالشراء والإرث، وإنما يكون مالكاً له بأحد السببين، ولا يُدْرى ذلك فبطلا جميعاً، فتبقى الشهادة بدون الدعوى. فإن وَفَّق المدعي فقال: كنت اشتريتها منذ سنتين من ذي اليد، كما شهد الشهود ثم بعتها من أبي، ثم ورثتها من أبي منذ سنة، متى وفق على هذا الوجه وشهد الشهود

بذلك، يعني بالبيع من الأب ثم بالإرث منه قبلت شهادته وقضي بالدار له، لأن بالتوفيق على هذا الوجه تزول المناقضة؛ لأن المناقضة في هذه الصورة من حيث إنه ادعى الملك في جميع الدار بالشراء وبالإرث في وقت واحد وهو منذ سنة. فإذا قال: بعتها من أبي بعد الشراء منه ثم ورثتها من أبي منذ سنة، فإنما ادعى الملك بالشراء والإرث في وقتين، والملك بالشراء والميراث في وقتين متصور فزالت المناقضة، وإنما احتيج إلى إقامة البينة بعد التوفيق، لأن التوفيق إنما يثبت بالبيع من أبيه، وإنها دعوى على الأب وليس بإقرارٍ على نفسه، والدعوى على الغير لا تثبت إلا ببينة، وكذلك إذا ادعى هبة أو صدقة مكان الشراء كان الجواب فيه، كالجواب فيما إذا ادعى الشراء لأنه كما لا يتصور أن يكون الإنسان مالكاً لعين واحد في وقت واحد بالهبة والميراث أو بالصدقة والميراث. ولو ادعى أمة في يدي رجل أنه اشتراها منه بعبده هذا منذ شهر، وجحد المدعى عليه البيع، وجاء بشهود شهدوا أنه اشتراها منذ قام من عند القاضي بألف درهم، والمدعي يدعي ذلك لم تقبل بينته، إلا أن يوفق، فيقول: اشتريتها بعبدي هذا فجحدني الشراء فاشتريتها منه ألف درهم، لأنه بالتوفيق تزول المناقضة وبدون التوفيق المناقضة ثابتة. فإن قيل: المناقضة منهما منتفية بدون التوفيق؛ لأن الثابت أحد الشراءين وهو الشراء الأول؛ لأن الشراء الأول لا يخلو، إما إن كان ثابتاً أو لم يكن ثابتاً، إن لم يكن ثابتاً ثبت الثاني، وإن كان ثابتاً ينفسخ مقتضى ثبوت الثاني سابقاً عليه، بخلاف دعوى الميراث من أبيه، ودعوى الشراء من ذي اليد فإن أحد الأمرين هو الثابت لا يدري، فأما هنا فأحد الشراءين ثابت بيقين، والجواب أن الشراء الثاني غير ثابت بيقين، لجواز أن يكون الشراء الثاني بعد الأول بتراضيهما، فينفسخ الأول ويثبت الثاني، فيجوز أن يكون بغير رضا المشتري بأن جحده الشراء الأول، فاشترى ثانياً بألف، وعلى هذا التقدير لا ينفسخ الأول لكونه مضطراً في الثاني، فعلى هذا الاعتبار يكون الثابت الأول أو الثاني، لا الثاني بيقين، فكان الجواب فيه كالجواب في دعوى الشراء والميراث. وإن كان الشهود شهدوا أنه اشترى منه منذ سنة بألف درهم لا تقبل منه، إلا أن يأتي بالتوفيق بأن يقول: اشتريتها منذ سنة بألف درهم كما شهد به الشهود، ثم بعتها منه ثم اشتريتها منه منذ شهر بهذا العبد. وإذا ادعى عبداً في يدي رجل أن صاحب اليد تصدق عليه (به) منذ سنة وأقام شهوداً شهدوا أنه اشترى من صاحب اليد منذ سنتين، والمدعي يدعي ذلك، لا تقبل الشهادة إلا أن يوفق فيقول: اشتريته منه منذ سنتين، ثم بعته منه ثم تصدق به علي منذ سنة. وكذلك إذا ادعى أنه اشترى هذا العبد من صاحب اليد منذ سنة، وشهد الشهود أنه تصدق به عليه منذ سنين لا تقبل الشهادة إلا أن يوفق على نحو ما قلنا. ولو ادعى أن صاحب اليد تصدق به عليه منذ سنة وشهد الشهود أنه اشتراه منه منذ

شهر لا تقبل هذه الشهادة، إلا أن يوفق فيقول: تصدق به علي منذ سنة كما ادعيت، ثم جحدني الشراء فاشتريته منه منذ شهر، هكذا ذكرها في «الأصل» أيضاً. وكذلك إذا ادعى الشراء منه منذ سنة وشهد الشهود أنه تصدق به علي منذ شهر لا تقبل الشهادة إلا أن يوفق وإنه يخالف مسألة «الجامع» أيضاً. ولو ادعى أنه ورثه من أبيه وأقام البينة، وادعى أن معه وارثاً آخر لا تقبل بينته ولا يصير متناقضاً، وان ادعى الكل لنفسه أولاً ثم ادعى بعد ذلك أنه لغيره وأنه وكيله بالخصومة تصح دعواه ولا يصير متناقضاً وهي المسألة التي تلي هذه المسألة، فههنا أولى وقد ادعى النقض لغيره وادعى أنه وكيله وادعى النقض لنفسه. ولو ادعى عيناً في يد إنسان أنه له وأقام بينة أنه لفلان وكله بالخصومة فيه، قبلت بينته ولا يصير متناقضاً، ولو ادعى أولاً أنه لفلان وكله بالخصومة فيه وأقام البينة بعد ذلك إنه لا تقبل بينته، ويكون متناقضاً إلا أن يوفق. والفرق أن قوله لي في المسألة الأولى وإن كان حقيقة لملك الرقبة، إلا أنه يحتمل الإضافة إلى نفسه لحق الخصومة، فالوكيل بالخصومة يضيف العين إلى نفسه بحق الخصومة، فأمكن أن يجعل قوله في الكرة الثانية أنه لفلان وكلني بالخصومة فيه بياناً لكلامة الأول، فلا يتحقق التناقض، أما في المسألة الثانية: لا يمكن أن يجعل الكلام الثاني وهو قوله لي بياناً للكلام الأول، وهو قوله: أنه لفلان وكلني بالخصومة فيه؛ لأن الكلام الأول مفسر بنفسه، ولا يمكن أن يجعل الكلام الأول بياناً وتفسيراً للكلام الثاني، لأن التفسير لا يكون قبل المفسر، فكان كل كلام كلاماً على حده، وحقيقة الإضافة لملك الرقبة والكلام لحقيقته، حتى يقوم الدليل على مجازه، فكأنه نص في الكلام الثاني على أنه لي بملك الرقبة، ولو نص على هذا يصير متناقضاً كذا ههنا، إلا أن يوفق فيقول: كان لفلان وكلني بالخصومة فيه ثم اشتريته منه بعد ذلك وأقام على ذلك بينة يعني على الشراء من فلان فحينئذ تقبل بينته. ولو ادعى أنه لفلان وكلني بالخصومة فيه لا تقبل بينته إلا أن يوفق. قال: والدين في هذا نظير العين حتى لو ادعى على رجل دين ألف درهم في صك جاء به باسمه ثم جاء ببينة، روى أبو سليمان وابن سماعة أن من ساوم رجلاً بولد أمة أو بثمرة نخلة أو نخل في الأرض ثم أقام البينة أن النخلة والأمة والأرض له، قبلت بينته وقضي له بالأمة والنخلة والأرض دون الولد والثمر والنخل، لأن أقًى ما فيه (152أ4) أن المساومة إقرار بالملك لصاحبه أو إقرار أنه لا ملك للمساوم فيه على حسب ما اختلفت الروايات فيه إلا أن هذا الإقرار لا يكون فرقاً صريح الإقرار. ولو أقر هو صريحاً بالولد لصاحب الولد أو أقر صريحاً أن الولد ليس له، ثم ادعى الأمة لنفسه، تسمع دعواه كذا ههنا. وهذا لأن الإقرار بالملك المطلق يحمل على الملك الحادث حتى أنه لو أقر بأمة لرجل ولها ولد كانت الأمة للمقر له دون ولدها، بخلاف البينة القائمة على الملك المطلق، حيث يحمل على الملك من الأصل.

وإذا ثبت أن الإقرار بالملك المطلق يحمل على حدوث الملك صار المساوم مقراً لمن ساوم إليه بحدوث الملك في الولد والثمر، وليس من ضرورته ثبوت الملك للمقر له في الأم، فلم توجد المخالفة بين الدعوى والإقرار. وكذلك إذا ادعى الولد والثمرة مع الأم والنخلة؛ لأن دعواه في الثمرة والولد لم يصلح لمكان إقراره السابق، فتبقى دعوى الأمة والنخلة وحدها. وكذلك لو كانت الأمة حاملاً فولدت في يده، فساوم بالولد بعد إقامة البينة قبل القضاء بالأمة؛ لأنه يحتمل أن يكون ملكاً للمقر له بتملك من جهته بعد الولادة، فلم تكن من ضرورة صحة هذا الإقرار بطلان دعواه في الأمة، فبقيت تلك الدعوى صحيحة. وكذلك إذا قال الشاهدان: الولد للمدعى عليه، أو قالا: لا ندري لمن الولد؛ لأنهما بينا أنهما خصا بشهادتهما الأمة دون ولدها والولد منفصل عنها فيصح دخول الأم في الشهادة دونه، فيقضى له بالأم خاصة، وكذلك إذا لم يقم بينة للمدعي ولكن المدعى عليه أقر بأن الأم للمدعي يقضى له بالأم دون ولدها، لأن الثابت بالإقرار ملك حادث، لأنه حجة قاصرة لا الملك من الأصل، فلا يستند حكمه إلى حالة الولادة، فاقتصر حكم الإقرار على الأم خاصة.f ولو أن رجلاً في يديه دار مبنية جاء رجل وأقام البينة أنها داره وذكرا البناء في شهادتهما أو لم يذكرا ثم ماتا أو غابا قبل أن يسألهما القاضي عن البناء، فإن القاضي يقضي بالدار ببنائها للمدعي، أما إذا ذكروا البناء فلاشك فيه، وأما إذا لم يذكروا البناء، فلأن البناء مركب في الأرض تركيب قرار، فيدخل تحت ذكر الأرض خصوصاً في ذكر الدار، لأن في الغالب يستعمل اسم الدار في المبنى، ثم إذا قضى القاضي للمدعي بالدار ببنائها أقر للمدعي بعد ذلك وقال: ليس البناء لي وإنما هو للمدعى عليه ولم يزل ملكاً له أو قال: كان البناء له يوم شهد الشهود أو قال ذلك بعد الشهادة قبل القضاء، فإن هذا إكذاب للشاهد وبطلت الشهادة والقضاء في البناء والدار جميعاً، وإن قال: البناء للمدعى عليه فهذا ليس بإكذاب لشهوده، هكذا ذكر المسألة في «الأقضية» . وذكر في آخر الشهادات في «الأصل» : أن الشهود إذا ذكروا البناء في شهادتهم وقضى عليه بالدار والبناء، ثم أقر المدعي بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه، كان ذلك إكذاباً لشهوده، فبطلت الشهادة والقضاء. وإذا لم يذكروا البناء في شهادتهم وقضى عليه بالدار والبناء، ثم أقر بالبناء للمدعى عليه لا يكون ذلك إكذاباً لشهوده. وجه الفرق على رواية شهادات «الأصل» : أن البناء إذا لم يكن ملفوظاً في الشهادة، فالقضاء بالبناء ما كان لكونه مشهوداً، بل تبعاً للأرض؛ لأن حكم الأصل يثبت في البيع إلا إذا وجد دليل يوجب قطع التبعية، فإذا أقر المدعي بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه فهذا الإقرار حجة قطعه عن التبعية فإذا أقر المدعي بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه، فهذا الإقرار حجة قطعه عن التبعية وحجة أصالته في الملك إلا أن يكون إكذاباً بتلك الشهادة، فأما إذا كان البناء ملفوظاً به في الشهادة، فالقضاء بالبناء لكونه مشهوداً به،

فالإقرار بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه يكون إكذاباً للشهود ضرورة، فيوجب بطلان الشهادة. ووجه التسوية على رواية كتاب «الأقضية» : أنه يطلق اسم الدار في الغالب من كلام الناس وفي عاداتهم يستعمل بإزاء الأرض والبناء، والشرع شهد لذلك، حتى إن من حلف لا يدخل داراً، فدخل صحراء كانت داراً، وقد انهدم بناؤها لا يحنث والثابت باعتبار العادة وعليه الاستعمال كالثابت بمقتضى اللفظ حقيقة، فاستوى ذكر البناء وعدمه. ثم على رواية كتاب «الأقضية» فرق بينما إذا قال المقضي له: ليس البناء لي، وإنما هو للمدعى عليه، وبينما إذا قال: كان البناء للمدعى عليه يوم الشهادة، أو قال: لم يزل ملكاً للمقضي عليه، فلم يجعل الأول تكذيباً للشهود، وجعل الثاني والثالث تكذيباً، وعلى رواية كتاب الشهادات لم يفصل وجعل مطلق الإقرار بالبناء للمدعى عليه تكذيباً للشاهد إذا كان البناء مذكوراً في الشهادة. ووجه ما ذكر في الشهادات: أن مطلق الإقرار بالبناء للمقضي عليه يناقض شهادة الشهود بالبناء للمدعي، والإكذاب من حكم المناقضة. وجه ما ذكر في «الأقضية» : أن قوله: البناء ليس لي، وإنما هو للمدعى عليه كلام محتمل يحتمل أنه للمقضي عليه، لأنه كان له يوم شهد الشهود، فيكون إكذاباً للشهود، فلا يكون إكذباً بالاحتمال، ولا كذلك قوله: كان البناء له يوم شهد الشهود لم يزل ملكاً له، هذا إذا أقر المقضي له بعد القضاء له أن البناء ليس له وأنه للمقضي عليه. ولو أن المقضي له بعد القضاء له لم يقر بذلك لكن المقضي عليه ادعى البناء لنفسه، فعلى رواية كتاب «الأقضية» : لا تسمع دعواه ولا تسمع بينته، ذكر الشهود البناء في شهادتهم أو لم يذكروا، وعلى رواية شهادات «الأصل» : إن لم يذكروا البناء في شهادتهم تسمع دعوى المقضي عليه، وإن ذكروا لم تسمع دعواه. وفي «المنتقى» وفي «الإملاء» : عن محمد رجل ادعى داراً في يدي رجل وأنكر الذي في يديه الدار حق المدعي، فشهد للمدعي شاهدان أن الدار داره، ولم يزيدوا على ذلك، فلما زكوا قال المدعى عليه: البناء بنائي أنا بنيته، وأراد أن يقيم البينة على ذلك، قال: إن كان شهود المدعي حضور فالقاضي يسألهم عن البناء، فإن قالوا: البناء للمدعي مع الدار فالقاضي لا يلتفت إلى قول المدعى عليه، وإن قالوا: لا ندري لمن البناء إلا أنا نشهد أن الأرض للمدعي، فليس ذلك بإكذاب منهم لشهادتهم ويقضي للمدعى عليه بالبناء إن أقام بينته على البناء، ويؤمر بالهدم وتسليم الأرض إلى المدعي، فإن لم يحضر المدعى عليه بينة على البناء، قضى عليه القاضي بالأرض بشهادة شهود المدعي وأتبع الأرض للبناء، فإن جاء المدعى عليه بعد ذلك بالبينة أن البناء بناؤه أخذه؛ لأن القاضي لم يقض على المدعى عليه بالبناء بشهادة الشهود، وهذه الرواية توافق رواية شهادات «الأصل» . ولو أن شهود المدعي شهدوا أن الدار للمدعي ثم ماتوا أو غابوا فلم يقدر عليهم،

فلما أراد القاضي أن يقضي بالدار ببناءها للمدعي، قال المدعى عليه: أنا أقيم البينة أن البناء بنائي لم يقبل ذلك منه ويقضي بالدار للمدعي ببنائها؛ لأن الشهود حين شهدوا بالدار فقد شهدوا بالبناء إلا أن يبينوا أنهم لا يدرون لمن البناء، فيكون على ما وصفت لك في أول المسألة، قال: ألا ترى أن القاضي لو قضى بالدار في هذا الوجه ببنائها للمدعي ثم حضر شهوده، وقالوا: إن البناء لم يكن للمدعي إنما كان للمدعى عليه، فإن قالوا للقاضي حين رجعوا عن البناء: ليس البناء للمدعي ولا ندري لمن البناء، لم يضمنوا من قيمة البناء شيئاً فكان البناء للمدعي، وقيل للمدعى عليه: أقم البينة أن البناء بناؤك على الشهود الذين شهدوا للمدعي، فإن أقام عليهم البينة ضمنهم قيمة البناء، ألا ترى أن البناء دخل فيما شهدوا به. ولو شهد شهود المدعي أن الدار له ولم يزيدوا على هذا، ثم ماتوا أو غابوا ثم جاء رجل آخر وادعى بناء هذه الدار لنفسه، وشهد له شاهدان آخران بذلك، فإن القاضي يقضي بالأرض للمدعي الذي شهدت شهوده بالدار، ويقضي بالبناء بين المدعيين نصفين، فإن أقام المدعى عليه بينة أن البناء بناؤه لم أقبل ذلك منه. ولو أن شهود المدعي للدار شهدوا أن الأرض للمدعي وقالوا: لا ندري لمن البناء، قضى بالأرض له وقضى بالبناء لمدعي البناء خاصة، قال: وكذلك في جميع ما وصفت لك. الأرض يكون فيها النخيل والأشجار، فشهد شهود المدعي أن هذه (152ب4) الأرض له فهذا بمنزلة شهادتهم بالدار إذا لم يفسروا، فالقاضي يقضي لمدعي الأرض ويتبعها النخل والشجر. وكذلك إذا شهدوا أن هذا الخاتم لفلان ولم يذكروا الفص أو شهدوا أن هذا السيف لفلان ولم يذكروا الحلقة، فالقاضي يقضي بالسيف والحلقة وبالخاتم والفص لفلان من غير أن يكون الفص والحلقة مشهوداً به، حتى لو أقام المشهود عليه بينة أن البناء والفص والحلقة له قبلت شهادته كان القاضي قضى بذلك للمدعي أو لم يقض. وفيه أيضاً: إذا شهد الشهود على رجل بجارية في يديه أنها لهذا المدعي وقضى القاضي له بها ثم غاب الشاهدان أو ماتا، وظهر للجارية ولد في يد المشهود عليه لم يره الشهود، أخذه المدعي. وكذلك لو كان الولد ظاهراً، وشهد الشهود بالجارية للمدعي، ولم يتعرضوا للولد فالقاضي يقضي للمدعي بالجارية وبالولد، وإن قال الذي في يديه الجارية: أنا أقيم بينة على أن الولد لي لم يلتفت إلى بينته ويقضي بالجارية وولدها للمدعي، فإذا قضى القاضي بذلك ثم حضر الشهود وقالوا: لم يكن الولد للمدعى (عليه) ، فالقاضي لا يقضي بالولد للمدعى عليه، وإن أقام البينة على الولد، ولو كان الشهود حضوراً وسألهم القاضي عن الولد قبل القضاء فقالوا: هو للمدعى عليه أو قالوا لا ندري لمن هو، فالقاضي لا يقضي في الولد بشيء ويقضي بالجارية للمدعي. قال: ولا يشبه الولد في هذا الوجه البناء، وعلل فقال: لأن البناء موصول بالدار فقد أشار إلى أن شهود المدعي في مسألة الدار إذا قالوا وقت الشهادة بالدار: لا ندري

لمن البناء أنه يقضي بالبناء لمدعي الدار. قوم ورثوا داراً من أبيهم واقتسموها برضاهم فادعى بعضهم أن أباه كان تصدق بطائفة منها معلومة عليه، أو ادعى ذلك لابن له صغير وقال: مات ابني فورثتها منه، وأقام على ذلك بينة، فدعواه باطلة وبينته مردودة. والأصل في جنس هذه المسائل: أن إقدام العاقل على عقد إقرار منه بصحة ذلك العقد؛ لأنه إنما أقدم عليه للالتزام بموجبه، وإنما يلزمه موجب العقد إذا صح العقد، فإذا ادعى فساده وبطلانه بعد ذلك، يصير متناقضاً، والمتناقض لا قول له. إذا ثبت هذا فنقول: دعوى طائفة منها معلومة من بعض الورثة دعوى بطلان القسمة؛ لأنه ليس لهم قسمة مال الغير وقد أقر بصحتها حال ما أقدم عليها فتتحقق المناقضة، ولو كان ادعى ديناً على أبيه صح دعواه وقبلت بينته على ذلك؛ لأنه ليس بمتناقض؛ لأن القسمة مع الدين صحيحة حتى لو قضى الوارث دين الغريم من مال آخر أو أبرأ الغريم الميت عن الدين لا يحتاج إلى إعادتها ولكن يكون للغريم حق نقض القسمة إذا لم يصل إليه حقه من مال آخر. قال في كتاب الإقرار: رجل أقر أن لفلان عليّ ألف درهم ثم قال بعد ذلك: قضيتها قبل أن أقر بها وأقام البينة على ذلك لم أقبل بينته، ولو ادعى أنه قضاه قبل الإقرار موصولاً بإقراره. القياس: أن لا تقبل بينته؛ لأنه متناقض في الدعوى، لأن إقراره يوجب كون الألف عليه وقت الإقرار، ولولا ذلك لما صح الإقرار، فإذا ادعى القضاء قبل ذلك فإنه يوجب سقوط الدين عنه بالقضاء قبل إقراره كان متناقضاً في الدعوى، فلا يسمع ذلك منه كما لو ادعاه مفصولاً. وفي الاستحسان: تقبل بينته لأن هذا اللفظ قد يذكر ويراد به كان له عليه ألف درهم، فإن الشيء يسمى باسم ما قد كان كما يسمى القاضي المعزول قاضياً ونظائره كثيرة، فمتى وصل هذا الكلام بإقراره، دلنا أنه أراد به هذا النوع من المجاز وإن كان هذا تغييراً لصدر الكلام ولكنه يصح إذا كان موصولاً، فأما إذا كان مفصولاً عن إقراره لا يصح هذا البيان المغير منه، فبقي التناقض باعتبار ظاهر كلامه، ولم يصح التناقض. ولو قال: كانت له علي ألف درهم، ثم قال: قضيتها إياه قبل الإقرار موصولاً أو مفصولاً وأقام البينة عليه قبلت بينته، لأنه إخبار عن وجوب الألف عليه في زمان سابق فلا يبقى القضاء قبل الإقرار بخلاف المسألة الأولى فإنه إخبار عن وجوب الألف عليه للحال فإذا ادعى قبله كان متناقضاً فلم تسمع دعواه وبينته. قال: رجل في يديه عبد قال لآخر: هو عبدك يا فلان، فقال فلان الآخر: بل هو عبدك، ثم قال المقر الأول: هو لي وأقام البينة لم تقبل بينته، لأن بين إقراره بملك العبد لآخر ودعواه ملكية العبد لنفسه تناقض، والتناقض يمنع صحة الدعوى، وإنما أورد هذه المسألة لإشكال وهو: أن المقر له الأول لما قال لغيره: بل هو عبدك، فقد أكذب المقر

الأول في إقراره له، فبطل إقراره لمكان التكذيب، فيجب أن لا يعتبر لإثبات التناقض، لكنا نقول: إن قول المقر له الآخر بل عبدك ليس بتكذيب للمقر الأول في إقراره، بدليل أنه يأخذ المقر له الثاني، ولو بطل الإقرار الأول لمكان أنه كذبه فيه لم يكن له أن يأخذ من يده، ولكن قيل: إن قوله لغيره: بل هو عبدك محتمل يحتمل أنه عبدك لم يزل لك ولم يكن لي، فيكون مكذباً له في إقراره، ويحتمل أنه عبدك لأني ملكته منك للحال، فلا يكون تكذيباً للمقر الأول فلا يثبت التكذيب بالاحتمال. رجل ادعى أن هذه الدار له إلا بيت منها، وأقام البينة على الجميع أو كان ادعى على رجل ألف درهم وأقام عليه البينة بألفين، فقال المدعي للدار: كان البيت لي فبعته، وكان لي عليه ألفان فأبرأته عن الألف قبلت بينته، لأنه زال الخلاف والتناقض بما ذكر، فلعل الأمر كما ذكر ولم يعلم به الشهود، فشهدوا على جميع الدار والألفين، وإذا زال التناقض وجب قبول الشهادة. وإن قال: لم يكن البيت لي قط ولا كان لي عليه قط إلا ألف أبطلت بينته، لأنه صرح بإكذاب الشهود في البيت والألف فبطلت الشهادة، وإن أبى أن يبين شيئاً من ذلك فالقياس: أن تقبل بينته، وفي الاستحسان: لا تقبل. وجه القياس في ذلك: أن امتناع قبول الشهادة لمكان المخالفة بين الدعوى والشهادة، فإذا كان التوفيق محتملاً لا يمكن القول بثبوت المخالفة، لأنها لو ثبتت تثبت مع الشك، ولأن التوفيق إذا (كان) محتملاً يجب الحمل عليه حملاً لأمر المدعي على الصلاح كما في مسألة الأكرار. وجه الاستحسان: أن المخالفة بين الدعوى والشهادة ثابتة صورة ومعنى، فإن كان التوفيق مراداً يزول الخلاف، وإن لم يكن مراداً لا يزول، فلا يزول الخلاف مع الاحتمال. قوله: يحمل على التوفيق حملاً لأمر المدعي على الصلاح، قلنا: الحمل على الصلاح نوع ظاهر، والظاهر يصلح لإبقاء ما كان على ما كان ولا يصلح لإثبات أمر لم يكن، وحاجتنا منها إلى إثبات أمر لم يكن وهو البيع والقضاء بخلاف مسألة الأكرار؛ لأن مطلق المقابلة يحتمل بيع الجنس بخلاف الجنس، فإذا عيناه حملاً لأمرهما على الصلاح يتبين أنه هو الثابت بمطلق المقابلة، فكان هذا إبقاء ما هو ثابت بمطلق المقابلة لا إثبات أمر لم يكن أما ههنا فبخلافه، ثم استشهد في «الكتاب» وقال: ألا ترى أن المدعي لو قال بعد القضاء بالدار: لم يكن البيت لي قط يبطل القضاء، فإذا كان يبطل القضاء بهذا النوع من المخالفة لأن لا يجوز القضاء معها كان أولى. دار في يدي رجل يزعم أنه اشتراها من رجل، فجاء رجل وادعى عند غير القاضي أنها داره تصدق بها على الذي باعها من ذي اليد، ثم رفع المدعي الذي في يديه الدار إلى القاضي بعد شهر أو سنة وادعى أنها داره اشتراها من الذي زعم ذو اليد أنه اشتراها منه، فهذه المسألة على وجهين:

الأول: أن يذكر للصدقة والشراء تاريخاً، وإنه على وجهين: إن ذكر تاريخ الشراء قبل تاريخ الصدقة لا تقبل شهادة شهوده، لأن ادعاءه الصدقة إقرار منه بكون الدار ملك المتصدق وقت الصدقة، وإنه ينافي كون الدار ملكاً له بالشراء عندها فيصير مكذباً شهوده فلا تقبل شهادتهم، وإن ذكر تاريخ الشراء بعد تاريخ الصدقة قبلت شهادتهم، هكذا ذكر في «الأقضية» ، وهذا إشارة إلى أن احتمال (153أ4) التوفيق يكفي. ووجه احتمال التوفيق أن يقول: جحدني بعدما تصدق بها علي فاشتريتها منه، وسيأتي الكلام بعد هذا في أن احتمال التوفيق هل يكفي؟. الوجه الثاني: إذا لم يذكر التاريخ، وفي هذا الوجه تقبل شهادة شهوده، لأن الشراء حادث والأصل في الحوادث أن يحال بحدوثها على أقرب الأوقات، وذلك بعد تاريخ الشراء لا محالة لأنه ادعى الشراء بعد شهر أو سنة. فإن قيل: كيف تصح دعوى الشراء من فلان حال كون الدار في يد غيره وانه يدعي الملك لنفسه؟ قلنا: ذو اليد لما زعم أنه اشتراها من فلان فقد أقر بالملك لفلان، لأن كل مشتر يقر بالملك لبائعه، وبيع المغصوب منه المغصوب من غير الغصب والغاصب مقر بالملك للمغصوب منه صحيح، فقد ادعى شراء صحيحاً من هذا الوجه. قال محمد رحمه الله: ولا أبالي، قال في الصدقة: قبضت أو لم أقبض؛ لأن ادعاءه الصدقة إنما أبطل دعوى الشراء قبل تاريخ الصدقة باعتبار إقراره بملك البائع بعد تاريخ الشراء حتى تثبت المناقضة، والإقرار بملك البائع بعد تاريخ الشراء يثبت بمجرد ادعائه الصدقة. قال محمد رحمه الله: ولو كان ادعى الصدقة بعد تاريخ الشراء لا يرجع بالثمن على البائع، وعلل فقال: إنه هو الذي أبطل شهادة شهوده بادعائه الصدقة وأراد به أن امتناع قبول البينة على الشراء دعواه الصدقة، وإنه ليس بحجة في حق البائع فلا يمكنه الرجوع على البائع بهذه الحجة؛ لأن الرجوع على البائع باعتبار أنه لم يسلم له المشترى من جهته، وإنما لم يسلم له المشترى بما ليس بحجة في حق البائع، فلا يرجع بالثمن عليه. قال في «الكتاب» : ألا ترى أن رجلاً لو ادعى عبداً في يدي رجل أنه له اشتراه من فلان منذ سنة، ونقده الثمن وصدقه البائع بذلك، وذو اليد زعم أنه اشتراه من فلان بعينه منذ شهر، فلما أراد الحاكم أن يقضي به للمدعي قال المدعي: إني لم اشتره في ذلك اليوم، أو قال: ذو اليد أقدم شراءً مني، ثم أراد أن يرجع بالثمن على البائع، فقال البائع: كذبت أنت أقدم شراءً منه، وإنما لم يسلم لك العبد بإكذابك بينتك، فإنه لا سبيل له على الرجوع بالثمن، لأن المبيع إنما لم يسلم للمشتري بمعنى من جهته، وهو إكذابه بينته فلا يظهر ذلك في حق البائع. قال في «أدب القاضي» : وإذا أقام الرجل بينة على رجل أنه باع هذه الدار منه، والبائع يقول: لم أبع وأقام البائع بينة أنه قد رد عليه الدار بالعيب قبلت بينته، وينقض

البيع وإن صار (كلام) البائع متناقضاً؛ لأن التناقض بين الكلامين إنما يثبت إذا لم يمكن التوفيق بين الكلامين وهنا يمكن التوفيق بين الكلامين بأن يقول البائع: لم أبع شيئاً بنفسي، إنما باع وكيلي ثم فسخت البيع إنهاء المشتري بعد ذلك معي فإذا أمكن التوفيق بينهما حمل عليه، وهذه المسألة إشارة إلى أنه يكتفى مجرد إمكان التوفيق، وهكذا ذكر في «الجامع الصغير» وفي كتاب «الأقضية» . وذكر في «الجامع الكبير» وفي بعض نسخ دعوى الأصل أنه لا يكتفى مجرد إمكان التوفيق ولابد أن يوفق المدعي، قيل: ما ذكر في «الجامع الصغير» وفي «الأقضية» قياس، وما ذكر في «الجامع الكبير» وفي ا «لأصل» استحسان وأصله ما ذكرنا في دعوى الألف، وشهادة الشهود على الألفين القياس: أن يقبل لاحتمال التوفيق، وهذا لأن حمل أمر المسلمين على الصحة واجب ما أمكن، فإذا كان التوفيق ممكناً أمكن حمل دعوى المدعي على الصحة فيجب على القاضي ذلك، وإن لم يوجد من المدعي تنصيصاً عليه كما في مسألة الأكرار وفي الاستحسان لا تقبل، لأن المخالفة ثابتة صورة ومعنى، فإن كان التوفيق مراداً يزول الخلاف، وإن لم يكن التوفيق مراداً لا يزول الخلاف فلا يزول الخلاف بالاحتمال، فأما إذا وفق فقد بين أن التوفيق مراد وصح منه هذا البيان، لأن احتمال التوفيق ثابت، وقوله يحمل على التوفيق حملاً لأمر المدعي على الصحة، فالجواب ما مر قبل هذا أن الحمل على الصحة بنوع ظاهر، وإنه لا يصلح لإثبات أمر لم يكن. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا ادعى رجل أنها داره ورثها من أبيه، وجاء بشهود شهدوا أنه اشتراها من أبيه في حال حياته لا تقبل هذه الشهادة، وبمثله لو ادعى أولاً أنه اشتراها من أبيه في حياته، وجاء بشهود شهدوا أنه ورثها من أبيه قبلت هذه الشهادة، والفرق: أن في المسألة الثانية التوفيق ممكن بأن يقول: اشتريت من أبي كما ادعيت أول مرة ثم جحدني الشراء وعجزت عن إثباته بالبينة وبقيت الدار على ملك الأب ظاهراً وصارت بموته ميراثاً لي ظاهراً مع ما تقدم من صورة الشراء، فلا تبطل بينة الإرث بالاحتمال أما في المسألة الأولى التوفيق غير ممكن، فإنه لا يمكنه أن يقول: ورثتها عن أبي، فجحدني الأب فاشتريت منه في حياته. وإذا ادعى عيناً في يد إنسان أنها له وأقام على ذلك بينة ثم إن المدعي قال: هذه العين لم تكن لي قط، بطلت بينته ولم تقبل ويبطل القضاء إن كان قد قضى له به، لأنه أكذب شهوده وأقر ببطلان القضاء وذلك حقه، وكذلك إذا لم يقل قط؛ لأن الإكذاب حصل بقوله: لم يكن لي. قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : رجل أقر عند القاضي أن هذا العبد كان لفلان، ثم أقام البينة أنه اشتراه منه بألف درهم، ولم يوقت الشهود وقتاً وفلان يجحد البيع فالشهادة جائزة، لأنه أقر بملك البائع في زمان ثم ادعى تلقي الملك من جهته، وملك البائع في الزمان الماضي مؤكد لملك المشتري، فالإقرار به لا يمنع قبول الشهادة

على الشراء أقصى ما في الباب، احتمل أن الشراء كان قبل ذلك الوقت ولكن بالاحتمال لا تثبت المناقضة كيف وأن الشراء حادث والحوادث يحال حدوثها على أقرب الأوقات بقضية الأصل وذلك ما بعد الإقرار، فلا يثبت به التناقض فلا يمنع قبول الشهادة. فأما إذا قال: هذا العبد لفلان، ثم أقام البينة بعد ذلك أنه اشتراه منه قبل الإقرار لم تقبل بينته، لأن قوله: هذا العبد لفلان إخبار عن ملك المقر له في الحال، فإنه ينافي دعوى الشراء قبله فلم تقبل بينته لمكان التناقض، هذا إذا قال ذلك مفصولالاً فأما إذا قال موصولاً عند القاضي: هذا العبد لفلان اشتريته منه أمس، فالقياس أن لا تقبل بينته، وفي «الاستحسان» تقبل.k وجه القياس: أن قوله: هذا العبد لفلان إخبار عن ملك المقر له في الحال، فإنه ينافي دعوى الشراء منه أمس فلا تقبل بينته للتناقض. وجه الاستحسان: أن العين قد تضاف إلى الإنسان باعتبار أنه كان مالكاً له، يقال دار فلان وعبد فلان وإن كان باعه، ألا ترى أنه يجوز إطلاق الاسم على الذات باعتبار ما كان، حتى يسمى القاضي بعد العزل قاضياً وعلى هذا الوجه لا يثبت التناقض أقصى ما في الباب أن هذه الإضافة بطريق المجاز، والحمل على المجاز يعتبر بمطلق الكلام، ولكن البيان المعبر يصح موصولاً ولا يصح مفصولاً كالشرط والاستثناء وقد مر جنس هذه المسألة قبل هذا. فإن قال: هذا العبد لفلان ثم مكث شهراً، ثم ادعى أنه اشتراه من فلان أو أقام البينة وقالت الشهود: لا ندري أكان الشراء قبل الإقرار أو بعده، وقال المشتري: كان بعد الإقرار فإنه تقبل هذه الشهادة، ويقضى بالشراء لأنها لو لم تقبل إنما لم تقبل لمكان المناقضة وفيها احتمال لأنه يحتمل أن الشراء كان قبل الإقرار، فكان متناقضاً واحتمل أنه بعد الإقرار فلا يكون متناقضاً فلا تثبت المناقضة بالاحتمال، ولأن الشراء حادث والحوادث يحال بحدوثها إلى أقرب الأوقات وذلك ما بعد الإقرار. وكذلك إذا قال عند القاضي: هذا العبد كان لفلان عام أول، ثم ادعى بعد ذلك أنه اشتراه منه وأقام البينة ولم يوقت الشهود وقتاً تقبل بينته؛ لأن إقراره بالملك في زمان سابق مؤكد لشراء المشتري بعده؛ لأن ملكه ينبني على ملك البائع، ودعواه الشراء للحال يؤكد الإقرار بالملك قبل الشراء؛ لأنه يستدعي قيام الملك للبائع عند الملك ليصح البيع فلم يكن متناقضاً. وكذلك إذا قال: استوهبته (153ب4) منه عام أول فأبى أن يهبه لي، أو قال: ساومته عام أول، ثم ادعى الشراء منه لأن الاستيام والاستيهاب إقرار بالملك فكان هذا والأول سواء. قال: ولا تبطل الشهادة إلا أن يوقتوا، وذكر في بعض الروايات إلا أن لا يوقتوا فإن كانت الرواية إلا أن يوقتوا، أراد به إلا أن يوقتوا وقتاً للشراء قبل الإقرار فإنه لا تسمع هذه الدعوى لأنه يكون متناقضاً بيقين، والتناقض يمنع صحة الدعوى، وإن كانت

الرواية إلا أن لا يوقتوا فكلمة إلا ساقطة، ومعناه: فلا تبطل الشهادة إن لا يوقتوا، فيكون بياناً أن ترك التوقيت لا يمنع سماع البينة، لأنه ليس فيه إلا السكوت، والسكوت وإن كان يحتمل التناقض، ولكن قد ذكرنا أن احتمال التناقض لا يمنع قبول البينة لاحتمال الشك فيه. ولو أقر عند القاضي أن هذا العبد لفلان لا حق له فيه أو قال: كان العبد لفلان عام أول وأنه لم يكن له فيه حق يومئذ ولا دعوى، أو قال: كنت أقررت عام أول أن هذا العبد لفلان لا حق لي فيه، أو قال: لا حق لي فيه، ولم يقل: إنه لفلان ثم أقام البينة أنه اشتراه منه بألف درهم، فإن القاضي يسأل الشهود متى كان الشراء؟ فإن وقتوا للشراء وقتاً بعد الإقرار قبلت شهادتهم، وإن وقتوا وقتاً قبل الإقرار أو قالوا: لا ندري متى كان الشراء لا تقبل شهادتهم، فرق بين هذا وبينما إذا قال: هذا العبد لفلان ولم يقل: لا حق لي فيه ثم أقام البينة بعد شهر على الشراء أنه تقبل البينة وإن لم يوقت الشهود للشراء وقتاً. والفرق: أن قوله هذا العبد لفلان، إخبار عن ملك المقر له في الحال، وقوله: لا حق لي فيه، نفي الملك لنفسه أصلاً فكان محكماً في إسقاط حقه في الدعوى، فلا تسمع دعواه وبينته، إلا إذا وقت وقتاً بعد الإقرار حتى لا يؤدي إلى ارتفاع المضادة والتنافي بالاحتمال، وفي تلك المسألة ما نص على إسقاط حقه، والتناقض عارض، فلا يثبت بالاحتمال. ولو أن رجلاً كتب لرجل: إني كنت ادعيت عليك ديوناً وبيوعاً وأشياء أخر ادعيتها عليك، وأقررت أنه لا حق لي قبلك ولا دعوى من شراء ولا غير ذلك، ثم أقام البينة على عبد المكتوب إليه أنه عبده اشتراه منه، أو أن له عليه ألف درهم قرض، أو أنه غصبه عبداً فإنه لا تقبل هذه البينة إلا إذا وقتوا وقتاً بعد البراءة لأنه لما نص على البراءة عام أول، فقد أسقط جميع حقه قبله في العين والدين جميعاً فيكون متناقضاً في دعواه قبله فلا تسمع دعواه ولا تقبل البينة منه حتى يزول التناقض بيقين، وذلك بأن يوقت بعد البراءة، فأما مع الاحتمال فلا يزول التناقض فلا يبطل حكم البراءة بالشك. وكذلك قال أبو حنيفة رحمه الله: من كتب لرجل براءة ثم أقام بينة على دين لم تقبل بينته، حتى يعلم أنه بعد البراءة لأن البراءة ثبتت بيقين، فلا يبطل حكمها إلا بيقين، وهو أن يكون سبب الوجوب بعد البراءة. قال في كتاب «الأقضية» : رجل قال: جميع ما في يدي من قليل أو كثير من عبد أو غيره لفلان، ثم مكث أياماً ثم اختلفا في عبد في يده فقال المقر: لم يكن في يدي يوم أقررت، وقال المقر له: لا بل كان في يدك، فالقول قول المقر، وفرق بينه وبين البراءة فإن فصل البراءة إذا تنازعا في عبد بعينه يجعل داخلاً في البراءة حتى يثبت بالبينة أنه استفاده بعد البراءة، وهنا لم يجعله داخلاً تحت الإقرار. والفرق: ما أشار إليه في «الكتاب» : أنه من كان في يده شيء فهو له حتى يعلم أنه

لغيره، وبيان هذا: أن في مسألة الإقرار المتنازع فيه في يد المقر حاجتنا إلى قطع يده فإن كان في يده يوم الإقرار يجوز قطع يده وإن لم يكن لا يجوز قطع يده واحتمل أنه لم يكن في يده يوم الإقرار فلا يجوز قطع يده بالشك، وفي مسألة البراءة: المال في يد المدعى عليه واحتمل حدوث الدين فيجوز قطع يده، واحتمل البقاء فلا يجوز قطع يده بالشك، فإذاً في الفصلين لم تبطل يد صاحب المال بالشك. وذكر في بعض روايات «المبسوط» : لو أن رجلاً قال: ما في حانوتي لفلان، ثم مكث أياماً فادعى شيئاً مما في الحانوت أنه وضعه بعد الإقرار إنه يصدق، وهذه الرواية موافقة لرواية «الأقضية» . وفي بعض روايات كتاب «الإقرار» قال: لا يصدق وهذه الرواية مخالفة لرواية «الأقضية» ، وتأويل هذه الرواية: أنه ادعى بعد الإقرار في مدة لا يمكنه إدخال ذلك الشيء في الحانوت في تلك المدة بيقين، وفي هذا التأويل يثبت كون ذلك في الحانوت وقت الإقرار بيقين، وفي مسألة «الأقضية» : لو تيقنا بكون المدعى في يد المقر وقت القرار، كان الجواب فيه كما ذكر في بعض روايات «الإقرار» أنه لا يصدق المقر والله أعلم. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : دار في يدي رجل أقام رجل بينة أنها داره وقضى القاضي له بالدار، ثم أن المقضي له أقر أنها دار فلان لا حق لي فيها وصدقه فلان في ذلك فقال المقضي عليه للمقضي له: قد أكذبت شاهديك حين أقررت أنها لفلان لا حق لك فيها، وأقررت بخطأ القاضي في قضاءه فرد الدار عليّ أو قيمتها، فالقضاء ماض ولا سبيل للمقضي عليه، لا على الدار ولا على المقر ولا على المقر له، لأن قضاء القاضي قد نفذ من حيث الظاهر، وقوله: هذه الدار لفلان لا حق لي فيها محتمل يحتمل لا حق لي فيها من الأصل وكنت مبطلاً في الدعوى، وعلى هذا التقدير يصير مقراً بخطأ القاضي ويجب نقض القضاء، ويحتمل لا حق لي فيها لأني ملكتها من المقر له بعد القضاء، وعلى هذا التقدير لا يصير مقراً بخطأ القاضي، ولا يجب نقض القضاء، فلا يجب النقض بالشك. فإن قيل: هذا الاحتمال إن كان لا يتأتى فيما إذا أقر المقضي له بذلك بعدما غابا عن مجلس القاضي، لا يتأتى فيما إذا أقر قبل الغيبة عن مجلس القاضي، والجواب فيهما واحد. قلنا: لا بل يتأتى قبل الغيبة أيضاً، إذ يجوز أن المقضي له قد كان باع الدار من المقر له قبل القضاء له على أنه بالخيار ثلاثة أيام حتى لم تزل الدار عن ملكه لما أن خيار البائع يمنع زوال المبيع عن ملكه ثم إن المقضي عليه استولى على الدار وغصبها منه، فأقام صاحب الدار بينة قبل مضي الخيار أن الدار له، ثم لما قضى القاضي له بالدار يقضي مدة الخيار عقيبه، وعلى هذا التقدير كان المقضي له محقاً في دعواه أن الدار له، وكان الشهود صادقين في شهادتهم أنها للمشهود له، فكان المقر صادقاً في إقراره أنها صارت لفلان المقر له من جهته بعد القضاء؛ لأنها صارت للمقر له من جهة المقر بعد

سقوط الخيار، وذلك بعد القضاء وإذا كان هذا الوجه محتملاً وبهذا الاحتمال لا ينقض القضاء، وقع الشك في نقض القضاء فلا ينقض بالشك. ولو أن المقضي له قال: هذه الدار لفلان ما كانت لي قط، بدأ بالإقرار وهي بالنفي، أو قال: ما كانت لي قط إنما هي لفلان بدأ بالنفي، وهي بالإقرار وإنه على وجهين: إن صدقه المقر له في جميع ذلك، يرد الدار على المقضي عليه، ولا شيء للمقر له على المقر أما لا شيء للمقر له على المقر؛ لأن المقر ادعى ما يبطل إقراره لأنه يدعي أنها ما كانت له قط، وإقرار الإنسان لغيره بملك الغير لا يصح، والمقر له صدقه في ذلك فبطل إقراره، وأما يرد الدار على المقضي عليه لأن المقضي له أكذب شهوده من كل وجه، حيث أقر أن الدار لم تكن له قط، لأن قوله: ما كانت لي قط لا يحتمل ما كانت لي لأني ملكتها منه بعد القضاء، لأن ما لم يكن له لا يتصور تمليكه من غيره، فقد أكذب شهوده وأقر بخطأ القاضي من كل وجه والحق له فعمل إقراره وبطل القضاء. ولو كان المقر له صدقه في الإقرار وكذبه في النفي عن نفسه بأن قال: الدار كانت للمقر له وهبها لي بعد القضاء، يقضى بالدار للمقر له، وعلى المقضي له للمقضي عليه قيمة الدار، وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا بدأ بالإقرار ثم بالنفي، لأن إقراره صح ظاهراً؛ لأن القاضي قضى له بالدار، وصح القضاء ظاهراً فصح إقراره وصارت الدار مملوكة له ظاهراً فإنما هو أقر بما هو مملوك له ظاهراً وصارت الدار للمقر له، فإذا قال بعد ذلك: ما كانت لي قط، فقد أراد إبطال إقراره والرجوع عنه وقد كذبه المقر له في ذلك، فلم يبطل إقراره في حق المقر له، أما يشكل فيما إذا بدأ بالنفي، ثم بالإقرار وكان ينبغي أن (154أ4) لا يقضى بالدار للمقر له أول مرة ما كانت لي قط أكذب شهوده فيما شهدوا، لأنهم شهدوا له بالملك من الأصل وقد أقر أنها لم تكن له من الأصل، فقد أكذب شهوده وأقر ببطلان القضاء، وتكون الدار ملكاً للمقضي عليه، فإذا قال: ولكنها لفلان بعد ذلك، فقد أقر لفلان بملك الغير والإقرار بملك الغير إقرار باطل. والجواب: قوله ما كانت لي قط، هذا نفي، وقوله: إنما هي لفلان، إثبات معطوف على النفي متصل به، والإثبات متى ذكر معطوفاً على النفي متصلاً به لا يقطع عنه، ألا ترى أن من أقر وقال: لفلان عليّ ألف درهم من ثمن جارية باعها مني، وقال المقر له: ليس لي عليك شيء من ثمن البيع، وإنما لي عليك ألف درهم من قرض، مقطوعاً عن صدر الكلام لما لزم المقر شيء كما لو سكت بين الكلامين سكتة، وإذا ثبت أن الإثبات غير منقطع عن النفي، كان الكل كلاماً واحداً، فلا يظهر تقدم البعض على البعض، فكما يصح النفي يصح الإقرار، أو نقول: قوله: ما كانت لي قط متصلاً بالإثبات لغيره، يستعمل لتأكيد الإثبات عرفاً وعادة، وما يذكر تأكيداً للشيء كان حكمه حكم ذلك الشيء، فلا يكون له حكم نفسه وصار من حيث المعنى كأنه قال: هذه الدار لفلان واقتصر عليه. قالوا: ما ذكر محمد في «الكتاب» أن المقر له إذا صدق المقر في إقراره وكذبه في

النفي، وقال: هذه الدار كانت للمقر إلا أنه وهبها لي وقبضتها منه بعد القضاء بالدار، يقضى بالدار للمقر له، محمول على ما إذا قال ذلك بعدما غابا عن مجلس القاضي حتى يمكن للقاضي تصديق المقر له في ذلك، فأما إذا قال ذلك في مجلس القضاء فقد علم القاضي بكذبه أنه علم أنه لم يجر بينهما هبة وقبض، والكذب لا حكم له، فينبغي أن لا يصح إقراره في هذه الصورة. ثم إن محمداً رحمه الله يوجب على المقر قيمة الدار للمقضي عليه، إنما أوجب؛ لأن في زعم المقر أن الدار ملك المقضي عليه وأن القاضي أخطأ في قضائه بالدار لي، وصرت غاصباً لها وقد عجزت عن الرد بإقراري بالدار للمقر له، فصرت ضامناً قيمتها، من مشايخنا من قال: هذا الجواب مستقيم على قول محمد رحمه الله، لأن غصب العقار عنده ينعقد موجباً للضمان، غير مستقيم على قول أبي حنيفة رحمه الله، لأن عنده غصب العقار لا ينعقد موجباً للضمان ومنهم من قال: لا بل هذا قول الكل؛ لأن المقر بإقراره للمقر له أتلف الملك على المقضي عليه. وعند أبي حنيفة رحمه الله: العقار يضمن بإتلاف الملك، ألا ترى لو شهد شاهدان بدار لرجل وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان قيمة الدار للمشهود عليه، وإنما يضمنان بإتلاف الملك كذا ههنا. قال: ولو قال المقضي له: هذه الدار ليست لي وإنما هي لفلان وصدقه المقر له في ذلك، فالدار للمقر له، ولا ضمان على المقر للمقضي عليه، لأن قوله: ليست (لي) نفي للملك للحال ويحتمل أنه إنما نفاها للحال عن نفسه؛ لأنه ملكها من المقر له بعد القضاء، ويحتمل أنما نفاها للحال، عن نفسه، لأن لم تكن له من الأصل، فلا يثبت إكذاب الشهود فلا ينقض القضاء بالشك، وصار الجواب في قوله: هذه الدار ليست لي إنما هي لفلان، نظير الجواب في قوله: هذه الدار لفلان لا حق لي فيها. ولو أن القاضي لم يقض بالدار للمدعي حتى قال: هذه الدار لفلان لا حق لي فيها، أو قال: هذه الدار ليست لي إنما هي لفلان، فالقاضي لا يقضي له بالدار؛ لأن كلامه محتمل يحتمل: لاحق لي فيها ليست لي؛ لأني ملكتها من فلان، وعلى هذا التقدير يجوز له القضاء ويحتمل: لا حق لي فيها ليست لي؛ لأنها لم تكن لي من الأصل، وعلى هذا التقدير لا يجوز له القضاء، فلا يجوز له القضاء بالشك قال: إلا أن يقول المقر في هذه الصورة: هي دار فلان، بعتها منه بعد شهادة الشهود أو يقول: وهبتها منه وقبضها مني بعدما غاب عن مجلس الشهادة، قال ذلك موصولاً بكلامه، فحينئذ القاضي يقضي له بالدار؛ لأن بهذا البيان انتفى احتمال أنه ليس له من الأصل وتعين الاحتمال الآخر، وهو صيرورتها لفلان بتمليك من جهته بعد شهادة الشهود، وعلى هذا التقدير يجوز له القضاء فلهذا يقضي له بالدار، ولكن يشترط أن يكون هذا البيان موصولاً بإقرار، لأن هذا بيان معبر، لأنه لو لم يتكلم بهذا البيان لكان لا يقضى له بالدار وبهذا

البيان يقضى، فكان هذا بيان تعبير، وبيان التعبير يصح موصولاً ولا يصح مفصولاً كالشرط والاستثناء. قال في كتاب «الأقضية» : شاهدان شهدا لرجل بألف درهم من ثمن جارية، فقال المشهود له: إنه قد أشهدهما هذه الشهادة والذي لي عليه من ثمن متاع أجزت شهادتهما، قالوا: وتأويل المسألة: إذا شهدوا على إقرار المدعى عليه بالألف من ثمن الجارية، فالمسألة محفوظة مذكورة في غير موضع من الكتب أنه إذا ادعى على آخر ألف درهم من ثمن مبيع، وشهد له الشهود بالألف من ضمان جارية غصبها إياه وقد هلكت، أنه لا يقبل شهادتهم وبمثله في الإقرار تقبل شهادتهم، واعتبر تكذيب المدعي الشاهد في السبب، ولم يعتبر تكذيب المقر له في السبب، والوجه في ذلك: أن المدعي بتكذيب الشاهد في السبب كذبه في بعض ما شهد به، وتكذيب المشهود له الشاهد في بعض الشهادة مانع قبول الشهادة لأنه تفسيق له وشهادة الفاسق لا تقبل، والمقر له بتكذيب المقر في السبب إن كذبه في بعض ما أقر به: ولكن تكذيب المقر في بعض ما أقر به لا يمنع صحة إقراره، فإقرار الفاسق صحيح مقبول بخلاف شهادة الفاسق، إذا ثبت هذا ظهر أن المراد به الشهادة على إقراره، والإقرار الثابت بالشهادة كالثابت معاينة، وقد ذكرنا في الإقرار المعاين أنه صحيح، يلزم مع اختلافهما في السبب كذا هذا. والدليل على تأويل المسألة ما قلنا: إن محمداً رحمه الله قال في وضع المسألة: إن المشهود له قد أشهدهما هذه الشهادة، وهذا تنصيص على إقراره عندهما، فثبت أن تأويل المسألة ما قلنا من شهادتهما على الإقرار. قال: وكذلك الكفالة لو شهدا أنه أقر أنه كفل بألف درهم عن فلان آخر، كان له أن يأخذه بالمال؛ لأنهما اتفقا فيما هو المقصود، فلا يضرهما الاختلاف في السبب. ولو قال الطالب: إنه لم يقر بها، وإنما أقر أنها كانت عن فلان الآخر فالشهادة باطلة، لأنه أكذب شاهده فيما شهد به من إقرار المطلوب، فبطلت شهادته بخلاف الأول لأنه لم يكذب شاهده، فثبت بشهادة إقرار المطلوب فصار كالمعاين، ثم هو كذب المطلوب في إقراره بسبب المال، وقد مر أن تكذيب المقر في بعض ما أقر به لا يمنع قبول إقراره فيما بقي. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في الرجل يدعي على رجل ألف درهم فيقول المدعى عليه: ما كان لك عليَّ شيء قط، أو قال: ليس لك عليَّ شيء، ثم أقام البينة على القضاء قبلت بينته؛ لأن التوفيق بين الكلامين ممكن، أما في قوله: ليس لك عليَّ شيء فظاهر، فإنه يقول: ليس لك عليَّ شيء لأني قضيته، وأما في قوله: ما كان لك عليَّ شيء قط، لأنه يمكنه أن يقول: لم يكن لك عليَّ شيء قط، لكن أذيتني بخصومتك الباطلة، فدفعت أذى خصومتك الباطلة بما طلبت مني. ودلت هذه المسألة على أن التوفيق بين الكلامين إذا كان ممكناً، فالقاضي يوفق ويقبل بينة المدعي من غير التوفيق، وذكر هذه المسألة في «المنتقى» وقال: قبل ذلك منه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.

وإن قال: ما كان لك عليّ شيء قط، ولم أعرفك، ولم أكلمك، ولم أخالطك ثم أقام البينة على القضاء لا تقبل بينته، هكذا ذكر المسألة ههنا، لأن التوفيق غير ممكن ههنا إذ لا يتصور أن يكون بين شخصين خصومة وقضاء، ولا يعرف أحدهما صاحبه. وذكر «القدوري» عن أصحابنا أنه تقبل البينة، لأن الرجل عسى يدعي على امرأة أو رجل وهو محتجب في داره، ويؤذيه بالسب على باب داره، فيأمر بعض وكلائه أن يدفع إليه ما ادعى فيدفعه إليه الوكيل فيكون قد قضاه وهو لا يعرفه ثم يعرف بعد ذلك، هذا (إذا) أقام البينة على الدفع والقضاء، فأما إذا أقام البينة على الإبراء، لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل هنا، قال بعض مشايخنا في شرح هذا الكتاب: ولا شك أن تقبل بينته (154ب4) في الفصل الأول والثاني، لأن وجه التوفيق فيهما ظاهر، وكذلك في الفصل الثالث، قال: ويجب أن يكون قبول البينة في الفصل الثالث على اتفاق الروايات، لأن التوفيق ههنا ممكن، لأن الإبراء يتحقق من غير أن يعرف المدعى عليه صاحب الدين بأن كان لرجل على آخر دين، مات صاحب الدين وورث الدين ابنه ولم يعلم به المديون، ثم إن الابن أبرأه عن دينه أو أبرأ أهل بلد كذا عن دعاويه وديونه، والمدعى عليه من أهل ذلك البلد، فيكون داخلاً تحت الإبراء، وإن لم يعرفه ثم بعدما ادعى عليه وأنكر المدعى عليه المال، أخبر المدعى عليه شاهدان بما جرى من الأمر فعرف المدعي صاحب دينه، وأبرأه به إباه عن الدين، فأقام الشاهدان اللذان أخبراه بذلك فأما قضاء الدين ودفع المال إلى إنسان وهو لا يعرفه أصلاً لا يكون فيصير متناقضاً في دعوى الدفع. وعن أبي يوسف أنه إن قال: لم يجر بيني وبينه معاملة ولكن أخبرني شهودي هؤلاء أنه ادعى علي حقاً، ثم أشهدهم أنه قد أبرأني منه ولم يجر بينه وبيني معاملة، قُبَل ذلك منه. وذكر محمد رحمه الله في كفالة «الأصل» : إذا قال المدعى عليه: لم يكن لك عليَّ شيء قط، أو قال: لم يكن لك علي دين قط، ثم أقام البينة على القضاء أو الإبراء سمعت بينته. قال الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في شرح كتاب الكفالة: إن وفق فقال: دفعت المال إليه افتداء عن اليمين قطعاً لدعواه لا قضاء عن الدين، قبلت بينته، لأنه زالت المناقضة ويكون هذا في الحاصل دعوى الصلح على الإنكار، وإن قال: دفعته قضاء عن الدين لا تقبل بينته لتحقق المناقضة، وإن لم يبين شيئاً بل ادعى القضاء مطلقاً فالقياس أن تقبل بينته، وفي الاستحسان: لا تقبل كما في الشهادة على الألف والخمسمئة، قال: وكذلك في فصل الإبراء إن وفق وقال: لم يكن له علي دين، كما قلت إلا أنه أبرأني عن دعوى الدين، لا عن الدين تزول المناقضة، وتقبل بينته على الإبراء، وإن قال: أبرأني عن دعوى الدين لا تقبل بينته لمكان المناقضة، فإنه أقر أنه لم يكن عليه، ثم أقر أنه كان عليه دين لما ادعى الإبراء عن الدين، والمناقضة تمنع صحة الدعوى ولا تقبل البينة بدون الدعوى، وإن ذكر الإبراء مطلقاً ولم يبين أنه أبراه عن الدين أو عن دعوى الدين، فالقياس أن تقبل بينته.h وفي الاستحسان: لا تقبل.

قال ابن سماعة عن محمد رحمه الله: في رجل ادعى عليه عشرة آلاف درهم، فأنكرها فسأل الحاكم المدعي هل قبض من المال شيئاً، فأقر أنه قبض منه عشرة آلاف، فأبرأ الحاكم المدعى عليه من العشرة آلاف، فلما خرجا من عند الحاكم قال المطلوب: لا والله ما قبضتها مني، فجاء الطالب ببينته يشهدون على كلامه هذا، قال محمد رحمه الله: أقبل هذا من الطالب وأقضي بها عليه، وبمثله لو أقام الطالب البينة على المال لا تقبل ذلك منه؛ لأنه إنما لا تقبل البينة على المال للتناقض لمكان إقراره بالقبض، فإذا صدقه في ذلك وأقر أن القبض لم يكن انتفى التناقض، لأن التناقض يرتفع بتصديق الخصم، وبما أقام من البينة ثبت تصديقه فقبلت منه. واستشهد لهذا الرجل أقر أن لفلان عليه عشرة آلاف درهم، فقال الطالب: ليس لي عليك شيء، فقد برئ المطلوب، لأن الإقرار يبطل بتكذيب المقر له، فإن قال المطلوب بعد ذلك: بلى لك علي عشرة آلاف درهم، فإنه يقضي به للطالب إذا ادعاها؛ لأنه استأنف الإقرار بالمال له، فإن صدقه في هذا الإقرار كان له أن يأخذه، كذلك في المسألة الأولى أثبت بشهادته إقراره مستأنفاً منه لم يتصل به التكذيب، فملك إثباته بالبينة قال محمد رحمه الله: وإن قال المطلوب: إنما قلت: ما قبضتها مني، وأنا أقيم البينة أنك قبضتها من وكيلي، لم تقبل بينته، لأن القبض من وكيله قبض منه أيضاً، فإقراره الأول ينتظمهما جميعاً، فإذا ادعى القبض من وكيله، كان متناقضاً في دعواه، فلم يسمع منه. قال: ألا ترى أن رجلاً لو قال: والله ما قبض مني فلان من الألف التي له علي قليلاً ولا كثيراً، كان هذا القول على نفسه، وعلى وكيله ورسوله؛ لأن الإنسان يعد قابضاً بيد وكيله عادة وقاضياً على يد نفسه ووكيله، فكذلك ههنا. قال ابن سماعة: قال محمد رحمه الله: ولو جاء المطلوب ببينة يشهدان أن رجلاً أجنبياً قضى هذا المال تطوعاً بها من ماله بغير أمر المطلوب، ولا وكلائه، فإني أقبل ذلك، وهذا يستقيم أن يقول: ما قبضتها مني، ولكن تطوع بأدائها عني، وهذا لأن فعل كل واحد يقتصر عليه بقضية الأصل، وإنما ينتقل إلى غيره بحكم الأمر، فإذا كان متطوعاً لم يوجد الأمر فبقي فعله مقصوراً عليه فلا يصير قابضاً من المطلوب، فلم تثبت المناقضة فقبلت الشهادة. ولو قال المطلوب: ما قبضها فلان، كان هذا على قبض نفس المطلوب ووكيله، وعلى كل أحد أجنبي وغيره، ولا أقبل البينة أنه قبضها من رجل أجنبي، لأنه أضاف القبض إلى الألف، وأنه يصير قابضاً لها بقضاء المطلوب، ويتبرع الأجنبي بالقضاء حتى سقط الدين، فانتظر قبضه منه ومن غيره، فإذا ادعى القبض من أجنبي، كان متناقضاً في دعواه فلا تقبل بينته بخلاف الأول، فإن ثمة أضاف قبض الألف إليه بكلمة من، وأنها إنما تستعمل إذا كان القبض بتسليم من فلان ليحصل معنى العرف الذي وضعت كلمة من له، وبالقبض من الأجنبي لا يتحقق هذا المعنى، فلم تدخل تحت صدر الكلام فلم تثبت المناقضة فقبلت الشهادة، أما ههنا فبخلافه على ما ذكرنا.

الفصل الثالث والعشرون: في الشهادة على النسب

الفصل الثالث والعشرون: في الشهادة على النسب رجل مات وترك عبدين وأمتين صغيرتين ولدتا في ملكه، وابن عم له لا وارث له غيره، فأعتق ابن العم الغلامين، فشهدا بعد عتقهما أن إحدى الجاريتين بعينها بنت الميت أقر بها في حياته وصحته، لم تقبل شهادتهما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنا لو قبلناها ابتداء أبطلناها انتهاء. بيانه: أنه إذا ثبت نسبها من الميت ظهر أن الميراث كان بينها وبين ابن العم نصفين، فظهر أن العبدين كانا بينهما نصفين، فإن ابن العم لما أعتقهما لم يعتق منهما إلا نصيب ابن العم لما عرف من أصله أن الإعتاق يتجزأ، وكان معتق البعض عبده ومعتق البعض عبده بمنزلة المكاتب، وشهادة المكاتب باطلة وعندهما تقبل الشهادة، لأنا متى قبلنا شهادتهما في الابتداء لم نحتج إلى إبطالها في الانتهاء؛ لأنه ظهر أنهما شهدا وهما حرّان لا دين عليهما إن كان المعتق موسراً، أو حرّان وعليهما دين إن كان المعتق معسراً، وشهادة الحر مقبولة مديوناً كان أو غير مديون، فإن شهدا للجارية الأخرى بمثل ذلك بطلت الشهادة أيضاً عند أبي حنيفة رحمه الله، لأنه يصير لابن العم في هذا الوجه الثلث، فكان معتق البعض أيضاً، والتقريب ما مر. وأما على قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: إن شهدا للجارية الأخرى بذلك قبل قضاء القاضي للجارية الأولى قبلت شهادتهما، ويجعلهما ابنتين للميت، سواء كان ابن العم موسراً أو معسراً، لأنهما حرّان عندهما لم يجران إلى أنفسهما مغنماً ولا دفعا عن أنفسهما مغرماً بشهادتهما، بل أوجبا على أنفسهما ثلثي السعاية للابنتين إن كان ابن العم معسراً، ولم يحولا ضماناً وجب عليهما، أما إذا كان ابن العم موسراً؛ فلأن يسار المعتق عندهما يمنع استبقاء العبد، وأما إذا كان معسراً؛ فلأن القاضي لم يقض بالسعاية على العبد بعد، حيث لم يقض بكون الأولى بنتاً للميت، وتحويل الضمان قبل وجوب الضمان محال، فبعد ذلك إن كان المعتق معسراً سعى كل واحد من العبدين في ثلثي قيمته للابنتين، وإن كان موسراً ضمن ثلثي قيمة العبدين للابنتين نصفان، ولو كان ذلك بعد قضاء القاضي للبنت الأولى، فإن كان ابن العم موسراً تقبل شهادتهما؛ لأن المعتق إذا كان موسراً لم يجب للبنت الأولى عليهما السعاية، فهما بشهادتهما لم يحولا ضماناً وجب عليهما للأولى إلى الثانية، وإن كان معسراً فهذا على وجهين: أما إن أقرت الأولى للأخرى أو لم تقر، فإن لم تقر لم تقبل شهادتهما، لأنه وجب عليهما السعاية في نصف قيمتهما للأولى، فهما بشهادتهما يحولان سدس القيمة إلى الثانية، ولهما في هذا التحويل فائدة فلا تقبل شهادتهما وإن أقرت الأولى للأخرى تقبل شهادتهما، وإن حصل تحويل سدس القيمة من الأولى إلى الثانية، إلا أن هذا التحويل في الحاصل ما حصل بشهادتهما، إنما حصل (155أ4) بإقرار الأولى بدليل أنهما لو لم يشهدا بذلك كان

سدس القيمة مما وجب عليهما محولاً إلى الأخرى، فلا يكون ذلك مانعاً قبول شهادتهما. فكذلك لو كانا دفعا نصف القيمة إلى الأولى بقضاء أو بغير قضاء ثم شهدا للأخرى لا تقبل شهادتهما، لأنهما بهذه الشهادة يريدان إبطال بعض ما ملكا من الأولى وهو السدس، وإذا لم تقبل شهادتهما بقيت الأخرى أمة للأولى وابن العم، ولا يضمن الشاهدان للأخرى شيئاً، وإن أقرا لهما بسدس القيمة إلا أنها لما بقيت أمة كان الإقرار لها إقراراً لمولاها ومولاها ابن العم والجارية الأولى وهما يكذبان الشاهدين في إقرارهما للأخرى بشيء، ومن أقر لمملوك إنسان بشيء وكذبه مولاه يبطل إقراره، فإن عتقت الأخرى يوماً من الدهر يضمن الشاهدان لها سدس قيمتها؛ لأنهما أقرا للأخرى بسدس قيمتها وهي تصدقهما في ذلك، فيضمنان لها ذلك، وهذا لا يشكل فيما إذا دفعا النصف إلى الأولى بقضاء قاض فلا يكون عليهما ضمانه، فكان عليهما ما بقي إلى ثلث قيمتهما، وذلك سدس قيمتهما لا غير إنما يشكل فيما إذا دفعا نصف قيمتها إلى الأولى بغير قضاء، وفي هذا الوجه يجب أن يضمنا للأخرى ثلث قيمتهما؛ لأنهما أقرا للأخرى بثلث قيمتهما ودفع السدس إلى الأولى كان بغير قضاء، فلا يبرآن منه، فكان عليهما ضمانه، وقد بقي عليهما سدس قيمتهما فيضمنان للأخرى ثلث قيمتهما لهذا. وأجاب الفقيه أبو إسحاق الحافظ رحمه الله عن هذا الإشكال، وقال: بأن القاضي لما قضى عليهما بالسعاية الأولى في نصف القيمة فقد قضى بدفع نصف القيمة إلى الأولى، فبعد ذلك إن وجد القضاء بدفع النصف إليها مرة أخرى فهو تأكيد لذلك القضاء، وإن لم يوجد كان القضاء الأول كافياً، والدفع متى حصل بقضاء يوجب براءة الدافع عن قدر المدفوع، ولو شهدا للأمة الأخرى أنها أخت الميت بعدما شهدا للأولى أنها ابنة الميت لا تقبل شهادتهما، قضى القاضي بشهادتهما أو لم يقض، لأن في قبولها ابتداء إبطالها انتهاء؛ لأنه يظهر أن الميت ترك ابنة وأختاً وابن عم، وفي هذه الحالة لا يكون لابن العم شيىء لكون الأخت عصبة في هذه الحالة، فظهر أن إعتاق ابن العم العبدين كان باطلاً، وأنهما بقيا عبدين وشهادة العبد لا تقبل، ولا يضمن العبدان للأخت شيئاً. وإن أقرا لهما بنصف قيمتهما لما قلنا: فإن عتقت يوماً من الدهر ضمنا نصف قيمتهما لما مر. رجل مات فشهد قوم عند القاضي لرجل أنه أخوه لأبيه وأمه ووارثه، لا وارث له غيره فقضى القاضي بذلك وقد كان للميت على رجل ألف درهم، فوهبه الأخ له أو وهب لإنسان عيناً من التركة، ثم شهد هذا الموهوب له ورجل آخر لإنسان أنه ابن الميت، جازت شهادتهما، لأن هذه شهادة على الموهوب له، فإنه يبطل بهذه الشهادة ما حصل له بالهبة من العين والدين فكانت هي من أصدق الشهادات، وكان ينبغي أن لا تقبل شهادته فيما إذا كان الموهوب عيناً، لأن الموهوب إذا كان عيناً فالهبة لا تتم إلا بقبول الموهوب له، فكان هو بهذه الشهادة ساعياً في نقض ما تم به، وهذا مانع قبول الشهادة، والجواب عن هذا: أن يقال بأن السعي في نقض ما تم به إنما يمنع قبول الشهادة إذا كان هو لا

الفصل الرابع والعشرون: في المتفرقات

يملك النقض بدون الشهادة، والموهوب له يملك الرد على الواهب من غير شهادة؛ لأن الهبة في جانب الموهوب له غير لازمة، وكان كالمرتهن إذا شهد لغيره بالرهن حتى لو كانت الهبة بشرط العوض وتقابضا، ثم إن الموهوب له شهد مع رجل آخر أن هذا الرجل ابن الميت، كانت شهادتهما باطلة، لأنه ساع في نقض ما تم به، وهو لا يملك ذلك بدون الشهادة، لأن الهبة بشرط العوض لازمة من الجانبين. وصار هذا نظير ما لو اشترى رجل من هذا الأخ شيئاً من الميراث، ثم شهد هذا المشتري مع رجل آخر بما قلنا، لم تقبل شهادته لما قلنا، وإذا لم تقبل هذه الشهادة كان للمشهود له بديونه؛ لأن يأخذ من الموهوب له ومن المشتري ذلك العين إن كانت قائمة وقيمتها إن كانت هالكة، لأن الموهوب له زعم أن الهبة لم تصح، وكذلك المشتري زعم أن الشراء لم يصح، وأن هذا العين ملك الابن فيؤمران بالدفع إليه إن كان قائماً وبرد القيمة إن كان هالكاً، والذي ذكرنا في الهبة كذلك الجواب في الصدقة، والله أعلم. الفصل الرابع والعشرون: في المتفرقات دابة في يدي رجل، يقال له محمد، فجاء رجل يقال له عمرو وقال: هذه الدابة التي في يد محمد كانت لزيد، أخذتها منه وديعة، ثم رددتها عليه، وقد مات زيد، فجاء وارثه لزيد وقال: هذه الدابة تصدق بها إلى زيد في حياته، وأنكر محمد ذلك، فجاء عمرو مع رجل آخر وشهدا بالدابة للمدعي، فإن كان الإيداع والرد معروفاً ظاهراً قبلت شهادتهما للمدعي، لأن عمراً بهذه الشهادة لم يدفع عن نفسه مغرماً، لأن عمراً إما إن كان مودع المالك بأن كان إيداع زيد إياه قبل التصدق بها على المدعي، أو كان مودعاً للغاصب بأن كان الإيداع من زيد بعد التصدق على المدعي والتسليم وأيهما كان فلا ضمان عليه إذا كان الرد ظاهراً، لأن المودع يبرأ بالرد على المودع، سواء كان المودع غاصباً أو مالكاً، فإذا برئ بالرد لم يدفع بهذه الشهادة عن نفسه مغرماً وإن كان الإيداع ظاهراً ولم يكن الرد ظاهراً، لا تقبل شهادة عمرو، علل محمد رحمه الله وقال: لأنه دافع عن نفسه مغرماً. وطعن عيسى بن أبان فقال: ينبغي أن تقبل شهادته؛ لأنه ليس بدافع عن نفسه مغرماً، لأنه إنما يكون كذلك إذا كان يضمن للمدعي، لو لم تقبل شهادته بإقراره السابق بالأخذ وبإقراره اللاحق أن الملك للمدعي للحال الحاصل في ضمن الشهادة فلا يضمن، لأنه بهذه الشهادة أقر بالملك للمدعي للحال وملك زيد كان ثابتاً بتصادقهما، والإيداع منه كان ظاهراً، إلا أنه وقع الشك أن الإيداع منه كان قبل التصدق أو بعده، فإن كان قبل التصدق: كان مودع المالك حينئذ ويكون القول قوله في الرد، ولا يجب الضمان، وإن كان الإيداع بعد التصدق كان مودع الغاصب، فلا يبرأ عن الضمان متى لم يكن الرد

ظاهراً، فلا يجب الضمان بالشك، ومتى لم يجب الضمان لم يكن هو بهذه الشهادة دافعاً عن نفسه مغرماً. والجواب عن هذا الطعن: أنه إذا وقع الشك في كونه دافعاً عن نفسه مغرماً وقع الشك في قبول شهادته، فلا تقبل شهادته بالشك والاحتمال. وجواب آخر وهو الصحيح: لا بل عمرو بشهادته دافع عن نفسه مغرماً متى لم يكن رده ظاهراً، لأنه ربما يجيء مستحق آخر لهذه الدابة ويقيم البينة أن الدابة ملكه مطلقاً، وتكون للمستحق، يضمن عمرو إذا لم يكن الرد على زيد ظاهراً، لأنه أقر أنها كانت في يده وديعة، وبالاستحقاق تبين أنه كان مودع الغاصب، ومودع الغاصب يضمن إذا هلكت الوديعة، ولم يكن الرد ظاهراً، فهو بهذه الشهادة للمدعي رفع هذا الضمان عن نفسه؛ لأنا متى قبلنا هذه الشهادة وقضينا بالدابة للمدعي، لا يكون للمستحق تضمين المودع، لأن الدابة وصلت إلى وارث الغاصب، ووصولها إلى وارث الغاصب بمنزلة وصولها إلى الغاصب، ولو وصلت إلى الغاصب يبرأ المودع عن الضمان فكذا ههنا، فكان دافعاً مغرماً من هذا الوجه. وفي «فتاوى الفضلي» : رجل ادعى داراً أنه ورثها من أبيه، وادعى آخر أنه اشتراها من أبيه ذلك، وشهد شهود المدعي للشراء بمجرد البيع فقالوا: باعها منه الميت، ولم يقولوا: وهو يملكها، والدار في يد مدعي الميراث أو مدعي الشراء، فالشهادة مقبولة، ويقضى بالدار لمدعي الشراء، وإن لم يشهدوا بالملك للميت ولا بالتسليم، إنما يحتاج شهادتهم في البيع إلى ذكر الملك والتسليم مع البيع إذا كان المشهود عليه لا يدعي ملك المدعي من جهة من يدعي المشهود له الشراء منه حياً كان أو ميتاً، بل يدعي المدعي لنفسه لا من جهة ذلك، أما إذا كان المشهود عليه يدعي ملك المدعي من جهة من ادعى المشهود له الشراء منه لا يحتاج إلى ذكر الملك أو التسليم مع ذكر البيع، لأن المشهود عليه لما ادعى المدعي من جهة من يدعي المشهود له الشراء منه، فقد ثبت كون المدعى ملكاً لذلك باعترافه فاستغنى الشهود عن ذكر ملكه حينئذٍ قال في الكتاب: لأن شهادتهم على بيع الميت منه ليست بأقل من شهادتهم (155ب4) على إقرار الميت أن الدار لمدعي الشراء. ولو شهدوا بهذا ومدعي الميراث يدعي أنها ميراث له عن الميت، لم يلتفت إلى دعواه، وقضى بالدار للمقر له، فكذا إذا شهدوا له بالشراء من غير ذكر ملك ولا تسليم، بخلاف ما إذا ادعى المشهود عليه ملك الدار لنفسه، لا من جهة أحد بعينه، حيث لا تقبل شهادتهم بمجرد البيع، لأن هنا لو شهد الشهود أن الذي ادعى المشهود له الشراء منه أقر أن الدار لمدعي الشراء، لم تقبل هذه الشهادة على المشهود عليه؛ لأنه يزعم الملك للمقر فالحاصل أنه اعتبر شهادتهم بمجرد البيع على الشهادة بالإقرار ففي كل موضع تقبل الشهادة على إقرار من يدعي المشهود له الشراء منه، لا تقبل الشهادة بمجرد البيع، والمسألة في شهادات «الأصل» وذكر ملك البائع وقت البيع ينظر في شهادات «الفتاوى الصغرى» .

وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل له تسعة أولاد أقر في صحته وجواز إقراره أن لخمسة من أولاده فلان وفلان وفلان سماهم في الصك عليه ألف درهم، ثم مات، وأنكر سائر الورثة ذلك، فشهد الشهود بذلك عند الحاكم، وقالوا: لا نعرف الأولاد المقر لهم، لأنهم لم يكونوا حضوراً وقت الإقرار، فإن أقر سائر الورثة بأسامي هؤلاء ثبت المال بشهادة الشهود، ولو جحدوا كلّف المدعون إقامة البينة على أنهم مسمّون بالأسامي التي ذكرها الشهود، فإن أقاموها يقضي لهم بذلك إذا لم يكن في سائر الأولاد مثلهم في الأسامي. قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : رجل في يديه دار، أقام رجل بينة أنها دار فلان ابن فلان الفلاني أودعنيها فالقاضي يدفع الدار إلى المدعي، لأن المودع ينتصب خصماً في الوديعة في إثبات الملك للمودع، لأنه مأمور بالحفظ ولا يتمكن من الحفظ إلا باسترداده من الغاصب، ولا يتمكن من ذلك إلا بإثبات الملك لمودعه، فكان خصماً في إثبات الملك للمودع فقبلت بينته، كما لو أقامهما المودع بنفسه فإن لم يشهد شهود المدعي على هذا الوجه، ولكن شهدت شهوده أن فلاناً أودعها من المدعي، ولم يشهدوا أنها كانت لفلان، لا تقبل هذه الشهادة، لأن المدعي بهذه البينة لم يثبت الملك في الدار لصاحب الوديعة، وإنما أثبت أنه أودعها منه، والإيداع كما يكون من المالك يكون من غير المالك، فلم تكن هذه شهادة بالملك، وإنما هذه شهادة أنها كانت في يد المودع، وقد عرف القاضي زوال ذلك اليد، فلا يجوز إثباتهما بالبينة، وكذلك لو شهدوا أنها كانت في يد المستودع أمس لم يقض القاضي بشيء؛ لأن المودع لو كان يدعي الملك لنفسه لم يستحق بهذه الشهادة شيئاً، فكذلك إذا كان يدعيه لغيره، ولو ادعى المدعي رقبتها فشهدت شهوده أن فلاناً وهبها له، وقبضها منه أو اشتراها منه وقبضها ولم يشهدوا بالملك للبائع ولا للواهب، قبلت الشهادة، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا تقبل، وإلى هذا أشار في «الكتاب» ، فإنه نسب الجواب فيه إلى أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، فأبو يوسف قاس هذا على الإيداع. والفرق لهما: وهو أن الشهود هنا شهدوا باليد عند مباشرة سبب الملك، وهو البيع والهبة والشهادة على اليد عند مباشرة سبب الملك، كالشهادة على الملك حكماً، لأن الأملاك لا تعرف إلا بها، ولهذا إذا رأى عيناً في يد إنسان يتصرف فيها تصرف الملاك حل له أن يشهد بالملك له، فكانت هذه شهادة للمدعي، فقبلت بخلاف فصل الإيداع، لأن هناك الشهود ما شهدوا باليد عند مباشرة السبب؛ لأن الإيداع ليس من أسباب الملك بل هو نقل من يد إلى يد فلم تكن الشهادة على اليد عند الإيداع شهادة على الملك بخلاف البيع والهبة على ما مر. بشر عن أبي يوسف رحمه الله: شاهدان شهدا على رجل أنه طلق امرأته ثلاثاً، فأنفذ القاضي شهادتهما، ثم ادعى أحد الشاهدين أنها امرأته تزوجها قبل الذي طلقها، وأتى على ذلك ببينة والمرأة تجحد فإنه لا يقبل ذلك منه، وكذلك لو لم يكونا شهدا أنها

امرأته، وإنما شهدوا أنه طلق هذه ثلاثاً، وكذلك هذا في العتق والبيع وغير ذلك إذا جحد البائع دعوى الشاهد، وقال: المتاع لي، وكذلك إذا قال الشاهدان: نحن أمرناه بالبيع، لأن ما نفذ من الحكم بشهادتهما بمنزلة الإقرار منهما أنه لاحق لهما فيه، ولا في ثمنه وسواء كان البائع جاحداً للبيع أو كان المشتري جاحداً للشراء، ولو شهدا ورد الحاكم شهادتهما، ثم ادعياه لأنفسهما، فليس لهما في ذلك دعوى، وإن لم يشهدا عليه عند الحاكم ولكن شهدا المبايعة وحتما على الشراء من غير إقرار بكلام، فإن هذين لا تقبل لهما دعوى. وذكر عن محمد رحمه الله: رجل شهد على رجل أنه طلق هذه المرأة ولم يشهد أنها امرأته، وأجاز القاضي شهادته عليها، ثم ادعى الشاهد أنها امرأته، وقال: لم أعرفها ولم أكن دخلت بها قبلت بينته، وكذلك لو شهد على إقرار المرأة أنها امرأته ولم يشهد أنها امرأته، فأجاز القاضي عليها إقرارها وجعلها امرأته، ثم أقام الشاهد بينة أنه تزوجها منذ سنة، وإني لم أعرفها قبلت بينته، ويبطل قضاء القاضي، ويردها على الشاهد، فصارت مسألة الطلاق مختلفة بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله. في «أدب القاضي» : إذا شهد شاهدان لمدعى على رجلين أن أحدهما باع الدار من هذا المدعي وسلم الآخر، ولا يعرف الشهود البائع فشهادتهما باطلة، لأن المشهود عليه مجهول. بيانه: أن الشهادة بالبيع شهادة على البائع وبزوال ملكه عن المبيع ببدل، وهما لم يعرفا البائع فكان المشهود عليه مجهولاً من هذا الوجه. وكذلك إذا شهدا على رجل أنه باع هذه الدار من أحد هذين الرجلين، ولا يعرفان المشتري بعينه، لأن المشهود عليه مجهول وهو المشتري، قال: ألا ترى أن في الأول لو قلنا: هذه الشهادة فإذا استحقت الدار من يد المشتري، فالمشتري على من يرجع بالثمن؟، وقال: ألا ترى أن في الفصل الثاني لو قبلنا هذه الشهادة فعلى من يلزم الثمن وينكره كل واحد منهما ويدفعه عن نفسه. في «نوادر ابن سماعة» عن محمد: في شاهدين شهدا على رجلين، فقالا: نشهد أن هذين ضربا فلاناً فقتلاه، ضربه أحدهما بالسيف، والأخر بالعصا، لا ندري أيهما صاحب السيف وأيهما صاحب العصا فالشهادة باطلة، لأن القتل يختلف باختلاف الآلة، فإذا جهلا أيه فعل كل واحد منهما، صار فعل كل واحد منهما مجهولاً وجهالة المشهود به يمنع صحة الشهادة. وكذلك إذا قالا: نشهد أنهما قطعا يديه فمات من ذلك، قطع أحدهما يمينه، والآخر يساره، عمداً، أحدهما بحديدة، والآخر بعصا، ولا ندري من صاحب العصا منهما، أو لا ندري من قطع منهما اليمين ومن قطع منهما اليسار، أو قالا: جرحاه هاتين الجراحتين، لا ندري من جرح هذه ومن جرح هذه، فالشهادة في هذا كله باطلة؛ لأن الفعل يختلف باختلاف المحل وباختلاف الآلة، فإذا أقرا أنهما جهلا ذلك، فقد ضيعا

شهادتهما حيث لم يمكنهما الشهادة على فعل معين معلوم، فلا تقبل شهادتهما. ولو قالا: نشهد أنهما قطعا يده، قطع هذا يمينه والآخر يساره أو جرح هذا هذه، وهذا هذه ولا ندري بأي شيء جرحاه، فالقياس أن لا تجوز شهادتهما لما ذكرنا أنهما ضيعا شهادتهما بإقرارهما أنهما جهلا آلة القطع وآلة الجرح فبطلت شهادتهما، ولكنّا استحسنّا وجوزنا هذه الشهادة، لأنهما اتفقا على أصل الفعل وإن اختلفا في وصفه فقبلت شهادتهما فيما اتفقا عليه، ولأنهما إنما لم يذكرا آلة القتل والجرح على القاتل احتيالاً لدرء القصاص وابتداء بما ندما إليه في الشرع مع علمهما، فلا يقدح ذلك في الشهادة بخلاف المسألة المتقدمة، لأن ثمة قد ذكرا آلة الجرح والقتل، ولكنهما جهلا صاحب الآلة فلا يمكن حمله على السر، وإنما هذه شهادة على مجهول، لأنهما لم يشهدا بالقتل بالسيف ولا بالقضاء على أحدهما بعينه، فلا تقبل شهادتهما، ثم في هذه المسألة الأخيرة إذا قبلت الشهادة وجب المال، لأنه تعذر إيجاب القصاص، لأنه يعتمد القتل عمداً بحديدة ولم يثبت، فوجبت الدية، وإنما تجب في ماله ولا تجب على العاقلة، (156أ4) لمكان الشك فإنه كان خطأً تجب على العاقلة، وإن كان عمداً لا تجب على العاقلة، ويحتمل كلا الأمرين، فلا تجب على العاقلة بالشك، وإن قالا: قتله خطأً، الآن تجب الدية على العاقلة لاتفاقهما على وجوب الدية على العاقلة. والقتل إذا كان خطأً بأي آلة كان، فإن موجبه على العاقلة، قال: وكل شيء من هذه الشهادة كنت أقضي بها لو برأ الرجل من الجراحة، وأجعل في ذلك دية، أو قصاصاً، فإني أقضي به إذا مات وأجعل (على) عاقلته الدية، وكل شيء كنت أبطله لو عاش الرجل وبرئ من الجراحة فإني أبطله إذا مات من ذلك، لأنه إنما يقضي بالدية والقصاص في حالة الحياة عند تمام الحجة على الجرح واستجماع شرائط قبول الشهادة، فإذا مات منهما أحد بموجب السراية وإذا لم يقض في حياته بشيء فإنما لم يقض لانعدام الحجة على فعله، أو لفقدان شرائط جواز الشهادة، فإذا مات منهما لا يمكن القضاء بموجب السراية أيضاً، ثم فسر ذلك فقال: ألا ترى أنهما لو قالا: نشهد أن كل واحد قطع إحدى يديه أحدهما بسيف والآخر بعصا لا ندري أيهما صاحب السيف، وقد برأ الرجل من الجراحتين إن هذا باطل لأنهما إذا أقرا أنهما حملا ذلك لم يشهدا على واحد بعينه بفعل بعينه، فلا يمكن القضاء بموجب أحد الفعلين على أحد الرجلين. ألا ترى أن موجب أحد الفعلين قصاص وموجب الآخر الدية، ولا ندري على من يوجب القصاص، وعلى من تجعل الدية لأن المقضي عليه مجهول فيهما، فكذلك إذا مات منهما لا يمكن إيجاب القصاص والدية أيضاً، لأن الفعل الذي يدعيه على كل واحد منهما مجهول، وجهالة المشهود به يمنع صحة الشهادة، حتى لو أثبتا كان على كل واحد منهما نصف الدية لثبوت القتل عليهما. لو قالا: نشهد أنهما قتلاه بعصا أو بسيف، ثم مات الشاهدان أو غابا إني لا أبطل هذا، وأجعلهما ضاربين بالسيف وضاربين بالعصا، لأنهما شهدا بقتلهما، والقتل لابد وأن

يكون بآلة القتل ثم لما ذكر آلة القتل، عقيب فعلهما انصرف إليهما جميعاً فكان على كل واحد منهما نصف الدية، ربعاً في ماله وربعاً على العاقلة، لأنه لو قتله بالسيف عمداً وتعذر إيجاب القصاص كانت عليه الدية في ماله، ولو قتله بالعصا كانت الدية على العاقلة لأنه شبه العمد، فإذا جمع بينهما يوزع عليهما حكمه، ولو كانا قتلاه كان كل واحد منهما قاتلاً نصفه، نصف هذا النصف بسلاح، فيكون موجبه الدية في ماله، ونصف هذا النصف بعصا فيكون موجبه على العاقلة، كما لو تفرد به. قال: ألا ترى أنهما لو قالا: قتلاه بسيف أن هذا على سيف واحد لأن القتل لما كان واحداً لابد من أن تكون الآلة متحدة فكذلك قولهما: بسيف وعصى، ولو كان القاتل واحداً فقالا: نشهد أن هذا قتله بسيف وعصا فإني أستحسن في هذا أن أجيزه وأجعل عليه نصف الدية في ماله، ونصفاً على عاقلته لأنه صار قاتلاً للنصف بالسيف، وحكمه وجوب الدية في ماله عند تعذر إيجاب القصاص، وقد تعذر إيجاب القصاص ههنا، وصار قاتلاً للنصف بالعصا وحكمه وجوب الدية على عاقلته، فلهذا أوجبنا على عاقلته نصف دية النفس. ولو قالا: نشهد أن هذا قطع يديه جميعاً، إحداهما: بالسيف، والأخرى: بالعصا، لا ندري أيتهما قطعت بالسيف وأيتهما قطعت بالعصا فمات من ذلك كله، فعليه الدية نصفاً في ماله ونصفاً على عاقلته، لأنهما بينا في شهادتهما قاطع اليمين وقاطع اليسار، ولكنهما لم يبينا آلة القطع، وقد ذكرنا أن المشهود عليه إذا كان معلوماً وآلة الفعل غير معلومة أن الشهادة مقبولة استحساناً، وقد ذكرنا وجهه. ولو قالا: نشهد أن هذا جرحه هذا الجرح إما بحديدة وإما بعصا، والمجروح قد برأ من ذلك، فإن هذا جائز وهو على الجاني في ماله إذا كان بعد ضربه، وهو مما لا يقدر فيه على القصاص لأنهما بينا الجارح فكان المشهود معلوماً، وأصل فعل الجرح معلوم ولكن الآلة غير معلومة، وقد ذكرنا: أن بيان آلة الجرح والقتل ليس بشرط لوجوب المال استحساناً، لأن حكم المال لا يختلف، بل أصل الجرح كاف لوجوب المال، وقد ثبت بشهادتهما، ولا يجب على العاقلة بالشك فيجب في ماله. قال في كتاب الديات: إذا شهد شاهدان على أنه قتله، وقالا: لا ندري بأي شيء قتل، فالقياس في هذا أن يكون باطلاً، ولكني أستحسن أن أجيز هذا وأجعل الدية عليه في ماله، وجه القياس: أنهما ضيعا شهادتهما ونسبا أنفسهما إلى الغفلة، فلا تقبل شهادتهما، ولأن اتفاقهما على فعل واحد شرط قبول شهادتهما، وإنما يتحقق اتفاقهما على الفعل إذا اتفقا على آلة واحدة؛ لأنه إنما يتحقق الفعل بالآلة، ولا يثبت ذلك بدون التنصيص. فأما إذا قالا: لا ندري لا يثبت الاتفاق منهما على آلة واحدة لجواز أنهما لو بينا، بيّن كل واحد منهما آلة أخرى، وذلك بأن يكون بياناً بكلامه لا أن يكون مخالفاً، فإذا احتمل كلامهما هذا النوع من البيان، لا يثبت الاتفاق بينهما بالدليل المحتمل.

وجه الاستحسان: أن الشرط اتفاقهما فيما صرحا به من الشهادة، وقد اتفقا عليه وذلك أصل الفعل وإنهما اتفقا عليه ولا احتمال فيه، وأصل القتل موجب الدية، فاتفاقهما عليه يكون على هذا الموجب، فأما القصاص إنما يجب باعتبار صفة العمدية، ولم يتعرض الشهود لذلك، وباختلاف الآلة إنما يختلف حكم القصاص، فإنما يعتبر بوهم الاختلاف لمنع القصاص لا لمنع وجوب الدية، فإنه لا أثر لاختلاف الآلة في ذلك ولأنهما انتدبا إلى ما ندبهما الشرع إليه، وهو الاحتيال لدرء القصاص، واكتفيا بالشهادة على أصل القتل فلا يكون ذلك مبطلاً لشهادتهما، ولكن يقضى بالدية في ماله كما هو موجب قتل العمد إذا وجب المال، ولأن الشك يقع على الوجوب على العاقلة، إن كان القتل عمداً لا يجب، وإن لم يكن يجب، ويحتمل كلا الأمرين فلا يجب على العاقلة بالشك والاحتمال. وإذا غصب الرجل من آخر شيئاً فلا ينبغي للشهود أن يشهدوا أنه غصبه ولا أنها عليه، وينبغي لهم أن يقولوا: عايناه أخذ منه ألفاً، لأن الشاهد لا علم له بحقيقة الغصب، لجواز أنه أخذ منه ماله حق الأخذ بأن كانت هذه الألف ملكاً له ولا يعلم الشاهد، أو كان له قبل هذا المأخوذ منه ألف درهم دين بسبب من الأسباب، وقد ظفر بجنس حقه فأخذه، ومن ظفر بجنس حقه كان له أن يأخذه ولا يكون غاصباً بل يكون مستوفياً حقه. وهذه المعاني غيب عن الشاهد، فثبت أنه لا علم للشاهد بحقيقة الغصب، إنما علمه بأخذ الألف من يده لمعاينته ذلك، فينبغي أن يشهد بهذا القدر لا غير، وكذلك لا يشهد أنها عليه لأن بما شهد من الأخذ، لا يثبت له العلم بوجود الدين عليه، فلا يسعه أن يشهد بذلك. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا ادعى رجل على رجل خمسمئة درهم فأنكر المدعى عليه، فجاء المدعي بشاهدين، فشهد أحد الشاهدين أن هذا المدعى عليه أقر للمدعي بخمسمئة درهم، وشهد الآخر أن المدعى عليه أقر لي وللمدعي بألف، فشهادة هذا الشاهد باطلة؛ لأنه شهد بمال مشترك بينه وبين غيره، ولا يمكن تصحيح الشهادة كذلك، لأنه شاهد لنفسه ولا وجه إلى أن يصرف الشهادة إلى نصيب الشريك لما فيه من قسمة الدين قبل القبض وإنها باطلة، فإن قال هذا الذي شهد لنفسه وللمدعي: لم يكن لي عليه شيء، لكنه أقر بذلك عندي كاذباً، وقال المدعي: لم يكن لشاهدي هذا شركة في المال لكنه أقر بهذا بين يديه كاذباً، فالشهادة أيضاً باطلة في قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد: فالشهادة جائزة، أما عند أبي حنيفة: إنما لا تقبل لأن أحد الشاهدين شهد بخمسمئة والآخر بألف، وفي مثل هذا لا تقبل الشهادة عنده، ولأن الشهادة خرجت على وجه الفساد، فلا تنقلب جائزة بإنكار الشركة. كالمريض مرض الموت إذا أقر لوارثه ولأجنبي بدين مشترك وأنكر الوارث شركة نفسه، لا يصح الإقراء للأجنبي عند أبي حنيفة رحمه الله، لخروجه على وجه الفساد فلا تنقلب جائزة بإنكار الوارث الشركة. وعند أبي يوسف: لا تقبل الشهادة قياساً على هذه

المسألة دون المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى قول أبي يوسف كقول محمد، وأما عند محمد: فتقبل الشهادة ههنا قياساً على المسألتين عنده، لكن عند محمد يقع الفرق بين مسألة «الكتاب» (156ب4) وبين مسألة إقرار المريض من وجه أن في مسألة الكتاب يشترط إنكار الشاهد الشركة مع إنكار المدعي الشركة، وهناك إنكار الأجنبي الشركة كاف عنده، والفرق: أن ههنا الشاهد لو ادعى الشركة فقد أقر للشاهد ببطلان شهادته، والشاهد متى أقر ببطلان شهادته تبطل الشهادة. وإذا أنكر الشاهد الشركة وادعى المدعي الشركة فقد أقر المدعي ببطلان الشهادة وأقر المدعي ببطلان الشهادة فشرط إنكارهما الشركة لقبول الشهادة لهذا، أما في مسألة الإقرار: إذا كان الوارث مقراً بالشركة، وأنكر الأجنبي الشركة فالوارث وإن جعل مقراً ببطلان إقرار المريض لكن بهذا لا يبطل إقرار المريض للأجنبي، إذ ليس للوارث هذه الولاية فاكتفى بإنكار الأجنبي الشركة ثمة لهذا. رجل ادعى على رجل مئة درهم أو مئة منّ من الحنطة أو ما أشبه ذلك، فقال المدعى عليه: قد قضيته، أو قال: قد أوصلته إليه، أو قال بالفارسية: كزارده أم رسانيده أم انجه دعوى ميكندباو، وجاء بشهود شهدوا أنه دفع إليه مئة درهم أعطاه مئة منّ من الحنطة ولكن لم يقل الشهود: أعطاه هذه المئة التي ادعاها المدعي قبل شهادتهم، لأنه أدى مثل ما وجب عليه وهذا هو الواجب في قضاء الدين، والبراءة متعلقة به على ما عرف، ولأنه بهذه الشهادة ثبت دفع المئة من الدافع إلى المدفوع إليه، والقول قول الدافع في بيان جهة الدفع، وفي «فتاوى النسفي» : أن هذه الشهادة لا تقبل ما لم يشهد الشهود أنه أعطاه المئة التي ادعاها هذا المدعي. وفي «فتاوى الفضلي» : سئل عمن مات فشهد شاهدان أن هذه المرأة كانت امرأته يوم مات، وشهد آخران أنه كان طلقها قبل الموت، قال: بينة النكاح أولى، ويجعل كأنه طلق ثم تزوج، وقال القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله: بينة الطلاق أولى، لأنهم أثبتوا زيادة أمر مع الإقرار بالنكاح، وهو الطلاق. شهد لرجل أنه وارث فلان لا وارث له غيره، أو لا أعلم له وارثاً غيره، ثم شهد لرجل آخر بعد ذلك أنه لا وارث له غيره لا يعلم له وارثاً غيره قبلت الشهادة، لأن قول الشاهد: لا وارث له غيره لا يعلم له وارثاً غيره، ليس من صلب الشهادة بل هو أمر زائد على ما عرف، فصار وجوده والعدم بمنزلة، ولأن التوفيق ممكن لأنه يمكنه أن يقول: لا أعلم له وارثاً أخر حال ما شهدت ثم علمت، ولأن أكثر ما فيه أن في ضمن كلامه أن لا شهادة لي بوراثة شخص آخر. ومن قال: لا شهادة لي في حادثة ثم شهد فيها تقبل شهادته؛ كذا ههنا. وإذا شهد شاهدان على إقرار رجل بشراء محدود لا تقبل شهادتهما إذا لم يكن في شهادتهما. إقرار على نفسه لأن الإقرار كما يكون على نفسه يكون على غيره، وما على غيره لا يكون حجة، وما على نفسه يكون حجة، فلابد من بيانه.

وسئل الفقيه أبو بكر الأعمش عمن لا يحسن الدعوى إذا أمر الحاكم رجلاً حتى علمه كيف يدعي، ثم شهد هذا المعلم على ذلك الدعوى، قال: لا بأس على الحاكم فيما فعل، ولا يصير المعلم بهذا التعليم مطعوناً وشهادته جائزة إذا كان عدلاً. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: في رجل أشهدني أن لفلان عليه ألف درهم ثم قضاه خمسمئة، ثم جاء المشهود له يسألني الشهادة وله شاهد آخر يشهد على الألف، قال: لا يشهد له إلا بخمسمئة، وهذا لأنه لو شهد له بالألف مع الشاهد الآخر تثبت الألف بشهادتهما، وبقوله وحده لا يثبت قضاء الخمسمئة، فيكون هو بالشهادة بالألف مسلطاً القاضي على القضاء بالألف، مع علمه أنه ليس له عليه إلا خمسمئة وأنه لا يجوز، فإن كره المشهود له ذلك فليقر عند القاضي بما قبض، ثم يشهد عليه بألف، قضاه منه خمسمئة ليكون مؤدياً ما عليه من الشهادة، ولا يكون بشهادة مسلطاً القاضي على القضاء عليه بما ليس عليه؛ لأنه قد برئ عن الخمسمئة بإقرار الطالب فلا حاجة إلى إثباته بالبينة. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: في شاهدين شهدا أن فلاناً أشهدنا أنه جعل لابنه فلان * وقد عرفنا الابن يومئذ بعينه ونسبه * هذا العبد منه، والابن يومئذ في عياله وذلك منذ زمن طويل، ونحن لا نعرفه في هذه الساعة لم تجز شهادتهما، وكذلك لو شهدا أن لهذا الرجل على فلان بن فلان ألف درهم، ونحن عرفنا فلاناً يوم أشهدنا عليه بعينه ونسبه، ولكن لو رأيناه الساعة لا نعرفه لم تجز شهادتهما. إذا شهد أحد الشاهدين على الكفالة بهذا اللفظ كوالي سيدهم كر فلان حنين كفت كم أكر فلان سرماه وأحال فلان يد مد من ضمان كروم من أين مال، أو شهد آخر: كم فلان حنين كنت كم من أين مال ضمان كردم أن فلان من فلان رأتا سرماه، لا تقبل هذه الشهادة لأن أحدهما شهد بضمان منجز، والآخر شهد بضمان معلق بينهما مغايرة فيمنع قبول الشهادة. وإذا شهد رجل وامرأتان أنه قتل ابنه عمداً جازت شهادتهما. ولو شهد رجل وامرأتان أن فلانة قتلت زوجها عمداً ولها منه ابن وله ورثة غير الابن لا يقبل الشهادة. والفرق: أن قتل الأب ابنه لا يوجب القصاص بحال وإنما يوجب المال، وشهادة النساء مع الرجال حجة في باب المال، أما قتل المرأة زوجها يوجب القصاص، ثم يسقط بعد ذلك إذا صار ميراثاً لابنها، ألا ترى أنه يتصور استيفاء القصاص منها بحال بأن يموت الابن بعد الجراحة أولاً، ثم يموت الأب من الجراحة، فإن في تلك الصورة بقتل المرأة لزوجها، وإذا تصور استيفاء القصاص بهذا القتل بحال، كان هذا القتل موجباً القصاص من الابتداء، وشهادة النساء ليس بحجة في القصاص. ولو شهدوا على رجلين أنهما اشتركا في قتل ابن أحدهما قبلت شهادتهم، لأن هذا القتل لا يوجب القصاص بحال، فكان موجباً الدية من الابتداء، فكانت شهادتهما على المال.

رجل في يديه شيء جاء رجل وادعى أنه اشتراه منه، وجحد ذو اليد فأقام المدعي شاهدين، فشهدا أنه باعه منه ولا يدري أهو للبائع تقبل الشهادة ويقضي بذلك الشيء للمدعي. في «الزيادات» في باب المساومة. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» في هذا الباب أيضاً: رجل في يديه طيلسان ساومه به رجل فلم يتفق بينهما بيع، أو باعه بشرط الخيار لأحدهما، ثم ادعى أن الطيلسان كان لوالده يوم المساومة أو الشراء، وأن أباه مات أمس وتركها ميراثا له لم تسمع دعواه، ولو أقام على ذلك بينة لا تقبل بينته لأنه بالإقدام على الشراء أو المساومة، صار مقراً بالملك للبائع على رواية «الجامع» ، وبولاية البيع له على رواية «الزيادات» ، وبصحة الشراء على الروايات كلها، فيصير بدعوى ملك الأب والإرث من جهته متناقضاً، وهذا الجواب مشكل في فصل المساومة على رواية «الزيادات» ، ولو كان الأب حياً وادعى الطيلسان لنفسه، وأقام على ذلك بينة صحت دعواه وقبلت بينته لأنه لم يوجد من الأب ما يجعله متناقضاً في دعواه الطيلسان لنفسه، فإن مات الأب بعد ذلك وورث الابن الطيلسان سلم له، ولم يكن للبائع على الطيلسان سبيل. أما على رواية «الزيادات» فلأن المساوم أو المشتري لم يصر مقراً بالملك للبايع إنما أقر بولاء البيع وبصحة الشراء؛ إلا أن القاضي لما قضى للأب بالطيلسان تبين أنه لم يكن له ولاية البيع وأن الشراء لم يكن صحيحاً، فصار مكذباً له في إقراره فالتحق بالعدم. وأما على رواية «الجامع» فلأنه وإن صار مقراً بالملك له ولكن في ضمن الشراء، وقد بطل الشراء بالقضاء بالطيلسان للأب، فيبطل ما ثبت في ضمنه. وكذلك لو قضى القاضي بالملك للأب فلم يقبضه الأب حتى مات كان الطيلسان ميراثاً للابن؛ لأن الملك قد تقرر للأب بقضاء القاضي فلا يبطل بموته. ولو لم يقض القاضي للأب حتى مات الأب، بطلت البينة لأن دوام الخصومة إلى وقت القضاء شرط صحة القضاء بالبينة، وقد انقطعت خصومة الأب بالموت والابن لا يصلح خصماً لكونه متناقضاً فبطلت البينة (157أ4) ضرورة. وذكر هشام عن محمد رحمه الله في زيادات «النوادر» : أن من ساوم رجلاً بشيء ثم يشتري ذلك الشيء من آخر وقبضه، فللأول أن يأخذه من يده؛ لأنه لما ساوم فقد أقر له به، وإنه يخالف رواية «الزيادات» لأن المساومة على رواية «الزيادات» ليست بإقرار بالملك، بل هي إقرار بولاية البيع لا غير، وكذلك يخالف رواية «الجامع» ، لأن المساومة على رواية «الجامع» وإن كان إقراراً بالملك ولكن ظاهراً لا قطعاً، والظاهر لا يصلح حجة للاستحقاق، ولو أن المساوم بين عند المساومة أن هذا الطيلسان لوالده، وقد وكل هذا بالبيع وطلب منه البيع فلم يتفق بينهما بيع، ثم أقام المساوم بينة أنه كان لأبيه وأنه مات أمس وتركه ميراثاً له قبلت بينته لأنه لا مناقضة في هذا الفصل؛ لأنه صرح عند المساومة أنه ملك أبيه، ألا ترى أنه لو اشتراه ونقد ثمنه ثم أقام بينة أنه كان لأبيه يوم اشتراه، وأنه قد كان وكله ببيعه وأن لي ثمنه صحت دعواه، لأنه ساع في تقرير ما سبق

منه وتم به لا في نقضه، وإنما ادعى ملك الثمن بسبب جديد لا يناقض الأول، وكذلك إذا ساومه، ثم ادعى بعد ذلك. رجل في يديه طيلسان جاء رجل وادعى أن صاحب اليد باع الطيلسان منه بمئة دينار ونقده الثمن، وأقام على ذلك شاهدين، فشهدا أن صاحب اليد باع هذا الطيلسان من هذا المدعي، وقضى القاضي بشهادتهما أو لم يقض حتى أقام الشاهدان بينة أن هذا الطيلسان لأبيهما يوم شهدا وأنه مات وتركه ميراثاً لهما، فالقاضي لا يسمع ذلك منهما ولا يقبل شهادتهم؛ لأنهما حين شهدا بالبيع على صاحب اليد فقد أقرا بالملك له على رواية «الجامع» وبولاية البيع على رواية «الزيادات» ، فصارا بهذه الدعوى متناقضين ساعيين في نقض ما أوجبا وإتمام البيع، وكذلك لو ادعياه لغيرهما بالوكالة عنه لم تصح دعواهما، لأن المتناقض كما يصحح الدعوى لنفسه يمنع الدعوى لغيره، عرف ذلك في كتاب الدعوى ولو استحق الطيلسان يستحق غيرهما وقضى القاضي له به، ثم وصل إلى يديهما لم يؤمرا بالتسليم إلى ذلك البائع، أما على رواية «الزيادات» فلأن الشهادة على البيع ليست بإقرار بالملك للبائع، وعلى رواية «الجامع» وإن كان إقراراً ولكن في ضمن الشهادة، وقد بطلت شهادتهما حين قضى القاضي بالطيلسان للمستحق، فيبطل ما ثبت في ضمن الشهادة من الإقرار، ولا يؤمران بالتسليم إلى المشتري أيضاً، وإن كانت الشهادة بالبيع شهادة بالملك للمشتري ولكن في ضمن البيع وقد بطل البيع بقضاء القاضي بالطيلسان للمستحق، فبطل ما ثبت في ضمنه من الشهادة بالملك للمشتري.p ولو أن الشاهدين بينا للقاضي يوم الشهادة على البيع، فقالا: هذا الطيلسان لنا، أو قالا: لأبينا أو قالا: لفلان وقد باع هذا من هذا، ثم إنهما أقاما البينة أن الطيلسان لنا ورثناه من أبينا أو من فلان الذي أقرا له، وقالا: فلان وكلنا بالخصومة، صح ذلك منهما لأن معنى التناقض ههنا قد انعدم؛ لأنهما لما بينا ذلك عند الشهادة لم يشهدا بالملك للبائع ولا اعترفا بصحة البيع فصحت دعواهما وقبلت شهادتهما. ولو أن الشاهدين لم يبينا للقاضي شيئاً ولم يشهدا عند القاضي بالبيع، ولكن قالا للقاضي قولاً من غير شهادة: إن هذا باع الطيلسان من هذا، ثم أقاما البينة على أن ذلك لهما وعلى شيء مما وصفا، سمع بينتهما بخلاف ما إذا شهدا عند القاضي. والفرق: وهو أن الشهادة بالبيع مطلقاً تنصرف إلى بيع صحيح موجب الملك للمشتري، لأن الشهادة حجة موجبة للقضاء، والقاضي إنما يقضي ببيع صحيح موجب الملك للمشتري، والشهادة بصحة البيع وبالملك للمشتري يمنع الدعوى لنفسه لمكان التناقض عل ما مر، أما مجرد القول من غير أن يكون شهادة لا ينصرف إلى بيع صحيح لا محالة يحتمل أن يكون إخباراً عن البيع الصحيح، ويحتمل أن يكون لشكنا أن هذا الشخص باع مالنا أو مال أبينا وماله، وذلك وعلى هذا التقدير لا يثبت التناقض، فلا يمنع الدعوى بالشك والاحتمال. والهبة والصدقة مع القبض بمنزلة البيع حتى لو شهدا على الهبة أو الصدقة مع

القبض، ثم ادعيا بعد ذلك لأنفسهما لا تسمع دعواهما، لأن المعنى يجمع الكل وهو التناقض وكذلك النكاح بمنزلة البيع حتى لو شهدا على النكاح على الطيلسان بأن شهدا أنه جعل الطيلسان مهراً، ثم ادعيا الدار لأنفسهما أو لأبيهما يوم شهدا لم يسمع ذلك منهما لمكان التناقض وهذا الجواب يوافق رواية «الجامع» ؛ لأن مطلق شهادتهما بالإجارة إقرار بالملك للآجر، وإنه يناقض دعوى الملك لأنفسهما، أما لا يوافق رواية «الزيادات» لأن شهادتهما بالإجارة ليست بإقرار بالملك للآجر بل هو إقرار بولاية الإجارة، وإنه لا يناقض دعوى الملك لنفسه، فينبغي أن تسمع دعواه فيما يرجع إلى رقبة الدار إن كانت لا تسمع فيما يرجع إلى استخراجها من يد المستأجر؛ وكذلك في هذه المسائل، لو ادعيا لغيرهما بوكالة ذلك الغير لم تصح دعواهما لما ذكرنا: أن التناقض كما يمنع الدعوى لنفسه يمنع الدعوى لغيره. فإن كان الشاهدان قالا: كانت لنا يوم شهدنا بالإجارة وهذا الآجر كان وكيلنا في الإجارة، أو قالا: كانت لأبينا يوم شهدنا بالإجارة، وهذا الآجر كان وكيل أبينا، وأقاما البينة على ذلك قبلت شهادتهما على رقبة الدار لعدم التناقض؛ لأنهما أقرا أنه آجر له حق الإجارة، والآن يقولان هكذا فتسمع دعواهما، وهذا الجواب يوافق رواية «الزيادات» ، أما لا يوافق رواية «الجامع» لأن شهادتهما بمطلق الإجارة إقرار بالملك للآجر. ولو أقاما البينة على أن الدار كانت لهما، أو كانت لأبيهما يوم شهدا بالإجارة إلا أن شهودها لم يشهدوا أن الآجر كان وكيلاً عنهما أو عن أبيهما في الإجارة لا تصح دعواهما، وهذا الجواب يوافق رواية «الجامع» لأن التوكيل لم يثبت لعدم البينة على التوكيل بقي الآجر آجراً مطلقاً، وإجارة الآجر مطلقاً تكون لنفسه على رواية «الجامع» وإنه يناقض دعوى الملك لنفسه. ثم إذا قبلت الشهادة على رقبة الدار إذا شهد شهودهما أن الآجر كان وكيلاً عنهما أو عن أبيهما على نحو ما ذكرنا، ينظر بعد ذلك إن كان المستأجر معترفاً كانت الشهادة الأولى وهي الشهادة على الإجارة ماضية وكان الأجر لهما، لأنه تبين أنهما شهدا على أنفسهما أو على أبيهما، وشهادة الإنسان على نفسه وعلى أبيه مقبولة، غير أن في مسألة الأب يحكم ببطلان الإجارة من يوم موت الأب، لأن موت الموكل في باب الإجارة يبطل الإجارة بخلاف موت الوكيل في باب الإجارة، والفرق عرف في كتاب الإجارة. ولو كان المستأجر جاحداً للإجارة كانت الشهادة الأولى باطلة، لأنه تبين أنهما بالشهادة الأولى شهدا لأنفسهما أو لأبيهما، وشهادة الإنسان لنفسه ولأبيه باطلة، حتى لو كانت الشهادة الأولى لأخيهما والباقي بحاله كانت الشهادة الأولى ماضية، لأنه تبين أنهما بالشهادة شهدا لأخيهما، وشهادة الإنسان لأخيه مقبولة، والذي ذكرنا في مسألة الإجارة كذلك فكذلك في مسالة الشراء حتى إن الشاهدين لو قالا: الدار كانت لنا، أو قالا: كانت لأبينا يوم شهدنا بالبيع، وإن البائع كان وكيلاً عنا أو عن أبينا في البيع، وأقاما البينة على ذلك كله، قبلت بينتهما، وهذا الجواب لا يوافق رواية «الجامع» أما يوافق

رواية «الزيادات» ، فبعد ذلك إن كان المشتري معترفاً بالشراء كانت الشهادة الأولى، وهي الشهادة على الشراء ماضية وكان الثمن لهما، وإن كان جاحداً للشراء كانت الشهادة الأولى باطلة على نحو ما بينا، ولو كانت الشهادة الأولى للأخ والباقي بحاله، فالشهادة الأولى ماضية على كل حال على نحو ما بينا. الأخوان إذا زوجا أختهما وهي صغيرة ثم أدركت فشهدا أنها اختارت نفسها لا تقبل شهادتهم، ولو كانت أمة بين رجلين ولها زوج أعتقاها ثم شهدا أنها اختارت نفسها قبلت شهادتهما. في كتاب «العيون» شهد اثنان أن زوج فلانة قد مات أو قتل، وشهد اثنان أنه حي فالشهادة على الموت والقتل أولى (157ب4) في «وصايا عصام» المشهود عليه إذا أقام أولئك الشهود لحق نفسه، فإن كان قال: إنهم كاذبون فيما شهدوا عليّ فقد فسقهم، لا تقبل شهادتهم له، وإن لم يرد على الإمكان قبلت شهادتهم له. إذا غاب الشاهدان أو ماتا بعد القضاء قبل الإمضاء ففيما إذا قامت الشهادة على المال أو (على) ما هو نظير المال مما يثبت مع الشبهات كالنكاح والطلاق لا يمنع القضاء؛ وفيما إذا قامت الشهادة على الحد، إن كان الحد رجماً لا يستوفى عندنا، وإن كان قطعاً أو جلداً لا يقطع ولا يجلد عند أبي حنيفة أولاً، ثم رجع وقال: يقطع ويجلد وهو قولهما، وفيما إذا قامت الشهادة على القصاص، القياس على قول لأبي حنيفة الأول في الحدود: أن لا يستوفى، وفي الاستحسان: يستوفى. وإن غابا أو ماتا قبل القضاء، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا غابا أو ماتا بعد القضاء قبل الاستيفاء، حتى إن في المال ونظائره القاضي يقضي وفي الحد إن كان رجماً لا يقضي وإن كان جلداً أو قطعاً، فكذلك عند أبي حنيفة أولاً، وفي قوله الآخر وهو قولهما: يقضي، وفي القصاص القياس على قوله الأول في الحدود أن لا يقضي، وفي الاستحسان: يقضي. وإن فسقا أو عميا أو ارتدا أو ذهب عقولهما وكان ذلك بعد القضاء قبل الإمضاء، ففي المال ونظائره يقضي، وفي الحدود لا يقضي، وفي القصاص يقضي قياساً، وإن كان ذلك قبل القضاء، فالقاضي لا يقضي في الفصول كلها فيما عدا العمى بلا خلاف، وفي العمى عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقد مرّت مسألة الأعمى قبل هذا. قد ذكرنا في كتاب «أدب القاضي» أن الجرح المفرد يثبت باختيار المزكين ولا يثبت بالشهادة حتى إن المشهود عليه إذا (جاء) بشهود يشهدون بالجرح المفرد عند القاضي، فالقاضي لا يقبل شهادتهم، ولو جاء المشهود عليه بالمزكين حتى شهدوا بالجرح المفرد عند القاضي، لا ذكر لهذه المسألة في شيء من الكتب، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب «العلل» أن القاضي لا يقبل شهادتهم؛ وعلل فقال: لأن لهم بد من إظهار هذه الفاحشة بأن يخبروا القاضي سراً، فإذا أظهروها صاروا فسقة، فلا تقبل شهادتهم لهذا تجوز الشهادة على الشهادة.

في شهادات «الجامع» في آخر باب الشهادة على القتل: ترك السنة لا يوجب سقوط العدالة، ذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح «أدب القاضي» للخصاف في باب شهادة الأقلف، قال: إذا ولدت أمة الرجل ولداً وادعت أن مولاها أقر به وجحد المولى ذلك، فأقامت على ذلك شاهدين، فشهد أحدهما أنه ابنه ولد على فراشه، وشهد الآخر أن المولى أقر به، فالقاضي لا يقبل شهادتهما؛ لأن أحدهما شهد على الولادة وإنها فعل، والآخر على إقرار المولى وإنه قول. فإن قيل: كيف يعلم الشاهد ولادة الولد على فراشه؟ قلنا: أصل الولادة بعلمه بطريقين: بالمعاينة بأن اتفق له ذلك في باب الزنا، أو بالشهرة والتسامع وكونها على فراشه يعلم بإقرار المولى إن كانت الوالدة أمة، وشرعاً إن كانت الوالدة منكوحة أو أم ولد لأن له فراشاً على المنكوحة وعلى أم الولد. فإن قيل: إذا كان طريق معرفة الشاهد ولادة ولد الأمة على فراش المولى إقرار المولى أنها ولدت، فينبغي أن تقبل الشهادة في مسألتنا، لأن شهادة كل واحد من الشاهدين قامت على القول. قلنا: المشهود به شيئان: الولادة والفراش، فالفراش في الأمة إن كان لا يعلمه الشاهد إلا بإقرار المولى، فالولادة يعلمها الشاهد بالمعاينة من غير إقرار المولى، فشهادتهما في حق الفراش إن قامت على القول معنى فشهادتهما على الولادة ما قامت على القول، فلا تثبت الولادة وما لم تثبت الولادة فالفراش لا يكفي. وإن اتفق الشاهدان على إقرار المولى بالولادة، أو اتفقا على نفس الولادة على فراشه قبلت لاتفاقهما على القول في الفصل الأول، وعلى الفعل في الفصل الثاني. شهد شاهدان على رجل بدار، فسأل القاضي عن الشهود أين خانه كه كو أهي من دمنديكر شنبه است بادو شنبه؟ فقال الشهو: يك شنبه، فنظروا فإذا بعضها يك شنبه وبعضها دو شنبه فقد قيل: هذه الشهادة (غير جائزة) لجواز أنها كانت يك شنبه وقت تحمل الشهادة، ثم صار بعضها وبعد ذلك دو شنبه، وعلى قياس ما إذا شهدوا بدابة وقالوا: سه ساله است، فنظروا فإذا هي جهار مسألة أنه لا تقبل الشهادة، ولم يقل أحد بقبول الشهادة لجواز أنها كانت سه ساله وقت تحمل الشهادة، والآن صارت جهار ساله ينبغي أن لا تقبل شهادتهم في مسألة الدار. وفي «فتاوى شمس الإسلام الأوزجندي» : امرأة ادعت أن مهرها ألف عطريفية، وشهد الشهود لها بألف عدلية مهرها، إن القاضي يقضي بشهادة الشهود يعني بالعدليات. ولو ادعى على آخر أنه قبض منه مئة البعض عطريفي، والبعض عدلي، والشهود شهدوا بقبض مئة عطريفية، قال شمس الإسلام: إن شهدوا بالقبض لا تقبل شهادتهم، وإن شهدوا على إقراره بالقبض تقبل، وينبغي أن يقال: لا تصح هذه الدعوى؛ لأن الدعوى وقعت في المجهول؛ لأن المدعي لم يبين قدر كل واحد منهما. وفي هذا الموضع أيضاً لو كتب في المحضر: شهدوا على وفق الدعوى، لا يفتى

بصحة المحضر، لأن الشهادة على وفق الدعوى أن يقول الشاهد: هذا العين ملكي، كما قال المدعي: هذا العين ملكي. ادعى على آخر ألف درهم، وقال: خمسمئة منها من ثمن عبد بعته منه وقبضه وخمسمئة من ثمن متاع بعته منه وقبضه وجاء بشاهدين، شهد أحدهما بخمسمئة من ثمن عبد، وشهد آخر بخمسمئة من ثمن متاع، فإنه يجوز من ذلك خمسمئة؛ لأنهما اتفقا على الخمسمئة، وذكر السبب ليس بشرط، فهذا يدل على أنه إذا ادعى ديناً بسبب، وشهد له الشهود بالدين مطلقاً أنه تقبل الشهادة. ولو ادعى على رجل ألف درهم، وجاء بشاهدين أحدهما: أنه أقر أن له عليه ألف درهم من ثمن نبات قبضها، وشهد آخر أنه أقر أن عليه ألف درهم من ثمن طعام قد قبضه، وقال المدعي: قد كان أقر بذلك كله لي، فإن القاضي يقضي له بالألف. في «واقعات الناطفي» وفي «فتاوى أبي الليث» : رجل تحته أمة أعتقت، فشهد أحدهما أنه طلقها ثلاثاً بعدما عتقت، وشهد الآخر أنه طلقها ثلاثاً قبل العتق فهي ثنتان، وله أن يراجعها؛ لأن الثلاث الذي شهد بها في حالة الرق واحدة منها ليست بشيء، فلم يجتمعا إلا على الثنتين، ولم يتفقا أيضاً على أن الطلاق كان قبل العتق، فلا تنقطع الرجعة بالشك. إذا قال الشاهد: كل شهادة شهدتها لفلان في حادثة كذا فهي زور، ثم شهد في تلك الحادثة لفلان تقبل شهادته. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: وكذلك إذا قال: ليست لفلان عندي شهادة في أمر، ثم شهد له في حادثة تقبل شهادته في هذا الموضع. ادعى شراء دار من رجل وجاء بشهود شهدوا على الشراء من وكيله لا تقبل الشهادة، وكذلك إذا شهدوا أن فلاناً باع، وهذا المدعى عليه أجاز بيعه، وإذا كانت الدار في يدي رجل ادعى أنه باعها من فلان بألف درهم في رمضان، وأقام على ذلك بينة وأقام فلان بينة أن صاحب اليد وهبها له في شوال على أن عوضه منهما خمسمئة وقبضا جميعاً، فالقاضي يقضي بالبينة بشرط العوض، لأن الهبة بشرط العوض بعد اتصال القبض بالبدلين والبيع سواء، ولو أثبت المشتري بيعه منه بخمسمئة في شوال انفسخ الأول وبقي الشراء بخمسمئة، فكذا إذا أثبت الهبة بشرط العوض. ولو أن المدعى عليه الشراء لم يقم البينة على الهبة بشرط العوض، وإنما أقام البينة أنه ارتهنها من صاحب اليد في شوال بخمسمئة، قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: البيع أولى ويجب على المشتري أن يقضي البائع خمسمئة أخرى سوى ما أعطاه في شوال وقال محمد: الرهن أولى ويكون رهناً عند المشتري بخمسمئة. من مشايخنا من قال: الخلاف في هذه المسالة راجع إلى أن الرهن إذا تأخر عن البيع هل يفسخ البيع؟ قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يفسخ، فبقي البيع بألف درهم صحيحاً وصار البائع راهناً ملك المشتري من المشتري بخمسمئة فلم يصح إلا أن

المشتري ببينته أنه ارتهنها في شوال بخمسائة أثبت لنفسه على البائع خمسمئة درهم ديناً، وللبائع على المشتري ألف درهم فقدر خمسمئة يلتقيان قصاصاً، ويجب على المشتري رد خمسمئة أخرى على البائع وعند محمد يفسخ البيع بالرهن، كما لو كان مكانه (158أ4) بيعاً، ومن مشايخنا من قال: البيع لا ينفسخ بالرهن عند محمد، كما هو قولهما إلا أن محمداً لا يقضي بالبيع مع ذلك؛ لأن المشتري ببينته أثبت إقرار البائع أنه رهن من المشتري في شوال، فلا تصح دعواه أنه باعه منه في رمضان. وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا: هذا الكلام في حد التعارض؛ لأن المشتري ببينته كما أثبت إقرار البائع أنه رهن من المشتري أنه اشترى منه في رمضان، فلا تصح دعواه أنه ارتهن منه في شوال، وعلم أن هذا الكلام في حد التعارض بقي ما قالا إن الرهن دون البيع، فلا ينفسخ به البيع. وإذا كانت الدار في يدي رجل شراءً فاسداً ادعاها آخر، فإن المشتري ينتصب خصماً للمدعي. لأن الشراء الفاسد يفيد الملك للمشتري بعد القبض، والمالك ينتصب خصماً للمدعي، وإذا كانت الدار بين شريكين شركة ميراث، أو غير ذلك غاب أحدهما جاء رجل وادعى على الحاضر أنه اشترى من الغائب نصيبه فإنه لا تقبل بينته؛ لأنه يقيم بينة على الغائب وليس عنه خصم حاضر أما إذا كانت الشركة لا بجهة الإرث فظاهر، وأما إذا كانت الشركة بجهة الإرث؛ لأن أحد الورثة لا ينتصب خصماً عن باقي الورثة فيما يدعى على باقي الورثة؛ وإنما ينتصب خصماً عن الميت فيما يدعى على الميت، وهنا دعوى الشراء يوجه على الغائب لا على الميت، فلم ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، فهذه بينة قامت لا على خصم فلا تقبل. بخلاف ما لو كانت ميراثاً بينهم وادعى المدعي أنه اشترى نصفها، أو كلها من الميت الذي ورثوها عنه حيث يقضى بذلك على الحاضر والغائب، لأن أحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت وعن باقي الورثة فيما يدعى على الميت، والدعوى ههنا وقعت على الميت، فإن المدعي ادعى الشراء على الميت، فانتصب الحاضر خصماً عن الغائب، كما لو ادعى رجل ديناً على الميت، وبعض الورثة حضور والبعض غيّب، فإنه ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب كذا ههنا. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : ثوب في يدي رجل ادعاه رجل، فشهد شاهدان للمدعي على صاحب اليد أنه أقر أن هذا الثوب لهذا المدعي، وشهد آخران على المدعي أنه أقر أن هذا الثوب لصاحب اليد تهاترت البينتان، ويترك الثوب في يد صاحب اليد، لأنه لما جهل التاريخ بين الإقرارين جعل كأنهما وقعا معاً، فيبطل الإقراران ويترك الثوب في يد صاحب اليد، كما كان. دار في يدي رجلين، أقام كل واحد منهما بينة على أن صاحبه أقر له بها ووقتا، وتاريخ أحدهما أسبق فإنه يقضى بالدار لصاحب الوقت الآخر. فرق بين هذا وبينما إذا لم يوقتا فإن هناك تتهاتر البينتان؛ لأنهما إذا لم يوقتا يجعل

كأنهما وقعا معاً، ولو وقع الإقراران معاً بطلا، فكذا إذا جعلا كذلك، أما إذا وقتا وأثبتا ذلك بالبينة صار الوقت الثابت بالبينة كالوقت الثابت عياناً، ولو عاينا أن أحدهما أقر لصاحبه مثلاً منذ سنة ثم أقر صاحبه له بعد ذلك منذ شهر يقضى للمقر له آخراً؛ لأن الإقرار الآخر يفسخ الإقرار الأول؛ لأن الإقرار مما يرتد بالرد، فإذا أقر المقر له الأول بعد ذلك فهذا الإقرار منه إقرار لصاحبه، ورد الإقرار الأول، فبطل الإقرار الأول بالثاني لكون الثاني رداً له ولم يتصل الرد بالإقرار الثاني فبقي صحيحاً. قال في «الكتاب» : ولا يشبه هذا البيع، فقد فرق بين البيع والإقرار، فمن المشايخ من طعن على محمد، وقال: لا فرق بينهما، فإن في البيع متى ادعى كل واحد منهما البيع على صاحبه ووقتا ووقت أحدهما أسبق، بأن ادعى أحدهما أن صاحبه باع هذا العين منه منذ شهر يقضي لآخرهما وقتاً؛ لأن التاريخ بين الشراءين ثبت بالبينة، فيعتبر بما لو ثبت معاينة. ولو عاينا أن أحدهما اشترى هذا العين من صاحبه منذ سنة، ثم اشتراه صاحبه منه منذ شهر، يقضي لآخرهما وقتاً، فعلم أنه لا تفرقة بين الإقرار وبين البيع. بعض مشايخنا أجابوا عن هذا الطعن، وقالوا: لم يرد محمد بهذه التفرقة في الحكم والجواب، فإن في الموضعين جميعاً يقضي لآخرهما تاريخاً، وإنما أراد به التفرقة في الكنه، فإن الكنه في مسألة الإقرار أنه يقضي لآخرهما تاريخاً؛ لأن إقرار الثاني ينسخ الإقرار الأول، وليس مسألة البيع أنه يقضي لآخرهما تاريخاً أن البيع الثاني ينسخ البيع الأول، بل يبقى البيع الأول على حاله ويصح البيع الثاني بعده فافترقا في الكنه، فلما أراد بهذه التفرقة التفرقة في الكنه، أما الجواب في الفصلين واحد. من المشايخ من قال: أراد محمد رحمه الله بهذه التفرقة، التفرقة في الحكم والجواب، إلا أنه لم يرد بمسألة البيع ما إذا ادعى كل واحد منهما على صاحبه البيع وأرخا، وتاريخ أحدهما أسبق، كما هو موضوع مسألة الإقرار، وإنما أراد بمسألة البيع: ما إذا ادعى كل واحد منهما الشراء من ثالث وأرخا، وتاريخ أحدهما أسبق كان السابق أولى، وأراد بمسألة الإقرار ما إذا ادعى كل واحد منهما إقرار صاحبه وأرخا، وتاريخ أحدهما أسبق يقضي لآخرهما تاريخاً؛ فالتفرقة بين المسألتين على هذا الوضع ثابت كما ذكر محمد رحمه الله. ذكر بعد هذا إذا ادعى كل واحد منهما الشراء على صاحبه، فقال: إذا ادعى أحدهما على صاحبه أنك اشتريت هذه الدار مني منذ سنتين، وادعى صاحبه عليه أنك اشتريت هذه الدار مني منذ سنة، فهي منذ سنتين ولا يشبه هذا الإقرار، فقد فسر مسألة الشراء بعده ما ذكره مجملاً، ويبين بهذا التفسير أن موضوع المسألة المتقدمة في البيع ما إذا ادعى كل واحد منهما البيع على صاحبه، كما أن موضوع مسألة الإقرار أن كل واحد منهما ادعى الإقرار على صاحبه، إلا أنه لم يرد بقوله في مسألة البيع: فهي منذ سنتين أنه يقضي لمن ادعى الشراء منذ سنتين، فإنه متى ادعى كل واحد منهما الشراء على هذا الوجه يقضي لآخرهما وقتاً، وإنما أراد به أن الشراء منذ سنتين ثابت كالشراء منذ سنة؛

لأن الشراء الثاني لا يفسخ الأول فيكون الأول ثابتاً، ثم يثبت الثاني بعد ذلك فيقضي للآخر ويكون الأول ثابتاً، حتى تقع المقاصة بين الثمنين إن كانا من جنس واحد، ولم ينفذا ولا يشبه البيع الإقرار، فإن الإقرار الثاني ينسخ الإقرار الأول، فعلى هذا التفرقة بين الإقرار والبيع ثابت من حيث الجواب والنكتة. ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» مسألة لم يذكرها شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله وصورتها: دار في يدي رجلين يدعي كل واحد منهما أن فلاناً أقر له بها، وأقاما البينة ووقتا، ادعيا الإقرار على رجل واحد بأن ادعى الإقرار على زيد مثلاً ووقت أحدهما أسبق، بأن ادعى أحدهما الإقرار منذ سنة، وادعى الآخر الإقرار منذ شهر، فهي لصاحب الوقت الآخر، ولا يشبه هذا البيع، يريد به إذا ادعى كل واحد منهما أن زيد باعها منه ووقتا، ووقت أحدهما أسبق وأقاما البينة فإنه يقضى لأسبقهما تاريخاً. والفرق: أن في مسألة الإقرار صاحب الوقت الأخير أثبت إقرار زيد بالدار له منذ شهر، وهذا يمنع دعوى زيد الملك لنفسه منذ سنة، فيمنع دعوى من يثبت الملك لنفسه منذ سنة بإقرار زيد له بها، وصاحب الوقت الأول أثبت إقرار زيد بالدار لنفسه منذ سنة، وذلك لا يمنع دعوى زيد الملك فيها لنفسه منذ شهر فلا يمنع دعوى من يثبت الملك لنفسه فيها منذ شهر، وفي البيع ثبوت الشراء من زيد منذ شهر لا يمنع زيداً من دعوى الملك لنفسه منذ سنة، فإذا وجب قبول بينته على ذلك ثبت شراؤه في وقت لا ينازعه الآخر فيه، فإنما أثبت الآخر شراءه بعد ذلك من غير المالك. وإذا ادعى ثوباً في يدي رجل، وقال: ذهب مني منذ عشرة أيام، وجاء بشاهدين شهد أحدهما أنه ذهب منه منذ عشرة أيام، وشهد الآخر أنه ذهب منه منذ خمسة عشر يوماً لا تقبل هذه الشهادة، ووقع هذه المسألة في بعض النسخ بالذال: ذهب مني، وفي بعض النسخ بالواو: وهب مني وهكذا أثبته الحاكم في «المختصر» وإنما لم تقبل الشهادة؛ لأن المدعي أكذب شاهده الذي (شهد) بالهبة منذ خمسة عشر. قال في «المختصر» : ولو لم يوقت المدعي جازت الشهادة؛ لأنه غير كذب واحد منهما، والمشهود به قول أو ما هو كالقول حكماً، فاختلاف (158ب4) الشاهدين في الوقت لا يمنع قبول الشهادة. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل مات وترك ثلاث بنين وداراً، فغاب اثنان منهم وبقي واحد، فجاء رجل وادعى أن الدار له، فقال الحاضر: كانت الدار لأبينا مات وتركها ميراثاً لي ولأخوي فلان وفلان، وقبض كل واحد منا نصيبه، ثم إنهما غابا وأودعاني نصيبهما، وصدقه المدعي فيما قال، وأقام المدعي البينة أن الدار داره، قبلت بينته وقضي بالدار للمدعي. وإن ثبت بتصادقهما كون ثلثي الدار وديعة في يد الابن الحاضر؛ ويد المودع ليست يد خصومة، ولكن الوجه في ذلك: أن كون المودع غير خصم من وجه في حق المدعي لا ينفي كونه خصماً في حقه من وجه آخر، ألا ترى أن من أودع عند إنسان شيئاً، ثم إن

المودع وكل المودع بالخصومة في ذلك، ثم أقام البينة على الوكيل الذي هو مودع قبلت بينته، وههنا وجد ما يجعل الابن الحاضر خصماً في كل الدار، لأن الدعوى في الحقيقة وقع على الميت والبينة قامت عليه، وأحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت وعن سائر الورثة فيما يدعي على الميت، بخلاف المسألة المخمسة؛ لأن هناك لم يوجد ما أوجب كونه خصماً من وجه آخر، ومن حيث كونه مودعاً لا يصبح خصماً. فإذا قضى القاضي بالدار للمدعي ثم حضر الغائبان، فهذا على وجهين، فالأول: إذا صدقا الابن الحاضر فيما قال، وجحدا حق المدعي، وفي هذا الوجه القضاء عليهما نافذ؛ لأن الابن الحاضر انتصب خصماً عن الميت وعن باقي الورثة، فكان القضاء عيه قضاء على الكل. الوجه الثاني: إذا كذبا الابن الحاضر، وادعيا ثلثي الدار لأنفسهما من غير ميراث الأب لم يكن القضاء نافذاً عيهما ورد عليهما الثلثان، ويقال للمدعي: أعد بينتك وإلا فلا حق لك في الثلثين وإنما كان كذلك؛ لأن أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الميت وعن باقي الورثة في تركة الميت لا في مال آخر؛ ولم يثبت كون نصيب الغائبين من الدار تركة الميت، وثبت كون الحاضر مودعاً في ذلك والمودع لا يصير خصماً للمدعي إلا إذا وجد ما يوجب كونه خصماً من جهة المودع، ولم يوجد ذلك ههنا، فكانت البينة في حق الثلثين اللذين هما نصيب الغائبين قائمة على غير الخصم، فلا تكون معتبرة، هذا (إذا) كانت جميع الدار في يد الابن الحاضر، فأما إذا كان نصيب الغائبين في يدي رجل آخر وديعة، فأقر المودع بمثل ما أقر به الابن الحاضر، وصدقه المدعي في ذلك، لم يقض للمدعي بنصيب الغائبين، ويقضي له بنصيب الحاضر لأنه ثبت كون ذي اليد لنصيب الغائبين مودعاً، ولم يثبت كونه خصماً من وجه آخر فبطلت الخصومة معه، ومع الابن الحاضر لا تقبل الخصومة إلا في القدر الذي في يديه، لأن أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الميت وعن باقي الورثة فيما (في) يديه؛ لأن الوارث قائم مقام الميت لو كان حياً ولو كان الميت حياً لا يكون خصماً فيما ليس في يديه، وكذا الذي قام مقامه هذا الذي ذكرنا إذا كان الثلثان في يد غير الابن الحاضر. فأما إذا كانت جميع الدار في يد غير الابن الحاضر، فأقر الذي في يديه الدار: أن الدار وديعة للغائبين وأنها وديعة للغائبين، وأنها ميراث من الميت، وصدقه الابن الحاضر المدعي في ذلك، فالمودع ليس بخصم للمدعي، وكذلك الابن الحاضر لا يكون خصماً للمدعي، أما المودع فظاهر، وأما الابن الحاضر؛ فلأن أحد الورثة إنما ينتصب خصماً عن الميت فيما كان في يده لا فيما كان في يد غيره. وفي كتاب الرجوع: شاهدان شهدا على شهادة شاهدين على رجل أنه أعتق عبده، ولم يقض القاضي بشهادتهما حتى حضر الأصلان وأنكرا أن يكونا أشهداهما على شيء بطلت شهادتهما؛ لأن حضره الأصول قبل اتصال القضاء بشهادة الفروع يمنع القضاء بشهادة الفروع لكون الفروع بدلاً عن الأصول، فإذا اشترى الفرعان ذلك العبد، أو اشتراه

أحدهما لم يعتق العبد وجاز الشراء، لأن الفرع ما أقر بحرية هذا العبد بل حكى إخبار الأصل أن المالك أعتقه، والخبر يحتمل الصدق والكذب، فلا يصيران مقرين بالحرية. وكذلك الأصلان لو اشتريا العبد لم يعتق عليهما؛ لأنهما أنكرا الإشهاد، فلم يصيرا مقرين بحرية العبد. ولو اشترى هذا العبد واحد من الفرعين، وواحد من الأصلين عتق؛ لأن في زعم هذا الفرع المشتري أن شريكي في الشراء وهو أحد الأصلين أقر بعتقه، وقد دخل نصفه في ملكه، فنفذ إقراره عليه، فصار هذا الفرع مقراً بعتق نصيب شريكه، فيصير ههنا بمنزلة عبد بين رجلين شهد أحدهما على صاحبه أنه أقر بعتق نصيبه، فأنكر صاحبه ذلك، وهناك العبد يعتق ويسعى لكل واحد منهما في نصف قيمته، موسرين كانا أو معسرين، أو كان أحدهما موسراً والآخر معسراً عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما العبد يسعى للمشهود عليه في نصف قيمته على كل حال. وهل يسعى للشاهد؟ إن كان المشهود عليه معسراً يسعى، وإن كان موسراً لا يسعى فههنا كذلك. ولو اشتراه الأصلان أو أحدهما، ثم اشتراه الفرعان أو أحدهما حكم بعتقه، لأن في زعم المشتري من الفرعين أنه حين دخل في ملك الأصلين أو أحدهما عتق عليه، فصار المشتري من الفرعين مقراً على بائعه بحرية العبد، وكل من اشترى عبداً أقر بحريته على بائعه عتق على المشتري بحكم إقراره، وقد عرف ذلك في موضعه، ولا سعاية على العبد لواحدٍ منهما؛ لأن في زعم البائع أن العبد لم يعتق علي، وأنا بعته عبداً، وفي زعم المشتري أنه عتق على البائع وأني اشتريته حراً، فكان كل واحد منهما مقراً ببراءة العبد عن السعاية، فلا تجب السعاية على واحد منهما، ويكون ولاؤه موقوفاً؛ لأن كل واحد منهما يعني البائع والمشتري ينفيه عن نفسه. ولو اشترى الفرعان أولالاً ثم اشتراه الأصلان لا يعتق؛ لأن الفرعين ما أقرا بحريته إنما حكيا إخبار الأصلين أن مالكه قد أعتقه، والأصلان أنكرا تلك الحكاية، فلم يثبت الإقرار بحريته ممن هو مالك في ملكه. وإذا ادعى رجل على رجل ألف درهم، وأقام على ذلك شاهدين، ثم أقام المشهود عليه بالألف شاهدين أنه قد أبرأه منها، وقد عدلوا جميعاً وقد اجتمعت البينتان جميعاً عند القاضي، فالقاضي يقضي بشهادة الذين شهدوا بالبراءة، ولا يقضي بشهادة الذين شهدوا بإيجاب الدين؛ لأن بينة المدعي قد بطلت بإقرار المدعى (لم يقر بالبراءة) ، فإذا بطلت بينة المدعي على إيجاب الدين صار كأن المدعى عليه تفرد بإقامة البينة. ولو تفرد بإقامة البينة قبلت بينته على البراءة فكذلك ههنا. وصار هذا بمنزلة ما لو شهد شاهدان بالبيع، وشهد آخران بالإقالة، فإنه يقضي بشهادة الذين شهدوا بالإقالة؛ لأن بينة مدعي البيع قد بطلت بإقرار المدعى عليه؛ ولأن القضاء بإيجاب الدين مع البراءة لا يفيد، لأن المقصود من الإيجاب الاستيفاء، ولا يمكن الاستيفاء مع وجود البراءة.

وقول من قال: بأن القضاء بهما متعذر لأنهما يثبتان معاً في وقت واحد، لأن القاضي يقضي بهما في وقت واحد. والقضاء بإيجاب الدين والبراءة في وقت واحد باطل، يشكل بمسألة ذكرها في باب الرجوع عن النكاح والطلاق: وصورتها: إذا شهد شاهدان على رجل بالنكاح والطلاق جميعاً بمهر ألف ومهر مثلها خمسمئة، وشهد آخران بالطلاق قبل الدخول بها، فالقاضي يقضي بالنكاح والطلاق جميعاً، وإنما يقضي بهما في وقت واحد ومع هذا جاز. وطريقه: أن بقضاء القاضي لا يقع النكاح والطلاق معاً إذ لا يتصور وقوعهما معاً، وإنما يقعان مرتباً على الوجه الذي يتصور، فكذلك البراءة لا تتصور إلا بعد وجوب الدين فلا تقعان معاً لو قضى القاضي بهما وإنما يقعان مرتباً، علمنا أن بطلان بينة المدعي بسبب إقرار المدعى عليه. فإن قيل: إذا ثبت إقرار المدعى عليه بدعواه البراءة كان يجب أن يقال: بأن شهود البراءة إذا رجعوا يضمنون للمدعي؛ لأن الدين وجب بإقرار المدعى عليه، ثم سقط بشهادتهما بالبراءة مع هذا لا يضمنون، والجواب أن يقال بأن الدين وجب على المدعى عليه بإقراره في حق صحة البراءة؛ لأن البراءة لا تكون إلا بعد وجوب الدين، ولكن لا يقضي بالإيجاب في حق الاستيفاء، لأن الاستيفاء يكون بعد الوجوب، لأن إثبات حق الاستيفاء مع البراءة لا يتصور، وإذا لم يثبت الدين في حق الاستيفاء (159أ4) لم يصر شاهدا البراءة متلغين على صاحب المال شيئاً، فلا يضمنون، إلا أن يقيم المدعي البينة ثانياً أن له على المدعى عليه ألف درهم بحضرة شهود الإبراء، فإذا شهدوا بذلك ضمن شاهدا البراءة الدين للمدعي، وذلك لأن القاضي يقضي بإيجاب الدين على المدعى عليه في حق شاهدي البراءة؛ لأن الشهادة بالبراءة قد بطلت في حق شاهدي البراءة بالرجوع؛ فيمكن القضاء بإيجاب الدين في حق الشهود حتى يضمنان بالبراءة، ولكن لا يقضى بإيجاب الدين في حق المدعى عليه؛ لأن الشهادة بالبراءة قائم في حقه، لأن الرجوع عن البراءة في حقه لم يصح، وإذا أمكن القضاء بإيجاب الدين في حق الضمان على شهود الإبراء وجب القضاء، وإذا وجب القضاء صار الدين واجباً في حق شهود الإبراء، ثم سقط بشهادتهما بغير عوض فيضمنان للمدعي إذا رجعا، ويشترط حضرة الشهود وهي شهود الإبراء في إقامة البينة على الدين، لا حضرة المدعى عليه؛ لأن الاستحقاق بهذه البينة على شهود الإبراء لا على المدعى عليه، فيشترط حضرة شهود الإبراء لا حضرة المدعى عليه من هذا الوجه. قال في كتاب الرجوع: رجل مات وترك عبداً قيمته ألف درهم لا مال له غيره، وقد كان أوصى بعتقه، فشهد شاهدان من ورثة الميت لرجل آخر بدين خمسمئة على الميت؛ لم تقبل الشهادة ويعتق العبد ويسعى في الثلثين ويأخذ الغريم دينه من نصيب الوارثين. ولو شهدا بدين ألف درهم حتى كان مستغرقاً للتركة، جازت الشهادة وبيع العبد في الدين. والفرق بينهما: أن العدل متى جر إلى نفسه مغنماً كان لا يستحق ذلك إلا بشهادته،

لا تقبل الشهادة، فمتى كان أقل من قيمة العبد فالشاهدان يجران إلى أنفسهما مغنماً، فإنهما يثبتان بشهادتهما لأنفسهما حق بيع العبد، وهذا لم يكن ثابتاً بدون شهادتهما على ذلك. فإن قبل: بثبوت الدين لا يتمكنان من بيعه لثبوت حق العتق للعبد في مقدار الثلث، ومتى ثبت الدين يتمكنان من بيعه بالدين، فهما بهذه الشهادة يثبتان هذا الحق لأنفسهما ولهما فيه منفعة، لأنه إذا بيع بالدين بطلت الوصية إذ لا يمكن تنفيذها مع بيع العبد، وإذا قضى دين الغريم خمسمئة تبقى لهما خمسمئة وقبل ثبوت هذا الدين كان يعتق ثلث العبد مجاناً ويسعى في ثلثي قيمته للورثة، وإذا سعى يدخل الغريم في نصيبهم ويأخذ من ذلك خمسمئة ويبقى لهم أقل من خمسمئة فكانا جارين إلى أنفسهما مغنماً، فأما إذا كان الدين مثل قيمة العبد لم يجرا إلى أنفسهما مغنماً بشهادتهما وإن أثبتا حق بيع العبد لأنفسهما؛ لأنه لا منفعة لهما في ذلك، لأنه متى بيع العبد قضي الدين من جميع الثمن، ولا يسلم لهما من بدل العبد شيء، فلم يجرا إلى أنفسهما مغنماً فقبلت شهادتهما. و (لو) لم يكن الميت أوصى بعتقه ولكن أوصى به لرجل، وباقي المسألة بحاله: قبلت شهادتهما سواء شهدا بدين قليل أو كثير؛ لأنه لا منفعة لهما في هذه الشهادة؛ إذ لا يعود إليهما شيء لم يكن لهما قبل ذلك، لأنه إذا ثبت دين خمسمئة يباع نصف العبد بالدين، فيكون للموصى له ثلث النصف الباقي، وللورثة الثلثان، وكان هذا ثابتاً قبل الشهادة فلم يجرا إلى أنفسهما مغنماً بشهادتهما فتقبل شهادتهما، والله أعلم بالصواب.

كتاب الرجوع عن الشهادات

كتاب الرجوع عن الشهادات هذا الكتاب يشتمل على ستة عشر فصلاً: 1 * في بيان شرط صحة الرجوع عن الشهادة، وفي بيان حكمه. 2 * في رجوع بعض الشهود عن الشهادة. 3 * في الرجوع عن الشهادة في النكاح. 4 * في الرجوع عن الشهادة في الطلاق والخلع. 5 * في الرجوع عن الشهادة في النكاح والطلاق والدخول جميعاً. 6 * في الرجوع عن الشهادة في العتق والكتابة والتدبير والاستسعاء. 7 * في الرجوع عن الشهادة في البيع والهبة. 8 * في الرجوع عن الشهادة في الولاء والنسب والولادة. 9 * في الرجوع عن الشهادة على الشهادة. 10 * في الرجوع عن الشهادة في الحدود والجنايات. 11 * في الرجوع عن الشهادة في الهبة والصدقة والرهن والعارية والوديعة والبضاعة والمضاربة والإجارة. 12 * في الرجوع عن الشهادة على المال على الدين وعلى الإبراء عن الدين، وما يتصل بذلك. 13 * في رجوع الشاهدين عن الشهادة في باب المواريث. 14 * في رجوع الشاهدين عن الشهادة في الوصية. 15 * في رجوع أهل الذمة عن الشهادات. 16 * في المتفرقات.

الفصل الأول: في بيان شرط صحة الرجوع عن الشهادة وفي بيان حكمه

الفصل الأول: في بيان شرط صحة الرجوع عن الشهادة وفي بيان حكمه أما بيان شرط صحته: فنقول: شرط صحته على الخصوص مجلس القاضي حتى لا يصح الرجوع في غير مجلس القاضي، وشرطه يظهر فيما إذا ادعى المشهود عليه عند القاضي رجوع الشاهد في غير مجلس القاضي، وأنكر الشاهد ذلك، فأراد المشهود عليه إثباته بالبينة، وأراد استحلاف الشاهد ليس له ذلك لما نبين بعد هذا إن شاء الله. وإذا أقر الشاهد عند القاضي أنه رجع عند غيره صح إقراره، وطريق صحته: أن يجعل هذا رجوعاً مبتدأ من الشاهد، لا أن يعتبر ذلك الرجوع الذي كان في غير مجلس القاضي. وإنما شرطنا مجلس القاضي، لصحة الرجوع؛ لأن الرجوع فسخ للشهادة، لأن بالرجوع ثبت ضد ما أثبته بالشهادة، وفسخ الشيء إثبات ضده كفسخ البيع وأشباهه، فيعتبر بابتداء الشهادة، ثم شرط لابتداء الشهادة مجلس القاضي، فكذا يشترط لفسخها مجلس القاضي. وأما بيان حكمه فنقول: رجوع الشاهد إن كان قبل القضاء يصح في حق نفسه وفي حق غيره حتى يجب على الشاهد التعزير، ولا يقضي القاضي بشهادته على المشهود عليه. وإن كان بعد القضاء، كان أبو حنيفة رحمه الله أولاً يقول: ينظر إلى حال الراجع إن كان حاله عند الرجوع أفضل من حاله وقت الشهادة في العدالة صح رجوعه في حق نفسه وفي حق غيره، حتى وجب عليه التعزير، وينقض القضاء ويرد المال على المشهود عليه، ولو كان حاله عند الرجوع مثل حاله عند الشهادة في العدالة، أو دونه يجب عليه التعزير، ولكن لا ينقض القضاء ولا يرد المشهود به على المشهود عليه، ولا يجب الضمان على الشاهد، وهو قول أستاذه حماد رحمهما الله. ووجه ذلك: أن الرجوع كلام محتمل للصدق والكذب، فلا يجب العمل به ما لم يترجح فيه جهة الصدق على الكذب، وإنما يترجح جهة الصدق في الرجوع إذا كان حال الراجع عند الرجوع في العدالة أفضل. أما إذا كان في حالة العدالة عند الرجوع مثل حاله في العدالة عند الشهادة فلا، وهذا لأنه لو ترجح صدقه في الرجوع بمثل العدالة التي ترجح صدقه بها في الشهادة، فقد ثبت حكمان متنافيان بشيء واحد، لأنه ثبت صدقه في النفي والإثبات بعدالة واحدة، والنفي ضد الإثبات، فلا يجوز إثباتها بشيء واحد. فأما إذا كان حاله في العدالة عند الرجوع أفضل، فقد أثبتنا الصدق في النفي بدليل آخر غير الذي أثبتنا الصدق به في الإثبات وإنه جائز. وإذا كان حاله عند الرجوع في العدالة أفضل حتى يترجح جهة الصدق في الرجوع يترجح جهة الكذب في الشهادة، ويتبين أن القضاء حصل بغير حجة فيجب نقضه. ثم رجع عن هذا القول. وقال: لا يصح رجوعه في حق غيره على كل حال حتى لا

ينقض القضاء ولا يرد المشهود به على المشهود عليه، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، ووجه ذلك: أن الراجع برجوعه يقر على نفسه وعلى غيره: يقر على نفسه: فإنه يقر أنه شهد بغير حق واستهلك على المشهود عليه ماله بغير حق وصار مستوجباً التعزير والضمان، ويقر على غيره: فإنه يقر أن القاضي قضى بغير حق وأن المشهود له أخذ ماله بغير حق، وإقرار الإنسان على نفسه صحيح وإن كان المقر فاسقاً، وإقراره على غيره لا يصح وإن كان عدلاً، فصارفي حق هذا القاضي وجود هذا الرجوع وعدمه بمنزلة، وبهذا تبين لنا (أنه) يثبت الصدق في الرجوع بدليل زائد على ما أثبتنا الصدق به في الشهادة، وهو كونه إقراراً على نفسه، فصدقه في الرجوع ثابت بالعدالة وبكونه (159ب4) إقراراً على نفسه. وإذا صح رجوع الشاهد ينظر بعد هذا إن لم يكن المشهود به مالاً، بأن كان قصاصاً أو نكاحاً، فلا ضمان على الشاهد عند علمائنا رحمهم الله، وإن صار الشاهد متلفاً لذلك بشهادته. وإن كان مالاً، فإن كان الإتلاف بعوض يعادله، فلا ضمان على الشاهد أيضاً، لأن الإتلاف بعوض كلاإتلاف وإن كان بعوض لا يعدله، فبقدر العوض لا ضمان ويجب الضمان فيما وراءه، فإن كان الإتلاف بغير عوض أصلاً يجب ضمان الكل، وهذا لأن في الإتلاف الحقيقي إنما يجب الضمان على المتلف جبراً لحق المتلف عليه، وهذا المعنى موجود في الإتلاف الحكمي الحاصل بالشهادة. ثم إن كان المشهود به عيناً فللمشهود عليه أن يضمن الشاهد بعد الرجوع قبض المشهود له العين من المشهود عليه أو لم يقبض بعد، وإن كان المشهود به ديناً، فليس للمشهود عليه أن يضمن الشاهد للحال، وإنما يضمنها إذا استوفى المشهود له ذلك من المشهود عليه. هكذا ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» . الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» سوى بين العين والدين، وقال: «ليس للمشهود عليه أن يضمن الشاهد في فصل العين قبل أن تؤخذ العين من يده» ، كما في فصل الدين. والفرق على ما ذكره شيخ الإسلام: أن ما يجب على الشاهد من الضمان عند الرجوع ضمان إتلاف، وضمان الإتلاف مقيد بالمثل فمتى كان المشهود به عيناً فالشهود أزالوه عن ملكه بشهادتهما عند اتصال القضاء بها، ألا ترى أن تصرف المشهود عليه فيه بعد ذلك لا ينفذ؟ فلو أزلنا العين عن ملكيهما بأخذ الضمان منهما لا تنتفي المماثلة، أما إذا كان المشهود به ديناً، فالشهود ما أزالا عيناً عن ملكه، بل أوجبا عليه ديناً بغير حق، فلو استوفيا الضمان من الشهود قبل أن يستوفي المشهود له ذلك من المشهود عليه تنتفي به المماثلة؛ لأن المستوفى يكون عيناً، والعين خير من الدين، وينظر إلى قيمة المشهود (به) يوم القضاء، لأن وجوب الضمان عليهما بالإتلاف، والإتلاف حصل بالقضاء، فتعتبر القيمة يوم القضاء. وإذا كان الرجوع عن الشهادة في مرض الشاهدين، وقضى القاضي بالضمان

الفصل الثاني: في رجوع بعض الشهود عن الشهادة

عليهما، فذلك بمنزلة إقرارهما بالدين في المرض، حتى لو ماتا من مرضهما وعليهما ديون الصحة بُدىء بديون الصحة؛ لأن ما وجب عليهما في المرض وجب بإقرارهما أنهما شهدا بزور، وكان دين المرض من هذا الوجه. وإذا ادعى المشهود عليه الرجوع على الشاهد، وأراد استحلافه أو إثباته بالبينة، فهذا على وجهين: الأول: أن يدعي الرجوع عند غير القاضي وفي هذا الوجه لا يستحلف الشاهد ولا يسمع بينة المشهود عليه على ذلك؛ لأنه يدعي رجوعاً باطلاً لا يتعلق به حكم؛ لأن الرجوع في غير مجلس القضاء باطل فلم تصح دعواه، فلا يترتب عليه التحليف وسماع البينة. الوجه الثاني: أن يدعي رجوعاً في مجلس قاض آخر، وإنه على وجهين أيضاً: g الأول: أن يدعي رجوعهما عند قاض، ولا يدعي قضاء القاضي عليهما بالرجوع، وفي هذا الوجه لا يستحلف أيضاً، و (لا) تسمع بينة المشهود عليه؛ لأن دعواه لم تصح، لأنه ادعى رجوعاً غير موجب الضمان؛ لأن الرجوع عن الشهادة لا يصير موجباً الضمان قبل قضاء القاضي، لأن الرجوع فسخ الشهادة فيعتبر بالشهادة، والشهادة لا توجب الحكم قبل اتصال القضاء بها حتى لو أراد المدعي إثبات ما شهد به الشهود عند قاض في مجلس قاض آخر بالبينة ليقضي له بذلك القاضي الآخر لا يسمع بينته، فكذا الرجوع لا يصير موجباً الضمان قبل اتصال القضاء به، فهو معنى قولنا: إن دعواه لم تصح. الوجه الثاني: أن يدعي رجوعاً، وقضاء القاضي عليه بالرجوع، وفي هذا الوجه يستحلف الشاهد وتسمع بينة المشهود عليه على ذلك، لأن الدعوى قد صحت، لأنه ادعى رجوعاً موجباً للضمان، فيترتب عليه التحليف وسماع البينة، وإذا رجع الشاهد عن شهادته عند غير القاضي الذي شهد عنده أول مرة، فقامت عليه البينة بالرجوع وبقضاء القاضي عليه بالضمان، فهذا القاضي ينفذ ذلك عليه، فيأمره بأداء الضمان، وكذلك لو شهد عليه شاهدان عند القاضي أنه أقر أنه رجع عند قاض من القضاة، وقضى عليه بالضمان، فهذا القاضي يقضي بهذه الشهادة ويلزمه الضمان والله أعلم. الفصل الثاني: في رجوع بعض الشهود عن الشهادة يجب أن يعلم أن العبرة في باب الرجوع عن الشهادة في حق بقاء الحق ووجوب الضمان لبقاء من بقي لا لرجوع من رجع، حتى إنه إذا شهد ثلاثة نفر على رجل بدين ألف درهم مثلاً، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم رجع اثنان منهم ضمنا نصف المال، ولو رجع واحد منهم فلا ضمان على الراجع، وهذا لأن وجوب الحق في الحقيقة بشهادة الشاهدين، لأن ما زاد على الشاهدين في هذه الحقوق فضل في حق القضاء إلا أن

الشهود إذا كانوا أكثر من الاثنين يضاف القضاء ووجوب الحق إلى الكل لضرورة المزاحمة لاستواء حالهم، فإذا رجع واحد منهم زالت المزاحمة لزوال الاستواء، فظهر أن القضاء كان مضافاً إلى شهادة المثنى. إذا ثبت هذا فنقول: إذا شهد بالحق ثلاثة ورجع واحد منهم، فقد بقي من يقوم بشهادته جميع الحق، فلا يضمن الراجع شيئاً، وإذا رجع الاثنان منهم، فقد بقي من يقوم بشهادته نصف الحق، فكان التالف بشهادة الراجعين نصف الحق، فيجب ضمان ذلك النصف عليهما لاستوائهما في ذلك. وإن شهد رجل وامرأتان ثم رجعت المرأتان، فعليهما نصف المال؛ لأن المرأتين قامتا مقام رجل، وكأنه شهد بالحق رجلان فرجع واحد منهما، وهناك يجب على الراجع نصف الحق؛ لأنه بقي من يقوم بشهادته نصف الحق، وإن رجعت واحدة من المرأتين فعليها ربع المال؛ لأنه بقي من يقوم بشهادته ثلاثة أرباع المال. ولو شهد رجلان وامرأة ثم رجعوا، فلا ضمان على المرأة؛ لأن المرأة الواحدة لا شهادة لها فيما يطلع عليه الرجال، فلا يضاف ثبوت الحق إلى شهادتها. وإن شهد رجلان وامرأتان ثم رجعوا، فعلى المرأتين ثلث الضمان، لأن شهادة المرأتين حالة الاختلاط بمنزلة شهادة رجل واحد؛ فكأنه شهد بالحق ثلاثة رجال. وإن شهد رجل واحد وعشر نسوة، ثم رجعوا فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: النصف على الرجل والنصف على النسوة، لأن النسوة وإن كثرن أقمن مقام رجل واحد، كما في حالة الانفراد حتى إن النسوة وإن كثرن لا يقطع الحكم بشهادتهن فكذا في حالة الاجتماع، وصار تقدير مسألتنا: كأن رجلين شهدا ثم رجع واحد منهم، وعند أبي حنيفة الضمان عليهم أسداساً: سدسه على الرجل وخمسة أسداسه على النسوة؛ لأن حالة الاختلاط كل اثنتين من النسوة أقمن مقام رجل، ألا ترى أنه يقطع الحكم بشهادة رجل وامرأتين كما يقطع بشهادة رجلين، وصار تقدير مسألتنا: كأنه شهد ست رجال، ورجع خمسة. وإن رجع ثمان نسوة فلا ضمان عليهن، وإن رجعت امرأة بعد الثمان فعليها وعلى الثمان ربع المال، وإن رجعت العاشرة بعد ذلك فعليها وعلى التسع ضمان نصف المال. وإن شهد رجل وثلاث نسوة ثم رجع الرجل مع امرأة، فإنه يجب ضمان نصف المال، ويكون ذلك على الرجل خاصة عندهما؛ لأن النسوة وإن كثرن فعندهما أقمن مقام رجل واحد حالة الاختلاط والانفراد جميعاً، فكان نصف المال ثابتاً بشهادة النسوة، والنصف ثابتاً بشهادة النسوة والنصف ثابتاً بشهادة الرجل، فإذا بقي امرأتان على الشهادة فقد بقي منهن من يقوم بشهادتهما نصف المال، فعرفنا أن الحجة قد بطلت في حق النصف الثابتة بشهادة الرجل خاصة، فكان ضمان ذلك عليه. وعلى قياس قول أبي حنيفة رحمه الله يجب أن يكون ضمان ذلك النصف على الرجل والمرأة الراجعة أثلاثاً؛ لأن عنده كل ثنتين من النساء حالة الاختلاط أقمن مقام

الفصل الثالث: في الرجوع عن الشهادة في النكاح

رجل واحد، فكأن كل امرأة قائمة مقام نصف رجل، فإذا كانت المرأة ثلاثاً والرجل واحد، فكأنه شهد رجلان ونصف رجل، ثم رجع رجل ونصف رجل، ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا رجعوا جملة فهذه الصورة كان الضمان على الرجل و (المرأتين) أخماساً والله (160أ4) أعلم. الفصل الثالث: في الرجوع عن الشهادة في النكاح إذا ادعت المرأة نكاحها على رجل، وأقامت على ذلك بينة، وقضى القاضي بالنكاح بينهما، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإنه ينظر إلى مهر مثلها وإلى المسمى، فإن كان مهر مثلها مثل المسمى الذي شهد به الشهود أو أكثر من المسمى، فإنهما لا يضمنان للزوج شيئاً؛ لأنهما أوجبا المهر بعوض يعدله إن كان مهر مثلها مثل المسمى، وبعوض يزيد عليه إن كان مهر مثلها أكثر من المسمى، والإيجاب بعوض يعدله لا يوجب على الشاهد شيئاً. فإن قيل: منافع البضع كيف تصلح عوضاً عن المهر، وإن المهر عين مال، ومنافع البضع ليست بعين مال؟ (بدليل أنه يثبت الحيوان ديناً في الذمة بدلاً عنها) قلنا: منافع البضع حالة الدخول في الملك أعطي لها حكم المال شرعاً، بدليل أن الشرع جوز للأب أن يزوج ابنه الصغير امرأة بمهر مثلها من مال الصغير، والوالد لا يملك إزالة ملك الصغير إلا بعوض يعدله، ألا ترى أنه لو خالع ابنته الصغيرة بمالها لم يجز، وإن كان المسمى مثل مهر مثلها، فلما جوز الشرع للأب النكاح لابنه الصغير علمنا أن منافع البضع اعتبرت مالاً عند الدخول في الملك، فصلحت عوضاً هذا إذا كان مهر مثلها مثل المسمى أو أكثر. أما إذا كان مهر مثلها أقل من المسمى، بأن كان مهر مثلها ألفاً والمسمى ألفين، فإنهما يضمنان ألف درهم للزوج؛ لأنهما أتلفا على الزوج قدر ألف درهم من غير عوض. قال: وإن ادعى رجل على امرأة النكاح، وأقام على ذلك بينة، والمرأة جاحدة، فقضى القاضي عليها بالنكاح بالبينة، ثم رجعا عن شهادتهما فإنهما لا يضمنان للمرأة سواء كان المسمى مثل مهر مثلها أو أكثر أو أقل، وكان ينبغي أن يضمنا لها ألف درهم؛ لأنهما أتلفا الزيادة على المسمى من منافع بضعها بغير عوض من حيث الحكم، وإتلاف منافع البضع حقيقة بغير عوض يوجب الضمان. كما قالوا في المجنون: إذا أكره المرأة فزنى بها فإنه يجب العقر، فكذلك الإتلاف من حيث الحكم، يجب أن يوجب الضمان،

والجواب القياس أن لا يضمن منافع البضع بالإتلاف الحقيقي؛ لأن ما ليس بمال لا يضمن بالمال بقضية القياس وإنما وجب المال ثمة شرعاً تعظيماً لأمر البضع، والنص الوارد في الإتلاف الحقيقي بخلاف القياس لا يكون وارداً في الإتلاف الحكمي؛ لأن الإتلاف الحكمي دون الإتلاف الحقيقي، فرد هذا إلى ما يقتضيه القياس، وقضية القياس أن لا يضمن ما ليس بمال بالمال. وإذا ادعى رجل على امرأة بأنه تزوجها بمئة درهم، وقالت المرأة: لا بل تزوجتني بألف درهم ومهر مثلها ألف درهم، فشهد شاهدان أنه تزوجها على مئة درهم، فقضى القاضي بذلك، ثم رجعا عن شهادتهما، فهذا على وجهين: أما إن رجعا قبل الطلاق، أو بعد الطلاق، فإن رجعا عن شهادتهما حال قيام النكاح، ذكر أنهما يضمنان للمرأة تسعمئة في قول أبي حنيفة ومحمد، ولا يضمنان شيئاً عن أبي يوسف، وهذه المسألة فرع لمسألة ذكرها في النكاح، وهو أن الزوجين متى اختلفا في مقدار المسمى، فالقول قول من شهد له مهر المثل عند أبي حنيفة ومحمد، وعلى قول أبي يوسف: القول قول الزوج في الأحوال كلها، إلا أن يدعي شيئاً مستنكراً جداً، وهو أن يدعي دون العشرة، وههنا مهرها ألف درهم، وإذا كان القول قول المرأة أن مهرها ألف درهم عندهما كان المستحق لها على الزوج ألف درهم، فهما بشهادتهما أبطلا عليها تسعمئة بغير عوض، فيضمنان ذلك للمرأة إذا رجعا، وعلى قول أبي يوسف المستحق للمرأة مئة درهم كما يقول الزوج، لأنه لم يدع شيئاً مستنكراً، وإذا لم يكن ما زاد على المئة مستحقاً لها قبل شهادتهما، فهما بشهادتهما لم يبطلا على المرأة شيئاً مستحقاً لها، فلا يضمنان لها شيئاً في قول أبي يوسف، هذا إذا رجعا قبل الطلاق. فإن رجعا بعد الطلاق فهذا على وجهين: أما إن رجعا قبل الدخول بها أو بعد الدخول بها، فإن كان بعد الدخول بها فالجواب فيه كالجواب حال قيام النكاح؛ لأن المستحق لها قدر مهر مثلها، وهو ألف درهم عندهما، فأما إذا كان الطلاق قبل الدخول بها، فإنهما لا يضمنان للمرأة شيئاً عندهم جميعاً، لأن الواجب لها بالنكاح متى ورد الطلاق قبل الدخول بها في مثل هذه الصورة المتعة، لأن التسمية لم تثبت لاختلافهما، فيجب تحكيم المتعة عندهما، والظاهر أن متعتها لا تزيد على خمسين درهماً وقد قضينا لها بخمسين، حتى لو زاد ضمنا لها الزيادة على خمسين عندهما، وعند أبي يوسف القول قول الزوج في الأحوال كلها، فيكون لها خمسون درهماً، متى طلقها قبل الدخول بها لا غير. شاهدان شهدا على امرأة أن فلاناً تزوجها على ألف درهم، وقبضت ذلك وهي تنكر، ومهر مثلها خمسمئة فقضى القاضي بذلك، ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا مهر المثل دون المسمى، ولو وقعت الشهادة بالعقد بألف أولاً، فقضى القاضي به ثم شهدا بقبض الألف، وقضى القاضي به، ثم رجعا عن الشهادتين ضمنا للمرأة المسمى؛ لأن منافع البضع حال دخولها في ملك الزوج اعتبرت أموالاً متقومة ضرورة مقابلتها بما هو

الفصل الرابع: في الرجوع عن الشهادة في الطلاق والخلع

متقوم وهو المهر كالبيع في باب البيع، فيضمنان قيمة البضع في أحد الفصلين والمسمى في الآخر. والفرق بين الفصلين: أن الضمان إنما يجب على الشهود بسبب الإتلاف؛ والشاهد إنما يصير متلفاً ما دخل تحت قضاء القاضي، والداخل تحت القضاء في الفصل الأول نفس النكاح لا المهر؛ لأن الشهود إنما شهدوا بالنكاح بمهر مقبوض، وفي مسألة القاضي لا يقضي بالمهر؛ لأنه مقترن بالقضاء بالمهر ما يمنع القضاء بالمهر وهو كون المهر مقبوضاً، فصار الشاهد بشهادته متلفاً على المرأة منافع بضعها لا المهر، فيضمنان قيمة منافع بضعها وهي مهر المثل، أما في الفصل الثاني القاضي قضى بالمهر حين قضى بالنكاح، لانعدام ما يمنع القضاء به وهو كون المهر مقبوضاً، فلم تكن الشهادة بالنكاح ولا القضاء به إتلافاً لمنافع بضعها، لأنه قابل منافع بضعها عوضاً فوقها فبقيت الشهادة بالقبض بعد ذلك إتلافاً للمهر عند القضاء، فإذا رجع الشاهدان عن شهادتهما صارا متلفين للمهر فيغرمان ذلك. الفصل الرابع: في الرجوع عن الشهادة في الطلاق والخلع وإذا شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته واحدة، وشهد آخر أنه طلقها ثلاثاً، ولم يكن الزوج دخل بها، وقضى القاضي بالفرقة وبنصف المهر، ثم رجعوا عن شهادتهم، فلا ضمان على شهود الواحدة، وعلى شهود الثلاث نصف المهر، لأن القضاء ههنا ما وقع بشهادة شهود الواحدة، وإنما وقع بشهادة شهود الثلاث. بيانه: أنه تعذر القضاء بالشهادتين؛ لأنه لو قضى بهما، فإنما يقضي بأن يجعل الواحدة سابقة على الثلاث؛ لأنه لا يتصور بعد إيقاع الثلاث، والقضاء بالواحدة ثم بالثلاث لا يفيد؛ لأن حكم الواحدة حرمته حقيقة ولا تثبت هذه الفائدة مع القضاء بالثلاث، والقاضي لا يشتغل بما لا يفيد، فلا يقضي بالواحد لعدم الفائدة. وإذا شهد شاهدان على رجل قد دخل بامرأته أنه طلقها ثلاثاً، وفرق القاضي بينهما، وألزم الزوج بالمسمى، ثم رجعا عن شهادتهما فلا ضمان عليهما للزوج. ولو شهدا بالطلاق وكان ذلك قبل الدخول بها، وفرق القاضي بينهما وألزم الزوج بنصف المسمى، إن كان في النكاح تسمية، أو المتعة إن لم يكن في النكاح تسمية ثم رجعا فإنهما يضمنان ذلك للزوج. والفرق: أن في الطلاق قبل الدخول إنما وجب الضمان على الشاهد عند الرجوع بدلاً عما (نفياً) عليه من نصف المهر بعد وجود سبب السقوط وهو الفرقة الجائية، (لأن) الزوج قبل الدخول بها إذ الإبقاء بعد وجود سبب السقوط في معنى إيجاب مبتدأ، فإنما ضمنا نصف المهر بدلاً عما أوجبا عليه، لا بدلاً عما أتلفا عليه من منافع البضع، وفي

الطلاق بعد الدخول بها لا يمكننا إيجاب الضمان بدلاً عما أوجبا عليه؛ لأنهما لم يؤكدا عليه مالاً بعد وجود سبب السقوط لو وجب الضمان وجب بدلاً عما أتلفا عليه من منافع البضع، ولا وجه إليه؛ لأن القياس يأبى إيجاب الضمان بمقابلة (160ب4) المنافع؛ لأن المنافع ليست بمال ولا مماثلة بين المال وغير المال، وإيجاب الضمان يعتمد المماثلة. وإذا شهد شاهدان على امرأة لم يدخل بها زوجها أنها اختلعت من زوجها على أن أبرأته عن المهر، والمرأة تجحد، والزوج يدّعي، وقضى القاضي بشهادتهما، ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان للمرأة نصف المهر؛ لأنه لولا شهادتهما لكان يقضي لها بنصف المهر لوقوع الفرقة قبل الدخول بإقرار الزوج، فهما بشهادتهما أتلفا ذلك النصف عليهما وقد أتلفاه بغير عوض؛ لأن ما أدخلا في ملكها من منافع البضع لا يصلح عوضاً عما أتلفا عليه من المال. ولو كان الزوج قد دخل بها، وباقي المسألة بحاله ضمنا للمرأة جميع المهر، لأنه لولا شهادتهما لكان يقضي لها بجميع المهر لوقوع الفرقة بإقرار الزوج بعد الدخول بها، فهما بشهادتهما أبطلا على المرأة ذلك، وقد أبطلاه بغير عوض لما ذكرنا فيضمنان ذلك. وإذا شهد شاهدان على رجل أنه طلق امرأته عام أول في رمضان قبل أن يدخل بها، فأجاز القاضي ذلك وألزمه نصف المهر، ثم رجعا عن شهادتهما، فضمنهما القاضي نصف المهر، أو لم يضمنهما حتى شهد شاهدان على الزوج أنه طلقها عام أول في شوال قبل الدخول بها؛ لم تقبل شهادة الفريق الثاني؛ لأنهم شهدوا بطلاق باطل، لأنه متى طلقها قبل الدخول بها في رمضان لا يتصور أن يطلقها بعد ذلك في شوال، فلا تقبل شهادة الفريق الثاني، وإذا لم تقبل فكأنه شهد بها الفريق الأول لا غير ثم رجعا، ولو كان كذلك كان الضمان عليهم فكذلك هذا. ولو أقر الزوج بذلك عند القاضي لم يكن على الشاهدين ضمان، ويرد عليهما ما كانا ضمنا له، ويجب أن يكون هذا قول أبي يوسف الآخر ومحمد، فأما على قول أبي حنيفة: فإنه لا يرد عليهما ما أخذ منهما من الضمان. وهذا لأن مذهب أبي حنيفة أن قضاء القاضي بالطلاق بشهادة الزور ينفذ ظاهراً وباطناً، وإذا نفذ قضاء القاضي بالطلاق في رمضان ظاهراً وباطناً لم يصح إقراره أنه طلقها في شوال من هذا العام، وإذا لم يصح إقراره بقي التلف مضافاً إلى شهادتهما لا إلى إقراره. وعندهما: القضاء بشهادة الزور نفذ ظاهراً ولم ينفذ باطناً، وإذا لم ينفذ باطناً، بقيت منكوحة لزوجها إلى شوال؛ وإذا بقي النكاح إلى شوال عندهما في الباطن كان إقرار الزوج بالطلاق في شوال إقراراً صحيحاً، فكان التلف مضافاً إلى إقرار الزوج لا إلى الشهادة. وقد أشار إلى الخلاف في بعض نسخ هذا الكتاب، ثم قال: في هذا يخالف

الإقرار، وهذا لأن كذب الفريق الأول مما لم يعلم به الفريق الثاني، ومن لا علم له بكذب الشهود في الحقيقة فالقضاء في حقه يعتبر نافذاً ظاهراً وباطناً، كما قالوا في شاهدين شهدا بطلاق امرأة وقضى القاضي بذلك، إذا تزوجها أجنبي وسعه وطؤها ظاهراً وباطناً؛ لأنه لا يعلم كذب الشهود، فكذا في الفريق الثاني من الشهود نفس القضاء نافذ ظاهراً وباطناً، فيعتبر القضاء في حقه نافذاً ظاهراً وباطناً، وإذا نفذ ظاهراً وباطناً لم تصح شهادة الفريق الثاني، فأما الإقرار فقد وجد من الزوج، وإنه يعلم كذب الشهود على الحقيقة، فيجيء التفصيل في حقه أن القضاء في حقه نفذ ظاهراً أم باطناً؟ قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل تزوج امرأة ولم يدخل بها حتى شهد شاهدان على الزوج أنه طلقها وفرق القاضي بينهما، وقضى القاضي بنصف المهر، ثم مات الزوج، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما فإنهما يغرمان لورثة الزوج (، و) نصف المهر؛ لأن ورثة الزوج قاموا مقام الزوج، والزوج لو كان حياً ورجع الشهود عن الشهادة غرموا للزوج نصف المهر، فكذا لمن قام مقامه، ولا يغرمان لورثة الزوج قيمة منافع بضعها، لأن الزوج لو كان حياً لكان لا يغرمان له ذلك لما عرف أنه لا قيمة لمنافع البضع عند الخروج عن ملك الزوج، فكذا لا يغرمان ذلك لورثته. قال: ولا يغرمان للمرأة ما زاد على نصف المهر. هكذا ذكر في «الكتاب» . قال مشايخنا: وهذا إنما يستقيم على قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الشاهدين عند الرجوع وإن زعما الطلاق لم يكن، فقد وقع طلاق مبتدأ بقضاء القاضي فيعتبر بما لو وقع بإيقاع الزوج ولو وقع بإيقاع الزوج لم يكن لها إلا نصف المهر كذا إذا وقع بإيقاع القاضي. فأما على قول أبي يوسف آخراً وهو قول محمد: لم يقع الطلاق مبتدأ بقضاء القاضي، فكان في زعم الشاهدين أن حقها باق في جميع المهر، وإنما فات عليها إمكان الأخذ فيما زاد على النصف بشهادتهما، فكانا مقرين للمرأة بالضمان فيما زاد على النصف فيغرمان ذلك. قال: ولا ميراث للمرأة، أما إذا كانت تدعي الفرقة فظاهر، وأما إذا كانت تجحد فلوقوع الفرقة بينهما بقضاء القاضي في حال حياة الزوج؛ وهذا إنما يستقيم على قول أبي حنيفة. أما على قول أبي يوسف آخراً وهو قول: محمد يجب أن يكون لها حصتها من الميراث؛ لأن في زعمها أن الزوج لم يطلقها وقد صدقها الزوج في ذلك حيث غرم الشهود، ولم يقع الطلاق مبتدأ بقضاء القاضي لعدم نفاذ القضاء باطناً عندهما فبقيت الزوجة عند الموت فيكون لها الميراث. وأما على قول أبي حنيفة وقع طلاق مبتدأ بقضاء القاضي لنفاذ القضاء باطناً عنده، فيعتبر بما لو وقع بإيقاع الزوج، ولو وقع بإيقاع الزوج لا ميراث لها لكون الطلاق قبل الدخول، فكذا إذا وقع بإيقاع القاضي.

الفصل الخامس: في الرجوع عن الشهادة في النكاح والطلاق والدخول

ويستوي في حق هذا الحكم أن يكون الزوج صحيحاً أو مريضاً عند أبي حنيفة رحمه الله: لأن الزوج لم يصر فاراً، فإنه لم يطلقها، وإنما وقع الطلاق بقضاء القاضي بالطلاق قبل الدخول بها، ولو طلقها الزوج بنفسه قبل الدخول بها فلا يصير فاراً، فإذا طلقها القاضي أولى، وإذا لم يوجد من الزوج الفرار لا يكون لها الميراث ما لم يكن النكاح قائماً عند موت الزوج، والنكاح قد ارتفع قبل موت الزوج بالطلاق الواقع. ثم عند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا لم يكن لها الميراث لم يغرم الشاهدان نصيبها من الميراث وإن أبطلا عليها النكاح الذي هو سبب الميراث، لأنهما إنما أبطلا النكاح حال حياة الزوج، والنكاح حال حياة الزوج ليس بسبب الإرث، فما أبطلا عليها ما هو سبب الإرث فلا يضمنان لذلك، هذا إذا شهدا بذلك حال حياة الزوج. فأما إذا شهدا بذلك بعد موت الزوج والباقي بحاله ضمنا لها نصف الصداق، لأن صداقها تأكد كله بموت الزوج ظاهراً، فهما بشهادتهما أبرأا الزوج عن نصف المهر، فصارا متلفين ذلك عليها فغرما لها ذلك، ويغرمان لها حصتها من الميراث، لأن الميراث صار حقاً لها بموت الزوج من حيث الظاهر، فهما بشهادتهما أتلفا عليها الميراث بغير حق، فيضمنان ذلك عند الرجوع، بخلاف المسألة الأول، فإن في المسألة الأولى لم يتلفا عليها الميراث؛ لأنها لم تستحق بعد، لم يتلفا عليها أيضاً ما هو سبب الإرث على ما مر، فلهذا لا يضمنان لها شيئاً ولا يضمنان للورثة شيئاً في هذه المسألة؛ لأنهما ما أتلفا على الزوج شيئاً بل أبرأاه عن نصف المهر. الفصل الخامس: في الرجوع عن الشهادة في النكاح والطلاق والدخول وإذا شهد رجل وامرأتان على طلاق امرأة، وشهد رجل وامرأتان على دخوله بها، وقضى القاضي بالطلاق والصداق، ثم رجعوا جميعاً عن شهادتهم، فإن على شاهدي الدخول ثلاثة أرباع المهر، وعلى شاهدي الطلاق ربع المهر، لأن شاهدي الطلاق شهدا بنصف المهر وقد شهد بهذا النصف شهود الدخول أيضاً؛ لأنهما شهدا بجميع المهر فكانا شاهدين بهذا النصف، وعند الرجوع ضمان هذا النصف عليهما على كل فريق نصفه وهو ربع الكل، وقد تفرد شاهد الدخول بالشهادة بنصف المهر، فكان ضمان ذلك النصف عليهما خاصة، فكان على شاهدي (161أ4) الدخول ثلاثة أرباع المهر من هذا الوجه.t فإن قيل: كيف يجب الضمان على الفريقين وإنهم بشهادتهم ما أوجبوا المهر ابتداءً بل أبقوا ما كان عليه بعقد النكاح؟. قلنا: لأن هذا الإبقاء كان بعد وجود سبب السقوط، بيانه: أن من زعم الشهود عند الرجوع أن الفرقة ما كانت من قبل الزوج بل من قبل القاضي، والفرقة الجائية لا من جهة الزوج توجب سقوط كل الصداق، كما لو ارتدت قبل الدخول بها، فلولا شهادتهم

بالدخول أو بالطلاق لكان يسقط جميع الصداق عن الزوج، وإنما بقي جميع المهر في زعم شاهدي الدخول بشهادتهما، ونصف المهر في زعم شاهدي الطلاق بزعمهما، والإبقاء بعد وجود سبب السقوط في معنى إيجاب مبتدأ، فإنما وجب الضمان عليهم من هذا الوجه. ولو رجع الرجل الشاهد على الدخول وحده فعليه ربع المهر؛ لأن نصف المهر ثبت بشهادة شاهدي الدخول وشاهدي الطلاق، وقد بقي شاهدا الطلاق على شهادتهما بذلك النصف، فلا يضمن الراجع من ذلك النصف شيئاً، والنصف الآخر تفرد به شاهدا الدخول، وقد بقي من يقوم بشهادته نصف ذلك النصف وهو المرأتان، فكان التالف بشهادة هذا الراجع نصف ذلك النصف وهو الربع، فكان عليه ضمان الربع من هذا الوجه، ولو رجع شهود الدخول كلهم فعليهم ضمان النصف الذي تفردوا بالشهادة به. ولو لم يرجع شهود الدخول إنما رجع شهود الطلاق فلا شيء عليهم؛ لأنه بقي على الشهادة من يقوم بشهادته جميع ما شهد به شهود الطلاق، ولو لم يرجعوا على هذا الوجه، وإنما رجعت امرأة من شهود الدخول، وامرأة من شهود الطلاق، فلا ضمان على الراجعة من شهود الطلاق، وعلى الراجعة من شهود الدخول ثُمُن المهر وهو ربع النصف الذي تفرد به شهود الدخول. وإذا اتفق الزوجان على أصل النكاح واختلفا في التسمية فقال الزوج: تزوجتها بغير شيء، وقالت المرأة: تزوجتني بألف درهم وجاءت بشاهدين شهدا أنه تزوجها بألف درهم وقضى القاضي بشهادتهما، ثم طلق الزوج المرأة عند القاضي، ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما ضمنا للزوج فضل ما بين المئة، إلى تمام الخمسمئة التي غرمها الزوج، لأنه لولا شهادتهما بالتسمية لكان يتخلص الزوج بالمتعة، فإنما لزمه الزيادة على المتعة بشهادتهما بالتسمية، وهذه زيادة حصلت بغير عوض، لأن ثبوت النكاح غير مضاف إلى شهادتهما ليجعل ما حصل للزوج من ملك منافع البضع عوضاً عما أوجبا عليه، لأن النكاح كان ثابتاً قبل شهادتهما بتصادق الزوجين، بخلاف ما إذا كان الزوج جاحداً، لأن هناك ثبوت الملك في منافع بضعها للزوج مضاف إلى شهادتهما؛ لأن ملك النكاح لم يكن ثابتاً قبل شهادتهما، فكان ذلك إيجاباً بعوض. ولو شهد آخران على الدخول قبل الطلاق، ثم طلقها الزوج وألزم القاضي الزوج ألف درهم، ثم رجعوا، فعلى شاهدي الدخول خمسمئة خاصة لا يشاركهما فيها شاهدا التسمية، لأنه لولا شهادة شاهدي الدخول لكان برىء الزوج عن خمسمئة مما أوجبا عليه شاهدا التسمية بالطلاق قبل الدخول، فإنما بقي ملك الخمسمئة بشهادة شاهدي الدخول، وكان ضمان ذلك عليهما خاصة، وعلى شاهدي الدخول وشاهدي التسمية فضل ما بين المتعة إلى تمام الخمسمئة الأخرى نصفان؛ لأن لزوم ذلك القدر للزوج بشهادة الفريقين لولا شهادتهم لكان يتخلص الزوج بقدر المتعة، هذا الذي ذكرنا. إذا طلق الزوج المرأة بين يدي القاضي. فإن لم يطلقها بين يدي القاضي، فشهد آخران على الطلاق قبل

الدخول، والزوج يجحد الطلاق، ثم رجعوا عن شهادتهم فعلى شاهدي الدخول وشاهدي التسمية فضل ما بين المتعة إلى تمام الخمسمئة ينصِّفان لما ذكرنا، وقدر المتعة على شاهدي التسمية وشاهدي الدخول، وعلى شاهدي الطلاق قبل الدخول أثلاثاً، لأن ذلك القدر تلف بشهادتهم جملة. وإذا شهد شاهدان على رجل أنه تزوج هذه المرأة على ألف درهم، ومهر مثلها خمسمئة درهم، والزوج يجحد ذلك، وشهد آخران بالطلاق قبل الدخول، وأجاز القاضي شهادتهم، ثم رجعوا جميعاً عن شهادتهم، فإن على شاهدي النكاح مئتين وخمسين، وعلى شاهدي الطلاق مئتين وخمسين، أما على شاهدي النكاح مئتين وخمسين؛ لأنهما أوجبا على الزوج ألف درهم خمسمئة بعوض فلا يجب ضمان ذلك عليهما وخمسمئة بغير عوض، لا يشاركهما في ضمان هذه الخمسمئة لا شاهد الطلاق ولا شاهد الدخول، أما شاهدا الطلاق؛ لأن شاهدي الطلاق ما أوجبا على الزوج إلا نصف الألف، وقد ضمنا قدر ما أوجباه على ما تبين بعد هذا، ولا يضمنان من هذه الخمسمئة شيئاً، وأما شاهدا الدخول فلا يشاركهما في هذه الخمسمئة وإن أكدا هذه الخمسمئة لأنه لولا شهادتهما على الدخول لكان يسقط خمسمئة بالطلاق قبل الدخول؛ لأنهما وإن أكدا هذه الخمسمئة إلا أنهما لم يوجباها، وشاهدا النكاح أوجباها فصار شاهدا الدخول من حيث إنهما لم يوجبا هذه الخمسمئة بمنزلة صاحب الشرط، وشاهد النكاح بمنزلة صاحب العلة على ما عرف، وأما الخمسمئة الأخرى فثلاثة أرباعها على شاهدي الدخول وربعها على شاهدي الدخول تفردا بإيجاب هذه الخمسمئة فيكون ضمان ذلك عليهما والنصف الآخر ثبت بشهادة الفريقين فيكون ضمان ذلك عليهما نصفين، وصار الجواب في هذا نظير الجواب فيما إذا كان مهرها هذه الخمسمئة لا غير، وشهد شاهدان بالدخول وشاهدان بالطلاق ثم رجعوا، وهناك صار الخمسمئة عليهم أرباعاً فههنا كذلك. قال محمد في «الجامع» : وإذا شهد شاهدان لامرأة على رجل أنه تزوجها بألفي درهم، ومهر مثلها ألف درهم، فقضى القاضي بذلك وقبضت المرأة الألفين، ثم شهد آخران أن الزوج دخل بها وطلقها ثلاثاً، والزوج يجحد، ففرق القاضي بينهما، ثم رجع الشهود جميعاً عن شهادتهم فالزوج بالخيار؛ إن شاء ضمن شهود النكاح بألف درهم؛ لأنهم ألزموه ألفي درهم منها بعوض وهو منافع البضع الذي له قيمة عند الدخول في ملك الزوج وهو مهر المثل، وألف ألزموه بغير عوض فيما أوجبا بعوض لا يضمنانه، وما أوجبا بغير عوض يلزمهم ضمانه، وإن شاء ضمن شهود الدخول والطلاق ألفي درهم؛ لأنهم بشهادتهم قرروا عليه الألفين جميعاً، لأن المهر قبل الدخول كله (على) شرف السقوط بردة جائية من قبل المرأة، أو غير ذلك فشهود الطلاق والدخول بشهادتهم قرروا عليه ذلك، وللتقرير حكم الإثبات من وجه، فلهذا كان له أن يضمن شاهدي الطلاق والدخول ألفي درهم.

فإن ضمن شهود الدخول والطلاق ألفي درهم ليس له تضمين شهود النكاح، لأنه وصل إليه جميع ما غرم للمرأة، وليس لشهود الطلاق والدخول أيضاً أن يرجعوا على شهود النكاح، لأنهم ضمنوا لجنايتهم، وهو تقرير المهر على الزوج، ولم يعترض جناية على حقهم، فلا يكون لهم حق الرجوع على أحد بما ضمنوا كما في غاصب الغاصب. وإن ضمن شهود النكاح ألف درهم رجع على شهود الدخول والطلاق بألف أخرى، لأنه بقي إلى إتمام حقه ألف درهم، فيرجع بذلك على شهود الطلاق والدخول، وكان لشهود النكاح أن يرجعوا بالألف التي ضمنوا للزوج على شهود الطلاق والدخول، لأنهم بأداء الضمان قاموا مقام الزوج في المضمون، وقد كان للزوج حق الرجوع عليهم بذلك الألف، فكذا لمن قام مقامه. ثم اختلفت الروايات في حق قبض تلك الألف، ذكر في الرجوع عن الشهادات في «المبسوط» أن شهود النكاح هم الذين يقبضون ذلك. وذكر في «الجامع:» أن الزوج هو الذي يقبض ذلك ثم يدفعه إلى شهود النكاح. فوجه رواية كتاب الرجوع: هو أن الزوج لما ضمن شهود النكاح ألفاً فقد أقامهم مقام نفسه في الرجوع بها على شهود الطلاق، فتحول ولاية القبض إليهم، كما قلنا في المالك إذا ضمن الغاصب الأول، كان للغاصب الأول أن يضمن الغاصب (161ب4) الثاني، ويقبض الضمان بنفسه لنفسه، لقيامه مقام المالك كذا هذا. وجه رواية «الجامع» هو: أن السبب الذي ضمن به شهود الطلاق هو الشهادة على ما يؤكد المهر وهو الدخول؛ وهذا السبب إنما جرى بين الزوج وبين شهود الطلاق والدخول، لا بين شهود النكاح وشهود الدخول، فيكون حق القبض للزوج، وإن كان المقبوض ملكاً للغير وهو شاهدا النكاح؛ كالوكيل في باب البيع حق القبض له، وإن كان المقبوض ملكاً للموكل كذا هنا، بخلاف الغاصب الأول مع الغاصب الثاني؛ لأن هناك جرى بين الغاصب الأول وبين الغاصب الثاني سبب لوجوب الضمان عليه وهو الغصب المفوت لليد المحترمة، وبأداء الغاصب الأول الضمان صار المغصوب ملكاً له من وقت الغصب بالأول، فصار الغصب الثاني موجباً الضمان للغاصب الأول، أما هنا بخلافه. ولو جاء شهود النكاح وشهود الدخول والطلاق، وشهدوا عند القاضي معاً، كانت العبرة بحالة القضاء، فإن قضى بشهادة شهود النكاح أولاً بأن ظهرت عدالتهم، فهذا والفصل الأول سواء، وإن اتصل القضاء بشهادة شهود الدخول أولاً بأن ظهرت عدالتهم أولاً. وصورته: أن يشهد شاهدان أن هذا الرجل دخل بهذه المرأة أمس بحكم النكاح، وشهد آخران أن هذا الرجل تزوج هذه المرأة أول من أمس على ألف درهم، فعدل شهود الدخول والطلاق أولاً، فقضي على الزوج بضمان البضع، وذلك مهر مثلها وهو ألف درهم، ثم عدلت شهود النكاح، فقضى القاضي عليه بألف أخرى، ثم رجعوا جميعاً لم يضمن شهود الدخول والطلاق إلا ألف درهم، لأنهم لم يوجبوا إلا موجب البضع،

وذلك مهر المثل؛ لأنهم أثبتوا الدخول بنكاح لا تسمية فيه، وموجبه مهر المثل لا غير، أما الزيادة عليه إنما تكون بتسمية صحيحة في العقد، ولم يظهر ذلك بعد. ويضمن شهود النكاح أيضاً ألفاً أخرى؛ لأنهم أوجبوا ألفاً أخرى، وهو الزيادة على مهر المثل بغير عوض، وذلك مضاف إلى شهادتهم دون شهادة شهود الدخول، فيكون ضمان ذلك عليهم. ولا يرجع كل فريق على الفريق الآخر بشيء، أما شهود الدخول فظاهر، وأما شهود النكاح فلأن الزوج لم يكن له حق تضمين شهود الدخول والطلاق هذه الزيادة باعتبار أن الزيادة على مهر المثل ما ثبت بشهادتهم، فلا يكون ذلك أيضاً لمن قام مقام الزوج، وهم شهود النكاح. وإن ظهرت عدالة الفريقين معاً، فقضى القاضي بشهادتهم معاً، ثم رجعوا جميعاً فهذا وما لو قضى القاضي بشهادة شهود النكاح أولاً سواء، لأن القاضي إنما يقضي بالشهادة على حسب ما شهد به الشهود، وشهود الدخول إنما شهدوا بالدخول بحكم النكاح، فأوجب ذلك ترتب الدخول على النكاح إلا أن يقدم الحكم بالدخول فإذا لم يتقدم الحكم بالدخول صير إلى الأصل، وذلك يوجب سبق النكاح، فهذا وما لو قضى القاضي بالنكاح أولاً سواء. وكذلك لو كان شهود الدخول شهدوا على إقرار الزوج، أنه تزوج هذه المرأة ودخل بها وطلقها ثلاثاً، فقضى القاضي على الزوج بمهر مثلها اعتباراً للإقرار الثابت بالبينة بالثابت عياناً، فلو جاءت المرأة بعد ذلك بشاهدين يشهدان على إقرار الزوج أنه تزوجها على ألفي درهم، وقضى القاضي عليه بالفصل، ثم رجع الشهود جميعاً عن شهادتهم، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا شهدوا على معاينة الدخول والطلاق وعلى معاينة النكاح، لما مر من اعتبار الثابت بالبينة بالثابت معاينة فلو أن شهود النكاح وشهود الدخول والطلاق زكّوا معاً وقضى القاضي بشهادتهم معاً، ثم رجع شهود النكاح ضمنهم ألف درهم وهو الألف الزائد على مهر المثل، لإيجاب ذلك بغير عوض، فإن رجع شهود الدخول بعد ذلك ضمنهم ألفي درهم، ألف من ذلك للزوج، وألف أخرى يعطيه الزوج إلى شهود النكاح لما مر قبل هذا، وإن رجع شهود الدخول أولاً ضمنهم الزوج ألفي درهم، فلو لم يقبضها الزوج حتى رجع شهود النكاح، فلا ضمان للزوج على شهود النكاح. علل محمد رحمه الله في «الكتاب» فقال: لأنه حين اختار تضمين شهود الدخول فقد أبرأ شهود النكاح. فإن قيل: كيف يصح هذا الإبراء؟ فإن صحة الإبراء تعتمد بعدم الوجوب، والضمان لم يكن واجباً على شهود النكاح وقت تضمين شهود الدخول؛ لأنهم لم يرجعوا بعد. قلنا: إنما صح باعتبار أن يرجع شهود النكاح يظهر تقديمهم عند الرجوع بنفس الشهادة، فظهر أن الضمان كان واجباً عليهم يوم تضمين شهود الدخول، فإذا ظهر الوجوب ظهرت صحة الإبراء.

امرأة مرتدة ادعت على رجل أنه تزوجها في حال إسلامها على ألفي درهم، ودخل بها وطلقها، ثم كانت الردة، وأنكر الزوج ذلك كله، ومهر مثلها ألف، فشهد لها شاهدان بالنكاح بألفي درهم، وقضى القاضي بشهادتهم، وشهد آخران على الدخول والطلاق أمس، وأنها ارتدت اليوم، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم رجعوا جميعاً عن شهادتهم، فشهود النكاح لا يضمنون للزوج شيئاً؛ لأن الشهود إنما يضمنون عند الرجوع ما قضى القاضي بشهادتهم، والقاضي ما قضى بشيء من المهر على الزوج بشهادة شهود النكاح؛ لأنه قارن القضاء بالمهر ما يمنع القضاء به: وهو ردة المرأة قبل الدخول إذ الدخول لم يكن ثابتاً وقت القضاء بشهادة شهود النكاح؛ لأنه قارن القضاء بالمهر ما يمنع القضاء به. ولهذا (لو) قلنا: لو عاين القاضي النكاح مع التسمية ثم عاين ارتدادها قبل الدخول لم يقض على الزوج بشيء من المهر، فعلم أن القاضي لم يقض بالمهر بشهادة شهود النكاح، فلا يضمنون ذلك. بخلاف ما إذا لم ترتد المرأة والمسألة بحالها حيث يضمن شهود النكاح للزوج، لأن هناك وقع القضاء بشهادتهم بالمسمى إذ المانع وهو الردة لم يقارن القضاء ثمة، فضمنوا ما زاد على مهر المثل وهو ألف درهم، أما ههنا بخلافه. قال: وشهود الدخول والطلاق يضمنون للزوج ألفي درهم؛ لأن القاضي إنما يقضي بألفي درهم بشهادتهم؛ لأنه لم يقارن القضاء بالمهر بشهادتهم ما يمنع القضاء به؛ لأن ردة المرأة بعد الدخول لا تنافي المهر؛ فصاروا مثبتين على الزوج ألف درهم، أو مذكرين ذلك عليه بغير عوض، فيضمنون ذلك له عند الزوج. ولو وقع القضاء بالشهادتين جميعاً فهذا وما لو وقع القضاء بشهادة شهود النكاح أولاً سواء، لأن شهود النكاح يجعل متقدماً، وشهود الدخول يجعل متأخراً كما هو الأصل إلا إذا وجد دليل مغير ولم يوجد. ولو قضى القاضي بشهادة شهود الدخول أولاً، ثم قضى بشهادة شهود النكاح، ثم رجعوا جميعاً عن شهادتهم ضمن شهود الدخول بمهر مثلها، لأن حال ما قضى القاضي بشهادتهما التسمية لم تكن ثابتة، والدخول في نكاح لا تسمية فيه يوجب مهر المثل، فحصل للقاضي بشهادتهم مقدار مهر المثل لا غير، فعند الرجوع لا يضمنون إلا ذلك القدر، ويضمن شهود النكاح ألفاً أخرى وهو الألف الزائد على مهر المثل، لأن القاضي إنما يقضي بالألفين بشهادتهم، لأنه حين قضى بشهادتهم كان الدخول مقضياً به، فردة المرأة بعد الدخول لا تنافي الصداق، فحصل القضاء بشهادتهم بالألفين، ألف من ذلك حصل بعوض وهو منافع البضع فلا يجب ضمانه وألف من ذلك بغير عوض، فيجب ضمانه، بخلاف ما لو قضى القاضي بشهادة شهود النكاح لكن لم يقع القضاء بالمهر بشهادتهم وإنما وقع القضاء به بشهادة شهود الدخول والطلاق، أما ههنا بخلافه ولا يرجع أحد الفريقين على الآخر لما قلنا من قبل.

الفصل السادس: في الرجوع عن الشهادة في العتق والكتابة والتدبير والاستسعاء

الفصل السادس: في الرجوع عن الشهادة في العتق والكتابة والتدبير والاستسعاء قال محمد رحمه الله: شهود العتق يضمنون عند الرجوع قيمة العبد المشهود به موسرين كانا أو معسرين، لأن هذا ضمان إتلاف الملك، وإنه لا يختلف باليسار والعسار (162أ4) ولا يمتنع وجوب الضمان عليهما بسبب ما أوجبا من الولاء (لأنه) ليس بمال متقوّم، فلا يصلح عوضاً عمّا أتلفا من ملك الرقبة على المولى. قال: وشهود التدبير يضمنون عند الرجوع ما نقصه التدبير؛ لأنهم فوتوا بعض المنافع من حيث التجارة دون البعض، فإنه بقي من حيث الإجارة فلم يكن الفائت جنس منفعة على المالك، فكان نقصاناً فيضمنان ذلك. فإن مات المولى والعبد يخرج من الثلث عتق العبد كله مجاناً، لأن رجوع الشاهد لا يعمل في حق العبد ويجعل في حق العبد كأنه لم يرجع، ولو لم يرجع حتى مات المولى، وباقي المسألة بحاله، كان الجواب كما قلنا كذا ههنا، وضمن الشهود قيمته مدبراً؛ لأن تلف ما بقي حصل عند موت المولى، وقد ضمنوا النقصان مرة، فلهذا قال: ضمنوا له قيمته مدبراً؛ وإن كان العبد لا يخرج من الثلث عتق ثلثه مجاناً، وسعى في ثلثي قيمته للورثة، كما لو لم يرجع الشهود ويضمن الشاهدان للورثة ثلث قيمة العبد مدبراً، لأنهما أزالا هذا القدر عن ملكهم بغير عوض، ولا رجوع لهما على العبد بذلك، وهل يضمنان قيمة الثلثين؟ ينظر إن عجل العبد السعاية يضمنان، وإن لم يعجل لا يضمنان، لأن في الوجه الأول أزالا ملكهم بعوض معجل، وفي الوجه الثاني أزالا ملكهم بعوض معجل، ويرجعان على العبد بذلك؛ لأنهما قاما مقام الورثة في ذلك لما ضمنا ذلك، وقد كان للورثة حق تضمين ذلك القدر، فكذا لمن قام مقامه بخلاف ضمان الثلث. قال: وشهود الكتابة عند الرجوع يضمنون قيمة العبد بخلاف شهود التدبير، فإنهم يضمنون النقصان عند الرجوع دون القيمة. والفرق: أن سبب وجوب ضمان القيمة إما إزالة اليد أو إزالة ملك الرقبة ولم يوجد شيء من ذلك في فصل التدبير إنما وجد سبب ضمان النقصان دون القيمة. وأما في فصل الكتابة سبب وجوب ضمان القيمة قد وجد وهو إزالة يد المولى عنه من غير عوض يحصل له في الحال، فيضمن كما في الغصب، فإذا ضمن الشاهدان قيمة العبد للمولى رجعا على المكاتب ببدل الكتابة على نجومه؛ لأنهما بأداء الضمان قاما مقام المولى في حق ملك البدل إن لم يقوما مقامه في حق ملك المكاتب، واعتبر الشاهد في هذا بالوارث، والوارث يرجع على المكاتب ببدل الكتابة فكذلك الشاهد، ولا يعتق المكاتب ما لم يؤد بدل الكتابة إلى الشاهدين.

والولاء يكون للمولى؛ لأن الشاهدين قاما مقام المولى في ملك البدل لا في ملك المكاتب، واعتبر الشاهد بالوارث، والمكاتب لا يعتق ما لم يؤد بدل الكتابة إلى الوارث، وعند الأداء الولاء يكون للمولى دون الوارث فكذا هذا. وإن عجز المكاتب ورد في الرق كان لمولاه؛ لأن الرقبة بقيت على ملك المولى، فإذا انفسخت الكتابة بالعجز بقي على الملك المولى، ويرد المولى على الشاهدين ما أخذ منهما؛ لأن الموجب الضمان، وهو إزالة يد المولى قد انعدم فيزول الضمان. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : إذا شهد شاهدان على رجل في شوال أنه أعتق عبده في رمضان، وقيمة العبد يوم الشهادة ألفا درهم، وكانت قيمته في رمضان ألف درهم، فلم يعدلا حتى صارت قيمته ثلاثة آلاف درهم، ثم عدلا، وقضي بشهادتهما، ثم رجعا ضمنا قيمة العبد يوم أعتقه القاضي، وذلك ثلاثة آلاف درهم؛ لأن الشهادة إنما تصير موجبة بواسطة اتصال القضاء بها فتعتبر قيمته يوم القضاء، وهذه المسألة (تثبت) بذلك أن العتق يثبت بقضاء القاضي بشهادة الزور وإن لم يكن له ولاية إعتاق عبد الغير. ووجه ذلك: أن القاضي إن كان لا يملك إعتاق عبد الغير بولاية القضاء، فالخصمان يملكان ذلك وكما ثبت بقضاء القاضي بشهادة الزور لا يملك القاضي إنشاءه بولاية القضاء، يثبت ما يملك الخصمان إثباته، وقد مرّ جنس هذا. في كتاب «أدب القاضي» : وإذا ادعى رجل على رجل أنه عبده، والمدعى عليه يجحد دعواه، وقضى القاضي بكونه عبداً له ببينة قامت عليه، ثم أعتقه على مال، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإنهما لا يضمنان للمشهود عليه شيئاً لا بدل العتق؛ ولا بدل ما أتلفاه عليه من الحرية، أما بدل العتق لأن بدل العتق وجب على المشهود عليه بعقده لا بشهادتهما. فإن قيل: المال وإن وجب على المشهود عليه بعقده إلا أنه مضطر في قبول هذا العقد لإحياء حقه في نفسه، كما كان، فهو بمنزلة صاحب العلو إذا بنى السفل، وهذا الاضطرار جاء من قبل شهادتهما عليه بالرق، فكان وجوب المال مضافاً إليهما. قلنا: المال ما أوجبه بقوله وحده حتى يقال: مضطر في القبول، فيكون الوجوب مضافاً إلى الشهود، إنما وجب بقبوله وإيجاب الولي والمولى غير مضطر في هذا الإيجاب من جهة الشاهد، فاعتبار جانب المولى وجوب المال لا يكون مضافاً إلى الشاهد، وباعتبار جانب العبد وجوب المال يكون مضافاً إلى الشاهد، فلا تثبت الإضافة إلى الشاهد بالشك. وأما ضمان بدل ما أتلفا، وإن كان الحر يضمن بالإتلاف الحقيقي؛ لأن إيجاب ضمان الحر بالإتلاف الحقيقي عرف بخلاف القياس بالنص، والنص الوارد في الإتلاف الحقيقي، وفي إتلاف صفة الحرية، وإجزاء الحر لا يكون وارداً في الإتلاف الحكمي، وفيه إتلاف صفة الحرية دون إجزاء الحر، فرد هذا إلى أصل القياس، والقياس يأبى إيجاب المال بمقابلة ما ليس بمال.m

وإذا شهد شاهدان أنه أعتقه البتة وشهد آخران أنه أعتقه عن دبر منه، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم رجعوا جميعاً فالضمان على شاهدي الإعتاق لا على شاهدي التدبير، لأن القاضي قضى بشهادة شاهدي الإعتاق لا بشهادة شاهدي التدبير، لأن القضاء بالتدبير مع الإعتاق لا يفيد وإن كان يتصور وقوعهما على الصحة، بأن كان التدبير أولاً ثم العتق، وإذا كان القضاء بالتدبير لا يفيد مع العتق لا يقضى به، وكان بمنزلة ما لو شهد شاهدان بالواحدة، وشهد آخران بالثلاث ورجعوا إنه لا ضمان على شهود الواحدة؛ لأن القضاء لم يقع بشهادة الواحدة، لأن القضاء بالواحدة مع الثلاث لا يفيد. ولو شهد شاهدا التدبير أول مرة وقضى القاضي بشهادتهما، ثم شهد شاهدا الإعتاق بالإعتاق، وقضى القاضي بذلك، ثم رجعوا فإن شاهدي التدبير يضمنان ما نقصه التدبير، ويضمن شاهدا العتق قيمته مدبراً، أما شاهدا التدبير يضمنان النقصان، لأن القاضي قضى بشهادتهما، لأن القضاء بالتدبير يقرن حكمه مع العتق البات، وإذا قضى بشهادة التدبير، والتدبير مكن نقصاناً به، فإذا رجعا ضمنا ذلك ويضمن شاهدا العتق قيمته مدبراً؛ لأنهما أزالا المدبر عن ملكه بغير عوض، ألا ترى أن من غصب مدبر إنسان وعجز عن رده ضمن قيمته؟ وطريقه ما قلنا. وإن كان شاهدا العتق البات شهدا أنه أعتقه قبل التدبير البتة، فأعتقه القاضي، ثم رجعوا عن شهادتهم ضمن شاهدا العتق قيمته، ولم يضمن شاهدا التدبير، إذ تبين أن القضاء بالتدبير كان باطلاً، وإذا ظهر بطلان القضاء صار كأن القاضي لم يقض بها. قالوا: ويجب أن يكون هذا الجواب على قول أبي يوسف ومحمد، أما على قول أبي حنيفة فينبغي أن لا يقضي القاضي بشهادة العتق؛ لأن الدعوى من العبد شرط لسماع البينة على التدبير والعتق، ودعوى العبد الإعتاق قبل دعواه التدبير لا يصح لمكان التناقض، بقيت الشهادة على العتق بلا دعوى. وإذا شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده (عام أول يوم من رمضان) ، فأجاز القاضي شهادتهما وأعتقه، ثم رجعا عن شهادتهما فيضمنان القيمة، أو لم يضمنها حتى شهد شاهدان أنه أعتقه عام أول في شوال لا تقبل شهادتهما، وبقي الضمان على الأولين لا ينتفعان بشهادة الفريق الأول، لأن الفريق الثاني شهدوا بعتق باطل لأن بعدما أعتقه في رمضان لا يتصور عتقه بعد ذلك في شوال (162ب4) فكأنه لم يشهد به الفريق الثاني إنما شهد به الفريق الأول، ثم رجعوا، وهناك يضمنان قيمة العبد للمولى فههنا كذلك. ثم يكون حكمه حكم الأحرار في جراحته وحدوده وقصاصه من رمضان لأن القاضي أثبت حرمته في رمضان بالبينة والثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة، ولو عاينا أنه أعتقه في رمضان كان حكمه حكم الأحرار من رمضان فكذا ههنا، ولكن يضمن الأولين قيمة العبد يوم قضاء القاضي بعتقه لا في أول يوم من رمضان، ففي حق إيجاب القيمة

على الشاهدين جعله حراً من حيث قضى له القاضي بعتقه حتى ضمن قيمته يوم قضى القاضي بعتقه. ولا يضمن قيمته في رمضان، وإنما فعل ذلك لأن الشاهد إنما يضمن بالمنع والحيلولة، والمنع والحيلولة بين المولى وعبده حصل من يوم القضاء، فيضمنان قيمته من يوم القضاء، وإن كان حراً قبل ذلك، هذا كما قلنا في المغرور يضمن قيمة الولد المستحق يوم الخصومة والمنع وإن علق حر الأصل؛ لأن المنع إنما يتحقق يوم الخصومة كذا ههنا. فلو شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده عام أول في أول يوم من رمضان فأجاز القاضي ذلك وقضى به وأنفذه، ثم رجعا عن شهادتهما فضمنهما القاضي القيمة أو لم يضمنهما حتى شهد آخران، أنه أعتق أول (من) يوم في رمضان أول من عام الأول، فإن شهادة الآخرين مقبولة ولا ضمان على الأولين، وهذا قول أبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة رحمه الله: شهادة الفريق الثاني غير مقبولة ويجب الضمان على الأولين. وهذه المسألة فرع لمسألة أخرى: أن البينة على عتق العبد من غير دعوى العبد غير مقبولة، وشهادة الفريق الثاني خلت عن الدعوى؛ لأن دعوى العبد أنه أعتقه أول من عام الأول بعد دعواه، أنه أعتقه في هذا العام، وجوده والعدم بمنزلة لمكان التناقض، فلا تقبل شهادة الفريق الثاني لهذا، وإذا لم تقبل شهادة الفريق الثاني صار كأنهم لم يشهدوا، ولو لم يشهد الفريق الثاني وباقي المسألة بحاله كان على الفريق الأول الضمان كذا ههنا، وعندهما دعوى العبد ليس بشرط فتقبل شهادة الفريق الثاني، وظهر بطلان شهادة الفريق الأول. وإذا شهد شاهدان على رجل أنه كاتب عبده بألف درهم إلى سنة وقيمة العبد خمسمئة وقضى القاضي بالكتابة، ثم رجعوا عن شهادتهم، فإن القاضي يخير المولى فيقول له: إن شئت اخترت تضمين الشاهدين خمسمئة قيمة العبد للحال، وإن شئت اخترت اتباع المكاتب ببدل المكاتبة إلى أجله؛ لأنه وجد من الشاهدين سبب ضمان قيمة العبد وهو إزالة العبد عن يد المولى بالكتابة، فيخير المولى والتخيير مفيد؛ لأن قيمة العبد خمسمئة، وإنها وجبت حالة على الشاهدين، وبدل الكتابة ألف درهم وإنه مؤجل، والإنسان ربما يختار القليل العاجل على الكثير الآجل، وربما يختار الكثير الآجل على القليل الآجل، فكان التخيير مفيداً من هذا الوجه فيخير. وإن اختار المولى تضمين الشاهدين لا يكون له اختيار اتباع المكاتب ببدل الكتابة أبداً، وإن اختار اتباع المكاتب لا يكون له تضمين الشاهدين أبداً، إلا في خصلة واحدة وهو أن تكون المكاتبة أقل من القيمة، وإنما يضمن باختياره تضمين أحدهما إبراء الآخر؛ لأن الشاهدين بمنزلة الغاصبين، لأنهما أزالا العبد عن يد المولى من غير عوض يصل إليه للحال، والمكاتب بمنزلة غاصب الغاصب؛ لأنه يثبت للمكاتب يد على نفسه بغير رضا المولى بعد شهادتهما، والمغصوب منه متى اختار تضمين الغاصب، أو تضمين غاصب

الغاصب برئ الآخر من الضمان؛ لأنه ملك الرقبة منه كما في القن أو بدل الرقبة كما في المدبر، وإذا ملك الرقبة من أحدهما لا يمكنه التمليك من الآخر، فكان اتباع أحدهما إبراء للآخر عن الضمان فكذلك ههنا. فإن اختار تضمين الشاهدين كان للشاهدين أن يرجعا على العبد ببدل الكتابة على نجومه لما ذكرنا أنهما بأداء الضمان يقومان مقام المولى في بدل الرقبة، وهو بدل الكتابة، فإذا أدى المكاتب ألف درهم وقبض الشاهدان ذلك؛ فإنه يطيب لهما من ذلك خمسمئة؛ لأنه رأس مالهما ويتصدقان بالزيادة؛ لأنه ربح استفاده من كسب خبيث، وهي شهادتهما الباطلة فإنها بمنزلة الغصب، هكذا ذكر في «الكتاب» ولم يذكر فيه خلافاً، ويجب أن يكون هذا على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، فأما على قول أبي يوسف رحمه الله: يطيب له الربح؛ لأنه ربح ما قد ضمن، وإن كان استفاده من كسب خبيث. وكان الجواب في هذه المسألة كالجواب فيمن غصب عبداً قيمته خمسمئة ثم ازداد في يده حتى صار يساوي ألفاً ثم غصبه رجل آخر، وقيمته يوم غصبه ألف درهم، إذا ضمن المالك الغاصب الأول قيمة خمسمئة يرجع على الثاني بألف درهم، ويطيب له من ذلك خمسمئة لأنه رأس ماله، ويتصدق بالزيادة؛ لأنه ربح استفاده من كسب خبيث عندهما، وعند أبي يوسف رحمه الله: لا يتصدق فهذا على ذلك. قد ذكرنا أن المولى إذا اتبع المكاتب ببدل الكتابة برئ الشاهدين عن الضمان. قال: ويستوي في ذلك أن علمه المولى برجوع الشاهد أم لم يعلمه، أما إذا علم برجوعه فلا إشكال؛ لأنه غير مضطر في اتباع المكاتب لما علم برجوع الشاهدين ووجوب الضمان عليهما، واتباعه المكاتب يتضمن براءة الشاهد عن الضمان، كما في المغصوب منه إذا اختار تضمين أحد الغاصبين، إما الأول، وإما الثاني، مع علمه بغصبهما فإنه يبرأ الآخر، إنه غير مضطر في تضمين الذي ضمنه، فإن له أن يضمن الآخر وإذا لم يكن مضطراً فقد انعقدت معاوضة بالتضمن عن طواعية، فلا يكون له فسخ ذلك، وأما إذا لم يعلم برجوعه فكذلك أيضاً، وكان يجب أن لا يكون اختياره اتباع المكاتب إبراءً للشاهدين عن الضمان؛ لأنه مضطر في تضمين المكاتب؛ إذ ليس يمكنه تضمين الشاهدين لما لم يعلم برجوعهما، ولما كان مضطراً في اتباع المكاتب يجب أن لا يبرأ الشهود عن الضمان، كالمغصوب منه إذا اختار تضمين الغاصب الأول ولم يعلم بغصب الثاني منه ثم علم، كان له أن يتبع الثاني ويفسخ تضمينه الغاصب الأول؛ لأنه مضطر في تضمين الغاصب الأول لما لم يعلم بغصب الثاني فيجب أن يكون هنا كذلك، إلا أن الجواب عنه أن تضمين المكاتب إنما حصل من المولى وهو عالم بوجود سبب الضمان من الشاهد، فإنه علم أنه شهد بزور وأنه ضامن وإن لم يرجع، وإذا علم بوجود سبب الضمان من الشاهد كان بمنزلة ما لو ضمن الغاصب الأول وهو يعلم بغضب الثاني ولو كان كذلك برئ الثاني، فكذلك هذا. فأما في مسألة الغصب ضمن الأول ولم يعلم بوجود سبب الضمان من الثاني فكان

مضطراً في تضمين الأول فكان بمنزلة ما لم يعلم بغصب الثاني إلا أنه ... إنسان أن يضمن الأول، ولو كان كذلك لكان له أن يفسخ تضمينه ويتبع الثاني فكذلك هذا. ولو أن الشاهدين حين رجعا عند القاضي لم يجبر القاضي المولى ولكن المولى جعل يتقاضى المكاتب حتى قبض منه مئة درهم، أو لم يقبضها برئ الشاهدان عن الضمان؛ لأن الشاهدين في حق المولى بمنزلة الغاصب، والمكاتب بمنزلة غاصب الغاصب على ما بينا، والمغصوب منه متى اختار تضمين أحدهما برئ الآخر عن الضمان، علم بوجوب الضمان على الآخر أو لم يعلم، فإنه إذا ضمن الأول وكان غصب منه آخر ولم يعلم بغصب الثاني برئ الثاني عن الضمان، فكذلك هنا إذا اختار تضمين المكاتب برأ الشاهدان عن الضمان علم بوجوب الضمان على الشاهدين بأن علم برجوعهما أو لم يعلم. قال ما خلا خصلة واحدة وهو أن يكون المكاتبة أقل من القيمة، بأن كانت المكاتبة ألفاً والقيمة ألفين، متى اتبع المكاتب بالمكاتبة كان له أن يرجع على الشاهدين بالفضل على المكاتبة إلى تمام قيمته؛ لأنهما أزالا هذا القدر عن ملك المولى بغير رضاه وبغير عوض فيضمنان (163أ4) ذلك للمولي متى رجعا، وكان بمنزلة ما لو شهد شاهدان أنه باع عبده من فلان، وقيمته ألف وخمسمئة أو أقل، والبائع يجحد، واختار البائع اتباع المشتري بخمسمئة أخرى؛ لأنهما أزالا هذا القدر عن ملكه بغير عوض. فإن قيل: هلا جعل اتباعه المكاتب أو المشتري إجازة منه لكتابه والبيع من حيث أن الكتابة والبيع حصلت بغير رضى المالك، وإذا اختار اتباع المكاتب أو المشتري يجعل كأنه أجازها والإجازة بمنزلة إنشاء الكتابة، ولو أنشأ الكتابة والبيع بخمسمئة وقيمته ألف لم يكن له على أحد ضمان فكذلك هذا. والدليل عليه أن محمداً قال: فيما إذا كانت قيمة المكاتب أقل من بدل الكتابة واختار اتباع المكاتب أن هذا اختيار منه لمكاتبه والجواب عنه أن يقال: بأن اختيار اتباع المكاتب أو المشتري لو اعتبرت إجازة للعقد فإنما يعتبر إجازة من حيث الدلالة، فإنه لم يصرح بالإجازة فلا تزيد درجتها على درجة الصريح، وصريح الإجازة مما لا يبرئ الشاهد عن ضمان الزيادة؛ لأن الإجازة من المالك لغو لأن العقد نافذ بقضاء القاضي، وإجازة النافذ لغو ... ، فصار وجود هذه الزيادة وعدمه بمنزلة، ولو عد الإجازة لم يبرأ الشاهد عن ضمان ما أتلف عليه من الزيادة بغير عوض فكذلك هذا، أو ما قال قبل هذا أن اتباعه المكاتب اختيار للمكاتبة لم يرد به إجازة للكتابة لأنها نافذة، وإنما أراد به اختيار البدل الكتابة بأن له على المكاتب بدل الكتابة بالعقد، وعلى الشاهدين ضمان قيمته بإزالة اليد، فإذا اختار اتباع المكاتب فقد اختار بدل الكتابة، فإنما أراد بقوله: اختياراً للمكاتبة، أي اختيار لبدل الكتابة.

وإذا ادعى عبد أن مولاه كاتبه على ألف درهم، وهي قيمته، وادعى المولى أنه كاتبه على ألفين، وأقام على ذلك بينة وقضى القاضي بالألفين على المكاتب فأداها، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإنهما يضمنان ألف درهم للمكاتب؛ لأنهما أوجبا على المكاتب زيادة ألف بغير عوض حصل له، فإذا رجعا ضمنا ذلك للمكاتب، وكان الجواب فيه كالجواب فيما لو وقع مثل هذا الاختلاف بين البائع والمشتري. قال البائع: بعتك هذا العبد بألفين، وقال المشتري: لا بل بألف، وقيمة العبد ألف، فأقام البائع بينة على ما ادعى، وقضى القاضي على المشتري بألفي درهم، ثم رجعا ضمنا للمشتري ألف درهم؛ لأنهما أوجبا على المشتري زيادة ألف بغير عوض حصل للمشتري فضمنا له ذلك، هذا ولو كان المكاتب لم يدع المكاتبة، وقال المولى: كاتبتك على ألفي درهم وجحد المكاتب ذلك، فأقام المولى على ذلك بينة، فإن القاضي لا يقضي بالكتابة ببينة المولى، وهذا الجواب الذي قاله لا يشكل على رواية كتاب الرهن فإنه على رواية كتاب الرهن جعل الجحود ممن يملك الفسخ فسخاً، حتى قال: إذا كان المرتهن جاحداً لا يقضي بالرهن لأنه يملك الفسخ، والمكاتب ممن يملك الفسخ بأن يعجز نفسه فيكون جحوده فسخاً. ولو قال: فسخت الكتابة فإنه لا يقضي عليه ببينة المولى بالكتابة، فكذلك هذا، فأما على رواية كتاب الرجوع: يجب أن يقضي ببينة المولى وإن كان المكاتب جاحداً وهو مالك للفسخ. كما قال في الرهن: إذا ادعى الراهن ثوباً في يد المرتهن إنه له رهنه من المرتهن وأنكر المرتهن ذلك، فإنه يقضي ببينة الراهن، وإن كان المرتهن مالكاً للفسخ كالمكاتب هنا، فيحتاج إلى الفرق على رواية كتاب الرجوع. ووجه الفرق بينهما: أن القضاء بالرهن ببينة الراهن إن كان لا يفيد دوام العقد؛ لأن للمرتهن أن يفسخه بعد ذلك، ذلك يفيد فائدة أخرى وهي أن تصير العين التي في يده مضموناً عليه حتى إذا هلك في يده قبل الرد يهلك مضموناً عليه، فأما القضاء بالكتابة مع جحود المكاتب لا يفيد شيئاً لا دوام العقد ولا وجوب الضمان عليه فإنه متى فسخ الكتابة لم يبق العقد ولم يجب عليه شيء وإذا لم ينفذ القضاء بالكتابة فائدة مع إنكاره لم يقض بها؛ لأن القاضي لا يشتغل بما لا يفيد، وكان وزان مسألة الكتاب من مسألة الرهن أن لو كان الثوب في يد الراهن، وجحد المرتهن الرهن وهناك القاضي لا يقضي بالرهن مع إنكار المرتهن، لأن القضاء بالرهن لا يفيدهما لا دوام العقد ولا ضمان. وإذا لم يقض بها فقال للمكاتب بعد هذا: إن شئت فامض في الكتابة وإن شئت فدعها وكن رفيقاً، وهذا التخير إنما يستقيم على رواية كتاب الرجوع لأن على رواية كتاب الرجوع لم يجعل الجحود ممن يملك الفسخ فسخاً، بل اعتبره إنكاراً للعقدين من الأصل فيخير المكاتب، فيقال له: إن شئت فامض فيها وإن شئت فدعها، فأما على رواية

الفصل السابع: في الرجوع عن الشهادات في البيع والهبة

كتاب الرهن: لا يستقيم هذا التخير؛ لأنه اعتبر الجحود فسخاً وهو مالك لذلك فانفسخ، وإذا انفسخت الكتابة لا يستقيم هذا التخيير. قال: فإن كان المكاتب ادعى أنه حر فجاء المولى بشاهدين فشهدا أنه كاتبه على ألفين، وقضى القاضي عليه بذلك فأدى المال، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، وقالا: شهدنا بباطل، فإن هما يضمنان للمكاتب ألفين وإن كانت قيمته أقل من ذلك؛ لأنهما أوجبا على المكاتب ألفين من غير عوض حصل له، فإنهما زعما أنه كان حراً، وأنه لم يحصل له شيء من جهة المولى بإزاء ما أوجبا عليه من ألف درهم، فيضمنان ذلك للمكاتب قضى بشهادتهما هنا، وإن كان المكاتب جاحداً للكتابة. وقال في المسألة الأولى: لا يقضى بالكتابة متى كان المكاتب جاحداً للكتابة، وذلك لأن القضاء بالكتابة بشهادتهما لا يفيد شيئاً في المسألة الأولى لا دوام العقد، فإن للمكاتب فسخه ولا ثبوت الرق، فإن الرق كان ثابتاً من قبل بتصادقهما، وإذا لم ينقد شيئاً لم يجز الاشتغال به، فأما في مسألتنا هذه فالقضاء بالكتابة إن كان لا يفيد دوام العقد فإن للمكاتب أن يفسخه، يفيد ثبوت الرق؛ فإنه متى قضى بكتابته إذا فسخت الكتابة يصير رقيقاً للمولى، وقبل ذلك لم يكن الرق ثابتاً للمولى فيه، وإذا أفاد القضاء بالكتابة فائدة ما، وهو ثبوت الرق عليه جاز الاشتغال به، ثم قال: ولا يثبت هذا الرق، يريد بذلك أنه متى كان مقراً بالرق فإنه لا يقضى بشهادتهما، ومتى كان منكراً للرق وادعى أنه حر يقضي لما ذكرنا. الفصل السابع: في الرجوع عن الشهادات في البيع والهبة وإذا شهد شاهدان على رجل أنه باع داره من هذا الرجل، والبائع يجحد، والمشتري يدعي، وقضى القاضي بالبيع ونقد المشتري الثمن وأخذ الدار، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإن كانت قيمة الدار مثل الثمن المسمى أو أقل، فلا ضمان عليهما لأن الإزالة حصلت لعوض يعدل الدار أو يزيد عليه، وإن كانت قيمة الدار أكثر من الثمن ضمنا الفضل لأن في حق الفضل الإزالة حصلت بلا عوض؛ هذا إذا شهدا بالبيع ولم يشهدا نقد الثمن، فأما إذا شهدا بالبيع ونقد الثمن ثم رجعا عن شهادتهما فهذا على وجهين. الأول: أن يشهدا على البيع وإيفاء الثمن بشهادة واحدة بأن شهدا أنه باع هذه الدار منه بألف درهم وأوفاه الثمن، وفي هذا الوجه القاضي يقضي عليهما بقيمة المبيع للبائع ولا يقضي بالثمن. الوجه الثاني: أن يشهدا على البيع وإيفاء الثمن بشهادتين مختلفتين بأن شهدا على البيع أولاً، ثم شهدا أن المشتري أوفاه الثمن، وفي هذا الوجه القاضي يقضي عليهما

بالثمن للبائع، والفرق بينهما أنهما إذا شهدا بالبيع وإيفاء الثمن شهادة واحدة، فالمقضي به البيع دون الثمن لأنه لا يمكن للقاضي القضاء بإيجاب الثمن لأنه يقارن القضاء بالثمن ما يوجب سقوطه وهو القضاء بالإيفاء. لهذا قلنا: لو شهد الشاهدان على رجل أنه باع عبده من هذا الرجل وقابله شهدا عل البيع والإقالة (163ب4) شهادة واحدة فالقاضي لا يقضي بالبيع لأنه قارن القضاء بالبيع ما يوجب انفساخه، وهو القضاء بالإقالة كذا ههنا، وإذا كان المقضي به في هذه الصورة المبيع دون الثمن، والشاهد عند الرجوع يضمن المقضي يضمن به قيمة المبيع لأن إزالة المبيع حصلت بغير عوض لما رجعا عن شهادتهما، فأما إذا شهدا بالبيع وإيفاء الثمن بشهادتين مختلفتين، والثمن مقضي به فلأن القضاء بالثمن ممكن لأنه لم يقارن القضاء بالثمن ما يوجب سقوطه لأن حال ما شهدا بالبيع لم يشهدا بالإيفاء؛ وإنما شهدا بالإيفاء بعد ذلك، وإذا صار مقضياً به فإذا رجعا عن شهادتهما ضمنا الثمن، ولم يضمنا قيمة المبيع، وإن صار المبيع مقضياً به في هذه الحالة مع الثمن لأن إزالة المبيع حصلت بعوض، فلا يضمنان قيمة المبيع، ويضمنان الثمن لأن الثمن مقضي به. رجل في يديه عبد شهد شاهدان أنه وهبه لهذا الرجل وسلمه إليه، وشهد آخران أنه وهبه لهذا والقاضي لا يعرف التاريخ قضى بالعبد بينهما نصفان لاستوائهما في الدعوى والحجة، فإن رجع الشهود جميعاً عن شهادتهم ضمن كل فريق للواهب نصف قيمة العبد. قال محمد رحمه الله: ولا يشبه هذا الوصية، يريد به أنه إذا شهد شاهدان أن الميت أوصى بهذا العبد لهذا الرجل، وشهد آخران أن الميت أوصى بهذا العبد لهذا الرجل الآخر، وزكيت البينتان وقضى القاضي بالعبد بينهما نصفين لاستوائهما في الدعوى والحجة، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما فإنهم لا يضمنون للورثة شيئاً، وههنا قال: كل فريق يضمن للواهب نصف قيمة العبد، والفرق أن في مسألة الوصية، القاضي قضى بجميع الوصيتين، فإن الوصية بعد الوصية صحيحة. فإن من أوصى بعبده لرجل ثم أوصى به لرجل آخر صحت الوصيتان، حتى لو رد أحدهما كان العبد كله للآخر، ولما كان هكذا كان ما شهد به كل فريق مستحقاً على الوارث بشهادة الفريق الآخر، ورجوع كل لم يظهر في حق غيره، فصار في حق كل فريق كأن الفريق الآخر ثابت على الشهادة، أما في مسألة الهبة قضاء القاضي بشهادة الفريقين بهبة واحدة النصف لهذا والنصف لذلك، أما ما قضى بالهبتين؛ لأن الهبة بعد غير صحيحة، ولما كان هكذا صار الثابت بكل بينة النصف، ولهذا قلنا: لو كانت هذه الدعاوي في شيء يحتمل القسمة لا يقضي بين الموهوب لهما بشيء لأنه يؤدي إلى تجويز هبة المشاع فيما يحتمل القسمة، ولما كان هكذا صار كل فريق متلفاً على الواهب النصف من غير أن يكون ذلك مستحقاً بشهادة الفريق الآخر، فلهذا ضمن كل فريق النصف للواهب. ثم قال في مسألة الهبة: أحد الفريقين لا يضمن للمدعين شيئاً، وفي مسألة الوصية

الفصل الثامن: في الرجوع عن الشهادة في الولاء والنسب والولادة

قال: يضمن كل فريق للذي لم يشهد له بالوصية نصف قيمة العبد.g والفرق أن الشاهد إنما يضمن عند الرجوع قدر ما قضى القاضي بشهادته، وفي مسألة الهبة، القاضي إنما قضى بشهادة كل فريق للذي شهد له بهبة نصف العبد وقد سلم لكل واحد من المدعين نصف العبد، فلم يصر واحد من الفريقين متلفاً شيئاً على الذي لم يشهد له، أما في مسألة الوصيتين، القاضي قضى لكل واحد منهما بالوصية في جميع العبد، وإنما منع من الاستيفاء بحكم المزاحم الثابت بشهادة الفريق الآخر فكان كل فريق متلفاً على الموصى له الذي لم يشهد له نصف العبد، فيضمن له نصف القيمة فلهذا افترقا. رجل في يديه عبد قيمته خمسمئة جاء رجل وادعى أن صاحب اليد باع العبد منه إلى سنة بألف درهم، وأقام على ذلك بينة، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم رجعا عن شهادتهما، فالبائع بالخيار إن شاء ضمن الشهود وقيمة العبد خمسمئة حالة، وإن شاء اتبع المشتري بألف درهم إلى سنة، فإن ضمن الشهود قيمة العبد خمسمئة حالة كان للشهود أن ... المشتري بألف درهم، إلى سنة، لأن البائع لما ضمن الشهود فقد أقامهم مقام نفسه، فيحول إليهم من المطالبة ما كانت للبائع، وإذا رجعوا على المشتري بعد حلول الأجل يطيب لهم من ذلك قدر رأس مالهم، وذلك خمسمئة ويتصدقان بخمسمئة لاستفادتهما هذا القدر بسبب خبيث وهو الشهادة، ولو شهدا بالبيع بألف درهم حالة، وقضى القاضي بشهادتهما ثم شهدا أن البائع أجل المشتري الثمن إلى سنة، وقضى القاضي بالأجل، ثم رجعا عن الشهادتين جميعاً ضمنا الثمن للبائع وذلك ألف درهم، ولو كانت الشهادة بالتأجيل مع الشهادة بالعقد بدفعة واحدة، وقضى القاضي بشهادتهما كان البائع بالخيار، إن شاء ضمن الشاهدين قيمة العبد خمسمئة حالة، وإن شاء اتبع المشتري بألف درهم إلى سنة. والفرق: أن في الفصل الأول الثمن الحال صار مقضياً به إذا لم يقارن القضاء بالثمن الحال ما يمنع القضاء به فصار الثمن الحال مقضياً به فحين شهدا عليه بالأصل فقد فوتا عليه إمكان الأخذ فيضمنان عند الرجوع، أما في الفصل الثاني فالثمن الحال ما صار مقضياً به لأنه قارن القضاء ما يمنع القضاء بالثمن الحال، وهو الأجل فلم يكونا مفوتين عليه إمكان الأخذ فلا يضمنان. الفصل الثامن: في الرجوع عن الشهادة في الولاء والنسب والولادة قال في «الأصل» : وإذا ادعى رجل على رجل: إني ابنك، والرجل يجحد دعواه،

فأقام الابن البينة أنه ابنه، وقضى القاضي بذلك وأثبت نسبه، ثم رجعوا فإنهم لا يضمون شيئاً للأب سواء رجعوا حال حياة الأب أو بعد وفاته، لأنهم ما ألزموه مالاً إنما ألزموه النسب، والنسب ليس بمال، وكذلك لا يضمنون لسائر الورثة ما ورثه الابن المشهود له لأن استحقاق الميراث مضاف إلى موت الأب لا إلى النسب الذي ثبت بشهادتهما، وهذا لأن استحقاق الميراث وإن كان لابد له من الموت والنسب إلا أن الموت آخرهما وجوداً فيضاف الاستحقاق إليه. وكذلك إذا ادعى رجل ولا رجل وقال: إني أعتقتك، والمعتق يجحد فأقام المدعي البينة على دعواه ثم رجعوا لا يضمنون شيئاً سواء رجعوا حال حياة المعتق أو بعد وفاته؛ لأن استحقاق الميراث مضاف الى الموت الذي هو آخرهما وجوداً لا إلى الولاء الذي ثبت بشهادتهما، ولو شهد الرجل أنه ابن هذا القتيل ووارثه لا وارث له غيره، والقاتل مقر أنه قتله عمداً، وقضى القاضي للمشهود له بالقصاص فقتله المشهود له، ثم رجعوا عن شهادتهم، فإنهم لا يضمنون للقصاص شيئاً؛ لأن القصاص ليس بمال ولكن يضمنون كل ما ورثه هذا الابن المشهود له من القتيل لورثته المعروفين؛ لأن استحقاق الميراث ههنا مضاف إلى النسب الذي ثبت بشهادتهما، لا إلى الموت؛ لأن النسب آخرهما، وقد أقروا بالرجوع أنهم أتلفوا على ورثة المعروفين، فلهذا ضمنوا بخلاف المسألة الأولى، وعلى هذا إذا شهدوا بالولاء بعد موت المعتق، ثم رجعوا عن شهادتهما فإنهم يضمنون جميع ما ورثه المعتق لورثته المعروفين؛ لأن استحقاق الميراث في هذه الصورة مضاف إلى الولاء. وعلى هذا إذا شهدوا بنكاح امرأة ومات الزوج بعد قضاء القاضي بالنكاح، ثم رجعوا عن شهادتهم وكان الرجوع (164أ4) منهم حال حياة الزوج فلا ضمان عليهم، ولو شهدوا بالنكاح بعد موت الزوج، ثم رجعوا ضمنوا حصتها من الميراث لسائر الورثة، والمعنى ما ذكرنا. ولو شهدوا لرجل مسلم كان أبوه كافراً أن أباه قد أسلم بعد موته؛ وللميت ابن كافر، وقضى القاضي بالميراث كله للابن المسلم، ثم رجعوا عن شهادتهم فإنهم يضمنون للابن الكافر جميع ما ورثه الابن المسلم، لأن استحقاق الابن المسلم الميراث على الابن الكافر مضاف إلى ما ثبت بشهادة الشهود، وهو إسلام الأب، لأنهم شهدوا بعد موت الأب. وإذا أسلم كافر ثم مات وله ابنان مسلمان كل واحد منهما يدعي أنه أسلم قبل موته؛ وأقام على ذلك شهوداً، وقضى القاضي بينهما بالميراث، ثم رجع شهود أحد الابنين فإنهم يضمنون جميع ما ورث هذا الابن للابن الآخر، لأن استحقاق الميراث في حق هذا الابن مضاف إلى ما ثبت بشهادة شهوده وهو إسلامه قبل موت الأب ثبت بشهادة شهوده. قال: صبي في يدي رجل لا يعرف أنه حر أو عبد، شهد شاهدان على إقرار

صاحب اليد أنه ابنه وقضى القاضي بنسبه، ثم مات الأب وقضى القاضي بالميراث لهذا الصبي، ثم رجعا عن شهادتهما؛ فإنهما لا يضمنان شيئاً لا الميراث ولا قيمته، وأما الميراث، فلأن استحقاق الميراث ههنا مضاف إلى موت الأب، وأما قيمته فلأنهم لم يتلفوا عليه ملكه الثابت فيه إذا لم يعرف أنه عبد، لأن الحرية أصل في بني آدم إلا أن يعرف خلافه ولم يعرف. ولو كان في يدي رجل عبد صغير وأمة صغيرة لا يعيران عن أنفسهما، وصاحب اليد يدعي أنهما مملوكان له حتى ثبت كونهما مملوكين لذي اليد بقوله، ثم شهد شهود حال حياة صاحب اليد أنه أقر أن هذا الصبي ابنه، وشهد شهود آخرون أنه أعتق هذه الأمة، ثم تزوجها على ألف درهم، والرجل يجحد ذلك، فقضى القاضي بشهادتهم وألزم الرجل النكاح والنسب والعتق، ثم مات الرجل، ثم رجع الشهود عن شهادتهم فإن شهود الابن يضمنون قيمة الابن للورثة المعروفين إلا ما يخصه من الميراث، فإنهم لا يضمنون ذلك القدر وشهود عتق الأمة يضمنون قيمة الأمة للورثة المعروفين إلا ما يخصها من الميراث، وكان ينبغي أن يضمن كل فريق جميع القيمة لأن من زعم كل فريق ان المشهود ليس بوارث وأن جميع قيمته موروث للورثة المعروفين لا نصيب له من ذلك والورثة المعروفون يصدقونهم في جميع ذلك فيضمنون جميع القيمة كما أقروا، ألا ترى أنهم شهدوا بهذا بعد موت المولى والباقي بحاله فإن كل فريق يضمن جميع القيمة، وطريقة ما قلنا كذا ههنا. قيل في الجواب عن هذا: أن ما ذكر في «الكتاب» قول أبي حنيفة رحمه الله. ووجهه أن يقال: بأن في زعم الشهود عند الرجوع متى حصلت الشهادة منهم حال حياة المولى أن ما وجب عليهم من قيمة الابن، والأمة مورثة بين الورثة المعروفين وبينهما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه في زعمهما أن النكاح والنسب وإن لم يكن ثابتاً فقد (ثبت) بقضاء القاضي، أما النكاح فلأن القاضي يملك إنشاء النكاح بولاية القضاء من غير بينة بملك أنشأه بشهادة الزور عند أبي حنيفة إذا لم يكن أنشأه، وحال حياة الزوجين الإنشاء ممكن فيثبت النكاح بقضاء القاضي وإذا كان في زعم الشهود أن النكاح ثبت بقضاء القاضي كان في زعمهم أن بعض قيمتها ميراث لها، والبعض لباقي الورثة المعروفين، فكانوا مقرين لها ببعض القيمة غير أنها كذبتهم في الإقرار ببعض القيمة لها بتكذيبها، ورفع عنهم حصتها من قيمتها من هذا الوجه، وأما النسب فلأن القاضي إن كان لا يملك إنشاء النسب بولاية القضاء من غير شهادة بحال؛ فالخصمان يملكان إثباته، وكما يملك القاضي الإنشاء بشهادة الزور فيما يملك إنشاؤه بولاية القضاء من غير بينة، يملك الإنشاء بشهادة الزور فما يملك الخصمين إنشاءه على إحدى الروايتين. عن أبي حنيفة فإنه يقول على إحدى الروايتين: القاضي يملك إنشاء الهبة بشهادة الزور، حتى قال: قضاءً القاضي بالهبة بشهادة الزور ينفذ ظاهراً وباطناً على هذه الرواية والقاضي لا يملك إنشاء الهبة بولاية القضاء من غير بينة، ولكن طريقه أن الخصمين

يملكان إنشاءها فيملك القاضي إنشائها بشهادة الزور، وإذا كان كذلك كان في زعم شهود الابن أن النسب ثبت بقضاء القاضي، وما وجب عليهم من قيمة الابن للميت بعضها ميراث الابن وبعضها ميراث الورثة المعروفين إلا أن الابن كذبهم في إقرارهم ببعض القيمة له على ما ذكرنا في الأمة؛ فرفع عنهم حصته من ذلك لهذا. بخلاف ما إذا شهدوا بذلك بعد موت المولى؛ لأن هناك في زعمهم بعد الرجوع أن جميع قيمتها ميراث للورثة المعروفين لا حصة لهما من ذلك؛ لأن في زعمهما أن النكاح والنسب لم يكن ثابتاً، ولم يثبت بقضاء القاضي، لأنه إنما يثبت بقضاء القاضي بشهادة الزور ما يملك القاضي إثباته بولاية القضاء من غير شهادة، أو ما يملك الخصمان إثباته بأنفسهما، والقاضي لا يملك إنشاء النكاح بين اثنين وأحدهما يثبت لولاية القضاء بحال من الأحوال، وكذلك الخصمان لا يملكان ذلك، وإذا كان كذلك كان في زعم الشهود أنهما لم يصيرا وارثين بقضاء القاضي، فكان في زعمهم أن جميع القيمة للورثة المعروفين والورثة المعروفون صدقوهم في ذلك، فضمنوا كما أقروا. وأما على قول محمد وهو قول أبي يوسف الآخر: ينبغي أن يضمن الشهود جميع قيمة الابن والأمة لا ترفع عن ذلك حصتهما؛ لأن في زعم الشهود عندهما أنهما لم يصيرا وارثين بقضاء القاضي، وإن ما وجب عليهما من قيمتهما ميراث بين الورثة المعروفين لا حصة لهما من ذلك، فيؤاخذون بإقرارهم، قال: ولا ضمان على الشهود فيما ورثه الابن والأمة؛ لأن الشهادة بالنكاح والنسب وجدت في حالة الحياة، فكان الاستحقاق مضافاً إلى الموت الذي هو أحدهما، حتى لو كانت الشهادة بعد موت المولى يضمنون ذلك؛ لأن الاستحقاق في هذه الصورة مضاف إلى ما ثبت بشهادتهم، وهو النكاح والنسب، قال: ولا يضمنون شهود النكاح المهر إلا إذا كان المسمى أكثر من مهر مثلها فحينئذ يضمنان الفضل إلا ما يخصها من الفضل، بخلاف ما إذا شهدا بذلك بعد موت المولى فإنهما يضمنان المهر للورثة المعروفين، وإن كان المسمى مثل مهر المثل؛ لأن الشهادة بالنكاح متى كانت في حالة الحياة، ومهر مثلها مثل المسمى أو أكثر من المسمى فإيجاب المهر على الزوج حصل بعوض يعدله أو يزيد عليه، لأن النكاح قد ثبت بقضاء القاضي وصار منافع بضعها عوضاً عن المهر فلا يضمنان شيئاً، بخلاف ما إذا كان المسمى أكثر لأن بقدر الفضل حصل الإيجاب بغير عوض، فيضمنان الفضل ويكون ذلك موروثاً بين هذه وبين باقي الورثة المعروفين؛ لأن النكاح قد ثبت في زعمهم بقضاء القاضي، بخلاف ما إذا كانت الشهادة بعد الموت؛ لأن النكاح لم يثبت بقضاء القاضي، فلم يصر منافع بضعها عوضاً عما أوجبا عليه من المهر فبقي إيجاباً بلا عوض. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل له جاريتان لكل واحدة منهما ولد ولدته في ملك الرجل، فشهد شاهدان لأحد الولدين بعينه وأمه أن الرجل ادعاه، والرجل يجحد ذلك، وشهد شاهدان آخران للولد الآخر وأمه أن الرجل ادعاه، والرجل يجحد ذلك أيضاً، وقضى القاضي بشهادتهم وجعل الابنين ابني الرجل، والأمتين أم ولد له، ثم رجع

الشهود جميعاً عن شهادتهم فالولدان ابنا المولى والجاريتان أمي ولد له لما مر أن رجوع الشهود لا يعتبر في حق المشهود عليه، وإنما يعتبر في حق (164ب4) الشاهدين بإيجاب الضمان عليهما، والمسألة في حق حكم الضمان على وجوه، فإن كانت الشهادة والرجوع عنها حال حياة المولى، فإن كان الولدان كثيرين ضمن كل فريق من الشهود قيمة الولد الذي شهد بنسبه ونقصان الاستيلاد في الأمة التي شهد لها للمولى، لأن في زعم كل فريق عند الرجوع أنه أتلف على المولى الولد الذي شهد بنسبه، وأتلف من الجارية التي شهد لها قدر ما انتقص بسبب أمومية الولد للحال بغير حق، وزعم كل إنسان حجة في حقه. فإن قيل: ينبغي على قياس قول أبي حنيفة أن يضمن كل فريق من الشهود جميع قيمة الجارية عنده حتى لا يضمن بالغصب. قلنا: ما بقي بعد الاستيلاد وهو الاستفراش ينتفع في حق المولى، وإن لم يكن مالاً متقوماً ومع بقاء بعض المنفعة على ملك المولى لا يمكن إيجاب جميع القيمة للمولى، فأوجبنا النقصان لهذه الضرورة، ثم إذا أخذ المولى ذلك القدر من الشهود استهلكه، ومات ولا وارث له غير الابنين، وكل واحد من الابنين يجحد أن يكون صاحبه ابن المولى، كانت أمواله ميراثاً بين الابنين، وعتقت الجاريتان، وضمن كل فريق من الابنين قيمة ما بقي من الجارية التي شهدوا لها، لأنهم صاروا متلفين لما بقي عند موت المولى بالشهادة السابقة بغير حق، ويكون ذلك للمولى ميراثاً عند الابنين إلا أن كل ابن يصير مسرياً لشهوده عن حصته من ذلك، لأنه يقول: شاهدي صادق في الشهادة كاذب في الرجوع، ولا ضمان عليه، وقول كل إنسان حجة في حقه، وليس بحجة في حق صاحبه، فبقي نصيب كل ابن على الشهود الذين لم يشهدوا له، وذكر في «الأصل» أن كل فريق من الشهود يضمن نصف قيمة ما بقي من الجارية التي شهدوا لها للابن الآخر، ولا تفاوت بينهما، فما ذكر في «الجامع» إشارة إلى أصل الوجوب وما ذكر في «الأصل» إشارة إلى الحاصل، ولا يضمن كل فريق من الشهود قيمة الولد الذي شهدوا له؛ لأنهم قد ضمنوا ذلك مرة فلا يضمنون ذلك مرة أخرى، قال: ويرجع كل فريق من الشهود على الولد الذي شهدوا له بيما ورث عن أبيه بما ضمنهم أبوه من قيمة الولد الذي شهدوا له، ومن نقصان الاستيلاد في أمه؛ لأن في زعم كل ابن أن ما أخذه أبوه من شهوده أخذه بغير حق؛ لأنهم صادقون في الشهادة كاذبون في الرجوع، وصار ذلك ديناً في تركته، والدين مقدم على الميراث، وزعم كل إنسان معتبر في حقه، وكان ينبغي أن لا يرجع كل فريق من الشهود في نصيب الابن الذي شهدوا له بشيء؛ لأن الابن وإن أقر لهم بذلك إلا أنهم ردوا إقراره حين رجعوا، فإنهم بالرجوع اعترفوا أن ما أخذه الميت منهم استوفى زماناً واجباً عليهم، والإقرار يزيد بالرد، قلنا: إن مشايخ بلخ قالوا ما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» مؤول. وتأويله: أن الشهود رجعوا عن الرجوع فقالوا صدقنا في الشهادة وكذبنا في

الرجوع، فأما إذا كانوا ثابتين على الرجوع فلا شيء لهم، وإذا كان تأويل المسألة هذا، فتقريبه أن كل فريق وإن ردوا إقرار الابن الذي شهدوا له، إلا أن الابن مصر على إقراره، فهب أن ذلك الإقرار بطل بالتكذيب، فالإقرار القائم بعد رجوع الشهود عن الرجوع لم يبطل لانعدام التكذيب فيلتحق التصديق به. ومشايخ عراق قالوا: لا بل يرجع كل فريق من الشهود في نصيب الابن الذي شهدوا له بما قلنا سواء رجعوا عن الرجوع أو داموا على الرجوع، وإطلاق محمد في «الكتاب» يدل عليه. ووجه ذلك: أن كل فريق من الشهود لم يكذب الابن المشهد له فيما أقر؛ لأن رجوعهم محتمل يحتمل أن يكون باعتبار أن الأب لم يدع بسبب هذا الولد أصلاً، وعلى هذا التقدير يكون تكذيباً له فيما أقر، ويحتمل أن يكون باعتبار أنهم لم يعلموا دعوة الأب بسبب الولد المشهود له، والابن المشهود له علم بذلك، وعلى هذا التقدير لا يكون تكذيباً له، ولا يبطل الإقرار بالشك ولا يرجع كل فريق من الشهود على الابن المشهود له بما غرم لأخيه من نصف قيمة أمه بعد النقصان، لأن في زعمه أن أخاه ذلك أخذ بغير حق، وأن ذلك دين على أخيه، أما إذا كان تصديق كل واحد منهما صاحبه فالشهود لا يضمنون شيئاً للابنين، ويأخذ كل فريق من الشهود ما ضمن للميت من قيمة الولد المشهود له، ومن نقصان أمه مما ورثا عن أبيهما؛ لأنهما أقرا أن جميع ذلك دين لهما على أبيهما، والدين مقدم على الميراث، وفيما إذا جحد كل واحد منهما صاحبه؛ فكل فريق من الشهود يأخذ ما ضمن للميت من نصيب الابن المشهود له خاصة، لأن هناك كل واحد من الابنين منكر أن يكون ما أخذه أبوه من شهود صاحبه ديناً في تركته، فلا يستوفي ذلك من نصيبه، أما ههنا بخلافه. قال: ولا يضمن كل فريق من الشهود ما ورثه الابن الذي شهدوا له بنسب الابن الآخر؛ لأن الشهادة حصلت في حال حياة المولى، واستحقاق الإرث إذا كانت الشهادة في حالة الحياة يضاف إلى الموت لا إلى النسب، والموت لم يثبت فشهادتهما فلم يكن التلف حاصلاً بشهادتهما، فلا يضمنان شيئاً، هذا الذي ذكرنا إذا كانت الشهادة والرجوع حال حياة المولى، وإن كانت الشهادة حال حياة المولى من الفريقين والرجوع بعد وفاته ضمن كل فريق للابن الذي لم يشهدوا له نصف قيمة الابن الذي شهدوا له، ونصف قيمة أمه فيه، أما نصف قيمة الابن؛ لأن في زعم كل فريق من الشهود عند الرجوع أنهم بشهادتهم أتلفوا مال الولد المشهود له، وصار ذلك ديناً عليهم للميت ميراثاً بين ورثته إلا أن الابن المشهود له أبرأهم عن نصيبه وهو النصف، بقي نصيب الابن الآخر وهو النصف؛ بخلاف الفصل الأول، فإن هناك يجب على كل فريق جميع قيمة الولد المشهود له، لأن هناك القيمة تجب للمولى، والمولى لم يصر ميراثاً لهم عن شيء من ذلك، وأما نصف قيمة الأم فلهذه العلة أيضاً. وأما نصف قيمة الأم فيه، بخلاف الوجه الأول، فإن هناك كل فريق يضمن نصف

قيمة الجارية المشهود لها، الابن الآخر أم ولد، لأن هناك المولى أخذ ضمان النقصان من كل فريق من الشهود بما ضمن الابن الذي لم يشهد له على الابن المشهود له بما أخذ المولى منهم، لأن هناك في زعم كل فريق أن ما أخذه الأب من شهوده صار ديناً في تركة الأب والدين مقدم على الميراث. أما ههنا الأب لم يأخذ شيئاً من الشهود، إنما أخذ الأخ من الشهود وصار ذلك ديناً على الأخ بزعم كل ابن، ودين الأخ لا يستوفى من تركة الأب، ولا يضمن كل فريق للابن الآخر ما أحرز المشهود له من الميراث، لما ذكرنا في الوجه الأول وهذا الذي ذكرنا إذا كان كل ابن يجحد صاحبه، فأما إذا صدق كل ابن صاحبه فالشهود لا يضمنون للابنين شيئاً، لما ذكرنا في الوجه الأول. وإن كانت الشهادة من الفريقين والرجوع عنها بعد وفاة المولى، وترك الميت أخاً معروفاً وأموالاً كثيرة، وقد كان قضى القاضي بعتق الابنين وبعتق أمهما وقضى بالميراث، وكل واحد من الابنين يجحد صاحبه، فإن كل فريق من الشهود يضمن الابن الذي لم يشهد له، وجميع قيمة الابن الذي شهد له وجميع قيمة أمه. بخلاف ما إذا كانت الشهادة في حياة المولى، فإن هناك يضمن كل فريق نصف قيمة الابن المشهود له ونصف قيمة أمه الابن الآخر، والفرق أن الشهادة إذا كانت في حالة الحياة، واتصل بها القضاء، ففي زعم كل فريق من الشهود عند الرجوع أن قيمة الابن المشهود له قد لزمه، وصار ذلك ميراثاً بين الابنين؛ لأن في زعم (165أ4) كل فريق أن الابن المشهود له إن لم يكن وارثاً، فقد صار وارثاً بقضاء القاضي، وإن شهدا بالزور لما كانت الشهادة، والقضاء بهما في حالة الحياة، فلم يصر كل فريق مقراً للابن الآخر إلا بنصف قيمة الابن المشهود له، ونصف قيمة أمه فأما إذا كانت الشهادة والقضاء بها بعد الوفاة، ففي زعم كل فريق أن قيمة الابن المشهود له بكمالها للابن الآخر لا حظ للابن المشهود له منها، لأن في زعمه أن الابن المشهود له لم يكن وارثاً، ولم يصر وارثاً بقضاء القاضي، بشهادتنا بالزور لما كانت الشهادة والقضاء بها بعد موت المولى، فصار كل فريق مقراً بجميع قيمة الابن المشهود له، وبجميع قيمة أمة للابن الآخر والابن الآخر صدقه في ذلك حيث جحد وراثة صاحبه، ويضمن كل فريق ما ورثه الابن المشهود له للابن الآخر بخلاف ما إذا كانت الشهادة في حال حياة المولى، وهذا لأن الشهادة إذا كانت بعد الوفاة فاستحقاق الإرث مضاف إلى النسب الذي ثبت بشهادة الشهود، فكان التلف مضافاً إلى شهادة الشهود، فأما إذا كانت الشهادة في حالة الحياة فالتلف غير مضاف إلى شهادتهم على ما مر، فلهذا افترقا، ولا يرجع كل فريق من الشهود بما ضمن الأب الآخر في ميراث المشهود له لما قلنا في الوجه الثاني، ولا يغرم الشهود للأخ شيئاً، لأن من حجة كل فريق أن يقول للأخ: لولا شهادتنا لكان الحرمان ثابتاً في حقك بشهادة الفريق الآخر، هذا إذا كانت الشهادتان من فريقين متفرقين، فأما إذا كانت من فريق واحد بأن شهد شاهدان أن المولى قال في كلمة واحدة: هذان ابناي من هاتين الجاريتين، والابنان كبيران يدعيان ذلك مع

الجاريتين، فقضى القاضي بشهادتهم ثم رجعوا. فإن كانت الشهادة والرجوع في حال حياة المولى ضمن الشهود للمولى قيمة الولدين ونقصان الاستيلاد لما ذكرنا، فيما إذا كانت الشهادتان من فريقين، فإذا أخذ المولى ذلك واستهلكه ثم مات المولى لم يغرم الشهود شيئاً من قيمة الابنين؛ لأنهم لو غرموا للابنين، والابنان قد أبرأا الشهود عن ذلك حيث ادعيا ما شهد به الشهود، ويرجع الشهود بما ضمنوا فيما ورث الولدان عن أبيهما؛ لأنهما يصدقان الشهود في الشهادة لما ادعيا ما شهد به الشهود، فصارا مقرين بأن ما أخذ الأب من الشهود صار ديناً في تركة الأب، والدين مقدم على الميراث، ولا يضمن الشهود للأخ شيئاً مما ورثه الابنان إن كان للميت أخ، لأنهم شهدوا بالنسب حال حياة المولى. وإن كانت الشهادة في حال حياة المولى والرجوع بعد وفاة المولى لم يغرم الشهود شيئاً للابنين ولا للأخ إن كان للميت أخ لما قلنا، وإن كانت الشهادة والرجوع بعد وفاة المولى فالشهود لا يغرمون للابن شيئاً ويغرمون للأخ إن كان للمولى أخ قيمة الجاريتين وقيمة الابنين وما ورثه الابنان، بخلاف ما إذا كانت الشهادتان من فريقين، فإن هناك لا يضمن الشهود للأخ، وإن كانت الشهادة والرجوع بعد وفاة المولى. والفرق بين الفريقين والفريق الواحد يأتي بعد هذا كله إذا كان الولدان كثيرين والشهود فريق واحد، فأما إذا كان الشهود فريقاً واحداً والولدان صغيران وقت الشهادة ينتظر بلوغهما، فإذا بلغا فإن صدق كل واحد منهما الشهود في جميع ما شهد به الشهود فهذا وما لو كانا كبيرين وقت الشهادة وادعيا جميع ما شهد به الشهود سواء، وإن كان صدق كل واحد منهما الشهود فيما شهدوا له به وكذبهم فيما شهدا لصاحبه به فهذا، وما لو شهد لكل ابن فريق وجحد كل واحد منهما صاحبه سواء؛ لأن الشهادة ههنا لا تنتقض، وإن كذب كل واحد منهما شهوده إما لأن هذا تكذيب بعد القضاء وإنه لا يوجب بطلان القضاء والشهادة لما تبين، أو لأن هذا تكذيب فيما شهدا له، وتكذيب المشهود لا يبطل الشهادة، وإذا لم تنتقض الشهادة ههنا بهذا التكذيب صار هذا الفصل وما إذا شهد لكل فريق على حده وجحد كل واحد منهما صاحبه سواء، ولم يذكر محمد رحمه الله في الكبيرين هذا الفصل، أنه إذا كان الشهود فريقاً واحداً وصدق كل من الابنين الشهود فيما شهدوا له وكذبهم فيما شهدوا لصاحبه هل تقبل شهادتهم؟. وحكي عن القاضي الإمام أبي الحسين بن الخضر النسفي أنه قال: لا تقبل شهادتهم، وفرق بين الكبيرين والصغيرين فإن الصغيرين إذا بلغا وصدق كل واحد منهم الشهود فيما شهدوا له دون صاحبه لا تبطل الشهادة، والفرق أن كل واحد من الابنين فسق الشهود حيث كذبهم فيما شهدوا لصاحبه، إلا أن في حق الصغيرين التفسيق كان بعد القضاء لهما بهذه الشهادة في حالة الصغر، وتفسيق المشهود له الشاهد بعد القضاء لا يوجب بطلان القضاء؛ لأن الفاسق ربما يكون صادقاً، ولهذا كان أهلاً للشهادة عندنا، فعلى اعتبار أن يكون صادقاً لا يجوز إبطال القضاء وعلى اعتبار أن يكون كاذباً يجوز

إبطال القضاء، فلا يجوز إبطال القضاء بالشك، أما في حق الكبيرين الفسق وجد قبل القضاء وكما لا يجوز إبطال القضاء بالشك لا يجوز القضاء بالشك. وعامة المشايخ قالوا: لا بل الجواب في حق الكبيرين والصغيرين واحد، حتى يجوز القضاء بهذه الشهادة؛ لأن كل واحد من الكبيرين وإن كذب الشهود ولكن كذبهم فيما شهدوا عليه لا فيما شهدوا له، وهذا لا يوجب خللا في الشهادة إذ المشهود عليه أبداً يكذّب الشهود فيما يشهدون. ولهذا قلنا: إذا شهد الشهود لرجل بدين مؤجل وأنكر المشهود له الأجل تقبل الشهادة، وإن كذب شهوده في الأجل؛ لأنه كذّبهم فيما شهدوا عليه؛ لأن الأجل عليه. وكذلك إذا شهد رجلان لزيد على عمرو بألف درهم وعمرو ينكر ذلك ثم شهدوا لعمرو على زيد بمئة دينار وزيد ينكر، فالقاضي يقضي بالشهادتين جميعاً، وقد كذب كل واحد منهما شهوده؛ لأنه كذبهم فيما شهدوا عليه صح أن الجواب في حق الكبيرين نظير الجواب في حق الصغيرين. فإن قيل: إذا كان الولدان صغيرين ينبغي أن لا تقبل هذه الشهادة عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن هذه شهادة على النسب والحرية، والشهادةُ على حرية العبد لا تقبل من غير دعوى العبد عنده، والدعوى من الصغيرين لا تتصور. قلنا: إنما قبلت هذه الشهادة لوجود الدعوى من الصغيرين اعتباراً. بيانه: أن كل واحد من الابنين تدعي نسب.... وحريته، وصح ذلك منها؛ لأن ما تدعي كل واحدة منهما لنفسها من أمته الولد لا يثبت إلا بعد ثبات نسب ولدها، فتقوم دعوى كل واحد منهما مقام دعوى ولدها، فهو معنى قولنا: وجد الدعوى من الصغيرين اعتباراً. وفي «نوادر عيسى بن أبان» : رجل مات وترك أخاً لأبيه، فجاء رجل وادعى أنه أخوه لأبيه وأمه، وجاء بشاهدين شهدا أنه أخوه لأبيه وشاهدين آخرين شهدا أنه أخوه لأمه، فالقاضي يقضي بأنه أخوه لأبيه وأمه، ويعطيه كل الميراث، فإن قضى بذلك ثم رجع الشهود عن شهادتهم جملة، ضَمِن اللذان شهدا أنه أخ لأب ثلثي الميراث واللذان شهدا أنه أخ لأمه ثلث الميراث من قبل أنه قد استحق بشهادة اللذَين (شهدا) أنه أخ لأب نصف الميراث، إذ للميت أخ آخر لأب، فضمان ذلك عليهما خاصة واستحق بشهادة اللذين (شهدا) أنه أخ للأم سدس الميراث، وضمان ذلك عليهما أيضاً، والثلث الباقي لم يستحق بشهادة واحد من الفريقين دون صاحبه، فهو على الفريقين نصفين، على كل فريق نصفه وهو السدس، ولو رجع أحد الشاهدين اللذين شهدا أنه أخ لأب، وأحد الشاهدين اللذين شهدا أنه أخ لأم ضمنا النصف بينهما أثلاثاً، ولو لم يكن الأمر على ذلك ولكن شهد شاهدان أنه أخ لأب وقضى القاضي له بنصف المال ثم جاء بشاهدين آخرين شهدا

أنه أخ لأم وقضى القاضي له بالنصف الآخر ثم رجع الشهود جميعاً، فعلى كل فريق (165ب4) نصف المال لما ذكرنا أن الواجب على الشهود عند الرجوع ما قضي به بشهادته، وإنما قضي بشهادة كل فريق في هذه الصورة بالنصف. ولو شهد شاهدان أنه أخ لأم وقضى القاضي له بسدس الميراث ثم شهد آخران أنه أخ لأب وقضى القاضي له بباقي الميراث ثم رجعوا، فعلى اللذين شهدا أنه أخ لأم سدس المال وعلى اللذين شهدا أنه أخ الأب خمسة أسداس المال، وهو بناء على ما قلنا، وكذلك إذا شهدوا معاً وعدل أحد الفريقين وقضى القاضي بشهادتهم، فإنه ينظر في هذا إلى القضاء، فمن قضي بشهادته أولاً فعليه ضمان ما قضي بشهادته والباقي على الفريق الآخر، ولو أن الذي ادعى أنه أخ لأب وأم شهد له شاهد أنه أخ لأب وأم، وشهد له شاهد آخر أنه أخ لأب وقضى القاضي بالميراث له ثم رجع الذي شهد أنه أخ لأب وأم، فعليه ضمان نصف الميراث، وإن لم يرجع هو، لكن رجع الذي شهد أنه أخ لأب، فعليه ضمان ثلث المال، وإن رجع الذي شهد أنه أخ لأم فعليه ضمان ثلث المال، وإن رجعوا جملة فالضمان عليهم كذلك. قال الحاكم أبو الفضل: يحتمل أن تكون وجه هذه المسألة: أن الشاهد بالأخوة لأب وأم شارك الشاهد بالأخوة لأب في إيجاب النصف، فهو عليهما نصفان، وشارك الشاهد بالأخوة لأم في إيجاب السدس في ذلك عليهما، وشهد بانفراده بالثلث الباقي وكان مجموع شهادة الآخرين بشهادته أيضاً، فصار نصف ذلك الثلث على الشاهد بالأخوة لأب وأم، ونصفه على الآخرين نصفان، ومعنى قوله: مجموع شهادة الآخرين، شهادته أنه شهد بالأخ لأب وأم ومجموع شهادة الآخرين، هذا أيضاً؛ لأن أحدهما شهد بالأخوة لأب والآخر بالأخوة لأم. في «نوادر عيسى» أيضاً: رجل مات وترك بنتاً وأخاً لأب فأعطى القاضي البنت النصف والأخ النصف، ثم جاء رجل وادعى أنه أخ الميت لأب وأم، فشهد له شاهد أنه أخوه لأب وأم وشهد الآخر أنه أخوه لأب وشهد آخر أنه أخوه لأم، وقضى القاضي بنصف الميراث له ثم رجع الذي شهد أنه أخ لأب، فعليه ضمان ثلاثة أثمان ما صار له من الميراث. قال الحاكم أبو الفضل: إنه استحق نصف مال أُخذ بشهادة الذي شهد أنه أخ لأب وأم، وشهادة الذي شهد أنه أخوه لأب هو عليها جميعاً، والنصف الآخر استحقه بشهادتهم جميعاً، فنصفه على الذي شهد أنه أخ لأب وأم ونصفه على الآخرين؛ لأن شهادتهما بإزاء شهادته، هذا هو المنقول عن الحاكم الشهيد رحمه الله، ومعنى هذا الكلام: أن المدعي أخذ بحكم الميراث النصف وصار نصف هذا النصف نصفين، فاحتجنا إلى حساب ينتصف نصف نصفه، وأقل ذلك ثمانية جعلنا (هـ) ميراث الميت. ثم عدنا إلى أصل المسألة وقلنا: في يد البنت أربعة وفي يد الأخ لأب أربعة، وقضى القاضي للمدعي بالأربعة التي في يد الأخ نصفها وذلك سهمان بشهادة الذي شهد

أنه أخ لأب وأم، وبشهادة الذي شهد أنه أخ لأب، فعند الرجوع يكون ضمان ذلك عليهما، على كل واحد منهم، والنصف الآخر وذلك سهمان قضي به بشهادة الكل نصفه، وذلك سهم بشهادة الذي شهد أنه أخ لأب وأم، ونصفه وذلك سهم بشهادة الآخرين، وهذا لأن شهادة الآخرين بإزاء شهادة من شهد أنه أخ لأب وأم، لأن أحد الآخرين شهد أنه أخ لأب، والآخر شهد أنه أخ لأم، فمجموع شهادتهما أنه أخ لأب وأم، فصار النصف الآخر مقضياً به بشهادت الكل، فيكون نصفه وذلك سهم على الذي شهد أنه أخ لأب وأم، ونصفه وذلك سهم على الآخرين فانكسر هذا السهم فنضعف السهام حتى يزول الكسر. فجعلنا ميراثه على ستة عشر: في يدي الأخ لأب ثمانية قضي بمجموعهما للمدعي نصفها، وذلك أربعة بشهادة الذي شهد أنه أخ لأب وأم، فضمان ذلك عليهما نصفان على كل واحد سهمين، ونصفها وذلك أربعة بشهادتهم جملة، نصفها وذلك سهمان بشهادة الآخرين بشهادة كل واحد منهما سهم، فضمان ذلك يكون عليهما، فأصاب الذي شهد بالأب والأم مرة سهمان من ثمانية ومرة سهمان أيضاً، فذلك أربعة وهو نصف ما صار للمدعي بالميراث وأصاب الذي شهد بالأب مرة سهمان من ثمانية ومرة سهم، فذلك ثلاثة، وهو ثلاثة أثمان ما صار للمدعي من الميراث، وأصاب الذي شهد بالأم سهم من ثمانية وهو ثمن ما صار للمدعي من الميراث. رجل مات وترك ابناً وأخذ ميراثه، فجاء رجل آخر وادعى أنه ابن الميت وأراد أن يشارك الابن المعروف، فأنكر الابن المعروف نسبه وأنكر أن يكون وصل إليه شيء من الميراث، فأتى بشاهدين فشهدا أنه ابن الميت وقضى القاضي له بنسبه ثم أتى بشاهدين آخرين فشهدا أنه وصل إليه من مال الميت كذا وكذا، فقضى القاضي عليه بنصف ذلك للابن المدعي، ثم رجع الشاهدان اللذان شهدا بالنسب ضمنا ما وصل إلى المدعي من المال، فإن ضمنا ذلك ثم رجع الآخران رجع شاهدا النسب عليهما بما ضمنا؛ لأن شاهدا النسب بما ضمنا فأما مقام الابن المعروف وكان للابن المعروف يضمن شاهدي المال عند الرجوع، فكذا لمن قام مقامه ولو كانوا رجعوا جميعاً، فالابن المعروف بالخيار: إن شاء ضمن شاهدي النسب ورجعا على شاهدي المال، وإن شاء ضمن شاهدي المال، وإنما ضمن شاهدي النسب؛ لأن الشهادة بالنسب بعد الموت شهادة بالميراث، والقضاء بالنسب بعد الموت قضاء بالميراث، فكل ما كان للميت من مال في يدي وارث أو غيره فقد قضى القاضي للابن المدعي بحصته من حيث قضي له بالنسب. رجل مات وترك ابنة وأخاً وأماً وأخذ (ت) البنت نصف الميراث، وأخذ الأخ نصف الميراث، فجاء رجل وادعى أنه أخ الميت لأب وأم وجاء بشاهدين شهدا بذلك وقضى القاضي بنسبه وأشركه مع الأخ المعروف في الميراث، ثم رجعا عن شهادتهما أنه أخ لأب، وثبتا على شهادتهما أنه أخ لأم أو على العكس: ضمنا نصف ما صار في يده من الميراث ولا يضمنان جميع ذلك؛ لأنه استحق الميراث بنسبين وقد رجعا عن شهادتهما.

الفصل التاسع: في الرجوع عن الشهادة على الشهادة

وكذلك لو رجع أحدهما عن شهادته أنه أخ لأب وثبت على شهادته أنه أخ لأم ورجع الآخر عن شهادته أنه أخ لأم وثبت على شهادته أنه أخ لأب ضمن كل واحد منهما الربع مما صار في يده؛ لأنهما رجعا عن نصف الشهادة وثبتا على نصف الشهادة، والشاهدان في هذا على النسبين، فالفريقان إذا شهدا كل فريق على أحد النسبين سواء، ولو شهد كل فريق على نسب فإن شهد أحد الفريقين أنه أخوه لأبيه وشهد الفريق الآخر أنه أخوه لأمه، ثم رجع أحد الفريقين عن شهادتهم ضمن نصف المال كذا ههنا. فإن قيل: إذا رجعا عن أحد النسبين ينبغي أن يضمنا جميع الميراث؛ لأنهما عند الرجوع صارا مقرين أنه ليس بوارث وأنهما أتلفا جميع المال بشهادتهما أنه وارث. قلنا: إنهما لم يشهدا أنه وارث فقط، ولو شهدا أنه وارث لا تقبل شهادتهما، وإنما شهدا له بنسبين واستحق الميراث بهما، ثم رجعا عن أحدهما وثبتا على الآخر. قال: ألا ترى أن رجلين لو شهدا على شهادة شاهدين بحق لرجل وقضى القاضي بشهادتهما، ثم رجعا عن شهادتهما على شهادة أحد الشاهدين وثبتا على شهادة الشاهد الآخر، إنهما لا يضمنان إلا نصف المال وقد زعما أن الشهادة التي ثبتا عليهما لا يستحق بها شيء. رجل مات وترك أخوين لأم وأخاً لأب، فأعطى القاضي الأخوين لأم الثلث وأعطى الأخ لأب الثلثين، ثم ادعى رجل أنه أخوه لأبيه وأمه وشهد له شاهدان أنه أخوه لأمه وقال: شاهداي على النسب من الأب غائبان، فإن القاضي يقضي بأنه أخ لأم وله أن يدخل مع أخوته لأم؛ لأنه شريك في الميراث كله وهو يقول: قد ظلمني الأخ لأب حيث جحد حقي فلي أن أدخل مع الأخوة لأم، فإن قضى القاضي بذلك وأشركه مع الأخوين لأم ثم قدم الشاهدان الآخران فشهدا أنه أخ لأب، فإن القاضي يقضي بأنه أخ لأب وأم ويرجع الأخوة (166أ4) من الأم على الأخ لأب بما أخذ منهم، فيستكمل الأخ لأب وأم الثلثين، فإن رجع الشهود بعد ذلك عن الشهادة فلا ضمان على الذي شهدا أنه أخ لأم؛ لأنه قد رجع إلى الإخوة من الأب مثل ما أخذ منهم ويضمن اللذان شهدا أنه أخ لأب جميع الثلثين للأخ لأب، لأنه إنما قضى به بشهادتهما، ولو كان أقام أولاً شاهدين أنه أخ لأب وقضى القاضي له بذلك وأخذ نصف ما في يد الأخ لأب ثم جاء بشاهدين أنه أخ لأم، وقضى القاضي بذلك وأخذ ما بقي في يد الأخ لأب ثم رجعوا جميعاً، فعلى كل فريق نصف الضمان. الفصل التاسع: في الرجوع عن الشهادة على الشهادة قال محمد في «الأصل» : وإذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين بحق لرجل ثم رجع الأصول والفروع جميعاً، قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا ضمان على الأصول وإنما

الضمان على الفروع. وقال محمد: المشهود عليه بالخيار، إن شاء ضمن الأصول وإن شاء ضمن الفروع، وإن رجع الأصول وحدهم فلا ضمان عليهم عندهما خلافاً لمحمد، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف رحمهما الله: أنه إذا رجع الأصول فهم ضامنون وإن (ضمن) الفروع وحدهم فعليهم الضمان بلا خلاف. فوجه قول محمد رحمه الله: أنه وجد من كل فريق يعني الأصول والفروع في حق المشهود عليه سبب ضمان على حده على سبيل المباشرة فكان له أن يضمن أيهما شاء كما في الغاصب مع غاصب الغاصب. بيانه: أن سبب التلف نقل شهادة الأصول إلى مجلس القاضي، ونقل شهادة الأصول ثبت بهما، فإنه لولا إشهاد الأصول ما تمكن الفرع من النقل، ولولا نقل الفرع لم يثبت النقل، وقولنا: على سبيل المباشرة؛ لأن الفرع في نقل شهادة الأصول مباشر حقيقة، وهذا ظاهر، والأصل مباشر من حيث الحكم؛ لأن أداء الفروع منقول إلى الأصول؛ لأن الفروع مضطرون من جهة الأصول إلى الأداء بعد الإشهاد، فإنهم لو امتنعوا من الأداء أتموا، ألا ترى أن قضاء القاضي اعتبر منقولاً إلى الشاهد؛ لأنه مضطر إلى القضاء من جهة، فإنه لو امتنع عن القضاء يأثم، كذا ههنا، فإن ضمن الفروع، فالفروع لا يرجعون على الأصول كما في باب الغصب لو ضمن المالك الغاصب الثاني لا يرجع به على الغاصب الأول، وإن ضمن الأصول فالأصول لا يرجعون على الفروع، بخلاف ما لو ضمن المالك الغاصب حيث يرجع به على الغاصب، وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا: الأصول مسببون للتلف من وجه، والفروع مباشرون للتلف من كل وجه. بيانه: أن سبب التلف نقل شهادة الأصول، والأصول مسببون لهذا النقل؛ لأن بعدما وجد الإشهاد من الأصول لا يحصل نقل شهادتهم إلا بعد وجود فعل فاعل مختار وهو أداء الفروع بشهادتهم، وهذا هو حد السبب، فأما الفروع مباشرون لهذا النقل من كل وجه، فإن نفس أداء الفروع شهادة الأصول تصير شهادة الأصول منقولة إلى مجلس القاضي من غير أن يحتاج فيه إلى فعل فاعل مختار، وهذا هو حد المباشرة وقد عرف من أصلنا أن المباشر مع السبب إذا اجتمعا وهما متعديان أن الضمان على المباشر، وقوله بأن أداء الفروع منقول إلى الأصل إلى أخر ما ذكر. قلنا: الاضطرار في حق الفروع ثابت من وجه دون وجه؛ لأن سبب هذا الاضطرار اعتباري وهو الإثم وبالعقباوي ثبت الاضطرار من وجه؛ لأن العقباوي ليس بقائم للحال، ألا ترى أن قضاء القاضي بسبب وعيد الأخوة اعتبر منقولاً إلى الشاهد من وجه دون وجه، حتى كان لولي القتيل تضمين الشاهد ولا تجب الكفارة على الشاهد ولا يصير الشاهد محروماً عن الميراث كذا هاهنا، وإذا ثبت أن الفروع صار منقولاً إلى الأصول كان الأصل مسبباً، والفروع مباشر من كل وجه، وإيجاب الضمان على المباشر من كل

وجه أولى من إيجابه على المباشر من وجه، وإذا رجع الفروع وحدهم وجب عليهم الضمان وهذا ظاهر، وإن رجع الأصول وحدهم فلا ضمان عليهم عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وفيه نوع إشكال؛ لأنه تعذر إيجاب الضمان على المباشر، فيجب على المسبب كما في الحافر مع الماشي. والجواب: أن الأصول لو كانوا مباشرين مع الفروع من كل وجه بأن شهدوا جملة بشهادة أنفسهم ثم رجع اثنان لا يجب على الراجعين الضمان؛ لأنه بقي من يقوم بشهادته جميع الحق؛ فلأن لا يجب الضمان هنا، وقد بقي من يقوم بشهادته جميع الحق والراجع سبب من وجه أولى، وهكذا الذي ذكرنا: إذا قال الأصول: كنا أشهدناكما بباطل، فأما إذا قالوا لم نشهدهم أصلاً، فلا ضمان على الأصول بلا خلاف؛ لأنه لم يوجد منهم الرجوع لما أنكروا الإشهاد أصلاً. ولو شهد شاهدان على شهادة أربعة وشهد شاهدان على شهادة شاهدين بحق على رجل وقضى القاضي بشهادتهم ثم رجعوا، فعلى قول أبي حنيفة: الضمان على الفريق أثلاثاً، ثلثاه على الذين شهدوا على شهادة الأربع، وثلثه على الذين شهدوا على شهادة المسبب وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: الضمان على الفريقين نصفان، وأجمعوا على أنه إذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين وشهد أربعة على شهادة شاهدين والباقي بحاله أن الضمان على الفريقين نصفان، والفرق لهما أن الحكم مقطوع بشهادة الفروع ولهذا لا ضمان على الأصول عند الرجوع عندهما، ولما كان الحكم مقطوعاً بشهادة الفروع يجب اعتبار عدد الفروع دون عدد الأصول. إذا شهد شاهدان على شهادة شاهدين على رجل بألف درهم وشهد آخران على شهادة شاهد واحد بتلك الألف بعينها وقضى القاضي بالألف بالشهادتين جميعاً ثم رجع واحد من الفريق الأول، وواحد من الفريق الثاني كان عليهما ثلاثة أثمان المال، الثمنان على أحد الأولين والثمن على أحد الآخرين؛ لأن الفريق الأول أثبت جميع المال؛ لأنهما قاما مقام شاهدين والفريق الثاني أثبت نصف المال؛ لأنه قام مقام شاهد واحد إلا أن ذلك النصف شائع في النصفين، فإذا بقي واحد من الفريق الأول بقي به نصف الحق، وإذا بقي واحد من الفريق الثاني بقي نصف النصف وهو الربع، إلا أن هذا الربع شائع في النصفين في نصف الباقي ببقاء أحد الأولين، وفي نصف الساقط برجوع أحد الأولين، فصار نصف الربع وهو الثمن داخلاً في النصف الذي بقي ببقاء أحد الأولين فلا يظهر ذلك، ونصفه وهو الثمن في النصف الساقط فبقي ذلك القدر ببقاء أحد الآخرين فكان الباقي من الحق بالشاهدين الباقيين خمسة أثمان، فكان التالف برجوع الراجعين ثلاثة أثمان، فيجب ضمان ذلك على الراجعين ولكن أثلاثاً؛ لأن الفريق الأول أوجب كل المال، والفريق الثاني أوجب نصف المال فكان الفريق الأول سبباً، مثل ما أثبته أحد الآخرين، فيكون العزم عليهما أثلاثاً، ولو لم يرجع إلا أحد الأولين كان عليه ربع الحق؛ لأنه بقي ببقاء صاحبه على الشهادة نصف الحق، والآخران أيضاً بقيا بنصف الحق، إلا

الفصل العاشر: في الرجوع عن الشهادة في الحدود والجنايات

أن الثابت بشهادتهما نصف الحق شائع نصفه وهو الربع مما بقي ببقاء أحد الأولين ونصفه وهو الربع مما سقط برجوع أحد الأولين فبقي من النصف الساقط بحكم بقاء الآخرين على الشهادة نصفه وهو الربع، فيكون الباقي في الحاصل ثلاثة الأرباع وضمن الراجع الربع لهذا، ولو رجع الآخران مع أحد الأولين ضمنوا نصف المال؛ لأنه بقي من يقوم بشهادته نصف الحق، فيكون التالف نصف المال ثم ضمان هذا النصف يكون نصفه على الراجع من الأولين ونصفه على الآخرين؛ لأن أحد الأولين (166ب4) أوجب نصف الحق والآخران أوجبا نصف الحق أيضاً، فصار حال الواحد من الأولين كحال الآخرين، فلهذا كان الضمان عليهما نصفين.u ولو شهد شاهدان على شهادة شاهدين على رجل بألف وشهد شاهدان آخران على شهادة شاهدين آخرين بتلك الألف بعينها وقضى القاضي به ثم رجع واحد من هذين وواحد من هذين، فعليهما ثمنان ونصف، هكذا ذكر في «الجامع» وذكر في «الأصل» أن عليهما نصف المال، وعن أبي يوسف أن عليهما ربع المال، وهو اختيار الكرخي وهو القياس، وهي مسألة الأسفكة. الفصل العاشر: في الرجوع عن الشهادة في الحدود والجنايات قال محمد رحمه الله: وإذا شهد شاهدان على رجل بسرقة ألف درهم بعينها من رجل وقضى القاضي بها وقطع يد المشهود عليه ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما ضمنا دية اليد للمشهود عليه؛ لأنهما أتلفا على المشهود عليه يده، ويكون ذلك في مالهما؛ لأنه وجب بإقراره؛ ولأنهما تعمدا الإتلاف حيث شهدا بالزور، والعاقلة لا تعقل عمداً ولا اعترافاً، ويضمنان الألف أيضاً؛ لأنهما كما أتلفا على المشهود عليه يده أتلفا عليه الألف. أربعة شهدوا على رجل بالزنا وشهد شاهدان عليه بالإحصان فأجاز القاضي شادتهم وأمر برجمه ثم رجعوا جميعاً عن شهادتهم، فإن شهود الزنا يضمون الدية ويحدون حد القذف عند علمائنا الثلاثة، ولا ضمان على شهود الإحصان، وهذه المسألة بتمامها مرت في كتاب الحدود من هذا الكتاب. وإذا شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده وشهد عليه أربعة بالزنا والإحصان وقضى القاضي بشهادتهم وأعتقه ورجمه ثم رجعوا عن شهادتهم، فإن على شهود العتق قيمته لمولاه؛ لأنهم أتلفوا عليه مالية العبد بغير حق وعلى شهود الزنا الدية؛ لأنهم أتلفوا بشهادتهم حراً؛ لأن الحرية قد ثبتت بقضاء القاضي وتكون الدية للمولى إذا لم يكن

المرجوم وارثاً آخر من العصبات، فإن قيل من وجهين، أحدهما: كيف تجب الدية للمولى وكان المولى جاحداً العتق؟ والثاني: كيف يجب بدلان للمولى عن نفس واحدة. قلنا: أما الأول القاضي قد حكم بعتقه وزعم المولى بعدما قضى القاضي عليه بخلافه غير معتبر، وأما الثاني قلنا القيمة تجب بدلاً عن المالية والدية تجب بدلاً عن النفس غير أن الدية تجب حقاً للمقتول حتى يقضي منه ديونه وينفذ قضاياه، ألا ترى أنه لو كان له ابن حر كانت الدية له دون مولاه، فالدية تجب للمقتول أولاً ثم تصير للمولى؛ لأنه أقرب الناس إلى المقتول، فلا تؤدي إلى أن يجب بدلان عن نفس واحدة للمولى. إذا شهد أربعة على رجل بالزنا والعتق والإحصان وأمضى القاضي كله، ثم رجعوا عن العتق ضمنوا القيمة، ولا شيء عليهم من (الدية) ، لأنهم يصيرون على الشهادة عليه بالزنا، وفي حق العتق هم بمنزلة شهود الإحصان ولا ضمان على شهود الإحصان عند الرجوع على قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله، ولو رجع اثنان عن الزنا واثنان عن العتق فلا ضمان على شهود العتق؛ لأنه قد بقي على العتق حجة كاملة، وعلى اللذين رجعا عن الزنا نصف الدية؛ لأن الباقي على الشهادة في حق حكمه نصف الحجة فيجب على الراجعين نصف الدية وحد القذف. وإذا شهد شاهدان على الصلح عن دم العمد على ألف درهم ثم رجعا لم يضمنا شيئاً أيهما كان المنكر، أما إذا كان الذي له القصاص ينكر والقاتل يدعي؛ فلأنهما لو ضمنا للذي له القصاص أو للقاتل ولا وجه إليهما أما للذي له القصاص؛ فلأنهما لو شهدا عليه بالعفو عن القصاص بغير عوض لا يضمنان له شيئاً فههنا أولى، وقد شهدا عليه بالعفو بالألف، وأما للقاتل فلأنه هو المدعي للصلح، فإنما لزمه المال بإقراره لا بشهادتهما فلا يضمنان له شيئاً، وأما إذا كان القاتل يجحد والذي له القصاص يدعي، أما الذي له القصاص فلأنه سقط حقه عن القصاص بإقراره إذا كان هو مدعياً لا بشهادتهما، ولو سقط حقه عن القصاص بشهادتهما لا يضمنان له شيئاً فههنا أولى، وأما للقاتل فكذلك؛ وكان ينبغي أن يضمنا للقاتل؛ لأن ما سلم للمطلوب من القصاص ليس بمال وما ليس بمال لا يعتبر عوضاً من المال، فلا يصير عوضاً عما أوجبا عليه من الألف، فكأنهما أوجبا عليه ألف درهم بغير عوض. والجواب: ما سلم للقاتل من القصاص وإن لم يكن مالاً يصلح عوضاً عن المال الذي أوجبا عليه؛ لأنه ملك نفسه من جهة المولى من كل وجه من حيث الاعتبار؛ لأن المولى استحق على القاتل نصيبه بالقصاص من كل وجه، وإنما يملك القاتل نفسه بعد ذلك من جهة الطالب من كل وجه بالصلح. وما ليس بمال يصلح عوضاً عن المال إذا استفاده ملتزم المال من جهة من ضمن له المال من كل وجه أصله منافع البضع في باب النكاح، فإن الشرع جعل منافع البضع في حق الزوج عوضاً عن المال، وإن لم يكن منافع البضع مالاً. قلنا: والزوج ملك منافع بضع المرأة من جهة المرأة من كل وجه، فصار فصل

النكاح أصلاً لنا أن ما ليس بمال يصلح عوضاً عن المال إذا استفاده ملتزم المال من جهة من ضمن له المال من كل وجه، والقصاص نظير النكاح فيلحق بالنكاح، وكذلك لو كان هذا الصلح فيما دون النفس يريد به إذا شهدا على الصلح على مقدار الأرش أو دونه، فلا ضمان عليهما عند الرجوع جعل الجواب فيما دون النفس نظير الجواب في النفس؛ لأن المستحق فيما دون النفس عين على الحقيقة، فإذا صار مستحقاً لولي القصاص يزول عن ملكية من عليه القصاص، ومازال عن بعض العين عن صاحب الرقبة ثم عاد إليه بسبب، فإنما يعود إليه بحكم ذلك السبب لا حكماً لملكه الباقي؛ لأن كل جزء من أجزاء الرقبة أصل بنفسه لا يملك حكماً لملك الباقي، بخلاف تلك المنافع، فصار ما دون النفس والنفس سواء من هذا الوجه. وإذا شهد شاهدان على رجل أنه عفى عن دم خطأ أو جراحة خطأ أو عمد فيهما أرش وقضى القاضي بذلك، ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا الدية وأرش تلك الجراحة؛ لأنهما أتلفا على المشهود عليه الدية وأرش تلك الجراحة، فموجب الخطأ المال فيضمنان ذلك عند الرجوع ولكن بالصفة التي كانت واجبة؛ لأن الضمان إنما يجب على الشاهدين بطريق الجبر لمأمور، وإنما يتحقق الجبر إذا كان الضمان بصفة الفائت، وبهذا يضمن الجيد بمثله والرديء بمثله. إذا ثبت هذا فيقول: الدية مؤجلة في ثلاث سنين، فيجب على الشاهد ضمانها مؤجلاً في ثلاث سنين، وما بلغ من أرش الجراحة خمسمئة فصاعداً إلى ثلث الدية من ذلك في سنة، وما زاد على ذلك إلى الثلثين فذلك في سنة أخرى، فيجب على الشاهدين عند الرجوع كذلك، وإن كان أرش الجراحة أقل من خمسمئة يجب حالاً، فيضمنه الشاهد عند الرجوع. كذلك قال محمد رحمه الله في «الجامع» . شاهدان شهدا على عبد أنه قتل ولي هذا الرجل خطأ والمولى يجحد، وقيمة العبد ألف درهم فقضى القاضي بذلك ولم يخير المولى بين الدفع والفداء حتى شهد شاهدان آخران أن المولى أعتق العبد بعد الجناية والمولى يجحد، فإن القاضي يقضي بعتقه وبدية المقتول على المولى؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة، ولو عاين القاضي جناية العبد ثم عاين إعتاق المولى بعد ذلك، فالقاضي يقضي بالجناية والعتق والدية على المولى لصيرورته مختاراً للفداء بالإعتاق بعد الجناية، فكذا إذا أثبت ذلك بالبينة. حكي عن الشيخ أبي الحسن الكرخي رحمه الله: أنه كان يقول: تأويل المسألة أن الشهود شهدوا أن المولى أعتقه وهو عالم بالجناية؛ لأن الإعتاق مع العلم بالجناية، والصحيح أن الشهادة على العلم بالجناية ليست بشرط، لأن المولى قد علم بالجناية أول مرة. ثم إذا قضى القاضي بدية المقتول وقبض الأولياء الدية من المولى رجع الشهود جميعاً عن الشهادة، فإن شاهدا الجناية يضمنان للمولى قيمة العبد ألف درهم، وشاهدا الإعتاق يضمنان عشرة آلاف درهم للمولى، (167أ4) ألف درهم منها قيمة العبد،

وتسعة آلاف تمام الدية مع الألف التي ضمنها شاهدي الجناية. والأصل في هذا أن الشاهد إنما لا يضمن عند الرجوع ما صار مستحقاً بشهادته، وجناية العبد إذا أوجبت المال فرقبته تصير مستحقة بنفس الجناية، وإن كانت لا تملكه إلا بالتسليم كأصل الدية تصير مستحقة بنفس قتل الخطأ، وإن كان لا يملك إلا بالقبض حتى لا تصح الكفالة بالدية إلا أن الشرع أثبت للمولى ولاية استصغاء الرقبة بإختيار الفداء، فيصير وجوب الفداء متعلقاً بعلة ذات وصفين: الجناية والاختيار، فإن كل واحد منهما مؤيد في الوجوب، أما الجناية فظاهر، وأما الاختيار؛ فلأن الاختيار التزام المال، والتزام عرف مؤثراً في اللزوم، فصار وجوب الفداء متعلقاً بالجناية والاختيار من هذا الوجه والاختيار أحدهما فيضاف وجوب الفداء إلى الاختيار، ورقبة العبد مستحقة بالجناية وحدها، فيضاف استحقاقها إلى الجناية لا غير، إذا ثبت هذا فنقول: شهود الجناية أثبتوا استحقاق رقبة العبد لولي الجناية بشهادتهم إذ العتق لم يكن في تلك الحالة، فصاروا متلفين رقبة العبد على المولى بشهادتهم، وذلك التلف لا يرتفع بالشهادة الثانية الناقلة إلى الدية وإن لم تبق رقبة العبد مستحقة بعد الشهادة الثانية؛ لأنه لم يسلم للمولى ما صار مستحقاً بالشهادة الأولى إلا بضمان مثله وزيادة، فيبقى التلف معنى، فيبقى عليهم ضمان ذلك الإتلاف، وأما شهود الإعتاق فقد أتلفوا على المولى الرقبة والدية؛ لأنهم شهدوا بالإعتاق، والإعتاق مزيل ملك الرقبة ويدل على اختيار الفداء، فصاروا متلفين على المولى الرقبة والدية، الآن قدر الألف من بدل النفس غرم شاهد الجناية، فلا يغرم شاهد الإعتاق من بدل النفس إلا تسعة آلاف درهم، ويغرمان أيضاً قيمة العبد ألف درهم، فيغرمان عشرة آلاف درهم من هذا الوجه. ولو شهد شاهدان أن المولى أعتق عبده أمس، وقضى القاضي بشهادتهما وأعتق العبد، ثم شهد آخران أن العبد قتل ولي هذا أول من أمس، والمولى يعلم بذلك قضى بالدية على المولى؛ لأن الجناية إذا ثبتت والمولى عالم بها أول من أمس كان من ضرورته أن يكون الإعتاق أمس اختياراً للفداء، فإن رجع الشهود عن شهادتهم ضمن شاهدا الإعتاق قيمة العبد ألف درهم؛ لأن شاهدا الإعتاق ههنا أثبتا اختيار الفداء؛ لأن الجناية لم تكن ظاهرة وقت شهادتهما بالإعتاق؛ ليكون القضاء بالإعتاق قضاء بالدية، فصار شهود العتق متلفين على المولى قيمة العبد دون الدية، فيضمنان القيمة لا غير لهذا، بخلاف المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى الجناية كانت ظاهرة عند القاضي وقت القضاء بالعتق، فكان القضاء بالإعتاق قضاء بالفداء، ويضمن شهود الجناية عشرة آلاف درهم؛ لأنهم شهدوا بجناية معلومة قد اختار المولى فيها، فإن إعتاق العبد مع العلم بالجناية اختيار للفداء وهم شهدوا بجناية معلومة للمولى عند الإعتاق، فكانوا ملتزمين بشهادتهم إياه الدية، فلهذا ضمنوا الدية، ولو حضر الشهود جميعاً عند القاضي، فشهد شهود الجناية وشهود العتق بما قلنا في المسألة الثانية، فإن العبرة بحالة القضاء لا بحال أداء الشهادة لما مر أن الشهادة إنما تصير حجة بإيصال القضاء بها، فإن زكّى شهود العتق

أولاً، فقضى القاضي به ثم زكّى شهود الجناية فهو نظير الفصل الثاني، وإن زكّى شهود الجناية أولاً فقضى القاضي ثم زكّى شهود العتق فهو نظير الفصل الأول، وإن زكّوا جميعاً ووقع القضاء بالعتق والجناية معاً، فهذا وما لو وقع القضاء بالجناية أولاً ثم بالعتق سواء، وإنما كان كذلك، لأن القاضي إنما يقضي على حسب ما شهد به الشهود والشهود شهدوا بالجناية سابقاً؛ لأن شهود الجناية شهدوا أنه حتى أول من أمس والمولى علم به، وشهود العتق شهدوا أنه أعتقه أمس، فإذا وقع القضاء بشهادتهم معاً كان القضاء واقعاً بالجناية أولاً، ومتى كان هكذا صارت هذه المسألة وتلك المسألة سواء. ولو شهد شاهدان على رجل أن عبده قتل فلاناً خطأ أول من أمس والمولى يعلم بذلك وقيمة العبد ألف، وشهد آخران أن المولى قال له أمس: إن دخلت الدار فأنت حر ثم شهد آخران أنه دخل الدار اليوم، وقضى القاضي بالجناية وبعتقه وبالفداء على المولى ورجع الشهود جميعاً عن شهادتهم، فشهود الجناية يضمنون ألفاً وشهود اليمين يضمنون عشرة آلاف درهم، ولا ضمان على شهود الشرط وهم شهود دخول الدار، ولو كان مكان الشهادة على تعليق العتق بدخول الدار شهادة على تعريض العتق إلى فلان بأن شهد شاهدان أنه جعل أمس أمر عبده في العتق إلى فلان يعتقه متى شاء، وإنما قيده بقوله يعتقه متى شاء، حتى لا يقتصر على المجلس، وشهد آخران أن فلاناً أعتقه اليوم وباقي المسألة بحاله كان الضمان على شهود الإعتاق لا على شهود التفويض. والفرق: أن ضمان العتق إنما يجب على من أوجب العتق، ففي المسألة الأولى شهود اليمين هم الذين أوجبوا العتق إنما يثبت بكلمة الإعتاق إلا أن تعلق الجزاء بالشرط كان مانعاً كلمة الإعتاق، فعند زوال المانع كان العتق مضافاً إلى كلمة الإعتاق وذلك ثابت بشهود اليمين دون شهود الشرط. وفي المسألة الثانية: شهود الإعتاق هم الذين أثبتوا كلمة الإعتاق وشهود التفويض إنما أثبتوا صيرورة المفوض إليه مالكاً أمر عبده وقيامه مقام المالك، ثم العتق من المولى لا يثبت بدون كلمة الإعتاق، فكذا ممن قام مقامه، وكلمة الإعتاق إنما تثبت بشهود الإعتاق دون شهود التفويض فلهذا افترقا. وعن محمد رحمه الله في «الإملاء» : شاهدان شهدا على رجل أنه قتل ابن هذا الرجل عمداً وشهد هذان الشاهدان على رجل أنه قتل ابن هذا الرجل عمداً، وشهد هذان الشاهدان على هذا الرجل أيضاً: أنه قتل ابن هذا الرجل الآخر عمداً، والأبوان يدعيان ولا وارث لهذين المقتولين غير هذين الأبوين، فقضى القاضي بالقصاص وقتله الأبوان ثم رجعا عن أحد الابنين وقالا: لم يقتل ابن هذا، ضمنا نصف الدية إن شاء الشاهدان وإن شاء الأب القاتل الذي جاء ابنه حياً ولو كان المقتول ابني رجل واحد فقضى القاضي له بالقصاص وقتله الأب بابنيه، ثم رجع الشاهدان عن قتل أحد الابنين فلا ضمان عليهما؛ لأن الأب إذا كان واحداً فقتله المقتول بقصاص واحد وبقصاصين سواء، ألا ترى أن الشاهدين لو لم يرجعا عن شهادتهما ورجع أحد الابنين حياً لم يغرم الشاهدان شيئاً.

وإذا شهد شاهدان على رجل أنه سرق من عبد الله ليلة الجمعة مئة وشهدا عليه بعينه أنه سرق من عمرو ليلة السبت عشرة دنانير، وقضى القاضي عليه بالقطع وقطع يده ثم رجعا عن إحدى السرقتين، فلا ضمان عليهما؛ لأن اليد إنما قطعت بالحد فصار ذلك كأنه شيء واحد. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجلان شهدا على أبيهما بالقتل وقتل ثم رجع أحدهما، فعلى الراجع نصف الدية ولا ميراث للراجع في شيء من مال الأب، وإنه خلاف ظاهر الرواية؛ لأنه مسبب والمسبب لا يحرم عن الميراث، ولو شهدا على أبيهما بدين ألف درهم لرجل وقد مات أبوهما، فقضى عليه بها ومعهما أخ آخر، ثم رجع أحدهما فإن الراجع يضمن الذي لم يشهد على أبيه نصف حصته من الألف، ولا يضمن الآخر شيئاً من قبل أنه يقول له لما شهدت فقد أقررت بالدين قال: ولا نسبه، هذه الشهادة على الكل. وفي «الجامع» شاهدان شهدا على رجل أنه قتل ولي هذا الرجل خطأ، فقضى القاضي (167ب4) بالدية على العاقلة في ثلاث سنين وقبضها الولي ثم جاء المشهود بقتله حياً، كان للعاقلة الخيار إن شاؤوا ضمنوا الولي؛ لأنه تبين أنه قبض ما ليس له ولاية قبضه، وإن شاؤوا ضمنوا الشاهدين؛ لأنهم أتلفوا الدية على العاقلة حكماً بغير حق، وهذا لأن التلف وإن حصل بقضاء القاضي إلا أن الشاهدين بشهادتهما ألجأا القاضي إلى القضاء، فإنهما جعلا بحال لو امتنع عن القضاء يأثم فصار التلف الحاصل بقضاء القاضي بهذه الواسطة مضافاً إلى شهادة الشاهدين، فإن ضمنوا الولي فإن الولي لا يرجع على أحد؛ لأنه ضمن بفعله، وملك المضمون حصل له ولم يوجد من أحد جناية عليه بعد ملكه، وإن ضمنوا الشاهدين رجعا بما ضمنا على المولى لأنهما بأداء الضمان ملكا المضمون من وقت الإتلاف، فصار الولي جانياً عليهما بأحد ملكهما، فلهذا كان لهم حق الرجوع على الولي. فإن شهدا بقتل العمد وقضى القاضي بالقصاص، فقتله الولي ثم جاء المشهود بقتله حياً لا قصاص على واحد منهم، أما الولي؛ فلأن قضاء القاضي جاء شبهة في حقه، وأما الشاهدان فلأنه لم يوجد منهما المباشرة والقصاص جزاء المباشرة، ولكن ورثة القتيل بالخيار إن شاؤوا ضمنوا الولي وإن شاؤوا ضمنوا الشاهدين؛ لأن الولي قتله حقيقة بغير حق، والشهود قتلوه حكماً بغير حق، فإن ضمنوا الولي لا يرجع على أحد لما مر، وإن ضمنوا الشهود فالشهود لا يرجعون بذلك على الولي في قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يرجعون. فوجه قولهما: أن الواجب ههنا القصاص لكون القتل عمداً، إلا أنه انقلب مالاً لتعذر استيفائه، والقصاص المنقلب مالاً في الانتهاء بمنزلة المال الواجب في الابتداء حتى يقضي ديونه وينفذ وصاياه منه، ولو كان المال واجباً من الابتداء، فإن كان القتل خطأ، قد بينّا أن الشهود يرجعون على الولي بما يضمنون كذا ههنا، وأبو حنيفة رحمه الله

فرق بين الفصلين، فقال: إذا كان المال واجباً من الابتداء، فالشهود إنما يرجعون على الولي باعتبار أنهم ملكوا المضمون على ما مر، هذا المعنى لا يمكن تحقيقة في القصاص المنقلب مالاً؛ لأن المضمون هو الدم، والدم ليس يقابل للملك فلهذا افترقا. فإن قيل: ينبغي أن يظهر ملك المضمون ههنا في حق الملك البدل كمن غصب من أجر المدبر أو جاء آخر وغصبها منه وأجاز المولى تضمين الأول يصير المدبر ملكاً للأول في حق ملك البدل على الثاني حتى كان للأول، ولأنه تضمين الغاصب الثاني. قلنا: المدبر مال متقوم ولهذا صح تسميته مهراً في باب النكاح، إلا أنه تعذر نقله من ملك بحقه ولما كان مالاً متقوماً أمكن إظهار الملك فيه في حق تملك البدل إن لم يكن إظهار الملك فيه في حق أحكام أخر. فأما الدم فليس بمال أصلاً، ولهذا لا يصح تسميته مهراً في باب النكاح، فلم يمكن إظهار الملك فيه أصلاً. ولو كانت الشهادة في الخطأ أو في العمد على إقرار القاتل والمسألة بحالها، فلا ضمان على الشهود؛ لأنه لم يثبت كذب الشهود لأن المشهود الإقرار بالقتل، وليس من ضرورة حياته عدم إقرار المشهود عليه بالقتل وإنما الضمان على الولي في الفصلين. وكذلك لو شهدوا على شهادة شاهدين على قتل الخطأ وقضى القاضي بالدية على العاقلة والباقي بحاله، لا ضمان على الفروع إذا لم يثبت كذبهما إذ ليس من ضرورة حياته عدم استشهاد الأصول الفروع على شهادتهم، ولكن يرد الولي الدية على العاقلة، ولو جاء الشاهدان الأصلان وأنكرا الإشهاد أصلاً لم يصح إنكارهما في حق الفرعين، حتى لا يجب عليهما الضمان فلا يجب الضمان على الأصلين أيضاً، وهذا لا يشكل على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الأصلين لو رجعا عن شهادتهما بأن أقرا أنهما أشهداهما بباطل لا ضمان عليهما عندهما فههنا أولى، وإنما يشكل على قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن عنده لو رجع الأصلان عن شهادتهما ضمنا؛ لأن شهادة الأصل صارت منقولة إلى مجلس القاضي، فإنهما شهدا بأنفسهما ثم رجعا، والعذر لمحمد رحمه الله بين إنكار الأصول الإشهاد وبين رجوعهم عن الشهادة: أن شهادة الأصلين عند محمد إنما تصير منقولة إلى مجلس القضاء حكماً لا حقيقة؛ لأنها موجودة في غير مجلس القضاء حقيقة، والشهادة في غير مجلس القاضي لا يكون سبباً للضمان، وإن ظهر كذب الشهود في الشهادة فاعتبرنا الحكم حال رجوع الأصلين، واعتبرنا الحقيقة حال إنكارهما عملاً بالدليلين بقدر الإمكان. وإن قال المشهود: نحن أشهدناهما بباطل ونحن نعلم يومئذ إنا كاذبين لم يضمنا شيئاً في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، خلافاً لمحمد، وقد مرت المسألة مع حججها من قبل ونزيد حجتها وضوحاً فنقول: العمل بالشهادة على الشهادة بخلاف القياس؛ لأن المنقول إلى مجلس القاضي شهادة الأصل في غير مجلس القاضي، والشهادة في غير مجلس القضاء ليس بحجة، والقضاء بما ليس بحجة لا يجوز، لكنا تركنا القياس وجعلنا شهادة الأصل كالموجودة في حق القضاء حكماَ ضرورة إحياء

الفصل الحادي عشر: في الرجوع عن الشهادة في الهبة والصدقة والرهنوالعارية والوديعة والبضاعة والمضاربة والإجارة

الحقوق، ولا ضرورة إلى جعلها موجودة في حق الضمان بعد الرجوع فبقي على أصل القياس. الفصل الحادي عشر: في الرجوع عن الشهادة في الهبة والصدقة والرهنوالعارية والوديعة والبضاعة والمضاربة والإجارة ث عبد لرجل شهد شاهدان عليه أنه وهب هذا العبد من رجل وقبضه، والموهوب له يدعي، والواهب يجحد، وقضى القاضي بشهادتهم ثم رجعا عن الشهادة ضمنا قيمة العبد للواهب والعبد للموهوب له. فإن قيل: ينبغي أن لا يضمنان للواهب إذا كان العبد قائماً في يد الموهوب له؛ لأن الواهب قادر على أخذ العبد مادام قائماً؛ لأن للواهب حق الرجوع في الهبة مادام الموهوب قائماً، ومع التمكن من الوصول إلى العين لا يصار إلى الضمان. قلنا: وجوب الضمان للواهب على الشاهدين باعتبار أنهما أزالا العين عن ملكه، وقد عجزا عن رد العين إلى المالك؛ لأن العبد ليس في أيديهما، إنما هو في يد الموهوب له، وهما لا يملكان الأخذ منه، وإذا عجز الشاهدان عن رد العبد بعينه على الواهب كان للواهب تضمينها وإن تمكن الواهب من الأخذ من يد غيره، هذا كما قلنا في غاصب الغاصب مع الغاصب: إذا أقر غاصب الغاصب بالمغصوب للمالك، وأنكر الأول كان للمالك تضمين الغاصب الأول؛ لأن الغاصب الأول ضمن بالغصب وقد عجز عن رده الى المالك فضمن المالك مع أن المالك يتمكن من الأخذ من غاصب الغاصب كذا ههنا، ويكون العبد للموهوب له. وهل يحل الانتفاع له بالعبد متى علم أن الشهود شهود زور؟ وعن أبي حنيفة في هذا روايتان بناء على أن قضاء القاضي في التبرعات هل ينفذ باطناً؟ ففي إحدى الروايتين عنه ينفذ باطناً فيحل الانتفاع به، وفي الرواية الأخرى وهو قول أبي يوسف وهو قول محمد لا ينفذ باطناً ولا يحل له الانتفاع به، وليس للمولى أن يرجع في الهبة بعدما ضمن الشاهدان وهذا باتفاق الروايات. أما على الرواية التي قال أبو حنيفة رحمه الله قضاء القاضي في الهبة ينفذ ظاهراً وباطناً، فلأنه وصل إليه عوض الهبة حين أخذ الضمان من الشاهدين، أكثر ما في الباب أن العوض وصل إليه من جهة غير الموهوب له، ولكن وصول العوض من غير الموهوب له، في حق قطع الرجوع بمنزلة وصوله من الموهوب له. وأما على الرواية التي قال قضاء القاضي ينفذ ظاهراً وباطناً، فلأن الموهوب وإن بقي على ملك الواهب إلا أنه لما أخذ الضمان من الشاهدين وهو بدل العبد فقد أزال ملكه عن العبد إلى الشاهدين، فكيف ما كان ليس له أن يرجع في العبد بعد تضمين الشاهدين، قال: وله أن يرجع في العبد قبل تضمين الشاهدين وهذا باتفاق الروايات

أيضاً، أما على الرواية التي قال (168أ4) بنفاذ القضاء في الهبة باطناً فالرجوع بحكم الهبة عند عدم وصول العوض إليه، وأما على الرواية التي قال بعدم نفاذ القضاء في الهبة باطناً له أن يرجع فيها من غير قضاء ولا قضاء لأن الهبة بقيت على ملكه في الباطن، ولو لم يضمن المولى الشاهدين حتى يرجع في الهبة، فليس له أن يضمنها بعد ذلك؛ لأن العين وصل إلى المالك، ووصول العين إلى المالك يوجب براءة الضامن عن الضمان وصل العين إلى المالك من جهة الضامن أو من جهة غيره كما في الغصب. وإن هلك العين في يد الموهوب له فليس للواهب أن يرجع في قيمة العبد، وهذا على الرواية التي قال بنفاذ القضاء في الهبة ظاهراً وباطناً، أما على الرواية التي قال بعدم النفاذ باطناً، فله أخذ القيمة في الباطن متى ظفر بحبس حقه من ماله؛ لأن الهبة نفذت على ملكه في الباطن، وصار الموهوب له ضامناً لما قبضها بغير إذن الواهب. وإن كان العبد قائماً في يد الموهوب له وضمن الشاهدان القيمة للواهب وأراد الشاهدان أن يأخذا العبد، فليس لهما ذلك، وهذا على الرواية التي قال بنفاذ القضاء بالهبة ظاهراً وباطناً، وهما لأنهما لو أخذا العبد أخذاه بعد أنهما ملكاه من جهة الواهب بالضمان، ولا وجه إليه؛ لأن العبد على هذه الرواية صار ملكاً من جهة الواهب بالضمان ولا وجه إليه؛ لأن العبد على هذه الرواية صار ملكاً للموهوب له ظاهراً وباطناً، ولم يبق محلاً للتملك على الواهب، وعلى الرواية التي قال بعدم نفاذ القضاء باطناً يصير العبد ملكاً للشاهدين بأداء الضمان من جهة الواهب في الباطن، فيحل له أن يأخذه وينتفع به، وكل جواب عرفته في الهبة فهو الجواب في الصدقة إلا في فصل وهو الرجوع، فإنه لا رجوع في الصدقة بخلاف الهبة على نحو ما ذكرنا. وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم دين وهو مقر، فادعى رب الدين على المديون أنه رهنه عبداً له وقبضه منه والمديون يجحد ذلك وقضى القاضي بالرهن بشهادتهما ثم رجعا عن شهادتهما، فهذه المسألة على وجهين: الأول: أن يرجعا بعد موت العبد، وفي هذا الوجه إن لم يكن في قيمة العبد فضل على الدَّين، فلا ضمان عليهما، وإن كان في قيمة العبد فضل على الدين ضمنا الفضل للراهن؛ لأن في الوجه الأول أزالا يده عن العبد بعد.....، وفي الوجه الثاني أزالا يده عن الفضل على الدين من غير رضاه ومن غير عوض. الوجه الثاني: أن يرجعا في حال حياة العبد، وفي هذا الوجه لا ضمان عليهما وإن كان في قيمة العبد فضل على الدين، وكان ينبغي أن يضمنا الفضل؛ لأنهما أزالا يده عن الفضل بغير عوض، كما لو رجعا بعد موت العبد. والجواب وهو الفرق بين الفصلين: أن زوال يد المرتهن عن الفضل حال حياة العبد، حصل تبعاً لزوال يده عن المضمون؛ لأن الفضل لا يمتاز عن المضمون في

الحبس، ولهذا صار الكل محبوساً عن الراهن، وإن لم يثبت حكم الرهن في الفضل حتى يهلك الفضل أمانة. قلنا: ولم يجب الضمان عليهما في المضمون لأن إزالة اليد عن المضمون حصلت بعوض يعدله، فلا يجب الضمان في الفضل أيضاً؛ لأن حكم التبع لا يخالف حكم الأصل، أما بعد هلاك العبد لم يبق الفضل تبعاً للمضمون، ولأن قدر المضمون بعد الهلاك يصير ملكاً للمرتهن، وقدر الفضل لا يصير ملكاً له وإذا زالت التبعية بعد الهلاك زال المانع من وجه الضمان بعد إزالة اليد. هذا إذا كان الطالب يدعي الرهن والمطلوب يجحد، فأما إذا كان المطلوب يدعي الرهن والطالب يجحد، فإن كان الرهن قائما في يد المرتهن، فالقاضي لا يقضي بالرهن ببينة المطلوب في رواية كتاب الرهن وفي رواية هذا الكتاب يقضي، وجه ما ذكر كتاب الرهن أن الجحود في العقد صار كناية عن الفسخ فيوجب الفسخ متى فضل ممن يملك الفسخ والمرتهن يملك الفسخ، بانفراده مادام الرهن قائماً؛ لأن عقد الرهن غير لازم من جانبه، وصار جحوده بمنزلة قوله: فسخت الرهن، وبعدما قال المرتهن فسخت الرهن، القاضي لا يقضي بالرهن فكذا ههنا. وجه ما ذكر في هذا الكتاب أن الجحود والعقد كما يصلح كناية عن الفسخ يصلح عبارة عن إنكار العقد من الأصل، بل هو رفع العقد بعد وجوده، والقضاء بالعقد بعد وجود ما يرفعه متعذر، وإن كان الرهن هالكاً في يد المرتهن، فالقاضي يقضي بالرهن ببينة المطلوب باتفاق الروايات؛ لأن جحود المرتهن الرهن بعد هلاك الرهن يجعل كناية عن الفسخ؛ لأن بعد هلاك الرهن هو لا يملك الفسخ، فيجعل إنكاراً للعقد من الأصل، فيتمكن الراهن من إثباته بالبينة. وإذا قضى القاضي بالرهن ببينة المطلوب في هذه الصورة ثم رجعوا عن شهادتهم لا شك أنهما لا يضمنان الفضل للراهن؛ لأنهما أزالا يده عن الفضل برضاه إذا كان هو المدعي للرهن وهل يضمنان للمرتهن قدر الدين بعده؟ فإن رجعا فالمسألة على التفصيل: إن رجعا عن الرهن والقبض بأن قالا: ما رهن ولا سلم إليه شيئاً، وإنّا كذبنا في كلا الأمرين، فإنهما يضمنان الدين للمرتهن؛ لأنهما أقرا أنهما أبطلا حقه في الدين بغير عوض لما رجعا عن الرهن والقبض؛ لأنهما زعما أنه ليس إليه شيء فكان بمنزلة ما لو شهدا بقبض الثمن ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان قيمة المبيع للبائع، وطريقه ما قلنا. فأما إذا رجعا عن الرهن ولم يرجعا عن التسليم بأن قالا: سلم هو إليه هذا العبد إلا أنه ما رهنه منه، وفي هذا الوجه لا ضمان عليهما، وكان ينبغي أن يجب عليهما الضمان؛ لأن التسليم إذا كان بإذن المالك من غير عقد الرهن كان التسليم بجهه الإيداع، وبهلاك الوديعة في يد المرتهن لا يصير المرتهن مستوفياً للدين، فيكون هلاك الدين بغير عوض وقد أتلفا الدين على المرتهن بغير عوض فيضمنانز قلنا: التسليم وإن كان بحق الإيداع إلا أن المرتهن لما جحد صار ضامناً له، فإذا

هلك يكون مضموناً عليه وله عليه مثله، فيلتقيان قصاصاً. وإذا شهد شاهدان بوديعة في يدي رجل والمودع يجحد ذلك فقضى عليه القاضي بالقيمة ثم رجعا فإنهما يضمنان ذلك؛ لأن الشهادة بالوديعة المجحودة والشهادة بالدين سواء. ولو شهدا بدين ثم رجعا فإنهما يضمنان ذلك كذا ههنا، وكذلك البضاعة و ... على هذا. وإذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة وعمل المضارب بها وربح، ثم اختلف رب المال والمضارب، فقال المضارب: أعطيتني بالنصف، وقال رب المال: لا بل بالثلث، فشهد شاهدان للمضارب بالنصف وقضى القاضي بشهادتهما، فقبض المضارب نصف الربح ورد رأس المال مع نصف الربح على رب المال، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما فإنهما يضمنان لرب المال سدس الربح؛ لأن القول قول رب المال إنه شرط له الثلث لولا شهادتهما؛ لأن الربح يستفاد من جهته؛ فإنما استحق المضارب السدس الزائد بشهادتهما وقد أقرا بالرجوع أنهما أتلفا ذلك عليه بغير حق. وإن كان الربح كله ديناً لم يقبض فلا ضمان عليهما حتى يقبض المضارب ذلك، وإذا قبض المضارب ذلك اقتسماه نصفين وضمن الشاهدان لرب المال سدسه؛ لأن وجوب الضمان لرب المال على الشاهدين بتفويت اليد على رب المال ولا يتحقق ذلك ما لم يخرج الدين ويصل إلى المضارب حصته، فعند ذلك يتم التفويت عليه بشهادتهما. ولو شهدا أنه أعطاه بالثلث والباقي بحاله، فلا ضمان عليهما في هذه الصورة للمضارب؛ لأنهما لم يتلفا على المضارب شيئاً، فإنه لولا شهادتهما لكان للمضارب الثلث بقول رب المال، فما أتلفا على المضارب شيئاً بشهادتهما، بخلاف ما إذا شهدا بالنصف حيث ضمنا لرب المال السدس، لأن هناك أتلف على رب المال السدس بشهادتهما على ما مر، أما ههنا بخلافه. وإذا شهد شاهدان بإجارة دابة وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا عن شهادتهما، فهذه المسألة على وجهين: (168ب4) الأول: أن يكون المدعي للإجارة المستأجر، وفي هذا الوجه لا ضمان على الشاهدين لصاحب الدابة وإن كان أجر مثل الدابة أكثر من المسمى؛ لأنهما أتلفا على صاحب الدابة فيما زاد على المسمى مجرد منفعة من غير عقد؛ لأنه لا عقد فيما وراء المسمى، ومجرد المنفعة من غير عقد لا يضمن عندنا بالإتلاف الحقيقي، فكذا بالإتلاف الحكمي بالشهادة. وإن كان المدعي للإجارة صاحب الدابة والمستأجر ينكر، ينظر إلى الأجر

الفصل الثاني عشر: في الرجوع عن الشهادات على المال وعلى الدينوعلى الإبراء عن الدين وما يتصل بذلك

المسمى وإلى أجر مثل المستأجر، إن كان أجر مثل المسمى أو أكثر، لا ضمان عليهما للمستأجر أصلاً وإن أتلفا على المستأجر الأجر؛ لأنهما أتلفا (هـ) بعوض يعدله. فإن قيل: كيف يكون الإتلاف بعوض يعدله ولم يستوف المستأجر بإزاء ما وجب عليه من الأجر سوى مجرد المنفعة، ومجرد المنفعة لا قيمة لها من غير عقد ولا شبهة عقد، وإذا لم يجب على المستأجر ضمان ما استوفى من المنفعة حتى يلتقيا قصاصاً بما وقع، كيف الإتلاف بعوض؟. قلنا: مجرد المنفعة لا تتقوم من غير عقد ولا شبهة عقد كما قلتم، وإنما تتقوم بالعقد بقدر ما قوم، وقد حصل التقويم بالأجر المسمى بقضاء القاضي؛ لأن عقد الإجارة ثبت بقضاء القاضي في الظاهر والباطن عند أبي حنيفة وإن كان الشهود زوراً، وإذا ثبت التقوم عند أبي حنيفة بقدر الأجر وجب على المستأجر باستيفاء ما استوفى من الأجر وقد سلم ذلك له بما أدى، فكان إتلافاً بعوض، وعلى قول من يقول بأن عقد الإجارة يثبت بقضاء القاضي في الظاهر دون الباطن، فكذا الجواب في الظاهر وفي الباطن لا تثبت الإجارة ولا يثبت الإيجاب، فكان له أخذ قدر الأجر من مال الشاهدين في الباطن متى ظفر به. الفصل الثاني عشر: في الرجوع عن الشهادات على المال وعلى الدينوعلى الإبراء عن الدين وما يتصل بذلك ادعى على رجل مئة درهم وشهد له شاهد على إقرار المدعى عليه بدرهم، وشهد آخر على إقرار المدعى عليه بدرهمين، وشهد الآخر على إقرار المدعى عليه بثلاثة دراهم، وشهد آخر على إقرار المدعى عليه بأربعة دراهم، وشهد آخر على إقرار المدعى عليه بخمسة دراهم، فإن على قول أبي حنيفة: القاضي لا يقضي للمدعي بشيء، وعلى قولهما يقضي بأربعة إن زعمت الشهود أن الأقارير في مجلس واحد؛ لأن على الأربعة شاهدان وهو الشاهد الرابع والخامس، لأن الأربعة في الخمسة. ولا يقضي بالدرهم الخامس إذ ليس عليه إلا شاهد واحد وهو الخامس، وإن زعمت الشهود أن الأقارير كانت في مجالس مختلفة فعند أبي يوسف الآخر، وهو قول محمد رحمه الله، (.........) فيقضي بالأربعة أيضاً، وعند أبي يوسف الأول هذه أموال مختلفة فقضى له بسبعة، لأنه شهد على الأربعة شاهدان الرابع والخامس فيقضي بأربعة بشهادتهما، وشهد بالدرهمين اثنان الثاني والثالث فيقضى بالدرهمين شهادتهما، وشهد بالدرهم ثلاثة الأول والثالث والخامس فيقضي بالدرهم بشهادتهم، فقد ضم إلى الشاهد الأول الشاهد الثالث

والخامس ولم يضم إليه الشاهد الثاني والرابع، وإنما فعل هكذا لأن جميع ما شهد به الثاني وهو اثنان قد قضى به مرة، وجميع ما شهد به الرابع وهو أربعة قد قضى بها مرة، والشاهد متى قضي بجميع ما شهد به مرة لا يقضى بشهادته ثانياً، فأما الخامس فما قضي بجميع ما شهد به مرة؛ لأنه شهد بالخمسة وقد قضي بشهادته بالأربعة، وكذلك الثالث ما قضي بجميع ما شهد به مرة؛ لأنه شهد بالثلاثة وقد قضي بشهادته بالدرهمين، فلهذا ضم الخامس والثالث إلى الأول، ثم إذا قضي بسبعة دراهم عند أبي يوسف الأول، ورجع الشهود عن شهادتهم ضمن كل شاهد ما قضى القاضي بشهادته، فالأربعة حصل القضاء (بها) بشهادة الرابع والخامس، فيضمنان ذلك بالسوية، والدرهمان حصل القضاء بهما بشهادة الثاني والثالث فكان ضمان ذلك عليهما والدرهم الواحد حصل القضاء بها بشهادة الأول والثالث والخامس، فكان ضمان ذلك عليهم، وعند أبي يوسف الآخر وهو قول محمد لما قضى بأربعة دراهم كان ضمان الدرهم الأول عليهم أخماساً، لأن القضاء به وقع بشهادة الخمسة وضمان الدرهم الثاني يكون على الثاني والثالث والرابع والخامس أرباعاً؛ لأن القضاء به وقع بشهادة هؤلاء، وضمان الدرهم الثالث يكون على الثالث والرابع والخامس أثلاثاً؛ لأن القضاء به وقع بشهادة هؤلاء، وضمان الدرهم الرابع يكون على الرابع والخامس نصفان؛ لأن القضاء به وقع بشهادتهما. وفي «المنتقى» رجل مات وترك مئة درهم، فادعى رجلان كل واحد منهما على الميت مئة درهم، وأقام شاهدين بمحضر من الوارث وقضى القاضي لكل واحد منهما بمئة درهم، وقسمت المئة المتروكة بينهما نصفان، ثم رجع شاهد أحد الرجلين عن خمسين درهماً، وقال: لم يكن له إلا خمسون درهماً غرما للغريم الآخر ثلث الخمسين، وذلك ستة عشر وثلثان؛ لأن في زعم الراجعين أن حق الآخر ضعف حق الذي شهدا له وأن الواجب المئة بينهما أثلاثاً، ثلثها وذلك ثلاثة وثلاثون وثلث للذي شهدا له، وثلثاها ستة وستون وثلثان للآخر، وإنما قسمت المئة بينهما نصفان بشهادتهما بالمئة، فصارا متلفين على الآخر ما زاد على ثلاثة وثلاثين إلى تمام خمسين، وذلك ستة عشر وثلثان وهو ثلث الخمسين، فيضمنان ذلك القدر. وفيه أيضاً: رجل مات وترك ألف درهم، فادعى رجل على الميت ألف درهم، وأقام على ذلك بينة، وادعى رجل آخر عليه ألف درهم أيضاً وأقام على ذلك بينة، وقضى القاضي بالألف بين المدعيين ثم رجعوا، ضمن كل شاهد خمسمئة، وإن رجع شاهد أحد المدعيين لم يضمنا للوارث شيئاً؛ لأن ههنا من قد استحق الألف كلها. ولم يذكر في «الكتاب» هل يضمنان للمدعي الآخر، وعلى قياس المسألة الأولى ينبغي أن يضمنا، وإن رجع بعد ذلك شاهدا المدعي الآخر، فهذا وما لو رجعوا جملة سواء مع المباشر إذا اجتمعا كان الضمان على المباشر إذا لم يصر الإتلاف منقولاً إلى المسبب؛ والإتلاف ههنا لم يصر منقولاً إلى المسبب؛ لأن الوكيل مختار في القبض وليس بمجبر عنه بخلاف القاضي؛ لأن القاضي مجبر على القضاء، فيصير فعله منقولاً إلى الشاهد.

وإذا شهد رجلان على رجل بألف درهم، وشهد رجل وامرأتان عليه بتلك الألف وبمئة دينار وقضى القاضي بالكل ثم رجع الفريق الثاني عن الدراهم دون الدنانير، فلا ضمان عليهم؛ لأنه قد بقي على الدراهم من يتم الحجة بشهادته وهو الفريق الأول، ورجوع الفريق الثاني عن الدراهم لا يكون رجوعاً عن الدنانير، فلهذا قال: لا ضمان عليهم، فإن رجعوا جملة فضمان الدنانير على الفريق الثاني خاصة، وضمان الدراهم على الفريق الأول والثاني نصفان؛ لأن الدراهم تثبت بشهادة الفريقين جميعاً. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : أربعة شهدوا على رجل بأربعمئة درهم وقضى القاضي بها، ثم رجع واحد منهم عن مئة، وواحد منهم عن مئتين وواحد منهم عن ثلاثمئة وبقي شاهد واحد لم يرجع، فإن على الراجعين خمسون درهماً أثلاثاً، وهذا لأن العبرة في هذا الباب لبقاء من بقي من الشهود لا لرجوع من رجع، والشهادة قد بقيت بمقدار ثلاثمئة وخمسين؛ لأن الراجع عن مئة منها بقي شاهداً بثلاثمئة، والذي لم يرجع بقي شاهداً بأربعمئة، فيبقى على ثلاثمئة شهادة شاهدين، فلا يجب ضمانهما على أحد، وأما المئة الزائدة فعليها شاهد واحد، وهو الذي لم يرجع أصلاً، فيبقى ببقائه نصفها، وذلك خمسون فعرفت أن التالف بمقدار خمسين، فيجب على الراجعين هذا القدر، ويجب عليهم ذلك أثلاثاً؛ لاستوائهم في إيجابه، ولو رجع الرابع أيضاً عن الأربعمئة، فإن عليهم ضمان مئة وخمسين؛ لأن الشهادة قد بقيت بمقدار مئة وخمسين؛ لأن الراجع عن مئة بقي شاهداً بثلاثمئة، والراجع عن مئتين بقي شاهداً بمئتين، فبقي على المئتين ههنا شاهد واحد وهو الراجع عن المئة، فبقي ببقائه نصفه وذلك خمسون، فعرفت أن التالف بمقدار مئة وخمسين، فيجب على الراجعين ضمان ذلك، غير أن ضمان المئة يجب عليهم أرباعاً لاستوائهم في إيجابها (169أ4) والرجوع عنها وأما ضمان الخمسين، فلا يجب شيء منه على الراجع عن المئة؛ لأنه لم يرجع عن المئة التي هي الخمسون نصفها، بل بقي هو على الشهادة فيها، ولأجله بقي نصفها، ولكن يجب على الراجعين الباقين أثلاثاً؛ لاستوائهم في إيجابها والرجوع عنها. قال في «الأصل» : وإذا شهد أربعة على رجل بحق، شهد اثنان عليه بخمسمئة، وشهد اثنان بألف وقضى القاضي بشهادتهم، ثم رجع أحد شاهدي الألف، فإن عليه ربع الألف؛ لأن نصف الألف، وذلك خمسمئة تفرد بها شاهدا الألف، وقد بقي على ذلك صاحبه، وبه يقوم نصف الحق، فكان التالف بشهادة هذا الراجع عن الخمسمئة التي تفرد بإيجابها نصفها وهو الربع الألف، وإن رجع معه شاهد الخمسمئة فعليه ربع الألف خاصة لما بينا، وعليه وعلى شاهدي الخمسمئة ربع الألف أثلاثاً؛ لأن الشهود على الخمسمئة أربعة وقد بقي من يقوم به نصفها، وهو أحد شاهدي الألف، فكان التالف برجوع هؤلاء من الخمسمئة نصفها، فيجب ضمان ذلك عليهم أثلاثاً، وإن رجع أحد شاهدي الخمسمئة وحده أو رجعا، فلا ضمان عليهما؛ لأنه قد بقي على هذه الخمسمئة شاهدا الألف، وإن رجعوا جملة فعلى شاهدي الألف ضمان الخمسمئة التي تفرد

الفصل الثالث عشر: في رجوع الشاهدين عن الشهادة في المواريث

بإيجابها، والخمسمئة الأخرى ضمانها على الفريقين أرباعاً؛ لأنها تثبت بشهادة الفريقين، وإن رجع أحد شاهدي الخمسمئة وشاهدا الألف فإن على شاهدي الألف نصف الألف خمسمئة، وعليهما وعلى شاهدي الخمسمئة ربع الألف أثلاثاً؛ لأن الخمسمئة الأخرى ثبتت بشهادة الأربع وقد بقي عليها من يقوم به نصفها، فكان التالف من الخمسئة الأخرى نصفها وهو ربع الألف فيكون ذلك على الراجعين أثلاثاً، وإن رجع أحد شاهدي الألف وأحد شاهدي الخمسمئة كان على أحد شاهدي الألف ربع الألف ولا شيء على أحد شاهدي الخمسمئة والله أعلم. الفصل الثالث عشر: في رجوع الشاهدين عن الشهادة في المواريث قال محمد رحمه الله: رجل مات وترك عبدين وأمة وأموالاً، فشهد شاهدان لرجل أنه أخ هذا الميت لأبيه وأمه، ووارثه لا وارث له غيره، فقضى القاضي له بالعبدين والأمة والأموال ثم شهد شاهدان بعد ذلك لأحد العبدين بعينه أنه ابن الميت، وأجاز القاضي شهادتهما وأعطاه الميراث وحرم الأخ عن الميراث، ثم شهد آخران أن العبد الباقي ابن الميت وأجاز القاضي ذلك كله وجعله وارثاً مع الأول وقسم المال بينهما نصفين ثم شهد شاهدان أن الميت أعتق هذه الأمة في حياته وصحته وتزوجها، وقضى القاضي بنكاحها، وقضى لها الثمن بالمهر وجعل لها الثمن وكل واحد يجحد صاحبه أن يكون وارثاً، ثم رجع الشاهدان اللذان شهدا بالابن الأول عن شهادتهما، فإنهما يضمنان جميع قيمة الابن الأول للابن الثاني والأمة بينهما أثماناً، سبعة أثمانها للابن الثاني، وثمنها للمرأة، ويضمنان جميعاً ما ورثه الابن الأول للابن الثاني؛ ولا يضمنان للمرأة من ميراث الأول شيئاً، أما يضمنان جميع قيمة الابن الأول للابن الثاني والمرأة؛ لأن في زعمها عند الرجوع أنهما أتلفا الابن الأول على الميت، وأنهما ضمنا قيمته وصار ذلك ميراثاً للابن الآخر والأمة على ثمانية أسهم، لأن في زعمهما أن الابن الأول لم يكن وارثاً ولم يصر وارثاً بقضاء القاضي؛ لأن الأب ميت والنسب لا يثبت بقضاء القاضي بشهادة الزور بعد موت الأب، فصارا مقرين للابن الثاني والأمة بجميع القيمة على ثمانية أسهم وقد صدقهما الابن الثاني، والأمة في ذلك حيث جحدا (.d ..) الابن الأول، وأما يضمنان جميع ما ورثه الابن الأول للابن الثاني لأنهما بشهادتهما أتلفا على الابن الثاني ذلك؛ لأن الشهادة حصلت بعد موت الأب، فكان استحقاق الابن الأول الميراث مضافاً إلى شهادتهما ولا يضمنان للمرأة من ذلك شيئاً، لأنهما لم يتلفا على المرأة شيئا من حقها في الميراث؛ لأن حقها ثمن جميع المال سواء كان للميت ابن واحد أو أكثر من ذلك وقد استوفت ثمنها من جميع أموال الميت، إنما لم تستوف من قيمة الابن الأول؛ لأنها

ظهرت بعد موت الزوج، فيستوفي الابن ذلك ليتم حقها، وإذا استوفت المرأة تمام حقها لا يضمنان لها شيئاً، وكذلك لا يضمنان للأخ شيئاً؛ لأن ما استحق بشهادتهما على الأخ استحق عليه بشهادة غيرهما وهو شاهد الابن الثاني ففي حق الأخ بقي على الشهادة حجة تامة في حق استحقاق الإرث عليه هذا الذي ذكرنا إذا كان يكذب بعضهم بعضاً يزعم أنه هو الوارث دون غيره، فأما إذا صدق بعضهم بعضاً في كونه وارثاً والباقي بحاله، فإن شهدا للابن الأول لا يضمنان للابن الثاني ولا للمرأة شيئاً، وإن صارا مقرين عند الرجوع أنهما أتلفا للابن الأول وما ورثه الابن الأول على الابن الثاني والأمة، لأن الابن الثاني والأمة لما صدقا الابن الأول في دعواه أنه ابن الميت، فقد كذبا الشاهدين فيما أقرا لهما من الضمان، والإقرار يبطل بتكذيب المقر له، وكذلك لا يضمنان للأخ شيئاً وإن رجع شاهدا الابن الثاني أيضاً، فإنهما يضمنان قيمة الابن الثاني للابن الأول ولا يضمنان للأمة شيئاً من الميراث لما ذكرنا في المسألة الأولى، وهذا إذا كان يكذب بعضهم بعضاً فأما إذا كان يصدق بعضهم بعصاً، فلا ضمان عليهما للابن الأول ولا للمرأة لما ذكرنا وكذلك لا يضمنان للأخ شيئاً، فإن رجع شاهدا المرأة أيضاً ضمنا قيمة المرأة بين الابن الأول والثاني نصفين ويضمنان المهر وما ورثته الأمة أيضاً بينهما، وهذا إذا كان يكذب بعضهم بعضاً، فأما إذا كان يصدق بعضهم بعضاً، فلا ضمان عليهما في شيء من ذلك لما ذكرنا وهذا الذي ذكرنا إذا كان ثبت وراثة كل واحد منهم بشهادة شاهدين على حدة، فأما إذا ثبت وراثة الكل بشهادة شاهدين بأن شهد شاهدان بنسب الابن الأول والثاني وبعتق الأمة ونكاحها وقضى القاضي بذلك، وكان ذلك بعد موت المولى ثم رجعا عن شهادتهما جملة. فالجواب فيها أن حق الضمان للابنين والمرأة كالجواب في المسألة الأولى حتى إذا جحد بعضهم بعضاً يضمنان قيمة الابن الأول بين الابن الثاني والمرأة على ثمانية أسهم، ويضمنان ميراث الابن الأول للابن الثاني ولا يضمنان للمرأة من ذلك شيئاً ويضمنان قيمة الابن الثاني بين الابن الأول والمرأة أثماناً، ويضمنان ميراث الابن الثاني للابن الأول، ولا يضمنان للمرأة من ذلك شيئاً، سواء شهدا بذلك في أوقات مختلفة، بأن شهدا للابن الاول وقضى القاضي بذلك ثم شهدا بعد ذلك للابن الثاني والمرأة، أو شهدا بذلك في وقت واحد بعد أن شهدا بنسب كل ابن بدعوة على حدة بأن شهدا أنه ادعى هذا، ثم ادعى الآخر؛ لأن الفريق وإن كان واحداً من حيث الحقيقة فمن حيث الحكم فرق؛ لأن الثابت بشهادة الفرق ضرورة كل ابن مشهوداً له ومشهوداً عليه، فإن الأكبر كما صار مشهوداً له على الأصغر صار مشهوداً عليه الأصغر وقد ثبت بالفريق الواحد وإذا صار الفريق الواحد فرقاً معنى، كان الجواب في حق الضمان بين المرأة وبين الابنين كالجواب فيما إذا كانوا فرقاً، إذا جحد البعض ضمن الشاهدان على نحو ما بينا، وإن صدق بعضهم البعض، فلا ضمان على الشاهدين على نحو ما بيّنا في الفرق، ففي حق هذا الحكم لا فرق، وإنما الفرق بين الفرق والفريق الواحد في ضمان الأخ، ففيما إذا كان المشهود فرقاً لا يضمن الراجعان للأخ شيئاً وإن أقر الراجعان بوراثة الأخ، وفيما إذا كان الفريق واحداً ضمنا للأخ إذا أقرا بوراثته.

ووجه الفرق أن الشهود إذا كانوا فرقاً إنما لا يضمن الراجع للأخ شيئاً؛ لأن من حجته أن يقول للأخ لولا شهادتنا (169ب4) . لكان الحرمان ثابتاً لك بشهادة الفريق الآخر، فما أتلفت عليك، ولا يمكن للفريق الواحد أن يحتج على الأخ بهذه الحجة، لأنه لولا شهادتهم لم (يكن) الحرمان ثابتاً بشهادة غيرهم، إذ ليس ههنا فريق آخر فالحرمان في حق الأخ ثابت بشهادتهما، وتبين أنهما شهدا بباطل فيضمنان ذلك للأخ. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل مات وترك في يدي رجل ألف درهم وديعة والرجل مقر بها، جاء رجل وادعى أنه عم الميت أخ أبيه وأمه لا وارث له غيره وأقام على ذلك بينة، والعم مقر بأن صاحب اليد مودع الميت، فإن القاضي يجعل المودع خصماً للعم، فرق بين هذا وبينما إذا كان في يد إنسان وديعة لرجل، جاء رجل وادعى انه اشترى هذه الوديعة من المالك، وأنكر المودع الشراء، فأقام المدعي بينة على الشراء من صاحب الوديعة، فإن المودع لا يجعل خصماً له. والفرق ما أشار إليه محمد رحمه الله في «الكتاب» : أن الوارث قائم مقام المورث خلف عنه في أملاكه وحقوق عقده الذي باشره، حتى يرد بالعيب ويرد عليه بالعيب، وكونه مودعاً لا يدفع خصومة من أودعه، فكذا لا يدفع خصومة من قام مقامه، ألا ترى أنه لا يدفع خصومة وكيل صاحب الوديعة؛ لكونه قائماً مقامه، فأما المشتري فليس بقائم مقام البائع، وليس بخلف عنه؛ لأنه بالشراء يثبت له ملك مبتدأ لا بطريق الخلافة من البائع، ولهذا لا يملك الرد على بائعه بالعيب، والمودع إنما ينتصب خصماً للمودع ولمن قام مقام المودع. ثم إذا قضى القاضي بهذه الشهادة ودفع المال إلى العم جاء رجل وأقام بينة أنه أخ الميت لأبيه وأمه لا يعلم له وارثاً غيره تقبل هذه الشهادة؛ لأنه لا منافاة بين هذه البينة وبين البينة الأولى، فإنه يجوز أن يكون للميت عم وأخ، وهذه البينة قامت على الخصم وهو العم؛ لأن المال في يده وهو يزعم أنه له، وينكر كونه للميت، فينتصب العم خصماً عنه إذا قضى القاضي بالشهادة الثانية يأخذ المال من العم ويدفعه إلى الأخ لأب وأم؛ لأن الأخ مقدّم على العم في الميراث. فإذا دفع المال إليه جاء رجل آخر وأقام البينة أنه ابن الميت لا يعلم له وارثاً غيره، قبل القاضي هذه البينة؛ لأنه لا منافاة بين هذه البينة وبينما تقدم من البيِّنتين وهذه البينة قامت على الخصم أيضاً لما قلنا في العم، وإذا قبل القاضي هذه البينة أخذ المال من العم ودفعه إلى الابن، وإذا دفع إلى الابن ثم رجع الشهود جميعاً عن الشهادة، فالقضاء ماضٍ ولا ضمان على شاهدي العم؛ لأن ما أتلف شهود العم مستحق بشهادة شهود الأخ والابن فلم يكن تلف ذلك مضافاً إلى شهود العم. فإن قيل: هذا إنما يستقيم أن لو بقي شهود الأخ والابن، على الشهادة، وقد رجعوا مع شهود العم. قلنا: رجوع شهود الأخ والابن إنما يعمل في حقهما ولا يعمل في حق شهود العم كما لا يعمل في حق المشهود عليه، وإذا لم يعمل في حقهم صار كأنهم لم يرجعوا عن

شهادتهم ولا ضمان على شهود الأخ أيضاً لما قلنا في شهود العم، وضمن شهود الابن للأخ ما أخذ الابن؛ لأنهم أتلفوا ذلك على الأخ، وذلك غير مستحق بشهادة غيرهم، فلهذا كان عليهم الضمان. وكذلك لو جاء الشهود جميعاً، إلى القاضي يشهدون على ما وصفنا قبل القاضي شهادتهم، وقضى بها؛ لأنه أمكن القضاء بالدعاوى كلها لعدم المنافاة وقد قامت الحجة على الكل، فيجب القضاء بالكل، ثم إذا قضى القاضي بشهادة الكل ورجعوا جميعاً عن شهادتهم، كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا شهدوا على (....) ، فلا يضمن شهود العم ولا شهود الأخ، ويضمن شهود ابن الأخ ما أخذ الابن. حكى الجصَّاص عن الشيخ الإمام أبي الحسن الكرخي رحمه الله أن ما ذكر محمد رحمه الله من الجواب في هذه المسألة أن شهود الابن يضمنون للأخ ما ورثه الابن على الإطلاق غير سديد؛ لأن الشهود متى عدلوا جملة لا يتمكن القاضي من القضاء بالعمومة والأخوة؛ لأنه قارن القضاء بها ما يمنع القضاء بها، وهو قيام البينة العادلة على البنوة؛ لأنها تمنع القضاء بالميراث لهما؛ لأنهما لا يرثان مع الابن، فإذا امتنع القضاء بالميراث امتنع القضاء بالأخوة والعمومة؛ لأن القضاء بالأخوة والعمومة من غير استحقاق ميراث أو نفقة لا يجوز، كما لو تجردت دعوى الأخوة والعمومة عن دعوى المال. وإذا لم يقض القاضي بالأخوة والعمومة فشهود الابن ما أتلفوا على الأخ شيئاً، فلا يضمنون بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك القضاء للأخ والعم قد صح؛ لأنه لم يقرن بالقضاء بهما ما يمنع القضاء بهما، أما ههنا فبخلافه. قال: إلا أن تكون تأويل المسألة أن يكون الأخ أعاد البينة بعد رجوع شاهدي الابن حتى تثبت أخوّته بما أقام من البينة ثانياً؛ لأنه أمكن للقاضي القضاء بالأخوة في هذه الصورة؛ لأن شهود الابن راجعون عن شهادتهم وقت أقامة الأخ البينة في المرة الثانية. أو يكون تأويل المسألة: أن الشهود شهدوا جميعاً إلا أن القاضي قضى للعم أولاً لظهور عدالة شهوده، ثم للأخ ثم للابن، فإن في هذه الصورة ينفذ قضاؤه، وإن كان سبيله أن لا يقضي حتى تظهر عدالة شهود الابن أو جرحهم، فأما إذا عدلوا معاً، فلا يصح ما ذكر من الجواب، والى هذا الطعن مال عامة مشايخنا وبعض مشايخنا صححوا المذكور في الكتاب وقالوا: شرط صحة دعوى الأخوة والعمومة والقضاء بهما دعوى حق لسببه لا استحقاق دعوى لسببه لا محالة، وكل واحد منهما ادعى حقاً بما ادعى من الأخوة والعمومة؛ لأن وقت دعواهما البنوة التي يثبت بها حرمان الأخ والعم غير ثابتة، فكان كل واحد منهما مدعى لنفسه حقاً بما ادعى من الأخوة والعمومة، فيقضي القاضي بأخوته وعمومته لوجود شرطه وإن لم يقض له بالمال لتقدم غيره عليه، ألا ترى أنه يقضى بأخوته وعمومته، فإن كان في التركة ديناً محيطاً وهو نظير من يدعي الشفعة بالجوار ويثبت جواره

الفصل الرابع عشر: في رجوع الشاهدين عن الشهادة في الوصية

بالبينة، فالقاضي يقضي بذلك وإن كان هناك شريكاً مقدماً عليه. وفي «نوادر عيسى بن أبان» : رجل مات وترك أخاً معروفاً وترك عبدين وأمة، فشهد شاهدان لأحد العبدين أنه ابن الميت وشهد آخران للآخر أنه ابن الميت وشهد آخران للأمة أنها ابنة الميت، وقضى القاضي بشهادتهم وجعل الميراث بينهم ثم رجعوا عن شهادتهم لم يضمنوا للأخ شيئاً، ويضمن كل فريق من الشهود قيمة الذي شهدوا به وميراثه للأخوين، ولو كان الميت ترك أخاً معروفاً وعبداً وأمة، فشهد شاهدان للعبد أنه ابنه، وشهد آخران للأمة أنها ابنته، وقضى القاضي بشهادتهم وجعل الميراث كله بين الابن والابنة، ثم رجع الشهود جملة عن شهادتهم، فإن شاهدي الابن يضمنان للأخ نصف الميراث ونصف قيمة العبد، وللابنة سدس الميراث ونصف قيمة العبد من قبل أنه لولا شهادتهما لكان الميراث كله بين الأخ والابنة نصفان، ويضمن شاهدا الأمة قيمتها وميراثها للابن خاصة؛ لأنه لولا شهادتهم لكان جميع ذلك للابن. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل مات وترك ابن عم وترك ألف درهم في يد ابن العم، فأقام رجل البينة أنه أخوه وقضى القاضي له بالألف، ثم أقام رجل آخر بينة أنه ابنه وقضى القاضي له بالألف، ثم رجع شاهدا الأخ عن شهادتهما، فليس للابن والعم أن يضمنهما، وإن رجع شاهدا الابن بعد ذلك، فللأخ أن يضمن شاهدي الابن، فإذا أخذ الألف من شاهدي الابن، فلابن العم أن يضمن شاهدي الأخ الألف؛ لأن من حجته أن يقول لهما: إنما وصلت هذه الألف إلى الأخ بشهادتكما، وما لم يرجع شاهد الأخ وشاهد الابن فليس لابن العم ههنا شيء، وإن رجع شاهد الابن أولاً فللأخ أن يضمنهما، فإن رجع (170أ4) شاهدا الأخ بعد ذلك فلابن العم أن يضمنهما. رجل شهد عليه شاهدان أنه أقر أن هذا ابنه من أمته هذه، والرجل يجحد وقضى القاضي به ثم مات المشهود عليه، فشهد شاهدان بعد موته لصبي كان في يده من أمة له أن الميت أقر عندنا في حال حياته أن هذا الصبي ابنه من أمته هذه، فإن القاضي يقبل هذه الشهادة بمحضر من الابن الأول، ويثبت نسبه ويعتق أمه من جميع المال، ويعطيه نصف ما في يد الابن الأول، فإن رجع الشهود بعد هذا عن شهادتهم ضمن شاهدا الابن الثاني للابن الأول جميع قيمة الابن الثاني وقيمة أمه وما أخذ منه من الميراث؛ لأنهم شهدوا بنسب الابن الثاني بعد موت الأب، ويضمن شاهدا الابن الأول للثاني نصف قيمة الأول ونصف قيمة أمه؛ لأنهم شهدوا بنسبه حال حياة المولى واستمسكا هذا على الأب في حياته، ولا يضمنان له من ميراثه شيئاً، وقد مر جنس هذا فيما تقدم. الفصل الرابع عشر: في رجوع الشاهدين عن الشهادة في الوصية قال محمد رحمه الله في «الأصل» إذا مات الرجل فجاء رجل وادعى أن الميت

أوصى له بالثلث من كل شيء، فأقام على ذلك شاهدين وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعوا عن شهادتهما ضمنا جميع الثلث للورثة. وكذلك لو ادعى الوصية في حال حياة الميت وأقام عليها شاهدين فلم يختصموا في ذلك حتى مات الموصي، وقضى القاضي بشهادتهما بعد موت الموصي ثم رجعوا، فإنهم يضمنون الثلث للورثة، فقد أضاف الاستحقاق إلى الوصية التي ثبتت بشهادة الشهود ولم يضف إلى الموت، وإن كان لابد للاستحقاق بالوصية من الأمرين الموت والوصية، والموت آخرهما وجوداً وفي باب النسب أضاف الاستحقاق إلى الموت إذا كان الموت آخرهما وجوداً بأن كانت الشهادة بالنسب حال حياة الأب، وقد اختلف المشايخ في تخريج المسألتين: بعضهم قالوا: إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع، وإليه مال شيخ الإسلام رحمه الله. موضوع مسألة الوصية أن الشهادة بالوصية كانت حالة الحياة، والخصومة والقضاء بها كان بعد موت الموصي، والشهادة لا تصير موجبة إلا بالقضاء، فإذا وجد القضاء بعد الموت فكأنهما شهدا بالوصية بعد الموت، ولو كان كذلك كان الاستحقاق مضافاً إلى الوصية التي تثبت آخراً بشهادتهم لا إلى الموت، كذلك ههنا. وموضوع مسألة النكاح والنسب أن الشهادة والقضاء كانا في حالة الحياة، فلا يمكننا أن نجعلهما شاهدين بعد الموت لا حقيقة ولا اعتباراً، فكان الاستحقاق مضافاً إلى الموت الذي هو أحدهما وجوداً لا إلى النسب والنكاح الذي يثبت بشهادتهما. وأشار شمس الأئمة السرخسي إلى الفرق فقال: استحقاق الوصية عند الموت بالعقد لا بالموت، فإن ملك الموصى له متجدد ثابت بالعقد فلا يمكن إضافته إلى الموت بخلاف الميراث، فإنه خلافه على معنى أنه يبقى للوارث ما كان من الملك ثابتاً للمورِّث، وهذه الخلافة لا تتحقق إلا بالموت، فأمكن إضافته إلى الموت. وإذا شهدوا أنه أوصى بهذا الخادم لهذا الرجل وقضى القاضي بشهادتهم ووطئها الموصى له، فعلقت منه ثم رجعوا عن شهادتهم، فإنهم يضمنون قيمة الأمة يوم قضاء القاضي بها؛ لأنهم أزالوا الأمة عن ملكه بغير عوض، فيضمنون قيمتها للورثة ولا يضمنون قيمة الولد ولا العقر؛ لأن العقر إنما يجب بدلاً عما استوفى الموصى له من منافع البضع بسبب شهادة الشهود وقد ضمن الشهود ذلك حين ضمنوا القيمة يوم القضاء؛ لأن منافع البضع ألحقت بسائر أجزائها من حيث الحكم، فكما دخل ضمان سائر الأجزاء في ضمان القيمة، فكذا ضمان منافع البضع تدخل في ضمان القيمة، فإن وقع الاختلاف بين الشهود وبين الورثة في قيمة الجارية يوم القضاء، فقال الشهود: كانت قيمتها يوم القضاء ألف درهم، وقالت الورثة: لا بل كانت ألفي درهم فإن كانت الجارية ميتة فالقول قول الشهود؛ لأن الورثة يدعون عليهم زيادة قيمة وهم ينكرون، وإن كانت الجارية قائمة بحكم الحال فإن كانت قيمتها في الحال ألفي درهم فالقول قول الورثة، وإن كانت قيمتها في الحال ألفاً فالقول قول الشهود؛ لأنهما اختلفا في قيمتها فيما مضى وأمكن تحكيم

الحال؛ لأن القيمة قائمة للحال فيجب تحكيم الحال كما في مسألة الطاحونة. وإن كانت قيمتها في الحال ألفي درهم وأقام الشهود بينة أن قيمتها يوم القضاء كانت ألف درهم أخر ببينتهم، وكذلك إذا كانت قيمتها في الحال ألف درهم وأقام الورثة بينة أن قيمتها يوم القضاء كانت ألفي درهم أخر بينتهم؛ لأنه لا عبرة لتحكيم الحال متى جاءت البينة بخلافة، كما في مسألة الطاحونة، وإن أقاموا جميعاً البينة فالبينة بينة الورثة؛ لأن في بينتهم زيادة إثبات في قيمتها فيما مضى. وإذا شهد الشهود أن الميت أوصى إلى هذا الرجل، وقضى القاضي بشهادتهم ثم رجعوا، فلا ضمان عليهم؛ لأنهما ما أتلفا على الميت ولا على الورثة شيئاً بشهادتهما، إنما نصبا من يحفظ المال عليهم. قال: رجل مات وترك ابناً وثلاثة آلاف درهم، فادعى رجل وهو الأكبر أن الميت أوصى له بثلث ماله، وأقام على ذلك بينة، وادعى رجل آخر وهو الأوسط بمثل دعواه، وأقام على ذلك بينة وادعى رجل آخر وهو الأصغر بمثل دعواهما، وأقام على ذلك بينة والوارث يجحد ذلك كله والموصى لهم يجحد كل واحد منهم وصية صاحبه، وزكت البينات وقضى القاضي بالثلث بينهم أثلاثاً؛ لاستوائهم في الدعوى والحجة وازدحام الحقوق في الثلث الذي اقتصرت الوصايا عليهم عند عدم إجازة الورثة، فإذا قضى القاضي به ثم رجعوا جميعاً عن شهادتهم، لم يضمنوا للابن شيئاً؛ لأن كل فريق يحتج على الابن ويقول: لولا شهادتنا لكان الثلث مستحقاً عليك بشهادة الفريقين الآخرين، ورجوع كل فريق يقتصر عليه ولا يظهر في حق غيره، فيجعل في حق كل فريق كأن الفريقين الآخرين لم يرجعا عن الشهادة، ويضمن كل فريق للموصى لهما اللذين لم يشهد لهما هذا الفريق ثلث الثلث؛ لأن في زعم كل فريق أنه لولا شهادتنا لكان الثلث بين الموصى لهما اللذين لم يشهد لهما نصفين، فإنما تلف على كل واحد منهما نصف الثلث وهو سدس الكل بشهادتنا، فيضمنان ذلك، ولو عدلت شهود الأكبر أولاً وقضى القاضي به بكل الثلث؛ ثم عدلت شهود الأوسط وقضى القاضي له بنصف ما أخذ الأكبر، ثم عدلت شهود الأصغر وقضى القاضي له بثلث ما أخذ، ثم رجعوا فالجواب فيه كالجواب في المسألة الأولى. فإن قيل: ينبغي أن يضمن شهود الأوسط للأكبر في هذه الصورة نصف الثلث؛ لأنهم أتلفوا بشهادتهم نصف الثلث. قلنا: نعم إلا أن ثلث هذا النصف، وهو سدس الكل مستحق بشهادة شهود الأصغر، فلهذا لا يضمنون له نصف الثلث. ولو كان الأكبر ادعى الوصية لنفسه، وأقام على ذلك بينة وقضى القاضي ببينة الأكبر ودفع الثلث إلى الأكبر، ثم شهد آخران أن الميت رجع عن قضية الأكبر وأوصى بالثلث لهذا الرجل وهو الأوسط، وأخذ القاضي الثلث من الأكبر ودفعه إلى الأوسط بشهادة شاهده، ثم شهد آخران أن الميت رجع عن وصيته لهذا الأوسط وأوصى بالثلث لهذا الرجل وهو الأصغر، فأخذ القاضي الثلث من

الأكبر ودفعه إلى الأصغر، ثم رجع الشهود جميعاً عن الشهادة فالثلث سالم للأصغر، ولا ضمان للوارث على أحد من الشهود؛ لأن من حجة كل فريق أن يقول للوارث: لولا شهادتنا لكان الثلث مستحقاً عليك بشهادة الفريقين الآخرين، ويضمن شاهدا الأصغر للأوسط جميع الثلث؛ لأنه لولا شهادتهما لكان جميع الثلث مستحقاً للأوسط؛ لأنه ثبته بشهادة شهوده وصيته، والرجوع عن الوصية للأكبر ويضمن شاهدا الأوسط للأكبر نصف الثلث؛ لأنه لولا شهادتنا لكان الثلث بين الأكبر والأصغر نصفين، لأن شهود الأصغر ما أثبتوا رجوع الميت (170ب4) عن الوصية للأكبر، إنما أثبت ذلك شهود الأوسط فحصل التلف على الأكبر بشهادة شهود الأوسط، إلا أن شهود الأوسط يضمنون نصف الثلث لا جميع الثلث؛ لأن نصف الثلث مستحق بشهادة شهود الأصغر بالوصية للأصغر فلا يضمنان ذلك، فأما النصف الآخر صار مستحقاً على الأكبر بشهادة شهود الأوسط لا غير، فيضمنون ذلك النصف، ولا يضمن شاهدا الأكبر شيئاً؛ لأنهما ما شهدا على الأوسط، والأصغر إنما شهدا على الوارث، وقد ذكرنا أنهما لا يضمنان للوارث ولو لم يرجعا، ولكن وجد أحد شاهدي الأوسط عبداً فالثلث بين الأكبر والأوسط نصفان. لأن شهود الأكبر أثبتوا الوصية للأكبر، وشهود الأصغر أثبتوا الوصية للأصغر ولم يثبتوا الرجوع عن الوصية للأكبرو والأوسط خرج من البين، فيكون الثلث بين الأكبر والأصغر نصفان، قال: ولو ترك الميت ثلاثة أعبد قيمتهم على السواء، لا مال له غيرهم، شهد شاهدان أن الميت أوصى بهذا العبد الأكبر وقضى القاضي به؛ وشهد آخران أن الميت رجع عن الوصية الأولى وأوصى بهذا العبد الأوسط لفلان الأوسط، فقضى القاضي بشهادتهم وردت الوصية الأولى؛ وشهد آخران أن الميت رجع عن الوصية الثانية ثم رجعوا جميعاً عن الشهادة، لا ضمان على أحد منهم للوارث. أما على الفريق الأول: فلأن ما أتلفوا على الوارث بشهادتهم عاد إلى ملك الوارث بشهادة الفريق الثالث، فارتفع ذلك الإتلاف أيضاً، ولأن الفريق الثاني وإن أتلفوا على الوارث بشهادتهم العبد الأوسط، إلا أنهم عوضوا عنه للوارث العبد الأكبر، والإتلاف بعوض لا يوجب الضمان على الشاهد عند الرجوع، وأما الفريق الثالث: فلأنهم وإن أتلفوا على الوارث العبد الأصغر بشهادتهم إلا أنهم أتلفوا بعوض، وهو العبد الأوسط ولا ضمان على شهود الأكبر لواحد من الموصى لهم، ويضمن شاهدا الأوسط للأكبر نصف قيمة العبد الأكبر، وشاهدا الأصغر يضمنان للأوسط جميع قيمة الأوسط، ولو شهدا للأكبر أن الميت أوصى له بثلث ماله، فلم تظهر عدالتهما حتى شهد آخران أن الميت أوصى بثلث ماله لهذا الأوسط ورجع عن وصيته للأكبر، فلم يظهر عدالتهما أيضاً حتى شهد آخران أن الميت أوصى بثلث ماله لهذا الأصغر ورجع عن وصيته للأوسط، فعدل الشهود جميعاً، أو كانت الوصايا بالعبيد الثلاثة على ما بينا، قضى القاضي للأصغر بالثلث إن كانت الوصية بالثلث، وبالعبد الذي شهد له شهوده إن كانت الوصية بالعبد، ولا يقضي بالوصية للأكبر ولا للأوسط؛ لأنه قارن القضاء بها وهو قيام البينة العادلة على

الرجوع عن الوصية لهما، ولم يقارن القضاء بالوصية للأصغر مثل هذا المانع، فقضى بالوصية للأصغر ولم يقض بالوصية للأكبر والأوسط لهذا، فإذا قضى القاضي بذلك ثم رجع الشهود جميعاً عن الشهادة ضمن شهود الأصغر للوارث الثلث إن كانت الوصية له بالثلث، وقيمة العبد إن كانت الوصية له بالعبد. فرق بين هذا وبينما إذا كانت الشهادات على التفاريق والتعديل والقضاء بها على التفاريق، ثم رجعوا حيث لا يضمن شهود الأصغر للوارث شيئاً على ما مر قبل هذا، والفرق: أن ثمة شهود الأصغر ما أتلفوا على الوارث شيئاً، فإن بشهادتهم لم يستحق الأصغر شيئاً على الوارث، إنما استحق على الأوسط؛ لأن القاضي قضى للأوسط بالثلث قبل القضاء للأصغر، وشهادتهم بالرجوع عن الوصية للأوسط لا يوجب عود الثلث إلى الوارث إذا اقترن بذلك شهادتهم بالوصية للأصغر، ولهذا قلنا إن الوارثين إذا شهدا أن الميت رجع عن وصيته لفلان، وأوصى لهذا الثاني تقبل شهادتهما، ولو كانت الشهادة بالرجوع عن الوصية الأولى عند اقتران الشهادة بالوصية الثانية بها يوجب عود الموصى به إلى الورثة، لكانت هذه الشهادة لأنفسهما، فينبغي أن لا تقبل هذه الشهادة، فعلم أن شهادة شهود الأصغر بالرجوع عن الوصية للأصغر لا توجب عود الثلث إلى الوارث إذا اقترنت به شهادتهم بالوصية للأصغر، بل ينتقل الثلث بشهادتهم من الأوسط إلى الأصغر، ولما كان هذا لم يكن التلف حاصلاً على الوارث بشهادة شهود الأصغر، فلهذا لا يضمنون للوارث، أما ههنا القاضي لما لم يقض الثلث للأكبر وللأوسط، بقي الثلث على ملك الوارث من حيث الظاهر، فصار شهود الأصغر بشهادتهم متلفين على الوارث ذلك فيضمنان ذلك للوارث، فإن أراد الأوسط تضمين شهود الأصغر لعلمه أنهم شهدوا برجوع الميت عن وصيته، ورجعوا عن شهادتهم، فإن القاضي يقول للأوسط: أقم بينة على وصيتك وخصمك على شهود الأصغر، لأن القاضي لم يقدر على القضاء بالوصية للأوسط وقت ظهور عدالة شهوده؛ لأنه قارن القضاء بالوصية له ما يمنع القضاء بها على ما مر، ولم يقدر على القضاء بتلك البينة الآن؛ لأن بينته رجعوا أيضاً، فلابد من أقامة بينة أخرى، فإذا أقام بينة أخرى حينئذٍ أمكن للقاضي القضاء بالوصية له؛ لارتفاع المانع من القضاء لما رجع شهود الأصغر عن شهادتهم، فيقضي القاضي بالوصية للأوسط ويظهر حينئذٍ أن شهود الأصغر أتلفوا على الأوسط بشهادتهم لا على الوارث، فيضمن شهود الأصغر للأوسط جميع الثلث إن كانت الوصية بالثلث، وقيمة العبد الموصى له إن كان الوصية بالثلث، ثم يرجع شهود الأصغر على الوارث بما أخذ الوارث منهم؛ لأنه تبين أن ما أخذ الوارث منهم أخذ بغير حق. وهو نظير رجل في يده عبد قيمته ألف درهم، فهلك في يده فأقرا أنه كان غصبه من فلان وضمنه القاضي قيمته للمقر له، قامت البينة أن العبد كان للآخر، وقضى القاضي بالقيمة لصاحب البينة، فالمقر يرجع على المقر له بما ضمن له كذا ههنا، قال: وكذلك الموصى له الأكبر لو أراد تضمين شاهدي الأوسط لم يكن له ذلك إلا أن يقيم البينة

عليهما بحقه، فإذا أقامها قضى القاضي له بنصف الثلث على شهود الأوسط؛ لأنه تبين أنهما أتلفا على الأكبر نصف الثلث على ما مر في المسألة المتقدمة، ولا يضمن واحد منهم شيئاً للوارث لما مر قبل هذا. رجل أوصى بثلث ماله لرجل ثم مات الموصي ودفع القاضي الثلث إلى الموصى له، ثم شهد شاهدان أن الميت قد كان رجع عن هذه الوصية، وقضى القاضي بالرجوع وأخذ الوارث الثلث من الموصى له، ثم شهد هذان الشاهدان أن الميت أوصى بالثلث لهذا الرجل الآخر وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا عن الشهادتين جميعاً، ضمنا الثلث مرتين، مرة للوارث ومرة للموصى له الأول؛ لأنهما أتلفا الثلث على الموصى له الأول بالشهادة على الرجوع عن وصية، وأتلفاه على الوارث بشهادتهما للموصى له الثاني. فرق بين هذا وبينما إذا شهدا بالرجوع عن الوصية الأولى وبالوصية الثانية جملة، وقضى القاضي بالرجوع وبالوصية الثانية، ثم رجعا عن الشهادتين جميعاً، فإنهما يضمنان ثلثاً واحداً للموصى له الأول، ولا يضمنان للوارث شيئاً، والفرق وهو أنهما إذا شهدا بالرجوع والوصية الثانية جملة، فالثلث لا يعود إلى ملك الوارث بل ينتقل من الموصى له الأول إلى الثاني، فيكون التلف حاصلاً على الموصى له الأول لا على الوارث، أما ههنا الثلث قد عاد إلى ملك الوارث لما شهدا بالرجوع مفرداً، وقضى القاضي بشهادتهم، فإذا شهدا بالوصية الثانية بعد ذلك بزور، فقد أتلفا الثلث على الوارث، وقد أتلفاه على الموصى له الأول بالشهادة على الرجوع، فصارا متلفين الثلث مرتين فضمناه مرتين لهذا. فإن قيل: لم لا يصير ما أدخلاه الشاهدان في ملك الوارث بالشهادة على الرجوع عن الوصية الأولى عوضاً عما أخرجاه عن ملكه بالشهادة الثانية. قلنا: لأن الإخراج مع الإدخال حصلا بشهادتين مختلفتين، فالإدخال حصل بالشهادة بالوصية الثانية، والتعويض إنما يكون عند اتحاد سبب الإدخال والإخراج. كما لو شهدا على (171أ4) رجل ببيع عبد قيمته ألف بألف، أما عند تفرق السبب فلا، ألا ترى أنهما إذا شهدا لزيد على عمرو بألف درهم ثم شهدا بعد ذلك لعمرو على زيد بألف درهم، ثم رجعا عن الشهادتين ضمنا لهما. وإن أدخلا في ملك واحد منهما مثل ما أخرجا عن ملكه ما كان الطريق إلا ما قلنا أن السبب قد تفرق، وعند تفرق السبب التعويض يمتنع. ولو شهدا بالرجوع عن الوصية الأولى فلم يقض القاضي بشهادتهما حتى شهدا بالوصية الثانية، فقضى القاضي بذلك جملة ثم رجعا عن الشهادتين لم يضمنا للوارث شيئاً، كما لو حصلت الشهادتان بالأمرين جملة؛ لأن القضاء بالأمرين إذا وقع جملة، فالثلث لا يعود إلى ملك الوارث لقيام ما يمنع العود إلى ملك الوارث وهو القضاء بالوصية للثاني. قال: ولو شهدا بالرجوع عن الوصية الأولى وبالوصية الثانية معاً، وقضى القاضي بالأمرين ثم رجعا عن الشهادة بالوصية الثانية خاصة، سألهما القاضي أترجعان عن

الشهادة على الرجوع عن الوصية الأولى؟ وهذا سؤال حسبة وليس بواجب، وهذا لأنهما لما رجعا عن بعض الشهادة ثبت احتمال الرجوع عن الباقي، فصار الموضع موضع الاحتياط، وفي هذا السؤال فائدة؛ لأنهما لو لم يرجعا عن الشهادة على الرجوع عن الوصية الأولى يجب القضاء بالثلث للوارث عند رجوعهما عن الشهادة بالوصية الثانية، وإذا قضى القاضي بذلك تبقى الشهادة على الرجوع مفردة، فإن رجعوا بعد ذلك عنها ضمنوا الثلث مرة أخرى للموصى له الأول لما تبين، فتكرر الضمان على الشهود. ولو رجعا عن الشهادة على الرجوع قبل قضاء القاضي بالثلث للوارث ضمنوا الثلث للموصى له، ولا يضمنان للوارث لما تبقى، فقد أفاد السؤال بيان المستحق وتخفيف الأمر على الشهود، وتحقيق النظر، فلهذا سألهما القاضي. فإن قالا: نحن ثابتان على شهادتنا بالرجوع يضمنان الثلث للوارث؛ لإقرارهما أن الشهادة بالوصية الثانية كانت باطلة، وأن الثلث كان للوارث، وأنهما أتلفاه على الوارث بشهادتهما بغير عوض. وإن قالا: نحن راجعان عن تلك الشهادة أيضاً، فإن كان ذلك بعد قضاء القاضي عليهما بالثلث للوارث ضمنا للموصى له ثلثاً آخر؛ لأنهما لما رجعا عن شهادتهما على الرجوع بعدما قضى القاضي عليهما بالثلث للوارث، فقد أقرا بشيئين يضمنان الثلث على أنفسهما للموصى له الأول؛ لإتلافهما ذلك عليه، وبثبوت ولاية استرداد ما دفعا إلى الوارث لأنفسهما؛ لأنهما يقولان: إتلاف الثلث حصل على الموصى له الأول لا على الوارث، فيصدقان فيما يقران على أنفسهما ولا يصدقان فيما يقران على الوارث، ولو كان ذلك قبل قضاء القاضي بالثلث للوارث ضمنا ثلثاً واحداً للموصى له الأول، ولا يضمنان للوارث شيئاً، وكان ينبغي أن يضمنا للوارث ثلثاً أيضاً، لأن الرجوع عن الشهادة بالوصية الثانية قبل الرجوع عن الشهادة بالرجوع عن الوصية الأولى إقرار بإتلاف الثلث على الوارث، ويضمنان الثلث للوارث والرجوع عن الشهادة على الرجوع بعد ذلك إقرار للموصى له الأول بالثلث رجوع عما أقر للوارث، والإقرار صحيح، أما الرجوع عن الإقرار غير صحيح. والجواب أن يقول: الإقرار بالثلث للوارث غير مفصح به، وإنما يثبت ذلك في ضمن الرجوع عن الشهادة على الوصية الثانية، والرجوع عن الشهادة غير معتبر قبل اتصال القضاء به، فما ثبت في ضمنه من الإقرار أيضاً لا يكون معتبراً قبل اتصال، فإذا رجعا عن ذلك قبل اتصال القضاء به يعمل رجوعهما، فلو أن القاضي حين سألهما لم يثبتا بل سكتا، فالقاضي لا يجبرهما، لأن السؤال إنما كان نظراً للشهود وتخفيفاً عليهم، وهذا لا يقتضي الجبر، فإذا سكتوا ولم يثبتوا قضى القاضي بالضمان للوارث؛ لأنهم شهدوا بالرجوع عن الوصية الأولى، ولم يوجد الرجوع عن تلك الشهادة، والظاهر هو الثبات عليهما، فيكون الجواب فيه الجواب كالجواب فيما إذا صرحوا أنهم ثابتون على الشهادة بالرجوع عن الوصية الأولى، ولو أنهما رجعا على الشهادة على الرجوع ولم يرجعا عن

الشهادة بالوصية الثانية، فإن القاضي يضمنهما نصف الثلث للموصى له الأول؛ لأنهما صارا مقرين أن شهادتهما على الرجوع كانت باطلة وأن الميت أوصى للأول كما أوصى للثاني، وأن الثلث بينهما نصفان لولا شهادتنا بالرجوع عن الوصية الأولى، فصارا مقرين له بإتلاف نصف الثلث على الموصى له الأول بغير عوض، فإن رجعا بعد ذلك عن الشهادة على الوصية ضمنا نصف الثلث أيضاً للموصى له الأول؛ لأنهما صارا مقرين أن الشهادة على الوصية الثانية كانت باطلة، وأن الثلث كله كان للموصى له الأول لولا شهادتنا بالرجوع عن الوصية الأولى، فصارا مقرين له بإتلاف كل الثلث عليه إلا أنهما قد ضمنا نصف الثلث مرة، فيضمنان النصف الباقي، ولم يذكر ههنا أنهما متى رجعا عن الشهادة على الرجوع أن القاضي يسألهما أترجعان عن الوصية الثانية، بخلاف الفصل الأول. والفرق بينهما: أن في الفصل الأول القاضي إنما يسألهما لمعان، من جملة ذلك تعيين المستحق؛ لأنهما إن رجعا عن الشهادة على الرجوع بعد الرجوع عن الشهادة على الوصية الثانية قبل قضاء القاضي بالثلث للوارث، كان الثلث للموصى له الأول، وإن ثبتا على الشهادة على الرجوع كان الثلث للوارث، يسألهما القاضي لتعيين المستحق، أما ههنا بعدما رجعا عن شهادتهما على الرجوع المستحق معلوم، وهو الموصى له الأول على كل حال، وإنما الاشتباه في مقدار ما يجب له من ثلث أو نصف ثلث، فيقضي القاضي بالقدر المتيقن، ولا يسألهما عن الرجوع عن الشهادة الثانية لهذا. رجل مات وترك عبدين قيمة كل واحد منهما ألف درهم، وثلث ماله ألف درهم بأن ترك ألفاً أخرى، فشهد شاهدان أن الميت أوصى بهذا العبد لهذا الرجل الأكبر، ثم شهد آخران أن الميت أوصى بهذا العبد الآخر لهذا الأصغر، قضى القاضي لكل واحد من الموصى لهما بنصف عبده؛ لأن الوصيتين قد اجتمعتا والثلث قاصر عنهما، وليست إحدى الوصيتين بأولى من الأخرى، فيجب قسمة الثلث بينهما نصفين، وذلك بأن يعطي كل واحد من الموصى لهما نصف وصيته، فإن رجع الشهود جميعاً عن شهادتهم لا يضمنون للوارث شيئاً؛ لأن من حجة كل فريق أن يقول للوارث: نصف العبد الذي شهدنا به بقي على ملكك والنصف الآخر أخرجناه عن ملكك، فقد أخرجنا بعوض؛ لأنه لولا شهادتنا لكان العبد الآخر للموصى له الآخر وكل فريق لا يقدر على إخراج النصف الذي أخرجه عن ملك الوارث إلا بإدخال نصف العبد الآخر في ملك الوارث حتى لا تزيد الوصية على الثلث، فصار النصف المردود على الوارث بشهادة كل فريق عوضاً عن النصف الفائت بشهادتهم. وقد ذكرنا أن الإتلاف بعوض لا يوجب الضمان ويضمن كل فريق من الشهود للموصى له الآخر نصف عبده؛ لأنه أتلف النصف على الآخر بشهادتهم، فإنه لولا شهادتهم لسلم العبد كله للموصى له الآخر، ولو كان ثلث ماله ألفان بأن كان له سوى العبد أربعة آلاف درهم حتى خرج العبدان من الثلث سلم لكل واحد من الموصى لهما

عبده، فإن رجع الشهود جميعاً ضمن كل فريق للوارث قيمة العبد الذي شهد به؛ لأن كل فريق أزال العبد الذي شهد به عن ملك الورثة ولم يدخل في ملك الورثة بشهادته شيء، فكان هذا إتلافاً بغير عوض، ولا يضمن الشهود للموصى لهما شيئاً إذا سلم لهما العبدان، ولو كان ثلث ماله ألف وخمسمئة بأن كان له مال سوى العبدين ألفان وخمسمئة كان لكل واحد منهما ثلاثة أرباع عبده، فإن رجعوا جميعاً عن الشهادة ضمن كل فريق سبعمئة وخمسين درهماً، مائتان وخمسون من ذلك للموصى له الآخر، وخمسمئة منها للورثة؛ لأن كل فريق بشهادته أتلف على الوارث من العبد الذي شهدوا بوصية ثلاثة أرباعه، وذلك سبعمئة وخمسون، إلا أن مائتين وخمسين من ذلك عاد إلى الورثة عوضه؛ لأنه لولا (171ب4) شهادة هؤلاء كان العبد الآخر كله مستحقاً للموصى له الآخر، فإنما عاد ربعه إلى الورثة بشهادتهم، فصار عوضاً، فبقي مقدار خمسمئة متلفاً بغير عوض، فيضمنه كل فريق، وأما مائتان وخمسون للموصى له الآخر، لأنه لولا شهادة كل فريق لقضي للآخر بكمال كل العبد الذي أوصى له به، فإنما يقضي منه مقدار ربعه، وذلك قدر المائتين وخمسين درهماً بشهادة هؤلاء، فيضمون له ذلك القدر ولو كان قيمة أحد العبدين ألفان وقيمة العبد الآخر ألف، وثلث ماله ألفان بأن كان له سوى العبدين ثلاثة آلاف درهم قضى لكل واحد من الموصى لهما بثلثي عبده؛ لأن الوصيتين حصلتا بأكثر من الثلث، فيرد إلى الثلث عند عدم إجازة الورثة، وذلك ألفان، فيقسم الألفان بينهما على قدر حقوقهما، وحق أحدهما في ألفي درهم، وحق الآخر في ألف درهم فيقسم الألفان بينهما، ثلثاه لصاحب الألفين وذلك ألف وثلاثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث، وثلثه لصاحب الألف، وذلك ستمئة وستة وستون وثلثان، فلو رجع الشهود عن شهادتهم ضمن الذي شهد بالعبد الأرفع ألفاً وثلاثمئة وثلاثة وثلاثين، وثلث ألف من ذلك للورثة، وثلاثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث للموصى له الآخر، أما الألف للورثة؛ لأنهم وإن أخرجوا عن ملكهم ألفاً وثلاثمئة وثلاثة وثلاثون، وثلث فقد أدخلوا في ملكهم ثلاثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث؛ لأنه لولا شهادة هذا الفريق لكان يقضي بكل العبد الآخر للموصى له الآخر، فإنما عاد إلى الورثة ثلاثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث من العبد الآخر بشهادة هؤلاء، فلا يضمنون ذلك القدر، فكان المضمون عليهم قدر ألف درهم، وأما ثلاثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث للموصى له الآخر، فإنه لولا شهادة هذا الفريق لكان العبد الآخر مستحقاً للموصى له الآخر، فإنما يقضي عليه ثلاثمئة وثلاثة وثلاثون وثلث بشهادة هؤلاء، فيضمون ذلك القدر، قال وضمن الذي شهد بالعبد الأدون للموصى له الآخر ستمئة وستة وستون وثلثان، ولا يضمن للوارث شيئاً، أما لا يضمن للوارث؛ لأنه إنما استحق على الوارث بشهادة هذا الفريق ثلثا العبد الأدون، وقيمته ستمئة وستة وستون وثلثان وقد أدخلوا عوض ذلك في ملك الوارث عن العبد الأرفع وهو ثلث الأرفع، وأما يضمن للموصى له الآخر ستمئة وستة وستون وثلثان؛ لأنه لولا شهادة هذا الفريق لكان كل كل العبد الآخر، مستحقاً للموصى له الآخر فإنما يقضي عنه ستمئة وستة وستون وثلثان بشهادة هؤلاء، فيضمنون له ذلك القدر.

رجل مات وترك عبدين، قيمة كل واحد منهما ألف درهم وثلث ماله ألف درهم، شهد شاهدان أن الميت أوصى بهذا العبد لهذا الرجل وقضى القاضي به، ثم شهد آخران أن الميت رجع عن تلك الوصية وأوصى بهذا العبد الآخر لهذا الرجل الآخر وقضى القاضي به ثم رجع الفريقان جميعاً عن شهادتهما، فلا ضمان على الفريق الأول لا للورثة ولا للموصى له الآخر، أما للوارث فلأنهما، وإن أخرجا العبد الأول عن ملك الوارث، إلا أن القاضي لما قضى بالرجوع عن الوصية الأولى وأعاد العبد إلى الوارث فقد ارتفع ذلك الإخراج، وأما للموصى له الآخر؛ فلأن الفريق الأول ما شهدوا على الموصى له الآخر بشيء، والفريق الثاني يضمنون للموصى له الأول قيمة عبده؛ لإتلافهم العبد الأول عليهم بشهادتهم، ولا يضمنون للوارث شيئاً؛ لأنهم إن أخرجوا العبد الثاني عن ملك الوارث فقد أدخلوا العبد الأول في ملكه، بشهادتهم ولو كان العبدان يخرجان من الثلث، فلا ضمان على الفريق الأول لا للوارث ولا للموصى له الأول كما ذكرنا في الفصل الأول، وأما الفريق الثاني فيضمنون للموصى له الأول قيمة عبده لما ذكرنا في الفصل الأول ويضمنون أيضاً للورثة قيمة العبد الثاني، ولا يصير العبد الأول عوضاً عن العبد الثاني بخلاف ما سبق. والفرق: أن العبدين إذا كانا يخرجان من الثلث، فالفريق الثاني وإن أدخلوا العبد الأول في ملك الوارث بمقابلة إخراج العبد الثاني عن ملكه، إلا أنهم كانوا يقدرون على إخراج العبد الثاني عن ملك الوارث من غير إدخال العبد الأول في ملكه إذا كان العبدان يخرجان عن الثلث، ألا ترى أنهما لو شهدا بالوصية الثانية ولم يشهدا بالرجوع عن الوصية الأولى، فإنه ينفذ الوصية الثانية في جميع العبد الثاني، وإن لم يدخل شيء من العبد الأول في ملك الوارث، وإذا قدرا على إخراج العبد الثاني من ملك الوارث من غير إدخال الأول في ملكه لم يكن إدخال الأول منوطاً بإخراج الثاني، فلا يصلح عوضاً عن الثاني. أما إذا كان العبدان لا يخرجان من الثلث والفريق الثاني لا يقدرون على إخراج العبد الثاني عن ملك الوارث إلا بإدخال العبد الأول في ملكه إذ الوصيتان لا تخرجان من الثلث، فصار الإدخال الأول منوطاً بإخراج الثاني، فصلح عوضاً عن الثاني. ولو كان ثلث المال ألفاً وخمسمئة والمسألة بحالها فالفريق الثاني يضمنون للموصى له الأول قيمة العبد الأول لما مر، ويضمنون أيضاً للوارث نصف قيمة العبد الثاني، لأنهما أخرجا العبد الثاني عن ملك الوارث، أكثر ما فيه أنهما أدخلا العبد الأول في ملكه إلا أن النصف من العبد الأول لا يصلح عوضاً عن نصف العبد الثاني؛ لأنهم يقدرون على إخراج نصف العبد الثاني؛ عن ملك الوارث من غير إدخال شيء من العبد الأول في ملكه بخروج هذا القدر من الثلث، وإذا كان هكذا لم يكن إخراج أحد النصفين من العبد الثاني متعلقاً بإدخال نصف العبد الأول في ملكه، فلم يصر نصف العبد الأول عوضاً عن نصف العبد الثاني، فبقي إتلاف هذا النصف بغير عوض، فأما النصف الآخر

الفصل الخامس عشر: في رجوع أهل الذمة عن الشهادات

من العبد الثاني فالفريق الثاني لا يتمكنون من إخراجه عن ملك الوارث إلا بإدخال النصف من العبد الأول في ملكه؛ لكونه زيادة على الثلث فكان إخراج هذا النصف متعلقاً بإدخال النصف من العبد الأول في ملكه، فصلح عوضاً، فكان تلف هذا النصف بعوض، ولهذا قال ضمن الفريق الثاني للوارث قيمة نصف العبد الثاني. ولو كان ثلث المال ألفي درهم وقيمة العبد الأول ألف درهم، وقيمة العبد الثاني ألفي درهم والمسألة بحالها، فإن الفريق الثاني يعرضون للموصى له الأول قيمة العبد الأول ألفا لما مرّ، ويضمنون أيضا للورثة نصف قيمة العبد الثاني؛ لأن العبد الأول صار عوضاً عن النصف من العبد الثاني من قبل أن الفريق الثاني يتمكنون من إخراج النصف من العبد الثاني عن ملك الوارث من غير إدخال الأول في ملكه، ولا يتمكنون من إخراج النصف الآخر عن ملك الوارث إلا بإدخال الأول في ملكه، فصار الأول عوضاً عن أحد نصفي العبد الثاني لا غير.k وفي رواية ابن سماعة عن محمد رحمه الله: رجل مات، فشهد شاهدان أنه أوصى بعبده هذا لفلان وقضى القاضي له، ثم يشهد آخران أنه رجع عن وصيته لفلان الذي أوصى له بالعبد الأسود وعن كل وصية أوصى بها، وأنه أوصى، بهذا العبد الأبيض لفلان، وقضى القاضي له وأبطل الوصية من الأسود، ورده إلى الوارث، والوارث جاحد لذلك، ثم رجع الشاهدان اللذان شهدا بالعبد الأسود، فلا ضمان عليهما، وهذا ظاهر لأنهما بشهادتهما وإن أتلفا الأسود على الوارث إلا أن القاضي لما أبطل الوصية في الأسود بعد ذلك ورده إلى الوارث فقد ارتفع ذلك الإتلاف. قال: وإن رجع شاهدا الأبيض ضمنا للوارث قيمة الأبيض وضمنا بالمشهود له بالأسود قيمة الأسود، أما ضمان قيمة العبد الأسود للمشهود له بالأسود فهو ظاهر، وأما ضمان قيمة العبد الأبيض للوارث فهو مشكل وهو خلاف ما ذكرنا قبل هذا، لأن شهود الأبيض وإن أخرجوا الأبيض عن ملك الوارث فقد أدخلوا الأسود في ملكه. (172أ4) . الفصل الخامس عشر: في رجوع أهل الذمة عن الشهادات ذميان شهدا لذمي على ذمي بخمر أو خنزير بعينه أو مال، وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا، فعليهما قيمة الخنزير وخمر مثله؛ لأن الخمر والخنزير فيما بينهم بمنزلة الشاة والخل بين المسلمين، والجواب في الخل والشاة بين المسلمين أن الشاهد عند الرجوع يضمن مثل الخل وقيمة الشاة فكذا ههنا، وإن أسلم الشاهدان ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا قيمة الخنزير عندهم جميعاً، ولا يضمنان الخمر عند أبي يوسف، وعند محمد رحمه الله يضمنان قيمته؛ لأن الشهادة إتلاف حكمي فيعتبر بالإتلاف الحقيقي،

الفصل السادس عشر: في المتفرقات

والذمي إذا أتلف على ذمي خمراً أو خنزيراً ثم أسلم المتلف وهو المطلوب، ضمن قيمة الخنزير عندهم، وفي الخمر خلافه عرف ذلك في كتاب الغصب، ولو لم يسلم الشهود ولكن أسلم المشهود عليه، ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإنهما يضمنان قيمة الخنزير، ولا ضمان عليهما في الخمر عندهم؛ لأن المشهود عليه طالب؛ لأن الحق له قبل الشهود عند الرجوع، والمتلف عليه وهو الطالب إذا أسلم ولم يسلم المطلوب، ففي الخنزير القيمة، وفي الخمر لا ضمان أصلاً، عرف ذلك في كتاب الغصب فههنا كذلك. الفصل السادس عشر: في المتفرقات إذا ادعت المرأة على زوجها أنه صالحها من نفقتها على عشرة دراهم كل شهر، وقال الزوج صالحتها على خمسة دراهم كل شهر، فشهد شاهدان أنه صالحها على عشرة دراهم كل شهر، وقضى القاضي بذلك ثم رجعا عن شهادتهما، قال: ننظر إلى نفقة مثلها فإن كان عشرة أو أكثر، فلا ضمان عليهما للزوج؛ لأنهما متى اتفقا على الصلح واختلفا في بدله كان القول لمن يشهد له نفقة المثل، كما في النكاح عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وههنا نفقة مثلها يشهد لها، فيكون القول قولها، وصار عشرة دراهم مستحقة للمرأة على الزوج بقولهما، فهما بشهادتهما ما أوجبا على الزوج مالاً، فلهذا لا ضمان عليهما، وإن كان نفقة مثلها خمسة دراهم مثلاً، فإنهما يضمنان للزوج خمسة لما مضى؛ لأن المستحق على الزوج في هذه الصورة خمسة دراهم لولا شهادتهما، فهما بشهادتهما أوجبا على الزوج الزيادة على الخمسة، بحيث لا يمكنه دفعها عن نفسه؛ لأنه لا يمكنه رد الصلح فيما مضى، ولكن لا يضمنان في المستقبل؛ لأن رد هذا الصلح في المستقبل يمكن للزوج بأن يردها إلى نفقة مثلها، فإذا فرض القاضي على الزوج كل شهر لامرأته نفقة مثلها، فمضى لذلك سنة، ثم شهد شاهدان أنه قد أوفاها النفقة، وأجاز ذلك القاضي ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان ذلك للمرأة لأن نفقة المنكوحة يصير ديناً في الماضي بقضاء أو رضى وقد وجد القضاء ههنا، فصار نفقة ما مضى ديناً في ذمة الزوج، والتحقت بسائر ديونها، ولو شهدا باستيفاء دين آخر لها سوى النفقة، وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا ضمنا كذا ههنا. وقال: وكذلك الوالد وكل ذي رحم محرم ممن فرض القاضي له نفقة، هكذا ذكر في رجوع «الأصل» ، وهذا الجواب مستقيم على رواية «الجامع» ، نفقة المحارم تصير ديناً بقضاء القاضي، فأما لا يستقيم على رواية «الجامع» ، فإن على رواية النكاح نفقة المحارم لا تصير ديناً بقضاء القاضي فإذا لم تصر ديناً فيما مضى لم يصيرا شاهدين عليهما باستيفاء دين مستحق لهما على الزوج، فلا يضمنان عند الرجوع. وإذا طلق امرأته قبل الدخول بها ولم يفرض لها مهراً، فشهد شاهدان أن صالحها من المتعة على عبد ودفعه إليها وقبضته وهو ينكر ذلك، فقضى القاضي عليها بذلك، ثم

رجع الشاهدان عن شهادتهما، فإنهما لا يضمنان للمرأة المتعة ولا يضمنان لها قيمة العبد، بخلاف ما لو شهدا أنه صالحها من المتعة عن عبد ولم يشهدا على قبض العبد، وقضى القاضي لها بالعبد، ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان لها قيمة العبد. والفرق: أن في المسألة الأولى القاضي لم يقض لها بالعبد؛ لأن القضاء لها بالعبد مع قبض العبد لا يفيد، وإذا لم يقض لها بالعبد ظهر أنهما بشهادتهما أتلفا على المرأة المتعة لا العبد، فلا يضمنان عند الرجوع. أما في الفصل الثاني القاضي قضى لها بالعبد؛ لأن القضاء بالعبد لها ممكن؛ لأن حال ما يقضي لها بالعبد على الزوج لم تقم الشهادة على قبض العبد، فقضى لها بالعبد وصار حقها في العبد، فإذا رجعا فقد أتلفا عليها العبد، فضمنا لها قيمة العبد. وفي «المنتقى» : شاهدان شهدا على رجل أنه أقر لهذا المدعي أمس بألف درهم وقضى القاضي عليه وقبضها منه، ثم رجعا عن شهادتهما، فلما أراد القاضي أن يضمنهما الألف، قالا: نجيئك ببينة أن هذا الذي قضيت عليه قد أقر لفلان المقضي له بهذه الألف منذ سنة، قال: لا أقبل ذلك منهما وأضمنهما الألف؛ لأن الذي يدعي الحق غيرهما. ولو شهد شاهد على رجل أنه قد أعتق عبده منذ سنة وقد قضى، بعتق العبد ثم رجعا عن شهادتهما، فأراد القاضي أن يضمنهما قيمة العبد، فقال: نحن نجيء بشاهدين آخرين يشهدان أنه أقر بعتق عبده منذ عشر سنين، قال: قبل ذلك منهما استحساناً. وفي «نوادر عيسى بن أبان» : رجل ادعى جارية في يد رجل وابنة لها ادعى أنهما جاريتاه، وأنكر الذي في يده أن تكون الجارية للمدعي، وأن تكون الصبية ابنة للجارية، فجاء المدعي بشاهدين شهدا أن الجارية للمدعي وجاء بشاهدين آخرين شهدا أن الصبية بنت الجارية، فإن القاضي يقضي بالجارية وابنتها للمدعي، فإن قضى بذلك ثم رجع اللذان شهدا أن الجارية للمدعي، فإن القاضي يضمنهم قيمة الأمة وقيمة ولدها؛ لأن القاضي إنما قضى بالولد بشهادتهم أن الجارية جاريته؛ لأنه استحقاق من الأصل، فكل ما كان معها من مال أو ولد فهو تبع لها، فكأنهم شهدوا بالولد كما شهدوا بالجارية. قال: أرأيت رجلاً في يديه عبد تاجر كثير المال مات العبد وترك مالاً كثيراً، فجاء رجل وادعى أن العبد عبده، ليأخذ ما تركه العبد، وأنكر الذي في يده العبد أن يكون العبد للمدعي، وأن يكون المال للعبد، فجاء المدعي بشاهدين شهدا أن العبد للمدعي أودعه الذي كان العبد في يديه، وجاء بشهود كثير شهدوا أن المال للعبد، وقضى القاضي للمدعي بالعبد والمال، ثم رجع الذين شهدوا أن العبد للمدعي، فإنهم يضمنون المال للذين كان العبد والمال في يده، وطريقة ما قلنا. قال: ولو رجع الذين شهدوا بالجارية على ما وصفت لك وضمنهم القاضي قيمة الجارية وقيمة الولد ثم رجع الذين شهدوا أن الصبية ابنة الأمة، فالذين شهدوا بالأمة يرجعون على الذين شهدوا بالولد بقيمة الولد. قال: وهو بمنزلة رجل ادعى على رجل أنه قطع يده أنه خطأ، ومات منها وجاء

ببينة شهدوا على المدعى عليه أنه قطع يد ولي المدعي خطأ، ولم يشهدوا أنه مات منها، وجاء بشاهدين آخرين شهدا أنه مات من اليد، ولم يشهدا على القاطع بالقطع، فإن القاضي يقضي بدية المقتول على عاقلة القاتل، وإذا قضى بذلك ثم رجع الشهود على قاطع اليد خاصة، فإنهما يضمنان جميع الدية؛ لأنهما شهدا على الجناية نفسها، فإن قضى القاضي عليها بذلك ثم رجع اللذان شهدا أنه مات منها، فإن شهود قطع اليد يرجعون عليهم؛ لأنهم يقولون شهدنا على اليد وما شهدنا على النفس، وإنما صارت اليد نفساً علينا بشهادتكم، قلنا: أن يرجع بالدية عليكم. وكذلك لو أن رجلاً ادعى على رجل أنه قطع أصبعاً منه من المفصل خطأً، وأن كفّه شلت منها وأنكر المدعى عليه ذلك، فجاء المدعي بشاهدين شهدا أنه قطع إصبعه من المفصل خطأ، ولم يشهدا على الشلل وجاء بشاهدين آخرين شهدا أن كفه شلت منها، فإن القاضي يقضي على عاقلة القاطع بدية الكف، فإن قضى بذلك ثم رجع الشاهدان اللذان شهدا على قطع الأصبع، فإنهما يضمنان جميع أرش الكف، فإن ضمنا ذلك ثم رجع اللذان شهدا على شلل الكف، فإن شاهدي القطع يرجعان على شاهدي شلل الكف، بجميع أرش الكف، إلا أرش الأصبع (172ب4) فيكون الأصبع على اللذين شهداً بالضربة خاصة وهذا بمنزلة الأمة وولدها. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: إذا شهد شاهدان على عبد في يدي رجل لرجل وقضى القاضي بشهادتهما، ثم إن المشهود عليه اشترى العبد من المشهود له بمئة دينار، ثم رجع الشهود عن الشهادة، فالمشهود عليه يرجع على الشهود بالمئة إذا لم يصدقهما أن شهادتهما حق بعد أن رجعا عن الشهادة، وهذا لأن المشهود عليه لما اشتراه من المدعي فقد أقر أن الشهود شهدوا عليه بحق، فالشهود بالرجوع أكذبوا أنفسهم وزعموا أنهم ضامنون قيمة العبد، فإذا لم يصدقهما أن شهادتهما بحق، بل قال: شهدتما بباطل، فقد صدقهما فيما زعم، فرجع عليهما بمئة لهذا. وعنه أيضاً شاهدان شهدا على رجل أنه عبد فلان وهو يزعم أنه حر، وقضى القاضي به للمدعي، ثم إن المدعي كاتب العبد على مال معلوم وأداه إليه ثم رجع الشاهدان عن شهادتهما، قال: أضمنهما ما كاتبه المولى عليه إلا إذا ازداد المكاتبة على الدية فحينئذٍ لا ضمان عليهما في الزيادة على الدية. وإذا شهد شاهدان لرجل بعبد في يدي رجل والمشهود عليه يجحد ذلك، وقضى القاضي بشهادتهما ثم رجعا عن شهادتهما، وضمنهما القاضي القيمة فأدياها أو لم يؤديا حتى وهب المشهود له العبد للمشهود عليه، وقبضه المشهود عليه فقد برء الشاهدان عن الضمان، وإن كانا قد أديا الضمان رجعا على المشهود عليه بذلك؛ لأنه وصل إلى المشهود عليه بزعم المشهود عليه والشاهدين عين العبد الذي أزاله الشاهدان عن يده بحكم قديم ملكه لا بالهبة؛ لأن في زعمهم أن العبد لم يصر ملكا للمشهود له بقضاء القاضي، بل بقي على ملك المشهود عليه؛ لأن القاضي إنما قضى بالملك مرسلاً،

والقضاء بالملك المرسل ينفذ ظاهراً لا باطناً بالإجماع، فبقي العبد على ملك المشهود عليه بزعم الشاهدين والمشهود عليه، إلا أنهما كانا يضمنان قيمته لإزالة يد المشهود عليه من العبد؛ لأن إزالة اليد تكفي لإيجاب الضمان. كما في الغصب إذا ثبت هذا فنقول: إذا وصل العبد إلى المشهود عليه بالهبة وقد وصل إليه قديم ملكه بزعمه وزعم الشاهدين، فهو نظير ما لو وصل المغصوب إلى المغصوب منه من جهة الغاصب الثاني بالهبة، وهناك يبرأ الأول عن الضمان كذا ههنا، قال: فإن رجع الواهب في الهبة واسترده رجع المشهود عليه على الشاهدين بالضمان؛ لأن بالرجوع زال العبد عن يد المشهود عليه بشهادتهما، فإنه لولا شهادتهما بالملك له لما تمكن من هبته منه والرجوع فيه، فزوال يده عن العبد بعد الرجوع في الهبة مضاف إلى شهادتهما. ولو مات المشهود له فورث المشهود عليه بزعم المشهود عليه والشاهدين عين العبد الذي أزاله الشاهدان في يده بحكم قديم ملكه لا بالميراث على ما بينا، فيوجب براءة الشاهدين عن الضمان على ما مرّ. وكذلك لو قتل العبد في يد المشهود له وأخذ المشهود له قيمته، ثم مات المشهود له وورثه المشهود عليه ملك القيمة من المشهود له، برئ الشاهدان عن الضمان؛ لأن في زعم المشهود عليه والشاهدين أنه وصل إليه بدل عبده ووصول البدل كوصول العين، فكأنه وصل إليه عين عبده. قال: وكذلك جميع الأشياء من الدَّين وغيره يريد به أنهما إذا شهدا عليه بدين أو عين، وقضى للمشهود له بذلك، ثم رجعا عن شهادتهما ثم مات المشهود له ورث المشهود عليه ذلك، فقد برئ الشاهدان عن الضمان والمعنى ما ذكرنا. ولو قتل العبد في يد المشهود له وأخذ القيمة من القاتل، فهلكت القيمة في يده، ثم مات المشهود له، وورثه منه المشهود عليه مثل تلك القيمة برئ الشاهدان عن الضمان، لأن في زعم المشهود عليه أنه وصل ذلك إليه من حساب القيمة لا بجهة الميراث، لأن في زعمه أن قدر القيمة صار ديناً له في تركة المشهود عليه، والدين يقوم على الميراث، وكذلك إن كان مع المشهود عليه وارث آخر وحصة المشهود عليه بقي تلك القيمة، برئ الشاهدان عن الضمان أيضاً، ويحعل ذلك سالماً له بحساب القيمة لا لجهة الإرث كما زعم هو. وإذا شهد شاهدان لرجل بدار في يدي رجل آخر، وقضى القاضي بالدار للمشهود له بشهادتهما ثم رجعا عن شهادتهما، فإنهما يضمنان قيمة الدار، وهذا بلا خلاف؛ لأن ما يجب على الشهود عند الرجوع ضمان الإتلاف؛ لأنه بالشهادة أزال العين عن ملك المشهود عليه بغير حق والعقار يضمن بالإتلاف بالإجماع، فإنه لو هدم البناء ونقل التراب يضمن بالإجماع. رجل في يديه عبد شهد شاهدان أنه ملك هذا، وقضى القاضي به ودفعه إليه، ثم

شهد شاهدان آخران لرجل ثالث بمثله على المقضي له الثاني، وقضى القاضي به، ثم رجع الشهود جميعاً عن الشهادة، ضمن كل فريق قيمة العبد كلها للذي شهد عليه؛ لأن كل فريق أتلف على المشهود عليه العبد، فيضمن له قيمة العبد. فرق بين هذا وبينما إذا شهد شاهدان بالوصية لرجل بالثلث، وشهد آخران بالرجوع عن الوصية الأولى والوصية بالثلث لغيره، وشهد آخران بمثله ثم رجعوا، لم يضمن الفريق الأول لأحد، والآخران لا يضمنان للوارث شيئاً، وهنا كان كل فريق يضمن للمشهود عليه قيمة العبد، والفرق بينهما وهو: أن الاستحقاق بالوصايا استحقاق على الميت، لأن كل فريق لما شهد بالرجوع فقد شهد أن الموصى له عاد إلى ملك الميت، فما ثبت من الاستحقاق بشهادة الفريق الأول فهو قائم بالثاني والثالث، ولم يمكن تضمين الفريق الأول للوارث، وكذلك الفريقان الآخران لا يضمنان للوارث؛ لأن ما أوجبا كان مستحقا على الميت قبل شهادتهما، فإذا صار الحق مستحقاً على الميت بكل شهادة لم يضمن فريق للوارث؛ لأن رجوع كل فريق لا يقصر في حق الفريقين الآخرين، فيصير في حق كل فريق كأن الآخرين ثابتان على الشهادة، فلهذا لا يضمن فريق للوارث شيئاً. أما في مسألتنا فالاستحقاق بكل بينة إنما يثبت على الذي شهد عليه ذلك الفريق لا غير لما عرف أن القضاء بالملك المطلق لا يتعدى إلا إلى من يدعي تلقي الملك من المقضي عليه، وأحد ههنا لا يدعي تلقي الملك من غيره، فصار الاستحقاق بكل بينة استحقاقاً على من قامت عليه تلك البينة، وهذا ليس بثابت بينة أخرى فلم يكن ما أوجبه كل فريق ثابتاً بشهادة الفريقين الآخرين، فيضمن كل فريق للذي عليه شهد تمام القيمة، ألا ترى أن في مسألتنا هذه، وهي مسألة دعوى الملك المطلق، لو وجد الفريق الأول من الشهود عبيداً حتى بطل ذلك الحكم كله، وفي مسألة الوصية لو وجد أحد الفرق الثلث عبيداً يبقى الاستحقاق على الوارث، وهذا يدل على أن المستحق بجميع البينات في باب الوصية شيء واحد. وفي «المنتقى» : رجل ادعى أمة في يدي رجل أنها أمته، وقضى القاضي له بالأمة، وقد كانت الأمة ابنة في يد المدعى عليه ولم يعلم القاضي بها، فأقام المدعي بعد ذلك بينة أنها ابنتها، فإن القاضي يقضي له بالابنة أيضاً تبعاً للأم، فإن قضى القاضي بذلك ثم رجع الشهود الذين شهدوا على الأم أنها للمدعي عن شهادتهم، فإنهم يضمنون قيمة الأم وولدها، وقد مرت المسألة من قبل، قال: ويستوي في هذه المسألة أن يكون القاضي قضى بذلك معاً، أو قضى بالأم ثم بالولد بعد ذلك؛ لأن المعنى لا يوجب الفصل. قال: ولو ادعى أمة في يدي رجل وأقام بينة أنها أمته، وقضى القاضي بها ثم أقام المدعي بينة على ألف في يد المدعى عليه أنها للأمة، وقضى القاضي بها للمدعي، ثم رجع اللذان شهدا بالأمة فإن القاضي يضمنهم قيمة الأمة، ولا يضمنهم من المال شيئاً، ولا يشبه المال هنا الولد؛ لأن المال مال الأمة والولد ليس مال الأمة، ألا ترى أن الأمة خصم في مالهما حتى تقبضه، وليس بخصم في ولدها، وألا ترى أن المال لو كان في يد

غير المدعى عليه فأقام المدعي شاهدين بأنه مال الأمة يقضى به، وليس الولد كذلك. فإن الولد لو كان في يد غير المدعى عليه وشهد عليه الشهود أنه ابن تلك الأمة لم يستحقه المدعي بشهادتهم وإنما استحقه إذا كان (173أ4) في يد المدعى عليه. وقد قال أصحابنا أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله: لو أن رجلاً أقر بألف في يديه أنها كانت لهذه الأمة، ثم قال إنها كانت لها قبل أن يملكها حولاها هذا لم يصدق على ذلك، وكانت الألف لمولى الأمة هذا، ولو أقر بصبي في يديه أنه ابن هذه الأمة ثم قال إنما ولدته قبل أن يملكها مولاها هذا كان القول قوله، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

كتاب الدعوى

كتاب الدعوى هذا الكتاب يشتمل على سبعة وعشرين فصلاً: 1 * الفصل الأول في معرفة المدعي والمدعى عليه. 2 * في بيان صحة الدعاوى، وبيان ما يسمع منها وما لا يسمع. 3 * في دعوى الملك المطلق في الأعيان. 4 * في دعوى الملك المطلق في الأعيان بسبب نحو الشراء والميراث والهبة وما أشبه ذلك. 5 * في دعوى الشراء والبيع. 6 * في الاستحقاق وما هو في معنى الاستحقاق. 7 * في الدعوى والبينات عليها. 8 * في مقاسمة المدعي بطريق المنازعة أو العول. 9 * في دعوى الميراث. 10 * في دعوى الرجل النكاح على المرأة، وفي دعوى المرأة النكاح على الرجل الآخر. 11 * في الرجلين يدعيان بالأيدي. 12 * في دعوى النتاج. 13 * فيما هو في معنى النتاج. 14 * في دعوى الحائط. 15 * في دعوى الطرق ومسيل الماء والمجاري والناوقات. 16 * في القضاء لأحد الخارجين عند ظهور العدالة لشهوده ثم ظهور العدالة لشهود الخارج الآخر، وإقامة الخارج الآخر شهوداً بعد ذلك. 17 * في دعوى الدين. 18 * في إقرار المدعي بنقض ما قضاه المدعى عليه أو بغير ذلك عن نفسه، وفي دعوى المدعى عليه لنفسه بعض ما قضى به عليه. 19 * في بيان ما يقع به التناقض في الدعوى وما لا يقع. 20 * فيما يبطل دعوى المدعي من قوله أو فعله.

21 * فيما يكون جواباً من المدعى عليه وما يكون إقراراً منه وما لا يكون. 22 * في بيان من يصلح خصماً ومن لا يصلح. 23 * في بيان ما تندفع به دعواه وما لا تندفع، وفيه أنواع وأقسام. 24 * في دعوى الوصية وجحود الوارث، وإقراره بالوصية لغيره، وفي دعوى الدين وجحود الوارث ذلك وإقراره بالوصية. 25 * في دعوى الرجلين عبداً في يد آخر، ودعوى كل واحد الإيداع من صاحب اليد، وإقرار صاحب اليد لأحدهما. 26 * في دعوى الوكالة والكفالة والحوالة. 27 * في دعوى العتق. 28 * في دعوى النسب. 29 * في الغرور. 30 * في المتفرقات.

الفصل الأول: في معرفة المدعي والمدعى عليه فنقول

الفصل الأول: في معرفة المدعي والمدعى عليه فنقول اختلف العلماء في الحد الفاصل بينهما، والمروي عن محمد رحمه الله أنك تنظر إلى المنكر منهما، فهو المدعى عليه، وهذا صحيح؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام جعل المدعى عليه هو المنكر حيث قال: «واليمين على من أنكر» ، فإن قيل: بهذا لا يحصل تمام الحد، فالإنسان قد يكون مدعياً وتكون اليمين من جانبه، كالمودع إذا ادعى الرد، قلنا: المودع بدعوى الرد ينكر الضمان، والخصومة إنما جرت لأجل الضمان، فجعل اليمين في جانبه لهذا. وقال بعضهم: المدعي من يحتاج إلى الإثبات والإضافة إلى نفسه، ولا يكفيه مجرد النفي بأن يقول لغيره: هذا العين ليس لك، فبهذا القدر لا يصير مدعياً، ويحتاج إلى أن يقول: هذا العين لي والمدعى عليه لا يحتاج إلى الإثبات والإضافة إلى نفسه بل يكفيه مجرد النفي، فإن بمجرد قوله للمدعي هذا العين ليس لك يصير خصماً، ويكفيه ذلك من أن يقول: هو لي. وبعضهم قالوا المدعي: من يكون مخيراً بين الخصومة والكف، وإذا ترك الخصومة يترك ولا يتبع، والمدعى عليه: من لا يكون مخيراً بين الخصومة والكف عنها، وإذا ترك الخصومة لا يترك بل يتبع. وبعضهم قالوا: المدعي: من يستعدي على غيره بقول غيره. وبعضهم قالوا: المدعي: من يدّعي ويتمسك بما ليس بثابت، والمدعى عليه من يتمسك بما هو ثابت. بيانه: فيما إذا ادعى عيناً في يدي إنسان أنه ملكه وأنكر ذو اليد دعواه وقال: هو ملكي، فالخارج يسمى مدعياً، لأنه يدعي ما ليس بثابت له وهو الملك في هذا العين، وصاحب اليد يسمى مدعَياً عليه؛ لأنه يتمسك بما هو ثابت له، وهو الملك بظاهر اليد.

فإن قيل: هذا يشكل بالمودَع إذا ادعى الرد، والمودِع ينكر، فالمودع يكون مدعى عليه حتى يحلف، وقد ادعى ما ليس بثابت وهو الرد، ورب الوديعة يكون مدعياً وقد ادعى ما هو ثابت وهو عدم الرد. قلنا: رب الوديعة من حيث المعنى مدعي ما ليس بثابت، وهو شغل ذمة المودَع بالضمان، والمودَع من حيث المعنى يتمسك بما هو ثابت وهو براءة ذمته والعبرة....، والخصومة وقعت لأجل الضمان. قال محمد رحمه الله في كتاب الدعوى: وإذا كان في يدي رجل دار أو عبد أو شيء من الأشياء، فادعى رجل ذلك أو طائفة منه بشراء من مالكه أو بهبة أو صدقة أو وصية أو ميراث أو بوجه من وجوه الملك، أو ادعى عليه ديناً دراهمَ أو دنانير، أو شيئاً من الكيل أو الوزن أو ما أشبه ذلك، أو ادعى عليه كفالة بمال أو نفس أو ادعى عليه بيعاً أو إجازة، فالمنكر هو المدعى عليه، والطالب هو المدعي، وإنه يخرج على العبارات كلها. ولو كان المدعى عليه أقر بدعوى المدعي إلا أنه ادعى القضاء والإبراء في دعوى الدين، أو ادعى الإبراء في دعوى الكفالة بالنفس أو الكفالة بالمال، أو ادعى الفسخ في الإجارة أو الإقالة في البيع، فالطالب في الدعوى الأول هو المدعى عليه في هذه الدعوى، والمدعى عليه في الدعوى الأول هو المدعي في هذا الدعوى، وإنه يخرج على العبارات كلها. قال في كتاب الغصب: رجل غصب ثوباً أو دابة واستهلكه أقام المغصوب منه بينة على قيمته وأقام الغاصب بينة على قيمته أقل من ذلك، فالبينة بينة المغصوب منه، إما لأن المغصوب منه هو المدعي لما ذكرنا من العبارات، وإما لأن المغصوب منه ببينته يثبت زيادة في قيمة المغصوب وينفيها بينة الغاصب، والبينات شرعت في طرف الاثبات لا في طرف النفي، وإن لم يكن لهما بينة، فالقول في الزيادة قول الغاصب مع يمينه؛ لأنه يدعي عليه في الزيادة على العبارات التي ذكرنا، والقول قول المدعى عليه مع اليمين. وإن أقام الغاصب بينة على قيمته، ولا بينة للمغصوب منه فللمغصوب منه أن يستحلف الغاصب، ولا يلتفت إلى بينته، لأن الغاصب هو المدعى عليه، والذي في جانب المدعى عليه اليمين دون البينة. وإن قال الغاصب: أنا أرد اليمين على رب الثوب وأعطيه ما حلف ورضي به رب الثوب، لا يلتفت إلى قولهما؛ لأن اليمن شرعت في جانب المدعى عليه وليس إلى العباد تغيير المشروعات. وذكر محمد رحمه الله في كتاب الاستحلاف رد اليمين إلى المدعي في مسألة، وصورتها: رجل ادعى على رجل أنه غصبه ثوباً وأقر الغاصب بذلك، واختلفا في قيمة

الثوب، فقال المغصوب منه: كانت قيمة ثوبي مئة، وقال الغاصب: لا أدري ما كانت قيمته، ولكن علمت أن قيمته لم تكن مئة، فالقول قول الغاصب مع يمينه؛ لأن المغصوب منه يدعي زيادة قيمته عليه وهو ينكر، ويجبر الغاصب على البيان؛ لأنه أقر بقيمة مجهول، فيؤمر بالبيان وإن (لم) يخبر بشيء يحلف على ما يدعي المغصوب منه من الزيادة، فإن حلف ولم يثبت ما ادعاه المغصوب منه ذكر أن المغصوب منه يحلف أن قيمة ثوبه مئة، ويأخذ من الغاصب مئة درهم. طعن الحاكم الإمام أبو محمد الكوفي على محمد رحمه الله فيما ذكر أن المغصوب منه يحلف أن قيمة ثوبه مئة ويأخذ من الغاصب مئة درهم، وقال: المغصوب منه يدعي زيادة القيمة، واليمين لم تشرع حجة للمدعي عندنا، وقال: الجواب الصحيح عندي أن بعدما أبى الغاصب بيان القيمة، فالقاضي يوقفه بين يديه، ويقول: أكانت قيمة الثوب مئة؟ أكانت خمسون؟ أكانت ثلاثون؟ إلى أن ينتهي إلى أقل ما يجوز أن تنقص قيمة الثوب منه في العرف والعادة، فإذا انتهى إلى ذلك ألزمه ذلك وجعل القول قوله (173ب4) في الزيادة مع يمينه، وجعل الجواب فيه نظير الجواب فيما إذا أقر بحق مجهول في عين في يديه، وأبى أن يبين مقداره، فالقاضي يوقفه بين يديه ويسمي السهام حتى ينتهي إلى أقل السهام الذي يقصد بالملك عادة، فيلزمه ذلك ويجعل القول في الزيادة قوله مع يمينه. ومنهم من اشتغل بتصحيح ما ذكر في «الكتاب» ، وجه ذلك: أن الإقرار بالمجهول صحيح، وقطع الخصومة وإيصال المقر له إلى حقه واجب، ويقدر إيصال المقر له إلى حقه بالطريق الذي قلتم؛ لأن موضوع المسألة أنه أقر بغصب ثوب، والثياب أجناس، فالقاضي لا يدري أن هذا أقل ما يصلح أن يكون قيمة الثوب، لأن ما من ثوب من جنس هو أقل ذلك الجنس إلا وثوب آخر من جنس آخر يكون أقل منه، بخلاف المسألة التي استشهد بها، لأن أقل المقدار الذي يقصد بالتملك معلوم من حيث العادة، فأمكن للقاضي إلزام المقر ذلك، أما ههنا بخلافه ولا وجه إلى أن يقضي بمئة درهم كما يدعيه المغصوب منه، لأن الغاصب حلف على ذلك، فلم يبق للقاضي طريق قطع الخصومة وإيصال المقر له إلى حقه إلا ما قلنا وما نقول بأن يمين المغصوب منه يمين المدعي. قلنا: يمينه يمين المدعي من وجه من حيث إنه يدعي أن قيمة الثوب مئة ولم يثبت ذلك، لما أنكر الغاصب ذلك ويمين المدعى عليه من وجه من حيث إن أصل الاستحقاق ثابت بإقرار الغاصب، فإن الإقرار بقيمة مجهولة صحيح، وإنما الحاجة إلى فصل الخصومة، واليمين شرعت لفصل الخصومة، فكانت بمنزلة يمين المدعى عليه من هذا الوجه، ويمين المدعى عليه من كل وجه مما يجوز أن يفصل بها الخصومة، فكذا يمين المدعى عليه من وجه، وهذه المسألة من الغرائب لا توجد إلا في كتاب الاستحقاق فيجب حفظها.

الفصل الثاني: في بيان صحة الدعاوى وبيان ما يسمع منها وما لا يسمع

الفصل الثاني: في بيان صحة الدعاوى وبيان ما يسمع منها وما لا يسمع يجب أن يعلم بأن الدعوى لا تخلو، إما أن تقع في العين أو في الدين، فإن وقعت في الدين فإن كان المدعى مكيلاً، فإنما تصح الدعوى إذا ذكر المدعي جنسه أنه حنطة أو شعير، وبعدما ذكر الجنس بأن ذكر أنه حنطة يذكر مع ذلك نوعها أنها سقية أو برية، أو خريفية أو ربيعية، ويذكر مع ذلك صفتها أنها جيدة أو وسطية أو رديئة، كدم سفيدة أو كندم سرخة، ويذكر وزنها بالكيل، فيقول: كذا قفيزاً، لأن المقدر في الحنطة الكيل، ويذكر بقفيز كذا؛ لأن القفزان تتفاوت في ذاتها، ويذكر سبب الوجوب؛ لأن أحكام الديون تختلف باختلاف أسبابها، فإنه إذا كان بسبب السلم يحتاج فيه إلى بيان مكان الإيفاء ليقع التحرز عن الاختلاف، ولا يجوز الاستبدال به قبل القبض، وإن كان من ثمن بيع يجوز الاستبدال به قبل القبض، ولا يشترط فيه مكان الإيفاء، وإن كان من قرض لا يجوز التأجيل فيه، بمعنى أنه لا يلزم، ويذكر في السلم سائر شرائط صحته من إعلام جنس رأس المال ونوعه وصفته وقدره بالقدر إن كان رأس المال وزنيا وإنفاذه في المجلس حتى يصح عند أبي حنيفة رضي الله عنه وأشباه ذلك على ما عرف في كتاب البيوع. ولو قال: بسبب السلم الصحيح ولم يبين شرائط صحة السلم، كان القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي يفتي بصحة الدعوى، وغيره من المشايخ كانوا لا يفتون بصحته؛ لأن للسلم شرائط كثيرة، لا يقف عليها إلا الخواص من الناس، وربما نطق المدعي صحته ولا يكون صحيحاً في نفسه. وفي دعوى البيع إذا قال: بسبب بيع صحيح جرى بينهما في جارية قد سلمها إليه صح الدعوى بلا خلاف، إذ ليس للبيع شرائط كثيرة تخفى على العامة، وعلى هذا في كل سبب له شرائط كثيرة يشترط بيان الشرائط لصحة الدعوى عند عامة المشايخ، ولا يكتفي بقوله بسبب كذا صحيح، وإن لم يكن له شرائط كثيرة يكتفى بقوله بسبب كذا صحيح. ويذكر في القرض القبض وصرف المستقرض ذلك إلى حاجة نفسه يصير ذلك ديناً عليه بالإجماع؛ لأن عند أبي يوسف المستقرض لا يصير ديناً في ذمة المستقرض إلا بصرفه إلى حاجة نفسه. وكذلك يذكر في دعوى القرض أنه أقرضه كذا من مال نفسه؛ لجواز أن يكون وكيلاً في الإقراض، والوكيل في الإقراض معار ومعير، فلا يصير ذلك ديناً له في ذمة المستقرض، ولا يثبت له حق المطالبة بالأداء، وإن كان المدعى به وزنيا فإنما تصح الدعوى إذا بين الجنس بأن قال: ذهب أو فضة، فإن بين الجنس بأن قال ذهب، فإن كان مضروباً يقول: كذا ديناراً، ويذكر نوعه أنه بخاري الضرب أو نيسابوري الضرب أو ما أشبه ذلك.

قالوا وينبغي أن يذكر صفته أنه جيد أو وسط أو رديء، فاعلم بأن هذه الدعوى إن كان بسبب البيع، فلا حاجة إلى ذكر الصفة إذا كان في البلد نقد واحد ظاهر معروف؛ لأن مطلق البيع ينصرف إلى نقد البلد ويصير ذلك كالملفوظ في الدعوى، فلا يشترط البيان إلا إذا كان قد مضى من وقت البيع إلى وقت الخصومة زمان طويل، بحيث لا يعلم نقد البلد في ذلك الوقت فحينئذ لابد من بيان أن نقد البلد في ذلك الوقت كيف كان، وبيان صفته بحيث تقع المعرفة من كل وجه. وإن كان في البلد نقود مختلفة والكل في الرواج على السواء ولا صرف للبعض على البعض، يجوز البيع ويعطي المشتري للبائع أيَّ النقدين شاء، إلا أن في الدعوى لابد من تعيين أحدهما، وإن كان الكل في الرواج على السواء، وللبعض صرف على البعض كما كانت الغطريفية والعدلية في ديارنا، قيل: هذا لا يجوز البيع إلا بعد بيانه، وكذا لا تصح الدعوى من غير بيانه. وإن كان أحد النقدين أروج والآخر أفضل، فالعقد جائز وينصرف إلى الإرواج، ويصير ذلك كالملفوظ في الدعوى، فلا حاجة إلى البيان إلا إذا كان قد مضى زمان طويل من وقت العقد إلى وقت الخصومة، بحيث لا يعلم الأروج وقت العقد على نحو ما بينا قبل هذا. وإن كان هذا الدعوى بسبب القرض والاستهلاك، فلابد من بيان الصفة على كل حال؛ وعند ذكر النيسابوري أو البخاري لا حاجة إلى ذكر الأحمر؛ لأن النيسابوري لا يكون إلا أحمر وكذلك البخاري لا يكون إلا حمراء، ولابد من ذكر الجيد عليه عامة المشايخ؛ لأن ذكر النيسابوري لا يثبت ذكر الجيد؛ لأن النيسابوري ما يكون مضروباً في نيسابور أو ما يكون عليه سكة نيسابوري، وما يكون مضروباً في نيسابور أو يكون عليه سكة نيسابور قد يكون جيداً وقد لا يكون، وفي «فتاوى النسفي» : إذا ذكر أحمر خالص ولم يذكر الجيد كفاه. ولا بد من ذكره أنه ضرب أي وال عند بعض المشايخ؛ لأن في مضروب الولاة تفاوت، وبعض مشايخنا لم يشترطوا ذلك وإنه أوسع، والأول وإن ذكر كذا ديناراً نيسابورياً مسقدة وفارسية سره كرده، ولم يذكر الجيد، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لابد من ذكر الجيد مع ذلك، لأن المسقدة قد تكون جيدة وقد تكون رديئة، وقال بعضهم: لا حاجة إلى ذكر الجيد مع ذلك وهو الصحيح. ولو ذكر الجيد ولم يذكر المسقدة، فالدعوى صحيحة، لأن الجيد لابد وأن يكون مسقداً، فأما المنتقد قد يكون جيداً وقد يكون رديئاً. وإن لم يكن الذهب مضروباً لا يذكر في الدعوى كذا ديناراً، وإنما يذكر كذا مثقالاً، فإن كان خالصاً من الغش يذكر ذلك، وإن كان فيه غش يذكر ذلك نحو الده نوهي أو الده هشتي أو ما أشبه ذلك، وإن كان المدعى به نقده وكان مضروباً ذكر نوعها وهو ما يضاف إليها وصفتها أنها جيدة أو وسطة أو رديئة، ويذكر قدرها أنه كذا درهماً وزن

سبعة؛ لأن وزن الدراهم يختلف باختلاف البلدان والذي في ديارنا وزن سبعة وهو الذي كل عشرة منها بوزن سبعة مثاقيل. قيل: وإن (174أ4) كانت الفضة غير مضروبة إن كانت خالية عن الغش يذكر كذا فضة خالصة عن الغش، ويذكر نوعها نقرة كليحة أو نقرة طمغاجيّ، ويذكر صفتها أنها جيدة أو وسطة أو رديئة، ويذكر قدرها كذا درهماً، وقيل: إذا ذكر كذا طمغاجي كفاه ولا حاجة إلى ذكر الجيد، وإن كان المدعى به دراهم مضروبة والغش فيها غالب إن كان يعامل به وزناً يذكر نوعها وصفتها ومقدار وزنها، وإن كان يعامل بها عدداً يذكر عددها. وإذا ادعى الحنطة أو الشعير بالمنّ وبيّن أوصافه، فقد قيل: لا تصح هذه الدعوى؛ لأن المدعى مجهول، لأن المقدار في الحنطة والشعير إنما عرف بالحديث المعروف، وقيل: لا بل الدعوى صحيحة، لأن الكيل في الحنطة والشعير إنما عرف مقداراً عند المقابلة بالجنس، ولهذا جاز بيع الحنطة موازنة بالدراهم، ففي الدعوى يحمل على بيع عين من الأعيان بحنطة في الذمة، والمختار في الفتوى أن يسأل المدعي عن دعواه، فإن ادعاه بسبب القرض أو بسبب الاستهلاك لا يفتى بالصحة؛ لأن ذلك مضمون بالمثل، وإن ادعاه بسبب بيع عين من الأعيان بحنطة في الذمة أو بسبب السلم يفتى بالصحة، وإن ادعاه مكايلة حتى صح الدعوى بلا خلاف، وأقام البينة على إقرار المدعى عليه بالحنطة أو الشعير، ولم يذكر الصفة في إقراره قبلت البينة في حق الجبر على البيان، لا في حق الجبر على الأداء. وإذا ادعى الدقيق بالقفيز لا يصح؛ لأن المدعى مجهول، لأن المقدر في الدقيق الوزن دون القفيز؛ لأن الدقيق مكبس بالكبس بخلاف الحنطة، وإذا ذكر الوزن حتى صح الدعوى لا بد وأن يذكر خشك آردا وشسته، ويذكر مع ذلك يونحته او ناويخته، ويذكر مع ذلك أنه جيد أو وسط أو رديء، وأما إذا وقع الدعوى في العين، فإن كان المدعى به منقولاً وهو مالك، ففي الحقيقة الدعوى في الدين، فيشترط بيان القدر والجنس والنوع والصفة كما في سائر الديون، هذا هو المذكور في الكتب المشهورة. قال رضي الله عنه: وكتبت في الشهادات من هذا المجموع عن «فتاوى أبي الليث» : أن من ادعى على آخر أنه استهلك دواباً له عدداً معلوماً، وأقام على ذلك بينة ينبغي للمدعي أن يبين الذكر والأنثى، وينبغي للشهود أيضاً أن يبينوا ذلك، وإن لم يبينوا ذلك، قال الفقيه أبو بكر رضي الله عنه: أخاف أن تبطل الشهادة، ولا يقضى للمدعي بشيء من دعواه، وإن تبينوا الذكور والإناث جازت شهادتهم، ولا يحتاج إلى ذكر اللون؛ لأن باختلاف اللون؛ لا تختلف المنافع، ولا يصير المشهود به مختلفاً ولا كذلك الذكورة والأنوثة. قيل: اشتراط ذكر الذكورة والأنوثة في هذه الصورة مستقيم خصوصاً على أصل أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن القضاء بالقيمة عنده بناء على القضاء بملك المستهلك؛ لأن حق المالك باق في العين المستهلك على أصله، وإنما ينتقل الحق إلى القيمة بقبض

القيمة أو بقضاء القاضي بالقيمة، حتى قال: يجوز الصلح عن العين المغصوب المستهلك على أكثر من قيمته، وإذا كان القضاء بالقيمة بناء على القضاء بملك المستهلك لابد من بيان المستهلك في الدعوى والشهادة ليعلم القاضي أنه بماذا يقضي. وهذا القائل يقول مع ذكر الأنوثة والذكورة لابد من ذكر النوع بأن يقول: فرس أو حمار أو ما أشبه ذلك، ولا يكتفي بذكر اسم الدابة؛ لأنها مجهول النوع، ولا يحتاج إلى ذكر اللون كما في الوكالة. ومن المشايخ من أبى ذكر الأنوثة والذكورة وقال: المقصود من دعوى الدابة المستهلك القيمة، فالمدعي والشهود لا يستغنون عن بيان القيمة، والشهادة على القيمة مقبولة، وكذلك دعوى القيمة مسموع، فلا حاجة إلى بيان الذكورة والأنوثة كما في اللون، ألا ترى أن من ادعى على آخر مالاً مقدراً وشهد الشهود له بذلك، فسألهم القاضي عن السبب فقالوا: استهلك عليه دابة، فالقاضي يقبل ذلك منهم وطريقة ما قلنا. وكذلك الرجلان إن ادعيا نكاح امرأة ميتة وأقاما البينة، فالقاضي يقضي لهما بالميراث والقضاء بالنكاح لرجلين على امرأة واحدة متعذرة، ولكن طريق القبول أن المقصود من دعوى النكاح بعد الموت دعوى الميراث، ولا تنافي في الميراث؛ فيقضى لهما بالميراث لهذا، والأول أصح. ووجه الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة دعوى النكاح أن دعوى النكاح من كل واحد من المدعيين صحيح، والشهادة من كل فريق من الشهود أيضاً صحيحة، إلا أن في حالة الحياة لا يقضي بالنكاح؛ لأن المقصود من النكاح حالة الحياة الحل، وإنه لا يقبل الشركة فلم يقض بالنكاح في حالة الحياة لهذا المعنى، لا لخلل في الدعوى والشهادة، أما بعد الموت المقصود هو الميراث، والقضاء بالميراث لهما ممكن فقضينا، أما في مسألتنا الدعوى لم تصح، وكذلك الشهادة؛ لأن المدعي ادعى ملك المتلف والشهود شهدوا بملك المتلف أيضاً، والقاضي يقضي بملك المتلف أولاً ثم يقضي بالقيمة بناء على ذلك، والقضاء بالمجهول لا يصح فلا يقضي. وفيما إذا ادعى مالاً مقداراً وشهد الشهود بذلك وبينوا السبب استهلاك الدابة يقول بأن القاضي لا يقضي بشهادتهم إذا لم يبينوا النوع ولم يبينوا الصفة الذكورة أو الأنوثة مع ذلك، هذا إذا كان المدعى به منقولاً وهو هالك. فأما إذا كان المنقول قائماً، فإن أمكن إحضاره مجلس الحكم، فالقاضي لا يسمع دعوى المدعي ولا شهادة شهوده إلا بعد إحضار ما وقع فيه الدعوى مجلس الحكم حتى يشير إليه المدعي والشهود لتنقطع الشركة بين المدعى به وغيره من كل وجه، وهذا لأن إعلام المدعى به والمشهود به على وجه تنقطع الشركة بينه وبين غيره من كل وجه شرط سماع الدعوى والبينة إذا أمكن الإعلام على هذا الوجه والإعلام على هذا الوجه في المنقول الذي يمكن إحضاره مجلس الحكم ممكن بإحضاره مجلس الحكم، فيشترط إحضاره.

قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ومن المنقولات ما لا يمكن إحضاره عند القاضي كالصبرة من الطعام والقطيع من الغنم، والقاضي فيه بالخيار إن شاء حضر ذلك الموضع لو تيسر له ذلك وإن كان لا يتهيأ له الحضور وكان مأذوناً بالاستخلاف يبعث خليفته إلى ذلك الموضع. قال محمد رحمه الله: وهو نظير ما إذا كان القاضي يجلس في داره، ووقع الدعوى في حمل، ولا يسع باب داره، فإنه يخرج إلى باب داره، أو يأمر نائبه حتى يخرج ليسير إليه الشهود بحضرته. وفي «القدوري» : إذا كان المنقول المدعى به شيئاً يتعذر نقلها كالرحى، فالحاكم بالخيار إن شاء حضرها، وإن شاء بعث أميناً، فإن وقع الدعوى في عين غائب لا يعرف مكانه بأن ادعى رجل على رجل أنه غصب منه ثوباً أو جارية لا يدري أنه قائم أو هالك، فإن بيّن الجنس والصفة والقيمة فدعواه مسموعة وبينته مقبولة، وإن لم يبين القيمة، أشار في عامة الكتب الى أنها مسموعة، فإنه ذكر في كتاب الرهن: إذا ادعى رجل على رجل أنه رهن عنده ثوباً وهو ينكر، قال: يسمع دعواه. وقال في كتاب الغصب: رجل ادعى على غيره أنه غصب منه جارية، وأقام بينة على ما ادعى تسمع دعواه وتسمع بينته، بعض مشايخنا قالوا: إنما تسمع دعواه إذا ذكر القيمة، وهذا القائل يقول: تأويل ما ذكر في «الكتاب» هذا. وكان الفقيه أبو بكر الأعمش رحمه الله يقول: تأويل ما ذكر في «الكتاب» أن الشهود شهدوا على إقرار المدعى عليه بالغصب، فثبت غصبه الجارية بإقراره في حق الجنس والقضاء جميعاً، قال شمس الأئمة الحلواني وعامة المشايخ على أن هذه الدعوى صحيحة والبينة مقبولة، ولكن في حق الجنس وإطلاق محمد في الكتاب يدل عليه. قال الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزودي: إذا كانت المسألة مختلفة ينبغي للقاضي أن يكلف المدعي بيان القيمة، فإذا كلفه ولم يبين يسمع دعواه، وهذا لأن الإنسان قد لا يعرف قيمة ماله، فلو كلفه بيان القيمة فيه فقد أضرّ به إذ يتعذر (174ب4) عليه الوصول إلى حقه، وإذا سقط بيان القيمة من المدعي سقط من الشهود من الطريق الأولى، وتمام المسألة مرت في كتاب الغصب، وإن وقع الدعوى في العقار، فلابد من ذكر البلدة التي فيها الدر المدعى به، ثم من ذكر المحلة، ثم من ذكر السكة، يبدأ بالأعم، وهو البلد ثم بالأخص. وهذا فصل اختلف فيه أهل الشروط، قال بعضهم يبدأ بالأعم، وقال بعضهم بالأخص، وعند أهل العلم له الخيار إن شاء يبدأ بالأعم، وإن شاء بالأخص؛ لأن المقصود هو التعريف، والتعريف حاصل بالكل، ولابد من ذكر حدود الدار بعد هذا، قال جماعة من أهل الشروط: ينبغي أن يذكر في الحدود لزيق دار فلان؛ ولا يذكر دار فلان لأنه حينئذ يصير دار فلان يدعي به؛ لأن الحد يدخل في المحدود، وعندنا كلا اللفظين على السواء، أيهما ذكر فهو حسن؛ لأن المقصود تعريف الدار المدعى به

باتصالها بدار فلان، وإنه حاصل باللفظين جميعاً، وما يقول بأن الحد يدخل في المحدود ليس كذلك؛ لأن الحد غاية والغاية لا تدخل تحت المضروب له الغاية، وإن ذكر حدين لا يكفي في «ظاهر الرواية» عند أصحابنا رحمهم الله، وإن ذكر ثلاثة حدود كفاه، وكذلك في الشهادة إذا ذكر الشهود ثلاثة حدود قبلت شهادتهم، وكيف يحكم بالحد الرابع في هذه الصورة؟ قال الخصاف رحمه الله في «وقفه» : جعل الحد الرابع بإزاء الحد الثالث حتى ينتهي إلى مبتدأ الحد الأول أي بإزاء الحد الأول، وإذا ادعى على آخر مئة عدلية غصباً، وهي منقطعة عن أيدي الناس يوم الدعوى ينبغي أن يدعي قيمته، فالمغصوب إذا كان مثلثاً وقد انقطع عن أيدي الناس يجب على الغاصب قيمته، غير أن عند أبي حنيفة يعتبر القيمة يوم الدعوى والخصومة، وعند أبي يوسف يوم الغصب، وعند محمد يوم الانقطاع، ولابد من بيان سبب وجوب الدراهم في هذه الصورة؛ لأنها لو كانت ثمن بيع فبالانقطاع قبل القبض يفسد العقد عند أبي حنيفة رضي الله عنه، ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قبض المبيع والبيع قائم على حاله في يده، وإن كان هالكاً أو مستهلكاً وجب على المشتري رد قيمة المبيع إن لم يكن مثلياً، ورد مثله إن كان مثلياً، وإن كان بسبب القرض أو النكاح فلابد من بيان سبب وجوبها لينظر هل له ولاية دعوى القيمة؟. وإذا ادعى على غيره مقداراً معلوماً من العنب فهذا على وجهين: إما أن يكون العنب المدعى به عيناً، فإنه يسمع الدعوى بحضرته عند الإشارة إليه، فلا يشترط بيان الصفة والوزن والنوع، وإن كان ديناً فإن كانت الدعوى في أوانه، فلابد من بيان المقدار والنوع والصفة، فيقول إدندي أنكور علائي ادندي أنكور طائفي لعله باطائفي سبيدا، وما أشبه ذلك. بيانه: يانيكوما سفق، وإن كان بعد انقطاعه فالقاضي يقول له يريد عين العنب في الحال أو قيمته، فإن قال عين العنب فالقاضي لا يسمع دعواه؛ لأنه إن كان ثمن مبيع يفسد البيع بانقطاعه قبل التسليم، ولا يبقى للبائع حق المطالبة بالعنب بل يجب على المشتري رد المبيع إن كان قائماً ورد قيمته إن كان مستهلكاً، وإن كان دعوى العنب بسبب السلم أو القرض أو الاستهلاك، فبسبب الانقطاع إن كان لا يسقط ذلك عن ذمة من عليه، ولكن لا يطالبه صاحب الحق بعين العنب في الحال؛ لعجزه عن ذلك، بل يتخير إن شاء صبر حتى يدخل أوانه ويطالبه بعين العنب، وإن شاء أخذ منه القيمة في الحال، فإذاً في الأحوال كلها لا مطالبة للمدعي بعين العنب، فلا يستقيم منه دعوى عين العنب، وإن قال أريد القيمة فالقاضي يأمره ببيان سبب وجوب العنب؛ لأن العنب إن كان ثمن مبيع ينفسخ العقد بهلاكه قبل التسليم ويسقط العنب عن ذمة المشتري، فكيف يطالبه بقيمة العنب؟ وإن كان بسبب السلم أو الاستهلاك أو القرض، فبالانقطاع لا يسقط ذلك عن ذمة المدعى عليه، فتستقيم المطالبة بقيمته في الحال إذا كان لا ينتظر دخول أوانه. قال مولانا رضي الله عنه: هذه الجملة مسموعة عن الشيخ الإمام الأجل ظهير

الدين المرغيناني رحمه الله، حكاها عن أستاذه، قال رضي الله عنه: وما ذكر العنب ولو كان ثمن المبيع، فبالانقطاع قبل التسليم ينتقض العقد، ولا ينبغي للبائع حق المطالبة بتسليم عين العنب، ليس بصحيح، فقد ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في شرح كتاب الصرف في حجج مسألة. صورتها: رجل اشترى من آخر مئة فلس بدرهم، ونقد الدرهم ولم يقبض شيئاً من الفلوس حتى كسدت الفلوس، فالقياس أن لا ينتقض العقد، ويتخير المشتري إن شاء قبضها كذلك، وإن شاء فسخ العقد وأخذ الدرهم، وفي الاستحسان: ينتقض العقد. ومن اشترى من آخر شيئاً بقفيز رطب في الذمة ثم انقطع أوان الرطب إن العقد لا ينتقض. وذكر أيضاً أن من اشترى شيئاً بقفيز رطب والرطب منقطع عن أيدي الناس يجوز، وهذا بخلاف ما لو اشترى شيئاً بدراهم أو فلوس ثم انقطعت الدراهم أو الفلوس قبل القبض حيث ينتقض البيع عند أبي حنيفة، وهو قول محمد رحمهما الله على رواية كتاب الصرف، لأن في الرطب العود ثابت من غير صنع من العباد، ولا كذلك في الدراهم، وفي دعوى مال الإجارة المنسوخ بموت الآجر: إذا كانت الأجرة دراهم أو عدالي ينبغي أن يذكر كذا دراهم كذا عدالي رائجة من وقت العقد إلى وقت الفسخ؛ لأنها إذا أكسدت فيما بين ذلك تفسد الإجارة كبيع العين. وإذا ادعى نوعين من العنب بأن ادعى ألف مَنّ من العنب العلاني والورخمني الحلو الوسط، لابد وأن يقول من العلاني كذا، ومن الورخمني كذا، لأن بدون ذلك القاضي لا يدري أنه بأي قدر يقضي من كل نوع. (رجل) ادعى على آخر مقداراً من اللحم بأن ادعى مثلاً خمسة عشر منّاً، خمسة أمناء لحم اليد وخمسة أمناء لحم الرجل وخمسة أمناء لحم الجنب، فلابد وأن يبين السبب؛ لأنه يجوز أن يدعي ذلك بسبب السلم، وفي صحة السلم في اللحم خلاف معروف بين أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله، ويجوز أن يدعيه بسبب الاستهلاك، وفي استهلاك اللحم اختلاف بين المشايخ، قال بعضهم: يوجب القيمة، وإليه أشار محمد رحمه الله في بعض الكتب، وقال بعضهم: يوجب المثل، وإليه أشار في بعض الكتب، فلهذا احتيج إلى بيان السبب فيه، فإن بيّن الثمنية بأن قال: بعت منه عرضاً بكذا وكذا من اللحم، وبيّن أوصافه وموضعه صح دعواه بناءً على أن المكيل والموزون إذا قوبل بعرض واستعمل استعمال الثمن، فهو ثمن. وإذا ادعى على آخر أنه غصب منه كذا قفيز حنطة، وبيّن الشرائط لابد وأن يذكر مكان الغصب وستأتي بتمامها في المحاضر. (وإذا) ادعى على آخر أنه باع من فلان مئة منّ من الشحم الأبيض بكذا، وسلم الشحم إليه وقبض الثمن بتمامه، وإن الشحم المبيع كان مشتركاً بيني وبين البائع هذا، وإني قد أجزت البيع حين وصل إليّ خبر البيع فواجب عليه تسليم نصف الثمن إليّ، فهذه الدعوى لا تصح؛ لأنه لم يذكر في الدعوى أن الشحم كان قائماً في يد المشتري وقت

الإجارة، ولابد من ذلك؛ لأن بدون ذلك لا تعمل إجارة الشريك، ولأنه يذكر رواج الثمن وقت الإجارة، ولابد من ذلك، فإنه لو صار كاسداً قبل الإجارة لا تعمل الإجارة، كما لا يجوز ابتداء البيع به، وكذلك لو ذكر قيام الشحم ورواج الثمن وقت الإجارة للبيع إلا أنه لم يذكر في دعواه قبض البائع الثمن من المشتري، لا تصح دعوى تسليم بعض الثمن؛ لأن الإجازة في الانتهاء كالإذن في الابتداء، ولو أذن له في الابتداء بالبيع ما لم يقبض البائع الثمن من المشتري لا يطالب البائع بتسليم الثمن إلى الشريك، فالوكيل بالبيع لا يطالب بتسليم الثمن قبل أخذ الثمن من المالك، كذا هذا. ادعى على آخر.... فاعلم (175أ4) بأن دعوى الخبز لا تصح إلا بعد بيان السبب؛ لأن التسلم في الخبز لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لا وزناً ولا عدداً وعند أبي يوسف يجوز وزناً، وفي الاستقراض خلاف أيضاً، على قول أبي حنيفة، لا يجوز لا عدداً ولا وزناً، وقال محمد رحمه الله: يجوز عدداً، وقال أبو يوسف: يجوز وزناً لا عدداً، وبالاستهلاك يجب قيمة الخبز لا عين الخبز، فلابد من بيان السبب، فإن بيّن أنه ثمن المبيع تصح الدعوى، ولكن ينبغي أن يذكر في الدعوى الكعك المتخذ من الدقيق المغسول أو غير المغسول، وكذا ينبغي أن يذكر أنه أبيض أو وجهه ملطخ بالزعفران وكذا ينبغي أن يذكر أن على وجهه سمسماً أبيض أو أسود. وإذا ادعى ديباجاً على إنسان ولم يذكر وزنه، فإن كان الديباج عيناً يشترط إحضاره والإشارة إليه، وعند ذلك لا حاجة إلى بيان الوزن وسائر أوصافه، وإن كان ديناً بأن كان مسلماً فيه اختلف المشايخ في أنه هل يشترط ذكر الوزن لصحة الدعوى؟ عامتهم على أنه يشترط، وهو الصحيح. وفي دعوى القطن لابد وأن يبين القطن البخاري أو الشالشي؛ لأن القطن يتفاوت في نفسه بتفاوت المواضع، ويبيّن أن يجعل من كذا من منّه كذا مَنٌ من المحلوج، هكذا قيل، وقيل: ليس بشرط وهو الصحيح، ولو ذكر في السلم أنه يحصل من كل أربعة أمنان أو ثلاثة أمنان من المحلوج يفسد السلم وقع الدعوى في خبا في الذمة مهراً فارسية خركاه، فأفتوا بالصحة، وإنه ظاهر؛ إذ ليس فيه أكثر من الجهالة، والجهالة في باب المهر لا تمنع الوجوب في الذمة. وقد نص محمد رحمه الله في النكاح: إذا تزوج امرأة على بيت، فلها جهاز بيت وسط مما تجهز به النساء، قالوا وهذا هو المتعارف فيما بين أهل الأمصار في تلك الديار، فإنهم يعنون بذلك الغرف، وفي البادية يتعارفون بيت الشعر، وفي دعوى الغصب وأشباهه إن كانت الدعوى بسبب الاستهلاك أو القرض أو بسبب الثمنية لا يحتاج إلى الإحضار.

ادعى قدراً من التوتياء ينبغي أن يذكر في دعواه كوفته أو ناكوفته، وبدونه لا تصح الدعوى لمكان الجهالة. وإذا ادعى على آخر كذا عدداً من الإبرة، فإن وقع الدعوى في العين، فلابد من الإحضار للإشارة إليها وعند ذلك لا يحتاج إلى بيان الأوصاف، وإن وقع الدعوى في الدين، فلابد من بيان السبب لصحة الدعوى؛ لأنها لا تجب في الذمة بالاستهلاك؛ لأنها مضمونة بالقيمة لا بالمثل، وكذلك لا يجب في الذمة بالقرض؛ لأن استقراضه لا يجوز؛ لأنه ليس من ذوي المثل، ويجب في الذمة بطريق السلم وثمن المبيع، فلهذا احتيج إلى بيان السبب، فإن بيّن سببية السلم أو ثمن المبيع يحتاج فيه إلى بيان النوع والصفة على وجه يخرج عن حد الجهالة لتصح الدعوى. وإذا ادعى وقر رمان أو وقر سفرجل لا بد وأن يذكر الوزن؛ لأن الوقر يتفاوت، ويذكر مع ذلك الصغر والكبر، ويذكر الحلاوة والحموضة، ثم يؤمر بالإحضار، فإذا أحضر وأقر المدعي أن المحضر جميع المدعى به الآن يدعي الملك، هكذا قيل، وينبغي أن لا يشترط هذه الأوصاف في دعوى الإحضار، وقد مر جنس هذا. ادعى طاحونة في يدي رجل، وبيّن حدود الطاحونة، وذكر الأدوات القائمة في الطاحونة، إلا أنه لم يسم الأدوات ولم يذكر كيفيتها، فقد قيل: لا تصح الدعوى، وقد قيل: تصح إذا ذكر جميع ما فيها من الأدوات القائمة وهو الأصح. باع دار غيره وسلمها إلى المشتري، فجاء المالك وادعى الدار على البائع، هل تصح الدعوى؟ ينظر إن أراد أخذ الدار لا تصح؛ لأن الدار ليست في يده، وإن أراد التضمين بالغصب، فعلى الخلاف المعروف أن الغصب في العقار هل يتحقق موجباً للضمان؟ وفي وجوب الضمان بالبيع والتسليم روايتان عن أبي حنيفة، وإن أراد إجارة المبيع وأخذ الثمن تصح دعواه. ولو أن رجلاً قدم رجلاً إلى القاضي وقال: كان لي في حائط هذا الذي أحضرته في موضع كذا خشبة، فوقعت أو قال: قلعتها لأعمل غيرها وقد منعني صاحب الحائط هذا، وهو حق لي في هذا الحائط، لابد وأن يذكر حق وضع الخشبة أو الخشبتين أو ما أشبه ذلك وبين موضع الخشبة وغلظها. وكذا إذا ادعى مسيل ماء في دار، لابد وأن يبين مسيل ماء المطر أو ماء الوضوء، لأن هذا مما يتفاوت، لأن المطر لا يكون أدوم ويكون أكثر، وماء الوضوء والغسالات يكون أدوم ويكون أقل، وينبغي أن يبين موضع مسيل الماء أنه في مقدم البيت أو في مؤخره. وكذا إن ادعى طريقاً في دار رجل ينبغي أن يبين مقدار عرضه وطوله ويبين موضعه في الدار هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» . وذكر في دعوى «الأصل» : اذا ادعى مسيل ماء في دار رجل، أو ادعى طريقاً في دار رجل، وشهد الشهود أن له مسيل ماء في هذه الدار أوله طريق في هذه الدار، وقع

في بعض النسخ أنه تقبل البينة وإن لم يثبتوا، ووقع في بعضها أنه لا تقبل البينة ما لم يثبتوا، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ما وقع في بعض النسخ أنه تقبل البينة محمول على ما إذا شهدوا على إقرار صاحب الدار؛ لأن جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار، وما وقع في بعض النسخ أنه لا تقبل البينة محمول على ما إذا شهدوا على نفس المسيل والطريق، لا على إقرار المدعى عليه، وستأتي هذا المسائل في فصل على حدة إن شاء الله تعالى. وإذا ادعى على آخر أنه شق في أرضه نهراً وساق الماء فيه إلى أرضه، لابد من أن يسمي الأرض التي شق فيه النهر، ويبين موضع النهر، أنّ هذا النهر من الجانب الأيمن من هذا النهر، أو من الجانب الأيسر، ويبين قدر طول النهر وعرضه. وإذا ادعى على آخر ثلاثة أسهم من عشرة أسهم من دار، وقال: هذه الأسهم الثلاث من العشرة الأسهم من الدار المحدودة ملكي وحقي، وفي يد هذا المدعى عليه بغير حق، ولم يذكر أن جميع هذه الدار في يده، وكذلك لم يشهد الشهود أن جميع هذه الدار في يد هذا المدعى عليه، فهذه الدعوى صحيحة، وهذه الشهادة مقبولة. ادعى مالاً معلوماً على غيره، وقال في دعواه من إذا فلان أد يدي مال في ما تذكرت فت بسبب حسابي كه بيان من واو يود، فهذه الدعوى بهذا السبب لا تصح، لأن هذا السبب لا يصلح سبباً لوجوب المال. سئل القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي: عمن ادعى على آخر عيناً في يده، وقال: كان هذا ملك أبي، مات وتركه ميراثاً لي ولفلان، وسمى عدد الورثة، إلا أنه لا يبين حصة نفسه، فهذه الدعوى صحيحة منه، وإذا أقام البينة على دعواه سمعت بينته، ولكن إذا آل الأمر إلى المطالبة بالتسليم لابد وأن يبين حصته؛ لأنه لا يملك المطالبة بالتسليم إلا بقدر حصته، فيبين حصته عند ذلك، ولو كان بيّن حصته ولم يبين عدد الورثة. بأن قال: مات أبي وترك هذا العين ميراثاً لي ولجماعة سواي، وحصتي منه كذا، وطالبه بتسليم ذلك لا تصح منه الدعوى، ولا بد من بيان عدد الورثة لجواز أنه لو بيّن كان نصيبه أنقص مما سمّى. عبد باع عيناً من الأعيان بحضرة المولى، ثم إن المولى ادعى ذلك العين لنفسه، فإن كان العبد مأذوناً لا تصح دعوى المولى، وإن كان محجوراً تصح دعواه، فإن قيل: أليس أن المولى صار آذناً له لما رآه أنه باع ولم ينهه؟ قلنا نعم ولكن أمر الإذن إنما يظهر في المستقبل لا في التصرف المباشر، عرف ذلك في كتاب «المأذون الكبير» . رجل ادعى على رجل أنه باع عبداً مشتركاً بينه وبيني من فلان بكذا، وسلم العبد وطالبه بأداء نصف الثمن، فالقاضي يسأل المدعي أن العبد كان مشتركاً بينكما شركة ملك أو شركة عقد مفاوضة أو عياناً، إن قال شركة ملك لابد لصحة الدعوى من أن يقول في الدعوى: إن العبد قائم في يد (175ب4) المشتري وقت طلب الثمن الذي هو دليل الإجازة؛ لأن العقد في نصيبه إنما ينفذ وقت الإجازة، وإنما ينفذ إذا كان محله قائماً في

هذه الحالة، ولابد من ذكر قبض البائع الثمن، لتصح مطالبته إياه بأداء نصف الثمن، وإن قال: شركة عقد لا حاجة إلى ذكر قيام العبد وقت طلب العين؛ لأن العقد قد نفذ في النصيبين حال وجوده، ولكن يشترط ذكر قبض الثمن لتصح مطالبته بأداء نصف الثمن. رجل ادعى على غيره أن وصيّي باع من أقمشتي منك كذا وكذا في حال صغري بكذا وكذا، وأنه قد مات قبل استيفاء شيء من الثمن، فادفع إليّ ثمن أقمشتي، فقد قيل: لا تصح هذه الدعوى؛ لأن بعد موت الوصي حق قبض ثمن ما باع الوصي يكون لوارثه أو لوصيّه فإن لم يكن له وصيّ أو وارث، فالقاضي ينصب له وصياً. قال رضي الله عنه: وعلى قول من يقول من المشايخ في الوكيل بالبيع إذا مات قبل قبض الثمن، فحق القبض ينتقل إلى الموكل، ينبغي أن يقال ههنا حق القبض ينتقل إلى الصبي بعد بلوغ الصبي، وتصح الدعوى. وفي «الأقضية» لأهل الكوفة: رجل ادعى على رجل أنه أمر فلاناً، فأخذ منه كذا وكذا من المال، فإن كان المدعى عليه الآخر سلطاناً، فالدعوى عليه مسموعة، وإن لم يكن سلطاناً فالدعوى عليه غير مسموعة. ووجه ذلك إن أمر السلطان إكراه؛ لأن المأمور يعلم أنه لو لم يمثل أمره يعاقبه السلطان، هذا هو عادة السلاطين، والثابت من طريق العادة كالثابت نصاً، ولو هدده السلطان بالعقوبة على أن يأخذ مال الغير أو ينقله ففعل، كان الضمان على السلطان دون المأمور، كذا ههنا، وإذا كان الضمان في هذه الصورة على السلطان كانت الدعوى عليه صحيحاً، فأما أمر غير السلطان فليس بإكراه لأنه لا يعاقب المأمور لو لم يمثله وكان مجرد أمر، وإنه لم يصح، لأنه لم يملك أخذ مال الغير وإتلافه، والأمر بما لا يملكه، الأمر لغو فخرج الأمن من البين وبقي الفعل مقصوراً على المأمور، فكان الضمان عليه دون الأمر، فلا يصح دعوى الضمان على المأمور بأن ادعى على رجل أن فلاناً أمرك وأخذت من مالي كذا وكذا، فإن كان الآمر سلطاناً فدعوى الضمان على المأمور لا تصح، وإن لم يكن سلطاناً فدعوى الضمان عليه صحيحة، وهو بناء على ما قلنا. رجل ادعى داراً في يد رجل من تركة والده أنه اشتراها من والده في مرضه، وأنكرنا في الورثة ذلك، فقد قيل: لا تصح هذا الدعوى؛ لأن المرض قد يكون مرض موت، وقد يكون غير مرض موت، وبيع المريض مرض الموت من وارثه وصية له بالعين عند أبي حنيفة رضي الله عنه حتى قال: بيعه من الوارث لا يجوز وإن كان بمثل القيمة، إلا بإجازة باقي الورثة، فكان هذا دعوى الوصية على أحد التقديرين، فلا تصح بالشك، وقيل: ينبغي أن تصح الدعوى؛ لأن تصرف المريض مع وارثه ينعقد بوصف الصحة، حتى لو أجاز بقية الورثة ذلك ينفذ وإن لم يجيزوا يبطل، فالبطلان يعارض عدم الإجازة بشرط أن يكون المرض مرض الموت، فإن لم يعلم أن هذا المرض مرض الموت كان للتصرف فيه حكم الصحة، فتكون الدعوى صحيحة.H رجل باع عقاراً، وابنه أو امرأته، أو بعض أقاربه حاضر يعلم به، ووقع القبض

بينهما وتصرف المشتري زماناً، ثم إن الحاضر عند البيع ادعى على المشتري أنه ملكه، ولم يكن ملك البائع وقت البيع، اتفق المتأخرون من مشايخ سمرقند على أنه لا تصح هذه الدعوى ويجعل سكوته كالإفصاح بالإقرار أنه ملك البائع، ومشايخ بخارى أفتوا بصحة هذه الدعوى. قال الصدر الشهيد في «واقعاته» : إن نظر المفتي في المدعي وأفتى بما هو الأحوط كان أحسن، وإن لم يمكنه ذلك يفتي بقول مشايخ بخارى، فإن كان الحاضر عند البيع جاء إلى المشتري وتقاضاه الثمن بعثه البائع إليه، لا تسمع دعواه بعد ذلك الملك لنفسه، ويصير مجراً البيع بقاضي الثمن، فلا تصح دعواه بعد ذلك الملك لنفسه. وفي «فتاوى الفضلي» : سئل عمن ادعى على آخر أربعين فصيلاً في بطون أمهاتها غير مولود، قال: لا تسمع دعواه إلا أن يدعي إقرار المدعى عليه بذلك، ويقيم البينة على إقراره، وهذا إشارة إلى أن دعواه بسبب الإقرار صحيح، وهذا فصل اختلف المشايخ فيه، ومسائل الكتب فيها متعارضة، وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى. ادعى على آخر ثمن عبد اشتراه منه وقبضه صحت الدعوى، وإن لم يعين العبد ولم يبين صفته؛ لأن هذا في الحقيقة دعوى الدين لما كان العبد مقبوضاً. دار في يدي رجل ادعى بقاء رجل، فأقام صاحب اليد بينة على المدعي أني اشتريت هذه الدار من وصيّك في حال صغرك بكذا إلا أنه لم يسم الوصيّ، وأقام على ذلك بينة، هل تسمع دعواه وبينته؟ اختلف المشايخ فيه، وكذلك إن ادعى أن فلاناً باع هذه الدار بإطلاق القاضي في حال صغرك، ولم يسم القاضي، وأقام على ذلك بينة هل تصح دعواه، وهل تسمع بينته؟ اختلف المشايخ فيه، وعلى هذا إذا شهد الشهود على الوقف وتسلم الواقف إياه إلى المتولي، إلا أنهم لم يسموا الواقف أو سموا الواقف، دون المتولي ففيه اختلاف المشايخ. والحاصل: أن في دعوى الفعل والشهادة على الفعل هل يشترط تسمية الفاعل؟ ففيه اختلاف المشايخ، وأدلة الكتب فيه متعارضة. ذكر الخصاف في كتاب «أدب القاضي» في باب الشهادة على الحقوق: أنه إذا شهد شاهدان على رجل لرجل أن قاضياً من القضاة قضى لهذا الرجل على هذا الرجل بألف درهم، أو شهد شاهدان أن قاضي الكوفة قضى لهذا الرجل على هذا الرجل بألف درهم، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة حتى يسموا القاضي الذي قضى به وينسبوه، قال ثمة: وليس هذا في هذا الموضع وحده، بل الحكم في جميع الأفاعيل، هذا إذا شهد الشهود على فعل لابد وأن يسموا الفاعل وينسبوه، ولو لم يسموا لا تقبل شهادتهم. وذكر محمد رحمه الله في كتاب الحدود: إذا أقام المدعى عليه بينة أن شهود المدعي محددون في قذف، لابد وأن يسموا من حدهم، فهذه المسائل على أن تسمية الفاعل شرط. وذكر محمد في «الزيادات» : إذا ادعى على رجل أنه وارث فلان الميت، وأن

قاضي بلد كذا قضى لوراثته، وجاء بشاهدين شهدا أن قاضي بلد كذا أشهدنا على قضائه أن هذا الرجل وارث فلان الميت لا وارث له غيره، فالقاضي يجعله وارثاً، ولم يشترط تسمية ذلك القاضي. وذكر في دعوى «الأصل» في آخر باب دعوى النكاح: إذا ادعى رجل أمة في يدي رجل وجاء بشهود شهدوا عند القاضي أن قاضي بلد كذا قضى بهذه الأمة لي صحت دعواه، ولم يشترط تسمية القاضي. وذكر في إقرار «المنتقى» : رجل ادعى داراً في يدي رجل أنها لي، اشتريتها من وكيلك بألف درهم، ولم يسم الوكيل، وشهد له الشهود على الشراء ولم يسموا الوكيل تسمع دعواه وشهادة شهوده. وذكر الصدر الشهيد في «واقعاته» في باب الوقف بعلامة السين: إذا كتب صك الوصاية أو صك التولية، ولم يذكر فيه جهة الوصاية والتولية لا يصح الصك؛ لأن الوصي قد يكون من جهة القاضي وقد يكون من جهة الأب، وأحكامها مختلفة، وكذلك المتولي قد يكون من جهة القاضي وقد يكون من جهة الواقف، وأحكامهما مختلفة، وإن كتب أنه قضى من جهة الحاكم أو أنه متولي من جهة الحاكم، ولم يسم الحاكم الذي نصبه، ولا الذي ولاه جاز. قال رحمه الله: ثمة وعلى هذا القياس إذا احتيج إلى كتابة القضاء في المجتهدات، كالوقف وإجارة المشاع ونحوه، كتب وقضى قاضٍ من قضاة المسلمين بصحته وجوازه (176أ4) ويجوز ذلك وإن لم يسم ذلك القاضي، فهذه المسائل كلها تدل على أن تسمية الفاعل ليس بشرط لصحة الدعوى والشهادة، فيتأمل عند الفتوى. وفي دعوى السعاية لا يشترط ذكر قابض المال ونسبه، لأن وجوب الضمان على الساعي بصنعه ولا تعلق له بالقابض والآخذ، وفي دعوى المال في الإجارة المفسوخة لا يشترط ذكر حدود المستأجر. ادعى على آخر عشرة دراهم ثمن مبيع مقبوض، ولم يبين المبيع أنه ما هو، فقد قيل لا تصح الدعوى؛ لأنه يحتمل أن يكون المبيع خمراً أو ميتة، وبيعهما لا يوجب الثمن على المشتري فيما بين المسلمين على ما عليه ظاهر حالهم، والبناء على الظاهر واجب حتى يقوم الدليل على خلافه، وفي دعوى قيمة الأعيان لابد من بيان الأعيان؛ لأن الإنسان قد يظن عيناً أنه من ذوات القيم، ويكون في الحقيقة مثلياً، إذا قال مراده ديناً رزومي بايد نميدا نم كه انز زيد في بايديا أن جعفر بازير يكي ازايشان دعوى ميكندبر تعين در مجلس ديك، تصح دعواه؛ لأنه قد يشتبه على الإنسان ذلك ثم يزول الاشتباه بالتفكر. ذكر محمد رحمه الله في كتاب الدعوى: وإذا كان الحائط بين رجلين، فادعى رجل على أحدهما أنه أقر أن الحائط له، وأقام على ذلك بينة قضى بنصيبه لا غير؛ لأنه ثبت إقراره بالبينة، وإقرار أحد الشريكين في نصبيه صحيح. وهذه المسألة تصير رواية في فصل اختلف المشايخ فيه أن من ادعى عيناً في يد

إنسان أنه له لما أن صاحب اليد أقر به لي، أو ادعى عليه دراهم، وقال في دعواه: لي عليه كذا من الدراهم لما أنه أقر بها لي أو قال ابتداءً: إن هذه العين لي، أو قال: أقر أن لي عليه كذا من الدراهم، هل تصح هذه الدعوى؟ بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: تصح، وفي بعض الكتب أشار إلى هذا، من جملة ذلك هذه المسألة، ألا ترى أن محمداً رحمه الله سمع الدعوى وسمع البينة في هذه المسألة، وقد ادعى المدعي إقرار المدعى عليه، وعامتهم أن هذه المسألة الدعوى لا تصح ولا تسمع هذه البينة؛ لأن نفس الإقرار لا يصلح سبباً لاستحقاق المدعى به، فإن بالإقرار كاذباً لا يثبت الاستحقاق للمقر له، فقد أضاف الدعوى إلى ما لا يصلح سبباً للاستحقاق فلا يصح. وأجمعوا على أنه لو قال: هذه العين ملكي، وهكذا أقرّ به صاحب اليد، أو قال لي عليه كذا، وهكذا أقر به المدعى عليه أنه ليصح الدعوى، ويسمع البينة على إقراره، ولو قال في الدعوى: إن صاحب اليد قال: هذه العين لك جعلت هذا العين لك سمع ذلك منه؛ لأن هذه دعوى الهبة، والهبة سبب الملك ودعوى الملك مضافاً إلى ما لا يصلح سبباً له لا يصح، وكذلك اختلف المشايخ في دعوى الإقرار في طرف الدفع أنه هل تصح؟ بعضهم قالوا: لا تصح كما في طرف الاستحقاق، وعامتهم على أنه تصح دعوى الإقرار في طرف الرفع. وقد ذكر محمد رحمه الله في الكتب مسائل تدل على ذلك فمن جملته ما ذكر ابن رستم في «نوادره» عن محمد. وصورتها: رجل ادعى في يدي رجل داراً أو متاعاً، وأقام البينة عند القاضي، وقضى القاضي له بذلك، فلم يقبضه حتى أقام ذو اليد بينة على المدعي أنه أقر أنه لا حق له فيه، قال إن شهدت شهوده على إقرار المدعي بذلك قبل قضاء القاضي بطلت شهادة شهود المدعي. وذكر في كتاب الوكالة في الوكيل بالخصومة في الدار إذا أقام بينة على أن الدار ملك موكله، وأقام المدعى عليه بينة على إقرار الوكيل أن الدار ليست لموكله، بطلت بينة الوكيل. وذكر في آخر «الجامع» : رجل ادعى داراً في يدي رجل ميراثاً عن أبيه، وأقام على ذلك بينة، وأقام الذي في يديه بينة أن أب المدعي أقر في حال حياته أن الدار ليست له، وأقام بينة على إقرار المدعي أنها ليست له، بطلت بينة المدعي، وذكر بعض مشايخنا في تعليل هذه المسألة لو كان الميت حياً، وأقام بينة على الذي الدار في يديه أن الدار داره، وأقام ذو اليد بينة على إقرار المدعي أنها ليست له، بطلت بينة المدعي. وفي دعوى «المنتقى» : إن من ادعى على آخر عيناً في يديه أن هذه العين ملكه، وأن صاحب اليد غصبه وأقام البينة على ذلك، وأقام الغاصب بينة أن المالك أقر أن هذا العين لي قبلت بينته، وأقررت الغصب في يديه وهذا بطريق الدعوى، ودعوى الإقرار بطريق الدفع مسموع، وفي دعوى الدين إذا قال المدعى عليه: إن المدعي أقر باستيفاء هذا

الفصل الثالث: في دعوى الملك المطلق في الأعيان

المال منه وأقام البينة عليه، فقد قيل: إنه لا تسمع بينته؛ لأن هذه دعوى الإقرار في طرف الاستحقاق؛ لأن الديون تقضى بأمثالها، فيصير المقبوض مضموناً على القابض ديناً للدافع على ما عرف، ففي الحاصل هذا دعوى الدين لنفسه، وكان هذا دعوى الإقرار في طرف الاستحقاق من حيث المعنى والله أعلم. الفصل الثالث: في دعوى الملك المطلق في الأعيان هذا الفصل يشتمل على أنواع: الأول في دعوى الخارج مع ذي اليد، قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا ادعى رجل داراً في يدي رجل أو عقاراً آخراً ومنقولاً، وأقاما البينة قضي ببينة الخارج عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، والجملة في ذلك أن البينات في الأصل وضعت للإثبات، فبطل الترجيح أولاً من حيث الإثبات، فما كان أكثر إثباتاً كانت أولى بالقبول، وبعد الاستواء في الإثبات يقع الترجيح بحكم اليد، إذا ثبت هذا فنقول: بينة الخارج في دعوى الملك المطلق أكثر إثباتاً من بينة ذي اليد؛ لأن الخارج يثبت زيادة استحقاق على ذي اليد لا يثبت ذو اليد مثل ذلك ببينته على الخارج؛ لأنه ثبت استحقاق الملك الثابت لذي اليد، بظاهر اليد وذو اليد لا يستحق ببينته مثل ذلك على الخارج، إذ ليس للخارج ملك ثابت بظاهر اليد حتى يستحق ذو اليد ذلك عليه ببينته. وتحقيق هذا الكلام أن دعوى الملك المطلق وإن كان دعوى أولية الملك من حيث الحكم، حتى يستحق المدعي الأصل بالزوائد المتصلة والمنفصلة، ويرجع الباعة بعضهم على البعض كافة، نص على أولية الملك، إلا أنه يحتمل التملك من جهة صاحب اليد من حيث الحقيقة والنص، فإنه لم ينص على أولية الملك من حيث الحقيقة، فكل واحد من البينتين أثبت أولية الملك لصاحبها، فاستويا من هذا الوجه، إلا أن الخارج ببينته يستحق على ذي اليد الملك الثابت له بظاهر اليد، لأن الملك في العين ثابت لذي اليد بظاهر اليد، والخارج ببينته يستحق عليه ذلك؛ لأن دعواه تحتمل التملك من جهته، وذو اليد ببينته لا يستحق على الخارج مثل ذلك؛ فهو معنى قولنا بينة الخارج أكثر إثباتاً، بخلاف ما إذا وقع الدعوى في النتاج؛ لأن هناك استوت البينات في الإثبات؛ لأن كل بينة أثبتت أولية الملك لصاحبها، ولم تثبت استحقاقها على الآخر باعتبار التمليك من جهته؛ لأن كل بينة نصت على أولية الملك، حيث قالت نتجت عنده، ولدت عنده، وكذلك كل واحد من الخصمين نص على أولية الملك حيث قال نتجت عندي ولدت عندي، وهذا لا يحتمل التمليك من جهة صاحبه، فاستويا في الإثبات، فرجحنا بينة ذي اليد بحكم اليد؛ لأن يده دليل على زيادة صدقه في دعواه. وبخلاف ما لو وقع الدعوى في تلقي الملك من جهة ثالثٍ؛ لأن هناك استوت البينات في الإثبات والاستحقاق؛ لأن كل بينة أثبتت الملك لبائعه والانتقال من بائعه إلى

نفسه، وترجح صاحب اليد بحكم اليد، وبخلاف ما لو تنازعا في عبد ادعى كل واحد أنه عبده دبّره أو أعتقه، وأقاما البينة حيث يقضي ببينة صاحب اليد، لأن هناك الدعوى في الحاصل في الولاء، لأن العتق حاصل للعبد بتصادقهما، وقد استوت البينتان في إثبات الولاء، وترجح بينة صاحب اليد بحكم يده. هذا إذا لم يذكرا تاريخاً، فأما إذا (176ب4) ذكرا تاريخاً إن كان تاريخهما على السواء، فكذا الجواب أنه يقضي للخارج منهما؛ لأن عند استوائهما في التاريخ يسقط اعتبار التاريخ، وتبقى الدعوى في الملك المطلق، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق، فعلى قول أبي حنيفة للتاريخ عبرة في دعوى الملك المطلق إذا اجتمعا على التاريخ فيقضى لأسبقهما تاريخاً إن كان اسبقهما تاريخاً الخارج، فلا إشكال، لأنهما لو كانا في التاريخ على السواء كان يقضى للخارج، فإذا كان هو سابقاً في التاريخ كان أولى، وإن كان أسبقهما تاريخاً ذو اليد، فلأنه أثبت الملك في وقت سابق على وقت الخارج، في بينته زيادة إثبات واستحقاق من حيث الوقت إن كان في بينة الخارج زيادة استحقاق من حيث أنه يستحق على صاحب اليد الملك الثابت له بظاهر اليد، فاستويا في إثبات الاستحقاق من هذا الوجه، وترجح بينة صاحب اليد بحكم اليد كما في دعوى النتاج وعلى قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد أولاً: للتاريخ عبرة في هذه الصورة كما هو قول أبي حنيفة رحمهم الله، فيقضى لأسبقهما تاريخاً، وعلى قول أبي يوسف أولاً وهو قول محمد آخراً: إلا عبرة للتاريخ في هذه الصورة، فيقضى للخارج، وما ذكر محمد رحمه الله في الدعوى، وأحدهما وقت قبل وقت صاحبه من قوله، فمن هذه الصورة أنه يقضى أسبقهما تاريخاً، فذلك قوله الأول، أما على قوله الآخر يقضي للخارج، روى ذلك أصحاب «الأمالي» عن محمد رحمه الله. وذكر في «المنتقى» : رجل ادعى عبد في يدي رجل أنه له منذ شهر، وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة أنه له منذ سنة، وذكر أن صاحب اليد أولى عند أبي يوسف، وقال محمد رحمه الله: المدعي أولى، وما ذكر من قول أبي يوسف قوله الآخر؛ لأن للتاريخ عبرة على قوله الآخر في دعوى الملك المطلق، فيقضي لأسبقهما تاريخاً، وهو ذو اليد، وما ذكر من قول محمد رحمه الله قوله الآخر أيضاً؛ لأنه لا عبرة للتاريخ في دعوى الملك المطلق حالة الاجتماع، إنه إذا اجتمع في دعوى الملك المطلق ما يوجب اعتبار التاريخ وما يوجب إلغاءه، أما ما يوجب إلغاءه؛ لأن دعوى مطلق الملك بمنزلة دعوى مطلق الملك بمنزلة دعوى النتاج من حيث إنه دعوى أولية الملك والتاريخ في دعوى النتاج لغو حالة الإجماع وحالة الانفراد على ما يأتي بيانه إن شاء الله. وأما ما يوجب اعتباره؛ لأن دعوى مطلق الملك يحتمل دعوى التملك من جهة المدعى عليه، بخلاف دعوى النتاج، وهذا يوجب اعتبار التاريخ كما لو ادعى التملك من جهة المدعى عليه بالشراء صريحاً، فقد اجتمع في دعوى الملك المطلق ما يوجب اعتبار التاريخ وما يوجب إلغاءه، والعمل بهما متعذر، إذ لا يتصور أن يكون التاريخ معتبراً وغير

معتبر فلابد من اعتبار أحدهما وإلغاء الآخر، فنقول: اعتبار دعوى النتاج فيه أولى من اعتبار دعوى التملك؛ لأن دعوى النتاج في دعوى الملك المطلق ثابت من حيث الحكم حتى تستحق العين بالزوائد المتصلة والمفصلة جميعاً، ويرجع الباعة بعضهم على بعض، ودعوى التملك من جهة المدعى عليه في دعوى الملك غير معتبر من حيث الحكم، بل هو معتبر لترجيح بينة الخارج على بينة ذي اليد، فكان دعوى النتاج أثبت من دعوى التملك، فكان اعتبار دعوى النتاج أولى، وإذا اعتبرنا دعوى الملك المطلق بدعوى النتاج يلفوا فيه ذكر التاريخ، كما في دعوى النتاج، ولأبي حنيفة وأبي يوسف آخراً، وهو قول محمد أولاً، لبيان أن للتاريخ عبرة في دعوى الملك المطلق حالة الإجماع أنه اجتمع في دعوى مطلق الملك ما يوجب اعتبار التاريخ، وما يوجب إلغاءه على الوجه الذي قاله أبو يوسف آخراً ومحمد أولاً، إلا أن اعتباره بدعوى التملك من جهة المدعى عليه أولى، لأنا إذا اعتبرناه بدعوى التملك في حق هذا الحكم أعني به اعتبار التاريخ تبقى دعوى أولية الملك معتبراً في حق بعض الأحكام، وهو استحقاق الزوائد، ورجوع الباعة بعضهم على البعض. ولو اعتبرناه بدعوى النتاج في حق هذا الحكم لا يبقى دعوى التملك معتبراً في حق حكم ما، فكان اعتباره بدعوى التملك في حق اعتبار التاريخ، وإنه عمل به وبدعوى أولية الملك من وجه أولى من اعتباره بدعوى أولية الملك، وفيه إلغاء دعوى التملك من كل وجه، هذا إذا أرّخا وتاريخ أحدهما أسبق. فأما إذا أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، وعلى قول أبي حنيفة يقضي للخارج؛ لأنه لا عبرة للتاريخ في دعوى الملك المطلق حالة الانفراد، فيسقط اعتبار التاريخ وتبقى دعوى الملك المطلق، فيقضي للخارج. وروى بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يقضى للمؤرخ في هذه الصورة، وهكذا روى الحسن في «المجرد» ، فهذه الرواية إشارة إلى أن التاريخ في دعوى الملك المطلق حالة الانفراد تعتبر عنده، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف أن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يقول بهذا، يعني كان يعتبر التأقيت حالة الإنفراد، والصحيح من مذهبه والمشهور عنه أن التاريخ حالة الإنفراد في دعوى الملك المطلق غير معتبر. والوجه لأبي حنيفة في ذلك أن الذي لم يؤرخ سابق على الذي أرخ من وجه سابق من حيث إن دعوى الملك المطلق دعوى أولية الملك حكماً، فبهذا الاعتبار يكون غير المؤرخ سابقاً على المؤرخ، ولا حق من حيث إن دعوى مطلق الملك يحتمل دعوى التملك من جهة المدعى عليه بعد تاريخ المؤرخ، فبهذا الاعتبار يكون لاحقاً، وإذا كان غير المؤرخ سابقاً من وجه ولاحقاً من وجه كان المؤرخ أيضاً سابقاً من وجه ولاحقاً من وجه، فقد استويا في السبق واللحوق، فيجعل كأنهما ملكا معاً، وعند ذلك لا يمكن اعتبار معنى التاريخ، فهذا معنى قولنا إن دعوى النتاج حالة الانفراد ساقطة الاعتبار بخلاف ما إذا أرّخا وتاريخ أحدهما أسبق حيث يقضي لأسبقهما تاريخاً عنده؛ لأن

أسبقهما تاريخاً سابق من كل وجه والآخر لاحق من كل وجه، وعلى قول أبي يوسف الآخر، وهو قول محمد رحمه الله أولاً للتاريخ عبرة، وغير المؤرخ أسبقهما تاريخاً معنى؛ لأنه يدعي أولية الملك، فيقضى لغير المؤرخ، وعلى قول محمد آخراً وهو قول أبي يوسف أولاً لا عبرة للتاريخ فيسقط اعتبار التاريخ، ويقضى للخارج. ومما يتصل بهذا النوع إذا ادعى الخارج مع ذي اليد مع دعوى الملك المطلق فعلاً. صورته: ما ذكر في آخر دعوى «الأصل» : إذا ادعى الخارج أنه عبده، كاتبه على ألف درهم، وأقام على ذلك بينة، وأقام ذو اليد بينة، أنه عبده كاتبه على ألف درهم، قال: جعلته مكاتباً بينهما يؤدى إليهما جميعاً؛ لأن كل واحد منهما لما ادعى الكتابة، فقد تصادقا على أنه لا بد لواحد منهما عليه، وأنه في يد نفسه، فصارت مسألتنا عبد في يد ثالث تنازع فيه اثنان، وادعى كل واحد أنه عبده كاتبه، ولو كان هكذا يقضي بالملك بينهما، ويكون مكاتباً لهما كذا ههنا، ولو ادعى أحدهما أنه دبره وهو يملكه، وأقام على ذلك بينة وادعى الآخر أنه كاتب وهو يملكه، كانت بينة التدبير أولى؛ لأن التدبير أولى؛ لأن التدبير يوجب الحرية للحال، وإنه لا يحتمل الفسخ، والكتابة لا توجب الحرية للحال، وإنما تحتمل الفسخ، فكان التدبير أولى، فكان بينته أكثر إثباتاً. ومما يتصل بهذا النوع أيضاَ: إذا ادعى الخارج الملك المطلق مؤرخاً، وادعى صاحب اليد الملك بسبب الشراء مؤرخاً. صورته: دار في يدي رجل، ادعى رجل أنها داره ملكها منذ سنة، وأقام صاحب اليد بينة أنه اشتراها من فلان منذ سنتين وهو يملكها وقبضها منه، قضي بها للمدعي الخارج؛ لأن صاحب اليد خصم عن بائعه في إثبات الملك ليمكنه إثبات الانتقال إلى نفسه، فكأن بائعه حضر، وأقام البينة على الملك المطلق لنفسه والدار في يده، لأن يد المشتري يد البائع من حيث التقدير، ولو كان كذلك كان يقضي ببينة الخارج، كذا ههنا. نوع آخر في دعوى الخارجين في الملك المطلق (177أ4) . قال محمد رحمه الله: وإذا ادعى رجلان داراً أو عقاراً أو منقولاً في يدي رجل، فأقاما البينة على ما ادعيا، وأرخا وتاريخهما على السواء، أو لم يؤرخا يقضي بينهما لاستوائهما في الدعوى والحجة، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق، فعلى قول أبي حنيفة وهو قول أبي يوسف آخراً وقول محمد أولاً يقضى لأسبقهما تاريخاً ويكون للتاريخ عبرة، وعلى قول أبي يوسف أولاً، وهو قول محمد أخراً يقضى بينهما ولا يكون للتاريخ عبرة، هكذا ذكر في «الأصل» .e وذكر في «المنتقى» أنه يقضى لأسبقهما تاريخاً بلا خلاف، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الأصل» . وفي «النوادر» عن أبي حنيفة يقضى بينهما؛ لأنه لا عبرة للتاريخ عند حالة الإنفراد في دعوى الملك المطلق في أصح الروايات، فيسقط اعتبار التاريخ، وتبقى الدعوى في الملك المطلق، وعلى قول أبي يوسف: يقضى للذي أرّخ، وعلى قول محمد رحمه الله:

يقضى للذي لم يؤرخ، قالوا: وما ذكر من قول أبي يوسف رحمه الله: أنه يقضى للذي أرخ مستقيم على قوله الآخر: لأن على قوله الآخر: للتاريخ عبرة في دعوى الملك المطلق في حالة الانفراد كما في حالة الاجتماع، فيكون المؤرخ أولى، وإنه مشكل على قوله الآخر وينبغي أن يكون غير المؤرخ أولى؛ لأنه أسبقهما تاريخاً، لأنه يدعي أولية الملك ويؤيده أن في فصل الخارج مع ذي اليد إذا أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر كان غير المؤرخ أولى على قوله الآخر على ما مر، وما ذكر من قول محمد: إنه يقضي لغير المؤرخ إنما يستقيم على قوله الأول: للتاريخ عبرة واعتبار التاريخ يوجب أن يكون غير المؤرخ ههنا أولى؛ لأن غير المؤرخ سابق، لأنه يدعي أولية الملك، وأما على قوله الآخر يجب أن يقضى بينهما؛ لأن على قوله الآخر: لا عبرة للتاريخ، حتى إذا أرخا وتاريخ أحدهما أسبق يقضى بينهما. نوع آخر في دعوى صاحبي اليد دارٌ أو منقول في يدي رجلين، فأقام كل واحد منهما البينة أنه لم يجب أن يعلم بأن العقار أو المنقول، إذا كان في يدي رجلين يجعل في كل واحد منهما نصفه، ويجعل كل واحد منهما مدعياً فيما في يد صاحبه، مدعى عليه فيما في يده، فإذا أقاما البينة على ما ادعيا: إن لم يؤرّخا أو أرّخا وتاريخهما على السواء يقضى بينهما نصفان، وفي «الأصل» يقول محمد رحمه الله: يقضى لكل واحد منهما بما في يد صاحبه، وهذا إشارة إلى أن هذه البينة وقعت معتبرة، فإنه قال قضي لكل واحد منهما بما في يد صاحبه، والمشايخ اختلفوا في هذه البينة على قولين: بعضهم قالوا هذه البينة وقعت لغواً؛ لأنها لا تفيد؛ لأنها لا توجب الملك بينهما إلا نصفان، والملك بينهما نصفان ثابت بحكم يدهما، وبعضهم قالوا: لا بل هذه البينة وقعت معتبرة؛ لأن قبل هذه البينة تترك الدار في أيديهما قضاء ترك، وبعد هذه البينة تترك الدار في أيديهما قضاء استحقاق بالبينة، فإن كل واحد منهما يصير مقضياً عليه فيما كان في يده ببينة صاحبه، حتى بعدما قضى القاضي بالدار بينهما نصفان، لو ادعى أحدهما على صاحبه النصف الذي صار لصاحبه لا تسمع دعواه؛ لأنه صار مقضياً عليه في ذلك النصف، وإن أرّخا وتاريخ أحدهما أسبق، فعلى قول أبي حنيفة وهو قول أبي يوسف أولاً: لا عبرة للتاريخ يقضى به بينهما، وإن أرّخ أحدهما ولم يؤرّخ الآخر، فعلى قول أبي حنيفة: لا عبرة للتاريخ فيقضى به بينهما، وكذلك عندهما على القول الذي لا يعتبران التاريخ، وعلى القول الذي يعتبران التاريخ يقضى للمؤرخ عند أبي يوسف، ولغير المؤرخ عند محمد؛ لأن غير المؤرخ أسبقهما تاريخاً معنى. نوع آخر في دعوى الخارجين كل واحد منهما يدعي فعلاً على صاحبه من غصب أو إجارة أو إعارة مع دعوى الملك المطلق، وفي دعوى أحدهما ذلك الفعل على صاحبه والحكم فيه أنه إذا ادعى كل واحد منهما على صاحبه فعلاً مع دعوى الملك المطلق بأن ادعى على صاحبه غصبه منه،

أو ادعى أنه أعاره منه أو أودعه منه، فإنه يقضي بالعين بينهما؛ لاستوائهما في الدعوى والحجة، وإن ادعى أحدهما فعلاً على صاحبه مما ذكرنا وصاحبه ادعى الملك لا غير يقضى ببينته..... ببينة مدعي الفعل؛ لأن بينته أكثر إثباتاً، والدار إذا كانت في يدي رجلين يجعل في يد كل واحد منهما نصف الدار؛ لاستوائهما في اليد على الدار، ثم يجعل كل نصف من الدار بمنزلة دار على حدة؛ لأن حكم كل نصف يخالف حكم النصف الآخر؛ لأن كل واحد منهما خارج فيما في يد صاحبه يد فيما في يده، وحكم الخارج يخالف حكم ذي اليد في الدعوى وإقامة البينة. جئنا إلى المسائل، قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا كانت الدار في يدي رجلين أقام كل واحد منهما بينة أن الدار له، وأقام أجنبي بينة أن الدار له، فإن للرجل الأجنبي نصفها ولكل واحد من صاحبي اليد ربعها؛ لأن في يد كل واحد من صاحبي اليد نصف الدار، وكل نصف بمنزلة دار على حدة، فيسمى أحد صاحبي اليد أكبر، ويسمى الآخر أصغر تسهيلاً للتخريج، فنقول: في يد الأصغر نصف الدار، تنازع فيه الأصغر والأكبر والأجنبي، وأقاموا البينة، وبينة الأصغر فيه مقبولة لكونه صاحب يد فيه، فخرج هو من البين، بقي بينة الأجنبي والأكبر، وهما مقبولتان لكونهما خارجين من هذا النصف وقد استويا في الدعوى؛ لأن كل واحد يدعي جميعه، واستويا في الحجة، فيقضي بذلك بينهما، وفي يد الأكبر نصف الدار أيضاً تنازع فيه الأكبر والأصغر والأجنبي وبينة الأكبر غير مقبولة فيه وبينة الأصغر والأجنبي مقبولتان، فيقضى بذلك النصف بين الأجنبي والأصغر، فحصل للأجنبي نصف كل واحد من النصفين، فكان له النصف كملاً، وحصل لكل واحد من صاحبي اليد نصف النصف الذي في يد صاحبه، فكان لكل واحد ربع الدار. ولو أن الأجنبي ادعى على أحد صاحبي اليد بعينه أنه غصب هذه الدار منه، وباقي المسألة بحاله، كان ثلاثة أرباع الدار للأجنبي، وربعها للذي لم يدع عليه الغصب، وخرج المدعى عليه الغصب من البين، حتى لو كان دعوى الغصب على الأكبر لا يكون للأكبر شيء من الدار، ويكون للأجنبي ثلاثة أرباع الدار، وإنما كان كذلك لأن النصف الذي في يد الأكبر، بينة الأكبر فيه غير مقبولة، وبينة الأصغر والأجنبي فيه مقبولتان وقد استويا في الدعوى، وكذلك استويا في الحجة، لأن كل واحد منهما يدعيه ملكاً مطلقاً من غير دعوى الفعل على صاحبه، فيقضي بذلك بينهما، وأما النصف الذي في يد الأصغر فبينة الأصغر فيه غير مقبولة، وكذلك بينة الأكبر فيه غير مقبولة؛ لأن الأكبر مع الأجنبي خارجان في ذلك النصف، وقد ادعى الأجنبي على الأكبر فيه فعلاً وهو الغصب، وفي مثل هذا تقبل بينة مدعي الفعل، ولا تقبل بينة مدعى عليه الفعل، فيقضي بهذا النصف للأجنبي بكماله وقد أصابه نصف النصف الآخر، فصار له ثلاثة أرباع الدار من هذا الوجه.

وفي «الجامع» أيضاً: رجل في يديه دار أقام رجل عليه بينة أنها داره، وأقام رجل آخر البينة أنها داره غصبها منه هذا المدعي الآخر، فإنه يقضي بالدار للمشهود له بالغصب، لأنهما خارجان تنازعا في الملك المطلق وادعى أحدهما الفعل وهو الغصب على صاحبه، وكذلك لو (177ب4) كان مكان دعوى الغصب دعوى الإيداع. ولو أن رجلين في أيديهما دار أقام رجل أجنبي بينة أنها داره غصبها منه هذا الأكبر، وأقام الأكبر بينة أنها داره غصبها منه هذا الأكبر، وأقام الأكبر بينة أنها داره غصبها منه هذا الأجنبي، وأقام الأصغر بينة أنها داره، ولم يثبت غصباً على أحد، فإنه يقضي بنصف الدار للأجنبي نصف ذلك مما في يد الأصغر، ونصف ذلك مما في يد الأكبر، والنصف الآخر من الدار بين الأصغر وبين الأكبر نصفان لأن الأكبر مع الأجنبي استويا في دعوى ما في يد الأصغر وفي «الحجة» : لأن كل واحد منهما ادعى الغصب على صاحبه فيه، وهما خارجان فيه، فيقضى بما في يد الأصغر بينهما، والأصغر مع الأجنبي استويا في دعوى ما في يد الأكبر، وفي «الحجة» أيضاً: لأن كل واحد منهما لم يدع الغصب على صاحبه، فيقضي بذلك بينهما نصفان أيضاً، فحصل للأجنبي نصف ما في يد كل واحد منهما فيكون لكل واحد منهما، ربع الدار، فصارت هذه المسألة والمسألة الأولى سواء. ولو أقام الأجنبي بينة أنها داره غصبها منه هذا الأكبر وأقام الأكبر، بينة أنها داره غصبها منه هذا الأصغر، وأقام الأصغر بينة أنها داره، ولم يدع هو الغصب على أحد ذكر أنه يقضى للأجنبي بثلاثة أرباع الدار، وللأصغر بربع الدار نصف ما في يد الأكبر، ولا يقضى للأكبر بشيء؛ لأن ما في يد الأكبر استوى فيه دعوى الأصغر ودعوى الأجنبي؛ لأنهما خارجان فيه ادعيا الملك من غير دعوى الغصب على صاحبه، فاستويا فيه دعوى وحجة، فيقضى بذلك بينهما، وما في يد الأصغر بطل فيه دعوى الأكبر ببينة الأجنبي على الأكبر، لأن الأجنبي ادعى الغصب فيه على الأكبر، والأكبر لم يدع على الأجنبي مثل ذلك؛ لأن الأكبر يدعي الغصب على الأصغر دون الأجنبي، فيقضي بذلك للأجنبي، قال وليس للأكبر أن يأخذ ما أخذ الأصغر منه بأن يقول للأصغر أثبت أنا عليك غصب جميع الدار؛ لأن من حجة الأصغر أن يقول للأكبر: إنما أثبت الغصب على ما في يدي، لا فيما في يدك لأني لا أكون غاصباً لما في يدك، وما كنت غاصباً فيه قد أخذته بقضاء، وما في يدي الآن فإنما أخذته منك أيها الأكبر وأنت ما أثبت الغصب عليّ في ذلك. ولو أقام الأجنبي بينة أنها داري غصبها مني هذا الأكبر وأقام الأكبر بينة أنها داري غصبها مني هذا الأجنبي، قال يقضي للأجنبي بالنصف الذي في يد الأصغر، ويقضي للأصغر بالنصف الذي في يد الأكبر، وخرج الأكبر من البين؛ لأن ما في يد الأكبر بطل دعوى الأجنبي فيه بدعوى الأصغر الغصب على الأجنبي، وإقامة البينة عليه فصار كأن الأجنبي لم يدعه، فيقضى به للأصغر، وما في يد الأصغر بطل دعوى الأكبر فيه بدعوى الأجنبي الغصب على الأكبر وإقامة البينة عليه، فكأن الأكبر لم يدعه، فيقضى به للأجنبي.

الفصل الرابع: في دعوى الملك في الأعيان بسببنحو الشراء أو الميراث الهبة وما أشبه ذلك

ولو أقام الأجنبي بينة أنها داري غصبها مني هذا الأكبر، وأقام الأكبر بينة أنها داري غصبها مني هذا الأجنبي، وأقام الأصغر بينة أنها داري غصبها مني هذا الأجنبي، فإنه يقضي للأصغر بالنصف الذي في يد الأكبر؛ لأن دعوى الأجنبي قد بطل فيه بدعوى الأصغر الغصب فيه على الأجنبي، وإقامة البينة على ذلك، ويقضى بالنصف الذي كان في يد الأصغر بين الأكبر والأجنبي نصفان؛ لأنه استوى فيه دعوى الأكبر والأجنبي؛ لأن كل واحد منهما ادعى الملك فيه لنفسه، وادعى الغصب فيه على صاحبه، فيقضى بينهما. ولو أقام الأكبر بينة أنها داري غصبها مني هذا الأصغر وأقام الأصغر، بينة أنها داري غصبها مني هذا الأكبر، وأقام الأجنبي بينة أنها داري غصبها مني هذا الأكبر والأصغر، فللأجنبي نصف الدار، والنصف الآخر بين الأكبر والأصغر نصفان. حكي عن القاضي الإمام أبي عاصم العامري أنه قال ما ذكر من الجواب غلط وقع من الكاتب، وينبغي أن يقضي بجميع الدار للأجنبي؛ لأن الأجنبي أبطل دعوى كل واحد منهما، وبينته بإثباته الغصب عليهما، وواحد منهما لم يبطل دعوى الأجنبي وبينته؛ لأنه لم يثبت الغصب عليه، فتبطل دعواهما وبينتهما، وبقي دعوى الأجنبي وبينته، فيقضي بجميع الدار للأجنبي من هذا الوجه، وعامة المشايخ على أن ما ذكر في «الكتاب» صحيح. ووجه ذلك: أن الأجنبي لما ادعى الغصب عليهما كان مدعياً على كل واحد منهما؛ لأنه يدعي الغصب فيه على صاحبه، أما الأكبر فظاهر، وأما الأجنبي؛ فلأنه لا يدعي الغصب على الأكبر فيما في يد الأصغر، إنما يدعي الغصب فيه على الأصغر، فيقضى بذلك النصف بين الأكبر والأجنبي نصفان، وأما النصف الذي في يد الأكبر تنازع فيه الأصغر والأجنبي، وقد استويا فيه دعوى وحجة؛ لأن كل واحد منهما لا يدعي الغصب فيه على صاحبه على نحو ما بينا في طرف الأصغر، فيقضى بذلك النصف بين الأجنبي والأصغر نصفان، فحصل للأجنبي نصف الدار، ولصاحبي اليد نصف الدار من هذا الوجه، فكان ما ذكر في «الكتاب» صحيحاً والله أعلم. الفصل الرابع: في دعوى الملك في الأعيان بسببنحو الشراء أو الميراث الهبة وما أشبه ذلك فنقول: هذا الفصل يشتمل على أنواع أيضاً: الأول: في دعوى الخارجين وإنه على وجهين: إما أن يدعيا تلقي الملك من جهة اثنين، أو من جهة واحد، صورة ما إذا ادعيا تلقي الملك من جهة اثنين. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : دار في يدي رجل ادعاها رجلان كل واحد يدعي أنها داره، ورثها من أبيه فلان، وأقاما على ذلك بينة، فإن لم يؤرّخا أو أرّخا

وتاريخهما على السواء، بأن قال كل واحد منهما مثلاً: مات أبي منذ سنة وترك هذه الدار ميراثاً لي، فإنه يقضي بالدار بينهما؛ لأن كل واحد منهما يثبت الملك لمورثه في الدار أولاً ثم يثبت الانتقال من مورثه إلى نفسه، فكأن مورثهما حضرا وادعيا ملكاً مطلقاً لأنفسهما، والعين في يد الثالث، وهناك يقضى بالعين بينهما نصفان، فههنا كذلك، وإن أرّخا وتاريخ أحدهما أسبق بأن أقام أحدهما بينة أن أباه مات منذ سنة، وتركها ميراثاً له، وأقام الآخر بينة أن أباه مات منذ سنتين وتركهما ميراثاً له، وفي هذا الوجه على قول أبي حنيفة آخراً على ما ذكر في «المنتقى» ، وهو قول أبي يوسف آخراً على ما ذكره في «الأصل» ، وهو قول محمد أولاً على ما رواه ابن سماعة عنه، يقضى لأسبقهما تاريخاً؛ لأن للتاريخ عبرة على هذه الأقاويل وأسبقهما تاريخاً أثبت الملك لنفسه في وقت لا مزاحم له فيه، فيكون هو أولى، كما إذا ادعيا الشراء من اثنين، وأقاما البينة وأرخا، وتاريخ أحدهما أسبق، وهناك يقضى لأسبقهما تاريخاً بلا خلاف، وطريقه ما قلنا، وعلى قول محمد آخراً، وهو قول أبي يوسف أولالاً لأن كل واحد من الوارثين يثبت الملك لمورثه أولاً، ثم يثبت الانتقال من مورثه إلى نفسه، ولا تاريخ في ملك المورثين، فكأن المورثين حضرا وادعيا الملك لأنفسهما من غير ذكر تاريخ، وهناك يقضى بينهما، حتى لو أرخا ملك المورثين، وتاريخ ملك أحدهما أسبق كان هو أولى من الآخر، هكذا رواه هشام عن محمد، وأما إذا ادعيا الشراء من رجلين، وأرخا الشراء وتاريخ أحدهما أسبق، فقد روي عن محمد أنهما إذا لم يؤرخا ملك البائعين (178أ4) يقضي بينهما نصفان كما في فصل الميراث، فعلى هذه الرواية لا يحتاج محمد رحمه الله إلى الفرق بين الشراء وبين الميراث وفي ظاهر رواية محمد في فصل الشراء، يقضي لأسبقهما تاريخاً، فعلى ظاهر الرواية، محمد يحتاج إلى الفرق بين فصل الميراث وبين فصل الشراء. والفرق: وهو أن ملك المشتري حادث ثبت بسبب حادث وهو الشراء، فكل واحد من المشتريين أثبت لنفسه ملكاً حادثاً لا تعلق له بملك البائع، فمن أثبت لنفسه الملك في وقت لا ينازعه فيه أحد كان هو أولى، فأما ملك الوارث فهو ليس بملك جديد، بل هو عين ما كان ثابتاً للمورث؛ لأن الوراثة عقد خلافة، ولا تاريخ في ملك المورثين، فلهذا افترقا، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الأصل» ، وذكر صاحب «الأقضية» عن بشر أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف يقضي للمؤرخ. وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله أن على قول محمد رحمه الله يقضي لغير المؤرخ، وذكر شمس الأئمة السرخسي أنه يقضي بالدار بينهما نصفان بالاتفاق، هكذا ذكر الطحاوي، فما ذكر في «الأقضية» من قول أبي حنيفة إشارة إلى أن للتاريخ عبرة عند حالة الانفراد في دعوى تلقي الملك من جهة اثنين وهذا قوله الأول ثم رجع، وقال: لا عبرة في دعوى تلقي الملك من جهة اثنين حالة الانفراد، وما ذكر شيخ الإسلام من قول أبي حنيفة قوله الآخر؛ لأن على قوله الآخر التاريخ حالة الانفراد ساقط الاعتبار في هذه

الصورة، فصار ذكره والعدم بمنزلة، أو يقول كل واحد منهما يثبت الملك لمورثه، ثم يثبت الانتقال من مورثه، ولا تاريخ في ملك المورثين، فكأنهما حضرا وادعيا الملك لأنفسهما مطلقاً، وهناك يقضى بينهما كذا ههنا، وما ذكر شيخ الإسلام من قول أبي يوسف مستقيم على قوله الآخر؛ لأن على قوله الآخر للتاريخ عبرة، فيكون المؤرخ أولى، أما لا يستقيم على قوله الأول؛ لأن على قوله الأول لا عبرة للتاريخ يقضي بينهما كما رواه بشر رحمه الله. وما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله من قول محمد رحمه الله: أنه يقضي لغير المؤرخ مستقيم على قوله الأول: للتاريخ عبرة وغير المؤرخ أسبقهما تاريخاً يعني؛ لأنه يدعي الملك المطلق بطريق إطلاقه عن الميت، ودعوى الملك المطلق دعوى الملك من الأصل، وما ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أنه يقضى بينهما بالاتفاق أراد به الاتفاق بين أبي حنيفة آخراً: لا عبرة للتاريخ حالة الانفراد في هذه الصورة، فصار ذكره كلا ذكر، وعلى قول محمد: التاريخ في ملك الوارثين لا في ملك المورثين، وكل واحد من الوارثين يثبت الملك لمورثه أولاً ثم يثبت الانتقال من مورثه إلى نفسه، فكأن المورثين حضرا وادعيا لأنفسهما ملكاً مطلقاً، وهناك يقضي بالدار بينهما فههنا كذلك وإذا ادعيا الشراء من اثنين والدار في يد الثالث، فإن لم يؤرّخا أو أرّخا وتاريخهما على السواء، قضي بالدار بينهما، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق فهو على الاختلاف الذي ذكرنا في الميراث، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر فهو على ما ذكرنا من الميراث أيضاً. صورة ما إذا ادعى الخارجان تلقي الملك من جهة واحد: دار في يدي رجل ادعاها رجلان، كل واحد منهما يدعي أنه اشتراها من صاحب اليد بكذا، فإن أرخا وتاريخهما على السواء أو لم يؤرخا، فالدار بينهما نصفان؛ لأنهما استويا في الدعوى والحجة ويخير كل واحد منهما؛ لأن كل واحد منهما أثبت شراء جميع الدار لنفسه، ولم يسلم لكل واحد منهما إلا النصف، فيخير كل واحد منهما، إن شاء أخذ نصفها بنصف الثمن الذي سماه شهوده، وإن شاء ترك، فإن رضي أحدهما وأبى الآخر، وذلك بعدما خيرهما القاضي وقضى لكل واحد منهما بالنصف، فقد فسخ بيع كل واحد منهما في النصف، فلا يعود بيع أحدهما بعد ذلك بترك صاحبه المزاحمة معه، قال: إلا أن يكون ترك المنازعة قبل أن يقضي القاضي بشيء فحينئذ تكون الدار للآخر بجميع الثمن، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق، فالسابق أولى؛ لأنه أثبت شراءه في وقت لا ينازعه فيه أحد، فثبت شراءه من ذلك الوقت، وتبين أن الآخر اشتراها من غير المالك، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر فالمؤرخ أولى، قيل: إنما جعلنا المؤرخ أولى تعليلاً لنقض ما هو ثابت. بيانه: أنا متى جعلنا المؤرخ أولى فقد نقضنا شراء الآخر لا غير؛ لأنه لم تثبت بينته إلا الشراء، ومتى قضينا للذي لا تاريخ له، لقضينا على صاحب التاريخ شراءه، وتاريخه بعدما ثبت الأمران بالبينة، وتعليل نقض ما هو ثابت أولى من تكثيره. وقيل: إنما جعلنا

المؤرخ أولى؛ لأنه أثبت الشراء في وقت لا منازع له فيه. صورة ما إذا ادعى الخارجان تلقي الملك من واحد من وجه آخر: رجل في يديه دار، جاء رجل وادعى أنه اشترى هذه الدار من فلان بكذا سمى رجلاً آخر، وجاء رجل آخر وادعى أنه اشترى هذه الدار من فلان ذلك بعينه، فإن لم يؤرخا أو أرخا وتاريخهما على السواء يقضى بالدار بينهما، وإن أرخاه وتاريخ أحدهما أسبق يقضى لأسبقهما تاريخاً، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، فالمؤرخ أولى لما قلنا. ومن هذا الجنس مسائل ذكرها في «الزيادات» وصورتها: رجل في يديه دار وعبد، جاء رجلان وادعى كل واحد منهما أنه اشترى هذه الدار بهذا العبد من صاحب اليد وأقاما البينة، فالقاضي يخيرهما إن شاءا أخذا الدار بينهما وأخذا العبد بينهما أيضاً، وإن شاءا تركا الدار وأخذا العبد بينهما، وغرم صاحب اليد قيمة العبد بينهما، أما القضاء بالدار بينهما؛ لأنهما استويا في سبب الاستحقاق وهو الدعوى والشهادة، والمشهود به قابل للشركة فوجب القضاء بينهما، وأما الخيار فلأنا إذا قضينا بالدار بينهما، فقد تفرقت الصفقة على كل واحد منهما؛ لأن كل واحد منهما أثبت شراء كل الدار، ولم يسلم لكل واحد منهما إلا النصف، وهذا تفريق حصل قبل التمام؛ لأنه حصل قبل القبض فيوجب الخيار، فإن اختارا أخذ الدار بينهما لما مر، وأخذا العبد بينهما أيضاً؛ لأن كل واحد منهما أثبت شراء كل الدار بكل العبد، ولم يسلم لكل واحد منهما إلا نصف الدار، فكان لكل واحد أن يأخذ نصف العبد، وإن اختارا ترك الدار أخذا العبد لكون العبد بدلاً عن الدار، ويكون العبد بينهما لاستوائهما في الحجة في العبد، وغرم صاحب اليد قيمة العبد بينهما؛ لأن كل واحد منهما سلم جميع العبد ثمناً إلى صاحب اليد، ثبت ذلك ببينة كل واحد منهما، فعند الفسخ يستحق كل واحد منهما جميع العبد، وقد عجز صاحب اليد عن تسليم جميع العبد إلى كل واحد منهما، فيغرم قيمة العبد بينهما، ليسلم لكل واحد منهما جميع العبد معنى.d فإن قيل: كيف يغرم صاحب اليد قيمة العبد بينهما، وإنه صار مشترياً من كل واحد منهما كل العبد بالدار، وقد استحق عليه نصف ما اشترى من كل واحد منهما حين قضى به لصاحبه، واستحقاق المشترى من يد المشتري يمنع وجوب القيمة عليه عند الفسخ؟. قلنا: نعم، ولكن هذا الاستحقاق ثبت إقراره؛ لأن كل واحد من المدعيين ببينته أثبت إقرار صاحب اليد بملك العبد له حين اشتراه منه بالدار، واستحقاق المشترى من يد المشتري بإقراره يقتصر عليه ولا يتعدى إلى غيره، وإذا لم يثبت الاستحقاق في حق كل واحد منهما، رجع كل واحد منهما عند الفسخ بقيمة ما عجز عن تسليمه، وإن كانت الدار في أيدي المدعيين والباقي بحاله، فكذلك الجواب، يثبت الخيار لكل واحد منهما، وإن تفرقت الصفقة على كل واحد منهما بعد التمام بالقبض، إلا أن هذا التفريق أوجب عيباً في الباقي؛ لأن الشركة في الأعيان عيب، والعيب يوجب الخيار، وإن كانت الدار في يد (178ب4) أحد المدعيين والباقي بحالة قضى بالدار لصاحب اليد؛ لأن شراءه أسبق؛

لأن القبض يدل على سبق الشراء؛ لأن الإنسان إنما يتمكن من القبض في وقت لا منازع له فيه، ولأن سببه أقوى؛ لأن سببه شراء اتصل به القبض، وبالقبض يتأكد الشراء، والقضاء بالمؤكد أولى، ولأن صاحب اليد يحتاج إلى إثبات الاستحقاق على المدعى عليه لا غير، وفي بينته ما يوجب ذلك، فأما الخارج فإنه يحتاج إلى إثبات الاستحقاق على المدعى عليه وعلى ذي اليد، لينقض قبضه، وليس في بينته ما يوجب الاستحقاق على ذي اليد؛ لأن ذلك إنما يكون بسبق شرائه، ولم يثبت ذلك ببينته، ولا يكون له الخيار؛ لأنه سلم له جميع ما اشترى، ويكون كل العبد للآخر؛ لأنه أثبت تسليم كل العبد إليه ثمن الدار، ولم يسلم له شيء من الدار، فيرجع عليه بجميع العبد. ولو قال المدعى عليه لصاحب اليد: إن عوض الدار ولم يسلم لي، بل استحق ببينة الخصم الآخر، فإنما أرجع عليك بالدار، لا يلتفت إليه؛ لأن العبد استحق بما ليس بحجة في حق صاحب اليد ليرجح بينة صاحب اليد على بينة الآخر، فلم يظهر الاستحقاق في حق صاحب اليد من يد بائع الدار ببينة لا يرجع على المسلّم، وإنما لا يرجع لما قلنا. هذا إذا ادعيا الشراء مطلقاً فأما إذا ادعيا الشراء مؤرخاً وأقاما البينة على ذلك، وتاريخ أحدهما أسبق قضي لأسبقهما تاريخاً، سواء كانت الدار في يد المدعى عليه أو في أيديهما أو في يد أحدهما لأيهما كان؛ لأنه أثبت شراءه في وقت لا منازع له فيه، فيثبت شراؤه من ذلك الوقت، ومن ضرورة ثبوت شرائه من ذلك الوقت بطلان شراء الآخر، وبطلان قبضه بعده، ويقضى بالعبد للآخر لما قلنا قبل هذا. وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر إن كانت الدار في يد المدعى عليه، يقضى بالدار للذي أرخ؛ لأن الشراء أمر حادث، فيحال مطلقه على أقرب الأوقات، فالذي لم يؤرخ أثبت شراءه للحال، ولهذا لا يستحق شيئاً من الزيادة المتولدة من المبيع قبل هذا، والمؤرخ سابق عليه، ألا ترى أنه يستحق الزيادة المتولدة من وقت التاريخ فكان أولى لهذا، بخلاف دعوى الملك المطلق من اثنين على ثالث، والعبد في يد الثالث إذا أرخ أحدهما فيه دون الآخر، حيث كانا على السواء على قول أبي حنيفة رضي الله عنه على أصح الروايات عنه؛ لأن هناك ملك المؤرخ يثبت من وقت التاريخ بلا شبهة، وملك الآخر ثبت من الأصل مع الاحتمال، فيحتمل التقدم على المؤخر والتأخر عنه فيجعل مساوياً. أما في دعوى الشراء من الواحد أقرا بالملك للبائع، والملك إذا ثبت يبقى إلى أن يوجد الناقل، فالمؤرخ أثبت النقل في زمان لا يزاحمه غيره فيه بيقين، وفي نقل الآخر احتمال، والمحتمل لا يعارض المتيقن، أما في الملك المطلق بخلافه على ما مر. وإذا قضينا بالدار للمؤرخ قضينا بالعبد للآخر على ما مر، ولا خيار لواحد منهما؛ لأن موجب (البيع) سلم لأحدهما وموجب الفسخ سلم للآخر، فانعدم الموجب للخيار. وإن كانت الدار في يد الذي لم يؤرخ شهوده والباقي بحاله، يقضى بالدار للذي لم

يؤقت؛ لأن تاريخ المؤرخ إن دل على سبق شرائه على نحو ما بيّنا، فقبض الذي لم يؤرخ يدل على سبق شرائه من حيث أن الإنسان إنما يتمكن من القبض في وقت لا منازع له فيه فتعارضا، إلا أن دليل السبق في حق الذي لم يؤرخ القبض وإنه معاين، وفي حق المؤرخ التاريخ، وإنه مخبر فيه، وليس الخبر كالمعاينة، ولو استوى الدليلان لا يجوز نقض قبض صاحب اليد بالشك، فكيف إذا ترجح دليل صاحب اليد، ولأن القبض يؤثر في الشراء تأكيداً له، والتاريخ لا يؤثر، والترجيح بالمؤثر أولى من الترجيح بغير المؤثر، وكذلك إذا كان للذي لم يؤرخ قبضاً مشهوداً به كان هو أولى؛ لأن قبضه ثبت بالبينة، والثابت بالبينة كالثابت عياناً ولو عاينا قبضه كان هو أولى فههنا كذلك. وإن شهد شهود الذي لم يؤرخ على إقرار البائع بالشراء والقبض، قضي لصاحب التاريخ؛ لأن الثابت بالبينة ههنا إقرار البائع بالقبض لا نفس القبض، فصار كأنما عاينا إقرار البائع بذلك، ولو عاينا إقرار البائع بذلك لا يصدق في حق صاحب التاريخ فههنا كذلك. والفقه في ذلك: أن الاحتمال في بينة صاحب الوقت من وجهين، من حيث أيهم صدقه أو كذبه، ومن حيث أن عقده يحتمل أن يكون سابقاً أو لاحقاً، والاحتمال في بينة صاحب الإقرار من وجوه ثلاثة: من حيث أيهم صدقه أو كذبه، من حيث أن بائعه صادق في إقراره أو كاذب في إقراره، ومن حيث أن عقده يحتمل أن يكون سابقاً، ويحتمل أن يكون لاحقاً، فكان القضاء ببينة صاحب الوقت أولى. ولو كان لأحدهما قبض مشهود به، وللآخر قبض معاين، فالذي له قبض معاين به أولى لرجحان العيان على الخبر. وإن شهد شهود كل واحد منهما على الشراء والقبض معاينة، أو على إقرار البائع بالقبض، وأرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، إن كانت الدار في يد البائع، فصاحب التاريخ أولى، وإن كانت الدار في يدي الذي لم يؤرخ شهوده، فهو أولى بحكم القبض المعاين، وإن كانت الدار في يد المشتري، وأقاما البينة على الشراء والقبض معاينة، أو على إقرار البائع بالقبض، وأرخ شهود أحدهما دون الآخر قضي بالدار بينهما نصفين، والعبد لهما أيضاً، أما القضاء بالدار بينهما، فلأن في يد كل واحد منهما نصف الدار، فالنصف الذي في يد صاحب التاريخ له فيه تاريخ وقبض معاين، وليس للآخر في ذلك شيء، فصار هو أولى به، والنصف الذي في يد غير صاحب التاريخ له فيه قبض معاين، وليس للآخر فيه إلا التاريخ، فصار صاحب القبض أولى، وأما العبد لهما لأن كل واحد منهما أثبت على المدعى عليه شراء جميع الدار بالعبد، ولم يسلم له إلا نصف الدار، وكان له الرجوع في نصف العبد، فلذلك صار العبد لهما أيضاً، ويخيران أيضاً لعيب الشركة. قال محمد رحمه الله عقيب هذه المسائل: وتاريخ القبض في هذا بمنزلة تاريخ الشراء، حتى لو كانت الدار في يد البائع وشهد شهود كل واحد من المدعيين على الشراء والقبض، وأرخوا القبض دون الشراء وتاريخ أحدهما أسبق، بأن شهد شهود أحدهما أنه

اشترى هذه الدار بهذا العبد وقبضها منذ عشرة أيام، كان صاحب القبض السابق أولى؛ لأن سبق التاريخ في القبض دليل سبق التاريخ في العقد، ولأن العقد متى ثبت بالبينة وهناك قبض يجعل القبض عن العقد، وكان سبق التاريخ في القبض دليلاً على سبق التاريخ في العقد، وسبق التاريخ في الشراء يوجب الترجيح، فكذا سبق التاريخ في القبض. وكذلك إذا كانت الدار في يد صاحب الوقت اللاحق قضى بها لصاحب الوقت السابق لما قلنا في الشراء. وإن أرخ أحدهما في القبض دون الآخر والدار في يد البائع، قضي لصاحب التاريخ، وإن كانت الدار في يدي الذي لم يؤرخ، فهو أولى لما قلنا في الشراء. هذا كله إذا كان العبد في يدي المدعى عليه، فأما إذا كان العبد في يد المدعيين، والدار في يد المدعى عليه والباقي بحاله، فالدار بينهما، والعبد بينهما ويخيران لما مر، فإن أمضيا العقد فالدار بينهما لما مر. فإن قيل: ينبغي أن يؤمرا بتسليم العبد إلى المدعى عليه؛ لأن موضوع المسألة فيما إذا كان العبد في يد المدعيين، فلم يسلما إلى المدعى عليه، وقد سلم لكل واحد منهما من المدعيين نصف الدار من جهة المدعى عليه ينبغي أن يسلم له من جهة كل واحد من المدعيين نصف العبد. قلنا: إنما لم يؤمر بتسليم العبد إلى المدعى عليه؛ لأنهما لو أمرا به يثبت لهما حق الاسترداد من ساعته، فلا يفيد الأمر بالتسليم. بيانه: أن لكل واحد منهما أثبت ببينته أن المدعى عليه صار مشترياً جميع العبد بكل الدار، فلو أمرا بتسليم العبد إليه (179أ4) صار بائع الدار قابضاً من كل واحد منهما جميع العبد بجهة الشراء، ولم يسلم لكل واحد منهما من جهته إلا نصف الدار، فكان لكل واحد منهما حق الرجوع عليه من العبد، فلم يفد الأمر بالتسليم من هذا الوجه، فلهذا لا يؤمر بذلك، وإن اختارا فسخ العقد كان العبد بينهما نصفين، ولا يغرم المدعى عليه قيمة العبد بينهما بخلاف المسألة الأولى. والفرق: أن هناك كل واحد من المدعيين ببينته أثبته بتسليم كل العبد إلى المدعى عليه بجهة الثمنية فعند الفسخ يستحق الرجوع بجميع العبد، فلم يسلم لكل واحد جميع العبد معنى، أما ههنا: لم يسلم كل واحد منهما شيئاً من العبد إلى المدعى عليه، ليستحق الرجوع به عند الفسخ، ليرجع بالقيمة عند سلامة العين، فلهذا افترقا. نوع آخر من هذا الفصل في دعوى الخارج وذي اليد بسبب من جهة غيرها وإنه على وجهين: أما إن ادعيا تلقي الملك من جهة واحدة، والحكم فيه: أنهما إذا أرخا وتاريخهما على السواء، أو لم يؤرخا، فذو اليد أولى، لأنهما استويا في إثبات

الشراء ولأحدهما يد، والشراء يتأكد باليد، فكان صاحب اليد أولى وإنه يثبت آكد الشرائين أولى، وإن أرخ أحدهما، فكذلك ذو اليد أولى، بخلاف ما إذا كانت الدار في يد البائع، ولأحد المدعيين تاريخ، حيث كان المؤرخ أولى؛ لأن هناك إنما صار المؤرخ أولى تعليلاً لنقض ما هو ثابت، وتعليل النقض ههنا في جعل صاحب اليد أولى. بيانه: أننا إذا قضينا لصاحب التاريخ ههنا، احتجنا إلى نقض شراء ذي اليد مع يده، ويده ثابتة معاينة، ومتى قضينا لصاحب اليد احتجنا إلى نقض شراء الآخر، وتاريخه ثابت بالبينة، والثابت معاينة فوق الثابت بالبينة، فكان نقض الثابت معاينة أكبر من نقض الثابت بالبينة، فإذاً في الموضعين يقضى بتعليل نقض ما هو ثابت، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق كان أسبقهما تاريخاً أولى، أما إذا كان أسبقهما تاريخاً ذو اليد، فلأنه أولى من غير التاريخ فأولى أن يكون أولى مع التاريخ، وأما إذا كان أسبقهما الخارج اعتباراً للسبق الثابت بالبينة بالسبق الثابت معاينة، ولأنه أكثر إثباتاً. وإن ادعيا تلقي الملك من جهة اثنين، فإنه يقضي للخارج، بخلاف ما إذا ادعيا التلقي من يد واحد ولم يؤرخا أو أرخا وتاريخهما على السواء، أو أرخ أحدهما دون الآخر حيث يقضي لذي اليد. والفرق أنهما إذا ادعيا تلقي الملك من جهة اثنين، فكل واحد منهما يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه، فكأن البائعين حضرا وادعياه ملكاً مطلقاً والدار في يد أحدهما وأقاما البينة، وهناك الخارج أولى، فههنا كذلك. فأما إذا ادعيا التلقي من جهة واحد، فكل واحد منهما لا يحتاج إلى إثبات الملك لبائعه؛ لأن الملك لبائعها ثابت بتصادقهما، وإنما يحتاج كل واحد منهما إلى إثبات الانتقال إلى نفسه بسبب الشراء، وذو اليد ببينته أثبت الشراءين والقضاء بالآكد أولى إذا تعذر الجمع. نوع آخر من هذا الفصل في دعوى صاحبي تلقي الملك من جهة غيرهما وإنه على وجهين: إن ادعيا تلقي الملك من جهة واحدة ولم يؤرخا، أو أرخا وتاريخهما على السواء، يقضى بالعين بينهما، وكذلك إذا أرخ أحدهما دون الآخر يقضى بالدار بينهما، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق يقضى لأسبقهما تاريخاً، وإن ادعيا تلقي الملك من جهة اثنين، فكذلك الجواب على التفصيل الذي قلنا فيما إذا ادعيا التلقي من جهة واحدة. نوع آخر منه في ذكر تاريخ الشراء مع الجهالة قال محمد رحمه الله في كتاب الدعوى: رجلان اختصما في دار في يد أحدهما، فأقام المدعي بينة أنه اشتراها من فلان منذ سنة وأكثر، ولا يحفظون الفضل، فالبينة بينة

المدعي. وهذا مشكل على قول من يعتبر التاريخ؛ لأن شهود ذي اليد أرّخوا أكثر مما أرخ شهود الخارج، وإن لم يثبتوا قدره، فينبغي أن يترجح شهادة شهوده بهذا. والجواب المنقول عن المشايخ المتقدمين: أنهم إذا لم يقدروا الفضل ولم يحفظوه، كانت شهادتهم على المجهول فيما يرجع إلى الفضل، فلم تقبل شهادتهم على الفضل، تثبت شهادتهم على سنة وقد استوت البينتان فيه فيقضي به للمدعي، وكذلك إذا شهد شهود المدعى عليه أنه اشتراها من فلان منذ سنة أو سنتين شكّوا في الزيادة، قضي للخارج؛ لأن الزيادة على السنة لم تثبت بالشك، تثبت الشهادة على السنة، وقد استوت البينتان فيها، فيقضى للخارج. قال رضي الله عنه: وإنه مشكل؛ لأنه عند استواء البينتين في التاريخ يقضي ببينة ذي اليد، وهو النوع المذكور قبل هذا بنوع، ولكن الوجه الصحيح في هذا أن يقال: بأن شهود صاحب اليد شهدوا على أنفسهم بالسهو والغفلة، وشهادة المغفل لا تقبل، فلغت شهادة شهود ذي اليد من كل وجه، وصار كأنه لم تقم البينة أصلاً. ولو وقت شهود أحدهما بسنتين وشهود الآخر بسنة وأكثر، ولا يحفظون الفضل أو وقت شهود الآخر سنة أو سنتين، شكوا في الزيادة، فالبينة بينة من يثبت سنتين، إن كان المثبت لسنتين المدعي فبالاتفاق، وإن كان المثبت لسنتين صاحب اليد، فعلى قول من يعتبر سبق التاريخ فكذلك؛ لأنه أثبت ملكه في وقت لا ينازعه فيه أحد، وعلى قول من لا يعتبر التاريخ يقضي للخارج. نوع آخر منه في دعوى الخارجين تلقي الملك من جهة صاحب اليد وإقرار صاحب اليد لأحدهما في «نوادر هشام» قال: سألت محمداً رحمه الله عن غلام في يدي رجل ادعى رجل، أنه اشتراه من صاحب اليد بألف درهم منذ سنة، وأقام رجل آخر بينة أنه اشتراه من صاحب اليد بمئة دينار منذ خمسة أشهر وصاحب اليد يقول: بعته من صاحب المئة، وقضى القاضي بالغلام لصاحب الألف لما أن وقته أول، وسلم الغلام إليه، ثم وجد به عيباً ورده على المقضي عليه بقضاء القاضي، فجاء صاحبه وقال: أنا آخذ الغلام، لأنك أقررت أنك بعته مني، فصاحب اليد يأبى ويقول: القاضي فسخ العقد بيني وبينك، لا يلتفت إلى قول صاحب الغلام، ولا يكون قضاء القاضي بالغلام لصاحب الألف فسخاً للبيع بمئة، ويكون لصاحب المئة أن يأخذ الغلام بإقرار البائع أنه باعه منه ولم يبعه من ذلك، وإن قال البائع لصاحب المئة: خذ الغلام وأبى هو فللبائع أن يلزمه، وإن قال صاحب المئة حين قضى القاضي بالغلام لصاحب الألف وقام من مجلس القاضي قد فسخت البيع ههنا، لم يكن فسخاً إلا أن يقول البائع: أجيبك إلى ذلك، أو يفسخ القاضي العقد بينهما.

نوع آخر منه في دعوى الرجلين كل واحد منهما البيع على صاحبه أو الشراء على صاحبه ما يجب اعتباره في هذا النوع لتخريج المسائل على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: أنه متى تنازع اثنان في عين، ادعى كل واحد منهما أنه اشتراه من صاحبه بثمن معلوم، أو ادعى أنه باعه من صاحبه بثمن معلوم، وأنكر صاحبه وأقام كل واحد منهما البينة على ما ادعى ولم يؤرخا، فإنه تتهاتر البينتان، سواء كان المبيع في يد أحدهما أو في يد ثالث، والثالث يجحد، وسواء شهد الشهود بالشراء والقبض، أو شهدوا بالشراء ولم يشهدوا بالقبض، وسواء كان الثمنان على السواء أو كان أحدهما أنقص من الآخر، إلا أن المبيع إذا كان في يد المدعيين، فإنه يترك في يده قضاء ترك على الروايات كلها، وإذا كان في يد ثالث ذكر في بيوع «الجامع» في باب القصير أنه يقضي بالعين المدعى بين المدعيين نصفان إن كان لا يقضي بالعقدين، وذكر في باب الطويل أنه يترك في يد الثالث قضاء ترك. وما يجب اعتباره (179ب4) لتخريج هذا النوع من المسائل على قول محمد: أن المبيع إذا كان في يد المتداعين إذا كان في يد المتداعيين إن شهد الشهود بالعقد دون القبض، فإن القبض المعاين يجعل أولاً، كأن ذا اليد اشترى أولاً وقبضه ثم باع ولم يسلم، فيؤمر بالتسليم ويجب لكل واحد منهما على صاحبه ما ادعى من الثمن ويتقاصان إذا كانا على السواء، وإن شهدوا بالعقد والقبض، فإنه يجعل القبض المعاين آخراً، كأن الخارج اشترى أولاً وقبضه ثم باعه من صاحبه وسلم، فيقضى بالمبيع لذي اليد، يعتبر هكذا إذا كان في اعتبار القبض المعاين آخر القبوض بحكم هذه العقود المشتبهة، تصحيح البيوع كلها رواية واحدة، وأما إذا كان في جعله آخر القبوض فساد بعض البيوع، وفي جعله آخر القبوض تصحيح البيوع كلها، ذكر في أول باب الطويل: أنه يجعل آخر القبوض على قوله، وذكر في آخر باب الطويل أنه يجعل أول القبوض، قالوا: وليس في المسألة اختلاف الروايتين، لكن ما ذكر في أول الباب جواب القياس، وما ذكر في آخره جواب الاستحسان. وأما إذا كان البيع في يد الثالث والمسألة بحالها، إن ادعى كل واحد منهما من الثمن مثل ما ادعاه صاحبه، فعلى قوله: يقضى بالمبيع بين المدعيين نصفان، سواء شهد الشهود بالعقد والقبض أو شهدوا بالعقد ولم يشهدوا بالقبض، إلا أنهم متى شهدوا بالعقد دون القبض يقضى لكل واحد منهما بنصف الثمن على صاحبه، ومتى شهدوا بهما فإنه يقضى لكل واحد منهما بجميع الثمن على صاحبه ثم يتقاصّان، وإن كان أحد الثمنين أنقص من الأخر، إن شهدوا بالعقد دون القبض، فإنه يجوز عقد كل واحد منهما في النصف، ويبطل في النصف، وإن شهدوا، بها فإنه يقضي لكل واحد منهما بما ادعى من العقد على صاحبه في الجميع، وتقدم أولاً بيع الذي ادعى أنه باع بخمسمئة، وترتب عليه

بيع الذي ادعى أنه باعه بألف، فحاصل ما يجب اعتباره في تخريج مسائل هذا الباب على قوله هذا. إذا عرفنا الرواية. جئنا إلى بيان المعنى، فنقول: على قول محمد رحمه الله: إذا كان المبيع في يد أحدهما وشهد الشهود بالعقد دون القبض إنما يجعل القبض المعاين أولاً، لأن الشهود شهدوا بأصل التاريخ بين هذين العقدين، إن لم يشهدوا بكيفيته؛ لأن كل فريق شهدوا بالعقد في وقت غير الوقت الذي شهد به الآخر؛ لأن الوقت لو كان واحداً لكانا لا يشهدان؛ لأن العقدين يكونان باطلين، إلا أنهم لم يثبتوا السابق منهما، فجعلنا شراء الذي له قبض معاين سابقاً حكماً؛ لأن السبق في باب الشراء مما يثبت بالقبض، كما لو ادعيا الشراء من ثالث، ولأحدهما يد يجعل شراؤه سابقاً على ما مر قبل هذا، ولأن في تقديم شراءه تصحيح الشراءين وليس في تقديم شراء الخارج تصحيح الشراءين، بل فيه إفساد شراء ذي اليد منه، لأن الشهود لم يشهدوا بالقبض، فيصير الخارج بائعاً المشتري المنقول قبل القبض، وإنه لا يجوز، وأما إذا شهدوا بالعقد والقبض، فإنما يجعل المعاين آخر القبوض؛ لأن الأصل أن القبض إذا ثبت عقيب عقد يحال به على ما ظهر من السبب لا على غيره، ولأن أي الشراءين قدمناه يصح العقدان، فيقدم شراء الخارج حتى لا يحتاج إلى نقض القبض المعاين بالشك ولأن في هذه الصورة السبق في باب الشراء مما يثبت بالقبض، وقبض الخارج سابق؛ لأنه ينقض؛ فإن الانقضاء دليل السبق، والقيام دليل التأخير، هذا إذا كان في جعل القبض المعاين آخراً في هذه الصورة تصحيح العقود، فأما إذا كان في جعله آخراً إفساد بعض العقود وفي جعله أولاً تصحيح العقود كلها، القياس: أن يجعل آخراً على قوله، وفي الاستحسان يجعل أولاً. وجه القياس: أن هذا قبض وجد عقيب الشراء، فيجب أن يكون قبض شراء وإن كان فيه إفساد بعض العقود، كما لو شهدوا بالعقد دون القبض، ولأن السبق مما يثبت بالقبض في باب الشراء، فيثبت سبق الشراء بسبق القبض، وقبض الخارج سابق؛ لأنه ينقض، وقبض ذي اليد متأخر؛ لأنه قائم، وإذا كان قبضه متأخراً كان شراؤه متأخراً. وجه الاستحسان: أن القبض الموجود عقيب الشراء، إنما يجعل قبض الشراء من حيث الظاهر لا بدليل يوجب ذلك، وكذلك انقضاء القبض يدل على السبق من حيث الظاهر لا بدليل يوجب ذلك، وقد قابل هذا الظاهر ظاهراً آخر، فإن الظاهر من حال المسلم العاقل أنه يقدم على العقد الصحيح دون الفاسد، والعمل بهما متعذر لما بينهما من التنافي، فكان العمل بالظاهر الذي فيه تصحيح العقود كلها أولى من العمل بالظاهر الذي فيه إفساد بعض العقود، بخلاف ما إذا شهدوا بالعقد دون القبض، لأن الشهود لم يشهدوا للخارج بالقبض، ولا يمكن إثبات القبض من غير شهادة ولا معاينة، فشراء الخارج إن اعتبر أولاً يفسد بعض العقود أيضاً، وهو شراء ذي اليد؛ لأن الخارج يصير تابعاً ما اشترى قبل القبض.Y

وأما إذا كان المبيع في يد الثالث إن كان الثمنان على السواء يقضى بينهما نصفان، سواء شهدوا بالعقد والقبض أو بالعقد دون القبض، لأنه تعذر القضاء بالعقدين؛ لأنه إنما يمكن القضاء بالعقدين إذا أمكن تقديم أحدهما على الآخر، وههنا التقديم إنما يثبت إما بالقبض المعاين، أو بأن يكون في تقديم بعض البيوع تصحيح جميع العقود، وفي تقديم البعض إفساد، فيقدم ما فيه تصحيح الكل؛ إذ الأصل في تصرف العاقل أن يحمل على وجه الصحيح. قلنا: وكل ذلك معدوم ههنا؛ لأنه ليس لأحدهما قبض معاين، وأي العقدين قدمنا إذا كان الثمنان من جنس واحد، يجوز إذا شهد الشهود بالعقد والقبض؛ لأن كل واحد منهما يصير بائعاً ما اشترى من صاحبه بعد القبض قبل نقد الثمن بمثل الثمن وإنه جائز، وإذا تعذر التقديم وجب القضاء بالمبيع بينهما نصفان، إلا أنهم متى شهدوا بالعقد دون القبض، فإنه يقضى لكل واحد منهما على صاحبه بنصف الثمن، لأن كل واحد منهما إنما سلم نصف المبيع، فلا يستحق إلا نصف الثمن، ومتى شهدوا بهما، فإنه يقضي لكل واحد منهما على صاحبه بجميع الثمن؛ لأنه يثبت بالبينة العادلة أن كل واحد منهما سلم جميع المبيع إلى صاحبه، فيستحق جميع الثمن، وإن كان أحد الثمنين أنقص من الآخر إن لم يشهدوا بالقبض فإنما يجوز بيع كل واحد منهما في النصف؛ لأن كل واحد منهما إنما قدر على تسليم نصف المبيع لا غير. وإن شهدوا بالعقد والقبض فإنه يقضى بالعقدين؛ لأنه إن تعذر تقديم أحدهما على الآخر من حيث القبض المعاين، أمكن من حيث أنّا إذا قدمنا شراء الذي اشترى بخمسمئة يصح شراء الآخر منه بعد ذلك؛ لأنه يصير مشترياً بالشراء من صاحبه بعد القبض بأكثر من الثمن الأول قبل نقد الثمن، وإنه جائز، فيجوز العقدان، والمعنى لأبي حنيفة وأبي يوسف أنه لم يثبت أحد الشرائين بعينه على الآخر؛ لأن الشهود لم يشهدوا بذلك، ولا يجوز أن يثبت السبق بالقبض، إنما يثبت ذلك إذا ادعيا الشراء من واحد، قلنا إذا ادعياه من اثنين لا يثبت السبق بالقبض، بل يقضى بالعين بينهما نصفين، وههنا ادعى كل واحد منهما الشراء من رجل غير الذي ادعاه صاحبه، فلا يثبت الشراء بالقبض ولا يجوز إثبات سبق شراء ذي اليد تخيرنا لجواز الشراءين؛ لأن التقديم بهذا الاعتبار إنما يثبت من حيث الظاهر، والظاهر يصلح حجة للدفع، ولا يثبت حجة للاستحقاق، وإذا تعذر إثبات الشراءين تتهاتر البينتان، وكذلك إذا شهدوا بالشراء والقبض تتهاير البينتان أيضاً؛ لأن تقديم شراء الخارج ههنا لو ثبت إنما ثبت بنوع من الظاهر على ما قال، والظاهر يصلح حجة للدفع، ولا يصلح حجة للاستحقاق، وإذا تعذر التقديم يتعذر القضاء بهما، فتتهاتر البينتان (180أ4) ضرورة. وهذا إذا لم يؤرخا، فإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، فكذلك الجواب. وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق إن كان أسبقهما تاريخاً الخارج وقد شهدوا بالقبض مع الشراء، قضي بالعقدين، ويقضى بالدار لآخرهما تاريخاً، وهو صاحب اليد. وإن

شهدوا بالشراء ولم يشهدوا بالقبض، ذكر شيخ الإسلام: أنه يقضي بالدار لذي اليد، وهل يقضي بالعقدين؟ على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يقضى، وعلى قول محمد: لا يقضى. إذا عرفنا هذه الجملة جئنا إلى المسائل، فنقول: وضع محمد رحمه الله في «الجامع» المسألة في الشراء أولاً، فقال: دار في يدي رجل ادعاها رجل، أنه اشترى من المدعي بألف درهم، وأقام البينة على ذلك، فالمسألة على الاختلاف والتفصيل الذي ذكرنا. ثم وضع المسألة في البيع، فقال: دار في يد رجل أقام البينة أنها داره باعها من ذي اليد بألف، وأقام ذو اليد بينة أنها داره، باعها من هذا المدعي بألف درهم، فعلى قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف تتهاتر البينتان لما قلنا. وقد أشار محمد رحمه الله في الكتاب الى نكتة أخرى، لهما: أن كل واحد منهما أثبت إقرار صاحبه أن الدار له؛ لأن كل مشترٍ يقر أن الملك فيما اشترى لبائعه، بمنزلة ما لو ادعى كل واحد منهما الإقرار من جهة صاحبه، فإن قيل على قياس قولهما: يجب أن تقبل البينتان إذا شهد كل فريق لمدعيه بالبيع والقبض؛ لأنه لا حاجة إلى القضاء بالبيع والتسليم، وإنما الحاجة إلى القضاء بالثمن. هذا كما ذكرنا في عبد في يد رجل أقام رجل بينة أنه باعه من ذي اليد بألف درهم، وأقام رجل آخر بينة أنه باعه من ذي اليد بألف درهم، فإنه يقضي لكل واحد منهما على ذي اليد بجميع الثمن، فطريقة ما قلنا. هذا هكذا إذا صح دعوى كل واحد منهما، وهنا لم يصح للتضاد؛ لأن كل واحد منهما ادعى على صاحبه مثل ما ادعى صاحبه عليه، فصار وجوده والعدم بمنزلة. دار في يدي رجل يسمى محمداً، وادعى رجل يسمى بكراً أن الدار داره اشتراها من هذه المرأة بألف درهم، وادعت المرأة أنها داره واشتراها من بكر، وأقاموا جميعاً البينة إلا أن الشهود لم يؤرخوا، ولم يشهدوا بالقبض، إنما شهدوا بالشراء، فعلى قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف: بينة المرأة وبينة البكر باطلتان، لأن كل واحد منهما ادعى الشراء من صاحبه، وتقبل بينة محمد، لأنه تفرد بإقامة البينة، ولا دافع ببينته، فقبل بينته، ويقضي بالدار له شراء من بكر، ويقضي عليه بالثمن لبكر. فإن قيل: كيف يقضي بشراء محمد من بكر ولم يثبت الملك لبكر؟ قلنا: ملك بكر ثبت بإقرار محمد تلقي الملك من جهة بكر، وهذا الإقرار منه صحيح، لكونه صاحب يد. ثم بينة محمد تثبت شراء محمد من بكر، وعلى قياس قول محمد تقبل بينة بكر على المرأة، ويقضي بالدار له شراء من جهة المرأة، وتقبل بينة محمد

على بكر، وتبطل بينة المرأة على بكر؛ لأن الدار كانت في يد محمد من حيث الحقيقة إلا أنها من حيث الحكم والتقدير كأنها في يد بكر؛ لأن محمداً يقر بأن اليد والملك في هذه الدار كان لبكر، وأنه استفاده من جهة بكر، ولم يدع بكر مثل ذلك، حتى يبطل إقرار محمد للتعارض والتدافع من جهة محمد، فصح إقرار محمد لبكر، ولو كانت الدار في يد بكر حقيقة، كان الجواب على نحو ما بينا: أن بينة المرأة وبينة بكر باطلتان، وبينة محمد مقبولة، وإن كانت الدار في يد المرأة والباقي بحاله، فعلى قولهما: البينات كلها باطلة، أما بينة المرأة على بكر، وبينة بكر على المرأة فلا إشكال فيه، وأما بينة محمد على بكر ففيه نوع إشكال، ويجب أن تقبل بينة محمد على بكر؛ لأنه ادعى حادثاً وأثبته بالبينة، ولا دافع لبينته. قلنا: محمد أثبت الشراء ببينته من بكر، إلا أن قبض بكر ما اشترى من المرأة لم يثبت، فصار بكر بائعاً ما اشترى قبل القبض، فإن قيل: ثبت قبض بكر بإقرار المرأة، فإنها أقرت تلقت الملك من جهة بكر، فتكون مقرة أنها استفادت الملك واليد من جهة بكر، فيجعل كون الدار في يد بكر كما في الفصل الأول. قلنا: إن إقرارها لم يصح لما ادعى بكر أنه تلقى الملك من جهته، فلا يثبت قبض بكر بإقرار المرأة، فإن قيل: كيف تستقيم أن يقال: ... وبيع العقار قبل القبض جائز عندهما، ومحمد وضع المسألة في العقار. قلنا: اختلفت عبارة المشايخ في هذا المقام، فعبارة بعضهم: أنه يحتمل أن محمداً حين فرّع هذه المسألة وطال تفريعها على حسب ما يرى، حسب أنه وضع المسألة في المنقول. ومنهم من قال: إنما فرع هذا على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول، فبيع العقار قبل القبض في شيء من الكتب إنما أثبته في «الجامع» هذه المسألة. ومنهم من قال: أراد محمد رحمه الله التفريع على قياس قولهما: إن كانا لا يريان جواز بيع العقار قبل القبض. فإن قيل: إن استقام ما ذكر محمد من الحكم على قولهما على ما ذكرتم من التأويلات إلا أن التعليل الذي ذكر محمد في «الكتاب» لهما إن شاء محمد من بكر لم يصح؛ لأنه اشترى من بكر قبل القبض لا يصح؛ لأن امتناع جواز شراء محمد من بكر عندهما ما كان لعدم القبض، وإنما كان لعدم الملك؛ لأن بينة بكر على المرأة لما بطلت لم يثبت الملك لبكر، لا بالبينة ولا بإقرار المرأة على ما بينا. قلنا: بطلان بيع محمد من بكر له علتان، إحدهما: ما ذكر محمد، والثانية: ما ذكرنا أنه لم يثبت الملك لبكر، والحكم إذا كان له علتان، جاز للمعلل أن يذكر إحداهما ويترك الأخرى؛ لأن إحداهما تكفي لإثبات الحكم، هذا كله قولهما، وأما على قول محمد: يجوز شراء المرأة من بكر وشراء بكر من المرأة.

وأما إذا شهدوا بالعقد والقبض، وكان الدار في يد محمد وباقي المسألة بحالها، فالجواب فيه عندهما كالجواب فيما إذا لم يشهدوا بالقبض إنما شهدوا بالعقل لا غير. وعند محمد يقضى بالبيوع كلها، وهكذا الجواب فيما إذا كان الدار في يد بكر، وأما إذا كانت الدار في يد المرأة، فإن على قول محمد: يحكم بجواز الشرع كلها، وعلى قولهما تقبل بينة بكر ومحمد، ولا تقبل بينة المرأة. قالوا: وما ذكر أن على قولهما بينة البكر مقبولة مشكل، وينبغي أن لا تقبل بينته كما في الفصلين الأولين، وهو ما إذا كانت الدار في يد محمد، أو في يد بكر. والجواب: وهو الفرق بين هذا الفصل وبين الفصلين الأولين بينة بكر، قالا: يثبته جواز شراء محمد منه؛ لأن شراء محمد منه يجوز من غير بينة متى كان الدار في يد بكر بظاهر يده؛ لأن اليد تدل على الملك، وكذلك إذا كانت الدار في يد محمد، بينة بكر لا تثبت جواز شراء محمد؛ لأن محمداً مقر أن اليد في هذه الدار كانت لبكر لما ادعى محمد تلقي الملك من جهة بكر، وصح هذا الإقرار من محمد لما قلنا، فصار كون الدار في يد محمد، وكونها في يد بكر سواء، فهو معنى قولنا: إن بكراً ببينته لا يثبت جواز شراء محمد منه في الفصلين. والمرأة كذلك بينتها لا تثبت جواز شراء محمد، فكانت بينة بكر مساوية ومعارضة لبينتها فبطلتا، فأما إذا كانت الدار في يد المرأة فبينة بكر تثبت جواز شراء محمد منه؛ لأنه متى لم يقم لبكر بينة على الشراء من المرأة، لا يجوز شراء محمد من بكر؛ لأن الدار ليست في يد بكر، لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الاعتبار، بإقرار المرأة أن اليد كانت لبكر حيث ادعت تلقي الملك من جهة بكر؛ لأن إقرارها قد بطل لما أقر بكر لها بمثل ذلك. وإذا لم تثبت لبكر يد في هذه الحالة بوجه ما متى لم تقبل بينته على المرأة لا يجوز شراء محمد من بكر، فكان في قبول بينة بكر جواز شراء محمد، وترجحت بينته على بينة المرأة ولم يقع (180ب4) التعارض بينهما، فقبلت بينته لهذا. عبد في يدي حر، أقام مكاتبٌ البينة أنه عبده، باع من هذه المرأة بألف درهم، وأقامت المرأة بينة أنه عبدها باعته من هذا المكاتب بعشرة أكرار حنطة وسط، وأقام الحر بينة أنه عبده اشتراه من هذا المكاتب بهذا الوصف، إلا أنهم لم يشهدوا بالقبض، فإن في قياس قول أبي حنيفة بينة المكاتب وبينة المرأة باطلتان لما مر، وبينة الحر مقبولة، ويقضي بالعبد للحر شراء من المكاتب، وعلى قول محمد تقبل بينة المرأة على المكاتب، وتقبل بينة الحر على المكاتب، ولا تقبل بينة المكاتب على المرأة؛ لأن العبد في يد المكاتب حكماً واعتباراً ولو كان في يده حقيقة يجعل قبضه أول القبضين، وإنما يكون أول القبضين إذا كان بيع المرأة سابقاً على بيع المكاتب، كأنها باعت منه وقبض المكاتب ثم أثبت الحر ببينته أنه اشتراه من المكاتب، والمكاتب ببينته أثبت أنه باعه من الحر، فيكون بينة الحر أولى؛ لأن الحر أثبته المدعيين؛ لأنه يثبت الملك واليد لنفسه، والمكاتب يثبت الملك لغيره، ولأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة. ولو عاينا أن الحر اشترى من المكاتب، ثم ادعى المكاتب أنه باعه من المرأة لا يسمع بينته؛ لأنه ينبغي في نقض ما تم

به، ولأن الحر ببينته أثبت إقرار المكاتب أنه باع العبد منه، والمكاتب ببينته أثبت إقرار نفسه أنه باعه من المرأة، ولأن الحر ببينته أثبت أنه اشترى من المكاتب، والمكاتب ببينته يثبت الشراء. ولو ادعت المرأة الشراء من المكاتب والحر كذلك، كانت بينة الحر أولى؛ لأن له قبض كذا ههنا، وإن كان العبد في يد المكاتب، فالجواب في المسألة الأولى، إلا أن ههنا يحتاج المكاتب إلى تسليم العبد إلى الحر. ولا يجيئ ههنا بعض علل المسألة الأولى، وهي العلة الأخيرة إنما يجيئ العلل البواقي. وإن كان العبد في يدي المرأة فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف البيوع كلها باطلة لوقوع التعارض بين البينات. فإن قيل: كان يجب أن تقبل بينة المرأة لأن لبينة المرأة؛ زيادة رجحان؛ لأنها تثبت جواز بيع المكاتب من الحر، قلنا ليس كذلك لأن الشهود لم يشهدوا بالقبض، فيصير الحر مشترياً من المكاتب قبل القبض. فإن قيل: كان ينبغي أن تقبل بينة الحر؛ لأنه لا دافع لبينته، قلنا: نعم لا دافع لبينته، إلا أنها قامت على إثبات شراء فاسد؛ لأنه لما بطلت بينة المرأة والمكاتب، فهو على قولهما للتعارض لم يثبت للمكاتب ملك، ولئن ثبت الملك للمكاتب بإقرار المرأة أنها باعت منه، إلا أنه لم يثبت القبض من المكاتب لما بينا، بخلاف الفصلين الأولين على ما مر. أما على قياس قول محمد: تقبل بينة المكاتب على المرأة، ثم تقبل بينة المرأة على إثبات البيع من المكاتب، ولا تقبل بينة الحر على إثبات الشراء من المكاتب، وأما إذا شهدوا بالعقد والقبض، والعبد في يد الحر، فإن على قولهما: بينة المرأة والمكاتب باطلتان للتعارض، وبينة الحر على المكاتب مقبولة، وأما على قول محمد: البينات كلها مقبولة، ويقضى بالبيوع كلها. وإن كان العبد في يد المكاتب وباقي المسألة بحالها فالجواب فيه عندهما كالجواب في الفصل الأول، وعند محمد: الجواب فيه كالجواب في المسألة الأولى. وإن كان العبد في يد المرأة وباقي المسألة بحالها، فعلى قولهما: بينة المكاتب على المرأة باطلة، وبينة المرأة على المكاتب جائزة، وما ذكر أن بينة المرأة على المكاتب جائزة مشكل اعتباراً بالفصلين الأولين، إلا أن الفرق بينهما: أن في الفصلين الأولين بينة المرأة أنها بطلت؛ لأنها ساوت بينة المكاتب؛ لأنها ثبت بيعها من المكاتب، ولا يثبت جواز شراء الحر من المكاتب جائز وإن لم يثبت بيع المرأة؛ لأن العبد في يد المكاتب، إما حقيقة أو تقديراً واعتباراً أو تعذر العمل بهما فبطلتا. فأما ههنا في بينة المرأة على المكاتب زيادة إثبات، فإنها تثبت حقاً للحر، وهو جواز شرائه من المكاتب، فإنه متى كان العبد في يد المرأة لا يجوز شراء الحر من المكاتب ما لم يثبت بيع المرأة من المكاتب؛ لأنه باع ما ليس في يده ولا ملكه،

فترجحت بينة المرأة فصارت أولى، وأما على قول محمد جازت البيوع كلها لما عرف من أصله عن طريق الاستحسان، فإن كان الحر لم يقم البينة على الشراء، لكن أقام البينة أنه باع العبد من المكاتب بمئة دينار، والباقي بحاله، قبلت بينته، ولا تقبل بينة المكاتب على المرأة، ولا بينة المرأة على المكاتب عندهم جميعاً. أما عندهما فلما مر، وأما عنده: فكذلك، وينبغي أن يقضى ببيع المرأة من المكاتب عند محمد، ولا يقضي ببيع الحر من المكاتب، قياساً على مسألة أخرى ذكرها محمد في البيوع من «الجامع» أيضاً في باب الشهادات في البيوع في الاثنين والواحدة. وصورتها: رجل في يديه عبد ادعى أن هذا العبد عبده، باعه من هذه المشتراة بألف درهم، والمرأة تجحد ذلك وتدعيه لنفسها، وأقام المدعيان البينة على ما ادعيا، فإنه يقضي ببيع المدعي الذي ليس العبد في يده من المرأة؛ لأنهما ادعيا بيع العبد من المرأة، وادعيا فيه ملكاً مطلقاً والعبد في يد أحدهما، فكذلك ههنا يجب أن يقضي ببيع المرأة من المكاتب؛ لأن الحر مع المرأة ادعيا البيع من المكاتب وادعيا في العبد ملكاً مطلقااً والمرأة خارج، فإن العبد ليس في يدها، والحر ذو اليد، فمن المشايخ من يجعل في المسألة روايتين، ومنهم من يفرق بين المسألتين. والفرق: أن ثمة الذي ليس العبد في ملكه يحتاج إلى إثبات ملكه في العبد بالبينة، ليجوز بيعه؛ لأن الملك له في العبد غير ثابت، وذو اليد أثبت كذلك أيضاً، إلا أن المذهب عندنا: أن بينة الخارج أولى، فأما ههنا فالمرأة الخارجة مستغنية عن إثبات الملك لنفسها في العبد، ليجوز بيعها؛ لأن الملك لها ثابت في العبد بإقرار الحر، فكان بينة كل واحد منهما مشروعة على إثبات البيع، لا على إثبات الملك، فكان بينة ذي اليد أولى؛ لأن بيعه آكد لأنه أثبت بيع شيء في يده، ويقدر على تسليمه، والمرأة تثبت بيع شيء لا يقدر على تسليمه، وإن كان العبد في يد المكاتب والباقي بحاله، فإن على قولهما: بينة المكاتب والمرأة باطلتان، وبينة الحر مقبولة، وعلى قول محمد: يقضى بالعبد كله للمكاتب، نصفه شراء من جهة المرأة، ونصفه من جهة الحر؛ لأن العبد في يده، وقد تنازع فيه خارجان يدعي كل واحد منهما أنه باعه من المكاتب، وأقاما البينة ولا مزية لإحدى البينتين على الأخرى. فإن قيل: لماذا قدم محمد بيع الحر وبيع المرأة من المكاتب، ولم يقدم بيع المرأة من المكاتب؟ قلنا: لأن الأصل عنده أن الشهود متى لم يشهدوا بالقبض يجعل القبض المعاين أول القبوض بحكم البيع، وإنما يصير أول القبوض إذا قدمنا على هذا الوجه، ويقضي لكل واحد منهما على المكاتب بنصف الثمن بائعاً جميع العبد من المرأة، فيؤمر المكاتب بتسليم العبد إلى المرأة، ولا خيار للمكاتب، وإن اشترى من كل واحد منهما جميع العبد وقد سلم له النصف لأن خياره يسقط بالبيع من المرأة؛ وكان يجب أن يقضي على المكاتب لكل واحد منهما بجميع الثمن، لأن العبد سلم الى المكاتب. وقد ذكر هذه المسألة في باب الشهادات في البيوع من «الجامع» ، ووضعها في

الدار، فقال: دار في يدي رجل، أقام رجل البينة أنها داره باعها من ذي اليد بألف درهم، وأقام رجل آخر بينة أنها له داره باعها من ذي اليد بمئة دينار، فالشراء لازم للمشتري، وعليه (181أ4) الثمنان، قال مشايخنا ولا يتهيأ الفرق، فيجعل ما ذكر في باب الشهادات جواب الاستحسان، وما ذكر ههنا جواب القياس. وجه الاستحسان: أن كل واحد منهما محتاج إلى إثبات الملك فيما باع عند المنازعة، وقد نازعهما ذو اليد في ذلك، فتقبل بينتهما، وإذا قبلت بينتهما فقد استحق على كل واحد منهما نصف ما باع بينة صاحبه، فصار كأن كل واحد منهما باعه جميع العبد، إلا أنه استحق منه النصف، فيسقط عنه نصف الثمن في حق كل واحد منهما. وجه الاستحسان: أنه لم يستحق كل واحد منهما شيء مما باع من المشتري؛ لأن حاجة كل واحد من البائعين في هذه الصورة إلى إثبات الملك فيما باع؛ لأن الملك فيما باع، إنما يحتاج إليه ليقدر البائع على تسليمه، فيستوجب الثمن على المشتري، فإذا كان المبيع في يده استغنى كل واحد من البائعين عن تسليم ما باع، واستغنى عن إثبات الملك لنفسه، وبينة المدعي إنما تسمع فيما يحتاج إلى إثباته، لا فيما يحتاج إلى إثباته، وإذا لم تسمع بينة كل واحد من البائعين على إثبات الملك فيما باع، لم يصر كل واحد من البائعين مستحقاً عليه في شيء مما باع، فيقرر جميع الثمن لكل واحد منهما على المشتري، وإن كان المبيع شيئاً واحداً؛ لأن اجتماع الثمنين في ذمة المشتري بسبب مبيع واحد جائز على سبيل الترادف، بأن يشتري من أحدهما ثم يبيعه من الآخر، ثم يشتري منه. وإن كان العبد في يد المرأة وباقي المسألة بحالها، فعلى قولهما: بينة المرأة والمكاتب باطلتان، وبينة الحر على المكاتب مقبولة، وعلى قول محمد كذلك الجواب؛ لأن الحر والمرأة ادعى كل واحد منهما أن العبد عبده وقد باعه من المكاتب، والعبد عبد يسلم إلى المشتري وهو المكاتب، فكان الحر محتاجاً إلى إثبات الملك في العبد، ليمكنه التسليم إلى المشتري، والحر خارج والمرأة ذو اليد، وبينة الخارج أولى. وأما إذا شهد الشهود بالعقد والقبض، فالمسألة على ثلاثة أوجه: وهو أن يكون العبد في يد الحر أو في يد المرأة، وتخريجهما على نحو ما ذكرنا، وما ذكر محمد رحمه الله من هذا الجنس، فتخريجه على نحو ما ذكرنا. قد ذكرنا في أول هذا النوع أن العين الواحد إذا تنازع فيه اثنان ادعى كل واحد منهما أنه باعه من صاحبه بثمن معلوم وأنكر صاحبه، وأقام كل واحد منهما البينة على ما ادعى ولم يؤرخا، والعين في يد الثالث، على قول أبي حنيفة وأبي يوسف على رواية باب الطويل من بيوع الجامع تترك العين في الثالث قضاء ترك، وعلى رواية الباب القصير منه يقضي بالعين المدعى من المدعيين نصفان، واختلف المشايخ فيما بينهم قال بعضهم: في

المسألة روايتان على رواية الباب القصير يقضي بالملك بينهما، وعلى رواية الباب الطويل لا يقضي بالملك بينهما، وبعضهم قالوا ما ذكر في الباب القصير قياس، وما ذكر في الباب الطويل استحسان، وبعضهم قالوا اختلف الجواب لاختلاف الموضوع. وضع المسألة في الباب الطويل أن كل واحد منهما ادعى البيع على صاحبه فقط، وعند التعارض في دعوى البيع تتهاتر البينتان، ووضع المسألة في الباب القصير إذا ادعى كل واحد منهما البيع والملك وجه ما ذكر في الباب القصير، وهو القياس على قول بعض المشايخ أو إحدى الروايتين على قول البعض أن كل واحد منهما أقام البينة على ما يجوز القضاء به وعلى ما لا يجوز القضاء به على قولهما؛ لأن كل واحد منهما أقام البينة أن الدار ملكه، والدار في يدي الثالث، وهذا مما لا يجوز القضاء به، بدليل أنه لو لم يدع كل واحد منهما البيع من صاحبه، فإنه يقضي بينهما نصفان، وعلى كل واحد منهما البيع من صاحبه، فإنه يقضي بينهما نصفان وعلى ما لا يجوز القضاء، فإن كل واحد منهما أثبت بيع جميع الدار من صاحبه، وقد جهل التاريخ بينهما، فيجعل كأنهما وقعا معاً بأن قال كل واحد منهما لصاحبه: بعت منك هذه الدار وخرج الكلامان معاً، ولو كان هكذا كان البيعان باطلين؛ لأن الشخص الواحد في وقت واحد لا يتصور أن يكون بائعاً ومشترياً لعين واحدة لما فيه من التضاد، فيقضي بما يجوز القضاء به، ولا يقضي بما لا يجوز القضاء به. ويجوز أن تقبل شهادة الشاهد في بعض ما شهد به، كما لو شهد أحدهما بألف والآخر بألف وخمسمئة والمدعي يدعي أكثر المالين قبلت شهادة الشاهد بالألف والخمسمئة على الألف، كذا ههنا، بخلاف ما لو ادعى رجل داراً في يدي إنسان أنه اشتراها من ذي اليد بألف درهم، وادعى ذو اليد أنه اشتراها من الخارج بمئة دينار، وأقاما البينة ولم يؤرخا، فإن هناك تتهاتر البينتان، وتترك الدار في يدي ذي اليد؛ لأن كل بينة أثبتت إقرار صاحبها أن الدار إن كانت لصاحبه؛ لأن كل مشتر مقر أن المشترى كان ملك بائعه، وأنه سبيل من بيعه، وجهل التاريخ بين الإقرارين فبطلتا، وترك الدار في يد ذي اليد قضاء ترك، فأما ههنا ذو اليد ما أثبت إقرار أحد المدعيين أن الدار له، فوجب القضاء بالدار بينهما نصفان. وجه ما ذكر في الباب الطويل وهو الاستحسان على قول بعض المشايخ أو إحدى الروايتين على قول بعض المشايخ أن الأمر على ما قلنا، إلا أنه تعذر القضاء بشهادتهم في الكل؛ لأن كل فريق فيما شهد بسبب نفسه إلى الشهود والغفلة؛ لأنه شهد لمدعيه في غير الوقت الذي شهد به الآخر، إذ لو عاينا البيعين معاً في وقت واحد لكان لا يحل لهم أن يشهدوا بالبيع؛ لأنه يكون باطلاً، فقد اتفق الفريقان أن البيعين كانا في وقتين مختلفين، إلا أنهما جهلا ذلك ونسياه، وشهادة المغفل لا تقبل، وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف. فأما على قول محمد يقضى بالدار بينهما نصفان، ويقضى لكل واحد منهما على

صاحبه بنصف ما أقر له من الثمن؛ لأن كل واحد منهما يستحق نصف الدار، ولم يذكر في الباب الطويل أنه يخير إن شاء أخذ نصف الثمن، وإن شاء ترك، واختلف المشايخ فيه السكوت يحمل على المنطوق، ومنهم من قال ما ذكر في الباب الطويل جواب القياس، وما ذكر في الباب القصير جواب الاستحسان، وظاهر السكوت يدل على أنه لا خيار لهما. وجه القياس في ذلك: أن كل واحد منهما أثبت على صاحبه أنه باع منه جميع الدار، ولم يسلم له إلا النصف، فيخير كما لو ادعى رجلان شراء عين من واحد ولم يؤرخا، وليس لأحدهما قبض، فإنه يقضي بينهما نصفان، ويكون لكل واحد منهما الخيار لما بينا كذا ههنا. وجه الاستحسان: أن كل واحد أثبت على صاحبه البيع في جميع الدار إلا أنه أن المنصف من ذلك إنما استحق على كل واحد منهما ببيعه من صاحبه، فإن الأكبر صار بائعاً نصف الدار من الأصغر، والأصغر كذلك، وفي مثل هذا لا يثبت الخيار والله أعلم. نوع آخر من هذا الفصل فمن جملة صورته: إذا ادعى أحدهما الهبة مع القبض، وادعى الآخر الشراء، وإنه على وجهين: إن ادعيا ذلك من جهة اثنين، والعين في يد ثالث أو في أيديهما أو في يد أحدهما، والجواب فيما إذا ادعيا ملكاً مطلقاً سواء لأن كل واحد منهما يثبت ملكاً مطلقاً، ثم يثبت الانتقال الى نفسه فكان بمنزلة ما لو حضر الى الملكان وادعيا لأنفسهما ملكاً مطلقاً وأقاما البينة، ففي كل موضع ذكرنا في دعوى الملك المطلق إنه يقضي بينهما نصفان، فههنا يقضي بينهما نصفان أيضاً، قال شيخ الإسلام إنما يقضى بينهما نصفان إذا كان المدعى به شيئاً لا يحتمل القسمة كالعبد، أما إذا كان المدعى به شيئاً لا يحتمل القسمة كالدار والدابة وأشباههما، يقضي بالكل لمدعي الشراء؛ لأن مدعي الهبة أثبت بينة فاسدة، لأنه أثبت الهبة (181ب4) في الكل واستحق الآخر النصف عليه بالهبة واستحقاق نصف الهبة في مشاع يحتمل القسمة، يوجب فساد الهبة، فلا تقبل بينة مدعي الهبة، وصار كأن مدعي الشراء تفرد بإقامة البينة، والصحيح أن المشاع الذي يحتمل القسمة في ذلك على السواء؛ لأن مدعي الهبة أثبت الهبة في الكل، إلا أنه لأجل المزاحمة سلم له البعض، وهذه المزاحمة بعد القبض، فكان شيوعاً طارئاً، وإنه لا يبطل الهبة. وإن ادعيا ذلك من جهة واحدة، والعين في يد ثالث، ولم يؤرخا أو أرخا وتاريخهما على السواء، فالشراء أولى؛ لأن الشراء يوجب الملك بعوض، والهبة توجب الملك بغير عوض، فإذا احتجنا إلى نقض وأحدهما كان نقض ما يوجب الملك بغير عوض، وفيه تعليل النقض أولى من نقض ما يوجب الملك بعوض، وفيه تكثير النقض، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر، فالمؤرخ أولى أيهما كان، أما إذا كان المؤرخ يدعي

الشراء فظاهر؛ لأنه من غير تاريخ الشراء هو أولى أيهما كان، أما إذا كان المؤرخ يدعي الشراء فظاهر؛ لأنه من غير تاريخ الشراء هو أولى فمع تاريخ الشراء أولى أن يكون أولى، وأما إذا كان المؤرخ يدعي الهبة، فلأن الشراء متأخر معنى؛ لأن الشراء حادث، والأصل أن يحال بحدوثه على أقرب الأوقات بعين ما هو ثابت بيقين من حيث العيان، والحكم بإحالة الشراء على أقرب الأوقات، وههنا لا يتضمن ذلك، فجعلنا الشراء المطلق حادثاً للحال، وهو معنى قولنا الشراء متأخر معنى، فيعتبر بما لو كان متأخراً حقيقة، وهناك يقضى لمدعي الهبة كذا ههنا، ولو أرخا وتاريخ أحدهما أسبق فهو أولى، وإن كان العين في يد أحدهما فهو أولى، إلا أن يؤرخا وتاريخ الخارج أسبق فحينئذٍ يقضي للخارج. وإن كان العين في أيديهما، فهو بينهما إلا أن يؤرخا وتاريخ أحدهما أسبق، فحينئذٍ يقضي لأسبقهما تاريخاً، والجواب في الصدقة لا تفيد الملك قبل القبض، ويفيد الملك بغير عوض كالهبة. وإذا اجتمعت الهبتان مع القبض فالجواب فيه كالجواب فيما إذا اجتمع الشاءان وإذا اجتمعت بينة مع القبض والصدقة مع القبض، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا اجتمع الشراءان، وستأتي هذه المسألة في أخر الباب إن شاء الله تعالى، وكان ينبغي أن تكون الصدقة أولى؛ لأن الصدقة توجب ملكاً لازماً، والهبة ملكاً غير لازم، ونقض ما ليس بلازم وفيه تعليل النقض أولى والجواب: أن الهبة إن كانت من ذوي رحم محرم، فهي لازمة كالصدقة، وإن كانت من أجنبي إن لم تكن لازمة ففيها عوض مشروط عرفاً، ولهذا يثبت للواهب حق الرجوع ما لم يعوض عنها، ففي نقض الصدقة إن كان نقض اللزوم، ففي نقض الهبة نقض العوض من وجه فاستويا. وإذا اجتمع الشراء والرهن فالشراء أولى؛ لأن الشراء أقوى؛ لأنه يفيد الملك بنفسه والرهن لا يفيد الملك في الحال، وإذا اجتمع الرهن والهبة أو الصدقة فالرهن أولى استحساناً؛ لأن الرهن يتعلق به الضمان فكان قبضه مضموناً، وقبض الهبة والصدقة ليس بمضمون، وإذا اجتمع النكاح والهبة أو الرهن أو الصدقة فالنكاح أولى؛ لأن النكاح عقد معاوضة يفيد الملك بنفسه كالشراء، ولو اجتمع الشراء مع كل واحد من هذه الأشياء كان الشراء أولى فهاهنا كذلك. وإذا اجتمع الشراء والنكاح فعلى قول محمد: الشراء أولى إذا لم يؤرخا أو أرخا وتاريخهما على سواء؛ لأن الشراء مبادلة مال بمال يوجب الضمان في العوضين، والنكاح مبادلة مال بما ليس بمال لا يوجب الضمان في المنكوحة فكان الشراء أقوى من هذا الوجه. المحيط البرهانى وعلى قول أبي يوسف: إذا لم يؤرخا، أو أرخا وتاريخهما على السواء يقضى بينهما نصفان، وصار الجواب فيه كالجواب فيما اذا اجتمع الشراءان، وهذا لأن الشراء مع النكاح يستويان من حيث أن كل واحد منهما يفيد الملك بنفسه، وللنكاح قوة من وجه من حيث الملك في الصداق ثبت بنفس العقد متأكداً حتى لا يبطل بالهلاك قبل التسليم،

ويجوز التصرف في الصداق قبل القبض، بخلاف الشراء فإن لم يترجح جانب النكاح لا أقل من أن يثبت المساواة. وإن ادعى رجل بينة مقبوضة في دار أو عبد، وادعى آخر صدقة مقبوضة، وأقاما البينة، فإن وقتت بينة أحدهما فصاحب الوقت أولى، وإن لم يوقت بينة أحدهما أو وقت بينة كل واحد منهما، ووقتهما على السواء ففيما لا يحتمل القسمة يقضى بينهما نصفان بالاتفاق، وفيما يحتمل القسمة نحو الدار وأشباهها تبطل البينتان جميعاً، لأنا لو عملنا بهما قضينا لكل واحد بالنصف، والهبة والصدقة في مشاع يحتمل القسمة لا يجوز قبل هذا قول أبي حنيفة، فأما على قول أبي يوسف ومحمد ينبغي أن يقضى لكل واحد بالنصف على قياس بينة الدار من رجلين. قيل: ينبغي أن يقضى لكل واحد منهما بالنصف أثبت الهبة في الكل، ثم الشيوع بعد ذلك طارئ وذلك لا يمنع صحة الهبة والصدقة، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: الأصح عندي أن ما ذكر في «الكتاب» قول الكل لأنا لو قضينا لكل واحد بالنصف فإنما يقضى بالعقد الذي شهد به شهوده عند اختلاف العقدين هبة الدار من رجلين. في «المنتقى» : دار في يد رجل أقام بينة إني كنت ادعيت هذه الدار، وإن صاحب اليد صالحني منها على مئة درهم، وأقام الذي في يديه الدار أنه أبرأه من حقه من دعواه في هذه الدار، فبينة الصلح أقوى لا..... . نوع آخر من هذا الفصل في الخارجين يدعيان إذا ادعى رجل على صاحب العبد والرقيق الشراء، وادعى الرقيق الإعتاق أو التدبير أو الكتابة أو الاستيلاد. رجل ادعى أمة في يدي رجل أنه اشتراها من صاحب اليد بألف درهم، وأنه أعتقها وأقام على ذلك بينة، وأقام آخر بينة أنه اشتراها من صاحب اليد بألف درهم ولم يذكر الإعتاق، فصاحب العتق أولى، هكذا ذكر المسألة في أول الكتاب الدعوى، وهذا لأن الإعتاق قبض حكماً لما تبين، فقد ادعيا تلقي الملك من جهة واحد، ولأحدهما قبض مشهود به وهو مدعي العتق فكان أولى، ونبين شرح هذا الكلام في المسألة التي تلي هذه المسألة إن شاء الله تعالى، ولم يذكر ثمة ما إذا كان مدعي الشراء قبض العبد فلو كان قبض العبد كان هو أولى بدليل المسألة التي تليها. وصورتها: رجل له عبد، أقام العبد بينة أن المولى أعتقه، وأقام رجل آخر بينة أن المولى باع العبد منه بألف درهم، فإن لم يكن المشتري قبض العبد فبينة العبد أولى؛ لأنهما يدعيان تلقي الملك من جهة ثالث ولأحدهما قبض مشهود به وهو العبد ولا قبض للآخر.

بيانه: أن العبد ادعى تلقي الملك في نفسه من جهة مولاه بالإعتاق والآخر ادعى تلقي الملك في العبد من جهة مولاه أيضاً بالشراء غير أن العبد بالإعتاق يصير قابضاً نفسه؛ لأنه يقع في يد نفسه، فالشهادة على العتق تكون شهادة على الملك والقبض جميعاً، والمشتري بنفس الشراء لا يصير قابضاً فالشهادة على الشراء لا تكون شهادة على القبض، فهو معنى قولنا: ادعيا تلقي الملك من جهة الثالث ولأحدهما قبض مشهود كما في دعوى الشراء (182أ4) من ثالث إذا كان لأحد المدعيين قبضاً مشهوداً به، بأن شهد شهود أحد المدعيين بالشراء والقبض، وشهد شهود الآخر بالشراء دون القبض. قال: فإن كان المشتري قبض العبد فبينة المشتري أولى؛ لأن المشتري له قبض معاين، والعبد له قبض مشهود به، وليس له قبض معاين، وهذا لأن العبد إنما يصير قابضاً نفسه بالإعتاق، والإعتاق مشهود به، فكان قبض العبد مشهوداً به، وللقبض المعاين رجحان على القبض المشهود به، ألا ترى أن في دعوى الشراء من ثالث إذا كان لأحد المتداعيين قبضاً معايناً وللآخر قبضاً مشهوداً به يترجح من له القبض المعاين كذا ههنا. والمعنى في ذلك: أن الذي له قبض معاين قبضه ثابت حقيقة، وما يدعيه الآخر إن كان مقدماً يجب نقض هذه الحقيقة، وإن كان متأخراً لا يجب نقضها فلا يجب نقضها بالشك والاحتمال، والجواب فيما إذا كان العبد ادعى التدبير نظير الجواب فيما إذا ادعى العتق إن لم يكن المشتري قبض العبد، فبينة العبد أولى، وإن كان قبض العبد فبينته أولى. ولو ادعت أمة أنها ولدت من مولاها وأقامت على ذلك بينة، وأقام رجل آخر بينة أنه اشتراها من مولاها، فبينة الأمة أولى سواء كانت في قبض المشتري أو لم يكن في قبضه، أما إذا لم يكن في قبض المشتري؛ فلأن دعوة الاستيلاد ودعوة التدبير سواء، وبينة التدبير أولى إذا لم يكن للمشتري قبض معاين، فكذا بينة الاستيلاد، وإما إذا كان في قبض المشتري فكذلك، وكان ينبغي أن تكون بينة المشتري أولى؛ لأن له قبض معاين وقع الشك في نقضه إن كان علوق هذا الولد قبل الشراء فإن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء يجب نقض قبضه، وإن كان علوق هذا الولد بعد الشراء إن جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر من وقت الشراء لا يجب نقضه، فلا يجب نقضه بالشك، فصار كما في دعوى التدبير. والجواب عن هذا أن يقال: بأن دعوى العتق والتدبير إنما لا ينقض قبض المشتري لأن قبضه ثابت حقيقة، وقع الشك في نقضه إذا لم يعرف التاريخ؛ لأنه إذا لم يعرف التاريخ يحتمل أن العتق والتدبير لاحقان، وعلى هذا التقدير لا ينقض قبض المشتري، فلا ينقض قبضه بالشك وفي دعوى الاستيلاد لو نقضنا قبض المشتري نقضناه بيقين لا بالشك. بيانه: أن دعوة البائع قد ثبتت بالبينة إلا أنه يحتمل أن تكون دعوته قبل البيع وعلى

هذا التقدير يجب نقض قبض المشتري؛ لأنه صار بائعاً أم ولده وإن كان دعوته بعد البيع، فكذلك يجب نقض قبض المشتري أيضاً؛ لأن موضوع المسألة أن المدعي ادعى شراء الجارية، ولم يدع الولد، فيبقى الولد على ملك البائع. وصارت مسألتنا رجل له جارية ولدت ولداً، فباع المولى الجارية، ثم ادعى بنسب الولد لستة أشهر وهناك تصح دعوته، وإذا صحت دعوة البائع على كل حال، وجاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء أو لستة أشهر، وجب نقض قبض المشتري على كل حال، فقد تيقنا بنقض قبضه والقبض المعاين يجوز أن ينقض، ألا ترى أن في دعوى الشراء من ثالث إذا أرخا وتاريخ أحدهما أسبق والآخر قبض معاين يقضى للخارج وينقض قبض الآخر كذا ههنا، ولو وقتت بينة المشتري وقتاً قبل الحبل بثلاث سنين كانت بينة المشتري أولى اعتباراً للثابت بالبينة بالثابت معاينة، وكذلك الجواب في العتق والتدبير إذا أرخا، وتاريخ أحدهما أسبق يقضى لأسبقهما تاريخاً اعتباراً للثابت بالبينة بالثابت معاينة. وإذا أقام عبد البينة أن مولاه أعتقه وهو ينكر أو يقر، وأقام آخر بينة أنه عبده قضي للذي أقام البينة أنه عبده، لأن شهود العتق شهدوا بعتق باطل؛ لأنهم لم يقولوا في شهادتهم: وفلان يملكه، والملك لفلان لا يثبت من غير شهادة، فالعتق بلا ملك عتق باطل، فصار وجود هذه البينة والعدم بمنزلة، ولو عدم هذه البينة لكان يقضى للذي أقام البينة أنه عبده كذا ههنا، وكذلك لو شهدوا أن فلاناً أعتقه وهو في يده يقضى للذي أقام البنية أنه عبده، كذا ههنا؛ لأن نفوذ العتق يعتمد الملك دون اليد والشهود لم يشهدوا له بالملك، وإن شهد شهود العبد أن فلاناً أعتقه، وهو يملكه، وشهد شهود الآخر أنه عبده قضي ببينة العتق لأن إثبات العبد الملك لمعتقه كإثبات المعتق الملك لنفسه بنفسه، ولو أن المولى أقام بينة أنه عبده قضي ببينة العتق؛ لأن إثبات العبد الملك لمعتقه كإثبات المعتق الملك لنفسه بنفسه، ولو أن المولى أقام بينة أنه عبده أعتقه؛ وأقام رجل آخر بينة أنه عبده قضي ببينة العتق؛ لأن البينتين استويا في إثبات الملك وفي أحدهما إثبات العتق كذا ههنا. وكذلك لو أقام العبد أن فلاناً دبره وهو يملكه، وأقام رجل أخر بينة أنه عبده قضي ببينة التدبير، كما لو أقام المولى بنفسه بينة أنه عبده دبره، وأقام الآخر بينة أنه عبده يقضى ببينة المولى، ولو أقام العبد بينة أن فلاناً كاتبه وهو يملكه، وأقام بينة أنه عبده يقضى للذي أقام البينة أنه عبده، ألا ترى أنه لو أقام الذي في يديه بينة أنه ملكه كاتبه، وأقام الآخر بينة أنه عبده قضي للذي أقام البنية أنه عبده كذا ههنا، فقد فرق بينما إذا ادعى صاحب اليد لنفسه الملك مع الكتابة، وادعى الخارج لنفسه ملكاً مطلقاً، وبينما إذا ادعى صاحب اليد لنفسه الملك مع الإعتاق أو التدبير، وادعى الخارج ملكاً مطلقاً، والفرق أن دعوى التدبير من ذي اليد بمنزلة دعوى النتاج من حيث المعنى لأنه يوجب الولاء، والولاء كالنسب، والنسب في معنى النتاج، ولو ادعى صاحب اليد النتاج حقيقة، وادعى

الخارج ملكاً مطلقاً، وأقاما البينة كانت بينة صاحب اليد أولى، أما دعوى الكتابة من ذي اليد فليس بمنزلة دعوى النتاج لا من حيث الحقيقة ولا من حيث المعنى؛ لأن الكتابة ليست سبباً للولاء في الحال، ولهذا يقبل الفسخ فيكون بمنزلة دعوى البيع والإجارة، وبدعوى صاحب اليد الإجارة أو البيع لا يترجح ببينته على بينة الخارج في دعوى الملك كذا ههنا، ومما يتصل بمسائل العتق: عبد في يدي رجل أقام رجل البينة أنه له أعتقه، وأقام آخر البينة أنه حرّ الأصل وأنه والاه وعاقده، فصاحب الموالاة أولى ذكره في دعوى «المنتقى» . وفيه أيضاً: عبد في يدي رجل أقام رجل بينة أنه له أعتقه وهو يملكه، وأقام آخر بينة أنه أعتقه وهو يملكه، فإن ادعى العبد عتق أحدهما فبينته أولى، وإن كذبهما جعلت ولاءه بينهما نصفين، ولو أقام كل واحد منهما بينة أنه أعتقه على ألف درهم وهو يملكه، لم ألتفت إلى تصديق العبد وتكذيبه، وقضيت بولائه بينهما ولكل واحد منهما على ألف درهم، وإن ذكر إحدى البينتين مالاً ولم يذكر الأجنبي مالاً فالبينة بينة المال وولاؤه له، ولا أبالي أصدقه العبد أو كذب. وفيه أيضاً: شاهدان شهدا على رجل أنه غصب هذا عبداً، وأن مولاه أعتقه، وقال المشهود عليه بالغصب: ما غصبته عبداً ولا أعتقته، والعبد حي، فإني أقضي بعتق العبد، وأبرئ الغاصب عن الضمان وإن لم يدع الغاصب ذلك، علل فقال: لأن العتق حق العبد يدعيه ويقوم به، فأعتقه بالشهادة (182ب4) وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل في يديه عبد ادعى ابن له وأقام البينة أن أباه تصدق به عليه وهو صغير في عياله، وأقام العبد بينة أن الأب قد أعتقه، قال: أقبل بينة العتق. ولو شهدوا أنه تصدق به أو وهبه لابنه الكبير هذا وقبضه، وعاينوا قبضه إياه، وشهد شهود العبد أنه أعتقه ولم يوقتوا أجزت الصدقة وأبطلت العتق. وفي «المنتقى» : رجل شهد على رجل أنه أعتق غلامه وهو مريض، وقال الوارث: كان يهذي حين دخل عليه الشهود، ولم يقر الوارث بالإعتاق، قال: القول قول الوارث حتى يشهد الشهود أنه كان صحيح العقل ولو أقر الوارث بالعتق إلا أنه ادعى أنه كان يهذي فالقول قول الغلام، وهو حر حتى يقيم الوارث البينة أنه كان يهذي. ومما يتصف بمسائل العتق: إذا وقع الاختلاف بين المعتق والمعتق، بشر عن أبي يوسف: رجل أعتق أمة ثم ادعى المولى ولدها وقال: أعتقتها بعدما ولدت هذا الولد والولد عبدي، وقالت الأمة: بل أعتقني قبل أن ألده، فالقول قول من كان الولد في يده، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقد مرت المسألة في كتاب العتاق. وإن كان في أيديهما جميعاً فهو حر، وكذلك إذا اختلفا في متاع في يدها فالقول قولها، وإن أقاما البينة فالبينة بينة الأمة في المسألتين جميعاً، وفي كتاب «الأقضية» : رجل قدم بلدة ومعه رجال ونساء وصبيان يخدمونه، وهم في يده، فادعى أنهم رقيقه وادعوا

أنهم أحرار، فالقول قولهم ما لم يقروا له بالملك بكلام أو بيع، أو تقوم بينة عليهم، قال: وإن كانوا من السند أو الترك أو الهند أو الروم، لأنهم في دار الإسلام وقت الخصومة، ودار الإسلام دار الأحرار فمن ادعى الحرية فيه فقد تمسك بالأصل فكان القول قوله، وإن كان من جنسه أرقاء، فلهذا كان القول قولهم إلا إذا باعهم فقد انقادوا البيع والتسليم لأن ذلك بينهم بمنزلة الإقرار بالرق، أو تقوم البينة عليهم بالرق فلا يقبل قولهم في الحرية بعد ذلك، هكذا ذكر تأويله إذا جاء بهم غير مقهورين، أما إذا كانوا مقهورين من جهته فلا يقبل قولهم أنهم أحرار.H ادعى رجل حرية الأصل ولم يذكر اسم أمه واسم أب أمه يجوز لأنه يجوز أن يخلق الإنسان حر الأصل وأمه تكون رقيقة ألا ترى أن من استولد جارية نفسه فالولد يعلق حر الأصل، والأم رقيقة، وولد المغرور حر الأصل والأم رقيقة. مات الرجل وعليه ديون ولم يترك إلا جارية وفي حجرها ولد، فادعت أنها أم ولد الميت، وأن هذا من الميت لا يقبل قولها من غير بينة تقوم على إقرار المولى في حياته أنها أم ولده، وفيه نوع إشكال ينبغي أن تقبل بينتها إذا كان معها ولد بناء على أن الأمة تنتصب خصماً عن أبيه في إثبات النسب من الأب على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى، وإذا انتصبت خصماً عنه صار إقامتها البينة على نسب الغلام كإقامة الغلام لو كان بالغاً، ولو كان الابن بالغاً وأقام البينة أنه ابن هذا الرجل الميت أليس أنه يثبت نسبه منه؟ فكذا ههنا. وإذا ثبت نسب الغلام يثبت حقها بطريق التبعية بخلاف ما إذا لم يكن معها ولد لأن هناك لو قبلنا بينتها قبلنا على إثبات حقها مقصوداً، وحقها في هذا الباب ليس بمقصود. ولو شهدت الورثة أنها أم ولد الميت قبلت شهادتهم، ولا سبيل للغرماء عليها. إذا كانت الدار في يدي رجل وادعى رجل أنه اشترى هذه الدار من زيد، وأقام على ذلك بينة، وذو اليد أقام البينة أنه اشتراها من زيد، والمدعي هو الأول أي: تاريخ الخارج أولى، فإنه يقضي بها للخارج، وقد مرت المسألة من قبل فقد قبل البينة من الخارج، وإن قامت على البائع، والبائع غائب إنما قبلها لأنها قامت على خصم حاضر لأن الذي في يديه الدار يدعي الملك لنفسه ومن ادعى شراء على غائب والعين في يد الحاضر والحاضر يدعي الملك لنفسه، ينتصب الحاضر عن الغائب عرف ذلك في مواضع كثيرة. وإذا قضينا بالشراء للخارج هل للخارج أن يقبض الدار من صاحب اليد؟ فالمسألة على ثلاثة أوجه. إما أن يثبت نقدهما الثمن عند القاضي. أو ثبت نقد أحدهما دون الآخر، فإن ثبت نقدهما الثمن ثبت عند القاضي فإنه يسلم الدار إلى الخارج لأن الشراء ثبت بينة الخارج لما ذكرنا، ونقده الثمن ثبت عند القاضي لأن ما نقد ذو اليد للبائع صار ديناً له عند البائع عن الاستحقاق، وما في يده من الدار

ملك غير الديون، ولو كان ملك الديون لم يكن له أن لحقه فههنا أولى. وإن لم يثبت نقد واحد منهما الثمن بإقرار البائع أو بالمعاينة، فإن القاضي لا يسلم الدار إلى الخارج حتى يستوفى الثمن منه، وذلك لأن القاضي نصب ناظراً للمسلمين، فكما نظر للخارج وجمع بينته على الشراء يجب أن ينظر للغائب ويستوفي منه الثمن، ثم يأمره بقبض الدار. وإن ثبت نقد أحدهما عند القاضي، إما بإقرار البائع أو بالمعاينة، إن ثبت نقد الخارج فإنه يسلم الدار إليه لأنه ثبت الشراء بالبينة ونقده الثمن بإقرار البائع أو بالمعاينة فيسلم الدار إليه، ولا يكون لذي اليد شيء لأنه لم يثبت نقده الثمن للبائع عند القاضي، والمشتري لا يجب له على البائع شيء عند الاستحقاق إذا لم يكن نقد الثمن، فأما إذا ثبت نقد ذي اليد بإقرار البائع، أو بمعاينة القاضي، ولم يثبت نقد الخارج، فإن القاضي لا يسلم الدار إليه حتى يستوفى منه الثمن لأنه وإن ثبت الشراء عند القاضي لم يثبت نقد الثمن، والمبيع لا يسلم للمشتري إلا بعد نقد الثمن، فيستوفى الثمن منه، ثم هل يعطى ذا اليد مما قبض من الثمن من الخارج ما وجب لذي اليد على البائع من الدين عند الاستحقاق؟. إن كان الثمنان من جنسين مختلفين فإنه لا يعطي شيئاً، وذلك لأن البائع إن كان حاضراً لم يكن له أن يأخذ ذلك بغير رضا البائع، فكذا إذا كان غائباً لا يكون للقاضي أن يعطيه. فأما إذا كانا من جنس واحد فإنه يعطيه مما قبض تمام حقه، ثم إن فضل شيء أمسكه على البائع، وإن بقي من يد ذي اليد شيء اتبع البائع إذا حضر، وذلك لأن القاضي علم بوجوب دين ذي اليد على البائع، وما قبض جنس حقه فكان له أن يعطيه ذلك بغير رضا البائع. ألا ترى أنه لو كان البائع حاضراً كان له أن يأخذ بغير رضاه؟ فكذلك ههنا، هذا إذا أثبت نقد ذي اليد بإقرار البائع عند القاضي أو بالمعاينة، فأما إذا أراد ذو اليد أن يقيم البينة على نقده الثمن للبائع فإنه لا يسمع بينته لأنه يقيم البينة على غائب بإثبات دين عليه، وليس عن الغائب خصم حاضر، فلا يسمع بينته لأن القضاء على الغائب بالبينة باطل، وكان بمنزلة رجل قال: أنا أقيم البينة على غائب أن لي عليه دين حتى آخذه من وديعة له عند فلان، أو قالت المرأة: أنا أقيم البينة على أنها امرأة فلان لآخذ النفقة من مال له وديعة عند فلان، فإنه لا يسمع بينتها لأنها بينة قامت على الغائب، وليس عنه خصم حاضر فلم يسمع، فكذلك هذا، ولو كانت الدار في يدي ذي اليد بهبة صدقة أو بيع لم ينقد الثمن، فأقام هذا بينة أنه اشتراها من زيد قد دفعتها إليه، وأخذت منه الثمن للبائع لأنه ثبت شراء الخارج أولاً، ولم يثبت نقد الثمن، فكان للقاضي أن يستوفي الثمن للبائع لأنه ثبت شراء الخارج أولاً ولم (183أ4) يثبت نقد الثمن فكان للقاضي أن يستوفي الثمن للبائع؛ لأنه ثبت شراء الخارج أولالاً ولم يثبت نقد الثمن فكان للقاضي أن يستوفي الثمن منه نظراً للغائب، ولا يعطي ذا اليد من ذلك شيئاً؛ لأن ذا اليد موهوب له أو متصدق عليه أو مشتري لم ينقد الثمن، ولا يثبت لواحد من هؤلاء حق الرجوع على المالك عند الاستحقاق.

قال: وإذ باع الرجل جارية من رجل، ثم غاب المشتري، ولا يدري أين هو، فرفع البائع الأمر إلى القاضي وطلب منه أن يبيع الجارية ويوفي منه، فإن القاضي لا يجيبه إلى ذلك قبل إقامة البينة؛ لأنه يدعي حقاً على الغائب، وليس عنه خصم حاضر، ولأنه يجوز أن يكون غاصباً لهذه الجارية احتال بهذه الحيلة ليبرئ نفسه عن ضمانها وتسقط النفقة عن نفسه فلا يتعرض القاضي لما قاله البائع من غير بينة، ولأنه يدعي إيجاب حفظ على القاضي في هذا الحال؛ لأنه يزعم أنه مال الغائب وأنه مما يخشى عليه التلف وعلى القاضي حفظ مال الغائب إذا كان يخشى عليه التلف فكان على القاضي أن لا يلتزم الحفظ إلا ببينة. وهو نظير رجل جاء به إلى القاضي، وقال: هذه لقطة فبعها، فإن القاضي لا يبيعها حتى يقيم البينة على ذلك؛ لأنه يدعي إيجاب حفظ على القاضي، فكان للقاضي (أن) لا يصدقه إلا ببينة، كذا ههنا، قال: فإن أقام البينة على ذلك ذكر أن القاضي يبيع الجارية على المشتري بنقد الثمن على البائع، واستوثق من البائع بكفيل ثقة وهذا الذي ذكر جواب الاستحسان والقياس أن لا يسمع هذه البينة، ولا يبيع الجارية على المشتري، نص على هذا القياس والاستحسان في «الجامع الكبير» في كتاب الإجارات في باب الاختلاف بين اثنين في نظير هذه المسألة. وجه القياس في ذلك ظاهر إن هذا بينة قامت على إثبات حق على الغائب وليس عن الغائب خصم حاضر لا قصدي ولا حكمي فوجب أن لا تقبل قياساً على ما إذا كان يعرف مكان المشتري، وقياساً على من أقام بينة على إثبات حق على الغائب لا يعرف مكانه لينزع شيئاً مما في يد الغائب، فإن في هاتين الصورتين لا تقبل هذه البينة وإنما تقبل هذه البينة لما قلنا. وجه الاستحسان: أن البائع عجز عن الوصول إلى الثمن من جهة المشتري إذا كان لا يعرف مكانه، وعجز عن الانتفاع بالمبيع؛ لأنه مال غيره، واحتاج إلى أن ينفق عليه ما لم يحضر المشتري، وربما باقي النفقة على الثمن وزيادة متى انتظر القاضي حضور المشتري فمتى لم يسمع هذه البينة من البائع أدى إلى إبطال حقه، والقاضي انتصب ناظراً لإحياء حقوق الناس، فكان للقاضي أن يسمع هذه البينة ليدفع الضرر والبلية التي ابتلي بها البائع، لأن على القاضي دفع البلية عن الناس ما أمكنه، بخلاف ما إذا كان يعرف مكان البائع؛ لأنه كان يمكنه دفع الضرر والبلية عن البائع، بأن يأمره بالذهاب إلى حيث كان المشتري وإقامة البينة عليه، وبخلاف ما إذا ادعى حقاً على غائب لا يعرف مكانه وأراد أن يقيم البينة على ذلك لينتزع شيئاً من مال الغائب، فإن القاضي لا يسمع ذلك منه، وذلك لأن القياس في مسألة البيع أن لا تسمع البينة على الغائب؛ لأنه ليس عنه خصم حاضر، إلا أنا تركنا القياس فيها بإجماع العلماء على ذلك، فإنا والشافعي أجمعنا أن في هذه المسألة تسمع بينة البائع إذا كان لا يعرف مكان المشتري، وما ثبت بالإجماع بخلاف القياس لا يقاس عليه غيره والإجماع المنعقد في هذه المسألة لتندفع البلية التي

ابتلي بها البائع، وليس في قبولها إزالة يد الغائب عما في يده؛ لأن حق الغائب إنما يستوفى من الجارية التي في يده لو ادعى أنها له كان القول قوله لا يكون إجماعاً إذا قامت البينة على انتزاع مال في يد الغائب، وفي ذلك إزالة ملك البائع ويده حتى لو ادعى المدعي ذلك لنفسه لا يصدق في ذلك؛ لأنه ليس في يده؛ فيرد هذا إلى ما يقتضيه القياس، فإنما استحسنوا إذا كان المدعي لا يدعي انتزاع شيء مما في يد الغائب وإنما يدعي إيفاء حقه من المال الذي في يده. ثم إذا باع القاضي الجارية ذكر أنه يوفي البائع، وليس طريق الإيفاء أنه ثبت بما أقام البائع من البينة الدين على المشتري، ولكن طريقه أن في الإيفاء حفظ الثمن على الغائب؛ لأنه يصير مضموناً على القابض بالمثل، فيكون بمعنى القرض، وللقاضي أن يقرض مال الغائب لما فيه من زيادة حفظ ليس في الإيداع فكذا هذا، والدليل على أن البيع وإيفاء الثمن كان على سبيل الحفظ من القاضي لا على سبيل القضاء أنه لو فعل ذلك من غير بينة أقامها الحاضر بأن يعرف ذلك من الناس كان له ذلك؛ وكذا لو فعل القاضي ذلك بعد إقامة البينة، وجحد الشراء، وقال: الجارية جاريتي من الأصل يحتاج البائع إلى إقامة البينة ثانياً، ولو فعل القاضي ذلك على وجه القضاء صار الغائب مقضياً عليه بالشراء، ولو صار مقضياً عليه بالشراء لكان لا يلتفت إلى إنكاره بعد ذلك مع هذا صح إنكاره، عرف أن ما فعله القاضي فعله على سبيل الحفظ لا على سبيل القضاء، وللقاضي ولاية الحفظ في مال الغائب، ثم إذا باع القاضي الجارية وأوفى البائع حقه، فإنه يأخذ منه كفيلاً ثقة لجواز أنه آخذ الثمن من المشتري مرة، فمتى حضر المشتري احتاج إلى أن يرجع على البائع بالثمن وربما لا يجد البائع فيأخذ كفيلاً نظراً للمشتري، حتى إن تعذر عليه اتباع البائع اتبع الكفيل فيستوفي من الكفيل، ثم إن كان فيه وضيعة فعلى المشتري، وإن كان فيه فضل فللمشتري؛ لأن بيع القاضي وله ولاية البيع على المشتري من الوجه الذي ذكرنا كبيع المشتري، ولو أن المشتري باع الجارية بنفسه إن كان فيه وضيعة يكون على المشتري؛ لأن الدين على المشتري فكذا إذا باعه القاضي، وإن كان فيه فضل فله لأنه بدل ماله فيكون له، ثم وضع المسألة في الجارية ولم يضع في الدار، ويجب أن يقال بأنه في الدار لا يتعرض القاضي لذلك ولا يبيع الدار؛ لأن القياس أن لا يبيع الجارية على المشتري، وإنما يبيعها استحساناً إما لدفع البلية عن البائع وهو إسقاط النفقة عنه، وإنما يحتاج إلى النفقة إذا كان حيواناً، أو للحفظ على الغائب وإنما يحتاج إلى الحفظ إذا كان المبيع شيئاً يخاف فيه التلف كالجارية ونحوها دون العقار، وإنها محصنة بنفسها، وإن كان يعرف مكان المشتري فإنه ليس للقاضي أن يبيع الجارية، وإن أقام البائع البينة على ذلك، فرق بين هذا وبينما إذا كانت الجارية آبقة فادعى الذي في يده الجارية أنها آبقة وأقام البينة على ذلك وطلب من القاضي بيعها، أو كانت وديعة أو ضالة كالبعير والبقر، وطلب من القاضي أن يبيع ذلك، أو يأمره بالنفقة على حسب ما يرى الأصلح للغائب، وأن القاضي يعرف مكانه، وإن كان القاضي لا يرجو قدومه عن قريب وخاف أنه

متى أمر الذي في يديه الجارية بالنفقة أنها تربى على قيمة الجارية يبيع الجارية، وذلك لأن نفقة الآبقة والوديعة على ربها، فمتى لم يبع أتى النفقة على جميع ماله فيهلك ماله وعلى القاضي أن يدفع الهلاك عن أموال الناس ما أمكنه، فكان النظر للغائب أن يبيع، وههنا النظر للغائب في أن لا يبيع حتى لا تزول العين من ملكه، لأن نفقة المبيع على البائع إلى أن يحضر المشتري فيقبض، وإذا هلكت كانت عليه فالنظر للغائب أن لا يبيع إذا كان يعرف، ولكن يأمره بطلب المشتري وهذا إذا جاء المشتري وأقر بذلك، فأما إذا أنكر الشراء احتاج البائع إلى إقامة البينة على المشتري ثانياً لأن البيع لم يثبت بما أقام من البينة؛ لأنه لم يكن عنه خصم (183ب4) حاضر. قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا كانت الدار في أيدي ورثة وأحدهم غائب، فادعى أحدهم أنه اشترى نصيب الغائب هل تقبل هذه البينة على بقية الورثة الذين في أيديهم الدار؟ فهذا على وجهين: إما أن تكون بقية الورثة الذين في أيديهم الدار مقرين بنصيب الغائب، أو كانوا منكرين نصيب الغائب فإن كانوا مقرين بنصيب الغائب؛ فإنه لا يقبل بينته لأنها قامت على إثبات الشراء على الغائب وليس عنه خصم حاضر وإنما قلنا: ليس عن الغائب خصم حاضر، لأن أحد الورثة إنما ينتصب خصماً فيما يستحق للميت ويستحق عليه، فأما فيما يستحق على أحدهم لا ينتصب البعض عن البعض على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى: وإن كانوا منكرين يسمع هذه البينة، ويثبت الشراء على الغائب حتى لو حضر لا يكلف المدعي إعادة البينة؛ لأنه أقام البينة على الغائب في إثبات الشراء وعنه خصم حاضر جاحد، فسمع هذه البينة كما لو كان الغائب وكله بالخصومة، وإنما قلنا ذلك، وذلك لأنه ادعى حقاً على الحاضر بسبب على الغائب، وقد جحد الحاضر ما ادعى المدعي وصح جحوده؛ لأن اليد له فينتصب الحاضر خصماً عن الغائب. كعبد قطع يد رجل، وادعى المقطوع يده أن مولاه أعتقه، وأنكر العبد ذلك انتصب خصماً عن المولى في إثبات العتق عليه؛ لأن المقطوعة يده ادعى حقاً على الحاضر وهو العبد بسبب على الغائب وهو الولي فانتصب الحاضر، خصماً عن الغائب فكذلك هذا. قال محمد في «الزيادات» : رجل في يديه دار اشتراها رجل من غير ذي اليد بعبد وسلم العبد إليه، ثم خاصم المشتري صاحب اليد الدار فأخذها منه بهبة أو صدقة أو شراء أو وديعة أو غصب أو ما أشبه ذلك، فليس له على العبد سبيل؛ لأن في زعمه أن القبض مستحق له بجهة الشراء والمستحق بجهة نفع عن جهة المستحق، وإن أوقعه الموقع بجهة أخرى، فوقع هذا القبض بجهة الشراء وسلم الدار للمشتري بجهة الشراء، ولا يكون له على العبد سبيل، أورد هذه المسألة ليبين أن المشتري إذا وصل إلى المشترى يعتبر وصوله بجهة الشراء وصل إليه من جهة البائع أو من جهة غيره، فإن جاء صاحب اليد واسترد الدار من يد المشتري بأن كان في يد المشتري بسبب الغصب أو بسبب الوديعة فالمشتري يرجع على البائع بالعبد، فإن قيل: المستحق بالشراء أصل القبض لا إدامته وبالاسترداد تتقدم إدامة القبض لا أصله.

قلنا: بلى إلا أن قبض المشتري نقض بسبب سابق على عقده فارتفع قبضه من الأصل، وصار كأن لم يكن، ولو انعدم القبض من الأصل رجع المشتري على البائع بالعبد فهنا كذلك. قال: ولو كان مكان الدار جارية اشتراها بالعبد فوصلت إلى يد المشتري بالأسباب التي ذكرناها، ثم هلكت في يده لا يكون له على العبد سبيل؛ لأنه قبضها بجهة المستحق، وتقرر القبض بالهلاك ولا يكون له بعد ذلك على العبد سبيل إلا في صورة وهو أن الجارية لو كانت غصباً في يد المشتري جاء ذو اليد وضمنه قيمتها بحكم الغصب كان له أن يرجع على البائع بالعبد؛ لأن أخذ القيمة كأخذ العين لكون القيمة بدلاً عن العين، ولو كانت الجارية قائمة في يد المشتري وأخذ صاحب اليد عينها أليس أن المشتري يرجع على البائع؟ فههنا كذلك، وكذلك لو كانت الجارية غصباً في يد المشتري فأبقت فجاء صاحب العبد، وضمن المشتري قيمتها رجع المشتري بالعبد على البائع لما قلنا، فإن عادت من الإباق عادت على ملك الغاصب وهو المشتري عرف ذلك من مذهبنا والعبد سالم للمشتري لا سبيل لبائع الجارية عليه؛ لأن القاضي نقض البيع بينهما حيث قضى له بالرجوع بالعبد، فلا يكون لبائع الجارية على العبد سبيل ينفي هذا القدر أن الجارية قد سلمت للمشتري إلا أنها سلمت له بحكم أداء الضمان لا بحكم البيع فلا يمنع ذلك سلامة العبد له. رجل اشترى من آخر داراً بعبد، والدار في يدي غير البائع، وصاحب اليد يدعي أنها له فخاصم المشتري صاحب اليد، فلم يقض له بشيء، فطلب المشتري من القاضي أن يفسخ العقد بينهما لعجز البائع عن التسليم إجابة إلى ذلك لما مر قبل هذا، فإن فسخ العقد بينهما وأمر البائع برد العبد على المشتري، ثم وصل الدار إلى يد المشتري يوماً من الدهر بسب من الأسباب فالفسخ ماض حتى لا يؤمر المشتري برد العبد على البائع، وإنما كان كذلك؛ لأن القاضي إنما فسخ العقد بينهما باعتبار عجز البائع عن التسليم، وبوصول الدار إلى يد المشتري بعد ذلك بسبب من الأسباب لا يتبين أن العجز لم يكن نافذاً وهل يؤمر المشتري بتسليم الدار إلى البائع لإقراره للبائع بالدار حين اشترى الدار منه؟ ينظر إن كان المشتري صرح بالإقرار له، ذكر ههنا أنه لا يؤمر فعلى رواية هذا الكتاب لم يجعل الإقدام على الشراء إقراراً يكون المشترى ملكاً للبائع، وذكر في «الجامع» أن الإقدام على الشراء إقرار بصحة الشراء، ولا صحة للشراء إلا بصحة البيع، ولا صحة للبيع إلا بملك البائع، فصار الإقدام على الشراء إقراراً بملك البائع من هذا الوجه. وجه ما ذكر ههنا أن صحة الشراء لا تعلق لها بالملك لا محالة فإن الشراء كما صح من المالك يصح من غير المالك، إما بإنابة المالك كالوكيل والرسول، أو إنابة الشرع كالوصي، فلم يكن الإقدام على الشراء إقراراً بالملك لهذا. والصحيح ما ذكر في «الجامع» أن الإقدام على الشراء إقرار بالملك للبائع على اعتبار «الأصل» لأن الأصل يصرف الإنسان لنفسه، لكن مع أن الصحيح ما ذكر

في «الجامع» لا يؤمر بتسليم الدار ههنا باتفاق الروايتين؛ لأن هذا ليس بإقرار مصرح، بل هو إقرار في ضمن الشراء، وقد انتقض الشراء ههنا، فينتقض ما ثبت في ضمنه، وليس كالإقرار المصرح؛ لأن الإقرار هناك حصل ابتداء لا في ضمن الشراء فانتقاض الشراء لا يوجب انتقاض الإقرار، فبقي كما كان. فعلى قول هذا التعليل إذا استام عيناً من آخر واستباعه فلم يتفق بينهما بيع، ثم وصل إليه ذلك العين يوماً من الدهر يؤمر بالتسليم إلى الذي استامه واستباعه؛ لأن الإقرار هناك وإن حصل في ضمن الاستيام والاستباعة إلا أنه لم يرد عليهما نقض حتى ينتقض الإقرار الثابت في ضمنها فبقي الإقرار كما كان. رجل اشترى من آخر داراً بعبد، وتقابضا، ثم استحق نصف الدار كان مشتري الدار بالخيار؛ لأنه تفرقت الصفقة عليه، وهذا التفرق أوجب عيناً في الباقي إذ الشركة في الأعيان عيب، فيكون له الخيار إن شاء أخذ بنصف العبد وإن شاء ترك، ولا يكون لمشتري العبد الخيار، وإن تفرقت الصفقة عليه ويعيب الباقي بعيب الشركة لأن هذا العيب إنما كان بسبب تدليس من جهته وهو بيع كل الدار مع علمه أنه لا يملك إلا النصف، فلا يبقى مستحقاً للنظر، وعلى هذا إذا استحق نصف العبد كان لمشتريه الخيار، فإن اختار أخذ نصف العبد بنصف الدار لا خيار لمشتري الدار لما قلنا. وإن استحق نصف العبد ونصف الدار ذكر في «الكتاب» : أن كل واحد من المشتريين بالخيار، إن شاء أخذ وإن شاء ترك لوجود علة الخيار في البدلين وهو الشركة، ولم يبين قدر المأخوذ وقدر المتروك، من أصحابنا من قال مشتري الدار (184أ4) بالخيار إن شاء أخذ ربع العبد بربع الدار، وإن شاء ترك. ووجه ذلك: أنه استحق من كل واحد من البدلين نصفه إلا أن النصف المستحق من الدار لا يكون بإزاء النصف المستحق من العبد، وغير المستحق من الدار بإزاء غير المستحق من العبد، بل النصف الذي هو المستحق من الدار يقابله نصف العبد شائعاً من المستحق ومن غير المستحق، فيجعل الدار والعبد كل واحد منهما أرباعاً، فإذا استحق ربعا الدار يقابله من العبد ربع مستحق وربع غير مستحق، فإذا انفسخ العقد في الربع المستحق من العبد ينفسخ فيما يقابله من الدار وهو ربع الدار، فانفسخ العقد في ثلاثة أرباع العبد وفي ثلاثة أرباع الدار، وبقي العقد في ربع العبد وربع الدار، فلهذا قال: لأن كل واحد منهما بالخيار إن شاء أخذ الربع بالربع وإن شاء ترك.d وبعض أصحابنا قالوا: كل واحد منهما بالخيار إن شاء أخذ النصف بالنصف وإن شاء ترك؛ لأن كل واحد منهما باع ما يملك وما لا يملك فينصرف بيع كل واحد منهما إلى ما يملك طلباً للجواز، كعبد بين اثنين باع أحدهما نصفه ينصرف ذلك إلى النصف الذي هو ملكه، وطريقه ما قلنا، وإن لم يجز واحد منهما شيئاً حتى جاء المستحق بنصف العبد وسلم ذلك النصف إلى مشتري العبد بهبة أو صدقة تبطل خيار مشتري العبد؛ لأنه استحق جميع العبد بالعقد، وقد سلم له جميع العبد بالعقد نصفه من بائع العبد ونصفه من

الفصل السادس: في الاستحقاق وما هو في معنى الاستحقاقوما يجب اعتباره في هذا الفصل وما لا يجب

المستحق، وقد بينا أن المستحق بجهة إذا وقع يقع عن جهة المستحق سواء وقع من جهة المستحق عليه أو من جهة غيره، ويكون الخيار لمشتري الدار إذا لم يسلم له جميع ما استحق من الدار. الفصل السادس: في الاستحقاق وما هو في معنى الاستحقاقوما يجب اعتباره في هذا الفصل وما لا يجب استحقاق المبيع على المشتري يوجب توقف العقد السابق على إجازة المستحق، ولا يوجب نقضه في «ظاهر الرواية» وقد ذكرنا في كتاب البيوع أن استحقاق المشترى على المشتري يوجب الرجوع بالثمن على البائع إذا كان الاستحقاق بسبب سابق على الشراء لأن البيع معاوضة، وتنبني المعاوضة على التساوي والمساواة فيما قلنا، وإذا كان الاستحقاق بسبب متأخر عن البيع لا يوجب الرجوع بالثمن على البائع؛ لأن الواجب على البائع، إثبات يد المشترى على المشتري لإدامة يده لعجز البائع عن ذلك، وهذا الفصل يشتمل على أنواع: الأول: إذا ادعى المشتري استحقاق المشترى، وأراد الرجوع على البائع بالثمن لابد وأن يفسر الاستحقاق ويبين سببه لما ذكرنا أن الاستحقاق إنما يوجب الرجوع بالثمن على البائع إذا كان الاستحقاق بسبب متأخر عن البيع؛ ولأن دعوى الاستحقاق مطلقاً كما يحتمل دعوى الاستحقاق بسبب سابق على البيع بأن كان الاستحقاق بالنتاج أو بالملك المطلق يحتمل الاستحقاق بسبب الشراء من المشتري، ثم إذا بين سبب الاستحقاق وصح ذلك، وأنكر البائع البيع منه وأقام المشتري البينة على البيع قبلت بينته، وكان له الرجوع بالثمن، ولا يشترط حضرة المشتري لسماع هذه البينة عند بعض المشايخ، وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، بل إذا ذكر سن العبد وصفاته وذكر مقدار الثمن كفاه؛ لأن العبد غير مقصود في هذه الدعوى وفي هذه الشهادة، فلا يشترط حضرته، وعلى هذا العبد إذا تداولته الأيدي وادعى حريته على المشتري الآخر، ورجع البعض على البعض لا يشترط حضرة العبد عند الرجوع بالثمن ويكفي أن يقول الشهود: إن العبد الذي أقام البينة

على حريته باعه هذا من هذا وعند بعضهم يشترط حضرته، ثم إذا قبل بينة المشتري ورجع المشتري على البائع بالثمن بقضاء القاضي، أراد البائع أن يرجع على بائعه بالثمن كان له ذلك، وإن زعم أنه ليس له حق الرجوع لما أنكر البيع إلا أن القاضي لما قضى عليه بالبيع بالبينة فقد رد زعمه والتحق بالعدم، ولو أبرأ البائع المشتري عن الثمن أو وهبه منه، ثم استحق المبيع من يد المشتري لا يرجع على بائعه بشيء؛ لأنه لا شيء له على بائعه، وكذلك بقية الباعة لا يرجع بعضهم على البعض، وإذا استحق المبيع من يد المشتري وهو لم يؤد الثمن أو أدى بعضه يجبر على أداء الثمن في الفصل الأول، وعلى أداء الباقي في الفصل الثاني، بخلاف ما إذا طعن المشتري بعيب حيث لا يجبر على أداء الثمن؛ لأن في فصل العبد لو دفع يسترد ثانياً لا محالة، وفي فصل الاستحقاق لا يسترد ثانياً لا محالة لجواز أن القاضي عسى لا يقضي ببينة المستحق أو يجيز المستحق البيع، وإذا استحق من يد المشتري وأراد المشتري الرجوع بالثمن على بائعه، وأراه السجل فأقر بالاستحقاق، وقبل السجل أن يدفعه الثمن ثم إلى ذلك، فالقاضي يجبره على دفع الثمن ولو لم يقر بالاستحقاق ولكن وعد له دفع الثمن لا يجبر عليه فمجرد الوعد لا يلزم شيئاً، وإذا رجع المشتري على بائعه وصالحه البائع على شيء قليل كان للبائع أن يرجع على بائعه بجميع الثمن. نوع آخر اشترى رجل من آخر عبداً وباعه من غيره، ثم إن المشتري الأول اشتراه ثانياً ثم استحق الدار من يده رجع هو على البائع الأول، هكذا حكى فتوى شمس الإسلام محمود الأوزجندي رحمه الله، وهذا الجواب إنما يستقيم على الرواية التي يقول فيها: إن القضاء بالملك للمستحق يوجب انفساخ البياعات، فخرج بيع المشتري الأول وشراؤه ثانياً من اثنين، فصار كأنه لم يبع من غيره، أما على «ظاهر الرواية» القضاء بالملك للمستحق لا يوجب انفساخ البياعات فيبقى بيع المشتري الأول وشراؤه ثانياً على حاله، فلا يكون له الرجوع على البائع الأول فيسمي المشتري الأول: زيداً ويسمي المشترى منه: جعفراً، فيرجع المشتري الأولى وهو زيد على بائعه وهو جعفر لأن جعفر بائعه في الكرة الثانية، ثم يرجع جعفر على زيد لأن زيداً بائعه في الكرة الأولى، ثم يرجع زيد على البائع الأول، وقيل: يجب أن يكون الجواب في الرد بالعيب نظير الجواب في الاستحقاق، حتى أن في مسألتنا أو وجد المشتري الأول وهو زيد بالدار عيباً قديماً بعدما باعه من جعفر، ثم اشتراه ثانياً من جعفر كان لزيد أن يرده على جعفر ثم يرده جعفر على زيد، ثم يرده زيد على البائع الأول، وهذا لأن حق الرد بالعيب وإن كان ينقطع العقد الذي جرى بين المشتري الآخر والبائع الآخر، فصار كأن لم يكن حتى لو كان الرد من المشتري الآخر بغير قضاء لا يكون لبائعه أن يرده على بائعه.

وفي شرح وكالة «الجامع» من تعليقي في باب قبل باب ما يكون وكالة في الطلاق على سبيل الاستشهاد: وقبضه رجل اشترى من رجل عبد وقبضه وباعه من غيره، وقبضه ذلك الغير، ثم اشتراه من ذلك الغير ثانياً، ثم اطلع على عيب به قد كان عند البائع الأول لم يرده على الذي اشتراه منه لأنه لا يفيد؛ لأنه لو رده عليه كان للمردود عليه أن يرده عليه في الحال، فلا يفيد الرجوع، ولا يرده على البائع الأول؛ لأن هذا الملك غير مستفاد من جهة البائع، فعلى قياس هذه المسألة يجب أن يقال في فصل الاستحقاق: إن زيداً لا يرجع على جعفر لأنه لا يفيد. اشترى من آخر داراً وقبضها واستحقت من يده فقال المستحق للمشتري: خذ الثمن الذي دفعتها إلى (184ب4) البائع مني فأخذ ثم أراد المستحق أن يسترد ما دفع من المشتري هل له ذلك؟ فقد قيل: يجب أن لا يكون له ذلك على رواية، يقول فيها: إن بقضاء القاضي بالملك للمستحق تنفسخ البياعات المتقدمة؛ لأنه أدى دين البائع متبرعاً، لأن البيع السابق لما انفسخ بالاستحقاق وجب على البائع رد الثمن على المشتري، ومن أدى دين غيره متبرعاً لا يكون للمؤدي أن يرجع فيما أدى، وعلى ظاهر الرواية له أن يسترد ذلك، لأن على ظاهر الرواية لا ينفسخ البيع السابق بمجرد القضاء للمستحق، فلا يجب الثمن على البائع، فلا يصير مؤدياً دين البائع فلو أن المشتري رجع على البائع، وطالبه بالثمن، فقال المستحق للمشتري: خذ الثمن مني فأخذ ثم أراد المستحق أن يسترد منه ليس له ذلك باتفاق الروايات، ووجب الثمن على البائع فيصير المستحق قاضياً دين البائع على وجه التبرع فلا يكون له أن يسترده منه. قال محمد في «الزيادات» : رجل اشترى من رجل عبداً، وقبضه، وضمن رجل للمشتري ما أدركه من رجل آخر وسلمه إليه، ثم باعه المشتري الثاني من رجل آخر وسلمه إليه، ثم استحق مستحق من يد المشتري الآخر بالبينة، وقضى القاضي بذلك يكون ذلك قضاء على المشتري الآخر وعلى الباعة جميعاً حتى لو أقام المشتري الآخر أو واحد من أن يرجع على بائعه بالثمن من غير أن يحتاج إلى إعادة البينة، وإنما كان كذلك؛ لأنه ثبت تلقي البعض عن البعض، والقضاء بالملك المطلق على ذي اليد بالبينة قضاء عليه وعلى من تلقى ذو اليد الملك من جهته؛ لأن القضاء بالملك قضاء بالملك من الأصل، ولهذا يقضى للمستحق بالزوائد المتصلة والمنفصلة جميعاً. والقضاء بالملك من الأصل على ذي اليد بالبينة قضاء عليه وعلى من تلقى ذو اليد الملك منه ضرورة أنه لو لم يجعل كذلك كان الملك باقياً في حق البائع عدماً في حق المشتري، ويستحيل أن يكون الملك من الأصل عدماً في حق المشتري ويكون باقياً في حق البائع، فصار كل واحد من الباعة مقضياً عليه ومستحقاً عليه، فلا تقبل بينة واحد منهم على المستحق بالملك المطلق، وكان لكل واحد منهم حق الرجوع على بائعه بالثمن لهذا، ولكن إنما يرجع كل مشتري على بائعه إذا رجع عليه مشتريه حتى لا يكون للمشتري الأوسط أن يرجع على بائعه قبل أن يرجع عليه المشتري الآخر، ولا يكون للمشتري

الأول أن يرجع على بائعه قبل أن يرجع عليه المشتري الآخر، ولا يكون للمشتري الأول أن يرجع على بائعه قبل أن يرجع عليه المشتري، وإنما كان كذلك؛ لأن بدل المستحق مملوك عندنا، فإن العقد على المستحق عندنا ينعقد لكنه موقوف على الإجازة، فلو رجع على بائعه بالثمن قبل أن يرجع عليه مشتريه يجتمع الثمنان في ملك رجل واحد، وإنه لا يجوز، وكذلك لا يكون للمشتري الأول أن يضمن الكفيل بالدرك ما لم يرجع عليه؛ إذ ليس له ولاية تضمين الأصيل قبل أن يرجع عليه مشتريه، وما لم يجب على الأصيل لا يجب على الكفيل. وهل يحتاج كل مشترٍ إلى إقامة البينة على الرجوع عليه إذا أراد الرجوع على بائعه؟ ينظر إن لم يعلم القاضي بالرجوع عليه بأن كان الرجوع عند قاض آخر يحتاج، وإن علم القاضي بذلك بأن كان الرجوع عند هذا القاضي لا يحتاج، وإن كان العبد لم يستحق ولكن أقام العبد بينة على المشتري الآخر على حرية الأصل، وقضى القاضي بها رجع كل واحد منهم على بائعه بالثمن قبل أن يرجع عليه مشتريه؛ لأن القضاء بالحرية يوجب انفساخ البياعات، وبدل الحر غير مملوك، ولو رجع على بائعه قبل أن يرجع عليه مشتريه لا يجتمع الثمنان في ملك رجل واحد، وكذلك المشتري الأول يرجع على الكفيل قبل أن يرجع عليه؛ لأنه التزم ما على الأصيل، وقد تقرر الوجوب على الأصيل وثبت للمشتري الأول حق الرجوع عليه قبل أن يرجع عليه فكذا على الكفيل. ولو لم يقم العبد البينة على حرية الأصل ولكن أقام بينة أنه كان عبداً لفلان منذ سنة أعتقه، أو أقام رجل بينة أن العبد كان له منذ سنة أعتقه، وقضى القاضي بذلك، وكان تاريخ العتق قبل تاريخ البياعات كلها يرجع كل مشترٍ على بائعه قبل أن يرجع عليه؛ لأن القضاء بالعتق سابق على البياعات يوجب بطلان البياعات، وبدل العتق ليس بمملوك، فلو رجع كل بائع على بائعه قبل أن يرجع عليه لا يجتمع الثمنان في ملك رجل واحد، وكذلك إذا لم يعرف التاريخ؛ لأنه إذا لم يعرف التاريخ يجعل العتق مقارناً للشراء لأنهما حادثان، والحادثان إذا لم يعرف بينهما تاريخ جعلا متقاربين على ما عرف. واقتران العتق بالشراء يوجب بطلان الشراء وكذلك لو أقام العبد البينة أنه كان عبداً لفلان منذ سنة دبره، وأقام رجل بينة على ذلك، أو كانت جارية أقامت بينة أنها كانت لفلان منذ سنة استولدها، وأقام رجل بينة على ذلك، وكان تاريخ هذه الأسباب قبل تاريخ البياعات كلها أو لم يعرف التاريخ أصلاً، وقضى القاضي بذلك، فهذا وما لو أقامت البينة على حرية الأصل أو على العتق سواء، يرجع كل واحد على مشتريه قبل أن يرجع عليه؛ لأنه ثبت لهما حق الحرية، وحق الحرية بمنزلة حقيقة الحرية. طعن أبو حازم رحمه الله في فصل التدبير والاستيلاد وقال: يجب أن يكون الجواب فيهما كالجواب في استحقاق الملك المطلق لا يرجع كل مشترٍ على بائعه قبل أن يرجع عليه؛ لأن العقد على المدبر وأم الولد منعقد، ولهذا نفذ البيع في المدبر بقضاء القاضي رواية واحدة، وفي أم الولد على إحدى الروايتين، وبدلهما مملوك، ألا ترى أن

المدبر يضمن بالغصب عند الكل وكذا أم الولد عندهما، والجواب أن العقد لا ينعقد عليهما مع التدبير والاستيلاد، ولا ينفذ البيع بقضاء القاضي مع التدبير والاستيلاد ولكن بقضاء القاضي لجواز بيع المدبر يتضمن فسخ التدبير أولاً، ثم البيع يلاقيه وهو قن وكذلك في أم الولد قضاء القاضي في القن، فأما مع التدبير والاستيلاد العقد لا ينعقد ولا ينفذ بالقضاء والبدل الذي شرط في العقد في مقابلتهما لا يملك، فصار فصل التدبير والاستيلاد نظير الحرية والعتق من هذا الوجه، وإن قامت البينة على العتق والتدبير والاستيلاد بتاريخ بعد البياعات كلها بأن أقام العبد والجارية بينة على المشتري الآخر أنه عبد فلان أو جارية فلان أعتقه استولدها بعد شراء المشتري الآخر، وأقام رجل بينة على ذلك وقضى القاضي بذلك، كان هذا والقضاء بالملك المطلق سواء؛ لأن كل عقد جرى كان منعقداً، والبدل الذي ذكر فيه كان مملوكاً بالقبض؛ لأن العتق المتأخر لا ينافي الملك المتقدم، ولو كان تاريخ العتق من العبد بين البياعات حتى وقع بعضها قبل العتق وبعضها بعد العتق، فما كان قبل العتق لا يرجع فيه كل مشترٍ على بائعه قبل أن يرجع عليه، وما كان بعد العتق يرجع فيه كل مشترٍ على بائعه قبل أن يرجع عليه اعتباراً للبعض بالكل. نوع آخر قال محمد في «الزيادات» : رجل اشترى من أخر جارية وقبضها، ثم جاء مستحق واستحقها من يد المشتري وقضى القاضي بذلك فهذه المسألة على ثلاثة أوجه: الأول: أن يستحقها ببينة وفي هذا الوجه يرجع المشتري بالثمن على البائع لأن المبيع استحق على المشتري بما هو حجة في حق الناس كافة فيظهر (185أ4) الاستحقاق في حق البائع كما يظهر في حق المشتري. الوجه الثاني: أن يستحقها بإقرار المشتري، وفي هذا الوجه لا يرجع المشتري بالثمن على البائع لما عرف أن الإقرار حجة في حق البائع، فلا يثبت له حق الرجوع على البائع. الوجه الثالث: أن يستحقها بنكول المشتري وفي هذا الوجه لا يرجع المشتري بالثمن على البائع، واعتبر نكوله بإقراره، وفرق بين هذا وبين الوكيل بالمبيع إذا رد عليه المبيع بالعيب بنكوله، فإنه يلزم الموكل واعتبر الرد عليه بنكوله بمنزلة الرد عليه بالبينة. والفرق: وهو أن المشتري مختار في النكول إذا سبق منه ما يطلق له اليمن بكونها مملوكة، وهو الشراء فإن الشراء من أسباب الملك ولا ضرورة مع قيام الدليل فلم يكن مضطراً في النكول بل كان مختار فيه، فاعتبر نكوله بإقراره لهذا، أما في فصل الوكالة الوكيل مضطر في النكول إذا لم يسق بينة ما يطلق له اليمن بانتفاء العيب؛ لأن الذي سبق منه قبول الوكالة بالبيع، والإنسان كما تقبل الوكالة في السليم تقبل في المعيب، وكما يبيع السليم يبيع المعيب، وقد يبيع الإنسان مال نفسه فلا يعلم قيام العيب به فكيف يعلم الوكيل فكان مضطراً في النكول منه بمنزلة البينة حتى لو أقر بالعيب فرد عليه بإقراره لا

يلزم الموكل؛ لأنه مختار في الإقرار؛ لأنه يمكنه أن يسكت حتى يعرض عليه اليمين فينكل فينقضي عليه بنكوله، فإن قال المشتري بعدما أقر أو نكل: أنا أقيم البينة على أن الجارية ملك المستحق يريد به الرجوع بالثمن على البائع لا تسمع بينته وإنما لا لوجوه ثلاثة: أحدها: أن البينة إنما تسمع إذا ترتبت على دعوى صحيحة والدعوى هنا لم تصح لمكان التناقض؛ لأنه حصل مقراً أن الملك للبائع مقتضى إقدامه على الشراء ولم يصر مكذباً فيما أقر فيصير بدعواه أنها ملك المستحق متناقضاً. والثاني: أن هذه البينة قامت على إثبات ما هو ثابت، وهو ملك المستحق، فإن ملك المستحق ثابت بإقراره أو بنكوله وإثبات الثابت لغو. والثالث: أنها قامت من غير خصم؛ لأن المشتري ليس بخصم عن المستحق في إثبات الملك له؛ لأن المستحق لا يصلح خصماً في ذلك بنفسه، وذكر في البيوع من «الإملاء» عن أبي يوسف: أن بينة المشتري للمستحق إنما لا تقبل حال غيبته؛ لأنه ليس بوكيل عنه حتى لو حضر المستحق وصدقه المشتري قبل بينة المشتري ويرجع بالثمن على البائع؛ لأن البينة قامت على إثبات الملك في حق البائع لم يكن ثابتاً؛ والبينة إذا قامت على إثبات ما ليس بثابت وجب قبولها، ولو أقام المشتري البينة على إقرار البائع أنها ملك المستحق قبلت بينته. أما على المعنى الأول: لأنه لم يسبق بينة ما يجعله متناقضاً في دعوى إقرار البائع أنها ملك المستحق، وأما على المعنى الثاني: فلأنه بهذه البينة يثبت إقرار البائع أنها ملك المستحق وإقرار البائع لم يكن ثابتاً، فهذه بينة قامت على إثبات ما ليس بثابت فقبلت، وأما على المعنى الثالث: فلأنه بهذه البينة يثبت إقراره ليرجع عليه بالثمن، وهو خصم في ذلك هكذا ذكر المسألة ههنا. قالوا وذكر في «الجامع الصغير» : أن بينة المشتري على إقرار البائع أنها ملك المستحق لا تقبل، وليس في المسألة اختلاف الروايتين وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع. موضوع ما ذكر في «الجامع الصغير» : أنه أقام البينة على إقرار البائع بذلك قبلت البيع، ولو كان هكذا لا تقبل بينته؛ لأن إقدامه على الشراء ينفي إقرار البائع قبل البيع أنها للمستحق فيصير متناقضاً، والتناقض لا يصح دعواه ولا تسمع بينته. وموضوع ما ذكر في «الزيادات» أنه أقام البينة على إقرار البائع بعد البيع، وإذا كان هكذا تقبل بينته؛ لأن إقدامه على الشراء ليس ينفي إقرار البائع بعد البيع أنها للمستحق، فلا يصير متناقضاً فيقبل بينته، وإذ لم يكن للمشتري بينة يعني على إقرار البائع أن الجارية ملك المستحق، فقال القاضي: سأل البائع عن الجارية أهي ملك المستحق أم لا؟ سأل القاضي وهذا لأن المشتري يزعم أنه مظلوم من جهة البائع، وأن له حق الرجوع بالثمن عليه بإقراره، فسأله القاضي إزالة الظلم عنه، فإن أقر لزمه الثمن لإقراره بحق الرجوع

عليه، وإن أنكر فطلب من القاضي أن يحلفه أجابه إلى ذلك لأن الاستحلاف ههنا يفيد، فإنه لو استحلف ربما ينكل فيصير مقراً. ولو لم يستحق الجارية أحد، ولكن ادعت أنها حرة الأصل، فأقر المشتري بذلك، أو أبى اليمين، وقضى القاضي بحريتها لا يرجع بالثمن على البائع، أما إذا أقر فلأنه حجة قاصرة، وأما إذا نكل فإن نكوله بمنزلة الإقرار من مشايخنا قال: قوله: أو أبى اليمين، غلط من الكاتب؛ لأن أبا حنيفة لا يرى الاستحلاف في الرق، والدعوى ههنا دعوى الرق؛ لأنها تزعم أنها حرة الأصل وهما وإن كانا يريان الاستحلاف في دعوى الرق لكن في هذه الدعوى اليمين عليها لأنها تنكر للرق، فلا معنى لقوله في «الكتاب» : وأبى المشتري اليمينز ومنهم من قال: لا بل ما ذكر صحيح؛ لأنه تقدم منها ما هو نظير الإقرار بالرق، فإن موضوع المسألة فيما إذا بيعت وسلمت وانقادت لذلك فلا يقبل قولها في دعوى الحرية بعد ذلك، فإن قبول قولها باعتبار شهادة الظاهر، وفي هذه الصورة الظاهر لا يشهد لها، وكان دعواها الحرية ههنا بمنزلة دعوى العتاق العارضي ولو ادعت عتقاً عارضياً على المشتري أليس أنه يحلف عندهما؟ فههنا كذلك، فإن حضر البائع وأنكر ما قاله المشتري، فقال المشتري: أنا أقيم البينة على البائع أنها حرة الأصل قبلت بينته، فرق بين هذا وبينما إذا أقام المشتري البينة على ملك المستحق حيث لا تقبل بينته. والفرق أما على المعنى الأول، فلأن المشتري وإن صار متناقضاً في هذه الدعوى، ولكن التناقض لا يمنع قبول البينة على الحرية وعلى العتق على ما عرف. وأما على المعنى الثاني: فلأنه بهذه البينة يثبت ما ليس بثابت وهو غصب البائع الثمن لأن الحرة لا تدخل تحت العقد أصلاً، ولا يجب في مقابلتها الثمن فهو بهذه البينة يثبت أنه قبض ماله بغير حق، وقبض مال الغير بغير حق غصب، أما في الاستحقاق فالمشتري ببينته يثبت أنه غصب البائع الثمن؛ لأنه يثبت أن ما أخذه البائع أخذ بغير حق، لأن بدل المستحق مملوك، ولكن يثبت الملك للمستحق ليثبت لنفسه حق فسخ هذا العقد، وفيما يرجع إلى الملك البينة قامت على إثبات ما هو ثابت. وأما على المعنى الثالث: فلأنه يثبت ما هو سبب حقه وهو خصم فيه، ولو ادعى المستحق على المشتري أنها جاريته وأنه أعتقها أو دبرها أو استولدها، وأقر المشتري بذلك أو نكل لا يرجع المشتري بالثمن على البائع، لما ذكرنا، فإن أقام المشتري بينة على البائع، بذلك يرجع بالثمن على البائع، ينظر إن شهدت بينته بعتق مطلق أو بعتق مؤرخ بتاريخ قبل الشراء قبلت، ويرجع بالثمن لما قلنا: إن التناقض في هذا الباب لا يمنع سماع البينة؛ ولأنها قامت على إثبات ما ليس بثابت وهو غصب البائع الثمن على نحو ما بينا فقبلت، وأما إذا شهدوا بعتق مؤرخ بتاريخ بعد الشراء لو قبلت بينته لقبلت على الملك، والملك ثابت للمستحق بإقرار المشتري أو بنكوله، فقامت البينة على إثبات ما هو ثابت فلا تقبل.h

نوع آخر قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : أيضاً، أمة في يد رجل يقال له (185ب4) عبد الله، فقال رجل يقال له: إبراهيم لرجل يقال له: محمد: يا محمد الأمة التي في يد عبد الله كانت أمتي بعتها منك بألف درهم، وسلمتها إليك ولم ينقد الثمن، إلا أن عبد الله غلب عليك وغصبها، منك، وصدقه محمد في ذلك كله، وعبد الله ينكر ذلك كله، ويقول: الجارية جاريتي، فالقول في الجارية قول عبد الله لكونه صاحب يد، ويقضي بالثمن لإبراهيم على محمد؛ لأنهما تصادقا على البيع والتسليم، وعلى أن عبد الله غصبها بعد البيع والتسليم، والثابت بتصادقهما في حقها كالثابت عياناً ولو عاين القاضي ذلك، أليس يقضى بالثمن لإبراهيم على محمد؛ لأن الواجب على البائع إثبات يد المشتري على المبيع، لا ابتدائية يده فكذلك ههنا. فلو استحق رجل الأمة من يد عبد الله بعدما أخذ إبراهيم الثمن من محمد فأراد محمد أن يرجع بالثمن على إبراهيم، وقال: الجارية التي بعتها مني ورد عليه الاستحقاق لا يلتفت إلى ذلك؛ لأن القضاء بالاستحقاق على عبد الله اقتصر على عبد الله، ولم يتعد إلى محمد لأن القضاء بالملك المطلق على ذي اليد إنما يتعدى إلى غائب يدعي تلقي الملك من جهته، وذو اليد وهو عبد الله لا يدعي تلقي الملك من جهة محمد، فلم يصر محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله، ولهذا لو أقام محمد البينة على المستحق أن الجارية جاريته اشتراها من إبراهيم وهو يملكها قبلت بينته وقضي بالجارية له، ولو صار مقضياً عليه لما قبلت بينته وما لم يصر مقضياً عليه لا يرجع بالثمن على إبراهيم. وكذلك لو كان الذي استحقها، استحقها بالنتاج بأن أقام البينة على أنها جاريته ولدت في ملكه، وقضى القاضي بها للمستحق لم يرجع محمد بالثمن على إبراهيم وإن ظهرت بينة المستحق أن إبراهيم باع جارية الغير؛ لأن القضاء بالاستحقاق اقتصر على عبد الله، ولم يتعد إلى محمد فلم يصر محمد مقضياً عليه. بيانه: هو أن دعوى النتاج ههنا غير محتاج إليه؛ لأن المستحق خارج، ألا ترى أنه لو أقام المستحق البينة على الملك المطلق قبلت بينته، فسقط اعتبار دعوى النتاج وبقي دعوى الملك المطلق، وفي دعوى الملك المطلق، لا يصير محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله فكذا ههنا. قال في «الكتاب» : ألا ترى أن محمداً لو أقام البينة على المستحق أن الجارية جاريته اشتراها من إبراهيم، وهو يملكها، كذا إنه يقضي بها لمحمد، ولو صار محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله لما قضى له. فرع على هذه المسألة للاستشهاد به فقال: لو أعاد المستحق البينة على محمد أنها أمته ولدت في ملكه قضي بها للمستحق، وترجحت بينته على بينة محمد؛ لأن بينة النتاج لا

يعارضها بينة الملك المطلق، ويرجع محمد بالثمن على إبراهيم في هذه الصورة؛ لأن محمداً صار مقضياً عليه بهذا القضاء، ولو لم يستحق الجارية أحد ولكن أقامت الجارية البينة على عبد الله أنها حرة الأصل، وقضى القاضي بحريتها رجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأن القضاء بالحرية، وبما ألحق بها قضاء على الناس كافة فصار محمد مقضياً عليه بذلك، وثبت الاستحقاق عليه، ولهذا لو أقام محمد البينة على الملك والشراء من إبراهيم لا تقبل بينته ولا يقضى له، ولو لم يثبت الاستحقاق عليه لثبت بنيَّة استحقاق المبيع على المشتري؛ بسبب سابق على الشراء يوجب الرجوع على البائع بالثمن. وكذلك لو أقامت البينة على عبد الله أنها كانت أمته أعتقها وقضى القاضي بذلك رجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأن دعوى الملك ههنا ليس بمقصود، وإنما المقصود دعوى العتق ودعوى الملك لكونه وسيلة إلى العتق، ولما كان المقصود دعوى العتق، وليس بعض الأوقات للقضاء فيه بالعتق بأولى من البعض، لما أنها لم تعين وقتاً في الدعوى كان هذا والقضاء بحرية الأصل سواء. وكذلك لو أقامت البينة على عبد الله أنها كانت أمته دبرها أو استولدها، كان الجواب كما قلنا، لأن الثابت بالتدبير والاستيلاد حق العتق، فيكون ملحقاً بحقيقة العتق، ولهذا لا يحتمل النقض والفسخ، فصار دعوى الاستيلاد والتدبير كدعوى حقيقة العتق، وهذا إذا أقامت البينة على الإعتاق والتدبير والاستيلاد من غير تاريخ. فأما إذا أرخت إن أقامت البينة على أن عبد الله ملكها منذ سنة، وأعتقها أو دبرها أو استولدها وقضى القاضي بذلك، فإنه ينظر إلى تاريخ العقد الذي كان بين إبراهيم ومحمد، فإن كان منذ سنة أو أقل من ذلك يرجع محمد بالثمن على إبراهيم، لأن ملك عبد الله صار مؤكداً بالعتق أو بما ألحق بالعتق، والملك المؤكد بالعتق أو بما ألحق بالعتق مع الملك الخالي عن العتق أو عما ألحق بالعتق إذا اقترنا، كان الملك المؤكد أولى بالإثبات لقوة فيه؛ فإذا استويا في التاريخ وصار المؤكد بالعتق أولى كان من ضرورته بطلان شراء محمد من إبراهيم، هو كذلك إذا كان تاريخ العقد الذي جرى بين محمد وبين إبراهيم أقل من سنة عن طريق الأولى. أو يقول: بأن العتق الموقع يبقى ملكاً مقارناً وملكاً متأخراً عنه، لأن العتق إبطال الملك، ولا يتصور اقتران الملك بما يبطله ولا يتصور بعده أيضاً، وإن كان تاريخ العتق الذي جرى بين محمد وإبراهيم منذ سنتين لا يرجع محمد بالثمن على إبراهيم إذ ليس من ضرورة ملك عبد الله، وإن صار مؤكداً بالعتق بطلان شراء محمد من إبراهيم، فلا نثبت له حق الرجوع على إبراهيم. ولو أن الجارية أقامت البينة على عبد الله أنه كاتبها، وقضى القاضي بذلك لا يرجع بالثمن على إبراهيم؛ لأن عقد الكتابة حق العبد، وإنه معاوضة كسائر المعاوضات، ولهذا يحتمل النقض والفسخ من جهة المتعاقدين فأشبه البيع. ولو أقامت البينة على البيع من عبد الله، وقضى بها للمستحق لم يكن لمحمد أن يرجع بالثمن على إبراهيم كذا ههنا،

قال في «الكتاب» : إلا إذا أدت بدل الكتابة وعتقت فحينئذ يرجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأن القضاء بالكتابة عند الأداء قضاء بالعتق، فنفذ على الناس كافة، فصار محمد مقضياً عليه، فيرجع بالثمن على إبراهيم، ولهذا لو أقام محمد بينة أن الجارية جاريته اشتراها من إبراهيم، إن كان قبل أداء بدل الكتابة تقبل، وإن كان بعد أداء بدل الكتابة لا تقبل. وإن أقر عبد الله أنه اشتراها من محمد بمئة دينار وقبضها ونقده الثمن، وصدقه محمد في ذلك، فهذا على وجوه ثلاثة: الوجه الأول: أن يتصادقا عليه ثم استحقت الجارية من يد عبد الله. الوجه الثاني: أن يتصادقا عليه بعدما استحقت الجارية من يد عبد الله. الوجه الثالث: أن يقرّ عبد الله بالشراء من محمد، ومحمد كان غائباً أو حاضرا، فلم يصدقه ولم يكذبه حتى استحقت الجارية من يد عبد الله، ثم صدقه محمد فيما قال. ففي الوجه الأول يرجع عبد الله بالثمن على محمد، ويرجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأن عبد الله مع محمد تصادقا على الشراء في زمان يملكان استئناف الشراء فانتفت التهمة فيصح التصادق، وصار البيع بإثباته حسب ثبوته بالمعاينة، ولو ثبت البيع بينهما عياناً ثم استحقت رجع عبد الله على محمد ورجع محمد على إبراهيم، وصار القضاء على عبد الله قضاء على محمد؛ لأن عبد الله يدعي تلقي الملك من جهة محمد، وإذا صار محمد مقضياً عليه يرجع بالثمن على إبراهيم ضرورة، بخلاف مسألة هذا النوع؛ لأن هناك عبد الله لم يتلقَّ الملك من جهة محمد، فلا يصير محمد مقضياً عليه بالقضاء على عبد الله لما مر، أما ههنا بخلافه. وفي الوجه الثاني: يرجع عبد الله بالثمن على محمد، ولا يرجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأن التصادق وجد في حال لا يملكان (186أ4) استئناف الشراء؛ لأن المانع من الاستئناف قد تحقق، فكان هذا تصادقاً في موضع التهمة فصح عليهما حتى كان لعبد الله أن يرجع بالثمن على محمد، ولم يصح على غيرهما حتى لم يكن لمحمد أن يرجع بالثمن على إبراهيم. وكذلك الجواب في الوجه الثالث: يرجع عبد الله بالثمن على محمد، ولا يرجع بالثمن على إبراهيم، فلم يعتبر التصديق ههنا مستنداً إلى وقت الإقرار، إذ لو اعتبر لظهر أن التصادق كان قبل الاستحقاق، وكان ينبغي أن يكون نظير الوجه الأول. واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة، بعضهم قالوا: التصديق إنما يستند إلى وقت الإقرار، إذا بقي الإقرار أما إذا بطلت فلا، وههنا قد بطل ذلك الإقرار. بيانه هو: أن الاستحقاق بالبينة على عبد الله يفتقر إلى قضاء القاضي، وقضاء القاضي بالملك للمستحق يوجب تكذيب عبد الله في إقراره، فكيف يستند التصديق إليه وقد بطل نفسه؟ إلا أن بعد الاستحقاق ثابت على إقراره، فيستند التصديق إلى هذا الإقرار القائم للحال، فصار كأنهما تصادقا بعد الاستحقاق، فكان نظير الوجه الثاني لهذا.

وبعضهم قالوا: بأن محمداً متّهم في التصديق بعد الاستحقاق؛ لأنه قصد به إثبات حق الرجوع لنفسه على إبراهيم، فلا يصح تصديقه فيما يرجع إلى الإسناد وصار في حق الإسناد كان التصديق منه لم يوجد، ولو لم يوجد منه التصديق أصلاً لا يرجع محمد بالثمن على إبراهيم؛ لأنه لا يصير مقضياً عليه، ألا ترى أنه لو لم يصدق وأقام البينة على أنها أمته اشتراها من إبراهيم قضي بها على المستحق، فدل أنه لا يصير مقضياً عليه قبل التصديق فكذا إذا تقدم التصديق ما لم يصر مقضياً عليه لا يرجع بالثمن على إبراهيم، فقال محمد: أنا أقيم البينة على إبراهيم، قبلت بينته؛ لأن هذه بينة قامت من خصم على خصم، لأن بيع محمد من عبد الله سبب لثبوت حق الرجوع لمحمد على إبراهيم فصار محمد خصماً في إثبات هذا البيع وصار إبراهيم خصماً في إنكاره ودفعه، فقبلت بينته، وإذا قبلت البينة صار الثابت بها كالثابت عياناً، ولو عاينا يقع محمد من عبد الله، والباقي بحاله كان لمحمد أن يرجع بالثمن على إبراهيم كذا ههنا. وكذلك لو أقام محمد بينة أنه صدق عبد الله في دعواه الشراء منه قبل استحقاق الجارية من عبد الله قبلت بينته، ورجع محمد بالثمن على إبراهيم اعتباراً للتصادق الثابت بالبينة بالثابت عياناً. ولو تصادق محمد وعبد الله على أن محمداً وهب الجارية من عبد الله، وسلمها إليه فهو على وجوه ثلاثة: على نحو ما ذكرنا في الشراء، ففي الوجه الثاني والثالث: لا يرجع محمد بالثمن على إبراهيم، وفي الوجه الأول: يرجع، وكان ينبغي أن لا يرجع لأن في فصل الشراء لا يرجع محمد بالثمن على إبراهيم ما لم يرجع عبد الله بالثمن على محمد؛ وههنا لا يرجع عبد الله على محمد أصلاً، فكيف يرجع محمد بالثمن على إبراهيم؟ ولكن الوجه في ذلك أن يقال: بأن في فصل الشراء رجوع عبد الله بالثمن على محمد ما شرط ليصير محمد مقضياً عليه؛ لأن القضاء بالملك المطلق على ذي اليد قضاء عليه، وعلى من تلقى الملك من جهته وقد ثبت تلقي عبد الله الملك من جهة محمد، فصار محمد مقضياً عليه ولكن إنما شرط باعتبار أن بدل المستحق مملوك العاقد، فلو رجع محمد بالثمن على إبراهيم قبل أن يرجع عبد الله على محمد بالثمن يجتمع الثمنان في ملك محمد بدلاً عن ثمن واحد، وهذا مما لا وجه له ولا سبيل إليه، هذا المعنى معدوم في الهبة والصدقة، فكان لمحمد أن يرجع بالثمن على إبراهيم، وإن لم يكن لعبد لله أن يرجع بالثمن على محمد. رجل اشترى من آخر، كرماً اشترى الأرض والنخيل جميعاً وقبضهما، ثم استحقت العَرَصَةُ وحدها كان للمشتري أن يرد الأشجار على البائع، ويرجع عليه بجميع الثمن. ومثله لو اشترى حماراً مع بردعته اشترى الحمار والبردعة جميعاً وقبضهما، ثم استحق الحمار دون البردعة ليس للمشتري أن يرد البردعة، ويرجع على البائع بجميع الثمن، بل يمسك البردعة بحصتها من الثمن.

والفرق: أن في فصل الكرم اشترى الأشجار النامية والمثمرة، وبعد استحقاق العَرَصَةُ يؤمر المشتري بقلع الأشجار، وبالقلع يخرج عن حد الثمر ويصير حطباً، وهذا عيب فاحش فيثبت للمشتري حق الرد، هذا المعنى لا يتأتى في فصل البردعة؛ لأن باستحقاق الحمار لا تصير البردعة شيئاً آخر، ولا يخرج الانتفاع الذي اشتراها لأجله فلهذا افترقا. أحال البائع رجلاً على المشتري بالثمن، وأدَّى المشتري الثمن إلى المحتال له، ثم استحقت الدار من يد المشتري، فالمشتري على من يرجع بالثمن؟ ذكر في «مجموع النوازل» عن الشيخ الإمام شيخ الإسلام السغدي: أن المشتري يرجع على البائع، قيل له: فإن لم يظفر المشتري بالبائع هل يرجع عل المحتال له؟ قال: لا. وإذا اشترى شيئاً من الوكيل فاستحق المشترى من يد المشتري، فعند الاستحقاق يرجع المشتري بالثمن على الوكيل إن كان المشتري إن كان دفع الثمن إلى الوكيل، وإن كان دفع الثمن إلى الموكل يقال للوكيل: طالب الموكل بالثمن وحده وادفعه إلى المشتري، وتفاوت بين الصورتين، إنه في الصورة الأولى يطالب الوكيل بنقد الثمن من مال نفسه، ولا ينتظر أخذه من الموكل، وفي الصورة الثانية ينتظر أخذه من الموكل، وفي «الجامع» أن المشتري بالخيار إن شاء رجع على القابض، وإن شاء رجع على الآمر. اشترى شيئاً وقبضه واستحق من يده، ثم فصل إلى المشتري يوماً مالاً، يؤمر بالتسليم إلى البائع؛ لأنه وإن حصل مقراً بالملك للبائع لكن مقتضى الشراء (القبض) ، وقد انفسخ الشراء بالاستحقاق فينفسخ الإقرار لا جرم لو أقر نصاً أنه ملك البائع ثم وصل إليه يوماً يؤمر بالتسليم على بائعه؛ لأن إقراره بالملك له لم يبطل. في «شرح قسمة شيخ الإسلام» رحمه الله، في باب الميت عليه دين، وفي الباب الرابع عشر بعد المئة من «الزيادات» ، وفي الباب الرابع في دعوى «الجامع» لشيخ الإسلام رحمة الله عليه: اشترى عبداً أقر أنه ملك البائع وتقابضا، ثم استحق من يده بالبينة يرجع على البائع بالثمن، وليس للبائع أن يقول للمشتري: إنك أقررت أنه ملكي، ومن زعمك أن المستحق غاصب، فلا يرجع علي كما لو غصب منك حقيقة، لأن المشتري يقول: إنما أقررت لك بالثمن بشرط أن أملك المبيع ظاهراً وباطناً، وقد نفذ على القضاء ظاهراً، وإذا صار العبد ملكاً للمستحق ظاهراً لا يبقى الثمن لك ملكاً ظاهراً، وإن بقي لك ملكاً باطناً حتى يستوفي قضية للعقد الموجب للتساوي بخلاف الغصب، لأن الغصب لا يزيل ملك المغصوب ظاهراً، كما لا يزيله من حيث الباطن. وفي «المنتقى» عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: إذا استحق المشترى من يد المشتري وأراد أن يرجع بالثمن، فقال البائع للمشتري: قد علمت أن الشهود شهدوا بزور فإن المبيع لي، فقال المشتري: أنا أشهد لك أن المبيع لك وإن الشهود شهدوا بزور، فللمشتري أن يرجع على البائع بالثمن مع هذا الإقرار قال: لأن المبيع لم يسلم له، فلا يحل للبائع أخذ الثمن، وقد استحق المبيع من يد المشتري.

وفي «النوادر» لابن سماعة عن محمد: رجل اشترى من رجل جارية وقبضها، ثم جاء رجل وادعاها، وأقر المشتري أنها لهذا المدعي، فأراد المشتري أن يرجع على البائع بالثمن، فقال البائع للمشتري: إنما كانت هي للمدعي؛ لأنك وهبتها له فالقول قوله، ولا يرجع المشتري عليه بالثمن. استحق حماراً من يدي رجل ببخارى وقبض المستحق عليه، ووجد بائعه بسمرقند فقدمه إلى القاضي بمصر سمرقند فأراد الرجوع (186ب4) عليه بالثمن، وأظهر سجل قاضي بخارى، فأقر البائع بالبيع، ولكن أنكر الاستحقاق، وكون السجل، سجل قاضي بخارى، فأقام المستحق عليه بينة أن هذا سجل قاضي بخارى لا يجوز لقاضي سمرقند أن يعمل به، ويقضى للمستحق عليه بالرجوع بالثمن ما لم يشهد الشهود أن قاضي بخارى قضى على المستحق عليه بالحمار الذي اشتراه من هذا البائع وأخرجه من يد المستحق عليه، وهذا لأن الخط يشبه الخط، فلا يجوز الاعتماد على نفس السجل بل يشترط أن يشهدوا على قضاء القاضي، وعلى قصر يد المستحق عليه. في شهادات «المنتقى» : استحق حماراً بشهادة شاهدين عدلين عدلهما الشهود عليه، قال: أسأل عن الشاهدين إن زكيا رجع المشهود عليه على البائع بالثمن بمنزلة الإقرار. نوع آخر في استحقاق المبيع وقد كفل بالثمن كفيل بأمر مسائل هذا الفصل مبنية على معرفة الكفالة بحق عن الغير، وعلى معرفة قضاء الدين عن الغير، فنقول: الكفيل بعقد الكفالة بضم ذمته إلى ذمة الأصيل ليحمل ما على الأصيل؛ لأن الكفالة مشتقة من الضم، ثم قضاء الكفيل بعد ذلك لإسقاط ما يحمل الكفيل والقاضي الدين عن الغير يقيم ماله مقام الأصيل في إسقاط ما على الأصيل من الدين، فمتى كانت الكفالة والقضاء بأمر الأصيل صار كل واحد منهما * أعني الكفيل والقاضي * مقرضاً ما يلاقيه يصرفه بمن عليه، فالقاضي للدين يصير مقرضاً ماله الذي أدى به دين من عليه؛ لأن المديون لما أمر بقضاء الدين عنه فقد جعله نائباً عن نفسه في القضاء بما يؤدي إلى صاحب الحق، وإنما يصير نائباً إذا صار المؤدى ملكاً للآمر بالإقراض، وهو معنى قولنا: إن المأمور بقضاء الدين يصير مقرضاً ما وقع به القضاء من الأمر، والكفيل يصير مقرضاً ذمته من الأمر في الالتزام ما عليه، لأن الأمر بالكفالة أمر بالتزام ما في الذمة وحق الكفيل مقام المال في حق المأمور بقضاء الدين، وهذا لأن ذمة الكفيل تصير مشغولة بما على الأصيل، وإنما تصير مشغولة بذلك إذا صارت ذمة الكفيل كذمة الأصيل بالإقراض، فكان في معنى الإقراض من هذا الوجه، ومتى كانت الكفالة وقضاء الدين بغير أمر من عليه صار الكفيل والقاضي متبرعاً، فيعتبر في حق الأصيل كأن صاحب الدين أبرأه بغير قبض، ويعتبر في حق الكفيل والقاضي هذا أداء المال والتزامه بمقابلة إسقاط المال من الغير، والتزام المال وأداؤه بمقابلة إسقاط المال عن غيره كالفضولي يصالح صاحب المال على مال نفسه، يعتبر ذلك في حق صاحب المال كأنه

أبرأه من غير قبض ويعتبر في حق المصالح التزام المال وأداؤه بمقابلة إسقاط المال عن الغير. جئنا إلى المسائل، قال محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» : رجل اشترى من آخر عبداً بألف درهم، وكفل عن المشتري بالثمن كفيل بأمر المشتري، ونقد الكفيل للبائع الثمن، ثم غاب الكفيل واستحق العبد من يد المشتري، أو وجد حراً أو مكاتباً أو مدبراً، أو كاتب جارية فوجدها أم الولد، فأراد المشتري أن يرجع على البائع بالثمن. قال: ينظر إن كان الكفيل قد رجع على المشتري بما نقده للبائع كان للمشتري أن يرجع على البائع؛ لأن المشتري في هذا الوجه قام مقام الكفيل؛ وقد كان للمكفول أن يرجع على البائع بما نقد له من الثمن، فكذا لمن قام مقامه أو نقول: الكفيل لما رجع على المشتري وأخذ منه ما نقد صار المنقود ملكاً للمشتري، فكان للمشتري أن يرجع على البائع بذلك عند عدم سلامة المبيع له، وإن كان الكفيل لم يرجع على المشتري بما نقد للبائع لا يكون للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن؛ لأن في هذه الصورة، المشتري ما قام مقام الكفيل، ولم يملك المنقود لو رجع رجع بحكم أن نقد الكفيل جعل كنقد المشتري. وبظهور هذه الأسباب يتبين أن نقد الكفيل لم يجعل كنقد المشتري؛ إذ تبين أن الثمن لم يكن واجباً على المشتري، وأن الكفالة وقعت باطلة، ولأن في هذا الرجوع قطع خيار الكفيل إذا حضر، فإن الكفيل إذا حضر يتخير بين أن يرجع على المشتري بما نقد وبين أن يرجع على البائع، لما يتبين بعد هذا، وبعد ما رجع المشتري على البائع بالثمن لا يبقى للكفيل هذا الخيار، وليس للمشتري أن يقطع على الكفيل خياره. ثم إذا حضر الكفيل فإن شاء رجع على البائع بما نقد، وإن شاء رجع على المشتري؛ لأنه وجد في كل واحد منهما ما هو سبب الضمان في حق الكفيل، أما البائع فلأنه قبض مال الكفيل بحكم الكفالة الباطلة؛ لأنه بظهور هذه الأسباب تبين أن الثمن لم يكن واجباً على الأصيل، والكفيل يتحمل عنه أو نقول الكفيل قضى ديناً على ظن أنه عليه، وتبين أنه ليس عليه، فكان له أن يرجع بما قضي على القابض، وأما المشتري فلأن المشتري لما أمره بالكفالة عنه بالثمن فقد أمره بأن يقضي دينه بشرط الضمان بالقضاء إن لم يصح؛ لأنه ظهر أن الثمن لم يكن واجباً، نفى الأمر بالدفع بشرط الضمان، كأنه قال: لم أدفع إلى فلان ألف درهم على أني ضامن لك، أو نقول: لما أمره بالكفالة فقد ضمن له تسليم ما يؤدي من ملك نفسه لمنفعة له في ذلك، وهو براءة ذمته، فيثبت له حق الرجوع لما ضمن له كالمغرور يرجع على البائع بقيمة الأولاد؛ لأن البائع ضمن للمشتري سلامة الأولاد بما شرط عليه لنفسه من الثمن، فإن أخذ من البائع لم يرجع البائع على المشتري، وهذا ظاهر لأنه ظهر أن المشتري لم يملك المبيع، فلا يملك البائع الثمن عليه، وإن أخذ من المشتري رجع المشتري على البائع بما نقد الكفيل؛ لأن الكفيل لما رجع على المشتري صار المنقود ملكاً للمشتري، أو قام المشتري مقام البائع على ما ذكرنا.s

وإن أراد المشتري بعدما حضر الكفيل اتباع البائع، وذلك قبل أن يختار الكفيل اتباع المشتري ليس له ذلك، وكان ينبغي أن يكون له ذلك؛ لأن الكفالة أن يطلب من استحقاق لما بينا، بقي الأمر بدفع مطلق إلى البائع صحيحاً صار دفع الكفيل كدفع المشتري بنفسه، وهناك الجواب كما قلنا، فهنا كذلك. والجواب اختلفت عبارة المشايخ فيه. قال بعضهم: إنما لم يكن للمشتري؛ لأنه ثبت للكفيل الخيار على ما بينا، ولو ثبت للمشتري حق الرجوع على البائع يبطل خيار الكفيل؛ لأنه لا يمكن الكفيل بعد ذلك أن يبيع البائع ويأخذ منه ما دفع إليه لأنه يتضرر به البائع، لأنه بسبب قبض ألف درهم وأخذ ألفين وإنه مأمور إلا أن هذا العذر يشكل بالغاصب الاول، فإن له ولاية اتباع الثاني، ويأخذ منه عين ما أخذ الثاني منه إن كان قائماً، وقيمته إن كان هالكاً، ولم أجد بأن في تضمين الغاصب الأول للثاني إبطال ما ثبت للمالك من الخيار بين تضمين الأول وبين تضمين الثاني. وبعضهم قالوا: إنما لا يرجع المشتري على البائع؛ لأنه لو رجع؛ إما أن يرجع بحكم أن البائع أزال يد المشتري عن المال الذي قبضه عن الكفيل بغير حق، أو لأن المنقود صار ملكاً للمشتري، لا وجه إلى الأول؛ لأن البائع ما أزال يد المشتري عما قبضه عن الكفيل؛ لأن ذلك لم يكن في يد المشتري، ولا وجه إلى الثاني لأنه بالاستحقاق بطلت الكفالة وبقي الأمر بمجرد الدفع إلى البائع بشرط الضمان إلا أن في الأمر بالدفع بشرط الضمان ما لم يرجع المأمور على الأمر بالضمان لا يصير المدفوع ملكاً للآمر، (187أ4) ولو لم يكن كفالة كان أمراً بقضاء الثمن، وباقي المسألة بحالها كان هذا بمنزلة الكفالة في جميع ما وصفنا؛ لأن بظهور هذه الأسباب تبين أن الثمن لم يكن واجباً، فيتبين أن الأمر بقضاء الثمن لم يصح، فكان هذا وفصل الكتابة سواء. قال: ولو لم يكن مما ذكرنا من الأسباب في فصل الكفالة، لكن مات العبد قبل القبض، وكان الكفيل قد نقد الثمن وغاب، كان للمشتري أن يرجع على البائع بالثمن سواء رجع الكفيل على المشتري بما نقد أو لم يرجع. فرق بين الهلاك وبين الاستحقاق فيما إذا لم يرجع الكفيل على المشتري بما نقد، فإن في فصل الاستحقاق المشتري لا يرجع على البائع، وفي فصل الموت يرجع، والفرق أن بهلاك العبد لا يتبين أن الثمن لم يكن واجباً، وأن الكفالة لم تكن صحيحة؛ لأن بهلاك العبد قبل القبض لا يفسد البيع من الأصل فحين أدى الكفيل الثمن إلى البائع أداه بحكم كفالة صحيحة، فكان ما قبض البائع مقبوضاً بحكم كفالة فاسدة، فكان للكفيل أن يرجع على البائع، وكان له أن يرجع على المشتري لما ذكرنا، ولأن في فصل الاستحقاق إنما لا يكون للمشتري الرجوع على البائع حال غيبة الكفيل؛ لأنه يوجب قطع خيار الكفيل، وهذا المعنى لا ينافي فصل الهلاك؛ لأنه لا خيار للكفيل ههنا على ما يتبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، فإن حضر الكفيل في فصل موت العبد، أو كان الكفيل حاضراً لم يكن للكفيل أن يرجع على البائع بالثمن.

فرق بين هذا وبين فصل الاستحقاق، والفرق ما ذكرنا: أن بالاستحقاق يظهر بطلان الكفالة فيظهر أن البائع قبض ما قبض من الكفيل بغير حق، فيكون للكفيل حق استرداد ما قبضه البائع، أما بهلاك العبد قبل القبض لا يظهر بطلان الكفالة، ولا يظهر أن البائع قبض من الكفيل ما قبض بغير حق، فلا يكون للكفيل حق استرداد ما دفع إليه، ولكن المشتري يرجع على البائع لما ذكرنا، ولو لم يمت العبد، ولكن انفسخ البيع فيما بينهما بسبب من الأسباب، فإن كان الانفساخ بسبب هو فسخ من كل وجه نحو الرد بالعيب بعد القبض بقضاء، أو قبل القبض بقضاء أو بغير قضاء أو الرد بخيار الرؤية أو بخيار الشرط كان الجواب فيه كالجواب فيما إذا مات العبد قبل القبض لأن بهذه الأسباب لا يتبين أن الثمن لم يكن واجباً، ولا يتبين أن الكفالة لم تكن صحيحة كما في هلاك العبد قبل القبض. وكذلك لو كان المشتري أمر غيره أن ينقد الثمن عنه فنقد، ثم مات العبد في يد البائع قبل التسليم إلى المشتري، فإن المشتري هو الذي يرجع على البائع بالثمن في الأحوال كلها لما ذكرنا، وإن كانت الكفالة بغير أمر المشتري ثم انفسخ البيع فيما بينهما من كل وجه كان للكفيل أن يرجع على البائع بالثمن، وليس للكفيل على المشتري سبيل؛ لأن هذا في حق المشتري إبراء بغير عوض وفي حق الكفيل والبائع هذا إبراء بعوض، فإنما يسلم للبائع ما قبض من الكفيل إذا حصلت البراءة للمشتري بمقابلة العوض، وإذا انفسخ البيع بينهما لم تكن البراءة حاصلة للمشتري بمقابلة العوض، وهو الثمن الذي قبضه البائع بل كان الانفساخ السبب بينهما، وكان للكفيل أن يرجع على البائع بما أدى إليه، وإن انفسخ البيع بينهما بسبب هو فسخ فيما بين المتعاقدين، عقد جديد في حق الثالث نحو الرد بالعيب بعد القبض بغير قضاء ونحو الإقالة لا يكون للكفيل أن يرجع على البائع بشيء؛ لأن الكفيل ثالث المتعاقدين فيجعل في حق الكفيل كأن المشتري باعه بيعاً جديداً من البائع، ولما كان هذا بيعاً جديداً في حق الكفيل لا يتبين أن براءة المشتري عن الثمن لم تكن بمقابلة العوض، فلهذا لا يرجع الكفيل على البائع بالثمن، ولكن المشتري هو الذي يرجع على البائع بذلك؛ لأن المأتي به فسخ فيما بينهما فكانت براءة المشتري في حقهما حاصلة بانفساخ السبب لا حكماً للعوض، فيجب على البائع رد ما قبض، وسبب وجوب رد ما قبض انفسخ، والمشتري هو الذي باشر الفسخ، فيكون حق القبض للمشتري لمباشرته السبب، ويكون المقبوض للكفيل دون المشتري؛ لأن الكفيل إنما أدى بذلك لتحصل البراءة للمشتري بمقابلة هذا المؤدي، فإن كان المأتي به فسخاً في حق البائع والمشتري كان في زعمهما أن البراءة إنما حصلت للمشتري لا بمقابلة المؤدي حقاً للكفيل بزعمهما، فيعتبر في حقهما، فلهذا كان المؤدى للكفيل ولكن حق القبض للمشتري على ما مرّ. ولو لم تكن كفالة، ولكن نقد رجل الثمن عن المشتري بغير أمر كان الجواب فيه في جميع ما وصفنا نظير الجواب في الكفالة إذا كانت بغير أمر المشتري، قال: ولو

كانت الكفالة بأمر المشتري، فصالح الكفيل البائع عن الثمن على خمسين ديناراً، كان للكفيل أن يرجع على المشتري بالدراهم دون الدنانير لأن المقابلة بين الكفيل وبين المشتري في إقراض الذمة لالتزام الألف قد تمت؛ لكن شرط رجوع الكفيل على المشتري انقطاع حق البائع عن المشتري، وقد حصل ذلك بهذا القدر، ألا ترى أن الكفيل لو أدى للبائع زيوفاً بمقابلة العوض والثمن جياد وتجوز البائع بالزيوف كان للكفيل أن يرجع على المشتري بالدراهم الجياد؟ فكذا ههنا يجب أن يرجع الكفيل على المشتري بالدراهم أيضاً. فإن استحق العبد والكفيل غائب، ثم حضر كان له اتباع البائع بالدنانير، ولا سبيل للكفيل على المشتري، وفيما تقدم قال: للكفيل الخيار إن شاء طالب البائع، وإن شاء طالب المشتري. والفرق أن في ضمن الأمر بالالتزام بالكفالة أمر بالأداء وبالاستحقاق أن يطلب الكفالة في الوجهين إلا أن في الوجه الأول لم يبطل الأمر بالأداء، أما ههنا الأداء لم يكن بأمر المشتري؛ لأنه أدى غير ما أمر به يتعذر الرجوع بحكم الأمر، كما تعذر الرجوع بحكم الكفالة، فلهذا قال: لا يرجع الكفيل على المشتري، ولكن يرجع الكفيل على البائع؛ لأنه أعطاه الدنانير بحكم الصلح، وبالاستحقاق ظهر بطلان الصلح، ويستوي في هذا أن يكون الاستحقاق في المجلس أو بعد الافتراق عن المجلس، لأن المعنى لا يتفاوت. وكذلك لو أن البائع باع الكفيل الدراهم التي كفل بها عن المشتري بالدنانير، ثم استحق العبد بطل البيع، وأراد محمد بهذه التسوية بين البيع والصلح التسوية بينهما بعد الافتراق عن المجلس، لأن ما جرى بينهما من البيع كان صرفاً، وبالافتراق عن المجلس قبل قبض بدل الصرف، فأما إذا استحق العبد، وهما في المجلس بعد يبطل البيع، أما لا يبطل الصلح. والفرق بين الصلح والبيع أن ينبني الصلح على التجوز بدون الحق، وذلك إنما يكون باستيفاء بعض الحق وترك البعض، والدراهم والدنانير يتعينان في الاستيفاء فيتعينان في الصلح أيضاً؛ ولهذا لو صالح من الدراهم على ثوب بعينه، ثم تصادقا على أنه لا دراهم عليه يبطل الصلح، فأما البيع لا يتعلق بعين الدراهم المشار إليها وإنما يتعلق بمطلق الدراهم، وما دام المجلس قائماً يمكن دفع ألف درهم إلى صاحبها، فلا يبطل البيع، ولهذا لو باع من آخر دراهم في الذمة ثبوت بعينه، ثم تصادقا على أنه لا دراهم في الذمة لا يبطل البيع. قال: ولو لم يستحق العبد ولكنه مات في يد البائع؛ فإن للمشتري أن يرجع على البائع بألف، ولا سبيل للكفيل على البائع؛ لأن بالموت لا يظهر أن الثمن لم يكن واجباً، فصار الكفيل بهذا البيع موفياً للبائع ألف (187ب4) درهم بطريق المقاصة؛ لأنه وجب للكفيل على البائع ألف درهم مثل ما كفل به؛ لأن عقد الصرف لا يتعلق بعين ذلك الدين، فصار للكفيل على البائع ألف درهم بعقد الصرف، وللبائع عليه مثله بحكم

الكفالة، فوقعت المقاصة، والإيفاء بالمقاصة كالإيفاء بالاستيفاء حقيقة، وهنا لا يكون للكفيل على البائع سبيل في هذا الوجه، وإنما السبيل للكفيل على المشتري وللمشتري على البائع كذلك ههنا. وكذلك لو كان الكفيل صالح البائع على خمسين ديناراً؛ لأن الكفيل صار موفياً ألف درهم بالصلح، فصار الجواب فيه والجواب في البيع سواء إلا أن الفرق بين الصلح والبيع، أن في الصلح للبائع الخيار إن شاء رد خمسين ديناراً وإن شاء رد ألف درهم، وفي البيع يرد ألف درهم من غير خيار. والفرق ما ذكرنا أن يبنى الصلح على التجوز بدون الحق، والبائع إنما رضي بدون حقه ليصل إلى حقه من الدين لا لتلزمه الدراهم، فإذا آل الأمر إلى أن يلزمه الدراهم كان له الخيار إن شاء أمضى الصلح وأعطى الثمن وذلك ألف درهم، وإن شاء أبطل الصلح، ورد ما قبض من الدنانير بخلاف البيع؛ لأن مبناه على المماكسة والاستيفاء، فصار البائع مستوفياً حقه، فلهذا لا يتخير في البيع بل يرد على المشتري الثمن وهو الدراهم، أما في الصلح بخلافه على ما مرّ. ثم في الصلح إن اختار البائع رد الدراهم فالمشتري هو الذي يستوفيه؛ لأنه لما اختار رد الدراهم فقد أمضى الصلح وتعذر استيفاء الثمن، فعند انفساخ العقد بموت العبد قبل القبض يكون حق القبض للمشتري، كما لو استوفى البائع الثمن من الكفيل حقيقة، وإن اختار رد الدنانير، فالكفيل هو الذي يقبض ذلك لأن رد الدنانير إنما يكون بطريق فسخ الصلح، والكفيل هو الذي باشر الصلح معه فعند انفساخ الصلح حقه في الدنانير، فلهذا لم يكن له رجوع على المشتري. ولو كان المشتري أمر رجلاً أن يقضي البائع عنه الثمن من غير كفالة، فباع المأمور من البائع خمسين ديناراً بالثمن يجوز، وكذلك لو صالح المأمور البائع من الثمن على خمسين ديناراً، وهذا لا يشكل في الصلح لأن الدين وإن لم يكن واجباً عليه، حتى لو امتنع عن القضاء بترك ذلك إلا أن المأمور بقضاء الدين وإنما يشكل في البيع، فإن الفضولي لو باع ماله بدين على غيره لا يجوز، فكذا المأمور بقضاء الدين لو باع ماله بالثمن الذي ليس عليه لا يجوز وهذا أفقه، أن الثمن إذا لم يكن واجباً على المأمور بقضاء الدين صار هو مملكاً الدنانير بالدراهم التي على غيره، وصار مشتري الدنانير مملكاً الدراهم التي هي ثمن له على مشتري العبد من غيره، وهو بائع الدنانير، وتمليك الدين من غير من عليه الدين لا يجوز. والجواب وهو الفرق بين الفضولي وبين المأمور بقضاء الدين: أن عقد الدين لا يتعلق بذلك الدين في الأحوال كلها إلا أن البائع إذا كان فضولياً كان في هذا شرط تسليم الثمن على غير العاقد في هذا العقد وهو المشتري في العقد الأول، فإنه لو صح هذا العقد يجب على المشتري في العبد الأول تسليم الثمن الذي عليه إلى الفضولي. قلنا: وشرط تسليم الثمن الذي عليه إلى الفضولي شرط تسليم الثمن على غير العاقد فيفسد العقد، فأما المأمور بقضاء الدين فلا يبيع ماله من البائع لاستيفاء الثمن عن

المشتري، وإنما يبيع حتى يجب على البائع الأول مثل ما كان له على المشتري الأول، ثم يجعل له قصاصاً بما عليه، فيتقدم الشرط الفاسد فيجوز، وإذا صح البيع وصلح الصلح من المأمور صار المأمور بمنزلة الكفيل في جميع ما وصفنا. أو نقول: المأمور بقضاء الدين بمنزلة الفضولي من وجه من حيث إنه لم يجب للطالب عليه دين وبمنزلة المطلوب من حيث إنه أداء يجبر الطالب على القبول، فمن حيث إنه فضولي، إن كان لا يجوز هذا البيع فمن حيث إنه مطلوب يجوز فرجحنا ما يوجب الجواز احتيالاً للجواز بقدر الممكن، ولو كان الكفيل كفل عن المشتري بالثمن بغير أمره، ثم إن الكفيل صالح مع البائع على خمسين ديناراً من الثمن، أو باع منه خمسين ديناراً بالثمن، ثم مات العبد قبل القبض، أو استحق فلا سبيل للمشتري على البائع؛ لأن المشتري لم ينقد الثمن بنفسه ولا نقد نائبه؛ لأن الكفالة كانت بغير أمر المشتري، ولكن الكفيل يرجع على البائع، ويتخير البائع في الصلح بين إعطاء الدراهم وبين إعطاء الدنانير؛ وفي البيع لا يتخير، والفرق قد مرّ قبل هذا. ولو لم يكن كفالة ولا أمر بقضاء الدين ولكن جاء متبرع وباع دنانيره من بائع العبد بالثمن الذي له على المشتري أو صالح معه من الثمن على دنانيره من بائع العبد بالثمن الذي له على المشتري، أو صالح معه من الثمن على دنانيره، فالبيع باطل على كل حال لما فيه من شرط تسليم الثمن على غير العاقد، وإنه مفسد للبيع، وأما الصلح فإن كان شرط أن يكون الثمن الذي على المشتري للمتبرع يكون باطلاً؛ لأنه يصير بمعنى البيع، والصلح يحتمل معنى البيع فيصير هذا الصلح بحكم هذا الشرط والبيع سواء، وإن كان الصلح بشرط براءة المشتري من الثمن كان الصلح جائزاً، ويكون هذا تمليك العين بمقابلة الفراغ الذي يحصل لا لمن وجد منه التمليك، وإنه جائز كما في الخلع، وإن أطلق الصلح إطلاقاً ولم يصرح بالإبراء ولا بالتمليك يجوز؛ لأن الصلح يحتمل معنى الإبراء والإسقاط ويحتمل معنى التمليك، فعند الإطلاق يحمل على الإبراء والإسقاط تحرياً للجواز وطلباً للصحة، فإن استحق العبد كان على البائع رد الدنانير على المصالح، وإن مات العبد كان للبائع الخيار إن شاء رد الدنانير على الكفيل، وإن شاء رد عليه الدراهم لما مرّ. رجل اشترى من رجل عبداً بألف درهم جياد، وكفل رجل عن المشتري بالثمن بأمر المشتري، ثم إن الكفيل أدى البائع الزيوف، وتجوز به البائع، فالكفيل يرجع على البائع بالجياد؛ لأن رجوع الكفيل على المشتري بحكم الالتزام بعقد الكفالة، فيرجع الملتزم وهو الجياد فإن لم يرجع الكفيل على المشتري حتى استحق العبد لا سبيل للمشتري على البائع؛ لأن الكفيل لو أدى مثل الملتزم، وقد ذكرنا أن المشتري لا يرجع على البائع، وإن شاء رجع على المشتري وعلى أيهما رجع لا يرجع إلا بالزيوف. أما إذا رجع على البائع فلأن رجوع الكفيل على البائع يعلمه أن بالاستحقاق يظهر أن البائع قبض ما قبض بغير حق، فيرجع بالمقبوض، وأما إذا رجع على المشتري فلأن

رجوع الكفيل على المشتري يعلمه أن المشتري أمره بالأداء، ضمن له سلامة المؤدى فيرجع بمثل المؤدى، هذا إذا أدى الكفيل أنقص مما التزم، وأما إذا أدى خيراً مما التزم لا يرجع الكفيل على المشتري إلا بالملتزم لأنه متبرع على المشتري بزيادة الجودة فيعتبر بما لو تبرع بزيادة العدد، وهناك لا يرجع على المشتري إلا بالملتزم، فهذا كذلك. فإن استحق العبد من يد المشتري في هذا الوجه فالكفيل بالخيار إن شاء رجع على البائع وإن شاء رجع على المشتري، فإن رجع على البائع رجع بالمؤدى؛ لأنه ظهر أن البائع قبض ذلك بغير حق، وإن رجع على المشتري رجع بالملتزم لما مرّ أن رجوع الكفيل على المشتري باعتبار ما لحق الكفيل من الضمان بأمر المشتري، وضمان المشتري السلامة له، وذلك بقدر الملتزم، وإذا رجع على المشتري بالملتزم لما مرّ إن رجع المشتري على البائع بما أداه الكفيل من الجياد؛ لأن الكفيل لما أدى الجياد، فإنما تبرع بالجودة على المكفول عنه دون الطالب لأن الطالب في حق الأصيل يقبض حقه، فلا تكون الكفالة تبرعاً في حق الطالب، وإنما تكون تبرعاً في حق المكفول فكذا بالزيادة تكون تبرعاً على المطلوب، ولأن الكفيل لما رجع على (188أ4) المشتري، فقد قام المشتري مقام الكفيل في تلك المؤدى فيقوم مقامه في حق الرجوع على البائع بالجياد. ولو لم يستحق العبد ولكن مات في يد البائع قبل القبض، وقد كان الكفيل أنقص مما التزم فلا سبيل للكفيل على البائع؛ لأن بموت العبد لا يتبين أن البائع قبض ما قبض من الكفيل بغير حق، ولكن يرجع على المشتري بألف درهم نبهرجة. فرق بين هذا وبينما إذا سلم العبد للمشتري وقد أدى الكفيل أنقص مما التزم، فإن هناك الكفيل يرجع على المشتري بالملتزم، وهو أن البائع لما تجوز بالزيوف صارت صفة الجودة كأنها وهبت الكفيل، فتفسير ذلك بما لو وهب للكفيل كل الدين، وهناك عند سلامة العبد للمشتري يرجع الكفيل على المشتري بذلك، وعند انتقاض البيع لا يرجع، فكذا إذا وهب له صفة السلامة. والفرق الفقهي بين الفصلين: أن البيع لما انتقض فقد برئ الأصيل عن الثمن وبراءة الأصيل عن الثمن يوجب براءة الكفيل، وبعدما وقعت البراءة للكفيل لا يتصور ملك ما في ذمته فيعتبر المؤدى بخلاف ما إذا تم البيع، ولو كان الكفيل أدى أجود ما التزم ثم مات العبد في يد البائع لم يكن للكفيل على البائع سبيل، ولكن يرجع الكفيل على المشتري بما كفل عنه، ويرجع المشتري على البائع بمثل الدراهم التي أعطى الكفيل البائع وهو الخيار. قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : ألا ترى أن رجلاً لو أمر رجلاً أن يعطي رجلاً عشرة دراهم عليه على أن يكون قرضاً على القابض للآمر ويكون قرضاً للمعطي على الآمر إن ذلك جائز؛ فإن أعطاه المأمور دراهم أجود من الدراهم التي أمره بها الآمر لم يكن للمعطي على الآمر إلا دراهم مثل الدراهم التي أمره بإعطائها، ويرجع الآمر على القابض بمثل ما أعطاه المأمور، فكذا فيما تقدم.

ولو كان المشتري أمر رجلاً أن ينقد عنه الثمن من غير كفالة، فنقد المأمور أفضل ما أمره لم يرجع على الآمر بمثل ما أمره به، وإن نقده أردأ مما أمره يرجع بمثل المؤدى؛ لأن ههنا الرجوع بحكم الآمر بالأداء، فلابد من اعتبار الأمر والأداء، ففي الوجه الأول: الأمر في حق الزيادة لم يوجد، وفي الثاني: الأمر إن وجد، فالأداء لم يوجد بخلاف الكفيل، فإنه إذا أدى أدى من الملتزم وتجوز به البائع يرجع على المشتري بالملتزم، لأن ثمة الرجوع بحكم إقراض الذمة والالتزام، وإقراض الذمة لالتزام الجيد قد تم أما ههنا بخلافه. فإن استحق العبد يخير المأمور بين اتباع البائع وبين اتباع المشتري على ما مر في الكفيل، فإن رجع على البائع رجع بمثل المقبوض؛ لأنه بالاستحقاق تبين أنه قبض بغير حق، وإن رجع على المشتري يرجع بالمؤدى إن كان المؤدى أردأ مما أمر به، وإن كان أجود رجع بما أمر به، ثم المشتري يرجع على البائع بمثل ما أخذ من المأمور؛ لأن المأمور إنما تبرع بالجودة على المشتري لا على البائع، وقام المشتري مقام المأمور في ذلك، وقد ذكرنا نظير هذا فيما تقدم، ولو لم يستحق العبد ولكنه مات قبل القبض، فلا سبيل للمأمور على البائع، ولكن يرجع المشتري على البائع بما أدى إن كان المؤدى أردأ مما أمره به، وإن كان أجود يرجع بما أمره به. وشبه محمد رحمه الله هذا بفصل الإجارة. ولو استأجر رجل من آخر داراً بمئة دينار، فلم يسكنها حتى أمره رب الدار أن يعطي رجلاً عشرة دراهم من أجرة الدار على أن يكون قرضاً لرب الدار على القابض، ثم انتقضت الإجارة بينهما بموت أحدهما فلا سبيل للمستأجر على المستقرض؛ لأن رب الدار يصير كالمستعمل لهذا القدر من الأجر، فعند انتقاض الإجارة يكون رجوعه على رب الدار لا على المستقرض، فبعد ذلك إن كان المستأجر نقد المستقرض أردأ من أجرة الدار رجع الآخر بما أعطى، وإن نقد أفضل لم يرجع على الآخر إلا بمثل ما أمره به، ويرجع الآخر على المستقرض بمثل ما قبض من المستأجر، فكذا فيما تقدم والله أعلم. زوجان في دار، أقامت المرأة البينة أن الدار دارها غصبها منها زوجها، وأقام الزوج بينة أن الدار داره واشتراها منها قضي بالدار للمرأة، والدار في يد الزوج، فكانت المرأة خارجة فيقضى ببينتهما كذا أجاب أبو نصر الدبوسي، وقال أبو بكر العياضي: يقضى بالدار للزوج، فجعل كأن الزوج غصبها أولاً ثم اشتراها منها بعد ذلك. وفي «المنتقى» رجل في يديه عبد، أقام رجل بينة أنه تصدق به علي منذ شهر، وقبضته منه ثم أودعته إياه، وأقام رجل آخر بينة أنه تصدق به علي منذ شهرين وقبضته، ثم أودعته منه، والذي في يديه العبد ينكر دعواهما، فإني أقضي بالعبد للذي أقام البينة على شهرين، وأبطلت دعوى الآخر، فإن رجع شاهدا الذي قضيت له بالعبد ضمنتهما قيمة العبد للذي ادعى الصدقة منذ شهر ولا أكلفه إعادة البينة من قبل لأن شهوده شهدوا بمحضر من صاحب الشهرين، وأثبتها عبدين، ولو كنت أبطلتها يومئذ ما قبلتها إذا هو

أعادها؛ لأني إذا أبطلتها مرة لم أقبلها ثانياً، ألا ترى أن صاحب الشهرين لو غاب بعدما شهد شهوده ولم يحضر لا يقضي على الذي في يديه الغلام لصاحب الشهرين حتى يحضر صاحب الشهر لأني جعلته خصماً. روى عمرو بن أبي عمرو عن محمد عن أبي يوسف رحمهما الله: في رجل أقام بينة على رجل أنه قتل أباه عمداً في شهر ربيع الأول ولا وارث له غيره، وأقام المدعى عليه بينة أنهم رأوا أباه حياً بعد ذلك الوقت في شهر ربيع الآخر، فالبينة بينة المدعي ويقضى بالقود. ولو أقامت امرأة بينة أن زوجها طلقها ثلاثاً في يوم النحر برقة، وأقام عبده بينة أن مولاه هذا بعينه أعتقه في ذلك اليوم بمنى فالشهادة باطلة، فإن صدق إحدى البينتين قضى بإقراره فيما أقر به، وقضيت في الأخرى بالبينة. ولو شهدت إحدى البينتين أنه طلق امرأته ثلاثاً يوم النحر بمنى، وشهدت الأخرى أنه أعتق عبده بعد ذلك بيوم بالرقة، فإن القاضي يطلق امرأته؛ لأن وقته أول ويبطل الآخر. وإذا شهد الشهود على رجل أنه قتل أبا هذا الرجل عمداً ولا وارث له غيره، وأن القتل كان في شهر ربيع الأول سنة خمس وثمانين ومئة، وأقام المدعى عليه بينة أن أباه كان حياً أقرضه في محرم سنة ست وثمانين ومئة درهم وأنها له دين عليه، فالبينة بينة الابن قال: لأنهما أمران لا يستقيم أن يكون فيؤخذ بالوقت الأول، قال: إلا أن أبا حنيفة رحمه الله أستحسن في هذا الباب شيئاً واحداً، فقال: إذا أقام الابن البينة أن هذا قتل أباه عمداً بالسيف منذ عشرين سنة، وأنه لا وارث له غيره، وجاءت امرأة وأقامت البينة أنه تزوجها منذ خمسة عشر سنة، وأن هذا ولده منها، وأنها وارثة مع ابنه هذا، قال أبو حنيفة رحمه الله: أستحسن في هذا أن أجيزه ببينة المرأة، وأثبت النسب وأبطل بينة الابن على القتل، ولو أقامت البينة على النكاح ولم تأت بولد، فالبينة بينة الابن والميراث للابن دون المرأة، ويقتل القاتل، إنما أستحسن في النسب خاصة، وهو قول أبي يوسف ومحمد. ذكر ابن سماعة في «الرقيات» أنه كتب إلى محمد بن الحسن: أرأيت رجلاً مات وباع رجل من تركته متاعاً، فخاصمه وارثه بعد ذلك إلى قاض، وأقام الرجل البينة أن فلاناً القاضي أجاز جميع ما باع فلان من تركة فلان، وأقامت الورثة البينة أن ذلك القاضي أبطل جميع ما باع فلان من تركة فلان ونقضه، والقاضي واحد ولم يوقت للبينتان وقتاً أو وقتا وقتاً واحداً، قال محمد رحمه الله: إذا لم يعلم أيها أول، فالنقض أولى لأن كل واحد منهما ينقض صاحبه، فصار كأنه باع ولم يجز ذلك القاضي ولم يرده، وهو غير وصي ولا جائز الأمر، وإن وقتا وقتين أخذ بالوقت الأخير. وإن أقاما البينة على النقض والإجارة من قاضيين مختلفين، فالنقض أولى إذا لم يدر أي الوقتين أول، وإن شهد أحد (188ب4) الفريقين أن ذلك القاضي أبطل إجارة

ذلك القاضي وأنه أبطل بعضه، فالقضاء الآخر الذي شهد الشهود أبطل الأول أولى وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف: رجل في يديه عبد، أقام رجل بينة أنه باع هذا العبد من هذا الذي في يديه وهو يملكه بألف درهم ورطل من خمر، وأقام آخر بينة أنه باع هذا الذي في يديه وهو يملكه بألف درهم وخنزير، ادعى كل واحد منهما بيعاً فاسداً، فالعبد يرد عليهما نصفان، وضمن الذي في يديه لكل واحد منهما نصف قيمة العبد، وإن مات العبد في يد المشتري فعليه قيمتان. وإن كانت البينتان شهدتا على البيع ومعاينة القبض، فإن كان العبد قائماً بعينه أخذاه نصفين، ولا شيء لهما غير ذلك، وإن كان مستهلكاً أخذا قيمته نصفين ولا شيء لهما غير ذلك. رجل له ابنتان صغرى وكبرى، وأقام بينة على هذا الرجل أنه زوج ابنته الكبرى منه، وأقام الأب بينة أنه زوج ابنته الصغرى من هذا الرجل، فالبينة بينة الزوج. عبد في يدي رجل أقام رجل بينة أنه اشترى هذا العبد من صاحب اليد بألف درهم، وأقام صاحب اليد بينة أنه باع هذا العبد من فلان الآخر بألفي درهم، فالبينة بينة مدعي الشراء بألف درهم. ولو أقام صاحب اليد بينة على مدعي الشراء بألف درهم أنه كفل بألفين عن المدعى عليه الذي اشتراه بألفين، كانت بينة صاحب اليد أولى. دار في يدي رجل ادعاها رجلان كل واحد منهما يدعي أنها داره أجرها من الذي في يديه شهراً بعشرة دراهم، وأقام على ذلك بينة، والذي في يديه الدار قد سكنها شهراً وهو جاحد دعواهما، فإنهما يأخذان الدار بينهما نصفين، ويأخذان عشرة دراهم، وتكون بينهما نصفين أيضاً، والقياس أن يأخذ كل واحد منهما عشرة دراهم، وأظن أن هذه المسألة مرت في كتاب الإجارات. ونظير هذه المسألة في دعوى البيع، إذا كانت الجارية في يدي رجل، أقام رجلان كل أحد منهما بينة أنه باعها من صاحب اليد لكل واحد منهما ألف درهم؛ لأن لا تضايق في الثمن، فإن أمضى أحدهما دون الآخر، فللذي أمضى نصف الثمن؛ لأن منازعة الآخر باقية، ومع المنازعة حقه كان في نصف الجارية، فيأخذ بدل ذلك وهو نصف الثمن، وللذي لم يمض أن يأخذ الجارية كلها؛ لأنه انقطع منازعة الآخر وحقه في كلها لولا منازعة الشريك؛ لأن البينة قامت له على كلها، فإذا ارتفع منازعة الشريك استحق كلها، وإن لم يمض واحد منهما البيع أخذ الجارية بينهما نصفين ولا شيء على المشتري؛ لأنه لم يسلم له شيء من المبيع، فلا يلزمه شيء من الثمن. رجل في يديه عبد أقام رجل بينة أنه عبده، وأقام آخر بينة أنه عبده باعه من الذي في يديه، وذو اليد يجحد دعواهما جميعاً، قال: يقضى به للذي أقام البينة أنه عبده، ويبطل الثمن عن الذي هو في يديه. استحق الفرس من يد المشتري في غير بلد البائع، وجاء المشتري بالسجل إلى بلد البائع، فكان المكتوب في السجل صفة الفرس المستحق، ديزه رتك مع الكي، فقال بائع

الفرس: الذي بعته كيت بلا كي وأقاما البينة فالبينة بينة المشتري. وفي «فتاوى سمرقند» : قلنسوة في يدي ثلاثة نفر يدعي أحدهم قطنها، ويدعي الآخر بطانتها، ويدعي الآخر جميعها، وأقام كل واحد بينة على ما ادعى، فإنه يقضي بالقلنسوة لمدعي جميعها ويضمن لمدعي القطن نصف قطنها، ولمدعي البطانة قيمة نصف بطانتها. أما القضاء بالقلنسوة كلها لمدعي جميعها؛ لأن بينته في الظهارة خلت عن المعارض، فيجب العمل بها في حق الظهارة، ولا يمكن العمل بها في حق الظهارة إلا بالعمل بها في حق الكل، وأما القطن فهو في أيديهم، ولا يدعيه مدعي البطانة، فيكون بين مدعي الكل وبين مدعي القطن نصفين، وقد صار مدعي الكل مستهلكاً لحصة مدعي القطن من القطن، والقطن من ذوات الأمثال، فيضمن نصف مثل نصف القطن لمدعي هذا. وأما البطانة فلا يدعيها مدعي القطن، وإنما يدعيها صاحباه فيكون بينهما، وقد صار مدعي الكل مستهلكاً نصيب مدعي البطانة من البطانة، والبطانة من ذوات القيم، فيضمن مدعي الكل نصف قيمة البطانة لمدعيها لهذا. وهو نظير من غصب من رجل بطانة وغصب من آخر قطناً وظهراً فجعل منهما قلنسوة، فإنه يضمن لصاحب القطن مثل قطنه، ويضمن لصاحب البطانة قيمة بطانته، وطريقه ما قلنا كذا ههنا. وكذلك لو لم يدع مدعي الجميع القلنسوة كلها إنما ادعى ظهارتها، وباقي المسألة بحالها، فهي كلها له لكن يضمن لمدعي القطن مثل قطنه ولمدعي البطانة قيمة بطانته؛ لأنه لا يدعي شيئاً من القطن والبطانة فسلم القطن والبطانة لصاحبه والله أعلم. قال محمد رحمه الله: دار في يدي ثلاثة رهط ادعى أحدهم جميع الدار وادعى الآخر نصفها، فهذا على وجهين: إن أقاموا بينة على دعواهم، أو لم يقيموا وقد ذكرنا المسألة بتمامها في كتاب الشهادة، ولم يذكر ثمة ما إذا كانت الدار في يد غيرهم إنما ذكر هنا، وقال: إن لم تقم بينة لهم يحلف الذي كان في يديه الدار على دعواهم، فإن حلف انقطعت دعواهم وبقيت الدار في يد صاحب اليد كما كان قبل الدعوى، وإن قامت لهم بينة فبينة كل واحد منهم مقبولة على جميع ما ادعى؛ لأن ما يدعي كل واحد منهم في يد غيره، ويكون كل واحد منهم خارجاً في جميع ما يدعي لنفسه. وإذا قلنا ببينة كل واحد منهم على جميع ما ادعاه يقسم الدار بينهم على طريق المنازعة عند أبي حنيفة، فيعطي لمدعي الجميع سبعة أسهم من اثني عشر سهماً من جميع الدار ويعطي لصاحب النصف سهمان، وعندهما يقسم الدار على طريق العول والمضاربة على ثلاثة عشر سهماً، يعطى لصاحب الجميع ستة أسهم من ذلك، ويعطى

لصاحب الثلثين أربعة أسهم، ولصاحب النصف ثلاثة أسهم. وإذا كانت الدار في يدي رجلين ادعى أحدهما كلها وادعى الآخر نصفها ولا بينة لهما، فإن مدعي النصف يحلف لمدعي الجميع، ومدعي الجميع لا يحلف لمدعي النصف؛ لأن مدعي النصف لا يدعي لنفسه شيئاً مما في يدي مدعي الجميع، أما مدعي الجميع يدعي لنفسه جميع ما في يد مدعي النصف، فإن حلف مدعي النصف برئ عن خصومة مدعي الجميع، وصار الحال بعد الحلف كالحال قبله، وقبل الحلف كانت الدار في أيديهما نصفين فكذا بعد الحلف، وإن نكل قضي لمدعي الجميع بجميع الدار. وإن أقاما البينة قضي لمدعي الجميع بجميع الدار؛ لأن مدعي النصف ادعى لنفسه نصف الدار وفي يده النصف، فانصرف دعواه إلى ما في يده، فلا يقبل بينته عليه، ومدعي الجميع ادعى جميع الدار، ونصفها في يد مدعي النصف فيسمع بينته فيه، ونصفها في يده ولم يسمع بينته إلا أن مدعي النصف لم يدع شيئاً من ذلك النصف لنفسه فيترك في يده، فصار جميع الدار لمدعي الجميع من هذا الوجه. وإن كانت الدار في يد ثالث، والباقي بحاله، فإن لم يكن لهما بينة حلف على دعوى كل واحد منهما، فإن حلف برئ عن خصومتهما، وترك الدار في يده كما كان، وإن أقاما البينة قال أبو حنيفة تقسم الدار بينهما أرباعاً بطريق المنازعة، وقال أبو يوسف ومحمد: تقسم أثلاثاً بطريق العول والمضاربة. دار في يدي رجل منها منزل في يدي رجل آخر منها منزل آخر ادعى أحدهما أن جميع الدار له، وادعى الآخر أن الدار بينهما نصفان، ولا بينة لهما حلف كل منهما على دعوى صاحبه، فإن حلفا فالمنزل الذي في يد مدعي الجميع يترك في يديه؛ لأنه برئ عن دعوى مدعي النصف بالحلف، فعاد الأمر إلى ما كان قبل الدعوى، ويقضى (189أ4) بنصف المنزل في يد مدعي النصف، ويترك نصف المنزل الذي في يد مدعي النصف في يده على حاله ويقضى بالساحة بينهما. أما القضاء له بنصف المنزل الذي في يد مدعي النصف إقرار بذلك له قال: الدار بيننا نصفان، وأما ترك النصف في يد مدعي النصف؛ لأنه برئ عن دعوى صاحبه في ذلك النصف، وعاد الأمر في ذلك النصف إلى ما كان قبل الدعوى، أما القضاء بالساحة بينهما لأن الساحة في أيديهما على الشيوع، فإنهما يستعملانها ويتصرفان فيهما على السواء. فرق بين هذه المسألة وبينما إذا كانت الدار في أيديهما وليس في يد واحد منهما شيء بعينه، فقال أحدهما: الدار بينا نصفان، وقال الآخر: الدار كلها لي، فإنه يقضى لكل واحد منهما بما في يده، ولا يقضى لمدعي الجميع بشيء مما في يد المدعي النصف، وههنا قال: يقضى لمدعي الجميع بنصف المنزل الذي في يد مدعي النصف؛ لأن في تلك المسألة أمكن تصحيح إقراره من غير إثبات استحقاق شيء عليه؛ لأنه أقر لصاحبه بنصف شائع من الدار وفي يد صاحبه نصف شائع من الدار، وفي هذه المسألة لا يمكن تصحيح إقراره باستحقاق نصف المنزل الذي في يده من جملة الدار، وقد أقر له

بنصف الدار شائعاً، فيكون مقراً له بنصف هذا المنزل شائعاً فلهذا افترقا. عاد إلى أول المسألة فقال: ادعى أحدهما جميع الدار وادعى الآخر نصفها، ولم يزد على هذا، يعني قال الآخر: نصف هذه الدار ولم يقل هذه الدار بيننا نصفان لا يقضى لمدعي الجميع بشيء مما في يد مدعي النصف، ولكن ما في يدي مدعي النصف يترك نصفه له، والنصف الآخر يكون موقوفاً إلى أن يقيم مدعي الجميع البينة، وإنما جاء الفرق؛ لأنه لما قال: الدار بيننا نصفان فقد أقر لصاحبه بنصف المنزل في يده، وإقرار الإنسان بما في يده صحيح. وإذا قال: نصف الدار لي ما أقر لصاحبه بشيء من الدار إنما ادعى لنفسه النصف لا غير، وليس من ضرورة أن لا يكون له مازاد على النصف أن يكون ذلك لمدعي الجميع لجواز أن لا يكون ذلك له، ولا لمدعي الجميع بل يكون لغيرهما، وإن أقاما البينة في هذه الصورة قبلت بينة كل واحد منهما على ما في يد صاحبه ويقضى لمدعي الجميع بجميع المنزل الذي في يد مدعي الجميع. دار سفلها في يدي رجل وعلوها في يدي رجل آخر، وطريق العلو في ساحة السفل ادعى كل واحد منهما أن جميع الدار له ولا بينة لهما، فإنه يقضى لصاحب العلو بالعلو بحق الممر في الساحة، ويقضى لصاحب السفل بجميع السفل وبرقبة طريق العلو ويجعل طريق العلو في حق الممر كأنه في يد صاحب العلو، وفي حق الرقبة كأنه في يد صاحب السفل. هكذا ذكر المسألة في كتاب الدعوى وذكر هذه المسألة في كتاب الصلح وقال: يقضى بالساحة بينهما، وإنما الاختلاف لاختلاف الوضع، وضع المسألة في كتاب الدعوى أن جميع السفل كان في يد صاحب السفل فإنه قال: دار سفلها في يدي رجل والهاء كناية عن الدار، فقد جعل جميع السفل في يد صاحب السفل إلا أن صاحب العلو كان يمر في الساحة، فيقضى لصاحب السفل بجميع السفل إلا في حق المرور. وموضوع ما ذكر في كتاب الصلح أن في يد مدعي السفل منازل السفل، والساحة في أيديهما أمانة. قال: في دار يسكن فيها رجلان أحدهما في منازل من السفل والآخر في علوها، فقد أشار إلى أن في يد صاحب السفل منازل السفل، فكأن يد صاحب السفل على الانفراد ثابتة على منازل السفل والساحة في أيديهما؛ لأنهما يستعملان الساحة استعمالاً على السواء، فيقضى بالساحة بينهما لهذا. دار في يدي ثلاثة ادعى، أحدهم النصف، وادعى الآخر الثلث، وادعى الآخر السدس، وجحد بعضهم دعوى البعض ولا بينة لواحد منهم، فنقول: يجعل الدار في أيديهم أثلاثاً لاستوائهم في اليد، ويقضي لمدعي النصف، والثلث لكل واحد منهم بما في يد كل واحد منهما وهو الثلث، أما مدعي النصف فلأنه يدعي لنفسه ثلث الدار، وفي يده هذا المقدار، وقوله فيما في يده مقبول، وأما مدعي النصف فلأنه ادعى لنفسه نصف الدار وفي يده الثلث، فكان مدعياً جميع ما في يده وزيادة سدس إلى تمام النصف مما في

يد صاحبه، فيقبل قوله فيما في يده ولا تقبل فيما في يد صاحبه إلا ببينة، ويقضى لصاحب السدس بنصف ما في يده وهو سدس الدار ويوقف السدس لأنه ادعى لنفسه سدس الدار وفي يديه ثلث الدار، فكان مدعياً لنفسه نصف ما في يده وقوله فيما في يده مقبول، وأما النصف الآخر الذي في يده لم يقر به لصاحب النصف، إنما أقر أنه ليس له وليس من ضرورة أن لا يكون له أن يكون لصاحب النصف لجواز أن لا يكون له أيضاً ويكون لغيره، فيوقف ذلك النصف عنده فإن أقام صاحب النصف.... سدس الدار؛ لأنه ادعى لنفسه نصفاً شائعاً، وقد تم له الثلث فبقي دعواه في سدس الدار، وذلك في يد صاحبه إذ ليس أحدهما يصرف دعواه إلى ما في يده أولى من الآخر. دار في يدي رجلين ادعى أحدهما كل الدار، وادعى الآخر نصفها، وأقاما جميعاً البينة فشهد شهود صاحب النصف أن الدار كانت لأبيه، وأن الذي ادعى الجميع فصارت ميراثاً بينهما نصفان، وشهد شهود صاحب الجميع له بالجميع فإن الدار بينهما تكون أرباعاً؛ لأنهم لما شهدوا على الميراث، فقد شهدوا أن له النصف مما في يده ويد صاحبه؛ لأن الميراث في جميعها، فقد شهدوا له بنصف ما في يد صاحبه. ولو شهد شهود صاحب النصف أن الدار بينه وبين صاحب الجميع نصفان اشتراها من فلان بينهما نصفان، وشهد شهود الآخر على الجميع، فإن الدار بينهما نصفان. قال أبو حنيفة رحمه الله: في دار في يدي رجل نصفها، وادعى آخر نصفها وأقاما البينة، فالدار بينهما نصفان، ولم يجمع أبو حنيفة في هذه المسألة نصف كل واحد منهما في نصف الدار؛ فيجعل بينهما نصفان. وإن أقام آخر بينة على جميعها فإنه يجمع نصيب صاحبي النصف في نصف الدار ويجعل لصاحب الجميع النصف خالصاً، ويجعل النصف الآخر بينهم، فقد ترك قوله في هذا، وكان ينبغي أن يضرب كل واحد من صاحبي النصف بالنصف في جميع الدار ويضرب الثالث بالجميع، فيكون نصفها لصاحب الجميع، ونصفها للآخرين نصفين. وفي «نوادر هشام» قال: سمعت محمداً يقول في دار في يدي آخرين ادعى أحدهما كل الدار وادعى الآخر أنها ميراث بينهما من أبيهما، قال: للذي ادعى كلها ثلاثة أرباع الدار النصف الذي في يديه ونصف ما في يد أخيه، وللآخر ربعها، فإن أقاما البينة على ما ادعيا صار النصف الذي في يد مدعي الكل ميراثاً، فيكون ذلك النصف بينهما نصفان، ويصير النصف الذي في يد مدعي الميراث للآخر فيكون لمدعي الكل ثلاثة أرباع الدار، ولمدعي الميراث ربعها، فإن جاء إنسان آخر وأقام البينة أنها داره فاستحقها ثم وهبها لمدعي الجميع، فلا شيء لأخيه فيها وإن وهبها لمدعي الميراث أخذ أخوه نصفها. في «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل أقام بينة على رجل أن له عليه ألف درهم، وأقام آخر بينة عليه أن تلك الألف بينهما نصفان، قال: في قول أبي حنيفة رحمه الله،

(الفصل التاسع: في دعوى الميراث)

للذي أقام البينة على الألف ثلاثة أرباع الألف، وللآخر ربعها، وقال أبو يوسف ومحمد: هي بينهما أثلاثاً. وفي (189ب4) «المنتقى» : دار في يدي رجل ادعى رجل أنها بينه وبين الذي في يديه نصفان، وجحد الذي في يديه، وادعى أن كلها له فسأل القاضي المدعي البينة على ما ادعى، فأقام البينة على أن هذه الدار كانت لأبيه فلان، مات وتركها ميراثاً له خاصة لا وارث له غيره، قال: إن لم يدع المدعي أن النصف خرج الى الذي الدار في يده بسبب من قبله فشهادة شهوده باطلة، وإن قال: قد كنت بعت نصفها بألف درهم، لم يصدقه القاضي على البيع ولم يجعله مكذباً لشهوده، وقضي له بنصف الدار ميراثاً عن أبيه. فإن أحضر بينة على أنه باع النصف من المدعى عليه بألف درهم، أو أنه صالحه من الدار على أن يسلم له النصف منها، قبلت بينته على ما ادعى من ذلك، وقضي بالدار كلها ميراثاً عن الولد، وقضي بنصفها للمدعي الآخر بيعاً من المدعي، إن كان ادعى البيع وكان للمدعي على المدعى عليه الثمن، وإن أقام البينة على ما ادعى من الصلح، أبطلت الصلح ورددت الدار كلها إلى المدعي لأنه لم يأخذ للنصف عوضاً، فإن قال المدعى عليه في الصلح حين أقام المدعي البينة عليه بالصلح: إن الصلح الذي ادعى لم يكن جائزاً في قوله، ولم أملك به من الدار وقد أقرّ أن لي نصف الدار، فأنا أحق بنصف الدار منه بحكم إقراره، لم يلتفت إلى قوله؛ لأن المدعي أقام البينة أن نصف الدار صار للمدعى عليه من وجه الصلح، فيجعل إقراره من قبل الصلح. ألا ترى أن من باع داراً من رجل بعبد وتقابضا، ثم قيل لبائع الدار لمن الدار، فقال: لفلان يعني المشتري منه، ثم إن بينته قامت على أن العبد حرّ أعتقه القاضي بحضرة بائع الدار، وقال بائع الدار: إنما أقررت لفلان بالدار، لأني كنت بعت منه الدار بالعبد، فالقاضي يجعل إقراره من قبل البيع ويرد الدار عليه، كذا في مسألتنا والله أعلم.l (الفصل التاسع: في دعوى الميراث) ......... إذا قال في دعواه: هذا العين ملكي ورثته عن أبي، أو قال: صار ميراثاً لي عن أبي، أو كان الشهود شهدوا أن هذا العين ملكه ورثته عن أبيه، أو قالوا: صار

هذا العين ميراثاً له عن أبيه فالقاضي يسمع دعواه وتقبل شهادتهم، ولو شهدوا كان ملك أبيه إلى يوم موته، مات وترك ميراثاً لهذا المدعي، ولم يقولوا: وترك هذا العين أو تركه ميراثاً، فقد قيل: لا تقبل الشهادة ولابد من ذكر قوله: وترك هذا العين ميراثاً له، أو من ذكر قوله: وتركه، ولكن هذا ليس بصواب، فإنهم لو شهدوا أن هذا العين كان ملك أبيه إلى يوم موته، ولم يتعرضوا لشيء آخر فالقاضي يقبل شهادتهم، ويقضي بالدار ميراثاً نص عليه محمد في شهادات «الأصل» ، والمسألة بتمامها مع فروعها مرت في كتاب الشهادات. دار في يدي رجل أقام رجل البينة أن أبي اشترى هذه الدار من صاحب اليد بألف درهم، وقد مات، وصاحب اليد يجحد ذلك، قال: لا أكلفه البينة أن أبي مات وتركها ميراثاً لي، ولكن اسأله البينة أنهم لا يعلمون له وارثاً غيره، فإن أقامها أمرت صاحب اليد بدفع الدار إليه، وإنما لم يكلف إقامة البينة أن أباه مات وتركها ميراثاً له، لأنه لما ادعى على ذي اليد بيعه من أبيه فكل بائع مقر بالملك للمشترى منه صار دعواه بيع ذي اليد من أبيه بمنزلة دعواه إقرار ذي اليد بالملك لأبيه. ولو ادعى إقرار ذي اليد بالملك لأبيه وأقام على ذلك بينة كفى ذلك حجة للقضاء، ولا يشترط فيه جر الميراث، بخلاف ما لو أقام البينة على نفس الملك للمورث لا إقراره بالملك للمورث، وهذا لأن دعوى الإقرار على ذي اليد في المسألة الأولى في ضمن دعوى البيع عليه والمدعي في هذه المسألة لا يدعي البيع على ذي اليد، فكان هذا في حق ذي اليد دعوى نفس الملك للمورث، فلابد من جر الميراث. رجل في يديه دار يزعم أنه ورثها من أبيه جاء رجل وادعى أنه اشتراها من أبي ذي اليد في حال حياته، ولم يقل: وهو يملكها وكذلك الشهود في شهادتهم، لم يقولوا: وهو يملكها، فالقاضي يقضي بالدار للمدعي لأن صاحب اليد مقر بملك الأب حيث ادعى الإرث، وكذلك لو كان الأب حياً وادعى المدعي الشراء من أبي ذي اليد، وذو اليد يدعي أن أباه وهبها له، فالقاضي يقضي للمدعي ببينته، وإن لم يقولوا في شهادتهم: وهو يملكها، وإنما يحتاج إلى قول الشهود في شهادتهم: وهو يملكها إذا لم يكن ذو اليد مقراً بالملك للمدعى عليه الشراء بأن لم يدع التملك من جهته. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل في يديه دار ادعاها رجلان أحدهما ابن أخ الذي الدار في يديه ووارثه لا وارث له غيره، وأقام كل واحد من الرجلين شاهدين أن الدار دار أبيه مات، وتركها ميراثاً له لا يعلم له وارثاً غيره، فسمع القاضي بينتهما فقبل أن يزكيا مات العم الذي الدار في يديه، فإن القاضي يسلم الدار إلى ابن الأخ؛ لأنه وارث الميت فيقوم مقامه فيما كان في يده، كما يقوم مقامه في أملاكه، فإن سلم القاضي الدار الى ابن الأخ ثم زكيت البينتان، فالقاضي يقضي بالدار بين ابن أخ ذي اليد، وبين الأجنبي نصفان، وكان ينبغي أن يقضي بالدار كلها للأجنبي؛ لأن الأجنبي خارج وقت القضاء، وابن الأخ ذو اليد.

ألا ترى أن ابن الأخ لو أقام البينة على ما ادعى حال حياة العم، ولم يقم الأجنبي البينة ولم يقض القاضي ببينة ابن الأخ حتى مات العم، وسلم القاضي الدار إلى ابن الأخ، ثم أقام الأجنبي البينة عل ما ادعى فإنه يقضي ببينة الأجنبي؟ وكذلك إذا لم يقيما البينة حال حياة العم حتى مات العم، ثم أقاما البينة فإنه يقضى بالدار للأجنبي، لهذا إن الأجنبي خارج وقت القضاء حقيقة فهو خارج حكماً. وقد اختلفت عبارة المشايخ في بيان ذلك. فعبارة بعضهم، أن ابن الأخ لم يرث الدار من العم في هذه الصور والقاضي سلم الدار إلى ابن الأخ على وجه الحفظ بطريق النيابة عن العم لا على وجه الميراث، بيان هذا الكلام: أن الدار صارت مشغولة بحق الأجنبي حال حياة العم فإنه ثبت للأجنبي بإقامة بينة عادلة حق الملك في هذه الدار وبالتزكية ظهر أنها كانت عادلة، ولهذا لم يجز بيع المدعى عليه، وكون التركة مشغولة بحق الأجنبي يمنع الإرث كما لو كان فيها دين مستغرق للأجنبي، أو كان في الدار وصية، وإذا امتنع الإرث لحق الأجنبي، بقيت الدار على حكم العم كأن العم حي، ولو كان العم حياً ودفع الدار إلى ابن الأخ على وجه الحفظ بطريق النيابة عن العم أليس أنه يقضي بالدار بينهما نصفان؟ واعتبر ابن الأخ خارجاً حكماً في هذه الصورة، مع كونه صاحب اليد حقيقة ولكن تقرير هذه العبارة من وجه آخر، وسنذكر ذلك الوجه في تفريعات هذه المسألة إن شاء الله تعالى، وليس كما لو أقام ابن الأخ البينة حال حياة العم وأقام الأجنبي البينة بعد وفاة العم، فإن هناك يقضى بكل الدار للأجنبي، وتبطل بينة الأخ لأن هناك ابن الأخ وقت القضاء صاحب اليد حقيقة وحكماً. بيانه: أن هناك الدار حال موت العم مشغولة بحق ابن الأخ الذي هو وارث لا لحق الأجنبي، وشغل التركة بحق الوارث لا يمنع الإرث، ألا ترى أن الدين المستغرق للتركة لو كان للوارث لا يمنع ذلك جريان الإرث، فصارت الدار لابن الأخ وزال عن ملك العم ويده حقيقة وحكماً، فصار الملك واليد لابن الأخ حقيقة وحكماً، وبقي الأجنبي خارجاً حقيقة وحكماً، وليس كما لو لم يقيما البينة حال حياة العم حتى مات العم ثم أقاما البينة لأن هناك الدار وقت موت العم لم تكن مشغولة بحق الأجنبي لأنه لم يوجد من الأجنبي إلا مجرد الدعوى وبه لا يثبت الحق، ولهذا أجري إقرار المدعى عليه بالمدعى به لغيره في هذه الصورة مجرى الإرث فصارت الدار مملوكة لابن الأخ، وصار هو صاحب اليد حقيقة وحكماً. وعبارة بعضهم: أن ابن الأخ وإن ورث الدار من العم وصار ذو اليد حقيقة، فقد بقي خارجاً حكماً ومعنىً، بيانه: أنه لم يملك الدار على الوجه الذي ادعى وأراد، فإنه ادعى أن هذه الدار موروثة له من جهة الأب لا من جهة العم وله في هذه الدعوى فائدة بعد موت (190أ4) العم حتى لا يتعلق بهذه الدار حقوق العم متى ظهر دين أو وصية، ولم يحصل هذا المقصود لابن العم بموت العم وصورة الدار ميراثاً له فبقي محتاجاً إلى إثبات ما ادعى بالبينة لكونه ثابتاً بظاهر يده.

وليس كما لو لم يقيما البينة حال حياة العم حتى لو مات العم ثم أقاما البينة، فإن هناك يقضي ببينة الأجنبي، ولم يجعل ابن الأخ خارجاً، وإن كان محتاجاً إلى إثبات ما ادعاه بالطريق الذي قلنا لأنا إنما يعتبر للحاجة إلى إثبات المدعي في جانب الأخ إذا كان لابن الأخ منازع في هذه الدار وقت موت العم ثبت لمنازعه نوع خصوصية بهذه الدار من بين سائر الناس، بأن أقام شاهداً واحداً لأن بإقامة شاهدين يثبت له حق الملك، وبإقامة شاهد واحد صار بحال إذا أقام شاهداً آخر، يستحق الدار وقت موت العم، لم يثبت له نوع خصوصية من بين سائر الناس بأن وجد مجرد الدعوى لا يعتبر مقصود ابن الأخ في هذه الحالة فلا تقبل بينته، وهذا لأن ما هو مقصود ابن الأخ مما ادعى قد يحتاج إليه ابن الأخ بأن ظهر على العم دين أو وصية، وقد لا يحتاج إليه ابن الأخ بأن لا يظهر عليه دين أو وصية، وقد يظهر وقد لا يظهر فوجب مراعاة مقصوده في حال دون حال، مراعياً من الوجه الذي بينا، وليس كما لو أقام ابن الأخ البينة على ما ادعى حال حياة العم، ولم يقم الأجنبي بينة، فإنه يقضي بالدار كله للأجنبي لأنه لم يثبت لمنازعه، وهو الأجنبي وقت موت العم نوع خصوصية بهذه الدار من بين سائر الناس لأنه لم يوجد منه إلا مجرد الدعوى، وفي هذه الحالة لا يعتبر مقصوده، وإذا لم يعتبر اعتبر هو ذو اليد حقيقة وحكماً، فيقضي ببينة الأجنبي بعد ذلك بينة على ابن الأخ أن الدار داره، ورثها من أبيه وأراد أخذ ما صار لابن الأخ، لم يكن له ذلك لأن كل واحد منهما أقام البينة على كل الدار، ولولا بينة صاحبه لما حرم من النصف، فعلم أن كل واحد منهما صار مقضياً عليه فيما صار لصاحبه بالقضاء، وبينة المقضي عليه فيما صار مقضياً عليه، لا تقبل إلاً إذا ادعى تلقي من جهة المقضي له، ولم يوجد ههنا. فلو أن القاضي زكى شهود الرجل الأجنبي بعد موت العم ولم يزك شهود ابن الأخ، قضي بالدار كلها للأجنبي؛ لأن حق الأجنبي قد ظهر من كل وجه وحق ابن الأخ عسى يظهر وعسى لا يظهر، وليس لظهوره وقت معلوم، فيقضى بالدار كلها للرجل الأجنبي لهذا، وتبطل بينة ابن الأخ حتى إذا ظهرت عدالتهم لا يقضى له بشيء ما لم يقم البينة ثانياً، لأن القاضي لما قضى بالدار كلها للأجنبي بالدليل الذي ذكرنا، مع قيام ما يوجب القضاء بالنصف لابن الأخ وهو شهادة شهود ابن الأخ يضمن القضاء بالدار كلها للأجنبي إبطال بينة ابن الأخ، وللقاضي ولاية إبطال البينة إذا لاح له دليل الإبطال. والقاضي إذا أبطل البينة في حادثة لا يجوز القضاء بها في تلك الحادثة أبداً، فإن جاء ابن الأخ بعد ذلك بشهود شهدوا أن هذه الدار داره ورثها من أبيه، قبل القاضي شهادته وقضى بكل الدار للأجنبي سواء جاء بشهود آخرين أو جاء بتلك الشهود، لأنه لو لم تقبل شهادة شهوده إنما لا تقبل لصيرورته مقضياً عليه ببينة الأجنبي، ولا وجه إليه؛ لأن بينة الأجنبي قامت على العم لا على ابن الأخ، وهذا الجواب ظاهر فيما إذا جاء بشهود آخرين مشكل فيما إذا جاء بتلك الشهود. وينبغي أن لا تقبل شهادتهم في هذه الصورة لأن القاضي أبطل شهادتهم في عين

هذه الحادثة، والقاضي متى أبطل شهادة الشهود في حادثة، لا تقبل شهادتهم في عين تلك الحادثة، وإن صاروا عدولاً، والجواب عن هذا الإشكال من وجهين: أحدهما: أن القاضي ما رد شهادتهم لتهمة الكذب بل ضرورة القضاء تلك الدار للأجنبي، ورد الشهادة إذا لم يكن لتهمة الكذب لا يمنع قبولها بعد ذلك. والثاني: إن كان رد الشهادة لتهمة الكذب ولكن هذه حادثة أخرى غير تلك الحادثة؛ لأن المشهود عليه في الكرة الأولى العم والمشهود عليه في الكرة الثانية ابن الأخ، والشهادة متى ردت لتهمة الكذب لا يمنع قبولها بعد ذلك، أنا لا أقبل تلك الشهادة في عين تلك الحادثة لا في حادثة أخرى، ألا ترى أن الفاسق إذا شهد وردت شهادته في باب، وشهد في المشهود له في حادثة أخرى قبلت شهادته؟ كذا ههنا. فإن قال الأجنبي بعد ذلك: أنا أعيد البينة على ابن الأخ أن الدار داري ورثتها، فالقاضي لا يقبل بينته لأنه صار مقضياً عليه من جهة ابن الأخ. قال: ولو أن القاضي زكّى شهود ابن الأخ بعد موت العم، وما زكى شهود الأجنبي قضي بكل الدار لابن الأخ، وبطلت بينة الأجنبي حتى لو زكيت شهوده بعد ذلك، لا يقضى له بشيء لما قلنا في جانب ابن الأخ، فإن أعاد الأجنبي البينة على ابن الأخ بعدما قضى القاضي لابن الأخ قضي للأجنبي، فإن قال ابن الأخ: أنا أعيد البينة على الأجنبي لم يلتفت القاضي إليه لما قلنا. قال: فإن أقام الأجنبي البينة حال حياة العم أن الدار داره ورثها من أبيه ولم يقم ابن الأخ البينة على دعواه حتى مات العم صارت الدار في يد ابن الأخ بحكم الميراث، ثم أقام ابن الأخ البينة على دعواه، وزكيت بينتهما قضي بالدار بينهما، وإن صار اليد لابن الأخ لما ذكرنا من العبارتين. وقد ذكرنا قبل هذا في عبد في يدي رجل أقام رجل بينة أنه عبده اشتراه من ذي اليد بكذا، ونقده، وأقام ذو اليد بينة أنه عبد فلان الغائب أودعه إياه، لا تندفع الخصومة عن ذي اليد لأنه انتصب خصماً بدعوى الفعل، فلو أن القاضي لم يقض ببينة مدعي الشراء حتى حضر المقر له وصدق ذو اليد في إقراره، فإنه يدفع العبد إليه فإن زكيت بينة مدعي الشراء يقضى لمدعي الشراء بالعبد على المقر له، فلو أن المقر له أقام البينة أن العبد عبده، كان أودعه الذي كان العبد في يده يقضى بالعبد كله للمقر له وتبطل بينة مدعي الشراء. وذكرنا ثمة عن الفقيه محمد بن حامد رحمه الله أن ابن سماعة كتب إلى محمد في مسألة العبد، ولم يذكر ثمة كيفية المكتوب، وكان كيفية المكتوب: ما بال الغائب المقر له إذا أقام البينة أن العبد عبده أودعه المقر قضيتم بالعبد له، ولم تقضوا بها بينه وبين المدعي الشراء نصفان، وأنتم جعلتم اليد للمقر في الحكم، وإن كان العبد في يد الغائب للمقر له، وإذا جعلتم اليد للمقر صار الغائب مع مدعي الشراء خارجين مدعيان على ذي اليد عبداً أو داراً.

وذكرنا أن ابن سماعة استشهد بمسألة تأتي بعد هذا، وهي هذه المسألة، ابن سماعة فكتب إلى محمد رحمه الله أن الأمر كما تقول: أن العبد يقضى بين المقر له وبين المدعي للشراء نصفين، كما في هذه المسألة التي وقع الاستشهاد بها، وذكرنا ثمة أن القاضي أبا الهيثم كان يصحح جواب محمد في مسألة العبد أنه يقضي بالعبد كله للمقر له، وذكرنا وجه ذلك: أن مدعي الشراء يدعي الاستحقاق من جهة صاحب اليد الأول، والغائب المقر له يدعي الاستحقاق من جهة صاحب اليد الأول، لهذا يثبت الترجيح لبينة الغائب المقر له، وبهذا الحرف يقع الفرق بين مسألة العبد وبين مسألتنا هذه، لأن الأجنبي مع ابن الأخ كل واحد منهما يدعي الاستحقاق على العم، ولا يدعي أحدهما استحقاقاً على صاحبه وصاحبه من جهته، حتى يترجح وبين ابن الأخ نصفان من هذا الوجه. ومن مشايخنا من اتبع القاضي أبا الهيثم في تصحيح جواب محمد أنه يقضى بالعبد كله للمقر له، وذكر بين مسألة العبد (190ب4) وبين مسألتنا فرقاً آخر. فقال: المقر له في مسألة العبد غير محتاج إلى إثبات ملكه في العبد بعدما أقر له ذو اليد؛ لأن العبد صار ملكاً له على الوجه الذي ادعى بإقرار ذي اليد، فاستغنى عن إثبات الملك لنفسه، إنما حاجته إلى أن يبين أن بينة مدعي الشراء قامت على غير خصم، حتى يبطل بينته، فإن لذي اليد أن يطعن في بينة الخارج حتى يبطل بينته، وقد بين المقر له بما أقام من البينة، أن بينة مدعي الشراء قامت على غير خصم لأنها قامت على مودعه، والمودع لا يكون خصماً فيما يستحق على صاحب الوديعة، فبطلت بينة المشتري إلا أن يعيدها ثانية على المقر. فأما في مسألتنا هذه، الدار وإن صارت لابن الأخ بعد موت العم إلا أنها لم تصر له على الوجه الذي أراد وادعى على ما مر بيانه، فبقي محتاجاً إلى إثبات ما ادعى فاعتبر خارجاً معنىً، والأجنبي خارج حقيقةً، فقضي بالدار بينهما، ولو أقام كل واحد منهما شاهداً واحداً حال حياة العم، ثم مات العم وصارت الدار ميراثاً لابن الأخ ثم أقام كل واحد منهما شاهداً آخر، وزكيت البينتان قضي بالدار بينهما نصفان، وهذا الجواب لا يشكل على الوجه الثاني؛ لأن ابن الأخ على الوجه الثاني اعتبر خارجاً وإن ملك الدار بالإرث على ما مرّ. أما يشكل على الوجه الأول؛ لأن بإقامة الأجنبي شاهداً واحداً لا يثبت له حق الملك في الدار حتى يمتنع الإرث في الدار بحق الأجنبي، فيصير الدار ميراثاً لابن الأخ فيعتبر هو ذو اليد، والوجه في ذلك أن نقول: بإقامة الشاهد الواحد إن كان لا يمتنع الإرث في الدار لابن الأخ من حيث إنه لم يثبت للأجنبي حق الملك في الدار يمنع الإرث له من وجه آخر حتى لا يبطل ما أقام الأجنبي من الشاهد الواحد بمجرد قول ابن الأخ الذي يحتمل الصدق والكذب. بيانه: أن شهادة الشاهد الواحد من الأجنبي انعقدت معتبرة في الجملة، فلو ورث ابن الأخ الدار من العم، وصار ذو اليد لابد وأن يقبل قوله إنه ورثها من أمه لا من عمه،

لأن قول الإنسان في ملكه مقبول في بيان جهة الملك واليد. ....... هذا العبد الذي في يديك عبدي وهبه لي عبد الله، وصدقه عبد الله، وكذبه ذو اليد ثم إن هذا الرجل اشترى هذا العبد من ذي اليد حتى ملكه، يجعل العبد في يده بحكم الهبة له من عبد الله، حتى كان لعبد الله أن يرجع فيه، فيثبت أن قول الإنسان في ملكه مقبول من جهة الملك، فيقبل قوله: إنه ورثها من أبيه ومتى قبل قوله: إنه ورثها من أبيه لا من عمه، يبطل ما أقام الأجنبي من الشاهد الواحد، ويلزمه الإعادة ثانياً؛ لأنه لم يقم مقام العبد في هذه الدار حتى يجعل إقامة الشاهد الواحد على العم كإقامته عليه، إنما قام مقام أبيه في هذه الدار، ولم يقم للأجنبي الشاهد على أبيه إنما أقامه على عمه، فيبطل ما أقام الأجنبي من الشاهد هذا الواحد بمجرد إقرار ابن الأخ الذي هو محتمل للصدق والكذب، فلهذه الضرورة امتنع الإرث والتقريب ما ذكرنا. قال: ولو كان كل واحد منهما أقام شاهداً واحداً على العم، فلما مات العم أقام الأجنبي شاهداً آخر، فزكي شاهداه، وقضى القاضي له بالدار، ثم إن ابن الأخ أقام شاهداً آخر على حقه مع الشاهد الأول، فالقاضي لا يلتفت إلى ذلك لأن ما أقام ابن الأخ من الشاهد الواحد على العم قد بطل بقضاء القاضي للأجنبي ببينته، ألا ترى أنه لو كان أقام شاهدين على العم تبطل شهادتهما بقضاء القاضي للأجنبي بالدار؟ فأولى أن يبطل الشاهد الواحد، فإن أعاد ابن الأخ الشاهدين على الأجنبي، قضي له بالدار؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه ببينة الأجنبي لأن بينة الأجنبي قامت على العم، وابن الأخ لا يدعي تلقي الملك من جهة العم إنما يدعي ذلك من أبيه. قال محمد رحمه الله في «الجامع» أيضاً: دار في يدي رجل يدعي أنها داره، فأقام رجل بينة أنها داره ورثها من أبيه فلان مات وتركها ميراثاً له ولأخيه هذا الذي الدار في يديه لا وارث له غيرهما، وذو اليد يجحد، ويدعي أنها داره، وزكيت البينتان، ذكر أنه يقضى بالدار بين الخارج الأجنبي وبين أخي ذي اليد أرباعاً، ثلاثة أرباعها للخارج الأجنبي وربعها لأخي ذي اليد، ولا شيء لذي اليد، هكذا ذكر في الكتاب من غير ذكر خلاف. ومن مشايخنا من قال: ما ذكر في الكتاب قول أبي حنيفة رحمه الله، أما على قولهما: يجب أن يقضى بالدار بينهما أثلاثاً، ثلثاها للخارج الأجنبي، وثلثها لأخي ذي اليد، وهذا القائل جعل هذه المسألة فرعاً لمسألة أخرى ذكرها في كتاب الدعوى. وصورتها: رجل في يديه دار تنازع فيها رجلان أحدهما ادعى كلها وادعى الآخر نصفها، وأقاما جميعاً البينة، ذكر أن الدار تقضى بينهما أرباعاً عند أبي حنيفة على طريق المنازعة، وعندهما يقضى بينهما أثلاثاً على طريق المضاربة، فههنا يجب أن يكون كذلك لأن الخارج الأجنبي ادعى لنفسه كل الدار وأخو ذي اليد برواية ابن سماعة في

«نوادره» عن محمد: أن القاضي يقضي بالدار بين الخارج الأجنبي، وبين أخي صاحب اليد أرباعاً. وبيان ذلك: أن الأجنبي مع أخي ذي اليد كل واحد منهما يدعي جميع الدار لأبيه لأنه يدعي الملك لنفسه بطريق الميراث، وصح دعوى أخي ذي اليد جميع الدار لأبيه، كما صح دعوى الأجنبي لأن أحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت فيما يستحق له، وإذا صح دعوى كل واحد منهما جميع الدار صار كأن أبا كل واحد منهما حيّ وادعى لنفسه كل الدار، وشهد الشهود له بذلك، وهناك يقضى بالدار بين الأبوين نصفان فكذا ههنا يكون نصف الدار لأبي الأجنبي، والنصف لأبي أخي ذي اليد، إلا أن أخا ذي اليد لا يدعي لنفسه من النصف الذي صار لأبيه إلا نصفه، وهو ربع الكل، فإن في زعمه أن هذا النصف له ولأخيه لكل واحد نصفه وهو ربع الكل، وأخوه لا يدعي ذلك الربع لنفسه فيستحقه الأجنبي؛ لأن الأجنبي أثبت كل الدار لنفسه لكن لم يقض له بجميع الدار بمنازعة أخي ذي اليد إياه، ولا منازعة لأخي ذي اليد معه إلا في مقدار الربع، فيسلم ما وراء الربع للأجنبي بخلاف مسألة الدعوى، لأن هناك مدعي الجميع يدعي لنفسه كل الدار ومدعي النصف يدعي النصف لا غير، فكانت المسألة على الخلاف، أما ههنا بخلافه. فإن أراد ذو اليد أن يدخل مع أخيه في الربع الذي صار له، وقال له: قد أقررت أن النصف الذي أصاب أبونا من هذه الدار بيني وبينك نصفان، فما ورد عليه الاستحقاق يكون مستحقاً على الكل وما بقي يبقى على الكل، فليس له ذلك لأن من حجة أخيه أن يقول: الاستحقاق ورد عليك لأن الاستحقاق ورد عليك بجحودك، وجحودك حجة في حقك خاصة دون غيرك. فهو بمنزلة نصراني مات عن ابنين ثم أسلم أحدهما، ثم شهد نصرانيان على الميت بدين، فإنه يستوفى كله من نصيب الابن النصراني ولا يرجع هو على أخيه بشيء؛ لأن الاستحقاق وقع عليه بما هو حجة في حقه دون غيره، أو نقول بعبارة أخرى، الأخ يقول لذي اليد: الاستحقاق ورد عليك لأنك كنت ذا اليد، أما أنا فكنت خارجاً، وما كان للقاضي. ...... يقضي بنصيبي لاستوائنا في كوننا خارجين، أو نقول بعبارة أخرى يقول لذي اليد: قضاء القاضي بالربع للأجنبي انصرف إلى نصيبك خاصة لأن تصحيح قضاء القاضي واجب ما أمكن، وإنما يصح قضاء القاضي لكل الربع إذا كان كل الربع لذي اليد، أما إذا كان مشتركاً بينه وبين أخيه لا يصح في نصيب أخيه لأن الأجنبي صار مقضياً عليه فيما صار لأخي ذي اليد بالقضاء وبينة المقضي عليه لا تسمع على المقضي له إلا إذا ادعى تلقي الملك من جهة (191أ4) المقضي له، فعلم أن القضاء انصرف إلى نصيب ذي اليد خاصة. قال: ولو كان الذي في يديه الدار أقر أنه ورثها من أبيه بعدما أنكر الوراثة وبعدما

أقاما البينة، فالجواب فيه والجواب فيما إذا لم يقر بالوراثة سواء، يقضى بثلاثة أرباع الدار للأجنبي، وبربعها لأخي ذي اليد لأن إقراره لم يصح في حق أخيه؛ لأن أخاه استحق ربع الدار بالبينة، وبإقرار صاحب اليد يبطل ذلك الاستحقاق؛ لأنه يصير صاحب اليد مع صاحب اليد لأن التركة في يد أحد الورثة كأنها في يد الكل خصماً على ما عرف، وبينة ذي اليد في دعوى الملك المطلق والميراث مع بينة الخارج لا تقبل عندنا، فلم يصح إقرار ذي اليد في حق أخيه وصار وجوده والعدم بمنزلة، ولو انعدم إقراره أليس أنه يقضى بالدار بينهما أرباعاً؟ فكذا ههنا. وإن كان إقرار ذي اليد بالوراثة قبل إقامتهما البينة، ثم أقاما البينة يقضى بكل الدار للأجنبي؛ لأن إقرار ذي اليد في هذه الصورة صحيح في حق أخيه؛ لأنه لا يبطل عليه حقه لأن بمجرد الدعوى لا يستحق شيئاً، فإذا صح إقراره في حق أخيه صارا جميعاً ذا اليد على ما ذكرنا، فكان بينة الخارج أولى، فلهذا قضى بجميع الدار للأجنبي. قال: ولو كان ذو اليد من الابتداء ادعى أن هذه الدار كانت لأبيه مات وتركها ميراثاً بينه وبين أخيه فلان، وأخوه غائب، فأقام الأجنبي البينة على أنها داره ورثها من أبيه، وقضى القاضي بالدار للأجنبي ببينته، ثم حضر أخو ذي اليد وأقام البينة أن الدار كانت لأبيه فلان، مات وتركها ميراثاً بينه وبين أخيه ذي اليد، فإن القاضي لا يقبل بينته؛ لأن إقرار صاحب اليد قبل إقامة الأجنبي البينة صحيح في حق أخيه على ما مرّ، وثبت بإقراره كون الدار ميراثاً بينه وبين أخيه الغائب، وأحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت، فصار الغائب مقضياً عليه على ذي اليد، فلا تقبل بينته بعد ذلك، وإن كان إقرار ذي اليد أن الدار ميراث بينه وبين أخيه الغائب فلان بعدما أقام الأجنبي عليه البينة أنها داره ورثها من أبيه وقضى القاضي عليه للأجنبي لكل الدار؛ ثم حضر أخو ذي اليد وأقام البينة على أن الدار كانت لأبيه مات وتركها ميراثاً بينه وبين أخيه، قبل القضاء ببينته؛ لأن إقرار ذي اليد على أخيه في هذه الصورة لا يصح لأن الأجنبي ببينته استحق القضاء على صاحب اليد بجميع الدار على أن يكون المقضي عليه صاحب اليد لا غير، فذو اليد بإقراره بعد ذلك يريد أن يجعل أخاه مقضياً عليه أيضاً على ما ذكرنا وفي ذلك ضرر على أخيه لأنه لا يسمع بينته حتى حضر، فلم يصح إقرار ذي اليد على أخيه ولم يصر الأخ مقضياً عليه، فتقبل بينته كما تقبل بينة أجنبي آخر، ثم يقضى له بنصف الدار لأنه لا يدعي لنفسه إلا نصف الدار. قال: إذا كانت الدار في يدي رجل يدعي أنها له لا حق لأحد فيها، جاء رجل فادعى أنها داره ورثها من أبيه، وأقام على ذلك بينة، قضى القاضي بالدار للمدعي ودفعها إليه، ثم حضر أخو الذي كانت الدار في يديه، وأقام بينة أن الدار كانت لأبيه مات وتركها ميراثاً له ولأخيه فلان الذي كانت الدار في يديه، فالقاضي يقضي بنصف الدار لأخي ذي اليد، ويدع نصف الدار على حاله في يد المقضي عليه، وإنما قبل ببينته؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه بالقضاء على أخيه ذي اليد لما جحد ذو اليد كون الدار ميراثاً، وإنما

قضي له بنصف الدار؛ لأنه لا يدعي لنفسه إلا نصف الدار، فإن أراد ذو اليد أن يدخل على أخيه في النصف الذي قضي له ليس له ذلك لما ذكرنا. إذا كانت الدار بين ثلاثة نفر غير مقسومة مات أحدهم، فأقام رجل البينة أنه أخو الميت ووارثه لا يعلمون له وارثاً غيره، وقضى القاضي له بنصيب الميت، ثم جاء رجل آخر وادعى أنه ابن الميت، وكذبه الأخ، وصدقه الشريكان في الدار، فأراد أن يدخل في نصيبهما لما أنهما أقرا بشركته في الدار ليس له ذلك، وكذلك لا يدخل في نصيب الأخ المقضي له بنصيب الميت، أما لا يدخل في نصيب الأخ؛ لأن ذلك صار ملكاً له ظاهراً بحكم القضاء، والملك الثابت للإنسان لا يستحق إلا بإقراره أو ببينة تقوم ولم يوجد شيء من ذلك ههنا. فلو قيل: وجدت البينة ههنا لأن الشريكان شهدا بذلك له، قلنا: المذكور في «الكتاب» : أنهما أقرا بذلك لا أنهما شهدا به، وإقرار الإنسان ليس بحجة على غيره، وأما لا يدخل في نصيب الشريكين وإن أقر أن له شركة في الدار؛ لأنهما أقرا له بنصيب الميت، ونصيب الميت كله صار للأخ بقضاء القاضي؛ لأن قضاء القاضي انصرف إلى نصيب الميت تصحيحاً للقضاء، فإنما أقرا له بما في يد الأخ لا بما في أيديهما، فلا يكون له أن يدخل في نصيبهما. قال في «الكتاب» : ألا ترى أن رجلاً لو أقام بينة أنه اشترى من الميت في حياته نصيبه بألف درهم، ونقد الثمن، وقضى القاضي له بذلك وجحد وارث الميت أن البيع لم يكن وأن المدعي مبطل في دعواه، وأن شهوده شهدوا بزور، أكان للوارث أن يدخل في نصيب الشريكين؟ لا شك أنه ليس له ذلك؛ لأن الثابت بالبينة كالثابت عياناً ولو عاينا أن الميت باع نصيبه من الدار لا يكون لوارث الميت أن يدخل فيما في يد الشريكين لأن البيع انصرف إلى نصيبه خاصة فلم يكن له أن يدخل بعد هذا فيما في يد الشريكين، فكذا إذا انصرف القضاء إلى نصيب الميت لا يكون للابن أن يدخل في نصيب الشريكين، قال: ولو كان الأخ أخذ نصيب الميت بغير قضاء بأن غلب عليه وأخذه، ثم جاء رجل وادعى أنه ابن الميت وصدقه الشريكان في ذلك، وكذبه الأخ، دخل الابن في نصيب الشريكين لما ذكرنا أن قضاء القاضي انصرف إلى نصيب الميت خاصة، ولما يميز نصيب الميت عن نصيب الشريكين كان إقرار الشريكين للأب بنصيب الميت لا بما في أيديهما، فلا يكون له حق المشاركة فيما في يد الشريكين، وهو قضاء القاضي، فبقيت الدار مشاعاً بينهم فما نوى منها بالاستيلاء للأخ عليها ينوى على الشركة، وما بقي يبقى على الشركة، هذا هو الحكم في المال المشترك إذا ذهب منه شيء، وإذا كان الباقي على الشركة بين الشريكين وبين الميت فنقول: الشريكان أقرا بما هو للميت في أيديهما لمدعي البنوة فيصير ذلك له بإقرارهما فيدخل على ما في يد الشريكين لهذا. قال: ولو أن الدار كانت في يد الثلاثة فمات واحد وأقام رجل البينة أنه أخ الميت ووارثه لا وارث له غيره، وقضى القاضي بالثلث لهذا الأخ ثم إن هذا الأخ، مع

الشريكين اقتسموا الدار بقضاء أو بغير قضاء، وأخذ كل واحد منهم منزلاً منها؛ ثم جاء رجل وادعى أنه ابن الميت وصدقه الشريكان في ذلك، وكذبه الأخ فإن الابن يدخل مع الشريكين فيما في أيديهما فرق بين هذا وبينما قبل القسمة، وقد أخذ الأخ نصيب الميت بقضاء القاضي فإنه لا يدخل الابن في نصيب الشريكين لأنهما أقرا له بنصيب الميت؛ ونصيب الميت في يد الأخ ليس في يد الشريكين من ذلك شيء، فأما بعد القسمة وصل إلى كل واحد من الشريكين ثلث ما كان من نصيب الميت لأن كل منزل أخذه كل واحد من الشريكين بالقسمة على ثلاثة أسهم، سهم من ذلك ملكه في الأصل، وسهم منه من نصيب شريكه بإزاء ثلث منزل تركه على شريكه من نصيبه، وسهم منه من نصيب الأخ ملكه بإزاء ما تركه على الأخ من نصيبه، فإذا أقر بالابن فقد أقر أن الثلث مما في أيديهما له فيؤمران بالتسليم إليه. وإنما قلنا: بأنه وصل إلى كل واحد من الشريكين ثلث ما كان من نصيب الأخ لأن القسمة في الأشياء المتفاوتة إقرار لعين الحق من وجه ومبادلة من وجه، إقرار من حيث أن القسمة في الأصل وضعت لإقرار الأنصباء كما في قسمة المكيلات والموزونات، ولهذا يجبر (191ب4) كل واحد من الشركاء على القسمة ومبادلة من حيث أن ما يأخذ كل واحد من الشركاء بعضه ملكه في القديم وبعضه ملك صاحبه ملكه بإزاء البعض الذي تركه على صاحبه من ملكه، وهذا هو معنى المبادلة والعمل بمعنى المبادلة والإقرار متعذر في حق كل شخص لمكان التنافي، فاعتبرنا معنى الإقرار في حق الشركاء؛ فأجبرنا كل واحد منهم على القسمة، واعتبرنا معنى المبادلة في حق الثالث. إذا ثبت هذا فنقول: الابن المقر له ثالث، فيعتبر القسمة مبادلة في حقه كأن كل واحد منهما اشترى ثلث المنزل الذي أصابه بالقسمة من الأخ بثلث المنزل الذي تركه عليه، فوجب على كل واحد منهما تسليم ثلث المنزل الذي أصابه بالقسمة إلى الابن. فإن قيل: هذه القسمة كما اعتبرت إقراراً في حق الشركاء اعتبرت إقراراً في حق الثالث، ولم تعتبر مبادلة، ألا ترى أنه لا يتجدد للشفيع حق الشفعة، فإن من باع نصف الدار شائعاً وله شفيع فسلم الشفيع الشفعة، ثم إن المشتري قاسم البائع، لا يتجدد للشفيع حق الشفعة في الربع الذي ملكه المشتري من نصيب البائع بإزاء الربع الذي تركه على البائع، ولو اعتبر مبادلة يتجدد للشفيع حق الشفعة والدليل عليه: أن ليس للشفيع نقض قسمة المشتري، ولو اعتبر مبادلة في حق الثالث، كان للشفيع حق نقضها كما كان له حق نقض بيعه. قلنا: إنما لم يتجدد للشفيع حق الشفعة لأن حالة القسمة كان المشتري المقاسم شريكاً في الدار، والشفيع جار، والشريك متقدم على الجار، وإنما لا يكون للشفيع أن ينقض القسمة لأن نقضها لا يفيد لأنه لو نقضها احتجنا إلى إعادتها ثانياً، والثاني: أن القسمة مما يؤيد قبض المشتري لأنها من تمام القبض؛ لأن قبل القسمة يكون المقبوض بعضه حقه وبعضه حق غيره، وبالقسمة يصير المقبوض كله حقه، وليس للشفيع أن ينقض

قبض المشتري حتى يأخذ الذكر من البائع ليكون العهدة له على البائع من حيث إن البائع.... من المشتري، فكذا لا يكون له نقض ما يؤكده. فإن قيل: ما ذكرتم أن القسمة في الأشياء المتفاوتة يعتبر مبادلة في حق الثالث مستقيم على قول محمد، غير مستقيم على قول أبي حنيفة وأبي يوسف، فقد ذكرنا في كتاب الإقرار: إذا كانت الدار بين رجلين نصفين، وأوصى أحدهما بمنزل بعينه من الدار للمشتري ثم مات الموصي فاقتسم شريك الموصي مع ورثة الموصي؛ إن وقع المنزل الموصى به في قسم ورثة الموصي فإنه تصح الوصية في جميع المنزل على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: إذا كان جميع الدار يخرج من ثلث ماله، وإن وقع في نصيب شريك الموصي، كان للموصى له بالميراث أن يأخذ جميع ذرعان المنزل الموصى به من ثلث ماله على قولهما. ولو كانت هذه القسمة مبادلة في حق الثالث والموصى له ثالث؛ كان يجب أن يقال: بأنه إذا وقع المنزل الموصى به في نصيب ورثة الموصي أن تصح الوصية في نصف المنزل الموصى به، كما قال محمد، لأن نصف المنزل الموصى به ملك الموصي وقت الوصية، ونصفه ملك شريكه، ملكه بإزاء نصف المنزل الذي تركه على شريكه بالقسمة. ومن أوصى بعين لا يملكه ثم ملكه فإنه لا يصح الوصية به، وإن ملكه بعد ذلك إلا أن تكون الوصية مضافة إلى حالة الملك، بأن قال: إن ملكت هذا العين فهو وصية لك، ثم ملك العين، والوصية ههنا غير مضافة إلى الملك، وقد قالا: بأنه يصح في جميع المنزل إذا وقع في نصيب شريكه كان يجب أن يقال: يستحق الموصى له الأخذ بنصف ذرعان المنزل لا بجميعه، لأن نصف ما أصاب ورثة الموصي بدل المنزل الموصى به؛ لأن نصف المنزل الموصى به كان ملكاً للموصي، ونصفه ملك شريكه وهو إنما يستحق البدل بإزاء ما كان ملكاً له، لا بإزاء ما كان ملك شريكه. والأصل أن من أوصى بعين ملكه، ثم زال ملكه عن العين من غير اختياره، وأخلف بدلاً تتعلق الوصية ببدله، كما لو أوصى بعبد بعينه لإنسان، فقتل قبل موته خطأ حتى وجبت القيمة بجواب الوصية إلى بدله، فكذا ههنا تتحول الوصية إلى بدل النصف الذي كان ملكاً له، فأما النصف الآخر من المنزل الموصى به كان ملك شريكه فالوصية بذلك النصف حصل في ملك الغير والوصية في ذلك الغير لا تصح لا في عينه ولا في شيء آخر، فكيف يستحق الموصى له الأخذ بذرعان ذلك النصف؟ قلنا: من المشايخ من قال: مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف أن هذه القسمة إقرار محض والبدل بمنزلة الوصية، وهذا القائل يقول: ما ذكره في «الجامع» قول محمد لا قولهما، وبعد أن سلم أن المذكور في «الجامع» قول الكل، فالجواب لأبي حنيفة وأبي يوسف: أن المنزل الموصى به جميعه مملوك لكل واحد منهما بكماله من حيث أن تصرف شريكه لا ينفذ فيه لا في

جميعه ولا في نصفه شائعاً كان الكل ملك الآخر. وإذا كان الأمر هكذا نقول: إن وقع المنزل في نصيب ورثة الموصي، يعتبر المنزل بكماله مملوكاً لشريكه حكماً، وقد اشتراه الموصي بما تركه على شريكه من نصيبه مثل ذلك، إلا أنه مع هذا تصح الوصية منه في جميعه، وإن قضى بعين لا يملكه وقت الوصية لأنه سبب ملك في العين الموصى به وقت الوصية وهي الشركة في الدار، فإن الشركة في الدار سبب لثبوت الملك له في المنزل بالقسمة، فيقام سبب الملك مقام الملك، فصحت الوصية بجميع المنزل، وإن اعتبر المنزل بكماله ملكاً لشريكه من حيث الحكم، وإذا وقع المنزل الموصى به في نصيب شريكه يعتبر المنزل مملوكاً للموصي بكماله من حيث الحكم، ثم صار لشريك الموصي لما أخذ الموصي من شريكه مثل ذلك، فكان جميع ذرعان المنزل بدل المنزل بهذا الاعتبار، فتتحول الوصية إليها لما ذكرنا أن الوصية بالعين متى صحت، ثم زال العين عن ملك الموصي من غير اختياره، وأخلف بدلاً أن الوصية تتحول إلى البدل، فإنما وجب تنفيذ الوصية في جميع المنزل، واستحق الموصى له الأخذ بجميع ذرعان المنزل عند أبي حنيفة رحمه الله لهذا، لأن هذه القسمة لم تعتبر مبادلة في حق الثالث، وهو الموصى له. وإن كان مكان الدار عروضاً أو ثياباً أو ما أشبه ذلك مما لا يكال ولا يوزن، فالجواب فيها كالجواب في الدار، لأن المعنى لا يختلف، وإن كان مكانه دراهم أو دنانير أو ما أشبه ذلك مما يكال أو يوزن من جنس واحد، أو كان من العدديات المتقاربة التي يضمن مستهلكها المثل من جنسها، فاقتسموا ذلك وأخذ كل واحد الثلث بقضاء أو بغير قضاء، فإن الابن المقر به لا يدخل في نصيب المقرين؛ لأن القسمة في هذه الأشياء إقرار لعين الحق في حق الناس كافة، ليس فيها معنى المبادلة لعدم التفاوت بين الأجزاء إن لكل واحد أن يأخذ نصيبه من غير قضاء ولا رضى. وألا ترى أن ثلاثة لو اشتروا كراً من طعام بمئة واقتسموه بينهم وأخذ كل واحد منهم ثلثه كان له أن يبيع نصيبه، وهو الثلث من اللحمة على ثلث المئة، ولما كان هكذا لم يصل إلى كل واحد من المقرين، ولا كذلك مسألة الدار على نحو ما بينا. وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف: رجل أقام بينة على ميت أنه أخوه لأبيه وأمه لا يعلمون له وارثاً غيره، وأقامت امرأة بينة أنها بنت الميت إنما جعلت الميراث بينهما نصفين، ولا أسألها بينة أنهم لا يعلمون بها وارثاً غيره، فكل أحد أقام بينة على نسبه أشركته في الميراث، ولا أسأله بينة على عدد جميع الورثة. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف رحمه الله: رجلان في أيديهما دار، أقام أحدهما بينة أن هذه الدار كانت لأبي مات، وتركها ميراثاً بيني وبينك، قال: آخذ ببينة الذي ادعى ثلاثة أرباع لنفسه ولا أقبل بينة الآخر؛ لأن الآخر يدعي النصف لنفسه، وهي في يده، فيكون ثلاثة أرباعها لذلك من قبل أمه ونصف الربع الآخر له من أبيه، ونصف الربع الآخر بحكم إقراره.

(الفصل العاشر: في دعوى الرجل النكاح على المرأة)

رجل ادعى على امرأة أنه تزوجها وأنكرت، ثم مات الرجل فجاءت تدعي ميراثه، فلها الميراث، وكذلك لو كانت المرأة ادعت النكاح فأنكر الزوج، ثم ماتت المرأة، فجاء الرجل يطلب ميراثها وزعم أنه تزوجها (192أ4) فله الميراث، ذكر المسألتين في «المنتقى» من غير خلاف، وفي المسألة الثانية خلاف عند أبي حنيفة لا ميراث لها، وعلى قول أبي يوسف ومحمد لها الميراث، ذكر الخلاف على هذا الوجه في إقرار «الأصل» . ولو أن امرأة ادعت على زوجها أنه طلقها ثلاثاً وأنكر الزوج، فطلبت ميراثها منه، قال: لم أورثها منه، وكذلك إن كانت أكذبت نفسها، وزعمت أنه لم يطلقها قبل موته، وكثير من هذا الجنس من المسائل التي ذكرناها في كتاب «أدب القاضي» و «الشهادات» . (الفصل العاشر: في دعوى الرجل النكاح على المرأة) ......... قال محمد رحمه الله: رجل ادعى على امرأة أنه تزوجها وأقام على ذلك بينة وأقامت المرأة بينة على رجل آخر منكر أنه تزوجها، فالبينة بينة الرجل، قال: لأن المرأة أكذبت بينتها التي شهدت لها على الزوج حيث شهد شهود الرجل عليها بالتزويج، إذا شهدوا عليها بالتزويج، فقد شهدوا على كليهما، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لو أقام رجل بينة على امرأة أنه تزوجها، وأقامت أختها بينة على هذا الرجل أنه تزوجها فالبينة بينة الرجل يريد به إذا لم يوقت للبينتان وقتاً، وأشار إلى المعنى فقال: لأنها تقيم البينة على نكاح لا يثبت ويفسد، ولو وقت بينة المرأة ولم يوقت بينة الرجل، فدعوى الرجل جائز، وثبت نكاح المرأة التي ادعاها، ويبطل نكاح المدعية، ولها على المدعي نصف المهر. وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن رجل وامرأة في دار ادعى الرجل أن الدار داره، وأن المرأة امرأته، وأقام على ذلك بينة، وادعت المرأة أن الدار دارها وأن الرجل عبدها، وأقامت على ذلك بينة، قال: أقبل بينة المرأة على أن الدار دارها؛ لأني أجعل الدار في يدي الرجل، وأجعل البينة بينة الزوج في التزويج، وأجعلها امرأته وتزويجها نفسها منه إقرار منها أنه ليس بمملوك لها. وروى بشر عن أبي يوسف في رجل وامرأة في أيديهما دار، أقامت المرأة البينة أن الدار لها وأن الرجل عبدها، وأقام الرجل بينة أن الدار له وأن المرأة زوجته تزوجها على ألف درهم ودفعها إليها؛ ولم يقم بينة أنه حر فإنه يقضي بالدار للمرأة، ويقضي بالرجل عبداً لها. ولو أقام الرجل بينة أنه حر الأصل والمسألة بحالها كانت المرأة امرأته ويقضى بأنه حر ويقضى بالدار للمرأة من قبل أن الدار والمرأة في يدي الزوج حيث جعلها

امرأته، فالمرأة هي المدعية للدار فيقضى بالدار لها، كزوجين في أيديهما دار أقام كل واحد منهما بينة أن الدار داره، وهناك يقضى بالدار للمرأة كذا ههنا، قال: وهكذا قياس قول أبي حنيفة، ولو لم يكن بينهما بينة كانت الدار للزوج، وقال محمد في «نوادر ابن سماعة» : إذا لم يقم الرجل بينة أنه حر فالدار للمرأة وهي امرأته في هذه المسألة. وفي «نوادر ابن شجاع» : لو أقام الرجل البينة أن الدار داره، والمرأة أمته، وأقامت المرأة البينة أن الدار دارها والرجل عبدها، فالدار بينهما نصفان، إذا لم تكن الدار في أيديهما، وإن كانت في يد أحدهما تركت في يده، وتعارضت البينتان منهما، ويحكم لكل واحد منهما بالحرية ولا تقبل بينة أحدهما على صاحبه بالرق. وروى بشر عن أبي يوسف في رجل وامرأة اختلفا في متاع من متاع النساء، فأقامت المرأة بينة أن المتاع متاعها، وأن الرجل عبدها، وأقام الرجل بينة أن المتاع له وأن المرأة امرأته تزوجها على ألف ونقدها، فإن الرجل يقضى به عبداً للمرأة، ويقضى بالمتاع لها، فإن شهد شهود الرجل أنه حر الأصل، قضي بأنها امرأته ويقضى بالمتاع له، هكذا ذكر، وعلى قياس المسألة الأولى ينبغي أن يقضى بالمتاع لها، ولو اختلفا في ذلك، وذلك المتاع في يد المرأة، ومثل ذلك في يد الرجل، فهذا الأمر غير الوجه الذي كنا فيه، يقضى بالنكاح، ويعتق الرجل، ويقضى بما في يد كل واحد منهما للآخر، متاع النساء كان أو متاع الرجل، أو متاعهما جميعاً إذا كان المتاع في يد أحدهما خاصة دون الآخر، فالبينة بينة المدعي. وفي «المنتقى» : لو أن امرأة أقام عليها رجلان كل واحد منهما بينة أنها أقرت أنها امرأته اختلعت منه بألف درهم، ولم يوقتا فعليها أن تؤدي إلى كل واحد منهما ماله وإن وقتا لزمها مال الوقت الأول، فيبطل عنها مال الوقت الآخر، إلا أن يكون بينهما وقت ينقضي في مثلها العدة وتتزوج، فيلزمها المالان جميعاً، وإن لم يدخل بها أحدهما لزمها المالان جميعاً إن وقتا أو لم يوقتا.B وفي «المنتقى» أيضاً رجل قال لامرأة: زوجنيك أبوك وأنت صغيرة، وقالت المرأة: زوجنيك وأنا كبيرة، فالقول قول المرأة والبينة بينة الزوج. امرأة ادعت على رجل أنه تزوجها وهو ينكر، ثم ادعى تزويجها بعد ذلك، وأقام البينة قبلت بينته وثبت النكاح، قال: والنكاح في هذا لا يشبه البيع، ألا ترى أن رجلاً لو ادعى أنه تزوج هذه المرأة على ألف درهم وجحدت المرأة ذلك، ثم أقامت بينة على أنه تزوجها على ألفين قبلت البينة، وجعلت المهر ألفين، وكذلك لو أقام بينة أنه تزوجها على هذا العبد، ولو كان هذا في البيع لا تقبل بينته، لأنه قد أكذبهم....؟.

إذا باع مستأجر الحانوت سكنى الحانوت من رجل وقبضه المشتري فجاء صاحب الحانوت واستحق السكنى مزيد شهر به، فالمسألة على وجهين: إن كان السكنى متصلاً ببناء الحانوت وهو ليس من آلات صناعة المستأجر، فالقول: قول صاحب الحانوت مع يمينه، وإذا حلف رجع المشتري على المستأجر بثمن السكنى، وإن كان من آلات صناعة المستأجر، فالقول قول المستأجر ولا سبيل لصاحب الحانوت على السكنى. في «فتاوى أبي الليث» : إذا أنكر المدعى عليه أن يكون المحدود المدعى به في يده، فالقاضي يحلفه على اليد أولاً، فإن حلف اندفع عنه الخصومة، وإن نكل يحلف على الملك وهذا مما لا يكاد يصح، لأن فائدة النكول الإقرار، واليد على العقار لا تثبت بصريح الإقرار، فكيف يثبت بالنكول الذي هو قائم مقام الإقرار. رجل ادعى محدوداً في يدي رجل أنه ملكه، وأن صاحب اليد أخذه منه بغير حق، فأعدته إلى يدي، هل يؤمر المدعى عليه بالتسليم إلى المدعي فقد قيل: لا يؤمر بالتسليم إلى المدعي. وإذا تنازع رجلان في دار يدعي كل واحد منهما أنها في يده، فإن عرف القاضي كون الدار في يد أحدهما جعله لصاحب اليد، وإن لم يعرف كونها في يد أحدهما، وعرف أنها ليست في يد ثالث، فكل واحد منهما مدعي ومدعى عليه، فإن أقاما البينة على اليد قضي باليد لهما، ويجعل الدار في أيديهما، هذا لأن دعوى اليد مقصود، كما أن دعوى الملك مقصود؛ لأن باليد يتوصل إلى الانتفاع بالملك والتصرف، فكما يصح دعوى الملك يصح دعوى اليد، وبعد إقامتهما البينة على اليد يقضى باليد لهما لاستوائهما في الدعوى والإثبات. فإن قيل: أي فائدة في إقامة هذه البينة وفي هذا القضاء، قلنا: فائدته أن القاضي إذا سمع البينة على اليد لهما وقضى باليد لهما أو وجدها في يد ثالث ينزعها من يده عند طلبها، وقبل ذلك لا ينزعها من يد الثالث، وإن قامت لأحدهما بينة قضي باليد له وإن لم يكن لهما بينة ولا (192ب4) لأحدهما يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، كما لو ادعيا الملك في هذه الدار، فيحلف كل واحد منهما البينة بالله ما هي في يد صاحبه فإن حلف برئ كل واحد منهما عن دعوى صاحبه، ويوقف القاضي الدار إلى أن يظهر حقيقة الحال، ولا يجعلها في يد واحد منهما؛ لأن القاضي لم يعرف اليد لأحدهما حتى يجعلها في يده بعلمه، وقد برئ كل واحد منهما عن دعوى صاحبه بالحلف فيوقعها،

هكذا قاله بعض المشايخ في شرحه. وذكر بعضهم في شرحه: أنهما إذا اختلفا فالقاضي لا يجعلهما في يد واحد منهما، ولا ينزعه من أيديهما، وإن نكل أحدهما عن اليمين وحلف الآخر لم يجعلهما القاضي في يد الحالف، لأن القاضي لم يعرف كون الدار في يد الناكل، والنكول: بدل أو إقرار، والبدل والإقرار من الإنسان إنما يصح فيما في يده، لأن بدله وإقراره حجة عليه وليس بحجة على غيره، ولكن يمنع الناكل من أن يتعرض للدار، لأن نكوله حجة في حقه، وإن وجد القاضي الدار في يد الثالث، لا ينزعها عن يد الثالث بما أنقده بين هذين، لأن النكول بدل أو إقرار دلالة ولو وجد الإقرار صريحاً أو وجد البدل صريحاً بين هذين، فالقاضي لا ينزع الدار من يد الثالث، لأن يدهما وإقرارهما يعمل فيما بينهما، ولا يعمل في حق غيرهما كذا ههنا. ثم إذا تعلق رجلان بعين، ولم تقم البينة لأحدهما حتى جعلتا في أيديهما لو أقام أحدهما بينة أن العين ملكه قضي له بالنصف الذي في يد صاحبه، وترك النصف الذي في يده على حاله، هكذا ذكر في بعض المواضع، وذكر في بعض المواضع إذا أقاما البينة على اليد ثم أقام أحدهما أن العين له قضي بكله له، فهذا تنصيص أن يقضى بالملك له في كل العين، وإنه مشكل لأن العين في أيديهما، فبينته على ما في يده بينة صاحب اليد، وبينة اليد على الملك المطلق لا تقبل، الجواب: أنه لما أقام البينة على الملك بعد ما أقام البينة على اليد فقد أعرض عن تلك البينة فبطلت بينته على اليد. وصورة مسألتنا: رجلان تنازعا في عين، وأقام أحدهما البينة على اليد والآخر على الملك، يقضى لصاحب الملك كذا ههنا. وفي كتاب «الأقضية» إذا تنازع اثنان في دار، وكل واحد يدعي أنها في يده، وأقاما البينة على (ذلك) ثم إن أحدهما قال: أنا أقيم البينة على ما هو أجود من هذا، أنا أقيم البينة على أن أبي مات وترك هذا العين ميراثاً لي لا وارث له غيري، وأقام البينة على ذلك، تقبل فيكون قضاء على الذي خاصمه الشهود على يد المدعى عليه، وقوله في «الكتاب» : أنا أقيم البينة على أجود من هذا، إعراض عن بينته التي أقامها الذي أقام قبل ذلك، حتى يصير خارجاً، فتقبل بينته على الملك. وفي «المنتقى» : رجل ادعى قبل رجل داراً وأقام البينة، فقال المدعى عليه: ليست في يدي، فأقام المدعي بينة فشهدوا أن الدار في يد المدعى عليه، وفي ملكه يسأل المدعي، فإن قال كما شهدوا: إنها في يده وفي ملكه فقد أقر بالدار للمدعى عليه، فيقضى بالدار له، وإن قال: أصدقهم أنها في يده لا أصدقهم أنها في ملكه فله ذلك، ويجعل المدعى عليه خصماً له. وإذا اختصم رجلان في دار يدعي أحدهما أنها ملكه وفي يده والآخر يدعي أنها في يده وأنه أحق بها من غيره لما أنها كانت في يده إجارة من جهة فلان، وقد دفعت مال الإجارة إليه وقد مات فلان الآخر ولي حق حبس الدار إلى أن يستوفي مال الإجارة فالدار

تجعل في يد من؟ كان الشيخ الإمام ظهير الدين المرعيناني رحمه الله يقضي بأن الدار تجعل في أيديهما، وبعض مشايخ زمانه كان يفتي بأن الدار تجعل في يد مدعي الإجارة. وإذا وقع الدعوى على رجل في عقار في يديه، وأقام المدعي بينة على دعواه لابد وأن يذكر الشهود في شهادتهم أنها في يد المدعى عليه، والإقرار لا يكفي حجة لإثبات يده، حتى إن المدعي والمدعى عليه إذا تصادقا أن الدار المدعى في يدي المدعى عليه، فالقاضي لا يقضي بملكية الدار للمدعي بشهادة شهوده على كون الدار ملكاً له، وإنما يقضي إذا شهدوا على يد المدعى عليه، بأن شهدوا أنها في يده اليوم، هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» والمنقول في هذا يخالف العقار، فإن المدعى عليه إذا أقر أن المنقول المدعى به في يده فذلك يكفي، ولا يحتاج إلى أن يذكر الشهود أن المدعى به في يد المدعي اليوم؛ لأن في العقار تهمة المواضعة فإن المدعي ربما تواضع رجلاً ويحضره مجلس القضاء ويدعي عليه العقار ويقر المدعى عليه أن العقار في يده، ولا يكون في يده فيقضي القاضي بملكية العقار للمدعي بشهادة شهوده، ويكون قضاء على الغائب في الحقيقة؛ لأن العقار على الحقيقة كانت في يد الغائب، فلهذه التهمة لم يكتف بإقرار المدعى عليه أن العقار في يده، وشرطنا شهادة الشهود على كون الدار في يده. فأما في المنقول لا تتأتى هذه التهمة فيه؛ لأن المنقول إن كان مستهلكاً فأقر المدعى عليه بالاستهلاك أو بالهلاك كان الدعوى واقعاً في الدين، وقد أقر المدعى عليه بذلك، وإقرار الإنسان على نفسه بالضمان صحيح، فلا حاجة إلى الشهادة أنها في يده، وإن كان قائماً لابد من الإحضار لتصحيح الدعوى والشهادة، وعند الإحضار يعرف القاضي معاينة أنه في يد المدعى عليه فلا حاجة إلى الشهادة على ذلك، فهذا هو الفرق. وقد ذكر في كتاب «الأقضية» عقيب المسألة التي مرّ ذكرها من قبل هذا بمسألتين، ويجوز القضاء بالملك، وإن لم يشهد الشهود على يد المدعى عليه مع أنه وضع المسألة في الدار فقال: ما ذكر الخصاف قوله، وبه أخذ بعض المشايخ، وما ذكر في «الأقضية» قول محمد وبه أخذ بعض المشايخ، وقيل: في المسألة روايتان، والفتوى على أنه لابد أن يشهد الشهود على يد المدعى عليه في العقار، ثم على ما ذكره الخصاف، وإذا شهدوا أنها في يده أو عن معاينة، حكي عن القاضي الإمام الخليل بن أحمد أن القاضي يسألهم عن ذلك وهو الصحيح، لأنهم ربما سمعوا إقراره أنها في يده، فظنوا أن ذلك يطلق لهم أداء الشهادة على يده عليها، وإنه موضع اشتباه فقد اشتبه على كثير من الفقهاء اشتراط إقامة البينة لإثبات يده، فما لم يعاينوا يد المدعى عليه لا يحل لهم أداء الشهادة على أنها في يده، فلهذا وجب السؤال. قال القاضي رحمه الله هذا هكذا إذا شهدوا على البيع والتسليم، فالقاضي يسألهم أيشهدون على التسليم بإقرار البائع أو عن معاينة البيع، والتسليم كانت شهادة بملك البائع يوم البيع فوجب السؤال إزالة لهذه الشبهة، ولو أن الشهود لم يشهدوا أن هذه الدار في يد المدعى عليه فقال المدعي: أنا آتي بشاهدين آخرين يشهدان أن هذه الدار في يد المدعى

عليه، فإن القاضي يقبل ذلك منه؛ لأن الحاجة إلى معرفة ملك المدعي في الدار ليمكن القضاء به للمدعي وإلى معرفة يد المدعى عليه لينتصب خصماً للمدعي لإثبات دعواه، فلا فرق بين أن يثبت الأمرين بشهادة فريقين أو بشهادة فريق واحد، هذا كما في شاهدين شهدا بملك المحدود وشهد آخر له بحدود المحدود فالقاضي يقبل شهادة الفريقين جميعاً ولم يقع الفرق بينما إذا ثبت ملك المحدود، والحدود بشهادة فريق واحد أو بشهادة فريقين كذا ههنا. قال محمد رحمه الله في دعوى الأصل: وإذا اختصم الرجلان في عبد وكل واحد منهما يقول: هو عبدي وهو في أيديهما فإن كان العبد صغيراً لا يعبر عن نفسه فالقاضي لا يقضي لواحد منهما بالملك ما لم يقم البينة ولكن (193أ4) يجعله في أيديهما، وهذا لأن الصغير الذي لا يعبر عن نفسه والبهيمة سواء، ولو كان في أيديهما بهيمة وكل واحد منهما يدعي أنها له، فالقاضي لا يقضي لواحد منهما بالملك فيها، وما لم يعرف القاضي لا يقضي به إلا ببينة، ولكن يجعله في أيديهما؛ لأنه عرف يدهما عليه كذا ههنا، وإن كان الغلام كبيراً يتكلم أو صغيراً يعبر عن نفسه فقال: أنا حر فالقول قوله ولا يقضي القاضي لهما بشيء إلا بالملك، ولا باليد ما لم يقيما البينة على ذلك، ولو قال: أنا عبد أحدهما لم يصدق وهو عبدهما؛ لأنه أقر بالرق فقد ثبت ردهما عليه حقيقة وحكماً، لأن يد الحر ثبت على الرقيق، فهو بقوله: أنا عبد أحدهما يريد إبطال اليد الثانية عليه لأحدهما حقيقة وحكماً، فلا يقدر عليه بخلاف ما إذا قال أنا حر الأصل؛ لأنه أنكر ثبوت اليد على نفسه فاليد لا تثبت للحر على الحر فكان القول قوله، أما ههنا فبخلافه. وكذلك إذا كان العبد في يدي رجل فأقر أنه لآخر لم يصدق، والقول قول صاحب اليد ثم شرط في «الكتاب» أن يكون الغلام كبيراً يتكلم، وربما يقول في بعض النسخ إذا كان يعبر عن نفس، وإنما الشرط أن يتكلم ويعقل ما يقول، فإذا كان بهذه الصفة يرجع إلى قوله، وإذا كان العبد في يد رجل وهو لا يعبر عن نفسه قال لصاحب اليد: إنه عبدي فالقول قوله ويقضي له بالملك، فإن كبر الغلام وقال: أنا حر الأصل لا يصدق إلا بحجة؛ لأنه يريد إبطال ملكٍ جرى القضاء به. وكذلك إذا قال: أنا لقيط فهذا كقوله: أنا حر فإن أقام ذو اليد بينة أنه عبده، وأقام العبد بينة أنه حر الأصل، فبينة العبد أولى. ذكر في «السير» : رجل من أهل الحرب دخل دار الإسلام بأمان وخرج معه مسلم، وفي أيديهما بغل عليه مال كثير، كل واحد منهما يقول: هو ملكي وفي يدي، وقامت بينة من المسلمين أن البغل وما عليه للمسلم أو للمستأمن، فإنه يقضي به للذي شهد الشهود له، كما لو وقعت مثل هذه المنازعة بين المسلمين أو بين الذميين، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وبهذه المسألة ظهر خطأ بعض مشايخنا فيما إذا قال: كل واحد من المتداعين مالي وملكي، إن القاضي لا يلتفت إلى هذه الخصومة ويقول: إذا كان ملكك وفي يدك ماذا تطلب مني، فقد نص ههنا على سماع الدعوى حتى قال بقبول البينة.

والوجه في ذلك: أنه يحتاج إلى دفع منازعة الآخر والبينة لهذا المقصود مقبولة، وإذا قال له القاضي: ماذا تطلب مني، يقول للقاضي: أطلب منك أن تمنع هذا من منازعتي، وتقرر هذا الشيء في يدي. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد في أجمة أو غيضة تنازع فيها فريقان، كل فريق يدعي أنها له وفي يديه، فشهد الشهود لأحد الفريقين أنها في يديه، أو شهدوا لهما أنهما في أيديهما، فإن لم يسألهم القاضي عن تفسير ذلك ولم يزيدوه فهو مستقيم، وإن سألهم عن تفسير ذلك فهو أوثق وأحسن، وهذا لأن اليد على الأجمة والغيضة إنما ثبت بالدليل، وعسى يرى الشاهد شيئاً يظنه دليلاً على اليد، ولا يكون كما ظن فإن سأله ليزول الاشتباه فهو أحسن، وإن لم يسأله واكتفى بما قالوا فله ذلك، لأن السؤال عسى يقضي إلى بطلان الشهادة مع كون الشهادة حقاً، وهو نظير ما لو شهد الشهود بالملك المطلق، أو شهدوا بالدين المطلق، وقضى القاضي بشهادتهم من غير أن يسألهم عن بيان السبب جاز كذا ههنا. ثم بين ما يعرف به الدليل على الغيضة والأجمة، فقال في الغيضة: إذا كان يقطع الأشجار منها ويبيعها أو ينتفع بها منفعة تقرب من هذا أو أشباهه يستدل به على أنها في يده، وقال في الأجمة: إذا كان يقطع القصب ويأخذها للصرف إلى حاجة نفسه أو للبيع أو ما أشبهه يستدل به على اليد الذي هو دليل الملك، وهذا لأن اليد الذي هو دليل الملك هو القدرة على التصرفات التي تختص بالملك، ومعناه الانتفاع المطلوب من العين وهذا لأن الملك لا يراد لعينه، وإنما يراد الانتفاع بالعين، فإذا شاهدنا قدرته على الانتفاع المطلوب من اليد من غير منازع، علمنا أن اليد التي هي دليل الملك ثابت في حقه قلنا: والانتفاع المطلوب من الأجمة والغيضة الحطب والحشيش والقصب لا الزراعة والسكنى، فإذا شاهدناه يقطع الشجر والقصب وينتفع بها بيعاً وغير ذلك من غير منازع، فقد علمنا باليد التي هي دليل الملك فيقضى له بالملك. وفي كتاب «الأقضية» : وإذا تنازع الرجلان في دار وكل واحدٍ منهما يدعي أنه في يديه فأقام أحدهم بينة أنهم رأوا دوابه وغلمانه يدخلونها ويخرجون منها، فالقاضي لا يقضي باليد للذي شهد الشهود بما وصفنا له، حتى يقولوا كانوا سكاناً فيها، فإذا قالوا ذلك قضيت بأنها في يد صاحب الغلمان والدواب، وهذا لما ذكرنا أن العبرة للقدرة على المطلوب بين العين والدار، لا يتخذ لدخول الغلمان وخروجهم ولربط الدواب فيها، وإنما يتخذ للسكنى فيها، فما لم يشهدوا على ذلك لم يشهدوا باليد عليها يداً هي دليل الملك. قال في «القدوري» : وإذا تنازع رجلان في دابة وأحدهما راكب في السرج قضي بينهما، ولو كان أحدهما يقود الدابة والآخر يسوقها قضي بالدابة للقائد يداً، فإنه ممسك بلجام الدابة، والسائق لا يد له إذا لم يكن راكباً. فإن قيل: إن لم يكن للسائق يداً للدابة فهو مستعمل لها بالسوق، وكما أن اليد دليل

الملك فالاستعمال دليل الملك أيضاً. قلنا: الاستعمال إنما يكون دليلاً على الملك إذا كان استعمالاً يختص به المالك في الغالب ومعناه أن لا يوجد ذلك غالباً إلا من المالك، أما إذا كان يوجد من المالك وغيره فهذا لا يدل على الملك، وسوق الدابة كما يكون من المالك يكون من غير المالك، فلا يكون دليلاً على الملك، ذكر هذه المسألة في «السير» في أبواب الإيمان، ولم يذكر ثمة ما إذا كان أحدهما ممسكاً بلجام الدابة والمتعلق بذنبها. قال مشايخنا: وينبغي أن يقضي للذي هو ممسك بلجامها؛ لأنه لا يتعلق باللجام غالباً إلا المالك، وكما يتعلق بالذنب المالك يتعلق به غير المالك، فكان الإمساك باللجام أدل على الملك. قال في «الجامع» : بساط عليه رجل جالس ورجل آخر متعلق به وكل واحد منهما يدعي أن البساط له، فإنه يقضي بالبساط بينهما نصفان، فرق بين هذا وبين دار فيها رجلان قاعدان، وكل واحد منهما يدعيها لنفسه فإنه لا يقضي بينهما، وذكر مسألة البساط في «القدوري» وقال: يترك البساط في أيديهما بينهما نصفان يريد به لا على طريق القضاء؛ لأن القعود على البساط ليس بيد على البساط كالتعلق به، فاستويا فيه ثم الفرق بين البساط والدار على ما ذكرنا في «الجامع» أن في الدار ما قضينا بينهما نصفان؛ لأن الجلوس والتعلق دليل اليد؛ لأنه كما علم أن البساط في أيديهما، علم أنه ليس في يد الثالث؛ لأن اليد على البساط لا يثبت إلا بأحد الطريقين: إما بإثبات اليد عليه حساباً بالنقل والتحويل، أو فعل يقصد به النقل والتحويل، وإما بكونه في يده حكماً بأن كان في بيته ولم يوجد شيء من ذلك في البساط، فإن يراه موضوعاً على قارعة الطريق، وإذا علم أنه ليس في يد غيرهما ولا في أيديهما وهما مدعيان، يقضي بينهما لاستوائهما في الدعوى. وفي الدار: إن علم أنه ليس في أيديهما لما أن الجلوس فيها لا يدل على اليد لم يعلم أنه ليس في يد غيرهما؛ لأن اليد على الدار إنما تكون بالسكنى وبالإحطاط؛ لأن الدار بعد في مكانه الذي ثبت فيها يد المحيط عليها، لم يتحول عن ذلك المكان إلى مكان (193ب4) آخر فتكون يد المحيط ثابتة على الدار حكماً؛ لأنه جهل صاحب اليد والقاضي إنما يقضي بما وقع فيه الدعوى بين المدعيين بحكم الدعوى، إذا علم أنّ المدعى عليه ليس في يد غيرهما ولم ينتصب هذا العلم في العقار، ويثبت في المنقول وفي شرح «الجامع» جعل دليل اليد في النقليات فعلاً لا يتصور ثبوته بدون النقل، كاللبس والحمل المثقل يحصل عادة للنقل كالركوب في الدواب، وفي غير النقليات جعل دليل اليد فعلاً يوجد من الملاك في الغالب، كالسكنى في الدار وغير ذلك وما ليس بدليل اليد في النقليات فعل يتأتّى بدون النّقل ولا يحصل في الغالب النقل كالجلوس على البساط وما ليس بدليل اليد في غير النقليات، فعل يوجد من غير الملاك كالجلوس والنوم في الدار وأشباه ذلك، فقد ذكرنا هذه الجملة مع مسائلها في كتاب الشهادات.

سئل الشيخ القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي عن ضياع في يدي رجل أثبت رجل آخر يده عليها بطريق التغلب، فأقام الذي كانت الضّياع في يده بيّنةً على التغلب أن الضياع ملكه، وإنه أخذه من يده بطريق التغلّب، قال: قبلت بينته وقضي بالضّياع له وانتزع من يد المتغلب وسلم إليه ولو لم يكن بينة وأراد تحليف المتغلب بالله ما كان هذا الضّياع في يد هذا المدّعي، وما أخذت منه بطريق التغلب قال: له ذلك. وكذلك لو ادعى على المتغلب إقراره أنه كان في يده، وأراد أن يحلفه على ذلك قال: له ذلك، فظن بعض مشايخنا أن التحليف في هذه الصورة نوع نظر؛ لأن التحليف لرجاء النكول الذي هو الإقرار واليد على العقار لا يثبت بمجرد الإقرار، فلا يكون في التّحليف فائدة، وليس الأمر كما ظنّوا؛ لأن تحليف المتغلب ههنا ليس لأجل إثبات كون الضياع في يده؛ لأن ذلك ثابت باتفاق المدعي والمتغلب، وإنما التّحليف لأجل إثبات التغلب والأخذ من جهته، وأخذ العقار والتّغلب عليه مما يثبت بالإقرار، ألا ترى أنه يصح الإقرار بغصب العقار والغصب ليس إلا الأخذ بطريق التّغلب. وسئل هو أيضاً عن رجل ادّعى على آخر أنّ هذا المحدود الذي في يد هذا كان في يديّ منذ عشر سنين، وأنّ هذا الرجل أحدث يده عليها وأقام على ذلك بينة، قال: يأمر القاضي المدعى عليه مقضياً عليه حتى لو أتى بالحجة قبلت بينته، ولو أن المدعى عليه أقام بينة أن هذا المحدود كان في يده منذ عشرين سنة، وأنّ هذا المدعي أحدث يده عليها هل تقبل بينته؟ فقد قيل: ينبغي أن لا تقبل وقد قيل: ينبغي أن تقبل وتترك العين في يد المدّعى عليه، ويكون هذا من باب العمل بالبينتين.l ذكر في «المأذون» أجير الخياط مع الخياط إذا ادعيا متاعاً في يدي الأجير، فإن كان المتاع والأجير في دار الخياط أو حانوته، فالقول قول الخياط وإن كانا في دار الأجير، أو في السكة فالقول قول الأجير. وفي «القدوري» : لو أن خياطاً يخيط في دار رجل تنازعا في الثوب، فالقول قول صاحب الدار، وفيه أيضاً لو خرج من دار رجل وعلى عاتقه متاع، فإن كان هذا الرجل الذي على عاتقه هذا المتاع يعرف ببيعه وحمله فهو له، وإن لم يعرف بذلك فهو لرب الدار، وهكذا روى ابراهيم عن محمد. وفي «القدوري» أيضاً: في حمال عليه كارة في دار بزاز اختلفا في الكارة، فإن كان من حمال البز والكارة مما يحمل فالقول قول البزاز، وإلا فالقول قول الحمال. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل دخل في دار فوجد معه مال، فقال رب الدار: هذا مالي أخذته من منزلي، قال أبو حنيفة رحمه الله: القول قول رب الدار، ولا يصدق الداخل في شيء، ما خلا ثيابه التي عليه إن كانت الثياب مما يلبس، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن كان الداخل يعرف بصناعة شيء من الأشياء بأن كان حمالاً يحمل ... الزيت فدخل وعلى رقبته..... زق وزيت، لو

كان ممن يبيع الجبن ويطوف بالمتاع في الأسواق فالقول قوله، ولا أصدق رب الأرض عليه. رجل أجر عبده من قصّار أو خيّاط ثم لقي مولى العبد عبده في الطريق ومعه متاع، فزعم أنه له وقال المستأجر: هو لي، فالقول قول المستأجر، وإن لم يكن من صناعة المستأجر، فالقول قول رب العبد، فإن كانا في منزل المستأجر فالقول قول المستأجر في الوجهين جميعاً. وفي «نوادر المعلى» عن أبي يوسف: رجل اصطاد طائراً في دار رجل، فإن اتفقا على أنه على أصل الإباحة فهو للصائد، وإن قال رب الدار كنت اصطدته قبلك، أو ورثته وأنكر الصائد، فإن كان أخذه من شجر الدار وغير ذلك فالقول قول رب الدار، قال أبو الفضل رحمه الله: هذا خلاف جواب الأصل، وعنه أيضاً: في رجل يقود قطاراً من الإبل، وعلى بعير منها رجل راكب، فادعى القائد والراكب...... البعير فللراكب البعير الذي عليه والباقي للقائد. وفي «المنتقى» : قطار بعير على أول بعير منها راكب، وعلى بعير في وسطها راكب، وعلى بعير في آخرها راكب، والراكب الثاني سابق هكذا ذكر في بعض النسخ أن الراكب الثاني سابق، وادعى كل واحد من الراكبين أن الإبل كله له وأقاموا البينة على ما ادعوا، ذكر أن البعير الذي عليه الأول بين الأوسط والآخر نصفان، والبعير الذي عليه الأوسط بين الأول والآخر نصفان، والبعير الذي عليه الآخر بين الأول والأوسط نصفان، والإبل الذي ما بين الآخر إلى الأوسط للآخر نصفها، والنصف الآخر بين الأول والأوسط نصفان، ذكر هذه المسألة في موضع آخر بعينها ولم يقع في شيء من النسخ ثمة أن الراكب الثاني سابق كما وقع في بعض النسخ ههنا، وأجاب ثمة أن كل بعير عليه راكب فهو لراكبه خاصة، وما بين البعير الأول إلى البعير الأوسط الذي عليه الراكب فهو كله للأول؛ لأن الأول قائدها والأوسط سابق، فلا شيء له منها، وما بين البعير الأوسط إلى الآخر فهو بين الأول والأوسط نصفان؛ لأن الأوسط قائدها كالأول، وما ذكر في موضع آخر من الجواب جواب ما إذا لم يقم لواحد منهم بينة. فإن أقام كل واحد بينة أن البعير كلها له، فالبعير الذي عليه الأول بين الأوسط والآخر نصفان؛ لأنهما فيه خارجان وراكبه ذو اليد فرجحت بينتهما على بينته، والبعير الذي عليه الأوسط بين الأول والآخر نصفان، والبعير الذي عليه الأخير بين الأول والأوسط لما ذكرنا في البعير الأول، والبعير الذي بين الأول والأوسط فهو بين الأوسط والآخر نصفان؛ لأن الأول فيها ذو اليد وهما خارجان، والذي بين الأوسط والآخر فللآخر نصفها والنصف الآخر بين الأول والأوسط نصفان؛ لأن الآخر فيها خارج والأول في نصفها، ذو اليد وفي نصفها خارج والأوسط كذلك؛ لأنها في أيديهما فكان

في يد كل واحد منهما نصفها، فكانا مع الآخر كخارجين فيكون النصف لهما، والنصف للآخر ثم النصف الذي كان للأوسط والأول فكل واحد منهما خارج فيما في يد صاحبه، فكانت بينته في ذلك. وقال أبو يوسف رحمه الله: في رجل يقود غنماً أو بقراً، ورجل آخر يسوقها، فادعى القائد والسائق ذلك كله، قال إن كان القائد والسائق أمرهما مشكلاً لا يعرفان فذلك كله للسائق، وليس للقائد منها شيء إلا أن يكون يقودها شياه، فيكون له الشاة وحدها. وقال في سفينة ادعاها رجل هو راكبها، ورجل ممسك سكافها، ورجل يجدف فيها ورجل يمدها، فالسفينة بين راكبها ومن تمسك بسكافها الذي يجدف فيها ولا شيء للذي يمدها. وعن محمد في عبد لرجل موسر في بيت رجل معسر ليس في بيته إلا.... ملقى وفي عنق العبد بدرة فيها عشرة آلاف درهم فادعى كل واحد منهما البدرة، والبدرة للذي عرف باليسار. وفي المزارعة الصغيرة: إذا دفع إلى خياط ثوباً ليخيط ثم اختلفا بعدما صار الثوب مخيطاً فقال رب الثوب: أنا خطته، وقال الخياط: أنا خطته، فإن كان الثوب في يد الخياط فالقول قول الخياط، وله الأجر وإن كان الثوب في يد رب الثوب، فالقول قول صاحب الثوب، وإن كان الثوب في أيديهما، فالقول قول الخياط وعلى صاحب الثوب الأجر. وفي (194أ4) «فتاوى أبي الليث» : رجل دفع إلى قصار أربع ثياب ليقصرها فقصرها وقال لرب الثوب: ابعث إلي من يقبض الثياب، فدفع القصار الثياب إلى من بعث فجاء بها إلى رب الثوب، فإذا هي ثلاثة، فقال القصار: دفعت إليه أربعة، وقال: الرسول دفع إلي ولم يعده فقال لرب الثوب: صدق، إنها سبب فإن هما صدقه برئ عن الخصومة، وإن هما كذبه حلفه، فإن حلف برء عن الخصومة، وإن نكل لزمه ما ادعاه فإن صدق القصار لزمه، وإن كذب القصار وحلف فللقصار على صاحب الثوب اليمين على الآخر، فإن حلف برئ عن أجر الثوب الرابع. كذا قاله أبو بكر رحمه الله. ادعى داراً في يد إنسان أنها ملكه وأن أباه باعها منه في حال بلوغه بغير رضاه، وقال صاحب اليد: إن أباك باعها مني في حال صغرك، فالقول قول الابن؛ لأنه ينكر زوال ملكه، وإن أقام صاحب اليد بينة إن أباك باعها في حالة الصغر بثمن المثل، قبلت بينته واندفع عنه خصومة الابن، وإن أقام صاحب اليد بينة أنه باعها في حال صغرك بثمن المثل وأقام الابن بينة أنه باعها بعد بلوغي بغير رضائي يجب أن تكون البينة بينة صاحب اليد لأنها هي المثبتة.

بشر عن أبي يوسف قال: قال أبو حنيفة رحمه الله: امرأة أقرت بعد وفاة زوجها أنه كان طلقها ثلاثاً في مرض موته، وأنه لم تنقض عدتها حتى مات، وقالت الورثة: طلقك في حالة الصحة فالقول قول المرأة، والمسألة في كتاب الطلاق، وإنما أوردنا ههنا لزيادة تفريع لم يذكرها ثمة، فقال: لو أقاموا بينة ووقتوا وقتاً واحداً وشهدت بينة الورثة أنه كان صحيحاً يومئذ، أخذت ببينة الورثة. وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن رجل في يديه ثوب قال له رجل: بعتك هذا الثوب بخمسين درهماً وقال صاحب اليد: وهبته لي فالقول قوله، ولا يلزمه الخمسون. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل اشترى من رجل عبداً وقبضه ونقده الثمن ثم أقر بعد ذلك بالعبد للبائع فقال: هذا العبد لفلان فأراد البائع أن يقبضه، وقال: العبد عبدي، فقال المقر: أنا بعتك العبد بألف درهم فالقول قوله، قال: من قبل أن العبد وصل إلى المقر من قبل المقر له فيكون القول فيه قول المقر، قال: ولا يشبه هذا إقرار الرجل بعبد في يديه لرجل لم يصل ذلك العبد إلى المقر من قبل المقر له. قال: وكذلك رجل أقر بعبد لرجل أمس، وأقر المقر له بالعبد اليوم للمقر الأول، فقال المقر له الثاني: العبد عبدي، وقال المقر الثاني: إنما أقررت بذلك، لأني بعته منك وإنما وصل إلي من قبلك، فالقول قوله ولا يأخذه إلا بالثمن، وإذا ادعى على آخر عرصة كذا بالميراث، وقضى القاضي للمدعي بالعرصة ببينة أقامها، ثم اختلف المقضي له بالعرصة والمقضي عليه بالعرصة في الأشجار والسكنى، ولا بينة لواحد منهما، فقيل: القول قول المقضي عليه بالعرصة؛ لأنه صاحب يد في الأشجار والسكنى حقيقة، وقيل: القول قول المقضي له بالعرصة؛ لأنهما اختلفا فيما هو متصل بملك المقضي له، وهو الأرض فيكون صاحب اليد فيما اختلفا هو المقضي له بالعرصة. أقر الرجل لوارثه بشيء ومات المقر، ثم اختلف المقر له وباقي الورثة، فقال المقر له: أقر في حالة الصحة وقال باقي الورثة: أقر في حالة المرض فالقول قول باقي الورثة؛ لأن الاستحقاق يقع عليهم، وإن أقاما البينة فالبينة بينة المقر له، فإن لم يكن للمقر له بينة وأراد استحلاف باقي الورثة فله ذلك. أشار إلى هذه الفصول في أول وصايا «الجامع الصغير» في باب اعتبار حال الوصية. فقال: مريض أوصى لرجل بوصية ومات، واتفق الوارث والموصى له أنه قد كان أعتق هذا العبد فقال الوارث أعتقه في المرض وقال الموصى له: أعتقه في الصحة فالقول قول الورثة إلى تمام المسألة. رجل مات وترك ابنة وأخاً ومتاعاً فقالت البنت: المتاع كله لي، وقد كان اشتراه الأب لي من مالي بأمري، والأخ يقول: الأمتعة كلها للميت فالقول قول الأخ؛ لأن البنت تدعي وكالة الأب في الشراء والأخ ينكر، ألا ترى أنه لو كان الأب حياً وقع الاختلاف بينه وبين البنت في الأمتعة؟ فقالت البنت: كنت وكيلي في شراء هذه الأمتعة،

والأب ينكر ذلك كان القول قوله، والمعنى في ذلك: أن الأصل يصرف الإنسان لنفسه، فالأب بإنكار الوكالة متمسك بما هو الأصل، فكان القول قوله فكذا ههنا. رجل ادعى على آخر أنه كان لفلان عليك كذا وكذا، وقد مات فلان، وصار ماله عليك ميراثاً لي، وقال المدعى عليه: أنا أوفيته هذا المال المدعى، وذهب ليأتي بالبينة فلم يأت ثم إن المدعي أعاد دعواه ثانياً في مجلس آخر فقال المدعى عليه: لا علم لي ... أبيك سمع ذلك منه. وفي «واقعات الناطفي» : إذا أقام البينة على عبد في يدي رجل أنه كان عبده، وأنه كان في يده منذ سنة حتى اغتصبه هذا الذي هو في يديه، وأقام ذو اليد البينة أنه عبده منذ عشرين سنة، فهو لمن في يديه؛ لأن بينته أسبق تاريخاً. وفي «العيون» : تنازعا في شيء فأقام أحدهما البينة أنه كان في يده منذ شهر، وأقام الآخر بينة أنه في يده الساعة، أقره القاضي في يد مدعي الساعة؛ لأن يد الآخر منقضية واليد المنقضية لا عبرة لها عند أبي حنيفة ومحمد، ولو أقام أحدهما بينة أنه في يده منذ شهر، وأقام الآخر بينة أنه في يده منذ جمعة قضى به لمدعي الجمعة. وفي «العيون» : رجل في يديه أرض لغيره أجرها، وقال رب الأرض للآجر: أجرتها بأمري، وقال الآجر: غصبتها منك، ثم أجرتها فالقول قول رب الأرض، لأن الأصل أن يكون بدل منافع الأعيان لمالك الأعيان، فالآجر بدعوى الغصب أولاً يدعي ذلك لنفسه، ولو بنى فيها ذو اليد ثم أجرها، فقال رب الأرض: أمرتك أن تبني فيها لي وتؤجرها، وقال ذو اليد: غصبتها منك وبنيتها، ثم أجرتها يقسم الآجر على الأرض ببينته وعلى الأرض ثلاثياً، فما أصاب الأرض فهو لصاحب الأرض وما أصاب البناء فهو لذي اليد، لأن القول في البناء لذي اليد إذ الأصل أن يعمل الإنسان لنفسه، فرب الأرض يدعي خلاف ما هو الأصل، ولو قال صاحب الأرض: غصبتها مني ببينة، فالقول قوله وإن أقاما البينة فبينة الغاصب أولى. ولو قال لغيره: غصبت منك ألفاً وربحت فيها عشرة آلاف، وقال المقر له: لا بل أمرتك به فالقول للمقر له، ولو قال المقر له: بل غصبت الألف والعشرة آلاف فالقول للمقر، ولو قال: غصبت منك ثوباً وقطعته وخطته بغير أمرك، وقال المقر له: بل غصبتني القميص أو قال: بل أمرتك بخياطته فالقول للمقر. قال محمد رحمه الله في «الجامع الصغير» : في نهر لرجل إلى جنبه مسناة وأرض لرجل خلف المسناة، متصل بها ادعى صاحب النهر أن المسناة له وادعى صاحب الأرض أن المسناة له، فهذه المسألة على وجهين: إما إن كانت المسناة في يد أحدهما بأن كان غرس أحدهما أو زرع أحدهما عليها، وفي هذا الوجه يقضى بالمسناة لصاحب النهر عند

أبي يوسف ومحمد، وعند أبي حنيفة يقضى بها لصاحب الأرض، هكذا ذكر المسألة في «الكتاب» بعض مشايخنا قالوا: هذا الخلاف فيما إذا كان النهر أعلى يقضى بالمسناة لصاحب النهر؛ لأنه هو المحتاج إلى المسناة وإن كانت الأرض أعلى، يقضى بالمسناة لصاحب الأرض؛ لأنه هو المحتاج إليها إلا أن في «الكتاب» أطلق الجواب إطلاقاً، من مشايخنا من قال: هذه المسألة بناء على مسألة أخرى، أن صاحب النهر هل يستحق حريماً لنهره إذا حفر نهراً في أرض الموات على قولهما يستحق، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يستحق وإذا كان من مذهبهما أن صاحب النهر يستحق الحريم لنهره كانت المسناة في يد صاحب النهر تبعاً للنهر، فيقضى له بحكم اليد، وإذا كان من مذهب أبي حنيفة أن صاحب النهر لا يستحق الحريم، لم تكن المسناة (194ب4) في يد صاحب النهر، وأنها ليست في يد صاحب الأرض أيضاً؛ لأنه لا حريم للأرض بلا خلاف حتى تكون المسناة في يد صاحب الأرض، إلا أن المسناة أشبه بالأرض، لأنها تصلح للزراعة والغراسة كالأرض والنهر يصلح كذلك. والأصل في كل شيء تنازع فيه اثنان وليس هو في يد أحدهما إلا أن في يد أحدهما ما هو أشبه بالشيء المنازع فيه، فإنه يقضى به لمن كان في يده ما هو أشبه به، كما لو تنازعا في إحدى مصراعي باب وهو موضوع على الأرض، والمصراع الآخر معلق على باب أحدهما فإنه يقضى بالموضوع لمن كان المصراع الآخر معلقاً على بابه، إذا كان الموضوع يشبه المعلق كذا ههنا، إن جعلنا المسناة بناءً على مسألة الحريم، وإن جعلناها ابتداءً كما ذهب إليه بعض المشايخ فوجه قولهما في المسألة أن الظاهر: شاهد لصاحب النهر، فإن له عليها يد استعمال فإنها تلقي طينه، ألا ترى أن صاحب الأرض لو أراد أن يمنعه عن إلقاء الطين عليها ليس له ذلك؟ والقول قول من يشهد له الظاهر. وجه قول أبي حنيفة: أن الظاهر في جانب صاحب الأرض أقوى فيكون هو أولى، بيانه: أن الحريم أشبه بالأرض من النهر صورة ومعنى، أما صورة: فإنها مستوياً توازي كل واحد منهما يصلح للزرع والغرس، والنهر لا يصلح لذلك فكان القضاء لصاحب الأرض أولى، كما قلنا في المستأجر ببيع رب الدار إذا اختلفا في لوح وهو يماثل الألواح المركبة، فإنه يقضى به لرب الدار كذا ههنا؛ ولأن يد صاحب الأرض إلى هذا الموضع أسبق، لأن هذا الموضع كان أرضاً في الأصل ثم صار نهراً بعارض، فكان القضاء له أولى. كما لو تنازع اثنان في حائط ولأحدهما اتصال تربيع، والآخر عليه جذوع كان القضاء بالحائط لصاحب الاتصال أولى، لأن يده سابق، وأما إلقاء الطين على المسناة فقد قال بعض مشايخنا: إن لصاحب الأرض أن يمنع صاحب النهر من إلقاء الطين عليها عند أبي حنيفة رحمه الله، والصحيح أنه ليس له ذلك؛ لأن هذا قضاء بالظاهر، فيجب

القضاء على حسب ما ظهر وقد ظهر أن المسناة لصاحب الأرض، ولصاحب النهر حق إلقاء الطين عليه وهو نظير ما قلنا في مسألة الحائط إذا قضي به لصاحب التربيع لا يؤمر صاحب الجذع برفع الجذع، والفقه ما ذكرنا أن الظاهر لا يصلح لإبطال حق الغير على الغريم. ثم ذكر في الكتاب: أن على قولهما يقضى بالمسناة لصاحب النهر، ولم يتعين أنه بأي مقدار يقضى له، وقد اختلف المشايخ فيه: بعضهم قالوا: يجعل له بقدر ما يمر عليه رجل واحد، وعن أبي يوسف في «النوادر» : أنه يمسح بطن النهر فيجعل له من كل جانب مثله. وثمرة الخلاف المذكور في هذه المسألة لا تظهر في هدم المسناة فإن المسناة وإن كانت لصاحب الأرض عند أبي حنيف فليس له هدمها دفعاً للضرر عن صاحب الماء، فإنه لا يتمكن من إجراء الماء فيه بدون المسناة، وإنما تظهر ثمرة الخلاف في شيئين في ولاية الغرس على المسناة، عند أبي حنيفة رحمه الله ولاية الغرس لصاحب الأرض وعندهما لصاحب النهر، والثاني: أنه إذا كان على المسناة أشجار ولا يدري من غرسها، فعلى قول أبي حنيفة: الأشجار لصاحب الأرض، وعندهما لصاحب النهر. ثم إن أبا حنيفة فرق بين المسناة وبينما إذا حفر الرجل في داره بئراً، وهو مما يضر بدار جاره، فإنه لا يمنع عن ذلك، وقال في مسألة المسناة: إذا تصرف صاحب الأرض في المسناة تصرفاً يتضرر به صاحب النهر بعد الهدم يمنع عنه، وفي الموضعين جميعاً حصل متصرفاً في خالص ملكه. والفرق: أن هدم المسناة ليس بانتفاع المثل بالمسناة، لأن الانتفاع بالمسناة الزراعة وغرس الأشجار لا الهدم، ومن انتفع بملكه انتفاعاً لا ينتفع بمثله عن ذلك وإذا تعدى إلى ملك الغير صار ضامناً كما لو سقى أرض نفسه سقياً غير معتاد، فأما إذا حفر البئر في داره انتفع بالدار انتفاع مثله، ومن انتفع بملكه انتفاع مثله لا يمنع عنه، وما يتولد منه لا يكون مضموناً عليه كما إذا سقى أرض نفسه سقياً معتاداً. بقي ههنا فصل آخر، أن صاحب الأرض إذا أراد أن يمنع صاحب النهر عن المرور على المسناة، هل له ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله؟ بعض مشايخنا قال: ليس له ذلك، وبعضهم قالوا: له ذلك إذا لم يكن فيه ظاهر ضرر وهو الأشبه والله أعلم. هذا الفصل يشمل على أنواع أيضا الأول: في دعوى الخارج مع ذي اليد: قال محمد رحمه الله في «الأصل:» إذا ادعى الرجل دابة في يد إنسان أنها ملكه

تحت عبده، وأقام عليه البينة وأقام صاحب اليد بينة بمثل ذلك، القياس: أن يقضى بها للخارج، وفي الاستحسان: يقضى بها لصاحب اليد، سواء أقام صاحب اليد البينة على دعواه قبل القضاء بها للخارج أو بعده، وجه القياس في ذلك: أن بينة الخارج أكثر استحقاقاً من بينة ذي اليد؛ لأن الخارج ببينته، كما يثبت استحقاق أولية الملك بالنتاج يثبت استحقاق الملك الثابت لذي اليد بظاهر يده، وذو اليد ببينته لا يثبت استحقاق الملك الثابت الخارج بوجه ما، فهو معنى قولنا: إن بينة الخارج أكثر استحقاقاً فكانت أولى بالقبول كما في دعوى الملك المطلق. وجه الاستحسان: حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّمقضى في عين هذه الصورة لصاحب اليد، والمعنى في المسألة: أن صاحب اليد سبباً أيضاً بيانه: أن الخارج يدعي أولية الملك لنفسه بسبب النتاج لا يحتمل التملك على ذي اليد بوجه ما؛ لأن بعدما ثبت الملك لذي اليد بسبب النتاج لا يتصور أن يصير للخارج بسبب النتاج لأن النتاج، مما لا يتكرر، فلا يمكننا أن نجعل ما يستحقه الخارج من الملك الثابت لذي اليد بظاهر اليد استحقاقاً على ذي اليد، بل يكون بياناً أنه كان للخارج من الأصل لا أنه لذي اليد ثم صار للخارج بخلاف دعوى الملك المطلق؛ لأن دعوى الملك المطلق أن يقول هذا لي، وقوله: كما يحتمل أن يكون له من الأصل، يحتمل أن يكون له من جهة صاحب اليد، ولهذا يستقيم التصريح به يستقم أن يقال هذا لي لأني تملكته من جهة المدعي، فأمكننا أن نجعل ما يستحقه الخارج من الملك الثابت لذي اليد بظاهر اليد استحقاقاً على ذي اليد فجعلناه كذلك في حق ترجيح بينة الخارج على بينة ذي اليد إن لم يجعله، كذلك في حق الحكم، فإن دعوى مطلق الملك جعل دعوى أولية الملك حكماً حتى يظهر ذلك في حق استحقاق الولد. وعن هذا قلنا: إن في فصل النتاج لو تفرد الخارج بإقامة البينة، وقضى له ثم أقام صاحب اليد البينة على النتاج، تقبل بينته ويقضى له بالبداية، لأن الخارج ببينته لم يستحق على ذي اليد شيئاً، فلم يصر ذو اليد مقضياً عليه فتسمع بينته كما تسمع بينة أجنبي آخر، وفي دعوى الملك المطلق، لو تفرد الخارج بإقامة البينة وقضى له ثم أقام صاحب اليد بينة أنه لا تسمع بينته؛ لأن الخارج ببينته يستحق على ذي اليد الملك الثابت له بظاهر يده فصار ذو اليد مقضياً عليه، فلا تسمع بينته بعد ذلك. هذا هو الحرف المعتمد الموروث من استنادي في الفرق بين فصل النتاج وبين فصل الملك المطلق، فإن قيل: ما ذكرتم من العلة في فصل النتاج يشكل بما إذا ادعى الخارج ملكاً مطلقاً وادعى ذو اليد للنتاج وأقاما البينة، فإن في هذه الصورة بينة ذو اليد أولى، وفي بينة الخارج ههنا زيادة استحقاق على ذي اليد، قلنا: نعم في بينة الخارج زيادة استحقاق على ذي اليد في هذه (195أ4) الصورة، إلا أن في بينة ذي اليد سبق التاريخ، لأنها تثبت أولية الملك على وجه لا يحتمل التملك من جهة الغير، فكان ذو

اليد أسبقهما تاريخاً، فإنما قضي لذي اليد أسبقهما تاريخاً، فإنما قضي لذي اليد في هذه الصورة.f لهذا ألا ترى أنهما لو ادعيا ملكاً مطلقاً وأرخا، وذو اليد أسبقهما تاريخاً يقضى لذي اليد؟ وإن كان في بينة الخارج زيادة استحقاق على ذي اليد، لهذا إن أسبقهما تاريخاً ذو اليد ثم اختلف المشايخ بعد ذلك أن القضاء لذي اليد في هذه الصورة قضاء ترك أو قضاء استحقاق، قال عيسى بن أبان رحمه الله: إنه قضاء ترك حتى يحلف ذو اليد للخارج؛ لأن البينتان تهاترا، لأن القاضي تيقن بكذب أحدهما على وجه لا يجد لذلك محملاً؛ لأن المطلق لأداء الشهادة على النتاج معاينة الولادة لا ظاهر اليد ولا يعرف الملاك ولا التسامح، وولادة دابة واحدة من دابتين أو دابة واحدة من أن لا يصور لها وفي مثل هذا تتهاتر البينتان كما في مسألة الكوفة ومكة وأدائها ترتب البينتان، صار كأنهما لم يقيما البينة ولو لم يقيما البينة، يقضى لذي اليد قضاء ترك، بعدما يستحلف للخارج ويحلف كذا ههنا وعلى قياس ما ذكره عيسى يجب أن لا تقبل بينة الخارجين على النتاج، وكذلك يجب أن لا تقبل بينة ذي اليد على النتاج إذا أقامها بعد القضاء للخارج، كما في مسألة الكوفة ومكة، متى قضي بشهادة أحد الفريقين لا تسمع شهادة الفريق الآخر بعد ذلك، وقال عامة المشايخ: قضاء استحقاق حتى لا يحلف ذو اليد للخارج. ووجه ذلك: أن القاضي وإن تيقن بكذب إحدى البينتين إلا أنه يجد لكل بينة محملاً، يطلق لها أداء الشهادة بالنتاج بأن عاين إحدى البينتين نفس الولادة في يد الغاصب ودار الغاصب، فيه يتصرف الملاك، إلا أنها لم يعلمه غاصباً فيحل لهم أداء الشهادة للغاصب بناء على ذلك، والبينة الأخرى علمت حقيقة الحال وكون اليد في يديه الدابة غاصباً، فيحل لهم أداء الشهادة للمغصوب منه بالنتاج بناء على ذلك، أو عاين إحدى البينتين الولادة من دابة زيد، والبينة الأخرى عاينت اتباع هذا الولد دابة عمرو والارتضاع منها، وإذا وجد القاضي لشهادة كل فريق محلاً يطلق له الشهادة، كانت الشهادة على النتاج من الخارجين والشهادة على مطلق الملك من الخارجين سواء وهناك لا تتهاتر البينتان. وإن تيقن القاضي بكذب إحدى البينتين؛ لأن العين الواحد لا يتصور أن يكون مملوكاً لشخصين في زمان لكل واحد منهما وكماله لهذا إن للقاضي وجد لكل فريق محلاً يطلق له أداء الشهادة، بأن عاين أحد الفريقين أحد الخصمين باشر سبب الملك، وعاين الفريق الآخر الخصم تصرف فيه تصرف الملاك، كذا ههنا بخلاف المسألة الكوفة ومكة؛ لأن هناك القاضي تيقن بكذب إحدى البينتين، على وجه لا يجد لها محلاً يطلق له أداء الشهادة؛ لأن المطلق للشهادة بالطلاق والعتاق معاينة الشهود إيقاع الطلاق والعتاق، لا طريق لأداء الشهادة هناك غير هذه، ولا يتصور سماع الفريقين إيقاع الطلاق والعتاق في يوم واحد من شخص واحد بكوفة ومكة؛ لأن الشخص الواحد على ما عليه العادة لا يتصور أن يكون في يوم واحد بالكوفة ومكة، فتهاترت البينتان.

أما ههنا بخلافه: هذا إذا لم يؤرخا، أو أرخا قضي لصاحب اليد إلا إذا كان سن الدابة مخالفاً لوقت صاحب اليد موافقاً لوقت الخارج، فحينئذ يقضي للخارج وإن كان سن الدابة مخالفاً للوقتين، لم يذكر هذا الفصل في الأصل في الدابة، وعامة المشايخ على أنه تتهاتر البينتان وتترك الدابة في يد صاحب اليد قضاء ترك. وهكذا ذكر القدوري في «شرحه» وذكر محمد رحمه الله في «الأصل» في آخر دعوى النتاج: عبد في يدي رجل أقام بينة أنه عبده ولد في ملكه، ووقت لذلك وقتاً، وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك، والعبد من الوقتين أكبر وأصغر تتهاتر البينتان، فتصير مسألة العبد رواية مسألة الدابة، إذا كان سنُّه على خلاف الوقتين إنه تتهاتر البينتان. ومما يتصل بهذا النوع إذا ادعى الخارج فعلاً مع النتاج، أو ادعى كل واحد منهما فعلاً مع النتاج صورته: فيما إذا كان دعوى الفعل مع النتاج من جهة الخارج، ما ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» في باب دعوى العتق: عبد في يدي رجل، أقام رجل البينة أنه ولد في ملكه وأنه أعتقه أو دبره، وأقام الذي في يديه بينة أنه عبده ولد في ملكه، قضي للخارج، وإن ادعيا النتاج؛ لأن في دعوى النتاج بدون دعوى الفعل من الخارج إنما بينة ذي اليد كان أولى، لأن البينتان استويا في الإثبات فيما وقع فيه الدعوى، فإن كل بينة تثبت أولية الملك لصاحبها، على وجه يمتنع استحقاقها إلا من جهته، فرجحنا بينة صاحب اليد بحكم اليد، وههنا بينة الخارج أكثر إثباتاً فيما وقع فيه الدعوى، لأنها تثبت أولية الملك للخارج على وجه يمتنع استحقاقه أصلاً، لأن الملك بعد العتق يصير بحال لا يستحق أصلاً، وذو اليد ببينته يثبت أولية الملك على وجه يتصور استحقاق ذلك عليه، فكان بينة الخارج أكثر لأنها تثبت أولية الملك للخارج، على وجه يتصور الاستحقاق عليه من جهته، فإن الملك بعد البيع والإجارة، لا يصير بحال لا يتصور استحقاقه عليه، فرجحنا بينة ذي اليد بحكم يده. وبخلاف ما إذا ادعى الخارج العتق مع مطلق الملك، وذو اليد ادعى النتاج، فإن بينة ذي اليد أولى؛ لأن دعوى العتق إنما يعتبر ترجيحاً عند استواء البينتين في إثبات الملك، وما استوت البينتان ههنا في إثبات الملك؛ لأن الخارج يثبت أولية الملك مع الاحتمال، وذو اليد يثبت أولية الملك بلا احتمال. ولو ادعى الخارج التدبير مع النتاج، وادعى صاحب اليد النتاج لا غير، وفي هذا الوجه اختلفت الروايات، ذكر في رواية أبي سليمان أنه يقضي للخارج، وجعله بمنزله العتاق وذكر في رواية أبي حفص أنه يقضي لذي اليد، وجعله بمنزلة الكتابة. وجه رواية أبي حفص: أن التدبير يفيد حق العتق ولهذا لا يجوز إعتاق المدبر عن كفارة يمينه والحق يلحق بالحقيقة فصار دعوى التدبير ودعوى الإعتاق سواء بخلاف الكتابة؛ لأنها لا تفيد حق العتق ولو ادعى الخارج التدبير والاستيلاد مع النتاج، وادعى ذو اليد عتقاً تاماً كان ذو اليد أولى؛ لأن البينتان استويا فيما وقع فيه الدعوى، فرجحنا بينة صاحب اليد بحكم اليد، فكذا إذا ادعى الخارج التدبير أو الاستيلاد، ولو ادعى ذو

اليد التدبير أو الاستيلاد مع النتاج وادعى الخارج عتقاً تاماً مع النتاج كان بينة الخارج أولى؛ لأن بينة الخارج أكثر إثباتاً، لأنها تثبت أولية الملك للخارج على وجه لا يستحق عليه من جهته لا رقبة ولا يداً، وذو اليد أثبت أولية الملك على وجه يتصور استحقاقه عليه رقبة ويداً بقضاء القاضي في التدبير والاستيلاد، ويداً لا رقبة بالإجارة والإعارة والنكاح. وفي كتاب الولاء في باب الشهادة في الولاء: إذا ادعى ذو اليد النتاج وادعى الخارج أنه ملكه غصبه منه ذو اليد كانت بينة الخارج أولى، وكذا إذا ادعى ذو اليد النتاج وادعى الخارج أنه ملكه أو أودعه منه أو أعاره منه، كانت بينة الخارج أولى. قال شيخ الإسلام رحمه الله: الحاصل أن بينة ذي اليد على النتاج إنما تترجح على بينة الخارج على النتاج أو على مطلق الملك بأن ادعى ذو اليد النتاج وادعى الخارج النتاج، أو ادعى الخارج الملك إذا لم يدع الخارج فعلاً على ذي اليد نحو الغصب أو الوديعة أو الإجارة أو الرهن أو العارية أو ما أشبه ذلك، أما إذا ادعى الخارج الملك المطلق (195ب4) ومع ذلك فعلاً فبينة الخارج أولى. وأشار محمد رحمه الله ثمة إلى المعنى وقال: لأن بينة الخارج في هذه الصورة أكثر إثباتاً، لأنه يثبت الفعل على ذي اليد وهو الغصب أو الاستئجار وما أشبه ذلك، وإنه ليس بثابت أصلاً وذو اليد ادعى أولية الملك واليد إن كانت لا تدل على أولية الملك على أصل الملك فكان ما ادعاه ذو اليد ثابتاً من وجه بظاهر يده، وما ادعاه الخارج من الغصب والإعارة وغير ذلك ثابت أصلاً في مثل هذه المسألة طريقاً آخر. وصورة ملك عبد في يدي رجل أقام بينة أنه عبده غصبه ذو اليد منه أو قال: استأجره ذو اليد منه أو استعاره منه أو ارتهنه منه وأقام ذو اليد بينة أنه ملكه أعتقه أو دبره، أو كانت أمة أقام ذو اليد بينة أنه استولدها كان بينة الخارج أولى، وقضي بالعبد له وكان ينبغي أن تكون بينة ذي اليد أولى؛ لأن ذا اليد يدع النتاج معنى؛ لأن النكاح والإعتاق والتدبير في معنى النتاج، وذو اليد إذا ادعى النتاج كان هو أولى من الخارج. ذكر محمد رحمه الله هذا السؤال، وذكر جوابه فقال: ذو اليد إذا ادعى النتاج إنما يكون أولى من الخارج إذا صح منه دعوى النتاج ولم يصح دعوى النتاج من ذي اليد ههنا إنما أثبته الخارج على ذي اليد أن الملك له للخارج؛ لأن الاستئجار والاستعارة والارتهان إقرار بملك الآجر والمعير والراهن، ومع إقرار ذي اليد بالملك للخارج لا يصح دعوى صاحب اليد النتاج، والبينة لا تسمع بدون الدعوى، وإذا لم يسمع بينة ذي اليد صار كأنه لم يقم البينة، وكذلك إذا أثبت الخارج عليه الغصب؛ لأن من الجائز أن شهود الخارج شهدوا بالغصب على ذي اليد، لأنهم عاينوا أخذ ذي اليد من الخارج، ويجوز أنهم شهدوا بالغصب على ذي اليد؛ لأنهم سمعوا إقراره بالغصب فباعتبار الآخر إن كان دعوى النتاج من ذي اليد صحيحاً، فباعتبار الإقرار لا يصح كما لو عينا إقراره أنه غصبه منه فلا تصح دعواه مع الشك، فقد تمكن في جانب اليد ما يبطل دعواه النتاج إما

من كل وجه كما في الإيداع والإعارة والإجارة، أو من وجه كما في الغصب ولم يتمكن من جانب الخارج ما يمنع دعواه الغصب على ذي اليد؛ لأن دعواه الغصب على ذي اليد لو لم تصح إنما لم تصح أن لو عرف الشهود حقيقة الملك لذي اليد، حتى ينبغي غصب ذي اليد، ولا يتصور ذلك، لأن الشهود لا يعرفون حقيقة الملك، وإنما يعرفون الملك من حيث الظاهر وما لم تثبت الشهادة بحقيقة الملك لذي اليد لا ينتفي غصب ذي اليد. وهذا بخلاف ما لو لم يشهدوا شهود الخارج على ذي اليد بالغصب إنما شهدوا للمدعي بالملك المطلق، وادعى ذو اليد المطلق والعتق أو التدبير، فإن هناك يقضى ببينة ذي اليد؛ لأن هناك لم يثبت بينة الخارج ما يمنع صحة دعوى ذي اليد النتاج، وهو إقراره بالملك للخارج لا من كل وجه ولا من وجه. فإن قيل: لا بل في تلك الصورة وجد في بينة الخارج ما يمنع صحة دعوى ذي اليد النتاج، وهو الشهادة بالغصب على دعوى ذي اليد من الخارج؛ لأن الشهادة بالملك للخارج شهادة بالغصب على ذي اليد، وإذا كان العين في يد ذي اليد اقتضاء والثابت نصاً، سواء قلنا: نعم الشهادة بالملك للخارج شهادة على غصب ذي اليد، إذا كان العين في يد ذي اليد اقتضاء إلا أن المقتضى ثابت بطريق الضرورة فيتقدر بقدر الضرورة، يرتفع متى أثبتنا غصب ذي اليد بالأخذ، فلا يثبت الإقرار بالغصب مقتضى شهادة الخارج؛ لأن الإقرار بالغصب فوق الإقرار الثابت بالأخذ، لأن الغصب الثابت بالأخذ يوجب الضمان، أما لا يمنع دعواه الملك لنفسه بعد ذلك. وإذا لم يثبت إقرار ذي اليد بالغصب بشهادة الخارج لم يتمكن في جانب ذي اليد ما يمنع صحة دعواه النتاج، وقد صار بدعوى الإعتاق والتدبير مدعياً النتاج معنى، فتقبل بينته بخلاف ما إذا شهدوا عليه بالغصب، لأن هناك الغصب ثبت بنص الشهادة، وكما يحتمل الغصب بالأخذ يحتمل الغصب بالإقرار، فيعتبر الإقرار ثابتاً لما كان الغصب ثابتاً بنص الشهادة، فباعتبار الإقرار لا يصح دعوى ذي اليد وباعتبار الأخذ يصح، فلا يصح بالشك. ومما يتصل بهذا النوع ذكر محمد في «الأصل» : شاة في يدي رجل أقام رجل البينة أنها شاته ولدت في ملكه، وأقام صاحب اليد بينة أنها شاته يملكها من جهة فلان وأنها ولدت في ملك فلان ذلك الذي يملكها منه، قضي بها لصاحب اليد؛ لأن صاحب اليد خصم عمن تلقى الملك من جهته ويده يد المتلقي عنه فكأنه حضر وأقام البينة على النتاج، والشاة في يده وهناك يقضى بالشاه له كذا ههنا. وفي «الأصل» أيضاً: شاة في يد رجل جاء رجل وأقام بينة أنها شاته ولدت في ملكه، قضي بالشاة له إلا أن يعيد صاحب اليد، وهو المقضي له منه على النتاج فحينئذٍ تندفع بينة الثاني ببينته وسلمت له الشاة، أما بدون ذلك لا تندفع بينة الثاني، وهذا لأنا لو دفعنا بينة الثاني بما أقام الأول من البينة فقد دفعنا بينة أحد مدعي النتاج ببينة الآخر وهما خارجان، لأن الأول حين أقام البينة كان خارجاً ولا يجوز دفع بينة أحد مدعي النتاج

بالآخر وهما خارجان، فإذا أعاد صاحب اليد وهو المقضي له البينة على النتاج لو دفعنا بينة الثاني بهذه البينة، فقد دفعنا بينة الخارج في دعوى النتاج ببينة ذي اليد وذلك جائز. وإن لم يعد المقضي له البينة حتى قضى القاضي بالشاة للثاني ثم أعاد المقضي له البينة على النتاج ذكر في كتاب «الأقضية» : هذا الفصل في العبد، وقال: لا ينقض القضاء عليه، وأشار إلى المعنى، فقال: لأنه إنما صار صاحب يد بحكم الأول، وقد انتقض ذلك اليد بالقضاء الثاني، وصار المقضي له الثاني ذا اليد، فكانت بينته أولى بالقبول وذكر في «الأصل» : أن القاضي ينقض القضاء على الثاني، ويقضي به للأول وهو الصحيح. فرق بين هذا وبينما إذا وقع دعوى الملك المطلق، وأقام الخارج البينة على ذلك دون ذي اليد، وقضى القاضي للخارج على ذي اليد، ثم أراد ذو اليد أن يقيم البينة أن الملك له، فإن هناك القاضي لا يقبل بينة ذي اليد، والفرق أن في دعوى النتاج ذو اليد لا يصير مقضياً عليه بالقضاء للخارج؛ لأن التملك بالنتاج لا يكون تملكاً على أحد، لأنه بعدما ثبت الملك بالنتاج لشخص لا يتصور أن يصير لعبده بالنتاج؛ لأن النتاج مما لا يتكرر فلا يمكننا أن نجعل ما يستحقه الخارج من الملك استحقاقاً على ذي اليد، بل يكون بياناً أنه كان من الأصل لا أنه صار لذي اليد ثم صار للخارج، أما في دعوى الملك المطلق، ذو اليد يصير مقضياً عليه بالقضاء للخارج من وجه، لأن دعوى الملك المطلق يحتمل دعوى التملك على ذي اليد فلهذا افترقا. ومن هذا الجنس ذكر في «المنتقى» : عبد في يدي بخاري مثلاً أقام عليه سمرقندي البينة أنه عبده، ولد في ملكه، وأقام البخاري بينة بمثل ذلك، وقضى القاضي بالعبد للبخاري وأبطل بينة السمرقندي، ثم حضر خجندي فأقام البينة على البخاري أنه عبده ولد في ملكه، فإنه يستحقه ببينته، إلا أن يعيد البخاري البينة على الخجندي أنه عبده ولد في ملكه، ولم يكتف بالبينة الأولى، فإن لم يقدر البخاري على إعادة البينة وقضى القاضي بالعبد للخجندي، ثم أحضر البخاري بينة أن العبد عبده ولد في ملكه قضى به للبخاري، وإن لم يعد البخاري بينته، ولكنه حضر أوسي وأقام بينة أنه عبده ولد في ملكه، فإن القاضي يقول للخجندي: أعد بينتك على أنه عبدك ولد في ملكك، (196أ4) بمحضر من الأوسي فإن حضر السمرقندي وهو المدعي الأول وأقام البينة أنه عبده ولد في ملكه، لم تقبل بينته؛ لأنه قد قضي عليه به مرة فلا تقبل بينته على أحد بعد ذلك، قال ثمة: وهذا قول أبي يوسف ومحمد وهو قياس قول أبي حنيفة. ومن هذا الجنس ذكر في «المنتقى» أيضاً: عن محمد رجل في يديه عبد أقام رجل بينة بمثل أنه عبده ولد في ملكه، وأقام رجل آخر بينة بمثل ذلك وقضى القاضي بالعبد بينهما نصفين لما يبين بعد هذا إن شاء الله، ثم جاء ثالث وأقام بينة بمثل ذلك يقضى بالعبد له إن لم يقم المقضي لهما بينة أنه عبدهما ولد في ملكهما، فإن أعاد ذلك أحدهما دون الآخر قضي بالنصف الذي في يدي الذي أعاد بينة له ولم تقبل فيه بينة الثالث، ويقضى للثالث على المقضي له الآخر الذي لم يعد البينة بالنصف الذي في يديه ولا شركة

فيه مع الثالث للذي أعاد بينته، لأن القاضي حين قضى أول مرة بالعبد بين المقضي لهما فقد قضى لكل واحد منهما على صاحبه بنصفه، فلا يقبل من كل واحد منهما بينة بعد ذلك على ما قضي به لصاحبه، فإن وجد المقضي عليه الأول وهو الذي كان العبد في يده بينة أن العبد ملكه ولد في ملكه وأقامها عند القاضي قضى القاضي بالعبد له، لأنه لو أقام يومئذ بينة على ذلك كان هو أولى فكذلك إذا أقام بينة بعد ذلك. ومما يتصل بهذا الفصل أيضا ما ذكر في «الأصل» : أمة في يدي رجل أقام رجل بينة أن قاضي بلد كذا قضى له بها على هذا الرجل الذي هو في يديه، وأقام ذو اليد بينة أنها أمته ولدت في ملكه، فهذه المسألة على وجوه. الأول: أن يشهد شهود المدعي أن قاضي بلدة كذا قضى لهذا المدعي بشهادة شهود شهدوا عنده أنه اشتراها من ذي اليد، أو وهبها ذو اليد له أو تصدق بها ذو اليد عليه، وفي هذا الوجه القاضي يمضي قضاء ذلك القاضي ويدفعها إلى المدعي. الوجه الثاني: أن يشهد شهود المدعي أن قاضي بلد كذا قضى بها لهذا المدعي ولم يثبتوا سبب القضاء، وفي هذا الوجه القاضي يمضي ذلك القضاء أيضاً ويدفعها إلى المدعي، لأن ذلك القضاء قد صح ظاهراً، ومن الجائز أن يكون القاضي إنما قضى بشهادة شهود شهدوا عنده أن المدعي اشتراها من ذي اليد، أو وهبها ذو اليد له، أو تصدق بها عليه، وعلى هذا التقدير بينة ذي اليد على الولادة في ملكه لا يبطل ذلك القضاء بل يقرره. الوجه الثالث: أن يشهد شهود المدعي أن قاضي بلد كذا قضى بها لهذا المدعي بشهادة شهود شهدوا عنده أنها له أو بشهادة شهود أنها نتجت عنده، وفي هذا الوجه القاضي يمضي ذلك القضاء، أيضاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد أن صاحب اليد لو أقام البينة على النتاج على القاضي الأول بعدما قضى القاضي الأول للمدعي بالنتاج أو بالملك المطلق، نقض القاضي الأول قضاءه للمدعي وقضى بها لصاحب اليد، لما ذكرنا أن بينة ذي اليد على النتاج أولى من بينة المدعي على النتاج، وعلى مطلق الملك فتبين أن قضاء القاضي ببينة الخارج وقع خطأ والخطأ مردود. فإذا أقام ذو اليد بينة عند القاضي الثاني يجب أن يرد الثاني قضاء الأول؛ لأن المعنى الموجب للرد وهو خطأ القاضي الأول في قضائه لا يتفاوت، ولأبي حنيفة وأبي يوسف أن قضاء القاضي الأول نفذ من حيث الظاهر، فليس للثاني أن يبطله، مع الاحتمال كما لو بينوا سبب القضاء. بيان الاحتمال من وجهين: أحدهما: أما إذا شهدوا أنه قضى له بشهادة شهود شهدوا عنده أنها له؛ لأنه يحتمل بشهادة شهود شهدوا عنده أنها له اشتراها من ذي اليد، وأما إذا شهدوا أنها له قضى له بها بشهادة شهود شهدوا عنده أنها نتجت عنده؛ لأنه تحمل أن هؤلاء الشهود عاينوا شهادة الشهود عند القاضي بالنتاج، ثم عاينوا قضاء القاضي بعد ذلك للمدعي بزمان، فشهدوا كما عاينوا وقد تخلل بينهما شراء أو إقرار من

جهة ذي اليد بالشراء علم القاضي بذلك ولم يعلم الشهود، وقضى القاضي بالذي عاين من الشراء، ولم يعلم الشهود بذلك، فهذا الاحتمال ثابت. الوجه الثاني لبيان الاحتمال: يحتمل أن ذا اليد أقام هذه البينة عند ذلك القاضي، ولا اجتهد ذلك القاضي على ترجيح بينة الخارج على بينة ذي اليد كما هو مذهب ابن أبي ليلى، فإن من مذهبه أن الخارج إذا أقام البينة على النتاج أو على مطلق الملك، وأقام ذو اليد البينة على النتاج فبينة ذي اليد أولى، وعلى هذا التقدير يكون قضاء الأول نافذاً لازماً، بحيث لا يجوز لغيره نقضه لحصوله في محل مجتهد فيه. الوجه الرابع: أن يشهد شهود المدعي أن قاضي بلد كذا أقر عندنا أنه قضى للمدعي بهذه الجارية، بشهادة شهود شهدوا عنده أنها له أو بشهادة شهود شهدوا أنها نتجت عنده، وفي هذا الوجه ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أن القاضي الثاني ينقض ذلك القضاء بالإجماع، وعلى ما عليه إشارات شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، فالمسألة على الاختلاف الذي ذكرنا. ومن جنس هذه المسألة وإن لم يكن من جنس هذا النوع، وإذا كانت الجارية في يدي رجل أقام بينة أن قاضي بلد كذا قضى له بها على ذي اليد هذا، ولم يثبتوا سبب القضاء، وأقام رجل آخر بينة على النتاج فصاحب القضاء أولى، وإن أقام الأول بينة أن قاضي بلد كذا قضى له بها بشهادة شهود شهدوا عنده أنها له، وأقام الأخر بينة على النتاج، فصاحب القضاء أولى عندهما، وعند محمد صاحب النتاج أولى لما قلنا. نوع آخر من هذا الفصل في دعوى الخارجين النتاج إذا ادعى الرجلان دابة في يدي رجل كل واحد منهما يدعي أنها ملكه نتجت عنده، وأقاما البينة فإن لم يؤرخا قضي بينهما، وإن أرخا وتاريخهما على السواء ينظر إلى سن الدابة، إن كان مشكلاً أو كان موافقاً للوقت الذي ذكرا يقضى بينهما، وإن كان مخالفاً للوقت الذي ذكرا، لم يذكر محمد هذا الفصل في «الأصل» . قال عامة المشايخ: الصحيح أنه تتهاتر البينتان، وتترك الدابة في يد صاحب اليد، وإن أرخا وتاريخ أحدهما أسبق قضي لصاحب الوقت الذي قضي؟ سن الدابة عليه، وإن كان سن الدابة مشكلاً قضي بينهما، فقد ألغى التاريخ في دعوى النتاج، واعتبره في دعوى الملك المطلق لأن التاريخ إنما يعتبر ترجيحاً؛ لأن السابق ببينته يثبت زيادة استحقاق على صاحبه، وهو متصور في دعوى الملك المطلق بتصور أصل الاستحقاق لأحدهما على صاحبه بدون التاريخ، فيتصور زيادة الاستحقاق بزيادة التاريخ. وإن كان سن الدابة على غير الوقتين، ذكر في «الأصل» : أنه يقضى بينهما وإليه ذهب بعض المشايخ، منهم الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وعامة المشايخ على أن ما ذكره في «الكتاب» غلط، والصحيح أنه تتهاتر البينتان ومسألة العبد التي ذكرها محمد في آخر باب دعوى النتاج، وقد تقدم ذكرها في أول النوع الأول، يشهد لعامة المشايخ في هذا الفصل.

وروى بشر عن أبي يوسف مسألة الدابة، وذكر في هذه الصورة: أنه تتهاتر البينتان، وذكر في هذه الرواية فقال: إذا علم أن سن الدابة مخالف لأحد الوقتين وهو مشكل في الوقت الآخر، قضي بالدابة لصاحب الوقت الذي أشكل سن الدابة عليه، وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر وكان سن الدابة مشكلاً قضي بينهما. نوع آخر من هذا الفصل دابة في يدي رجلين يدعي كل واحد منهما أنها دابته نتجت عنده، ويقيم البينة على ما يدعي، فإن لم يؤرخا يقضى لكل واحد منهما بالنصف الذي في يده؛ لأنه اجتمع في كل نصف بينة ذي اليد، وبينة الخارج في دعوى النتاج، وإن أرخا وتاريخهما على السواء ينظر إلى الدابة، فإن كان مشكلاً أو كان موافقاً للوقت الذي ذكرا تهاترت (196ب4) البينتان عند عامة المشايخ، وتترك الدار في أيديهما كما كان قبل هذا. وإن أرخ أحدهما ولم يؤرخ الآخر وكان سن الدابة مشكلاً تترك في أيديهما. نوع آخر من هذا الفصل في المتفرقات ادعى رجل جارية في يد إنسان أنها ملكه ولدت في ملكه من الأمة التي في يديه، وأقام على ذلك بينة وأقام صاحب اليد بينة أنها ملكه ولدت في ملكه من الأمة التي في يديه، قضي بالجارية لصاحب اليد، لأن الولادة في بني آدم كالنتاج في البهائم، ولو ادعى المدعي بينة على أمها التي هي عند المدعى عليه أنها أمته، وأنها ولدت هذا الولد في ملكه وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك قضي بها وأمها للمدعي؛ لأن أصل الدعوى في الأم ودعواها في الأم دعوى مطلق الملك إذ لم يكن الملك في الأم سبباً وفي دعوى مطلق الملك الخارج أولى، وإذا صار الخارج أولى فالأم كانت أولى في الولد إذ ظهر أن ولادة هذا الولد كان في ملك الخارج. قال محمد رحمه الله في «الأصل» عقيب هذه المسألة: وكذلك الاختلاف في الصوف والشاة على هذا، يريد به إذا وقع الدعوى في صوف، ولو أقام المدعي بينة على الشاة التي هي في يد المدعى عليه أنها شاته، وأنه جز هذا الصوف في ملكه منها، وأقام ذو اليد بينة على مثل ذلك قضي بالشاة والصوف للمدعي لما ذكرنا في الجارية والولد. عبد في يدي رجل جاء رجل وادعى أنه عبده ولد من أمته هذه ومن عبده هذا، وأقام على ذلك بينة وأقام صاحب اليد بينة بمثل ذلك قضي بالعبد لصاحب اليد، ويكون ابن أمته وعبده ولا يكون ابن أمة الآخر ولا ابن عبده فقد قضي بالعبد لصاحب اليد في الملك والنسب، أما في الملك فظاهر وأما في النسب فلأنهما تنازعا في سبب هو بمعنى النتاج، لأن سبب النسب الولادة وأحدهما صاحب اليد وهناك يقضى لصاحب اليد كذا ههنا. عبد في يدي رجل أقام رجل بينة أنه عبده ولد في ملكه، ولم يسموا أمته، وأقام رجل بينة أنه عبده ولد في ملكه من أمته هذه، فإنه يقضي بالعبد للذي إنه في يده، لأنهما

ادعيا النتاج في الولد ولا يد لأحدهما على الولد ولأحدهما يد على الأم فيترجح الذي له على الأم، كما يترجح لو كان له يد على الولد، وهذا لأن الولد لابد له من الأم والولد لا يتصور بدونها وإذا جاز أن يترجح أحدهما على الولد بسبب اليد على الولد، فكذا جاز أن يترجح أحدهما على الولد فكذا جاز أن يترجح أحدهما في الولد بسبب اليد على الأم، فإن أقام صاحب اليد بينة على أنه عبده ولد في ملكه من أمته هذه غير أمة أخرى قضي به لذي اليد؛ لأن لذي اليد يداً على الولد والأم جميعاً، فيكون أولى ممن لا يد له عليهما وممن له يد على الأم دون الولد. رجل في يديه شاة سوداء، ورجل آخر في يديه شاة بيضاء، فأقام الذي البيضاء في يده أن السوداء التي في يدي صاحبي ملكي ولدت في ملكي من هذه السوداء، فإنه يقضي لكل واحد منهما بما في يد صاحبه؛ لأن كل واحد منهما ادعى الملك فيما في يده وادعى النتاج فيما في يد صاحبه، ففيما في يد كل واحد منهما اجتمع دعوى النتاج ودعوى الملك المطلق، فيكون الحكم لدعوى النتاج، هكذا ذكر محمد رحمه الله وهذا إذا كان سن الشاتين مشكلة، فكل واحدة منهما تصلح أماً للأخرى بمرأى العين، وأما إذا كانت معلومة، وأحدهما تصلح أماً للأخرى والأخرى لا تصلح أماً لهذه، كانت علامة الصدق ظاهرة في شهود أحدهما فيقضى بشهادة شهوده. وعن أبي يوسف رحمه الله فيما إذا كان سن الشاتين مشكلاً أني أقبل بينتهما، ويقضي لكل واحد منهما بالشاة التي في يده، وهذا قضاء ترك لا قضاء استحقاق، ثم إذا كانت سن الشاتين مشكلة وكل واحد تصلح أماً للأخرى، إنما قبلت الشهادتان، وإن تقين القاضي بكذب إحدى البينتين؛ لأنه وجد لكل فريق محملاً يطلق له أداء الشهادة.... أحد الفريقين ولادة إحداهما الأخرى، فكبرت الابنة وولدت وترك بها لبن وأمها لم تترك عادتها في الارتضاع فاتبعت ولدها وارتضعت منها فعاين الفريق الآخر ذلك. ولو أقام الذي البيضاء في يده أن البيضاء شاتي، ولدت في ملكي والسوداء التي في يد صاحبي شاتي ولدت من هذه البيضاء وأقام الذي السوداء في يده أن السوداء ولدت في ملكي والبيضاء التي في يد صاحبي ملكي ولدت من هذه السوداء، فإنه يقضي لكل واحد منهما بما في يده، لأن في هذه المسألة كل واحد منهما ادعى النتاج في الشاتين، فاجتمع في كل شاة بينة ذي اليد مع بينة الخارج في النتاج، فيقضى لصاحب اليد ببينته. عبد في يدي رجل ادعاه رجل أنه عبده اشتراه من فلان، وأنه قد ولد في ملك فلان الذي باعه، فأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة أنه عبده اشتراه من فلان يريد به رجلاً آخر وأنه قد ولد في ملك فلان الذي باعه قضى به لذي اليد؛ لأن كل واحد منهما ببينته يثبت أولية الملك لمملكه بالولادة لم يثبت الانتقال إلى نفسه فكأن المملكين حضرا وادعيا ذلك، وأحدهما صاحب يد وهناك يقضي لصاحب اليد كذا ههنا.

قال محمد رحمه الله في «الأصل» : إذا ادعت امرأة غزل قطن في يد امرأة أخرى أنه ملكها غزلته وأقامت على ذلك بينة، وأقامت صاحبة اليد بينة على مثل ذلك قضي بالغزل لصاحبة اليد، لأنه بمعنى النتاج لأن الغزل سبب ذلك، فإن من غصب من آخر قطناً وغزل القطن ملكه وغزل القطن لا يعاد ولا يكرر، فكان بمنزلة دعوى النتاج من هذا الوجه فيقضي ببينة صاحبة اليد كما في دعوى النتاج. وكذلك لو ادعى صوفاً في يدي رجل أنه صوفه جزه من غنمه، وأقام على ذلك بينة وأقام صاحب اليد بينة بمثل ذلك، قضي به لصاحب اليد، لأنه بمنزلة دعوى النتاج، لأن الجز في مجزوز واحد مما لا يتكرر، وكذلك إذا ادعى سمناً أو زيتاً أو دهن سمسم في يدي رجل أنه له عصره وملأه، وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة مثل ذلك قضي لصاحب اليد؛ لأن هذا مما لا يثنى ولا يكرر فيكون بمعنى دعوى النتاج، وكذلك الدقيق والسويق على هذا، والولادة في بني آدم بمنزلة النتاج في البهائم، حتى إذا تنازع اثنان في غلام كل واحد منهما يدعي أن الغلام ملكه ولد في ملكه، والغلام في يد أحدهما وأقام كل واحد منهما بينة على دعواه، فيقضي ببينة صاحب اليد، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وإذا (اختلف) اثنان في غزل صوف والغزل في يد أحدهما، فأقام كل واحد منهما بينة أنه ملكه غزله، قضي بالغزل للخارج؛ لأنه بمعنى دعوى ملك المطلق، لأنه يثنى ويكرر وإذا وقع الدعوى في حلي مصوغ فهو بمنزلة دعوى ملك المطلق، لأن الصياغة مما يتكرر. وإذا كانت الدار في يدي رجل أقام رجل آخر بينة أنها دار جده، اختطها وساق الميراث حتى انتهى إليه، وأقام صاحب اليد بينة بمثل ذلك، فإنه يقضى بالدار للمدعي؛ لأن كل واحد منهما ادعى أولية الملك بالاختطاط، والاختطاط مما لا يتكرر؛ لأن الاختطاط قسمة الإمام عند الفسخ، فيخط لكل واحد من الغانمين خطاً في موضع معلوم ويملكه ذلك بالقسمة، فيكون خطه له وهذا قد يكون غير مرة بأن يرتد أهلها، وتصير.... فإنها دار الشرك بوجود شرائطها ثم غلبها المسلمون ثانياً، فيقسمها الإمام بالخط لكل واحد منهما كما بينا. أرض في يدي رجل وفيها نخيل، ادعى رجل أن هذه الأرض وهذه النخيل له غرسها، وأقام على ذلك بينة وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك، قضي بالأرض

(197أ4) والنخيل للمدعي، لأن الأصل المنازعة في ملك الأرض، فإن النخيل بمنزلة البيع للأرض حتى يدخل في بيع الأرض من غير ذكر، ودعواهما في الأرض دعوى مطلق الملك وإنهما لم يذكرا لملك الأرض سبباً فكذا النخيل يكون دعواهما دعوى ملك المطلق بطريق التبعية، لأن غراسة النخيل مما يتكرر، فإن النخيل يغرس ثم يقلع ويغرس ثانياً فيكون دعوى الأشجار بمنزلة دعوى مطلق الملك، وكذلك لو كان في الأرض زرع وأقام كل واحد بينة أن الأرض له والزرع له، زرعه قضي بالأرض والزرع للخارج لما ذكرنا. وإذا ادعى حنطة في يدي رجل أنها له زرعها في أرضه، وأقام على ذلك بينة وأقام صاحب اليد بينة بمثل ذلك، قضي للخارج؛ لأنها بمنزلة دعوى مطلق الملك، بيانه: أن حاصل اختلافهما إلى أن زارع أصل هذه الحنطة التي وقع فيها النزاع الخارج، أو صاحب اليد وزراعة أصل هذه الحنطة مما يكون بأن يزرع ذو اليد أصل هذه الحنطة، ثم يغربل الخارج الأرض ويجمع الحنطة، ويزرعها مرة أخرى. وإذا ادعى داراً في يدي رجل أنها داره وأنه بنى هذه البناء من ماله، وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك، قضي بالدار والبناء للخارج، لأن البناء قد يكون مرة بعد مرة، وإذا ادعى قباء محشواً في يدي رجل أنه له قطعه في ملكه وحشاه وخاطه وادعى صاحب اليد مثل ذلك وأقاما البينة، قضي ببينة الخارج وهذا بمنزلة دعوى الملك المطلق؛ لأن القطع والحشو والخياطة مما يثنى ويكرر، وكذلك الحبة المحشوة وكل ما يقطع من الثياب على هذا. وكذلك إذا كانت الشاة المسلوخة في يدي رجل، ادعاها رجل آخر أنها له ذبحها وسلخها وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك قضي بها للخارج؛ لأن الذبح والسلخ ليسا بسبب ملك، ألا ترى أن الغاصب لا يملك به وإذا لم (يكن) هذا سبب ملك صار ذكره وعدمه بمنزلة، فكأنهما ادعيا ملكاً مطلقاً وادعيا إحداث تصرف في ملكهما. وكذلك إذا ادعيا لحماً مشوياً أو سمكاً مشوياً في يدي رجل أنه لهما سواه في ملكهما وادعى صاحب اليد بمثل ذلك وأقاما البينة قضي بها للخارج، لأن الشي وإن كان بسبب ملك فهو لا يثنى ولا يكرر، والسلخ إن كان لا يثنى فهو ليس بسبب ملك وكذلك إذا وقع الدعوى في المصحف، وأقام كل واحد منهما البينة أنه له، كتبه في ملكه قضي للخارج. ولو ادعى ثوباً في يدي رجل أنه ملكه نسجه هو، وأقام عليه البينة وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك، أو ادعى نصل سيف في يدي رجل أنه سيفه ضربه، وأقام عليه البينة وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك، فهذه المسألة على وجوه: إن كان يعلم قطعاً ويقيناً أن هذا الثوب وهذا النصل، لا ينسج ولا يضرب إلا مرة واحدة، قضي ببينة صاحب اليد كما في دعوى النتاج، وإن كان يعلم قطعاً ويقيناً أن هذا

الثوب وهذا النصل ينسج، ويضرب مرة بعد مرة، فإنه يقضي ببينة الخارج، وهو بمنزلة دعوى الملك المطلق، لأنه في الفصل الأول ادعى أولية الملك بسبب لا يحتمل التملك على ذي اليد بذلك السبب، لأن الثوب الذي لا ينسج إلا مرة إذا صار لذي اليد لا يتصور أن يصير للخارج بنسجه، فيكون في معنى دعوى النتاج. وفي الفصل الثاني ادعى أولية الملك بسبب يحتمل التملك على ذي اليد به، لأن الثوب الذي ينسج مرة بعد مرة يجوز أن يصير لذي اليد بالنسج، ثم يقصه الخارج منه وينقضه وينسجه مرة أخرى فيصير ملكاً له بهذا السبب، بعدما كان لذي اليد فكان بمعنى دعوى الملك المطلق من هذا الوجه، وإن أشكل على القاضي ذلك سأل أهل العلم عن ذلك، يريد به العدول منهم ويبنى الحكم على قولهم الواحد منهم يكفي، والاثنان أحوط وإن اختلف أهل العلم بذلك فيما بينهم حتى بقي مشكلاً، ففيه روايتان في رواية يقضي للخارج كما في دعوى الملك المطلق. وإذا وقع الدعوى في كوز أو طست من صفر أو إناء من حديد أو صفر أو شبهه، وادعى كل واحد أنه له، ضعه في ملكه فهذا ومسألة السيف التي ذكرناها على السواء. وإذا كان في يدي رجل حمام أو دجاج أو طير مما يفرخ أقام رجل بينة أنه له فرخ في ملكه وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك قضي لصاحب اليد؛ لأن التفريخ في الطيور بمنزلة النتاج في الدواب. وإذا ادعى لبناً في يدي رجل أنه له ضربه في ملكه وأقام عليه البينة وأقام صاحب اليد بينة على مثل ذلك، قضي للخارج؛ لأنه مما يعاد ويكرر، فكان بمنزلة دعوى الملك المطلق حتى لو كان اللبن آجراً أو حصاً أو نورة يقضى لصاحب اليد؛ لأنه لا يعاد ولا يكرر فكان بمنزلة دعوى النتاج. وإذا اختلفا في جبن وأقام كل واحد منهما أنه صنعه في ملكه، قضي لصاحب اليد؛ لأنه بمنزلة دعوى النتاج لأنه مما لا يعاد ولا يكرر، ولو أقام كل واحد منهما بينة أن اللبن الذي صنع منه هذا الجبن كان له، يقضى للخارج؛ لأن أصل المنازعة في اللبن وبينة كل واحد في اللبن قامت على الملك المطلق، ولو أقام كل واحد منهما البينة أن اللبن حلب من شاته وفي ملكه وصنع منه الجبن، فإنه يقضى بالجبن لذي اليد، لأن الحلب في اللبن لا يتكرر فكان بمعنى دعوى النتاج، ولو أقام كل واحد منهما البينة أن الشاة التي حلب منها اللبن الذي صنع منه هذا الجبن ملكه، قضي به للمدعي؛ لأن المنازعة ههنا في الشاة وبينة كل واحد منهما قامت على الملك المطلق. ولو أقام كل واحد منهما بينة أن الشاة التي حلب منها اللبن الذي صنع منه هذا الجبن ولدت من شاته، قضي بالجبن لذي اليد؛ لأن كل واحد من البينتين قامت على النتاج في الشاة التي وقعت المنازعة فيها. وإذا كانت شاة مسلوخة في يدي رجل وسقطها وجلدها ورأسها في يدي آخر، فأقام الذي الشاة في يديه أن الشاة والجلد والرأس والسقط له، وأقام الذي في يديه الرأس

والسقط والجلد بمثل ذلك قضي لكل واحد منهما بما في يد صاحبه، لأن كل واحد منهما خارج فيما في يد صاحبه، وبينة الخارج في دعوى الملك المطلق أولى، ولو اقام كل واحد منهما بينة أن الشاة التي هذا رأسها وهذا سقطها نتجت عنده في ملكه، وأنه ذبحها وسلخها وله جلدها ورأسها وسقطها يقضى بالكل للذي الشاة في يديه، لأنهما أثبتا النتاج في ملك الشاة وأحدهما ذو اليد فيكون ذو اليد أولى بها، وإذا صار ذو اليد أولى بالشاة صار أولى بالجلد والرأس والسقط لكون هذه الأشياء تابعة للشاة، فقد جعل السقط أصلاً في دعوى الملك المطلق على ما مر، وجعله تبعاً في دعوى النتاج وكان ذلك من باب العمل بالشبهين؛ لأن السقط أصل من وجه فعمل بالشبهين فجعل أصلاً في دعوى الملك المطلق، وجعله تبعاً في دعوى النتاج. قال في «المنتقى» : والصوف وورق الشجر وثمرة الشجرة بمنزلة النتاج وغصن الشجر والحنطة ليس بمنزلة النتاج، حتى لو أقام المدعي بينة أن هذا الصوف صوف شاته وهذه الثمرة وهذا الورق من شجره، وهذا الغصن من نخله وهذه الحنطة من حنطة بذرها في أرضه، وأقام صاحب اليد البينة على مثل ذلك، ففي الغصن والحنطة يقضى للمدعي، وفي الصوف والتمر والورق يقضى لصاحب اليد. ومما يتصل بهذا الفصل إذا أقام الرجل بينة على ثوب في يدي رجل أنه نسجه (197ب4) ولم يشهدوا أنه له، أو ادعى دابة في يدي رجل أنها نتجت عنده ولم يشهدوا أنها له، أو ادعى أمة في يدي رجل أنها ولدت عنده ولم يشهدوا أنها أمته، فإنه لا يقضى للمدعي في هذه المسائل؛ لأن شهوده لم يشهدوا بالملك له نصاً وأنه ظاهر، ولا يقضى بشهادتهم بالولادة والنسج، لأن الإنسان قد ينسج غزل غيره بأمره بأجر أو إعانة، وقد تلد أمة الإنسان عند غيره. وكذلك في فصل الأمة، إذا شهدوا أنها أمة المدعي لا يقضى بها للمدعي؛ لأنهم لم يشهدوا بالملك للمدعي فيها نصاً وإنه ظاهر، ولا يقضى بشهادتهم أنها ابنة أمة، إذ ليس من ضرورة كونها ابنة أمته أن تكون ملكاً له، فإن المولى إذا استولد أمة نفسه وولدت بنتاً فهذه ابنة أمته، وليست بمملوكة له، وكذلك الأمة إذا زوجت نفسها بغير إذن مولاها على أنها حرة، فولدت ابنة فهذه ابنة أمة هذا الرجل، وليست بمملوكة له، وكذلك الرجل إذا باع ابنة أمته من إنسان فهذه ابنة أمة البائع بعد البيع، وليست بمملوكة له. فرق بين هذه المسألة وبينما إذا شهد الشهود أن هذا العبد ولدته أمة هذا المدعي، فإن هناك يقضى بالعبد للمدعي، والفرق: أن في مسألة العبد الشهود شهدوا بملكية الولد حيث قالوا: هذا العبد، وشهدوا بملكية أمة المدعي وقت الولادة، والأمة المملوكة للإنسان لا تلد ولداً مملوكاً لغير المالك، فكأنهم شهدوا بملكية الولد للمدعي، أما في مسألة البنت ما شهدوا على ملكية البنت؛ لأنهم شهدوا أنها بنت أمته وليس من ضرورة كونها ابنة الأمة أن تكون مملوكة أصلاً، لجواز أنها علقت حرة الأصل.

والحاصل: أن الشهادة بولادة العبد والأمة من أمة إنسان، شهادة بملك العبد والأمة لمولى الأمة والشهادة بولادة الابن والأمة من أمة إنسان ليست بشهادة بملك الابن والبنت لمولى الأمة. ولو شهدوا على ثوب في يدي رجل أنه غزل من قطن فلان ونسج منه، فإنه لا يقضي بالثوب لفلان؛ لأنهم لم يشهدوا بالملك لفلان، فقد يغزل القطن وينسج ولا يكون المنسوج ملكاً لصاحب القطن بأن غزل ونسج بغير أمره، هكذا ذكر في «الأصل» وذكر بعد هذه المسألة مسائل منها. إذا شهدوا أن فلاناً غزل هذا الثوب من قطن فلان، وهو يملك القطن ونسج الثوب هل للمدعي أن يأخذ الثوب، وجعله على وجهين: إما أن يدعي المدعي الأمر بالغزل والنسج أو ينكر، فإن كان ينكر فلا يكون له أخذ الثوب، ولكن يضمنه قطناً مثل قطنه، لأنه ثبت ملك القطن للمدعي بهذه الشهادة، وثبت غزل ذي اليد ذلك القطن ونسجه، ولم يثبت أمر المدعي بذلك فكان الغزل والنسج بغير أمر المدعي، وهذا مما يقطع ملكه عن العين فلا يكون للمدعي حق الأخذ ولكن له أن يضمنه قطناً مثل قطنه، وإن ادعى الإذن فالقول قوله مع اليمين، وله أن يأخذ الثوب، ولو شهدوا أن هذه الحنطة من زرع حصل من أرض فلان لا يقضي لصاحب الأرض بملك الحنطة باتفاق الروايات؛ لأنهم لم يشهدوا له بملك الحنطة فقد يحصد من أرض إنسان ما لا يكون مملوكاً له، بأن كان الزارع غاصباً للأرض فهل يقضى له بأخذ الحنطة؟ فقد ذكر في رواية أبي سليمان أنه لا يقضى. وجه ما ذكر في رواية أبي سليمان: أنه كما لم يثبت الملك لصاحب الأرض في هذه الحنطة بهذه الشهادة، لم يثبت الأخذ من يده بهذه الشهادة، لأن الشهود لم يعينوا الأخذ، فكان المشهود عليه بالأخذ مجهولاً وجهالة المشهود عليه يوجب بطلان الشهادة. وجه ما ذكر في رواية أبي حفص أنهم شهدوا بالأخذ من يده؛ لأن الحصاد أخذه وقد شهدوا بالحصاد من أرضه، وأرضه في يده فكأنهم شهدوا بالأخذ من يده، قوله بأن المشهود عليه بالأخذ مجهول، قلنا لا بل هو معين ولكن اقتضاء لا نصاً، لأن المأخوذ في يده فيكون هو الآخذ. قالوا: وما ذكر في رواية أبي سليمان أصح، لأنه ليس من ضرورة كون المأخوذ من يده أن يكون هو الآخذ غير ذي اليد، وقد أودعه صاحب اليد، وصاحب اليد يحوله عن موضعه حتى لم يصر غاصباً.Y قال شيخ الإسلام رحمه الله: إذا شهدوا أن هذا الشيء أخذ من يد هذا المدعي، ولم يعينوا الأخذ يجب أن تكون المسألة على الروايتين أيضاً، على رواية أبي سليمان لا يقضى بالأخذ وعلى رواية أبي حفص يقضى. قال: وهذا بخلاف ما لو شهدوا أن هذا الثوب غزل من قطن فلان، ونسج حيث لا يكون لفلان أن يأخذ الثوب، لأن هناك لم يثبت أخذ المنسوج من يده، إنما يثبت أخذ

القطن وهو يريد أخذ المنسوج، ولم يثبت أخذ المنسوج من يده. وإذا شهدوا أن هذا التمر أخذ من نخيل هذا المدعي قضي بالثمن للمدعي، لأن الشهادة بأخذ التمر من نخيله شهادة بملك التمر له، لأن ما يكون على نخيل إنسان من التمر يكون ملكاً له، إلا أن يملكه من غيره بخلاف الحنطة التي في أرض إنسان، لأن الحنطة التي في أرض إنسان قد تكون ملكاً لغير صاحب الأرض، وإذا شهدوا أن هذه الحنطة من زرع كان في أرض فلان، هذا الزبيب من كرم كان في أرض فلان لا يقضي بالحنطة والزبيب لفلان. فرق بين هذه المسائل، وبينما إذا شهدوا أن هذه الحنطة من زرع فلان، هذا التمر من نخيل فلان، هذا الزبيب من كرم فلان، فإنه يقضى بذلك لفلان، والفرق: أن في الفصول الأخيرة لم يشهدوا لفلان بملك هذه الأشياء اقتضاء، لأنهم أضافوا أصل هذه الأشياء إليه، فإنهم قالوا: من كرمه، من نخيله، من زرعه، والشهادة بملك الأصل شهادة بملك ما يحدث فيه، أما في الفصول الأول فما شهدوا بملك هذه الأشياء لفلان، لا نصاً، ولا اقتضاء، لأنهم ما أضافوا أصل هذه الأشياء إليه بل شهدوا أنه كان في أرضه وقد يكون في أرض فلان زرع غيره ونخيل غيره فلهذا افترقا. ولو شهدوا على إقرار ذي اليد أن هذه الحنطة من زرع كان في أرض فلان قضي بالحنطة لفلان. فرق بين هذا وبينما إذا شهدوا أن هذه الحنطة من زرع كان في ملكه، والفرق: أن في إقراره بيان أنه كان في يده قبل هذا، فكأنه قال: كان في يده أمس وهناك يؤمر بالرد عليه وفي الشهادة أيضاً بيان، لأنه كان في يده قبل هذا إلا أن الشهود لو شهدوا أنه كان في يد هذا أمس لا تقبل الشهادة عند أبي حنيفة ومحمد، ولو شهدوا على جلد أو صوف أو لحم في يدي رجل أنه صوف شاة هذا المدعي، لحم شاة هذا المدعي، جلد شاة هذا المدعي، لا يقضى به للمدعي. فرق بين هذه المسائل وبينما إذا شهدوا أن هذه الحنطة من زرع فلان، هذا التمر من نخيل فلان، هذا الزبيب من كرم فلان، فإن في هذه الفصول يقضى بهذه الأشياء للمدعي. قال عيسى بن أبان رحمه الله: وكان ينبغي أن يقضى للمدعي في جميع هذه الفصول أو لا يقضى له في جميع هذه الفصول، فأما الفرق فلا وجه إليه وبالغ في ذلك بعض المشايخ. وبعض مشايخنا قالوا: إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع في بعض المواضع، وضع المسألة بحرف من وإنه للتبعيض فقد جعلوا المدعى به بعض ملك المدعي، وبعض ملك الإنسان ملكه، فقد شهدوا للمدعي بملكية المدعى به، فقضي له به، وفي بعض المواضع لم يذكروا حرف من فلم يجعلوا المشهود به بعض ذلك المدعى، إنما نسبوه إلى ملكه حيث قالوا: جلد شاته، صوف شاته، وليس من ضرورة كون الشيء

منسوباً إلى ملك الغير أن يكون مملوكاً لذلك (198أ4) الغير فلم يشهدوا للمدعي بملكية المدعى به، فلا يقضى له به وهذا القائل يقول: لو ذكروا حرف من في المسائل كلها لكان يقضى للمدعي في المسائل كلها، ولو لم يذكروا حرف من في المسائل كلها، لكان لا يقضى للمدع في المسائل كلها، وإلى هذا ذهب شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. ومن المشايخ من قال: لا بل بين هذه المسائل فرق، وإليه مال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، والفرق: أن في مسألة الحنطة وأخواتها شهدوا بملك هذه الأشياء من توابع النخيل والكرم لا محالة، لأنها متولدة من النخيل والكرم والشهادة بملك مطلق في الأصل شهادة بملك توابعه، فأما الجلد والرأس تبع للشاة من وجه وأصل من وجه، تبع من حيث إنها من أوصاف الشاة، وأصل من حيث إنها تقوم بعد المزايلة بنفسها، وكذلك لم يحدث هذه الأشياء من الشاة بل كان حدوثها مع الشاة معاً، فبهذا الاعتبار يكون أصلاً والشهادة بملك أحد الأصلين لا تكون شهادة بملك الأصل، شهادة بملك التبع، فلا تثبت الشهادة بملكية هذه الأشياء مع الاحتمال. ولو شهدوا على دقيق في يدي رجل أنه طحن هذا الدقيق من حنطة هذا المدعي لا يقضى بالدقيق للمدعي، والجواب فيه كالجواب فيما إذا شهدوا أنه غزل هذا الثوب من قطن فلان، ونسج فيه سواه. ولو شهدوا أن هذه الدجاجة ملك المدعي، فالقاضي لا يقضي بالدجاجة للمدعي، إذ ليس من ضرورة كون البيضة مملوكة لإنسان أن تكون الدجاجة الخارجية منها ملكاً له، فإنه إذا غصبها غاصب وخرج منها دجاجه، فالدجاجة تكون للغاصب ولا تكون لصاحب البيضة، كحنطة غصبها غاصب وزرعها، فإن الحب الذي يحصل يكون للغاصب كذا ههنا، ولكن يقضى على صاحب اليد ببيضة مثلها لا أمر صاحب اليد أنه فرخها. فرق بين هذه المسألة وبينما إذا شهدوا على جارية أو شاة، وقالوا: الأمة التي خرج منها هذه الجارية، والشاة التي خرجت منها هذه الشاة ملك المدعي، فإنه يقضى بالجارية والشاة للمدعي، والفرق: أن كون الأمة وكون الشاة مملوكة لإنسان ملكاً مطلقاً يوجب حدوث الولد على ملكه لا محالة، سواء كانت الولادة في يده أو يد الغاصب، إذا لم يوجد من المالك تمليك الولد ولم يظهر ههنا تمليك الوالد من الولد من صاحب اليد، فكانت الشهادة بملكية الأمة والشاة مطلقاً شهادة بملك الولد. أما كون البيضة مملوكة لإنسان ملكاً مطلقاً، لا يوجب حدوث الدجاجة الخارجة على ملك صاحب البيضة فلم تكن الشهادة بكون البيضة مملوكة للمدعي شهادة تكون الدجاجة الخارجة منها ملكاً للمدعي. قال: ثوب مصبوغ بالعصفر في يدي رجل شهد الشهود أن هذا العصفر الذي في هذا الثوب لهذا المدعي، صبغ هذا الثوب به ورب الصبغ يدعي على رب الثوب أنه هو الذي صبغه، ورب الثوب يجحد ذلك فالقول قول رب الثوب، لأن رب العصفر يدعي عليه ثمن عصفره، ورب الثوب ينكر، وليس في شهادة هؤلاء ما يوجب ذلك، فإن ثوب

الإنسان إذا هبت به الريح وألقته في صبغ إنسان، فرب الثوب لا يضمن الصبغ، ولكن يقوم الثوب أبيض ويقوم مصبوغاً، فإن شاء رب الثوب ضمن لرب العصفر ما زاد العصفر فيه وإلا يباع الثوب، فيضرب صاحب الثوب في الثمن بقيمة ثوبه أبيض، ويضرب صاحب الصبغ بما زاد العصفر فيه. قال هشام: قال محمد: سمعت أبا يوسف يقول: إذا كان في يدي رجل أمة، وأثبت هذه أمته وأخذها منه لم يكن له على الابنة سبيل. وإذا أقام البينة على نخل في يدي رجل بأنه نخله وثمرة هذا النخل في يدي الرجل الآخر، أخذ الثمرة والنخل ولا يشبه الثمر الولد. ألا ترى أن لو أوصى بغلة نخلة عشر سنين جاز، ولو أوصى بما يصبغ ثيابه عشر سنين لا يجوز. قال هشام: أيضاً سألت محمداً عن أرض مزروعة حنطة، أقام آخر بينة أن الأرض له، أو قالت البينة لا ندري لمن الزرع، قال: إذا لم يعلم الزرع فالزرع يتبع الأرض، قلت فإن أقام الذي في يده الأرض بينة أنه هو الذي زرع، يجعل له الزرع، قال: نعم، قلت: فإن كان الزرع محصوداً أو كدساً والشهود لم يشهدوا بالزرع لأحد، قال: الزرع لمن في يديه الأرض. يجب أن يعلم أن الحائط المتنازع فيه لايخلو، إما أن لا يكون متصلاً ببنائهما ولكن يكون بين داريهما، أو يكون متصلاً ببناء أحدهما، والاتصال نوعان: اتصال تربيع، واتصال مجاورة وملازقة، ولايخلو إما أن يكون لهما عليه شيء من الجذوع والهراوي، أو كان لهما عليه جذوع أو كان لهما عليه هراوي أو كان لأحدهما عليه جذوع وللآخر هراوي. فإن لم يكن الحائط متصلاً ببنائهما، ولم يكن لهما عليه شيء من الجذوع وغيره، فإنه يقضى بالحائط بينهما، هكذا ذكر في «الأصل» وإنما كان كذلك لأنهما استويا في الدعوى وليس ثمة من ينازعهما فيه، وليس أحدهما بأولى من الآخر فيقضى بينهما، ومعنى قوله يقضي بينهما: أنه إذا عرف كونه في أيديهما يقضى بينهما قضاء ترك على ما كان، وإن لم يعرف كونه في أيديهما وادعى كل واحد منهما أنه ملكه وفي يديه يجعل في أيديهما، لأنه لا منازع لهما فيه، لا أنه يقضي بينهما. هذا كدار ادعاها رجلان يدعي كل واحد منهما أنه ملكه وفي يديه، فإن لم يعرف أنها في يديه يجعل في أيديهما، لأنه لا منازع لهما فيها لا أنه يقضي بينهما، وإن عرف

أنها في أيديهما يجعل في أيديهما على ما كان كذا ههنا. وكذلك إن كان لأحدهما عليه هراوي أو بواري، ولا شيء للآخر عليه يقضي بينهما، لأن موضع الهراوي لا يثبت على الحائط يد استعمال، لأن الحائط إنما يبتني للسقف، وذلك للوضع بالجذوع عليه لا بوضع البواري والهراوي، لأن السقف على الهراوي والبواري لا يمكن، وإنما توضع الهراوي والبواري للاستظلال، والحائط لا يبنى للاستظلال، وهو نظير ما لو كان لأحدهما على الحائط ثوب مغصوب مبسوط ولا شيء للآخر، وهناك يقضى بالحائط بينهما، لأن صاحب الثوب غير مستعمل للحائط بالطريق الذي قلنا كذا ههنا. وإن كان لأحدهما عليه جذوع ولا شيء للآخر، فإنه يقضى به لصاحب الجذوع، لأن لصاحب الجذوع يداً مستعملة وللآخر مجرد يد بلا استعمال، فيكون صاحب اليد المستعملة أولى، كدابة تنازع فيها اثنان أحدهما راكب والآخر أخذ بلجامها فالراكب أولى، وكذلك إذا كان لأحدهما عليها حمل وللآخر مخلاة، فصاحب الحمولة أولى، لأن له يد مستعملة وليس للآخر إلا مجرد يد بلا استعمال، وكثوب تنازع فيه اثنان وأحدهما لابسه والآخر متعلق بطرف منه، كان اللابس أولى، وكذلك هذا. وإنما اعتبر الاستعمال ترجيحاً إذا استويا في اليد، لأن للاستعمال زيادة دليل على الصدق ليس من جنس اليد فيصلح للترجيح كيد ذي اليد في دعوى النكاح والشراء من ثالث، فإن بينة ذي اليد تترجح باليد، لأن اليد دليل زائد على الصدق، وإنه من خلاف جنس البينة فصلح لترجيح إحدى البينتين، فكذا الاستعمال دليل زائد على الصدق، لأن الظاهر أن الاستعمال إنما يكون من المالك، كما أن الظاهر أن اليد تكون للمالك لا لغيره، وأنه ليس من جنس اليد لأن الاستعمال انتفاع بعد ثبوت اليد، فكان جنساً آخر سوى اليد فيصلح للترجيح، وكذلك إذا كان للآخر عليه هراوي؛ لأن الهراوي ليس باستعمال للحائط على ما بيّنا، فيكون وجوده وعدمه بمنزلة. وإن كان لأحدهما عليه جذوع وللآخر عليه (198ب4) حائط سترة، فالحائط الأسفل لصاحب الجذوع لكونه مستعملاً له موضع حمل مقصود عليه ولصاحب السترة، السترة على حالها بمنزلة سفل لأحدهما، وعليه علو لآخر. وإن كان لأحدهما جذع واحد، ولا شيء للآخر أو للآخر عليه هراوي هل يقضى لصاحب الجذوع الواحد؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا في ظاهر الرواية، وقال بعض مشايخنا: إنه لا يقضى لصاحب الجذع الواحد، لأن الحائط لا يبنى لوضع جذع واحد فكان كما إذا كان له عليه هراوي. وروى ابن سماعة عن محمد أنه قال: يقضى لصاحب الجذع الواحد، وذلك لأن لصاحب الجذع الواحد، وذلك لأن لصاحب الجذع مع اليد نوع استعمال، لأن وضع الجذوع استعمال للحائط قضينا لصاحب الجذوع، فيكون وضع جذع واحد استعمالاً للحائط بقدره، وليس للآخر ذلك فيكون صاحب الجذع الواحد أولى، بسبب الاستعمال

كما يكون أولى لو كان له جذوع ولا شيء للآخر عليه هراوي وبواري، هذا إذا لم يكن الحائط المتنازع فيه متصلاً ببنائهما. وأما إذا كان الحائط المتنازع فيه متصلاً ببنائهما إن كان اتصالهما جميعاً اتصال تربيع أو اتصال ملازقة، فإنه يقضى بينهما نصفان، لأنهما استويا في الدعوى والاتصال بالأرض والبناء جميعاً، ليقضى بهما نصفان، وأما إذا كانت اتصال أحدهما اتصال تربيع واتصال الآخر اتصال ملازقة، فصاحب التربيع أولى لأن صاحب التربيع مستعمل للحائط المتنازع فيه، لأن قوام الحائط بقدر التربيع بالحائط المتنازع فيه، لأن تفسير التربيع إذا كان الحائط من مدر أو آجر كان أنصاف لبن الحائط المتنازع فيه داخلاً في أنصاف لبن غير المتنازع فيه وأنصاف لبن غير المتنازع داخلاً في المتنازع فيه. وإن كان الجدار من خشب، فالتركيب أن يكون ساحة أحدهما مركبة في الأخرى، فأما إذا ثقب ودخل لا يكون تربيعاً، وإذا كان تفسير التربيع هذا كان لصاحب التربيع مع الاتصال نوع استعمال، وللآخر مجرد اتصال من غير استعمال، فيكون الاتصال أولى بمنزلة الراكب على الدابة والمتعلق باللجام، فإن الراكب أولى لأن له مع الاتصال استعمال فكذلك هذا، فأما إذا كان متصلاً ببناء أحدهما اتصال ملازقة واتصال تربيع، وليس للآخر اتصال ولا له عليه جذوع، فإنه يقضي لصاحب الاتصال، إن كان اتصال تربيع فلا إشكال وإن كان اتصال ملازقة فكذلك؛ لأنهما استويا في حق الاتصال بالأرض المملوك، ولأحدهما زيادة اتصال من خلاف جنس الأول، وهو الاتصال بالبناء فيترجح على الآخر. وكذلك إذا كان متصلاً ببناء أحدهما وللآخر عليه هراوي، يقضى لصاحب الاتصال، لأن الهراوي وجوده كعدمه، وإن كان لأحدهما اتصال تربيع وللآخر عليه جذوع، فإن كان الاتصال في طرفي الحائط المتنازع فيه فصاحب الاتصال أولى، عليه عامة المشايخ، وهكذا روي عن أبي يوسف في «الأمالي» وفسر الكرخي ذلك، فقال: أن يكون للحائط المتنازع فيه تداخل بجانبيه بحائطين لأحدهما، والحائطان متصلان بحائط آخر لصاحب الحائطين بمقابلة الحائط المتنازع، حتى يصير مربعاً شبه القبة فحينئذٍ يكون الكل في حكم بناء واحد، فصاحب هذا الاتصال أولى على ما ذكره الكرخي. وعن أبي يوسف رحمه الله: أن المعتبر اتصال جانبي الحائط المتنازع فيه بحائطين لأحدهما، أما اتصال الحائطين بحائط آخر له غير معتبر، وإن كان لوجدنا كذبه، قال شمس الأئمة السرخسي: عليه عامة المشايخ فقد ترجح صاحب الاتصال على صاحب الجذوع، وإن كان لكل واحد منهما على الحائط يد استعمال؛ لأن الاستعمال بالتربيع سابق على الاستعمال بالجذوع، لأن التربيع يكون حالة البناء وحالة البناء يكون سابقاً على وضع الجذوع، فالاستعمال بالتربيع يكون سابقاً على الاستعمال بوضع الجذوع، فكان صاحب الاتصال أولى لهذا إلا أنه لا يرفع جذوع الآخر، بخلاف ما لو أقام صاحب التربيع بينة على أن الحائط له، فإنه يرفع جذوع الآخر.

والفرق وهو: أن البينة حجة مطلقة، يظهر في حق الرفع والإبطال والاستحقاق على الغير، ألا ترى أن الملك الثابت بالبينة كما صلح للرفع صلح لاستحقاق الشفعة على الغير؟ فأما اتصال التربيع فهو نوع ظاهر، فالملك الثابت به ثابت بنوع ظاهر، والظاهر يصلح للرفع ولا يصلح لإبطال حق صاحب الجذوع، وإن كان الاتصال في طرف واحد، ذكر شيخ الإسلام أن صاحب الاتصال أولى، وبه أخذ الطحاوي والشيخ الفقيه عبد الله المرشد، وذكر شمس الأئمة السرخسي: أن صاحب الجذوع أولى، وإن كان في إعطاء الحائط المتنازع فيه عود مركب على عود هو على حائط أحدهما خاصة والآخر عليه جذوع، فصاحب الجذوع أولى، لأن صاحب الجذوع مستعمل للحائط بجذوعه، وللآخر مجرد اتصال. وإذا كان لأحدهما على الحائط عشر خشبات، وللآخر ثلاث خشبات فصاعداً إلى العشرة فالحائط بينهما، لأنهما استويا في الاستعمال الذي بني الحائط لأجله؛ لأن الحائط بني للسقف، والسقيف كما يصلح بالعشرة يحصل بما دون ذلك إلى الثلاث، فاستويا في اليد أكثر ما في الباب أن لصاحب العشرة زيادة استعمال، إلا أن الجنس واحد والترجيح لا يثبت بالزيادة في الجنس الواحد، فلهذا يقضي بينهما، هذا هو جواب ظاهر الرواية. وعن أبي يوسف في «الأمالي» إن أبا حنيفة كان يقول أولاً كما هو ظاهر الرواية ثم رجع وقال: يقضى لكل واحد منهما بما تحت خشبته، لأن ما تحت خشبته في يده وصاحبه خارج فيه، والقول قول صاحب اليد، والباقي بينهما لاستوائهما فيه. وعن أبي يوسف أنه كان يقول أولاً فيما إذا كان لأحدهما عليه

عشر خشبات، وللآخر ثلاثة كما هو ظاهر الرواية ثم رجع وقال: يقضى بالحائط لصاحب العشرة، لأن يد الاستعمال أقوى إلا أنه لا يؤمر الآخر برفع الجذوع، والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية. ولو كان لأحدهما عليه عشر خشبات إلى الثلاث وللآخر عليه ما دون الثلاث خشبة أو خشبات، فالحائط لصاحب الثلاث فصاعداً إلى العشرة ولصاحب ما دون الثلاث موضع جذعه مع أصل الحائط، ومعناه أنه يقضى بملك الحائط بينهما على قدر جذوعهما، لا أنه يقضى بملك الحائط لصاحب العشرة وللآخر مجرد حق الوضع، إذ لو كان المراد ذلك لكان يقال: الحائط لصاحب العشرة وللآخر حق وضع الجذع كما قال، وللآخر موضع جذعه مع أهل الحائط، علمنا أنه أراد به أن الحائط بينهما على عدد أجذاعهما، حتى أنه إذا كان لأحدهما عشر جذوع وللآخر جذع واحد يقضى بينهما، وهذا قول أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف، وكان ينبغي في القياس يقضى بينهما، هكذا ذكر الكرخي في «مختصره» ، قال في «النوازل» : وكان أبو حنيفة وأبو يوسف يقولان بالقياس أولاً ثم رجعا عنه. وذكر الحاكم الشهيد في «المختصر» في كتاب الدعوى: أنه إذا كان لأحدهما عليه عشر خشبات، وللآخر عليه خشبة واحدة، ذكر في كتاب الصلح: أن لكل واحد منهما ما تحت خشبته، ولا يقضى بينهما نصفان يستحسن ذلك في الخشبة الواحدة ونحوها في كتاب الإقرار هو لصاحب العشرة، إلا موضع الخشبة. قال القدوري: أراد بقوله في كتاب الإقرار هو لصاحب العشرة إلا موضع الخشبة استثناء حق الوضع يعني لصاحب القليل حق وضع خشبة. وفي «المنتقى» قال أبو يوسف: إذا كان لأحدهما على الحائط أجذع، وللآخر عليه أكثر من ذلك جعله بينهما نصفان، ثم قال بعد ذلك: إذا كان لأحدهما عليه ثلاثة وللآخر عليه عشرون (199أ4) فالحائط لصاحب العشرين ولصاحب الثلاثة موضع جذوعه وإنما أجعله بينهما نصفين إذا تقاربت أو كان لصاحب الأقل أكثر من نصف جذوع الآخر. وجه القياس في التسوية بين الجذع الواحد والثلاثة فصاعداً، يقضى بينهما نصفان: أن الاستعمال بوضع الخشبة يثبت يد صاحبها على الحائط، فلا تعتبر الكثرة بعد ذلك للترجيح، كما لو تنازعا في ثوب وعامته في يد أحدهما، وطرفه في يد الآخر، وجه رواية التسوية بين الثلاث وما زاد عليها، وترجيح الثلاث فصاعداً على ما دون الثلاث أن صاحب الثلاث ساوى صاحب ما زاد على الثلاث في الاستعمال الذي يبنى الحائط لأجله وهو التسقيف، فإن التسقيف يتأتى بالثلاث كما يتأتى بما زاد على الثلاث، وأما صاحب الواحد لا يساوي صاحب الثلاث في ذلك، لأن التسقيف لا يتأتى بالواحد، أو إن كان يتأتى ولكن بطريق الندرة وظهر الفرق من هذا الوجه وفي بعض المواضع: جعل الخشبتان بمنزلة الثلاث وبه أخذ بعض المشايخ، لأنه يمكن التسقيف بهما كما يمكن بالثلاث. ثم على رواية كتاب الصلح، إذا قضي لكل واحد منهما بما تحت خشبته إذا كان لأحدهما عليه عشرة، وللآخر عليه واحد كيف يقضى بما بين الخشبات؟ لم يذكر هذا في «الكتاب» وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يقضى على أحد عشر سهماً، وبعضهم قالوا: يقضى بينهما نصفان لاستوائهما في ذلك. ألا ترى أن في الدار التي فيها منازل وفي يدي رجل منزل منها وفي يد آخر باقي المنازل، إذا اختلفا بالساحة يقضى بالساحة بينهما لاستوائهما في الساحة، كذا ههنا، وقال بعضهم بمنزلة الواحدة إذ لا يمكن التسقيف بهما إلا على سبيل الندرة. ومما يتصل بهذا الفصل قال أبو حنيفة رحمه الله: في خُصّ بين رجلين والقمط إلى أحدهما، وادعى كل واحد منهما الخُصّ، فإنه يقضى بالخُصّ بينهما ولا ينظر إلى القمط، وقال أبو يوسف ومحمد: يقضى بالخُصّ لمن إليه القمط لأن الظاهر شاهد له؛ لأن الذي يشد الخُصّ يقوم

وقت الشد على سطحه فيكون القمط إليه. وعلى هذا إذا اختلفا في حائط بينهما، ووجه البناء و..... اللبن والطاقات إلى أحدهما يقضى بالحائط بينهما عند أبي حنيفة، ولا يقضى لمن إليه وجه البناء و.... اللبن والطاقات، وقال أبو يوسف ومحمد: يقضى لمن إليه وجه البناء و.... اللبن والطاقات؛ لأن الظاهر شاهد له؛ لأن الظاهر أن المالك هو الذي يجعل وجه البناء والطاقات إلى نفسه، ولأبي حنيفة أن القمط بعض، و.... اللبن والطاقات بعض، والشيء لا يكون دليلاً على نفسه، وما قالا يدل على الملك، أما لا يدل على الملك على الخصوص، فالإنسان كما يزين وجه جدار خاص يزين وجه جدار مشترك لأجل النظر والاستراحة، وكذلك في الجص قد يجعل القمط إلى جانب جاره ليسوي جانبه حتى.h .... فيسقط الاحتجاج به، بقي ما ذكرنا من الدليل خالياً عن المعارض. قال محمد رحمه الله: رجل له باب من داره في دار رجل، فأراد أن يمر من ذلك الباب، ومنعه صاحب الدار عن المرور في داره، وقال: ليس لك حق المرور في داري، وادعى صاحب الباب أن له حق المرور، فالقول قول صاحب الدار، لأنه صاحب يد في الطريق، لأن الدار بجميع أجزائها في يده وصاحب الباب خارج، والقول قول صاحب اليد، وعلى الخارج البينة، فإن جاء بشهود فشهدوا أنه كان يمر فيها من هذا الباب لم يستحق بذلك شيئاً وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، لأن هذه شهادة قامت على يده على الطريق في الزمان الماضي، فكانت شهادة بيد منقضيه، والشهادة بيد منقضيه باطلة عندهما. فإن شهدوا أن له طريقاً ثانياً فيها وسموا حدوده وبينوا طوله وعرضه بالذرعان، قبلت شهادتهم وقضي له بذلك، وكذلك إذا لم يبينوا حدوده ولا طوله ولا عرضه، تقبل شهادتهم ويقضى به بقدر عرض الباب الأعظم عرضاً، وإلى المسمى طولاً هكذا ذكر في «الكتاب» . من المشايخ من قال: المسألة مؤولة وتأويلها: أنهم شهدوا على إقرار المدعى عليه أن للمدعى عليه طريق ثابت في هذه الدار، أما لو شهدوا على الثبات لا تقبل شهادتهم، لأن مقدار الطريق متفاوت فهذه شهادة بالمجهول، والشهادة بالمجهول باطلة، والأصح: أن هذه الشهادة مقبولة على كل حال، لأن الجهالة إنما تمنع قبول الشهادة لتعذر القضاء

بالمشهود به، والقضاء بالمشهود به ههنا ممكن، لأن مقدار عرض الطريق حالة الاستثناء مقدر بعرض باب الدار، ألا ترى أن الشركاء لو اختلفوا في مقدار الطريق عرضاً يقدر بذلك. قال الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير رحمه الله: هذا إذا لم يثبتوا العرض والطول، لأن شهادتهم بدون الطول والعرض جائزة، وربما يصير بيان ذلك لرد الشهادة، وذكر أبو سليمان رحمه الله: إذا بين الطول والعرض فذلك أجوز، وقد ذكرنا شيئاً من ذلك في الفصل الثاني من «الكتاب» . وكذلك لو شهدوا أن أباه مات وترك طريقاً في هذه الدار ميراثاً له، قبلت الشهادة، وكذلك على هذا إذا كان له باب مفتوح من داره على حائطه في زقاق، وأنكر أهل الزقاق أن يكون له حق المرور في زقاقهم فلهم منعه، إلا أن تقوم له بينة على أن له طريقاً ثابتاً فيها، على نحو ما ذكرنا في الدار. وإذا كان لرجل ميراث في دار رجل فأراد رب الدار أن يمنعه من أن يسيل فيه الماء، فله منعه حتى يقيم البينة أن له حق تسييل الماء فيه وليس لصاحب الدار أيضاً أن يقطع الميراث، وهذا لأن وضع الميراث في الأصل محتمل يحتمل أن يكون بحق بأن شرط في القسمة لهذا الرجل حق تسييل الماء في دار هذا الرجل، ويحتمل أن يكون بغير حق، فبالشك لا يثبت لصاحب الميراث حق تسييل الماء ولا يثبت لصاحب الدار حق قطع الميراث، وذلك في كتاب الشرب، في نهر في أرض رجل يسيل فيه الماء، واختلفا في ذلك، فالقول قول صاحب الماء إلا أن في مسألة كتاب الشرب: وضع المسألة فيما إذا كان جارياً وقت الخصومة، وإذا كان جارياً وقت الخصومة لا شك أنه يكون القول قول صاحب الماء، لأن صاحب الماء في هذه الحالة صاحب يد في النهر، فيكون القول قوله فيه، وكان له حق تسييل الماء فيه إلا أن يقيم صاحب الأرض بينة أن النهر ملكه. وكذلك إذا لم يكن جارياً وقت الخصومة، إلا أنه علم أنه كان يجري إلى أرض هذا الرجل قبل ذلك، كان القول قول صاحب الماء، ويقضى له بالنهر إلا أن يقيم صاحب النهر بينة أن النهر ملكه، حتى أن في مسألة النهر إذا لم يكن الماء جارياً إلى أرض هذا الرجل وقت الخصومة، ولم يعلم بجريانه إلى أرضه قبل ذلك، فإنه يقضى لصاحب الأرض بالنهر إلا أن يقيم صاحب الماء بينة أن النهر ملكه. وفي مسألة الميراث وضع المسألة فيما إذا لم يكن الماء جارياً وقت الخصومة، ولا علم جريانه قبل ذلك، وإذا كان هكذا فصاحب الماء لا يكون صاحب يد في هذه الحالة، فلا يقبل قوله وهذا بلا خلاف بين المشايخ، فأما إذا كان الماء جارياً في الميراث وقت الخصومة: فقد اختلف المشايخ فيه، منهم من قال: القول قول صاحب الميراث كما في مسألة النهر، ومنهم من قال: القول قول صاحب الميراث، وفرّق هذا القائل بين مسألة النهر وبين مسألة الميراث. وذكر الفقيه أبو الليث عن المتأخرين من أصحابنا أنهم استحسنوا (199ب4) في

الميراث إذا كان تصويب سطح صاحب الميراث إلى موضع الميراث وعلم أن التصويب قديم أن يجعل له تسييل الماء؛ لأن الظاهر شاهد له والقديم حجة شرعية، فإن جاء صاحب الميراث ببينة فشهدوا أنهم رأوه يسيل فيه الماء فليست هذه الشهادة بشيء، وهو قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله لأنهم شهدوا له بيد منقضية، وإن شهدوا أن له مسيل ماء في هذا الميراث فإن عنوا أنه لماء المطر، أو لماء الوضوء؛ أو لماء الاغتسال فلا شك أن هذه الشهادة مقبولة، ويكون له ما شهدوا له به إن شهدوا أنه لماء الوضوء والاغتسال، فهو لماء الوضوء والاغتسال، وليس له أن يسيل فيه ماء المطر. وإن لم يثبتوا شيئاً من ذلك؛ ذكر في «الكتاب» أن الشهادة مقبولة واختلف المشايخ فيه؛ فمنهم من قال: المسألة مؤوَّلة وتأويلها: أنهم شهدوا على إقرار صاحب الدار أن له مسيل ماء في داره في هذا الميراث، وإذا كان هكذا لا شك أن الشهادة تقبل؛ لأنه ثبت إقراره بالبينة؛ وإقراره حجة عليه، ويرجع في البيان إليه أنه لماء المطر أو لماء الوضوء والاغتسال، فأما إذا شهدوا على ... ؟ ولم يثبتوا شيئاً من ذلك؛ لا تقبل الشهادة لأن العمل بإطلاق اللفظ هنا غير ممكن، لأن ضرر ماء المطر مع ضرر ماء الوضوء يقل ويدوم، وإذا كان الضرر مختلفاً كان الجنس مختلفاً، واللفظ الواحد لا ينتظم أمرين مختلفين كاسم القرء وأشباهه، وإنما يتناول أحدهما، وذلك الواحد مجهول فلا تقبل الشهادة. ومن المشايخ من قال: لو تقبل الشهادة ماذا يثبت بعضهم؟ قالوا: يثبت حق مسيل ماء المطر، ومنهم من قال: يثبت كلا الأمرين حق مسيل ماء المطر، وحق مسيل ماء الوضوء والاغتسال. ومنهم من قال: يؤمر صاحب الدار بالبيان؛ فإن قال: لماء الوضوء، فهو لماء الوضوء لا غير، وإن قال: لماء المطر فهو لماء المطر لا غير، ويحلف على الآخر؛ لأن هذا أمر يجري فيه البدل والإقرار فيجري فيه اليمين. وإن شهدوا أنه مسيل ماء دائم للوضوء والاغتسال وماء المطر فهو جائز، ويثبت جميع ذلك ولو لم يكن للمدعي بينة أصلاً استحلف صاحب الدار ويقضي فيه بالنكول. وفي «المنتقى» : قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن نهر عظيم الشرب لأهل قرى لا يحصون، حبسه قوم من أعلى النهر عن الأسفلين، وقالوا: هو لنا وفي أيدينا، وقال الذين في أسفل النهر: هو لنا كله ولا حق لكم فيه. قال: إذا كان النهر يجري إلى الأسفلين يوم يختصمون ترك على حاله يجري كما يجري وشربهم جميعاً منه كما كان وليس للأعلين أن يسكروه عنهم، وإن كان الماء منقطعاً عن الأسفلين يوم يختصمون ولكن علم أنه كان يجري إلى الأسفلين فيما مضى وأن أهل الأعلى يحبسوه عنهم، أو أقام أهل الأسفل بينة أن النهر كان يجري إليهم، وأن أهل الأعلى حبسوه عنهم أمر أهل الأعلى بإزالة الحبس عنهم، وهذه المسألة دليل على أن الشهادة على يد منقضية صحيحة

عند محمد. قال هشام: قلت لمحمد: أرأيت هؤلاء الذين لا يحصون إذا ادعى بعضهم هذا النهر، وأقام البينة أنه لقرى معلومة لا يحصى أهلها انقضى بها لتلك القرية بدعوى هذا وإقامته البينة والمدعى عليهم لا يحصون، وقد حضر بعضهم وفيهم الصغير والكبير؛ قال محمد رحمه الله: إذا كان هذا على ما يصف قائماً هذا النهر بمنزلة طريق من طرق المسلمين نافذ، فإن أقام قوم البينة أنه لهم دون غيرهم استحقوه وخرج من أن يكون بهذا لجماعة المسلمين، وصار لأهل تلك القرى خاصة، واكتفى القاضي بواحد من المدعين، وبواحد من المدعى عليهم، وإن كان النهر خاصاً لقوم معروفين يحصون؛ لم يقضِ عليهم بحضور واحد منهم وقضى على من حضر منهم. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا كان الدار التي يدعي فيها المسيل، أو الطريق بين ورثة، فأقر بعضهم بالمسيل والطريق وجحد ذلك الباقون لم يكن للمقر له أن يمر فيه والآن يسيل فيه الماء؛ لأن الإقرار بالطريق والمسيل من بعض الشركاء إقرار باطل؛ لأن الطريق والمسيل إنما يكون في مكان بعينه، وإقرار أحد الشريكين بمكان بعينه من الموضع المشترك إقرار باطل؛ لأن الساكت يتضرر بهذا الإقرار زيادة ضرر؛ لأنه يحتاج إلى قسمتين: قسمة مع المقر له حتى يتميز نصيبه، وقسمة أخرى مع المقر في هذا المكان المقر به وعند ذلك عسى يتفرق أنصباؤه، وفي ذلك ضرر له ويصرف بعض الشركاء في الموضع المشترك على وجه يوجب زيادة ضرر بالباقين باطل، وإذا بطل هذا الإقرار صار وجوده وعدمه بمنزلة ولو عدم كان الجواب كما قلنا، فهاهنا كذلك. وهذا بخلاف ما لو أقر بعض الشركاء بجزء شائع من الدار المشترك بينه وبين غيره حيث يصح الإقرار لأنه ليس في هذا الإقرار زيادة ضرر على ما في يد الشركاء؛ لأن الساكت لا يحتاج إلى قسمتين؛ إنما يحتاج إلى قسمة واحدة بينه وبين المقر ثم يدخل المقر له في نصيب المقر، وبخلاف ما لو أقر بعض الشركاء بنصيبه من الشراب أو ببعض نصيبه حيث يصح هذا الإقرار، وإن أقر بإجراء الماء في مكان بعينه وهو النهر كما في الطريق؛ لأنه ليس في هذا الإقرار زيادة ضرر بالساكت؛ لأنه لا يحتاج إلى قسمتين لأن قسمة الشرب إنما تكون من حيث المهايأة كما قبل الإقرار، ويصير لومة المقر له إن أقر له بجميع نصيبه، وإذا أقر له ببعض نصيبه يدخل المقر له في لومة المقر، فلا يلحق الساكت زيادة ضرر بهذا الإقرار أما هاهنا بخلافه. فإن قسم الورثة هذه الدار بعد هذا الإقرار من بعض الشركاء فوقع الطريق والمسيل في نصيب المقر يؤمر بتسليمه إلى المقر له، وينقلب ذلك الإقرار صحيحاً لزوال المانع من صحته، وهو ضرر الساكت، وإن وقع الطريق والمسيل في نصيب المقر، فالمقر يضرب بنصيبه إلا قدر الطريق والمسيل؛ هكذا ذكر في «الكتاب» ولم يحك فيه خلافاً. قالوا: ويجب أن يكون المذكور في الكتاب قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وعلى قول محمد: يضرب المقر له بنصف قيمة الطريق والمسيل، والمقر يضرب

بحصته إلا قدر قيم نصف الطريق والمسيل قياساً على مسألة كتاب الإقرار، فإنه ذكر في كتاب الإقرار: دار بين رجلين فيها عشر بيوت؛ أقر أحد الشريكين ببيت بعينه لآخر لا يصح إقراره للحال فإذا قسم المقر والساكت الدار فيما بينهم بعد ذلك إن وقع البيت المقر به في نصيب المقر، فإنه يؤمر بتسليمه إلى المقر له، وإن وقع في نصيب صاحبه ذكر أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ يضرب المقر له بجميع ذرعان البيت في نصيب المقر، والمقر يضرب بنصف ذرعان الدار إلا قدر ذرعان البيت حتى أنه إذا كان ذرعان البيت المقر به عشرة، وذرعان الباقي تسعون، فالمقر له يضرب بنصف ذرعان البيت، وذلك خمسة أذرع، والمقر يضرب بخمسة وأربعين، فهاهنا يجب أن يكون كذلك على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ يضرب له بجميع قيمة الطريق والمسيل، وعلى قول محمد يضرب بنصف قيمة الطريق والمسيل إلا أن في مسألة المسيل والطريق اعتبر القيمة، وفي مسألة البيت اعتبر القيمة وفي مسألة البيت اعتبر الذرعان؛ لأن المقر به في مسألة المسيل والطريق حق المرور، وحق مسيل الماء لا الرقبة، فلا يمكن اعتباره بالذراعان، والمقر به في مسألة البيت الرقبة فأمكن اعتباره بالذراعان. وطريق معرفة قيمة حق المرور ومسيل الماء أن ينظر إلى قيمة الدار، وفيها حق المرور للغير وإلى قيمتها، وليس فيها حق المرور لأحد، فإن كانت قيمتها وليس فيها حق المرور مئة، فنضرب المقر له بمئة عند أبي حنيفة وأبي يوسف، والمقر بأربعمئة، وعند محمد يضرب المقر له بخمسين، والمقر بأربعمئة وخمسين. وإذا كان مسيل (200أ4) ماء في دار رجل في قناة، فأراد صاحب القناة أن يجعله ميراثاً، فليس له ذلك إلا من صاحب الدار؛ أما إذا أراد أن يجعله ميراثاً على الهواء فلأنه يريد أن يشغل شيئاً من هواء داره، وأما إذا أراد أن يجعله ميراثاً على وجه الأرض، فلأنه يريد أن يزيل منفعة وجه الأرض عن صاحب الدار؛ لأن الماء في القناة يجري تحت القناة والآن يجري على وجه الأرض. ولو كان ميراثاً فأراد أن يجعله قناة فإن كان في ذلك ضرر على صاحب الدار بأن احتاج إلى حفر حافتي النهر لجعله قناة، فليس له ذلك إلا برضا صاحب الدار، وإن لم يكن في ذلك ضرر على صاحب الدار بأن لم يحتج إلى ذلك بأن كان الميراث عرضاً، فله ذلك وذكر الكرخي أنه إذا تساوى الأمران في الضرر فله أن يجعل القناة ميراثاً والميراث قناة. ومن المتأخرين من قال: ما ذكر محمد في «الكتاب» مجهول على ما إذا كان له حق المسيل لا غير، فأما إذا كانت البقعة التي يسيل فيها الماء ملكه، فله أن يتصرف فيها بما شاء، قال في «الكتاب» : وإن كان الميراث على الهواء، فليس له أن يجعله قناة ولم يفصل، بينما إذا كان لصاحب الأرض فيه ضرر أو لم يكن؛ لأن هاهنا يحتاج إلى حفر الأرض وإنه لا يخلو عن الضرر.

ولو أراد أهل الدار أن يبنوا حائطاً ليسدوا مسيله به لم يكن له ذلك، ولو بنى أهل الدار بناء ليسيل مسيله على ظهره فلهم ذلك. ولو كان لرجل طريق في دار رجل، فأراد صاحب الدار أن يقطع طريقه لم يكن له ذلك، وينبغي أن يتركوا في ساحة الدار عرض باب الدار. وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن رجل ادعى على رجل أن مجرى مائه في بستانه، ولم يكن الماء جارياً يوم اختصما فشهد شاهدان أنه كان جارياً إلى بستان هذا أمس؛ قال: كان أبو يوسف يجيز هذه الشهادة، وكان أبو حنيفة لا يجيزها ما لم يشهدوا له بالملك أو الحق، وهو قول محمد رحمه الله. ولو شهدوا على إقرار المدعى عليه بذلك جائز في قولهم وهو نظير ما لو ادعى رجل داراً في يدي رجل وشهد الشهود أن هذه الدار كانت في يد المدعي قبلت الشهادة عند أبي يوسف، وقضى بالدار للمدعي، وعلى قول أبي حنيفة ومحمد لا يقضي بالدار للمدعي، ولو شهدوا على إقرار المدعى عليه أنها كانت في يد المدعي قضى بالدار للمدعي. قال أيضاً: وسألته عمن ادعى قبل آخر ناوقة موضوعة على نهر هذا أمس جاء السيل حتى قلعها أمس وبقي بها. قال محمد رحمه الله: إذا شهدوا بذلك أمر به أن يعيد الناوقة كما كانت موضوعة قلت: فإن أراد أن يجري فيها الماء فمنعه صاحب النهر، وجحد أن يكون له فيها مجرى قال: له أن يمنعه حتى يقيم البينة على أن يجري ماء فيها، قلت: فما منفعته في ذلك إذا لم يسل؟ قال: يقول صاحب الميراث: إذا كان مركباً فربما أخذ بينة في الحال على أن يسيل مائي فيها فيمكنني تسييل الماء فيها من غير توقف. ذكر ابن سماعة في «نوادره» في الميراث الذي كان يجري فيها الماء في دار رجل إلى دار رجل؛ لا تقبل الشهادة في هذا في قول أبي حنيفة حتى يشهدوا أنه حق له، وقال أبو يوسف: إذا شهدا أن هذا مجرى مائه؛ كان له أن يجري فيه الماء، ولا يشترط أن يشهدوا له بالملك أو الحق وهذه المسألة ومسألة مجرى الماء في البستان سواء. وإن لم يكن لصاحب المجرى بينة في هذه المسائل يحلف صاحب الدار وصاحب البستان بأنه ليس له فيه حق، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: يحلف أنه ليس هذا مجرى مائه والله أعلم.

رجلان ادعيا عيناً في يدي رجل يدعي كل واحد أنه ملكه ورثه عن أبيه أو ادعيا الملك مطلقاً، وأقام كل واحد منهما بينة على دعواه، فظهرت عدالة شهود أحدهما، فالقاضي يقضي بالعين كله لمن ظهرت عدالة شهوده؛ لأن حقه قد ظهر من كل وجه وحق الآخر عسى يظهر، وعسى لا يظهر بأن لا يعدل شهوده وليس لمعرفة عدالة شهوده غاية معلومة ووقت معلوم، ولا يجوز تأخير حق ظاهر لحق موهوم به عسى لا يظهر وعسى يظهر، وليس لظهوره وقت معلوم وتبطل بينة الآخر حتى إذا ظهرت عدالتهم فالقاضي لا يقضي بشيء؛ لأن القاضي لما قضى بالعين كله للذي ظهرت عدالة شهوده مع قيامها يوجب القضاء بالنصف الآخر، وهو شهادة شهوده يضمن القضاء بالدار كله له إبطال بينة الآخر، والقاضي له ولاية إبطال البينة إذا لاح له دليل الإبطال، والقاضي إذا أبطل البينة في حادثة لا يجوز القضاء بها في تلك الحادثة أصلاً، وإن أقام الآخر بينة بعد ذلك على صاحبه المقضي له أن العين له قبل القاضي بينته وقضى بكل العين سواء جاء بشهود آخرين أو بتلك الشهود، لأنه لو لم يقبل شهوده إنما لم يقبل لصيرورته مقضياً عليه ببينة المقضي له، ولا وجه إليه؛ لأن بينة المقضي له قامت على صاحب يد الأول لا على المدعي الآخر. فإن قال المقضي له الأول بعد ذلك: أنا أعيد البينة على المقضي له الثاني أن العين لي، فالقاضي لا يلتفت إلى بينته؛ لأنه صار مقضياً عليه من جهة المقضي له الثاني. ولو ظهرت عدالة شهودهما وقضى القاضي بالعين بينهما لاستوائهما في الحجة، ثم أحد المدعيين أقام بينة أن العبد عبده لا ينتفع بهذه البينة ولا يقضى له على صاحبه بشيء؛ لأن كل واحد من المدعيين صار مقضياً عليه في النصف الذي قضى به لصاحبه؛ لأنه ببينته استحق الكل، ولولا بينة صاحبه يقضى بكل العبد، فإنما حرم كل واحد منهما عن النصف ببينة صاحبه، فصار هو مقضياً عليه من جهة صاحبه، والإنسان متى صار مقضياً عليه في شيء لا يصير مقضياً له في عين ذلك الشيء. فإن قيل: كيف يجعل كل واحد من المدعيين مقضياً عليه في النصف الذي قضى به لصاحبه، ولم يكن له في النصف ملك قبل القضاء لصاحبه؟ قلنا: إن لم يكن له فيه ملك فله حق الملك؛ لأنه أقام البينة أن الكل له، وإنها حقيقة الملك عند اتصال القضاء بها،

فقبل اتصال القضاء بها، فوجب حق الملك وحق الملك معتبر بحقيقة الملك ولو ثبتت الحقيقة يصير مقضياً عليه كذا هاهنا. ولو عدلت بينة أحدهما ولم تعدل بينة الآخر أو لم يقم الآخر شاهداً أصلاً أو أقام شاهداً واحداً، فقضي به لمن عدلت ببينة عادلة قضي له بالعين، وقبلت بينته؛ لأنه لو لم تقبل بينته إنما لم تقبل لصيرورته مقضياً عليه من جهة صاحبه؛ لأنه لم يكن له في المقضي به لا حقيقة الملك ولا حق الملك في انعدام الحجة الموجبة للقضاء، والقضاء على الإنسان بإزالة الاستحقاق الثابت، فإذا لم يكن الحق ثابتاً له كيف يتصور إزالته، فعلم أنه لم يصر مقضياً له، فسمع دعواه وبينته بعد ذلك. فلو كان كل واحد من المدعيين ادعى أن العين له أودعه من صاحب اليد، وأقام أحدهما البينة، فقبل أن يزكي بينته أقر ذو اليد أن العبد الذي لم يقم البينة أودعه إياه ذو اليد؛ قبلت بينته، وقضي له بالعبد؛ لأن المقر له لم يصر مقضياً عليه؛ لأن بينة غير المقر قامت على ذي اليد لا على المقر له، وجعل المقر له كالوكيل عنه. فإن قيل: الملك قد ثبت للمقر له بإقرار ذي اليد وبتصديق المقر له إياه ثم استحق عليه بالقضاء ببينة المدعي، فيجعل المقر له مقضياً عليه، قلنا: إقرار ذي اليد كان بعد إقامة المدعي البينة على ذي اليد (200ب4) وعند ظهور عدالة الشهود يثبت الاستحقاق من وقت الشهادة فظهر أن إقرار ذي اليد كان باطلاً، لأنه ظهر أنه لم يكن مالكاً للعبد، وإذا بطل إقرار ذي اليد بطل تصديق المقر له لأنه بناء عليه، وإذا بطل الإقرار والتصديق صار وجودهما والعدم بمنزلة، ولو عدم بمنزلة ولو عدما وباقي المسألة بحالها كان المقضي عليه الذي كان العبد في يده دون المقر كذا هاهنا. وكذلك لو أقام المقر له البينة على ما ذكرنا قبل القضاء لصاحب البينة يقضي للمقر له ويبطل بينة صاحبه؛ لأن بينة المقر له ظهر أن صاحبه أقام البينة على مودع المقر له وهو ليس بخصم، والبينة القائمة على غير الخصم باطلة. فإن قيل: بينة المدعي متى قامت على المودع إنما تبطل إذا كان المودع غائباً وقت إقامة البينة؛ أما إذا كان حاضراً كانت البينة مقبولة، وتكون إقامة البينة على المودع والمودع حاضر بمنزلة إقامة البينة على المودع، وهاهنا المقر له حاضر وقت إقامة المدعي البينة على مودعه، فصار بمنزلة ما لو أقام المدعي البينة على الذي كان العبد في يده حقيقة فهو غائب حكماً؛ لأنه ليس بخصم للمدعي وقت إقامة البينة؛ لأنه لم يكن له في العبد ملك ولا حق ملك وقت إقامة المدعي البينة، وكذا لم يثبت له زيادة خصوصية بهذا العبد ظهر من بين سائر الأجانب، وهو كونه بحال لو أقام شاهد يقضي له، فصار غائباً حكماً حتى لو كان المقر له أقام شاهداً واحداً قبل إقرار ذي اليد له بالعين ويثبت له زيادة خصوصية بهذا العين من بين سائر الناس وهو كونه بحال لو أقام شاهداً واحداً يستحق القضاء حتى كانت خصومته معتبرة وقت إقامة المدعي البينة على مودعه، فكان حاضراً حقيقة وحكماً كانت البينة القائمة على مودع المقر له بمنزلة القائمة على المقر له، فتقبل

بينته ويصير المقر مقضياً عليه، فلا تسمع بينته بعد ذلك.p فإن قال غير المقر له: أنا أعيد شهودي على المقر له هل يقبل شهود بينته؟ فهذا على وجهين: إن قال ذلك بعد ما قضى القاضي ببينة المقر له لا تسمع بينته؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه ثم يقضي له بجميع العبد؛ لأنه لما أعاد البينة، فقد أبرأ ذا اليد عن الخصومة، ورضي بنفاذ إقراره واستأنف الخصومة مع المقر له وله ولاية إبراء المقر عن الخصومة واستئناف الخصومة مع المقر له؛ لأن ما يدعيه غير المقر له في يد المقر له، فتقررت يد المقر له، واجتمع بين بينة الخارج وبينة ذي اليد وهو المقر له والدعوة في الملك المطلق، فكانت بينة الخارج أولى والله أعلم. إذا أرادت المرأة إثبات بقية مهرها على زوجها فلها ذلك، وإن لم يكن لهاحق المطالبة ببقية المهر في الحال، وكذلك ممن له الدين المؤجل إذا أراد إثباته فله ذلك، وإن لم يكن له حق المطالبة في الحال، وهذا لأن إثبات الحق لا يعتمد المطالبة للحال لامحالة؛ ألا ترى أن إثبات الدين على الميت على وارث لم يصل إليه شيء من تركة الميت صحيح، وإن لم يكن لرب الدين حق المطالبة في هذا الوارث إذا لم يصل له شيء من تركة الميت؟ ولكن يعتمد الفائدة. وللمرأة في إثبات بقية مهرها في الحال فائدة، وكذلك في إثبات الدين المؤجل في الحال لجواز أن شهوده يغيبون، فلا يقدر على إثبات الدين عند محل الأجل. ادعى على غيره عشرة دراهم دين وشهد الشهود أنه دفع إليه عشرة دراهم لا تقبل الشهادة؛ لأن دفع العشرة قد يكون لجهة أخرى غير الدين. قال هشام في «نوادره» : قلت لمحمد: رجل لي عليه ألف درهم، وللرجل على امرأته ألف درهم، فخاصما فيه، فأقامت المرأة شاهدين وأنا غائب أني أقررت أن الدراهم التي على هذا الرجل الذي يطالبها ملك لهذه المرأة لا شيء له فيها وإنما هي باسمي من ثمن عبد بعته لها والرجل الذي يطالب المرأة مقر بأن لي عليه ألف درهم أو منكر، فأقامت المرأة البينة أن لي عليه ألف درهم وأنا أقررت أن ملكها لها وأن اسمي في ذلك عارية؛ قال محمد رحمه الله: هذا أمر جائز، وشهادة قاطعة ادعى ديناً على ميت، فخص الوصي أو الوارث فلو حضر القاضي أو أحد الورثة بذلك يلزمه الدين في حصته حتى يستغرق جميع حصته؛ هكذا ذكر الخصاف في «أدب القاضي» في باب إثبات الدين والحقوق فهذه إشارة الى أن بمجرد إقرار بعض الورثة يلزمه كل الدين في نصيبه من

غير أن يحتاج فيه الى قضاء القاضي ألا ترى أنه قال: لو أقر أحد الورثة بذلك يلزمه الدين في حصته حتى يستغرق جميع حصته ولم يشترط فيه قضاء القاضي، وليس الأمر كذلك بل يحتاج الى قضاء للزوم المقر كل الدين في نصيبه؟ وإليه أشار محمد رحمه الله في «الزيادات» حيث قال: لو أقر الوارثان لرجل بالدين على الميت ومعهما ورثة أخرى فلم يقض القاضي بشيء بحكم إقرارهما حتى شهدا لذلك الرجل على الميت بذلك الدين قبلت شهادتهما، ولو قضى القاضي بالدين على المقرين في نصيبهما، ثم شهدا بذلك الدين لذلك الرجل على الميت لا تقبل شهادتهما؛ لأن في الوجه الأول لم يحولا إلى غيرهما بعض ما لزمها، ثم إنما لا يلزم المقر الدين في نصيبه خاصة بمجرد الإقرار قبل قضاء القاضي لوجهين: أحدهما: أن هذا إقرار في معنى الشهادة؛ لأنه إقرار على الغير، وهو الميت ثم الشهادة لا تصير موجبة إلا بقضاء القاضي، فكذا الإقرار الذي مر في معنى الشهادة. والثاني: أنه يحتمل أن رب الدين يجد بينة في ذلك أو يصدق باقي الورثة، فلو ألزمناه جميع الدين بإقراره في نصيبه في الحال فقد ألزمناه ذلك مع الاحتمال، وإنه لا يجوز، وإنما ينقطع هذا الإحتمال ويلزمه كل المال بقضاء القاضي. فإن قيل: إذا كان لا يلزم المقر كل الدين في نصيبه بمجرد إقراره فبأي طريق يقضي القاضي عليه بكل الدين. قلنا: طريقه أن الدين يقضي ممن أيسر المالين قضاء ألا ترى أنه إذا كان في التركة عين ودين، فالدين يقضى والدين دون العين، وألا ترى أن بعض التركة إذا كان حاضراً والبعض غائباً، فالدين يقضى من الحاضر إذا ثبت هذا فنقول إذا لم يجد رب الدين بينة، ولم يصدقه باقي الورثة فأيسر المالين قضاء يصيب المقر، فيقضي عليه بذلك حتى يوفى من نصيبه، وإن كان الدين متعلقاً بكل التركة. وفي كتاب «الأقضية» : رجل ادعى على رجل أن له على فلان ألف درهم، وأن فلاناً أمر هذا أن يدفعها إليه من هذا الألف التي عنده له، وجحد المودع الأمر بذلك، فأقام المدعي بينة على الألف الوديعة، والأمر بالدفع، وقضى القاضي عليه، فإنه يكون ذلك قضاءً على الغائب، وينتصب الحاضر خصماً عن الغائب. رب الوديعة إذا أقام البينة عل أن الورثة باعوا عيناً من التركة، والتركة مستغرقة بالدين، وقالت الورثة: إن أبانا باع هذا العبد في حياته، وأخذ الثمن، وأقاموا جميعاً البينة، فبينة رب الدار أولى؛ لأن رب الدين ببينته يثبت الضمان عليهم، وهم ينفون. في «فتاوى الفضلي» رحمه الله تعالى: إذا ادعى بعض الورثة على مورثه ديناً، وصدقه بعض الورثة، وكذبه البعض قالوا: يستوفى الدين من نصيب من صدقة بعد أن يطرح نصيب المدعي وقد ذكرنا....، من مسائل هذا الفصل في كتاب «أدب القاضي»

ادعى على ميت ألف درهم ديناً، وقضى القاضي له بذلك ببينة أقامها وأخذها، ثم جاء رجل آخر وادعى على الميت ألف درهم دين وأنكرت الورثة، وأقر الغريم الأول فإن ما أخذه الأول يكون بين الأول، وبين الثاني دعوى الدين على المودع لا تصح بخلاف دعوى الوارث عليه التركة إذا كانت مستغرقة بالدين فجاء غريم آخر وأراد إثبات دينه بالبينة، فإنما يثته على الوارث لا على غريم آخر، ولكن لا يحلف الوارث؛ لأن فائدة الحلف النكول الذي هو إقرار، والوارث لو أقر بالدين والتركة مستغرقة بالدين لا يصح إقراره، ولا يظهر الدين في حق غريم آخر، هذا هو المذكور في سائر الكتب، ولم يذكر في شيء من الكتب أنه هل يصح إقرار هذا الوارث في حق نفسه؛ حتى لو ظهر للميت مال آخر يستوفي دين (201أ4) هذا الغريم من نصيب الوارث المقر، وينبغي أن يصح، ولكن لا يحلفه لهذه الفائدة الموهومة، والله أعلم. قال محمد رحمه الله «الأصل» : رجل في يديه دار مبنية جاء رجل وأقام بينة أنها داره وذكرا البناء في شهادتهما أو لم يذكرا، ثم ماتا أو غابا قبل أن يسألهما القاضي عن البناء، فإن القاضي يقضي بالدار ببنائها للمدعي أما إذا ذكروا البناء فلا شك فيه، وأما إذا لم يذكروا البناء؛ فلأن البناء مركب في الأرض تركيب إفراز فيدخل تحت ذكر الأرض خصوصاً في ذكر الدار؛ لأن في الغالب تستعمل الدار في المبني، ثم إذا قضى القاضي للمدعي بالدار ببنائها أقر المدعي بعد ذلك وقال: ليس البناء لي وإنما هو للمدعى عليه ولم يزل له أو قال ذلك بعد الشهادة قبل القضاء، فإن هذا إكذاب للشاهد وبطلب الشهادة والقضاء في البناء والدار جميعاً وإن قال: البناء للمدعى عليه فهذا ليس بإكذاب لشهوده؛ هكذا المسألة في «الأقضية» . وذكر في آخر شهادات «الأصل» أن الشهود إذا ذكروا البناء في شهادتهم، وقضى القاضي بشهادتهم، ثم أقر المدعي بعد ذلك بالبناء للمدعى عليه كان ذلك إكذاباً لشهوده، وبطلت الشهادة والقضاء وإن لم يذكروا الثاني في شهادتهم وقضى عليهه بالدار والبناء، ثم أقر بالبناء للمدعى عليه لا يكون ذلك إكذاباً لشهوده. وجه الفرق على رواية شهادات «الأصل» : أن البناء إذا لم يكن ملفوظاً في الشهادة فالقضاء بالبناء ما كان لكونه مشهوداً بل تبعاً للأرض؛ لأن حكم الأصل يثبت في التبع إلا

إذا وجد دليل يوجب قطع التبعية، فإذا أقر المدعي بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه فهذا إقرار حجة قطعية عن التبعية وحجة أصلية في الملك لا أن يكون إكذاباً لتلك الشهادة، فأما إذا كان البناء ملفوظاً به في الشهادة فالقضاء بالبناء لكونه مشهوداً به فالإقرار بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه يكون إكذاباً للشهود، فيوجب بطلان الشهادة. ووجه التسوية على رواية كتاب «الأقضية» : أن مطلق اسم الدار في الغالب من كلام الناس وفي عاداتهم يستعمل بإزاء الأرض والبناء، والشرع يشهد لذلك حتى أن من حلف لا يدخل داراً، فدخل صحراء كانت داراً، وقد انهدم بناؤها لا يحنث، والثابت باعتبار العادة وعليه الاستعمال كالثابت بمطلق اللفظ حقيقة فاستوى ذكر البناء وعدمه. ثم على رواية كتاب «الأقضية» فرق بينما إذا قال المقضى له: ليس البناء لي وإنما هو للمدعى عليه، وبينما إذا قال: البناء للمدعى عليه يوم شهادة الشهود أو قال: لم يزل ملكاً للمقضي عليه فلم يجعل الإقرار تكذيباً للشهود وجعل الثاني والثالث تكذيباً. وعلى رواية كتاب «الشهادة» لم يفصل وجعل مطلق الإقرار بالبناء للمدعى عليه تكذيباً للشاهد إذا كان البناء مذكوراً في الشهادة. وجه ما ذكر في «الشهادات» : أن مطلق الإقرار بالبناء للمقضي عليه يناقض شهادة الشهود للمدعي بالبناء والإكذاب في حكم المناقضة. وجه ما ذكر في «الأقضية» : أن قوله: البناء ليس لي وإنما هو للمدعى عليه كلام محتمل يحتمل أنه للمقضي عليه؛ لأنه كان له يوم شهد الشهود فيكون إكذاباً للشهود ويحتمل أنه له؛ لأنه يملكه من جهة بعدما شهد الشهود فلا يكون إكذاباً بالاحتمال، ولا كذلك قوله: كان البناء لي يوم شهد الشهود، لم يزل ملكاً له. هذا إذا أقر المقضي له بعد القضاء له أن البناء ليس له، وأنه للمقضي عليه، ولو أن المقضي له لم يقر بذلك لكن المقضي عليه ادعى البناء لنفسه، فعلى رواية كتاب «الأقضية» لا تسمع دعواه ولا تسمع بينته إن ذكر الشهود البناء في شهادتهم وسمع دعوى المقضي عليه وإن ذكروا لم تسمع دعواه. وفي «المنتقى» وفي «الإملاء» عن محمد رحمه الله: رجل ادعى داراً في يدي رجل وأنكر الرجل الذي في يديه الدار حق المدعي فشهد للمدعي شاهدان أن الدار داره ولم يزيدوا على ذلك فلما زكوا، قال المدعى عليه: البناء بنائي أنا بنيته، وأراد أن يقيم البينة على ذلك قال: إن كان شهود المدعي حضوراً فالقاضي يسألهم عن البناء، فإن قالوا: البناء للمدعي مع الدار فالقاضي لا يلتفت إلى قول المدعى عليه وإن قالوا: لا ندري لمن البناء إلا أنا نشهد أن الأرض للمدعي فليس ذلك بإكذاب منهم بشهادتهم ويقضي للمدعى عليه بالبناء إن أقام البينة على البناء يؤمر بالهدم وتسليم الأرض إلى المدعي، وإن لم يحضر المدعى عليه ببينة على البناء قضى عليه القاضي بالأرض بشهادة شهود المدعي وأتبع الأرض للبناء، وإن جاء المدعى عليه بعد ذلك بالبيينة أن البناء بناؤه أخذه؛ لأن القاضي لم يقض على المدعى عليه بالبناء بشهادة الشهود وهذه الرواية توافق رواية شهادات «الأصل» .

ولو أن شهود المدعي شهدوا أن الدار للمدعي ثم ماتوا أو غابوا، فلم يقدر عليهم فلما أراد القاضي أن يقضي بالدار ببنائها للمدعي قال المدعى عليه: أنا أقيم البينة أن البناء بنائي لم يقبل ذلك منه ويقضي بالدار للمدعي ببنائها؛ لأن الشهود حين شهدوا بالدار فقد شهدوا بالبناء إلا أن يثبتوا أنهم لا يدرون لمن البناء فيكون على ما وصفت لك في أول المسألة. قال: ألا ترى أن القاضي لو قضى بالدار في هذا الوجه ببنائها للمدعي، ثم حضر شهوده وقالوا: إن البناء لم يكن للمدعي، إنما كان للمدعى عليه ضمنوا قيمة البناء للمدعى عليه، فإن قالوا للقاضي حين رجعوا عن البناء: ليس البناء للمدعي، ولا ندري لمن البناء لم يضمنوا من قيمة البناء شيئاً، وكان البناء للمدعي؛ وقيل للمدعى عليه: أقم البينة أن البناء بناؤك على الشهود الذين شهدوا للمدعي، فإن أقام عليهم البينة ضمنهم قيمة البناء؛ ألا ترى أن البناء دخل فيما شهدوا به. ولو شهد شهود المدعي أن الدار له، ولم يزيدوا على هذا، ثم ماتوا أو غابوا ثم جاء رجل آخر وادعى بناء هذه الدار لنفسه، وشهد له شاهدان آخران بذلك، فإن القاضي يقضي بالأرض للمدعي الذي شهد شهوده بالدار، ويقضي بالبناء بين المدعيين نصفين، فإن أقام المدعى عليه بينة أن البناء بناؤه قبل ذلك منه. ولو أن شهود المدعي بالدار شهدوا أن الأرض للمدعي وقالوا: لا ندري لمن البناء قضى بالأرض له، وقضى بالبناء لمدعي البناء خاصة. قال: وكذلك في جميع ما وصفت لك الأرض يكون فيها النخيل والأشجار فشهد شهود المدعي أن هذه الأرض له، فهذا بمنزلة شهادتهم بالدار إذا لم يفسروا، فالقاضي يقضي بالأرض، ويتبعها النخيل والشجر من غير أن يكون ذلك شهادة بالنخيل والشجر. وكذلك إذا شهدوا أن هذا الخاتم لفلان ولم يذكروا الفص، أو شهدوا أن هذا السيف لفلان ولم يذكروا الحلية، فالقاضي يقضي بالسيف وبالحلية، وبالخاتم والفص لفلان من غير أن يكون الفص والحلية مشهوداً به؛ حتى لو أقام المشهود عليه بينة أن البناء والفص والحلية له قبلت شهادتهم كان القاضي قضى بذلك للمدعي أو لم يقض. وفيه أيضاً: إذا شهد الشهود على رجل بجارية في يديه أنها لهذا المدعي وقضى القاضي له بها ثم غاب الشاهدان أو ماتا، وظهر للجارية ولد في يد المشهود عليه لم يره الشهود أخذه المدعي، وكذلك لو كانت الدار ظاهرة أو شهد الشهود بالجارية للمدعي ولم يتعرضوا للولد فالقاضي يقضي للمدعي بالجارية وبالولد. فإن قال الذي في يده الجارية: أنا أقيم (201ب4) بينة على أن الولد لي؛ لم يلتفت إلى بينته ويقضي بالجارية وولدها للمدعي، وإذا قضى القاضي بذلك ثم حضر الشهود وقالوا: لم يكن الولد للمدعي وإنما للمدعى عليه، فالقاضي لا يقضي بالولد للمدعى عليه، وإن أقام البينة على الولد، ولو كان الشهود حضوراً وسألهم القاضي عن

الولد قبل القضاء فقالوا: هو للمدعى عليه، أو قالوا: لا ندري لمن هو فالقاضي لا يقضي بالولد للمدعى عليه، وقالوا: لا ندري لمن هو فالقاضي لا يقضي في الولد بشيء، ويقضي بالجارية للمدعي، قال: ولا يشبه الولد في هذا الوجه البناء، وعلل فقال: لأن البناء موصول بالدار فقد أشار إلى أن شهود المدعي في مسألة الدار إذا قالوا وقت الشهادة بالدار: لا ندري لمن البناء إنه يقضي بالبناء لمدعي الدار. وإذا شهد الرجل بجارية في يدي رجل أنها له وقضي له بها، ثم غاب الشاهدان وظهر للجارية ولد في يد المشهود عليه لم يره الشهود، وأخذ المدعي الولد ثم رجع الشهود عن شهادتهم ضمنوا قيمة الأم والولد. قال: لأن الولد بمنزلة الأم، وكذلك لو كان الولد ظاهراً، وشهدوا بالأم، ولم يتعرضوا للولد، ثم رجعوا عن شهادتهم ضمنوا قيمة الأم والولد، وإن قالوا: الأم لهذا، والولد عبد للذي في يديه فهو كما قالوا. قال ابن سماعة في «نوادره» : قلت لمحمد رحمه الله: أو لا يسألهم عن أي وجه صار الولد عبداً له؟ قال: نعم، فإن أبوا أن يخبروا قبلت شهادتهم. هشام في «نوادره» : عن محمد أنه قال: سمعت أبا يوسف يقول: إذا كان في يدي رجل أمة وابنة هذه الأمة في يدي رجل آخر، أقام رجل بينته أن هذه أمته وأخذها لم يكن له على البنت سبيل. ولو أقام البينة على نخل في يدي رجل أنه نخله وثمرة هذا النخل في يدي رجل آخر أخذ الثمرة والنخيل، قال: ولا يشبه التمر الولد ألا ترى أنه لو أوصى بغلة نخلة عشر سنين جاز، ولو أوصى بما تضع شاته عشر سنين لم يجز. قال هشام: سألت محمداً عن أرض مزروعة حنطة أقام آخر بينة أن الأرض له وقال الشهود: لا ندري لمن الزرع، قال: إذا لم يعلم الزارع فالزرع يتبع الأرض، قلت: فإن أقام الذي في يديه الأرض بينة أنه هو الذي زرع، قال: أجعل الزرع له، قلت: فإن كان الزرع محصداً أو كدساً والشهود لم يشهدوا بالزرع لأحد قال: الزرع لمن في يده الأرض. ادعى عيناً في يدي إنسان أنه له ثم ادعى بعد ذلك أنه لفلان وكله بالخصومة فيه، وأقام البينة على ذلك قبلت بينته ولا يصير متناقضاً، ولو ادعى أنه لفلان وكله بالخصومة فيه أولاً، ثم ادعى أنه له وأقام البينة على ذلك يصير متناقضاً، ولا تقبل بينته إلا أن يوفق

فيقول: كان لفلان وكلني بالخصومة فيه ثم اشتريته منه بعد ذلك وأقام على ذلك بينة فحينئذٍ تقبل بينته. هكذا ذكر المسألة في «الأصل» ، وقد ذكرنا وجه الفرق في كتاب الشهادات من هذا الأصل. قال في «الأصل» أيضاً: ولو ادعى أنه لفلان وكله بالخصومة فيه لا تقبل بينته ويصير متناقضاً إلا أن يوفق. قال فيه أيضاً: والدين في هذا نظير العين حتى لو ادعى على رجل دين ألف درهم في صك جاء به باسمه، ثم ادعى أن ذلك المال وذلك الصك بعينه لفلان وكله بالخصومة فيه؛ قبلت بينته فلا يصير متناقضاً. أحد الورثة إذا أقر أن هذا المحدود ميراث عن أبينا، ثم ادعى أنه وصية عن أبي لابني فلان، وأقام البينة قبلت بينته، ولا يصير متناقضاً؛ لأن الكل ميراث، والميراث متروك الميت والكل متروك الميت. استأجر واد محدوداً إجارة طويلة مرسومة وأخذه من غير مقاطعة، وأقر المستأجر الثاني بالقبض أن المستأجر الأول مع المستأجر الثاني فسخا الإجارة الثانية بينهما، وطالب المستأجر الأول المستأجر الثاني بمال المقاطعة، فقال المستأجر الثاني: إن هذا المحدود كان للآجر الأول من يوم الإجارة الثانية الى هذا اليوم، ولم يجب علي مال المقاطعة، وأقام البينة فقد قيل: تصح دعواه وتقبل بينته على ذلك، كأنه قال: غصب مني الآجر الأول، ولكن هذا بعيد والصحيح أنه لا تصح دعواه ولا تقبل بينته لمكان التناقض، ولو أقام المستأجر الأول بينة على أن الثاني قد قبض المستأجر وأقام الثاني بينة على أنها كانت في يد الأول تمام المدة فبينة الأول أولى؛ لأنه يثبت الأجرة في ذمة الثاني ببينته، والثاني ببينته ينفي ذلك. إذا استحق العبد من يد المشتري وقضى القاضي بالعبد المستحق، فأراد المشتري أن يرجع على بائعه فادعى البائع أنه نتج عنده، ولم يمكنه إثباته، ورجع المشتري عليه بالثمن بقضاء القاضي، فأراد البائع أن يرجع على بائعه بالثمن، وصدقه بائعه في الشراء منه؛ له أن يرجع على بائعه، وإن زعم أن العبد نتج عنده، فيكون دعوى الشراء من غيره تناقضاً منه إلا أن التناقض يرتفع لتصديق الخصم؛ ولأن القاضي لما قضى عليه بالثمن للمستحق فقد كذبه فيما زعم من نتاج العبد عنده والتحق دعوى النتاج بالعدم، وكذلك لو أنكر بائعه الشراء منه، فأقام بينة هو على الشراء منه رجع عليه بالثمن، وإن صار متناقضاً لما زعم أن العبد نتج عنده؛ لأنه صار مكذباً فيما زعم على ما ذكرنا. قال الشيخ الإمام الأجل نجم الدين النسفي: عن رجل ادعى لرجل ديناً من الدراهم أو الدنانير، فقال المدعى عليه: قد قبضتها في سوق سمرقند وطلب منه البينة، فلم يجد بينة على ذلك، ثم ادعى القضاء بعد ذلك في قرية كذا، وأقام على ذلك بينة هل يكون تناقضاً؟ وهل تبطل دعواه؟ قال: لا تبطل دعواه إن وفق. ولم يبين وجه التوفيق ووجه ذلك: أن يقول: قبضتها في سوق سمرقند كما ادعيت أولاً فجحدني القضاء وعجزت عن إثباته بالبينة فقبضتها ثانياً في قرية كذا، وقيل: على

الرواية التي لا يشترط التوفيق ويكتفى بإمكان التوفيق ينبغي أن لا يبطل دعواه، ويقبل ذلك منه من غير توفيق. إذا ادعى رجل داراً في يدي رجل أنها داره ورثها من أخيه ثم ادعى أنه اشتراها من أخيه في حياته وصحته، وأقام على ذلك بينة لا تقبل بينته، وبمثله لو ادعى الشراء أولاً من أخيه في حياته وصحته ثم ادعى الإرث وأقام على ذلك بينة تقبل بينته؛ لأن في الفصل الأول التوفيق بين الكلامين غير ممكن فيثبت التناقض، وفي الفصل الثاني التوفيق بين الكلامين ممكن، فلا يثبت التناقض. إذا قال المدعى عليه الدين: أين مبلغ مال كدعوى مسيكنى بتور سانيده، أم ثم قال: بفلان حوالة كرده بودم واورسانيده است، فقد قيل: لا تسمع هذه المقالة الثانية لمكان التناقض، وقيل: تسمع ولا تناقض؛ لأن إيفاء المحتال عليه إيفاء المحيل معنى. ألا ترى من حلف ليعطين فلاناً حقه فأحاله على غيره وقبض من المحتال عليه بر الحالف في يمينه، وكذلك لو حلف لا يعطي فلاناً حقه فأحاله على غيره وقبضه المحتال له؛ حنث في يمينه، وجعل إعطاء المحتال عليه بأمر المحيل، إعطاء المحيل معنى.t في «مجموع النوازل» سئل نجم الدين النسفي: عن رجل ادعى ديناً في تركة ميت؛ وصدقه الوارث في ذلك وضمن له إيفاء الدين، ثم ادعى هذا الوارث بعد ذلك أن الميت قد كان قضى المال في حياته، وأراد إثبات ذلك بالبينة؛ قال: لا تصح دعواه ولا تسمع بينته، وهذا ظاهر لأنه متناقض؛ لأنه أقر بوجوب المال أولاً، وبدعوى القضاء يدعى أنه غير واجب، وهذا تناقض ظاهر. سئل هو أيضاً: عن رجل خلع امرأته؛ وقال في ذلك المجلس: مرا دراين خانه سيح جيز نهبت، ثم ادعى عليه أشياء من الأقمشة التي هي في ذلك البيت؛ هل تصح دعواه؟ قال: إن كان قال: هذه الأقمشة كانت (202أ4) في البيت وقت الخلع لا تصح دعواه لمكان التناقض وهذا ظاهر، وإن قال: لم تكن هذه الأشياء في ذلك البيت وقت الخلع تصح دعوته، وعندي أن فيما إذا أنكر الزوج كون هذه الأشياء في البيت وقت الخلع يجب أن يكون الجواب على التفصيل إن كانت دعوى الأقمشة بعد إقرار الزوج من ادراين خانه ينتج جيز نهبت، في مدة لا يمكن إدخال تلك الأشياء في البيت في تلك المدة؛ لا تصح دعواه، لأنا تيقنا بكون هذه الأشياء في البيت وقت الخلع إذا كانت الحالة هذه، وإن كان دعوى الأقمشة بعد إقراره ذلك في مدة يمكنه إدخال تلك الأشياء في البيت في تلك المدة تصح دعواه؛ لأنا لم نتيقن بكون هذه الأشياء في البيت وقت الخلع؛ إذا كانت الحالة. هذه وجنس هذه المسألة في شهادات «الجامع» من شرحي. ادعى على رجل مقداراً معلوماً من مال الشركة في يده، وأنكر المدعى عليه الشركة، والمال، ثم إن المدعي ادعى ذلك المال المقدر بجهة الدين، تسمع دعواه ثانياً ولا يصير متناقضاً؛ لأن مال الشركة يصير مضموناً على الشريك، ديناً في ذمته عند جحوده، فيمكن الجمع بين الدعوتين إذ يمكنه أن يقول: كان لي في يده هذا المقدار بجهة الشركة، وصار

ديناً عليه حين أنكر الشركة والدين، ولو كان ادعى ذلك المقدار بجهة الدين أولاً، ثم ادعاه بجهة الشركة؛ لا تسمع دعواه ثانياً، ويثبت التناقض لأن الدين لا يصير مال الشركة بحال. ولو ادعى على آخر أن له في يده كذا، كذا من مال الشركة، فأنكر المدعى عليه الشركة، ثم إن المدعى عليه ادعى دفع ذلك المال إلى المدعي، فإن كان أنكر الشركة أصلاً بأن قال: لم يكن بيننا شركة أصلاً، وما دفعت إليَّ شيئاً من المال، لا تسمع منه دعوى دفع المال لمكان التناقض، وإن أنكر الشركة والمال في الحال، بأن قال: لا شركة بيننا، وليس لك في يدي مال الشركة، تسمع منه دفع المال ولا تناقض هاهنا. يوضحه: أن مال الشركة وديعة في يد الشريك، والجواب في المودع إذا أنكر الوديعة، ثم ادعى الرد على التفصيل الذي ذكرنا كذا هاهنا. وإن ادعى الأول في فصل الوديعة والشركة فيما إذا أنكر الإيداع أو الشركة أصلاً وقال: إنك أبرأتني عن دعواك قبلي صحت الدعوى؛ لأن بالجحود يصير الوديعة، ومال الشركة ديناً فيستقيم دعوى الإبراء إذ لا تناقض ثمة، ولا كذلك في دعوى الدفع. صبي له عقار موروثة ادعى بعد بلوغه أن وصيه باع عقاره مكرهاً، وسلمه مكرهاً فلم يملكه المشتري وعليه رده علي، ثم ادعى أن الوصي قد كان باعه بغبن فاحش صحت منه الدعوى الثانية وقبلت بينته لعدم التنافي بجوابه، باع مكرهاً بغبن فاحش فالجمع بين الدعوتين ممكن من هذا الوجه. وإذا قال: أدعي عيناً في يد رجل ملكاً مطلقاً، ثم ادعاه في وقت آخر على ذلك الرجل عند ذلك القاضي بسبب حادث صح دعواه، ولو ادعى أولاً الملك بسبب، ثم ادعاه بعد ذلك الرجل ملكاً مطلقاً عند ذلك القاضي؛ لا يصح دعواه هكذا، ذكر في دعوى «أجناس الناطفي» . والفرق: أن الملك القديم يجوز أن يصير ملكاً حادثاً؛ لأن المملوك أول من أمس يجوز أن يصير مملوكاً أمس ملكاً حادثاً، بسبب حادث بأن يبيعه ثم يشتريه، فالتوفيق بين الدعوتين ممكن فتصح الدعوى الثانية، فأما الملك الحادث لا يجوز أن يصير ملكاً قديماً؛ لأن المملوك أمس لا يتصور أن يكون مملوكاً أول من أمس، فالتوفيق بين الدعوتين غير ممكن، فلا تصح دعواه الثانية. ولو ادعى النتاج أولاً في ذاته، ثم ادعاها بعد ذلك بسبب عند ذلك القاضي ينبغي أن لا يصح دعواه الثاني، بخلاف ما إذا ادعى الملك المطلق أولاً، ثم ادعاه بعد ذلك بسبب عند ذلك القاضي. والفرق: أن دعوى النتاج على ذي اليد لا تحتمل دعوى ملك حادث من جهته؛ إذ لا يتصور التملك بالنتاج من جهة غيره، ألا ترى أنه لو كان ادعى أن هذه الدابة ملكه بالنتاج من جهة ذي اليد، لم تكن دعواه صحيحة، فلا يمكن أن يجعل كلامه الثاني بياناً لكلامه الأول، بل يكون كلاماً آخر مخالفاً لكلامه فيصير متناقضاً؟ أما دعوى الملك

المطلق على ذي اليد يحتمل دعوى ملك حادث من جهة ذي اليد فأمكن أن يجعل كلامه الثاني بياناً لكلامه الأول، وبالبيان يتقدر الكلام ولا يتناقض. وإذا قال عند غير هذا القاضي: هذا العين ملكي بسبب الشراء من فلان، أو قال: بسبب الإرث من فلان، ثم ادعى ذلك العين عند قاضٍ من القضاة ملكاً مطلقاً، فالقاضي لا يسمع دعواه إذا ثبت عنده أنه قد قال قبل هذا: إن هذا العين ملكي بسبب كذا، وهذا إذا كان ادعى الشراء من رجل معلوم بأن ذكر اسم ذلك الرجل، واسم أبيه، واسم جده، أو ما أشبه ذلك من الأسباب التي يقع بها التعريف، فأما إذا كان ادعى الشراء من رجل مجهول بأن قال: اشتريته من محمد، ولم يزد عليه، ثم ادعاه بعد ذلك عند القاضي ملكاً مطلقاً، فالقاضي يسمع دعواه، وإن ثبت عند القاضي أنه قد قال قبل هذا: إن العين ملكي بسبب كذا. والفرق: أنه إذا ادعى الشراء من غيره فقد أقر بالملك لذلك الغير؛ لأن كل مشترٍ مقر لبائعه فيما اشترى منه، وقد صح هذا الإقرار منه إذا كان البائع معلوماً؛ لأنه إقرار بالمعلوم للمعلوم، فيثبت به الملك لفلان بإقراره، وبعدما ثبت الملك لفلان؛ لا يمكنه إثباته لنفسه إلا بسبب يوجب الانتقال، ودعوى الملك المطلق بعد ذلك لا يتعرض بسبب الانتقال، فلا يثبت به الانتقال، وهو المحتاج إليه، وفيما إذا كان البائع مجهولاً لم يصح منه الإقرار؛ لأن الإقرار للمجهول لا يصح، فصار كأنه لم يدَّع الشراء أصلاً، وهناك يصح منه دعوى الملك المطلق فهاهنا كذلك. وإذا ادعى داراً في يدي رجل ملكاً بسبب الشراء، أو أظهر أن الدار المدعى به يوم الدعوى لم تكن في يد المدعى عليه، بل كانت في يد غيره، ثم هذا المدعي ادعى هذه الدار في مجلس آخر على صاحب اليد ملكاً مطلقاً، فقد قيل: تسمع دعواه؛ لأن الدعوى الأول وقع باطلاً فصار وجوده والعدم بمنزلة. وقيل: لا يسمع دعواه وهو الأصح؛ لأن بدعواه الأول ادعى استحقاق الدار لنفسه ملكاً مطلقاً وهذا أمر عليه، فلأن لم تعتبر دعواه الأول في حق إثبات استحقاق الدار لنفسه، يعتبر في حق بطلان دعواه الملك المطلق لنفسه بعد ذلك. يوضحه: أن دعواه الدار على غير صاحب اليد بسبب كذا، لا يكون أدنى حالاً من إقراره أن الدار له بسبب كذا عند غير صاحب اليد، وذلك يبطل دعواه الدارملكاً مطلقاً بعد ذلك فكذلك دعواه. سئل القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي عمن ادعى نصف دار معين في يدي رجل، ثم ادعاه بعد ذلك جميعها، قال: لا يسمع دعواه ولو كان على العكس يسمع، والصواب: أنه يسمع في الوجهين جميعاً، إلا إذا كان. قال: وقت دعوى النصف لا حق لي فيها سوى النصف فحينئذ لا يسمع دعواه جميعها ما كان التناقض وبدونه لا تناقض فيصح الدعوى. وذكر في آخر بيوع «الزيادات» : رجل اشترى من رجل عبداً، ثم إن البائع ادعى أنه

كان فضولياً في هذا البيع، وأراد استرداد العبد من يد المشتري، وأنكر المشتري ذلك، أو ادعى المشتري أن البائع كان فضولياً في هذا البيع، وأراد رد العبد، واسترداد الثمن؛ لا يصح دعواه، لأن إقدامه على هذا العقد إقرار منه بصحة هذا العقد ونفاذه، وذلك بالملك له أو بالأمر من المالك، فالذي يدعي كونه فضولياً في البيع منكر نفاذه بعد ما أقر به، وأنه مناقض ظاهر وإن أراد أن يقيم بينة على ما ادعى من كونه فضولياً في البيع لا تسمع بينته، وكذلك لو لم (202ب4) يكن له بينة وأراد أن يحلف صاحبه على ما ادعى من كونه فضولياً في البيع ليس له ذلك؛ لأن سماع البينة والتحليف يترتبان على صحة الدعوى، وهذه الدعوى لم تصح هاهنا لمكان التناقض. ذكر في «المأذون الكبير» : العبد المأذون، إذا اشترى عبداً وقبضه ثم أقر أن هذا العبد الذي اشتراه من فلان قد كان فلان أعتقه قبل أن يبيعه منه، فاشتراه وهو حر وأنكر البائع ذلك فإن العبد مملوك له على حاله، ولا يصدق المأذون على ما أقر به البائع الأول، لأن المشتري من البائع لو كان حراً وأقرَّ بمثل ما أقر به المأذون لايصدق على البائع، فكذا إذا كان المشتري مأذوناً إلا أن المشتري إذا كان حراً فالعبد يعتق عليه بحكم إقراره، وإذا كان عبداً مأذوناً فالعتق لا يعتق عليه؛ لأن هذا إقرار بحرية طارئة بعد الرق وإنه صحيح من الحر غير صحيح من العبد المأذون. ولو كان العبد المأذون لم يقر بذلك وإنما أقر أن البائع كان باع هذا العبد من فلان قبل أن يبيعه مني، وصدقه فلان في ذلك وكذبه البائع، فإن المأذون لا يصدق فيما ادعى على البائع حتى لا يسترد الثمن من البائع ويصدق في حق نفسه، حتى يؤمر بدفع العبد إلى فلان؛ لأن المأذون أقر بعين في يده أنه لأجنبي، وإقرار المأذون بذلك صحيح في حق نفسه، وإن أقر البائع بما ادعاه المأذون رجع المأذون على البائع بالثمن. وكذلك لو أقام المأذون البينة على ما ادعى على البائع، أو حلف المأذون البائع على ما ادعى ولكل رجع المأذون على البائع بالثمن فقد جمع رحمه الله بين ثلاثة فصول؛ أقر البائع بما ادعاه المأذون، وإقامة المأذون البينة على البائع وتحليف المأذون البائع على ما ادعاه. وأجاب في الكل أن المأذون رجع على البائع بالثمن، وهذا الجواب ظاهر في فصل الإقرار؛ لأن أكثر ما في الباب أن دعوى المأذون لا تصح لمكان التناقض، وصار من حيث التقدير كأنه لم يدعِ، فأقر البائع يصح، لأن الدعوى ليس بشرط لصحة الإقرار، وإذا صح إقرار البائع لزمه رد الثمن لأن المبيع لم يسلم للمأذون من جهة البائع بزعمه، والمأذون صدقه في ذلك فكان له أن يرجع بالثمن، إما.... في فصل إقامة البينة وفي تحليف البائع، وكان ينبغي أن لا يسمع البينة من المأذون على ما ادعى، ولا يكون له حق التحليف البائع على ما ادعى؛ لأن سماع البينة يترتب على دعوى صحيحة، وكذا حق

التحليف يترتب على دعوى صحيحة، وهذا الدعوى من المأذون لم يصح لمكان التناقض؛ لأنه يدعي أن البائع باع منه المغصوب وإقدامه على الشراء إقرار منه أن المشتري ليس بمغصوب فهو معنى أن المأذون متناقض في هذه الدعوى، والتقريب ما ذكرنا. وقد وضح محمد رحمه الله هذه المسألة في «الزيادات» ، أو في «الجامع» : في الحر، وذكر أن المشتري لو أقام البينة على ما ادعى في بيع البائع المبيع من غيره، قبل أن يبيعه منه أنه لا يسمع دعواه، ولو أراد أن يحلف البائع على ذلك ليس له ذلك؛ لأن دعواه لم تصح لمكان التناقض على ما ذكرنا، فلا يترتب عليه سماع البينة والتحليف، فمن مشايخنا من لم يصحح ما ذكرنا في المأذون، ومنهم من صححه، واختلفوا فيما بينهم. قال بعضهم: في المسألة روايتان على رواية «الزيادات» و «الجامع» لا تسمع البينة ولا يحلف البائع وعلى رواية «المأذون» تسمع البينة ويحلف البائع. وجه ما ذكر في «المأذون» : أن المناقضة ثابتة من حيث الظاهر، لا من حيث النص، فإن المشتري لم يقرَ نصاً أن البائع ليس بغاصب، وإنما أثبتنا هذا الإقرار من حيث الظاهر، فإن الظاهر أن العاقل المسلم لا يشتري من الغاصب، والظاهر يصح حجة للدفع لا للإبطال، فلم يجز إبطال بينة المشتري بالمناقضة الثابتة من حيث الظاهر، فكانت البينة مقبولة واليمين مستحق حتى لو أقر المشتري نصاً أن البائع ليس بغاصب، وإنه بسبيل من بيعه، ثم ادعى أنه كان غاصباً، ولم يكن بسبيل من بيعه لم تصح دعواه، ولم تسمع بينته على الروايات كلها، وقال بعضهم: ما ذكر في «الزيادات» و «الجامع» قياس وما ذكر في «المأذون» استحسان. وفي «الأجناس» : مشتري الأرض إذا أقر أن الأرض المشتراة مقبرة أو مسجد، وأنفذ القاضي إقراره بحضرة من يخاصمه، ثم أقام المشتري البينة على البائع ليرجع بالثمن عليه، قبلت بينته. وفي «فتاوى أبي الليث» : دار في يدي رجل ادعى أخوه شركة فيها من جهة أنهما ورثاها من أبيهما فلان؛ فقال الذي في يديه الدار: ما كان لأبي في هذه الدار حق، أو قال: ما كانت هذه الدار لأبي، ثم إنه أقام البينة أنه كان اشترى هذه الدار من أبيه في حياته وصحته قبلت بينته، لأن التوفيق بين الكلامين ممكن، فإنه يمكنه أن يقول: لم يكن لأبي وقت الموت ولم يصر ميراثاً بيننا لما أنه قد كان باعها مني قبل ذلك. ولو قال: لم يكن لأبي قط، أو قال: لم يكن لأبي فيها حق قط، ثم ادعى الشراء بعد ذلك من أبيه، لم يسمع دعواه، ولم يقبل بينته لأن التوفيق هاهنا غير ممكن، وإن ادعى إقرار الأب في هذه الصورة بعد ذلك يسمع دعواه؛ لأن التوفيق بين دعوى إقرار الأب بالدار له، وبين ما تقدم من مقالته أنها لم تكن لأبيه ممكن، لأنه يمكنه أن يقول: ما كانت لأبي لأنها كانت لي، وقد أقر لي بها، وأقرار الإنسان بالعين لغيره إذا لم يكن مملوكاً له صحيح.

وفيه أيضاً: رجل اشترى كرماً من امرأة وادعى ابنها وهو غير بالغ أن هذا الكرم له ورثه من أبيه وصدقته الأم وزعمت أنها ما كانت وصية بجهة صحيحة يوم البيع، وقد كانت أقرت يوم البيع أنها كانت وصية من جهة أبيه. قال: دعوى الابن باطل إلا أن يكون مأذوناً في التجارة، أو مأذوناً في الخصومة من جهة من له عليه ولاية، وتصدق المرأة على نفسها فيضمن فيه قيمة ما باعت، ولا تصدق على المشتري، ووجوب الضمان عليهما قولهما، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله بناءً على ما مر قبل هذا أن في وجوب ضمان العقار والبيع والتسليم روايتان. عن أبي حنيفة: رجل مات وترك بنتاً وابنين؛ فادعى أحد الابنين أن أبانا باع هذه الدار منا في حال صغرنا، وأبرأنا من الثمن، واليوم هذه الدار ملكنا أثلاثاً؛ ثلثاه للابن، وثلثه للبنت، فقد قيل: لا تصح هذه الدعوى لأن قولهما في الابتداء: باع هذه الدار هنا يوجب التسوية بينهما وقد صرح بالمثالثة في الانتهاء، ولكن هذا بعيد لأن قولهما في الابتداء: باع هذه الدار يحتمل المثالثة. ألا ترى أن من قال لرجلين: بعت منكما هذه العين على أن ثلثيه لهذا، وثلثه لهذا صح، فتصريحهما بالمثالثة في الانتهاء تعيين ما احتمله في ابتداء الكلام، وإنه لا يوجب تناقضاً، ولكن ينبغي أن يثبتا أن البيع كان في حالة الصحة، وبدونه لا يسمع دعواهما؛ لأن البيع من الوارث في مرض موت المورث لا يصح عند أبي حنيفة أصلاً. ادعت المرأة مهر المثل ثم ادعت بعد ذلك المسمى يسمع دعواها الثاني، لأن في الوجه الأول الجمع بين الدعوتين ممكن، ولا كذلك في الوجه الثاني. في «مجموع النوازل» : رجل ادعى على رجل عند القاضي أنه غصب منه غلاماً تركياً، وبين صفاته، وطلب إحضاره ليدعيه ويقيم عليه حجة، فأحضر المدعى عليه غلاماً بعض صفاته تخالف بعض ما وصفه المدعي، فادعى المدعي هذا العبد وقال: هذا العبد ملكي، وأقام عليه البينة سمع دعواه، وقبل منه البينة، هكذا ذكر، وهذا الجواب مستقيم فيما إذا قال: هذا ملكي، ولم يزد عليه، وكذلك هذا الجواب مستقيم أيضاً فيما إذا قال: هذا العبد ملكي أيضاً، ويصير مدعياً عبدين، وأما إذا قال: هذا العبد هو العبد الذي ادعيته أولاً، لا تسمع دعواه لمكان التناقض. وإذا ادعى رجل على غيره أنه أخوه، وادعى عليه النفقة، فقال المدعى عليه: هو ليس بأخي ثم مات المدعي فجاء المدعى عليه يطلب ميراثه وقال: هو أخي لا يعتبر ذلك منه، ولا يقضى له بالميراث. ولو كان مكان الأخوّة دعوى البنوّة، أو دعوى الأبوّة والباقي بحاله يقبل ذلك منه، ويقضي له بالميراث. والفرق: أن في دعوى الأخوة وأشباهها، والإقرار بها العبرة لدعوى المال، ألا ترى أن من أقر أن فلاناً أخوه، ولا يدعي عليه مالاً بسبب هذه الدعوى لا تصح دعوته، فعلم أن العبرة في الإقرار بالأخوة وأشباهها لدعوى المال، والتناقض في دعوى المال مانع صحة (203أ4) الدعوى أما في دعوى البنوة والأبوة والإقرار بهما لا عبرة لدعوى

المال، بل هي مجرد دعوى النسب غير مانع صحة الدعوى. إذا ادعى المديون القضاء وأنكر رب الدين ذلك وحلف، ثم إن المديون صالح رب الدين عن ذلك على شيء، ثم أقام البينة أنه كان قد قضاه الدين، هل تسمع بينته؟ اختلف المشايخ فيه، وذكر في كتاب الصلح مسألة تدل على القبول. وصورتها: رجل استعار من آخر دابة، وهلكت الدابة تحت المستعير، وأنكر رب الدابة الإعارة، وصالحه المستعير على مال جاز، فأقام المستعير بعد ذلك بينة على العارية وقال: إنها بيعت، قبلت بينته، ولو أراد استحلاف المعير فله ذلك. وعندي أن الجواب في مسألة الدين على التفصيل: إن صالحه عن الدين لا تقبل منه دعوى القضاء لمكان التناقض؛ لأن الصلح عن الدين إقرار بقيام الدين وقت الصلح، وإنه يناقض دعوى القضاء قبل ذلك، وإن صالحه عن دعوى الدين يقبل به دعوى القضاء؛ لأنه لا تناقض هاهنا. وفي «المنتقى» : رجل له على رجل ألف درهم، فقال المدعى عليه: ما كان لك عليَّ ألف درهم قط، وقد ادعيت هذه الألف أمس فدفعتها إليك، فقال المدعي: ما قبضت منك شيئاً، وإن لي عليك ألف درهم، فصالحه من دعواه على خمسمائة درهم، ثم إن المدعى عليه جاء ببينة فشهدت أنهم رأوا المدعى عليه دفع إلى المدعي أمس ألف درهم؛ لم ألتفت إلى هذه الشهادة؛ لأن هذا إنما افتدى يمينه بها. ولو أن المدعى عليه قال للمدعي: صدقت، قد كان لك عليَّ ألف درهم، لكني قد قضيتكها أمس، وقال المدعي: ما قضيتني شيئاً، فدفع الألف عليه أو صالحه على خمسمائة، ثم شهد الشهود للمدعى عليه أنه دفع إليه الألف بالأمس كان له أن يرجع عليه ما أعطاه والصلح باطل. وفي دعوى «المنتقى» : رجل ادعى داراً في يدي رجل وهو يجحد، فقال المدعي للقاضي: هذه داري وشهودي عليها غيَّب، فاسأله أن يبيعها مني، فسأله القاضي فأبى أن يبيعه فالمدعي على دعواه، هكذا حكاه عن محمد رحمه الله، فلم يجعل طلب المدعي من القاضي سؤال البيع من المدعى عليه متناقضاً في دعوى رقبة الدار بعد ذلك. وأشار إلى المعنى فقال: لأنه فسر ذلك وقاسها على مسألة ذكرت في شفعة «المنتقى» . صورتها: رجل باع داراً في جوار رجل هو شفيعه، والشفيع يزعم أن الدار المبيعة له، فقال الشفيع للقاضي: هذه داري وأنا أدعي رقبتها، لا تبطل شفعته بدعواه الرقبة إلا أن في مسألة الشفعة في «المنتقى» ذكرت في موضعين في باب واحد، في أول الباب ذكرت على نحو ما ذكرنا، وفي آخر الباب ذكرت أن بدعوى الرقبة تبطل شفعته، فعلى قياس ما ذكر في آخر الباب ينبغي أن يبطل دعواه في الرقبة في المسألة سؤال البيع. وفي دعوى «المنتقى» : عن أبي يوسف في الشفيع: إذا ادعى الدار المشتراة له وأن بينته غيب، أو قال: لا بينة لي، ويمكن أخذه بالشفعة، قال: طلب الشفعة إقرار بأنها

ملك البائع، ولا أقبل بينته على الملك إن جاء بها فعلى قياس هذا ينبغي أن يبطل دعواه في الرقبة عند أبي يوسف بسؤال البائع في المسألة المتقدمة؛ لأن سؤال البيع إقرار أن الدار ملك البائع. وفي «المنتقى» : في كتاب الدعوى ابن سماعة عن محمد: رجل ادعى على رجل أنه أخذ منه مالاً وهو كذا كذا ألف درهم، ووصف بصفة معروفة، فأقام المدعى عليه بينة أن هذا المدعي إن أقر أن هذا المال المسمى المفسر أخذ منه فلان، وأنكر المدعي ذلك فليس هذا بإبطال لدعوى المدعي، ولا بإكذاب لبينته؛ لأن الإكذاب إنما يثبت لمكان التنافي، ولا منافاة بين الأخذين إذا حلت الشهادتان عن الوقت، فيجوز أن يكون فلان أخذه ثم رده عليه، فأخذه هذا المدعى عليه. وفي أقضية «المنتقى» : ابن سماعة عن أبي يوسف: رجل ادعى على رجل ألف درهم ومئة دينار، فكانت الألف بصك قد كتب عليه، وكتب أن لا شيء عليه غيرها، والوقت واحد أو لا وقت فيها، فالمال كله لازم قال: ألا ترى أنه لو قال: لي عليه ألف درهم ولا مال لي عليه غير ذلك، ثم ادعى عليه ألف درهم وجاء ببينة على ذلك؛ إني أقبل البينة وألزمه المالين، ويكون معنى قوله: لي عليه ألف درهم ولا مال لي عليه غير ذلك من جنس الدراهم، ولي عليك مئة دينار، ولا مال لي عليه غير ذلك من جنس الدنانير، كذلك هاهنا. وذكر المعلى قال: سألت محمداً: عن رجل ادعى على رجل مئة دينار في صك، وألف درهم في صك، وفي كل واحد من الصكين قال: عليهما حد المالين يعطيه أيهما شاء، وروى هشام عنه أنه لا يلزمه شيء معين في يدي رجل، وهو يقول: هذا العين ليس لي لا يصح بعينه حتى لو ادعى هذه العين بعد ذلك رجل وادعاه ذو اليد أيضاً، وقال: هو لي صح دعوى ذي اليد، وهذا باتفاق الروايات إذا لم يكن وقت باتفاقها، قال ذو اليد: هذا العين ليس لي هناك منازع يدعي العين لنفسه، وإن صار ذو اليد متناقضاً إلا أن هذا التناقض ... لأن قوله هذا العين ليس لي إذا لم يكن ثمة منازع لا تثبت لغيره حقاً، وإن كان هذا الإقرار على نفسه ينفي الملك، وكل إقرار لا يثبت على المقر حقاً لغيره وجوده والعدم بمنزلة، وإن كان حال ما قال ذو اليد: هذا العين ليس لي هناك منازع يدعي هذا العين لنفسه صح نفيه، حتى لو قال ذو اليد بعد ذلك: هو لي، لا يلتفت إلى قوله: هو لي، ويقضي لحصته بالعين على رواية «الجامع» ، وعلى رواية كتاب الدعوى: لا يصح نفيه، وتصح دعواه بعد ذلك العين لنفسه. قالحاصل: أن قول صاحب اليد: هذا العين ليس ملكي عند وجود المنازع على رواية «الجامع» إقرار للملك فيه للمنازع، وذكر هذه المسألة في كتاب «الأقضية» في موضعين، وجعل قوله: هذا العين ليس بملكي عند وجود المنازع إقراراً بالملك له في

إحدى الموضعين، ولم يجعله إقراراً بالملك في الموضع الآخر، ثم على رواية كتاب الدعوى إذا لم يكن إقراراً وقد كان قال صاحب اليد: هو ليس بملكي ولست بمعترض، لهذا فالقاضي لا يكتفي بهذا الجواب من المدعى عليه، بل يسأله: أهو ملك المدعي؟ وإن قال: نعم هو ملكه أمره بالتسليم إليه، وإن قال ليس بملكه وليس في يده والمدعي يثبت يده بالبينة. إذا قال الوارث: هذه الدار لم تكن لأبي، وإنها كانت وديعة في يده لفلان سمى رجلاً معروفاً ثم أقام البينة أن الدار كانت في يد ابنه أخذها الذي في يديه بعد موته، أو أقام بينة أنه أخذها منه في حياته ردت الدار إلى الابن إن كان موضعاً لها حتى يقدم المستودع، وإن لم يكن موضعاً لها جعلت في يدي عدل. هذا إذا أقر رجل معروف، وإن لم يكن أقر معروف، ولكن قال: لم تكن هذه الدار لأبي ثم قال بعد ذلك: كذبت في قولي إنها لم تكن لأبي؛ بل كانت لأبي مات وتركها ميراثاً لي دفعت إليه الدار بعدما هو ميت فلم يحضر أحد يطلبها، كمن في يده دار أو ثوب قال: ليس هذا لي، فالقاضي لا يأخذ ذلك منه حتى يحضر أحد فيدعيها، وإذا قال: لا حق لي قبل فلان ثم ادعى عيناً في يديه لا يسمع دعواه، ولو أقر له فلان بعين في يده صح إقراره في الباب الثاني من صلح شيخ الإسلام. وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن رجل، قال: لا حق لي في هذه الدار ولا خصومة ولا طلبة، ثم جاء يزعم أو وكيل فلان في دعوى هذه الدار قبل ذلك منه، إذا قال المدعى عليه وقت القضاء: العين المدعى ليس ملكي ولا هو في يدي، وقد كان قال وقت الدعوى: هو ملكي وحقي، لا يسمع منه الكلام لمكان التناقض. رجل ادعى على رجل مالاً معلوماً وأقام عليه البينة أنه استوفى من هذا المال كذا وكذا درهماً، هل تبطل بذلك دعوى المدعي وبينته؟ قالوا: المسألة على وجهين؛ إن كان الإقرار بلفظ يدل على استيفائه هذا القدر قبل هذه الدعوى والبينة بأن قال: باقيه بودم ازيين مال أو بدي أزاين مال أو يدي لا يبطل دعواه ولا بينته؛ لأنه يمكنه أن يقول: استوفيت هذا القدر من المال بعدما ادعيته وأثبته بالبينة. رجل ادعى على رجل أربعمائة درهم (203ب4) وأنكر المدعى عليه ذلك، فإن أقام المدعي بينة على دعواه وقضى القاضي له بالأربعمائة، ثم إن المدعي أقر أن للمدعى عليه مائة درهم، قال أبو القاسم الصفار رحمه الله: تبطل عن المدعى عليه الثلاثمائة الباقية وبه أفتى عبد الكريم؛ لأن بقدر المائة تقع المقاصة بين ما للمدعي على المدعى عليه، وبين ما للمدعى عليه على المدعي، ويسقط ذلك القدر عن المدعى عليه، فيصير المدعي مكذباً لشهوده، فإنهم شهدوا له بأربعمائة وله عليه ثلاثمائة. وأفتى أبو أحمد عيسى بن النصر وغيره من أصحابنا؛ أنه لا يبطل عن الثلاثمائة الباقية، لأن بوقوع المقاصة لا يسقط الدين كما لا يسقط بالقضاء، إنما يسقط المطالبة لا غير؛ ألا ترى أن بعد القضاء والمقاصة لو أبرأ رب الدين المديون عن الدين يصح، فلم

يسقط المائة منها عن المدعى عليه فلا يتحقق التكذيب، فلا يبطل الشهادة، فلهذا قالوا: لا تسقط الثلاثمائة الباقية والله أعلم. القاضي إذا فرض النفقة للمرأة على الزوج فمضت مدة واجتمعت عليه النفقة، وادعى أن المرأة كانت حراماً عليه عند الفرض وأقام البينة، فبهذا القدر لا تبطل النفقة؛ لأنه يجوز أنها كانت حراماً عليه إلا أنها كانت في العدة، فيستقيم فرض النفقة. ولو ادعى الزوج الخلع معها على المهر ونفقة العدة قبل فرض القاضي صح الدعوى، وإذا أقام البينة على ذلك قبلت بينته وبطل الفرض. في «المنتقى» : بشر عن أبي يوسف رحمه الله: رجل استعار من آخر ثوباً ثم أقام بينة أن الثوب لابنه الصغير قبلت بينته، فلم تكن الاستعارة على هذه الرواية إقراراً لملك المستعار منه، وذكر بعده المسألة بمسائل؛ إذا قال الرجل لغيره: أسكني هذه الدار، أعرني هذه الدابة ثم ادعاه بعد ذلك لنفسه لم تقبل حجته، وجعل الاستعارة إقراراً بالملك للمستعار منه. ولو قال: ادفع إلي هذه الدار أسكنها فأبى أن يعطيه ثم إن هذا السائل ادعاها بعد ذلك لنفسه فهو على حجته، وكذلك إذا قال: أعطني هذا الثوب ألبسه، أعطني هذه الدابة أركبها. وفي «نوادر إبراهيم» عن محمد: إذا شهد شاهدان أن لهذا الرجل على هذا الرجل ألف درهم، وعلى هذا الرجل الآخر مئة دينار فقال المشهود له: أما الألف فنعم، وأما مائة الدينار فباطلة، قال: تبطل الشهادة في الرجلين جميعاً، وكذلك لو شهد أنه غصبه هذين الثوبين فقال المشهود له: أما أحدهما فلم يقبضه بطلت الشهادة. ولو شهدا أن لفلان على فلان ألف درهم وقضاه منها خمسمائة وكذبهما المدعي في القضاء فالشهادة جائزة. وروى بشر عن أبي يوسف: في رجلين شهدا أن لهذا على هذا ألف درهم قد قضى منها مئة وقال المدعي: لم أقبض شيئاً، قال أبو حنيفة رحمه الله: أقضي له بالألف وأجعله مقضياً المائة، قال بشر: وهو قول أبي يوسف. رجل ادعى داراً في يدي رجل أنها داره واشترى منه منذ شهر وأقام شاهدين، فشهدا على وقت الشراء أو أقل، فشهادتهما جائزة، ولو شهدا على أكثر من ذلك لم تجز شهادتهما. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: شاهدان شهدا على رجل أنه طلق امرأته ثلاثاً،

فأنفذ القاضي شهادتهما، ثم ادعى أحد الشاهدين أنها امرأته تزوجها قبل الذي طلقها، وأتى على ذلك ببينة، والمرأة تجحد، لا يقبل ذلك منه؛ وكذلك هذا في العتق والبيع وغير ذلك إذا جحد البائع دعوى الشاهد وقال: المتاع لي، وكذلك إذا قال الشاهد: نحن أمرناه بالبيع؛ لأن ما بعد أن الحكم شهادتهما بمنزلة الإقرار منها؛ لأنه لا حق لهما فيه ولا في ثمنه، وسواء إن كان البائع جاحد البيع أو كان المشتري جاحد الشراء. ولو شهدا فرد الحاكم شهادتهما ادعياه لأنفسهما فليس لهما في ذلك دعوى، فإن لم يشهدوا عليه عند الحاكم، ولكن شهدا المبايعة وضما على.... من غير إقرار بكلام، فإن هذين لا تقبل لهما دعوى. وروي عن محمد: في رجل شهد على رجل أنه طلق هذه المرأة، ولم يشهد أنها امرأته وقال: لم أعرفها ولم أكن دخلت بها قبلت بينته، وكذلك لو شهدا على إقرار المرأة أنها امرأته ولم يشهد أنها امرأته، فأجاز القاضي عليها إقرارها وجعلها امرأته، ثم أقام الشاهد بينة أنه تزوجها منذ سنة، وإني لم أعرفها؛ قبلت بينته ويبطل قضاء القاضي ويردها على الشاهد، فصار مسألة الطلاق مختلفة بين أبي يوسف ومحمد. رجل في يديه مملوك ادعاه رجل أنه مملوكه، والذي في يده يجحده، وادعاه لنفسه فحلفه القاضي ما هو لهذا المدعي فأبى أن يحلف، وقضى القاضي عليه بنكوله، فقال الذي كانت في يديه: قد كنت اشتريته منه قبل الخصومة، وأقام على ذلك بينة قبلت بينته، وقضي له به، ولا يكون إباؤه اليمين إكذاباً للشراء. ولو أقام بينة على أنه لي ولد في ملكي، أو أقام بينة على أني اشتريته من فلان يريد به رجلاً آخر سوى المدعي، وقد ولد في ملكه لا تقبل منه البينة. وإذا شهد شاهدان أن الدار التي في يد هذا لفلان، فقال المشهود له: هذا البيت من هذه الدار لفلان ليس مولى فقد أكذب شهوده، فإن كان هذا قبل القضاء لم أقض لا له ولا لفلان بشيء وإن كان بعيد القضاء، قال: هذا البيت لفلان، ولم يكن لي أخبرت إقراره لفلان وجعلت البيت له ورددت ما بقي من الدار على المدعى عليه، وضمنته قيمة ذلك البيت يعني للمشهود عليه، ولأبي يوسف فيها قولٌ آخر أنه يضمن قيمة البيت للمشهود عليه، ويكون ما بقي من الدار له يعني المشهود له. وفي «الإملاء» عن محمد: ثوب في يدي رجل أقر أنه لفلان، ثم قال بعد ما سكت: بعته منه بمئة درهم وقال لفلان: هو لي من غير البيع قبلت بينته، ولم يكن إقراره إكذاباً لبينته، ولو كان المقر وصل كلامه فقال: هذا لفلان بعته منه بمئة دينار قبل قوله، ولم يخرج من يده إلا بما قال. عبد في يدي رجل قال لصاحب اليد: هذا عبدك، ثم ادعى المقر بعد ذلك أنه عبده باعه من المقر له بألف درهم، لم يصدق على ذلك، فإن قال المقر له: هذا العبد كان

للمقر قبل أن يقر لي به، فقد وجب حق المقر الأول في العبد؛ فيقال للمقر له: أقم البينة على انتقاله منه إليك. وفي «نوادر عيسى بن أبان» ثلاثة نفر أقاموا بينة على رجل بمالٍ لهم قبله من ميراثهم عن أبيهم، فقضى القاضي به لهم، ثم إن أحدهم قال بعد ذلك: ما لي في هذا المال الذي قضي لنا به على فلان من حق، وإنما هذا لإخوتي، قال: لا تبطل بهذا القول عن المقضي عليه شيء، إلا أن يقول: ما كان أصلاً في هذا المال شيء، وما هو إلا لإخوتي؛ فحينئذٍ يبطل حقه عن المقضي عليه. ولو قال قبل أن يقضي القاضي له بالمال: ما لي في هذا المال حق، وما هو إلا لإخوتي، يسأل عن ذلك بأي وجه صار لهما، وذلك وإن ما ادعيتم من ميراث أبيكم، فإن جاء بوجه يكون له فيه من قوله مخرج قبل منه. وإن قال هذا القول ثم قضى القاضي للآخرين بالثلث وترك نصيب المقر، ولو كان الذين أقاموا البينة هم الذين ولوا معاملتهم ولم يدعوا المال إلا لهذين ما لي فيه حق؛ كان المال كله لهذين، ولم يبطل عن المدعى عليه شيء منه؛ لأنه قد يكون المال لرجل باسم رجل، وقال رجل يعمل به رجل آخر، رجل أقر وقال: هذا العبد تركه فلان ميراثاً، ثم ادعى أن فلاناً الميت أوصى بثلثه، وأقام على ذلك بينة قبلت بينته، ألا ترى أنه يقال تركه ميراثاً وأوصى به لي، وكذلك لو قال: تركه ميراثاً، ثم ادعى صفة في صحته لم أسمع دعواه ولم أقبل منه. وفي «نوادر هشام» : قال: سألت محمداً عمن تزوج المرأة ثم ادعى أنه اشتراها ممن يملكها، قال: لا أقبل بينته على ذلك حتى يشهد أنه اشتراها من فلان وهو يملكها بعد التزويج، وكذلك لو ساوم بدار في يدي رجل ثم ادعى أنها له اشتراها من فلان وهو يملكها لم أقبل ذلك منه حتى يشهدوا أنه اشتراها من فلان بعد ذلك، وأقر الذي في يده الدار أنه وكيل البائع. جارية منتقبة في يدي رجل، اشتراها منه رجل وهو بحضرتهما، فلما حلت نقابها قال المشتري: هذه جاريتي ولم أعرفها للنقاب؛ لا تقبل دعواه، ولا بينته وإن ساومه بمتاع في جراب مدرج، وقال البائع: هذا هروي فلما أخرجه من جرابه ونشره ورآه، قال: هذا متاعي، قبلت بينته. وكذلك لو اشترى (204أ4) منه ثوباً في منديل، فقال له البائع: أبيعك هذا الثوب الذي في هذا المنديل؛ فلما اشتراه فأخرج له الثوب من المنديل، قال المشتري: هذا ثوبي ولم أره، قال: أقبل دعواه وبينته، قال محمد رحمه الله: إنما أنظر في ذلك الشيء، فإن كان يمكن أن يكون ساومه وهو يعرف مثل الجارية المنتقبة القائمة بين يديه، فهذا يمكن أن يعرف به ويمكن أن لا يعرف، فلا يقبل قوله: إني لم أعرفه إلا أن يصدقه الذي في يديه أنه لم يعرف فتقبل بينته، وإذا كان شيئاً لا يمكن أن يساومه وهو يعرف مثل ثوب في منديل لا يراه أو جارية قاعدة على رأسها كساء وغطاء لا يرى منها شيء أقبل بينته عليه.

وفي «نوادر ابن سماعة» : في رجلين شهدا لرجل وقالا: نشهد أن فلاناً غصب عبد هذا ولكنه قد رده عليه بعد ذلك فمات عند مولاه، وقال المغصوب منه: ما رده عليَّ، وإنما مات عند الغاصب، وقال المشهود عليه: ما غصبته ولا رددته عليه وما كان من هذا شيء، قال: إذا لم يدع شهادتهما يعني على الرد ضمنتهما القيمة. وكذلك لو شهدا أنه غصب عبداً له وأن مولاه قتله في يد الغاصب وقال المغصوب منه: ما قتلته؛ ولكن مات عند الغاصب، وقال المشهود عليه: ما غصبته ولا قتل المشهود له عبداً له في يدي. وكذلك لو شهدوا أن لهذا على هذا ألف درهم ولكنه قد أبرأه منها، وقال المشهود له: ما أبرأته من شيء، وقال المشهود عليه: ما كان له عليَّ شيء، ولا أبرأني من شيء، قال: إذا لم يدع شهادتهما على البراءة قضيت عليه بالألف. رجل شهدت له بينة على رجلين؛ أن له عليهما ألف درهم، فقال الطالب: إنما ما لي على فلان هذا وحده خمسمائة، أو قال: إنما ما لي على هذا وحده؛ قال أبو يوسف: ليس هذا إكذاباً للبينة. بشر عن أبي يوسف: في رجل ادعى شراء جارية من رجل وأراد ردها بعيب العور، فجحد البائع وقال: لم أبعك، فأتى المشتري بشهود أنه ابتاعها منه، وهي عوراء، وأقام البائع بينة أنه برئ إليه من العور، لم تقبل بينته على البراءة في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: قبلتها، ليس هذا إكذاباً لشهوده، فإنه يمكنه أن يقول: أبرأني، ولم أبعه حيث طلبه فطلبت إليه فأبرأني. رجل ادعى داراً ببينة في يدي رجل أنها داره وأقام البينة على ذلك، وذكر الشهود البناء في شهادتهم، أو لم يذكروا ثم ماتا أو غابا قبل أن يسألهما القاضي عن البناء، فالقاضي يقضي بالدار ببنائها للمدعي، فإن أقر المدعي بعد ذلك أن البناء للمدعى عليه فهذا إكذاب لشهوده، وبطلت الشهادة، والقضاء في البناء والدار جميعاً هكذا ذكر في «الأقضية» . وفي آخر شهادات «الأصل» قال: إذا ذكر الشهود البناء في شهادتهم ثم أقر أن البناء للمدعي، فهذا إكذاب لشهوده، وقد ذكرنا قبل هذا في فصل على حدة، وإنما أوردناها هاهنا لنفرق بين مسألة الدار وبين مسألة الحانوت. فإن من ادعى حانوته في يدي رجل وشهد الشهود بالحانوت للمدعي، ثم غاب الشهود أو ماتوا قبل أن يسألهما القاضي عن البناء، فإن القاضي يقضي بالحانوت ببنائه للمدعي، فإن أقر المدعي بعد ذلك فقال: آستانة أيف، وكان يدعي عليه كرده است، فهذا منه إكذاب لشهوده. وإن لم يذكر الشهود البناء في شهادته، أما على رواية كتاب «الأقضية» : فلا يحتاج إلى الفرق، وأما على رواية «الأصل» يحتاج إلى الفرق. والفرق: أن الحانوت اسم للعرض والبناء جميعاً، فالقضاء بالبناء في الحانوت

لكون البناء مشهوداً، فإذا أقر بالبناء بعد ذلك للمدعى عليه يصير مكذباً شهوده، ولا كذلك اسم الدار، فإنه اسم للعرصة، والبناء يدخل فيه بطريق التبعية، لا لكون البناء مشهوداً به، فلا يصير المدعي بالإقرار بالبناء للمدعى عليه مكذباً شهوده. وكذلك في هذه الصورة لو أن المدعى عليه ادعى كل البناء أو بعضه لنفسه بعدما قضى القاضي عليه بجميع الحانوت لا يسمع دعواه، وإن لم يذكر شهود المدعي البناء في شهادتهم بخلاف مسألة الدار على رواية «الأصل» . والبيت في هذا نظير الحانوت لا نظير الدار، حتى لو ادعى رجل بيتاً في يدي رجل وقضى القاضي له بالبيت وبنائه، ثم ادعى المدعى عليه البناء لنفسه وأقام على ذلك بينة لا تقبل بينته، ذكر الشهود البناء في شهادتهم أو لم يذكروا. وكذلك لو أقر المقضي له في هذه الصورة أن البناء للمدعي، فهذا إكذاب منه للشهود كما في مسألة الحانوت؛ لأن البيت اسم للعرصة والبناء كالحانوت. في «مجموع النوازل» : فيمن أوصى لرجل بألف درهم، فادعى الموصى له أنه ابن الميت ولم تقم له بينة فله الأقل من الميراث ومن الألف، وقال محمد رحمه الله: الوصية باطلة ولا شيء له. رجل ادعى ضيعة في يدي رجل أنه ملكه فقال المدعى عليه: مابل كتم ونكاه كنم فهذا ليس بجواب ويجبره القاضي على الجواب، وهذا لأن المدعي وقع في الملك، فجوابه أن يقر المدعى فيقول: نعم هذا ملكك، أو ينكر فيقول: ليس هذا ملكك، وإذا قال المدعى عليه: اين محدود مره توسبر دني نيست، أو قال: بنو تسليم كرد نيست، وفي دعوى الدين إذا قال المدعى عليه: مرة تو جيزي داد ني نيست، وفي دعوى الدين إذا قال المدعى عليه: مرة تو جيزي دادني نييست، فهذا ليس بجواب عند بعضهم، وعند بعضهم هو جواب وهو الأشبه. ادعى ضيعة في يدي رجلين فقالا: دوتير أذس تيرازين ضياع ملك ماست ودر ديست ماسنت ديك تر ملك فلان غائب إست ودر رست ما أمانه إست، فهذا جواب تام، ولكن لا تندفع الخصومة عنهما عن المتهم الآخر ما لم يقيما بينة على الوديعة على ما عرف. وإن قال في دعوى الدين بسبب البيع أو ما أشبه ذلك: من أين يبلغ به سبب دادني

نست، فهذا ليس بجواب قيل، وقد قيل: هذا إنكار لأصل الدين، فيكون خصماً في أصل الدين. وإذا قال في دعوى الدين: مرو أعلم نيست، وأخبر نيست، فهذا ليس بجواب وفي دعوى العقار إذا قال: هذا المحدود ملكي ولم يقل هو في يد المدعى عليه، لا يلزم المدعى عليه الجواب، وإذا قال: هو ملكي، وفي يد هذا المدعى عليه، فقال المدعى عليه للمدعي: أين محدود ملك نيست فهذا على وجهين، إما إن قال: دردست منست، وملك تونست، فهذا جواب، وإن لم يقل: دردست منست فهذا ليس بجواب، وقد قيل: إنه جواب وهو الأشبه، لأن قول المدعى عليه في العقار: دردست منست غير معتبر، ولا يثبت به المدعى عليه على المدعي، فلابد من إقامة المدعي البينة على كونه في يد المدعى عليه. وإذا أقام البينة على ذلك يصير خصماً سواء قال: هو في يدي، أو لم يقل. وإذا ادعى منزلاً في يدي رجل، فقال المدعى عليه: عرصة ملك نست، فهذا ليس بجواب ما لم يقل: عرصة أين منزل كه دعوى بكني، وكذلك إذا قال الشاهد: عرصة ملك يدعى است، فهذه الشهادة ليست بتامة. وإذا ادعى نكاح امرأة فقالت: من زن أين يدعى نيم، فهذا جواب، ولو قالت: من زن يدعي نيم، أو قالت: من زن دي كه بل، عيست نيم، فإن أشارت إليه فجواب، وإن لم تشر إليه فقد قيل: أنه ليس بجواب لجواز أن في المجلس مدعي آخر وهي أرادت بقولها ذلك المدعي، لا هذا المدعي الذي ادعها نكاحها. ادعى داراً في يدي رجل فقال المدعى عليه: أين خانه حق نست فهذا ليس بجواب، لأن الدعوى وقع في الملك والمدعى عليه لم يتعرض للملك لا بالنفي عن المدعي، ولا بالدعوى لنفسه إنما ادعى أنها حقه، ويجوز أن يكون حقاً له، ولا يكون ملكاً له بأن كانت في يده بإجارة أو رهن أو ما أشبه ولهذا لا يصير خصماً، وكذلك إذا قال المدعى عليه: للمدعي: تراد راين خانه حق نيست، فهذا ليس بجواب؛ لأن المدعي ادعى الملك ويحتمل أن المدعى عليه أراد بقوله ترادر دي حق نيست بجهة الإجارة أو بجهة الرهن أو ما أشبه ذلك.t ادعى داراً في يدي رجل أنها داره غصبها ذو اليد منه فقال ذو اليد: حملك إين خانه دردست مانست بسبب شرعي ومن زباني مدعي سبردين نيست، فهذا جواب تام في حق إنكار الغصب غير تام في حق الملك؛ لأنه لم يتعرض للملك لا بالنفي ولا بالإثبات. رجل (204ب4) ادعى داراً في يدي رجل فقال المدعى عليه: إنها داري، ثم قال: إنها وقف فهذا جواب تام تقبل بينة المدعى عليه، وكذلك لو قال في الابتداء: هذه الدار وقف، وفي يدي بحكم التولية، فهذا جواب تام، لو أقام المدعى عليه البينة بالملك لنفسه تقبل بينته، وبعدما قضى القاضي للمدعي لو أقام المدعى عليه على الوقفية لا تقبل بينته؛ لأنه صار مقضياً عليه. وإذا قال المدعى عليه: العقار هذا العقار المدعى به ليس في يدي يحتاج المدعي

إلى إثبات هذه البينة، فإذا اشترى الابن يقيم البينة على الملك، وهذا حكم يختص بالعقار، فإن الدعوى إذا وقع في المنقول لا يسمع الدعوى إلا بحضرة المنقول يعرف يد المدعى عليه فلا حاجة إلى إثباته بالبينة. في «فتاوى الأصل» : إذا أنكر المدعى عليه أن يكون المحدود المدعى به في يده فالقاضي يحلفه على اليد أولاً، فإن حلف تندفع عنه الخصومة، وإن نكل يحلف على الملك، وهذا مما لا يكاد يصح؛ لأن اليد على العقار لا تثبت تصريح الإقرار فكيف يثبت بالنكول الذي هو قائم مقام الإقرار؟ ولو قال: لا أرى أهو ملك هذا المدعي فهذا ليس بجواب، ويجبره القاضي على الجواب، فإن لم يجب يجعله منكراً، ويسمع البينة عليه، وبيان ما يكون إقراراً وما لا يكون سيأتي في كتاب الإقرار. هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منه قال محمد رحمه الله في كتاب الإجارات: إذا تكارى الرجل ثلاث دواب بأعيانها من بغداد إلى مدينة، جازت الإجارة، ثم إن المكاري باع هذه الدواب من رجل آخر أو وهب له، أو تصدق أو أجر أو أعار، أو أودع، فجاء المستكري ووجد الدواب فأراد أن يقيم البينة على استكرائه فهذا على وجهين. إما إن كان المكاري حاضر وفي هذا الوجه تقبل بينته على المكاري؛ لأن المستأجر مع الذي في يديه الدابة تصادقا أن الملك في الدابة كان للمكاري والمكاري صدقهما في ذلك، فيثبت الملك للمكاري في الدابة بتصادقهم، فكان المكاري خصماً للمستأجر فيقبل بينته عليه ويستوي في حق سماع بينة المستكري أن يكون المكاري جاحداً أنه أكرى الدواب منه أو يكون مقراً بذلك؛ لأن إقراره لا يصح لحق ذي اليد، فيكون وجود هذا الإقرار كالعدم بمنزلة. ونظيره: رجل باع من رجل شيئاً، فجاء رجل آخر وادعى أن هذا البائع باع هذا الشيء مني قبل أن يبيعه من هذا المشتري، وصدق البائع المدعي في ذلك لا يلتفت الي تصديق البائع، ولو أقام المدعي بينة على دعواه، قبلت بينته. وطريق القبول أن للبائع وإن كان مقراً بدعوى المدعي إلا أن الإقرار منه لا يصح بحق المشتري الظاهر فيصير وجود هذا الإقرار والعدم بمنزلة كذا هاهنا، وإذا قبلت بينة المستكري ينظر إن كان المكاري باع الدواب؛ وكان البيع بعذر بأن كان عليه دين فادح لا وفاء له إلا من ثمن الدواب، لم يكن للمستأجر على الدابة سبيل؛ لأن الإجارة تنتقض، حتى حصل البيع بعذر.

وهذا على الرواية التي لا يشترط لفسخ الإجارة حالة التعذر القضاء والرضى، وإن كان باعها بغير عذر كان المستأجر أحق بها إلى أن تنقضي مدة الإجارة، وإن كان المكاري أجره من غيره، أو أعار، أوتصدق كان المستكري أحق بها الى أن يستوفي إجارته؛ سواء باشر هذه التصرفات بعذر أو بغير عذر؛ لأن العذر لا ينتقض في هذه الأسباب ولا تنتقض الإجارة بمباشرتها، وإن كان المكاري غائباً فبينة المستكري على الذي الدواب في يده مقبولة، إن كانت الدواب في يده مشترياً أو موهوباً أو متصدقاً عليه؛ لأنه يدعي الملك لنفسه فيما في يده فينتصب خصماً له لكل من ادعى حقاً فيما في يده والمستأجر ادعى حقاً فيما في يده، فينتصب خصماً له بعد هذا إن كان المكاري باع الدواب بعذر فلا سبيل للمستكري عليها. وإن باع بغير عذر، أو وهبه، أو تصدق كان المستأجر أحق به إلى أن يستوفي إجارته. وإن كان الذي في يديه الدواب مستعيراً لا ينتصب خصماً للمستكري؛ وإن كان مستأجراً هل ينتصب خصماً للمستكري؟ ففيه اختلاف المشايخ قال بعضهم: ينتصب خصماً وإليه مال الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي والشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمهما الله، وقال بعضهم: لا ينتصب خصماً، وإليه مال الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده وبعض مشايخ زماننا قالوا: إن كان المستكري يدعي فعلاً على المستأجر بأن قال: استأجرتها وقبضتها، ثم قال: غصبتها مني ينتصب خصماً له ويسمع بينته عليه، وإن لم يدع عليه فعلاً ولكن قال: استكريتها قبل أن تستأجرها أنت، لا ينتصب خصماً له ولا يسمع بينته عليه. وإذا ادعى رجل داراً في يدي رجل أنها في إجارتها أجرنيها فلان وادعى ذو اليد أنها في إجارتي أجرنيها فلان آخر، يسمع دعوى المدعي وينتصب صاحب اليد خصماً بخلاف ما إذا ادعى الملك المطلق وصاحب اليد ادعى الإجارة وهذا الجواب يوافق قول الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطواويسي، والشيخ الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي، وكذا إذا ادعى الأجر المستأجر بغير حضرة المستأجر؛ سمع دعواه؛ لأن مالك الرقبة هو. نوع آخر: قال محمد رحمه الله في أخر «شرح الجامع» : رجل اشترى من آخر جارية بألف درهم، ولم ينقد ثمنها وقبضها بغير إذن البائع، وباعها رجل آخر بمائة دينار وتقابضا وغاب المشتري الأول وحضر بائعه وأراد استردادها من يد المشتري الثاني فإن أقر المشتري الثاني أن الأمر كما وصف البائع الأول كان للبائع الأول أن يستردها من المشتري الثاني وإن كذب المشتري الثاني البائع الأول. وقال: لا أدري أحق ما قاله البائع الأول أو باطل فلا خصومة بينهما حتى يحضر المشتري الأول، لأن الجارية صارت مملوكة للمشتري الثاني والبائع الأول مقر بذلك، ثم يدعي هو على الغائب حقاً فلا يصدق إلا بحجة، والحجة لا تسمع على الغائب إلا وأن يكون عنه خصم حاضر والمشتري الثاني ليس بخصم عن المشتري الأول.

قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : دار في يدي رجل ادعى أنها له وأقام على ذلك بينة فقال ذو اليد: أنها كانت لي بعتها من فلان منذ شهر وسلمتها إليه، ثم أودعنيها وغاب، فالقاضي يسأل عن المدعي في دعواه فقد أقر أنه ليس بخصم له والخصومة لاتتوجه إلا على الخصم فقد أقر ببطلان خصومته وإقرار الإنسان ببطلان حقه إقرار يعبر، وإن كذب المدعي ذو اليد فيما ادعى إلا أن القاضي علم أن الأمر كما قال ذو اليد، فقد علم أن يد ذي اليد ليست بيد خصومة علم القاضي ... تصديق المدعي ثم لما اندفعت الخصومة عند تصديق المدعي فهاهنا أولى، وإن كان القاضي لا يعلم بذلك لا تندفع الخصومة؛ لأنه لما أقر بالملك لنفسه أولاً فقد أقر أنه خصم، وإن خصومة المدعي متوجهة عليه. فإذا ادعى البيع والإيداع بعد ذلك، فقد ادعى ما يخرجه من أن يكون خصماً فلا يصدق في دعواه. وإن قال ذو اليد: أنا أقيم البينة على ما ادعيت، فالقاضي لا يقبل بينته؛ لأنه لو قبل بينته، وقضى بها كان ذلك قضاء على الغائب بالبيع وإنه ليس بخصم في إثبات البيع على الغائب، لأنه لا حاجة له الى ذلك؛ لأن حاجته إلى دفع الخصومة عن نفسه وهذه الحاجة تندفع بإثبات وصول الدار الى يده من جهة غيره فلا حاجة إلى إثبات الملك، والبيع على الغائب، فلم يصر خصماً في إثبات البيع على الغائب والبينة لا تسمع إلا من خصم إذا لم تقبل بينة ذي اليد، قضى القاضي بالدار للمدعي. وأقام البينة أن الدار داره يسأله القاضي: من أي وجه صارت الدار له، فإن لم يبين شيئاً تقبل بينته ويقضي القاضي بالدار له بمنزلة أجنبي آخر يقيم البينة على الملك المطلق؛ وهذا لأنه لو لم يقبل لصيرورته مقضياً عليه بالقضاء على ذي اليد، والقضاء بالملك المطلق على ذي اليد (205أ4) لا يكون قضاءً على من يدعي الملك مطلقاً، وإنما يكون قضاءً على من يدعي تلقي الملك من جهة ذي اليد. يوضحه: أن القضاء بناء على البينة والبينة حجة ضرورية فالقضاء الذي هو بناء على البينة لا يعدو موضع الضرورة وموضع الضرورة صاحب اليد ومن تلقى الملك من جهتهز وإن قال: صارت الدار لي بجهة الشراء من ذي اليد فالقاضي لا يقبل بينته على ذلك؛ لأن القضاء بالملك المطلق على ذي اليد قضاء على من تلقى الملك من جهة ذي اليد، فصار الغائب مقضياً عليه بالقضاء على ذي اليد، فلو قبلت بينته بعد ذلك صار مقضياً له، وإنه لا يجوز؛ ولأن القاضي لما قضى بالملك المطلق للمدعي، فقد جعل يد ذي اليد يد غصب، والشراء من الغاصب لا يكون سبباً للملك. ولم يذكر في «الكتاب» ما إذا حضر الغائب قبل الحكم للمدعي والجواب فيه أنه إن أقام البينة على الملك المطلق صار الغاصب مع المدعي بمنزلة خارجين يدعيان ملكاً مطلقاً، وأقاما البينة.

ولو ادعى الشراء من ذي اليد منذ شهر وأقام البينة قبلت بينته في دفع بينة المدعي، لأنه يبين أنها قامت على غير خصم ويقال: للمدعي أعد بينتك على الذي حضر أن تثبت لأن بينتك الأولى قد بطلت. رجل في يديه دار جاء رجل وادعى أنها له اشتراها من ذي اليد منذ سنة بكذا ونقد الثمن، وإن لم يقبضها وقال صاحب اليد: لا بل بعتها من فلان منذ شهر وسلمتها إليه، ثم أودعنيها وغاب، فالقاضي يسأل المدعي من دعوى صاحب اليد إن صدقه في ذلك فلا خصومة بينهما لما مر. وإن لم يعلم القاضي ذلك أيضاً فأراد ذو اليد إقامة البينة على البيع من الغائب فالقاضي لا يقبل بينته ولا تندفع خصومة المدعي لما مر في المسألة الأولى؛ ولأن الغائب لو كان حاضراً، فأقام البينة على الشراء منذ شهر كانت بينة المدعي أولى وقضى بالدار للمدعي؛ لأنه أسبقهما تاريخاً فهاهنا كذلك. وإذا لم تندفع خصومة المدعي في هذه الصورة وقضى القاضي ببينته بالبيع منه منذ سنة ثم حضر الغائب وأقام بينته على البيع منه منذ شهر، فالقاضي لا يسمع بينته ولا يقضي له بالدار؛ لأن من ضرورة القضاء للمدعي بالشراء منذ سنة بطلان كل شراء بعده، فهذه بينة قامت على شراء باطل، فلا يسمع، ولو أن القاضي سمع بينة المدعي في هذه الصورة، ولكن لم يقض بها حتى حضر الغائب وأقام بينة على ما قال صاحب اليد، قبلت بينته في دفع بينة المدعي وجرحها لقيامها على غير الخصم، وليس للمدعي فيه ضرر؛ لأنه تتحول الخصومة إلى الذي أحضر، ويقال للمدعي: أعد بينتك على الذي حضر، فإن أعاد كان أولى لسبق تاريخه، وإن لم يعد لا يقضى له بشيء، ولو أن الغاصب حين حضر قبل القضاء ببينة المدعي لم يقم بينة على ما قال صاحب اليد فيما قال: لا تندفع الخصومة لأن المدعي لما أقام البينة على ما ادعى فقد استحق القضاء بها، فلا يبطل هذا الحق بمجرد تصديق الذي حضر، ولو أن الغائب حضر بعدما قضى القاضي بالدار للمدعي ببينته قضى بالدار له؛ لأنه أسبق في التاريخ، وإنه ليس بمقضي عليه، لأن قضاء القاضي على صاحب اليد بالشراء منه منذ سنة؛ يكون قضاءً على من يدعي تلقي الملك من جهته بعد سنة لا قبلها. رجل اشترى من آخر داراً وقبضها فجاء رجل وادعى أنه شفيعها وأقام على ذلك بينة فقال صاحب اليد: قد بعتها من فلان وقبضها مني ثم أودعنيها وغاب، فالقاضي يسأل الشفيع عن دعوى صاحب اليد، فلا خصومة بينهما لما قلنا. وإن لم يعلم القاضي ذلك أيضاً، فأراد صاحب اليد أن يقيم بينة على ما ادعى، فالقاضي لا يسمع بينته، ولا تندفع خصومة الشفيع في هذه الصورة، وقضى القاضي له بالدار ببينته؛ لأن قضاء القاضي بالدار للشفيع يوجب بطلان كل تصرف باشره المشتري؛ لأن حق الشفيع مقدم على حق المشتري، فهذه بينته قامت على تصرف جرى الحكم ببطلانه فلا يلتفت إليه، ولو سمع القاضي بينة الشفيع ولكن لم يقضِ بها حضر الغائب،

فأقام بينة على ما ادعاه صاحب اليد قبلت بينته في حق دفع بينة الشفيع، وجرحها لأن بهذه البينة تبين أن الشفيع أقام البينة على غير الخصم. قال في «الكتاب» : ألا ترى أن الشفيع لو أقر مما ادعاه المشتري بعدما أقام البينة قبل القضاء له لا يكون بينهما خصومة، ولا يقضي القاضي للشفيع حتى يحضر الغائب ويعيد البينة عليه. فكذا إذا أثبت الغائب ذلك بالبينة، فإن أعاد الشفيع البينة على الذي حضر قضى القاضي له بالشفعة، فكان له أن يأخذ الدار بأي البيعين شاء، كذا هاهنا. ولو قضى القاضي للشفيع بالشفعة قبل أن يحضر الغائب ثم أقر الشفيع بعد القضاء بما ادعاه المشتري الأول لا يلتفت إليه لما ذكرنا أن قضاء القاضي بالشفعة للشفيع يوجب انتقاض كل تصرف باشره المشتري، فالشفيع بهذا الإقرار يريد إظهار بيع أبطله القاضي، وليس له هذه الولاية، فلهذا لا يلتفت القاضي إلى إقراره، ثم ما ذكر من الجواب ظاهر على قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن القضاء بالشفعة وأنه في معنى عقد ينفذ ظاهراً وباطناً فلا يمكن ردهز أما على قول محمد: لم ينفذ باطناً فينبغي أن يرد وإنما لم يرد؛ لأن فيه قضاء بالبعض على الغائب، والقضاء على الغائب لا يجوز. رجل في يديه دار ادعاها رجل إلا أنه لم يقم البينة على دعواه، ثم قاما من عند القاضي ومكثا زماناً ثم تقربا إليه وجاء المدعي بشاهدين شهدا أن الدار له فقال المدعى عليه: إنها كانت لي إلا أني بعتها من فلان بعد ما قمنا عن مجلس القاضي، أو قال: وهبتها من فلان وسلمتها إليه، ثم أودعنيها وغاب فإن أقر المدعي بما قاله ذو اليد أو لم يقر هو بذلك، ولكن علم القاضي بذلك أو لم يعلم بذلك أيضاً إلا أن صاحب اليد أقام بينة على إقرار المدعي بذلك، فلا خصومة بينهما، وإن لم يكن شيء في ذلك، وأقام صاحب اليد بينة على ما ادعى فالقاضي لا يسمع بينته، ولا تندفع الخصومة عن ذي اليد، وقد مر هذا في المسألة المتقدمة، وكذلك لو كان المدعي حين ادعى الدار أقام شاهداً واحداً ثم قاما من عند القاضي ومكثا زماناً، ثم بعدما أتى القاضي وجاء المدعي بشاهد وأقام صاحب اليد بينة على أنه باع الدار من فلان بعدما قاما من عند القاضي. أو قال: وهبها منه وسلمها إليه، فإن أقر المدعي بذلك أو علم القاضي به أو أقام ذو اليد بينة على إقرار المدعي بذلك فلا خصومة بينهما، وإن لم يكن شيء من ذلك وأقام ذو اليد بينة على ما صنع فالقاضي لا يسمع بينته ولا تندفع الخصومة عنه. ولو كان المدعي حين ادعى الدار أقام شاهدين فعدلا فقبل أن يقضي القاضي بالدار للمدعي قاما من عند القاضي، ثم إنهما بعدما مكثا زماناً عند القاضي، وادعى صاحب اليد أنه باع الدار من فلان بعدما قاما من عند القاضي أو وهبها له، وسلمها إليه، ثم أن فلاناً أودعها منه وغاب، وأقر المدعي بذلك أو علم به فإنه لا تندفع الخصومة من ذي اليد. بخلاف ما إذا كان المدعي أقام شاهداً واحداً وقت الدعوى، وباقي المسألة

بحالها، فإن هناك إذا أقر صاحب اليد بما ادعاه المدعي من البيع أو الهبة بعدما قاما من مجلس القاضي، أو علم القاضي بذلك فإن هناك لا خصومة بين المدعي، وبين صاحب اليد. والفرق: أن بإقامة الشاهدين إن لم يثبت للمدعي حقيقة الملك في المدعى به فقد ثبت له حق الملك لوجود سبب الملك بكماله، إلا أنه ما حد ثبوت الملك إلى وقت القصاص، وحق الملك للمدعي في المدعى يمنع صحة بيع المدعى عليه وهبته كي لا يبطل حق المدعي، فالمدعي إنما أقر بهبة غير صحيحة، والقاضي علم هبته غير صحيحة، فلا يصلح ذلك دافعاً خصومة المدعي إما بإقامة الشاهد الواحد كما لم يثبت للمدعي حقيقة الملك في المدعى به لم يثبت له حق الملك في المدعى به، لم يثبت له حق الملك؛ لأنه لم يقم سبب الملك، وهو شهادة شاهدين عدلين، وإذا لم يثبت للمدعي في المدعى به (205ب4) حقيقة الملك ولا حق الملك كان تصرف المدعى عليه حاصلاً في خالص ملكه فيصح، فإن ما أقر المدعي بهبة صحيحة، وعلى القاضي هبة صحيحة فتندفع الخصومة عن ذي اليد كما قيل: إقامة الشاهد الواحد. فرق بين هذه المسألة وبينما إذا ادعى رجل داراً في يدي رجل بشاهد واحد أو بشاهدين، إلا أنهما لم يعدلا بعد، متى أقر المدعى عليه بالدار لغيره كان إقراره باطلاً في حق المدعي حتى يبطل ما أقام المدعي من الشاهد الواحد فقد سوى بين الشاهد الواحد، وبين الشاهدين، ثمة وفرق بينهما هاهنا. والفرق وهو: أن الإقرار إخبار، والأصل في الإخبارات أنه إذا تضمن إلحاق الضرر بالغير أنه يعتبر كذباً في حق ذلك الغير، والإقرار بالعين للمدعى به بعد الشاهد الواحد يتضمن إلحاق الضرر بالمدعي، فإنه متى صح إقراره يبطل ما أقام المدعي من الشاهد الواحد، فيعتبر كذباً في حقه، فلم يصح، فأما بيع ذو اليد وهبته إنشاء تصدق وتهمة الكذب يتحقق في الإجارات دون الإنشاءات فلا يمكننا رد هذا التصرف من حيث إنه كذب، وإذا لم يمكن الرد بهذا الطريق، طلبنا للرد وجهاً آخر فقلنا: إذا تضمن بيعه وهبته إبطال ملك أو حق ملك، أو يد مستحقة على الغير يرد وما لا، فلا، وبعد إقامة الشاهدين تصرفه تضمن إبطال حق الملك على المدعي فلم يكن صحيحاً. دار في يدي رجل ادعاها رجل وذهب ليأتي بالشهود فباعها المدعى عليه من رجل أو وهبها له، وسلمها إليه، ثم إن المشتري أو الموهوب له أودعها منه ثم تقدما إلى القاضي، فإن كان القاضي يعلم بما صنع صاحب الدار أو أقر المدعي بذلك، أو أقام صاحب اليد بينة على إقرار المدعي بذلك تندفع الخصومة عن ذي اليد، وقد مر هاهنا غير مرة، وإن يكن شيء من ذلك ولكن أقام صاحب اليد بينة على ما صنع لا تندفع خصومة المدعي من صاحب اليد، فلو أن القاضي لم يقضِ للمدعي بالدار بشهادة شهوده حتى حضر الغائب وصدق صاحب اليد فيما قال: تدفع الدار إلى الغائب لإقرار صاحب اليد له. ويجعل القاضي الغائب خصماً للمدعي، ولا يكلف المدعي إعادة البينة؛ لأن إقامتها

على صاحب اليد صح ظاهراً، فلا يبطل بإقرار ذي اليد، ويجعل المقر له وهو المشتري كالوكيل عن ذي اليد، وقد مر جنس هذا فيما تقدم وينتقض البيع، ويرجع المشتري بالثمن على البائع لاستحقاق المبيع من يد المشتري. وكذلك لو شهد على البائع رجل واحد ثم حضر المشتري ودفع العبد إليه، فأقام المدعي شاهداً آخر على المشتري، وقضى بالعبد له، ولا يكلفه إعادة الشاهد الأول؛ لأن الشاهد الثاني مضاف إلى الشاهد الأول فصار كأن الشاهدين شهدا على ذي اليد. وكذلك لو كان ذو اليد باع الدار من غيره ولم يسلمه حتى حضر المدعي وأقام الذي في يده البينة أنه باع العبد من فلان ولم يسلمه إليه لا يلتفت إلى بينة ذي اليد، ويكون الجواب فيه كالجواب فيما إذا أقام البينة على البيع والقبض ثم الإيداع. عبد ادعى على رجل أنه كان ملكه وأنه أعتقه فقال المولى: حين أعتقته لم يكن ملكي لما أني بعته من فلان ثم اشتريته منه وأقام البينة على بيعه قبل الإعتاق، لا تقبل بينته، ولو كان المولى قال له: أعتقتك قبل أن اشتريتك، وقال العبد: لا بل أعتقتني بعدما اشتريتني، فالقول قول العبد لأن العبد يدعي عتقاً جائزاً، والمولى يدعي عتقاً فاسداً. نوع آخر من هذا الفصل قال محمد رحمه الله: رجل ادعى على رجل أنه فقأ عين عبد لي قيمته ألف درهم، وجحد المدعى عليه دعواه، والمدعي مقر أن العبد حي فأقام المدعي بينة على دعواه، فالقاضي لا يسمع بينته ولا يقضي بالأرش على المدعى عليه إلا بمحضر من العبد، فإذا حضر العبد فالمدعي يقيم البينة أنه عبده، وأن هذا فقأ عينه فيقضي القاضي له بالعبد، ويقضي على الفاقيء بأرش العبد للمدعي. قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : وقد قال بعض فقهائنا: أن القاضي يقبل بينته، ويقضي بأرش العبد على الفاقيء، وإن لم يحضر العبد، فإذا حضر العبد إن أنكر العبودية وقال: أنا حر الأصل أبطل القاضي ذلك القضاء ويرد الأرش إلى المدعى عليه، وإن أقر بالعبودية للمدعي أمضى تلك القضاء. وجه قول هذا القائل: أن المدعي ادعى الأرش ديناً في ذمة الحاضر بسبب جائز في محل مملوك له، وفي مثل هذا لا يشترط حضرة المحل للقضاء بالأرش كما لو ادعى أنه فقأ عين برذون له قيمته ألف درهم، وأنكر المدعى عليه دعواه، فأقام المدعي بينة على دعواه فالقاضي يقضي له على المدعى عليه بربع قيمة البرذون، وإن لم يكن البرذون حاضراً كذا هاهنا. وجه ما ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» : أن القضاء بالأرش هاهنا متعذر؛ لأن لو قضينا بالأرش هاهنا إما أن يقضي بالأرش وبملك العبد للمدعي، أو يقضي بالأرش لا غير، ولا وجه إلى الأول؛ لأن البينة في حق العبد قامت على العبد؛ لأنه في يد نفسه من حيث الظاهر؛ حتى كان القول قوله أنه حر الأصل وأنه غائب، والقضاء على الغائب،

وليس عنه خصم حاضر لا يجوز، ولا وجه إلى الثاني؛ لأن ملك الطرف، وملك بدل الطرف لا يفيد الفصل عن ملك الأصل على ما مر. وإذا تعذر القضاء بالأمرين، وبالأرش وحده يوقف القضاء إلى أن يحضر العبد بخلاف مسألة البرذون، لأن هناك القضاء بالأرش ممكن من غير أن يقع القضاء بالبرذون على غائب؛ لأن القول قول المدعي: أن البرذون برذونه، لأنه يدعي مالاً لنفسه وليس له فيه منازع فإنه لم يعرف كون البرذون في يد ثالث، وليس للبرذون يد نفسه فكان القول قوله أن البرذون له فأمكن القضاء بالأرش من غير أن يقع القضاء بالبرذون على الغائب. بخلاف العبد؛ لأن العبد في يد نفسه ويقر عن نفسه فلا يمكن القضاء بذلك للمدعي إلا بالقضاء على الغائب حتى لو كان العبد ميتاً يقضى بالأرش للمدعي؛ لأنه لا بد للميت على نفسه فيمكن القضاء بالأرش للمدعي من غير أن يقع القضاء على الغائب. وكذلك إذا كان العبد صغيراً لا يعبر عن نفسه، فالقاضي يقضي بالأرش للمدعي على الفاقيء، ولا يشترط حضرة العبد؛ هكذا حكي عن القاضي الإمام أبي عاصم العامري؛ لأن الصغير الذي لا يعبر عن نفسه ليس له يد نفسه بل هو بمنزلة الثوب والدابة حتى كان القول فيه قول صاحب اليد أنه ملكه، فأمكن القضاء بالأرش من غير أن يقع القضاء بملك العبد على الغائب. فإن قيل: هلا انتصب الفاقيء خصماً عن العبد للمدعي؛ لأنه ادعى حقاً على الفاقيء وهو الأرش، ولا يمكن إثباته إلا بعد إثبات الملك لنفسه في رقبة العبد، وفي مثل هذا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب. قلنا: لا يمكن أن يجعل الفاقيء خصماً عن العبد حكماً، لأنه ليس من الفاقيء وبين العبد فيما يريد المدعي إثباته من ملكه في رقبة العبد سبب، ولا بد من سبب يكون بين الحاضر والغائب حتى يجعل الحاضر خصماً عن الغائب واحد لم يقل به، قال: ولو أن المدعى عليه أقر أنه فقئ عين العبد، وإنه عبد هذا المدعي والعبد غائب، فإنه يقضي بأرش العبد له بخلاف فصل البينة. والفرق: أن الإقرار في حق الأرش دون نفس العبد فيمكن القضاء بالأرش للمدعي من غير أن يكون قضاءً على الغائب وهو العبد، فأما البينة، فحجة متقدمة، فلا يمكن إثبات ملك العبد بها في حق الأرش، ورقبة العبد لأنه لا يكون على الغائب. فهذا هو الفرق وذكر بعد هذا مسألة البرذون التي ذكرناها على سبيل الاستشهاد، وأجاب على نحو ما بينا أن القاضي يقضي بربع القيمة للمدعي على المدعى عليه، وإن لم يكن البرذون حاضراً وفيه نوع إشكال ينبغي أن لا يقضي القاضي للمدعي بأرش البرذون حتى يري المدعي البرذون للقاضي فينظر إليه القاضي هل فقئ عينه أم لا؟. ألا ترى أن من ادعى على آخر أنه شج رأسه فالقاضي لا يقضي للمدعي على المدعى عليه بشيء (206أ4) حتى يرى المدعي رأسه للقاضي والجواب وهو الفرق بين الفصلين أن في فصل الشجة المدعي حاضر، فيمكنه إراءة رأسه من غير كلفة ومشقة، فأما

البرذون فغائب فلا يمكنه إراءة البرذون إلا بكلفة ومشقة. وكان بمنزلة ما لو ادعى على غيره أنه شج أباه، وأبوه ميت فالقاضي لا يأمره بإحضار أبيه، وزان مسألة البرذون من مسألة الشجة أن لو كان البرذون حاضراً، ولو كان البرذون حاضراً، فالقاضي لا يقضي للمدعي بأرشه حتى يري البرذون القاضي، لأنه يمكنه إراءة من غير مشقة، قال: ولو جاء رجل بعد ذلك والبرذون المفقوءة عينه في يده وهو يزعم أن البرذون له، وطلب من القاضي أن يأمر المقضي له بالأرش حتى يدفع الأرش إليه، فالقاضي لا يلتفت إلى قوله ولا يأمر المقضي له بالأرش حتى يدفع الأرش إليه ما لم يقم البينة أن البرذون له وأن المدعى عليه فقئ عينه وهو يومئذٍ له، مع أن القول قوله أن البرذون له. وأن ما كان كذلك لأن العين ليس في يده ليجعل القول فيه قوله بخلاف البرذون؛ لأن البرذون في يده فأمكن أن يجعل القول فيه قوله، ولعل الذي في يديه البرذون من جهة المقضي له بالأرش بعدما فقئت عينه، ولأنا إنما حكمنا له بالبرذون بظاهر يده، والظاهر لا يصلح حجة للاستحقاق، والأرش والظاهر لا يصلح بذلك، فإن أقام الذي في يديه البرذون بينة أن البرذون له، وأن هذا المدعى عليه فقئ عينه، وهو يومئذٍ له قضي بالأرش له؛ لأنه ظهر ببينته أنه كان صاحب ملك ويد البرذون يوم الفقئ، وظهر أن بينة المقضي له بالأرش قامت على غائب ليس عنه خصم حاضر إذ البينة حجة في حق الناس كافة فبطلت بينة المقضي له بالأرش. فإن قيل: ينبغي أن لا تقبل بينة الذي جاء بالبرذون أن البرذون له لأنه صاحب اليد في حق البرذون. قلنا: نعم إلا أن بينة ذو اليد لا تقبل إذا أقامها لاستحقاق ما في يده، والذي جاء بالبرذون إنما أقام البينة لاستحقاق الأرش، وهو في حق الأرش خارج، ألا ترى أن المشتري للدار إذا أنكر كون الدار في يد الجار ملك الجار فأقام الجار البينة أن الدار التي في يده داره قبلت بينته، وإن كان هو صاحب يد؛ لأن غرضه من إقامة هذه البينة استحقاق ما ليس في يده وهي الدار المشتراة، كذلك في مسألتنا فإن عارضه المقضي له بالأرش فأقام بينة أن البرذون له وأن هذا المدعى عليه فقئ عينه وهو يومئذٍ له فبينة المقضي له بالأرش أولى لأنه خارج. ألا ترى أن المشتري لدارٍ إذا أنكر كون الدار في يد الجار ملك الجار، فأقام الجار البينة أن الدار التي في يديه داره قبلت بينته وإن كان هو صاحب يد، لأن غرضه من إقامة هذه البينة استحقاق ما ليس في يده وهي الدار المشتراة، كذلك في مسألتنا، فإن عارضه المقضي له بالأرش، فأقام بينة أن البرذون له، وأن هذا المدعى عليه فقئ عينه، وهو يومئذٍ له فبينة المقضي له بالأرش أولى؛ لأنه خارج في حق البرذون، والآخر صاحب اليد في حق البرذون، وبينة الخارج في خلاف الملك عندنا أولى. فإن قيل: الآخر إن كان صاحب يد في حق البرذون فهو خارج في حق الأرش،

والمقضي له بالأرش إن كان صاحب اليد في حق الأرش فهو خارج في حق البرذون، فلماذا ترجحت بينة المقضي له بالأرش لما كان خارجاً في حق الأصل وهو البرذون، فعند تعذر الجمع بينهما كان الترجيح لبينة من هو خارج في حق الأصل. فإن قيل: إذا أقام البينة تترجح بينة المقضي له وتصير دافعة بينة الذي جاء بالبرذون، فلما لا تصير بينة الذي أقامها المقضي له قبل هذا دافعة بينة الذي جاء بالبرذون حتى لا تقبل بينة الذي جاء بالبرذون، وإن لم يعد المقضي له بينة. قلنا: لأن ذلك البينة قامت على الفاقيء لا على الذي أحضر البرذون، وبينة الذي أحضر البرذون قامت على الفاقيء وهو المقضي له بالأرش فكانت بينة المقضي له على الأرش على إثبات ملكه في البرذون في حق الذي أحضر البرذون، ولم يقم عليه وجودها والعدم بمنزلة. نوع آخر ذكر الخصاف في «كتاب الحيل» : رجل في يديه رهن، والراهن غائب فأراد المرتهن أن يثبت الرهن حتى القاضي يستحل له بذلك ويحكم بكونه رهناً في يديه. فالحيلة في ذلك: أن يأمر المرتهن رجلاً غريباً حتى يدعي رقبة هذا الرهن ويقدم المرتهن إلى القاضي، فيقيم المرتهن بينة عند القاضي أنه رهن عنده، فيسمع القاضي بينته على الرهن ويقضي بكونه رهناً عنده ويدفع عنه خصومة الغريب، وهذا تنصيص من الخصاف أن البينة على الرهن مقبولة وإن الراهن غائب، وهكذا ذكر محمد في «الجامع» في المسألة المخمسة قالوا: وذكر محمد هذه المسألة في كتاب الرهن وشوش فيه الجواب في بعض المواضع شرط حضرة الراهن لسماع البينة على الرهن، وفي بعضها لم يشترط. والمشايخ قد اختلفوا فيها؛ بعضهم قالوا: الصواب أنه لا يشترط حضرة الراهن وما ذكر في بعض المواضع في كتاب «الرهن» أنه يشترط حضرة الراهن وقع غلطاً من الكاتب، وجعل هذا القائل مسألة الرهن نظير مسألة الوديعة والإجارة والمضاربة، فإن صاحب اليد إذا أقام بينة على أن هذا العين وديعة عنده من جهة فلان أو مضاربة، أو غصباً، أو إجارة، فالقاضي يسمع بينته فهاهنا كذلك. وبعض مشايخنا قالوا: في المسألة روايتان؛ في إحدى الروايتان تقبل هذه البينة؛ لأن الراهن لما رهنه فقد استحفظه، فإذا تعذر عليه الحفظ إلا بإقامة البينة، وإثبات الملك للراهن صار خصماً في ذلك، كما في الوديعة وأشباهها، وفي رواية أخرى: القاضي لا يقبل هذه البينة لإثبات الرهن على الغائب، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله؛ وهذا لأن في قبول هذه البينة لإثبات الرهن قضاء على الغائب، ولا حاجة لصاحب اليد على إثبات الرهن ليدفع الخصومة عن نفسه، فإن بمجرد اليد تندفع عنه الخصومة، كما لو أقام بينة أنها وديعة في يده، وقد أجابه بهذا في نظائره في «السير الكبير» ، فقد ذكر في

نظائره «السير الكبير» العبد المرهون إذا ... ؟، ثم وقع في الغنيمة فوجده المرتهن قبل القسمة فأقام البينة أنه رهن عنده لفلان، وأخذه لا يكون هذا قضاءً على الغائب بالرهن؛ لأنه لا يحتاج إلى إثبات الرهن؛ لأن الإيداع كافٍ له، فتبين بهذا أن قبول البينة لإثبات الرهن على الغائب ولا وجه إليه. نوع آخر قال محمد رحمه الله في وصايا «الجامع» : رجل هلك وترك ثلاثة ألاف درهم، وترك وارثاً واحداً فأقام رجل البينة أن الميت أوصى له بثلث ماله وجحد الوارث ذلك، فالقاضي يسمع بينته على الوارث ويقضي بوصيته، فإن دفع الوارث الثلث إلى الموصى له، ثم جاء رجل آخر وأقام بينة أن الميت أوصى له بثلث ماله، وقد غاب الوارث ذلك، فأحضر الموصى له إلى القاضي فالقاضي يجعل الموصى له خصماً، ويسمع بينته عليه ويأمره أن يدفع نصف ما في يده إلى المدعي الثاني؛ لأن الثاني يدعي لنفسه نصف ما في يد الأول، والأول يجحد ذلك فينتصب خصماً له. وإذا قبلت بينة الثاني والثابت بالبينة كالثابت عياناً صار كأن القاضي عاين وصيتهما، وهناك يجعل الثلث بينهما نصفان، كذا هاهنا فإن لم يكن عند الأول شيء بأن ملك ما في يده أو استهلكه، وهو معدم فأحضر القاضي الوارث وأراد أن يأخذ منه بعض ما في يده فجحد الوارث وصيته لم يكلف الثاني إعادة البينة على الوارث؛ لأن الميت صار مقضياً عليه أيضاً فكان للموصى له الثاني أن يأخذ من الوارث خمس مافي يده، ثم الثاني مع الوارث يتبعان الأول (206ب4) فيأخذان نصف ما أخذ بغير حق، فإذا أخذ بذلك اقتسماه على خمسة أسهم؛ سهم للموصى له الثاني وأربعة أسهم للوارث، والخصومة إلى القاضي الذي قضى للأول، وإلى قاضٍ آخر سواء؛ لأن الأول إنما صار خصماً للثاني بحكم يده. وفي حق هذا المعنى هذا القاضي وقاضي آخر سواء، ولو كان الموصى له الأول هو الغائب، فأحضر الثاني الوارث فالقاضي يقضي على الوارث؛ لأن الوارث خليفة الميت، فينتصب خصماً عنه فيما يستحق عليه، ويكون ذلك القضاء على الوارث قضاءً على الموصى له الأول؛ لأن الوارث لما انتصب خصماً عنه صار الميت مقضياً عليه، وإذا صار الميت مقضياً عليه صار الموصى له مقضياً عليه؛ لأن الموصى له بمنزلة أحد الورثة. وإن كان القاضي قضى بوصية الأول، ولم يدفع إليه شيئاً حتى خاصمه الثاني والوارث غائب، فإن خاصمه إلى ذلك القاضي بعينه جعله خصماً؛ لأن القاضي عرف أن ثلث الثلث ملك الموصى له الأول، إلا أنه أمانة في يد الوارث، ويد الأمين كيد المالك، فصار من حيث التقدير كأنه في يد الموصى له الأول، وإن خاصمه إلى قاضٍ

آخر لم يجعله خصماً؛ لأن الثاني يدعي نصف الثلث لنفسه ولم يعرف هذا القاضي كون الثلث في يده لا من حيث الحقيقة، ولا من حيث الحكم لو ثبت ذلك إنما يثبت بإقرار الموصى له الأول، فإنه يقول: الثلث ملكي، وهو أمانة في يد الوارث، إلا أنه بهذا الإقرار لا يصير خصماً؛ لأن في الحقيقة هذه دعوى على الوارث فلا يصدق في ذلك، وإذا لم يصدقه القاضي في ذلك لم يثبت ما يوجب كونه خصماً. ولو كان الموصى له الأول هو الغائب، والوارث حاضر، ولم يدفع القاضي إلى الموصى له الأول شيئاً، فالواررث خصم للموصى له الثاني، وإن خاصمه الثاني إلى قاضي آخر؛ لأن القاضي إنما يجعل الوارث خصماً عن الميت لكونه خلفاً عنه، والقاضي الثاني عالم بذلك، فأما الموصى له إنما يصير خصماً لكون المال في يده إما حقيقة أو حكماً، والقاضي الثاني لم يعلم بذلك وهذا كله إذا أقر الموصى له الأول أن المال الذي في يده بحكم الوصية من الميت، أو كان ذلك معلوماً للقاضي، أما إذا لم يكن شيء من ذلك والأول يقول: هذا مالي ورثته عن أبي والميت ما أوصى لي بشيء، وما أخذت من ماله شيئاً، فإنه يكون خصماً للموصى له الثاني. بمنزلة ما لو ادعى رجل عبداً في يدي رجل أنه اشتراه من فلان، وقال ذو اليد: هوعبدي ورثته من أبي، فإنه يكون خصماً للمدعي ويقضي عليه ببينة المدعي كذا هاهنا. فإن قال: هذا المال وديعة عندي من جهة فلان الميت الذي يدعي الثاني الوصية من جهته، أو قال: غصبته مني، فلا خصومة بينهما؛ لأنهما تصادقا أن هذا المال وصل إلى الموصى له من جهة الميت فكانت يده يد وديعة أو يد غصب. وأياً ما كان لا يكون يد خصومة في حق من يدعي تلقي الملك فيه من جهة المالك، كما في مسألة الشراء؛ إذا ادعى الذي في يديه العبد أن العبد في يده وديعة، أو غصب لفلان الغائب الذي ادعى المدعي الشراء من جهته، فإنه تندفع عنه الخصومة، وإن قال: هو وديعة عندي من جهة فلان؛ يعني به رجلاً آخر غير الموصي، أو قال: غصبته منه فهو خصم إلا أن يقيم بينة على ما قال؛ لأنه انتصب خصماً بظاهر اليد، فبمجرد دعواه أن يده يد وديعة أو يد غصب لا تندفع عنه الخصومة. وكان الفقيه أبو بكر البلخي رحمه الله يقول: لا تندفع الخصومة في هذه الصورة، وإن أقام البينة وقاسه على ما إذا ادعى عيناً في يد إنسان أنه اشتراه من فلان الغائب، وهو يملكه، وذو اليد ادعى أن فلاناً آخر غير ذلك الغائب أودعه إياه فإن هناك لا تندفع عنه الخصومة، فهاهنا يجب أن يكون كذلك. رجل هلك وترك مالاً ووارثاً واحداً فأقام رجل بينة أن له على الميت ألف درهم دين، فقضى القاضى له على الوارث ودفع إليه ألف درهم وغاب الوارث، فحضر غريم آخر للميت، وادعى عليه ألف درهم، فإن الغريم الأول لا يكون خصماً للغريم الثاني فرق بين الغريمين وبين الموصى لهما، فإن هناك إذا قضى القاضي للموصى له الأول بالثلث، ودفع إليه الثلث فحضر الثاني، فالأول ينتصب خصماً للثاني.

والفرق: أن المستحق للموصى له بالثلث عين التركة، ولهذا تبطل الوصية بهلاك التركة، ولهذا لو أراد الوارث أن يعطي له الثلث من ماله لا يكون له ذلك إلا برضى الموصى له ولما كان المستحق عين التركة كان الثاني مدعياً بعض ما في يد الأول لنفسه من جهة الميت، فانتصب الأول خصماً للثاني بحكم يده فأما الغريم، فلا يستحق عين التركة. ولهذا لو أراد الوارث أو الوصي بعد ثبوت دينه قضاء دينه من مال آخر كان لهما ذلك من غير رضى الغريم، وكذلك لا يبطل حقه بهلاك المال وإنما حقه في ذمة من عليه الدين، وهو الميت غير أن بعد موته تتعين تركته للقضاء منه لا يكون حقه في عين التركة. ولما كان هكذا لا بد من إثبات الدين في ذمة الميت ليتعين القضاء، وفي دعوى الدين على الميت الخصم وارثه أو وصيه دون الغريم، ولو كان الغريم الأول هو الغائب، فأحضر الثاني وارث الميت كان خصماً له؛ لأنه نائب عن الميت فيما يدعي على الميت، فأمكن جعله خصماً بطريق النيابة عن الميت، حتى يجعل خصماً بطريق النيابة عن الميت، ولا يمكن جعله خصماً بطريق الأصالة؛ لأنه لا يدعي شيئاً لافي ذمته، ولا في يده على ما مر، ثم إذا قضى القاضي على الوارث، وقد توى ما أخذه الوارث رجع الغريم الثاني على الغريم الأول، فأخذ منه بعض ما قبض، ثم يتبعان الوارث بما بقي لهما؛ لأن الثابت بالبينة كالثابت بعلم القاضي، ولو علم القاضي بأن لهما على الميت دين، وقد قبض الأول تمام حقه وتوى الباقي، فالقاضي يأخذ منه نصف ما أخذه، ويدفعه إلى الآخر حتى يستويان، ثم يتبعان الوارث بما بقي لهما كذا هاهنا. ولو لم يكن الأول غريماً، وكان موصى له بالثلث، وقبضه وغاب الوارث، فأقام رجل البينة أن له على الميت ديناً، فالموصى له ليس بخصم له؛ لأنه لا يدعي بعض ما في يده، أو لا حق للغريم في عين التركة على ما مرَّ، أما يدعي ديناً على الميت والموصى له بالثلث إنما ينتصب خصماً عن الميت فيما يدعي في المال الذي وصل إليه؛ بخلاف الوارث حيث ينتصب خصماً، فيما يدعي في مال الميت وفي ذمته؛ لأنه خلف عن الميت قائم مقام الميت مطلقاً لحاجته إلى ذلك، أما الموصى له بالثلث بخلافه على ما مرَّ قبل هذا. وكذلك لو كان الأول غريماً والثاني موصى له بالثلث بخلافه على ما مر من قبل هذا، وكذلك لو كان الأول غريماً، والثاني موصى له بالثلث لم يكن الغريم خصماً له؛ لأن الموصى له إن كان مقراً بالدين كان في زعمه أن الأول غاصب، ويد الغاصب لا تكون يد خصومة والوارث خصم في ذلك كله لما قلنا. رجل أقام بينة على وارث ميت أنه أوصى له بهذه الجارية بعينها، وهي ثلث ماله، وقضى القاضي بذلك ودفعها إليه وغاب الوارث ثم أقام آخر البينة على الموصى له أن الميت أوصى له بهذا وذكروا رجوعاً؛ أو لم يذكروا رجوعاً قضى القاضي للثاني بحقه؛

لأن الثاني ادعى جميع ما في يد الأول لنفسه، إن ادعى الرجوع، ونصفها إن لم يدعِ الرجوع، وذو اليد يدعي كونها لنفسه، وفي مثل هذا ينتصب خصماً. كرجل ادعى أنه كان اشترى هذه الجارية أو نصفها من الميت قبل موته انتصب الموصى له خصماً كذا هاهنا، ثم إذا انتصب خصماً فإن ذكروا رجوعاً قضى القاضي بكل الجارية للثاني، وإن لم يذكروا رجوعاً قضى بنصفها للثاني للمزاحمة والمساواة، ويكون هذا قضاءً على الوارث غاب أو حضر، حتى أن الموصى له الأول إذا بطل حقه كان كل الجارية للثاني، لأن الوارث إنما تلقى الملك في الميراث من جهة الميت، وقد صار الميت مقضياً عليه بهذه البينة، فكل من تلقى الملك من جهته يصير مقضياً عليه أيضاً، فإن دفع القاضي الجارية إلى الأول، ثم غاب الموصى له وحضر الوارث لم ينتصب الوارث خصماً للموصى له الآخر خاصمه إلى القاضي الأول، أو إلى غيره لأن المدعي الجارية، والجارية ليست في يد الوارث لا حقيقة (207أ4) ولا حكماً، والوارث إنما يصلح خصماً فيما يصلح المورث حال حياته، والمورث لا يصلح خصماً في حال حياته فيما زال عن ملكه ويده، فكذا الوارث. بخلاف ما إذا كان الثاني يدعي وصية بالثلث، وأحضر الوارث حيث يصير خصماً، لأن هناك المدعي يدعي لنفسه شركة فيما في يد الوارث على ما مرَّ، فينتصب الوارث خصماً في إثبات سببه عليه، أما هاهنا فبخلافه. وإن كان القاضي قضى للأول بالجارية، فلم يدفعها إليه حتى خاصم الثاني الوارث، فإن خاصمه فيها إلى القاضي الأول لم يجعله خصماً؛ لأن القاضي عرف كونها لغيره، وعرف الوارث أميناً فيها، ويد الأمين لا تكون يد خصومة، وإن خاصمه إلى قاضٍ آخر جعله خصماً؛ لأن القاضي الثاني لم يعرف كونها لغيره وكون الوارث أميناً، بل عرف كونها في يده من التركة فلا يصدقه في أنها لفلان، وأنه أمين فيها إلا ببينة يقيمها على ذلك، وإذا لم يصدقه قضي عليه وصار الموصى له الأول مقضياً عليه؛ لأن الموصى له الأول مدعي تلقي الملك من جهة الميت، والميت صار مقضياً عليه بهذه البينة، فصار من يدعي تلقي الملك من جهة الميت مقضياً عليه أيضاً. بخلاف ما إذا ادعى رجل عيناً في يدي رجل ملكاً مطلقاً، وصاحب اليد ادعى أنه مودع فلان، ولم يقم البينة على ذلك، وقضى القاضي على صاحب اليد للمدعي، لا يكون ذلك قضاء على الذي ادعى صاحب اليد أنه أمينه؛ لأن هناك صاحب اليد لا يدعي التلقي من جهة المقضي عليه، وهو صاحب اليد فاقتصر القاضي على صاحب اليد أما هاهنا فبخلافه. ثم القاضي إذا سمع بينة الثاني على الوارث بهذا الفصل، وهو إذا خاصمه الثاني عند قاضٍ آخر قضى للثاني بنصف الجارية سواء شهد شهوده على الرجوع عن الأول، أو لم يشهدوا على الرجوع، وهذا لا يشكل فيما إذا شهدوا على الرجوع. والوجه في ذلك: أن الموصى له الثاني أثبت الوصية لنفسه في العين وهو استحقاق

على الميت والوارث خصم في ذلك، أما إثبات الرجوع عن الوصية الأولى، فليس باستحقاق على الميت، ولا على الوارث، والوارث ليس بخصم عن الموصى له الأول، فيصح القضاء على الوارث بالوصية، ولم يصح القضاء عليه بالرجوع. فلهذا كانت الجارية بينهما نصفين، فإذا حضر الأول فإن أعاد الثاني البينة على الرجوع أخذ الكل وإلا أخذ نصفها لما قلنا: وإن أقام الأول بينة أن الميت أوصى له بثلث ماله، ودفعه القاض إليه ثم أقام الثاني البينة على الأول أن الميت رجع عن الوصية الأولى، وأوصى بثلث ماله للثاني، فالقاضي يأخذ الثلث من الأول، والأول يجحد ذلك فينتصب خصماً بحكم اليد، وإذا انتصب خصماً كان الثاني مثبتاً استحقاق نفسه، وبطلان حق الأول على من هو خصم فيها، فلهذا كان كما قلنا. ولو كان الوارث هو الحاضر قضى القاضي بالوصية الثانية دون الرجوع عن الوصية الأولى لما مر، ولو كان الأول موصى له بعبد بعينه، والعبد مدفوع إليه بقضاء القاضي، ثم أقام آخر البينة على الموصى له أن الميت أوصى له بمئة من ماله، فالموصى له بالعبد لا يكون خصماً له؛ لأن الثاني لا يدعي استحقاق شيء مما في يد الأول بعينه، لأن في يد الأول عبد، وهو لا يدعي استحقاق شيء من العبد. ولهذا لو هلك العبد في يد الأول لا تبطل وصية صاحب المئة، فلم يكن الثاني مدعياً استحقاق شيء مما في يده بعينه، ولو حضر الوارث وغاب الموصى له الأول كان الوارث خصماً للثاني لأن الوارث خصم لمن يدعي ديناً على الميت على ما مرَّ فلذا يكون خصماً لمن يدعي ديناً على الميت على ما مرَّ، فلذا يكون خصماً لمن يدعي وصية مرسلة، ويكون القضاء عليه قضاءً على الموصى له الأول. رجل له على رجل ألف درهم قرض، أو كان غصب منه ألف درهم، وكانت هي في يد الغاصب قائمة بعينها أو استودعه ألف درهم، وهي قائمة بعينها في يد المودع، فأقام رجل البينة أن صاحب المال توفي وأوصى له بهذه الألف التي له قبل هذا الرجل، والرجل مقر بالمال لكنه يقول: لا أدري أمات فلان أو لم يمت لم يجعل القاضي بينهما خصومة حتى يحضر وارثاً، أو وصياً؛ أما في الوديعة والغصب، فلأنهما اتفقا على أن يده إما يد أمانة أو يد غصب، وأياً ما كان لا يكون يد خصومة على ما مرَّ. ونظيره: إذا ادعى عيناً في يدي رجل أنه اشتراه من فلان الغائب وصاحب اليد يقول: أنا مودع الغائب أو غصبته منه لا ينتصب خصماً للمدعي كذا هاهنا، أما في الدين فلأنه يدعي على الميت ذلك الدين الذي في ذمة هذا، وليس للمدعى عليه يداً على ما يدعيه الموصى له، فإن المديون لا بد له على ما في ذمته من الدين ولا ملك له فلم ينتصب خصماً. فرق بين هذا وبينما لو جاء رجل، وادعى أنه وارث فلان ابنه وأخوه والغاصب والمودع مقر بالمال ولكنه قال: لا أدري أمات فلان أو لم يمت؟ أو قال: لا أدري أنت

وارث أم لا؟ فأقام البينة على موته وعلى أنه وارث تقبل البينة، وينتصب هو خصماً للوارث. والفرق وهو: أن الواث خليفة الميت قائم مقام الميت فكونه مودعاً أو غاصباً لا تندفع خصومة صاحب الوديعة والغصب عن نفسه حتى لو قال المودع أو الغاصب: لا أدري أنت الذي أودعتني، أو غصبت منك أم لا؟ لا تندفع عنه هذه الخصومة بهذا القول، فكذلك كونه مودعاً أو غاصباً لا تندفع خصومة خليفته، أما الموصى له ليس بخليفة عن الميت، فإنما ينتصب المدعى عليه خصماً له باعتبار يده، وتعذر جعل المدعى عليه خصماً له بحكم اليد على ما مرَّ، فلهذا افترقا هذا الذي ذكرنا. إذا كان الذي قبله المال مقراً بالمال فإن قال الذي في يديه المال: هذا ملكي، وليس عندي من مال الميت شيء، صار خصماً للمدعي؛ لأنه نازعه بدعوى الملك فصار خصماً له في إثبات الملك وفي إثبات سببه. وصار كرجل ادعى عيناً في يد رجل أنه اشتراه من فلان الغاصب، وصاحب اليد يقول: هو لي فإنه ينتصب خصماً للمدعي كذا هاهنا، وإذا جعله القاضي خصماً في هذا الوجه قضي له بثلث ما في يده المدعى عليه؛ لأن محل الوصية الثلث، والقاضي لم يعرف للميت مالاً آخر، فيقضي له بثلث هذا المال إلا أن يقيم المدعي بينة أن الميت ترك ألفي درهم غير هذه الألف، وأن الوارث قبض ذلك فحينئذٍ يقضي القاضي للموصى له بكل هذه الألف؛ لأنه أثبت استحقاق كل الألف لنفسه بالبينة العادلة. فلو حضر الوارث بعد ذلك وقال: لم أقبض من مال الميت شيئاً لم يلتفت إلى قوله؛ لأنه صار مقضياً له عليه بوصول ألفي درهم إليه في ضمن ثبوت الألف ثلثا التركة. ولو كان مكان الموصى له غريماً يدعي ديناً على الميت والمسألة بحالها لم يكن الذي قبله المال خصماً سواء كان صاحب اليد مقراً أو جاحداً، أما إذا كان مقراً؛ فلأنه لا ينتصب خصماً للموصى له في هذا الوجه مع أنه لا يدعي شركة في العين كان أولى، وأما إذا كان جاحداً؛ لأنه لا يدعي عيناً في يد صاحب اليد، وإنما يدعي ديناً على الميت، واستحقاق العين تابع له، فإذا لم يصلح خصماً في الأصل لا يصلح خصماً في البيع أيضاً. فإن أقام هذا المدعي بينة أن فلاناً مات ولم يدع وارثاً ولا وصياً يقبل القاضي بينته، وكان ينبغي أن لا تقبل هذه البينة لأنها قامت على غير خصم، والجواب لا بل قامت على خصم وهو القاضي، لأن الشهود لما شهدوا أنه لم يترك وارثاً فقد شهدوا أن تركة الميت لجماعة المسلمين فالمدعي يدعي حقاً في مال جماعة المسلمين، ولا يمكنه الخصومة مع جماعة المسلمين، فينتصب القاضي خصماً عن جماعة المسلميين لكونه نائباً عن المسلمين؛ ولأنه يدعي بهذا وجوب نصب الوصي على القاضي حُسبةً والقاضي قيماً على نفسه (207ب4) يصلح قاضياً، وإذا قضى القاضي بهذه البينة ينتصب عن الميت وصياً، ويأمر المدعي أن يقيم البينة عليه بذلك الدين، فإذا فعل قبل بينته على الدين، وأمر الذي قبله المال بقضاء الدين إلى الغريم؛ إن كان الذي قبله المال مقراً بذلك.

ثم عاد محمد رحمه الله إلى صدر المسألة فقال: لو أن الموصى له أقام البينة أن فلاناً مات، ولم يدع وارثاً وأوصى له بالألف التي قبل فلان، وقال الشهود: لا نعلم له وارثاً، والذي قبله المال مقر بالمال الذي قبله، فالقاضي يقضي بالمال للموصى. فرق بين هذا وبينما إذا كان للميت وارث والفرق وهو: أنه إذا كان للميت وارث لا يمكن أن يجعل الموصى له بمنزلة الوارث لما فيه من إبطال من جعله الشرع وارثاً في قدر الموصى به، وليس للعبد ولاية إبطال ما أثبته الشرع فجعل الإيصاء ثمة تمليكاً، وجعل الموصى له متملكاً على الميت بمنزلة الموهوب له والمشتري، فلم يكن الموصى له نائباً عن الميت، فلا ينتصب المودع، والغاصب خصماً له، فأما إذا لم يكن للميت وارثاً فالموصى له يجعل وارثاً؛ لأن الموصي أقامه مقام نفسه فيما يتركه، وهذا هو تفسير الوارث، وأمكن جعله وارثاً؛ لأن جعله وارثاً لا يؤدي إلى إبطال ما أثبته الشرع فجعل كالوارث، وقد بينا أن يد المدعي لا يدفع خصومة الوارث. استشهد فقال: ألا ترى أن الشهود لو شهدوا أن الميت أقر عند موته أنه أخوه لأبيه وأمه لا يعلمون له وارثاً غيره جعلت الميراث له وصار المودع خصماً، وإن ثبت نسبه من أبيه ما لم يكن للمقر وارث كذا هاهنا. وذكر في «الأقضية» عن محمد: إذا مات الرجل، وقد كان أوصى إلى رجل أي جعله وصياً، وقبل الوصي الوصاية في حياته أو بعد موته، وجاء إلى القاضي يريد إثبات وصايته، فالقاضي ينظر فيه إن كان أهلاً للوصاية يسمع دعواه إذا حضر مع نفسه من يصلح خصماً له قال: والخصم في ذلك وارث أو موصى له أو رجل للميت عليه دين، أو رجل له على الميت دين أما الوارث فلأن الوصي يدعي أن يده فوق يد الوارث في مال الميت رأياً وتدبيراً وتصرفاً، والوارث ينكر ذلك فيكون خصماً له. وأما الموصى له فلأنه بمنزلة الوارث، وأما الغريم الذي للميت عليه دين؛ فلأنه يدعي حق استيفائه ما عليه من الدين، وهو ينكر، وأما الغريم الذي له على الميت دين فقد قال: بعض مشايخنا: إنه لا يكون خصماً له؛ لأنه لا يدعي عليه شيئاً فكيف يكون خصماً له، وقال الخصاف: يكون خصماً؛ لأنه يريد أن يدفع خصومته في الدين، وإنما يكون له ذلك بعد إثبات الوصاية، هذه الجملة من كتاب «الأقضية» . وفي «المنتقى» : رواية إبراهيم رحمه الله: رجل مات وعليه دين وأوصى بثلث ماله أو بدراهم مسماة لرجل فيأخذها الموصى له، ثم الغريم والورثة شهود أو غيب، قدم الموصى إلى القاضي فالموصى له لا يكون خصماً، وأشار إلى أن الوصية متى حصلت بقدر الثلث، فالموصى له لا يعتبر بالوارث. وإذا حصلت الوصية بما زاد على الثلث وصحت بأن لم يكن ثمة وارث، فالموصى له خصم للغريم في هذه الحالة، ويعتبر الموصى له في هذه الحالة بالوارث؛ لأن استحقاق ما زاد على الثلث من خصائص الوارث، والوارث ينتصب خصماً للغريم ففي حق الوصي يجب أن يكون الجواب كذلك وصاحب «الأقضية» ذكر الموصى له مطلقاً من

غير فصل، بينما إذا كان الموصى له بالزيادة على الثلث أو بالثلث فيحتمل أن يكون المراد منه إذا كان الموصى له بالزيادة على الثلث. نوع آخر من هذا الفصل رجل مات وله ابنان أحدهما غائب، فادعى الحاضر أن له على أبيه ألف درهم دين، ولا مال للميت غير ألف درهم فإني أقبل بينة الابن الحاضر في إثبات الدين على الأجنبي، ولا أسمع بينته على أبيه بدينه، لأنه ليس معه خصم، ولا أقضي له من الألف التي قضيت على الأجنبي بشيء؛ لأنه يزعم أنه لا ميراث له، فأوقف الألف حتى يجيء الأخ. وفيه أيضاً: رجل في يديه دار اشتراها، وطلب الشفيع الشفعة، فقال المشتري: اشتريتها لفلان، وأقام بينة أنه قال هذا القول قبل أن يشتريها، وأقام البينة أن فلاناً وكله بشرائها منذ سنة؛ قال: أقبل بينته؛ لأني لو قبلتها ألزمت الغائب البيع. وفيه أيضاً: رجل في يديه دار ادعاها رجل أنها له، وأقام الذي في يديه الدار بينة أن هذه الدار لفلان اشتراها من فلان هذا المدعي، ووكلني بها، فإني أقبل بينته وأجعله وكيلاً، وأدفع الخصومة عنه، ولا ألزم الغائب من هذا المدعي؛ لأن هذا إقامة البينة على شراء الغائب، وعلى أن يده ليست بيد خصومة، والمدعي خصم له في أحدهما دون الآخر، فقبل بينته عليه فيما هو خصم فيه، ولا يقبل بينته فيما ليس بخصم فيه. وقال أبو يوسف رحمه الله: رجل في يديه دار ادعى رجل هذه الدار وقال: الدار لي اشتراها فلان الغائب منك لأجلي، وجحد الذي في يديه الدار البيع، قال: أقبل بينة المدعى عليه. وكذلك لو كان المشتري حاضراً ينكر الشراء، وهذا بمنزلة رجل ادعى داراً في يدي رجل وقال: اشتريتها من فلان، وكان فلان اشتراها منك، قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا ادعى أنه اشتراها من فلان، وقال: اشتراها من الذي هي في يده قبلت بينته. وقال أبو يوسف رحمه الله: لو قال الذي هي في يديه: قد كنت بعتها من فلان الذي يزعم أنك وكلته بالشراء لك، وفلان غائب، فلا خصومة بين المدعي وبينه، وكذلك لو قال: قد كنت بعتها من فلان الذي تزعم أنك اشتريتها منه، وهي في يدي حتى تدفع الثمن، أو قال: أودعنيها. ولو أن رجلاً جاء بصك باسم غيره على رجل وقال: هذا المال الذي في هذا الصك باسم فلان عليك قد أقر به لي فلان، ولي البينة بذلك، فإن أنكر المدعى عليه أن يكون لفلان الغائب عليه شيء فهو خصم، أقبل بينة هذا المدعي وأقضي له بالمال، وإن أقر المدعى عليه بالمال للرجل الذي الصك باسمه، فإني لا أقبل بينة هذا على الغائب الذي الصك باسمه، فإنه أقر بأن المال له حتى يحضر، هذا هو قول أبي يوسف؛ وروي عن أبي حنيفة أنه قال: لا أقبل بينته، وإن أنكر المدعى عليه أن يكون لفلان الغائب عليه شيء.

ذكر ابن سماعة في «الرقيات» : أنه كتب إلى محمد بن الحسن رحمهما الله: في رجل ادعى داراً في يدي رجل، وقال: هذه الدار كانت لفلان بن فلان الفلاني، وإنه باعها من فلان بن فلان الفلاني بألف، وأنا شفيعها، وأريد أخذها بالشفعة، وقال الذي هي في يديه: هي داري، لم يملكها فلان وفلان قط، وأقام المدعى عليه بينة على ما ادعى من ذلك. قال: أما في قولي، وهو قياس قول أبي حنيفة، فلا خصومة بينهما حتى يحضر المشتري إن كان قبض الدار من البائع، وحتى يحضرا جميعاً إن لم يكن المشتري قبض الدار، وأما في قول أبي يوسف، فالذي في يديه خصمٌ، ويقضي القاضي للشفيع بالدار ويدفعها إليه ويأخذ الثمن من الشفيع فيضعه على يدي عدل، ويكون ذلك قضاءً على المشتري والبائع، وإن كان المشتري أيضاً حاضراً منكراً للشراء؛ قال محمد رحمه الله: أقضي بالدار للشفيع وأجعل العهدة على المشتري وأدفع الثمن إليه. ابن سماعة عن محمد: في رجل أمر رجلاً أن يشتري له عشرة دنانير بمئة درهم ففعل ذلك، وقبض الدنانير، ودفع الدراهم، فجاء رجل يدعي الدنانير فالمشتري خصم له، ولا أقبل بينة المشتري أن فلاناً أمره واشترى هذه الدنانير له، وإن أقر مدعي الدنانير بذلك لم أجعل بينهما خصومة. وعنه أيضاً: رجل ادعى على رجل أنه باع هذا العبد بألف درهم بأمر مولاه فلان، وهو بضاعة في يديه، فقال المدعى عليه: بعته بغير أمر صاحبه، فإني أجعله خصماً وأقضي عليه بدفع العبد إلى المشتري لأني إنما أقضي عليه بالبيع. رجل ادعى مملوكاً وزعم أنه له وقال: ليس هو اليوم في يدي، وقال المملوك: أنا مملوك فلان (208أ4) الغائب، فإن جاء المملوك ببينة على ما ذكر، فلا خصومة بينه وبين المدعي، وإن لم يقم على ذلك بينة قبلت بينة المدعى عليه، وقضيت به له، فإن جاء المقر له بعد ذلك لم يكن له على العبد سبيل، فإن أقام بينة قبلت بينته ويقضى له بالعبد على المقضي له الأول، قال في «الكتاب» : لأني إنما قضيت للأول على العبد بعينه. ولو أن رجلاً ادعى عبداً في يدي عبد أو ادعى ديناً عليه، أو ادعى شراء شيء منه، فهو خصمه إلا أن يقر المدعي أنه يحجر عليه، فلا أجعل بينهما خصومة. رجل في يديه دار، جاء رجل وادعى أنها دار فلان وأن له عليه ألف درهم، وأنه كان له بينة بالألف التي له عليه هذه الدار منذ شهر ودفعها إليه، ثم أنه بعد ذلك استعارها منه، فأعارها إياه وفلان رب الدار غائب، وأقام الذي في يديه الدار بينة أن الدار داره اشتراها من فلان الذي زعم المدعي أنه رهنها إياه أمس وقال: اشتريتها منه منذ عشرة أيام، وشهد له الشهود بذلك، فإن الذي ادعى الرهن يستحقها، وتقبل بينته عليها. فإن قال المشتري: أنا انقض البيع؛ فالقاضي لا ينقض بيعه على الغائب حتى يحضر الذي باعه. وكذلك إن ادعى الاستئجار مكان الرهن، ولو كان مكان الراهن أو المشتري رجل

يدعي ملك الدار، ويزعم أنه اشتراها من صاحب اليد منذ شهر قبل شراء الذي الدار في يديه، فإنه خصم يقضى له بالدار وينتقض البيع الثاني، وإن كان شهود المدعي لم يشهدوا على قبض البائع الثمن، فإن الحاكم يأخذ منه الثمن فيكون عنده للبائع ويسلم الدار. قال هشام: سألت محمداً عن رجل اشتريت منه جارية ونقدته الثمن، وقبضت الجارية فاستحقها مني إنسان ببينة، وقضى القاضي بها للمستحق، فأحضرت الذي باعنيها، فقال: يخير المشتري إن شاء (قبله) ولي الخصومة، وإن شاء رده بالثمن على البائع، وإن قال المشتري: أقف أمري ويلي البائع الخصومة ليس له ذلك. رجل أقر بدار في يديه أنها لفلان سمى رجلاً غائباً غيبة منقطعة، وأنه أمر فلاناً أن يحفظها على المقر له، ثم أن ذلك الرجل جعلها على يدي، وقد مات، فالمجهول بيده يكون خصماً لكل من ادعاها، إلا أن يقيم البينة على أن الغائب فلان بن فلان، وقد أثبتوا معرفته دفعتها إلى الميت الذي دفعها إلى هذا الذي هي في يديه وغاب، فإذا أقام على ذلك بينة، فلا خصومة بينه وبين المدعي، قال: ولا أجعله وصياً إلا فيها خاصة في قول محمد فأما في قياس قول أبي حنيفة: ينبغي أن يكون وصياً في كل شيء. رجل ادعى على رجل أن له على فلان ألف درهم، وأنه مات قبل أن يؤديها إليه، وأن له في يديك من ماله ألف درهم، وطالبه بقضاء الدين من ذلك المال، فالقاضي لا يسمع دعواه، ولا يقبل بينته، ولو طلب من القاضي أن يحلف المدعى عليه، فالقاضي لا يحلفه، وهذا لأن الدعوى إنما تسمع على الخصم والمدعى عليه ليس بخصم له في هذه الصورة؛ لأنه لا يدعي عليه ولا في يده شيئاً، وإنما يدعي ديناً على الغير؛ لأنه ليس بخلف عن ذلك الغير ليسمع الدعوى عليه بطريق الخلافة، فلا يسمع دعواه، وإذا لم يسمع دعواه لا يسمع بينته، ولا يحلف المدعى عليه. رجل ادعى عمامة في يدي رفّاء وقال: هذه عمامتي بعثت بها على يد تلميذي إليك لتصلحه، وأنكر الرفَّاء أن تكون العمامة للمدعي، لا تصلح هذه الدعوى من هذا المدعي؛ لأنه مقر أن العمامة وصلت إلى يد الرفاء من جهة الغير، فلم تكن يد الرفاء يد خصومة بحكم إقراره هذا إذا استحق مال المضاربة. فإن كان فيه ربح فالمضارب خصم بقدر حصته من الربح، ولا يشترط حضرة رب المال، وإن لم يكن فيه ربح فالخصم رب المال دون المضارب، وإن كان مال المضاربة ألفاً فاشترى المضارب بها عبدين أو جاريتين قيمة كل واحد منهما ألف، فإن هاهنا لا يظهر الربح، ويكون الخصم فيها رب المال، ويشترط حضرته عند استحقاق أحدهما. هشام قال: سمعت محمداً يقول في رجل على طريق من طرق المسلمين نافذ فبنى فيه أو زرع، ثم خرج، ودفعه إلى إنسان، فجاء أهل الطريق وخاصموه، فأقام الذي في يديه بينة أنها في يدي فلان وكله به ودفعه إليه، قال: إن كان طريقاً مما يشكل ولا يعلم أنه طريق إلا ببينة فلا خصومة بينهما حتى يحضر الدافع، وإن كان شيئاً لا يشكل فهو خصم.

ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف رحمه الله: رجل اشترى من آخر عبداً، وقبضه ونقد الثمن، فجاء رجل وادعى هذا العبد على المشتري، فأقر المشتري بالعبد للمدعي أو أقر أنه حر الأصل. فإن أبا حنيفة رحمه الله قال: إقراره جائز، وليس له أن يخاصم البائع ببينة يشهدون أنه حر الأصل؛ يريد بهذا أن المشتري لو أقام بينة على البائع أنه حر الأصل ليرجع بالثمن على البائع؛ لا تقبل بينته. علل فقال: لأن هذه البينة إنما تشهد للعبد فلا أقبلها، وكذلك لا تقبل من المشتري البينة على أن العبد ملك المقر له، يريد به؛ أن المشتري لو أقام البينة على أن العبد ملك هذا المدعي ليرجع بالثمن عليه لا تقبل بينته. وقال أبو يوسف رحمه الله: إن اشترى المشتري العبد من المقر له بالملك، وقبضه جعلته خصماً للبائع من قبل أن يطلب الثمن والعبد في يديه، يريد به أنه بعدما أقر المشتري بالعبد للمدعي لو اشتراه من هذا المدعي وقبضه، ثم خاصم البائع في ذلك سمعت خصومته، وكذلك أقبل منه البينة أن العبد حر الأصل، وإن لم يحضر العبد يدعي الحرية بين يدي الحاكم، وإن لم يشتر العبد من المقر له بالملك بل هو في ملكه، ثم أقبل منه البينة على أن العبد للمدعي، وأقول في هذا مثل قول أبي حنيفة قال: وإن جاء المدعي، والبائع والمشتري، واختصما، فأقر المشتري فالعبد للمدعي، وقال: هذه البينة بينة المدعي أن العبد عبده، فإني أقبل منه البينة على البائع بهذا إذا كانوا جميعاً، وكذلك إن خاصم المشتري البائع في ذلك بعدما دفع العبد إلى المدعي، فجاء المدعي يزعم أن العبد له، قال: لأني لا أدري لعله ينكر أن يكون العبد له، وقال أبو يوسف: القياس ما قاله أبو حنيفة رحمه الله في جميع ذلك، إلا أني استحسنت احتياطاً للناس في أموالهم. إبراهيم في «نوادره» عن محمد: الميت الذي أعتق، وليس للميت وصي، هل يكون هذا المعتق خصماً؟ فإن كان أعتقه في حالة المرض يكون خصماً، وإن كان أعتقه في حالة الصحة لا يكون خصماً.Y بشر عن أبي يوسف: في رجل له على رجل مال فأوصى به لرجل، ثم إن الذي عليه المال جحد المال قال: الورثة يخاصمونه، فإذا أراد القاضي أن يقضي لهم قضي بها لصاحب الوصية، وأحاله بها من الثلث. وعنه أيضاً: تقبل بينة الوصي على وصية الميت إليه بحضور وارث مقر بالوصية إليه، أو طالب دين أو مطلوب بدين أو صاحب وصية مقر بالوصية، وكذلك تسمع بينة مدعي الدين على الميت بحضور وارث مقر به، ويكون ذلك حكماً على سائر الورثة. رجل في يديه دار وهو مقر بأنها لفلان مات، وتركها ميراثاً وسمى الورثة بعضهم غائب، وادعى الشراء من الغُيب حقوقهم، وسأل أن يترك ذلك في يده إلى أن يحضروا لم أتركه في يده، فإن أحضر بينة على الشراء سمعت شهادتهم ولكن لا أنفذ البيع ولا أقضي على الغائب ولكن أترك ذلك في يده وأستوثق منه حتى يقدم الغائب فيستأنف الخصومة معه.

رجل وكل رجلين بخصومة رجل، فأقام المدعي على أحدهما شاهداً، واحداً وعلى الآخر شاهداً آخر، قال: هو جائز، وكذلك لو أقام على الوكيل شاهداً واحداً وعلى الموكل شاهداً واحداً وكذلك لو أقام على الحي شاهداً وعلى الورثة بعد موته شاهداً. هشام عن محمد: في رجل في يديه دار قال صاحب اليد لرجل: هذه الدار لك ورثتها من أخيك فلان وقال (208ب4) المقر له: لا بل هذه لرجل آخر ورثتها من أخيه قضي به للمقر الآخر إذا كان كلام المقر له موصولاً، وجنس هذا في كتاب الإقرار، فإن غاب المقر له الأول، وجاء المقر له الآخر إلى الذي الدار في يديه، وأقام البينة عليه بإقراره للغائب، وبإقرار الغائب له؛ لا تقبل بينته. إبراهيم عن محمد: رجل باع داراً من رجل ولم يدفعها إلى المشتري بعد نقد الثمن، أو كان الثمن إلى أجل فالخصم هو المشتري، وإن كان المشتري لم ينقد الثمن فالخصم هو البائع. هشام عن محمد: رجل آجر داراً من رجل، وقد علم القاضي بذلك، ثم إن المستأجر غاب؛ ووكل رجلاً بالدار بشهادة شهود، فقدم رب الدار الوكيل وادعى أنها داره، فادعى الوكيل الوكالة وأقام بينته على ذلك قال: لا أقبل بينة الوكيل، قال هشام: وإنما ذلك لعلم القاضي به. رجل اشترى شيئاً بميتة، أو دم، أو خمر، أو خنزير، وقبض المشتري؛ ثم جاء مستحق واستحق المشترى بالبينة؛ ففي الشراء بالميت والدم لا يكون المشتري خصماً، ولا يسمع البينة عليه. قال محمد في «الجامع» : رجل اشترى من آخر إبريق فضة بدينارين، وقبض الإبريق ونقد ديناراً واحداً ثم تفرقا قبل أن ينقد الدينار الآخر، حتى فسد العقد في نصف الإبريق لا يتعدى الفساد إلى النصف الآخر، وهذا الجواب لا يشكل على قولهما، وإنما يشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن من مذهبه أن العقد إذا كان صفقة واحدة، ففسد بعضه فسد الباقي؛ لأن ذلك إنما يكون إذا كان فساد العقد في البعض بمفسد مقارن للعقد، أما إذا كان الفساد بمفسد طارىء لا يتعدى الفساد إلى الباقي. كما إذا اشترى عبدين وهلك أحدهما قبل القبض فإنه لا يفسد العقد في الحي منهما، وإنما لا يفسد لما قلنا، فإن حضر رجل بعدما غاب بائع الإبريق، وادعى أن نصف الإبريق له كان المشتري خصماً له؛ لأن المشتري مالك جميع الإبريق لأنه، وإن فسد السبب في النصف لكان الافتراق لا يبطل ملكه فيه ما لم يرده، لأن فساد السبب في الابتداء لا يمنع ثبوت الملك عند اتصال القبض به، فأولى أن لا يمنع بقاء الملك في المقبوض، فكان كل الإبريق ملكاً للمشتري، فيكون خصماً للمدعي. فلو حضر الغائب بعد ما أقام المستحق البينة على النصف، وقضى القاضي بالنصف له، رد المشتري على البائع ربع الإبريق؛ لأن النصف المستحق شائع في النصفين نصفه، وهو الربع في النصف الذي صح سببه، والنصف الآخر وهو الربع في النصف الذي فسد

سببه، وإنما بقي في يد المشتري مما هو مقبوض بالسبب الفاسد نصف النصف وهو الربع، فلهذا رد المشتري عليه ربع الإبريق، ورد البائع عليه نصف الدينار حصة ما استحق مما هو مملوك بالسبب الصحيح، ولا يثبت للمشتري الخيار، وإن صار البائع شريكاً له في الإبريق؛ لأنه رضي بهذه الشركة لما لم ينقد الدينار الآخر مع علمه؛ لأن للبائع أن يأخذ نصف الإبريق، فصار راضياً بالشركة. ولو أن رجلاً اشترى من رجل عبداً بصفقة واحدة نصفه بمئة دينار حالة، ونصفه بمئة دينار إلى العطاء، فقبض المشتري العبد، وغاب البائع، فحضر رجل وأقام البينة أن له نصف العبد كان الجواب في هذه المسألة، والجواب في المسألة الأولى سواء في الفصول كلها؛ لأن هاهنا فسد نصف السبب وصح نصفه، فملك كل العبد نصفه بسبب فاسد ونصفه بسبب صحيح كما في مسألة الإبريق، لمكان الافتراق قبل قبض بعض بدل الصرف، أمافيما عدا ذلك هذا، والأول سواء ولا يتعدى الفساد إلى النصف الثاني عند أبي حنيفة، وإن كان الفساد في أحد النصفين بسبب مقارن للعقد إلا أن النصف المقارن هاهنا غير متقرر، ولهذا لو أسقطا الأجل بقي العقد صحيحاً، وإنما تقرر عند حلول الأجل، فكان المفسد طارئاً معنىً، وإن كان مقارناً صورة. ولو اشترى نصف عبد من رجل وأودعه البائع النصف الآخر، وغاب البائع، ثم جاء رجل وادعى نصف العبد، وأقام البينة وأقام ذو اليد بينة على أنه اشترى من فلان نصفه، وأودعه فلان بعينه نصفه، لم تصح الدعوى ولم يصر المشتري خصماً؛ لأنا لو صححنا هذه الدعوة ابتداءً أبطلناه انتهاءً، ولو جعلنا المشتري خصماً في الإبتداء أخرجناه من أن يكون خصماً في الإنتهاء. بيانه: أنا لو قضينا عليه بالنصف تبين أن العبد كان مشتركاً بين البائع وبين المستحق، وإن بيع البائع انصرف إلى نفسه والإيداع في النصف المقضي به، ويد الوديعة ليسست بيد خصومة، ولو كان اشترى نصف العبد من رجل، وأودعه رجل آخر نصف العبد والمسألة بحالها كان ذو اليد خصماً في الربع في الابتداء ألا يخرجه من أن يكون خصماً في الانتهاء. بيانه: هو أنا إن صححنا هذه الدعوة، ظهر أن العبد كان بين المستحق وبين البائع والمودع أرباعاً، النصف للمستحق، والربع لكل واحد منهما، فانصرف بيع الذي باع في الربع إلى ما يملكه، فإذا أقام ذو اليد بينة أن فلاناً باعه نصفه، وفلان آخر أودعه نصفه، ودعوى المستحق واقعة فيهما على سبيل الشيوع، كان الاستحقاق وارداً على نصف ما ورد عليه البيع وعلى نصف ما ورد عليه الإيداع، فينتصب المشتري خصماً فيما ورد عليه الاستحقاق من البيع، وذلك قدر الربع لا في ما ورد الاستحقاق عليه من الوديعة، فلهذا كان المشتري خصماً في نصف ما اشترى وهو الربع، فإذا حضر البائع كان خصماً للمستحق في الربع الآخر، ورجع المشتري على بائعه بنصف الثمن؛ لأنه لم يسلم له من المبيع إلا نصفه.

ولو أن رجلاً اشترى من رجل نصف عبد ثم اشترى منه نصفه الآخر أحدهما صحيح، والآخر فاسد، أو كانا صحيحين أو كانا فاسدين، ثم جاء رجل وادعى عليه نصف العبد وأقام البينة، فالمشتري خصم له ويقضي القاضي عليه بالنصف الباقي، يعني النصف الذي ورد عليه البيع الثاني، لأن المدعي لما أقام البينة انصرف إلى ملك البائع صحيحاً كان أو فاسداً، وانصرف البيع الثاني إلى نصيب المستحق وصاحب اليد يدعي الملك في هذا النصف الثاني، فكان خصماً لمن نازعه، ولو كان البيع الأول صحيحاً والبيع الثاني بميتة أو دم أو خمر لم يكن بينهما خصومة حتي يحضر البائع، لأن المشترى بدم أو ميتة غير مملوك بالاتفاق، وإنما اختلفوا أنه مضمون أو أمانة. قال محمد رحمه الله: هو مضمون، ولما كان هكذا فالمشتري لا يدعي الملك لنفسه في النصف المشترى بالميتة والدم والخمر، فلا يكون خصماً لمن نازعه، بخلاف الوجه الأول على ما مر. وإذا ادعى على امرأة إنها أمته وهي تحت زوج، والزوج غائب فدعواه صحيحة ولا يشترط حضرة الزوج. ذكر في آخر «الجامع» : مسائل في بعضها جعل المولى خصماً عن عبده، وفي بعضها لم يجعله خصماً عن عبده. فقال: رجل ادعى على رجل أنه قطع يد عبده فلان خطأ وله عليه نصف قيمته وذلك خمسمئة مثلاً أو ادعى أنه زوج أمته فلانة منه، وله عليه المهر والعبد، والأمة حيان غائبان، فقال المدعى عليه: نعم لكن أعطيك الأرش والمهر مخافة أن يحضر العبد والأمة فينكران الملك لك فيضمناني. فالقاضي يلزمه المهر والأرش بإقراره؛ لأنه أقر له بالملك واستحقاق اليد، أما الملك فلأن ملك الرقبة يوجب ملك الأرش والمهر لا محاله إذ يستحيل أن يكون العبد والجارية مملكان لإنسان، وأرش اليد والمهر لغيره، وأما استحقاق اليد فلأن اليد على آخر العبد والإماء للموالي لا للعبيد والإماء. ألا ترى أن من ادعى حقاً في عبد إنسان، فالعبد لا ينتصب خصماً له وإنما ذلك للمولى، ألا (209أ4) ترى أن في عين مسألتنا حق الخصومة في الأرش والمهر للمولى، وإن كان العبد والأمة دين بدليل أنه لو كان الأمر معايناً، فالمولى هو الذي يقبض ذلك، وسلم إلى الغرماء فثبت أنه أقر بالملك واستحقاق اليد للمولى في الأرش والمهر، فيؤمر بالتسليم إليه كما في سائر الأعيانز وكذلك الجواب فيما إذا قال: المهر عرضاً من العروض؛ لأن المعنى لا يتفاوت، وإن كان للعبد وديعة ألف درهم عند هذا الرجل، أو غصب هذا الرجل ألف درهم من هذا العبد، أو كان للعبد ألف درهم على هذا الرجل من قرض أو بيع، فأقر الذي عنده المال أن الذي دفع إليه المال عبد هذا الرجل، وصدقه المقر له، لا سبيل للمقر له على ذلك المال؛ لأن المقر له لم يقر له لا بالملك، ولا باليد، أما بالملك؛ لأنه ليس من ضرورة كون العبد الدافع ملكاً له أن يكون ما في يده ملكاً له لجواز أن يكون وديعة أو غصب عند العبد.

ويجوز أن يكون وكيلاً فيما باعه أو أقرضه؛ بخلاف الوجه الأول لأن من ضرورة كون الدار ملكاً لإنسان، الأرش والمهر ملكاً له، وكذا لم يقر له باليد؛ لأن ما في يد العبد من المال لا يعتبر فيه يد المولى، وإنما يعتبر فيه يد العبد. ولهذا كان العبد هو الخصم دون المولى بخلاف الوجه الأول على ما مر. وكذلك لو قال الذي في يديه: إن هذا المال مال هذا الرجل غصبه منه عبده، ودفعه إليه، وصدقه بذلك المقر له، فلا سبيل للمقر له على المال حتى يحضر العبد؛ لأنهما تصادقا على وصول هذا المال إليه من قبل العبد، وكانت يد العبد ثابتة بتصادقهما فلا يصدقان على إبطال يد العبد وإثبات الحق فيه للمقر له. وكذلك إن أقر رجل أن فلان أمر عبده ببيع أمة له، فباعها بألف ولم يقبض الثمن وصدقه رب العبد بذلك، لم يجبر على دفع الثمن إلى المولى؛ لأن المقر مع المقر له لما تصادقا على أن العبد هو الذي باع، فقد أقر أن الخصم في الثمن هو العبد دون المولى لما عرف أن حقوق العقد ترجع إلى العاقد إذا كان العاقد من أهل التزام الحقوق، والمأذون أهل لذلك، فصح أنهما أقرا أن الخصم في الثمن هو العبد دون المولى، فلا يكون للمولى ولاية الأخذ هذا كله إذا كان المال قائماً في يد المقر. وإن كان مستهلكاً بأن قال المقر له: إن عبدك فلان غصبك ألف درهم فاستودعنيها؛ فاستهلكتها، أو غصبتها منه واستهلكتها، أو قال: أقرضته مني وصدقه المقر له، فللمقر له أن يأخذه بذلك؛ فرق بين هذا، وبينما إذا كان المال قائماً بعينه، وباقي المسألة بحالة حيث لم يكن للمولى أن يأخذه بذلك. والفرق هو: أن المال إذا كان قائماً بعينه وقد أقر بالغصب والوديعة من عبد فلان، فقد أقر أن للغائب حق استرداد هذا العين، ولهذا لو حضر كان حق الاسترداد له، فلو دفعنا إلى المقر له هذا العين، فقد أبطلنا حق الغائب في الاسترداد، وكان هذا الإقرار متضمناً إبطال حق العبد فلا يصح، أما المال إذا كان مستهلكاً فقد انتقل حق الغائب عن العين، وانتقل إلى مثله ديناً في الذمة فلم يصر مقراً للمولى بعين فيه حق للغائب، وإنما صار مقراً بمثل المقبوض ديناً في الذمة، وذلك خاص ملكه، فكان مقراً للمولى بما لا حق للغائب فيه فيصح. فإن قدم الغائب وأنكر أن يكون عبداً لفلان وأن يكون غصب فلان شيئاً كان القول قوله؛ لأنه أنكر الرق، والأصل في الآدميين الحرية فكان الظاهر شاهداً له فقبل قوله، وإذا جعل القول قوله كان له أن يضمن المقر مثل المال الذي أقر بقبضه، لأن المقر مقر بأن وصول المال إليه كان من جهة الذي حضر، وأنه ضامن له بالاستهلاك غير أنه يدعي عليه أن أصل الملك لغيره، ولم يصدق في هذه الدعوى لما حكم بحرية الغائب فلهذا كان عليه الضمان، ثم هل يرجع المقر على المقر له؟ ففيما إذا أخذ المقر له من المقر الأرش والمهر، ثم قدم الغائب وأنكر أن يكون مملوكاً للمقر له يرجع، وفيما عداه لا يرجع.

والفرق وهو: أن حرية الغائب وإن ثبت بقوله، فهذا لا يزيد على الثابت بالبينة، وحرية الغائب لو ثبتت بالبينة فيما عدا الأرش والمهر يكون ملكاً للمقر له لجواز أن يكون الغائب حراً، والمال الذي دفع إلى المقر للمقر له، فلم يظهر بهذا فساد الإقرار، فصار الحال بعد الحكم بالحرية كالحال قبل الحكم بها، أما لو ثبت حرية الغاصب بالبينة فالأرش والمهر لا يكون سالماً للمقر له إذ لا يجوز أن يكون الغائب حراً، وأرشه ومهره لغيره، فظهر به فساد إقرار المقر؛ فكذا إذا أثبته بقوله. ولو قال: إن عبد فلان أقرضني ألفاً قد غصب من مولاه وصدقه المقر له في ذلك؛ والمال قائم بعينه كان للمولى أن يأخذه بذلك فرق بين هذا وبينما لو قال: غصبت من عبد فلان، أو قال: أسترد عينها، وصدقه المولى بذلك، والمال قائم بعينه حيث لم يكن للمولى عليه سبيل. والفرق وهو: أن في الغصب والوديعة حصل مقراً للمولى تعين فيه الغائب، وهو حق الاسترداد على ما مرَّ فلا يصح الإقرار، أما في العرض لم يقر للمولى بمال فيه حق الغائب إذا لم يقر الغائب بحق في هذا المال بعينه؛ لأنه زعم أنه ملكه المال ببدل، وانقطع حقه عن العين؛ لأن الغرض وضع لذلك، فلم يحصل مقراً للغائب بحق في هذا المال، فصار مقراً للمولى بشيء ليس للغائب فيه حق، فيصح هذا كله إذا أقر المقر أن الغائب عبد المقر له. فأما إذا قال المقر للمقر له: لا أدري أن الغائب عبدك أم لا؟ فأقام المدعي بينة أن الغائب ملكي لم تقبل بينته حتى لا يقضى له على المقر بشيء ما لم يحضر العبد؛ لأن هذه بينة قامت لإثبات الملك في الغائب وهو العبد، والعبد منقول. وإثبات الملك بالبيينة فيما يحتمل النقل إلى مجلس القضاء حال غيبته لا يصح؛ ولأن هذه بينة قامت للقضاء بها على الغائب، والمقر ليس بخصم عنه، لأن العبد الغائب ليس في يد المقر لا حقيقة ولا حكماً، ومن ادعى حقاً في عبد، فإنما يكون خصماً للمدعي، وكان العبد في يده حقيقة أو حكماً. وإذا لم تقبل هذه البينة لا يقضى على المقر بشيء؛ لأنه لو قضى إنما يقضي بإقراره، وهو لم يحصل مقراً للمدعي بشيء حين قال: لا أدري الغائب عبدك أم لا؟ فإن أراد المدعي استحلاف المدعى عليه في هذا الفصل، وهو ما إذا قال المدعى عليه للمدعي: لا أدري أن الغائب أعبدك أم لا؟ قال: لا، استحلفه القاضي على ملك الغائب؛ لأنه ليس بخصم في ذلك عن الغائب. ولكن يستحلفه على المهر والأرش والوديعة المستهلكة والغصب المستهلك، والقرض المستهلك، والقائم بالله ما للمدعي قبلك هذا المال الذي يدعي؛ لأنه ادعى عليه معنى لو أقر به يصح إقراره على ما مر، فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول، أما في المال الذي كان قائماً في يد المقر، وكان المقر أقر أن الغائب أودعها أو غصب هو من الغائب لا يستحلف فكذا لا يستحلف في دعوى ثمن الجارية؛ لأنه لو أقر صريحاً في هذه الأشياء؛ لا يصح إقراره لما أن إقراره صادف محلاً

تعلق به حق الغير على ما مر، فلا يفيد الاستحلاف الذي شرع لرجاء النكول. ولو قال الذي في يديه المال: (المال) الذي في يدي مالك لأني غصبتها من عبدك، أو أودعنيها عبدك؛ وقال المقر له: المال مالي ما أخذته من عبدي، وأبى أن يدفع المال إلى المولى؛ كان للمولى أن يأخذها إلا أن يقيم المقر بينة على ما زعم؛ لأن إقراره بالملك للمدعي يوجب التسليم إليه، غير بدعوى الغصب والوديعة من العبد؛ يريد إبطال استحقاق التسليم إلى المقر له إلى أن يحضر العبد، ولا يصدق من غير بينة. قالوا: وينبغيي أن يستحلفه بالله ما يعلم أن الغائب أودعه أو غصب هو هذا المال من الغائب، لأن المقر له لو أقر بذلك لزمه الكف عن مطالبته، فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول ولكن (209ب4) يستحلف على العلم لأن هذا استحلاف على فعل الغير، فإن لم يكن له بينة، وقبض المولى المال ثم حضر الغائب وجحد أن يكون عبداً للمدعي ففي الغصب؛ القاضي يقضي للذي حضر على المقر بمثل ما أقر أنه غصبه سواء سلم المقر المغصوب إلى المقر له بقضاء أو بغير قضاء، وفي الوديعة كذلك الجواب. وعند محمد وعند أبي يوسف رحمه الله؛ لا يضمنه شيء إلا أن يكون سلمه بغير قضاء، وهذا الاختلاف نظير الاختلاف فيمن قال: هذا العبد في يدي لفلان، ثم قال بعد ذلك: لا بل لفلان غصبته منه أو أودعني ودفع إلى الأول بقضاء، أو بغير قضاء، فهو على التفصيل الذي قلنا. والمسألة بحججها في «الجامع الكبير» : في كتاب الإقرار، فإن أراد الغائب في هذا الوجه أن يسترد المال من المقر له ليس له ذلك بالإجماع؛ لأن الإقرار للمقر له قد سبق، فلا يبطل ذلك بمجرد إنكار الغائب؛ كما لو قال: هذا عبد فلان أودعنيه عبدك، أو غصبه من عبدك، وهو مالك لأن العبد عبدك فماله لك، فقال المقر له: هذا عبدي كما قلت، وهذا المال مالي لم تأخذه من عبدي فلان. فإنه يقال للمقر: أقم البينة على ما ادعيت، فهو للمقر له؛ لأن حق المقر له قد ثبت، وحق الغائب إنما يثبت على اعتبار تصديق الغائب وذلك موهوم، فوجب التسليم إلى المقر له، فإن لم يكن له بينة وطلب المقر يمين المقر له على ما زعم من الغصب والوديعة استحلفه القاضي على ذلك على علمه على ما قلنا في الفصول الأول. فإذا حلف المقر له في هذا الفصل وأخذ المال ثم حضر الغائب، وأنكر أن يكون عبداً للمقر له، وطلب ماله كان له أن يسترد الألف من المقر له، وهو الولي من غير بينة بخلاف المسألة الأولى، فإن ثمة الغائب لا يأخذ المال من المولى ما لم يقم البينة على الغصب والإيداع منه. والفرق: أن في المسألة الأولى المقر بدأ بالإقرار بالملك الحاضر، ثم ثنى بالإقرار للغائب وتصديق الغائب وإن أسند إلى وقت الإقرار لا يصير سابقاً على الإقرار للمدعي فيبقى الحكم للإقرار الأول، فلهذا لم يكن للغائب ولاية الأخذ بدون الحجة. أما في مسألتنا بدأ بالإقرار للغائب، وإنما وجب التسليم إلى الحاضر؛ لاحتمال

التكذيب من الغائب، فإذا صدقه الغائب استند التصديق إلى وقت الإقرار له وذلك سابق، فلهذا صار للغائب أولى، ومتى استرد الغائب في مسألتنا المال الذي من المقر له لا يضمن المقر للمقر له شيئاً، لأن المقر يقول للمقر له: قد أقررت لك بعيني ودفعت إليك، وإنما استحق من يدك، فليس لك عليَّ شيء. فإن قيل: إنما استحق العين من يد المقر له بإقرار المقر للغائب، فصار المقر مستهلكاً العين على المقر له فينبغي أن يضمن. قلنا: نعم، إلا أن المقر أقر للغائب أولاً أنه له، وأنه غصبه منه، وأقر المولى ثانياً ولم يقر أنه غصبه منه. ومن أقر بعين في يده أنه لهذا ثم أقر أنه لفلان ودفع إلى الأول بقضاء لا يضمن للثاني عندنا خلافاً لزفر، والمسألة في كتاب الإقرار على سبيل الاستقصاء، ولو قال المقر: هذا المال مال عبدك فلان غصبته منه أو أودعنيه، وقال المقر له: مالي لم يقبضه عبدي، فلا سبيل له على المال حتى يحضر الغائب، أو يقيم البينة أن المال له بخلاف الفصلين الأولين؛ لأن في الفصلين الأولين أقر ذو اليد بالملك للمولى؛ لكن في الفصل الثاني في آخر كلامه. وفي الفصل الأول في أول كلامه، فأمر بالتسليم إليه، فأما هاهنا لم يقر بالملك للمولى في هذا المال إنما أقر أنه أخذ من فلان الغائب، وزعم أن فلاناً ملكه وليس من ضرورة الإقرار بالمال لعبد إنسان، الإقرار بذلك المال لمولاه لجواز أن يكون ما في يد العبد لأجنبي، ولم يوجد الإقرار بذلك بالملك للمولى في المال، يبقى مجرد دعوى المدعي فلم يكن له ولاية الأخذ بدون الحجة، وهذا كله إذا كان الغائب والأمة الغائبة حيان. فأما إذا ميتين بأن ادعى رجل قبل رجل مهر أمة له أو أرش جناية على عبد له أو وديعة لعبده في يديه أو غصبها، أو دين من ثمن بيع، أو قرض فادعى أن العبد مات، وصدقه المدعى عليه بذلك كله، وأنه يقضى للمدعي بذلك كله، ويؤمر الذي قبله المال بدفع المال إليه في الوجوه كلها. أما في الوجه الذي يلزمه التسليم حالة الحياة فلا يشكل، وأما في الوجه الذي لا يلزمه التسليم في حالة الحياة، فلأنهما لما تصادقا على موت العبد فقد تصادقا على وجوب التسليم إلى المقر له؛ لأن العبد إذا مات كان مولاه أحق بما كان في يده في الوجوه كلها حتى يوصل كل حق إلى صاحبه، أو، لا يبقى ليد العبد عنده بعد موته، فصار المولى كالخلف عن مملوكه بعد موته خلافة الوارث المورث. فكما أنه لو ادعى الميراث عن ميت، وصدقه الذي قبله المال يؤمر بالتسليم إليه، فهاهنا كذلك بخلاف حالة الحياة على ما مر، فإن قال المقر: على العبد دين يحيط بماله لا يلتفت إلى ذلك لأن سبب ثبوت الحق للمولى قد ظهر بتصادقهما، والمانع وهو الدين لم يظهر بإقرار المقر لما أن هذا إقرار على عبد الغير. وذلك يستدعي تصديق العبد، والتصديق من الميت لا يتصور، وإن أنكر الذي قبله

المال جميع ما ادعاه المدعي، فأقام المدعي بينة على غصبه المال من عبده، وعلى أن عبده مات تقبل بينته، وكذلك في سائر الصور فرق بين هذا وبينما إذا كان العبد الغائب حياً، وأنكر الذي قبله المال أن يكون الغائب عبده، وأراد المدعي إقامة البينة على أن الغائب عبده فإنه لا يقبل، ولا يقضى للمدعي بشيء. والفرق ما ذكرنا: أن هذه بينة قامت على إثبات الملك في الغائب وهو العبد وإنه منقول، وإثبات الملك بالبينة في النقليات حال غيبته عن مجلس القضاء؛ لا يصح، أما بعد الموت فنقل العبد إلى مجلس القضاء غير ممكن فلم يعتبر ذلك شرطاً لصحة القضاء بالبينة، فهذا هو الفرق بينهما. وفرق آخر أيضاً ما مر أن الغائب متى كان حياً فبينة المدعي على أنه عبده قامت على الغائب للقضاء بها، وليس عنه خصم حاضر؛ لأن المقر ليس بخصم عنه على ما مر، وليس للقاضي أن ينصب عنه خصماً فيما يدعي عليه إذا لم يكن له وصي ولا وارث؛ لأنه لا يرجى حضوره، فلو لم يفعل ذلك أدى إلى تضييع حقوق الناس، وإذا كان للقاضي ذلك كان جعل الذي قبله المال خصماً، والمال في يده أولى، فكانت هذه بينة قامت على خصم فقبلت. رجل في يديه مال، قال رجل لصاحب اليد: غصبني عبدك هذا المال فأودعها إياك، وقال صاحب اليد: صدقت لكن لا أردها عليك؛ لأني أخاف أن يجحد العبد أن يكون عبدي، لم يلتفت إلى قوله ويجبر على دفع الألف إليه؛ بخلاف ما تقدم من المسائل. والفرق: أن فيما تقدم تصادقا على أن الوصول إلى يد صاحب اليد كان من جهة العبد، ويد العبد لا تبطل بالتسليم إلى غير المولى، وهناك صاحب اليد غير مولى العبد، فبطل حق المقر له صيانة لما تصادق عليه من يد العبد، فأما هاهنا فقد تصادقا على بطلان يد العبد لأن يد العبد تبطل بالتسلم إلى المولى ما لم يكن على العبد دين أو يثبت أن ذلك المال مال الغير، ولم يثبت ذلك. ولهذا قالوا: إن العبد المأذون إذا أودع مولاه من كسبه أو غصب مولاه شيئاً ولا دين عليه، ثم تصرف العبد في المال الذي أودع مولاه، أو غصب منه مولاه لا ينفذ، ولو كان حكم يد العبد قائماً لنفذ، ولما تصادقا على بطلان يد العبد عن المال صار هذا المال ملحقاً بسائر أموال المولى، فكان هذا الإقرار مصادقاً مال نفسه فصح، وأمر بالتسليم إلى المقر له فلهذا افترقا. فإذا دفعه إليه ثم حضر الغائب فأنكر أن يكون عبداً للمقر كان القول قوله، وقضى القاضي له بالمال الذي أخذه المقر له، فلهذا افترقا، فإذا دفعه ثم حضر الغائب فأنكر أن يكون عبداً للمقر كان القول قوله، وقضى القاضي له بالمال الذي أخذه المقر له إن وجده (210أ4) قائماً؛ لأنهما كانا متصادقين على أن وصول هذا المال إلى ذي اليد من جهة الذي حضر. فإذا جعلنا القول قوله في إنكار الرق، لم يثبت لذي اليد في رقبته ملكاً فتبين أنه

كان له في هذا المال يد معتبرة لكون يد المودع قائمة مقام يد المودع، فظهر أن تصادقهما صادف محلاً تعلق به حق الغير، وإنه لم يصح فيؤمر المقر له برد المال على الذي حضر إلا أن يقيم المقر له للحال بينة أن المال ماله، وإن كان المقر له استهلك ذلك المال الذي أخذه، فأراد الغائب أن يضمن المقر الذي كان في يديه المال، كان له ذلك؛ لأنه صار متلفاً له بإقراره للمدعي. قال بعض مشايخنا: هذا قول محمد، أما على قول أبي يوسف: ليس له ذلك لأنه أقر للمدعي بملك مطلق، ثم أقر بعد ذلك أن فلاناً أودعه، ومن أقر بملك مطلق لإنسان، ثم أقر بالوديعة لغيره، ودفع المال إلى الأول بقضاء يضمن للثاني عند محمد؛ خلافاً لأبي يوسف، وبعض مشايخنا قالوا: لا بل يضمن هاهنا عندهم جميعاً، لأن المقر أقر للمدعي بملك مطلق، ثم أقر بعد ذلك أنه غصبه من غيره؛ لأن المولى فيما يودعه العبد لا يكون مودعاً حقيقة؛ بل يكون قابضاً لنفسه فكان بمعنى الغاصب، فكأنه أقر للمدعي بمطلق الملك، ثم أقر بعد ذلك بالغصب من الغائب. وفي هذا الفصل إذا دفع إلى الأول يضمن للثاني عند الكل، إنما الخلاف بين أبي يوسف ومحمد فيما إذا أقر الإنسان بملك مطلق، ثم أقر بالوديعة من غيره ودفع إلى الأول، ولو قال المقر: هذا المال أودعنيه عبدي فلان، ولا أدري أهو لك أم لا؟ فأقام المدعي بينة أن المال ماله؛ فالقاضي يقبل منه هذه البينة؛ لأن المولى فيما أخذه من العبد على سبيل الوديعة، لا يكون مودعاً بل يكون قابضاً لنفسه. ومن ادعى مالاً في يد غيره، وذو اليد يزعم أنه مالك له ينتصب خصماً له، فإن حضر الغائب وأنكر أن يكون عبداً للمقر أخذ ماله، ويقال للمدعي: أعد بينتك عليه وإلا فلا حق لك؛ لأنهما تصادقا على أن وصوله إلى يده كان من جهة الذي عليه، فإذا لم يثبت الملك للذي كان في يده في رقبة الذي حضر، تبين أن يد صاحب اليد في هذا كانت يد حفظ لا يد خصومة، فظهر أن تلك البينة قامت على غير خصم، فلم يكن معتبراً فأمر المقر له بإعادة البينة لهذا، وإن قال المقر وهو الذي في يديه المال: هذا المال لك أودعنيه فلان، وفلان ليس بعبدي، فأقام المدعي بينة أن فلاناً عبده لم يكن بينهما خصومة، ولم تقبل بينته، أما لا خصومة بينهما؛ فلأنهما تصادقا على أن الوصول إلى يدي ذي اليد من غيره بطريق الوديعة، فالمدعي بعد ذلك يدعون كون المودع ملكاً للمودع، يدعي أن يده يد نفسه؛ حتى يجعله خصماً، فلا يصدق على ذلك، وأما لا تقبل بينته على كون الغائب ملكاً للمقر، لأن هذه البينة قامت على إثبات الملك في عين غائب عن مجلس القضاء، وإنه يحتمل النقل فلا تقبل حتى لو أقام المدعي بينة على أن المودع غير ذي اليد وأنه قد مات قبل القاضي، قبل القاضي البينة وقضى له بالمال بخلاف حالة الحياة، والفرق قد مر. رجل وهب لعبد رجل جارية وقبضها العبد، ثم أراد الواهب الرجوع في الهبة، والمولى غائب، فإن كان العبد مأذوناً كان له ذلك، وإن كان محجوراً عليه لم يكن له

ذلك حتى يحضر المولى. أما الأول؛ فلان الواهب يدعي حقاً فيما هو كسب المأذون بعقد جرى بين المدعي وبين المأذون فينتصب المأذون خصماً له؛ كما لو ادعى شيئاً في يد المأذون أنه ملكه مطلقاً انتصب خصماً سواء كان على المأذون دين أو لم يكن. وأما الثاني: فلأن المحجور فيما في يده بمنزلة المودع في جهة المولى، ألا ترى أن من ادعى عيناً في يده أنه اشتراه من المحجور أو ادعى ملكاً مطلقاً، لا ينتصب خصماً له وإن كان من كسب المحجور كان الفقه فيه. وهو أن للمأذون يداً معتبرة على ما في يده كالمكاتب، ولهذا لو باع المأذون ما في يده يد معتبرة، ولهذا لو باع ما في يده لا يجوز، وإن كان من كسبه، فهذا يبين لك أن يد المأذون يد نفسه، ويد المحجور يد المولى حكماً، ولما كان هكذا كان رجوع الواهب في الوجه الأول إبطال يد العبد، فكان هو الخصم في ذلك، فلا يشترط حضرة المولى، وفي الوجه الثاني رجوع الواهب إبطال يد المولى حكماً، فكان المولى هو الخصم في ذلك فيشترط حضرته. وإن قال العبد: أنا محجور، وقال الواهب: أنت مأذون، ولي أن أرجع فيها قبل حضور مولاك، فالقول قول الواهب مع يمينه، قالوا: وهذا استحسان. والقياس: أن يكون القول قول العبد لأنه متمسك بالأصل وهو الحجر، فكان الظاهر شاهداً له، إلا أنا استحسنا. وقلنا: القول قول الواهب مع يمينه؛ لأن الهبة حين وقعت، وقعت موجبة للرجوع، فالعبد بقوله: أنا محجور، يدعي تأخير حق الواهب في الرجوع إلى حضرة المولى، والتأخير نوع إبطال، فيكون القول قول الواهب مع يمينه. وما يقول بأن الظاهر شاهد للعبد قلنا: نعم، ولكن إنما يجعل القول قول من يشهد له الظاهر؛ إذا كان بالظاهر يدفع شيئاً عن نفسه، وهاهنا هو بهذا الظاهر يبطل حقاً مستحقاً للواهب، وهو حق الرجوع في الهبة فلا يلتفت إليه، ثم إنما حلفنا الواهب على العلم؛ لأن هذا تحليف على فعل الغير وهو حجر المولى، والتحليف على فعل الغير يكون على العلم. ولو أقام العبد بينة أنه محجور لا تقبل بينته؛ لأن الواهب يدعي حقاً على العبد بعقد جرى بينه وبين العبد، والعبد بهذه البينة يثبت كونه مودعاً من جهة المولى، لما مر أن المحجور فيما في يده بمنزلة المودع من جهة المولى. قلنا: ومن انتصب خصماً لإنسان بدعوى الفصل عليه إذا أقام بينة على أنه مودع فلان ليدفع الخصومة عن نفسه، لا تقبل بينته ولا تندفع عنه الخصومة، أما إذا أقام البينة على إقرار المدعي أنه مودع فلان فقد أقام البينة على أن المدعي أبرأه عن هذه الخصومة معنىً؛ لأنه يريد إسقاط خصومة المدعي لمعنى وجد من جهة المدعي وهو إقراره، ومن انتصب خصماً بدعوى الفعل عليه لا تقبل بينته على إحالة الخصومة إلى غيره، وتقبل على إبراء المدعي إياه من الخصومة.

فلهذا افترقا بين هذه المسألة وبين مسألة ذكرها في كتاب المأذون، أن العبد إذا باع واشترى، ثم أقام البينة على أنه محجور، أو على إقرار العاقد الآخر بذلك حيث لا تقبل، وإنما كان كذلك؛ لأن هناك إنما لم تقبل لأنه يسعى في نقض ما تم به وأراد إثباته بالبينة، ومن سعى بنقض ما تم به وإثباته بالبينة لا يسمع ذلك منه لصيرورته متناقضاً. وفي حق هذا لا فرق بينما إذا أقام البينة على كونه محجوراً، وبينما إذا أقام البينة على إقرار العاقد بكونه مجحوراً، إلا أن البائع لو كان حراً وأقام البينة على أن ما باع كان حراً، وعلى إقرار المشتري أن ما اشترى كان حراً، لا يسمع ذلك منه لما قلنا. أما في مسألة «الجامع» : إنما لا تقبل بينة على الحجر إلى نقض ما تم به لا ساعٍ إلى اتفاق جرى بينهما من الهبة، لكن إنما لا تقبل لأنها قامت على إحالة الخصومة على الغير، وهذا المعنى معدوم فيما إذا أقام البينة على إقرار الواهب بالحجر، فلهذا افترقا. هكذا كله إذا كان المولى غائباً والعبد حاضر، فإن حضر المولى وغاب العبد فأراد الواهب أن يرجع في هبته؛ فإن كان الموهوب في يد العبد لم يكن المولى خصماً، لأن الواهب لا يدعي على مولى العبد عيناً في يده، ولا حقاً في عين في يده، ولا ديناً في ذمته. والإنسان (210ب4) إنما ينتصب خصماً لغيره بأحد هذه الوجوه، وإن كانت الهبة في يد المولى كان خصماً لأن المولى يزعم أن ما في يده ملكه لأن ما يأخذ المولى من عبده يكون ملكاً له إذا لم يكن على العبد دين، ولم يعرف ثبوت الدين على العبد. ومن ادعى حقاً في عين يد إنسان والذي في يديه العبد يزعم أنه مالك له، انتصب خصماً للمدعي كذا هاهنا، فإن قال المولى: أودعني هذه الجارية عبدي فلان ولا أدري أوهبتها له أم لا؟ فأقام المدعي بينة على الهبة فالمولى خصم؛ لأن المولى يودعه عبده، فيكون مالكاً ولا يكون مودعاً على ما مرَّ، فالمولى بدعواه أنه أودعها إياه عبده يزعم أنه مالك لها، فينتصب خصماً للمدعي في إثبات حق جرى بين المدعي وبين الغاصب؛ لأنه يدعي حقاً في ما يده بسبب جرى بينه وبين الغاصب، فينتصب خصماً عن الغائب. كرجل في يديه عبد جاء رجل وادعى أنه قد اشتراه من فلان بكذا وهو يملك، وأقام على ذلك بينة قضي له بذلك، وصار الحاضر خصماً عن الغائب كذا هاهنا. فإذا قضى القاضي بالجارية للواهب فقبضها الواهب فزادت في يديها في يد الواهب، ثم حضر الموهوب له وأنكر أن يكون عبداً، فالقول قوله لكون الحرية أصلاً، فكان له أن يأخذ الجارية؛ لأنا لما جعلنا القول قول الذي حضر في أنه حر ظهر أن الذي كانت الجارية في يده كان مودعاً لا مالكاً، فظهر أنه ما كان خصماً، وإن عينه الواهب قامت على غير خصم، فالتحقت بالعدم، فيرد القاضي الموهوب على الموهوب له بإقرار الواهب أنه كان في يد الموهوب له فيما مضى، ولا يمتنع الرد على الموهوب بسبب زيادة متصلة؛ لأنه تبين أن الزيادة حصلت على ملك الموهوب له؛ لأنه ظهر أن رجوعه في الهبة لم يصح، واسترداد المملوك لا يمتنع بسبب الزيادة المتصلة، ثم ليس للواهب أن

يرجع في الهبة إلا أن الرجوع الأول لما بطل كانت الزيادة المتصلة حاصلة على ملك الموهوب له، وهذا يمنع الرجوع في الهبة. فإن كانت الجارية قد ماتت في يد الواهب كان للموهوب له الخيار؛ إن شاء ضمن المودع، وإن شاء ضمن الواهب قيمتها؛ لأنه لما ظهر بطلان الرجوع في الهبة ظهر أن القابض قبض مال الغير بغير إذنه، وأن المودع دفع الوديعة إلى غير المالك بغير إذن المالك، فصار كل واحد في حق المالك بمنزلة الغاصب، فلهذا كان له الخيار في التضمين، فإن ضمن الواهب لا يرجع على المودع ضمن على الغاصب، وإن ضمن المودع لا يرجع على الواهب بما ضمن أيضاً باعتبار أن في زعم المودع أن الرجوع صحيح هاهنا. لما أن الغاصب عبدي، وقد أخذ بعض مالي حيث ضمنني، وما يأخذ من مولاه لايزول عن ملك مولاه، فلم يلحق المودع غرم بما دفع إلى مولاه، فلا يكون له أن يرجع بذلك على صاحبه بما أوجب الضمان في «الكتاب» على المودع، ولم يحك فيه خلافاً. وذكر الكرخي: أن هذا قول محمد؛ لأن المودع بما أقر برق الغائب صار مسلطاً القاضي على الوديعة، فصار مضيعاً لها، وأما على قول أبي يوسف: لا يضمن لأن الدفع حصل بقضاء القاضي، وفي مثل هذا لا يجب الضمان على المودع على ما مر قبل هذا. وإن قال المولى: قد علمت أنك وهبتها للذي أودعني إلا أنه ليس بعبد لي، فأقام المدعي بينة على أن فلاناً الغائب عبده لا تقبل هذه البينة إن كان العبد حياً؛ لأن هذه بينة قامت على إثبات الملك في نقلي غائب عن مجلس القضاء فلا تقبل. وإن قال الواهب: ليست لي بينة وطلب يمين المودع بالله إن الغائب ليس بعبد له؛ استحلفه القاضي؛ لأنه ادعى عليه معنى لو أقر به لزمه، فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول، فإن حلف برىء عن الخصومة، وإن نكل لزمته الخصومة؛ لأن النكول بمنزلة الإقرار. ولو أقام المدعي بينة على إقرار المولى أن فلاناً عبده تقبل بينته، وقضى بالرجوع؛ لأن هذه بينة قامت على إثبات كلام الحاضر وهو الإقرار، والإنسان خصم فيما يدعى عليه من الإقرار، والقضاء بذلك لأنه لا يتعدى إليه، فيقضي القاضي عليه بذلك، كما لو أقر بذلك بين يدي القاضي، وإن أقام المدعي بينة على أن الغائب عبد هذا الرجل وأنه قد مات قبلت بينته، وصار ذو اليد خصماً وقد مر هذا فيما تقدم. وإن أقام المدعي بينة على أن الغائب كان عبده وأنه قد باعه من فلان بألف درهم، وقبضه فلان منه لم تقبل بينته؛ لأن فيه إثبات الملك في المنقول، وهو غائب عن مجلس القضاء، وفيه إثبات الملك للمشتري بالبيع، وهو غائب فلا تقبل، وإن أقام المدعي بينة على إقرار الذي في يده الجارية أنه قد باع فلان الغائب من فلان ولم يقم البينة على إقراره أن الغائب عبده، فالقاضي لا يقبل هذه البينة، ولا يجعل الذي في يديه خصماً؛ لأن هذا الإقرار لو ثبت معاينة لا يصير صاحب اليد خصماً لأن الإقرار ببيع الغائب لا يكون إقراراً بأنه عبده لا محالة؛ لأن الإنسان كما يبيع عبد نفسه يبيع عبد غيره أيضاً، فإذا لم يكن هذا

الفصل الثالث والعشرون: في بيان ما يندفع به دعوى المدعي وما لا يندفع

الإقرار ملزماً إياه شيئاً لم يكن في إثباته بالبينة معنى وفائدة، فلهذا لا يقبل القاضي هذه البينة والله تعالى أعلم بالصواب. الفصل الثالث والعشرون: في بيان ما يندفع به دعوى المدعي وما لا يندفع هذا الفصل يشتمل على أنواع: نوع منها: في دعوى الملك المطلق، ودعوى المدعى عليه كون المدعى في يده وديعة من جهة غيره أو عارية أو إجارة أو رهناً، أو ما أشبه ذلك هذا النوع ينقسم أقساماً. القسم الأول إذا حقت الدعوى في العين حال قيامه قال محمد رحمه الله: وإذا ادعى رجل عيناً في يدي رجل ملكاً مطلقاً، أو داراً أو ثوباً أو ما أشبه ذلك، وأقام بينة على دعواه، فقال ذو اليد: إن هذه العين لفلان الغائب أودعنيها، أو قال: أجرنيها، أو قال: ارتهنتها منه، أو قال: اغتصبتها منه، فإن أقام بينة على دعواه فلا خصومة بينهما، وإن لم يقم، فهو خصم للمدعي في ظاهر رواية أصحابنا. ووجهه: أن الخصومة قد توجهت على صاحب اليد بظاهر يده لأنه حال بين المدعي وبين المدعى به، ولهذا كان على القاضي إحضاره وتكليفه بالجواب، فهو بدعواه هذه يريد إبطال الخصومة المتوجهة عليه فلا يقدر على ذلك من غير حجة، وبعد إقامة الحجة طريق اندفاع الخصومة أن صاحب اليد ببينته يثبت شيئين: الملك للغائب وهو ليس بخصم فيه، وإسقاط الجواب عن نفسه، ولا تقبل بينته فيما ليس بخصم فيه وهو إثبات الملك للغائب. وعن أبي يوسف أنه رجع عن هذا حين ابتلي بالقضاء ووقف على أحوال الناس وقال: إذا كان المدعى عليه معرفاً بالافتعال والتزوير، ووقع في قلب القاضي أنه قصد الافتعال بهذا ليبطل حق المدعي لا تندفع الخصومة عنه بهذه البينة، لأن مثل هذا الافتعال يوجد فيما بين الناس، فالإنسان يأخذ مال غيره غصباً، ثم يدفعه سراً إلى من يريد أن يغيب عن البلدة حتى يودعه علانية بشهادة الشهود. حتى إذا جاء المالك وأراد أن يثبت ملكه، فالمدعى عليه يقيم بينة على الإيداع من الغائب، ويدفع خصومة الملك بذلك، والقاضي يصير ناظراً للمسلمين، فينبغي أن ينظر في حق المدعي، وذلك بأن لا يلتفت إلى بينة المدعى عليه إن عرف بالافتعال والتزوير، ووقع في رأيه أنه قصد بهذا الإضرار بالمدعي، وهذا الذي ذكرنا في جواب ظاهر الرواية: إذا عرف شهود صاحب اليد المودع باسمه ونسبه ووجهه فأما إذا قالوا: أودعه رجل لا نعرفه أصلاً، فالقاضي لا يقبل شهادتهم، فلا تندفع خصومة المدعي من صاحب اليد بالإجماع.

أما على (211أ4) قول محمد فلأنهم لو قالوا: نعرف المودع بوجهه، ولا نعرفه باسمه ونسبه، لا تقبل الشهادة، ولا تندفع الخصومة عنه عند محمد، فهاهنا أولى. وأما على قولهما فلأن بهذه الشهادة لم يثبت وصول العين إلى صاحب اليد من جهة غير المدعي بيقين، لجواز أن يكون الدافع هو المدعي، وعلى هذا التقدير لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، فلا تندفع الخصومة من ذي اليد بالشك والاحتمال، وإن قالوا: نعرف المودع بوجهه ولانعرفه باسمه ونسبه: فعلى قول محمد: لا تقبل هذه الشهادة؛ لأن الخصومة على ذي اليد توجهت بظاهر يده فلا تندفع عنه الخصومة إلا بالحوالة على رجل يمكن اتباعه ليكون تحويلاً للخصومة لا إبطالاً، ولم توجد الحوالة على رجل يمكن اتباعه لأن الغائب لا يعرف إلا بالتسمية والنسب، فإذا كان المدعي بوجهه والشهود لم يذكروا اسمه ونسبه لا تتحقق الحوالة، وعندهما تقبل الشهادة لأن حاجة صاحب اليد إلى دفع الخصومة عن نفسه، وإنما تندفع الخصومة عنه إذا أثبت أن يده ليست بيد ملك وخصومة، وقد حصل ذلك هاهنا؛ لأنا علمنا أن العين وصلت إلى يد صاحب اليد من غير هذا المعين بيقين، وبه فارق ما إذا قال: لا نعرفه أصلاً. ولو قال الذي في يديه: أودعنيه رجل لا أعرفه، وقال الشهود: أودعنيه فلان بن فلان. ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أن القاضي لا يقبل هذه الشهادة، ولا تندفع الخصومة عن ذي اليد؛ لأن دعوى المدعى عليه الإيداع هاهنا غير صحيحة لجهالة المودع، والشهادة لا تقبل من غير دعوى صحيحة، ولو أقر المدعي أن رجلاً دفعها إليه والمدعي لا يعرفه، فلا خصومة بينهما لأنه ثبت بإقرار المدعي أنه وصل العين إلى المدعى عليه من جهة غير المدعي بتفسيره. وكذلك لو شهد شهود صاحب اليد على إقرار المدعي أن رجلاً دفعها إليه؛ اعتباراً للإقرار الثابت بالبينة بالثابت عياناً، ولو قال شهود المدعى عليه: نعرف المودع باسمه ونسبه، ولا نعرفه بوجهه، فهذا فصل لم يذكره محمد رحمه الله، وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، لجواز أن يكون الدافع هو المدعي، وقال بعضهم: تندفع، وهكذا ذكر في كتاب «الأقضية» ؛ لأن القاضي سأل المدعي هل هو بهذا الاسم والنسب؟ فإن قال: لا، ظهر أنه غير المودع، وظهر بهذه البينة وصوله إلى يده من جهة غير المدعي. ولو قال الذي في يديه: أودعنيها فلان لرجل معروف، وشهد شهود أن رجلاً أودعها إياه، قالوا: لا تقبل هذه الشهادة لعدم الموافقة بين الدعوى والشهادة، والاحتمال أن الدافع هو المدعي. ولو قال شهود صاحب اليد: نعرف المودع بوجهه واسمه، ونسبه، ولكن لا نشهد به لا تندفع الخصومة أيضاً، لأنهم أخبروا أن عندهم شهادة ولم يشهدوا، وبإخبار الشاهد

أن عنده شهادة لا يثبت شيء شهد به، ولو شهد شهود صاحب اليد أن فلاناً دفعها إليه، ولم يقولوا: إنها ملك فلان، أو قالوا: لا ندري لمن هي اندفعت الخصومة عن ذي اليد؛ لأنه ثبت بهذه الشهادة أنه وصل إليه من جهة فلان، وأن يده يد نيابة، ويد النيابة ليست بيد خصومة. وكذلك لو شهدوا على إقرار المدعي أن فلاناً دفعها إليه؛ اندفعت الخصومة عن ذي اليد؛ لأن بإقرار المدعي يثبت أن يد صاحب اليد ليست بيد خصومة. وكذلك لو شهدوا على إقرار المدعي أنها لفلان، ولم يزيدوا على هذا وذو اليد يقول: فلان أودعنيها، اندفعت الخصومة عن ذي اليد لأن إقراره أنها لفلان ينقض دعواه الملك لنفسه، ولو شهد شهود ذي اليد على إقرار المدعي أنها لفلان إلا أن صاحب اليد لم يقبل بعد ذلك أن فلاناً أودعنيها، لم يذكر محمد هذا الفصل أيضاً. قالوا: ويجب أن تندفع الخصومة عن صاحب اليد؛ لأنه لا يثبت وصول العين إلى صاحب اليد من جهة فلان وظهر بإقرار المدعي أن خصومة المدعي كانت مع فلان، فبعد ذلك أن يحول ملك الرقبة إلى صاحب اليد تتحول الخصومة إليه، وما لا فلا تتحول الخصومة إليه بالشك والاحتمال، وإن أقر المدعي أنها كانت في يد فلان ولكن قال: لا أدري أدفعها إلى هذا أو لا؟. أو شهد الشهود على إقرار المدعي أنها كانت في يد فلان، ولا أدري دفعها إلى فلان أم (لا) فلا خصومة بينهما لأنهما اتفقا على أنها كانت في يد فلان والآن يراها في يد صاحب اليد ولم يعرف يد ثالث، فالظاهر أنها وصلت إلى يده من جهة فلان، فثبت تصادقهما على وصولهما إلى هذا من جهته أنها لفلان. ولم يشهدوا أن فلاناً أودعها إياه فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة؛ لأنها قامت على إثبات الملك للغائب، وصاحب اليد ليس بخصم عنه في إثبات الملك له؛ لأنه لا حاجة له إلى إثبات الملك للغائب، إنما حاجته إلى وصول الثمن إلى يده من جهة فلان والشهود لم يشهدوا بذلك، فلا تندفع عنه الخصومة. ولو أقام المدعي بينة في هذه المسائل على سبيل دفع بينة صاحب اليد أن صاحب اليد ادعاها لنفسه، لم تقبل من صاحب اليد بينة على الإيداع أصلاً؛ لأنه ثبت ببينة المدعي إقرار ذي (اليد) بكونه خصماً فصاحب اليد ببينته على الإيداع بعد ذلك يريد إخراج نفسه عن الخصومة بعدما علم كونه خصماً فلا يقدر عليه. وذكر في «المنتقى» : مسألة تدل على أن المودع ينتصب خصماً. وصورتها: قال هشام: سألت محمداً رحمه الله: عن رجل ادعى داراً في يدي رجل أنها داره وقدمه إلى القاضي، وصيره القاضي خصماً له إلا أنه لم يقم بينة، ثم أن المدعى عليه ذهب وباع الدار وسلمها إلى المشتري، ثم المشتري وكل فيها وكيلاً وغاب، ثم عزل هذا القاضي أو مات وولى قاضٍ آخر فتقدموا إليه، وأقام المدعي بينة أنه قد كان خاصمه إلى القاضي الأول، ثم باعها، فهذا القاضي يجعل الوكيل خصماً فيه.

قال الحاكم أبو الفضل: لم يرد بقوله؛ وكل فيها وكيلاً الوكيل بالخصومة وإنما أراد به الوكيل بالحفظ، والوكيل المودع مع هذا جعله خصماً للمدعي. قالوا: وقد ذكر محمد رحمه الله مسألة في «الجامع» : تدل على أن المودع ينتصب خصماً للمدعي. وصورتها: رجل مات وترك ثلاثة بنين، وداراً فغاب اثنان منهم، وبقي واحد، فجاء رجل وادعى أن الدار له فقال الحاضر: كانت الدار لأبينا مات وترك ميراثاً لي ولأخوي، فلان وفلان، فاقتسمنا الدار بيننا أثلاثاً، وقبض كل واحد منا نصيبه، ثم إنهما غابا وأودعاني نصيبهما. فقال المدعي: هذه الدار كانت في يد أبيكم إلى أن مات قسمتم الدار بينكم، ثم إن أخواك أودعاك نصيبهما ولكن الدار لي، وأقام المدعي البينة أن الدار داره قبلت بينته، وقضى بالدار للمدعي، وإن ثبت بتصادقهما كون ثلثي الدار وديعة في يد الابن الحاضر، ويد المودع ليست يد خصومة، وليس الأمر كما قالوا، والوجه لمسألة «الجامع» : أن كون المودع غير خصم في حق المدعي، من حيث إنه مودع لا ينفي كونه خصماً في حقه من وجه آخر، ألا ترى أن من أودع عند إنسان شيئاً ثم إن المودع وكل المودع بالخصومة في ذلك الشيء، ثم قامت البينة على الوكيل الذي هو مودع قبلت بينته. وفي مسألة «الجامع» ما يحصل الابن الحاضر خصماً في كل الدار؛ لأن الدعوى في الحقيقة على الميت، والبينة قامت عليه، وأحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت وعن سائر الورثة فيما يدعي على الميت بخلاف المسائل التي تقدم ذكرها في أول هذا النوع؛ لأن هناك لم يوجد ما يوجب كون المدعي خصماً من وجه آخر، ومن حيث كونه مودعاً لم يصلح خصماً. ومما يتصل بهذا النوع دار في يدي رجل ادعاها أنها داره وأقام البينة على ذلك، وقال ذو اليد: إنها دار فلان وأنه (211ب4) أسكنيها، وجاء بشاهدين شهدا أن فلاناً أشهدنا أن الدار التي في يد هذا داره، وأنه أسكنها هذا الذي في يديه، فلا خصومة بينهما لأنه ثبت وصول الدار إلى يد المدعى عليه من جهة من غاب على وجه لا يفيد الملك في الرقبة؛ لأن الإسكان والإعارة سواء، والإعارة لا تفيد الملك في الرقبة، ولم يشهدا أن فلاناً أشهدنا أن الدار التي في يد هذا داره، وأنه أسكنها هي في يديه، إلا أنا لم نره دفع الدار إليه أم لا؛ لكن علمنا أن الدار كانت في يد هذا الذي في يديه اليوم يومئذٍ، فلا خصومة بينهما أيضاً حتى يحضر الغائب، لأن الشهادة بالإسكان، والدار في يد الساكن يوم الإسكان شهادة بالتسليم. كما أن الشهادة بالهبة، والدار في يد الموهوب له يوم الهبة شهادة بالهبة والتسليم، حتى أن الشهود إذا شهدوا أن هذا الرجل وهب هذا لهذا المدعي وكان العبد في يد المدعي يوم الهبة يجب القضاء بالهبة؛ كما لو شهدوا بالهبة والتسليم، فصار هذا الوجه نظير الوجه الأول.

وإن شهدوا أن فلاناً أشهدنا أنه أسكنها هذا الذي في يديه الدار اليوم، ولم نعلم يوم الإسكان أن الدار في يد من، ونعلم الآن أنها في يد هذا المدعي عليه، فلا خصومة بينهما أيضاً حتى يحضر الغائب، لأنهم شهدوا بالإسكان، والقبض ثابت للمشهود له معاينة، ولم يعرف لثبوت يده جهة أخرى سوى ما شهد به الشهود، وهو الإسكان، فيحال به على ذلك بالإسكان. وهو معنى قول المشايخ: إن القبض إذا ظهر عقيب عقد يحال به على ذلك العقد مالم يعرف له سبب آخر، وإذا أحلنا بالقبض على الإسكان صار كأنهم شهدوا بالإسكان والتسليم. وهو نظير ما ذكر في كتاب الهبة، لو أن رجلاً في يديه عبد ادعى أن فلاناً وهب هذا العبد منه، ولم يزيدوا على هذا، فالقاضي يقبل شهادتهم ويجعل كأنهم شهدوا بالهبة مع القبض كذا هاهنا، ولو شهدوا أن فلاناً أشهدنا أنه أسكنها هذا الذي في يديه اليوم، ونحن علمنا يوم الإشهاد أنها لم تكن في يد المسكن ولا في يد هذا الساكن بل كانت في يد فلان، يعني به إنسان آخر، وفي هذا الوجه لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، لأن الشهود إنما شهدوا بإسكان باطل، لأن الإسكان إنما يصلح بالقبض من جهة المسكن، ولم يثبت القبض من جهة المسكن لا بالشهادة ولا بالمعاينة أما بالشهادة فظاهر. وأما بالمعاينة، فلأن القبض المعاين للذي الدار في يديه ثابت من حيث الظاهر من جهة من شهد الشهود أنها كانت في يده لا من جهة المسكن، فتكون هذه الشهادة بإسكان باطل، فيكون وجوده والعدم بمنزلة، فإن قال المدعي في الوجه المتقدم وهو ما إذا شهدوا أن فلاناً أشهدنا أنه أسكنها هذا الذي في يديه الدار، ولم يعلم يوم الإسكان أن الدار في يدي أنا أقيم البينة أن هذه الدار يوم الإشهاد على الإسكان كان في يدي رجل آخر غير الذي أشهدهم على الإسكان، يريد بذلك إبطال الإسكان حتى لا يخرج الذي في يديه الدار من أن يكون خصماً للمدعي، فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة. واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة، فعبارة بعضهم أن المشهود له باليد في هذه الشهادة لو حضر وأقام البينة أن هذه الدار كانت في يده، لا تقبل منه هذه البينة ولا ينقض يد ذي اليد؛ لأن يد ذي اليد ثابتة معاينة، فإن كان يد فلان يد ملك يجب نقض ذي اليد، فلا يجب نقض يده بالشك، وإذا كانت هذه الشهادة لا تقبل من المشهود له في هذه الشهادة؛ فلأن لا تقبل من المدعي أولى، وعبارة بعضهم أنه ليس غرض المدعي من هذه الشهادة إثبات اليد لغير المسكن؛ لأنه ليس بخصم عنه في إثبات اليد له، وإنما غرضه نفي اليد عن

المسكن يوم الإشهاد على الإسكان والشهادة على النفي لا تقبل. وحكي أن مشايخ بخارى سئلوا: عن رجل ادعى أن أرضه هذه حرة، وأقام على ذلك بينة، فأجاب أكثرهم بقبول هذه الشهادة، وأجاب بعضهم بعدم قبولها، وقاسه على هذه المسألة، وهذا لأن مقصود الشهود في مسألة الأرض في شهادتهم على حرية الأرض، نفي الخراج عن الأرض، كما أن قصد المدعي في مسألتنا نفي اليد عن المسكن يوم الإشهاد، فكانت هذه الشهادة قائمة على النفي، فنظر إلى المقصود فرجعوا إلى قول هذا القائل، واتفقوا على عدم قبول هذه الشهادة. وأنا أقول: هذه العبارة الثانية، وجواب مسألة الخراج يشكل بالشهادة القائمة على الإفلاس، فإنها مقبولة بلا خلاف، مع أنها قامت على النفي نظراً إلى ما هو المقصود. وفي «نوادر عيسى بن أبان» : رجل ادعى داراً في يدي رجل فقال الذي في يديه: إن فلاناً أودعنيها، فقال المدعي: قد كان فلان أودعكها، ولكنه وهبها لك بعد ذلك أو باعكها، فإن القاضي يستحلف الذي في يديه بالله ما وهبها فلان لك ولا باعها منك بعدما أودعها منك، فإن نكل عن اليمين جعله خصماً فيها. قال: ألا ترى أن المدعي لو أقام بينة أن فلاناً باعها من الذي في يديه بعدما كان أودعها إياه قبلت بينته وجعل الذي في يديه خصماً له فكذا إذا نكل عن اليمين قال: ولا يشبه هذا الوكالة. وصورتها: رجل آتى رجلاً وقال: إن لفلان عندك ألف درهم، وأنا وكيله في قبضها منك، وقال المدعى عليه: صدقت لفلان عندي ألف درهم وديعة إلا أنك لست بوكيل في قبضها؛ لم يكن للمدعي أن يحلفه على الوكالة لأنه يدعي لغيره، وإنما استحلفه في الأول؛ لأنه ادعاه لنفسه فادعى أن هذا خصمه فيه. رجل في يديه وديعة لرجل وادعى أنه وكيل المودع بقبضها، وأقام على ذلك بينة، وأقام الذي في يديه الوديعة بينة أن المودع قد أخرج هذه من الوكالة، قبلت بينته، وكذا إذا أقام بينة أن شهود الوكيل عينه. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل في يديه داراً ادعاها رجل فأقام الذي في يديه الدار بينة أن فلاناً الغائب ادعى هذه الدار واستحقها من يده، ودفعها إليه القاضي، ثم إن المستحق أخرجها من الذي في يده؛ فإنه لا تقبل منه هذه على ما ادعى. علل فقال: لأنها في يديه وهي لا تدفع عن نفسه الخصومة بها، والوجه في ذلك أن صاحب اليد لما قال: إن فلاناً الغائب ادعى هذه الدار واستحقها من يده، فقد أقر أن يده يد خصومة في هذه الدار، ثم بقوله أخذها فلان مني يريد إخراج نفسه عن الخصومة، فلا يصدق على ذلك، ولا تسمع بينته عليه والله أعلم. القسم الثاني إذا وقعت الدعوى في العبد بعد هلاكه قال محمد رحمه الله في «الجامع» : وإذا كان العبد في يدي رجل مات جاء رجل وأقام بينة أنه عبده، وأقام الذي مات العبد في يديه أن العبد كان وديعة في يديه من جهة فلان، أو كان بإجارة في يديه من جهة فلان أو عارية، فإنه لا تندفع الخصومة ويقضي القاضي بقيمة العبد للمدعي، فرق بين هذا وبين ما إذا وقع الدعوى في العين حال قيام العين، وباقي المسألة بحالها فإنه تندفع الخصومة عن ذي اليد.

والفرق: أن العين إذا كان قائماً، والدعوى تقع في العين، والمدعى عليه إنما ينتصب خصماً له في العين بظاهر يده، فإن ظاهر اليد تدل على الملك، إلا أنه يحتمل أنه ليس بذلك، وبإقامة البينة على أن العين وديعة عنده ظهر أن يده ليست يد ملك فيندفع عنه الخصومة، أما إذا كان العين هالكاً فالدعوى تقع في الدين، ومحل الدين الذمة فالمدعى عليه ينتصب خصماً للمدعي بذمته، وإنما أقام المدعى عليه من البينة أن العين كانت في يده وديعة لا يتبين أن في ذمته لغيره، فلا تتحول الخصومة عنه. ألا ترى أن القاضي يقضي بالقيمة على مودع الغاصب وإن كان يده في العين يد غيره. فإن قيل: كان ينبغي أن لا يقضي القاضي بقيمة العبد هاهنا؛ لأنه لا يمكن القضاء بقيمة العبد للمدعي إلا بعد القضاء له بملك العبد له لا يجوز أن يكون قيمة العبد لإنسان (212أ4) ويكون الملك في العبد لغيره وقد تعذر القضاء هاهنا للمدعي بملك العبد؛ لأن ذا اليد أثبت أن يده في العبد ليست يد ملك، وأن الملك في العبد للغائب. كما قال محمد في عبد في يدي رجل ذهب عبده يده لو فقيت عينه أو قطعت يده أقام الرجل بينة أن هذا العبد عبده، وأراد أن يأخذ العبد وأن يضمن الذي العبد في يده نصف قيمة العبد، فأقام الذي في يديه العبد بينة أن فلاناً قد كان أودع هذا العبد إياه قبل ذهاب العين واليد؛ فإنه يندفع عنه الخصومة في أرش اليد والعين وإن ادعى الأرش ديناً في ذمته؛ لأنه لا يمكنه القضاء بالأرش إلا بعد القضاء بملك العبد للمدعي؛ لأنه لا يجوز أن يكون الأرش لإنسان، والعبد لغيره، فإذا تعذر القضاء بملك العبد؛ لأن صاحب اليد أثبت أن يده في يد غيره تعذر القضاء بالأرش كذا هاهنا. قلنا: اختلفت عبارة المشايخ في الجواب عن هذا الإشكال، فعبارة بعضهم أن هذا الإشكال إنما يتأتى إذا تعذر القضاء بملك العبد للمدعي كما في المسألة التي وقع الإشهاد بها؛ لأن هناك تعذر القضاء بملك العبد للمدعي؛ لأن العبد حي قائم، وقد ثبت ببينة ذي اليد أن الملك في العبد للغائب فلو قضينا بالعبد للمدعي كان في هذا استحقاقاً على الغائب، والاستحقاق على الغائب لا يجوز. وإذا تعذر القضاء بالعبد للمدعي تعذر القضاء بالعين الفائتة للمدعي إذ يستحيل أن يكون العبد لإنسان ويكون عينه لآخر، وإذا تعذر القضاء بالعين الغائبة للمدعي تعذر القضاء بالأرش له، أما في مسألتنا أمكن القضاء بالعبد للمدعي، وإن ثبتت ببينة ذي اليد أن العبد للغائب، فيكون القضاء بالعبد للمدعي قضاءً على الغائب إلا أن القضاء على الغائب إنما لا يجوز إذا كان فيه استحقاق شيء له، وإيجاب شيء على الغائب، فأما إذا لم يكن فيه استحقاق شيء على الغائب يجوز القضاء على الغائب لأن العبد ميت، والميت لا يمكن أن يستحق على الغائب فظهر الفرق بين الفصلين من هذا الوجه. وعبارة بعضهم: ليس من ضرورة القضاء بقيمة العبد للمدعي، القضاء بملك العبد للمدعي إذ يجوز أن يكون العبد لإنسان وبدله لغيره.

ألا ترى إلى ما قال أصحابنا في رجل قال لغيره: بعت منك هذا العبد الذي في يديك بألف درهم، ولي عليك ألف درهم، فقال ذلك الرجل: ما بعته مني، وما اشتريته أنا؛ وأنا بريء مما تقول لا علم لي به قط، فأقام المدعي بينة على ذلك وجب على المنكر ثمن العبد ولم يكن العبد ملكاً له. وكذلك قالوا في رجلين ادعى كل واحد منهما على رجل واحد؛ أني بعت منك هذا العبد بألف درهم، وكانت الدعوى منهما في عبد واحد بعينه، وأنكر المدعى عليه ألفا درهم، لكل واحد منهما ألف درهم. ولو كان وجوب البدل باعتبار العين لوجب ألف درهم بينهما، فعلم أن وجوب البدل ليس باعتبار العين، فلم يكن من ضرورة القضاء بالقيمة القضاء بملك العبد، فأما من ضرورة القضاء بالأرش للمدعي بالعين الفائتة له، ومن ضرورة القضاء بالعين الفائتة له القضاء بكل العبد له، إذ يستحيل أن يكون كل العبد لإنسان وعينه تكون لآخر، وتعذر القضاء بكل العبد للمدعي؛ لأن فيه قضاء على الغائب. ثم إذا قضى القاضي بالقيمة للمدعي، وأخذ المدعي القيمة من المدعى عليه؛ حضر الغائب وصدق المدعى عليه فيما كان ادعى أن العبد كان عبده وديعة، أو إجارة أو رهناً من جهته، كان له أن يرجع بما ضمن من القيمة على الغائب الذي حضر، وهذا الجواب لا يشكل في الرهن والوديعة، لأن المودع في قبض الوديعة عامل للمودع من كل وجه، فإن منفعة الحفظ عائدة إليه من كل وجه. والأصل: أن من عمل لغيره عملاً ولحقه بذلك غرم يرجع بالغرم على المعمول له، إنما يشكل في الإجارة لأن المستأجر في قبض المستأجَر عامل لنفسه من كل وجه؛ لأنه قبضه ليستوفي منفعته، فكان يجب أن لا يرجع بما ضمن على الآجر كالمستعير والغاصب إلا أن الجواب عنه أن المستأجر كما هو عامل لنفسه فهو عامل للآجر إنما يجب ويتأكد استيفاء المنفعة، إلا أن ما للآجر من المنفعة أكثر؛ لأنه يحصل له الأجر وإنه عين مال. والحاصل للمستأجر المنفعة، والعين خير من المنفعة، فكان الرجحان لجانب الآجر، فاعتبر قبض المستأجر واقعاً للآجر من هذا الوجه، بخلاف ما إذا كان العبد في يد صاحب اليد بعارية أو غصب حيث لا يرجع بما ضمن على الغاصب؛ لأن الغاصب في القبض عامل لنفسه من كل وجه. وكذلك المستعير في القبض عامل لنفسه من كل وجه، لأن منفعة كل واحد منهما حاصلة له من كل وجه. ومن عمل لنفسه عملاً ولحقه بذلك عهدة كان قرار العهدة عليه هذا إذا صدق الغائب صاحب اليد في إقراره أن العبد وصل إليه من جهته، فأما إذا كذبه في إقراره أن

العبد وصل إليه من جهة بوجه من الوجوه التي ذكرناها، فلا رجوع له على الغائب ما لم يقم البينة على ما ادعى من الإجارة أو الوديعة أو الرهن؛ لأنه يدعي لنفسه ديناً على الغائب بسبب عمل عمل له، والغائب منكر ذلك. ادعى عبداً في يدي رجل، فقال المدعى عليه: هذا العبد وديعة في يدي من جهة فلان، فقال المدعي: سلم العبد إليَّ وأحضر فلاناً حتى أقيم البينة عليه، فدفع العبد عليه، وذهب ليجيء بفلان، فمات العبد في يد المدعي ثم جاء فلان وأقام بينة أنه عبده كان أودعه صاحب اليد، وأقام المدعي بينة أنه عبده، فالبينة بينة فلان؛ لأن فلاناً يثبت الضمان ببينته محتجاً بالأخذ بغير حق، والمدعي ينفي ذلك، ولو كان العبد حياً يؤمر المدعي بدفع العبد إلى مكان المقر له ويقال للمدعي: أقم البينة عليه. القسم الثالث إذا وقعت الدعوى في العبد بعد إباقه عبد في يدي رجل أبق من يده جاء رجل وادعى أنه عبده، وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة على أنها وديعة في يديه من جهة فلان إلى آخر المسألة، فالجواب فيه؛ كالجواب في فصل الموت، لأن الإباق يوجب ضمان القيمة كالهلاك؛ دليله: المغصوب إذا أبق، فكل جواب ذكرناه في الموت فهو الجواب في الإباق. ثم في فصل الإباق إذا قضى القاضي بقيمة العبد للمدعي على الذي كان العبد في يديه ثم عاد العبد من الإباق. ففي فصل الوديعة والإجارة والرهن يعود على ملك الغائب، وفي الغصب والعارية يعود على ملك الذي كان في يده، لأن الملك في المضمون إنما يثبت لمن كان قرار الضمان عليه، وفي الوديعة والإجارة والرهن قرار الضمان على الغائب، وفي العارية والغصب قرار الضمان على الذي كان العبد في يديه. فإن قيل: كان ينبغي أن يؤمر الذي كان العبد في يديه برد العبد على الغائب في فصل الغصب والعارية؛ لأنه لما أقر أنه غصب من الغائب أو استعار منه، فقد أقر أن رده واجب عليه إلا أنه كان عاجزاً عن الرد مادام آبقاً، فإذا عاد إلى يده وقدر على الرد لزمه الرد عليه.g فهذا كما قالوا فيمن اشترى عبداً قد أقر أنه ملك البائع، واستحق العبد من يد المشتري بالبينة، ثم إنه عاد إليه بسبب من أسباب الملك إن كان بعدما قضى القاضي بفسخ البيع لزم المشتري رد العبد على البائع، وإن كان قبل أن يقضي القاضي بفسخ البيع، فإن المشتري يرد الثمن على البائع إن كان قد رجع على البائع بالثمن. قلنا: الأمر كما قلت إلا أن القاضي لما قضى على صاحب اليد بالعبد للمدعي حين قضى عليه بقيمة العبد، فقد كذبه في إقراره أن عليه رد العبد على الغائب بسبب

الغصب، وقضاء القاضي بالعبد للمدعي في هذه (212ب4) الصورة نفذ ظاهراً وباطناً؛ لأن صاحب اليد أقر بالغصب من الغائب، للإقرار بالملك للغائب؛ لأن الإنسان كما يغصب من المالك؛ يغصب من غير المالك. كالمودع والأب والوصي والغاصب. وإذا تصور الغصب من غير المالك لم يكن في زعم صاحب اليد أن العبد ملك الغائب، وأن شهود المدعي شهود زور امتنع نفاذ القضاء بها بالملك المرسل للمدعي باطناً، فنفذ القضاء ظاهراً وباطناً بالعبد للمدعي، وثبت تكذيب القاضي في إقراره أن رد المعيب واجب عليه والإقرار يبطل بتكذيب القاضي بخلاف تلك المسألة؛ لأن هناك المشتري أقر بملك العبد للبائع نصاً، فكان في زعمه أن شهود المدعي شهود زور، وقد قامت على ملك مرسل. والقضاء بشهادة الزور في الأملاك المرسلة لا ينفذ باطناً، وإذا لم ينفذ قضاء القاضي باطناً ثمة في زعم المشتري لم يصر المشتري مكذباً من جهة القاضي، فيما أقر من الملك للبائع بزعمه، فبقي إقراره صحيحاً كما كان، فوجب الرد على البائع إذا وصل إلى المشتري بحكم إقراره. وزان مسألة المشتري من مسألتنا؛ أن لو اشترى ولم يقر بالملك للبائع نصاً، وهناك إذا عاد العبد إلى يد المشتري يوماً من الدهر لا يؤمر بتسليمه إلى البائع؛ والله أعلم. القسم الرابع وإذا وقعت الدعوى في العين بعدما وهب طرف من أطرافه؛ إذا وقعت الدعوى في الجارية بعدما ولدت وماتت الجارية صورة الأول: عبد في يدي رجل ذهبت عينه عنده فأقام رجل البينة أنه عبده، وأراد أخذ العبد، وأن يضمن الذي في يديه العبد نصف قيمة العبد بذهاب العين في يده، فأقام الذي في يديه العبد بينة أن فلاناً أودعه إياه قبل ذهاب عينه، فلا خصومة بينهما، ولا في الأرش حتى يحضر الغائب، وقد مر الوجه فيه. صورة الثانية: جارية على يدي رجل ولدت ولداً وماتت الجارية، وأقام رجل البينة أن الجارية جاريته، وأنها ولدت هذا الولد في ملكه، وأقام الذي كانت الجارية في يده أن فلاناً أودعها إياه قبل أن تلد فولدت عنده، فإن القاضي يقضي بقيمة الجارية للمدعي على ذي اليد لما مر، ولا يقضي بالولد له، حتى يحضر الغائب؛ لأن الولد عين في يده، فهو إنما ينتصب خصماً في الولد بحكم اليد، وقد أثبتت بينته أن يده في الولد يد أمانة. قال محمد رحمه الله: عقيب ذكر هذه المسألة: ولا يشبه الولد في هذا أرش العين؛ لأن الولد يجوز أن يكون لإنسان والجارية لآخر، ولا يجوز أن تكون الجارية لإنسان، وأرش عينها لآخر؛ يريد بهذا أن القضاء بملك الجارية للمدعي يمكن بدون الولد لا يجوز أن تكون الجارية لإنسان والولد لآخر. ألا ترى أن من أوصى بما في بطن الجارية لإنسان صحت الوصية، وكانت الجارية

للموصي، والولد للموصى له، فلم يكن من ضرورة تعذر القضاء بالولد، تعذر القضاء بالجارية، ولا من ضرورة القضاء بالجارية، القضاء بالولد. وكان بمنزلة ما لو ادعى عبدين أحدهما غير متولد من الآخر، وقد هلك أحدهما في يده دون الآخر، فأقام المدعي بينة على دعواه، وأقام صاحب اليد بينة أن فلاناً أودعها إياه، فإنه يقضي عليه بقيمة ما هلك في يده للمدعي، ولا يقضي له بالقائم بالطريق الذي قلنا؛ كذا هاهنا. أما القضاء بملك العبد للمدعي بدون الأرش غير ممكن؛ إذ لا يتصور أن يكون العبد لإنسان وأرش عينه لآخر، فكان من ضرورة تعذر القضاء بالعبد، تعذر القضاء بالأرش على ما بينا. فإن قيل: من ضرورة القضاء بمطلق ملك الجارية بالبينة للمدعي القضاء بولدها للمدعي. ألا ترى أن من ادعى جارية في يد إنسان ملكاً مطلقاً، وأثبت ذلك بالبينة ولها ولد، فإنه يستحق الجارية مع الولد؟ فدل أن من ضرورة القضاء بمطلق ملك الجارية للمدعي بالبينة القضاء بالولد للمدعي، وإذا تعذر القضاء بالولد للمدعي؛ لأنه أثبت كونه مودعاً في الولد؛ يجب أن يتعذر القضاء بملك الجارية للمدعي أيضاً. قلنا: من ضرورة القضاء بمطلق ملك الجارية للمدعي بالبينة، القضاء بولدها للمدعي إذا كان الولد في ملك المقضى عليه بالجارية من حيث الظاهر وقت القضاء بالجارية. قلنا: إذا لم يكن في ملكه بأن كان باع الولد أوهبه من غيره، فإنه يقضى بالجارية، ولا يقضى بالولد، وهذا لأن القضاء بمطلق ملك الجارية إنما يكون قضاء بالولد؛ لأن القضاء بمطلق ملك الجارية قضاء بأولية الملك، وإذا قضى بأولية الملك في الجارية كان الولد متولداً من ملكه إلا أن القضاء المطلق بالملك في الجارية إنما يكون قضاء بأولية الملك في الجارية في حق من كان مقضياً عليه بالجارية؛ لا في حق من لم يكن مقضياً عليه بالجارية. ألا ترى أن غير المقضي عليه إذا ادعى الجارية بعد ذلك ملكاً مطلقاً يسمع دعواه؟ قلنا: والمقضى عليه بالجارية من قامت عليه البينة بالجارية أن من لم تقم عليه البينة بالجارية، والذي صار الولد له بالبيع أو الهبة قبل القضاء بالجارية للمدعي لم تقم البينة بالجارية، فلم يصر مقضياً عليه بالجارية، فلا يظهر القضاء بأولية الملك في الجارية للمدعي في حقه، فلا يظهر لولد الولد من ملك المدعي في حقه؛ فشرطنا كون الولد في ملك المقضى عليه بالجارية وقت القضاء بالجارية لصيرورة الولد مقضياً به من هذا الوجه. إذا ثبت هذا فنقول في مسألتنا: الولد ليس في ملك المقضي عليه بالجارية وقت القضاء بالجارية للمدعي؛ لأنه أثبت الإيداع من الغائب في الولد فلم يبق الولد في ملكه من حيث الظاهر، فأمكن القضاء بملك الأم دون الولد، والله أعلم.

القسم الخامس من هذا النوع جارية في يدي رجل قتلها عند رجل، فأقر الذي الجارية في يده أنها لفلان الغائب أودعها إياه؛ كان له أن يخاصم مولى العبد الجاني بالدفع أو الفداء، وهذا لأن المودع ينتصب خصماً من المودع فيما يستحقه المودع لأنه أمر بالحفظ والخصومة فيما يستحق للمودع من حفظ الوديعة فينتصب خصماً فيه. ألا ترى لو غصب الوديعة منه غاصب كان له أن يخاصم الغائب، ويسترد الوديعة من يده، وطريقه: أن استرداد الوديعة من الغاصب من باب الحفظ، والمودع مأمور بالحفظ، فإن دفع مولى العبد؛ العبد بالجناية ثم أقام رجل البينة أن الجارية كانت جاريته، وأقام الذي كانت الجارية في يديه أنها كانت وديعة عنده من جهة فلان، فالقاضي يقول للمدعي: ماذا تريد؛ أخذ العبد أو تريد أخذ قيمة الجناية؟ وإنما خيره لأن المدعي لما أقام البينة أن الجارية ملكه ظهر أن ذا اليد كان غاصباً لها، والجارية المغصوبة إذا قتلها عبد في يد الغاصب، وأخذ الغاصب العبد كان لمولى الجارية الخيار؛ لأنه لم يجد عين ماله كذا هاهنا. وإن قال: أريد أخذ عين العبد فلا خصومة بينهما؛ لأن العبد المدفوع بالجناية يقوم مقام الجارية لحماً ودماً كأنه هي، ولو كانت الجارية قائمة في يد ذي اليد، وأقام ذو اليد بينة على الإيداع من الغاصب لم يكن ذو اليد خصماً له؛ فكذا إذا أقام العبد مقامها. وإن قال: أريد أخذ القيمة كان خصماً له ويقضى له بقيمة الجارية؛ لأنه ادعى ديناً في الذمة بسبب عين كان في يده، وفي مثل هذا لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، وإن أقام البينة على الإيداع، وقد مر هذا من قبل. وإذا قضى القاضي بقيمة الجارية على ذي يد، وأخذها المدعي من ذي اليد ثم حضر الغائب، وأقر بالوديعة أخذ العبد من يد ذي اليد؛ لأنه قام مقام ملكه، ويرجع ذو اليد على الغائب بما ضمن للمدعي من قيمة الجارية. ولو أن الجارية لم يقتلها العبد، ولكن قطع يدها ودفع العبد باليد والمسألة بحالها لم يكن بينهما خصومة حتى يحضر الغائب لا في الجارية، ولا في العبد، أما في الجارية فظاهر، وأما في العبد لأن العبد بدل اليد فكان كالأرش (213أ4) وذكرنا أنه متى تعذر القضاء بملك الأصل يتعذر القضاء بملك الأرش. النوع الثاني من هذا الفصل أن يدعي المدعي مع دعوى الملك المطلق فعلاً، وهذا النوع ينقسم أقساماً أيضاً: القسم الأول أن يدعي الفعل على ذي اليد بأن قال ذو اليد: هذا العين ملكي غصبته مني، أو قال: أودعنيه منك، أجرته منك، أو ما أشبه ذلك، وقال ذو اليد: إنه لفلان وصل إلى

يده بجهة كذا على نحو ما بينا، وفي هذا الوجه لا تندفع الخصومة عن ذي اليد فرق بينما إذا ادعى فعلاً على ذي اليد، وبينما إذا ادعى ملكاً مطلقاً، ولم يدع الفعل على ذي اليد، فإن هناك إذا أقام ذو اليد بينة على أنه لفلان الغائب وصل إليه بوديعة أو إجارة أوما أشبه ذلك، فإنه تندفع الخصومة عن ذي اليد. والفرق: أن في دعوى الملك المطلق صاحب اليد انتصب خصماً بيده؛ لأن دعوى الملك المرسل لا يصح الا على ذي اليد. فإنه لو ادعى داراً في يدي رجل وليس في يده دار، لا تصح دعواه فعلم أن في دعوى الملك المطلق صاحب اليد إنما انتصب خصماً بحكم يده ويده تردده بين أن يكون له فيكون خصماً وبين أن يكون لغيره، فلا يكون خصماً وبما أقام من البينة أثبت أن يده يد غيره إنها وليست بيد خصومة، إنما هي يد حفظ. أما في دعوى الفعل، صاحب اليد إنما ينتصب خصماً بدعوى الفعل عليه وهو الغصب لا بحكم اليد، ألا ترى أن دعوى الغصب كما يصح على ذي اليد يصح على غير ذي اليد حتى أن من ادعى على آخر أنه غصب عبده وليس في يده عبد، صحت دعوته ويلزمه القيمة، قال: وفعله لا يتردد بين أن يكون لغيره حتى يقال: بهذه البينة تبين أن فعل صاحب اليد فعل غيره؛ بل فعله مقصور عليه، وبهذه البينة لا يتبين أن الفعل لم يكن موجوداً، فلهذا قال: لا تندفع الخصومة. عبارةٌ أخرى: في الفرق أن بينة صاحب اليد إنما تقبل إذا كانت بينته تحيل خصومة المدعي إلى غيره، أما إذا كان ببينته تبطل خصومته فلا تقبل بينته، لأن اليد للإحالة لا للإبطال إذا ثبت هذا فنقول: إذا وقعت الدعوى في الملك المطلق فالمدعي ببينته يثبت استحقاق ملك الرقبة، فإذا أقام ذو اليد البينة أن الرقبة لغيره، فإن يده في الرقبة يد غيره تتوجه الخصومة على ذلك الغير. فمتى قبلنا هذه البينة كان في هذا إحالة الخصومة إلى غيره وذلك صحيح، أما إذا وقعت الدعوى في الغصب على صاحب اليد، فالمدعي ببينته لا يثبت استحقاق الرقبة، وإنما يثبت وجوب الرد على صاحب اليد، فإن موجب الغصب وجوب الرد على الغاصب، والرد الواجب على الغاصب مما لا يمكن إحالته على غيره، فمتى قبلنا هذه البينة كان في هذا إبطال خصومة المدعي أصلاً، وإنه لا يجوز. يوضحه: أن الدعوى إذا وقعت في الغصب، فالمدعي على صاحب اليد فعله، وهذه الدعوى لا تصح على غيره، فلا يصح إحالته على غيره، أما الدعوى إذا وقع في الملك المطلق فالمدعي رقبة العين وهذه الدعوى صحيحة على غيره فيصح إحالته عليه. عبارة أخرى: الفرق أن الدعوى إذا وقعت في الفعل على صاحب اليد، فالمدعي ببينته يثبت على صاحب اليد أخذاً منه أو قبول عقد منه، وذلك كله يناقض دعواه أن فلاناً أودعه، أما إذا وقع الدعوى في الملك المطلق، فالمدعي ببينته يثبت ملك الرقبة لنفسه، وذلك لا يناقض دعوى صاحب اليد غيره، ثم إذا لم تندفع الخصومة عن صاحب اليد في

هذا الفصل وقضى القاضي بالدار ثم حضر الغائب وأقام بينة أنها داره كان دفعها إلى صاحب اليد وديعة، فالقاضي يقضي للذي حضر بالدار، لأن الذي حضر لم يصر مقضياً عليه بالقضاء على صاحب اليد، لأن القضاء بالملك المطلق على ذي اليد إنما يتعدى من ذي اليد إلى من يدعي تلقي الملك من جهة ذي اليد أو إلى من كان ذو اليد خصماً عنه في الخصومة في الملك، والذي حضر لا يدعي تلقي الملك من جهة ذي اليدز وكذلك ذو اليد لم يكن خصماً عن الذي حضر، فلا يتعدى القضاء إلى الذي حضر، وكذلك أن صاحب اليد لو لم يقم بينة على ما ادعى؛ لأن ما يقبل وجوده مثل عدمه. ثم إن محمداً رحمه الله: صحح دعوى القضاء في هذا الفصل قيل: إنه قول محمد، وقيل: إنه قول الكل، وكذلك فيما إذا وقعت الدعوى في الملك المطلق لو لم يقم صاحب اليد بينة على ما ادعى من الإيداع، وقضى القاضي بالدار للمدعي، لو حضر الغائب، وأقام بينة على أن الدار داره كان دفعها إلى صاحب وديعة، فالقاضي يقضي بالدار للذي حضر وطريقه ما قلنا. قال: عبد في يدي رجل أقام بينة أنه عبد فلان أودعه إياه، فالقاضي يقضي بعتق العبد ولا تندفع الخصومة عن صاحب اليد بما أقام من البينة إما لأن صاحب اليد انتصب خصماً للعبد بدعوى الفعل عليه وهو الإعتاق، وفي مثل هذا لا تندفع الخصومة عن صاحب اليد، بأقامة البينة على الإيداع من الغير. أو لأن بينة المدعي أثبت إعتاق صاحب اليد، وإعتاقه ينقض دعواه أنه عبد فلان أودعه إياه، ثم يقضي القاضي بالملك لصاحب اليد حتى يقضي عليه بالعتق، وإن كان هو يجحد الملك لنفسه؛ لأن العبد يدعي العتق من جهة ذي اليد ولا يتمكن من إثبات العتق من جهة ذي اليد؛ إلا بإثبات الملك لذي اليد، فكان للعبد إثبات الملك في رقبته لذي اليد، وإن كان ذو اليد منكراً، ثم إذا قضى القاضي بعتق العبد لو حضر الغائب وأقام البينة على أنها داره، قبلنا بينته وقضينا بالدار له، والفرق من وجهين: أحدهما: أن البينة حجة شرعية فيجب العمل بها ما لم يضمن ذلك إبطال بينة اتصل بها قضاء القاضي، لأن البينة التي اتصل بها قضاء القاضي صارت حجة كاملة ليرجح جهة الصدق فيها على جهة الكذب، فلا يجوز إبطالها. إذا ثبت هذا، فنقول في مسألة العتق: لو قضينا للغائب ببينته تبطل البينة التي أقامها العبد على العتق ضرورة؛ لأن العتق لم يبق محلاً لحدوث الملك فيه، فلو قضينا بالملك للغائب لظهر أن العتق لم يكن، فيظهر بطلان تلك البينة ضرورة، وقد اتصل بها القضاء فلا يجوز إبطالها، هذا المعنى في الملك المطلق، فإنا لو قضينا ببينة الغائب لا يظهر بطلان تلك البينة إذ لا يظهر أن الملك لم يكن ثابتاً للمدعي، ولعل كان الملك للمدعي، ثم صار للغائب وقت إقامة البينة، فلهذا افترقا. والثاني من الفرق: أن القضاء بالعتق على ذي اليد قضاء على الناس كافة، وبيان ذلك من وجوه:

أحدها: أن العبد بالعتق يستحق رق نفسه؛ والرق واحد في حق الناس أجمع؛ لأنه محل الملك، وإنما يختلف حكماً باختلاف سببه، وسبب الرق لا يختلف بل هو شيء واحد وهو الشيء الأول والولادة من رقيقه. ألا ترى أن الحكم المتعلق بالملك يبطل بتحديد سبب الملك كالرد بالعيب، فإنه إذا باع المشتري ثم اشتراه لا يرد على البائع الأول بعيب كان في يده، والحكم المتعلق بالرق يعود. ألا ترى لو حلف بعتق عبده ثم باعه ثم اشتراه، ثم حنث؛ عتق العبد، وإذا كان واحداً وقضي به للمدعي يتناول قضاء الناس أجمع لأنه واحد، فلا يتصور مقضياً به للمدعي في حقه غير مقضي به في حق غيره مع كون الحجة حجة في حق الناس أجمع، والملك إذا اختلف جاز أن يقضي للمدعي بما كان لزيد، ويبقى فيه ما كان لعمرو غير مقضي به. والثاني: القضاء بالعتق قضاء بسقوط مالية المحل؛ وهذا لا يتصور أن يكون ثابتاً في حق زيد دون عمرو، وكان قضاءً على الكل، وأما القضاء بالملك المطلق على ذي اليد قضاء بعدم الملك لذي اليد، وليس من ضرورة عدم الملك لذي اليد أن لا يكون ثابتاً لغيره. والثالث: العتق، تعلق به أحكام متعدية إلى الناس كافة من أهلية الشهادة، وثبوت الولايات وغير ذلك فانتصب ذو اليد (213ب4) خصماً عن الناس كافة، فصار الغائب مقضياً عليه والإنسان متى صار مقضياً عليه في حادثة؛ لا يتصور أن يصير مقضياً له في تلك الحادثة، أما الملك المطلق لم تتعلق به أحكام متعدية إلى الناس كافة فلم يكن القضاء به على ذي اليد قضاء على الناس كافة فبقي الغائب على دعواه. والرابع: في دعوى العتق حق الله تعالى؛ لأن حق الله تعالى يزداد بسبب العتق من إقامة الجمعة والأعياد والحدود، والزكاة والحج، ولهذا لا يجوز استرقاق الحر برضاه؛ لأن فيه حق الله تعالى وجمع الناس، كالنائبين عن الله تعالى في إثبات حقوقه من حيث إنهم عبيده. كالورثة نائبين عن الميت في إثبات الحقوق له عليه من حيث إنهم خلفاؤه، ثم بعض الورثة ينتصب خصماً عن الباقين فيما يدعي على الميت وله، فكذا هاهنا وجب أن يكون كذلك، فبهذا الاعتبار ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، ويصير الغائب مقضياً عليه بالقضاء على الحاضر، إلا أن في دعوى العتق دعوى إزالة الملك عن العبد، والملك في العبد من حق العبد، وبعض الناس لا ينتصبون عن الباقين في إثبات حقوقهم إلا بالتوكيل، أو بأن يدعي على الغائب ما يكون سبباً لثبوت ما يدعي على الحاضر، ولا يؤخذ هاهنا واحد منهما، فلا ينتصب ذو اليد خصماً عن الغائب، فلا يصير الغائب مقضياً عليه بهذا الاعتبار، فإذاً الغائب بأحد الاعتبارين صار مقضياً عليه، وباعتبار الآخر لم

يصر مقضياً عليه، ولا يمكن أن يجعل مقضياً عليه، وغير مقضي عليه لما بينهما من التنافي فلا بد من ترجيح أحدهما، فنقول: ترجيح حق الله تعالى أولى لوجهين: أحدهما: أن في مراعاة حق الله تعالى حق العبد، وهو صيرورته أهلاً للملك والشهادة، وفي مراعاة جانب الملك مراعاة حق واحد وهو حق مولى العبد. والثاني: أنه اجتمع هاهنا ما يوجب الحرية، وما يوجب الرق، فترجح ما يوجب الحرية، كما لو اجتمعت هاتان البينتان في الابتداء، أما دعوى الملك المطلق فليس دعوى فيه حق الله بل هو دعوى حق العبد، وفي حقوق العباد لا ينتصب البعض خصماً عن البعض إلا بالطريق الذي قلنا، ولم يوجد ذلك هاهنا، فاقتصر القضاء على ذي اليد، ولم يصر الغائب مقضياً عليه. واستشهد محمد رحمه الله في «الكتاب» : لإيضاح ما قلنا فقال: ألا ترى لو أن رجلاً ادعى عبداً في يدي رجل أنه عبده، وأقام البينة على ذلك وقضى القاضي بعتقه ثم جاء آخر وأقام بينة أنه عبده لم يقض ببينته؛ لأن في الفصل الأول (و) الثاني لم يصر مقضياً عليه ببينة الأول، وفي الفصل الثاني: صار مقضياً عليه ببينة الأول على ما ذكرنا. قال: عبد في يدي رجل جاء رجل، وأقام بينة أنه عبده اشتراه من ذي اليد بألف درهم ونقد الثمن، وأقام صاحب اليد بينة أنه وديعة عنده من جهة فلان؛ لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، لأن ذا اليد انتصب خصماً للمدعي بدعوى فعل عليه وهو البيع، فصار كما لو انتصب خصماً له بدعوى الغصب عليه. فقد وضع محمد رحمه الله: هذه المسألة فما إذا ذكر المدعي في دعواه نقد الثمن، ولم يذكر قبض المبيع لا في دعوى المدعي ولا في شهادة شهود المدعي، ولا شك أن في هذه الصورة لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، لأن المدعي ادعى عليه قولاً وهو الشراء، وهو باقٍ حكماً لبقاء حكمه، وهو وجوب تسليم المبيع إلى المشتري، فيبقى دعوى الفعل معتبراً، وذو اليد متى انتصب خصماً بدعوى الفعل عليه لا يدفع الخصومة عنه بإقامة البينة على الإيداع من الغائب. يوضحه: أن المدعي يدعي عليه وجوب التسليم وهو فعل في ذمته، والأفعال الواجبة في الذمة لا يتصور تحويلها إلى غيره، فلا يقدر على تحويل هذه الخصومة إلى غيره، فأما إذا ادعى الشراء والقبض منه، وقد شهد الشهود بالشراء والقبض من ذي اليد، والباقي بحاله هل تندقع الخصومة عن ذي اليد؟ لم يذكر محمد هذا الفصل في مسألة العبد. وقد اختلف المشايخ فيه، حكى القاضي الإمام أبو الهيثم عن القضاة الثلاثة: أبي حازم، وأبي سعيد اليزدي، وأبي طاهر الدباس رحمهم الله؛ أن الخصومة تندفع عن ذي اليد. وغيرهم من مشايخنا قالوا: لا تندفع. وقد وضع محمد رحمه الله هذه المسألة في الدار في باب ما يكون الرجل فيه خصماً، وما يندفع عن نفسه، ونص في هذا الفصل على أنه تندفع الخصومة عن ذي اليد

كما هو مذهب القضاة الثلاثة.g ووجه قول القضاة: أن دعوى الشراء مع القبض دعوى الملك المطلق، إلا أن يرى أن إعلامه ليس بشرط لصحة البينة، حتى إن من قال لغيره: بعت منك عبداً بألف درهم وسلمته إليك، وأقام البينة على ذلك قبلت بينته، وإن كان العبد مجهولاً لأنه أقام البينة على البيع والتسليم؛ فكان دعوى الثمن لا غير، وهذا لأن الشراء ينتهي بالقبض، وبعد انتهائه لا يبقى حتى يكون دعوى العقد فثبت أنه دعوى مطلق الملك وهذه الدعوى تندفع عن صاحب اليد بإحالة اليد إلى غيره، وجه قول غيرهم من المشايخ من وجهين: أحدهما: وهو الفعل المذكور، وهو الشراء بقي معتبراً، ولم يصر كدعوى ملك مطلق، ولهذا لا يقضي القاضي للمدعي بالزوائد المنفصلة، ولا يرجع الباعة بعضهم على البعض، ولو جعل بمنزلة دعوى الملك المطلق لكان الأمر بخلافه. الوجه الثاني: أن المدعي ببينته أثبت الشراء من صاحب اليد، وبيع صاحب اليد العبد من المدعي إقرار أن العبد مملوك له، فإن البيع قد صح، وإن العبد صار ملكاً للمشتري فيصير متناقضاً في دعوى الإيداع من الغائب، فإذا صار متناقضاً لا يسمع دعواه الإيداع، ولا يعتبر بالبينة بدون الدعوى فصار وجودها والعدم بمنزلة. ولو انعدمت البينة على الإيداع أليس أنه لا تندفع الخصومة عن ذي اليد؟ كذا هاهنا، ثم إذا لم تندفع الخصومة عن صاحب اليد في هذه المسألة على ما هو موضوع محمد، وهو ما إذا ذكر المدعي نقد الثمن ولم يذكر قبض البيع، ولم يشهد الشهود بقبض البيع أيضاً، ووجب القضاء بالعبد لمدعي الشراء، فقبل أن يقضي القاضي لمدعي الشراء بالعبد حضر المقر له، وصدق ذا اليد فيما أقر له به، فإن القاضي يأمر ذا اليد بدفع العبد إلى المقر له، ثم يقضي بالعبد لمدعي الشراء على المقر له، ولا يكلف مدعي الشراء إعادة البينة على المقر له، إنما يؤمر صاحب اليد بدفع العبد إلى المقر له؛ لأن الإقرار من صاحب اليد يكون العبد ملكاً للمقر له وحده في حال العبد ملكه ظاهراً بحكم يده، فاعتبر إقراره في حق نفسه فأمر بتسليم العبد إلى المقر له. وأما لا يكلف مدعي الشراء إعادة البينة على المقر له؛ لأن بينته قد صحت ظاهراً، يكون صاحب اليد خصماً له من حيث الظاهر، واستحق هو القضاء بهذه البينة، فصاحب اليد بإقراره يريد إبطال البينة القائمة عليه، ويريد إبطال استحقاقه القضاء بهذه البينة، فلا يقدر عليه، واعتبر إقرار صاحب اليد في حق نفسه دون المدعي، وصار الغائب عند حضرته بمنزلة الوكيل بالخصومة عن ذي اليد، وهذا لأن صاحب اليد لما أقرَّ بالملك للغائب، والخصومة أبداً تكون إلى المالك، فقد فرض الخصومة إليه. وصار حاصل مسألتنا في حق المدعي كان المدعي أقام البينة على ذي اليد فقبل أن يزكي شهوده، وقضي له بالعبد، وكَّل ذو اليد رجلاً بخصومة المدعي، ودفع العبد إليه، وهناك إذا زكيت الشهود يقضى بالعبد للمدعي، ولا يكلف المدعي إعادة البينة، كذا هاهنا.

ويكون المقضي عليه في هذه الصورة صاحب اليد دون المقر له، لأن المقر له بمنزلة الوكيل عنه، ولأجل هذا المعنى ظن بعض مشايخنا أن ما ذكر من الجواب في «الكتاب» قولهما؛ لا قول أبي حنيفة، لأنهما يريان جواز التوكيل، ولزومه من غير خصم، وأبو حنيفة لا يرى ذلك قصداً، والتوكيل هاهنا لا يثبت قصداً، وإنما يثبت حكماً للإقرار بالملك، وكم من شيء ثبت حكماً، ولا يثبت قصداً، فلهذا قضى القاضي للمدعي على صاحب اليد من غير إعادة البينة (214أ4) فإن قال المدعي: أنا أعيد البينة على المقر له كان له ذلك، وكان المقضي عليه في هذه الحالة المقر له لا ذا اليد. بخلاف ما إذا قال المدعي: لا أعيد البينة، فإن المقضي عليه في هذه الصورة ذو اليد المقر لهز والفرق: أن المدعي إذا لم يرضَ بإعادة البينة لم ينفذ إقرار ذي اليد في حق المدعي كي لا يلزم إعادة البينة فكان وجود إقراره كعدمه، ولو عدم منه البينة كان المقضي عليه ذو اليد؛ لأن البينة قامت عليه، وهو لم يكن وكيلاً عن المقر له، فأما إذا قال: أنا أعيد البينة، فقد رضي ببطلان ما أقام على ذي اليد من البينة، فنفذ إقرار ذي اليد على المدعي، وثبت الملك للمقر له في حق المدعي، وصار المقضي عليه في هذه الحالة المقر له لا صاحب اليد. فلو أن القاضي لم يقضِ بالعبد للمدعي على الذي حضر حتى أقام الذي حضر بينة على المدعي أن العبد عبده كان أودعه من صاحب اليد أو أقام البينة أن العبد عبده، ولم يقم البينة على الإيداع قبلنا بينته وقضينا بالعبد له وأبطلنا بينة مدعي الشراء؛ لأن الذي حضر أثبت بينته أن مدعي الشراء أقام البينة على غير الخصم. فإن قيل: ينبغي أن لا تقبل بينة الذي حضر على مدعي الشراء؛ لأن العبد في يد الذي حضر، وذو اليد إذا أقام بينة على أن ما في يده ملكه لا تقبل بينته لاستغنائه عن إقامة البينة يكون الملك ثابتاً له بظاهر اليد. قلنا: بينة الذي حضر عندنا لا تقبل لإثبات الملك لنفسه وإنما تقبل بإبطال بينة مدعي الشراء؛ لأن الذي حضر بينته يثبت أن المدعي أقام البينة على غير الخصم، وبينة ذي اليد على مقبولة كما لو أقام المدعي بينة بعد ذلك على إقرار المقر له؛ قبلت بينته، ويقضى بالعبد لأنه خارج، والمقر له ذو اليد والخارج مع ذي اليد؛ إذا أقاما البينة والخارج يدعي الشراء من خارج آخر تقبل بينة الخارج، ويقضى له على ذي اليد كذا هاهنا هذا إذا أقام المقر له بينة قبل القضاء للمدعي. فأما إذا أقام بينته بعد القضاء للمدعي لكن بالبينة التي قامت على صاحب اليد بأن لم يعد المدعي بينته على صاحب اليد قبلت بينته أيضاً، ويقضى له بالعبد على المدعي؛ لأن المقر له لم يصر مقضياً عليه، إنما المقضي عليه ذو اليد على ما مرَّ، فقبلت بينته. فإن قال مدعي الشراء: أنا أقيم البينة على المقر له أن العبد كان لصاحب اليد، وإني اشتريته منه، فهذا على وجهين: إما إن أعاد البينة بعد ما قضى القاضي للذي حضر

ببينته أو قبل ذلك، فإذا أعاد بعد القضاء لا تقبل بينته؛ لأن المدعي صار مقضياً عليه من جهة الذي حضر ببينة أقامها عليه وبينة المقضي عليه فيما صار مقضياً عليه لا تقبل، وإن أعاد قبل القضاء قبلت ببينته، وقضي بالعبد له لأنه لم يصر مقضياً عليه فينبغي أن تقبل بينته. فإن قيل: كيف تقبل بينة المدعي في هذه الصورة؟ وإن الملك قد ثبت له بقضاء القاضي فكان مقيماً البينة على إثبات ما هو ثابت. قلنا: إنما قبلت بينته ليصير المقر له مقضياً عليه بهذه البينة، فلا تقبل بينة المقر له بعد ذلك على هذا المدعي لا لإثبات الملك له مقصوداً بالبينة، ألا ترى أنه إذا أعاد البينة على المقر له قبلت، وإن لم يكن المدعي محتاجاً إلى البينة لإثبات الملك إنما قلت: ليصير المقر له مقضياً عليه، فلا يقبل بينته بعد ذلك على المدعي كذا هاهنا، ثم إن محمداً رحمه الله قال في الفصل الأول، وهو ما إذا لم يقض القاضي بالعبد للمدعي على الذي حضر حتى أقام الذي حضر بينة أن العبد عبده كان أودعه من صاحب اليد قبلنا بينته؛ وقضينا بالعبد له، وأبطلنا بينة مدعي الشراء. حكي عن الفقيه محمد بن حامد أنه كان يقول: ينبغي أن يقضى بالعبد بين الذي حضر وبين مدعي الشراء نصفان. ووجه ذلك: أن اليد التي للذي حضر في العبد غير معتبرة، ألا ترى أن بينته قبلت على مدعي الشراء؟. ولو كانت يده معتبرة لما قبلت بينته لأن بينة ذي اليد على دعوى الملك المرسل لا تقبل خصوصاً إذا كان ثمة بينة يعارضها أو نقول بعبارة أخرى: العبد وإن كان في يد الذي حضر حقيقة، فهو في يد صاحب اليد الأول حكماً. ألا ترى أن المدعي لا يكلف إعادة البينة على الذي حضر، ولولا أنه جعل في الحكم كان في يد المقر، وألا يكلف إعادة البينة، فثبت بأن العبد إذا كان في يد الذي حضر حقيقة، فهو في يد صاحب اليد الأول حكماً، وإذا كان هكذا كان الذي حضر خارجاً في العبد كمدعي الشراء، وقد أقام كل واحد منهما البينة على أن العبد له، فينبغي أن يقضي بينهما نصفان. وقال الفقيه محمد بن حامد: هذا بلغني أن ابن سماعة كتب بهذا إلى محمد بن الحسن، واحتج عليه بمسألة يأتي ذكرها بعد هذا إن شاء الله، وكتب في الجواب: إن الصحيح أن يقضي بالعبد بينهما نصفان. حكي عن الشيخ الإمام أبي نصر الصفار أنه كان يقول: إن شيخنا أبا الهيثم ما كان يحكي لنا الطعن لكلام ابن سماعة في هذه المسألة، وإنما يحكي مما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، وكان يقول ما ينبغي أن يكون في هذه المسألة طعن؛ لأن أكثر ما في الباب إنما يجعل الذي حضر خارجاً حكماً، والمدعي خارج حقيقة مع هذا القضاء ببينة الذي حضر أولى، ويجوز أن يترجح أحد الخارجين على الآخر على ما عرف. وبيان وجه الترجيح هاهنا: أن مدعي الشراء يدعي الاستحقاق من جهة صاحب اليد

الأول، والذي حضر يدعي الاستحقاق على صاحب اليد الأول، ولهذا يثبت الترجيح لبينة الذي حضر؛ لأن الذي يدعي الاستحقاق على صاحب اليد يثبت بطلان تصرف صاحب اليد، وبيعه من المدعي، فبينته تثبت زيادة على بينة المدعي. ونظيره ما قالوا: في عبد في يدي رجل، جاء رجل وأقام بينة أنه عبده ورثه من أبيه كانت بينة مدعي الشراء أولى؛ لأنه يدعي الاستحقاق على العبد، وهذا يدعي الاستحقاق من جهة الأب كذا هنا. قال: فإن كان مدعي الشراء أقام شاهداً واحداً على الشراء من ذي اليد فأقر صاحب اليد أن العبد الغائب أودعنيه، وقبل أن يقيم شاهداً آخر حضر فلان وصدق صاحب اليد فيما أقر، وأمر بتسليم العبد إلى الذي حضر على ما مر، ثم إن المدعي أقام شاهداً آخر على الشراء قضى بالعبد له، ولا يكلف إعادة الشاهد الأول على الذي حضر، لأن إقامة الشاهد الأول على ذي اليد صح من حيث الظاهر، واستحق المدعي القضاء بشهادته عند انضمام شاهد آخر إليه، فلا يبطل هذا الاستحقاق بإقرار ذي اليد للمقر له ويكون المقضي عليه صاحب اليد لا الذي حضر؛ لأن الشاهد الثاني منضم إلى الشاهد الأول، أما الشاهد الأول غير منضم إلى الشاهد الثاني. بيانه: أن الشاهد الأول قام على من هو خصم من حيث الظاهر؛ وهو صاحب اليد، والشاهد الثاني قام على الذي حضر وأمكن أن يجعل الذي حضر مانعاً لصاحب اليد؛ لأن صاحب اليد وصي بتفويض الخصومة إليه فيمكن القضاء حينئذٍ، فضممنا الشاهد الثاني إلى الشاهد الأول. وجعلنا الشاهد القائم على الذي حضر كالقائم على صاحب اليد، وجعلنا الذي حضر كالوكيل عن صاحب اليد، أما لو ضممنا الشاهد إلى الشاهد الثاني لا يمكن القضاء؛ لأن الذي حضر لم يرض بخصومة صاحب اليد، فلم يكن أن يجعل صاحب اليد بيعاً للذي حضر، فلهذا ضممنا الشاهد الثاني إلى الشاهد الأول، وإذا جعلنا كذلك صار كأن المدعي أقام الشاهدين على صاحب اليد، وهناك المقضي عليه صاحب اليد الذي حضر كذا هاهنا. وما يقول محمد في «الكتاب» : إنه يقضى بشهادة الشاهدين على رب العبد أراد به القضاء في حق الأخذ، والانتزاع من يديه لا في حق الملك بدليل أنه ذكر بعد هذا أن الذي حضر (214ب4) وهو المقر له لو أقام البينة أن العبد عبده؛ قبلت بينته، ولو صار مقضياً عليه لما قبلت بينته، ولو أن مدعي الشراء لم يقم على صاحب اليد على الشراء لا شاهدين ولا شاهداً واحداً حتى أقر صاحب اليد أن هذا عبد فلان أودعنيه، ثم حضر المقر له وصدق صاحب اليد فيما قال، ودفع العبد إليه، ثم أقام المدعي شهوداً على المقر له أن هذا العبد كان لصاحب اليد، وإني اشتريته منه، وقضى القاضي بذلك لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في «الكتاب» . قيل: وينبغي أن يكون المقضي عليه في هذه الصورة المقر له؛ لأن إقرار صاحب اليد قبل إقامة المدعي البينة أصلاً صحيح في حق المدعي؛ إذ ليس فيه إضرار بالمدعي،

فصح فصار الثابت بالإقرار كالثابت بالبينة، ولو ثبت بالبينة أن العبد للمقر له، وقضى القاضي له بالعبد. ثم أقام مدعي الشراء بينة أن العبد كان لصاحب اليد، وأنه اشتراه منه، وقضى القاضي لمدعي الشراء كان المقضي عليه المقر له دون ذي اليد؛ كذا هاهنا. بخلاف الفصل الأول والثاني؛ لأن ثمة إقرار ذي اليد لم يصح في حق المدعي أصلاً، لأنه لو صح بطل ما أقام المدعي من البينة، فيتضرر به المدعي بإعادة البينة، أما هاهنا فبخلافه. قال محمد رحمه الله: في دار في يدي رجل فأقام رجل البينة أنها داره اشتراها من ذي اليد، ونقده الثمن، وقبض الدار، وأقام الذي في يديه بينة أنها دار فلان أودعنيها، فلا خصومة بينهما وهي المسألة التي تشهد للقضاة الثلاثة في مسألة العبد، ولو لم يشهد شهود المدعي على قبض المبيع، وباقي المسألة بحالها، لم تندفع الخصومة عن ذي اليد، ويقضي القاضي بالبيع عليه، ويأمره بتسليمها إلى المدعي. قال: ولو ادعى الشراء على صاحب اليد، الشراء، والقبض وصدقه صاحب اليد في ذلك، ثم ادعى صاحب اليد أنها وديعة لفلان وأقام البينة، فلا خصومة بينهما؛ لأن الثابت بتصادقهما كالثابت بالبينة، ولو ثبت الشراء والقبض بالبينة، وباقي المسألة بحالها قد ذكرنا أنه لا خصومة بينهما، فكذا إذا ثبت بالتصادق. ولو ادعى المشتري على صاحب اليد الشراء بدون القبض، وصدقه صاحب اليد في ذلك، ثم أقام صاحب اليد بينته على أنها وديعة عنده من جهة فلان، لا تندفع عنه الخصومة لأنه لو ثبت الشراء بدون القبض بالبينة، وباقي المسألة بحالها؛ لا تندفع الخصومة عن صاحب اليد؛ فكذا إذا ثبت بالتصادق. يوضح الفرق بينهما: أن تصديق صاحب اليد المدعي في الشراء والقبض لا يناقض دعواه الإيداع من الغائب لجواز أنه اشتراها من صاحب اليد، ثم أجرها من الغائب أو رهنها منه، أو باعها منه، ثم إن الغائب أودعها من صاحب اليد، وإذا لم يوجب ذلك تناقضاً في دعواه الإيداع من الغائب لا يمنع ذلك سماع دعوى الإيداع من الغائب. أما تصديق صاحب اليد المدعي في الشراء بدون القبض يناقض دعواه الإيداع من الغائب؛ لأن المشتري لا يملك التصرف في الميراث قبل البيع، فبعد البيع منه قبل التسليم لا يتصور الإيداع من الغائب، فيكون هو متناقضاً في هذه الدعوى، فلا تسمع دعواه؛ حكي هذا الفرق عن القاضي الإمام أبي عاصم العامري. لكن هذا الفرق إنما يستقيم على قول محمد رحمه الله، لأن وضع المسألة في الدار، والتصرف في العقار قبل القبض إنما لا يجوز على قول محمد، أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ التصرف في العقار قبل القبض جائز، فلا يستقيم هذا الفرق على قولهما. وإذا ادعى داراً في يدي رجل أن صاحب اليد وهبها منه أو أجرها منه، أو رهنها منه، أو تصدق بها عليه، وأنه قبضها منه؛ وأقام ذو اليد البينة أنها دار فلان أودعها إياه،

فإنه لا تندفع عنه الخصومة؛ هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» . روى الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار؛ في «شرح الجامع» : عن القاضي أبي الهيثم عن القضاة الثلاثة أن ما ذكر في «الكتاب» : أنه لا تندفع الخصومة عن ذي اليد قول محمد في الرهن والإجارة، فأما في الهبة والصدقة ينبغي أن تندفع الخصومة عن ذي اليد؛ لأن في الرهن والإجارة ادعى عليه فعلاً، ولم يقع الفراغ عن أحكامها، فإن من حكمها إدامة القبض، وأنه لو عاد إلى يد الراهن أو الآجر يسقط حكم الرهن والإجارة، فبقي دعوى الفعل معتبراً. فأما في الهبة والصدقة: وقع الفراغ من حكمها لأن شرط صحتها أصل القبض لا إدامة القبض، فإنها لو عادت إلى يد الواهب المتصدق لا يبطل حكم الهبة والصدقة فسقط اعتبار دعوى الفعل، ومن المشايخ من قال: ما ذكر جواب الكل، وهو الظاهر، فإن محمداً رحمه الله جمع بين الكل وذكر عقيبها جواباً، والظاهر أنه أراد به جواب الكل. ووجه ذلك: أن ذا اليد انتصب خصماً للمدعي بدعوى الفعل عليه، ولم يسقط اعتبار دعوى الفعل إليه، وإن استوفى أحكامه ولم يصر بمنزلة دعوى ملك مطلق بدليل أنه لا يقضي للمدعي بالزوائد المنفصلة، ولا يرجع الباعة بعضهم على بعض، فبقي دعوى الفعل معتبراً، ولا تندفع الخصومة عن صاحب اليد بإثبات الإيداع من الغائب. القسم الثاني من هذا النوع أن يدعي المدعي الفعل على صاحب اليد صورته: ادعى عيناً في يدي رجل أنه له غصبه منه فلان، والجواب فيه كالجواب فيما إذا لم يدع الفعل أصلاً، هكذا ذكر في شرح «الجامع» . وذكر محمد في كتاب «العلل» : إذا ادعى ثوباً في يدي رجل أنه ثوبه سرقه من فلان الغائب؛ لا تندفع الخصومة عن ذي اليد ويقضى بالثوب للمدعي، وهذا استحسان. والقياس: أن يندفع كما لو قال: هذا ثوبي، غصبه مني فلان، وأقام صاحب اليد بينة على أنه وديعة عنده من جهة فلان الغائب. وجه الاستحسان: أنا لو دفعنا الخصومة عن صاحب اليد بهذا يصير ذلك سبباً لوجوب الحد على الغائب، لأن المدعي ببينته، وثبت السرقه عليه، ويقضى عليه بالقطع لأنه ظهر سرقه قبل أن وصل العين إلى المالك، فأما إذا لم تندفع الخصومة عن ذي اليد وقضينا بالثوب للمدعي، لا يجب القطع على الغائب بعد ذلك؛ وإن ظهر سرقته، لأنه إنما يظهر سرقته بعدما وصل العين إلى المالك، ويحتال لدرء الحد ما أمكن، فلم تدفع الخصومة عن ذي اليد بهذه الصورة احتيالاً لدرء الحد، خرج عن هذا مسألة الغصب، لأن هناك لو دفعت الخصومة عن ذي اليد إذا أثبت المدعي بعد ذلك على الغائب؛ لا يلزم الغائب حد. وفي «الكتاب» علل أيضاً: رجل ادعى ثوباً في يدي رجل أنه ثوبه غصبه منه فلان

الغائب وأقام على ذلك بينة، وقال صاحب اليد: فلان ذلك أودعنيه فلا خصومة بينهما، وإن لم يقم صاحب اليد بينة على الإيداع. وفي «الجامع» من هذا الجنس في: رجل ادعى دابة في يدي رجل، وقال في دعواه: هذه الدابة كانت دابة فلان، وقد اشتريتها منه، وقال ذو اليد: فلان ذلك أودعنيها، فلا خصومة بينهما، ولو لم يقم ذو اليد بينة على دعواه لأنهما تصادقا على أن يده يد غيره المدعى عليه يدعي ذلك صريحاً، والمدعي يدعي ذلك في ضمن دعوى الشراء منه، لأن الشراء لا يصح إلا من صاحب اليد، فدعواه الشراء من الغائب إقرار منه باليد للغائب، والآن يراها في يد صاحب اليد، فالظاهر وصولها إلى ذي اليد من جهة فلان، فعلم أن كون هذا اليد يد غيره ثبت بتصادقهما؛ فاستغنى عن إثباته بالبينة. عبد في يدي رجل أقام بينة على ذي اليد أنه عبد فلان، وأن فلاناً أعتقه، وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة أن فلاناً ذلك أودعه إياه، فالقاضي لا يقضي بعتق العبد، لأن العبد مع صاحب اليد تصادقا على أنه ملك فلان، وأن بينة العبد على العتق غير مقبولة عليه، لأنه بينة على العتق قامت على غير خصم، لأن صاحب اليد ليس بخصم عن الغائب في دعوى العتق عليه، فصار وجود هذه البينة، والعدم بمنزلة، ولكن القاضي يقف العبد ويحول بينه (215أ4) وبين صاحب اليد، وهذا استحسان. والقياس: أن لا يحول؛ وجه القياس في ذلك: بأن العبد قد أقر على نفسه بالرق، فإنه أقر أنه كان لفلان، فلو وجبت الحيلولة؛ إنما وجبت إذا ثبت العتق بهذه البينة، ولم يثت على ما ذكرنا وجه الاستحسان؛ أن في هذه البينة سببين: أحدهما: العتق وذو اليد ليس بخصم فيه، والآخر: قصر يد صاحب اليد فهو خصم في ذلك، وأحدها منفصل عن الآخر لجواز أن يكون عبداً ولا يكون لصاحب اليد حق إمساكه، فيقبل البينة فيما هو خصم فيه؛ وهو قصر يده، وإن كان لا يقبل فيما ليس بخصم فيه وهو العتق. ونظير هذا ما لو وكل رجلاً بنقل امرأته إلى موضع، فأقامت المرأة البينة أنه طلقها، والموكل غائب، فإنه تقبل هذه البينة في حق قصر يد الوكيل على نقلها للمعنى الذي ذكرنا؛ كذا هاهنا، فلم يجعل دعوى العين في هذه المسألة دعوى على ذي اليد، وفي المسألة المتقدمة جعل القضاء بالعتق على ذي اليد قضاءً على الغائب، وجعل ذا اليد خصماً عن الغائب في الإنكار. والفرق: أن في دعوى العتق على الغائب أمكن مراعاة الحقين من غير إبطال الحرية للعبد بأن يقصر يد ذي اليد عن العبد باعتبار حق الله تعالى، حتى لا يستعمل ذو اليد حراً على كره منه، فلا يقضي بالعتق باعتبار ما للمولى في العبد من الحق، وهو الملك حتى يحضر الغائب، وليس في مراعاة الخصمين إبطال حق العبد في الحرية، بل فيه تأخير إلى أن يحضر الغائب، فيقيم البينة عليه، فيقضي له بالعتق.k فأما في دعوى العتق على ذي اليد متى راعينا جانب الملك، ولم يجعل الغائب

مقضياً عليه، أولى إلى إبطال حق الله تعالى، وحق العبد في الحرية، فإنه يرد رقيقاً بعدما حكمنا بعتقه على ذي اليد بحيث لا يمكنه إثبات العتق بعد ذلك، فتعذر مراعاة الحقين ووجب مراعاة أحدهما، فكان مراعاة حق الله تعالى أولى، ثم في هذه المسألة إذا حال القاضي بين العبد وبين صاحب اليد؛ يستوثق من العبد بكفيل؛ لأن من الجائز أن العبد كان محتالاً في هذه الدعوى، وأنه قصد بهذا أن يزيل يد صاحب اليد عن نفسه؛ حتى يستوثق منه بكفيل صيانة لحق الغائب، وإذا حضر الغائب كلف القاضي العبد إعادة البينة؛ لأن البينة الأولى لم تكن معتبرة على ما مرَّ، فإن أعاد قضى بعتقه وإلا دفع إلى مولاه. وكذلك لو أقام بينة أنه عبد فلان لإنسان آخر دفعه إليه وديعة أو إجارة أو رهناً، لا يقضي القاضي بعتقه، وفي الحيلولة قياس واستحسان على ما مر، ولو زعم ذو اليد أنه عبد فلان الغائب أودعه إياه، وقال العبد: كنت عبداً له إلا أنه أعتقني، أو قال العبد: كنت عبداً لفلان الآخر أعتقني، لا يقبل قول العبد فرق بين هذا وبينما إذا قال: أنا حر الأصل حيث يقبل قوله في ذلك. والفرق: أن في دعوى الإعتاق أقر على نفسه بالملك والرق، وادعى زواله بالإعتاق، فلا يصدق إلا بحجة، وقوله: أنا حر الأصل إنكار ثبوت الملك والرق، واليد على نفسه، والقول قول المنكر في الشرع. ألا ترى أن فلاناً لو كان حاضراً، وادعى أن العبد ملكه، وقال العبد: أنا حر الأصل، فالقول قوله؛ لأن الأصل في الآدمي الحرية، فكان منكراً ثبوت الملك، واليد على نفسه، ولو قال: كنت عبداً له إلا أنه أعتقني لا يقبل قوله؛ لأنه ادعى زوال الملك بعدما أقر به؛ كذا هاهنا في قوله: أنا حر الأصل؛ ينبغي أن يكون القول قول ذي اليد؛ لأن العبد في يدي ذي اليد من حيث الحقيقة، وقول الإنسان فيما في يده مقبول. ألا ترى أنه لو كان في يده ثوب أو دابة يقبل قوله في أنه لفلان، وطريقه ما قلنا. قلنا: نعم، في يد ذي اليد حقيقة إلا أنا نعلم بيقين أن يده على العبد حادثة؛ لأن يد الملك على الآدمي تكون حادثة لا محالة، لأن الأصل في الآدمي الحرية، وإنها تنفي يد الغير، فيكون القول قول من كان اليد له في الأصل، لا قول من كان في يده في الحال. كثوب عرفناه في يدي رجل، ثم رأيناه في يدي رجل آخر، وتنازعا فيه كان القول قول من كان اليد في الأصل له، لا قول من له اليد في الحال، لأنا تيقنا بحدوث يده كذا هاهنا. ولو قال العبد: أنا حر الأصل وأقام الذي في يديه بينة أنه عبد فلان قضيت له، عبداً لفلان، ودفعته إلى الذي هو في يديه. فرق بين هذا وبينما إذا ادعى رجل هذا العبد ملكاً مطلقاً، وأقام ذو اليد البينة أنه عبد فلان، أودعه إياه، واندفعت الخصومة عن ذي اليد، فإنه لا يصير العبد مقضياً به للغائب حتى لو حضر، وأنكر أن يكون العبد له لا يلزمه العبد، وهاهنا لو حضر الغائب،

وأنكر أن يكون العبد له لزمه العبد. والفرق وهو: أن هناك العبد في يد ذي اليد حقيقة؛ لأنه مملوك مرقوق، محل لثبوت يد غيره عليه، ولو ثبت يد صاحب اليد عليه حقيقة فيمكنه حفظه، فلا حاجة إلى إثبات الملك للغائب في حق ذي اليد، ليمكنه الحفظ، وإنما حاجة ذي اليد إلى دفع الخصومة عن نفسه، ويمكنه ذلك بإثبات وصول العين إليه من جهة الغائب، فلا ضرورة إلى إثبات الملك للغائب. أما في مسألتنا: العبد بدعوى حرية الأصل صار في يد نفسه، وزال عنه يد ذي اليد، لما مر أن القول قوله، في أنه حر الأصل، وذو اليد محتاج إلى إعادة يده عليه، ليمكنه إقامة ما هو مأمور به وهو الحفظ، ولا يمكنه إعادة يده عليه إلا بعد إثبات الملك للغائب، فصار مأموراً من جهة الغائب بإثبات الملك له، لأن الآمر بالشيء أمر به، وبما لا بد له منه، فصار وكيلاً عن الغائب في إثبات الملك له بالبينة القائمة من ذي اليد، كالبينة القائمة من الغائب، أما في تلك المسألة فلا حاجة إلى إثبات الملك للغائب، فلم تكن البينة القائمة من ذي اليد كالبينة القائمة من الغائب، فيقضى بالملك للغائب هاهنا، ولم يقض به هناك لهذا. وفرق أيضاً: بين هذه المسألة وبينما إذا ادعى رجل هذا العبد بأنه له، وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة أنه عبد فلان أودعه، فالقاضي لا يقضي ببينة المدعي، ولم يجعل إقامة البينة على ذي اليد بالملك بمنزلة إقامة البينة على المالك، وفي هذه المسألة جعل إقامة البينة من ذي اليد على رق العبد بمنزلة إقامة البينة من المالك. والفرق وهو: أن المودع خصم فيما يستحق عليه، وإقامة البينة على رق العبد استحقاق لهف صح من المودع، وإقامة البينة من العبد استحقاق على المودع، فلا يصح على المودع. بيان هذا الكلام: أن المودع مأمور بالحفظ، فيملك ما يرجع إلى الحفظ، ولا يملك ما لا يرجع إلى الحفظ، والاستحقاق عليه ليس من الحفظ في شيء فلا يكون نائباً عنه في ذلك، فأما الاستحقاق له من الحفظ، فيكون نائباً عنه في ذلك. قال: ولو أقام ذو اليد بينة أن فلاناً أودعه إياه، ولم يشهدوا أنه لا يلتفت إلى هذه الشهادة حتى لا يعاد العبد إلى يده؛ لأن الثابت بهذه البينة مجرد الإيداع، والإنسان كما يودع ولده عند صديقه، وقد يطلب منه أن يحفظه فلم يثبت الرق في هذه الشهادة، فبقيت الحرية الثابتة بالظاهر. ولو أقام ذو اليد بينة أنه عبد فلان أودعه إياه، أو أجره، أو رهنه، وأقام العبد بينة أنه حر الأصل لم يملك قط؛ لا يقضى بعتق العبد، كما لو أقام العبد البينة على العتق العارض على الغائب على ما مرَّ، وفي الحيلولة قياس واستحسان كما بينا، فإذا حضر المقر له، فإن أعاد العبد البينة عليه أنه حر الأصل يقضى بكونه حر الأصل، وإن لم يعد بقي رقيقاً، ولا يكلف المقر له إعادة (215ب4) البينة أنه عبده لما مرَّ أن المودع خصم

عنه في إثبات الملك لحاجته إليه ليتهيأ له الحفظ، فكأنه أقام البينة لنفسه، فرق بين هذه المسألة وبينما إذا ادعى العبد على صاحب اليد أنه اعتقه، وقضى القاضي بعتق العبد، فإن هناك لا يقضي بكونه عبداً. والفرق: أن هناك قد قضينا بحرية العبد على صاحب العبد؛ لأن العبد ادعى العتق عليه، ولما قضينا بالعتق عليه كان هذا قضاء على الناس كافة، أما هاهنا لم يقض له بالعتق؛ لأنه لا يدعي، ولكنه يدعي كونه حر الأصل، وذو اليد ليس بخصم في هذا؛ فلا يقضي ببينته، وإذا لم يقض بحريته هاهنا قبل دعوى الذي من الغائب. قال محمد: رجل في يديه دار؛ أقام رجل بينة أنها داره، اشتراها من عبد الله بألف درهم ونقد الثمن، وقال ذو اليد: أودعنيها عبد الله الذي يدعي الشراء منه، فإنه لا خصومة بينهما حتى يحضر عبد الله، ولا يكلف الذي في يديه بينة على ما ادعى لأن المدعي أقر بالملك لعبد الله، وادعى الاستحقاق عليه بألف، والدعوى لا تسمع إلا بخصم، وذو اليد ليس بخصم له في ذلك. يوضحه: أن المدعي يدعي تلقي الملك من جهة عبد الله، وذو اليد ليس بخصم لعبد الله في هذا العين بعدما أقر به لعبد الله، ألا ترى أنه لو حضر عبد الله يؤمر بالتسليم إليه من غير بينة ولا يمين، وإذا لم يكن خصماً لعبد الله كيف يكون خصماً لمن يدعي تلقي الملك من جهته؟ ولأنه ثبت وصول الدار إلى يد ذي اليد من جهة عبد الله بتصادقهما على ذلك من حيث الظاهر، لأن المدعي لما ادعى الشراء من عبد الله، فقد أقر أنها كانت في يده، لأن الشراء لا يصح إلا من صاحب اليد. وذو اليد لما أقر بالإيداع من عبد الله فقد أقر له باليد أيضاً؛ لأن الإيداع من عبد الله لا يتصور إلا بعد أن يكون في يده، وإذا ثبتت اليد لعبد الله بتصادقهما ثبت تصادقهما على الوصول إلى يد ذي اليد من جهة عبد الله من حيث الظاهر، لأنا لا نعرف يداً ثالثة فيها تحيل وصولها إلى يد ذي اليد من يد ثالث، فتعين وصولها إلى يده من جهة عبد الله. فهو معنى قولنا: إنهما تصادقا على وصول هذا العين إلى يد ذي اليد من جهة عبد الله من حيث الظاهر، وهذا بخلاف ما لو قال ذو اليد: أودعنيها عمر وكيل عبد الله، حيث لا تندفع الخصومة ما لم يقم البينة عليه، لأنه لم يثبت وصول هذه الدار إلى يده من جهة عبد الله بوجه ما، لأن المدعي إن حصل مقراً من حيث الظاهر بوصول الدار إلى يده من جهة عبد الله لما ادعى الشراء منه، إلا أن صاحب اليد كذبه في ذلك وقال: ما وصل إليَّ من جهة عبد الله، ولم يثبت الوصول إلى يده من جهة عمرو بإقرار ذي اليد لإنكار المدعي ذلك؛ بخلاف ما نحن فيه على ما بينا. وإن قال المدعي للقاضي: حلف الذي في يديه الدار أن عبد الله أودعها إياه، كما قال فالقاضي يستحلفه بالله؛ لقد أودعك هذه الدار عبد الله، وفيه نوع إشكال أنه قبل قول الذي في يديه الدار من غير يمين.

والجواب: يجوز أن يحلف الإنسان..... أن القول فيه قوله، كالمودع إذا ادعى رد الوديعة كان المعنى فيه أنا إنما دفعنا الخصومة عن ذي اليد لوصول الدار إلى يده، من جهة عبد الله، أو من جهة وكيل عبد الله، فيصح منه دعوى وصول الدار إليه من جهة غاصب عبد الله، أو من جهة وكيله، وذو اليد لو أقر أنه وصل إلى يده من جهة غاصب غصبها من عبد الله كان خصماً للمدعي؛ إلا أن يقيم البينة على ذلك، فقد ادعى على ذي اليد معنىً، لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف فإن حلف فلا خصومة بينهما، وإن نكل جعله القاضي خصماً للمدعي. فإن قيل: ينبغي أن لا يحلفه القاضي؛ لأن التحليف يترتب على دعوى صحيحة، ودعوى المدعي أنها وصلت إلى صاحب اليد من جهة غير عبد الله بعد دعواه الشراء من عبد الله وقع فاسداً، لأنه بدعوى الشراء من عبد الله صار مقراً بوصولها إلى صاحب اليد من جهة عبد الله، فيصير بدعوى الوصول من جهة غيره متناقضاً، والمتناقض يمنع صحة الدعوى. وأما إقرار المدعي بوصول الدار من جهة عبد الله ثابت من حيث الظاهر مع احتمال الوصول من جهة غيره، فلا يصير بدعوى الوصول من جهة الغير بعد ذلك متناقضاً؛ لأنه ادعى ما هو المحيل، فيصح دعواه ويترتب عليه الاستحلاف، فلو أن القاضي حين استحلفه قال: ما أودعنيها عبد الله، ولكن قال: غصبتها من عبد الله، وحلف على ذلك جعله القاضي خصماً له؛ لأنه مناقض في الدعوى من حيث إنه ادعى الإيداع أولاً، ثم الغصب، لأن الإيداع غير الغصب والمتناقض لا يسمع كلامه، فيجعل كأنه لم يوجد منه دعوى الوديعة، ولا دعوى الغصب، ولو لم يوجد واحد منهما لكان القاضي يجعله خصماً، فكذا هاهنا. فإن قيل: كيف يجعله القاضي خصماً هاهنا، وقد وصل الدار إلى يده من جهة عبد الله بتصادقهما ظاهراً، لأن المدعي يدعي الشراء من عبد الله أقر بوصول الدار إليه من جهة عبد الله، إلا أنهما اختلفا في جهة الوصول، ولا يعتبر باختلاف الجهة بعد الاتفاق على الأصل. كما في باب الإقرار إذا قال الرجل: لفلان عليَّ ألف درهم من قرض، وقال المقر له: لا بل هو من غصب، فالقاضي يقضي على المقر بالألف؛ لأنهما اتفقا على أصل الدعوى واختلفا في الجهة، فكذلك هاهنا. قلنا في مسألة الإقرار: الكلامان حصلا من اثنين، فلا ينقض أحدهما الآخر؛ لأن الإنسان لا يملك نقض كلام غيره، إلا أن المقر أقر بوصول الألف إليه من جهة المقر له، فيكون القول قول المقر له أنه بأي جهة وصل، فلهذا لا يصير رداً لإقراره، وهاهنا الكلامان حصلا من واحد، والإنسان يملك نقض كلامه، وبين الكلامين مناقضة من حيث

الظاهر، فنقض كل واحد منهما صاحبه، ويجعل كأنه لم يوجد منه دعوى الوديعة ولا دعوي الغصب. ونظير هذه المسألة مسألة الوديعة، إذا قال المودع: هلكت الوديعة، ثم قال: لا بل رددتها كان ضامناً، وإن كان كل واحد من الأمرين، لو كان لا يكون ضامناً؛ لأنه لم يثبت واحد منهما لكونه متناقضاً، فكذا هاهنا لم يثبت كل واحد من الأمرين لمكان المناقضة وجعل كأنه سكت، ولم يدع واحد منهما. ثم إذا جعله القاضي خصماً للمدعي ببينته، ثم قدم عبد الله، وادعى أن الدار له كان أودع هذا الذي كانت في يده، وأراد أن يأخذها من المدعي حتى يعيد المدعى عليه البينة؛ لم يكن له ذلك لأن الشراء من عبد الله صار مقضياً به لما جعل القاضي صاحب اليد خصماً للمدعي، وقضى عليه ببطلان يده. ولو قال الذي في يديه الدار: أودعنيها عمرو وكيل عبد الله لا تندفع الخصومة عنه ما لم يقم البينة عليه، وقد ذكرنا وجه ذلك، فإن أقام ذو اليد بينة، فشهدوا أن عبد الله دفعها إلى عمرو، وقالوا: لا ندري دفعها عمرو إلى هذا الذي في يديه أم لا؛ فهو خصم للمدعي؛ لأن الدافع لخصومة المدعي عنه، دفع عمرو الدار إليه، لا دفع عبد الله إلى عمرو، ولم يثبت دفع عمرو بهذه البينة، فإن قال الذي في يديه الدار للقاضي: استحلف المدعي ما دفعها إلى عمرو، فالقاضي يحلف المدعي على ذلك؛ لأن الذي في يديه الدار ادعى عليه، يعني: لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول. ألا ترى أن في المسألة الأولى جعلنا الذي في يديه الدار بدعوى المدعي، وإنما جعلنا لأن المدعي ادعى عليه، يعني: لو أقر به يلزمه، فإذا أنكر استحلف رجاء النكول كذا هاهنا، إلا أن في المسألة الأولى استحلف الذي في يديه الدار على الثبات، وهذا يستحلف المدعي على العلم؛ لأن هاهنا المدعي يستحلف على فعل الغير من كل وجه؛ لأنه يستحلف على دفع عمرو الدار إلى ذي اليد، ولا فعل للمدعي في ذلك، وهناك يستحلف ذي اليد على الإيداع عبد الله الدار منه له اتصال به، وهذا القدر كافٍ لاستحلاف على الثبات كما لو ادعى أنه اشتراه منه. ولو أن الذي في يديه الدار أقام البينة أن عمرو أودعها إياه، وقالوا: لا ندري من دفعها إلى عمرو، وقال (216أ4) الذي في يديه الدار: دفعها إلى عبد الله فلا خصومة بينهما؛ لأنه ثبت وصول الدار إلى ذي اليد من جهة غيره، وإنه كافٍ لدفع خصومة المدعي، ولا يمين على الذي في يديه الدار؛ لأنه أثبت وصول الدار إلى يد ذي اليد، من جهة غيره، وإنه كافٍ لدفع خصومة المدعي، ولا يمين على الذي في يديه الدار لأنه أثبت ما ادعاه بالبينة، فهو نظير المودع إذا ادعي الرد وأثبته بالبينة، وهناك لا يمين على المودع؛ كذا هاهنا. القسم الثالث من هذا النوع المدعي إذا ادعى الفعل إلا أنه لم يسم فاعله بأن قال: هذا العين لي سرق مني،

وأخذ مني، أو قال: غصب مني، وأقام صاحب اليد بينة على أن هذا العين وديعة في يدي من جهة فلان، ففيما إذا قال: غصب مني، أخذ مني، تندفع الخصومة عن ذي اليد بلا خلاف؛ لأن دعوى الفعل على المجهول باطل، والتحق بالعدم، فينفي هذا دعوى الملك المطلق، وفيما إذا قال: سرق مني. القياس: أن تندفع الخصومة عن صاحب اليد إذا أقام البينة على ما ادعى، وهو قول محمد؛ في الاستحسان لا تندفع وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، وجه القياس ما ذكرنا أن دعوى الفعل على المجهول باطل فالتحق بالعدم، وصار كما قال: غصب مني، أخذ مني، وللاستحسان وجهان. أحدهما: أن الغاصب له يد صحيحة، والسارق ليست له يد صحيحة، ألا ترى أن السارق من الغاصب يقطع؛ لأنه أزال يداً صحيحة، والسارق من السارق لا يقطع؛ لأنه ما أزال يداً صحيحة؟. إذا ثبت هذا فنقول: إذا ادعى المدعي الغصب فقد أقر بيد صحيحة لغيره فيه، وذو اليد ببينته أثبت أن ذلك للغائب، وأن يده ليست بيد خصومة بل هي يد حفظ على الغائب. وإذا ادعى المدعي السرقة فما أقر بيد صحيحة للغير في هذا العين ليقال بأن صاحب اليد ببينته أثبت أن ملك اليد للغائب، فإن يده ليست بيد خصومة، وقد توجهت الخصومة على ذي اليد بدعوى الفعل، فلذلك افترقا، هذا هو طريق العامة وإنها مشكلة عندي. والوجه الثاني: أن المدعي لما لم يسمِّ السارق فهذا بمنزلة تعيين صاحب اليد للسرقة، ولو عينه لذلك أليس أنه لا تندفع الخصومة عن ذي اليد، وإن أقام ذو اليد بينة على ما ادعى؟ فهاهنا كذلك. بيان هذا الكلام: أن المدعي إذا لم يسم السارق احتمل أن السارق ذو اليد إلا أن المدعي أراد الستر عليه ابتداءً إلى ما ندب الشرع إليه، ويحتمل أن السارق غيره إلا أنه يرجح احتمال كون ذو اليد سارقاً لوجهين. أحدهما: أن في جعله سارقاً احتيال لدفع الحد؛ لأنا إذا جعلناه سارقاً؛ لا تندفع الخصومة عنه، وقضى القاضي بالعين للمدعي ويسلم العين إليه، فإذا ظهر السارق بعد ذلك يتعين لا تقطع يده؛ لأنه إنما ظهر سرقته بعد وصول المسروق إلى المالك. ولو لم يجعله سارقاً تندفع الخصومة عنه، ولا يقضى بالعين للمدعي، فمتى ظهر السارق بعد ذلك يتعين تقطع يده؛ لأنه ظهر سرقته قبل أن وصل العين إلى المالك، فكان في جعله سارقاً احتيالاً للدرء ونحن أقررنا به، فكان تعيينه سارقاً أولى من غيره. بخلاف ما إذا قال: أخذ مني غصب؛ لأن هناك ليس في تعيين ذي اليد أخذاً احتيالاً، درء الحد إذ لم تتعلق به عقوبة سوى الضمان، أما في السرقة فبخلافه على نحو ما بينا.

الوجه الثاني: إن في تعيين ذي اليد سارقاً إيصال الحق إلى مستحقه. بيانه: أن من عادة السارق أنه إذا سرق يتوارى ولا يخرج للخصومة خوفاً من القطع، فلو لم يتعين صاحب اليد سارقاً تندفع الخصومة عنه، والمدعي لا يحد السارق على ما عليه عادة السراق، فلا يصل المدعي إلى حقه، أما إذا كان سارقاً لا تندفع الخصومة عنه فيصل الحق إلى المدعي، ونحن أمرنا بإيصال الحق إلى أربابها، فكان تعيين ذي اليد سارقاً أولى؛ بخلاف دعوى الغصب والأخذ، لأن هناك لو لم يتعين صاحب اليد غاصباً وآخذاً؛ لا يبطل حق المدعي، إذ ليس من عادة الغاصب في الأخذ الاختفاء والتواري، بل من عاداتهم الخروج للخصومة، فيجد المدعي ويتخاصم معه، فلا يؤدي إلى إبطال حق المدعي لو لم يجعل صاحب اليد غاصباً وآخذاً فلهذا افترقا. نوع من هذا الفصل فرع على النوع من هذا الفصل: إذا ادعى المدعي أن هذا عبده، وأقام عليه البينة، وقال صاحب اليد: هو عبد فلان أودعنيه ولا بينة؛ حتى لم تندفع الخصومة عنه بمجرد قوله على ما مرَّ، ولو أن القاضي لم يقض للمدعي ببيته حتى حضر المقر له، وصدق صاحب اليد فيما قال، ودفع العبد إلى المقر له، وقضى القاضي للمدعي بالعبد، بتلك البينة على ما مرَّ كان هذا قضاء على صاحب اليد لما ذكرنا، فإن أقام المقر له بينة على المدعي أنه عبده كان أودعه من صاحب اليد قبلت بينته، ويقضى بالعبد له وتبطل بينة المدعي هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الجامع» . حكى أبو الهيثم عن القضاة الثلاثة أن ما ذكر من الجواب ليس بصحيح أنه يقضي بالعبد بين الذي حضر وبين المدعي نصفان، قال القاضي أبو الهيثم رحمه الله: بلغنا أن ابن سماعة كتب إلى محمد بن الحسن رحمه الله في هذه المسألة، فكتب إليه محمد أن الصحيح أنه يقضي بالعبد بينهما. قال القاضي الإمام أبو الهيثم رحمه الله: والطعن في هذه المسألة أقوى من الطعن في تلك المسألة، لأن الوجه الذي ذكرناه في فساد الطعن في تلك المسألة لا يتصور هاهنا؛ لأن في هذه المسألة؛ كل واحد منهما يدعي ملكاً منهما، فلا يمكننا أن نقول: هذا مدعي الملك من جهة صاحب اليد، وذلك يدعي مدعي الملك من جهة صاحب اليد، وذلك يدعي الملك لا من جهة صاحب اليد، فهو أولى، ثم إذا أقام المقر له بينة على دعواه، ويطلب بينة المدعي، فالقاضي يقول للمدعي: أعد بينتك على الذي حضر، وإلا فلا حق لك. فرق بين هذه المسألة وبين ما تقدم: وهو ما إذا ادعى المدعي الشراء من صاحب اليد، فإن هناك وإن أقام الذي حضر بينة على ما ادعى، لا يكلف المدعي إعادة البينة. والفرق: أن هاهنا المدعي لم يستحق القضاء علي بهذه البينة على الثبات، بدليل أن ذا اليد لو أقام هذه البينة يبطل به استحقاق المدعي، وإذا بطل استحقاقه يكلف إعادة البينة؛ بخلاف ما تقدم، لأن هناك المدعي فلا يستحق القضاء بهذه البينة قطعاً على كل حال.

ألا ترى أن ذا اليد لو أقام البينة على أنه ملك المقر له لا تندفع الخصومة عنه ولا يبطل به استحقاقه، فكذا المقر له إذا أقام هذه البينة يبطل استحقاق المدعي أيضاً، فلهذا لا يكلف المدعي إعادة البينة ثانياً، ولو أن القاضي سمع من المدعى عليه البينة على الذي العبد في يديه فلم يقض بشهادتهم حتى أقام الذي في يديه العبد بينة أن فلاناً دفعه إليه؛ فإن القاضي لا يلتفت إلى ذلك، وقضاؤه ماضٍ، فرق بين ما قبل القضاء، وبين ما بعد القضاء. والفرق في وجوه: أحدها: أن صاحب اليد صار مقضياً عليه بالملك، واليد في هذا العين بقضاء القاضي به للمدعي، ودعوى الخصم لا تقبل؛ وهذا المعنى لا يتأتى قبل القضاء. الثاني: أن قبل القضاء إنما قبلت بينة صاحب اليد على ما ادعى؛ لأنه بهذه البينة يدفع الخصومة عن نفسه، وهذا المعنى لا يتأتى بعد القضاء؛ لأن الخصومة قد انتهت بقضاء القاضي بالعبد للمدعي، فلا يحتاج هو إلى دفع الخصومة عن نفسه. الثالث: أن كونه مودعاً من جهة الغائب لا ينتفي شراء المدعي إذ يجوز أن يملك هو الوديعة من جهة صاحبها بوجه من الوجوه أن المدعي يشتري ذلك منه بعدما يملكه، فيكون خصماً، فبعد القضاء لا ينقض (216ب4) القضاء بالشك، وقبل القضاء لا يجوز القضاء بالشك. ولو حضر المقر له وأقام بينة على أن العبد له كان أودعه من صاحب اليد، وذلك بعدما قضى القاضي للمدعي قبلت بينته؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه؛ لأن القضاء للمدعي بالبينة الأولى وقع على صاحب اليد لا على الذي حضر؛ فيقبل بينة الذي حضر، لهذا. نوع آخر في مسائل الدفع على دعوى أخر في «أدب القاضي» : إذا ادعى رجل على رجل إنما اشتريت منك هذا العبد بكذا؛ والبائع يجحد البيع، فأقام المدعي بينة على الشراء فقال البائع في دفع دعواه: إنك قد رددت عليّ هذا العبد بالعيب، وأقام على ذلك بينة صح منه دعوى هذا الدفع، وسمعت بينته عليه؛ إنما صحت منه هذه الدعوى؛ لأنه لو لم يصح إنما لم يصح لمكان التناقض؛ لأنه جحد البيع، وإنه تناقض دعوى الرد بالعيب ولا تناقض؛ لأن جحود البائع فسخ للعقد في حقه، فكأنه ادعى الفسخ، ثم أقام البينة عليه؛ فمن أين يتأتى التناقض. اشترى داراً لابنه الصغير من نفسه وأشهد على ذلك شهوداً، فكبر الابن ولم يعلم بما صنع الأب، ثم إن الأب باع كل الدار من رجل وسلمها إليه، ثم إن الابن استأجر الدار من المشتري؛ ثم علم بما صنع الأب، فادعى الدار على المشتري، وقال: كان أبي اشترى هذه الدار من نفسه لي في صغري؛ وإنها ملكي، وأقام على ذلك بينة. فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: إنك متناقض في هذه الدعوى؛ لأن استئجارك الدار مني إقرار أن الدار ليست لك، فدعواك بعد ذلك الدار لنفسك يكون متناقضاً، فهذه المسألة صارت واقعة الفتوى.

وقد اختلفت أجوبة المفتين في هذا؛ والصحيح أن هذا لا يصلح دفعاً لدعوى المدعي، ودعوى المدعي صحيحة وإن ثبت التناقض منه؛ إلا أن هذا تناقض فيما طريقه طريق الخفاء، فإن الأب يستبد بالشراء للصغير، وعسى لا يعلمه بعد البلوغ، فلا يعرف الابن كون الدار ملكاً له، فيظن صحة بيع الأب بعد ذلك، فيقدم على استئجار الدار من المشتري ظناً منه أن الدار ملك المشتري؛ وفي الحقيقة الدار ملكه، ثم بعد ذلك يعلم ما صنع الأب وكون الدار مملوكة له فيدعيها. فهو معنى قولنا: إن هذا تناقض فيما طريقه طريق الخفاء، والتناقض في مسألة لا تمنع صحة الدعوى. ألا ترى أن المرأة إذا اختلعت من زوجها على مال، ودفعت المال إليه، ثم أنها ادعت أن زوجها كان طلقها ثلاثاً قبل الخلع، وأقامت على ذلك بينة؛ قبلت بينتها ولها أن تسترد بدل الخلع، وقد صارت متناقضة، فإن إقدامها على الخلع إقرار منها بقيام النكاح، فيصير بدعوى وقوع الثلاث قبل ذلك متناقضة، ولكن قيل لأنها تناقض فيما طريقه طريق الخفاء، لأن الزوج يستبد بإيقاع الثلاث؛ فلعل أوقع الثلاث ولم يعلم المرأة بذلك، فأقدمت على الخلع ظناً منها أن النكاح قائم، ثم علمها بعد الخلع بوقوع الثلاث سابقاً على الخلع، فادعت ذلك. وكذلك إذا أعتق الرجل عبده على مال ودفع العبد المال إلى المولى، ثم إن العبد ادعى بعد ذلك أن المولى كان أعتقه قبل ذلك، وأقام البينة علىه قبلت بينته، وله أن يسترد بدل العتق، وقد صار متناقضاً؛ مع هذا قبلت بينته؛ لأن هذا تناقض فيما طريقه طريق الخفاء، لأن المولى يستبد بإيقاع العتق على نحو ما بينا في مسألة الخلع كذا في مسألتنا. وفي «فتاوى النسفي» : سئل عمن ادعى داراً في يدي رجل أنها داره اشتراها من فلان، وصاحب اليد يدعي الشراء من فلان ذلك أيضاً، ولكن تاريخ الخارج سابق، وأقاما البينة فقال صاحب اليد في دفع دعوى الخارج: إن دعواه باطل من قبل أن شراءه بذلك التاريخ وقع باطلاً؛ لأن الدار كانت رهناً في ذلك الوقت من جهة فلان الذي ادعيا تلقي الملك من جهته في يدي فلان وفلان المرتهن حتى يلقاه شراء هذا الخارج هذه الدار لم يرض به، وأبطله فلم يصح شراؤه وصح شرائي؛ لأن شرائي كان بعدما فك فلان الرهن؛ هل يكون هذا دفعاً؟. قال: لا؛ لأنه لا حق لذي اليد في ذلك الرهن، والمرتهن لم يدع ذلك فكيف تصح دعوى الرهن؟ وهذا الجواب صحيح، وله علل أحدها ما ذكرنا. والثانية: أن بيع المرهون ينعقد بوصف الصحة فيما بين الراهن والمشتري، وليس للمرتهن حق الفسخ. والثالثة: أنه لما أقر بفكاك الرهن فقد أقر بنفاذ البيع السابق؛ لأن البيع كان منعقداً بوصف الصحة فيما بين الراهن والمشتري، لكن امتنع البقاء في حق المرتهن لحقه، فإذا بطل الرهن بعد ذلك في حق الناس كافة.

وفي «مجموع النوازل» : رجل ادعى على آخر أنه اشترى مني جارية صفتها كذا كذا، بكذا درهماً، وقبضها واستهلكها، ووجب عليه أداء هذا الثمن إليّ، وهو قد أقر بذلك، وشهد الشهود على المدعى عليه بذلك بعد إنكاره، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنه يبطل في دعوى الاستهلاك؛ لأن الجارية قائمة في يده، وهي في بلدة كذا في يدي فلان، وأقام شهوداً شهدوا أنا رأيناها حية قائمة في بلدة كذا، هل يصير ذلك دفعاً لدعوى المدعي؟ قال: لا؛ وطول الكلام في بيان العلة، ولم يتضح لنا وجهها. والوجه في ذلك: أن الاستهلاك أمر زائد في إبطالية البائع المشتري بالثمن، ومجرد القبض يكفي؛ أكثر ما فيه أن دعوى الاستهلاك قد بطل دعوى القبض، وأنه كان في المطالبة بالثمن. ادعى داراً في يدي رجل شراءً من رجل آخر بشرائط، فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: إني كنت اشتريت هذه الدار من هذا المدعي فقال المدعي في دفع دعوى المدعى عليه: قد كنا (أقلنا) البيع الذي جرى بيني وبين هذا المدعى عليه، فهذا دفع صحيح. وكذلك لو كان المدعي من الابتداء ادعى الدار على صاحب اليد ملكاً مطلقاً؛ وقال المدعى عليه في دفع دعواه: إني كنت اشتريت هذه الدار من هذا المدعي فقال المدعى في دفع دعوى المدعى عليه: قد كنا أقلنا البيع الذي جرى بينه، وبين هذا المدعى عليه، كان هذا دفعاً صحيحاً. وكذلك إذا قال المدعي في دفع دعوى المدعى عليه: إنك قد أقررت أنك اشتريتها مني كان هذا دفعاً صحيحاً. نوع آخر في دعوى الميراث رجل ادعى داراً في يدي رجل أنها كانت لأبيه فلان، مات وتركها ميراثاً له، وإن أبي مات، وهذه الدار في يديه، وأقام على ذلك بينة، وأقام ذو اليد بينة في دفع دعوى المدعي، أن أب هذا المدعي أقر في حال حياته أن هذه الدار ليست له، فهذا يبطل شهادة شهود المدعي، هكذا ذكر محمد رحمه الله في آخر «الجامع الكبير» ، وهذا لأن حاجة الوارث إلى إثبات الملك لمورثه في الدار عند موته حتى يخلفه فيها إرثاً، وقد ثبت بينة المدعى عليه إقرار الوارث أن الدار ليست له. وإقرار المورث بهذه الصفة تمنع المورث عن دعوى الملك لنفسه بنفسه، بعد ذلك فيمنع الوارث عن دعوى الملك المطلق لمورثه عند موته، وكذلك لو شهد شهود المدعي عليه أن الوارث أقر قبل موت المورث، أو بعد موته أنها لم تكن لأبيه، كان ذلك دفعاً لبينة الوارث لما ذكرنا أن حاجة الوارث إلى إثبات الملك للمورث عند موته، فكان مدعياً أنها كانت لأبيه يوم الموت، وقد ثبت بينة المدعي عليه إقرار الوارث أنها لم تكن لأبيه، فجاء التناقض. وكذلك لو شهد شهود المدعى عليه على إقرار الوارث أن أباه مات والدار ليست

له، كان ذلك دفعاً لبينة الوارث، وأما إذا قال شهود المدعى عليه: إن الوارث قال: مات أبي والدار ليست له، لأنه وهبها لي في حياته وصحته، وباعها في حياته وصحته، لم يكن ذلك دفعاً لبينة المدعي؛ لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت عياناً. ولو (217أ4) عاينا إقرار الوارث أن أباه مات وهذه الدار ليست له، لأنه وهبها لي، وباعها مني في حال حياته وصحته، ثم ادعى الميراث من الأب بعد ذلك؛ تسمع دعوى الميراث منه، لأن التوفيق بين الكلامين ممكن، لأنه يمكنه أن يقول: لي تلك الهبة أو البيع، وعجزت عن إثباته بالبينة فبقيت الدار على ملك الأب ظاهراً، أو صار ميراثاً لي عنه ظاهراً، وقد مرَّ جنس هذا في كتاب الشهادات، يوضح ما ذكرنا: أن الكلام تم بآخره. وإذا وصل بقوله: مات أبي والدار ليست له؛ لأنه باعها مني، علمنا أنه لم يرد بأول الكلام نفي ملك الأب من الأصل، فيمكنه دعوى الميراث بعد ذلك، بخلاف ما إذا قال: ليست لأبي وسكت، لأن ظاهر هذا الكلام، يوجب نفي الملك للأب فيه من الأصل فلا يمكنه دعوى الميراث بعد ذلك. دار بيدي رجل؛ جاء رجل وادعى أن أباه مات وترك هذه الدار ميراثاِ له، وأقام بينة شهدوا أن أباه مات، وهذه الدار في يديه، وأخذ هذا الرجل هذه الدار من تركته بعد وفاته، أو شهدوا أن هذا الرجل أخذ هذه الدار من أبي هذا المدعي حال حياته، وأقام ذو اليد البينة أن الوارث، أو أبوه أقر أن الدار ليست له، فالقاضي يقضي بدفع الدار إلى الوارث؛ لأن ما أثبته ذو اليد بالبينة من إقرار الوارث، أو المورث أن الدار ليست له. لو كان معايناً للقاضي، فذلك لا يمنعه من إثبات الأخذ بطريق الغصب من يده على ذي اليد بالبينة؛ فكذا إذا ثبت ذلك ببينة ذي اليد، والمعنى في ذلك أن الجمع بين الكلامين يمكن بأن يقول الوارث: قد أقررت أن الدار ليست لأبي وإنما هي لغيره؛ إلا أن ذا اليد غصبها من أبي، فلزمه الرد بعد وفاة أبي عليَّ كما كان يلزمه الرد على أبي حال حياته، لأني قائم مقام أبي في حياته، فصار استحقاق هذه الدار ميراثاً لي، فإذا أمكنه الجمع بينهما لم تكن بينة ذي اليد مبطلة بينة المدعي. ادعت المرأة على ورثة زوجها المهر والميراث؛ فقال الورثة في دفع دعواها: إن أبانا قد حرمها على نفسه قبل موته بسنتين، قالت هي في دفع دعواهم: إن الزوج أقر في مرض الموت بأني حلال عليه؛ فهذا دفع صحيح. ادعى داراً في يدي رجل ميراثاً عن أبيه، وأقام المدعى عليه بينة أنه اشترى هذه الدار من هذا المدعي، فقال المدعي في دفع دعوى المدعى عليه: قد كنا أقلنا البيع الذي كان بيننا فهذا دفع لدعوى المدعى عليه. مات الرجل وترك أولاداً صغاراً وكباراً، فكبر الصغار وادعوا داراً في يدي رجل ميراثاً عن أبيهم فادعى المدعى عليه في دفع دعواهم: إني اشتريت حصة الكبار منهم، وحصة الصغار من وصيهم من جهة أبيهم، أو من جهة القاضي بثمن مثله، أو بغبن يسير

عند حاجة الصغار، فهذا دفع صحيح، لو أقام عليه البينة تندفع دعواهم. ولو كان مكان الدار عرضاً لا يشترط ذكر الحاجة، والوصي يملك بيع عروض الصغير من غير حاجة، ولا يملك بيع عقاره إلا لحاجة. رجل مات عن أولاد، فادعت امرأة ميراثها، وقالت: كنت منكوحة له، وأنكرت الورثة دعواها، وأقامت البينة على النكاح، فقالت الورثة في دفع دعواها: إن أبانا قد كان طلقها ثلاثاً، وانقضت عدتها قبل موته، هل يكون هذا دفعاً لدعواها؟. ينظر؛ إن أنكروا نكاحها أصلاً بأن قالوا: لم يكن أبانا متزوجها، أو قالوا: ما كانت هي زوجة لأبينا قط، لا يكون هذا دفعاً لدعواها، وإن لم ينكروا نكاحها أصلاً إنما أنكروا ميراثها فقالوا: ليس لها ميراث الزوجات، أو قالوا: ليس لها ميراث بالزوجية، أو قالوا: لم تكن هي زوجة له عند الموت، فهذا دفع لدعواها. ادعى على غيره أنه كان لأبي عليك كذا وكذا من المال، وأنه قد مات قبل استيفائي من ذلك، وصار جميع ذلك ميراثاً لي، لما أني وارثه، لا وارث له غيري، فقال المدعى عليه: الدين الذي تدعيه قد كان لأبيك عليَّ بحكم الكفالة عن فلان، وفلان ذلك قد أدى جميع ذلك إلى أبيك في حال حياته، فصدقه مدعي الدين أن الدين كان بحكم الكفالة عن فلان إلا أنه أنكر أداء فلان ذلك إليه، فأقام المدعى عليه بينة على دعواه. فهذا دفع صحيح لدعوى المدعي، وكذلك لو قال المدعى عليه في هذه الصورة: أخرجني أبوك عن الكفالة في حياته، أو قال: أخرجتني عن الكفالة بعد موت أبيك، وأقام بينة على ما ادعى، تندفع دعوى المدعي. ادعى على غيره أنه كان لأبي عليك كذا وكذا، مات أبي قبل أن يقبض شيئاً من ذلك، وصار جميع ذلك ميراثاً لي من جهة أبي لما أنه لا وارث لأبي غيري، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إن أباك قد أحال فلاناً بما كان له عليَّ، وقد قبلت الحوالة ودفعت جميع ذلك إلى المحتال له، وصدقه المحتال له في ذلك كله، لا تندفع دعوى المدعي عنه وخصومته، لأن بإقامة البينة على الحوالة ثبت كون المحتال له وكيلاً من جهة الميت بالقبض، وقد أقر بالقبض معاينة، والوكيل بالقبض إذا أقر بالقبض فصح إقراره عن الموكل ويبرأ الغريم عن الدين. امرأة ماتت وتركت إخوة وأموالاً في أيديهم؛ جاء رجل، وادعى أن المرأة كانت امرأته، وفى نكاحه إلى يوم موتها، وطلب ميراثها، فقالت الإخوة في دفع دعواه: إنك قلت قبل هذا بالفارسية: اكراين مرده زني من بودي من ميراث بردمي أزوي، وأثبتوا ذلك بالبينة، هل يكون هذا دفعاً؟. فقد قيل: يكون دفعاً، وقوله: اكرزن من بودي، إقرار منه أنها زن وي بنوده نست. وقيل: إنه ليس بدفع، وقوله: أكر زن من بودي ميراث بردمي أزوي، ليس إقرار أنها: زن وي بنوده است، كقول الرجل: إن كان فلان في الدار لذهبت إليه، لا يكون إقراراً أن فلاناً ليس في الدار لا محالة، على أن ما ذكرتم مفهوم كلامه، وظاهر المذهب

عندنا أن المفهوم ليس بحجة، وإن ذكر محمد رحمه الله في «السير» أنه حجة، ولكن ما ذكر في «السير» خلاف ظاهر المذهب. ولو قالوا في دفع دعواه: إنك قلت: إنها كانت امرأتي؛ إلا أني طلقتها، فهذا ليس بدفع، لأن الزوج ببينته أثبت نكاحها يوم الموت، وتطليقه إياها؛ لا ينافي نكاحها يوم موتها لجواز أنه طلقها يوم تزوجها ثم ماتت. ادعى رجل داراً في يد امرأة أبيه أنها تركة أبيه؛ وقالت المرأة: هذه الدار تركة أبيك إلا أن القاضي باعها مني بمهري، وأنت صغير، كان ذلك دفعاً لدعوى المدعي، وهو الابن، لو أثبت ذلك بالبينة؛ لأن للقاضي ولاية بيع التركة بالدين، إذا كان الوارث صغيراً، ولم يكن للميت وصي. رجل مات وترك ابنين صغيرين، ولكل ابن قيّم على حدة، وفي يد أحد القيمين دار يزعم أنها دار الصغير الذي في ولايته؛ ادعى عليه قيم الصغير الآخر، أن الدار التي في يديك نصفها ملك الصغير الذي أنا قيمه، بسبب أن هذه الدار كلها كانت ملكاً لوالد الصغيرين مات وتركها ميراثاً للصغيرين، فإذا دفع إليّ نصفها لأقبضه لأجل الصغير الذي أنا قيمه. فأقام القيّم المدعى عليه بينة أن والد الصغيرين قد أقر في حال (حياته) أن كل هذه الدار ملك الصغير الذي في ولايتي، تندفع عنه دعوى القيّم المدعي، فإن أقام القيّم المدعي بينة لدفع دعوى القيم المدعى عليه وقال: إنك ادعيت قبل هذا نصف هذه الدار لأجل الصغير الذي في ولايتك إرثاً عن أبيه، والآن تدعي كلها للصغير الذي في ولايتك بجهة أخرى، اندفعت دعوى القيم المدعى عليه لمكان التناقض. سئل نجم الدين النسفي: عمن ادعى ميراث بيت بعصوبة بنوة العم، فأقام البينة على النسب يذكر الأسامي إلى الجد، فأقام منكر هذا النسب والميراث بينة أن جد الميت فلان وصى غير ما أثبت المدعي؛ هل تندفع بهذا دعوى المدعي وبينته؟. قال: إن وقع القضاء ببينة المدعي فالقضاء ماضٍ (217ب4) ولا تبطل بينة المدعي بهذا، ولا تندفع بينة المدعي بهذا ولا تندفع دعواه، فإن لم يقع القضاء ببينة المدعي، فالقاضي لا يقضي بإحدى البينتين لمكان التعارض، قال محمد رحمه الله: وهو نظير مسألة طلاق المرأة يوم النحر بكوفة من هذه السنة، وإعتاق العبد يوم النحر بمكة من هذه السنة. وفي «مجموع النوازل» : رجل قدم سمرقند من تركستان، فادعى كرماً في يدي رجل ميراثاً عن جده وأمه وقال: أنا محمد وأمي حُرّة، وإن أبي محمد بن الحارث بن سارح، وهذا الكرم في يد هذا المدعى عليه من تركة أبي الحارث هذا وأنا وارثه لا وارث له غيري؛ فعليه تسليم هذا الكرم إليَّ، فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: هذا المدعي يبطل في دعواه هذه من قبل أنه حين قدم من تركستان زعم أنه ابن عائشة، وعائشة بنت علي بن الحسين بن فلان، وهذا الكرم من تركة علي بن الحسين. ثم غير اسم الأم، واسم الجد، فجعل اسم الأم حرة، وجعل اسم الجد محمد بن

الحارث، وأقام المدعى عليه بينة على دعواه، فأجاب شيخ الإسلام عطاء بن حمزة السعدي: إن هذا دفع دعوى المدعي. قال رحمه الله: وهو نظير ما لو ادعى عيناً في يدي رجل ميراثاً عن أبيه، ثم ادعى ذلك العين بعد ذلك ميراثاً عن أمه، وكان القاضي الإمام الأجل شمس الإسلام محمود الأوزجندي يفتي في جنس هذه المسائل أنه لا تندفع دعوى المدعي، ولا تقبل بينة المدعي على ما ادعاه وتابعه في ذلك بعض مشايخ زمانه، وبه كان يفتي الإمام ظهير الدين المرغيناني، وهو الصواب عندنا. وعلى هذا إذا ادعى رجل على رجل أنه كان لأبي علي بن أبي القاسم بن محمد عليك كذا وكذا من المال، وإن أبي مات قبل استيفاء شيء من ذلك، وصار ما كان له عليك ميراثاً لي، وقال المدعى عليه: إنه يبطل في هذه الدعوى؛ لأنه زعم أن والد القاسم محمد، ووالد القاسم أحمد، لا يكون هذا دفعاً لدعوى المدعي على ما هو اختيار شمس الإسلام، وبعض مشايخ زمانه، فلا تقبل بينة المدعى عليه في ذلك، والمسألة كانت واقعة الفتوى. وهذا لأن بينة المدعى عليه لو قبلت في هذه الصورة؛ إما أن تقبل على إثبات اسم هذا المدعي ولا وجه إليه؛ لأنه ليس بخصم في ذلك، وإما أن تقبل لنفي ما ادعاه المدعي من الميراث، ولا وجه إليه أيضاً؛ لأن البينة على النفي غير مقبولة. وهو نظير ما لو ادعى رجل على رجل أنه أقرضه ألف درهم في يوم كذا في مكان كذا، وأقام المدعى عليه بينة أنه في ذلك اليوم كان في مكان كذا سمى مكاناً آخر؛ لا تقبل بينة المدعى عليه؛ لأنها في الحقيقة قامت على النفي كذا هنا. إذا ادعى داراً في يدي رجل ميراثاً عن أبيه؛ فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: اشتريت هذه الدار في حال صغرك بإطلاق القاضي؛ فهذا دفع صحيح إذا ثبت أن البيع لحاجة الصغير، أو لقضاء دين الميت. وقد مر جنس هذا في «فتاوى الفضل» : ادعى على أخيه تركة فيما في يده بحق الميراث عن أبيه، فأنكر المدعى عليه دعواه وقال: لم يكن لأبي في هذه الدار حق، ثم ادعى المدعى عليه أنه كان اشترى هذه الدار من أبيه، أو ادعى أن أباه قد أقر له بها فدعواه صحيحة وبينته مسموعة، لأن الجمع بين الكلامين ممكن لأنه يمكنه أن يقول: لم تكن لأبي بعدما اشتريتها منه، ولو قال: لم تكن لأبي قط، أو قال: لم يكن لأبي فيها حق، لم يسمع دعواه الشراء من أبيه؛ لأنه فيه متناقض، ويسمع دعوى إقرار أبيه له لأنه لا تناقض فيه. إذا قال المدعي في دعوى الميراث: لا وارث له غيري، فقال المدعى عليه في دعواه: إن لك أخاً أو أختاً، وقد قلت: لا وارث له غيري، حكى فتوى القاضي الإمام شمس الإسلام الأوزجندي رحمه الله: أن المدعي لو أقر بذلك تبطل الدعوى والشهادة جميعاً، أما لو أراد المدعى عليه إثباته بالبينة لا يسمع بينته.

ادعى رجل ضيعة في يدي رجل أنها كانت لفلان مات وتركها ميراثاً لي، لا وارث لها غيري، وقضى القاضي له بالضيعة، فقال المقضى عليه بالضيعة بطريق الدفع لدعوى المدعي: إن فلانة التي تدعي أنت الإرث عنها لنفسك ماتت قبل فلان الذي يدعي الإرث عنه لفلانة، فقد قيل: هذا دفع صحيح، وقد قيل: إنه غير صحيح؛ لأن زمان الموت لا يدخل تحت القضاء، فلا يثبت بينة المدعى عليه موت فلانة قبل موت فلان.u سئل رجل ادعى محدوداً في يدي رجل ميراثاً عن أبيه له ولأخيه الغائب فلان، فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: إن مورثك فلان قد أقر في حياته أن هذا المحدود ملكي، فقد قيل: هذا دفع، وقد قيل: إن قال: إن مورثك فلان أقر أن هذا ملكي، وأنا صدقته فيه فهذا دفع، فإن لم يقل: وأنا صدقته فهذا ليس بدفع، وإن حضر الأخ الغائب وادعى في دفع دعوى المدعى عليه الدفع على أخيه. وقال: إن المدعى عليه أقر بعد موت أبينا أن هذا المحدود تركة أبينا، فهذا دفع لدعوى المدعى عليه، ولو كان المدعى عليه من الابتداء لم يدع إقرار المورث، يكون المحدود ملكاً له إنما ادعى إقرار الوارث المدعي؛ يكون المحدود ملكاً للمدعى عليه. فالجواب فيه على الخلاف أيضاً، على قول بعض المشايخ: هذا دفع، وعلى قول بعضهم يجب أن تكون المسألة على التفصيل؛ إن قال: إنك أقررت بكون المحدود ملكي، وأنا صدقتك يصح الدفع، وإن حضر الأخ الغائب وادعى في دفع دعوى المدعى عليه وقال: إن المدعى عليه قد أقر بعد موت أبينا أن هذا المحدود تركة أبينا، لا يسمع منه هذا الدفع؛ لأن ما تعلق بالموت يتعلق بجميع الورثة، أما ما يتعلق ببعض الورثة يقتصر. نوع آخر في مسائل الإكراه إذا ادعى الإكراه على البيع والتسليم، فقال المشتري في دفع دعواه: إنك أخذت الثمن مني طائعاً، فهذا دفع صحيح؛ لأن قبض الثمن طائعاً إجازة لذلك البيع، وهذا لأن البائع إنما يأخذ الثمن من المشتري ليسلم الثمن له، ولا يسلم الثمن للبائع إلا بإجازة البيع، فكان أخذ الثمن من البائع إجازة للبيع من هذا الوجه. وكذلك إذا ادعى الإكراه على الهبة فقال الموهوب له في دفع دعواه: إنك أخذت عوض هبتك مني طائعاً فهذا دفع صحيح؛ لأن أخذ العوض طائعاً إجازة منه للهبة. وفي «مجموع النوازل» : سئل شيخ الإسلام عطاء بن حمزة السغدي رحمه الله عن رجل أثبت على رجل بالبينة أنه أقر بكذا طائعاً، وأقام المدعى عليه في دفع ذلك بينة أن إقراره ذلك كان بإكراه هل يكون دفعاً لبينة المدعي؟ قال: نعم، وبينة الإكراه أولى بالقبول، لأن بينة الإكراه ثبتت خلاف الظاهر قيل له: إن البينة على الإثبات أولى من البينة على النفي، وبينة الطوع تثبت الدين، وبينة الإكراه نافية الدين، قال: فإن كان كذلك إلا أن التي تثبت الزيادة من حيث الظاهر هي أولى، وإن كان في المعنى بخلافه، وعلى هذا مسائل أصحابنا في المزارعة.

فقد ذكر محمد في المزارعة مسائل اعتبر فيها إثبات الزيادة صورة، وإن كان فيها إفساد العقد معنىً، فمن جملتها. إذا ادعى أحد المتعاقدين أنه شرط له النصف وزيادة، وادعى الآخر أنه شرط له النصف، وأقاما على ذلك بينة، فالبينة بينة مدعي الزيادة، ويثبت به فساد المزارعة، واعتبر إثبات الزيادة من حيث الصورة، كذا هاهنا. رجل ادعى ضيعة في يدي رجل أنك اشتريتها مني، وكنت مكرهاً على البيع والتسليم، وأقام على ذلك بينة، وأراد استرداد الضيعة، فقال المدعى عليه: كان الأمر كما قلت، إلا أن بعدما زال الإكراه بعت هذا البيع مني، يكون على طوع ورضى وأقام على ذلك بينة، فالقاضي يقضي ببينة المدعى عليه، وتندفع دعوى المدعي حتى لا يكون للبائع حق الاسترداد، لأن ببينة المدعي ثبت أن المشتري اشترى شراءً فاسداً، فالمشتري شراءً فاسداً (218أ4) إذا اشتراه المشتري شراءً صحيحاً ينفسخ الشراء الفاسد، ويبطل حق البائع في الاسترداد، كذا هاهنا. رجل ادعى ضيعة في يدي رجل أنها ملكه اشتراها من الذي في يديه بكذا، وقال المدعي في آخر دعواه: وهكذا أقر الذي في يديه بشرائي إياها منه، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إني كنت مكرهاً في الإقرار بالبيع. فقد قيل: بأن هذا لا يكون دفعاً وبه كان يفتي الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله، وكان يقول يحتمل أنه كان طائعاً في البيع مكرهاً في الإقرار بالبيع إكراهاً لا يوجب خللاً في البيع حتى لو أقام البينة على كونه مكرهاً في الإقرا والبيع جميعاً كان الدفع صحيحاً. نوع آخر في دعوة الدين إذا قال المدعى عليه في دعوة الدين: أنا أجيء بالدفع، فقال له القاضي: الدفع يكون بالإبراء أو بالإيفاء فأيهما يدعي، قال كلاهما: هل يكون هذا تناقضاً، حكي عن الشخ الإمام نجم الدين النسفي رحمه الله أنه قال: لا يكون تناقضاً إذا وفق وبين وجه التوفيق. ووجه التوفيق أن يقول: أوفيت بعضه وأبرأني عن بعض، أو يقول: أوفيت الكل، فجحدني فتشفعت إليه فأبرأني، أو يقول: أبرأني ثم جحد الإبراء، فأوفيت، وقيل: لا يكون متناقضاً، ولا يبطل دعواه وإن لم يوفق؛ لأن مع إمكان التوفيق لا يتحقق التناقض، فيحمل عليه صيانة للدعوة عن البطلان، وهذا القول يشير إلى أن إمكان التوفيق يكفي. رجل ادعى على غيره ديناً فأنكر المدعي عليه ذلك، فأقام المدعي بينة على أنك استمهلتك هذا المال منك عشرة أيام، وذلك إقرار منك بهذا المال عليك. وقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنك أبرأتني عن هذا المال منذ عشرين يوماً، وأقام على ذلك بينة، فهذا لا يكون دفعاً، لأن ببينة المدعي ثبت إقرار المدعى عليه

بالمال منذ عشرة أيام، وهذا يمنع دعواه الإبراء قبل ذلك الاستمهال من المدعي عليه قبل قضاء القاضي عليه بالمال، والاستمهال بعد قضاء القاضي بالمال، فكذلك عند بعض المشايخ. رجل ادعى على آخر عشرة دراهم دين، أو عشرة دنانير دين، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: تو إقرار كردهءكه مر أجز دو دينار خاوستني نيست جزدودرم خواستم نست، فهذا ليس بدفع لأن المطالبة ليست من لوازم الدين؛ حتى يكون من ضرورة أن لا مطالبة له بما سوى الدرهمين، أو الدينارين؛ إقراره أن لا دين عليه سوى الدين، أو الدينارين. ألا ترى أن الدين المؤجل دين على الحقيقة، ولا مطالبة به في الحال. فإن قيل: هذا المعنى لا يكاد يصح في هذه الصورة لأن الدعوة وقع في الدين والتأجيل في الديون لا يصح. قلنا: التأجيل في الديون الواجبة بالقرض والإستقراض لا يصح، أما التأجيل في الديون بسبب البيع وما هو في معنى البيع صحيح، وموضوع مسألتنا أن المدعي ادعى الدين أما لم يدع البيع ولا القرض واليمين الواجب بسبب القرض، إن كان لا يتصور انتفاء المطالبة بسبب التأجيل يتصور بسبب آخر، بأن كان مثلاً لعبد الله على محمد دين، ولمحمد على إبراهيم مثل ذلك، فأحال محمد عبد الله على إبراهيم ليقضي إبراهيم دين عبد الله بما لمحمد عليه، فدين محمد عن إبراهيم لا يسقط بهذه الحوالة. ألا ترى أن عبد الله لو أبرأ محمداً عن دينه كان لمحمد أن يرجع على إبراهيم بدينه، فعلم أن دين محمد لا يسقط عن إبراهيم بمجرد حوالة محمد عبد الله على إبراهيم، مع هذا ليس لمحمد حق مطالبة إبراهيم في الحال بدينه لصيرورة دينه مشغولاً بحق عبد الله بحكم الحوالة، فيجوز انتفاء المطالبة عن دين القرض مع وجوبه ولزومه بهذا الطريق إن كان لا يتصور انتفاء المطالبة عنه بسبب التأجيل. رجل ادعى على غيره مالاً فأقر المدعى عليه بذلك، إلا أنه بين سبباً لا يصلح سبب الوجوب بأن قال: له علي ألف درهم بسبب القمار، أو قال: لأني اشتريت منه الميت، وكذبه المدعي في ذلك السبب، فإن أقام المدعى عليه على ذلك بينة تندفع عنه دعوى المدعي، وإن لم يكن للمدعى عليه بينة على ذلك. ذكر الخصاف في «أدب القاضي» أنه يحلف المدعى عليه، ويكون القول قوله مع اليمين، لأن قوله: له عليَّ ألف درهم لأني اشتريت منه الميت أو لأني قامرت عليه جحود للمال أصلاً، فيكون القول فيه قوله مع يمينه، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: ما ذكر الخصاف أن القول قول المدعى عليه مع اليمين قولهما، أما على قول أبي حنيفة: المال لازم عليه بإقراره، ولا يصدق في قوله: ثمن ميت، أو قال: قامرني، فإن محمداً رحمه الله أورد هذه المسألة في كتاب الإقرار على سبيل الاستشهاد، وذكر فيها الخلاف على نحو ما بينا؛ فكأنه يرد على الخصاف، أو يكون عن أبي حنيفة رحمه الله في المسألة روايتان: وإن قال المدعى عليه: له عليَّ ألف درهم من ثمن خمر،

وأقام على ذلك بينة، لا تندفع عنه دعوى المدعي عند أبي حنيفة، لأن المسلم قد يجب عليه ثمن خمر عنده، بل يوكل ذمياً بشرائها، وعندهما تندفع عنه دعوى المدعي؛ لأن عندهما لا يجب ثمن الخمر على المسلم بحال، وإن لم يكن للمدعى عليه بينة على ذلك فعلى قول أبي حنيفة المال لازم على المدعى عليه، وعندهما القول قوله مع يمينه، ولا يلزمه المال. رجل ادعى على غيره كذا، كذا ديناً من الدراهم، فادعى المدعى عليه الإيفاء، وجاء بشهود شهدوا أن المدعى عليه دفع هذا المال كذا كذا من الدراهم، ولكن لا يدري بأي جهة دفع، هل يقبل القاضي هذه الشهادة؟ وهل تندفع بها دعوى المدعي؟. حكي عن شيخ الإسلام السغدي أنه قال: لا تقبل هذه الشهادة، ولا تندفع بها دعوى المدعي، وعن بعض مشايخنا: أنه تقبل؛ وتندفع به دعوى المدعي، وهو الأشبه والأقرب إلى القول. رجل ادعى على رجل ستة دنانير، فقال المدعى عليه في دعوى دفع المدعي: إنه أبرأني من هذه الدعوى، فأقام على ذلك بينة، فادعى المدعي ثانياً أن المدعى عليه قد كان أقر لي بستة دنانير بعد إبرائي إياه؛ هل يصح دفع الدفع؟. فقد قيل: إن قال المدعى عليه: أبرأتني عن هذه الدعوى وقبلت الإبراء، أو قال: صدقتك في ذلك؛ لا يصح منه دفع الدعوى؛ يعني دعوى الإقرار ثانياً، وإن لم يقل قبلت الإبراء، ولا قال: صدقتك في ذلك، يصح منه دفع الدفع، يعني دعوى الإقرار ثانياً؛ لأن الإبراء يرتد بالرد، وإذا لم يذكر القبول ولا التصديق يحتمل الرد، فيصح دعوى الإقرار ثانياً. وقيل: لا يصح دعوى الإقرار ثانياً؛ لأن بينة المدعى عليه تثبت إبراء المدعي إياه عن هذه الدعوى، وارتفع أن الذي وجب به الدين على المدعى عليه، فدعوى المدعي إقرار المدعى عليه ثانياً، يكون في الحاصل دعوى المال بشرط الإقرار، ودعوى المال بسب الإقرار غير صحيح، عليه عامة المشايخ. وقيل: دعوى الإقرار ثانياً صحيح من غير فصل، لأن المدعي يدعي الإقرار ثانياً، يثبت بطلان دعوى المدعى عليه على الإبراء على المدعي فإنه يقول: دعواك الإبراء علي لم تصح، وكنت مبطلاً في ذلك لما أقررت لي بالدنانير بعد ذلك، ودعوى بطلان الدعوى من أي طرف كان ذلك صحيح. رجل ادعى على آخر خمسين ديناراً؛ فقال المدعى عليه في الدفع: إن المدعي أقر أنه دفع إليه العدالة لكل دينار خمسين، ولكن أخذت الخط بالدنانير صح الدفع، وكذلك لو قال: إنك أبرأتني عن الدعاوى كلها في سنة كذا يصح الدفع. رجل ادعى على رجل إني دفعت إليك عشرة دراهم قرضاً، فقال المدعى عليه: بل دفعت إلي عشرة دراهم إلا أنك أمرتني أن أدفعها إلى فلان، وقد دفعتها إليه، فإن أقام على ذلك بينة تندفع الخصومة (218ب4) عن صاحب اليد وما لا فلا.

ادعت إمرأة أنها بنت هذا الميت، وأن لها من تركته قد أقرضت بعد وفاة هذا الميت، وقلت: إن مردببودم وي از ادكر ده است مر لا يصح هذا الدفع. رجل ادعى على آخر دراهم مقدرة بسبب الكفالة عن فلان بأمره أو بغير أمره، فحضر الأصيل ودفع دعوى المدعي، وقال: هذا المال غير واجب على الكفيل المدعى عليه، كما أنه غير واجب علي، وكنت مكرهاً في الإقرار به. فقد قيل: لا يسمع هذا الدفع لأن المدعي ما ادعى على الأصيل شيئاً، وقد قيل: لايسمع إذا كانت الكفالة بأمر، لأن ضرر هذه الدعوى في المال على الأصيل. ألا ترى أن من اشترى من آخر جارية وقبضها، واستحقها رجل من يدي المشتري بالبينة، وقضى القاضي بالجارية، ثم إن البائع أقام البيينة على المستحق أنه باعها منه قبل أن يبيعها هو من مشتريه فلان، فالقاضي يقبل بينة البائع ويقضي بالجارية على المستحق، والدعوى من المستحق ما كان على البائع ما كان الطريق سوى أن ضرر هذه الدعوى في المال على البائع، كذا هاهنا. ادعت امرأه على ورثة زوجها المهر، وأنكرت الورثة النكاح، فأقامت المرأة بينة على النكاح وادعت الورثة في دفع دعواها أنها كانت أبرأت أبانا في حال حياته من المهر، فقد قيل: هذا دفع صحيح. وقد قيل: يجب أن يكون الجواب فيه على التفصيل، إن قالوا: أبرأت أبانا عن دعوى المهر، يصح منهم هذا الدفع ولا تناقض فيه، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده مثل هذا التفصيل في مسألة دعوى الدين وإنكار المدعى عليه، ثم دعوى المدعى عليه الإبراء في شرح كتاب الحوالة والكفالة. نوع آخر في دعوى الوصاية والوصية رجل ادعى على غيره أن أباك أوصى لي بثلث ماله، وأنكر المدعى عليه الوصية، فأقام المدعي بينة على دعواه، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إن أبي قد كان رجع عن هذه الوصية في حياته، أو قال: إن أبي قال في حياته: رجعت عن كل وصية أوصيت بها، فقد قيل: لا يسمع منه هذا الدفع لمكان التناقض. وقد قيل: يسمع، وهو الصحيح لأن هذا تناقض فيما طريقه طريق الخفاء، فإن الموصي يستبد بالإيصاء فلعل قد كان أوصى ولم يعلم به الوارث، ورجع ولم يعلم به، فجحد الوصية بحكم أنه لم يعلم بالوصية، ثم أخبر بهذا الجحود بالوصية والرجوع، فادعى الرجوع، والتناقض، في مثل هذا الموضع لا يضره، وكذلك لو أقام البينة على أن الأب جحد الوصية في حياته، كان هذا دفعاً على ما ذكره في «المبسوط» ، فقد ذكر في «المبسوط» : أن جحود الوصية رجوع، وذكر في «الجامع» : أن جحود الوصية لا يكون رجوعاً، قيل في المسألة روايتان؛ وقيل: ما ذكر في «الجامع» : أن جحود الوصية لا يكون رجوعاً قياس، وما ذكر في «المبسوط» استحسان.

رجل ادعى في تركة رجل وصية، ولابنه الصغير بثلث ماله، وأقام البينة على ورثة الميت، وقضي بالوصية لابنه، ثم إن الورثة أقاموا بينة على المدعي بطريق الدفع أنه كان قد أقر قبل الحكم أن على الميت دين مستغرق لتركته؛ كان هذا دفعاً صحيحاً، ويبطل حكم القاضي، وسجله إذ تبين أن المدعي لم يكن خصماً في دعوى الوصية إذ لا وصية مع الدين المستغرق من غير خصم والقضاء بها باطل. وهو نظير ما لو ادعى رجل عبداً في يدي رجل أنه له، وأقام على ذلك بينة وذو اليد يقول: هذا العبد وديعة عندي من جهة فلان، وأقام بينة أنه عبده قد كان أودعه صاحب اليد، فالقاضي يأخذ العبد من المدعي المقضي له، ويدفعه إلى هذا الذي ادعى الإيداع من صاحب اليد، إذ تبين أن المدعى عليه لم يكن خصماً للمدعي، وأن بينة المدعي قامت على غير الخصم، والبينة على غير الخصم لا تقبل. رجل أوصى لابني ابنه بثلث، وأحدهما صغير والآخر كبير وأبوهما حيٌّ، ثم مات الموصي، فادعى أبو الصغير على أن إرث الموصي لأجل ابنه الصغير الوصية من جهة الميت، وادعى الكبير الوصية من جهة الميت، وأنكر الوارث وصيتهما، وقال في دفع دعواهما: إن هذا الكبير قد أقر بعد موت الميت أن الميت ما أوصى لي بشيء، وكذلك أب الصغير أقر أن الميت ما أوصى لابني الصغير بشيء، هل يكون هذا دفعاً؟ فقد قيل في حق الكبير: هذا دفع، وفي حق أب الصغير: هذا دفع لدعوى الأب، لا لدعوى الابن، حتى لو كبر الابن وادعى الوصية لنفسه؛ سمع دعواه. وقد قيل: هذا ليس بدفع أصلاً، وهو الأظهر والأشبه بالفقه، لأنه لو صار دفعاً إنما صار دفعاً لأنه سبق دعوى الوصية إنكار الوصية، فيصير متناقضاً، والتناقض يمنع صحة الدعوى، إلا أن هذا التناقض فيما طريقه طريق الخفاء، لأن الموصي يستبد بالوصية، ولا يحتاج فيها إلى القبول، ولعل أوصى ولم يعلم به الموصى له، فنفاه فلما علم به ادعاه. نوع آخر من هذا الفصل في المتفرقات يجب أن يعلم بأن دفع الدعوى كما هو صحيح، فدفع الدفع صحيح، وكذلك دفع دفع الدفع، وما زاد على ذلك صحيح هو المختار، وكما يصح دفع الدعوى بعد إقامة المدعي البينة، يصح دفعه قبل إقامة المدعى البينة، وإذا ادعى المدعى عليه الدفع وطلب من القاضي الإمهال، فالقاضي يمهله إلى المجلس الثاني في «الفتاوى» ، وفي «فوائد» شمس الإسلام محمود الأوزجندي: أن دعوى الدفع من المدعى عليه لا يكون تعديلاً للشهود، وإنه ظاهر لجواز أن دفع الطعن في الشهود. وإذا ادعى المدعى عليه أن هذا العين وديعة عنده من جهة فلان، وأقام على ذلك بينة، وأقام المدعي بينة في دفع دعواه: إنك أقررت قبل هذا أن العين ملكي، فهذا دفع لدعوى المدعى عليه. وإذا كان أرضاً في يد إنسان، وأقام المدعى عليه بينة أن هذه الأرض في يدي بحكم المزارعة، فهذا دفع دعوى المدعي، كما لو أقام بينة أنها في يدي بإجارة، أو

إعارة، أو وديعة، وإذا قال: لا دفع لي، ثم جاء بدفع. فقد قيل: يجب أن تكون هذه المسألة على روايتين، أو على الخلاف بين أبي حنيفة، ومحمد على قياس ما إذا قال المدعي: لا بينة لي، واستحلف المدعى عليه، ثم جاء ببينة. وقيل: في هذه المسألة يجب أن لا يصح دفعه بعد ذلك باتفاق الروايات، لأن معنى قوله: لا دفع لي، ليس لي دعوى الدفع، ومن قال: لا دعوى لي قبل فلان، ثم جاء يدعي عليه لا تسمع دعواه، كذا هاهنا، والأول أقرب إلى الصواب، لأن معنى قوله: لا دفع لي، ليست لي بينة دافعة؛ لأن دعوى المدعي لا تندفع بمجرد دعوى المدعى عليه الدفع، وإنما تندفع ببينة يقيمها على الدفع، وإذا كان معنى قوله: لا دفع لي هذا. صارت هذه المسألة نظير ما إذا قال المدعي: لا بينة لي قبل المدعى عليه الضيعة أو الدار، إذا أقام بينة أن نصف هذه الضيعة أو نصف هذه الدار في يدي وديعة من جهة فلان الغائب، هل يبطل دعوى في الكل؟ فقد قيل: يبطل، لأن الدعوى واحدة، فإذا بطل بعضه بطل كله، وقيل: لا تبطل في الكل، وإنما يبطل في النصف، قالوا: وإليه أشار محمد رحمه الله في بيوع «الجامع» . دعوى اتفقت الأئمة على فسادها، ومع ذلك جاء المدعى عليه بدفع لو كانت الدعوى صحيحة كان ذلك الدفع دفعاً له، فالقاضي هل يسمع دفع المدعى عليه؟ أو يأمر المدعي بتصحيح دعواه؟ فقد اختلف المشايخ فيه؛ قال بعضهم: يأمر المدعي بتصحيح دعواه، وقال بعضهم: يسمع دفع المدعى عليه ويقضي به. ادعى داراً في يدي رجل فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنك أقررت قبل هذا أنك بعت هذه الدار مني، وأراد أن يحلف المدعي فله ذلك، ولو أقام البينة على إقرار المدعي بذلك قبلت بينته، واندفع دعوى المدعي. وإذا ادعى (219أ4) النتاج في دابة فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: إنك تبطل في هذه الدعوى لما أقررت أنك اشتريت هذه الدار من فلان فلا دفع لدعوى المدعي. رجل ادعى كرماً في يدي رجل، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنه أجر نفسه مني ليعمل في هذا الكرم لي، عمل كذا، فهذا دفع صحيح لو أثبته بالبينة تندفع عنه دعوى المدعي؛ لأن إجارة نفسه من غيره للعمل في الكرم الذي في يد ذلك الغير إقرار من الأجير أن الكرم ليس له، فيصير بدعواه أن الكرم له متناقضاً. ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله: رجل ادعى على رجل أنه أخذ منه مالاً وهو كذا وكذا ووصفه بأمر يعرف، فأقام المدعى عليه بينة أن المدعي قد أقر أن هذا المال المسمى المفسر أخذه منه فلان الآخر، والمدعي ينكر، فليس هذا بإبطال لدعوى المدعي، ولا إكذاب لبينته، لأن الإكذاب، والإبطال إنما يثبت لمكان التنافي،

ولا منافاة بين الأمرين إذا لم يكن في الشهادتين ذكر الوقت لجواز أن فلاناً الأجنبي أخذه أولاً، ثم رده عليه، ثم أخذه المدعى عليه، وإذا لم يكن بين الأمرين منافاة أمكن تصحيح البينتين، والبينات حجج الله تعالى، فمهما أمكن تصحيحها لا يلغى أحدهما. ولو أن المدعى عليه أخذ منه هذا المال، فهذا إبطال لدعوى المدعي، وإكذاب لبينته. والفرق: أن في هذه المسألة ثبتت بينة المدعى عليه إقرار المدعي بأخذ وكيل المدعى عليه المال منه، لا تصح دعوى المدعي بعد ذلك الأخذ من المدعى عليه، لأن فعل الوكيل فعل الموكل، فيصير المدعي بدعوى الأخذ بعد ذلك على المدعى عليه مدعياً ذلك الأخذ لا أخذاً آخر، ووقت آخر من غير ضرورة.n قلنا: وأمكن أن يجعل المدعي مدعياً ذلك الأخذ على المدعى عليه؛ لأن فعل الإنسان ينتقل إلى غيره إذا كان بحكم الوكالة عن ذلك الغير، وإذا صار المدعي مدعياً ذلك الأخذ يصير مدعياً المال على المدعى عليه بأخذ وجد من وكيله. قلنا: ودعوى المدعى عليه بفعل وجد من الغير باطل؛ لأن الإنسان لا يصير متعدياً بفعل غيره، أما في المسألة الأولى: لا يمكن أن يجعل المدعي مدعياً على المدعى عليه ذلك الأخذ الذي كان من فلان الآخر؛ لأن فعل الإنسان إنما ينتقل إلى غيره بحكم الوكالة عن ذلك الغير وكالة في المسألة الأولى، فكان مدعياً عليه أخذاً آخر بطريق الأصالة، ودعوى المال على غيره بسبب الأخذ منه بطريق الأصالة، دعوى صحيحة، فهذا هو الفرق المنقول عن المشايخ، وإنه مشكل عندي. وقالوا: المراد من مسألة الوكيل أن لا يكون الموكل، وهو المدعى عليه ذو سلطان، أما إذا كان ذا سلطان كان الضمان فيه على الموكل، وهو المدعى عليه على ما مر قبل هذا، فيستقيم دعوى الضمان عليه بأخذ وكيله على ما مر قبل هذا. والمراد من الوكالة بالمذكور فيه الأمر لا حقيقة الوكالة، وإذا ادعى على رجل عيناً في يده ملكاً مطلقاً، وأقام البينة وقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: هذه العين ملكي، وقد كنت أيها المدعي اشتريت هذه العين مني ثم أقلنا البيع، واليوم هذه العين ملكي، فأقاما على ذلك بينة، فهذا ليس بدفع لأن المدعي ادعى الملك المطلق لنفسه، وفي مثل هذا البينة بينة الخارج. وقد قيل: ينبغي أن تقبل بينة صاحب اليد على قول من يقول بأن البينة مع الإقرار إذا اجتمعا، فالقاضي يقضي بالإقرار لا بالبينة. ووجهه: أن صاحب اليد لما قال للمدعي: قد كنت اشتريت هذه العين مني، فقد أقر بالملك للمدعي، وتطلب بينة المدعي، فعند ذلك صاحب اليد بدعوى الإقالة يدعي الإقالة إلى نفسه ويقيم عليه البينة، ولم يبق للمدعي بينة، فقبل بينة صاحب اليد ضرورة، ولأن صاحب اليد لما ادعى البيع من المدعي والإقالة، وأثبت ذلك بالبينة، فقد ثبت إقرار المدعي أن الملك لصاحب اليد في رواية، وإقراره أنه لا ملك له قبل البيع باتفاق الروايات، ومع إقرار المدعي أن لا ملك له قبل البيع كيف يقضى له بالملك المطلق.

رجل ادعى على رجل آخر مئة منَ من دهن السمسم بسبب صحيح، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنه يبطل في هذه الدعوى لأني قد كنت أعطيته عوض هذا الدهن ديناراً من الذهب الأحمر؛ لجواز أن الدهن قد وجب بسبب السلم، فإذا أخذ عوضه ديناراً، فقد استبدل بالمسلم فيه والاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز، ويبقى الدهن في ذمته على حاله، فلا يصح الدفع، وإن كان الدهن مبيعاً بأن اشترى مقداراً معيناً من الدهن، فإذا أعطاه عوض ذلك من الذهب، وهو قائم بعينه كان بائعاً المبيع قبل القبض، فإنه لا يجوز فلا يصح الدفع أيضاً، فلهذا شرطنا بيان السبب. وإذا جعل الرجل أمر امرأته بيدها على أنه متى لم تصل إليها نفقتها في وقت كذا؛ فهي تطلق نفسها متى شاءت، ثم إن المرأة أرادت أن تطلق نفسها بعد مضي ذلك الوقت، ووقع الاختلاف بينها وبين زوجها في وصول النفقة، وعدم وصولها في ذلك الوقت، فقالت المرأة في دفع دعواه: إنه أقر أنه لم يدفع إليها نفقتها، فهذا لا يكون دفعاً لجواز أنه دفع إليها وكيله حتى لو قالت المرأة: إنه أقر أنه لم تصل إليها نفقتها، وأقامت على ذلك بينة كان ذلك دفعاً صحيحاً. رجل ادعى على آخر أنه لكز أبي ومات من لكزه، وأقام على ذلك بينة، وأقام الضارب بينة أن أباه قد صح من لكزه، وبرىء من ضربه. فقد قيل: هذا دفع لدعوى المدعي، وقيل أيضاً: يجب أن يكون الجواب فيه على التفصيل: إن كان المدعي ادعى أنه لكزه، ومات من تلك اللكزة، وشهود شهدوا كذلك فهذا دفع لدعوى المدعي، فإن كان ادعى أنه لكزه ومات من لكزه، فهذا لا يكون دفعاً لدعوى المدعي، ويقضى عليه بالضمان، وهذا من باب العمل بالبينتين؛ يجعل كأنه لكزه، وبرىء من لكزه ثم لكزه ثانياً، ومات منه. وهو نظير ما قال محمد رحمه الله في كتاب الغصب: إذا أقام الغاصب بينة أنه رد الدابة المغصوبة على المالك، وأقام المالك بينة أنها ماتت من ركوب الغاصب، فالقاضي يقضي على الغاصب بالضمان، وكان ذلك من باب العمل بالبينتين، بأن يجعل، كأن الغاصب ردها على المالك ثم ركبها ثانياً؛ كذا في مسألتنا. في «فتاوى النسفي» رحمه الله: سئل عمن ادعى على آخر: إني رهنت منك كذا عيناً سماه ووصفه بكذا، وطلب منه إحضار الرهن ليقضي ما له عليه من الدين، ويرد الرهن عليه، والمدعى عليه ينكر الرهن والارتهان، فجاء المدعي بشاهدين على الرهن، وجاء المدعى عليه بشاهدين شهدا أن المدعى عليه اشترى هذه العين من هذا المدعي بكذا ونقده الثمن، وقبض المشتري بتسليمه، فهذا دفع لدعوى المدعي، ويقضي ببينة صاحب اليد لأن بينته أكثر إثباتاً، لأن الشراء آكد من الرهن. رجل أخذ دابة من يدي رجل وهلكت في يده، فجاء الذي كانت الدابة في يده إلى القاضي، وادعى على الذي أخذ الدابة من يده أنه أخذ دابته بغير حق، وهلكت في يده، وأقام الآخذ بينة أني أخذتها بحق لما أن الدابة ملكي، وكانت في يد صاحب اليد بغير

حق؛ فهذا دفع صحيح، وهذا لأن الدعوى من صاحب اليد في الحاصل دعوى ضمان الدابة، وبينة الأخذ على الوجه الذي بينا صلحت دافعة له. ولو كانت الدابة قائمة في يد الآخذ، فادعى الذي كانت في يده على نحو ما بينا، وأقام الآخذ بينة أنه أخذها لأنه ملكها، قبلت بينته، لأن الآخذ، وإن كان ذو اليد في الحال ولكن يثبت بتصادقهما أنها كانت في يد الآخذ، وثبت بذلك أن صاحب اليد في الحقيقة الآخر دون الآخذ، فلهذا تقبل بينة الآخذ على الملك له في الدابة. امرأة ادعت على زوجها أنها محرمة عليه بالطلاق الثلاث (219ب4) وأقامت على ذلك بينة، فقال الزوج في دفع دعواها: إنها أقرت أنها اعتدت بعد طلقاتها الثلاث وتزوجت بزوج آخر، ودخل بها زوجها الثاني ثم طلقها وانقضت عدتها، ثم تزوجها وهي حلال له اليوم هل يصلح هذا دفعاً؟ كان شيخ الإسلام السغدي يقول: لا يصح هذا الدفع؛ لأن أكثر ما فيه أنه ثبت ببينة الزوج إقرارها بالحل، فتناقضها في دعوى الحرمة، إلا أن الدعوة ليست بشرط لسماع البينة على طلاق المرأة وحرمتها، والصحيح أن دعوى الدفع على هذا الوجه صحيح. وفي «نوادر ابن رستم» عن محمد: رجل ادعى داراً أو متاعاً في يدي رجل، وأقام بينة عند القاضي بذلك، وقضى القاضي له بما ادعى فلم يقبضه المدعي حتى أقام المدعى عليه بينة أن هذا المدعي أقر أنه لا حق لي في هذا المدعي، قال: إن شهدت شهوده على إقرار المدعي أن شهوده فسقة، أو على إقراره أنه استأجرهم على هذه الشهادة، أو على إقراره أنهم لم يحضروا المجلس الذي كان فيه هذا الأمر، وادعى المدعى عليه، قبلت شهادتهم، وبطلت شهادة شهود المدعي إذا أقر في غير مجلس القاضي أن هذا العين ملكه بسبب الشراء من فلان، ثم ادعاه عند القاضي ملكاً مطلقاً، فقال المدعى عليه للقاضي في دفع دعواه: إنه أقر مرة أن هذا العين ملكه بسبب الشراء من فلان، فهذا دفع لدعوى المدعي. رجل ادعى عيناً في يدي إنسان عند قاضي ملكاً بسبب، ولم يمكنه إثباته، فباع المدعى عليه ذلك العين من رجل، وسلمه إلى المشتري، ومضى على ذلك زمان، ثم إن المدعي ادعى ذلك العين على المشتري عند ذلك القاضي، أو عند قاضٍ آخر ملكاً مطلقاً، فقال المشتري في دفع دعواه: إنه مبطل في هذه الدعوة كما أنه ادعى هذا العين على بائعي بسبب الشراء، والآن يدعيه ملكاً مطلقاً، فهذا دفع صحيح. ادعى عيناً في يدي إنسان ملكاً مطلقاً، وادعى المدعى عليه في دفع دعواه أنه كان ادعى هذا العين قبل هذا بسبب، فقال المدعي: إنما ادعيته الآن بذلك السبب أيضاً، وترك دعوة الملك المطلق، سمع دعواه ثانياً بالسبب أيضاً، وبطل دفع المدعى عليه. رجل ادعى عبداً في يدي رجل، وأثبت دعواه بالبينة، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنك قد بعت هذا العبد من فلان الغائب، وأقام على ذلك بينة. فعلى ما عليه إشارات «الجامع» و «الزيادات» : لا تقبل هذه البينة من المدعى عليه ولا تندفع دعوى المدعي.

وقد ذكر الناطفي في «أجناسه» : أن القاضي يقبل هذه البينة ويدفع دعوى المدعي، والوجه لما ذكره الناطفي: أن دعوى المدعى عليه بيع المدعي من فلان، وكل بائع مقر بالملك للمشتري منه بمنزلة دعواه إقرار المدعي بأن هذا العين ملك لفلان، ولو ادعى إقرار المدعي أن هذا العين ملك فلان، وأقام على ذلك بينة، يسمع ذلك منه، وتندفع خصومة المدعى عليه؛ كذا هنا. وعلى هذا القياس: إذا ادعى ديناً على ميت بحضرة وارثه، وأنكر الوارث التركة، فعين المدعى عليه عيناً من الأعيان، وقال: هذا من تركته، فقال الوارث: إن الميت قد كان باع هذا العين في حياته من فلان دفعاً صحيحاً؛ حتى لو أقام البينة على ذلك تندفع دعوى المدعي. حكي عن الشيخ الإمام نجم الدين النسفي أنه قال: عرض علي محضر فيه دعوى رجل على رجل أرض إنها ملكه وحقه، وإن مورث المدعى عليه أحدث يده عليها بغير حق إلى أن مات، وفي يد وارثه هذا بغير حق أيضاً، فواجب قصر يده عنها وتسليمها إلى هذا المدعي، وأقام على ذلك بينة بعد إنكار المدعى عليه دعواه، وقال المدعى عليه في دفع دعواه: إن مورثنا فلان كان اشترى هذا المحدود من مورث هذا المدعي بيعاً باتاً وتقابضا، وكان في يده بحق إلى أن توفي، ثم صار ميراثاً لي عنه بحق، فقال المدعي في دفع هذا الدفع: إن مورث المدعى عليه كان أقر أن البيع الذي جرى بيننا كان بيع وفاء وارد على الثمن على رد الأرض، وأقام بينة على ذلك؛ هل يصح دفع الدفع على هذا الوجه؟ وقد كان أجاب قاضي القضاة عماد الدين علي بن عبد الوهاب، والشيخ الإمام الزاهد علاء الدين عمر بن عثمان: أنه صحيح، وإني أجيب أنه غير صحيح؛ لأنه ادعى أولاً أنه كان في يده بغير حق؛ وأنا أقول: يجب أن تصح دعوى الدفع على قول من يقول: بأن لبيع الوفاء حكم الرهن؛ لأنه إقرار ببعض ما أنكره له أولاً، وهو كون الأرض في يده بغير حق، وهذا لأنه لما كان لهذا حكم الرهن كان المبيع على ملك المدعي، إلا أن المدعى عليه حضر، وقد ادعى المدعي أولاً، وهو كون الأرض في يده بغير حق، فإذا أقر بعد ذلك ببيع الوفاء، فقد ادعى أن الملك له، وادعى أن يد المدعى عليه بحق. فهو معنى قولنا: إنه أقر له ببعض ما أنكره له أولاً، إلا أن بعدما أقر ببيع الوفاء لا يمكنه مطالبة المدعى عليه بتسليم الأرض، ولا تقبل بينته على تسليم الأرض، وإنما تقبل بينته على ملكية الأرض، وعلى قول عامة المشايخ: إن لم يكن الوفاء مشروطاً في البيع، فالبيع صحيح، ولا يكون هذا دفعاً، وإن كان الوفاء مشروطاً في البيع كان البيع فاسداً، فإن ادعى فسخ العقد يصح الدفع، وما لا فلا. ذكر شيخ الإسلام في «شرح الجامع» في باب من القضاء: ادعى على آخر داراً في يديه، فأقام المدعى عليه بينة على إقرار المدعي أن الدار ليست ملكاً لي، أوما كانت لي، اندفعت بينة المدعي.

ادعى عيناً في يدي إنسان أنه ملكي، وقد أقر صاحب اليد بذلك لي، فأقام المدعى عليه البينة أنه استوهب هذا العين مني يكون ذلك دفعاً لدعوى المدعي لأن الاستيهاب إقرار أنه ليس ملك الموهوب باتفاق الروايات، وهل يكون إقراراً بملك الواهب؟ على رواية «الجامع» : يكون إقراراً، وعلى رواية «الزيادات» : لا يكون إقراراً. وصار تقدير هذه المسألة، كأن المدعي أقام بينة على إقرار المدعى (عليه) أن لا ملك له في هذا العين على الرواية كلها، أو على إقراره أن هذا العين ملك الواهب على رواية «الجامع» . وكذلك على هذا إذا أقام المدعى عليه بينة على أن المدعي استامه منه، أو قال بالفارسية: خريده خواستي أين عين را ازمن، فهذا دفع دعوى المدعي، فالإقدام على الاستيام، وعلى الشراء إقرار أنه لا ملك للغير فيه باتفاق الروايات، وهل يكون إقراراً بالملك للبائع؟ فعلى الروايتين أيضاً، وكذلك الإقدام على الإجارة وعلى المزارعة على هذا. وفي كتاب القسمة في «المنتقى» : قال هشام: سألت محمداً عن رجل تزوج امرأة ثم ادعى أنه اشتراها ممن يملكها، قال: لا أقبل بينته على ذلك حتى يشهدوا أنه اشتراها من فلان بعد التزوج، وكذلك إن ساوم بدار في يدي رجل ثم ادعى أنه اشتراها من فلان، وفلان يملكها لم أقبل ذلك منه، حتى يشهدوا أنه اشتراها من فلان بعد (فقال) في دفع دعواه: إن هذا المدعي مبطل في دعواه كون هذا العين ملكاً له لما أنه استشرى هذا العين من فلان، وهذا منه إقرار أنه لا ملك في المدعي فهذا دفع. وإذا ادعى نخلاً في يدي رجل فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إنه استشرى في كونه إقراراً أنه لا ملك للمدعي في المدعى نظير الاستشراء من المدعى عليه، معنى أن من ادعى عيناً في يدي إنسان أنه ملكه، فقال المدعى عليه: ثمن هذا النخل مني، فهذا ليس بدفع إذ ليس من ضرورة أن لا يكون ثمر النخيل لإنسان أن لا يكون النخل له، وقد مر هذا فيما تقدم. ادعى محدوداً في يدي رجل وبين حدودها، فقال المدعى عليه: أين محدود كه مدعي دعوى كردانة أين حدود ملك متست، فادعى المدعي دعواه ثانياً في مجلس آخر يعين تلك الحدود، فقال المدعى عليه: در حدود خطا كرده واين حدود كه دردست منست مراست به حدود نيست كه تو دعوي كرده، وأعاد المدعي دعواه ثالثاً في مجلس آخر، فقال المدعى عليه: أين محدود كه تو دعوي كرده تو بفلان فروختا، (220أ4) بودي ينفى أزانك دعوانك دعوى كردي ومن آز فلان خريده أم هل يكون هذا دفعاً لدعوى المدعي فقيل: لا، وينتقض كلامه الثالث بالكلام الثاني، واعتبر كلامه الثاني لنقض كلامه الثالث. وإن لم يعتبر في حق دفع دعوى المدعي، أما إذا ادعت المهر المسمى على ورثة زوجها، وأقامت على ذلك بينة، فقالت الورثة في دفع دعواها: إنك قد كنت قد أقررت

أن النكاح كان بغير تسمية، وإن الواجب مهر المثل، والآن تدعي المسمى وبينهما تناقض، فقد قيل: هذا دفع، وقد قيل: إنه ليس بدفع وهو الأصح إذ يجوز أن لا يكون في النكاح تسمية، ثم يسمي لها مهراً ويكون ذلك تقدير مهر مثلها. ادعى المديون القضاء وأنكر رب الدين ذلك وحلف، ثم إن المديون صالح رب الدين من ذلك على شيء، ثم أقام البينة أنه كان قضاه الدين، هل تسمع بينته؟ اختلف المشايخ فيه، وذكر في كتاب الصلح مسألة تدل على القبول. وصورتها: استعار من آخر دابة وهلكت الدابة تحت المستعير بعد ذلك بينة على العارية، وقال: إنها نفقت؛ قبلت بينته، وبطل الصلح، وإن أراد استحلاف المعير على ذلك فله ذلك. وفي «المنتقى» : رجل ادعى على رجل ألف درهم، فقال المدعى عليه: ما كانت لك عليّ ألف درهم قط، وقد ادعيت هذه الألف أمس فدفعتها إليك، فقال المدعي: ما قبضت منك شيئاً، فإن لي عليك ألف درهم، فصالحه من دعواه على خمسمئة درهم، ثم إن المدعى عليه جاء ببينته فشهدت أنهم رأوا المدعى عليه دفع إلى المدعي أمس ألف درهم، لم ألتفت إلى هذه الشهادة؛ لأن هذا إنما افتدى بينته بها. ولو أن المدعى عليه قال للمدعي: صدقت؛ قد كان لك علي ألف درهم، وكذا قد قضيتها أمس، فقال المدعي: ما قضيتني شيئاً، فدفع الألف إليه أو صالحه على خمسمئة، ثم شهدت الشهود للمدعى عليه أنه دفع إليه الألف بالأمس، كان له أن يرجع عليه بما أعطاه والصلح باطل. وفي «المنتقى» : قال هشام: سمعت محمداً يقول في رجل ادعى على رجل مالاً، وصالحه وجحد المدعى عليه وأعطاه إياه، أو صالحه من دعواه، ثم أقام المدعى عليه بينة أن المدعي قال قبل القضاء أو قبل الصلح: ليس لي قبل فلان شيء، فالقضاء والصلح ماضيان، وإن أقام بينة أنه أقر بذلك بعد الصلح والقضاء، أبطلت الصلح والقضاء، ولو كان القاضي قد قضى عليه بالمال ببينته، ثم أقام المدعى عليه بينة أن المدعي أقر قبل أن يقض القاضي أنه ليس عليه شيء أبطلت المال عنه. رجل ادعى داراً في يدي رجل، فصالحه المدعى عليه على ألف على أن يسلمها للمدعى عليه، ثم إن المدعى عليه أراد أن يقيم بينة أنها له ليرجع في الألف، فليس له ذلك. وكذلك إن أقام بينة أنها كانت لأبيه فلان مات أبوه وتركها ميراثاً له، هكذا روى ابن سماعة عن أبي يوسف. وعلل فقال: لأنه كان القول فيها قوله، فإنما افتدى يمينه بما يدل، فلا يستطيع أن

يرجع فيه، ولو أقام بينة أنه كان اشتراها من المدعي قبل الصلح قبلت ببنته، وبطل الصلح، ولو لم يقم بينة على الشراء، وإنما أقام بينة على صلح صالحه قبل هذا الباب، أمضيت هذا الصلح الأول وأبطلت الثاني. وفي «المنتقى» : ادعى داراً في يدي رجل إرثاً عن أبيه، ثم اصطلحا على شيء، ثم إن المدعى عليه أقام بينة أنه كان اشترى الدار من أب هذا المدعي حال حياته، أو أقام بينة أنه كان اشتراها من فلان، وفلان كان اشتراها من أب هذا المدعي، لا تقبل بينته، لأنه ساعي في نقض ما تم به، لأنه لو ظهر ذلك يبطل الصلح. وإذا ادعى على آخر مالاً معلوماً، فادعى المدعى عليه الصلح إن كان الصلح على جنس الحق، لا حاجة إلى ذكر القبض بدل الصلح، وإن كان الصلح على خلاف جنس الحق لا بد من ذكر قبض بدل الصلح، ومن ذكر قبضه في مجلس الصلح، وهل يشترط بيان بدل الصلح؟ بعض المتأخرين قالوا: يشترط، وبعضهم قالوا: لا يشترط. وذكر يعني عن بيانه؛ ادعى داراً في يدي رجل، فادعى المدعى عليه الصلح، ولم يقم له على ذلك بينة، وقضى القاضي بالدار للمدعي، وباعها المدعي من رجل، ثم إن المدعى عليه الدار أراد أن يحلف المدعي بالله؛ ما صالحتني عن دعواك في الدار قبل قضاء القاضي بالدار فله ذلك، فإذا حلفه ونكل عن اليمين كان للمدعى عليه الخيار؛ إن شاء أجاز البيع وأخذ الثمن وإن شاء ضمنه. ادعى على رجل داراً في يده، وصالحه المدعى عليه على دراهم مسماة، يدفعها المدعى عليه إلى المدعي ودفع، ثم إن المدعى عليه أقام بينة على أن المدعي قال بعد الصلح: حكونه أوردم كه جندين مال بباطل أذرى بستدم، دفع بينته وبطل الصلح، وكان له أن يسترد من المدعي ما دفعه إليه، وعلى قياس ما ذكرنا قبل هذا ينبغي أن لا يسمع بينته لأنه افتدى يمينه بما يدل، فلا يكون له أن يرجع فيه. وفي «المنتقى» : ادعى ثوباً في يدي رجل، فصالح المدعى عليه المدعي على عشرة دراهم يدفعها إلى المدعي، ودفع ثم إن المدعى عليه أقام بينة على إقرار المدعي أنه لا حق له في هذا الثوب، إن شهدوا على إقراره قبل الصلح، فالشهادة باطلة والصلح جائز، لأن المدعى عليه قد صالح وهو منكر، فإنما افتدى يمينه بما يدل. وكذلك لو كان المدعى عليه حلف المدعي عليه فنكل، وقضى القاضي عليه بنكوله بالثوب للمدعي، ثم جاء المدعى عليه ببينة يشهدون على إقرار المدعي قبل القضاء أنه لا حق له في الثوب، لا يلتفت إلى شهادته، وإن أقام المدعى عليه بينة على إقراره بعد الصلح أنه لم يكن له في الثوب حق أبطلت الصلح. رجل ادعى على ميت ديناً في تركته بحضرة أحد ورثته، أو ثبت الدين بالبينة، فجاء وارث آخر غير الذي قامت عليه البينة، وصالح مع المدعي على بعض ما ادعاه، ثم إن هذا المصالح أقام بينة على المدعي أن المورث قد أوفاك هذا المال، وكنت مبطلاً في هذه الدعوى لا تسمع بينته، ولو أقام غير المصالح من ورثة الميت بينة على أن المورث قد كان أوفاك هذا الدين يسمع.

رجل ادعى نكاح امرأة وأقام بينته على دعواه، فأقامت هي بينة على وجه الدفع أنه قد خالعها، فهذا دفع إذا لم يوقتا، أو وقت أحدهما دون الآخر وإن وقتا، وتاريخ الخلع سابق، فهذا ليس بدفع، وبينة المرأة مردودة. أمة في يدي رجل ادعاها رجل، وقال: إنها أمتي وقد غصبها ذو اليد مني، وأقام ذو اليد بينة أنها كانت أمة فلان، وقد أعتقها فلان منذ عشرين سنة، وإنما تزوجتها، فهذا دفع.m وإذا ادعى نكاح امرأة وهي تدعي إقرار المدعي بحريتها فهذا دفع، وكذلك إذا ادعت هي النكاح، وادعى هو الخلع فهذا دفع. وإذا ادعى نكاح امرأة، وادعت أنها منكوحة فلان الغائب فهذا ليس بدفع، فرض القاضي على الزوج النفقة، فطلبها وادعى على وجه دفع الفرض أنها محرمة علي هذه الحالة، فهذا ليس بدفع، ولا يبطل فرض القاضي؛ لأنه ليس من ضرورة كونها محرمة أن لا يكون لها عليه النفقة، وأنها لو كانت في عدتها، فهي محرمة ولها عليه النفقة، ونفقة النكاح ونفقة العدة، فهذا لا يصلح دفعاً، ولو كان ادعى الخلع على المهر ونفقة العدة فهذا دفع. رجل ادعى على زيد مثلاً بحضرته إني استأجرت من صالح محدود كذا إجارة طويلة مرسومة بكذا، وقبضت المحدود، ثم أجرته مقاطعة من زيد هذا الذي أحضرته بكذا مدة كذا، وبين جميع الشرائط في العقدين جميعاً ثم قال: ومضت مدة المقاطعة، وصار مال المقاطعة ديناً لي على زيد هذا وذلك كذا، فقال زيد في دفع دعواه: إني اشتريت هذا المحدود من صالح صاحب المحدود بكذا في يوم كذا، ونفذ البيع في أيام الفسخ، وذلك كذا، وسقط مال المقاطعة عني من وقت كذا، وذلك كذا، وهذا المدعي مبطل في دعواه جميع مال المقاطعة عليّ، فأقام بينة على ما ادعاه، وكان ذلك بعينه صالح صاحب المحدود؛ هل تسمع هذه البينة؟ وهل تندفع دعوى (220ب4) المدعي، فقد اختلف مشايخ زماننا فيه، والأظهر أنه يسمع البينة، وتندفع دعوى المدعي. رجل ادعى على آخر أنه كسر سنه العليا، فقال المدعى عليه بطريق الدفع: إنه لم يكن له هذا السن أصلاً، وأقام على ذلك بينة فهذا ليس بدفع، وهذه البينة مردودة لأنها قامت على النفي. وقعت في زمانننا أن رجلاً ادعى على رجل أن لفلان بن فلان عندك كذا وكذا، وإنه صبي، وجعل القاضي فلان أبا فلان وصياً لهذا الصبي، وهذا الصبي في ولاية هذا القاضي، ثم إن أبي فلاناً وكلني بقبض مال الصغير هذا منك وذلك كذا وكذا، وقضى القاضي بوكالة المدعى بشرائطه، وقبض المدعي المال، ثم إن هذا المدعى عليه بعد ذلك..... ادعى على هذا الوكيل أن هذا الصبي فلان بن فلان قد أدرك ووكلني بقبض

ماله أيها الوكيل عن الوصي، فقال الوكيل عن الوصي: بعثت المال إلى الصبي؛ هل يصدق؟ وقد قيل: لا يصدق أصله الوكيل بالبيع إذا قال بعدما عزل الموكل: بعته أمس؛ الوكيل يقبض إذا أثبت وكالته بالبينة، وقضى القاضي بوكالته، ثم إن المطلوب ادعى أن الطالب قد مات قبل دعواه وليس له حق القبض، فهذا دفع؛ لو أقام البينة عليه تندفع دعوى المدعي. حانوت استحق من يد رجل بالبينة، ورجع المستحق عليه على بائعه بالبينة، فأقام بائعه بحضرته وبحضرة المستحق أن المستحق أقر أن هذا الحانوت كان ملك أبي؛ مات وتركه ميراثاً لي لا وارث له غيري، وإن ولي قال في حياته وصحته: جميع هذا الحانوت ملكي بسبب صحيح، وفي يدي بحكم الإجارة لا ملك لي فيه، وقد كنت صدقته في هذا الإقرار، ثم بعته بعد ذلك من المستحق عليه، وإن قضى القاضي للمستحق وقع باطلاً، فهذا دفع صحيح. ولو أن البائع لم يقل هذا، وإنما قال: إن المستحق قد كان قبل دعوى الحانوت التي في يد فلان ملك فلان بن فلان، والأب يدعي الحانوت لنفسه، وهذا تناقض، فهذا دفع لدعوى المدعي إذا ادعى أرضاً في يدي رجل، فقال المدعى عليه في دفع دعواه: إن المدعى مبطل في هذه الدعوى لما أنه طلب مني أن أدفع هذه الأرض إليه مزارعة، أو قال: طلب مني أن أؤجره هذه الأرض منه، فهذا دفع لدعوى المدعي؛ دلال دلالى كردم مردي راتا خانه خريده زمردي بازاين دلال هميم خانه دعوى سنكيد يد هميم مشتري بملكي مشتري دفع سيكويد كه أين خانه رادلالي، كرده امرأته آز فلان خريدم، هل يكون هذا دفعاً قال: ينظر؛ إن كان الدلال قال للمشتري: اشتره فإنه ملك هذا البائع، فهذا دفع، وإن لم يقل: فإنه ملك هذا البائع، فهذا لا يكون دفعاً. رجل ادعى داراً في يدي رجل فقال المدعى عليه: اشتريتها من فلان، وأنت أجزت هذا البيع، فهذا لا يكون إقراراً بالملك للمدعى عليه، ولا يكون دفعاً لدعوى المدعي. قال في «الأقضية» : رجل ادعى داراً في يدي رجل، وأقر ذو اليد أنها كانت للمدعي، ثم قال بعد ذلك: إنها لفلان أودعنيها، إن أقام البينة على الإيداع اندفعت عنه الخصومة سواء بدأ بالإقرار للمدعي، ثم بني بالإيداع، أو على الغائب لأن أكثر ما في الباب أنه أقر بابتداء كلامه بكون الدار ملكاً للمدعي، إلا أن كونها ملكاً للمدعي لا ينافي كون يد صاحب اليد يد أمانة، لجواز أن المقر له أجرها من الغائب أو أعارها، ثم إن الغائب أودعها عنده، وإذا ثبت أن كونه ملك المدعي لا ينافي كون يده يد أمانة يقبل بيانه، وإن لم يكن له بينة أن بدأ بالإقرار للمدعي وبنى بالإيداع؛ يؤمر بالتسليم إلى المدعي بعد ذلك إن حضر الغائب وصدقه، لا ينزع الدار من يد المدعي؛ لأن حقه كان أسبق، لكن يقال للمقر له: أقم البينة على أن الدار لك، وإن بدأ بالإيداع، وبنى بالإقرار يؤمر بتسليم الدار إلى المدعي، لأنه ثبت حق المدعي، وحق الغاصب موهوم؛ لأنه قد صدق المدعي وعسى يكذبه الغائب، وعلى تقدير التكذيب؛ لا يثبت حق الغائب، ولو لم

الفصل الرابع والعشرون: في دعوى الوصية، وجحود الوارث، وإقراره بالوصية لغيره، وفي دعوى الدين وجحود الوارث ذلك، وإقراره بالوصية لرجل آخر

يقم البينة على الإيداع، ولكن علم القاضي أن الغائب أودعها إياه لم يجعل بينهما خصومة، وكذا لو أقر المدعي بذلك، ولو علم القاضي أنها للمدعي، وأقام الذي في يديه البينة أن فلاناً الغائب أودعها؛ لا خصومة بينهما حتى يحضر الغائب، ولو علم القاضي أن الغائب غصبها من المدعي وأودع ذا اليد، فإنه يأخذها من ذي اليد، ويسلم إلى المدعي، وذكر في باب اليمين أن ذا اليد لو قال: أودعنيها الغائب، ولم يكن له بينة يحلف، إن حلف برىء، وإن نكل لزمه ولو جاء المقر له الأول كان له أن يأخذ من المدعي؛ لأن الإقرار له سابق، ثم يقال للمقر له الثاني، أو الناكل له: أثبت على خصومتك مع المقر له الأول إن أقام البينة أخذه، وإن لم يكن له بينة يحلف، إن حلف برئ وإن نكل لزمه. بائع العبد إذا طلب الثمن من المشتري، وقال المشتري: إنك مبطل في هذه الدعوى لأنك بعت الحر، فإنك حلفت وقلت: إن اشتريت عبداً فهو حر، ثم اشتريت هذا العبد بعد يمينك، وعتق عليك وبعته مني، فهذا دفع لو أثبته بالبينة، وكذلك لو قال: حلفت وقلت: كل عبد اشتريته فهو حر، ثم اشتريت هذا العبد بعد اليمين مني عليك، ثم بعته مني. كذلك لو قال: أعتقت هذا العبد قبل أن تبيعه مني، فهذا كله دفعاً صحيحاً، ذكر الفصل الأخر في «الزيادات» من غير ذكر خلاف، وذكر الفصل الآخر عن أبي يوسف، وأبي حنيفة أن بينة المشتري لا تقبل على البائع بذلك حتى لا يسترد المشتري الثمن من البائع، ولكن يعتق العبد على المشتري لإقراره بذلك؛ والله أعلم. الفصل الرابع والعشرون: في دعوى الوصية، وجحود الوارث، وإقراره بالوصية لغيره، وفي دعوى الدين وجحود الوارث ذلك، وإقراره بالوصية لرجل آخر قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل مات وترك ثلاثة أعبد قيمتهم على السواء لا مال له غيره، وترك أباً لا وارث له سواه، فأقام رجل بينة أن الميت أوصى له بعبده هذا الذي يقال له: سالم، وأنكر الوارث ذلك وقال: لم يوص الميت لك بشيء، إنما أوصى لهذا الرجل الآخر بعبده هذا الذي يقال بزيع، وصدقه المقر له بذلك، فالقاضي يقضي لصاحب البينة بسالم، ولا يقضي للمقر له من بزيع شيئاً؛ لأنه تعذر تنفيذ الوصيتين لأنهما يزيدان على الثلث، ومحل تنفيذ الوصايا عند عدم إجازة الورثة الثلث، وقد عدم إجازة الورثة هاهنا فيما زاد على الثلث، لما زعم الوارث أن الميت أوصى بزيع لا غير. وتعذر تنفيذ كل وصية بمقدار النصف حتى يكون تنفيذ الوصايا بقدر الثلث، لأن وصية بزيع لم تثبت في حق صاحب البينة؛ لأن وصية بزيع تثبت بالإقرار، والإقرار حجة

قاصرة، فإذا تعذر القضاء بالوصيتين بكمالهما، وتعذر القضاء بالشركة لا بد من القضاء بأحدهما، فكان القضاء بما ثبت بالبينة، والبينة حجة في حق الناس كافة أولى من القضاء بما ثبت بالإقرار، وإنه حجة قاصرة. فإن قيل: ينبغي أن يقضى للمقر له بجميع بزيع، لأن بزيعاً في يد الوارث، وقد أقر الوارث أن جميعه للمقر له. قلنا: الوارث ما أقر بزيع إقراراً مطلقاً، إنما أقر به بجهة الوصية، والوصية تنفذ في الثلث، والقاضي لما قضى بسالم بحكم الوصية لأن القضاء يكون على وفق الدعوى، وصاحب البينة ادعاه بحكم الوصية، وإذا تعين سالم محلاً للوصية؛ خرج بزيع من أن يكون محلاً لها، فالإقرار من الوارث بزيع حصل في غير محله، فلم يصح. يوضحه: أن الإقرار ببزيع لما حصل بجهة الوصية، ومحل الوصايا الثلث كان الإقرار بزيع من الوارث بشرط أن يسلم للوارث ضعف بزيع، وبعدما قضى القاضي بسالم، لو قضينا ببزيع بإقراره لا يسلم الوارث ضعفه، فلا يكون تنفيذ إقراره كما أقر به. فإن قيل: لمَ لا يقضى للمقر له من بزيع بقدر ثلث ما بقي من التركة سوى سالم بحكم إقرار الوارث؟ وبيان ذلك أن في زعم الوارث أن صاحب البينة مبطل في دعواه، وأنه أخذ سالم بغير حق، فصار سالم بمنزلة الهالك حكماً، ولو هلك حقيقة، وقال الوارث: إن (221أ4) الميت أوصى ببزيع، تنفذ الوصية في بزيع بقدر ثلث ما بقي من التركة وهو ثلث العبدين؛ فكذا هاهنا. والجواب عن هذا أن يقال بأن القاضي لما قضى بوصية سالم، فقد قضى بجميع ما يملك الموصى الإيصاء به، لأن القاضي إنما يقضي بالوصية بقدر الثلث، فإذا قضى بوصية سالم، وسالم ثلث ماله، فقد امتاز ما يملك الميت الإيصاء به، ولم يبق في يد الوارث شيء مما يملك الميت الإيصاء به فجعل الابن مقراً له بالوصية بما لا يملك الميت الإيصاء به، فرفع إقراره لغواً، ثم إذا قضى القاضي بسالم لصاحب البينة لو اشترى الوارث سالماً بزيع، جاز الشراء وكان ينبغي أن لا يجوز؛ لأن من زعم الوارث أن صاحب البينة أخذ سالم بغير حق، وأنه لم يصر ملكاً له بل بقي على حكم ملك الميت، وصار ملكاً للمقر له، وصار الوارث مشترياً ما هو يملكه بملك غيره أولى. قلنا في زعم الوارث: أن سالماً صار ملكاً لصاحب البينة ظاهراً عند محمد، وإحدى الروايين عن أبي حنيفة فإن في القضاء بالوصية بشهادة الزور روايتان؛ عن أبي حنيفة في رواية ينفذ ظاهراً لا باطناً كما في الأملاك المرسلة، وفي رواية ينفذ ظاهراً وباطناً، وإذا صار سالم ملكاً لصاحب البينة ظاهراً وباطناً بقي بزيع على ملك الوارث ظاهراً وباطناً حتى لا تزداد الوصية على الثلث. ولهذا لو باع الوارث بزيعاً من غيره يجوز وطريقه ما قلنا؛ ولما كان هكذا كان في زعم الوارث أنه يشتري ما هو ملك غيره ظاهراً، وباطناً، أو ظاهراً لا باطناً، ولو كان في

زعم الوارث أن شراء سالم فاسد، ففي زعم بائعه أن شراءه صحيح. والحكم في مثل هذا يبنى على زعم البائع؛ كما لو اشترى عبداً أقر بحريته، وكذلك لو كان الوارث اشترى سالماً بألف درهم كان الشراء جائزاً، لما ذكرنا أنه اشترى ما هو مملوك لغيره ظاهراً وباطناً، أو ظاهراً لا باطناً، إلا أن التفاوت ما بين الفصلين؛ أن في الفصل الأول يضمن الوارث قيمة بزيع للمقر له بزيع. وفي الفصل الثاني: يؤمر الوارث بتسليم بزيع إلى المقر له، وهذا الجواب مستقيم على قول محمد وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمه الله بأن في زعم الوارث أن سالماً بقي على ملك الميت باطناً عند محمد، وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وأنه وصل إليه بحكم الميراث لا بحكم الشراء، وأن الشراء منه كان تخليصاً للمغصوب فإذا وصل سالم إلى الوارث فقد وصل إليه بحكم الميراث ثلثا ملك الميت بزعمه، فيجب تنفيذ وصية بزيع فيه، لأن المانع من تنفيذ وصيته عدم سلامة ضعفه للوارث، وقد زال هذا المانع لما سلم سالم للوارث بحكم الميراث، غير أن في الفصل الأول عجز الوارث عن تنفيذ وصيته في عينه، فينفذها في قيمته، وفي الفصل الثاني؛ قدر على تنفيذ وصيته في عينه فيسلم عينه إلى المقر له. رجل مات وترك عبداً قيمته ألف درهم؛ لا مال له غيره، فأقر الوارث أن الميت أوصى بهذا العبد لفلان، وإني أجزت وصيته بعد موته، وأقام رجل بينة أن له على الميت ألف درهم، وجحد الوارث دينه، فإن القاضي يبيع العبد بالدين ويقضي الدين من ثمنه؛ لأن الدين والوصية لو كانا ثابتين بالبينة كان الدين مقدماً على الوصية، فإذا كان الدين ثابتاً بالبينة، والوصية ثابتة بالإقرار؛ لأن تقدم الدين كان أولى، وإنما شرط محمد رحمه الله إجازة الوارث وصية الميت لكون الوصية حاصلة بجميع مال الميت، فإذا باعه القاضي بدين ألف درهم، وقضى دين الغريم من ثمنه، ثم إن الوارث اشترى العبد أو رجع العبد إليه بهبة أو وصية أو ميراث، فأراد المقر له أن يأخذه من الوارث بإقراره له بالوصية لا سبيل له عليه. فرق بين هذا وبين المسألة المتقدمة؛ فإن في المسألة المتقدمة؛ إذا قضى القاضي بسالم لصاحب البينة، ثم وصل إلى الوارث سالم بشراء أو هبة أو وصية، فإنه يؤمر الوارث بدفع بزيع إلى المقر له بالوصية بزيع. والفرق: أن في مسألتنا القاضي يبيع العبد حول حق الموصى له من العبد إلى ثمنه، وله هذه الولاية. بيانه: أن للقاضي ولاية بيع الموصى به إذا كان منقولاً على الموصى له للحفظ عليه حال عجز الموصى له عن الحفظ بنفسه بالغيبة، وما أشبه ذلك لما عرف أن حفظ الدراهم أيسر من حفظ العين، وهاهنا الموصى له عجز عن الحفظ بنفسه؛ لأن القاضي حال بينه وبين العبد بسبب دين الغريم، فقد حصل بيع القاضي عن ولاية شرعية فنفذ ظاهراً وباطناً، فظهر العبد عن الوصية، وتحولت الوصية إلى بدل العبد.

ولهذا لو ظهر أن الشهود على الدين كانوا عبيداً يبطل قضاء القاضي، ويدفع بزيع إلى المقر له؛ لأنه لم يسلم له بالميراث منفعة، فإذا وصل إليه سالم فقد سلم له منفعة، فيلزمه رده إلى المقر له. ولو أن الغريم مات بعدما قبض الثمن وورثه وارث الميت الأول، فإن ورث تلك الألف بعينها، فللمقر له أن يأخذها، وإن ورث مالاً آخر غير تلك الألف يباع منه بقدر ألف درهم، ويدفع ذلك إلى المقر له؛ لأن في زعم الوارث والمقر له أن الوصية تحولت إلى ثمن العبد، وأن الغريم حين أخذ الثمن صار غاصباً له، وصار ذلك ديناً عليه والدين مقدم على الميراث وزعمهما حجة في حقهما، ولو لم يرثه وارث الميت، ولكن أوصى الميت للمقر له بتلك الألف بعينها، على الوارث أن يردها على المقر، وإن كان قد أوصى له بمال آخر يعطي من ذلك للمقر له قدر ألف درهم. وصار الجواب في الوصية نظير الجواب في الميراث؛ لأن الدين كما يقدم على الميراث يقدم على الوصية أيضاً. وإن لم يكن شيء من ذلك ولكن وهب الغريم للمقر له تلك الألف بعينها، أو ألفاً أخرى إن كانت الهبة في حالة المرض، فالجواب فيها كالجواب في الوصية، لأن الهبة في مرض الموت وصية، وإن كانت الهبة في حالة الصحة؛ إن كان الموهوب تلك الألف بعينها أمر بالتسليم إلى الغريم؛ لأنه وصل إليه عين ما أقر به. وإن كان الموهوب ألفاً أخرى لا يؤمر بالتسليم إلى الغريم؛ لأنه لم يصل إليه ما أقر له به. ولا ما تعلق به حقه لأن دين الحر الصحيح لا يتعلق بماله على ما عرف. ولو أن القاضي لم يبع العبد من الأجنبي بالدين، لكن أعطاه الغريم بدينه، فقال: هذا العبد بيع لك بدينك، أو قال: جعلته لك بدينك فأخذه الغريم على هذا، ثم إن الوارث اشتراه منه، أو وهبه الغريم أو تصدق به عليه، فلا سبيل للمقر له على العبد، وهذا لو باعه من الأجنبي سواء؛ لأن بيع القاضي إنما يصح على المقر له بطريق الحفظ، وفي هذا المعنى البيع من الأجنبي ومن الغريم سواء؛ فصح بيع القاضي من الغريم، وانتقل حق الموصى له المقر به إلى الثمن. وهذه المسألة دليل على أن البيع ينعقد بلفظ الجعل، وهذا فصل اختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه ينعقد لوجود معنى البيع وهو تسليم العين بدل، والعبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ، ألا ترى أن من قال لغيره: جعلت لك ابنتي بألف درهم؛ كان نكاحاً لوجود معنى النكاح؛ كذا هاهنا. قال: ولو أن القاضي لم يبع العبد من الغريم ولكن جعله صالحاً للغريم من ماله؛ بأن قال: هذا العبد صلح لك من مالك وسلمه إليه، ثم وصل العبد إلى الوارث يوماً من الدهر يؤمر الوارث بتسليمه إلى الموصى له المقر به بخلاف ما لو باعه من الغريم ثم وصل إلى الوارث، فإن هناك لا يؤمر الوارث بتسليمه إلى الموصى له المقر له. والفرق: وهو أن الصلح يتعلق بالدين المضاف، ولهذا لو صالح مع غيره على دين له عليه ثم ظهر أنه لا دين كان الصلح باطلاً، وفي زعم الوارث أنه لا دين للغريم على

الميت، وأن الصلح وقع باطلاً، وأن حق المقر له في عين العبد باقٍ على حاله، فإذا وصل العبد إليه، يؤمر بتسليمه إلى المقر له عملاً بزعمه، أما البيع لا يتعلق بالدين المضاف إليه (221ب4) ولهذا إذا باع شيئاً من غيره بالدين الذي له عليه، ثم ظهر أنه لا دين؛ لا يبطل البيع، فيتحول حق الموصى له المقر به من العين إلى الثمن بزعم الكل، فلهذا لا يؤمر الوارث بتسليم العين إلى المقر له متى وصل العين إليه. رجل مات وترك ثلاثة أعبد قِيَمُهم على سواء لا مال له غيرهم، شهد شهود أن الميت أوصى بهذا العبد الأكبر لهذا الرجل؛ وجحد الوارث في ذلك، وأقر أن الميت كان أوصى بهذا العبد الأصغر لهذا الرجل الآخر؛ فلم يقض القاضي بشهادة الشهود حتى أعتق المقر له العبد المقر به نفذ عتقه؛ لأنه أعتق ملك نفسه؛ لأن الوارث أقر بالأصغر، وصح إقراره لأنه ملكه ظاهراً، ألا ترى أن الوارث لو أعتقه بنفسه صح إعتاقه، فصح إقراره به للمقر له، فملكه المقر له فنفذ عتقه. فإن قضى القاضي بعد ذلك للمشهود له بالعبد المشهود به، يؤمر المقر له بتسليم قيمة العبد المقر به إلى الوارث؛ لأن الوارث ما أقر بالعبد الأصغر له مطلقاً إنما أقر له به وصية، وحين قضى القاضي للمشهود له بالمشهود به، فقد بطلت وصية المقر له، لأن محل الوصية الثلث، والثلث صار موضوعاً في يد المشهود له بولاية القضاء فيلزمه رد العبد الأصغر، وتعذر رده صورةً بالإعتاق، فيجب رده معنىً برد القيمة. فإن قيل: إذا بطلت الوصية للمقر له ينبغي أن يبطل إعتاقه؛ كما لو كان الوارث أقر بوصية الأكبر لهذا الرجل، وأعتق المقر له الأكبر، ثم قضى القاضي لمدعي الأكبر بالبينة، فإنه يظهر أن العتق باطل في الأكبر، ويسلم الأكبر للمقضي له. قلنا: في تلك المسألة قضى بعين العبد المقر به لغير المقر له، فيظهر أنه أعتق ملك الغير، وهاهنا ما قضى بعين المقر به لغير المقر له؛ لأن المقضي به العبد الأكبر دون الأصغر، إلا أنه في معنى البدل عن الأصغر؛ لأنه ما لم يسلم الأكبر للمقر لا يسلم الأصغر للمقر له، فكان في معنى البدل عنه من هذا الوجه. واستحقاق بدل العتق لا يوجب بطلان العتق؛ لأنه لا يظهر أنه أعتق ما لا يملك؛ لأن بدل المستحق بعد القبض مملوك للقابض ملكاً فاسداً على ما عرف، فإذا لم يبطل العتق وبطلت وصيته، وعجز عن رد عين العبد وجب رد القيمة. فإن قيل: القيمة لو وجبت وجبت للوارث، وفي زعم الوارث أنه أعتق نفسه، وأنه لا قيمة عليه. قلنا: القاضي لما قضى للمشهود له بالمشهود به وصية، فقد كذب الوارث فيما زعم، فالتحق زعمه بالعدم؛ ألا ترى أن المشتري عند الاستحقاق يرجع بالثمن على البائع، وإن كان في زعم المشتري أن المشترى ملك البائع؛ إلا أن القاضي لما قضى بالملك للمستحق، فقد كذب المشتري في زعمه، فالتحق زعمه بالعدم كذا هاهنا. ولو أن المقر له لم يعتق العبد المقر به حتى قضى القاضي بالعبد المشهود به

للمشهود له؛ بطلت وصية المقر له، فإنما أعتق ما ليس بمملوك، فلا يصح إعتاقه، ولا كذلك ما قبل قضاء القاضي للمشهود له؛ لأن قبل قضاء القاضي وصية المقر له على الصحة، فإنما أعتق المقر له ملك نفسه، فإن وصل العبد المشهود إلى يد الوارث يوماً من الدهر بوجه من الوجوه، يؤمر بتسليم المقر به إلى المقر له، لأن في زعم الوارث أن هذا العبد لم يكن موصىً به، وأنه في يد المشهود له بحكم الغصب.l فإذا وصل إليه بطريق من الطرق؛ كان واصلاً إليه بحكم الميراث، فيؤمر بتسليم المقر به إلى المقر له؛ لأن قبل هذا إنما كان لا يؤمر به مع إقراره أنه موصى به لانعدام شرطه وهو سلامة ضعفه له، فإذا وصل إليه المشهود به بحجة الميراث، فقد سلم له ضعف المقر به فأمر بالتسليم إلى المقر له. فإن قيل: أليس إنكم قلتم: إن القاضي لما قضى للمشهود له بالمشهود به، فقد أبطل وصية المقر له في المقر به، وبعدما بطل حقه في المقر به كيف يؤمر بتسليم المقر به إليه؟. قلنا: معنى قولنا: أبطل وصية المقر له أنه امتنع من تنفيذ وصيته في المقر به لانعدام شرطه، وهو سلامة ضعفه للوارث، وقد جعل هذا الشرط بوصول سالم إليه، فيجب تنفيذ وصية المقر له، ويجوز أن يمتنع نفوذ الوصية لمعنى من المعاني، ثم يجب تنفيذه عند زوال ذلك المعنى. ألا ترى أن من أوصى بعبد لإنسان ثم مات وعليه دين مستغرق، فإنه لا يجب تنفيذ الوصية في العبد لمكان الدين، فإن سقط الدين بمعنى من المعاني نحو الإبراء أو ما أشبهه، فإنه يجب تنفيذ الوصية فيه لزوال المانع كذا هاهنا. أو نقول: بأن القاضي وإن أبطل وصية المقر له إلا أن الوارث مصر على إقراره بالوصية له، فأمر بالتسليم بحكم هذا الإقرار. ثم قال: ولا يعتق العبد المقر به على المقر له بذلك الإعتاق السابق، فلم يصحح هذا العتق من المقر له على سبيل التوقف، وإنه وجد بعد سبب الملك له، وهو إقرار الوارث، والعتق مما يتوقف على المعتق إذا وجد بعد وجود سبب الملك. أما عند محمد، فإنما لم يتوقف هذا العتق على المقر له؛ لأنه لا توقف على مالك ظاهر وهو الوارث، فإن المقر به ملك الوارث ظاهراً، ولهذا لو أجاز الوارث هذا العتق ينفذ عليه. والأصل عند محمد: أن العتق متى توقف على إجازة مالك ظاهر لا يتوقف على غيره كما في المشتري من الغاصب إذا أعتق، فإنه لا يتوقف عليه، لأنه توقف على إجازة مالك ظاهر، فلا يتوقف على غيره وهو المشتري. وبهذا الحرف يقع الفرق في مسألتنا ومسألة المشتري من الغاصب على مذهبه، وبينما إذا أوصى الرجل بعبده لإنسان، ثم مات الموصي، وعليه دين يحيط بماله، ثم إن الغرماء أبرؤوا الميت عن الدين، فإن العتق ينفذ على الموصى له، لأن هناك ما توقف

الفصل الخامس والعشرون: في دعوى الرجلين عبدا في يد آخر ودعوى كل واحد منهماالإيداع من صاحب اليد، وإقرار صاحب اليد لأحدهما، وفي دعوى الرجل عينا في يدي رجل وإقرار صاحب اليدبالعين له، ثم دعوى صاحب اليد الإيداع من جهة غيره

العتق على إجازة أحد سوى الموصى له، فإن الغرماء أو الورثة لو أجازوا ذلك العتق لا ينفذ، فجاز أن يتوقف على إجازة الموصى له. وأما عند أبي حنيفة وأبي يوسف: فإنما لا يتوقف هذا العتق على المقر له؛ لأنه وجد قبل سبب الملك أو بعد وجود سبب قاصر، والعتق عندهما قبل وجود سبب الملك، أو بعد وجود سبب قاصر لا يتوقف. بيان ذلك: العتق من المقر له، إنما حصل بعدما أبطل القاضي وصيته، وكذب الوارث في إقراره بالقضاء بالشهود به للمشهود له، وهو السبب المتيقن لملك المقر له؛ إلا أن الوارث مصر على إقراره، فأمر بتسليم المقر به إلى المقر له بالإقرار الموجود بعد الإعتاق، فكان الإعتاق حاصلاً قبل سبب الملك، وإن لم يبطل السبب بقضاء القاضي لا أقل من أن ينتقض السبب. والأصل عندهما: أن العتق إنما يتوقف بعد وجود تمام سبب الملك، وبهذا الحرف خرج مسألة المشتري من الغاصب؛ لأن هناك العتق وجد بعد تمام سبب الملك على ما عرف في تلك المسألة، أما ههنا بخلافه، والله أعلم. الفصل الخامس والعشرون: في دعوى الرجلين عبداً في يد آخر ودعوى كل واحد منهماالإيداع من صاحب اليد، وإقرار صاحب اليد لأحدهما، وفي دعوى الرجل عيناً في يدي رجل وإقرار صاحب اليدبالعين له، ثم دعوى صاحب اليد الإيداع من جهة غيره قال محمد رحمه الله في «الجامع» : عبد في يدي رجل ادعاه رجلان كل واحد منهما يدعيه أنه عبده أودعه (عند) الذي هو في يديه وذو اليد يجحد ولا يقر بل يسكت، فالقاضي يسمع بينتهما عليه؛ لأن الساكت أنزل منكراً حتى يصل المدعي إلى إثبات حقه، وهذا لأن المدعي استحق الجواب عليه إما بنعم أو لا، والسكوت محتمل الأمرين، فأثبتا الإنكار؛ لأنه احتيج في الاستحقاق به إلى قرينة أخرى وهي البينة. فلو أن القاضي سمع شهادة شهودهما إلا أنه لم يقض بشهادة الشهود لعدم ظهور عدالتهم يقضي بالعبد بينهما نصفان، وكان ينبغي أن يقضي بجميع العبد للذي لم يقر له ذو اليد؛ لأن ذا اليد لما أقر به لأحد المدعيين، فقد صار العبد مملوكاً له رقبة ويداً، ونزل المقر له مع غير المقر له منزلة ذي اليد مع الخارج إذا أقاما البينة على الملك المطلق، وهناك قضي بكل العبد للخارج واعتبره بما إذا أقر لأحدهما قبل إقامتهما البينة، ثم أقاما البينة وهناك يقضى بالعبد لغير المقر له بالطريق الذي قلنا. والجواب وهو الفرق بينما قبل إقامة البينة، وبينما بعدها أن التزكية لا تجعل الشهادة حجة، بل تظهر كونها حجة موجبة للاستحقاق من وقت (222أ4) وجودها،

فإذا كانت الشهادة قبل وجود الإقرار حجة، فعند ظهور العدالة يظهر الاستحقاق قبل الإقرار ويتبين أنَّ الإقرار كان باطلاً في شخص وهو ليس بمالك، ومتى ظهر الإقرار بطل التصديق، لأنه ينبني عليه صار وجودهما، والعدم بمنزلة، ولو لم يوجد أيقضي بينهما، فكذا إذا صار وجودهما والعدم بمنزلة، فأما إذا كانت الشهادة بعد الإقرار، فعند ظهور العدالة لا يظهر الاستحقاق قبل الإقرار فلا يتبين أن الإقرار كان باطلاً، وإذا لم يبطل الإقرار صار المقر له صاحب يد وغير المقر له خارج، فيقضي ببينة الخارج، عبارة أخرى للفرق بينهما، أنهما إذا أقاما البينة بعد الإقرار فقد استحق كل واحد منهما القضاء بجميع العبد عند تركته ببينته على الإنفراد، ونصف العبد عبد تركته ببينته وبينة صاحبه، فهو بإقراره لأحدهما، يريد إبطال الاستحقاق الثابت لكل واحد منهما عليه، أما استحقاق المقر له؛ فلأنه يقول له من حيث المعنى: أنا مقر لك بالملك في العبد، والبينة إنما تسمع على الجاحد لا على المقر فبطل استحقاقه عليه بالبينة. وأما استحقاق الآخر فلأنه يقول له من حيث المعنى: العبد ملك المقر له، وفي يدي أمانة، ويد الأمانة ليست بيد خصومة، وليس له ولاية إبطال الاستحقاق الثابت لكل واحد منهما بإقراره، فصاروجود هذا الإقرار منه والعدم بمنزلة، والتقريب ما ذكرنا، فأما إذا أقر قبل إقامة البينة، فليس في هذا الإقرار إبطال الاستحقاق لهما عليه، لأن كل واحد منهما لم يستحق عليه شيئاً قبل إقامة البينة، لأن مجرد الدعوى لا يصلح سبباً للاستحقاق، فصح إقراره، وصار المقر له صاحب يد والتقريب ما ذكرنا، وكذلك لو أقام كل واحد منهما شاهداً واحداً على دعواه، ثم إن صاحب اليد أقر بالعبد لأحدهما، فالقاضي يدفع العبد الى المقر له لما ذكرنا، ولا يبطل ما أقام كل واحد منهما من الشاهد الواحد، حتى لو أقام كل واحد منهما بعد ذلك شاهداً آخر يقضى بالعبد بينهما، لأن كل واحد منهما استحق القضاء بهذا العبد منذ تمام الحجة، فهو بهذا الإقرار يريد إبطال استحقاق كل واحد منهما فلا يقدر عليه. يوضحه: أن كل واحد منهما قصد إثبات ملك مؤكد بالحكم والإقرار لا يدركه ذلك، فصار وجود إقراره فيما هو مقصود والعدم بمنزلة، فإن أقام غير المقر له شاهداً آخر، قضى بالعبد؛ لأن شهادة الشاهد الأول لما لم تبطل تنضم شهادة الثاني الى شهادة الأول، فتمت الحجة في حق غير المقر له، ولم تتم الحجة في حق المقر له، فقضى بجميع العبد لغير المقر له، لهذا، فإن لم يقض القاضي لغير المقر له في هذه الصورة، حتى أقام المقر له شاهداً آخر قضى بالعبد بينهما، لأن الحجة قد تمت في حق المقر له أيضاً وهما خارجان من حيث المعنى، ولارجحان لأحد هما على صاحبه؛ لأن كل واحد منهما ادعى الاستحقاق على صاحب اليد، ولم يدع أحدهما الاستحقاق من جهة صاحب اليد كما في ما تقدم، فلم يترجح أحدهما على الآخر، فيقضى بالعبد بينهما، فإن لم يقض القاضي بالعبد بينهما نصفان في هذه الصورة، حتى قال غير المقر له: أنا أعيد شاهدي الأول على المقر له، على أن العبد لي وأعاد، فالقاضي يقضي بكل العبد لغير المقر له؛ لأنه لما أقام شاهده الأول على المقر له فقد ترك الاستحقاق الثابت له بحكم

شهادة الشاهد الذي شهد على صاحب اليد وأبطل شهادة ذلك الشاهد، وعند ذلك ينفذ إقرار المقر؛ لأن عدم نفاذ إقراره قبل هذا كيلا يبطل ما أقام غير المقر له من الشهادة، فإذا رضي ببطلانه، فقد زال المانع فنفذ إقرار المقر، فصار المقر له صاحب يد ووقع الدعوى بين الخارج، وبين صاحب اليد، فيقضى بالعبد للخارج، فإن قال المقر له: أنا أعيد شاهدي الأول أن العبد عبدي، لم يلتفت إليه لأنه صار مقضياً عليه، ولأنه لا يتصور في حقه أن يترك الاستحقاق الثابت له بما أقام من الشاهد على ذي اليد، ويستأنف الخصومة استئنافاً من غير المقر؛ لأنه صاحب يد فلا تسمع منه البينة على الملك المطلق، فإن قال غير المقر له: قد مات شاهدي الأول أو غاب، يقال له: هاتِ بشاهد آخر فأقمه على المقر له حتى يقضى لك بكل العبد، وهذا لأن شهادة الشاهد الأول لا تبطل بموته، ولا بغيبته، فكان موته وغيبته وبقاؤه حياً سواء، فإذا أقام شاهداً آخر، انضم الشاهد الثاني الى الشاهد الأول فيقضى له بالعبد كله، إلا أن يقيم المقر شاهداً آخر مع شهادة الأول، قبل القضاء لغير المقر له فحينئذٍ يقضى بالعبد بينهما؛ لأن هذه الخصومة بناء على الخصومة الأولى وهما خارجان في تلك الخصومة، من حيث أن المعنى. قال: أو يقيم المقر له شاهدين مستقبلين، فيقضي بينهما كما لو أقام كل واحد منهما شاهداً آخر، وهذه المسألة من المسائل التي كتب محمد بن سماعة الى محمد بن الحسن رحمه الله يستفرقه بينهما وبين المسألة التي فيها طعن القضاة الثلاثة، فكتب إليه محمد رحمه الله أن الصحيح أن يقضى بالعبد بينهما، ثم بينما لو أقام غير المقر له شاهدين مستقبلين على المقر له، وبينما أقام المقر له شاهدين مستقبلين على غير المقر له فقال: إذا أقام غير المقر له شاهدين مستقبلين يقضى بكل العبد له، وقال: إذا أقام المقر له شاهدين مستقبلين يقضى بالعبد بينهما. والفرق بينهما هو أن: لغير المقر له أن يستأنف الخصومة مع المقر له أن ما يدعيه غير المقر له في يد المقر له، فصار المقر له خصماً وهو ذو اليد، وغير المقر له خارج، فيقضى بالعبد للخارج، فأما المقر له فلا يمكنه أن يجعل الذي ليس بمقر له خصماً فيستأنف الخصومة معه، لأنه لا بد لغير المقر له فاعتبر إقامة الشاهدين بناء على الخصومة الأولى كأنه أقامها على ذي اليد فبقيا خارجين، فيقضى بالعبد بينهما، لهذا، فإن قيل: أنه لم يمكن أن يجعل إقامته شاهدين مستقبلين من المقر له على سبيل استئناف الخصومة مع المدعي لاستحقاق العبد عليه، يمكن أن يجعل هذا منه إبطالاً لما أقام غير المقر له من الشاهد الأول الذي أقامها على المقر، كما جعل فيما تقدم وهو ما ادعى ذو اليد أنه لفلان أودعه، فقبل أن يقضي القاضي ببينة مدعي الشراء. حضر فلان وأقام البينة أنه له أودعه من ذي اليد كما أقر، حيث تبطل به بينة مدعي الشراء، فههنا يجب أن يكون كذلك، والجواب ثمة أمكن قبول بينته على إبطال بينة المدعي للشراء، لأن المقر له ببينته يثبت أن مدعي الشراء أقام البينة على مودعه وهو غائب، وبينة المدعي على المودع حال غيبة المودع باطلة، فأمكن قبول بينته لإبطال بينة

المدعي، أما في مسألتنا: لا يمكن قبول بينة المقر على إبطال ما أقام غير المقر له من الشاهد، لأن أكثر مافي الباب أنه يثبت أن غير المقر له أقام البينة على المودع، لكن المقر له حاضر، وبينة المدعي على المودع حال حضرت المودع مقبولة، فلهذا افترقا. قال محمد رحمه الله: عبد في يدي رجل ادعاه رجلان، كل واحد منهما أقام بينة أنه عبده أودعه الذي في يديه وصاحب البينة جاحد، أو ساكت، وقضى القاضي بالعبد بين المدعيين لاستوائهما في الحجة، ثم إن أحد المدعيين أقام بينة أن العبد عبده، لم ينتفع بتلك البينة، ولا يقضى على صاحبه بشيء؛ لأن كل واحد من المدعيين صار مقضياً عليه في النصف الذي قضى به لصاحبه؛ لأنه ببينته استحق الكل، ولولا بينة صاحبه، يقضى له بكل العبد، وإنما حرم كل واحد عن النصف ببينة صاحبه، وصار هو مقضياً عليه في شيء، لا يصير مقضياً له في عين ذلك الشيء. فإن قيل: كيف يجعل كل واحد من المدعيين مقضياً عليه في النصف الذي صار لصاحبه، ولم يكن له (222ب4) في ذلك النصف ملك قبل القضاء. قلنا: إن لم يكن له فيه ملك كان له حق الملك، لأنه أقام البينة أن الكل له وأنها توجب حقيقة الملك عند إيصال القضاء بها، فوجب حق الملك وحق الملك معتبر بحقيقة الملك، ولو ثبتت الحقيقة يصير مقضياً عليه كذا ههنا، ولو عدلت بينة أحدهما ولم يعدل بينة الآخر، أو لم يقم الآخر شاهداً واحداً، فقضى به لمن عدلت بينته، ثم جاء الآخر ببينة عادلة، قضي له به؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه به من جهة صاحبه، لأنه لم يكن له في المقضي به لا حقيقة الملك، ولا حق الملك لانعدام الحجة الموجبة للقضاء، والقضاء على الإنسان بإزالة الاستحقاق الثابت له، فإذا لم يكن الحق ثابتاً له، كيف يتصور إزالته فعلم أنه لم يصر مقضياً عليه فسمع دعواه، وبينته بعد ذلك، ولو أقام أحدهما البينة، فلم يزل ببينته حتى أقر ذو اليد أن العبد الذي لم يقم البينة أودعه إياه، ودفع القاضي العبد إلى المقر له، ثم زكيت بينة الذي أقامها، وأخذ صاحب البينة العبد من المقر له، ثم إن المقر له أتى ببينة أنه عبده أودعه إياه ذو اليد، قبلت بينته، وقضي له بالعبد، لأن المقر له لم يصر مقضياً عليه؛ لأن بينة غير المقر له قامت على ذي اليد، وجعل المقر له كالوكيل عنه على ما مر قبل هذا. فإن قيل: الملك ثبت للمقر له بإقرار ذي اليد وجعل المقر له كالوكيل عنه وتصديق المقر له إياه ثم استحق عليه بالقضاء ببينة المدعي فيجعل المقر له مقضياً عليه. قلنا: إقرار ذي اليد كان بعد إقامة المدعي بينته على ذي اليد وعند ظهور عدالة الشهود ثبت الاستحقاق في وقت الشهادة، فظهر أن إقرار ذي اليد كان باطلاً؛ لأنه ظهر أنه لم يكن مالكاً للعبد، وإذا بطل إقراره بطل تصديق المقر له لكونه بناء عليه وإذا بطل الإقرار والتصديق صار وجودهما والعدم بمنزلة ولو عدما، وباقي المسألة بحاله كان المقضي عليه الذي كان العبد في يده دون المقر له كذا ههنا. وكذلك لو أقام المقر له البينة على ما ذكرنا قبل القضاء لصاحبه ببينته يقضى للمقر

له ويبطل بينة صاحبه؛ لأن بينة المقر له ظهر أن بينة صاحبه قامت على مودع المقر له، وهو ليس بخصم، والبينة متى قامت على غير خصم كان باطلاً. فإن قيل: بينة المدعي متى قامت على المودع، المقر له إنما يبطل إذا كان المقر له غائباً وقت إقامة البينة على مودعه، أما إذا كان حاضراً كانت مقبولة كما فيما تقدم، ويكون إقامة البينة على مودع المقر له، وههنا المقر له كان حاضراً وقت إقامة المدعي البينة. قلنا: المقر له وإن كان حاضراً وقت إقامة البينة على الذي كان العبد في يديه حقيقة ههنا، لكنه غائب حكماً؛ لأنه ليس بخصم للمدعي وقت إقامة البينة على الذي كان العبد في يديه حقيقة ههنا لكنه غائب حكماً لأنه ليس بخصم للمدعي وقت إقامة البينة، لأنه لم يكن للمقر له في العبد لا ملك ولاحق، ولم يثبت له زيادة خصوصية بهذا العبد من بين سائر الأجانب، وهو كونه بحال لو أقام شاهداً واحداً يقضى له، فصار غائباً حكماً بخلاف ما تقدم، لأن ثمة إن لم يكن للمقر له حقيقة الملك، ولا حق الملك بإقامة الشاهد الواحد، ولكن له زيادة خصوصية في هذا العبد من بين سائر الأجانب، لأنه صار بحال يستحق هذا العبد بإقامة شاهد واحد، فكانت خصوصية معتبرة، واعتباره بخلاف ما نحن فيه على مامر، فإن قال غير المقر له: أنا أعيد شهودي على المقر له، هل تقبل بينته، فهذا على وجهين: إن كان ذلك بعد ما قضي ببينة المقر له، لا تسمع بينته؛ لأنه صار مقضياً عليه ببينة المقر له، وإن كان ذلك قبل القضاء ببينة المقر له، قبلت بينته؛ لأنه لم يصر مقضياً عليه، ثم يقضى له بجميع العبد، لأنه أعاد البينة فقد أبرأ ذا اليد عن الخصومة ورضي بنفاذ إقراره، واستأنف الخصومة مع المقر له على ما مر، فتقررت يد المقر له، واجتمع بينة الخارج وبينة ذي اليد، فكانت بينة الخارج أولى. قال محمد رحمه الله في «لجامع» : دار في يدي رجل ادعاها رجل أخر، قال الذي في يديه الدار: أنها كانت للمدعي وفلان أودعنيها، وأقام البينة على ذلك، فلا خصومة بينهما فإقرار صاحب اليد أنها كانت للمدعي، لا يناقض دعواه الإيداع من فلان الآخر، لأن الجمع بينهما ممكن، فلعل أنها كانت للمدعي ثم صارت لفلان الآخر بوجه من الوجوه، ثم إن فلاناً أودعها صاحب اليد، وإذا لم يكن بين الكلامين تناقض يجب قبول بينته على ما ادعى من الإيداع، وإن لم يقم البينة على ما ادعي، لا تندفع عنه الخصومة لأنه أقر بالملك للمدعي، وتوجهت عليه الخصومة باعتبار يده، ولم يثبت ما يخرجه من الخصومة، وهو كونه مودعاً من جهة غيره فلا تندفع الخصومة عنه ويؤمر بتسليمها إلى المدعي بحكم إقراره، فإن حضر فلان وصدق صاحب اليد فيما قال، لا ينزع الدار من يد المدعي حتى يقيم الحاضر بينة أنها له، لأن صاحب اليد أقر بالدار للمدعي أولاً، وصح إقراره من حيث الظاهر، وصارت مستحقة للمدعي وإنما أقر للغائب بعد ذلك، فكان الإقرار للغائب لاغياً ملك المدعي، فلا يصح ويقال للغائب: إن شئت أن تأخذ الدار من المدعي أقم البينة عليه.

الفصل السادس واالعشرون: في دعوى الوكالة والكفالة والحوالة

وكذلك لو أن صاحب اليد بدأ بالإقرار بالوديعة بأن قال: هذه الدار أودعنيها فلان وهي لهذا المدعي، إن أقام البينة على الإيداع تندفع عنه الخصومة، وإن لم يقم لا تندفع عنه الخصومة ويؤمر بتسليمها الى المدعي، وإن أقر أولاً للغائب ثم للمدعي فالأصل عندنا أن من أقر بعين لغائب ثم لحاضر، وصدقه الحاضر في إقراره، يؤمر المقر بتسليم العين الى الحاضر، لأن تصديق الحاضر اتصل بإقراره، ولم يتصل تصديق الغائب بإقراره وعسى لا يصدقه، فلا يتعطل هذا الإقرار والتصديق لأمر موهوم، فإن حضر المقر له بالوديعة البينة أنها داره، لأن تصديقه استند الى وقت إقراره، وكان إقراره بالوديعة أولاً، فظهر أن استحقاقه كان سابقاً، وأن الإقرار للمدعي لا في حق صاحب الوديعة فوقع باطلاً فيؤمر المدعي بتسليم الدار إليه، ويقال له: إن شئت أخذ الدار فأقم البينة، ولوأن المدعي صدق صاحب الوديعة وأنها وديعة فلان فلا خصومة بينهما اعتباراً للثابت بالتصادق بالبينة معاينة. ولو علم القاضي أن الدار لرجل فصارت للمدعي يدي آخر، فخاصمه الذي كانت الدار له الى القاضي، فقال الذي الدار في يديه: إن فلاناً أودعنيها، وأقام على ذلك بينة فلا خصومة بينهما، ولا تخرج الدار من يد الذي كانت الدار في يده، حتى يحضر فلان؛ لأن الثابت بالبينة العادلة إذا قبلت كالثابت عياناً، ولو عاين القاضي هذا دفع الخصومة تكون الدار للمدعي في زمان لا يجعل الذي في يديه الدار متناقضاً في دعوى الإيداع من الغائب، بجواز أنها كانت للمدعي، ثم باعها أو آجرها أو رهنها من فلان من الذي في يديه، ولو علم القاضي أن فلاناً غصبها من الذي كانت له وأودعها الذي في يديه، أخذها من الذي في يديه، ودفعها الى الذي علم أنها كانت له، لأنه علم أن يد ذي اليد مبطلة، بخلاف ما لو علم أن فلاناً أودعها هذا الذي في يديه، ولم يعلم أنه غصبها من المدعي، لأن هناك لم يعلم بكون ذي اليد مبطلة بل شك في ذلك يجوز أن يكون المدعي باع من فلان، ثم إن فلاناً أودعها من ذي اليد، فتكون يده مبطلة فيجب نقضها، فلا يجب نقضها بالشك، ثم إن محمداً رحمه الله اعتبر علم القاضي في هذه المسألة حتى قال: إذا علم القاضي أن فلاناً غصبها من المدعي، يأخذها من صاحب اليد ويدفعها (223أ4) الى المدعي، وهذا جواب رواية «الأصول» . وروى ابن سماعة عن محمد رحمه الله: أن القاضي بعلمه يقضي، قال ابن سماعة: رجع إلى هذا القول في آخر عمره القاضي لا يقضي بعلمه، وإن استفاد العلم في حالة القضاء حتى يشهد معه شاهد واحد، قال: لعل القاضي غالط فيما يقول، فشرط مع علمه شهادة شاهد آخر حتى يصير علمه مع شهادة شاهد آخر في معنى شاهدين، والله أعلم بالصواب. الفصل السادس واالعشرون: في دعوى الوكالة والكفالة والحوالة رجل من وكلاء باب القاضي ادعى قبل القاضي على رجل أنه وكيل من جهة

فلان بن فلان الغائب بإثبات حقوقه وديونه على الناس، وللغائب على هذا عشرة دراهم قرض مدة حتى يسلم إلي، فلم يجب المدعى عليه لكن وكيل آخر من وكلاء القاضي بحضرة المدعى عليه أجاب وقال: إن موكلي يقول ليس علي هذه العشرة، وليس لي علم بهذه الوكالة، فأقام الوكيل شاهدين على التوكيل، وطلب الحكم من القاضي، فقضى القاضي بثبوت وكالته، والمدعى عليه ساكت لم يجب أصلاً، وتوكيل الوكيل من المدعى عليه ليس ثابت هل يصح هذا الحكم؟ وهل يثبت التوكيل؟ قيل: لا، وبه كان يفتي الإمام ظهير الدين رحمه الله، وهي واقعة العامة فتحفظ. رجل استأجر كرماً إجارة طويلة وغاب بعد ذلك جاء رجل وقال: أنا وكيله بقبض المال وفسخ الإجازة وأنكر هو التوكيل وأقر بالباقي فيقضي. رجل ادعى القاضي ثبوت الوكالة بحضرة المدعى عليه كان ذلك قضاء على الغائب أنه وكيل فلان باستيفاء الدين من رجل، فادعى المديون الإبراء والإيفاء قال المدعي: عزلني الموكل إن كان التوكيل بالتماس الخصم لا يملك عزله فلا يسمع هذه الدعوى، وإن كان بغير التماس منه تثبت الدعوى إذا أقام البينة على الغرماء على العزل أما بدون البينة فلا. ولو قال: لست بوكيل وصدقه الخصم لا يسمع، وأثر هذا في أنه إذا صالح مع الخصم ثم قال: لست بوكيل وأراد استرداده دفع وصدقه الخصم لا يسمع. رجل ادعى على آخر الكفالة بمال الإجارة معلقة بالفسخ، وقال: إني قد فسخت الإجارة ونرد منك المال، وأقام على ذلك بينة والآخر غائب قبلت بينته ويكون ذلك قضاء على الآخر، وانتصب الوكيل خصماً عنه؛ لأن المدعي ادعى المال على الكفيل ولا يمكنه إثبات ذلك على الكفيل إلا بإثبات على الأصيل فينتصب الكفيل عنه، وإذا أدى الكفيل رجع على الآخر إن كانت الكفالة بأمره، وإن كانت بغير أمره لا يرجع عليه، فإن حضر الآخر قبل أن يأخذ المدعي من الكفيل شيئاً، وأنكر الفسخ لم يلتفت إلى إنكاره، وكان الفسخ ماضياً. رجل ادعى على آخر أنه كفل له أنه إن مات فلان مجملاً لوديعتي وهي كذا، فضمانها علي وقد مات فلان مجملاً لوديعتي، وأقام البينة عليه هل تسمع هذه الدعوى؟ فقد قيل: تسمع، وفي دعوى الكفالة لابد وأن يقول: وأنا أجزت كفالته مجلس الكفالة، وبه كان يفتي الشيخ الإمام ظهير الدين، وقد قيل: لا يشترط ذلك، ودعوى الكفالة تتضمن ذكر الإجارة كدعوى البيع تتضمن ذكر الشراء، حتى إن من ادعى على آخر أنك بعت مني كذا كذا لا يحتاج إلى أن يقول: وأنا اشتريت. رجل ادعى الكفالة بالمال معلقة بعدم تسليم النفس في يوم كذا، والمال الذي وقعت الكفالة وجب على الأصيل بسبب الصلح، وإنه كاسد اليوم؛ لا بد وأن يبين في دعواه أن الصلح عن أي شيء كان لينظر أنه هل صح؟ ولو صح هل فسد بكساد البدل قبل القبض كما يفسد البيع بكساد الثمن قبل القبض.

الفصل السابع والعشرون: في دعوى العتق

رجل اشترى عبداً بألف درهم، وقبض العبد بإذن البائع، وطلب البائع الثمن، فقال المشتري: قد كنت أحلته على فلان وفلان غائب، وأقام على ذلك بينة قبلت بينته ويتعدى ذلك إلى الغائب، وفي مثل هذا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب وكثير من هذا الجنس ذكرناها في كتاب أدب القاضي، وسيأتي بعد ذلك في كتاب الكفالة والحوالة إن شاء الله. الفصل السابع والعشرون: في دعوى العتق بعض مسائل هذا الفصل قد مر قبل هذا: عبد في يدي رجل قال: إني كنت عبداً لهذا الرجل، وأنا اليوم حر لما أنه قال لي: اكرد وسال كار من كنز توازر ومن دو سال كارله وكردم، وأقام على ذلك بينة قبلت بينته، وحكم بعتقه. عبد ادعى أنه حر الأصل في موضع لم يسبق منه الإقرار بالرق، فقضى القاضي بحريته لما أن القول في ذلك قوله، لا يرجع المشتري بالثمن على بائعه، والبينة للمشتري في ذلك حتى يرجع بالثمن على البائع أن يدعي المشتري على العبد الرق، ويقول: أقر لي بالرق، ويقيم البينة عليه ثم يقيم العبد البينة عليه أنه حر الأصل، فيرجع المشتري بالثمن على البائع. عبد في يدي رجل يزعم أنه ملكه، وادعى العبد عليه أنه أعتقه وشهد الشهود أنه حر الأصل لا تقبل. وكذلك لو ادعى العبد أنه حر الأصل، وشهد الشهود أن صاحب اليد أعتقه تقبل، وعلى العكس لا تقبل، وقيل: تقبل في الوجهين جميعاً. ادعى غلاماً في يدي رجل أنه ملكه أعتقه منذ سنة، والقاضي يسأل المدعي البينة على الكل لا على العتق، لأنه إذا أقام البينة على العتق، ولم يكن له بينة يحلف المدعى عليه على الملك. ادعى على امرأة بأنها أمته، فأقامت الأمة بينة أنها كانت لفلان وأنه أعتقها، وأقام المدعي بينة أن فلاناً ذلك قد أقر أن هذه الأمة أمتي ومملوكتي، فإن أرخا وتاريخ الإقرار أسبق قضي بالملك للمدعي، وإن لم يؤرخا يجعل كأنهما وقعا معاً الإقرار والإعتاق بالملك للمدعي فيقضي بالعتق ببينة الأمة. ادعت حرية الأصل ثم ادعت حرية عارضية تسمع، وكذلك على العكس يجب أن تسمع. الجارية إذا تداولتها الأيدي، فادعت أنها حرة الأصل، أو ادعت عتقاً عارضياً بتاريخ قبل تاريخ البياعات، ورجع المشتري الآخر على بائعه، وكذلك بائعه رجع على بائعه، وللبائع الأول الرجوع عليه، ففيما إذا ادعت حرية الأصل إن لم يسبق منها إقرار

الفصل الثامن والعشرون: في دعوى النسب

بالرق لا نصاً ولا دلالة من انعقاد البيع، وما أشبه ذلك على ما عرف في كتاب الإقرار ليس له أن يأتي؛ لأن حرية الأصل ثبتت بمجرد قولها في حق الناس كافةً، إذا لم يسبق منها إقرار بالرق، ولو سبق منها إقرار بالرق كان للبائع الأول أن يأتي بالرجوع عليه؛ لأن حرية الأصل لا تثبت بمجرد قولها في موضع سبق منها الإقرار بالرق. وفيما إذا ادعت عتقاً عارضياً كان للبائع الأول أن يأتي بالرجوع عليه على كل حال، لأن العتق العارضي لا يثبت بمجرد قولها، وفي كل موضع قضى القاضي بحرية الأصل لا يشترط حضرة العبد والأمة لرجوع المشتري على البائع بالثمن والله أعلم. الفصل الثامن والعشرون: في دعوى النسب هذا الفصل يشتمل على أنواع: النوع الأول: في بيان مراتب النسب قال أصحابنا رحمهم الله: لثبوت النسب مراتب ثلاثة: أحدها: بالنكاح الصحيح، وما هو في معناه من النكاح الفاسد، والحكم فيه: أن يثبت النسب من غير دعوى، وله أن ينفيه مالم يقر بنسبه صريحاً أو يظهر منه ما يكون اعترافاً به في قبول تهنئة، أو شراء متاع الولادة، أو تطاول المدة، مع العلم بالولادة أو يقع الاستغناء، أو يقع فيه حكم لا يقبل النقض والإبطال، متى وجد واحد من هذه الأسباب لا بملك النفي بعد ذلك. أما إذا أقر بنسب الولد صريحاً؛ لأن الإقرار بنسب الولد إقرار له بحقوق مالية نحو النفقة والميراث، وأشباه ذلك اقتضاء، ولو أقر له بهذه الحقوق صريحاً، لا يعمل رجوعه بعد ذلك، فكذا إذا أقر له بذلك اقتضاء. وأما إذا قبل التهنئة: فدل قبول التهنئة على أن الولد منه. وأما إذا اشترى متاعاً للولادة: فلأنه أقر بالولد دلالة عادة، فإن العادة أن الإنسان لا يشتري متاعاً للولادة إذا (223ب4) لم يكن الولد منه. فأما إذا وقع الاستغناء عن نفيه: فلأن بعدما وقع الاستغناء عن نفيه؛ لا يكون في النفي فائدة، والشرع لا يرد بما لا يفيد. وأما إذا تطاولت المدة: فلأن ترك النفي مدة طويلة مع العلم بالولادة دلالة الإقرار بالولد ظاهراً، لأن الظاهر أن الإنسان لا يترك النفي مدة طويلة، مع العلم بالولادة، إذا لم يكن الولد منه. والمرجع في معرفة تطاول تلك المدة العرف والعادة، إذا مضى من المدة ما ينفى

فيها الولد عادة ولم يبق، فليس له أن ينفيه بعد ذلك هذه رواية أبي حنيفة، وروي عنه رواية أخرى: أنه يفوض ذلك إلى رأي القاضي، وعن أبي يوسف ومحمد: أنهما قدرا المدة الطويلة بالأربعين، فبعد الأربعين لا يصح النفي. وأما إذا وقع فيه حكم لا يقبل النقض، بيانه فيما لو جنى هذا الولد جناية، وقضى القاضي على عاقلة الأب بالأرش لا يستطيع نفي هذا الولد؛ لأنه وقع فيه حكم لا يقبل النقض والبطلان؛ لأنا حكمنا بنسب هذا الولد من الأب لما قضينا بالأرش على عاقلته، والقضاء بالأرش على العاقلة بعدما صح لا يقبل النقض والإبطال، ومتى صار نسب الولد مقضياً به بحكم لا يقبل البطلان لا يصح نفيه بعد ذلك، ولا يمكن قطعه إلا بعد قطع ذلك الحكم، ولا يمكن قطع ذلك الحكم، فامتنع النفي والقطع. وبيانه في مسألة أخرى وروي عن أبي يوسف رحمه الله: رجل جاءته امرأته بولد فنفاه ولم يلاعنها حتى قذفها أجنبي بالولد فحد، ثبت النسب ولا يلاعن بينهما، والمعنى ما ذكرنا، وبعدما وجد النفي لا ينتفي نسب الولد إلا باللعان، وشرائط جريان اللعان عرفت في كتاب الطلاق. المرتبة الثانية: أم الولد، والحكم فيها: أن نسب ولدها ثبت بدون الدعوى إذا كانت بحال يحل للمولى وطؤها، أما إذا كان بحال لا يحل للمولى وطؤها لا يثبت النسب من المولى بدون الدعوى، ولا للمولى أن ينفيه إذا لم تتطاول المدة مع العلم بالولادة، ولم يقر به صريحاً ولم يقع فيه حكم لا يقبل النقض والإبطال. وعن هذا قلنا: إذا جنى هذا الولد جناية وقضى القاضي على عاقلة المولى بالأرش، أو جنى عليه وقضى القاضي بالأرش جناية الأحرار والقصاص لا يستطيع أن ينفيه المولى بعد ذلك؛ لأنه وقع فيه حكم لا يقبل النقض والإبطال؛ لأن حكمنا بحريته بسبب أن ولده لما قضي على عاقلته الأرش إن كان جانياً، وقضى له بأرش الأحرار إن كان مجنياً عليه، والحرية مما لا يقبل النقض والإبطال، ومتى حكمنا بنسب الولد منه بحكم لا يقبل النقض والإبطال ولا يمكن نفيه؛ وقطع نسبه بعد ذلك لا يمكن قطعه إلا بعد نقض ذلك الحكم وذلك الحكم لا يبدل النقض. ولم يذكر في ولد أم الولد ما إذا قتل لا شك أنه يكون إقراراً، فقد ذكر في عتاق «الفتاوى» : أنه لو جنى المولى بولد الأمة، فسكت يكون إقراراً لقبول التهنئة، أو لأن يكون إقرار التهنئة فيه. ولو مات هذا الولد لا يملك المولى نفيه أما إذا ترك مالاً فلوجهين: أحدهما: أنه صار مخلوفاً بكونه مخلوقاً من مائه بحكم لا يقبل البطلان وهو الميراث، فإنه ورث منه بالولادة، والوارثة منه بالولادة حكم بكونه مخلوقاً من مائه، والإرث لا يقبل القطع والإبطال. والثاني: أنه وقع الاستغناء عن نفيه؛ لأن مقصود المولى من نفيه أن لا يستحق هذا

الولد عليه أحكام النسب، وهو غير مخلوق من مائه، وقد حصل هذا المقصود للمولى بموت الولد. وأما إذا لم يترك مالاً فللوجه الثاني. وإذا زوج الرجل أم ولده من رجل ومات عنها وطلقها وانقضت عدتها، ثم جاءت بولد لستة أشهر منذ انقضت، فهو ابن المولى وله أن ينفيه ما لا توجد منه إحدى الأسباب التي ذكرنا، وهذا لأنه لما انقضت عدتها حلت للمولى، وعادت فراشاً له؛ لأن بانقضاء العدة يرتفع النكاح بحقوقه من كل وجه، وهو المانع من ظهور فراشه، وإذا ظهر فراش المولى صار الحال بعد انقضاء العدة كالحال قبل النكاح، وقبل النكاح له أم الولد إذا جاءت بالولد كان ثابت النسب، وكان للمولى أن ينفيه ما لم يوجد واحد من الأسباب التي ذكرناها كذا ههنا. وإذا حرم المولى أم ولده على نفسه أو حلف أن لا يقربها، فجاءته بولد لزمه ما لم ينفه؛ لأن فراشها لا يبطل بتحريم المولى ولا بالإيلاء، ألا ترى أنه لا يبطل فراش النكاح بالتحريم والإيلاء، فكذا فراش ملك اليمين إلا أن الإيلاء في النكاح يبطل ملك النكاح بعد أربعة أشهر، والإيلاء في الأمة لا يبطل ملك اليمين؛ لأن الإيلاء يصير طلاقاً بعد مضي أربعة أشهر في المنكوحة، ولا يصير طلاقاً في الأمة فيبقى يميناً. ولو وطئها أب المولى أو ابن المولى فحرمت على المولى، ثم جاءت بولد بعد ذلك أكثر من ستة أشهر لايلزمه. ولو جاءت به لأقل من ستة أشهر يلزمه؛ لأن حرمة المصاهرة تزيل الفراش في ملك النكاح، ففي ملك اليمين أولى؛ لأن فراش ملك النكاح أقوى من فراش ملك اليمين، إلا أنه يزول لا إلى عدة، فكان بمنزلة ما لو زال فراش النكاح قبل الدخول بها لا إلى عدة ثم جاءت بالولد، وهناك لو جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر يثبت النسب من الزوج، وإن جاءت به لستة أشهر لا يثبت النسب منه كذا ههنا. وإذا نفى المولى نسب أم الولد ينتفي نسبه بمجرد النفي، وهذا لأن بيان النسب ينبني على الفراش وفراش المنكوحة أقوى، وآكد من فراش أم الولد؛ لأن فراش المنكوحة يزول بسبب واحد وهو الطلاق، ولا يزول بالتمليك من الغير، فإنه لو زوج منكوحته من غيره لا يزول فراش الزوج، وفراش أم الولد يزول بسببين وهو الإعتاق والتمليك من الغير، و (ما) يزول (بسببين) يكون أضعف مما يزول بسبب واحد، وإذا كان فراش المنكوحة أقوى وأكد، فالنسب الثابت بناء على هذا الفراش يكون أقوى، فلم يجز أن ينتفي بما ينتفي به نسب أم الولد؛ لأنه حينئذٍ يكون تسوية بين الأقوى والأضعف وإنه لا يجوز، وههنا وقفة يجب حفظها أنه إنما ينتفي نسب أم الولد بمجرد النفي إذا لم يحدث العتق في الأم وسيأتي بعد ذلك هذا ونوع يتعلق بمسائل أم الولد، وولد أم الولد إن شاء الله. المرتبة الثالثة: الأمة، والحكم فيها: أن نسب ولدها بعد الولادة لا يثبت بدون دعوى المولى، ويستوي في ذلك أن يدعي المولى نسب ولدها بعد الولاد، أو يدعي نسبه

وهو في بطنها بأن قال: هذا الحمل الذي في بطن أمتي هذه مني، أو قال: هذا الولد الذي في بطن هذه مني. ولو قال: إن كان في بطن جاريتي هذه غلام فهو مني، وإن كان جارية فهو من فلان، أو قال: فليس مني، فولدت ابنة ثبت نسبها منه، هكذا ذكر في «عتاق عصام» . وفي «الأصل» : رجل له أمة حامل، فقال: إن كان حملها غلاماً فهو مني، وإن كان جارية فهو من فلان، أو قال: فليس مني، فولدت غلاماً وجارية لأقل من ستة أشهر، ثبت نسبها منه، وكان ينبغي أن لا يثبت؛ لأنه علق الدعوى بشرط للدعوة منه بد، فلا يصح كما (لو) علقها بدخول الدار. بيانه: أنه علق الدعوة بكون الحمل غلاماً، وبكون الحمل غلاماً مما أمر الدعوى منه بد، فإنه لو قال: هذا الحمل مني، كانت دعوته صحيحة، وإن كان الحمل جارية، فكان كون الحمل غلاماً كدخول الدار من هذا الوجه. بخلاف ما لو قال: إن كان لها حمل فهو مني، لأن هذا تعليق الدعوة بما لابد للدعوة منه، لأنه لا بد لدعوة الحمل من وجود الحمل، والجواب: الدعوة ههنا معلقة بأصل الحمل لا بصفة في الحمل، والتعليق بأصل الحمل صحيح. بيانه: أنه وإن ذكر صفة الحمل إلا أنا لو اعتبرنا حقيقة الصفة يبطل التعليق، ولو جعلنا ذكر الصفة عبارة عن الحمل مجازاً يصح التعليق، ويمكن جعل الصفة مجازاً عن الموصوف لاتصال منهما، كما يقال: أعطيه جزيلاً، أي: عطاءً جزيلاً، ويصير تقدير كلامه إن كان حملها حملاً على الحقيقة فهو مني، ولما قال بعد ذلك: وإن كان جارية فليس مني، فتقديرها أيضاً، وإن كان حملها حملاً على الحقيقة، فليس (224أ4) مني، فيصح الإقرار ولا يصح الرجوع بعد ذلك بخلاف دخول الدار؛ لأن دخول الدار أن يجعل عبارة عن أصل الحمل؛ لأنه لا اتصال بينهما، فتبقى الدعوة معلقة بالدخول حقيقة. وبخلاف ما إذا قال: إن كان حملك غلاماً فهوحر، فولدت لأقل من ستة أشهر جارية حيث لا تعتق الجارية، لأن تعليق العتق بالصفة صحيح، فلا ضرورة الى أن يجعل صفة مجازاً عن أصل الحمل وإنما يثبت نسبها مع أنه ادعى نسب أحدهما؛ لأنا تيقنا بوجودهما في البطن وقت الدعوة، فدعوة نسب أحدهما ودعواه نسبهما على السواء، وقد ذكرنا جنس هذه المسائل في كتاب العتاق في فصل أم الولد. وفي «نوادر بشر بن الوليد» عن أبي يوسف رحمه الله في أمة حامل أقر سيدها أنها حامل منه، فجاءت بولد لأكثر من ستة أشهر أو لستة أشهر، فنفاه قال: لا يكون ابنه وتكون أم ولده بإقراره، وكذلك إن لم تلد ولكن أسقطت سقطاً لم يستبن خلقه. وفي «المنتقى» عن أبي حنيفة رحمه الله: وإذا عالج الرجل جاريته فيما دون الفرج وأنزل، فأخذت الجارية ماءه في شيء واستدخلته فرجها في جريان ذلك، فعلقت الجارية وولدت ولداً، فإن الولد ولد الرجل والجارية تصير أم ولده.

ولو هنىء المولى بولد فسكتت الأمة، روي عن محمد رحمه الله: أنه لا يكون اعترافاً بخلاف ولد الحرة وولد أم الولد، ولو قبل المولى التهنئة كان اعترافاً. ومما يتصل بهذا النوع: ما روى إبراهيم عن محمد في رجل وطء جارية له ولم....... ولم يحصنها قال أبو حنيفة رحمه الله: له أن ينفي ولدها ويبيعها، وأما في قول.... فأحب أن يعتق ولدها ويتمنع منها، فإذا مات أعتقها. وذكر المعلى عن أبي يوسف: في رجل له أمة يطأها ويحصنها ولا يعزل عنها، فجاءت بولد؛ لا يسعه أن ينفيه في قول أبي حنيفة وقولي، وأحب إلي أن يدعيه إذا كان يطؤها ولم يحصنها. ومما يتصل بهذا أيضاً: إذا ولدت أمة الرجل ولداً، فادعت أن مولاها أقر به، وجحد المولى ذلك، فأقامت على ذلك شاهدين وشهد أحدهما أنه ابنه ولد على فراشه، وشهد الآخر أن المولى أقر به؛ لا تقبل شهادتهما، لأن المشهود به قد اختلف لأن أحدهما شهد على الولادة وإنها فعل، والآخر شهد على إقرار المولى بها وإنه قول، والقول مع الفعل مختلفات. فإن قيل: كيف يعلم الشاهد ولادة الولد على فراشه؟ قلنا: أصل الولادة يعلمها الشاهد بطريقين؛ بالمعاينة إن اتفق له ذلك كما في الزنا، أو بالشهرة والتسامع، وكونها على فراشه يعلمه شرعاً إن كانت الوالدة منكوحة، أو أم ولد لأن له فراشاً على المنكوحة وعلى أم الولد شرعاً، وإن كانت الوالدة أمته يعلم بإقرار المولى أنها ولدت منه على فراشه، لأن الأمة لا تصير فراشاً للمولى ما لم تقر بولادتها منه. فإن قيل: إذا كان طريق وقوف الشاهد (على) ولادة ولد الأمة على فراش المولى، إقرار المولى أنها ولدت منه، وينبغي أن تقبل الشهادة في هذه المسألة؛ لأن شهادة كل واحد منهما قاصرة على القول. قلنا: المشهود به شيئان: الولادة والفراش في الأمة إن كان لا يعلم الشاهد إلا بإقرار المولى، فالولادة يعلمها من غير إقرار المولى بالمعاينة فشهادتهما على الولادة قد اختلف، فلا يثبت بالولادة بهذه الشهادة، وما لم تثبت الولادة فالفراش لا يكفي. وإن اتفق الشاهدان على إقرار المولى أنها ولدت منه قبلت شهادتهما لاتفاقهما على الإقرار الثابت بالبينة كالإقرار الثابت عياناً. وكذلك إذا شهدا على نفس الولادة على فراشه قبلت شهادتهما لاتفاقهما على نفس الفعل وهو الولادة. وإذا كان المولى من أهل الذمة والأمة مسلمة، فشهد شاهدان ذميان أنه أقر أنه ابنه منها، وأنها ولدته على فراشه فهذا على وجهين: الأول: أن تدعي هي ويجحد المولى، وفي هذا الوجه الشهادة مقبولة ونسب الولد ثابت منهما، أما في المولى: فلأن المولى ذمي وشهادة الذمي على الذمي مقبولة، وأما

منها وإن كانت مسلمة؛ لأنها ادعت أنها صارت أم ولد له، فكانت هذه شهادة ذمي قامت للمسلم على الذمي. الوجه الثاني: أن يدعي المولى وتجحد الأمة، وفي هذا الوجه لا تقبل الشهادة؛ لأن هذه شهادة ذمي قامت على المسلم، قال شمس الأئمة رحمه الله: تأويل المسألة في الوجه الثاني إنها تجحد المملوكية للمولى، أما لو أقرت بالمملوكية: فالمولى ينفرد بدعوة النسب وثبت نسب الولد منه، وتصير الجارية أم ولد له بإقراره ولا عبرة لتكذيبها. ومما يتصل بهذا الفصل أيضاً في معرفة أم الولد فنقول: أم الولد الجارية التي يستولدها الرجل بملك اليمين، أو استولدها بملك النكاح ثم اشتراها بعد ذلك، أو ملكها بسبب آخر، أو استولدها بشبهة ثم اشتراها بعد ذلك، أو ملكها بسبب آخر وهذا مذهبنا؛ وقال الشافعي: إذا استولدها بحكم النكاح ثم اشتراها لا تصير أم ولد له، وإذا استولدها بالزنا ثم ملكها؛ القياس أن تصير أم ولد له، وهو قول زفر في الاستحسان، ولا تصير أم ولد له، وهو قول علمائنا الثلاثة، والمسألة تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى. وكذلك إذا قال الرجل: تزوجت هذه الجارية وولدت مني، ولا يعلم ذلك إلا بقوله، وأنكر ذلك المولى الذي هي له، فإذا ملكها الذي أقر بهذا بعد ذلك تصير أم ولد له عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله.f وإذا أسقطت أمة الرجل سقطاً استبان خلقه أو بعض خلقه تصير أم ولد له، وإن لم يستبن شيء من خلقه لا تصير أم ولد له عندنا. وفي «المنتقى» : قال أبو يوسف: إذا أقر الرجل أن جاريته هذه قد أسقطت منه، فهذا إقرار أنها أم ولده، قال: إنما يقع اسم السقط على ما تبين خلقه؛ أما إذا لم يبن خلقه لا يسمى سقطاً، وقد ذكرنا هذه المسائل في كتاب العتاق. نوع آخر في المسائل التي تتعلق بنفي الولد قال محمد رحمه الله: إذا تزوج الرجل امرأة، وجاءت بولد لستة أشهر منذ تزوجها حران مسلمان، فادعى أحدهما أنه ابنه وكذبه الآخر فهو ابنه منها؛ لأن هذا الولد ولد النكاح القائم بينهما لما جاءت لستة أشهر منذ تزوجها، وولد النكاح ثابت النسب من صاحب النكاح لا ينتفي نسبه إلا باللعان. وكذلك لو قال الزوج: هذا الولد كان لك من زوج قبلي، وقالت المرأة: بل هو منك، فهو ولد الزوج؛ لأنه ولد النكاح القائم بينهما، ولا حد على الزوج؛ لأنه لم يقذفها بالزنا، إنما نسبه إلى وطء حلال، فلا يوجب حداً ولا لعاناً. ولو قال الزوج: ولدته من الزنا وكذبته، يلاعن بينهما، ويقطع نسب الولد من الزوج ويلحق بالأم، وإن صدقته فهو ابنهما؛ لأن اللعان لا يجري بين المتصادقين. وإذا ولدت المرأة ولدين في بطن واحد وأقر الزوج بالأول منهما ونفى الآخر؛ فهما ابناه، ويلاعن بينهما لقطع النكاح؛ لأنهما لا يتجريان في حق ثبات النسب، فإذا أقر بأحدهما فكأنه أقر بهما، فإذا نفى الآخر بعد ذلك فكأنه نفاهما جميعاً، ولو أقر بهما ثم

نفاهما فإنهما يتلاعنان لقطع النكاح إن كانا لا يتلاعنان لقطع النسب فكذا ههنا. فإن كان نفى الأول منهما وأقر بالثاني جلد الحد وكانا أثبته؛ لأنه لما نفى الأول فكأنما نفاهما، فإذا أقر بالآخر فكأنه أقر بهما، ولو نفاهما ثم أقر بهما لا يلاعن؛ لأنه أكذب نفسه، والملاعن إذا أكذب نفسه يجلد ولا يلاعن لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، وإذا امتنع اللعان بقيا ثابتي النسب من الزوج. وإذا تزوج الرجل امرأة وجاءت بولدين فنفاهما الزوج، وقضى القاضي باللعان، فمات أحدهما يعني أحد الولدين قبل اللعان فهما ابنا الزوج، ويلاعن لقطع النكاح، وإنما كانا ابني الزوج (224ب4) لأنه تعذر قطع نسب الميت منهما باللعان، فيتعذر قطع نسب الحي تبعاً له فبقي نسبهما ثابتاً من الزوج. فإن قيل: أمكن قطع نسب الحي باللعان فيمكن قطع نسب الميت تبعاً له. قلنا: اعتبار جانب الحي يوجب قطع نسبهما واعتبار جانب الميت يوجب ثبوت نسبهما وقع الشك في القطع، والنسب كان ثابتاً فلا يقطع بالشك، وكذلك لو لم يمت واحد من الولدين، ولكن مات الزوج قبل اللعان فالولدان ثابتا النسب منهما؛ لأنه تعذر إقامة اللعان بعد موت أحد الزوجين. وكذلك لو التعنا عند القاضي إلا أن القاضي لم يفرق بينهما، ولم يلزم الولد أمه حتى مات الزوج أو المرأة، فالولدان ثابتا النسب منهما؛ لأن بمجرد اللعان لا ينقطع نسب الولد من الزوج ما لم يقطعه القاضي، وتعذر قطع النسب بعد موت أحد الزوجين متعذر، فكذا قطع النسب من جملة اللعان، وإقامة اللعان بعد موت أحد الزوجين متعذر، فكذا قطع النسب الذي هو من جملة اللعان. وإذا ولدت امرأة الرجل ولداً فنفاه الزوج، ولاعن القاضي بينهما وفرق بينهما، وألزم الولد أمه، ثم ولدت ولداً آخر في ذلك البطن، فإن الولدين يلزمان الأب؛ لأن نسب الثاني ثبت من الزوج لأنه لم يوجد فيه نفي ولا لعان، وثبات النسب الثاني يوجب ثبات نسب الأول. فإن قيل: هلا اعتبرتم جانب القطع قلتم: قطع نسب الأول يوجب قطع نسب الثاني. قلنا: اعتبار الثاني في حق النسب أولى من اعتبار الأول في حق القطع، لأنا إذا اعتبرنا الثاني في حق ثبات النسب، وثبت نسب الأول باعتبار الثاني كان في ذلك إبطال النفي في حق المنفي، وأنه جائز كما لو أكذب الملاعن نفسه. ولو اعتبرنا الأول في حق القطع وانقطع نسب الثاني باعتبار الأول، فقد انقطع نسب الحبل باللعان، وقطع نسب الحبل باللعان غير مشروع، لكان اعتبار الثاني في حق إثبات النسب، وفيه إثبات أمر مشروع أولى من اعتبار الإقرار في حق القطع وفيه إثبات أمر غير مشروع، ولكن كانت ولدتهما جميعاً، وعلم بأحدهما ونفاه، ولاعن وألزمه القاضي أمه، وفرق بينهما، ثم علم بالآخر؛ فهما ابناه، لأن النسب الذي علم بعد ذلك

ثابت من الزوج لأنه لم يوجد في حقه نفي ولا لعان، ومن ضرورة ثبوت نسبه ثبوت نسب الآخر؛ لأنهما لا يختلفان في النسب لكونهما توأمان، فإن قيل: لم لا يجعل نسب أحدهما باللعان قطعاً في حق الآخر. قلنا: اللعان يعتمد النفي في حق الآخر، ولم يوجد من حيث الصريح، أو جعل النفي موجوداً في حق الآخر إنما يجعل موجوداً من حيث المعنى، إلا أن النفي لا يثبت من حيث المعنى بل يعتمد الصريح، وإذا لم يوجد في حق الآخر نفي صريح لا يثبت اللعان في حق الآخر فكان الآخر ثابت النسب ما لم يقطع باللعان ثابتاً. وأما اللعان ثانياً فتعذر لأن الزوجية انقطعت بها لفرقة بينهما، ولأن الذي انقطع نسبه باللعان يحتمل الثبوت منه بالإكذاب فالذي نفى ثابت النسب منه بعدما قضى القاضي بينهما بالفرقة فنسبه لا يحتمل النفي لأن انتفاء نسب ولد النكاح باللعان، واللعان بعد وقوع الفرقة ممتنع فكان الترجيح لجانب الإثبات. ولو علم الثاني قبل أن يفرق القاضي بينهما فنفاه، فالقاضي يعيد اللعان بينهما لأجل الثاني، ويقطع نسبهما من الزوج لأن النفي في حق الثاني وجد صريحاً، وإقامة اللعان ممكن فيعاد اللعان ويقطع نسب الثاني من الزوج كما قطع نسب الأول. وإذا أكذب الملاعن نفسه، وادعى نسب الولد بعدما فرق القاضي بينهما وألزم الولد أمه، إن كان الولد حياً ثبت نسب الولد منه لأنه بالإكذاب بطل اللعان، لأن اللعان شهادات، والشهادة تنفسخ برجوع الشاهد، وإذا بطل اللعان صار وجوده كعدمه، ولو عدم اللعان كان الولد ثابت النسب من الزوج؛ فكذا ههنا، ويقام عليه الحد لأنه ملاعن أكذب نفسه، والحكم في مثله الحد ثم يقام عليه الحد سواء كانت المرأة حية أو ميتة. إن كانت حية فلا إشكال لأنه صار قاذفاً حية محصنة. وإن كانت ميتة فلا بد أن يصير قاذفاً لها بالقذف السابق عند الإكذاب، فيصير قاذفاً لها وهي ميتة. ومن قذف ميتة كان على القاذف الحد؛ وهذا إذا كان الولد حياً لأن الحي محتاج إلى أن يتشرف بالنسب ويتجمل به، فلا يصح دعوته، فإن ترك هذا الولد المنفي ابناً أو ابنة، أو ابن ابن فادعاه الملاعن صحت دعوته، لأن الميت إن استغنى عن النسب فولده محتاج إليه حتى يثبت نسبه من الحد فيتشرف به، وحاجة ولده وهو بعضه كحاجة نفسه. ولو كان المنفي محتاجاً إلى النسب أليس أنه يصح دعوته، فكذا إذا كان بعضه محتاجاً إليه، ولو كان الولد المنفي ابنة، وتركت ابنة وابناً ثم أكذب الملاعن نفسه لم يصدق، ولم يرث في قول أبي حنيفة وفي قولهما يصدق ويرث. فوجه قولهما: أن ولد الابن كما هو محتاج إلى نسب أبيه، فولد الابنة يحتاج إلى نسب أمه؛ لأن الإنسان كما ينسب إلى أبيه، وكما يتشرف بشرف الأب يتشرف بشرف الأم، ويصير كريم الطرفين فكان في الفصل الأول جعل بقاء ولد الولد المنفي كبقاء الولد المنفي، فكذا في هذا الفصل يجعل كذلك، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن هذا الولد غير

منسوب إلى الملاعن لأن نسب الولد إلى قوم أبيه لا إلى قوم أمه، فلا يلاعن نفسه في حقه بخلاف الفصل الأول. وإذا لاعن الرجل بجارية، وألزمها الأم ثم أراد ابن الملاعن أن يتزوجها لم يكن له ذلك، ويفرق بينهما، وكذلك الملاعن نفسه لو ادعى أنه لم يدخل بالأم، وتزوج بالبنت فرق بينهما؛ وهذا لأن النسب باقٍ في حق حرمة المناكحة كما في حق حرمة قطع الزكاة عنده، وقبول الشهادةبيانه أن النسب، وإن انقطع باللعان حقيقة إذا كان ممكن الإعادة يعتبر قائماً حكماً، هذا أصل متمهد في قواعد الشرع. فإذا كان النسب بعد اللعان منقطعاً حقيقة قائماً حكماً، كان قائماً من وجه، منقطعاً من وجه، فاعتبرناه منقطعاً في حق الميراث والنفقة، فاعتبرناه قائماً في حق حرمة وضع الزكاة، وقبول الشهادة أخذا بالاحتياط في كل فصل. ولأجل ما ذكرنا قلنا بأنه لا يصح دعوى غيره نسب ولد الملاعنة لأن النسب من الأول باق من وجه. نوع آخر في بيان ولد المطلقة طلق الرجل امرأته ثم جاءت بولدين؛ فهذه المسألة على وجهين: إما أن كان الطلاق رجعياً. أو بائناً، وكل وجه من ذلك على ثلاثة أوجه: إما إن جاءت بهما لأقل من سنتين. أو جاءت بهما لأكثر من سنتين بيوم. وبالآخر من سنتن بيوم، وبدأ محمد في الكتاب بالطلاق الرجعي. فقال: إذا جاءت بولدين لأقل من سنتين من وقت الطلاق، ولم تقر المرأة بانقضاء العدة فنفى الزوج الولد الأول، ثم ولدت الثاني؛ فهما ابناه لأنهما ولدا لنكاح، ونسب ولد النكاح لا ينقطع إلا باللعان، واللعان ههنا يتعذر. بيانه: أن المرأة وإن كانت منكوحة له وقت نفي الولد الأول بقيام العدة إلا أنها لما ولدت الثاني بعد ذلك فقد انقضت عدتها، وانقضاء العدة في الطلاق الرجعي بقطع النكاح، وانقطاع النكاح بعد النفي يمنع جريان اللعان لقيام الزوجية وقت النفي والعقد متى انعقد موجباً للعان لا يوجب الحد بعد ذلك إلا بإكذاب الملاعن نفسه، ولم يوجد الإكذاب ههنا. وإن جاءت بهما لأكثر من سنتين، وقد نفى الأول فلأنة لا يلاعن بينهما لقطع النكاح، وقطع النسب يكون موقوفاً إن نفى الثاني قطع نسبهما منه وإلا فلا يلاعن بينهما لقطع النكاح لأنا نتيقن أن العلوق بالولدين من وطء بعد الطلاق لأن الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين عندنا، فصار الزوج مراجعاً لها، فولادة الولد الثاني حصلت بعد رجعته الزوج، فيكون النكاح قائماً، وقت ولادة الولد الثاني، وهما من أهل اللعان بينهما، وإنما كان قطع النسب موقوفاً على نفي الثاني، لأن نفي الأول لا يكون نفياً للثاني في حق اللعان (225أ4) فبقي الثاني ثابت النسب، وثبوت نسب أحدهما يوجب ثبوت نسب الآخر، فلهذا توقف قطع النسب على نفي الثاني.

فإن قيل: كان ينبغي ألا يقطع نسبهما، وإن نفى الثاني لأنا حكمنا بكون الولدين مخلوقين من مائه لما حكمنا بالرجعة، وكون الولد مخلوقاً من مائه يمنع قطع النسب باللعان كما لو كان مقراً به. قلنا: اختلفت عبارة المشايخ في الجواب: فعبارة بعضهم: أن الحكم بكون الولد مخلوقاً من مائه لو ثبت إنما يثبت إذا ثبت الحكم بالرجعة بوطء الزوج ولم يحكم بالرجعة بوطء الزوج؛ لأن الرجعة كما تثبت بالوطء تثبت بدواعي الوطء وبمقدماته، وهي اللمس عن شهوته. وعبارة بعضهم وهو الأصح: أنّا وإن حكمنا بكون الولدين مخلوقاً من مائه، فإنما حكمنا به بالرجعة، والرجعة مما تقبل الإبطال بعد ثبوتها فإنه لو طلقها ثلاثاً بعد الرجعة تبطل الرجعة، والحكم بكون الولد مخلوقاً من ماء الإنسان إذا كانت بسبب حكم يقبل الطلاق لا يمنع القطع باللعان، ألا ترى أن قبل النفي حكمنا بكون الولد مخلوقاً من مائه لما حكمنا بثبات النسب، ثم لم يمنع ذلك جريان اللعان، وقطعه به لما كان النسب يقبل القطع والإبطال بعد الثبوت. وإن جاءت بأحدهما لأقل من سنتين بيوم، وجاءت بالآخر لأكثر من سنتين بيوم، ونفى الزوج الأول منهما، فالجواب فيه عند أبي حنيفة وأبي يوسف كالجواب فيما إذا جاءت بهما لأقل من سنتين؛ لأنهما يجعلان الثاني تبعاً للأول لأنه لا بد من جعل أحدهما تبعاً للآخر لأنهما خلقا من ماء واحد فكان جعل اللاحق تبعاً للسابق أولى لأن للسبق إبراء في كثير من الأحكام. وعند محمد الجواب فيه كالجواب فيما إذا جاءت بهما لأكثر من سنتين لأنه يجعل الأول تبعاً للثاني لأن العلوق بالثاني متيقن أنه بعد الطلاق لأن الولد لا يبقى في الولد أكثر من سنتين والعلوق بالأول مشكوك يجوز أن يكون بعد الطلاق، ويجوز أن يكون قبله، ولا شك بأن جعل المتيقن أصلاً أولى هذا الذي ذكرنا إذا كان الطلاق رجعياً. فإن كان الطلاق بائناً، فإن جاءت بهما لأقل من سنتين من وقت الطلاق فهما ابناه لأنهما ولدا لنكاح وتعذر قطع نسبهما باللعان لانقطاع الزوجية، وعلى الزوج حد القذف لأنه قذفها وهي أجنبية محصنة. وإن جاءت بهما لأكثر من سنتين؛ لا يثبت نسبهما من الزوج، ولا حد على الزوج، وإن قذفها وهي أجنبية لما أنها في صورة الزانيات، ولأن في حجرها ولد لم يثبت نسبه من أحد. وإن جاءت بأحدهما لأقل من سنتين بيوم، وجاءت بالآخر لأكثر من سنتين؛ فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف، هذا وما لو جاءت بهما لأكثر من سنتين سواء. وإذا طلق الرجل امرأته واحدة بائنة، وقد دخل بها ثم تزوجها ثانياً، ثم جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من وقت النكاح الثاني فنفاه فإنه يلاعن بينهما لقيام النكاح بينهما في الحال ويفرق بينهما، والولد ثابت النسب من الأب.

لأنا تيقنا أن العلوق به كان في النكاح الأول، والنكاح الأول قد انقطع، والنكاح الذي منه الولد إذا انقطع لا يمكن قطع نسب الولد بعد ذلك باللعان لأن الولد فرع النكاح ولا يمكن قطع ذلك النكاح باللعان، فكذا قطع نسب ولد يكون منه. وإن جاءت به لستة أشهر فصاعداً فإنه يلاعن ويقطع نسب الولد لأن علوق هذا الولد من النكاح الثاني لأن الوطء حلال للزوج فيحال به على أقرب الأوقات، فالنكاح الذي منه هذا الولد قائم فيجوز نسبه باللعان. نوع آخر في نفي ولد المنكوحة إذا كانت أمته وإذا كانت منكوحة الرجل أمة جاءت بولد فهذا على وجهين: الأول: إن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت النكاح، وفي هذا الوجه إن ادعاه الزوج لا يثبت نسبه إلا بتصديق المولى، لأن علوق هذا الولد كان في ملك المولى فيحتاج إلى تصديق المولى لثبات نفسه كما قبل النكاح، وإن نفاه لا يلزمه لأنه لا يلزم بدون النفي، ففي النفي أولى. الوجه الثاني: أن تجيء به لستة أشهر فصاعداً من وقت النكاح، وفي هذا الوجه يثبت نسب الولد منه ادعاه أو لم يدع لأنه ولد النكاح، وإن نفاه لا يلاعن بينهما لأن اللعان لا يجري بين الحر والأمة، ولا ينتفي نسب الولد لأن نسب ولد المنكوحة لا ينتفي إلا باللعان، ولا لعان بينهما؛ ولا حد عليه لأنها ليست بمحصنة، فإن كان المولى أعتق الأمة، ثم جاءت بولد فهو على وجهين: الأول: أن تجيء بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت العتق، وأنه على وجهين أيضاً: الأول: أن يدعي الزوج الولد وفي هذا الوجه يثبت نسب الولد من الزوج اختارت زوجها أو نفسها قبل الدعوى أو بعد الدعوى، إن اختارت زوجها فلأن النكاح قائم وقت العلوق، ووقت الدعوى، وذلك كاف لثبات النسب بدون الدعوى، فمع الدعوى أولى، وإن اختارت نفسها حتى ماتت، فكذلك إن اختارت نفسها بعد النكاح فظاهر، وإن اختارت نفسها قبل الدعوى؛ فلأن النكاح إن كان منقطعاً وقت الدعوى فقد كان قائماً وقت العلوق، وإن كان لثبات النسب من غير دعوى فمع الدعوى أولى. الوجه الثاني: أن ينفي الزوج الولد؛ وفي هذا الوجه، وإن اختارت زوجها فنسب الولد ثابت منه، ويتلاعنان بقطع النكاح، أما نسب الولد فلأنه ولد النكاح؛ وتعذر قطعه باللعان لأنهما لم يكونا من أهل اللعان وقت العلوق. وأما التلاعن بقطع النكاح فلأن النكاح قائم وقت النفي، وهما من أهل اللعان وقت النفي فيتلاعنان بقطع النكاح إن كانا لا يتلاعنان بقطع النسب، وهو نظر ما لو نفى ولد امرأته بعدما أقر به، فإنهما يتلاعنان بقطع النكاح؛ لا بقطع النسب؛ كذا ههنا، وإن اختارت نفسها؛، فإن كان ذلك قبل نفي الولد ثم نفى الزوج الولد فنسب الولد ثابت من

الزوج ولا يلاعن لأنه لا نكاح بينهما وقت النفي؛ لأنه ثابت باختيارها نفسها قبل النفي، ولا يقام اللعان بعد البينونة، ويجب الحد على الزوج لأنها محصنة وقت القذف. وإن كان اختيارها نفسها بعد النفي قبل إقامة اللعان فالولد ثابت النسب من الزوج، ولا لعان لأنها بانت من زوجها، ولا حد أيضاً لأن القذف انعقد موجباً للعان لأنها كانت محصنة وقت القذف منكوحة للقاذف، والقذف متى انعقد موجباً للعان لا يوجب الحد إلا إذا أكذب الملاعن نفسه؛ ولم يوجد ذلك ههنا، هذا إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت العتق. فأما إذا جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً من وقت العلوق، فإن ادعى الزوج الولد، فالولد ثابت النسب منه ولا حد ولا لعان في الوجوه كلها، وإن نفاه فهو على وجهين: إن اختارت زوجها، فهما يتلاعنان بقطع نسب الولد، فيه قياس واستحسان، القياس: أن لا يقطع، وفي الاستحسان: يقطع على ما مر. وإن اختارت نفسها قبل نفي الولد، فإن الولد ثابت النسب من الزوج ولا لعان لأنه قذفها وهي أجنبية، ولكن يجب الحد لأنها محصنة وقت القذف. وإن اختارت نفسها بعد النفي قبل إقامة اللعان؛ فالولد ثابت النسب من الزوج، ولا لعان ولا حد لما مر. رجل تحته أمة اشتراها من مولاها؛ ثم جاءت بالولد، فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء فالولد ثابت النسب من الزوج سواء كانت المرأة مدخولاً بها أو غير مدخول بها لأنه ولد النكاح بيقين، وولد النكاح ثابت النسب، فإن نفاه الزوج في هذه الصورة فالولد ثابت النسب من الزوج، ولا لعان بينهما، إما لأن المقذوف أمة، أو لأن النكاح قد انقطع وقت القذف، ولا حد أيضاً لأن القذف صادف أمة، وإن جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً إلى سنتين من وقت الشراء (225ب4) ، فإن ادعاه الزوج ثبت النسب منه، وإن نفاه لا يثبت النسب منه سواء كانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها لأنه ولد الأمة. بيانه: أن العلوق حادث والأصل في الحادث أن يحال بحدوثها على أقرب الأوقات إلا لضرورة، وذلك بأن يتضمن إحالتها على أقرب الأوقات نسبة الزوج إلى ارتكاب الحرام كما في الطلاق البائن، فإن الوطء بعد الطلاق البائن حرام على الزوج، فيحال بالعلوق على أبعد الأوقات وهو ما قبل النكاح صيانة له عن النسبة إلى الحرام، أو يتضمن خلاف السنة بأن يصير الزوج مراجعاً بالوطء فيحال بالعلوق على أبعد الأوقات صيانة للزوج عن النسبة إلى مخالفة السنة، وهذه الضرورة معدومة في مسألتنا؛ لأن الوطء حلال للزوج بعد الشراء بملك اليمين، ولا يصير مراجعاً بالوطء بعد الشراء فيحال بالعلوق على ما بعد الشراء، فهو معنى قولنا: إن ولد الأمة، وولد الأمة لا يثبت نسبه بدون الدعوى، فمع النفي أولى. رجل تحته أمة اشتراها من مولاها فأعتقها ثم جاءت بالولد؛ هذه المسألة على ثلاثة أوجه:

الأول: أن تجيء بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت العتق، فإن ادعاه ثبت نسبه منه سواء كانت المرأة مدخولاً بها أو غير مدخول بها، لأنها إن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء فهذا ولد النكاح. وإن جاءت به لستة أشهر من وقت الشراء فهذا ولد أمته وقد ادعاه، ومن ادعى ولد أمته يثبت النسب منه، وإذا ثبت النسب منه صارت الجارية أم ولد له، لأنه ملك جارية له منها ولد؛ وهو ثابت النسب منه. وأما إذا نفاه الزوج إن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الشراء لا ينتفي نسبه، ولا لعان بينهما لانقطاع النكاح، ويجب حد القذف؛ لأن المقذوف محصنة أجنبية من القاذف وقت القذف، وإن جاءت به لستة أشهر من وقت الشراء، فإن نسب الولد لا يثبت منه، لأنه ولد أمة لما بينا أن العلوق حادث يحال به على أقرب الأوقات ما أمكن، ولا لعان لانقطاع النكاح، ولا حد على الزوج لأن في حجرها ولد غير ثابت النسب من أحد فكانت في صورة الزانيات. الوجه الثاني: إذا جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً إلى سنتين من وقت العتق، فإن ادعى الزوج نسب الولد ثبت نسبه منه سواء كانت المرأة مدخولاً بها أو غير مدخول بها، وإن نفاه إن كانت المرأة غير مدخول بها؛ لا يثبت نسبه منه عندهم جميعاً، وإن كانت المرأة مدخولاً بها ونفاه، أو لم ينفِ، ولم يدعُ بل سكت؛ اختلفوا فيه؛ قال أبو يوسف رحمه الله: لا يثبت نسبه من الزوج، ولا يضرب الحد إذا نفى، وقال محمد رحمه الله: يثبت النسب من الزوج ويضرب الحد إذا نفى، وجه قول محمد أنَّ هذه معتدة قد ثبت نسب ولدها من صاحب العدة إلى سنتين، وإنما قلنا: هذه معتدة قد ثبت نسب ولدها من صاحب العدة إلى سنتين لأن العدة قد وجبت بالفرقة الشرعية بالشراء، وظهر بالعتق حتى لزمها الإيفاء عن محظورات العدة، وحرم على الزوج، ولا يحل له أن يتزوج بأختها وأربع سواها، بخلاف ما لو لم يعتقها، وجاءت بالولد لستة أشهر من وقت الشراء، فإنه لا يثبت نسبه من غير دعوى لأنا قلنا: معتدة جاءت بولد، وقيل: العتق بعد الشراء لا تظهر العدة في حق المولى، فإن شيئاً من أحكامها لا يظهر في حق المولى، فكان بمنزلة المطلقة قبل الدخول بها من هذا الوجه. وأما أبو يوسف يقول بأن هذه ولد الأمة فلا يثبت نسبه بدون الدعوى قياساً على ما لو لم يعتقها. بيانه: أن العلوق حادث، فيحال بالحدوث على أقرب الأوقات ما أمكن، وأمكن إحالته إلى ما بعد الشراء؛ لأن الوطء حلال للمولى بعد الشراء بملك اليمين، ولا يصير المولى بالوطء مراجعاً حتى يصير مخالفاً للسنة، بخلاف المطلقة بعد الدخول بها إذا جاءت بولد؛ لأن الوطء حرام على الزوج بعد الفرقة إن كان الطلاق بائناً، وإن كان رجعياً يصير الزوج مراجعياً بها لوطء، وإنه خلاف السنة، فأحيل به على حال النكاح،

فكان ولد منكوحة، وإذا لم يثبت النسب من الزوج عند أبي يوسف لم يجب الحد وإن نفى، فإن في حجرها ولداً غير ثابت النسب من أحد، وعند محمد لما ثبت النسب لا يجب الحد، وإن نفى إذ ليس في حجرها ولد غير ثابت النسب من أحد. الوجه الثالث: إذا جاءت بالولد لأكثر من سنتين من وقت العتق؛، فإن ادعاه الزوج ثبت نسبه منه، وإن نفاه لا يثبت نسبه منه عندهم كما في المطلقة، وإذا لم يثبت نسب الولد من النكاح لا يجب الحد لما ذكرنا. رجل تحته أمة اشتراها ثم باعها من غيره، ثم جاءت بولد بعد البيع، فهذه المسألة على وجوه أيضاً: الأول: أن تجيء بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت شراء الزوج إياها، وفي هذا الوجه ثبت نسبه منه، ادعاه أو سكت؛ لأنه ولد النكاح، وولد النكاح ثابت النسب من الزوج ادعاه أوسكت، وإذا ثبت النسب ظهر بطلان بيع الزوج؛ لأنه ظهر أنه باع أم ولده وولده الحر فوجب على الزوج رد الثمن، وإن نفاه لا ينتفي نسبه أيضاً، لأن نسب ولد النكاح لا ينقطع إلا باللعان، وتعذر إقامة اللعان ههنا لانقطاع النكاح، وتكون المقذوفة أمته. الوجه الثاني: إذا جاءت بالولد لستة أشهر فقط منذ اشتراها الزوج فادعاه الزوج فالجواب فيه كالجواب فيما إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها الزوج، لأنها ولدت لستة أشهر منذ اشتراها الزوج، لأنها ولدت لأقل من ستة أشهر منذ باعها الزوج، لأنها ولدت لستة أشهر منذ اشتراها فيكون لأقل من ستة أشهر منذ باعها، ومن باع جارية وجاءت بولد لأقل من ستة أشهر منذ باعها، وادعاه البائع صحت دعوته. الوجه الثالث: إذا جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر منذ بيع الزوج وادعاه الزوج ثبت نسب الولد منه من غير تصديق المشتري وبطل كما لو باع أمة لم تكن زوجة له وجاءت بولد عند المشتري لأقل من ستة أشهر من وقت البيع، وإن نفاه الزوج في هذه الصورة لا يثبت نسبه، لأنه ولد الأمة ولم يدع نسبه، وإذا لم يثبت النسب، ففي البيع على حاله، وإن جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً إلى سنتين من وقت بيع الزوج، وادعاه، فإن كانت المرأة غير مدخول بها لا يثبت نسبه إلا بتصديق المشتري، كما لو باع أمة لم تكن زوجة له وجاءت بولد لستة أشهر فصاعداً إلى سنتين من وقت البيع، وادعاه البائع، وإذا صدقه المشتري حتى ثبت النسب بطل البيع، وإن كانت المرأة مدخولاً بها، وباقي المسألة بحاله، كان أبو يوسف يقول أولاً تصح دعوته من غير تصديق المشتري؛ وهو قول محمد. ووجه ذلك: أن هذه ولد المعتدة، لأن المعتدة وجبت بالفرقة الواقعة بالشراء، وظهر بالبيع حتى لا يحل للمشتري أن يقربها ما لم تنقض عدتها، والمعتدة إذا جاءت بولد إلى سنتين يثبت نسبه من صاحب العدة من غير تصديق ودعوى، كما في المطلقة، وكما لو أعتقها الزوج في هذه الصورة على قول محمد، وإنما شرط محمد رحمه الله

الدعوى ههنا لثبات النسب، وإن كان ولد المعتدة لأجل الضرورة لأنها متى لم يشترط الدعوى وأثبتها النسب بدون الدعوى ابتداءً لزمنا اشتراط الدعوى انتهاءً. بيانه: أنه متى ثبت النسب بدون الدعوى ينتقض البيع، وصار كأنه لم يبع، ولو لم يبع، وجاءت بالولد لستة أشهر منذ اشتراها الزوج لا يثبت النسب إلا بالدعوى فيثبت، أما لو لم يشترط الدعوى ابتداءً، لشرطناها انتهاءً، فشرطناها من الابتداء لهذه الضرورة بخلاف ما لو أعتقها على أصل محمد رحمه الله، لأن هناك لو لم تشترط الدعوى في الابتداء إثبات النسب لا يلزمها اشتراطها في الانتهاء؛ لأنها إذا جاءت بالولد بعد العتق لا ينتقض العتق، وبخلاف ما لو لم تكن المرأة مدخولاً بها لأن هناك بالشراء وقعت الفرقة قبل الدخول من غير عدة، وكان ولد أمة لا ولد معتدة، وجه قول أبي يوسف الآخر أن هذا ولد الأمة لأن العلوق بحال (226أ4) على ملك اليمين على ما مر في فصل العتق فقد جاءت بالولد بعد البيع لستة أشهر فإذا ادعاه البائع يجب ألا تصح دعوته من غير تصديق المشتري، كما لو لم تكن الأمة زوجة له، هذا إذا ادعاه، وإن نفاه لا يثبت نسبه عندهم جميعاً. إذا جاءت بالولد لأكثر من سنتين من وقت بيع الزوج، إن ادعاه الزوج لا يثبت نسبه إلا بتصديق المشتري عندهم جميعاً، أما عند أبي يوسف الآخر فلأنها إذا جاءت به إلى سنتين لا يثبت النسب إلا بتصديق المشتري فههنا أولى، وأما عند محمد فلأنه يعتبرها بالمعتدة، والمعتدة إذا جاءت بالولد لأكثر من سنتين من وقت الفرقة لا يثبت النسب من غير دعوى، فههنا كذلك، وإن نفاه لا يثبت النسب عندهم جميعاً. رجل تحته أمة رجل، اشتراها ثم باعها من آخر فولدت في يد المشتري ولداً، وأعتق المشتري الولد، ثم ادعاه البائع وقد كان دخل بها في النكاح، فهذا على وجهين أيضاً: الأول: أن تجيء بالولد لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها الزوج، وفي هذا الوجه يثبت نسب الولد من الزوج، ادعاه الزوج أو لم يدعِ، لأنه ولد النكاح وبطل البيع، وبطل عتق المشتري لأنه ثبت أنه باع أم ولده، وأن الولد كان حراً، وإن جاءت به لستة أشهر منذ اشتراها الزوج لا يثبت نسبه منه، لأنه ولد الأمة فلا تصح فيه دعوى البائع بعدما أعتقه المشتري، كما لو لم تكن الأمة زوجة له. وإن لم يكن المشتري أعتق الولد ولكن أعتق الأم، فهذا على ثلاثة أوجه: الأول: إذا جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها الزوج؛ وفي هذا الوجه صحت دعوته في حق الأم والولد جميعاً، لأنه ولد النكاح فكان ثابت النسب من الزوج، وإن لم يدعه وظهر أنه باع أم الولد فظهر بطلان البيع وظهر بطلان إعتاق المشتري، وإن جاءت به لستة أشهر فصاعداً منذ اشتراها الزوج، فإن كان لأقل من ستة أشهر منذ

باعها لا يثبت النسب إلا بالدعوى لأنه ولد الأمة، وإذا ادعى صحت دعوته في حق الولد، ولم تصح دعوته في حق الأم، كما لو باع أمة ليست بزوجة له وجاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت البيع فأعتق المشتري الأم ثم ادعى البائع الولد صحت دعوته في حق الولد من غير تصديق المشتري حتى يرد الولد على البائع، ولا يسلم للبائع ما قبض من حصته من الثمن، ولم تصح دعوته في حق الأم حتى لا ترد الأم على البائع ويسلم للبائع ما قبض من حصتها من الثمن؛ كذا ههنا، وإن جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر منذ باعها الزوج فإنه لا تصح دعوته إلا بتصديق المشتري عند أبي يوسف الآخر، وعند محمد تصح دعوته إلى سنتين من غير تصديق المشتري إذا كانت مدخولاً بها لمكان العدة، وهو قول أبي يوسف الأول، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم. وإن جاءت به لأكثر من سنتين منذ اشتراها فسواء جاءت لأقل من سنتين أو لأكثر من سنتين منذ باعها الزوج لا تصح دعوى الزوج إلا بتصديق المشتري، إلا إذا جاءت بالولد لسنتين من وقت البيع وصدقه المشتري ينتقض البيع، وإن جاءت به لأكثر من سنتين من وقت البيع لا ينتقض البيع. وإذا طلق الرجل امرأته الأمة تطليقة بائنة ثم أعتقت ثم جاءت بالولد إلى سنتين منذ طلقها فإنه يلزمه إياه، فإنه ولد النكاح؛ لأن العلوق ههنا محال به على أبعد الأوقات وهو وقت النكاح؛ لأن الوطء حرام بعد النكاح، ويضرب الزوج الحد لأنه قذفها وهي محصنة أجنبية من القاذف. وولاء الولد لمولى الأم لأنه معتق.... إلا أنا حكمنا بوجوده وقت إعتاق الأم حيث أحلنا العلوق على حال النكاح، والمعتق...... لا يتبع أحداً في الولاء، ويكون ولاؤه للمعتق، قال عليه السلام: «الولاء للمعتق» ، ولو مات الأب وقد أعتقت بعده بيوم، وجاءت بالولد إلى سنتين فالجواب فيه، والجواب فيما إذا طلقها سواء، لأن العدة كما تجب بالطلاق تجب بالموت، وإذا كانت امرأة الرجل أمة، فولدت منه ولداً فاشتراها الزوج وأعتقها تزوجها، ثم ولدت ولداً آخر لستة أشهر فصاعداً منذ تزوجها فنفاه لاعن القاضي بينهما، ولزم الولد أمه، أما اللعان فلأنهما من أهل اللعان وقت النفي، ويقطع نسب الولد؛ لأن العلوق يحال به على أقرب الأوقات وهو ما بعد النكاح، وهما من أهل

اللعان في ذلك الوقت، وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها آخر أو لأكثر من ستة أشهر منذ اشتراها يلاعن ويلزم الولد أباه، لأنها بالشراء صارت أم ولد له، فإذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت النكاح الأخير علمنا أن العلوق كان سابقاً على هذا النكاح فكان ولد أم الولد ونسب ولد أم الولد لا ينتفي بمجرد النفي بعدما ثبت فيها العتق، واللعان متعذر؛ لأن حالة العلوق لم يكونا من أهل اللعان، ولو جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها لاعن القاضي بينهما، ولزم الولد أمه، لأن العلوق كان في حال النكاح حال ما لا يجري بينهما اللعان، ويضرب الحد إذا كانت أم الولد مسلمة لأنها محصنة، ولو صدقته المرأة أن الولد ليس منه لم يصدقا على الولد لأن النسب من حق الولد وقد استحق النسب لأنه ولد النكاح، فلا يصدقان على إبطال حقه والله أعلم. نوع آخر من المسائل التي تتعلق بأم الولد الجارية إذا كانت بين رجلين جاءت بولد فادعياه حتى يثبت النسب منهما، ثم جاءت بولد آخر بعد ذلك لم يثبت نسبه من غير دعوى منهما، وإن كانت الجارية أم ولد لهما ونسب ولد أم ولد يثبت بدون الدعوى، والوجه فيه ما ذكرنا: أن نسب ولد أم الولد إنما يثبت بدون الدعوى إذا كانت أم الولد بحال يحل للمولى وطؤها، أما إذا كانت بحال لا يحل للمولى وطؤها لا يثبت نسب ولدها بدون الدعوى، وإن ادعاه أحدهما ثبت النسب منه، وضمن لشريكه نصف عقرها، ولا يضمن من قيمة الولد شيئاً عند أبي حنيفة، لأن ولد أم الولد بمنزلة أم الولد، ومالية أم الولد غير متقومة عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن ولد أم الولد غير متقوم عند أبي حنيفة؛ حتى لو أعتقها أحد الشريكين لا يضمن لشريكه شيئاً، فكذا مالية ولدها، وعندهما مالية أم الولد متقومة لو أعتقها أحد الشريكين يضمن لشريكه نصف قيمتها إن كان موسراً، وسعت في نصف قيمتها إن كان المعتق معسراً، فكذا مالية ولد أم الولد. وإذا أعتق الرجل أم ولده ثم تزوجها، فجاءت بولد فنفاه المولى، فإن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها فإنهما يتلاعنان؛ لأنهما من أهل اللعان وقت القذف، والنكاح بينهما قائم، ولزم الولد أباه هكذا ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» ، قال شمس الأئمة السرخسي: تأويل المسألة: إذا جاءت بالولد لأقل من سنتين منذ أعتقها حتى لا ثبت النسب من المولى؛ باعتبار زوال الفراش إلى عدة، والشيخ الإمام شيخ الإسلام خواهر زاده أجرى المسألة على إطلاقها من غير تأويل، قال: العلوق كان في حال كونها أم ولد له، وقد حدث العتق فيها من قبل المولى، ونسب ولد أم الولد لا ينتفي بمجرد النفي بعدما حدث العتق في الأم، وإنما ينتفي بمجرد النفي، قبل حصول العتق، فلا ينتفي بمجرد النفي ههنا، واللعان متعذر؛ لأنهما لم يكونا من أهل اللعان حال ما حصل العلوق أنها كانت أم ولد في تلك الحالة، وإن جاءت بالولد لأكثر من سنتين منذ تزوجها، فإنهما يتلاعنان، ويقطع نسب الولد استحساناً، فإذا مات الرجل وترك امرأة (فجاءت ب) ولد فأقر الوارث أنها ولدت هذا الغلام من الميت، فإن لم يكن هناك للمقر

منازع ثبت نسب الغلام من الميت ويرث ولا يشترط العدد في المقرين، ولا لفظة الشهادة، فإن كان (226ب4) للمقر منازع يشترط العدد باتفاق الروايات، ولا يشترط العدالة باتفاق الروايات، وهل يشترط لفظة الشهادة؟ فيه روايتان: رجل باع أم ولده من رجل؛ والمشتري يعلم به، فجاءت بولد وادعاه المشتري، لا يثبت نسبه منه وهو ابن البائع، لأنه ولد على فراشه؛ لأن أم الولد فراش المولى، ولا يبطل هذا الفراش بالبيع لأن بيع أم الولد باطل، فإذا نفاه المولى فقد انتفى نسبه من المولى، والمشتري يدعيه فيثبت نسبه من المشتري كيلا يبقى بلا أب، وكذلك إذا لم يعلم المشتري بكونها أم ولد للبائع كان الجواب كما قلنا إلا أن في هذه الصورة إذا نفى البائع الولد يكون الولد حراً على المشتري بالقيمة لأن المشتري صار مغروراً ههنا، بخلاف الوجه الأول، فإن هناك الولد لا يكون حراً على المشتري إذا نفاه البائع، وإن ثبت النسب من المشتري لأن المشتري هناك لم يصر مغروراً. اشترى جارية وظهر بها الحبل بعد أيام فخاصم المشتري البائع، فقال البائع: امسكها، فإن كان في بطنها ولد فهو مني، فاسقطت هذه الجارية سقطاً مستبين الخلقة لأقل من أربعة أشهر منذ قال هذه المقالة، فالولد ثابت النسب من البائع والجارية أم ولد له لأنه تبين أن الولد كان موجوداً في البطن وقت إقراره لأن الولد منه، وكان عليه أن يرد على المشتري بما أخذ من الثمن لأنه تبين أن الولد وقع باطلاً. نوع آخر يتصل بهذا النوع جارية بين اثنين؛ قال أحدهما: هذه أم ولدي وأم ولدك، أو قال: أم ولدك وأم ولدي، أو قال: أم ولدنا، فإن صدقه صاحبه في ذلك صارت الجارية أم ولد لهما فرق بين هذا وبينما إذا ولدت ولداً، فقال أحدهما لصاحبه: هو ابنك وابني، أو قال: ابننا حتى ثبت النسب من المقر صارت الجارية أم ولد للمقر. والفرق: أن المقر هناك أقر بنسب الولد مقصوداً وبأمية الولد تبعاً لما ذكرنا أن أمية الولد تبع لثبات النسب وحكم البيع يوجد من الأصل فإذا ثبت نسب الولد من المقر خاصة لأنه لا يقبل الشركة والتجزؤ صارت الجارية أم ولد للمقر بطريق التبعية أيضاً، أما ههنا أقر بأمومية الولد مقصود لا تبعاً فيعتبر حكمها بنفسها، ومن حكم الاستيلاد أنه يقبل الشركة والتجزؤ إذا وقع حمله. ولهذا قلنا: إذا جاءت الأمة المشتركة بين رجلين بولد فادعياه حتى يثبت النسب منهما صارت الجارية أم ولد بينهما، ولولا أن الاستيلاد يقبل الشركة والتجزؤ وإلا لصارت الجارية أم ولد لكل واحد منهما كملاً ألا ترى أن النسب لما كان لا يتجزأ إذا ثبت النسب منهما ثبت من كل واحد منهما كملاً، حتى لو ماتا ورث من كل منهما ميراث ابن كامل إذا ثبت أن الاستيلاد يتجزأ في هذه الصورة فيقول المقر: أقر أن الاستيلاد وجد منهما وقد صدقه صاحبه فيه، فكأنهما ادعيا ذلك جميعاً معاً، فلهذا صارت الجارية أم ولد لهما، ولا ضمان لواحد منهما على الآخر كما لو ادعيا معاً، وإن كذبه صاحبه في

ذلك ضمن المقر لشريكه نصف قيمتها موسراً كان أو معسراً إلا أنه يصير متملكاً نصيب شريكه بزعم شريكه إن كان لا يصير متملكاً بزعمه لأن في زعمه أن ذلك النصف أم ولد الشريك وأم ولد الشريك لا يحتمل التملك ولكن الضمان حق الشريك فيعتبر التملك في حق الشريك، وقد وجد وضمن أيضاً نصف العقر لشريكه؛ لأن إقراره بوطء جارية مشتركة بينه وبين غيره ثم يكون نصف الجارية أم ولد للمقر ونصفها موقوف بمنزلة أم الولد، وإنما يوقف لما قلنا: إنه لما ضمن المقر نصيب الشريك فقد انعقد سبب الملك له في نصيب الشريك، فصار كأنه اشترى، وأقر بالاستيلاد على البائع، وهو ينكر وهناك يجب القول بالتوقف كذا ههنا. يوضحه: أن للشريك حق الرجوع إلى التصديق فربما يصدقه ساعة فساعة فتصير أم ولد بينهما فلأجل هذا التوهم أثبتنا التوقف، فإن عاد الشريك إلى التصديق صارت أم ولد بينهما أو يرد ما أحدث الضمان لإقراره أنه أخذ ما أخذ بغير حق، وإن لم يعد إلى التصديق فنصفها أم ولد للمقر ونصفها موقوف بمنزلة أم الولد تخدم المقر يوماً وتوقف يوماً وفي بعض النسخ يكتسب لنفسه يوماً، فإن مات أحدهما، ففي فصل التصديق عتقت أيهما مات لمعنى واحد أن نصيب الميت قد عتق بموته، فيتعدى إلى الباقي ولا سعاية عليها للحي في قول أبي حنيفة لما عرف من مذهبه أن أم الولد ليست بمال وعندهما عليها السعاية؛ لأن أم الولد مال عندهما، فقد أحبس عندهما نصيب الحي، وهو مال فيجب عليهما السعاية رداً لمال حبس عندهما، فقد احتبس عندهما، وفي فصل التكذيب كذلك تعتق أيهما مات، ولكن لمعنيين مختلفين إن مات المقر عتقت؛ لأن في زعم المنكر أن كلها أم ولد للمقر، وأنها عتقت بموته وزعمه معتبر في حقه ولا سعاية عليها للمنكر؛ لأن في زعم المنكر أنها خرجت عن ملكه وصارت كلها أم ولد للمقر وأنها عتقت بموته وزعمه معتبر في حقه ولا سعاية عليها للمنكر؛ لأن في زعم المنكر أنها خرجت عن ملكه وصارت كلها أم ولد للمقر، وأنها عتقت بموته وزعمه معتبر في حقه وقد أخذ الضمان من المقر فكيف يأخذ السعاية، وإن مات المنكر عتقت؛ لأن في زعم المقر أن نصفها أم ولد للمنكر وقد عتق ذلك النصف بموته فيتعدى إلى الباقي ولا سعاية عليها للمقر عند أبي حنيفة خلافاً لهما لما مر. رجلان بينهما جارية جاءت بولد فادعاه أحدهما ثبت النسب منه وحكم بحرية الولد وصارت الجارية أم ولد وضمن لشريكه نصف قيمتها موسراً كان أو معسراً، وهو نصف العقر وأصل المسألة معروف، فإن قال المدعي لصاحبه: إن هذه الجارية قد ولدت منك ولداً، وادعيته قبل أن تلد مني وصارت أم ولد لك وصدقه صاحبه في ذلك وكذبته الجارية، فإنهما لا يصدقان على الجارية وعلى ولدها حتى لا يبطل ما ثبت لهما من الحقوق من جهة المدعي ولا يبطل الضمان عن المدعي لأنا لما جعلناها أم ولد للمدعي فقد كذبنا المدعي في إقراره فبطل إقراره، فلهذا لم يبطل عنه الضمان ولكن يضمن المقر نصف قيمتها أم ولد باعتبار أن صاحبه لما أقر بثبوت الاستيلاد منه قبل هذا فقد أقر

بفوات ذلك الجزء، ومن جهته فصار ميراثاً للمدعي عن فضل قيمتها فيه على قيمتها مدبرة، من مشايخنا من قال هذا قولهما. أما على قول أبي حنيفة: لا يضمن المقر للمقر له شيئاً، لأن أم ولد الولد غير متقوم عنده، وقيل لا بل هو قولهم جميعاً؛ لأن أمية الولد من جهة المقر له لم يثبت في الحكم، لأنها أم ولد للمقر في الحكم فصار متملكاً نصيبه، والتملك لا يكون مجاناً، لكن يضمن قيمتها أم ولد لما قلنا، والأول أشبه وأقرب الى الصواب، لأن إقرار المقر له بالاستيلاد قبل ذلك إبراء المقر عن الضمان أصلاً، لأن الاستيلاد يمنع التملك بعد ذلك، ولو وجب الضمان ههنا لوجب بالتملك، فإن اكتسبت الجارية إكساباً، أو قتلت هي أو ولدها، فذلك كله للمقر؛ لأنها أم ولد المقر والولد ابن المقر في الحكم، فلهذا قال: كل ذلك للمقر. ولو قال هذا المدعي للشريك: كنت أعتقتها أنت قبل هذا، وصدقه الشريك في ذلك، فالأمة تعتق لأن المقرر أقر بعتقها، وهو مالك الإقرار بعتقها، ولا ضمان على المقر في نصف قيمتها، ولا في نصف عقرها بخلاف فصل الاستيلاد عندهما. والفرق: أن الإقرار بالعتق قبل ذلك إقرار ببراءة المقر عن الضمان؛ لأن العتق ينافي ضمانها أصلاً، وهو يملك إنشاء الإبراء، فيصح الإقرار به، أما الإقرار بالاستيلاد ليس بإقرار ببراءته عن الضمان أصلاً؛ لأن الاستيلاد لا ينافي الضمان عندهما، على ما عرف في تلك المسألة، فلهذا افترقا. رجل في يديه أمة فوطئها، وولدت منه ولداً فادعى ولدها ثم قال: كانت هي أم ولد فلان فزوجنيها فولدت لي هذا الولد، وصدقه فلان في ذلك، فإن صدقتهما الأمة في ذلك أو كذبتها ولكن رجعت الى تصديقها قبل قضاء القاضي بكونها أم ولد للمقر فهي أم ولد للمقر، ويكون حكم ولدها كحكمها، فيعتقان إذا مات المقر له؛ لأن تصديقها في حق نفسها صحيح، وكذلك في حق الولد لأنها في يدها، وإنه لا يعبر عن نفسه، فصار كثوب أو دابة في يدها، فإن كبر الولد بعد ذلك وكذبها فيما أقرت، لم يلتفت الى تكذيبه، لأن إقرار الجارية قد نفذ عليه حين كان في يدها (227أ4) صغيراً لايعبر عن نفسه، فلا يتغير ذلك لصيرورته كبيراً معبراً عن نفسه كما قلنا في الملتقط إذا ادعى نسب اللقيط، ثم كبر اللقيط وكذبه لا يلتفت إلى تكذيبه، وطريقه ما قلنا، ولو لم تصدقه الجارية المقر ولم تكذبه حتى ماتت صدق المقر والمقر له؛ حتى كان الولد عبداً للمقر له؛ لأنا إنما كنا لا نصدقهما حال حياة الجارية لحق الجارية، وقد زال حقها، ولا يعتبر بحق الصغير؛ لأنه لا يعبر عن نفسه، وهو في يد المقر، فصار كثوب أو دابة في يده فيصح إقراره بالملك فيه للمقر، فإن كبر الولد وأنكر أن يكون عبداً للمقر له لم يلتفت إلى إنكاره لما قلنا. وإن كذبتهما الأمة، وثبتت على ذلك، فالقاضي يجعلها أم ولد للمقر؛ لأن أمية الولد للجارية، ونسب الولد وحرمته ثابتة من جهة المقر بناءً على الظاهر، فالمقر بقوله: إن الولد من نكاح يريد إبطال ذلك فلا يصدق عليه وعلى المقر قيمتها أم ولد للمقر له؛ لأن المقر أقر بكونها أم ولد للمقر له، وقد احتبست عنده بقضاء القاضي قيل: هذا على

قولهما، أما على قول أبي حنيفة لا ضمان على المقر؛ لأنه لا تقوم لمالية أم الولد عند أبي حنيفة، فلا يضمن بالاحتباس عنده، ولا عقر للمقر له على المقر لأنه ما أقر بالوطء إلا بحكم النكاح وإنه لا يوجب العقر، وأشار في «الكتاب» إلى فرق آخر، فقال: بأن القاضي لما قضى بكونها أم ولد للمقر فقد قضى بأن المقر وطء ملك نفسه، وهذا إشارة إلى أنه لا يلزمه المهر أيضاً بخلاف المسألة التي تقدم ذكرها؛ لأن هناك القاضي قضى بكونها أم ولد للمقر بعد إذ كانت مشتركة بينهما ظاهراً، فكان ذلك قضاء باستيلاد الجارية المشتركة، وإنه يوجب العقر إنما ههنا بخلافه على ما بينا. وإن كذبتهما فلم يقض القاضي بشيء حتى ماتت توقف أم الولد حتى يكبر بخلاف ما إذا لم يكذبهما، ولم يصدقهما حتى ماتت، فإنه يقضي بولدها للمقر له، والفرق أنها إذا لم يصدقها ولم يكذب لم يوجد ما يوجب سقوط اعتبار يد المقر، فإذا ماتت والولد في يد المقر يعتبر قوله فيه، فأما إذا كذبت المقر، فقد سقط اعتبار يده؛ لأن تكذيبها كتكذيبه، وهو يعبر عن نفسه فلا يحكم برقه باعتبار يده، إلا أنه يحتمل أن يعقل الغلام فيصدق المقر، والتصديق بعد التكذيب يعتبر، فلهذا يوقف أمره. فإن كبر وصدق المقر فيما أقر كان عبداً للمقر له، وأمه أم الولد للمقر له، وإن مضى على التكذيب جعله القاضي حراً من جهة المقر، وأمه أم ولد للمقر، وإن كانت الأم حية والغلام يعبر عن نفسه فصدقت الأم المقر وكذبه الغلام، فالغلام حر والجارية أم ولد للمقر؛ لأن تكذيب الولد قد صح بكونه من أهله، ومع صحة تكذيب الولد لا يعتبر بتصديق الأم لأن الولد أصل في هذا الباب، والأم تبع على ما عرف. قال: وكذلك إن كذبت الأم وصدقه الغلام في جميع ما وصفت لك ولم يفسر لذلك تفسير، فمن مشايخنا من قال: تفسيره أن تصديق الولد أولى حتى كانا رقيقين للمقر له؛ لأن تصديق الولد قد صح لكونه من أهله، ولا يعتبر تكذيب الأم مع تصديقه لما قلنا، ومنهم من قال: تفسيره أن تكذيب الأم أولى حتى كان الولد حراً والجارية أم ولد للمقر، كما لو كذب الغلام، ألا ترى إلى قوله في «الكتاب» ، وكذلك لو كذبت الأم المقر، وصدقه الغلام وإنما يستقيم ذلك كذلك إذا كان الجواب في الفصلين متحداً، وهذا لأن قول كل واحد منهما صحيح معتبر بانفراده، فعند التعارض يرجح قول من يوجب الحرية على من يوجب إبطالها. نوع آخر في بيان أنواع دعوى الرجل نسب الولد فنقول: الدعوى في النسب لا تخلو من ثلاثة أوجه: دعوى استيلاد، ودعوى تحرير، ودعوى الأب ولد جارية أبيه، ومن يقوم مقام الأب كأب الأب حال عدم الأب حقيقة واعتباراً. أما دعوى الأب ولد جارية أبيه فظاهر، وشرط صحتها: أن يكون للأب تأويل ملك في جارية أبيه من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، وولاية التملك أيضاً من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، وأن تكون الجارية محلاً ينقل من ملك إلى ملك، وإنما شرطنا أن

تكون الجارية محل النقل من ملك إلى ملك؛ لأن الأب يمتلك جارية الابن سابقاً على أصل الوطء لما نبين بعد هذا، ولا بد للتملك من كون المحل قابلاً للنقل من ملك إلى ملك وإنما شرطنا أن يكون له ولاية التملك من وقت العلوق إلى وقت الدعوى؛ لأن دعوة الأب متى صحت استندت إلى وقت العلوق، وإنما يمكن القول بالإسناد إلى وقت العلوق إذا كان له ولاية التملك، من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، أما بدون ذلك فلا إمكان، فلا تصح دعوته. إذا عرفنا هذه الجملة فنقول: إذا ولدت أمة الرجل ولداً وادعى أبو الرجل الولد صحت دعوته صدقه الابن في ذلك أو كذبه، أما إذا صدقه فظاهر، وأما إذا كذبه؛ فلأن علوق الولد اتصل بتأويل ملكه لأن للأب تأويل الملك في مال ولده، قال عليه السلام: «أنت ومالك لأبيك» ، ولهذا لو وطء جارية ابنه وقال: علمت أنها حرام عليَّ لا حد عليه، ولو اتصل العلوق بحقيقة ملكه كان مصدقاً في الدعوى وكان اتصال العلوق بملكه بمنزلة البينة العادلة في إبطال الملك على الملك بغير رضاه فكذا إذا اتصل العلوق تأويل الملك، وإذا صحت الدعوى صارت الجارية أم ولد له، وضمن الأب قيمة الجارية، لأنه يملك الجارية على الأب لأن الشرع أثبت له ولاية تملك مال الابن عند الحاجة، ولهذا كان له أن يأكل طعام الابن وأن يلبس ثيابه عند حاجته إلى ذلك، وقد مست الحاجة ههنا إلى التملك، لأنه احتاج إلى ثبات نسب الولد منه، بعدما أعلقها بولده إلا أن هذه الحاجة دون الحاجة إلى المأكول والملبوس؛ لأن الحياة المتعلقة بالمأكول والملبوس حياة حقيقية، والحياة المتعلقة بالولد حياة معنوية فلوجود أصل الحاجة أثبتنا ولاية التملك ولانعدام كمالها أثبتنا ولاية التملك بالقيمة لتظهر رتبة هذه الحياة عن رتبة تلك الحاجة ولا عقر على الأب عندنا، لأن تملكها سابق على الوطء. بيانه: أن التملك باعتبار الحاجة إلى ثبات النسب منه، وثبات النسب وإن كان وقت العلوق إلا أن الوطء قائم مقام العلوق، فيجب تقديم الملك على الوطء ليثبت نسب الولد منه، فيتبين أنه وطء ملك نفسه، وليس كما يعلقها لأن هناك لم يمتلك الجارية؛ لأن ولاية التملك عند الإعلاق باعتبار الحاجة إلى ثبات نسب الولد منه، وقد انعدمت هذه الحاجة إذا لم يعلقها. وليس كالأمة المشتركة بين رجلين إذا استولدها أحدهما هناك؛ لأن الوطء في نصف الشريك حصل قبل الملك؛ بيانه أن تملك نصيب الشريك هناك وقع بعد الوطء لا قبله، لأن التملك قبل الوطء في مسألتنا باعتبار الحاجة إلى ثبات نسب الولد، وثمة نسب الولد ثابت باعتبار ما له من الملك في نصيبه، ألا ترى أن الجارية المشتركة إذا كانت مدبرة واستولدها أحدهما صح استيلاده، وأن يمتلك نصيب صاحبه، أما ههنا مست

الحاجة إلى تقديم الملك؛ لأن ما للأب من تأويل الملك في مال الابن لا يكفي لثبات النسب منه، ألا ترى أنه لو ادعى نسب ولده من يد أبيه لا يصح إلا بتصديق الابن. وروى بشر أن آخر ما استقر عليه قول أبي يوسف رحمه الله: أن الجارية لا تصير أم ولد للأب، ولكن الولد حر بالقيمة بمنزلة الولد المعروف، فيغرم الأب عقرها وقيمة ولدها، وقاسه على ما إذا ادعى ولد جارية مكاتبة، فإنه لا تصير الجارية أم ولد له، فأما ليس للأب في مال الابن حق الملك، ألا ترى أنه يجوز للابن وطؤها، فلا يمكن إثبات النسب من الأب، إلا بتقديم الملك له في الجارية، وإذا قدمنا الملك في الجارية صار الأب مستولداً في ملكه، فتصير الجارية أم ولد له لهذا. وإذا اشترى الرجل أمة حاملاً وولدت عنده بعد الشراء بيوم، فادعى أب المشتري الولد لا تصح دعوته إلا بتصديق الابن؛ لأن العلوق لم يكن متصلاً لا بملكه، ولا بتأويل ملكه ولا (227ب4) بد من أحدهما لصحة الدعوة من غير تصديق المالك، وكذلك المدبرة تكون عند الرجل فتلد ولداً، فإنه لا تصح دعوة الأب إلا بتصديق الابن؛ لأن تدبير الجارية يمنع صحة الدعوى، والعلوق متصل بتأويل الملك، وإذا لم تصح الدعوة في حق الجارية لا تصح في حق الولد. وروى ابن سماعة عن أبي يوسف: أن دعوة الأب في ولد مدبرة الابن صحيحة يثبت نسب الولد منه ويضمن عقرها وقيمة الولد مدبراً، وهذا على الأصل الذي ذكرنا لأبي يوسف رحمه الله أنه لا يتملك الجارية ولكنه بمنزلة المغرور في دعوة النسب، وفي هذا القنة والمدبرة سواء إلا أنه يضمن قيمته مدبراً؛ لأنه كما انفصل من أمه انفصل مدبراً، فإنما يضمن قيمته على الوجه الذي أتلفه بدعوته. وفرق على هذه الرواية بين ولد المدبرة وبين ولد أم الولد، والفرق: أن ولد أم الولد ثابت النسب من مولاها، فيمنع ذلك صحة دعوى الأب فيه، وكذلك إذا ادعى ولد مكاتبة ابنه لا تصح دعوته إلا بتصديق الابن، لأن دعوة الابن إنما تصح إذا كانت الجارية محل التملك، لأنه إذا صحت دعوته تملك الجارية سابقاً على الاستيلاد والمكاتبة ليست بمحل التملك. ثم يستوي في هذه الصورة إن ولدته وهي مكاتبة أو كانت الكتابة بعد الولادة، وكذلك هذا على وجوه: أما إن كاتب الأم والولد جميعاً، أو كاتب الولد خاصة في هذين الوجهين لا تصح دعوة الأب؛ لأن الولد هو المقصود، وقد ثبت في الولد من جهة الابن ما يمنع نقله إلى الأب، فلهذا لا تصح دعوة الأب، وإن كانت الأم بعدما ولدت خاصة، ثم ادعى الأب نسب الولد، قال في موضع من كتاب الدعوى: لا تصح دعوته، وقال في موضع آخر: تصح وثبت نسب الولد ولا يصدق في جوابه. قيل: ما ذكر أنه تصح دعوته قول أبي يوسف رحمه الله، وما ذكر أنه لا تصح دعوته قول محمد رحمه الله، نص على الخلاف على هذا الوجه فيما إذا باع الابن الأم بعد الولادة، ثم ادعى أبوه نسب الولد على قول أبي يوسف رحمه الله: تصح دعوته

ويثبت نسب الولد، وستأتي مسألة البيع بعد هذا إن شاء الله. ويستوي في دعوا الرجل ولد جارية الابن أن تكون الجارية موطوءة الابن أو لم تكن؛ لأن العلوق قد اتصل بتأويل ملكه في الحالين، والجارية محل التملك، وإن كان لا يحل للأب فيتملكها بالقيمة كما لو كانت تحل له. وإذا قال الأب: وقعت على جارية ابني وأنا اعلم أنها علي حرام تصح دعوته وثبت نسب الولد كما لو لم يعلم، وإنما أعلم أنها حرام علي؛ لأن الوطء في الحالين جميعاً اتصل بتأويل ملكه. وإذا ادعى ولد جارية أبيه، وضمن قيمتها للابن ثم استحقها رجل، فإن للمستحق أن يأخذ الجارية وعقرها وقيمة الولد من الأب، أما أخذ الجارية والعقر فظاهر، وأما أخذ قيمة الولد؛ لأن الأب في معنى المغرور؛ لأنه لا يملك الجارية على الولد بعوض وهو القيمة، فصار في معنى المشتري، والمشتري مغرور في ولد الجارية عند الاستحقاق، ثم يرجع الأب على الابن بما أخذ منه من قيمة الجارية؛ لأنه تبين أنه لم يمتلكها على الابن، وأن الابن أخذ بغير حق. وإذا ولدت أمة الرجل ولداً، وادعى المولى وأبوه الولد معاً صح دعوة الابن، ولا تصح دعوا الأب؛ لأن دعوا الابن سابقة معنى تعتبر بما لو كانت سابقة حقيقة. بيانه: أن دعوى الابن توجب ثبات النسب منه بلا واسطة، ودعوى الأب لا توجب ثبات النسب منه إلا بواسطة التملك، فحال ما يتملكها الأب يثبت نسب الابن، فيكون ثبات النسب من الابن سابقاً على دعوى الابن الوجه، ولو كانت دعوى الابن سابقة على دعوى الأب حقيقة لا تصح دعوة الأب، فههنا كذلك. وإذا حبلت جارية الرجل في ملكه وولدت ولداً وادعاه الجد، والولد حي حقيقة واعتباراً بأن كان الولد حراً مسلماً، فدعوى الجد باطلة لانعدام شرط صحة الدعوى، فإن شرط صحة دعوى الجد، ولد جارية حافده أن يكون له تأويل ملك في جارية حافده من وقت العلوق إلى وقت الدعوى لأن الجد يقوم مقام الأب، وشرط صحة دعوى الجد ولد جارية حاضرة. إذا ثبت هذا فنقول حال قيام الأب حقيقة واعتباراً: إن كان للجد تأويل الملك في مال حافدة حتى قلنا: إن الجد إذا وطئ جارية حافدة حال قيام الأب حقيقة واعتباراً لا يجب الحد على الجد كما لا يجب على الأب فليس له ولاية تملك مال حافدة لحاجة الاستيلاد إنما يثبت إن كان له ولاية التصرف في المال إذا كان صاحب المال صغيراً كما في الأب؛ لأن الولاء باب إنما يثبت في حالة الصغر، غير أن الثابت للأب في حالة الصغر ولاية التصرف لحاجة الصغير، وولاية التملك بالاستيلاد لحاجة نفسه، وهي الحاجة إلى صيانة ماله عن الضياع، وصيانة نفسه عن الزنا فما يثبت من الولاية لحاجة

الصغير لن تزول ببلوغه عن عقل، وما ثبت من الولاية لحاجة نفسه يبقى بعد البلوغ بطريق ثبوت الولاية للأب في ملك جارية الابن لحاجة الاستيلاد ما ذكرنا. إذا ثبت هذا فنقول: ما دام الأب حياً حقيقةً واعتباراً فليس للجد ولاية التصرف في مال حافده وإن كان صغيراً، فلا يثبت له تملك جارية حافده لحاجة الاستيلاد، فلو صحت دعواه لصحت دعوته باعتبار مجرد تأويل الملك، ولا وجه إليه لما ذكرنا أن دعوى الأب صحت باعتبار تأويل الملك، وباعتبار ولاية التملك لحاجة الاستيلاد، ففي الجد يجب أن يكون كذلك. فإن كان الولد نصرانياً والجد والحافد مسلمين، أو كان الأب عبداً أو مكاتباً والجد والحافد حرين صحت دعوى الجد؛ لأن للجد ولاية تملك مال حافده لحاجة الاستيلاد في هذه الصورة؛ لأن الأب في حكم الميت في هذه الصورة، ألا ترى أنه تزول ولايته عن المال بالكفر والرق كما تزول بالموت، ولو مات الأب حقيقة ثبت للجد ولاية تملك مال حافده لحاجة الاستيلاد، ويصح دعوى ولد جارية حافده كذا ههنا. والدليل عليه: أن زوال ولاية الأب بالكفر والرق تعتبر بزوال ولايته بالموت في حق الجد في حق ثبوت ولاية التصرف في مال الصغير، وفي حق تملك مال الصغير بالنفقة وبالبيع، حتى لو باع مال حافده من نفسه يجوز، فكذا في حق التملك لحاجة الاستيلاد. ولو كان الأب مرتداً والجد والحافد مسلمين، فدعوى الجد موقوفة عند أبي حنيفة ومحمد: إن أسلم الأب بطلت دعوته، وإن مات أو قتل على الردة صحت دعوته، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: دعوى الجد باطلة، وهذا لأن لدعوى الجد صحة وبطلاناً ينبني على ولاية الأب، ونفاذ ولاية الأب موقوفة عند أبي حنيفة فكذا دعوى الجد موقوفة، وعندهما ولاية الأب باقية بلا توقف، فدعوى الجد تكون باطلة بلا توقف أيضاً. فإن قيل: على قولها يجب أن تتوقف دعوى الجد أيضاً؛ لأن التمليك بالاستيلاد تصرف في مال الابن، وولاية المرتد في مال ولده موقوفة عند الكل، نص عليه محمد في كتاب الوكالة، إنما الخلاف فيما يتصرف المرتد في مال نفسه، فتكون دعوى الجد موقوفة ضرورة. والجواب عن هذا أن يقال: بأن ولاية التملك بالاستيلاد نظير ولايتة على نفسه؛ لأنها إنما تثبت حقاً له، ولهذا لا تزول بالبلوغ عن عقل، وكان نظير الولاية في ماله لا في مال الابن وفي توقف ولايته في ماله اختلاف، وكان بطلان دعوى الجد عندهما صحيح. ولو كانوا جميعاً أحراراً مسلمين، ثم مات الأب، فادعاه الجد لم تصح دعوته لما ذكرنا أن من شرط صحة دعوى الجد قيام ولاية التملك له من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، وقد انعدمت ولاية التملك للجد وقت البلوغ حقيقة واعتباراً لكون الأب حياً وقت العلوق حقيقة. استشهد في «الكتاب» فقال: ألا ترى أن رجلاً لو اشترى جارية حاملاً، فوضعت عنده لستة أشهر، فادعاه والد المشتري لم تصح دعوته لانعدام ولاية التملك له وقت

العلوق لكونها زائلاً عن ملك الابن، أورد هذا البيان أن شرط صحة دعوى الجد قيام ولاية التملك له من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، وكذلك (288أ4) لو كان الأب نصرانياً، والجد والحافد مسلمين، ثم أسلم الأب والجارية حامل وضعت حملها لأقل من ستة أشهر كانت دعوى الجد باطلة لانعدام ولاية التملك حالة الدعوى بإسلام الأب، وكذلك لو كان الوالد مكاتباً وأدى بدل الكتابة، فعتق قبل دعوى الجد أو كان عبداً، فأعتق قبل دعوى الجد كانت دعوى الجد باطلة لانعدام ولاية التملك له وقت الدعوى. قال محمد رحمه الله: إذا كان للرجل جارية حبلت في ملكه، وللرجل والد معتوه، وله جد حر مسلم، فولدت الجارية ولداً فادعاه الجد فدعوته جائزة؛ لأن الأب جعل كالمعدوم بسبب العته لعجزه عن التصرف، وظهر ولاية الجد وصحت دعوته، وإن لم يدع الجد الولد حتى أفاق الأب لا تصح دعوى الجد بعد ذلك لانعدام ولاية الجد وقت الدعوى، وإن لم يدع الولد الجد بعدما أفاق الأب وإنما ادعاه الأب بعدما أفاق؛ القياس: أن لا تصح دعوته، وفي الاستحسان: تصح دعوته، وجه القياس في ذلك ما مر: أن شرط صحة دعوى الأب قيام حق التملك وقت الدعوى، وههنا لم يكن للأب ولاية التملك وقت الدعوى لكونه معتوهاً، فانعدم شرط صحة الدعوى. وجه الاستحسان في ذلك: الولاية كانت قائمة وقت العلوق، فإن العته لا ينافي الولاية، ولهذا يستوجب نفقته على ولده، والإرث طريقه طريق الولاية، ولهذا ما ينفي الولاية كالرق، واختلاف الدين يمنع الإرث، فكان من هذا الوجه بمنزلة العتق، إلا أنه بمنزلة العبد من وجه؛ لأنه عاجز عن التملك كما أن العبد عاجز، إلا أن عجز المعتوه لفساد عبارته، وعجز العبد لكونه غير أهل لملك المال، أما فيما يرجع إلى العجز فهما سواء، ولو كان بمنزلة العتق من كل وجه بأن كان له ولاية التملك، ويكون قادراً على التملك صحت دعوته ولا تصح دعوى الجد. ولو كان بمنزلة العبد من كل وجه بأن لم يكن من أهل التملك أصلاً لا تصح دعوته وتصح دعوى الجد، فإذا كان بينهما فمن حيث إنه معتوه تصح دعوته بعد إفاقته وإن كان علوق الولد قبل إفاقته، ومن حيث إنه بمنزلة العبد صحت دعوى الجد قبل إفاقته توفراً على الشبهين حطهما. وجه آخر للاستحسان: إن العته والجنون إنما ينافي الأهلية والولاية في كل باب إذا كان مستغرقاً مدة ذلك الحكم، فأما إذا لم يستغرقه، فهو ملحق بالنوم والإغماء، ألا ترى أنه لا يعمل في الزكاة حتى يستغرق الحول، ولا يمنع الصوم حتى يستغرق الشهر، ولا يمنع الصلاة حتى يزيد على خمس صلوات، وههنا مدة هذا الحكم من حين العلوق إلى حين الدعوى، ولم يوجد امتداد العته في هذه المدة، فصار ذلك بمنزلة النوم. جئنا إلى بيان دعوى الاستيلاد فنقول: دعوى الاستيلاد أن يكون ابتداء العلوق في ملك المدعي، وشرط صحتها في المحل قيام الملك في المحل وقت الدعوى ليس بشرط لصحة الدعوى عند علمائنا الثلاثة، حتى إن من باع جارية وولدت في يد المشتري لأقل

من ستة أشهر من وقت البيع، فادعى البائع الولد صحت دعوته استحساناً لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى. جئنا إلى بيان دعوى التحرير، فنقول: دعوى التحرير أن لا يكون العلوق في ملك المدعي، وشرط صحتها قيام الملك للمدعي في المحل وقت الدعوى. جئنا إلى المسائل؛ قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا باع الرجل جارية من غيره، وولدت عند المشتري ولداً، فادعاه البائع (أن المشتري) ، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه: الأول: إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت البيع وقد علم ذلك، والحكم: أنه إذا ادعاه البائع صحت دعوته، صدقه المشتري أو كذبه؛ حتى يثبت نسب الولد منه وصارت الجارية أم ولد له، وانتقض البيع ورد الثمن على المشتري إن كان نقد الثمن، وهذا استحسان أخذ به علماؤنا الثلاثة رحمهم الله. والقياس: أن لا تصح دعوى البائع إذا كذبه المشتري، وبه أخذ زفر. وجه القياس في ذلك: أن البائع في الدعوى متناقض ساع في نقض ما تم به وهو البيع، فلا يقبل قوله، كما لو قال: كنت أعتقتها أو دبرتها قبل البيع. بيانه: أن إقدامه على البيع إقرار منه أنها ليست بأم ولد له، فيصير بدعوى أمية الولد بعد ذلك متناقضاً. وجه الاستحسان في ذلك: أنا تيقنا بحصول العلوق في ملك البائع، لأن أدنى مدة الحبل ستة أشهر، فإذا جاءت بالولد لأقل من ذلك وقد تيقنا بحصول العلوق قبل البيع، واتصال العلوق بملك الإنسان ينزل منزلة البينة في إبطال حق الغير عليها، ألا ترى أن جارية المريض إذا جاءت بولد في ملكه وادعى نسبه ينزل ذلك منزلة البينة في حق إبطال حق الغرماء والورثة عنها وعن ولدها وهذا لأن بحصول العلوق في ملكه ثبت له حق استحقاق النسب بالدعوى، وذلك لا يحتمل الإبطال فلا يبطل بالبيع، وما يقول بأنه متناقض قلنا: نعم، ولكن طريقه طريقة الخفاء فإن الإنسان قد لا يعلم بالعلوق أصلاً، ولا يعلم أن العلوق منه، لم يعلم بعد ذلك، والتناقض في مثل هذا عفو، ومثل هذا الخفاء لا يمكن تصويره في دعوى الإعتاق والتدبير، فإن ادعى المشتري الولد بعد ذلك، فعلى طريق الاستحسان لما صحت دعوى البائع، لا تصح دعوى المشتري، وعلى طريق القياس لما لم تصح دعوة البائع لا تصح دعوة المشتري. هذا الذي ذكرنا إذا ادعاه البائع وحده، وإن ادعاه المشتري وحده صحت دعوته أيضاً، وثبت النسب منه، وصارت الجارية أم ولد له فكانت دعوى المشتري دعوى تحرير، لأن العلوق لم يتصل بملكه حتى كان للمشتري ولاء على الولد كما لو أعتقه المشتري، والمشتري يصح منه تحرير الولد؛ لأنه ملكه فيصح منه التحرير أيضاً، وإذا صحت دعوى المشتري، وثبت النسب منه يحمل أمره على جهة يثبت به النسب من نكاح جائز أو فاسد لا على وجه الزنا، وإذا صحت دعوى المشتري لا تصح دعوى البائع بعد

ذلك؛ لأنه ثبت فيه حقيقة النسب، وإنه أقوى من حق استلحاق النسب، فيبطل به ما كان للبائع من حق استلحاق النسب ضرورة.l وإن ادعيا جميعاً يعني البائع والمشتري، فإن سبق أحدهما صاحبه في الدعوى فدعواه أولى، وإن خرج الكلامان معاً، فدعوى البائع أولى عندنا؛ لأنه سابق معنى؛ لأن دعوته دعوى استيلاد، وإنه يستند إلى وقت العلوق، ودعوى المشتري دعوى تحرير، وإنها تقتصر على الحال، فهو معنى قولنا: إن دعوى البائع سابق معنى. الوجه الثاني: (إذا جاءت) بالولد لستة أشهر فصاعداً، ما بينهما وبين سنتين من وقت البيع وقد علم ذلك، فإن ادعى البائع بسبب الولد وحده لا تصح دعوته إلا بتصديق المشتري، لأن البائع في هذه الصورة بعلوق الولد في ملكه وأجنبي آخر سواء، ولو أن أجنبياً آخر ادعى نسب هذا الولد لا تصح دعوته إلا بتصديق المشتري؛ فههنا كذلك إلا أن الفرق بين البائع والأجنبي أن الأجنبي إذا ادعى وصدقه المشتري حتى ثبت النسب من الأجنبي يبقى الولد عند المشتري ولا تصير الجارية أم ولد الأجنبي. وإذا ادعاه البائع وصدقه المشتري حتى ثبت النسب منه لأنه ولد البائع، لأن في فصل المشتري بتصادقهما أن الولد ثابت النسب من البائع ثبت علوق الولد في ملكه؛ لأن احتمال حصول العلوق في ملكه ثابت، وقد تصادقا عليه والحق لهما لا يعدوهما، فثبت علوق الولد في ملكه. وإن ادعاه المشتري وحده صحت دعوته، ويجب أن تكون دعوته دعوى استيلاد، حتى كان الولد حر الأصل، ولا يكون للمشتري عليه ولاء، لأنه يزعم أن العلوق حصل في ملكه وأمكن تصديقه؛ لأن هذه مدة تصلح لحدوث الولد فيها. وإن ادعياه وخرج الكلامان معاً أو (228ب4) أحدهما أسبق، فدعوى المشتري أولى على كل حال، كما لو كان المدعي مع المشتري أجنبياً. الوجه الثالث: إذا جاءت بالولد لأكثر من سنتين من وقت البيع، وقد علم القاضي ذلك، فإن ادعاه البائع لا تصح دعوته إلا بتصديق المشتري حتى لو صحت دعوته ثبت النسب من البائع، ويكون الولد عبداً للمشتري ولا تصير الجارية أم ولد؛ لأنهما تصادقا على ثبات النسب من البائع، أما ما تصادقا على كون العلوق في ملكه؛ لأن هذه مدة تحتمل بقاء الولد في البطن، فيكون حادثاً بعد زوال ملك البائع لا محالة بخلاف الوجه الثاني، وإن ادعياه وخرج الكلامان معاً، أو سبق أحدهما صاحبه صحت دعوى المشتري، ولا تصح دعوى البائع. هذا الذي ذكرنا إذا علم المدة من وقت البيع إلى وقت الولادة، فأما إذا لم يعلم أنها جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من البيع، أو لستة أشهر فصاعداً إلى سنتين، أو لأكثر من سنتين من وقت البيع، فإن ادعاه البائع لا تصح دعوته إلا بتصديق المشتري، لأنا لم نتيقن بكون العلوق في ملكه، وإن ادعاه المشتري تصح دعوته؛ لأن أكثر ما في الباب أنا لم نتيقن بعلوق الولد في ملكه، لكن ذاك لا يمنع صحة دعوى المشتري، كما

لو جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت البيع. وإن ادعياه جميعاً وخرج الكلامان منهما معاً لم تصح دعوى واحد منهما، إن كان لأقل من ستة أشهر لا يثبت النسب من المشتري ولا من البائع، فوقع الشك في ثبوت النسب من كل واحد منهما، فلا يثبت مع الشك. وإن سبق أحدهما صاحبه، فإن سبق المشتري صحت دعوته، وإن سبق البائع لم تصح دعوى واحد منهما لوقوع الشك في ثبات النسب من واحد منهما، وإن نفياه في الوجوه كلها فهو عند المشتري لانعدام الدعوى. هذا كله إذا لم يخرجه عن ملكه، فإذا أخرجها عن ملكه ثم جاءت بولد، فالجواب في هذه المسألة نظير الجواب في المسألة الأولى على الوجوه والتفاصيل التي ذكرناها. قال: وإذا حبلت الجارية في ملك رجل ثم باعها، فولدت عند المشتري لأقل من ستة أشهر، ثم إن المشتري أعتق الأم ثم ادعى البائع الولد صحت دعوته في حق الولد حتى ثبت نسب الولد منه، وحكم بحريته، ولا يصح في حق الأم حتى لا تصير الجارية أم ولد له. فرق بين هذا وبينما إذا أعتق المشتري الولد ثم ادعاه البائع، فإنه لا تصح دعوته لا في حق الولد، ولا في حق الأم، والوجه في ذلك: أن الولد هو المقصود بالدعوى، وحكم الاستيلاد في الجارية يثبت تبعاً للولد، ولهذا قال عليه السلام: «أعتقها ولدها» ، ولما كان هكذا قلنا: إذا جرى في الولد من المشتري ما يمنع صحة دعوى البائع فيه لا تصح دعوى البائع أصلاً؛ لا في الولد لقيام المانع به، ولا في الأم لكون الأم تبعاً للولد في حق حكم الاستيلاد، ومتى جرى في الأم من المشتري ما يمنع صحة دعوى البائع فيها، لا تصح دعوى البائع منه، وتصح في الولد ويثبت نسب الولد من البائع، ولا تصير الجارية أم ولد للبائع حتى لا يبطل عتق المشتري في الجارية، ولا يجب على البائع، وحصة الأم من الثمن، وكان ينبغي أن تصير الجارية أم ولد للبائع؛ لأنه من أحكام ثبات نسب الولد منه، ألا ترى أن قبل إعتاق المشتري الأم في هذه الصورة إذا ادعى البائع نسب الولد حتى ثبت نسب الولد منه صارت الجارية أم ولد له حكماً لثبات نسب الولد منه، والجواب صيرورة الجارية أم ولد للمدعي من أحكام ثبوت النسب، وليس من ضروراته بحيث لا ينفك النسب عنه، بل يجوز الانفكاك عنه بحال، ألا ترى أن ولد المغرور حر ثابت النسب من المستولد، وإنه لا تكون أم ولد له. إذا ثبت هذا فنقول: صيرورة الجارية أم ولد للمدعي لو لم تكن من ضرورات ثبوت نسب الولد منه، ولا من أحكامه لا تصير الجارية أم ولد للبائع، ادعى البائع الولد قبل إعتاق المشتري أو بعده، ولو كان من أحكامه ولم يكن من ضروراته عملنا بهما،

فجعلناها أم ولد البائع إذا ادعاها قبل إعتاق المشتري، لأنه ليس من ضروراته عملاً بالشبهين بقدر الإمكان. وإذا صحت دعوى البائع في حق الولد دون الأم ذكر أن الثمن يقسم على الجارية وعلى الولد على قدر قيمتيهما، فما أصاب الولد يجب على البائع رده، لأنه لم يسلم الولد للمشتري، فلا يسلم للبائع بدله، وما أصاب قيمة الأم يمسكه البائع؛ لأن الأم سلمت للمشتري، فلا يسلم للبائع بدلها، فقد جعل للولد حصته من الثمن. وكان ينبغي أن لا يكون له حصة من الثمن؛ لأنه حدث بعد قبض المشتري، والجواب: الولد من حيث الصورة حدث بعد قبض المشتري، أما من حيث الحكم: فهو حادث قبل قبض المشتري، لأنه حدث في حال البائع فسخ العقد، فإن للبائع فسخ هذا البيع بالدعوى، وإن قبضه المشتري كما لو فسخ هذا البيع قبل القبض بالاستهلاك، وإذا كان الولد حادثاً قبل القبض معنى صار له حصته من الثمن متى استهلكه المشتري بالدعوى، فلهذا صار له حصته من الثمن. وكذلك الجواب فيما إذا كان دبره لأن بالتدبير يثبت حق العتق، فيعتبر بحقيقة العتق، ألا ترى أن في الولد استوى العتق والتدبير حتى لم تصح دعوى البائع الولد بعد تدبيره، كما لم تصح دعوته قبل إعتاقه، ولم يكن شيء من ذلك ولكنها ماتت عند المشتري، ثم ادعى البائع الولد، فعلى قول أبي حنيفة: تصح دعوته في حق الولد والأم جميعاً حتى يجب على البائع رد جميع الثمن على المشتري، كما لو كانت الأم حية، وعلى قولهما: لا تصح الدعوى في حق الأم كما لو أعتقها المشتري، ولا يلزمه رد الثمن بحصة الأم، لأنه تعذر فسخ البيع فيها بعد الموت كما في فصل العتق والتدبير. قالوا: هذه المسألة في الحاصل بناءً على مسألة معروفة أن رق أم الولد هل هو متقوم؟ فعند أبي حنيفة رحمه الله ليس بمتقوم حتى لا يضمن بالغصب، فكذا لا يكون له حصته من الثمن، وقد زعم البائع أنها أم ولده، وزعمه حجة في حقه، وعلى قولهما: رقها متقوم حتى يضمن بالغصب، فتمسك حصتها من الثمن. ثم فرق أبو حنيفة بين فصل الموت وبين فصل العتق والتدبير، مع أن البائع زعم أنها أم ولد له في الفصول كلها، وجه الفرق له: أن في الفصول المتقدمة القاضي كذب البائع فيما زعم حين جعلها معتقة من المشتري، أو مدبرة أو أم ولد، فلم يبق لزعمه عبرة، فأما ههنا بعد موتها لم يجز الحكم بخلاف ما زعم البائع، فبقي زعمه معتبراً في حقه؛ فلهذا رد جميع الثمن، ولم يكن شيء من ذلك، ولكن المشتري باعها من غيره، أو كاتبها أو زوجها، أو وهبها وقبضها الموهوب له، ثم إن البائع ادعى الولد صحت دعوته في حق الأم والولد جميعاً، وينقض هذه التصرفات ويرد الجارية على البائع، فهما يحتاجان إلى الفرق بين هذه التصرفات وبين الموت، والفرق: أن بعد موت الأم إنما لم تصح دعوى البائع في حق الأم، لأنه تعذر فسخ البيع فيها بعد الموت، أما بعد هذه التصرفات فسخ البيع

فيها يتمكن بواسطة فسخ هذه التصرفات، وهذه التصرفات قابلة للفسخ. قال: ولو لم يكن شيء من ذلك ولكن مات الولد عند المشتري أو قتل، وأخذ المشتري قيمته ثم ادعاه البائع لم تصح دعوته لا في حق الولد؛ لأنه لم يبق محلاً لثبات النسب؛ ولا في حق الأم؛ لأن الأب تبع في هذا الباب. ولو لم يمت الولد، ولم يقتل ولكن قطعت يده ثم ادعاه البائع صحت دعوته؛ لأن بعد القطع بقي محلاً لثبات النسب، وإذا صحت دعوته ثبت نسب الولد منه وحكم بحريته، ولكن على الجاني أرش العبد، وإن استندت الحرية إلى حالة (229أ4) العلوق، ولم يكن إثبات النسب في حق اليد لأنها فائتة، ولم يخلف بدلاً في حق إثبات النسب؛ لأن الأرش لا يصلح بدلاً عن الولد في حق ثبات النسب، وإذا لم يصح الأرش في حق التدبير لم يثبت الاستناد في حقه، فبقي اليد بياناً على حكم الرق فيجب أرش الرقيق. وإذا ولدت الجارية المبيعة في يد المشتري ولداً لأقل من ستة أشهر من وقت البيع فادعاه وكذبه المشتري، ثم قتل في يد المشتري أو قطعت يده عمداً أو خطأ، فإن على الجاني في ذلك ما عليه جناية الآخر، أو لأن النسب قد ثبت من البائع ههنا بمجرد دعوته إذ لا عبرة لتكذيب المشتري إذا كان في وقت الشراء إلى وقت الولادة لأقل من ستة أشهر، وحكم بحرية الولد من الأصل، فكانت الجناية واردة على الحر، وكذلك إذا كانت الجارية على الأم كان على الجاني في ذلك ما يجب بالجناية على أم الولد؛ لأن حَكَمْنا بأمية الولد من وقت العلوق بالولد، والجناية كانت بعد ذلك. ولو كانت الجناية من الولد أو من الأم في هذه الصورة، فجناية الولد كجناية الأم، وجناية الأم كجناية أم الولد، لأنا حكمنا بحرية الولد من الأصل، وحكمنا بأمية الولد من وقت العلوق بالولد، والجناية مهما كانت بعد ذلك، وإن كانت الجناية من الولد أو من الأم قبل دعوى البائع، ثم ادعى البائع نسب الولد، فهو على البائع دون المشتري، لأن دعوى البائع قد صحت، وحكم بحرية الولد من الأصل ونسبت دعوته، صار الجاني مستحقاً على المشتري، فيعتبر بما لو صار مستحقاً بالبينة، وهناك لا شيء على المشتري من جنايته، بل يكون على المستحق كذا هنا. وإذا ولدت الجارية المبيعة في يد المشتري ولداً لأقل من ستة أشهر فكبر ابنها، وولد له ابن عند المشتري، ثم مات الابن الأول، ثم إن البائع ادعى الولد الثاني لا تصح دعوته، فرق بين هذا وبين ولد الملاعنة إذا كبر، وولد له ولد، ثم مات الولد المنفي وبقي ابنه، فادعاه الملاعن صحت دعوته، وعلوق الولد الثاني لم يكن في ملك الملاعن كما في ولد ولد المبيعة. ثم قال: تصح الدعوى في مسألة اللعان، ولم تصح في ولد ولد المبيعة، والفرق: أن في ولد ولد الملاعنة إن لم يثبت اتصال العلوق بملكه حكم من الأحكام اتصال العلوق بملكه وهو أن لا تصح دعوى الغير إياه، وفي ولد ولد المبيعة لم يثبت اتصال

العلوق بملكه ولا حكماً، فإنه لو ادعاه غير البائع صحت دعوته، ولا بد لصحة الدعوى من اتصال العلوق بملك المدعي إما حقيقة أو حكماً. إذا ولدت المبيعة في يد المشتري لأقل من ستة أشهر من وقت البيع، فشهد شاهدان أن البائع ادعى هذا الولد، والبائع ينكر، فإن كان المشتري يدعي ذلك، فالشهادة مقبولة؛ لأنها قامت عن دعوى صحيحة؛ لأن المشتري بهذه الدعوى يدعي استحقاق الثمن على البائع، وإن كان المشتري لا يدعي ذلك؛ فإن كان الولد أنثى، فكذلك الجواب تقبل الشهادة، لأن هذه شهادة قامت على عتق الأمة في حق الولد والأم جميعاً. وإن كان الولد ذكراً فكذلك الجواب عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تقبل هذه الشهادة، لأن عندهما الشهادة قائمة على عتق العبد، فتقبل بدون الدعوى. وأما على قول أبي حنيفة؛ وإن كان ينبغي أن لا تقبل هذه الشهادة لا في حق الولد؛ لأن الشهادة على عتق العبد عنده بدون الدعوى غير مقبولة، ولا في حق الجارية لأن حق الجارية في هذا الباب تبع، وإلى هذا مال بعض المشايخ. وبعضهم قالوا: لا، بل هذه الشهادة مقبولة عند أبي حنيفة أيضاً، لأن هذه الشهادة وإن قامت على عتق العبد إلا أنها تضمنت حرمة الفرج، لأن عتق الأم مضاف إلى عتق الولد الثابت بالشهادة، وكانت بمنزلة الشهادة القائمة على عتق الأمة، حتى لو كانت الأم ميتة لا تقبل هذه الشهادة عند أبي حنيفة؛ لأنها لا تتضمن حرمة الفرج، فلم تكن بمنزلة الشهادة القائمة على عتق الأمة، وإلى هذا مال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده. وقال بعضهم: لا بل هذه الشهادة مقبولة عند أبي حنيفة وإن كانت الأم ميتة؛ إذ ليس المقصود ههنا عتق الولد، وإنما المقصود ثبوت النسب والعتق بناء عليه، ويجوز أن يثبت النسب بالشهادة من غير دعوى، كالولد إذا ولد وتصادق الزوجان أن النكاح بينهما منذ شهر فشهد الشهود أن النكاح منذ ستة أشهر أو أكثر، فإنه يثبت النسب بهذه الشهادة، وإن انعدم الدعوى، وإلى هذا مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله. إذا باع الرجل من آخر جارية ثم ادعى أنها حامل وأن الحمل منه، فإنه لا تصح دعوته في الحال بل تكون موقوفة، وإن أريته النساء فقلن: بها حبل أو صدقه المشتري في دعوى الحمل، وهذا لأن من شرط صحة دعوى البائع اتصال العلوق بملكه بيقين، ولا يقين في الحال لجواز أنها لا تلد لأقل من ستة أشهر من وقت البيع فيتوقف فيه، وإن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر ظهر أن العلوق كان في ملكه وأن دعواه كانت صحيحة، أو إن جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً تبين أن العلوق لم يكن في ملكه، وأن دعواه لم تصح. فإن ولدت لأقل من ستة أشهر من وقت البيع، فقال المشتري: أصل الحبل لم يكن في ملكك إنما اشتريتها وهي حامل، وقال البائع: لا بل أصل الحبل كان في ملكي، فالقول قول البائع؛ لأنا تيقنا أنها كانت حاملاً في يد البائع، فبعد ذلك المشتري يدعي تاريخاً سابقاً في العلوق والبائع ينكر ذلك، وكان ينبغي أن يكون القول قول المشتري؛

لأن المشتري لا يدعي جواز العقد، والبائع يدعي فساد العقد؛ لأنه يقول: العلوق كان مني وقد بعت أم الولد فلم يصح البيع، والقول قول من يدعي الصحة، ألا ترى أنهما إذا اختلفا في تاريخ الشراء بعدما ولدت الجارية في يد المشتري وادعاه البائع، فقال المشتري: اشتريتها منذ ستة أشهر أو أكثر، وقال البائع: لا بل اشتريتها مني منذ شهر، فالقول قول المشتري؛ لأنه يدعي جواز العقد كذا ههنا. والجواب: وهو الفرق بين المسألتين أن في مسألتنا سبب الفساد ثبت بدليله، فكان القول قول من يدعي الفساد كما لو ثبت سبب الفساد بالبينة. بيانه: وهو أن سبب الفساد علوق هذا الولد من جهة البائع، وقد ثبت ذلك بقول البائع؛ لأن الظاهر يشهد للبائع؛ لأنه هو الممكن بالوطء دون غيره بخلاف ما لو اختلفا في التاريخ؛ لأن هناك سبب الفساد لم يكن ثابتاً بدليله؛ لأن سبب الفساد هناك ما يدعيه البائع من التاريخ، ولم يثبت ذلك بقوله؛ لأن الظاهر لا يشهد للبائع أنه باع منذ شهر، وما لم يثبت سبب الفساد بدليل، فالقول قول من يدعي الجواز. وإن أقاما البينة فالبينة بينة البائع؛ لأن البائع يثبت تاريخاً سابقاً في ملكه على العلوق وملكه حقه، فتقبل بينته في سبق التاريخ في ذلك، ولا شك في هذا على قول أبي يوسف، واختلف المشايخ على قول محمد، منهم من قال: قوله هكذا، ومنهم من قال على قوله: البينة بينة المشتري؛ لأنه هو المحتاج إلى إقامة البينة. وأصل هذا فيما إذا اختلفا في التاريخ وقد ولدت الجارية في يد المشتري بعد البيع بيوم وادعاه البائع، فقال المشتري: لم تحبل عندك، وإنما اشتريتها قبل أن تبيعها مني قبل شهر، وقال البائع: لا، بل اشتريتها منذ سنة، فالقول قول البائع، فإن أقاما جميعاً البينة، فالبينة بينة البائع عند أبي يوسف؛ لأن البائع ببينته يثبت حصول العلوق في ملكه، وثبوت حق استلحاق النسب، وعند محمد البينة بينة المشتري؛ لأنه هو المحتاج إلى إثبات التاريخ في شرائه بالبينة ليثبت أن (229ب4) شراءه كان منذ سنة، فيمتنع له صحة دعوى البائع. وإذا ولدت الجارية المبيعة ابنة من ستة أشهر من وقت البيع، ثم ولدت الابنة ابناً، فأعتق المشتري ابن الابنة، ثم ادعى البائع نسب البنت، فإنه تصح دعوته؛ لأن علوق البنت كان متصلاً بملكه، وإذا صحت دعوته في حق البنت صحت في حق ابنها على (أن) يبطل عتق المشتري؛ لأن من ضرورة حرية الأم من الأصل حرية الولد، لأنه لا يتصور أن تكون الأم حرة الأصل، وولدها يكون رقيقاً؛ بخلاف ما إذا ادعى البائع الابن بعدما أعتق المشتري الأم حيث لا يبطل إعتاق المشتري في الأم إذ ليس من ضرورة كون الولد حر الأصل أن تكون الأم أم الولد كما في ولد المغرور. وإذا حبلت الأمة وولدت في يد مولاها، فباعها المولى دون ولدها، وقبض ثمنها، ثم زوجها المشتري عبداً له فولدت ولداً، ثم مات العبد عنها، فوطئها المشتري بعد انقضاء العدة، فجاءت بولد وادعاه المشتري، ثم إن البائع ادعى الولد الذي عنده صحت

دعوته في الولد الذي عنده؛ لأن علوق هذا الولد كان في ملكه. قال: ولا تصح دعوته في الولد الذي ادعاه المشتري، ولا في الجارية؛ لأنه جرى فيها من المشتري ما يمنع صحة دعوى البائع، لأنه يثبت الولد حقيقة العتق، وللجارية حق العتق؛ قال: ويرد المشتري ولد العبد على البائع بحصته من الثمن، فيكون عند البائع ولد أم الولد يعتق بموته، وهذا لأن البائع حين ادعى الولد الذي عنده، فقد أقر أن الجارية أم ولده، وأن ابن العبد ابن أم ولده، إلا أنه لم يعمل إقراره في حق الجارية لمانع قام بها، ولا مانع في حق الولد، فعمل إقراره في حقه. فإن ادعى البائع بعد ذلك ابن الغلام أنه ابنه عتق عليه لأنه ملكه منه، ولا يثبت نسبه منه؛ لأنه معروف النسب من غيره، فدعواه إياه كإعتاقه. إذا باع الرجل جاريته وهي حبلى، فولدت في يد المشتري بعد البيع بيوم، ثم مكث سنة، ثم ولدت ولداً آخر من غير الزوج، فادعى البائع الولدين جميعاً، فهما ابناه وترد الأمة إليه، وتكون أم ولد له ويرد البائع الثمن إن كان المشتري نقده، وهذا لأن دعوى البائع الولد الأول قد صح، وصارت الجارية أم ولد من وقت العلوق به، فتبين أنه باع أم الولد، وبيع أم الولد باطل، وتبين أن الولد الثاني ولد أم الولد، وولد أم الولد ثابت النسب من المولى بدون الدعوى فمع الدعوى أولى، فلو ادعى البائع والمشتري الولدين جميعاً معاً صحت دعوى البائع ولا تصح دعوى المشتري، لأن دعوى البائع سابقة معنىً، فكانت أولى بالاعتبار، كما لو كانت سابقة حقيقة. ولو كان المشتري ادعى الولد الآخر ابتداءً، أخرت دعوته وجعلت الجارية أم ولد له، فإن ادعى البائع بعد ذلك الولد الأول صحت دعوته في حق الولد، ولم تصح دعوته في حق الجارية، والولد حر لأنه جرى فيهما من المشتري ما يمنع صحة دعوى البائع. قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجل له جارية فحبلت؛ فباعها من رجل فولدت في يد المشتري ولداً؛ فادعى الولد أب البائع وكذبه المشتري وصدقه البائع أو كذبه، فدعوته باطلة، ولا يثبت نسب الولد منه، ولا ننظر في هذا إلى تصديق البائع وتكذيبه، وإنما ننظر إلى تكذيب المشتري وتصديقه؛ لأن الجارية خرجت عن ملك البائع ظاهراً، وصار البائع كالأجنبي عنها، فصار تكذيبه وتصديقه في بيان ثبات النسب كتصديق الأجنبي وتكذيبه. فرق بين هذا وبينما إذا ادعى البائع نسب هذا الولد بنفسه حيث تصح دعوته، وإن كذبه المشتري، والفرق من وجوه: أحدها: ما ذكرنا أن الأب تملك جارية الابن سابقاً على الاستيلاد حتى يصير مستولداً ملك نفسه، لأن استيلاد الأب إنما يصح في ملك نفسه للابن. إذا ثبت هذا فنقول: الثابت للأب متى حصل العلوق في ملك الابن بملك الجارية على الابن، ثم الاستيلاد صحته بناءً عليه، وقد ثبت للمشتري حقيقة الملك بالبيع من حيث الظاهر، وكل واحد منهما أعني حقيقة الملك وحق التملك قابل للنقض، وتعذر

مراعاتهما فكان مراعاة حقيقة الملك أولى، فأما الثابت للبائع بحصول العلوق في ملكه قبل البائع حق استلحاق نسب الولد، لا حق تملك الجارية، فإنها كانت مملوكة على الحقيقة وقت العلوق، وهذا الحق مما لا يحتمل النقض؛ لأن الحق معتبر بالحقيقة حقيقة النسب، لا يحتمل النقض بعد ثبوتها، فكذا الحق وملك المشتري يحتمل النقض، ولا شك أن مراعاة ما لا يحتمل النقض أولى.g قياس مسألة الأب من البائع: لو ادعى المشتري أنه أعتقه حتى ثبت حقيقة النسب أو الولاء الذي هو كلحمة النسب من المشتري، ولو كان هكذا كان مراعاة حقيقة النسب أولى من مراعاة حق النسب. الفرق الثاني: أن طريق تصحيح دعوى الأب ولد جارية أبيه لما كان تقديم الملك للأب في الجارية على الوطء ليصير الأب مستولداً ملك نفسه. فنقول: تقديم الملك للأب في الجارية على الوطء غير ممكن ههنا، لأن الأب يدعي ملكاً خفياً لينقض به ملكاً ظاهراً، لأن ملك المشتري في الجارية ظاهر وقت الدعوى، وملك الأب خفي وقت الوطء، ومن ادعى ملكاً خفياً لينقض به ملكاً ظاهراً لا تسمع دعواه، ألا ترى أن أبا البائع بعدما باع الجارية والولد؛ لو ادعى أن البائع قد كان باع الولد منه قبل أن يبيعه من هذا لا تصح دعواه، وإنما لا تصح لما قلنا بخلاف ما إذا ادعى البائع نسب الولد بنفسه؛ لأن ملك البائع في الجارية ظاهر وقت العلوق، وتيقنا أن العلوق حصل في ملكه؛ لأن موضوع المسألة في دعوى البائع فيما إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر إلا أنه لا يثبت نسب الولد بدون دعوته؛ لأن له في ولد جارية الابن حق الملك لكونه متولداً في ملكه، ويحتمل أن يكون هذا الولد من غيره، فلا يبطل حق ملكه عن الولد بالشك، وإذا ادعى فقد ارتفع هذا الشك، وتبين أن هذا الولد ولده، وأنه باع أم ولده، فهو معنى قولنا: إن ملك البائع ظاهر وقت العلوق، فجاز أن يقبل قوله وينقض ملك المشتري. والدليل على الفرق بينهما: أن الجارية لو لم تكن في ملك الابن وقت العلوق بهذا الولد ثم اشتراه الابن، فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر حتى علم أن العلوق لم يكن في ملك المشتري، فادعى الولد أب المشتري لا تصح دعوته، ولو ادعاه المشتري صحت دعوته، فإذا وقع الفرق بين دعوى الأب ولد جارية الابن، وبين دعوى الابن ولد جاريته فيما إذا لم تكن الجارية في ملك الابن وقت العلوق، جاز أن يقع الفرق بين دعوتيهما إذا لم تكن الجارية في ملك الابن وقت الدعوى أيضاً. الفرق الثالث: أن الأب بهذه الدعوى يدعي على الابن تملك الجارية عليه بالقيمة قبل البيع، وتملك الشيء بالقيمة في معنى الشراء، وليس له على ذلك دليل وقت الدعوى، فصار بمنزلة ما لو ادعى على الابن أنه قد كان اشترى هذه الجارية منه قبل البيع، فأما البائع بهذا البيع ليس يدعي تملك الجارية على المشتري، بل ينكر زوالها عن ملكه، لأنه يقول: صارت أم ولد لي، ولم يصح نفي فيها، وله على ذلك دليل ظاهر، وهو علوق الولد في ملكه.

فإن قيل: أليس أن الأب لو ادعى قبل البيع صحة دعوته، وقد ادعى تملك الجارية على الابن بالقيمة، ولم يجعل ذلك بمنزلة دعوى الشراء، قلنا: جعل ذلك بمنزلة دعوى الشراء أيضاً، إلا أن له على هذه الدعوى دليل ظاهر، وهو ما له من تأويل الملك وقت العلوق ووقت الدعوى، فلهذا افترقا. الفرق الرابع: أن دعوى الأب دعوى تملك، والتملك لا يعمل في ملك الغير، أما دعوى الابن دعوى استيلاد، والاستيلاد قد يعمل في ذلك الغير، كما في الجارية المشتركة بين اثنين. هذا الذي ذكرنا إذا كذبه المشتري وصدقه البائع أو كذبه، فأما إذا صدقه المشتري، وكذبه البائع صحت دعوته؛ لأن الجارية مع الولد ملك المشتري، فإذا صدق المشتري أبا البائع في دعوته، فقد أقر أن الجارية أم ولده، وأن الولد ولده وأنه يملك الجارية على البائع قبل تملكه إياها، وكل ذلك إقرار على نفسه، وإقرار الإنسان على نفسه صحيح، ألا ترى أن أجنبياً آخر لو ادعى نسب هذا الولد، وصدقه المشتري صحت دعوته مع أنه ليس للأجنبي في الجارية تأويل الملك؛ فههنا أولى، ولكن لا يبرأ المشتري عن الثمن بتصديقه أب البائع في دعوته؛ لأن تصديقه يعتبر (230أ4) فيما عليه لا فيما له، وصيرورة الجارية أم ولد لأب البائع، وثبوت نسبه والولد منه أمر على المشتري، فيعتبر تصديق المشتري في ذلك، أما براءة المشتري عن الثمن أمر له، فلا يعتبر تصديقه في ذلك، ولا يضمن أب البائع شيئاً من قيمة الجارية للبائع. وإن زعم أنه يملك الجارية على البائع بالاستيلاد، وتملك الأب جارية ابنه بالاستيلاد يوجب القيمة على الأب، إلا أن البائع كذب الأب في ذلك، فالتحق زعمه بالعدم، وليس للمشتري على أب البائع شيء من قيمة الجارية ولا من قيمة الولد، أما في قيمة الجارية، فلأنه وإن زعم أن الأب يملك الجارية إلا أنه زعم تملكها على الابن، وهو البائع لا على نفسه، فكان مدعياً القيمة للبائع لا لنفسه، وأما من قيمة الولد فلأن في زعمه أن الأب تملك الجارية سابقاً على الاستيلاد، وأن الولد حر الأصل، فلا يكون مدعياً قيمة الولد أصلاً. ولو صدقاه جميعاً يعني المشتري والبائع صارت الجارية أم ولد له، وثبت نسب الولد منه، ورجع المشتري بالثمن على البائع؛ لأن بتصادقهم ظهر أن البائع باع أم ولد الغير، وأن بيعه باطل، وأن البائع أخذ الثمن ولا ثمن له فيؤمر بالرد، وضمن الأب قيمة الجارية للبائع؛ لأنهما تصادقا على تملك الأب جارية البائع سابقاً على الاستيلاد، وإنه يوجب القيمة على ما عرف. قال محمد رحمه الله: وإذا كانت الجارية ولدت في ملكه ولدين في بطن واحد، فباع أحد الولدين، ثم إن أب البائع ادعى الولدين جميعاً، وكذبه البائع والمشتري في ذلك صحت دعوته، وصارت الجارية أم ولد له، وثبت نسب الولدين منه، ويغرم قيمة

الجارية للابن، ويعتق الولد الذي لم يبع بغير قيمته، والولد الذي بيع يكون عبداً للمشتري على حاله. أما صحة الدعوى وصيرورة الجارية أم ولد للمدعي، وثبوت نسب الولد الذي لم يبع منه، فلوجود شرطه وهو حق التملك من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، وأما ثبوت نسب الولد الذي بيع منه؛ لأنهما توأمان خلقا من ماء واحد، فلا يتصور انفكاك أحدهما عن الآخر في حق النسب، وإذا ثبت نسب أحدهما ثبت نسب الآخر ضرورة. وأما عتق الولد الذي لم يبع بغير قيمته لأنه خلق حر الأصل. وأما كون الولد الآخر عبداً للمشتري، فقد اختلفت عبارة المشايخ في تخريجه، بعضهم قالوا: لأن تملك المشتري ثبت فيه من حيث الظاهر، فلا يبطل عليه ملكه بدعوى غيره إلا لضرورة، ولا ضرورة ههنا؛ لأن أكثر ما فيه أنا حكمنا بحرية الولد الذي لم يبع، إلا أن كل واحد منهما شخص على حدة؛ منفصل عن صاحبه وعن الأم، وليس من ضرورة عتق أحد الشخصين المنفصلين عتق الآخر، ويجعل في حق الابن المبيع كأن الابن الآخر عتق للحال بعتق مبتدأ صيانة لملك المشتري، وعتق أحدهما بإعتاق مبتدأ لا يوجب عتق الآخر. يوضحه: أن العتق شرع بطريقين: بطريق الأصل عند العلوق، وبطريق الابتداء، ففي حق الولد المبيع عتق الذي لم يبع، حمل على الابتداء صيانة لملكه بخلاف النسب؛ لأن النسب يستند إلى وقت العلوق، ولا يتصور ثبوته إلا بطريق واحد وهو التعيين من الأصل، فإذا ثبت نسب البعض ثبت نسب الكل، لأنهما خلقا من ماء واحد، فلا يتصور التبعيض فيه فلهذا افترقا. فإن قيل: حكمنا بحرية الولد الذي لم يبع من الأصل، ومن ضرورة حريته من الأصل حرية الولد من الأصل؛ لأنهما توأمان خلقا من ماء واحد، قلنا: حرية الولد الذي لم يبع من الأصل يظهر في حقه أما لا يظهر في حق الولد المبيع، ويجعل في حق الولد المبيع كأن عتق الذي لم يبع ثبت بإعتاق مبتدأ على ما مر، ولا يوجب الشراء به. فإن قيل: إن لم تتحقق الضرورة من الوجه الذي قلتم؛ تحققت من وجه آخر، فإن نسب الولد المبيع قد ثبت من المدعي، ومن ضرورة ثبوت نسبه منه أن يكون العلوق حاصلاً في ملكه، ومن ضرورة حصول علوقه في ملكه أن يكون حر الأصل. قلنا: ثبوت نسب الولد المبيع منه كان بطريق الضرورة لا بدليل يوجبه، بل الدليل بخلافه. بيانه: أن من شرط صحة الدعوى وثبوت النسب في ولد جارية الابن قيام حق التملك من وقت العلوق إلى وقت الدعوى، وقد انعدم الشرط في حق الولد المبيع، فتنعدم صحة الدعوى في حقه، فينبغي أن لا يثبت نسبه منه، وإنما أثبتناه ضرورة أنه يثبت نسب الولد الذي لم يبع، وهما توأمان، والثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة في حق ثبات النسب. أما لا ضرورة في حق الحرية، فصار في حق الحرية الولد المبيع كأنه لم توجد منه الدعوى أصلاً، ولو لم توجد منه الدعوى أصلاً أليس أنه لا يعتق هذا الولد؟

كذا ههنا، أكثر ما فيه أنه ثبت نسب هذا الولد منه، ولكن ليس من ضرورة ثبوت نسب الولد منه عتقه، ألا ترى أنه لما استولد جارية الغير بالنكاح؛ ثبت نسب الولد منه، وإن كان لا يعتق كذا ههنا. وبعضهم قالوا: لأنه حين ادعى كان الولدان منفصلين، ومن شرط صحة دعوى الأب قيام ملك ولده فيهم، وإنه معدوم في حق الولد المبيع، فصحت الدعوى بقدر وجود شرطه، فصحت في حق الولد الثاني والأم دون المبيع، فالحجة إنما تثبت بقدر شرطها كتصديق المشتري الأب في المسألة الأولى ثبت في حق الأم دون الابن، وتعتبر الدعوى في حق الولد المبيع إعتاقاً فاسداً، فصارت الدعوى في حق الابن المبيع كأنها لم تكن، بخلاف ما لو أعتق المشتري الولد ثم إن البائع ادعى الباقي، فإن الدعوى تصح، وينتقض إعتاق المشتري ضرورة صحة الدعوى في الثاني، وإن كانت دعوى البائع لا تصح في الولد المبيع بعد العتق كما أن دعوى الأب لا تصح في الولد بعد البيع. والفرق: أن شرط صحة دعوى البائع الملك عند العلوق، وملك البائع كان قائماً وقت العلوق بالولدين؛ فصحت الدعوى لقيام شرطها مطلقاً، وظهر ثبوتها في حق الولدين جميعاً، ولما ظهرت لم يجز أن يكون أحد الولدين علق حراً دون الآخر؛ لأنهما خلقا من ماء واحد، وظهر بطلان إعتاق المشتري بعتق هو فوقه. فأما دعوى الأب فإنما تصح بقيام ولاية التملك للحال، لا عند العتق، وفي الحال الأولاد والأم منفصل بعضها عن بعض، والشرط منقطع في حق الولد المبيع، فينعدم ثبوت الدعوى في حقه، فلا يجعل الولد الثاني حر الأصل في حقه، بل يجعل في حقه كأنه عتق بإعتاق مبتدأ، فلا يوجب الشراء به إليه، وصار كما لو اشترى عبداً أقر أنه حر الأصل يثبت في حقه كذلك ولا يكون له ولاؤه وهو في حق البائع بمنزلة إعتاق مبتدأ؛ لأنه لم يصدق عليه؛ كذا ههنا. فإن قيل: إذا لم تصح دعوى الأب في حق الولد المبيع ينبغي أن لا يثبت نسب الولد المبيع منه، قلنا: نحن إنما لم نصدق الأب على المشتري، وقطعنا شرط صحته صيانة لملك المشتري عليه، ألا ترى لو صدق المشتري الأب صحت دعوته في حق الولدين، فيتعذر انقطاع شرط الصحة بقدر ما يصون به ملكه، وذلك في أن لا يعتق، لا في أن لا يثبت النسب فيثبت نسب الولد المبيع من الأب، وإن كان لا يعتق عليه وإنما يغرم الأب في هذه الصورة قيمة جارية الابن؛ لأنه يملكها بالاستيلاد، وإنه يوجب القيمة، ولا يجب العقر على الأب عندنا؛ خلافاً للشافعي والمسألة معروفة. هذا الذي ذكرنا إذا باع أحد الولدين لا غير، فإذا كان باع الجارية مع أحد الولدين ثم أب البائع ادعى نسب الولدين جميعاً، وكذبه المشتري والبائع، فعلى قول محمد رحمه الله: دعوى الأب في هذه الصورة باطلة، وعلى قول أبي يوسف: دعوى الأب لا تصح في حق الجارية، ولا تصير الجارية أم ولد له، وتصح دعوته في حق الولدين نسباً، فثبت نسب الولدين منه، ولا تصح دعوته في حق الولدين حرية، فلا يحكم بحرية الولد المبيع

بل يكون عبداً للمشتري، والولد الباقي يكون حراً بالقيمة. وجه قول محمد (230ب4) في المسألة: أن من شرط صحة دعوى الأب قيام حق تملك الجارية للأب من وقت العلوق إلى وقت الدعوى ليصير الأب متملكاً الجارية سابقاً على الوطء، فيصير مستولداً ملك نفسه، وقد فات هذا بالبيع فلم تصح دعوته في حق الجارية، ولم يثبت ملك الجارية لا يثبت نسب الولدين؛ لأن ثبات نسب ولد جارية الابن من الأب من حيث وقوع الاستيلاد في ملك الأب ولم يوجد، فصار كما لو ادعى نسب مدبرة الابن، أو نسب ولد مكاتبة الابن أو نسب ولد أم ولد الابن. وجه قول أبي يوسف: أن البائع لم يبع الجارية والولد حتى ادعاه الأب صحت دعوته في الكل، ولو باع الجارية والمدبرين لم تصح دعوته في الكل، فإذا باع البعض دون البعض كان لكل بعض حكم نفسه. والمعنى في ذلك أن حق الدعوى كان ثابتاً للأب قبل البيع لقيام ملك الابن، لو بطل إنما يبطل حكماً لزوال ملك الابن، فإنما يبطل بعد زوال ملك الابن عنه بخلاف ولد المدبرة والمكاتبة؛ لأن حق الدعوى لم يكن ثابتاً للأب هناك لفوات شرطه؛ أما ههنا بخلافه، ولكن المقصود بالدعوى الولد دون الأم بدليل أن الأم تضاف إلى الولد ولا يضاف الولد إلى الأم، يقال: أم الولد ولا يقال ولد الأم، ويدل عليه قوله عليه السلام: «أعتقها ولدها» وما هو المقصود بالدعوى على حاله لم يحدد به ما يمنع نقل الملك إليه، فتصح دعوته فيه. وإن لم تصح دعوته في الأم فقيل: هذا جائز ألا ترى أنه لو باع جاريته من إنسان وجاءت ليد المشتري بولد وأعتق المشتري الجارية، ثم إن البائع ادعى نسب الولد صحت دعوته في حق الولد وإن لم تصح دعوته في حق الأم. وكذلك إذا ماتت الجارية مع أحد الولدين في مسألتنا، ثم إن البائع ادعى نسب الولدين صحت دعوته في حق الولد الحي، وإن كان لا تصح في حق الأم وخروجها عن ملك الابن بالموت كخروجها عن ملكه بالبيع، ثم هناك لما لم يمنع صحة دعواه في الولد الباقي كذا ههنا. والدليل: أن ولد المغرور ثابت النسب من المغرور، ويكون حراً بالقيمة وأمه تكون رقيقة على حالها، وليس كما لو ادعى نسب ولد مكاتبة الابن أو مدبرة أمه؛ لأن ولد المدبرة مدبر، وولد المكاتبة مكاتب، فقد حدث في الولد هناك ما يمنع النقل إلى ملكه كما حدث ذلك في الأم، فلم تصح الدعوى هناك أصلاً أما ههنا، فبخلافه ويكون الولد الذي لم يبع حراً بالقيمة؛ لأنه لا يتملك الجارية ههنا سابقاً على الاستيلاد ليكون العلوق حاصلاً في ملكه، فيكون حر الأصل، فيكون حراً بغير قيمة، فلابد وأن يظهر قيمة الولد، فجعلناه حراً بالقيمة، بخلاف ما إذا كانت الجارية في ملكه؛ لأن هناك يتملك

الجارية سابقاً على الاستيلاد، فيكون العلوق حاصلاً في ملكه، فيكون الولد حر الأصل، فيكون حراً بغير قيمة، ولأن الأب مصدق في حق نفسه. وإذا ادعى نسب الولدين حمل أمره على أنه أصابها بناء على أن له حق التملك على ولده، وأن الظاهر في ملك ولده الدوام، ووجود شرط التملك يوم الدعوى، وإذا بيعت فقد عدم شرط التملك فيها، ولكن بعد صحته بناء للأمر على الظاهر، فصار مغروراً بمنزلة الذي يصيب الجارية ويستولدها على أنها ملكه بناء على سبب أفاد الملك له ظاهراً، فإذا استحقت صار مغروراً كذا ههنا، ولما ثبت الغرور وقع الاستغناء عن تملك الجارية؛ لأن الغرور بمنزلة عقد النكاح في إثبات النسب، وعند وجود عقد النكاح يستغنى عن تملك الجارية كذا ههنا، ولأجل ما ذكر غرم الأب قيمة الولد الباقي فثبت نسب الولد المبيع، ولكن لا يعلق لما ذكرنا. هذا الذي ذكرنا إذا أكذبه المشتري والبائع، فأما إذا صدقه المشتري وكذبه البائع، فالجارية تصير أم ولد له بلا خلاف، وعليه قيمتها للابن ويثبت نسب الولدين منه بلا خلاف، ويصير الولد المبيع حراً بغير قيمة بلا خلاف. وأما الولد الثاني فهو حر بالقيمة على الأب عند أبي يوسف، وعند محمد هو حر بغير قيمة، وإنما صارت الجارية أم ولد له، وكان الولد المبيع حراً بغير قيمة باعتبار أن المشتري لما صدقه في دعواه، فقد أقر أن الجارية صارت أم ولد له، وأن الولد المبيع علق حر الأصل وأن البيع لم يصح فيهما ولي حق الرجوع على البائع ويصدق فيما عدا ذلك؛ لأن فيما عدا ذلك كله إقرار على المشتري وهو مالك لذلك من حيث الظاهر، وإنما يثبت نسب الولدين بدون تصديق المشتري، فمع تصديق المشتري أولى، وأما على قول محمد: فلأنه ثبت نسب الولد المشترى بتصديق المشتري، وهما توأمان خلقا من ماء واحد، فإذا ثبت أحدهما ثبت الآخر ضرورة. وأما الباقي في يد البائع فعلى قول أبي يوسف: هو حر بالقيمة؛ لأنه كان عتق بالقيمة حقاً للبائع قبل تصديق المشتري، فلا يبطل ذلك بتصديق المشتري، وعلى قول محمد رحمه الله: يعتق بغير قيمة؛ لأن على قوله: لم يثبت نسب الولدين من المدعي أصلاً قبل تصديق المشتري، وبتصديق المشتري يثبت نسب الولد المشترى منه، ومن ضرورته ثبوت نسب الباقي في يد البائع منه؛ لأنهما توأمان، وإذا ثبت نسب الولد منه صار أخاً للبائع، وهو ملكه ظاهراً، والأخ يعتق على أخيه بالقرابة بغير شيء، وهو أن البائع صدق والده فيما ادعى وكذبه المشتري، ثبت نسب الولدين من أب البائع. مشايخنا ظنوا أنما ذكر أنه يثبت نسب الولدين من البائع قول أبي يوسف، وأما قول محمد: فينبغي أن لا يثبت نسب الولدين منه؛ لأن محمداً رحمه الله يعتبر الأم أصلاً في هذا الباب والولد تبعاً، وتعذر تصحيح دعوته في حق الأم على ما مر قبل هذا، فكيف يصح دعوته في حق الولد؟. والصحيح أن ما ذكر قول الكل، أما عند أبي يوسف فلأن عنده يثبت نسب الولدين

من الأب عند تكذيبهما، فعند تصديق البائع أولى، وأما عند محمد فلأن بتصديق البائع ثبت نسب الولد الذي لم يبع منه؛ لأن الأب لا يكون أدنى حالاً من الأجنبي، ولو كان أجنبياً ادعى نسبه وصدقه الابن يثبت نسبه منه، فههنا أولى من ضرورة ثبوت نسب هذا ثبات نسب الآخر، ويكون الولد الذي عند البائع حراً بغير قيمة لاعتراف مالكه أنه حر الأصل، والجارية والولد المبيع مملوكان للمشتري؛ لأن البائع والمدعي لا يصدقان على المشتري، وليس من ضرورة الحكم بحرية أحد الولدين الحكم بحرية الأم والولد الآخر لما مر. ثم إن محمداً رحمه الله ذكر في «الكتاب» : حكم الولد في هذا الفصل، ولم يذكر حكم الأم وكان القاضي الإمام أبو حازم والقاضي الإمام أبو الهيثم رحمهما الله يقولان: على قياس قول أبي يوسف ومحمد: يضمن البائع قيمة الجارية أم ولد للمدعي وهو الأب؛ لأنه لما صدق أباه فقد أقر أنه باع أم ولد ابنه وسلمها وبه يصير غاصباً، وأم الولد عندهما مضمونة بالغصب، ويضمن المدعي وهو الأب للبائع وهو ابنه قيمتها فيه؛ لأنهما تصادقا أن الأب استولد جارية الابن وأنه يملكها بالقيمة. وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يضمن البائع لوالده شيئاً؛ لأن أم الولد لا تضمن بالغصب عنده، وقال أكثر مشايخنا: لا يضمن أحدهما لصاحبه شيئاً بالاتفاق. أما عند أبي حنيفة: فالبائع لا يضمن شيئاً للأب لما مر، والأب لايضمن لابنه شيئاً من قيمة الجارية فيه؛ لأن ثمنها سالم للبائع لما بقي البيع صحيحاً في حق المشتري، والثمن عوض عن الجارية، فلو أخذ البائع من الأب قيمة الجارية يجتمع في ملكه عوضان بإزاء معوض واحد وإنه لا يجوز، وأما عندهما فالأب لا يضمن لهذه العلة أيضاً، ولا يضمن للابن أيضاً، وإن أقر بغصب أم الولد بالبيع والتسليم؛ لأن القاضي لما قضى بصحة البيع وكونها مملوكة للمشتري، فقد كذبه فيما أقر فيلحق إقراره بالعدم. جارية لرجل حبلت في ملكه، فباعها وهي حامل وقبضها المشتري، ثم اشتراها البائع فوضعت حملها في يده لأقل من ستة أشهر، فادعاه أب البائع الأول، وكذبه ابنه في ذلك كانت دعوى الأب باطلة لما ذكرنا أن من شرط صحة الدعوى قيام حق التملك فيما بين الدعوى والعلوق، وهذا لما ذكرنا أن دعوى الأب متى صحت يستند إلى وقت العلوق، ولهذا يعلق الولد حراً، وانقطاع ولاية التملك فيما بين العلوق والدعوى يمنع الاستناد إلى وقت العلوق، فلا تصح دعوته لهذا، ولو صدقه الابن كانت الجارية أم ولد له بالقيمة (231أ4) ويثبت نسب الولد، ويكون حراً بغير قيمة؛ لأن الملك للابن وقد أقر بكونها أم ولد لابنه من وقت العلوق، وأن بيعه كان باطلاً، فيقبل قوله في حقه، ولا يقبل في حق المشتري حتى لا ينتقض البيع الذي كان جرى بينهما. ولو أن المشتري لم يبعها من البائع، ولكنه ردها بعيب بقضاء القاضي أو بغير قضاء القاضي أو بخيار الشرط أو بخيار الرؤية، أو كان البيع فاسداً وقد قبضها المشتري، فردها على البائع بحكم فساد البيع، ثم أب البائع ادعى الولد، فهذا والأول سواء في جميع ما وصفت ذلك؛ لأنه انقطعت ولاية التملك فيما بين طرف العلوق والدعوى لزوال

الجارية عن ملك الابن بالبيع، وبأن عادت الجارية إلى قديم ملك الابن في حقها، وفي حق الثالث لم يبين أنه لم يكن زائلاً عن ملكه، فلا يتبين أن حق التملك للأب لم يكن ساقطاً وهو المانع من صحة دعوى الأب؛ ألا ترى أن من اشترى شيئاً لم يره ثم رد عليه بقضاء قاض أو بخيار الرؤية، فإنه لا يعود خيار الرؤية للمشتري الأول، وإن عاد إلى قديم تملكه ولم يجعل كأنه لم يبع ولم يزل عن ملكه.Y وألا ترى أن من اشترى داراً ووجب للمشتري فيها شفعة، ثم إن المشتري ردها بالعيب بقضاء قاض أو بخيار الرؤية كان للشفيع فيها حق الشفعة، وإن عاد إلى قديم ملك البائع، ولم يجعل كأن الدار لم تخرج عن ملك البائع، ولم تدخل في ملك المشتري قط. وكذلك من اشترى منكوحة حتى فسد النكاح ثم ردها بالعيب بقضاء قاض أو بخيار الرؤية، فإنه لا يعود النكاح، وإن عاد إلى قديم ملك البائع، ولم تجعل كأنها لم تخرج عن ملك البائع، ولم يملكها المشتري، فكذا ههنا وجب أن يكون كذلك، وإذا بقي الزوال على حاله كان ولاية التملك منقطعاً فيما بينهما، فلم تصح دعوته. فإن قيل: قد يشكل بخيار العيب، فإنه يسقط ببيع المشتري من غيره ثم يعود إذا عاد قديم ملكه، وجعل كأنه لم يبع ولم يزل عن ملكه قط حتى كان له الرد على بائعه، قلنا: نحن لا نقول بأن حقه في الرد بالعيب سقط بالبيع وكيف يسقط ولم يكن عالماً، لكن تأخر لعجزه عن الرد إلا أنه لا يكون له الرجوع بنقصان العيب لوجهين: أحدهما: أن التملك من المشتري ينتسب بالمبيع من جهة المشتري، فتجعل نسبته كنسبة المشتري، ولو كان المشتري مثبتاً بالمبيع بنفسه، فإنه لا يكون له الرجوع بنقصان العيب من غير رضا البائع، وإن كان في العيب حقه باقياً لإمكان الرد، فإذا نسب الغير به من جهته والرد موهوم بأن يعود إلى قديم ملكه. والثاني: أن المشتري لما باع من غيره، فقد وصل إليه عوض العيب، فلا يكون له الرجوع بنقصان العيب؛ لأنه يحصل بإزاء العيب عوضان، وهذا لا يجوز، وقد زال كلا الأمرين متى عاد الشيء إلى قديم ملكه، فكان له الرد بالعيب؛ بخلاف خيار الرؤية؛ لأنه سقط لما أثبت لغيره لازماً مع علمه بثبوت الخيار له لعلمه بعلته، وهو جهله بأوصاف المبيع فلا يعود بعد ذلك، وبخلاف مسألتنا؛ لأن دعوى الأب كانت باطلة ببيع الابن لفوات شرط صحة الدعوى، وهو ولاية التملك بالجارية، وإن عادت إلى قديم ملكه لم يتبين أنه لم يكن زائلاً عن ملكه على ما بينا، وإذا بقي الزوال على حاله حقيقة وحكماً كان شرط صحة الدعوى فائتاً، فلم تصح دعوته. وإذا ولدت الجارية المبيعة في يدي المشتري ولدين في بطن واحد كلاهما أو أحدهما لأقل من ستة أشهر من وقت البيع، ثم جنى على أحد الولدين بأن قطع يده مثلاً، وأخذ المشتري الأرش، ثم ادعى البائع نسب الولدين صحت دعوته، لأنا تيقنا أن العلوق بالولدين اتصل بملك البائع، أما الذي جاء لأقل من ستة أشهر فظاهر، وأما الآخر فلأنهما خلقا من ماء واحد؛ وعلى الجاني أرش العبد، ويكون ذلك سالماً للمشتري،

وإن حكمنا بحرية الولد الآخر من الأصل حتى لم يكن للبائع على الولد ولاءٌ؛ لما قلنا في الولد الواحد إن الحرية لا تظهر في حق اليد. وكذلك إن اكتسب أحدهما كسباً قبل الدعوى، ثم ادعاهما البائع ثبت نسبهما من البائع؛ لأنه صحت دعوته في حق الحي، ومن ضرورته صحة الدعوى في حق الآخر؛ لأنهما خلقا من ماء واحد لا يتصور أن يثبت نسب أحدهما وحريته من الأصل دون الآخر، وإذا صحت دعواهما فيما ذكر أن قيمة المقتول تكون لورثة المقتول ولا تكون للمشتري، ولم يحكم بحريته من الأصل في حق الجاني حتى لم يوجب عليه الدية بل أوجب القيمة، ومثل هذا جائز، يجوز أن يكون الشخص الواحد عبداً وحراً في حق شخصين وفي حق حكمين، ألا ترى أن من أقر بحرية عبد في يد غيره ثم اشتراه اعتبر عبداً في حق البائع حتى يستحق الثمن على المشتري، ويعتبر حراً في حق المشتري حتى يحكم بعتقه عليه، واعتبر شراؤه في حقه تخليص الحر، كذا ههنا. وفرق بين الأرش والكسب والقيمة، فجعل الكسب والأرش للمشتري، وجعل القيمة لورثة المقتول. والفرق: أن من ضرورة ثبوت أحدهما وحريته من الأصل؛ لأن التوأم لا ينفصل أحدهما عن الآخر في حق ثبوت النسب والحرية، والقيمة بدل عن النفس، فإذا ظهرت الحرية في حق النفس من الأصل؛ يثبت في بدل النفس؛ فيكون لورثة المقتول ضرورة أما ليس من ضرورة ثبات النسب وثبوت حرية الأصل في حق النفس ثبوتها في حق الأطراف المبانة، لأن حرية الذات متصورة بدون الأطراف بأن كانت فبانت الأطراف من الأصل، فلا ضرورة إلى قطع ملك المشتري عن الأرش، وكذلك في الكسب؛ لأن حرية الذات متصورة بدون حرية ما فات بسبب الكسب، وهو المنافع كما يتصور بدون حرية الأطراف، فلا ضرورة إلى ملك المشتري عن الكسب، فلذا افترقا قال: ولو لم يدعهما البائع، وإنما ادعاهما المشتري ثبت نسبهما منه لما ذكرنا في الولد الواحد. وإذا ولدت الأمة عند رجل ولدين في بطن واحد، فباع أحدهما وادعى المشتري الولد الذي اشتراه أنه ابنه، صحت دعوته وثبت نسب الولدين منه؛ لأنهما توأمان، فمن ضرورة ثبوت نسب أحدهما منه ثبوت نسب الآخر، ولا يعتق الولد الآخر؛ لأن دعوى المشتري دعوى تحرير؛ لأن أصل العلوق لم يكن في ملكه، فكأنه أعتق ما اشترى للحال، وليس من ضرورة عتق أحد التوأمين بعتق عارض عتق الآخر، ولا تصير الجارية أم ولد له، لأن أمية الولد قد تنفصل عن حرية الولد من الأصل كما في الولد المغرور، ففي حرية عارضة أولى. وإذا حبلت الأمة عند رجل وولدت ابنة فكبرت ابنتها؛ وولدت ابنة، ثم إن المولى باع الابنة السفلى وأعتقها المشتري ثم إن المولى ادعى الابنة العليا، ثبت نسب العليا وثبت نسب السفلى وبطل عتق المشتري، وكانت بمنزلة التوأم، وإنما بطل إعتاق المشتري؛ لأنه يبين أنها كانت حرة قبل شرائه.

وإذا اشترى الرجل أمة أو ولدها أو اشتراها وهي حامل ثم باعها من آخر ثم اشتراها ثم ادعى الولد صحت دعوته، وثبت نسب الولد منه، إذا كان الولد في ملكه يوم ادعاه؛ لأنه ادعى نسب ولد مملوك، ولا يبطل ما كان قبل الدعوى من بيع أو شراء؛ بخلاف ما إذا كان علوق الولد في ملكه، فإنه يبطل ما كان قبل الدعوى من بيع أو شراء. والفرق: أن علوق الولد إذا كان في ملكه، فدعوته دعوى استيلاد، فيستند إلى وقت العلوق، وبين أن الساعات كلها حصلت في ولد الحر وفي أم الولد، فيظهر بطلانها، أما إذا لم يكن العلوق في ملكه، فدعوته دعوى تحرير فيقتصر على الحال، فلا يظهر به بطلان البيوع السابقة. قال: وإذا اشترى الرجل عبدين توأمين ولدا في ملك العبد، وباع أحدهما ثم ادعاهما جميعاً، وادعى الذي لم يبع صحت دعوته في الذي لم يبع، وهذا ظاهر وثبت نسب الذي باع؛ لأنهما توأمان خلقا من ماء واحد، فلا يختلفان في ثبات النسب، ولا ينتقض البيع في الذي باع بخلاف ما إذا كان العلوق في ملكه، والفرق وهو أن العلوق إذا كان في ملكهما، فدعوته في الذي لم يبع دعوى حريته من الأصل، ومن ضرورة حريته من الأصل فتبين أنه باع الحر، فأما إذا لم يكن العلوق في ملكهما فدعوته في الذي (231ب4) لم يبع دعوى تحرير، وليس من ضرورة حرية أحدهما بحرية عارضيه حرية الآخر، فلا يبين أنه باع الحر. وإذا اشترى الرجل عبداً واشترى أبوه أخا ذلك العبد وهما توأمان؛ فادعى أحدهما العبد الذي في يديه صحت دعوته فيما في يديه، وهذا ظاهر وثبت نسب الآخر؛ لأنهما خلقا من ماء واحد، ويعتقان جميعاً؛ لأن المدعي إن كان هو الأب عتق الذي عنده بالدعوى، وعتق الآخر على أبيه؛ لأن ملك أخاه، وإن كان المدعي هو الابن عتق الذي عنده بالدعوى، وعتق الآخر على أبيه؛ لأنه ملك ابن أبيه، ولا ضمان على واحد منهما لصاحبه؛ لأن عتق ما في يد كل واحد منهما ثبت نسبه مقصوراً عليه غير متعدٍ إلى صاحبه. وإذا اشترى الرجل أمة على أنه بالخيار ثلاثة أيام، فولدت بعد ذلك بيوم عند المشتري، فادعى المشتري الولد صحت دعوته عندهم جميعاً؛ لأن دعوى المشتري صادفت ملكه، أما عند أبي يوسف ومحمد، فلأن خيار المشتري سقط بالولادة، وصارت الأمة ملكاً له؛ لأن الولادة عيب في بنات آدم، وحدوث العيب في يد المشتري يسقط خيار المشتري، فهذا معنى قوله إن دعوى المشتري صادفت ملكه، ولو كان الخيار للبائع فادعاه المشتري، فإن دعوته تكون موقوفة إن أجاز البائع البيع، صحت دعوته، وإن فسخ بطلت دعوته. فرق بين هذا وبينما إذا أعتقه المشتري، والخيار للبائع، فإن عتقه لا يتوقف بل يبطل؛ والفرق: أن الدعوى إقرار بنسب ثابت، وليس بإثبات النسب للحال، والإقرار صحيح قبل الملك، ولكن نفاذه يتوقف على الملك كما لو أقر بحرية عبد الغير، فأما

الإعتاق فإنشاء تصرف مبتدأ للحال، وإنه تصرف لا يصح إلا في الملك، وليس للمشتري حالة الإعتاق لا ملك مات، ولا ملك موقوف متى كان الخيار للبائع على ما عرف في موضعه، فلم يصح الإعتاق حتى لو أخرج الكلامان في الإعتاق مخرج الإخبار بأن كان قال: هذا كان حراً قبل شرائي يوقف ذلك منه. وإذا أخذ الرجل أمتين من رجل على أنه بالخيار يأخذ أيهما شاء بألف درهم ويرد الأخرى فولدتا عنده، وأقر أنهما منه، إلا أنه لم يبين التي وطئها أولاً، فإقراره صحيح في ولد أحدهما وهي التي تناولها البيع، وهذا لأن خيار المشتري لا يمنع صحة دعواه، ولكن البيع تناول أحدهما بغير عينها، ويتبين باختيار المشتري فيؤمر بالبيان ما دام حياً، فإن مات قبل البيان فالبيان إلى الورثة؛ لأنهم قاموا مقام الميت في خيار التعيين، فيكون لهم البيان للمورث لو كان حياً. فإن قالت الورثة: إن أبانا وطء هذه الجارية أولاً، فإنه يثبت نسب ولد هذه من الميت، ويرث معه، وتصير هي أم ولد للميت وتعتق بموته، وعلى الورثة ثمن هذا للبائع يؤدون ذلك من تركة الميت، ويردون الأمة الأخرى على البائع مع عقرها، فتكون أمة البائع كما لو حصل هذا البيان من الميت. وإن قال بعض الورثة: إن أبانا وطء هذه أولاً، وقال بعض الورثة: لا بل وطء هذه الأخرى أولاً، كانت التي قال لهما بعض الورثة أولاً هي التي وطئها الميت أولاً متعينة للاستيلاد، ويرد الأخرى. فرق بين هذا وبينما إذا أوصى الرجل أن يعتق أحد عبديه، ثم مات وله ولدان، فأعتق أحدهما أحد العبدين وأعتق الآخر العبد الآخر، فإن الآخر يتعين لتنفيذ الوصية فيه دون الأول. والفرق: أن في مسألتنا هذه الوارث قام مقام المورث في البيان بحكم الملك لا بحكم الأمر؛ لأن المورث لم يأمرهم بالبيان، وإنما ثبت لهم البيان بحكم الملك؛ لأنهم ورثوا ما كان ملكاً للميت، وإنه مختلط بملك الغير، والملك ثابت للكل، فيكون تعيين أحدهم كتعيين الميت لو كان حياً. ولو كان الميت حياً وقال: وطئت هذه أولاً، كان الإقرار منه صحيحاً، والرجوع باطلاً كذا من الورثة. أما في تلك المسألة التعيين إلى الوارث بحكم الأمر لا بحكم الملك، ألا ترى أنه لو مات ولم يأمرهم لا يصح إعتاقهم عن الميت، وإذا كان التعيين إليهم بحكم الأمر، فإنما يصير إعتاق الوارث كإعتاق الميت أن لو وافق أمره، والميت أمر بإعتاق عبد يجتمعان على تعيينه، وإنه تنفيذ لتفاوت العبدين كما لو حصل الأمر في حالة الحياة، فإذا أعتق أحدهما عبداً، فهذا إعتاق لم يوافق أمر الآمر، فلا ينفذ على الميت بل ينفذ على المعتق؛ لأن له نصيباً فيه، وإذا أعتق بعض هذا العبد من ابن المعتق لم يبق هو محلاً لتنفيذ الوصية، فيتعين العبد الآخر لتنفيذ الوصية فيه، ويصح إعتاق الابن الآخر بانفراده فيه، لأن اجتماعهما على إعتاق عبد بعينه لا يفيد؛ فهذا هو الفرق.

وإن اتفقت الورثة أنهم لا يدرون التي وطئها الميت أولاً، فإنه لا يثبت نسب واحد من الولدين من الميت، ولكن يعتق نصف كل واحد من الولدين، ونصف كل واحد من الجاريتين، وسبب كل واحد من الولدين في نصف القيمة، وردت الورثة على البائع نصف ثمن كل واحد من الجاريتين، ونصف العقر من التركة، فإن لم يمت المشتري وادعى نسب الولدين، وادعى البائع نسب الولدين أيضاً، فهذا على وجهين: الأول: أن تكون الدعوى من البائع بعد دعوى المشتري، وفي هذا الوجه تصح دعوى البائع في الولد الذي يرد عليه في أمه، كيف جاءتا بالولدين لأقل من ستة أشهر من وقت البيع، أو لستة أشهر؛ لأن دعواه صادفت ملك نفسه، ولم تصح دعواه فيما صار للمشتري لا يصح في هذه الصورة من غير تصديق المشتري، فبعد دعوته أولى. وأما إذا جاءتا لأقل من ستة أشهر لا تصح أيضاً؛ لما دخل عليه عتق المشتري، وإن ادعياهما جميعاً إذا جاءتا بالولد لستة أشهر، فدعوى البائع صحيحة فيما صار له، ولا تصح دعوته فيما صار للمشتري، وإن جاءتا بالولد لأقل من ستة أشهر، فدعوى البائع أولى في الولدين؛ لأن دعوته دعوى استيلاد، ودعوى المشتري دعوى تحرير. نوع آخر في دعوى الولد بعد العتاق إذا أعتق الرجل عبداً صغيراً له، ثم ادعى أنه ابنه صحت دعوته استحساناً، والقياس: أن لا تصح؛ لأنه يتناقض في هذه الدعوى. بيانه: أن إقدامه على الإعتاق إقرار منه بصحة الإعتاق، وإنما يصح إعتاقه إذا لم يكن ابناً له؛ لأنه إذا كان ابناً له، وكان العلوق في ملكه كان حر الأصل، وإن لم يكن العلوق في ملكه، فإذا دخل في ملكه يعتق عليه، فلا يصح إعتاقه بعد ذلك، وإقدامه على الإعتاق يكون إقراراً منه أنه ليس بابن له، فيصير بدعواه أنه ابنه متناقضاً. وجه الاستحسان: أن هذا إقرار العبد وهو الابن؛ لأن عظم المنفعة في هذا الميراث للابن، والإقرار للغير صحيح من غير تصديق، وههنا يبطلان على التكذيب، ولم يوجد التكذيب ههنا، وقوله بأنه متناقض في هذه الدعوى قلنا نعم، ولكن التناقض في هذا الباب لا يضر، ألا ترى أنه لو صرح فقال: هذا ليس بابني، ثم قال: هذا ابني، تصح دعواه لنفسه لأن بقوله: ليس هذا بابني؛ أنكر أن يكون للابن عليه حقوق مالية وبقوله هذا ابني بعد ذلك أقر بالحقوق المالية، والإقرار بالحقوق بعد إنكارها صحيح. عبد صغير بين رجلين أعتقه أحدهما ثم ادعاه الآخر بعد ذلك، فهو ابنه عند أبي حنيفة؛ لأن الإعتاق عنده متجزئ، فاقتصر الإعتاق على نصيب المعتق، وبقي نصيب الآخر مملوكاً له، فإذا ادعاه الآخر، فإنما ادعى نسب ولد مملوك فتصح دعوته، ويكون مولى لها إن كانت دعوى المدعي دعوى تحرير بأن لم يكن العلوق في ملكهما، لأن المعتق استحق نصف الولاء بينهما، فإن كانت دعوته دعوى استيلاد بأن كان العلوق في

ملكه للمنعتق نصف الولاء بإعتاق النصف، ولا ولاء للمدعي؛ لأنه زعم أنه علق حر الأصل، وأنه لا ولاء له عليه وزعمه يعتبر في حقه. وأما على قول أبي يوسف ومحمد: حين أعتقه أحدهما فقد عتق كله، وكان جميع الولاء للمعتق، فإذا ادعاه الآخر بعد ذلك، فإنما ادعى نسب حر صغير ليس له نسب معروف، فتصح دعوته استحساناً لا قياساً، كما لو ادعى نسب لقيط. هذا إذا ادعاه الآخر، وأما إذا ادعاه المعتق، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: صحت دعوته قياساً واستحساناً؛ لأنه نصيبه باقٍ على ملكه، وعلى قولهما: صحت دعوته استحساناً، لأنه ادعى نسب حر صغير ليس له نسب معروف من غيره، هذا إذا كان الولد صغيراً، وإن كان كبيراً يعبر عن نفسه، فإن أقر بذلك، فهو ثابت النسب من المدعي سواء ادعى العتق أو لا، وإن جحد ذلك لم تصح دعوى المعتق؛ لأنه لا ملك (232أ4) له فيه وتصح دعوى الآخر عند أبي حنيفة، إلا أن نصيبه باق على ملكه، وعلى قولهما: لا تصح دعوى أحدهما؛ لأنه لا ملك لأحدهما فيه عندهما. نوع آخر في دعوى الإنسان نسب غيره والشهادة عليه ما يجب اعتباره في هذا النوع شيئان: أحدهما: أن البينة إذا قامت على خصم حاضر قبلت، وإذا قامت على خصم غائب لا تقبل، إلا إذا كان عنه خصم حاضر، أما قصدي وهو ظاهر، أو حكمي وذلك بطريقين: أحدهما: أن يكون المدعي على الغائب سبباً لثبوت المدعي على الحاضر لا محالة، وقد ذكرنا ذلك غير مرة. والثاني: أن يكون الذي أقام البينة وارثاً، وتكون الدعوى واقعاً على الميت، فإن البينة تقبل على الوارث إذا كانت الدعوى في المال؛ لأن الوارث يقوم مقام المورث في المال، وفيما هو من آثار المال، وفي الحقوق المتصلة بالمال، فتقوم مقامه في الخصومة فيه الثاني: أن من ادعى على آخر دعوى، وأقام عليه بينة، إن كان المدعى عليه ممن يجوز إقراره للمدعي فما وقع فيه الدعوى سمع دعوى المدعى عليه، وقبلت بينته بذلك عليه؛ لأنه لما جاز إقراره به علم أنه خصم؛ لأن الإقرار إنما يجوز من الخصم، والبينة على الخصم مقبولة والدعوى عليه مسموعة، وإن كان المدعى عليه ممن لا يتصور إثبات نسب ما وقعت فيه الدعوى، فإنه لا تقبل البينة عليه، كالرجل يدعي على آخر أنه أخوه لأبيه أو أمه، أو لأبيه ولأمه، والمدعي ليس يدعي عليه حقاً من ميراثه من جهة أبيه أو من جهة أمه، أو نفقة أو نحوه، فإنه لا تسمع بينته عليه، لأن المدعى عليه ممن لا يجوز إقراره للمدعي بما وقع فيه الدعوى، فإنه لو أقر أنه أخوه لا يصح إقراره؛ لأنه يحتمل النسب على أبيه وأمه، ولا يتصور من المدعى عليه إثبات سبب ما وقع فيه الدعوى؛ لأن سبب ثبوت الأخوة من المدعى عليه إذا كان المدعي يدعي الأخوة من جهة الأب، أو من جهة الأم أن يكون المدعي ابن أبيه أو ابن أمه، وذلك بإيلاد الأب أو بولادة الأم، وإنه لا يتصور من المدعى عليه، ولما لم يصح من المدعى عليه الإقرار بما وقع فيه الدعوى،

ولم يتصور منه إثباته بسبب ما وقع فيه الدعوى، كان المدعى عليه أجنبياً عما وقع فيه الدعوى من كل وجه، ولم يكن خصماً للمدعي، فلا تقبل بينته عليه. وإن كان المدعى عليه ممن لا يجوز إقراره للمدعي بما وقع فيه الدعوى إلا أنه يتصور من المدعى عليه إثبات نسب ما وقع فيه الدعوى تقبل البينة؛ لأنه لما تصور منه إثبات النسب ذلك كان خصماً فيه، أو وقع فيه الدعوى من كل وجه وذلك كالرجل يدعي على امرأة أنه ابنها وأقام بينة على دعواه؛ قبلت بينته حتى أنه إذا كان لها زوج يثبت نسب هذا الولد من زوجها، وإن كانت لو أقرت بذلك لا يصح إقرارها حتى يثبت نسب الابن المقر به من زوجها؛ لأنها تحمل نسبه على غيرها وهو الزوج، لأنه إن كان لا يصح إقرارها بالبنوة يتصور منها ما هو سبب ثبوت البنوة وهو الولادة، فإن ولادتها سبب لثبوت نسب الولد منها كما في ولد الملاعنة والزنا، فكان المدعي ادعى عليها أنها ولدته، فكان مدعياً عليها فعلاً يتصور منها، فكان خصماً للمدعي في حق سماع البينة عليه، وإن كان لا يجوز إقراره. ثم ما ذكرنا أن إقرار المرأة بالولد باطل مستقيم على رواية «الأصل» والفرائض، غير مستقيم على رواية «الجامع» ، فقد ذكر في «الجامع» : أن إقرار المرأة بالولد جائز، وسيأتي الكلام فيه في خلال المسائل إن شاء الله تعالى. وبعد الوقوف عليها جئنا إلى المسائل: قال محمد رحمه الله في «الجامع» : لو أن رجلاً ادعى على رجل أنه أخوه لأبيه وأمه وهو يجحد فقدمه إلى القاضي؛ فالقاضي يسأل المدعي ويقول: ماذا تريد؟ فإن قال: لا حق لي قبله من نفقة ميراث، ولكن أريد إثبات نسبي لا غير، فالقاضي لا يلتفت إلى دعوته ولا يسمع بينته عليه إن أقامها، أما الأصل الأول: فلأن هذه بينة قامت على غائب وهو الأب والأم؛ لأن نسبه يثبت من الأب، ولا يثبت من الحاضر المدعى عليه، لأن نسب أحد الأخوين لا يثبت من الآخر، فدل أن هذه بينة قامت على الأب، وهذا الحاضر ليس بخصم عنها في هذه الدعوى، ولا من طريق الحكم، أما من طريق الإرث: لأن الوارث لا ينتصب خصماً عن الأب والأم من النسب حالة الحياة وبعد الوفاة؛ لأنه ليس بمال، ولا أثر من آثار المال، ولم يدع أيضاً على الحاضر شيئاً لا يتوصل إلى ذلك إلا بإثبات النسب من الغائب، فلم ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، والبينة القائمة على غير الخصم لا تقبل. وأما على الأصل الثاني: فلأن المدعى عليه ممن لا يجوز إقراره بما وقع فيه الدعوى وهو الأخوة، ولا يتصور منه إثبات نسب الأخوة، وهو إيلاد أبيه وولادة أمه، فلهذا قال: لا تقبل. وإن قال المدعي: أنا أدعي عليه ميراثاً أو نفقة أو غير ذلك مما يستحق بالأخوة؛ جعله القاضي خصماً للمدعي، ويسمع بينة المدعى عليه، أما على الأصل الأول فلأن هذه بينة قامت على خصم حاضر، لأن ما يدعيه المدعي من الحق على الحاضر لا يتوصل إلى إثباته إلا بإثبات النسب من الأبوين، فانتصب المدعى عليه الحاضر خصماً

عن الأبوين في إنكار النسب، كمن ادعى في يد إنسان أنه اشتراه من فلان الغائب وأقام عليه البينة؛ قبلت بينته في إثبات الشراء؛ لأنه لا يتوصل إلى إثبات ما يدعيه على الحاضر إلا بإثبات الشراء من الغائب، فانتصب الحاضر خصماً على الغائب في إنكار الشراء.l وكمن ادعى على رجل مالاً بسبب الكفالة من فلان وأقام عليه البينة تقبل بينته في إثبات المال على الغائب؛ لأنه لا يتوصل إلى إثبات ما يدعيه على الحاضر إلا بإثبات المال على الغائب، فانتصب الحاضر خصماً عن الغائب في إنكار المال، فكذا ههنا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب في إنكار السبب ويصير الغائب مقضياً عليه بالقضاء على الحاضر حتى لو حضر بعد ذلك وأنكر أن يكون المدعى عليه أنه لا ينفعه إنكاره. وأما على الأصل الثاني: فلأن المدعى عليه بالأخوة في هذا الوجه يجوز إقراره، فيقبل بينة المدعى عليه بذلك. وإن ادعى رجل على رجل أنه ابنه والأب ينكر، فأقام المدعي بينة على دعواه قبلت بينته؛ ادعى مع ذلك مالاً أو لم يدع؛ لأن هذه بينته قامت على خصم؛ لأنه يدعي عليه فعلاً وهو إيلاده ويحمل نسبه عليه، ولهذا لو أقر المدعى عليه بذلك يصح إقراره. وكذلك لو ادعى رجل أنه أبوه والابن ينكر، فأقام المدعي بينة على دعواه قبلت بينته ادعى مع ذلك مالاً أو لم يدع؛ لأن هذه بينة قامت على خصم؛ لأنه يدعي عليه فعلاً، فإنه يقول: أنا ولدته ويلزمه الانتساب إلى نفسه، فإن الابن ينتسب إلى الأب، ولهذا لو أقر المدعى عليه بذلك جاز إقراره. وكذلك إذا ادعى رجل على امرأة نكاحاً وهي تنكر، أو ادعت امرأة على رجل نكاحاً وهو ينكر، فأقام المدعي بينته على دعواه قبلت بينته؛ لأنها قامت على خصم؛ لأنه يدعي عليه عقداً باشره وتولاه، ولأن الزوج يدعي عليها الملك وهي تدعي على الزوج المهر والنفقة وثبوت حق المطالبة بالجماع، ولهذا لو أقر المدعى عليه بذلك جاز إقراره فتقبل بينة المدعى عليه. ولو ادعى رجل على رجل أنه مولاه من عتاقه، من فوق أو أسفل، أو ادعى أنه مولاه من موالاة، والمدعى عليه يجحد، فأقام المدعي بينة على دعواه قبلت؛ لأنها تدعي عليه فعلاً، فكان خصماً فيه وإن لم تدع عليه مالاً، ولهذا لو أقر المدعى عليه بذلك صح إقراره، ذكر بعد هذا أن إقرار المرأة بالولد جائز، وكذا ذكر في دعوى «الأصل» ، وفي كتاب الفرائض أن إقرار المرأة بالولد باطل؛ لأن النسب للأب فيكون تحميلاً عليه. حكي (232ب4) عن الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزودي أنه كان يقول: ماذكر في الجامع محمول على ما إذا لم يكن لها زوج معروف، فصار إقرارها متصرفاً إلى الزنا، فصار عليها خاصة، وما ذكر في الدعوى والفرائض محمول على ما إذا كان لها زوج معروف، فيكون تحميلاً عليه، وقال: في المسألة روايتان، على رواية «الأصل» إقرارها بالولد صحيح، والبينة عليها بذلك مقبولة على الروايتين جميعاً حتى أن المرأة لو ادعت على

(رجل) أنه ابنها، وأقامت على ذلك بينة قبلت بينتها، وإن لم تدع بذلك مالاً أو حقاً. وكذلك لو ادعى رجل على امرأة أنه ابنها، وأقام على ذلك بينة، وإن لم يدع بذلك مالاً وحقاً، أما على رواية «الجامع» فظاهر، وأما على رواية «الأصل» ، فإنما قبلت البينة عليها، وإن كان لا يجوز إقرارها بذلك؛ لأن في الأخبار أخبرت بخبر الصدق وخبرها علامة، وهي شهادة القابلة؛ لأن سبب النسب منها الولادة، وأنه تحضرها القابلة، فلا تصدق في إخبارها بدون شهادة القابلة، ولا يثبت النسب بقولهما من هذا الوجه، فأما البينة فشرط صحتها الإنكار، ولا يشترط لصحة الإنكار انضمام قول غير المنكر إلى قول المنكر، وإنما يشترط تصور بسبب ما وقع فيه الدعوى والإنكار، وتصور ما وقع فيه الدعوى والإنكار منها ثابت، فقبلت البينة، ولا كذلك المدعى عليه، فلم تقبل عليه البينة، وروى أصحاب «الأمالي» عن أبي يوسف أن البينة عليه في هذه الصورة غير مقبولة؛ لأنه لا يصح إقرارها بالثبوت، فلا تصح البينة عليه بذلك. ولو أن صبياً في يد رجل لا يعبر الصبي عن نفسه، وزعم الرجل الذي في يديه أنه التقطه، وأقامت المرأة حرة الأصل بينة أنه أخوها لأبيه وأمه جعلته أخوها وقضت بينهما، ودفعته إليها؛ لأن هذه بينة قامت على خصم؛ لأنها تدعي على الحاضر وهو الملتقط حقاً لنفسها، وهو حق نقل الصبي إلى حجرها للحضانة والتربية، فإن ذا الرحم المحرم وذات الرحم المحرم أحق بالصبي من الملتقط، ولا يتوصل إلى إثبات هذا الحق إلا بعد إثبات نسبها من أبيه أوأمه، فينتصب الملتقط خصماً عن أبيه وأمه. وكذلك لو كان الذي في يديه يدعي أنه عبده، وباقي المسألة بحاله قضيت بأنه أخوها، وقضيت بعتقه؛ لأنها لا يمكنها الانتزاع من يد الملتقط إلا بعد إثبات نسبها من أبيه وأمه وإثبات حريته، فكان لها إثبات ذلك. قال بعض مشايخنا: وعلى قياس مسألة اللقيط إذا ادعت امرأة على رجل أنه أخوها لأبيها وأمها، وأقامت على ذلك بينة ينبغي أن تقبل بينتها عند محمد؛ لأنها تدعي عليه حق الإنكاح لأن نكاحها لا يجوز إلا به عند محمد، فكان التزويج حقاً مستحقاً لها قبل الولي، فقد ادعت بسبب الإخوة حقاً، فملكت إثباته بالبينة عليه، وعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: المرأة تملك تزويج نفسها من غير ولي، فلم يكن التزويج حقاً مستحقاً لها على الولي، فلم تدع نسب الإخوة حقاً، فلا يملك إثباتها بالبينة. ولو أن رجلاً من العرب ملك وله ابن، فادعى رجل على ابنه أنه كان عبداً لأبيه، وأن أباه أعتقه وأنكر ذلك الابن، فأقام البينة عليه تسمع بينته؛ قال: ولا يشبه هذا النسب يريد بذلك دعوى الأخوة. وكذلك لو مات هذا العبد المعتق وترك ابناً وبنتاً، فادعى الابن العربي أن أباه أعتق أباهما وأنهما مولياه، وأقام عليهما البينة، فإنه تقبل بينته، فقد فرق بين ولاء العتاقة وبين النسب. واختلفت عبارة المشايخ في الفرق، والعبارة الصحيحة فيه ما حكي عن الفقيه أبي بكر البلخي أن الولاء أثر من أثار المال، فإنه أثر ملك اليمين؛ لأنه ثبت بالعتق، ولا

صحة للعتق إلا في ملك اليمين، وكان من آثار ملك اليمين والابن يقوم مقام الأب الميت فيما يدعي على الميت من المال. وإن كان المدعي لا يدعي على الابن مالاً، بأن ادعى ديناً على الأب الميت، وليس في يد الابن شيء من تركة الأب الميت يريد بذلك إثبات الدين على أبيه؛ حتى إذا ظهر له مال يستوفيه، ولا يحتاج إلى إثباته بالبينة تقبل بينته، وإذا كان الابن يقوم مقام الأب الميت فيما يدعي على الأب الميت من أثار المال، وإن كان المدعي لا يدعي قبله مالاً في الحال إذ أثر الشيء قائم مقام ذلك الشيء، ولهذا قلنا: إن من اشترى عبداً، وأعتقه ثم اطلع على عيب به كان له أن يرجع بنقصان العيب، وإن لم يبق ملكه؛ لأنه بقي لهذا الملك أثر، وقام الأثر مقام الملك كذا ههنا. ولما كان الابن قائماً مقام الأب في دعوى الولاء كانت هذه البينة قائمة على غائب عنه خصم حاضر، فقبلت بخلاف دعوى الأخوة؛ لأنه ليس بمال، ولا هو أثر من آثار المال إنما هو من آثار ملك المتعة، والابن لا يقوم مقام الأب في ملك المتعة، فلهذا لا يقوم مقامه فيما هو من آثاره، ولما لم يقم الابن مقام الأب في دعوى الأخوة كانت بينة الأخ قائمة على غائب ليس عنه خصم حاضر فلا تقبل. ثم قال محمد: وكذلك ولاء المولاة، ثم ولاء العتاقة في جميع ما وصفت لك؛ لأنه حكم عقد بولي الأب لاكتساب المال، وإنه لا تنتقض بموته، فأشبه البيع من هذا الوجه، والابن يقوم مقام الأب في حقوق البيع وأحكامه حتى يرد عليه بالعيب وبخيار الرؤية وبخيار الشرط، وإن لم يكن في يده مال، فكذا يقوم مقام الأب في دعوى الولاء عليه بخلاف الأخوة، فإنها لا تثبت بعقد يبقى بعد الموت حتى يلحق بالبيع، فيقام الوارث في دعواها مقام المورث. ثم المرأة إذا ادعت على رجل أنه ابنها، وأقامت على ذلك بينة قبلت بينتها. وكذلك إذا ادعى رجل على امرأة أنها أمه، وأقام على ذلك بينة إنما قبلت بينته، وإن كانت المرأة لو أقرت بذلك لا يصح؛ لأن سبب الأمومية متصوّر منها، وهو الولادة فكانت خصماً للابن فيما ادعى، وإن لم يدع عليها مالاً. ولو ادعت امرأة على رجل أنه ابن أمها، فهذا وما لو ادعت الأخوة سواء؛ لأنها تحمل النسب على غيرها، فإنه ما لم يثبت نسبه من أبيها لا يثبت منها، فكان كدعوى الأخوة، فإن ادعت مع ذلك حقاً مستحقاً قبلت البينة وما لا فلا. قال في «الجامع» : رجل مات وترك موالي ثلاثة أعتقوه وترك داراً، فأقام مواليه البينة أنهم عصبته وورثته ومواليه الذين أعتقوه لا وارث له غيرهم، وقضى القاضي بالدار بينهم أثلاثاً، ثم مات واحد من الموالي، وأقام رجل بينة أنه أخوه لأبيه وأمه لا وارث له غيره يعني أخ الميت الثاني، وقضى القاضي له بنصيبه ودفعه إليه غير مقسوم، فباع الأخ ذلك من رجل وسلمه إلى المشتري، ثم إن المشتري أودع ما اشترى من رجل وغاب المشتري، فجاء رجل وأقام بينة بحضرة أخ الميت الآخر أنه ابن الميت الآخر ووارثه لا

وارث له غيره، وصدقه في ذلك الشريكان في الدار، فالقاضي يقضي بنسب الابن في حق إثبات النسب قامت على خصم جاحد وهو الأخ، فيقضي القاضي ببينته في حق النسب لهذا. فإن قيل: كيف يقضي القاضي ببينته وإن الابن لا يدعي حقاً على الأخ؛ لأن نصيب الميت ليس في يد الأخ، ودعوى النسب إذا خلا عن دعوى المال لا تصح، فلا تسمع البينة عليه قلنا: من وجهين: أحدهما: أن دعوى الحق إنما تشترط لصحة دعوى النسب فيما عدا الوالد والولد نحو الأخ والعم وأشباه ذلك أما في حق الوالد، والولد دعوى الحق ليس بشرط الصحة دعوى النسب، ألا ترى أن في حالة الحياة تصح الدعوى من الوالد والولد، وإن لم يكن مع ذلك دعوى الحق، وقد مر هذا كذا ههنا. الثاني: أن سلمنا أن دعوى الحق مع دعوى النسب شرط في الوالد والولد أيضاً إلا أنه وجد دعوى الحق ههنا من الابن. وبيان ذلك من وجوه: أحدها: أن الابن يقول لأخ الميت ثلث الدار ملكي، وأنت بعته بغير أمري، ولي أن أجيز البيع وآخذ منك الثمن. والثاني: أنه ادعى الميراث مع دعوى النسب إلا أن القاضي لم يقض له بالميراث في الحال لعدم الخصم وهذا لا يمنع القضاء بالنسب. وهذا نظير ما لو ادعى رجل عند القاضي أنه وكيل فلان بإثبات حقوقه على الناس، وله على الناس حقوق، وأنا أريد إثباتها بحكم الوكالة، وأقام البينة على الوكالة، فإن القاضي يقضي بوكالته، وإن كان لا يقضي بالحقوق في الحال. الثالث: أنه يدعي حقاً، والثاني بأن يحضر المشتري ... للمشتري هذا من أخ هذا الميت، وإنه مما ورثه عن الميت إذا أقر المشتري لهذا والابن يستحق ذلك والسبب كما يعتبر إذا أفاد حكمه في الحال أفاد حكمه في الثاني كبيع الفضولي والبيع بشرط الخيار (233أ4) . وأقرب من هذا رجل مات وله دين مؤجل على رجل، جاء رجل وأقام بينته على المديون أنه ابن الميت تسمع دعواه وتقبل بينته، وإن كان دعواه لا يفيد له شيئاً في الحال كذا ههنا. وإذا قضى القاضي بنسب الابن هل يقضي للابن بالثلث الذي كان قضى به للأخ من تركة الميت الآخر؟ ينظر إن كان القاضي الذي وقع عنده دعوى الابن هو القاضي الذي قضى للأخ بنصيب الميت قضى للابن بذلك؛ لأنه علم بخطابه في قضائه؛ لأنه قضى للأخ بالميراث مع وجود الابن، وعلم بكون المشتري غاصباً وبكون المدعي مودع الغاصب، ولا يكون هذا منه قضاء على الغائب، وهو المشتري؛ لأنه علم أن الملك لم

يثبت للمشتري حيث اشترى من غير المالك. وإن كان القاضي الذي وقع عنده خصومة الابن غير القاضي الذي قضى للأخ بنصيب الميت لا يقضي للابن؛ لأن القاضي الثاني لا يعلم أن المشتري غاصب، وأن المودع غاصب الغاصب؛ لأنه لا يعلم أن الأخ البائع بأي سبب ملك، وأنه لا يعلم أن القاضي قضى للأخ بنصيب الميت بالأخوة، فلو قضى للابن نصيب الميت كان هذا قضاء على الغائب من غير خصم؛ لأن المودع لا ينتصب خصماً فيما يستحق على المودع. وتأويل هذه المسألة: أن القاضي الثاني عرف كون المودع مودعاً بالمعاينة بأن كان إيداع المشتري منه بمعاينة القاضي الثاني أو ببينة أقامها المودع، أما إذا لم يعرف القاضي الثاني كونه مودعاً، فالقاضي يقضي للابن بنصيب الأخ؛ لأن صاحب اليد ينتصب خصماً بظاهر يده ما لم يثبت كونه مودعاً، ثم إذا لم يقض القاضي للابن بنصيب الأخ لا يدخل الابن في نصيب الشريكين المصدقين؛ لأن القضاء للأخ انصرف إلى نصيب الميت خاصة، فلم يصيرا مقرين للابن بشيء مما في أيديهما، فإن حضر المشتري بعد ذلك أخذ القاضي الثاني نصيب الميت من المشتري ودفعها إلى الابن. هكذا ذكر محمد في «الكتاب» قالوا: تأويل هذا إذا أعاد الابن البينة على المشتري أو يقر المشتري أنه اشترى هذا من أخ الميت، وأن الأخ كان ورثه من الميت، أما بدون ذلك لا يقضي القاضي بنصيب الميت؛ لأن بينة الابن في حق المال قامت لا على خصم، فصار وجوده والعدم بمنزلة. نوع آخر في دعوى الرجل النسب على غيره، وإحالة ذلك نسبه على شخص آخر في «المنتقى» : رجل زمن ادعى على رجل أنه أبوه، وللزمن له عليه النفقة، وأنكر ذلك الرجل، فأقام الزمن بينة أنه أبوه، وأقام المدعى عليه بينة على رجل آخر أنه أب الزمن، وذلك الرجل ينكر، والزمن ينكر، قال: البينة بينة الزمن، ويثبت نسبه من الذي أقام عليه البينة بالنسب، وتفرض له عليه النفقة، ولا يلتفت إلى البينة الأخرى. ذكر ثمة سؤالاً فقال: كيف لم يجعله ابن الرجلين ثم أجاب، فقال: لا يجوز ذلك، ألا ترى أن رجلين لو ادعيا رجلاً كل واحد منهما يزعم أنه ابنه، وقد يولد مثله لمثلهما، فأقام كل واحد منهما بينة على ذلك، وادعى شهادة إحدى البينتين كانت أولى أن يثبت نسبه منه وحده؛ لأن الحق ههنا حق الابن، وهو الذي ينسب إلى الاب وليس الأب ينسب إلى الابن، فإذا كان الأبوان استوى حالهما في الدعوى كانت البينة التي يدعيها الابن أولى أن يؤخذ بها، فكذا إذا استوت حالهما في الجحود، وادعى الوالد إحدى البينتين؛ فهو أولى أن يؤخذ بها. ألا ترى أيضاً لو ادعى الغلام على أحدهما أنه أبوه وهو يجحد، والآخر يدعي أن الغلام ابنه والغلام يجحد، وأقاما البينة بينة الغلام، فإذا كانت بينة الغلام في هذا أولى

أحرى أن يكون أولى، وإن كان الابن محتاجاً والغلام موسر، وادعى أنه ابنه ليثبت نسبه منه ويفرض له عليه النفقة، وأقام على ذلك بينة وجحد الغلام ذلك، وأقام بينة أنه ابن فلان سمى رجلاً آخر فأحضره أو لم يحضره وفلان يجحد، فالبينة بينة الأب، ويقضي له على الغلام بالنفقة، وتبطل بينة الغلام على الآخر. قال ثمة: ولست أقضي بنسب رجل من رجلين إلا أن يستوي في حالهما في الدعوى والبينة، وفي كل شيء حتى لا أجد سبيلاً إلى أن أقضي لأحدهما دون الآخر، وأما إذا كان أحدهما أولى بالدعوى من الآخر بأن يستحق بالنسب شيئاً لا يستحقه الآخر كان أولى بالنسب. وفي «المنتقى» أيضاً: لو أن غلامين توأمين مات أحدهما وترك مالاً والآخر فقير محتاج؛ فجاء رجل وادعى أنه أبوهما ليأخذ الميراث، وأقام على ذلك بينة ليأخذ الميراث، وادعى الزمن على رجل آخر أنه أبوهما، وأراد أن يقضي القاضي له عليه بالنفقة؛ وأقام على ذلك بينة وغاب البينتان معاً، فالقاضي يقضي بنسب الغلامين من الأبوين؛ ويفرض نفقة الزمن عليهما جميعاً؛ لأن كل واحد منهما يدعي بالنسب حقاً على غيره فاستوى حالهما في الدعوى. وفي «المنتقى» أيضاً: امرأة خاصمت عمها إلى القاضي وطلبت من القاضي أن يفرض لها النفقة على العم، وهي محتاجة، فقال العم: إن لها أخاً موسراً فهو أولى بالنفقة عليها مني، وأنكرت المرأة ذلك، فإن القاضي يبرأ العم من النفقة ويقول لها: إن شئت فرضت لك النفقة على الأخ قال ثمة: ولا يشبه هذا الأبوين، ثم قال: ألا ترى أني أقبل بينة العم بعدما ثبت نسبه أن لها أخاً، ولا أقبل البينة بعدما ثبت نسب أحد الأبوين بأن الآخر أبوه. وفي بعض الفتاوى: مجهول النسب إذا ادعى على رجل أني ابنك؛ وصدقه المدعى عليه يثبت النسب منه، وإن كذبه في دعواه وأقام بينة أنه ابنه يثبت النسب منه؛ وما لا فلا، وقد مرت المسألة من قبل، فإن أقام المدعى عليه بينة بعد ذلك أن هذا المدعي ابن فلان آخر تبطل بينة الابن، ولكن لا يقضى ببينة ابن فلان الآخر، لأن المدعى عليه ليس بخصم عنه في إثبات النسب منه. هكذا ذكروا وقد ذكرنا عن «المنتقى» مسألة الزمن؛ إذا ادعى على رجل أنك أبي؛ وأقام عليه البينة، وأقام المدعى عليه البينة أنه ابن فلان الآخر أن البينة بينة الابن؛ لا يلتفت إلى البينة الأخرى، فما ذكر في بعض الفتاوى يخالف ما ذكر في «المنتقى» . إذا قال في دعوى البنوة: هذا ابني، ولم يقل: ولد على فراشي، فهذا دعوى صحيحة، وإذا أقام البينة تسمع بينته، وقضي ببنوته، وإذا قال: هذا الولد ليس مني، صح قوله الثاني، وحكم بثبوت النسب منه، وإذا ادعى أنه ابن عم فلان فلا بد فيه من ذكر الجد، وإذا ادعى أنه أخ فلان لا يشترط فيه ذكر الجد، هكذا حكي عن القاضي الإمام شمس الأئمة محمود الأوزجندي.

وفي «نوادر ابن سماعة» : عن أبي يوسف رحمه الله في ولد الملاعنة، إذا ادعاه رجل ابنه لا يثبت نسبه منه، قال: لأنه ولد على فراش الزوج. وفي «المنتقى» : إذا شهد الشهود لرجل أن زيداً أقر أن هذا المدعي أخوه أو أخته، أو ابن أخته، أو مولاه، فليس هذا بشيء حتى يثبتوا، وهذا بخلاف ما لو شهدوا أنه أقر أنه ابن خاله، أو ابن عمه، لأن الغالب في هذا النسب، ويورث منه. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: صبي في يدي رجل لا يعرف نسبه ادعى رجل آخر أنه ابنه؛ قال: إن صدقه الذي الصبي في يديه يثبت نسبه منه، وإن كذبه لا يثبت نسبه منه، والمراد من المسألة الصغير الذي لا يعبر؛ لأنه إذا كان يعبر عن نفسه كانت العبرة لتصديقه وتكذيبه، لا لتصديق من في يده وتكذيبه. قال محمد رحمه الله في «الأصل» : غلام احتلم ادعى على رجل وامرأة أنهما أبواه وأقام على ذلك بينة، وأقام رجل آخر وامرأته بينة أن هذا الغلام ابنهما، فإن البينة بينة الغلام ويقضى بنسب الغلام من اللذين ادعاهما الغلام؛ لأن البينات استويا في إثبات النسب، فإن كل بينة تثبت النسب بفراش النكاح، وترجح بينة الغلام من حيث إن الغلام ببينته يثبت حق نفسه، واللذين أنكرهما الغلام بنسبهما يثبتان حق غيرهما، وهو الغلام؛ لأن معظم المنفعة في النسب للولد لا للوالدين، لأن الولد يُعَيَّر إذا لم يكن (233ب4) له والد معروف، وأما الوالد لا يعير إذا لم يكن له ولد وبينة من يثبت الحق لنفسه أولى بالقبول، لأنه أشبه بالمدعيين، ولأن النسب بمعنى النتاج؛ وفي النتاج بينة ذي اليد أولى؛ والغلام ذو اليد لأنه في يد نفسه. قال: وكذلك غلام نصراني قد احتلم أقام شاهدين مسلمين على رجل وامرأته من النصارى أنه ابنهما، فأقام رجل مسلم وامرأة مسلمة شاهدين من النصارى على هذا الغلام أنه ابنهما؛ قضيت ببينة الغلام ويثبت نسبه من اللذين ادعاهما الغلام، لأن ما أقام الغلام من البينة حجة على المسلمين، وما أقام المسلمان حجة على الغلام، فاستوت البينتان من هذا الوجه، وترجحت بينة الغلام من الوجهين اللذين ذكراهما، ولو كان بينة الغلام نصرانيان ثبت نسبه من المسلمين؛ لأن ما أقام الغلام من البينة ليست حجة على المسلمين، فكأن الغلام لم يقم بينة، ولو لم يقم الغلام بينة يقضى ببينته من المسلمين نسبهما؛ لأنهما بينتان حقاً لأنفسهما، وهذا لأن معظم المنفعة في النسب، وإن كان الغلام وللوالدين فيه حق أيضاً، فإنهما يستحقان عليه حقوقاً مالية؛ فتقبل بينتهما إذا لم يكن للغلام ما هو حجة في حقهما. وإذا قضى بنسب الغلام من المسلمين يجبر الغلام على الإسلام إن كان الأبوان مسلمين في الأصل، أو كانا كافرين في الأصل؛ إلا أنهما أسلما والغلام صغير؛ لأن الصغير يصير مسلماً بإسلام الأبوين، فإذا بلغ كافراً يجبر على الإسلام، لكن لا يقتل إن أبى الإسلام، والمسألة معروفة في السير.

نوع آخر في دعوى الرجل نسب الغلام وإنه ينقسم أقساماً: قسم في دعوى الخارج مع ذي اليد، وقسم في دعوى الخارجين، وقسم في دعوى صاحب اليد. أما القسم الأول في دعوى الخارج مع ذي اليد: قال محمد في «الأصل» : لو أن حراً مسلماً في يديه غلام يدعي أنه ابنه؛ جاء مسلم حر أو ذمي أو عبد، وأقام بينة أنه ابنه، ولا بينة لصاحب اليد قضي بنسبه من المدعي؛ لأن البينة لا تعارضها اليد، ولا قول ذي اليد.u بعد هذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: ويكون الولد حراً في ذلك كله، قال: وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا كان المدعي حراً، ويشكل فيما إذا كان المدعي عبداً؛ لأن ماء العبد رقيق ما لم يثبت اتصاله برحم الحرة، وإذا لم يسم أمته لم يثبت اتصاله برحم الحرة، ثم أجاب فقال: حرية الولد قد ثبتت ظاهراً حين ادعى صاحب العبد نسبه، وهو حر وبما أقام العبد من البينة لم تبطل تلك الحرية؛ لأنهم لم يسموا أمتهم يجوز أن تكون أمته حرة حتى لو أقام العبد بينة أن هذا ابنه من امرأته هذه، وامرأته أمة يبطل ما ثبت للولد من الحرية بإقرار ذي اليد. وذكر شمس الأئمة الحلواني: ويكون الصبي حراً إلا في العبد خاصة، فإنه إذا ثبت نسبه من العبد يكون مملوكاً وهو الأشبه. قال: وإذا كان الصبي في يدي رجل يدعي أنه ابنه ويقيم على ذلك بينة، ورجل آخر يقيم بينة أنه ابنه قضي لصاحب اليد؛ لأن النسب في معنى النتاج، وفي النتاج بينة ذي اليد أولى فكذا في النسب. ولو أقام صاحب اليد بينة أنه من امرأته هذه؛ وأقام رجل آخر بينة أنه ابنه من امرأته هذه قضي للذي في يديه؛ لأنهما استويا في اليد على الأم، ولأحدهما يد على الولد قد ترجح من له يد على الولد؛ كما في دعوى النتاج، ثم أجعله ابن الرجل والمرأة الذي هو في أيديهما، سواء ادعى الأب وجحدت المرأة، أو ادعت المرأة وجحد الابن يريد به إذا ادعى الرجل الذي في يديه الصبي أنه ابنه من امرأته هذه والمرأة تجحد، وادعت المرأة الصبي في يدها أنه ابنها من زوجها هذا والزوج يجحد. وهذا بناء على أن الأب ينتصب خصماً عن ابنه في إثبات نسبه من الأم؛ لأن النسب حق الولد، والأب ينتصب خصماً عن ابنه في إثبات حقوقه، فصار إقامة البينة من الأب كإقامة البينة من الابن لو كان بالغاً، ولو كان بالغاً وأقام البينة على الأم أنه ابنها ثبت نسبه منها كذا ههنا. وكذلك الأم تنتصب خصماً عن الابن في إثبات النسب من الأب؛ لأن النسب محض منفعة في حق الصغير، فالأم والأب في ذلك على السواء، ألا ترى أنه كما يصح قبول الهبة من الأب على ابنه الصغير يصح قبولها من الأم على الصغير، وإنما التفاوت بين الأم والأب في الحقوق المترددة بين الضرر والنفع، والأب ينتصب خصماً عن الصغير في ذلك والأم لا تنتصب، وإذا انتصبت الأم خصماً عن الصغير في إثبات نسبه من الأب صار إقامة الأم البينة على ذلك كإقامة الابن لو كان

بالغاً، وكان الابن بالغاً، وإقامة البينة أنه ابن هذا الرجل، أليس أنه يثبت نسبه منه كذا ههنا. عبد تحته أمة وفي أيديهما صبي جاء رجل آخر تحته حرة؛ وادعى أن هذا الصبي ابنه من هذه المرأة وأقام على ذلك بينة؛ وادعى العبد أنه ابنه من امرأته هذه وأقام على ذلك بينة يقضى به للحر، ولم يعتبر اليد الثانية للعبد ترجيحاً إذا كان الخارج حراً، وهذا لأن اليد إنما تعتبر للترجيح إذا استوت البينتان في الإثبات ولا استواء ههنا؛ لأن بينة الحر تثبت النسب بجميع أحكامه وبينة العبد لا تثبت النسب بجميع أحكامه. وإذا كان الصبي في يدي رجل أقام رجل بينة أنه ابنه من امرأته هذه وهما حران وأقام رجل آخر بينة أنه ابنه وهو حر أيضاً إلا أنه لم ينسبه إلى أمه، فإنه يقضي بالولد للمدعي؛ لأن بينته أكثر إثباتاً؛ لأنها تثبت النسب من الأب والأم جميعاً، وبينة صاحب اليد لا تثبت النسب من الابن إذا لم يسم الأم، فما استوت البينتان في الإثبات لتعيين اليد ترجيحاً. صبي في يدي رجل من أصل الذمة يدعي أنه ابنه، جاء مسلم وأقام بينة من المسلمين أو من أهل الذمة أنه ابنه، وأقام الذي في يديه بينة من أهل الذمة أنه ابنه قضي للخارج؛ لأن ما أقام الذمي من البينة ليست بحجة في حق المسلم، فصار في حق المسلم كأن الذمي لم يقم البينة. لو أقام الذمي بينة من المسلمين، وباقي المسألة بحاله قضي للذمي بحكم يده عند الاستواء في الحجة. نوع آخر يتصل بهذا القسم وهو دعوى الخارج مع ذي اليد نسب الأمة مع دعوى ملك الأمة قال محمد رحمه الله: وإذا ولدت أمة في يدي رجل، أقام رجل آخر بينة أن هذه الأمة أمته ولدت هذا الولد منه في ملكه وعلى فراشه، وأقام ذو اليد بينة أن هذه الأمة أمته ولدت هذا الولد منه في ملكه وعلى فراشه؛ والغلام صغير لا يتكلم أو قد احتلم إلا أنه يدعي أنه ابن صاحب اليد؛ فالقاضي يقضي بالغلام لذي اليد؛ لما ذكرنا أن بينة ذي اليد في دعوى النسب مرجحة حسب ترجحها في دعوى النتاج ويقضى بالأمة لذي اليد، وإن كان المدعي خارجاً؛ لأنهما تصادقا على أن حق العتق للأم بسبب ثبات نسب هذا الولد؛ لأن حق الأم إنما يثبت تبعاً لثبوت حق الولد، فكل من ثبت نسب الولد منه يثبت حق العتق للأم من جهته باتفاق الخصمين، وباتفاق البينتين، وقد ثبت نسب الولد ههنا من ذي اليد، فيثبت حق العتق للأم من جهته، وإنما يثبت حق العتق للأم من جهة ذي اليد إذا قضيا بالجارية لذي اليد. وإن كان الغلام يدعي أنه ابن الخارج؛ يقضى بالغلام للخارج ويقضي بالأمة له أيضاً، أما القضاء بالغلام للخارج؛ لأن الغلام لما ادعى أنه ابن الخارج صار بينة الخارج بينة الغلام، وصار كأن الغلام أقام البينة بنفسه، وهناك يقضى ببينة الغلام كذا ههنا، وأما القضاء بالأمة له فلما ذكرنا من العلة في الفصل الأول من جانب ذي اليد.

ومما يتصل بهذا القسم: دعوى الخارج مع ذي اليد نسب ولد الحرة، قال محمد رحمه الله: حرة لها ابن وهما في يدي رجل؛ أقام رجل آخر البينة أنه تزوجها وأنها ولدت منه هذا الولد على فراشه؛ وأقام ذو اليد بينة على مثل ذلك، فإنه يقضى بالولد لذي اليد، سواء ادعى الغلام أنه ابن ذي اليد، أو ادعى أنه ابن الخارج، إن ادعى أنه ابن ذي اليد فظاهر، وإن ادعى أنه ابن الخارج فلان قضيا بالنكاح لذي اليد؛ لأنهما ادعيا تلقي الملك في بضعها من جهة واحدة ولأحدهما (234أ4) يد، فيقضى لذي اليد كما في دعوى الشراء، وإذا ثبت القضاء بالنكاح لذي اليد لم يمكن القضاء بالنكاح للخارج، وما لم يثبت النكاح في المرأة للخارج لا يمكن إثبات نسب الولد منه. ولو كان الذي هما في يديه من أهل الذمة وشهوده مسلمون، والذي يدعي مسلم وشهوده مسلمون، والمرأة من أهل الذمة قضيت بالمرأة والولد للذي هما في يديه، لأن بينة كل واحد منهما حجة على صاحبه، وفي دعوى النكاح والنسب بينة ذي اليد أولى فيقضى بالولد والمرأة لذي اليد. وإن كانت المرأة مسلمة في هذه الصورة يقضى بالمرأة والولد للمدعي سواء كان شهود ذي اليد مسلمين أو كانوا من أهل الذمة، أما إذا كانوا من أهل الذمة فظاهر، لأن شهود أهل الذمة ليست بحجة على المدعي، فكأن ذي اليد لم يقم البينة فيقضى للخارج ببينته، وإن كان شهود ذي اليد من أهل الإسلام فلأن ذي اليد يدعي نكاحاً فاسداً؛ لأن نكاح الذمي على المسلم نكاح فاسد، وبينة ذي اليد في دعوى النكاح إنما تترجح إذا ادعى ذو اليد نكاحاً صحيحاً. وإن ادعى المدعي أنه تزوجها في وقت كذا؛ وأقام على ذلك بينة، وأقام ذو اليد على وقت دونه؛ فإنه يقضى بها للخارج؛ لأنهما ادعيا تلقي الملك من جهة ثالث، وأرخا وتاريخ أحدهما أسبق، فيقضي لأسبقهما تاريخاً كما في دعوى النتاج. ومما يتصل بهذا القسم في دعوى ذي اليد نسب الولد من نكاح أمة ودعوى الخارج نسب الولد مع ملك أمة. ولو أقام ذو اليد بينة أنها امرأته تزوجها وولدت هذا الولد منه على فراشه، وأقام آخر بينة أنها أمته ولدت هذا الغلام في ملكه على فراشه، فإنه يقضى بالولد للزوج، وبملك الأمة للمدعي أما القضاء بالولد للزوج؛ لأن الزوج أثبت نسب الولد بفراش النكاح، والمدعي أثبت فراشه بملك اليمين وأما القضاء بالأمة للمدعي؛ لأن المدعي يدعي ملكها، والزوج لا يدعي ملكها إنما يدعي النكاح فيها، ويجوز أن تكون أمة الإنسان منكوحة الغير، فلا تنافي بين الدعوتين فيقضى بالأمة للمدعي؛ لهذا كان الولد مع الأمة مملوكين له، لأن الولد يتبع الأم في الملك، إلا أن الولد يعتق بإقرار المدعي؛ وتصير الجارية أم ولد له بإقراره أيضاً، قال: إلا أن يشهد شهود المدعي أنها غرته من نفسها، بأن زوجت نفسها على أنها حرة فحينئذٍ يكون الولد حراً بالقيمة. قال: أمة وولدها في يدي رجل، أقام رجل بينة أنها أمة أبيه؛ فولدت هذا الولد

على فراش أبيه في ملكه وأبوه ميت، وأقام ذو اليد بينة أن هذه أمته ولدت هذا الولد على فراشه في ملكه، قضيت بالولد للميت الذي ليست في يديه؛ لأنهما استويا في إثبات النسب بفراش ملك اليمين، وترجحت بينة الميت بإثبات حقيقة العتق للجارية في الحال. والقسم الثاني في دعوى الخارجين نسب الولد: قال محمد رحمه الله: صبي في يدي رجل جاء رجلان وادعى كل واحد منهما أنه ابنه وأقاما على ذلك بينة، قضي بنسبه منهما، وإن وقت إحدى البينتين وقتاً قبل الآخر، ينظران إلى سن الصبي، فإن كان موافقاً لأحد الوقتين مخالفاً للوقت الآخر يقضى للذي كان في وقته موافقاً لسن الصبي، وإن كان مخالفاً لأحد الوقتين يتعين، مشكلاً للوقت الآخر يقضى للكل؛ لأنه لم يتيقن بكذبه وتيقن بكذب الآخر. وإن كان مشكلاً للوقتين نحو أن شهد أحد الفريقين أنه ابن تسع سنين، وشهد الفريق الآخر أنه ابن عشر سنين، وهو يصلح ابن تسع سنين وابن عشر سنين، فعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: يسقط اعتبار التاريخ؛ ويقضى بينهما باتفاق الروايات. وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله: ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» أنه يقضى بينهما في رواية أبي حفص ولا يعتبر التاريخ، وعلى رواية أبي سليمان: يقضى بأسبقهما تاريخاً؛ فعلى هذه الرواية اعتبر التاريخ، وذكر شمس الأئمة الحلواني في «شرحه» ؛ وأما على قول أبي حنيفة رحمه الله ذكر في عامة الروايات أنه يقضي بينهما؛ وذكر في بعض الروايات أنه يقضي لأسبقهما تاريخاً. قال رحمه الله: والصحيح ما ذكر في عامة الروايات واتفقت الروايات عن أبي حنيفة أنه لا عبرة للتاريخ في باب النتاج، حتى أن الرجلين إذا ادعيا نتاج دابة في يد آخر وأقاما البينة وأرخا، وكان سن الدابة مشكلاً يقضي بينهما، وإذاً على ما ذكر في رواية أبي حفص كما ذكره شيخ الإسلام، وعلى عامة الروايات كما ذكره شمس الأئمة: لا فرق بين دعوى النتاج والنسب، والتاريخ ساقط الاعتبار عند أبي حنيفة فيهما؛ كما هو مذهبهما على ما ذكر في رواية أبي سليمان كما ذكره شيخ الإسلام. وعلى بعض الروايات كما ذكره شمس الأئمة فرق أبو حنيفة رحمه الله بين النتاج وبين النسب؛ فاعتبر التاريخ في النسب، وأسقط التاريخ في النتاج؛ وهما سواء بين النسب والنتاج، وأسقط التاريخ فيهما، والقياس معهما؛ لأن النسب بمعنى النتاج من حيث إنه يثبت ابتداءً للوالد على الولد لا من جهة أحد بسبب لا يثنى ولا يكرر، فسقوط اعتبار التاريخ في النتاج يكون سقوطاً في النسب؛ وأبو حنيفة يقول: إنما سقط اعتبار التاريخ في النتاج؛ لأن بزيادة التاريخ لا يثبت لصاحب الزيادة زيادة استحقاق؛ لأن النسب يوجب حقوقاً فيما بين الوالد وولده، فأسبقهما تاريخاً بزيادة التاريخ تثبت زيادة استحقاق؛ فكان بينته أولى، ألا ترى أن في دعوى الشراء من ثالث اعتبرنا سبق التاريخ وطريقه ما قلنا. صبي في يدي رجل يدعي نسبه خارجان أحدهما مسلم والآخر ذمي، وأقام كل

واحد منهما بينة من المسلمين أنه ابنه قضي بالنسب من المسلم، ويرجح المسلم على الذمي بحكم الإسلام؛ وفي هذه المسألة تعذر الترجيح بحكم اليد؛ لأنهما خارجان فرجحنا بحكم الإسلام، وفيما إذا كان الصبي في يدي ذمي يدعي أنه ابنه ويقيم بينة من المسلمين، أو من أهل الذمة يقضى للذمي؛ لأن هناك الترجيح بحكم اليد ممكن؛ فرجحنا اليد عند الاستواء في الحجة. صبي في يدي رجل ادعاه ذمي أنه ابنه ولد على فراشه، وأقام على ذلك بينة شاهدين مسلمين؛ وادعى أنه ابنه ولد على فراشه من هذه الأمة قضي للذمي، ولم يترجح العبد بحكم إسلامه وإن كانا خارجين كما فيما تقدم؛ لأن الترجيح بحكم الإسلام إنما يكون بعد الاستواء للبينتين في الإثبات، وبينة الذمي أكثر إثباتاً؛ لأنها تثبت النسب في جميع أحكامه. ولو ادعى يهودي ونصراني ومجوسي كل واحد يدعي أنه ابنه ولد على فراشه يقضى لليهودي والنصراني بينهما؛ ولا يقضى للمجوسي؛ لأن بينة المجوسي لا تعارض بينهما؛ لأن بينتهما تثبت بعض أحكام الإسلام، وهو حل المناكحة، وحل الذبيحة واليهودي لاستوائهما في الإثبات. صبي في يدي رجل ادعاه حر مسلم أنه ابنه من هذه المرأة الأمة؛ وادعاه عبد أو مكاتب أنه ابنه من هذه المرأة، قضي للحر؛ لأن بينته أكثر إثباتاً؛ لأنها تثبت النسب بجميع أحكامه. ولو ادعاه عبد أنه ابنه ولد من هذه الأمة، وادعاه مكاتب أنه ابنه ولد من هذه المكاتبة قضي للمكاتب؛ لأن بينته أكثر إثباتاً؛ لأنها لا توجب حرية الولد، هذا إذا كان مدعي النسب اثنين، ولو كان مدعي النسب ثلاثة أو أكثر فعلى قول أبي حنيفة: يثبت النسب من الكل، وعلى قول أبي يوسف: إن كانوا أكثر من اثنين لا يثبت النسب، وعلى قول محمد: يثبت النسب من ثلاثة؛ ولا يثبت من أكثر من ثلاثة، وإذا كان المدعي امرأتين أو ثلاثة وعلى قول أبي حنيفة يثبت النسب من كل واحدة منهما، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يثبت النسب من وجوه منهما، وقد مرت المسألة في كتاب اللقيط. القسم الثالث: وهو دعوى صاحبي اليد الولد: صبي في يدي رجل وامرأته؛ قال الرجل: هذا ابني من امرأة أخرى، وقالت المرأة: هذا ابني من زوج آخر كان لي قبلك، فهو ابنهما؛ ولا يصدق كل واحد منهما فيما يدعي من الإخراج من يد صاحبه، وهذا (234ب4) لأن كل واحد منهما أقر بثبوت نسب الولد؛ وادعى ما يخرجه من يد صاحبه، ويدهما ثابتة في الولد على السواء، فصح إقرارهما بثبوت نسب الولد، ولم تصح دعواهما الإخراج من يد صاحبه. وإن كان الولد في يد الزوج فقال: هذا ابني من امرأة أخرى، وقالت المرأة: هذا ابني منك؛ فالقول قول الزوج. وإن كان الولد في يدي المرأة فقالت المرأة: هذا ابني من الزوج كان لي قبلك،

وقال الزوج: هذا ابني منك ولدته في ملكي، فالقول قول الزوج أيضاً؛ وكان ينبغي أن القول قولها في هذه الصورة؛ لأن الولد في يدها، ألا ترى أنا جعلنا القول قول الزوج في المسألة الأولى؛ لأن الولد في يده. واختلفت عبارة المشايخ في الفرق بين المسألتين، فعبارة بعضهم: أن الولد إن كان في يدها حقيقة فهو في يد الزوج حكماً؛ فلا تصدق المرأة في دعواها، كما لو كان في يد الزوج حقيقة، أما في يد الزوج حقيقة لا يعتبر في يد المرأة حكماً، لأن المرأة ليست بقوامة عليها بحكم النكاح، فكان الولد في يد الزوج حقيقة وحكماً. وكذلك إذا اختلف الزوجان في متاع البيت لا يجعل القول قول الزوج فيما في يد المرأة، ولا يجعل ما في يد المرأة في يد الزوج حكماً؛ مع هذا لا يقبل قول المرأة في الولد وإن كان في يدها؛ لأن المرأة بما تقول تريد قطع النسب من هذا الزوج مقصوداً؛ لأن الأنساب للآباء، وهذا الولد ثابت النسب من هذا الزوج ظاهراً لقيام الفراش بينهما، فهو معنى قولنا: إنها تريد قطع النسب من الزوج مقصوداً، ومجرد اليد لا تصلح لذلك، ألا ترى أن اليد مع الملك لا تصلح لذلك حتى لو كان لها عبد، وهو معروف النسب من غيره؛ إذا قالت: هذا ولد فلان الآخر لا تصدق على ذلك، فأما إذا كان الولد في يدي الزوج فالزوج يقول: هذا ابني من امرأة أخرى لا يقطع نسباً ثبت منها مقصوداً؛ لأن الأنساب للآباء لا للأمهات، وليس يخرجها من يده؛ لأنه لا بد لها، فكان مصدقاً فيما ادعى، وأما إذا كان في أيديهما، فالزوج إنما لا يصدق وإن كان لا يقطع نسبها مقصوداً من جانبها؛ لأنه يريد إخراج الولد من يدها، ويدها على الولد ثابت ظاهراً، فلا يصدق في دعوى الإخراج. وبعضهم قالوا: قيام الفراش بينه وبينها لا يمنع فراشاً له على غيرها؛ إما بنكاح ملك يمين، فإذا كان الولد في يد الزوج كان بيان سببه إليه أنه على فراش حصل له، وأما ثبوت الفراش له عليها ينافي فراشاً آخر عليها لغيره، فكان هذا الفراش في حقها متعيناً؛ وباعتباره يثبت النسب من الزوج. وفي «المنتقى» : إبراهيم عن محمد امرأة قالت لزوجها: هذا ولدي منك وهو في يدها، وشهدت امرأة على ولادتها وكذبها الزوج؛ لزم الزوج إذا لزمها لزمه، ولو كان الزوج يدعي ذلك وكذبته المرأة، فأقام الزوج امرأة على الولادة لم يصدق الزوج، وإنما يعتبر قول المرأة الشاهدة إذا ادعت. وفيه أيضاً ابن سماعة عن محمد: صبي في يدي رجل وامرأة؛ قالت المرأة: هذا ابني من هذا الرجل، وقال الرجل: هذا ابني من امرأة أخرى غيرها، فإنه يكون ابن الرجل، ولا يكون ابن المرأة، فإن جاءت المرأة بامرأة وشهدت على ولادتها إياه كان ابنها منه، وكانت زوجته بهذه الشهادة؛ لأني جعلته ابنهما، وإن كان الولد في يدي الرجل دون المرأة، والمرأة امرأته، فادعى الرجل أنه ولده من غيرها، وادعت المرأة أنه ابنها منه، ويكون ابنه من قبل أنه في يده.

نوع آخر في دعوى المرأة نسب الولد صبي في يدي رجل، جاءت امرأة وادعت أنه ابنها وأقامت على ذلك شاهدين؛ قضي لها بالولد، وإن لم تقم إلا امرأة، فإن كان صاحب اليد يدعيه لنفسه لا يقضى للمرأة المدعية. قيل: هذا قول أبي حنيفة، فأما على قولهما: يقضى للمرأة المدعية بناءً على أن شهادة القابلة على الولادة إذا لم يتأيد بمؤيد، وتضمنت إبطال حق مستحق على الغير ليست بحجة عند أبي حنيفة رحمه الله. وهنا تضمنت إبطال اليد على ذي اليد، فصار وجودها والمعدوم بمنزلة بقي مجرد الدعوى من جانبها ومن جانب صاحب اليد كذلك، فيقضى لصاحب اليد، وعندهما شهادة القابلة حجة بمنزلة شهادة الرجلين، وقضي بالولد للمدعية. وإن كان ذو اليد لا يدعي لنفسه يقضى بالولد للمرأة المدعية؛ لأن ذا اليد إذا كان لا يدعيه لنفسه وهو لقيط، فليس له على اللقيط يد مستحقة، ألا ترى أن للقاضي أن ينزعه من يده، وإذا كان للقاضي ولاية إبطال يده من غير شهادة القابلة، فمع شهادة القابلة أولى. صبي في يدي امرأة ادعت امرأة أخرى أنه ابنها؛ وأقامت على ذلك بينة، وأقامت المرأة التي في يديها امرأة ابنها يقضى للتي في يديها، أما على قول أبي حنيفة؛ فلأن شهادة المرأة الواحدة للخارجة عند دعوى ذي اليد؛ ومجرد دعوى الخارجة سواء، وأما عندهما فلأنهما استويا في الدعوى والحجة، وترجح ذو اليد بحكم يده. ولو شهد لكل واحد منهما رجلان قضي لذي اليد. ولو شهد لصاحبة اليد امرأة واحدة، وشهد للخارجة رجلان قضي للخارجة، أما عند أبي حنيفة فلأن شهادة امرأة واحدة على الولادة حالة المنازعة ومجرد الدعوى سواء، وأما عندهما فلأنه لا تعارض بين الحجتين؛ لأن شهادة امرأة واحدة حجة على الولادة لا غير، وشهادة الرجلين حجة في الولادة وغيرها من الأحكام. صبي في يدي رجل لا يدعيه، أقامت امرأة بينة أنه ابنها ولدته ولم تسم أباه؛ وأقام رجل بينة أنه ولده على فراشه ولم يسم أمه، فإنه يجعل ابن هذا الرجل من هذه المرأة، ولا يعتبر الترجيح باليد كما لو كان المدعي رجلان والصبي في يد أحدهما، فإنه يقضي لصاحب اليد؛ لأن الترجيح بحكم اليد إنما يكون عند تعذر العمل بالبينتين، وقد أمكن العمل بالبينتين؛ لأنهما قامتا لإثبات نسب هذا الولد من هذا الرجل وهذه المرأة، والنسب هكذا يثبت من الرجل والمرأة، بخلاف ما إذا كانت الدعوى من رجلين؛ لأن هناك تعذر العمل بالبينتين؛ لأن النسب لا يثبت من رجلين، فرجحنا بينة أحدهما بحكم اليد والله أعلم.

نوع آخر في دعوى نسب ولد أمة الغير بحكم النكاح أمة في يدي رجل لها منه ولد وإن جاء رجل وقال: الأمة التي هي في يديه، وإنه زوجها مني، وقد ولدت على فراش هذا الولد الذي في يدي، وأقام على ذلك بينة، وأقام صاحب اليد بينة أن الأمة لهذا المدعي، وأنه زوجها مني، وولدت على فراشي هذا الذي في يدي، فإنه يقضى لكل واحد منهما بالولد الذي في يديه؛ لأن كل واحد منهما يدعي الولد الذي في يديه، ولا ينازعه في ذلك أحد، ويحكم بحرية كل واحد من الولدين؛ لأن كلاً من المدعيين يقول: الولد الذي في يد صاحبي ملك صاحبي، وصاحبي أقر بحريته لما ادعى به، وقد صح إقراره بذلك، فقد تصادقا على حرية كل واحد من الولدين، فيحكم بحريتهما من هذا الوجه، وتصير الجارية أم ولد موقوفة في يد الذي في يديه لا يطؤها واحد منهما لصيرورتها أم ولد لتصادقهما على ذلك؛ لأن كل واحد منهما يقول: هي مملوكة لصاحبي، وصاحبي قد أقر بكونها أم ولد، فتصير أم ولد للحال، وتكون موقوفة؛ لأن كل واحد منهما يقر لصاحبه، وصاحبه تبرأ من ذلك، وأيهما مات عتقت، لأنهما تصادقا على حريتها بعد موت أيهما مات.Y وإذا كانت الأمة في يدي رجل وفي يديه ولدها، فادعى آخر أنه زوجها بغير إذن مولاها، فولدت له على فراشه هذا الولد الذي في يد مولاها، وأقام البينة على ذلك، وأقام الذي في يديه الأمة بينة أن هذا الولد ابنه ولد على فراشه من أمته هذه، فإنه يقضى بالولد للزوج، وإن كان الزوج خارجاً ودعوى النسب بمنزلة دعوى النتاج إنما كانت بينة صاحب اليد أولى؛ لأن البينات استويا في الإثبات، فإن كل واحدة أثبتت أولية الملك، لا من جهة أحد فترجحت بينة ذي اليد بحكم اليد، وههنا ما استوت البينتان في الإثبات؛ لأن بينة الزوج تثبت النسب بفراش النكاح، وبينة صاحب اليد تثبت الفراش بملك اليمين (235أ4) والنسب بالنكاح آكد حتى لا ينفى بمجرد النفي، فكانت بينة الخارج أكثر إثباتاً، فكانت أولى، فإن قيل: يجب أن لا يثبت الفراش الموجب لبيان النسب بهذا النكاح؛ لأنه عقد بغير إذن المالك، والمستولد عالم به، فهو بمنزلة ما لو اشترى أمة من الغاصب، وهو عالم بذلك واستولدها، فإنه لا يثبت نسب الولد من المشتري، وطريقه ما قلنا. هذا النكاح صدر من المالك من وجه وهي الجارية؛ لأن الجارية في حق النكاح مبقىً على الحرية حتى كان لها القسم كما للحرة واعتبرت الأمة بالعبد فإن العبد في حق النكاح مبقاً على الحرية حتى يملك النكاح بإذن المولى، ولو ثبت الرق في حق النكاح لما ملكه بإذن المولى؛ كملك المال، فعلم أن النكاح صدر من المالك من وجه إلا أنه فسد لفوات شرطه وهو بمنزلة أحد الموليين إذا زوج الأمة بغير إذن الآخر، وبمنزلة العبد إذا تزوج بغير إذن المولى، وهناك ينعقد النكاح بوصف الفساد كذا ههنا. بخلاف الشراء من الغاصب لأن ذلك التصرف صدر من غير المالك من كل وجه فيكون وجوده وعدمه بمنزلة، ثم قال: ويعتق الابن بإقرار المولى بعتقه حيث ادعى نسبه، وتكون الجارية بمنزلة أم الولد للمولى تعتق بموته، لأن المولى كما أقر بالولد أقر للجارية.

نوع آخر في دعوى غلام أنه ابن فلان ولد على فراشه من أمته هذه، ودعوى فلان كون الغلام عبداً له ولدته أمته هذه زوجها عبده فلان. قال محمد رحمه الله: ولو أن غلاماً احتلم أقام بينة أنه ابن فلان، ولد على فراشه من أمته هذه وقال فلان: إنه عبدي ولدته أمتي هذه، زوجتها من عبدي فلان، فهذا على وجهين: الأول: أن يكون العبد حياً ويدعي ذلك، وفي هذا الوجه يثبت نسب الغلام من العبد، وهذا مشكل لأن الغلام في يد نفسه، واليد معتبرة ترجيحاً في دعوى النسب، ولا تثبت حرية نفسه من الأصل، وحق العتق للأم، وبينة العبد تثبت رقهما، والجواب: أن الترجيح باليد وبإثبات الحرية إنما يقع إذا استوت البينتان في الإثبات فيما وقع فيه الدعوى، أما إذا كان إحدى البينتين أكثر إثباتاً فيما وقع فيه الدعوى معتبرة الترجيح بكثرة الإثبات كما في دعوى الملك المطلق لم يعتبر الترجيح باليد كما كانت بينة الخارج أكثر إثباتاً فيما وقع فيه الدعوى؛ لأن العبد ببينته يثبت نسب الغلام بفراش النكاح، والغلام يثبت نسبه من المولى بفراش ملك اليمين والنسب الثابت بفراش النكاح آكد؛ حتى لا ينفى نسب فراش النكاح بمجرد النفي، فكانت بينته أكثر إثباتاً فيما وقع فيه الدعوى، فكانت أولى بالقبول، وإذا قبلنا بينة العبد كان الغلام وأمه رقيقين للمولى. والوجه الثاني: إذا كان العبد ميتاً، أو كان حياً إلا أنه يدعي نسب الغلام ولا يدعي النكاح ومولى الأمة أيضاً ميت، وإنما يدعيه ورثة الميت ويقيمون البينة على ذلك، وفي هذا الوجه يقضى بنسب الغلام من مولى الغلام، ويرث مع سائر ورثته لأن بينة الورثة قامت على إثبات النكاح للعبد وهم أجانب عن نكاح العبد، والبينة إنما تقبل من صاحب الحق لا من أجنبي فكأن الورثة لم يقيموا بينة على ما ادعوا، أو يقول الورثة بهذه البينة لا يثبتون لأنفسهم شيئاً، لا النكاح ولا النسب، وإنما غرضهم من هذه البينة نفي نسب الغلام من المولى، والبينة على النفي لا تقبل، فإذا لم تقبل بينته أنه من هذه الأمة فهو ابن العبد لأن العبد ببينته يثبت النسب بفراش النكاح والمتولي يثبت النسب بفراش ملك اليمين فكانت بينة العبد أكثر إثباتاً، وكذلك إن الغلام بينته أنه ابن العبد لما ذكرنا. ولو أن رجلاً مات وترك أموالاً كثيرة فجاء غلام قد احتلم ومثله يولد للميت، فأقام بينة أنه ابن الميت من أمته فلانة وولدته في ملكه، وأن الميت أقر بذلك، وأقام رجل آخر بينة أن هذا العبد عبده، وأن الأمة أمته، زوجها غيره فلان فولدت منه هذا الولد، وإن كان العبد حياً ويدعي ذلك فهو ابن العبد لما ذكرنا في المسألة المتقدمة أن بينة العبد أكثر إثباتاً فيما وقع فيه الدعوى، ويقضي بالأمة للمدعي؛ لأن البينتان في حق الأمة قامت على الملك المطلق والمدعي خارج، فيقضي ببينة المدعي في الأمة، وإن كان العبد ميتاً أو كان حياً إلا أنه أنكر النكاح؛ فإن نسب الغلام يثبت من الميت الذي أقام الغلام البينة أنه ابنه ويرث منه؛ لأن بينة المدعي على إثبات نكاح الغلام غير مسموعة لأنها تثبت نكاح الغير، والبينة على إثبات نكاح الغير لا تقبل من غير دعوى صاحب النكاح.

وإذا لم تقبل بينة المدعي جعل كأن المدعي لم يقم البينة، وتفرد الغلام بإقامة البينة، وهناك يقضي ببينة الغلام كذا ههنا، ويقضي بالأمة للمدعي لأن الدعوى في الأمة دعوى مطلق الملك مفرداً، وبينة الغلام تثبت الملك للميت في الجارية مع العتق، وذو اليد إذا ادعى مطلق الملك مع العتق كانت بينته أولى من بينة الخارج إذا كان الخارج يدعي مطلق الملك مفرداً. نوع آخر في دعوى الولد من الزنا وإذا ولدت أمة الرجل ولداً فادعاه رجل أنه ابنه من الزنا ثم ملكه يوماً من الدهر، فإنه يعتق عليه من غير أن يثبت نسبه، وإن ملك أمة القياس: أن تصير أم ولد له، وفي الاستحسان: لا تصير أم ولد له. وجه القياس في ذلك: أن حق الأم في هذا الباب تبع لحق الولد، وحق الولد في شيئين: في النسب وحقيقة العتق، وحق الولد يثبت في حقيقة العتق إذا ملكه المستولد، وإن كان من زنا وجب أن يثبت حق الأم في حق العتق؛ لأن ثبوت أحد الحقين للولد كما في ثبوت حق الأم، ألا ترى أن لو ثبت نسب الولد صارت الجارية أم ولد له، وإن لم يثبت حقيقة الحرية للولد بأن استولد جارية الغير بالنكاح ثم تملكها، فإن الجارية تصير أم ولد له؛ لأنه ثبت أحد الحقين للولد وهو النسب كذا ههنا. وجه الاستحسان: أن ثبوت أحد الحقين للولد كاف لثبوت الحق للأم إذا ثبت الحق للولد من وقت العلوق، أما ثبات النسب بأن استولدها بالنكاح أو علوقه حر. الأصل: إن استولدها بملك اليمين، وهذا لأن الجارية إنما تصير أم ولد عند العلوق، فشرط لثبوت حقها ثبوت الحق للولد عند العلوق، ولم يثبت ههنا للولد وقت العلوق، لا حق ثبات النسب ولا الحرية، وإنما عتق الولد بسبب طارئ بعد العلوق وهو الملك، وهذا لا يوجب ثبوت الحق للأم، كما لو أعتق الولد. وكذلك إذا قال المدعي: هذا ابني من فجور أو قال: فجرت بها فولدت هذا، أو قال: هذا ابني من غير رشده؛ لأن هذه العبارات تنبىء عن الزنا، فكأنه قال: هذا ولدي من الزنا. وكذلك إن كان هذا الولد لأب المدعي أو لخاله أو لرجل ذي رحم محرم من المدعي لا يثبت نسبه من المدعي إذا قال: هو من زنا؛ لأن وطأه جارية هؤلاء زنا محض، وليس له فيها ملك ولا تأويل ملك، وبالزنا لا يثبت النسب ولا يعتق هذا الولد على هؤلاء؛ لأن بعد الملك إنما يثبت العتق إذا كان المملوك ذا رحم محرم من المالك، أو كان يقضي من المالك، وهذا بخلاف ما إذا كان الولد لابن المدعي، فإنه يثبت نسب المدعي منه. وإن قال: هو من زنا؛ لأنه لا يكون زانياً بجارية ابنه؛ لأن له فيها تأويل ملك بخلاف من سواه على ما ذكرنا. وإذا أقر الرجل أنه زنى بهذه المرأة الحرة، وأن هذا الولد ولد منها من الزنا وصدقته المرأة في ذلك لا يثبت نسب الولد من الرجل على كل حال (235ب4) وهل يثبت نسبه من المرأة إن شهدت القابلة بولادتها هذا الولد؟ ثبت النسب منها وما لا فلا.

وإذا أقر الرجل بالزنا بامرأة حرة أو أمة، وادعت المرأة نكاحاً جائزاً أو فاسداً؛ لا يثبت النسب من الرجل وإن ملكه؛ لأن النكاح لم يثبت بقولها لما أنكر الزوج النكاح، بقي الفعل زنا في حق الزوج كما أقر، وبالزنا لا يثبت النسب وإن ملكه الزاني إلا أنه يعتق عليه إذا ملكه؛ لأنه جزؤه وإن لم يكن منسوباً إليه شرعاً، وكما لا يثبت الإنسان الرق على نفسه لم يثبت له الرق على جزئه ولا حد عليه، فقد عرف في كتاب «الحدود» أن الحد يسقط بدعوى أحد الواطئين النكاح وعليه العقر؛ لأن الوطء الحرام في دار الإسلام لا يخلو عن عقوبة أو غرامة وتعذر إيجاب العقوبة فتجب الغرامة، وكذلك إذا أقامت شاهداً واحداً لا يثبت النسب من الرجل وإن كان الشاهد عدلاً؛ لأن شهادة شاهد واحد ليست بحجة في إثبات النكاح، فصار وجودها في حق ثبوت النكاح والعدم بمنزلة وعليه العقر، وعليها العدة؛ لأن العدة حق الله تعالى، وقول الواحد العدل حجة في حقوق الله تعالى، فيثبت النكاح بهذه الشهادة في حق وجوب العدة، وإن لم يثبت في حق ثبوت النسب؛ لأن ذلك من حقوق العباد. وإذا ادعى الرجل النكاح وادعت المرأة الزنا، ذكر في «الأصل» : أنه إن كان الولد في يد الزوج يثبت نسب الولد منه؛ لأن الولد إذا كان في يده لو ادعى تصح دعواه لقيام يده، مع أنه إقرار على الولد، فإذا ادعى نسبه لأن تصح دعواه وأنه إقرار للولد كان أولى، وإن كان الولد في يدي المرأة لا يثبت نسبه من الرجل إلا ببينة، فإن ملكه يوماً من الدهر يثبت نسبه منه، ويصير كا لمجدد لذلك الإقرار، وكذلك إذا ملك أمة تصير أم ولد له. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: في رجل ادعى ولداً في يدي امرأة وقال: هذا ولدي منك من الزنا، قال: فإني أثبت نسب الولد منه، وأقضي بالمهر عليه. ويتبين بما ذكر ابن سماعة أن ما ذكر في «الأصل» أنه إذا كان الولد في يدي المرأة لا يثبت نسبه من الرجل قول محمد. قال في «الأصل» : وكذلك إذا أقام الرجل شاهداً واحداً على النكاح لا يثبت النسب من الرجل، يريد به: إذا كان الولد في يد المرأة، وكذلك إذا أقام شاهدين غير أنهما لم يزكيا، أو كانا محدودين في قذف أو أعميين، فإني لا أثبت النسب، وأوجب المهر والعدة؛ لأن النكاح لا يثبت بشهادة الفاسقين والأعميين والمحدودين في القذف، كما لا تثبت بشهادة الواحد، فصار الجواب في هذه الصورة نظير الجواب في الشاهد الواحد. وإذا كان للرجل امرأة ولدت على فراشه ولداً، فقال الزوج: زنيت بها وولدت هذا منه، وصدقته المرأة في ذلك؛ كان نسب الولد يثبت لأنه ولد نكاح، وولد النكاح ثابت النسب من صاحبه لا ينتفي نسبه الا باللعان، ولا لعان بينهما لإقرارها على نفسها بالزنا. وإذا قال: الصبي في يدي امرأة هذا ابني من الزنا، وقالت المرأه: لا بل من النكاح، فقال الزوج بعد ذلك: هو من النكاح، يثبت النسب من الرجل؛ لأن إنكاره السابق لا ينافي إقراره اللاحق كما في باب المال.

إذا قال: لا حق لفلان قبلي، ثم قال: له عليّ ألف درهم، وكذلك إذا قال الرجل: هو ابني من نكاح، فإنه يثبت النسب منهما، والمعنى ما ذكرنا. رجل تزوج امرأة لا تحل له، فأغلق الباب وأرخى الستر لم يكن لها عليه مهر، والمسألة معروفة في كتاب «النكاح» ، فإن جاءت بولد لستة أشهر منذ خلا بها، فإن نسبه يثبت منه، وهذا لأن ولادة الولد لستة أشهر منذ خلا بها دليل ظاهر على دخوله بها في حالة الخلوة، وإن كان ممنوعاً عن وطئها شرعاً، والعمل بالظاهر واجب حتى يقوم الدليل على خلافه، ومن ضرورة الوصول بها ثبوت النسب؛ لأن النكاح الفاسد بعد الدخول ملحق بالنكاح الصحيح في حق ثبات النسب، ويجب المهر لأنا قد حكمنا بالدخول، والدخول في النكاح الفاسد يوجب المهر، وهذا الذي ذكرنا قول أبي حنيفة رحمه الله، وأما على قول أبي يوسف ومحمد: هذا النكاح غير منعقد أصلاً لا جائزاً ولا فاسداً، لأنه أضيف إلى غير محله، ولهذا يوجب الحد على قولهما، وإذا لم ينعقد هذا النكاح عندهما صار وجوده والعدم بمنزلة، فكان فعله زناً محضاً، فلا يثبت النسب، ولا يجب المهر والعدة. نوع أخر في المرأة إذا تزوجت وزوجها حي وجاءت بالأولاد فالأولاد لمن تكون؟ قال: وإذا نعي إلى المرأة زوجها واعتدت عدة الوفاة، وتزوجت بزوج آخر وولدت من هذا الزوج الآخر، ثم جاء الأول حياً، أجمعوا على أن المرأة ترد على الأول. واختلف في الأول، قال أبو حنيفة: الأولاد للزوج الأول على كل حال، وقال أبو يوسف ومحمداً: إذا جاءت بالولد لأكثر من سنتين منذ دخل بها الزوج الثاني، فالولد للزوج الأول، وإن جاءت به لستة أشهر منذ دخل بها الزوج الثاني إلى سنتين. قال أبو يوسف: هو للثاني، وقال محمد: هو للأول، وروى أبو عصمة سئل ابن معاذ عن إسماعيل بن حماد عن عبد الكريم الجرجاني عن أبي حنيفة أنه رجع عن هذا القول وقال: الأولاد للثاني. فوجه قولهما: أن الثاني يساوي الأول في السبب الموجب لثبات النسب وهو الفراش، وترجح على الأول بحكم الوطء وما يقوم مقامه وهو الخلوة الصحيحة. بيانه: أن الأول إن كان له فراشاً فلا وطء منه لا حقيقة * وهذا ظاهر * ولا حكماً، لأنه غير متمكن من وطئها حقيقة لسبب الغيبة، وإنما يعتبر الإنسان واطئاً حكماً إذا كان متمكناً منه حقيقة، فهو معنى قولنا إن الثاني ترجح على الأول بالوطء حقيقة، أو ما يقوم مقامه، فوجب أن يثبت النسب من الثاني دون الأول، وإن كان فراش الثاني فاسداً، وفراش الأول صحيحاً قياساً على امرأة الصبي إذا زوجت نفسها من رجل، وجاءت بالولد، فإن هناك الولد يكون للثاني، وفراشه يثبت بنكاح فاسد، ونكاح الصبي صحيح ما كان الطريق فيه سوى أن الثاني ترجح على الصبي بالوطء، وهذا بخلاف ما لو كان الزوج الأول حاضراً؛ لأن الحاضر متمكن من وطء المرأة كالثاني فاستويا في التمكن من الوطء، وترجح الأول بحكم الصحة.

إلا أن أبا يوسف يقول: إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ دخل بها الثاني فهو للأول، وإذا جاءت به لستة أشهر إلى سنتين فهو للثاني، لأن بالدخول يثبت بفراش الثاني؛ لأن النكاح الفاسد ملحق بالصحيح في حق حكم النسب، فينقطع الأول بالثاني في حق حكم النسب، وتكون العبرة للثاني، ألا ترى أن بدخول الثاني تحرم على الأول ويلزمها العدة من الثاني، وهذا دليل على أن الفراش الأول قد زال، وإنما كان التقدير فيه بادٍ في مدة الحبل اعتباراً للفاسد بالصحيح. ومحمد رحمه الله يقول: فراش الأول وإن زال فالملك لم يزل، ولو زال الفراش والملك بالطلاق أو بالملك، وبقيت العدة إذا جاءت بولد ما بينها وبين سنتين، فالولد للأول، وإن جاءت لأكثر من سنتين، فالولد للثاني، فكذا إذا زال الفراش وبقي الملك من طريق الأولى؛ لأن الملك فوق العدة. وأبو حنيفة رحمه الله يقول: الأول ساوى الثاني في السبب الموجب وهو الفراش لثبات النسب في الوطء، ويرجح الأول بالصحة، فيكون الأولاد للأول على كل حال قياساً على ما لو كان الأول حاضراً، أما استواؤهما في الفراش فظاهر، وأما في الوطء استواؤهما في الوطء؛ لأنه إن وجد من الثاني حقيقة الوطء أو ما أقيم مقامه، وجد من الأول الوطء حكماً؛ لأن النكاح الأول صحيح، والنكاح الصحيح في حق من هو من أهل الماء أقيم مقام الوطء حتى يثبت النسب من صاحب النكاح. وإن لم يكن وطئها حقيقة، فإذا استويا في الفراش وفي الوطء: يجب أن يترجح الأول بحكم الصحة كما لو كان الأول حاضراً، وهذا لأنه لا معارضة بين الصحيح والفاسد بوجهٍ ما، بل الفاسد مدفوع بالصحيح لا محالة. قال: وإن نفاه الآخر وادعاه الأول، أو ادعيا جميعاً، أو نفاه الأول وادعاه الثاني، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: هو ابن الأول لأنه ولد في نكاحه، فلا ينتفي نسبه من صاحب النكاح إلا باللعان، ولا لعان بين الأول والمرأة، لأنها وطئت في نكاحه بنكاح (236أ4) فاسد، والوطء في النكاح الفاسد يزيل الإحصان، فلا يجب بقذفها بعد ذلك حد ولا لعان، وعلى قولها: هو ولد الثاني وإن نفاه لأنه ولد في نكاحه نكاحاً فاسداً، وولد النكاح الفاسد لا يقطع نسبه باللعان، وكذلك لو كان سبيت المرأة فتزوجها رجل من أهل الحرب وولدت أولاداً، فهو على الخلاف الذي مر، وكذلك لو ادعت الطلاق فاعتدت وتزوجت، والزوج الأول جاحد لذلك، فهو على الخلاف، ذكر هذين الفعلين شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في «شرحه» . نوع آخر في منكوحة الرجل إذا ولدت ثم ادعى أحدهما أن النكاح كان منذ شهر قال محمد رحمه الله: إذا تزوج الرجل امرأة، وولدت ولداً فادعى أحدهما أن النكاح كان منذ شهر، وادعى الآخر أنه كان منذ سنة، فالقول قول من يدعي النكاح منذ سنة، ويحكم بثبات الولد منها؛ لأنهما تصادقا على سبب ثبات النسب وهو الفراش لما

تصادقا على النكاح، إلا أن أحدهما منكر حكم الفراش لمانع والآخر يدعيه، والأصل: أن المتداعيين إذا اتفقا على سبب حكم، واختلفا في ثبوت الحكم وعدمه، فالقول قول من يدعي ثبوت الحكم؛ لأن ثبوت العلة يدل على ثبوت الحكم، فكان الظاهر شاهداً له كالمتبايعين إذا اتفقا على البيع؛ وأنكر أحدهما ثبوت الملك لمانع في السبب وهو الخيار أو التلجئة، وادعى الآخر ثبوته، كان القول قول من يدعي الثبوت كذا ههنا. وإن تصادقا على أنه تزوجها منذ شهر لم يثبت نسب الولد، وإن كان في ذلك إبطال نسب الولد من حيث الظاهر؛ لأنهما اتفقا على أن حكم السبب غير ثابت، والمتداعيان إذا تصادقا على امتناع ثبوت الحكم لمانع في السبب مع اتفاقها على (السبب) يعتبر تصادقهما، وإن كان في ذلك إبطال حق على الغير، كالمتبايعين إذا اتفقا على أن البيع كان تلجئة، وإن كان فيه خيار، فإنه يعتبر اتفاقهما، وإن كان فيه إبطال حق على الغير وهو الشفيع، فإن أقامت البينة بعدما تصادقا أنه تزوجها منذ شهر أنه تزوجها منذ سنة قبلت، أما إذا كان الولد كبيراً، وهو أقام البينة بنفسه، فلأن هذه بينّة قامت من خصم على خصم، وأما إذا كان الولد صغيراً فكذلك. واختلف المشايخ في طريق قبول البينة، قال بعضهم: ينصب خصماً عن الصغير؛ لأن النسب حق الصغير؛ فينصب عنه خصماً لتكون البينة قائمة ممن هو خصم، ثم الخصم إنما يقيم البينة على الزوج ههنا، لا على المرأة لأن النسب ثابت منهما على كل حال، وبعضهم قالوا: القاضي يسمع البينة من غير أن ينصب عنه خصماً بناءً على أن الشهادة على النسب هل تقبل حسيّة من غير دعوى؟ وقد اختلف فيه مشايخنا؛ بعضهم قالوا: تقبل؛ لأن في النسب حق الشرع، فإن نسبة الولد إلى غير أبيه حرام حقاً للشرع، والشهادة القائمة على حق الشرع؛ تقبل نسبه من غير الدعوى؛ والله أعلم. نوع آخر في دعوى المولى ولد أمته ولها زوج قال محمد رحمه الله: إذا زوج الرجل أمته من عبده فجاءت بولد لستة أشهر فصاعداً، فهو ابن الزوج، وإن نفاه الزوج لم ينتفِ منه لأنها لما جاءت بالولد لستة أشهر أمكن حالة العلوق على النكاح، فكان هذا ولد النكاح، وولد النكاح لا ينتفي نسبه إلا باللعان، ولا لعان بين الرجل وامرأته الأمة، فإن ادعاه المولى وقال: هذا ابني؛ لم تجز دعوته، ولم يثبت نسب الولد منه؛ ولكن يعتق الولد بإقراره؛ وتصير الجارية أم ولد له؛ لأن المولى بقوله: هذا ابني ادعى النسب على الولد من نفسه، وأقر بحرية الولد، وحق العتق للجارية ودعواه نسب الولد من نفسه على الزوج؛ لأنه يريد قطع نسب ثابت منه، فلم يصح، أما إقراره بحرية الولد وبحق العتق للجارية إقرار على نفسه فصح. فرق بين هذه المسألة وبين مسألتين إحداهما: إذا قال لعبده ومثله لا يولد لمثله: هذا ابني، وإنه في ملكه؛ فإنها لا تصير أم ولد له، وقد أقر بحق العتق لهما، وكذلك إذا قال في مسألتنا: هذا ولدي من هذه الجارية من الزنا؛ لا تصير الجارية أم ولد، وفي

معروف النسب إذا كان مثله يولد لمثله؛ قال: تصير الجارية أم ولد، وإن لم يثبت نسب الولد منه. والفرق: أن في معروف النسب سببه ثبات النسب من المولى متصور بأن جعل الوطء منه بشبهة، فإن الوطء بشبهة كافٍ لثبات النسب كما في حال الانفراد، إلا أن صاحب الفراش الصحيح جعل أولى من صاحب الفراش الفاسد بحكم الصحة؛ لأن سبب ثبات النسب منه لم يوجد، وإذا كان سبب ثبات النسب متصور من المدعي بغير النسب ثابتاً منه في حق ما يلزمه من أحكام النسب، وأن يعتق الولد وتصير الجارية أم ولد له هذا حكم يلزمه، وإنه من أحكام النسب، فيعتبر النسب ثابتاً في حقه وفي حق هذا الحكم، وإن لم يعتبر ثابتاً في حق النسب من الزوج؛ لأن ذلك أمر على الزوج.H فأما في حق ولد الزنا، وفيما إذا كان لا يولد مثله لمثله؛ فسبب ثبات النسب من المدعي غير متصور، فلا يمكن أن يعتبر النسب ثابتاً من المدعي في حق ما يلزمه من الأحكام؛ فلا يثبت حق العتق للجارية، وإنما عتق الغلام الذي لا يوجد مثله لمثله، لا لأن النسب اعتبر ثابتاً في حق عتق الولد، ولكن لأن قوله: هذا ابني جعل كناية ومجازاً عن قوله: عتق على هذا من حين ملكته، واللفظ إذا صار مجازاً عن غيره سقط اعتبار حقيقته، وتكون العبرة للمكنى عنه، ولو صرح بالمكنى عنه وقال: عتق هذا عليّ من حين ملكته لا تصير الجارية أم ولد له كذا ههنا. هذا الذي ذكرنا، إذا جاءت بالولد لستة أشهر من وقت النكاح، ولو جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت النكاح لم يثبت نسبه من الزوج وإنه ظاهر، فإن ادعاه المولى ثبت نسبه منه لأنه ولد أمته، وبحكم فساد النكاح؛ لأنه تبين أنه زوجها وفي بطنها ولد هو ثابت النسب منه. وإذا زوج الرجل أمته من غير عبده بإذن مولاه، أو زوجها من حر برضاه؛ فجاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً من وقت النكاح فادعاه المولى؛ لا يثبت نسبه من المولى، وإن صدقه الزوج في ذلك؛ لأن الزوج بالتصديق نفاه عن نفسه، ونسب ولد النكاح لا ينتفي إلا باللعان، فيكون الولد ثابت النسب من الزوج؛ صدَّق المولى أو كذبه، وهل يحكم بفساد النكاح إن كذبه الزوج في دعواه؟ لا شك أنه لا يحكم بفساد النكاح. وأما إذا صدقه فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يحكم بفساد النكاح؛ لأنه لما صدق المولى في النسب، فقد أقر بكونها حاملاً من المولى وقت النكاح مقراً بفساد النكاح، وإقرار الزوج بفساد النكاح إقرار على نفسه، فيصدق في حق فساد النكاح إن لم يصدق في حق قطع النسب عن نفسه، ومنهم من قال: لا يحكم بفساد النكاح لأن تصديق الزوج ليس بإقرار بفساد النكاح نصاً، ولا يجوز أن يثبت الإقرار بالفساد اقتضاءً لأنه لا يجوز أنه صدق المولى في دعوى ثبات النسب؛ لأنه علم أن العلوق منه كان قبل النكاح فيكون إقراراًبفساد النكاح، ويجوز أنه صدقه؛ لأنه علم أنه وطئها بعد النكاح، وظن ثبوت النسب منه، فيكون إقراراً بقيام الملك له في رقبتها حالة الوطء، فلا يكون هذا إقراراً منه بفساد النكاح، فلا يثبت الإقرار بالفساد مع الاحتمال، قال: إلا إذا كان الزوج

أقر أن الولد من المولى حبلت به قبل النكاح فحينئذٍ يحكم بفساد النكاح، لأنه أقر أنه تزوجها وهي حامل بولد ثابت النسب منه، فيكون إقراراً بفساد النكاح. وإذا زوج الرجل أمته من رجل ثم باعها ثم جاءت بولد لستة أشهر فصاعداً من وقت النكاح ولأقل من ستة أشهر منذ باعها فادعاه المولى؛ فإنه لا يصدق في حق النسب ولا يعتق الولد، ولا ينتقض البيع، والولد ابن الزوج على حاله، وإنما لم يصدق في حق النسب؛ لأنه ثابت النسب من غيره، وإنما لا يعتق الولد؛ لأن دعواه دعوة تحرير لما لم يوجد ثبات النسب، ودعوى تحرير لا تصح (236ب4) إلا من المالك، وإن ادعاه المشتري لا تصح دعوته في حق النسب أيضاً؛ لما ذكرنا في جانب المولى، ولكن يعتق الولد وتصير الجارية أم ولد له لأن دعوته دعوى تحرير لما لم يثبت النسب منه، ودعوى التحرير تصح من المالك والمشتري مالك. وإذا تزوجت الأمة بغير إذن مولاها ودخل بها الزوج، ثم ولدت ولداً لستة أشهر منذ تزوجها، فادعاه المولى والزوج، فهو ابن الزوج؛ لأن النكاح الفاسد عند اتصال الدخول به في حق النسب كالنكاح الصحيح، والجواب في النكاح الصحيح ما قلنا، ولكن يعتق الولد على المولى بخلاف إقراره، ثم اعتبر المدة من وقت النكاح لا من وقت الدخول، فإنه وضع المسألة فيما إذا جاءت بالولد لستة أشهر من وقت النكاح، قال شمس الأئمة الحلواني: هذه المسألة دليل على أن الفراش ينعقد بنفس العقد في النكاح الفاسد خلافاً لما يقول بعض المشايخ: إنه لا ينعقد بنفس النكاح، وإنما ينعقد في النكاح الفاسد بالدخول، وتأويل المسألة على قوله: إن الدخول كان عقيب النكاح بلا فصل فتكون المدة من وقت النكاح ومن وقت الدخول سواء، وكذلك الجواب في أم الولد إذا تزوجت بغير إذن المولى فولدت ولداً فادعاه الزوج والمولى. نوع آخر في امرأة لها ولد معروف قال رجل لهذه المرأة: هذا ابني منك؛ وفي ولد رجل له ولد معروف قالت المرأة لهذا الرجل: هذا ابني منك، امرأة حرة لها ابن صغير تعرف أنه ابنها؛ قال رجل للمرأة: هذا ابني منك، فقالت نعم، فهو ابنهما ثابت النسب منهما؛ لأنهما تصادقا على ثبات النسب بينهما، وليس للولد نسب معروف من غيرهما؛ فيثبت نسبه منهما لتصادقهما. وكذلك رجل حر له ابن صغير يعرف أنه ابنه فقال: هذا ابني من هذه الحرة، وصدقته المرأة في ذلك فهو ابنهما ثابت النسب منهما لما ذكرنا، ويقضى بينهما بنكاح صحيح، لأنهما تصادقا على ثبات النسب منهما، ولا يثبت النسب من الرجل إذا كانت المرأة حرة إلا بالنكاح، فيثبت التصادق على النكاح مقتضى التصادق على ثبات النسب منهما، فيقضى بالنكاح بينهما بتصادقهما على ذلك، ثم يقضى بنكاح صحيح، ولا يقضى بنكاح فاسد، وإن كان النكاح ثبت مقتضى تصادقهما على ثبات النسب، فإنما يثبت أدنى ما يكفي لثبات النسب، وهو النكاح الفاسد؛ لأن الأدنى إنما يثبت في موضع يستوي الأدنى والأعلى في صفة الإباحة، أما في موضع كان الأدنى حراماً، والأعلى مباحاً،

يثبت الأعلى حملاً لحالهما على الصلاح، والنكاح الفاسد وإن كان أدنى فهو حرام، والنكاح الصحيح وإن كان أعلى فهو مباح، فأثبتا النكاح الصحيح لهذا. هذا إذا كانت المرأة معروفة بأنها حرة، فأما إذا كانت لا تعرف بأنها حرة فقال رجل: هذا ابني منك، وأنت امرأتي، وقالت المرأة: أنا أم ولدك، وهذا ابني منك فهو ابنهما، ثابت النسب منهما لتصادقهما على ذلك، ولكن لا يقضى بالنكاح بينهما بخلاف ما إذا كانت المرأة تعرف بأنها حرة لا يثبت إلا بالنكاح، فتصادقهما على ثبات (ذلك) منهما تصادق على النكاح، فأما الفراش على غير الحرة كما يثبت بالنكاح يثبت بملك اليمين بالاستيلاد، وإذا لم يعرف حالها في الحرية والرق لا يثبت فراشاً بعينه بتصادقهما على النسب. بقي الاختلاف بعدد كل بينهما في تعيين ما يثبت به الفراش عليها فالزوج يعين النكاح، ولم يثبت النكاح لإنكارها ذلك، وهي تعين الاستيلاد، ولم يثبت الاستيلاد لإنكار الزوج ذلك، فلم يثبت بينهما فراش بعينه، حتى يمكن القضاء به، ولكن بأن لم يثبت بينهما فراش بعينه، فذلك لا يمنعنا عن القضاء بحكمه، وهو ثبوت النسب إذا تصادقا على الحكم. وكذلك إذا قالت المرأة: أنا زوجتك، وقال الرجل: أنت أم ولدي، وباقي المسألة بحالها؛ فالولد ثابت النسب منهما؛ لكن لا يقضى بالنكاح بينهما لما قلنا. ولو قال الرجل للمرأة: هذا ابني منك من نكاح جائز، وقالت المرأة: هذا ابني منك من نكاح فاسد؛ فهو ابنهما، وكذلك لو قالت المرأة للرجل: هذا ابني منك من نكاح جائز، وقال الرجل: هذا ابني منك من نكاح فاسد؛ فهو ابنهما، ويكون القول قول من يدعي الجواز، غير أن مدعي الفساد إن كانت هي المرأة لا يفرق بينهما، وإن كان هو الزوج يفرق بينهما؛ لأن الزوج إن لم يصدق في دعوى الفساد في حق المرأة، يصدق في حق التحريم بالطلاق، فيجعل إقراره بالفساد في حق المرأة بمنزلة إيقاع الطلاق عليها؛ حتى يقضي لها بالمسمى، وإن كان أكثر من مهر مثلها كأنه طلقها صريحاً. نوع آخر في أمة لها ولدان ادعاها رجلان كل واحد منهما ادعاها مع الولدين جملة قال محمد رحمه الله: أمة لها ابنان، والأمة مع أحد ولديها في يد رجل، والولد الآخر في يد رجل آخر، فادعى كل واحد منهما أن الأمة له، وأن الابنين ابناه ولدا من هذه الأمة، قضي بالأمة وبالولدين جميعاً للذي في يديه الأمة، سواء ولدا في بطن واحد، أو في بطنين مختلفين. أما القضاء بالأمة للذي في يديه الأمة؛ لأن كل واحد منهما ادعى أمية الولد، وأمية الولد بمعنى النتاج؛ لأنه يثبت له ابتداءً لا من جهة أحد، وإنه سبب لا يثنى ولا يكرر، فكان بمعنى النتاج، وفي دعوى النتاج يقضى لذي اليد ببينته كذا ههنا، وأما القضاء بالولد للذي في يديه لأن كل واحد منهما ادعى نسب هذا الولد وإنه بمعنى النتاج، وهنا القضاء

له بالولد الآخر؛ وإن كان هو خارجاً في حق الولد الآخر، والنسب بمعنى النتاج، وذي اليد في النتاج أولى؛ لأنهما تصادقا على أن هذا الولد ولد من هذه الأمة، ووجب القضاء بملك الأمة للذي في يديه الأمة، فيجب القضاء بملك الولد له ضرورة وإن كان الولد في يد الآخر؛ لأن الولد يتبع الأم في الملك، فإذا صار الولد ملكاً له وقد ادعى نسبه وجب الحكم بحريته من الأصل، كما في الولد الذي في يديه. وأما إذا ادعى كل واحد منهما الأمة مع الولد الذي في يديه لا غير، فإن كانت ولدتهما في بطن واحد؛ فهذا والفصل الأول سواء، لأن البطن إذا كان واحد كانا توأمين، فيصير كل واحد منهما بدعوى الولد الذي في يديه مدعياً الولد الآخر، فأما إذا كان البطن مختلفاً، فهذا على وجهين: إن لم يعلم الأكبر من الأصغر قضي بالأمة للذي في يديه؛ لأنه متى لم يعلم الأكبر من الأصغر لم يثبت سبق أحدهما على الأخر في الاستيلاد، فيسقط اعتبار التاريخ، وإذا سقط اعتبار التاريخ صار ذو اليد أولى؛ لأنه بمعنى النتاج، قال: ويقضى لكل واحد منهما بالولد الذي في يديه؛ لأن كل واحد منهما ادعى الولد الذي في يديه، ولم ينازعه الآخر فيه، وحال عدم المنازعة مجرد قول صاحب اليد يعتبر، فمع البينة أولى. فإن قيل: إذا وجب القضاء بالأمة للذي في يديه وجب أن يقضى له بالولد الذي في يد الآخر، لأنهما تصادقا على أن هذا الولد ولد هذه الأمة، والولد يتبع الأمة في الملك قلنا: إنما يقضى له بالولد الآخر؛ لأنه في يد صاحبه وصاحبه مدعيه وهو لا ينازعه في ذلك، فيترك في يده، كأم ولد إنسان في يد غيره يدعيه ذو اليد ولا ينازعه، فأما إذا علم الأكبر من الأصغر كان الأكبر في يد الذي الأمة في يديه، فإنه يقضي له بالأمة والولد الأكبر؛ لأنه يقضى له بهما إذا لم يثبت سبق استيلاده على صاحبه، بأن لم يعلم الأكبر من الأصغر على ما مر. فإذا علم سبق استيلاده أولى، ولا يقضى له بالولد الأصغر؛ لأنه لا يدعيه، وإن كان الأكبر في يد الذي ليست الأمة في يديه، فإنه يقضي لكل واحد منهما بالولد الذي في يديه؛ لأنه لا يدعيه ولا ينازعه فيه أحد، فأما الأمة فقد ذكر في «الكتاب» : أنه يقضي للخارج الذي الأكبر في يديه لأنه ثبت سبقه على صاحبه في الاستيلاد لما ادعى الاستيلاد بالولد الأكبر، وادعى الآخر الاستيلاد بالولد الأصغر. فإن قيل: التاريخ ساقط الاعتبار في دعوة النتاج حتى أنهما إذا تنازعا في نتاج دابة وأرخ ذو اليد أحد عشر شهراً، والخارج أرخ سنة؛ يقضى لذي اليد كأنهما لم يؤرخا كذا هاهنا الجواب، قلنا: المعنى الذي لأجله سقط اعتبار التاريخ في النتاج معدوم فيما نحن فيه، إنما سقط اعتبار (237أ4) التاريخ ثمة لأنه لا يتصور نسبه زيادة استحقاق على أحد؛ لأن الملك الثابت بالنتاج لا يكون على أحد (و) هذا المعنى معدوم فيما نحن فيه؛ لأن شهادة التاريخ ههنا تثبت زيادة استحقاق على أحد؛ لأن أمية الولد سبب للولادة، والولاء يستحق على العبد بعد الحرية، فكان من هذا الوجه بمنزلة دعوى التملك من جهة

غيره بسبب لا يثنى ولا يكرر، وإذا ثبت زيادة استحقاق ههنا بسبب زيادة التاريخ وجب اعتبار التاريخ كما في دعوى التملك في الثالث فيقضى بالأمة للذي الأكبر في يديه، وإن كان خارجاً في حقها لهذا. نوع آخر في الرجل يقر لصبي في يديه أنه ابن فلان ثم يدعيه لنفسه قال محمد رحمه الله: وإذا كانت الأمة في يدي رجل ولدت غلاماً، فأقر المولى الذي له الأمة هذا الغلام من زوج حر أو عبد زوجها إياه ثم ادعاها بعد ذلك لنفسه، فهذا لا يخلو من وجوه؛ إما أن يصدقه المقر له في ذلك أو لم يصدقه ولم يكذبه بل سكت، أو كان غائباً أو ميتاً، وفي هذه الوجوه لا تصح دعوى المولى، أما إذا صدقه المقر له فلأن نسب الغلام قد ثبت من المقر له بتصادقهما، وصار الغلام معروف النسب من غيره، وفي مثل هذا لا يثبت النسب منه بالإجماع، ولا يعتق الغلام عليه بإقراره، وأما إذا لم يصدقه المقر له ولم يكذبه، لأن الإقرار قد وقع صحيحاً؛ ولم يتصل به تكذيب المقر له حتى يبطل، فبقي على الصحة كما كان، فلا تصح دعوى المولى بعد ذلك، قال أبو يوسف ومحمد رحمهم الله: يصح. فوجه قولهما: أن إقرار المولى قد بطل بتكذيب المقر له، وبقي الولد محتاجاً إلى النسب، فإنما ادعاه المولى حال حاجته إلى ذلك، وليس فيه إبطال حق على الغير. ولأبي حنيفة رحمه الله: أنه يجب لإقرار المولى شيئان: ثبوت النسب من المقر له، وخروجه من دعوى هذا النسب أصلاً، وتكذيب المقر له بطل ما هو من حقه. فأما ما لا حق له فيه لا يبطل الإقرار فيه بتكذيبه، ولا حق للمقر له في خروج المقر من دعوى هذا النسب، فلا يبطل الإقرار في حق هذا الحكم ولو لم يقر بذلك، ولكن جاء أجنبي وأقر أن هذا الولد ابن المولى، وجحد المولى ذلك، ثم إن للرجل الأجنبي الشاهد على المولى بذلك اشترى هذا الولد أو ورثه فادعاه بعد ذلك أنه ابنه يعتق عليه بإقراره، وهل يثبت نسبه منه؟ فهو على الاختلاف الذي قلنا، لأن الشاهد ادعاه بعدما كذبه المشهود له. وكذلك إذا شهد رجلان على صبي من امرأة حرة أنه ابنها، وابن هذا الرجل، وأن هذا الرجل زوجها، وادعت المرأة ذلك وجحد الزوج، فسأل القاضي عن الشهود فلم يعدلوا فرد شهادتهم، ثم إن أحد الشاهدين ادعى نسب الولد وصدقته المرأة لا تصح دعوته عند أبي حنيفة خلافاً لهما؛ لأن الشاهد ادعاه بعدما كذبه المشهود له. إذا شهدت امرأة على صبي أنه ابن هذه المرأة؛ والمرأة ادعته فلم تقبل شهادتهما بسبب من الأسباب، ثم إن الشاهدة ادعت نسب هذا الولد، وأقامت البينة على ذلك لا تقبل بينتها، ولا يقضى لها بالولد لأن البينة إنما تسمع بعد صحة الدعوى، والدعوى من الشاهدة في هذه الصورة لا تصح بالإجماع؛ لأن المشهود له صدقها، وحال تصديق المشهود له لا تصح الدعوى من الشاهدة بالإجماع. ولو كبر الصبي وادعى أنه ابن الشاهدة والشاهدة منكرة، فأقام على ذلك بينة قبلت بينته؛ لأن الدعوى من الصبي قد

صح لأنه لو لم يقر بنسبها لغير الشاهدة فيصح دعواه النسب من الشاهدة، فهذه بينة قامت على دعوى صحيحة بالإجماع. وعلى هذا إذا ادعى رجل نسب صبي في يدي امرأة، والمرأة تنكر وأقام الرجل شاهدين، ولم يقض القاضي بشهادتهما، ثم إن أحد الشاهدين ادعى أن هذا الصبي ابنه وهذه المرأة امرأته، وأقام على ذلك شاهدين، فالقاضي لا يقبل شهادته؛ لأن الدعوى من الشاهد لم تصح بالإجماع، وإن ادعت المرأة ابنها من هذا الرجل وأنه زوجها، وأقامت على ذلك شاهدين سمعت بينتها؛ لأن الدعوى منها قد صحت؛ لأنها لم تقر بنسب الولد للغير. وإذا ادعى رجلان صبياً في يدي امرأة كل واحد يدعي أنه ابنها، والمرأة تنكر، ثم إن المرأة ادعت على رجل أنه تزوجها وهذا الصبي لها منه، فشهد لها الرجلان المدعيان للصبي، فالقاضي لا يقبل شهادتهما؛ لأن دعواهما السابق تجعلهما متناقضين في هذه الشهادة، والتناقض في الشهادة مانع قبولها وصحتها. وكذلك على هذا: صبي في يدي امرأة شهد رجل أنه ابن فلان ورد القاضي شهادته، ثم شهد هو ورجل آخر أنه ابن هذا الرجل الآخر، فالقاضي لا يقبل شهادتهما؛ لأن أحد الشاهدين متناقض في هذه الشهادة. إذا كان للرجل جارية حامل فأقر أن حملها من زوج قد مات، ثم ادعى أنه منه فولدت لأقل من ستة أشهر، فإنه يعتق ولا يثبت نسبه منه، أما العتق فلإقراره بذلك، وأما لا يثبت نسبه منه لأنه أقر بنسبه لغيره، وصح هذا الإقرار منه؛ لأنا تيقنا بوجود الولد في البطن وقت الإقرار، ولم يوجد تكذيب المقر له لكونه ميتاً، وفي هذه الحالة لا تصح دعوى المقر لنفسه بالإجماع، وهذه هي الحيلة لمن أراد أن يشتري جارية حاملاً ويتحرر عن دعوى البائع الولد، يأمر البائع أن يقر أن هذا الولد من فلان الميت، ثم يشتريها بها المشتري، فلا تصح دعوى البائع بعد ذلك. ولو مكث المولى بعد إقراره الأول سنة ثم قال: هي حامل مني، فولدت ولداً لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار الآخر فهو ابن المولى ثابت النسب منه؛ لأن دعوة المولى ههنا قد صحت؛ لأنه لو لم يصح الإقرار الأول شكَّ إن كان هذا الحمل موجوداً وقت الإقرار الأول، صح الإقرار الأول، وإن لم يكن موجوداً لا يصح فلا يصح إقراره الأول بالشك، وجعل كأنه لم يوجد، ولو لم يوجد الإقرار الأول كانت دعوته صحيحة كذا ههنا. وإذا أقر أنه زوج أمته رجلاً غائباً وهو حي لم يمت، ثم جاءت بولد بعد قوله لستة أشهر، فادعاه المولى فإنه لا يصدق؛ لأنه حصل مقراً للزوج بنسب ما يحدث منها بعد هذا الإقرار لستة أشهر يقتضي إقراره بالنكاح؛ لأن نسب الولد يثبت من صاحب الفراش، وقد أقر أن الفراش للزوج، وقد ذكرنا أن من أقر بنسب ولد إنسان ولم يصدقه المقر له ولم يكذبه، ثم ادعاه المقر لنفسه، فإنه لا تصح دعواه. وإذا كانت الجارية بين رجلين جاءت بولدها فقال أحدهما: إنه ابن صاحبي، وقال

الآخر: إنه ابن صاحبي، ثم ادعى أحدهما أنه ابنه، إن ادعى الثاني لا تصح دعوته بلا خلاف؛ لأنه أقر بنسبه الأول، ولم يكذبه الأول بإقراره أنه للثاني لأن إقرار الأول كان سابقاً على إقرار الثاني، والتكذيب ما يكون متأخراً عن الأول لا سابقاً عليه، وإن ادعاه الأول فعلى قول أبي حنيفة؛ لا تصح دعوته خلافاً لهما، لأن الثاني كذب الأول في إقراره لما أقر أنه للأول، وعند تكذيب المقر له لا تصح دعوى المقر بعد ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله خلافاً لهما، وعتق الولد أيضاً لتصادقهما على حريته؛ وتكون الجارية أم ولد له موقوفة لأن كل واحد منهما ينفيه عن نفسه، ويقرّ به لصاحبه، فتكون موقوفة أيهما مات عتقت. نوع آخر في دعوى الرجل ولد الجارية مع نكاح أمها ودعوى المولى بيع تلك الجارية منه أو على العكس قال محمد رحمه الله: وإذا ادعى الرجل أمة في يدي رجل أنه تزوجها وأنها ولدت منه هذا الولد، وقال المولى: بعتكها بألف درهم، وقال: الولد منك، قال: هذا الولد ثابت النسب من المستولد؛ لأنهما تصادقا على ثبات النسب منه، إلا أنهما اختلفا في سببه، فالزوج زعم أن سببه ملك النكاح، والمولى زعم أن سببه ملك اليمين، والسبب إن لم يثبت لاختلافهما في ذلك ثبت النسب؛ لأن القضاء بالنسب من غير سبب متعين ممكن، ألا ترى أن لو شهد شاهدان أن هذا ابنه، فإن القاضي يقضي بثبات نسب الولد من المشهود عليه وإن لم يبينا سبباً، وهذا لأن حكم النسب الحرمة وهي حرمة المناكحة والنفقة والميراث، وهذه الأحكام لا تختلف بأي سبب ما ثبت النسب، فلا يشترط بيان، ألا ترى أنه لم يشترط بيان السبب في بيان المال حتى إذا شهد شاهدان أن لهذا الرجل على هذا الرجل ألف درهم، ولم يبينا سببه، فالقاضي يقضي بالمال؛ لأن حكم الوجوب وهو الإيفاء لا يختلف باختلاف السبب كذا ههنا، ويعتق الولد لأنهما تصادقا على حريته فالمولى يزعم أنه علق حر الأصل، والزوج يقول: إن الولد ملك المولى وقد أقر أنه حر (237ب4) الأصل فهو معنى؛ قلنا: إنهما تصادقا على حريته، وتصير الجارية أم ولد لأنهما تصادقا على ذلك؛ فالمولى يقول: إن الجارية ملك المستولد، والمستولد يقول: إنها ملك المولى؛ وإقراره نافذ في حقها، وقد أقر لها بحق العتق، فصارت أم ولد للمستولد، والمستولد ينفيها عن نفسه، ولا يحل للزوج غشيانها؛ لأن إباحة الغشيان باعتبار ملك المتعة، وملك المتعة لا بد له من سبب، ولم يثبت سبب ملك المتعة عليها؛ لأن الزوج يدعي الزوجية، والمولى يدعي الشراء، والزوج ينكر، وباب الحبل مبني على الاحتياط؛ فلهذا قال: لا يسعه أن يقر بها، وكذلك لا يحل للمولى غشيانها؛ لأن في زعمه أني بعتها، وتعذر على القاضي فسخ البيع فيها، لأنها صارت أم ولد، فلم تعد الجارية إلى ملكي، فلهذا لا يحل له وطؤها، قال: وعلى الزوج المهر قضاء عن الثمن؛ لأنهما اتفقا على مقدار المهر، فللمستولد أن يقول: لك علي ألف درهم مهراً، والمولى

يقول: لي عليك ألف درهم ثمناً، فاختلفا في حق سبب الألف، وإن لم يثبت السبب. وإن كان المستولد ادعى الشراء، والمولى ادعى أنه زوجها منه، وباقي المسألة بحالها؛ فالولد ثابت النسب منه لأنهما تصادقا عليه على ما مر إن اختلفا في سببه، والجارية مع الولد رقيقان للمولى بخلاف المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى المولى أقر بحرية الولد وبحق العتق للجارية، وفي هذه المسألة المولى أقر بذلك إنما أقر به المستولد، وإقرار غير المالك لا يعمل، ولا يحل للمستولد وطؤها لأنه في زعمه أنه اشتراها والمولى أنكر ذلك، وفي زعم المولى أنه زوجها منه، وهو قد أنكر ذلك، فاختلفا في سبب الحل، ومع الاختلاف في سبب الحل لا يمكن القضاء بالحل ويحل للمولى وطؤها؛ لأن من زعم المولى أنه زوجها، وقد زال النكاح بتفريق القاضي، فعادت حلالاً لي؛ بخلاف المسألة الأولى؛ غير أن هناك في زعم المولى أنه باعها والبيع لم ينفسخ؛ لأن القاضي عجز عن فسخها، وإن وجد سبب الفسخ وهو إنكار الآخر؛ لأنها صارت أم ولد بإقرار المالك.Y ولم يذكر في هذه المسألة أن على المستولد الثمن قضاء عن العقر، وقال في المسألة الأولى: إن على المستولد العقر قضاء عن الثمن، ولا فرق بين المسألتين من حيث الظاهر، لأن في المسألة الأولى المستولد أقر عليه ألف درهم مهر هذه الجارية، وقال صاحب الجارية: لا بل عليه ألف درهم ثمنها، وههنا المستولد أقر أن عليه ألف درهم ثمن هذه الجارية، وقال صاحب الجارية: لا بل عليه ألف درهم مهرها، وإنما جاء الفرق لأن في المسألة الأولى تصادقا على وجوب الألف ديناً في الذمة على ما مر، وتصادقا على بقاء الألف واجباً في الذمة أيضاً لأن المستولد يقول: علي ألف درهم مهر هذه الجارية، ولم يسقط ذلك عني بتفريق القاضي؛ لأن تفريق القاضي حصل بعد الوطء، والتفريق بعد الوطء في النكاح لا يوجب سقوط المهر، وصاحب الجارية يقول: وجب لي عليه ألف ثمن هذه الجارية ولم يسقط ذلك لأن القاضي لم يفسخ البيع، لأن الجارية صارت أم ولد بإقراري، فقد تصادقا على الوجوب وعلى بقائه، لكن اختلفا في السبب، وإنه غير مانع من القضاء بالمال، أما في مسألتنا هذه: إن تصادقا على الوجوب فقد تصادقا على سقوط الثمن؛ لأن صاحب الجارية يقول: الثمن لم يكن واجباً لأن الشراء لم يكن، والمستولد يقول: الشراء كان إلا أن القاضي فسخ البيع بعد إنكار الآخر؛ لأنه لم يجعل الجارية أم ولد بإقراري، فقد تصادقا على سقوط الثمن بعد ما وجبه بزعم المستولد، فكأن المستولد لم يقر بالثمن، ولكن ادعى عليه المولى المهر، وهو ينكر، ولو كان كذلك لا يقضي عليه بشيء كذا ههنا نوع آخر في دعوى ولد أمة الغير بحكم النكاح وتصديق المولى إياه في ذلك قال: أمة في يدي رجل ولدت ولداً فادعى ولدها ثم قال: هذه أمة فلان زوجنيها، وصدقه فلان في ذلك فالمسألة على وجهين:

الأول: أن تكون الأمة معروفة أنها للمقر له، وفي هذا الوجه الأمة والولد رقيقان للمقر له؛ لأنه لم يثبت الولد حقيقة بالعتق، ولا للجارية حق العتق بدعوة المستولد؛ لما كانت الأمة معروفة بكونها للمقر له، وإن كانت الأمة غير معروفة بأنها ملك المقر له، فالولد حر ثابت النسب من صاحب اليد، والأمة أم ولد له لأنها كانت مملوكة له ظاهراً بحكم يده، فصحت دعوته، ويثبت للولد حقيقة الحرية وللجارية حق الحرية بناء على هذه الدعوى، فهو بهذا الإقرار يريد أن يبطل ما ثبت لهما من الحق، فلا يصدق على ذلك، ولكن يضمن قيمتها لأن إقراره صحيح في حقه، وقد صار مستهلكاً الجارية عليه بدعوته، فإنه لولا دعوته لما ثبت لها حق العتق، فيضمن قيمتها للمقر له بحكم الاستيلاد، ولايضمن العقر؛ لأنه ضمن قيمة الجارية وإنه كما بدلها فلا يضمن ما دونها. وإن كان لا يعرف أصل هذه الجارية أنها لمن؛ قال صاحب الجارية: بعتكها، وقال أب الولد: زوجتني، أو كان على العكس فإن الولد ثابت النسب ويكون الولد حراً والجارية أم ولد، ويضمن الولد قيمتها للمقر له، وهذا لما ذكرنا أن الحق قد ثبت للولد والجارية بدعوته من حيث الظاهر، فهو بهذا الإقرار يريد إبطال ذلك الحق فلا يقدر عليه، ويضمن أب الولد قيمتها لما مر ولا عقر لما مر أيضاً. وإن كان يعرف أن الأصل للمقر له، فإنه يأخذ الجارية وولدها مملوكين له؛ ما خلا خصلة واحدة أن يقر المقر له أنه باعها من أب الولد فحينئذٍ لا سبيل له على الجارية؛ لإقراره بخروجها عن ملكه بالبيع، ولا يغرم أب الولد قيمتها في هذا الفصل؛ لأن احتباسها عند صاحب اليد كان بإقرار المقر له أنه باعها، ألا ترى أنه لو أنكر ذلك تمكن من أخذها وأخذ ولدها، وإذا لم يضمن قيمتها في هذه الصورة ضمن العقر لأن العقر فيما تقدم إنما لم يجب لوجوب كمال بدل النفس، ولم يجب ها هنا بدل النفس، فيجب العقر والله أعلم. نوع آخر في الرجل يقر لصبي في يديه أنه ابنه، وقال ورثته بعد موته: إن أبانا كان زوج هذه الأمة وهذا الولد ولد العبد وإذا أقر الرجل بصبي في يديه أنه ابنه من أمته ولد على فراشه، ثم مات الرجل فطلب الغلام الميراث وادعى أخواه أن أباهم قد كان زوج هذه الأمة عبده قبل أن يلده بثلاث سنين ولدت هذا الغلام على فراش العبد، فهذا على وجوه: أحدها: أن يكون الغلام والأمة منكران ذلك، وفي هذا الوجه لا تقبل بينتهم؛ لأنهم بهذه البينة لا يثبتون لأنفسهم حقاً، إنما يثبتون النسب للعبد، وهو مكذب جاحد لهم، وإثبات الحق لمن ينكر ثبوته ممتنع لأن غرضهم من هذه البينة نفي نسب هذا الولد عن المولى حتى لا يزاحمهم في الميراث، والبينة على النفي لا تقبل.

الوجه الثاني: إذا كان الغلام والأمة مدعيان ذلك، وفي هذا الوجه تقبل بينتهم لأنهما بهذه البينة يثبتان الحق لأنفسهما وهو النكاح على الميت، ويعتق الغلام وتصير الجارية أم ولد له، وإقراره حجة عليه، فبعد ذلك إن كان هذا الإقرار من المولى في صحته بغير العتق من جميع المال، وإن كان في مرضه يعتبر من الثلث. الوجه الثالث: إذا ادعى الغلام ذلك وفي هذا الوجه تقبل هذه البينة، ويكون الجواب فيه كالجواب فيما إذا ادعى الغلام والأمة ذلك جميعاً، وكذلك ادعت الأمة التزويج تقبل بينتها؛ لأنها تثبت حقاً لنفسها. قال: ولو كان العبد غائباً حال ما أقامت الورثة البينة، يوقف حكم هذه البينة حتى يحضر العبد؛ لأنه ربما يدعي فتقبل البينة وربما ينكر فلا تقبل هذه البينة، فإذا حكم قبول هذه البينة يختلف بدعواه وإنكاره، يجب التوقف إلى وقت حضوره والله أعلم. نوع آخر في الجارية إذا جاءت بولد وادعاه الموليان ما يجوز لأحدهما عليه من البيع أو الشراء أو غير ذلك، ويدخل فيه ما إذا مات أحد الولدين أو كلاهما وترك وصياً واحداً هذا النوع ينبني على أصول أحدها: أن النسب مما يمكن إثباته من غير الواحد حتى إن الأمة إذا كانت بين رجلين جاءت بولد فادعياه، ثبت النسب منهما. والأصل في ذلك: ما روي أن شريحاً رضي الله عنه كتب إلى عمر رضي الله عنه يسأله عن أمة بين رجلين جاءت بولد فادعياه جميعاً، فكتب إليه في الجواب: هو ابنها يرثها ويرثانه، وهو للباقي منهما، وهكذا روي عن علي رضي الله عنه رجوعاً عما قال في الابتداء إنه يقرع بينهما. فهما نصا بثبوت الولد منهما، ولم ينقل من غيرهما خلاف ذلك فكان إجماعاً. وفي الحقيقة الأب أحدهما؛ لأن الأبوة بسبب الانخلاق من مائِهِ، والولد مخلوق من ماء أحدهما لا من مائهما؛ لأن الولد لا يتخلق من ماء الذكرين إلا أن النسب منه ليس بمقصود، وإنما المقصود أحكامه، ولا تنافي في حق الأحكام، وقد وجد (238أ4) الدليل المقتضي لذلك في حق كل واحد منهما، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر، فيعمل به في حق كل واحد منهما في حق الأحكام، فبعد ذلك: ما كان قابلاً للانقسام والتحري من أحكام النسب يثبت بينهما ويشتركان، وذلك كولاية التصرف في المال وما أشبه، وما لا يكون قابلاً للانقسام والتحري يثبت لهما جميعاً لكل واحد كملاً، وذلك كولاية الإنكاح وما أشبهه، هذا هو الأصل فيما لا يتحرى، فإذا دل الدليل على ثبوته لشخصين. وأصل آخر أن ولاية الوصي تتعدد بقدر ولاية الموصى؛ لأنه يستفيد الولاية من جهة الموصي إذ الإيصاء إقامة الوصي مقام نفسه بعد الموت في حق ولاية التصرف، فينتقل إلى الموصي ما له من الولاية عند الموت.

وأصل آخر وهو أن الولاية نوعان: ولاية التصرف والمصالح وهي عامة، وولاية الحفظ: وهي قاصرة، وتخص بما يفتقر إلى الحفظ والتحصين، وولاية التصرف مستتبعة ولاية الحفظ فإن من ملك التصرف في شيء يملك حفظه؛ إذ التصرف لا يأتي بدون الحفظ فما دام ولاية التصرف ثابتة لأحد كان له ولاية الحفظ، فلا ضرورة إلى إثبات ولاية الحفظ بالإثبات فيجب إثباتها، وسنقرر هذه الجملة من خلال المسائل إن شاء الله تعالى. إذا عرفنا هذا قال محمد رحمه الله: جارية بين رجلين جاءت بولد، فادعياه جميعاً ثبت النسب منهما لما مر في أصل الثابت، وصارت الجارية أم ولد لهما، فلو أنهما أعتقا الجارية فاكتسبت أكساباً، ثم ماتت وأوصت إلى رجل فلم يدع وارثاً غير ابنها هذا، وهو صغير لم يبلغ؛ كان ولاية التصرف في مال الولد، وحفظه للوالدين لا لوصي الأم. أما ولاية التصرف: فلأن وصي الأم قائم مقام الأم يستفيد الولاية من جهة الأم، ولم تكن للأم ولاية التصرف في مال الولد حال حياتها، وإنما الولاية للأبوين فكيف تنتقل إلى وصيها؟. وأما ولاية الحفظ: فلأنه محفوظ بولاية الأبوين تبعاً لولاية التصرف؛ فلا حاجة إلى إفراد ولاية الحفظ بالإثبات، فإن غاب الوالدان ظهر الآن ولاية الوصي، فثبت له ولاية الحفظ؛ لأنه مست الحاجة إليه، وللأم ولاية حفظ مال الصغير في هذه الحالة، فكذا لمن قام مقامها، ولكن إنما تثبت له الولاية فيما ورث الصغير من الأم، وفيما كان للصغير قبل موت الأم، وفيما كان للصغير لا في مال يحدث للصغير بعد ذلك، وهذا لأن وصي الأم استفاد الولاية من جهة الأم، فتقدر ولايته بقدر ما كان للأم والذي كان للأم هذا القدر، وكما تثبت له ولاية الحفظ تثبت له ولاية كل تصرف هو من باب الحفظ، نحو بيع المنقول وما يتسارع إليه الفساد، وهذا لأن المنقول وما يتسارع إليه الفساد مما يترادف عليه أسباب التوى والتلف، وبالبيع يقع الأمن عن بعضها، فكان البيع من باب الحفظ فملكه من حيث أنه حفظ، ألا ترى أن الأم ملكت ذلك حال غيبة الأبوين؛ وإنما ملكت من حيث أنه حفظ. وليس له أن يبيع العقار ولا أن يتصرف في الدراهم والدنانير، أما العقار فلأنها محصنة بنفسها لا يخشى عليه التوى والتلف، فلا يكون نفعها من جملة الحفظ لملكه من حيث أنه حفظ، ألا ترى أن الأم لا تملك بيع العقار، وصرف الدراهم والدنانير للصغير حال غيبة الأبوين، وإنما لم يملكه لما قلنا. وإن غاب أحد الوالدين والآخر حاضر، فكذلك الجواب عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن عندهما أحد الأبوين لا ينفرد بالتصرف إلا في أشياء معدودة على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، فكأن غيبة أحدهما كغيبتهما، فيثبت لوصي الأم ولاية الحفظ، وما كان

من باب الحفظ، وعند أبي يوسف: أحد الأبوين ينفرد بالتصرف، فكان حضرة أحدهما كحضرتهما، فتكون ولاية التصرف في مال الصغير وحفظه للوالد الحاضر لا لوصي الأم. فوجه قول أبي يوسف في ذلك: أن سبب الولاية النسب، والنسب يثبت من كل واحد منهما بالترويج، ولهذا لو ماتا يرث من كل واحد منهما ميراث ابن كامل، وإذا ثبت النسب من كل واحد منهما كملاً، فقد تفرد كل واحد بسبب الولاية فينفرد بالولاية. وجه قول أبي حنيفة ومحمد في ذلك: أن الأب أحدهما: على الحقيقة؛ والآخر: أجنبي حقيقة لما ذكرنا، ولهذا لو مات يرثانه ميراث أب واحد؛ لأنه لو تفرد أحدهما بالتصرف ربما يكون المتصرف في مال الصغير غير الأب وإنه لا يجوز، كانت قضيته ما ذكرنا أن لا ينفرد كل واحد بالتزويج لكنا تركنا هذه القضية، ثم لضرورة أن النكاح لا يتجزأ، فإذا دل الدليل على ثبوته لهما، وإنه لا يتجزأ ثبت لكل واحد كملاً ضرورة هذه الضرورة معدومة في التصرف في المال، لأن التصرف في المال يتجزأ؛ لأن محله متجزئ، وإذا دل الدليل على ثبوته لهما أمسى مشتركاً بينهما، وشرطنا اجتماعهما حتى لا يكون التصرف في مال الصغير غير الأب. وإنما ورث هذا الابن من كل واحد منهما ميراث ابن كامل، وورثا منه ميراث أب واحد، لأن الأب أحدهما على الحقيقة، فكل واحد منهما أقر أنه ابنه وأنه أبوه، وإقرار الإنسان على نفسه صحيح ولنفسه باطل، ففيما يرجع إلى استحقاق الابن هذا إقرار على نفسه فكان صحيحاً، فكان استحقاق الابن بحكم الإقرار وقد أقر كل واحد منهما أنه ابنه، فكان له من كل واحد منهما ميراث ابن كامل، أما فيما يرجع إلى استحقاق الأب بناءً على الحقيقة لا بحكم الإقرار، وفي الحقيقة الأب واحد منهما، فثبت استحقاق ميراث أب واحد، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فيكون ذلك بينهما. قال: ولو مات أحد الوالدين بعد موت الأم ولم يدع وارثاً غير هذا الصغير، وأوصى إلى رجل والوالد الآخر حاضر، فالميراث كله للصغير، وولاية التصرف في التركتين للأب الباقي لا لوصي الولد الميت، ولا لوصي الأم، لما روينا من حديث عمر وعلي رضي الله عنهما، وهو للباقي منهما، وليس المراد من خلوص النسبة خلوص أحكام النسبة، ومن أحكام النسبة الولاية، ولأنا إنما أثبتنا أحكام الأبوة في حقهما لمكان المزاحمة وعدم الأولوية، والذي مات زالت مزاحمته والحي يدعي الولد، فتقررت الأبوة عليه..... أولى بالولاية من غيره. فرق بين هذه المسألة وبينما إذا أوصى إلى رجلين ثم مات أحد الوصيين فأوصى إلى رجل؛ فإن وصي الميت يزاحم الوصي الحي في التصرف، وههنا وصي الوالد الميت لا يزاحم الوالد الحي في التصرف، والفرق في مسألة الوصيين أن الإيصاء من الميت قد صح؛ لأن بالموت لا يبين أنه لم يكن وصياً، وللوصي ولاية الإيصاء فيصح الإيصاء،

وقام الوصي مقام الميت، وقد كان للميت حال حياته أن يزاحم الوصي الآخر في التصرف؛ فكذا لمن قام مقامه، وفي مسألتنا الإيصاء من الميت لم يصح؛ لأن بعد موت أحدهما يتعين الباقي أباً، ويخرج الميت من أن يكون أباً، فتبين أنه لم يكن للميت ولاية الإيصاء، فلم يصح الإيصاء، فلا يثبت له حق المزاحمة قال: ولا يضم القاضي إلى الوالد الباقي في وصيه ليتصرف هو معه، فرق بين هذا وبين الوصيين؛ إذا مات أحدهما، فالباقي لا ينفرد بالتصرف عن أبي حنيفة ومحمد بل يضم القاضي إليه وصياً آخر ليتصرف معه، والفرق وهو أن الأب يتصرف لمعنى في نفسه، فإن الأبوة علة مفيدة لولاية التصرف، لكن لم ينفرد أحدهما بالتصرف حال حياتهما؛ لأن أحدهما لم يتعين أبا، وبعد موت أحدهما تعين الباقي أباً، فينفرد بالتصرف، فأما الوصي فلا يتصرف لمعنى في نفسه، إنما يتصرف بحكم التفويض والمفوض لما فوض التصرف إلى المثنى، فقد رضي برأي المثنى، والراضي برأي المثنى لا يكون راضياً برأي الواحد، فيضم القاضي إلى الحي وصياً آخر ليكون المتصرف مثنى؛ طلباً لرضى المفوض بقدر الإمكان. قال: وإن كان الوالد الباقي غائباً كان لوصي الأم حفظ ما ترك للأم، وما كان من باب الحفظ، أما وصي الأم فلأنه قائم مقام الأم، وقد كان للأم حفظ مال الصغير حال غيبة الوالد فكذا لمن قام مقامهما، وأما وصي الوالد الميت، فلأن حكم الأبوة وإن بطلت بالموت (238ب4) فولاية الحفظ لم تبطل، وهذا لأن بالموت إن تبين أن الميت لم يكن أباً لم يتبين أن الصغير لم يكن في عياله، فلا يتبين أنه لم يكن له ولاية الحفظ، فيصح الإيصاء في حق الحفظ، إن لم يصح في حق ولاية التصرف قام الوصي مقام الميت في حق الحفظ ولا يتعدى حفظ كل وصي إلى التركة الأخرى؛ لأن تعديه إلى التركة الأخرى باعتبار الولاية على الصغير، وليس لواحد من الوصيين ولاية مطلقة على الصغير، وإن مات الوالد الباقي بعد ذلك وأوصى إلى رجل فوصيّه يكون أولى بمال الصغير من وصي الأب الذي مات أولى من وصي الأم، فلأن الوصي قائم مقام الموصي، والولي الباقي حال حياته كان أولى بمال الصغير، فكذا وصيّه بعد وفاته. فإن كان الأب الذي مات أولاً أباً هو جد هذا الغلام؛ والمسألة بحالها، فوصيُّ الأب الذي مات أولاً بالتصرف في مال الصغير، وكذلك لو كان الأب الذي مات آخراً أباً هو جد هذا الغلام كان وصيّه أولى من أبيه، وإنما كان وصي الأب الذي مات آخراً هو جد أولى من أبيه؛ لأن الوصي قائم مقام الموصي، وقد كان الأب الذي مات آخراً حال حياته أولى من أبيه، فكذا من قام مقامه، وإذا كان أولى من أب الميت الذي مات آخراً مع أنه استقرت أُبوَّة فلان تكون أولى من أب الميت الذي مات أولاً، وقد بطلت أبوته بالموت كان أولى. وإن مات وصي الأب الذي مات آخراً وأوصى إلى غيره وباقي المسألة بحالها فوصيُّه أولى ممن سمينا؛ لأنه قائم مقام الموصي، وقد كان الموصي حال حياته أولى،

فكذا وصيُّه بعد الموت. وإن مات وصي الأب الذي مات آخراً ولم يوص إلى أحد، أو كان الأب الذي مات آخراً لم يوص إلى أحد، وقد ترك الأب الذي مات أولاً أولى من وصيته، وفي هذا الفصل نوع إشكال: وهو أن الذي مات أولاً إما أن تبطل أبوته وولايته بموته أو لم تبطل، إن بطلت تبطل الجدودة كما تبطل الوصاية، وإذا لم تبطل الوصاية فقد اجتمع وصي الأب مع جد الغلام، فتكون الولاية للموصي. والجواب أن يقول: أبوة الذي مات أولاً بطلت في حق القضاء به أباً لم تبطل في حق الجدودة. بيانه: وهو أن السبب الثاني كما أثبت الأبوة للأبوين أثبت الجدودة لأبويهما ثبوتاً واحداً، فكانت ولاية الجد بسبب قائم به وهو القرابة لا بتفويض الأب، فلا تبطل ببطلان ولاية الأب، لكن لم تظهر ولاية الجد حال قيام الأب أو وصيه، فإذا ماتا ظهرت ولايته، أما ولاية الوصي بسبب تفويض الأب لا بسبب قائم به، فإذا بطلت ولاية الأب بطلت ولاية الوصي ضرورة. فإن مات الولدان أحدهما قبل الآخر ولكل واحد منهما أب، وأوصى كل واحد منهما إلى رجل؛ إن لم يعرف الذي مات أولاً من الذي مات آخراً، فولاية التصرف في المال للوصيين جملة؛ لأنه لما لم يعرف الذي مات أولاً من الذي مات آخراً يجعل كأنهما ماتا معاً، وإن ماتا معاً كانت ولاية التصرف في المال للوصيين؛ لأنه لم يظهر بطلان أبوة أحدهما لما ماتا معاً، فالإيصاء من كل واحد منهما حصل وله ولاية الإيصاء فصح، ونزل الوصيان بعد موت الأبوين بمنزلة الأبوين حال حياتهما، وإن عرف الذي مات أولاً من الذي مات آخراً؛ فولاية التصرف في المال لوصي الذي مات آخراً؛ لأنه وصيُّ أب استقرت أبوته، والآخر وصيُّ أب بطلت أبوته على ما ذكرنا. وإن مات هذا الوصي ولم يوصِ إلى أحد، أو مات الأب الذي عرف موته آخراً ولم يوصِ إلى أحد وباقي المسألة بحالها؛ فولاية التصرف في المال للجدين، لا ينفرد أحدهما به بمنزلة الأبوين في الابتداء بخلاف الوصيين، فإن وصيَّ الأب الذي مات أولاً لا يزاحم وصي الأب الذي مات آخراً في التصرف. والفرق: أن الوصي ثابت عن الموصي استفاد الولاية من جهته، وبموت الذي مات آخراً، فأما الجد أصل وليس بثابت؛ والولاية له بسبب القرابة، لا بطريق الانتقال والتفويض، وقرابة الجدين قائمة للحال بصفة واحدة فاستويا في سبب الولاية، فزاحم كل واحد منهما صاحبه. قال: وإن وهب لهذا الغلام هبة والأبوان حيان؛ فقبل أحدهما جاز، أما على قول أبي يوسف فلأن كل واحد منهما ينفرد بجميع التصرفات، وأما على قولهما فلأن قبول الهبة لا يفتقر إلى الولاية، ألا ترى أنه صح من المجحود ومن الذي يعول الصغير ويحفظه، قال عليه السلام: «من عال يتيماً فله قبض هباته» .

والفقه في ذلك: أن قبول الهبة نفع محض، وما كان نفعاً محضاً لا تفتقر صحته إلى الولاية، وكذلك لو وهبه أحدهما وأشهد على ذلك جاز لما قلنا، ويكتفي بقبضه القائم؛ لأن قبض القائم ينوب عن قبض الهبة لكونها قبض أمانة، فلا حاجة إلى تجديد القبض، وقوله: وأشهد على ذلك ليس على وجه الشرط، فالهبة صحيحة بدون الإشهاد، لكن الإشهاد لتعلم الهبة؛ فلا ينازع الوارث الصبي فيها بعد موت الأب، ولو زوجه أحدهما وهما حاضران جاز بلا خلاف، والعذر لأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أن ولاية الإنكاح لا تقبل الشركة على ما مر، فإذا ثبت لهما ثبت لكل واحد كملا، ولا كذلك ولاية التصرف في المال لأنها قابلة للشركة، فلا تثبت لكل واحد كملا، ولا خيار للغلام إذا بلغ لأن المزوج أب. وكذلك لو ادعى أحدهما للصغير شيئاً؛ جاز بلا خلاف لأن حالهما لا يكون أضعف من حال الوكيلين، ولأحد الوكيلين أن يتفرد بالخصومة فالأب أولى، وكذلك لو وجب على الصغير مال لرجل فقضاه أحدهما جاز بلا خلاف لأن قضاء الدين ليس من باب الولاية، ألا ترى أن صاحب الدين إذا ظفر بجنس حقه أخذه، وألا ترى أن أحد الوصيين يملك ذلك بلا خلاف، وكذلك لو اشترى أحدهما للصغير ما لا بد منه له حال حياته كالطعام والكسوة، وبعد موته كالكفن وما أشبه ذلك جاز بلا خلاف لأن أحد الوصيين يملك ذلك بلا خلاف فأحد الأبوين أولى، ولأن في اشتراط اجتماعهما إضراراً بالغلام والضرر منتفٍ. ولو اشترى أحدهما للصغير شيئاً بمال الصغير وله منه بد فهو على هذا الاختلاف الذي ذكرنا، على قول أبي يوسف: يجوز، وعلى قولهما: لا يجوز، وكذلك لو قبض أحدهما ديناً وجب للصغير فهو على الاختلاف؛ لأن في قبض الدين معنى المبادلة لأن الديون تقضى بأمثالها على ما عرف في موضعه وتفرود أحدهما بالمبادلة على الخلاف، بخلاف قضاء الدين لأن لصاحب الدين أن يمد يده فيأخذه فقضاؤه يكون معونة ولا يكون مبادلة، وكل جواب عرفته في الأبوين من المتفق والمختلف فهو الجواب في قضيتهما، أما إذا ماتا معاً أو مات أحدهما قبل صاحبه ولا يدرى الذي مات أولاً لأنهما قاما مقام الأبوين فكان حكمهما حكم الأبوين إلا في ولاية التزويج، فإن الوصي لا يملك التزويج على ما عرف في موضعه، ولو جن أحد الولدين جنوناً مطبقاً كانت الولاية للوالد الآخر، لأن الجنون المطبق بمنزلة الموت في حق بطلان الولاية، وإن كان يجن ويفيق فهو بمنزلة الصحيح، وهذا الجنون بمنزلة الإغماء؛ فلا يوجب انقطاع الولاية كالإغماء.y ثم تكلَّمُوا في حد المطبق بعضهم قدروه بأكثر السَّنة وهو مروي عن أبي يوسف، وبعضهم قدره بالشهر وهو قول محمد أولاً، ثم رجع وقدَّره بسنة كاملة، وذكر الناطفي عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: أنهم قدروه بالشهر، وإذا عرفت المطبق فما دونه تفسير ما قاله في «الكتاب» أنه يجن ويفيق. نوع مما يتصل بهذا النوع الذي يجب اعتباره في هذا النوع أن دعوى الوالد إذا

تعذر اعتبارها دعوى الاستيلاد تعتبر دعوى التحرير لأن في دعوى الاستيلاد ما في دعوى التحرير وزيادة؛ لأن دعوى الاستيلاد توجب النسب والحرية وأمومية الولد، ودعوى التحرير توجب النسب والحرية ولا توجب أمومية الولد، فعند تعذر اعتبارها في جميع مواهبها يجب اعتبارها في بعض مواهبها تصحيحاً للصرف بقدر الممكن، وإذا اجتمع دعوى الاستيلاد ودعوى التحرير فدعوى الاستيلاد أولى؛ لأنها سابقة حكماً؛ لأنها مستندة إلى وقت العلوق، ودعوى التحرير تقتصر على الحال، ولو كانت سابقة حقيقة، (239أ4) كانت أولى، فكذا إذا كانت سابقة حكماً. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : جارية بين رجلين فولدت لستة أشهر فصاعداً منذ ملكاها، فجاءت بولد آخر بعد ذلك لستة أشهر فصاعداً منذ ولدت الأول، فقال أحد الموليين: الأصغر ابني والأكبر ابن شريكي، فهذا على وجهين: إما أن يصدقه شريكه في ذلك أو يكذبه. فإن صدقه يثبت نسب الولد الأصغر من المدعي الأصغر، وتصير الجارية أم ولد لمدعي الأصغر، وضمن مدعي الأصغر لشريكه نصف قيمة الجارية موسراً كان أو معسراً؛ ويضمن نصف عقرها أىضاً، ولا يضمن من قيمة الولد شيئاً، وثبت نسب الولد الأكبر من مدعي الأكبر، وعلى مدعي الأكبر نصف قيمة الأكبر لشريكه، ونصف عقر الجارية، أما ثبوت نسب الأكبر من مدعي الأكبر وعلى مدعي الأكبر نصف قيمة الأكبر لشريكه ونصف العقر للجارية. أما ثبوت نسب الأصغر من مدعي الأصغر؛ لأن نصف الجارية ملكه، والملك الناقص يكفي لصحة دعوة الاستيلاد، فتجب دعوة مدعي الأصغر، ويثبت نسب الولد الأصغر، وأما صيرورة الجارية أم ولد لمدعي الأصغر لأن أمومية الولد تترتب على ثبات النسب، وقد ثبت نسب الأصغر منه، وصار هو متملكاً نصيب شريكه من الجارية؛ لأن الاستيلاد لا يحتمل الوصف بالتحري، وإذا ثبت في البعض يثبت في الكل ضرورة، ومن ضرورة ثبوته في الكل يملك نصيب الشريك. وأما ضمان نصف قيمة الجارية لشريكه موسراً كان أو معسراً لما ذكرنا أنه يملك نصيب شريكه فهذا ضمان التملك، وضمان التملك لا يختلف اختلاف اليسار والعسار، ويضمن نصف عقرها؛ لأنه حين وطئها فنصفها ملك الغير، وهذا لأن مدعي الأصغر وإن تملك نصف شريكه من الجارية إلا أنه يملكها حكماً للاستيلاد، وحكم الشيء يثبت بعده، فلا يتبين أن أول الوطء ما صادفت الجارية المشتركة، وهذا بخلاف استيلاد الأب جارية ابنه فإنه لا يوجب العقر على الأب أصلاً؛ لأن الأب يملك الجارية سابقاً عن الاستيلاد شرطاً لصحته فتبين أنه استولد ملك نفسه، وكان الفقه فيه أنه ليس للأب في جارية الابن ما يكفي لصحة الاستيلاد، فلم يثبت التملك مقتضى الاستيلاد سابقاً عليه شرطاً لصحته، وإنما يثبت التملك حكماً للاستيلاد، والتقريب ما ذكرنا. ولا يضمن شيئاً من قيمة الأصغر لشريكه، لأن دعوته في حق الأصغر دعوى

الاستيلاد، ولهذا صارت الجارية أم ولد له، ودعوى الاستيلاد تستند إلى وقت العلوق، وإنه كان ماءً مهيناً لا قيمة له، فلم يستهلك على الشريك شيئاً له قيمة، فلهذا لا يضمن. فإن قيل: ينبغي أن يضمن مدعي الأصغر جميع العقر، ولا يضمن شيئاً من قيمة الجارية؛ لأنهما تصادقا أن استيلاد مدعي الأكبر إياها سابقٌ، وأن الجارية صارت أم ولد لمدعي الأكبر، فمدعي الأصغر استولد أم ولد الغير وإنه يوجب جميع العقر، ولا يوجب شيئاً من قيمة الجارية. قلنا: القاضي حين قضى بكون الجارية أم ولد لمدعي الأصغر فقد كذبها فيما تصادقا فيسقط اعتبار تصادقهما والتحق بالعدم، ولو انعدم تصادقهما كان الجواب كما قلنا؛ فههنا كذلك، هذا هو الكلام في مدعي الأصغر. أما الكلام في مدعي الأكبر: فإنما يثبت نسب الأكبر منه لأنهما تصادقا على ثبات نسبه منه، ولو تصادقا على ثبات نسبه من أجنبي يدعي نسبه ثبت نسبه فههنا أولى، ويضمن مدعي الأكبر نصف قيمة الأكبر لشريكه إن كان موسراً، وإن كان معسراً سعى الأكبر في نصف قيمته له لأن دعوته في الأكبر ليست دعوى استيلاد؛ لأنا لو جعلناها دعوى استيلاد تصير الجارية أم ولد لمدعي الأكبر وقد جرى الحكم بكون الجارية أم ولد لمدعي الأصغر، وإنه يوجب خروج الجارية من أن تكون محلاً للاستيلاد في حق مدعي الأكبر، ودعوى الاستيلاد إنما تعمل في محلها فيعذر أن يجعل دعوته دعوى استيلاد، فجعلناها دعوى تحرير لما مر في ابتداء هذا النوع، فيصير مدعي الأكبر معتقاً للأكبر وهو مشترك بينهما. والحكم في العبد المشترك بين رجلين أعتقه أحدهما أن يضمن لشريكه نصف قيمته إن كان موسراً وسعى الغلام في النصف إن كان معسراً، ولا تصير الجارية أم ولد لمدعي الأكبر دون مدعي الأصغر مع مدعي الأكبر لما تصادقا على كون الأكبر ابناً لمدعي الأكبر، فقد تصادقا أن استيلاد مدعي الأكبر سابق، وأن الجارية خرجت من أن تكون محلاً للاستيلاد في حق مدعي الأصغر. قلنا: حين قال: مدعي الأصغر ابني فقد أقر على نفسه ووجد هذا الإقرار نفاذاً عليه لوجود المنفذ وهو الملك في النصف، وإقرار الإنسان على نفسه إذا وجد نفاذاً عليه ينفذ ولا يتوقف على تصديق الغير فنفذ إقراره، وصارت الجارية أم ولد له، فمدعي الأكبر إنما يدعي أمية الولد بعدما ثبت أمية الولد في حق مدعي الأصغر فلم يصح، أو يقول: بأن مدعي الأصغر حين قال: الأصغر مني فقد أقر بثبات نسب الأصغر وتكون الجارية أم ولد له من وقت العلوق بالأصغر، فهو بذلك بقوله: الأكبر شريكي يريد إبطال أمية الولد في حقه وليس له هذه الولاية فصار وجود هذه المقالة والعدم بمنزلة. ولو لم يقل: الأكبر ابن شريكي؛ تصير الجارية أم ولد له، ولا تصح دعوة أمية الولد بعد ذلك من مدعي الأكبر فكذا ههنا؛ ويضمن مدعي الأكبر نصف العقر لمدعي الأصغر لأنه أقر بوطئها في حال كانت مشتركة بينهما، هذا إذا صدقه شريكه. فأما إذا كذبه شريكه فالجواب في حق مدعي الأصغر ما ذكرنا فلا تعتد، وتصير في

حق مدعي الأصغر كأنه ادعى نسب الأصغر وسكت ولا يثبت نسب الأكبر من واحد منهما؛ لأن مدعي الأصغر أقر بنسب الأكبر لشريكه؛ وشريكه ينفيه عن نفسه ولكن يعتق الأكبر ويكون حكمه حكم عبد مشترك بين اثنين شهد أحدهما على صاحبه بالعتق، وصاحبه منكر؛ لأنه لولا قول مدعي الأصغر: الأكبر ابن شريكي لكان الأكبر عبداً؛ وإنما حكم بعتقه بإقراره بنفسه لشريكه فيكون العبد لهما في قيمته عند أبي حنيفة على كل حال، ويسعى الشاهدان إن كان المشهود له معسراً ولا يسعى إن كان موسراً، وهو خلاف معروف في الأصل كذا ههنا. هذا الذي ذكرنا كله إذا كان قال أحد الوليين: الأصغر ابني والأكبر ابن شريكي، فأما إذا قال: الأكبر ابني والأصغر ابن شريكي فهذا على وجهين أيضاً: إن صدقه شريكه في ذلك أو كذبه، فإن صدقه ثبت نسب الأكبر من الشريك المصدق وصارت الجارية أم ولد له، وضمن مدعي الآخر نصف قيمتها، ونصف عقرها موسراً كان أو معسراً، ولا يضمن من قيمة الولد شيئاً، وصار الشريك المصدق في هذا الفصل نظير مدعي الأصغر في الفصل الأول، أما بيان نسب الأكبر فظاهر، أما صيرورة الجارية أم ولد للشريك المصدق باعتبار أن تصديقه يستند إلى وقت الإقرار فأوجب نفاذ الإقرار من وقت وجوده، فصارت دعوى الشريك المصدق للأكبر سابقة من حيث المعنى، وأما ضمان نصف قيمة الجارية وضمان نصف العقر وعدم ضمان قيمة الولد فلما ذكرنا. والقياس: أن لا يثبت نسب الأصغر من مدعي الأصغر، لأن الأصغر ولد مدعي الأكبر، وفي الاستحسان: يثبت لأن أمية الولد للأكبر لم تكن ظاهرة وقت العلوق بالأصغر، فإنما استولدها مدعي الأصغر بناءً على ظاهر الملك فيكون مغروراً، وولد المغرور ثابت النسب منه، وضمن مدعي الأصغر قيمة الأصغر لشريكه لما ذكرنا أنه ولد المغرور، وولد المغرور حر بالقيمة عليه إجماع الصحابة. من مشايخنا من قال: ما ذكر من الجواب قولهما لا قول أبي حنيفة رحمه الله، فإن ولد أم الولد ليس بمتقوم عنده كالأم، ومنهم من قال: لا بل هذا قول الكل لأن حكم الاستيلاد حالة العلوق بالأصغر لم يكن ظاهراً، وإنما يثبت عند الدعوى بطريق الاستناد إلى وقت العلوق بالأكبر، والمستند ثابت من وجه ظاهر من وجه، فلا يسقط تقوم مالية الولد بالشك، ولأن مدعي الأصغر مغرور على ما ذكرنا، والمغرور بأم ولد الغير يغرم القيمة (239ب4) بلا خلاف، وضمن مدعي الأصغر لشريكه جميع عقرها كذا ههنا، وهو إشارة إلى حقيقة الواجب، لأنه استولد أم ولد الغير، واستيلاد أم ولد الغير يوجب جميع العقر، وذكر في كتاب «الدعوى» : أنه يضمن نصف العقر، وهو إشارة إلى الحاصل بعد المقاصة؛ لأنه وجب لمدعي الأصغر، وعلى مدعي الأكبر نصف العقر، ووجب لمدعي الأكبر على مدعي الأصغر جميع العقر، فصار النصف بالنصف قصاصاً بعد الحاصل بعد المقاصة النصف. فإن قيل: ينبغي أن تصير الجارية أم ولد لمدعي الأصغر دون مدعي الأكبر؛ لأنه

ادعى نسب الأصغر قبل صيرورة الجارية أم ولد لمدعي الأكبر؛ لأن ذلك لا يسبق تصديقه، قلنا: مدعي الأصغر لما قال: الأكبر ابن شريكي فقد أقر بشيئين: بثبات نسب الأكبر من مدعي الأكبر، وبخروج الجارية من أن تكون محلاً لأمية الولد في حق نفسه، فثبات نسب الأكبر من مدعي الأكبر إن توقف على تصديق مدعي الأكبر فخروج الجارية من أن تكون محلاً لأمية الولد في حق مدعي الأصغر لا يتوقف على تصديق مدعي الأكبر؛ لأنه إقرار على نفسه وهذا سابق على دعواه للأصغر، فلهذا لا تصير الجارية أم ولد لمدعي الأصغر، وأما إذا كذبه شريكه ثبت نسب ولد الأصغر من مدعي الأصغر، وصارت الجارية أم ولد له، وضمن لشريكه نصف قيمتها ونصف عقرها ولا يضمن من قيمة الولد شيئاً. قال مشايخنا: وينبغي أن يكون هذا الجواب على قول أبي حنيفة: لا تصير الجارية أم ولد لمدعي الأصغر؛ لأنه إقرار لا بأمية الولد للشريك، وإنها حق لا ينفسخ بالرد والتكذيب، فبقي الإقرار به قائماً فلا تصح دعواه بعد ذلك لنفسه، وصار كما لو أقر بنسب ولد جارية من عبده وكذبه عبده في ذلك، ثم ادعاه المولى لنفسه؛ لم يصح عند أبي حنيفة، وطريقه ما قلنا، ولكن ثبت نسب الأصغر منه لأنه ليس من ضرورة بطلان حق الاستيلاد بطلان حق الولد، ويمكن أن يقال بأن هذا قول الكل؛ لأنا نعتبر هذا الإقرار في حق حريتها، ووجوب نصف قيمتها للشريك، وهذا أمر منفصل عن أمية الولد في الجملة، فجاز أن يصدق فيه، ولا يثبت نسب الأكبر من الشريك، ويكون الحكم فيه كالحكم في عبدين شريكين؛ شهد أحدهما على صاحبه بالعتق على ما ذكرنا قبل هذا. (نوع آخر) يتصل (بهذا) النوع قال محمد رحمه الله في «الجامع» : رجلان اشتريا جارية وقبضاها، فولدت عندهما ولداً، فادعى أحد الرجلين الجارية أنها ابنته، وادعى الآخر الولد أنه ابنه، وقد كانت الدعوتان منهما معاً، وكل واحد من المدعيين بحال يولد لمثله للمدعي، فإن كانت الولادة لستة أشهر فصاعداً من وقت الشراء كانت دعوى المدعي الولد أولى، ويصير الولد ابنه، والجارية أم ولد له؛ لأن دعوى مدعي الولد دعوى استيلاد، لأن علوق الولد حصل، والجارية في ملكهما؛ لأن موضوع المسألة أن الجارية جاءت بالولد لستة أشهر فصاعداً، أو ستة الأشهر مدة يحدث فيها الولد التام والحبل عارض، والأصل في الحوادث أن يحال بها على أقرب الأوقات؛ فهو معنى قولنا أن دعوى مدعي الولد دعوى استيلاد، ودعوى مدعي الجارية دعوى تحرير، ولأن علوقها لم يكن في ملكهما، وقد ذكرنا أن دعوى الاستيلاد مع دعوى التحرير إذا اجتمعتا كانت دعوى الاستيلاد أولى. وإذا صارت دعوته أولى ثبت نسب الولد منه، وتصير الجارية أم ولد له، ويضمن لشريكه نصف قيمة الجارية لأنه يملك نصيب شريكه من الجارية لأنه لما استولدها صار نصيب المستولد من الجارية أم ولد له، وصار نصيب الشريك أم ولد له أيضاً؛ لأن أمية الولد عبارة عن صيرورة الجارية فراشاً للمولى حتى إذا جاءت بالولد ثبت النسب من

المولى غير دعوى؛ كما في النكاح، وهذا مما لا يتحرى لأنه لا يتصور أن يكون البعض منها فراشاً، ولا يكون البعض فراشاً. قلنا: ولا يصير نصيب الشريك أم ولد للمستولد إلا بتملكه نصيب شريكه، فيصير متملكاً نصيب شريكه بالضمان. قال: ويضمن لشريكه نصف قيمتها موسراً كان أو معسراً؛ لأن ضمان الاستيلاد لا يختلف باليسار والعسار ويضمن لشريكه نصف عقرها أيضاً؛ لأن العلوق بالولد لما كان في ملكها بالطريق الذي قلنا صار هو واطئاً جارية مشتركة، فإن قيل: ينبغي أن لا يضمن مدعي الولد شيئاً من قيمة الجارية ومن عقرها لشريكه، لأن الشريك أقر أنها حرة لمَّا ادعى أنها ابنته، قلنا: نعم إلا أن إقراره قد بطل، وبيان ذلك في وجهين: أحدهما: أنه إنما أقر بحريتها بعدما هي زائلة عن ملكه من حيث الحكم والاعتبار، بيانه: ما ذكرنا أن دعوى مدعي الولد دعوى استيلاد، ودعوى مدعي الجارية دعوى تحرير، ودعوى الاستيلاد تستند إلى وقت العلوق، ودعوى التحرير تقتصر على حال وجودها فصارت دعوى مدعي الولد سابقة حكماً واعتباراً، فصار مدعي الولد متملكاً نصيب شريكه من الجارية، من وقت العلوق، فصار مدعي الجارية مقراً بحريتها بعدما زالت هي عن ملكه من حيث الحكم والاعتبار فلم يصح إقراره، فصار وجوده والعدم بمنزلة. فإن قيل: لم لا يجعل هذا الإقرار مجازاً عن الإبراء عن نصف العقر؟ قلنا: لو جعلنا مجازاً عن الإبراء أيضاً لا يصح ولا يبرأ؛ لأن صاحبه وهو مدعي الولد يأبى ذلك لما زعم أن الجارية صارت أم ولد له، ولو أبرأه عن ذلك صريحاً ولم يقبله مدعي الولد كان لا يبرأ فكذا ههنا، وكان كمن اشترى عبداً بألف درهم ثم أقر البائع أنه كان أعتقه قبل البيع وكذبه المشتري في ذلك، فإن المشتري لا يبرأ عن الثمن وطريقه ما قلنا. الوجه الثاني لبطلان إقراره: أن مدعي الولد بدعوى الولد استحق على شريكه تملك نصيبه من الجارية وإنما استحق التملك عليه بالقيمة؛ لأن تملك مال الغير من غير رضاه لا يجوز إلا بالقيمة، فهو بهذا الإقرار يريد إبطال الاستحقاق الثابت له عليه، وهو لا يملك إبطال الاستحقاق الثابت له عليه، وهو لا يملك إبطال الاستحقاق الثابت للغير عليه؛ فقلنا: إنه لا يصح إقراره، وصار وجود هذا الإقرار والعدم بمنزلة، فلهذا قال: له نصف قيمة الجارية، وكمن باع عبداً ثم إن البائع أقر أنه كان حر الأصل؛ فإنه لا يسقط عن المشتري شيء من الثمن. وإن كان هو ينكر وجوب الثمن له عليه لأن المشتري استحق تملك العبد عليه بالثمن فهو بهذا الإقرار يريد إبطال ذلك الاستحقاق الثابت للمشتري عليه، فلم يصح إقراره كذا ههنا. فإن قيل: إذا وجب نصف قيمة الجارية لم لا يدخل فيه نصف العقر كما في الأب إذا استولد فإن هناك لما ملك الأب الجارية بالقيمة دخل فيها العقر؛ حتى لا يضمن العقر.

قلنا: عدم وجود العقر ثمة ما كان باعتبار أنه دخل في قيمة الجارية بل باعتبار أن الأب يملك الجارية سابقاً على الوطء شرطاً لصحة الاستيلاد، لأن نصيبه يكفي لصحة الاستيلاد، وإنما يتملك نصيب الشريك بعد الاستيلاد، وبعدما ثبتت أمية الولد في نصيبه بالطريق الذي قلنا، فالوطء صادف جارية مشتركة، فيضمن نصف العقر لهذا، ولا يضمن مدعي الولد شيئاً من قيمة الولد؛ لأنه لا وجه إلى أن يضمن قيمته بعد الولادة لأن الولادة حصلت كلها في ملكه، فكان الولد حاصلاً في ملكه ولا وجه إلى أن يضمن قيمته حالة العلوق، وإن كانت الجارية ملكها وقت العلوق؛ لأنه كان ماء مهيناً في ذلك الوقت، هذا إذا جاءت بالولد لستة أشهر من وقت شرائه إياها، فأما إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت شرائه إياها وباقي المسألة بحالها؛ صحت دعوى كل واحد منهما فيما ادعى، ويثبت نسب الغلام من مدعيه، ونسب الجارية من مدعيها، لأن دعوى كل واحد منهما دعوى تحرير لأن علوق كل واحد منهما لم يكن في ملكه فانعدم دليل السبق، وزال المرجح. قال: ويضمن شيئاً من قيمة الجارية، وإن زعم أنه يملك نصيب شريكه من الجارية بالقيمة إلا أن شريكه يكذبه من إقراره فإنه يقول بأن مدعي الولد لم يتملك على نصيبي من الجارية؛ لأنها علقت حرة أو رقيقة إلا أنها عتقت على حين اشتريناها، وقد صحت هذه المقالة منه لقيام ملكه في الجارية (240أ4) وقت هذه المقالة، ولم يصر مكذباً شرعاً في هذه المقالة؛ لأن القاضي قضى بعتق الجارية كما قال، وأما لا يضمن له شيئاً من قيمة الولد؛ لأن مدعي الجارية يقول: إنه ما أتلف الولد علي لأنه حافدي، وقد علق حر الأصل، ولم يصر مكذباً في هذه المقالة؛ لأن القاضي حكم بحرية الولد كما يقول هو، وأما لا يضمن له شيئاً من عقرها، وزعمه معتبر شرعاً لما ذكرنا. قال: ولا يضمن مدعي الجارية من قيمة الجارية لشريكه عند أبي حنيفة إن كان موسراً يضمن نصف قيمتها، وإن كان معسراً فالجارية لا تسعى في ذلك. وعندهما: إن كان موسراً يضمن نصف قيمتها، وإن كان معسراً سعت الجارية في ذلك لأن في زعم شريكه أنه بدعوى الجارية أتلف عليّ أم ولدي، وحال بينهما وبيني إلا أن رق أم الولد ليس بمتقوم عند أبي حنيفة وعندهما هو متقوم، والمسألة معروفة في عتاق الأصل، وكذلك لا يضمن مدعي الجارية من عقر الجارية لشريكه؛ لأن مدعي الجارية ما أقر بوطء الجارية وإنما أقر بوطء أم الجارية، وأم الجارية لم تكن مملوكة لشريكه. رجلان اشتريا جارية، فولدت في ملكهما ابنة لستة أشهر فصاعداً، فكبرت الابنة وولدت ابنةً، ثم ادعى أحد الشريكين البنت الكبرى، وادعى الشريك الآخر البنت الصغرى، وكان الدعوتان منهما معاً كما ذكر في «الكتاب» أنه يثبت نسب كل واحدة منهما من مدعيها، أما نسب الكبرى فإنما يثبت من مدعيها؛ لأن دعوته دعوى الاستيلاد؛ لأن علوق الكبرى كان في ملكهما، ودعوى الاستيلاد تستند إلى وقت العلوق، وفي تلك الحالة لا منازع له فصحت دعوته وثبت النسب منه، وأما نسب الصغرى فقد قيل ما ذكر

في «الكتاب» أنه يثبت نسب الصغرى استحساناً. والقياس: أن لا تصح دعوته؛ فلا يثبت نسبها منه، إلا أن محمداً رحمه الله لم يذكر القياس، والاستحسان في هذا «الكتاب» ، وإنما ذكر في عتاق الأصل في مسألة نسبه هذه المسألة. وجه القياس في ذلك: أنا حكمنا بثبوت نسب الكبرى من مدعيها؛ لما أن دعوته دعوى استيلاد، ودعوى الاستيلاد تستند إلى وقت العلوق، فتبين أن مدعي الصغرى ادعى نسب ولد حرة؛ وليس بينه وبينهما نكاح، ولا شبهة نكاح، فلم يصح. وجه الاستحسان: أن مدعي الصغرى حين ادعى الصغرى كان الملك ثابتاً لهما في الكبرى التي هي أم الصغرى ظاهراً، وملك الأم ظاهراً كافٍ لصحة الدعوى وإثبات النسب، كما في ولد المغرور، إلا أن المغرور يضمن قيمة الولد للمستحق، ومدعي الصغرى ههنا لا يضمن قيمة الصغرى لمدعي الكبرى؛ لأن المستحق يقول للمغرور: لولا دعوتك وأنت حامل بحال الجارية وإلا لكان الولد مملوكاً لي كالجارية، وإنما تلف الولد علي بدعوتك فكنت ضامناً له، وههنا لا يمكن لمدعي الكبرى أن يقول لمدعي الصغرى: لولا دعوتك الصغرى لكانت الصغرى مملوكة لي، لأن الصغرى ولد الحرة، وولد الحرة يكون حراً، فلم يصر مدعي الصغرى متلفاً على مدعي الكبرى ملكه في الصغرى، فلهذا لا يضمن. قال: ولا يضمن مدعي الصغرى أيضاً لمدعي الكبرى نصف قيمة الكبرى، وإن جعل مدعي الصغرى مقراً لأنه باستيلاد الكبرى يملك نصيب شريكه من الكبرى، لأن مدعي الكبرى يكذبه في إقراره؛ حيث ادعى أن الكبرى ابنته، وأنها حرة الأصل، وقد صحت هذه الدعوى منه شرعاً حتى حكمنا بحرية الكبرى وثبوت نسبها من مدعيها، ويضمن مدعي الصغرى نصف عقر الكبرى لها على رواية هذا الكتاب، وفي بعض روايات كتاب العتاق، قال محمد: يضمن مدعي الصغرى جميع عقر الكبرى، لأن مدعي الصغرى وطئها بعدما حكم بحريتها؛ لأن دعوى الكبرى استدرت إلى وقت علوقها، وثبت نسبها وحكم بحريتها من ذلك الوقت. وجه رواية هذا الكتاب: أن مدعي الصغرى كان نصفها مملوكاً له ظاهراً، فكان مقراً لشريكه بنصف العقر لو كمل العقر إنما يكمل بحكم الإسناد من حيث أن دعوى الكبرى تستند إلى وقت العلوق، فيظهر أنه وطىء الكبرى وهي حرة، إلا أن الاستناد إنما يظهر في حق ثبات النسب وما لا بد للنسب منه من حرية الولد من الأصل.h أما فيما للنسب منه بد فلا يظهر الاستناد في حقه بل تقتصر الدعوى على حال وجودها، وهذا لأن الاستناد إنما يثبت بطريق الضرورة لأن النسب يثبت من وقت العلوق فيظهر الاستناد في حق ثبات النسب، ولا بد لثبات النسب منه وللنسب بد من المستوفي بالوطء، فلا يظهر الإسناد في حقه. وإذا لم يظهر الإسناد في حق المستوفي بالوطء صار مدعي الصغرى واطئاً الكبرى،

والكبرى مشتركةً بينهما فيكون مقراً بنصف العقر، وإنما أوجبنا نصف العقر للكبرى مع أن مدعي الصغرى أقر بذلك لمدعي الكبرى لا للكبرى؛ لأن مدعي الكبرى حول ذلك من نفسه إلى الكبرى بإقرار أنها حرة الأصل، وذلك صحيح منه في حق نصيبه. قال: ويضمن مدعي الكبرى نصف قيمة الجدة حية كانت أو ميتة، ونصف عقرها لشريكه، لأن الجدة علقت بالكبرى وهي في ملكهما حقيقة، فصار مدعي الكبرى مستولداً جارية مشتركة بينه وبين غيره، ولا يضمن نصف قيمة الكبرى لأنه ضمن نصف قيمة الأم، وأحد الشريكين متى ضمن نصف قيمة الجارية لشريكه في دعوى الاستيلاد لا يضمن له شيئاً من قيمة الولد؛ لأنه يملك الجارية من وقت العلوق، ووقت العلوق كان ماء مهيناً لا قيمة له. وحالة الولادة وإن صار له قيمة إلا أن الولادة حصلت والجارية كلها ملك المستولد، فلم يجز أن يصير شيئاً من الولد لغيره وهو حادث على ملكه، هذا إذا كانت الجدة حية أو ميتة وقت الدعوى، فأما إذا قتلت الجدة وقد أخذ قيمة الجدة بينهما نصفان وباقي المسألة بحالها، والجواب في هذه المسألة والمسألة المتقدمة سؤالاً في فصلين؛ أحدهما: أن ههنا أب المدعي الكبرى لا يضمن نصف قيمة الجدة لمدعي الصغرى إنما يضمن له نصف العقر لا غير، لأن مدعي الصغرى لما أخذ نصف القيمة من القاتل فقد وصل إليه بدلها مرة، فليس له أن يأخذها ثانياً، إذ لا يجوز بإزاء مال واحد ضمانين وبدلين، بخلاف ما إذا كانت الجدة حية أو ميتة. الفصل الثاني: أن الجدة متى كانت حية أو ميتة وقت دعوتها كان لا يضمن مدعي الأكبر من قيمة الكبرى شيئاً في قولهم جميعاً لما مرَّ، وإذا كانت مقتولة فكذلك الجواب عند أبي حنيفة، وعندهما يضمن نصف قيمتها أم ولد، فأبو حنيفة رحمه الله سوَّى بين هذه المسألة وبين المسألة الأولى في هذا الفصل، لأن مدعي الصغرى أقر أن الكبرى أم ولد له، ومدعي الكبرى بالدعوى أعتقها، ورق أم الولد غير متقوم عنده، وأبو يوسف ومحمد فرقا بين هذه المسألة وبين المسألة الأولى وفي هذا الفصل. والفرق لهما: أن الجدة....، فيدخل فيها ضمان الولد فيكون الولد حر الأصل، فأما إذا كانت الجدة مقتولة فمدعي الكبرى لم يضمن من قيمة الجدة شيئاً حتى يدخل ضمان الولد فيه فيضمن نصف قيمة الكبرى لهذا. هذا الذي ذكرنا إذا كانت ولادة الكبرى لستة أشهر فصاعداً من وقت شرائها، فأما إذا كانت ولادة الكبرى لأقل من ستة أشهر من وقت (شرائها) والباقي بحاله صحت دعوى مدعي الصغرى، وصارت الكبرى أم ولد له، ولم تصح دعوى مدعيي الكبرى؛ لأن دعوته دعوى تحرير إلى العلوق بها لم يكن في ملكهما، ودعوى الصغرى تقتصر على الحال، ودعوى الاستيلاد تستند إلى وقت العلوق، فصارت دعوى مدعي الصغرى سابقة معنىً فكانت أولى، ولذا لم تصح دعوى

مدعي الكبرى، ولم يثبت نسب الكبرى منه، هل تصير الجدة أم ولد له؟ فهذا الشرط لمحمد رحمه الله يدل على أن الجدة إذا كانت ميتة إنها لا تصير أم ولد له، وفيما تقدم وهو أن ما إذا كانت ولادة الكبرى لستة أشهر من وقت الشراء؛ ذكر أن الجدة (240ب4) تصير أم ولد لمدعي الكبرى حية كانت الجدة أو ميتة، حتى ضمن مدعي الكبرى نصف قيمة الجدة لمدعي الصغرى على كل حال، والفرق أن حق الأم الولد إنما يثبت تبعاً للولد على ما عرف في موضعه، ففيما تقدم دعوى مدعي الكبرى دعوى استيلاد على ما مر؛ فتستند حرية الولد إلى وقت العلوق، فيثبت حق العتق للأم من ذلك الوقت تبعاً للولد، وفي ذلك الوقت هي محل لحقيقة العتق فكانت محلاً لحق العتق. أما في هذه المسألة دعوى مدعي الكبرى دعوى تحرير، فتقتصر الكبرى على حالة الدعوى فيثبت حق العتق للأم مقصوراً على حالة الدعوى أيضاً، فإن كانت حية كانت محلاً لحقيقة العتق، فتكون محلاً لحق العتق. وإذا كانت ميتة لم تكن محلاً لحقيقة العتق فلا يكون تحملاً لحق العتق، إذا لحق يلحق بالحقيقة، فإذا كانت الجدة حية حتى صارت أم ولد لمدعي الكبرى؛ ذكر أن مدعي الكبرى يضمن نصف قيمتها لمدعي الصغرى موسراً كان أو معسراً، فضمان الاستيلاد لا يختلف باختلاف اليسار والعسار، بخلاف ضمان العتاق حيث يختلف باختلاف اليسار والعسار. والوجه في ذلك: أن قضية القياس أن ضمان العتق يختلف أيضاً، ويكون على المعتق على كل حال؛ لأن المعتق هو المفسد لنصيب صاحبه عند أبي حنيفة، وهو المتلف على قولهما، إلا أنا تركنا القياس وأوجبناه على العبد إذا كان المعتق معسراً بالنص. والنص الوارد بإيجاب ضمان العتق على العبد إذا كان المعتق معسراً، ومنفعة الإفساد والإتلاف في نصيب الساكت كلها تحصل للعبد لا يعتبر وارداً دلالة في ضمان الاستيلاد، وعامة منافع نصيب الساكت حاصلة للمستولد لا للأمة من الإجارة والتزويج والاستخدام والوطء، وهو معنى ما نقل من المشايخ أن ضمان الاستيلاد ضمان بملك، فإن عامة منافع نصيب الساكت للمستولد لا للأمة فتكون ضمان بملك هذا الاعتبار، فوجب عليه موسراً كان أو معسراً لهذا. رجلان اشتريا جارية فولدت في ملكهما ولداً لأقل من ستة أشهر، فادعى الولد أحدهما صحت دعوته؛ لأنه يملك إعتاقه، وإن رد عليه شريكه فتصح دعوته من طريق الأولى؛ لأن الدعوى أسرع ثبوتاً بالإعتاق؛ بدليل أن الأمة تملك دعوى ولد جارية أمته، ولا يملك إعتاقه، وإذا صحت دعوته كانت الجارية أم ولد له، وضمن لشريكه نصف قيمتها يوم ادعى الولد؛ موسراً كان أو معسراً؛ لأنه صار متملكاً نصيب شريكه من الجارية. أكثر ما في الباب أنه أقر بالاستيلاد قبل الملك، وبالاستيلاد قبل الملك لا يثبت التملك، إلا أن الاستيلاد قبل الملك قد ينعقد موجباً أمومية الولد موقوفاً على الملك،

كما لو اشترى كما لو استولدها بالنكاح، ولا يضمن لشريكه شيئاً من عقرها لأنه لم يصر مقراً له بالعقر لأنه أقر بالاستيلاد وبالوطء سابقاً على المالك، والجواب في الولد كالجواب في العبد إذا كان بين اثنين؛ أعتق أحدهما؛ لأن هذه الدعوى في حق الولد دعوى تحرير؛ لأن العلوق به لم تكن في ملكهما، ولهذا ثبت الولاء للمدعي على الولد، وفي إعتاق أحد الشريكين خلاف ظاهر بين أبي حنيفة وبين صاحبيه في كيفية العتق، وفي كيفية الخيار للساكت، كذا ههنا، فإن قيل: المدعي لما ملك نصيب الساكت من الأم بالضمان ينبغي أن لا يضمن قيمة الولد كما في دعوة الاستيلاد؟ قلنا: في دعوة الاستيلاد يتملك نصيب شريكه من الجارية وقت العلوق، ولهذا يعتبر قيمتها يوم العلوق، وفي تلك الحالة الولد متصل بها فيصير متملكاً نصيب الشريك من الولد بتملك نصيب شريكه من الجارية بطريق التبعية، كما لو اشترى نصفها والولد في بطنها؛ فيكون ضمان نصفها ضمان نصفه بطريق التبعية، ألا ترى أن ثمن نصفها يصير ثمن نصفه بطريق التبعية، أو يقول في تلك الحالة: الولد ماء مهين لا قيمة له، فلا يلزمه بمقابلته شيء، أما ههنا ملك الأم بعد انفصال الولد منها وبعدما صار أصلاً، فلا يملك المدعي نصيب شريكه من الولد تبعاً لملك نصيب شريكه من الأم، فيبقى الولد مشتركاً بينهما، وبالتحرير أفسد وأتلف نصيب شريكه، وله قيمته، فيضمن إذا كان موسراً. نوع آخر يتصل بهذا النوع أيضا قال محمد رحمه الله: أمة بين رجلين جاءت بولدين في بطن واحد، فادعى أحدهما الأكبر، والآخر ادعى الأصغر، وخرج الكلامان منهما معاً؛ صحت دعوى كل واحد منهما استحساناً، ولو بدأ أحدهما بالدعوى؛ إن بدأ مدعي الأكبر بدعوى الأكبر ثبت نسب الأكبرمنه، ولم يثبت نسب الأصغر منه؛ لأن تخصيص الأكبر بالدعوى نفى الأصغر دلالة، فكان نفي الأصغر صريحاً، ويكون الأصغر ولد أم ولد مدعي الأكبر مملوكاً له لأن الجارية صارت كلها أم ولد لمدعي الأكبر حالة العلوق بالأكبر، والأصغر حدث بعد ذلك، فلهذا كان الأصغر مملوكاً لمدعي الأكبر، وولد أم ولده. ويضمن مدعي الأكبر لشريكه نصف قيمة الجارية، ونصف عقرها، ولا يضمن شيئاً من قيمة الولد للأصغر بعد ذلك؛ لأنه ادعى ولد أم ولد المدعي الأكبر، ومن ادعى ولد أم ولد الغير لا تصح دعوته إلا بتصديق ذلك الغير، ويضمن مدعي الأصغر لمدعي الأكبر جميع عقرها؛ لأنه أقر بوطء أم ولده، إلا أن لمدعي الأصغر على مدعي الأكبر نصف العقر ونصف قيمة الجارية، فيتقاصان إن لم يكن ثمة فصل، ويراد أن الفصل إن كان يفصل. وإن بدأ مدعي الأصغر بدعوى الأصغر ثبت نسب الأصغر منه، وتصير الجارية كلها أم ولد له، ويضمن لشريكه نصف قيمة الجارية ونصف عقرها؛ ولا يضمن شيئاً من قيمة الولد الأصغر لأنه ضمن الأم فلا يضمن الولد وينفي الأكبر ما كان مشتركاً بينهما، فإذا ادعى بعد ذلك الأكبر صحت دعوته لأنه ادعى نسب شخص بعضه مملوك له، وضمن

لمدعي الأصغر نصف قيمة الأكبر إن كان موسراً، إلا أنه لا يمكن أن يجعل دعوته للأكبر دعوى استيلاد فجعلناه دعوى تحرير، فصار معتقاً نصيبه بدعوته، وصار في حق الشريك كأنه أعتقه، فيكون الجواب فيه كالجواب في عبد بين شريكين أعتقه أحدهما. نوع آخر يتصل بهذا النوع وإذا مات الرجل وترك أمةً حاملاً، وترك ابنين، وادعى أحدهما أن الحبل منه، وادعى الآخر أن الحبل من أبيه، وخرج الكلامان معاً، صحت دعوى الذي ادعى الآخر أن الحبل منه، ولا تصح دعوى الذي ادعى أن الحبل من أبيه، لأن الذي ادعى الحبل منه يحمل النسب على نفسه، فيكون مقراً على نفسه، والذي ادعى أن الحبل من أبيه يحمل النسب على الغير، فيكون مقراً على الغير، فكانت دعوى من يحمل النسب على نفسه أولى، وإذا صحت دعوى الذي ادعى أن الحبل منه دون دعوى صاحبه صار كأن الذي ادعى الحبل من نفسه تفرد بالدعوى، ولو تفرد هو بالدعوى تصح دعوته، وتصير الجارية أم ولد له ويضمن نصف قيمتها لشريكه كذا ههنا. فإن قيل: كيف يضمن نصف قيمتها لشريكه، وإن من زعم شريكه أنه ليس عليه قيمة الجارية؛ لأنه في زعم شريكه أنها أم ولد للأب، وأنها عتقت بموت الأب؟ قلنا: لأن شريكه صار مكذباً في زعمه حين جعل القاضي الجارية أم ولد لمدعي الحبل عن نفسه فالتحق زعمه بالعدم، وضمن جميع عقرها لأبيه، إلا أنه لما مات الأب ورث من ذلك نصفه فسقط عن النصف وبقي النصف الآخر لصاحبه، قال شيخ الإسلام: هذه المسألة تنصيص (على) أن دعوى التحرير تنتظم الإقرار بالوطء، كدعوى الاستيلاد لأن وضع هذه المسألة في رجل مات وترك أمة حاملاً، فهذا يوجب أن يدخل في ملك الاثنين وهي حامل، فتكون دعوى مدعي الحبل عن نفسه دعوى تحرير، ومع هذا وجب عليه العقر، وفي هذا الفصل اختلاف المشايخ على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. هذا الذي ذكرنا إذا خرج الكلامان معاً. وكذلك الجواب فيما إذا بدأ مدعي الحبل من نفسه بالدعوى، والكلام فيه أظهر. ولو بدأ الذي ادعى الحبل عن ابنه بالدعوى، لا تصح دعوته في حق النسب (241أ4) لأنه يحمل النسب على الغير، ولكن يعتق نصف الجارية ونصف الولد بإقراره؛ لأنه زعم أن الجارية عتقت بموت الأب، وأن الولد حر الأصل وهو مالك لنصفها، فيصح إقراره بعتق نصف الجارية والولد، ويبقى نصف الجارية ونصف الولد رقيقاً للآخر عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن العتق عنده متجزئ ولا يضمن المدعي لأخيه شيئاً لا من الأم ولا من الولد لأن المدعي لم يقر بسبب الضمان، فإنه لم يقر أنهما عتقا من جهته، وإنما أقر أنهما عتقا من جهة أبيه، وعتق الأب لا يوجب عليه ضماناً فيكون منكراً للضمان، وهو بمنزلة عبد بين شريكين أقر أحدهما أن صاحبه أعتق نصيبه؛ لا يضمن لصاحبه شيئاً، وإن فسد نصيب صاحبه بإقراره؛ لأنه أقر بإعتاق صاحبه لا بإعتاق نفسه كذا ههنا، وأما على قول أبي يوسف ومحمد: إذا ادعى أن الحبل من أبيه أعتق

الجارية كلها والولد لأن العتق عندهما لا يتجزّأ ولا يضمن لصاحبه شيئاً لما ذكرنا، فإن ادعى الآخر الولد بعد ذلك أنه ابنه؛ فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله صحت دعوته، لأن ملكه في نصف الجارية والولد قائم عنده، وهذا كافٍ لصحة الدعوى، وصار نصيبه من الجارية أم ولد له، ولا يضمن لصاحبه شيئاً لا من الولد ولا من الجارية، لأن المدعي لم يفسد على صاحبه نصيبه، لأن نصيب صاحبه عتق عليه بإقراره؛ لأن الحبل من أبيه، ويضمن نصف العقر لصاحبه، إن صدقه صاحبه أخذ ذلك منه لأن في زعمه أنه وطء جارية الأب وضمن العقر لأبيه، إلا أنه ورث النصف من ذلك فسقط عنه النصف، وبقي النصف لصاحبه فيأخذه صاحبه إن صدقه صاحبه في ذلك، وإن كذبه بطل زعمه وإقراره، وعلى قول أبي يوسف ومحمد ثبت نسب الولد منه استحساناً وإن لم يكن له فيه ملك لما أنه عتق كله بإقرار المدعي الأول، إنما يثبت لأنه ادعى نسب صغير ليس له نسب معروف، فتصح دعوته استحساناً، كما لو ادعى نسب لقيط وضمن نصف العقر لصاحبه لما ذكرنا. (نوع آخر) يتصل (بهذا) النوع قال: أمة بين رجلين جاءت بولد فادعياه، وقد ملك أحدهما نصيبه منذ شهر وملك الآخر نصيبه منذ ستة أشهر، فدعوى صاحب الملك الأول أولى؛ لأن دعوته سابقة معنى؛ لأن دعوته دعوى استيلاد وتستند إلى وقت العلوق، وإذا صارت دعوته أولى ذكر أنه يضمن نصف قيمتها، ونصف عقرها، ولم يذكر أنه لمن يضمن لصاحبه أو لبائع صاحبه، قالوا: وينبغي أن يضمن ذلك لبائع صاحبه؛ لأن دعوته دعوى استيلادتستند إلى وقت العلوق، والعلوق كان في ملك بائع صاحبه فصار متملكاً على بائع صاحبه نصيبه فيضمن نصف قيمتها، ونصف عقرها لبائع صاحبه من هذا الوجه، وظهر أن البائع حين باع هذا النصف باع أم ولد الأول فيكون باطلاً، فيجب على البائع أن يرد جميع الثمن على صاحب الملك الآخر، وهل يضمن صاحب الملك الآخر العقر لصاحب الملك الأول؟. لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل ههنا، وذكر المشايخ في شروحهم: أنه يضمن جميع العقر للمالك الأول؛ لأنه ظهر أنه أقر بالوطء بعدما صارت الجارية كلها أم ولد لصاحب الملك الأول، وما ذكره المشايخ إشارة إلى دعوى التحرير لا ينتظم الإقرار بالوطء، فإن دعوى صاحب الملك الآخر دعوى تحرير، إذ العلوق لم يكن في ملكه. وصاحب شرح «مختصر الطحاوي» يشير إلى أن دعوى التحرير لا ينتظم الإقرار بالوطء، لأن دعوى التحرير تقتصر على الحال، ولا تستند إلى ما قبل ذلك ومتى لم تستند إلى ما قبل ذلك لا ينتظم الإقرار بالوطء في ملك الغير، ومحمد رحمه الله لا يذكر العقر في دعوى التحرير؛ إنما يذكره في دعوى الاستيلاد، فكأن محمداً صحح دعوى التحرير باعتبار الملك في الحال من غير اعتبار الوطء، كما يصح العتق باعتبار الملك الثابت للحال، وأراد بقوله في «الكتاب» : دعوى التحرير تقتصر على الحال: الاقتصار في حق

العتق والنسب، وإذا اعتبر مقصوراً على الحال في حق بيان ثبات النسب حكماً لم ينتظم إقراراً بالوطء، هذا إذا علم المالك الأول من المالك الآخر، فأما إذا لم يعلم ثبت نسب الولد منهما، وتصير الجارية أم ولد لهما لأنهما استويا في الدعوى لأن دعوى كل واحد منهما احتمل أن تكون دعوى تحرير. قال: ولا عقر على واحد منهما، قال بعض مشايخنا: لم يرد بقوله لا عقر على واحد منهما أصلاً؛ وإنما أراد به: لا عقر على واحد منهما لصاحبه، ولا شك أنه لا عقر لواحد منهما على صاحبه، وإن صار واطئاً ملك صاحبه، إلا أن الوطء في ذلك ليس بمعلوم، فكان المقضي عليه بالعقر، والمقضي له بالعقر مجهولاً، ولا يمكن الجهالة في الموضعين فمنع القضاء. إما يضمنا نصف العقر للبائع لأن المقضي وهو نصف العقر معلوم، والمقضي له وهو البائع أيضاً معلوم، وإنما الجهالة في المقضي عليه لا غير، وتمكن الجهالة في موضع واحد لا يمنع القضاء بل يقضي ويودع كما في مسألة الطلاق وإلى هذا مال شيخ الإسلام رحمه الله، وبعض مشايخنا قالوا: لا عقر على واحد منهما أصلاً، إما لصاحبه فغير مشكل لأنا لم نتيقن أن كل واحد منهما وطء ملك شريكه، وإما لبائع صاحبه فلأنه إنما يجب العقر للبائع على من حصل وطؤه في ملك البائع وأنه مجهول، والمال لا يجب على المجهول، وإلى هذا مال شمس الأئمة السرخسي، والأول أشبه بأصول أصحابنا. وإذا كانت الأمة بين رجل وامرأة جاءت بولد فادعى الرجل وأب المرأة نسب الولد كانت دعوى الرجل أولى لأنه صاحب حقيقة الملك، ولأب المرأة تأويل الملك، والتأويل لا يعارض حقيقة الملك، ولأن دعوى الرجل تثبت من غير تقديم الملك له على العلوق، فكانت دعوى الرجل سابقة معنى. أمة بين رجلين ولدت ولداً ميتاً، أو أسقطت سقطاً استبان خلقه، فادعاه أحدهما صحت دعوته وصارت الجارية أم ولد له، وكان ينبغي أن لا تصير الجارية أم ولد له لأن نسب الولد لا يثبت بهذه الدعوى لاستغناء الولد عن النسب، وحق العتق للأم ثبت تبعاً لثبات نسب الولد، والجواب: أن العمل بحقيقة هذه الدعوى إن تعذر وهو إثبات النسب لكون الولد ميتاً أمكن العمل بمجازه، ويجعل قوله: هذا ولدي عبارة عن قوله: هذه أم ولدي بهذا الولد، وهذا لأن نسب الولد إذا ثبت بأن كان الولد حياً كان من حكمته أن تصير الجارية أم ولد له، فعند تعذر العمل بحقيقته يجعل كناية عن حكمه، فصار كأنه قال: هذه أم ولدي بهذا الولد، ونظيره مسألة هذا ابني؛ على قول أبي حنيفة رحمه الله. أمة بين رجلين جاءت بولد فادعاه أحدهما في مرض موته صحت دعوته وثبت نسب الولد منه لأن العلوق اتصل بملكه وتصير الجارية أم ولد وتعتق من جميع المال إذا مات. فرق بين الاستيلاد والتدبير، فإن عتق المدبر يعتبر من ثلث المال؛ لأن التدبير وصية، وإنه من فضول الحوائج والاستيلاد من حوائجه الأصلية، لأنه تعلق به حياته المعنوية، فصار كثمن الأدوية وأجرة الطبيب، وقد ذكرنا هذا في كتاب العتاق وهذا إذا

كان الولد ظاهراً، أما إذا لم يكن ظاهراً يعتق من الثلث كالتدبير والله أعلم. نوع آخر يتصل بهذا الفصل أمة بين رجل وابنه جاءت بولد فادعياه، فالقياس: أن يكون بينهما، وفي الاستحسان: هو ابن الأب، لأن الابن مع الأب استويا في الملك في النصف، ويرجح الأب بزيادة تأويل الملك له في مال الابن ليس ذلك للابن في مال والده، وإذا صار الولد للأب صارت الجارية أم ولد له، وضمن الأب لابنه نصف قيمتها ونصف عقرها، بخلاف ما إذا كان الكل للابن لأن بملك الأب نصيب الابن ههنا بحكم الاستيلاد لا شرط بصحته، فإن قيام الملك له في النصف كافٍ لصحة الاستيلاد كان الوطء في نصف الجارية ملاقياً ملك الابن، أما إذا كانت الجارية كلها للابن فملك الأب الجارية شرط الاستيلاد إذ ليس للأب في الجارية ما يكفي لصحة الاستيلاد، فكان الوطء مضافاً إلى ملك نفسه؛ وعلى هذا القياس والاستحسان إذا كانت الأمة بين الجد وابن الابن، أما إذا كانت الأمة بين أخوين أو بين رجل وعمه أو خاله أو ابن خاله فالولد يكون بينهما لأنهما استويا من كل وجه. نوع آخر في دعوى الرجل (241ب4) ولد أمته قال محمد رحمه الله: رجل له أمة لها أولاد قد ولدتهم في بطون مختلفة من غير زوج، فقال المولى: جد هؤلاء ابني، فما دام المولى حياً يجبر على البيان؛ لأن المولى كما أقر بنسب أحدهم فقد أقر بحرية عبد من عبيده، فما دام المولى حياً يجبر على البيان، فإن مات قبل البيان وقد كان قال هذه المقالة في صحته أجمعوا على أن النسب لا يثبت حتى لا يرث واحد منهم من الميت، لأن النسب مجهول، وجهالة النسب مما يمنع ثبوت النسب، وأجمعوا على أن أم الأولاد تعتق؛ لأنا تيقنا بعتقها، فإن أب الأولاد هو المراد بالدعوى، صارت الجارية أم ولد وتعتق بموته. وكم يعتق من الأولاد؟ اختلفوا فيه، قال أبو حنيفة: يعتق من كل واحد منهم ثلثه، ويسعى في ثلثي قيمته. وقال محمد: يعتق الأصغر كله، ويعتق من الأوسط نصفه، وسعى في نصف قيمته، ويعتق من الأكبر ثلثه، وسعى في ثلثي قيمته، ولم يذكر قول أبي يوسف في «الكتاب» ، وحكي أن الفقيه أبا أحمد العياضي كان يروي عن أبي يوسف أنه قال: ما تيقنت بعتقه عتق كله، كما قال محمد: وما لم أتيقن بعتقه، فإن قولي فيه مثل قول أبي حنيفة، فعلى هذا يعتق الأصغر كله على قوله، ويعتق من الأوسط والأكبر من كل واحد ثلثه.g وجه قول محمد رحمه الله: أنا تيقنا بعتق الأصغر؛ لأنه إذا كان المراد بالدعوى هو عتق هو، لأنه ابنه، وإذا كان المراد بالدعوى الأكبر أو الأوسط، فكذلك يعتق الأصغر لأنه ولد لأم الولد، فأما الأوسط يعتق في حالتين: وهو أن يكون المراد بالدعوى

هو أو الأكبر، ولا يعتق إن كان المراد بالدعوة الأصغر وأحوال االإصابة حالة واحدة، فصار يعتق في حال ولا يعتق في حال، فيعتق نصفه، وأما الأكبر فهو يعتق في حال ولا يعتق في حالين وهو أن يكون المراد بالدعوى الأوسط أو الأصغر، وأحوال الحرمان أحوال فيعتق ثلثه. وأما أبو حنيفة يقول: الأصغر إنما يعتق كله، والأوسط نصفه إذا اعتبرنا العتاق لهما من جهة أنفسهما ومن جهة أمهما كما اعتبره محمد، وتعذر اعتبار العتاق لهما بالجهتين، لما بينهما من التضاد والتنافي، فبعد هذا اختلفت عبارة المشايخ في بيان التضاد والتنافي بين الجهتين فبعضهم قالوا: العتق من جهة نفسه يثبت أصلاً بالدعوى، والعتق من جهة الأم يثبت تبعاً؛ لأنه يعتق تبعاً لعتق الأم؛ وبين كون الشيء تبعاً وأصلاً تنافٍ، فلا بد من اعتبار أحدهما وإلغاء الآخر، ولا شك أن إلغاء جهة التبعية أولى من إلغاء جهة الأصالة، وإذا وجب إلغاء للجهة التي تثبت لهما العتق من جهة الأم بقيت العبرة للجهة التي تثبت لهما العتق من جهة أنفسهما أصلاً، وباعتبار هذه الجهة ثبت لكل واحد منهما ثلث العتق؛ لأن كل واحد منهما يعتق في حال رق في حالتين، فيعتق من كل واحد منهما ثلثه. وبعضهم قالوا: ما يثبت لهما من العتق من جهة أمهما يثبت في ثاني الحال، وهو ما بعد موت السيد، وبينما يثبت من العتق في الحال، وبينما يثبت في الثاني تنافٍ؛ لأن الذي يثبت في الحال يزيل الرق في الحال، والذي يثبت في الثاني يزيل الرق في الثاني، وبين كون الرق زائلاً في الحال وغير زائل تنافٍ، فلا بد من إلغاء أحدهما، فنقول: إلغاء ما يوجب العتق في الثاني أولى من إلغاء ما يوجبه منجزاً في الحال، لأن المنجز أقوى، فلنا اعتبار جهة العتق التي تثبت لهما من جهة الأم، وبقيت العبرة للجهة التي تثبت لهما العتق من جهة أنفسهما، وباعتبار هذه الجهة تثبت لكل واحد منهما ثلث العتق على ما بينا، ولم يذكر ههنا أن الورثة هل يجبرون على البيان؟، وذكر في «وصايا الفتاوى» : أنهم يجبرون، وإذا بين واحد منهم وقالوا: هذا ولده يثبت نسبه؛ ولا يلتفت إلى قول الباقين وجحودهم. وإذا ولدت أمة الرجل ابناً من غير زوج فلم يدعه المولى حتى كبر الابن وولد الابن ولداً من أمة للمولى، ثم مات الابن الأول، ثم ادعى المولى أحدهما وقال: أحد هذين ابني، يعني الميت وأبيه، قال: يعتق الابن الأسفل كله، وهذا بلا خلاف، أما على أصل أبي حنيفة فلأنه لا يعتبر العتق من جهة نفسه، وباعتبار هذه الجهة يعتق الأسفل كله؛ لأن المولى يصير جامعاً بين حي وميت، وقوله: أحدكما حر، تنصرف الحرية كلها إلى الحي منهما، أما عند محمد فلأنه إن كان المراد بالدعوى هو عتق لأنه ابنه، وإن كان المراد بالدعوى الميت؛ عتق هو أيضاً؛ لأنه ابن ابنه فتيقنا بعتقه ويعتق من كل واحد من الجاريتين نصفها، لأن كل واحدة تعتق في حال وترق في حال

قال: أمة في يدي رجلين ولدت بنتاً، وولدت ابنتها بنتاً؛ فقال المولى في صحته: إحدى هؤلاء الثلاثة ولدي، ومات قبل أن يبين، فإنه تعتق السفلى كلها؛ لأنها إن كانت هي المراد فهي ابنته، فتعتق بهذه الجهة، فتيقنا بعتقها كلها، وكذلك الوسطى تعتق كلها؛ لأنها إن كانت هي المراد فهي ابنته، وإن كان المراد هي العليا فهي العليا، فيعتق نصفها، وسعت في نصف قيمتها لأنها إن كانت هي المرادة بالدعوى تعتق كلها، وإن كان المراد هي الوسطى فكذلك؛ لأنها ولد أم ولده، فتعتق بهذه الجهة، وإن كان المراد هي السفلى لا تعتق العليا، والعليا تعتق في حالين دون حال وأحوال الإصابة حالة واحدة في ظاهر الرواية، فكأنها تعتق في حال وترق في حال فَيُعتق نصفها، وسعت في نصف قيمتها. قالوا: ما ذكر في الجواب مستقيم على قول أبي حنيفة في حق الجملة إذا كانت العلة في إلغاء العتق الذي أثبت من جهة الأم في المسألة المتقدمة أن العتق من جهة الأم يثبت للولد تبعاً، ومن جهة نفسه ثبت مقصوداً؛ لأن السفلى تعتق في الأحوال الثلاثة من جهة نفسها مقصوداً؛ لأنها ابنة المدعي أو ابنة ابنته أو ابنة ابنة ابنته، وابنة الابنه، وابنة بنت الابنه، تعتق من جهة نفسها؛ لأنها أماً إن أثبت المدعي، أو ابنة ابنته، أو أم ولده، وابنة الابنة تعتق من جهة نفسها كالابنة وأم الولد تعتق من جهة نفسها أيضاً مقصوداً لا تبعاً لغيره؛ ألا ترى أنه مقصود عتقها بدون عتق الولد، بأن استولد جارية بحكم النكاح، ثم اشتراها دون الولد، ثم مات المستولد فإنها تعتق بموته، فاعتبار الجهات ممكن في هذه المسألة بخلاف المسألة المتقدمة؛ لأن هناك الأصغر نصيبه العتق في حال من جهة نفسه، وفي حالين من جهة الأم تبعاً، ألا ترى أن الأصغر لا يعتق ما لم تعتق الأم، وكذلك الأوسط على هذا، وبين الجهتين تنافٍ، فلا يمكن اعتبارهما، أما ههنا بخلافه. فأما إذا كانت علة إلغاء العتق على قول أبي حنيفة في تلك المسألة أن العتق الذي يصيب الابن من جهة نفسه منجز يثبت في الحال، والذي يثبت له من جهة أمه يثبت في ثاني الحال، فما ذكر من الجواب مستقيم على قوله في حق السفلى؛ لأنه نصيبها عتق منجز في الأحوال؛ لأنه إنما يصيبها العتق إما لأنها ابنة المدعي، أو ابنة ابنته، أو ابنة ابنة ابنته، والعتق بهذه الأسباب يقع منجزاً، أما لا يستقيم في حق الوسطى؛ لأن الوسطى تعتق في حال تعتق الأم في الثاني، فيجب إلغاء هذه الجهة، وباعتبار الجهة التي توجب العتق منجزاً للوسطى تعتق في حالين؛ بأن كانت هي المرادة أو العليا، ولا تعتق في حال بأن كان المراد هي السفلى، وأحوال الأصالة حالة واحدة في ظاهر الرواية، فكأنها تعتق في حال دون حال، فيعتق نصفها، وكذلك لا يستقيم هذا الجواب في حق العليا، ويجب أن يعتق منها ثلثها؛ لأن ما يصيبها من العتق بسبب أمومية الولد ساقط الاعتبار، وباعتبار الجهة التي يصيبها العتق من جهة نفسها تعتق في حال إن كان المراد هي، وترق في حال إن كان المراد هي السفلى أو الوسطى، وأحوال الحرمان أحوال باتفاق الروايات، فينبغي أن يعتق ثلثها وتسعى في ثلثي قيمتها. قال: أمة في يدي رجل ولدت ابناً من غير زوج، ثم ولدت ابنين في بطن آخر من

غير زوج، فنظر المولى إلى الابن الأكبر، وإلى أحد الابنين وقال في صحته: أحد هذين ولدي، ثم مات (242أ4) قبل البيان فإنه لا يثبت نسب واحد منهما لما مر، وعتقت الجارية كلها؛ لأنا تيقنا بعتقها، أراد بالدعوى الابن الأكبر أو أحد الابنين، وعتق الأكبر نصفه وسعى في نصف قيمته؛ لأن الأكبر يصيبه العتق من جهة نفسه، ولا يصيبه من جهة أمه؛ لأن ولادته قبل ولادة الابنين، وباعتبار جهة نفسه يعتق في حال ويرق في حال، فيعتق نصفه، ويعتق الأصغر كله بلا خلاف؛ لأنه لا يصيبه العتق من جهة نفسه، لأنه لم يدخل تحت الدعوى أصلاً، وإنما يصيبه العتق من جهة الأم، وأبو حنيفة يعتبر العتق من جهة الأم إذا كان لا يصيبه العتق من جهة نفسه، وباعتبار عتق الأم يعتق على كل حال، لأنه ولد أم الولد على كل حال، فيعتق بموت المولى، ويعتق من كل واحدة من الابنتين نصفها، وسعت في نصف قيمتها عند أبي حنيفة رحمه الله؛ هكذا ذكر في ظاهر الرواية. وروي في غير رواية «الأصول» : أنه يعتق من كل واحدة منهما ربعها، وسعت كل واحدة في ثلاثة أرباع قيمتها. وجه هذه الرواية: أن الدعوى إذا لم يثبت بها النسب يجعل كأنه عن حكمها وهو الحرية، فكأنه جمع بين الابن الأكبر وبين إحدى الابنتين وقال: أحدكما، فتثبت حرية كاملة للأكبر وبين إحدى الابنتين؛ نصفها للأكبر، ونصفها لإحدى الابنتين، وليست إحداهما * لتعينها للحرية * بأولى من الأخرى، فيكون ذلك النصف بين الابنتين لكل واحدة الربع. وجه ما ذكرنا في ظاهر الرواية: أن الدعوى متى لم توجب النسب تجعل كناية عن حكمه، وهو الحرية لو ثبت النسب على الحقيقة، ولو ثبت النسب على الحقيقة كان من حكمه حرية الأكبر أو حرية الابنتين؛ لأنهما توأمان لا يختلفان في حق النسب والحرية، فتثبت بهذه الدعوى لو ثبت النسب على الحقيقة، إما حريته أو حرية الابنين لا حرية أحدهما، فإذا لم يثبت النسب على الحقيقة يجعل كناية عن هذا كأنه قال: هذا حر أو هذان، فيكون لهما حريتان في حال، ولا شيء في حال، فيكون لهما حرية كاملة في ضمان، ولا شيء في حال، فيكون له النصف. وعلى قول محمد رحمه الله: عتق الابنتان جميعاً؛ لأنه إن كان المراد بالدعوى إحداهما عتقا من جهة أنفسهما، وإن كان المراد هو الأكبر عتقا من جهة أمهما؛ لأنهما ولدا أم الولد، ومحمد رحمه الله يعتبر الأحوال في العتق (و) يعتبر الجهتين. ولو نظر إلى الابن الأكبر وإلى الابن الأصغر وقال: أحد هذين ابني ثم لم يبين؛ لم يثبت نسب واحد منهما لمكان الجهالة، ويعتق من الأكبر نصفه، ويسعى في نصف قيمته عندهم جميعاً؛ لأن الأكبر لا يصيبه العتق إلا من جهة نفسه، وباعتبار هذه الجهة هو يعتق في حال ولا يعتق في حال، وأما الأصغر فعلى قول أبي حنيفة: يعتق نصفه، وإن كان يعتق هو من جهتين؛ من جهة نفسه ومن جهة أمه؛ لأن أبا حنيفة لا يعتبر العتق من جهة الأم في حال

ما يصيبه العتق من جهة نفسه؛ باعتبار هذه الجملة، يعتق في حال إن كان المراد هو فيعتق. وعلى قول محمد: يعتق الأصغر كله؛ لأنه يعتبر العتق بالجهتين، وباعتبار الجهتين هو حر يتعين ويعتق من الابنتين، من كل واحدة منهما نصفها بلا خلاف؛ لأنه لا يصيبها العتق إلا من جهة الأم؛ لأنهما ما دخلتا تحت الدعوى أصلاً، وباعتبار عتق الأم هما يعتقان في حال إن كان المراد بالدعوى الأكبر، وإذا كان المراد بالدعوى الأصغر لا يعتقان أصلاً، فيعتق من كل واحدة نصفها. أمة في يدي رجل ولدت ثلاثة أولاد في (بطون) مختلفة من غير زوج، فنظر المولى إلى الأكبر منهم وقال: هذا ابني ثبت نسبه منه، وينتفي نسب الآخرين عند علمائنا الثلاثة، ونسب ولد أم الولد لا ينتفي إلا بالنفي، ولم يوجد النفي، ولنا: أن نفي الاثنين وجد دلالة؛ لأن تخصيص بعض الأولاد بدعوى نسبه دليل نفي الباقين، وهذا لأن الشرع أوجب على المولى إظهاراً لنسب هو ثابت منه بالدعوى فيكون تخصيص البعض، والحالة هذه دليل نفي الباقين، ودليل النفي كصريح النفي، ونسب ولد أم الولد ينتفي بمجرد النفي والله أعلم. (نوع آخر) يتصل (بهذا) النوع وإذا كان للرجل منكوحة حرة وأمة، جاءت كل واحدة منهما بغلام، ثم ماتت المنكوحة والأمة، فقال الرجل: أحدهما ابني ولا أعرف من هو فإنه لا يثبت واحد منهما، لأن هذا الإقرار لا حكم له؛ لأن أحدهما ابنه بدون إقرار، فصار وجوده والعدم بمنزلة. وإن انعدم هذا الإقرار ولا يعلم ولد المنكوحة من ولد الأمة؛ لا يقضى بنسب واحد منهما؛ لأن الثابت نسب أحدهما، وهو ولد المنكوحة، وإنه ليس بمعلوم، وإثبات نسب المجهول لا يمكن؛ لأن المقصود من النسب الشرف بالانتساب، وذلك لا يحصل بالمجهول، ولكن يعتق من كل واحد منهما نصفه؛ لأن أحدهما حر بيقين، وهو ولد المنكوحة، وعند الاشتباه ليس أحدهما لتعيينه للحرية بأولى من الآخر، فنسخ العتق فيهما، فيعتق من كل واحد نصفه، فهذه الجملة من «الأصل» . وفي «المنتقى» : بشر عن «أمالي» عن أبي يوسف: رجل له أمة ولها ثلاثة أولاد في بطون متفرقة، قال المولى في صحته: أحد هؤلاء ولدي من هذه الأمة، قال: يعتق الأسفل كله، وتعتق الأم، وأما الولد الأكبر والأوسط فيعتق من كل واحد منهما ثلثه كأنه قال؛ أو كما مر فإنما يعامل في العتاق بهذا الوجه مع من لم يعتق منهم على كل حال، وأما الذي يعتق على كل حال لا بد من عتقه عليه، وهذا الجواب ظاهر في حق الأول والأسفل، مشكل في حق الأوسط. وفيه أيضاً: رجل له أمة ولها ثلاثة أولاد ولدوا في ملكه في بطون مختلفة، فأشهد المولى في صحته على أحد الأولاد بعينه أنه ابنه من هذه الأمة، ثم مات ونسي الشهود أيهم هو، وشهدوا بالشهادة وقالوا: لا نحفظ الذي أرانا يومئذٍ، قال أبو يوسف: إني أعتق الأم والأصغر، أما الأم فلأنه أقر لها بأمية الولد، وأما الأصغر فلأنه يعتق على كل

حال، أشهد عليه أو على الأكبر أو على الأوسط، وأما الأكبر والأوسط فرقيقان؛ لأنهما يعتقان في حال ولا يعتقان في حال، فلا أعتقهما بهذه الشهادة، وقال: ألا ترى أن شاهدين لو شهدا على رجل أنه أعتق أحد عبيده بعينه، وقد نساه أني أبطلت الشهادة. (نوع آخر) ما يجب اعتباره في هذا النوع أن دعوى المدعي في حق ثبات النسب إنما تصح من غير تصديق المالك إذا كان العلوق في ملك المدعي كما في البائع، وفي حق الملك للمدعي، ولصاحب الحق ولاية حق استلحاق النسب على المالك كما في المكاتب، فإن دعوى المكاتب ولد جارية من أكسابه صحيحة من غير تصديق المولى؛ لأن للمكاتب ولاية إبطال حق استلحاق النسب على المولى بالبيع من غيره، ولو ادعى المولى نسب ولد جارية المكاتب لا يصح من غير تصديق المكاتب؛ لأنه ليس للمولى ولاية إبطال حق استلحاق النسب على المكاتب بالبيع من غيره. إذا ثبتت هذه الجملة جئنا إلى مسائل الباب فنقول: إذا ولدت جارية الرجل ولداً وادعى نسب هذا الولد لا تصح دعوته إلا بتصديق من الأب؛ لأن العلوق لم يحصل في ملك الابن ولا في حق الملك له، وليست له ولاية إبطال حق استلحاق النسب على الأب أيضاً؛ بأن يبيع أمته من غيره، فكان الابن وأجنبي آخر في ذلك على السواء، والأجنبي لو ادعى لا يصدق إلا بتصديق المالك، فكذا الابن، وكذلك لو ادعى الابن أنه تزوجها لا يصدق إلا بتصديق الأب، لا يدعي ملك بضع الأمة على الأب فلا يصدق؛ كما لو ادعى ملك رقبة الأمة عليه، فإن أقام الابن بينة على التزويج برضا الأب أو بغير رضاه؛ فإن نسب الولد ثبت منه، ويعتق لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت معاينة، ولو عاين القاضي أنه تزوجها نكاحاً صحيحاً برضى المولى، أو فاسداً بغير رضاه، ثم جاءت بولد في مدة تلد الأمة (242ب4) لمثلها؛ فإنه يثبت نسب الولد منه، ويحكم بعتقه؛ لأنه ملك ابن أمته. نوع آخر في إقرار المريض بالولد قال محمد رحمه الله: ملك عبداً في صحته، وأقر في مرضه أنه ابنه (لمثله) ، وليس له نسب معروف فهو ابنه، ويعتق ويرثه، ولا يسعى في شيء وإن لم يكن له مال غيره، وكان عليه دين يحيط بقيمته، وهذا لأن المرض لا يزيل أملاك المريض عنه، ألا ترى أن تصرفات المريض كلها نافذة، فالدعوى صادفت ملكه، ولم يكذب فيما ادعى لا حقيقة؛ لأن مثله يولد لمثله ولا حكماً؛ لأنه مجهول النسب من غيره فصحت دعوته كما في حالة الصحة، وعتق العبد عليه؛ لأنه ملك ابنه، ولا يسعى العبد وإن لم يكن له ما غيره، وكان على المريض دين يحيط بقيمته؛ لأن هذا عتق الصحة ومعتق الصحة لا يسعى لأحد.

بيانه: أن العتق ههنا ثبت حكماً لبيان النسب، والنسب لا يمكن إثباته مقصوراً على الحال؛ إنما يثبت مستنداً إلى وقت العلوق، كان يجب أن يستند العتق منه إلى وقت العلوق؛ لأنه حكمه إلا أن إسناد العتق إلى ما قبل الملك غير ممكن فيستند العتق إلى حالة التملك، والتملك كان في حالة الصحة فيعتق من ذلك الوقت، فهو معنى قولنا: إنه معتق الصحة، وهذا بخلاف ما لو أقر المريض أنه أعتق هذا العبد في صحته، فإنه يعتبر هذا عتق المريض، وأن ملكه في حالة الصحة؛ لأن إثبات العتق في الحال ممكن، فأثبتناه للحال ولم نصدقه في حق الإسناد لحق الورثة، فأما إثبات النسب مقصوراً على الحال غير ممكن فثبت مستنداً إلى وقت العلوق، وإذا استند السبب إلى وقت العلوق استند العتق إلى وقت العلوق أيضاً، وكذلك إذا ملك معه أمه وقد ملكها في حالة الصحة لا سعاية على الأم؛ لأن الأم لا تسعى لو ملكهما في حالة المرض لما تبين فههنا أولى. هذا إذا ملك العبد في حالة الصحة وحده أو مع المرض وادعى نسب الولد ثبت الولد منه وعتق عليه، وهل يجب على الولد السعاية؟ فهذا على وجهين. الأول: أن لا يكون للمريض مال يخرج العبد من ثلثه، وفي هذا الوجه تجب السعاية بخلاف ما لو ملكه في حالة الصحة لأنه متى ملكه في المرض كان معتق المرض، لما ذكرنا أن العتق يستند إلى وقت التملك، والتملك كان في حالة المرض فيكون معتق المرض، ومعتق المرض يعتبر عتقه من الثلث، فأما إذا ملكه في حالة الصحة كان معتق الصحة على ما ذكرنا فيعتبر عتقه من جميع المال. ثم إذا وجب عليه السعاية في هذه الصورة ففي أي قدر يسعى؟ ذكر أن على قول أبي حنيفة: يسعى في ثلثي قيمته، وعندهما: يسعى في جميع قيمته إلا قدر ما يخص الميراث وهذا لأن المستسعى عندهما حر مديون، وليس بمنزلة المكاتب فيكون وارثاً ولا وصية للوارث، فكان عليه أن يسعى في جميع القيمة رداً للوصية إلا قدر ما يخصه من الميراث، فإن ذلك يطرح عنه لأنه يستحيل أن يسعى لنفسه، فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله: فالمستسعى بمنزلة المكاتب والمكاتب لا يرث، فكانت الوصية صحيحة له بقدر الثلث فيسعى في ثلثي قيمته عند أبي حنيفة لهذا ولا يرث. هذا إذا كان للمريض مال يخرج العبد من ثلث ماله، فأما إذا لم يكن للمريض مال يخرج العبد من ثلث ماله، فعلى قولهما: يرث منه ويسعى في قيمته إلا قدر ما يصيبه من الميراث، وهذا لما ذكرنا أن المستسعى حر مديون فيكون وارثاً ولا وصية للوارث، فيلزمه السعاية في جميع القيمة رداً للوصية إلا قدر ما يخصه من الميراث لما ذكرنا، فأما على قول أبي حنيفة: يرث ولا يسعى في شيء من قيمته، فقد جمع أبو حنيفة بين أمرين متغايرين، فإنه قال: يرث ولا يسعى، ومتى ورث يجب أن يسعى رداً للوصية؛ لأنه لا وصية للوارث، فإذا سعى لا يكون وارثاً؛ لأن المستسعى بمنزلة المكاتب، فقد جمع بين أمرين متضادين من هذا الوجه، وإنما فعل كذلك ضرورة الدور.

بيانه: أنه متى أوجبنا السعاية لا يرث؛ لأنه يكون بمنزلة المكاتب عند أبي حنيفة، والمكاتب عنده لا يورث، وإذا لم يرث تصح الوصية له ويعتق كله فيرث، وإذا ورث لا تصح الوصية له فصحت السعاية فلا تزال تدور هكذا، وسبيل الدور أن يطرح من حيث يقع، وإنما يقع الدور بإيجاب السعاية عليه، فلهذا قال: لا يسعى، فأما الجارية فإنها تعتق بموته، ولا سعاية عليها وإن ملكها في حالة المرض عندهم لأن المحتبس عندهما بالإعتاق مال غير متقوم في حق الغرماء والورثة؛ لأن أمومية الولد في حق الغرماء والورثة كما لو كان الاستيلاد معاشاً، فكان المحتبس عندهما بالإعتاق مالية متقومة؛ لأنه لم يحدث فيه قبل العتق ما يسقط قيمته في حق الغرماء فإنما احتبس عنده بالإعتاق مالية متقومة، وإنه معتق المرض، فيجب عليه السعاية كما لو أعتقه. وزان مسألة أم الولد من مسألتنا ما لو ملكها في حالة المرض بدون الولد، وقال: إنها أم ولدي ثم مات، وهناك تسعى للغرماء والورثة إذا لم يكن معها ولد؛ لأنه لم يثبت بمجرد إقراره، ولا وجه إليه فاعتبر هذا في حق الغرماء والورثة بين اثنين، فكان المحتبس عندهما مالية متقومة، أما ههنا بخلافه. قالوا: ولو أن مريضاً وهب له ابن معروف النسب منه ولا مال له غيره وعليه دين يحيط بقيمته، فعليه أن يسعى في جميع قيمته عندهم، لأنه معتق المرض وقد احتبس عنده مالية متقومة ولا وصية مع الدين، فكان عليه أن يسعى في جميع قيمته. وإن كانت قيمة الابن أكثر من الدين بأن كان الدين ألفاً، وقيمة الابن أربعة آلاف لا شك أنه يسعى بقدر الدين؛ لأنه لا وصية في مقدار الدين، ومتى وجبت السعاية بقدر الدين يصير في معنى المكاتب عند أبي حنيفة، والمكاتب لا يرث، فتصح الوصية بمقدار ثلث الباقي وذلك ألف درهم، ويسعى في ثلثي الباقي وذلك ألفا درهم، وعندهما يسعى في جميع قيمته؛ لأن المستسعى عندهما حر مديون فيرث، ولا وصية للوارث فيسعى في جميع القيمة رداً للوصية إلا قدر ما يخصه من الميراث على ما ذكرنا. ولو وهب للمريض أم ولد معروفة لا سعاية عليها لما مر أن المحتبس عندهما مالية غير متقومة، ولو كان اشترى أم ولد معروفة لا سعاية عليها لا للغرماء ولا للورثة لما ذكرنا وإن كان في البيع محاباة بأن كانت قيمة الابن أقل من الألف وقد اشتراه المريض بألف درهم ولا مال له غيره، وعليه دين يحيط بجميع ماله، فإن البائع يرد الفضل على القيمة، وهو مقدار المحاباة، لأن المحاباة في مرض الموت وصية، والوصية مؤخرة عن الدين؛ وإن لم يكن عليه دين ولا مال غير ذلك يسلم للبائع من المحاباة قدر ثلثها بطريق الوصية، ورد الباقي على الورثة، ولا يجبر البائع وإن لزمه زيادة ثمن؛ لأن الرد متعذر لأنها صارت أم ولد للمريض، فلا يفيد التخيير. [ (نوع منه) في الشهادة على الولادة من الوارث وإذا كان رجل وامرأته مسلمين، ولدت المرأة ولداً وادعت أنه ابنها منه، والزوج يجحد ذلك، فشهد على الزوج ابنه أو أخوه أنه أقر أنه ابنه من هذه المرأة قبلت الشهادة،

أما شهادة الأخ، فلأنه يشهدعلى أخيه لابن أخيه، فإن الولد ابن أخيه في زعمه وشهادة الإنسان على أخيه ولابن أخيه مقبولة، وأما شهادة الابن فلأنه يشهد على أبيه لأخيه، وشهادة الإنسان على أبيه ولأخيه مقبولة. فإن قيل: الابن كما يشهد على أبيه لأخيه يشهد لامرأة أبيه أولاً فيما إذا وقعت هذه الدعوى بين الزوج وبين أمه، وشهادة الإنسان لأمه وامرأة ابنه غير مقبولة. قلنا: الأم في هذه الدعوى نائبة عن الولد، لأن منفعة هذه الدعوى للولد، فتكون نائبة عن الولد في الدعوى، فتكون دعواها كدعوى الابن لو كان كبيراً، ولو كان المدعي هو الابن دون (243أ4) الأم كانت هذه الشهادة مقبولة لأنها قامت على الأب للأخ كذا ههنا، ولو شهد على إقرار الزوج بذلك أب المرأة أو جدها لا تقبل شهادته ادعت المرأة أو جحدت، وأما الجد فلأنه يشهد لمناقلته إن ادعت ولولد ناقلته إن جحدت، وكذلك لو شهد بذلك أب الزوج أو جده لم تقبل شهادتهم ادعى الزوج أو جحد. نوع آخر في دعوى العبد التاجر قال محمد رحمه الله في «الأصل» : العبد المأذون له في التجارة إذا اشترى أمة ووطئها وولدت ولداً، ثم إن العبد ادعى نسب هذا الولد، صحت دعوته، صدقه المولى في ذلك أو كذبه؛ لأن العبد في أكسابه من تأويل الملك ما للأب من مال الابن وزيادة، أما أصل التأويل فلأن النبي عليه السلام أضاف كسب العبد إلى العبد بقوله: «من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع» ، كما أضاف مال الابن إلى الأب بقوله: «أنت ومالك لأبيك» ، وأما زيادة التأويل فلأن الكسب حصل بتصرف العبد، والعبد في حق التصرف بمنزلة الحر لا بمنزلة النائب عن المولى، لما عرف أن العبد بعد الإذن يتصرف بحكم فك الحجر لا بحكم النيابة عن المولى، وإذا كان العبد في التصرف بمنزلة الحر يجب أن يكون المستفاد له حقيقة الملك كما بعد العتق، فإن لم تثبت له حقيقة الملك؛ لأنه ليس من أهل حقيقة الملك لا أقل من أن يثبت له زيادة تأويل ملك، بسبب كونه أصلاً في التصرف. فهو معنى قولنا: إن للعبد في كسبه من تأويل الملك ما للأب في مال الابن وزيادة، فمن حيث أصل التأويل تصح دعوته من غير تصديق المولى، ومن حيث زيادة التأويل لم يحتج إلى التملك لثبات النسب بخلاف الأب ويملك العبد بيع الولد؛ لأنه لما ثبت النسب منه صار في مثل مال الأب، وإذا ملك بيع الولد ملك بيع الأم بطريق الأولى.

قال: ولو زوج المولى هذه الأمة من هذا العبد صح النكاح؛ وثبت النسب منه إذا ولدت ولداً؛ كما لو زوجه أمة أخرى، وكذلك لو أن هذا العبد تزوج هذه الأمة بغير إذن المولى ثبت نسب الولد منه إذا أقر بالولد، فقد شرط إقراره بالولد، وإنه ليس بشرط مع النكاح سواء كان النكاح جائزاً أو فاسداً، فكأنه ذكر الإقرار اتفاقاً لا شرطاً. وكذلك لو ادعى هذا العبد ولداً من امرأة حرة نكاحاً صحيحاً أو فاسداً ثبت النسب منه إذا صدقته المرأة؛ لأن العبد من أهل أن يثبت النسب ببينته، وإقراره بالنسب لا يمس حق المولى، وفيما لا يتناول حق المولى إقرار العبد به كإقرار الحر، كما في الإقرار بالقود والطلاق. وإذا ادعى ولد أمة لغيره بنكاح جائز أو فاسد؛ إن صدقه المولى في النكاح * يعني: مولى الأمة * يثبت النسب منه كذبه في الولد أو صدقه؛ لما ذكرنا أن العبد في دعوى النسب بمنزلة الحر، والجواب في الحر هكذا. قال: للعبد المأذون إذا كان مديوناً فاشترى (جارية) ووطئها وولدت له ولداً؛ وادعى نسب الولد، وكذبه مولاه صحت دعوته، وثبت نسب الولد منه؛ لأن الوطء حصل في تأويل الملك، ألا ترى أنه لا يعتبر تكذيب المولى إذا لم يكن على العبد دين، فإذا كان عليه دين أولى، وكذلك إذا ادعى العبد أن المولى أحلها له، وكذبه المولى لأن الإحلال إن لم يثبت في تكذيب المولى بقي له تأويل الملك في كسبه، وإنه يكفي لثبات النسب على ما مر. ولو ادعى ولد أمة لمولاه لم يكن من جارية وادعى أن مولاها أحلها له، أو زوجها إياه، فإن كذبه المولى في ذلك لا يثبت النسب منه؛ لأنه في حق جارية المولى كأجنبي آخر، وإن صدقه المولى في ذلك ففي دعوى النكاح يثبت النسب؛ وفي الاستحسان: لا يثبت، وجه القياس في ذلك: الإحلال في هذا المحل غير قابل للإحلال، والإحلال (هنا لا يثبت إلا) بعقد، بل هو بمنزلة الرضا، فكأنه ادعى أنه زنا بها برضا مولاه، وبهذا لا يثبت النسب، وجه الاستحسان: أن الإحلال نظير النكاح من وجه؛ فإن ملك النكاح يسمى ملك الحل، ولا يثبت له ملك النكاح بملك عينها ومنافعها، إنما يحل له وطؤها، فكان الإحلال مورثاً الشبهة من هذا الوجه. والنسب يثبت في موضع الشبهات؛ إلا أنه في دعوى النكاح يشترط تصديق المولى في النكاح خاصة، وفي دعوى الإحلال يشترط تصديق المولى في أنه أحلها له، وفي أنها ولدت منه، وهذا لأن النكاح عقد والعقد يثبت في المحل، فلا يثبت النسب به ما لم ينضم إليه إقرار المولى أن الولد منه، ولو لم يكن العبد ادعى نسب الولد المولود من أمته؛ ولكن المولى ادعى نسب هذا الولد صحت دعوته أيضاً، أما إذا لم يكن على العبد دين، فلأنه مالك كسب العبد حقيقة، وأما إذا كان عليه دين، فلأن المولى يملك

استخلاص كسبه لنفسه بقضاء الدين فيصير بدعوى النسب والله أعلم. نوع آخر في دعوى المكاتب في الأمة من كسبه، وفي دعوى المولى ولد مكاتبة، أو ولد أمة مكاتبة قال محمد رحمه الله في «الأصل» : وإذا ولدت أمة المكاتب ولداً، وادعى المكاتب نسبه صحت دعوته؛ لأن ما للمكاتب في كسبه أقوى مما للعبد المأذون في كسبه، لأن للمكاتب في كسبه حق الملك؛ حتى لو تزوج بجارية من كسبه لا يجوز، وينقلب ذلك الحق حقيقة بعتقه، وليس للعبد المأذون مثل هذا الحق، فإذا صحت دعوى المأذون أولى أن تصح دعوى المكاتب، ويستوي إن صدق المولى المكاتب في دعوته أو كذبه فيها. فرق بين المكاتب والمولى: فإن المولى إذا ادعى نسب ولد أمة المكاتب، فإنه لا تصح دعوته إلا بتصديق المكاتب، والفرق: وهو أن حق التصرف في كسب المكاتب للمكاتب، وليس للمولى إبطال التصرف عليه في إكسابه من غير رضاه، ومتى صحت دعوى المولى يبطل على المكاتب حق التصرف، فشرط تصديق المكاتب حتى لا يبطل عليه حق التصرف من غير رضاه، وليس في تصحيح دعوى المكاتب إبطال حق التصرف على المولى، إذ ليس للمولى في أكساب المكاتب حق التصرف، فلم يشترط تصديق المولى لهذا، ويصير هذا الولد بمثل حال المكاتب مكاتباً؛ لأن الكتابة حق لازم في المكاتب، ومثل هذا الحق يسري إلى الولد، ولا يتبع الابن ولا الأم، أما الابن فلأنه صار مكاتباً، وأما الأم فلأن للمكاتب في الأم حق الملك إن لم يكن له فيها حقيقة الملك، ولو كان له فيها حقيقة الملك يثبت لها حق العتق، ويمتنع بيعها، فإذا كان له فيها حق الملك لا حقيقة الملك امتنع بيعها لمكان أصل الحق، ولم يثبت لها حق العتق لانعدام حقيقة الملك. وإذا اشترى المكاتب أمة فولدت عنده ولداً لأقل من ستة أشهر، فادعاه المكاتب صحت دعوته؛ ولو كان مكان المكاتب عبداً مأذوناً لا تصح دعوته، والفرق: أن دعوى المكاتب إنما صحت باعتبار ما له من حق الملك في أكسابه، والحق يلحق بالحقيقة، وحقيقة الملك في أحد الطرفين: إما طرف العلوق وإما طرف الدعوى يكفي لصحة الدعوى؛ فكذا في حق الملك، أما دعوى العبد إنما تصح باعتبار ما له من تأويل الملك في أكسابه لا باعتبار حق الملك؛ وصحة الدعوى متى كانت باعتبار تأويل الملك يشترط قيامه في الطرفين في طرف العلوق والدعوى كما في الأب. ونظير هذا ما قالوا في المكاتب: إذا باع جارية له فولدت عند المشتري ولداً لأقل من ستة أشهر صحت دعوته وانتقض البيع؛ ولو ادعاه العبد وباقي المسألة بحالها لا تصح دعوته؛ لأن دعوى العبد باعتبار تأويل الملك فشرط قيامه في الطرفين ودعوى المكاتب باعتبار حق التملك، فيكتفي بقيامه في أحد الطرفين.

الأمة إذا كانت بين مكاتب وحر ولدت، فادعى المكاتب نسب الولد حتى ثبت نسبه منه؛ ضمن نصف قيمة الجارية، ونصف عقرها لشريكه. والأمة إذا كانت بين حر وعبد تاجر؛ ولدت ولداً؛ فادعى العبد نسب هذا الولد حتى يثبت نسب الولد منه لا يضمن العبد من قيمة الجارية لشريكه شيئاً، والفرق: أن العبد بدعوته لم يفسد على شريكه نصيبه في الجارية؛ لأنه لا يمتنع بيع الجارية في نصيب العبد بالاستيلاد حتى يمتنع البيع (243ب4) في نصيب الشريك، فأما المكاتب بدعوته أفسد على شريكه نصيبه من الجارية؛ لأن نصيب المكاتب من الجارية صارت أم ولد له وامتنع بيعها، فيمتنع البيع في نصيب الشريك أيضاً، فصار مفسداً على شريكه نصيبه فيضمن قيمة نصيبه. وإذا ادعى المكاتب أمة ابنه والولد حر أو مكاتب بعقد على حرة لم يثبت النسب من المكاتب إلا بتصديق الابن، بخلاف ما إذا كان الأب حراً، فإن عتق المكاتب وملك هذا الولد يوماً من الدهر مع الجارية ثبت نسب الولد منه، وصارت الجارية أم ولد له، وإن كان الابن قد ولد للمكاتب في حال مكاتبته، أو كان المكاتب قد اشتراه فولدت أمة هذا الابن ولداً، وادعاه المكاتب صحت دعوته وصارت الأمة أم ولد له، ولا يضمن مهراً ولا قيمتها؛ لأن كسب الولد المولود في الكتابة والولد المشترى بمنزلة كسبه حتى ينفذ تصرفه فيه، ولو ادعى ولداً من كسبه صحت دعوته، ويثبت النسب منه، ولم يلزمه مهر ولا قيمة كذا ههنا. إذا ادعى الرجل الحر ولد مكاتبته وليس للولد نسب معروف، ولا للمكاتبة زوج، صحت دعوته صدقه المكاتب أو كذبه، وإنما صحت دعوته لأن رقبة المكاتبة مملوكة لمولاها، فرقبة ولدها تكون مملوكة أيضاً، ودعوى الإنسان في ملك نفسه دعوى صحيحة، ولأنه ليس في تصحيح هذه الدعوى إلا إثبات حق العتق للأم، وحقيقة العتق للولد، والمولى يملك إثبات حقيقة العتق للاخر بالدعوى من طريق الأولى؛ لأن الدعوى أسرع نفاذاً من الإعتاق حتى صحت الدعوى من البائع ومن الأب، ولم يصح الإعتاق منهما، وتخير المكاتبة؛ لأنه ثبت لها جهتا عتق: عتق بجهة الاستيلاد آجلاً بغير بدل، وعتق بجهة الكتابة عاجلاً بعوض، فإن شاءت مضت في الكتابة، وإن شاءت فسخت. وإن ادعى ولد أمة مكاتبته لا تصح دعوته إلا بتصديق المكاتبة؛ لأن للمولى حق ملك في أكساب المكاتبة، وإنه كافٍ لصحة الدعوى؛ لأن مال المكاتبة في أكسابها من الحق راجح على حق المولى؛ لأن المولى في أكسابه حق الملك، وليس له حق التصرف، وللمكاتب حق الملك، وإذا كان الرجحان لحق المكاتبة كانت العبرة لحق المكاتبة فيشترط تصديق المكاتبة بخلاف ما لو ادعى ولد مكاتبته حيث تصح دعوته من غير أن تصدق المكاتبة؛ لأن حق المولى إذا رجح على حق المكاتبة في نفسها وولدها، فإن الثابت للمكاتبة في نفسها وولدها حق الملك، والثابت للمولى في رقبتها ورقبة ولدها حقيقة الملك؛ حتى ملك إعتاقهما. وإذا كان الرجحان في رقبتها ورقبة ولدها له كانت

العبرة لجانب المولى، فلا يشترط تصديق المكاتبة؛ وهذا الذي ذكرنا جواب ظاهر الرواية. وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه تصح دعوى المولى ولد أمة المكاتب من غير تصديق المكاتبة، وقاسه على دعوى الأب جارية أبيه فإنه يصح من غير تصديق الابن. وجه ذلك: أن للمولى في أكساب مكاتبه حق الملك وهذا الحق أقوى من حق الأب في مال الابن، حتى أن المولى لو تزوج بجارية من أكساب مكاتبة لا يجوز، والأب إذا تزوج بجارية ابنه يجوز، ثم الأب إذا ادعى ولد جارية ابنه تصح دعوته من غير تصديق الابن، فلأن تصح دعوة ولد مكاتبه من غير تصديق المكاتب أولى. وجه ظاهر الرواية: وهو الفرق بين دعوى الأب، وبين دعوى المولى، إن صحة دعوى الأب ما كانت باعتبار حق الملك، فإنه ليس للأب في مال الابن حق الملك عندنا، ولهذا لو تزوج بجارية ابنه يجوز، وإنما جاز باعتبار أن للأب ولاية تملك مال الابن عند الحاجة، وقد مست الحاجة إلى التملك ههنا صيانة لمائه، فثبت التملك مقتضى الاستيلاد سابقاً عليه شرطاً لصحته، فتبين أنه استولد ملك نفسه، فلا تتوقف صحة دعوته على تصديق العبد؛ أما المولى فليس له بملك شيء من أكساب المكاتب للحاجة لتصير الجارية ملكاً له مقتضى الاستيلاد، فتبين أنه استولد ملك نفسه، ألا ترى أنه لو أراد أن يأخذ شيئاً من أكسابه لحاجة المأكول والملبوس لا يقدر عليه، فبقيت الجارية مملوكة للمكاتب، لو صحت دعوته إنما صحت باعتبار ما له فيها من حق الملك؛ ولا وجه إليه فيها لأن حقه لا يظهر بمقابلة حق المكاتب؛ لأن حق المكاتب راجح، لأن له حق الملك وحق التصرف، وللمولى حق الملك لا غير، فلا يظهر حقه إلا بتصديق المكاتب. وفرق بين هذه المسألة وبين البائع: إذا ادعى ولد الجارية المبيعة، وقد جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت البيع، فإن دعوته تصح من غير تصديق أحد، والفرق: أن دعوى البائع إنما صحت لحصول العلوق في ملكه حتى لو توهم أن العلوق لم يكن في ملكه بأن جاءت لستة أشهر فصاعداً من وقت البيع لا تصح دعوته، وعلى هذا التقدير يظهر أنها أم ولده، وأنه باع أم الولد فلم يصح بيعه، فبقيت على ملكه، فكان مدعياً ولد جاريته، فلم يحتج إلى تصديق أحد، أما ههنا العلوق لم يكن في ملك المولى فتصح دعوته بناءً على ذلك؛ لأن موضوع المسألة فيما إذا اشترى المكاتب أمة وحبلت في ملكه حتى لو كان العلوق في ملك المولى، بأن كانت الجارية من كسب العبد قبل الكتابة، كاتبه المولى على رقبته وأكسابه، فجاءت بالولد لأقل من ستة أشهر من وقت الكتابة، فادعاه المولى صحت دعوته من غير تصديق أحد فثبت أنه لا يمكن تصديق دعوته بناءً على كون العلوق في ملكه لو صحت دعوته إنما تصح باعتبار ما له فيها من حق الملك، لكن حقه لا يظهر بدون تصديق المكاتب على ما مر، فشرط تصديقه لهذا. فإذا صدقه المكاتب ثبت النسب منه لأن الحق لهما لا يعدوهما، فإذا تصادقا عليه فيما بينهما بهذا الطريق؛ قلنا: إذا ادعى نسب هذا الولد أجنبي وصدق المكاتب الأجنبي

على ذلك يثبت النسب من الأجنبي، ولأنه لما صدق المولى في ذلك فقد ثبت الوطء من المولى بتصادقهما، وبعدما ثبت الوطء بتصادقهما تصح الدعوى من المولى، ويثبت النسب منه؛ لأنه صار مغروراً لما نبيّن بعد هذا إن شاء الله تعالى. وولد المغرور ثابت النسب منه، وعن هذا قال أصحابنا: إذا كان الوطء ظاهراً من المولى جاءت دعوته، صدقه المكاتب في ذلك أو كذبه، وكان الولد حراً بالقيمة، ويغرم المولى قيمة الولد للمكاتب، ويغرم عقرها للمكاتب أيضاً. فرق بينه وبين الأب: إذا ادعى نسب ولد جارية ابنه، فإنه لا يغرم قيمة الولد ويغرم العقر إلا رواية رواها ابن سماعة أن آخر ما استقر عليه قول أبي يوسف أن الأب يضمن قيمة الولد، ويضمن العقر كما في المكاتب بمعنى جامع وهو الغرور، فإن الأب صار مغروراً في هذا الاستيلاد لاعتماده دليل الملك في المكاتب وهو ملك الرقبة، وحكم الغرور ما ذكرنا. أصله: إذا اشترى جارية واستولدها فاستحقت من يده، ووجه الفرق على ظاهر الرواية: أنه ليس للأب في جارية الابن ما يكفي لثبات النسب من حقيقة الملك، أو حق الملك أو دليل الملك أو دليل الحق، إنما الثابت مجرد تأويل باعتبار ظاهر الإضافة، وأنه يكفي لإسقاط الحد، أما لا يكفي لثبات النسب، فلا بد من إثبات الملك في الجارية ليثبت النسب، ولا ملك بدون التملك مقتضى الاستيلاد سابقاً عليه شرطاً لصحته فتبين أنه وطأ ملك نفسه، والولد يعلق حر الأصل من غير قيمة، ولا يلزمه عقر الجارية، فأما المولى فله في جارية المكاتب ما يكفي لثبات النسب وهو حق الملك، وقد ظهر ذلك الحق بتصديق المكاتب، فلا حاجة إلى إثبات التملك مقتضى الاستيلاد سابقاً عليه، بل بقيت الجارية على ملك المكاتب، فكان واطئاً ملك المكاتب معتمداً على وجود سبب الملك، ظاناً أنها ملكه، وحكم الغرور ما ذكرنا. ولا تصير الجارية (244أ4) أم ولد للمولى في الحال إلا رواية رواه ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله بخلاف الأب إذا استولد جارية ابنه فإنها تصير أم ولد له، والفرق على ظاهر الرواية ما ذكرنا أن الأب يملك الجارية مقتضى الاستيلاد سابقاً عليه، فتبين أنه استولد ملك نفسه فتصير أم ولد له ولا كذلك المولى، فإنه لم يملك الجارية بل يثبت على ملك المكاتب، فلهذا لا تصير أم ولد له للحال، وليس من ضرورة ثبات النسب ثبوت أمية الولد للحال. قال: وتعتبر قيمة الولد يوم الولادة، فرق بينه وبين ولد الغرور، فإن في ولد المغرور تعتبر القيمة يوم الخصومة. والفرق وهو أن في مسألتنا لما صدق المكاتب المولى في دعوى الاستيلاد، فقد زعم أن الحرية تثبت من وقت العلوق لأن للمولى حق الملك في أكساب المكاتب، فظهر ذلك عند تصديق المكاتب، وحق الملك كحقيقة الملك في دعوى الاستيلاد، فصار المولى متلفاً الولد على المكاتب من وقت العلوق، ولكن لا يمكن اعتبار قيمته قبل

الولادة إذ لا قيمة للولد قبل الولادة، فيعتبر قيمته في أول أوقات الإمكان، وذلك وقت الولادة؛ لأنه أول وقت لحم له قيمة، فأما المستحق لم يصدق المشتري في الدعوى، والولد علق رقيقاً في حق المستحق إلا أن الشرع أثبت للمشتري ولاية المنع بالقيمة، فكان وقت تقرير النسب، ووقت المنع وقت الخصومة، فاعتبرت قيمته يوم الخصومة. وفرق بين مسألتنا هذه وبين مسألة المغرور من وجه آخر، فإن هناك لو علم المشتري بحال البائع أنه غاصب لا يثبت الغرور لزوال نسب المغرور، وهو نفاذ الشراء بزعمه، وههنا لو علم المولى بحال الجارية أنها لا تحل له يثبت الغرور أيضاً لبقاء سبب الغرور؛ وهو قيام الملك للمولى في رقبة المكاتب هذا الذي ذكرنا. إذا جاءت الأمة بالولد لستة أشهر منذ اشتراها المكاتب حتى لو كان العلوق في ملك المكاتب، فإذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ اشتراها المكاتب فادعاه المولى لا تصح دعوته، ولا يثبت النسب بدون تصديق المكاتب، وإذا صدقه المكاتب حتى ثبت النسب كان عبداً على حاله. وكذلك إذا اشترى المكاتب غلاماً من السوق، وادعى المولى نسب هذا الغلام؛ لا تصح دعوته إلا بتصديق المكاتب، وإذا صدقه وثبت النسب كان عبداً للمكاتب على حاله. فرق بين هذا وبين الوجه الأول وهو ما إذا كان العلوق في ملك المكاتب، فإن العلوق في ملك المكاتب ما كان لأجل ثبوت النسب بالمولى؛ لأن العتق بالقرابة كالعتق بالإعتاق، ولو أعتق المولى عبداً من أكساب مكاتبه لا يعتق، فكذا إلا بعتق القرابة بهذا الطريق، قلنا: المكاتب إذا اشترى ابن مولاه وهو معروف النسب منه أنه لا يعتق، ولكن حرية الولد باعتبار الغرور، فإنه بنى الاستيلاد على سبب الحق في الجارية وهو يملك الرقبة في المكاتب، وولد المغرور حر بالقيمة، أما إذا لم يكن العلوق في ملك المكاتب، فالمولى لا يصير مغروراً لأنه بنى الاستيلاد على سبب الحق في الجارية، فلهذا لم يعتق الولد. قال محمد رحمه الله في «الزيادات» : رجل اشترى عبداً وكاتبه ثم إن المكاتب كاتب أمة له، ثم ولدت المكاتبة ولداً، فادعاه مولى المكاتب فالمسألة على وجوه؛ أما إن كانا صدقاه في ذلك يعني المكاتب والمكاتبة، أو كذباه في ذلك، أو صدقه أحدهما وكذبه الآخر، وأما إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ كوتبت أو لأكثر، فإن صدقاه في ذلك أو صدقته المكاتبة يثبت النسب منه، وإن كذباه في ذلك أو كذبته المكاتبة لا يثبت النسب، فالعبرة في هذا الباب لتصديق المكاتبة؛ لا لتصديق المكاتب؛ بخلاف الفصل الأول، فالعبرة هناك لتصديق المكاتب دون أمة المكاتب. والفرق: أن ولد المكاتبة من كسبها، وقد صارت هي أخص بنفسها ومكاسبها بل المولى أحق بها، فكانت العبرة لتصديق المولى، وإذا صدقه في ذلك ثبت النسب؛ لأن مولى المكاتب لا يكون أدنى حالاً من الأجنبي، ولو ادعى أجنبي نسب هذا الولد وصدقه

المكاتب ثبت النسب منه، فههنا أولى، ولأن المكاتبة قادرة على اكتساب سبب يثبت به النسب بأن تزوج نفسها منه، فيثبت به النسب، وهي قادرة على ذلك، فيثبت به النسب، ويجب العقر بها إن ولدت لأكثر من ستة أشهر من وقت كتابتها.u وإن ولدت لأقل من ستة أشهر فالعقر للمكاتب بحصول العلوق في ملكه، ثم هذا الولد يكون مكاتباً مع أمها، ولا يكون حراً بخلاف ولد أمة المكاتب، والفرق أن حرية ولد أمة المكاتب إنما كانت لأجل الغرور ولا غرور هنا، وهذا لأن رقبة المكاتب وإن كانت مملوكة للمولى في الفصلين إلا أن ملك الرقبة إنما يكون سبباً لملك الكسب إذا كان الكسب محلاً للملك، والأمة محل الملك، فإذا صح النسب في محله، وامتنع الحكم لمانع ثبت الغرور، فأما المكاتبة فليست بمحل الملك، فيبطل النسب ههنا لوقوعه في غير محله، فلا يثبت الغرور، ولو ثبت الغرور ههنا إلا أنه لا يمكن القول بحرية الولد ههنا؛ بخلاف ولد أمة المكاتب. بيانه: وهو أن حرية ولد المغرور تثبت بالقيمة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم وتعذر إيجاب القيمة ههنا، لأنها لو وجبت إما أن تجب للمكاتب أو للمكاتبة لا وجه إلى الأول، لأن المكاتب صار كالأجنبي عن أكساب مكاتبته، وولدها من كسبهما، ألا ترى أنه لو قيل: هذا الولد فالقائل يغرم القيمة للمكاتبة لا للمكاتب، ولا وجه إلى الثاني، لأنه لو وجبت القيمة لها وجبت لأجل العتق، فيجب لها ضمان العتق في أولادها، والمكاتب لا يجب له ضمان العتق في أولاده لأن المكاتبة بعقد الكتابة تسعى لتحصيل مقصودها، فكيف تستوجب القيمة لأجلها بخلاف ولد أمة المكاتب؛ لأن هناك لو أوجبنا القيمة للمكاتب بعتق ولد أمته والمكاتب لا يسعى لتحصيل العتق لولد أمته. فإن قيل: لا بل إيجاب القيمة للمكاتبة ممكن مع تحصيل مقصودها في حرية الولد؛ ألا ترى أن المكاتبة إذا غرت رجلاً فزوجت نفسها منه، على أنها حرة فولدت ولداً كان الولد حراً بالقيمة، وكانت القيمة لها، قلنا: ليس في حرية الولد تحصيل مقصودها؛ لأن مقصودها أن تعتق هي ولدها على وجه تصير وولدها مولى لمولاها، وهناك إذا وجبت القيمة وحكم بحرية الولد بحكم الحرية من الأصل من غير ولاء فلا يكون الولد مولى لمولاها، فلا يكون فيه تحصيل مقصودها فيمكن إيجاب القيمة لها. فإن قيل: هذا المعنى ليس بصحيح، فإنا إذا أوجبنا القيمة في مسألتنا وحكمنا بحرية الولد حكمنا بحريته من الأصل من غير ولاء، فلا يكون فيه تحصيل مقصودها أيضاً، قلنا: لا بل هو صحيح، لأن مولاه هنا المكاتب، والمكاتب ليس من أهل الولاء، فلم تكن هي قاصدة أن يكون ولدها مولى مولاها، بل تقصد عتق الولد لا غير؛ وإنه حاصل فقد حصل مقصودها فيتعذر إيجاد القيمة بخلاف تلك المسألة؛ لأن هناك مولى المكاتبة من أهل الولاء، فكانت قاصدة عتق ولدها على وجه تصير هي وولدها مولى لمولاها، وهذا المقصود هناك مما لا يحصل، أما هنا بخلافه. وإذا ثبت أن الولد يكون مكاتباً مع الأم فالمسألة بعد ذلك على وجهين: إن أدت

الأم بدل الكتابة عتقت وعتق الولد معها تبعاً لها، وإن عجزت وردت إلى الرق أخذ المولى ابنها بالقيمة (244ب4) ؛ لأنها لما عجزت صارت أمة للمكاتب والمكاتب من أهل أن يستحق قيمة ولد أمته، فتجب القيمة وهبت الحرية على ما مرَّ، غير أن ههنا لا يحتاج إلى تصديق المكاتب وإن ثبت الحق له لوجود التصديق يوم الدعوى ممن إليه التصديق وتعتبر قيمة الولد ههنا يوم العجز؛ لأن قيمة الولد إنما تجب بمنع الولد واستهلاكه، وذلك لثبوت الحرية في الولد ووقت ثبوت الحرية في الولد وقت عجز المكاتبة، فتعتبر قيمته يوم عجز المكاتبة لهذا قال: ولو كذبته المكاتبة وصدقه المكاتب لا يثبت النسب لما بينا أن العبرة في هذا الباب لتصديق المكاتبة ولم توجد، ويكون الولد مكاتباً مع أمه إن أدت بدل الكتابة عتقا، وإن عجزت وردت في الرق ثبت النسب من المولى؛ لأنها لما عجزت وردت في الرق صارت أمة للمكاتب، وقد وجد التصديق من المكاتب وظهر أن ولاية التصديق والتكذيب له؛ لانفساخ الكتابة من الأصل وإن كان الولد حراً بالقيمة؛ لأنه لما انفسخت الكتابة من الأصل ظهر تأويل الملك للمولى في الجارية وقت العلوق، وظهر أنه صار مغروراً، غير أنه إن ولدته لأقل من ستة أشهر منذ كوتبت تعتبر قيمة الولد يوم الولادة، وإن جاءت به لستة أشهر منذ كوتبت تعتبر قيمة الولد يوم العجز. والفرق: أن في الوجه الأول تيقنا أن العلوق كان في ملك المكاتب سابقاً على عتق المكاتبة، لأن حقها ثبت بالكتابة، والعلوق كان قبل الكتابة، فعند ثبوت النسب يصير المولى مستهلكاً الولد على المكاتب من ذلك الوقت، إلا أنه لا يمكن اعتبار قيمة الولد حال كونه مستحقاً، واعتبرناه في أول أوقات الإمكان وهو ما بعد الولادة. فأما في الوجه الثاني حصل العلوق بعد ثبوت حق المكاتبة وبعدما صار المكاتب كالأجنبي عنها فلم يصر المولى مستهلكاً عليه وقت ثبوت حقه، وهو وقت العجز، فاعتبرت قيمته يوم العجز، لهذا يوضح الفرق أن في الوجه الأول لما كان العلوق سابقاً على حق المكاتبة كان العلوق في زمان المكاتبة غير محجور عن التصرف فيها، فعند زوال حق المكاتبة بالعجز يمكن إسناد التصديق إلى وقت العلوق فيثبت النسب وتثبت الحرية من وقت العلوق فصار مستهلكاً الولد من ذلك الوقت. أما في الوجه الثاني: لما كان العلوق بعد ثبوت حق المكاتبة كان العلوق في زمان المكاتبة محجوراً عن التصرف فيها، فلا يمكن إسناد التصديق إلى ذلك الوقت بل يبقى مقصوراً على وقت ثبوت حق المكاتب، وهو وقت العجز، فاعتبرت قيمته يوم العجز لهذا، هذا إذا صدقه أحدهما دون الآخر. وإن كذباه لا يثبت نسب الولد؛ لأن في تكذيبهما تكذيب المكاتبة وزيادة، وقد ذكرنا أن المكاتبة لو كذبته بانفرادها لا يثبت النسب؛ لأنها لما عجزت صارا مملوكين للمكاتب ولا يثبت النسب منه، فههنا أولى. ويكون الولد مع الأم مكاتبين للمكاتب إن ردت بدل الكتابة عتقاً، وإن عجزت

صارا مملوكين للمكاتب، ولا يثبت النسب لأنها لما عجزت صارا مملوكين، فكان المولى مدعياً ولد أمة المكاتب، فلا يثبت النسب إلا بتصديق المكاتب، ولم يوجد ههنا تصديق من المكاتب أصلاً. وأما إذا صدقاه جميعاً ثبت النسب من المولى؛ لأن في تصديقهما إياه تصديق المكاتبة وزيادة، ولو صدقته المكاتبة بانفرادها قد ذكرنا أنه يثبت النسب منه فههنا أولى، بعد هذا ينظر؛ إن جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ كاتبها المكاتب حتى كان العلوق في ملك المكاتب كان الولد حراً بالقيمة؛ لأنهم تصادقوا على أن الولد علق حراً بحكم الغرور، وتكون قيمة الولد للمكاتب لوجوبها بسبب كان قبل الكتابة الثالثة، وتعتبر قيمته يوم الولادة لما قلنا قبل هذا بأن جاءت به لستة أشهر منذ كاتبها المكاتب، والولد مكاتب معها لما مر أنه لا يمكن إثبات الحرية في ولد مكاتبة المكاتب ما دامت مكاتبة تعجز بعد، فإن عجزت حينئذٍ يأخذ المولى الولد بالقيمة، وتعتبر القيمة يوم العجز على ما مر. عاد محمد رحمه الله إلى الوجه الثاني: وهو ما إذا صدقه المكاتب وكذبته المكاتبة حتى لم يثبت النسب، ثم تعجز المكاتبة بعد ذلك، ولكن أدى المكاتب بدل الكتابة وعتق، فإن كانت المكاتبة جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ كوتبت ثبت النسب من المولى ويكون حراً بالقيمة، لأن المكاتب لما صدقه في الدعوى وقد جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ كوتبت فقد أقر أن العلوق حصل حال قيام ملك المكاتب، وحال قيام حق الملك للمولى، وهو إقرار بحرية الولد لمكان الغرور على ما بينا؛ إلا أنه لم يعمل إقراره لأنه مكاتب، والمكاتب لا يملك تحرير ولد مكاتبه، وبعدما ادعى وعتق فهو مصر على ذلك الإقرار، فيعمل إقراره لأن المولى الحر يملك إعتاق ولد مكاتبه، فيملك الإقرار بحريته أيضاً، فيعتق الولد بإقراره ويثبت النسب من المولى؛ لأن الولد لما عتق صار في يد المكاتب المعتق، وقد صدق المكاتب المولى في الدعوى. ومن ادعى صبياً حراً في يدي إنسان وصدقه صاحب اليد في ذلك يثبت النسب منه ويضمن المولى قيمة الولد، ويكون ذلك للمكاتب لأنه أقر بإتلاف ملك المكاتب عليه وصدقه المكاتب فقد حصل هذا الإتلاف قبل ثبوت حق المكاتبة لما جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر منذ كوتبت، وهذا إذا كان الولد صغيراً لأنه لا يعبر عن نفسه، فإن كان قد كبر ثم ادعى المولى نسبه وصدقه المولى المكاتب، فالولد حر لما قلنا، ويرجع في حق النسب إلى قول الولد؛ لأن النسب تمحض نفعاً في حقه، وقول من يعبر عن نفسه معتبر فيما ينفعه. وإن كانت جاءت بالولد لأكثر من ستة أشهر منذ كوتبت لا يعتق الولد، بل يكون مكاتباً مع أمه، ولا يثبت نسبه من المولى أيضاً، أما لا يعتق؛ فلأن العتق في الوجه الأول وهو ما إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر إنما جاءت حكماً لإقرار المكاتب بعتق الولد، والمكاتب ههنا لم يصر مقراً بعتق الولد لأنه يحتمل أن العلوق كان بعد الكتابة، والعلوق إذا كان بعد الكتابة لا يثبت حكم الغرور لانعدام محله على ما مرَّ، فلا

يصير مقراً بعتق الولد مع الاحتمال، وإذا لم يعتق الولد لم يصر في يد المولى بل بقي في يد المكاتبة، فيعتبر تصديقها لثبوت النسب بخلاف الوجه الأول، لأن هناك لما عتق الولد صار في يد المكاتب المعتق فيعتبر تصديقه، فقد وجد فثبت النسب، أما ههنا بخلافه. وإن عجزت المكاتبة بعد ذلك وردت في الرق كان الولد حراً بالقيمة ثابت النسب من المولى؛ لأنها لما عجزت وردت إلى الرق انفسخت الكتابة من الأصل وولد العلوق في التقدير في أمة المكاتب فكان المولى مدعياً ولد أمة المكاتب، وهي المسألة التي تقدم ذكرها، وإن لم تعجز ولكنها أدت بدل الكتابة عتقت وعتق الولد معها، ولا يثبت نسب الولد من المولى؛ لأن تصديق المكاتب لما لم يعمل قبل عتقها في حق ثبات نسب الولد من المولى فبعد عتقها أولى، إلا أنه إذا كبر الابن وصدق المولى في ذلك فحينئذٍ يثبت نسبه من المولى بتصديقه، ولا تلزمه القيمة لأن الولد حين تعتق الأم لا بدعوى المولى وبعدما عتق بعتق الأم لا تجب قيمته على من ثبت نسبه منه، كمن ادعى نسب معتق إنسان وصدقه المعتق حتى يثبت نسبه منه لا يجب على المدعي قيمته كذا ههنا. عاد محمد رحمه الله إلى أصل المسألة فقال: المكاتب إذا كاتب أمته، ثم أدى المكاتب بدل الكتابة وعتق، ثم ولدت المكاتبة ولداً فادعاه المولى، فإن ولدت لأقل (245أ4) من ستة أشهر من وقت العتق ولأكثر من ستة أشهر منذ كوتبت فهذا؛ وما لو ولدت قبل عتق المكاتب سواء، وإن ولدت لأكثر من ستة أشهر من وقت العتق فادعاه أحدهما؛ لا يثبت نسب الولد من المولى أصلاً؛ لأنه استولدها وليس له فيها حق التملك، ولا تأويل الملك؛ إذ ليس للإنسان في مكاتبة معتقه حق الملك ولا تأويل الملك فكان هذا الولد حاصلاً من الزنا لا يثبت النسب. وإن زعم المولى أنه تزوجها بعد عتق المكاتب ثبت النسب، أما إذا صدقاه جميعاً فلأنهما يملكان إثبات الفراش عليهما، فكان تصديقهما إياه بمنزلة اكتساب نصيب الفراش، وهما يقدران عليه، فيثبت به النسب، وأما إذا صدقته المكاتبة؛ فلأنها تملك على نفسها بأن تزوج نفسها، ويثبت به النسب وإن كان فاسداً، فصار تصديقها بمنزلة اكتساب سبب الفراش، وهي قادرة عليه، فيثبت به النسب ويعتق الولد لأنه استولد مكاتبة معتقه بحكم النكاح، ومن استولد مكاتبة معتقة بحكم النكاح لا يعتق الولد، بل يكون مكاتباً تبعاً للأم، فإن أدت بدل الكتابة عتقت وعتق الولد معها، وإن عجزت كانت أمة للمكاتب، وولدها عبد للمكاتب لا يأخذه المولى بالقيمة، كما لو كان النكاح ظاهراً وعجزت المكاتبة. وإن كذبته المكاتبة وصدقه المكاتب لا يثبت النسب؛ لأنه لا يملك إثبات الفراش عليها أصلاً، ولا يعتبر تصديقه، وإن عجزت المكاتبة بعد ذلك وردت في الرق صارت أمة للمكاتب المعتق، فينفذ إقراره عليها بالنكاح لأنه يملك إنشاء النكاح عليها ويثبت النسب، ولكن لا يعتق الولد كما لو كان النكاح ظاهراً، وإن زعم المولى أن هذا الولد ابنه بوطء كان منه قبل عتق المكاتب، فإن صدقاه جميعاً يثبت النسب من المولى ويكون

مكاتباً مع أمه لأنهم تصادقوا أن العلوق كان والمكاتب مكاتب، ومن ادعى ولد مكاتبة المكاتب واتصل بها التصديق من المكاتبة ثبت النسب وكان الولد مكاتباً مع أمه كذا ههنا، فإن عجزت بعد ذلك وردت في الرق انفسخت الكتابة من الأصل، وتبين أن الدعوى في ولد أمة المكاتب وقد اتصل بها التصديق من المكاتب. وإن صدقته المكاتبة وكذبه المكاتب ثبت النسب؛ لأن الحق في التصديق لها، وقد وجد والولد رقيق لما مر، وإن عجزت وردت في الرق كان الولد مع أمه مملوكين للمكاتب؛ لأن المكاتب منكر كون العلوق سابقاً على عتقه فيكون منكراً كون المولى مغروراً، وبعد العجز صار الملك له في الجارية والولد، فكانت الجارية المكاتبة بتصديق المولى فيما ادعاه من يده إبطال ملك استحقه المكاتب في الولد، وهي لا تملك ذلك، وإن كذبته المكاتبة وصدقه المكاتب لا يثبت النسب لما مر، فإن عجزت المكاتبة وردت في الرق أخذ المولى الولد بالقيمة؛ لأن المكاتب مصدق في حق نفسه، وبعد العجز جعلت الحق له، فيعمل تصديقه فيأخذ المولى الولد بالقيمة، وتعتبر قيمته يوم العجز لما مرَّ، وكثير من جنس هذه المسائل، ذكرناها في كتاب المكاتب والله أعلم. نوع آخر في دعوى أهل الإسلام وأهل الذمة الولد قال محمد رحمه الله: أمة بين مسلم وذمي جاءت بولد فادعياه، فهو ابن المسلم؛ لأن الدعوى عند اتصال العلوق بالملك بمنزلة البينة، ألا ترى أنه لو انفرد أحدهما بالدعوى يثبت ما ادعاه، كما لو أقام البينة بأن كان الصبي في يد غيرهما، كانت بينة المسلم أولى؛ لأنها أكثر إثباتاً لأنها يثبت النسب بجميع أحكامه ويثبت إسلام الولد، وبينة الكافر تثبت النسب ببعض أحكامه فكذا ههنا فإن كان الذمي قد أسلم ثم جاءت الأمة بولد فادعياه، فهو ابنهما يرثهما ويرثانه سواء كان العلوق بالجارية قبل إسلام الذمي أو بعده؛ لأنهما استويا وقت الدعوى، لأن كل واحد منهما بدعوته يثبت نسب الولد بجميع أحكامه، وإسلام الولد والعبرة بحالة الدعوة، وقد استويا حالة الدعوة، فيقضى بالولد بينهما. وإذا كانت الأمة بين مسلمين ارتد أحدهما والعياذ بالله ثم جاءت بولد فادعياه، فهو ابن المسلم منهما، علقت قبل ارتداد الآخر أو بعده، لأن العبرة لحالة الدعوى ولا مساواة بينهما حالة الدعوى؛ لأن بينة المسلم تثبت إسلام الولد حقيقة وحكماً، وبينة المرتد تثبت إسلام الولد حكماً لا حقيقة، لأن المرتد إن اعتبر مسلماً في حق بعض الأحكام، فهو كافر على الحقيقة، وإذا صار المسلم أولى بالولد صارت الجارية أم ولد له، وضمن للمرتد قيمتها؛ لأنه يملك عليه نصيبه ويتقاصان في العقر؛ لأن كل واحد منهما أقر بوطء جارية مشتركة. وإذا كانت الأمة بين مسلم وذمي، ارتد المسلم والعياذ بالله وجاءت الأمة بالولد فادعياه فهو ابن المرتد، لأن المرتد يثبت إسلام الولد حكماً إذا كان لا يثبته حقيقة،

والذمي لا يثبت إسلام الولد لا حقيقة ولا حكماً، فصار المرتد أولى وضمن للذمي نصف قيمتها، لأنه يملك نصيب الذمي، وفي العقر يتقاصان لما ذكرنا. وإذا كانت الأمة بين يهودي ونصراني ومجوسي جاءت بالولد فادعوه، فهو ولد النصراني واليهودي يرثهما ويرثانه؛ لأن دعواهما أكثر إثباتاً، لأنهما يثبتان للولد بعض أحكام الإسلام من حل الذبيحة والمناكحة. وإذا كانت الأمة بين مجوسي حر، وبين مكاتب مسلم، فجاءت بولد فادعياه، فهو ابن المجوسي وإن كان ينبغي أن يكون ابنهما؛ لأن في دعوى كل واحد منهما زيادة إثبات ليست في دعوة الآخر، فالمجوسي يثبت النسب بجميع أحكامه، إن كان لا يثبت إسلام الولد، والمكاتب يثبت إسلام الولد إن كان لا يثبت النسب بجميع أحكامه، والجواب: أن الزيادة في جانب المجوسي في نفس ما وقع فيه الدعوى؛ لأن الزيادة في جانبه أحكام النسب، والدعوى وقعت في النسب وأحكامه، والزيادة في جانب المكاتب إسلام الولد، وإنه ليس من أحكام النسب والترجيح أولاً يعتبر بالزيادة فيما وقع فيه الدعوى، ثم عند الاستواء في ذلك يعتبر الترجيح بالزيادة في شيء آخر. قال: وإذا كانت الأمة بين رجلين مسلمين علقت، ثم إن أحدهما باع نصيبه من الآخر فولدت ولداً بعد البيع لأقل من ستة أشهر فادعياه، فهو ابنهما فقد صحح دعوى المشتري مع دعوى البائع، وفيما إذا كانت الجارية كلها لرجل باعها من إنسان فولدت في يد المشتري لأقل من ستة أشهر من وقت البيع فادعياه؛ كان دعوى البائع أولى. والفرق: وهو أن تلك المسألة إنما كانت دعوى البائع أولى، لأن دعوته سابقة معنى؛ لأنها دعوى استيلاد إذ العلوق في ملكه؛ ودعوى المشتري دعوى تحرير، إذ العلوق لم يكن في ملكه، ودعوى الاستيلاد تستند إلى وقت العلوق، ودعوى التحرير تقتصر على الحال، وفي هذه المسألة استويا في الدعوى ولم تسبق دعوى أحدهما على دعوى صاحبه، لأن دعوى كل واحد منهما دعوى استيلاد، فإذا استويا في الدعوى في النسب؛ فإن ادعاه المشتري وحده صحت دعوته، ويثبت النسب منه وبطل البيع منه، واشترى المشتري الثمن من البائع، وغرم البائع نصف قيمتها ونصف عقرها والله أعلم. نوع آخر قال محمد رحمه الله في «الأصل» : أمة أبقت إلى رجل وأخبرته أنها حرة، وتزوجها أنها حرة، فولدت لها أولاداً، ثم جاء مولاها وأقام البينة على أنها أمته؛ قضى القاضي له بالجارية وبالأولاد إلا أن يقيم الزوج البينة على أنها تزوجته على أنها حرة،

أما القضاء بالجارية؛ لأن الجارية عين ماله، وأما القضاء بالأولاد، فلأن الأولاد فرع الجارية وجزؤها فتكون مملوكة لصاحب الجارية إلا أن يظهر سبب حرية الجزء وذلك (245ب4) ههنا الغرور، غير أن الغرور لا يثبت بمجرد دعوى الزواج بل يشترط إقامة البينة علىه، فإذا أقام الزوج البينة على أنها حرة، فقد ثبت الغرور، فلا يقضى بالأولاد للمولى بل يجعلهم أحراراً بالقيمة؛ لأن ولد المغرور حر بالقيمة بإجماع الصحابة، وهذا لأن ولد المغرور علق حراً في حق المستولد؛ لأنه لم يرضَ برق مائه، وعلق رقيقاً في حق المستحق لأنه متولد من ذات مرقوق، فجعله الشرع حراً بالقيمة نظراً من الجانبين ومراعاة للطريقين. وطريقه: أن ولد المغرور علق رقيقاً في حق المستحق، فصار الزوج بما ثبت فيه من الحرية حقاً للزوج مانعاً الولد عن المستحق، ومنع الملك على المالك بعد الطلب سبب وجوب الضمان، ولهذا تعتبر قيمة الولد يوم الخصومة؛ لأن وجوب الضمان على المستولد باعتبار منع المملوك عن المالك، والمنع إنما يتحقق عند الخصومة، فتعتبر القيمة يوم الخصومة لهذا؛ وتكون قيمة الولد على المستولد، ولا يكون على الولد ولا في ماله؛ لأن سبب الضمان إنما وجد من المغرور لا من الولد؛ لأن سبب الضمان منع الولد بالحرية، وحرية الولد إنما تثبت من جهة المستولد، وهو اشتراط الحرية عند العقد، فلهذا كان الضمان على المستولد في ماله. ومن مات من الأولاد قبل الخصومة لا يضمن المستولد شيئاً من قيمته؛ لما ذكرنا أن ولد المغرور علق رقيقاً في حق المستولد، ولو علق رقيقاً في حق المستحق والمستولد بأن كان غاصباً لا يضمن من مات من الأولاد قبل الخصومة، والطلب إنما يضمن من مات منهم بعد الخصوم والطلب فههنا أولى. ومن قتل منهم خطأ فقضي للأب بديته وقبضها فإنه يقضي عليه بقيمته؛ لأنه سلم له بدل الولد لما قبض الدية، وسلامة البدل كسلامة المبدل، ويضمن قيمة الولد يوم القتل، وكان ينبغي أن يضمن قيمته يوم الخصومة؛ لأن المنع بعد الطلب إنما يتحقق يوم الخصومة ومنع البدل. والجواب: أن يقول: إيجاب القيمة يوم الخصومة ويوم منع البدل متعذر؛ لأنه لا قيمة للولد يوم الخصومة ويوم منع البدل لأنه ميت، والميت لا قيمة له، فاعتبرنا قيمته في آخر يوم يمكن تقويمه إذا منع البدل، وذلك يوم القتل، بخلاف ما لو كان الولد قائماً تقويمه ممكن يوم الخصومة، ويوم المنع ثمة، أما ههنا بخلافه. وإذا كان لم يقبض شيئاً من دية الولد لا يقضى عليه بقيمة الولد؛ لأنه لم يسلم له الولد لا بنفسه ولا ببدله، فلم يصر هو مانعاً الولد لا بنفسه ولا بمنع بدله، فلهذا لا يقضى عليه بقيمة الولد، وإن قبض من الدية قدر قيمة الولد فإنه يقضي عليه بقيمة الولد لأنه رقيق في حق المستحق حكماً واعتباراً، فإنما يشترط لإيجاب الضمان على المستولد للمستحق أن يسلم له بدله رقيقاً، وقد سلم له ذلك متى قبض قدر قيمته، وإن مات المستولد وعليه ديون كان المستحق أسوة لغرمائه لأن قيمة الولد دين للمستحق على

الميت كسائر الديون، فيكون أسوة لسائر غرمائه.w قال: ولا يكون ولاء الولد لمولى الجارية، وإن علق رقيقاً في حق مولى الجارية؛ لأنه إنما اعتبر رقيقاً في حق المستحق ليمكن إيجاب الضمان على المستولد لأنه اعتبر حراً في حقه لا يمكن إيجاب الضمان على المستولد، فإنما يظهر رقه على حق المستحق في حق حكم الضمان لا غير، والولاء ليس من إيجاب الضمان في شيء، فلا يظهر رقه في حق هذا الحكم في حق المستحق. فالحاصل: أن ولد الغرور حر في حق غير المستحق في جميع الأحكام، وفي حق المستحق رقيق في حق حكم الضمان حر في حق ما سواه من الأحكام، وعن هذا قلنا: إن للمستحق أن يضمن المستولد قيمة الولد وإن المستحق ذا رحم محرم من الولد، ولا يجعل حراً من جهة المستحق بالقرابة حتى لا يضمن المستولد أنه إنما اعتبر رقيقاً في حق المستحق في حق حكم الضمان لا غير، وأن يعتق عليه بحكم القرابة ليس من الضمان في شيء فيعتبر حراً في حق هذا الحكم فلا يعتق عليه بالقرابة. قال: ولو لم يكن للزوج بينة على أنها حرة وطلب يمين المستحق حلفته على ذلك على العلم؛ لأنه ادعى عليه معنى لو أقر به لزمه، فإذا أنكر يستحلف فيكون الاستحلاف على العلم؛ لأن هذا استحلاف على فعل الغير. قال: وإذا اشترى الرجل أمة شراءً فاسداً أو جائزاً أو ملكها بهبة أو صدقة أو وصية فولدت له أولاداً، ثم استحقها رجل فإنه يقضى للمستحق بالجارية وأولادها؛ لأن الأولاد فرع ملكه، فيكون له إلا إذا ثبت من غرور المتولد، ولا بد لذلك من البينة على الشراء أو الهبة أو ما أشبه ذلك، فإذا أقام المشتري بينة على ذلك ثبت غرور المستولد؛ لأنه وطئها على حسبان أنها ملكه بناءً على دليله وهو الشراء أو الهبة، وهذا هو حد الغرور، وولد المغرور حرّ بالقيمة، فيقضي القاضي للمستحق بالجارية وبقيمة الولد، ويقضي له بعقر الجارية أيضاً، لأن المستولد وطئ ملك الغير وقد سقط الحد لمكان الشبهة فيجب العقر، ولا يرجع المشتري على ملكها بالعقر بائعاً كان أو واهباً عندنا، وهل يرجع عليه بقيمة الولد؟ ففي الشراء يرجع، وفي فصل الهبة ونظائرها لا يرجع. وعلى هذا إذا نقض المستحق بناء أحدثه المشتري في الأرض المشتراة، أو قلع الأشجار التي غرسها المشتري في الأرض المشتراة هل يرجع بقيمة ذلك على مملكه؟ ففي الهبة وأشباهها لا يرجع، وفي الشراء يرجع. فالحاصل: أن مجرد الغرور ليس يصلح سبباً للضمان والرجوع، ألا ترى أن من قال لغيره: اسلك هذا الطريق فإنه آمن فسلك وأخذ ماله لا ضمان على المخبر، فقد حصل الغرور، إنما الموجب للضمان والرجوع ضمان السلامة إما نصاً بأن قال لغيره: اسلك هذا الطريق فإنه آمن، فإن أخذ مالك فأنا ضامن لذلك، أو في عقد المعاوضة كما في الشراء وأشباهه من عقود المعاوضات، وهذا لأن البائع بالبيع ضمن سلامة المبيع للمشتري؛ لأن المشتري ضمن له سلامة الثمن فيكون هو ضامناً للمشتري سلامة المبيع؛

لأن هذا عقد معاوضة ومقابلة. ولأجل ذلك يثبت للمشتري حق الرد بالعيب، ويكون سلامة المبيع ضماناً لسلامة الزوائد بطريق التبعية، ولم يعلم الزوائد للمشتري لما ضمن قيمتها للمستحق، فيرجع على البائع بذلك بحكم الضمان، فأما الواهب، فلم يضمن سلامة الموهوب له ليصير ضامناً سلامة الزوائد بطريق التبعية؛ لأن سلامة المبيع من البائع بمقابلة ضمان صاحبه سلامة البدل، ولا بدل في عقود التبرع حتى يثبت ضمان سلامة المعقود عليه بمقابلته، وإذا لم يثبت ضمان السلامة من الواهب في ضمن العقد ولا لصاحبه، ولم يقل: ضمنت لك سلامة الموهوب لو ثبت حق الرجوع للموهوب له، ثبتت بمجرد الغرور، ومجرد الغرور لا يصلح لذلك. وإن كان المشتري باع الأمة من رجل آخر وولدت للمشتري الثاني أولاداً ثم استحقها رجل وأخد الجارية، وقيمة الأولاد من المشتري الثاني ورجع المشتري الثاني على بائعه وهو المشتري الأول بالثمن وبقيمة الأولاد رجع المشتري الأول على بائعه بالثمن بلا خلاف، وهل يرجع عليه بقيمة الأولاد؟ فعلى قول أبي حنيفة: لا يرجع، وعلى قولهما: يرجع، وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب «البيوع» في فصل الاستحقاق. قال: وإذا اشترى الرجلان جارية، ثم إن أحدهما وهب نصيبه من شريكه، وولدت له أولاداً، واستحقها رجل وأخذها المستحق، وقيمة الأولاد، رجع المستولد بنصف الثمن، فينصف قيمة الأولاد على بائعه ولا يرجع على الواهب بشيء؛ لأن المستولد صار مغرماً في النصف من جهة البائع فيرجع بنصف الثمن، وبنصف قيمة الأولاد عليه اعتباراً للبعض بالكل، وفي النصف صار مغروراً من جهة الواهب فلا يرجع عليه في ذلك النصف بشيء، كما لو صار مغروراً في الكل من جهته، ويرجع الواهب على بائعه بنصف الثمن؛ لأن المبيع لم يسلم له، ولا يرجع عليه بشيء من قيمة (246أ4) الأولاد؛ لأن الواهب لم يغرم شيئاً من قيمة الأولاد للأخذ. قال: وإذا اشترى الرجلان أمة من رجل وولدت ولداً وادعاه أحدهما وغرم نصف قيمتها ونصف عقرها لشريكه ثم استحقها رجل قضى القاضي بها للمستحق وبقيمة الولد والعقر لأنه صار مغروراً، والغرور كما يتحقق بقيام الملك في الكل يتحقق بقيام الملك في النصف؛ لأن قيام الملك في نصف الجارية يكفي لصحة الاستيلاد في حرية الأصل للولد، ثم يرجع المستولد على بائعه بنصف الثمن وبنصف قيمة الولد؛ لأنه في نصف الجارية صار مغروراً من جهته ويرجع على شريكه بما أعطاه من نصف قيمة الجارية ونصف عقرها؛ لأن الاستحقاق أظهر أن شريكه أخذ ذلك منه بغير حق، ولا يرجع عليه بنصف قيمة الولد وإن صار شريكه مانعاً نصف الجارية منه؛ لأن هذا البيع من الشريك من غير صنعه، وبيع بيت من غير صنع لإنسان لا يصير البائع به ضامناً سلامة الأولاد للمشتري؛ لأن ضمان سلامة الأولاد كضمان الكفالة، والكفالة لاتثبت في موضع من غير صنع من المالك، أما البيع قد ثبت من غير صنع الملك، فأثبتنا البيع ولم نثبت

الكفالة لهذا ويرجع شريك المستولد على بائعه بنصف الثمن؛ لأنه لم يسلم له المشتري من جهته. قال: وإذا أخبر الرجل غيره عن امرأة أنها حرة وتزوجها ذلك الغير على أنها حرة وولدت له ولداً، ثم استحقها رجل وجعل القاضي الولد حراً بالقيمة بالطريق الذي مر، فهذه المسألة على وجهين: إن تزوجها المخبر على أنها حرة؛ فالمستولد يرجع بقيمة الولد على المخبر لأنه ضمن له سلامة الولد في ضمن عقد المفاوضة، وإن لم يكن المخبر زوجها منه ولكن المرأة زوجت نفسها على أنها حرة فالمستولد يرجع عليه بقيمة الولد للمعتق، أما أصل الرجوع عليها؛ لأنه صار مغروراً من جهتها، وأما الرجوع عليها بعد العتق؛ لأن ضمان الغرور ضمان قول والأمة محجور عليها، والمحجور لا يؤاخذ بضمان القول للحال وإنما يؤاخذ به بعد العتق. قال: وإذا اشترى أمّ ولد لرجل أو مدبرة أو مكاتبة من أجنبي غير المولى فوقع عليها فجاءت بولد، فإن على المستولد قيمة الولد والعقر لمولى المدبرة ولمولى أم الولد، وعليه قيمة الولد والعقر لمكاتبه، وهذا الجواب ظاهر في حق المدبرة؛ لأن ولد المدبرة في حق المستحق يصير مدبراً حكماً ضرورة إمكان إيجاب الضمان له كما اعتبر ولد القنة فيما في حق المستحق ضرورة إمكان إيجاب الضمان له فيضمنه المغرور؛ لأن المدبر يضمن بالمنع والغصب، وضمان المغرور ضمان منع وغصب في حق المستحق لا ضمان إعتاق، ولهذا وجب على المغرور قيمة الأولاد موسراً كان أو معسراً. وفي حق أم الولد هذا الجواب ظاهر أيضاً على قولهما؛ لأن ولد أم الولد يعتبر ولد أم الولد في حق المستحق، وولد أم الولد يضمن بالمنع والغصب، فيضمن بالغرور أيضاً (وهذا) مشكل على قول أبي حنيفة؛ لأن ولد أم الولد لا يضمن بالمنع والغصب عنده كأم الولد، فكيف يضمن بالغرور، وفي المكاتبة هذا الجواب يشكل على قولهم جميعاً؛ لأن ولد المكاتبة في حق المكاتبة يعتبر مكاتباً بمثل حال الأم، إلا أن المستولد قد حصل للمكاتبة ما هو مقصودها من عقد الكتابة في حق الولد، فإن مقصود المكاتبة من عقد الكتابة عتقها وعتق ولدها، ولهذا قلنا: إن المولى إذا أعتق ولد المكاتبة لا يضمن للمكاتبة شيئاً عندهم جميعاً. وكان يجب أن لا يضمن المغرور للمكاتبة قيمة الولد؛ لأنه حصل للمكاتبة ما هو مقصودها من عقد الكتابة، والجواب: إيجاب ضمان الولد بالغرور ثابت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم أجمعوا على أن ولد المغرور حر بالقيمة بلا تفصيل، إلا أن إيجاب ضمان الولد في بعض المواضع حصل على موافقة القياس كما في ولد العبد والمدبرة لأن المستولد منع مالاً متقوماً عن المستحق فكان ضامناً بالنص وبالقياس، وفي أم الولد الضمان على قول أبي حنيفة، وفي المكاتبة على قولهم ثابت بإجماع الصحابة، بخلاف القياس من الوجه الذي قلنا، وإثبات الحكم أيضاً بخلاف القياس جائز. وإن كانت المكاتبة هي الغارة بأن زوجت نفسها منه على أنها حرة، فظهر أنها

مكاتبة، فإن المستولد يضمن للمكاتبة في قول أبي يوسف الآخر، وكان أبو يوسف يقول أولاً: لا يضمن للمكاتبة شيئاً، ووجه ذلك: أن المستولد لو ضمن للمكاتبة قيمة الولد لكان له أن يرجع على المكاتبة ثانياً؛ لأنها هي الغارة، فإيجاب الضمان لها لا يفيد، ثم رجع عن هذا وقال: يضمن قيمة الأولاد لأن التضمين يفيد؛ لأن المستولد يضمن لها للحال لأن ما يجب على المغرور من ضمان الأولاد يجب حالاً، وما يجب على المكاتب من الضمان للمغرور يجب مؤجلاً؛ لأنه ضمان لزم المحجور بالقول؛ لأن هذا الضمان ثبت بالنكاح والمكاتبة محجور على النكاح عند علمائنا الثلاثة، وكل ضمان يلزم المحجور بالقول، فإنه يتأخر إلى ما بعد العتق، فيكون الضمان معتداً. قال: وإذا باع المكاتب أو العبد المأذون أمة في يدي رجل، فوطئها المستولد ثم ولدت له ولداً، ثم استحقها رجل وجعل القاضي الولد حراً بالقيمة، فإن المشتري يرجع بقيمة الولد على البائع بالكفالة، والمكاتب والعبد المأذون لا يؤاخذان بالكفالة للحال والعبد لا يؤاخذ بضمان الكفالة أصلاً؛ لأن هذا الضمان إنما يثبت نسبة البيع، فيكون في حكم ضمان البيع، فكان كالمأذون إذا اشترى جارية ووطئها، ثم استحقت فإنه يضمن العقر للحال، وإن كان المأذون لا يؤاخذ بالمهر للحال؛ لأنه يثبت نسبة الشراء، فكان حكمه حكم الثمن كذا ههنا. قال وأهل الذمة والمسلمون سواء في الغرور؛ لأن الذمة خَلَفٌ عن الإسلام في أحكام الدنيا وهذا من أحكام الدنيا فيكون الذمي والمسلم فيه سواء. قال: وإذا ورث الرجل أمة من أبيه، فوطئها فولدت منه ولداً ثم استحقها رجل، فإنه يقضى له بالأمة وبقيمة الولد؛ لأنه حصل مغروراً؛ لأنه وطئها على حسبان أنها ملكه، وظهر أنها لم تكن ملكه، فإن كان الأب قد اشتراها من رجل كان للأب أن يرجع بالثمن وبما ضمن من قيمة الولد على بائع أبيه. فرق بين الوارث وبين الموصى له إذا صار مغروراً وضمن قيمة الولد للمستحق، فإنه لا يرجع على بائع الموصي بشيء لا بالثمن ولا بقيمة الولد، والفرق أن الرجوع بالثمن وبقيمة الولد إنما يكون للمشتري أو لنائب المشتري، والموصى له ليس بمشترٍ ولا نائب عن المشتري لأن الموصى له لا يقوم مقام الموصي في حقوقه كأنه هو، ألا ترى أنه لا يرد بالعيب ولا يرد عليه بالعيب، وإذا لم يكن مشترياً ولا نائباً عن المشتري حكماً لم يكن له أن يرجع على بائع الموصي بشيء، وكان هو في الرجوع وأجنبي آخر عن المشتري سواء، فأما الوارث إن لم يكن مشترياً فهو نائب عن المشتري؛ لأن الوارث يقوم مقامه في الحقوق كأنه هو، ألا ترى أنه يرد بالعيب ويرد عليه بالعيب كالميت سواء، وإذا كان نائباً عنه حقيقة بأن كان وكيلاً عنه. قال: وإذا أقر المريض في مرضه الذي مات أن هذه الجارية لفلان ووديعة عندي، فوطئ الوارث الأمة بعد موت المورث منه ثم استحقها رجل، فإنه يقضي للمستحق بالجارية وبالولد؛ لأن الوارث لم يصر مغروراً ههنا؛ لأنه وطأ الجارية مع علمه أنها ملك

المقر له، فإن إقرار المريض بكونها عنده لفلان وفلان أجنبي منه صحيح، ولو لم يقر بالجارية لفلان، ولكن قال: هي لي إذ لم تقل: هي لي وعليه دين يحيط بماله، فوطئها الوارث فولدت منه تباع الجارية في الدين ويضمن الوارث قيمة الولد والعقر للغرماء، أما تباع الجارية؛ لأنها لم تصر أم ولد للوارث؛ لأن النائب للوارث في تركة المورث إذا كان عليه دين مستغرق حق الملك لا حقيقة الملك وبحق الملك للمستولد في الجارية لا تصير الجارية أم ولد له، ألا ترى (246ب4) أن المولى إذا ادعى ولد أمة المكاتب وصدقه المكاتب حتى صحت دعوته لا تصير الجارية أم ولد له، بل يثبت فيه للمكاتب بيعها، وإذا لم تصر أم ولد صار الحال بعد الاستيلاد وقبله سواء. وقيل: الاستيلاد تباع الجارية في الدين كذا ههنا، وأما يضمن المستولد قيمة الولد؛ لأنه صار مغروراً؛ لأن بين العلماء خلافاً ظاهراً في وقوع الملك للوارث في التركة المستغرقة بالدين وإن لم نقل بثبوت حقيقة الملك، فقلنا: بثبوت حق الملك ولهذا ملك الوارث استخلاصها لنفسه من موضع آخر. ولو كان في التركة جارية فتزوجها الوارث لا يصح، وهذا لأن سبب الملك قد تحقق للوارث، وهو ثبوت المورث عن مال إلا أنه لم عمل عمله في حق إيجاب حقيقة الملك للوارث لمانع وهو الدين، فثبت له حق الملك، فيكفي لتحقق الغرور، ألا ترى أن المولى يصير مغروراً في جارية المكاتب، وإنما يصير مغروراً لما لزمها من حق الملك؛ لأن للمولى سبب الملك في أكساب المكاتب، وهو ملك رقبة المكاتب لكن لم يعمل عمله في إفادة حقيقة الملك، وعمل في إفادة الحق، فعلم أن حق الملك يكفي لتحقق الغرور لها بغرم العقر؛ لأن حق الملك لا يسقط العقر، إنما يسقط الحد كما في أمة المكاتب. ولو جاء رجل وأقام بينة أنها له، قضيت له بالجارية وبالعقر وبقيمة الولد، لأن الوارث مغرور، هذا إذا كان على الميت دين مستغرق. ولو كان الدين على الميت غير مستغرق وباقي المسألة بحالها، فالمستولد لا يضمن قيمة الولد؛ لأن الدين إذا لم يكن مستغرقاً لا يمنع وقوع الملك للوارث في التركة، فكان مستولداً أمة نفسه، فلا يضمن قيمة الولد وإن تعلق بالجارية حق الغير، كالراهن إذا استولد الجارية المرهونة ولكن يضمن قيمتها وعقرها لأن الجارية إن كانت ملكاً للوارث، إلا أنه تعلق بها حق الغريم، فإن الدين بعد الموت يتعلق بالتركة. ويجوز أن يضمن المالك يتصرف بخدمته في ملكه إذا تعلق به حق الغير، ألا ترى أن الراهن إذا عتق المرهونة أو وطئها، فإنه يضمن جميع قيمتها إذا كان الدين مثل قيمتها أو أكثر، فأما إذا كان الدين أقل من قيمتها، فإنه يضمن بقدر الدين، لأن حق الغريم في قدر الدين، هكذا ذكر في «الكتاب» . وطعنوا على محمد رحمه الله في المسألة فقالوا: لا معنى لقول محمد: يضمن جميع قيمتها إذا كان الدين مثل قيمتها، وينبغي أن يضمن بقدر ما يتعلق بها من الدين،

فإن بعض الدين يتعلق بها وبعضه يتعلق بغيرها، وهذا بناء على أن الدين إذا لم يكن مستغرقاً للتركة لا يعتبر كل جزء من أجزاء التركة مشغولاً بالدين لأنه لو كان مشغولاً بالدين لكان لا يقع الملك للوارث في التركة كما لو كان الدين مستغرقاً. والجواب: أن الدين مع أنه لا يكون مستغرقاً فكل جزء من أجزاء التركة يصير مشغولاً بالدين، كأنه ليس معه غيره، لأن احتمال هلاك البعض وتعين الباقي لقضاء الدين قائم، فكان ينبغي أن لا يملك الوارث شيئاً من التركة، كما لو كان الدين مستغرقاً وهو القياس، لكن لم يعتبر هذا الشغل في حق وقوع الملك للوارث ضرورة، فإن الإنسان قل ما يخلوا عن قليل الدين عليه، فلوا اعتبرنا هذا الشغل مانعاً جريان الإرث أدى إلى أن لا يقع الملك في التركات إلا نادراً، وفيه فساد عظيم، فأما فيما عدا وقوع الملك للوارث لا ضرورة، فيعتبر كل جزء من أجزاء التركة مشغولاً بالدين، كأنه ليس معه غيره، ولو لم يكن معها شيء آخر أليس أن الوارث يضمن جميع القيمة إذا استولدها؟ كذا ههنا. رجل اشترى جارية مغصوبة وهو يعلم بكونها مغصوبة، أو تزوج امرأة على أنها حرة وهو يعلم بكونها أمة واستولدها؛ فالولد رقيق ويأخذها صاحب الجارية، لأن المستولد لم يصر مغروراً ههنا حيث علم بحقيقة الحال. ولو اشتراها وهو يعلم بكونها ملك غيره، فقال البائع: إن صاحبها وكلني ببيعها أو مات وأوصى إلي، فباعها منه على ذلك، فاستولدها ثم حضر المالك وأنكر الوكالة؛ فله أن يأخذها وقيمة الولد؛ لأن المشتري صار مغروراً ههنا، لأنه وطئها على تقدير أنها ملكه؛ لأن قول الواحد حجة في المعاملات وما أخبر به لو كان حقاً كانت الجارية مملوكة للمشتري، ثم يرجع المشتري على البائع بالثمن، وبما غرم من قيمة الولد؛ لأن البائع صار ملتزماً له سلامتها وسلامة أولادها بالطريق التي تقدم ذكرها فيما أخبر أنه سمع ملكه. ولو أن رجلاً وكل رجلاً أن يشتري له جارية فاشتراها ونقد الثمن من مال الموكل، فاستولدها الموكل ثم استحقت أخذها المستحق وأخذ قيمة الولد وعقر الجارية من المستولد لا من الوكيل؛ لأن الموكل من وجه كالمشتري من الوكيل باعتبار الملك؛ لأن الوكيل نائب عنه في حق الملك. ومن وجه كالمشتري من الوكيل باعتبار الحقوق، ولأن الوكيل بالشراء في حق الحقوق كأنه اشترى لنفسه ثم باع من موكله، وأي الأمرين ما اعتبرنا، فإن المستحق يضمن المستولد، ويرجع المستولد وهو الموكل بالثمن، وقيمة الولد على البائع، والوكيل هو الذي يلي الخصومة في ذلك مع البائع، لأن الموكل كالمشتري بنفسه من البائع من وجه. فمن حيث إنه كالمشتري بنفسه من البائع يستحق الضمان في ذمة البائع، لا في ذمة الوكيل، ومن حيث إنه كالمشتري من الوكيل، يكون الطالب بائعاً ذلك هو الوكيل توقيراً على الأمرين حفظهما بقدر الممكن، فإن أنكر البائع البيع من المستولد، أوقال: لم يشتر هذا مني، فأقام المستولد بينة أن فلاناً اشترى هذه الجارية من هذا الرجل بأمري، ونقد

الثمن من مالي، صار المشتري مغروراً من جهة البائع، وكان له الرجوع على البائع بالثمن، وقيمة الولد والوكيل هو الذي يلي الخصومة في ذلك. وإن شهد الشهود للمستولد على الشراء، أو لم يشهدوا على أن المستولد أم المشتري بذلك، وإنما شهدوا أن المشتري أقر أنه اشتراها لفلان، فهذا على وجهين: الأول: أن يشهد الشهود أن المشتري أقر قبل الشراء أو في حالة الشراء أنه يشريها لفلان، وفي هذا الوجه يصير المستولد مغروراً من جهة البائع، وكان له الرجوع بقيمة الولد على البائع؛ لأن الإقرار بالتوكيل حصل في حال يصح التوكيل، فصح الإقرار به، وإذا صح الإقرار به صارت الوكالة الثابتة بالإقرار كالثابت بالبينة، ولو ثبتت الوكالة بالبينة كان للمستولد أن يرجع بقيمة الولد كذا ههنا. الوجه الثاني: أن يشهد الشهود أن المشتري أقر بعد الشراء أنه اشتراها لفلان، وفي هذا الوجه لا يكون للمستولد الرجوع على البائع بالثمن وبقيمة الولد، لأن إقرار المشتري بالوكالة في هذا الوجه لم يصح؛ لأنه أقر بها في حال لا يصح التوكيل، وإذا لم يصح هذا الإقرار لم يثبت الأمر، فلم يصر المستولد مشترياً من البائع بوجه من الوجوه، فلا يصير مغروراً من جهته، فلا يكون له حق الرجوع على البائع لا بالثمن ولا بقيمة الولد. رجل استولد أمة واستحقها رجل فقال المستولد: اشتريتها من فلان بكذا وكذا ونقدته الثمن، وصدقه فلان في ذلك، وكذبهما المستحق فالقول قول المستحق؛ لأن استحقاق غير الولد ظاهر للمستحق، وهو استحقاق الجارية، فالمستولد مع البائع يريدان إبطال حقه عن غير الولد، فلا يصدقان على ذلك، ولكن يحلف المستحق بالله ما يعلم أنه اشتراها من فلان؛ لأنه لو أقر به كان الولد حراً بالقيمة، فإذا أنكر يستحلف رجاء النكول الذي هو إقرار. ولو أن المستحق أقر بهذا الشراء وجحده البائع كان الولد حراً، وعلى المستولد قيمة الولد؛ لأن المستحق مع المستولد تصادقا على حرية الولد وعلى وجوب قيمته على المستولد وتصادقهما حجة في حقهما، ولكن لا يرجع المستولد على البائع بشيء. ولو جحد المستولد والبائع البيع والشراء وأقر به المستحق؛ كان الولد حراً بإقرار المستحق، فلا يجب على الأب قيمة الولد؛ لأن المستحق أقر بحرية الولد، وإنه إقرار على نفسه يصح، وما كان على غيره لا يصح.m وإذا كان للرجل ألف درهم في يدي رجل مضاربة بالنصف، فاشترى المضارب بها جارية (247أ4) تساوي ألف درهم، فوقع عليها المضارب فولدت، ثم استحقها رجل كان الولد حراً بالقيمة، فيأخذ المستحق عين الجارية، ويأخذ عقرها وقيمة الولد من المضارب؛ لأن المضارب وطئها على حسبان أن ربعها وذلك حصته من الربح ملكه وإنه يكفي لعلوق الولد حر الأصل، فلم يصر راضياً برق ماله فكان مغروراً، ثم يرجع المضارب على البائع بالثمن، وذلك ألف ويكون على المضاربة كما كان؛ لأنها مال بدل المضاربة، ويرجع أيضاً بقيمة الولد على البائع؛ لأنه صار مغروراً من جهة البائع في ربع

الجارية؛ لأنه اشترى الربع منها لنفسه، ويكون ذلك للمضارب خاصة، ولا يكون على المضاربة؛ لأنه عوض عما أدى بمقابلة الولد، وما أدى بمقابلة الولد كان ماله ولم يكن مال مضاربة، ولا يرجع المضارب بثلاثة أرباع قيمة الولد على البائع؛ لأنه اشترى بثلاثة أرباع الجارية من البائع لنفسه، والمضارب اشترى من ربعها، ولو كان كذلك لكان لا يرجع بذلك المضارب على البائع إلا بربع قيمة الولد كذا ههنا. وأما لا يرجع بذلك على رب المال وإن اشترى ثلاثة أرباع الجارية من رب المال؛ لأن هذا الشراء ثبت بينهما لا بصنع من جهة رب المال، وفي مثل هذا لا يصير البائع ضامناً سلامة الأولاد للمشتري على ما مر. وإذا لم يكن للمضارب أن يرجع على رب المال بشيء من قيمة الولد؛ لأنه لم يوجد منه شيء من قيمة الولد، هذا إذا كان في قيمة الجارية فضل على رأس المال بأن كانت قيمة الجارية ألف درهم وباقي المسألة بحالها، فإن المستحق يأخذ الجارية وولدها؛ لأن المضارب لم يصر مغروراً ههنا؛ لأنه وطىء الجارية مع علمه أنه لا ملك له فيها؛ هذا إذا استولدها رب المال، ثم استحقت الجارية كان الولد حراً بالقيمة، سواء كان فيها فضل على رأس المال بأن كانت قيمتها ألفي درهم أو لم يكن بأن كانت قيمتها ألف درهم؛ لأن المولى وطئها على أن جميعها ملكه إن لم يكن فيها فضل، وعلى أن ثلاثة أرباعها ملكه إن كان فيها فضل فصار مغروراً، ثم يرجع على البائع بالثمن وبجميع قيمة الولد إن لم يكن لها فضل، والمضارب هو الذي يلي الخصومة في ذلك؛ لأن المضارب صار مشترياً كل الجارية لرب المال إذا لم يكن فيها فضل وهذا وفضل الوكيل سواء. ثم إذا رجع المضارب على البائع بالثمن وبقيمة الأولاد فقيمة الأولاد لا تكون للمولى خاصة، والثمن يكون على المضاربة، وإن كان فيها فضل فرب المال يرجع عليه بالثمن وبثلاثة أرباع قيمة الولد؛ لأن المملوك له من جهة البائع هذا القدر، وذلك قدر رأس المال وحصته من الربح، فأما الربع الآخر فقد اشتراه المضارب لنفسه، وإنما صار رب المال مغروراً من جهة البائع في ثلاثة أرباع الجارية، فيرجع عليه بقيمة ثلاثة أرباع الولد لهذا، ويكون ذلك لرب المال خاصة. رجلان اشتريا أمة من وصي يتيم واستولدها أحدهما، ثم استحقت الجارية كان الولد حراً بالقيمة ورجع المشتري على الوصي بنصف قيمة الولد؛ لأنه صار مغروراً من جهته في نصف الجارية؛ لأنه اشترى منه نصف الجارية، ولا يرجع بنصف قيمة الباقي من الولد على شريكه وإن صار مشترياً النصف الباقي من شريكه؛ لأن البيع بينهما حصل من غير صنع من الشريك، ثم يرجع الوصي بذلك في مال اليتيم؛ لأنه كان عاملاً لليتيم في هذا البيع. وكذلك الجواب فيما إذا كان البائع أب الصغير، فهو والوصي في حكم الرجوع في مال الصغير على السواء، وكذلك الجواب فيما إذا كان البائع وكيلاً أو مستبضعاً كان له

الرجوع بما لحقه من العهدة على من وقع البيع له. وكذلك إذا كان البائع مضارباً ولم يكن في الجارية فضلاً، رجع بجميع ما لزمه من قيمة الولد على رب المال، فأما إذا كان في الجارية فضل فإنما يرجع على رب المال من قيمة الولد (للمشتري) بقدر رأس المال، وحصته من الربح؛ لأن بذلك القدر صار عاملاً لرب المال في بيع الجارية، أما بقدر حصة المضارب من الربح، فالمضارب عامل فيه لنفسه فلا يرجع بذلك على رب المال. قال: ولو كفل رجل للمشتري بما أدرك به من درك لم يرجع على الكفيل بشيء من قيمة درك في الولد لأبي الجارية، وهو لم يكفل به حتى لو كفل به بأن قال: كفلت لك ما أدركك في الولد والجارية يرجع عليه بذلك أيضاً. قال: ولو أن أمة غرت من نفسها رجلاً أخبرت أنها أمة لهذا الرجل، واشتراها منه على ذلك واستولدها ثم استحقت، رجع المستولد بالثمن وقيمة الأولاد على البائع دون الأمة؛ لأن رجوع المستولد بحكم التزام ضمان السلامة في ضمن البيع، والمباشر للبيع البائع دون الأمة، الموجود من الأمة مجرد الاختيار، وإنه لا يوجب الرجوع على ما مر. قال: حرة ولدت ولدين في بطن واحد فكبرا واكتسبا مالاً، ثم مات أحدهما وترك ابناً، ثم جاء رجل وادعى أنه زوج المرأة وأنهما ابناه، وأقرت المرأة بذلك وجحد الابن الباقي وابن الابن، فإن الرجل والمرأة يصدقان على أنفسهما دون غيرهما، فثبت النكاح بينهما بتصادقهما ويدخل في نصيب من الميراث، فإن أقر الابن الباقي بدعوى الرجل ثبت نسبه بإقراره، ومن ضرورة ثبوت نسبه ثبوت نسب الميت، لأنهما توأمان، فيثبت نسبهما، ولكن لا يرث هذا مع ابن الميت شيئاً، لأن الابن الباقي غير مستحق بشيء من ميراث الميت، فتصديقه في حكم الميراث وتكذيبه سواء، والميراث ينفصل عن الميت في الجملة، ألا ترى عند الرق واختلاف الدين النسب ثابتة والميراث غير ثابت، وألا ترى أن أحد الأخوين إذا أقر بأخ فالشركة في الميراث ثابت، والنسب غير ثابت، وإذا كان أحد الحكمين منفصلاً عن الآخر في الجملة لم يكن من ضرورة ثبوت النسب بإقراره استحقاق الإرث. وإن أقر ابن الابن الميت بدعوى الرجل وقد احتلم، ثبت نسب ابنه من الرجل المدعي، لأنه في التصديق قائم مقام ابنه، وثبوت نسب ابنه يقتضي ثبوت نسب الابن الحي ضرورة، ويرث الرجل مع ابن الميت؛ لأن الحق في الميراث لابن الابن الميت،

وقد أقر له ببعض ما أصابه من ميراث ابنه، فيؤمر بتسليمه إليه. ولو أن أمة ولدت ولدين في بطن واحد، فاشترى رجل أحدهما وأعتقه، ثم مات المعتق فورثه مولاه، ثم اشترى رجل آخر الابن الباقي من أمه فادعى أنه ابنه ثبت النسب منه، وإن كان كبيراً لا يقر بذلك؛ لأنه عبده فلا يحتاج إلى تصديقه في إثبات النسب منه، ويثبت نسب الميت منه أيضاً، ولا يكون له الميراث الذي أقره المولى، أورد هذا أيضاً.... لعدم أنه ليس من ضرورة النسب استحقاق الإرث. في «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل ورث جارية أبيه، ولم يكن يعرف حالها عند الأب لم يكن يعرف أنه اشتراها، فأولدها الابن ثم استحقها رجل، فإنه يأخذها ويأخذ ولدها معها كذا ههنا، وقد مر قبل هذا بخلاف هذا. وكذلك قال في رجل عنده أمة لا يعرف حالها عنده باعها من رجل، ثم ذلك الرجل باعها من رجل آخر، ثم اشتراها الأول وأولدها ثم استحقها رجل، أخذها المستحق وولدها من قبل أنه ليس بمغرور، إنما خرج الأصل عنه. وفي «المنتقى» : رجل أمر رجلاً بأن يشتري (247ب4) له جارية ثم إن الآمر وهب الجارية للمشتري، فولدت ولداً ثم استحقت أخذها المستحق وعقرها وقيمة ولدها، ولا يرجع الواطىء على البائع بشيء؛ لأنه اشتراها لغيره. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل اشترى أمة ولدت منه ولداً، فجاء رجل، وأقام بينة أن هذه الأمة له ولفلان، وقضى القاضي لهذا الرجل بنصف الأمة وبنصف عقرها، وبنصف قيمة ولدها، ثم جاء شريكه وقد ماتت الأمة، فإنه يأخذ من الذي كانت الأمة في يده نصف قيمة الأمة ولا عقر له إذا أخذ نصف القيمة، ثم يأخذ المهر والله أعلم. نوع آخر ادعى رجل أرضاً في يدي رجل بهذه العبارة: إن هذه الأرض كانت في يدي، وإن صاحب اليد أحدث يده عليها وأخذها مني، وأنكر ذو اليد إحداث اليد، فأقام المدعي بينة...... عليها وأخذها منه، فقصر القاضي يده عن الأرض وسلمها إلى هذا المدعي، ثم إن كان الذي كانت الأرض في يده........ وحقّه، وفي يد هذا الذي أخذه الآن بغير حق وأقام على ذلك بينة؛ فالقاضي يقضي بالأرض له، ويعيدها......... هذه البينة. هكذا حكى فتوى بعض مشايخ سمرقند، وهذا لأن القاضي لو لم يقضِ له إنما لم يقضِ لأنه صار مقضياً عليه، إلا...... (1) صار مقضياً عليه بالملك في الأرض إنما صار مقضياً عليه بإحداث اليد، وههنا الحاجة إلى القضاء له بالملك، وهو ما صار مقضياً عليه بالملك.

سئل نجم الدين النسفي رحمه الله: عن رجل ادعى أرضاً في يدي رجل أنها ملكه، وفي يد هذا المدعى عليه بغير حق، فقال المدعى عليه: هي ليست بملكي، إنما هي وقف على كذا وأنا متوليها، فطلب القاضي من المدعى عليه بينة على ما قال، فلم يمكنه إقامة البينة على ما قال، فأمر القاضي المدعى عليه بتسليم الأرض إلى المدعي لتكون في يده، إلى أن يقييم البينة على ما قال، قال: كل ذلك خطأ، ليس ينبغي للقاضي أن يطلب البينة من المدعى عليه على مقالته، ولا أن يأمر المدعى عليه بتسليم الأرض إلى المدعي، وإنما على المدعي إقامة البينة على دعواه الملك على المدعى عليه، وبينته على ذلك على المدعى عليه مقبولة، لأنه متولٍ بزعمه، والمتولي خصم لمن يدعي الملك لنفسه في الوقف. وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله قال هشام: سألت محمداً عن رجل في يده دار ادعاها رجل وقدم صاحب اليد إلى القاضي، فأقر صاحب اليد أنه اشترى هذه الدار من هذا المدعي وادعى أنّ له بينة، هل يؤمر صاحب اليد بتسليم الدار إلى المدعي بحكم هذا الإقرار؟ قال: أما في القياس فنعم، ولكن أدع الدار في يده استحساناً، وآخذ منه كفيلاً وأؤجله إلى ثلاثة أيام، فإن أحضر بينة وإلا قضيت عليه. وفيه أيضاً قال خلف بن أيوب: سألت شداداً عمن مات وترك مئتي درهم، فأقام رجل البينة بمئة درهم، وقضى القاضي له بها، ثم جاء رجل آخر وادعى مائة درهم على الميت، وأنكر الورثة ذلك، ولا بينة للمدعي، فأقر الذي قضي له بالمئة لهذا المدعي الذي أنكرت الورثة، ما حكم هذه؟ قال: المائة التي أخذها المقضي له تكون بينهما نصفين؛ لأن المقضي أقر أنه غريم مثله، وأن دينهما سواء وإقراره حجة في حقه، قال خلف: وبه أخذ والمسألة مسطورة في الكتب في «فتاوى أبي الليث» أيضاً: رجل في يديه نصف دار؛ جاء رجل وادعى أنه وقف هذه الدار وكانت له يوم وقفها، وشهد الشهود بوقفيته جميعاً، والشهود شهدوا على موافقة دعواه، أكثر ما فيه أن في يد المدعى عليه نصفها، ولكن هذا النصف دخل في الدعوى ودخل في الشهادة أيضاً فتقبل الشهادة عليه، وهو نظير دار في يدي رجلين، ادعى رجل على أحدهما ملكية جميع هذه له، وشهد له الشهود بذلك تقبل شهادتهما على ما في يد هذا المدعى عليه، وطريقه ما قلنا. وفيه أيضاً: رجل زوج ابنه امرأة وسمى لها منزلاً، وباعها منه بيعاً صحيحاً، ثم إن هذا الرجل مات، وادعى ورثته أن أباهم باع هذا المنزل من فلان قبل أن يسميه لها، فإنهم لا يصدقون على ذلك والميراث لها، وعلى فلان أن ما يقم البينة على ميراثه بتاريخ قبل تاريخ شراء المرأة، ولا تقبل شهادة الورثة في ذلك، لأنهم بشهادتهم يريدون إبراء أنفسهم عن عهدة شراء المرأة، فإن المرأة لو وجدت المنزل عيناً ردته عليه وخاصمتهم، فكانوا متهمين في هذه الشهادة.

في «فتاوى الفضلي» : ادعت مهرها على ورثة زوجها، وأنكر الوارث ذلك، فالقاضي يسأل عن مقدار مهر مثلها، ويذكر ذلك المقدار للورثة، ويقول: أكان مهرها كذا، فإن قالوا: لا، فالقاضي لا يصدقهم على ذلك ويقضي عليه بذلك المقدار؛ لأن ذلك القدر ثابت بحكم الظاهر، ويحلفهم على الزيادة، قال: وهو نظير ما لو أقر رجل بغصب مال، فالقاضي يقول: أهو درهم؟ فإن قال: نعم، فالقاضي يصدقه، ويقضي عليه بذلك ويحلفه على الزيادة كذا ههنا. شاهدان شهدا على رجل بقرض ألف درهم، وشهد أحدهما أنه قضاها، وقال المدعي: لم يقضها، فالشهادة على القرض جائزة، ويقضي القاضي للمدعى عليه بالقرض، كذا ذكر في «الجامع الصغير» . وذكر الطحاوي عن أصحابنا رحمهم الله: أنه لا يقضى بالقرض؛ لأن الذي شهد بالقضاء لم يشهد بمال واجب في الحال. وجه ما ذكر في «الجامع الصغير» : أن القضاء لا يتصور إلا بعد سابقة الوجوب، فهما اتفقا على القرض والوجوب، فثبت ذلك باتفاقهما عليه، ثم تفرد أحدهما بالقضاء فلم يثبت القضاء. سئل القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي: عمن يدعي على رجل مالاً، وشهد له شاهدان بالمال وبقضائه، والمدعى عليه لا يدعي القضاء، قال: القاضي يقضي على المدعى عليه بالمال، وعلى قياس ما ذكره الطحاوي: ينبغي أن لا يقضى؛ لأنهما ما شهدا بمال واجب في الحال. وفي «مجموع النوازل» : رجل ادعى عبداً في يدي رجل أنه له، ولم يقم البينة حتى باعه صاحب اليد من رجل بيعاً صحيحاً بمحضر من الشهود، ولم يسلم العبد إلى المشتري حتى أقام المدعي البينة على المدعى عليه، وقضى القاضي له بالعبد، فلو أن هذا المشتري باع هذا العبد من المدعى عليه أو وهبه منه جاز، وهذا هو الحيلة لدفع العبد إلى المدعى عليه. هكذا ذكر المسألة في «مجموع النوازل» ، وما ذكر من المدعى عليه إذا أقام البينة أن العبد عبده اشتراه من المدعى عليه تقبل بينته، ويقضى بالعبد له خطأ لا وجه إلى تصحيحه؛ لأن المشتري يدعي تلقي الملك من جهة المدعى عليه، والمدعى عليه صار مقضياً عليه بالملك المطلق، والقضاء بالملك المطلق على إنسان قضاء عليه، وعلى من تلقى الملك من جهته، والإنسان متى صار مقضياً عليه في حادثة كيف يصير مقضياً له في عين تلك الحادثة؟ فقبول البينة من المشتري في هذه الصورة خطأ، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في الباب الثاني من «دعوى الجامع» . ادعى مال من أحدهما معلوم والآخر مجهول، والشهود شهدوا بالمالين جميعاً، لا شك أنه لا تقبل الشهادة على المجهول، وهل تقبل على المال المعلوم؟ اختلف المشايخ فيه. الشهادة إذا قامت على الإثبات (248أ4) وفيها نفي، نحو أن يقول في باب

النكاح: هذا غلام نتج عنده، هذه الدابة نتجت عنده، ولم يزل ملكاً له، هل تقبل؟ فيه اختلاف المشايخ، والأصح أنها تقبل. استحق دابة من يدي رجل، وقال المستحق في دعواه: غابت الدابة مني منذ سنة، فقبل أن يقضي القاضي بالدابة للمستحق أخبر المستحق بائعه عن القصة، فأقام البائع بينة أن الدابة ملكه منذ عشرين سنة قضى القاضي بالدابة للمستحق؛ لأن المستحق ما ذكر تاريخ الملك في الدابة، إنما ذكر تاريخ غيبة الدابة، بقي دعواه الملك من غير تاريخ، والبائع ذكر تاريخ الملك، ودعواه دعوى المشتري؛ لأن المشتري تلقى الملك من جهة، فصار كأن المشتري ادعى ملك بائعه بتاريخ عشرين سنة، غير أن التاريخ لا عبرة له حالة الانفراد عند أبي حنيفة، فسقط اعتبار ذكر تاريخ غيره، وينفي الدعوى في الملك المطلق، فيقضي بالدابة للمستحق لهذا. وكذلك إذا قال المستحق في دعواه: غابت الدابة مني منذ سنة، وقال المدعى عليه: إنها كانت في يده منذ عشر سنين أو ما أشبه ذلك، وأقاما البينة قضي بالدابة للمستحق، لأنهما ذكرا تاريخ الملك في الدابة، وكان دعواهما في الدابة دعوى مطلق الملك، فيقضى بها للمستحق لهذا. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل مات وترك ابنين ودارين، فادعى رجل إحدى الدارين أنه غصبها أبوهما وحلفهما على ذلك، فحلف أحدهما ونكل الآخر عن اليمين، قال: أقضي للمدعي بنصف الدار حصة الذي نكل عن اليمين ووسَّع المدعي حصة الناكل عن اليمين من الدار الأخرى، فيأخذ من ذلك نصف قيمة الدار التي ادعاها من قبل، لأن نكوله إقرار أن أباه غصب الدار، وأن على ابنه ديناً في.... ولا ميراث له من الأخرى حتى يؤدي ما أقر به من غصب أمه، ولو لم يدع المدعي غصباً، وادعى أن الدار له لم يكن له على الناكل ضمان النصف الأخرى. وفي كتاب «الرقبات» : أن ابن سماعة كتب إلى محمد بن الحسن في رجل ادعى عبداً في يدي رجل، وأقام بينّة أن هذا العبد كان لفلان بن فلان وسمى رجلاً غائباً، وأن فلاناً أقر أنّه لهذا المدعي، والذي في يديه العبد منكر دعواه ويدعي رقبة العبد، والمدعي يقول: صدق الشهود قد أقر فلان لي بالعبد، ولكني ملكته من جهته بهبة أو صدقة أو شراء منه، قال محمد: لا يستحق بهذا شيئاً حتى يقيم البينة على هبة أو قبض أو شراءٍ بثمن معلوم، فإذا أقام البينة على ذلك نفذ القاضي الثمن وقضى له بالعبد، وكذلك إن قال المدعي: صدق الشهود، ولم يزد على ذلك، ولم يدع هبة ولا شراء. ولو كان المقر حاضراً والعبد في يده فقال المدعي: قد كان هذا الغلام لهذا الذي في يديه، وقد أقر لي به فقال الذي في يديه: صدق لم (يستحق) المقر له بذلك شيئاً حتى يقر له بهبة أو قبض أو ما أشبه ذلك.

ادعى محدوداً في يدي رجل وقال: إنها خمس دبرات أرض وبين حدودها، فإذا في يدي المدعى عليه محدود بهذه الحدود، إلا أنها أربع دبرات أرض؛ لا تبطل الدعوى لجواز أن هذا المحدود وقت الدعوى كانت خمس دبرات أرض في الوجه الذي قاله؛ إلا أن المدعى عليه بعد ذلك هدم المستساب، فصارت أربع دبرات أرض، وبمثله لو ادعى محدوداً في يدي رجل، وقال: إنها خمس دبرات أرض خالية من الأشجار، فأذن في يد المدعى عليه خمس دبرات أرض فيها الأشجار، أو على المستساب الأشجار، ولكن هي بهذه الحدود لا تسمع الدعوى، ولو كان قال: فيها الأشجار فإذا هي خمس، وأن لا أشجار فيها؛ تسمع الدعوى لجواز أنه كان في هذا المحدود أشجار وقت الدعوى، إلا أن المدعى عليه قلع الأشجار ثم إن المدعى عليه غرس الأشجار وكثرت الأشجار، ويعرف عن هاتين المسألتين كثير من المسائل. عين في يدي رجل جاء رجل واستحق هذا العين من يدي صاحب اليد، وأراد صاحب اليد أن يرجع على بائعه بالثمن، ثم إن صاحب اليد قال لابن البائع: قد كنت اشتريت منك هذه العين بكذا، وأرجع عليك بذلك الثمن، تسمع دعواه الثاني، ويرجع عليهما بالثمنين جميعاً لجواز أنه اشترى من البائع، ثم جاء ابن البائع وادعى العين لنفسه، فاشترى منه ثانياً، فعند الاستحقاق يرجع بالثمنين جميعاً، وإن كان الصحيح أحد الشراءين إلا أن الرجوع بالثمن عند الاستحقاق يعتمد صورة الشراء ودفع الثمن، لا صحة الشراء لا محالة. وفي «مجموع النوازل» : امرأتان ولدت كل واحدة منهما ابناً في ليلة مظلمة، ثم ادعيا ابناً واحداً بعينه، وقالت كل واحدة: هذا هو الابن الذي ولدته، فإن الولد الذي ادعياه ابنهما، والولد الآخر يربى من بيت المال هكذا ذكر، وإنه مشكل عندنا، وقد ذكر في كتاب «الدعوى» من الأصل، وفي كتاب اللقيط: أن المرأتان إذا ادعتا نسب ولد وأقامت كل واحدة رجلين، أو رجل وامرأتين فعلى قول أبي يوسف ومحمد: لا يثبت نسبه من واحدة منهما، وعلى قول أبي حنيفة يثبت نسبه منهما. وإذا أقامت كل واحدة منهما امرأة واحدة ذكر في رواية أبي سليمان أنه لا يقضى لواحدة منهما بهذه الحجة عند أبي حنيفة، وذكر في رواية أبي حفص أنه يقضى بالولد بينهما، ولو لم يكن لواحدة منهما حجة لا يقضى بنسب الولد بينهما بلا خلاف، وقد أثبت النسب منهما ههنا بمجرد الدعوى، فما ذكر في «مجموع النوازل» يخالف الرواية. قال في «مجموع النوازل» : ولو كان أحد الولدين ذكراً والآخر أنثى ادعت كل واحدة منهما الابن، وبقيت الابنة، يوزن لبنهما، فيجعل الابن للتي لبنها أثقل. وفي «نوادر أبي سليمان» عن أبي يوسف: في رجل ادعى عبداً في يدي رجل

وقال: بعتني هذا العبد بألف درهم ونقدتك الثمن، وجحد البائع البيع وقبض الثمن، وشهد شاهدان على إقرار البائع بالبيع وقبض الثمن، وقالا: لا نعرف العبد، ولكن البائع قال لنا: اسم عبدي زيد، فشهد شاهدان آخران أن هذا العبد زيد وشهدا على إقرار البائع أنه زيد، أو أقر البائع أن هذا العبد زيد، فإن العبد لا يتم بهذه الشهادة، ويحلف البائع فإن حلف يرد الثمن.v فإن شهد شاهدا البيع أن البائع أقر أن عبده زيد المولد، أو نسبوه إلى صناعة أو حلية أو ما أشبه ذلك من أمر معروف يعرف به، فوافق ذلك العبد، فهذا والأول سواء في القياس، ولكن استحسن في هذا أن يجيزه، وكذلك الأمة، وكذلك كتاب القاضي في هذا بالشهادة على الإقرار. ولو شهدا على إقراره بالعبد بعينه، وسمياه ووصفاه وقالا: أراناه يومئذٍ، وسمى لنا ولكن لا نعرفه اليوم بعينه، فهذا باطل من قبل أنهما شهدا على معروف، ثم جهلا بشهادتهما. وفي كتاب البيوع من «المنتقى» : رجل في يديه دار ادعاها رجل أنها داره اشتراها من الذي في يديه بألف درهم، وادعى الذي في يديه أنها داره اشتراها من المدعي بألف درهم، ولا بينة لهما، فإن الدار للذي في يديه الدار، فإن أنكر تلك المقالة وشهد على إقرارهما بذلك شهود، كل واحد منهما يدعي الدار لنفسه، وينكر تلك المقالة التي شهدت الشهود عليها، فإن الدار للمتكلم الأول وهو الخارج؛ لأن الخارج لما ادعى الشراء من صاحب (248ب4) اليد فقد أقر أن الدار كانت لصاحب اليد، ولم يثبت شراءه من صاحب اليد، وصاحب اليد لما ادعى الشراء بعد ذلك من الخارج فقد أقر أن الدار كانت للخارج، ولم يثبت شراءه من الخارج، وبطل إقرار الخارج لصاحب اليد حكماً؛ لإقرار صاحب اليد للخارج بعد ذلك. وفي «نوادر هشام» قال: سألت محمداً عن غلام في يدي رجل ادعاه رجلان أقام أحدهما بينة أنه اشتراه منه بألف درهم منذ سنة، وأقام آخر بينة أنه اشتراه منه بمئة دينار منذ خمسة أشهر، وصاحب اليد يقول: بعته من صاحب المئة، وقضى القاضي بالغلام لصاحب الألف لما أن وقته أول وسلم الغلام إليه، فوجد بالغلام عيباً، ورده على المقضي عليه بقضاء القاضي فجاء صاحب المئة وقال: أنا آخذ الغلام لأنك أقررت أنك بعته مني بمئة دينار، وصاحب اليد يأبى ويقول: إن القاضي فسخ العقد بيني وبينك، لا يكون فسخاً وله أن يأخذ بإقرار البائع أنه باعه منه، ولم يبعه من ذلك. وإن قال البائع لصاحب المئة: خذ الغلام إنما هو فللبائع أن يلزمه، وإن قال صاحب المئة حين قضى القاضي بالغلام لصاحب الألف وقام من مجلس القاضي: فسخت البيع بيننا، لم يكن فسخاً إلا أن يقول البائع: أجيبك إلى ذلك أو يفسخ القاضي العقد بينهما. وفي «المنتقى» : رجل ادعى على رجل أني قد بعتك هذا الطيلسان لي، وأنا كنت أودعتك فرددتها علي، يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه، ويرد الطيلسان على

الذي ادعى البيع؛ لأن الذي في يديه الطيلسان أقر أن الطيلسان كان في يد مدعي البيع. قال: وهذا في اليمين بالمدعى عليه، وعلل فقال: لأنهما لو أقاما البينة كانت البينة بينة الآخر. رجل ادعى داراً في يدي رجل أنها داره، اشتراها من صاحب اليد قبل هذا التاريخ بشهر، وأنكر المدعى عليه دعواه، فأقام المدعي بينة على دعواه، فقال المدعى عليه: الدار كانت لي إلا أني قد كنت بعتها قبل هذا من امرأتي بتاريخ ثلاثة أشهر؛ وصدقت امرأة المدعى عليه المدعى عليه في ذلك، وقالت: قد كنت اشتريت هذه الدار من هذا المدعى عليه قبل هذا بثلاثة أشهر، وأقامت بينة على دعواها على المدعي، وكان ذلك قبل القضاء بالدار للمدعي، فالقاضي لا يقبل بينتها. ولو أقامت المرأة بذلك على زوجها قبلت بينتها، وقضي بالدار لها، وإن أقر الزوج لها بذلك؛ لأن إقرار الزوج لها ببيع الدار منها بعدما أقام المدعي البينة على دعواه لم تصح؛ إذ لو صح بطل ما أقام المدعي من البينة وإنه لا يجوز، وإذا لم يصح إقرار المدعى عليه بذلك صار وجوده والعدم بمنزلة، وصارت مسألتنا أن المدعي ادعى الشراء من صاحب اليد بتاريخ شهر، وامرأة صاحب اليد ادعت الشراء منه بتاريخ ثلاثة، فيقضى بالدار بتاريخها. المحبوس بالدين إذا أقام بينة أنه معسر، وأقام رب الدين بينة أنه موسر، فالقاضي يقبل بينة رب الدين، وإن لم يبينوا مقدار ملكه حتى يخلده في السجن ببينة رب الدين وفيه إشكال؛ لأن تخليده في السجن لا يستحق إلا باليسار، واليسار لا يثبت إلا بالملك، وتعذر القضاء بالملك لجهالة قدره، ألا ترى إلى ما ذكر في كتاب الشفعة أن المشتري إذا أنكر جوار الشفيع وأنكر ملكه في الدار التي في يديه بجنب الدار المشتراة، وأقام الشفيع بينة أن له نصيباً في هذه الدار، ولم يبينوا مقدار النصيب فالقاضي لا يقضي بهذه الشهادة، وطريقه: أن حق الشفعة إنما تثبت لمدعيها إذا ثبت له الملك في الدار التي يدعي الشفعة بها، والقضاء بالملك له، فهذه الشهادة غير ممكنة لمكان الجهالة، فههنا يجب أن يكون كذلك. والجواب وهو الفرق بين المسألتين: أن في مسألة المحبوس القضاء بالملك له غير ممكن لجحوده لا لجهالته، بل الملك لنفسه، ألا ترى أن الشهود إن بينوا مقدار الملك له، فالقاضي لا يقضي له بالملك مع أن المشهود به معلوم لجحوده الملك لنفسه، وإذا تعذر القضاء بالملك لجحوده لم يشترط القضاء باليسار إمكان القضاء له بالملك، فأما في مسألة الشفعة؛ القضاء بالملك للشفيع ممكن؛ لأنه يدعي الملك لنفسه، وإذا أمكن القضاء له بالملك كان إمكان القضاء بالملك شرطاً لثبوت الشفعة؛ لأن الشفعة لا تستحق إلا بالملك، أو ليس إذا سقط شرط من شرائط صحة القضاء في موضع العجز يدل على أنه يسقط في موضع آخر من غير العجز. وإذا أقام المدعي بينة على أن قاضي بلد كذا فلان قضى له على هذا الرجل بألف

درهم، وأقام المدعى عليه بينة أن ذلك القاضي يقضي له بالبراءة عن هذه الألف، فالقاضي يقضي بالبينة التي قامت على البراءة، ولا يقضي ببينة المدعي؛ لأن المدعى عليه لما ادعى البراءة صار مقراً، فوقع الاستغناء عن قبول بينة المدعي على الدين لإقرار المدعى عليه بالدين، فصار كأن المدعي لم يقم البينة على الدين، ثم إن المدعى عليه أثبت براءته بالبينة، فتقبل بينته، ويقضى له بالبراءة لهذا. وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف: رجل ادعى على رجل أنه تصدق بهذه الدار عليه وقبضها، أو اشتراها منه بألف درهم، وقبضها أو وهبها منه على عوض ألف وقبضها، وأنكر صاحب اليد ذلك، فأقام المدعي بينة أن صاحب اليد أقر بهذه الدار لهذا المدعي، قال: أقبل ذلك وأجعلها للمدعي، فبعد ذلك إن ادعى صاحب الدار الثمن أو العوض الذي أقر به أمرته بدفعه إليه، وإن لم يدع ذلك فلا حق له فيه. وإذا قال المدعى عليه: هذه الضيعة ليست في يدي، وأراد المدعي أن يحلفه على اليد، له ذلك حتى يصير مقراً باليد، ثم إذا صار مقراً باليد يحلفه القاضي بالله ما هي ملك هذا المدعي، حتى يصير مقراً له بالملك، وإذا صار مقراً له بالملك يترك التعرض إذا كان بعض التركة في يد الغاصب، فالغريم لا يكون خصماً للغاصب في ذلك، حتى لو أراد الغريم الدعوى على الغاصب في ذلك لا تسمع دعواه في أول وصايا «الجامع» ، ولكن حق الدعوى للوارث إن كان، وإن لم يكن فللموصي، فإن كان للميت وارث وامتنع عن الخصومة مع الغاصب، فالقاضي ينصب وصياً ليخاصم مع الغاصب نظراً للغريم الدعوى في عتق الأمة، وفي الطلقات الثلاث، وفي الطلاق البائن ليس بشرط لصحة القضاء والمسألة معروفة، قالوا: وكذلك في الطلاق الرجعي الدعوى لا تكون شرطاً لصحته أيضا، لأن حكمه حرمة الفرج بعد انقضاء العدة، وأنه حق الله تعالى. جارية في يدي رجل جاء رجلان وادعى كل واحد منهما أن الجارية ملكه، باعها من ذي اليد بألف درهم على أنه بالخيار، وأقام على ذلك بينة، فإن أمضيا العقد كان لكل واحد منهما على ذي اليد جميع الثمن، وإن لم يمضيا فالجارية بينهما، وإن أمضى أحدهما دون الآخر كان له نصف الثمن. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد: رجل باع أمة له وبها حمل، فقال البائع: ليس هذا الحمل مني بل هو من عبدي، فولدت عند المشتري لأقل من ستة أشهر، فادعاه البائع جازت دعوته وردت الجارية والولد إليه؛ لأن هذا حق الولد. هشام عن محمد: في رجل اشترى مملوكاً وباعه من آخر، وباعه الآخر من آخر أيضاً، ثم اشتراه الأول، وادعى أنه ابنه، فهو ابنه وتبطل البيوع كلها، وإن كان هو لم يشترِ وادعاه فدعوته باطلة. رجل أعتق جارية ولها ولد، ثم ادعى ولدها بعدما أعتقها قال: يلزمه وعليها العدة. رجل قال في مرضه: هذا الغلام ابني من (249أ4) إحدى هاتين الجاريتين ثم مات، قال محمد رحمه الله: يعتق الغلام من جميع المال؛ لأن نسبه قد ثبت، وتسعى

كل جارية في نصف قيمتها، ويعتق نصفها من الثلث. ابن سماعة في «نوادره» : رجل أعتق جارية وتزوجت زوجاً وجاءت بولد لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها، فادعاه الزوج والسيد قال: أيهما صدقته فهو ابنه، قال: لأن علمي قد أحاط أن الولد كان قبل التزويج، فإن صدقه الزوج وادعى نكاحاً فاسداً أو وطأ شبهة لزمه ذلك، وكذلك السيد ليس له دعوى بدون تصديقها؛ لأنه لا عدة له عليها. محمد بن (سماعة) عن أبي حنيفة: إذا عالج الرجل جاريته فيما دون الفرج، فأنزل فأخذت الجارية ماءه في شيء واستدخلته فرجها في حرمان ذلك، فعلقت الجارية وولدت ولداً، فإن الولد ولد الرجل، وتصير الجارية أم ولد له. ابن سماعة عن محمد: في رجل وطء جارية مشتركة بين ابنه وبين أجنبي فولدت، قال: عليه نصف قيمة الأم للابن، وعليه للآخر نصف قيمتها، ونصف عقرها، لأنه يملك نصيب الابن سابقاً على الاستيلاد؛ شرطاً لصحته ويملك نصيب الأجنبي بعد الاستيلاد حكماً لصحته، فالاستيلاد في نصيب الابن صادف ملك الأب فلا يوجب العقر، وفي نصيب الآخر صادف ملك الغير فيلزمه العقر. ذكر في «المنتقى» : في عبد ادعى لقيطاً أنه ابنه من امرأته هذه وهي أمته، ثبت نسبه من العبد، ويكون حراً ولا يكون ابن امرأته، وقال في نصراني مات وترك ابناً فأسلم الابن بعد موته، ثم جاء نصراني وأقام بينة من النصارى أنه ابن الميت قضيت ببينته، ولم أعطه شيئاً لما في يد الابن المسلم، وإن ظهر للميت بعد ذلك مال؛ كان ذلك المال للابن المسلم؛ وإن مات الابن المسلم ورث أخاه منه إن كان قد أسلم قبل موته، لأن نسبه قد ثبت، وعن محمد أن القاضي لا يقضي بنسب الابن النصراني في هذه الصورة، ولا يقبل بينته أصلاً. ولو ترك النصراني ابنين فأسلم أحدهما بعد موته، فجاء نصراني وأقام بينة من النصارى أنه ابن الميت، قال أبو يوسف: أقبل بينته على النسب، وأجعله شريك الابن النصراني، ولا يشارك الابن المسلم في نصيبه، وقال محمد: أثبت نسبه، وإذا أثبت نسبه أشركته فيما في أيديهما. ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله: في امرأة مع رجل لها منه أولاد، وهي معه في منزله يطأها وتلد له بنيناً، ثم أنكرت أن تكون امرأته قال: إذا أقرت أن هذا الولد ولده منها فهي امرأته، وإن لم يكن منها ولد وإنما كان معه على هذا الحال، فالقول قولها. بشر عن أبي يوسف في عشرة ادعوا نكاح امرأة، قال: إن كان دخل بها أحدهم فهي امرأته، وإن ادعت هي واحداً منهم، فهو زوجها، فإن كان واحد منهم دخل بها ولم تدع هي واحداً منهم، ولا يدري الذي دخل بها، فلها على كل واحد منهم نصف مهر، وإن ماتوا كان لها عشر مهر على كل واحد منهم، ولها عشر ميراث امرأة من كل واحد، وإن ماتت هي كان على كل واحد منهم عشر منهم ولهم ميراث زوج بينهم إذا تصادقوا أنهم لا يعلمون.

هشام عن محمد: امرأة مدركة زوجها أبوها من رجل فمات زوجها، فجاءت تدعي الميراث قال: إن قالت: كنت أمرت أبي بالتزويج ثبت النكاح وورثت، وإن قالت: لم آمره، ولكن حين بلغني تزويجه إياي أمرت، فعليها البينة وكذلك هذا فيمن باع عبد غيره ومات العبد في يد المشتري ثم ادعى البائع الأمر أو الإجارة. وفي «المنتقى» : رجل توفي فادعى رجلان ميراثه يدعي كل واحد منهما أن الميت مولاه أعتقه ولا وارث له غيره، وأقام البينة على ما ادعى ولم يؤقتوا للعتق وقتاً، فالميراث بينهما، ولو وقت للعتق وقتاً فصاحب الوقت الأول أولى. وإذا كان الصبي في يدي رجل أقام رجل بينة أنه ابنه ولد من أمته هذه منذ سنة والصبي مشكل السن، فالبينة بينة الذي في يديه، وهذا مخالف للعتق؛ لأن الولادة لا تكون إلا مرة وقد يجوز أن يعتق الإنسان عبده ثم يغصبه منه غاصب ويكون عبد الغاصب فيعتقه بعد ذلك، فيعاين كل فريق عتقاً فيمكن القضاء لأول الوقتين. ادعى عيناً في يدي رجل، فقال المدعى عليه: اشتريته من هذا المدعي بنزع الدار من يده حتى يقيم البينة على الشراء وهذا قياس، وفي الاستحسان: تترك العين في يده ثلاثة أيام، ويؤخذ منه كفيل حتى يقيم البينة على الشراء، هكذا ذكر في «الفتاوى» ، والقياس كان يفتي الشيخ الإمام طهر الدين المرغيناني، وعلى هذا: المديون إذا ادعى الإيفاء يؤمر بالقضاء، ثم بإثبات الإيفاء. رجل ادعى نصف دار في يدي رجل، فأقر المدعى عليه، إلا أنه لم يدفعه إليه وغاب، فجاء رجل وادعى نصف الدار لنفسه، فالمقر لا يكون خصماً له لأنه ليس في يده شيء، ولو غاب المقر له والمقر حاضر فهو خصم لهذا المدعي الثاني، ولو أن رجلاً ادعى نصف دار في يدي رجل وقضي له بما ادعى بالبينة ولهذا المدعي أخوان، كل واحد منهما يدعي بعد ذلك أن له نصف الدار، وإن قبض الأول ما ادعى قضي بالدار بين أخويه نصفان؛ لأن القضاء في هذه الصورة على الأول، وإن لم يقبض الأول ما ادعى قضي بالدار بينهما أثلاثاً. ادعى عيناً في يدي رجل أنه ملكي لما أنه كان ملكاً لأبي رهنه منك ودفعه إليك ثم مات أبي وتركه ميراثاً لي ولا وارث له غيري، فأنكر الذي في يديه العين ملكه ورهن أبيه منه، فجاء المدعي يشهد وشهدوا أن هذه العين ملكه وفي يدي هذا المدعى عليه بغير حق قبلت شهادتهم؛ لأن المرتهن إذا أنكر الرهن فالمرهون يكون في يده بغير حق. وإذا ادعى جارية في يد إنسان أنها كانت ملكي يوم أخد يد صاحب اليد مني، فإذا ادعى أنه غصب مني هذه الجارية، فدعواه صحيحة وإن لم يقل: ملكي، ولو أقام البينة على أن صاحب اليد غصبها منه، فالقاضي يأمر صاحب اليد بالرد عليه أما لا يقضى له بالملك إذا قال في دعوى البنوة: هذا ابني ولم يقل ولد على فراشي، فهذه دعوى

صحيحة، وإذا أقام البينة سمعت بينته وقضي بثبوته. وإذا قال: هذا الولد ليس مني ثم قال: هو مني صح قوله الثاني، وحكم بثبوت النسب منه، وإذا ادعى أنه ابن عم فلان فلا بد فيه من ذكر الجد. وإذا ادعى أنه أخ فلان لا يشترط فيه ذكر الجد، هكذا حكي عن القاضي الإمام شمس الإسلام محمود الأوزجندي. وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف في ولد الملاعنة: إذا ادعاه رجل أنه لايثبت نسبه منه، قال: لأنه ولد على فراش الزوج. وفي «المنتقى» : وإذا شهد الشهود لرجل أن زيداً أقر أن هذا المدعي أخوه أو ابن أخته أو مولاه، فليس هذا بشيء حتى يثبتوا، وهذا بخلاف ما لو شهدوا أنه أقر أنه ابن خاله أو ابن عمه؛ لأن الغالب في هذا النسب ويورث منه. وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله: صبي في يدي رجل لا يعرف نسبه ادعى آخر أنه ابنه، قال: إن صدقه الذي الصبي في يده ثبت نسبه منه، وإن كذبه لا يثبت نسبه منه، والمراد من المسألة: الصغير الذي لا يعبر عن نفسه كانت العبرة بتصديقه وتكذيبه التصديق من في يده وتكذيبه، والله أعلم بالصواب.

كتاب المحاضر والسجلات

كتاب المحاضر والسجلات هذا الكتاب يشتمل على ثلاثة وستين محضراً وسجلاً 1 * فيما ينبغي أن يكتب في المحضر. 2 * في محضر الدين المطلق وسجله. 3 * في إثبات الدفع لهذه الدعوى وسجله. 4 * في إثبات الدين على الميت وسجله، وإثبات الدفع لهذه الدعوى. 5 * في إثبات ملكية المحدود وسجله، وفي دفع هذه الدعوى وسجله. 6 * في دعوى الدار ميراثاً عن الأب وسجله، وفي دفع (249ب4) هذه الدعوى وسجله. 7 * في دعوى ملكية المنقول تملكاً مطلقاً وسجله. 8 * في ملكية العقار بسبب الشراء من صاحب اليد وسجله. 9 * في حرية الأصل وسجله. 10 * في دعوى العتق على صاحب اليد باعتاق من جهته وسجله. 11 * في دعوى العتق على صاحب اليد بإعتاق من جهة غيره وسجله. 12 * في إثبات الرق وسجله في دفع هذه الدعوى وسجله. 13 * في دعوى التدبير المطلق وسجله، وفي إثبات العتق على غائب وسجله. 14 * في دعوى النكاح وسجله، ودفع هذه الدعوى وسجله. 15 * في دعوى نكاح امرأة هي في يدي رجل يدعي نكاحاً وهي لم تقر له بذلك. 16 * محضر في إثبات الصداق ديناً في تركة الزوج. 17 * في إثبات مهر المثل. 18 * في إثبات المتعة. 19 * في إثبات الحرمة الغليظة.

20 * في شهادة الشهود بالحرمة الغليظة بدون دعوى المرأة. 21 * في إثبات حرمة الغليظة على الغائب وسجله. 22 * في سجل التفريق بين الزوجين بسبب العجز عن النفقة. 23 * في سجل التفريق في النكاح بلفظ الهبة. 24 * في سجل فسخ اليمين المضافة. 25 * في إثبات العنة للتفريق، وفي إثبات دفع هذه الدعوى. 26 * في دعوى النسب. 27 * في إثبات العصوبة. 28 * في إثبات الوقفية 29 * في دعوى الشفعة. 30 * في دعوى المزارعة. 31 * في إثبات الإجارة. 32 * في إثبات الرجوع في الهبة. 33 * في إثبات منع الرجوع في الهبة. 34 * في إثبات الرهن. 35 * في شركة العنان. 36 * في إثبات الاستبضاع. 37 * في إثبات القود. 38 * في إثبات الدية. 39 * في إثبات القذف. 40 * في إثبات الوفاة والوارث مع المناسخة. 41 * في دعوى المنزل ميراثاً عن أبيه. 42 * في إثبات الوصاية. 43 * في إثبات بلوغ اليتيم. 44 * في إثبات الإفلاس. 45 * في إثبات هلال رمضان. 46 * في إثبات كون المدعى عليها مخدرة. 47 * في دعوى المال على الغائب للكتاب الحكمي. 48 * في ثبوت ملك محدود بكتاب حكمي. 49 * في إثبات المضاربة والبضاعة للكتاب الحكمي. 50 * الكتاب الحكمي في إثبات شركة العنان في عمل الحلابين. 51 * في إثبات كتاب حكمي. 52 * كتاب حكمي على قضاء الكاتب بشيء قد حكم به وسجله. 53 * في دعوى العقار. 54 * في عبد الآبق. 55 * في رسوم للقضاة والحكام في تقليد الأوقاف. 56 * في كتاب القاضي إلى بعض الحكام بالنواحي لاختيار القيّم في الأوقاف، وفي جواب المكتوب إليه، ثم في قسمة التركة واختيار القيم للصغير. 57 * في نصب الحكام في القرى. 58 * كتاب في أمر أتاه بالتزويج. 59 * في كتاب إلى بعض الحكام بالناحية للتوسط بين الخصمين. 60 * في كتابه إليه لتوقيف الضيعة. 61 * في ذكر الإذن بالاستدانة. 62 * في فرض نفقة المرأة. 63 * في كتاب المسودة من القاضي بالعربية.

الأول: فيما ينبغي أن يكتب في المحضر ذكر الشيخ الإمام الزاهد الحجاج نجم الدين شمس الإسلام والمسلمين عمر النسفي رحمه الله أن الإشارة في الدعاوي والمحاضر ولفظة الشهادة من أهم ما يحتاج إليها، وإنما كانت أهم قطعاً للاحتمال؛ لأن المدعي بدعواه يستحق المدعى به على المدعي به، والشهود بشهادتهم يثبتون استحقاقه، ولا يثبت الاستحقاق مع الاحتمال، وكذا في السجلات لابد من الإشارة حتى قالوا: إذا كتب في محضر الدعوى حضر فلان مجلس الحكم وأحضر مع نفسه فلاناً، فادعى هذا الذي حضر عليه لا يفتي لصحة ويكتب، فادعى هذا الذي أحضره؛ لأن بدونه توهم أنه أحضر هذا وادعى على غيره، وكذلك عند ذكر المدعي والمدعى عليه في إتياء المحضر لابد من ذكر هذا، فيكتب المدعي هذا والمدعى عليه هذا لأن بعض المشايخ كانوا لا يفتون بالصحة بدونه. وكذلك قالوا في السجلات: إذا كتب: وقضيت لمحمد هذا على أحمد هذا لابد وأن يكتب: وقضيت لمحمد هذا المدعي على أحمد هذا المدعى عليه، وكذلك قالوا: إذا كتب في المحضر عند ذكر شهادة الشهود، وأشاروا إلى المتداعيين لا يفتى بالصحة؛ لأن الإشارة المعتبرة هي الإشارة عند الحاجة إليها في موضعها، ولعلهم أشاروا إلى المدعى عليه عند الحاجة إلى الإشارة إلى المدعي، وأشاروا إلى المدعى عليه عند الحاجة إلى الإشارة إلى المدعى عليه، ويكون ذلك إشارة إلى المتداعيين، ولا تكون معتبرة، فلابد من بيان ذلك بأبلغ الوجوه قطعاً للوهم.I وقالوا أيضاً: إذا كتب صك الإجارة: آجر فلان من فلان أرضه بعدما جرت المبايعة الصحيحة بينهما في الأشجار والزراحين التي هي في هذه الأرض لا يفتى بصحة الصك؛ لجواز أن الأشجار كانت للمستأجر باعها من الآجر ثم استأجر الأرض، وعلى هذا التقدير لا تصح الإجارة في الأرض، وهذه إجارة الأرض بعدما جرت المبايعة الصحيحة في الأشجار بين المتعاقدين كما كتب في الصورة الثانية لأنهما متعاقدان، وينبغي أن يكتب أجر الأرض من المستأجر. هذا بعد ما باع هذا الآجر الأشجار والزراحين من المستأجر هذا، وقالوا نصاً فيما إذا كتب في المحضر: أحضر المدعي شهوده وسألني الاستماع إليهم، فشهدوا على موافقة الدعوى لا يفتى بصحة المحضر، وينبغي أن يذكر ألفاظ الشهادة؛ لأن القاضي عسى أن يظن أن بين الدعوى والشهادة موافقة، ولا يكون بينهما موافقة في الحقيقة، وكذلك قالوا أيضاً: إذا كتب في السجل شهد الشهود على موافقة الدعوى لا يفتي بصحة

السجل، وكذلك قالوا في كتاب «القاضي إلى القاضي» لو كتب فيه: شهدوا على موافقة الدعوى لا يفتى بصحة الكتاب، ومن المشايخ من فرق بين كتاب القاضي والسجل وبين محضر الدعوى، فافتى بصحة الكتاب والسجل وبفساد محضر الدعوى؛ لأن كتاب القاضي إنما يرد من الآفاق. فلو رددناه بهذا القدر من الخلل احتاج الذي جاء بالكتاب إلى الرجوع إلى بلده، وفيه جرح بين، والمانع من القبول موهوم وليس بقطعي؛ لأن الظاهر أن قاضي كل بلدة يعرف الموافقة بين الدعوى والشهادة، فأما محضر الدعوى في كل بلدة يكتب أهل تلك البلدة، فلو رددناه بهذا الخلل لا يؤدي إلى الحرج، وسجل القاضي إنما يكتب بعد حكمه، وحكمه محمول على الصحة، ولا صحة إلا بالموافقة فتثبت الموافقة بحكمه بخلاف المحضر ليس فيه ما يثبت الموافقة بين الدعوى والشهادة، فلا بد من بيانهما، ولأن السجل قد يرد من مصر آخر، فلو رددناه بهذا الخلل يؤدي إلى الحرج، ولا كذلك المحضر على نحو ما بينا. والدليل على صحة الفرق بين السجل والمحضر ما ذكر في «الزيادات» : أن من ادعى أنه وارث فلان الميت ولا وارث له غيره، وأقام بينة على دعواه فالقاضي لا يقضي بوراثته ما لم يثبتوا سبب الوراثة، ولو ادعى أنه وارثه ولا وارث له غيره، وأن قاضي بلد كذا قضى بوراثته وجاء ببينة شهدوا أن قاضي بلد كذا اشهدنا على قضائه أن (250أ4) هذا وارث فلان الميت لا وارث له غيره، وقال الشهود: لا ندري بأي سبب قضى، فإن القاضي الثاني يجعله وارثاً، وطريقه ما قلنا: إن قضاء القاضي محمول على موافقة الشرع وعلى الصحة، وذلك ههنا في أن يحمل على أنه استقضاء في سبب الوراثة غاية الاستقضاء، ولم يقدم على القضاء إلا بعد العلم بالحجة بسبب وراثته كذا في مسألتنا. وكذا قالوا في السجل: إذا كتب على وجه الإيجاز: ثبت عندي من الوجه الذي تثبت الحوادث الحكمية والنوازل الشرعية أنه لا يفتى بصحة السجل ما لم يبن الأمر على وجهه. وقال بعضهم: يفتى بصحته، قالوا: ويكتب في محضر الدعوى: شهد الشهود بكذا عقيب دعوى المدعي هذا، حتى لا يظن أن شهادتهم قبل الدعوى، وكذا يكتب والجواب بالإنكار من المدعى عليه هذا؛ لأن البينة لا تسمع على المقر إلا في مواضع معدودة ذكرها الخصاف في أدب القاضي، وعندي أن كل ذلك ليس بشرط؛ لأن في المحضر تكتب دعوى المدعي أولاً، ثم جواب المدعى عليه بالإنكار بعده، ثم شهادة شهود المدعي، فتكون شهادتهم بعد الدعوى، والجواب بالإنكار لا محالة. وكان الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي يقول: ينبغي للمدعي أن يقول في دعواه: أين مدعى به حق منست وملك منست، ولا يكتفي فقوله: أين مدعي ملك منست، وحق من حتى لا يمكن أن يحلق به، وحق من نسى. وكذلك في جواب المدعى عليه لا يكتفي بقوله: ملك منست وحق من، وينبغي أن يقول: ملك منست وحق منست حتى لا يحلق بآخره كلمة النفي.

وكذلك في قوله الشاهد لا يكتفي بقوله: ملك أين مدعي أست وحق وي لما ذكرنا، وبعض مشايخنا اكتفوا بقوله: ملك منست وحق من، ويقول المدعى عليه: ملك منست وحق من، ويقول الشاهد: ملك أين مدعي است وحق وي. ولو قال المدعي: وحق منست فذلك يكفي بالإتفاق، وكذا في أمثاله. وإذا قال الشهود في شهادتهم: أين مدعي به ملك أين مدعى است ولم يقولوا: دردست أين مدعي عليه بنا حق است، فقد اختلف المشايخ فيه، والصحيح أن المدعي إن طلب من القاضي القضاء بالملك، فالقاضي يقبل هذه الشهادة، ويقضي بالمال للمدعي، فإن طلب التسليم فالقاضي لا يقضي به ما لم يقولوا: دردست أين مدعي عليه بنا حق است. الثاني: محضر الدين المطلق، يكتب بعد التسمية: حضر مجلس القضاء في كورة بخارى قبل القاضي فلان بذكر لقبه واسمه ونسبه المتولي لعمل القضاء والأحكام ببخارى نافذ القضاء والإمضاء بين أهلها من قبل فلان في يوم كذا من شهر كذا ومن سنة كذا؛ فبعد ذلك إن كان المدعي والمدعى عليه مووفين باسمهما ونسبهما يكتب اسمهما ونسبهما، فيكتب: حضر فلان بن فلان وأحضر مع نفسه فلان بن فلان؛ وإن لم يكونا معروفين باسمهما ونسبهما يكتب: حضر رجل ذكر أنه يسمى فلان بن فلان، وأحضر مع نفسه رجلاً ذكر أنه يسمى فلان بن فلان، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن لهذا الذي حضر على هذا الذي أحضر معه كذا كذا ديناراً نيسابورية حمراً جيدة مناصفة موزونة بوزن مثاقيل مكة ديناً لازماً وحقاً واجباً بسبب صحيح، وأقر هنا الذي أحضره معه في حال جواز إقراره طائعاً راضياً بجميع هذه الدنانير المذكورة الموصوفة في هذا المحضر على نفسه لهذا الذي حضر دينامً لازماً وحقاً واجباً بسبب صحيح إقراراً صحيحاً، وصدقه هذا الذي حضر فيه خطاباً، فواجب على هذا الذي أحضره معه أداء هذا المال المذكور فيه إلى هذا الذي حضر، وطالبه بالجواب وسأل مسألته. فبعد ذلك ينظر: إن أقر المدعى عليه بما ادعاه المدعي فقد تم الأمر، ولا حاجة للمدعي إلى إقامة البينة، وإن أنكر ما ادعاه المدعي يحتاج المدعي إلى إقامة البينة، ثم يكتب: فأحضر المدعي هذا نظراً ذكر أنهم شهود، وسأل الاستماع إليهم فأجبت، وهم فلان بن فلان وفلان، يكتب أسماء الشهود وأنسابهم وحلاهم ومسكنهم ومصلاهم. وينبغي للقاضي أن يأمر بكتابة لفظة الشهادة بالفارسية على قطعة قرطاس حتى يقرأ صاحب المجلس على الشهود ذلك بين يدي القاضي ولفظة الشهادة في هذه الصورة: كواهي بيدهم كه أين مدعي عليه، ويشير إليه بحال روايي إقرار خويش تهمه وجوه مقرا، يد بطوع ورطبت وجنين كفت له يومن است من أين مدعي را، ويشير إليه ليست دينار زر شرح بخارى سره مناصفة موزون بوزن مثاقيل مكة جنان كه در أين محضر بادكرده شد، ويشير إلى المحضر فأمي لازم وحقي واجب بسببي درست إقداري درست، وأين مدعي،

ويشير إليه راست كوي راشت ورا در أين إقرار ديار وي. ثم يقر صاحب المجلس على الشهود ذلك بين يدي القاضي، ثم يقول القاضي للشهود: هل سمعتم لفظة الشهادة هذه التي قرئت عليكم؟ وهل تشهدون كذلك من أولها إلى آخرها؟ فإن قالوا سمعنا ويشهد كذلك يقول القاضي: الحل واحد منهم بكذا كه مجنين كواهي ميدهم كه خواجه إمام صاحب مجلس بوخو انداز أول تا آخر أين مدعى رابر أين مدعى عليه، وإن شاء القاضي يأمر كل واحد منهم حتى يأتي بلفظة الشهادة من أولها إلى آخرها كما قرئت عليهم، فإذا أبو بذلك يكتب في المحضر بعد كتبه أسامي الشهود وأنسابهم وحلاهم ومسكنهم ومصلاهم، فشهد هؤلاء الشهود بعدما استشهدوا عقيب دعوى المدعي، والجواب بالإنكار من المدعى عليه شهادة مستقيمة صحيحة متفقة الألفاظ والمعاني قرئت عليهم جميعاً، وأشار كل واحد منهم موضع الإشارات. سجل هذه الدعوى: يكتب بعد التسمية: يقول القاضي فلان يذكر لقبه ونسبه واسمه أدام الله توفيقه المتولي لعمل القضاء والأحكام ببخارى ونواحيها نافذ القضاء بين أهلها من قبل الخاقان فلان ثبت لله قواعد ملكه وأعز نصره، حضر في مجلس قضائي ببخارى يوم كذا من شهر كذا من سنة (كذا) رجل ذكر أنه يسمى فلان، وأحضر معه رجلاً ذكر أنه يسمى فلان. وإن كان القاضي يعرف المدعي والمدعى عليه يكتب: حضر فلان وأحضر معه فلان بن فلان، فادعى هذا الذي أحضر معه عشرين ديناراً نيسابورية حمراً جيدة مناصفة موزونة بوزن مثاقيل مكة ديناً لازماً وحقاً واجباً بسبب صحيح، وهكذا أقر هذا الذي أحضر معه في حال جواز إقراره طائعاً بجميع هذا المال المذكور مبلغه وجنسه وعدده في محضر الدعوى ديناً لازماً لهذا المدعي الذي حضر عليه، وحقاً واجباً بسبب صحيح إقراراً صحيحاً، وصدقه هذا الذي حضر بهذا الإقرار وطالبه بأداء جميع ذلك إليه وسأله مسألته عن ذلك، فسئل فأجاب، وقال بالفارسية: من أباين مدعي سيح خير دادني نيست، فأحضر (المدعي) على المدعى (عليه) نفراً ذكر أنهم شهوده، وسأل الاستماع إليهم، فأجبت إليه واستشهدت الشهود وهم فلان بن فلان بن فلان حليته كذا وسكنه سكة كذا، ومصلاه مسجد كذا، فشهد هؤلاء الشهود عندي بعدما استشهدوا عقيب دعوى المدعي هذا، والجواب بالإنكار من المدعى عليه هذا شهادة صحيحة متفقة الألفاظ والمعنى، شهادة مستقيمة من نسخة قرئت عليهم بالفارسية، وهذا مضمون تلك النسخة التي قرئت عليهم كواهي ميدهم يكتب لفظة الشهادة بالفارسية على نحو ما ذكرنا في المحضر، فإذا فرغ من كتابة لفظة الشهادة يكتب: فأتوا كذلك بهذه الشهادة على وجهها وساقوها على سببها، وأشار كل واحد منهم في موضع الإشارة، فسمعت شهادتهم هذه، وأثبتها في المحضر المخلل في خريطة الحكم. فبعد ذلك إن كان الشهود (250ب4) عدولاً معروفين بالعدالة، عنده تكتب وقبلت شهادته لكونهم معروفين عندي بالعدالة، وجواز الشهادة وإن لم يكونوا معروفين عنده

بالعدالة، وعدلوا بتزكية المعدلين يكتب، ورجعت في التعرف عن أحوالهم إلى من إليه رسم التعديل والتزكية بالناحية، فبعد ذلك ينظر إن عدلوا جميعاً يكتب، فنسبوا جميعاً إلى العدالة وجواز الشهادة فقبلت شهادتهم لإيجاب العلم قبولها، وإن عدل بعضهم دون البعض يكتب، فنسب آتيان منهم إلى العدالة وهما الأول والثاني وعلى هذا القياس فافهم، فقبلت شهادتهم لإيجاب العلم قبولها، وهذا إذا طعن المشهود عليه في الشهود، فإن كان المشهود عليه لم يطعن في الشهود يكتب عقيب قوله: فسمعت شهادتهم، وأثبتها في المحضر المخلد في خريطة الحكم قبلي، ولم يطعن المدعى عليه هذا في هؤلاء الشهود ولم يلتمس التعرف عن أحوالهم من المزكين بالناحية، فلم أشتغل بالتعرف عن حالهم من المزكين بالناحية واكتفيت بظاهر عدالتهم عدالة الإسلام عملاً بقول من يجوز الحكم بظاهر العدالة من أئمة الدين وعلماء المسلمين رحمهم الله أجمعين، فقبلت شهادتهم قبول مثلها؛ لإيجاب الشرع قبولها من الوجه الذي بين فيه، وثبت عندي بشهادة هؤلاء الشهود ما شهدوا به على ما شهدوا به، فأعلمت المشهود عليه هذا وأخبرته بثبوت ذلك عندي، ومكنته من إيراد الدفع ولا أتى بالمخلص وظهر عندي عجزه عن ذلك. ثم سألني هذا المدعي المشهود له الحكم له على هذا المشهود عليه بما ثبت عندي له، ومن ذلك في وجه خصمه هذا المشهود عليه، وكتابه سجل له فيه والإشهاد عليه ليكون حجة له في ذلك، فأجبت إلى ذلك واستخرت الله تعالى في ذلك، واستعصمته عن الزيغ والزلل والوقوع في الخطأ والخلل، واستوفقته لإصابة الحق وحكمت لهذا المدعي على هذا المدعى عليه بثبوت إقرار هذا المدعى عليه بالمال المذكور مبلغه وجنسه وصفته وعدده في هذا السجل ديناً لازماً عليه، وحقاً واجباً بسبب صحيح لهذا المدعي، وتصديق هذا المدعى عليه إياه لهذا الإقرار خطاباً على الوجه المبين لي في هذا السجل. فبعد ذلك إن كان الشهود معروفين بالعدالة يكتب عقيب قوله على الوجه المبين في هذا السجل بشهادة هؤلاء المعروفين بالعدالة، وإن ظهرت عدالتهم بتزكية الشهود يكتب بشهادة هؤلاء المعدلين، وإن ظهرت عدالة البعض دون البعض يكتب بشهادة هذين الشاهدين المعدلين من هؤلاء الشهود المسمين فيه بمحضر من المدعي ومن المدعى عليه، هذين في وجههما يشيرا إلى كل واحد منهما في مجلس قضائي بكورة بخارا بين الناس على سبيل التشهير والإعلان حكماً أبرمته، وقضاءً نفذته مستجمعاً شرائط الصحة والنفاذ وألزمت المحكوم عليه هذا إيفاء هذا المال المذكور مبلغه وجنسه وصفته وعدده فيه إلى هذا المحكوم له، فتركت المحكوم عليه هذا، وكل ذي حق وحجته ودفع على حجته ودفعه، وأمرت بكتابة هذا السجل حجة للمحكوم له في ذلك وأشهدت عليه حضور مجلس هذا من أهل العلم والعدالة والأمانة والصيانة، وذلك في يوم كذا من سنة كذا. فهذه الصورة التي كتبناها في هذا السجل أصل في جميع السجلات لا يتغير شيء مما فيها إلا الدعاوى، فإن كان الدعاوى كثيرة لا تشبه بعضها بعضاً، وليس كتابه المسجل إلا إعادة الدعاوى المكتوبة في المحضر بعينها، وإعادة لفظة الشهادة عقيبها، ثم

بعد الفراغ من كتابة لفظة الشهادة فجميع الشرائط في سائر السجلات على نحو ما بينا في هذا السجل والسيف يضارب والله أعلم. ثم ينبغي للقاضي أن يوقع على صدر السجل بتوقيعه المعروف، ويكتب في آخر السجل عقيب التاريخ من جانب يسار السجل يقول: فلان بن فلان بن فلان، كتب هذا السجل عني بأمري، وجرى الحكم عني ما بين فيه عندي ومتى، والحكم المذكور فيه حكمي وقضائي، نفذته بحجة لاحت عندي وكتبت التوقيع على الصدر، وهذه الأسطر الأربعة أو الخمسة على حسب ما يتفق بخط يدي، وقد يكتب هذا السجل على سبيل المعاينة: هذا ما شهد عليه المسمون آخر هذا الكتاب شهدوا جملة أنه حضر مجلس القضاء بكورة كذا قبل القاضي فلان بن فلان وهو يومئذٍ متولي عمل القضاء والأحكام بهذه الكورة من قبل فلان. رجل ذكر أنه يسمى فلان، وأحضر مع نفسه رجلاً ذكر أنه يسمى فلان ويذكر الدعوى على حسب ما ذكرنا في النسخة الأولى، ويذكر لفظة الشهادة أيضاً على ما ذكرنا في النسخة الأولى، فإذا فرغ من ذلك يكتب: فسمع القاضي شهادتهم، وأثبتها في المحضر المخلد في خريطة الحكم، ورجع في التعرف عن أحوالهم إلى مواليه رسم التعديل والتزكية بالناحية إلى آخر ما ذكرنا على التفصيل الذي ذكرنا ثم يكتب: وثبت عنده بشهادة هؤلاء الشهود ما شهدوا به على ما شهدوا به. وعرض الدعوى ولفظة الشهادة على الأئمة الذين عليهم المدار في الفتوى بالناحية، فأفتوا بصحتها وجواز القضاء بها، وأعلم المشهود عليه ثبوت ما شهدوا به على ما شهدوا به ليورد دفعاً إن كان له فلم يأت بالدفع ولا أتى بالمخلص، وظهر عنده عجزه عن ذلك، فالتمس المشهود له الحكم من القاضي له بما ثبت له عنده من ذلك، وكتابه ذكر له في ذلك والإشهاد عليه ليكون حجة، فاستخار القاضي هذا الله وسأله العصمة عن الزيغ والزلل والوقوع في الخطأ والخلل، وحكم القاضي هذا للمشهود له هذا بمسألته على المشهود عليه هذا، بثبوت إقرار هذا المدعى عليه بالمال المذكور فيه، مبلغه وجنسه وصفته وعدده في هذا السجل ديناً لازماً عليه، وحقاً واجباً بسبب صحيح لهذا المشهود له، وتصديق المشهود له إياه في هذا الإقرار خطاباً على الوجه المبين في هذا السجل بشهادة هؤلاء الشهود، بمحضر من هذين المتخاصمين في وجهها في مجلس قضائه بين الناس في كورة كذا حكماً أبرمه وقضاء نفذه، وأمر المحكوم عليه بتسليم هذا المال المذكور مبلغه وجنسه وصفته وعدده في هذا السجل إلى هذا المحكوم له، وترك المحكوم عليه وكل ذي حق وحجة ودفع على دفعة وحجته متى أتى به يوماً من الدهر وأمر بكتبه

هذا السجل والإشهاد عليه، وذلك في يوم كذا من سنة كذا، وهذا السجل أصل أيضاً إلا أن المستعمل فيما بين الناس الأول. وقد يكتب هذا السجل بطريق الإيجاز، فكتب بقول القاضي فلان بن فلان المتولي لعمل القضاء، والأحكام إلى آخره، ثبت عندي من الوجه الذي يثبت به الحوادث الشرعية، والنوازل الحكمة بعد دعوى صحيحة من خصم حاضر على خصم حاضر أوجب الحكم الإصغاء الى ذلك ببينة عادلة قامت عندي، أو بشهادة فلان وفلان، وقد ثبت عندي عدالتهم وجواز شهادتهم أن فلاناً أقر أن لفلان عليه كذا كذا ديناً لازماً، وحقاً واجباً بسبب صحيح ثبوتاً أوجب الحكم به، فحكمت بمسألة المشهود له هذا على المشهود عليه هذا بجميع ما أقر به المشهود عليه هذا للمشهود له هذا بمحضر منهما في وجههما حكماً أبرمته، وقضاء نفذته بعد استجماع شرائط صحة الحكم وجوازه بذلك عندي في مجلس قضائي بين الناس بكورة بخارى، وكلفت هذا المحكوم عليه قضاء هذا المال المذكور وتركته وكل ذي حق وحجة ودفع على حقه وحجته ودفعه متى أتى به يوماً من الدهر، وأمرت بكتبة هذا السجل حجة في ذلك بمسألة هذا المحكوم له وأشهدت عليه حضور مجلس، وذلك في يوم كذا محضر في إثبات الدفع لهذه الدعوى، يكتب بعد التسمية: حضر مجلس القضاء في كورة بخارى قبل القاضي فلان المتولي لعمل القضاء والأحكام ببخارى أدام الله توفيقه يوم كذا. رجل ذكر أنه فلان وأحضر مع نفسه رجلاً ذكر أنه يسمى فلان، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه في دفع دعواه قبله، فإن هذا الذي أحضر معه، كان ادعى على هذا الذي أحضر أولاً أن له على هذا الذي حضر عشرين ديناراً، ويذكر صفتها ونوعها وعددها. وهكذا أقر هذا الذي حضر في حال جواز إقراره بهذه الدنانير المذكورة فيه ديناً على نفسه، لهذا الذي أحضره معه ديناً لازماً وحقاً واجباً بسبب صحيح إقراراً صحيحاً صدقه هذا الذي أحضره معه في ذلك خطاباً، وطالبه برد هذه الدنانير المذكورة، وأقام البينة عليه بذلك بعد إنكاره ودعواه (251أ4) هذه ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه في دفع دعواه الموصوفة في هذا الذكر على هذا الذي حضر أنه مبطل في هذه الدعوى؛ لأن هذا الذي أحضره معه قبض من هذا الذي حضر، هذه الدنانير المذكورة فيه قبضاً صحيحاً بإيفاء هذا الذي حضر ذلك كله، وهكذا أقر هذا الذي أحضره معه في حال جواز إقراره طائعاً إقراراً صحيحاً، صدقه هذا الذي حضر فيه خطاباً، فواجب على هذا الذي أحضره معه ترك هذه الدعوى قبل هذا الذي حضر وطالبه بالجواب وسأل مسألته، هذا إذا كان القاضي لم يقض للذي أحضره معه في الدعوى الأول، وإن كان قد قضى له بذلك يكتب بعد قوله وطالبه برد هذه الدنانير المذكورة فيه، وأقام البينة عليه بذلك بعد إنكاره دعواه هذه، وجرى الحكم مني لهذا الذي أحضره معه على هذا الذي حضر. ثم يكتب ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه الى آخر ما ذكرنا، ثم

يكتب عقيب قوله: وطالبه بالجواب وسأل مسألته عن ذلك، فسأله القاضي عن ذلك، فقال بالفارسية: من مبطل نه أم أندرين دعوى، أحضر مدعي الدفع هذا نفراً ذكر أنهم شهوده، وسأل مني الاستماع إلى شهادتهم فأجبت إليه، وهم فلان وفلان وفلان يذكر أسماء الشهود وأنسابهم وحلاهم ومساكنهم ومصلاهم، فشهد هؤلاء الشهود عندي بعد دعوى مدعي الدفع هذا والجواب بالإنكار من المدعى عليه الدفع هذا عقيب الاستشهاد الواحد منهم بعد الآخر شهادة صحيحة متفقة الألفاظ والمعاني من نسخة قرئت عليه، ومضمون ذلك النسخة كواهي سيدهم كه مقر اسد أمن فلان وأشار إلى المدعى عليه الدفع هذا بحال روالي إقرار خويش بطوع ورغبت حنين كفت كه قبض كرده أم أز ابن فلان، وأشار إلى مدعى عليه الدفع هذا اليزمت دينار زركه مذكور شده اسدد راين محضر، وأشار إلى المحضر هذا قضى درست برسا نيدن ابن فلان وأشار إلى مدعي الدفع هذا أين زرهارا إقرار درست وابن مدعي دفع وأشار إليه داست كوا راشت مرين مدعي را، وأشار إليه أندرين إقرار كه أورد روبار وي. وإن شهدوا على معاينة القبض يكتب مكان الإقرار بالقبض معاينة على نحو ما بينا في الإقرار، ويكتب: قبض المدعى عليه الدفع هذه الدنانير الموصوفة من مدعي الدفع هذا قبضاً صحيحاً بإيفائه ذلك كله إليه، وإن كان مدعي الدفع ادعى الدفع بطريق الإبراء عن جميع الدعاوى والخصومات يكتب: ادعى مدعي الدفع هذا في دفع هذه الدعوى؛ أن هذا الذي أحضر معه قبل دعواه هذه أبرأ هذا الذي حضر من جميع دعاويه وخصوماته قبله من دعوى المال وغيره إبراء صحيحاً، وأقر أنه لا دعوى له ولا خصومة له قبله، لا في قليل المال ولا في كثيره بوجه من الوجوه، وسبب من الأسباب، وإنه قبل عنه هذا الإبراء، وصدقه في هذا الإقرار خطاباً، وإن هذا الذي أحضره معه في دعواه قبله بعدما كان أقر بالإبراء عن جميع الدعاوى؛ مبطل غير محق، فواجب عليه الكف عن ذلك، وترك التعرض له، وطالبه بذلك، وسأل مسألته، فسئل فأجاب: من يبطل أنه أم درين دعوى خويش، فأحضر المدعي نفراً ذكر أنهم شهوده إلى آخر ما ذكرنا في دعوى الدفع بطريق القبض، غير أن في كل موضع ذكر القبض، ثم يذكر الإبراء هنا.g سجل في هذه الدعوى يكتب بعد التسمية: يقول القاضي فلان حضر وأحضر، ويعيد الدعوى المكتوبة في المحضر من أولها إلى آخرها، فإذا فرغ من كتابة شهادة شهود مدعي الدفع يكتب فسمعت شهادتهم هذه، وأثبتها في المحضر المخلد في خريطة الحكم إلى قوله: وثبت عندي ما شهدوا به على ما شهدوا به، فعرضت ذلك على المدعى عليه الدفع هذا، وأعلمته بثبوت ذلك عندي، ومكنته من إيراد الدفع إن كان له دفع في ذلك فلم يأت بدفع ولا مخلص ولا أدلى بحجة يسقط بها ذلك، وثبت عندي عجزه عن إيراد الدفع، وسألني مدعي الدفع هذا في وجه مدعى عليه الدفع هذا الحكم له بما ثبت له عندي وكتابة السجل والإشهاد عليه إلى قوله: فحكمت لمدعي الدفع هذا بمسألته على المدعى عليه الدفع هذا في وجه المدعى عليه الدفع هذا بثبوت هذا الدفع الموصوف

بشهادة هؤلاء الشهود المسمين فيه في مجلس قضائي ببخارى؛ حكماً أبرمته، وقضاءً نفذته مستجمعاً شرائط صحته ونفاذه، بمحضر من هذين المتخاصمين في وجههما جملة، مشيراً إليهما، وكلفت المحكوم عليه هذا بترك التعرض للمحكوم له هذا بأداء هذا المال المذكور في هذا السجل، وتركت المحكوم عليه وكل ذي حجة وحق ودفع على دفعه وحقه وحجتة متى أتى يوماً من الدهر، وأمرت بكتابة هذا السجل حجة للمحكوم له، وأشهدت على حكم من حضر مجلس قضائي، وذلك في يوم كذا من شهر كذا وسنة كذا. فإن كانت دعوى الدين بدعوى الإكراه من السلطان يكتب: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه في دفع دعواه أنه كان مكرهاً من جهة السلطان على هذا الإقرار إكراهاً صحيحاً بالضرب والحبس، وإن إقراره هذا لم يصح، وإن مبطل في دعواه هذه الدنانير المذكورة، فواجب عليه الكف عن هذه الدعوى. وإن كان دفع دعوى الدين بدعوى الصلح على مال يكتب في دعوى الدفع أنه مبطل في هذه الدعوى لما أنه صالحه عنه على كذا، وقبض منه بدل الصلح بتمامه، ووجوه الدفع كثيرة؛ فما جاءك من دعاوى الدفع يكتب على هذا المثال. وإن كان دعوى الدين بسبب يكتب ذلك السبب في محضر الدعوى، فإن كان السبب غصباً يكتب كذا وكذا ديناراً ديناً لازماً، وحقاً واجباً بسبب أن هذا الذي أحضره معه غصب منه دنانير هذا الذي حضر عنه هذا المبلغ المذكور الموصوف في هذا المحضر واستهلكها، وصار مثلها ديناً في ذمته. وإن كان السبب بيعاً يكتب ديناً لازماً، وحقاً واجباً ثمن متاع باعه منه وسلمه إليه، وإن كان السبب إجارة يكتب: ديناً لازماً وحقاً واجباً أجرة مني آجره منه وسلمه إليه، وانتفع به في مدة الإجارة. وإن كان السبب كفالة أو حوالة ففي الكفالة يكتب: ديناً لازماً وحقاً واجباً بسبب كفالة كفل له بها عن فلان، وإن هذا الذي حضر أجاز ضمانه عنه لنفسه في مجلس الضمان، وهذا الذي أحضر معه هكذا أقر بوجوب هذا المال على نفسه لهذا الذي حضر بالسبب المذكور، وفي الحوالة يكتب: ديناً لازماً وحقاً واجباً بسبب حوالة أحاله بها عليه فلان، وإنه قبل منه هذه الحوالة شفاهاً في وجهه ومجلسه، وأقر هذا الذي أحضره معه هكذا بوجوب هذا المال، ديناً على نفسه لهذا الذي حضر بالسبب المذكور. وإن كان دعوى الدين بصك يكتب: ادعى هذا الذي حضر؛ على هذا الذي أحضره معه جميع ما تضمنه صك إقرار أورده وهذه نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم وينسخ صك الإقرار من أوله إلى آخره ثم يكتب: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه جميع ما تضمن هذا الصك من المال المذكور فيه، وإقراره بجميع ذلك ديناً على نفسه لهذا الذي حضر ديناً لازماً وحقاً واجباً، وتصديق هذا الذي أحضر إياه في إقراره بذلك خطاباً بتاريخه، فواجب عليه إيفاء ذلك المال إليه، وطالبه بذلك. وإن كانت الحوالة والكفالة بصك يكتب: ادعى عليه جميع ما تضمنه صك ضمان، أو صك حوالة أورده، وهذه نسخته: وينسخ كتاب الكفالة أو الحوالة، ثم يكتب: ادعى

جميع ما تضمنه الصك المحول إلى هذا المحضر نسخته من الكفالة والقبول، والإقرار والتصديق على ما نطق به الصك من أوله إلى آخره. محضر في إثبات الدين على الميت يكتب: حضر وأحضر معه، فادعى هذا الذي أحضره معه أنه كان لهذا الذي حضر على فلان بن فلان بن فلان والد هذا (الذي) أحضره كذا كذا ديناراً ويصفها، ويتابع في ذلك: ديناً لازماً وحقاً واجباً بسبب صحيح، وهكذا كان أقر فلان والد هذا الذي أحضره معه في حال حياته وصحته، وجواز إقراره ونفاذ تصرفاته في الوجوه كلها طائعاً بهذه الدنانير المذكورة ديناً على نفسه لهذا الذي حضر ديناً لازماً وحقاً واجباً بسبب صحيح. وإن كتب السبب كان أحوط إقراراً صحيحاً صدقه الذي حضر فيه خطاباً في تاريخ كذا، ثم إن فلاناً والد هذا الذي أحضره توفي قبل أداء هذه الدنانير المذكورة فيه إلى هذا الذي حضر، وصار مثل هذه الدنانير ديناً لهذا الذي حضر في تركته، وخلف هذا المتوفى المذكور فيه من الورثة ابناً له لصلبه، وهو (251ب4) هذا الذي أحضر معه وخلف من التركة من ماله في يد هذا الذي أحضره معه من جنس هذا المال المذكور ما به وما بهذا المال المذكور فيه وزيادة، وهذا الذي أحضره معه في علم من ذلك فواجب عليه هذا الذي حضر وطالبه بذلك وسأل مسألته عن ذلك فسئل ويتم المحضر مع لفظة الشهادة على وفق الدعوى. سجل هذه الدعوى يقول القاضي: فلان حضر وأحضر معه، ويعيد الدعوى بعينها، ويذكر أسامي الشهود ولفظة الشهادة، وعدالة الشهود، وإنه قبل شهادتهم بظاهر عدالة الإسلام، أو لكونهم عدولاً، أو لثبوت عدالتهم بتعديل المزكين إلى قوله: وحكمت، ثم يكتب: وحكمت لهذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه بثبوت إقرار هذا المتوفى المذكور فيه حال حياته وصحته، ونفاذ تصرفاته لهذا المال المذكور فيه ديناً على نفسه لهذا الذي حضر، وتصديق هذا الذي حضر إياه فيه خطاباً بتاريخ كذا المذكور فيه، وبوفاته قبل أدائه شيئاً من المال المذكور فيه، في يده ما فيه وفاء بمثل هذا المال المذكور فيه، وزيادة بشهادة هؤلاء الشهود المسمين فيه حكماً أبرمته، وقضيت بثبوت ذلك كله له عليه بشهادتهم، قضاءً نفذته مستجمعاً شرائط صحته ونفاذه في مجلس قضائي بين الناس في كورة بخارى، بمحضر من هذين المتخاصمين في وجههما، وكلفت المحكوم عليه هذا أداء هذا الدين المذكور فيه من تركة أبيه المتوفى الذي في يده إلى هذا الذي حضر ويتم السجل. محضر في إثبات الدفع لهذه الدعوى: حضر وأحضر معه، فادعى هذا الذي أحضره معه في دفع دعواه الموصوفة فيه قبل هذا الذي حضر، وذلك لأن هذا الذي أحضره معه ادعى على هذا الذي أحضره معه في دفع دعواه هذه أنه مبطل في هذه الدعوى قبل هذا الذي حضر؛ لأن هذا الذي أحضره

قبض من أبيه المتوفى المذكور اسمه ونسبه في هذا المحضر حال حياته هذه الدنانير المذكورة فيه قبضاً صحيحاً، وهكذا أقر هذا الذي أحضره في حال صحته وثبات عقله بقبض هذه الدنانير طائعاً من أبيه المتوفى هذا قبضاً صحيحاً، وأقر أنه الدعوى له على هذا المتوفى بوجه من الوجوه، وسبب من الأسباب إقراراً صحيحاً جائزاً صدقه المتوفى هذا فيه خطاباً، وأن هذا الذي أحضره معه في دعواه الموصوفه فيه قبل هذا الذي حضر بعدما كان الأمر على ما وصف مبطل غير محق، ويتم المحضر، وقد يكون دفع هذا بدعوى أبرأته المتوفى عن جميع الدعاوى، وبأسباب أخر قد مر ذكرها قبل هذا، فيكتب على نحو ما كتبنا قبل هذا. سجل هذا الدفع: يكتب بعد التسمية على الرسم المذكور قبل هذا إلى قوله: وحكمت، ثم يكتب بعد الاستخارة: وحكمت بثبوت هذا الدفع الموصوف فيه لهذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه بشهادة هؤلاء الشهود المسمين فيه بمحضر من هذين المتخاصمين في وجههما ويتم السجل على نحو ما بينا. محضر في إثبات ملكية المحدود: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على الذي أحضره أن جميع الأراضي التي عددها كذا في أرض قرية كذا في ناحية منها تدعى كذا من كورة كذا أحد حدودها والثاني والثالث والرابع، كذا بحدودها كلها وحقوقها ومرافقها التي هي من حقوقها. وإن وقعت الدعوى في دار يكتب أن جميع الدار المشتملة على الثبوت التي هي في كورة كذا في محلة كذا، في سكة كذا أحد حدودها، والثاني والثالث والرابع، كذا بحدودها كلها، وحقوقها ملك هذا الذي حضر، وفي يد هذا الذي أحضره معه بغير حق، وهذا الذي أحضره معه في علم من ذلك، فوجب على هذا الذي أحضره قصر يده عن هذه الأراضي أو عن هذه الدار، وتسليمها إلى الذي حضر هذا، وطالبه بذلك وسأل مسألته فسئل، فأجاب بالفارسية: أين زمبنها أين خانه كه دعوى سكند أين مدعي ملك منست وحق منست، وبه أين مدعي سبردني ينست أحضر المدعي هذا نفراً، ذكر أنهم شهوده على وفق دعواه، وسألني الاستماع إليه، فأجبته إليه، وهم فلان وفلان يذكر أنسابهم وحليتهم إلى آخر ما ذكرنا، فشهدوا عقيب دعوى المدعي والجواب بالإنكار من المدعى عليه هذين بشهادات صحيحة متفقة الألفاظ والمعاني من نسخة قرئت عليهم، ومضمون تلك النسخة كواني مندهم كه أين زمينها با أين هراي كه جايكاه، وحدود وي در محضر دعوى با دكرده شد إست، وأشار إلى المحضر بحدها، وي جملة وحقها وي ملك أين حاضر أمده إست وحق ويست، وأشار إلى المدعي هذا وبيدست أين حاضر أورده بنا حق إست، وواجب إست يروي تسليم كردن به أين مدعي ويتم المحضر. سجل هذه الدعوى يكتب: يقول فلان حضرني في مجلس قضائي بكورة (بخارى) فلان، وأحضر مع نفسه فلاناً، ويعيد الدعوى من أولها إلى آخرها فيكتب، وادعى هذا الذي حضر أن الأراضي التي في موضع كذا حدودها كذا، أو الدار التي في موضع كذا

حدودها كذا بجميع حدودها وحقوقها ملك هذا الذي حضر، وفي يد هذا الذي أحضره معه بغير حق، وهذا الذي أحضره في علم من ذلك، فواجب على هذا الذي أحضره معه قصر يده عن هذه الأراضي المحدودة أو عن هذه الدار المحدودة في محضر الدعوى، وأشار إلى محضر الدعوى وتسليمها إلى هذا الذي حضر، وطالبه بذلك وسأل مسألته عن ذلك، فسئل المدعى عليه وهو الذي أحضره معه عن دعواه هذه، فقال بالفارسية: أين زمينها كه دعوى ميكند أين مدعي با أين خانه ملك مينست وحق مينست، وباين مدعي سبرد ني ينست، أحضر المدعى نفراً ذكر أنهم شهوده، وسألني الاستماع إلى شهادتهم وهم: فلان وفلان وفلان، يكتب على نحو ما بينا قبل هذا إلى موضع الحكم. ثم ويكتب: وحكمت لهذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه، بكون الأراضي المحدودة في هذا السجل، أو بكون الدار المحدودة في هذا السجل بحدودها كلها، وحقوقها ومرافقها التي هي لها من حقوقها ملكاً وحقاً لهذا المدعي، وكونها في يد هذا المدعى عليه بغير حق بشهادة هؤلاء الشهود المسمين فيه، وقضيت بملكيتها له عليه بشهادتهم، بعدما رجعت في التعرف عن حال هؤلاء الشهود إلى من إليه رسم التعديل والتزكية بالناحية، فنسبوا إلى العدالة، وبعدما عرضت دعوى المدعي وألفاظ الشهادة على أئمة الدين الذين عليهم مدار الفتوى بالناحية؛ فأفتوا بصحة الدعوى وجواز الشهادة، وكان هذا الحكم وهذا القضاء مني في مجلس قضائي في كورة بخارى حكماً أبرمته، وقضاءً نفذته مستجمعاً شرائط صحته ونفاذه بمحضر من هذين المتخاصمين في وجوههما وكلفت المحكوم عليه هذا قصر يده عن هذه الأراضي المحدودة، أو عن هذه الدار المحدودة المحكوم بها فقصر يده عنها، وسلمها إلى الذي حضر هذا امتثالاً لأمر الشرع، ويتم السجل على نحو ما بينا قبل هذا. محضر في دفع هذه الدعوى: إن كان المدعى عليه يدعي الشراء من المدعي، يكتب: حضر وأحضر وادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه في دفع دعواه قبله، فإن هذا الذي أحضره معه في دفع دعواه قبله، فإن هذا الذي أحضره معه كان ادعى على هذا الذي حضر أولاً وكتب دعواه بتمامه، ثم يكتب: فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه في دفع دعواه أن هذا الذي أحضره معه مبطل في هذه الدعوى الموصوفة قبل هذا الذي حضر؛ لأن هذا الذي أحضره باع حال نفوذ تصرفاته في الوجوه كلها هذه الدار المحدودة فيه بحدودها وحقوقها ومرافقها التي هي لها من حقوقها قبل دعواه الموصوفة فيه من هذا الذي حضر، حال كون هذه الدار المحدودة ملكاً وحقاً لهذا الذي أحضره معه، وفي يده بكذا ديناراً بيعاً صحيحاً، وإن هذا الذي حضر اشتراها منه بحدودها وحقوقها ومرافقها التي هي لها من حقوقها بهذا الثمن المذكور فيه شراءً صحيحاً حال نفوذ تصرفاته في الوجوه كلها، وتقابضا قبضاً صحيحاً. وإن ادعى أقر الذي أحضره مع ذلك يزاد في الكتابة عقيب قوله: وتقابضا قبضاً

صحيحاً: وهكذا أقر هذا الذي أحضره معه في حال جواز إقراره ونفوذ تصرفاته في الوجوه كلها طائعاً بجريان هذا البيع والشراء الموصوفين فيه بينه وبين هذا الذي حضر في هذه الضيعة المحدودة فيه، أو في هذه الدار المحدودة فيه بحدودها وحقوقها، ومرافقها التي هي لها من حقوقها بهذا الثمن المذكور فيه حال نفوذ تصرفاتهما (252أ4) في الوجوه كلها، وبجريان التقابض بينهما فيه إقراراً صحيحاً صدقه هذا الذي حضر فيه خطاباً، وإن هذا الذي أحضره معه في دعواه الموصوفة فيه قبل هذا الذي حضر بعدما كان الأمر كما وصف فيه مبطل غير محق، فواجب على هذا الذي أحضر معه ترك هذه الدعوى قبل هذا الذي حضر، وترك التعرض له فيه، وطالبه بذلك، ويتم المحضر. وإن كان الذي حضر ادعى سبباً آخر لدفع هذه الدعوى، بأن ادعى أن الذي أحضره معه استكرى هذه الدار المحدودة الموصوفة فيه يكتب في موضعه من هذا المحضر: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن دعوى هذا الذي أحضره معه ملكية هذه الدار المحدودة فيه قبل هذا الذي حضر ساقطة عنه؛ لأن هذا الذي أحضره معه استكرى هذه الدار المحدودة فيه بحدودها إلى آخره من هذا الذي حضر. أو يكتب: استشرى بكذا كذا، وإن هذا الذي حضر أبى أن يكريها منه، أو أبى أن يبيعها منه، وكان استكراؤه واستشراؤه هذه الدار المحدودة فيه من هذا الذي حضر إقراراً منه بكون الدار المحدودة فيه ملكاً لهذا الذي حضر، وبعدما صدر هذا الإقرار منه، فهو مبطل في هذه الدعوى غير محق، ويتم المحضر. سجل هذه الدعوى أن يكتب صدر السجل ودعوى الدفع بتمامه على نحو ما بينا قبل هذا إلى موضع الحكم، ثم يكتب: وحكمت بثبوت هذا الدفع الموصوف فيه لهذا المدعي الدفع على المدعى عليه الدفع بشهادة هؤلاء الشهود المسمين فيه بمحضر من هذين المتخاصمين في وجههما في مجلس قضائي ببخارى بين الناس ويتم السجل. وإن كان هذا الذي حضر أراد دفع هذه الدعوى بسبب شراء الدار المحدودة من رجل آخر، يكتب: ادعى هذا الذي حضر في دفع دعوى هذا الذي أحضره معه أن دعوى هذا الذي أحضره ملكية الدار قبل فلان، هذا الذي حضر ساقطة عنه، لما أن هذا الذي حضر اشترى هذه الدار المحدودة من فلان بن فلان، وفلان بن فلان كان يملكها بكذا شراءً صحيحاً قبل دعوى هذا الذي أحضره معه، ويتم المحضر. محضر فيه دعوى الدار ميراثاً عن الأب: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن الدار التي في موضع كذا حدودها كذا، بحدودها وحقوقها ومرافقها التي هي من حقوقها كانت ملكاً لوالده فلان بن فلان الفلاني، وحقاً له وفي يده، وتحت تصرفه إلى أن مات، وخلف من الورثة ابناً له لصلبه، وهو هذا المدعي، ولم يخلف وارثاً سواه، وصارت هذه الدار المبين فيه موضعها وحدودها ميراثاً له عن أبيه المذكور اسمه ونسبه فيه، واليوم هذه الدار المبين حدودها ملك هذا المدعي وحقه بهذا النسب المذكور، وفي يد هذا الذي أحضره

معه بغير حق، وهذا الذي أحضره معه في علم من ذلك، فواجب عليه قصر يده عن هذه الدار، المبين حدودها، وتسليمها إلى هذا المدعي، وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك فسئل فأجاب بالإنكار، أحضر المدعي نفراً ذكر أنهم شهوده على وفق دعواه هذه، وسأل الاستماع إلى شهادتهم فشهدوا بشهادات صحيحة متفقة الألفاظ والمعاني، عن نسخة قرئت عليهم عقيب دعوى المدعي هذا، والجواب من المدعى عليه هذا بالإنكار، وهذا مضمون تلك النسخة: كوابي سدهم كه أين خانه كه جايكاه وحدودوى بانكرده شداست دراين محضر اين دعوى وأشار إلى محضر الدعوى الموصوفة فيه بحدها وحقها، وي ومرافق وي كه از حقها ونسب ملك فلان بن فلان بدراين مدعي بود، وأشار إلى المدعي هذا وحق وي ودردست وتصرف وي بودتا آن وقت كه وقا يافت وا زوي يكي بسرما نده مين مدعي، وأشار إلى المدعي هذا ويجز زوي وارثي ويكر ما نداين متوفي راواين خانه ميراث بفدا زاين متوفي من بسر ولاين مدعي، وأشار إلى محضر الدعوى بحدها وحقها وي ملك أين مدعي إست وحق وي إست ووردست أين مدعى عليه بنا حق إست، وأشار إلى المدعى عليه هذا، ويتم المحضر. سجل هذه الدعوى: بقول القاضي فلان يكتب على رسمه ويعيد الدعوى بعينها من أولها إلى آخرها، مع أسامي الشهود، وألفاظ الشهادة إلى قوله: قبلت شهادة هؤلاء، لكونهم معروفين بالعدالة، أو بظهور عدالتهم بتعديل المزكين، أو بظاهر عدالة الإسلام، إذا لم يطعن المشهود عليه في شهادتهم، وجميع ما يكتب في السجلات إلى موضع الحكم، ثم يكتب: وحكمت لهذا المدعي على هذا المدعى عليه بجميع ما شهد هؤلاء الشهود المسمون في هذا السجل، بكون الدار المحدودة فيه ملكاً لفلان بن فلان والد هذا المدعي، وكونها في يده وتحت تصرفه إلى وقت وفاته، وصيرورتها ملكاً لهذا المدعي بعد وفاة والده هذا، إرثاً عن والده هذا في وجه المتخاصمين هذين حكماً أبرمته، وقضاءً نفذته ويتم السجل. محضر في دفع هذه الدعوى: حضر وأحضره فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه في دفع دعواه هذه، فإن هذا الذي أحضره كان ادعى أولاً على هذا الذي حضر ملكية دار في موضع كذا، حدودها كذا؛ إرثاً عن أبيه، وبعد دعواه بتمامه، ادعى هذا الذي حضر عل هذا الذي أحضره معه أن دعواه هذه ساقطة عني، لما أن والد هذا الذي أحضر معه فلان بن فلان قد كان باع هذه الدار المحدودة، وهذا المحضر في حياته وصحته من هذا الذي حضر بكذا بيعاً صحيحاً، وهذا الذي حضر اشتراها منه بهذا الثمن المذكور فيه ملك هذا الذي حضر بهذا السبب وحقه، وإن هذا الذي أحضره معه في دعواه قبله بعدما كان الأمر على ما وصف فيه مبطل غير محق، فواجب عليه الكف عن ذلك، وسأل مسألته عن ذلك وسئل (........) .

سجل هذه الدعوى يكتب عند الحكم: وحكمت بثبوت هذا الدفع الموصوف فيه؛ لهذا المدعي الدفع على هذا المدعى عليه؛ الدفع بشهادة هؤلاء الشهود المسمين فيه، بمحضر من هذين المتخاصمين، في وجوههما في مجلس قضائي هذا ببخارى، وأمرت المحكوم عليه بالكف عن دعواه هذه، وترك التعرض للمحكوم له في ذلك ويتم السجل. محضر في دعوى ملكية المنقول ملكاً مطلقاً: حضر وأحضر وفي يد هذا الذي أحضره معه فرس وسط الجثة؛ يقال لمثله لوناً: أبلق، مشعوف المنخرين على كتفه اليسرى كي صورته هكذا عرفه مائل إلى اليمين، تامّ الذنب، محجل اليدين والرجلين، مقطوع رأس أذنه اليمنى، من الطول يقال لمثله سوقال، محضر مجلس هذه الدعوة الموصوفة فيه مشار إليه، فادعى هذا الذي حضر على هذ الذي أحضره معه أن هذا البرذون، وأشار إلى البرذون المدعى ملك هذا الذي حضر، وحقه وفي يد هذا الذي أحضره معه بغير حق، وهذا الذي أحضره في علم من ذلك كله، فواجب عليه قصر يده عن هذا البرذون المدعى به المشار إليه، وتسليمه إلى هذا الذي حضر، وسأل مسألته عن ذلك، فسئل فأجاب فقال: إن است ملك منست وحق منست ومرا بدين مدعي سبردني منست أحضر هذا المدعي نفراً ذكر أنهم شهوده، فاستشهد الشهود وهم فلان وفلان وفلان إلى آخره. سجل هذه الدعوى: تكتب على الرسم إلى قوله: فأشهد الشهود وهم: فلان، وفلان، وفلان، فشهد كل واحد منهم بعد الاستشهاد عقيب دعوى المدعي هذا، والجواب بالإنكار من المدعى عليه، وقال كل واحد: كواني سيدهم كه أين إست، وأشار إلى البرذون المدعى به ملكاً أين حاضر أمده إست، وأشار إلى المدعي هذا وحق ويست وإندردست أين حاضر أورده وأشار إلى المدعى عليه بناء حق إست، فسمعت شهادتهم إلى قوله: وحكمت، فإذا بلغ إليه يكتب: وحكمت لهذا المدعي على هذا المدعى عليه، بكون هذا البرذون المدعى به، المشار إليه ملك هذا المدعي وحقه، ويكون في يد المدعى عليه بغير حق بشهادة هؤلاء الشهود المعروفين بالعدالة بمحضر من المتخاصمين هذين، وبمحضر من البرذون المدعى به، ويتم السجل.g محضر في دفع دعوى البرذون: ووجوه الدفع لهذه الدعوى كثيرة، فنحن نكتب ثلاثة منها، فإذا علمها الكاتب يبني ما يقع له من وجوه أخر عليها: أحدها: الدفع بالاستشراء، وصورة ذلك: حضر وأحضر، وفي يد هذا الذي أحضره معه برذون سببه كذا، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره في دفع دعواه على هذا الذي حضر ملكية هذا البرذون الموصى فيه، المحضر مجلس هذه الدعاوى، وذلك لأن هذا الذي أحضره معه (252ب4) ادعى على هذا الذي حضر أولاً ويكتب دعواه بتمامه ثم يكتب: فادعى هذا الذي حضر في دفع دعوى هذا الذي أحضره

معه الموصوفة فيه، فقال: دعوى هذا الذي أحضره معه ملكية هذا البرذون قبل هذا الذي حضر ساقطة لأن هذا الذي أحضره معه ملكية قد كان استشرى هذا البرذون الموصوف الموشى فيه، وأشار إلى البرذون المدعى به من هذا الذي حضر في حال نفاذ تصرفه في الوجوه كلها، وإن هذا الذي حضر أبى أن يبيعه منه، وكان استشرى هذا الذي أحضره هذا البرذون المدعى به من هذا الذي حضر إقراراً من هذا الذي أحضره معه، أنه لا ملك له في هذا البرذون المدعى به، وبعدما صدر من هذا الذي أحضره هذا الاستشراء، فهذا الذي أحضره معه مبطل في دعوى ملكية هذا البرذون لنفسه، فواجب عليه ترك هذه الدعوى قبل هذا الذي حضر، وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك. الوجه الثاني: الدفع بطريق الاستكراء؛ يكتب: فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أنه مبطل في دعوى ملكية هذا البرذون المدعى به لنفسه قبل هذا الذي حضر؛ لأن هذا الذي أحضره معه قد كان استكرى هذا البرذون المدعى به، في حال نفوذ تصرفاته في الوجوه كلها من هذا الذي حضر، وكان استكراؤه منه إقراراً منه أنه لا ملك له في هذا البرذون المدعى به على نحو ما ذكرنا في الاستشراء. الوجه الثالث: الدفع بالنتاج: يكتب ادعى هذا الذي حضر في دفع دعوى هذا الذي أحضره معه ملكية البرذون المدعى به الموصوف الموصى فيه أن دعواه هذه قبل هذا الذي حضر ساقطة عنه، لأن هذا البرذون المدعى به، والأمر على ما وصف مبطل غير محق، فواجب عليه ترك هذه الدعوى قبل هذا الذي حضر وطالبه بذلك، وسأل مسألته فسئل عن ذلك. سجل هذا الدفع: يكتب صدر السجل إلى قوله: وحكمت على الرسم، ثم يكتب: حكمت لهذا المدعي هذا الذي حضر بمسألته في وجه خصمه المدعى عليه الدفع هذا الذي أحضره معه بصحة دعوى الدفع التي ادعى هذا الذي حضر من استشراء هذا الذي أحضره معه في حال صحته ونفاذ تصرفاته، هذا البرذون المدعى به نتاج فيه من مدعي الدفع هذا الذي حضر قبل دعوى هذا الذي أحضره معه ملكية هذا البرذون المدعى به الموشى فيه قبل هذا الذي حضر، وأبى هذا الذي حضر البيع من هذا الذي أحضره معه، وببطلان دعوى المدعى عليه الدفع هذا الذي أحضره معه هذا البرذون الموصوف فيه قبل هذا الذي حضر، وهو المدعي الدفع بشهادة هؤلاء الشهود المسمين فيه، بمحضر من المتخاصمين هذين، وبحضرة البرذون المدعى به الموصوف الموشى فيه، هذا على الوجه الأول. وعلى الوجه الثاني: يكتب عقيب قوله بصحة دعوى الدفع التي ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه من استكراء هذا الذي أحضره معه في حال صحته ونفوذ تصرفاته هذا البرذون المدعى به نتاج مدعي الدفع هذا الذي حضر نتج عنده من رمكة كانت مملوكة له وفي يده وتحت تصرفه يوم هذا النتاج المذكور فيه، وإنه لم يخرج عن ملكه من يوم هذا النتاج المذكور فيه إلى هذا اليوم، وإن دعوى هذا الذي أحضره ملكية

هذا البرذون المدعى به قبل هذا الذي حضر ساقطة عنه حكمت بذلك كله بشهادة هؤلاء الشهود المسمين فيه في وجه المتخاصمين هذين، وبحضرة هذا البرذون المدعى به أو يكتب: وحكمت لمدعي الدفع هذا على المدعى عليه الدفع هذا، بثبوت جميع ما شهد به هؤلاء الشهود المسمين فيه على الوجه المبين فيه حكماً أبرمته وقضاءً نفذته، مستجمعاً شرائط صحته ونفاذه في مجلس قضائى بين الناس في كورة بخارى، بمحضر من هذين المتخاصمين، وبمحضر من هذا البرذون المدعى به، وأمرت المحكوم عليه هذا بترك التعرض للمحكوم له هذا إلى آخره. محضر في دعوى ملكية العقار بسبب الشراء من صاحب اليد: يكتب: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه إن الدار التي هي في موضع كذا حدودها كذا، وهي في يد هذا الذي أحضره معه اليوم ملك هذا الذي حضر، وحقه بسبب أن هذا الذي حضر اشتراها من هذا الذي أحضره معه بكذا كذا درهماً، أو بكذا كذا ديناراً شراءً صحيحاً، وإنه باعها منه بيعاً صحيحاً، وإن هذا الذي أحضره معه قبض هذا الثمن المذكور تاماً وافياً قبضاً صحيحاً، بدفع هذا الذي حضر ذلك إليه، وإن هذه الدار المبين حدودها وموضعها فيه؛ كانت يوم الشراء المذكور فيه ملكاً لهذا الرجل الذي أحضره معه وفي يده، فصارت الدار المحدودة فيه ملكاً لهذا الذي حضر بهذا السبب، وهذا الذي أحضره معه يمتنع عن تسليم هذه الدار المحدودة فيه إلى هذا الذي حضر ظلماً، ونقدها فواجب عليه تسليمها إلى هذا الذي حضر، وطالبه في ذلك، وسأل مسألته، فسئل. فإن كان بالبيع صك فادعى مضمونه على البائع، والدار في يد البائع، ويمتنع عن التسليم يكتب: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه جميع ما تضمنه ذكر شراء أورده وهذه نسخته، ويكتب الصك في المحضر من أوله إلى آخره من غير زيادة ولا نقصان، ثم يكتب بعد الفراغ عن تحويل الصك: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه جميع ما تضمنه هذا الصك المحول نسخته إلى هذا المحضر من الشراء والبيع بالثمن المذكور فيه، وإيفاء الثمن وقبضه، وضمان الدرك في المعقود عليه كما ينطق بذلك كله هذا الصك المحول نسخته إلى هذا المحضر بتاريخه المؤرخ فيه، وإن هذه الدار المبين حدودها في هذا الصك، المحول نسخته إلى هذا المحضر، كانت ملكاً لهذا الذي أحضره يوم الشراء المذكور فيه، وصارت الدار المبين فيه حدودها في الصك المحول نسخته إلى هذا المحضر ملكاً لهذا الذي حضر بهذا الشراء المبين فيه، وهذا الذي أحضره معه يمتنع عن تسليم هذه الدار إلى هذا الذي حضر، فواجب عليه تسليمها إلى هذا الذي حضر، وطالبه بذلك وسأل مسألته، وإن كان قد جرى التقابض بينهما يكتب: ادعى هذا الذي حضر جميع ما تضمنه هذا الصك المحول نسخته إلى هذا المحضر من البيع والشراء، بالثمن المذكور فيه، وإيفاء الثمن وقبضه، وتسليم المعقود عليه وتسلمه، وضمان الدرك في المعقود عليه كما ينطق به الصك، وإن هذه الدار المبين

حدودها في هذا الصك، المحول نسخته إلى هذا المحضر كانت ملكاً لهذا الذي أحضره معه وقت الشراء المبين فيه، وصارت ملكاً لهذا الذي حضر بالسبب المبين فيه، ثم إن هذا الذي أحضره بعد هذا البيع والشراء والتسليم والتسلم أحدث يده على هذه الدار المبين حدودها فيه وأخرجها من يد المشتري هذا الذي حضر بغير حق، فواجب عليه تسليمها إليه، وطالبه بذلك، وسأل مسألته، فسئل عن ذلك فأجاب. محضر في إثبات سجل أورده رجل من بلدة أخرى للرجوع بثمن البرذون المستحق: صورة ذلك: رجل اشترى من آخر برذوناً بثمن معلوم وتقابضا، وكانت هذه المبايعة ببخارى، فذهب المشتري بالبرذون إلى سمرقند، واستحق رجل هذا البرذون بالبينة في مجلس قضاء سمرقند وقضى قاضي سمرقند بملكية البرذون للمستحق على المستحق عليه، وكتب للمستحق عليه بذلك سجلاً، فأورد المستحق عليه السجل إلى بخارى، وأراد الرجوع إلى بائع البرذون بالثمن، فجحد بائعه الاستحقاق والسجل، فإنه يحتاج إلى إثبات السجل الذي أورده هذا البائع بالبينة في مجلس قضاء بخارى، وعند ذلك يحتاج إلى كتابة المحضر. وصورة ذلك: حضر وأحضر فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه جميع ما تضمنه ذكر سجل أورده من قبل قاضي سمرقند، وهذه نسخته فينسخ السجل في المحضر من أوله إلى آخره، ويكتب توقيع قاضي سمرقند على صدر السجل، ويكتب خط قاضي سمرقند بعد تاريخ السجل يقول فلان القاضي بسمرقند: هذا سجلي إلى آخره، ثم يكتب فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن هذا الذي حضر كان اشترى من هذا الذي أحضره معه هذا البرذون الموشى الموصوف في هذا السجل المحول نسخته إلى هذا المحضر بكذا درهماً، وبكذا ديناراً، وإنه كان باعه منه به، وإنهما كانا تقابضا، ثم إن فلان بن فلان يعني المستحق استحق هذا البرذون بعينه من يد هذا الذي حضر في مجلس الحكم بكورة سمرقند عند قاضيها فلان بالبينة العادلة التي قامت عنده، وجرى الحكم منه بهذا البرذون لهذا المستحق على هذا المستحق عليه، وأخرج هذا القاضي هذا البرذون من يد هذا المستحق عليه، وسلمه إلى هذا المستحق كما ينطق به السجل المحول نسخته إلى هذا المحضر، ويكتب السجل من أوله إلى آخره بتاريخه المؤرخ فيه أن قاضي بلده سمرقند فلان بن فلان هذا المذكور اسمه في هذا السجل المحول نسخته إلى هذا المحضر كان قاضياً يومئذٍ بكورة سمرقند نافذ (253أ4) القضاء بين أهلها من قبل الخاقان فلان، وإن لهذا الذي حضر حق الرجوع على هذا الذي أحضره بالثمن المذكور فيه، وهو في علم من هذا الاستحقاق عليه، فواجب عليه رد هذا الثمن الذي قبضه منه، وطالبه بذلك، وسأل مسألته فسئل فقال: من فرار أين سجل علم نيست ومرابكسبي خيري دادني نيست. سجل هذه الدعوى: يكتب صدر السجل على الرسم وتعاد دعوى المدعي إلى جواب المدعى عليه من أراء أين سجل علم نيست ومرايكسي خير دادنيي نيست، ثم

يكتب: فأحضر المدعي نفراً ذكر أنهم شهوده وهم: فلان وفلان وفلان، وسألني الاستماع إلى شهادتهم فأجبت إليه، فاستشهدت الشهود هؤلاء، فشهدوا عقيب الدعوى من المدعي هذا، والجواب من المدعى عليه هذا بالإنكار، من نسخة قرئت عليهم ومضمون تلك النسخة: كوامي ميدهم كه أين سجل، وأشار إلى السجل الذي أورده المدعي هذا سجل قاضي سمرقند ست إينك نام ونسب وي دراين سجلات، ومضمون وي حكم وقضاء أين قاضي سمرقند ست حكم كرد وين يستحق داماين إست كه صفت وشيت وي دراين سجل مذكور إست براين مستحق عليه، وإن روز كه أين قاضي حكم كرد براين كه مضمون أين سجل إست ومارا براين سجل كواه كردنايت وي قاضي بود بشهر سمرقند نافذ قضاء بيان أهل وي فأتوا بالشهادة على وجهها، وساقوها على سببها، فسمعت شهادتهم، وأثبتها في المحضر المخلد في ديوان الحكم قبلي، ورجعت في التعرف عن أحوالهم إلى من إليه رسم التركة بالناحية، فنسب اثنان منهم إلى العدالة، وجواز الشهادة، وهما فلان وفلان وثبت عندي شهادة هذين العدلين ما شهدا به على ما شهدا به، فأعلمت المشهود عليه هذا بثبوت ذلك، ومكنته من إيراد الدفع، فلم يأت بالدفع إلى قوله، وحكمت بثبوت هذا السجل المنتسخ فيه أنه سجل القاضي فلان، وأن مضمونه حكمه، وأنه كان يوم هذا الحكم الموصوف فيه، ويوم الإشهاد عليه نافذ القضاء بكورة سمرقند، وأمضيت حكمه الموصوف فيه، وحكمت بصحته بمحضر من المتخاصمين في وجههما، وأطلقت للمستحق عليه وهو هذا الذي حضر في الرجوع بالثمن المذكور فيه على هذا الذي أحضره بعدما فسخت العقد الذي كان جرى بينهما، وكان هذا السجل الذي أورده هذا الذي حضر، وحولت نسخته فيه محضراً وقت حكم هذا مشاراً إليه، وأشهدت على ذلك حضور مجلسي، وكان ذلك كله في مجلس قضائي في كورة بخارى في يوم كذا من شهر كذا. ولو كان مشتري البرذون باع البرذون من رجل آخر، ثم إن المشتري الذي ذهب بالبرذون إلى سمرقند، وذهب معه بائعه وهو المشتري الأول، فاستحق رجل البرذون على المشتري الثاني في مجلس قضائي بسمرقند؛ بين يدي قاضي سمرقند ببينة عادلة أقامها عليه، وقضى قاضي سمرقند بالبرذون المدعى به للمستحق على المستحق عليه، وقضى للمستحق عليه بالرجوع بالثمن على بائعه وهو المشتري الأول، وكتب قاضي سمرقند للمستحق عليه وهو المشتري الأول سجلاً بالرجوع عليه، فجاء المشتري الأول بالسجل إلى قاضي بخارى، وأحضر بائعه وأراد أن يرجع عليه بالثمن فجحد الاستحقاق والسجل، ووقعت الحاجة إلى إثبات السجل، يكتب المحضر بهذه الصورة: حضر فلان يعني المشتري الأول، وأحضر معه فلاناً، يعني البائع الأول، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه، أن هذا الذي أحضره كان باع من هذا الذي حضر برذوناً شبيه كذا بعينه؛ بكذا درهماً أو ديناراً، وأن هذا الذي أحضر كان اشترى هذا البرذون من فلان بن فلان؛ يعني المشتري الآخر، ثم إن فلان بن فلان يعني المستحق

حضر مجلس القضاء بكورة سمرقند قبل قاضيها فلان بن فلان، وأحضر معه فلاناً يعني المشتري الآخر، وادعى هذا المستحق عليه بحضرته، وبحضرة هذا البرذون المذكور، بينته أن هذا البرذون وأشار إليه ملكه وحقه، وفي يدي هذا الذي أحضره بغير حق، فأنكر المدعى عليه دعواه وقال بالفارسية: «أين برذون مدعى به ملك منست» ، فأقام المدعي هذا بينة عادلة على وفق دعواه بحضرة هذا المدعى عليه، وبحضرة هذا البرذون المذكور سببه في مجلس قاضي سمرقند؛ هذا المذكور لقبه ونسبه فيه فسمع القاضي بينته وقبلها بشرائطها، وحكم للمستحق المذكور اسمه ونسبه فيه على المستحق عليه المذكور بحضرتهما وبحضرة البرذون المدعى به بملكية البرذون المدعى به، وأخذ هذا البرذون من هذا المحكوم عليه، وسلمها إلى هذا المحكوم له، وهذا القاضي يوم هذا الحكم، وهذا التسليم كان قاضياً بكورة سمرقند ونواحيها، نافذ القضاء والإمضاء بين أهلها من قبل فلان، ثم إن فلاناً المحكوم عليه يعني المشتري الآخر رجع على بائعه هذا الذي حضر بالثمن الذي نقده، وذلك كذا في مجلس قضاء كورة سمرقند قبل القاضي المذكور واسترده منه بكماله بعد جريان الحكم منه لهذا المحكوم عليه على هذا الذي حضر؛ بنكول هذا الذي حضر عن اليمين بالله ثلاث مرات، وبعدما فسخ العقد الذي جرى بينهما، وأطلق له الرجوع بالثمن الذي اشتراه البرذون منه ونقد وذلك كذا، وقد يطلق بذلك كله مضمون السجل الذي أورده هذا الذي أورده مجلس الدعوى، وإن لهذا الذي حضر حق الرجوع على هذا الذي أحضره بالثمن المذكور فيه الذي كان أداه إليه وقت جريان هذه المبايعة المذكور فيه، وطالبه بذلك وسأل مسألته عن ذلك، فسئل فقال: مرا از ابن سجل علم نيست وماين مدعي خير دادني نيست أورد المدعي الذي حضر هذا نفراً ذكر أنهم شهوده وسألني الاستماع إليهم. سجل هذه الدعوى على الوجه الذي أولاً، غير أن في هذا السجل يذكر حكم قاضي سمرقند برجوع المشتري الآخر على هذا الذي حضر نسخة أخرى للسجل الأول على سبيل الإيجاز يكتب قاضي بخارى ونواحيها إلى آخره، ثبت عندي من الوجه الذي تثبت به الحوادث الحكمية والنوازل الشرعية أن المحكوم عليه المذكور اسمه ونسبه في باطن هذا السجل كان اشترى هذا البرذون المحكوم به الموشى في باطنه بعينه من فلان بن فلان؛ باع هذا المحكوم عليه بكذا كذا، وهو الثمن المذكور في باطن هذا السجل، وإنه كان باعه منه بهذا الثمن المذكور فيه، ثم إن المحكوم عليه هذا المذكور في باطن هذا السجل رجع على بائعه هذا المذكور في باطن هذا السجل بالثمن المذكور فيه بحكمي عليه بالنكول عن اليمين بالله ثلاث مرات؛ بعدما فسخت العقد الذي جرى بينهما في هذا البرذون، وأطلقت للمرجوع عليه هذا الرجوع على بائعه فلان بالثمن الذي كان اشترى منه هذا البرذون، وأمرت بكتبة هذا الرجوع على ظهر هذا السجل حجة للمرجوع عليه هذا، وأشهدت على ذلك حضور مجلسي. السجل الثاني على هذا النسق أيضاً، غير أنه يكتب فيه رجوع المشتري الأول على هذا الذي حضر.

..... حضر مجلس القضاء في كورة بخارى قبل القاضي فلان رجل ذكر أنه يسمى فلان بن فلان الفلاني، وهو رجل شاب يكتب حليته بتمامه، وأحضر مع نفسه رجلاً ذكر أنه يسمى فلان، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن هذا الذي حضر حر الأصل والعلوق لما أن هذا الذي حضر ابن فلان بن فلان الفلاني وهو كان حر الأصل، وأمه فلانة بنت فلان بن فلان، وهي كانت حرة الأصل أيضاً، وهذا الذي حضر ولد حراً على فراش أبويه الحرين هذين، لم يرد عليه ولا على أبويه هذين رق قط، وإن هذا الذي أحضره معه يسترقه ويستعبده بغير حق مع علمه بذلك، فواجب على هذا الذي أحضره معه قصر يده عن هذا الذي حضر، (253ب4) وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك؛ فسئل فأجاب فقال: أين حاضر يده ملك نيست ورفيق منست، ومن ومرا أزار أو مي وي علم نيست أحضر هذا نفراً ذكر أنهم شهوده وسألني الاستماع إلى شهادتهم؛ وهم: فلان وفلان وفلان فأجبت إليه، واستشهدت الشهود، فشهدوا بشهادة صحيحة متفقة الألفاظ والمعاني من نسخة قرئت عليهم، وهذا مضمون تلك النسخة إلى آخره. سجل هذه الدعوى يكتب صدر السجل على الرسم، ويكتب الدعوى من نسخة المحضر بتمامه، ويكتب أسامي الشهود وألفاظ الشهادة، ويكتب بعد الاستخارة: وحكمت لهذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه بكونه حر الأصل، والوالدين لم يرد عليه رق ولا على والديه، وأمرته بقصر يده، والكف عن مطالبته إياه بالطاعة في أحكام الرق، ويتم السجل. ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه، أن هذا الذي حضر كان مملوك هذا الذي أحضره معه ومرقوقه، وأنه أعتق هذا الذي حضر في حال صحة عقله له، وجواز تصرفاته في الوجوه كلها؛ طائعاً لوجه الله تعالى، وطلب مرضاته، عتقاً صحيحاً جائزاً نافذاً بغير بدل، وإن هذا الذي حضر اليوم حر بهذا السبب، وإن هذا الذي أحضره في علم من ذلك، وإنه في مطالبته إياه بالطاعة له، ودعواه الرق عليه مبطل غير محق، فواجب عليه قصر يده عن هذا الذي حضر، وترك التعرض له، وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك. سجل هذه الدعوى: يكتب على نحو ما تقدم، ويكتب بعد الاستخارة: وحكمت لهذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه بكون هذا الذي حضر حراً مالكاً نفسه غير

مولىً عليه بالسبب المذكورالمدعى، وهو إعتاق هذا الذي أحضره مع نفسه إياه، وبطلان دعوى هذا الذي أحضره مع نفسه الرق عليه، وتقصير يد هذا الذي أحضره معه عن هذا الذي حضر بشهادة هؤلاء الشهود. محضر في دعوى العتق على صاحب اليد بإعتاق من جهة غيره ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه. هذا الذي حضر كان مملوكاً ومرقوقاً لفلان بن فلان الفلاني، وفي يده وتحت تصرفه، وإن فلاناً أعتقه من خالص ملكه وماله مجاناً بغير بدل لوجه الله تعالى، وابتغاء مرضاته، وطلباً لثوابه، وهرباً من أليم عقابه، وصار هذا الذي حضر حراً بهذا الإعتاق المذكور فيه، وإنه اليوم حر بهذا السبب، وإن هذا الذي أحضره يستعبده مع علمه بحريته ظلماً وتعدياً، فواجب عليه قصره يده إلى آخره. سجل هذه الدعوى: على نحو ما تقدم، ويكتب بعد الاستخارة: وحكمت لهذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه، تكون هذا الذي حضر حراً مالكاً نفسه غير مولىً عليه بالسبب المذكور المدعى، وهو إعتاق فلان بن فلان إياه من خالص ملكه وماله، وببطلان دعوى هذا الذي أحضره معه الرق عليه، ويقصر يد هذا الذي أحضره معه عن هذا الذي حضر إلى آخره. محضر في إثبات الرق حضر وأحضر مع نفسه رجلاً سندياً شاباً، ويذكر حليته، ثم يذكر، فادعى هذا الذي حضر أن هذا الذي أحضره معه مملوك هذا الذي حضر، ومرقوقه يملكه بسبب صحيح، وأنه خرج عن طاعته، فواجب عليه طاعته، والانقياد له في أحكام الرق، وطالبه بذلك، وسأل مسألته، ويتم المحضر. سجل هذه الدعوى على نحو ما تقدم، ويكتب بعد الاستخارة: وحكمت لهذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه بكون هذا الذي أحضره معه مملوك هذا الذي حضر ومرقوقه بشهادة هؤلاء الشهود المسمين، وبكون هذا الذي حضر مبطلاً في الامتناع عن طاعة هذا الذي حضر في أحكام الرق، وأمرت هذا الذي أحضره معه بالانقياد لهذا الذي حضر في أحكام الرق والطاعة له، ويتم السجل. ولا بد للحكم بالرق وكتابة السجل فيه من عجز المدعى عليه عن إثبات الحرية لنفسه، فأما قبل ذلك لا يحكم بالرق، ولا يكتب السجل. محضر في دفع هذا الدعوى فنقول: لدفع هذه الدعوى طرق أحدها: أن يدعي المدعى عليه حرية الأصل لنفسه، وصورة كتابته: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه في دفع دعواه قبله، فإن هذا الذي أحضره معه كان ادعى عليه أنه عبده ومملوكه، وأنه خرج عن طاعته، وطالبه بالطاعة، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه في

دفع هذه الدعوى قبله أنه حر الأصل والعلوق لما أن أباه فلان بن فلان بن فلان، وأمه فلانة بنت فلان بن فلان، وهما كانا حرّي الأصل، وهذا الذي حضر ولد على فراش هذين الأبوين الحرين لم يجر عليه ولا على أبويه هذين رق قط، وإن هذا الذي أحضره معه في علم من ذلك، وإنه في مطالبة هذا الذي حضر بالطاعة له، ودعواه الرق قبله، والحال على ما وصفت فيه مبطل غير محق، فواجب عليه الكف عن ذلك، فطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك فسئل، ويتم المحضر.k سجل هذا المحضر: يكتب بعد قوله: وحكمت للذي حضر على هذا الذي أحضره معه بجميع ما ثبت عندي من دعوى الدفع الذي ادعى هذا الذي حضر لدفع دعوى هذا الذي أحضره معه الرق عليه، وكون هذا الذي حضر حر الأصل، وبطلان دعوى هذا الذي أحضره معه الرق عليه بشهادة الشهود المسمين بعدما ظهرت عدالتهم عندي بتعديل من إليه رسم التعديل بالناحية على ما شهدوا به بمحضر من المحكوم له والمحكوم عليه هذين في وجوههما، في مجلس قضائي وحكمي ببخارى، وقضيت بصحة ذلك كله، وقصرت يد المحكوم عليه هذا عن المحكوم له بالحرية هذا، ورفعت عنه طاعته، وأطلقت المحكوم عليه هذا بالرجوع على بائعه إن كان قد اشتراه من غيره، ونقد له الثمن، وفسخت العقد الذي كان جرى بينهما، ويتم السجل. قالوا: وفي كل موضع وقعت الحاجة إلى إثبات الحرية يجب أن يكون إثباتها بطريق الدفع بأن يدعي صاحب اليد الرق على المملوك، ويقيم البينة، ثم يثبت المملوك حريته بطريق الدفع؛ لأن هذا أشبه وأقرب إلى الصواب؛ لأنه إذا كان إثبات الحرية بطريق الابتداء بأن ادعى رجل على رجل أنه حر الأصل، وأن هذا الرجل يستعبده، وأقام البينة على حريته كان في قبول هذه البينة شبهة وكلام؛ لأنه إذا لم يسبق منه إقرار بالرق، أو انقياد للمولى وقت البيع والتسليم كان القول قوله في حرية الأصل، فكيف يسمع منه البينة على حريته، وحريته ثابتة بقوله؟ فالأصوب ما ذكرنا. الوجه الثاني: أن يدعي المدعى عليه الرق إعتاقاً من جهة مدعي الرق. وصورة كتابته: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه في دفع دعواه الرق على هذا الذي حضر، ثم يذكر: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه في دفع دعواه، ويذكر دعوى الذي أحضره الرق على هذا الذي حضر، ثم يذكر: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه في دفع دعواه قبله هذه أنه حر، لما أنه كان مملوكاً ومرقوقاً لهذا الذي أحضره، وإن هذا الذي أحضره أعتقه في حال جواز تصرفاته في الوجوه كلها إعتاقاً صحيحاً جائزاً نافذاً لوجه الله تعالى، وطلب ثوابه ومرضاته، وصار هذا الذي حضر حراً بسبب هذا الإعتاق، وهذا الذي أحضره مبطل في مطالبته هذا الذي حضر بالطاعة له، والانقياد له في الأحكام الرق، ويتم المحضر. سجل هذا المحضر على نحو ما بينا، إلا أن القاضي يكتب في الحكم هاهنا: وكون هذا الذي حضر حراً مالكاً نفسه بالسبب المذكور فيه؛ وهو إعتاق هذا الذي

أحضره، وكونه ملحقاً بسائر الأحرار بهذا السبب، وكونه يوم الإعتاق الموصوف فيه ملكاً لهذا الذي أحضره، ويتم السجل. الوجه الثالث: أن يدعي المدعى عليه الرق الإعتاق من جهة غير المدعي الرق. صورة كتابته: حضر وأحضر (254أ4) فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه في دفع دعواه قبله، أن هذا الذي حضر كان عبداً مملوكاً لفلان بن فلان الفلاني، وأنه أعتقه من خالص ماله وملكه مجاناً بغير بذل؛ ابتغاءً لوجه الله تعالى، وطلباً لمرضاته، وهرباً من أليم عقابه، وشديد عذابه في حال صحة عقله، وجواز تصرفه في الوجوه كلها، واليوم هذا الذي حضر حر بسبب هذا الإعتاق المذكور الموصوف فيه إلى آخره. سجل هذا المحضر على نحو ما بينا إلا أن القاضي يكتب في الحكم: وحكمت بحرية هذا الذي حضر بالسبب المذكور فيه؛ وهو إعتاق فلان بن فلان الفلاني، وكون هذا الذي حضر مملوكاً لفلان بن فلان الفلاني يوم الإعتاق المذكور فيه، ويتم السجل. محضر في دعوى التدبير المطلق رجل دبّر عبده تدبيراً مطلقاً، ومات بعد التدبير، وخلف ورثته، وأنكرت الورثة العلم بالتدبير، واحتاج المدبر إلى إثبات ذلك بالبينة، وكتبه المحضر يكتب: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه، أن هذا الذي حضر كان عبداً مملوكاً لفلان بن فلان الفلاني والد هذا الذي أحضره دبره في حال حياته وصحته، وجواز تصرفاته في الوجوه كلها؛ طائعاً راغباً تدبيراً مطلقاً، وأن فلاناً والد هذا الذي أحضره معه مات، وعتق المدبر هذا الذي حضر بعد موته، وقد خلف فلان في يد وارثه هذا الذي أحضره من التركة من ماله ما يخرج هذا المدبر عن ثلثه، وهذا الذي أحضره في علم من ذلك، فواجب على هذا الذي أحضره قصر يده عن هذا الذي حضر إلى آخره. سجل في إثبات العتق على غائب: يقول القاضي فلان: حضر قبلي في مجلس قضائي بكورة بخارى فلان، وأحضر مع نفسه فلاناً، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن لهذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه كذا كذا ديناراً، وبين نوعها وصفتها ديناً لازماً، وحقاً واجباً بسبب صحيح، فواجب عليه الخروج من ذلك، فطالبه بالجواب عنه، وسأل مسألته عنه فسئل، فأنكر أن يكون عليه شيء لهذا الذي حضر، فأحضر المدعي رجلين ذكر أنهما شاهدا المدعي، وهما: فلان وفلان، وذكر المدعي والشاهدان أنهما موليا فلان بن فلان؛ أعتقهما حال كونهما مملوكين له، وسأل مني الاستماع إلى شهادتهما، فشهدا بعد الدعوى، والجواب بالإنكار عقيب الاستشهاد، الواحد بعد الآخر بشهادة صحيحة متفقة اللفظ والمعنى على موافقة الدعوى من نسخة قرئت عليهم، وهذا مضمون تلك النسخة. فلما ساقا الشهادة على وجهها ذكر المدعى عليه في دفع هذه الشهادة أن هذين الشاهدين مملوكا فلان بن فلان الذي زعم المدعي والشاهدان أنه أعتقهما، وقد كذبوا في

ذلك لم يعتقهما فلان، فعرضت ذلك على المدعي هذا فقال: إنهما حران، فإن مولاهما فلان قد أعتقهما حال كونهما مملوكين له إعتاقاً صحيحاً، وإن له على ذلك بينة، فكلفته إقامة البينة على صحة دعواه هذه، فأحضر نفراً ذكر أنهم شهوده على موافقة دعواه هذه، وسألني الاستماع إلى شهادتهم، فسمعت شهادتهم، وثبت عندي بشهادتهم حرية هذين الشاهدين بإعتاق فلان إياهما، وكونهما أهلاً للشهادة، وبالقضاء له بالمال المدعى به بشهادة هذين الشاهدين، فأجبته إلى ذلك، وحكمت بحرية هذين الشاهدين بإعتاق فلان إياهما حال كونهما مملوكين له إعتاقاً صحيحاً، وبكونهما أهلاً للشهادة، وقضيت للمدعي هذا بالمال المدعى به على المدعى عليه بشهادة هذين الشاهدين حكماً أبرمته وقضاءً نفذته، ويتم السجل. فإذا قضى القاضي على هذا الوجه يثبت العتق في حق المولى حتى لو حضر وأنكر الإعتاق، لا يلتفت إلى إنكاره، ولا يحتاج العبد إلى إقامة البينة على المولى؛ لأن المشهود له ادعى حرية الشاهدين على المشهود عليه، وقد صح منه هذه الدعوى؛ لأنه لا يتمكن من إثبات حقه على المشهود عليه، إلا بهذا، والمشهود عليه أنكر ذلك، وصح منه الإنكار؛ لأنه لا يتمكن من دفع الشهود عن نفسه إلا بإنكار الحرية. والأصل أن من ادعى حقاً على الحاضر، ولا يتوسل إلى إثباته إلا بإثبات سببه على الغائب. ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، فصار إقامة البينة على المشهود عليه كإقامتها على المولى الغائب. سجل هذا المحضر: أوله على نسق ما تقدم، ويكتب عند ذكر الحكم: وحكمت لهذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه بجميع ما ثبت عندي من تدبير فلان والد هذا الذي أحضره معه هذا الذي حضر حال كونه مملوكاً مرقوقاً له من خالص ماله وملكه تدبيراً صحيحاً مطلقاً، لا قيد فيه، وبحرية هذا الذي حضر بموت فلان، وبتخليف فلان والد هذا الذي حضر من ثلثه، وإن هذا الذي حضر حر اليوم، لا سبيل لأحد عليه إلا سبيل الولاء بشهادة هؤلاء الشهود المسمين بمحضر من هذين المتخاصمين في وجههما حكماً أبرمته، وقضاءً نفذته إلى آخره. محضر في دعوى النكاح إذا لم يكن للمرأة زوج، ولم تكن هي في يد أحد، ادعى رجل نكاحاً، وزعم هذا الرجل أنه دخل بها، والمرأة تنكر نكاحها، ووقعت الحاجة إلى إثبات النكاح، وكتبه المحضر يكتب: حضر فلان، وأحضر مع نفسه امرأة ذكرت أنها تسمى فلانة بنت فلان، فادعى هذا الذي حضر على هذه المرأة التي أحضرها معه، أن هذه المرأة التي أحضرها معه امرأة هذا الذي حضر ومنكوحته وحلاله، ومدخولته بنكاح صحيح، زوجت نفسها منه حال كونها عاقلة بالغة نافذة التصرفات في الوجوه كلها، خالية عن النكاح والعدة من جهة الغير من هذا الذي حضر بمحضر من الشهود الرجال الأحرار البالغين العاقلين المسلمين على صداق كذا، وإن هذا الذي حضر تزوجها في حال نفوذ تصرفاته في الوجوه كلها في

مجلس التزويج هذا على الصداق المذكور فيه لنفسه تزويجاً صحيحاً، وقد سمع أولئك الشهود الذين حضروا مجلس التزويج هذا على كلام المتعاقدين هذين، وهذه المرأة التي أحضرها اليوم امرأة هذا الذي حضر، وحلاله بحكم هذا النكاح الموصوف فيه، وتمتنع عن طاعته في أحكام النكاح بغير واجب، فواجب على هذه المرأة التي أحضرها معه طاعة هذا الذي حضر في أحكام النكاح، والانقياد له في ذلك، وطالبها بذلك وسأل مسألتها (فنفت) . وإن لم يكن الزوج دخل بها، يكتب في المحضر: ادعى هذا الذي حضر على هذه التي أحضرها معه امرأته ومنكوحته وحلالته، فلا يتعرض للدخول، فإن كان هذا العقد جرى بين هذا الذي حضر، وبين وليها مثل والدها حال بلوغها يكتب في المحضر: زوجها والدها فلان بن فلان الفلاني، حال نفاذ تصرفها في الوجوه كلها، وحال كونها عاقلة بالغة خالية عن نكاح الغير، وعن عدة الغير بأمرها ورضائها، بحضرة الشهود المرضيين على صداق كذا تزويجاً صحيحاً، ويتم المحضر. وإن كان هذا العقد جرى بين هذا الذي حضر، وبين وكيلها يكتب زوجها من هذا الذي حضر وكيلها فلان بن فلان، والباقي على نحو ما بينا. وإن كان هذا العقد جرى في حال صغرها بين هذا الذي حضر، وبين والد الصغيرة، وأنه يخاصمها بعدما بلغت يكتب: زوجها أبوها فلان الفلاني في حال صغرها بولاية الأبوة لما رآه كفواً لها على صداق كذا، وهذا الصداق صداق مثلها. وإن كان العقد جرى بين والدي المتداعيين حال صغرهما، وتخاصما بعد بلوغهما يكتب: ادعى هذا الذي حضر أن هذه المرأة التي أحضرها معه امرأته وحلاله ومنكوحته، زوجها أبوها فلان بن فلان الفلاني في حال صغرها بولاية الأبوة من هذا الذي حضر في حال نفاذ تصرفاته في الوجوه كلها، بحضرة الشهود المرضيين تزويجاً صحيحاً، وإن أباها الذي حضر، وهو فلان بن فلان قبل هذا التزويج الموصوف لابنه هذا الذي حضر حال صغر ابنه هذا الذي حضر في مجلس التزويج هذا بولاية الأبوّة حال نفوذ تصرفاته في الوجوه (254ب4) كلها بحضرة أولئك الشهود الحاضرين في مجلس التزويج هذا قبولاً صحيحاً، ويتم المحضر. سجل هذا الدعوى: يكتب صدر السجل على ما هو الرسم، ويعاد فيه الدعوى من نسخة المحضر بتمامها، ويذكر أسماء الشهود، ولفظة الشهادة إلى موضع الحكم، ثم يكتب في موضع الحكم: وحكمت لهذا الذي حضر بمسألته على هذه المرأة التي أحضرها مع نفسه بجميع ما ثبت عندي من كونها منكوحة، وحلالاً لهذا الذي حضر بشهادة هؤلاء الشهود المسمين فيه، بسبب هذا النكاح الصحيح المذكور المبين فيه بحضرة هذين المتخاصمين، وقضيت بذلك كله في مجلس قضائي بكورة بخارى حكماً أبرمته، وقضاء نفذته، مستجمعاً شرائط صحته ونفاذه، وألزمت المحكوم عليها طاعته هذا الذي حضر في أحكام النكاح، ويتم السجل.

محضر في دفع دعوى النكاح حضرت فلانة وأحضرت مع نفسها فلاناً، فادعت هذه التي حضرت على هذا الذي أحضرته معها في دفع دعواه قبلها أن هذا الذي أحضرته كان ادعى على هذه التي حضرت أولاً أن هذه التي حضرت امرأته وحلاله، يعيد دعواه بتمامه، فادعت هذه التي حضرت في دفع دعواه قبلها أن دعوى هذا الذي أحضرت قبلها النكاح هذا ساقطة من قبل أن هذه التي حضرت اختلعت نفسها حال نفوذ تصرفاتها في الوجوه كلها في هذا النكاح المذكور فيه من هذا الذي أحضرته بتطليقه واحدة على صداقها ونفقة عدتها، وكل حق يجب للنساء على الأزواج قبل الخلع وبعده. وإن كان الخلع بشرط براءة كل واحد منهما عن صاحبه من جميع الدعاوي والخصومات، يكتب: وعلى براءة كل واحد منهما عن صاحبه عن جميع الدعاوي والخصومات، وأن هذا الذي أحضرته مع نفسها خلعها من نفسه حال نفوذ تصرفاته في الوجوه كلها بتطليقه بائنة واحدة على الشرائط المذكورة فيه في مجلس الاختلاع هذا خلعاً صحيحاً خالياً عن الشروط المفسدة، وأن هذا الذي أحضرته معها في دعواه النكاح قبلها بعد ما جرت بين هذه التي حضرت، وبين هذا الذي أحضرته هذه المخالعة، وهذا الاختلاع الموصوفين فيه مبطل غير محق، فواجب على هذا الذي أحضرته معها ترك هذه الدعوى قبلها، وطالبته بذلك، وسأل مسألته فسئل، فأجاب من مبطل نه أم درد عوى، أين نكاح كه بزاين زن كه حاضراً يده كردة أم، وأشارت إلى التي حضرت ومحتم، أحضرت نفراً ذكرت أنهم شهودها. سجل هذه الدعوى عل نسق ماتقدم، ويكتب عند الحكم وثبت عندي بشهادة هؤلاء الشهود المسمين أن هذه التي حضرت اختلعت نفسها على صداقها ونفقة عدتها، وكل ما يجب للنساء على الأزواج قبل الخلع بتطليقه واحدة، وإن هذا الذي أحضرته معها خلعها من نفسه بالبدل المذكور فيه بتطليقة واحدة في مجلس الخلع هذا، وإن المخالعة هذه جرت بين هذين المتخاصمين في حال جواز تصرفاتهما في الوجوه كلها، فحكمت بذلك كله لهذه التي حضرت على هذا الذي أحضرته، وقضيت بكون هذه التي حضرت محرمة على هذا الذي أحضرته بتطليقة ثانية بسبب المخالعة المذكورة فيه في وجه المتخاصمين هذين، حكماً أبرمته، وقضاء نفذته، مستجمعاً شرائط الصحة والجواز، ويتم السجل. محضر فيه دعوى النكاح على امرأة هي في يدي رجل يدعي نكاحها وهي ما تقر له بذلك يكتب: حضر فلان، وأحضر مع نفسه امرأة ذكر أنها تسمى فلانة بنت فلان بن فلان، وذكر رجلاً ذكر أنه يسمى فلان بن فلان، فادعى هذا الذي حضر على هذه المرأة التي أحضرها بحضرة هذا الرجل الذي أحضره معها أن هذه المرأة التي أحضرها امرأة هذا الرجل الذي حضر، وأن هذا الرجل الذي أحضره يمنعها عن طاعة هذا الذي حضر،

والانقياد له في أحكام النكاح بغير حق، ويسبب ناشزة بغير حق، وهي بسبب منع هذا الذي أحضره تمتنع عن طاعة هذا الذي حضر في أحكام النكاح بغير حق، فواجب على الذي أحضره معه الكف عن هذا المنع الموصوف فيه إياها، وواجب على هذه المرأة التي أحضرها طاعة هذا الذي حضر، والانقياد له في أحكام النكاح، وطالب كل واحد منهما بالجواب، وسأل مسألتهما فسئلا، فأجابت المرأة أولاً بالفارسية، وقالت: من زن أين مدعي نيم وطاعت وي بر من واجب نيست من زن فلان بن فلان أم ومنكوحة ويم، ثم أجاب الرجل هذا بالفارسية: أين فلانة حاضر آورده زن نيست، ومنكوحة نيست ومن وير ابن حق منع نميكم إن طاعت راشتن أين مدعي أحضر المدعي نفراً ذكر أنهم شهوده، وسأل الاستماع إلى شهادتهم، فإذا استشهدوا، وشهدوا على موافقة دعوى المدعي بشهادات متفقة اللفظ والمعنى، فالقاضي يقضي بالمرأة للمدعي، فإن أقام صاحب اليد بينة على أن هذه المرأة منكوحته وحلاله، فالقاضي يقضي ببينة صاحب اليد، وتندفع به بينة المدعي، فالخارج مع ذي اليد إذا أقاما البينة على النكاح مطلقاً من غير تاريخ يقضي ببينة صاحب اليد، ولو كان القاضي قضى للخارج ببينته ثم أقام صاحب اليد بينة هل يقضى ببينة صاحب اليد؟ ففيه اختلاف المشايخ. وطريقة كتابة هذا الدفع: حضر فلان، يعني: صاحب اليد، ومعه فلانة، يعني: المرأة التي دفعت المنازعة في نكاحها، وأحضر معه فلاناً، يعني: المدعي الأول، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه في دفع دعواه، وفي دفع بينته، فإن هذا الذي أحضره كان ادعى أولاً على هذه المرأة بحضرة هذا الذي حضر أنها منكوحته، وحلاله بنكاح صحيح، وأنها خرجت عن طاعته، وهذا الرجل يمنعها عن طاعته، ويذكر مطالبة المرأة بالانقياد لها، ومطالبة الذي حضر بالكف عن منعه إياها عن طاعته، ويذكر إنكار الرجل أيضاً دعواه قبلها هذه، ويذكر إقرارها بالنكاح لهذا الذي حضر، وتصديق هذا الذي حضر إياها بذلك، وإقامة الذي أحضره البينة عليها بالنكاح المذكور فيها، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه في دفع دعواه هذه قبلها في وجهه أن هذه المرأة التي حضرت مع هذا الذي حضر امرأة هذا الرجل الذي حضر وحلاله، ومنكوحة بنكاح صحيح جرى بينهما، وأحضر شهوداً على ما ادعى، وقال: أنا أولى بنكاح هذه بحكم أن لي يداً وبينة، فواجب عل هذا الذي أحضره ترك دعواه النكاح هذه قبلها، وترك المطالبة إياها حين يتمكن في طاعة زوجها هذا الذي حضر، وطالبه بذلك، وسأل مسألته، ولهذا الدفع وجوه. أحدها: أن يدعي الخارج على صاحب اليد أنه طلقها تطليقة بائنة أو رجعية، وانقضت عدتها، وأن هذا الخارج بعد انقضاء عدتها منه. صورة كتابة هذا الدفع: حضر وأحضر مع نفسه فلان بن فلان، وفلانة بنت فلان، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره أنه طلق امرأته هذه التي أحضرها بتاريخ كذا بتزويج وليها فلان إياها منه برضاها

بمحضر من الشهود على صداق معلوم، وإنه قبل تزويجه منه لنفسه في ذلك المجلس قبولاً صحيحاً، واليوم هي امرأته وحلاله بهذا السبب، وإن هذا الذي أحضره معه في دعواه هذه قبله بعدما كان الأمر كما وصف مبطل غير محق. وجه آخر لدفع هذه الدعوى: أن يدعي أن هذا الذي أحضره وكل فلاناً أن يطلق امرأته هذه طلاقاً بائناً أو رجعياً، فطلق وكيل هذا الذي أحضره معه هذه المرأة كما أمره هذا الذي أحضره أقر أنها محرمة عليه بالمصاهرة أو بالرضاع. محضر في إثبات الصداق ديناً في تركة الزوج حضرت وأحضرت معها، فادعت هذه التي حضرت على هذا الذي أحضرته معها، أن هذه التي حضرت كانت امرأة فلان بن فلان والد هذا الذي أحضرته معها، وكانت منكوحته وحلاله، ومدخولته بنكاح صحيح، وكان لها عليه من الصداق التي تزوجها عليه كذا ديناراً، أو نصف الدنانير، بصفاتها ديناً لازماً، وحقاً واجباً، وصداقاً ثابتاً بنكاح صحيح كان قائماً بينهما، وهكذا كان أقر فلان بن فلان والد هذا الذي حضر في حال حياته، وجواز إقراره، ونفاذ تصرفاته في الوجوه كلها طائعاً، بهذه الدنانير المذكورة فيه ديناً على نفسه لهذه التي حضرت ديناً لازماً، وحقاً واجباً، وصداقاً ثابتاً بالنكاح الصحيح القائم (255أ4) بينهما إقراراً صحيحاً صدقته هذه التي حضرت خطاباً، ثم إنه توفي قبل أدائه هذا الصداق المذكور فيه ديناً في تركته لهذه التي حضرت، وخلف من الورثة امرأة له، وهي هذه التي حضرت، وابناً لصلبه، وهو هذا الذي أحضرته مع نفسها لا وارث له سواهما، أو يكتب: وورثة له أخرى سواهما، وخلف من التركة من جنس هذه الدنانير المذكورة فيه في يد هذا الذي أحضرته ما يفي بهذا الدين المذكور فيه وزيادة، ويتم المحضر. سجل هذه الدعوى، ودفع هذه الدعوى. وسجل الدفع يكتب على نحو ما تقدم في سجل دعوى الدين المطلق في تركة الميت. محضر في إثبات مهر المثل إذا زوج الرجل ابنته البالغة برضاها من إنسان نكاحاً صحيحاً، ولم يسم لها مهراً حتى وجب مهر المثل، وقعت الحاجة إلى إثبات مهر المثل، بأن دخل بها، أو خلا بها خلوة صحيحة، ثم طلقها، وأنكر مهر المثل، ولا يخلو إما إن كانت البنت وكلت أباها بهذه الدعوى حتى يدعي الأب ذلك لها، فكتب في المحضر: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر لبنته فلانة بحق الوكالة الثابتة له من جهتها على هذا الذي أحضره معه أن ابنته فلانة موكلة هذا الذي حضر، كانت امرأة هذا الذي أحضره معه بنكاح صحيح، زوجها أبوها هذا الذي حضر برضاها بمحضر من الشهود، ولم يسم لها مهراً عند العقد، وإن مهر مثلها كذا درهماً، أو كذا ديناراً؛ لأن أختها الكبرى، أو الصغرى المسماة فلانة أختها لأبيها وأمها أو لأبيها، كان مهرها هذا المقدار، وموكلة هذا الذي حضر هذه

تساوي أختها هذه في الحسن والجمال، والسن والمال، والحسب والبكارة. إنما ذكرنا هذه الأشياء؛ لأن المهر يختلف باختلاف هذه الأشياء، ويذكر أيضاً أن أخت موكلته هذه مقيمة بهذه البلدة التي موكلته فيها؛ لأن المهر يختلف باختلاف البلدان، فواجب على هذا الذي أحضره معه أداء مثل هذه الدراهم، أو الدنانير إلى هذا الذي حضر لابنته موكلته هذه، وطالبه بذلك وسأل مسألته عن ذلك، فسئل إلى آخره. وإن لم يكن لها أخت ينظر إلى امرأة أخرى من نساء عشيرة الأب، من بقي مثلها في الحسن والجمال والسن والبكارة، ويشترط أن تكون تلك المرأة من بلدها أيضاً كما ذكرنا، وإن لم يوجد من قوم أبيها امرأة بهذه الأوصاف يعتبر مهر مثلها من الأجانب في بلدتها، ولا تعتبر بمهر مثلها من قوم أمها هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في أول باب المهور، وذكر رحمه الله أيضاً في مسألة اختلاف الزوجين في المهر أن على قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يجوز تقدير مهر مثلها بأقرانها من الأجانب، فكان المذكور في أول باب المهور قولهما. وإن كانت هذه المرأة وكلت أجنبياً بذلك يكتب: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه لموكلته فلانة بنت فلان بن فلان الفلاني، أن موكلته هذه كانت امرأة هذا الذي أحضره بنكاح صحيح، زوجها أبوها فلان من هذا الذي أحضره معها برضاها بمحضر من الشهود، ولم يسم لها مهراً إلى آخره. محضر في إثبات المتعة إذا طلق الرجل امرأته قبل الدخول بها، وقبل أن خلا بها خلوة صحيحة، ولم يكن سمى لها في النكاح مهراً، كان لها على الزوج المتعة. والمتعة ثلاثة أثواب: قميص وملحفة ومقنعة، وسط لا جيد غاية الجودة، ولا رديء غاية الرداءة، فيجب لها ذلك إلا إذا زاد ذلك على نصف مهر مثلها، فلها الأثواب إلا أن تنقص قيمتها عن خمسة دراهم، فالحاصل أن لها الأقل من نصف مهر المثل، ومن المتعة إلا أن تكون قيمة المتعة أقل من خمسة دراهم، فحينئذٍ لا ينقص عن خمسة دراهم، وإن كانت المتعة مثل نصف مهر المثل، فلها المتعة، ويعتبر فيها حال الرجل، وكان الكرخي يقول: يعتبر حالها. ثم إذا وجبت المتعة ثلاثة أثواب، ووقعت الحاجة إلى الإثبات يكتب: حضرت وأحضرت، فادعت هذه التي حضرت على هذا الذي أحضرته معها أن هذا الذي أحضرته معها تزوجها بنكاح صحيح، من غير تسمية شيء عند العقد، ثم طلقها قبل الدخول بها وقبل الخلوة، حتى وجب عليه المتعة ثلاثة أثواب وسط، درع، وخمار، وملحفة، فواجب عليه الخروج عن ذلك، ويتم المحضر. محضر في إثبات الحرمة الغليظة يجب أن يعلم بأن دعوى الحرمة بالطلاق على أنواع:

أحدها: دعوى الحرمة بصريح ثلاث تطليقات، وصورة كتابة المحضر في هذا الوجه: حضرت وأحضرت، فادعت هذه التي حضرت على هذا الذي أحضرته معها أنها كانت امرأة هذا الذي أحضرته، ومنكوحته، ومدخولته بنكاح صحيح، ولها عليه من الصداق كذا درهماً، أو كذا ديناراً ديناً لازماً، وحقاً واجباً بسبب هذا النكاح، وإن هذا الذي أحضرته معها حرمها على نفسه بثلاث تطليقات حرمة غليظة، لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره، وإنها محرمة عليه اليوم بهذا السبب المذكور فيه، وإن هذا الذي أحضرته مع علمه بقيام هذه الحرمة الغليظة بينهما يمسكها حراماً، ولا يقصر يده عنها، فواجب على هذا الذي أحضرته مفارقتها، وتخلية سبيلها، وأداء الصداق الذي لها عليه المذكور فيه، وإدرار نفقة العدة، نفقة مثلها إلى أن تنقضي عدتها، وطالبته بذلك، وسألت مسألته عن ذلك. سجل هذه الدعوى: يكتب عند الحكم: وحكمت لهذه المرأة التي حضرت المدعية بهذه الحرمة الغليظة، على هذا الذي أحضرته، بثبوت هذه الحرمة الغليظة بالسبب المذكور فيه بعدما كانت حلالاً له بعقد النكاح بشهادة هؤلاء الشهود المسمين فيه، بمحضر من هذين المتخاصمين في وجههما، وكلفت المحكوم عليه، وهو هذا الذي أحضرته بمفارقة هذه التي حضرت، وقصرت يده عنها، وأمرته بأداء ما لها عليه من الصداق المذكور فيه، وبإدرار النفقة عليها نفقة مثلها حتى تنقضي عدتها، ويتم السجل. الوجه الثاني: أن تدعي الحرمة بإقراره أنه طلقها ثلاثاً، وصورة كتابة المحضر في هذا الوجه: فادعت هذه التي حضرت على هذا الذي أحضرته أنها كانت امرأته ومنكوحته، ومدخولته بنكاح صحيح، وإن هذا الذي أحضرته أقر في حال صحة إقراره أنه حرم هذه التي حضرت بثلاث تطليقات، وأنه يمسكها حراماً، ولا يفارقها، فواجب عليه مفارقتها، وأداء صداقها المذكور إليها. سجل هذه الدعوى على نحو السجل الأول، إلا أنها تذكر الإقرار بالحكم، فيكتب: وحكمت لهذه التي حضرت على هذا الذي أحضرته معها بثبوت إقرار هذا الذي أحضرته معها بهذه الحرمة الغليظة، المذكورة فيه بشهادة هؤلاء الشهود المسمين فيه، ويتم السجل. الوجه الثالث: أن تدعي الحرمة عليه بثلاث تطليقات بسبب حلف قد حلف بثلاث تطليقاتها حال قيام النكاح بينهما أن لا يفعل كذا، وقد فعل ذلك الفعل المعين الذي حلف عليه، وحنث في يمينه، فنزل الطلقات الثلاثة المعلقة، وصارت هذه المرأة التي حضرت محرمة على هذا الذي أحضرته بثلاث تطليقات بالسبب المذكور فيه، وإن هذا الذي أحضرته مع علمه بهذه الحرمة الغليظة بينهما يمسكها حراماً، ولا يفارقها، فواجب عليه مفارقتها، وطالبه بذلك، ويتم المحضر، وإن كانت تدعي الحرمة بتطليقة، أو تطليقتين بين ذلك في المحضر، وكذلك إذا ادعت المرأة المحرمة بسبب آخر يذكر ذلك السبب في المحضر.

محضر في شهادة الشهود بالحرمة الغليظة بثلاث تطليقات بدون دعوى المرأة قوم شهدوا عند القاضي على رجل حاضر أنه طلق امرأته هذه الحاضرة بثلاث تطليقات، وإنها محرمة عليه اليوم بثلاث تطليقات، فأتوا بالشهادة على وجهها، وساقوها على سببهما يكتب في المحضر: حضر مجلس الحكم قوم ذكروا أنهم شهود حسبة، وهم: فلان وفلان وفلان، يذكر أسماءهم وأنسابهم وحلاهم ومصلاهم، وأحضروا معهم رجلاً يسمى فلان، وامرأة تسمى فلانة، وشهد كل واحد منهم أن هذا الرجل * وأشاروا إلى الرجل الذي أحضروه * طلق امرأته هذه * وأشاروا إلى المرأة التي أحضروها * بثلاث تطليقات، ثم إنه لا يفارقها، ويمسكها حراماً، فسئلا، يعني هذا الرجل وهذه المرأة، فأنكرا الطلاق، فالحكم في هذه الصور أن القاضي يقبل شهادة هؤلاء، ويقضي بالفرقة بينهما. وإذا أراد السجل يكتب صورة السجل على رسمه، ويكتب حضور هذا القوم مجلسه، وشهادتهم على الوجه الذي شهدوا، ويكتب إنكار الرجل والمرأة الطلاق، ثم يكتب: فسمعت شهادتهم، وأثبتها في المحضر المخلد في ديوان الحكم، ويعرفه عن أحوال (255ب4) الشهود عمن إليه رسم التعديل والتزكية بالناحية، فنسبوا إلى العدالة وقبول القول، فقبلت شهادتهم، وثبت عندي بشهادتهم ما شهدوا به على ما شهدوا به، وأعلمت المشهود عليه بذلك، ومكنته من إيراد الدفع إن كان له دفع، فلم يأت بالدفع، وظهر عند عجزه عن ذلك، فاستخرت الله تعالى الى آخره، وحكمت بكون فلانة بنت فلان هذه محرمة على زوجها فلان هذا بثلاث تطليقات بمحضر منهما في وجوههما إلى آخره، وأمرت كل واحد منها بمفارقة صاحبه إلى أن تقضي عدتها على هذا الزوج، وتتزوج بزوج آخر، ويدخل بها الزوج الثاني، ويطلقها وتنقضي عدتها، ثم يتزوجها برضاها. محضر في إثبات الحرمة الغليظة على الغائب امرأة لها زوج دخل بها، ثم حرمها على نفسه بثلاث تطليقات بمحضر من الشهود، ثم غاب الزوج قبل أن يقضي القاضي بالحرمة، وأرادت المرأة إثبات هذه الحرمة بين يدي القاضي؛ ليقضي بذلك بشهادة شهودها، فلذلك وجهان: أحدهما: أن تدعي على رجل حاضر أنه كان لي على زوجي فلان بن فلان ألف دينار ونصفها بقيمة صداقي، وإنك ضمنت لي ذلك عن زوجي فلان هذا المذكور إن حرمني على نفسه بثلاث تطليقات، وإني أجزت هذا الضمان معلقاً بهذا الشرط في مجلس الضمان هذا، ثم إن زوجي فلان حرمني على نفسه بثلاث تطليقات، وصارت هذه الدنانير المذكورة ديناً لي عليك بحكم الضمان المذكور فيه، وأنت في علم من هذه الحرمة المذكورة فيه بالسبب المذكور فيه، فواجب عليك الخروج من ذلك بإزائها إليَّ، فيقرُّ المدعى عليه بالضمان كما ادعت، وينكر العلم بوقوع الحرمة، فتجيء المرأة بشهود يشهدون على أن زوجها حرمها على نفسه بثلاث تطليقات، فهذا هو صورة الدعوى. صورة المحضر: أن يكتب حضرت، وأحضرت مع نفسها، فادعت هذه التي حضرت على هذا الذي أحضرته بذكر دعواها على نحو ما ذكرنا من أوله إلى آخره. سجل هذه الدعوى على نحو ما بينا إلى قوله: أحضرت المدعية نفراً ذكر (ت) أنهم شهودها على موافقة الدعوى، وسألتني شهادتهم، فأجبتها إلى ذلك، فشهدوا بعد الإشهاد عقيب الدعوى، والإنكار من المدعى عليه وقوع هذه الحرمة الواحد بعد الآخر من نسخة قرئت عليهم، وهذا مضمون تلك النسخة: كواهي سيدهم كه اين زن حاضر آسده، وأشار إلى المدعية هذه زن فلان بن فلان بود وبرا برخو يشتن حام كرد به طلاق، وأمرد زاين زن حاضر أده محرمة است برين فلان بس طلاق، وأشار كل واحد منهم في جميع مواضع الإشارة، فسمعت شهادتهم إلى أن يصل إلى قوله: وحكمت بكون هذه المرأة التي حضرت محرمة على زوجها فلان بالسبب المذكور فيه، وقضيت لهذه التي حضرت على هذا الذي أحضرته معها بوجوب هذا المال المذكور مبلغه وجنسه فيه، وذلك كذا بسبب الضمان المذكور، وعند وجود شرطه، وهو تحريم فلان زوج هذه التي حضرت إياها على الوجه المذكور فيه في وجه المتخاصمين هذين، ويتم السجل. الوجه الثاني: أن تدعي على رجل حاضر ضمان نفقة العدة أنك قد ضمنت لي نفقة عدتي إن حرمني زوجي على نفسه بثلاث تطليقات، وأنا أجزت ضمانك هذا في مجلس الضمان هذا، ثم إن زوجي حرمني على نفسه بثلاث تطلقات، وأنا أجزت ضمانك هذا في مجلس الضمان هذا، ثم إن زوجي حرمني على نفسه بثلاث تطليقات بتاريخ كذا، وأنا في عدته اليوم، ووجب لي عليك نفقة عدتي الى أن تنقضي عدتي بسبب هذا الضمان المذكور، فواجب عليك الخروج عن عهدة ما لزمك من نفقة عدتي بالأداء إلي، فيقر المدعى عليه بضمان نفقة العدة، وينكر الحرمة، فتجيء المرأة بشهود

يشهدون على أن زوجها فلان حرمها على نفسه بثلاث تطليقات، وأنها في عدة زوجها فلان، فهذا هو وجه الدعوى. صورة المحضر لهذه الدعوى: حضرت وأحضرت، فادعت هذه التي حضرت على هذا الذي أحضرته معها أنه قد كان ضمن لها عن زوجها نفقة عدتها، إن حرمها زوجها على نفسه ثلاث تطليقات، ويكتب دعواها من أولها إلى آخرها، إلى قوله: أحضرت هذه التي حضرت نفراً، وذكرت أنهم شهودها إلى آخره. سجل هذه الدعوى: يكتب فيه دعواها على هذا الذي أحضرته معها إلى قوله فسمعت شهادتهم، وقبلتها لإيجاب العلم قبول مثلها، وحكمت بكون هذه المرأة محرمة على زوجها فلان، وبكونها في عدته اليوم، وقضيت لهذه التي حضرت على هذا الذي أحضرته معها بوجوب عدة نفقتها إلى أن تنقضي عدتها بشهادة هؤلاء الشهود بمحضر من المتخاصمين هذين في وجوههما، ويتم السجل.

سجل التفريق بين الزوجين بسبب العجز عن النفقة صغير تحته صغيرة، وهذا الصغير عاجز عن الإنفاق عليها لما أنه فقير لا يملك شيئاً، فرفع أمر هذه الصغيرة أبوها بنيابة عنها إلى القاضي حتى يستخلف القاضي في هذه الحادثة القاضي الشفعوي الذي يرى التفريق جائزاً بين الزوجين بسبب عجز الزوج عن الإنفاق، فيكتب القاضي إليه في هذه الحادثة كتاباً صورته: بعد التسمية والتحية للقاضي الشفعوي قد رفع إليَّ بنيابة الصغيرة المسماة فلانة بنت فلان بن فلان أبوها هذا أنها امرأة الصغير فلان بن فلان، زوَّجها أبوها فلان بن فلان بولاية الأبوة على صداق كذا بمحضر من الشهود تزويجاً صحيحاً، وصارت هذه الصغيرة امرأة لهذا الصغير بنكاح صحيح، وهذه الصغيرة بعدم لا تملك شيئاً من الدنيا، وإنه ليس بمكتسب ولا محترف، وقد ظهر عجزه عندي عن الإنفاق على هذه الصغيرة بشهادة شهود معدلين قد شهدوا عندي بجميع ذلك، والتمس مني أب هذه الصغيرة مكاتبته أدام الله فضله، فأجبت ملتمسه، وكاتبته يستفضل بالإصغاء إلى هذه الخصومة الواقعة بينهما، وتفصيلها بينهما على ما يؤدي اجتهاده إليه، ويقع رأيه عليه، مستعيناً بالله تعالى طالباً منه التوفيق لإجابة الحق، فهذا هو صورة كتاب القاضي الشفعوي. ثم إذا وصل الكتاب إلى المكتوب إليه يخاصم أب الصغير بين يدي المكتوب إليه أن الصغير على حسب ما هو مذكور في كتاب القاضي الحنفي معدم لا مال له، وأنه لا يقدر على الكسب، وأنه عاجز عن الإنفاق على امرأته هذه الصغيرة، ويطالب من القاضي الشفعوي أن يفرق بين هذين الصغيرين، فيفرق القاضي الشفعوي بينهما، ويكتب السجل. وصورة السجل: يقول فلان بن فلان الشفعوي: قد ورد إليَّ كتاب من القاضي فلان بن فلان المتولي لعمل القضاء ونواحيها في كورة بخارى * أدام الله توفيقه * من قبل الخاقان فلان مشتملاً على ما رفع إليه من الخصومة الواقعة بين فلان بن فلان الفلاني الذي يخاصم لابنته الصغيرة فلانة، وبين فلان بن فلان الفلاني الذي يخاصم من ابنه الصغير فلان، وذلك لأن فلاناً هذا أبا هذه الصغيرة المذكورة رافع إلى هذا القاضي أن ابنته الصغيرة المذكورة امرأة الصغير المسمى فلان بن فلان هذا، امرأته وحلاله بنكاح صحيح، زوجها أبوه هذا منه تزويجاً صحيحاً، وأن فلان بن فلان والد هذا الصغير هذا قبل منه هذا النكاح لابنه الصغير هذا قبولاً صحيحاً في مجلس التزويج هذا، وإن ابنته الصغيرة هذه محتاجة إلى النفقة، وإن زوجها هذا الصغير معدم عاجز عن الإنفاق، ثبت عجزه عند القاضي هذا، وقد سأل أب الصغيرة فلان بن فلان من القاضي هذا أن يكتب إليَّ، ويأذن لي في الاستماع (256أ4) إلى هذه الخصومة، والفصل بينهما على ما يؤدي اجتهادي إليه، ويقع رأيي عليه، وفلان القاضي كتب إلي، وقرأت الكتاب وفهمته، وامتثلت أمره في سماع هذه الخصومة، وعقدت مجلساً لذلك، وقد حضر في مجلسي ذلك والد هذه الصغيرة فلان، وأحضر معه والد هذا الصغير فلان. فادعى هذا الذي حضر لهذه الصغيرة على هذا الذي أحضره معه أن الصغيرة

المسماة فلانة بنت هذا الذي حضر امرأة هذا الصغير الذي هو ابن هذا الذي أحضره معه، وإن الصغير المسمى ابن هذا الذي أحضره معه معدم عاجز عن الإنفاق على ابنته الصغيرة المسماة فيه، وإن هذه الصغيرة محتاجة إلى النفقة، وأقام شهوداً عدولاً على أن الصغير المسمى فلان بن فلان ابن هذا الذي أحضره معدم عاجز عن الإنفاق على هذه الصغيرة، وسأل مني والد هذه الصغيرة التفريق بينها وبين زوجها الصغير هذا، فتأملت في ذلك، ووقع اجتهادي على جواز التفريق بينهما بسب العجز عن النفقة، وفرقت بينهما بعدما صار النكاح بينهما معلوماً، وبعدما كان عجز هذا الصغير عن الإنفاق معلوماً لي تفريقاً صحيحاً، فأمرت بكتب هذا السجل حجة في ذلك. فإن طلب من القاضي الأصل أيضاً هذا السجل، فالقاضي الأصل يأمر بأن يكتب على ظهر ذلك السجل: يقول القاضي فلان إلى آخره، جرى جميع ما تضمنه هذا الذكر من أوله إلى آخره، بتاريخه المذكور فيه من كتبه الكتاب إلى فلان بن فلان متضمناً تفويض سماع هذه الخصومة المذكورة فيه إليه، والاستماع إلى البينة في ذلك، والعمل فيها بما يؤدي إليه اجتهاد المكتوب إليه، ويقع رأيه عليه كان مني، وجعلت المكتوب إليه فلاناً ثابتاً عني في العمل بما يقع عليه رأيه، وأمضيت حكم ما في هذا وأجزته، وأمرت بكتبه هذا الإمضاء في تاريخ كذا. وإن كان الزوجان بالغين، وكان الزوج عاجزاً عن الإنفاق، فالطريق فيه ما ذكرنا في الصغيرين، إلا أن هاهنا إذا وقعت الخصومة بين المرأة وبين زوجها عند القاضي الشفعوي، فادعت المرأة أن زوجها عاجز عن الإنفاق، فإن أقر الزوج بذلك، فالقاضي يفرق بينهما بإقرار الزوج عند طلب المرأة ذلك، وإن لم يكن الزوج مقراً، فالمرأة تقيم البينة على عجزه، ويفرق القاضي بينهما، عند طلب المرأة ذلك، والله أعلم. سجل في التفريق بين المرأة وزوجها في النكاح بلفظة الهبة امرأة كبيرة زوجت نفسها من صغير، كان العقد بلفظة الهبة، وقبل أب الصغير العقد لابنه الصغير، ثم وقع الاتفاق على إبطال هذا النكاح، لا سبيل إلى ذلك بالطلاق ما دام الزوج صغيراً، ولا سبيل إليه بسبب العجز عن النفقة بأن يكون للصغير مال كثير، فيتعين إبطاله بسبب أن النكاح كان بلفظة الهبة، والشافعي لا يرى جواز النكاح بلفظ الهبة، فرفع الأمر إلى القاضي الأصل، ويلتمس منه الكتاب إلى القاضي الشفعوي في ذلك، فيكتب القاضي الحنفي إلى القاضي الشفعوي * أيده الله * القاضي الإمام فلان وأدام سلامته وسعادته، رفعت إلي فلانة بنت فلان أنها وهبت نفسها للصغير المسمى فلان بن فلان، وإنه صغير لا حاجة له إلى المرأة، ومثله لا يحتاج، ولم يدخل بها منذ صارت امرأة له، وإنها تتضرر بالمقام معه إلى وقت البلوغ، وسألت مني مكاتبته * أدام الله توفيقه * فأجبتها، وكاتبت؛ ليتفضل بالإصغاء إلى الخصومة الواقعة بينهما، وتفصيلها بينهما على ما يؤدي إليه اجتهاده، ويقع على رأيه، ولكن بعدما قامت البينة عنده أن النكاح بينهما كان بلفظ الهبة، وهو موفق في ذلك.

ثم إذا ورد هذا الكتاب إلى المكتوب إليه، وأراد المكتوب إليه أن يسمع هذه الخصومة ففي ذلك وجهان: أحدهما: أن تحضر المرأة المخاصمة مجلس هذا القاضي، وتحضر مع نفسها هذا الصغير مع أبيه، وتدعي على أب الصغير بحضرته: أن أب الصغير هذا يطالبني بطاعة الابن الصغير هذا، ويزعم أني امرأة ابنه الصغير هذا، زوجني من هذا الصغير أبي بأمري ورضائي، وهو مبطل في هذه المطالبة لما أن النكاح بيننا كان بلفظة الهبة، فإني قلت لأب الصغير هذا وقت مباشرة هذا الزوج: وهبت نفسي من ابنك الصغير فلان، أو قال: أبي كان قال لوالد الصغير هذا: وهبت ابنتي فلانة برضاها من ابنك الصغير فلان، وقال أب الصغير: قبلت ذلك لابني فلان، والنكاح بلفظ الهبة غير جائز عند بعض السلف، فعليه الكف عن هذه المطالبة، وأب الصغير يقول: أنا محق في هذه المطالبة لما أن النكاح الواقع بين هذه المرأة، وبين ابني الصغير كان بلفظة النكاح، فإن والد هذه المرأة قال لي: زوجت ابنتي فلانة برضاها من ابنك الصغير فلان على صداق كذا، وأنا قبلت ذلك لابني الصغير هذا، فتقيم المرأة شهوداً، حتى يشهدوا عند القاضي على موافقة دعواها، وتلتمس منه القضاء بفساد هذا العقد على مذهبه، فيقضي بذلك، ويكتب بذلك كتاباً حجة لها. فيكتب: ورد إليَّ كتاب من قاضي فلان المتولي بعمل القضاء والأحكام ببخارى ونواحيها من قبل فلان مشتملاً على ما رفع إليه من الخصومة الواقعة بين فلانة بنت فلان، وبين الصغير المسمى فلان بن فلان في النكاح الواقع بلفظة الهبة، وقد أمر لي بالإصغاء إلى هذه الخصومة، وفصلها وسماع البينة فيها، والقضاء فيما وقع فيه برأيي واجتهادي فيها، فامتثلت أمره، وعقدت مجلساً لذلك، فحضرني في مجلسي ذلك فلانة بنت فلان الفلاني، وأحضرت معها زوجها الصغير فلان بن فلان، ومعه أبوها فلان، فادعت هذه التي حضرت على أب هذا الصغير بحضرة هذا الصغير، أن أب هذا الصغير يطالبني بطاعة ابنه الصغير، ويزعم أني زوجة ابنه الصغير هذا، وهو مبطل في هذه الدعوى؛ لأن النكاح الذي كان بيني، وبين هذا الصغير كان بلفظة الهبة، فإني قلت لأب هذا الصغير، وفيه مباشرة عقد النكاح: وهبت نفسي من ابنك الصغير فلان، وقال أب الصغير: قبلت ذلك لابني الصغير هذا. والنكاح بلفظة الهبة غير جائز عند بعض السلف من العلماء والفقهاء، وعليه الكف عن هذه المطالبة، فطالبته بذلك، وسألت مسألته فقال: من مبطل نه لم درين مطالبت محتم كه عقد نكاح بيان اين حاضر كمده وبيان من أن جهة اين صبر خود مرا بلفظ نكاح بودنه بلفظ هبة اين زن حاضر آمده مرا كفت كه من خدمتن به بسرتو فلان بعقد نكاح نيرني دادم، ومز كفتم اين عقد را ازجبت بسرخو درابدر فتم. فأحضرت هذه المرأة نفراً ذكر أنهم شهودها على وفق دعواها بذكر أسمائهم وأنسابهم، فشهد كل واحد منهم بعد الاستشهاد عقيب هذه الدعوى المذكورة، والجواب

عنها بالإنكار على وفق دعوى هذه المدعية بشهادة مستقيمة متفقة الألفاظ والمعاني، وأشار كل واحد منهم في موضع الإشارة بإشاراتٍ صحيحة، فسمعت شهادتهم، وقبلتها لإيجاب العلم قبولها، أو كنت عرفتهم بالعدالة، وجواز الشهادة، وقبول القول، وثبت عندي بشهادة هؤلاء أن العقد الذي جرى بين المرأة التي حضرت، وبين أب هذا الصغير الذي أحضرته كانت بلفظة الهبة، ثم سألتني هذه التي حضرت الحكم بما يقع عليه رأيي واجتهادي (256ب4) فاجتهدت في ذلك وتأملت، ووقع رأيي على بطلان النكاح بلفظة الهبة، عملاً بقول من لا يرى جواز النكاح بلفظة الهبة، فحكمت بفساد هذا العقد الموصوف، وبحضرة هذين المتخاصمين في وجههما حكماً أبرمته، وقضاء نفذته، وكان ذلك بعدما أطلقني القاضي فلان بالحكم في هذه الخصومة بما يقع عليه رأيي واجتهادي، وذلك في يوم كذا، فإن طلبوا من القاضي الأصل إمضاء هذا الحكم، يكتب على ظهر ذلك السجل على حسب ما مر في التفريق بين الزوجين بسبب العجز عن النفقة. الوجه الثاني في ذلك: أن يحضر أب الصغير على هذه المرأة التي أحضرته أنها زوجت نفسها من ابني الصغير منه بلفظ الهبة، فقالت لي: وهبت نفسي من ابنك الصغير فلان، وأنا قبلت ذلك لابني، فصارت هي امرأة ابني الصغير هذا من هذا الوجه، فواجب عليها طاعته، فتنكر المرأة دعواه هذه، وتقول: من زن اين صغر نم وطاعت وي بر من واجب نيست، فيجىء أب الصغير بشهود يشهدون على وفق دعواه هذه، بحضرة هذه المرأة، فإذا شهدوا على موافقة دعواه من جريان النكاح بين هذه المرأة التي أحضرها، وبين أب هذا الصغير لأجل ابنه الصغير هذا، فالقاضي الشفعوي يقبل شهادتهم، ثم تلتمس منه هذه المرأة أن تفصل هذه الخصومة بينهما على ما يقع اجتهاده عليه، فيقضي بفساده بناءً على مذهبه أخذاً بقول من يرى النكاح بلفظة الهبة باطلاً على قول بعض السلف من العلماء والفقهاء.I وإذا أراد هذا القاضي أن يكتب في ذلك سجلاً يكتب: يقول فلان: ورد إلي كتاب من قاضي فلان إلى قوله: وعقدت لذلك مجلساً، ثم يكتب دعوى أب الصغير هذا، وجواب المرأة التي أحضرها أب الصغير مع نفسه بتمامها إلى قوله: فأحضر أب الصغير هذا نفراً ذكر أنهم شهوده، وسألني الاستماع إلى شهادتهم، فأجبت له في ذلك، واستشهدت الشهود، فشهد كل واحد منهم عقيب الآخر بشهادات صحيحة مستقيمة متفقة الألفاظ والمعاني، على وفق ما ادعاه أب الصغير هذا، وأشار كل واحد منهم في موضع الإشارة بإشارات صحيحة، فسمعت شهادتهم وقبلتها، وثبت عندي بشهادة هؤلاء الشهود كون النكاح الذي جرى من أب الصغير هذا لأجل ابنه الصغير هذا، وبين المرأة التي أحضرته هذه بلفظة الهبة، ثم سألتني هذه المرأة المخاصمة الحكم بفساد هذا العقد على مذهبي أخذاً بقول من لا يجوز النكاح بلفظة الهبة، فأجبتها إلى ذلك، وحكمت بفساد هذا النكاح على قول من يرى ذلك فاسداً من علماء السلف، ويتم السجل على نحو ما تقدم.

سجل في فسخ اليمين المضافة رجل حلف بطلاق كل امرأة يتزوجها بأن قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق ثلاثاً، فهذه اليمين منعقدة عندنا حتى لو تزوج امرأة تطلق ثلاثاً، وعند الشافعي: ليست بمنعقدة، حتى لو تزوج امرأة لا تطلق، فإن احتاج هذا الرجل إلى فسخ هذه اليمين، ورفعها، ينبغي أن يتزوج امرأة، أي امرأة شاء، يزوج وليها إن كان لها ولي، ويزوج القاضي إن لم يكن لها ولي، حتى يصح هذا النكاح بالإجماع، ثم ترفع المرأة الأمر إلى القاضي الحنفي، وتلتمس منه كتاباً إلى القاضي الشفعوي، فالقاضي الحنفي يكتب كتاباً إلى القاضي الشفعوي لها بهذه الصورة: أطال الله بقاء الشيخ الإمام إلى آخره، رفعت إلي المسماة فلانة بنت فلان، أن فلاناً تزوجها، وقد كان حلف قبل النكاح بطلاق كل امرأة أتزوجها فهي طالق ثلاثاً، ثم تزوجها بعد هذه اليمين، ووقع عليها ثلاث تطليقات، وصارت محرمة عليه بهذا السبب، وإنه يمسكها حراماً، ولا يقصر يده عنها، والتمست مني مكاتبته في ذلك، فأجبتها إلى ذلك، وكتبت هذا الكتاب إليه ليتفضل بالإصغاء إلى هذه الخصومة الواقعة بينهما على ما وقع اجتهاده، ويقع عليه رأيه، وهو موفق في ذلك من الله تعالى. ثم إذا وصل هذا الكتاب إلى المكتوب إليه تدعي هذه المرأة قبل المكتوب إليه على زوجها بهذه الصورة: إنك تزوجتني بمحضر من الشهود، وقد كنت طلقت قبل تزوجي: إن كل امرأة أتزوجها فهي طالق ثلاثاً، ثم تزوجتني بعد ذلك، ووقع علي ثلاث تطليقات، وحرمت عليك حرمة غليظة بهذا السبب، فواجب عليك قصر يدك عني، وتطالبه بالجواب عن هذا، فيقر الزوج بهذه اليمين، ويقر بتزوجها؛ إلا أنه يقول: إنها حلال لي، ولم يقع عليها طلاق؛ لأن هذه اليمين غير منعقدة، فيقضي المكتوب إليه ببطلان هذه اليمين، وبقيام النكاح بينهما؛ أخذاً بقول (من قال) ببطلان هذه اليمين من قول علماء السلف، ويكتب في ذلك السجل على نحو ما بينا في التفريق بسبب العجز عن النفقة، وفي النكاح بلفظة الهبة. ووجه آخر: أن يدعي الزوج عند المكتوب إليه على هذه المرأة: إني تزوجتها، وإنها خرجت عن طاعتي، والمرأة تقول: طاعته ليست بواجبة عليَّ لما أنه حلف قبل تزوجي، وقال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق ثلاثاً، وقد تزوجني، ووقع عليَّ ثلاث تطليقات، وصرت محرمة عليه حرمة غليظة، فليس عليَّ طاعته، فيقر الزوج بالحلف وبالتزوج، ثم يقضي هذا المكتوب إليه على مذهبه ببطلان اليمين، وبقيام النكاح بينهما، ويأمر المرأة بطاعته، وإن أراد أن يكتب بذلك سجلاً يكتب على نحو ما بينا. محضر في إثبات العنَّة للتفريق المرأة إذا خاصمت زوجها عند القاضي، وتقول: إنه لم يصل إليَّ، والزوج يدعي الوصول إليها، فإن كانت بكراً وقت النكاح، فالقاضي يريها النساء، الواحدة العدل تكفي، والثنتان أحوط، فإن قلن: هي بكر، فالقاضي يؤجله سنة، وإن قلن: هي ثيب،

يحلف الزوج على الوصول إليها، وهذا استحسان، والقياس: أن يكون القول قول المرأة مع اليمين؛ لأنها تنكر الوصول إليها. وجه الاستحسان: أنه إن كانت تدعي الوصول إليها، ولكنه ينكر حق التفريق، فيحلف لذلك، ثم إذا حلف الزوج استحساناً، إن حلف ثبت وصوله فلا يؤجل، وإن نكل صار مقراً بعدم الوصول إليه، فيؤجل سنة. فإن كانت المرأة ثيباً وقت النكاح، فالقاضي لا يريها النساء، ولكن يحلف الزوج على ما ادعى الوصول إليها، فإن حلف ثبت الوصول إليها، وإن نكل صار مقراً بعدم الوصول إليها، فيؤجل سنة، وإن أرادوا كتبه ذكر التأجيل، يكتب: هذا ما أمهل القاضي فلان بن فلان المتولي لعمل القضاء والأحكام بكورة بخارى نافذ القضاء بين أهلها يومئذٍ أمهل فلان بن فلان حين رفعت إليه المسماة فلانة بنت فلان له تزوجها نكاحاً صحيحاً، وإنها وجدته عنيناً لا يصل إليها، وثبت ذلك عند هذا القاضي بما هو (257أ4) طريق الثبوت في هذا الباب، فحكمها ما أوجب الشرع في حق العنين من الإمهال سنة واحدة من وقت الخصومة؛ رجاء وصوله إليها في مدة الإمهال، فأمهل القاضي إياه سنة واحدة بالأيام على ما عليه اختيار أكثر المشايخ من وقت تاريخ هذا الذكر الذي هو يوم الخصومة إمهالاً صحيحاً، وأمر بكتابة هذا الذكر حجة في ذلك في يوم كذا. إذا تمت السنة من وقت التأجيل، وادعى الزوج الوصول إليها في مدة التأجيل، وأنكرت المرأة ذلك، فإن كانت المرأة وقت النكاح بكراً، فالقاضي يريها النساء على مامر، وإن قلن: هي بكر ثبت أنه لم يصل إليها، فيخير القاضي المرأة بين المقام معه وبين الفرقة، وإن قلن: هي ثيب، فالقول قول الزوج مع يمينه، فيحلف الزوج على الوصول إليها على ما مرَّ، فإن حلف فلا خيار لها، وإن نكل، فلها الخيار. وإن كانت المرأة ثيباً وقت النكاح، فالقاضي لا يريها النساء، ولكن يحلف الزوج، فإن حلف فلا خيار لها، وإن نكل فلها الخيار، وإن أرادوا أن يكتبوا لذلك محضراً يكتب: حضرت وأحضرت، فادعت هذه التي حضرت على هذا الذي أحضرت معها أن هذه التي حضرت امرأة هذا الذي أحضرته معها، وحلاله بنكاح صحيح، وإنها وجدته عنيناً لا يصل إليها، وهي بكر على حالها، وإنها رفعت أمرها إلى هذا القاضي، وأمهله القاضي سنة بعدما ثبت عند هذا القاضي أن الأمر كما ادعت بما هو طريق ثبوته، وقد انقضت السنة من وقت التأجيل، وأنا بكر على حالها، وطالبته بذلك، وسألت مسألته عن ذلك، فأجاب وقال: من رسيده أم باين زن درين مدت تأجيل، فبعد هذا المسألة على التفصيل الذي مر ذكره. ثم إذا فعل القاضي ما ذكرنا، وثبت عنده أنها بكر للحال، وإنه لم يصل إليها في مدة التأجيل، فالقاضي يخيرها، فإن اختارت التفريق، فالقاضي يقول للزوج: فارقها، فإن فارقها وإلا فالقاضي يفرق بينهما، وهو كخيار الإدراك عند أبي حنيفة، لا تقع الفرقة بدون قضاء القاضي، وعندهما كخيار المخيرة، لا يحتاج إلى تفريق القاضي، فتقع الفرقة

باختيارها نفسها، ويكتب في السجل بعد جواب الزوج: فأريها النساء فأخبرت عدلان منهن أنها بكر اليوم، وثبت عندي بقولهما أنها بكر، وأنه لم يصل إليها. وإن أخبرت أنها ثيب يكتب: فأخبرن أنها ثيب، والمرأة تنكر الوصول إليها، وإن أخبرن أنها ثيب يكتب: فأخبرن أنها ثيب، والمرأة تنكر الوصول إليها، فحلفت الزوج بالله: لقد وصلت إليها في مدة التأجيل، فنكل، فعرضت اليمين عليها، فنكلت، وصار مقراً أنه لم يصل إليها، فخيرت المرأةفاختارت نفسها، فأمرت الزوج بأن يفارقها، فأبى ذلك، ففرق بينهما بمحضر منهما في وجوههما. وإن كان القاضي الذي كان الإمهال منه مات، أو عزل قبل مضي المدة، فإن أقر الزوج بالإمهال ومضي المدة، فلا حاجة لها في إقامة البينة على الإمهال، ومضي المدة، وإن أنكر الإمهال تحتاج المرأة إلى إقامة البينة على ذلك، ويكتب في المحضر: حضرت وأحضرت، فادعت التي حضرت على هذا الذي أحضرته أنها امرأة هذا الذي أحضرته معها ومنكوحته، وحلاله بنكاح صحيح، وأنها وجدت زوجها هذا عنيناً، وإنها قد رفعت أمرها إلى قاضي فلان نافذ القضاء يومئذٍ، وادعت دعواها هذه على هذا الذي أحضرته قبل القاضي فلان، وإنه أمهله سنة بعدما ثبت عنده صحة دعواي هذه بما هو طريقها، وقد انقضت السنة من وقت التأجيل، وأنا بكر على حالها، وطالبته بذلك، وسألت مسألته عن ذلك، فسئل فأجاب: من عنين مرا اذ ايين تأجيل فلان قاضي نيست أحضرت هذا ذكر أنهم شهودها، وسألتني الاستماع إلى شهادتهم، فأجبتها إلى ذلك، فاستشهدت الشهود، فشهدوا عقيب الدعوى، والجواب بالإنكار واحد منهم بعد الآخر، وهذا لفظ شهادة كل واحد منهم: كواهي ميذهم كه اين زن كه حاضر آمده است دعوى كرد بنزو نك فلان بن فلان برييز شوى كزى كه أنيحا حاضر است كه اين غوي من عينين است وبمن برسيده است واين شوي منكر بود عنت خويش راوما رسدن خويش وأبو قاضي فلان وبرا أمها زكرد ياك سال بيوسته بعد إذ أنك قاضي فلا بندا معلوم كشت كه اين شوى آن زن عنن است وباين زن نرسيده است وازوقت إمهال يك سال تمام بكدشت. ثم ثبت عند القاضي الثاني أنه عنين ولم يصل إليها، وقد مضت السنة من وقت إمهال القاضي الأول، فكتب هذا القاضي الثاني في السجل: فأتوا بالشهادات على وجهها، وساقوها على سببها، وثبت عندي بشهادتهم جميع ما شهدوا من إمهال القاضي فلان زوج هذه التي أحضرت هذا، وحكمت بذلك كله بمحضر من هذين المتخاصمين في وجوههما، فبعد ذلك ادعى الزوج الوصول إليها في المدة، وأنكرت المرأة ذلك، وقالت: أنا بكر، فالقاضي الثاني يصنع ما كان يصنع القاضي الأول على نحو ما بينا. محضر في دفع هذه الدعوى ادعى الذي حضر على هذه التي أحضرت معه في دفع دعواها قبله العنة، ومطالبتها إياه بالتفريق بعد مضي مدة التأجيل أنها مبطلة في المطالبة بالتفريق لما أنها اختارت المقام معه بعد تأجيل القاضي، ورضيت بالعنة التي به بلسانها رضاءً صحيحاً، أو يقول: إنه وصل إليها في مدة التأجيل، وقد أقرت بوصوله إليها.

محضر في دعوى النسب امرأة في يدها صبي تدعي على رجل أن هذا الصبي ابنها من هذا الرجل ولدته على فراشه حال قيام النكاح بينهما، وتطالبه بنفقة الغلام وبكسوته. أو رجل في يديه صبي يدعي على امرأة أن هذا الصبي ابنه منها، ولدته على فراشه حال قيام النكاح بينهما. أو ادعى رجل في يديه صبي أنه ابنه من امرأته هذه، والمرأة تجحد. أو ادعت امرأة في يدها صبي أنه ابنها من زوجها هذا، والزوج ينكر، فهذه الدعاوى كلها صحيحة، ويجب بأن يعلم بأن دعوى الأبوة، أو دعوى البنوة صحيحة سواء كان معه دعوى المال، أو لم يكن، وذلك بأن يدعي رجل على أني أب هذا الرجل، أو يدعي أني ابن هذا الرجل، وذلك الرجل منكر، فهذه الدعوى صحيحة حتى أقام المدعي البينة على ما ادعاه، فالقاضي يسمع دعواه، ويقضي ببينته على المدعى عليه، وكذلك دعوى الأمومية بدون دعوى المال صحيحة، حتى أن امرأة لو ادعت على رجل أني أم هذا الرجل، وأقامت على ذلك بينة، فإن القاضي يسمع بينتها، ويقضي بنسبه من الأم، والأب ينتصب خصماً عن ابنه في إثبات نسبه من الأم، وكذلك الأم تنتصب خصماً عن ابنها الصغير في إثبات نسبه من الأب بيانه في المسائل التي ذكرناها في أول هذا المحضر، وأما انتصابه خصماً فظاهر؛ لأن النسب (257ب4) حق الولد، والأب ينتصب خصماً عن الابن في إثبات حقوقه، فصار إقامة البينة من الأب كإقامة البينة من الابن لو كان بالغاً، ولو كان بالغاً، وأقام البينة عليها أنه ابنها، يثبت نسبه منها كذا هاهنا، وأما انتصاب الأم خصماً عن الابن في إثبات النسب من الأب؛ فلأن النسب محض منفعة في حق الصغير، وفيما بمحض منفعة في حق الصغير، فالأم والأب في ذلك على السواء. ألا ترى أنه كما يصح قبول الهبة من الأب على ابنه الصغير يصح قبولها من الأم على الصغير، وإنما التفاوت بين الأب والأم في حق الحقوق المترددة بين النفع والضرر، فالأم لا تنتصب خصماً عن الابن في ذلك، والأب ينتصب خصماً، وإذا انتصبت الأم خصماً عن الابن في إثباته نسب الابن من الأب، فصارت إقامة الأم البينة على ذلك كإقامة الابن لو كان بالغاً، ولو كان بالغاً، وأقام بينته أنه ابن هذا الرجل أليس أنه يثبت نسبه منه؟ كذا هاهنا. صورة المحضر: فيما إذا كان في يد المرأة ابن صغير تدعي على زوجها أنه ابنها منه: حضرت، وأحضرت، فادعت هذه التي حضرت على هذا الذي أحضرته مع نفسها أن هذا الصبي الذي في حجرها * وأشارت إليه * أنه ابن هذا الذي أحضرته هاهنا ولدته منه على فراشه حال قيام النكاح بينهما، فبعد ذلك إن شاءت ذكرت في الدعوى: وإن على هذا الذي أحضرت نفقة هذا الصبي، وإن شاءت لم تذكر ذلك في الدعوى. صورة المحضر: فيما إذا كان في يد الرجل ابن صغير يدعي على امرأته أنه منها: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذه التي أحضرها أن هذا الصبي الذي في

يديه * وأشار إليه * ابن هذه المرأة التي أحضرها مع نفسه، وأشار إليها * منه ولدته على فراشه حال قيام النكاح بينهما، فبعد ذلك إن شاء ذكر: وإن على هذه التي أحضرها أن ترضعه، وإن شاء لم يذكر. صورة المحضر: في دعوى الرجل البالغ على رجل أنه ابنه: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن هذا الذي حضر ابن هذا الذي أحضره، ولدته أمه فلانة من هذا الذي أحضره معه على فراشه حال قيام النكاح بينهما. صورة المحضر في دعوى رجل على رجل أني أبوه: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن هذا الذي حضر أبوه، وأن هذا الذي أحضره ابن هذا الذي حضر، ولد على فراشه من امرأته فلانة حال قيام النكاح بينهما إلى آخره. وأما دعوى الأخوة والعمومة والخؤولة، وابن الأخ وابن الابن، فلا يصح إلا بدعوى المال بأن كان المدعي زمناً، فيدعي الأخوة على الغير، أو العمومة، ويدعي النفقة لنفسه، وله وجه آخر أن يدعي الوصية الأخوة المدعى عليه من جهة متوفي، صورته: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن فلاناً الميت قد كان أوصى إلى هذا الرجل الذي أحضره مع نفسه بتسوية أموره بعد وفاته، وخلف في تركته في يديه كذا وكذا، وقد كان أوصى لأخوة فلان بن فلان بكذا وكذا، ولفلان بن فلان ثلاث أخوة فلان وفلان وفلان هذا المدعي، وإنه واجب على هذا الذي أحضره معه تسليم حصته من ذلك إليه، وذلك كذا وكذا، ويطالبه بالجواب، فيقر المدعى عليه بالوصاية والوصية، وينكر كونه أخ فلان، وله وجه آخر: أن تدعي المرأة وقوع الطلاق بسبب تعليق الزوج طلاقها بكلام أخ فلان، وهذا أخ فلان، وإنه كلمه. محضر في إثبات العصوبة مجلس القضاء في كورة بخارى قبل القاضي: فلان رجل ذكر أنه يسمى أحمد بن عمر بن عبد الله بن عمر، وأحضر مع نفسه رجلاً ذكر أنه سمي أبو بكر بن محمد بن عمر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن أسعد بن أحمد بن عبد الله بن عمر توفي، وخلف من الورثة زوجة له تسمى سارة بنت فلان، وابنتاً له تسمى سعادة، وابن عم له هذا الذي حضر لما أنه ابن عمر، وأسعد المتوفى كان ابن أحمد، وأحمد والد هذا المتوفى مع عمر والد هذا الذي حضر كانا أخوين لأب أبوهما عبد الله بن عمر توفي، وخلف من التركة في يد هذا الذي أحضره مع نفسه من الدنانير النيسابورية اثني عشر ديناراً، وصار ذلك بموته ميراثاً عنهم لهؤلاء على فرائض الله تعالى، للمرأة الثمن وللابنة النصف، والباقي لابن العم هذا وهذا الذي (أحضره) في علم من ذلك، فواجب عليه تسليم نصيبه من ذلك، وذلك تسعة أسهم من أربعة، وعشرين سهماً، وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك، فسئل، فأجاب بالفارسية: مرا از ميراث خواركي اين مدعي معلوم نيست، أحضر المدعي هذا نفراً ذكر أنهم شهوده، وسألني الاستماع إلى شهادتهم فأجبته إليه، وهم فلان وفلان وفلان، فسمعت شهادة هؤلاء.

سجل هذه الدعوى يقول القاضي فلان إلى قوله: فشهد هؤلاء الشهود عندي بعدما استشهدوا عقيب دعوى المدعي هذا، وإنكار المدّعى عليه هذا شهادة صحيحة متفقة الألفاظ والمعاني، أوجب الحكم سماعها من نسخة قرئت عليهم، وهذا مضمون تلك النسخة: كواهي من دسم كه اين سعد بن أحمد بن عبد الله بن عمر بمر دوازدي ميراث خواريك زن مانر سارة بنت فلان بن فلان ود حتروي سعادت واين مدعي أحمد بن عمر بن عبد الله بن عمر بسر عمر وي بود أزروي بدرير أنك أحمد، وأشار إلى المدعي هذا بسر عمر بود واين سعد متوفى بسر أحمد بود وعمر بدراين مدعى با أحمد بدراين متوفى برادر أن يدري بود ند بدر الشأن عبد الله بن عمر وبحزاز ايشان مرسة ميراث خواره ديل نميد انم وهذا. فأتوا بالشهادة هذه كذلك على وجوهها، ثم يسوق السجل إلى قوله: فسألني هذا المدعي أحمد بن عمر بن عبد الله الحكم له مما ثبت له من ذلك عندي، وكتب ذكر في ذلك، والإشهاد عليه حجة له في ذلك، فأجبت إلى ذلك واستخرت الله تعالى، إلى قوله: وحكمت لهذا المدعي أحمد بن عمر بن عبد الله على هذا المدعى عليه أبي بكر بن محمد بن عمر في وجهه، وبمحضر من هذين المتخاصمين جميعاً في مجلس حكمي بكورة بخارى بثبوت وفاة أسعد بن أحمد بن عبد الله بن عمر، وبتحليفه من الورثة هذا المدعي ابن عم له لأب، وامرأة تسمى سارة بنت فلان، وبنت تسمى سعادة بشهادة هؤلاء الشهود المعدلين حكماً أبرمته إلى آخره. وإذا كان المدعي ابن عم أب الميت، صورة المحضر في ذلك: حضر محمود بن طاهر بن أحمد بن عبد الله بن عمر بن علي، وأحضر مع نفسه رجلاً ذكر أنه يسمى الحسن بن عبد الله بن علي، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره أن عمر بن محمد بن عبد الله بن عمر توفي، وخلف من الورثة ابن عم له هذا الذي حضر؛ لما أن هذا الذي حضر ابن طاهر، وطاهر ابن أحمد، وعمر المتوفى ابن محمد، ومحمد والد المتوفى هذا، وأحمد جد هذا الذي حضر كانا أخوين لأب، أبوهما عبد الله بن عمر لا وارث له لهذا المتوفى سوى هذا الذي حضر، وفي يد هذا الذي أحضره من تركة هذا المتوفى كذا كذا ديناراً من الذهب نيسابورية، وصارت هذه الدنانير المذكورة بموته ميراثاً لهذا الذي حضر، وهذا الذي أحضره في علم من ذلك، فواجب على هذا الذي أحضره أداء جميع ذلك إليه، وطالبه بذلك، وسأل (258أ4) مسألته عن ذلك، فأجاب بالفارسية: مرا از ميراث خواركي اين متوفى علم منست أحضر نفراً ذكر أنهم شهوده. سجل هذه الدعوى على نسق السجل المتقدم وإن كان المدعي ابن ابن ابن عم الميت، فصورة المحضر فيه: حضر محمد بن محمود بن طاهر بن أحمد بن عبد الله بن عمر بن علي، وأحضر مع نفسه رجلاً ذكر أنه يسمى الحسن بن علي بن عبد الله، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن عمر بن محمد بن عبد الله بن عمر بن علي توفي، وخلف من الورثة ابن ابن ابن عم له

هذا الذي حضر لما أن هذا الذي حضر ابن محمود، وعم المتوفى هذا ابن محمد، ومحمد والد هذا المتوفى، وأحمد والد هذا الذي حضر، كانا أخوين لأب أبوهما عبد الله بن عمر بن علي لا وارث له سوى هذا الذي حضر من التركة من الصامت في يد هذا الابن، كذا كذا ديناراً نيسابورية، وصارت هذه الدنانير بموته ميراثاً له، وهذا الذي أحضره معه في علم من ذلك إلى آخره. وسجل هذا المحضر على النسق المتقدم أيضاً، فإن ادعى المدعى عليه في دفع دعوى المدعي في هذه الصورة أنه أقر أولاً أنه من ذوي الأرحام، كان رضاءً لدعوى العصوبة لمكان التناقض. محضر في إثبات الوقفية حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر بحكم الإذن الصادر له من جهة القاضي فلان بإثبات الوقفية المذكورة في هذا المحضر على هذا الذي أحضره معه جميع ما تضمنه صك صدقة أورده مع نفسه، وينسخ الصك إلى آخره، وهذا مضمون الصك، ثم يكتب: فادعى جميع ما تضمنه هذا الصك من إيقاف فلان بن فلان الفلاني هذا هذه الضيعة المذكورة المحدودة في هذا المحضر وقف وصدقة على الوجه المذكور، وفي يد هذا الذي أحضره بغير حق، فواجب على هذا أحضره معه تسليمها إلى هذا الذي حضر؛ ليراعي فيها شرائط الوقف، وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك فسئل.d هذا إذا أتى المدعي بصك الوقف، وإن لم يكن في يد المدعي صك الوقف يكتب: فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن جميع الضيعة التي هي عشر وبرات أرض المتصل بعضها ببعض جميعها في أرض قرية كذا من عمل كذا من قرى كورة بخارى بمحلة كذا من ناحية هذه القرية يدعي كذا، فأحد حدود جميعها لزيق طريق العامة، والطريق بهذه النسبة في هذا الموضع واحد، والثاني والثالث، كذا والرابع لزيق الطريق، والمدخل بحدودها كلها، وحقوقها ومرافقها وقف مرتد حبيس معروف، وقفها وتصدق بها فلان بن فلان الفلاني في حال حياته وصحته، وبعد وفاته من خالص ماله وملكه على أن يستغل بأفضل وجوه الاستغلال، فما يرزق الله تعالى من غلتها بدىء بما فيه عمارتها ومرمتها، والإصلاح لها. ثم يصرف الفاضل من غلتها إلى إصلاح مسجد داخل كورة بخارى في محلة كذا يعرف بمسجد كذا أحد حدود المسجد كذا، والثاني، والثالث، والرابع كذا، ثم يصرف الفاضل منها إلى فقراء المسلمين، وكانت هذه الضيعة المحدودة فيه يوم الإيقاف المذكور فيه ملكاً لهذا الواقف وفي يده، وقد سلم الواقف هذا جميعها إلى ابنه فلان، أو إلى فلان الأجنبي بعدما جعله فيما فيها متولياً لأمرها، وقبل فلان منه هذه القوامة، وهذه الولاية قبولاً صحيحاً، وقبض منه جميع ما بين وقفيتها فيه قبضاً صحيحاً، واليوم جميع ما بين حدودها ووقفيتها فيه وقف على الوجه المذكور فيه، وفي يد هذا الذي أحضره بغير حق، فواجب على هذا الذي (حضر) أحضره معه تسليم جميع هذه الضيعة الموقوفة المحدودة في

هذا المحضر إلى هذا الذي ليراعي فيها شروط الواقف هذا، وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك، فسئل فأجاب بالفارسية: مرا از اين وقفية اين محدود علم نيست وباين مدعى حاضر آمده بسروني نيست، أحضر المدعي إلى آخره. سجل هذه الدعوى وهذا المحضر يقول فلان القاضي، ويذكر دعوى المدعي بكماله، وشهادة شهود المدعي مع الإشارات في مواضعها بتمامها، إلى قوله: وحكمت بجميع ما ثبت عندي من كون هذه الضيعة المحدود فيه وقفاً صحيحاً من جهة فلان على الشرائط المبينة، والسبل المذكورة فيه من خالص ماله، وملكه، وتسليمه إياها إلى فلان، بعدما جعله متولياً بمسألة المدعي هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه، بشهادة هؤلاء الشهود المعدلين، وكونها في يد المدعى عليه هذا بغير حق في مجلس قضائي بين الناس إلى آخره. وإن كان الواقف قد رجع عما وقف بعدما سلم إلى المتولي، فصورة المحضر: أن يكتب أوله على نحو ما بينا، ثم يكتب: فادعى هذا الذي حضر المأذون من جهة القاضي فلان في إثبات الوقفية المذكورة فيه على هذا الذي أحضره معه، وهو الواقف أنه وقف جميع الضيعة التي في موضع كذا، حدودها كذا من خالص ماله وملكه في حال حياته علي بالشرائط المذكورة فيه، وإن هذا الواقف سلم جميع الضيعة المحدودة المذكورة وقفيتها فيه إلى فلان المتولي، وإنه قد بدا لهذا المتصدق الرجوع عن هذه الوقفية على قول من يرى الوقف غير لازم، فأزالها عن يد المتولي، وأعادها إلى سائر أملاكه، فواجب عليه قصر يده عنها، ويسلمها إلى المتولي ليراعي شرائط الوقفية هذه فيها، وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك، فسئل، فأجاب بالفارسية: أين محدود ويست ودودست من وبكسي برد ني ني. سجل هذا المحضر إلى قوله: وحكمت على فلان بن فلان الواقف هذا في وجهه بمسألة هذا المدعي بصحة الوقفية المذكورة فيه، ولزومها، وأبطلت رجوعه عنها، وقصرت يده عنها عملاً بقول من يرى هذه الوقفية لازمة من علماء السلف، وسلمتها إلى متوليها فلان بعد ما ثبت عندي هذا الإيقاف والتصدق المذكور فيه، ويتم السجل. محضر في دعوى الشفعة حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره مع نفسه أن هذا الذي أحضره معه اشترى داراً في كورة كذا في محلة كذا في سكة كذا، أحد حدود هذه الدار، والثاني والثالث والرابع، كذا اشتراها بحدودها وحقوقها، وجميع مرافقها الداخلة فيها، وجميع مرافقها الخارجة منها بكذا درهماً وزن سبعة، وأنه قبض هذه الدار، وصارت في يده، وأن هذا الذي حضر شفيع هذه الدار بالجوار جواراً ملازقةً بدار هي ملكه بجوار هذه الدار المشتراة، أحد حدودها والثاني والثالث والرابع كذا، وإن هذا الذي حضر علم بشراء هذا الذي أحضره معه الدار المشتراة المحدودة في هذا المحضر،

وأنه طلب منفعتها كما علم بشرائها طلب موافقة من غير لبث وتفريط، ثم أبى المشتري، وهو هذا الذي أحضره مع نفسه (258ب4) قد كان أقرب إليه من الدار المشتراة المحدودة في هذا المحضر، وطلبها منه بشفعته فيها، وأشهد على ذلك كله شهوداً، وأنه على طلبه اليوم، وقد أحضر الثمن المذكور فيه، وهذا الذي أحضره معه في علم من كون هذا الذي حضر شفيع هذه الدار المشتراة، ومن طلبه الشفعة حين علم بشراء هذا الذي أحضره معه طلب المواثبة من غير لبث وتقصير، ومن إتيانه المشتري هذا بعد ذلك من غير تأخير، وإشهاده على طلب الشفعة بحضرته، فواجب عليه أخذ الثمن هذا، وتسليم الدار المشتراة المحدودة في هذا المحضر إلى هذا الذي حضر وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك، فسئل. فبعد ذلك الحال لا يخلو إما أن يقر هذا المدعى عليه بشراء الدار التي حدها، وينكر كون الدار التي حدها المدعي هذا ملكاً للمدعي هذا، وفي هذا الوجه يكتب بعد جواب المدعى عليه: أحضر المدعي هذا عدداً من الشهود، وهم فلان وفلان وفلان، وسأل من القاضي الاستماع إلى شهادتهم، فأجابه القاضي إلى ذلك، فشهد كل واحد منهم بعد الاستشهاد عقيب دعوى المدعي هذا، والجواب من المدعى عليه بالإنكار من نسخة قرئت عليهم. ومضمون تلك النسخة: كوا هي ميدهم كه خان كه لفلان موضع است حدها وي كذا وكذا وجنا نكر أين مدعي يا دكردة است در جوار أين خانه كه خديدة شده است ملكه أين مدعي..... بيش إزانك أين مدعى عليه وين خانه..... موضع وحدود وي درين محضر يا دكردة شدة است نحر يرن وبر ملكوي ما ندتا أمروز وأمروز أين خانه ملكه أين مدعي است. فبعد ذلك ينظر إن كان المدعى عليه مقراً بطلب المدعي الشفعة طلب مواثبة، وطلب إشهاد، فلا حاجة للمدعي إلى إقامة البينة على ذلك، وإن كان منكراً لذلك يكتب: ويمين كو إيان نز كوا هي وأوند كه أين مدعي راجون نجر وأوند نجر يدن أين مدعى عليه مر أين خانه را كه مدعي دعوى منفعة وي ميكر وهمان ساعت شفعة أين خانه طلب كود بي تا خر ودرنك وبنز ديكر أين مشتري آيد كه أين مشتري نز ديكتر أو دبري إزيز خانه كه خر ده شدا ست بي تا خر وكواه كروا نيديا دارو ياروي آين فريدة بر طلب كردن خويش شفعة أين خانه كه حدود وي دراين محضر باد كرده شده است وامرو دبرهان طلبت ووي حق ترست بدين خانه كه خريدن وي درين محضر ياد كرده شده است ازين فريده. وإن كان المدعى عليه أنكر شراء هذه الدار المحدودة، وأقر بما سوى ذلك من جوار المدعي، وطلبه الشفعة بالطلبين يحتاج المدعي إلى إثبات الشراء عليه، فيكتب في المحضر: فسأل القاضي فلاناً المدعى عليه عما ادعى عليه فلان المدعي من شرائه الدار

المحدودة في هذا المحضر، وقبضه إياها، فأنكر فلان المدعى عليه الشراء والقبض على ما ادعاه، فأحضر المدعي نفراً، وذكر أنهم شهوده، وهم فلان وفلان وفلان إلى آخره، فشهدوا كل واحد منهم بعد الاستشهاد عقيب دعوى المدعي هذا، والجواب من المدعى عليه هذا بالإنكار: كواهي ميدهم كه فلان بن فلان المدعي هذا الذي أحضره بخريد أنه فلان بن فلان خائزه راكه موضع وحدود وي درين محضر ياد كرده شداه است مهديني بها واين مدعى عليه مراين خانه را قبض كرد وامروز دردست ويست واين مدعى سرا وار ترست بدين خانه بحكم شفعة جوار بخانه كه ملك اين مدعي است درهماً يكي اين خانه كه فريده شده است جنانك دراين محضر ياد كرده شده است. وإن كان المدعي من الابتداء أنكر الطلبين، وأقر بما سوى ذلك، يكتب في المحضر أحضر المدعي نفراً ذكر أنهم شهوده، فشهد كل واحد منهم: كواهي سيدهم كه جون اين مدعي راجون خبر داد ند بخريدن اين مدعي عليه اين خانه راكه درين محضر ياد كرده شده است خريدن وي وي شفعة طلب كرد مراين خانه را طلبت مواثبة بي يسمح درنك وتاجر وبنزديك خريده اين مدعي رفت كه وي نزد يكتر بود بوي بي يسح درنك وتأخير إلى آخره. وإن (كان) المدعي يدعي الشفعة بسبب الشركة في المشتري، يكتب في المحضر: فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن هذا الذي أحضره معه اشترى من ضيعة كذا نصفها، وذلك سهم من سهمين مشاعاً غير مقسوم، وإن هذا الذي حضر شفيعه شفعة شركة أداء النصف الآخر من هذه الضيعة المحدودة، وهو سهم واحد من سهمين مشاعاً ملكه وحقه. سجل هذا المحضر: يقول القاضي فلان إلى قوله: وحكمت على فلان بن فلان المدعى عليه هذا في وجهه بمسألة المدعي هذا بجميع ما ثبت عندي بشهادة هؤلاء الشهود من شراء المدعى عليه هذه الدار المحدودة فيه في يد المدعى عليه هذا يوم الخصومة، ومن كون هذا المدعي شفيعاً لهذه الدار المشتراة بالجوار، جوار ملازقة على النحو المذكور فيه، ومن طلب المدعي هذا حين أخبر بالشراء المذكور فيه الدار المحدودة الطلبين، طلب المواثبة، وطلب الإشهاد، وقضيت للمدعي هذا بالشفعة في الدار المحدودة المذكورة شراؤها فيه بالثمن المذكور فيه المنقود إلى المدعى عليه هذا، وأمرت المدعى عليه بتسليم الدار المحدودة فيه إلى المدعي هذا، وكان ذلك كله مني في مجلس قضائي على ملأ من الناس في وجه المتخاصمين هذين إلى آخره. محضر في دعوى المزارعة يجب أن يعلم أن الخصومة بين المزارع ورب الأرض قد تقع قبل المزارعة، فإن كان قبل المزارعة، فإنما تتوجه الخصومة إذا كان البذر من قبل المزارع، فأما إذا كان قبل رب الأرض، فلا تتوجه الخصومة؛ لأن لرب الأرض أن يمتنع عن المضي على المزارعة في هذه الصورة، ثم إذا كان البذر من قبل المزارع، وأراد إثبات المزارعة، يكتب في

المحضر: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن هذا الذي حضر أخذ من هذا الذي أحضره معه جميع الأراضي التي هي له بقرية كذا من رستاق كذا، وبين حدودها مزارعة ثلاث سنين، أو سنة واحدة على ما يكون الشرط بينهما من لدن تاريخ كذا إلى كذا، على أن يزرعها ببذره، وبقره وأعوانه ما بدا له من غلة الشتاء والصيف، ويسقيها ويتعهدها على أن ما أخرج الله من شيء من ذلك، فهو بينهما نصفان، وإن هذا الذي أحضره معه دفع هذه الأراضي إليه مزارعة بهذا الشرط مزارعة صحيحة مستجمعة شرائط الصحة، ثم إن هذا الذي أحضره يمتنع عن تسليم هذه الأراضي إليه بحق هذه المزارعة، وطالبه بالجواب عن ذلك، وسأل مسألته عن ذلك، فسئل فأجاب. وإن كان للمزارع صك، يكتب: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضر معه جميع ما تضمنه صك أورده هذا نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم (259أ4) وينسخ الصك من أوله إلى آخره، ثم يكتب: ادعى عليه جميع ما تضمنه الصك هذا المحمول نسخته إلى هذا المحضر من الدفع والأخذ مزارعة بالنصف المذكور في الصك، على ما نطق به الصك من أوله إلى آخره بتاريخه، وإن الواجب على هذا الذي أحضره معه تسليم هذه الأراضي بحق هذه المزارعة، وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك. وإن كانت المنازعة بعد الزراعة، فإن كانت الغلة قائمة في الأرض يكتب المحضر على المثال الأول، إلى قوله: مزارعة صحيحة مستجمعة شرائط الصحة، ثم يكتب: وإنه زرعها حنطة مثلاً ببذره وبقره، وأعوانه، واليوم هي قائمة ثابتة فيها، ويذكر أنها سبيل، أو فصل على نحو ما يكون، وإن جميع ذلك بينهما بالشرط المذكور فيه نصفان، وإن هذا الذي أحضره مع نفسه يمنعه عن العمل فيها، والحفظ بغير حق، فواجب عليه قصر يده عن ذلك، وترك التعرض له إلى أن يدرك الزرع، فيقبض هو حصته لنفسه بعد الحصاد، وطالبه بذلك، وسأل مسألته. وإن كان الزرع قد أدرك واستحصد، فالمزارعة تكون في الخارج، ويكتب في المحضر على نحو ما ذكرنا، إلا أن هاهنا لا يكتب وهي قائمة باقية فيها، ولكن يكتب: وإنه زرعها حنطة ببذره وبقره، وقد أدرك الخارج واستحصد، وإنه مشترك بينهما بالشرط المذكور فيه نصفان، وإن هذا الذي أحضره معه يمنعه عن أخذ حصته من ذلك وهو كذا، وطالبه بالجواب عنه، وسأل مسألته عن ذلك فسئل فأجاب. سجل هذه الدعوى: إن كانت المنازعة قبل الزراعة يكتب: يقول القاضي فلان إلى موضع الحكم على نحو ما سبق، ويقول في موضع الحكم: وثبت عندي بشهادة هؤلاء الشهود المعدلين جميع ما شهدوا به من أخذ هذا الذي حضر المحدودة المذكورة فيه من هذا الذي أحضره معه مزارعة صحيحة بالشرائط المذكورة فيه بين هذين المتخاصمين في وجههما بمسألة المدعي هذا حكماً أبرمته، وأمرت المدعى عليه بتسليم هذه الأراضي المذكورة المدعي هذا، ويتم السجل.

وإن كان المنازعة بعدما استحصد الزرع يكتب في موضع الحكم: وحكمت على فلان بن فلان المدعى عليه في وجهه بمسألة المدعي هذا بجميع ما ثبت عندي بشهادة هؤلاء الشهود المعدلين من كذا وكذا إلى آخره، وأمرت المدعى عليه بدفع نصيب هذا المدعى، وذلك النصف جميع ما خرج من الأراضي المذكورة فيه بحكم المزارعة المذكورة فيه، ويتم السجل. وإن كان المزارع امتنع عن العمل قبل الزراعة، والبذر من قبل رب الأرض، واحتاج رب الأرض إلى إثباته، يكتب في المحضر: وإن هذا الذي أحضره معه يمتنع من العمل في الضيعة المذكورة التي ورد عليها عقد المزارعة، وإن كان يدعي عقد المزارعة بعدما استحصد الزرع وخرجت الغلة، فالدعوى تقع في الخارج، فيكتب في المحضر: وإن هذا الذي أحضره معه يمتنع عن تسليم حصة هذا الذي حضر إليه. محضر في إثبات الإجارة رجل آجر أرضه من إنسان مدة معلومة بأجر معلوم؛ ليزرع فيها ما بدا له من الحنطة، أو الشعير أو غير ذلك، ويسلم الأرض إلى المستأجر، ثم إن المؤاجر أحرث مدة على الأرض قبل مضي المدة، واحتاج المستأجر إلى إثبات عقد الإجارة، فإن كان لعقد الإجارة صك كتبه المستأجر لنفسه وقت عقد الاستئجار ليكون حجة له، وأشهد على ذلك، يكتب في المحضر: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضر معه جميع ما تضمنه صك الإجارة هذا نسخته، ويحول صك الإجارة في المحضر من أوله إلى آخره، ثم يكتب بعد الفراغ عن تحويل صك الإجارة: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه جميع ما تضمنه صك الإجارة المحول نسخته إلى هذا المحضر من إجارة هذه الأراضي المبين موضعها وحدودها في هذا الصك المحول إلى هذا المحضر، واستئجارها المدة المضروبة بالأجرة المذكورة فيه، وتسليم هذه الأراضي المعقود عليها، وتسلمها كما نطق بذلك كله هذا الصك المحول نسخته إلى هذا المحضر من أوله إلى آخره بالتاريخ المؤرخ فيه. ثم هذا الأجر الذي أحضره معه أجرة يده على هذه الأراضي المحدودة فيه قبل مضي هذه الإجارة من غير فسخ جرى بينهما بغير حق، فواجب عليه قصر يده عنها، وتسليمها إلى هذا المستأجر لينتفع بها من حيث الزراعة تمام المدة المضروبة فيه، وطالب بذلك، وسأل مسألته عن ذلك فسئل، فأجاب بالفارسية، والله تعالى أعلم. سجل هذه الدعوى: صورة على الرسم الذي تقدم ذكره إلى قوله: وثبت عندي استئجار فلان هذا الذي حضر الأراضي المبين حدودها في هذا الصك المحول إلى هذا المحضر المدة المذكورة فيه بالبدل المذكور في الصك المحول فيه من هذا الذي أحضره معه، وإثبات هذا الذي أحضره معه يده على هذه الأراضي المبينة قبل مضي هذه الإجارة من غير فسخ جرى من أحد هذين المتخاصمين بغير حق، فحكمت بثبوت جميع ذلك من استئجار فلان هذا الذي حضر إلى آخره، يكتب قوله: فحكمت عند قوله: ثبت عندي.

وإن لم يكن لعقد الإجارة صك، يكتب في المحضر: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن هذا الذي أحضره معه آجر من هذا الذي حضر جميع الأراضي التي هي ملك هذا الذي أحضره معه بقرية كذا من رستاق كذا، وبين حدودها، سنة أو سنتين أو ثلاث سنين من لدن تاريخ كذا، إلى كذا بكذا، ليزرع فيها ما بدا له من غلة الشتاء والصيف إجارة صحيحة، وإن هذا الذي حضر استأجر هذه الأراضي المحدودة المذكورة بهذا البدل المذكور بالشرط المذكور فيه إجارة صحيحة إلى آخر ما ذكرنا. وفي الإجارة الطويلة المرسومة ببخارى: إذا وقع التسليم والتسلم، ثم أجرت الآخر يده على المستأجر قبل مضي المدة من غير فسخ جرى بينهما، واحتاج المستأجر إلى إثبات الإجارة، يكتب المحضر على نحو ما ذكرنا، وإذا انفسخت الإجارة الطويلة بفسخ المستأجر في أيام الاختيار بمحضر من المؤاجر، فطلب المستأجر الأجر برد بقية مال الإجارة، والآجر منكر الإجارة، ويحتاج المستأجر إلى إثباتها كيف يكتب في المحضر؟ فإن كان للمشتري صك الإجارة يحول الصك إلى المحضر على ما ذكرنا، ثم بعد الفراغ عن تحويل الصك يكتب: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه جميع ما تضمنه هذا الصك من الإجارة والاستئجار بالشرائط المذكورة فيه، وتعجيل الأجرة، وتعجلها، وتسليم المعقود عليه وتسلمه، وضمان الدرك كما نطق به صك الإجارة المحول نسخته إلى هذا المحضر من أوله إلى آخره. وإن كان هذا المستأجر فسخ هذا العقد (259ب4) المذكور في الصك المحول نسخته إلى هذا المحضر في أيام الاختيار بمحضر من هذا الأجر الذي أحضره مع نفسه فسخاً صحيحاً، وقد ذهب من هذه الأجرة المذكورة فيه كذا بمضي ما مضى من مدة هذه الإجارة إلى وقت فسخ المستأجر هذه الإجارة، فواجب على هذا الآجر إيفاء بقية مال الإجارة المنسوخة إلى هذا الذي حضر، ويتم المحضر. سجل هذا المحضر: الصدر على الرسم إلى قوله: وثبت عندي، وعند ذلك يكتب: وثبت عندي استئجار فلان جميع هذه الأراضي المحدودة في الصك المحول نسخته هذه المدة المذكورة بالبدل المذكور بالشرائط المذكورة في هذا الصك، وتعجيل الأجرة وتعجلها، وتسليم المعقود عليه وتسلمه، وإن المستأجر هذا الذي حضر فسخ هذا العقد في أيام الفسخ بمحضر من هذا الآجر هذا الذي أحضره معه، ووجب على الآجر هذا إيفاء بقية مال الإجارة، وذلك كذا إلى هذا المستأجر، ثم يقول: وحكمت بجميع ما ثبت عندي، عند قوله: ثبت عندي، وإن كانت الإجارة قد انفسخت بموت الآجر يكتب المحضر على ورثة الآجر على المال الذي يكتب على الآجر لو كان حياً، ويزيد فيه، وإن هذه الإجارة قد انفسخت بموت فلان الآجر هذا، وذهبت بمضي المدة الماضية إلى وقت موت الآجر هذا من هذه الأجرة المذكورة في هذا المحضر كذا، وبقي كذا، وصار بقية مال الإجارة ديناً في تركة هذا الآجر المتوفى، ويتم المحضر على نحو ما تقدم. سجل هذا المحضر كما بينا، إلا أنه يزيد بذكر وفاة الآجر هذا، وانتقاض الإجارة

بوفاته، ووجوب رد الباقي من الأجرة المعجلة على الآجر، وذلك كذا على وارث الآجر، هذا الذي حضر. وإن كان المستأجر قد مات، والآجر حي إلا أنه ينكر، واحتاج ورثة المستأجر إلى إثبات الإجارة وفسخها، يكتب المحضر على المثال الذي ذكرنا، غير أنه يزيد فيقول: وانفسخت هذه الإجارة بموت المستأجر فلان، وخلف من الورثة ابناً له هذا الذي حضر، وقد ذهب من هذه الأجرة المذكورة بمضي ما مضى من المدة من وقت عقد هذه الإجارة إلى وقت موت المستأجر كذا، وصارت بقية مال الإجارة المفسوخة ميراثاً من المستأجر المتوفى هذا لوارثه هذا الذي حضر، وهذا الآجر في علم من ذلك، فواجب عليه (ردّ) بقية مال الإجارة المفسوخة إليه، ويتم المحضر. قال رضي الله: ورأيت سجلاً مكتوباً عن جدي القاضي الإمام جمال الدين شمس الإسلام والمسلمين مقتدى الأمة أبي بكر محمد بن أحمد بن عبد الرحمن رحمه الله، بثبوت مال الإجارة المنفسخة بوفاة الآجر ديناً في تركته للمستأجر، صورته ثبت عندي في مجلس قضائي بكورة بخارى مستجمعة شرائط صحة قبولها، ووجوب القضاء بها لأحمد بن دينار، ودينار كان هندياً معتق المهتر، محمد بن أبي الحسن اللباد المعروف بمهتر مهتران أنه كان استأجر من السيد عمر بن غياث بن عبد الرحمن الحسيني النيسابوري، جميع أصل الكرم المحوط المبني بقصره الذي موضعه في أرض قريته سارقون من قرى بخارى، من عمل قرغند دوسر به من نهر مائه حده الأول لزيق أرض هذا الآجر يوم الإجارة والاستئجار، والثاني كذلك، والثالث كذلك، ولزيق أرض لمحمد بن إدريس، والرابع لزيق أرض هذا الآجر يومئذٍ، والمدخل فيه بحدوده كلها، وحقوقه وجميع مرافقه التي هي له من حقوقه بعد عقد معاملة صحيحة جرى بينهما في أشجار هذا الكرم المحدود فيه وزرا جينه وقصباته، بشرائط الصحة كلها.x وكان استأجر أصل هذا الكرم المحدود فيه ثلاثين سنة متوالية، أولها: العشرون من شهر ربيع الأول من شهر سنة اثنتين وخمسمئة، بمئة وخمسين درهماً عطر بغية بخارية سوداء قديمة منتقدة جيدة على أن يكون تسع وعشرون سنة منها من أوائلها بخمسة دراهم غير سدس درهم من الأجرة المسماة فيه، والسنة الأخيرة تتمة هذه الثلاثين سنة ببقية هذه الأجرة المسماة فيها، وإن السيد عمر بن عثمان هذا كان آجره منه هذه المدة المذكورة فيه بهذا البدل المذكور فيه بالشرائط المذكورة فيه استئجاراً صحيحاً، وإجارة صحيحة، وجرى التقابض في البدلين. ثم إن هذا الآجر المسمى فيه توفي قبل مضي سنة واحدة من هذه الإجارة، وانفسخت بقية هذا العقد بوفاته، وصارت هذه الأجرة المقبوضة المسماة فيه ديناً في تركته لهذا المستأجر كلها غير سدس درهم منها، فقد ذهب بعض هذا السدس بمضي ما

مضى من مدة هذه الإجارة إلى وقت وفاة هذا الآجر، وبعضه بإبراء المستأجر إياه عنه، وإن هذا المتوفى خلف من الورثة السيد إبراهيم ابناً له بالغاً، وورثة أخرى له، وقد خلف من التركة من ماله من يد ابنه إبراهيم ما يفي بجميع هذا الدين وزيادة، وحكمت لأحمد بن دينار هذا بمسألته على السيد إبراهيم هذا بمحضر منهما في وجوههما بثبوت جميع ذلك لأحمد بن دينار هذا حكماً أبرمته وقضاءً نفذته، بعد استجماع شرائط الحكم، وجوازه بذلك عندي في مجلس قضائي من الناس بكورة بخارى، وكلفت هذا المحكوم عليه قضاء هذا الدين مما في يده من تركة والده المتوفى المسمى فيه، وتركته وكل ذي حق وحجة، ودفع على حقه وحجة، ودفعه متى أتى به يوماً من الدهر، وأمرت بكتب هذا السجل بمسألة هذا المحكوم له حجته له في ذلك، وأشهدت عليه حضور مجلسي، وذلك كل شيء في اليوم الأول من رجب شهر الله الأصم من شهور سنة ثلاثين وخمسمئة. محضر في إثبات الرجوع في الهبة يكتب في المحضر: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه، أن هذا الذي حضر وهب لهذا الذي أحضره معه كذا هبة صحيحة، وإن هذا الذي أحضره معه قبض ذلك منه في مجلس العقد قبضاً صحيحاً، وإن الموهوب هذا قائم في يدي الذي أحضره معه هذا لم يزدد في يديه، ولم يتغير عن حاله، وإن هذا الذي أحضره لم يعوض هذا الذي حضر عن هبته هذه شيئاً، فرجع هذا الذي حضر في تلك الهبة، وطالب الذي أحضره بتسليمها إليه بحق الرجوع، وسأل مسألته عن ذلك. سجل هذا المحضر: على نحو ما تقدم، ويكتب في موضع الثبوت: وثبت عندي جميع ما شهد به هؤلاء الشهود من هبة فلان هذا الذي (حضر) كذا من فلان هذا الذي أحضره معه هبة صحيحة، ومن قبضه ذلك منه في مجلس العقد قبضاً صحيحاً، ومن رجوع هذا الذي حضر في هبته على ما شهد به الشهود، فحكمت بصحة رجوعه في هبته هذه، وفسخت الهبة، وأعدت الموهوب هذا إلى قديم ملك الواهب هذا، وأمرت الموهوب له هذا برد الموهوب هذا على واهبه هذا، ويتم السجل. محضر في إثبات منع الرجوع في الهبة ادعى هذا الذي حضر في دفع دعوى هذا الذي أحضره معه؛ وذلك لأن هذا الذي أحضره معه ادعى على هذا الذي حضر أولاً أني وهبت منك كذا إلى آخره، ورجعت فيها، فادعى هذا الذي حضر في دفع دعواه هذا أن الموهوب (260أ4) هذا قد ازداد في يديه زيادة متصلة، وإن رجوعه ممتنع، ويتم المحضر. محضر في إثبات الرهن ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن هذا الذي حضر رهن من هذا الذي أحضره معه كذا ثوباً، ويبين صفته بكذا ديناراً رهناً صحيحاً، وإن هذا الذي أحضره معه ارتهن هذا الثوب المذكور منه بهذه الدنانير المذكورة ارتهاناً صحيحاً، وقبضه منه

بتسليمه إليه قبضاً صحيحاً، واليوم هذا الثوب المذكور رهن في يد هذا الذي أحضره معه، وإن هذا الذي حضر قد أحضر هذا المال، فواجب على هذا الذي حضر قبض هذا المال، وتسليم هذا الرهن إليه، وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك. محضر في دعوى شركة العنان صورته: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن هذا الذي حضر اشترك مع هذا الذي أحضره معه شركة عنان في تجارة كذا، على أن رأس مال كل واحد منهما كذا، على أن يتصرفا في مال الشركة كذا، ويتصرف كل واحد منهما برأيه على أن ما حصل من الربح فهو بينهما نصفان، وما كان من (حط) وخسران، فهو عليهما على قدر رأس مال كل واحد منهما، وأحضر كل واحد منهما رأس ماله في مجلس الشركة، وخلطاهما حتى صار المالان مالاً واحداً، وجعلا جميع مال الشركة في يد هذا الذي أحضره معه، وإن تصرف فيه، وربح كذا وكذا، فواجب عليه الخروج من رأس ماله، ومن حصته من الربح، وذلك كذا وكذا، وإن كان على الشركة صك ينسخ الصك على مثال ما تقدم. ثم يكتب في الصك: ادعى عليه جميع ما تضمنه الصك من الشركة في المال المبين قدره فيه بالربح المشروط فيه، وخلط كل واحد منهما رأس ماله برأس مال صاحبه على ما نطق به الصك من أوله إلى آخره بتاريخ كذا، وجعلهما جميع مال الشركة في يد هذا الذي أحضره معه، وإن هذا الذي أحضره ربح كذا وكذا، فواجب عليه رد رأس المال هذا الذي حضر مع حصته من الربح إلى هذا الذي حضر رأس ماله كذا، وحصته من الربح كذا، ويتم المحضر. محضر في دفع هذه الدعوى ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه في دفع دعوى هذا الذي أحضره معه قبل هذا الذي حضر شركة عنان برأس مال كذا، ودعواه قبله رد رأس ماله، وحصته من الربح، ادعى عليه في دفع الدعوى أنه مبطل في هذه الدعوى لما أنه قاسم المال، وسلم إليه رأس ماله، وحصته من الربح، وإنه أخذ جميع ذلك منه بتسليمه جملة ذلك إليه، ويتم المحضر. محضر في إثبات الاستبضاع صورة الاستبضاع: أن يدفع رجل إلى رجل حديداً أو نحاساً ليتصوغ له إناء، أو ما أشبه ذلك، فإن وافق شرطه فليس للصانع أن يمتنع من الدفع، ولا للمستبضع أن يمتنع عن القبول، وإن خالفه كان للمستبضع الخيار، إن شاء ضمنه حديداً مثل حديده، والإناء للصانع، ولا أجر له، وإن شاء أخذ الإناء، وأعطى الصانع أجر مثل عمله لا يجاوزه المسمى، فإن وافق شرطه، وامتنع عن التسليم يكتب في المحضر: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أنه دفع إليه الأجر، وأنه قد صاغ هذا الإناء على موافقة

شرطه، وأنه يمتنع عن تسليم الإناء إليه، وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك، فسئل فأجاب بالفارسية. فإن كان الصانع خالف الشرط، وأراد المستبضع أن يضمنه حديداً مثل حديده يكتب: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أنه دفع إليه كذا مناً من النحاس، صفته كذا ليصوغ إناء له من ذلك صفته كذا بأجر كذا، ودفع إليه الأجر، فصاغه بخلاف ما شرط له، فلم يرضَ، فواجب عليه رد مثل النحاس والأجر المذكور المبين قدرهما وصفتها فيه، وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك، فسئل. محضر في إثبات القود ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن هذا الذي أحضره معه قتل أباه فلان بن فلان الفلاني عمداً بغير حق بسكين حديدي ضربه به وجرحه جرحاً، فهلك ساعتئذٍ، ووجب عليه القصاص في الشرع، وإن لم يكتب: فهلك ساعتئذٍ، وكتب: فلم يزل صاحب فراش حتى مات بذلك يكتفي به، وكذلك لو كتب: فهلك، ولم يكتب فهلك من ذلك الضرب، فذلك يكفي أيضاً، ثم يكتب: وخلف هذا المقتول ابناً لصلبه هذا الذي حضر، لا وارث له سواه، وإن له حق استيفاء القصاص منه، وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك، وكذلك إذا ضربه بالسيف، أو الرمح، وكذلك إذا ضربه بآلة أخرى، أو بالأشفى والإبرة. والحاصل: أنه لا بد لوجوب القصاص من القتل بالحديد سواء كان الحديد سلاحاً، أو لم يكن، وسواء كان له حدة يبضع، أو ليس له حدة كالعمود وسنجة الميزان، هذا على رواية «الأصل» . وذكر الطحاوي عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه إذا قتل بسنجة حديد، أو عمود لا حدة له لا يجب القصاص، وعلى قولهما إن كان الغالب منه الهلاك يجب القصاص، وإن لم يكن الغالب منه القصاص لا يجب، فأبو يوسف ومحمد رحمهما الله على رواية «الأصل» ألحقا الحديد الذي لا حدة له بالسيف، وعلى رواية الطحاوي ألحقاه بالخشب. والجواب في الخشب عندهما في التفصيل إن كان الغالب منه الهلاك يجب القصاص، وما لا فلا. وكذلك إن ترك المقتول أباً وأماً، أو ابنتاً أو امرأة أو أخاً؛ لأن الإرث يجري في القصاص عندنا، ويثبت حق الاستيفاء لكل من كان وارثاً له، فيكتب على نحو ما ذكرنا في الابن، وإن ترك المقتول عدداً من الورثة، فحق إثبات القصاص لكل واحد من آحاد الورثة، وحق الاستيفاء للكل إذا كان الكل بالغين، وإن كان بعضهم صغاراً وبعضهم كباراً، ففي ثبوت حق الاستيفاء للكبير خلاف معروف، وإن كان القاضي ممن لا يرى

ولاية الاستيفاء للكبير يكتب المحضر باسم الكبير، ثم يكتب أسماء جميع الورثة في المحضر عند ذكر قوله: وخلف هذا المقتول من الورثة كذا أولاداً، يذكر الصغار والكبار، ثم يكتب: وإن لهذا الكبير حق استيفاء القضاء، ويتم المحضر. محضر في إثبات الدية يكتب في المحضر: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن هذا الذي أحضره معه قتل أباه خطأ، فإنه كان رمى بسهم ذي نصل من الحديد إلى صيد قد رآه، فأصاب بذلك السهم أباه فجرحه، ومات من ذلك ساعتئذٍ، أو لم يقل: فمات ساعتئذٍ، ولكن قال: فلم يزل صاحب فراش، فذلك يكفي، بل قال: فمات، ثم يكتب: ووجبت دية هذا المقتول على هذا القاتل، وعلى عاقلته، وهي عشرة آلاف درهم فضة، أو ألف دينار أحمر خالص جيد موزون وزن مثاقيل مكة أو مئة من الإبل، فواجب على هذا الذي أحضره معه، وعلى عاقلته أداء هذه الدية إلى هذا الذي حضر، فطالبه بذلك، وسأل مسألته. محضر في إثبات القذف ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن هذا الذي أحضره معه قذف هذا الذي حضر بالزنا، وقال له صريحاً: يا زاني، ووجب (260ب4) عليه حد القذف ثمانون إلى آخره، وإن كان شتمه شتماً يوجب التعزير، يكتب: أن هذا الذي أحضره معه شتمه، ويبين شتماً يوجب التعزير، فقال له: يا كذا، ثم يكتب: ووجب عليه التعزير في الشرع زجراً له عن مثله، وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك. محضر في إثبات الوفاة والوراثة مع المناسخة صورة المناسخة: أن يموت الرجل ويخلف ورثة، ثم يموت أحد ورثته قبل القسمة، ويخلف ورثة، ووجه الكتابة في هذا أن يكتب: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن جميع المنزل المبني، ويذكر صفته وموضعه، وحدوده بتمامه بحدوده وحقوقه كان ملكاً، وحقاً لفلان بن فلان الفلاني والد هذا الذي حضر، وكان في يده، وتحت تصرفه إلى أن توفي وخلف من الورثة امرأة له تسمى فلانة بنت فلان بن فلان، وابنها لصلبه، وهو هذا الذي حضر، وابنتين له لصلبه، إحداهما تسمى فلانة، والأخرى تسمى فلانة، لا وارث له سواهم، وخلف من التركة من ماله هذا المنزل المحدود فيه ميراثاً لهؤلاء المذكورين على فرائض الله تعالى للمرأة الثمن، والباقي بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين. أصل المسألة من ثمانية أسهم، وتصحيحها وقسمتها من اثنين وثلاثين سهماً، للمرأة منها أربعة، وللابن منها أربعة عشر، ولكل بنت منها سبعة. ثم توفيت امرأة المتوفى هذا، وهي فلانة، وخلفت من الورثة ابناً، وابنتين لها، وهم هذا الذي حضر، واختاه هاتان المسماتان فيه لا وارث لها سواهم، وصار حصتها

المذكورة فيه من ذلك، وهي الثمن أربعة أسهم من اثنين وثلاثين سهماً من هذا المنزل المحدود فيه بموتها ميراثاً عنها لأولادها هؤلاء المسمين فيه على فرائض الله تعالى، للابن من ذلك سهمان، ولكل ابنة سهم. ثم توفيت إحدى هاتين البنتين المذكورتين فيه، وهي فلانة هذه قبل قبض حصتها من هاتين التركتين المذكورتين فيه، وذلك ثمانية أسهم من اثنين وثلاثين سهماً من هذا المنزل المحدود، فيه سبعة أسهم من الفريضة الأولى، وسهم واحد من الفريضة الثانية، وخلفت من الورثة بنتها، وهي فلانة بنت فلان، وأخاً لأب وأم هذا الذي حضر، وأختاً لأب وأم، وهي فلانة المذكورة لا وارث لها سواهم، وصار جميع حصتها المذكورتين فيه بموتها ميراثاً عنها لورثتها هؤلاء المسمين فيه على فرائض الله تعالى للابنة النصف، والباقي للأخ والأخت لأب وأم بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين بالعصوبة. أصل الفريضة من سهمين، وقسمتها من ستة أسهم، للابن منها ثلاثة أسهم، وللأخ لأب وأم سهمان، وللأخت لأب وأم سهم، ونصيب هذه المتوفاة من التركتين ثمانية أسهم، وقسمة ثمانية على ستة لا يستقيم، لكن بينهما موافقة بالنصف، فضربا نصف الفرضة الثانية، وذلك ثلاثة في الفريضة الأولى، وذلك اثنان وثلاثون، فيصير ستة وتسعين كان للمتوفاة الثالثة هذه ثمانية أسهم من اثنين وثلاثين صارت مضروبة في ثلاثة، فصار أربعة وعشرين، وهي تستقيم على ورثتها المسمين فيه، لبنتها اثني عشر، ولأخيها هذا الذي حضر ثمانية، ولأختها هذه أربعة، فصار لهذا الذي حضر من التركات الثلاث ستة وخمسون سهماً من ستة وتسعين سهماً من هذا المنزل المحدود فيه، اثنان وأربعون سهماً من التركة الأولى، وستة أسهم من التركة الثانية، وثمانية أسهم من التركة الثالثة، فحاصل حصة الذي حضر من التركات الثلاث بالاختصار سبعة أسهم من اثني عشر سهماً من هذا المنزل المحدود فيه بموافقة بين ستة وخمسين، وبين ستة وتسعين بالثمن، فيعود كل حساب إلى ثمن الأول، فصار ستة وتسعين، اثني عشر سهماً، وهي سهام المنزل المحدود فيه، وستة وخمسون، سبعة أسهم من اثني عشر سهماً من هذا المنزل المحدود فيه، وجميع هذا المنزل المحدود فيه اليوم في يد هذا الذي أحضره معه، وهذا الذي أحضره معه يمنع عن هذا المحضر الذي حضر حصته من هذه التركات الثلاث، وذلك سبعة أسهم من اثني عشر سهماً من هذا المنزل المحدود فيه، أو ستة وخمسون سهماً من ستة وتسعين سهماً من هذا المنزل المحدود فيه بغير حق، وهو في علم من ذلك، فواجب على هذا الذي أحضره معه قصر يده عن حصص هذا الذي من المنزل المحدود فيه، وتسليمها إلى هذا الذي حضر، وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك، فسئل، ويتم المحضر. محضر أخرى بهذه الدعوة في رجل مات وترك امرأة، وثلاثة بنين وابنة، وهذه المرأة أم هذه الأولاد، فقبل قسمة الميراث ماتت هذه المرأة، وتركت هذه الأولاد، صارت حصتها ميراثاً لهذه

الأولاد، فقبل قسمة الميراث توفي أحد هذا البنين بقي أخوان لأب وأم، وأختاً لأب وأم، وصار نصيبه ميراثاً لأخويه. حضر رجل ذكر أنه يسمى محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إسحاق، وأحضر مع نفسه رجلاً ذكر أنه يسمى ناصر بن إبراهيم بن إسماعيل بن إسحاق، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن أباهما إبراهيم بن إسماعيل بن إسحاق توفي، وخلف من الورثة امرأة تسمى سعادة بنت عمر بن عبد الله الفلاني، وثلاث بنين، هذا الذي حضر، وهذا الذي أحضره معه، وآخر يسمى عيسى، وبنتاً له تسمى عائشة لا وارث له سواهما، وخلف من التركة في يد هذا الذي أحضره معه من الصامت كذا، وصار ذلك ميراثاً لورثته هؤلاء المسمين على فرائض الله تعالى، للمرأة الثمن، والباقي بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين. أصل الفريضة من ثمانية، فقبل قسمة الميراث توفيت سعادة أم هؤلاء الأولاد، وصار نصيبها من تركة الميت الأول، وذلك ثمنها من هذا الصامت لهؤلاء الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين، وقبل قسمة التركتين توفي عيسى أخو هذا الذي حضر، وخلف من الورثة أخوين له لأب وأم، هذا الذي حضر، وهذا الذي أحضره معه، وأختاً له لأب وأم هذه، وصار نصيبه من التركتين في هذا الصامت ميراثاً لأخويه ولأخته هؤلاء، وبلغ سهام التركات كلها مئتين وثمانين سهماً، للمرأة من تركة الميت الأول خمسة وثلاثون سهماً، ولكل ابن سبعون، وللبنت خمسة وثلاثون سهماً. ثم إن المسماة سعادة أم هؤلاء الأولاد ماتت قبل قسمة الميراث الأول، وصار نصيبها وذلك خمسة وثلاثون من مئتين وثمانين سهماً ميراثاً بين أولادها هؤلاء، لكل ابن عشرة، وللبنت خمسة، ثم مات عيسى قبل قسمة هاتين التركتين، وصار نصيبه من التركتين، وذلك ثمانون سهماً من مئتين وثمانين سهماً ميراثاً بين أخويه وأخته لكل أخ اثنان وثلاثون، وللأخت ستة عشر، فأصاب هذا الذي حضر من هذا الصامت من تركة الميت الأول سبعون سهماً من مئتين وثمانين سهماً، ومن تركة الميت الثاني عشرة أسهم من خمسة وثلاثين سهماً من مئتين وثمانين سهماً، ومن تركة الميت الثالث اثنان وثلاثون سهماً، من مئتين وثمانين سهماً، فجملة (261أ4) ما أصاب هذا الحاضر من التركات كلها من هذا الصامت مائة واثني عشر سهماً من مئتين، وثمانين سهماً، وذلك بالاختصار خمسا هذا الصامت، لأن بينهما موافقة بجزء من ستة وخمسين، فكانت جملة حصة هذا الذي حضر من التركات كلها قدر خمسي هذا الصامت، وهذا الذي أحضره معه يمنع عن هذا الذي حضر هذا المبلغ الذي أصابه من هذه التركات الثلاث من هذا الصامت المذكور، وذلك قدر خمسها، أو مئة واثني عشر سهماً من مئتين، وثمانين سهماً من هذا الصامت المذكور فيه، وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك، فسئل. محضر في دعوى المنزل ميراثاً عن أبيه قد مر هذا المحضر فيما تقدم، إلا أن فيما تقدم وضع المسألة فيما إذا كان الوارث واحداً،

وهذا المحضر فيما إذا كان الوارث عدداً. صورته: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن جميع الدار التي في محلة كذا في سكة كذا، حدودها كذا بحدودها وحقوقها، أرضها وبنائها، سفلها وعلوها، وكل حق هو لها داخل فيها، وكل حق هو لها خارج منها، كانت ملكاً لوالده فلان بن فلان، وحقه وفي يده، وتحت تصرفه إلى أن توفي، وخلف من الورثة ابناً له هذا المدعي، وورثة أخرى سواه من البنين فلان وفلان، ومن البنات فلانة وفلانة، لا وارث له سواهم، وصارت هذه الدار المحدودة فيه ميراثاً عنه لورثته هؤلاء المسمين على فرائض الله تعالى على كذا سهماً، حصة هذا الذي حضر، كذا كذا سهماً، واليوم كل هذه الدار في يد هذا الذي حضر معه، وإنه يمنع عن هذا الذي حضر وصيته، وذلك كذا كذا سهماً إلى آخره. وإن كان هذا الذي حضر يدعي جميع الدار لنفسه بسبب قسمة جرت بين هؤلاء الورثة بأن ترك المتوفى سوى هذا المنزل من العقار والعروض، والأراضي والنقود، وجرت القسمة بين هؤلاء الورثة في تركة الميت بالتراضي، فوقعت هذه الدار في نصيب هذا الابن يكتب في هذا المحضر: وخلف من التركة هذه الدار المحدودة، وترك مع هذه الدار المحدودة من العقار كذا، ومن العروض كذا، ومن البقر كذا، وقد جرت قسمة صحيحة بين هؤلاء الورثة بالتراضي، فوقعت هذه الدار في نصيب هذا المدعي الذي حضر، وقبض هذا الذي حضر جميع هذه الدار بحكم هذه القسمة، وقبض باقي الورثة أنصباءهم، وحصصهم، واليوم جميع هذه الدار ملك هذا الذي حضر بالسبب الذي ذكر، وإنها في يد هذا الذي حضر بغير حق، وإنه يمنع ذلك منه. سجل هذه الدعوى على نسق ما تقدم، ويكتب في آخره: فسأل فلان المدعي هذا المذكور اسمه ونسبه في هذا السجل مني إنفاذ القضاء بما ثبت عندي على هذا المدعى عليه، فأنفذت القضاء بوفاة فلان، وإنه ترك من الورثة فلاناً وفلاناً، وإن الدار المحدودة كانت مملوكة لوالد هذا المدعي فلان، وكانت في يده، وتحت تصرفه إلى أن توفي وتركها ميراثاً لورثته هؤلاء المسمين فيه، وإن لهذا الذي حضر كذا من كذا سهماً من جملة هذه الدار المحدودة، وإن هذا الذي أحضره معه يمنع حصة هذا الذي حضر المذكور فيه من الدار المحدودة فيه بغير حق، وأمرت هذا المدعى عليه بتسليم حصة هذا الذي حضر من الدار المذكورة المحدودة فيه إليه، وذلك كله في مجلس قضائي. وإن كان المدعي يدعي جميع هذه الدار لنفسه بالسبب الذي تقدم ذكره، يكتب القاضي في آخر السجل: أنفذت القضاء لوفاة فلان، وإنه ترك من الورثة فلاناً وفلاناً، وإنه خلف من التركة الدار المحدودة فيه، وسواها من العقار، والعروض والنقود كذا وكذا، وإنه جرى بين هؤلاء الورثة المسمين فيه قسمة صحيحة في جميع ما ترك هذا المتوفى فلان، وإن هذه الدار المحدودة وقعت في نصيب هذا المدعي الذي حضر إلى آخره.

سجل في إثبات الوصاية: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن أخ هذا الذي حضر فلان بن فلان توفي، وترك من الورثة أباه فلان، وأمه فلانة، ومن البنين فلاناً وفلاناً، ومن البنات فلانة وفلانة، لا وارث له غيرهم، وإنه أوصى إلى هذا الذي حضر في صحة عقله وبدنه، وجواز أمره في جميع تركته، وما يخلفه بعده من قليل وكثير، وإنه قبل هذه الوصاية، وتولى القيام بذلك، وإن لأخيه الميت هذا على هذا الذي أحضره معه كذا درهماً وزن سبعة نقد بلد كذا حالاً، وإن له البينة على ما ادعى، ولم يبد الجواب المدعى عليه؛ لأنه وإن أقر بالوصاية لا تثبت الوصاية على ما اختاره صاحب «الأقضية» ، وهو قول محمد آخراً، حتى لا يبرأ المدعى عليه عن اليمين بالدفع؛ ولأن الجواب إنما يستحق بعد دعوى الخصم، وإنما يعرف كون المدعي خصماً بإثبات الوصاية، فلهذا بدأ بقوله: وإن له البينة على ذلك. ثم يكتب: وأحضر من الشهود جماعة، فشهدوا فلان بن فلان أخو فلان بن فلان هذا الوصي الذي حضر، وقد عرفوه معرفة قديمة باسمه ونسبه، ووجهه: توفي وترك من الورثة أباه فلاناً، وأمه فلانة، ومن البنين فلاناً وفلاناً وفلاناً، ومن البنات فلانة وفلانة، وامرأة اسمها فلانة بنت فلان، ولم يحضروا، لا يعرفون له وارثاً غيرهم، وإن هذا المتوفى أشهدهم في صحة عقله وبدنه، وجواز أمره أنه جعل أخاه هذا الذي حضر من وصيته بعد وفاته في جميع (أملاكه) ، وهو حاضر مجلس الإشهاد، وقبل وصايته، وقد عرف القاضي هؤلاء الشهود بالعدالة، والرضى في الشهادة، فسأل القاضي المدعى عليه هذا الذي أحضره معه عما ادعى عليه هذا الذي حضر لأخيه فلان الموصى من الدراهم الموصوفة فيه، فأقر المدعى عليه هذا أن لفلان بن فلان أخ هذا الذي حضر عليه كذا كذا درهماً، وزن سبعة نقد كذا حاله، فسأل مدعي الوصاية هذا الذي القاضي إنفاذ القضاء بجميع ما ثبت عنده بشهادة هؤلاء الشهود من وفاة أخيه فلان، وعده ورثته، ووصايته إليه وإلزام المدعى عليه هذا ما أقر به عنده لفلان من الدارهم الموصوفة فيه، والقضاء بذلك كله عليه، ويأمره بدفعها إليه، فأنفذ القاضي فلان القضاء بوفاة فلان بن فلان أخ هذا المدعي الذي حضر، وعده ورثته فلان وفلان إلى آخرهم، على ما اجتمع عليه هؤلاء الشهود، ثم أنفذ القضاء بوصاية فلان بن فلان يعني الموصى إلى أخيه هذا الذي حضر في جميع تركته، وقبوله هذه الوصاية بما اجتمع عليه هؤلاء الشهود، وذلك بعد أن انتهت إليه عدالته وأمانته، وإنه موضع لذلك، وإنه أمره أن يقوم في جميع تركة أخيه فلان بن فلان، فقام الموصى فيما يجب في ذلك لله عليه، وألزم القاضي فلان فلاناً المدعى عليه هذا ما أقر به عنده لفلان بن فلان من الدراهم الموصوفة، وقضى بذلك كله عليه، وأمره بدفعها إلي هذا الذي حضر وصي أخيه فلان، وقضى بذلك كله عليه على ما سمى، ووصف في هذا الكتاب بمحضر من فلان، وذلك كله في مجلس قضائي في كورة كذا، وكثير من أهل هذه الضيعة يبدون بجواب المدعى عليه كما هو الرسم في سجلات سائر

الدعاوى والخصومات (261ب4) . نسخة أخرى: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضر أن فلاناً أوصى إليه، وجعله وصياً بعد وفاته في تسوية أمور أولاده الصغار فلان وفلان، وفي إحراز الثلث من جميع التركة بعد وفاته، وصرف ذلك إلى سبيل الخير وأبواب البر أيضاً صحيحاً، وإن هذا الذي حضر قبل منه هذا الإيصاء قبولاً صحيحاً، وإن هذا الإيصاء إليه كان آخر وصية أوصى بها، وتوفي هذا الموصي ثابتاً على هذه الوصاية من غير رجوع عنها، واليوم هذا الذي حضر وصي منه في تسوية أمور أولاد هذا المتوفى الصغار هؤلاء، وفي إحراز الثلث من تركته، وصدقه إلى ما أوصى هذا الموصي على الوجه الذي ادعى هذا المدعي، وأرض مال هذا الموصي على هذا الذي أحضره كذا، أو في يده كذا، فواجب عليه دفع ذلك إليه لينفذ وصاياه في ذلك إذ هو في علم من ذلك، وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك، فسئل، فأجاب. محضر في إثبات بلوغ اليتيم ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن هذا الذي أحضره معه كان وصي أبيه بتسوية أموره بعد وفاته، وحفظ تركته على وارثه، وإنه لم يخلف وارثاً غيره، وإنه بلغ مبلغ الرجال بالاحتلام، أو يقول: بالسن، ويقول: طعن في ثمانية عشرة سنة، أو تسع عشرة سنة، فإن في يده من ماله كذا كذا من تركة أبيه، فواجب عليه تسليم جميع ذلك إليه. محضر في إثبات الإعدام والإفلاس على قول من يرى ذلك ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه في دفع دعواه قبله بوجه المطالبة عليه بكذا كذا درهماً، ولزومه الخروج عنه إليه، فادعى عليه في دعواه هذه أنه مبطل في هذه الدعوى؛ لأنه فقير ليس له مال ولا عرض من العروض يخرج بذلك عن حالة الفقر، والشهود يقولون: لا نعلم له مالاً، ولا عرضاً من العروض يخرج بذلك عن حالة الفقر، وهو اختيار الخصاف، واختيار الفقيه أبي القاسم أنه ينبغي للشهود أن يقولوا: إنه مفلس معدم لا نعلم له مالاً سوى كسوته التي عليه، وثياب ليلة، وقد اختبرنا أمره في السر والعلانية. سجل هذا المحضر: يكتب في موضع الثبوت: وثبت عندي أنه معدم فقير لا يملك شيئاً سوى ثياب بدنه التي عليه، وسقوط مطالبته بما عليه من المال للناس، وحكمت بجميع ما ثبت عندي من كونه معدماً فقيراً لا يملك شيئاً إلى آخره. محضر في إثبات هلال رمضان يكتب المحضر باسم رجل على رجل بمال معلوم مؤجل إلى شهر رمضان، فيكتب: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن لهذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه كذا كذا ديناراً ديناً لازماً، وحقاً واجباً بسبب كذا، وكان مؤجلاً إلى شهر

رمضان هذه السنة، وقد صار هذه الدنانير حالة بدخول شهر رمضان، فإن هذا اليوم غرة شهر رمضان، فيقر المدعى عليه بالمال، وينكر الحلول، وكون هذا اليوم شهر رمضان، فيقيم المدعي البينة على كون هذا اليوم غرة شهر رمضان، والشهود بالخيار إن شاؤوا شهدوا أن هذا اليوم غرة شهر رمضان من غير تغيير، وإن شاؤوا فسروا فقالوا: كواهي سيدهم كه بادي شيئاً ذكاه نيست، ونهم بودزاياه شعبان بوقت نماز شام مه ديديم، وأمروز غرة رمضان اسال است، ولو شهدوا على ذلك من غير دعوى أحد سمعت الشهادة، وقبلت. محضر في إثبات كون المدعى عليها مخدرة لدفع مطالبة المدعي إياها بالخصومة: يكتب في المحضر: حضر فلان وكيل فلان ثابت الوكالة عنها في الدعاوى والخصومات، وإقامة البينة، وأحضر معه فلاناً، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه في دفع هذه الدعوى أنها مخدرة لا تخرج من منزلها في حوائجها، ولا تخالط الرجال، وإنه مبطل في دعواه إحضارها مجلس الحكم، فواجب عليه الكف عن هذه الدعوى. محضر في دعوى المال على الغائب للكتاب الحكمي رجل له على رجل مال، وشهوده على المال في بلده، والمديون غائب عن بلده غيبة سفر، فيلتمس المدعي من قاضي بلده أن يسمع دعواه، وشهادة شهوده ليكتب له إلى قاضي البلد الذي المدعى عليه فيه، فيجيبه القاضي إلى ذلك أخذاً بقول من يرى ذلك لحاجة الناس إليه. صورة كتابة المحضر في ذلك: حضر مجلس الحكم في كورة كذا قبل القاضي فلان رجل ذكر أنه يسمى فلان من غير خصم أحضره، ولا نائب عن خصم أحضره، فادعى هذا الذي حضر أن له على غائب يسمى فلان بن فلان، يذكر اسمه ونسبته ومحلته، ويبالغ في تعريفه بأقصى ما يمكن كذا كذا ديناراً؛ ديناً لازماً، وحقاً واجباً بسبب صحيح، وبين السبب، وهكذا أقر هذا الغائب المسمى المحلي في هذا المحضر في حال جواز إقراره، ونفوذ تصرفاته في الوجوه كلها طائعاً بهذه الدنانير المذكورة فيه، لهذا الذي حضر ديناً لازماً على نفسه، وحقاً واجباً بسبب صحيح إقراراً صحيحاً، وصدقه هذا الذي حضر خطاباً، وإن هذا المقر المسمى المحلى فيه غائب اليوم من هذه البلدة غيبة سفر مقيم ببلدة كذا جاحد دعوى هذا الذي حضر هذا، وإن شهود هذا الذي حضر على وفق دعواه قبله بهذه الناحية، وقد تعذر الجمع بين شهوده، وبين هذا الغائب المسمى المحلى فيه لبعد المسافة، والتمس من القاضي هذا سماع دعواه هذه على هذا الغائب المسمى فيه، وسماع البينة على وفقها للكتاب الحكمي إلى قاضي بلدة كذا ونواحيها إلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم، فأجابه إلى ذلك، فأحضر المدعي نفراً من شهوده،

وهم فلان وفلان، ويكتب أسامي الشهود وأنسابهم، وحليتهم ومساكنهم على حسب ما ذكرنا، فإذا شهدوا بما ادعاه المدعي من أولها إلى آخرها، وأشاروا في موضع الإشارة، وعرفهم القاضي بالعدالة، أو لم يعرفهم، ويعرف عن حالهم، وحضر له عدالتهم بأمر الكتاب الحكمي على هذا المثال. صورة الكتاب الحكمي في هذا: بسم الله الرحمن الرحيم، كتابي هذا أطال الله بقاء القاضي الإمام * يذكر ألقابه دون اسمه ونسبته * إليه وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم، وأدام عزه وعزهم، وسلامته وسلامتهم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على رسوله محمد وآله أجمعين من مجلس قضائي بكورة كذا، وأنا يوم أمرت بكتابته أتولى عمل القضاء بها ونواحيها، وقضائي بها ونواحيها نافذة، وأحكامي فيها بين أهلها جارية من قبل فلان، والحمد لله على نعمائه التي لا تحصى، وآلائه التي لا تستقصى. أما بعد: فقد حضر مجلس قضائي بكورة كذا يوم كذا، وإن شاء كتب: والذي اقتضى تحرير هذه الكتابة إليه، وإليهم أنه حضر مجلس قضائي بكورة كذا يوم كذا من شهر كذا، من سنة كذا رجل ذكر أنه يسمى فلان الفلاني من غير خصم أحضره، ولا نائب عن خصم أحضره مع نفسه، فادعى هذا الذي حضر على غائب ذكر أنه يسمى فلان بن فلان الفلاني، ويكتب الدعوى من أوله إلى آخره. ثم يكتب: والتمس مني سماع دعواه هذه على الغائب المسمى المحلى فيه، وسماع البينة على وفق دعواه للكتاب (262أ4) الحكمي إليه أدام الله عزه، وإلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم أدام الله عزهم، فأجبته إلى ذلك، فأحضر المدعي نفراً ذكر أنهم شهوده، وهم: فلان وفلان وفلان، وشهد كل واحد منهم عقيب الاستشهاد بعد الدعوى هذه، ولا يكتب هاهنا بعد الدعوى والجواب؛ لأن في هذه الصورة لا جواب لكون الخصم غائباً، ثم يكتب من نسخة قرئت عليهم، وهذه مضمون تلك النسخة، ثم بعد الفراغ من كتبة ألفاظ شهادتهم يكتب: فأتوا بالشهادة كذلك على وجهها، وساقوها على سننها، فسمعتها، وأثبتها في المحضر المخلد في ديوان الحكم قبلي، ورجعت في التعرف عن حالهم إلى من إليه رسم التزكية والتعديل بالناحية، وهم: فلان وفلان. فبعد ذلك إن نسب الكل إلى العدالة يكتب: فنسبوا جميعاً إلى العدالة والرضا، وقبول القول، فقبلت شهادتهم لإيجاب العلم قبولها، ثم سألني المدعي هذا الذي حضر بعد هذا كله مكاتبة القاضي فلان، ومكاتبة كل من يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين وحكامهم بما جرى له عندي من ذلك، فأجبته إليه، فكاتبته وإياهم بما جرى عندي من ذلك معلماً ذلك إياه، وإياهم، منهياً ذلك إليه وإليهم حتى إذا وصل كتابي إليه وإليهم مختوماً بخاتمي صحيح الختم على الرسم في مثله، ويثبت له من الوجه الذي يوجب العلم قبله، وقدم في باب مورده ما يحق لله تعالى عليه تقديمه فيه بتوفيق الله تعالى.

ويجب أن يحفظ آخر الكتاب عن إلحاق الاستثناء، وهو كلمة إن شاء الله تعالى؛ لأن ذلك يأتي على جميع ما تقدم عند أبي حنيفة، فيبطل به الكتاب، ويقر القاضي على من يشهد عليه، ويعلمه المضمون، ويشهده أن كتابه إلى قاضي كورة كذا، ورسم هذا الكتاب أن يكتب على ثلاثة أنصاف قرطاس، أو أكثر، أو أقل بقدر ما يحتاج إليه صولة بعضها ببعض، ويعنون الكتاب بعنوانين: أحدهما من الخارج، والآخر من الداخل، فيكتب من الجانب الأيمن من الكتاب: إلى القاضي فلان بن فلان الفلاني قاضي كورة كذا ونواحيها نافذ القضاء والإمضاء بين أهلها، ويعلم على أوصاله من الخارج من الجانبين الوصل صحيح، وعلى داخله من الجانب الأيمن الحكم لله تعالى، ويكتب من الخارج: سوى اسم القاضي الذي كتب منه الكتاب الحكمي في نقل الشهادة بثبوت إقرار فلان بن فلان لفلان بن فلان، بكذا ديناراً، ويكتب أسماء الشهود الذين أشهدوا على الكتاب في آخر الكتاب وأنسابهم، ومساكنهم ومصلاهم، ثم يوقع القاضي على صدر الكتاب بتوقيعه بخطه. ويكتب في آخره يقول فلان بن فلان بن فلان الفلاني: كتب هذا الكتاب عني بأمري وجرى الأمر على ما بين فيه عندي، وهو كله مكتوب على ثلاثة أنصاف قرطاس من الكاغد موصول بوصلين، مكتوب على كل وصل من وصليه من الخارج الوصل صحيح من الجانبين، ومن الداخل مكتوب على كل وصل من الجانب الأيمن: الحكم لله تعالى معنون بعنوانين داخلاً وخارجاً، موقع بتوقيعي، وتوقيعي كذا مختوم بخاتمي، ونقش خاتمي الذي ختمت هذا الكتاب كذا، وأشهدت على مضمون هذا الكتاب الشهود المسمين آخر هذا الكتاب، وسأشهدهم على الختم أيضاً إذا ختمته، وكتبت التوقيع على الصدر، وهذه الأسطر السبعة أو الثمانية أو كذا كما يكون في آخره بخط يدي حامداً لله تعالى، ومصلياً على نبيه محمد وآله، ثم يختم الكتاب على الرسم، ويشهد القاضي أولئك الشهود الذين أشهدهم على الكتاب، وعلى الختم أيضاً. وينبغي للقاضي الكاتب أن يكتب من هذا الكتاب نسخة أخرى تكون مع الشهود يشهدون بما فيه عند الحاجة إلى شهادتهم، ويسمى ذلك بالفارسية كسادنا مه. كتاب حكمي أيضاً: ونقل كتاب حكمي يكتب بعد الصدر والدعاء على نحو ما تقدم: عرض علي فلان * أطال الله بقاء القاضي فلان * كتاباً حكمياً هذه نسخته، وينسخ الكتاب من أوله إلى آخره، وبعد الفراغ من نسخه يكتب: عرض علي هذا الكتاب، وزعم أنه كتاب فلان بن فلان القاضي بكورة كذا، مختوم بختمه، موقع بتوقيعه أشهد على مضمونه وعلى ختمه، وهو قاضي بها إليك، وأشار إلي في معنى نقل شهادة على فلان لفلان بمعنى الذي جاء بالكتاب، وإن المشهود عليه فلان المذكور باسمه ونسبه في هذا الكتاب غائب عن هذه البلدة مقيم بكورة كذا، وطلب مني نقل هذا الكتاب إلى مجلسه، أدام الله تعالى بقاء القاضي فلان، فسألته البينة على ذلك، فأحضر شاهدين، وهما فلان وفلان شهدا بعد الاستشهاد على أثر هذه الدعوى: أن هذا كتاب فلان بن فلان قاضٍ

بكورة كذا، مختوم بختمه موقع بتوقيعه، كتبه إليك، وأشار إليَّ وقالا: وقد أشهدنا على خاتمه، وعلى ما في ضمنه في معنى ثبوت الشهادة لفلان على فلان بكذا، فسمعت شهادتهما، وثبت عندي عدالتهم من جهة من إليه التركة بالناحية، فقبلت الكتاب وفككته، فوجدته معنون الداخل والخارج، موقع الصدر، والآخر، معلم الأوصال ظاهراً، وباطناً، على الرسم في كتب القضاة، فصح عندي، وثبت عندي أنه كتاب فلان القاضي إلى كتبه في معنى كذا حال كونه قاضياً، ثم سألني هذا الذي عرض عليَّ هذا الكتاب نقل ذلك إليه، فأجبته، وأمرت بكتابي هذا، ويتم الكتاب على نسق ما تقدم، وإن كان الكتاب احتيج إلى نقله نقل كتاب آخر، فترتيبه على نحو ما ذكرنا. سجل في ثبوت ملك محدود بكتابي حكمي يكتب: يقول القاضي فلان: حضرني في مجلس قضائي بكورة كذا فلان، وأحضر مع نفسه فلاناً، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن جميع الدار التي في موضع كذا، حدودها كذا، ملك هذا الذي حضر، وحقه في يد هذا الذي أحضره معه بغير حق، فواجب عليه تسليمها إلى هذا الذي حضر، وطالبه بذلك، وسأل مسألته عنه، فسئل فأجاب بالفارسية: اين خانه كه، اين مدعي دعوى مسكند ملك منست وحق منست ودردست من بحقست، فكلفت المدعي هذا إقامة الحجة على دعواه، يعرض علي كتاباً حكمياً هذه نسخته. وينسخ الكتاب الحكمي من أوله إلى آخره، ثم يكتب: فعرض علي هذا الكتاب، وزعم أنه كتاب فلان القاضي بكورة كذا إليك، وأشار إلى الكتاب، وإلى كتبه بثبوت ملكية هذه الدار بحدودها، وحقوقها لي موقع بتوقيعه، مختوم بخاتمه، كتبه وهو يومئذٍ قاضي بكورة كذا، وأشهد على مضمونه وخاتمه شهوداً، فطلب منه البينة، فأحضر نفراً ذكر أنهم شهوده، وهم: فلان وفلان وفلان، وسألني الاستماع إلى شهادتهم، فأجبته إليه، فشهد شهوده هؤلاء أن هذا الكتاب، وأشار إلى الكتاب المحضر مجلس الحكم، كتاب قاضي بلدة كذا، كتبه إليك، وهو يومئذٍ قاضي بلدة كذا بثبوت ملكية هذه الدار المحدودة لهذا المدعي الذي عرض هذا الكتاب، وأشاروا إلى المدعي هذا مختوم بختمه، موقع بتوقيعه، وأشهد على مضمون هذا الكتاب وعلى ختمه، فسمعت شهادتهم، ورجعت في التعرف عن أحوالهم إلى من إليه التزكية والتعديل بالناحية، فنسب اثنان منهم إلى جواز الشهادة وقبول القول، وهما فلان وفلان، فقبلت الكتاب، وفككته بمحضر الخصمين، فوجدته معنون الداخل والخارج موقع الصدر والآخر، معلم الأوصال ظاهراً وباطناً، وقد أثبت أسامي الشهود في آخره (262ب4) كما هو الرسم في كتاب القضاة فقبلته، وثبت عندي كون هذا الكتاب كتاب قاضي كورة كذا كتبه إلي، وهو يومئذٍ قاض بها في ثبوت ملك هذا المحدود لفلان هذا، وكونه في يدي فلان هذا بغير حق، وقد أشهد هؤلاء الشهود على مضمونه وختمه، وصح عندي مورده، وثبت عندي جميع ما تضمنه، فعرضت ذلك على المدعى عليه، وأعلمته بجميع ذلك، ومكنته من إيراد الدفع إن

كان له دفع، فلم يأت بالدفع، ولا أتى بالمخلص، وظهر عندي عجزه عن ذلك، ثم إن هذا المدعي الذي عرض الكتاب سألني الحكم على هذا المدعى عليه بما ثبت عندي له من ذلك، فأجبته إلى ذلك، وحكمت لهذا المدعي على هذا المدعى عليه بملكية هذه الدار المحدودة إلى آخره، والله أعلم. محضر في إقامة البينة للكتاب الحكمي في دعوى المضاربة المذكوة والبضاعة حضر مجلس القضاء في كورة بخارى قبل القاضي فلان بن فلان، ويحليه، من غير خصم أحضره، ولا نائب عن خصم أحضره معه، فادعى هذا الذي حضر على غائب ذكر أنه يسمى فلان، وذكر أن حليته كذا، وذكر أيضاً: أنه دفع إليه تسعين ديناراً أحمر مناصفة بخارية جيدة رائجة، موزونة بوزن سنجات سمرقند مضاربة صحيحة لا فساد فيها؛ ليتجر هو في ذلك ما بدا له من أنواع التجارات حضراً وسفراً، على أن ما يرزق الله تعالى في ذلك من ربح، فهو بينهما أثلاثاً، ثلثاه لرب المال هذا الذي حضر، وثلثه للمضارب هذا المذكور اسمه ونسبه، وما كان من وضيعة أو خسران، فهو على رب المال هذا. وإن المدعى عليه الغائب عن هذا قبض من هذا الذي حضر جميع رأس مال هذه المضاربة الموصوفة فيه قبضاً صحيحاً في مجلس العقد هذا؛ بدفعه إليه ذلك مضاربة، وأقر بقبض ذلك على هذه الشرائط المذكورة فيه من هذا الذي حضر إقراراً صحيحاً صدقه هذا الذي حضر في ذلك خطاباً، ودفع هذا الذي حضر أيضاً إليه عشرين ديناراً من الذهب الأحمر المناصفة البخارية الضربة بوزن سنجات سمرقند بضاعة صحيحة؛ ليورد له في عوض ذلك ما بدى له من المؤدى جانبه التي تكون لائقة لأهل ما وراء النهر من البرطاس والفتك، وإنه قبل منه هذه الدنانير الموصوفة فيه بضاعة على هذا الوجه البين فيه إقراراً صحيحاً صدقه هذا الذي حضر فيه خطاباً، وإنه اليوم غائب من كورة بخارى ونواحيها، مقيم بقصبة أوزجند جاحد لدعواه هاتين قامت بحصة هاتين، وإن له شهوداً على دعوته ههنا إلى آخره. الكتاب الحكمي في إثبات شركة العنان في عمل الحلابين ادعى هذا الذي حضر على غائب ذكر هذا الذي حضر أنه يسمى قراحة سالار بن فلان بن فلان، وإنه يعرف باكدش بحه، وذكر أن حليته كذا، وذكر أنه، يعني هذا الذي حضر، وهذا الغائب المسمى اشتركا شركة عنان في تجارة الحلابين على تقوى الله، وأداء الأمانة، والاجتناب عن الخيانة على أن يكون رأس مال كل واحد منهما في هذه الشركة مئة دينار من الذهب الأحمر البخارية الضرب المناصفة الجيد الرابحة بوزن سنجات سمرقند، فيكون جميع رأس مال هذه الشركة مئتي دينار أحمر بخارية الضرب إلى آخره، على أن يكون جميع رأس مال هذه الشركة في يدي هذا الغائب المسمى فيه يتجران فيه، ويتجر كل واحد منهما بذلك كله حضراً وسفراً بتجارات الحلابين، ويشتريان ويشتري كل واحد منهما بذلك ما يبدو لهما، ولكل واحد منهما من السلع الصالحة

للحلابين، وتجاراتهم المعهودة فيما بينهم ويبيعانه، ويبيع كل واحد منهما ذلك بالنقد والنسبة، ويستبدلان، ويستبدل كل واحد منهما بما يتفق من ذلك أنه سلعته يبدو لهما، وكل واحد منهما من السلع الصالحة للحلابين في تجاراتهم المعهودة فيما بينهم، ويسافران ويسافر كل واحد منهما بمال هذه الشركة كله إلى أي بلد يبدو لهما، أو لكل واحد منهما من بلاد الإسلام والكفر على ما يرزق الله تعالى من الربح في هذه الشركة يكون بينها نصفين، وما يكون من وضيعة أو خسران يكون عليهما نصفين أيضاً، وأحضر كل واحد منهما رأس ماله المذكور في مجلس الشركة هذه وخلطاهما، وجعلاه بعد الخلط في يد الغائب المسمى فيه جعلاً صحيحاً، وأقر هو بحصول جميع مال هذه الشركة المذكور في يده إقراراً صحيحاً صدقه هذا الذي حضر فيه خطاباً وشفاهاً في مجلس الشركة هذه.u وذكر هذا الذي حضر أيضاً أن له على الغائب المسمى فيه مئة دينار حمراء مناصفة بخارية رائجة جيدة بسنجات سمرقند ديناً واجباً، وحقاً لازماً بسبب قرض صحيح أقرضها هذا الذي حضر إياه من مال نفسه إقراضاً صحيحاً، وإنه قبضها من هذا الذي حضر قبضاً صحيحاً، وجعلها رأس ماله المذكور في هذه الشركة، وهكذا أقر هذا الغائب المسمى فيه في حال صحة إقراره، ونفاذ تصرفاته في الوجوه كلها طائعاً بجريان عقد هذه الشركة المذكورة فيه، وبحصول جميع رأس مال هذه الشركة المذكورة في يده، وبإقراض هذا الذي حضر إياه مئة دينار، وقبضها منه على الوجه المذكور فيه، وإن قراحه سالار المحلى المسمى فيه لليوم غائب عن كورة بخارى ونواحيها، مقيم ببلدة كذا، جاحد دعوى هذا الذي حضر قبله بذلك كله إلى آخره. محضر في إثبات كتاب الحكمي حضر مجلس القضاء في كورة بخارى قبل القاضي فلان رجل ذكر أنه يسمى محمد بن عمر ابن عبد الله بن أبي بكر الترمذي، وهو يومئذٍ وكيل عن أخويه لأب وأم، أحدهما يكنى بأبي بكر، والآخر يسمى أحمد، وعن والدتهم المسماة بستي كوهر بنت عمر بن أحمد البزاز الترمذي الثابت الوكالة عنهم في جميع الدعاوى والخصومات وإقامة البينات، والاستماع إليها في الوجوه كلها، وفي طلب حقوقهم قبل الناس أجمعين، وفي قبضها لهم إلا في تعديل من يشهد عليهم، والإقرار عليهم. وفي كتابه كتاب حكمي مكتوب في عنوانه الظاهر: بسم الله الملك الحق المبين إلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم من الموفق بن منصور بن أحمد قاضي ترمذ في نقل إقرار أبي بكر بن طاهر بن محمد المعروف بأولياء الكاغدي بمضمون الأذكار الملصقة بعضها ببعض في آخر كتابي هذا على حسب ما تضمنه كل ذكر منها، وهو مختوم بختمي، ونقش ختمي الموفق بن منصور بن أحمد، وأحضر مع نفسه رجلاً ذكر أنه يكنى بأبي بكر بن طاهر بن محمد الترمذي الكاغدي، وأنه يعرف بأولياء، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه بنفسه بطريق الأصالة، ولموكليه المذكورين

فيه بحكم الوكالة الثابتة له من جهتهم أنه كان للشيخ محمد عبد الله بن أبي بكر الترمذي على هذا الذي أحضره معه مئتي دينار، وأربعين ديناراً ملكته تلجئة بوزن مكية ديناً واجباً، وحقاً لازماً بسبب صحيح، وإن هذا الذي أحضره معه أقر له في حال صحة إقراره طائعاً بجميع هذا المال المذكور فيه، مكتوب إقراره له بذلك في ثلاثة من الأذكار: في أحدها مئة وخمسة وثلاثون ديناراً، وفي الآخر خمسة وثلاثون ديناراً ديناً على نفسه واجباً، وحقاً لازماً بسبب صحيح أقارير صحيحة كان صدقه محمد بن عبد الله هذا في جميع ذلك في حال حياته خطاباً، وكل ذلك محكوم به، مسجل في مجلس القضاء بكورة ترمذ قبل قاضيها الموفق بن منصور بن أحمد (263أ4) حال كونه قاضياً بها نافذ القضاء بين أهلها. ثم إن الشيخ محمد بن عبد الله بن أبي بكر هذا توفي قبل قبضه شيئاً من هذا المال المذكور فيه من هذا الذي أحضره معه، وخلف من الورثة زوجة له، وهي ستي كوهر المذكورة فيه، وثلاثة بنين لصلبه أحدهم هذا الذي حضر، والاثنان منهم الموكلان المذكوران فيه، لا وارث له سواهم، وخلف المال من التركة من مال هذا المذكور فيه ميراثاً عنه لورثته هؤلاء المذكورين فيه على فرائض الله تعالى، للمرأة الثمن، والباقي لبنيه الثلث بينهم بالسوية. أصل الفريضة من ثمانية أسهم، وقسمتها من أربعة وعشرين سهماً، للمرأة ثلاثة أسهم، ولكل ابن سبعة أسهم منها. وهذا المال المذكور فيه لما كان ثابتاً على هذا الذي أحضره معه بإقراره لهذا المذكور فيه حال حياته في مجلس القضاء بكورة ترمذ عند قاضيها هذا المذكور فيه، ومحكوماً به، ومسجلاً، التمس هذا الذي حضر وموكلوه المسمون فيه من قاضي ترمذ هذا المذكور فيه كتاباً في نقل الإقرار بهذا المال المذكور إلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين، فأجابهم إلى ذلك، وأمر بكتابة هذا المكتوب، وأشار إليه في ذلك بعد استجماع شرائط صحة الكتاب الحكمي من أوله إلى آخره بتاريخه المذكور فيه، وأشار إليه، وكان قاضي ترمذ المذكور فيه يوم أمر بكتابة هذا الكتاب، وأشار إليه قاضي ترمذ ونواحيها، فاليوم هو على قضائه بها، وهذا الذي أحضره معه في علم من ذلك كله، فواجب على هذا الذي أحضره معه أداء هذا المال المذكور فيه بالسبب المذكور فيه؛ ليقبض لنفسه بالأصالة، ولموكله بحكم الوكالة المذكورة فيه على السهام المذكورة فيه، وطالبه بذلك، وسأل مسألته عن ذلك، فسئل فأجاب: ما مازين فام وازين نامه خير نيست ومرابدين مدعي خيري دادني نيست به أين سبب كه دعوى مسكندا. أحضر المدعي نفراً ذكر أنهم شهوده، فشهد كل واحد بهذه الألفاظ: كوامي ميدهم كه أين كتاب حكمي، وأشار إليه أن قاضي ترمذ أست الموفق بن منصور بن أحمد أين كه نام ونسب وي برعنو، فظاهر أين نامه مذكور أست، وأشار إلى هذا الكتاب، آن روزكه فررمود نيشتن أيينووأشار إليه قاضي بود بشهر ترمد ونواحي وي وازن روز باز برعمل قضاء ست بترمذ ونواحي وي واين نامه وأشار إليه بمهر ويست ونفس وي الموفق

بن منصور بن أحمد ست ومضمون أين نامه، وأشار إلى الكتاب أينست كه أييين مدعي عليه إقرار كرده أست، وأشار إليه بحال دوابي إقرار خويش بطوع كه بر منست ودركرون منست مدين خواجه محمد بن عبد الله بن أبي بكر راكه نام ونسب وي درين محضر ودرين نامه يادكرده شده أست، وأشار إلى الكتاب دويست دينار وجهل دينار حكمي بلخي سره بوزن مكه دادني أست فامي لازم، وحقي واجب بسبب درست إقراري درست واين مقر له كه أندرين محضر وأندرين نامه يادكرده شدة أست، وأشار إلى المحضر. والكتاب هذا تصديق كرده بودمرين مقر أنددرين إقرار روياروي بازاين خواجه محمد بن عبد الله بن أبي بكر كه نام ونسب وي أندرين محضر وأندرين نامه ياده كرده شده أست، وأشار إلى هذا المحضر والكتاب بمر وبيش أز قبض كردن وي خيري أزين زره كه مبلغ، وصنعت وجنس ووزن وي أندرين محضر، وأندرين نامه يا دكرده شده أست، وأشار إلى هذا المحضر، وإلى هذا الكتاب أزين مدعى عليه، وأشار إليه وازوي ميراث خواره مراودازن مانده أست أين كومركه نام ونسب وي أندرين محضر ودرين نامه يا دكرده شده أست، وأشار إلى المحضر والكتاب وسه بسر حلبي ماندش يكي أزايشان أين مدعي وأشار إليه ودوديكر موكلان أين مدعي كه نام ونسب مردو دراين محضر ودرين نامه يا دكردده شدة أست، وأشار إلى المحضر والكتاب مدين لا نعلم له وارثاً سواهم، ويحكي زره كه أندرين نامه يادكرده شده، وأشار إلى المحضر والكتاب بترك وي ميراث شدة أست ميرين ميراث خواركان ويراكه نام ونسب أيشان أندرين محضر، وأين نامه ياركرده شدة، وأشار إلى هذا المحضر والكتاب أترويي باين تره كه أندرين محضر وأندرين نامه بادكرده شده أست، وأشار إليها، ثم كتب قاضي بخارى أخر هذا المحضر: جرى الحكم مني بثبوت ما شهد به هذان الشاهدان. كتاب حكمي آخر: حضر مجلس القضاء في كورة بخارى الشيخ الإمام عفيف الدين عبد الغني بن إبراهيم بن ناصر الحجاج الهروي، والشيخ الحجاج محمود بن أحمد الصفار القزويني، وهو يومئذ وكيل المسماة قرة العين بنت أبي نعيم بن ناصر القزوينية الثابت الوكالة عنها في الدعاوى والخصومات، وإقامة البينات والاستماع إليها في الوجوه كلها، إلا في الإقرار عليها، وتعديل من يشهد عليها، والمأذون له من جهتها في توكيل من أحب من يجب هذه بمثل ما وكله به وأحضرا معها السالار أحمد بن الحسين بن الحسن الحجاج الحلاب. وادعى الشيخ الإمام عبد الغني هذا الذي حضر لنفسه بالأصالة، وادعى الشيخ محمود هذا الذي حضر لموكلته هذه بحكم الوكالة على هذا الذي أحضره معه أن عمر بن أبي نعيم بن ناصر الحجاج القزويني توفي، وخلف من الورثة ابنة له لصلبه تسمى فرخندة، وأخاً له لأب وأم، وهو الشيخ الإمام عبد الغني هذا، وأختاً له لأب وأم، وهي موكلة محمود هذا الذي حضر هذه، لا وارث له سواهم، وخلف من تركته في يدي هذا الذي أحضراه معهما عشرة أعداد جلدقندر مدبوغ قيمة كل جلد منها أربعة دنانير نيسابورية

يوزنه الضرب جيدة رائجة حمراء مناصفة بوزن مثاقيل مكة، وصار جميع ذلك بموته ميراثاً عنه لورثته هؤلاء المسمين فيه على فرائض الله تعالى، للبنت النصف، والباقي للأخ، والأخت لأم وأب. أصل الفريضة من اثنين، وقسمتها من ستة أسهم للبنت منها ثلاثة أسهم، وللأخ منها سهمان، وللأخت منها سهم واحد، وإن هذين اللذين حضرا أقاما البينة العادلة في مجلس القضاء بكورة قزوين قبل القاضي عمر بن عبد الحميد بن عبد العزيز خليفة والده الشيخ القاضي الإمام أبي عبد الله عبد الحميد بن عبد العزيز قاضي كورة قزوين ونواحيها نافذ القضاء والإمضاء والإنابة فيه، وفي مجلس القضاء بكورة ري قبل القاضي محمد بن الحسن بن محمد الأسترابادي قاضي كورة ري ونواحيها، نافذ القضاء والإمضاء والإنابة فيها، أدام الله توفيقه بجميع ما كتب في الكتاب الحكمي الذي أورده من قاضي كورة قزوين من وفاة عمر بن أبي نعيم بن ناصر الحجاج القزويني هذا، وتخليفه من الورثة ابنة له لصلبه، وأخاً وأختاً له لأب وأم، هؤلاء المسمون فيه، لا وارث له سواهم للكتاب الحكمي إلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم، وهما هذان الكتابان اللذان أورداهما هذان اللذان حضرا، المشار إليهما، وأمر كل واحد منهما بكتاب حكمي. وكان إقامة البينة من هذين اللذين حضرا في مجلس قضاء كورة قزوين عند قاضيها هذا الكتاب الحكمي، وفي مجلس قضاء كورة ري عند قاضيها هذا الكتاب الحكمي بعد ما أثبت محمود هذا الذي حضر وكالته عن (263ب4) موكلته هذه بكورة قزوين قبل قاضيها هذا بجميع ما جرى لهذين اللذين حضرا قبله إلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين وحكامهم، وإن كل واحد من هذين النائبين المذكورين فيه كان نائباً في الحكم والقضاء بكورته يوم أمر بكتابة هذا الكتاب إلى كل من يصل إليه من قضاة المسلمين، وحكامهم من جهة المنوب عنه المذكور فيه حال كون المنوب عنه المذكور فيه قاضياً في كورته هذه المذكورة فيه نافذ القضاء والإمضاء والإنابة بها. واليوم كل واحد منهما نائب في الحكم والقضاء في كورته كما كان من هذا المنوب عنه من لدن أمره بكتابة هذا الكتاب إلى هذا اليوم، وهذا الذي أحضر معه في علم من هذين الكتابين المشار إليها، فواجب عليه تسليم حصة الشيخ الإمام عبد الغني هذا الذي حضر من ذلك لقبضه لنفسه، وذلك سهمان من ستة أسهم، وتسليم نصيب موكله محمود هذا الذي حضر من ذلك، وذلك سهم واحد من ستة أسهم من ذلك ليقبضه لها بتوكيلها، وطالباه بذلك، وسألا مسألته عن ذلك، فسئل فأجاب وقال: مراد زين وقاة أين نام بردة واذ وارث أين مدعيان وا زين نامها حكى علم نيست وناين مدعيان بسيح وا دنى نيست باين سبب كه دعوى بيكتند أين اندازه كه دعوى بيكتند. أحضر هذان اللذان حضرا نفراً ذكر أنهم شهودهما، وهم فلان يكتب أسامي الشهود على هذا الوجه الشاهد الأصل الشيخ محمود بن إبراهيم بن فلان المعروف بالشرواني، ويكتب تحت الاسم الفرع عنه الشيخ أحمد بن إسماعيل بن أبي سعيد

المعروف بمعاري سالار، والشيخ الفائق محمد بن أحمد بن عبد الله الصائغ السجزي ساكن سكة على الرومي بناحية مسجد فلان. ثم كتب: والأصل الآخر الشيخ أبو الحسن بن أحمد الحسن القزويني التاجر، وكتب تحت اسم هذا الأصل الثاني الفرع عنه الفرعان اللذان يشهدان على شهادة الأصل الأول، والشيخ محمد بن أحمد بن محمد الكتاني، ثم كتب الكاتب تحت أسامي الفروع الثاني وأنسابهم، والأصل الثالث الشيخ أحمد بن محمد بن محمد الحجاج الإسكاف المعروف بأحمد خوب، ولم يكن لهذا الأصل فرعان؛ لأنه شهد بنفسه، وكان قاضي بخارى كتب في آخر هذا المحضر بعد ما شهد الشهود من نسخة قرئت عليهم، حكمت بثبوت الكتابين الحكمين بشهادة هؤلاء الفروع على شهادة هذين الأصلين المسمين بتاريخ كذا، وأما لفظة الشهادة على الشهادة التي قرئت على الشهود هذا: كوا هي سيدهم كه كواهي داد نيس من محمود بن إبراهيم بن شرواني، وأبو الحسن بن أحمد بن الحسن القزويني، وحين كفتند ميريل إذا يشان كه كواهي سيدهم كه أين مرد وناينة، وأشار إلى الكتابين، يكي إذين در نابه، وأشار إلى أحد الكتابين بعينه، نابه نائب قاضي شهر قزوين إست أين كه مروي ونسب ونام ويست منوب عنه وي ولقب وي أندرين محضر ياد كردة إست، وأشار إلى المحضر هذا وأين نامه ديكر، وأشار إلى الكتاب الآخر نامه قاضي دي إست كه نام ونسب منوب عنه وي ولقب وي أندرين محضر يا دكردة شده إست، وأشار إلى المحضر هذا وأين مرد ومهر، وأشار إلى الحتمين ومرد ونامه، وأشار إلى الكتابين أين يكي مهر نائب قاضي قزوينيست أين كه نام ونسب وي أندرين محضر يا دكردة إست، وأشار إلى الختم والمحضر ومضمون أين مرد ونامه، وأشار إلى الكتابين، إينست كه أندرين محضر يا دكردة إست، وأشار إلى المحضر وآن دوز كه مر يكي إزا سان مرد وين نفر موند نيشتن أين نامه، وأشار إلى الكتابين نائب بود ندا نرد شهز خويش أندر عمل قضاء أزين منوب عنه خود كه نام ونسب وي أندرين محضر يا دكردة إست، وأشار إلى المحضر وأين منوب عنه وي نيرهم قاضي يو داندر شهر خويش نافذ القضاء والإمضاء والإنابة وأمر وذ مر يكي يشان بمحنين نائب إست أندر شهر خويش أندر عمل إقضاء أزهمين منوب عنه خو دازان روز كه يفر مودند نيشتن أين نامه، وأشار إلى الكتاب تا أمر ود ومر أكوده كر دانيدبر كواهي خودبر من همه ويفر مودند مراتا كواهي دهم بر كواهي وي برين همه واكنون كواهي ميدهم بر كواهي وي بر من همه أزلور تا أخر. والصحيح أن البداية بقوله: كواهي سيدهم لا حاجة إليه؛ لأن شهادته على هذه الجمله في آخره كما ذكرنا، وهذا تكرار محض، ثم يقول: واين مردو كواه أصل كه مرا بركوا هي خودبرين همه كواه كردايند ندا مروزاز شهر بخارى ونواحي وي غائب اند غيبت سفر وعدل اند، والله أعلم.

كتاب حكمي على قضاء الكاتب بشيء قد حكمه به وسجله

كتاب حكمي على قضاء الكاتب بشيء قد حكمه به وسجله يكتب بعد الصدر والدعاء: حضر في يوم كذا رجل ذكر أنه يسمى فلان، وينسبه ويحليه، وأحضر معه رجلاً ذكر أنه يسمى فلان كذا، وينسبه ويحليه، ويذكر دعوى الذي حضر، وحكمه على هذا الذي أحضر، وينسخ السجل من أوله إلى آخره بتاريخه، ثم يكتب: ثم إن هذا المدعي حضرني بعد ذلك، وادعى أن المحكوم عليه فلان غائب عن هذه البلدة مقيم ببلدة كذا، وإنه جاحد ملكية المدعى به والحكم، وسألني مكاتبته، أدام الله علوه بذلك، والإشهاد عليه، ويتم السجل. نسخة أخرى لهذا الكتاب: إن نسخ السجل في آخر الكتاب، فيكتب: نسخت * أطال الله بقاء القاضي الإمام فلان * آخر كتابي هذا سجلاً أعلمته لفلان في ورود استحقاق كذا عليه لفلان، وإخراجه من يده، وتسليمه إلى المستحق المذكور فيه، وذكر هذا المحكوم عليه، وأنه اشترى ذلك من فلان المقيم بتلك الناحية، وسألني إعلام القاضي فلان، أيده الله، والكتاب إليه، ويتم الكتاب. نسخة أخرى: يكتب بعد الدعاء والصدر: طويت كتابي هذا على سجل بدلته لفلان حكمت فيه له على فلان بكذا بشهادة شهود عدول، شهدوا له عندي في مجلس قضائي، على ما ينطق به السجل المطوي عليه الكتاب بعدما ثبت فيه قضائي، ومضى به حكمي فسئلت مكاتبته أدام الله عزه بذلك، والإشهاد عليه، فأجبت إلى المسؤول، والله أعلم. كتاب حكمي في دعوى العقار إذا وقع الدعوى في العقار، وطلب المدعي من القاضي أن يكتب له بذلك كتاباً، فهذا على وجهين: الأول: أن يكون العقار في بلد المدعي، ويكون المدعى عليه في بلد آخر، وفي هذا الوجه القاضي يكتب له، وإذا وصل الكتاب إلى المكتوب إليه كان المكتوب إليه بالخيار، إن شاء بعث المدعى عليه ووكيله مع المدعي إلى القاضي الكاتب حتى يقضي له عليه، ويسلم العقار إليه، وإن شاء حكم به لوجود الحجة، وسجل له، وكتب له قصته لتكون في يده، وأشهد على ذلك، ولكن لا يسلم العقار إليه؛ لأن العقار ليس في ولايته، فلا يقدر على التسليم، إلا أن العجز عن التسليم يمنع التسليم، أما لا يمنع الحكم، فلهذا يحكم بالعقار للمدعي، ولكن لا يسلمه إليه. ثم إذا ورد المدعي قضية القاضي المكتوب إليه إلى القاضي الكاتب، وأقام بينة على قضائه، فالقاضي الكاتب لا يقبل هذه البينة؛ لأنه يحتاج إلى تنفيذ ذلك القضاء، وتنفيذ القضاء بمنزلة القضاء، فلا يجوز على الغائب، وكذلك لا يسلم الدار إليه؛ لأن تسليم الدار قضاءٌ منه، فلا يجوز على الغائب، ولكن ينبغي للمكتوب إليه أولاً أنه إذا قضى للمدعي، وسجل له بأمر المدعى عليه أن يبعثه مع المدعي أميناً له ليسلم الدار إلى المدعي، فإن أبى ذلك كتب المكتوب إليه إلى الكاتب كتاباً، ويحكي له فيه كتابه الذي

كتاب إلى بعض الحكام

وصل إليه، ويخبره بجميع ما جرى بين المدعى عليه، وبين المدعي بحضرة المدعي، وبحكمه على المدعى عليه بالعقار للمدعي، فيأمره المدعى عليه أن يبعث مع المدعي أجراً ليسلم العقار إلى المدعي، وامتناعه عن ذلك، ثم يكتب: وذلك قبلك، وسألني المدعي الكتاب إليك، وإعلامك بحكمي على فلان بذلك ليسلم إليه هذا العقار، فاعمل في ذلك يرحمك الله وإيانا بما يحق لله عليك، وسلم العقار المحدود في الكتاب (264أ4) هذا إلى المدعي فلان بن فلان يوصل كتابي هذا إليك، فإذا وصل هذا الكتاب إلى القاضي الكاتب. وتجمع غلاتها وتصرفها إلى مصارفها ونصوبها عن الإضاعة، فكاتبته في ذلك ليختار قيماً ذا عفاف وأمانة، وكفاية في الأمور، وصلاح وديانة، ويكتب بالجواب على ظهر كتابي هذا شرحاً لأقف عليه، وأقلد من يختاره القوام بعون الله تعالى. جواب المكتوب إليه: قد وصل إلي كتاب الشيخ القاضي الإمام * يديم الله أيامه * قرأته وفهمت مضمونه، وامتثلت ما أمرني به من اختيار القيم للأوقاف المنسوبة إلى مسجد قريتنا، فوقع اختياري، واختيار المشايخ من قرى للقيام بتسوية أمور الأوقاف إلى قريتنا على فلان بن فلان لما عرفنا من صلاحه وصيانته وعفافه، وديانته وكفايته في الأمور، وكونه مقيماً في هذه القرية، فليتفضل بتقليده، والإطلاق له الده يارده مما يحصل من ارتفاعات هذه الأوقاف؛ ليكون له معونة على القيام في ذلك، وهو مشكور مثاب من الله تعالى. تقليد الوصاية: يقول القاضي فلان: قد رفع إلي أن فلاناً توفي، وترك ابناً صغيراً، ولم يجعل أحداً وصياً في تسوية أمور هذا الصغير من وصي يقوم في تسوية أموره، وإنه عم فلان، وإنه من أهل الصلاح والأمانة والديانة، وله كفاية وهداية في الأمور، فتفحصت عن حال عم هذا الصغير هذا المذكور، فأخبرني جماعة، وهم فلان وفلان وفلان أنه معروف بالصلاح والديانة والأمانة، مشهور بالكفاية والهداية، فجعلته قيماً في أسباب هذا الصغير المذكور فيه ليقوم بحفظ أسبابه، وسائر أمواله وتعاهدها، وصيانتها عن الإضاعة، واستغلال ما هو صالح للاستغلال من أسبابه، وقبض ارتفاعات أسبابه وحفظها، وصرفها إلى وجوه تصارفها، وإلى ما لا بد له من المطعوم والملبوس والمشروب بالمعروف من غير تقتير ولا إسراف، وأوصيته في ذلك بتقوى الله تعالى، وأداء الأمانة في السر والعلانية، والتحرز عن الغدر والخيانة، وأطلقت له الده يازده مما يحصل في يده من ارتفاعات أسبابه ليكون له معونة في هذا الأمر، ونهيته عن بيع شيء من محدوداته من غير استطلاع، وإني قلدته في ذلك كله، فتقلد بشرط الوقاية، وأمرته بكتابة هذا الذكر حجة في ذلك، وأشهدت عليه من حضر من الثقات، وكان ذلك في تاريخ كذا. كتاب إلى بعض الحكام أطال الله تعالى بقاء الشيخ الفقيه الحاكم إلى آخره قد رفع إلي أن فلاناً من قيمة

كتاب حكمي في عبد الآبق على قول من يرى ذلك

كذا توفي ثم، وخلف من الورثة ابناً صغيراً اسمه فلان، وابنة كبيرة اسمها فلانة، وترك أموالاً كثيرة، وهذه البنت استولت على جميع مال هذا المتوفى وسلفها، فلا بد من إقرار حصة الصغير، وانتزاعها من يد هذه الكبيرة، وكاتبته في ذلك لينسخ جميع التركة من المحدودات، والمنقولات، والحيوانات، وتتفحص في ذلك عمن يسلم العقار إلى المدعي، ويخرجه من يد المدعى عليه.l الوجه الثاني: أن يكون العقار في غير بلد المدعي، وإنه على وجهين أيضاً: أن يكون في البلد الذي فيه المدعى عليه، وفي هذا الوجه أيضاً القاضي يكتب له، وإذا وصل الكتاب إلى المكتوب إليه يحكم به للمدعي، وأمر المحكوم إليه بتسليم العقار إلى المدعي، وإن امتنع المدعى عليه عن التسليم، فالقاضي يسلم بنفسه، ويصح التسليم منه؛ لأن العقار في ولايته. وإن كان العقار في بلد آخر يتجر البلد الذي فيه المدعى عليه، فالقاضي يكتب أيضاً إلى قاضي البلد الذي فيه المدعى عليه، والقاضي المكتوب إليه بالخيار إن شاء بعث المدعى عليه، أو وكيله مع المدعي إلى البلد الذي فيه العقار، ويكتب إليه كتاباً حتى يقضي بالعقار للمدعي بحضرة المدعى عليه، وإن شاء حكم به للمدعي وسجل له، ولكن لا يسلم العقار إليه على نحو ما بينا؛ لأن العقار ليس في ولايته. كتاب حكمي في عبد الآبق على قول من يرى ذلك صورة ذلك: إذا كان لرجل بخاري عبد آبق إلى سمرقند، فأخذه رجل سمرقندي، فأخبر به المولى، وليس للمولى شهود بسمرقند إنما شهوده ببخارى، فطلب المولى من قاضي بخارى أن يكتب بما شهد عنده شهوده، فالقاضي يجيبه إلى ذلك، ويكتب له كتاباً إلى قاضي سمرقند على نحو ما بينا في الديون وغيره، غير أنه يكتب: شهد عندي فلان وفلان وفلان أن العبد السندي الذي يقال له: فلان، حليته كذا، وقامته كذا ملك فلان المدعي هذا، وقد أبق إلى سمرقند، واليوم في يد فلان بسمرقند بغير حق، ويشهد على كتابه شاهدين يشخصان إلى سمرقند، ويعلمهما ما في الكتاب حتى يشهدوا عند قاضي سمرقند بالكتاب، وبما فيه. فإذا انتهى هذا الكتاب إلى قاضي سمرقند يحضر العبد مع الذي في يديه حتى يشهد عند قاضي سمرقند بالكتاب، وبما فيه حتى تقبل شهادتهما بالإجماع، فإذا قبل القاضي شهادتهما، وثبتت عدالتهما عنده فتح الكتاب، فإن وجد حلية العبد المذكور فيه مخالفاً لما شهد به الشهود عند القاضي الكاتب، رد الكتاب إذ ظهر أن العبد هذا غير المشهود به في الكتاب، وإن كان موافقاً قبل الكتاب، ودفع العبد إلى المدعي من غير أن يقضي له بالعبد؛ لأن الشهود لم يشهدوا بحضرة العبد، ويأخذ كفيلاً عن المدعي بنفس العبد، ويجعل في عنق العبد خاتماً من رصاص؛ حتى لا يتعرض له أحد في الطريق أنه سرقه، ويكتب كتاباً إلى قاضي بخارى بذلك، وشهد شاهدان على كتابه وختمه، وعلى ما في الكتاب، فإذا وصل الكتاب إلى قاضي بخارى، وشهد الشهود أن هذا الكتاب كتاب

كتاب (264ب/4) يكتب القاضي إلى بعض الحكام في النواحي لاختيار القيم في الأوقاف

قاضي سمرقند وخاتمه، أمر المدعي أن يحضر شهوده الذين شهدوا عنده أول مرة، فيشهدون بحضرة العبد أنه ملك هذا المدعي. فإذا شهدوا بذلك ماذا يصنع قاضي بخارى؟ اختلفت الروايات عن أبي يوسف رحمه الله، ذكر في بعض الروايات أن قاضي بخارى لا يقضي للمدعي بالعبد؛ لأن الخصم غائب، ولكن يكتب كتاباً آخر إلى قاضي سمرقند، ويكتب فيه ما جرى عنده، ويشهد شاهدين على كتابه، وختمه، وما فيه، ويبعث بالعبد معه إلى سمرقند حتى يقضي له قاضي سمرقند بالعبد بحضرة المدعى عليه، فإذا وصل الكتاب إلى قاضي سمرقند، وشهد الشاهدان عنده بالكتاب والختم، وبما في الكتاب، وظهرت عدالة الشاهدين قضى للمدعي بالعبد بحضرة المدعى عليه، وأبرأ كفيل المدعي. وقال في رواية أخرى وهو الأصح: إن قاضي بخارى يقضي بالعبد للمدعي، ويكتب قاضي سمرقند كتاباً آخر حتى يبرأ كفيل المدعي، وعلى الرواية التي جوز أبو يوسف كتاب القاضي في الإماء، وصورته ما ذكرنا في العبد، غير أن المدعي إذا لم يكن ثقة مأموناً، فالقاضي المكتوب إليه لا يدفعها إليه، ولكن يأمر المدعي حتى يجيء برجل ثقة مأمون في دينه وعقله يبعث بها معه؛ لأن الاحتياط في باب الفرج واجب. رسوم القضاة والحكام في تقليد الأوقاف، يكتب: يقول القاضي فلان قاضي كورة كذا ونواحيها نافذ القضاء بها بين أهلها من قبل فلان: وقع اختيار جماعة من أهل جماعة مسجد فلان في سكة فلان في محلة فلان في كورة بخارى، وهم فلان وفلان، وفلان، وقع اختيارهم جميعاً للقيام في تسوية أمور الأوقاف المنسوبة إلى هذا المسجد على فلان بن فلان الفلاني، وأن يكون هذا المتولي لما عرفوا من صلاحه وأمانته وكفايته، وهدايته في التصرفات، فأمضيت اختيارهم، ونصبت مختارهم هذا فيما فيها ليقوم بحفظها وحياطتها، وصيانتها عن الإضاعة، وصرف ارتفاعاتها إلى وجوه مصارفها، ومراعاة شرط الواقف فيها، وأوصيته في ذلك بتقوى الله، وأداء الأمانة، والتجنب عن المكروه والغدر والخيانة في السر والعلانية، وأطلقت له الده يازده مما يحصل في مدة من ارتفاعاتها ليكون معونة له في هذا الأمر الذي قلدته في ذلك كله، فتقلد مني بشرط الوقاية، وأمرت بكتب هذا الذكر حجة له في ذلك، وأشهدت عليه من حضرني من أهل العلم والعدالة، ثم يوقعه القاضي على الصدر بتوقيعه المعروف، ويكتب في آخره يقول فلان بن فلان: جرى ذلك كله مني، وعندي، وكتبت التوقيع على الصدر، وهذه الأسطر في الآخر بخط يدي. كتاب (264ب/4) يكتب القاضي إلى بعض الحكام في النواحي لاختيار القيم في الأوقاف أيد الله فلان، قد رفع إلي أن الأوقاف المنسوبة إلى مسجد قريتكم خالية عن قيم يتعاهدها، ويجمع غلاتها، ويصرفها إلى مصارفها، ويصونها عن الإضاعة في ذلك ليختار

كتاب في بعض الحكام بالناحية بقسمة التركة واختيار القيم الموارث الصغير

قيماً ذا عفاف وأمانة، وكفاية في الأمور، وصلاح وديانة، ويكتب بالجواب على ظهر كتابي هذا مسرحاً؛ لأقف عليه، وأقلد من يختاره القوامة بعون الله. جواب المكتوب إليه: قد وصل إلي كتاب الشيخ القاضي الإمام * يديم الله أيامه * قرأته وفهمت مضمونه، وامتثلت ما أمرني به من اختيار القيم للأوقاف المنسوبة إلى مسجد قريتنا، فوقع اختياري واختيار المشايخ من قريتي للقيام بتسوية أمور الأوقاف إلى قريتنا على فلان بن فلان لما عرف من صلاحه وصيانته وعفافه وديانته، وكفايته في الأمور، وكونه مقيماً في هذه القرية، فليتفضل بتقليده، والإطلاق له الده يازده لما يحصل من ارتفاعات هذه الأوقاف ليكون له معونة على القيام في ذلك، وهو مشكور مثاب من الله تعالى. تقليد الوصاية: يقول: القاضي فلان قد رفع إلي أن فلاناً توفي، وترك ابناً صغيراً، ولم يجعل أحداً وصياً في تسوية أمور هذا الصغير، ولا بد لهذا الصغير من وصي يقوم في تسوية، وله عم فلان، وإنه من أهل الصلاح والأمانة والديانة، وله كفاية وهداية في الأمور، فتفحصت عن حال عم هذا الصغير هذا المذكور، وأخبرني جماعة، وهم: فلان وفلان وفلان أنه معروف بالصلاح والديانة والأمانة، مشهور بالكفاية والهداية، فجعلته قيماً في أسباب هذا الصغير المذكور فيه ليقوم بحفظ أسبابه وسائر أمواله، وتعاهدها، وصيانتها عن الإضاعة، واستغلال ما هو صالح للاشتغال من أسبابه، وقبض ارتفاعات أسبابه، وحفظها، وصرفها إلى وجوه مصارفها، وإلى ما لا بد له من المطعوم والملبوس والمشروب بالمعروف، من غير تقتير ولا إسراف، وأوصيته في ذلك بتقوى الله، وأداء الأمانة في السر والعلانية، والتحرز عن الغدر والخيانة، وأطلقت له الده يازده مما يحصل في يده من ارتفاعات أسبابه ليكون له معونة في هذا الأمر، ونهيت عن بيع شيء من محدوداته من غير استطلاع رأيي، قلدته في ذلك كله، فتقلد بشرط الوقاية، وأمرت بكتابة هذا الذكر حجة في ذلك، وأشهدت عليه من حضر من الثقات، وكان ذلك في تاريخ كذا. كتاب في بعض الحكام بالناحية بقسمة التركة واختيار القيم الموارث الصغير أطال الله بقاء الشيخ الفقيه الحاكم فلان إلى آخره، قد رفع إلي أن فلاناً من قرية كذا توفي، وخلف من الورثة ابناً صغيراً اسمه فلان، وابنة كبيرة اسمها فلانة، وترك أموالاً كثيرة، وهذه البنت استولت على جميع مال هذا المتوفى، ومبلغها فلا بد من إقرار حصة الصغير، وانتزاعها من يد هذه الكبيرة، فكاتبته في ذلك ليفسخ جميع التركة من المحدودات والمنقولات والحيوانات، ويتفحص في ذلك عمن أخبر بذلك، ويقيم جميع التركة من هذا الصغير، وهذه الكبيرة على سهامها، ويراعي في هذه القسمة العدل والإنصاف، ويختار قيماً ذا صلاح وعفاف، وصيانة وديانة وكفاية وهداية، ويبعث نسخة التركة مع المختار للقوامة التي لا تلده القوامة في حق الصغير، وأمضى القسمة، وأسلم حصة الصغير إليه، وهو موفق في إتمام ذلك إن شاء الله تعالى.

كتاب في التزويج

نصب الحكام في القرى يقول القاضي فلان: لما ظهر عندي صلاح فلان وصيانته وهداه وديانته، ورشاده وهدايته في الأمور وكفايته مع ما حمد الله تعالى من حقائق الأحكام، وعلمه دقائق الحلال والحرام، نصبته في ناحية كذا متوسطاً لفصل الخصومات بين الخصوم بتراضيهم على سبيل المصالحة بعد أن تأمل في ذلك الحادثة تأملاً شافياً، ولا يحابي شريفاً لشرفه، ولا يظلم ضعيفاً لضعفه، ولم أجز له أن يسمع بينة في حادثة من الحوادث، وأن يقضي لأحد على أحد في صورة من الصور، وإذا تعذر عليه فصل الخصومة بالتراضي بعث الخصوم إلى مجلس الحكم، وأمر به بإنكاح الأيامى الخاليات عن النكاح والعدة من أكفائهن برضاهن إن لم يكن لهن ولي، بمهر أمثالهن في سبيل الاحتياط، وآمر به باختيار القوام في الأوقاف، وأموال اليتامى من الصلحاء والثقات باتفاق من هو بسبيل منها واختيارهم، وأمر به بطاعة الله وتقواه في جميع أحواله سراً وعلانية، وأن يأتي بأوامره، وينتهي عن زواجره، فهذا عهدي إليه، ومن قرأ هذا الكتاب، أو قرىء عليه، فليعرف حقه وحرمته، ولا يخوض أحد فيما فوض إليه، وليصون نفسه عن الملامة، والله الموفق للصواب. كتاب في التزويج بعد الدعاء يكتب: يحتسب الشيخ الفقيه أيده الله بالتعرف عن حال المسماة فلانة بنت فلان، فقد خاطبها فلان، فإن وجدها حرة بالغة خالية عن النكاح والعدة، وكان هذا الخاطب كفءاً لها، ولم يكن لها ولي حاضر، ولا غائب ينتظر حضوره، فزوجها منه برضاها بمحضر من الشهود على صداق كذا. وإن كانت صغيرة قد بلغت مبلغاً تصلح للرجال، ولم يكن لها ولي حاضر ولا غائب ينتظر حضوره، ويكتب الكتاب على المثال الذي ذكرنا، ويكتب: فإن وجدها قد بلغت مبلغاً تزف إلى بيت الزوج، ولم يكن لها ولي حاضر، ولا غائب ينتظر بلوغه، ورأيت المصلحة في تزويجها من هذا الخاطب، فزوجها منه على مهر معلوم بمهر مثل لها، وأقبض ما هو مرسوم تعجلته من المسمى، ثم سلمها إلى الزوج. وأكتب الوثيقة على الزوج ببقية المسمى، وأشهد عليها كتاب القاضي إلى بعض الحكام بالناحية للتوسط بين الخصمين: رفع إلي فلان بن فلان أن له خصومة على فلان بن فلان، ويبين الخصومة، وأنه لا ينصفه، ولا يوفي إياه حقه، ولا يحضر معه مجلس الحكم، ويلجأ إلى أهل السلطان، فكاتبته في ذلك ليجمع بينهما، ويسمع دعوى المدعي، وجواب المدعى عليه، ثم يتوسط بينهما بتراضيهما ويفصلها، فإن صلح الأمر، وإلا فأبعثه بهما إلى مجلس الحكم قبلي لأفصل بينهما في الحكم إن شاء الله تعالى.

كتاب القاضي إلى الحاكم بالناحية لتوقيف الضيعة

كتاب القاضي إلى الحاكم بالناحية لتوقيف الضيعة صورة ذلك: رجل ادعى ضيعة في يدي رجل، وأقام بينة على صحة الدعوى، والقاضي في مسألة الشهود بعدما التمس المدعي من القاضي أن يكتب إلى حاكم القرية التي الضياع المدعى فيها حتى تكون ذلك الضياع موقوفاً عن التصرف فيه من الزيادة والنقصان، فالقاضي يكتب. وصورته: يكتب الصدر على الرسم، ويكتب بعده: قد ادعى فلان بن فلان على فلان بن فلان بملكية الضيعة التي هي كرم محوط مبني بقصره، وكذا دبرة أرض التي موضعها في أرض قرية كذا، حدودها كذا أنها ملكه، وفي يد هذا المدعى عليه بغير حق، وأقام البينة على ذلك (265أ4) ولم يظهر لي أحوال الشهود، فالتمس هذا المدعي مني كتب هذا الكتاب إليه ليجعل هذه الضيعة المتنازع فيها موقوفة في يد هذا المدعى عليه، فلا ينقص من غلاتها، ولا يزيد فيها شيئاً، بل تكون في يده موقوفة إلى أن يظهر أحوال الشهود، فإن انقاد لذلك، وإلا أعلمني بالجواب في ذلك بعون الله تعالى. ذكر الإذن في الاستدانة على الغائب يكتب: يقول القاضي الإمام فلان: رفعت المسماة فلانة بنت فلان بن فلان الفلاني أن بعلها فلان بن فلان غائب عنها من كورة بخارى ونواحيها، وتركها ضائعة من غير نفقة ولا كسوة، وإنها مضطرة في ذلك، وإن النكاح بينهما قائم في الحال أحضرت معها من جيرانها فلاناً وفلاناً، وفلاناً، يذكر أسماءهم وأنسابهم، فأخبروني هؤلاء أن الحال، كما رفعت إلي من أوله إلى آخره، التمست مني تعيين نفقتها، ويذكر كسوتها، والإذن لها في استدانتها على هذا الغائب، فأجبتها إلى ذلك، وأذنت لها بالاستدانة عليه كل شهر من هذا التاريخ كذا درهماً لمطعومها ومأدومها، وكذا كذا درهماً كل ستة أشهر للبوسها إلى أن يحضر الغائب، فتقضي ما استدانت عليه، وإنها رضيت بذلك، وأمرت بكتب هذا الذكر حجة في ذلك، وأشهدت على ذلك من حضرني من الثقات. فرض نفقة المرأة: امرأة شكت إلى القاضي من زوجها أنه لا ينفق عليها، والتمست من القاضي التقدير لنفقتها، يكتب: يقول القاضي فلان: رفعت فلانة بنت فلان الفلاني إلى أن زوجها لا ينفق عليها، والتمست مني تقدير نفقتها، فأجبتها إلى ذلك، وفرضت لها على زوجها فلان لمطعومها ومأدومها لكل شهر من هذا التاريخ كذا كذا درهماً، وبدل كسوتها كل ستة أشهر كذا درهماً، وألزمته إدرار ذلك عليها ليتولى الإنفاق على نفسها، وقد رضيت بذلك، وأمرت بكتب هذا الذكر. أو يكتب: فرض القاضي على فلان بن فلان نفقة زوجته فلانة بنت فلان لطعامها وأدامها لكل شهر من هذا التاريخ كذا درهماً إلى آخره، ويكتب القاضي توقيعه على صدر

كتاب المستورة من القاضي بالعربية

الذكر، ويكتب في آخره يقول: وفلان كتب هذا الذكر مني بأمري، وجرى القرض والتقدير مني كما كانت فيه. كتاب المستورة من القاضي بالعربية أطال الله بقاء الشيخ الفقيه فلان، وأدام عزه وتأييده وترفيعه وتسديده، شهد مجلس القضاء قبلي فلان، وهو كهل مسكنه في سكة كذا من جماعة كذا، وفلان وهو شاب مسكنه بهذه السكة من هذه الجماعة، فالتفصيل بالتأمل في أحوالهما، وبالاختيار إيانا ما صح عنده محتسباً، وللثواب مكتسباً، جواب ظاهر حالهما الصلاح عندي، وكتب فلان إلى فلان، وعلى عكسه يكتب غيرهما أولى منهما عندي، وكتب فلان المستورة بالفارسية: أطال الله بقاء فلان، وأدام عزه على سلامة ونعمة كواهي واو بمجلس قضاء بيري كه نام وي فلانست باسيده بجماعة فلان وجواني فلان نام باشده بهمين كوي وبهمين جماعة فصل كند وآز أخوال ايشان مارخبر ومد، وجوابه بالفارسية على نسق ما كتب بالعربية.

محاضر وسجلات هذه المحاضر مشتملة على سبعة وستين محضراً 1 * في رد محضر فيه دعوى وصي صغير من جهة أبيه ديناً لذلك الصغير 2 * في رد دعوى العقار للصغير بالإذن الحكمي 3 * في محضر رد، وفيه دعوى المرأة الميراث على وارث الزوج، ودعوى الوارث الصلح عليها. 4 * في رد محضر فيه دعوى تجهيل الوديعة. 5 * في رد محضر فيه دعوى الدنانير الملكية رأس مال الشركة. 6 * في رد محضر فيه دعوى الوصية بثلث المال. 7 * في رد محضر فيه دعوى الكفالة. 8 * في رد محضر فيه دعوى المهر بحكم الضمان. 9 * في رد محضر فيه دعوى الكفالة بسبب الصداق معلقة لوقوع الفرقة. 10 * في محضر فيه دعوى عشرة أسهم من عشرين سهماً من أرض. 11 * في دعوى شراء الحدود من والد صاحب اليد. 12 * في دعوى الجارية. 13 * في دعوى ولاء العتاقة. 14 * في دعوى الميراث. 15 * في دعوى رجل على رجل أنك سرقت من دراهمي كذا. 16 * في إثبات الإيصاء بثلث المال. 17 * في محضر اختلفوا في فساده في دعوى الكرم. 18 * في دعوى الإرث مع دعوى العتق. 19 * في محضر فيه دعوى الميراث.

20 * في محضر فيه دعوى بيع السكني. 21 * في رد محضر فيه دعوى الشفعة. 22 * في دعوى الرجوع بثمن الأمان عند استحقاق الأمان. 23 * في بيع سهم شائع بحدود هذا السهم. 24 * في دعوى الإجارة الطويلة. 25 * في محضر فيه دعوى بقية مال الإجارة المفسوخة. 26 * في موت المستأجر. 27 * في صك الإجارة. 28 * فيما فيه دعوى المضاربة على ميت بحضرة وارثه. 29 * فيما فيه دعوى قيمة الأعيان المستهلكة. 30 * فيما فيه قبض العدليات بغير حق، واستهلاكها. 31 * في دعوى الثمن. 32 * في دعوى الوكيل من جهة موكله. 33 * في دعوى الثمن. 34 * في دعوى السرقة. 35 * في دعوى الوصية بالثلث. 36 * في سجل ورد من مرو في إثبات ملكية حمل. 37 * في إثبات الوقفية. 38 * في دعوى ثمن أشياء أرسل بها المدعي إلى المدعى عليه ليبيعها. 39 * في دعوى ملكية حماره. 40 * في محضر فيه دعوى بقية صداق بنته على زوجها بسبب دعوى الطلاق. 41 * في محضر فيه دعوى استئجار الطاحونة. 42 * فيما فيه دعوى إجارة محدودة بأجرة معلومة. 43 * في الإجارة المضافة. 44 * في سجل فيه استحقاق جارية اسمها دلب 45 * في إثبات الاستحقاق، والرجوع بالثمن. 46 * في دعوى ثمن عين مسماة.

47 * في دعوى دنانير نيسابورية. 48 * في دعوى بيع الحنطة بخمسين، فشهد أحد الشاهدين بخمسة وعشرين، والآخر بسبعة وعشرين. 49 * فيما فيه ابن مدعى عليه ازرسين مستأجر من اين مبلغ كندم برد اشته است بنا حق، فإن كان قائماً فعليه رده، وإلا فرد مثلها. 50 * في محضر فيه دعوى أعيان مختلفة الجنس والنوع، وذكر قيمتها جملة، ولم يبين قيمة كل واحد. 51 * في دعوى الناقة، والمكتوب في المحضر الجمل. 52 * فيما فيه أنه قطع من أشجار كرمه كذا من الحطب قيمته كذا، أو غصب من كرمه كذا وقراً من الأعناب. 53 * فيما فيه دعوى أن الزوج أخذ من مالها كذا بغير حق قبضاً يوجب عليه الرد، فأقر أنه قبض ذلك، ولم يذكر فيه أنه قبض بغير حق. 54 * فيما فيه دعوى القبض والسراويل. 55 * في دعوى النحاس المنكسرة، والغاصب في مرو، والدعوى ببخارى. 56 * فيما لم يذكر فيه اسم الجد. 57 * فيما ادعت المرأة بقية مهرها على ورثة الزوج، ولم يذكر أعيان التركة. 58 * فيما رد من الإقرار بعلة أنه لم يذكر فيه تطوع. 59 * في دعوى صداق جارية مشتركة. 60 * في محضر فيه دعوى صبي بعلة أن دعوى الصبي غير صحيحة. 61 * فيما رد بعد أنه ادعى عليه موجب خرسه، والواجب على العاقلة. 62 * في دعوى الإرث. 63 * في دعوى الضمان، ولم يقل ضمن لي. 64 * فيما فيه دعوى دفع الدفع. 65 * فيما رد؛ لأنه لم يذكر فيه لفظة الشهادة، بل ذكر أنهم شهدوا على موافقة الدعوى. 66 * في سجل رد بعلة أنه لم يكتب فيه: حكمت، بل كتب: ثبت عندي. 67 * في دعوى الوصي وقفية ضيعة، ولم يذكر المصرف. 68 * في الشهادة على أنه حر الأصل، ولم يشهدوا أنه علق حر الأصل (265ب4) .

محاضر وسجلات ردت بخلل فيها

محاضر وسجلات ردت بخلل فيها ورد محضر فيه دعوى رجل زعم أنه وصي صغير من جهة أبيه ديناً لذلك الصغير على رجل، ورد المحضر بعلة أنه لم يذكر في المحضر أن الدين لهذا الصغير بأي سبب، ولا بد من بيان ذلك؛ لأن الدين إذا كان موروثاً، وللميت وارث سوى هذا الصغير، فإنما يصير الدين للصغير بالقسمة، وقسمة الدين باطلة، والشهود في شهاداتهم لم يشهدوا على موت الأب، وعلى الإيصاء إلى المدعي، ولا بد من ذلك. ورد محضر في دعوى العقار للصغير بالإذن الحكمي صورته: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه بالإذن الحكمي أن الدار التي في يد هذا الذي أحضره معه، حدودها كذا ملك فلان الصغير بسبب أنها كانت ملك والد هذا الصغير فلان المسمى في المحضر، اشتراها لابنه الصغير المسمى في هذا المحضر بمال الصغير من نفسه بولاية الأبوة بثمن معلوم هو مثل قيمة الدار، واليوم هذه الدار المحدودة ملك هذا الصغير بهذا السبب المذكور فيه، وفي يد هذا الذي أحضره بغير حق، فواجب عليه تسليمها إلى هذا الذي حضر ليقبضها لهذا الصغير المسمى في هذا المحضر، فرد المحضر بعلة أنه لم يكن فيه أن الإذن الحكمي لهذا المدعي من جهة هذا القاضي، أو من جهة قاضٍ آخر، وعلى تقدير الإذن من جهة قاضٍ آخر لابد من إثبات الإذن الحكمي عند هذا القاضي يسمع خصومته، ولأنه لم يذكر في المحضر أن المدعي مأذون في القبض، إنما المذكور فيه أن المدعي ادعى بالإذن الحكمي، ولعل أنه كان مأذوناً بالدعوى والخصومة دون القبض.H وعلى تقدير أن لا يكون مأذوناً بالقبض لا يكون له حق القبض عند زفر؛ لأن المأذون بالدعوى والخصومة بمنزلة الوكيل بالخصومة، والوكيل بالخصومة لا يملك القبض عند زفر وعليه الفتوى، فلا بد من ذكر كونه مأذوناً بالقبض، وذكر ما يدل عليه من كونه وصياً، فإن الإيصاء يثبت ولاية القبض، ولأنه لم يذكر في المحضر أن الثمن مثل المعقود عليه وقت العقد، ولا بد لصحة هذا العقد من كون الثمن مثل المعقود عليه وقت العقد. محضر في دعوى المرأة الميراث على وارث الزوج للميت، ودعوى الوارث الصلح عليها رجل مات وترك ابناً وامرأة، فحضرت المرأة مجلس القاضي، وأحضر (ت) ابن الزوج معها، وطلب (ت) منه ميراثها، فادعى الابن أنها صالحته من جميع نصيبها من ميراث أبيه، وعن جميع دعاويها على كذا وكذا، وإنه قبل الصلح عن نفسه بالأصالة، وعن أخيه الصغير بالإذن الحكمي، وهذا الصلح كان خيراً للصغير، وقد قبضت بدل الصلح، ولم

محضر في دعوى تجهيل الوديعة

يبق لها في تركة الزوج حق، وهي في هذه الدعاوى مبطلة، فرد المحضر بعلة أنه ليس في المحضر بيان التركة، ويجوز أن يكون في التركة ديون، وعلى هذا التقدير لا يصح الصلح إلا باستثناء الدين عن الصلح. ولو لم يكن في التركة من جنس بدل الصلح من النقد مقدار ما يصيبها من الميراث من ذلك قدر بدل الصلح، أو زائداً عليه، وعند ذلك لا يجوز الصلح لمكان الربا، وإن لم يكن في التركة من جنس بدل الصلح يجوز أن يكون فيها من خلاف جنس بدل الصلح من النقد، وعند ذلك يشترط قبض بدل الصلح من النقد، وعند ذلك يشترط قبض بدل الصلح في المجلس، ولم يكن في المحضر ذكر قبض بدل الصلح في المجلس. وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول بجواز هذا الصلح، ويقول بجواز أن لا يكون في التركة دين، ويجوز أن لا يكون في التركة من جنس بدل الصلح، أو إن كان يجوز أن لا يكون نصيبها من ذلك مثل بدل الصلح أو أقل، بل يكون أزيد، ويجوز أن لا يكون في التركة شيء من نقد آخر، فما ذكروا كلها وهم هو، بالوهم لا يمكن إبطال الصلح. محضر في دعوى تجهيل الوديعة حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره أني دفعت إلى أب هذا الذي أحضرته فلان صرة مسدودة مكتوب عليها: توكلت على الله بضاعة إبراهيم الحاجي، وفيها خمسة أعداد من اللعل البد خشاني وزن كل واحد سبعة دراهم، وقيل: وكل كذا، وإن أب هذا الذي أحضرته فلان قبض ذلك كله مني قبضاً صحيحاً، وتوفي قبل رد ذلك إلى التجهيل لها من غير بيان، وصارت قيمة ذلك ديناً في تركته لي، وشهد الشهود بذلك، فرد المحضر بعلة أن المدعي في دعواه، والشهود في شهادتهم أثبتوا قيمة هذه الأشياء يوم التجهيل؛ لأن سبب الضمان في مثل هذا الموضع التجهيل، فيراعي القيمة يوم التجهيل. قلت: وقد ذكر محمد في كفالته: لو أن رجلاً أودع رجلاً عبداً، وجحده المودع، ومات في يده، ثم أقام المودع بينته على الإيداع، وعلى قيمته يوم الجحود، قضي على المودع بقيمته يوم الجحود. ولو قالوا: لا نعلم قيمته يوم الجحود، ولكن علمنا قيمته يوم الإيداع، وهو كذا قضى القاضي على المودع بقيمته يوم القبض بحكم الإيداع، وهذا لأن سبب الضمان على المودع في فصل الجحود الجحود، إذا علم قيمة الوديعة يوم الجحود، وإذا لم يعلم قيمته يوم الجحود، وعلم قيمته يوم الإيداع، فسبب الضمان في حقه القبض بحكم الإيداع؛ وهذا لأن الضمان إنما يجب على المودع بالجحود والقبض السابق، فإنه لو جحد الوديعة، وقال: لا وديعة لك عندي، وكان الأمر كذلك بأن لم يكن قبضها لا يجب الضمان، وإذا كان قبضها، ولم يجحد لا يجب الضمان أيضاً، قلنا: والجحود آخرهما

وجوداً، فيحال بالضمان عليه، فجعلنا سبب الضمان في حقه الجحود، وأوجبنا قيمته يوم الجحود. وإذا لم يشهدوا بقيمته يوم الجحود، وشهدوا بقيمته يوم الإيداع تعذر إحالة الضمان على الجحود، فأحلناه على القبض السابق، وجعلنا سبب الضمان في حقه القبض السابق، وأوجبنا قيمته يوم القبض السابق. وإن قال الشهود: لا نعلم قيمته أصلاً لا يوم الجحود، ولا يوم الإيداع، فإنما يقضي عليه بما يقر من قيمته يوم الغصب، فعلى قياس هذه المسألة ينبغي أن يقال في مسألة التجهيل: إذا لم يشهد الشهود بقيمة البضاعة يوم التجهيل، وشهدوا بقيمتها يوم الإيضاع أن يقضي بقيمتها يوم الإيضاع. وإن قالوا: لا نعرف قيمتها أصلاً يقضى بما يقر من قيمتها يوم التجهيل، وهو الصحيح. سجل لم يكتب في آخره: وحكمت بكذا في مجلس قضائي بكورة كذا تركوا ذكر الكورة، فرد السجل بعلة أن المصر شرط نفاذ القضاء في ظاهر الرواية. قالوا: ليس أنه كتب في أول السجل حضر مجلس قضائي في كورة كذا قبل هذا حكاية أول الدعوى، ويجوز أن تكون الدعوة في الكورة، والحكم والقضاء بكورة خارج الكورة، فلابد من ذكر الكورة عند الحكم والقضاء لقطع هذا الاحتمال، ولكن هذا الطعن عندي فاسد؛ لأن على رواية «النوادر» المصر ليس شرط نفاذ القضاء، فإذا قضى القاضي بشيء خارج المصر كان قضاؤه في فصل مجتهد فيه، فينفذ قضاؤه، ويصح سجله، ويصير مجمعاً عليه. سجل ورد من قاضي كتب في آخره يقول فلان: كتب هذا السجل علي بأمري ومضمونه حكمي، فأخذوا عليه، وقالوا: قوله مضمونه حكمي كذب وخطأ؛ لأن مضمون السجل أشياء التسمية، وحكاية دعوى المدعي، وإنكار المدعى عليه، وشهادة الشهود، وكل ذلك ليس حكم القاضي، وإنما حكم القاضي بعض مضمون السجل، فينبغي أن يكتب: وفي مضمونه حكمي، أو يكتب: والحكم المذكور فيه حكمي، أو يكتب: والقضاء المذكور فيه قضائي نفذته لاحت عندي. ورد محضر في دعوى الدنانير الملكية رأس مال الشركة صورتها: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره أن هذا الذي حضر مع هذا الذي أحضر اشتركا شركة عنان على أن يكون رأس مال كل واحد منهما كذا كذا عدلياً (266أ4) من ضرب كذا على أن يبيعا ويشتريا جملة، وعلى الانفراد ما بدا لهما، ولكل واحد منهما من الأمتعة والأقمشة، وأحضر كل واحد رأس ماله، وخلطاه وجعلناه في يد هذا الذي أحضره معه اشترى بهذه العدليات التي هي رأس

محضر فيه دعوى الوصية بثلث المال

مال الشركة كلها، كذلك من الكرابيس، ثم باعها بكذا من الدنانير الملكية الموزونة بوزن مكية، فواجب عليه أداء حصته من الدنانير الملكية وذلك كذا، وهي قائمة بعينها في يده يطالبه بذلك، وسأل مسألته، فرد المحضر بعلة أن الدعوى وقع في الدنانير الملكية؛ لأن الدعوى وقع في ثمن الكربيس، وثمن الكربيس الدنانير الملكية، والدنانير الملكية نقلية، والدعوى في النقليات، والبينة حال غيبتها. لا تسمع وهذا ليس بصواب عندنا، ولا يجوز رد المحضر بهذه العلة؛ لأن الإحضار في المنقول إنما يشترط للإشارة إليه، وفي الدنانير وما أشبهها الإشارة؛ لأن البعض يشبه البعض بحيث لا يمكن التمييز والفصل. ثم هذا العقد لم يصح شركه عند أبي حنيفة وأبي يوسف في المشهور من قولهما؛ لأن العدلي الذي في زماننا بمنزلة الفلوس، والفلوس لا تصلح رأس مال الشركة في المشهور من قولهما، فبعد ذلك ننظر إن كان دافع العدليات قال لشريكه يوم دفع العدليات إليه اشتراها وقع مرة بعد مرة، فإذا اشترى الشريك بالعدليات الكرابيس، وباع الكرابيس بالملكي، واشترى بالملكي شيئاً بعد ذلك، وباعه هكذا مرة بعد مرة، فجميع البياعات نافذة، والمشترى في كل مرة مشترك بينهما، والثمن في كل مرة مع الربح كذلك؛ لأن هذه التصرفات إن لم تنفذ على الدافع بحكم الشركة؛ لأن الشركة لم تصح، نفدت بحكم الوكالة والأمر. المحيط البرهانى وإن كان الدافع قال لشريكه: اشتر هذه العدليات، ولم يقل مرة بعد أخرى، فإذا اشترى بها الكربيس، ثم باع الكربيس انتهت الوكالة بها فيها، ووجب على الشريك دفع الملكيات إلى الدافع بقدر حصة رأس المال مع حصته من الربح، فإذا اشترى بعد ذلك يصير مشترياً لنفسه، فإذا نقد الثمن من الملكي صار غاصباً لحصة الدافع من الملكي، فيصير ضامناً له ذلك القدر. محضر فيه دعوى الوصية بثلث المال صورته: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن أب هذا الذي أحضره معه أوصى لهذا الرجل الذي حضر بثلث جميع ماله في حياته وصحته، وثبات عقله وصية صحيحة، وإن هذا الذي حضر قبل منه هذه الوصاية بعد موت أب هذا الذي أحضره معه قبولاً صحيحاً، وصار ثلث جميع تركة أب هذا الذي أحضره لهذا الذي حضر بحكم هذه الوصية، وفي يد هذا الذي أحضره معه من تركة أبيه كذا وكذا، فعليه تسليم ثلث ذلك إلى هذا الذي حضر ليقبضه بحكم هذه الوصية ليقبضه. فرد المحضر بعلة أنه لم يكن في المحضر: أوصى في حال جواز تصرفاته ونفاذها، إنما كان فيه: أوصى في حياته وصحته، وثبات عقله، وليس من ضرورة كونه صحيحاً ثابت العقل أن تصح وصيته، فإنه لو كان مجحوراً عليه على قول من يرى الحجر لا تصح وصيته. وقد ذكر في كتاب الحجر: أن السفيه المبذر لماله إذا أوصى بوصايا، فالقياس: أن

محضر فيه دعوى الكفالة

لا تجوز وصاياه. وفي الاستحسان: تجوز من وصاياه ما وافق وصايا أهل الصلاح، ولا يعدون ذلك سرفاً من الموصي، ولا يستفحشونها فيما بينهم، وكذلك لم يكن في المحضر: أوصى لها طائعاً، ولا بد من ذكر الطواعية، فإن وصية المكره لا تصح، وزعم بعض مشايخنا علة أخرى لدفع المحضر، وهو ترك ذكر حرية الموصى في المحضر، وهذا وهم؛ لأن الحرية صارت مستفادة من قوله: أوصى له بثلث ماله. محضر فيه دعوى الكفالة صورته: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره أنه كفل لي بنفس فلان على أنه متى لم يسلمه إلى يوم كذا، فهو كفيل بالمال الذي لي عليه، وذلك ألف درهم مثلاً، وإني قد أجزت كفالته، ثم إنه لم يسلم نفس فلان إلي في ذلك اليوم الذي عينه؛ ليسلم النفس فيه، وصار كفيلاً بالمال الذي لي عليه، وذلك ألف، وطالبه في ذلك، وسأل مسألته، فرد المحضر بعلة أنه لم يكن في المحضر ذكر الألف التي ادعى الكفالة بها أنها ما هي، ولا بد من بيان ذلك؛ لأن من الأموال ما لا تصح الكفالة به كبدل الكتابة، والدية، وأشباه ذلك، فلا بد من بيان الألف أنها ماذا؟ حتى ننظر أنه هل تصح الكفالة؟ وإن دعوى الكفالة هل منه مسموع أم لا؟ وعلة أخرى أنه لم يكن في المحضر أنه أجاز الكفالة في مجلس الكفالة، ولا بد من إجازة الكفالة في مجلس الكفالة، فإن من كفل لغائب، ولم يقبل عنه في مجلس الكفالة، ولا خاطب عنه أجنبي في مجلس الكفالة، فبلغ الغائب ذلك، وأجاز لا تصح الكفالة عند أبي حنيفة، ومحمد، وهو قول أبي يوسف الأول. وبعض مشايخنا قالوا: دعوى إجازة الكفالة ليس بشرط، ودعوى الكفالة يتضمن دعوى الإجازة كما أن دعوى البيع يتضمن دعوى الشراء، ثم على قول من يقول بأن دعوى الإجازة شرط يشترط دعوى الإجارة في مجلس الكفالة. ولو قال: أجزت الكفالة في مجلس، ولم يقل: في مجلس الكفالة، وذلك لا يكفي، فلعل المكفول له لم يجز الكفالة حتى قام الكفيل عن المجلس، وذهب ثم أجاز، فذلك إجازة في مجلس المكفول له، إلا أنها ليست بمعتبرة بالإجماع. ولو ادعى الكفالة مرة، ولم يدع الإجازة، ثم ادعى الكفالة مرة أخرى، وادعى الإجازة في مجلس الضمان كان ذلك صحيحاً. محضر في دعوى المهر بحكم الضمان صورته: امرأة ادعت على رجل أنها كانت منكوحة فلان، تزوجها على ألف درهم نكاحاً صحيحاً، وهذا الرجل ضمن لي جميع المهر ضماناً صحيحاً، وقد أجزت ضمانه في مجلس الضمان، ثم إني صرت محرمة على زوجي فلان حرمة غليظة، وصار مهري على زوجي فلان، وعلى هذا الضمان ضمن المهر لي عنه حالاً، فواجب عليه أداء جميع مهري، وذلك ألف درهم، وطالبه في ذلك، وسألت مسألته، فرد المحضر بعلة أنها لم

محضر فيه دعوى الكفالة بشيء من الصداق معلقة بوقوع الفرقة

يتيقن سبب الحرمة أنها بأي سبب حرمت عليه. وأسباب الحرمة نوعان: متفق عليه، ومختلف فيه، ولعل أنها زعمت الحرمة بسبب مختلف فيه، ويكون عند المفتي والقاضي بخلاف ما زعمت، ولأن الحرمة الغليظة قد تكون بمعنى من جهتها، وإنها توجب سقوط جميع الصدقات من الزوج والكفيل جميعاً إذا كان قبل الدخول بها، وقد يكون بمعنى من جهة الزوج، وإنها توجب سقوط نصف الصداق عن الزوج والكفيل إذا كان قبل الدخول بها، وهي لم تبين أن الحرمة كانت لمعنى من الزوج، أو من جهة المرأة قبل الدخول بها، أو بعد الدخول، ولا تستقيم دعوى جميع المهر على الكفيل من غير بيان. محضر فيه دعوى الكفالة بشيء من الصداق معلقة بوقوع الفرقة صورته: امرأة ادعت على رجل أنك كفلت لي عن زوجي فلان بدينار أحمر جيد من صداقي الذي كان لي على زوجي فلان كفالة معلقة بوقوع (266ب4) الفرقة بيننا، وقد أجزت ضمانك في مجلس الضمان، وقد وقعت الفرقة بيني وبين الزوج بسبب أن الزوج جعل أمري بيدي على أنه متى غاب عني شهراً، فأنا أطلق نفسي تطليقة بائنة متى شئت، وقد غاب عني شهراً من تاريخ الأمر، وطلقت نفسي بحكم ذلك الأمر، وصرت كفيلاً لي بدينار من صداقي، وواجب عليك أداء الدنانير إلي، وأقامت البينة على جميع ذلك، فأفتوا بصحة المحضر، وقالوا: تقبل بينتها، وبالقضاء على الكفيل بالدينار. قالوا: ويكون ذلك قضاءً على الزوج بالفرقة؛ لأنها ادعت على الكفيل أمراً لا يتوصل إليه إلا بإثبات أمر آخر على الزوج، وهو جعل الأمر بيدها، وتطليقها نفسها بحكم ذلك الأمر عند تحقق شرطه، فينصب الكفيل خصماً عن الزوج في ذلك، وهذا أصل ممهد في قواعد الشرع، ولكن هذا مشكل عندي؛ لأن المدعي ببيان الفرقة على الغائب، والمال على الحاضر، والمدعي على الغائب ليس بسبب لثبوت المدعي على الحاضر بل هو شرطه، وفي مثل هذا لا ينتصب الحاضر خصماً عن الغائب، عليه عامة المشايخ، فينبغي أن يقضى بالمال، ولا يقضى بالفرقة على الزوج. محضر في دعوى ملكية الأرض على رجل في يده بعض ملك وصورته: رجل ادعى على رجل أرضاً في يديه أنها ملكه، وفي يد هذا المدعى عليه بغير حق، وأقام المدعي البينة على دعواه بعد إنكار المدعى عليه دعواه، وقضى القاضي للمدعي بالأرض كما هو الرسم، ثم ظهر أن الأرض المدعى بها كانت في يد المدعى عليه، وفي يد رجل آخر. فقيل: المسألة على وجهين: إن ظهر ذلك بإقرار المدعي ظهر ببطلان القضاء؛ لأن المدعي بإقراره أكذب شهوده في بعض ما شهدوا به بعد القضاء، وتكذيب المدعي شهوده في بعض ما شهدوا بعد القضاء يوجب بطلان القضاء على ما عليه إشارات «الأصل» و «الجامع» ، فأما إذا أراد المدعى عليه أن يقيم البينة على أن الدار المدعى به كان في

محضر فيه دعوى عشرة أسهم من عشرين سهما من أرض رجل، ولم يشهد الشهود أن جميع الأرض في يد المدعى عليه

يدي، وفي يد فلان وقت الدعوى، لا تقبل بينته؛ لأن بينته على كون المدعى به في يده بعدما ثبت ذلك ببينة المدعي، فلا تقبل بينته، ولا يظهر معنى بطلان القضاء. محضر فيه دعوى عشرة أسهم من عشرين سهماً من أرض رجل، ولم يشهد الشهود أن جميع الأرض في يد المدعى عليه صورته: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن جميع عشرة أسهم من عشرين سهماً من الأراضي التي في موضع كذا، حدها الأول والثاني والثالث، والرابع كذا ملكي، وحقي وفي يد هذا الذي أحضرته بغير حق، وشهد الشهود بذلك، فاختلفت أجوبة المفتين في ذلك، بعضهم أجابوا بفساد المحضر بعلة أن المدعي في دعواه والشهود في شهادتهم لم يذكروا أن جميع الأرض في يد المدعى عليه، وما لم يثبت كون الأرض في يده، لا يثبت كون بعض الأرض في يده، وبعضهم أفتوا بصحة المحضر، وليس من شرط إثبات اليد على بعض الشيء شائعاً إثباتها على جميع ذلك الشيء، فالقول الأول: يشير إلى أن غصب نصف العين لا يتصور، وهكذا ذكر ركن الدين أبو الفضل في «إشاراته» ، وهكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله. والقول الثاني: يشير إلى أن غصب نصف العين شائع متصور، ألا ترى أن الرجلين إذا استأجرا داراً، واشتريا داراً، وشغلا بأمتعة مشتركة كان كل واحد منهما مثبتاً يده على نصفها شائعاً. محضر فيه دعوى شراء المحدود من والد صاحب اليد ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن المنزل الذي في يد هذا الذي أحضره معه حدوده كذا، وموضعه كذا؛ كان ملكاً لوالده فلان، وحقها له، وإنه باعه مني في حياته وصحته، ونفاد تصرفاته بكذا في يوم كذا، وهكذا أقر لي في حياته ببيع هذا المحدود بهذا لتاريخ (كذا) ، وجاء بشهود شهدوا على إقرار والده فلان بهذا البيع المذكور، قالوا: واليوم هذا المنزل ملك هذا المدعي بالسبب المذكور في هذا المحضر، وفي يد هذا المدعى عليه بغير حق، فزعم بعض المفتين أن في المحضر خللاً من وجهين: أحدهما: أن الشهود شهدوا على إقرار البائع بالبيع المذكور في دعوى المدعي، والمذكور في دعوى المدعي إقرار البائع مضافاً إلى تاريخ البيع، وهو يوم كذا، ولعل هذا الإقرار كان في يوم كذا ولكن قبل البيع، فيكون الإقرار بتاريخ البيع، ولكن قبل البيع، وعلى هذا التقدير كانت الشهادة على الإقرار بالبيع قبل البيع، والإقرار بالبيع باطل، فالشهادة على الإقرار بالبيع قبل البيع يكون باطلاً أيضاً. ولأن الشهود في شهادتهم قالوا: واليوم هذا المنزل ملك هذا المدعي بالسبب المذكور في هذا المحضر، والسبب المذكور في هذا المحضر البيع لا الإقرار بالبيع؛ لأن الإقرار لا يصلح بسبب ملك، ولا شهادة لهم على البيع إنما شهادتهم على الإقرار بالبيع. ولكن هذا الزعم فاسد لوجهين:

محضر في دعوى الجارية

أحدهما: أن مطلق كلام العاقل، وتصرفه يحمل على وجه الصحة بقصة الأصل، وذلك هاهنا في أن يحمل دعوى المدعي الإقرار بالبيع بذلك التاريخ على دعواه الإقرار بالبيع بعد البيع بذلك التاريخ، وكذلك على هذا. والثاني: أن مطلق كلام العاقل على المعتاد، والناس في عاداتهم يريدون بهذا الإقرار بالبيع بعد البيع بذلك التاريخ. وأما الثاني فقلنا: هذا شهادة على الإقرار بالبيع، والبيع بسبب الملك، فتكون هذه شهادة على الإقرار بما هو سبب الملك، وإنه صحيح. محضر في دعوى الجارية حضر وأحضر مع نفسه جارية، وادعى أن هذه الجارية ملكه، والجارية منكر، فجاء الذي حضر بشهود شهدوا بهذه العبارة: دو ذي مروي بياند واين جارية حاضر أورده راباين حاضر آسده، فزوجت بها معلوم وبوي تسليم كرد، فرد المحضر بعلتين: إحداهما أن الشهود شهدوا بالملك للمدعي بطريق الانتقال من بائعه، فلا بد من إثبات الملك للبائع ليثبت الانتقال إلى المدعي، ولم يثبت الملك للبائع بهذه الشهادة؛ لكون البائع مجهولاً، وإثبات الملك للمجهول لا يتحقق، وإذا لم يثبت الملك للبائع في هذه الصورة بهذه الشهادة كيف يثبت الانتقال منه إلى المدعي بهذه الشهادة؟ حتى لو كان ملك البائع معلوماً تقبل الشهادة، ويقضى بالجارية للمدعي. العلة الثانية: أن الشهود شهدوا أن رجلاً باعها من هذا المدعي، ولم يشهدوا أن المشتري اشتراها، ويجوز أن ذلك الرجل باعها إلا أن المدعي لم يشترها، وبمجرد البيع بدون الشراء لا يثبت الملك، ولكن العلة الثانية ليست بصحيحة؛ لأن ذكر البيع يتضمن الشراء، وذكر الشراء يتضمن البيع، ألا ترى أن من ادعى على غيره أني بعت منك هذه الجارية بكذا، وطالبه بالثمن كان دعواه صحيحة، وإن لم يقل: وأنا اشتريتها منه، ذكره محمد رحمه الله في كثير من المواضع. ورد محضر آخر أيضاً في دعوى الجارية أحضر مع نفسه جارية، وادعى أنها جاريته اشتريتها من فلان، وطاعته واجبة عليها، والجارية تنكر دعواه، فجاء الذي حضر بشهود شهدوا أنه اشتراها، فاختلفت أجوبة المفتين، فأفتى بعضهم بصحة الدعوى في حق القضاء بالملك لا في حق وجوب الطاعة، لأن الطاعة بتسليمها نفسها إليه، وتسليم المبيع إنما يجب بعد نقد الثمن، والمدعي في دعواه لم يذكر نقده الثمن، وأفتى بعضهم بعدم صحة الدعوى أصلاً، وهو الصحيح؛ لأن الشهود ما شهدوا بملك البائع لا قضاءً، ولا دلالة، وبدون ذلك لا يقضى بالملك للمشتري، وهي مسألة كتاب «الشهادات.» محضر في دعوى ولاء العتاقة رجل مات فجاء رجل، وادعى أن الميت عتيق والدي فلان كان أعتقه والدي في

محضر في دعوى الميراث

حياته، وميراثه لي لما أني ابن معتقه، لا وارث له غيري، فأفتى بعض مشايخ زماننا بفساد هذه الدعوى، وأفتى بعضهم بالصحة، والصحيح أن هذه (267أ4) الدعوى فاسدة؛ لأن المدعي لم يقل في دعواه: وهو يملكه، والإعتاق من غير المالك باطل. الدليل على صحة ما قلنا ذكر محمد رحمه الله في دعوى «الأصل» في باب دعوى العتق: إذا أقام عبد بينة أنه أعتقه فلان، وفلان ينكر ذلك، أو يقر، فأقام آخر بينة أن هذا العبد عبده قضى القاضي للذي أقام البينة أنه عبده؛ لأن شهود العتق شهدوا بعتق باطل؛ لأنهم لم يقولوا في شهادتهم: وفلان يملكه، والملك لا يثبت لفلان من غير شهادة، والعتق بلا ملك باطل، فهو معنى قولنا: إنهم شهدوا بعتق باطل، فصار وجود هذه الشهادة وعدمها بمنزلة، ولو عدم هذه الشهادة لكان يقضي للذي أقام البينة أنه عبده كذا هاهنا وكذلك لو شهد شهود العبد أن فلاناً أعتقه، وهو في يده يقضى للذين شهدوا أنه عبده؛ لأن صحة الإعتاق يعتمد الملك دون اليد، والشهود لم يشهدوا له بالملك، ولو شهد شهود العبد أن فلاناً أعتقه وهو يملكه، وشهد شهود الآخر أنه عبده قضي ببينة العتق؛ لأن إثبات العبد الملك لمعتقه، كإثبات المعتق الملك لنفسه. ولو أن المعتق أقام بينة أنه عبده أعتقه قضي ببينة العتق؛ لأن البينتين استويا في إثبات الملك، وفي أحدهما زيادة إثبات العتق كذا هاهنا، فهذه المسألة دليل على أن في دعوى العتق من جهة الغير لا بد من ذكر ملك ذلك الغير. ورد محضر في دعوى الدفع صورته: ادعى عيناً في يدي رجل اشتراه من فلان في يوم كذا من شهر كذا، وجحد المدعى عليه دعواه، فأقام المدعي بينة على ما ادعى، وتوجه الحكم للمدعي على المدعى عليه بما ادعاه المدعي، فادعى المدعى عليه في دفع دعواه أن هذا الذي ادعيت تلقي الملك من جهته، أقر قبل تاريخ شرائك، أو قال: قبل شرائك بسنة طائعاً أن هذا العين ملك أخيه فلان، وحقه، وصدقه أخوه فلان في ذلك، وأنا اشتريت هذا العين من أخيه ذلك المقر له، فدعواك علي باطل بهذا السبب، فاتفقت أجوبة المفتين أن هذا الدفع صحيح، ثم استفتى بعد ذلك أن المدعى عليه الدفع لو طلب من يدعي الدفع بيان وقت ذلك الإقرار أنه متى كان؟ وفي أي شهر كان؟ فالقاضي هل يكلفه عليه؟ فاتفقت الأجوبة أيضاً أن القاضي لا يكلفه عليه؛ لأنه قد بين مرة بقدر ما يحتاج إليه حيث قال: قبل تاريخ شرائك، أو قال: قبل شرائك. محضر في دعوى الميراث صورته: حضر مجلس القضاء فلان وفلان، وفلانة كلهم أولاد فلان، فادعى هؤلاء الذين حضروا محدوداً على رجل أحضروه معهم ميراثاً عن والدتهم فلانة، وكان المكتوب في المحضر، وكان هذا المحدود ملك فلانة والدة هذين المدعيين، وحقهما ودردست

محضر: فيه دعوى رجل على رجل أنك سرقت من دراهمي كذا درهما كانت موضوعة في موضع من هذه الدار

وي بودتا بروز مرك مرد وميراث باند فرزندان خويش را فرد المحضر بعلتين: إحداهما؛ أن المكتوب فيه والدة هذين المدعين، وينبغي أن يكتب والدة هؤلاء المدعين، العلة الثانية: أن المكتوب إليه مرد وميراث ماند فرزندان أن خويش راو ليس جه جير ماند ميراث فرز ندان راو، ينبغي أن يكتب وميراث مانداين محدود فرز ندا نرا، أو يكتب: وميراث ماندش حتى يصير المتروك مذكوراً؛ إما بالصريح أو بالكناية، أما بدون ذكر لا بالصريح ولا بالكناية لا يتم جر الميراث فيما يقع فيه الدعوى. وحكي عن الشيخ الإمام نجم الدين عمر النسفي رحمه الله أنه قال: كنت كتبت المحضر في جر الميراث، وبالغت في شرائط صحته، غير أني تركت الهاء عند قولي: وتركه ميراثاً، وكتبت: وترك ميراثاً، فلم يفت شيخ الإسلام علي بن عطاء بن حمزة السعدي بصحته، وقال لي: الحق به الهاء، واجعله: وتركه ميراثاً حتى أفتي بصحته. قال الشيخ الإمام الزاهد نجم الدين عمر النسفي رحمه الله: عرض علي محضر فيه دعوى رجل على رجل أرضاً أنها ملكه وحقه، وأن موروث هذا المدعى عليه فلاناً، كان أحدث يده عليها بغير حق إلى أن مات، وفي يد وارثه هذا أيضاً بغير حق، فواجب عليه قصر يده عنها، وتسليمها إلى المدعي، وقال المدعى عليه في دفع دعواه: إن مورثاً فلاناً كان اشترى هذا المحدود من مورث هذا المدعي بيعاً باتاً، وجرى التقابض من الجانبين، وكان في يده بحق إلى أن توفي، ثم صار ميراثاً عنه لي بحق. فقال المدعي في دفع هذا الدفع: أن مورث هذا المدعى عليه الأرض أقر أن البيع الذي جرى بيننا بيع وفاءاً ذا رد علي الثمن كان على رد الأرض، وأقام على ذلك بينة، هل يصح دفع الدفع على هذا الوجه؟ قال نجم الدين رحمه الله: وقد كان قاضي القضاة عماد الدين علي بن عبد الوهاب، والشيخ الإمام علاء الدين عمر بن عثمان المعروف بعلاء بدر أجابا بالصحة، وأنا أجيب بعدم الصحة؛ لأنه ادعى أولاً أنه كان في يده بغير حق، فإذا أقر ببيع الوفاء، فقد أقر أنه في يده بحق. وقيل: يجب أن يصح دعوى الدفع على قول من يقول بأن لبيع الوفاء حكم الرهن؛ لأن المدعي بهذا الدفع أقر للمدعى عليه ببعض ما أنكره في الابتداء، وهو كون المحدود في يده بغير حق؛ وهذا لأنه لما كان لهذا المبيع حكم الرهن كان المبيع على ملك المدعي، إلا أن للمدعى عليه حق الحبس، وقد ادعى المدعي ذلك المحدود لنفسه، وكونه في يد المدعى عليه بعير حق، فإذا أقر بعد ذلك ببيع الوفاء، فقد ادعى ملك المحدود لنفسه، وأقر أن يد المدعى عليه بحق، فهو معنى قولنا: أقر ببعض ما أنكره له أولاً، وأما على قول عامة المشايخ إن لم يكن الوفاء مشروطاً في المبيع، فالبيع صحيح، فلا تسمع هذه الدعوى، وإن كان الوفاء مشروطاً في المبيع كان البيع فاسداً، فإن ادعى فسخ العقد صح دعواه الدفع، وما لا فلا. محضر: فيه دعوى رجل على رجل أنك سرقت من دراهمي كذا درهماً كانت موضوعة في موضع من هذه الدار، والمدعى عليه من سكان هذه الدار، وقد

محضر في دعوى الدفع من الوارث لدعوى أرض من التركة

كان قال هذا المدعى عليه لهذا المدعي: إن حلفت أني سرقت من دراهمك هذا المقدار الذي أودعته، فأنا أعطيك مثل ملك الدراهم، فحلف المدعي على دعواه، وأعطاه المدعى عليه نصف هذه الدراهم، وأعطاه بالنصف الباقي خطاً، ثم أراد المدعى عليه استرداد ما دفع إليه من الدراهم، كيف الحكم فيه؟ وقد كان الشيخ الإمام الزاهد نجم الدين النسفي كتب في الجواب أن المدعى عليه إن أعطى النصف، والتزم النصف صلحاً عن دعوى المدعي، وأقر أنه سرق الدراهم، فعليه إعطاء الباقي، وليس له أن يسترد النصف الذي أعطى، وإن أعطى النصف، وأعطى خطاً بالباقي بناء على يمين المدعي، ووفاءً بما قال لا يلزمه شيء، وله أن يسترد ما أعطاه، وقد قيل: له أن يسترد في الوجهين جميعاً؛ لأن بيمين المدعي لا يستحق على المدعى عليه شيء. نص محمد رحمه الله في كتاب «الصلح» : إن المدعي مع المدعى عليه إذا اصطلحا على أن يحلف المدعي على دعواه على أنه إن حلف، فالمدعى عليه ضامن المدعى به أن الصلح باطل. عرض على الشيخ الإمام الأجل نجم الدين النسفي رحمه الله محضر فيه دعوى رجل أثبت استحقاق كرم على رجل، وطالبه بغلاتها، وبين ذلك، فادعى المدعى عليه في دفع دعواه أنه صالحه من ذلك على بدل معلوم، ولم يذكر مقدار البدل، ولم يذكر قبضه، هل يكون ذلك دفعاً؟ قال: لا، وإن ذكر القبض فهو دفع، وإن لم يتبين مقدار البدل؛ لأن ترك بيان مقدار البدل فيما لا يحتاج إلى القبض لا يضر. واعلم أن هذه المسألة في الحاصل على وجهين: إن وقع الصلح عن الكرم لا غير إن كان البدل معلوماً، أو لم يكن معلوماً إلا أن الشهود شهدوا (267ب4) على قبضه كان الصلح صحيحاً، وكان دعواه دفعاً. وإن وقع الصلح عن الكرم وعن الغلات التي استهلكها المدعى عليه ببدل من خلاف جنس الواجب باستهلاك الغلة، وافترقا من غير قبض بطل الصلح في حق الغلة، سواء كان البدل معلوماً، أو لم يكن، فلا يكون هذا دفعاً في حق الغلة. محضر في دعوى الدفع من الوارث لدعوى أرض من التركة وصورته: رجل ادعى أرضاً من تركة ميت على وارث، فقال الوارث للمدعي في دفع دعواه: إنك مبطل في هذه الدعوى؛ لأنك قد قلت لي مرة: تواز بدر ميراث يافتة يا منكويد قد قلت لي مرة: سس بدر مال سيار كد فته من كفتم كد ام مال ميراث يا فته أم تو كفتي فلان ذمين إز توا قرار ست بملكي من ودعوى تو باطل إست هل يصح الاحتجاج منه بهذا الكلام؟ وهل يكون ذلك دفعاً لدعواه؟ وكان فيه جواب نجم الدين النسفي رحمه الله أن في قوله: ميراث يافتة يكون دفعاً؛ لأنه إقرار بالملك له، وفي قوله: كدفته لا يكون دفعاً؛ لأن هذا ليس بإقرار بالملك، وهذا الجواب ظاهر.

محضر في إثبات الإيصاء بثلث المال وكان الموصي امرأة

محضر في إثبات الإيصاء بثلث المال وكان الموصي امرأة وهي بنت الأستاذ محمد النجار السمرقندي المعروف بأستاذ سارة، قد كانت أوصت بثلث مالها على أن يشتري بثلثه الحرفة، ويفرق على الفقراء لقضاء صلواتها الفائتة، ويشتري بثلثه شياه، فيضحي بها في اليوم الأول من أيام الأضحية، ويشتري بثلثه الرعانف وما يتخذ منه الحيص والكران والكرنر على ما اعتاد الناس في أيام عاشوراء، وقد كانت أوصت إلى أختها وإخوتها بتنفيذ هذه الوصية، فادعت على زوجها بمحضر منه، وكانوا كتبوا في المحضر بيان الإيصاء، وقالوا في آخره: وفي يد زوجها المدعى عليه مداخل سرح كان طوله كذا، وعرضه كذا قيمته دينار ونصف، فواجب عليه إحضار الحل مجلس الدعوى لتتمكن هي من تنفيذ الوصية فيه إن كان قادراً على إحضاره، وإن عجز عن إحضاره واستهلكه، فواجب عليه أداء نصف دينار، وذلك ثلث قيمته لتنفيذ الوصاية فيه، وكان هذا موجباً للحل من قبل أن المذكور هي القيمة لا غير، ولم يذكروا أن هذه القيمة قيمته يوم قبضه أو يوم الاستهلاك، ولا شك أن الحل يكون أمانة في يد الزوج ظاهراً إذا لم يذكروا أنه قبضه بغير حق، فإنما يصير مضموناً عليه بالاستهلاك، فيعتبر قيمته يوم الاستهلاك، وعسى كانت قيمته يوم القبض أكثر من قيمته يوم الاستهلاك، فلا يصلح مطالبته بنصف دينار في الحال ما لم يعلم أن قيمته يوم الاستهلاك كانت ديناراً أو نصفاً. وكان ينبغي أن يذكروا أن الواجب عليه إحضار هذا الحل، وتسليمه إلى الموصى إليها حتى يبيعها، ويأخذ منه الثلث إن كان مقراً به، وإن كان منكراً كون الحل هذا في يده ملكاً للموصية هذه حتى تتمكن المدعية من إقامة البينة على ذلك، فكان الوجه الصحيح في طلب إحضار الحل هذا حتى تتمكن المدعية من إقامة تنفيذ الوصية فيه؛ لأنه لا تتمكن من تنفيذ الوصية فيه إلا بما ذكرنا، وهو البيع إن كان مقراً به، وإقامة البينة عليه إن كان منكراً. ورد محضر آخر كان فيه: ادعى فلان على فلان أن الكرم الذي في موضع كذا حدوده كذا، وهو في يد أم هذا المدعي أقرت أم هذا المدعي أنه ملك هذا المدعي، وبعد هذا الإقرار اشترى هذا المدعى عليه هذا الكرم من أم هذا المدعي، فواجب عليه تسليم هذا الكرم إلى هذا المدعي، وكان فيه جواب جماعة من أئمة سمرقند بالصحة، وأفتى الإمام النسفي رحمه الله بفساده، وقال: وجوه الخلل ظاهر، ولم يبين، وكان من جملة وجوه الخلل أن المدعي لم يدع الملك لنفسه، ولو كان ادعى الملك لنفسه، وادعى أن أمه أقرت له به لا يسمع دعواه به أيضاً؛ لأنه نسب ملكه إلى ما لا يصلح سبب الملك وهو الإقرار حتى لو نسبه إلى ما يصلح سبب الملك بأن قال: هذا الكرم ملكي اشتريته من أمي فلانة قبل شراء هذا المدعي تصح دعواه.

محضر فيه دعوى الميراث

ورد محضر في دعوى الإرث مع دعوى العتق فيه دعوى رجل على رجل عبداً أنه كان ملك ابن عمي فلان مات، وهو ملكه، وأنا وارثه لا وارث له غيري، وصار هذا العبد ميراثاً من جهته، وهو ممتنع عن طاعتي، فادعى المدعى عليه في دفع دعواه أن مورثه هذا أعتقني في مرضه، وأنا أخرج من ثلث ماله، وأنا اليوم حر، ولا سبيل له عليّ وأقام على ذلك بينة، فادعى هذا المدعي ثانياً أني كنت اشتريت هذا العبد من ابن عمي هذا في صحته، وكان فيه جواب نجم الدين النسفي رحمه الله: أنه لا يصح دعواه ثانياً لمكان التناقض، وتعذر التوفيق؛ لأنه ادعى الإرث، ثم ادعى الشراء في حياة المورث. وهذا الجواب صحيح، والعلة ظاهرة، فقد ذكر محمد رحمه الله في آخر «جامع الكبير» في رجل مات أبوه، فادعى داراً في يدي رجل أنه داره اشتراها من أبيه في حياته وصحته، وأقام على ذلك بينة، فلم تزل بينته، أو لم يكن له بينة، فحلف المدعى عليه، ثم أقام المدعي بينة أنها كانت دار أبيه مات وتركها ميراثاً له لا يعلمون له وارثاً غيره، فالقاضي يقضي بالدار للمدعي؛ لأنه لا تناقض بين دعوى الشراء من الأب في حياته وصحته أولاً، وبين دعوى الإرث منه ثانياً؛ لأنه يمكنه أن يقول: اشتريت منه كما ادعيت أولاً لكن عجزت عن إثبات شرائي، وبقيت الدار على ملك أبي ظاهراً، فصار ميراثاً لي بموته في الظاهر. وبمثله لو ادعى الإرث من الأب أولاً، ثم ادعى الشراء منه بعد ذلك لا يصح منه دعوى الشراء؛ لأن بين دعوى الإرث أولاً، وبين دعوى الشراء ثانياً تناقض إذ لا يمكنه أن يقول: ورثت من أبي كما ادعيت أولاً، فلما عجزت عن إثبات الإرث اشتريت منه يوضحه أن الشراء من جهة الأب قد يصير ميراثاً بأن يفسخ الشراء بينهما، أما في حياته، أو بعد وفاته بأن يجد به عيباً، فيرده فلا تتحقق المناقضة لا محالة، أما الموروث من الأب لا يصير مشترياً من جهته، فتتحقق المناقضة. محضر فيه دعوى الميراث صورته: رجل مات، فجاء رجل وادعى ميراثه بعصوبة بنوة العم، وأقام الشهود على النسب بذلك بذكر الأسامي إلى الجد، ثم إن منكر هذا النسب والميراث أقام بينة أن جد الميت فلان، وهو غير ما أثبت المدعي، هل يندفع بهذا دعوى المدعي وبينته؟ وكان جواب نجم الدين النسفي أنه إن وقع القضاء بالبينة الأولى لا يندفع، وإن لم يقع القضاء بالبينة الأولى لم يجز القضاء بإحدي البينتين لمكان التعارض. قال: وهو نظير مسألة طلاق المرأة يوم النحر من هذه السنة بالكوفة، وعتاق العبد يوم النحر بمكة من هذه السنة، قيل: وينبغي أن لا تندفع بينة المدعي، ولا تقبل بينة المدعى عليه؛ لأنها لوقبلت إما أن تقبل على إثبات اسم الجد، ولا وجه إليه؛ لأنه ليس بخصم، وإما أن تقبل لنفي ما ادعاه المدعي، ولا وجه إليه أيضاً؛ لأن البينة على النفي غير مقبولة.

محضر فيه دعوى بيع السكنى

وهو نظير ما لو ادعى على غيره أنه أقرضه ألف درهم في يوم كذا، وأقام المدعى عليه البينة أنه في ذلك اليوم كان في مكان كذا، سمى مكاناً آخر، لا تقبل بينة المدعى عليه؛ لأنها في الحقيقة قامت على النفي. ورد محضر في دعوى مرابحة والشهود (268أ4) شهدوا بلفظ خافردا بمحضر بعلة أن المشهود به لم يدخل تحت دعوى المدعي؛ لأن الدعوى وقعت في مرابحه، والشهود شهدوا بخانة وسرائجه غير، والبيت غير، وهذا الجواب الصحح فيما إذا كانت الدعوى بالعربية، والشهادة بالعربية، فأما إذا كانت الدعوى بالفارسية والشهادة بالفارسية، يصح الدعوى والشهادة؛ لأن اسم خانه بالفارسية ينطلق على سرائجه بالفارسية، ولا كذلك بالعربية. محضر فيه دعوى بيع السكنى عرض على شيخ الإسلام السعدي رحمه الله، وكان فيه باعه بحدوده وحقوقه، فرده بعلة أن السكنى نقلى، والنقلى لا حد له، عرض عليه محضر آخر لم يذكر فيه اسم حد المدعى عليه. صورته: حضر فلان، وأحضر مع نفسه فلاناً، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه، فأجاب بالصحة؛ لأن المدعى عليه حاضر، وفي الحاضر الإشارة تكفي، ولا يحتاج إلى ذكر اسمه واسم أبيه، ولا يحتاج إلى ذكر جده بالطريق الأولى، فأما في الغائب فلابد من ذكر الجد، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وكذلك في ذكر الحدود لابد من ذكر جد صاحب الحد، وكذلك في تعريف المتخاصمين لابد من ذكر الجد، وكان القاضي الإمام ركن الإسلام علي بن الحسين السعدي في الابتداء لا يشترط ذكر الجد، وفي آخر عمره كان يشترط ذلك، وهو الصحيح، وعليه الفتوى. ورد محضر فيه دعوى الشفعة: وكان فيه بيان أنواع الطلب الثلاثة، فرد بعلة أنه لم يكن في الدعوى والشهادة أن الشفيع طلب الإشهاد على فور يمكنه من الإشهاد، وأنه أشهد على هذا المحدود، والمحدود أقرب إليه من المشتري والبائع، ولابد من بيان ذلك؛ لأن الشرط هو الإشهاد على ما هو أقرب إليه من المحدود والبائع، والمشتري يجب أن يعلم بأن مدة طلب الإشهاد مقدرة بالتمكن من الإشهاد عند حضرة أحد الأشياء الثلاثة، إما البائع أو المشتري أو المحدود، والطلب من المشتري صحيح على كل حال قبض الدار، أو لم يقبض، والطلب من البائع صحيح إذا كان الدار في يده، وإذا لم يكن في يده ذكر شيخ الإسلام في «شرحه» أن الطلب صحيح استحساناً غير صحيح قياساً. وذكر الشيخ أبو الحسن القدوري في «شرحه» والناطفي في «أجناسه» وعصام في «مختصره» أنه ليس بصحيح من غير ذكر القياس والاستحسان، وإذا قصد الأبعد من هذه الأشياء، وترك الأقرب إن كان الكل في مصر واحد لا تبطل شفعته، هكذا ذكر شيخ

محضر ورد في دعوى الرجوع بثمن الأتان عند ورود الاستحقاق

الإسلام في «شرحه» ، وعصام في «مختصره» ؛ لأن المصر في سائر أطرافه كمكان واحد حكماً، وذكر الخصاف في «أدب القاضي» إذا اختار على الأقرب، وترك الطلب تبطل شفعته، وهكذا ذكر الصدر الشهيد في «واقعاته» . وإن كانوا في مصرين، أو في أمصار، فإن كان أحد هذه الأشياء مع الشفيع في مصر واحد، فتركه وذهب إلى مصر آخر بطلت شفعته، وإن كان الشفيع في مصر على حده، والمشتري والبائع والدار كل واحد في مصر على حده، فيترك الأقرب، ويذهب إلى الأبعد، فقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: تبطل شفعته، وهكذا ذكر عصام في «مختصره» وقال بعضهم: لا تبطل شفعته، وهكذا ذكر الناطفي في «أجناسه» ؛ وهذا لأن الشفيع قد لا يقدر على الذهاب إلى الأقرب بسبب من الأسباب، فلا يكون بالذهاب إلى الأبعد مبطلاً شفعته، وعلى هذا إذا كان إلى الأقرب طريقان، فترك الطريق الأقرب، وذهب في الطريق الأبعد، فعلى قياس ما ذكره عصام يبطل شفعته، وعلى قياس ما ذكره الناطفي لا يبطل شفعته، ثم إذا حضر المصر الذي فيه الأقرب يشترط لصحة الطلب أن يكون الطلب بحضرة ذلك الشيء الدار، والبائع والمشتري في ذلك على السواء هو المعروف والمشهور. وكان القاضي الإمام أبو زيد الكبير يفرق بين الدار، وبين البائع والمشتري، وكان يقول: في البائع والمشتري يشترط الطلب بحضرته، وفي الدار لا يشترط الطلب بحضرته، بل إذا طلب وأشهد من غير تأخير في أي مكان أشهد من المصر الذي الدار فيه يصح الطلب، وكان يقول: إليه أشار محمد رحمه الله في باب شفعة أهل البغي، وعلى هذا إذا كان الدار في مصر الشفيع لا يشترط الطلب عند حضرة الدار على ما اختاره القاضي الإمام، ولو كان البائع والمشتري في مصر الشفيع يشترط الطلب عند حضرته بالاتفاق. محضر ورد في دعوى الرجوع بثمن الأتان عند ورود الاستحقاق صورته: رجل حضر مجلس قضاء بخارى يسمى حيدر الحميري، وأحضر مع نفسه رجلاً يسمى عثمان الحميري، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أنه باع مني أتاناً تامة الجثة بكذا درهماً في شهر كذا من سنة كذا، وأني اشتريتها منه، وجرى التقابض بيننا، ثم إني بعت هذه الأتان من أحمد بن فلان بثمن معلوم، وأنه اشتراها مني بذلك الثمن، وجرى التقابض بيننا، ثم إن أحمد باع هذه الأتان من الدهقان علي بن فلان، ثم إن زيداً استحق هذه الأتان من يد الدهقان علي بن فلان في مجلس قضاء كورة نسف بين يدي الشيخ القاضي الإمام معين الدين، والقاضي معين الدين هذا يومئذ قاضي كورة نسف ونواحيها من جهة القاضي الإمام علاء الدين عمر بن عثمان المتولي لعمل القضاء، والأحكام بكورة سمرقند، وبأكثر كور المملكة بما وراء النهر بالبينة العادلة التي قامت بها عنده، وجرى الحكم له منه عليه بها، وأخرجها من يده، وسلمها إلى هذا المستحق.

ثم جرى الحكم من القاضي الإمام سديد الدين طاهر ثابت الحكم بخارى من جهة القاضي الإمام صدر الدين أحمد بن محمد المتولي لعمل القضاء بكورة بخارى ونواحيها لهذا المستحق عليه، وهو الدهقان علي بالرجوع على بائعه بالثمن الذي أدى إليه، وهو أحمد بن فلان، واسترد الثمن منه بكماله، ثم جرى الحكم من القاضي سديد الدين هذا لأحمد بن فلان هذا بالرجوع بالثمن على بائعه أنا بالثمن الذي أدى إليه، واسترد الثمن مني بكماله، ولي حق الرجوع على هذا الذي أحضرته بالثمن الذي أديته إليه، فسئل المدعى عليه هذا الذي أحضره هذا المدعي فأنكر، وقال: مرا باين مدعي سيح دادني نيست، فأحضر المدعي شهوداً على دعواه، واستفتى عن صحة هذه الدعوى، فقيل: في هذه الدعوى خلل من وجوه: g أحدها: مدعي يكتب، وكان القاضي علاء الدين مأذوناً بالاستخلاف؛ لأنه إذا لم يكن مأذوناً بالاستخلاف لا يصلح استخلافه، فلا يصير علاء الدين قاضياً. والثاني: أنه لم يذكر تاريخ تقليد قاض معين الدين لينظر أن القاضي علاء الدين هل كان قاضياً وقت تقليد القاضي معين الدين، لينظر أنه هل صار قاضياً بتقليده؟؛ ولأنه لم يذكر أنه هل كان لعلاء الدين قاضي سمرقند ولاية نسف صريحاً، وإنما ذكر بأكثر كورها لمملكته بما وراء النهر ووراء نسف بما وراء النهر كورة كبيرة، فبهذا لا يصير نسف مذكوراً؛ ولأنه ذكر القاضي معين الدين حكم بالبينة العادلة التي قامت بها عنه، ولم يذكر أن البينة قامت على إقرار المشتري أنها ملك المستحق، أو قامت على أنها ملك المستحق، والحكم مختلف؛ ولأنه يذكر أن القاضي معين الدين حكم بالبينة العادلة، ولم يذكر أن البينة العادلة قامت بحضرة المدعى عليه، وما لم تكن البينة والحكم بحضرة المدعى عليه لا يصح الحكم، ثم قال: وجرى الحكم من القاضي (268ب4) الإمام سديد الدين نائب الحكم ببخارى لهذا المستحق عليه بالرجوع على بائعه بالثمن، ولم يذكر أن ذلك البيع كان ثابتاً عند القاضي سديد الدين، والقاضي سديد الدين حكم بفسخ ذلك البيع، وهذا يوجب خللاً؛ لأن الحكم بالرجوع بالثمن إنما يصح إذا ثبت البيع عند الحاكم، وحكم بفسخ البيع، ثم المشترى يرجع على البائع، حكم القاضي بالرجوع عليه بالثمن، أو لم يحكم. ولم يذكر أيضاً أن القاضي الإمام صدر الإسلام كان مأذوناً في الاستخلاف، ولا بد من ذكره على ما ذكرنا، ولأن المدعي مدعي الثمن ودو دعوى ني كويد كه هل آن سبحا رابح است در شهر وآن سيمها اكر بنا بد در شهر با بايد، ولكن رابح بنا شديا يدكه قيمت دعوى كند بكويد يروي واجب است كه قيمت آن سيم كه امروز اذبدي است ثمن وسد، فأما دعوى ثمن درست بتأيد. وحكي أن القاضي الإمام اللامسي حين قلد القضاء بسمرقند كان لا يعمل بسجل من كان قاضياً قبله، فقيل له في ذلك، فقال: إنه كتب في سجلاته، وهو اليوم قاضي القضاء بسمرقند، وبما وراء النهر وبخارى من ما وراء النهر، وقاضي سمرقند ليس قاضي

بخارى، فكان هذا كذباً محضاً، والكاذب كيف يكون قاضياً؟ وبعض مشايخ ذلك الزمان كانوا يجيبون عن هذا ويقولون: إن قاضي سمرقند قاضي أكثر كور المملكة بما وراء النهر، وللأكثر حكم الكل في أحكام الشرع، فجاز أن يقال: قاضي ما وراء النهر. عرض محضر على الشيخ الإمام الزاهد نجم الدين النسفي في بيع سهم واحد شائعاً بحدود هذا السهم قال: كان مشايخنا بسمرقند يقولون: بأنه يوجب الفساد؛ ولأنه توهم الإفراز؛ لأن المفرز تكون له الحدود، أما المشاع فلا، قال: والصحيح عندي أنه لا يوجب الفساد، وقد ذكر أبو جعفر الطحاوي في «شروطه» في مواضع: اشترى منه النصف من كذا بحدود هذا النصف، قال: وسمعت السيد الإمام الأجل الحجاج محمد بن أبي شجاع يقول: لا أحفظ من والدي في هذه المسألة شيئاً، ولا رواية عن أصحابنا في ذلك، فذكرت له ما ذكر الطحاوي، فاستحسنه، وأخذ به؛ وهذا لأنه ليس في ذكر حدوده ما يدل على الإفراز، ألا ترى أن ذكر السهم لا يدل على الإفراز؟ فذكر حدوده كذلك لا يكون. ورد دعوى الإجارة الطويلة محضر: وكان المكتوب فيه أول يوم هذه الإجارة يوم الأربعاء السادس من شهر كذا، وكتب بعد ذلك، وتقابضا في التاريخ المذكور فيه، فقيل قوله: وتقابضا في التاريخ المذكور فيه خطأ؛ لأنه يشير إلى وقوع التقابض الذي هو حكم العقد مع العقد في زمان واحد، وإنه لا يكون؛ لأن التقابض الذي هو حكم العقد ما يكون بعد العقد، ولكن يكتب: وتقابضا في اليوم الذي وقع العقد فيه، أو يكتب: وتقابضا في اليوم الذي باشر العقد فيه ليثبت التقابض بعد العقد، والصحيح عندي أنه يكتب: وتقابضا بعدما باشر العقد في اليوم الذي باشر العقد فيه. ورد محضر في دعوى مال الإجارة صورته: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن والد هذا الذي أحضره معه فلان آجر مني محدود كذا بكذا إجارة طويلة مرسومة، ثم مات وانفسخت الإجارة بموته، وصار بقية مال الإجارة ديناً في تركته، فرد المحضر بعلة أنه لم يكن في المحضر ذكر قبض مال الإجارة، وما لم يقبض للآجر مال الإجارة لا يصير شيئاً منه ديناً في تركته بموته، ولأنه لم يذكر في الدعوى تاريخ أول مدة الإجارة وتاريخ آخرها، ولا بد من ذكر ذلك حتى ينظر؛ أبقي شيء من مال الإجارة أم لا؟ وهذا؛ لأن مدة الإجارة قد تطول مبلغ ثلاثون سنة أو أكثر، فإذا بلغت هذا المبلغ تنتهي الإجارة بانتهاء المدة، ويصير جميع مال الإجارة مستحقاً للآجر بانتهاء المدة، فلا يبقى شيء حتى يصير ذلك ديناً في

التركة، ولو لم تبلغ مدة الإجارة هذا المبلغ لا بد وأن يعرف ما بقي من المدة ليعلم ما بقي من مال الإجارة، وإنما يعلم ذلك بذكر التاريخين. وقد قال بعض مشايخنا: ينبغي أن يصرح بقبض مال الإجارة، ولا يكتفي بقوله: تقابضا قبضاً صحيحاً، فإن المستأجر لو أحضر مال الإجارة، ولم يدفعه إلى الآجر، وقبض المستأجر، ثم سلم المستأجر إلى الآجر، ولم يسلم مال الإجارة، فيكون قوله: وتقابضا مستقيماً على هذا الاعتبار، مع أنه لم يوجد أحد البدلين. وبعض مشايخنا زينوا هذا القول وقالوا: المعتبر في نظر الشرع وقواعده مفهوم الناس، والمفهوم من قوله: وتقابضا قبض الآجر الأجرة، وقبض المستأجر المستأجر. وقد قيل: لا ينبغي أن يكتب في صك الإجارة عل أن يزرع المستأجر ما بدا له؛ لأن كلمة «على» كلمة شرط، وزراعة المستأجر بنفسه ليست من قضايا العقد، فقد شرط في العقد ما لا يقتضيه العقد، ولكن يكتب لزرع ما يبدو له، وهذا لا يوجب الفساد؛ لأن هذا يرجع إلى بيان غرض المستأجر لا إلى الشرط، إلا أن هذا القول عندي في غاية الرياضة؛ لأن الإجارة في الأصل شرعت لحاجة المستأجر إلى الانتفاع، وكان انتفاع المستأجر بنفسه من قضايا عقد الإجارة، ولو لم يكن انتفاع المستأجر بنفسه من قضايا الإجارة، إلا أن اشتراط ما لا يقتضيه العقد إنما يوجب فساد العقد إذا كان لأحد المتعاقدين فيه منفعة بالإجماع، أو كان لأحدهما فيه مضرة عند أبي يوسف، أما إذا لم يكن لأحدهما فيه منفعة، ولا مضرة لا يفسد العقد، كما لو اشترى طعاماً، وشرط البائع على المشتري أن يأكله، وهاهنا لا منفعة لأحدهما في هذا الشرط ولا مضرة، ولو لم يذكر في عقد الإجارة ما يزرع في الأرض، ذكر في «الجامع الصغير» أن الإجارة فاسدة، وذكر في موضع آخر أنها صحيحة استحساناً. ورد محضر فيه دعوى الإجارة، ودعوى استحداث الآجر يده على المستأجر صورته: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضر معه أن هذا الذي أحضرته معي أخذ مني عشرة وبرات أرض، حدودها كذا في ضيعة كذا، وسلمها إلي، ثم إنه أحدث يده على هذه الأراضي بغير حق، فواجب عليه قصر يده عن هذه الأراضي، وترك التعرض لها، وتسليمها إلي، ورد المحضر بعلة أنه لم يذكر فيه أنه آجر هذه الأراضي وهو يملكها، وهذا أمر لا بد من ذكره؛ لأن الإجارة من غير المالك لا تصح، وإن ملكه بعد ذلك، وكذلك لم يذكر فيه أنه أجر هذه الأراضي وهي في يده، ولا بد من ذكره؛ لأن الأراضي ربما كان مشتراة، وإجارة العقار المشترى قبل القبض لا يجوز، إما على الخلاف الذي في بيع العقار قبل القبض كما ذهب إليه بعض المشايخ، أو على الوفاق كما ذهب إليه بعض المشايخ، ولأنه لم يذكر في المحضر أن هذه الأراضي صالحة للزراعة وقت العقد؛ لأن الإجارة للانتفاع، فمحلها ما يصلح للانتفاع. ولا يكتفي بقولها: استئجاراً صحيحاً لجواز أن الأرض لا تكون صالحة للزراعة وقت العقد، ولكن تكون بحال تصلح للزراعة لعمل المستأجر قطناً أن كون الأرض بحال

تصلح للزراعة بعمل المستأجر تكفي لصحة العقد، والله أعلم. ورد محضر فيه دعوى بقية مال الإجارة المفسوخة صورته: حضر وأحضر، وهذا الذي حضر وكيل عن أخته الكبرى المسماة فلانة بالدعوى المذكور فيه، وقيم عن أخته الصغيرة المسماة فلانة من جهة الحكم بالدعوى المذكور فيه، وهم أولاد فلان بن فلان، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه لنفسه بطريق الأصالة، ولأخته الكبيرة بحكم الوكالة، ولأخته الصغيرة بحكم الإذن الحكمي أن هذا الذي أحضر آجر من ابننا (269أ4) فلان جميع الأرض التي حدودها كذا بكذا من الدنانير إجارة طويلة مرسومة، وإن أبانا توفي قبل انفساخ الإجارة هذه، وقبل قبضه شيئاً من مال الإجارة، وانفسخت هذه الإجارة بموته، وصار مال الإجارة، وذلك كل الدنانير ميراثاً لورثته هؤلاء المسمون ما خلا ديناراً واحداً، فإنه ذهب بعضه بمضي ما مضى من مدة الإجارة، والبعض بإبراء الآجر ساعته في حياته، فواجب عليه أداء الدنانير المذكورة ما خلا ديناراً واحداً ليقبض المدعي حصة نفسه بطريق الأصالة، وحصة أخته الصغيرة فلانة بالإذن الحكمي. فرد المحضر بعلة أن المذكور فيه أن مال الإجارة صار ميراثاً لورثته ما خلا ديناراً، فإنه ذهب بعضها بإبراء الآجر هذا في حياته، ودعوى الإبراء على هذا الوجه فاسدة؛ لأن الإبراء إنما يصح بعد الوجوب أو بعد سبب الوجوب، وحال حياة المستأجر مال الإجارة غير واجب على الآجر إذا كانت الإجارة قائمة لم تنفسخ، ولم يوجد سبب وجوبه؛ لأن سبب وجوبه انفساخ الإجارة، والإجارة لم تنفسخ بعد، وعلة أخرى أن المذكور في الدعوى: فواجب على المدعى عليه أن يدفع مال الإجارة إلى هذا المدعي ليقبض حصة نفسه بطريق الأصالة، وحصة أخته بطريق الوكالة، والوكيل بالخصومة لا يملك القبض عند زفر، وعليه الفتوى، فلا تصح مطالبته بحصة الموكل على ما عليه الفتوى. والعلة الأولى ليست بصحيحة؛ لأن دعوى الإبراء إن لم تصح فذاك أمر عليهم، فلا يوجب ذلك خللاً في دعوى بقية مال الإجارة، وإن ذلك أمر لهم. ورد محضر فيه دفع دعوى مال الإجارة المفسوخة بموت من ورثة الآجر، وكان الدعوى بشرائطها من غير خلل فيها، فقال المدعى عليه في دفع دعوى المدعي: إن أباك قد قبض مني في حال حياته كذا مناً من الحنطة عوضاً عن مال الإجارة الذي يدعيه، فرد المحضر بعلة أن دفع الحنطة عوضاً من مال الإجارة يستدعي وجوب مال الإجارة، ومال الإجارة لا يجب على الآجر حال حياة الآجر، إذ الإجارة حال حياة الآجر قائمة على حالها، ومال الإجارة إنما يجب على الآجر بعد انفساخ الإجارة، فكيف يتصور قبض

المستأجر الحنطة عوضاً من مال الإجارة في تلك الحالة؟ وعلة أخرى أنه دفع الحنطة عوضاً، وإنما ذكر أن أباك قبض الحنطة عوضاً، وبقبضه الحنطة عوضاً لا تصير الحنطة عوضاً ما لو يوجد الدفع من صاحب الحنطة بجهة العوض. عرض صك في الإجارة، وكان المكتوب فيه: آجر فلان من فلان أرضاً حدودها كذا، وهي صالحة للزراعة على أن يزرع المستأجر فيها كذا، فقيل: الصك باطل، لأنه شرط في العقد ما لا يقتضيه العقد؛ لأن زراعة شيء بعينه ليس من مقتضيات العقد، ولأحد المتعاقدين، وهو الآجر فيه منفعة، ومثل هذا الشرط يوجب فساد العقد، وقيل: بهذا لا يبطل الصك؛ لأن قوله في هذا المقام: على أن يزرع فيها كذا، وقوله: ليزرع فيها كذا سواء، وقوله: ليزرع فيها ليس بشرط، وإنما هو لبيان الغرض، ولا يوجب الفساد، كيف وقد ذكرنا قبل هذا أن المستأجر إذا لم يبين ما يزرع مفسداً للعقد، فبذكره كيف يفسد العقد؟ عرض محضر على شيخ الإسلام: سئل شيخ الإسلام السغدي عن محضر كان في أوله: ادعى روزيه بن عبد الله الهندي على فلان، فأجاب بأنه غير صحيح؛ لأن النسبة على هذا الوجه لا تقع بها الإعلام، ويجب أن يكتب أنه عبد فلان أو مولى فلان، وكان فلان بن فلان أقر له، أو عبد لمولاه محجور عليه، فيكون الإقرار لمولاه، أو مأذون بديون، فيكون الإقرار له، فيختلف حكم الإقرار باختلاف حاله، فلا بد من ذكره. قال: والمعتق يعرف لمولاه، وإن كان مولاه معتقاً أيضاً لا بد من أن يقال: إنه مولى فلان، وإن كان المولى الثالث معتقاً أيضاً، فلم ينسبه إلى مولاه فلا بأس؛ لأن المولى الثالث بمنزلة الجد في النسب، فيجوز الاقتصار عليه. عرض سجل فيه حكم نائب قاضي سمرقند، فردوه لوجوه: أحدها: أنه كان فيه حكم فلان، وهو نائب عن قاضي سمرقند فلان، ولم يذكر فيه أن قاضي سمرقند مأذون بالاستخلاف. والثاني: أنه كان فيه قاضي سمرقند كان قاضياً من قبل الملك سنجر، ولم يكن كذلك، بل قاضي سمرقند كان من قبل الخاقان محمد، والخاقان محمد كان من قبل الملك سنجر، إلا أن هذا لا يصلح خللاً؛ لأن قاضي سمرقند قاضياً من جهة الملك سنجر، ألا ترى أن ولاية الملك سنجر كانت ظاهرة على أهل سمرقند في الابتداء. والثالث: أن الشهود في شهادتهم قالوا: ما وقع فيه الدعوى ملك أين مدعي است واندر دردست اين مدعى عليه بنا حق است، ولم يقولوا: فواجب على هذا المدعى عليه كه دست خويش كتاه كندزين مدعى به وباين مدعي تسليم كند، وقد اختلف المشايخ في هذا، قال بعضهم: لا بد من ذكره، ونحن إن لم نقل به، ولكن لا بد من ذكره حتى لا يبقى لأحد فيه مجال الطعن.

محضر فيه دعوى مال المضاربة على ميت بحضرة وارثه (269ب/4)

والرابع: أنه كان في آخره، وجعلت حكمي هذا موقوفاً على إمضاء القاضي فلان، وهو الذي كان ولاه، وهذا يخرجه من أن يكون حكماً؛ لأن المعلق بشيء، والموقوف عليه غير ثابت قبل وجود ذلك الشيء، وهذا خلل قوي لو حصل الحكم على هذا الوجه، أما لو حصل الحكم مطلقاً، والكاتب كتب على هذا الوجه، فهذا لا يوجب خللاً في الحكم، إنما يوجب خللاً في المكتوب. محضر ورد في المحضر دعوى إجارة العبد صورته: ادعى فلان على فلان عبداً في يديه أني أجرت هذا العبد من هذا الذي في يديه كل يوم بدرهم، وقد مضى كذا كذا يوماً، فواجب عليه تسليم هذا العبد إلي مع كذا من الأجرة، فرد المحضر بعلة أنه ادعى أنه أجره كل يوم بدرهم، ولم يذكر للإجارة مدة تنتهي إليها، فكل يوم يجيء ينعقد فيه عقد الإجارة، وهذا اليوم الذي وقعت فيه الدعوى قد انعقد فيه عقد الإجارة، وكان للمستأجر إمساك العبد والانتفاع به، فكيف تصح مطالبة المدعي إياه بتسليمه إليه؟ ولو كان ذكر لذلك مدة، وهذا اليوم الذي وقعت فيه الدعوى من جملة تلك المدة كان كذلك. لأن هذا اليوم إذا كان من جملة تلك المدة كان داخلاً في عقد الإجارة، وكان للمستأجر حق إمساكه عند نفسه والانتفاع به؛ ولأنه ادعى كذا كذا من الأجرة، وكان في محضر الدعوى أجر العبد، وبعد ذكر كلمات كثيرة، وسلم إليه، ولم يذكر وسلم العبد إليه، وبهذا لا يثبت تسليم العبد لجواز أنه سلم شيئاً آخر، وما لم يثبت تسليم العبد لا تجب الأجرة، فلا تستقيم دعوى تسليم الآجر خط الصلح والإبراء، عوض خط الصلح والإبراء. وكان المذكور فيه: ادعى فلان على فلان مالاً معلوماً، فصالحه فلان على ألف درهم، وقبض فلان بدل الصلح، وذكر في آخره، وأبرأه المدعي عن جميع دعاويه وخصوماته إبراءً صحيحاً، فقيل: الصلح غير صحيح إذ ليس فيه مقدار المال المدعى، ولا بد من بيان ذلك ليعلم أنه وقع معارضة، أو وقع إسقاطاً، وليعلم أنه وقع صرفاً يشترط فيه قبض البدل في المجلس أولاً، ولم يتعرض لمجلس الصلح، فمع هذه الاحتمالات لا يمكن القول بصحة الصلح، أما الإبراء على سبيل العموم، فلا تسمع دعوى المدعي بعد ذلك لمكان الإبراء العام لا لمكان الصلح. محضر فيه دعوى مال المضاربة على ميت بحضرة وارثه (269ب/4) صورته: حضر وأحضر مع نفسه فلاناً وفلاناً كلهم أولاد فلان، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضرهم مع نفسه أنه دفع إلى مورثهم فلان ألف درهم مضاربة، وإنه تصرف فيها وربح أرباحاً، وإنه مات قبل قسمة هذا المال، وقبل دفع رأس المال إلى رب المال، وقبل قسمة الربح مات مجهلاً لهذا المال، وصار ذلك ديناً في تركته إلى آخره، فقبل أن وقعت الدعوى في رأس المال والربح، فلا بد من بيان قدر الربح، وتركه يصير خللاً في الدعوى، وإن ادعى رأس المال وحده، فلا بأس بترك بيان قدر الربح.

محضر فيه دعوى قيمة الأعيان المستهلكة

محضر فيه دعوى قيمة الأعيان المستهلكة صورته: حضر وأحضر، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه ألف دينار قيمة عين استهلكه من أعيان أمواله بسمرقند، ورد المحضر بوجوه: أحدها: أنه لم يبين المستهلك، ولا بد من بيانه؛ لأن من الأعيان ما يكون مضموناً بالقيمة عند الاستهلاك، ومنها ما يكون مضموناً بالمثل، ولعل هذا العين مضمون بالمثل، فكيف تستقيم دعوى القيمة مطلقاً؟ ولأن من أصل أبي حنيفة رحمه الله أن حق المالك لا ينقطع عن العين بنفس الاستهلاك، ولهذا جوز الصلح عن المغصوب المستهلك على أكثر من قيمته، وإنما ينتقل حقه عن العين، وينتقل إلى القيمة بقضاء القاضي وبتراضيهما، فقبل ذلك يكون حقه في العين، فتكون الدعوى واقعاً في العين، فلا بد من بيانه؛ ولأنه لم يذكر أن هذا المقدار قيمة هذا العين المستهلك بسمرقند أو ببخارى، فإن قيمة الأعيان تختلف باختلاف البلدان، والمعتبر قيمة المستهلك في مكان الاستهلاك، فلا بد من بيان ذلك. محضر فيه دعوى الحنطة صورته: ادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضر ألف منّ من الحنطة قبضاً موجباً للرد، وبين أوصاف الحنطة، قال: وهكذا كان أفراح هذا الذي أحضر معه في حال جواز إقراره بقبض الحنطة الموصوفة، فإنه قال لهذا الذي حضر بالفارسية: ترا هزاد من كندن آبي بكيزة ميانه سرخه تيرما هي بوزن أهل بخارى با منست إقراراً صحيحاً صدقه هذا الذي حضر فيه خطاباً، وقد توفي فلان قبل أن يرد شيئاً من هذه الحنطة مجهلاً غير معين لهذه الحنطة المذكورة فيه، وصارت هذه الحنطة المذكورة مضمونة لهذا الذي حضر في تركته، وخلف من الورثة أخاً له هذا، وخلف من التركة في يد هذا الذي أحضره أموالاً، منها ألف منّ من الحنطة بالأوصاف المذكورة، فواجب على هذا الذي أحضره معه أداء مثل هذه المذكورة فيه من هذه الحنطة المتروكة المذكورة فيه، وشهد الشهود على إقرار المدعى عليه بذلك، فرد المحضر بوجوه ثلاثة: أحدها: أنه ادعى أولاً أنه قبض من ماله قبضاً موجباً للرد، والقبض المطلق خصوصاً نصفه كونه موجباً للرد يتصرف إلى الغصب، وكذلك الأخذ المطلق، ثم قال: وهكذا أقر فإنه قال بالفارسية كذا وكذا على نحو ماكتب، وليس إقرار المدعى عليه كما ادعاه المدعي فإنه قال: ترابا منست، وهذا منه إقرار بالوديعة، فشهادتهم تكون بالوديعة، فلم تكن الشهادة موافقة للدعوى المذكورة. والثاني: ادعى عليه الحنطة بالمنّ والوزن في مثل هذه الصورة. والثالث: أنه قال: فواجب عليه أداء مثل هذه الحنطة المذكورة فيه من التركة. ولا يجب على الوارث أداء الدين من غير التركة لا محالة، بل الوارث بالخيار، إن شاء أدى الدين من التركة، وإن شاء أدى الدين من مال نفسه، وإنما يشترط قيام التركة في

محضر فيه دعوى قبض العدليات بغير حق واستهلاكها

يد الوارث لتوجه المطالبة عليه لا للأداء منها. والخلل الثالث ليس بصحيح؛ لأن أصل الوجوب في التركة، إلا أن للوارث ولاية استخلاص التركة بأداء الدين من مال نفسه، ولما كان أصل الوجوب في التركة تستقيم دعوى الأداء من التركة نظراً إلى الأصل. محضر فيه دعوى قبض العدليات بغير حق واستهلاكها صورته: هذا الذي حضر ادعى على هذا الذي أحضره معه أن هذا الذي أحضره قبض من هذا الذي حضر دراهم عدلية، وبين عددها وصفتها وجنسها بغير حق، واستهلكها، فواجب عليه أداء مثل هذه الدراهم العدلية إن كان يوجد مثلها، وأداء قيمتها إن لم يوجد مثلها، وقيمتها يوم القبض كان كذا واليوم كذلك، فظن بعض مشايخنا أن في هذه الدعوى نوع خلل من قبل أنه ذكر قبض هذه الدراهم بغير حق واستهلكها، ولم يذكر أنه استهلكها بغير حق، أو بغير أمر صاحبه، ويحتمل أن الاستهلاك كان بغير أمر المالك، ويحتمل أنه كان بأمره، واعترض على هذا القائل أن الاستهلاك إن كان لا يصلح سبباً لمكان الاحتمال، فالغصب السابق كافٍ، فيمكن إيجاب الضمان بالغصب السابق. وقيل في الجواب عن هذا الاعتراض: بهذا لا يمكن إيجاب الضمان بالغصب السابق؛ لأنه يحتمل أن المالك رضي بقبضه الدراهم، والمالك إذا رضي بقبض الغاصب، وقد كان الغاصب قبض للحفظ يبرأ عن الضمان، ذكره شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في كتاب «الصرف» . وأكثر المشايخ على أن هذا الخلل المذكور في الحقيقة ليس بخلل، وجهه أن الغصب والقبض بغير حق في نفسه صلح لوجوب الضمان، وكذلك الاستهلاك في نفسه صلح سبباً لوجوب الضمان، إلا أن أمر المالك بالاستهلاك، وإجارته قبض الغاصب مبرىء له عن الضمان، وليس على المدعي أن يتعرض للمشتري عن الضمان نفياً وإثباتاً، إلا إذا ادعى المدعى عليه شيئاً من ذلك، فحينئذٍ يكون ذلك دفعاً لدعوى المدعي لا أن يشرط بيان ذلك على المدعي.h ثم في هذه الدعوى لو لم يكن المدعي ذكر الاستهلاك في الدعوى إنما ذكر القبض بغير حق ينبغي أن يطلب من المدعى عليه أولاً تسليم عين تلك الدراهم؛ لأن الدراهم إذا كانت قائمة، وثبت قبضها بغير حق يجب على المدعي تسليم عينها، لما عرف أن الدراهم والدنانير تتعينان في المغصوب، فيطالب المدعي بتسليم عينها، فإن عجز عن تسليم عينها، فبتسليم مثلها، فإن لم يقدر على المثل، فبتسليم قيمتها. ومن الأئمة من قال: ينبغي للمدعي أن يطالب المدعى عليه أولاً بإحضار تلك الدراهم ليقيم البينة عليها، ثم يطالبه بتسليمها إليه كما هو الحكم في سائر المنقولات. ولكن يقول: طلب الإحضار على الإطلاق غير مستقيم هاهنا بخلاف سائر المنقولات؛ وهذا لأن الإحضار إنما يطلب في المنقولات حتى إذا شهد الشهود، وأشاروا إلى المدعى

محضر في دعوى الثمن

به، والشهود لا يمكنهم الإشارة هاهنا، فإنهم لا يعلمون أن هذه الدراهم هل هو عين تلك الدراهم المغصوبة؟ فإن الدراهم يشبه بعضها بعضاً، فتقع الإشارة إلى غيرها عسى بخلاف سائر المنقولات، فإنه يعرف ظاهراً إلا إذا كان على الدراهم علامة يمكن تمييزها من جنسها، فحينئذٍ يشترط الإحضار أولاً. محضر في دعوى الثمن صورته: ادعى رجل على غيره أنه باع ثلاثة أذرع من الأطلس المعدني، وبين طوله وعرضه بثمن معلوم، وبين ذلك، وإنه اشتراها منه هذه القطعة من الأطلس الموصوف في مجلس البيع بالثمن الذي بينه، وقلنسوتين معروفتين بالعراق، وإوزة وتكمها، بكذا ثمناً وبين ذلك وسلمها إليه، وأنه قبضها منه من غير تسليم الثمن، فواجب عليه أداء الثمن المذكور فيه، وبين شرائط البيع والشراء من البلوغ والعقل، وطالبه بالثمن، وأنكر الخصم الشراء منه، وأنكر وجوب الثمن عليه، وأقام المدعي بينة على وفق دعواه بشرائطها، وكتبوا نسخة المحضر، وطلبوا جواب الفتوى، فزعم بعض المفتين أن في هذه الدعوى خللاً من قبل أنه لم يذكر فيه أن المبيع هل كان ملك البائع أولاً؟ لجواز أنه باع مال غيره بغير أمره، فلا يستوجب عليه المطالبة بالثمن؛ ولأنه لم يذكره في المحضر (270أ4) أن هذا بذرعان أهل بخارى أو بذرعان أهل خراسان، وإنه مما يتفاوت، فبقي المبيع مجهولاً إلا أن ما زعم هذا القائل لا يوجب خللاً. أما الأولى: فلأنه ذكر في الدعوى أنه سلمها إليه، وقوله: وسلم، نظير قوله: هو يملكه، وهي مسألة كتاب «الشهادات» . وأما الثاني: فلأنه ذكر في الدعوى أنه يسلمها إليه، وبعد القبض والتسليم، فالمدعى به في الحقيقة هو الثمن الذي وجب بالعقد، وصار ديناً في الذمة، ولا جهالة في الثمن، وإنما الخلل في هذه الدعوى من وجه آخر. فإن المذكور في الدعوى أنه باع منه قطعة أطلس صفتها كذا، وإنه اشتراها منه، والبائع سلمها إلى المشتري، ولم يقل: باعهن واشتراهن، وسلمهن، أو اشتراها جملة بعدما باعها منه جملة، وسلم الجملة إليه، وهو قبض الجملة حتى ينصرف إلى كل ذلك، ولعله باع قطعة الأطلس هذه والقلنسوتين، وأنه اشترى القطعة دون القلنسوتين، أو سلم القطعة دون غيرها أكثر ما في الباب أن كلمة «ما» يجوز أن يصرف إلى أحدهما أيضاً، فلا يبقى هذا الاحتمال، فلا بد من ذكر شيء يزول به ما ذكرنا من الاحتمال، وهو كلمة «هنَّ» ، أو ذكر لفظ الجملة، أما بدون ذلك لا يزول الاحتمال، وإذا لم يزل الاحتمال بقي البيع والتسليم مجهولاً، فلا تستقيم دعوى القبض؛ لأن المسلم غير معلوم حتى يستقيم دعوى الثمن بقدره. محضر في دعوى الوكيل من موكله ادعى على آخر بحكم الوكالة الثابتة له من جهة والده أنه دفع إلى هذا الرجل تخت

محضر في دعوى امرأة منزلا في يدي رجل شراء من والده

ديباج عدده كذا، وصفته كذا، ولونه كذا، وطول كل ديباج كذا، وعرضه كذا على سبيل الأمانة، ولم يظفر به والده حتى يأخذ منه، وقد وكل والده هذا بالخصومة في ذلك متى ظفر بهذا المدفوع إليه، ووكله بقبض ذلك منه أيضاً، وكانت الوكالة ثابتة في مجلس القضاء، فادعى عليه إحضار ذلك مجلس القضاء ليقيم الوكيل البينة عليه، فأنكر المدعى عليه القبض أصلاً، فأقام المدعي بينة على إقرار المدعى عليه أنه كان قبض، لكن رده إلى والده، فكتبوا المحضر، وطلبوا جواب المفتين، فأجابوا بالكل، وكان وجه الخلل منه لم يكن في المحضر أن المدعي كذبه في قوله: باد زد كردم، وهذا لأن المدعي لو صدقه في الرد على والده لا يبقى له حق الخصومة بعد ذلك، فلا بد من بيان ذكر التكذيب في الرد لتستقيم دعوى الإحضار، وعندي أن هذا ليس بخلل؛ لأن طلبه الإحضار تكذيب له في الرد. محضر في دعوى امرأة منزلاً في يدي رجل شراءً من والده امرأة ادعت منزلاً على رجل، وقالت: هذا المنزل، وذكرت موضعه وبينت حدوده، كان ملكاً وحقاً لوالدي فلان، وإنه باعه مني يوم كذا، في شهر كذا، في سنة كذا حال كونه نافذ التصرف، وإني اشتريتها منه بذلك الثمن المذكور في مجلس البيع، وذلك في حال صحة تصرفاتي، واليوم جميع هذا المنزل ملكي وحقي بهذه السبب، وإن الذي في يده المنزل أحدث فيه يده، فواجب عليه قصر يده عنه، وتسليمه إليّ، فأجاب المدعى عليه: اين منزل ملك منست وحق منست، وباين مدعي سبروني نيست كه دعوى ميكند، أحضرت المدعية نفراً ذكرت أنهم شهودها، فشهد كل واحد منهم بعد الاستشهاد، وقال: كوهي ميدهم كه اين فلان بن فلان والد هذه المدعية أقر في حال صحة إقراره، وقال: اين خانه كه حدوي درين محضر باد كرده شده است بدين دفتر خويش فلانة فروخته ام ووي ازمن خريده است بهمين نهاكه درين محضر ست بهمين تاريخ كه درين محضر باد كرده شده است فروختي وخريدني دردست، وأمرو زاين خانه ملك ابن فلانة است بدين بسبب كه أندر محضر باد كرده است واين مدعى عليه دست نو كرده است درين خانه بنا حق. واستفتوا المفتين فزعم بعضهم أن فيه خللاً من قبل أنه ذكر في الدعوى أنه باعه منها بتاريخ كذا، وهكذا أقر البائع بهذا البيع بهذا التاريخ، وهذا يوجب خللاً من قبل أنه أضاف الإقرار إلى تاريخ البيع في يوم كذا، ولعل الإقرار كان قبل ذلك، وهذا الزعم فاسد من جهة أن الإقرار لو حمل على ما قبل البيع يكون باطلاً، ولو حمل على ما بعده يكون صحيحاً، والأصل في تصرف العاقد أن يصحح لا أن يبطل. وزعم هذا الزاعم أيضاً أن في لفظة الشهادة خللاً؛ لأن الشهود قالوا: نشهد أنه أقر بالبيع، شهدوا على إقراره، ثم قالوا: واليوم جميع هذا المنزل ملك هذا المدعي بالسبب المذكور، وفي المحضر أو الإقرار لا يصلح سبباً ولا شهادة لهم على البيع، فكانت الشهادة باطلة، والجواب عن هذا من وجهين:

محضر في دعوى الثمن

أحدهما: أن هذا لا يوجب خللاً في شهادتهم، وفساد؛ لأن الشهود إذا شهدوا عل إقراره بالبيع والشراء من المدعي، فقد ثبت البيع والشراء بشهادة الشهود، ولكن بناءً على الإقرار والبيع بسبب الملك. والثاني: أنهم شهدوا على إقراره، ولا علم لنا بعدم شهادتهم على البيع، ولعل لهم شهادة على البيع، لكن لم يشهدوا في الابتداء على البيع، بل شهدوا على إقراره أولاً، ثم شهدوا على البيع، وهو السبب الموجب للملك، فلم يكن في الشهادة خللاً. محضر في دعوى الثمن ادعى على غيره كذا ديناراً نيسابورية جيدة ديناً لازماً، وحقاً واجباً بسبب صحيح، وذكر فيه، وأقر المدعى عليه أن هذه الدنانير عليه بسبب أنه اشترى من هذا المدعي كذا مناً من دهن السمسم الصافي، وبين أوصافه شراءً صحيحاً، وقبضه منه قبضاً صحيحاً، فواجب على المدعى عليه تسليم هذه الدنانير المذكورة فيه إلى هذا المدعي، وذكر جواب المدعى عليه بالإنكار، وذكر بعده شهادة الشهود على إقرار المدعى عليه بهذا الشراء المذكور فيه هذا المبلغ من الدهن الموصوف فيه. وقال كل واحد من الشهود بالفارسية: كواهي سيدهم كه اين مدعى عليه، وأشار إليه مقراً مد كه بحال صحت، ورواني إقرار خويش بطوع، ورغبت وحنين كفت كه بخريده ام ازين مدعي، وأشار إلي المدعي مفتصد من روعن كنحيل باكيزة صافي خريدني دردست، وقبض كردم قبض كردني دردست، فاستفتوا عن صحة هذه الدعوى فقيل: إنها فاسدة من وجهين، والشهادة غير مطابقة للدعوى. أما بيان أحد وجهي فساد الدعوى أن المدعي ادعى إقرار المدعى عليه بهذا المال المذكور فيه، ودعوى الإقرار بالمال غير صحيح لوجهين: أحدهما: أن دعوى الإقرار ليس بدعوى للحق؛ لأن حق المدعي المال دون الإقرار، فإذا ادعى الإقرار فقد ادعى ما ليس له بحق له. والثاني: أنه ظهر وجه الكذب في هذه الدعوى؛ لأن نفس الإقرار ليس بسبب لوجوب المال إنما الموجب شيء آخر، وهو المبايعة والإقراض، أو ما شاكل ذلك، فلو كان الحق ثابتاً للمدعي بسببه لادعى ذلك، ولبين سببه، فلما أعرض عن ذلك، ومال إلى الإقرار علم أنه كاذب في الدعوى. والوجه الثاني: لفساد الدعوى أنه لما بين سبب الوجوب وشري الدهن، لا بد وأن يبين أن هذا المبلغ من الدهن (270ب4) الذي يدعي بيعه المدعى عليه كان موجوداً وقت البيع حتى يقع البيع صحيحاً؛ لأن على تقدير عدمه وقت البيع، أو عدم بعضه لا يكون البيع منعقداً في حق الكل، أو في حق البعض، فلا يكون الثمن واجباً على المدعى عليه، فلا تستقيم دعوى الثمن بسبب الشراء، والبيع أكثر ما في الباب أنه ذكر قبضه قبضاً صحيحاً، لكن هذا لا يكفي لصحة البيع ووجوب الثمن لوجهين:

أحدهما: أنه يحتمل أنه لم يكن موجوداً ولا مقبوضاً، لكن الكاتب هكذا كتب. والثاني: أنه يحتمل أنه لم يكن موجوداً وقت البيع، ثم حصله البائع، وسلمه إلى المشتري، وقبضه المشتري إذ لم يكن في المحضر، وقبضه في مجلس الشراء، أو عقيب القيام عن مجلس الشراء، وعلى تقدير العدم وقت البيع لا ينفعه التسليم؛ لأن العقدحينئذٍ يقع باطلاً، والتسليم بحكم البيع الباطل لا ينفع، ولا يكون هذا بيعاً بالتعاطي؛ لأن هذا التسليم بناء على ذلك العقد الفاسد، وإنما يعتبر البيع بالتعاطي في موضع لم يكن التسليم بناءً على العقد الفاسد. وهو نظير ما قلنا في الإجارة إذا أجر داره أو أرضه، وهي مشغولة بمتاع الآجر، أو زروعه، ثم فرغ، وسلم لا تنقلب الإجارة جائزة، ولا ينعقد بينهما إجارة مبتدأة بالتعاطي؛ لأن التسليم حصل بناءً على الإجارة الفاسدة كذا هاهنا. ومن المشايخ من أنكر وجود الفساد في هذه الدعوى، وذكر لكل وجه من وجهي الفساد جواباً، أما الأول قوله: بأن دعوى الإقرار بالمال إنما لا يصح إذا حصل دعوى المال بحكم الإقرار بالمال بأن قال المدعي: لي عليك كذا، لأنك أقررت لي به، أو قال: هذا العين ملكي؛ لأنك أقررت لي به، وهاهنا دعوى المال ما حصل بحكم الإقرار، بل دعوى المال حصل مطلقاً إلا أنه مع دعوى المال ادعى إقراره بالمال، وهذا لا يوجب خللاً، وقوله: ظهر وجه الكذب في هذه الدعوى ممنوع أيضاً، وقوله: لم يدع السبب، قلنا: إنما لم يدع السبب لا لما قلتم، بل؛ لأنه لم يجد من يشهد على السبب، وجد من يشهد على إقرار المدعى عليه بالمال. وأما الوجه الثاني قوله: لا بد وأن يبين أن هذا المبلغ من الدهن كان موجوداً وقت البيع، قلنا: هذا إنما يحتاج إليه في الشهادة بأن شهد الشهود أنه باع منه كذا مبلغاً من الدهن، والشهود هاهنا لا يشهدون على البيع إنما يشهدون على إقراره بالبيع، وإقراره كان بشراء صحيح، وإقرار الإنسان متى حصل بتصرف صحيح يثبت حكمه في حقه، وإن احتمل الفسادبخلاف الشهادة، والفرق بين الشهادة والإقرار عرف في موضعه. وأما بيان أن الشهادة لا تطابق الدعوى: فإن في الشهادة ذكر إقرار المدعى عليه بالقبض مطلقاً لا بقبض المشتري، فإن الشهود قالوا: مقراً بدين مدعى عليه كه خريدم ازين مدعى مفصدين روعن كنجيد صافي باكيزه، وقبض كردم قبضي دردست، وفي دعوى القبض ذكر مع الإشارة فإنه قال: قبض منه قبضاً صحيحاً، وكان ينبغي أن يذكروا في الشهادة على إقرار المدعى عليه، وقبض كرد مش.

محضر: فيه دعوى السرقة من رجل خباز من رجل أجلسه على دكانه ليبيع الخبز من الناس، ويأخذ الأثمان وهو الذي يسمى صاحب دكان

محضر: فيه دعوى السرقة من رجل خباز من رجل أجلسه على دكانه ليبيع الخبز من الناس، ويأخذ الأثمان وهو الذي يسمى صاحب دكان وصورة الدعوى: أن الخباز ادعى عليه مبلغاً معلوماً من المال، وقال: إنك سرقت من مالي من أثمان الخبز هذا المبلغ، وادعى عليه إنك قلت: إني أخذت كل يوم خمسة دراهم من الناس، ونقصت لهم من الخبز الذي بعت منهم، إلا أني لم أحبس من مالك شيئاً، وصاحب الدكان منكر ذلك كله، وقد كتبوا في آخر المحضر: فواجب على هذا الذي أحضره معه إحضار هذه الدراهم مجلس القضاء ليتمكن المدعي من إقامة البينة عليها. فقيل: هذه الدعوى لا تتوجه على صاحب الدكان من جهة الخباز؛ لادعائه ما في الباب أنه يريد إثبات إقراره بأخذ هذه الدراهم على الوجه الذي ذكر في الدعوى، إلا أنه لو ثبت ذلك كان حق الخصومة لأصحاب الدراهم؛ لأنه لما نقصهم من الخبز الذي باع منهم، وأخذ الثمن كان عليه رد ذلك إليهم، وكان حق الاسترداد لهم لا لهذا الرجل إذ ليس هو بخصم عنهم، وإن كان الخباز ادعى عليه إنك قلت: إني أخذت كل يوم خمسة دراهم من مالك، ونقصت الوزن للمشتري أيضاً لا تصح الدعوى؛ لأنه إذا نقص من الخبز المبيع، وأخذ الثمن تاماً كانت الدراهم التي هي بمقابلة النقصان ملك المشتري، فلا يكون للخباز ولاية الاسترداد. وقد يكون زعم نفر من الأئمة أن صاحب الدكان لما أقر بأخذ الدراهم كان ذلك إقرار من حيث الظاهر أن الدراهم عوض إخبازه أخذها على دكانه عند البيع، فبدعواه أنه أخذ من الناس، ونقص لهم من الخبز الذي باع منهم يكون مدعياً خلاف الظاهر، فلا يصدق على المدعي ما لم يثبت ذلك، وهذا منهم مجرد ظن. ووجه ذلك: أن الخباز يدعي أن الدراهم المأخوذة حقه، وصاحب الدكان منكر، فيكون القول قوله لا أن يكون هو المدعي حتى يكون إثبات ذلك عليه، وبيان فساد هذه الدعوى من وجه آخر أنه يريد أن يدعي عليه مالاً معلوماً مقدراً، ويقول: إنك أقررت بأخذ خمسة دراهم كل يوم، فيكون الدراهم في يده كذا كذا مبلغاً، ونحن نعلم قطعاً أو ظاهراً أن على تقدير التصور لا تجتمع الدراهم في يده ما ذكر من المبلغ؛ لأن المدة كانت طويلة خمس سنين أو ست سنين، فنعلم نفسياً أن الدكان لا يكون على العمل في هذه المدة على سبيل الدوام، بل يتعطل في بعض الأيام، ويحتاج إلى تجديد التنور والعمارة، وهذا أمر معتاد متعارف، وظاهر فيكون دعوى مبلغ معلوم مقدر بحساب كل يوم في جميع هذه المدة كذباً محضاً، ودعوى باطلة، فلا يسمع. وكانوا كتبوا في آخر محضر الدعوى: فواجب على هذا الذي أحضره إحضار الدراهم مجلس القضاء ليتمكن المدعي من إقامة البينة عليها، وهذا كلام فاسد لغو ضائع من قبل أن الإحضار إنما يشترط للشيء المدعى به وقت الشهادة لتسيير الشهود المدعى به وقت الشهادة، وهاهنا الشهود لما كانوا يريدون الشهادة على إقراره لقبض خمسة دراهم

محضر في دعوى الوصية بالثلث

في كل يوم لا على معاينة القبض، والأخذ كيف يمكنهم الإشارة إلى دراهم معينة محضرة، فأي فائدة في ذكر إحضار الدراهم؟ وقد ذكرنا هذا الكلام غير مرة. محضر في دعوى الوصية بالثلث وصورته: ادعى الموصى له على واحد من الورثة أن الميت قد كان أوصى بثلث ماله حال حياته عاقلاً بالغاً، وأحضر في مجلس الدعوى خاتماً من ذهب فصه من فيروزج، وادعى على الوارث أن هذا الخاتم من جملة التركة التي خلفها الميت، وإنه في يدك، فواجب عليك دفع الثلث المشاع من هذا الخاتم إلي بحكم الوصية، وأنكر الوارث الوصية، فأقام المدعي بينة على وفق دعواه، واستفتوا عن صحة الدعوى، فأفتوا بفساد هذه الدعوى، واختلفوا في علة الفساد، بعضهم قالوا: لم يذكر في المحضر أنه أوصى طائعاً، ويحتمل أنه كان مكرهاً في الإيصاء، والوصية مع الإكراه باطلة، وبعضهم قالوا: طلب تسليم الثلث المشاع من الخاتم، وذلك لا يتصور، والصحيح هو الأول؛ لأن تسليم الجزء الشائع متصور بتسليم الكل. محضر فيه دعوى النكاح على امرأة وصورة ذلك: ادعى فلان على فلانة أنها منكوحته، وحلاله بسبب أنه تزوجها على مهر معلوم بمشهد من الشهود العدول بتزويجها نفسها منه، وأنها خرجت عن طاعته، فواجب عليها الانقياد له في أحكام النكاح، وقد كان جواب المرأة أن انقيادها له في أحكام الشرع غير واجب عليها من قبل أنه طلقها ثلاث تطليقات، وأنها محرمة عليه بالطلقات الثلاث، وأثبت ذلك بالبينة على سبيل دفع دعواه النكاح عليها، وقد كان أبى الرجل بدفع الدفع أنها مبطلة في دعوى الدفع، وأن دعواها الدفع ساقطة من قبل أنها أقرت قبل دعواها الدفع هذه أنها اعتدت من بعد الطلقات الثلاث، وتزوجت بزوج آخر ودخل بها ذلك الزوج، ثم طلقها، واعتدت منه أيضاً، وكان دعوى انقضاء العدتين منها في مدة يتصور في مثلها انقضاء العدتين، ثم تزوجت بهذا الزوج بمهر معلوم، بمشهد من الشهود العدول، وإنها اليوم امرأته، وكان على المحضر جواب (271أ4) مشايخ سمرقند وكتابهم بالصحة، واتفق مشايخ بخارى أن المحضر غير صحيح من المدعي، وبينوا لذلك وجهاً، فقالوا: الزوج ادعى إقرار المرأة بهذه الأشياء، ودعوى الإقرار على المدعى عليه بالشيء غير صحيح، والمدعي المذكور في شرح «أدب القاضي» ، وعندي أن ما ذكروا من بيان وجه الفساد ليس بصحيح، وهذا لأن الزوج لا يدعي النكاح عليها بحكم إقرارها، بل يدعي النكاح مطلقاً، وإنما دعوى الإقرار لبيان كونها مطلقة في دعوى الدفع، ودعوى الإقرار إنما لا يسمع لإثبات استحقاق المدعى به بالإقرار إما لأبطال الدعوى في مقام الدفع فصحيح، وإليه أشار في آخر «الجامع» وقد ذكرنا المسألة قبل مشروحه والله أعلم.

ورد سجل من مرو في إثبات ملكية جمل، وكتب فيه يقول القاضي فلان صاحب المظالم والأحكام الشرعية بكورة مرو ونواحيها من قبل السلطان فلان حضر في مجلس الحكم بها بتاريخ كذا رجل ذكر أنه فلان بن فلان، وأحضر معه خصماً ذكر أنه فلان بن فلان، فادعى عليه بمحضر منه، قالوا: وكان في المذكور إلى هاهنا خللاً من وجهين: أحدهما: أنه كتب حضر في مجلس القضاء بها، وقد سبق ذكر كونه قاضياً بمرو ونواحيها، فقوله: بها يحتمل الانصراف إلى كورة مرو، ويحتمل الانصراف إلى نواحيها، وعلى تقدير الانصراف إلى النواحي، والحكم لا يكون صحيحاً فيها إذ المصر شرط صحة القضاء في ظاهر الرواية، وإليه مال أكثر المشايخ، مذكور في «أدب القاضي» للخصاف، وعندي أن هذا ليس بخلل؛ لأن المصر على رواية «النوادر» ليس بشرط، فإذا قضى القاضي خارج المصر كان قضاؤه في فصل مختلف فيه، فينفذ. والثاني: أنه ذكر، فادعى عليه بمحضر منه، ولا من التصريح بذكر الذي حضر، والذي أحضره معه؛ لأنه يحتمل أن الدعوى صدر من غير هذا المدعي، أو من هذا المدعي على غير هذا المدعى عليه، ويكتب بمحضر من هذا المدعى عليه لاحتمال أنه يدعي عليه حال غيبته، ثم ذكر فيه جملاً صفته كذا على فخذه كيّ، صفته كذا، وقيمته كذا، سنه كذا بمحضر مجلس القضاء، وأشار إليه أنه ملكه وحقه. قالوا: وفي بعض هذه الألفاظ خلل، وبعضها غير محتاج إلى الذكر، فبيان الصفة والقيمة والسن غير محتاج إليه، إذ هو محضر مجلس الحكم، فتصح الدعوى بالإشارة إليه من غير بيان الصفة والسن والقيمة، وفيه خلل فإنه قال: وأشار إليه أنه ملكه وحقه، وينبغي أن يقول إلى الجمل المحضر هذا أنه ملك المدعي هذا، وحقه. ثم قال: وفي يد المدعى عليه بغير حق، فلا بد وأن يقول: في يد المدعى عليه هذا، ثم ذكر: وإن الواجب عليه قصر اليد عنه، ولا بد وأن يقول: وإن الواجب على هذا المدعي قصر يده عن الجمل المدعى هذا، ثم ذكر: وإعادته إلى يده، وعسى لم يكن في يده بأن كان ورثه، ولم يقبضه حتى غصبه المدعى عليه، وينبغي أن يذكر مكان لفظة التسليم، ويسلمه إلى المدعي هذا. ثم ذكر بعد المسألة والإنكار، فأحضر المدعي جماعة، وكان ينبغي أن يقول: فأحضر المدعي هذا، ثم ذكر في شهادة الشهود شهدوا أن الجمل المدعى ملك المدعي وحقه، وفي يد المدعى عليه بغير حق، وقد كان ذكر عقيب ذلك، وأشار إلى المتداعيين، وأنه لا يعني عن ذكر الإشارة عقيب ذكر كل واحد منهما؛ لأن اسم المتداعيين تتناول كل واحد منهما، فعسى أشاروا إلى المدعي عند الحاجة إلى الإشارة إلى المدعى عليه، وعند ذكر الجمل يحتاج إلى ذكر الإشارة إلى الجمل، إلا إذا كان ذكر وأشار إلى المشهود به هذا، ولو لم يكن ذكر لفظة هذا عند ذكر المشهود به، وأحوج ما يكون في المحضر والسجل الإشارة في موضع الإشارة في لفظة الشهادة والدعوى، حتى يرتفع الاشتباه

محضر في إثبات الوقفية

وتصح الدعوى، وقد كان ذكر عقيب قوله: فالتمس المدعي هذا مني الحكم، فأعلمت المدعى عليه ما يوجه عليه من الحكم، ولم يكن ذكر هذا عقيب ذكر المدعى عليه لكن ليتأمل في ترك ذكر الإشارة في هذه المواضع، وإنما يبالغ في ذلك في الدعوى والشهادة.v وقد كان فيه أيضاً: وحكمت بثبوت ملكية المذكور فيه للمدعي، وبكونه في يد المدعى عليه بغير حق بحضره المتخاصمين، ولم يكن ذكر: وبحضرة الجمل المدعى به هذا، ولابد من ذكر ذلك لا محالة؛ لأن في المنقول يحتاج القاضي وقت الحكم إلى الإشارة كما يحتاج الشاهد وقت الشهادة إلا إذا كان المدعى به القيمة، فحينئذٍ لا يحتاج ما يدعي قيمته كما في الرجوع في الاستحقاق، فالقاضي يقضي بالرجوع بالثمن من غير إحضار المستحق كذا هاهنا. وكان القاضي كتب في آخر السجل المذكور فيه صدر من فلان، ولم يكن كتب: إني حكمت بشهادة هؤلاء الشهود، وبدليل لاح عندي، وما أشبه ذلك، ولا بد من ذلك ليعلم أن الدعوى والشهادة كانت بين يديه، وعسى كان الدعوى والشهادة بين يدي نائبه، وهو تولي الحكم بنفسه، ومثل ذلك لا يجوز القضاء به، فلا بد من بيان ما يدل على ذلك، وكان قاضي بخارى كتب في آخر هذا السجل: وصدر منه الحكم بشهادة عدلين، ولم يكن ذكر بحضرة الخصم، وعسى كان عند غيبة الخصم، فلا يكون صحيحاً، ولو كان كتب: حكمت بثبوت السجل بشرائطه لا يكفي أيضاً؛ لأن القاضي لا يقف على الشرائط، فلا بد من البيان كما قلنا في قول القاضي: شهدوا على موافقة الدعوى أنه لا يكفي بذلك؛ لأنه لا يعرف الموافقة بين الدعوى والشهادة، كذا هاهنا. محضر في إثبات الوقفية وكان المكتوب فيه ادعى أن فلاناً وكل فلاناً، وأقامه مقام نفسه في طلب حقوقه من الناس، وفي قبضها له منهم توكيلاً مطلقاً بشرط متحقق كائن قبل هذا التوكيل، وهو هذا الوقف، وقال بالفارسيية: اكر فلان وقف كرده است اين فلان موضع رابن براد دو خواهر خويش فلان وفلان بشرائط كذا، وسلمه إلى متولي كان ولاه يوم الوقف، وصارت وقفية ذلك الموضع مستفيضة مشهورة، وصار هذا الوقف من الأوقاف القديمة المشهورة، فأنت وكيلي بقبض الديون علمه الناس، وقد ثبتت وقفية ذلك الموضع المبين بالشرائط المذكورة فيه، وصارت من الأوقاف المشهورة فتحقق شرط الوكالة له بقبض الديون التي لفلان على الناس، ولفلان الموكل على هذا الذي أحضرته كذا كذا ديناراً، فأجاب الخصم وقال: بلى فلان ترى وكيل كرده است بران وجه كه دعوى ميكنى وكالتي معلق بآن شرط كه ياد كردي ومرا لفلان جند بن كه دعوى ميكني دادني نيست، ولكن مرا از وقفية اين موضع معلوم نيست، وإن شهرت واستفاضت أو خبرني ومرا بتواين جه دعوى ميكني داد نيست. أحضر المدعي نفراً يشهدون له على الوقفية، فشهد الشهود بذلك على وجهها، وساقوا هذه الشهادة على سببها، وذكروا أن فلاناً وقف هذه الضياع المذكورة فيه على

محضر فيه دعوى ثمن أشياء أرسل بها المدعي إلى المدعى عليه ليبيعها

كذا بشرط كذا، وحكم القاضي بثبوت الوقفية، وتحقق شرط الوكالة، ولزوم المال على المدعى عليه، وكلفه أداء ذلك إلى المدعي، وأمر بكتبة هذا السجل فكتبوا، ووقع القاضي على صدره، وكتب في آخره كما هو المعتاد (271ب4) ، ثم استفتوا على صحة السجل، فأجاب بعض مشايخنا بصحته، وأجاب المحققون بفساده. واختلفوا فيما بينهم بعلة الفساد، بعضهم قالوا: لأن الشهود شهدوا على أصل الوقف، وشرائطه بالشهرة، والاستفاضة والشهادة على أصل الوقف جائزة، وعلى شرائطه لا، وإذا لم تقبل الشهادة على الشرائط، والشهود شهدوا بهما لا تقبل على أصل الوقف أيضا هاهنا. إما لأن الشهادة واحدة فإذا بطلت في البعض بطلت في الكل؛ أو لأن الشهود لما لا يحل لهم، فوجب ذلك فسقهم، والفسق يمنع قبول الشهادة، وجهلهم بذلك لا يكون عذراً؛ لأن هذا من الأحكام، والجهل بالحكم في دار الإسلام لا يكون عذراً، وإنما علم هاهنا أنهم شهدوا بالتسامع، لأنهم شهدوا بوقف قديم مضى عليه سنون كثيرة، يعلم قطعاً أنهم لم يكونوا حال حياة الواقف يعلم بالضرورة أنهم شهدوا بالتسامع، وهذا ليس بشيء عندي؛ لأن الشهود وإن شهدوا بوقف قديم مضى عليه سنون كثيرة، فهذا لا يثبت الشهادة بالشهرة والتسامع لجواز أنهم عاينوا قاضياً قضى بوقفية هذا الموضع بالشرائط المذكورة. وطريق آخر يعلم به أنهم شهدوا بالتسامع أن يقول الشهود: شهدنا؛ لأنه اشتهر عندنا، وهذا مقبول بخلاف ما إذا قالوا: شهدنا؛ لأنا سمعنا من الناس حيث لا يقبل في ظاهر الجواب، كما لو قالا: شهدنا بملكية هذا العين لفلان؛ لأنا رأينا هذا العين في يده يتصرف تصرف الملاك، في شهادات «مختصر عصام» . وفي رواية: تقبل، وإن فسروه بالسماع من الناس وتأكيد هذه الرواية في كتاب «الأقضية» ، وبعضهم قالوا: إنما فسد السجل؛ لأنهم لم يثبتوا المتولي، ولم يذكروا نسبه، بل ذكروا مجهولاً، والتسليم إلى المجهول لا يتحقق، والتسليم شرط صحة الوقف، ولا اعتماد على هذه العلة إنما الاعتماد على العلة الأولى. وعندي: أن الدعوى من الوكيل ودفعه ذلك الموضع على الوجه الذي ذكر لا يصح، ولو كان الدعوى خالياً عما ذكروا من وجه آخر، لأن الوكيل بهذه الدعوى يثبت شرط حقه بإثبات فعل على الغائب، وفيه إبطال حق الغائب عما هو مملوك له، والإنسان لا يصلح خصماً في إثبات شرط حقه بإثبات فعل على الغائب إذا كان فيه إبطال حق، ألا ترى أن من علق عتق عبده بطلاق فلانة امرأته، فأقام العبد بينة أن فلاناً قد طلق امرأته، فالقاضي لا يسمع دعوى العبد، ولا يقبل بينته؟ والمعنى ما ذكرنا، هكذا ذكر المسألة في طلاق «الجامع الأصغر» ، وقد افتى بعض المتأخرين بسماع هذه الدعوى، وقبول بينته، والأول أصح. محضر فيه دعوى ثمن أشياء أرسل بها المدعي إلى المدعى عليه ليبيعها وصورته: حضر فلان بن فلان الفلاني، وأحضر معه فلاناً، وادعى هذا الذي حضر

محضر فيه دعوى ملكية حمار

على هذا الذي أحضره معه أن هذا الذي حضر أرسل إلى هذا الذي أحضره بيد أمين له فلان كذا عدداً من الكرباس الزندسجي البخاري الممسوح؛ طول كل واحد كذا، وعرضه كذا ليبيع ممن يرغب في شرائه بما يقوم أهل البصر في ذلك، وإن فلاناً الأمين أوصل هذه الكرابيس إلى هذا الذي أحضره، قبض ذلك كله من الأمين، وباع ممن اشترى بتقويم أهل البصر وقبض، وذلك كذا، فواجب على هذا الذي أحضره معه تسليم الثمن المذكور فيه إلى هذا المدعي إن كان قائماً بعينه في يده، وإن كان استهلكه، فواجب عليه أداء مثل ذلك الدنانير المقبوضة إلى المدعي، وسأل مسألته عن ذلك، فسئل، فأجاب الذي أحضره بالإنكار، فأحضر المدعي شهوداً، فاستغنوا عن صحة هذه الدعوى، قيل هذه الدعوى غير مسموعة، وفيها خلل من وجهين: أحدهما: أن المدعي ادعى على المدعى عليه تسليم ثمن الكرابيس المذكورة في هذه الدعوى، وذكر في الدعوى أنه باع الكرابيس المذكورة فيه بكذا، وقبض الثمن، وطالبه بتسليم الثمن، ولم يذكر أنه باع الكرابيس المذكورة فيه، وسلمها إلى المشتري، ويحتمل أنه ملك الكرابيس في يد البائع بعد البيع قبل التسليم، وعلى هذا التقدير الثمن لا يكون لصاحب الكرابيس بل يبطل البيع، ويكون الثمن لمشتري الكرابيس، وإنما يكون الثمن لصاحب الكرابيس إذا سلم البائع الكرابيس إلى المشتري، فما لم يذكر التسليم لا تكون دعوى المطالبة بتسليم الثمن صحيحة. والوجه الثاني: قال: فواجب على هذا الذي أحضره معه تسليم الثمن إلى هذا المدعي، وهذا النوع من المطالبة غير مستقيمة في مثل هذه الدعاوى لوجهين: أحدهما: أنه ذكر لفظة الوجوب، وعلى تقدير صحة البيع، ووجود التسليم إلى المشتري، فالثمن يكون أمانة عند المدعى عليه؛ لكونه وكيلاً في البيع، وفي الأمانات لا يجب على الأمين تسليمها إلى صاحبها، إنما يجب عليه التخلية لا غير، فمطالبته بالتسليم لا تكون مستقيمة. والثاني: أن الثمن لو كان قائماً في يد الأمين كان متعيناً، وفيما يتعين من المنقول إنما تستقيم المطالبة بالإحضار مجلس الحكم ليتمكن المدعي من الدعوى، وإقامة البينة بحضرته، ولا تستقيم الدعوى والمطالبة بالتسليم. بعض مشايخنا قالوا: الوجه الثاني من الخلل ليس بصحيح، وكذا الوجه الأول قوله: لو صح البيع وتسليم المبيع، وقبض الثمن كان الثمن أمانة في يد الوكيل، ولا يجب على الأمين تسليم الأمانة قلنا: الأمين لا يجب عليه الأمانة بحقيقة أما يجب عليه التسليم بمجازه، وهو التخلية، فتحمل دعوى التسليم على دعوى التخلية تصحيحاً، وقوله: بأن الثمن في يد الوكيل لو كان قائماً كان متعيناً، فيجب الإحضار للإشارة، ولا يمكن للشهود الإشارة إلى الدراهم التي أثمان، وقد مر جنس هذا فيما تقدم. محضر فيه دعوى ملكية حمار صورته: ادعى فلان على فلان ملكية حمار، فحضر مجلس الحكم، وقال: الحمار

محضر فيه دعوى رجل بقية صداق بنته على زوجها بسبب دعوى الطلاق عليها وجهته بالحلف

الذي في يد هذا المدعى عليه اشتريته من فلان، وفي يد هذا المدعى عليه بغير حق، فواجب عليه تسليمه إليّ، فاستفتوا عن صحة هذا الدعوى، فقيل: إنها فاسدة من وجهين: أحدهما: أنه ذكر الشراء من فلان، ولم يذكروا نقد الثمن، وقد كتبنا في هذا الكتاب أن المشتري إذا وجد المشترى في يد غيره، ولم يكن نقد الثمن للبائع لا يكون له ولاية الاسترداد والاستخراج من يد ذي اليد، وأكدنا ذلك بمسألة «المنتقى» . والثاني: أن في دعوى الملك بسبب الشراء لا بد للمدعي أن يقول: باع مني وهو يملكه، أو يذكر التسليم، أو يقول: ملكي اشتريته من فلان، ولم يوجد شيء من ذلك، والحاصل أن ذكر الملك من أحد الجانبين كافٍ لصحة الدعوى بطريق الشراء. محضر فيه دعوى رجل بقية صداق بنته على زوجها بسبب دعوى الطلاق عليها وجهته بالحلف وكان صورة الدعوى: كان لفلان بن فلان على ختني كذا ديناراً بسبب كذا، فقضى من ذلك كذا، وبقي عليه كذا، وكان في يد صاحب الدين خط إقرار ختني لهذا بالمال، فطعن المقر بذلك ومزقه، ثم أخذه الغريم يوماً، وطالبه بالباقي من المال، فأنكر فاستحلفه بالطلاق، فحلف بثلاث تطليقات إنه ليس عليه شيء، فهدده وحبسه، فأقر ببقية المال الذي كان عليه، وأعطاه خطاً بذلك. وهكذا أقر المدعى عليه بالحلف، وببدل الخط، والإقرار ببقية ماله الذي كان له عليه، فأخبر بذلك امرأته وصهره، ورفعوا الأمر إلى القاضي، فادعى صهره بوكالة بنته بقية مهرها بوقوع الطلاق بسبب الحلف المذكور فيه، فأنكر الرجل الحلف والإقرار بعد ذلك، فأتى المدعي بالشهود، فشهدوا بهذا اللفظ: أن الزوج أقر أني حلفت بثلاث تطليقات أنه ليس لفلان عليَّ كذا، وهو ما كان يدعي علي من بقية الدين، ثم بدل له خطاً بكذا، فاستفتوا بصحة هذه الدعوى (272أ4) وموافقة الشهادة الدعوى، فقيل: إن هذه الشهادة غير موافقة لهذه الدعوى؛ لأن في الدعوى ذكر أنه أقر بعد الحلف ببقية المال الذي كان له عليه، وبدل له الخط بذلك، وفي الشهادة شهد الشهود أنه أقر أنه بدل الخط بعد الحلف بكذا، ولم يشهدوا أنه بدل الخط بالمال الذي كان له عليه، وعسى بدل له خط الصلح، وذلك لا يكون إقراراً أصلاً، وإن بدل خط الإقرار، وأشهد بمال آخر لا بذلك المال، فلا يوجب هذا حنثاً في يمينه، فكانت هذه الشهادة مخالفة للدعوى من هذا الوجه، ولأنه يكره في هذا الإقرار، والإقرار مكرهاً لا يجب به المال، فلا يقع الحنث، فهذا خلل ظاهر في هذا المقام. محضر فيه دعوى استئجار الطاحونة وكان في ذكر الحدود، الحد الأول: مصرف ماء النهر، والحد الثاني: مصب ماء النهر من الوادي، فرد المحضر بعلة أن هذا حد النهر لا حد الطاحونة، والدعوى وقع في الطاحونة وحدها، ولو وقع الدعوى في الطاحونة، والنهر، فما ذكروا يصلح حداً للنهر.

محضر في الإجارة المضافة إلى زمان بعينه

محضر فيه دعوى إجارة محدودة بأجرة معلومة فرد المحضر بعلة أن الأجرة ذكر مطلقة، ولعل أنها من المكيلات، وبيان مكان الإيفاء إذا كانت الأجرة مكيلاً أو موزوناً شرط، ولم يذكر ذلك. محضر في الإجارة المضافة إلى زمان بعينه وقد كتب الصك قبل مجيء ذلك الزمان، وكتب فيه أنهما تقابضا قبضاً صحيحاً قبل قوله: تقابضا قبضاً صحيحاً لا يكاد يصح؛ لأن العقد لا ينعقد قبل مجيء ذلك الزمان، والتقابض قبله لا يكون صحيحاً. محضر سجل فيه استحقاق جارية اسمها دلبر، فحين أراد المشتري أن يثبت الاستحقاق عند القاضي ليرجع على البائع ذكر اسم الجارية بنقشه، فقال البائع: ما بعت منك جارية اسمها نقشة، وإنما بعت جارية اسمها دلبر، فقد قيل: القاضي لا يلتفت إلى دعوى المشتري، ولا يمكنه من الرجوع على بائعه؛ لأن البائع ينكر بيع الجارية بالاسم الذي ادعاه المشتري، وقد قيل: القاضي يسمع دعواه إذا قال: أرجع عليك بثمن الجارية التي اشتريتها منك، واستحقت عليّ، سمع دعواه، وإذا أقام عليه البينة، قبلت بينته، وقضى له بالثمن. محضر في إثبات الاستحقاق والرجوع بالثمن وصورة ذلك: جرى الحكم من القاضي فلان على فلان باستحقاق حمار كان اشتراه ببينة قامت، فرد المحضر بعلة أنه لم يكن في المحضر أن الاستحقاق كان بمطلق الملك، أو بالملك بسبب، وكذلك لم يذكر فيه أن البينة قامت على إقرار المستحق عليه، أو على نفس الدعوى، والحكم يختلف. محضر في دعوى يمين عين مسماة وكان المذكور في آخر الدعوى، فواجب على هذا المدعى عليه تسليم الثمن المذكور إلى هذا المدعي، فرد المحضر بعلة أنه لم يذكر في المحضر تسليم المبيع، ولا بد من ذكره ليصح دعوى المطالبة بتسليم الثمن، فإنه لو ملك البيع قبل التسليم ينتقض البيع، ولا يبقى الثمن واجباً على المشتري. والثاني: أن المذكور في آخر الدعوى: فواجب على هذا المدعى عليه تسليم الثمن المذكور إلى هذا المدعي، والثمن على تقدير صحة البيع أمانة عند المدعى عليه، وفي الأمانات والودائع الواجب هو التخلية دون التسليم. وكل ذلك عندي فاسد غاية الفساد، أما الأول: فلأن حكم الشرع في بيع العين بالدراهم أن المشتري هو الذي يطالبه بتسليم الثمن أولاً، وأما الثاني: فلأن الثمن واجب في ذمة المشتري، والواجب في الذمة لا يكون أمانة، وكيف يستقيم هذا القول؟ فإنه لو ملك جميع مال المشتري لا يسقط عنه الثمن.

ورد محضر فيه دعوى: دنانير نيسابورية جيدة حمراء ثمن دهن مقدر معلوم، اشتراه المدعى عليه من المدعي، وقبض الدهن، وشهد الشهود بذلك، وذكروا قبض الدهن في الدعوى والشهادة جميعاً، فرد المحضر بعلة أن المدعي في دعواه، والشهود في شهادتهم لم يذكروا أن هذا القدر من الدهن هل كان في ملكه يوم البيع؟ وعلى تقدير أنه لا يكون لا يجوز البيع، ولا يجب الثمن على المشتري، وهذا ليس بخلل في الحقيقة؛ لأن هذا دعوى الدين في الحقيقة؛ لأن الدهن مقبوض، ألا ترى أنهم لو لم يذكروا مقدار الدهن تصح الدعوى؟ وإن لم يذكروا قبضه، وإنما تصح الدعوى؛ لأنه في الحقيقة دعوى الدين. ورد محضر صورته: ادعى فلان على فلان أنك اشتريت مني كذا كذا حنطة بخمسين ديناراً، وجاء المدعي بشاهدين شهد أحدهما بالبيع بخمسة وعشرين، وشهد الآخر بالبيع بسبعة وعشرين، فقيل: الشهادة ليست بصحيحة لاختلاف الشاهدين فيها، وقيل: لو صح الدعوى كانت الشهادة على العشرين مقبولة؛ لأنهما اتفقا على العشرين لفظاً ومعنى، والأول أصح؛ لأن كل واحد منهما شهد بعقد غير العقد الذي يشهد به صاحبه، فإن العقد بخمسة وعشرين غير العقد بعشرين، ألا ترى أنه لو وقع مثل هذا الاختلاف بين المتبايعين يتحالفان؟. ورد محضر ادعى فلان على فلان كذا كذا أقفزة حنطة، وقال في دعواه: اين مدعى عليه ارزمين مستأجر اين مبلغ كندم برده است بنا حق، فإن كان قائماً بعينها، فعليه أن يردها علي، وإن كان هالكاً، فعليه أن يرد مثلها، فرد المحضر بعلة أنه لم يذكر في الدعوى: اين مبلغ كندم برده است بنا حق ان مزروعه مزيا ان مزروعه مزارع من، ولا بد من ذكر ذلك ليصح منه دعوى المطالبة بالتسليم إذ يجوز أن يكون الزارع زرع في أرض غيره، فيكون الزرع لذلك الغير لا لهذا المدعي، وإذا ذكر أنه مزروع مزارعة هل يشترط ذكر اسم المزارع ونسبه؟ ففيه اختلاف المشايخ. وفي «فتاوى النسفي» : عرض محضر فيه دعوى أربعة آلاف دينار، والمكتوب في لفظة الشهادة أربعة دنانير، قال شيخ الإسلام السغدي: المخالفة بين الدعوى والشهادة ظاهرة، فقيل: بسي هزار، فقال: أدان سي فقد فسد المكتوب، وقيل: يجب أن يقبل الشهادة على أربعة دنانير، وقد مر جنس هذا. ورد محضر فيه دعوى: أعيان مختلفة الجنس والنوع والصفة، وذكر قيمتها جملة، ولم يبين قيمة كل عين، قال شيخ الإسلام: اختلف المشايخ فيه، منهم من اكتفى بالإجماع، ومنهم من شرط

محضر في دعوى الناقة

التفصيل، وهذه المسألة في الحاصل على وجهين: أما إن كانت الأعيان قائمة، أو مستهلكة، فإن كانت قائمة فلا بد من الإحضار عند الدعوى، وعند ذلك لا حاجةإلى بيان القيمة، وقد مر جنس هذا، وإن كانت مستهلكة ينبغي أن يبين قيمة كل عين؛ لأنه ربما يقر باستهلاك بعض هذه الأعيان، وينكر البعض، فلا بد من أن يعرف القاضي أنه بأي قدر يقضي، مع هذا إذا لم يبين لا يوجب ذلك خللاً في الدعوى؛ لأنه ادعى ديناً وبين قدره. محضر في دعوى الناقة رد بعلة الدعوى، وقع في الناقة، والمكتوب في المحضر الجمل، وإنه يوجب الفساد لمكان تجهيل في الوصف، وكذلك لو وقع الدعوى في ناقة وجمل، وكتب في المحضر (272ب4) ناقتين أو جملين يرد المحضر لما قلنا، وهذا الجواب مستقيم في دعوى الدين غير مستقيم في دعوى العين؛ لأن في دعوى العين يحتاج إلى الإشارة، وعند الإشارة لا حاجة إلى ذكر شيء من الأوصاف. عين محضر صورته: ادعى فلان أنه قطع من أشجار كرمه كذا كذا وقراً من الحطب، قيمتها كذا، وغصب من كرمه كذا كذا وقراً من الأعيان، فرد المحضر بعلة أنه ليس فيه بيان نوع العنب والحطب، فقيل: هذا الجواب مستقيم في العنب؛ لأنه مثله، غير مستقيم في الحطب؛ لأن الحطب من ذوات القيم، فبين مقدار قيمة الحطب، ويكتفى به، وقيل: الأول صح؛ لأن القيمة تتفاوت بتفاوت النوع والصفة، فإن قيمة الجوز والفرصاد أكثر من قيمة الخلاف، وكذلك قيمة اليابس أكثر من قيمة الرطب، فلا بد من أن يبين نوع الحطب مع مقدار القيمة حتى يعلم هل هو صادق في تعيين هذا القدر من القيمة؟. ورد محضر فيه دعوى امرأة على زوجها وصورتها: أنها ادعت أنه أخذ من مالها كذا كذا بغير حق، قبضاً يوجب عليه الرد عليها، وأقر فلان أنه قبض ذلك المال المذكور منها إقراراً صحيحاً، وهو طائع غير مكره، ولم يكن عند ذكر الإقرار أنه قبض ذلك بغير حق، ولا ذكر أنه قبض قبضاً يوجب عليه الرد عليها، قال شيخ الإسلام السعدي رحمه الله: مدار الأمر على هذا الإقرار، وليس فيه أنه بغير حق، ويحتمل أن يكون بحق، وليس فيه إضافة إقراره إلى ما سبق ذكره أنه أقر بذلك، أو نحوه حتى يتصرف ذلك الأول، بل هو إقرار مستأنف مطلق، وذلك لا يوجب الضمان لا محالة، فلا تصح الدعوى. قيل: وينبغي أن تصح الدعوى، وهو الأشبه؛ لأن القبض المطلق سبب لضمان الرد والعين جميعاً، فصار وجود الرد كالمنصوص عليه في إقراره بالقبض المطلق، ألا ترى إلى ما ذكر في «الأصل» ، وفي «الجامع الصغير» أن من قال لغيره: غصبتني هذا الثوب، وقال ذلك الرجل: أخذته منك وديعة، أن القول قول المقر له، والمقر ضامن مع أن

المقر هناك نص على الأخذ وديعة، فهاهنا أولى. عرض محضر على شيخ الإسلام السغدي وصورته: ادعى رجل أعياناً من الأموال على رجل، ومنها قميص قد كانوا سواء جنسه ونوعه وقيمته وصفته، وسراويل بينوا نوعه وصفته وجنسه، وقيمته، قال: إنه ليس بصحيح؛ لأنه لم يذكر مردانه، وارنا زنانة وار خرديا كلان. والمسألة على وجهين: إن كانت هذه الأشياء قائمة لابد من إحضارها مجلس الدعوى للإشارة إليها، وعند ذلك لا حاجة إلى بيان هذه الأشياء، وإن كانت مستهلكة، فلابد من ذكر هذه الأشياء مع ذكر القيمة. ورد محضر فيه دعوى النحاس المنكسرة وكان الغصب في بلد مرو، والدعوى ببخارى، فاعلم بأن الغصب على نوعين: نوع هو من ذوات الأمثال، ونوع هو ليس من ذوات الأمثال، وكل نوع على نوعين أيضاً، نوع له حمل ومؤنة، ونوع لا حمل له ولا مؤنة، فإن لم يكن المغصوب من ذوات الأمثال نحو الدابة والخادم، أو ما أشبه ذلك، فلقي المغصوب منه الغاصب في بلدة أخرى، والمغصوب قائم في يد الغاصب، فإن كانت القيمة في هذه البلدة مثل القيمة في بلدة الغصب أو أكثر، فالمغصوب منه يأخذ عين ماله، وليس له أن يطالب الغاصب بالقيمة؛ لأن وصل إليه عين حقه من غير ضرر يلحقه.h وإن كان السعر في هذه البلدة أقل من القيمة في مكان الغصب، فالمغصوب منه بالخيار، إن شاء أخذ المغصوب ولا شيء له، وإن شاء أخذ القيمة في مكان الغصب، وإن شاء انتظر حتى يذهب الغاصب بالمغصوب إلى بلدة الغصب فيأخذ منه، وهذا لأنه إذا أخذ العين فقد وصل إليه عين ملكه مع ضرر يا حقه من الغاصب؛ لأن قيمة الأشياء تتفاوت بتفاوت الأمكنة، وهذا التفاوت إنما حصل لمعنى من جهة الغاصب، وهو نقله إلى هذا المكان، فكان له أن يلتزم الضرر بأخذ العين، وله أن لا يلتزم الضرر، فيأخذ القيمة يوم الخصومة في مكان الغصب، أو ينتظر بخلاف ما إذا لقيه في بلدة الغصب، وقد انتقص السعر حيث لا يكون له الخيار؛ لأن النقصان ما حصل بفعل مضاف إلى الغائب، وإنما هو لمعنى راجع إلى رغبات الناس، فلا يضمن، أما إذا نقله إلى موضع آخر فهذا النقصان حصل مستنداً إلى فعل الغاصب، وهو النقل، فأمكن إيجاب الضمان عليه. وإن كان المغصوب قد هلك في يد الغاصب، فلقيه المغصوب منه في بلد آخر، فإن كانت قيمتها في بلدة الغاصب أكثر يطالبه بقيمتها في بلدة الغاصب يوم الخصومة إن شاء، وإن كانت قيمتها في بلدة الخصومة أكبر فالغاصب يعطيه قيمته في بلدة الغاصب؛ لأن المالك لا يستحق الرد إلا في مكان الغصب. وإن كان المغصوب من ذوات الأمثال، وله حمل ومؤنة كالكر من الحنطة أو الشعير، وكالنحاس المنكسر وما أشبه ذلك، فإن كان المغصوب قائماً في يد الغاصب،

فلقيه المغصوب منه في بلدة أخرى، فإن كان الشعير في هذه البلدة مثل الشعير في بلدة الغصب، أو أكثر، يأخذ المغصوب منه بالخيار؛ إن شاء أخذ عين المغصوب، وإن شاء أخذ قيمته في مكان الغصب يوم الخصومة، وإن شاء انتظر، وإن كان المغصوب قد ملكه في يد الغاصب فإن كان الشعير في بلدة الغاصب مثل الشعير في بلدة الخصومة، فالغاصب يبرأ برد المثل، وللمغصوب منه أيضاً أن يطالبه برد المثل؛ لأنه لا ضرر على واحد منهما، وإن كان الشعير في بلدة الغصب أكثر فللمغصوب منه الخيار؛ إن شاء طالبه برد المثل، وإن شاء أخذ قيمته في بلدة الغصب يوم الخصومة، وإن شاء انتظر. فإن كانت قيمته في مكان الغصب أكثر فللغاصب الخيار، إن شاء أعطاه مثله، وإن شاء أعطاه قيمته في مكان الغصب؛ لأن المالك لا يستحق إلا في مكان الغصب، فلو ألزمنا الغاصب تسليم المثل على التعيين يستضر به الغاصب، فإنه يلزمه زيادة قيمة لا يستحق المغصوب منه، فخيرناه بين إعطاء المثل في الحال، وبين إعطاء القيمة في مكان الغصب إلا أن يرضى المغصوب منه بالتأخير، فله ذلك، وله أن لا يأخذ القيمة في مكان الغصب للحال. إذا عرفت جواب هذه الفصول خرج جواب المحضر، وإن كان قيمة النحاس بمرو أكثر من قيمته ببخارى مثل قيمة النحاس بمرو، فحق المغصوب منه في مثل ذلك النحاس، فإن ادعى المثل صح دعواه، وما لا فلا، وإن كانت قيمة النحاس بمرو أكثر من قيمته ببخارى، فالمغصوب منه بالخيار إن شاء طالبه بالمثل في الحال، وإن شاء طالبه بقيمة مرو يوم الخصومة، فأي ذلك شاء، وعينه وادعاه يصح دعواه، وإن كانت قيمته ببخارى أكثر من قيمته بمرو، يطالب الغاصب بأيهما شاء الغاصب، ويقول له القاضي: أدّ أيهما شئت، إما قيمته بمرو، وإما مثله في الحال. ورد محضر صورته: حضر فلان وأحضر معه فلان بن فلان، ولم يذكر اسم الجد فأجبت بالصحة؛ لأنه حاضر، وفي الحاضر الإشارة تكفي، ولا يحتاج إلى ذكر الاسم، فأولى أن لا يحتاج إلى ذكر الجد، وأما الغاصب فلا بد من ذكر الجد في قول أبي حنيفة ومحمد، وهو الصحيح. ورد محضر: امرأة ادعت على ورثة زوجها بقية مهرها، الذي كان لها عليه، وأنه أقر لها بذلك طائعاً، ومات (273أ4) قبل أن يوفيها ذلك، وخلف من التركة في أيديهم ما فيه وفاء بالدين وزيادة، وفيه جواب الإمام نجم الدين النسفي بالفساد؛ لعلة أنها لم تبين أعيان التركة في أيديهم، ولا بد من بيان ذلك، وتعريفها بما يقع به المعرفة، نحو ذكر الحدود في المحدودات وأشباه ذلك. وهذا فصل اختلف فيه المشايخ، بعضهم شرطوا بيان أعيان التركة شيئاً فشيئاً،

محضر فيه: دعوى رجل على رجل أن هذا الرجل وكزه خطأ، وأصاب وجهه

والحاكم أحمد السمرقندي في «شروطه» ذكر في سجل إثبات الدين إن أجمل كان كافياً، وإن بين وفسر كان أحوط، والفقيه أبو الليث لم يشترط بيان أعيان التركة، واكتفى بذكر الوفاء بالدين، والخصاف ذكر في «أدب القاضي» في باب اليمين على العلم مثلما ذكر الفقيه أبو الليث، والمختار للفتوى هذا أنه لا يشترط بيان أعيان التركة لإثبات الدين والقضاء به، ولكن إنما يأمر القاضي الوارث بقضاء دين الميت إذا ثبت وصول التركة إليهم، وعند إنكارهم وصول التركة إليهم لا يمكن للمدعي إثباته إلا بعد ذكر أعيان التركة في أيديهم بما يحصل به الإعلام، وهكذا حكى فتوى شمس الإسلام الأوزجندي. ورد محضر فيه ذكر إقرار بمال، فرده الإمام النسفي بعلة أنه لم يذكر فيه أنه أقر بطوع، قال: ولا بد من ذكره، وقيل: إنه من باب الاحتياط، وليس بأمر لازم؛ لأن الإكراه فيما بين الناس ليس بظاهر، وإنما يكون بطريق الندرة، وما كان نادراً لا يلتفت إليه بالأحكام الشرعية. محضر فيه دعوى رجلين صداق جارية مشتركة بينهما وصورته أن المسماة فلانة التركية مشتركة بينهما، وإن لهذه التركية على هذا الرجل من صداقها كذا، وهكذا، أقر هو، وجاء بشهود شهدوا على إقرار المدعى عليه بالصداق المذكور للتركية المسماة، فرد المحضر بعلة أنه ليس فيه ذكر المزوج، وهذا لأنه يحتمل أن الجارية صارت لهما من جهة غيرهما إما بالإرث أو بالهبة أو بالبيع، أو بالصدقة، أو بالوصية، أو ما أشبه ذلك، ويحتمل أن التزويج كان من جهة ذلك الغير، فإن كان التزويج من البائع أو الواهب أو من المتصدق، كان الصداق إلا لهذين المدعيين فلا يصح دعواهما ذلك، وإن كان التزويج من مورثهما، فالصداق يجب للمورث أولاً، ثم يجب للوارث، فلا بد من بيان حق الميراث؛ ولأنهم قالوا: لها على هذا المدعى عليه من الصداق كذا، والصداق يجب لمالكها لا لها؛ ولأن الشهود شهدوا على إقرار المدعى عليه لها بالصداق على نفسه، أما ما شهدوا بكونها مملوكة لهذين المدعيين، وما لم يثبت بالحجة كونها مملوكة للمدعيين لا يثبت لهما حق المطالبة بتسليم الصداق إليها. ورد محضر فيه: دعوى صبي بعلة أن دعوى الصبي غير صحيحة، وهذا مستقيم في حق الصبي المحجور، أما الصبي المأذون فدعواه صحيحة إن كان مدعياً، وإن كان مدعى عليه، فجوابه أيضاً صحيح. محضر فيه: دعوى رجل على رجل أن هذا الرجل وكزه خطأ، وأصاب وجهه، وانكسر من شدة ضربه ستة من ثناياه الثماني من الأصل، ووجب لهذا المدعى عليه خمسمئة درهم، وطالبه

محضر فيه دعوى دفع الدفع

بالجواب، فرد المحضر بعلة أن الضرب إذا كان خطأ، فوجب على العاقلة لا على الضارب وحده، وإن اختلفوا أن الضارب هل هو من جملة العاقلة؟. والاختلاف في هذا الفعل في موضعين: أحدهما: أن الوجوب على الضارب ابتداء، والعاقلة يحملون عنه، أو الوجوب على العاقلة ابتداء. والثاني: أن الضارب هل هو من جملة العاقلة، فلا يستقيم دعوى مطالبة بجميع الموجب. ورد محضر في دعوى الإرث صورته: ادعى على هذا الذي أحضره أن فلاناً مات، وخلف من الورثة، فلاناً وفلاناً، لا وارث له غيرنا، وصارت جميع تركته ميراثاً بيننا على أربعة أسهم لي، وفي يد هذا المدعى عليه من تركته دار حدودها كذا، فواجب عليه تسليم سهم واحد من أربعة أسهم من هذه الدار المحدودة إليَّ، فقال المدعى عليه: نيشت ازيازده نيراز جملة اين دار محدودة ملك منست ودردست من وبتو سبروني نيست. فرد المحضر بعلة أن المدعى عليه إذا لم يكن يتعرض للباقي، فإنما يطالب المدعى عليه بسهم من أربعة أسهم من جملة ما أقر بكونه في يده لا بسهم من أربعة أسهم من جملة الدار؛ لأن يد المدعى عليه على الدار إنما تثبت بإقراره وهو إنما أقر بيده على هذا المقدار، وهذا ليس بخلل على الحقيقة؛ لأن المدعي إن لم يثبت يد المدعى عليه على ما ادعاه المدعي، فالقاضي لا يلتفت إلى دعواه، وإن أثبت صح دعواه، وصحت مطالبته بتسليم هذا المقدار، فلا حاجة إلى شيء آخر. ورد محضر فيه دعوى الضمان بعلة أن المدعي قال في دعواه: وإن هذا الرجل ضمن المال المذكور فيه، ولم يقل: ضمن لي، ولا بد من ذكر ذلك ليصح مطالبة المدعي إياه بحكم الضمان، وعندي أن هذا ليس بخلل. محضر فيه دعوى دفع الدفع صورته: رجل مات وترك ابناً، وصنوفاً من الأموال، فادعت امرأة على ابن الميت أن أباه هذا الميت قد كان تزوجها على صداق كذا، ومات قبل أداء شيء إليها، وخلف من التركة في يد هذا الابن كذا وكذا، وإنها تفي بهذا المقدار من الصداق وزيادة، فأنكر الابن أن يكون لها على أبيه صداقاً، فأقامت البينة على ذلك، فادعى الابن عليها في دفع دعواها: إنك أبرأت أبي عن هذه الدعوى بعد موته، وأقام البينة على ذلك، فادعت المرأة على الابن في دفع دعواه الدفع: إنك مبطل في دعوى الإبراء، لما أنك طلبت مني الصلح بعد موت أبيك على كذا وكذا، فقيل: لا شك أن دفع الابن دعواها صحيحة مع ما سبق منه من إنكار الصداق على الأب؛ لأن التوفيق ممكن؛ لأنه يمكنه أن يقول: لم

يكن لها على الأب الصداق، ولكن لما ادعت تشفعنا إليها حتى تبرئه، فأبرأته، فأما دفع الدفع ننظر إن ادعت أنه طلب مني الصلح عن دعواي لا يصلح هذا دفعاً؛ لأن الصلح عن دعوى الشيء لا يكون إقراراً بذلك الشيء للمدعي، وكذلك طلب الصلح من الدعوى لا يكون إقراراً، فكذا هاهنا، طلب الصلح عن الابن دعوى المهر لا يكون إقراراً (273ب4) بمهرها. وإن ادعت أنه طلب الصلح عن مهري، فالمسألة يجب أن تكون على خلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وهذا لأن طلب الصلح عن الشيء إقرار بذلك الشيء للمدعي، فيثبت بينة المرأة إقرار للابن بصداقها على أبيه، وقد ثبت بينة الابن إبراء المرأة الميت عن الصداق، ولم يعرف بينهما تاريخ، فيجعل له كأنهما وقعا معاً الإبراء وطلب الصلح، فيصير الابن راداً الإبراء بطلب الصلح عن الصداق، ورب الدين إذا أبرأ الميت عن الدين، فرد الوارث إبراءه هل يرتد الإبراء برده؟ على قول أبي يوسف: يرتد، وعلى قول محمد: لا يرتد، فيصح الدفع. سجل ورد من خوارزم في إثبات الحرية ولم يذكروا فيه لفظة الشهادة، وإنما ذكروا أنهم شهدوا عل موافقة الدعوى، فظن بعض مشايخنا أن فيه خلل، وقد ذكرنا في أول المحاضر أن ترك لفظة الشهادة خلل في محضر الدعوى، وليس بخلل في السجل، وذكر فيه أيضاً: وقضيت لفلان على فلان بكذا، ولم يذكر فيه: بحضرتهما، فظن بعض مشايخنا أنه خلل، وليس بخلل، ويحمل ذلك على أنه كان بحضرتهما حملاً لقضائه على الصحة، وقد غلطوا في الاسم، فجعلوا اسم الوكيل للموكل، واسم الموكل للوكيل، فظن بعض مشايخنا أنه خلل. وقال بعضهم: ليس بخلل؛ لأن الوكيل والموكل متخاصمان، وقد وجدت الإشارة، فلا حاجة إلى الاسم. سجل عرض كتب في آخره: ثبت عندي، ولم يكتب: حكمت، فرد السجل بهذه العلة، وإنه سهو، فقول القاضي: ثبت عندي بمنزلة قوله: حكمت. عرض سجل في دعوى الوصية صورته: حضر فلان وأحضر مع نفسه فلاناً، وهذا الذي حضر مأذون من جهة القاضي فلان في دعوى وقفية الضيعة التي حدودها كذا، نصبه القاضي فلان ليثبت الوقفية على فلانة، وأولاد أولادها، وقفها فلان على ابنته فلانة، ثم على أولادها، ثم على أولاد أولادها، وبعد انقراضهم على مسجد جامع كذا، فادعى هذا الذي حضر على هذا الذي أحضره معه أن هذا الذي أحضره معه أثبت يده على هذه الضيعة الموقوفة على فلانة، ثم على أولادها بغير حق، فواجب عليه قصر يده عنها، وتسليمها إليّ لأقضيها بالإذن الحكمي.

فقيل: هذا السجل وقع فاسداً؛ لأن المدعي لم يذكر في دعواه أنه يدعي الوقفية ليصرف الغلة إلى فلانة وأولاد أولادها، أو ليصرف الغلة إلى مصالح الجامع، ولا بد من بيان ذلك؛ لأن على تقدير بقاء فلانة، أو واحد من أولادها، أو أولاد أولادها لا تصرف الغلة إلى مصالح الجامع، وعلى تقدير انقراضهم، فالمدعي ليس بخصم؛ لأن القاضي إنما نصبه ليدعي وقفية هذه الضيعة لهؤلاء لا للجامع. وقيل: السجل صحيح، وهذا الخلل ليس بشيء؛ لأن الواقف واحد إلا أن المصارف مختلفة، والبعض مقدم على البعض، فالإذن من القاضي بدعوى وقفية هذه الضيعة لأجل البعض يكون إذناً بدعوى وقفيتها لأجل الكل، فصار مأذوناً بدعوى الوقفية لأجل الكل، فلا حاجة إلى تعيين المصارف في الدعوى، ويكفيه دعوى أصل الوقفية، ثم إذا ثبت أصلاً، فإن بقي أحد من هؤلاء تصرف الغلة إليه، ولا تصرف إلى مصالح الجامع. عرض سجل في دعوى حرية الأصل وكان في الدعوى أنه حر الأصل، وإنه علق حراً، وولد على فراش الحرية، وأم المدعي هذا معتقة، فشهد الشهود أنه حر الأصل ولد على فراش الحرية، ولم يشهدوا أنه علق حر الأصل، وشهدوا أنه حر الأصل، ولم يزيدوا على هذا، فأفتى كثير من مشايخنا بصحته. فإن محمداً رحمه الله ذكر في كتاب «الولاء» : إذا شهد الشهود أن هذا حر الأصل اكتفى به، ومن المشايخ من زعم فساد السجل؛ لأن المعتوق بالولد إن كان بعد عتق الأم كان الولد حراً، وإن كان قبل ذلك لا يكون الولد حراً، فإذا لم يبينوا ذلك في الدعوى والشهادة كيف يقضي بحرية الولد وبصحة السجل؟ والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، تم المحاضر والسجلات. فإن محمداً رحمه الله ذكر في كتاب «الولاء» : إذا شهد الشهود أن هذا حر الأصل اكتفى به، ومن المشايخ من زعم فساد السجل؛ لأن المعتوق بالولد إن كان بعد عتق الأم كان الولد حراً، وإن كان قبل ذلك لا يكون الولد حراً، فإذا لم يبينوا ذلك في الدعوى والشهادة كيف يقضي بحرية الولد وبصحة السجل؟ والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، تم المحاضر والسجلات.

§1/1